الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
تفسيرُ سورةِ الأحزابِ
بسم الله الرحمن الرحيم
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ
(1)
خَبِيرًا
(2)}.
يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} بطاعتِه، وأداءِ
(2)
فرائضِه، وواجبِ حقوقِه عليك، والانتهاءِ عن محارمِه وانتهاكِ حدودِه، {وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ} الذين يقولون لك: اطرُدْ عنك أتْباعك من ضعفاءِ المؤمنين بك حتى نجالسِك، {وَالْمُنَافِقِينَ} الذين يُظْهِرون لك الإيمانَ باللهِ، والنصيحةَ لك، وهم لا يأْلُونَك وأصحابَك ودينَك خَبالًا، فلا تَقْبَلْ منهم رأيًا، ولا تَسْتَشِرْهم مُسْتَنْصِحًا بهم؛ فإنهم لك أعداءٌ، {إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا}. يقولُ: إن الله ذو علمٍ بما تُضْمِرُه نفوسُهم، وما الذي يَقْصِدون في إظهارِهم لك النصيحةَ، مع الذي يَنْطَوُون لك عليه، حكيمٌ في تدبيرِ أمرِك وأمرِ أصحابِك ودينِك، وغيرِ ذلك من تدبيرِ جميعِ خلقهِ، {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ}. يقولُ: واعملْ بما يُنْزِلُ اللهُ عليك من وحْيِه، وآيِ كتابه. {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} .
(1)
في ت 1: "يعملون". وهى قراءة أبي عمرو وحده، وقرأ بالتاء نافع وابن كثير وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي. السبعة ص 518، والكشف عن وجوه القراءات 2/ 193.
(2)
في ص، ت 1، ت 2:"أدى".
يقولُ: إن الله بما تعملُ به أنتَ وأصحابُك مَن هذا القرآنَ، وغيرِ ذلك من أمورِكم وأمورِ عبادِه خبيرٌ، أي: ذو خبرةٍ، لا يَخْفَى عليه من ذلك شيءٌ، وهو مُجازِيكم على ذلك بما وعَدكم من الجزاءِ.
وبنحوِ الذي قلنا في تأويلِ قولِه: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قَتادةَ:{وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} : أي: هذا القرآنَ، {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ
(1)
خَبِيرًا}.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا
(2)}.
يقولُ تعالى ذكرُه: وفوِّضْ إلى اللَّهِ يا محمدُ أمْرَك، وثِقْ به، {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا}. يقولُ:[وحَسْبُك اللهُ قَيِّمًا بأمرِك، وحفيظًا بك]
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ
(3)
مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ
(4)}.
اخْتَلف أهلُ التأويلِ في المرادِ مِن قولِ اللهِ: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} فقال بعضُهم: عُنى بذلك تكذيبُ قومٍ مِن أهلِ النفاقِ، وصَفوا
(1)
في ت 1: "يعملون".
(2)
في ص: "وحسبك بالله فيما يأمرك وحفيظا بك"، وفى م:"وحسبك بالله فيما يأمرك وكيلا، وحفيظا بك"، وفي ت 1:"وحسبك بالله قيما أمرك وحفيظا بك"، وفى ت 2، ت 3:"وحسبك الله قيما يأمرك وحفيظا بك"، والمثبت ما يقتضيه السياق. وهو معنى ماذهب إليه المصنف فيما تقدم في 6/ 245، 7/ 474، 580.
(3)
في ت 1: "تظهرون". وهى قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو، وقرأ حمزة والكسائي:"تظاهرون" بفتح التاء وتخفيف الظاء، وابن عامر:"تظاهرون" بالألف والتشديد، وعاصم:"تُظَاهِرون" بالألف وضم التاء. السبعة لابن مجاهد ص 519، والكشف عن وجوه القراءات 2/ 194.
نبيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم بأنه ذو قلْبَيْن، فنفَى اللهُ ذلك عن نبيِّه وكذَّبهم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أبو كُرَيبٍ، قال: ثنا حفصُ بنُ بُغَيْلٍ
(1)
، قال: ثنا زهيرُ بنُ معاويةَ عن قَابوسَ بن أبي ظَبْيانَ، أن أباه حدَّثه، قال: قلنا لابنِ عباسٍ: أرأيت قول اللهِ {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} ما عنى ذلك؟ قال قام رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يومًا فصلَّى فخَطر خَطْرةً، فقال المنافقون الذين يُصلُّون معه: إن له قَلْبَيْن؛ قلبًا معكم، وقلبًا معهم. فأنزَل اللهُ {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ}
(2)
.
وقال آخرون: بل عُنِى بذلك رجلٌ من قريشٍ كان يُدْعَى ذا القَلْبَيْن من دَهْيِه
(3)
.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبى، قال ثنى عمى، قال: ثنى أبى، عن أبيه، عن ابن عباسٍ:{مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} . قال: كان رجلٌ مِن قريشٍ يُسمَّى مِن دَهْيِه ذا القَلْبيْن، فأنزَل اللهُ هذا في شأنِه
(4)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى
(1)
في ص: "نقنل" غير منقوطه، وفى م، ت 1:"نفيل"، وفى ت 2:"مقبل". وهو خطأ، والمثبت من مصادر الترجمه. ينظر تهذيب الكمال 7/ 5.
(2)
أخرجه أحمد 4/ 233 (2410)، والترمذى (3199)، والطحاوى في المشكل (3371)، ابن أبي حاتم - كما في تفسير ابن كثير 6/ 378 - ، والطبرانى (12610)، الحاكم 2/ 415، والضياء في المختارة (528 - 531) من طريق زهير بن معاوية به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 180 إلى ابن المنذر وابن مردويه.
(3)
في ت 1، ت 2، ت 3:"ذهنه". ومن دهيه: أي: من دهائه. ينظر اللسان (د هـ ا).
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 377 عن العوفى به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 180 إلي المصنف وابن مردويه.
الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} . قال: إن رجلًا مِن بنى فهْرٍ
(1)
قال: إن في جوفِي قَلْبيْن أعقِلُ بكلِّ واحدٍ منهما أفضلَ من عقلِ محمدٍ. وكذب
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قوله:{مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} . قال قتادةُ: كان رجلٌ على عهدِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُسَمى ذا القَلْبيْن، فأنزل اللهُ فيه ما تَسْمَعون
(3)
.
قال قتادةُ: وكان الحسنُ يقولُ: كان رجلٌ
(4)
يقولُ: لى نَفْسٌ تَأْمُرُني، ونَفْسٌ تنهانى. فأَنْزَل الله فيه ما تَسْمَعون
(5)
.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن سفيانَ، عن خُصَيْفٍ، عن عكرمةَ، قال: كان رجلٌ يُسَمَّى ذا القلبين، فنزَلَت:{مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ}
(6)
.
وقال آخرون: بل عُنِى بذلك زيدُ بنُ حارثةَ، من أجلِ أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كان
(1)
في ت 1: "بهز".
(2)
تفسير مجاهد ص 546، وأخرجه الفريابي - كما في الدر المنثور 5/ 180 - ومن طريقه الطحاوي في المشكل (3372)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 111 عن معمر عن قتادة بنحوه.
(4)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"رجلا".
(5)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 111 عن معمر عن الحسن، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 180 إلى ابن أبي حاتم.
(6)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 180 إلى ابن أبي حاتم.
تبَنَّاه، فضرَب اللهُ له
(1)
بذلك مثَلًا.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا الحسنُ بنُ يحيى، قال: أخبَرنا عبد الرزاقِ، قال: أخبَرنا معمرُ، عن الزهريِّ في قولِه:{مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} . قال: بلَغَنا أن ذلك كان في زيدٍ بن حارثةَ، ضرَب اللهُ له مثلًا
(2)
. يقولُ: ليس
(3)
ابن رجلٍ آخرَ ابنَك
(4)
.
وأولى الأقوالِ في ذلك بالصوابِ
(5)
قولُ مَن قال: ذلك تكذيبٌ مِن اللهِ تعالى ذكرُه قولَ مَن قال لرجلٍ، في جوفِه قلبان يَعْقِلُ بهما. على النحوِ الذي رُوِى عن ابن عباسٍ، وجائزٌ أن يكونَ ذلك تكذيبًا مِن اللهِ لمن وصَف رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بذلك، وأن يكونَ تكذيبًا لمن سمَّى القرشيَّ الذي ذُكِر أنه سُمِّى ذا القلبين مِن دَهْيِه
(6)
، وأيَّ الأمرين كان فهو نفىٌ مِن اللهِ عن خلقِه من الرجالِ أن يكونوا بتلك الصفةِ.
وقولُه: {وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ} . يقول تعالى ذكرُه: ولم يَجْعَلِ اللهُ أيُّها الرجالُ نساءَكم اللائى تقولون لهن: أنتُنَّ علينا كظهورِ أمهاتِنا - أمهاتِكم، بل جعَل ذلك مِن قِيلِكم كذبًا، وألْزَمَكم عقوبةً لكم كفارةً.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
(1)
ليس في: م، ت 2، ت 3.
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"مثل".
(3)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ت 3.
(4)
تفسير عبد الرزاق 2/ 111. قال القرطبي في تفسيره 14/ 117: قال النحاس: وهذا قول ضعيف لا يصح في اللغة، وهو من منقطعات الزهرى، رواه معمر عنه.
(5)
في ص، ت 2، ت 3:"بالصحة".
(6)
في ت 1: "ذهنه"، وفى ت 2، ت 3:"دهنه".
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدُ، عن قتادةَ قولَه:{وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ} : أي: ما جعَلها أمَّك، فإذا ظاهَر الرجلُ مِن امرأتِه، فإن الله لم يَجْعَلْها أمَّه، ولكن جعَل فيها الكفارةَ
(1)
.
وقولُه: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} . يقولُ: ولم يَجْعَلِ اللهُ مَن ادَّعَيْتَ أنه ابنُك وهو ابن غيرِك، ابنَك بدَعْواك.
وذُكِر أن ذلك نزَل على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، من أجل تَبَنِّيه زيدَ بنَ حارثةَ.
ذكرُ الروايةِ بذلك
حدَّثني محمدُ بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} . قال: نزَلَت هذه الآيةُ في زيدِ بن حارثةَ
(2)
.
حدَّثني يونُسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} . قال: كان زيدُ بنُ حارثةَ حينَ منَّ الله ورسولهُ عليه، يقالُ له: زيدُ بنُ محمدٍ. كان تبَنَّاه، فقال اللهُ:{مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} [الأحزاب: 40]. قال: وهو يَذْكُرُ الأزواجَ والأختَ، فأخْبَره أن الأزواجَ لم تَكُنْ بالأمهاتِ أمهاتِكم، ولا أدعياؤُكم أبناءَكم
(3)
.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 181 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
تفسير مجاهد ص 546. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 181 إلى الفريابي وابن أبي شيبة وابن المنذر.
(3)
التبيان 8/ 285، وتفسير ابن كثير 6/ 378.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} : وما جعَل دَعِيَّك ابنَك، يقولُ: إذا ادَّعى رجلٌ رجلًا وليس بابنِه، {ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ} الآيةَ، وذُكرَ لنا أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يقولُ:"مَن ادَّعَى إلى غيرِ أبيه مُتَعَمِّدًا حرَّم اللهُ عليه الجنةَ"
(1)
.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا ابن أبي زائدةَ، عن أشعثَ، عن عامرٍ، قال: ليس في الأدْعياء زيدٌ.
وقولُه: {ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ} . يقولُ تعالى ذكرُه: هذا القولُ، وهو قولُ الرجل لامرأتِه: أنت عليَّ كظهرِ أمي. وادِّعاؤُه مَن ليس بابنِه أنه ابنُه، إنما هو قولُكم بأفواهِكم، لا حقيقةَ له، لا يَثْبُتُ بهذه الدعوى نسبُ الذي ادُّعِيَت بُنُوَّتُه، ولا تَصِيرُ الزوجةُ أُمَّا بقولِ الرجلِ لها: أنتِ عليَّ كظهرِ أمي. {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ} . يقولُ: واللهُ هو الصادقُ الذي يقولُ الحقَّ، وبقولِه يَثْبُتُ نسبُ مَن أُثْبِت نسبُه، وبه تكونُ المرأةُ للمولودِ أُمًّا إذا حُكِم بذلك.
{وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: واللَّهُ يُبَيِّنُ لعبادِه سبيلَ الحقِّ، ويُرْشِدُهم لطريقِ الرشادِ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {دْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5)} .
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 181 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم، والمرفوع منه أخرجه أحمد 3/ 89 (1497)، والبخارى (4326، 4327)، ومسلم (63) من حديث سعد بن أبي وقاص وأبى بكرة.
يقولُ تعالى ذكرُه: انسِبوا أدعياءَكم الذين ألْحَقْتُم أنسابَهم بكم لآبائِهم، يقولُ لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: الْحِقْ نسبَ زيدٍ بأبيه حارثةَ، ولا تَدْعُه زيدَ بنَ محمدٍ.
وقولُه: {هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} . يقولُ: دعاؤُكم إيَّاهم لآبائِهم هو أعدلُ عندَ اللهِ، وأصدقُ وأصوبُ من دعائِكم إيَّاهم لغيرِ آبائِهم، ونِسْبتِكُمُوهم إلى مَن تبَنَّاهم وادَّعاهم، وليسوا له بنينَ.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} : أي: أعدلُ عندَ اللهِ.
وقولُه: {فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} . يقولُ تعالى ذكرُه: فإن أنتم أيُّها الناسُ لم تَعْلَموا آباء أدعيائِكم مَن هم، فتَنْسِبوهم إليهم، ولم تَعْرِفوهم، فتُلْحِقوهم بهم، {فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ}. يقولُ: فهم إخوانُكم في الدينِ، إن كانوا مِن أهلِ ملَّتِكم، {وَمَوَالِيكُمْ} إن كانوا مُحَرَّرِيكم، وليسوا ببَنِيكم.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} : أي: أعدَلُ عندَ اللهِ، {فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ}: فإن لم تَعْلَموا مَن أبوه، فإنما هو أخوك ومَوْلاك
(1)
.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 182 إلى المصنف.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابن عُلَيَّةَ، عن عُيينةَ بن عبدِ الرحمنِ، عن أبيه، قال: قال أبو بَكْرةَ: قال اللهُ: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} . فأنا ممَّن لا يُعْرَفُ أبوه، وأنا مِن إخوانِكم في الدينِ. قال: قال أبي: واللهِ إنى لأَظُنُّه لو علِم أن أباه كان حمارًا، لانْتَمَى إليه
(1)
.
وقولُه: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} . يقولُ: ولا حرَجَ عليكم ولا وِزْرَ في خطأ يكونُ منكم في نسبةِ بعضِ مَن تَنْسِبونه إلى أبيه، وأنتم تَرَوْنه ابنَ مَن تَنْسِبونه إليه، وهو ابنٌ لغيرِه. {وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ}. يقولُ: ولكنِ الإثمُ والحرجُ عليكم في نسْبَتِكموه إلى غيرِ أبيه، وأنتم تَعْلَمونه ابنَ غيرِ مَن تَنْسِبونه إليه.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} . يقولُ: إذا دعَوْتَ الرجلَ لغيرِ أبيه، وأنت تَرَى أنه كذلك
(2)
.
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 379 عن المصنف، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 182 إلى المصنف مختصرًا.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 111 عن معمر، عن قتادة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 182 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
{وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} . يقولُ اللهُ: لا تَدْعُه لغيرِ أبيه متعمدًا. أما الخطأُ فلا يُؤاخِذُكم اللهُ به، ولكنْ يؤاخِذُكم بما تعمَّدت قلوبُكم.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا قال: ثنا عيسى وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدِ:{تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} . قال: فالعمدُ ما أتَى بعدَ البيانِ، والنهيُ في هذا وغيرِه.
و"ما" التي في قولِه: {وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} خفضٌ؛ ردًّا على "ما" التي في قولِه: {فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} . وذلك أن معنى الكلامِ: ليس عليكم جناحٌ فيما أَخْطَأْتُم به، ولكن فيما تعَمَّدَت قلوبُكم.
وقولُه: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} . يقولُ تعالى ذكرُه: وكان اللهُ ذا سَتْرٍ على ذنبٍ مَن ظاهَر من زوجتِه فقال الباطلَ والزورَ مِن القولِ، وذنبِ مَن ادَّعَى ولدَ غيرِه ابنًا له، إذا تابا وراجَعا أمرَ اللهِ، وانْتَهَيا عن قيلِ الباطلِ، بعدَ أن نهاهما ربُّهما عنه، ذا رحمةٍ بهما أن يُعاقِبَهما على ذلك، بعد توبتِهما مِن خطيئتِهما.
يقولُ تعالى ذكرُه: {النَّبِيُّ} محمدٌ {أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ} . يقولُ: أحقُّ
بالمؤمنين به مِن أنفسِهم، أن يَحْكُمَ فيهم بما يَشاءُ مِن حكمٍ، فيَجوزَ ذلك عليهم.
كما حدَّثني يونُسُ، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زِيدٍ: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} : كما أنت أولى بعبدِك، ما قضَى فيهم مِن أمرٍ جاز؛ كما كلما قضَيْتَ على عبدِك جاز
(1)
.
حدَّثني محمدُ بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} . قال: هو أبٌ لهم
(2)
.
حدَّثنا محمدُ بن المثنى، قال: ثنا عثمانُ بنُ عمرَ، قال: ثنا فُلَيْحٌ، عن هلالِ بن عليٍّ، عن عبدِ الرحمنِ بن أبي عَمْرةً، عن أبي هريرةَ، أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: "ما مِن مؤمنٍ إلا وأنا أَولى الناسِ به في الدنيا والآخرةِ، اقْرَءُوا إِن شَئْتُم:{النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} ، وأيُّما مؤمنٍ ترَك مالًا فلورثتِه وعَصَبتِه من كانوا، وإن ترَك دَيْنًا أو ضَياعًا فلْيَأْتِنى وأنا مولاه
(3)
.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا الحسين
(4)
بنُ عليٍّ، عن أبي موسى إسرائيلَ بن
(1)
ذكره البغوي في تفسيره 6/ 318.
(2)
تفسير مجاهد ص 546، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 183 إلى الفريابي وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
أخرجه أحمد 14/ 142 (8418)، والبخارى (2399، 4781)، وابن أبي حاتم - كما في تفسير ابن كثير 6/ 381 - ، والبيهقى 6/ 238، والبغوى في تفسيره 6/ 319، من طريق فليح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 182 إلى ابن مردويه.
(4)
في النسخ: "حسن". والمثبت هو الصواب. وقد تقدم في 8/ 519، وينظر تهذيب الكمال 6/ 449.
موسى، قال: قرَأ الحسنُ هذه الآيةَ: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} . قال: قال الحسنُ: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "أنا أولى بكلِّ مؤمنٍ من نفسِه".
قال الحسنُ: وفي القراءةِ الأولى: (أولى بالمؤمنين مِن أنفسِهم، وهو أبٌ لهم)
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، قال في بعضِ القراءةِ:(النبيُّ أولى بالمؤمنين من أنفسِهم وهو أبٌ لهم)
(2)
. وذُكِر لنا أن نبيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: "أيُّما رجلٍ ترَك ضَياعًا فأنا أَولى به، وإن ترَك مالًا فهو لورثتِه".
وقوله: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} . يقولُ: وحُرمةُ أزواجِه حُرمةُ أمهاتِهم عليهم، في أنهنَّ يَحْرُمُ عليهنَّ نكاحُهن مِن بعدِ وفاتِه، كما يَحْرُمُ عليهم نكاحُ أمهاتِهم.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} : يُعَظِّمُ بذلك حقَّهن. وفي بعض القراءةِ: (وهو أبٌ لهم)
(3)
.
حدَّثنى يونُسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولهِ: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} : مُحرَّماتٌ عليهم.
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 382، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 183 إلى المصنف مقتصرا على قراءة الحسن فقط، والمرفوع من الأثر أخرجه أحمد 16/ 52 (9983)، والدارمي 2/ 263، ومسلم (1619/ 15)، وغيرهم، من حديث أبي هريرة. والقراءة شاذة لمخالفتها رسم المصحف.
(2)
تفسير ابن كثير 4/ 268.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 182 إلى المصنف وابن أبي حاتم، دون ذكر القراءة.
وقولُه: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: وأولو الأرحامِ الذين وَرَّثْتُ بعضَهم مِن بعضِ هم أَولى بميراثِ بعضٍ من المؤمنين والمهاجرين أن يَرِثَ بعضُهم بعضًا، بالهجرةِ والإيمانِ دونَ الرحمِ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ} : لبِث المسلمون زمانًا يَتَوارَثون بالهجرةِ، والأعرابيُّ المسلمُ لا يَرِثُ من المهاجرين شيئًا، فأنْزَل اللهُ هذه الآيةَ، فخلَط المؤمنين بعضَهم ببعضٍ، فصارت المواريتُ بالمِللِ
(1)
.
حدَّثني يونُسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا} . قال: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم قد آخَى بين المهاجرين والأنصارِ أولَ ما كانت الهجرةُ، وكانوا يَتَوارَثون على ذلك، وقال اللهُ: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ
(2)
أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء: 33]. قال: إذا لم يَأْتِ رَحِمٌ لهذا يَحولُ دونهم. قال: فكان هذا أوَّلًا. فقال الله: {إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا} . يقولُ: إلا أن تُوصُوا لهم: {كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} ؛ أن أُولى الأرحامِ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 183 إلى المصنف، وقد تقدم الأثر في 11/ 292 بنحوه.
(2)
في ت 1، ت 2:"عاقدت". وينظر ما تقدم في 6/ 673، 674.
بعضُهم أولى ببعضٍ في كتابِ اللهِ. قال: وكان المؤمنون والمهاجرون لا يَتَوارَثون وإن كانوا أُولى رحمٍ، حتى يُهاجروا إلى المدينةِ. وقرَأ قَوْلَ اللهِ:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} إلى قولِه: {وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال: 72، 73]. فكانوا لا يَتَوارَثون، حتى إذا كان عامُ الفتحِ، انْقَطَعَت الهجرةُ، وكثُر الإسلامُ، وكان لا يُقْبَلُ مِن أحدٍ أن يكونَ على الذي كان عليه النبيُّ ومَن معه، إلا أن يُهاجِرَ. قال: وقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم من بعَث: "اغْدُوا على اسمِ اللهِ، لا تَغُلُّوا ولا تَوَلَّوا، ادْعُوهم إلى الإسلامِ، فإن أجابوكم فاقْبَلوا، وادْعُوهم إلى الهجرةِ، فإن هاجَروا معكم، فلهم ما لكم، وعليهم ما عليكم، فإن أبَوْا ولم يُهاجِروا واخْتارُوا دارَهم، فَأَقِرُوهم فيها، فهم كالأعرابِ تَجْرِى عليهم أحكامُ الإسلامِ، وليس لهم في هذا الفَيْءِ نصيبٌ". قال: فلما جاء الفتحُ، وانْقَطَعَت الهجرةُ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا هجرة بعد الفتح". وكثُر الإسلامُ، وتَوارَث الناسُ على الأرحامِ حيثُ كانوا، ونسَخ ذلك الذي كان بينَ المؤمنين والمهاجرين، وكان لهم في الفَيْءِ نصيبٌ، وإن أقاموا وأبَوْا، وكان حقُّهم في الإسلامِ واحدًا؛ المهاجرُ وغيرُ المهاجرِ والبَدَويُّ وكلُّ أحدٍ، حينَ جاء الفتحُ
(1)
.
فمعنى الكلام على هذا التأويلِ: وأولو الأرحامِ بعضُهم أولى ببعضٍ من المؤمنين والمهاجرين ببعضِهم أن يَرِثوهم بالهجرةِ، وقد يَحْتَمِلُ ظاهرُ هذا الكلامِ أن يكونَ من صلةِ الأرحامِ من المؤمنين والمهاجرين، أَوْلى بالميراثِ، ممن لم يُؤْمِنْ ولم يُهاجِرْ.
وقولُه: {إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا} . اخْتَلَف أهلُ التأويلِ في
(1)
ينظر ما تقدم في 6/ 678، 679، 11/ 296.
تأويلِه؛ فقال بعضُهم: معنى ذلك: إلا أن تُوصُوا لذَوِى قرابتِكم مِن غيرِ أهلِ الإيمانِ والهجرةِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن وكيعٍ قال: ثنا أبو معاويةَ، عن حجاجٍ، عن سالمٍ، عن ابن الحنفيةِ:{إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا} . قال
(1)
: يُوصِى لقَرابتِه مِن أهلِ الشركِ
(2)
.
قال: ثنا عَبْدةُ، قال: قرأْتُ على ابن أبي عَروبةَ، عن قتادةَ:{إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا} . قال: للقرابة من أهل الشركِ وصيةٌ، ولا مِيراثِ لهم
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا} . قال: إلى أوليائِكم مِن أهلِ الشركِ وصيةً، ولا مَيراثَ لهم
(3)
.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبو أحمدَ الزُّبيريُّ، ويَحيى بنُ آدمَ، عن ابن المباركِ، عن معمرٍ، عن يَحيى بن أبى كثيرٍ، عن عكرمةَ:{إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا} . قال: وصية
(4)
.
حدَّثني يونُسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: أخبَرني محمدُ بنُ عمرٍو، عن ابن جريجٍ، قال: قلتُ لعطاءٍ: ما قولُه: {إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا} ؟
(1)
في م: "قالوا".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 183 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف (9918، 19339) عن معمر، عن قتادة بنحوه.
(4)
ذكره البغوي في تفسيره 6/ 320.
فقال: العطاءُ. فقلتُ له: المؤمنُ للكافرِ بينَهما قَرابةُ؟ قال: نعم، عطاؤُه إياه حيًّا
(1)
ووصيته
(2)
له
(3)
.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: إلا أن تُمْسِكوا بالمعروفِ بينَكم، بحقِّ الإيمانِ والهجرةِ والحِلْفِ، فتُؤْتوهم حقَّهم مِن النُّصْرِةِ والعَقْلِ عنهم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا} . قال: حلفاؤُكم الذين والَى بينَهم النبي صلى الله عليه وسلم مِن المهاجرين والأنصارِ، إمساكٌ بالمعروفِ والعَقْلُ والنصرُ بينَهم
(4)
.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: إلا
(5)
أن تُوصُوا إلى أوليائِكم مِن المهاجرين وصيةً.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونُسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ: {إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا} . يقولُ: إلا أن تُوصُوا لهم
(6)
.
(1)
في م، ت 2:"حباء".
(2)
في ص، م:"وصية".
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 113، وفى المصنف (9916، 19338) عن ابن جريج به.
(4)
تفسير مجاهد ص 546، 547، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 183 إلى الفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(5)
ليس في: م.
(6)
هذا الأثر جزء من الأثر الطويل المتقدم ص 17، 18.
وأولى الأقوالِ في ذلك عندى بالصوابِ أن يقالَ: معنى ذلك: إلا أن تَفْعَلُوا إلى أوليائِكم الذين كانَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم آخَى بينَهم وبينَكم مِن المهاجرين والأنصارِ - معروفًا من الوصيةِ لهم، والنُّصرةِ والعقلِ عنهم، وما أشْبَه ذلك؛ لأن كلَّ ذلك مِن المعروفِ الذي قد حثَّ اللهُ عليه عبادَه.
وإنما اخْتَرْتُ هذا القولَ، وقلتُ: هو أولى بالصوابِ من قيلِ مَن قال: عُنِى بذلك الوصيةُ للقَرابةِ من أهلِ الشركِ. لأن القريبَ من المشركِ، وإن كان ذا نَسبٍ، فليس بالمولَى، وذلك أن الشركَ يَقْطَعُ ولايةَ ما بينَ المؤمنِ والمشركِ، وقد نهَى اللهُ المؤمنين أن يَتَّخِذوا منهم وليًّا بقوله:{لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة: 1]. وغيرُ جائزٍ أن يَنْهاهم عن اتخاذِهم أولياءَ، ثم يَصِفَهم جلَّ ثناؤُه بأنهم لهم أولياءُ.
وموضعُ {أَنْ} من قولِه: {إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا} . نصبٌ على الاستثناءِ. ومعنى الكلامِ: وأولو الأرحامِ بعضُهم أولى ببعضٍ في كتابِ اللهِ مِن المؤمنين والمهاجرِين، إلا أن تَفْعَلُوا إلى أوليائِكم [من المؤمنين والمهاجرين]
(1)
الذين ليسوا بأُولى أرحام منكم - معروفًا.
وقولُه: {كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} . يقولُ: كان أولو الأرحامِ بعضُهم أوْلَى ببعضٍ في كتابِ اللهِ، أي: في اللوحِ المحفوظِ، {مَسْطُورًا}. أي: مكتوبًا؛ كما قال الراجزُ
(2)
:
* في الصُّحُفِ الأُولَى التي كان سَطَرْ *
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
(1)
سقط من: م، ت 1، ت 2. وبعده في ص:"معروفا".
(2)
هو العجاج، والبيت في ديوانه ص 48.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونُسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} . أي: أن أُولى الأرحامِ بعضُهم أَوْلَى ببعضٍ في كتابِ اللهِ
(1)
.
وقال آخرون: معنى ذلك: {كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} : لا يَرِثُ المشركُ المؤمنَ.
[ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: حدَّثنا يزيدُ، قال: حدَّثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} . وفى بعضِ القراءةِ: (كان ذلك عند الله مكتوبًا)؛ لا يرثُ المشركُ المؤمنَ]
(2)
(3)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: كان ذلك في الكتابِ مسطورًا إذ كتَبْنا كلَّ ما هو كائنٌ في الكتابِ، {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ} ، كان ذلك أيضًا في الكتابِ مسطورًا، ويعنى بالميثاقِ العهدَ، وقد بيَّنا ذلك بشواهدِه فيما مضَى قبلُ
(4)
، {وَمِنْكَ} يا محمدُ {وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ
(1)
هذا الأثر جزء من الأثر الطويل المتقدم ص 17، 18.
(2)
سقط من: م، ت 2.
(3)
ذكره القرطبي في تفسيره 14/ 126، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 183 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم، والقراءة شاذة لمخالفتها رسم المصحف.
(4)
ينظر ما تقدم في 1/ 439، 2/ 46، 262، 7/ 321، 322.
مِيثَاقًا غَلِيظًا}. يقولُ: وأَخَذْنا مِن جميعِهم عهدًا مؤكَّدًا أن يُصَدِّقَ بعضُهم بعضًا.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} . قال: وذُكِر لنا أن نبيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم كان يقولُ: "كنتُ أولَ الأنبياءِ في الخَلْقِ، وآخرَهم في البعثِ". {وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} : ميثاقٌ أخَذَه اللهُ على النبيين خصوصًا، أن يُصَدِّقَ بعضُهم بعضًا، وأن يَتْبَعَ بعضُهم بعضًا
(1)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا سليمانُ، قال: ثنا أبو هلالٍ، قال: كان قتادةَ إذا تلا هذه الآيةَ: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} . قال: كان نبيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم في أوَّلِ النبيين في الخلقِ
(2)
.
حدَّثني محمدُ بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ:{مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} . قال: في ظهرِ آدمَ
(3)
.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 184 إلى المصنف مقتصرا على ذكر المرفوع فقط. وعزاه في 5/ 183 إلى المصنف وابن أبي حاتم مقتصرا على آخره. والمرفوع من الأثر أخرجه ابن سعد في الطبقات 1/ 149، وأبو نعيم في دلائل النبوة - كما في البداية والنهاية 3/ 535 - من طريق سعيد بن أبي عروبة به، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره - كما في تفسير ابن كثير 6/ 383 - وتمام في فوائده (1399 - روض)، وأبو نعيم في دلائل النبوة (2)، من طريق سعيد بن بشير، عن قتادة، عن الحسن، عن أبي هريرة مرفوعا.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 383، وأخرجه ابن سعد في الطبقات 1/ 149 من طريق أبي هلال عن قتادة مرفوعا بنحوه.
(3)
تفسير مجاهد ص 547، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 183 إلى الفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} . قال: الميثاقُ الغليظُ العهدُ
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا} .
يقولُ تعالى ذكرُه: أخَذْنا مِن هؤلاء الأنبياءِ ميثاقَهم، كما أَسْأَلَ المرسَلِين عما أجابَتْهم به أُمَمِهم، وما فعل قومُهم فيما أبْلَغوهم عن ربِّهم مِن الرسالةِ.
وبنحوِ قولِنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذُكر مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا حَكَّامٌ، عن عَنْبسَةَ، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ:{لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ} . قال: المُبَلِّغين المُؤَدِّين مِن
(2)
الرسلِ.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ} . قال: المبلِّغين المؤدِّين مِن الرسلِ
(3)
.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبو أُسامةَ، عن سفيانَ، عن رجلٍ، عن مجاهدٍ:{لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ} . قال: الرسلَ المؤَدِّين المبلِّغين.
وقولُه: {وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا} . يقولُ: وأَعَدَّ للكافرين باللهِ مِن الأممِ
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 383.
(2)
في ص، ت 1، ت 2:"عن".
(3)
تفسير مجاهد ص 547.
عذابًا مُوجِعًا.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} .
يقولُ تعالى ذكرُه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} : التي أنعَمها على جماعتِكم، وذلك حينَ حُوصِر المسلمون مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أيامَ الخنَدقِ، {إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ}. يعنى: جنودُ الأحزابِ؛ قُريشٌ، وغَطَفانُ، ويهودُ بني النضيرِ، {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا} وهى فيما ذُكِر: ريحُ الصَّبا.
كما حدَّثنا محمدُ بنُ المثنى، قال: ثنا عبدُ الأعلى، قال: ثنا داودُ، عن عكِرمةَ، قال: قالت الجنوبُ للشَّمالِ ليلةَ الأحزابِ: انطلِقي ننصُرْ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم. فقالت الشَّمالُ: إن الحُرَّة لا تسرى بالليلِ. قال: فكانت الريحُ التي أُرسلتْ عليهم الصَّبا
(1)
.
حدَّثنا ابن المثنى، قال: ثنا أبو عامرٍ، قال: ثنى الزبيرُ، يعني ابنَ عبدِ اللهِ، قال: ثنى رُبَيْحُ بنُ أبي سعيدٍ، عن أبيه، عن أبي سعيدٍ، قال: قلنا يومَ الخندقِ: يا رسولَ اللهِ، بلغتِ القلوبُ الحناجرَ! فهل من شيءٍ نقولُه
(2)
؟ قال: "نعم، قولوا: اللهم استرْ عوراتِنا، وآمنْ روعاتِنا". قال: فضرَب اللهُ وجوهَ أعدائه بالريحِ، فهزمهم الله بالرِّيحِ
(3)
.
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 385 عن المصنف.
(2)
في م: "تقوله".
(3)
أخرجه البزار (3119 - كشف) عن محمد بن المثنى به، وأخرجه أحمد 17/ 27 (10996) - وليس فيه ذكر والد رُبيح -، وابن أبي حاتم - كما في البداية والنهاية 6/ 57 - عن أبيه، عن أبي عامر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 185 إلى ابن المنذر.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: ثنى عبيدُ
(1)
اللهِ بنُ عمرَ
(2)
، عن نافعٍ، عن عبدِ اللهِ، قال: أرسلنى خالى عثمانُ بنُ مظعونٍ ليلةَ الخندقِ في بردٍ شديدٍ وريحٍ إلى المدينةِ، فقال: ائتنا بطعام ولحافٍ. قال: فاستأذنتُ رسولَ اللهِ، فَأَذِنَ لى وقال:"من لَقِيتَ مِن أصحابي فمرْهم يَرجِعوا"
(3)
. قال: فذهبتُ والرِيحُ تَسْفِى كلَّ شيءٍ، فجعلتُ لا أَلقَى أحدًا إلا أمرتُه بالرجوعِ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: فما يَلْوِى أحدٌ منهم عنقَه. قال: وكان معى تُرْسٌ لى، فكانت الريحُ تضربُه عليَّ، وكان فيه حديدٌ. قال: فضرَبتْه الريحُ حتى وقَع بعضُ ذلك الحديدِ على كفِّى، فأنفَذَها إلى الأرضِ
(4)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ: قال: ثنى محمدُ بنُ إسحاقَ، عن يزيدَ بن زيادٍ، عن محمدِ بن كعبٍ القُرَظيِّ، قال: قال فتًى من أهلِ الكوفةِ لحذيفةَ بن اليمانِ: يا أبا عبدِ اللهِ، رأيتم رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وصحِبْتُموه؟! قال: نعم يا بنَ أخى. قال: فكيف كنتم تصنعون؟ قال: واللهِ لقد كنا نَجْهَدُ. قال الفتى: واللهِ لو أدركناه ما تركناه يمشى على الأرضِ، لحمَلناه على أعناقِنا. قال حُذَيفةُ: يا بن أخي، واللهِ لقد رأيتُنا مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بالخندقِ، وصلى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم هَوِيًّا
(5)
من الليلِ، ثم التفَت إلينا فقال:"مَن رجلٌ يقومُ فينظرُ لنا ما فعَل القومُ - يَشْرِطُ له رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنه يَرجِعُ - أدخَله اللهُ الجنةَ". فما قام أحدٌ، ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هَوِيًّا من الليلِ،
(1)
في النسخ: "عبدى"، والمثبت من تفسير ابن كثير 6/ 385 ومصدر التخريج.
(2)
في م: "عمرو".
(3)
في ص، ت 1، ت 2:"يراجعوا".
(4)
أخرجه الطبراني (13369)، وفى الأوسط (5299) من طريق عبيد الله بن عمر به.
(5)
في ص، ت 1:"هدنا"، وفى ت 2:"هونا". والهَوِيُّ، بالفتح: الحين الطويل من الزمان، وقيل: هو مختص بالليل. النهاية 5/ 285.
ثم التفَتَ إلينا فقال مثلَه، فما قام منا رجلٌ، ثم صلى رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم هَوِيًّا من الليل، ثم التفَتَ إلينا فقال:"مَنْ رَجُلٌ يَقُومُ فَينْظُرُ لَنا ما فَعَلَ القَوْمُ ثُمَّ يَرْجِعُ - يَشْتَرِطُ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الرَّجْعَةَ - أسأَلُ الله أَنْ يَكُونَ رَفِيقي في الجَنَّةِ". فما قام رجلٌ؛ مِن شدَّةِ الخوفِ، وشدّةِ الجوعِ، وشدّة البردِ، فلما لم يقمْ أحدٌ، دعاني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فلم يكنْ لى بُدٌّ من القيامِ حينَ دعانى، فقال:"يا حُذَيْفَةُ، اذْهَبْ فَادْخُلْ فِي القَوْمِ فانْظُرْ مَا يَفْعَلُونَ، وَلَا تُحْدِثَنَّ شَيْئًا حتى تأْتِينَا". قال: فذهبتُ فدخلتُ في القَوْمِ، والريحُ وجنودُ اللهِ تفعلُ بهم ما تفعلُ، لا تُقِرُّ
(1)
لهم قِدرًا ولا نارًا ولا بناءً، فقام أبو سُفيان فقال: يا معشرَ قريشٍ، لينظرِ امرؤٌ مَن جليسُه. فقال حذيفةُ: فأخذتُ بيدِ الرجلِ الذي إلى جنبى، فقلتُ: من أنت؟ فقال: أنا فلانُ بنُ فلانٍ. ثم قال أبو سفيان: يا معشرَ قريشٍ، إنكم واللهِ ما أصبَحْتُم بدارِ مُقامٍ، ولقد هلَك الكُراعُ والحُفُّ، وأخلَفتْ
(2)
بنو قريظةَ، وبلَغَنا عنهم الذي نَكْرَهُ، ولقِينا مِن هذه الريحِ ما تَرَوْن، واللهِ ما يَطْمَئِنُّ لنا قِدْرٌ
(3)
، ولا تَقومُ لنا نارٌ، ولا يَسْتَمْسِكُ لنا بِناءٌ، فارْتَحِلوا فإني مُرْتَحِلٌ. ثم قام إلى جملِه وهو معقولٌ، فجلَس عليه، ثم ضرَبه فوثَب به على ثلاثٍ، فما أطْلَق عِقالَه إلا وهو قائمٌ، ولولا عهدٌ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم إلى:"أن لا تُحْدِثَ شيئًا حتى تَأْتِيَنى". ثم شئتُ لقتَلْتُه بسهمٍ. قال حذيفةُ: فرجَعْتُ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وهو قائمٌ يُصَلَّى
(3)
في مِرْطٍ لبعضِ نسائِه، فلما رآنى أدْخَلَنى بينَ رِجْلَيه، وطرَح عليَّ طرفَ المِرْطِ، ثم ركع وسجَد، وإنى لفيه، فلمَّا سلَّم أَخْبَرْتُه الخبرَ، وسَمِعَتْ غَطَفانُ بما فعَلَت قريشٌ، فانْشَمَرُوا راجعين إلى بلادِهم
(4)
.
(1)
في ص، ت 1، ت 2:"تقل".
(2)
في م: "واختلفت".
(3)
سقط من النسخ. والمثبت من مصادر التخريج.
(4)
سيرة ابن هشام 2/ 231 - 233، وأخرجه أحمد (5/ 392)(الميمنية)، والمصنف في التاريخ 2/ 579، من طريق ابن إسحاق به.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ} . قال: الأحزابُ؛ عيينةُ بنُ بدرٍ، وأبو سفيانَ، وقُريظةُ. وقولَه:{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا} . قال: ريحَ الصَّبا، أُرْسِلت على الأحزابِ يوَم الخندقِ، حتى كفَأَتْ قدورُهم على أفواهِها، ونزَعت فساطيطَهم، حتى أظعَنتْهم. وقولَه:{وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} . قال: الملائكةَ، ولم تُقَاتِلْ يومَئذٍ
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} . قال: يعنى الملائكةَ. قال: نزَلت هذه الآيةُ يومَ الأحزابِ، وقد حُصِر رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم شهرًا، فخندَق رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وأقبَل أبو سفيانَ بقريشٍ ومَن تَبِعه
(2)
من الناسِ، حتى نزَلوا بعَقْوَةِ (4) رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وأقبل عيينةُ بنُ حِصنٍ أحدُ بنى بدرٍ، ومَن تَبِعه
(3)
من الناسِ، حتى نزَلوا بعَقْوَةِ
(4)
رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وكاتَبتِ اليهودُ أبا سفيانَ وظاهَروه، فقال حيثُ يقولُ اللهُ تعالى:{إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} . فبعَث اللهُ عليهم الرعبَ والريحَ، فذُكِر لنا أنهم كانوا كلَّما أوقدوا نارًا أطفَأها اللهُ، حتى لقد ذُكر لنا أن سيدَ كلِّ حيٍّ يقولُ: يا بنى فلانٍ، هَلُمَّ إليَّ. حتى إذا اجتَمعوا عندَه قال: النجاءَ، النجاءَ أُتِيْتُم! لِما بَعَثَ اللَّهُ عليه مِن الرعبِ
(5)
.
(1)
تفسير مجاهد ص 547، 548، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 187 إلى الفريابي وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
في ت 1: "يحفر الخندق".
(3)
في ت 2: "معه".
(4)
في ت 1: "بعقيرة"، وعقوة الدار: حولها وقريبا منها. النهاية 3/ 283.
(5)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 113 عن معمر، عن قتادة مختصرا، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 187 إلى ابن أبي حاتم.
حدثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} الآيةَ، قال: كان يومُ أبى سفيانَ يومَ الأحزاب
(1)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمة، عن ابنَ إسحاقَ، قال: ثني يزيدُ بنُ رُومَانَ في قولِ اللَّهِ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} : والجنودُ قريشٌ وغَطَفانُ وبنو قريظةَ، وكانت الجنودُ التي أرسَل اللهُ عليهم مع الريحِ: الملائكةَ
(2)
.
وقولُه: {وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} . يقول تعالى ذكرُه: وكان اللهُ بأعمالِكم يومَئذٍ، وذلك صبرُهم على ما كانوا فيه من الجَهْدِ والشدةِ، وثباتُهم لعدوِّهم، وغير ذلك من أعمالِهم، {بَصِيرًا} لا يَخْفَى عليه من ذلك شيءٌ، يُحْصيه عليهم ليَجزِيَهم عليه.
يقول تعالى ذكرُه: وكان اللهُ بما تعملون بصيرًا، إذ جاءتكم جنودُ الأحزابِ من فوقِكم ومن أسفلَ منكم. وقيل: إن الذين أَتَوهم من أسفلَ منهم أبو سفيانَ في قريشٍ ومَن معه.
(1)
أخرجه البيهقى في الدلائل 3/ 433 من طريق محمد بن سعد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 185 إلى ابن أبي حاتم وابن مردويه.
(2)
سيرة ابن هشام 2/ 245.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ} . قال: عيينةُ بنُ بدرٍ في أهلِ نجدٍ، {وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ}. قال: أبو سفيانَ. قال: وواجَهتْهم قُرَيظةُ
(1)
.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا عبدةُ، عن هشامِ بن عروةَ، عن أبيه، عن عائشةَ: ذكَرت يومَ الخندقِ وقرَأت: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} قالت: هو يومُ الخندقِ
(2)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، قال: ثنى محمدُ بنُ إسحاقَ، عن يزيدَ بن رومَانَ مولى آلِ الزبيرِ، عن عروةَ بن الزبيرِ، وعمَّن لا أَتَّهِمُ، و
(3)
عن عُبَيدِ اللهِ بن كعبِ بن مالكٍ، وعن الزُّهريِّ، وعن عاصمِ بن عمرَ بن قتادةَ، عن عبدِ اللهِ بن أَبي بكرِ بن محمدِ بن عمرِو بن حزمٍ، وعن محمدِ بن كعبٍ القُرَظيُّ، وعن غيرِهم مِن علمائِنا: أنه كان من حديثِ الخندقِ؛ أن نفرًا من اليهودِ، منهم سلَّامُ بنُ أبى الحُقَّيقِ النَّضْريُّ، وحُيَيُّ بنُ أَخطبَ النَّضْريُّ، وكِنانةُ بنُ الربيعِ بن أبي الحُقَيقِ النَّضْرِيُّ، وهَوْذةُ بنُ قيسٍ الوائليُّ، وأبو عمَّارٍ الوائليُّ، في نفرٍ مِن بني النضيرِ، ونفرٍ
(1)
تفسير مجاهد ص 548، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 187 إلى الفريابي وابن أبي شيبة وابن المنذر
وابن أبي حاتم.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة 14/ 416، والبخارى (4103)، ومسلم (3020)، والنسائي في الكبرى (11398)، والبيهقى في الدلائل 3/ 433 من طريق عبدة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 185 إلى ابن أبي حاتم وابن مردويه.
(3)
سقط من النسخ، والمثبت من مصدر التخريج.
من بني وائلٍ - وهم الذين حزَّبوا الأحزابَ على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم خرَجوا حتى قدِموا على قريشٍ بمكةَ، فَدَعَوهم إلى حربِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وقالوا: إنا سنكونُ معكم عليه حتى نَسْتَأْصِلَه. فقالت لهم قريشٌ: يا معشرَ يهودَ، إنكم أهلُ الكتابِ الأولِ والعلمِ بما أصبحنا نَخْتَلِفُ فيه نحن ومحمدٌ، أَفدِيننُا خيرُ أم دينُه؟ قالوا: بل دينُكم خيرٌ من دينِه، وأنتم أَوْلى بالحقِّ منه. قال: فهم الذين أنزَل اللهُ فيهم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} إلى قولهِ: {وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا} [النساء: 51 - 55]. فلما قالوا ذلك لقريش، سرَّهم ما قالوا، ونشِطوا لِما دَعَوْهم له من حربِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فأجمَعوا لذلك، واتَّعَدُوا له. ثم خرَج أولئك النفرُ من يهودَ، حتى جاءوا غَطَفَانَ من قَيْسِ عَيلانَ، فدَعْوهم إلى حربِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وأخبَروهم أنهم سيكونون معهم عليه، وأن قريشًا قد تابَعوهم على ذلك، فأجمعوا فيه، فأجابُوهم. فخرَجت قريشٌ وقائدُها أبو سفيانَ بنُ حربٍ، وخرَجت غَطَفانُ وقائدُها عُيَينةُ بنُ حِصْنِ بن حُذَيفةَ بن بدرٍ في بني فزارةَ، والحارثُ بن عوفِ بن أبى حارثةَ المُرِّيُّ في بنى مُرَّةَ، ومِسْعَرُ
(1)
بنُ رُخَيْلَةَ بن نُوَيرَةَ بن طريفِ بن سُحْمةَ بن عبدِ اللهِ بن هلالِ بن خلاوةً بن أشجعَ بن رَيْثِ بن غَطَفَانَ فيمن تابعَه من قومِه من أشجعَ. فلما سمِع بهم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وبما أجمَعوا له من الأمرِ، ضرَب الخندقَ على المدينةِ، فلما فرَغ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم من الخندقِ، أقبَلت قريشٌ حتى نزَلت بمجتمَعِ الأسيالِ من رُومَةَ، بينَ الجُرْفِ والغابةِ
(2)
في عشَرةِ آلافٍ من أحابيشِهم
(3)
،
(1)
في تاريخ المصنف، والاستيعاب 3/ 1392، وأسد الغابة 5/ 161، والإصابة 6/ 98:"مسعود".
(2)
كذا في النسخ، وتاريخ المصنف، وورد في سيرة ابن هشام 2/ 219، ومعجم ما استعجم 2/ 698، ومعجم البلدان 2/ 931، وتاج العروس (ز غ ب):"زغابة"، على اختلاف في فتح الزاي وضمها، وهل هي بالعين المهملة أم بالغين المعجمة. وينظر شرح غريب السيرة للخشنى 3/ 5.
(3)
الأحابيش: هم بنو المصطلق وبنو الهون بن خزيمة، اجتمعوا عند جبل بأسفل مكة يُسمى: حُبشى، وتحالفوا مع قريش، فسمّوا: أحابيش قريش. اللسان (ح ب ش).
ومَن تابعَهم من بني كِنانةَ وأهلِ تِهامةَ، وأقبَلت غَطَفانُ ومن تابَعهم من أهلِ نجدٍ حتى نزَلوا بذَنَبِ نَقَمَى إلى جانبِ أُحُدٍ، وخرَج رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم والمسلمون حتى جعَلوا ظهورَهم إلى سَلْعٍ، في ثلاثةِ آلافٍ من المسلمين، فضرَب هنالك عسكرَه، والخندقُ بينَه وبينَ القومِ، وأمَر بالذرارِيِّ والنساءِ، فرُفِعوا في الآطامِ
(1)
، وخرَج عدوُّ اللهِ حُيَيُّ بن أَخطبَ النضَريُّ، حتى أتَى كعبَ بنَ أسدٍ القرظيَّ، صاحِبَ عَقْدِ بني قريظةَ وعَهْدِهم، وكان قد وادَع رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم على قومهِ، وعاهَده على ذلك وعاقَده، فلما سمِع كعبٌ بحُييِّ بن أخطبَ، أغلقَ
(2)
دونَه حِصْنَه، فاستأذَن عليه، فأبى أن يَفْتَحَ له، فناداه حُيَيُّ: يا كعبُ، افتَحْ لى. قال: وَيْحَك يا حُيَيُّ، إنك امرُؤٌ مشئومٌ، إنى قد عاهَدتُ محمدًا، فلستُ بناقضٍ ما بينى وبينَه، ولم أرَ منه إلا وفاءً وصِدْقًا. قال: وَيْحَك، افتح لى أُكَلِّمْك. قال: ما أنا بفاعلٍ. قال: واللهِ إن أغلَقت
(3)
دونى إلَّا
(4)
على جَشيشتِك
(5)
أن آكلَ معك منها. فأحفَظَ الرجلَ
(6)
ففتَح له، فقال: يا كعبُ، جِئْتُك بعزِّ الدهرِ، وببحرٍ طِمٍّ
(7)
، جئْتُك بقُرَيشٍ على [قادتِها وسادتِها]
(8)
، حتى أَنزلْتُهم بمجتمَعِ الأسيالِ من رُومَةَ، وبغَطَفانَ على [قادتِها وسادتِها]
(8)
، حتى أَنْزَلْتُهم بذنبِ نَقَمَى إلى جانب أُحُدٍ، قد عاهَدونى وعاقَدونى ألَّا يَبْرَحوا حتى يَسْتَأْصِلوا محمدًا ومَن
(1)
الآطام: القصور، ويقال: الحصون، واحدها أُطُم. شرح غريب السيرة 3/ 5.
(2)
في ص، ت 1، ت 2:"غلق".
(3)
في ص، ت 1، ت 2:"غلقت".
(4)
بعده في م: "تخوفت".
(5)
الجشيشة: طعام يُصنع من الجشيش، وهو البر يطحن غليظا، وهو الذي تقول له العامة: دَشيش، بالدال، والصواب فيه بالجيم. المصدر السابق.
(6)
أحفظه: أغضبه، والحفيظة الغضب. المصدر السابق
(7)
في تاريخ المصنف - مصدر التخريج -، وسيرة ابن هشام: طامّ. وطمّ الشيء يطِم طمومًا: كثر حتى عظم أو عمّ. ويقال: طمّ البحر أو الماء. والطامّ: الشيء العظيم، والماء الكثير، وهو كناية عن الكثرة - الوسيط (ط م م).
(8)
في م: "قاداتها وساداتها".
معه. فقال له كعبُ بنُ أسدٍ: جئْتَنى واللهِ بذلِّ الدهرِ، وبجَهامٍ
(1)
قد هَرَاق ماءَه، يَرْعُدُ ويَبْرُقُ ليس فيه شيءٌ، فدَعْنى ومحمدًا وما أنا عليه، فلم أرَ من محمدٍ إلَّا صِدْقًا ووفاءً. فلم يَزَلْ حُيَيُّ بكعبٍ يَفْتِلُه
(2)
في الذِّرْوَةِ والغارِبِ
(3)
، حتى سمَح له
(4)
، على أن أعطاه
(5)
عهدًا من اللهِ وميثاقًا: لئن رجَعتْ قريشٌ وغَطَفانُ ولم يُصيبوا محمدًا، أن أدخُل معك في حصنِك، حتى يُصِيبنى ما أصابك. فنقَض كعبُ بنُ أسدٍ عهدَه، وبَرِئَ مما كان عليه فيما بينَه وبينَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فلما انتهى إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الخبرُ وإلى المسلمينِ، بعَث رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم سعدَ بنَ معاذِ النعمانِ بن امرِئِ القيسِ أحدَ بني عبدِ
(6)
الأشهلِ، وهو يومَئذٍ سيدُ الأوسِ، وسعدَ بنَ عبادةَ بن [دُلَيْمِ أحدَ]
(7)
بني ساعدةَ بن كعبِ بن الخزرجِ، وهو يومَئذٍ سيدُ الخزرجِ، ومعهما عبدُ اللهِ بنُ رَوَاحةَ أخو بَلْحَارِثِ بن الخزرجِ، وخَوَّاتُ بنُ جُبَيرٍ أخو بني عمرِو بن عوفٍ، فقال: "انطَلِقوا حتى تَنْظُروا: أحقُّ ما بلَغنا عن هؤلاء القومِ أم لا؟ فإن كان حقًّا فالْحَنوا لى لَحْنًا نعْرِفُه
(8)
، [ولا تَفُتُّوا في أعضادِ الناسِ]
(9)
، وإن كانوا على الوفاءِ فيما بينَنا وبينَهم،
(1)
الجهام: السحاب الذي فرغ ماؤه، والمعنى: أي الذي تعرضه عليَّ لا خير فيه، كالجهام الذي لا ماء فيه النهاية 1/ 323.
(2)
في ص، ت 1، ت 2:"يقبله".
(3)
الغارب: مقدم سِنام البعير، والذروة أعلاه. أما: يقتله في الذروة والغارب فأراد أنه لم يزل يخدعه كما يُخدع البعير إذا كان نافرًا فيُمسح باليد على ظهره حتى يستأنس فيجعل الخطام على رأسه. المصدر السابق.
(4)
سمح: سهل ولان. الوسيط (س م ح).
(5)
في م: "أعطاهم".
(6)
سقط من: م.
(7)
في م: "ديلم أخو".
(8)
في م: "أعرفه"، واللحن أن يخالف ظاهر الكلام معناه، ويقال: لحنت لفلان، إذا قلت له قولا يفهمه ويخفى على غيره، والمعنى: أشيروا إليَّ ولا تُفصِحوا، وعرِّضوا بما علمتم. شرح غريب السيرة 3/ 5، والنهاية 4/ 241.
(9)
في ص، ت 1، ت 2:"ولا تفتوا أعضاد الناس"، ويقال: فتَّ في عضده إذا ضعَّفه وأوهنه. شرح غريب السيرة 3/ 5.
فاجْهَرُوا به للناسِ". فخرجوا حتى أَتَوْهم، فوجَدوهم على أخبثِ ما بلَغهم عنهم، ونالوا من رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وقالوا: لا عقدَ بينَنا وبينَ محمدٍ ولا عهدَ. فشاتَمهم سعدُ بن عُبادةَ، وشاتَموه، وكان رجلًا فيه حِدَّةٌ، فقال له سعدُ بنُ معاذٍ: دعْ عنك مُشاتَمتَهم، فما بينَنا وبينَهم أرْبَى
(1)
من المشاتمةِ. ثم أقبَل سعدٌ وسعدٌ ومَن معهما إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فسلَّموا عليه، ثم قالوا: عَضَلٌ والقارةُ. أي كغدرِ عَضَلٍ والقارةِ بأصحابِ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أصحابِ الرَّجِيعِ؛ خُبَيبِ بن عديٍّ وأصحابِه. فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الله أكبرُ، أَبْشِروا يا معشرَ المسلمين". وعظُم عندَ ذلك البلاءُ، واشتدَّ الخوفُ، وأتاهم عدوُّهم من فوقِهم ومن أسفلَ منهم حتى ظنَّ المسلمون كلَّ ظنٍّ، ونجَم النِّفاقُ
(2)
من بعضِ المنافقين، حتى قال مُعَتِّبُ بنُ قُشَيرٍ أخو بني عمرِو بن عوف: كان محمدٌ يَعِدُنا أن نَأْكُلَ كنوزَ كِسرى وقيصرَ، وأَحدُنا لا يَقْدِرُ أَن يَذْهَبَ إلى الغائطِ! وحتى قال أوسُ بنُ قَيْظيٍّ، أحدُ بني حارثةَ بن الحارثِ: يا رسولَ اللهِ، إن بيوتَنا لَعَوْرَةٌ من العدوِّ - وذلك عن ملأِ من رجالِ قومِه - فَأْذَنْ لنا فلنَرْجِعْ إلى دارِنا، وإنها خارجةٌ من المدينةِ. فأقام رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِضْعًا وعشرين ليلةً قريبًا من شهرٍ، ولم يَكُنْ بينَ القومِ حربٌ إلا الرمىُ بالنبلِ والحصارِ
(3)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن محمدٍ بن إسحاقَ، قال: ثني يزيدُ بنُ رومَانَ قولَه: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} : فالذين جاءوهم من فوقِهم: قُرَيظةُ، والذين جاءوهم من أسفل منهم: قريشٌ وغَطَفانُ
(4)
.
وقولُه: {وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ} . يقولُ: وحينَ عدَلت الأبصارُ عن
(1)
أربى: أعظم. المصدر السابق.
(2)
نجم الشيءُ: طلع وظهر. اللسان (ن ج م).
(3)
سيرة ابن هشام 2/ 214 - 223، وأخرجه المصنف في تاريخه 2/ 565، 566، 570 - 572.
(4)
سيرة ابن هشام 2/ 246، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 187 إلى ابن أبي حاتم.
مَقَرِّها، وشخَصت طامحةً.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ} : شخَصت.
وقولُه: {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِر} . يقولُ: نَبَتِ
(1)
[القلوب عن أماكنِها من الرُّعبِ والخوفِ، فبلَغت إلى الحناجرِ]
(2)
.
كما حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا سويدُ بنُ عمرٍو، عن حمادٍ بن زيدٍ، عن أيوبَ، عن عكرِمةَ:{وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِر} . قال: من الفَزَعَ
(3)
.
وقولُه: {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} . يقولُ: وتَظُنُّون باللهِ الظنونَ الكاذبةَ، وذلك كظنِّ مَن ظنَّ منهم أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وأَنَّ ما وعَده اللهُ مِن النصرِ أن لا
(4)
يكونَ، ونحوَ ذلك مِن ظنونِهم الكاذبةِ التي ظنّها مَن ظَنَّ ممَّن كان مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في عسكرِه.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا هوذةُ بنُ خليفةَ، قال: ثنا عوفٌ، عن الحسنِ:
(1)
في ت 1: "بينت"، وفي ت 2:"بدت"، والنَّبْوَةُ: الجَفوة والارتفاع والعلو، ونبت بي تلك الأرض: لم أجد بها قرارا، ونبا جنبى عن الفراش: لم يطمئن عليه، ونبا الشيءُ عنى يَنبو: أي تجافي وتباعد. اللسان (ن ب ى).
(2)
سقط من: ت 2.
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة 13/ 571، وأبو نعيم في الحلية 3/ 338 من طريق حماد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 187 إلى ابن المنذر.
(4)
سقط من: ص، ت 1، ت 2.
{وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} . قال: ظنونًا مختلفةً: ظنَّ المنافقون أن محمدًا وأصحابَه سَيُستأْصَلون، وأَيْقَن المؤمنون أن ما وعَدهم اللهُ حقٌّ؛ أنه سيُظْهِرُه على الدينِ كلِّه ولو كرِه المشركون
(1)
.
واختلَفتِ القرأَةُ في قراءةِ قولِه: {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} . فقرَأ ذلك عامةُ قرأَةِ المدينةِ وبعضُ الكوفيِّين: {الظُّنُونَا} بإثباتِ الألفِ، وكذلك:{وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا} و
(2)
: {فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} [الأحزاب: 66، 67]. في الوصلِ والوقفِ
(3)
. وكان اعتلالُ المعتلِّ في ذلك لهم، أن ذلك في كلِّ مصاحفِ المسلمين بإثباتِ الألف في هذه الأحرفِ كلِّها. وكان بعضُ قرَأَةِ الكوفةِ يُثْبِتُ الألفَ فيهنَّ في الوقفِ ويَحْذِفُهن في الوصلِ
(4)
؛ اعتلالًا بأن العربَ تفعلُ ذلك في قوافي الشعرِ ومصاريعِها، فتُلحقُ الألفَ في موضِع الفتحِ للوقوفِ، ولا تفعلُ ذلك في حشوِ الأبياتِ، وإن هذه الأحرفَ حسُن فيها إثباتُ الألفاتِ؛ لأنهن رءوسُ الآيِ، تمثيلًا لها بالقوافي.
وقرَأ ذلك بعضُ قرأةِ البصرةِ والكوفةِ بحذفِ الألفِ من جميعِه في الوقفِ والوصلِ
(5)
؛ اعتلالًا بأن ذلك غيرُ موجودٍ في كلامِ العربِ إلا في قوَافى الشعرِ دونَ غيرِها من كلامِهم، وأنها إنما تَفْعَلُ ذلك في القوافى؛ طلبًا لإتمامِ وزنِ الشعرِ، إذ لو لم تَفْعَلْ ذلك فيها لم يَصِحَّ الشعرُ، وليس ذلك كذلك في القرآنِ؛ لأنه لا شيءَ يَضْطَرُّهم إلى ذلك في القرآنِ، وقالوا: هنَّ، مع ذلك، في مصحفِ عبدِ اللهِ بغير ألفٍ.
وأَوْلى القرَاءاتِ في ذلك عندى بالصوابِ: قراءةُ من قرَأه بحذفِ الألفِ في
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 187 إلى المصنف وابن أبي حاتم. وينظر تفسير ابن كثير 6/ 389.
(2)
سقط من: م.
(3)
هي قراءة عاصم في رواية أبي بكر، ونافع، وابن عامر. السبعة ص 519، والتيسير ص 144.
(4)
هي قراءة ابن كثير، والكسائي، وعاصم في رواية حفص. ينظر المصدران السابقان.
(5)
هي قراءة أبي عمرو، وحمزة، ينظر المصدران السابقان.
الوصلِ والوقفِ
(1)
؛ لأن ذلك هو الكلامُ المعروفُ من كلامِ العربِ، مع شهرةِ القراءةِ بذلك في قرأةِ المِصْرَين: الكوفةِ والبصرةِ. ثم القراءةُ بإثباتِ الألفِ فيهنَّ في حالِ الوقفِ والوصلِ؛ لأن علةَ مَن أثبَت ذلك في حالِ الوقفِ، أنه كذلك في خطوطِ مصاحفِ المسلمين. وإذا كانت العلةُ في إثباتِ ذلك
(2)
في بعضِ الأحوالِ كونَه مثبَتًا في مصاحفِ المسلمين، فالواجبُ أن تكونَ القراءةُ في كلِّ الأحوالِ ثابتةً؛ لأنه مُثبَتٌ في مصاحفِهم، وغيرُ جائزٍ أن تكونَ العلةُ التي تُوجِبُ قراءةَ ذلك على وجهٍ من الوجوهِ في بعض الأحوالِ موجودةً في حالٍ أخرى، والقراءةُ مختلفةٌ. وليس ذلك لقوافي الشعرِ بنظيرٍ؛ لأن قوافيَ الشعرِ إنما تُلْحَقُ فيها الأَلِفاتُ في مواضعِ الفتحِ، والياءُ في مواضعِ الكسرِ، والواوُ في مواضعِ الضمِّ - طلبًا لتتِمَّةِ الوزنِ، وأن ذلك لو لم يُفْعَلْ كذلك، بطَل أن يكونَ شعرًا؛ لاستحالتِه عن وزنِه، ولا شيءَ يَضْطَرُّ تالىَ القرآنِ إلى فعلِ ذلك في القرآنِ.
وقولُه: {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ} . يقولُ: عندَ ذلك اختُبِر إيمانُ المؤمنين، ومُحِّص القومُ، و
(3)
عُرِف المؤمنُ مِن المنافقِ.
وبنحوِ ما قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ} . قال: مُحِّصوا
(4)
.
(1)
القراءات كلها صواب.
(2)
في م: "الألف".
(3)
سقط من: ص، ت 1، ت 2.
(4)
تفسير مجاهد ص 548، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 187 إلى الفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم.
وقولُه: {وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} . يقولُ: وحُرِّكوا بالفتنةِ تحريكًا شديدًا، وابتُلُوا وفُتِنوا.
وقولُه: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} . شكٌّ في الإيمانِ، وضعفٌ في اعتقادِهم إياه:{مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} ، وذلك فيما ذُكِر قولُ مُعَتِّبِ بن قُشَيْرٍ.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ، قال: ثنى يزيدُ بنُ رُومَانَ: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} ؛ لقولِ
(1)
مُعَتِّبِ بن قُشَيْرٍ، إذ قال ما قال يومَ الخندقِ
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} . قال: تَكلُّمُهم بالنفاقِ يومئذٍ، وتكَلَّم المؤمنون بالحقِّ والإيمانِ. قالوا: هذا ما وعَدَنا اللهُ ورسولُه
(3)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} . قال: قال ذلك
(1)
في م: "يقول".
(2)
سيرة ابن هشام 2/ 222، 246، وذكره الطوسى في التبيان 8/ 291، وأخرجه البيهقي في الدلائل 3/ 435 من طريق ابن إسحاق، عن يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير من قوله مطولا، وكذلك عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 186 إلى ابن إسحاق وابن المنذر عن عروة، وذكره ابن هشام في السيرة 2/ 245 عن ابن إسحاق من قوله.
(3)
تفسير مجاهد ص 548، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 187 إلى الفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم.
أُناسٌ مَن المنافقين: قد كان محمدٌ يَعِدُنا فتْحَ فارسَ والرومِ، وقد حُصِرْنا ههنا، حتى ما يَسْتَطِيعَ أحدُنا أن يَبْرُزَ لحاجتِه، ما وعَدَنا اللهُ ورسولُه إلا غُرورًا
(1)
.
حدَّثني يونُسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ، قال: قال رجلٌ يومَ الأحزابِ لرجلٍ من صَحابةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: يا فلانُ
(2)
، أرأَيْتَ إذ يقولُ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"إذا هلَك قَيْصَرُ فلا قَيْصَرَ بعدَه، وإذا هلَك كِسْرَى فلا كِسْرَى بعدَه، والذي نفسي بيدِه لَتُنْفَقَنَّ كنوزُهما في سبيلِ اللهِ". فأينَ هذا مِن هذا، وأحدُنا لا يَسْتَطيعُ أن يَخْرُجَ يَبُولُ
(3)
مِن الخوفِ؟! {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} . فقال له: كَذَبْتَ، لأُخبرَنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم خبرك. قال: فأتَى رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فأخبرَه، فدعاه فقال:"ما قلتَ؟ " فقال: كذَب عليَّ يا رسولَ اللَّهِ، ما قلتُ شيئًا، ما خرَج هذا مِن فِي
(4)
قطُّ. قال اللهُ: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ} حتى بلَغ: {وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [التوبة: 74]. قال: فهذا قولُ اللهِ: {إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً} [التوبة: 66].
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا محمدُ بنُ خالدِ بن عَثْمةَ، قال: ثنا كثيرُ بنُ عبدِ اللهِ بن عمرِو بن عوفٍ المُزَنيُّ، قال: ثنى أبي، عن أبيه، قال: خطَّ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الخندقَ عامَ ذُكِرَت الأحزابُ، مِن أُجُمِ الشَّيْخَيْن
(5)
، طرفَ بني حارثةَ، حتى بلَغ
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 1103 عن معمر عن قتادة بنحوه، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 187 إلى ابن أبي حاتم.
(2)
بعده في ص، ت 1، ت 2:"قال هذا فلان قال".
(3)
في ص، ت 1، ت 2:"يقول".
(4)
في م: "فمي".
(5)
في م: "أحمر الشيخين"، والأجم واحد آجام المدينة، وهو بمعنى الأُطُم، وآجامُ المدينة وآطامُها: حصونها وقصورها، والشيخان: موضع بالمدينة. معجم البلدان 1/ 135، 136، 3/ 348.
المَذَادَ
(1)
، ثم جعَل
(2)
أربعين ذراعًا بينَ كلِّ عشَرةٍ، فاحْتقَّ
(3)
المهاجرون والأنصارُ في سَلْمانَ الفارسيِّ - وكان رجلًا قويًّا - فقال الأنصارُ: سلمانُ منا. وقال المهاجرون: [سلمانُ منا. فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم]
(4)
: "سلمانُ منا أهلَ البيتِ". قال عمرُو بنُ عوفٍ: فكنتُ أنا وسلمانُ وحذيفةُ بنُ اليمانِ والنعمانُ بنُ مُقَرِّنٍ المُزَنيُّ، وستةٌ مِن الأنصارِ، في أربعين ذراعًا، فحفَرْنا تحتَ ذُبابٍ
(5)
حتى بلَغْنا النَّدَى
(6)
، أَخْرَجَ اللهُ مِن بطنِ الخندقِ صخرةً بيضاءَ مَرْوةً، فكسَرت حديدَنا، وشقَّت علينا، فقُلْنا: يا سلمانُ، ارْقَ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فأخْبِرْه خبرَ هذهِ الصخرةِ، فإما أن نَعْدِلَ عنها، فإِنَّ المَعْدِلَ قريبٌ، وإما أن يَأْمُرَنا فيها بأمرِه، فإنا لا نُحِبُّ أن نُجاوِزَ خَطَّه. فَرَقِيَ سلمانُ حتى أَتَى رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وهو ضاربٌ عليه قبَّةً تُرْكيَّةً، فقال: يا رسولَ اللهِ، بأبينا أنت وأمِّنا، خرَجَتْ صخرةٌ بيضاءُ مِن بطنِ الخندقِ مَرْوةٌ، فكسَرت حديدَنا
(7)
، وشقَّت علينا، حتى ما يَحِيكُ
(8)
منها قليلٌ ولا كثيرٌ، فمُرْنا فيها بأمرِك، فإنا لا نُحِبُّ [أَن نُجاوِزَ]
(9)
خطَّك. فهبَط رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مع سلمانَ في الخندقِ، ورقِينا نحن التسعةَ على شَفَةِ
(1)
المذاد: موضع بالمدينة. معجم البلدان 4/ 468.
(2)
في ص، ت 1، ت 2:"بلغه"، وفي مصادر التخريج:"قطعه".
(3)
في م: "فاختلف"، وفي ت 1، ت 2:"فاحتنق"، واحتق: تخاصم، والتَّحاقُّ: التخاصم، وحاقَّه: خاصمه وادعى كل واحد منهما الحقَّ. اللسان، والتاج (ح ق ق).
(4)
سقط من: ص، ت 1، ت 2.
(5)
في النسخ: "دوبار"، وفى تاريخ المصنف:"ذوباب"، وفي تفسير البغوي:"ذي ناب"، والمثبت من طبقات ابن سعد، وذباب: جبل بالمدينة له ذكر في المغازي والأخبار البلدان 2/ 716.
(6)
في م: "الصرى"، ندى الأرض: نداوتها وبللها. اللسان (ص ر ي، ن د ى).
(7)
في ص، ت 1، ت 2:"بحديدنا".
(8)
في م: "يجيء"، وفي ت 2:"تخيل"، وحاك في كذا: أثَّر فيه. الوسيط (ح ى ك).
(9)
سقط من: ص، ت 1، ت 2.
الخندقِ، فأَخَذ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم المِعْوَلَ من سلمانَ، فضرَب الصخرةَ ضربةً صدَعَها، وبرَقَت منها بَرْقةٌ أضاءَت ما بينَ لَابَتَيْها - يعنى لابَتَى المدينةِ - حتى لكأنَّ مِصباحًا في جوفَ بيتٍ مظلمٍ، فكبَّر رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم تكبيرَ فتحٍ، وكبَّر المسلمون، ثم ضرَبها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الثانيةَ فصدَعها، فكسَرَها، وبرَقَت منها بَرْقَةٌ أضاءَت ما بين لابتَيْها، حتى لَكأن مصباحًا في جوفِ بيتٍ مظلمٍ، فكبَّر رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم تكبيرَ فتحٍ، وكبَّر المسلمون، ثم ضرَبها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الثالثةَ، فكسَرَها، وبَرَق منها بَرْقَةٌ أضاءَ ما بينَ لابتَيْها، حتى لَكأن مصباحًا في جوفِ بيتٍ مظلمٍ، فكبَّر رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم تكبيرَ فتحٍ، ثم أخَذ بيد سلمانَ، فَرَقِيَ، فقال سلمانُ: بأبي أنت وأمى يا رسولَ اللهِ، لقد رأَيْتُ شيئًا ما رأيْتُه قطُّ. فالْتَفَت رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلى القومِ فقال:"هل رأيْتُم ما يقولُ سلمانُ؟ " قالوا: نعم يا رسولَ اللهِ، بأبينا أنت وأمِّنا، قد رأَيْناك تَضْرِبُ فيَخْرُجُ بَرْقٌ كالموجِ، فرأَيْناك تُكَبِّرُ فَنُكَبِّرُ، ولا نَرَى شيئًا غير ذلك. قال: "صدَقْتُم ضَرَبْتُ ضربتيَ الأولى، فبرَق الذي رأيتُم، [أضاءتْ لى منها]
(1)
قُصورُ الحيِرةِ ومدائنُ كِسْرَى، كأنها أنيابُ الكلابِ، فأخبرني جبريلُ عليه السلام أن أمتى ظاهرةٌ عليها، ثم ضرَبْتُ ضربتىَ الثانيةَ، فبرَق الذي رأيتُم، [أضاءتْ لي منها]
(1)
قُصورُ الحُمْرِ مِن أرضِ الرومِ، كأنها أنيابُ الكلابِ، وأَخْبَرنى جبريلُ عليه السلام أن أمتى ظاهرةٌ عليها، ثم ضرَبْتُ ضربتيَ الثالثةَ، فبرَق منها الذي رأيتُم، أضاءتْ لى منها قصورُ صَنْعَاءَ، كأنها أنيابُ الكلابِ، وأخْبَرنى جبريلُ عليه السلام أن أمتى ظاهرةٌ عليها، فأبْشِروا يَبْلُغُهم النصرُ، وأبشِروا يَبْلُغُهم النصرُ، وأَبْشِرُوا يَبْلُغُهم النصرُ". فاسْتَبْشَر المسلمون، وقالوا: الحمدُ للهِ، موعودُ صِدقٍ، بأن وُعِدْنا النصرَ بعدَ الحَصْر،
(1)
في النسخ: "أضاء لى منه"، والمثبت من تاريخ المصنف.
فطَلَعَتِ
(1)
الأحزابُ، فقال المسلمون:{هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [الأحزاب: 22]. الآيةَ، وقال المنافقون: ألا تَعْجَبون! يُحَدِّثُكم ويُمَنِّيكم ويَعِدُكم الباطلَ، يُخْبِرُكم أنه يُبْصِرُ مِن يثربَ قصورَ الحِيرةِ، ومدائنَ كِسْرَى، وأنها تُفْتَحُ لكم، وأنتم تَحْفِرون الخندقَ مِن الفَرَقِ، ولا تَسْتَطِيعون أن تَبْرُزوا؟! وأُنْزِل القرآنُ:{وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا}
(2)
.
يعني تعالى ذكرُه بقولِه: {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَاأَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ} . وإذ قال بعضُهم: يا أهلَ يثربَ. ويثربُ اسم أرضٍ، فيقالُ: إن مدينةَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في ناحيةٍ مِن يثربَ.
وقوله: (لَا مَقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا)، بفتحِ الميمِ من "مقام". يقولُ: لا مكانَ لكم، تقومون فيه، كما قال الشاعرُ
(3)
:
فأَيِّى ما وأَيُّك كان شرًا
…
فَقِيدَ إلى المقامةِ لا يَرَاها
(1)
في م: "فطبقت".
(2)
أخرجه المصنف في تاريخه 2/ 567، وأخرجه البيهقي في الدلائل 3/ 418، والبغوي في تفسيره 6/ 323 من طريق محمد بن خالد به، وأخرجه ابن سعد في طبقاته، 4/ 82، 83، والطبراني (6040)، والحاكم 3/ 598 - كلاهما مختصرًا - من طريق كثير بن عبد الله به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 185، 186 إلى ابن أبي حاتم وابن مردويه وأبي نعيم.
(3)
تقدم تخريجه في 18/ 231.
قولُه: {فَارْجِعُوا} . يقولُ: فارْجِعوا إلى منازِلِكم. أمرَهم بالهربِ من عسكرِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، والفرارِ منه، وتركِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
وقيل: إن ذلك مِن قِيلِ أوسِ بن قَيْظِيٍّ ومَن وافَقَه على رأيِه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ، قال: ثني يزيدُ بنُ رُومَانَ: {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَاأَهْلَ يَثْرِبَ} إلى قولِه: {فِرَارًا} . يقولُ: أَوسُ بنُ قَيْظِيٍّ ومَن كان على ذلك مِن رأيِه مِن قومِه
(1)
.
والقرأةُ على فتحِ الميمِ مِن قولِه: (لا مَقامَ لكم). بمعنى: لا موضعَ قيامٍ لكم، وهي القراءةُ التي لا أَسْتَجِيزُ القراءةَ بخلافِها؛ لإجماعِ الحجةِ من القرأةِ عليها. وذُكِر عن أبي عبدِ الرحمنِ السُّلَميِّ أنه قرَأ ذلك:{لَا مُقَامَ لَكُمْ} . بضمِّ الميمِ
(2)
، يعنى: لا إقامةَ لكم.
وقولُه: {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ} . يقولُ تعالى ذكرُه: ويَسْتَأْذِنُ بعضُهم رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم في الإذنِ بالانصرافِ عنه إلى منزله، ولكنه يُرِيدُ الفِرارَ والهربَ مِن عسكرِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
(1)
سيرة ابن هشام 2/ 222، 246، وأخرجه المصنف في تاريخه 2/ 570 مطولا عن ابن حميد، عن سلمة، عن ابن إسحاق من قوله، وذكره القرطبي في تفسيره 14/ 148.
(2)
وهى قراءة نافع، وابن كثير، وأبي عمرو، وابن عامر، وعاصم في رواية أبي بكر، وحمزة، والكسائي.
وقراءة الضم هي قراءة عاصم في رواية حفص، وهى قراءة متواترة. وينظر السبعة ص 520، والتيسير ص 145.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ} إلى قولِه: {إِلَّا فِرَارًا} . قال: هم بنو حارثةَ، قالوا: بيوتُنا مُخْلِيَةٌ
(1)
، نَخْشَى عليها السَّرَقَ
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} . قال: نَخْشَى عليها السَّرَقَ
(3)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ} : وإنها مما يَلِى العدُوَّ، وإنا نَخافُ عليها السُّرَّاقَ، فيَبعث النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فلا يَجدُ بها عدُوًّا. قال اللهُ:{إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} . يقولُ: إنما كان قولُهم ذلك: {إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} . إنما كانوا يُرِيدون بذلك الفرارَ
(4)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ سِنانٍ القَزَّازُ، قال: ثنا عبدُ
(5)
اللهِ بنُ حُمْرانَ، قال: ثنا عبدُ السلامِ بنُ شَدَّادٍ أبو طالوتَ، عن أبيه، في هذه الآية:{إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ} . قال: ضائعةٌ.
(1)
مخلية: خالية. اللسان (خ ل ى).
(2)
أخرجه البيهقي في الدلائل 3/ 433 من طريق محمد بن سعد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 188 إلى ابن مردويه.
(3)
تفسير مجاهد ص 548، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 188 إلى الفريابي وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 114 عن معمر، عن قتادة بنحوه.
(5)
في م: "عبيد"، وينظر تهذيب الكمال 14/ 431.
وقولُه: {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا} . يقولُ: ولو دُخِلَت المدينةُ على هؤلاء القائلين: {إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} . {مِنْ أَقْطَارِهَا} ، يعنى: مِن جَوانِبِها ونَواحيها، واحدُها قُطْرٌ، وفيها لغةٌ أخرى: قُتْرٌ، وأَقْتارٌ، ومنه قولُ الراجزِ:
إن شئتَ أن تُدْهِنَ أو تَمُرَّا
…
فوَلِّهن قُتْرَكَ الأشَرَّا
وقولُه: {ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ} . يقولُ: ثم سُئِلوا الرجوعَ من الإيمانِ إلى الشركِ، {لَآتَوْهَا}. يقولُ: لَفعَلوا ورجَعوا عن الإسلامِ، وأشرَكوا.
وقولُه: {وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا} . يقولُ: وما احْتَبَسوا عن إجابتِهم إلى الشركِ. {إِلَّا يَسِيرًا} قليلًا، وَلأَسْرَعوا إلى ذلك.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا} . أي: لو دُخل عليهم مِن نواحي المدينةِ، {ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ}. أي: الشركِ، {لَآتَوْهَا}. يقولُ: لأَعْطَوْهُ
(1)
، {وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا}. يقولُ: إلا أعْطَوْه طيِّبة به أنفسُهم، ما يَحْتَبِسونه
(2)
.
حدَّثني يونُسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا} . قال: لو دُخِلَت المدينةُ عليهم مِن نَواحِيها، {ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا}: سُئِلوا أن يكْفُروا لكفَروا، قال: وهؤلاء المنافقون لو دخَلَت عليهم الجيوشُ، والذين يُريدون قتالَهم، ثم سُئِلوا أن يَكْفُرُوا لكَفَروا. قال:
(1)
في م: "لأعطوها".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 188 إلى المصنف.
والفتنةُ، الكفرُ. قال: وهى التي يقولُ اللَّهُ: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 191]. أي: الكفرُ. يقولُ: يَحْمِلُهم الخوفُ منهم، وخُبْثُ الفتنةِ التي هم عليها من النفاقِ، على أن يَكْفُروا به
(1)
.
واختَلَفَت القرأةُ في قراءةِ قولِه: {لَآتَوْهَا} ؛ فقرَأ ذلك عامةُ قرأةِ المدينةِ، وبعضُ قرأةِ مكةَ:(لأتَوها) بقصرِ الألفِ، بمعنى جاءوها، وقرَأه بعضُ المكيين، وعامةُ قرأةِ الكوفةِ والبصرةِ:{لَآتَوْهَا} بمدِّ الألفِ
(2)
، بمعنى: لأَعْطَوْها؛ لقولِه: {ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ} . وقالوا: إذا كان سؤالٌ كان إعطاءٌ، والمدُّ أعجبُ القراءتين إليَّ؛ لما ذكَرْتُ، وإن كانت الأخرى جائزةً.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15)}
يقولُ تعالى ذكرُه: ولقد كان هؤلاء الذين يَسْتَأْذِنون رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم في الانصرافِ عنه، ويقولون: إن بيوتَنا عورةٌ. عاهَدوا الله مِن قبلِ ذلك، أن لا يُوَلُّوا عدوَّهم الأدبارَ، إن لَقُوهم في مشهدٍ لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم معهم، فما أَوْفَوْا بعهدِهم، {وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا}. يقولُ: فيَسْأَلُ اللهُ ذلك مَن أعطاه إياه مِن نفسِه.
وذُكِر أن ذلك نزَل في بنى حارثةَ؛ لِما كان مِن فعلِهم في الخندقِ، بعدَ الذي كان منهم بأُحدٍ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ، قال: ثني يزيدُ بنُ رُومَانَ:
(1)
تقدم بسنده وجزء من متنه في 3/ 295، وذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 390 بنحوه.
(2)
قراءة القصر هي قراءة نافع وابن كثير وأبى جعفر. وقراءة المدّ هي قراءة أبي عمرو، وابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي، ويعقوب، وخلف. ينظر النشر 2/ 261.
{وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا} : وهم بنو حارثةَ، وهم الذين همُّوا أن يَفْشَلُوا يومَ أحدٍ مع بني سَلِمةَ، حينَ همَّا بالفشلِ يومَ أحدٍ، ثم عاهَدوا الله لا يعودوا لمثلِها، فذكَر اللهُ لهم الذي أَعْطَوْه من أنفسهم
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا} . قال: كان ناسٌ غابوا عن وقعةِ بدرٍ، ورأَوْا ما أعْطَى اللهُ أصحابَ بدرٍ من الكرامةِ والفَضيلةِ، فقالوا: لئن أَشْهَدَنا اللهُ قتالًا لَنُقاتِلَنَّ. فَساق اللهُ ذلك إليهم، حتى كان في ناحيةِ المدينة
(2)
.
يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: {قُلْ} له يا محمدُ لهؤلاء الذين يَسْتَأْذِنونك في الانصرافِ عنك، ويقولون:{إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} . {لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ} . يقولُ: لأن ذلك أو ما كتَب اللهُ منهما، واصلٌ إليكم بكلِّ حالٍ، كَرِهْتُم أو أحْبَبْتُم. {وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا}. يقولُ: وإذا فرَرْتُم مِن الموتِ أو القتلِ لم يَزِدْ فرارُكم ذلك في أعمارِكم وآجالِكم، بل إنما تُمَتَّعون في هذه الدنيا إلى الوقتِ الذي كُتِب لكم، ثم يَأتِيكم ما كُتِب لكم وعليكم.
(1)
سيرة ابن هشام 2/ 246، وذكره البغوي في تفسيره 6/ 333.
(2)
ذكره البغوي في تفسيره 6/ 333.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا} وإنما الدنيا كلُّها قليلٌ
(1)
.
حدَّثنا أبو كُرَيبٍ، قال: ثنا ابن يمانٍ، عن سفيانَ، عن منصورٍ، عن أبي رَزِينٍ، عن ربيعِ بن خُثَيم:{وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا} . قال: إلى آجالِهم
(2)
.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن منصورٍ، عن أبي رَزِينٍ، عن ربيعِ بن خُثَيمٍ:{وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا} . قال: ما بينَهم وبينَ الأجلِ.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا يحيى وعبدُ الرحمنِ، قالا: ثنا سفيانُ، عن منصورٍ، عن الأعمشِ، عن أبي رَزيِنٍ، عن الربيعِ بن خُثَيم مثلَه، إلا أنه قال: ما بينَهم وبينَ آجالِهم.
حدَّثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن منصورٍ، عن أبي رَزيِنٍ أنه قال في هذه الآيةِ:{فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا} [التوبة: 82]. قال: ليَضْحَكوا في الدنيا قليلًا، وليَبْكوا في النارِ كثيرًا. وقال في هذه الآيةِ:{وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا} . قال: إلى آجالِهم. أحدُ هذين الحديثين رفَعه إلى ربيعِ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 188 إلى المصنف.
(2)
تفسير الثورى ص 241 بنحوه.
ابن خُثَيْمٍ
(1)
.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنى أبي، عن الأعمشِ، عن أبي رَزيِنٍ، عن الربيعِ بن خُثيمٍ:{وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا} . قال: الأجلُ
(2)
.
ورُفِع قولُه: {تُمَتَّعُونَ} . ولم يُنْصَبْ بـ"إذا"، للواوِ التي معها، وذلك أنه إذا كان قبلَها واوٌ، كان معنى "إذًا" التأخيرَ بعدَ الفعلِ، كأنه قيل: ولو فرُّوا لا يُمَتَّعون إلا قليلًا إذًا، وقد يُنْصَبُ بها أحيانًا، وإن كان معها واوٌ؛ لأن الفعلَ متروكٌ، فكأنها لأولِ الكلامِ.
وقولُه: {قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً} . يقولُ تعالى ذكرُه: قل يا محمدُ لهؤلاء الذين يَسْتَأذِنونك، ويقولون:{إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} . هربًا مِن القتلِ: مَن ذا الذي يَمْنَعُكم مِن اللهِ إن هو أراد بكم سُوءًا في أنفسِكم؛ مِن قتلٍ أو بَلاءٍ أو غيرِ ذلك، أو عافيةٍ وسلامةٍ؟ وهل ما يكونُ بكم في أنفسِكم مِن سُوءٍ أو رحمةٍ، إلا مِن قِبَلِه؟!
كما حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ، قال: ثنى يزيدُ بنُ رُومَانَ: {قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً} . أي: أنه ليس الأمرُ إلا ما قضيْتُ
(3)
.
وقولُه: {وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} . يقولُ تعالى ذكرُه: ولا يَجدُ هؤلاء المنافقون إن أراد اللهُ بهم سوءًا في أنفسِهم وأموالِهم، مِن دونِ اللهِ وليًّا يَلِيهم بالكفايةِ، ولا نَصِيرًا يَنْصُرُهم مِن اللهِ، فيَدْفَعُ عنهم ما أراد اللهُ بهم مِن
(1)
تقدم بسنده ومتنه في 11/ 606.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه 13/ 396. من طريق الأعمش به بنحوه، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 188. إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
سيرة ابن هشام 2/ 246 ولم يذكر فيه تفسير الآية.
سُوءٍ في ذلك.
يقولُ تعالى ذكرُه: قد يعلمُ اللهُ الذين يُعَوِّقون الناسَ منكم عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فيَصُدُّونهم عنه، وعن شُهُودِ الحربِ معه؛ نِفاقًا منهم وتَخْذيلًا عن الإسلامِ وأهلِه، {وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا}. [أي: تعالوا إلينا]
(1)
، ودَعُوا محمدًا، فلا تَشْهَدوا معه مَشْهَدَه، فإنا نخافُ عليكم الهلاك بهَلَاكِه، {وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا}. يقولُ: ولا يَشْهَدون الحربَ والقتالَ، إن شهِدوا، إلا تَعْذيرًا ودَفْعًا عن أنفسِهم المؤمنين.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ} . قال: هؤلاء ناسٌ مِن المنافقين كانوا يقولون لإخوانِهم: ما محمدٌ وأصحابُه إلا أكَلةُ رأْسٍ، ولو كانوا لحمًا لالْتَهَمهم أبو سفيانَ وأصحابُه، دَعُوا هذا الرجلَ فإنه هالكٌ
(2)
.
وقوله: {وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا} . أي: لا يشهَدون القتالَ، يَغِيبون عنه.
(1)
سقط من: ت 2.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 188، 189 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ، قال: ثنا يزيدُ بنُ رُومَانَ: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ} . أي: أهلَ النفاقِ، {وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا}. أي: إلا دَفْعًا وتَعْذيرًا
(1)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ} إلى آخرِ الآيةِ، قال: هذا يومُ الأحزابِ، انصرَف رجلٌ مِن عندِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فوجَد أخاه، بينَ يدَيه شِواءٌ ورغيفٌ ونَبِيذٌ، فقال له: أنت ههنا في الشِّواءِ والرغيفِ والنَّبيذِ، ورسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بينَ الرِّماحِ والسيوفِ؟ فقال: هَلُمَّ إلى هذا، فقد بلَغ
(2)
بك وبصاحبِك، والذي يُحْلَفُ به لا يستقبلُها
(3)
محمدٌ أبدًا. فقال: كذبتَ والذي يُحْلَفُ به. قال - وكان أخاه مِن أبيه وأمِّه -: أمَا واللهِ لأُخْبِرن النبي صلى الله عليه وسلم أمرَك. قال: وذهَب إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ليخبرَه، قال: فوجَده قد نزَل جبرائيلُ، عليه السلام، بخبرِه
(4)
(5)
.
وقولُه: {أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ} . اختلف أهلُ التأويلِ في المعنى الذي وصَف اللهُ به هؤلاء المنافقين في هذا الموضعِ مِن الشُّحِّ؛ فقال بعضُهم: وصَفهم بالشُّحِّ عليهم في الغنيمِة.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ} :
(1)
سيرة ابن هشام 2/ 246، 247.
(2)
في ص، ت 1، ت 2:"بيع".
(3)
في مطبوعة الدر المنثور للسيوطى: "يستقى لها"، وفى النسخة المحمودية:"يستبقى لها".
(4)
في ت 2: "يخبره".
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 188 إلى ابن أبي حاتم.
في الغنيمةِ
(1)
.
وقال آخرون: بل وصَفهم بالشُّحِّ عليهم بالخيرِ.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، [قال: ثنى عيسى، وحدثني الحارثُ]
(2)
، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ} . قال: بالخيرِ، المنافقون. وقال غيرُه: معناه: {أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ} بالنفقةِ على ضُعفاءِ المؤمنين منكم
(3)
.
والصوابُ مِن القولِ في ذلك عندى أن يقالَ: إن الله وصَف هؤلاء المنافقين بالجُبْنِ والشُّحِّ، [ولم يَخْصُصُ](2) وصفَهم مِن معاني الشُّحِّ بمعنًى دونَ معنًى، فهم كما وصَفهم الله به أشحَّةً على المؤمنين بالغنيمةِ والخيرِ والنفقةِ في سبيلِ اللهِ، على أهل مَسْكنةِ المسلمين. ونُصب قولُه:{أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ} . على الحالِ، مِن ذكرِ الاسمِ الذي في قولِه:{وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ} . كأنه قيل: هم جُبَناءُ عندَ البأسِ، أشِحاءُ عندَ قَسْمِ الغنيمةِ بالغنيمةِ.
وقد يحتملُ أن يكونَ قَطْعًا مِن قولِه: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ} . فيكونَ تأويلُه: قد يعلمُ اللَّهُ الذين يُعَوِّقون الناسَ عن القتالِ، ويَشِحُّون عندَ الفتحِ بالغنيمةِ. ويجوزُ أن يكونَ أيضًا قَطْعًا من قولِه:{هَلُمَّ إِلَيْنَا} {أَشِحَّةً} ، وهم هكذا أشحةً. ووصَفهم جلَّ ثناؤُه بما وصَفهم مِن الشُّحِّ على المؤمنين؛ لِما في أنفسِهم لهم
(1)
سيأتي بتمامه في ص 54.
(2)
سقط من: ت 2.
(3)
تفسير مجاهد ص 549، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 189 إلى الفريابي وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.
من العدَاوةِ والضِّغْن
(1)
.
كما حدَّثنا ابن حُمَيدٍ، قال: ثنا سَلَمةُ، عن ابن إسحاقَ، قال: ثني يزيدُ بنُ رُومَانَ: {أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ} . أي: للضِّغْنِ
(2)
الذي في أنفسِهم
(3)
.
وقوله: {فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ} إلى قولِه: {مِنَ الْمَوْتِ} . يقولُ تعالى ذِكرُه: فإذا حضَر البأسُ
(4)
، وجاء القتالُ، خافوا الهلاكَ والقَتْلَ، {رَأَيْتَهُمْ} يا محمدُ، {يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ} لِوَاذًا بك، {تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ} خوفًا مِن القتلِ، وفِرارًا منه، {كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ}. يقولُ: كَدَوَرَانِ عينِ الذي يُغْشَى عليه مِن الموتِ النازلِ به، {فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ}. يقولُ: فإذا انقطعَت الحربُ واطْمأنوا {سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} .
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ} : مِن الخوفِ
(5)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ، قال: ثني يزيدُ بنُ رُومَانَ: {فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} . أي: إعْظامًا وفَرَقًا منه (3).
(1)
في ت 2: "الطعن".
(2)
في ص، ت 1، ت 2:"الطعن".
(3)
سيرة ابن هشام 2/ 247.
(4)
في ص، ت 1، ت 2:"الناس".
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 189 إلى ابن أبي حاتم.
وأما قولُه: {سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَاد} . فإنه يقولُ: عَضُّوكم بألسنةٍ ذَرِبةٍ، ويقالُ للرجلِ الخطيبِ الذَّرِبِ اللسانِ: خطيبٌ مِسْلَقٌ ومِصْلَقٌ، وخطيبٌ سَلَّاقٌ وصَلَّاقٌ.
وقد اختَلف أهل التأويلِ في المعنى الذي وصَف تعالى ذكرُه هؤلاء المنافقين أنهم يَسْلُقون المؤمنين به؛ فقال بعضُهم: ذلك سَلْقُهم إياهم عندَ الغنيمةِ، بمسألتِهم القَسْمَ لهم.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرُ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} : أَمَّا عندَ الغنيمةِ فأشَحُّ قومٍ، وأَسْوأُ مُقاسَمةٍ: أعطُونا أعطُونا، فإنا قد شهِدنا معكم. وأما عندَ البأسِ فأجبنُ قومٍ، وأخذلُه للحق
(1)
.
وقال آخرون: بل ذلك سَلْقُهم إيَّاهم بالأذَى.
ذِكرُ ذلك عن ابن عباسٍ
حدَّثني عليٍّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} . يقولُ: اسْتَقْبَلوكم
(2)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ: {سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} . قال: كَلَّمُوكم.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 189 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم - كما في الإتقان 2/ 37 - من طريق أبي صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 189 إلى المصنف وابن المنذر.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أنهم يَسْلُقونهم مِن القولِ بما تُحِبُّون؛ نِفاقًا منهم.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ، قال: ثني يزيدُ بنُ رُومَانَ: {فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} : في القول بما تُحِبُّون؛ لأنهم لا يَرْجُون آخرةً، ولا تَحْمِلُهم حِسْبةٌ
(1)
، فهم يَهابون الموتَ هيبةَ مَن لا يَرْجُو ما بعدَه
(2)
.
وأشبهُ هذه الأقوالِ بما دلَّ عليه ظاهرُ التنزيلِ، قولُ مَن قال:{سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ} . فأخبَر أن سَلْقَهم المسلمين شُحًّا منهم على الغنيمةِ والخيرِ، فمعلومٌ إذ كان ذلك كذلك، أن ذلك لطلبِ الغنيمةِ. وإذا كان ذلك منهم لطلبِ الغنيمةِ، دخَل في ذلك قولُ مَن قال: ذلك: سَلَقُوكم بالأذى؛ لأن فعلَهم ذلك كذلك، لا شكَّ أنه للمؤمنين أذًى.
وقولُه: {أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ} . يقولُ: أَشحَّةً على الغنيمةِ إذا ظَفَر المؤمنون. وقوله: {لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ} . يقولُ تعالى ذِكرُه: هؤلاء الذين وصَفتُ لك صفتَهم في هذه الآياتِ، لم يُصدِّقوا الله ورسولَه، ولكنهم أهلُ كفرٍ ونفاقٍ، {فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ}. يقولُ: فأذهَب اللهُ أُجُورَ أعمالِهم وأبطلَها.
وذُكر أن الذي وُصِف بهذه الصفةِ كان بَدْرِيًّا، فأحبَط اللهُ عملَه.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} . قال: فحدَّثنى أبي أنه كان
(1)
في ت 2: "خشية".
(2)
سيرة ابن هشام 2/ 247.
بَدْرِيًّا، وأن قولَه:{فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ} : أحبَط اللهُ عملَه يومَ بدرٍ.
وقولُه: {وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} . يقولُ تعالى ذكرُه: وكان إحباطُ عملِهم الذي كانوا عمِلوا قبل ارْتدادِهم ونفاقِهم، على اللهِ يسيرًا.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا} .
يقولُ تعالى ذكرُه: يحسبُ هؤلاء المنافقون الأحزابَ؛ وهم قريشُ وغَطَفَانُ.
كما حدَّثنا ابن حُمَيدٍ، قال: ثنا سَلَمةُ، عن ابن إسحاقَ، قال: ثني يزيدُ بنُ رُومَانَ: {يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا} : قريشٌ وغَطَفانُ
(1)
.
وقولُه: {لَمْ يَذْهَبُوا} . يقولُ: لم ينصرِفوا، وإن كانوا قد انصرَفوا جُبْنًا وهَلَعًا منهم.
بنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا} . [قال: يحسَبونهم قريبًا
(2)
.
وذُكر أن ذلك في قراءةِ عبدِ اللهِ: (يَحْسَبُون الأَحْزَابَ قَدْ]
(3)
ذَهَبُوا، فَإِذَا
(1)
سيرة ابن هشام 2/ 247.
(2)
تفسير مجاهد ص 549، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 189 إلى الفريابي وابن أبي حاتم وابن المنذر.
(3)
سقط من: ت 2.
وَجَدُوهُمْ لَمْ يَذْهَبُوا، وَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الأَعْرَابِ)
(1)
.
وقوله: {وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ} . يقولُ تعالى ذكرهُ: وإن يأتِ المؤمنين الأحزابُ وهم الجماعةُ: واحدُهم حِزْبٌ. {يَوَدُّوا} . يقولُ: يَتَمَنَّوا مِن الخوفِ والجُبْنِ أنهم غُيَّبٌ عنكم في الباديةِ مع الأعرابِ؛ خوفًا مِن القتلِ، وذلك قولُه:{لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ} . تقولُ: قد بَدا فلانٌ. إذا صار في البدوِ، فهو يَبْدُو، وهو بادٍ. وأما الأعرابُ: فإنهم جمعُ أعرابيٍّ
(2)
، وواحدُ العربِ عربيٌّ، وإنما قيل: أَعرابيٌّ. لأهلِ البدوِ؛ فَرْقًا بينَ أهل البَوادى والأمصارِ، فجعَل الأعرابَ لأهل الباديةِ، والعربَ لأهلِ المِصْرِ.
وقولُه: {يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ} . يقولُ: يَسْتَخْبِرُ هؤلاء المُنافقون، أيُّها المؤمنون، الناسَ عن أنْبائِكم. يعنى: عن أخبارِكم بالباديةِ: [هل هلَك محمدٌ وأصحابُه؟ يقولُ: يَتَمَنَّون أن يسمَعوا أخبارَكم]
(3)
بِهَلاكِكم، أن لا يشهدوا معكم مَشاهِدَكم، {وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ [مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا}. يقولُ تعالى ذكرُه للمؤمنين: ولو]
(3)
كانوا أيضًا فَيكُم ما نفَعوكم، و {مَا قَاتَلُوا} المشركين {إِلَّا قَلِيلًا} ، يقول: إلا تَعْذيرًا؛ لأنهم لا يُقاتِلونهم حِسْبَةً
(4)
، ولا رجاءَ ثوابٍ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قالُ أهلُ التأويلِ.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني
(1)
القراءة شاذة لمخالفتها رسم المصحف.
(2)
في ص، ت 1:"عرب"، ت 2:"العرب".
(3)
سقط من: ت 1.
(4)
في ت 2: "خشية".
الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ} قال: أخبارِكم
(1)
.
وقَرأت قرأةُ الأمصارِ جميعًا سِوى عاصمٍ الجَحْدَرى: {يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ} . بمعنى: يَسْألون مَن قَدِم عليهم مِن الناسِ، عن أنباءِ عَسْكرِكم وأخْبارِكم. وذُكر عن عاصمٍ الجَحْدَرِيِّ أنه كان يقرَأُ ذلك:(يَسَّاءَلُونَ) بتَشْدِيدِ "السين"، بمعنى: يَتْساءلون: أي يسألُ بعضُهم بعضًا عن ذلك
(2)
.
والصوابُ مِن القولِ في ذلك عندَنا: ما عليه قرأةُ الأمصارِ؛ لإجماعِ الحُجَّةِ مِن القرأةِ عليه.
اختَلفت القرأةُ في قراءةِ قولِه: {أُسْوَةٌ} ؛ فقرَأ ذلك عامةُ قرأةِ الأمصارِ: (إِسْوَةٌ) بكسرِ "الألف
(3)
"، خَلا عاصمَ بنَ أبي النَّجودِ؛ فإنه قرَأه بالضَّمِّ:{أُسْوَةٌ}
(4)
. وكان يحيى بنُ وَثَّابٍ يقرأُ هذه بالكسرِ، ويقرأُ قولَه:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ} . [الممتحنة: 6] بالضمِّ، وهما لغتان، وذُكِر أن الكسرَ في أهلِ
(1)
تفسير مجاهد ص 549، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 189 إلى الفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
القراءة شاذة، ينظر البحر المحيط 7/ 221.
(3)
هي قراءة نافع، وابن كثير، وأبي عمرو، وابن عامر، وحمزة والكسائي، السبعة لابن مجاهد ص 521.
(4)
السبعة لابن مجاهد ص 520.
الحجازِ، والضَّمَّ في قَيْسٍ، يقولون:"أُسْوَةٌ". و "أُخْوةٌ". وهذا عِتابٌ مِنَ اللهِ تعالى للمتخلِّفين عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وعَسكْرِه بالمدينةِ مِن المؤمنين به. يقولُ لهم جلَّ ثناؤُه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} ، أن تَتأسَّوْا به، وتكونوا معه حيثُ كان، ولا تَتَخَلَّفوا عنه - {لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ}. يقولُ: فإِن مَن يَرْجُو ثوابَ اللهِ ورحمتَه في الآخرةِ، لا يرغَبُ بنفسه، ولكنه تكونُ له به أُسوةٌ في أن يكونَ معه حيثُ يكونُ هو.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سَلَمةُ، عن ابن إسحاقَ، قال: ثني يزيدُ بنُ رُومانَ، قال: ثم أقبَل على المؤمنين فقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} ، ألَّا يرغَبوا بأنفسِهم عن نفسِه، ولا عن مكانٍ هو به، {وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}. يقولُ: وأكثرَ ذكرَ اللهِ في الخوفِ والشدَّةِ والرخاءِ.
وقولُه: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ} . يقولُ: ولمَّا عايَن المؤمنون باللهِ ورسولِه جماعاتِ الكفارِ، قالوا تَسْليمًا منهم لأمرِ اللهِ، وإيقانًا منهم بأن ذلك إنجازُ وعدِه لهم، الذي وَعَدهم بقولِه:{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ} إلى قولِه: {قَرِيبٌ} [البقرة: 214]: {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} ، فأحسَن اللهُ عليهم بذلك مِن يقينِهم، وتَسْليمِهم لأمرِه، الثناءَ، فقال: وما زادَهم اجتماعُ الأحزابِ عليهم إلا إيمانًا باللهِ، وتَسْلِيمًا لقَضائِه وأمرِه، ورزَقهم به النصرَ، والظَّفَرَ على الأعداءِ.
وبالذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ} . الآية، قال: ذلك أن الله قال لهم في "سورة البقرة": {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ} . إلى قولِه: {إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} . قال: فلما مَسَّهم البَلاءُ حيث رابَطوا الأحزابَ في الخندقِ، تأوَّل المؤمنون ذلك، ولم يَزِدْهم ذلك إلا إيمانًا وتَسْليمًا
(1)
.
حدَّثنا ابن حُمَيدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ، قال: ثني يزيدُ بنُ رُومانَ، قال: ثم ذكَر المؤمنين وصِدقَهم وتَصْديقَهم بما وعَدهم اللهُ مِن البَلاءِ، يختبرُهم به، {قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا}:[أي صَبْرًا على البَلاءِ، وتسليمًا]
(2)
للقضاءِ، وتَصْديقًا بتَحْقيقِ ما كان اللهُ وعَدهم ورسولُه
(3)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} وكان اللهُ قد وعَدهم في "سورة البقرة" فقال: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} [البقرة: 214]. [خيرُهم وأصبرُهم وأعلمُهم بالله]
(4)
: {مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} . هذا واللهِ البلاءُ والنقصُ الشديدُ، وإن أصحابَ
(1)
أخرجه البيهقى في الدلائل 3/ 433، 434 من طريق محمد بن سعد به مطولًا، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 190 إلى ابن مردويه.
(2)
سقط من: ت 2.
(3)
سيرة ابن هشام 2/ 247.
(4)
سقط من: ت 1.
رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لمَّا رَأَوا ما أصابَهم مِن الشدَّةِ والبَلاءِ قالُوا: {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} وتَصْدِيقًا بما وعَدهم اللهُ، وتَسْلِيمًا لقضاءِ اللَّهِ
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23)[لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا]
(2)
(24)}.
يقولُ تعالى ذِكرُه: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} باللهِ ورسولِه، {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ}. يقولُ: أوفَوا بما عاهَدوه عليه؛ من الصَّبرِ على البأساءِ والضَّراءِ وحينَ البأسِ، {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ}. يقولُ: فمنهم مَن فرَغ من العملِ الذي كان نذَره للهِ، وأوجَبه له على نفسِه، فاسْتُشْهِد بعضٌ يومَ بدرٍ، وبعضٌ يومَ أحدٍ، وبعضٌ في غيرِ ذلك مِن المواطنِ. {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} قضاءَهن والفراغَ منه، كما قضَى مَن مضَى منهم على الوفاءِ للهِ بعهدِه، والنصْرِ من اللهِ، والظَّفَرِ على عدوِّه.
والنَّحْبُ: النذْرُ في كلامِ العربِ، وللنَّحْبِ أيضًا في كلامِهم وجوهٌ غيرُ ذلك؛ منها الموتُ، كما قال الشاعرُ
(3)
:
*قَضَى نَحْبَه فِي مُلْتَقَى القَوْمِ هَوْبَرُ
(4)
*
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 114، والبيهقى في الدلائل 3/ 435 من طريق معمر عن قتادة بنحوه، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 190 إلى الطيالسي وابن المنذر وابن أبي حاتم مختصرًا بنحوه.
(2)
سقط من: ت 1.
(3)
عجز بيت لذي الرمة في ديوانه 2/ 647.
(4)
يعنى يزيد بن هوبر الحارثى، فقال: هوبر. للقافية. المصدر السابق.
يعنى: مَنِيَّتَه ونفسَه. ومنها الخَطَرُ العظيمُ، كما قال جريرٌ
(1)
:
بِطَخْفَةَ جالَدْنا المُلُوكَ وخَيْلُنا
…
عَشِيَّةَ بَسْطَامٍ جَرَيْنَ على نَحْبِ
(2)
أي على خَطَرٍ عظيمٍ. ومنها النَّحِيبُ، يقالُ: نحَب في سيرِه يومَه أجمعَ. [إِذا مَدَّ، فلم يَنزِلْ يومَه]
(3)
وليلَتَه، ومنها التنحيبُ، وهو الخطار، كما قال الشاعر
(4)
:
وإِذْ نَحْبَتْ كَلْبٌ على الناسِ أَيُّهُمْ
…
أحَقُّ بِتَاجِ المَاجِدِ المُتكرِّمِ
(5)
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سَلَمةُ، عن ابن إسحاقَ، قال: ثنى يزيدُ بنُ رُومان: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} : أي وفَّوا الله بما عاهَدوه عليه، {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ}. أي: فرَغ من عملِه، ورجَع إلى ربِّه، كمَن اسْتُشهِد يومَ بدرٍ ويومَ أُحُدٍ، ومنهم مَن ينتظرُ ما وعَد الله مِن نصرِه، أو الشهادةِ على ما مضَى عليه أصحابُه
(6)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} . قال: عهدَه، فقُتِل أو عاشَ {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِر}
(1)
ديوانه 2/ 632.
(2)
في ص، ت 1، ت 2:"طب".
(3)
سقط من: ت 2.
(4)
البيت للفرزدق في ديوانه ص 759.
(5)
في م: "المتكوم".
(6)
سيرة ابن هشام 2/ 248، 249 مفرقا.
يومًا فيه جهادٌ، فيَقْضى
(1)
نحبَه؛ عهدَه فيُقْتَلُ أو يَصْدُقُ في لقائِه
(2)
.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا ابن عُيينةَ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ:{فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} . قال: عهدَه، {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ}. قال: يومًا فيه قتالٌ، فيصْدُقُ في اللقاءِ.
قال: ثنا أبي، عن سفيانَ، عن مجاهدٍ:{فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} . قال: ماتَ على العهدِ.
قال: ثنا أبو أُسامةَ، عن عبدِ اللهِ بن فلانٍ، قد سمَّاه ذهَب عنى اسمُه، عن أبيه:{فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} . قال: نَذْرَه
(3)
.
قال:
(4)
: [حدَّثنا ابن إدريسَ]
(5)
، عن طلحةَ بن يحيى، عن عمِّه عيسى بن طلحةَ، أن أعرابيًّا أتَى النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فسأله: مَن الذين قَضَوا نَحْبَهم؟ فأعرَض عنه، ثم سأله، فأعرَض عنه
(6)
، ودخَل طلحةُ مِن بابِ المسجدِ وعليه ثوبانِ أخضرانِ، فقال:"هذا مِن الذين قَضَوا نَحْبَهم"
(7)
.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا هَوْذَةُ، قال: ثنا عوفٌ، عن الحسنِ في قولِه:{فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} . قال: موتُه على الصدقِ والوفاءِ، {وَمِنْهُمْ مَنْ
(1)
في ص، ت 1:"فيقيض"، ت 2:"فينقض".
(2)
تفسير مجاهد ص 549، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 192 إلى الفريابي وسعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة 10/ 476 عن أبي أسامة عن عبد الله بن اللهف عن أبيه وسقط منه كلمة: "نذره". وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 192 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم عن عبد الله بن اللهف.
(4)
سقط من: م، والمثبت هو الصواب، ينظر تهذيب الكمال 14/ 293.
(5)
سقط من: ت 2.
(6)
بعده في ت 1: "ثم سأله فأعرض عنه".
(7)
أخرجه ابن أبي عاصم في السنة (1399) من طريق ابن إدريس به، وأخرجه أحمد في فضائل الصحابة =
يَنْتَظِرُ} الموتَ على مثلِ ذلك، ومنهم مَن بدَّل تبديلًا
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنَ عُمارةَ، قال: ثنا عبيدَ اللهِ بنُ موسى، قال: أخبَرنا إسرائيلُ، عن سعيدِ بن مسروقٍ، عن مجاهدٍ:{فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} . قال: النَّحْبُ العهدُ.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} على الصدقِ والوفاءِ، {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِر} مِن نفسِه الصدقَ
(2)
والوفاءَ
(3)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} . قال: ماتَ على ما هو عليه مِن التصديقِ والإيمانِ، {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} ذلك.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا ابن أبى بُكَيرٍ، قال شَرِيكُ بنُ عبدِ اللَّهِ: أَخبَرناه عن سالمٍ، عن سعيدِ بن جُبَيرٍ، عن ابن عباسٍ:{فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} . قال: الموتُ على ما عاهَد الله عليه: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} الموتَ على ما عاهَد الله عليه
(4)
.
وقيل: إن هذه الآية نزلَت في قومٍ لم يشهَدوا بدرًا، فعاهَدوا الله أن يَفُوا قتالًا
= (1297)، ومن طريقه الواحدى في أسباب النزول ص 266 من طريق طلحة بن يحيى به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 191 إلى الترمذى وأبي يعلى والطبراني وابن مردويه وسيأتي.
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 114 عن معمر عن الحسن، وذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 395 عن الحسن به إلا أنه ذكره بلفظ: ومنهم من لم يبدل تبديلا، وهو الصواب.
(2)
سقط من: ت 2.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 192 إلى المصنف.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 191 إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.
للمشركين مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فمنهم مَن أوفَى فقضَى نَحْبَه، ومنهم من بدَّل. ومنهم مَن أوفَى ولم يَقْضِ نحبَه، وكان منتظرًا، على ما وصَفهم اللهُ به مِن صفاتِهم في هذه الآيةِ.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا عمرُو بنُ عليٍّ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ بنُ مهديٍّ، قال: ثنا حمادُ بنُ سلمةَ، عن ثابتٍ، عن أنسٍ، أن أنسَ بن النضرِ تَغيَّبَ عن قتال بدرٍ، فقال: تغيبتُ أوَّلِ مشهدٍ شَهِده رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، لئن رأيتُ قتالًا لَيَرَيَنَّ اللَّهُ ما أصنعُ. فلما كان يومُ أُحُدٍ، وهُزِم الناسُ، لقِى سعدَ بنَ معاذٍ، فقال: والله إنى لأجِدُ ريح الجنةِ. فتقدَّم فقاتَل حتى قُتِل، فنزلَت فيه هذه الآيةُ:{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ}
(1)
.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ بنُ بَكْرٍ
(2)
، قال: ثنا حَميدٌ، قال: زعَم أَنسُ بن مالكٍ قال: غابَ أَنسُ بنُ النَّضْرِ عن قتالِ يومِ بدرٍ، فقال: غِبْتُ عن قتالِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم المشركين، لَئِنْ أشْهَدنى اللهُ قتالًا لَيَرَيَنَّ اللهُ
(3)
ما أصنعُ. فلما كان يومُ أُحدٍ انكشَف المسلمون، فقال: اللهمَّ إنى أبرأُ إليك مما جاء به هؤلاء المشركون، وأعتذرُ إليك مما صنَع هؤلاء - يعنى المسلمين -. فمشَى بسيفه، فلَقِيه سعدُ بنُ مُعاذٍ، فقال: أي سعدُ، إنى لأجِدُ ريح الجنةِ دونَ أُحدٍ. فقال سعدٌ: يا رسولَ اللهِ، فما استطعتُ أن أصنعَ ما صنعَ. قال أنسُ بنُ مالكٍ: فوجَدناه بينَ القَتْلَى، به بِضْعٌ وثمانون جِراحةً؛
(1)
أخرجه أحمد 21/ 242 (13658)، والنسائى (11402 - كبرى)، وابن حبان (4772) من طريق حماد بن سلمة به، وأخرجه الطيالسي (2157)، ومسلم (1903)، والترمذى (3200)، والنسائي (8291 - كبرى)، وابن حبان (7023) من طريق ثابت به.
(2)
في م، ت 1، ت 2:"بكير" والصواب المثبت، ينظر تهذيب الكمال 14/ 340.
(3)
سقط من: ص، ت 2.
بين ضربةٍ بسيفٍ، وطَعْنةٍ برمحٍ، ورَمْيَةٍ بسهمٍ، فما عرفناه حتى عرفتْه أختُه ببَنانه. قال أنسٌ: فكُنَّا نتحدَّثُ أن هذه الآيةَ: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ}
(1)
نزلَت فيه وفى أصحابه
(2)
.
حدَّثنا سَوَّارُ بنُ عبدِ اللَّهِ، قال: ثنا المعتمرُ، قال: سمعتُ حُمَيدًا يحدِّثُ، عن أنسِ بن مالكٍ، أن أنسَ بنَ النضرِ غابَ عن قتالِ بدرٍ. ثم ذكَر نحوَه.
حدَّثنا أبو كُرَيبٍ، قال: ثنا يونسُ بنُ بُكَيرٍ، قال: ثنا طلحةُ بنُ يحيى، عن موسى وعيسى ابنى
(3)
طلحةَ، عن طلحةَ، أن أعرابيًّا أتَى رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قال: وكانوا لا يجرُؤون على مسألتِه، فقالوا للأعرابيِّ:{مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} ؛ مَن هو؟ فسألَه، فأعرَض عنه، ثم سأله، ثم سأله، فأعرَض عنه، ثم دخلتُ مِن بابِ المسجدِ وعليَّ ثيابٌ خُضْرٌ، فلما رأني رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال:"أينَ السَّائِلُ عَمَّن قَضَى نَحْبَه؟ ". قال الأعرابيُّ: أنا يا رسولَ اللَّهِ. قال: "هذا مِمَّن قَضَى نَحْبَه"
(4)
.
حدَّثنا أبو كُرَيبٍ، قال: ثنا عبدُ الحميدِ الحِمَّانيُّ، عن إسحاقَ بن يحيى الطَّلْحِيِّ، عن موسى بن طلحةَ، قال: قامَ معاويةُ بن أبي سفيانَ، فقال: إني سمعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقول: "طلحةُ مِمَّنْ قَضَى نَحْبَه"
(5)
.
(1)
بعده في م، ت 1:"فمنهم من قضى نحبه".
(2)
أخرجه أبو نعيم في الحلية 1/ 121، والبيهقي في السنن 9/ 43، 44، وفي الدلائل 3/ 244، 245 من طريق عبد الله بن بكر به، وأخرجه ابن أبي شيبة 5/ 312، 313، 14/ 395، وأحمد 20/ 366 (13085)، وعبد بن حميد (1394)، والبخارى (2085، 4048)، والترمذى (3201)، والنسائي (11403) - كبرى)، وابن أبي حاتم - كما في تفسير ابن كثير 6/ 394 - ، والطبراني (769)، والبغوى في تفسيره 6/ 337 من طريق حميد به.
(3)
في ص، ت 1، ت 2:"أبى"، والصواب المثبت. ينظر تهذيب الكمال 13/ 442.
(4)
أخرجه الترمذى (3203، 3742)، وأبو يعلى (663)، والضياء في المختارة (816) من طريق أبي كريب به، وأخرجه ابن أبي عاصم في السنة عقب (1399)، والبزار (943) من طريق يونس بن بكير به.
(5)
أخرجه ابن أبي عاصم في السنة (1402) من طريق عبد الحميد الحماني، وفيه "عيسى بن طلحة". =
حدَّثني محمدُ بنُ عمرِو بن تمامٍ الكلبيُّ، قال: ثنا سليمانُ بنُ أيوبَ، قال: ثنى أبي، عن إسحاقَ بن
(1)
يحيى بن طلحةَ، عن عمِّه موسى بن طلحةَ، عن أبيه طلحةَ، قال: لمَّا قدِمْنا من أُحدٍ، وصِرْنا بالمدينةِ، صعد النبيُّ صلى الله عليه وسلم المنبرَ
(2)
، فخطَب الناسَ وعَزَّاهم، وأخبرهم بما لهم فيه من الأجر، ثم قرأ:{رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} . الآيةَ، قال: فقام إليه رجلٌ فقال: يا رسولَ اللَّهِ، مَن هؤلاء؟ فالتفَت وعليَّ ثوبانِ أخضَران، فقال:"أَيُّها السَّائِلُ، هذا منهم"
(3)
.
وقولُه: {وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} . يقول: [وما غَيَّروا العهدَ الذي عاهَدوا
(4)
ربَّهم تَغْييرًا، كما غيَّره المُعوِّقون القائِلون لإخْوانِهم:{هَلُمَّ إِلَيْنَا} . [الأحزاب: 18]، والقائلون:{إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} . [الأحزاب: 13].
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ]
(5)
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ {وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} .
يقولُ: ما شكُّوا وما تَردَّدوا في دينهم، ولا استبدَلوا به غيرَه
(6)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَمَا
= بدل "موسى بن طلحة"، وأخرجه ابن ماجه (126، 127)، والترمذي (3202، 3740)، وابن أبي عاصم في السنة (1401)، والطبرانى في الأوسط (5000) من طريق إسحاق بن يحيى به.
(1)
في ص، م، ت 1، ت 2:"عن"، والمثبت هو الصواب. ينظر تهذيب الكمال 2/ 489.
(2)
سقط من: ص، ت 1، ت 2.
(3)
أخرجه ابن أبي عاصم (1400، 1403)، والطبراني (217)، والضياء في المختارة (817) من طريق سليمان بن أيوب به.
(4)
في م: "عاقدوا".
(5)
سقط من: ت 2.
(6)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 192 إلى المصنف.
بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}: لم يُغيِّروا دينهم كما غيَّر المنافقون.
وقولُه: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ} . يقولُ تعالى ذكرُه: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} ، {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ} منهم
(1)
{بِصِدْقِهِمْ} . يقولُ: ليُثِيبَ اللهُ أهلَ الصدقِ منهم
(1)
بصِدْقِهم الله بما عاهَدوه عليه، ووفائِهم له به، {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ} بكفرِهم باللهِ ونفاقِهم، {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} مِن نفاقِهم، فيَهْديَهم للإيمانِ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} . يقولُ: إن شاء أخرجَهم مِن النفاقِ إلى الإيمانِ
(2)
.
إن قال قائلٌ: ما وَجْهُ الشرطِ في قولِه: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ} بقولِه: {إِنْ شَاءَ} ، والمنافقُ كافرٌ؟ وهل يجوزُ ألَّا يشاءَ تعذيبَ المنافقِ؛ فيقالَ: ويُعذّبُه إِن شاء؟ قيل: إن معنى ذلك على غيرِ الوجهِ الذي تَوَهَّمْتَهُ، وإنما معنى ذلك: ويعذِّبَ المنافقين، بألَّا يوفَّقَهم للتوبةِ مِن نفاقِهم، حتى يَموتوا على كفرِهم إن شاء، فيستوجِبوا بذلك العذابَ. فالاستثناءُ إنما هو مِن أجلِ التوفيقِ، لا مِن العذابِ إن ماتوا على نفاقهم.
وقد بَيَّن ما قلنا في ذلك قولهُ: {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} . [فمعنى الكلامِ إِذنْ ويعذِّبَ المنافقين إذ لم يَهْدِهم للتوبة]
(3)
، فيوفِّقْهم لها، أو يتوبَ عليهم فلا يعذِّبَهم.
(1)
سقط من: م.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 115 عن معمر عن قتادة.
(3)
سقط من: ت 2.
وقولُه: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} . يقولُ: إن الله كان ذا سِتْرٍ على ذنوبِ التائبين، رحيمًا بالتائبِين أن يعاقبَهم بعدَ التوبةِ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وردَّ اللهُ الذينَ كَفَروا به وبرسولِه مِن قُرَيشٍ وغَطَفانَ، {بِغَيْظِهِمْ}. يقولُ: بكَرْبِهم وغَمِّهم، بفَوْتِهم ما أمَّلوا مِن الظَّفَرِ، وخَيْبَتِهم مما كانوا طَمِعوا فيه مِن الغَلَبَةِ، {لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا}. يقولُ: لم يُصيبوا مِن المسلمين مالًا ولا إسارًا، {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} بجنودِه مِن الملائكةِ، والريح التي بعَثها عليهم.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا} : الأحزابَ
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا} . وذلك يومَ أبي سفيانَ والأحزابِ، ردَّ اللهُ أبا سفيانَ وأصحابَه بغَيْظِهم لم ينَالوا خيرًا، {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} بالجنودِ مِن عندهِ، والريحِ التي بَعَث عليهم
(2)
.
(1)
تفسير مجاهد ص 549، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 192 إلى الفريابي وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 192 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
حدَّثنا ابن حُمَيدٍ، قال: ثنا سَلَمةُ، عن ابن إسحاقَ، قال: ثني يزيدُ بنُ رُومانَ: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا} . أي: قريشٌ وغَطَفانُ
(1)
.
حدَّثني الحسينُ بنُ عليٍّ الصُّدَائيُّ، قال: ثنا شَبابَةُ، قال: ثنا ابن أبي ذئبٍ، عن سعيدِ بن أبي سعيدٍ المَقْبُرِي، عن عبدِ الرحمنِ بن أبي سعيدٍ الخُدرِيِّ، عن أبيه، قال: حُبِسْنا يومَ الخندقِ عن الصلاةِ، فلم نُصَلِّ الظهرَ ولا العصرَ ولا المغربَ ولا العشاءَ، حتى كان بعدَ العشاءِ بهَويٍّ
(2)
، وكُفينا، وأنزَل الله: وأنزَل اللهُ: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} . فأمَر رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بلالًا، فأقامَ الصلاةَ، وصلَّى الظهرَ، فأحسنَ صلاتَها، كما كان يُصَلِّيها في وقتِها، ثم صَلَّى العصَر كذلك، ثم صلَّى المغربَ كذلك، ثم صلَّى العشاءَ كذلك، جعَل لكلِّ صلاةٍ إقامةً، وذلك قبلَ أن تنزلَ صلاة الخوفِ:{فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا}
(3)
[البقرة: 239].
حدَّثني محمدُ بنُ عبدِ اللهِ بن عبدِ الحكمِ، قال: ثنا ابن أبي فَدِيكٍ، قال: ثنا ابن أبي ذئبٍ، عن المَقْبُرِيِّ عن عبدِ الرحمنِ بن أبي سعيدٍ، [عن أبي سعيدٍ]
(4)
الخُدريِّ، قال: حُبِسْنا يومَ الخندقِ. فذكَر نحوَه.
وقولُه: {وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} . يقولُ: وكان الله قويًّا على فعلِ ما يشاءُ فعلَه بخلقِه، فينصرُ مَن شاء منهم على مَن [يَشَاءُ، ويخذُلُ مِن]
(5)
شاء أن يخذُلَه،
(1)
سيرة ابن هشام 2/ 249.
(2)
الهَوِى: الساعة من الليل، الوسيط (هـ و ى).
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة 2/ 70، والنسائي (660)، والبيهقي في الدلائل 3/ 445 من طريق ابن أبي ذئب، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 192 إلى ابن المنذر وابن مردويه.
(4)
سقط من: ت 2.
(5)
سقط من: م.
لا يَغْلِبُه غالبٌ، {عَزِيزًا}. يقولُ: هو شديدٌ انتْقامُه ممن انتقَم منه مِن أعدائِه.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} : قويًّا في أمرِه، عزيزًا في نِقْمَتِه
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وأنزَل اللهُ الذين أعانوا الأحزابَ مِن قريشٍ وغَطَفانَ على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وذلك هو مظاهرتُهم إياهم
(2)
، وعُنى بذلك بنو قُرَيظةَ، وهم الذين ظاهَروا الأحزابَ على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
وقولُه: {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} . يعنى: مِن أهلِ التوراةِ، وكانوا يهودًا.
وقولُه: {مِنْ صَيَاصِيهِمْ} . يعنى: مِن حُصُونهم.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرِو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} . قال: قُرَيظةَ، يقولُ: أنزَلهم من صياصِيهم
(3)
.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 192 إلى المصنف، وابن أبي حاتم.
(2)
في م، ص، ت 1:"إياه".
(3)
تفسير مجاهد ص 549. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 192 إلى الفريابي وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} : وهم بنو قُرَيظةَ، ظاهَروا أبَا سفيانَ وراسَلوه، فنكَثوا العهدَ الذي بينَهم وبينَ نبيِّ اللهِ، قال: فبينا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عندَ زينبَ بنتِ جحشٍ يَغْسِلُ رأسه، وقد غسَلت شقَّه، إذ أتاه جبريلُ صلى الله عليه وسلم، فقال: عفا اللهُ عنك، ما وضَعت الملائكةُ سلاحَها منذُ أربعين ليلةً، فانهَضْ
(1)
إلى بني قريظةَ، فإني قد قطَعتُ أوتارَهم، وفتَحتُ أبوابَهم، وترَكتُهم في زلزال وبلبال. قال: فاستلأَم
(2)
رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثم سلَك سِكةَ بنى غَنْمٍ، فاتبَعه الناسُ وقد عصَب حاجبَه بالترابِ. قال: فأتاهم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فحاصرهم وناداهم: "يا إخوةَ
(3)
القردة" فقالوا: يا أبا القاسم، ما كُنْتَ فحَّاشا. فنزَلوا على حكمِ ابن مُعاذٍ، وكان بينَهم وبينَ قومِه حِلْفٌ، فرَجَوْا أن تأخذَه فيهم هَوادةٌ، وأومَأَ إليهم أبو لُبابةَ أنه الذَّبْحُ، فأَنزَلَ اللَّهُ:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال: 27]. فحكم فيهم أن تُقْتَلَ مُقاتِلتُهم، وأن تُسْبَى ذرارِيُّهم، وأَنَّ عَقارَهم
(4)
للمهاجِرين، دونَ الأنصارِ، فقال قومُهُ وعَشيرتُه
(5)
: آثرتَ المهاجرين بالعقَار
(6)
علينا؟ قال: فإنكم كنتم ذوى عَقَارٍ، وإن المهاجرين كانوا لا عقارَ لهم. وذُكِر لنا أن رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم كبَّر وقال:"قَضَى فِيكُمْ بِحُكْمِ اللهِ"
(7)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ، قال: لما أصبَح
(8)
.
(1)
في ص، ت 2:"فانهد". وفي ت 1: "فاعتد"
(2)
في ص، ت 1:"فاستلم". وفي ت 2: "وأسلم".
(3)
في م: "إخوان".
(4)
في ص، ت 1، ت 2:"أعقارهم".
(5)
في ت 2: "صحابته".
(6)
في ت 1: "للأعقار". وفي ت 2: "الأعقار".
(7)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 193 إلى المصنف وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(8)
في النسخ: "انصرف". والمثبت من مصدرى التخريج.
رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم انصرف
(1)
عن الخندقِ راجعًا إلى المدينةِ، والمسلمون، ووضَعوا السلاحَ.
فلما كانت الظهرُ أتى جبريلُ عليه السلام رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم كما حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، قال: ثنى محمدُ بنُ إسحاقَ، عن ابن شهابٍ الزهريِّ - مُعْتَجِرًا بعمامةٍ مِن إستبرقٍ، على بغلةٍ عليها رِحَالةٌ، عليها قطيفةٌ مِن ديباجٍ؛ فقال: أقد وضَعتَ السلاحَ يا رسولُ اللهِ؟ قال: "نعم". قال جبريلُ: ما وضَعتِ الملائكةُ السلاحَ بعدُ وما رجَعت الآن إلَّا مِن طلبِ القومِ، إن اللَّهَ يَأْمُرُك يا محمدُ بالسيرِ إلى بني قريظةً، وأنا عامدٌ إلى بنى قُرَيظةَ. فأمَرَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم منادِيًا، فأذَّن في الناس أن:"من كان سامعًا مُطيعًا فلا يُصَلِّينَّ العصرَ إلا في بني قريظةَ". وقدَّم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عليَّ بنَ أبي طالبٍ رضي الله عنه برايتِه إلى بني قريظةَ، وابتدَرها الناسُ، فسار عليُّ بنُ أبي طالبٍ رضي الله عنه، حتى إذا دنا مِن الحصونِ، سمِع منها مقالةً قبيحةً لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم منهم، فرجَع حتى لَقِى رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بالطريقِ، فقال: يا رسولَ اللهِ، لا عليك ألَّا تدنوَ مِن هؤلاء الأحَابثِ
(2)
. قال: "لم؟ أَظُنُّك سمِعتَ لى منهم أذًى". قال: نعمْ يا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم. قال: "لو قد رأَوْنى لم يَقولوا من ذلك شيئًا". فلما دنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من حصونِهم، قال:"يا إخوانَ القردةِ، هل أخزاكم اللهُ، وأنزَل بكم نقمته؟ ". قالوا: يا أبا القاسمِ: ما كنت جهولًا. ومرَّ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم على أصحابه بالصَّوْرَيْنِ
(3)
قبل أن يَصِلَ إلى بني قريظةَ، فقال:"هل مرَّ بكم أحدٌ؟ " فقالوا: يا رسولَ اللهِ، قد مرَّ بنا دِحيةُ بنُ خليفةَ الكلبيُّ، على بغلةٍ بيضاءَ، عليها رِحَالةٌ، عليها قطيفةُ ديباجٍ. فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "ذاك جبريلُ
(1)
زيادة مِن مصدرى التخريج.
(2)
في م: "الأخباث".
(3)
الصَّوْرَين: موضع قرب المدينة البلدان 3/ 435.
بُعِث إلى بني قريظةَ يُزَلزِلُ بهم حُصُونَهم، ويَقْذِفُ الرعبَ في قلوبِهم". فلما أتى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بني
(1)
قريظةَ، نزَل على بئرٍ مِن آبارها، في ناحيةٍ مِن أموالهم، يُقالُ لها: بِئرُ أَنَّا. فتلاحق به الناسُ، فأتاه رجالٌ من بعدِ العِشاء الآخرة، ولم يُصَلُّوا العصرَ؛ لقولِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"لا يُصَلِّين أحدٌ العصرَ إلا في بني قريظةَ". فصَلَّوا العَصَر [بعدَ العشاءِ الآخرةِ]
(2)
، فما عابَهم اللهُ بذلك في كتابِه، ولا عنَّفهم به [رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم]
(3)
(4)
.
والحديثُ عن محمد بن إسحاقَ، عن أبيه، عن معبَدِ بن كعبِ بن مالكٍ الأنصاريِّ، قال: وحاصَرهم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خمسًا وعشرين ليلةً، حتى جَهَدَهم الحصارُ، وقذَف اللهُ
(5)
في قلوبِهم الرعبَ، وقد كان حُيَيُّ بْنُ أَخطبَ دخل على بنى قريظةَ في حصنِهم، حينَ رجَعت عنهم قريشٌ وغطفانُ، وفاءً لكعبِ بن أسدٍ بما كان عاهَده عليه، فلما أَيْقَنوا بأن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم غيرُ مُنصرفٍ عنهم
(6)
حتى يُناجِزَهم، قال كعبُ بنُ أسدٍ لهم: يا معشرَ يهودٍ، إنه قد نزَل بكم مِن الأمر ما تَرَون، وإني عارضٌ عليكم خِلالًا ثلاثًا، فخُذوا أيُّها. قالوا: وما هُنَّ؟ قال: نُبايِعُ هذا الرجلَ ونصدِّقُه، فواللهِ لقد تَبَيَّنَ لكم أنه لنبيٌّ مرسَلٌ، وأنه الذي كنتم تجدونه في كتابِكم، فتأمنوا على دمائِكم وأموالِكم وأبنائِكم ونسائِكم. قالوا: لا نفارقُ حُكم التوراةِ أبدًا، ولا نَسْتَبدِلُ به غيرَه. قال: فإِذا أَبَيْتُم هذه عليَّ، فهلمَّ
(1)
سقط مِن: م، ص، ت 1.
(2)
سقط مِن: م.
(3)
في م، ص، ت 2:"رسوله".
(4)
سيرة ابن هشام 2/ 223 - 235، وأخرجه المصنف في التاريخ 2/ 581.
(5)
في ت 2: "العهد"
(6)
سقط من: ت 2.
فَلْنَقْتُلْ أبناءَنا ونساءَنا، ثم نَخْرُجْ إلى محمدٍ وأصحابِه رجالًا، مُصْلِتين السيوفَ
(1)
، ولم نَتْرُكْ وراءَنا ثَقَلًا يُهِمُّنا، حتى يَحْكُمَ اللهُ بينَنا وبينَ محمدٍ، فَإِن نَهْلِكَ نَهْلِكْ ولم نَتْرُكْ وراءَنا شيئًا نَخْشى عليه، وإن نظهَرْ فَلَعَمْرِي لَتَتَّخِذَنَّ
(2)
النساءَ والأبناءَ. قالوا: نَقْتُلُ هؤلاء المساكينَ؟! فما خيرُ العيشِ بعدَهم؟ قال: فإذا أَبَيْتُم هذه عليَّ، فإن الليلةَ ليلةُ السبتِ، وإنه عسى أن يكونَ محمدٌ وأصحابُه قد أَمِنوا، فانزِلوا لعلنا أن نُصِيبَ مِن محمدٍ وأصحابِه غِرَّةً. قالوا: نُفْسِدُ سَبتَنا، ونُحدِثُ فيه ما لم يَكُنْ أحدَثَ
(3)
فيه مَن كان قبلَنا إِلَّا
(4)
مَن قد علمتَ فأصابهم مِن قد علمتَ فأصابهم مِن المسخِ ما لم يَخْفَ عليك؟! قال: ما بات رجلٌ منكمِ
(5)
مُنذُ
(6)
ولدته أمُّه ليلةً واحدةً مِن الدهرِ حازمًا. قال: ثم إنهم بعَثوا إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أن ابعَثْ إلينا أبا لبابةَ بنَ عبد المنذرِ، أخا بنى عمرِو بن عوفٍ - وكانوا مِن حُلفاءِ
(7)
الأوسِ - نَسْتَشِيرُه في أمرِنا. فأرسَله رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فلما رَأوه قام إليه الرجالُ، وبَهَشَ
(8)
إِليه النساءُ والصبيانُ، يَبْكون في وَجْهِهِ، فَرَقَّ لهم، وقالوا له: يا أبا لُبابةَ، أترَى أن ننزلَ على حُكْمِ محمدٍ؟ قال: نعم. وأشارَ بيَدِه
(9)
إلى حَلْقِه؛ إنه الذَّبْحُ. قال أبو لُبابةَ: فواللهِ ما زالَت قَدَمَاى، حتى عرَفتُ أني قد خُنْتُ اللَّهَ ورسولَه. ثم انطلَق أبو لُبابةَ على وَجْهِه، ولم يأتِ
(1)
في م، ص، ت 2:"بالسيوف".
(2)
في ت 2: "لنجدن".
(3)
في ت 2: "يحدث".
(4)
في النسخ: "أما"، والمثبت مِن مصدرى التخريج.
(5)
سقط من: ص، ت 1، ت 2.
(6)
في ت 1، ت 2:"مذ".
(7)
في ت 2: "خلفاء".
(8)
في ص، ت 1:"بهس". وفي ت 2: حمش". والمثبت موافق لما في التاريخ. وبهش إليه النساء، أي: اجتمعوا وتهيئوا للبكاء. ينظر التاج (ب هـ ش).
(9)
سقط من: ت 1.
رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، حتى ارتبَطَ في المسجدِ إلى عمودٍ مِن عُمُدِه، وقال: لا أَبْرَحُ مكانى حتى يتوبَ اللهُ عليَّ مما صنعتُ - وعاهَد اللَّهَ لا يطأُ بنى قُريظةَ أبدًا -، ولا يَراني اللهُ في بلدٍ خُنْتُ اللَّهَ ورسوله فيه أبدًا. فلما بلَغ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خبره [وأبطَأَ عليه]
(1)
، وكان قد استَبْطَأَه، قال: "أما إنه لو كان
(2)
جَاءَنِي لاسْتَغْفَرْتُ له، أمَا
(3)
إذ فَعَل ما فَعلَ، فما أنا بالذي أُطْلِقُه مِن مكانِه، حتى يتوبَ اللَّهُ عليه". ثم إن ثعلبةَ بنَ سَعْيَة
(4)
، وأَسِيدَ
(5)
بنَ سَعْيَة (4)، وأسدَ
(6)
بنَ عُبَيدٍ - وهم نفرٌ مِن بنى - هُذَيلٍ
(7)
، ليسوا مِن بني قُريظةَ ولا النضيرِ، نسبُهم فوقَ ذلك، هم بنو عَمِّ القومِ - أسلَموا تلك الليلةَ التي نزلَت فيها قريظةُ على حكمِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وخرَج في تلك الليلةِ عمرُو بن سُعْدَى القُرَظِيُّ، فَمَرَّ بِحَرَسِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وعليه
(8)
محمدُ بنُ مَسْلمةَ الأنصاريُّ تلك الليلةَ، فلمَّا رَآه قال: مَنْ هذا؟ قال: عمرُو بنُ سُعْدَى. وكان عمرٌو قد أبَى أن يدخلَ مع بنى قرَيْظة في غَدْرِهم برسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وقال: لا أغْدِرُ بمحمدٍ أبدًا. فقال محمدُ بنُ مَسْلَمة حينَ عرفه: اللهمَّ لا تحرِمْنى إقالَةَ
(9)
عَثَراتِ الكِرامِ. ثم خَلَّى سبيله. فخرج على وجهِه، حتى باتَ في مسجدِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بالمدينةِ تلك الليلةَ، ثم ذهَب، فلا يُدْرَى أينَ ذَهَب مِن أَرضِ اللَّهِ إلى يومِه
(10)
هذا. فذُكِر
(1)
سقط من: م.
(2)
سقط من ص، ت 1، ت 2.
(3)
في ص، ت 1، ت 2:"فأما".
(4)
في ت 1، ت 2:"شعبة". ينظر أسد الغابة 1/ 287.
(5)
في ت 1: "أسد"، وفى ت 2:"أشد". المصدر السابق.
(6)
في ت 2: "أسيد". المصدر السابق.
(7)
في ت 1، ت 2:"هذل".
(8)
في ص، ت 1، ت 2:"عليها"
(9)
سقط من ص، ت 1، ت 2.
(10)
في ت 1: "قومه".
الرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، شأنُه، فقال:"ذاكَ رَجَلٌ نَجَاهِ اللَّهُ بوَفَائِه". قال: وبعضُ الناسِ كان يزعُمُ أنه كان أُوثِقَ برُمَّةٍ
(1)
فيمَن أُوثق مِن بني قُريظةَ حينَ نزَلوا على حكمِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فأصبحَت رُمَّتُه مُلْقاةً، لا يُدْرَى أين ذهَب، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم تلك المقالةَ، فاللهُ أعلمُ.
فلما أصبَحوا، نزَلوا على حكم رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فتَواثبَتِ الأوسُ، فقالوا: يا رسولَ اللهِ، إنهم مَوالينا دونَ الخزرجِ، وقد فعلتَ في مَوالى الخزرجِ بالأمسِ ما قد علمتَ. وقد كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ بني قُرَيظةَ حاصَر بني قُيْنَقاعَ، وكانوا حلفاءَ الخزرجِ، فنزَلوا على حُكْمِه، [فسأله إياهم]
(2)
عبدُ اللَّهِ بنُ أُبَى ابن
(3)
سلولَ، فوهَبهم له. فلما كلَّمَته الأوسُ قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"ألا تَرْضَون يا معشرَ الأوسِ أن يَحْكُم فيهم رجلٌ منكم؟ ". قالوا: بلى. قال: "فَذَاكَ إلى سعدِ بن مُعاذٍ". وكان سعدُ بنُ مُعاذٍ قد جعله رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في خَيمةِ امرأةٍ مِن أسلمَ
(4)
، يقالُ لها: رُفَيدةُ
(5)
، في مسجدِه، كانت تُداوِى الجَرْحَى، وتحتسبُ بنفسِها على خدمةِ مِن كانت به ضَيْعَةٌ مِن المسلمين، وكان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قد قال لقومِه حين أصابَه السهمُ بِالخندق:"اجْعَلُوه في خَيمةِ رُفَيدةَ حتى أعُودَه مِن قَرِيبٍ". فلما حَكَّمه رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في بنى قُريظةَ، أناه قومُه فاحْتَمَلوه على حمارٍ، وقد وَطَّئُوا له بوِسادةٍ مِن أَدَمٍ، وكان رجلًا جسيمًا، ثم أقبَلوا معه إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وهم يقولون: يا أبا عمرٍو، أحسِنْ
(1)
في ت 1: "بذمة". وفى ت 2: "يومه". وغير واضحة في: ص. والرمة: قطعة من الحبال البالية. النهاية 2/ 267، واللسان (رم م).
(2)
في ت 2: "فسألهم إياه".
(3)
سقط من: ت 2.
(4)
في ص، ت 1، ت 2:"المسلمين".
(5)
في ت 2: "وفيدة".
في مَواليك؛ فإن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَلَّاك ذلك لتُحسِنَ فيهم. فلما أكثَروا عليه قال: قد آنَ
(1)
لسعدٍ أن لا تَأْخُذَه في اللهِ لومةً لائمٍ. فرجَع بعضُ مَن كان معَه
(2)
من قومِه إلى دارِ بنى عبدِ الأشهلِ، فنعَى إليهم رجالَ بني
(3)
قُريظةَ قبلَ أن يَصِلَ إليهم سعدُ بنُ معاذٍ، عن
(4)
كلمتِه التي سمِع منه. . فلما انتهَى سعدٌ إلى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم[والمسلمين]
(5)
، قال
(6)
: " [قُومُوا إلى سيدكم]
(7)
". فقاموا إليه، فقالوا: يا أبا عمرٍو، إن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ولَّاك مَواليَك لتَحْكُمَ فيهم. فقال سعدٌ: عليكم بذلك عهدُ اللهِ وميثاقه أنَّ الحكمَ فيهم كما
(8)
حكَمتُ؟ قالوا: نعَم. قال: وعلى مَن ههنا؟ في الناحيةِ التي فيها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وهو معرِضٌ عن رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم[إجلالًا له]
(9)
. فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "نعمْ". قال سعدٌ: فإني أَحْكُمُ فيهم أن تُقْتَلَ الرجالُ، وتُقسَّمَ الأموالُ، وتُسْبَى الذراريُّ والنساءُ
(10)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، قال: فحدَّثني محمدُ بنُ إسحاقَ، عن عاصمِ بن [عمرَ بن]
(11)
قتادةَ، عن عبدِ الرحمنِ بن عمرِو بن سعدِ بن معاذٍ، عن
(1)
في ص: "اني". وفي ت 1: "أبي".
(2)
سقط من ص، ت 1، ت 2.
(3)
في ت 1، ت 2:"من".
(4)
في م: "من".
(5)
سقط من: ت 2.
(6)
بعده في ص، ت 1:"سعد". وفى ت 2: "عليه السلام".
(7)
مكررة في: ص، ت 1، ت 2.
(8)
في ت 1: "بما".
(9)
سقط من: ت 1.
(10)
سيرة ابن هشام 2/ 235 - 240، وأخرجه المصنف في تاريخه 2/ 583 - 588.
(11)
في ص، ت 1، ت 2:"عمر وعن". والمثبت هو الصواب. تهذيب الكمال 13/ 528.
علقمةَ بن وقَّاصٍ الليثيِّ، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لقد حكمت فيهم بحُكْمِ اللهِ من فوق سبعة أرْقِعَةٍ". ثم استُنزِلوا، فحبَسهم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في دار ابنة الحارثِ - امرأةٌ مِن بنى النجَّار - ثم خرَج رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلى سوقِ المدينةِ التي هي سوقُها اليومَ، فخندَق بها خنادقَ، ثم بعَث إليهم، فضرَب أعناقَهم في تلك الخنادقِ، يُخرَجُ بهم إليه أرسالًا، وفيهم عدوُّ اللهِ حُيَيُّ بنُ أخطَبَ، وكعبُ بنُ أسدٍ رأسُ القومِ، وهم ستُّمِائةٍ أو سبعُمِائةٍ. والمكثرُ منهم يقولُ: كانوا مِن الثمانِمائةِ إلى التسعِمَائةِ. وقد قالوا لكعبِ بن أسدٍ وهم يُذْهَبُ بهم إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أرسالًا: يا كعبُ، ما ترَى يُصْنَعُ بِنا؟ فقال كعبٌ: أفي كلِّ موطِنٍ لا تعقِلون؟! أَلا تَرَوْنَ الداعىَ لا يَنْزِعُ، وأنه مَن يُذْهَبُ به منكم فما يَرْجِعُ! هو واللهِ القتلُ. فلم يَزَلْ ذلك الدأبَ، حتى فرَغ منهم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وأُتِي بحيي بن أخطب عدوِّ اللهِ، وعليه حُلةٌ له فَقّاحِيَّةٌ
(1)
قد شقَّقَها عليه مِن كلِّ ناحيةٍ كموضعِ الأُنملةِ، أنملةً أنملةَ؛ لئلا يُسْلَبَها، مجموعةٌ يداه إلى عنقِه بحبلٍ، فلما نظَر إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: أما واللهِ ما لُمتُ نفسى في عداوتِك، ولكنه مَن يَخذُلِ اللَّهُ يُحْذَلْ. ثم أقبلَ على الناسِ فقال: أيُّها الناسُ، إنه لا بأسَ بأمرِ اللهِ، كتابُ اللهِ وقدرُه، وملحمةٌ قد كُتِبت على بنى إسرائيلَ. ثم جلَس فضُرِبت عنقُه، فقال جبلُ بنُ جَوّالٍ الثعلبيُّ:
لعمرُك ما لامَ ابْنُ أَخطبَ نفسَه
…
ولكنه مَن يَخْذُلِ اللَّهُ يُحْذَلِ
لجاهَد حتى أبلَغ النفسَ عُذْرَها
…
وقَلْقَلَ يَبْغى العزَّ كلَّ مُقَلْقَلِ
(2)
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سَلَمةُ، قال: ثنا محمدُ بنُ إسحاقَ، عن محمدِ بن جعفرِ بن الزبيرِ، عن عروةَ بن الزبيرِ، عن عائشةَ، قالت: لم يُقْتَلُ مِن نسائِهم إلا
(1)
حلة فُقاحِيَّة: وهى على لون الورد حين هم أن يتفتح. التاج (ف ق ح).
(2)
سيرة ابن هشام، 2/ 241، وأخرجه المصنف في تاريخه 2/ 589.
امرأةٌ واحدةٌ. قالت: والله إنها لعندِى تَحدَّثُ وتضحك، ظُهْرًا، ورسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقتُلُ رجالَهم بالسُّوقِ، إذ هَتَف هاتفٌ باسمها: أينَ فلانةُ؟ قالت: أنا واللهِ. قالت: قلتُ: وَيْلَك ما لكِ؟ قالت: أُقْتَلُ. قلتُ: ولِمَ؟ قالت: حدَثٌ
(1)
أحدثتُه. قالت
(2)
: فانْطُلِق بها، فضُرِبَت عُنْقُها. فكانت عائشةُ تقولُ: ما أنسَى عَجَبى منها؛ طيب نفسٍ، وكثرةَ ضَحِكٍ، وقد عرَفتْ أنها تُقتَلُ
(3)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سَلَمةُ، عن ابن إسحاقَ، قال: ثني يزيدُ بنُ رُومَانَ: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ} . والصَّياصِي: الحصونُ والآطامُ التي كانوا فيها، {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ}
(4)
.
حدَّثنا عمرُو
(5)
بن مالكٍ النُّكْرِيُّ
(6)
، قال: ثنا وكيعُ بنُ الجرَّاحِ، وحدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن ابن عُيَينةَ، عن عمرِو بن دينارٍ، عن عكرمةَ:{مِنْ صَيَاصِيهِمْ} . قال: مِن حُصُونِهم
(7)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{مِنْ صَيَاصِيهِمْ} . يقولُ: أنزلهم مِن صَياصِيهم. قال: قُصُورِهم
(8)
.
(1)
في م: "لحدث".
(2)
في م، ت 1:"قال".
(3)
سيرة ابن هشام 2/ 242، وأخرجه المصنف في تاريخه 2/ 589، وذكره البغوي 6/ 342.
(4)
سيرة ابن هشام 2/ 249.
(5)
في ت 2: "عمر".
(6)
في م، ص، ت 2:"البكرى". ينظر تهذيب الكمال 22/ 211.
(7)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 399.
(8)
تفسير مجاهد ص 549، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 192 إلى الفريابي وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{مِنْ صَيَاصِيهِمْ} . أي: مِن حُصُونهم وآطامِهم
(1)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قوله: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ} . قال: الصَّياصي: حصونُهم التي ظَنُّوا أنها مانعتُهم مِن اللهِ تبارك وتعالى.
وأصلُ الصَّياصِي: جمعُ صِيصِيةٍ
(2)
، وعُنِى بها ههنا: حُصُونُهم. والعربُ تقولُ لطَرَفِ الحبل: صِيصِيَةٌ. ويقالُ لأصْلِ الشيءِ: صِيصِيَتُه، يقالُ: جَزَّ اللَّهُ صِيصِيَةَ فُلانٍ. أي: أصلَه. ويقالُ لشَوكِ الحاكة: صياصِي. كما قال الشاعرُ
(3)
:
* كَوَقْعِ الصَّياصِي فِي النَّسِيحِ المُمَدَّدِ *
وهى شَوْكَتا الدِّيكِ.
وقولُه: {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} . يقولُ: وألقَى في قلوبِهم الخوفَ منكم، {فَرِيقًا تَقْتُلُونَ}. يقولُ: تقتُلون منهم جماعةً، وهم الذين قَتَل رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم منهم، حينَ ظهَر عليهم، {وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا}. يقولُ: وتأسِرون منهم جماعةً، وهم نساؤُهم وذَراريهم الذين سُبُوا.
(1)
في ت 1، ت 2:"أوطانهم". والأثر في تفسير عبد الرزاق 2/ 115 عن معمر عن قتادة دون قوله: "وآطامهم".
(2)
في م: "صيصة". والصيصية: الحصن. التاج (ص ى ص). والصيصة بالتخفيف ذكرها صاحب اللسان، وتعقبها صاحب التاج بأنها إما على التخفيف أو خطأ.
(3)
البيت لدريد بن الصمة. وهو في الأصمعيات 109، والحماسة لأبي تمام 1/ 397، وجمهرة أشعار العرب 600.
[كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ]
(1)
: {فَرِيقًا تَقْتُلُونَ} : الذين ضُرِبَت أعناقهم، {وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا}: الذين سُبُوا
(2)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ، قال: ثني يزيدُ بنُ رُومانَ: {فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا} . أي: قتلُ الرجال، وسَبْىُ الذُّرارِيِّ والنساءِ، {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ}. يقولُ: وملَّككم بعدَ مَهْلِكِهم أرضَهم. يعنى: مزارعَهم ومَغارسَهم وديارَهم، يقولُ: ومساكنَهم وأموالَهم. يعني سائرَ الأموالِ غيرَ الأرضِ والدُّورِ
(3)
.
وقولُه: {وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا} . اخْتَلَف أهلُ التأويلِ فيها، أيُّ أرضٍ هي؟ فقال بعضُهم: هي الرومُ وفارسُ ونحوُها مِن البلادِ التي فتَحها اللهُ بعد ذلك على المسلمين.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا} . قال: قال الحسنُ: هي الرومُ وفارسُ، وما فتحَ اللهُ عليهم
(4)
.
وقال آخرون: هي مكةُ.
وقال آخرون: بل هي خيبرُ.
(1)
سقط من: ت 2.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 193 إلى ابن أبي حاتم.
(3)
سيرة ابن هشام 2/ 250.
(4)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 115 عن معمر، عن قتادة قال: مكة. وقال الحسن: هي الروم وفارس. وكذا عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 193 إلى ابن أبي حاتم، وينظر القرطبي 14/ 161.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ
(1)
، عن ابن إسحاقَ، قال: ثنى يزيدُ بنُ رُومانَ: {وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا} . قال: خيبرَ
(2)
.
حدَّثني يونُسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قوله: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ} . قال: قُريظةَ والنَّضير أهلَ الكتابِ، {وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا}. قال: خيبرَ
(3)
.
والصوابُ مِن القولُ في ذلك: أن يقالَ: إن الله تعالى ذكرُه أخْبرَ أنه أوْرث المؤمنين مِن أصحابِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أرضَ بنى قُريظةَ وديارَهم وأموالَهم، وأرضًا لم يَطَئوها يومئذٍ، ولم تَكْنْ مكةُ ولا خيبرُ، ولا أرضُ فارسَ والرومِ ولا اليمنُ، مما كانوا
(4)
وطِئوه يومئذٍ، ثم وطِئوا ذلك بعدُ، وأَوْرَثَهُمُوه اللهُ، وذلك كلُّه داخلٌ في قولِه:{وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا} ؛ لأنه تعالى ذكرُه لم يَخْصُصْ مِن ذلك بعضًا دونَ بعضٍ.
[وقوله]
(5)
: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} . يقولُ تعالى ذكرُه: وكان اللهُ على أن أوْرَث المؤمنين ذلك، وعلى نصره إياهم، وغيرِ ذلك مِن الأمورِ، ذا قُدْرةٍ، لا يَتَعَذَّرُ عليه شيءٌ أراده، ولا يَمْتَنِعُ عليه فعلُ شيءٍ حاوَل فعلَه.
(1)
في ت 2: "ابن مسلمة".
(2)
ذكره القرطبي 14/ 161، وفيه بدلا من "خيبر":"حنين". "حنين". ولعله تصحيف. وينظر البحر المحيط 7/ 225، والتبيان 2/ 302.
(3)
ذكره البغوي 6/ 345، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 193 إلى ابن أبي حاتم.
(4)
في م: "كان".
(5)
سقط من: م، ص ..
يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: قل يا محمدُ لأزواجِك: {إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ} . يقولُ: فإني أُمَتِّعُكُنَّ ما أوجب اللهُ على الرجالِ للنساءِ مِن المتعةِ، عندَ فِراقِهم إياهنَّ بالطلاقِ بقولِه:{وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 236]. وقولُه: {وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} . يقولُ: وأُطلِّقُكنَّ على ما أذِن اللهُ به، وأدَّب به عباده بقولِه:{إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1].
{وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} . يقولُ: وإِن كُنْتُنَّ تُرِدْنَ رِضا اللهُ، و [رِضا رسولهِ]
(1)
وطاعتَهما، فأطِعْنَهما
(2)
، {فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ}: وهُنَّ العاملاتُ منهنَّ بأمرِ اللهِ وأمرِ رسولِه - {أَجْرًا عَظِيمًا} .
وذُكِر أن هذه الآيةَ نزَلت على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِن أجل أنّ عائشةَ سأَلتْ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم شيئًا مِن عَرَض الدنيا؛ إمَّا زيادةً في النفقةِ، أو غيرَ ذلك، فاعتزَل رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نساءَه شهرًا، فيما ذُكِر، ثم أمَره اللهُ أَن يُخَيِّرَهنَّ بينَ الصبرِ عليه والرضا بما قسَم لهنَّ والعملِ بطاعةِ اللهِ، وبين أن يُمَتِّعَهُنَّ ويُفارِقَهنَّ إِن لم يَرْضَين بالذي يَقْسِمُ
(3)
لهن. وقيل: كان سببُ ذلك غَيْرَةً كانت عائشةُ غارَتها.
(1)
في ت 2: "رسوله".
(2)
في ت 2: "فأطعتموهما".
(3)
في ت 2: "قسم".
ذكرُ الروايةِ بقولِ مَن قال: كان ذلك مِن أجلِ شيءٍ مِن النفقةِ وغيرِها
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا ابن عُلَيَّةَ، عن أيوبَ، عن أبي الزبيرِ، أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لم يَخرُجْ صَلَواتٍ، فقالوا: ما شأنُه؟ فقال عمرُ: إن شئتُم لأَعْلَمَنَّ لكم شأنَه. فأتَى النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فجعَل يتكلَّمُ ويرفَعُ صوتَه، حتى أُذِن له. قال: فجعلتُ أقولُ في نفسي: أيُّ شيءٍ أكلِّمُ به رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم [لعله يضحَكُ]
(1)
- أو كلمةً نحوَها، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، لو رأيتَ فلانةَ وسألَتنى النفقةَ فصَكَكْتُها صَكَّةً. فقال:"ذلك حَبَسَنى عنكم". قال: فأتَى حفصةَ، فقال: لا تَسْألى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم [شيئًا، ما كانت لكِ مِن حاجةٍ فإليَّ. ثم تَتَبَّعَ نساءَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم]
(2)
فجعَل يُكَلِّمُهنَّ، فقال لعائشةَ: أَيَغُرُّك أنك امرأةٌ حسناءُ، وأن زوجَك يحبُّك؟ لَتَنْتَهِينَّ
(3)
أَو لَيَنْزِلَنَّ فيكِ
(4)
القرآنُ. قال: فقالت أمُّ سلمةَ: يابنَ الخطابِ، أوَ ما بقِى لك إلا أن تدخُلَ بينَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وبينَ نسائِه، ولن تَسألَ المرأةُ إلا لزوجها؟ قال: ونزل القرآنُ: {ياأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} . إلى قولِه: {أَجْرًا عَظِيمًا} . قال: فبدَأ بعائشةَ فخَيَّرها، وقرَأ عليها القرآنَ، فقالت: هل بدأتَ بأحدٍ مِن نسائِك قبلى؟ قال: "لا". قالت: فإني أختارُ اللَّهَ ورسولَه والدارَ الآخرةَ، ولا تُخبرهنَّ بذلك. قال: ثم تَتَبَّعَهنَّ، فجعَل يُخيِّرُهنَّ ويقرأُ عليهنَّ القرآنَ، ويخبرُهن بما صنَعَت
(5)
عائشةُ، فتتابَعن
(6)
على ذلك
(7)
.
(1)
في ص، ت 1، ت 2:"و".
(2)
سقط من: ت 2.
(3)
في ص، ت 1:"لتنتهن".
(4)
في ص، ت 1، ت 2:"فيكن".
(5)
في ت 2: "فعلت".
(6)
في ص: "فتايعن". وفى ت 1: "فتبايعن". وفي ت 2: "فيتابعن".
(7)
أخرجه أحمد 22/ 392،391 (14515، 14516)، ومسلم (1487)، والنسائي (9208 - =
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} إلى قوله: {أَجْرًا عَظِيمًا} . قال: قال الحسنُ وقتادةُ: خَيَّرَهُنَّ بينَ الدنيا والآخرةِ والجنةِ والنارِ في شيءٍ كُنَّ أَرَدْنَه مِن الدنيا
(1)
.
وقال عكرمةُ: في غَيْرةٍ كانت غارَتْها عائشةُ، وكان تحتَه يومَئذٍ تسعُ نسوةٍ؛ خمسٌ مِن قُريشٍ؛ عائشةُ، وحفصةُ، وأمُّ حبيبةَ بنتُ أبي سفيانَ، وسَوْدةُ بنتُ زَمْعَةَ، وأمُّ سَلَمةَ بنتُ أبي أُمَيَّةَ، وكانت تحتَه صفيةُ بنتُ
(2)
حُيَيٍّ الخَيْبَريَّةُ، وميمونةُ بنتُ الحارثُ الهِلاليةُ، وزينبُ بنتُ جَحْشِ الأسَديةُ، وجُويرية بنتُ الحارثِ مِن بنى المُصْطَلِقِ، وبدَأ بعائشةَ، فلما اختارَتِ الله ورسولَه والدارَ الآخرةَ، رُؤِى الفَرَحُ فِي وَجْهِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَتَتابَعْن
(3)
كلُّهنَّ على ذلك، واخْتَرْنَ اللَّهَ ورسولَه والدار الآخرةَ
(4)
.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الأعلى، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، عن الحسنِ، وهو قولُ قتادةَ في قولِ اللهِ:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} إلى قوله: {عَظِيمًا} . قالا: أمَر اللهُ أن يُخَيِّرَهن بينَ الدنيا والآخرةِ والجنةِ والنارِ.
قال قتادةُ: وهي غَيْرَةٌ مِن عائشةَ في شيءٍ أرادَته مِن الدنيا، وكان تحته تسعُ نسوةٍ؛ عائشةُ، وحفصةُ، وأمُّ حبيبةَ بنتُ أبي سفيانَ، وسَوْدَةُ بنتُ زَمْعةً، وأمُّ سَلَمَةَ بنتُ أبي أُمَيَّةَ، وزينب بنتُ جَحْشٍ، وميمونة بنتُ الحارثِ
= كبرى)، وأبو يعلى (2253)، وأبو عوانة (4585 - 4587)، والبيهقى 7/ 38 من طريق زكريا بن إسحاق عن أبي الزبير عن جابر.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 195 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم، وذكره ابن كثير 6/ 404 مختصرا.
(2)
في م، ص:"ابنة".
(3)
في ص، ت 1:"فتبايعن"، وفى ت 2:"فيتابعن".
(4)
ذكره ابن كثير في التفسير 6/ 404، والطوسي في التبيان 8/ 304.
[الهلاليةُ، وجُوَيْرِيَّةُ بنتُ الحارثِ]
(1)
مِن بنى المُصْطَلِقِ، وصفيةُ بنتُ حُيَيِّ بن أخْطَبَ؛ فبدَأ بعائشةَ، وكانت أَحَبَّهن إليه؛ فلما اختارَتِ الله ورسوله والدارَ الآخرة، رُئىَ الفرحُ
(2)
في وجه رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فتَتَابَعْنَ
(3)
على ذلك
(4)
.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الأعلى، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، [عن الحسن، وهو قولُ قتادةَ]
(5)
، قال: لما اخْتَرْنَ اللَّهَ ورسوله
(6)
صلى الله عليه وسلم شكرهنَّ اللهُ على ذلك، فقال:{لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} [الأحزاب: 52]. فقَصَره اللهُ عليهنَّ، وهُنَّ التسعُ اللاتى اخْترنَ اللَّهَ ورسولَه
(7)
.
ذكرُ مِن قال ذلك [مِن أجل الغَيرةِ]
(5)
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، [قال: قال ابن زيدٍ]
(5)
في قولِ اللهِ: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} [الأحزاب: 51] الآيةِ - قال: كان أزواجه قد تَغايَرْنَ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فَهَجَرَهُنَّ شهرًا، نَزَلَ التَّخْيِيرُ مِن اللهِ له فيهن:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} . فقرَأ حتى بلغ: {وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} . فَخَيَّرَهن بينَ أَن يَخْتَرْنَ أَن يُخَلِّيَ سبيلَهنَّ ويُسَرِّحَهُنَّ، وبين أن يُقِمْنَ، إن أرَدْنَ اللَّهَ ورسولَه، على أنهن أُمَّهَاتُ المؤمنين، لا يُنْكَحْنَ أبدًا، وعلى أنه يُؤوِى إليه مِن يشاءُ منهنَّ، لَن وَهَب نفسَه له،
(1)
سقط من: ت 2.
(2)
في ت 2: "الفرج".
(3)
في ص: "متابعهن"، وفى ت 1، ت 2:"فبايعهن".
(4)
ذكره الطوسى في التبيان 8/ 304 من قول قتادة وحده.
(5)
سقط من: ت 2.
(6)
بعده في ت 2: "والدار الآخرة".
(7)
ذكره الزيلعي في تخريج الكشاف 3/ 105 عن المصنف، وذكره البغوي 6/ 346.
حتى يكونَ هو يرفعُ رأسَه إليها، ويُرْجِى مِن يشاءُ، حتى يكونَ هو يرفعُ رأسَه إليها، ومَن ابتَغَى مِمَّن هي عندَه وعزَل، فلا جناحَ عليه، {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ} [الأحزاب: 51]. إذا عَلِمْنَ أنه مِن قَضائى عليهنَّ إيثارُ بعضهنَّ على بعضٍ - أدنى أن يَرْضَيْنَ؛ قال: {وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ} [الأحزاب: 51]: مِن ابتغَى أصابَه، ومَن عَزَل لم يُصِبْه، فخيَّرَهن بينَ أن يَرْضَينَ بهذا، أو يُفارِقَهنَّ، فاخْتَرنَ اللهُ ورسولَه، إلا امرأةً واحدةً
(1)
بدويةً ذهَبَتْ، وكان على ذلك، وقد شَرَط له هذا الشَّرْطَ، ما زال يعدِلُ بينَهنَّ حتى لَقِى الله
(2)
.
حدَّثنا أحمدُ بنُ عبدةَ الضَّبِّيُّ، قال: ثنا أبو عَوانةَ، عن عمرَ
(3)
بن أبى (1) سَلَمةَ، عن أبيه، قال: قالت عائشةُ: لمَّا نزَل الخِيارُ، قال لي رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم "إِنِّي أَرِيدُ أن أَذْكُرَ لكِ أَمْرًا، فَلا تَقْضِى فيه شيئًا (1) حتى تَسْتأمرِى أَبَوَيْكِ
(4)
". قالت: قلتُ: وما هو يا رسولَ اللَّهِ؟ [قال: فردَّه عليها، فقالت: ما هو يا رسولَ اللهِ]
(5)
قالت
(6)
: فقرأ عليَّ
(7)
: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} إلى آخرِ الآيةِ. قالت: فقلتُ
(8)
: بل نختارُ اللَّهَ ورسولَه؛ قالت
(9)
: ففرِح بذلك النبيُّ صلى الله عليه وسلم
(10)
.
(1)
سقط: ت 2.
(2)
ينظر التبيان 8/ 302، 303.
(3)
في ت 1: "عمرو".
(4)
في ت 2: "أبوك".
(5)
سقط من: ت 1.
(6)
في م، ص، ت 2:"قال".
(7)
في م، ص:"عليهن"، وفى ت 2:"عليها".
(8)
في م، ت 2:"قلت".
(9)
في م: "قلت".
(10)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 402 عن المصنف، وأخرجه أحمد 6/ 77، 78 من طريق أبي عوانة به.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا محمدُ بنُ بشرٍ، عن محمدُ بنُ عمرِو، عن أبي سَلَمةَ، عن عائشةَ، قالت: لمَّا نزلت آيةُ التَّخيير، بدَأ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بعائشةَ، فقال:"يا عائشةُ، إنى عارضٌ عليك أمرًا، فلا تَفْتاتِى فيه بشيءٍ حتى تَعْرِضيه على أبَوَيْك؛ أبي بكرٍ وأمِّ رُومانَ". فقلتُ
(1)
: يا رسولَ اللَّهِ وما هو؟ قال: "قال اللهُ: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا}. إلى: {عَظِيمًا} ". فقلتُ: إنى أريدُ اللَّهَ ورسولَه والدارَ الآخرةَ، ولا أؤامرُ في ذلك أبويَّ؛ أبا بكرٍ وأمَّ رُومانَ. فضحِك رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثم استقرَأ الحُجَرَ، فقال: "إن عائشةَ قالت كذا [وكذا]
(2)
". فقُلْنَ: ونحنُ نقولُ مثل ما قالت عائشةُ
(3)
.
حدَّثنا سعيدٌ بن يحيى الأُمَوِيُّ، قال: ثنا أبي، عن ابن إسحاقَ، عن عبدِ اللَّهِ بن أبي بكرٍ
(4)
، عن عَمْرةَ، عن عائشةَ، أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لما نزَل إلى نسائِه أُمِر أن يُخَيِّرَهن، فدخَل عليَّ، فقال:"سأذكُرُ لكِ أَمْرًا وَلَا تَعْجَلِي حتى تَسْتَشِيرى أباكِ". فقلتُ: وما هو يا نبيَّ اللَّهِ؟ قال: "إِنِّي أُمِرْتُ أن أُخَيِّرَكُنَّ". وتَلا عليها آيةَ التَّخْييرِ إلى آخرِ الآيتين. قالت: قلتُ: وما الذي تقولُ: لا تَعْجَلى حتى تَسْتَشِيرى أباكِ؟ فإنى أختارُ اللَّهَ ورسولَه. فسُرَّ بذلك
(5)
، وعرَض على نسائِه، فتَتابَعْنَ
(6)
كلُّهنَّ، فاخْتَرْنَ اللَّهَ ورسولَه
(7)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: أخبَرني موسى بنُ عليٍّ، ويونسُ
(1)
في ص، ت 1:"فقالت"، وفي ت 2:"قالت".
(2)
سقط من: م.
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 402 عن المصنف، وأخرجه أحمد 6/ 211 (الميمنية) من طريق محمد بشر به، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره - كما في تفسير ابن كثير 6/ 402 من طريق محمد بن عمرو به.
(4)
سقط من: ت 2.
(5)
في ت 1: "على ذلك"
(6)
في ت 1: "فتبايعن"، وفي ص:"فتبايعن".
(7)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 402 عن المصنف.
ابن يزيدَ، عن ابن شهابٍ، قال: أخبَرنى أبو سَلَمةَ بنُ عبدِ الرحمنِ، أن عائشةَ زَوجَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قالت: لمَّا أُمر رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بتَخْيير أزواجِه، [بدَأ بي]
(1)
، فقال: "إِنِّي ذَاكرٌ لك أمرًا، فلا عليكِ أنْ لا تَعْجَلى
(2)
حتى تَسْتَأْمِرى أَبَوَيْكِ". قالت: قد عِلم أن أبويَّ لم يَكُونا ليأمُرَانى بفراقه. قالت: ثم تَلا هذه الآيةَ: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} . قالت: فقلتُ: ففى أيِّ هذا أستأمِرُ أبويَّ؟ فإنى أريدُ اللهُ ورسولَه والدارَ الآخرةَ. قالت عائشةُ: ثم فعل أزواجُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم مثلَ ما فعلتُ، فلم يَكُنْ ذلك حينَ قاله لهنَّ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فاخْتَرْنَه، طلاقًا، مِن أجل أنهنَّ اخْتَرْنَهُ
(3)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)} .
يقولُ تعالى ذكرُه لأزواجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} . يقولُ: مَن يَزْنِ منكنَّ الزِّنا المعروفَ [أنه الزِّنا]
(4)
الذي أوجَب اللهُ [عليه الحدَّ]
(5)
، يُضاعَفْ لها العذابُ على فُجُورِها في الآخرةِ ضعَفين على فُجُورٍ أزواج الناسِ غيرهم.
كما حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثني
(1)
في م: "بدأنى" وهو لفظ الترمذي.
(2)
في ت 2: "تستعجلى"، وهو لفظ الترمذى.
(3)
أخرجه النسائي (3439)، وأبو عوانة (4557) عن يونس بن عبد الأعلى به، وأخرجه مسلم (1475) من طريق ابن وهب به، وأخرجه أحمد 6/ 248 (الميمنية)، والترمذى (3204)، والنسائي (5312 - كبرى)، وأبو عوانة (4558)، والبيهقى 7/ 36 من طريق يونس بن يزيد الأيلى به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 195 إلى ابن المنذر وابن مردويه.
(4)
سقط من: م.
(5)
سقط من ص، ت 2.
أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ: {يُضَاعَفْ
(1)
لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ}. قال: يعنى عذابَ الآخرةِ.
واختَلفت القرأةُ في قراءةِ ذلك، فقرَأته عامةُ قرأةِ الأمصارِ:{يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ} بالألفِ غيرَ أبي عمرٍو؛ فإنه قرَأ ذلك: (يُضَعَّفُ) بِتَشْدِيدِ العين
(2)
. تأوُّلًا منه في قراءتِه ذلك أن "يُضَعَّفَ" بمعنى تضعيفِ الشيءِ مرةً واحدةً، وذلك أن يُجعلَ الشيءُ شيئَين، فكأن معنى الكلامِ عندَه: أن يجعلَ عذابَ مَن يأتى مِن نِساءِ
(3)
النبيِّ صلى الله عليه وسلم بفاحشةٍ مُبَيِّنةٍ في الدنيا والآخرةِ مِثْلَىْ عذابِ سائرِ النساءِ غيرِهنَّ، ويقولُ: إِنَّ {يُضَاعَفْ} بمعنى أن يُجْعَلَ إلى الشيءِ مِثْلَاه، حتى يكونَ ثلاثةَ أمثالِه. فكأن معنى مَن قرَأَ:{يُضَاعَفْ} عندَه كان: أن يجعلَ
(4)
عذابَها ثلاثةَ أمثالِ عذابِ غيرِها مِن النساء مِن غيرِ أزواجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ فلذلك اختارَ (يُضَعَّفُ) على {يُضَاعَفْ} . وأنكر الآخرون الذين قرءُوا ذلك {يُضَاعَفْ} كل ما كان يقولُ في ذلك، ويقولون: لا نعلم بين (يُضَعَّف) و {يُضَاعَفْ} فَرْقًا.
والصوابُ مِن القراءةِ في ذلك ما عليه قرأةُ الأمصارِ
(5)
، وذلك:{يُضَاعَفْ} . وأما التأويلُ الذي ذهب إليه أبو عمرٍو، فتأويلٌ لا نعلمُ أحدًا مِن أهلِ العلمِ ادَّعاه غيرَه، وغيرَ أبى عُبيدةَ معمرِ بن المُثَنَّى، ولا يجوز خلافُ ما جاءت به الحجةُ مجمعةً عليه بتأويلٍ لا برهانَ له مِن الوجهِ الذي يجبُ التسليمُ له.
وقولُه: {وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} . يقولُ تعالى ذكرُه: وكانت مضاعفةُ العذابِ على مَن فعَل ذلك منهنّ على اللهِ يسيرًا. واللهُ أعلمُ.
(1)
في ص، ت 1، ت 2:"يضعف".
(2)
السبعة لابن مجاهد ص 521.
(3)
في ت 2: "أزواج".
(4)
سقط من: م.
(5)
القراءتان كلتاهما صواب.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31)}
يقولُ تعالى ذكرُه: ومَن يُطع اللهُ ورسوله مِنكُنَّ، وتعمل بما أمر اللهُ به:{نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} . يقولُ: يُعْطِها اللهُ ثوابَ عملِها مِثْلَى ثوابِ عمل غيرِهنَّ مِن سائرِ نساءِ الناسِ، {وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا}. يقولُ: وأعتَدْنا لها في الآخرةِ عَيْشًا هَنِيئًا في الجنةِ.
وبنحوِ الذي قلْنا في تأويلِ ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:{وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} ، الآيةَ، يعني:[تُطِعِ اللَّهَ ورسولَه، {وَتَعْمَلْ صَالِحًا}: تصومُ وتُصَلِّي]
(1)
(2)
.
حدَّثني سَلْمُ بنُ جُنادةً، قال: ثنا ابن إدريسَ، عن ابن عونٍ، قال: سألتُ عامرًا عن القُنُوتِ. قال: وما هو؟ قال: قلتُ: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]. قال: مُطيعين. [قال: قلتُ: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} . [قال: يُطِعْنَ
(3)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال]
(4)
: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} ]
(5)
. أي: مَن يُطِعْ مِنكُنَّ اللَّهَ ورسوله {وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا} ،
(1)
في ص، ت 1، ت 2:"آخر الآية".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 196 إلى ابن أبي حاتم وابن مردويه بنحوه.
(3)
أخرجه الطحاوى في معاني الآثار 1/ 171 من طريق ابن عون.
(4)
سقط مِن: ت 2.
(5)
سقط من: ت 1.
وهي الجنةُ
(1)
.
واختلفَتِ القرأةُ في قراءةِ قولِه: {وَتَعْمَلْ صَالِحًا} ؛ فقَرأته عامةُ قرأةِ الحجازِ والبصرة، {وَتَعْمَلْ} بالتاءِ ردًّا على تأويلِ مَن إذ جاء بعدَ قولِه:{مِنْكُنَّ}
(2)
. وحكَى بعضُهم عن العربِ أنها تقولُ: كم بيعَ لك جاريةً. وأنهم إن قدَّموا الجاريةَ قالوا: كم جاريةً بِيعتْ لك؟ فأنَّثُوا الفعل بعد الجارية، والفعلُ في الوجهين لكُمْ لا للجاريةِ.
وذكر الفراءُ أن بعضَ العرب أنشَده
(3)
:
أَيَا أمَّ عمرٍو مَن يَكُنْ عُقْرُ دَارِه
…
جوَاءَ عَدِيٍّ يَأكُلِ الحَشَراتِ
ويَسْوَدُّ مِن لَفْح السَّمومِ جَبِينُه
…
ويَعْر وإن كانوا ذوى بَكَراتِ
فقال: وإن كانوا. ولم يَقُلْ: وإن كان. وهو لـ "مَن"، فَرَّدَه على المعنى.
وأما أهلُ الكوفة؛ فقرأت ذلك عامةُ قَرأتِها: (ويعمل) بالياءِ عطفًا على {يَقْنُتْ} ؛ إذ كان الجميعُ على قراءتِه بالياء
(4)
.
والصوابُ مِن القولُ في ذلك أنهما قراءتان مشهورتان، ولغتان معروفتان في كلامِ العربِ، فبأيَّتِهما قَرأ القارئُ فمصيبٌ، وذلك أن العربَ تَرُدُّ خبرَ "مَن" أحيانًا على لفظِها، فتوحِّدُ وتُذَكَّرُ، وأحيانًا على مَعْناها، كما قال جل ثناؤُه: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ
(1)
تقدم تخريجه في 11/ 32.
(2)
هي قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو وابن عامر وعاصم. ينظر السبعة لابن مجاهد ص 521.
(3)
البيتان في معاني القرآن للفراء 2/ 341، والأول فقط في الحيوان 6/ 398 برواية:"جرار" بدلا من: "جواء".
(4)
هي قراءة حمزة والكسائي. ينظر السبعة لابن مجاهد ص 521.
إِلَيْكَ} [يونس: 42، 43] فجمَع مرةً للمعنى، ووحَّد أخرى للَّفْظِ.
يقولُ تعالى ذكرُه الأزواجِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} : مِن نساءِ هذه الأمةِ - {إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} اللَّهَ فَأَطَعْتُنَّه فيما أَمَرَكنَّ ونَهَاكُنَّ.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} . يعنى: مِن نساءِ هذه الأمةِ
(1)
.
وقولُه: {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ} . يقولُ: فلا تَلِنَّ بالقولِ للرجالِ فيما يَبْتَغِيه أهلُ الفاحشةِ مِنْكُنَّ.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ} . يقولُ: لا تَرَخَّصْنَ بالقولِ، ولا تَخْضَعْنَ بالكلامِ
(2)
.
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 116 عن معمر عن قتادة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 196 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 196 إلى المصنف وابن مردويه.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ} . قال: خَضْعُ القولِ: ما يُكْرَهُ مِن قولِ النساءِ للرجالِ، مما يدخُلُ في قلوبِ الرجالِ.
وقولُه: {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ} . يقولُ: فيطمعَ الذي في قلبهِ ضعفٌ، فهو لضعفِ إيمانهِ في قلبهِ، إما شاكٌّ في الإسلامِ منافقٌ، فهو لذلك مِن أمرِه يستخفُّ بحدودِ اللهِ، وإما مُتهاونٌ بإتيانِ الفواحشِ.
وقد اختلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِ ذلك؛ فقال بعضُهم: إنما وصَفه بأن في قلبِه مرضًا؛ لأنه منافقٌ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} . قال: نِفاقٌ
(1)
.
وقال آخرون: بل وصَفه بذلك؛ لأنهم يَشْتَهون إتيانَ الفواحشِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} . قال: قال عكرمةُ: شهوةُ الزنا
(2)
.
وقولُه: {وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} . يقولُ: وقُلْنَ قولًا قد أذِن اللهُ لكم به وأباحَه.
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 116 عن معمر عن قتادة.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 116 من طريق ابن شروس عن عكرمة، وأخرجه ابن سعد في الطبقات 8/ 198 من طريق التمار عن عكرمة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 196 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
كما حدَّثنا يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} . قال: قولًا جميلًا حسنًا معروفًا في الخيرِ
(1)
.
واختلَفت القرأةُ في قراءةِ قولِه: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} ؛ فقرَأته عامةُ قرأةِ المدينةِ وبعضُ الكوفيِّين: {وَقَرْنَ} بفتحِ القافِ، بمعنى: واقْرَرْنَ في بُيُوتِكنَّ
(2)
، وكأن مَن قَرأ ذلك كذلك حذَف الراءَ الأولى مِن "اقْرَرْنَ"، وهى مفتوحةٌ، ثم نقَل فتَحتَها إلى القافِ، كما قيل:(فَظِلْتُمْ تَفَكَّهونَ) وهو يريدُ فَظَلِلْتم
(3)
، فأُسقطت اللامُ الأولى وهى مكسورةٌ، ثم نُقلت كسرتُها إلى الظاءِ.
وقرَأ ذلك عامةُ قرأةِ الكوفةِ والبصرةِ: (وَقِرْنَ) بكسرِ القافِ، بمعنى: كُنَّ أهل وقارٍ وسَكينة {فِي بُيُوتِكُنَّ}
(4)
.
وهذه القراءةُ، وهى الكسرُ في القافِ، أَولى عندَنا بالصوابِ
(5)
؛ لأن ذلك إن كان مِن الوقارِ على ما اخْترنا فلا شكَّ أن القراءةَ بكسرِ القافِ؛ لأنه يقالُ: وَقَرَ فلانٌ في منزلِه، فهو يَقِرُ وُقُورًا. فتُكسرُ القافُ في "تَفْعِلُ"، فإذا أُمر منه قيل: قِرْ. كما يقالُ مِن وَزَن يَزِنُ: زِنْ
(6)
، وَمِن وَعَد يَعِدُ: عِدْ.
وإن كان مِن القَرارِ فإن الوجهَ أن يقالَ: اقْرِرْنَ؛ لأن مَن قال مِن العربِ: ظَلْتُ أفعلُ كذا، وأَحَسْتُ بكذا. فأسقَط عيَن الفعلِ، وحوَّل حركتَها إلى فائِه في فَعَلَ وفَعَلْنا وفَعَلْتم، لم يفعلْ ذلك في الأمرِ والنهيِ، فلا يقولُ: ظَلَّ قائمًا، ولا: لا تَظَلَّ
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 404.
(2)
هي قراءة نافع وعاصم، السبعة لابن مجاهد ص 521.
(3)
البحر المحيط 8/ 211، 212.
(4)
هي قراءة ابن كثير وأبي عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي، السبعة لابن مجاهد ص 522.
(5)
القراءتان كلتاهما صواب.
(6)
سقط من: ص، ت 1، ت 2.
قائمًا. فليس الذي اعتلَّ به مِن اعتلَّ لصحةِ القراءةِ بفتحِ القافِ في ذلك، بقولِ العربِ في ظَلِلْتُ وأَحْسَسْتُ: ظَلْتُ وأحَسْتُ، بعلةٍ توجبُ صحتَه؛ لِما وصفتُ مِن العلةِ.
وقد حكَى بعضُهم عن بعضِ الأعرابِ سماعًا منه: يَنْحِطْنَ مِن الجبلِ. وهو يريدُ: يَنْحَطِطْنَ، فإن يَكُن ذلك صحيحًا، فهو أقربُ إلى أن يكونَ حُجَّةً لأهلِ هذه القراءةِ مِن الحُجَّةِ الأخرى.
وقولُه: {وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} . قيل: إن التَّبَرُّجَ في هذا الموضعِ: التبخترُ والتكسرُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} . أي: إذا خَرَجْتُنَّ مِن بُيُوتِكنَّ، قال: كانت لهن مِشْيَةٌ وتَكَسُرٌ وتَغَنُّجٌ، يعنى بذلك الجاهليةَ الأولى، فنَهاهنَّ اللَّهُ عن ذلك
(1)
.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابن عُلَيَّةَ، قال: سمعتُ ابنَ أبي نَجيحٍ، يقولُ في قولِه:{وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} . قال: التبخترُ
(2)
.
وقيل: إن التَّبَرُّجَ هو إظهارُ الزينةِ، وإبرازُ المرأةِ محاسنَها للرجالِ.
وأما قولُه: {تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} . فإن أهلَ التأويلِ اختَلفوا في الجاهليةِ الأُولى؛ فقال بعضُهم: ذلك ما بينَ عيسى ومحمدٍ عليهما السلام.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره - كما في الفتح 8/ 520 من طريق شيبان عن قتادة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 197 إلى ابن المنذر.
(2)
أخرجه ابن سعد في الطبقات 8/ 198 من طريق إسماعيل بن يحيى، عن ابن أبي نجيح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 197 إلى ابن أبي حاتم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن زكريا، عن عامرٍ:{وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} . قال: الجاهليةُ الأُولى: ما بينَ عيسى ومحمدٍ عليهما السلام
(1)
.
وقال آخرون: ذلك ما بينَ آدمَ ونوحٍ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا ابن عُيَينةَ
(2)
، عن أبيه، عن الحكمِ:{وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} له. قال: وكان بينَ آدمَ ونوحٍ ثمانُمائةِ سنةٍ، فكان نساؤُهم مِن أقبح ما يكونُ مِن النساءِ، ورجالُهم حسانٌ، فكانت المرأةُ تريدُ الرجلَ على نفسِه، فأُنزلت هذه الآيةُ:{وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى}
(3)
.
وقال آخرون: بل كان ذلك بينَ نوحٍ وإدريسَ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني ابن زُهير، قال: ثنا موسى بنُ إسماعيلَ، قال: ثنا داودُ، يعنى ابنَ أبي الفُراتِ، قال: ثنا عِلْباءُ بن أحمر، عن عكرمةَ، عن ابن عباسٍ قال: تَلا هذه الآية: {وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} . قال: كانت فيما بينَ نوحٍ وإدريسَ، وكانت ألفَ سنةٍ، وإن بطنَين مِن ولدِ آدمَ، كان أحدُهما يسكنُ السهلَ، والآخرُ يسكنُ الجبلَ، وكان رجالُ الجبلِ صباحًا، وفى النساءِ دُمامةٌ، وكان نساءُ السهلِ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 197 إلى المصنف، وأخرجه ابن أبي حاتم كما في الفتح 8/ 520.
(2)
في ص، ت 1، ت 2:"علية"، والصواب المثبت: ينظر تهذيب الكمال 11/ 201.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 197 إلى المصنف.
صباحًا، وفى الرجالِ دَمامةٌ؛ وإن إبليسَ أتَى رجلًا مِن أهلِ السهلِ في صورةِ غلامٍ، فأجَّر نفسَه منه، وكان يخدُمُه، واتَّخَذ إبليسُ شيئًا مثلَ ذلك الذي يَزْمِرُ فيه الرَّعاءُ، فجاء فيه بصوتٍ لم يُسْمَعْ مثلُه، فبلَغ ذلك مَن حولَهم، [فانْتابوهم يسمَعون]
(1)
إليه، واتَّخَذوا عيدًا يجتمِعون إليه في السنةِ، فتتبرَّج الرجالُ للنساءِ، قال:[ويتزينُ النساءُ للرجالِ]
(2)
، وإن رجلًا مِن أهلِ الجبلِ هجَم عليهم وهم في عيدِهم ذلك، فرأَى النساءَ، فأتَى أصحابَه، فأخبَرهم بذلك، فتحوَّلوا إليهنَّ، فنزَلوا معهن، فظهَرت الفاحشةُ فيهنَّ، فهو قولُ اللَّهِ:{وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى}
(3)
.
وأَولى الأقوالِ في ذلك عندى بالصوابِ أن يقالَ: إن الله تعالى ذكرُه، نهَى نساءَ النبي صلى الله عليه وسلم أن يَتبرَّجْنَ تبرُّجَ الجاهليةِ الأولى.
وجائزٌ أن يكونَ ذلك ما بينَ آدمَ وعيسى، فيكونَ معنى ذلك:{وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} : التي قبلَ الإسلامِ.
فإن قال قائلٌ: أوَ في الإسلامِ جاهليةٌ حتى يقالَ عنَى بقوله: {الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} . التي قبلَ الإسلامِ؟ قِيل: فيه أخلاقٌ مِن أخلاقِ الجاهليةِ.
كما حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} . قال: يقولُ: التي كانت قبلَ الإسلامِ، قال: وفى الإسلامِ جاهليةٌ؟ قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم لأبي الدرداءِ، وقال لرجلٍ وهو يُنازِعُه: يا ابنَ فلانةٍ، لأمٍّ كان يُعَيَّرُ بها في الجاهليةِ، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يا أبا
(1)
في ت 1: "فأتوهم يستمعون".
(2)
في ص، ت 1، ت 2:"وتنزل الرجال لهن".
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 406 عن المصنف، وأخرجه الحاكم 2/ 548 - وعنه البيهقي في الشعب (5451) - من طريق موسى بن إسماعيل به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 197 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه، وقوى ابن حجر إسناده في الفتح 8/ 520.
الدرداءِ إن فيك جاهليةً". قال: أجاهليةُ كفرٍ أو إسلامٍ؟ قال: "بل جاهليةُ كفرٍ". قال: فتمنَّيتُ أن لو كنتُ ابتدأتُ إسلامى يومَئذٍ. قال: وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "ثلاثٌ مِن عملِ أهلِ الجاهليَّةِ، لا يَدعُهنَّ النَّاسُ: الطعنُ بالأنسابِ، والاستمطارُ بالكواكبِ، والنِّياحةُ
(1)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ، قال: أخبَرني سليمانُ بنُ بلالٍ، عن ثورٍ، عن عبدِ اللَّهِ بن عباسٍ، أن عمرَ بنَ الخطَّابِ قال له: أرأيتَ قولَ اللهِ لأزواجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: {وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} : هل كانت إلَّا واحدةً؟ فقال ابن عباسٍ: وهل كانت مِن أُولى إلَّا ولها آخرةً؟ فقال عمرُ: لله درُّك يا بنَ عباسٍ، كيف قلتَ؟ فقال: يا أميرَ المؤمنين، هل كانت مِن أُولى إلا ولها آخرةً؟ قال: فأتِ بتصديقِ ما تقولُ مِن كتابِ اللهِ. قال: نعم: (وَجاهِدُوا في اللهِ حَقَّ جِهادِهِ كَما جاهَدْتُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ). قال عمر: فمَن أُمر بالجهادِ؟ قال: قبيلتان مِن قريشٍ؛ مخزومٌ وعبدُ شمسٍ. فقال عمرُ: صدقتَ
(2)
.
وجائزٌ أن يكونَ ذلك ما بينَ آدمَ ونوحٍ، وجائزٌ أن يكون ما بينَ إدريسَ ونوحٍ، فتكونَ الجاهليةُ الآخرةُ ما بينَ عيسى ومحمدٍ، وإذا كان ذلك مما يَحتمِلُه ظاهرُ التنزيلِ، فالصوابُ أن يقالَ في ذلك كما قال اللهُ: إنه نهى عن تبرُّجِ الجاهليةِ الأولى.
وقولُه: {وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ} . يقولُ: وأقِمْن الصلاة
(1)
أخرجه البخارى (3850) مِن حديث ابن عباس، ومسلم (934) من حديث أبي مالك الأشعرى، وأحمد (7560، 9574) وابن حبان (3141) مِن حديث أبي هريرة.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 197 إلى المصنف وابن المنذر وابن مردويه، وأخرجه أبو عبيد في الفضائل ص 178، 179، وابن أبي حاتم في تفسيره - كما في الفتح 8/ 520 - من طريق عكرمة عن ابن عباس به، وينظر في قراءة عمر الدر المنثور 4/ 371.
المفروضةَ، وآتِينَ الزكاةَ الواجبةَ عليكنَّ في أموالكنَّ، وَأَطِعنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فيما أمراكنَّ ونهياكنَّ:{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} . يقولُ: إنما يريدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عنكم السُّوءَ والفحشاءَ يا أهلَ بيتِ محمدٍ ويُطهِّركم مِن الدنسِ الذي يكونُ في أهلِ معاصى الله تطهيرًا.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} . فهم أهلُ بيتٍ طهَّرهم اللهُ مِن السوءِ، وخصَّهم برحمةٍ منه
(1)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} . قال: الرجسُ ههنا الشيطانُ، وسوى ذلك مِن الرجسِ الشرُّ
(2)
(3)
.
واختلَف أهلُ التأويلِ في الذين عُنوا بقوله: {أَهْلَ الْبَيْتِ} ؛ فقال بعضُهم: عُنى به رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وعليٌّ، وفاطمةُ، والحسنُ، والحسينُ، رضوانُ اللهِ عليهم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ المثنى، قال: ثنا بكرُ بنَ يحيى بن زبَّانَ العَنَزِيُّ، قال: ثنا مَندلٌ، عن الأعمشِ، عن عطية، عن أبي سعيدٍ الخدريِّ، قال: قال
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 199 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(2)
في م: "الشرك".
(3)
تقدم في 8/ 656.
رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "نزلَت هذه الآيةُ في خمسةٍ: فيّ، وفى عليٍّ رضي الله عنه وحسنٍ رضي الله عنه، وحسينِ رضي الله عنه، وفاطمةَ رضي الله عنها؛ {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} "
(1)
.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا محمدُ بنُ بشرٍ، عن زكريَّا، عن مصعبِ بن شيبةَ عن صفيةَ بنتِ شيبةَ قالت: قالت عائشةُ: خرج النبيُّ صلى الله عليه وسلم ذات غداةٍ، وعليه مرطٌ مرجَّلٌ
(2)
مِن شَعَرٍ أَسودَ، فجاء الحسنُ، فأدخَله معه، ثم [جاء عليٌّ فأدخَله معه ثم]
(3)
قال: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}
(4)
.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا محمدُ بنُ بكرٍ، عن حمَّادِ بن سلمةَ، عن عليٍّ بن زيدٍ، عن أنسٍ، أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يمرُّ ببيتِ فاطمةَ ستةَ أشهرٍ كلما خرَج إلى الصلاةِ، فيقولُ: "الصلاةَ أهلَ البيتِ {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}
(5)
.
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 410 عن المصنف، وأخرجه الطبراني (2673) من طريق الأعمش به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 198 إلى ابن أبي حاتم.
(2)
في ص: "مرحل"، ويروى الحديث بالحاء والجيم؛ فبالجيم أن فيها صورًا كصور الرجال، وبالحاء معناه أن عليها صور الرحال وهى الإبل بأكوارها، ينظر اللسان مادة (ر ج ل. ر ح ل).
(3)
سقط من: م.
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 410 عن المصنف، وأخرجه ابن أبي شيبة 12/ 72، ومسلم (2424) من طريق محمد بن بشر به، وأحمد 6/ 162 (الميمنية)، وأبو داود (4032)، والترمذى (2813)، والحاكم 3/ 147 من طريق زكريا به مختصرًا، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 198 إلى ابن أبي حاتم.
(5)
أخرجه الطيالسي (2171) وابن أبي شيبة 12/ 127، وأحمد 21/ 273، 434 (13728، 14040)، والترمذى (3206)، وغيرهم - من طرق عن حماد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 199 إلى ابن مردويه.
حدَّثني موسى بنُ عبدِ الرحمنِ المَسْرُوقيُّ، قال: ثنا يحيى بنُ إبراهيمَ بنُ سويدٍ النَّخَعِيُّ، عن هلالٍ، يَعنى ابنَ مِقْلاصٍ، عن زُبيدٍ، عن شهرِ بن حوشبٍ، عن أمِّ سلمةَ قالت: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم عندى، وعليٌّ وفاطمةُ والحسنُ والحسينُ، فجعلتُ لهم خَزِيرةً، فأكَلوا وناموا، وغطَّى عليهم عباءةً أو قطيفةً، ثم قال:"اللهمَّ هؤلاء أهلُ بيتى، أذهِبْ عنهم الرجسَ وطهِّرهم تطهيرًا"
(1)
.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبو نُعيمٍ، قال: ثنا يونسُ بنُ أبي إسحاقَ، قال: أخبَرني أبو داودَ، عن أبي الحمراءِ، قال: رابطتُ المدينةَ سبعةَ أشهرٍ على عهدِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: رأيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم إذا طلَع الفجرُ، جاء إلى باب عليٍّ وفاطمةَ، فقال: "الصَّلاةَ الصَّلاةَ {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}
(2)
.
حدَّثني عبدُ الأعلى بنُ واصلٍ، قال: ثنا الفضلُ بنُ دُكينٍ، قال: ثنا يونسُ بنُ أبي إسحاقَ، بإسنادِه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم مثلَه
(3)
.
حدَّثني عبدُ الأعلى بنُ واصلٍ، قال: ثنا الفضلُ بنُ دُكَينٍ، قال: ثنا عبد السَّلامِ بنُ حربٍ، عن كلثومٍ المحاربيِّ، عن أبي عمَّارٍ، قال: إني لجالسٌ عندَ وائلةَ بن الأسقعِ، إذ ذكَروا عليًّا رضي الله عنه، فشتَموه، فلما قاموا، قال: اجلسْ حتى أُخبرَك عن هذا الذي شتَموه، إنى عندَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، إذ جاءه عليٌّ وفاطمةُ
(1)
أخرجه أحمد 6/ 304 (الميمنية)، والترمذى (3871)، والطبرانى في الأوسط (3799)، والكبير 23/ 333، وابن عساكر 13/ 204، 14/ 139، 140، 143 من طريق زبيد به.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 407 عن المصنف، وأخرجه ابن عدى 7/ 2524 من طريق يونس به، وأخرجه البخارى في التاريخ الكبير 9/ 25، 26، والعقيلي 3/ 131، والطبراني (2672) من طريق أبي داود به.
(3)
أخرجه ابن عساكر 4/ 289، 290 من طريق الفضل بن دكين وعبد الله بن موسى عن يونس به.
وحسنٌ وحسينٌ، فألقى عليهم كساءً له، ثم قال: اللهم هؤلاء أهلُ بيتي، اللهم أذهِبْ [عنهم الرجسَ]
(1)
وطهِّرْهم تطهيرًا؛ قلتُ: يا رسولَ اللهِ وأنا؟ قال: وأنت؛ قال: فواللهِ إنها لأوثقُ عمَلٍ عندى"
(2)
.
حدَّثني عبدُ الكَريمِ بنُ أبي عُميرٍ، قال: ثنا الوليدُ بنُ مسلمٍ، قال: ثنا أبو عمرٍو، قال: ثني شدَّادٌ، أبو عمارٍ، قال: سمِعتُ وائلةَ بنَ الأسقعِ يُحدِّثُ، قال: سألتُ عن عليِّ بن أبي طالبٍ في منزلِه، فقالت فاطمةُ: قد ذهَب يأتى برسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، إِذ جاء، فدخل رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ودخلتُ، فجلَس رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم على الفراش، وأجلَس فاطمةَ عن يمينِه، وعليًّا عن يسارِه، وحسنًا وحسينا بينَ يديه، فلفَع عليهم بثوبِه، وقال:{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} . اللهم هؤلاء أهلى، اللهم أهلى أحقُّ". قال وائلةُ: فقلتُ مِن ناحيةِ البيتِ: وأنا يا رسولَ اللَّهِ مِن أهلِك؟ قال: "وأنت من أهلى". قال وائلةُ: إنها لمِن أَرجى ما أَرتَجِى
(3)
.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا وكيعٌ، عن عبدِ الحميدِ بن بَهْرام، عن شهر بن حوشبٍ، عن فُضيلِ بن مرزوقٍ، عن عطيةَ، عن أبي سعيدٍ الخدريِّ، عن أمِّ سلمةَ، قالت: لما نزلت هذه الآيةُ: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} دعا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عليًّا وفاطمةَ وحسنًا وحسينًا، فجلَّل عليهم كساءً خيبريًّا. فقال: "اللهم هؤلاء أهلُ بيتى، اللهم أَذْهِبْ عنهم الرجسَ
(1)
سقط من: ت 2.
(2)
أخرجه الطبراني (2669) من طريق أبي نعيم الفضل بن دكين به.
(3)
أخرجه ابن حبان (6976)، والحاكم 2/ 416 من طريق الوليد به، وأخرجه ابن أبي شيبة 12/ 73، وأحمد 28/ 195 (16988)، والطحاوى في المشكل (773)، والطبراني (2670)، 22/ 66 (160)، وابن عساكر 14/ 147 من طريق الأوزاعى به.
وطهِّرْهم تطهيرًا". قالت أمُّ سلمةَ: ألستُ منهم؟ قال: "أنتِ إلى خيرٍ"
(1)
.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا مصعبُ بنُ المقدامِ، قال: ثنا سعيدُ بنُ زَرْبيٌّ، عن محمدَ بنَ سيرينَ، عن أبي هريرةَ، عن أمِّ سلمةَ، قالت: جاءت فاطمةُ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ببُرمةٍ لها قد صنَعت فيها عصيدةً تحملُها
(2)
على طبقٍ، فوضَعته بينَ يْديه. فقال: أينَ ابن عمِّك وابناك؟ فقالت: في البيتِ. فقال: "ادعيهم" فجاءت إلى عليٍّ، فقالت: أجِبِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أنت وابناك. قالت أمُّ سلمةَ: فلما رآهم مقبلين مَدَّ يده إلى كساءِ كان على المنامِة، فمدّه وبسَطه، وأجلَسهم عليه، ثم أخَذ بأطرافِ الكساءِ الأربعةِ بشمالِه، فضمَّه فوقَ رءوسهم، وأومَأ بيده اليمنى إلى ربِّه. فقال:"هؤلاء أهلُ البيتِ، فَأَذْهِبْ عنهم الرجسَ وطهِّرْهم تطهيرًا"
(3)
.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا حسنُ بنُ عطيةَ، قال: ثنا فُضَيْلُ بن مرزوقٍ، عن عطيةَ، عن أبي سعيدٍ، عن أمِّ سلمةَ زوجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: أن هذه الآيةَ نزَلت في بيتِها: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} ، قالت: وأنا جالسةٌ على باب البيتِ، فقلتُ: أنا يا رسولَ اللهِ، ألستُ مِن أهلِ البيتِ؟ قال:"إنك إلى خيرٍ، أنتِ مِن أزواجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم". قالت: وفي البيتِ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وعليٌّ، وفاطمةُ، والحسنُ، والحسينُ، رضي الله عنهم
(3)
.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا خالدُ بنُ مُخلدٍ، قال: ثنا موسى بنُ يعقوبَ، قال: ثنى هاشمُ بنُ هاشمِ بن عتبةَ بن أبي وقاصٍ، عن عبدِ اللَّهِ بن وهبِ بن زمعةَ، قال: أخبَرتنى أمِّ سلمةَ أن رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم جمع عليًّا والحسَنَين، ثم أدخَلهم تحتَ ثوبِه، ثم
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 409 عن المصنف بدون ذكر فضيل وعطية وأبى سعيد، وأخرجه الطحاوى في المشكل (768)، والطبراني (2662)، 23/ 249 (503)، وابن عساكر 13/ 206 من طريق فضيل بن مرزوق به، وأخرجه ابن عساكر 14/ 146 من طريق عطية به.
(2)
في م: "تحلها".
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 409 عن المصنف.
جأَر إلى اللهِ، ثم قال:"هؤلاء أهلُ بيتى". قالت أمُّ سلمةَ، فقلت: يا رسولَ اللهِ أدخِلْني معهم قال: "إِنَّكِ مِنْ أَهْلِى"
(1)
.
حدَّثني أحمدُ بنُ محمدٍ الطوسيُّ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ بنُ صالحٍ، قال: ثنا محمدُ بنُ سليمانَ الأصبهانيُّ، عن يحيى بن عُبيدٍ المكيِّ، عن عطاءٍ، عن عمرَ بن أبي سلمةَ، قال: نزلَت هذه الآيةُ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم وهو في بيت أمّ سلمةَ: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} . فدعا حَسنًا وحسينًا وفاطمةَ، وأجلَسَهم بينَ يديه، ودعا عليًّا فأجلَسه خلفه، فتجلَّل هو وهم بالكساءِ، ثم قال:"هَؤُلاءِ أَهْلُ [بَيْتي، فَأَذْهِبْ عنهم الرِّجْسَ وطَهِّرْهُمْ تَطْهِيرًا". قالت أمُّ سلمةَ: أنا معهم]
(2)
؟ قال
(3)
: "مكانَك، وأَنْتِ على خَيْرٍ"
(4)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عُمارةَ، قال: ثنا إسماعيلُ بنُ أبانٍ، قال: ثنا الصَّباحُ بنُ يحيى المرّيُّ، عن السديِّ، عن أبي الديلمِ، قال: قال عليُّ بنُ الحسينِ لرجلٍ مِن أهلِ الشأمِ: أما قرَأتَ في الأحزابِ: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} ؟ قال: ولأنتم هم؟ قال: نعم
(5)
.
حدَّثنا ابن المثنى، قال: ثنا أبو بكرٍ الحنفيُّ، قال: ثنا بُكيرُ بنُ مِسْمارٍ، قال: سمعتِ عامرَ بنَ سعدٍ، قال: قال سعدٌ: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حينَ نزَل عليه الوحيُ، فأَخَذَ عليًّا وابنيه وفاطمةَ، وأدخَلهم تحتَ ثوبِه، ثم قال: "رَبِّ
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 409 عن المصنف، وأخرجه الطبراني (2663)، 23/ 308 (696) من طريق موسى بن يعقوب به.
(2)
سقط من: ت 1.
(3)
سقط من النسخ، والمثبت مِن مصادر التخريج.
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 409 عن المصنف، وأخرجه الترمذى (3205، 3787)، وابن عساكر في تاريخه 14/ 145 من طريق محمد بن سليمان به.
(5)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 412 عن السدى به.
هَؤُلاءِ أَهْلِى، وأَهْلُ بَيْتى"
(1)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ عبدِ القدوسِ، عن الأعمشِ، عن حكيمِ بن سعدٍ، قال: ذكَرْنا عليَّ بن أبى طالبٍ رضي الله عنه عند أمِّ سلمةَ. قالت: فيه
(2)
نزلت: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} . قالت أمُّ سلمةَ: جاء النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى بيتي، فقال:"لا تَأْذَني لأحَدٍ". فجاءت فاطمةُ، فلم أستطِعْ أن أحجبَها عن أبيها، ثم جاء الحسنُ، فلم أستطِعْ أن أمنعَه أن يدخلَ على جدِّه وأمِّه، وجاء الحسينُ، فلم أستِطعْ أن أحجُبَه، فاجتمَعوا حولَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم على بِساطٍ، فجلَّلهم نبيُّ اللهِ بكساءِ كان عليه، ثم قال:"هؤلاء أهْلُ بَيْتِي، فَأَذْهِبْ عنهم الرِّجْسَ وَطَهَّرْهُمْ تَطْهِيرًا"، فنزَلت هذه الآيةُ حينَ اجتمَعوا على البِساطِ؛ قالت: فقلت: يا رسولَ اللَّهِ: وأنا؟ قالت: فواللهِ ما أَنعمَ
(3)
، وقال:"إنَّكِ إلى خَيْرٍ"
(4)
.
وقال آخرون: بل عُنِى بذلك أزواجُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا يحيى بنُ واضحٍ، قال: ثنا الأصْبغُ بنُ
(5)
علقمةَ،
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 411 عن المصنف، وأخرجه النسائي في الخصائص (54)، والبزار (1120)، والحاكم 3/ 108، 109 من طريق أبي بكرٍ الحنفى به، وأخرجه أحمد 3/ 160 (1608)، ومسلم (2404) / 32، والترمذى (2999، 3724)، والنسائى في الخصائص (11)، والحاكم 3/ 147، 150، والبيهقى 7/ 63 من طريق بكير بن مسمار به مطولًا عند أكثرهم، وأخرجه الطبراني (328) من طريق عامر بن سعد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 199 إلى ابن مردويه.
(2)
في ص، ت 1، ت 2:"في".
(3)
أنعم: أي أجاب بـ "نعم". اللسان (ن ع م).
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 410 عن المصنف، وأخرج أوله الطحاوى في المشكل (762)، والطبراني 23/ 327 (750)، وابن عساكر في تاريخه 14/ 143 من طريق الأعمش عن جعفر بن عبد الرحمن عن حكيم مختصرًا.
(5)
في م: "عن"، وينظر الجرح والتعديل 2/ 320.
قال: كان عكرمةُ يُنادِى في السوقِ: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} . قال: نزلت في نساءِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم خاصَّةً
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34)} .
يقولُ تعالى ذكِرُه لأزواجِ نبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: واذكُرْنَ نِعمة اللهِ عليكنَّ؛ بأن جعلكنَّ في بيوتٍ تُتلى فيها آياتُ اللهِ والحكمةُ، فاشكُرْنَ اللَّهَ على ذلك، واحمِدنَه عليه، وعُنى بقوله:{وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ} : واذكرْنَ ما يُقرَأُ في بيوتكنَّ مِن آياتِ كتابِ اللهِ والحكمةِ، ويعنى بالحكمةِ: ما أُوحى إلى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِن أحكامِ دينِ اللهِ، ولم يَنزلْ به قرآنٌ، وذلك: السنةُ.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ في قولِه:{وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} : أي السنةِ، قال: يمْتنُّ عليهم بذلك
(2)
.
وقولُه: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} . يقولُ تعالى ذكرُه: إن الله كان ذا لُطفٍ بكنَّ، إذ جعَلكنَّ في البيوتِ التي تُتلى فيها آياتُه والحكمةُ، خبيرًا بكُنَّ إذ
(1)
أخرجه الواحدى في أسباب النزول ص 267 من طريق المصنف، وأخرجه ابن عساكر في تاريخه 69/ 150 نحوه من طريق يزيد النحوى عن عكرمة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 198 إلى ابن مردويه.
(2)
أخرجه المروزى في السنة (399) من طريق سعيد به، وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 116، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره - كما في التغليق 4/ 283 - وابن سعد 8/ 199، والمروزى (397، 398) من طريق معمر عن قتادة؛ جميعًا بلفظ: (القرآن والسنة)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 199 إلى ابن المنذر.
اختاركَن لرسولِه أزواجًا.
يقولُ تعالى ذكرُه: إن المتذلِّلِين للَّهِ بالطاعةِ والمتذلِّلاتِ، والمصَدّقين والمصَدِّقاتِ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فيما أتاهم به مِن عندِ اللهِ، والقانتينَ والقانتاتِ للهِ، والمطيعين للهِ والمطيعاتِ له فيما أمَرهم ونهَاهم، والصادقين الله فيما عاهَدوه عليه والصادقاتِ فيه، والصابرين للهِ في البأساءِ والضرَاءِ على الثباتِ على دينِه، وحينَ البأسِ والصابراتِ، والخاشعةَ قلوبُهم للهِ وجَلًا منه ومِن عقابهِ والخاشعاتِ، والمتصدِّقين والمتصدِّقاتِ: وهم المؤدُّون حقوقَ اللهِ مِن أموالِهم والمؤدِّياتِ، والصائمين شهرَ رمضانَ الذي فرَض اللهُ صومَه عليهم والصائماتِ ذلك، والحافظين فروجَهم، إلا على أزواجِهم أو ما ملَكت أيمانُهم، والحافظاتِ ذلك إلا على أزواجهنَّ، إن كنّ حرائرَ، أو مَن مَلَكَهُنَّ إن كنّ إماءً، والذاكرِين الله بقلوبِهم وألسنتِهم وجوارحِهم والذاكراتِ كذلك {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} لذنوبهم، {وَأَجْرًا عَظِيمًا}: يعنى ثوابًا في الآخرةِ على ذلك مِن أعمالهم عظيما، وذلك الجنةُ.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، قال: دخَل نساءٌ على نساءِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقلْن: قد ذكَرَ كنَّ الله في القرآنِ، ولم نُذكرْ بشيءٍ، أما فينا ما يُذْكَرُ؟
فأنزَل اللهُ تبارك وتعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ} : أي المطيعين والمطيعاتِ، {وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ}: أي الخائفين والخائفاتِ - {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً} لذنوبِهم، {وَأَجْرًا عَظِيمًا} في الجنةِ
(1)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قوله: {وَأَجْرًا عَظِيمًا} . قال: الجنةَ. وفى قوله: {وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ} . قال: المطيعين والمطيعات
(2)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن عطاءِ، عن عامرٍ، قال: القانتات: المطيعات.
حدَّثنا ابن بشارٍ
(3)
، قال: ثنا مَؤمَّلٌ، قال: ثنا سفيانُ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ، قال: قالت أمُّ سَلَمَةَ: يا رسولَ اللهِ، يُذكرُ الرجال ولا نُذكر، فنزَلت:{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ}
(4)
.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا أبو معاويةَ، عن محمدِ بن عمرٍو، عن أبي سلمةَ، أن يحيى بنَ عبدِ الرحمنِ بن حاطبٍ، حدَّثه عن أمِّ سلمةَ، قالت: قلت: يا رسولُ اللهِ، أيُذكرُ الرجالُ في كلِّ شيءٍ، ولا نُذكرُ؟ فأنزَل الله:{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ}
(5)
. الآية.
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 414 عن المصنف، وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 116، 117، وابن سعد في الطبقات 8/ 199، 200 من طريق معمر، عن قتادة.
(2)
تقدم في 18/ 484.
(3)
في م: "حميد" والصواب المثبت، ينظر تهذيب الكمال 29/ 177.
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 413 عن المصنف به، وهو في تفسير الثورى ص 241، 242، ومن طريقه ابن سعد 8/ 199، والحاكم 2/ 416، وأخرجه أحمد 6/ 322 (الميمنية)، والترمذى (3022)، وأبو يعلى (6959)، والواحدى في أسباب النزول ص 110 من طريق ابن أبي نجيح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 200 إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.
(5)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 413 عن المصنف، وأخرجه الطبراني 23/ 263 (554) من طريق =
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا سَيَّارُ بنُ مظاهرٍ العَنَزِيُّ، قال: ثنا أبو كدينةَ يحيى بن مهلَّبٍ، عن قابوسَ بن أبي ظَبيانَ، عن أبيهِ، عن ابن عباسٍ، قال: قال نساءُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: ماله يَذكرُ المؤمنين، ولا يذكرُ المؤمناتِ؟ فَأَنزَلَ اللَّهُ:{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ}
(1)
. الآية.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ قولهَ:{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} . قال: قالت أمُّ سلمةَ زوجُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: ما للنساءِ لا يُذكرنَ مع الرجالِ في الصلاحِ؟ فأنزَلَ اللَّهُ هذه الآيةَ.
حدَّثني محمدُ بنُ مَعْمَرٍ، [قال: ثنا أبو هشامٍ]
(2)
، قال: ثنا عبدُ الواحدِ، قال: ثنا عثمانُ بنُ حكيمٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ بنُ شيبةَ، قال: سمعت أمَّ سَلَمَةَ زوجَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم تقول: قلتُ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: يا رسولُ اللهِ، ما لنا لا نُذكر في القرآن كما يُذكر الرجالُ؟ قالت: فلم يَرُعْنى ذاتَ يومٍ ظهرًا إلا نداؤه على المنبر، وأنا أُسرِّحُ رأسى، فلفَفْتُ شَعَرى ثم خرَجتُ إلى حُجرةٍ مِن [حُجَرِ بيتى]
(3)
، فجعَلت سمعي عندَ الجريدِ، فإذا هو يقولُ على المنبرِ: "يا أيُّها النَّاسُ إن اللَّهَ يَقُولُ في كتابِهِ: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ} . إلى قولِه: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}
(4)
.
= أبى معاوية به، وأخرجه النسائي في الكبرى (11404) من طريق محمد بن عمرو به، وليس في إسنادهما: يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب.
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 413 عن المصنف، وأخرجه الطبراني (12614) من طريق أبي كدينة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 200 إلى ابن مردويه بسند حسن.
(2)
سقط من: ت 2.
(3)
في م، ت 1:"حجرهن"، وفى ص، ت 2:"حجرتين "والمثبت مِن مصادر التخريج.
(4)
أخرجه النسائي في الكبرى (11405) عن محمد بن معمر به، وأخرجه أحمد 6/ 301، 305 (الميمنية)، والطبراني 23/ 293، 294 (650) من طريق عبد الواحد به، وأخرجه أحمد 6/ 301 =
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ
(1)
لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)}.
يقولُ تعالى ذكرُه: لم يكنْ لمؤمنٍ باللهِ ورسولهِ ولا مؤمنةٍ، إذا قضَى اللَّهُ ورسولُه في أنفسِهم قضاءً - أن يَتَخيَّروا مِن أمرِهم غيرَ الذي قضَى فيهم، ويُخالفوا أمرَ اللهِ وأمرَ رسولِه وقضاءَهما، فيعْصُوهما، ومَن يَعْصِ الله ورسولَه فيما أمرا أو نَهَيا {فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا}. يقولُ: فقدْ جار عن قصدِ السبيلِ، وسلَك غيرَ سبيلِ الهدَى والرَّشادِ.
وذُكر أن هذه الآيةَ نزَلت في زينبَ بنتِ جَحْشٍ حينَ خطَبها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على فتاه زيدِ بن حارثةَ، فامتنَعت مِن إنكاحِه نفسَها.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قوله:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا} إلى آخرِ الآيةِ، وذلك أنَّ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم انطَلَق يَخطُبُ على فتَاه زيدِ بنِ حارثةَ، فدخَل على زينبَ بنتِ جحْشٍ الأسديَّة، فخطَبها، فقالت: لستُ بناكِحَتِه، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"فانْكِحِيه". فقالت: يا رسولَ اللَّهِ أُوَّامَرُ في نفسى؟ فبينَما هما يَتَحدَّثان أنزَل الله هذه الآيةَ على رسوله صلى الله عليه وسلم: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ} إلى قوله: {ضَلَالًا مُبِينًا} . قالت: قد رَضِيته لى يا رسولُ اللهِ مَنْكَحًا؟ قال: "نعم".
= (الميمنية)، والطبراني 23/ 298 (665) من طريق عبد الواحد، عن عثمان، عن عبد الله بن رافع، عن أم سلمة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 200 إلى ابن المنذر وابن مردويه.
(1)
في ت 1، ت 2:"تكون". وهى قراءة ابن كثير ونافع وابن عامر وأبي عمرو، وقرأها بالياء عاصم وحمزة والكسائي. ينظر السبعة ص 522، وحجة القراءات ص 578.
قالت: إذن لا أعْصى رسولَ اللهِ، قد أَنكَحْتُه نفسى
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن نجيحٍ، عن مجاهدٍ قوله:{أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} . قال: زينبُ بنتُ جحشٍ. وكراهتُها نكاحَ زيدِ بن حارثةَ حينَ أمرَها به رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} . قال: نزَلت هذه الآيةُ في زينبَ بنتَ جحشٍ، وكانت بنتَ عمَّةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فخطَبها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فرَضِيت، ورأتْ أنه يَخْطُبُها على نفْسِه؛ فلما علِمت أنه يَخطبُها على زيدِ بن حارثةَ، أبَت وأنكرت، فأنزَل اللهُ:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} . قال: فتابَعَتْه بعدَ ذلك ورَضِيتْ
(3)
.
حدَّثني أبو عبيدٍ الوصابيُّ
(4)
، قال: ثنا محمدُ بنُ حميرٍ، قال: ثنا ابن لهيعةَ، عن ابن أبي عمرةَ، عن عكرمةَ، عن ابن عباسٍ، قال: خطَب رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم زينبَ بنتَ جحشٍ لزيدِ بن حارثةَ، فاستَنْكَفَت منه وقالت: أنا خيرٌ منه حَسَبًا. وكانت امرأةً فيها حِدَّةٌ، فأنزَل الله:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا} الآيةَ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 200 إلى المصنف وابن مردويه، وذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 417.
(2)
تفسير مجاهد ص 550، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 201 إلى عبد بن حميد.
(3)
أخرجه الطبراني 24/ 45 (123) مِن طريق يزيد بن زريع به، وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 117، والطبراني 24/ 45 (124) من طريق معمر عن قتادة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 201 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(4)
في النسخ: "الوصافى". والمثبت مما تقدم في 5/ 378، وينظر الجرح والتعديل 7/ 237.
كلَّها
(1)
.
وقيل: نزَلت في أمِّ كُلْثومٍ بنتَ عُقْبَةَ بن أَبي مُعَيطٍ، وذلك أنها وهَبت نفسَها لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فزوَّجها زيدَ بنَ حارثةَ.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا} إلى آخرِ الآيةِ، قال: نزَلت في أمِّ كُلْثومٍ بنتِ عقبةَ بن أبي مُعَيطٍ، وكانت
(2)
أوَّلَ مِن هاجَر مِن النساءِ، فوهَبت نفسَها للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، فزوَّجها زيدَ بنَ حارثةَ، فسَخِطَت هي وأخوها، وقالا: إنما أرَدنا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فزوَّجنا عبدَه. قال: فنزل القرآن: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا} إلى آخر الآية، قال: وجاء أمرٌ أجمَعُ مِن هذا؛ {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6]. قال: فذاك خاص، وهذا جِمَاعٌ
(3)
.
قولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه صلى الله عليه وسلم عتابًا من للهِ له: واذكرْ يا محمدُ إذ تقولُ للذي
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 417 عن ابن لهيعة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 200 إلى المصنف.
(2)
بعده في م: "من".
(3)
في م، ت 2:"إجماع". وجماع كل شيء: مجتمع أصله. يقال: هذا الباب جماع هذه الأبواب: الجامع لها الشامل لما فيها. الوسيط (ج م ع).
والأثر ذكره الزيلعي في تخريج الكشاف 3/ 110 عن المصنف، وذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 417، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 201 إلى ابن أبي حاتم ـ.
أنعَم اللهُ عليه بالهدايةِ، وأنْعَمْتَ عليه بالعِتْقِ. يعنى بذلك
(1)
زيدَ بنَ حارثةَ مولى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ} . وذلك أن زينبَ بنتَ جَحْش - فيما ذُكر - رآها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فأعْجبَتْه، وهي في جِبالِ مولاه، فأُلْقِيَ في نفسِ زيدٍ كراهتُها؛ لِما علِم الله مما وقع في نفسِ نبيِّه ما وقَع، فأراد فراقَها، فذكَر ذلك الرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: زيدٌ، فقال له رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:{أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} . وهو صلى الله عليه وسلم [في ذلك]
(2)
يحبُّ أن تكونَ قد بانَت منه لِينْكِحَها، {وَاتَّقِ اللَّهَ} يقولُ
(3)
: وخَفِ الله في الواجبِ عليك في زوجتك، {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ}. يقولُ: وتُخفى في نفسِك محبةَ فراقِه إيَّاها؛ لِتَتَزوَّجَها إن هو فارَقها، واللَّهُ مُبْدٍ ما تُخفى في نفسِك مِن ذلك، {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ}. يقولُ تعالى ذكرُه: وتخافُ أن يقولُ الناسُ: أمر رجلًا بطلاقِ امرأتِه، ونكَحها حينَ طلَّقها، واللَّهُ أَحقُّ أن تَخْشاه مِن الناسِ.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ} . وهو زيدٌ أنْعَم اللهُ عليه بالإسلامِ، {وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ}: أَعْتَقه رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} . قال: وكان يُخْفى في نفسه وُدَّ أنه طلَّقها. قال الحسنُ: ما أُنزِلَت عليه آيةٌ كانت أشدَّ عليه منها، قولَه: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ
(1)
سقط من: م.
(2)
سقط من: م.
(3)
بعده في م، ت 1، ت 2:"له".
مُبْدِيهِ}. ولو كان نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم كاتما شيئًا مِن الوحيِ لكتَمها، {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ}. قال: خشىَ نبيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم مقالةَ الناسِ
(1)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم قد زوَّج زيدَ بنَ حارثةَ زينب بنتَ جَحْشِ ابنةَ عمتِه، فخرَج رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يومًا يُرِيدُه، وعلى البابِ سِتْرٌ مِن شعرٍ، فرفَعت الريحُ السترَ فانْكَشَف، وهي في حُجِرتِها. حاسرةٌ، فوقَع إعجابُها في قلبِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فلمَّا وقَع ذلك كُرِّهَت إلى الآخرِ، قال: فجاء. فقال: يا رسولَ اللهِ، إنى أُرِيدُ أن أُفارِقَ صاحبتي. قال:"مَا لك، أرابَك منها شيءٌ؟ " قال: لا، واللهِ ما رابَنى منها شيءٌ يا رسولُ اللهِ، ولا رأيتُ إلا خيرًا. فقال له رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:{أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ} . فذلك قولُ اللهِ تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} : تُخْفِى في نفسك إن فارقَها تزَوَّجْتَها
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ موسى الحرشيُّ، قال: ثنا حمادُ بنُ زيدٍ، عن ثابتٍ، عن أبي حمزةَ، قال: نزلت هذه الآيةُ: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} في زينبَ بنتَ جَحْشٍ
(3)
.
حدَّثنا خَلَّادُ بنُ أَسْلَمَ، قال: ثنا سفيانُ بنُ عُيَيْنَةَ، عن عليٍّ بن زِيدِ بن جُدْعَانَ
(1)
أخرجه الطبراني 42/ 24 (114)، من طريق يزيد بن زريع به. وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 117، عن معمر عن قتادةَ، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 202 إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم.
(2)
القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم وقع منه استحسان لزينب بنت جحش وهى في عصمة زيد، وكان حريصًا على أن يطلقها زيد فيتزوجها هو. قول غير صحيح عند أهل التحقيق مِن المفسرين. ينظر في الرد عليه تفسير القرطبي 14/ 189 - 191، وأضواء البيان 6/ 580 وما بعدها.
(3)
أخرجه البخارى (4787)، والطبراني 24/ 43 (116) من طريق حماد بن زيد به.
عن عليّ بن حسينٍ قال: كان اللهُ تبارك وتعالى أعْلَم نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن زينبَ سَتَكُونُ مِن أزواجه، فلما أتاه زيدٌ يَشْكوها قال:"اتَّقِ الله وَأمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ". قال اللهُ: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ}
(1)
.
حدَّثني إسحاقُ بنُ شاهينٍ، قال: حدَّثنا خالدٌ، عن داودَ، عن عامرٍ، عن عائشةَ، قالت: لو كتَم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم شيئًا مما أو حِى إليه مِن كتابِ اللهِ لكتَم: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ}
(2)
.
وقولُه: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} . يقولُ تعالى ذكرُه: فلمَّا قضَى زيدَ بنَ حارثةَ مِن زينبَ حاجتَه؛ وهى الوطَرُ، ومنه قولُ الشاعرِ
(3)
:
ودَّعَنى قبلَ أَنْ أُودِّعَه
…
لمَّا قضَى مِن شبابنِا وَطَرَا
{زَوَّجْنَاكَهَا} . يقولُ: زوَّجناك زينبَ بعدَ ما طلَّقها زيدٌ، وبانت منه؛ {لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ}. [يقولُ: لكيلا يكونَ على المؤمنين حرجٌ. يعنى: إثمٌ في أزواجِ أدعيائهم]
(4)
يعني: في نكاحِ نساء مَن تبَنَّوا، وليسوا ببَنِيهم ولا أولادِهم على صحةٍ، إذا هم طلَّقوهن وبِنَّ منهم، {إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا}. يقولُ: إذا قضَوا منهن حاجاتِهم وآرائهم، وفارَقوهنَّ وحَلَلْنَ
(1)
أخرجه البيهقي في دلائل النبوة 3/ 466 مِن طريق سفيان بن عيينة به، وأخرجه ابن أبي حاتم - كما في الفتح 8/ 523 من طريق على بن زيد به، بزيادة في آخره. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 203 إلى الحكيم الترمذي.
(2)
أخرجه الترمذى (3207) من طريق داود بن أبي هند به مطولا، وأخرجه سعيد بن منصور - كما في الدر المنثور 5/ 202، ومن طريقه الطبراني 24/ 41 (111)، وأحمد 6/ 241، 266 (الميمنية)، ومسلم (287/ 177)، والترمذى (3208)، والنسائى في الكبرى (11408) من طريق داود بن أبي هند عن عامر الشعبي عن مسروق عن عائشة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.
(3)
البيت في مجاز القرآن 2/ 138.
(4)
سقط مِن: م، ت 1.
لغيرِهم، ولم يَكُنْ ذلك نزولًا منهم لهم عنهن، {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا}. يقولُ: وكان ما قضَى اللَّهُ مِن قضاءٍ مفعولًا، أي: كان كائنًا لا مَحَالة، وإنما يعنى بذلك أن قضاءَ اللهِ في زينبَ أن يَتَزَوَّجَها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، كان ماضيا مفعولًا كائنًا.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} . يقولُ: إذا طلَّقُوهن، وكان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَبَنَّى زيدَ بنَ حارثةَ
(1)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا} إلى قوله: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} . إذا كان ذلك منه غيرَ نازلٍ لك، فذلك قولُ اللهِ:{وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ} [النساء: 23].
حدَّثني محمدُ بنُ عثمان الواسطيُّ، قال: ثنا جعفرُ بنُ عونٍ، عن المُعَلَّى بن عِرْفانَ، عن محمدِ بن عبدِ اللَّهِ بن جَحْشٍ، قال: تَفاخَرَت عائشةُ وزينبُ. قال: فقالت زينبُ: أنا الذي نزل تزويجى
(2)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن مغيرةَ، عن الشعبيِّ، قال: كانت زينبُ زوجُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم تقولُ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: إني لأدِلُّ عليكَ بثلاثٍ، ما مِن نسائِك امرأةٌ تَدِلُّ
(1)
أخرجه الطبراني 24/ 42 (114) مِن طريق يزيد بن زريع به، وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 117 عن معمر عن قتادةَ، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 202، 203 إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم.
(2)
أخرجه الطبراني 24/ 44، 45 (122) من طريق جعفر بن عون به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 204 إلى الحكيم الترمذى بأطول من هذا.
بهن؛ أن جدِّى وجدَّك واحدٌ، وأنى أَنْكَحَنِيكَ اللَّهُ مِن السماءِ، وإِن السَّفِيرَ جَبرائيلُ عليه السلام
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ} : مِن إثمٍ فيما أَحَلَّ اللَّهُ له مِن نكاحِ امرأةِ مَن تَبَنَّاه بعد فراقِه إياها.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ} . أي: أَحَلَّ اللَّهُ له
(2)
.
وقولُه: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ} . يقولُ: لم يَكُنِ اللَّهُ تعالى لِيُؤْثِمَ نبيَّه فيما أحَلَّ له، مثالَ فعله بمن قبلَه مِن الرسلِ الذين مضَوْا قبلَه، في أنه لم يُؤْثِمُهم بما أحَلَّ لهم، لم يَكُنْ لنبيه أن يَخْشَى الناسَ فيما أمَره به أو أحَلَّه له، ونُصِب قولُه:{سُنَّةَ اللَّهِ} . على معنى: حقًّا مِن اللهِ، كأنه قال: فعَلْنا ذلك سنةً منا.
وقولُه {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} . يقولُ: وكان أمرُ اللهِ قضاءً مَقْضِيًّا.
وكان ابن زيدٍ يقولُ في ذلك ما حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} : إن الله كان علمُه معه، قبلَ أن يخْلُقَ الأشياء كلَّها، فائْتَمَر في علمِه أن يَخْلُق خلقًا، ويَأْمُرَهم وينهاهم، ويَجْعَلَ
(3)
ثوابًا لأهلِ طاعتِه، وعقابًا لأهلِ معصيتِه، فلما ائْتَمَر ذلك الأمرُ قدَّرَه،
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 421 عن المصنف، وأخرجه الحاكم 4/ 25 من طريق داود ابن أبي هند عن الشعبي بنحوه، وذكره الحافظ في الفتح 13/ 412، وعزاه إلى المصنف وأبى القاسم الطحاوي في كتاب الحجة والتبيان، بلفظ قريب بمعناه.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 118 عن معمر عن قتادة.
(3)
بعده في ص، ت 2:"لهم".
فلما قدَّره كُتِب، وغاب عليه، فسمَّاه الغيب وأمَّ الكتابِ، وخلَق الخلَق على ذلك الكتابِ، أرزاقَهم، وآجالَهم، وأعمالَهم، وما يُصِيبُهم مِن الأشياء؛ مِن الرخاءِ والشدةِ، مِن الكتابِ الذي كتبه أنه يُصِيبُهم، وقرأَ:{أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ} . حتى إذا نفد ذلك {إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ} [الأعراف: 37]. وأمرُ اللهِ الذي ائْتَمر قدَّره حيَن قدَّره مُقَدِّرًا، فلا يَكونُ إلا ما في ذلك، وما في ذلك الكتابِ، وفى ذلك التقديرِ، ائْتَمر أمرًا، ثم قدَّره، ثم خلَق عليه، فقال: كان أمرُ اللَّه الذي مضَى وفرغ منه، وخلَق عليه الخلقَ {قَدَرًا مَقْدُورًا}: شاء أمرًا لتَمْضِىَ به أمرُه وقدره، وشاء أمرًا يرضاه مِن عبادِه في طاعتِه، فلمَّا أن كان الذي شاءِ مِن طاعتِه لعبادِه رضِيَه لهم، ولما أن كان الذي شاء أراد أن يَنْفُذَ فيه أمرُه وتدبيرُه وقدرُه، وقرَأ:{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} [الأعراف:179]. فشاء أن يكون هؤلاء مِن أهلِ النارِ، وشاء أن تكونَ أعمالهم أعمالَ أهلِ النارِ، فقال:{كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} [الأنعام:108]، وقال:{وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ} [الأنعام: 137]. هذه أعمالُ أهلِ النارِ، {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ}. قال:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ} إلى قوله: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام: 112]. وقرَأ: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} [الأنعام: 109] إلى: {كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الأنعام: 111] أن يُؤْمِنوا بذلك، قال: فأَخْرَجوه مِن اسمِه الذي تَسَمَّى به. قال: هو الفعَّال لما يُريدُ، فزعموا أنه ما أراد.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: سنةُ اللهِ في الذين خلَوْا مِن قبل محمدٍ مِن الرسل، الذين يُبَلِّغون رسالاتِ اللَّهِ إلى مَن أُرْسلوا إليه، ويخافون الله في تركِهم تبليغَ ذلك إيَّاهم. ولا يخافون أحدًا إلا الله، فإنهم إيَّاه يَرْهَبون، إن هم قصَّروا عن تبليغِهم رسالةَ اللهِ إلى مَن أُرْسِلوا إليه.
يقولُ لنبيِّه محمدٍ: فمِن أولئك الرسلِ الذين هذه صفتُهم، فكُنْ ولا تَخْشَ أحدًا إلا الله، فإنَّ الله يَمْنَعُك مِن جميعِ خلقِه، ولا يَمْنَعُك أحدٌ مِن خلقِه منه، إن أراد بك سوءًا.
و "الذين" مِن قوله: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ} . خفضٌ ردًّا على "الذين" التي في قوله: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا} .
وقولُه: {وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} . يقولُ تعالى ذكرُه: وكفاك يا محمدُ باللهِ حافظُا لأعمالِ خلقِه، ومُحاسِبًا لهم عليها.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: ما كان أيُّها النَّاسُ محمدٌ أبا زيدَ بنَ حارثةَ، ولا أبا أحدٍ مِن رجالِكم الذين لم يَلِدْه محمدٌ - فيحرُمَ عليه نكاحُ زوجتِه بعد فِراقِه إياها؛ ولكنه رسولُ الله وخاتمُ النبِيِّين، الذي ختَم النُّبوَّةَ فطبَع عليها، فلا تُفْتحُ لأحدٍ بعدَه إلى قيامِ الساعةِ، وكان اللهُ بكلِّ شيءٍ مِن أعمالِكم ومقالِكم وغيرِ ذلك، ذا علمٍ، لا يَخْفَى عليه شيءٌ.
وبنحوِ الذي قُلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} . قال: نزَلت في زيدٍ؛ إنه لم يكنْ بابْنِه، ولعَمْرِى ولقد وُلِد له ذكورٌ، إنه لأبو القاسمِ وإبراهيمَ والطَّيِّبِ والمطهَّرِ، {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ}. أي: آخرَهم، {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا}
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عُمارة، قال: ثنا عليُّ بنُ قادمٍ، قال: ثنا سفيانُ، عن نُسَيْرِ
(2)
ابن ذُعْلُوقٍ، عن عليٍّ بن الحسينِ في قولِه:{مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} . قال: نزلت في زيدَ بنَ حارثةَ
(3)
.
والنَّصْبُ في رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بمعنى تكريرِ: كان
(4)
رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، والرَّفعُ يعنى الاسْتِئنافَ؛ ولكن هو رسولُ اللهِ، والقراءةُ النَّصْبُ عندَنا
(5)
.
واختلَفتِ القَرأَةُ في قراءةِ قوله: {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} . فقرَأ ذلك قرَأَةُ الأمصارِ سِوى الحسنِ وعاصمٍ، بكسرِ التاء مِن {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} . بمعنى أنه خَتَمَ النَّبِيِّين، ذُكر أن ذلك في قراءةِ عبدِ اللَّهِ:(لكنَّ نبيًّا ختَم النبيين)
(6)
. فذلك دليل على صحةِ قراءةِ مِن قرأَه بكسرِ التاءِ، بمعنى أنه الذي خَتَم الأنبياءَ صلى الله عليه وسلم وعليهم. وقرَأ ذلك - فيما يُذْكَرُ - الحسنُ وعاصمٌ:{وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} . بفتحِ
(1)
أخرجه عبد الرزاق 2/ 118، عن معمر عن قتادة مختصرا، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 204 إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم.
(2)
في ت 1: "بشير"، وفى ت 2:"يسير". ينظر تهذيب الكمال 29/ 339.
(3)
أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق 19/ 355، 356، من طريق سفيان به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 205، إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4)
سقط من: ت 1.
(5)
ينظر معاني القرآن للفراء 2/ 344.
(6)
القراءة شاذة لمخالفتها رسم المصحف.
التاء، بمعنى: أنه آخرُ النبِيِّين، كما قرَأ:(مختومٍ. خاتَمُه مِسْكٌ). بمعنى: آخرُه مِسكٌ، مَن قرأ ذلك كذلك
(1)
.
يقولُ تعالى ذكرُه: يَأَيُّها الذين صدَّقوا اللَّهَ ورسولَه، اذْكُروا الله بقلوبكم وألسنتِكم وجوارِحِكم ذكرًا كثيرًا، فلا تخلو أبدانكم مِن ذكرُه في حالٍ مِن أحوالِ طاقتِكم ذلك.
{وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} . يقولُ: صلوا له عُدْوةً صلاةَ الصبحِ، وعشيًّا صلاة العصر.
وقولُه: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ} . يقولُ تعالى ذكرُه: ربُّكم الذي تذْكُرونه الذِّكْرَ الكثير، وتسبِّحونه بُكرةً وأصيلًا، إذ أنتم فعَلْتُم ذلك، الذي
(2)
يرحمُكم، ويُثْنى عليكم هو، ويدْعو لكم
(3)
ملائكتُه. وقيل: إن معنى قوله: {يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ} . يُشِيعُ عنكم
(4)
الذِّكر الجميلَ في عبادِ اللَّهِ. وقولُه: {لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} . يقولُ: تدْعو ملائكةُ اللهِ لكم، فيُخْرجُكم اللهُ مِن الضَّلالةِ إلى الهُدى، ومِن الكفرِ إلى الإسلامِ.
وبنحوِ الذي قُلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
(1)
هي قراءة الكسائي المدنى، ينظر النشر،2/ 399 ومعاني القرآن للفراء 2/ 244، 3/ 248، وحجة القراءات ص 578.
(2)
بعده في ت 1: "تذكرونه الذكر الكثير ويسبحونه".
(3)
بعده في ص، ت 1، ت 2:"و".
(4)
في ص، ت 1، ت 2:"عليكم".
ذكْرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ في قولِه:{اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} . يقولُ: لا يَفرِضُ على عبادِه فريضةً إلا جعَل لها حدًّا معلومًا، ثم عذَر أهلَها في حالِ عُذرٍ غيرَ الذِّكْرِ، فإن الله لم يَجْعَلْ له حدًّا يُنْتَهى إليه، ولم يَعْذِرْ أحدًا في تَرْكِه إلا مغلوبًا على عقلِه؛ فقال:{فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} [النساء: 102]. بالليلِ والنهارِ في البرِّ والبحرِ، وفي السفرِ والحضرِ، والغِنى والفقرِ، والسَّقمِ والصحةِ، والسرِّ والعلانيةِ، وعلى كلِّ حالٍ، وقال:{وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} . فإذا فعلتُم ذلك صلَّى عليكم هو وملائكتُه، قال اللهُ عز وجل:{هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ}
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} : صلاةَ الغَداة، وصلاةَ العصرِ
(2)
.
وقولُه: {لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} . أي: من الضَّلالات إلى الهُدى.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} . قال: مِن الضَّلالة إلى الهدى، قال: والضَّلالةُ الظُّلمات، والنورُ الهدى.
وقولُه: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} . يقولُ تعالى ذكْرُه: وكان بالمؤمنين
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 427 عن علي بن أبي طلحة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 204 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 119 عن معمر عن قتادة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 205 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
به ورسوله ذا رحمةٍ أن يعذِّبَهم وهم له مطيعون، ولأمره مُتَّبعون.
{تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ} . يقولُ جلّ ثناؤُه: تحيةُ هؤلاء المؤمنين يومَ القيامةِ في الجنةِ سلامٌ، يقولُ بعضُهم لبعضٍ: أَمَنَةٌ لنا ولكم بدُخولِنا هذا المَدْخَلَ مِن اللهِ أن يعذِّبَنا بالنار أبدًا.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ} . قال: تحيةُ أهلِ الجنةِ السلامُ
(1)
.
وقولُه: {وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا} . يقولُ: وأعدَّ لهؤلاء المؤمنين ثوابًا لهم على طاعتِهم إياه في الدنيا كريمًا، وذلك هو الجنةُ.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ عن قتادةَ: {وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا} : أي الجنةَ
(2)
.
يقولُ تعالى ذكْرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: يا محمدُ، إنا أرسَلناك شاهدًا على أمتِك، بإبلاغِك إياهم ما أرسَلناك به من الرسالةِ، ومبشِّرَهم بالجنةِ إن صدَّقوك، وعمِلوا بِما جئَتهم به من عندِ ربِّك، ونذيرًا مِن النارِ أن يَدْخلوها، فيُعذَّبوا بها إن هم كذَّبوك، وخالَفوا ما جئتَهم به مِن عندِ اللهِ.
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 119 عن معمر عن قتادة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 206 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 206 إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
وبالذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا}
(1)
على أمتِك بالبلاغِ، {وَمُبَشِّرًا} بالجنةِ، {وَنَذِيرًا} بالنارِ
(2)
.
وقولُه: {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ} . يقولُ: وداعيًا إلى توحيدِ اللهِ، وإفرادِ الألوهةِ له، وإخلاصِ الطاعةِ لوجهِه، دونَ كلِّ مَن سواه مِن الآلهةِ والأوثانِ.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ} : إلى شهادةِ أن لا إلهَ إلا اللهُ
(2)
.
وقولُه: {بِإِذْنِهِ} . يقولُ: بأمرِه إياك بذلك، {وَسِرَاجًا مُنِيرًا}. يقولُ: وضياءً لخلقِه، يَسْتَضِيءُ بالنورِ الذي أتيتَهم به مِن عندِ اللَّهِ، عباده، {مُنِيرًا}. يقولُ: ضياءً يُنيرُ لمن استضاء بضوئِه، وعمِل بما أمَره. وإنما يَعْنى بذلك: أنه يَهْدِى به مَن اتبعه مِن أَمتِه.
وقولُه: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا} . يقولُ تعالى ذكرُه: وبشِّرْ أهلَ الإيمانِ باللهِ يا محمدُ بأن لهم مِن اللهِ فضلًا كبيرًا. يقولُ: بأن لهم مِن ثوابِ اللهِ
(3)
على طاعتهم إياه تضعيفًا كثيرًا
(4)
، وذلك هو الفضلُ الكبيرُ من اللهِ لهم.
وقولُه: {وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} . يقولُ: ولا تُطِع لقولِ كافرٍ ولا منافقٍ، فتسمعَ منه دعاءَه إياك إلى التقصيرِ في تبليغِ رسالاتِ اللهِ
(1)
بعده في ت 1: "ومبشرا شاهدا".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 207 إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم.
(3)
بعده في ت 2: "فضلا كبيرا".
(4)
في ت 1، ت 2:"كبيرا". وبدون نقط في "ص".
إلى مَن أرسَلك بها إليه مِن خلقِه {وَدَعْ أَذَاهُمْ} . يقولُ: وأعرِض عن أذاهم لك، واصبِرْ عليه، ولا يُثْنِك
(1)
ذلك عن القيامِ بأمرِ اللهِ في عبادِه، والنفوذِ لما كلَّفك.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قوله:{وَدَعْ أَذَاهُمْ} . قال: أعرِض عنهم
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَدَعْ أَذَاهُمْ} : أي اصبِرْ على أذاهم
(3)
.
وقولُه: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} . يقولُ: وفوِّض إلى اللهِ أمورَك، وثِق به، فإن الله كافيك جميعَ مِن دونه، حتى يأتيَك أمرُه وقضاؤه، {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا}. يقولُ: وحسبُك باللهِ قَيِّمًا بأمورِك، وحافظًا لك وكالئًا.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49)} .
(1)
في م: "يمنعك".
(2)
تفسير مجاهد ص 550، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 207 إلى الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 119 عن معمر عن قتادة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 207 إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم.
يقولُ تعالى ذكْرُه: يا أيُّها الذين صَدَّقُوا الله ورسولهَ، {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} ، يَعْنى: مِن قبلِ أن تجامِعوهن، {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} ، يعنى: مِن إحصاء أقْراءٍ ولا أشهرٍ تحصُونها عليهنَّ، {فَمَتِّعُوهُنَّ}. يقولُ: أعطُوهنّ ما يَسْتَمْتِعن به مِن عرَضٍ أو عينِ مالٍ.
وقولُه: {وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} . يقولُ: وخَلُّوا سبيلَهنّ تخليةً بالمعروفِ، وهو التسريحُ الجميلُ.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا عليٌّ، قال: ثنا عبدُ اللهِ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قوله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} . فهذا في الرجل يتزوج المرأةَ، ثم يُطَلِّقُها مِن قبلِ أن يمسَّها، فإذا طلَّقها واحدةً بانت منه، ولا عدّةَ عليها، تتزوّجُ مَن شاءَت، ثم قرأ:{فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} . يقولُ: إن كان سَمَّى لها صداقًا، فليس لها إلا النصفُ، فإِنْ لم يَكُنْ سَمَّى لها صداقًا، متَّعها على قدرِ عسرِه ويُسْرِه، وهو السراحُ الجميلُ
(1)
.
وقال بعضُهم: المتعةُ في هذا الموضعِ منسوخةٌ بقولِه: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة:237].
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 207 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} إلى قولِه: {سَرَاحًا جَمِيلًا} . قال: قال سعيدُ بنُ المسيَّبِ: ثم نَسَخ هذا الحرفُ المُتَعَةَ: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ}
(1)
.
حدَّثنا ابن بشارٍ وابنُ المثنى، قالا: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، قال: سمِعتُ قتادةَ يُحدِّثُ عن سعيد بن المسيب، قال: نُسخت هذه الآيةُ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ}
(2)
. قال: نَسَخت هذه الآيةُ التي في "البقرة"
(3)
.
يقولُ تعالى ذكْرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} . يعنى: اللاتي تزوَّجْتَهنَّ بِصَدَاقٍ مُسَمًّى.
كما حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا
(1)
تقدم تخريجه في 4/ 296، 297.
(2)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ت 3.
(3)
تقدم في 4/ 297.
عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قوله:{أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} . قال: صَدُقاتِهنَّ
(1)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} . قال: كان كلُّ امرأةٍ آتاما مهرًا، فقد أَحَلَّها اللَّهُ له.
حُدِّثْتُ عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا مُعاذٍ يقولُ: أخبَرنا عبيدٌ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} إلى قوله: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} . فما كان مِن هذه التسميةِ ما شاء كثيرًا أو قليلًا.
وقولُه: {وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ} . يقولُ: وأَحْلَلْنا لك إماءَك اللَّواتي سبَيَتْهَن، فملَكْتَهن بالسِّباءِ، وصِرْنَ لك بفتحِ اللهِ عليك مِن الفَيْءِ، {وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} ، فأحلَّ اللهُ له صلى الله عليه وسلم مِن بنات عمِّه وعماتِه وخالِه وخالاتِه، المهاجراتِ معه منهن، دونَ مِن لم يهاجِرْ منهن معه.
كما حدَّثنا أبو كُرَيبٍ، قال: ثنا عبيدُ
(2)
اللهِ بنُ موسى، عن إسرائيلَ، عن السديِّ، عن أبي صالحٍ عن أمِّ هانئ، قالت: خطَبني رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فاعتذرتُ إليه
(3)
فعذَرني
(4)
، ثم أنزَل اللهُ عليه: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ
(1)
تفسير مجاهد ص 550، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 208 إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
في م، ت 1، ت 2:"عبد". وينظر تهذيب الكمال 19/ 164.
(3)
في م: "له".
(4)
في م، ت 1:"بعذري".
أُجُورَهُنَّ} إلى قولِه: {اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} . قالت: فلم أحلَّ له
(1)
، لم أُهَا جِرْ معه، كنتُ مِن الطُّلَقاءِ
(2)
.
وقد ذُكر أن ذلك في قراءةِ ابن مسعودٍ: (وبَنَاتِ حَالاتِكَ وَاللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ) بواوٍ
(3)
، وذلك وإن كان كذلك في قراءته، محتملٌ أن يكونَ بمعنى قراءِتنا بغيرِ الواوِ، وذلك أن العربَ تدخلُ الواوَ في نعتِ مَن قد تقدَّم ذكْرُه أحيانًا، كما قال الشاعرُ
(4)
:
فإِنَّ رُشَيدًا وابنَ مَرْوانَ لم يَكُنْ
…
لِيَفْعَلَ حتى يُصْدِرَ الأمرَ مُصْدَرَا
ورشيدٌ هو ابن مرْوانَ.
وكان الضحاكُ بنُ مُزاحمٍ يتأوَّلُ قراءةَ عبد اللهِ هذه أنهن نوعٌ غيرُ بناتِ خالاتِه، وأنهنَّ كُلُّ مُهاجرةٍ هاجَرت مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
ذكرُ الخبر عنه بذلك
حُدِّثْتُ عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبَرنا عُبَيد، قال: سمعتُ الضحاكَ يقولُ في حرفِ ابن مسعودٍ: (وَاللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ). يعنى بذلك: كلَّ شيءٍ هاجَر معه ليس مِن بناتِ العمِّ والعمةِ، ولا مِن بناتِ الخالِ والخالةِ.
(1)
بعده في ت 1: "لأنى".
(2)
أخرجه ابن سعد 8/ 153، وإسحاق بن راهويه في مسنده (8)، وعبد بن حميد - كما في الدر المنثور 5/ 208 - وعنه الترمذى (3214) - وابن أبي حاتم في تفسيره - كما في تفسير ابن كثير 6/ 433، 434 - والطبراني 24/ 413، 414 (1007)، والحاكم 2/ 420، والبيهقى 7/ 54 من طريق عبيد الله بن مرسى به. وأخرجه ابن سعد 8/ 153، وابن عدى 2/ 503، وابن أبي حاتم - كما في تفسير ابن 6/ 434 - من طريق أبي صالح به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور إلى ابن مردويه.
(3)
قراءة ابن مسعود شاذة لمخالفتها رسم المصحف.
(4)
البيت في معاني القرآن للفراء 2/ 345.
وقولُه: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} . يقولُ: وأحْلَلْنا له امرأةً مؤمنةً إن وَهَبَت نفسها للنبيِّ بغير صَداقٍ.
كما حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} بغيرِ صداقٍ، فلم يَكُنْ يُفْعَلُ ذلك وأَحِلَّ له خاصةً مِن دونِ المؤمنين
(1)
.
وذُكر أن ذلك في قراءةِ عبدِ اللَّهِ: (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً وَهَبَتْ نَفْسَها للنَّبِيِّ)
(2)
. بغيرِ "إن"، ومعنى ذلك ومعنى قراءتنا وفيها "إن" واحدٌ، وذلك كقول القائلِ في الكلامِ: لا بأسَ أن يَطَأَ جاريةً مملوكةً إن ملكها، وجاريةً مملوكةً ملكها.
وقولُه: {إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا} . يقولُ: إن أراد أن ينكحَها، فحلالٌ له أن ينكحَها إذا وهبَت نفسَها له بغيرِ مهرٍ، {خَالِصَةً لَكَ} ، يقولُ: لا يَحِلُّ لأحدٍ مِن أُمَّتِك أن يقربَ امرأةً وهبَت نفسَها له، وإنما ذلك لك يا محمدُ خالصةً أُخلِصَت لك مِن دونِ سائرِ أُمتِك.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} . يقولُ: ليس لامرأةٍ أن تَهَبَ نفسَها لرجلٍ بغيرِ أُمرِ وليٍّ ولا مهرٍ، إلا للنبيِّ، كانت له خالصةً
(3)
مِن دونِ الناسِ، ويزعُمون أنها نزلَت في ميمونةَ بنتِ الحارثِ، أنها التي وهبَت نفسها للنبيِّ
(4)
.
(1)
تفسير مجاهد ص 550. ومن طريقه ابن أبي شيبة 4/ 316، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 208 إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم.
(2)
القراءة شاذة لمخالفتها رسم المصحف.
(3)
في ص: "خاصة".
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 209 إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم، وأخرج آخره عبد الرزاق في المصنف (12267) عن معمر عن قتادة.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} إلى قوله: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} . قال: كان كلُّ امرأةٍ أتاها مهرًا، فقد أحلَّها اللهُ له إلى أن وهَب هؤلاء أنفسَهنَّ له، فأُحْلِلْنَ له دونَ المؤمنين بغير مَهْرٍ، خالصةً لك مِن دونِ المؤمنين، إلا امرأةً لها زوجٌ.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابن عُلَيَّةَ، عن صالحِ بن مسلمٍ، قال: سألتُ الشعبيِّ عن امرأةٍ وهبَت نفسَها لرجلٍ، قال: لا يكونُ، لا تحِلُّ له، إنما كانت للنبيِّ صلى الله عليه وسلم
(1)
.
واختلَفت القرأةُ في قراءةِ قولِه: {إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا} ؛ فقَرأ ذلك عامةُ قرأةِ الأمصارِ: {إِنْ وَهَبَتْ} بكسرِ الألفِ على وَجْهِ الجزاء، بمعنى: إن تَهَبْ.
وذُكر عن الحسنِ البصريِّ أنه قرَأ: (أنْ وَهَبَتْ). بفتحِ الألفِ
(2)
، بمعنى: وأحْلَلْنا له امرأةً مؤمنةً أن ينكحَها؛ لهبَتِها له نفسَها.
والقراءةُ التي لا أستجيزُ خلافَها في ذلك كسرُ الألفِ؛ لإجماعِ الحُجَّةِ مِن القرأةِ عليه.
وأما قوله: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} . ليس ذلك للمؤمنين.
وذُكر أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قبلَ أن تنزَل عليه هذه الآيةُ يتزوَّجُ أيَّ النساءِ شاء، فقصَر اللهُ على هؤلاء، فلم يَعْدُهُنَّ وقصَر سائرَ أمَّتِه على مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ.
(1)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف (12271) من طريق جابر عن الشعبي نحوه.
(2)
القراءة شاذة. البحر المحيط 7/ 242.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا المعتمرُ بنُ سليمانَ، قال: سمِعتُ داودَ بنَ أبي هندٍ، عن محمدِ بن أبي موسى، عن زيادٍ؛ رجلٍ مِن الأنصار، عن أُبيِّ بن كعبٍ أن التي أحلَّ اللهُ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم مِن النساءِ، هؤلاء اللاتى ذكَر اللهُ:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} إلى قولِه: {فِي أَزْوَاجِهِمْ} . وإنما أحلَّ اللهُ للمؤمنين مَثْنَى وَثُلاثَ ورُباعَ.
وحدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قوله:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} إلى آخرِ الآيةِ. قال: حَرَّم اللَّهُ عليه ما سِوى ذلك مِن النساءِ، وكان قبلَ ذلك ينكحُ في أيِّ النساءِ شاء، لم يُحَرِّمْ ذلك عليه، فكان نساؤُه يَجِدْنَ مِن ذلك وَجْدًا شديدًا، أن ينكح في أيِّ الناسِ أحبَّ، فلما أنزل اللهُ أنى قد حرَّمتُ عليك مِن النساءِ سوى ما قَصَصْتُ عليك، أعجَب ذلك نساءَه
(1)
.
واختلَف أهلُ العلمِ في التي وهَبت نفسَها لرسولِ اللهُ صلى الله عليه وسلم مِن المؤمناتِ، وهل كانت عندَ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم امرأةٌ كذلك؟ فقال بعضُهم: لم يَكُنْ عندَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم امرأةٌ إلا بعقدِ نكاحٍ، أو مِلْكِ يمينٍ، فأما بالهِبَةِ فلم يَكُنْ عندَه منهنَّ أحدٌ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أبو كُرَيبٍ، قال: ثنا يونسُ بن بُكَيرٍ، عن عَنْبسةَ بن الأَزهرِ، عن سِماكٍ، عن عكرمةَ، عن ابن عباسٍ، قال: لم يَكُنْ عند رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم امرأةٌ وهبَت
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 208 إلى المصنف وابن مردويه.
نفسَها
(1)
.
حدَّثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن الحكمِ، عن مجاهدٍ، أنه قال في هذه الآيةِ:{وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} . قال: أَن تَهَبَ
(2)
.
وأما الذين قالوا: قد كان عندَه منهن؛ فإن بعضُهم قال: كانت ميمونةَ بنتَ الحارثِ. وقال بعضُهم: هي أمُّ شَرِيكٍ. وقال بعضُهم: زينبُ بنتُ خُزَيمةَ.
ذكرُ مِن قال ذلك
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الأعلى، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، عن ابن عباسٍ، قال:{وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} . قال: هي ميمونةُ بنتُ الحارثُ
(3)
.
وقال بعضُهم: زينبُ بنتُ خُزَيمةَ، أم المساكينِ، امرأةٌ مِن الأنصارِ
(4)
.
حدَّثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، قال: ثنى الحكمُ، قال: كتَب عبدُ الملكِ إلى أهلِ المدينةِ يسألُهم، قال: فكتَب إليه عليٌّ - قال شعبةُ:
(1)
أخرجه الطحاوى في المشكل (6066)، وابن أبي حاتم - كما في تفسير ابن كثير 6/ 436 - والطبراني (11787)، والبيهقى 7/ 55 من طريق يونس بن بكير به، وعزاه السيوطي في لدر المنثور 5/ 309 إلى ابن مردويه.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة 4/ 316 من طريق ليث عن مجاهد، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 209 إلى ابن المنذر.
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 435 عن سعيد به، وأخرجه عبد الرزاق في المصنف (2266) مِن طريق عكرمة عن ابن عباس.
(4)
ذكر ابن حجر في فتح البارى 8/ 525، عن الشعبي، أن زينب بنت خزيمة من الواهبات أنفسهن للنبي صلى الله عليه وسلم وقال: ليس بثابت. وقال ابن كثير في البداية والنهاية 8/ 223: وأما حكاية الماوردى، عن الشعبي، أن زينبُ بنتُ خزيمة أم المساكين أنصاريةٌ، ليس بجيد؛ فإنها هلالية بلا خلاف. ينظر الاستيعاب 4/ 1853، وأسد الغابة 7/ 129.
وهو ظَنِّي عليَّ بنَ حُسينٍ، قال: وقد أخبَرنى به أبانُ بنُ تَغْلِبَ، عن الحكم، أنه عليُّ بن الحسينِ الذي كتَب إليه - قال: هي امرأةٌ مِن الأَزدِ
(1)
، يقالُ لها: أَمُّ شَرِيكٍ. وهَبَت نفسها للنبيِّ
(2)
.
قال: ثنا شعبةُ، قال: ثنى عبدُ اللهِ بنُ أبى السَّفَرِ، عن الشعبيِّ، أنها امرأةٌ مِن الأنصارِ، وهَبَت نفسها للنبيِّ، وهى ممن أَرْجَأ
(3)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: ثني سعيدٌ، عن هشامِ بن عُرْوةَ، عن أبيه، أن
(4)
خَوْلةَ بنتَ حكيمِ بن الأوقصِ من بني سُلَيمٍ، كانت مِن اللاتي وَهَبْنَ أنفسَهنَّ الرسول اللهِ صلى الله عليه وسلم
(5)
.
قال: ثنى سعيدٌ، [وابنُ]
(6)
أبي الزنادِ، عن هشامِ بن عروةَ، عن أبيه، قال: كُنَّا نتحدَّثُ أن أمَّ شَرِيكٍ كانت وهَبت نفسَها للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، وكانت امرأةً صالحةً
(7)
.
وقولُه: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ} . يقولُ تعالى ذكْرُه: قد عَلِمنا ما فرَضْنا على المؤمنين في أزواجِهم إذا أرادوا نكاحَهنَّ، مما لم نفرِضْه
(1)
في النسخ: "الأسد". والمثبت مِن مصادر التخريج. وينظر الإصابة 8/ 237 - 241.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة 4/ 315 عن محمد بن جعفر به، وأخرجه ابن سعد 8/ 155، والطبراني 24/ 351 (870) من طريق شعبة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 209 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة 4/ 316 عن محمد بن جعفر به.
(4)
في م: "عن".
(5)
أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (12268، 12269)، وابن أبي شيبة 4/ 315، والبخاري (5113) من طريق هشام به، وأخرجه ابن سعد 8/ 158 من طريق عروة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 208 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(6)
في م، ت 1:"بن". ينظر تهذيب الكمال 16/ 277.
(7)
أخرجه النسائي (8928) من طريق هشام به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 209 إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن مردويه.
عليك، وما خَصَصْناهم به مِن الحكمِ في ذلك دونَك، وهو أنا فرَضْنا عليهم ألا يَحِلَّ لهم عقدُ نكاحٍ على حرةٍ مؤمنةٍ
(1)
إلا بوليٍّ عَصَبةٍ وشهودٍ عدولٍ، ولا يَحِلُّ لهم منهنَّ أكثرُ مِن أربعٍ.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عبد اللهُ بن أحمد شَبُّويَه، قال: ثنا مُطَهَّرٌ، قال: ثنا عليُّ بنُ الحسينِ، قال: ثنى أبي، عن مَطَرٍ، عن قتادةَ في قولِ اللَّهِ:{قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ} . قال: إن مما فرَض اللهُ عليهم ألا نكاحَ إلا بوليٍّ وشاهدَين.
حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا سفيانُ، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ:{قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ} . قال: في الأربعِ
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ} ?. قال: كان مما فرَض اللهُ عليهم ألا تُزَوَّجَ امرأَةٌ إلا بوليٍّ وصَداقٍ عند شاهدَىْ عدلٍ، ولا يحلُّ لهم مِن النساءِ إلا أربعٌ، وما ملَكت أيمانُهم
(3)
.
وقولُه: {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} . يقولُ تعالى ذكْرُه: قد علِمنا ما فرَضنا على المؤمنين في أزواجِهم؛ لأنه لا يَحِلُّ لهم منهن أكثرُ مِن أربعٍ، وما ملكَت أيمانُهم؛ فإن جميعهَن إذا كُنَّ مؤمناتٍ أو كتابياتٍ، لهم حلالٌ بالسِّبَاءِ والتَّسَرِّي
(1)
في م: "مسلمة".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 210 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 120 عن معمر عن قتادة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 209 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
وغيرِ ذلك مِن أسبابِ المِلْكِ.
وقولُه: {لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} . يقولُ تعالى ذكْرُه: إنا أحلَلْنا لك يا محمدُ أزواجَك اللَّواتى ذكَرنا في هذه الآيةِ، وامرأةً مؤمنةً إن وهَبَت نفسَها للنبيِّ، إن أرادَ النبيُّ أن يستنكحَها؛ لكيلا يكونَ عليك إثمٌ وضيقٌ في نكاحِ مِن نكحتَ مِن هؤلاء الأصنافِ، التي أبحتُ لك نكاحهنَّ، مِن المسمَّياتِ في هذه الآيةِ، {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا} لك ولأهلِ الإيمانِ بك، {رَحِيمًا} بك وبهم، أن يعاقبَهم على سالفِ ذنبٍ منهم، سَلَف بعدَ توبتِهم منه.
اختلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِ قولِه: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} ؛ فقال بعضُهم: عنى بقولِه: {تُرْجِي} : تؤخِّرُ، وبقولِه:{وَتُؤْوِي} : تَضُمُّ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قوله:{تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} . يقولُ: تُؤخِّرُ
(1)
.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم - كما في تغليق التعليق 4/ 285، والإتقان 2/ 37 - من طريق أبي صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 211 إلى ابن المنذر وابن مردويه.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} . قال: تعزلُ بغيرِ طلاقٍ مِن أزواجِكَ مَن تشاءُ: {وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} . قال: تَرُدُّها إليك
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} . قال: فجعله اللهُ في حِلٍّ مِن ذلك؛ أَن يَدَعَ مَن يَشَاءُ منهنَّ، ويأتِيَ
(2)
مِن يشاءُ منهنَّ بغيرِ قَسْمٍ، وكان نبيُّ اللَّهِ يَقْسِمُ
(3)
.
حدَّثنا ابن حُمَيدٍ، قال: ثنا حَكَامٌ، قال: ثنا عمرٌو، عن منصورٍ، عن أبي رَزِينٍ:{تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} . قال: لما أَشْفَقْنَ أَن يُطلقهنَّ، قُلْنَ: يا نبيَّ اللَّهِ، اجعلْ لنا مِن مالِك ونفسِك ما شئتَ. فكان ممن أَرْجَى منهنَّ؛ سَوْدَةُ بنتُ زَمْعَةَ، وجُوَيرية، وصَفيةُ، وأمُّ حبيبة، وميمونةُ، وكان ممن آوَى إليه؛ عائشةُ، وأمُّ سَلَمَةَ، وحَفْصةُ، وزينبُ
(4)
.
حُدِّثْتُ عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبَرنا عُبَيدٌ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} : فما شاء صنَع في القِسْمةِ بينَ النساءِ، أحَلَّ اللَّه له ذلك
(5)
.
(1)
تفسير مجاهد ص 55، وأخرجه ابن سعد 8/ 195، 196 من طريق أبى الصباح عن مجاهد، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 211 إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
في ت 1: "ياوى".
(3)
أخرجه جه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 120 عن معمر عن قتادة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 210 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 120، وابن سعد 8/ 196 من طريق منصور به، وعزاه السيوطي بتمامه في الدر المنثور 5/ 211، إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وستأتي تتمته في الأثر بعد التالي.
(5)
أخرجه ابن سعد 8/ 197 من طريق عبيد به.
حدَّثنا ابن حُمَيدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن منصورٍ، عن أبي رَزيِنٍ في قولِه {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ}: وكان ممن آوَى عليه السلام؛ عائشةُ، وحَفْصةُ، وزينبُ، وأمُّ سَلَمَةَ، فكان قَسْمُه مِن نفسه لهنَّ سَواءَ قَسْمِه، وكان ممن أَرْجَى؛ سَوْدةُ، وجُوَيرية، وصفيةُ، وأمُّ حبيبةَ، وميمونةُ، فكان يَقْسِمُ لهنَّ ما شاء، وكان أرادَ أن يُفارِقَهن؛ فقلن: اقْسِمْ لنا مِن نفسِك ما شئتَ، ودَعْنا نكونُ على حالِنا
(1)
.
وقال آخرون: معنى ذلك: تُطلِّقُ وتُخَلِّي سبيلَ مَن شئتَ مِن نسائك، وتُمْسِكُ مَن شئتَ منهنَّ، فلا تُطلِّقُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قوله:{تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} : أمهاتِ المؤمنين، {وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ}: يعني: نساءَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ويعنى بالإرجاء: يقولُ: مَن شئتَ خَلَّيتَ سبيله منهنَّ، ويعنى بالإيواءِ، يقولُ: مَن أحببتَ أمسكتَ منهنَّ
(2)
.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: تَتْرُكُ نكاحَ مَن شَئتَ، وتَنْكِحُ مَن شَئتَ مِن نساءِ أُمَّتِك.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، قال: قال الحسنُ في قولِه: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} . قال: كان نبيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذا
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة 4/ 204 عن جرير به.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 210 إلى المصنف وابن مردويه مطولا، وستأتي تتمته في ص 144.
خطَب امرأةٌ لم يَكُنْ لرجلٍ أن يخطبَها، حتى يتزوجَها أو يتركَها
(1)
.
وقيل: إن ذلك إنما جعَل اللهُ لنبيِّه حينَ غارَ بعضُهن على النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وطلَب بعضُهن مِن النفقة زيادةً على الذي كان يُعْطِيها، فأمَره اللهُ أن يُخيِّرَهن بين الدارِ الدنيا والآخرةِ، وأن يُخلِّيَ سبيلَ مَن اختارَ الحياةَ الدنيا وزينتَها، ويمسكَ مَن اختارَ الله ورسولَه، فلما اخترنَ اللَّهَ ورسولَه قيل لهنَّ: اقْرَرْنَ الآنَ على الرِّضا باللَّهِ وبرسولِه، قَسَم لكُنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لم يَقْسِمُ، أو قسَم لبعضِكن ولم يقسِمْ لبعضِكن، وفضَّل بعضَكن على بعضٍ في النفقةِ أو لم يُفَضِّلْ، سَوَّى بينَكن أو لم يُسَوِّ، فإن الأمرَ في ذلك إلى رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم، ليس لكُنَّ مِن ذلك شيء، وكان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فيما ذُكر، مع ما جعَل اللهُ له مِن ذلك، يُسَوِّي بينَهن في القَسْم إلا امرأةً منهن أرادَ طلاقَها، فرضِيَت بتَرْكِ القَسْمِ لها.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا سفيان، عن منصورٍ، عن أبي رَزِينٍ، قال: لما أرادَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يُطلِّقَ أزواجَه، قُلْنَ له: افرِضْ لنا مِن نفسِك ومالِك ما شئتَ، فأمَره اللهُ فآوَى أربعًا، وأَرْجَى خمسًا
(2)
.
حدَّثنا سفيانُ بنُ وكيعٍ، قال: ثنا عَبْدة
(3)
بن سليمانَ، عن هشام بن عُروةَ، عن أبيه، عائشة أنها قالت: أما تَسْتَحْيِي المرأةُ أَن تَهَبَ نفسَها للرجل؟ حتى
(1)
تفسير عبد الرزاق 2/ 118 عن معمر، عمن سمع الحسن، عن الحسن، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 210 إلى عبد بن حميد.
(2)
أخرجه ابن سعد 9/ 196 من طريق سفيان به.
(3)
في م: "عبيدة". وينظر تهذيب الكمال 18/ 530.
أنزل اللهُ: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} . فقلتُ: إن ربَّك ليُسارعُ في هَواك
(1)
.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا محمدُ بنُ بشرٌ، يعنى العَبْدِي، عن هشام بن عُروةَ، عن أبيه، عن عائشة أنها كانت تعيرُ النساءِ اللاتى وهَبْنَ أَنفسَهنَّ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم وقالت: أما تَسْتَحْيى امرأةٌ أن تعرض نفسَها بغيرِ صداقٍ؟ فنزلَت - أو فأنزَل اللهُ -: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ} . فقلتُ: إنى لأرى ربَّك يُسارِعُ لك في هَواك
(2)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِ اللَّهِ: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} الآية. قال: كان أزواجُه قد تَغايَرْنَ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فهجرهنَّ شهرًا، ثم نزَل التخييرُ مِن اللهِ له فيهن، فقَرأ حتى بلَغ:{وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} . فخيرهنَّ بينَ أن يخترنَ أن يُخَلِّيَ سبيلَهنَّ ويُسَرِّحَهن، وبينَ أن يَقُمْنَ إن أردنَ اللهُ ورسولَه على أنهنَّ أمهاتُ المؤمنين، لا يُنْكَحْنَ أبدًا، وعلى أنه يُؤْوِى إليه مَن يشاءُ منهنَّ، ممن وهَب نفسَه له، حتى يكونَ هو يرفعُ رأسَه إليها، ويُرْجى مِن يشاءُ، حتى يكونَ هو يرفعُ رأسَه إليها، ومَن ابتَغى ممن هي عندَه وعَزَلَ، فلا جناحَ عليه، ذلك أدنى أن تَقَرَّ أعينُهنَّ ولا يحزنَّ، ويَرْضَين إذا عَلِمن أنه مِن قَضائى عليهنَّ إيثارُ بعضهنَّ على بعضٍ، ذلك أدْنَى أَنْ يرضَينْ
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة 4/ 343 - وعنه مسلم (1464/ 50)، وابن ماجه (2000) - عن عبدة به، وأخرجه الحاكم 2/ 436، تفسير مجاهد ص 550 من طريق هشام به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 21 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه.
(2)
أخرجه أحمد 6/ 158 (الميمنية) عن محمد بن بشر به. وأخرجه البخاري (4788)، ومسلم (1464/ 49)، وابن حبان (6367)، والبيهقى 7/ 55 من طريق هشام به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 210، 211 إلى ابن أبي حاتم وابن مردويه.
قال: {وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ} . مَن ابتَغى أصابَه، ومَن عزَل لم يُصِبْه، فخيَّرهن بينَ أن يرضَين بهذا أو يُفارقَهن، فاختَرْنَ الله ورسولَه، إلا امرأةً واحدةً بدويةً ذهبَتَ، وكان على ذلك، صلواتُ اللهِ عليه، وقد شرَط اللهُ له هذا الشرطَ، ما زال يَعْدِلُ بينَهن حتى لَقِىَ الله
(1)
.
وأَولى الأقوالِ في ذلك عندى بالصوابِ أن يقالَ: إن الله تعالى ذكْرُه جعَل لنبيِّه أن يُرْجىَ مِن النساءِ اللواتى أحَلَّهن له مَن يشاءُ، ويُؤْوِيَ إليه منهن مَن يَشَاءُ، وذلك أنه لم يَحْضُرُ معنى الإرجاءِ والإيواءِ على المنكوحاتِ اللواتي كُنَّ في حباله - ثمَّ
(2)
نزلت هذه الآيةُ - دونَ غيرهنَّ ممن يَسْتَحْدِثُ إيواءَها أو إرجاءَها منهنّ. وإذ كان ذلك كذلك، فمعنى الكلامِ: تؤخِّرُ مَن تشاءُ ممن وهَبَت نفسَها لك، وأحللتُ لك نكاحَها، فلا تَقْبَلْها ولا تَنْكِحْها، [وممن هي]
(3)
في حبالِك، فلا تقربْها، وتضمَّ إليك مِن تشاءُ، ممن وهَبَت نفسَها لك، أو أردتَ مِن النساءِ التي أحللتُ لك نكاحَهن، فتقبلُها أو تنكحها، وممن هي في جبالك، فتُجامِعُها إذا شئتَ، وتتركُها إذا شئتَ بغيرِ قَسْم.
وقولُه: {وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ} . اختلَف أهلُ التأويلِ في تأويل ذلك؛ فقال بعضُهم: معنى ذلك: ومَن نكحتَ مِن نسائِك فجامَعْتَ، ممن لم تنكحْ، فعزلتَه عن الجماعِ، فلا جناحَ عليك.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ في قولِه: {وَمَنِ ابْتَغَيْتَ
(1)
ذكره البغوي في تفسير 6/ 365.
(2)
في م: "عندما". وثم بمعنى: حيث.
(3)
في م: "أو ممن هن"، وفي ت 1:"وهى ممن".
مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ}. قالا
(1)
جميعًا: هذه في نسائِه، إن شاء أَتَى مَن شاء منهنَّ ولا جناحَ عليه
(2)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ} . قال: ومَن ابتَغى أصابَه، ومَن عزَل لم يُصِبْه.
وقال آخرون: معنى ذلك: ومَن استبدلتَ ممن أرجيتَ، فخليتَ سبيلَه؛ مِن نسائِك أو ممن مات منهن، ممن أحللتُ لك، فلا جناحَ عليك.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قوله:{وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ} . يعنى بذلك: النساءِ اللاتى أحلَّ اللهُ له، مِن بناتِ العمِّ والعمةِ، والخالِ والخالةِ {اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} ، يقولُ: إن مات مِن نسائِك اللاتى عندك أحدٌ، أو خَلَّيتَ سبيلَه، فقد أحللتُ لك أن تستبدلَ مِن اللاتى أحللتُ لك مكانَ مَن مات مِن نسائِك اللاتى كنَّ
(3)
عندك، أو خَلَّيتَ سبيلَه منهن، ولا يصلحُ لك أن تزدادَ على عِدَّةِ نسائِك اللاتي عندَك شيئا
(4)
.
وأَولى التأويلَين بالصوابِ في ذلك تأويلُ مَن قال: معنى ذلك: ومَن ابتغيتَ إصابتَه مِن نسائِك ممن عَزَلْتَ عن ذلك منهنَّ، فلا جناحَ عليك لدلالةِ قولِه: {ذَلِكَ
(1)
كذا في ص، ت 1، ت 2، ت 3، وفى م:"قال"، وغالب الظن أن هناك سقطا.
(2)
ينظر التبيان 8/ 322.
(3)
في م: " هن".
(4)
تتمة الأثر المتقدم تخريجه في ص 140.
أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ} على صحةِ ذلك؛ لأنه لا معنَى لأن تَقَرُّ أعينُهن إذا هو صلى الله عليه وسلم استَبدَل بالميتةِ أو المطلقةِ منهنَّ، إلا أن يَعْنِيَ بذلك: ذلك أدنى أن تَقَرَّ أعينُ المَنْكوحةِ منهن، وذلك مما يدلُّ عليه ظاهرُ التنزيل، بعيدٌ.
وقولُه: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ} ، يقولُ: هذا الذي جعلتُ لك يا محمدُ مِن إذنى لك أن تَرْجِيَ مَن تشاءُ مِن النساءِ اللَّواتي جعلتُ لك إرجاءَهنَّ، وتُؤْوِيَ مَن تشاءُ مِنهنَّ، ووَضْعِى عنك الحَرَجَ في ابتغائِك إصابةَ مَن ابتغيتَ إصابتَه مِن نسائِك، وعَزْلِك عن ذلك مِن عزَلتَ منهنَّ - أقربُ لنسائِك {أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ
(1)
بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ} مِن تَفْضِيل مَن فضَّلتَ مِن قَسْم، أو نفقةٍ، وإيثارِ مِن آثَرت منهن بذلك على غيرِه مِن نسائِك إذا هنَّ علِمْنَ أَنه مِن رِضايَ منك بذلك، وإِذْنى لك به، وإطلاقٍ منى لا مِن قِبَلِك.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ} إِذا عَلِمن أن هذا جاء مِن اللهِ الرخصةٍ، كان أطيبَ لأنفسهنّ، وأقلَّ لحُزنهنَّ
(2)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ، في قوله ذلك، نحوَه.
(1)
بعده في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"كلهن".
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 120 عن معمر عن قتادة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 210 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
والصوابُ مِن القراءةِ في قولِه: {بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ} الرفعُ، غير جائزٍ غيره عندَنا، وذلك أن {كُلُّهُنَّ} ليس بنعتٍ للهاءِ في قولِه:{آتَيْتَهُنَّ} . وإنما معنى الكلامِ: ويَرْضَيْن كلُّهن، فإنما هو توكيدٌ لما في {وَيَرْضَيْنَ} مِن ذكرِ النساءِ، فإذا جُعِل توكيدًا للهاءِ التي في {آتَيْتَهُنَّ} يَكُنْ له معنًى، والقراءةُ بنصبه غيرُ جائزةٍ لذلك، ولإجماعِ الحجة مِن القرأةِ على تخطِئِة قارئِه كذلك.
وقولُه: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} . يقولُ: واللَّهُ يَعْلَمُ ما في قلوبِ الرجالِ مِن ميلِها إلى بعضِ مِن عندَه مِن النساءِ دونَ بعضٍ، بالهوى والمحبةِ؛ يقولُ: فلذلك وضَع عنك الحرجَ يا محمدُ فيما وَضِع عنك مِن ابتغاءِ مِن ابْتَغَيْتَ منهنَّ ممن عَزَلتَ؛ تفضُّلًا منه عليك بذلك وتكرمةً. {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا} . يقولُ: وكان اللهُ ذا علمٍ بأعمالِ عبادِه، وغيرِ ذلك مِن الأشياءِ كلِّها، {حَلِيمًا}. يقولُ: ذا حِلْمٍ على عبادِه، أن يُعاجِلَ أهلَ الذنوبِ منهم بالعقوبةِ، ولكنه ذو حِلْمٍ وأَناةٍ عنهم؛ ليتوبَ مَن تاب منهم، ويُنيبَ مِن ذنوبه مَن أناب منهم.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52)} .
اختلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِ قولِه تعالى: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} ؛ فقال بعضُهم: معنى ذلك: لا يحلُّ لك النساءُ مِن بعدِ نسائِك اللاتي خَيَّرْتهنَّ، فاختَرن الله ورسولَه والدارَ الآخرةِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن
أبيه، عن ابن عباسٍ قولِه:{لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} الآية إلى: {رَقِيبًا} . قال: نهى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أن يتزوجَ بعدَ نسائِه الأوَلِ شيئًا
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} إلى قولِه: {إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} . قال: لما خيَّرهن، فاخترْنَ اللَّهَ ورسولَه والدارَ الآخرةَ قصَره عليهن، فقال:{لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ} . وهُنَّ التسعُ اللاتى اخترْنَ اللَّهَ ورسولَه
(2)
.
وقال آخرون: إنما معنى ذلك: لا يحِلُّ لك النساءُ بعدَ التي أَحْلَلْنا لك بقولِنا: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} إلى قولِه: {اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} . وكأن قائلى هذه المقالة وجَّهوا الكلامَ إلى أن معناه: لا يحِلُّ لك مِن النساءِ إلا التي أَحْلَلْناها لك.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ المثنى، قال: ثنا عبدُ الوهابِ، قال: ثنا داودُ، عن محمدِ بن أبي موسى، عن زيادٍ، قال لأبي بن كعبٍ: هل كان للنبيِّ صلى الله عليه وسلم لو مات أزواجُه أن يتزوَّج؟ قال: ما كان يحرِّمُ عليه ذلك؟ فقرأتُ عليه هذه الآيةَ: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} . قال: فقال: أحلَّ له ضربًا مِن النساءِ، وحرَّم عليه ما سواهن، أحلَّ له كلَّ امرأةٍ أتى أجرها، وما ملكت يمينُه مما أفاء اللهُ عليه، وبناتِ عمِّه، وبناتِ عمّاتِه، وبناتِ خاله، وبناتِ خالاتِه، وكلَّ امرأةٍ وهَبت نفسَها له، إن
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 212 إلى ابن مردويه.
(2)
ذكره البغوي في تفسيره 6/ 366.
أراد أن يستنكحها، خالصةً له مِن دونِ المؤمنين.
حدَّثنا ابنُ المثنى، قال: ثنا عبدُ الأعلى، قال: ثنا داودُ، عن محمدِ بن أبى موسى، عن زيادٍ الأنصاريِّ، قال: قلت لأبيِّ بن كعبٍ: أرأيت لو مات نساءُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، أكان يحلُّ له أن يتزوَّجَ؟ قال: وما يحرِّمُ ذلك عليه؟ قال: قلت: قولُه: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} . قال: إنما أحلَّ اللهُ له ضربًا مِن النساءِ
(1)
.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابن عليةَ، عن داودَ بن أبي هندٍ، قال: ثنى محمدُ بنُ أبي موسى، عن زيادٍ، رجلٍ مِن الأنصارِ، قال: قلت لأبي بن كعبٍ: أرأيتَ لو أن أزواجَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم تُوُفِّين، أما كان له أن يتزوَّجَ؟ فقال: وما يمنَعُه مِن ذلك؟ - وربما قال داودُ: وما يحرِّمُ عليه ذلك؟ - قلت: قولُه: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} . فقال: إنما أحلَّ اللهُ له ضربًا مِن النساءِ، فقال:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} إلى قولِه: {إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} . ثم قيل له: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ}
(2)
.
حدَّثنا ابن حميد، قال: ثنا حكَّامُ بن سَلْمٍ، عَن عَنْبسَةَ، عَمِن ذَكَره، عن أبي صالحٍ:{لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} . قال: أُمِر أن لا يتزوَّجَ أعرابيةً ولا عربيَّةً
(3)
، ويتزوَّجَ بعدُ مِن نساءِ تهامةَ، ومن شاء مِن بناتِ العمِّ والعمَّةِ، والخالِ والخالةِ، إن شاء ثلاثمائةٍ
(4)
.
(1)
أخرجه عبد اللهُ بن أحمد في زوائد المسند 5/ 32 (الميمنية) من طريق يزيد بن زريع وعبد الأعلى به، وأخرجه ابن سعد 8/ 196، وابن أبي شيبة 4/ 269، والدارمي 2/ 253، 154، والطحاوي في مشكل الآثار 1/ 454 عقب ح (524) مِن طريق داود به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 211 إلى الفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 439، وأخرجه الضياء في المختارة (1171) من طريق ابن علية به.
(3)
في م، وتفسير ابن كثير:"غريبة".
(4)
ذكره البغوي في تفسير 6/ 367، وابن كثير في تفسيره 6/ 439.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، عن عكرمة:{لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} [قال: لا يحلُّ لك النساءُ مِن بعدِ]
(1)
هؤلاء اللاتى سمَّى اللَّهُ إلا {وَبَنَاتِ عَمِّكَ} الآية
(2)
.
حُدِّثْتُ عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبَرنا عبيد، قال: سمِعتُ الضحَّاكَ يقولُ في قولِه: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} . يعنى: مِن بعدِ التسميةِ. يقولُ: لا يحِلُّ لك امرأةٌ إلا ابنةُ عمٍّ أو ابنةُ عمةٍ، أو ابنةُ خالٍ أو ابنه خالةٍ، أو امرأةٌ وهبت نفسَها لك، مِن كان منهن هاجَر مع نبيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وفي حرفِ ابن مسعودٍ:(وَاللَّاتِى هاجَرْنَ مَعَكَ)
(3)
. يعنى بذلك: كلِّ شيءٍ هاجَر معه، ليس مِن بناتِ العمِّ والعمةِ، ولا من بناتِ الخالِ والخالةِ
(4)
.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: لا يحِلُّ لك النساءِ مِن غيرِ المسلماتِ، فأما اليهوديَّاتُ والنصرانيَّاتُ والمشركاتُ فحرامٌ عليك.
ذكرُ مِن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قوله:{لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} : لا يهوديَّةٌ، ولا نصرانيَّةٌ، ولا كافرةٌ
(5)
.
(1)
سقط من: م.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 211 إلى المصنف وأبى داود في ناسخه، وذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 439.
(3)
القراءة شاذة لمخالفتها رسم المصحف.
(4)
أخرجه ابن سعد 8/ 197 من طريق عبيد به مختصرًا.
(5)
أخرجه الطحاوى في مشكل الآثار 1/ 454، 455 عقب ح (524) من طريق ورقاء به، وأخرجه ابن أبى شيبة 4/ 269 من طريق ابن أبي نجيح به نحوه، وأخرجه أيضًا من طريق ليث عن مجاهد، وأخرجه ابن سعد 8/ 195، 196، من طريق أبي الصباح عن مجاهد مطولًا، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 212 إلى سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
وأولى الأقوالِ عندى بالصحة قولُ مَن قال: معنى ذلك: لا يحِلُّ لك النساءُ مِن بعدِ اللواتي أحللتُهن لك بقوله: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} إلى قولِه: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} .
وإنما قلت ذلك أولى بتأويلِ الآيةِ؛ لأن قولَه: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ} عَقِيبَ قوله: {إِنَّا أَحْلَلْنَا} . وغيرُ جائز أن يقولُ: قد أَحْلَلتُ لك هؤلاء، ولا يحلُلْنَ لك، إلَّا بنسخِ أحدِهما صاحبَه، وعلى أن يكونَ وقتَ فرض إحدى الآيتين، فعَلَ
(1)
الأخرى منهما. فإذ كان ذلك كذلك، ولا برهانَ ولا دلالةَ على نسخِ حكمِ إحدى الآيتين حكمَ الأخرى، ولا تقدُّم تنزيل إحداهما قبلَ صاحبتها، وكان غيرَ مستحيلٍ مخرجُهما على الصحةِ، لم يجْز أن يقالَ: إحداهما ناسخةٌ الأخرى. وإذ كان ذلك كذلك، ولم يكنْ لقول مِن قال: معنى ذلك: لا يحلُّ مِن بعدِ المسلمات، يهوديةٌ ولا نصرانيةٌ ولا كافرةٌ، معنًى مفهومٌ؛ إذ كان قولُه:{مِنْ بَعْدُ} إنما معناه: مِن بعدِ المسمَّيات المتقدِّمِ ذكرُهن في الآيةِ قبلَ هذه الآيةِ، ولم يكنْ في الآيةِ المتقدِّمِ فيها ذكرُ المسمَّياتِ بالتحليلِ لرسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرُ إباحةِ المسلمات كلِّهن، بل كان فيها ذكرُ أزواجهِ وملكِ يمينهِ الذي يُفيءُ اللَّهُ عليه، وبناتِ عمِّه وبناتِ عماتهِ، وبناتِ خالِه وبناتِ خالاتِه، اللاتى هاجرْنَ، معه، وامرأةٍ مؤمنةٍ إن وهبَت نفسَها للنبيِّ - فتكونَ الكوافر مخصوصاتٍ بالتحريمِ - صحَّ ما قلْنا في ذلك دونَ قولِ مَن خالف قولنَا فيه.
واختلَفت القرأةُ في قراءة قوله: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ} ؛ فقرَأ ذلك عامةُ قرأةِ المدينةِ والكوفةِ {يَحِلُّ} بالياء
(2)
، بمعنى: لا يحلُّ لك شيءٌ مِن النساءِ
(1)
فعل: أي تقدم وسبق.
(2)
هي قراءة ابن كثير ونافع وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي. ينظر السبعة لابن مجاهد ص 523.
بعدُ. وقرأ ذلك بعضُ قرأةِ أهل البصرةِ: (لا تَحِلُّ لَكَ النَّسَاءُ) بالتاءِ
(1)
، توجيهًا منه إلى أنه فعلٌ للنساءِ، والنساءُ جمعٌ للكثيرِ منهن.
وأولى القراءتين بالصوابِ في ذلك: قراءةُ مِن قرأه بالياءِ
(2)
؛ للعلة التي ذكرتُ لهم، ولإجماعِ الحجةِ مِن القرأةِ على القراءةِ بها، وشذوذِ مِن خالفهم في ذلك.
وقولُه: {وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} . اختلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِ ذلك، فقال بعضُهم: معنى ذلك: لا يحلُّ لك النساءِ مِن بعدِ المسلماتِ، لا يهوديةٌ ولا نصرانيةٌ ولا كافرةٌ، ولا أن تَبدَّلَ بالمسلماتِ غيرَهن مِن الكوافرِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ} : ولا أن تَبدَّلَ بالمسلماتِ غيرَهن مِن النصارى واليهودِ والمشركين، {وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ}
(3)
.
حدَّثنا ابن حميد، قال: ثنا جريرٌ، عن منصورٍ، عن أبي رزينٍ في قولِه:{لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} . قال: لا يحلُّ لك أن تتزوَّجَ مِن المشركاتِ إلا مِن سَبَيْتَ، فملَكَتْه يمينُك منهن
(4)
.
(1)
وهى قراءة أبي عمرو بن العلاء. المصدر السابق.
(2)
القراءتان كلتاهما صواب.
(3)
تفسير مجاهد ص 551، ومن طريقه الطحاوى في المشكل 1/ 454، 455 بعد رقم (524)، وأخرجه ابن سعد 8/ 195، 196 من طريق أبى الصباح عن مجاهد مطولًا.
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة 4/ 269 عن جرير به، وأخرجه ابن سعد 8/ 196 من طريق منصور به، وعزاه =
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولا أن تبدَّلَ بأزواجِك اللواتي هن في حبالِك أزواجًا غيرهَن، بأن تطلِّقَهن وتنكِحَ غيرَهن.
ذكرُ مَن قال ذلك
حُدِّثْتُ عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: ثنا عبيدٌ، قال: سمِعتُ الضحَّاكَ يقولُ في قولِه: {وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} . يقولُ: لا يصلُحُ لك أن تطلِّقَ شيئًا مِن أزواجِك ليس يعجبُك، فلم يكنْ يصلُحُ ذلك له.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولا أن تبادلَ مِن أزواجك غيرَك، بأن تعطيَه زوجتك، وتأخُذَ زوجتَه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} . قال: كانت العربُ في الجاهليةِ يتبادلون بأزواجِهم، يعطى هذا امرأتَه هذا، ويأخُذُ امرأتَه، فقال:{لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} : لا بأسَ أن تبادِلَ بجاريتِك ما شئتَ أن تُبادِلَ، فأما الحرائرُ فلا، قال: وكان ذلك مِن أعمالِهم في الجاهليةِ
(1)
.
وأولى الأقوالِ في ذلك بالصوابِ قولُ مِن قال: معنى ذلك: ولا أن تُطلِّقَ أزواجَك، فتستبدلَ بهن غيرَهن أزواجًا.
= السيوطي في الدر المنثور 2/ 212 إلى سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(1)
ذكره البغوي في تفسيره 6/ 367، وينظر تفسير القرطبي 14/ 220.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصوابِ؛ لما قد بيَّنا قبلُ مِن أن قولَ الذي قال معنى قوله: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} : لا يحِلُّ لك اليهوديةُ و
(1)
النصرانيةُ والكافرةُ - قولٌ لا وجهَ له.
فإذ كان ذلك كذلك، فكذلك قولُه:{وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ} كافرةً لا معنَى له؛ إذ كان من المسلمات مِن قد حُرِّم عليه بقوله: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} بالذي
(2)
دللَّنا عليه قبلُ. وأما الذي قاله ابن زيدٍ في ذلك أيضًا، فقولٌ لا معنَى له؛ لأنه لو كان بمعنى المبادلة، لكانت القراءةُ والتنزيلُ: ولا أن تُبادِل بهن مِن أزواج، أو: ولا أن تُبَدِّلَ بهن، بضمِّ التاءِ، ولكنَّ القراءةَ المجمعَ عليها:{وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ} بفتحِ التاءِ، بمعنى: ولا أن تستبدلَ بهن. مع أن الذي ذكرُ ابن زيدٍ مِن فعل الجاهليةِ غيرُ معروفٍ في أمةٍ نعلمه الأممِ، أن يبادِلَ الرجلُ آخرَ [امرأته الحرَّةَ]
(3)
بامرأته الحرَّةِ، فيقالَ: كان ذلك مِن فعلهم، فنُهى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن فعلِ مثلهِ.
فإن قال قائلٌ: أفلم يكنْ الرسول اللهِ صلى الله عليه وسلم أن يتزوَّجَ امرأةً على نسائِه اللواتي كنَّ عندَه، فيكونَ موجهًا تأويلِ قولِه:{وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ} إلى ما تأوَّلتَ؟ أو قال: وأينَ ذكرُ أزواجه اللواتى كنَّ عندَه في هذا الموضعِ، فتكونَ الهاءُ مِن قوله:{وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ} مِن ذكرِهن وتوهَّمَ أن الهاءَ في ذلك عائدةٌ على {النِّسَاءُ} في قولِه: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} ؟
قيل: قد كان لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أن يتزوَّجَ مِن شاء مِن النساءِ اللواتي كان اللهُ
(1)
في م: "أو".
(2)
في م: "الذي".
(3)
سقط من: م.
أحلَّهن له، على نسائه اللاتى كن عنده يوم نزلت هذه الآيةُ، وإنما نُهى صلى الله عليه وسلم بهذه الآية أن يفارق كان عنده بطلاقٍ أراد به استبدال غيرها بها؛ لإعجاب حسن المستبدَلة بها إيَّاه؛ إذ كان الله قد جعَلهن أمهات المؤمنين، وخيَّرهن بين الحياة الدنيا والدار الآخرةِ والرضا بالله ورسوله، فاخَتَرن الله ورسوله والدار الآخرة، فحُرِّمن على غيره بذلك، ومُنع من فراقهن بطلاقٍ، فأما نكاح غيرهن فلم يُمنع منه، بل أحلَّ الله له ذلك، على ما بيَّن في كتابه.
وقد روى عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُقبض حتى أحلَّ اللَّهُ له نساءَ أهل الأرض.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن ابن جُريجٍ، عن عطاءٍ، عن عائشة، قالت: ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحِلَّ له النساءُ. يعنى أهل الأرضِ.
حدَّثني عبيد بن إسماعيلَ الهَبَّاريُّ، قال: ثنا سفيان، عن عمرو، عن عطاء، عن عائشة، قالت: ما مات رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حتى أُحِلَّ له النساءُ
(1)
.
حدَّثنا العباس بن أبى طالب، قال: ثنا مُعَلى، قال: ثنا وهيبٌ، عن ابن جريجٍ، عن عطاءٍ، عن عُبيد بن عُمير الليثيِّ، عن عائشةَ، قالت: ما تُوفِّى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حتى أُحِلَّ له أن يتزوَّجَ من النساءِ ما شاء
(2)
.
حدَّثني أبو زيد عمرُ بنُ شَبَّةَ، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن ابن جريج، عن عطاء،
(1)
أخرجه الحميدى (235)، وأحمد 6/ 41 (الميمنية) به والترمذى (3216)، والنسائى (3204)، وفى الكبرى (5311)، والطحاوى في المشكل (521)، والبيهقى 7/ 54 من طريق سفيان به.
(2)
أخرجه الدارمى 2/ 154 من طريق المعلى به، وأخرجه أحمد 6/ 180 (الميمنية)، والنسائى (3205)، والطحاوى في مشكل الآثار (522)، والحاكم 2/ 437، والبيهقى 7/ 54، من طريق وهيب به.
قال: أحسَبُ عبيد بن عُمير حدَّثنى - قال أبو زيد: وقال أبو عاصمٍ مرة - عن عائشة، قالت: ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحلَّ الله له النساءَ. قال: وقال أبو الزُّبير: شهدتُ رجلًا يحدِّثه عطاءٌ
(1)
.
حدثنا أحمدُ بن منصورٍ، قال: ثنا، قال: ثنا موسى بن إسماعيل، قال: ثنا همامٌ، عن ابن جُريج، عن عطاء، عن عبيد بن عمير، عن عائشة، قالت: ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى حلَّ له النساءُ.
فإن قال قائلٌ: فإن كان الأمر على ما وصفت، من أن اللَّهَ حَرَّم على نبيِّه بهذه الآية طلاق نسائه اللواتى خيَّرهن فاخْتَرْنَه، فما وجه الخبر الذي رُوى عنه، أنه طلَّق حفصة ثم راجعها، وأنه أراد طلاق سَوْدةً، حتى صالحته على ترك طلاقه إيَّاها، ووهَبَت يومَها لعائشة؟ قيل: كان ذلك قبل نزول هذه الآية.
والدليل على صحة ما قلنا، من أن ذلك كان قبل تحريم الله على نبيِّه طلاقهن، الروايةُ الواردةُ أن عمر دخل على حفصة معاتبها
(2)
، حين اعتزل رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نساءه، كان من قيله لها: قد كان رسولُ اللهِ طلقك (*)، فكلّمته فراجعك، فوالله لئن طلقك - أو لو كان طلَّقك - لا كلَّمتُه فيك
(3)
. وذلك لا شكَّ قبل نزولِ
(1)
أخرجه الطحاوى (523) من طريق أبي عاصم به بدون ذكر عبيد ابن عمير، وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه عن ابن جريج به، وعنه أحمد 6/ 201 (الميمنية)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 212 إلى سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن مردويه وأبى داود في ناسخه.
(2)
في م، ت 1:"معاقبها".
(*) من هنا خرم في مخطوط دار الكتب المصرية المشار إليه بـ "ص" وينتهى في ص 575.
(3)
أخرجه مسلم (1479/ 30)، وابن حبان (4188) كلاهما من حديث ابن عباس عن عمر، مطولًا بنحوه.
آية التخيير؛ لأن آيةَ التخيير إنما نزلت حين انقضى وقت يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم على اعتزالهن.
وأما أمرُ الدلالة على أن أمرَ سَوْدةَ كان قبل نزول هذه الآية، أن اللَّهَ إنما أمر نبيَّه بتخيير نسائه بين فراقه والمُقام معه على الرضا بأن لا قَسْمَ لهن، وأنه يُرْجِى من يشاءُ منهن، ويُؤوى منهن من يشاءُ، ويُؤْثِرُ من شاء منهن على من شاء، ولذلك قال له تعالى ذكره:{وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ} . ومن المحال أن يكون الصلحُ بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم جرى على تركها يومها لعائشةَ في حالِ لا يومَ لها منه.
وغيرُ جائزٍ أن يكونَ كان ذلك منها إلا في حال كان لها منه يومٌ، هو لها حقٌّ، كان واجبًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أداؤه إليها، ولم يكن ذلك لهن بعد التخيير؛ لما قد وصفتُ قبلُ فيما مضى من كتابنا هذا
(1)
. فتأويلُ الكلام: لا يحلُّ لك يا محمدُ النساءُ من بعدِ اللواتى أَحْلَلْتُهن لك في الآية قبلُ، ولا أن تُطلِّق نساءَك اللواتي اخترن الله ورسوله والدار الآخرة، فتبدل بهن من أزواجٍ، ولو أَعْجَبك حسنُ من أردتَ أن تبدَّل به منهن، إلا ما ملكت يمينُك.
و {أَنْ} في قوله: {أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ} . رفعٌ؛ لأن معناها: لا يحلُّ لك النساءُ من بعدُ، ولا الاستبدالُ بأزواجك. و {إِلَّا} في قوله:{إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} . استثناءٌ من النساء. ومعنى ذلك: لا يحلُّ لك النساءُ من بعدِ اللواتى أَحْلَلْتُهن لك، إلا ما ملكت يمينُك من الإماء، فإن لك أن تملك من أي أجناس الناسِ شئت من الإماء.
(1)
ينظر ما تقدم في ص 138 - 146.
وقوله: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا} . يقولُ: وكان الله على كلِّ شيءٍ، ما أحل لك وحرَّم عليك، وغير ذلك من الأشياء كلِّها، حفيظًا لا يعزُبُ عنه علمُ شيءٍ من ذلك، ولا يؤوده حفظ ذلك كلِّه.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدٌ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة:{وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا} . أي: حفيظًا في قول الحسن وقتادة
(1)
.
يقول تعالى ذكره لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: يأيُّها الذين آمنوا بالله ورسوله، لا تدخلوا بيوتَ نبيِّ الله إلا أن تُدْعَوْا إلى طعام تَطْعَمُونه، {غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ}. يعنى: غير مُنتظرين إدراكه وبلوغه، وهو مصدرٌ من قولهم: قد قد أَنَى هذا الشيءُ يَأنِي إنًى وَأَنْيًا وَأَنَاء. قال الحُطَيئةُ
(2)
:
وآنيْتُ العَشاء إلى سُهَيْلٍ
…
أو الشِّعْرَى فَطال بى الأناءُ
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 200، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره 4/ 1254 (7057) عن معمر عن قتادة بدون ذكر الحسن.
(2)
ديوانه ص 98.
وفيه لغةٌ أُخرى، يقالُ: قد آن لك؛ [أي: يَئينُ لك]
(1)
أَيْنا، ونال لك، وأنالَ لك. ومنه قولُ رُؤبَةَ بن العَجّاجِ
(2)
.
هاجَتْ وَمِثْلِى نَوْلُه أَن يَرْبَعا
(3)
…
حمامةٌ هاجَتْ
(4)
حمامًا سُجَّعًا
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قول الله:{إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} . قال: مُتَحَيِّنين نُضْجَه
(5)
.
حدَّثني محمدُ بن سعدٍ، قال: ثى أبى، قال: ثنى عمى، قال: ثنى أبى، عن أبيه: عن ابن عباس: {غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} . يقولُ: غير ناظرين الطعامَ أَن يُصْنَعَ
(6)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة:{غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} . قال: غير مُتحَيِّنين طعامه.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادة مثله
(7)
.
(1)
في م، ت 1:"أي تبين لك"، وفى ت 2:"أن تبين لك". والمثبت كما في التبيان في تفسير غريب القرآن، 1/ 341، وتفسير البغوي 3/ 540.
(2)
ديوانه ص 87.
(3)
في ت 1، ت 2:"يرتعا".
(4)
في م: "ناحت".
(5)
تفسير مجاهد ص 551، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 214 إلى الفريابى وابن أبي شيبة وابن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(6)
ذكره البغوي في تفسيره 6/ 370، والقرطبى في تفسيره 14/ 225، بنحوه.
(7)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 121 عن معمر به، وعزاء السيوطي في الدر المنثور 5/ 213 إلى عبد بن حميد.
ونصْبُ {غَيْرَ} في قولِه: {غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} . على الحالِ من الكافِ والميمِ في قولِه: {إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} . لأن الكافَ والميمَ معرفةٌ، و"غيرَ" نكرةٌ، وهي من صفةِ الكافِ، والميمِ.
وكان بعضُ نحويِّى البصرةِ يقولُ: لا يجوزُ في "غيرُ" الجرُّ على الطعامِ، إلا أن تقولَ: أنتم. ويقولُ: ألا ترى أنك لو قلت: أبدَى لعبدِ اللَّهِ على امرأةٍ مُبغضًا لها. لم يكَنْ فيه إلا النصبُ، إلا أن تقولَ: مُبْغِضٍ لها هو. لأنك إذا أجريتَ صفتَه عليها، ولم تُظهرِ الضميرَ الذي يدُلُّ على أن الصفةَ له، لم يكنْ كلامًا، لو قلتَ: هذا رجلٌ مع امرأةٍ مُلازمِها. كان لحنًا، حتى ترفَعَ فتقولَ: ملازِمُها. أو تقولَ: مُلازمِها هو. فنجُر.
وَكان بعضُ نحويِّى الكوفةِ يقول
(1)
: لو جعَلتَ "غيرَ" في قولِه: {غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} . خَفْضًا كان صوابًا؛ لأن قبلَها الطعامَ وهو نكرةٌ، فيُجعَلُ فعلُهم تابعًا للطعامِ، لرجوعِ ذكرِ الطعامِ في "إناهُ"، كما تقولُ العربُ: رأيتُ زيدًا مع امرأةٍ مُحسِنًا إليها، ومُحسنِ إليها. فمن قال: محسنًا، جعَله من صفةِ زيدٍ، ومَن خفَضه فكأنه قال: رأيتُ زيدًا مع التي يُحسِنُ إليها. فإذا صارت الصلةُ للنكرةِ أتبعَتْها، وإن كانت فعلًا لغيرِ النكرةِ، كما قال الأعشى
(2)
:
فَقُلْتُ له هذه هاتِها
…
إِلَيْنَا بِأَدْمَاءَ مُقْتَادِها
فجعَل المقتادَ تابعًا لإعرابِ "بأدماءَ"؛ لأنه بمنزلةِ قولِك: بأدماءَ تقتادُها. فخفَضَه؛ لأنه صلةٌ لها. قال: وقد يُنْشَدُ: "بأدماءِ مقتادِها". بخفضِ الأدماءِ،
(1)
ينظر معاني القرآن للفراء 2/ 346، 347.
(2)
ديوانه ص 69.
لإضافتِها إلى المقتادِ، قال: ومعناه: هاتِها على يَدَى مَن اقتادَها. وأنشَد أيضًا
(1)
:
وإنَّ امْرَأً أَهْدَى إِلَيْكِ ودُونَه
…
مِن الأَرْضِ مَوْمَاةٌ وبَيْداءُ فَيْهَقُ
لمَحَقْوقَةٌ أَنْ تَسْتَجيبى لِصَوْتِه
…
وأن تَعْلَمى أَنَّ المُعَانَ مُوَفَّقُ
وحُكِى عن بعضِ العربِ سماعًا يُنْشِدُ:
أرأيْتِ إِذْ أَعْطَيْتُكِ الوُدَّ كُلَّه
…
ولمْ يَكُ عِنْدِى إِنْ أَبَيْتِ إباءُ
أمُسْلِمَتِى لِلْمَوْتِ أَنْتِ فَمَيِّتٌ
…
وَهَل لِلنُّفُوسِ المُسْلَماتِ بَقاءُ
ولم يُقلْ: فميِّتٌ أنا. وقال الكسائيُّ: سمِعتُ العربَ تقولُ: يدُكَ باسِطُها. يريدونَ أنت، وهو كثيرٌ في الكلامِ، قال: فعلَى هذا يجوزُ خفضُ "غيرُ".
والصوابُ من القولِ في ذلك عندَنا القولُ بإجازةِ جرِّ {غَيْرَ} في: {غَيْرَ نَاظِرِينَ} في الكلامِ، لا في القراءةِ؛ لما ذكَرنا من الأبياتِ التي حكَيْناها، فأما في القراءةِ فغيرُ جائزٍ في:{غَيْرَ} غيرُ النصبِ؛ لإجماع الحجة من القرأةِ على نصبِها.
وقولُه: {وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا} . يقولُ: ولكن إذا دعاكم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فادخُلوا البيتَ الذي أذِن لكم بدخولِه، {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا}. يقولُ: فإذا أكَلتُم الطعامَ الذي دُعِيتُم لأكْلِه فانتشِروا، يعنى فتَفرَّقوا واخرُجوا من منزلِهِ، {وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ}. [يقولُ تعالى ذكرُه: لا تدخُلوا بيوتَ النبيِّ إلا أن يؤذَنَ لكم إلى طعامٍ غيرَ ناظرين إناهُ وغيرَ مستأنسينَ لحديثٍ]
(2)
. وقولُه: {وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ} . في موضعِ خَفْضٍ عطفًا به على {نَاظِرِينَ} ، كما يقالُ في الكلامِ: أنت غيرُ ساكتٍ ولا ناطقٍ. وقد يَحتمِلُ أن
(1)
تقدم تخريجهما في 17/ 546.
(2)
سقط من: م.
يقالَ: {مُسْتَأْنِسِينَ} . في موضعِ نَصْبٍ عطفًا على معنى {نَاظِرِينَ} ؛ لأن معناه: إلا أن يؤذَنَ لكم إلى طعامٍ لا ناظرين إناهُ، فيكونَ قولُه:{وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ} . نصبًا حينئذٍ. والعربُ تفعَلُ ذلك إذا حالت بينَ الأوّلِ والثاني، فترُدُّ الثانيَ
(1)
أحيانًا على لفظِ الأوّلِ، وأحيانًا على معناه، وقد ذكَر الفرَّاءُ أن أبا القمقامِ أنشدَه
(2)
:
أجِدَّك لَسْت الدَّهْرَ رَائِىَ رَامَةٍ
(3)
…
ولا عاقِلٍ
(4)
إِلَّا وأَنْتَ جَنِيبُ
(5)
ولَا مُصْعِدٍ في المُصْعِدِينَ لِمَنْعِجٍ
(6)
…
ولا هابطٍ
(7)
ما عشْتَ هَضْبَ شَطِيبٍ
(8)
فردَّ مُصعِدٍ على أن رائىَ فيه باءٌ خافضةٌ، إذ حال بينَه وبينَ المُصْعِدِ بما حالَ بينَهما من الكلامِ.
ومعنى قولِه: {وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ} : ولا مُتحَدِّثين بعدَ فراغِكم من أكلِ الطعامِ؛ إيناسًا من بعضِكم لبعضٍ به.
كما حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ} بعدَ أن تأكُلوا
(9)
.
(1)
سقط من: م.
(2)
معاني القرآن للفراء 2/ 348.
(3)
رامة: منزل بينه وبين الرمادة ليلة في طريق البصرة إلى مكة. معجم البلدان 2/ 738.
(4)
عاقل: واد لبنى أبان بن دارم من دون بطن الرمة. معجم البلدان 3/ 589.
(5)
جنيب: كأمير، ورجل جنيب: كأنه يمشى في جانب متعقبًا. التاج (ج ن ب).
(6)
منعج: واد يأخذ بين حفر أبى موسى والنباج ويدفع في بطن فلج. معجم البلدان 4/ 666.
(7)
في م: "هابطًا".
(8)
شطيب: جبل.
(9)
تفسير مجاهد ص 551، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 214 إلى الفريابى وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
واختلَف أهلُ العلمِ في السببِ الذي نزَلت هذه الآيةُ فيه؛ فقال بعضُهم: نزلت بسببِ قومٍ طَعِموا عندَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في وليمةِ زينبَ بنتِ جَحْشٍ، ثم جلَسوا يتحدَّثون في منزلِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهلِه حاجةٌ، فمنَعه الحياءُ من أمْرِهم بالخروجِ من منزلِه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عمرانُ بنُ موسى القزازُ، قال: ثنا عبدُ الوارثِ، قال: ثنا عبدُ العزيزِ بنُ صُهَيبٍ، عن أنسِ بن مالكٍ، قال: بَنى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بزينبَ بنتِ جَحْشٍ، فَبُعِثْتُ داعيًا إلى الطعامِ، فدعوتُ، فيجئُ القومُ يأكلون ويخرُجون، ثم يجِيءُ القومُ يأكلون ويخرُجون، فقلتُ: يا نبيَّ الله قد دَعوتُ حتى ما أجِدُ أحدًا أَدْعُوه. قال: "ارفَعوا طعامَكم". وإن زينبَ الجالسةٌ في ناحيةِ البيتِ، وكانت قد أُعطِيتْ جمالًا، وبقِىَ ثلاثةُ نفَرٍ يتحدَّثون في البيتِ، وخرَج رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُنطلِقًا نحوَ حجرةِ عائشةَ، فقال:"السَّلامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ البَيْتِ". فقالوا: وعليك السلامُ يا رسولَ اللَّهِ، كيف وجَدتَ أهلَك؟ قال: فأتى حُجَرَ نسائِه، فقالوا مثَل ما قالت عائشةُ، فرجَع النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا الثلاثةُ يتحدَّثون في البيتِ، وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم شديدَ الحياءِ، فخرَج النبيُّ صلى الله عليه وسلم مُنطلقًا نحوَ حجرةِ عائشةَ، فلا أدرِى أخبَرتْه، أو أُخبِر أن الرهطَ قد خرَجوا، فرجَع حتى وضَع رجلَه في أُسْكُفَّةٍ
(1)
داخلَ البيتِ، والأخرَى خارِجَه، إِذ أَرْخَى السَّترَ بينى وبينَه، وأُنزِلت آيةُ الحجابِ
(2)
.
حدَّثني أبو معاويةَ بشرُ بنُ دِحيةَ، قال: ثنا سفيانُ، عن الزهريِّ، عن أنسِ بن
(1)
الأُسكفة: عتبة الباب التي يوطأ عليها. اللسان (س ك ف).
(2)
أخرجه النسائي في الكبرى (10101) عن عمران بن موسى به، وأخرجه البخاري (4793) من طريق عبد الوارث به.
مالكٍ، قال: سأَلنى أُبيُّ بنُ كَعْبٍ عن الحجابِ، فقلتُ: أنا أعلَمُ الناسِ به، نزَلت في شأنِ زينبَ؛ أَوْلَم النبيُّ صلى الله عليه وسلم عليها بتمرٍ وسَوِيقٍ، فنزَلت:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} . إلى قولِه: {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ}
(1)
.
حدَّثني أحمدُ بنُ عبدِ الرحمنِ بن وهبٍ، قال: ثني عمى، قال: أخبَرني يونسُ، عن الزهريِّ، قال: أخبَرنى أنسُ بنُ مالكٍ، أنه كان ابنَ عشْرِ سنينَ مَقْدَمَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينةِ، فكنتُ أعلَمَ الناسِ بشأنِ الحجابِ حينَ أُنزِلَ، [لقد كان أي: أبيُّ بنُ كعبٍ يسألُنى عنه. قال: وكان أولَ ما أُنزِلَ]
(2)
فِي مُبْتَنَى رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بزينبَ بنتِ جَحْشٍ؛ أصبَح رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بها عَرُوسًا، فدعا القومَ، فأَصابوا من الطعامِ ثم
(3)
خرَجوا، وبَقِيَ منهم رَهْطٌ عندَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فأطالوا المُكْثَ، فقامَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فخرَج، وخرَجتُ معه، لكي يخرُجوا، فمشَى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ومشَيْتُ معه، حتى جاء عَتَبةَ حجرةِ عائشةَ زَوْحِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ثم ظَنَّ رَسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أنهم قد خرَجوا، فرجَع ورَجَعْتُ معه، حتى دخَل على زينبَ، فإذا هم جلوسٌ لم يقوموا، فرجَع رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ورجَعْتُ معه، فإذا هم قد خرَجوا، فضرَب بينى وبينَه سِترًا، وأُنزِل الحجابُ
(4)
.
حدَّثنا محمدُ بن بشارٍ، قال: ثنا ابن أبى عديٍّ، عن حميدٍ، عن أنسٍ، قال: دعوتُ المسلمينَ إلى وليمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، صبيحةَ بنَى بزينبَ بنتِ جَحْشٍ،
(1)
أخرجه ابن سعد في الطبقات 8/ 106، 173، والبخارى (5466)، ومسلم (1428)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثانى (3090)، والطبراني 24/ 49 (130) من طريق الزهرى به.
(2)
سقط من: م، ت 1.
(3)
في م: "حتى".
(4)
أخرجه البخارى (6238)، والطبراني 24/ 49 (131) من طريق عبد الله بن وهب به.
فأوسَعهم خبزًا ولحمًا، ثم رجَع كما كان يصنَعُ، فأَتَى حُجَرَ نسائِه فسلَّم عليهنَّ، فَدَعَوْن له، ورجَع إلى بيتِه وأنا معه، فلما انتهَيْنا إلى البابِ إذا رجلان قد جرَى بهما الحديثُ في ناحيةِ البيتِ، فلما أبصَرهما ولَّى راجعًا، فلما رأيا النبيَّ صلى الله عليه وسلم ولَّى عن بيتِه، ولَّيا مُسْرِعَين، فلا أَدْرِى أنا أخبَرتُه، أو أُخبِر، فرجَع إلى بيتِه، فأرخَى السِّتْرَ بينى وبينَه، ونزَلت آيةُ الحجابِ
(1)
.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا ابن أبى عديٍّ، عن حميدٍ، عن أنسِ بن مالكٍ، قال: قال عمرُ بنُ الخطابِ: قلتُ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم: لو حَجَبْتَ عن أمهاتِ المؤمنين. فإنه يدخُلُ عليك البَرُّ والفاجِرُ، فنزَلت آيةُ الحجابِ
(2)
.
حدَّثني القاسمُ بنُ بشرِ بن معروفٍ، قال: ثنا سليمانُ بنُ حربٍ، قال: ثنا حمادُ بنُ زيدٍ، عن أيوبَ، عن أبي قِلابةَ، عن أنسِ بن مالكٍ، قال: أنا أعلَمُ الناسِ بهذه الآيةِ؛ آيةِ الحجابِ، لمّا أُهدِيَتْ زينبُ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم صنَع طعامًا، ودَعا القومَ، فجاءوا فدخَلوا، وزينبُ مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في البيتِ، وجعَلوا يتحدَّثون، وجعَل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يخرُجُ ثم يدخُلُ وهم قعودٌ، قال: فنزَلت هذه الآيةُ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ} إلى: {فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} . قال: فقامَ القومُ، وضُرِب الحجابُ
(3)
.
(1)
أخرجه أحمد 19/ 80 (12023) من طريق ابن أبي عدى به، وأخرجه ابن سعد 8/ 106، 107، وأحمد 20/ 359 (13072)، والبخارى (5154)، والنسائى في الكبرى (6908)، وابن حبان (4062)، والبغوى (2313) من طريق حميد به.
(2)
أخرجه أحمد 1/ 299 (160) من طريق ابن أبي عدى به، وأخرجه أحمد 1/ 363 (250)، والنسائي في الكبرى (10998، 11418)، وابن حبان (6896)، وغيرهم من طريق حميد به.
(3)
أخرجه ابن سعد 8/ 105، 106، والبخارى (4792)، والطبراني 24/ 48، 49 (128) من طريق سليمان بن حرب به، وأخرجه أحمد 21/ 171 (13538) من طريق حماد بن زيد به.
حدَّثني عمرُ بنُ إسماعيلَ بن مجالدٍ، قال: ثنا أَبي، عن بيانٍ، عن أنسِ بن مالكٍ، قال: بنَى رسول الله صلى الله عليه وسلم بامرأةٍ من نسائِه، فأرسَلَني، فدعوتُ قومًا إلى الطعامِ، فلما أكَلوا وخرَجوا، قامَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مُنطلقًا قبَلَ بيتِ عائشةَ، فرأى رَجُلَيْن جالِسَيْن، فانصَرف راجعًا، فأنزَل الله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ}
(1)
.
حدَّثنا عمرُو بنُ عليٍّ، قال: ثنا أبو داودَ، قال: ثنا المسعوديُّ، قال: ثنا [أبو نَهْشَلٍ]
(2)
، عن أبي وائلٍ، عن عبدِ اللَّهِ، قال: أمَر عمرُ نساءَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بالحجابِ، فقالت زينَبُ: يا بنَ الخطابِ، إنك لتَغارُ علينا والوحْىُ ينزِل في بيوتِنا. فأنزَل الله:{وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ}
(3)
.
حدَّثني محمدُ بنُ مَرزوقٍ، قال: ثنا أَشْهَلُ بنُ حاتمٍ، قال: ثنا ابن عونٍ، عن عمرِو بن سعيدٍ، عن أنسٍ، قال: وكنتُ مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وكان يَمرُّ على نسائِه. قال: فأُتِى بامرأةٍ عَروسٍ، ثم جاءَ وعندَها قومٌ، فانْطلَق فقضَى حاجتَه واحتَبَس، وعادَ وقد خرَجوا، قال: فدخَل، فأَرْخَى بينى وبينَه سِترًا. قال: فحدَّثتُ أبا طلحةَ، فقال: إن كان كما تقولُ، لينزِلَنَّ في هذا شيءٌ، قال: ونزَلت آيةُ الحجابِ
(4)
.
وقال آخرون: كان ذلك في بيتِ أُمِّ سَلَمَةَ.
(1)
أخرجه الترمذى (3219) عن عمر بن إسماعيل به، وأخرجه أحمد 21/ 151 (13502)، والبخارى (5170)، والنسائى في الكبرى (11417) من طريق بيان به.
(2)
في م: "ابن نهشل"، وينظر تعجيل المنفعة 2/ 551.
(3)
أخرجه أحمد 7/ 372 (4362)، والبزار (1748)، والطبراني (8828) من طريق المسعودى به.
(4)
أخرجه الترمذى (3217) من طريق أشهل بن حاتم به.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ} . قال: كان هذا في بيتِ أَمِّ سَلَمَةَ، قال: أكَلوا، ثم أَطالُوا الحديثَ، فجعَل النبيُّ صلى الله عليه وسلم يدخُلُ ويخرُجُ، ويستَحْيى منهم، والله لا يستَحْيى من الحقِّ
(1)
.
قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} . قال: بلَغنا أنهنَّ أُمِرن بالحجابِ عندَ ذلك
(1)
.
وقولُه: {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ} . يقولُ: إن دخولَكم بيوتَ النبيِّ، من غيرِ أن يؤذَنَ لكم، وجلوسَكم فيها مُستأنِسين للحديثِ، بعدَ فراغِكم من أكلِ الطعامِ الذي دُعيتم له - كان يؤذِى النبيَّ، فيستَحْيى منكم أن يُخرجَكم منها، إذا قعَدتُم فيها للحديثِ، بعدَ الفراغِ من الطعامِ، أو يمنعَكم من الدخولِ إذا دخَلتم بغيرِ إذنٍ، مع كراهيتِه لذلك منكم، {وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقّ} أَن يَتَبَيَّنَ لكم، وإن استَحْيا نبيُّكم
(2)
، فلم يُبَيَّنْ لكم كراهيتَه
(3)
ذلك؛ حياءً منكم، {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ}. يقولُ: وإذا سألتم أزواجَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ونساءَ المؤمنين اللواتي لَسْنَ
(4)
لكم بأزواجٍ، متاعًا، {فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ}. يقولُ: من وراءِ سِترٍ بينَكم وبينَهن، ولا تدخُلوا عليهن بيوتَهن؛ {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ}. يقولُ تعالى ذكرُه: سؤالُكم إياهن
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 213 إلى المصنف وعبد بن حميد.
(2)
في ت 1، ت 2:"منكم محمد".
(3)
في م، ت 1:"كراهية".
(4)
في ت 1، ت 2:"ليس".
المتاع، إذا سألتموهن ذلك من وراء حجابٍ - أطهرُ لقلوبكم وقلوبِهن من عوارضِ العين فيها، التي تعرضُ في صدور الرجال من أَمْرِ النساء، وفي صدور النساء من أمر الرجال، وأحْرى من أن لا يكونَ للشيطان عليكم وعليهنَّ سبيلٌ.
وقد قيل: إن سبب أمرِ اللهِ النساء بالحجاب، إنما كان من أجل أن رجلًا كان يأكُلُ مع رسولِ الله وعائشةُ معهما، فأصابت يدُها يد الرجل، فكره ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ذكر من قال ذلك
حدَّثني يعقوب، قال: ثنا هشيمٌ، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يَطعَمُ ومعه بعضُ أصحابه، فأصابت يدُ رجلٍ منهم يدَ عائشةَ، فكره ذلك رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فنزلت آيةُ الحجاب
(1)
.
وقيل: نزلت من أجل مسألة عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أبو كُرَيب ويعقوبُ، قالا: ثنا هشيمٌ، قال: ثنا حميدٌ الطويلُ. عن أنسٍ، قال: قال عمرُ بنُ الخطاب: قلتُ: يا رسولَ اللَّهِ، إن نساءك يدخُلُ عليهنَّ البرُّ والفاجِرُ، فلو أَمَرتَهن أن يحتَجِبْنَ؟ قال: فنزلت آيةُ الحجاب
(2)
.
(1)
أخرجه الواحدى في أسباب النزول ص 271 من طريق المصنف، وأخرجه ابن سعد 8/ 175 من طريق أبى الصباح عن مجاهد، وأخرجه البخارى في الأدب المفرد (1053)، وابن أبي حاتم كما في تفسير ابن كثير 6/ 445 وغيره من طريق أبى الصباح أيضًا، عن مجاهد، عن عائشة قولها، وأخرجه ابن سعد في الطبقات 8/ 175 من طريق إسحاق بن يحيى عن مجاهد عن ابن عباس به.
(2)
أخرجه النسائي في الكبرى (11611) عن يعقوب به، وأخرجه أحمد 1/ 297 (157)، والبخارى (402، 4916)، وابن ماجه (1009)، والترمذى (2960) من طريق هشيم به.
حدَّثني يعقوب، قال: ثنا ابن عليَّةَ، قال: ثنا حميدٌ، عن أنس، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم بنحوه.
حدَّثني أحمدُ بنُ عبدِ الرحمنِ، قال: ثنى عمِّي
(1)
عبدُ اللَّهِ بنُ وَهْبٍ، قال: ثنى يونسُ، عن الزهرى، عن عروة، عن عائشةَ، قالت: إن أزواج النبيِّ صلى الله عليه وسلم كُنَّ يَخرُجن بالليل إذا تبرّزْنَ إلى المناصع، وهو صعيدٌ أفيحُ، وكان عمر يقولُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم: احجب نساءَك. فلم يكُن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، يفعَلُ، فخرَجتْ سَوْدة بنت زمعةَ، زوجُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، وكانت امرأةً طويلةً، فناداها عمرُ بصوته الأعلى: قد عرفناكِ يا سودةُ. حرصًا أن ينزِلَ الحجاب، قالت
(2)
: فأنزل الله الحجاب
(3)
.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا ابن نميرٍ، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشةَ، قالت: خرجت سَوْدةُ لحاجتها، بعد ما ضُرِب علينا الحجابُ، وكانت امرأةً تَفْرَعُ النساء طولًا، فأبصرها عمرُ، فناداها: يا سوْدَةُ، إنك والله ما تخفين علينا، فانظُرى كيف تخرُجين، أو كيف تصنعين؟ فانكفأت، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنه ليتعَشَّى، فأخبرته بما كان، وما قال لها، وإن في يدِه لَعَرْقًا
(4)
، فأُوحِى إليه، ثم رفع عنه، وإن العَرْقَ لفى يده، فقال:"قد أُذِن لكنَّ أن تخرُجنَ لحاجتكنَّ"
(5)
.
(1)
في م: "عمرو بن"، وفى ت 1، ت 2:"عمر بن". وقد تقدم السند مرارًا.
(2)
في م: "قال".
(3)
أخرجه أحمد 6/ 223، 271 (الميمنية)، والبخارى (146، 6240)، ومسلم (2170) من طريق الزهرى به.
(4)
العرق: العظم أخذ عنه معظم اللحم وبقى عليه لحوم رقيقة طيبة. اللسان (ع ر ق).
(5)
أخرجه أحمد 6/ 56 (الميمنية)، ومسلم (2170) من طريق ابن نمير به، وأخرجه البخارى (4795، 5237)، ومسلم (2170)، وابن خزيمة (54)، وغيرهم من طريق هشام بن عروة به.
حدَّثني أحمدُ بن محمدٍ الطوسيُّ، قال: ثنا عبدُ الصمد بن عبد الوارث، قال: ثنا همامٌ، قال: ثنا عطاءُ بن السائب، عن أبي وائل، عن ابن مسعود، قال: أمر عمرُ نساء النبيِّ صلى الله عليه وسلم بالحجاب، فقالت زينبُ: يا بن الخطاب، إنك لتغارُ علينا والوحى ينزِلُ في بيوتنا؟ فأَنزَل اللَّهُ:{وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ}
(1)
.
حدَّثني أبو أيوبَ البَهْرانيُّ
(2)
سليمانُ بنُ عبدِ الحميد، قال: ثنا يزيدُ بنُ عبدِ ربِّه، قال: ثنى ابن حربٍ، عن الزُّبَيْديِّ، عن الزهريِّ، عن عروة، عن عائشة: أن أزواج النبيِّ صلى الله عليه وسلم، كُنَّ يخرُجن بالليل إذا تَبرَّزنَ إلى المناصع، وهو صعيدٌ أفيحُ، وكان عمرُ بن الخطاب يقولُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم: احجُب نساءَك، فلم يكُن رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يفعلُ، فخرجت سَوْدةُ بنتُ زَمعة زوج النبيِّ صلى الله عليه وسلم ليلةً من الليالى عشاءً، وكانت امرأةً طويلةً، فناداها عمرُ بصوته الأعلى: قد عرفناك يا سوْدَةُ. حرصًا على أن ينزل الحجابُ، قالت عائشةُ: فأنزل الله الحجاب، قال الله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ}
(3)
.
وقوله: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ} . يقول تعالى ذكرُه: وما ينبغى لكم أن تُؤذوا رسول الله، وما يصلح ذلك لكم، {وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا}. يقولُ: وما ينبغى لكم أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدًا؛ لأنهنَّ أمهاتُكم، ولا يحلُّ للرجُل أن يتزوَّج أُمَّه.
وذُكر أن ذلك نزل في رجُلٍ كان يدخُلُ قبل الحجاب
(4)
، قال: لئن مات محمدٌ لأتزوَّجَنَّ امرأةٌ من نسائه سمَّاها، فأنزل الله تبارك وتعالى في ذلك:
(1)
تقدم تخريجه ص 165.
(2)
في م، ت 1:"النهرانى"، وغير منقوطة في ت 2، والمثبت هو الصواب، وينظر تهذيب الكمال 12/ 22.
(3)
تقدم تخريجه ص 168.
(4)
بعده في ت 2: "على بعض من بينه وبينها قرابة فلما نزلت آية الحجاب".
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنى يونُسُ، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قوله: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا} . قال: رُبَّما بلغ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أن الرجُل يقول: لو أن له النبيَّ صلى الله عليه وسلم تُوفِّي، تَزوَّجتُ فلانةَ من بعده، قال: فكان ذلك يُؤذِى النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فنزل القرآنُ:{وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ} الآية
(1)
.
حدثنا محمدُ بنُ المثنى، قال: ثنا عبدُ الوهابِ، قال: ثنا داودُ، عن عامرٍ، أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم مات وقد ملك قيلة
(2)
بنت الأشعَثِ، فتزوَّجها عكرمةُ بن أبي جهلٍ بعد ذلك، فشقَّ على أبى بكرٍ مشقةً شديدةً، فقال له عمرُ: يا خليفة رسولِ اللَّهِ، إنها ليست من نسائه، إنها لم يخيِّرها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يَحجُبها، وقدَ برَّأَها منه بالردَّةِ التي ارتدَّت مع قومها، فاطمَأَنَّ أبو بكرٍ وسكن
(3)
.
حدَّثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الأعلى، قال: ثنا داودُ، عن عامرٍ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تُوفِّى وقد ملك
(4)
بنتَ الأشعث بن قيسٍ، ولم يجامعها. فذكر نحوه
(3)
.
وقوله: {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا} . يقول: إن أذاكُم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونكاحكم أزواجه من بعده، عندَ اللَّهِ عظيم من الإثم.
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 445، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 214 إلى ابن أبي حاتم.
(2)
في ت 2: "قبيلة".
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 446 عن المصنف، وأخرجه أبو نعيم - كما في الإصابة 8/ 89 - من طريق داود به، وأخرجه ابن سعد 8/ 147 من طريق وهيب عن داود قوله. ووقع في طبقات ابن سعد 8/ 145، 147، وتاريخ المصنف 3/ 168، والاستيعاب 4/ 1903، والإصابة، 8/ 88، 89، والسير 2/ 254 وغيرها: قتيلة بنت قيس أخت الأشعث بن قيس.
(4)
بعده في ت 2: "قبيلة".
القولُ في تأويل قوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54)} .
يقول تعالى ذكره: إن تُظهروا بألسنتكم شيئًا أيُّها الناسُ من مراقبة النساء، أو غير ذلك مما قد
(1)
نَهاكم عنه، أو أذى لرسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله
(2)
: لأتزوَّجنَّ زوجته بعد وفاته. {أَوْ تُخْفُوهُ} . يقولُ: أو تُخْفُوا ذلك في أنفُسِكم، {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا}. يقولُ: فإن الله بكلِّ ذلك وبغيره من أموركم وأمور غيركم، عليمٌ لا يخفى عليه شيءٌ، وهو يُجازيكم على جميع ذلك.
يقولُ تعالى ذكرُه: لا حرج على أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم في آبائهنَّ ولا إثمَ.
ثم اختلف أهلُ التأويل في المعنى الذي وضَع عنهنَّ الجُناحَ في هؤلاء؛ فقال بعضُهم: وضَع عنهنَّ الجناحَ في وَضْعِ جلابيبهنَّ عندَهم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا حكّامٌ، عن عنبسة، عن ابن أبي ليلى، عن عبد الكريم، عن مجاهدٍ في قوله:{لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ} الآيةِ كُلِّها، قال: أن تضَعَ الجلباب
(3)
.
(1)
سقط من: م.
(2)
في م: "قول".
(3)
ذكره الطوسى في التبيان 8/ 325، وأبو حيان في البحر المحيط 7/ 248.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قول الله:{لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ} . ومَن ذكر معه أن يَرَوْهِنَّ
(1)
.
وقال آخرون: وضَع عنهنَّ الجناحَ فيهم
(2)
في تَرْكِ الاحتجاب [منهم.
ذكرُ مَن قال ذلك]
(3)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة في قوله:{لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ} إلى: {شَهِيدًا} : فرخَّص لهؤلاء أن لا يحتجِبْنَ منهم
(4)
.
وأولى القولين في ذلك بالصواب قولُ من قال: ذلك وضعُ الجناح عنهنَّ في هؤلاءِ المسمَّيْنَ أَن لا يَحْتَجِبْنَ منهم، وذلك أن هذه الآية عقيب آية الحجاب، وبعد قولِ اللَّهِ:{وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} . فلأنْ
(5)
يكونَ قوله: {لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ} . استثناءً من جملة الذين أمروا بسؤالِهِنَّ المتاع من وراء الحجاب، إذا سألوهنَّ ذلك - أولى وأشبه من أن يكون خبرًا مبتدأ عن غير ذلك المعنى.
فتأويل الكلام إذن: لا إثم على نساء النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأَمَّهاتِ المؤمنين، في إِذْنِهِنَّ لآبائِهِنَّ، وتَرْكِ الحجاب منهنَّ، ولا لأبنائهنَّ، ولا لإخوانهنَّ، ولا لأبناء إخوانهنَّ، وعَنَى بإخوانهنَّ وأبناء إخوانِهِنَّ إخوتهنَّ وأبناءَ إخوتهنَّ - وخرَجَ جَمْعُهم
(6)
كذلك
(1)
تفسير مجاهد ص 551، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 215 إلى الفريابى وعبد بن حميد وأبى داود في ناسخه وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
في م: "فيهن".
(3)
سقط من: م.
(4)
ذكره الطوسى في التبيان 8/ 325، وأبو حيان في البحر المحيط 7/ 248.
(5)
في م: "فلا".
(6)
في م، ت 1:"معهم جمع".
مخرج جمع فتى إذا جُمِعَ فتيانٌ، فكذلك جَمْعُ أخٍ إذا جُمِعَ إخوانٌ. وأما إذا جُمِعَ إخوةٌ، فذلك نظيرُ جَمْعِ فتًى إذا جُمِعَ فتيةٌ - ولا أبناء أخَواتِهِنَّ
(1)
، ولم يذكر في ذلك العمَّ، على ما قال الشعبيُّ؛ حِذارًا من أن يصِفَهنَّ لأبنائه.
حدَّثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا حجاجُ بنُ المنهال، قال: ثنا حمادٌ، عن داودَ، عن الشعبيِّ وعكرمة في قوله:{لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} . قلتُ: ما شأن العمِّ والخالِ لم يُذْكَرا؟ قالا
(2)
: لأنهما يَنْعَتانِها لأبنائهما. وكَرِها أن تضَعَ خِمارها عند خالها وعمِّها
(3)
.
حدَّثنا ابن المثنى، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا حمادٌ، عن داود، عن عكرمة والشعبيِّ نحوه، غير أنه لم يذكُر يَنعَتانها.
وقوله: {وَلَا نِسَائِهِنَّ} . يقولُ: ولا جُناح عليهنَّ أيضًا في أن لا يحتجِبْنَ من نساء المؤمنين.
كما حدَّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قوله: {وَلَا نِسَائِهِنَّ} . قال: نساء المؤمناتِ الحرائر، ليس عليهنَّ جناحٌ أن يَريْنَ تلك الزينة. قال: وإنما هذا كلُّه في الزينة، قال: ولا يجوزُ للمرأة أن تنظُر إلى شيءٍ من عورة المرأة. قال: ولو نظر الرجلُ إلى فَخِذِ الرجل، لم أرَ به بأسًا. قال:{وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} . فليس ينبغى لها أن تكشِفَ قُرْطَها للرجُل. قال: وأما الكُحْلُ
(1)
في م: "إخوانهن".
(2)
في النسخ: "قال". والمثبت موافق لما في مصادر التخريج.
(3)
أخرجه ابن عبد البر في التمهيد 16/ 230 من طريق المصنف به، وذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 446 عن المصنف، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 215 إلى ابن المنذر عن عكرمة.
والخاتمُ والخضابُ. فلا بأس به. قال: والزوج له فَضْلٌ، والآباءٌ من وراء الرجُل لهم فَضْلٌ، قال: والآخرون يتفاضلون، قال: وهذا كلُّه يجمعُه ما ظهر من الزينة. قال: وكان أزواج النبيِّ صلى الله عليه وسلم لا يحتجِبْنَ من المماليك
(1)
.
وقوله: {وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} من الرجال والنساء. وقال آخرون: من النساء.
وقوله: {وَاتَّقِينَ اللَّهَ} . يقولُ: وخِفْنَ اللَّهَ أَيها النساءُ أن تتعدَيْنَ ما حَدَّ اللَّهُ لكُنَّ، فتُبْدِين من زينتكُنَّ ما ليس لكُنَّ أن تبدِينَه، أو تَترُكن الحجاب الذي أمَرَكُنَّ اللَّه بلزومه، إلا فيما أباح لكُنَّ تركه، والْزَمْنَ طاعته. {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا}. يقول تعالى ذكره: إن الله شاهدٌ على ما تفعَلْنَه من احتجابِكُنَّ، وترككُنَّ الحجاب لمن أَبَحْتُ لكُنَّ ترك ذلك له، وغير ذلك من أمورِكُنَّ، يقولُ: فاتَّقِينَ اللَّهَ في أَنفُسِكُنَّ؛ لا تلقينَ اللَّهَ وهو شاهد عليكم بمعصيته، وخلافِ أمرِه، ونَهيِه، فتَهْلِكنَ، فإنه شاهدٌ على كلِّ شيءٍ.
القولُ في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)} .
يقول تعالى ذكره: إن الله وملائكته يُبرِّكون على النبيِّ محمدٍ صلى الله عليه وسلم.
كما حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قوله:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ} . يقولُ: يُبَرِّكون
(2)
على النبي
(3)
.
(1)
ذكره أبو حيان في البحر المحيط 7/ 248 مختصرًا.
(2)
في م: "يباركون".
(3)
علقه البخارى (8/ 532 - فتح)، وذكره ابن حجر في تغليق التعليق 4/ 286 عن المصنف، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 215 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.
وقد يحتَمِلُ أن يقال: إن معنى ذلك: إن الله يرحَمُ النبيَّ، ويدعو له ملائكتُه ويستغفرون. وذلك أن الصلاة في كلام العرب من غير الله إنما هو دعاءٌ. وقد بيَّنا ذلك فيما مضى من كتابنا هذا بشواهده، فأغنى ذلك عن إعادته
(1)
.
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ} : يقول تعالى ذكره: يأيها الذين آمنوا ادعوا لنبيِّ الله محمد صلى الله عليه وسلم، وسلِّموا عليه {تَسْلِيمًا}. يقولُ: وحَيُّوه تحية الإسلام.
وبنحو الذي قلنا في ذلك
(2)
، جاءت الآثارُ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا هارونُ، عن عنبسة، عن عثمانَ بن مَوْهَبٍ، عن موسى بن طلحةَ، عن أبيه، قال: أتى رجُلٌ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال: سمعتُ الله يقولُ: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} الآية، فكيف الصلاة عليك؟ فقال: "قُلِ: اللَّهُمَّ صَلِّ على محمد وعلى آلِ محمدٍ، كما صَلَّيْتَ على إبراهيمَ، إِنَّكَ حَميدٌ مَجيدٌ، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على
(3)
إبراهيم، إِنَّكَ حَميدٌ مَجيدٌ"
(4)
.
حدَّثني جعفر بن محمدٍ الكوفيُّ، قال: ثنا يعلى بنُ الأجلحِ، عن الحكم بن
(1)
ينظر ما تقدم في 1/ 248.
(2)
بعده في ت 2: "قال أهل التأويل".
(3)
بعده في ت 1: "آل".
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة 2/ 507، وأحمد 3/ 16 (1396)، والنسائى (1290، 1291)، والبزار (941، 942)، وأبو يعلى (652 - 654)، والشاشى (3)، وابن أبي عاصم - كما في الدر المنثور 5/ 216 - ومن طريقه الضياء في المختارة (824)، وغيرهم، من طريق عثمان بن موهب به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور إلى عبد بن حميد وابن مردويه.
عُتيبة
(1)
، عن عبد الرحمن بن أبي لَيْلَى، عن كعب بن عُجْرةً، قال: لما نزلت: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} ، قمتُ إليه، فقلتُ: السلام عليك قد عَرَفناه، فكيف الصلاة عليك يا رسول الله؟ قال:"قُل: اللَّهُمَّ صَلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد، كما صَلَّيْتَ على إبراهيم وآل إبراهيمَ، إِنَّكَ حَميدٌ مَجيدٌ، وبارك على محمد وعلى آل محمدٍ، كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم، إِنَّكَ حَميدٌ مَجيدٌ"
(2)
.
حدَّثنا أبو كُريب، قال: ثنا مالك بن إسماعيل، قال: ثنا أبو إسرائيل، عن يونس بن خَبَّابٍ
(3)
، قال: خطَبَنا بفارس فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} الآية. فقال: أنبأنى من سمع ابن عباسٍ يقولُ: هكذا أُنزِل، فقلنا أو قالوا: يا رسولَ اللهِ، قد علمنا السلام عليك، فكيف الصلاة عليك؟ فقال:"اللَّهُمَّ صَلِّ على محمد وعلى آل محمدٍ، كما صَلَّيْتَ على إبراهيم وآل إبراهيم، إنَّك حَميدٌ مَجيدٌ، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم، إنَّك حَميدٌ مَجِيدٌ"
(4)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن مغيرةَ، عن زياد، عن إبراهيم في قوله:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ} ، قالوا: يا رسول الله هذا السلام قد عرفناه، فكيفَ
(1)
في ت 1، ت 2:"عيينة".
(2)
أخرجه عبد بن حميد (368)، والترمذى (483) من طريق يعلى بن الأجلح به، وأخرجه الطيالسى (1157)، وعبد الرزاق (3105)، وابن أبي شيبة 2/ 507، وأحمد (18104، 18105)، والبخارى (6357)، ومسلم (406)، وأبو داود (976، 977)، وابن ماجه (904)، والترمذى (483)، والنسائى 3/ 47، وغيرهم من طريق الحكم بن عتيبة به، وأخرجه ابن أبي حاتم - كما في تفسير ابن كثير 6/ 449 - من طريق ابن أبي ليلى به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 215، 216 إلى سعيد بن منصور وابن مردويه.
(3)
في ت 1، ت 2:"حباب".
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 454 عن المصنف.
الصلاةُ عليك؟ فقال: "قولوا: اللَّهُمَّ صَلِّ على محمدٍ عَبْدِكَ ورَسولِك وأَهْلِ بَيْتِه، كما صَلَّيْتَ على إبراهيمَ، إِنَّكَ حَميدٌ مَجيدٌ [وبارك عليه وعلى آل بيته، كما باركت على إبراهيم إنك حميدٌ مجيدٌ]
(1)
"
(2)
.
حدثني يعقوبُ الدَّورقيُّ، قال: ثنا ابن عُليَّةَ، قال: ثنا أيوب، عن محمدِ بن سيرين، عن عبد الرحمن بن بشرِ بن مسعودٍ الأنصاريِّ، قال: لما نزلت: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} . قالوا: يا رسولَ اللهِ هذا السلامُ قد عرفناه، فكيف الصلاةُ، وقد غفَر اللَّهُ ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر؟ قال:"قولوا: اللَّهُمَّ صَلِّ على محمدٍ، كما صَلَّيْتَ على آلِ إبراهيم، اللهم بارك على محمدٍ، كما بارَكْتَ على آل إبراهيم"
(3)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} . قال: لما نزلت هذه الآية قالوا: يا رسولَ اللَّهِ، قد علمنا السلام عليك، فكيفَ الصلاة عليك؟ قال:"قولوا: اللَّهُمَّ صَلِّ على محمدٍ، كما صَلَّيْتَ على إبراهيم، وبارك على محمدٍ، كما باركت على إبراهيم". وقال الحسنُ: "اللهم اجعَلْ صلواتك وبركاتك على آل محمدٍ كما جعلتها على إبراهيم، إنكَ حَميدٌ مجيدٌ".
(1)
سقط من: م، ت 1.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 216 إلى المصنف.
(3)
أخرجه النسائي في الكبرى (9879) من طريق ابن سيرين به، وأخرجه أيضًا (9878)، وفي المجتبى (1285)، والمزى في تهذيب الكمال 16/ 551 من طريق ابن سيرين، عن عبد الرحمن بن بشر، عن أبى مسعود مرفوعًا.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58)} .
يعنى بقوله تعالى ذكرُه: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ} : إن الذين يُؤذون رَبَّهم بمعصيتهم إياه، وركوبهم ما حرَّم عليهم.
وقد قيل: إنه عنى بذلك أصحاب التصاوير، وذلك أنهم يرومُون تكوين خَلْقٍ مثلَ خَلْقِ اللَّهِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثني [محمد بنُ سعدٍ]
(1)
القرشيُّ، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن سلمة بن الحجاج، عن عكرمةَ، قال: الذين يُؤذون الله ورسوله، هم أصحابُ التصاوير
(2)
.
حدثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة في قوله:{إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا} . قال: يا سبحان الله، ما زالَ أُناسٌ ما زالَ أُناسٌ من جهَلَةِ بني آدم حتى تَعاطَوْا أَذَى رَبِّهم، وأمَّا أَذاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو طَعْنُهم عليه في نكاحه صفية بنتَ حُيَيٍّ، فيما ذُكِرَ.
حدثني محمد بن سعدٍ، قال: ثنى أبى، قال: ثنى عمى، قال: ثنى أبى، عن
(1)
في ت:1 "عمر بن سعيد"، وفى ت:2: "عمرو بن سعيد".
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة 8/ 485 من طريق يحيى بن سعيد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 220 إلى ابن أبي حاتم.
أبيه، عن ابن عباس في قوله:{إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا} . قال: نزلت في الذين طعنوا على النبي صلى الله عليه وسلم حين اتخذ صفية بنتَ حُيَيّ بن أَخطَبَ
(1)
.
وقوله: {لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا} . يقولُ تعالى ذكره: أبعدهم الله من رحمته في الدنيا والآخرة، وأعد لهم في الآخرة عذابًا يُهينُهم فيه بالخلودِ فيه.
وقوله: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ} . كان مجاهدٌ يوجِّهُ معنى قولِه: {يُؤْذُونَ} إلى يَقْفُونَ
(2)
.
ذكرُ الرواية بذلك عنه
حدَّثني محمد بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{الَّذِينَ يُؤْذُونَ} . قال: يَقْفُونَ
(3)
.
فمعنى الكلام على ما قال مجاهدٌ: والذين يَقْفُون المؤمنين والمؤمنات، ويعيبونهم؛ طلبًا لشَيْنهم.
{بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا} . يقولُ: بغير ما عملوا.
كما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 220 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(2)
في ت 2: "يفسقون".
(3)
تفسير مجاهد ص 552.
في قوله: {بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا} . قال: عملوا
(1)
.
حدَّثنا نصرُ بنُ عليٍّ، قال: ثنا عَثّامُ بنُ عليٍّ، عن الأعمش، عن مجاهدٍ، قال: قرأ ابن عمر: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} . قال: فكيف إذا أُوذى بالمعروف، فذلك يُضاعَفُ له العذابُ
(2)
.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا عثَّامُ بنُ عليٍّ، عن الأعمش، عن ثورٍ، عن ابن عمر:{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا} . قال: كيف بالذي يأتي إليهم المعروف.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} فإيَّاكم وأذَى المؤمن، فإن الله يحوطه، ويغضَبُ له
(3)
.
وقوله: {فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} . يقولُ: فقد احتملوا زُورًا وكَذِبًا وفريةً شنيعةً. والبهتانُ
(4)
: أفحَشُ الكذِبِ، {وَإِثْمًا مُبِينًا}. يقولُ: وإِثْمًا يَبِينُ لسامعه أنه إثمٌ وزُورٌ.
القولُ في تأويل قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59)} .
(1)
تفسير مجاهد ص 552 وأخرجه ابن سعد في الطبقات 8/ 177 من طريق ابن أبي نجيح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 220 إلى الفريابى وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 220 إلى المصنف وعبد بن حميد.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 220 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4)
في م، ت 1:"بهتان".
يقول تعالى ذكره لنبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم: يأيُّها النبيُّ قُلْ لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين، لا يتشَبَّهْنَ بالإماء في لباسِهِنَّ، إِذا هُنَّ خَرَجنَ من بيوتهنَّ لحَاجَتِهِنَّ، فكشَفْنَ شُعورَهنَّ ووُجوهَهُنَّ، ولكن ليُدنين عليهنَّ من جَلَابِيبِهِنَّ. لئلا يَعرِضَ لهنَّ فاسِقٌ، إذا علم أنهنَّ حرائرُ، بأذًى من قولٍ.
ثم اختلف أهل التأويل في صفة الإدناء الذي أمَرَهُنَّ اللَّهُ به؛ فقال بعضُهم: هو أن يُغَطِّينَ وُجُوهَهُنَّ ورُءُوسَهنَّ، فلا يُبْدِينَ منهنَّ إلا عينًا واحدةً.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثنى معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قوله:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} : أمَر اللَّهُ نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهنَّ في حاجةٍ، أن يُغَطِّينَ وجوهَهُنَّ من فوقِ رُءُوسِهِنَّ بالجلابيب، ويُبدِينَ عينًا واحدةً
(1)
.
حدَّثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَيةَ، عن ابن عونٍ، عن محمدٍ، عن عبيدة في قوله:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} . فَلَبِسَها عندَنا ابن عونٍ، قال: ولبسها عندنا محمدٌ، قال محمدٌ: ولَبِسَها عندِى عَبيدةُ. قال ابن عون بردائه، فتقنَّع به، فغطَّى أنفه وعينه اليسرى، وأخرج عينه اليمنى، وأدْنى رداءه من فوق حتى جعله قريبًا من حاجبه أو على الحاجب
(2)
.
(1)
ذكره البغوي في تفسيره 6/ 376، وابن كثير في تفسيره 6/ 471، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 221 إلى المصنف وابن أبي حاتم وابن مردويه.
(2)
ذكره البغوي في تفسيره 6/ 376، وابن كثير في تفسيره 6/ 471، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 221 إلى المصنف والفريابى وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق ابن سيرين به.
حدَّثني يعقوب، قال: ثنا هشيمٌ، قال: أخبرنا هشامٌ، عن ابن سيرين، قال: سألتُ عَبيدة عن قوله: {قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} . قال: فقال بثوبه، فغطَّى رأسه ووجْهَه، وأبرز ثوبه عن إحْدَى عينيه
(1)
.
وقال آخرون: بل أُمرن أن يَشدُدْنَ جلابيبهنَّ على جباههنَّ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمد بن سعد، قال: ثنى أبى، قال: ثنى عمى، قال: ثنى أبى، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} الله. إلى قوله: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} . قال: كانت الحُرَّةُ تلبسُ لباسَ الأَمَةِ، فأمر الله نساء المؤمنين أن يدنين عليهنَّ من جلابيبهنَّ، وإدناء الجلباب: أن تَقَنَّعَ وتَشُدَّ على جبينها
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة قوله:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ} . أَخَذَ اللَّهُ عليهِنَّ إِذا خَرَجْنَ أَن يَقَنَّعْنَ على الحواجب؛ {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ} ، وقد كانت المملوكة إذا مَرَّت تناولوها بالإيذاء، فنهَى اللَّهُ الحرائرَ أن يتشَبَّهنَ بالإماءِ
(3)
.
حدَّثني محمد بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قوله:{يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} : يتجَلْبَيْنَ، فيُعلَمُ أَنهنَّ حرائرُ، فَلا يَعْرِضُ
(1)
ذكره الطوسى في التبيان، 8/ 327، وأبو حيان في البحر المحيط 7/ 250.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 221 إلى المصنف وابن أبي حاتم وابن مردويه.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 221 إلى المصنف وعبد بن حميد.
لهنَّ فاسقٌ بأذى، من قول ولا ريبة
(1)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا حكامٌ، عن عنبسة، عمَّن حدَّثه، عن أبي صالحٍ، قال: قدم النبيُّ صلى الله عليه وسلم المدينة على غيرِ منزلٍ، فكان نساء النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهنَّ إذا كان الليلُ خَرَجْنَ يقضينَ حوائجهنَّ، وكان رجال يجلسون على الطريق للغزل، فأنزل الله:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} : يَقَنَّعْنَ بالجلباب، حتى تُعرَفَ الأمةُ من الحرَّةِ
(2)
.
وقوله: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ} . يقول تعالى ذكره: إدناؤُهُنَّ جلابيبَهنَّ إذا أدنَيْنَها عليهنَّ أَقرَبُ وأحرى أن يُعْرَفنَ ممن مَرَرن به، ويعلموا أنهنَّ لَسْنَ بإماءٍ، فيتنكَّبوا عن أذاهنَّ بقول مكروهٍ، أو تَعرُّضٍ بريبةٍ. {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا} لما سلف منهنَّ؛ من تركهنَّ إدناءَهُنَّ الجلابيب عليهنَّ، {رَحِيمًا} بهنَّ أن يُعاقِبَهنَّ بعدَ توبتهنَّ، بإدناء الجلابيب عليهنَّ.
القول في تأويل قوله تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61)} .
يقول تعالى ذكره: لئن لم ينتهِ أهلُ النفاقِ، الذين يَسْتَسِرُّون الكفر ويُظهرون الإيمانَ، {وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ}. يعني: ريبةٌ من شهوة الزِّنا، وحبِّ الفجور.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
(1)
تفسير مجاهد ص 552، وذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 471، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 222 إلى الفريابى وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 221 إلى المصنف.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرِو بن عليٍّ، قال: ثنا أبو عبدِ الصمدِ، قال: ثنا مالكُ بنُ دينارٍ، عن عكرِمةَ في قولِه:{لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} . قال: هم الزُّناةُ
(1)
(2)
.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا [عبدُ الأعْلَى، قال: ثنا سعيدٌ]
(3)
، عن قتادةَ
(4)
: {وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} . قال: شهوةُ الزِّنا.
قال: ثنا عبدُ الرحمنِ بنُ مهديٍّ، قال: ثنا [أبو صالحٍ]
(5)
الثمارُ، قال: سمِعتُ عكرِمةَ في قولِه: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} . قال: شهوةُ الزِّنا
(6)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا حكامٌ، عن عنبسةَ عمن حدَّثه، عن أبي صالحٍ:{وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} . قال: الزُّناةُ.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} الآية، قال: هؤلاءِ صنفٌ من المنافقين، {وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} أصحابُ الزِّنا، قال: أهلُ الزِّنا مِن أهلِ النفاقِ الذين يَطلبونَ النساءَ، فيبتَغون الزِّنا، وقرَأ: {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 123، وابن أبي شيبة 4/ 33، 34 من طريق مالك بن دينار به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 222 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
بعده في ت 1: "حدثنا ابن بشار، قال حدثنا أبو عبد الصمد القمى، قال: ثنا مالك بن دينار، عن عكرمة نحوه".
(3)
في ت 2: "أبو عبد الصمد القمي، قال: حدثنا مالك".
(4)
بعده في ت 2: "عن عكرمة".
(5)
في ت 1، ت 2:"محمد بن صالح".
(6)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 124 من طريق إسماعيل بن شروس عن عكرمة بلفظ: "الزناة".
مَرَضٌ} [الأحزاب: 32]. قال: والمنافقون أصنافٌ عشَرةٌ في "براءةَ"، قال: فالذين في قلوبِهم مرضٌ صِنفٌ منهم؛ مرَضٌ من أمرِ النساءِ.
وقولُه: {وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ} . يقولُ: وأهلُ الإرجافِ في المدينةِ بالكذبِ والباطلِ.
وكان إرجافُهم فيما ذُكِر، كالذى حدَّثني بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ} الآية، الإرجافُ: الكذبُ الذي كان نافَقَه أهلُ النفاقِ، وكانوا يقولون: أتاكم عَدَدٌ وعُدَّةٌ. وذُكِر لنا أن المنافقين أرادوا أن يُظهِروا ما في قلوبِهم من النفاقِ، فأوعَدهم اللَّهُ بهذه الآيةِ؛ قولِه:{لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} الآية. فلما أوعَدهم اللَّهُ بهذه الآيةِ، كتَموا ذلك وأسرُّوه.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ} : هم أهلُ النفاقِ أيضًا الذين يُرْجِفون برسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وبالمؤمنين.
وقولُه: {لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ} . يقولُ: لتُسلِّطنَّك عليهم، ولتُحَرِّشَنَّك بهم.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ} . يقولُ: لنُسلِّطنَّك عليهم
(1)
.
(1)
علقه البخارى (8/ 235 - فتح)، وذكره ابن حجر في تغليق التعليق 4/ 286 عن المصنف بسنده، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 223 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ} .
أي: لنحمِلَنَّك عليهم، لنُحرِّشَنَّك بهم
(1)
.
قولُه: {ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا} . يقولُ: ثم لننفِيَنَّهم عن مدينتِك فلا يَسْكنون معك فيها إلا قليلًا من المدةِ والأجلِ، حتى ننفيَهم عنها، فنُخرِجَهم منها.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا} : أي بالمدينةِ
(1)
.
وقولُه: {مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا} . يقولُ تعالى ذكرُه: مَطرودِينَ مَنْفِيِّين، {أَيْنَمَا ثُقِفُوا}. يقولُ: حيثُما لُقُوا من الأرضِ. {أُخِذُوا وَقُتِّلُوا} لكفرِهم باللَّهِ {تَقْتِيلًا} .
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{مَلْعُونِينَ} : على كلَّ حالٍ، {أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا} إذا هم أظهَروا النفاقَ
(1)
.
ونصْبُ قولِه: {مَلْعُونِينَ} . على الشتْمِ
(2)
، وقد يجوزُ أن يكونَ القليلُ من صفةِ الملعونين، فيكونَ قولُه:{مَلْعُونِينَ} مردودًا على القليلِ، فيكونُ معناه: ثم لا يُجاوِرُونك فيها إلا أقلَّاءَ، مَلْعونين، يُقَتَّلون حيثُ أُصِيبوا
(3)
.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 222 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
في ت 2: "الشك".
(3)
ينظر معاني القرآن للفراء 2/ 338.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذين خَلَوْا
(1)
قَبْلَ هؤلاء المنافقين الذين في مدينةِ رسولِ اللَّهِ معه، من ضُرَباءِ هؤلاء المنافقين، إذا هم أظهَروا نفاقَهم، أن يُقَتِّلَهم تَقْتِيلًا، ويلعنَهم لعنًا كثيرًا.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ} الآية. يقولُ: هكذا سنةُ اللَّهِ فيهم، إذا أظهَروا النفاقَ
(2)
.
وقولُه: {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} . يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: ولن تجدَ يا محمدُ لسنةِ اللَّهِ التي سَنَّها في خلْقِه تغييرًا، فأيقِنْ أنه غيرُ مغيِّرٍ في هؤلاء المنافقين سنَّتَه.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: يسألُك الناسُ
(3)
، يا محمدُ، عن الساعةِ؛ متى هي قائمةٌ؟ قلْ لهم: إنما علمُ الساعةِ عندَ اللَّهِ، لا يعلمُ وقتَ قيامِها غيرُه. {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا}. يقولُ: وما أشْعَرك يا محمدُ، لعلَّ قيامَ الساعةِ يكونُ
(1)
بعده في م: "من".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 222 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
سقط من: ت 2.
منك قريبًا، قد قَرُبَ وقتُ قيامِها، ودنا حينُ مجيئِها.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: إنَّ اللَّهَ أَبعَدَ الكافرين به من كلِّ خيرٍ، وأقصاهم عنه. {وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا}. يقولُ: وأعدَّ لهم
(1)
في الآخرةِ نارًا تَتَّقِدُ وتَتَسَعَّرُ، ليُصْلِيَهموها.
{خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} . يقولُ: ماكثين في السعيرِ أبدًا، إلى غيرِ نهايةٍ. {لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا} يتولاهم، فيَسْتنقذَهم من السعيرِ التي أصلاهموها اللَّهُ {وَلَا نَصِيرًا} لم ينصرُهم، فينجِّيَهم من عقابِ اللَّهِ إياهم.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: لا يجدُ هؤلاء الكافرون وليًّا ولا نصيرًا في يوم تُقَلَّبُ وجوهُهم في النارِ، حالًا بعدَ حالٍ، يقُولونَ، وتلك حالُهم في النارِ: يا ليتَنا كنَّا
(2)
أطَعْنا اللَّهَ في الدنيا، وأطعْنا رسولَه فيما جاءنا به عنه من أمرِه ونهيِه؛ فكنَّا مع أهلِ الجنةِ في الجنةِ، يا لها حسرةً ونَدامةً، ما أعظمَها وأجلَّها.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وقال الكافرون يومَ القيامةِ في جهنمَ: ربَّنا إِنا أَطَعْنا أئمَّتَنَا في الضلالةِ وكبراءَنا في الشركِ، {فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا}. يقولُ: فأزَالونا
(3)
عن
(1)
بعده في ت 2: "سعيرا".
(2)
سقط من: م، ت 1.
(3)
في ت 2: "فاذلونا".
محَجَّةِ الحقِّ، وطريقِ الهُدى، والإيمانِ بك، والإقرارِ بوحدانيتِك، وإخلاصِ طاعتِك في الدنيا،
{رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ} . يقولُ: عَذِّبْهُم مِن العذابِ مِثْلَى عذابِنا الذي تُعذِّبُنا، {وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا}. يقولُ: وأَخْزِهم خِزْيًا كبيرًا.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا} . أي: رُءُوسَنا في الشرِّ والشركِ
(1)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا} . قال: هم رءوسُ الأممِ الذين أضَلُّوهم. قال: هو {سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا} واحدٌ.
وقرأتْ عامةُ قرأةِ الأمصارِ: {سَادَتَنَا}
(2)
. ورُوِى عن الحسنِ البصريِّ: (سادَاتِنا) على الجماعِ
(3)
. والتوحيدُ في ذلك هي القراءةُ عندَنا؛ لإجماعِ الحجةِ مِن القرأةِ عليه.
واختَلفوا في قراءةِ قولِه: {لَعْنًا كَبِيرًا} ؛ فقرَأت ذلك عامةُ قرأةِ الأمصارِ بالثاءِ: (كَثِيرًا) مِن الكثرةِ
(4)
، سِوى عاصمٍ؛ فإنه قرَأه:{لَعْنًا كَبِيرًا} . مِن
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 223 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم. وينظر البحر المحيط 7/ 252.
(2)
هي قراءة ابن كثير ونافع وأبى عمرو وعاصم وحمزة والكسائي. السبعة لابن مجاهد ص 523.
(3)
هي أيضًا قراءة يعقوب وابن عامر. ينظر البحر المحيط 7/ 252، والنشر 2/ 349.
(4)
هي قراءة ابن كثير وأبي عمرو ونافع وحمزة والكسائي. السبعة لابن مجاهد ص 523.
الكِبَرِ
(1)
.
والقراءةُ في ذلك عندَنا بالثاءِ؛ لإجماعِ الحجةِ مِن القرأةِ عليها
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69)} .
يقولُ تعالى ذكرُه لأصحابِ نبيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يأيُّها الذين آمنوا باللَّهِ ورسولِه، لا تُؤذوا رسولَ اللَّهِ بقولٍ يكرهُه منكم، ولا بفعلٍ لا يحبُّه منكم، ولا تكونوا أمثالَ الذين آذَوا موسى نبيَّ اللَّهِ، فرَمَوه بعيبٍ كذبًا وباطلًا، فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا فيه مِن الكذبِ والزُّورِ، بما أظهَر مِن البرهانِ على كذبِهم، {وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا}. يقولُ: وكان موسى عند اللَّهِ مُشَفَّعًا فيما يسألُ، ذا وجهٍ ومنزلةٍ عندَه، بطاعتِه إياه.
ثم اختلَف أهلُ التأويلِ في الأذَى الذي أُوذِى به موسى، الذي ذكَره اللَّهِ في هذا الموضعِ؛ فقال بعضُهم: رَمَوه بأنه آدَرُ
(3)
. ورُوِى بذلك عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خبرٌ.
ذكرُ الروايةِ التي رُوِيت عنه، ومَن قال ذلك
حدَّثني أبو السائبِ، قال: ثنا أبو معاويةَ، عن الأعمشِ، عن المِنْهالِ، عن سعيدِ بن جبيرٍ وعبدِ اللَّهِ بن الحارثِ، عن ابن عباسٍ في قولِه:{لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى} . قال: قال له قومُه: إنك آدَرُ. قال: فخرَج ذاتَ يومٍ يغتسلُ، فوضَع ثيابَه على صخرةٍ، فخرَجت الصخرةُ تشتدُّ بثيابِه، وخرَج يتبَعُها عُرْيانًا، حتى انتهَت به إلى مجالسِ بني إسرائيلَ، قال: فرَأَوه ليس بآدَرَ، قال: فذلك قولُه:
(1)
هي أيضًا قراءة ابن عامر. المصدر السابق.
(2)
وقراءة الباء أيضًا متواترة.
(3)
الآدَر: المنتفخة خُصيته. ينظر اللسان (أ د ر).
{فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا}
(1)
.
حدَّثني يحيى بنُ داودَ الواسطيُّ، قال: ثنا إسحاقُ بنُ يوسفَ الأزرقُ، عن سفيانَ، عن جابرٍ، عن عِكْرمةَ، عن أبي هريرةَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم:{لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى} . قال: "قالُوا: هو آدَرُ. قال: فذهَب موسى يغتسلُ، فوضَع ثيابَه على حَجَرٍ، فمرَّ الحجرُ بثيابِه، فتَبِع موسى قفاه، فقال: ثيابي حجرُ. فمرَّ بمجلسِ بنى إسرائيلَ، فرَأَوه، فبرَّأه اللَّهِ مما قالوا، وكان عندَ اللَّهِ وجيهًا"
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى} إلى: {وَجِيهًا} . قال: كان أذَاهم موسى [أنهم قالوا: واللَّهِ ما يمنعُ موسى أن يضَعَ ثيابَه عندَنا إلا أنه آدَرُ. فَآذَى ذلك موسى]
(3)
، فبينَما هو ذاتَ يومٍ يغتسلُ وثوبُه على صخرةٍ، فلما قضَى موسى غُسْلَه وذهَب إلى ثوبِه ليأخذَه، انطلقَت الصخرةُ تَسْعى بثوبِه، وانطلَق يَسْعى في أثَرِها، حتى مَرَّتْ على مجلسِ بني إسرائيلَ وهو يطلبُها، فلما رأَوْا موسى صلى الله عليه وسلم مُتَجردًا لا ثوبَ عليه، قالوا: واللهِ ما نَرى بموسى بأسًا، وإنه لبرئٌ مما كُنَّا نقولُ له. فقال اللَّهُ:{فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا}
(4)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى} الآية. قال: كان موسى رجلًا شديدَ
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة 11/ 533، 534، والحاكم 2/ 422 من طريق أبى معاوية به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 223 إلى ابن المنذر وابن مردويه.
(2)
ذكره ابن حجر في الفتح 6/ 437، 438 عن عكرمة عن أبي هريرة، وعزاه إلى ابن مردويه، وذكره ابن كثير 6/ 474 نقلًا عن المصنف، وعنده عامر الشعبي بدلًا من عكرمة.
(3)
سقط من: ت 2.
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 474، والقرطبي في تفسيره 14/ 250.
المحافظة على فَرْجِه وثيابِه. قال: فكانوا يقولون ما يحمِلُه على ذلك إلا عيبٌ في فرجِه، يكرَهُ أن يُرَى. فقام يومًا يغتسلُ في الصحْراءِ، فوضَع ثيابَه على صخرةٍ، فاشتدَّت بثيابِه، قال: وجاء يطلُبُها عُرْيانًا، حتى اطَّلَع عليهم عُرْيانًا، فرَأَوه بريئًا مما قالوا:{وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} . قال: والوجيهُ في كلامِ العربِ: المُحَبُّ المقبولُ
(1)
.
وقال آخرون: بل وصَفوه بأنه أبرصُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن حُمَيدٍ، قال: ثنا يعقوبُ، عن جعفرٍ، عن سعيدٍ، قال: قال بنو إسرائيلَ: إن موسى آدَرُ. وقالت طائفةٌ: هو أبرصُ. مِن شدةِ تَسَتُّرِه، وكان يأتى كلَّ يوم عَيْنًا، فيغتسلُ ويضعُ ثيابَه على صخرةٍ عندَها، فعدَتِ الصخْرةُ بثيابِه حتى انتهتْ إلى مجلسِ بني إسرائيلَ، وجاء موسى يطلبُها، فلما رَأَوه عُرْيانًا ليس به شيءٌ مما قالوا، لَبِس ثيابَه، ثم أقبَل على الصخرةِ يضربُها بعصاه، فأَثَّرَتِ العصا في الصخرةِ.
حدَّثنا بحرُ بنُ حبيبِ بن عربيٍّ، قال: ثنا رَوْحُ بنُ عبادةَ، قال: ثنا عوفٌ، عن محمدٍ، عن أبي هريرةَ، في هذه الآيةِ:{لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا} الآية. قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إن موسى كان رَجُلًا حَيِيًّا سَتِيرًا، لا يَكادُ يُرَى مِن جِلده شيءٌ، اسْتِحْياءً منه، فآذَاه مَن آذاه من بني إسرائيلَ، وقالوا: ما يَسْتَتِرُ
(2)
هذا التَّسَتُّرَ إلا مِن عيبٍ في جلدِه؛ إما بَرَصٍ، وإما أُدْرَةٍ، وإما آفَةٍ، وإن اللَّهَ
(1)
ينظر البحر المحيط 7/ 253.
(2)
في م: "تستر".
أرادَ أن يُبَرِّئَه مما قالوا، وإن موسى خَلا يومًا وحدَه، فوضَع ثيابَه على حَجَرٍ، ثم اغْتَسَل، فلما فرَغ مِن غُسْلِه، أقبَل على ثوبِه ليأخُذَه، وإِن الحَجَرَ عَدَا بثوبِه، فأَخَذَ موسى عَصاه، وطَلَب الحجرَ، وجَعَل يقولُ: ثَوْبِي حَجَرُ، [ثوبي حَجَرُ]
(1)
. حتى انْتَهَى إلى ملأُ مِن بنى إسرائيلَ، فرَأَوه عُرْيَانًا كَأَحْسَنِ الناسِ خَلْقًا، وبَرَّأه اللَّهِ مما قالوا، وإن الحَجَرَ قامَ، فأخَذ ثوبَه ولَبِسَه، فطَفِقَ بالحجرِ ضَرْبًا بذلك، فواللهِ إن في الحجرِ لَنَدَبًا مِن أَثَرِ ضربِه، ثلاثًا أو أربعًا أو خمسًا
(2)
.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا ابن أبي عَدِيٍّ، عن عوفٍ، عن الحسنِ، قال: بلَغني أن رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "كان موسى رَجُلًا حَيِيًّا سَتِيرًا". ثم ذكَر نحوًا منه
(3)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، قال: حدَّث الحسنُ، عن أبي هريرةَ، أن رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "إن بني إسرائيلَ كانوا يَغْتَسلون وهُمْ عُرَاةٌ، وكان نبيُّ اللَّهِ موسى [منه الحياءُ والسَّتْرُ، فكان يستترُ]
(4)
إذا اغْتَسَل، فطَعَنوا فيه بعورةٍ. قال: فبَيْنَا نبيُّ اللَّهِ موسى يغتسلُ يومًا، إذ وَضَع ثيابَه على صخرةٍ، فانطلَقت الصخرةُ، واتَّبَعَها نبيُّ اللَّهِ ضَرْبًا بعَصاه: ثَوْبى يا حجرُ، ثَوْبي يا حجرُ. حتى انتَهَت إلى مَلأُ مِن بني إسرائيلَ، و
(5)
تَوَسَّطَتْهم
(6)
، فقامَت، فأَخَذ نبيُّ اللَّهِ
(1)
سقط من: م، ت 1.
(2)
أخرجه أحمد 16/ 396 (10678)، والبخارى (3404،4799)، والترمذى (3221)، والطحاوى في مشكل الآثار (67) من طريق روح بن عبادة به.
(3)
أخرجه أحمد 16/ 396 (10678) من طريق عوف الأعرابي به، والبخارى (3404، 4799)، والترمذى (3221) من طريق عوف به موصولًا بذكر أبى هريرة، وينظر الجرح والتعديل 1/ 237.
(4)
في م: "حييًّا فكان يتستر"، وفى ت 1:"يستتر"، وفى ت 2:"منه والستر يغتسل". والمثبت من مسند أحمد.
(5)
في م، ت 2:"أو".
(6)
في م: "توسطهم".
ثيابَه، فنَظَروا إلى أحسنِ الناسِ خَلْقًا، وأعْدَ لِه صورةً
(1)
، فقال الملأُ: قاتَل اللَّهُ أفَّاكِى
(2)
بني إسرائيلَ. فكانت بَراءَتَه التي بَرَّأَه اللَّهُ منها"
(3)
.
وقال آخرون: بل كان أَذاهم إياه ادَّعاءَهم
(4)
عليه قتلَ هارونَ أخيه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليُّ بنُ مسلمٍ الطُّوسِيُّ، قال: ثنا عَبَّادٌ، قال: ثنا سفيانُ بنُ حسينٍ
(5)
، عن الحكمِ، عن سعيدِ بن جُبَيرٍ، عن ابن عباسٍ، عن عليٍّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه في قولِ اللَّهِ:{لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى} الآية. قال: صَعِد موسى وهارونُ الجبل، فمات هارونُ، فقالت بنو إسرائيلَ: أنت قتلتَه، وكان أشدَّ حبًّا لنا منك، وألينَ لنا منك. فآذَوه بذلك، فأمَر اللَّهُ الملائكةَ فحمَلَتْه،، حتى مَرُّوا به على بني إسرائيلَ، وتكلَّمت الملائكةُ بموتِه، حتى عرَف بنو إسرائيلَ أنه قد مات، فبَرَّأه اللَّهُ من ذلك، فانطلَقوا به فدفَنوه، فلم يطَّلِعْ على قبرِه أحدٌ مِن خلقِ اللَّهِ إلا الرَّخَمُ
(6)
، فجعَله اللَّهُ أصمَّ أبكمَ
(7)
.
وأولى الأقوالِ في ذلك بالصوابِ أن يقالَ: إن بني إسرائيلَ آذَوا نبيَّ اللَّهِ ببعضِ
(1)
في م: "مروءة"، وفى ت:1 "مروة"، وفى ت:"فروة"، والمثبت من مسند أحمد.
(2)
في ت 1، ت 2:"اياكي".
(3)
أخرجه أحمد 15/ 44 (9091) من طريق قتادة به، وأخرجه البخارى (4799،3404)، والترمذي (3221) من طريق الحسن به.
(4)
في ت 1، ت 2:"ادعاوهم".
(5)
في النسخ: "حبيب" وهو تصحيف، والمثبت هو الصواب ينظر تهذيب الكمال 11/ 139.
(6)
الرخم: نوع من الطير معروف، واحدته رَخَمة، وهو موصوف بالغدر والموق. وقيل بالقذر. النهاية 2/ 212.
(7)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 475 عن المصنف، وأخرجه أحمد بن منيع - كما في المطالب العالية (3819، 4066) - والطحاوى في مشكل الآثار 1/ 68، وابن أبي حاتم - كما في تفسير ابن كثير 6/ 474، 475، - والحاكم 2/ 579، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 223 إلى ابن المنذر وابن مردويه.
ما كان يكرهُ أن يُؤْذَى به، فبَرَّأَه اللَّهِ مما آذَوه به. وجائزٌ أن يكونَ ذلك [ما ذُكر أنَّهم قالوا: إنه آدَرُ. وجائزٌ أن يكونَ]
(1)
كان قيلَهم: إنه أبرصُ. وجائزٌ أن يكونَ كان ادّعاءَهم
(2)
عليه قتلَ أخيه هارونَ. وجائزٌ أن يكونَ كلَّ ذلك؛ لأنه قد ذُكر كلُّ ذلك أنهم قد آذَوه به، ولا قولَ في ذلك أولى بالحقِّ مما قال اللَّهُ أنهم آذَوا موسى، فبَرَّأه اللَّهِ مما قالوا.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: يا أيُّها الذين صَدَّقوا اللَّهَ ورسولَه، اتَّقوا اللَّهَ أن تَعْصُوه، فتستحِقُّوا بذلك عقوبتَه.
وقولُه: {وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} . يقولُ: قُولوا في رسولِ اللَّهِ والمؤمنين قَوْلًا قاصدًا غيرَ جائرٍ، حقًّا غيرَ باطلٍ.
كما حدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ
(3)
، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} . يقولُ: سَدادًا
(4)
.
حدَّثنا ابن حُمَيدٍ، قال: ثنا عنبسةُ، عن الكلبيِّ:{وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} . قال: صدقًا.
(1)
سقط من: م، ت 1.
(2)
في ت 2: "ادعاوهم".
(3)
بعده في ت 2: "جميعا".
(4)
تفسير مجاهد ص 552، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 224 إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} . أي: عَدْلًا. قال قتادةُ: يعني به في مَنْطِقِه، وفي عملِه كلِّه، والسَّديدُ: الصدقُ
(1)
.
حدَّثني سعدُ بنُ عبدِ اللَّهِ بن عبدِ الحكمِ، قال: ثنا حفصُ بنُ عمرَ، عن الحكمِ بن أبانٍ، عن عكرمةَ في قولِ اللَّهِ:{وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} . قولوا: لا إلهَ إلا اللَّهُ
(2)
.
وقولُه: {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} . يقولُ تعالى ذكرُه للمؤمنين: اتَّقوا اللَّهَ وقُولوا السَّدادَ من القولِ، يوفِّقْكم لصالحِ الأعمالِ، فيُصلِحْ أعمالَكم، {وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}. [يقولُ: ويَعْفُ لكم عن ذنوبِكمِ]
(3)
، فلا يُعاقِبْكم عليها، {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} فيعملَ بما أمرَه به ربُّه، وينتهىَ عما نَهاه، ويقولَ السَّديدَ، {فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}. يقولُ: فقد ظَفِر بالكرامةِ العُظْمى مِن اللَّهِ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)} .
اختلَف أهلُ التأويلِ في معنى ذلك؛ فقال بعضُهم: معناه: إن اللَّهَ عرَض طاعتَه وفرائضَه على السماواتِ والأرضِ والجبالِ؛ على أنها إن أحسَنت أُثيبت وجُوزِيت، وإن ضَيَّعت عُوقِبت، فأبَت حَمْلَها، شَفَقًا منها ألَّا تقومَ بالواجبِ عليها للهِ
(4)
، وحمَلها آدمُ
(5)
، {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} لنفسِه، {جَهُولًا} بالذي فيه الحَظُّ له.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 224 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن أبي حاتم مقتصرًا على أوله، وينظر تفسير البغوي 6/ 379.
(2)
ذكره البغوي في تفسيره 6/ 379، وابن كثير في تفسيره 6/ 476، وأبو حيان في البحر المحيط 7/ 253.
(3)
سقط من: ت 2.
(4)
سقط من: م، ت 1.
(5)
في ت 1: "الإنسان".
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هُشَيمٌ، عن أبي بشرٍ، عن سعيدِ بن جُبَيرٍ في قولِه:{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا} . قال: الأمانةُ الفرائضُ التي افتَرضها اللَّهُ على العبادِ
(1)
.
قال: ثنا هشيمٌ، عن العوَّامِ، عن الضحاكِ بن مزاحمٍ، عن ابن عباسٍ في قولِه:{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا} . قال: الأمانةُ: الفرائضُ التي افتَرضها اللَّهُ على عبادِه
(2)
.
قال: ثنا هشيمٌ، قال: أخبَرنا العوامُ بنُ حَوْشَبٍ وجُوَيبرٌ، كلاهما عن الضحاكِ، عن ابن عباسٍ في قولِه:{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ} إلى قولِه: {جَهُولًا} . قال: الأمانةُ، الفرائضُ. قال جويبرٌ في حديثِه: فلما عُرضت على آدمَ قال: أي ربِّ، وما الأمانةُ؟ قال: قيل: إن أدَّيتَها جُزِيتَ، وإِن ضَيَّعتَها عوقبتَ. قال: أي ربِّ، حملتُها بما فيها. قال: فما مكَث في الجنةِ إلا قدرَ ما بينَ العصرِ إلى غروبِ الشمسِ حتى عمِل بالمعصيةِ، فأُخرج منها
(2)
.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن أبي بشرٍ، عن سعيدٍ، عن ابن عباسٍ، أنه قال في هذه الآيةِ:{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ} . قال: عُرِضَت على آدمَ، فقال: خُذْها بما فيها، فإن أطعتَ غفرتُ لك، وإن عصيتَ عذَّبتُك. قال: قد قبِلتُ. فما كان إلا قدرَ ما بينَ العصرِ إلى الليلِ مِن ذلك اليومِ حتى أصابَ الخطيئةَ
(3)
.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 225 إلى المصنف وعبد بن حميد.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 477 عن الضحاك به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 225 إلى عبد بن حميد.
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 477 عن المصنف، وأخرجه ابن الأنباري في الأضداد ص 388، 389، والحاكم 2/ 422 من طريق شعبة به، ووقع عند الأنباري عن مجاهد بدلًا من ابن جبير، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 225 إلى سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ} إن أدَّوها أثابَهم، وإن ضَيَّعوها عذَّبَهم، فكرِهوا ذلك، وأشفَقوا مِن غيرِ معصيةٍ، ولكن تعظيمًا لدينِ اللَّهِ ألَّا يقوموا بها، ثم عرَضها على آدمَ، فقبِلها بما فيها، وهو قولُه:{وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} غِرًّا بأمرِ اللَّهِ
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ [عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} إِلى: {جَهُولًا} . يعنى بالأمانةِ]
(2)
الطاعةَ عرَضها عليهم
(3)
قبلَ أن يعرِضَها على آدمَ فلم تُطِقْها، فقال لآدمَ: يا آدمُ، إنى قد عرَضتُ الأمانةَ على السماواتِ والأرضِ والجبالِ فلم تُطِقْها، فهل أنت آخِذُها بما فيها؟ فقال: يا ربِّ، وما فيها؟ قال: إن أحسنتَ جُزِيتَ، وإن أسأتَ عُوقبتَ. فأخَذها آدمُ فتَحمَّلَها، فذلك قولُه:{وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}
(4)
.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا أبو أحمدَ الزُّبَيريُّ
(5)
، قال: ثنا سفيانُ، عن رجلٍ: عن الضحاكِ بن مُزاحمٍ في قولِه: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} . قال: آدمُ. قيل له: خُذْها بحقِّها. قال: وما حَقُّها؟ قيل: إن أحسنتَ جُزِيتَ، وإن أسأتَ عُوقِبتَ. فما لَبِثْ إِلَّا
(6)
ما بيَن الظهرِ والعصرِ حتى أُخْرج منها
(7)
.
(1)
أخرجه الأنباري في الأضداد ص 389، 390 من طريق عبد الله بن صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 224، 225 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
سقط من: م، ت 1.
(3)
في م: "عليها".
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 477 عن العوفى به، والطوسى في تفسيره 8/ 333.
(5)
في ت 1: "الزهرى".
(6)
سقط من: م، ت 1.
(7)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 125 عن الثورى عن غير واحد عن الضحاك، وعزاه السيوطي في =
حُدِّثْتُ عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبَرنا عُبَيدٌ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ} فلم يُطِقْنَ حَمْلَها، فهل أنت يا آدمُ آخِذُها بما فيها؟ قال آدمُ: وما فيها يا ربِّ؟ قال: إن أحسنتَ جُزِيتَ، وإن أسأتَ عُوقبتَ. فقال: تحمَّلتُها. فقال اللَّهُ تبارك وتعالى: قد حمَّلتُكَها. فما مكَث آدمُ إلا مقدارَ ما بينَ الأولى إلى العصرِ، حتى أخرَجه إبليسُ، لعَنه اللَّهُ، مِن الجنةِ. والأمانةُ: الطاعةُ.
حدَّثني سعيدُ بنُ عمرٍو السَّكُونيُّ، قال: ثنا بَقِيَّةُ، قال: ثني عيسى بنُ إبراهيمَ، عن موسى بن أبي حبيبٍ، عن الحَكَمِ بن عميرٍ
(1)
، وكان مِن أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الأمانةَ والوفاءَ نَزَلا على ابن آدمَ مع الأنبياءِ، فأُرْسِلوا به؛ فمِنهم رسولُ اللَّهِ، [ومنهم نبيُّ]
(2)
، ومنهم نبيٌّ رسولٌ، ونزَل القرآنُ وهو كلامُ اللَّهِ، ونزلَت العربيةُ والعجميةُ، فعلِموا أمرَ القرآنِ، وعلِموا أمرَ السننِ بألسنتِهم، ولم يَدَعِ اللَّهُ شيئًا مِن أمرِه مما [يأتون ومما يَجْتَنِبون]
(3)
، وهي الحُجَجُ عليهم، إلا بَيَّنه لهم، فليس أهلُ لسانٍ إلَّا وهم يعرِفون الحسنَ مِن القبيحِ، ثم الأمانةُ أوَّلُ شيءٍ يُرْفَعُ، ويَبْقى أثَرُها في جذورِ قلوبِ الناسِ، ثم يُرْفَعُ الوفاءُ والعهدُ والذِّمَمُ، وتَبْقَى الكتبُ، فعالِمٌ يعملُ، وجاهلٌ يعرِفُها ويُنْكِرُها [ولا يحمِلُها]
(4)
، حتى وصَل إليَّ وإلى أُمتى، فلا يَهْلِكُ على اللَّهِ إلَّا هالكٌ، ولا يُغْفِلُه إلَّا تاركٌ، والحذرَ أيُّها
= الدر المنثور 5/ 225 إلى عبد بن حميد.
(1)
في م: "عمرو"، وفى ت 1، ت 2:"عمر"، ينظر ما تقدم في 1/ 136، وقال ابن حجر في الإصابة 2/ 108: ولعل أباه كان اسمه عَمْرًا فصغر واشتهر بذلك.
(2)
سقط من: ت 2.
(3)
في ت 1: "يكون وما يجيبون"، وفى ت 2:"يكون وما يحيون".
(4)
سقط من: م.
الناسُ، وإيَّاكم والوَسواسَ الخناسَ، فإنما يَبْلُوكم أيُّكم أحسنُ عملًا"
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ خَلَفٍ العَسْقَلانيُّ، قال: ثنا عبيدُ اللَّهِ بنُ عبدِ المجيدِ الحنفيُّ، قال: ثنا [أبو العَوَّامِ القطانُ]
(2)
، قال: ثنا قتادةُ وأبانُ بنُ أَبي عيَّاشٍ، عن خُلَيدٍ العَصَرِيِّ، عن أبي الدرداءِ، قال: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "خمسٌ مَن جاء بهنَّ يومَ القيامةِ مع إيمانٍ دخَل الجنةَ؛ مَن حافَظ على الصلواتِ الخمسِ؛ على وُضُوئِهن ورُكُوعِهن وسُجُودِهن ومَواقيتِهن، وأعطَى الزكاةَ مِن مالِه طَيَّبَ النفسِ بها". وكان يقولُ: "وايمُ اللَّهِ، لا يفعلُ ذلك إلا مؤمنٌ، وصامَ رمضانَ، وحجَّ البيتَ إن استطاع إلى ذلك سبيلًا، وأدَّى الأمانةَ". قالوا: يا أبا الدرداءِ، وما الأمانةُ؟ قال: الغُسْلُ مِن الجنابةِ؛ فإن اللَّهَ لم يأمَنِ ابن آدمَ على شيءٍ من دينِه غيرَه
(3)
.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن الأعمشِ، عن أبي الضُّحَى، عن مسروقٍ، عن أُبَيِّ بن كعبٍ، قال: مِن الأمانةِ أن المرأةَ اؤتُمِنت على فَرْجِها
(4)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِ اللَّهِ: {إِنَّا
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 479 عن المصنف، وقال: هذا حديث غريب جدًّا، وله شواهد من وجوه أخرى، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 226 إلى المصنف وضعفه.
(2)
في م: "العوام العطار"، وفى ت 1، ت 2:"أبو العوام العطار"، وأبو العوام القطان، هو عمران بن دَاوَر العمى أبو العوام القطان البصري. ينظر تهذيب الكمال 22/ 328.
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 479، وأخرجه أبو داود (429)، والطبراني في الصغير 2/ 5، وأبو نعيم في الحلية 2/ 234 من طريق عبيد الله بن عبد بن المجيد به، وقول أبي الدرداء لم يذكره الطبراني، وأخرجه أبو نعيم في أخبار أصبهان 2/ 189 من طريق أبى العوام القطان به، ولم يذكر قول أبي الدرداء.
(4)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 125 عن الثورى به، وأخرجه الحاكم 2/ 422، والبيهقى 7/ 371 من طريق الأعمش به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 226 إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا}. قال: إن الله عَرَض عليهن الأمانةَ؛ أن يفترضَ عليهن الدينَ، ويجعلَ لهن ثوابًا وعقابًا، ويَسْتأمنَهنَّ على الدينِ، فقلنَ: لا، نحن مسخَّراتٌ لأمرِك، لا نريدُ ثوابًا ولا عقابًا. قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"وعَرَضَها اللَّهُ على آدمَ، فقال: بينَ أُذُنى وعاتِقى". قال ابن زيدٍ: فقال اللَّهُ له: أمَّا إذا تَحَمَّلتَ هذا، فسأُعِينُك؛ أجعلُ لبصرِك حجابًا، فإذا خشيتَ أن تنظرَ إلى ما لا يحلُّ لك، فأَرْخِ عليه حجابَه، وأجعلُ للسانِك بابًا وغَلَقًا، فإذا خَشِيتَ فأغِلقْ، وأجعلُ لفَرْجِك لباسًا، فلا تَكْشِفْه إلَّا على ما أحللتُ لك
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ} . يعني به الدينَ [والفرائضَ]
(2)
والحدودَ: {فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا} . قيل لهن: احمِلْنَها تُؤَدِّين حقَّها، فقُلْنَ: لا نُطِيقُ ذلك، {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}. [قيل له: أتحمِلُها؟ قال: نعم. قيل: أتؤدِّى حقَّها؟ قال: نعم. قال اللَّهُ: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} ]
(2)
عن حقَّها
(3)
.
وقال آخرون: بل عنَى بالأمانةِ في هذا الموضعِ أماناتِ الناسِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا تميمُ بنُ المنتصرِ، قال: ثنا إسحاقُ، عن شَرِيكٍ، عن الأعمشِ، عن
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 478، 479 عن المصنف.
(2)
سقط من: ت 2.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 225 إلى المصنف وعبد بن حميد.
عبد اللَّهِ بن السائبِ، عن زاذانَ، عن عبدِ اللَّهِ بن مسعودٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"القَتْلُ في سبيلِ اللَّهِ يُكَفِّرُ الذنوبَ كلَّها، أو قال: يكفِّرُ كلَّ شيءٍ إلا الأمانةَ، يُؤْتَى بصاحبِ الأمانةِ، فيُقال له: أدِّ أمانتَك. فيقولُ: أي ربِّ، وقد ذهَبَت الدنيا؟ ثلاثًا. فيقالُ: اذهَبوا به إلى الهاويةِ. فيُذْهَبُ به إليها، فيَهْوِى فيها حتى ينتهىَ إلى قعْرِها، فيَجِدُها هناك كهيئتِها، فيَحْمِلُها، فيَضَعُها على عاتقِه، فيَصْعَدُ بها إلى شَفِيرِ جهنمَ، حتى إذا رأى أنه قد خرَج، زَلَّت، فهَوَى في أَثَرِها أبدَ الآبِدين". قالوا: والأمانةُ في الصلاةِ، والأمانةُ في الصومِ، [والأمانةُ في الوضوءِ]
(1)
، والأمانةُ في الحديثِ، وأشدُّ ذلك الودائعُ، فلَقِيتُ البَرَاءَ فقلتُ: ألا تسمعُ إلى ما يقولُ أخوك عبدُ اللَّهِ؟ فقال: صَدَق
(2)
.
قال شَرِيكٌ: وثنى عياشٌ العامِريُّ، عن زاذانَ، عن عبدِ اللَّهِ بن مسعودٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم بنحوِه، ولم يذكرِ الأمانةَ في الصلاةِ، وفي كلِّ شيءٍ.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ: أخبرني عمرُو بنُ الحارثِ، عن ابن أبي هلالٍ، عن أبي حازمٍ، قال: إن اللَّهَ عرَض الأمانةَ على سماءِ الدنيا، فأبَت، ثم التي تَليها، حتى فرَغ منها، ثم الأَرَضين ثم الجبالِ، ثم عرَضها على آدمَ، فقال: نعم، بينَ أُذُنى وعاتِقى. فثلاتٌ آمُرُك بهن، فإنهنَّ لك عونٌ؛ [إنى جعلتُ لك بصرًا وجعلتُ لك شُفْرين
(3)
فغُضَّهما]
(4)
عن [كلِّ شيءٍ نهيتُك عنه]
(5)
،
(1)
سقط من: م.
(2)
أخرجه الطبراني (10527)، وعنه أبو نعيم في الحلية 4/ 201 من طريق تميم بن المنتصر به، وأخرجه أبو نعيم في الحلية 4/ 201 من طريق شريك به موقوفًا.
(3)
الشُّفر: حرف كل شيء، وشفر الجفن حرفه الذي ينبت عليه الهدب. الوسيط (ش ف ر).
(4)
سقط من: م، ت 1.
(5)
سقط من النسخ، والمثبت من الدر المنثور.
وجعلتُ لك [لسانًا بينَ لَحْيَين، فكُفَّه عن كلِّ شيءٍ نَهَيتُك عنه]
(1)
، وجعلتُ لك فَرْجًا وَواريتُه، فلا تكشِفْه إلى ما حرَّمتُ عليك
(2)
.
وقال آخرون: بل ذلك إنما عُنى به ائتمانُ آدمَ ابنَه قابيلَ على أهلِه وولدِه، وخيانةُ قابيلَ إياه في قتلِه أخاه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ في خبرٍ ذكرَه عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابن عباسٍ، وعن مُرَّةَ الهمدانيِّ، عن ابن مسعودٍ، وعن ناسٍ من أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:["كان لا يولَدُ لآدمَ مولودٌ إلا وُلِد معة جاريةٌ، فكان يزوِّجُ غلامَ هذا البطنِ جاريةَ هذا](1) البطنِ الآخرِ، ويزوِّجُ جاريةَ هذا البطنِ غلامَ هذا البطنِ الآخرِ، حتى وُلِد له ابنانِ، يقالُ لهما: قابيلُ، وهابيلُ. وكان قابيلُ صاحب زَرْعٍ، وكان هابيلُ صاحبَ ضَرْعٍ، وكان قابيلُ أكبرَهما، وكان له أختٌ أحسنُ من أختِ هابيلَ، وإن هابيل طلَب أن يَنْكِحَ أختَ قابيلَ، فأبَى عليه، وقال: هي أختى وُلِدتْ معى، وهى أحسنُ من أختِك، وأنا أحقُّ بأختى أن أتزوجَها. فأمَره أبوه أن يزوِّجَها هابيلَ، فأبَى عليه، وإنهما قرَّبا قُربانًا إلى اللَّهِ أيُّهما أحقُّ بالجاريةِ، وكان آدمُ يومَئذٍ قد غاب عنهما، [أتى لمكةَ]
(3)
ينظرُ إليها، قال اللَّهُ لآدمَ: يا آدمُ، هل تعلمُ أن لي بيتًا في الأرضِ؟ قال: اللهم لا. قال: إن لى بيتًا بمكةَ فأْتِه. فقال آدمُ للسماءِ: احفَظى
(1)
سقط من: ت 2.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 225 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
في م: "أي بمكة"، وفي ت 2:"بمكة".
ولَدِى بالأمانةِ. فأبَت، وقال للأرضِ، فأبَت، فقال للجبالِ، فأبَت، فقال لقابيلَ، فقال: نعم. تذهبُ وترجعُ، وتجدُ أهلَك كما يسُرُّك. فلما انطلَق آدمُ وقرَّبا قربانًا، وكان قابيلُ يفخرُ عليه فيقولُ: أنا أحقُّ بها منك، هي أختى، وأنا أكبرُ منك، وأنا وصيُّ والدى. فلما قرَّبا، قرَّب هابيلُ جَذَعَةً سمينةً، وقرَّب قابيلُ
(1)
حُزْمةً سُنْبلٍ، فوجَد فيها سُنْبلةً عظيمةً، ففَرَكها فأكَلها، فنزلَت النارُ، فأكَلَت قُرْبَانَ هابيلَ، وتركَت قُربانَ قابيلَ، فغضِب وقال:{لِأَقْتُلَكَ} حتى لا تنكحَ أختى. فقال هابيلُ: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} إلى قولِه: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ} [المائدة: 27 - 30]. فطلَبه ليقتُلَه، فراغَ الغلامُ منه في رءوسِ الجبالِ، وأتاه
(2)
يومًا مِن الأيامِ، وهو يَرْعَى غنمَه في جبلٍ وهو نائمٌ، فرفَع صخرةً، فشَدَخ بها رأسَه فمات، وترَكه بالعَراءِ، ولا يعلمُ كيف يُدْفَنُ، فبعَث اللَّهُ غُرابَين أخَوين
(3)
، فاقْتَتلا، فقتل أحدُهما صاحبَه، فحفَر له، ثم حَثَا عليه، فلما رَآه قال:{يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي} [المائدة: 31]. فهو قولُ اللَّهِ تبارك وتعالى: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ} [المائدة: 31]. فرجَع آدمُ، فوجَد ابنَه قد قتَل أخاه، فذلك حينَ يقولُ:{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ} إلى آخرِ الآيةِ
(4)
.
وأَولى الأقوالِ في ذلك بالصوابِ ما قاله الذين قالوا: إنه عُنِى بالأمانةِ في هذا الموضعِ جميعُ معاني الأماناتِ في الدينِ، وأماناتِ الناسِ. وذلك أن اللَّهَ لم يَخُصُّ
(1)
في م: "هابيل". وهو خطأ طباعي.
(2)
في ت 2: "لقاه".
(3)
سقط من: ت 1.
(4)
ذكره القرطبي في تفسيره 14/ 254، وأبو حيان في البحر المحيط 7/ 254.
بقولِه: {عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ} . بعضَ معاني الأماناتِ لِما وصَفنا.
وبنحوِ قولِنا قال أهلُ التأويلِ في معنى قولِ اللَّهِ: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} .
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} . يعنى قابيلَ حينَ حمَل أمانةَ آدمَ لم يحفَظْ له أهلَه
(1)
.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا أبو أحمدَ الزُّبَيرِيُّ، قال: ثنا سفيانُ، عن رجلٍ، عن الضحاكِ في قولِه:{وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ} . قال: آدمُ، {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} .
قال: ظلومًا لنفسِه، جهولًا فيما احتَمل فيما بينَه وبينَ ربِّه.
حدَّثنا عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ:{إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} : غِرًّا
(2)
بأمرِ اللَّهِ
(3)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} . قال: ظلومًا لها - يعنى للأمانةِ - جهولًا عن حقِّها
(4)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وحَمَل الإنسانُ الأمانةَ كيما يعذِّبَ اللَّهُ المنافقين فيها،
(1)
ذكره القرطبي في تفسيره 14/ 254 بنحوه.
(2)
في م: "غر".
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره - كما في الإتقان 2/ 37 - وابن الأنباري في الأضداد ص 389، 390 من طريق عبد الله بن صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 224، 225 إلى ابن المنذر.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 225 إلى المصنف وعبد بن حميد.
الذين يُظهِرون أنهم يؤدُّون فرائضَ اللَّهِ، مؤمنين بها، وهم مستسِرُّون الكفرَ بها، والمنافقاتِ، والمشرِكين باللَّهِ في عبادتِهم إيَّاه الآلهةَ والأوثانَ، والمشركاتِ، {وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} فيرجِعَ بهم إلى طاعتِه، وأداءِ الأماناتِ التي ألزَمهم إياها حتى يؤدُّوها، {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا} لذنوبِ المؤمنين والمؤمِناتِ، بسترِه عليها وتركِه عقابَهم عليها، {رَحِيمًا} أن يعذِّبَهم عليها بعدَ توبتِهم منها.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا سوَّارُ بنُ عبدِ اللَّهِ العَنْبَرِيُّ، قال: ثنى أبي، قال: ثنا أبو الأشهبِ، عن الحسنِ أنه كان يقْرَأُ هذه الآيةَ:{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ} . حتى ينتهىَ: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ} . فيقولُ: [اللذانِ خاناها، اللذانِ]
(1)
ظلَماها؛ المنافقُ والمشركُ
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ} : هذانِ اللذانِ خاناها، {وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}: هذانِ اللذانِ أدَّياها، {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}
(3)
.
آخرُ تفسيرِ سورةِ الأحزابِ، وللهِ الحمدُ والمنةُ
(1)
في ت 1 ت 2: "مما الله إن خافاهما الله إن".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 226 إلى المصنف وعبد بن حميد.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 225 إلى المصنف وعبد بن حميد.
بسم الله الرحمن الرحيم
(*)
تفسيُر سورةِ سبأ
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ
(1)}.
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه: الشكرُ الكاملُ والحمدُ التامُّ كلُّه، للمعبودِ الذي هو مالكُ جميعِ ما في السماواتِ السبعِ، وما في الأرَضين السبعِ، دونَ كلِّ ما [يُعبَدُ مِن دونِه]
(1)
، ودونَ كلِّ شيءٍ سواه، لا مالكَ لشيءٍ من ذلك غيرُه، بالمعنى
(2)
الذي هو به مالكٌ جميعَه. {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ} . يقولُ: وله الشكرُ الكاملُ في الآخرةِ، كالذى هو له
(3)
في الدنيا العاجلةِ؛ لأن منه النعمَ كلَّها، على كلِّ مَنْ في السماواتِ والأرضِ في الدنيا، ومنه يكونُ ذلك في الآخرةِ، فالحمدُ للهِ خالصًا، دونَ [كلِّ أحدٍ]
(4)
سواه، في عاجلِ الدنيا، وآجلِ الآخرةِ؛ لأن النعمَ كلَّها من قِبَلِه، لا يَشرَكُه فيها أحدٌ من دونِه، وهو الحكيمُ في تدبيرِه خلقَه وصرفِه إياهم في تقديرِه، خبيرٌ بهم، وبما يُصلحُهم، وبما عمِلوا، وما هم عاملوه، محيطٌ بجميعِ ذلك.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
(*) من هنا يبدأ الجزء السادس والثلاثون من مخطوط خزانة القرويين المشار إليها بـ "الأصل".
(1)
في م، ت 2، ت 3:"يعبدونه"، وفى ت 1:"يعبد دونه".
(2)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"فالمعني".
(3)
بعده في م، ت 1، ت 2، ت 3:"ذلك".
(4)
في م، ت 1، ت 2:"ما".
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} : حكيمٌ في أمرِه، خبيرٌ بخلقِه
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ
(2)}.
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه: يعلم ما يدخُلُ في الأرضِ وما يغيبُ
(2)
فيها من شيءٍ. من قولِهم: وَلَجْتُ في كذا. إذا دخلتَ فيه، وكما قال الشاعرُ
(3)
:
رأَيْتُ القَوَافِيَ يَتَّلِجْنَ مَوالِجًا
…
تَضَايَقُ عَنْهَا
(4)
أَنْ تَوَلَّجَها
(5)
الإبَرْ
يعنى بقولِه: يتَّلجن موالجا: يدخلن مداخلَ.
{وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} . يقولُ: وما يخرجُ من الأرضِ، {وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا}. يعنى: وما يَصعَدُ في السماءِ، وذلك خبرٌ من اللَّهِ أنه العالمُ الذي لا يخفَى عليه
(6)
شيءٌ في السماواتِ والأرضِ، مما ظهَر فيها وما بطَن، {وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ}. يقولُ: وهو الرحيمُ بأهلِ التوبةِ مِن عبادِه أن يعذِّبَهم بعدَ توبتِهم، الغفورُ لذنوبِهم إذا تابوا منها.
(1)
أخرجه عبد عبد الرزاق في تفسيره 2/ 126 عن معمر عن قتادة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 226 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
في الأصل: "يصيب".
(3)
البيت لطرفة بن العبد، وهو في ديوانه ص 161.
(4)
في النسخ: "عنه".
(5)
في النسخ: "تولجه".
(6)
في الأصل: "عنه".
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ
(2)}.
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه: ويستعجلُك يا محمدُ الذين جحَدوا قُدرةَ اللَّهِ على إعادةِ خلقِه بعدَ فنائِهم، لهيئتِهم
(1)
التي كانوا بها مِن قبلِ فنائِهم، مِن قومِك، بقيامِ الساعةِ، [فقالوا لك: لا تأتينا الساعةُ]
(2)
. استهزاءً بوعدَك إياهم ذلك، وتكذيبًا لخبرِك، قُلْ لهم: بلى لتأتينَّكم
(3)
وربِّي، قسمًا به لتأتينَّكم الساعةُ. ثم عادَ جل جلاله [إلى الثناءِ]
(4)
على نفسِه وتمجيدِها، فقال:{عَالِمِ الْغَيْبِ} .
واختلَفَت القرأةُ في قراءةِ ذلك؛ فقرأتْه عامةُ قرأةِ المدينةِ: (عالمُ الغيبِ) على مثالِ "فاعل"، بالرفعِ على الاستئنافِ
(5)
، إذ دخَل بينَ قولِه:{وَرَبِّي} وبينَ قولِه: (عالمُ الغيبِ) كلامٌ حائلٌ بينَه وبينَه. وقرَأ ذلك بعضُ قرأةِ الكوفةِ والبصرةِ، {عَالِمِ الْغَيْبِ
(6)
} [على مثالِ "فاعل"، غيرَ أنهم خفَضوا {عَالِمِ}]
(7)
ردًّا منهم له على قولِه: {وَرَبِّي} إذ كان مِن صفتِه
(8)
. وقرَأ ذلك بعدُ
(9)
عامةُ قرأةِ الكوفةِ:
(1)
في م: "بهيئتهم".
(2)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(3)
في م، ت 2:"تأتيكم"، وفى ت 1، ت 3:"تأتينكم".
(4)
في م: "بعد ذكره الساعة"، وفى ت 1:"إلى الساعة".
(5)
هي قراءة نافع وابن عامر. السبعة ص 526.
(6)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(7)
سقط من: ت 2.
(8)
هي قراءة ابن كثير وأبي عمرو وعاصم. المصدر السابق.
(9)
في م، ت 2، ت 3:"بقية".
(علَّامِ الغيبِ) على مثالِ "فَعَّال"، وبالخفضِ ردًّا لإعرابِه على إعرابِ قولِه:{وَرَبِّي} . إذ كان مِن نَعْتِه
(1)
.
والصوابُ مِن القولِ في ذلك عندَنا أن كلَّ هذه القراءاتِ الثلاثِ قراءاتٌ مشهورةٌ في قرأةِ الأمصارِ، مُتقارباتُ المعانى، فبأيَّتِهن قرَأ القارئُ فمصيبٌ، غيرَ أن أعجبَ القراءاتِ إليَّ في ذلك إليَّ أن أقرأَ بها:(علَّامِ الغيبِ) على القراءةِ التي ذكرناها عن عامةِ قرأةِ أهلِ الكوفةِ.
فأما اختياري (علَّامِ الغيبِ
(2)
) على {عَالِمِ} ؛ فلأنها أبلغُ في المدحِ، وأما الخفضُ فيها؛ فلأنها مِن نعتِ الربِّ، وهو في موضعِ الجرِّ، وعَنى بقولِه:(علَّامِ الغَيْبِ): علَّامِ ما يغيبُ عن أبصارِ الخلقِ، فلا يَراه أحدٌ؛ إمَّا مما
(3)
لم يُكوِّنْه مما سيكوِّنُه، أو مما
(4)
قد كوَّنه، فلم يَطَّلِعْ عليه أحدٌ
(5)
غيرُه، وإنما وصَف جلّ وعزّ في هذا الموضعِ نفسَه بعلمِه الغيبَ؛ إعلامًا منه خلقَه أن الساعةَ لا يعلمُ وقتَ مجيئها أحدٌ سِواه، وإن كانت جائيةً، فقال لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: قُلْ للذين كفَروا بربِّهم: بلى وربِّي لتأتينَّكم الساعةُ، ولكنه لا يعلمُ وقتَ [[إتيانِها غيرُ علَّامِ]
(6)
الغيوبِ، الذي]
(7)
لا يعرُبُ عنه مثقالُ ذرَّةٍ.
ويعنى جلَّ ثناؤه بقولِه: {لَا يَعْزُبُ عَنْهُ} : لا يغيبُ عنه، ولكنه ظاهرٌ له.
وبنحوِ الذي قلنا في تأويلِ ذلك قال أهلُ التأويلِ.
(1)
هي قراءة حمزة والكسائي. المصدر السابق.
(2)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(3)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"ما".
(4)
في م: "ما".
(5)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"أحدا".
(6)
في م: "مجيئها أحد سوى علام"، وفى ت 2، ت 3:"مجيئها أحد سواه".
(7)
في ت 1: "مجيئها أحد سواه".
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ في قولِه:{لَا يَعْزُبُ عَنْهُ} . يقولُ: لا يغيبُ عنه
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللَّهِ:{لَا يَعْزُبُ عَنْهُ} . قال: لا يغيبُ عنهِ
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ} . أي: لا يغيبُ عنه
(3)
.
وقد بَيَّنَّا ذلك بشواهدِه فيما مضى، بما أغنَى عن إعادتِه في هذا الموضعِ
(4)
.
وقولُه: {مِثْقَالُ ذَرَّةٍ} . يعنى: زِنَةَ ذَرَّةٍ، {فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ}. يقولُ تعالى ذكرُه: لا يغيبُ عنه شيءٌ، مِن زِنَةِ ذَرَّةٍ فما فوقَها وما دونَها، أين كان ذلك؛ في السماواتِ، ولا في الأرضِ، {وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ}. يقولُ: ولا يعزُبُ عنه أصغرُ مِن مثقالِ ذَرَّةٍ ولا أَكْبَرُ منه، {إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}. يقولُ: هو مثبَتٌ في كتابٍ، يَبِينُ للناظرِ فيه أن اللَّهَ جلَّ وعزَّ قد أثبَته وأحْصاه وعلِمه، فلم يعزُبْ عنه
(5)
علمُه.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤه: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
(1)
تقدم تخريجه في 12/ 208.
(2)
تفسير مجاهد ص 553. ومن طريقه الفريابي - كما في تغليق التعليق 4/ 288.
(3)
ينظر ابن كثير 6/ 483.
(4)
ينظر ما تقدم في 12/ 206 - 208.
(5)
في م: "عن".
الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)}.
قال أبو جعفرٍ، رحمةُ اللَّهِ عليه: يقولُ تعالى ذكرُه: أثبتَ ذلك في الكتابِ المبينِ، كي يُثِيبَ الذين آمَنوا باللَّهِ ورسولَه، وعمِلوا بما أمَرهم اللَّهُ ورسولُه به، وانَتَهوا عما نَهاهم عنه - على طاعتَهم ربَّهم، {أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ}. يقولُ جلَّ ثناؤه: لهؤلاء الذين آمنوا وعمِلوا الصالحاتِ مغفرةٌ مِن ربِّهم لذنوبِهم، {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}. يقولُ: وعيشٌ هنئٌ يومَ القيامةِ في الجنةِ.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ} : لذنوبِهم، {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}: في الجنةِ
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤه: {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه: أثبَتَ ذلك في الكتابِ، ليَجْزِيَ [الذين آمنوا]
(2)
ما وصَف، وليَجْزىَ الذين سَعَوا في آياتِنا مُعاجِزين. يقولُ: وكى يُثيبَ
(3)
الذين عمِلوا في إبطالِ أدلَّتِنا وحُجَجِنا مُفاوِتينَ
(4)
ويحسَبون أنهم يَسْبِقوننا بأنفسِهم، فلا نقدرُ عليهم، {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ}. يقولُ: هؤلاء لهم عذابٌ مِن شديدِ العذابِ الأليمِ. ويعنى بالأليمِ المُوجِعَ.
وبنحوِ الذي قلنا في تأويلِ ذلك قال أهلُ التأويلِ.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 226 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"المؤمنين".
(3)
في الأصل، ت 2، ت 3:"يثبت".
(4)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"معاونين".
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ} . أي: لا يُعْجزون، {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ}. قال: الرِّجْزُ سوءُ العذابِ، الأليمُ المُوجِعُ
(1)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِ اللَّهِ: {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ} . قال: جاهدِين ليُهْبِطوها أو يُبْطِلوها. قال: هم المشركون. وقرَأ: {لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ}
(2)
[فصلت: 26].
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ وعزَّ: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه: أثبتُّ ذلك في كتابٍ مبينٍ ليُجْزَى الذين آمنوا، والذين سعَوْا في آياتِنا، ما قد بُيِّن لكم
(3)
، وليَرى الذين أُوتوا العلمَ. فـ "يرى" في موضعِ نصبٍ عطفًا به على قولِه:"يَجْزِى". في قولِه: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا} . وعنَى بالذين أُوتوا العلمَ مُسْلِمةَ أهلِ الكتابِ؛ كعبدِ اللَّهِ بن سَلَامٍ، ونُظَرائِه الذين قد قَرءوا كتبَ اللَّهِ التي أنزلها قبلَ الفرقانِ، يقولُ تعالى ذكرُه: وليَرى هؤلاء الذين أُوتوا العلمَ بكتابِ اللَّهِ، الذي هو التوراةُ، الكتابَ الذي أُنزل إليك يا محمدُ مِن ربِّك هو الحقَّ.
(1)
أخرج أوله عبد الرزاق في تفسيره 2/ 126 عن معمر عن قتادة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 226 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
ينظر تفسير أبي حيان 7/ 259.
(3)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"لهم".
وقيل: عنَى بالذين أُوتوا العلم [أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة قوله:{وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} . قال]
(1)
: أصحابُ محمدٍ
(2)
.
وقولُه: {وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} . يقولُ: ويُرْشِدُ مَن اتَّبَعَه، وعمل بما فيه إلى سبيل الله، {الْعَزِيزِ} في انتقامه من أعدائه، {الْحَمِيدِ} عند خلقه؛ بأيَاديه عندَهم، ونِعَمِه لدَيهم. وإنما يعنى أن الكتاب الذي أُنزل إلى
(3)
محمدٍ يَهْدى إلى الإسلامِ.
القول في تأويل قوله جلَّ وعزَّ: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7)} .
قال أبو جعفر رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه: وقال الذين كفَروا بالله وبرسولِه محمدٍ صلى الله عليه وسلم، مُتَعجِّبين من وعدِه إيَّاهم البعثَ بعدَ المماتِ، بعضُهم لبعض:{هَلْ نَدُلُّكُمْ} أيُّها الناسُ، و {عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ}. يقولُ: يخبرُكم أنكم بعدَ تَقَطُّعِكم في الأرضِ بِلًى
(4)
، وبعدَ مصيركم في الترابِ رُفاتًا، عائدون كهيئتكم
(5)
قبل المماتِ خلقًا جديدًا.
(1)
سقط من: الأصل.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 226 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
في م: "على".
(4)
في م: "بلاء".
(5)
في ت 2، ت 3:"لهيئتكم".
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} . قال: ذلك مُشركو قريش والمشركون من الناسِ، {يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ}: إذا أكلتكم الأرضُ، وصِرْتُم رُفاتًا وعظامًا، وقطَّعَتكم السباع والطيرُ، {إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} ستُحْيون وتُبْعَثون
(1)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيد في قوله: {هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ} إلى: {خَلْقٍ جَدِيد} . قال: يقولُ: {إِذَا مُزِّقْتُمْ} : إذا بَليتُم وكنتم عظامًا وترابًا ورُفاتًا، ذلك {كُلَّ مُمَزَّق} ، {إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} .
وقال: {يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ} فكسر "إن" ولم يُعملْ {يُنَبِّئُكُمْ} فيها، ولكن ابتدأ بها
(2)
؛ لأن النبأَ خبرٌ وقولٌ، فالكسرُ في (إن) لمعنى الحكاية في قوله:{يُنَبِّئُكُمْ} . دونَ لفظه، كأنه قيل: يقول لكم: {إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} . [ويجوز كسرها لدخول اللامِ في الخبر، كما قال: {إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ} [العاديات: 11]؛ لأن اللام إذا دخَلتْ في الخبر كسَرتِ المفتوح]
(3)
.
القولُ في تأويل قوله جلَّ ثناؤه: {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8)} .
قال أبو جعفر رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه مخبرًا عن قيلِ هؤلاء الذين كفَروا
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 126 عن معمر عن قتادة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 226 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
بعده في م، ت 1، ت 2، ت 3:"ابتداء".
(3)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
به، وأنكروا البعثَ بعدَ المماتِ، بعضُهم لبعضٍ، مُعْجَمِين مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم في وعده إيَّاهم ذلك: أفْتَرى هذا الرجلُ الذي يَعِدُنا [أنا بعدَ]
(1)
أَن تُمَزَّقَ كُلَّ مُمَزَّقٍ في خلق جديدٍ، على الله كذبًا، فتَخَلَّقَ عليه بذلك باطلًا مِن القولِ، وتَخَرَّصَ عليه قول الزور، {أَمْ بِهِ جِنَّةٌ}؟ يقول: أم هو مجنونٌ، فيتكلَّمَ بما لا معنى له؟ وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، قال: قالوا تكْذيبًا: {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} ؟ قال: قالوا: إمَّا أن يكونَ يكذب على الله، {أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} ؟ وإما أن يكون مجنونًا، {بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} الآية
(2)
.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيدٍ: ثم قال بعضُهم لبعضٍ: {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} : أرجل
(3)
مجنون فيتكلَّم بما لا يعقِلُ؟ فقال الله: {بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ} .
وقوله: {بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ} . يقولُ تعالى ذكره: ما الأمرُ كما قال هؤلاء المشركون في محمد صلى الله عليه وسلم وظَنُّوه به، من أنه افتَرى على الله كذبًا، أو أن به جنَّةٌ، لكن الذين لا يؤمنون بالآخرةِ من هؤلاء المشركين في عذاب الله في الآخرة، وفى الذهاب البعيد عن طريق الحقِّ وقصدِ
(1)
في الأصل: "أبعد".
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 126 عن معمر عن قتادة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 226 إلى ابن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم
(3)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"الرجل".
السبيل، فهم من أجلِ ذلك يقولون فيه ما يقولون.
حدَّثني يونس، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ: قال الله عز وجل: {بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ} ، وأمره أن يحلف [لهم ليعتبروا]
(1)
، وقرأ:{قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التغابن: 7] الآيةَ كلَّها، وقرأ أيضًا:{بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} .
وقطعت "الألفُ" من قوله: {أَفْتَرَى} في القطع والوصل، ففتحت؛ لأنها ألفُ استفهام. فأما "الألفُ" التي بعدها، التي هي ألفُ "افتعل"
(2)
فإنها ذهبت؛ لأنها خفيفةٌ زائدة تسقُطُ في اتصال الكلام، ونظيرها:{سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ} [المنافقون: 6]، {بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ} [ص: 75]، و {أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153)} [الصافات: 153]، وما أشبه ذلك، [ولا يجوز كسر الألفِ في شيءٍ من ذلك؛ لأن دلالة الاستفهام تسقطُ من الكلام إذا كَسَرْتَ وخالفت هيئتَه. قوله:{آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ} [الأنعام: 144]{آلْآنَ} [يونس: 91] وما أشبه ذلك]
(3)
، وطُوَّلَتْ هذه، ولم تُطَوَّلْ تلك؛ لأن ألفَ
(4)
{آلْآنَ} و {الذَّاكِرِينَ} كانت مفتوحةً، فلو أسقطت لم يكن بين الاستفهام والخبر فرقٌ، فجعل التطويلُ فيها فرقًا بين الاستفهام والخبر، [والألفُ من {أَفْتَرَى} كانت مكسورة]
(5)
وألفُ الاستفهام مفتوحةٌ، فكانتا مفترقتين بذلك، فأغنى ذلك دلالةً على الفرقِ، من التطويل.
(1)
في الأصل: "له لتبعثن".
(2)
في ت 1، ت 2، ت 3:"أفعل".
(3)
سقط من ت 1، ت 2، وفى م: "وأما ألف و {آلْآنَ} و {الذكرين} .
(4)
سقط من: م، ت 2.
(5)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
القول في تأويل قوله عز وجل: {أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)}
قال أبو جعفر رحمه الله: يقولُ تعالى ذِكرُه: أفلم يَنظُرْ هؤلاء المكذِّبون بالمَعادِ. الجاحدون البعث بعد المماتِ، القائلون لرسولِنا محمد صلى الله عليه وسلم:{أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} - إلى ما بيَن أيديهم وما خلفَهم من السماءِ والأرضِ، فيعلَموا أنهم حيثُ كانوا، فإنَّ أرضى وسمائى محيطةٌ بهم؛ مِن بين أيديهم ومن خلفِهم، وعن أيمانهم، وعن شمائِلهم، فيرتدِعوا عن جهلِهم، وينزجِروا عن تكذيبهم بآياتنا حِذَارًا أن نأمرَ الأرضَ فتُخْسَفَ بهم، أو السماء فتُسْقِطَ عليهم قِطَعًا؟! فَإِنَّا إِن نَشَأْ أن نَفعلَ ذلك فعَلنا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشر، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قوله:{أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} . قال: لينظُروا
(1)
عن أيمانهم، وعن شمائِلِهم، كيف السماء قد أحاطت بهم! {إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ} كما خَسَفْنا بَمَن كان قبلهم، {أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ}: أي قِطعًا مِن السماءِ
(2)
.
وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} . يقول تعالى ذكرُه: إِنَّ في
(1)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"ينظرون".
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 126 عن معمر عن قتادة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 226 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم مطولًا.
إحاطة السماء والأرض بعبادِ اللهِ {لَآيَةً} . يقول: لدَلالَةٌ، {لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} يقولُ: لكلِّ عبدٍ أناب إلى ربِّه بالتوبة، ورجَع إلى معرفةِ توحيده، والإقرار بربوبيته، [والاعتراف بوحدانيته]
(1)
، والإذعان لطاعته، على أنَّ فاعلَ ذلك لا يَمتنِعُ عليه فعلُ شيءٍ أراد فِعْلَه، ولا يتعذَّرُ عليه فعلُ شيءٍ شاءَه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} . والمنيبُ: المقبل التائب
(2)
.
القولُ في تأويل قوله عز وجل: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقول تعالى ذكره: {وَلَقَدْ آتَيْنَا} : ولقد أعطَينا داودَ منا، فضلًا، وقلنا للجبال:{يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ} : سبِّحى معه إذا سبَّح. والتأويبُ عندَ العرب: الرجوعُ ومَبِيتُ الرجل في منزِلِه وأهلِه، ومنه قولُ الشاعرِ
(3)
:
يَوْمَانِ يَوْمُ مَقاماتٍ وأَنْدِيَةٍ
…
ويَوْمُ سَيْرٍ إِلى الأَعْداءِ تَأْوِيبِ
أي رجوعٍ. وقد كان بعضُهم يقرؤُه
(4)
: (اوبِى مَعَهُ). من آبَ يئوبُ، بمعنى: تصرَّفى معه. وتلك قراءةٌ لا أستجيزُ القراءةَ بها؛ لخلافِها قراءةَ الحُجَّةِ.
(1)
سقط من: الأصل.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 126 عن معمر عن قتادة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 226 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
هو سلامة بن جندل، والبيت في المفضليات ص 120، ومجاز القرآن 2/ 142، ولسان العرب (أ و ب).
(4)
هي قراءة الحسن البصرى وهى شاذة، بهمزة وصل وسكون الواو. ينظر إتحاف فضلاء البشر ص 220.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثني سليمانُ بنُ عبد الجبارِ، قال: ثنى محمدُ بنُ الصَّلتِ، قال: ثنا أبو كُدَيْنةَ، وحدثنا محمد بن سنانٍ القَزّازُ، قال: ثنا الحسينُ
(1)
بن الحسن الأشقرُ، قال: ثنا أبو كُدينة، عن عطاءٍ، عن سعيدِ بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ:{أَوِّبِي مَعَهُ} قال: سَبِّحى معه
(2)
.
حدَّثني محمدُ بن سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:{يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ} . يقولُ: سَبِّحي معه.
حدَّثنا أبو عبد الرحمن العلائيُّ، قال: ثنا مِسْعرٌ، عن أبي حُصَينٍ، عن أبي عبدِ الرحمنِ:{يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ} . قال: سَبِّحى
(3)
.
حدَّثنا ابن حميد، قال: ثنا حَكَّامٌ، عن عَنْبَسةَ، عن أبي إسحاقَ، عن أبي ميسرة:{يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ} . قال: سَبِّحى معه. بلسان الحبشةِ
(4)
.
حدَّثني يحيى بنُ طلحةَ اليَرْبوعيُّ، قال: ثنا فُضيلٌ، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ في قوله:{يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ} . قال: سَبِّحى معه.
(1)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"الحسن". وينظر تهذيب الكمال 6/ 366.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة 11/ 559 من طريق أبي كدينة به.
(3)
بعده في الأصل: "معه".
والأثر أخرجه ابن أبي شيبة 11/ 559 من طريق مسعر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 227 إلى عبد بن حميد.
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة 11/ 560 من طريق أبي إسحاق به.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى،، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا وَرقاءُ، جميعا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قوله:{يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ} قال: سَبِّحى معه
(1)
.
حدَّثنا بشرُ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة قوله:{يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ} . أي: سبِّحى معه إذا سبَّح
(2)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ} . قال: سبِّحى معه. قال: والطيرُ أيضًا
(3)
.
حُدِّثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذٍ يقولُ: أخبرنا عُبيدٌ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ في قوله: {يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ} . يقولُ: سبِّحى معه
(4)
.
حدَّثنا عمرُو بنُ عبدِ الحميد، قال: ثنا مروانُ بن معاويةَ، عن جُويبرٍ، عن الضحاكِ في قوله:{يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ} . قال: سبِّحى معه.
وقوله: {وَالطَّيْرَ} . وفى نصب الطير وجهانِ؛ أحدُهما على ما قاله ابن زيدٍ، من أن الطيرَ نُودِيت كما نُوديت الجبالُ، فتكونُ منصوبةً من أجل أنَّها معطوفةٌ على مرفوعٍ، بما لا يَحسُنُ إعادة رافعه عليه
(5)
، فيكون كالمصروفِ
(6)
عن جهتِه.
(1)
تفسير مجاهد ص 553. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 227 إلى الفريابي وعبد بن حميد.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 127 عن معمر عن قتادة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 227 إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 227 إلى ابن أبي حاتم.
(4)
ذكره الطوسي في التبيان 8/ 344.
(5)
في الأصل: "عليها".
(6)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"كالمصدر".
والآخَرُ: على
(1)
ضميرٍ
(2)
متروكٍ استِغْناءَ بدَلالةِ الكلامِ عليه، فيكونُ معنى الكلام: فقلنا: يا جبالُ أوِّبى معه وسخَّرنا له الطيرَ. وإن رُفِع ردًّا على ما في قولِه: سبِّحى. من ذكر الجبال كان جائزًا، وقد يجوز رَفْعُ الطير وهو معطوفٌ على الجبال، وإن لم يَحسُنْ نداؤُها بالذي نُودِيت به الجبالُ، فيكون ذلك كما قال الشاعر
(3)
:
ألا يا عمْرُو والضَّحَّاكَ سيرًا
…
فَقَدْ جاوَزْتُما خَمَرَ
(4)
الطَّرِيقِ
وقولُه: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} . ذكر أنَّ الحديد كان في يديه كالطين المبلولِ يُصرِّفُه في يديه كيف شاء بغير إدخالِ نارٍ ولا ضربٍ بحديدٍ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدٌ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} : سخَّر الله له الحديد بغيرِ نارٍ
(5)
.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا ابن عَثْمَةَ، قال: ثنا سعيدُ بن بشيرٍ، عن قتادة في قوله:{وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} : كان يُسوِّيها بيدِه؛ لا يُدخِلُها نارًا، ولا يَضرِبُها بحديدةٍ
(6)
.
وقوله: {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} . يقولُ: وعهدنا إليه أن اعمل سابغاتٍ، وهى التوامُّ الكَوامِلُ مِن الدروعِ.
(1)
في م، ت 2، ت 3:"فعل".
(2)
بعده في ت 1: "فعل".
(3)
البيت في معاني القرآن للفراء 2/ 355 غير منسوب.
(4)
الخمر ما واراك من شجر وغيره. تاج العروس (خ م ر).
(5)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 127 عن معمر عن قتادة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 227 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(6)
ذكره الطوسى في التبيان، 8/ 345، وابن كثير في تفسيره 6/ 485.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} . قال: دروعٌ، وكان أوَّلَ مَن صنَعها داودُ، إنما كان قبلَ ذلك صفائِحُ
(1)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قوله: {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} . قال: السابغاتُ: الدروعُ من الحديدِ.
وقوله: {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} . اختلَف أهل التأويل في السَّرْدِ؛ فقال بعضُهم: السَّرْدُ: هو مِسمارُ حَلَقِ الدِّرْعِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} . قال: كان يجعَلُها بغيرِ نارٍ، ولا يَقْرَعُها بحديد، ثم يَسْرُدُها، والسَّرْدُ: المساميرُ التي في الحَلَقِ
(2)
.
وقال آخرون: بل هو الحَلَق بعينها.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرَنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيد في قولِه:
(1)
ذكره القرطبي في تفسيره، 14/ 67، وأبو حيان في البحر المحيط 7/ 264، وابن كثير في تفسيره 6/ 485.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 127 عن معمر عن قتادة.
{وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} . قال: والسَّرْدُ: حَلَقه. أي: قدِّرْ تلك الحَلَق. قال: وقال الشاعرُ
(1)
:
* أجاد المُسَدِّي سَرْدَها وأذَالها*
قال: يقولُ: وسَّعها، وأجاد حَلَقَها
(2)
.
[حدثني عليٍّ، قال: حدَّثنا أبو صالح، قال: حدَّثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عباس قوله: {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ}. يقولُ: حَلَقِ الحديدِ]
(3)
.
وقال بعض أهل العلم بكلام العربٍ: يقالُ: دِرْعُ مَسْرودَةٌ. إذا كانت مسمورةَ الحَلَقِ، واستَشهد لقيلِه ذلك بقولِ الشاعرِ
(4)
:
وَعَلَيْهِما مَسْرُودَتَانِ قَضَاهُما
…
دَاوُدُ أوْ صَنَعُ السَّوَابِغَ تُبَّعُ
وقيل: إن الله عز وجل إنما قال لداودَ: {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} . لأنها كانت قبل ذلك صفائحَ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا نصرُ بنُ عليٍّ، قال: ثنا أبى، قال: ثنا خالدُ بنُ قَيْسٍ، عن قتادة:{وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} . قال: كانت صفائِحَ، فأُمِر أَن يَسْرُدَها حَلَقًا
(5)
.
وعنَى بقوله: {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} : قدِّرِ المساميرَ في حَلَقِ الدِّرْعِ حتى يكونَ
(1)
البيت لكُثَيِّر عزة، وهو في اللسان (ذ ى ل).
(2)
ذكره القرطبي في تفسيره 14/ 267 بمعناه، وأبو حيان في البحر المحيط 7/ 264.
(3)
سقط من: م. والأثر عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 227 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4)
تقدم تخريجه في 2/ 466.
(5)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 127 عن معمر عن قتادة بنحوه، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 227 إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم بنحوه.
بمقدار؛ لا تُغلِّظ المسمار وتُضَيِّقِ الحَلَقة فتُفصَمَ الحَلَقةُ، ولا تُوسِّع الحَلَقةً وتُصَغِّرِ المسمار وتُدِقَّه فيَسْلَسَ
(1)
في الحَلَقَةِ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بن سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:{وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} . يعنى بالسردِ ثقبَ الدروع حينَ يَشُدُّ قَتيرها
(2)
. وعنى بقوله: {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} : قدر المسامير
(3)
.
حدَّثني محمد بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا وَرقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} . قال: قدِّر المساميرَ والحَلَقَ، لا تُدقَّ المساميرَ فتسْلسَ، ولا تُجِلَّها. قال محمدُ بنُ عمرٍو: فتُقْصَمَ
(4)
. وقال الحارثُ: فتُفصَمَ
(5)
(6)
.
(1)
مسمار سَلِسٌ: قَلِقٌ، وكل شيء أُقلق فهو سلس. التاج (س ل س).
(2)
القتير: رءوس مسامير حلق الدروع. التاج (ق ت ر).
(3)
ذكره القرطبي في تفسيره 14/ 267 بنحوه.
(4)
سقط من: م. وفى الأصل: "فيفصَم". وفى ت 2: "فيفصم" وفي ت 3: "فيفصم".
(5)
في الأصل: "فيفصم". وفى ت 2: "فيفصم". وفي ت 3: "فيفصم". وينظر مصادر التخريج. قال القرطبي 14/ 267 - وقد ذكر أثرًا عن ابن عباس بلفظ: لا تجعل مسمار الدرع رقيقًا فيقلق ولا غليظًا فيفصم الحلق - " روى "يقصم" بالقاف والفاء أيضًا رواية.
(6)
تفسير مجاهد ص 553. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 227 إلى الفريابي وعبد بن حميد.
حدَّثني عليُّ بن سهل، قال: ثنا حجّاجٌ، عن ابن جُرَيجٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} . قال: لا تُصغِّرِ المِسمارَ، وتُعَظِّمِ الحَلَقَةَ فيَسْلَسَ، ولا تُعَظِّمِ المِسمارَ وتُصَغِّرِ الحَلَقَةَ [فتَفْصَمَ الحَلَقَةُ]
(1)
.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُيينةَ، قال: ثنا أبي، عن الحكم في قوله:{وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} . قال: لا تُغلِّظ المسمار فيَفْصِمَ الحَلَقَةَ، ولا تُدِقَّه فيَقْلَقَ
(2)
.
وقوله: {وَاعْمَلُوا صَالِحًا} . يقول تعالى ذكرُه: واعمَلْ يا داودُ أنت وآلك
(3)
بطاعة اللهِ، {إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}. يقول جلَّ ثناؤُه: إِنِّي بما تَعملُ أنت وأتباعُك ذو بصرٍ، لا يَخفَى عليَّ
(4)
منه شيءٌ، وأنا مُجازيك وإياهم على جميعِ ذلك.
القول في تأويل قوله جلَّ ثناؤه: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12)} .
قال أبو جعفر رحمه الله: اختلفت القرَأَةُ في قراءة قوله: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ} ؛ فقرأته عامة قرأة
(5)
الأمصارِ: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ} بنصب "الريح"، بمعنى: ولقد آتينا داود منا فضلًا، وسخَّرْنا لسليمانَ الريحَ. وقرأ ذلك عاصمٌ:(ولِسُلَيْمانَ الريحُ) رفعًا بحرفِ الصفةِ، إذ لم يَظهرِ الناصبُ.
(1)
في م: "فيفصم المسمار"، وفى ت 2، ت 3:"فيقصم المسمار".
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 486.
(3)
في الأصل: "ذلك".
(4)
في الأصل: "عليه".
(5)
بعده في الأصل: "المدينة و". وهى قراءة الجميع عدا عاصم في رواية أبي بكر عنه. وينظر السبعة ص 527، والتيسير ص 146.
والصوابُ مِن القراءة في ذلك عندَنا النصبُ؛ لإجماعِ الحجةِ من القرَأةِ عليه.
وقوله: {غُدُوُّهَا شَهْرٌ} . يقولُ تعالى ذكرُه: وسخَّرْنا لسليمانَ الريحَ، غدوُّها إلى انتصافِ النهارِ مَسيرةُ شهرٍ، ورَواحُها من انتصافِ النهارِ إلى الليل مسيرةُ شهرٍ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة قوله:{وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} . قال: تغدو مسيرةَ شهرٍ، وتروح مسيرةَ شهرٍ.
قال: مسيرة شهرين في يومٍ
(1)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ، عن بعض أهلِ العلمِ، عن وهب بن منبِّهٍ:{وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} . قال: ذُكِر لى أن مَنزِلًا بناحية دِجلَةَ مَكتوبٌ فيه كتابٌ كتبه بعضُ صحابة سليمانَ؛ إما من الجنِّ، وإما من الإنس: نحنُ نزلناه وما بَنيناه، ومبنيًّا وجَدْناه، غدَونا من إصْطَخْرَ فقِلْناه، ونحنُ رائحون منه إن شاء الله، فبائتونَ بالشام
(2)
.
حدَّثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قولِه: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} . قال: كان له مَرْكَبُ مِن خشَبٍ، وكان فيه ألفُ ركن، في كلِّ ركنٍ ألفُ بيتٍ يركب معه فيه الجنُّ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 227 إلى المصنف وعبد بن حميد.
(2)
ذكره القرطبي في تفسيره 14/ 269.
والإنسُ، تحتَ كلِّ ركنٍ ألفُ شيطانٍ، يرفعون ذلك المركب هم والعصارُ؛ فإذا ارتفع أقبلتِ الرِّيحُ الرُّخاءُ، فسارت به، وساروا معه، يَقِيلُ عند قوم بينَه وبينهم شهرٌ، ويُمسى عندَ قومٍ بينَه وبينَهم شهرٌ، ولا يَدرى القوم إلا وقد أظلَّهم معه الجيوشُ والجنود. [والعِصَارُ: الريح العاصفة]
(1)
.
حدَّثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو عامر
(2)
، قال: ثنا قُرَّةُ، عن الحسن في قوله:{غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} . قال: كان يَغدو فيَقِيلُ بِإِصْطَخْرَ، ثم يَروحُ منها، فيكونُ رواحُها بكابُلَ
(3)
.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا حمادٌ، قال: ثنا قرَّةُ، عن الحسن بمثلِه.
وقولُه: {وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ} . يقولُ: وأَذَبْنا له عينَ النُّحاسِ وأَجْرَيناها له.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ} : عينَ النُّحاس، كانت بأرض اليمنِ، وإنما يَنتفِعُ النَّاسُ اليوم مما أخرج اللهُ لسليمان
(4)
.
(1)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3. والأثر عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 327 إلى ابن أبي حاتم.
(2)
في ت 1: "عاصم".
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 127 عن معمر عن الحسن، ومن طريقه ابن عساكر في تاريخه 22/ 231، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 227 إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 127 عن معمر عن قتادة مختصرًا، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 227 إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ} . قال: الصُّفْرُ سال كما يَسيلُ الماءُ، كان يَعمَلُ به كما يَعملُ العجين في اللينِ
(1)
.
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قوله:{وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ} . يقولُ: النحاسِ
(2)
.
حدَّثني محمدُ بن سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قولَه:{وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ} . يعنى: عين النحاس أُسِيلَت له
(3)
.
وقوله: {وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ} . يقول تعالى ذكره: ومن الجنِّ مَن يُطيعُه، ويأتمرُ لأمرِه، وينتَهِى لنهيِه، فيعملُ بينَ يدَيه ما يأْمُرُه به، طاعةً له، {بِإِذْنِ رَبِّهِ}. يقولُ: بأمر الله له بذلك، وتسخيره إياه له، {وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمرِنَا}. يقولُ: ومَن يَزُلْ وَيَعدِلْ مِن الجنِّ عن أمرنا الذي أمَرْناه به من طاعة سليمانَ، {نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ} في الآخرة، وذلك عذاب نارِ جهنم المُتوقِّدةِ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمرِنَا} . أي: يعدِلُ منهم عن أمرِنا، عما أمَره به سليمانُ، {نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ
(1)
في الأصل، ت 2:"اللبن".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 227 إلى المصنف وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
سقط من: م.
السَّعِيرِ}
(1)
القول في تأويل قوله جلَّ ثناؤه: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)} .
قال أبو جعفر رحمه الله: يقول تعالى ذِكرُه: يعملُ الجنُّ لسليمانَ ما يشاءُ؛ مِن مَحاريبَ، وهي جَمعُ مِحْرابٍ، والمحرابُ: مقدَّمُ كلِّ مسجدٍ وبيتٍ ومصلَّى، ومنه قول عديِّ بن زيدٍ
(2)
:
كَدُمَى العاج في المَحَارِيبِ
…
أوْ كالْبَيضِ في الرَّوْضِ زَهْرُهُ مُسْتَنِيرُ
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ قوله:{يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ} . قال: بُنيان دونَ القصورِ
(3)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة:{يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ} . قال: قصورٌ ومساجدُ
(4)
.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 228 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن أبي حاتم.
(2)
البيت في التبيان 8/ 348، وتفسير القرطبي 14/ 271.
(3)
تفسير مجاهد ص 553، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 228 إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم، وسيأتي تتمته في الصفحة التالية.
(4)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 127 عن معمر عن قتادة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 228 إلى عبد بن حميد وابن المنذر مطولًا.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قوله: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ} . قال: المحاريب: المساكنُ. وقرأ قول الله جلَّ وعزَّ: {فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ}
(1)
[آل عمران: 39].
حدَّثني عمرُو بنُ عبد الحميد الآمُلِيُّ، قال: ثنا مروانُ بنُ معاويةَ، عن جُوَيبرٍ، عن الضحاكِ في قول الله:{يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ} . قال: المحاريبُ: المساجد
(2)
.
وقوله: {وَتَمَاثِيلَ} . يعنى أنهم يعملون له تماثيل من نُحاسٍ وزجاجٍ.
كما حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ قال: ثنا وَرقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَتَمَاثِيلَ} . قال: مِن نحاسٍ
(3)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة:{وَتَمَاثِيلَ} . قال: مِن زجاج وشَبَهٍ
(4)
.
حدَّثنا عمرُو بنُ عبد الحميدِ، قال: ثنا مروانُ، عن جُوَيبرٍ، عن الضحاكِ في قول الله جلَّ ثناؤُه {وَتَمَاثِيلَ}. قال: الصُّورُ
(5)
.
(1)
ذكره أبو حيان في البحر المحيط 7/ 265، وابن كثير في تفسيره 6/ 487.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 228 إلى المصنف وابن أبي شيبة وابن المنذر مطولًا.
(3)
تتمة الأثر المتقدم تخريجه في الصفحة السابقة.
(4)
الشَّبه: النحاس يصبغ فيَصفَر. اللسان (ش ب هـ). والأثر عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 228 إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر.
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 228 إلى المصنف وابن أبي شيبة وابن المنذر.
وقوله: {وَجِفَانٍ كَالْجَوَاب} . يقولُ: ويَنْحتون له ما يشاءُ مِن جِفانٍ كالجَوابِ، وهي جمعُ جابِيَةٍ، والجابِيَةُ: الحَوْضُ الذي يُجْبَى فيه الماءُ، كما قال الأعشى ميمونُ بنُ قَيسٍ
(1)
:
[تروح على]
(2)
آلِ
(3)
المُحَلَّقِ جَفْنَةٌ
…
كجابية السَّيْحِ
(4)
العراقيِّ تَفْهَقُ
(5)
وكما قال الراجزُ
(6)
:
فَصَبَّحَتْ جابيَةً صُهارِجا
كأنه
(7)
جِلْدُ السَّماءِ خارِجا
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَجِفَانٍ كَالْجَوَاب} . يقولُ: كالجَوْبَةِ مِن الأَرضِ
(8)
.
(1)
ديوانه ص 225.
(2)
في الديوان: "نفى الذم عن".
(3)
سقط من: الأصل، ت 1، ت 2، ت 3. وفى م:"نادى". وأثبتناه كما في الديوان. وينظر تفسير القرطبي 14/ 275.
(4)
في م: "الشيخ". والسيح: الماء الظاهر الجارى على وجه الأرض. التاج (س ى ح). قال القرطبي في التفسير 14/ 275 - وقد ذكر رواية المصنف، غير أنه قال: الشيخ - ويروى: نفى الذم عن آل المحلق جفنة كجابية السيح ....
(5)
الفَهْق: الامتلاء والاتساع. اللسان (ف هـ ق).
(6)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"الآخر". والبيتان في مجاز القرآن 2/ 144، والتبيان 8/ 349، والبيت الأول وحده في اللسان (صهرج).
(7)
في م: "كأنها".
(8)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 228 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
[حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه: {وَجِفَانٍ كَالْجَوَاب} يعنى بالجواب الحياض]
(1)
.
وحدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابن عُلَيَّةَ، عن أبي رَجاءٍ، عن الحسن:{وَجِفَانٍ كَالْجَوَاب} . قال
(2)
: كالحياضٍ
(3)
.
حدَّثني محمدُ بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا وَرقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ} . قال: كحياض الإبلِ
(4)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة:{وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ} . [أي: كالحِياض
(5)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ} ]
(6)
. قال: جفانٌ كجَوْبَةِ الأرضِ من العِظَمِ. والجَوْبةُ مِن الأرضِ: يُستنقَعُ فيها الماءُ.
حُدِّثتُ عن الحسينِ قال: [سمعت أبا معاذٍ يقولُ: أخبَرنا عبيدٌ، قال]
(7)
:
(1)
سقط من: الأصل. والأثر عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 228 إلى الطستى مطولًا.
(2)
بعده في الأصل: "هي".
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 228 إلى عبد بن حميد.
(4)
تفسير مجاهد ص 553.
(5)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 128 عن معمر عن قتادة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 228 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(6)
سقط من: م.
(7)
سقط من: الأصل، ت 1.
سمِعتُ الضحاك يقولُ في قوله: {وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ} : كالحياضِ
(1)
.
حدَّثنا عمرُو بنُ عبدِ الحميد، قال: ثنا مروان بن معاوية، قال ثنا جُويبرٌ، عن الضحاك:{وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ} . قال: كحياضِ الإبل من العِظَمِ.
وقوله: {وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} . يقولُ: وقدورٍ ثابتاتٍ، لا يُحَرَّكْنَ عن أماكنِهنَّ، ولا يُحَوَّلْنَ
(2)
لِعِظَمِهِنَّ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى،، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} . قال: عِظامٍ
(3)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} . [أي: ثابتاتٍ لا يَزُلْنَ عن أماكنِهنَّ، كنَّ
(4)
يُرَيْنَ بأرض اليمنِ
(5)
.
حُدِّثتُ عن الحسينِ، قال: سمعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبرنا عُبيدٌ، قال: سمعتُ الضحاك يقولُ في قوله: {وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} : قدورٍ]
(6)
عِظامٍ ثابتاتٍ في
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 228 إلى المصنف وابن أبي شيبة وابن المنذر.
(2)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"تحول".
(3)
تفسير مجاهد ص 553، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 228 إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4)
في الأصل: "كى".
(5)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 127 عن معمر عن قتادة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 228 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(6)
سقط من: م، ت 1.
الأرضِ لا يَزُلْنَ عن أمْكِنَتِهن
(1)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} . قال: أمثال الجبالِ من عِظَمِهِنَّ، يُعْمَلُ فيها الطعامُ من الكِبَرِ والعِظَمِ، لا تُحَرَّكُ ولا تُنْقَلُ، كما قال للجبال: راسياتٌ.
وقوله: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} . يقولُ تعالى ذكرُه: وقلْنا لهم: اعمَلوا بطاعةِ اللهِ يا آلَ داودَ، شكرًا له على ما أنعَم عليكم من النعمِ التي خصَّكم بها دونَ
(2)
سائرِ خلقِه، مع الشكرِ له على سائرِ نعمِه، التي عمَّكم بها مع سائر خلقِه، وترَك ذكرَ:"وقلْنا لهم"، اكتفاءً بدَلالةِ الكلامِ [عليه، كما ترَك ذِكرَ: "وسخّرنا" في قوله: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ}. استغناءً بدَلالة ما ذُكرَ من الكلام]
(3)
على ما تُرك ذكره منه، وأخرج قوله:{شُكْرًا} مصدرًا من قولِه: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} ؛ لأن معنى قوله: {اعْمَلُوا} : اشكُروا ربَّكم بطاعتِكم إياه، وأن العملَ بالذي يُرْضى الله للهِ شكرٌ.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا يحيى بنُ واضحٍ، قال: ثنا موسى بنُ عُبيدةَ
(4)
، عن
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 228 إلى المصنف وابن أبي شيبة وابن المنذر.
(2)
في م: "عن".
(3)
سقط من: م، ت 2، ت 3.
(4)
في م، ت 2، ت 3:"عبادة". وينظر تهذيب الكمال 29/ 104.
محمد بن كعبٍ قولَه: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} . قال: الشكرُ: تَقْوى اللهِ، والعمل بطاعته
(1)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال
(2)
: أخبرني حَيْوَةُ، عن زُهْرَةَ بن معْبَدٍ، أنه سمِع أبا عبدِ الرحمنِ الحُبُلِّيَّ يقولُ:{اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} : [الصلاةُ شكرٌ، والصيامُ شكرٌ، وكلُّ خير تعملُه لله شكرٌ]
(3)
، وأفضلُ الشكرِ الحمدُ
(4)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} . قال: فيما
(5)
أعطاكم وعلَّمكم، وسخَّر لكم ما لم يُسَخِّرْ لغيركم، وعلَّمكم منطقَ الطيرِ، اشكُروا له يا آل داودَ. قال: الحمدُ طرفٌ من الشكرِ.
وقولُه: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُور} . يقولُ تعالى ذكرُه: وقليلٌ من عبادىَ المخلصو توحيدي، والمفردو طاعتى وشُكْرى على نِعْمَتى عليهم.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 228 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
بعده في م، ت 1، ت 2، ت 3:"قال ابن زيد". وينظر تهذيب الكمال 7/ 480، 16/ 278.
(3)
سقط من: م، ت 2، ت 2، ت 3.
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 488.
(5)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
قوله: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُور} . يقولُ: قليلٌ من عبادي الموحِّدون توحيدَهم
(1)
.
القولُ في تأويل قوله جلَّ ثناؤه: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقول تعالى ذكره: فلما أمْضَيْنا قضاءَنا على سليمانَ بالموت فمات، {مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ}. يقولُ: لم يَدُلُّ الجنَّ على موتِ سليمانَ، {إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ} وهى الأرضَةُ وقعت في عصاه التي كان مُتَّكِئًا عليها فأكلتها. فذلك قولُ الله عز وجل:{تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ} .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ والمُثنى، قالا: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قوله:{إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ} . يقولُ: الأَرَضَةُ تَأْكُلُ عصاه
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قوله:{تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ} . قال: عصاه.
حدَّثني محمدُ بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره - كما في الإتقان 2/ 37 من طريق أبي صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 229 إلى ابن المنذر.
(2)
ذكره القرطبي في تفسيره 14/ 280.
الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا وَرقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ} . قال: الأَرضَةُ، {تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ}. قال: عصاه
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عُمارةَ، قال: ثنا عبيدُ
(2)
الله بنُ موسى، قال: أخبرَنا إسرائيلُ، عن أبي يحيى، عن مجاهدٍ:{تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ} . قال: عصاه.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا ابن عَثْمَةَ، قال: ثنا سعيدُ بنُ بَشِيرٍ، عن قتادةَ في قوله:{تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ} . [قال: عصاه
(3)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: حدَّثنا يزيدُ، قال: حدَّثنا سعيدٌ، عن قتادة:{تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ} . قال:]
(4)
. أكَلت عصاه حتى خرَّ
(5)
.
حدَّثنا موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ: المِنْسأَةُ: العصا، بلسانِ الحبشةِ
(6)
.
حدَّثني يونس، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ: المِنْسأةُ: العصا
(7)
.
واختلفت القَرَأَةُ في قراءةِ قولِه: {مِنْسَأَتَهُ} ؛ فقرَأ ذلك عامةُ قرَأةٍ أهل المدينةِ وبعضُ أهلِ البصرةِ: (منساتَهُ)
(8)
غيرَ مهموزة، وزعم من اعتلَّ لقارئ ذلك
(1)
تفسير مجاهد ص 553، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 231 إلى الفريابي وعبد بن حميد.
(2)
في م، ت 2، ت 3:"عبد". وينظر تهذيب الكمال 19/ 164.
(3)
تفسير عبد الرزاق 2/ 128 عن معمر عن قتادة.
(4)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 231 إلى عبد بن حميد.
(6)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 231 إلى المصنف.
(7)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 230 إلى ابن أبي حاتم مطولًا بمعناه.
(8)
هي قراءة نافع وأبي عمرو. ينظر الكشف عن وجوه القراءات 2/ 203، والتيسير ص 146.
كذلك من أهلِ البصرةِ
(1)
"، أن المنسَاةَ العصا، وأن أصلَها من: نَسَأْتُ بها الغنمَ. قال: وهى من الهمزِ الذي ترَكته العربُ، كما ترَكوا همزَ: "النبيِّ" و"البريةِ" و "الخابيةِ". وأنشَد لتركِ الهمزِ في ذلك بيتًا لبعض الشعراءِ.
إذا دَبَيْتَ على المِنْساةِ من كِبَرٍ
(2)
…
فقد تباعَدَ عنكَ اللَّهْوُ والغَزَلُ
وذكر الفرَّاءُ عن أبي جعفرٍ الرُّؤَاسيِّ، أنه سأل عنها أبا عمرٍو، فقال:(مِنْساتَه) بغير همزٍ
(3)
.
وقرَأ ذلك عامةُ قرَأةِ الكوفة: {مِنْسَأَتَهُ} . بالهمز
(4)
، وكأنهم وجَّهوا ذلك إلى أنها مِفْعَلةٌ، من: نَسَأْتُ البعيرَ. إذا زَجَرْتَه ليزدادَ سيرُه، كما يُقالُ: نسَأْتُ اللبنَ. إذا صَبَبْتَ عليه الماءَ، وهو النَّسِيءُ، وكما يقالُ: نَسَأَ الله في أجلِك. أي زاد
(5)
الله في أيامِ حياتِك.
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: وهما قراءتان قد قرَأ بكلِّ واحدةٍ منهما علماءُ مِن القرَأةِ بمعنًى واحدٍ، فبأيَّتهما قرَأ القارى فمُصيبٌ، وإن كنتُ أخْتارُ الهمز فيها
(6)
؛ لأنه الأصلُ.
وقولُه: {فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ} . يقولُ عز وجل: فلما خرَّ سليمانُ ساقطًا بانكسارِ مِنْسأتِه، تبيَّنت الجنُّ أن لو كانوا يَعلَمون الغيبَ الذي كانوا يَدَّعون عِلْمَه،
(1)
هو أبو عبيدة في المجاز 2/ 145.
(2)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"هرم".
(3)
معاني القرآن للفراء 2/ 357.
(4)
وهى قراءة ابن كثير وابن عامر في رواية هشام، وعاصم وحمزة والكسائي. ينظر الكشف 2/ 203، 204، والتيسير ص 146.
(5)
في م، ت 2، ت 3:"أدام"، في ت 1:"أمد".
(6)
في الأصل: "فيه".
{مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} . يعني: المُذلِّ [مَن عُذِّب به، وكان العذابَ الذي عُذِّبوا به مُكثُهم في الخِدمةِ]
(1)
حَوْلًا كاملًا بعدَ موتِ سليمانَ، وهم يَحْسَبون أن سليمانَ حَيٌّ.
وبالذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويل وجاءت الآثارُ.
ذكرُ مَن قال ذلك والروايةِ بذلك
حدَّثنا أحمد بنُ منصورٍ، قال: ثنا موسى بنُ مسعودٍ
(2)
أبو حذيفةَ، قال: ثنا إبراهيمُ بنُ طَهْمانَ، عن عطاءِ بن السائبِ، عن سعيدِ بن جبيرٍ، عن ابن عباس، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "كان سليمانُ نبيُّ الله إذا صلَّى رأى شجرةً نابتَةً بينَ يديه، فيقولُ لها: ما اسمُكِ؟ فتقولُ: كذا [وكذا](1). فيقولُ: لأيِّ شيءٍ أنتِ؟ فإن كانت لغَرْسٍ
(3)
غُرست، وإن كانت لدواءٍ كُتبت، فبينما هو يُصَلِّي ذاتَ يومٍ، إذ رأَى شجرةً بينَ يديه، فقال لها: ما اسمُك؟ قالت: الخرُّوبُ. قال: لأيِّ شيءٍ أنتِ؟ قالت: لخرابِ هذا البيتِ. فقال سليمانُ: اللهم عَمِّ على الجنِّ مَوْتى حتى يَعْلَمَ الإنس أن الجنَّ لا يَعْلَمون الغيبَ. فنحَتها عصًا، فتوَكَّأ عليها حولًا مَيِّتًا، والجنُّ تَعْمَلُ، فأكَلتها الأَرَضَةُ فسقَط، فتبيَّنت الإنسُ أن الجنَّ (لو كانوا يَعْلَمون الغيبَ ما لبثوا حولًا في العذاب المهين) ". قال: وكان ابن عباس يقرؤُها كذلك. قال: "فشكَرت الجنُّ للأرْضَةِ، فكانت تَأْتيها بالماءِ"
(4)
.
(1)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(2)
في الأصل: "منصور". وينظر تهذيب الكمال 29/ 145.
(3)
في م، ت 2، ت 3:"تغرس".
(4)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 501، وأخرجه البزار (2355 - كشف)، والطبراني (12281) من طريق موسى بن مسعود، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 230 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن السني في الطب النبوى وابن مردويه.
حدَّثنا موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ في حديثٍ ذكَره عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابن عباسٍ، وعن مُرَّةَ الهَمْدَانيِّ، عن ابن مسعودٍ، وعن ناسٍ من أصحابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قال: كان سليمانُ يَتَجَرَّدُ في بيت المقدسِ السنةَ والسنتين، والشهرَ والشهرين، وأقلَّ من ذلك وأكثرَ، يُدْخِلُ طعامه وشرابَه، فأدخَله في المرةِ التي مات فيها، [فكان بَدْءُ]
(1)
ذلك أنه لم يَكُنْ يومٌ يُصْبحُ فيه إلا [نَبَتَت في بيتِ المقدسِ]
(2)
شجرةٌ، فيأتيها
(3)
فيَسْألُها: ما اسمُكِ؟ فتقولُ الشجرةُ: اسمى كذا وكذا. فيقولُ لها: لأيِّ شيءٍ نَبَتِّ؟ فتقولُ: نَبَتُّ لكذا وكذا. فيَأْمُرُ بها فتَقْطَعُ، فإن كانت نبَتت لغرسٍ غرَسها، وإن كانت نبتَت لدواءٍ قالت: نَبَتُّ دواءً لكذا وكذا. فيَجْعَلُها لذلك، حتى نبتَت شجرةٌ يقالُ لها: الخرُّوبةُ. فسألها: ما اسمُك؟ فقالت: أنا الخرُّوبةُ. قال: ولأيِّ شيءٍ نبَتِّ؟ قالت: لخرابِ هذا المسجدِ. قال سليمانُ: ما كان الله ليُخْرِبه وأنا حيٌّ، أنتِ التي على وَجْهك هلاكى وخرابُ بيت المقدسِ. فنزَعها وغرَسها في حائطٍ له، ثم دخَل المحرابَ، فقام يُصَلِّي مُتَّكِئًا على عصاه، فمات ولا تَعْلَمُ به الشياطينُ في ذلك، وهم يَعْمَلُون له، يَخافون أن يَخْرُجَ فيُعاقِبَهم. وكانت الشياطينُ تَجْتَمِعُ حولَ المحرابِ، وكان المحرابُ له كُوًى بينَ يديه وخلفَه، فكان الشيطانُ الذي يُرِيدُ أن يَخْلَعَ، يَقولُ: ألستُ جَلِيدًا
(4)
إن دخَلتُ فخرَجتُ مِن ذلك الجانب، [فيدخُلُ حتى يخرج من الجانب]
(5)
الآخَرِ، فدخَل شيطانٌ مِن أولئك فمرَّ، ولم يَكُنْ
(1)
في م: "و"، وفى ت 1، ت 2، ت 3:"فكان يرى".
(2)
في م، ت 2، ت 3:"تنبت فيه"، وفى ت 1:"نبت فيه".
(3)
سقط من: م، ت 2، ت 3.
(4)
الجلدُ: الشدة والقوة والصبر والصلابة. التاج (ج ل د).
(5)
سقط من: م، ت 2، ت 3.
شيطانٌ يَنظُرُ إلى سليمانَ في المحرابِ إلا احترَق، فمرَّ ولم يَسْمَع صوتَ سليمانَ عليه السلام، ثم رجَع فلم يَسْمَعْ، ثم رجَع فوقَع في البيتِ فلم يَحْتَرِق، ونظَر إلى سليمانَ قد سقَط مَيِّتًا، فخرَج فأخبَر الناسَ أن سليمانَ قد مات، ففتَحوا
(1)
عنه، فأخرَجوه، ووجَدوا مِنْسَأتَه، وهى العصا بلسانِ الحبشةِ، قد أكَلتها الأرَضَةُ، ولم يَعْلَموا منذُ كم مات، فوضَعوا الأرَضَةَ على العصا، فأكَلت منها يومًا وليلةً، ثم حسَبوا على ذلك النحو، فوجَدوه قد مات منذ سنةٍ. وهى في قراءةِ ابن مسعودٍ: (فمكَثوا يَدْأبون
(2)
له من بعدِ موتِه حولًا كاملًا)
(3)
. فأيْقَن الناسُ عندَ ذلك أن الجنَّ كانوا يَكْذِبونهم، ولو أنهم علِموا الغيبَ لعلِموا بموتِ سليمانَ، ولم يَلْبَثوا في العذابِ سنةً يَعْمَلون له، وذلك قولُ اللهِ عز وجل:{مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} . يقولُ: تَبَيَّنُ أمرُهم للناسِ أنهم كانوا يَكْذبونهم. ثم إن الشياطينَ قالوا للأرضَةِ: لو كنتِ تَأْكُلين الطعامَ أتَيْناكِ بأطيبِ الطعامِ، ولو كنتِ تَشْرَبين الشرابَ سَقَيْناكِ أطيبَ الشرابِ، ولكنَّا سَنَنْقُلُ إليكِ الماءَ والطِّينَ، قال: فهم ينقُلون ذلك حيثُ كانت. قال: ألم تَرَ إلى الطين الذي يكونُ في جوفِ الخشبِ فهو ما يأْتيها به الشياطينُ شكرًا لها
(4)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، قال: كانت الجنُّ تُخْبِرُ الإنسَ أنهم كانوا يَعْلَمون من الغيبِ أشياءَ، وأنهم يَعْلَمون ما في غدٍ، فابتُلوا بموتِ
(1)
في الأصل: "فتنحوا".
(2)
في تاريخ المصنف: "يدينون".
(3)
وهي قراءة شاذة.
(4)
أخرجه المصنف في تاريخه،502/ 1، 503، وذكره ابن كثير في البداية والنهاية 2/ 353، 354، وعزاه
السيوطي في الدر المنثور 5/ 229 إلى ابن أبي حاتم.
سليمانَ، فمات فلبث سنةً على عصاه، وهم لا يَشْعُرون بموته، وهم مُسَخَّرون تلك السنةَ يَعْمَلُون دائبِين، {فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ} ، [وفى بعض القراءة (فلما خرَّ تَبَيَّنتِ الإنسُ أَنَّ الجنَّ]
(1)
لَوْ كَانُوا يعلمون الغيبَ ما لبثوا في العذاب المهين)، ولقد لبثوا يَدْأَبون ويَعْمَلون له حولًا
(2)
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ} . قال: قال سليمانُ لملَكِ الموتِ: يا ملكَ الموتِ، إذا أُمِرتَ بي فَأَعْلِمْنى. قال: فأتاه فقال: يا سليمانُ، قد أُمِرْتُ بك، قد بقِيَت لك سُوَيعَةٌ. فدعا الشياطين، فبنَوا عليه صَرْحًا من قواريرَ، ليس له بابٌ، فقام يُصَلِّي، واتَّكَأ على عَصاه، قال: فدخَل عليه مَلَكُ الموتِ، فقبض رُوحَه وهو مُتَّكِيُّ على عَصاه، ولم يَصْنَعْ ذلك فرارًا مِن مَلكِ الموتِ. قال: والجنُّ تَعْمَلُ بين يديه، ويَنْظُرون إليه، يحسَبون أنه حيٌّ. قال: فبعَث اللهُ دابةَ الأرضِ - قال: دابةٌ تَأْكُلُ العِيدانَ يقالُ لها: القادِحُ - فدخَلت فيها فأكَلتها، حتى إذا أكَلت جوفَ العصا ضعُفت وثقُل عليها، فخرَّ مَيِّتًا. قال: فلما رأَت الجنُّ ذلك، انفَضُّوا وذهَبوا. قال: فذلك قولُه: {مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ} . قال: والمِنْسَأَةُ: العصا
(3)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن عطاءٍ، قال: كان سليمانُ بنُ داودَ يُصَلِّي فمات وهو قائمٌ يُصَلِّي، والجنُّ يَعْمَلون، لا يَعْلَمون بموته، حتى أكَلت الأَرَضَةُ عصاه فخَرَّ.
(1)
سقط من: م، ت 1.
(2)
القراءة شاذة لمخالفتها رسم المصحف. والأثر عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 230 إلى عبد بن حميد.
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره، 2/ 355، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 230 إلى ابن أبي حاتم.
و "أَنْ" في قوله: {أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} في موضعِ رفعٍ بـ "تَبَيَّنَ"؛ لأن معنى الكلامِ: فلما خرَّ تَبَيَّنَ وانكشَف، أن لو كان الجنُّ يَعْلَمُون الغيبَ ما لبِثوا في العذابِ المهينِ.
وأما على التأويلِ الذي تأوَّله ابن عباسٍ؛ مِن أن معناه: تبيَّنت الإنسُ الجنَّ. فإنه يَنْبَغى أن تكونَ {أَنْ} في موضعِ نصبٍ بتكريرِها على {الْجِنُّ} ، وكذلك يَجِبُ على هذه القراءةِ أن تكونَ {الْجِنُّ} منصوبةً. غيرَ أنى لا أعلمُ أحدًا مِن قرَأةِ الأمصارِ يَقْرَأُ ذلك بنصبِ {الْجِنُّ} ، ولو نُصِبَت، كان في قولِه:{تَبَيَّنَتِ} ضميرٌ من ذكرِ الإنسِ.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤه: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ
(1)
آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15)}.
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ} . أي لولدِ سبإِ في مساكنِهم
(2)
علامةٌ بينةٌ وحجةٌ واضحةٌ، على أنه لا ربَّ لهم إلا اللهُ الذي أنعَم عليهم النعمَ التي كانوا فيها.
وسبأٌ [فيما روى]
(3)
عن رسولِ اللهِ اسمُ أبي اليَمَنِ.
ذكرُ الرواية بذلك
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا وكيعٌ، عن أبي جَنَابٍ
(4)
الكلبيِّ، عن يحيى بن
(1)
في الأصل، ت 2، ت:"مساكنهم" وهى قراءة كما سيأتي.
(2)
في م: "مسكنهم".
(3)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(4)
في الأصل: "حباب"، وفى م، ت 1، ت 2، ت 3:"حيان". من مصادر الترجمة، وينظر تهذيب الكمال 31/ 284.
هانئِ بن
(1)
عروةَ المراديِّ، عن رجلٍ منهم يُقالُ له: فَرْوَةُ بنُ مُسَيْكٍ. قال: قلتُ: يا رسولَ اللهِ، أخبِرْني عن سبإِ ما كان، رجلًا كان أو امرأةً، أو جبلًا، أو واديًا
(2)
؟ فقال: "لا، كان رجلًا من العربِ، وله عَشَرَةٌ، فتيمَّن منهم ستةٌ، وتشاءَم أربعةٌ؛ منهم؛ فأما الذين تَيَمَّنوا منهم؛ فكنْدَةُ، وحِمْيرٌ، والأَزْدُ، والأشعرِيُّون ومَذْحِجٌ، وأنْمارٌ الذين منها خَثْعَمٌ وبَجيلَةُ، وأما الذين تشاءَموا؛ فعامِلةٌ، وجُذَامٌ، ولَخْمٌ، وغَسَّانُ"
(3)
.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا أبو أسامةَ، قال: ثني الحسنُ بنُ الحكَمِ، قال: ثنا أبو سَبْرَةَ النَّخَعِيُّ، عن فروةَ بن مُسَيْكٍ القطيعيِّ، قال: قال رجلٌ: يا رسولَ اللهِ، أَخْبِرْني عن سبإِ ما هو؛ أرضٌ أو امرأةٌ؟ قال: "ليس بأرضٍ ولا امرأةٍ، ولكنه رجلٌ ولَد
(4)
عَشَرةً من الولدِ، فتيامَن ستةٌ، وتشاءَم أربعةٌ، فأما الذين تشاءَموا؛ فَلَخْمٌ، وجُذَامٌ، وعامِلةُ، وغَسَّانُ، وأما الذين تيامَنوا؛ فكِندةُ والأشعريُّون والأزْدُ ومَذْحِجٌ وحِمْيَرٌ وأنْمارٌ". فقال رجلٌ: ما أنمارٌ؟ قال: "الذين منهم خَثْعَمٌ وبجيلةُ"
(5)
.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا العَنْقَرِيُّ، قال: أخبَرني أسباطُ بنُ نَصِرٍ، عن يَحيى بن هانئِ المراديِّ، عن أبيه أو عن عمِّه - أسباطُ شكَّ فيه - قال: قدِم فَرُوةُ بنُ مُسَيكٍ على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسولَ اللهِ، أخْبِرْني عن سبإِ؛ أجبلًا كان أو أرضًا؟
(1)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"عن". وينظر تهذيب الكمال 18/ 32.
(2)
في م، ت 1:"دواب"، وفى ت 2، ت 3:"دوابا".
(3)
أخرجه أحمد - كما في تفسير ابن كثير 6/ 492، وأطراف المسند 5/ 179 - وعبد بن حميد - كما في تفسير ابن كثير - وابن قانع في معجمه 2/ 336، والطبراني 18/ 323، 324 (834) من طريق أبي جناب به.
(4)
بعده في الأصل: "له".
(5)
أخرجه الترمذى (3222) عن أبي كريب وعبد بن حميد به، وأخرجه أبو داود (3988)، والطبراني 18/ 224، 325 (836) من طريق أبي أسامة به.
فقال: "لم يَكُنْ جبلًا ولا أرضًا، ولكنه كان رجلًا من العربِ وُلِد له عشْرةُ قبائلَ". ثم ذكَر نحوَه، إلا أنه قال:"وأنمارٌ الذين يقولون، منهم بَجِيلَةُ وخَثْعَمٌ"
(1)
.
فإذ
(2)
كان الأمرُ كما رُوِى عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، من أن سبأً رجلٌ، فإنَّ الإجراءَ فيه وغيرَ الإجراءِ معتدِلان؛ أما الإجراءُ، فعلى أنه اسمُ رجلٍ معروفٍ، وأما تركُ الإجراءِ فعلى أنه اسمُ قبيلةٍ أو أرضٍ. وقد قرأ بكلِّ واحدةٍ منهما علماءُ من أهلِ القراءةِ
(3)
.
واختلفَت القرَأةُ في قراءةِ قوله: (في مساكنِهم)؛ فقرَأته عامةُ قرأةِ المدينةِ والبصرةِ وبعضُ الكوفيِّين: (في مساكنهم) على الجِماعِ، بمعنى منازلِ آلِ سبأ. وقرَأ ذلك عامةُ قرَأةِ الكوفيِّين:{فِي مَسْكَنِهِمْ} على التوحيدِ وبكسرِ الكافِ، وهى لغةٌ لأهلِ اليمنِ فيما ذُكِر لى. وقرَأ حمزةُ:(مَسْكَنِهم) على التوحيدِ وفتحِ الكافِ
(4)
.
والصوابُ من القولِ في ذلك عندَنا أن كلَّ ذلك قراءاتٌ مشهوراتٌ
(5)
متقارباتُ المعنى، فبأيِّ ذلك قرأ القارئُ فمصيبٌ.
وقولُه: {آيَةٌ} : قد بيَّنا معناها قبلُ
(6)
.
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 492 عن المصنف، وأخرجه البخارى في تاريخه 7/ 126، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1700، 2469)، والطبرانى 18/ 326 (838)، والحاكم 2/ 424 من طريق سعيد عن فروة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 231 إلى ابن المنذر وابن مردويه.
(2)
في م، ت 1:"فإن"، وفى ت 3:"فإذا".
(3)
قرأ أبو عمرو وابن كثير في رواية البزِّى "سبأَ" بفتح الهمزة من غير تنوين، وقرأ ابن كثير في رواية قنبل بإسكان الهمزة، وقرأ الباقون بالخفض والتنوين. النشر 2/ 253.
(4)
قراءة (مساكنهم) بالجمع هي قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر. وقراءة (مسكِنِهم) على التوحيد وكسر الكاف هي قراءة الكسائي، وقراءة (مسكَنِهم) على التوحيد وفتح الكاف هي قراءة عاصم في رواية حفص وحمزة. ينظر السبعة ص 528، والتيسير ص 146.
(5)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت.
(6)
ينظر ما تقدم في 1/ 104 من المقدمة.
وأما قولُه: {جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ} . فإنه يعنى: بستانان كانا بينَ جبلين، عن يمينِ مَن أتاهما وشمالِه.
وكان من صفتِهما فيما ذُكِر لنا ما حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا سليمانُ، قال: ثنا أبو هلالٍ، قال: سمِعتُ قتادةَ في قولِه: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ} . قال: كانت جنتان بينَ جبلين، فكانت المرأةُ تَخْرُجُ، بمِكْتَلِها على رأسِها، فتَمْشى بينَ جبلين
(1)
، فيَمْتَلِئُ مِكْتَلُها، وما مسَّت بيدِها، فلما طَغَوا بعَث اللهُ عليهم دابةً، يُقالُ لها: جُرَذٌ
(2)
. فنقَّبت عليهم، فغرَّقتهم، فما بقى لهم إلا أثلٌ وشيءٌ من سِدْرٍ قليلٍ
(3)
.
حدَّثنا يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ} إلى قوله: {فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ} . قال: ولم يَكُنْ يُرَى في قريتِهم بَعوضةٌ قطُّ ولا ذُبابٌ ولا بُرْغوثٌ ولا عقربٌ ولا حيةٌ، وإن كان الركبُ ليَأْتون وفى ثيابِهم القَمْلُ والدوابُّ، فما هم إلَّا أن يَنْظروا إلى بيوتِهم، فتَمُوتَ الدوابُّ. قال: وإن كان الإنسانُ ليَدْخُلُ الجنتَين، فيُمْسِكُ القُفَّةَ على رأسِه، فيَخْرُجُ حينَ يَخْرُجُ وقد امتلأت تلك القُفَّةُ
(4)
من أنواعِ الفاكهةِ، ولم يتَنَاولْ منها شيئًا بيدِه. قال: والسَّدُّ يَسْقيها
(5)
.
ورُفعِت الجنتان في قولِه: {جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ} . ترجمةً عن الآيةِ؛ لأن معنى الكلامِ: لقد كان لسبأ في مسكنِهم آيةٌ، هي جنتان عن أيمانِهم وشمائلِهم.
(1)
في الأصل: "جنتين".
(2)
في الأصل، ت 2:"جرد".
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 231 إلى عبد بن حميد.
(4)
في م، ت 1:"مقفة".
(5)
ذكره البغوي في تفسيره 6/ 393، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 231 إلى ابن أبي حاتم.
وقولُه: {كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ} . [يقولُ: وقيل لهم: كُلوا من رزقِ ربِّكم]
(1)
الذي رزقكم مِن هاتين الجنتين؛ مِن زُروعِهما وأثمارِهما، {وَاشْكُرُوا لَهُ} على ما أنعمَ به عليكم من رزقِه ذلك. وإلى هذا منتهى الخبرِ، ثم ابتدَأ الخبرَ عن البلدةِ. فقال
(2)
: هذه بلدةٌ طيبةٌ. أي: ليست بسَبْخةٍ، ولكنها كما ذكَرْنا من صفتِها عن عبدِ الرحمنِ بن زيدٍ أن كانت كما وصَفها
(3)
به ابن زيدٍ، من أنه لم يكنْ فيها شيءٌ مؤْذٍ من الهَمَجِ
(4)
والدَّبِيبِ والهوامِّ، {وَرَبٌّ غَفُورٌ}. يقولُ: وربُّكم
(5)
غفورٌ لذنوبِكم إن أنتم أطَعتموه.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ} . [قال: هذه بلدةٌ طيبةٌ]
(6)
، {وَرَبٌّ غَفُورٌ}: وربُّكم ربٌّ غفورٌ لذنوبِكم؛ قومٌ أعطاهم اللهُ نِعمَه، وأمَرهم بطاعتِه، ونهاهم عن معصيتِه
(7)
.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤه: {فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16)
(1)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(2)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"فقيل".
(3)
في الأصل: "وصفنا".
(4)
الهمج: ذباب صغير كالبعوض يسقط على وجوه الغنم والحمير وأعينها. تاج العروس (هـ م ج).
(5)
في م، ت 1:"رب".
(6)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(7)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 231 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي
(1)
إِلَّا الْكَفُورَ (17)}.
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه: فأعرَضت سبأٌ عن طاعةِ ربِّها، وصدَّت عن اتباعِ ما دعتها إليه رُسُلُها، من أمرِ
(2)
خالقِها.
كما حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، قال: ثنى محمدُ بنُ إسحاقَ، عن وهبِ بن منبِّهٍ اليمانيِّ، قال: لقد بعَث اللهُ إلى سبأ ثلاثةَ عَشَرَ نبيًّا فكذَّبوهم
(3)
.
{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ} . يقولُ تعالى ذكرُه: فثقَبنا
(4)
عليهم حينَ أعرَضوا عن تصديقِ رسلِنا سدَّهم الذي كان يَحْبِسُ عنهم السيولَ.
والعَرِمُ: المُسنَّاةُ التي تَحْبِسُ الماءَ، واحدُها عَرِمةٌ، وإياه عَنَى الأَعْشَى بقولِه
(5)
:
ففي ذاك للمُؤْتَسِى أُسْوَةٌ
…
ومَأْرِبُ قَفَّى
(6)
عليه العَرِمْ
رِجَامٌ
(7)
بَنَتْه لهم حِمْيَرٌ
…
إذا جاء ماؤُهُمُ لم يَرِمْ
وكان العَرِمُ، فيما ذُكِر، مما بنَتْه بِلْقيسُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أحمدُ بن إبراهيمَ الدَّوْرَقيُّ، قال: حدَّثنا وهبُ بنُ جريرٍ،
(1)
في الأصل، ت 2:"يجازى". وهي قراءة كما سيأتي.
(2)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"أنه".
(3)
ذكره البغوي في تفسيره 6/ 293 وابن كثير في تفسيره 6/ 495 عن محمد بن إسحاق به مختصرًا، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 232 إلى ابن أبي حاتم.
(4)
في الأصل: "فبعثنا".
(5)
البيتان في ديوانه ص 43.
(6)
في الأصل، م:"عفى".
(7)
في الأصل: "ركام"، وفى ت 1، ت 3:"رحام" من غير نقط، وفى الديوان:"رخام"، والرخام: حجر أبيض سهل رِخْو. اللسان (ر خ م)، والرِّجام: حجارة ضخام وربما جمعت على القبر ليتَسنَّم. اللسان (ر ج م).
قال: ثنا أبي، قال: سمِعتُ المغيرةَ بنَ حكيمٍ، قال: لما ملَكت بِلْقِيسُ جعَل قومُها يَقْتَتِلون على ماءِ وادِيهم. قال: فجعَلت تَنْهاهم فلا يُطيعونها، فترَكت مُلْكَها، وانطَلَقت إلى قصرٍ لها وترَكتهم، فلما كثرُ الشرُّ بينَهم وندِموا أتَوها، فأرادوها على أن تَرْجِعَ إلى مُلْكِها، فأبَت، فقالوا: لتَرْجِعِنَّ أو لنَقْتُلَنَّك. فقالت: إنكم لا تُطيعونني، وليست لكم عقولٌ
(1)
. قالوا: فإنَّا نُطيعُكِ، وإنَّا لم نَجِدْ فينا خيرًا بعدَكِ. فجاءت فأمَرت بوادِيهم فسُدَّ بالعَرمِ
(2)
.
قال أحمدُ: قال وهبٌ: قال أبي: فسألتُ المغيرةَ بنَ حَكِيمٍ عن العَرِمِ، فقال: هو بكلامِ حِمْيَرٍ: المُسَنَّاةُ. فسَدَّت ما بينَ الجبلين، فحبَست الماءَ من وراءِ السدِّ، وجعَلت له أبوابًا، بعضُها فوقَ بعضٍ، وبنَت من دونِه بِركةً ضخمةً، فجعَلت فيها اثنى عشَرَ مَخْرَجًا، على عدةِ أنهارِهم، فلما جاء المطرُ احتبَس السيلُ من وراءِ السدِّ. فأمَرت بالبابِ الأعلى ففُتِح، فجرَى ماؤُه في البِرْكةِ، وأمَرت بالبَعْرِ فأُلقى فيها، فجعَل بعضُ البعرِ يخرُجُ أسرعَ مِن بعضٍ، فلم تَزَلْ تُضَيِّقُ تلك الأنهارَ، وتُرْسِلُ البَعْرَ في الماءِ، حتى خرَج جميعًا معًا، فكانت تَقْسِمُه بينَهم على ذلك، حتى كان مِن أمْرِها وأمْرِ سليمانَ ما كان
(3)
.
حدَّثنا أحمدُ بنُ عمرٍو البصريُّ، قال: ثنا صالحُ
(4)
بنُ رُزيقٍ
(5)
، قال: أخبَرنا شريكٌ، عن أبي إسحاقَ، عن أبي ميسرةَ في قولِه:{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ} .
(1)
بعده في م، ت 1، ت 2، ت 3:"ولا تطيعوني".
(2)
ذكره البغوي في تفسيره 6/ 394 بنحوه.
(3)
ذكره البغوي في تفسيره 6/ 394 عن وهب بنحوه، وذكره أبو حيان في البحر المحيط 7/ 270 ببعضه.
(4)
في م، ت 1:"أبو صالح".
(5)
في الأصل، م، ت 1، ت 2:"زريق".
قال: المُسَنَّاةِ بلحنِ اليمنِ
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ:{سَيْلَ الْعَرِمِ} قال: سَدٌّ
(2)
.
وقيل: إن العرِمَ اسمُ وادٍ كان لهؤلاء القومِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ} . قال: وادٍ كان باليمنِ، كان يَسِيلُ إلى مكةَ، وكانوا يُسْقَونَ ويَنتَهى سَيلُهم إليه
(3)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ} : ذُكِر لنا أن سَيْلَ العرمِ [وادى سبأ]
(4)
، كانت تَجْتَمِعُ إليه مَسايِلُ مِن أوديةٍ شتَّى، فعمَدوا فسدُّوا ما بينَ الجبلين بالقيرِ والحجارةِ، وجعَلوا عليه أبوابًا، وكانوا يَأْخُذون من مائِه ما احتاجوا إليه، ويَسُدُّون عنهم ما لم يُعْنَوا به من مائِه
(5)
.
حُدِّثتُ عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبَرنا عبيدٌ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ} . [وادٍ في]
(6)
سبإِ
(1)
أخرجه سعيد بن منصور عن شريك به كما في تغليق التعليق 4/ 288، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 233 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
في م: "شديد". والأثر في تفسير مجاهد ص 553 بنحوه مطولًا، ومن طريقه الفريابي كما في تغليق التعليق 4/ 288.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 233 إلى المصنف.
(4)
سقط من: م. وفى ت 2، ت 3:"واد".
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 233 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(6)
في ت 2، ت 3:"وادي".
يُدْعَى العرِمَ، وكان إذا مُطِرَ سالَت أوديةٌ باليَمنِ إلى العَرِمِ، واجتمَع إليه الماءُ، فعمَدت سبأٌ إلى العَرِمِ فسدُّوا ما بينَ الجبلين، فحجَزوه بالصخرِ والقارِ، فاستدَّ زمانًا من الدهرِ، لا يَرْجون الماءَ. يقولُ: لا يَخافون.
وقال آخرون: العَرِمُ: صفةٌ للمُسَنَّاةِ التي كانت لهم وليس باسمٍ لها.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{سَيْلَ الْعَرِمِ} . يقولُ: الشديدِ
(1)
. وكان السببُ الذي سبَّب اللهُ لإرسالِ ذلك السيلِ عليهم - فيما ذُكِر لى - جُرَذًا ابتعَثه اللهُ على سدِّهم، [فنقَب فيه نَقْبًا]
(2)
.
ثم اختلَف أهلُ العلمِ في صفةِ ما حدَث عن ذلك النَّقْبِ مما كان به خَرابُ جَنَّتَيْهم؛ فقال بعضُهم: كان صفةُ ذلك أن السيلَ لما وجَد عملًا في السدِّ عمِل فيه فخرَّبه
(3)
، ثم فاض الماءُ على جناتِهم فغرَّقها وخرَّب أرضَهم وديارَهم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، قال: ثنى محمدُ بنُ إسحاقَ، عن وهبِ بن مُنبِّهٍ اليمانيِّ، قال: كان لهم، يعنى لسبأ، سَدٌّ قد كانوا بَنَوه بنيانًا أيِّدًا
(4)
، وهو الذي كان يَرُدُّ عنهم السيلَ إذا جاء، أن يَغْشَى أموالَهم. وكان فيما يَزْعُمون في علمِهم من
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره كما في تعليق التعليق 4/ 289، والإتقان 2/ 38 من طريق أبي صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 233 إلى ابن المنذر.
(2)
في م، ت 1، ت 2:"فثقب فيه ثقبا".
(3)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(4)
الأَيْد: القوة. ورجل أيِّد، أي: قوى. ينظر اللسان (أ ي د).
كهانتِهم، أنه إنما يُخَرِّبُ عليهم
(1)
سدَّهم ذلك فأرةٌ، فلم يَتْرُكوا فُرْجَةً بينَ حَجَرين، إلا رَبَطوا عندَها هِرَّةً، فلما جاء زمانُه، وما أراد اللهُ بهم من التغريقِ، أقبَلت فيما يَذْكرون فأرةٌ حمراءُ إلى هرةٍ من تلك الهررِ فساوَرتْها حتى استأخَرت عنها الهرةُ، فدخَلت في الفُرجةِ التي كانت عندَها، فتغَلْغَلت في السدِّ فحفَرت فيه، حتى وهَّنته للسيلِ وهم لا يَدْرون، فلما جاء السيلُ وجَد خللًا
(2)
، فدخَل فيه حتى قلَع السدَّ، وفاض على الأموالِ، فاحتمَلها، فلم يُبْقِ منها إلا ما ذكَره اللهُ في كتابِه، فلما تفرَّقوا نزَلوا على كهانةِ عِمرانَ بن عامرٍ
(3)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة، قال: لما [نزَل بالقومِ]
(4)
أمرُ اللهِ، بعَث اللهُ عليهم جُرَذًا يُسَمَّى الخُلْدَ، فنَقَبَه من أسفلِه، حتى غرَّق اللهُ به جَنَّاتِهم، وخرَّب به أرضَهم؛ عقوبةً بأعمالِهم
(5)
.
حُدِّثتُ عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبَرنا عبيدُ بنُ سليمانَ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ: لما طغَوا وبغَوا، يعنى سبأً، بعَث اللهُ عليهم جُرَذًا، فخرَّق عليهم السَّدَّ، فأغرَقهم
(6)
اللهُ
(7)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ: بعَث اللهُ عليهم
(8)
(1)
في الأصل، ت 1:"عنهم".
(2)
في الأصل، ت 2:"عللا"، وفي ت 1، ت 3:"عدلا".
(3)
ذكره البغوي في تفسيره 6/ 394، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 232 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(4)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"ترك القوم".
(5)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 128 عن معمر عن قتادة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 233 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(6)
في الأصل: "فأهلكهم".
(7)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 495، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 233 إلى المصنف وابن المنذر.
(8)
في م: "عليه".
جُرَذًا، وسلَّطه على الذي كان يَحْبِسُ الماءَ الذي يَسْقِيهما
(1)
، فأخرَب في أجوافِ
(2)
تلك الحجارة وكلِّ شيءٍ منها مِن رَصاصٍ وغيرِه، حتى ترَكها حجارةً، ثم بعَث اللهُ عليها سيلَ العَرمِ، فاقتَلعَ ذلك السدَّ وما كان يَحْبِسُ، واقتلَع تلك الجنتين فذهَب بهما، وقرَأ:{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ} . قال: ذهَب بتلك القُرَى والجنتين.
وقال آخرون: كانت صفةُ ذلك أن الماءَ الذي كانوا يَعْمُرون به جناتِهم سال إلى موضعٍ غيرِ الموضعِ الذي كانوا يَنْتَفِعون به، فبذلك خرِبت جناتُهم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ، قال: بعَث اللهُ عليه
(3)
، يعنى على العرمِ، دابةً من الأرضِ، فنقَبت فيه نَقْبًا، فسال ذلك الماءُ إلى موضعٍ غيرِ الموضعِ الذي كانوا يَنْتَفِعون به، وأبدَلهم اللهُ مكانَ جنتَيْهم جنتَيْن ذواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وأَثْلٍ، وذلك حينَ عَصَوا، وبَطِروا المعيشةَ
(4)
.
والقولُ الأولُ أشبهُ بما دلَّ عليه ظاهرُ التنزيلِ؛ وذلك أن الله تعالى ذكرُه أخبرَ أنه أرسَل عليهم سيلَ العَرِمِ، ولا يكونُ إرسالُ ذلك عليهم إلا بإسالتِه عليهم، أو على جناتِهم وأرضِهم، لا بصرفِه
(5)
عنهم.
(1)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"يسقيها".
(2)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"أفواه".
(3)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"عليهم".
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 495.
(5)
في الأصل، ت 2:"يصرفه".
وقولُه: {وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ} . يقولُ تعالى ذكرُه: وجعَلْنا لهم مكانَ بساتينِهم من الفواكِه والثمارِ، بساتينَ من جَنَى ثمَرِ الأراكِ، والأراكُ: هو الخَمْطُ.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ [قولُه:{أُكُلٍ خَمْطٍ} . يقولُ: الأراكِ
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: حدَّثني أبي، قال: حدَّثني عمِّي، قال: حدَّثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ]
(2)
، قال: أبدَلهم اللهُ مكانَ جنتَيْهم جنَّتَين ذواتَيْ أُكُلٍ خمْطٍ، والخَمْطُ الأراكُ.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابن عُلَيَّةَ، عن أبي رجاءٍ، قال: سمِعتُ الحسنَ يقولُ في قولِه: {ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ} . قال: أُراه قال: الخَمْطُ الأراكُ
(3)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عُمارةَ، قال: ثنى عبيدُ اللهِ بنُ موسى، قال: أخبَرنا إسرائيلُ، عن أبي يحيى، عن مجاهدٍ:{أُكُلٍ خَمْطٍ} . قال: الخَمْطُ الأراكُ
(4)
.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره، كما في تغليق التعليق 4/ 289، والإتقان 2/ 38 من طريق أبي صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 233 إلى ابن المنذر.
(2)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 495، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 233 إلى عبد بن حميد.
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 495، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 233 إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ} . قال: الأراكِ.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ} : والخَمْطُ الأراكُ، وأُكُلُه بَرِيرُه
(1)
.
حُدِّثتُ عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبَرنا عبيدٌ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ} . قال: بدَّلهم اللهُ بجنانِ الفواكهِ والأعنابِ، إذ أصبَحت جناتُهم خَمْطًا، وهو الأراكُ
(2)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ} . قال: ذهَب بتلك القرى والجنتين، وبدَّلهم الذي أخبَرك ذواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ. قال: والخَمْطُ الأراكُ. قال: جعَل مكانَ العنبِ أراكًا، والفاكهةِ أثْلًا، و [بَقِيَ لهم]
(3)
شيءٌ من سدرٍ قليلٍ.
واختلَفت القرَأةُ في قراءةِ ذلك؛ فقرَأته عامةُ قرأةِ الأمصارِ بتنوينِ {أُكُلٍ} غيرَ أبي عمرٍو، فإنه يُضِيفُها إلى "الخَمْطِ"، بمعنى: ذَوَاتَيْ ثَمَرِ خَمْطٍ، وأما الذين لم يُضِيفوا ذلك إلى "الخَمْطِ"، ونَوَّنُوا "الأُكُلَ"، فإنهم جعَلوا
(1)
البَرِيرُ: ثمر الأراك إذا اسود وبلغ. اللسان (ب ر ر). والأثر أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 128 عن معمر عن قتادة، وذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 495، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 233 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
تقدم تخريجه ص 253.
(3)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
"الخَمْطَ" هو "الأُكُلَ"، فردُّوه عليه في إعرابِه. وبضمِّ الألفِ والكافِ من "الأُكُلِ" قرَأت قرَأةُ الأمصارِ غيرَ نافعٍ، فإنه كان يُخَفِّفُ الكافَ منها
(1)
.
والصوابُ من القراءةِ في ذلك عندى قراءةُ من قرَأه: {ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ} بضمِّ الألفِ والكافِ
(2)
؛ لإجماعِ الحجةِ من القرَأةِ عليه، وتنوينِ {أُكُلٍ} ؛ لاستفاضةِ القراءة بذلك في قرَأةِ الأمصارِ، من غيرِ أن أرَى خطأَ قراءةِ مَن قرَأ ذلك بإضافتِه إلى "الخَمْطِ"، وذلك في إضافتِه وتركِ إضافتِه نظيرُ قول العربِ: في بستانِ فلانٍ أعنابُ كَرْمٍ، وأعنابٌ كَرْمٌ. فتُضِيفُ أحيانًا الأعنابَ إلى الكَرْمِ؛ لأنها منه، وتُنَوِّنُ أحيانًا، ثم تُتَرْجِمُ بالكَرمِ عنها؛ إذ كانت الأعنابُ ثمرَ الكَرْم. وأما "الأَثْلُ" فإنه يُقالُ: إنه الطَّرْفاءُ. وقيل: إنه شجرٌ شبيهٌ بالطَّرْفاءِ
(3)
. غيرَ أنه أعظمُ منها. وقيل: إنه السَّمُرُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ:{وَأَثْلٍ} قال: الأَثْلُ الطَّرْفَاءُ
(4)
.
وقولُه: {وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} . يقولُ: ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خمطٍ وأَثْلٍ وشيءٍ قليلٍ مِن سدرٍ.
(1)
قراءة التنوين للام هي قراءة نافع وابن كثير وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي، وقراءة الإضافة هي قراءة أبي عمرو كما ذكر المصنف، وقراءة سكون الكاف هي قراءة نافع وابن كثير، وقراءة الضم هي قراءة الباقين. ينظر السبعة ص 528، والتيسير ص 146.
(2)
القراءات كلها صواب.
(3)
الطَّرْفَاءُ: شجر وهى أربعة أصناف منها الأثل، الواحدة طَرفاءة وطرفة محركة. القاموس المحيط (ط ر ف).
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره كما في تغليق التعليق 4/ 289 من طريق أبي صالح به، وذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 495، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 233 إلى ابن المنذر.
وكان قتادةُ يقولُ في ذلك ما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثني سعيدٌ، قتادةَ:{ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} . قال: بينَما شجرُ القومِ مِن خيرِ الشجرِ، إذ صيَّره اللهُ من شرِّ الشجرِ بأعمالِهم
(1)
.
وقولُه: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا} . يقولُ تعالى ذكرُه: هذا الذي فعَلْنا بهؤلاءِ القومِ مِن سبأ؛ من إرسالِنا عليهم سيلَ العرمِ حتى هلَكت أموالُهم، وخرِبت جناتُهم - جزاءٌ منَّا لهم على كفرِهم بنا وتكذيبِهم رسلَنا، {ذَلِكَ} مِن قولِه:{ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ} . في موضعِ نصبٍ بوقوعِ جزَيْناهم عليه، ومعنى الكلامِ جزَيْناهم ذلك بما كفَروا.
وقولُه: {وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} . اختلَفت القرأةُ في قراءتِه؛ فقرَأته عامةُ قرَأةِ المدينةِ والبصرةِ وبعضُ أهلِ الكوفةِ: (وَهَلْ يُجازَى) بالياءِ وبفتحِ الزايِ على وجهِ ما لم يُسَمَّ فاعلُه، (إِلَّا الكَفُورُ) رفعًا. وقرَأ ذلك عامةُ قرأةِ الكوفةِ:{وَهَلْ نُجَازِي} بالنونِ وبكسرِ الزايِ، {إِلَّا الْكَفُورَ} بالنصبِ
(2)
.
والصوابُ من القولِ في ذلك أنهما قراءتانِ مَشْهُورَتانِ في قرأةِ الأمصارِ، مُتقارِبتا المعنى، فبأيَّتِهما قرَأ القارئُ فمصيبٌ. ومعنى الكلامِ: كذلك كافَأْناهم على كفرِهم باللهِ، وهل يُكافَأُ
(3)
إلا الكفورَ لنعمةِ اللهِ.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 233 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
قراءة النون وكسر الزاى، ونصب الكفور له هي قراءة عاصم في رواية حفص وحمزة والكسائي، وقراءة الياء وضمها وفتح الزاى ورفع (الكفورُ) هي قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو وابن عامر وعاصم في رواية أبى بكر. ينظر السبعة ص 528، 529، والتيسير ص 147.
(3)
في م، ت 2، ت 3:"يجازي".
فإن قال قائلٌ: أو ما يَجْزِى اللهُ أهلَ الإيمانِ به على أعمالِهم الصالحةِ، فيَخُصَّ أهلَ الكفرِ بالجزاءِ، فيُقالُ:(وهل يُجَازَى إلا الكفورُ)؟ قيل: إن المجازاةَ في هذا الموضعِ المكافأةُ، واللهُ تعالى ذكرُه وعَد أهلَ الإيمانِ به التَّفَضُّلَ عليهم، وأن يَجْعَلَ لهم بالواحدةِ من أعمالِهم الصالحةِ عَشْرَ أمثالِها إلى ما لا نهايةَ له من التضعيفِ، ووعَد المسيءَ من عبادِه أن يَجْعَلَ له بالواحدةِ من سيئاتِه مثلَها، مكافأةً به
(1)
على جُرْمِه، والمكافأةُ لأهلِ الكبائرِ والكفرِ، والجزاءُ لأهلِ الإيمانِ مع التفضُّلِ؛ فلذلك قال جلَّ ثناؤُه في هذا الموضعِ:(وَهَلْ يُجازَى إِلَّا الكَفُورُ)؛ [لأنه كما قال جل جلاله]
(2)
لا يُكافِئُ على عملِه إلا الكفورَ. إذا كانت المكافأةُ مثلَ المكافَإِ عليه، وأنه لا يُغْفَرُ له من ذنوبِه شيءٌ، ولا يُمحَّصُ مِن
(3)
شيءٍ منها في الدنيا، وأما المؤمنُ فإنه يَتَفَضَّلُ عليه على ما وصَفتُ
(4)
.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ (وهَلْ يُجازَى). [قال: يُعاقَبُ]
(5)
.
(1)
في م، ت 1، ت 3:"له". في ت 2: "لها".
(2)
في م: "كأنه قال جل ثناؤه: "لا يجازي"، وفى ت 2، ت 3: "لأنه كما قال جل ثناؤه لا يجازي".
(3)
سقط من: م، ت 1.
(4)
ينظر معاني القرآن للفراء 2/ 359.
(5)
في م: "تعاقب"، وفى ت 1، ت 2، ت 3:"يعاقب". والأثر في تفسير مجاهد ص 554، وأخرجه الثورى في تفسيره ص 243 عن مجاهد. وذكره البغوي في تفسيره 6/ 395، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 233 إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:(ذلك جزيناهم بما كفروا وهل يُجازى إلا الكَفُورُ): إن الله إذا أراد بعبدِه كرامةً تقبَّل حسناتِه، وإذا أراد بعبدِه هوانًا أمسَك عليه ذنوبَه، حتى يُوَافَى بها
(1)
يومَ القيامةِ
(2)
.
قال: وذُكِر لنا أن رجلًا بينما هو في طريقٍ من طرقِ المدينةِ، إذ مرَّت به امرأةٌ، فأتْبَعها بصرَه، حتى أتَى على حائطٍ، فشجَّ وجهَه، فأتى نبيَّ اللهِ ووجهُه يَسِيلُ دمًا، فقال: يا نبيَّ اللهِ، فعَلتُ كذا وكذا. فقال له نبيُّ اللهِ: "إن الله إذا أراد بعبدٍ كرامةً، عجَّل له عقوبةَ ذنبِه في الدنيا، وإذا أراد اللهُ بعبدٍ هوَانًا، أمسَك عليه ذنْبَه حتى يُوَافَى به يومَ القيامةِ، كأنه عَيْرٌ
(3)
أبترُ"
(4)
.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه مُخبِرًا عن نعمتِه التي كان أنعَمها على هؤلاءِ القومِ الذين ظلَموا أنفسَهم: وجعَلنا بينَ بلدِهم وبينَ القرَى التي بارَكْنا فيها، وهى الشامُ، قُرًى ظاهرةً.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني
(1)
في م، ت 1، ت 3:"به".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 233 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
العَيرُ: الحمار الوحشى. النهاية 3/ 328.
(4)
أخرجه الطبراني (11842) من طريق شيبان عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس مرفوعا، والحاكم 1/ 349، 4/ 376، 377 من حديث عبد الله بن مغفل، 4/ 608 من حديث أنس بن مالك.
الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مُجاهدٍ قولَه:{الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} . قال: الشامِ
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} . قال: الشامِ
(2)
.
[حدَّثني عليُّ بنُ سهلٍ، قال: ثنا حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ: {الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا}. قال: الشامِ]
(3)
.
وقيل: عنَى بالقُرَى التي بُورِك فيها بيتَ المقدسِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثني عمِّي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً} . قال: الأرضُ التي بارَكْنا فيها هي الأرضُ المقدَّسةُ
(4)
.
وقولُه: {قُرًى ظَاهِرَةً} . يعنى قُرًى مُتَّصِلةٌ، وهي قُرًى عربيةٌ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابن عليةَ، عن أبي رجاءٍ، قال: سمِعتُ الحسنَ في
(1)
تفسير مجاهد ص 554، وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 129 عن معمر، عن أبي يحيى، عن مجاهد.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 233 إلى عبد بن حميد.
(3)
سقط من: الأصل.
(4)
ذكره الطوسي في التبيان 8/ 354، وأبو حيان في البحر المحيط 7/ 272، وابن كثير في تفسيره 6/ 496.
قولِه: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً} . قال: قُرًى مُتواصِلةً. قال: كان أحدُهم يَغْدُو فيَقيلُ في قريةٍ، ويَرُوحُ فيَأْوى إلى قريةٍ أخرَى. قال: وكانت المرأةُ تَضَعُ زِنْبِيلَها
(1)
على رأسِها، ثم تَمْتَهِنُ بِمِغْزَلها، فلا تَأْتى بيتَها حتى يَمْتَلئَ من كلِّ الثمارِ
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{قُرًى ظَاهِرَةً} : أي مُتَواصِلةً
(3)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثني عمى، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{قُرًى ظَاهِرَةً} . يعنى قرًى عربيةً بينَ المدينةِ والشامِ
(4)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: حدَّثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مُجاهدٍ قولَه:{قُرًى ظَاهِرَةً} . قال: السَّرَواتِ
(5)
.
حُدِّثتُ عن الحسين، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبَرنا عبيدٌ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {قُرًى ظَاهِرَةً} . يَعْنى قرًى عربيةً، وهي بينَ المدينةِ والشامِ.
(1)
الزنبيل: القُفَّةُ. الوسيط (ز ب ل).
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 233 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
تفسير عبد الرزاق 2/ 130 عن معمر عن قتادة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 233 إلى عبد بن حميد.
(4)
ذكره القرطبي في تفسيره 14/ 289، وابن كثير في تفسيره 6/ 496.
(5)
السروات جمع سَراة: ما ارتفع من كل شيء وعلا. اللسان (س ر و). والأثر في تفسير مجاهد ص 554.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً} . قال: كان بينَ قريتِهم وبينَ الشامِ قرًى ظاهرةٌ. قال: إن كانت المرأةُ لَتخرُجُ معها مغزَلُها، ومِكْتَلُها على رأسِها، تَرُوحُ مِن قريةٍ وتَغْدُو
(1)
وتَبِيتُ في قريةٍ، لا تَحْمِلُ زادًا ولا ماءً؛ لما
(2)
بينَها وبينَ الشامِ.
وقولُه: {وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: وجَعَلْنا السيرَ بينَ قراهم والقرى التي بارَكْنا فيها سيرًا مقدَّرًا مِن منزلٍ إلى منزلٍ، وقريةٍ إلى قريةٍ، لا يَنْزِلون إلَّا في قريةٍ، ولا يَغْدون إلا من قريةٍ.
وقولُه: {سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ} . يقولُ: وقلْنا لهم: سِيروا في هذه القرى - ما بينَ قراكم والقُرى التي بارَكْنا فيها - لياليَ وأيامًا آمنين، لا تَخافون جُوعًا ولا عَطَشًا، ولا من أحدٍ ظُلْمًا.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ} : لا تَخافون ظلمًا ولا جوعًا، إنما تَغْدون فتَقِيلون في قريةٍ، وتَرُوحون فَتَبِيتون في قريةٍ، أهلُ جنةٍ ونَهَرٍ، حتى لقد ذُكِر لنا أن المرأةَ كانت تَضَعُ مِكْتَلَها على رأسِها، وتَمْتَهِنُ بيدِها، فيَمْتَلئُ مِكْتَلُها من الثمرِ
(3)
قبلَ أن تَرْجِعَ إلى
(1)
في م، ت 1، ت 2:"تغدوها".
(2)
في الأصل: "الماء فيما".
(3)
في الأصل: "التمر".
أهلِها، من غيرِ أن تَخْتَرِفَ
(1)
بيدِها
(2)
شيئًا، وكان الرجلُ يُسَافِرُ لا يَحْمِلُ معه زادًا ولا سِقاءً، مما بُسِط للقومِ
(3)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَأَيَّامًا آمِنِينَ} . قال: ليس فيها خوفٌ.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤه: {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: اختلَفت القرَأَةُ في قراءةِ قولِه: {رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} ؛ فقرَأته عامةُ قرأةِ المدينةِ والكوفةِ: {رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} . على وجهِ الدعاءِ والمسألةِ بالألفِ. وقرَأ ذلك بعضُ أهلِ مكةَ والبصرةِ: (بعِّد)، بتشديدِ العينِ، على الدعاءِ أيضًا. وذُكِر عن بعضِ المتقدِّمين أنه كان يقرؤه:(رَبُّنا باعَدَ بينَ أسفارِنا) على وجهِ الخبرِ عن
(4)
اللهِ، أن الله فعل ذلك بهم
(5)
. وحكى عن آخرَ أنه قرَأه: (ربَّنا بَعُدَ) على وجهِ الخبرِ أيضًا، غيرَ أن الربَّ منادًى
(6)
.
(1)
في الأصل، ت 1، ت 2:"تحترف". وفي ت 3: "تخترق". وخرف الثمار جناها. التاج (خ ر ف).
(2)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 130 عن معمر عن قتادة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 234 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(4)
في م: "من".
(5)
قراءة تشديد العين من غير ألف هي قراءة ابن كثير وأبى عمرو وابن عامر في رواية هشام، وقراءة فتح العين والدال وألف على وجه الخبر هي قراءة يعقوب الحضرمى، وقراءة كسر العين وألف على وجه الدعاء هي قراءة نافع، وابن عامر في رواية ابن ذكوان، وعاصم وحمزة والكسائي وأبي جعفر المدني وخلف ينظر النشر 2/ 262، 263، وإتحاف فضلاء البشر ص 221.
(6)
وهى قراءة سعيد بن أبي الحسن وسفيان بن حسين وابن السميفع. ينظر البحر المحيط 7/ 273.
والصوابُ من القراءةِ في ذلك عندَنا: {رَبَّنَا بَاعِدْ} و (بَعِّدْ)؛ لأنهما القراءتان المعروفتان في قرَأةِ الأمصارِ
(1)
، وما عداهما فغيرُ معروفٍ فيهم، على أن التأويلَ من أهلِ التأويلِ أيضًا يُحَقِّقُ قراءةَ من قرَأه على وجهِ الدعاءِ والمسألةِ، وذلك أيضًا مما يزيدُ القراءةَ الأخرى بُعدًا من الصوابِ.
فإذا كان ذلك كذلك وهو الصوابُ من القراءةِ، فتأويلُ الكلامِ: فقالوا: يا ربَّنا، باعدْ بينَ أسفارِنا، فاجعَلْ بينَنا وبينَ الشامِ فَلَواتٍ ومفاوزَ؛ لنَرْكَبَ فيها الرواحلَ، ونتَزَوَّدَ معنا فيها الأزوادَ. وهذا من الدَّلالةِ على بَطَرِ القومِ نعمةَ اللهِ عليهم وإحسانَه إليهم، وجهلِهم بمقدارِ العافيةِ، ولقد عجَّل لهم ربُّهم الإجابةَ، كما عجَّل للقائلين:{إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32]: أعطاهم ما رغِبوا إليه فيه وطلَبوا من المسألةِ.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني أبو حُصَينٍ عبدُ اللهِ بنُ أحمدَ بن يونسَ، قال: ثنا عَبْثَرٌ، قال: ثنا حُصَينٌ، عن أبي مالكٍ في هذه الآيةِ:{فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} . قال: كانت لهم قُرًى متصلةٌ باليمنِ، كان بعضُها يَنْظُرُ إلى بعضٍ، فبَطِروا ذلك وقالوا:{رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} . قال: فأرسَلَ اللهُ عليهم سيلَ العرمِ، وجعَل طعامَهم أَثْلًا وخَمْطًا وشيئًا من سدرٍ قليل
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن
(1)
القراءات كلها صواب.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 496 بنحوه.
أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} . قال: فإنهم بطِروا عيشَهم، وقالوا: لو كان جَنَى جناتِنا أبعدَ مما هي، كان أجدرَ أن نشتهيَه. فمُزِّقوا بينَ الشامِ وسبإِ، وبُدِّلوا بجنتَيْهم جنتين ذواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وأثْلٍ وشيءٍ من سدرٍ قليلٍ.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} : بطِر القومُ نعمةَ اللهِ، وغَمِطوا
(1)
كرامةَ اللهِ، قال اللهُ:{وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ}
(2)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} حتى نَبِيتَ في الفَلواتِ والصحارَى: {وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} .
وقولُه: {وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} : وكان ظلمُهم إيَّاها عَمَلَهم بما يُسْخِطُ الله عليهم مِن معاصيه؛ مما يُوجِبُ [لها عذابَ]
(3)
اللهِ، {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ}. يقولُ: صيَّرناهم أحاديثَ للناسِ، يَضْرِبون بهم المثلَ في التَّشْتِيتِ
(4)
، فيُقالُ: تَمزَّق
(5)
القومُ أَيادِيَ سَبَا، وأيْديَ سَبَا. إذا تفرَّقوا وتقطَّعوا
(6)
.
وقولُه: {وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} . يقولُ: قطَّعناهم في البلادِ كلَّ تَقَطُّعٍ.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ: {وَظَلَمُوا
(1)
الغَمْط: البطر والتحقير. تاج العروس (غ م ط).
(2)
تتمة الأثر المتقدم تخريجه في ص 262.
(3)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"لهم عقاب".
(4)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"السب".
(5)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"تفرق".
(6)
ينظر مجمع الأمثال للميداني 2/ 4.
أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ}. قال قتادةُ: قال عامرٌ الشَّعْبيُّ: أما غسَّانُ فقد لحِقوا بالشامِ، وأما الأنصارُ فلِحقوا بيَثْرِبَ، وأما خزاعةُ فلحِقوا بتِهامةَ، وأما الأزدُ فلحِقوا بعُمانَ
(1)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ، قال: يَزْعُمون أن عمرَو
(2)
ابنَ عامرٍ، وهو عمُّ القومِ، كان كاهنًا، فرأَى في كَهانتِه أن قومَه سيُمَزَّقون [ويُباعدُ بينَ أسفارِهم]
(3)
، فقال لهم: إنى قد علِمتُ أنكم سَتُمَزَّقون، فمَن كان منكم ذا همٍّ بعيدٍ، وجملٍ شديدٍ، ومَزادٍ جديدٍ، فليَلْحَقْ بكأسٍ أو كرود. قال: فكانت وادعةُ بنُ عمرٍو. ومَن كان منكم ذا همٍّ مُدْنٍ، [وأَمْرٍ ذُعْرٍ]
(4)
، فَليَلْحَقْ بأرضِ شنٍّ
(5)
، فكانت عوفُ بنُ عمرٍو، وهم الذين يُقالُ لهم: بارقٌ. ومَن كان منكم يُريدُ عيشًا آينًا
(6)
، وحَرَمًا آمنًا، فليَلْحَقْ بالأَرْزِينِ
(7)
، فكانت خزاعةُ، ومَن كان يُريدُ الراسياتِ في الوَحْلِ، المُطْعِماتِ في المَحْلِ
(8)
، فَليَلْحَقْ بِيَثْرِبَ ذَاتِ النخلِ، فكانت الأوسُ والخَزرجُ، وهما هذان الحيَّانِ من الأنصارِ، ومن كان منكم يُريدُ خَمْرًا وخميرًا، وذهبًا وحريرًا، ومُلْكًا وتأميرًا، فليَلْحَقْ بِكُوثَى
(9)
وبُصرَى،
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 130 من طريق معمر عن قتادة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 234 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
في النسخ: "عمران". وسيأتي على الصواب. وينظر جمهرة أنساب العرب ص 331.
(3)
في م: "يتباعدون"، وفى ت 1:"تتباعد"، وفى ت 2، ت 3:"تباعد".
(4)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"أمرد عن".
(5)
شَنّ: ناحية بالسَّراة وهى الجبال المتصلة بعضها ببعض الحاجزة بين تهامة واليمن. معجم البلدان 3/ 329.
(6)
العيش الآين: الرافه الوادع. القاموس المحيط (أ و ن).
(7)
في ت 2: "بالاردين"، وفى ت 3:"بالادرين".
(8)
المحل: الجوع الشديد وإن لم يكن جدب. اللسان (م ح ل).
(9)
كُوثى: ثلاثة مواضع بسواد العراق، وقيل: كوثى العراق كوثيان، كوئى الطريق، والآخر: كوثى رَبَّى. معجم البلدان 4/ 317.
فكانت غسَّانُ بنو جَفْنَةَ
(1)
ملوكُ الشامِ ومَن كان منهم بالعراقِ. قال ابن إسحاقَ: وقد سمِعتُ بعضَ أهلِ العلمِ يقولُ: إنما قالت هذه المقالةَ طُرَيْفةُ امرأةُ عمرو
(2)
بن عامرٍ، وكانت كاهنةً فرأَت في كهانتِها ذلك، فاللهُ أعلمُ أَيَّ ذلك كان. قال: فلما تفرَّقوا، نزَلوا على كهانةِ عمرِو
(2)
بن عامرٍ
(3)
.
وقولُه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} . يقولُ تعالى ذكرُه: إن في تمزيقِناهم كلَّ ممزَّقٍ، {لَآيَاتٍ}. يقولُ: لعظةً وعِبْرةً ودَلالةً على واجبِ حقِّ اللهِ على عبدِه من الشكرِ على نِعمِه إذا أنعمَ عليه، وحقِّه من الصبرِ على محنتِه إذا امتحَنه بيلاءٍ {لِكُلِّ صَبَّارٍ} [على مِحَنِه]
(4)
{شَكُورٍ} على نعمِه.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} . قال: كان مُطرِّفٌ يقولُ: نِعم العبدُ الصَّبَّارُ الشَّكُورُ، الذي إذا أُعطِى شكَر، وإذا ابتُلِيَ صَبَر
(5)
.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20)} .
(1)
في الأصل: "حنيفة". وينظر جمهرة أنساب العرب ص 331.
(2)
في م: "عمران". وهو مما قيل في اسمه، والمثبت كما تقدم هو الصواب.
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 499.
(4)
سقط من: م، ت 2، ت 3.
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 234 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن أبي حاتم.
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: اختلَفت القرَأةُ في قراءةِ قولِه: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} ؛ فقرَأ ذلك عامةُ قرَأةِ الكوفيين: {وَلَقَدْ صَدَّقَ} بتشديدِ الدالِ من {صَدَّقَ} ، بمعنى أنه قال ظنًّا منه:{وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 17]. وقال: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)} . [ص: 82، 83] ثم صدَّق ظنَّه ذلك فيهم، [فحقَّقه بفعلِه]
(1)
ذلك بهم، واتِّباعهم إياه. وقرَأ ذلك عامةُ قرَأةِ المدينةِ والشامِ والبصرةِ:(ولقد صَدَق عليهم) بتخفيفِ الدالِ، بمعنى: ولقد صدَق عليهم في ظنِّه
(2)
.
والصوابُ من القولِ في ذلك عندى أنهما قراءتان معروفتان متقاربتا المعنى، وذلك أن إبليسَ قد صدَّق على كفَرةِ بني آدمَ في ظنِّه، وصدَق عليهم ظنُّه الذي ظنَّ حينَ قال:{ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} . وحينَ قال: {وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ} [النساء: 119] الآية، قال ذلك عدوُّ اللهِ، ظنًّا منه أنه يفعلُ ذلك لا علمًا، فصار ذلك حقًّا باتباعِهم إياه. فبأيِّ القراءتين قرَأ القارئُ فمصيبٌ.
فإذا كان ذلك كذلك، فتأويلُ الكلامِ على قراءةِ من قرَأ بتشديدِ الدالِ: ولقد ظنَّ إبليسُ بهؤلاء الذين بدَّلناهم بجنتَيهم جنتَين ذواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ، عقوبةً منَّا لهم - ظنًّا غيرَ يقينٍ؛ عَلِم أنهم يَتَّبعونه ويُطِيعونه في معصيةِ اللهِ، فصدَّق ظنَّه عليهم، بإغوائِه إياهم، حينَ
(3)
أطاعُوه وعَصَوا ربَّهم، إلا فريقًا من المؤمنين باللهِ، فإنهم ثبتوا على طاعة اللهِ ومعصيةِ إبليسَ.
(1)
في م، ت 2:"فحقق"، وفى ت 1، ت 3:"محققه".
(2)
قراءة تشديد الدال هي قراءة عاصم وحمزة والكسائي، وقراءة تخفيف الدال هي قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو وابن عامر. السبعة ص 529، والكشف عن وجوه القراءات 2/ 207، والتيسير ص 147.
(3)
في م، ت 2، ت 3:"حتى".
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني أحمدُ بنُ يوسفَ، قال: ثنا القاسمُ، قال: ثنا حجاجٌ، عن هارونَ، قال: أخبَرنى عمرُو بنُ مالكٍ، عن أبي الجَوزاءِ، عن ابن عباسٍ أنه قرَأ:{وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} مُشدَّدةً، وقال: ظنَّ ظنًّا، فصدَّق ظنَّه
(1)
.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا يحيى، عن سفيانَ، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ:{وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} . قال: ظنَّ ظَنًّا، فاتبَعوا ظنَّه
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} . قال: واللهِ ما كان إلا ظنًّا ظنَّه، وإنَّ الله لا يُصدِّقُ كاذبًا، ولا يُكذِّبُ صادقًا.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} . قال: أرأيتَ هؤلاء الذين كرّمتَهم عليَّ، وفضَّلتَهم وشرَّفتَهم؟ لا تَجِدُ أكثرَهم شاكرين. وكان ذلك ظنًّا منه بغيرِ علمٍ، فقال اللهُ:{فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} .
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه: وما كان لإبليسَ على هؤلاء القومِ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 234 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن أبي حاتم.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 235 إلى المصنف والفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
الذين وصَف جلَّ ثناؤه صفتَهم من حُجةٍ يُضِلُّهم بها، إلا بتسليطِناه عليهم، [لنَعْلَمَ حزبَنا وأولياءَنا]
(1)
، {مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ}. يقولُ: مَن يُصَدِّقُ بالبعثِ والثوابِ والعقابِ، {مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ}. [يقولُ: ممن هو مِن الآخرةِ في شكٍّ]
(2)
فلا يُؤْمِنُ
(3)
بالمعادِ، ولا يُصَدِّقُ بثوابٍ ولا عقابٍ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيدُ، عن قتادةَ قولَه:{وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ} . قال: قال الحسنُ: واللهِ ما ضرَبهم بعضًا ولا سيفٍ ولا سوطٍ، إلا أمانيَّ وغرورًا دعاهم إليها
(4)
.
[حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ]
(5)
، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ} . قال: وإنما كان بلاءً
(6)
؛ ليعلمَ اللهُ الكافرَ مِن المؤمنِ
(7)
.
وقيل: عُنِى بقولِه: {إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ} : إلا لنَعْلَمَ ذلك موجودًا ظاهرًا، ليُسْتَحقَّ به الثوابُ أو العقابُ.
(1)
في م: "ليعلم حزبنا وأولياؤنا".
(2)
سقط من: م.
(3)
في م: "يوقن".
(4)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 130 عن معمر عن قتادة. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 235 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(5)
ليس في: م، ت 2، ت 3.
(6)
بعده في الأصل: "ذلك".
(7)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 235 إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم.
وقولُه: {وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} . يقولُ تعالى ذكره: وربُّك يا محمدُ على أعمالِ هؤلاءِ الكفرةِ به، وغير ذلك مِن الأشياءِ كلِّها {حَفِيظٌ} ، لا يَعْزُبُ عنه علمُ شيءٍ منه، وهو مجازٍ جميعَهم يومَ القيامةِ، بما كسَبوا في الدنيا من خيرٍ وشرٍّ.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه: فهذا فعلُنا بوليِّنا ومن أطاعَنا داودَ وسليمانَ الذي
(1)
فعَلنا بهما؛ مِن إنعامِنا عليهما النعمَ التي لا كِفاءَ لها إذ شكَرانا، وذاك فِعْلُنا بسبأ الذي
(2)
فعلنا بهم، إذ بطروا نعمتَنا، وكذَّبوا رسلَنا، وكفَروا أياديَنا، فقلْ يا محمدُ لهؤلاء المشركين بربِّهم مِن قومِك، الجاحدين نعمَنا عندَهم: ادعوا أيُّها القومُ الذين زعَمتم أنهم للهِ شريكٌ من دونِه، فسلوهم أن يَفْعَلوا بكم بعضَ أفعالِنا بالذين وصَفنا أمرَهم؛ مِن إنعامٍ أو إياسٍ، فإن لم يقدِروا على ذلك، فاعْلَموا أنكم مُبْطِلون؛ لأن الشركةَ في الربوبيةِ لا تَصْلُحُ ولا تجوزُ. ثم وصَف الذين يَدْعون مِن دونِ اللهِ، فقال: إنهم لا يَمْلِكون ميزانَ
(3)
ذرّةٍ في السماواتِ ولا في الأرضِ؛ من خيرٍ ولا شرٍّ، ولا ضرٍّ ولا نفعٍ، فكيف يكونُ إلهًا من كان كذلك؟!
وقولُه: {وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ} . يقولُ تعالى ذكرُه: ولا هم إذ لم يَكُونوا يَمْلِكون مثقالَ ذرّةٍ في السماواتِ ولا في الأرضِ منفردين بملكِه مِن
(1)
في الأصل: "اللذين".
(2)
في م، ت 1، ت 2:"الذين".
(3)
في م: "مثقال".
دونِ اللهِ، يملكونه على وجهِ الشَّرِكةِ؛ لأن الأملاكَ في المملوكاتِ، لا تكونُ لمالكيها
(1)
إلا على أحدِ وجهين؛ إما مقسومًا، وإما مُشَاعًا. يقولُ: فآلهتُهم التي يَدْعون من دونِ اللهِ لا يَمْلِكون وزنَ ذَرَّةٍ في السماواتِ ولا في الأرضِ، لا مُشَاعًا ولا مقسومًا، فكيف يكونُ مَن كان هكذا شريكًا لمن له ملكُ جميعِ ذلك؟
وقولُه: {وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} ، يقولُ: وما للهِ مِن الآلهةِ التي يَدْعُون مِن دونِه مُعِينٌ على خلقِ شيءٍ من ذلك، ولا على حفظِه، إذ لم يَكُنْ لها ملكُ شيءٍ منه مُشاعًا ولا مقسومًا، فيقالَ: هو له
(2)
شريكٌ مِن أجلِ أنه أعان، وإن لم يَكُنْ له ملكُ شيءٍ منه.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ} . يقولُ: ما للهِ من شريكٍ في السماواتِ ولا في الأرضِ، {وَمَا لَهُ مِنْهُمْ}: من الذين يَدْعون من دونِ اللهِ، {مِنْ ظَهِيرٍ} . مِن عونٍ بشيءٍ
(3)
.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ
(1)
في م، ت 1:"لمالكها".
(2)
في م، ت 1، ت 2:"لك".
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 235 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
الْكَبِيرُ}.
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكره: ولا تَنْفَعُ شفاعة شافع [عندَ اللهِ]
(1)
كائنا من كان الشافع، لمن شَفَع له، إلا أن يَشْفَعَ لمن أذن الله في الشفاعة له
(2)
. يقول تعالى: فإذا كانت الشفاعة
(3)
لا تَنْفَعُ عند الله أحدًا، إلا لمن أذن الله
(4)
في الشفاعة له، والله لا يأذَنُ لأحدٍ من أوليائه في الشفاعةِ لأحدٍ من [أهل الكفر]
(5)
به، وأنتم أهل كفر به أيها المشركون، فكيف تَعْبُدون مَن تَعْبُدونه مِن دونِ الله، زعما منكم أنكم تعبدونه ليقرِّبكم إلى اللهِ زُلْفَى، وليَشْفَعَ لكم عند ربِّكم؟ فـ "مَن" - إذ كان هذا معنى الكلام - التي في قوله:{إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} للمشفوع
(6)
له.
واختلفت القرأةُ في قراءة قوله: {أَذِنَ لَهُ} ؛ فقرأ ذلك عامة القرأة بضمِّ الألف من: {أَذِنَ لَهُ} على وجه ما لم يسمَّ فاعله
(7)
. وقرأه بعضُ الكوفيين: {أَذِنَ لَهُ} على اختلاف أيضًا عنه فيه
(8)
، بمعنى أذن الله له.
وقوله: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ} . يقول: حتى إذا جُلِى عن قلوبِهم، وكُشِف عنها الفزَعُ وذهَب.
(1)
سقط من: م، ت 2، ت 3.
(2)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(3)
في م، ت 1، ت 2:"الشفاعات".
(4)
بعده في الأصل: "له".
(5)
في م: "الكفرة".
(6)
في م: "المشفوع".
(7)
هي قراءة أبي عمرو وحمزة والكسائي وعاصم في رواية الكسائي عن أبي بكر عنه. السبعة لابن مجاهد ص 529، 530، والتيسير ص 147.
(8)
هي قراءة ابن كثير ونافع وابن عامر وعاصم في رواية يحيى وحسين وابن أبي أمية عن أبي بكر عنه وحفص عنه. المصدران السابقان.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عباس قولَه:{حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ} . يعنى: جُلى
(1)
.
حدثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ} . قال: كُشِف عنها الغطاءُ يومَ القيامةِ
(2)
.
حدثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيد، عن قتادةَ، قال: إذا جُلِى عن قلوبهم
(3)
.
واختلَف أهل التأويل في الموصوفين بهذه الصفة؛ من هم؟ وما السببُ الذي مِن أجلِه فُزِّع عن
(4)
قلوبهم؟ فقال بعضُهم: الذين
(5)
فزِّع عن قلوبهم الملائكة. قالوا: وإنما يُفزَّعُ عن قلوبهم مِن غَشْيةٍ تصيبُهم عند سماعهم كلام
(6)
الله بالوحي.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم - كما في الإتقان 2/ 38 من طريق أبي صالح به.
(2)
تفسير مجاهد ص 555، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 237 إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 130 عن معمر، عن قتادة والكلبي مطولا، وذكره السيوطي في الدر المنثور 5/ 236، 237 عن قتادة والكلبى مطولا، وعزاه إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4)
في الأصل: "من".
(5)
في م: "الذي".
(6)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَيةَ، عن داودَ، عن الشَّعبى، قال: قال ابن مسعود في هذه الآية: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ} . قال: إذا حدث أمرٌ عندَ ذى العرشِ، سَمِع مَن دونَه مِن الملائكة صوتًا كجرِّ السلسلة على الصفا، فيُغْشى عليهم، فإذا ذهَب الفزع عن قلوبهم تنادَوا:{مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} ؟ قال: فيقولُ مَن شاء الله: قال الحق، وهو العلى الكبيرُ
(1)
.
حدثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا المعتمر، قال: سمعت داود، عن عامرٍ، عن مسروق، قال: إذا حدث عندَ ذى العرش أمرٌ، سمِعت الملائكة له
(2)
صوتًا، كجرِّ السلسلة على الصفا، قال: فيُغْشَى عليهم، فإذا فُزِّع عن قلوبهم، قالوا: ماذا قال ربُّكم؟ قال: فيقولُ مَن شاء الله: الحقَّ، وهو العلى الكبيرُ.
حدَّثنا ابن المثنى، قال: ثنى عبد الأعلى، قال: ثنا داود، عن عامرٍ، عن ابن مسعودٍ، أنه قال: إذا حدث أمرٌ
(3)
عند ذى العرش. ثم ذكر نحو معناه، إلا أنه قال: فيُغْشَى عليهم من الفزع، حتى إذا ذهَب ذلك عنهم، تنادوا: ماذا قال ربُّكم؟
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد، قال: يُنَزَّلُ الأمرُ من عندِ ربِّ العزّةِ إلى السماء الدنيا، [فيَسْمعون مثلَ وقعِ الحديد على الصفا]
(4)
، فيفْزَعُ أهل السماءِ الدنيا، حتى يَسْتَبِينَ لهم الأمر الذي نُزِّل فيه، فيقولُ بعضُهم لبعضٍ: ماذا قال ربُّكم؟ فيقولون: قال الحقَّ، وهو العليُّ الكبير. فذلك قوله:{حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ} الآية.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره - كما في الفتح 13/ 457 من طريق الشعبي به.
(2)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(3)
بعده في الأصل، ت 1، ت 2، ت:"من".
(4)
سقط من: م، ت 1، ت 2.
حدَّثنا أحمدُ بنُ عَبْدةَ الضَّبِّيُّ، قال: ثنا سفيانُ بنُ عُيَينةَ، عن عمرو بن دينارٍ، عن عكرمةَ، قال: ثنا أبو هريرة، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: "إن الله إذا قضَى أمرًا في السماءِ ضَرَبتِ الملائكة بأجْنِحَتِها خُضْعانًا
(1)
، لقوله صوتٌ كصوت السلسلة على الصَّفا الصَّفْوانِ". فذلك قوله:{حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الكَبِيرُ}
(2)
.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصورٍ، عن إبراهيم، عن عبدِ اللهِ بن مسعودٍ في قوله:{حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ} . قال: إن الوحى إذا أُلقى سمع أهلُ السماواتِ صَلْصَلةٌ كصَلْصَلة السلسلة على الصَّفْوانِ، قال: فيتنادون في السماواتِ: ماذا قال ربكم؟ قال: فيتنادون: الحقَّ، وهو العلى الكبيرُ.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن أبي الضُّحَى عن مسروق، عن عبدِ اللهِ مثله
(3)
.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَيَّةَ، قال: ثنا أيوب، عن هشام، عن
(4)
عُرْوةَ قال: قال الحارث بن هشامٍ لرسول صلى الله عليه وسلم هل الله: كيف يأتيك الوحيُ؟ قال:
(1)
في الأصل، م، ت 2 ت 3:"جميعا و". وفي ت 1: "جمعا و". والمثبت من مصادر التخريج.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 131، والبخارى (7481)، وأبو داود (3989)، والترمذى (3223)، وابن ماجه (194)، وابن خزيمة في التوحيد ص 97، وابن حبان (36)، والبيهقي في الأسماء والصفات (431) ودلائل النبوة 2/ 235 من طريق سفيان به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 235 إلى سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.
(3)
تفسير مجاهد ص 555، وتفسير الثورى ص 243، 244، وأخرجه ابن خزيمة في التوحيد ص 96 من طريق منصور به، وأخرجه البخارى في خلق أفعال العباد ص 138، وأبو داود (4738)، وعبد الله بن أحمد في السنة (536)، وابن حبان (37)، وأبو الشيخ (146)، والبيهقي في الأسماء (432 - 434)، والخطيب في تاريخه 11/ 392، 393 من طريق أبي الضحى به وجاء عند بعضهم مرفوعًا. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 236 إلى سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.
(4)
في النسخ: "بن". والمثبت من مصادر التخريج.
"يَأْتينى في صَلْصَلةٍ كصَلْصَلَةِ الجَرَسِ، فيَفْصِمُ عنى حينَ يَفْصِمُ وقد وَعَيْتُه، ويأتيني
(1)
أحيانًا في مِثْلِ صورة الرجل، فيُكَلِّمُنى به كلامًا، وهو أهون عليَّ"
(2)
.
حدثني زكريا بن [يحيى بن]
(3)
أبان المصريُّ، قال: ثنا نعيم، قال: ثنا الوليد بنُ مسلم، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابرٍ، عن ابن أبي زكريا، عن رجاءِ
(4)
بن حَيْوَةَ، عن النَّوَّاس بن سمعانَ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أرادَ الله أن يُوحَى بالأمرِ، تَكَلَّمَ بالوَحْيِ، أَخَذَتِ السَّمَاواتِ منه رَجْفَةٌ - أو قال: رِعْدَةٌ - شديدةٌ؛ [خَوْفًا مِن]
(5)
الله، فإذا سَمِع بذلك
(6)
أهل السماواتِ صَعِقوا، وخَرُّوا للهِ سُجَّدًا، فيكونُ أول مَن يَرْفَعُ رأسه جبريلُ، فيُكَلِّمُهُ اللهُ [مِن وَحْيِه بما]
(7)
(8)
أرادَ، ثم يمرُّ جبريلُ على الملائكةِ، كُلَّما مَرَّ بسماءٍ سأله
(9)
ملائكتها: ماذا قال ربنا يا جبريلُ؟ فيقولُ جبريلُ: قال الحقَّ، وهو العلى الكبيرُ. قال: فيقولون كلُّهم مثل ما قال جبريل، فينتهى جبريلُ بالوحي حيثُ أمره الله"
(10)
.
(1)
في م: "يأتي".
(2)
أخرجه الطبراني (3344) من طريق أيوب به. وذكره ابن كثير في البداية والنهاية 4/ 51، 52 عن أيوب به. وأخرجه البخارى (2)، ومسلم (2333)، وغيرهما من طريق هشام بن عروة عن عائشة عن الحارث.
(3)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(4)
في م، ت 2:"جابر".
(5)
في م: "خوف أمر".
(6)
في الأصل: "ذلك".
(7)
في الأصل: "بوحيه ما".
(8)
في ت 1، ت 2، ت:"لما".
(9)
في الأصل: "سما له".
(10)
أخرجه ابن خزيمة في التوحيد ص 95 - ومن طريقه البغوي في تفسيره 6/ 398 - من طريق زكريا بن يحيى بن أبان المصرى به. وأخرجه ابن أبي عاصم في السنة (515)، وابن أبي حاتم، كما في تفسير ابن كثير 6/ 504 - ومن طريقه أبو الشيخ في العظمة (165)، والآجرى في الشريعة (668)، والبيهقي في الأسماء والصفات (435) من طريق نعيم به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 236 إلى الطبراني وابن مردويه.
حُدِّثْتُ عن الحسينِ، قال: سمعتُ أبا معاذ يقولُ: أخبرنا عُبَيد، قال: سمعتُ الضحاك يقولُ في قوله: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ} الآية. قال: كان ابن عباسٍ يقولُ: إن الله لما أراد أن يُوحِيَ إلى محمدٍ، دعا جبريل، فلما تكلَّمَ ربُّنا بالوَحْيِ، كان صوته كصوت الحديد على الصَّفا، فلما سمع أهل السماواتِ صوت الحديدِ، خَرُّوا سُجَّدًا، فلما أتى عليهم جبريلُ بالرسالة، رفعوا رُءُوسهم، فقالوا:{مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} . وهذا قولُ الملائكة.
حدثني محمد بن سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله:{حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ} إلى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الكَبِيرُ} . قال: لمَّا أوحى الله تبارك وتعالى إلى محمد صلى الله عليه وسلم، دعا الرسول من الملائكةِ، فبعث بالوَحْي، سمِعَتِ الملائكةُ صوتَ الجَبَّارِ يتكلم بالوحي، فلما كشف عن قلوبهم، سألوا عما قال الله، فقالوا: الحقَّ. وعلموا أن الله لا يقولُ إلا حقًّا، وأنَّه مُنجزٌ ما وعد، قال ابن عباس: وصوت الوحيِ كصوت الحديد على الصفا، فلما سمعوه خرُوا سُجَّدًا، فلما رفعوا رءوسهم {قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}. ثم أمر الله نبيه أن يسأل الناسَ:{قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مَّن السَّمَوَاتِ [وَالْأَرْضِ} إِلى {أَوْ]
(1)
فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}
(2)
.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا قُرَّةُ، عن عبد الله بن القاسم في قوله:{حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ} الآية
(3)
. قال: الوحى ينزل
(4)
من السماء، فإذا
(1)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"إلى قوله".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 235، 237 إلى ابن أبي حاتم وابن مردويه.
(3)
في الأصل: "قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلى الكبير".
(4)
بعده في الأصل: الله.
قَضاه، {قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} .
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مُغيرة، عن إبراهيمَ، عن عبد الله في قوله:{حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ} . قال: إن الوحى إذا قُضِي في زَوَايا
(1)
السماءِ، كان
(2)
مثل وقع الفولاذِ على الصخرة
(3)
، قال: فيُشْفِقُون، لا يَدْرُون ما حدث، فيفزَعون، فإذا مَرَّت بهم الرسلُ {قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} .
وقال آخرون ممن قال: المَوصوفون بذلك الملائكةُ: إنما يُفَزِّعُ عن قلوبهم فَزَعُهم من قضاءِ اللهِ الذي يَقْضِيه؛ حَذَرًا أن يكون ذلك قيام الساعةِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله:{حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} الآية، قال: يُوحِى الله إلى جبريلَ، فتَفرَّقُ الملائكة، أو تَفَزَّعُ؛ مخافة أن يكونَ شيءٌ مِن أمر الساعة، فإذا جلى عن قلوبهم، وعلموا أن ذلك ليس من أمر الساعة {قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}
(4)
.
وقال آخرون: بل ذلك من فعل ملائكة السماواتِ إذا مَرَّت بها المُعَقِّباتُ؛ فَزَعًا أن يكون حدث أمرُ الساعة.
(1)
سقط من: الأصل.
(2)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"قال".
(3)
بعده في الأصل: "أو الفولاذ على الصخرة".
(4)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 130 عن معمر عن قتادة والكلبى بنحوه. وذكره السيوطي في الدر المنثور 5/ 236، 237 عن قتادة والكلبى، وعزاه إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حُدِّثْتُ عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقولُ: أخبرنا عُبيدٌ، قال: سمعتُ الضحاك يقولُ في قوله: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ} الآية، زعم ابن مسعود أن الملائكة المعقبات، الذين يختلفون إلى الأرض يكتبون أعمالهم، إذا أرسلهم الربُّ فانحدروا، سمع لهم صوتٌ شديدٌ، فيحسبُ الذين هم أسفل منهم من الملائكة، أنه من أمر الساعة، فيَخِرُّوا سُجَّدًا، وهذا كلما مَرُّوا عليهم، ويفعلون ذلك من خوفِ ربِّهم
(1)
.
وقال آخرون: بل الموصوفون بذلك المشركون، قالوا: وإنما يُفَزِّعُ الشيطانُ عن قلوبهم. قال: وإنما يقولون: ماذا قال ربكم؟ عند نزول المنيَّةِ بهم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زِيدٍ في قوله: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ} قال: فَزَّع الشيطانُ عن قلوبهم وفارقهم وأمانيهم، وما كان يُضِلُّهم، {قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} قال: وهذا في بني آدمَ، وهذا عند الموتِ، أقرُّوا به حين لم ينفعهم الإقرارُ
(2)
.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب [وأشبهُها بظاهر التنزيل]
(3)
، القولُ الذي ذكره الشَّعْبيُّ، عن ابن مسعودٍ؛ لصحة الخبر الذي ذكرناه عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتأييده.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 237 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 502. وذكره السيوطي في الدر المنثور 5/ 237 عن زيد بن أسلم، وعزاه إلى ابن أبي حاتم.
(3)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
فإذ كان ذلك كذلك، فمعنى الكلام: ولا تنفعُ الشفاعة عنده، إلا لمن أذِن له أن يشفع عنده
(1)
، فإذا أذن
(2)
اللهُ لَمَن أذن له أن يشفعَ، فزِع لسماعه إِذْنَه، {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ} فَجُلىَ عنها، وكُشِف الفزع عنهم، {قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ [قَالُوا الْحَقَّ]
(3)
}. قالت الملائكةُ: الحقَّ. {وَهُوَ الْعَلِيُّ} على كلِّ شيءٍ، {الْكَبِيرُ} الذي لا شيء إلا هو دونه.
والعرب تستعمل "فزِّع" في معنيين، فتقول للشجاع الذي به تنزل الأمورُ التي يُفزَعُ منها: هو مُفَزَّعٌ. وتقولُ للجبانِ الذي يفزَعُ مِن كُلِّ شيءٍ: إنه لمُفَزَّعٌ. وكذلك تقول للرجل الذي يقضى له الناسُ في الأمور بالغَلَبَةِ على من نازله فيها: هو مُغَلَّبٌ. وإذا أُريد به هذا المعنى كان غالبًا، وتقول للرجل أيضا الذي هو مغلوبٌ أبدًا: مُغَلَّبٌ
(4)
.
وقد اختلفت القرأةُ في قراءة ذلك؛ فقرأته قرأةُ الأمصار أجمعون: {فُزِّعَ} بالزايِ والعينِ. على التأويل الذي ذكرناه عن ابن مسعودٍ، ومن قال نحو قوله في ذلك. وروى عن الحسن البصرى أنه قرأ ذلك:(حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عن قُلُوبهم) بالراءِ والغين
(5)
. على التأويل الذي ذكرناه عن ابن زيد.
وقد يُحتمل توجيه معنى قراءة الحسنِ ذلك كذلك، إلى: حتى إذا فُزِّغ عن قُلُوبهم، فصارت فارغةً مِن الفزع الذي كان حَلَّ بها. وذُكر عن مجاهد أنه قرَأ ذلك:(فَزَّع) بمعنى: كشَف اللهُ الفَزَعَ عنها
(6)
.
(1)
في الأصل: "له".
(2)
في الأصل: "كان".
(3)
سقط من: م، ت 1، ت 2.
(4)
ينظر معاني القرآن للفراء 2/ 361.
(5)
وهى قراءة شاذة.
(6)
ينظر المحتسب 2/ 191، 192، والبحر المحيط 7/ 278.
والصوابُ من القراءةِ في ذلك القراءة بالزاي والعين؛ لإجماع الحجة من القرأة وأهل التأويل عليها، ولصحة الخبر الذي ذكرناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتأييدها، والدلالة على صحتها.
القول في تأويل قوله جلَّ ثناؤه: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {قُلْ} يا محمد لهؤلاء المشركين بربِّهم الأوثان والأصنام: {مَن يَرْزُقُكُم مَّن السَّمَاوَاتِ}
(1)
، بإنزاله الغيث عليكم منها، حياةً لحروثِكم، وصلاحًا لمعايشكم، وتَسْخيرِه الشمسَ والقمرَ والنجوم لمنافعكم، ومنافع أقواتِكم، {وَالْأَرْضِ} بإخراجه منها أقواتَكم وأقواتَ أنعامكم. وترك الخبر عن جواب القوم استغناءً بدلالة الكلام عليه، ثم
(2)
ذكره وهو: فإن قالوا: لا نَدْرِى. فقُل: الذي يرزقكم ذلك الله.
{وَإِنَّا أَوْ إِيَاكُمْ} أيُّها القومُ {لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} . يقولُ: قُلْ لهم: إنا لعلى هُدًى أو في ضلالٍ
(3)
، أو إنكم على ضلالٍ أو هُدًى.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، [قال: ثنا يزيد]
(4)
، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة قوله
(5)
: {قُلْ مَن
(1)
بعده في م، ت 1، ت 2:"والأرض".
(2)
في الأصل: "من".
(3)
بعده في الأصل: "مبين".
(4)
سقط من: م.
(5)
ليس في: م، ت 1، ت 2.
يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}. قال: قد قال ذلك أصحاب محمد للمشركين: والله ما نحن
(1)
وأنتم على أمرٍ واحدٍ، إِنَّ أحد الفريقين مُهْتَدٍ
(2)
.
وقد قال قوم: معنى ذلك: وإنا لعلى هُدًى، وإنكم لفي ضلالٍ مبينٍ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثني إسحاق بن إبراهيمَ الشَّهيدي، قال: ثنا عَتَّابُ
(3)
بنُ بشيرٍ، عن خُصَيفٍ، عن عكرمة وزياد [بن أبي مريم]
(4)
في قوله: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} . قال: إنا لعلى هُدًى، وإنكم لفي ضلال مبين
(5)
.
واختلف أهل العربية في وَجْهِ دخول "أو" في هذا الموضع؛ فقال بعضُ نحويِّى البصرةِ: ليس ذلك لأنَّه شكٌّ، ولكن هذا في كلام العرب على أنه هو المهتدِى. قال: وقد يقولُ الرجلُ لعبده: أحدُنا ضارب صاحبَه. ولا يكون فيه إشكال على السامع، أن المولى هو الضارب.
وقال آخر
(6)
منهم: معنى ذلك: إنا لعلى هُدًى، وإنكم إياكم في ضلالٍ مبين؛ لأن العرب تضعُ "أو" في موضع "واوِ" الموالاة. قال جريرٌ
(7)
:
(1)
في م، ت 1، ت 2:"أنا".
(2)
في م، ت 1، ت 2:"لمهتد". والأثر عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 237 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن أبي حاتم.
(3)
في الأصل: "غياث". ينظر تهذيب الكمال 19/ 286.
(4)
ليس في: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(5)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 505، وذكره السيوطي في الدر المنثور 5/ 237 عن عكرمة وحده، وعزاه إلى المصنف وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(6)
في الأصل: "آخرون". والقائل أبو عبيدة معمر بن المثنى في مجاز القرآن 2/ 148.
(7)
ذيل ديوان جرير 2/ 814.
أثَعْلَبَةَ الفوارسِ أو رياحا
…
عَدَلْتَ بهم طُهَيَّةَ والخِشابا
قال: يعنى: أثعلبة ورياحًا.
قال: وقد [قال قوم: قد يتكلم]
(1)
بهذا من لا يَشُكُّ في دينه، وقد علموا أنهم على هُدًى وأولئك في ضلال
(2)
، فيقالُ هذا وإن كان كلاما واحدا، على جهة الاستهزاء، يقال هذا لهم. وقال
(3)
:
فإن يَكُ حُبُّهم رُشْدًا أُصِبْهُ
…
ولستُ بُمُخْطِئُ إن كان غَيّا
وقال بعضُ نحويِّى الكوفةِ: معنى "أو" معنى "الواوِ" في هذا الموضع
(4)
، غيرَ أن العربية
(5)
على غير ذلك؛ لا تكونُ "أو" بمنزلة "الواوِ"، ولكنها تكون في الأمر المُفَوَّض
(6)
، كما تقولُ: إن شئتَ فخُذْ درهمًا أو اثنين. فله أن يأخُذَ اثنين أو واحدا، وليس له أن يأخذَ ثلاثة. قال: وهو في قولِ مَن لا يبصرُ العربية ويجعلُ "أو" بمنزلة "الواو"
(7)
، يجوز له أن يأخذ ثلاثةً؛ لأنَّه في قولهم بمنزلة قولك: خُذْ درهما واثنين. قال: والمعنى في: {إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ} : إنا لضالون أو مهتدون، وإنكم أيضًا لضالون [أو مهتدون]
(8)
، وهو يعلم أن رسوله المُهْتَدِى، وأن غيره الضالُّ. قال: وأنت تقولُ في الكلام للرجل يُكَذِّبُك: والله إن أحدنا لكاذبٌ.
(1)
في م: "تكلم".
(2)
بعده في الأصل: "مبين".
(3)
البيت لأبي الأسود الدؤلى، وهو في ديوانه ص 32 (ضمن المجموعة الثانية من نفائس المخطوطات بتحقيق محمد حسن آل ياسين).
(4)
بعده في م، ت 1، ت 2:"في المعنى".
(5)
في م، ت 1، ت 2:"القرينة".
(6)
في الأصل: "المعرض".
(7)
بعده في م: "و".
(8)
سقط من: النسخ والمثبت من معاني القرآن للفراء 2/ 362.
وأنت تَعْنِيه، وكذَّبْتَه تَكذيبًا غير مكشوف
(1)
، وهو في القرآن وكلام العرب كثيرٌ؛ أن يُوجَّهَ الكلامُ إلى أحسن مذاهبه إذا عُرِف
(2)
، كقول القائل
(3)
: والله لقد قدم فلان. وهو كاذبٌ، فيقولُ: قُلْ: إن شاء الله. أو قل: فيما أَظُنُّ. فَيُكَذِّبُه بِأَحْسَنَ من
(4)
تَصْرِيحِ التَّكذيب، قال: ومن كلام العرب أن يقولوا: قاتله الله. ثم يستقبحُ فيقولون: قاتَعه
(5)
الله، وكاتَعه الله. قال: ومن ذلك: وَيْحَكَ، ووَيْسَك. إنما هي في معنى: وَيْلَك. إلا أنها دونَها
(6)
.
والصوابُ مِن القولِ في ذلك عندى
(7)
، أن ذلك أمرٌ مِن الله نبيَّه بتكذيب مَن أمره بخطابه بهذا القول، بأحسن
(8)
التكذيب، كما يقولُ الرجلُ لصاحبٍ له يخاطبه، وهو يريدُ تَكْذيبه في خبر له: أحدنا كاذب. وقائلُ ذلك يعنى صاحبه لا نفسه؛ فلهذا المعنى صَيَّر الكلامَ بـ "أو"
(9)
.
القول في تأويل قوله جلَّ ثناؤه: {قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26)} .
قال أبو جعفر رحمه الله: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قُلْ لهؤلاء المشركين: أحد فريقينا على هُدًى، والآخرُ على ضلال، لا تُسألون أنتم
(1)
في ت 2: "مكتوف".
(2)
في ت 2: "عرفه".
(3)
بعده في م: "لمن قال"، وبعده في ت 1، ت 2:"قال".
(4)
سقط من: م، ت 1، ت 2.
(5)
في م، ت 1، ت 2:"قاتله".
(6)
ينظر معاني القرآن للفراء 2/ 362.
(7)
في الأصل: "عندنا".
(8)
في م، ت 1، ت 2:"بأجمل".
(9)
في الأصل: "بالواو".
عما أَجْرَمْنا نحنُ مِن جُرْمٍ وركبنا
(1)
مِن إثمٍ، ولا نُسألُ نحن عما تعملون أنتم من عملٍ. قُلْ لهم: يجمعُ بيننا ربنا يومَ القيامة عندَه، {ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ}. يقولُ: ثم يَقْضِي بيننا بالعدل، فيتبين عند ذلك المهتدِى مِنَّا مِن الضالِّ، {وَهُوَ الْفَتَاحُ الْعَلِيمُ}. يقولُ: والله القاضي، العَلِيمُ بالقضاءِ بين خلقه؛ لأنَّه لا تَخْفَى عليه
(2)
خافيةٌ، ولا يحتاج إلى شهود تعرفه المُحِقَّ مِن المُبطلِ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله:{قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا} يومَ القيامةِ، {ثُمَّ يفتحُ بَيْنَنَا} ، أي: يَقْضِي بيننا
(3)
.
حدثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عباس قولَه:{وَهُوَ الْفَتَاحُ الْعَلِيمُ} . يقولُ: القاضي
(4)
.
القول في تأويل قوله جلَّ ثناؤه: {قُلْ أَرُونِي الَّذِينَ أَلْحَقْتُم بِهِ، شُرَكَاة كَلَّا بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} .
الله قال أبو جعفر رحمه الله: يقول تعالى ذكره لنبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم: قُلْ يا محمد لهؤلاء المشركين بالله الآلهة والأصنامَ: أروني، أَيُّها القومُ، الَّذين
(1)
في الأصل: "ركبناه".
(2)
في م، ت 2:"عنه".
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 130 عن معمر عن قتادة. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 237 إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم.
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم - كما في الإتقان 2/ 38 - والبيهقي في الأسماء والصفات (106) من طريق أبي صالح به وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 237 إلى ابن المنذر.
ألْحَقْتُموهم باللهِ، فصَيَّرْتموهم له شركاء في عبادَتِكم إياهم، ماذا خَلَقُوا مِن الأرضِ، أم لهم شِرك في السماواتِ، {كَلَّا}. يقول تعالى ذكره: كذبوا، ليس الأمرُ كما وصفوا ولا كما جَعَلوا وقالوا، مِن أنَّ للهِ شَريكًا، بل هو المعبود الذي لا شريك له، ولا يَصْلُحُ أن يكونَ له شَريكٌ في مُلْكِه، العزيز في انتقامِه مِمَّنْ أَشْرَك به معه مِن خَلْقِه، الحكيم في تدبيره خَلْقَه.
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28)} .
قال أبو جعفر رحمه الله: يقول تعالى ذكره: وما أَرْسَلْناك يا محمد إلى هؤلاء المشركين بالله من قومك خاصةً، ولَكِنَّا أرسلناك كافَّة للناس أجمعين؛ العرب منهم والعجمُ، والأحمر والأسودُ، بَشِيرًا مَن أطاعَك، ونذيرا من كذَّبَك، ولكن أكثر النَّاسِ لا يعلمون أن الله أرْسَلَك كذلك إلى جميع البشر.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله:{وَمَا أَرْسَلْنَاك إلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} . قال: أَرْسَل الله محمدًا إلى العرب والعجم، فأكرمهم على اللهِ أطْوَعُهم له. ذكر لنا أن نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم قال: "أنا سابِقُ العَرَبِ، وصُهَيبٌ سابِقُ الرُّومِ، وبِلالٌ سابِقُ الحَبَشِ
(1)
، وسَلْمانُ سابِقُ فارِسَ"
(2)
.
(1)
في م، ت 1، ت 2:"الحبشة"، وهو لفظ ابن عدي في الكامل.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 237 - قول قتادة فقط - إلى المصنف وعبد بن حميد وابن أبي حاتم.
أما قول النبي صلى الله عليه وسلم فقد أخرجه ابن عدي في الكامل 7/ 2624، وأبو نعيم في تاريخ أصبهان 1/ 49 من حديث أنس مرفوعًا.
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (30)} .
قال أبو جعفر رحمه الله: يقول تعالى ذكره: ويقول هؤلاء المشركون بالله، إذا سمعوا وعيد الله للكفار وما هو فاعِلٌ بهم في مَعادِهم مما أَنْزَلَه في كتابه:{مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} جائيًا، وفى أي وقت هو كائن {إِن كُنتُمْ} فيما تَعِدُوننا من ذلك {صَادِقِينَ} أنه كائن.
قال الله لنبيه: {قُلْ} لهم يا محمد: {لَّكُمْ} أيُّها القوم {مِيعَادُ يَومٍ} هو آتِيكُم، {لا تَسْتَئْخِرُونَ عَنْهُ} إذا جاءَكم {سَاعَةً} فتُنْظُرُوا للتوبةِ والإنابة، {وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ} قبله بالعذاب؛ لأن الله جعل [لكم ذلك]
(1)
أجَلًا.
القول في تأويل قوله جلَّ ثناؤه: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقول تعالى ذكره: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} من مُشْرِكى العرب: {لَن نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْءَانِ} الذي جاء
(2)
به محمد صلى الله عليه وسلم، ولا بالكتاب الذي جاء به [مِنْ قَبْلِه]
(3)
غيرُه مِن بين يَدَيْهِ.
كما حدثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة قوله: {لَن
(1)
في الأصل: "ذلك"، وفي ت 1:"ذلك لكم".
(2)
في م: "جاءنا".
(3)
سقط من: م.
نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْءَانِ وَلَا بِالَّذِى بَينَ يَدَيْهِ}. قال: قال المشركون: لن نُؤْمِنَ بهذا القرآن، ولا بالذي بينَ يَدَيْهِ مِن الكُتُبِ والأنبياءِ
(1)
.
وقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبَّهِمْ} . [يقولُ تعالى ذكره: ولو تَرَى يا محمد الظالمين إذ هم موْقوفون عندَ رَبِّهِم]
(2)
يَتَلاوَمُون؛ يُحاوِرُ بعضُهم بعضًا، يقولُ المُسْتَضْعَفون الذين كانوا في الدنيا، للذين كانوا عليهم فيها يَسْتَكْبِرون: لولا أنتم أيُّها الرُّؤساء والكُبَراءُ في الدنيا، لَكُنَّا مؤمنين بالله وآياته.
القول في تأويل قوله جلَّ ثناؤه: {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكره: {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} في الدنيا، فتَرَأَّسُوا
(3)
في الضلالة والكفر بالله، {لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} فيها فكانوا أتباعًا لأهل الضلالة منهم - إذ قالوا لهم: لولا أنتم لكنَّا مؤمنين -: {أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى} ومَنَعْناكم
(4)
مِن اتِّباع الحقِّ [بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ} من عندِ اللهِ فَتَبَيَّنَ
(5)
لكم، {بَلْ كُنتُم مُجْرِمِينَ} فمنعكم إيثاركم الكفر بالله على الإيمانِ، مِن اتِّباع الهدى والإيمان بالله ورسوله.
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 237، 238 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
سقط من: م، ت 1، ت 2.
(3)
في م، ت 2:"فرأسوا".
(4)
في الأصل: "منعنا".
(5)
في م: "يبين"، وفى ت 1:"نبين"، وفى ت 2:"لنبين".
يَعْمَلُونَ (33)}.
قال أبو جعفر رحمه الله: يقول تعالى ذكره: {وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} مِن الكفرة بالله في الدنيا، فكانوا أتباعًا لرؤسائهم في الضلالة، {لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} فيها فكانوا لهم
(1)
رؤساء: بل مكرُكم بنا
(2)
بالليل والنهارِ صَدَّنا عن الهدى، [{وإِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ باللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا}: أمثالًا وأشباها]
(3)
في العبادةِ والألوهية.
[وأُضيف]
(4)
المكرُ إلى الليل والنهارِ، والمعنى ما ذَكَرْنا مِن مكرِ المُسْتَكْبِرين بالمُسْتَضْعَفِين في الليل والنهار، على اتِّساع العرب في الذي قد عُرف معناها فيه
(5)
مِن مَنْطِقِها؛ مِن نَقْلِ صفة الشيء إلى غيره، فتقولُ للرجل: يا فلان، نهارُك صائمٌ، وليلك قائمٌ. وكما قال الشاعرُ
(6)
:
* ونِمْتِ وما لَيْلُ المَطِيِّ
(7)
بنائمِ *
وما أشبَه ذلك، مما قد مضى تِبْيانُنا له في غيرِ مَوْضِعٍ مِن كتابنا هذا
(8)
.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
(1)
في الأصل، ت 3:"بهم".
(2)
في م: "لنا".
(3)
سقط من: ت 1. وفى م، ت 2 جاءت العبارة تامة عدا قوله: "أندادا".
(4)
في م: "فأضيف".
(5)
ليس في: الأصل.
(6)
تقدم تخريجه في 12/ 228.
(7)
المَطِيَّة من الدَّوابِّ: التي تَمطُو في سَيْرِها. وجمعها: مَطَايا ومَطِيّ. اللسان (م ط و).
(8)
ينظر ما تقدم في 12/ 228.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيدٍ في قوله: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا} . قال: يقولُ: بل مكركم بنا في الليل والنهار، أيُّها العُظَماءُ الرُّؤَسَاءُ، حتى أَزَلْتُمونا عن عبادة الله
(1)
.
وقد ذُكر في تأويله عن سعيد بن جُبيرٍ، ما حدثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا ابن يَمَانٍ، عن أَشْعَثَ، عن جعفر، عن سعيد بن جبيرٍ:{بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} . قال: مرُّ
(2)
الليل والنهار
(3)
.
وقوله: {إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَكْفُرَ بِاللَّهِ} . يقولُ: حينَ تَأْمُرُونَنا أن نكفرَ باللهِ.
وقوله: {وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا} . يقولُ: شُركاءَ.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله:{وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا} : شُركاءَ.
وقوله: {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا العَذَابَ} . يقولُ: ونَدِموا على ما فَرَّطوا فيه
(4)
من طاعة الله في الدنيا، حين عايَنوا عذابَ الله الذي أعَدَّه لهم.
كما حدثنا بشرٌ، [قال: حدثنا يزيد]
(5)
، قال: ثنا سعيد، عن
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 507 مختصرا، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 238 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(2)
في الأصل: "أمر". والمثبت موافق لما في مصنف ابن أبي شيبة وتفسير القرطبي.
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة 13/ 539 عن يحيى - وهو ابن يمان - به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 238 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4)
ليس في: م، ت 1، ت 2.
(5)
سقط من: م، ت:2. وهذا إسناد دائر عند المصنف.
قتادةَ: {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ} بينَهم {لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ} .
وقوله: {وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا} . يقولُ
(1)
: غُلَّتْ أَيْدِى الكافرين بالله [في جهنم إلى أعناقهم، في جَوامِعَ مِن نار جهنم؛ جَزاء بما كانوا بالله]
(2)
في الدنيا يَكْفُرون. يقولُ جلَّ ثناؤُه: ما يَفْعَلُ اللهُ ذلك بهم إلَّا ثوابًا لأعمالهم الخبيثة، التي كانوا في الدنيا يَعْمَلونها، ومُكافَأَةً لهم عليها.
القولُ في تأويل قوله جل ثناؤه: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34)} .
قال أبو جعفر رحمه الله: يقول تعالى ذكره: وما بَعَثْنا إلى أهل قريةٍ نَذِيرًا، يُنْذِرُهم بَأْسَنا أَن يَنْزِلَ بهم، على مَعْصِيَتِهم إيانا، إلا قال مُتْرَفوها
(3)
، كُبَرَاؤُها ورؤساؤُها في الضَّلالة، كما قال قوم محمدٍ
(4)
من المشركين له: إِنَّا بما أُرْسِلْتُم به مِن النِّذارَةِ، وبُعِثْتُم به من توحيدِ اللهِ، والبَرَاءَةِ مِن الآلهة والأنْدادِ، كافرون.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة قوله:{وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34)} . قال: هم رُءُوسُهم وقادَتُهم في الشَّرِّ
(5)
.
(1)
في م، ت 1، ت 2:"و".
(2)
سقط من: الأصل.
(3)
ليس في: م، ت 1، ت 2.
(4)
في م، ت 1، ت 2:"فرعون".
(5)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 195 عن معمر عن قتادة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 238 إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم، وتقدم بنحوه 14/ 531.
القول في تأويل قوله جلَّ وعزَّ: {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36)} .
قال أبو جعفر رحمه الله: يقول تعالى ذكره: وقال أهلُ الاسْتِكْبار على الله من كلِّ قرية أرْسَلْنا فيها نذيرًا؛ [لأنبيائها ورُسُلِها]
(1)
: نحن أكثر منكم
(2)
أموالًا وأولادًا، وما نحنُ في الآخرةِ بمُعَذَّبِينَ؛ لأن الله لو لم يَكُن راضيًا ما نحن عليه من المِلَّةِ والعملِ، لم يُحَوِّلنا الأموال والأولاد، ولم يبسُطْ لنا في الرِّزْقِ، وإنما أعطانا ما أعطانا ذلك؛ لرضاه أعمالنا، وآثرنا بما آثرنا على غيرنا؛ لفَضْلِنا، من وزُلْفَةً لنا عِندَه.
يقول الله لنبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم: قُلْ يا محمد لهم: {إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ} مِن المَعَاشِ والرِّياش في الدنيا {لِمَن يَشَاءُ} مِن خَلْقِه، {وَيَقْدِرُ} فيُضَيقُ على من يشاءُ، لا لفَضْلٍ
(3)
فيمَن يَبْسُطُ ذلك له ولا خير فيه، ولا زُلْفَةٍ له اسْتَحَقَّ بها منه، ولا لبُغْضٍ
(4)
منه لَمَنْ قدر عليه ذلك، ولا مَقْتٍ، ولكنَّه يَفْعَلُ ذلك مِحَنا
(5)
لعباده وابتلاءً، وأكثر الناس لا يَعْلَمون أن الله يَفْعَلُ ذلك اختبارًا لعباده، ولكنَّهم يَظُنُّون أن ذلك منه محبةٌ لَمَنْ يَبْسُطُ له، ومَقْتُ منه
(6)
لمن قدر عليه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
(1)
في م، ت 1:"لأنبيائنا ورسلنا"، وفى ت 2:"لأنبيائها ورسلنا".
(2)
سقط من: م.
(3)
في م: "لمحبة".
(4)
في الأصل: "ينقص"، وفى ت 1:"لنقص"، وفي ت 2:"نقص".
(5)
في م: "محنة"، وفى ت 1:"مخبرا"، وفي ت 2:"محبة".
(6)
سقط من: م.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيد في قوله: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبكُمْ عِندَنَا زُلْفَى} إلى آخر الآيةِ، قال: قالوا: [نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا]. فأَخْبَرَهم الله أنه ليست أموالكم ولا أولادكم بالتي تُقَرِّبُكم عندَنا زُلْفَى، {إلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا}. قال: هذا
(1)
قولُ المشركين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ قالوا: لو لم يكن الله عنا راضيا، لم يُعْطِنا هذا، كما قال قارونُ: لولا أن اللَّهَ رَضِى بى وبحالى، ما أعطانى هذا. قال:{أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الله قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا} [القصص: 78].
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37)} .
قال أبو جعفر رحمه الله: يقول تعالى ذكره: وما أموالكم التي تَفْتَخِرون بها، أيُّها القومُ، على الناسِ، ولا أولادكم الذين تتكبَّرون
(2)
بهم، بالتي تُقَرِّبُكم منا قُرْبَةً.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني
(1)
في م، ت 1:"وهذا".
(2)
في ت 1: "تتكثرون".
الحارث، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله:{عِندَنَا زُلْفَى} ، قال: قُرْبَى
(1)
.
حدثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله:{وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى} . لا يُعْتَبَرُ
(2)
الناسُ بِكَثْرَةِ المال أو
(3)
الولد؛ فإن الكافرَ
(4)
يُعْطَى المال، وربما حُبِس عن المؤمن
(5)
.
وقال جل ثناؤُه: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى} . ولم يَقُلْ: "باللَّتَيْن". وقد ذكر الأموال والأولاد، وهما نَوْعان مُخْتَلِفَانِ؛ لأنَّه ذُكِر مِن كلِّ نوعٍ منهما جمع يَصْلُحُ فيه "التي"، ولو قال قائل: أُريد
(6)
بذلك أحد النَّوْعَيْن. لم يُبْعِدْ في قوله، وكان ذلك كقول الشاعر
(7)
:
نحن بما عندنا، وأنت بما
…
عندكَ راضٍ والرَّأْى مُخْتَلِفُ
ولم يَقُلْ: راضيانِ.
وقوله: {إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَلِحًا} . اختلف أهل التأويل في معنى ذلك؛ فقال بعضُهم: معنى ذلك: وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تُقَرِّبُكم عندنا زُلفى، إلا من آمن وعمل صالحًا، فإنه تُقَرِّبُهم أموالهم وأولادهم،
(1)
تفسير مجاهد ص 556، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 238 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
في الأصل: "تغضوا"، وفى ت 1:"يغتر"، وفى الدر المنثور:"تعتبروا". والاعتبار: الاستدلال بالشيء على الشيء. واعتبر فلانًا: اعتد به. ينظر اللسان والوسيط (ع ب ر).
(3)
في م، ت 1، ت 2:"و".
(4)
بعده في م، ت 1، ت 2:"قد".
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 238 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن أبي حاتم.
(6)
في م: "أراد".
(7)
تقدم في 11/ 435، 436.
بطاعتهم الله في ذلك وأدائهم فيه حَقَّه، إِلى اللَّهِ زُلْفَى، دُونَ أهل الكفرِ بالله.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زِيدٍ في قولِ اللَّهِ: {إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَلِحًا} . قال: لم تَضُرَّهم
(1)
أموالهم ولا أولادهم في الدنيا؛ للمؤمنين. وقرَأ: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]، فالحسنى: الجنة. والزِّيادةُ: ما أعْطاهم الله في الدنيا؛ لم يُحاسبهم به، كما حاسب الآخرين. فـ {مَنْ}
(2)
على هذا التأويلِ نَصْبٌ بوقوعِ "تُقَرِّبُ" عليه.
وقد يَحْتَمِلُ أن تكونَ {مَنْ} في موضع رفع، فيكون كأنه قيل: وما هو إلا من آمن وعمل صالحًا.
وقوله: {فَأَوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ} . يقولُ: فهؤلاء لهم من الله على أعمالهم الصالحة، الضِّعْفُ مِن الثوابِ؛ بالواحدة عَشْرٌ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيد في قوله: {فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا} . قال: بأعمالهم؛ [قال: بالواحدة]
(3)
عشرٌ، وفي
(1)
في ت 1: "تقربهم"، وفي ت 2:"يضرهم".
(2)
بعده في م: "حملًا". وبعده في ت 1: "عمل". وبعده في ت 2: "حل".
(3)
في م، ت 1، ت 2:"الواحد".
سبيل الله بالواحدة
(1)
سبعمائةٍ.
وقوله: {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} . يقولُ: وهم في غرفات الجنات آمنون من عذابِ اللَّهِ.
القولُ في تأويل قوله جل ثناؤه: {وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقول تعالى ذكره: والذين يعملون في آياتِنا. يَعْني: في حُجَجنا وآي كتابنا، يبتغون إبطاله، ويريدون إطفاء نورِه مُفَاوِتِينَ
(2)
، يَحْسَبون أنهم يَفُوتُونَنا بأنفسهم ويُعْجِزونَنَا، {أَوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ}. يَعْنِي: في عذابِ جهنم مُحْضَرون يومَ القيامةِ.
وقوله: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ} . يقولُ تعالى ذكره: قُلْ يا محمد: إن ربى يَبْسُطُ الرزق لمن يشاءُ مِن خَلْقِه، فيُوَسِّعُه عليه، تَكْرِمَةً له وغير تكرمةٍ، ويَقْدِرُ على من يشاءُ منهم فيُضَيِّقُه ويُقَتِّرُه، إهانةً له وغيرَ إهانة، بل مِحْنَةً واختبارًا. {وَمَا أَنفَقْتُم مَّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ}. يقولُ: وما أنفقتم أيُّها الناسُ مِن نفقة في طاعة الله، فإن اللَّهَ يُخْلِفُها عليكم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا يحيى، قال: ثنا سفيان، [عن عمرِو بن قيسٍ]
(3)
،
(1)
في م، ت 2:"بالواحد".
(2)
في م، ت 1، ت 2:"معاونين". ومفاوتين: مُسابقين. ينظر تاج العروس (ف و ت).
(3)
سقط من: م، ت 1، ت 2. وينظر تهذيب الكمال 22/ 200، 28/ 568.
عن المِنْهالِ بن عمرو عن سعيدِ بن جُبيرٍ: {وَمَا أَنفَقْتُم مَّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخلِفُهُ} . قال: ما كان في غير إسرافٍ ولا تَقْتِيرٍ
(1)
.
وقوله: {وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} . يقولُ: وهو خيرُ مَن قيل: إنه يَرْزُقُ. ووُصِف به، وذلك أنه قد يُوصَفُ بذلك من دُونَه، فيُقالُ: فلانٌ يَرْزُقُ أهله وعياله.
القول في تأويل قوله جلَّ ثناؤُه: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ
(2)
جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41)}.
قال أبو جعفر رحمه الله: يقول تعالى ذكره: ويوم نحشر هؤلاء الكفارَ باللهِ جميعًا، ثم نقول للملائكةِ: أهؤلاء كانوا يَعْبُدونَكُم مِن دُونِنا؟
فتَتَبَرَّأُ منهم الملائكةُ، {قَالُوا سُبْحَانَكَ} رَبَّنَا، تَنْزِيهًا لك وتَبْرِئةً مما أضاف إليك هؤلاء من الشُّرَكاءِ والأنْدادِ، {أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ} لا نَتَّخِذُ وَلِيًّا دونَك، {بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنِّ} .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله:(ويومَ نَحْشُرُهم جميعًا ثم نقول للملائكة أهؤلاء إيَّاكم كانوا يَعْبُدونَ)؟ استفهامٌ، كقوله لعيسى:
(1)
تفسير سفيان ص 244. وأخرجه ابن أبي شيبة 9/ 95 من طريق سفيان به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 238 إلى عبد بن حميد.
(2)
في الأصل جاءت الكلمة غير منقوطة. وفى ت 1، ت 2:"نحشرهم". بالنون، وهى قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو وابن عامر وأبى بكر عن عاصم وحمزة والكسائي، والياء قراءة حفص عن عاصم. ينظر السبعة ص 530، والحجة في القراءات 590.
أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ}
(1)
[المائدة: 116].
وقوله: {أَكْثَرُهُم بِهِم تُؤْمِنُونَ} . يقول: أكثرهم بالجنِّ مُصَدِّقون، فزَعَموا
(2)
أنهم بناتُ اللَّهِ، [تعالى الله عما يقولون علوا كبيرًا]
(3)
.
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42)} .
قال أبو جعفر رحمه الله: يقول تعالى ذكرُه: {فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ} ، أيُّها الملائكةُ، للذين كانوا في الدنيا يَعْبُدونكم، [ولا الذين كانوا يَعْبُدونكم لكم]
(4)
، نفعًا يَنْفَعونكم به، ولا ضَرًّا يَنالُونكم به، أو تَنالونهم به. {وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا}. يقولُ: ونقول للذين عَبدوا غيرَ اللَّهِ، فوَضَعوا العبادةَ في غيرِ مَوْضِعِها، وجَعَلوها لغيرِ مَن تَنْبَغى أن تكونَ له: ذُوقُوا عذاب النار التي كنتم بها في الدنيا تُكَذِّبون، فقد وَرَدْتُموها.
القول في تأويل قوله جل وعزّ: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43)} .
قال أبو جعفر رحمه الله: يقول تعالى ذكره: وإذا تُتْلى على هؤلاء المشركين آيات كتابنا {بَيِّنَاتٍ} . يقولُ: واضحاتٍ أَنَّهُنَّ حَقٌّ مِن عندنا، {قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ}. يقولُ: قالوا عند ذلك: لا تَتَّبعوا
(1)
ذكره البغوي في تفسيره 6/ 404 بلفظ: "هذا استفهام تقرير"، وذكره القرطبي في تفسيره 14/ 308، 309، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 239 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن أبي حاتم.
(2)
في م، ت 1، ت 2:"يزعمون".
(3)
ليست في: الأصل، ت 3.
(4)
سقط من: م، ت 1، ت 2.
محمدًا، فما هو إلا رجلٌ يريد أن يَصُدَّكم عما كان يَعْبُدُ آبَاؤُكُم مِن الأوثان، ويُغَيِّرَ دينَكم ودين آبائكم، {وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى}. يقول تعالى ذكره: وقال هؤلاء المشركون: ما هذا الذي [يَتْلوا علينا محمدٌ]
(1)
. يَعْنُونَ القرآن. {إِلَّا إِفْكٌ} . يقولُ: إِلا كَذِبٌ. {مُفْتَرًى} . يقولُ: مُخْتَلَقٌ، مُتَخَرَّصٌ. {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ}. يقول جلَّ ثناؤُه: وقال الكفارُ {لِلْحَقِّ} ، يعنى محمدًا صلى الله عليه وسلم، {لَمَّا جَاءَهُم} . يقولُ
(2)
: لَمَّا بعثه الله نبيًّا: هذا سحر مبين. [يقولُ: قالوا لِمَا أَتاهم به من الآياتِ والحُجَجِ: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ}
(3)
. يقول: ما هذا إلا سحرٌ مُبِينٌ؛ يُبِينُ لِمَنْ رَآهُ وتَأمَّله أنه سحرٌ.
القولُ في تأويل قوله تعالى: {وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45)} .
يقول تعالى ذكره: وما أنزلنا على هؤلاء المشركين، القائلين لمحمد لمَّا جاءَهم بآياتِنا: هذا سحرٌ مبينٌ، بما يقولون من ذلك، كُتُبًا {يَدْرُسُونَها}. يقولُ: يَقْرَءُونَها.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله:{وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا} : أَي يَقْرَءُونها
(4)
.
{وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِن نَذِيرٍ} . يقول: وما بعثنا
(5)
إلى هؤلاء المشركين من قومك، يا محمد، فيما يقولون ويَعْمَلون، قَبْلَكَ مِن نبيٍّ يُنذِرُهم بَأْسَنا عليه.
(1)
في م، ت 1، ت 2:"تتلوا علينا يا محمد".
(2)
في م، ت 1، ت 2:"يعني".
(3)
سقط من: م.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 239 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(5)
في م، ت: 2 "أرسلنا".
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادةَ:{وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِن نَذِيرٍ} . قال
(1)
: ما أَنْزَل الله على العرب كتابًا قَبْلَ القرآنِ، ولا بَعث إليهم نبيًّا قبل محمدٍ صلى الله عليه وسلم
(2)
.
وقوله: {وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} . يقولُ: وكذَّب الذين من قبلهم من الأمَمِ، رُسُلَنَا وَتَنْزِيلَنا. {وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ}. يقولُ: ولم يَبْلُغْ قومُك يا محمد المُكَذِّبوك
(3)
، عُشْرَ ما أَعْطَيْنا الذين مِن قَبْلِهِم مِن الأُممِ؛ مِن القُوَّةِ والأَيْدِ والبَطْشِ، وغير ذلك من النِّعمِ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قوله:{وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ} . يقولُ
(4)
: مِن القُوَّةِ في الدُّنيا
(5)
.
حدثني محمد بن سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ} . يقولُ: ما جاوَزوا
(1)
سقط من: م، ت 1، ت 2.
(2)
ذكره أبو حيان في البحر المحيط 7/ 289، وعزاه السيوطي في الدر المنثور، ورقة 346 من مخطوطة مكتبة الملك عبد العزيز ضمن مجموعة مكتبة المحمودية، إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
سقط من: م، ت 2، وفى ت 1:"المكذبون".
(4)
سقط من: م، ت 1.
(5)
ذكره الطوسى في التبيان 8/ 369، وابن كثير في تفسيره 6/ 512، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 239، 240 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم، ووقع في مطبوعة الدر:"القدرة"، بدل "القوة".
معشارَ ما أنعَمْنا عليهم.
حدثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة قوله:{وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ} : يُخيرُكم أنه أَعْطَى القومَ ما لم يُعْطِكُم مِن القُوَّةِ وغير ذلك
(1)
.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ} . قال: ما بلغ هؤلاء؛ أُمَّةُ محمد صلى الله عليه وسلم، {مِعْشَارَ مَا [آتَيْنَاهُمْ} . يَعْنى] يعني]
(2)
: الذين مِن قَبْلِهم، وما أعطَيْناهم مِن الدنيا، وبَسطنا عليهم، {فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِير} .
[قولُه: {فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ}]
(3)
. يقول: فكَذَّبوا رُسُلى فيما أَتَوْهم به من رسالتي، فعاقَبْناهم بتَغييرنا بهم ما كُنَّا آتَيْناهم مِن النِّعمِ، فانْظُرْ، يا محمدُ {كَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} . يقولُ
(4)
: كيف كان تَغْييرى بهم وعُقُوبتي إياهم
(5)
.
القولُ في تأويل قوله جلَّ ثناؤُه: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46)} .
قال أبو جعفر رحمه الله: يقول تعالى ذكره: قُلْ، يا محمد لهؤلاء المشركين من قومك: إنما أَعِظُكم أيُّها القومُ بواحدةٍ، وهى طاعة الله عز وجل.
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 132 عن معمر عن قتادة نحوه مطولا، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 240 إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم.
(2)
في م: "آتينا"، وفي ت 2:"آتيناهم".
(3)
ليس في: م، ت 1، ت 2.
(4)
ليس في: الأصل.
(5)
ليس في: م، ت 1، ت 2.
كما حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا وَرْقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ} . قال: بطاعةِ اللهِ
(1)
.
وقولُه: {أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى} . يقولُ: وتلك الواحدةُ التي أعِظُكم بها؛ هي أن تقوموا
(2)
للهِ اثْنَيْن اثنين، [وفَرْدًا فَرْدًا]
(3)
، فـ {أَنْ} في موضعِ خفضٍ، تَرْجَمَةً [عن الواحدةِ]
(4)
.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثني أبو عاصمِ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى} . قال: واحدًا واثْنَيْنِ (1).
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى} [قال: هذه الواحدةُ التي وَعَظْتُكم بها؛ أن تقوموا للهِ]
(5)
رَجُلًا ورَجُلَيْنِ
(6)
.
(1)
تفسير مجاهد ص 556، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 240 إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن أبي حاتم.
(2)
في الأصل: "تطيعوا".
(3)
في الأصل: "وفردا وفردا"، وفى م:"وفرادى فرادى"، وفي ت 2:"وفرادا فردا".
(4)
في الأصل: "على الواحد".
(5)
سقط من: م، ت 1، ت 2.
(6)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 132 عن معمر عن قتادة بلفظ: "فهذه واحدة وعظهم بها".
وقيلَ: إنما قِيل: {إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ} وتلك الواحدةُ أن تقوموا للهِ بالنَّصيحة وتَرْكِ الهَوَى، {مَثْنَى} . يقولُ
(1)
: يقومُ الرجلُ منكم مع آخَرَ، فيَتَصادَقانِ
(2)
على المناظرة؛ هل عَلِمْتم بمحمدٍ
(3)
صلى الله عليه وسلم جنونًا قَطُّ؟ ثم يَنْفَرِدُ كُلُّ واحدٍ منكم، فيَتَفَكَّرُ ويَعْتَبِرُ فَرْدًا
(4)
؛ هل كان ذلك به
(5)
؟ فتَعْلَموا حينَئذٍ أنه نذيرٌ لكم.
وقولُه: [{ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ}. يقولُ]
(6)
: [ثم تتفكَّروا في أنفُسِكم، فتعلموا ما بمحمدٍ من جُنونٍ.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: حدَّثنا يزيدُ، قال: حدَّثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} . يقولُ: [إن صاحبَكم]
(7)
(8)
ليس بمجنونٍ.
وقولُه: {إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} . يقولُ: ما محمدٌ إلا نذيرٌ لكم. [{بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ}. يقولُ]
(9)
: يُنذِرُكم على كفرِكم باللهِ عِقابَه، أمامَ عذابِ جهنمَ، قَبْلَ أَن تَصْلَوْها.
وقوله: {هُوَ} ، كِنايةُ اسمِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47)} .
(1)
ليس في: الأصل.
(2)
في ت 1: "متصادقا"، وفى ت 2:"فيتصادقا".
(3)
في الأصل: "لمحمد"، وفي ت 1:"محمد".
(4)
في الأصل، ت 1، ت 2:"فرادي".
(5)
ليس في: الأصل.
(6)
سقط من: ت 2.
(7)
سقط من: م.
(8)
في ت 1، ت 2:"إنه".
(9)
سقط من: م، ت 1، ت 2.
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه: قُلْ يا محمدُ لقومِك المُكَذِّبِيكَ، الرَّادِّينَ عليك ما أتَيْتَهم به مِن عندِ ربِّك: ما أسْأَلُكم مِن جُعْلٍ على إنذارِكم عذابَ اللهِ، وتَخْويفكم
(1)
بأسَه، ونَصِيحتى لكم في أمرى إياكم بالإيمانِ باللهِ، والعملِ بطاعتِه، فهو لكم لا حاجةَ لى به. وإنما معنى الكلامِ: قُلْ لهم: إنى لم أسْأَلُكم على ذلك جُعْلًا فتَتَّهِمونى، وتَظُنُّوا أَنِي إِنما دَعَوْتُكُم إلى اتِّباعي لمالٍ آخُذُه منكم.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ} : أي جُعْلٍ، {فَهُوَ لَكُمْ}. يقولُ: لم أسْأَلْكم على الإسلامِ جُعْلًا
(2)
.
وقولُه: {إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} . يقولُ: ما ثوابى على دُعائِكم إلى الإيمانِ باللهِ، والعملِ بطاعتِه، وتبليغِكم رسالَتَه، إلا على اللهِ، {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}. يقولُ: واللهُ على حقيقةِ ما أقولُ لكم، شهيدٌ يَشْهَدُ لى به، وعلى غيرِ ذلك مِن الأشياءِ كُلِّها.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: قُلْ يا محمدُ لمشركي قومِك: {إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ} ؛ وهو الوَحْي. يقولُ: يُنْزِلُه من السماءِ،
(1)
بعده في م، ت 1، ت 2:"به".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 240 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
فيَقْذِفُه إلى نبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم {عَلَّامُ الْغُيُوبِ} . يقولُ: علامُ ما يَغيبُ عن الأبصارِ، [فلا يُظْهرُها]
(1)
، وما لم يَكُنْ مما هو كائِنٌ. وذلك مِن صِفَةِ الرَّبِّ تبارك وتعالى، غيرَ أنه رُفِع لمجيئِه بعدَ الخبرِ، وكذلك تَفْعَلُ العربُ إذا وقع النَّعْتُ بعدَ الخبرِ في "إِنَّ"
(2)
؛ أتْبَعوا النعتَ إعرابَ ما في الخبرِ، فقالوا: إن أباك يَقومُ الكريمُ. فيُرْفَعُ
(3)
الكريمُ على ما وَصَفْتُ، والنصبُ فيه جائزٌ؛ لأنه نعتٌ للأبِ، فيَتْبَعُ إعرابَه
(4)
.
وقولُه: {قُلْ جَاءَ الْحَقُّ} . يقولُ: قُلْ لهم يا محمدُ: جاء القرآنُ ووَحْى اللهِ عز وجل. {وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ} . يقولُ: وما يُنْشِئُ الباطلُ خَلْقًا. والباطلُ هو فيما فَسَّر أهلُ التأويلِ: إبليسُ. {وَمَا يُعِيدُ} . يقولُ: ولا يُعيدُه حَيًّا بعدَ فَنائِه.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ} : أي بالوَحيِ، {عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جَاءَ الْحَقُّ}: أي القرآنُ، {وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} ، والباطلُ: إبليسُ؛ أي ما يَخْلُقُ إبليسُ أحدًا، ولا يَبعْثُه
(5)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} . فقرأ: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ} إلى قولِه: {وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء: 18]. قال: يُزْهِقُ اللهُ الباطِلَ، ويُثَبِّتُ اللهُ
(1)
في م: "ولا مظهر لها"، وفى ت 1:"ولا يظهرها"، وفى ت 2:"ولا مظهر".
(2)
في م: "أن".
(3)
في م: "فرفع".
(4)
ينظر معاني القرآن للفراء 2/ 364.
(5)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 132، 133 مفرقا عن معمر عن قتادة بنحوه، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 240 إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم. وينظر تفسير القرطبي 14/ 312، 313.
الحقَّ الذي دمَغ به الباطلَ، فيَدْمَغُ
(1)
بالحقِّ على الباطلِ، فيُهْلِكُ الباطلَ، ويُثَبِّتُ الحقَّ، فذلك قولُه:{قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} .
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ وعزَّ: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه: قُلْ يا محمدُ لقومِك: إن ضَلَلْتُ عن الهُدَى، فسَلَكْتُ غيرَ طريقِ الحقِّ، فإنما ضلالي عن الصوابِ على نفسى. يقولُ: فإن ضلالي عن الهُدَى على نفسي ضُرُّهُ
(2)
. {وَإِنِ اهْتَدَيْتُ} . يقولُ: وإِن اسْتَقَمْتُ على الحقِّ، {فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي}. يقولُ: فَبِوَحْيِ اللهِ الذي يُوحِي إِليَّ، وتوفيقِه لى
(3)
للاستقامةِ على مَحَجَّةِ [الطريق؛ طريق الحقِّ و]
(4)
الهُدَى.
وقولُه: {إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} . يقولُ: إن ربي سميعٌ لِمَا أقولُ لكم، حافِظٌ له، وهو المُجازى لى
(5)
على صِدْقى في ذلك، قريبٌ
(6)
منى، غيرُ بعيدٍ فيتَعذَّرَ عليه سَماعُ ما أقولُ لكم، وما تقولون، وما يقولُه غيرُنا، ولكنَّه قريبٌ من كلِّ مُتكلِّمٍ، يَسْمَعُ كلَّ ما يَنْطِقُ به، [وهو]
(7)
أقربُ إليه مِن حبلِ الوريدِ.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ وعزَّ: {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: ولو تَرَى يا محمدُ
(1)
في م، ت 1، ت 2:"يدمغ".
(2)
في الأصل: "ضرٌّ". كذا مضبوطة بالأصل.
(3)
ليس في: م، ت 2.
(4)
في م، ت 1، ت 2:"الحق وطريق".
(5)
ليس في: الأصل.
(6)
في م: "وذلك"، وفى ت 1، ت 2:"فذلك".
(7)
سقط من: م، ت 1، ت 2.
إذ فزِعوا.
واخْتَلَف أهلُ التأويلِ في المَعْنِيِّينَ بهذه الآيةِ؛ فقال بعضُهم: عنَى بها هؤلاء المشركين
(1)
الذين وَصَفهم تعالى ذكرُه بقولِه: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ} . قالوا
(2)
: وعَنَى بقولِه: {إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} : عندَ نزولِ نِقْمةِ اللهِ بهم في الدنيا.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ} إلى آخرِ الآيةِ. قال: هذا مِن عذابِ الدنيا
(3)
.
حُدِّثتُ عن الحسينِ، قال: سَمِعتُ أبا مُعاذٍ يقولُ: أخبَرنا عُبيدٌ، قال: سَمِعتُ الضَّحَّاكَ يقولُ في قولِه: {وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} . قال: هذا عذابُ الدنيا
(4)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ} إلى آخرِ السورةِ. قال: هؤلاء قَتْلَى المشركين من أهلِ بدرٍ، نَزَلَتْ فيهم هذه الآيةُ. قال: وهم الذين بدَّلوا نعمةَ اللهِ كفرًا، وأَحَلُّوا قومَهم دارَ البَوَارِ جهنمَ
(5)
، أهلُ بدرٍ مِن المشركين
(6)
.
(1)
في م: "المشركون".
(2)
في م: "قال".
(3)
ذكره الطوسى في التبيان 8/ 372، والقرطبي في تفسيره 14/ 314، وأبو حيان في البحر المحيط 7/ 293، وابن كثير في تفسيره 6/ 515.
(4)
ذكره الطوسي في التبيان 8/ 372، وأبو حيان في البحر المحيط 7/ 293، وابن كثير في تفسيره 6/ 515.
(5)
سقط من: م، ت 1، ت 2.
(6)
ذكره السيوطي في الدر المنثور 5/ 240 مختصرا، وعزاه إلى المصنف وابن أبي حاتم. وينظر البحر المحيط 7/ 293، وتفسير ابن كثير 6/ 515.
وقال آخرون: عُنِى بذلك جيشٌ يُخْسَفُ به
(1)
ببَيْداءَ من الأرضِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا يعقوبُ، عن جعفرٍ، عن سعيدٍ في قولِه:{وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ} . قال: هم الجيشُ الذين
(2)
يُخْسَفُ بهم بالبَيْدَاءِ، يَبْقَى منهم رجلٌ يُخْبِرُ الناس بما لَقِيَ أصحابُه
(3)
.
حدَّثنا عصامُ بنُ رَوَّادِ بن الجَرَّاحِ، قال: ثنا أبي، قال: ثنا سفيانُ بنُ سعيدٍ، قال: ثنى منصورُ بنُ المُعْتَمِرِ، عن رِبْعِيِّ بن حِراشٍ، قال: سَمِعتُ حُذَيفةَ بنَ اليَمانِ يقولُ: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وذكر فتنةً تكونُ بينَ أهلِ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ، قال: "فبينما هم كذلك، إذ خرَج عليهم السُّفْيانيُّ من الوادى اليابِسِ، في فَوْرِه ذلك، حتى يَنْزِلَ دمشقَ، فيُبْعَثَ جيشَيْن؛ جيشًا إلى المَشْرِقِ، وجيشًا إلى المدينةِ، حتى يَنْزِلوا بأرضِ بابِلَ في المدينةِ الملعونة والبقْعَةِ الخَبيثةِ، فيَقْتُلون أكثرَ مِن ثلاثةِ آلافٍ، ويَبْقُرون بها أكثرَ مِن مائةِ امرأةٍ، ويَقْتُلون بها ثلاثمائةِ كَبْشٍ
(4)
مِن بنى العباسِ، ثم يَنْحَدِرون إلى الكوفةِ فيُخَرِّبون ما حولَها، ثم يَخْرُجون مُتَوَجِّهين إلى الشأمِ، فتَخْرُجُ رايةُ هدًى
(5)
من الكوفةِ، فتَلْحَقُ ذلك الجيشَ منها على لَيْلَتَيْن
(6)
فيَقْتُلُونهم، لا يُفْلِتُ
(1)
في م، ت 1، ت 2:"بهم".
(2)
في م، ت 1، والتبيان:"الذي".
(3)
ذكره الطوسى في التبيان 8/ 374، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 241 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4)
كبشُ القومِ: رئيسُهم وسيِّدُهم. لسان العرب (ك ب ش)
(5)
في النسخ: "هذا". والمثبت من مصدرى التخريج؛ لموافقته للسياق. و "راية هذا" يمكن أن تكون: "رايةٌ هذَّاءُ"؛ في لسان العرب (هـ ذ أ): وسيفٌ هَذَّاءٌ: قاطع. وعلى ما ذكرناه، إلا أنه بعيد، لذا أثبتنا من مصدرى التخريج "هدى".
(6)
في م: "الفئتين"، وفى ت 1:"البنيتين"، وفي ت 2:"النبيين".
منهم مخبرٌ، ويَسْتَنْقِذون ما في أيديهم من السَّبْيِ والغنائمِ، ويَحُلُّ
(1)
جيشُه الثاني
(2)
بالمدينةِ، فيَنْتَهبونَها
(3)
ثلاثةَ أيامٍ ولَيالِيَها، ثم يَخْرُجون مُتَوَجِّهين إلى مكةَ، حتى إذا كانوا بالبَيْداءِ، بَعَث اللهُ جبريلَ، فيقولُ: يا جبريلُ، اذْهَبْ فَأَبِدهم. فيَضْرِبُها بِرِجْلِهِ ضَرْبَةً، يَحْسِفُ اللهُ بهم. فذلك قولُه في سورةِ سبأ:{وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} . فلا يَنْفَلِتُ منهم إلا رَجُلان؛ أَحَدُهما بَشيرٌ، والآخَرُ نَذِيرٌ، وهما مِن جُهَيْنَةَ". فلذلك جاءَ القولُ:
*وعندَ جُهَيْنةَ الخبرُ اليَقينُ
(4)
*
حدَّثنا محمدُ بنُ خلفٍ العَسْقَلانيُّ، قال: سألتُ رَوَّادَ بنَ الجَرَّاحِ، عن الحديثِ الذي حُدِّث
(5)
به عنه، عن سفيانَ الثَّوْرِيِّ، عن منصورٍ، عن ربعِيٍّ، عن حُذيفةَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، في
(6)
قصةٍ ذكَرها في الفِتَنِ
(7)
، فقلتُ له: أخْبِرْني عن هذا الحديثِ، سَمِعْتَه مِن سفيانَ الثَّوْرِيِّ؟ قال: لا. قلتُ له
(8)
: فقَرَأْتُه عليه؟ قال: لا. قلتُ له
(8)
: فقُرِئَ عليه
(1)
في م، ت 1:"يخلى".
(2)
في م، ت 1:"التالى"، وفي ت 2:"الليالي".
(3)
في الأصل: "فينتهبوها"، وفى م، ت 1:"فينهبونها".
(4)
هذا شطر بيت صار مثلًا، وروى أيضا "جفينة" بدل "جهينة"، وقيل:"حفينة". وشطره الأول:
*تُسائل عن أبيها كلَّ ركب*
وفي شطره الأول روايات أخر. وقد نُسب البيت لغصين بن حى. ونسب أيضا للأخنس بن كعب. ينظر كتاب الأمثال لأبي عبيد ص 201، والفاخر للمفضل بن سلمة ص 126، ومجمع الأمثال للميداني 2/ 319. والأظهر أن هذا المثل من قول أحد الرواة. والأثر ذكره القرطبي في تفسيره 14/ 314، 315، وفي التذكرة 2/ 525، 526. وقد أشار ابن كثير في تفسيره 6/ 515 إلى إيراد المصنِّف لهذا الحديث؛ فقال: ثم أورد - يعنى الطبري - في ذلك حديثا موضوعًا بالكلية.
(5)
في الأصل: "تحدث".
(6)
في م، ت 2:"عن".
(7)
بعده في م، ت 1، ت 2:"قال".
(8)
ليس في: م.
وأنت حاضِرٌ؟ قال: لا. قلتُ له
(1)
: فما قصتُه؟ فما خبرُه؟ قال: جاءَنى قومٌ، فقالوا: معنا حديثٌ عَجيبٌ - أو كلامٌ هذا معناه - [نَقْرَؤُه وتَسْمَعُه]
(2)
. قلتُ لهم: هاتوه. فقَرَءُوه عليَّ، ثم ذَهَبوا به (1)، فحَدَّثوا به عنى. أو كلامٌ هذا معناه.
قال أبو جعفرٍ: وقد حدَّثني محمدُ بنُ خلفٍ ببعضِ هذا الحديثِ، قال: ثنا عبدُ العزيزِ بنُ أَبانٍ، عن سفيانَ الثَّوْرِيَّ، عن منصورٍ، عن ربعيٍّ، عن حُذيفةَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، حديثًا طويلًا]
(3)
.
[قال: رأيتُه]
(4)
في كتابِ الحسينِ بن عليٍّ الصُّدَائيِّ، عن شيخٍ له (1)، عن رَوَّادٍ، عن سفيانَ الثوريِّ بطولِه.
وقال آخرون: بل عُنِى بذلك المشركون، إذا فزِعوا عند خُرُوجهم مِن قبورِهم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، عن الحسنِ قولَه:{وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا} . قال: فزِعوا يومَ القيامةِ، حينَ خَرَجوا مِن قبورِهم
(5)
. وقال قتادةُ: {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} : حينَ
(1)
ليس في: م، ت 1، ت 2.
(2)
في الأصل: "لقراءةٍ ولسمعه"، وفى ت 1:"تقرأ ونسمعه"، وفي ت 2:"نقرأ وتسمعه".
(3)
في م، ت 1، ت: 2: "حديث طويل".
(4)
في الأصل: "ورويته". والقائل: "رأيته
…
"، هو المصنف.
(5)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 133 عن معمر عن الحسن، وذكره القرطبي في تفسيره 14/ 314، وابن كثير في تفسيره 6/ 515، وذكره السيوطي في الدر المنثور 5/ 240 بلفظ:"في القبور من الصيحة"، وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
عايَنوا عذابَ اللهِ
(1)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا جَرِيرٌ، عن عطاءٍ، عن ابن مَعْقِلٍ:{وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ} . قال: أَفْزَعَهم يومُ القيامةِ فلم يَفُوتوا
(2)
.
والذي هو أوْلَى بالصوابِ في تأويلِ ذلك، وأَشْبَهُ بما دَلَّ عليه ظاهِرُ التنزيلِ، قولُ مَن قال: ذلك
(3)
وعيدُ اللهِ المشركين الذين كَذَّبوا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِن قومِه؛ لأن الآيات قبلَ هذه الآيةِ، بالإخبارِ عنهم، [وعن إساءَتِهم]
(4)
، وبوعيدِ اللهِ إياهم، مَضَتْ
(5)
، وهذه الآيةُ في سياقِ تلك الآياتِ، فَلأَنْ يكونَ ذلك خبرًا عن حالِهم، أشْبَهُ منه بأن يكونَ خبرًا عمَّا لم يَجْرِ له ذِكرٌ، وإذ كان ذلك كذلك، فتأويلُ الكلامِ: ولو تَرَى، يا محمدُ، هؤلاء المشركين مِن قومِك، فتُعايِنُهم حينَ فزِعوا مِن مُعايَنَتِهم عذابَ اللهِ. {فَلَا فَوْتَ}. يقولُ: فلا سبيلَ [لهم حينَئذٍ إلى]
(6)
أن يَفُوتونا
(7)
بأنفسِهم، أو يُعْجِزونا هَرَبًا، أو
(8)
يَنْجُوا مِن عذابِنا.
كما حدَّثنا عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ} . يقولُ: فلا نجاةَ
(9)
.
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 133 عن معمر عن قتادة بلفظ: "أي في الدنيا حين رأوا بأس الله"، وذكره السيوطي في الدر المنثور 5/ 240 بلفظ:"في الدنيا عند الموت حين عاينوا الملائكة"، وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة 13/ 169، 412 عن جرير به، وذكره السيوطي في الدر المنثور 5/ 241 بلفظ:"أخذوا فلم يفوتوا"، وعزاه إلى عبد بن حميد.
(3)
سقط من: م، ت 1، ت 2.
(4)
في م، ت 2:"وعن أسبابهم".
(5)
في م: "مغبته".
(6)
في م، ت 1، ت 2:"حينئذ".
(7)
في م، ت:2 "يفوتوا"، وفى ت 1:"يقولوا".
(8)
في م، ت 1، ت 2:"و".
(9)
أخرجه ابن أبي حاتم - كما في الإتقان 2/ 38 - من طريق أبي صالح به.
حدَّثنا عمرُو بنُ عبدِ الحميدِ، قال: ثنا مَرْوانُ، عن جُوَيبرٍ، عن الضَّحَّاكِ في قولِه:{وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ} . قال: لا هَرَبَ.
وقولُه: {وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} . يقولُ: وأخَذهم اللهُ بعذابِه من مَوْضِعٍ
(1)
قريبٍ؛ لأنهم حيثُ كانوا فهم مِن اللهِ قريبٌ، لا يَبْعُدُون عنه.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه: وقال هؤلاء المشركون حينَ عاينوا عذابَ اللهِ: آمَنَّا به. يَعْنى: آمنَّا باللهِ وبكتابِه ورسولِه.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا وَرْقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ} . قال
(2)
: باللهِ
(3)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ} عندَ ذلك. يعنى حينَ عايَنوا عذابَ اللهِ
(4)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في
(1)
في الأصل: "مكان".
(2)
في م: "قالوا آمنا".
(3)
تفسير مجاهد ص 556. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 241، 242 إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4)
بعده في الأصل: "فلم يغن عنهم شيئًا حين عاينوا عذاب الله".
قولِه: {وَقَالُوا آمَنَّا
(1)
بِهِ} بعدَ القتلِ.
وقولُه: {وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ} . يقولُ: ومِن أيِّ وجهٍ لهم التَّناوُشُ.
واخْتَلَفَتْ قرَأةُ الأمصارِ في ذلك؛ فقَرَأَتْه عامةُ قَرَأَةِ المدينةِ: {التَّنَاوُشُ} ، بغيرِ هَمْزٍ
(2)
، بمعنى التَّناوُلِ. وقرأتْه عامةُ قرأةِ الكوفةِ والبصرةِ (التَّناؤُشُ) بالهمزِ
(3)
، بمعنى النَّئِيشِ
(4)
، وهو الإبْطاءُ. يُقالُ: انْتَأَشْتُ
(5)
الشيءَ. إذا
(6)
أخذتَه مِن بعيدٍ. ونُشْتُه. إذا
(6)
أخذتَه مِن قريبٍ. ومن النَّئِيشِ
(7)
قولُ الشاعرِ
(8)
:
تَمَنَّى نَئِيشًا أن يكونَ أطاعَني
…
وقد حَدَثَتْ بعدَ الأُمُورِ أمورُ
ومِن النَّوْشِ قولُ الراجِزِ
(9)
:
* فَهْىَ تَنوشُ الحَوْضَ نَوْشًا مِن عَلَا
(10)
*
(1)
بعده في الأصل: "قال: قالوا آمنا".
(2)
وهى قراءة ابن كثير ونافع وابن عامر وعاصم في رواية حفص عنه، وكذلك رواية حسين الجعفى والأعشى والكسائي عن أبي بكر عن عاصم. ينظر السبعة في القراءات ص 530.
(3)
وهي قراءة أبي عمرو وحمزة والكسائي وعاصم في رواية يحيى بن آدم عن أبي بكر عن عاصم، ورواية المفضل عن عاصم. ينظر المصدر السابق.
(4)
في م: "التنؤش".
(5)
في م: "تناءشت".
(6)
ليس في: م، ت 1.
(7)
في م: "التنؤش". وينظر اللسان (ن ا ش)
(8)
البيت في معاني القرآن 2/ 365 غير منسوب، وفى المستقصى لأمثال العرب 1/ 302، واللسان (ن ا ش)، منسوبًا عندهما لنَهْشَل بن حَرِّيٍّ، وفى اللسان:"ويحدُث من بعد" مكان "وقد حدثت بعد".
(9)
في الأصل: "الآخر". وهذا الرجز ذكره أبو عبيدة في مجاز القرآن 2/ 150 ونسبه لغيلان، وابن السكيت في إصلاح المنطق 1/ 432، وابن قتيبة في أدب الكاتب ص 391، غير منسوب عندهما، واللسان (ن و ش) منسوبا لغيلان بن حريث، واللسان (ع ل و) وعنده "باتت" مكان "فهي" ونسبه لأبي النجم.
(10)
الضمير في قوله: "فهى" للإبل. وتنوش الحوض: أي تتناول مِلْئَه. ومن عَلَا: من فوق. يريد أنها عالية الأجسام طِوال الأعناق. ينظر لسان العرب (ن و ش).
* نَوْشًا به تَقْطَعُ
(1)
أَجْوازَ الفَلَا *
ويُقالُ للقومِ في الحربِ، إذا دَنا بعضُهم مِن
(2)
بعضٍ بالرِّماحِ ولم يَتَلاقَوْا: قد تَناوَشَ القومُ. والصوابُ مِن القولِ في ذلك عندى أن يُقالَ: إنهما قِراءتان مَعْروفَتان في قرأةِ الأمصارِ، مُتَقارِبَتا المعنى.
وذلك أن معنى ذلك: وقالوا آمنَّا بالله
(3)
. في حين لا يَنْفَعُهم قِيلُ ذلك. فقال اللهُ: {وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ} . وأَنَّى
(4)
لهم التوبةُ والرَّجْعَةُ التي
(5)
قد بَعُدَتْ [منهم، وصاروا]
(6)
منها بموضعٍ
(7)
بعيدٍ أن يَتَناوَلوها، وإنما وَصَف
(8)
ذلك [المكان بالبُعدِ]
(9)
؛ لأنهم قالوا ذلك في القيامةِ، فقال اللهُ: أَنَّى لهم بالتوبةِ المقبولةِ؟ والتوبةُ المقبولةُ إنما كانتْ في الدنيا، وقد ذهَبت الدنيا، فصارتْ بعيدًا مِن الآخرةِ، فبأيةِ القراءتَيْن اللتَيْن ذكرتُ قرَأ القارئُ، فمصيبٌ الصوابَ في ذلك.
وقد يجوزُ أن يكونَ الذين قَرَءُوا ذلك بالهمزِ، هَمَزوا وهم يُريدون مَعْنَى مَن لم يَهْمِزْ، ولكنَّهم هَمَزوه؛ لانْضِمامِ الواوِ، فقَلَبوها، كما قِيل: {وَإِذَا الرُّسُلُ
(1)
في الأصل، ت 2:"يقطع". والمعنى أنها بتناول ماء الحوض وشربها منه، تستعين بذلك على قَطْع الفلوات. والأجواز: جمع جَوْز، وهو الوسط. ينظر لسان العرب (ن و ش).
(2)
في م، ت 1، ت 2:"إلى".
(3)
في الأصل، ت 2:"به".
(4)
في م، ت 1، ت 2:"أي وأين".
(5)
في م، ت 1، ت 2:"أي".
(6)
في م، ت:2: "عنهم فصاروا"، وفى ت 1:"عنهم وصاروا".
(7)
في م، ت 1، ت 2:"كموضع".
(8)
في م: "وصفت".
(9)
في م، ت 1، ت 2:"الموضع بالبعيد".
أُقِّتَتْ} [المرسلات: 11]. فجُعِلَتِ الواو مِن "وُقِّتَتْ"؛ إذ كانتْ مضمومةً - همزةً.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا ابن عطيةَ، قال: ثنا إسرائيلُ، عن أبي إسحاقَ، عن التَّمِيمِيِّ، قال: قلتُ لابن عباسٍ: أرأيتَ قولَ اللهِ: {وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ} . قال: يَسْأَلُون الرَّدَّ، وليس بحينِ رَدٍّ
(1)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا حَكَّامٌ، عن عَنْبسَةَ، عن أبي إسحاقَ، عن التميميِّ، عن ابن عباسٍ نحوَه.
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ} . يقولُ: فكيف لهم بالرَّدِّ
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ} . قال
(3)
: الرَّدُ
(4)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، [عن قتادةَ]
(5)
: {وَأَنَّى لَهُمُ
(1)
أخرجه الثورى في تفسيره ص 244، 245، والحاكم في المستدرك 2/ 424 من طريق أبي إسحاق به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 242 إلى الفريابي، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم - كما في الإتقان 2/ 38 - من طريق أبي صالح به.
(3)
بعده في الأصل: "التناول". وبعده في ت 1، ت 2:"التناوش".
(4)
تفسير مجاهد ص 556، ومن طريقه الفريابي - كما في تغليق التعليق 4/ 289 - وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 242 إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم.
(5)
سقط من: م.
التَّنَاوُشُ}. قال: التَّناوُلُ
(1)
(2)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} . قال: هؤلاء قَتْلَى أهلُ بدرٍ، مَن قُتِل منهم. وقرَأ: {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51) وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ [وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ]
(3)
}. قال: التَّناوُشُ، التَّناوُلُ، أَنَّى لهم تناولُ التوبةِ مِن مكانٍ بعيدٍ، وقد ترَكوها في الدنيا. قال: وهذا بعدَ الموتِ في الآخرةِ.
قال: وقال ابن زيدٍ في قولِه: {وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ}
(4)
: بعدَ القتلِ، {وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ}. وقرَأ:{وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} [النساء: 18]. قال: ليس لهم توبةٌ. وقال: عرَض اللهُ عليهم أن يَتُوبوا مَرَّةً واحدةً، فيَقْبَلَها اللهُ منهم، فأَبَوْا، و
(5)
يَعْرِضون التوبةَ بعد الموتِ
(6)
. قال: فهم يَعْرِضونها في الآخرةِ خمسَ عَرَضاتٍ، فيَأبى اللهُ أَن
(7)
يَقْبَلَها منهم. قال: والتائبُ عندَ الموتِ ليست له توبةٌ. [وقَرَأ]
(8)
: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا} الآية [الأنعام: 27]. وقرَأ: {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة: 12].
(1)
في الأصل: "التناوش".
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 133 عن معمر عن قتادة بلفظ: "أنى لهم أن يتناولوا التوبة".
(3)
في م، ت 1، ت 2:"الآية".
(4)
بعده في الأصل: "قال: قالوا: آمنا به".
(5)
في م: "أو".
(6)
بعده في الأصل: "قال: وهؤلاء عرضوا التوبة بعد الموت".
(7)
سقط من: الأصل، ت 1، ت 2.
(8)
سقط من: م.
حدَّثنا عمرُو بنُ عبدِ الحميدِ، قال: ثنا مَرْوانُ، عن جُوَيبرٍ، عن الضَّحّاكِ في قولِه:{وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ} . قال: وأنى لهم الرَّجْعَةُ
(1)
.
وقولُه: {مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} . يقولُ: مِن آخِرَتِهم إلى الدنيا كما حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} : مِن الآخرةِ إلى الدنيا
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53)} .
يقول تعالى ذكرُه: {وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ} . يقولُ: وقد كفَروا بما يَسْأَلُونه ربَّهم عندَ نزولِ العذابِ بهم، ومُعايَنَتِهم إياه، من الإقالةِ له
(3)
، وذلك الإيمانُ باللهِ وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، وبما جاءَهم به من عندِ اللهِ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك، قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ} . أي: بالإيمانِ في الدنيا
(4)
.
(1)
ذكره القرطبي في تفسيره 14/ 315، 316.
(2)
تفسير مجاهد ص 556 ومن طريقه الفريابي - كما في تغليق التعليق 4/ 289 - وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 242 إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم.
(3)
في الأصل: "به".
(4)
بعده في الأصل: "الحامة".
وقولُه: {وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} . يقولُ: وهم اليوم يَقْذِفون بالغيبِ محمدًا من مكانٍ بعيدٍ. يعنى: أنهم يَرْجُمُونه وما أتاهم مِن كتابِ اللهِ، بالظُّنُونِ والأَوْهامِ، فيقولُ بعضُهم: هو ساحِرٌ. ويقولُ بعضُهم: هو شاعرٌ. وغيرَ ذلك.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} ، قال: قولُهم: ساحِرٌ، بل هو كاهِنٌ، بل هو شاعِرٌ
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} . أي: يَرْجُمون بالظَّنِّ، يقولون: لا بَعْثَ [ولا نُشُورَ]
(2)
، ولا جنةَ ولا نارَ
(3)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} . قال: بالقرآنِ
(4)
.
(1)
تفسير مجاهد ص 556، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 241، 242 إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
سقط من: م، ت 1، ت 2. والمثبت من الأصل كما في تفسير القرطبي.
(3)
ذكره الطوسى في التبيان 8/ 373، والبغوى في تفسيره 6/ 407، والقرطبي في تفسيره 14/ 317، وأبو حيان في البحر المحيط 7/ 294، وابن كثير في تفسيره 6/ 516، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 242 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(4)
ذكره أبو حيان في البحر المحيط 7/ 294 بلفظ: "طاعنين في القرآن بقولهم: أساطير الأولين".
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وحِيلَ بينَ هؤلاء المشركين - حينَ فَزِعوا فلا فَوْتَ، وأُخِذوا من مكانٍ قريبٍ، فقالوا: آمَنَّا به - وبين ما يَشْتَهون حينَئدٍ من الإيمانِ بما كانوا به في الدنيا، قبلَ ذلك، يَكْفُرون، فلا
(1)
سبيلَ لهم إليه.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك، قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني إسماعيلُ بنُ حَفْصِ الأُبُليُّ
(2)
، قال: ثنا المُعْتَمِرُ [بن سليمانَ]
(3)
، عن أبي الْأَشْهَبِ، عن الحسنُ في قولِه:{وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} . قال: حِيلَ بينَهم وبينَ الإيمان باللهِ
(4)
.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا مُؤَمَّلٌ، قال: ثنا سفيانُ، عن عبدِ الصمدِ، قال: سَمِعتُ الحسنَ، وسُئِل عن هذه الآيةِ:{وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} . قال: حِيلَ بينَهم وبينَ الإيمانِ
(5)
.
حدَّثني ابن أبي زيادٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا أبو الأشهبِ، عن الحسنِ:{وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} . قال: حِيلَ بينَهم وبينَ الإيمانِ.
(1)
في م، ت 1، ت 2:"ولا".
(2)
في الأصل، ت 1، ت 2:"الأيلى". والمثبت من م هو الصواب، وينظر الجرح والتعديل 2/ 165، وتهذيب الكمال 3/ 62، ونصَّ على نسبته بالحروف الحافظ ابن حجر في تقريب التهذيب 1/ 68.
(3)
ليس في: م، ت 1، ت 2.
(4)
أخرجه الفسوي في المعرفة والتاريخ 2/ 40 من طريق أبي الأشهب به، وذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 516، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 242 إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(5)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 133 عن الثورى عمن حدثه عن الحسن.
حدَّثنا أحمدُ بنُ عبدِ الصمدِ الأنصاريُّ، قال: ثنا أبو أسامةَ، عن شبلٍ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} . قال: مِن الرُّجوعِ إلى الدنيا ليَتُوبوا.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} . قال: كان القومُ يَشْتَهون طاعةَ اللهِ أن يكونوا عملوا بها في الدنيا حينَ عايَنوا ما عايَنوا
(1)
.
حدَّثنا الحسنُ بنُ واضحٍ، قال: ثنا الحسنُ بنُ حَبيبٍ، قال: ثنا أبو الأشهبِ، عن الحسنِ في قولِه:{وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} . قال: حِيلَ بينَهم وبينَ الإيمانِ.
وقال آخرون: معنى ذلك: وحِيلَ بينَهم وبينَ ما يَشْتَهون، مِن مالٍ وولدٍ وزَهْرَةِ الدنيا.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، [وحدَّثني]
(2)
الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ:{وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} . قال: مِن مالٍ أو ولدٍ أو زَهْرةٍ
(3)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَحِيلَ
(1)
ينظر تفسير القرطبي 14/ 318.
(2)
في م: "قال: ثني".
(3)
تفسير مجاهد ص 556 ومن طريقه الفريابي - كما في تغليق التعليق 4/ 289 - دون قوله: "أو زهرة"، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 242 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ}. قال
(1)
: الدنيا التي كانوا فيها والحياةِ.
وإنما اخْتَرْنا القولَ الذي اخترْناه في ذلك؛ لأن القومَ إِنما تَمَنَّوْا حِينَ عايَنوا من عذابِ اللهِ ما عايَنوا، ما أخبَر اللهُ عنهم أنهم تَمنَّوه، وقالوا: آمَنّا به. فقال اللهُ جلَّ ثناؤُه: وأَنَّى لهم تَناوُشُ
(2)
ذلك من مكانٍ بعيدٍ، وقد كفروا مِن قَبْلِ ذلك في الدنيا. فإذ
(3)
كان ذلك كذلك، فلأَنْ يكون قولُه:{وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} . خبرًا عن أنه لا سبيل لهم إلى ما تَمَنَّوْهِ، أَوْلَى مِن أن يكونَ خبرًا عن غيرِه.
وقولُه: {كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ} . يقولُ: كما
(4)
فَعَلْنا بهؤلاء المشركين، فحُلْنا
(5)
بينَهم وبينَ ما يَشْتَهون من الإيمانِ باللهِ عندَ نُزولِ سَخَطِ اللهِ بهم، ومُعايَنَتِهم بَأْسَهُ
(6)
، فَعَلْنا بأشياعِهم على كفرِهم باللهِ مِن قَبْلِهم، من كفارِ الأُمَمِ، فلم يُقْبَلْ
(7)
منهم إيمانُهم في ذلك الوقتِ، كما لم يُقْبَلْ
(7)
في مثلِ ذلك الوقتِ مِن ضُرَبائهم. والأشْياعُ: جمعُ شِيَعٍ، وشِيَعٌ: جمعُ شِيعَةٍ، فأشياعٌ جمعُ الجمعِ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
(1)
بعده في م: "في".
(2)
في الأصل، ت 2:"التناوش".
(3)
في الأصل، م:"فإذا".
(4)
سقط من: م، ت 1، ت 2.
(5)
في الأصل: "وحلنا".
(6)
بعده في م: "كما".
(7)
في م، ت 1:"نقبل".
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، [قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، [عن مجاهدٍ]
(1)
(2)
: {كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ} . قال: الكفارِ مِن قبلِهم
(3)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ} . أي: في الدنيا، كانوا إذا عايَنوا العذابَ لم يُقْبَلُ منهم إيمانٌ.
وقولُه: {إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ} . يقولُ تعالى ذكرُه: وحِيلَ بين هؤلاء المشركين، حين عايَنوا بأسَ اللهِ، وبينَ الإيمانِ، إنهم كانوا قبلَ ذلك في الدنيا في شَكٍّ مِن نزولِ العذابِ الذي نزَل بهم وعايَنوه، وقد أَخْبَرَهم نبيُّهم أنهم إن لم يُنِيبوا مما هم عليه مُقيمون؛ من الكفرِ باللهِ، وعبادةِ الأوثانِ، أن الله مُهلِكُهم ومُحِلٌّ بهم [نِقْمَتَه و]
(4)
عقوبتَه، في عاجلِ الدنيا وآجلِ الآخرةِ، قبلَ نزولِه بهم. {مُرِيبٍ}. يقولُ: موجِبٍ لصاحبِه الذي هو به ما يُرِيبُه من مكروهٍ، من قولِهم: قد أراب الرَّجُلُ. إذا أتى رِيبَةً، وركب فاحشةً. كما قال الراجزُ
(5)
:
*يا قومِ ما لى وأبا ذُوَّيْبِ*
(1)
سقط من: م.
(2)
سقط من: ت 2.
(3)
تفسير مجاهد ص 556 مطولًا، ومن طريقه الفريابي - كما في تغليق التعليق 4/ 289 - وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 242 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4)
سقط من: م، ت 1، ت 2.
(5)
البيت في إصلاح المنطق 1/ 142 غير منسوب، وفى اللسان (أ ت ى)، (ر ي ب)، (ب ز ز) منسوبًا لخالد بن زهير.
*كنتُ إِذا أَتَوْتُه
(1)
من غَيْبِ*
*يَشْتَمُّ
(2)
عِطْفِى ويَبُزُّ
(3)
ثَوْبى *
*كأنَّما أَرَبْتُه بَرَيْبٍ*
يقولُ: كأنما أتَيْتُ إليه ريبةً
(4)
.
آخِرُ تفسيرِ سورةِ سبأٍ
(1)
"أَتَوْتُه" لغةٌ في "أَتَيْتُه". كما في اللسان (أ ت ى).
(2)
في م، ت 1، ت 2، ومصدرى التخريج:"يشم". وهما بمعنًى.
(3)
عطف كل شيء: جانبه. وعطف الإنسان: من لدُن رأسه إلى ورِكه. ويبز ثوبي: أي يَجذِبه إليه. ينظر اللسان (ع ط ف)، (ب ز ز).
(4)
بعده في الأصل: "تم الجزء من أجزاء" ثم كلمة غير واضحة، ثم "رحمه الله".
تفسيرُ سورةِ فاطرِ
بسم الله الرحمن الرحيم
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
(1)}.
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذِكرُه: الشكرُ الكاملُ للمعبودِ الذي لا تصلُحُ العبادةُ إلا له، ولا ينبَغى أن تكونَ لغيرِه، خالقِ السماواتِ السبعِ والأرضِ، {جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا} إلى مَن يشاءُ مِن عبادِه، وفيما شاء من أمرِه ونهيِه، {أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ}. يقولُ: أصحابُ أجنحةٍ. يعنى ملائكةً. فمنهم مَن له اثنانِ مِن الأجنحةِ، ومنهم مَن له ثلاثةُ أجنحةٍ، ومنهم مَن له أربعةٌ.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} . قال: بعضُهم له جناحانِ، و
(1)
بعضُهم ثلاثةٌ، و
(1)
بعضُهم أربعةٌ
(2)
.
واختلَف أهلُ العربيةِ في علةِ تركِ إجراءِ مَثْنَى وَثُلاثَ ورُباعَ، وهى ترجمةٌ عن أجنحةٍ، وأجنحةٌ نكرةٌ، فقال بعضُ نحويِّ البصرةِ: تُرِك إجراؤهنَّ؛ لأنهنَّ مصروفاتٌ عن وجوهِهنَّ، وذلك أن {مَثْنَى} مصروفٌ عن اثنين، {وَثُلَاثَ} عن ثلاثةٍ، {وَرُبَاعَ} عن أربعةٍ، فصِرْن
(3)
نظيرَ عُمَرَ، وزُفَرَ، إذ صُرِف هذا عن
(1)
بعده في الأصل: "قال".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 244 إلى عبد بن حميد والمصنف وابن أبي حاتم.
(3)
من م، ت 1، ت 2:"فصرف".
عامرٍ، إلى عمرَ، وهذا عن زافرٍ إلى زُفرَ، وأنشَد بعضُهم في ذلك
(1)
:
ولقد قتَلتُكمُ ثُناءَ وَمَوْحَدًا
…
وتركتُ مُرَّةَ مثلَ أمسِ المُدْبِرِ
وقال آخرُ منهم: لم يصرفْ ذلك؛ لأنه يوهَمُ به الثلاثةُ والأربعةُ. قال: وهذا لا يُستعملُ إلا في حال العددِ. وقال بعضُ نحويِّى الكوفةِ: هنَّ مصروفاتٌ عن المعارفِ؛ لأن الألفَ واللامَ لا تدخلُها، والإضافةُ لا تدخُلُها. قال: ولو دخَلتْها الإضافةُ والألفُ واللامُ، لكانت نكرةً، وهى ترجمةٌ
(2)
عن النكرةِ
(3)
. قال: وكذلك ما كان في القرآنِ، بمثلِه
(4)
: {أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى} . [سبأ: 46]. وكذلك وُحادَ وأُحادَ، وما أشبَهه من مصروفِ العددِ.
وقوله: {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} . وذلك زيادتُه تبارك وتعالى في خلقِ هذا المَلكِ من الأجنحةِ على الآخرِ ما يشاءُ، ونقصانُه [ذلك من هذا]
(5)
الآخرِ ما أحبَّ، وكذلك ذلك في جميعِ خلقِه، يزيدُ ما يشاءُ في خَلقِ ما شاء منه، ويَنقُصُ ما شاء من خَلقِ ما شاء، له الخلقُ والأمرُ، وله القدرةُ والسلطانُ. {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. يقولُ: إن الله تعالى ذكرُه قديرٌ على زيادةِ ما شاء من ذلك فيما شاء، ونقصانِ ما شاء منه ممن شاء، وغير ذلك من الأشياء كلِّها، لا يمتنِعُ عليه فعلُ شيءٍ أراده سبحانه وتعالى.
القولُ في تأويلِ قوله جلَّ ثناؤه: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
(2)}.
(1)
تقدم في 6/ 372.
(2)
في ق، ت 1:"مترجمة".
(3)
في ق، ت 1:"الأجنحة".
(4)
في م، ت 2:"مثل".
(5)
في م، ت 2:"وعن"، وفي ت 1:"ذلك من".
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه: مفاتِحُ الخيرِ ومغالِقُه كلُّها بيدِه، فما يفتَحِ اللهُ للناسِ من خيرٍ، فلا مُغلِقَ له، ولا مُمسِكَ عنهم؛ لأن ذلك أمرُه
(1)
، ولا يستطيع ردَّ
(1)
أمرِه أحدٌ، وكذلك ما يُغْلِقْ من خيرٍ عنهم، فلا يبسُطْه عليهم، ولا يفتحْه لهم، فلا فاتحَ له سواه؛ لأن الأمورَ كلَّها إليه وله.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ} . أي: من خيرٍ، {فَلَا مُمْسِكَ لَهَا} فلا يستطيعُ أحدٌ حبسَها
(2)
. {وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} .
وقال تعالى ذكرُه: {فَلَا مُمْسِكَ لَهَا} . فأنَّث {مَا} لذكرِ الرحمةِ من بعدِه، وقال:{وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} . فذكَّر للفظ {ما} ؛ لأن
(3)
لفظَه لفظٌ مذكرٌ، ولو أنَّث في موضعِ التذكيرِ للمعنى، وذكَّر في موضعِ التأنيثِ للَّفظِ جاز، ولكنَّ الأفصحَ من الكلامِ التأنيثُ، إذا ظهَر بعدُ ما يدلُّ على تأنيثِها، والتذكيرُ إذا لم يظهرْ ذلك
وقولُه: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} . يقولُ: وهو العزيزُ في نقمتِه ممن انتقَم منه من خلقِه، بحبسِ رحمتِه عنه وخَيراتِه، الحكيمُ في تدبيرِه خلقَه، وفتحِه لهم الرحمةَ إذا كان فتحُ ذلك صلاحًا، وإمساكِه إياه عنهم إذا كان إمساكُه حكمةً.
(1)
سقط من: م، ت 1.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 244 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن أبي حاتم.
(3)
في الأصل: "و".
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ وعزَّ: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ
(2)}.
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه للمشركين به من قومِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم من قُرَيشٍ: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ} التي أنعمَها، {عَلَيْكُمْ} بفتحِه لكم من من خيرِ نعمِه
(1)
ما فتَح، وبسْطِه لكم من العيشِ ما بسَط، وفكِّروا فانظُروا {هَلْ مِنْ خَالِقٍ} لكم سِواىَ
(2)
فاطرِ السماواتِ والأرضِ، الذي بيدِه مفاتحُ أرزاقِكم ومغالقُها، {يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} فتعبدوه دونَه، {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}. يقولُ: لا معبودَ تنبغى له العبادةُ، إلا الذي فطَر السماواتِ والأرضَ، القادرُ على كلِّ شيءٍ، الذي بيده مفاتحُ الأشياءِ وخزائنُها، ومغالقُ ذلك كلِّه، فلا تعبدوا أيُّها الناسُ شيئًا سواه، فإنه لا يقدِرُ على نفعِكم وضرِّكم سواه، فله فأخلِصوا العبادةَ، وإياه فأفرِدوا بالأُلوهةِ، {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ}. يقولُ: فأَيُّ وجهٍ عن خالقِكم ورازقِكم الذي بيدِه نفعُكم وضرُّكم تُصرَفون؟
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} . يقولُ الرجلُ: إنه ليُؤْفَكُ عنِّى كذا وكذا. وقد بيَّنتُ معنى الإفكِ، وتأويلَ قولِه:{تُؤْفَكُونَ} . فيما مضَى بشواهدِه المغنيةِ عن تكريرِه
(3)
.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4) يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ
(1)
في م، ت 1، ت 2:"خيراته".
(2)
في م، ت 1، ت 2:"سوي".
(3)
ينظر ما تقدم في 8/ 583، 9/ 424، 10/ 360.
بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5)}.
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: وإن يكذِّبْك يا محمدُ، هؤلاء المشركون باللهِ مِن قومِك، فلا يحزنَنَّك ذلك، ولا يَعْظُمنَّ
(1)
عليك، فإن ذلك سنةُ أمثالِهم من كفرةِ الأممِ باللهِ من قبلهم، في
(2)
تكذيبِهم رسلَ اللهِ التي أرسَلها إليهم من قبلِك، ولن يعدوَ مشركو قومِك أن يكونوا مثلَهم، فيتبِعوا في تكذيبِك منهاجَهم، ويسلُكوا سبيلَهم، {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ}. يقولُ تعالى ذكرُه: وإلى اللهِ مرجِعُ أمرِك وأمرِهم، فيُحِلُّ بهم مِن
(3)
العقوبةِ - إن هم لم يُنيبوا إلى طاعتِنا في اتباعِك، والإقرارِ بنُبَّوتِك، وقَبولِ ما دعوتَهم إليه من النصيحة - نظيرَ ما أحللنا بنظرائهم من الأممِ المكذِّبةِ رسلَها قبلَك، ومنجِّيك وأتباعَك من ذلك؛ سنتَنا بمَن قبلَك في رسلِنا وأوليائِنا.
[وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ]
(4)
.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} . يُعزِّى نبيَّه كما تسمعون
(5)
.
وقولُه: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} . يقولُ تعالى ذكرُه لمشركِي قريشٍ، المكذِّبي رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: يا أيُّها الناسُ إن وعدَ اللهِ إياكم بأسَه - على إصرارِكم على الكفرِ به، وتكذيبِ رسولِه محمدٍ صلى الله عليه وسلم وتحذيرَكم نزولَ سطوتِه بكم على
(1)
في م، ت 1، ت 2:"يعظم".
(2)
في م، ت 1:"و".
(3)
سقط من م، ت 1.
(4)
ليس في: الأصل.
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 3/ 832 (4606) من طريق يزيد به.
ذلك - حقٌّ، فأيقِنوا بذلك، وبادِروا حلولَ عقوبتِه بكم بالتوبةِ والإنابةِ إلى طاعةِ اللهِ، والإيمانِ به وبرسولِه. {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا}. يقولُ: فلا يغرَّنكم ما أنتم فيه من العيشِ في هذه الدنيا، ورياساتِكم التي تترأسون بها على ضعفائِكم فيها، عن اتباعِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم والإيمانِ به
(1)
، {وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ}. يقولُ: ولا يخدَعنَّكم باللهِ الشيطانُ، فيمنِّيَكم الأمانيَّ، ويعدَكم مِن اللهِ العِداتِ الكاذبةَ، ويحملَكم على الإصرارِ على كفرِكم باللهِ.
كما حدَّثنا عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ في قولِه:{وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} . يقولُ: الشيطانُ
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه: {إِنَّ الشَّيْطَانَ} الذي نهيتُكم أيُّها الناسُ أن تغترُّوا بغُرورِه إياكم باللهِ، {لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا}. يقولُ: فأنزِلوه من أنفسِكم مُنزلَ العدوِّ منكم، واحذَروه
(3)
- بطاعةِ اللهِ واستغشاشِكم إياه - حِذْرَكم من عدوّكم الذي تخافون غائلتَه على أنفسِكم، فلا تطيعوه ولا تتَّبعوا خطواتِه، فإنه {إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ} . يعنى شيعتَه، ومن أطاعه إلى طاعتِه والقبولِ منه والكفرِ باللهِ، {لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ}. يقولُ: ليكونوا من المخلَّدين في نار جهنمَ، التي تتوقَّدُ على أهلِها.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
(1)
سقط من: م، ت 2.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره - كما في الإتقان 2/ 37 - من طريق أبي صالح به.
(3)
في الأصل: "احذروا".
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} . فإنه يحقُّ
(1)
على كلِّ مسلمٍ عداوتُه. وعداوتُه: أن تعاديَه بطاعةِ اللهِ، {إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ} وحزبُه: أولياؤُه. {لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} . أي: ليسوقَهم إلى النارِ، فهذه عداوتُه
(2)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} ، [قال: يقولُ: يدعو حزبَه إلى معاصى اللهِ. وأهلُ معاصى اللهِ أصحابُ السعيرِ]
(3)
. وقال: هؤلاء حزبُه من الإنسِ. يقولُ: أولئك حزبُ الشيطانِ. قال
(4)
: والحزبُ ولاتُه الذين يتولَّاهم ويتولَّونه
(5)
. وقرَأ: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ}
(6)
[الأعراف: 196].
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ وعزَّ: {الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7)} .
قال أبو جعفرٍ، رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه: {الَّذِينَ كَفَرُوا} باللهِ ورسولِه، {لَهُمْ عَذَابٌ} من اللهِ، {شَدِيدٌ} ، وذلك عذابُ النارِ.
وقولُه: {وَالَّذِينَ آمَنُوا} . يقولُ: والذين صدَّقوا الله ورسولَه، وعمِلوا بما
(1)
في م: "لحق".
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 7/ 2102، 2103 من طريق يزيد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 245 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
سقط من: م، ت 1.
(4)
سقط من: م، ت 1.
(5)
في الأصل: "يتولونهم".
(6)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 245 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
أمَرهم اللهُ، وانتَهَوا عما نهاهم عنه، {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ} من اللهِ لذنوبِهم، {وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} وذلك الجنةُ.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} : وهى الجنةُ
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه: أفمَن حسَّن له الشيطانُ أعمالَه السيئةَ؛ من معاصى اللهِ والكفرِ به، وعبادةِ ما دونَه من الآلهةِ والأوثانِ، {فَرَآهُ حَسَنًا} فحَسِب سَيِّئَ ذلك حسنًا، وظن أن قبيحه
(2)
جميلٌ؛ لتزيين الشيطانِ ذلك له - ذهَبت نفسُك عليهم حَسَراتٍ؟! [وحُذِف من الكلامِ: ذهبَت نفسُك عليهم حسراتٍ]
(3)
؛ اكتفاءً بدلالةِ قولِه: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} عليه
(4)
منه.
وقولُه: {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} . يقولُ: فإِن الله يَخذُلُ من يشاءُ عن الإيمانِ به، واتباعِك وتصديقِك، فيُضِلُّه عن الرشادِ إلى الحقِّ [في ذلك]
(5)
، {وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}. يقولُ: ويوفِّقُ [مَن يشاءُ]
(5)
للإيمانِ به واتباعِك والقَبولِ منك، فيهديه
(6)
إلى سبيلِ الرشادِ، {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} .
(1)
تقدم تخريجه في 17/ 239.
(2)
في م، ت 2:"قبحه".
(3)
سقط من: الأصل.
(4)
سقط من: م.
(5)
سقط من: الأصل.
(6)
في م: "فتهديه".
يقولُ: فلا تُهلِك نفسك حُزْنًا على ضلالتهم وكفرهم باللهِ، وتكذيبِهم لك.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة:{أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} . قال قتادةُ والحسنُ: الشيطانُ زيَّن لهم. {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} . أي: لا يَحْزُنْكَ ذلك عليهم {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}
(1)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زِيدٍ في قولِ اللَّهِ: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} . قال: الحَسَراتُ: الحُزنُ. وقرَأ قولَ الله: [{يَاحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} [يس: 30]. قال: يقولُ: نالتهم حسرةً. وقرأ قولَ اللَّهِ]
(2)
{يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر: 56] [قال: هذا كلُّه الحُزنُ إلا أنه أشدُّ
(3)
] (2).
ووقَع قولُه: {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} . موقِعَ
(4)
الجوابِ، وإنما هو مُتَّبَعُ
(5)
الجوابِ؛ لأن الجوابَ هو المتروكُ الذي ذكَرتُ، فاكتُفى به من الجوابِ لدَلالتِه على الجوابِ [ومعنى الكلام]
(6)
.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 245 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن أبي حاتم.
(2)
سقط من: م.
(3)
في الأصل: "أسوه".
(4)
في م، ت 1:"موضع".
(5)
في م، ت 1:"منبع".
(6)
ليس في الأصل.
واختلفت القرأةُ في قراءةِ قولِه: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} ؛ فقرَأتْه قرأةُ الأمصارِ سوى أبى جعفرٍ المدنيِّ: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ} . بفتحِ التاءِ من {تَذْهَبْ} و {نَفْسُكَ} برفعها. وقرَأ ذلك أبو جعفرٍ: (فَلَا تُذْهِبْ) بضمِّ التاءِ من (تُذهب)، و (نَفْسَكَ) بنصبها، بمعنى: لا تُذهب أنت يا محمدُ نفسك
(1)
.
والصوابُ مِن القراءةِ في ذلك عندَنا، ما عليه قرأةُ الأمصار؛ لإجماعِ الحجةِ من القرأةِ عليه.
وقولُه: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: إن الله يا محمدُ ذو علمٍ بما يصنعُ هؤلاءِ الذين زيَّن لهم الشيطانُ سوءَ أعمالِهم، وهو مُحصِيه عليهم، ومجازيهم به جزاءهم.
القولُ في تأويلِ قوله عز وجل: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ [سَحَابًا} . يقولُ: فتنشِيء سحابًا]
(2)
للحَيا
(3)
والغيثِ، {فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ}. يقولُ: فسُقْناه إلى بلدٍ [مُجْدِبة الأرضِ، مُخْلَى الأهلِ
(4)
، دائرٍ لا نبتَ فيه ولا زرعَ، {فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا}. يقولُ: فأخصَبْنا بغَيثِ ذلك السحابِ الأرضَ، التي سُقْناه إليها بعدَ جُدُوبها، وأنبَتْنا فيها الزرعَ بعدَ المَحْلِ، {كَذَلِكَ النُّشُورُ}. يقولُ تعالى ذكرُه: هكذا يُنشِرُ الله الموتى بعد بِلائِهم في قبورِهم،
(1)
ينظر معاني القرآن للفراء 2/ 367، والنشر 2/ 263، وإتحاف فضلاء البشر ص 222.
(2)
في م، ت 1:"السحاب".
(3)
الحيا: الخصب. اللسان (ح ى ى).
(4)
في م، ت 1:"مجدب الأهل محل الأرض".
فيُحْيِيهم بعدَ فنائِهم، كما أحْيَينا هذه الأرضَ بالغَيْثِ بعدَ مَماتِها.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ بنُ مهديٍّ، قال: ثنا سفيانُ، عن سلمةَ بن كُهَيلٍ، قال: ثنا أبو الزَّغْراءِ، عن عبدِ اللهِ، قال: يكونُ بينَ النَّفْخَتَين ما شاء اللهُ أن يكونَ، فليس مِن بنى آدمَ خلقٌ
(1)
إلا وفى الأرضِ منه شيءٌ. قال: فيرسلُ الله ماءً من تحتِ العرشِ، مَنِيًّا كَمِنيِّ الرجلِ، فتنبُتُ أجسادُهم ولُحمانُهم مِن ذلك، كما تنبُتُ الأرضُ مِن الثَّرَى، ثم قرأ:{وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ} إلى قولِه: {كَذَلِكَ النُّشُورُ} قال: ثم يقومُ مَلَكُ الصُّورِ
(2)
بينَ السماءِ والأرضِ، فينفُخُ فيه، فتنطلقُ كلُّ نفسٍ إلى جسدِها، فتدخُلُ فيه
(3)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا} . قال: يرسلُ الرياحَ فتسوقُ السحابَ، فأَحْيَا اللهُ به هذه الأرضَ الميتةَ بهذا الماءِ، فكذلك يبعثُه يومَ القيامةِ
(4)
.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)} .
(1)
سقط من: م.
(2)
في م: "بالصور".
(3)
تقدم تخريجه في 3/ 34، وأخرجه ابن أبي شيبة 15/ 191، 192 من طريق سفيان به مطولًا، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 245 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 245 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن أبي حاتم.
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: اختلف أهلُ التأويلِ في معنى قولِه: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} ؛ فقال بعضُهم: معنى ذلك: من كان يريدُ العزَّةَ بعبادةِ الآلهةِ والأوثانِ، فإن العزّةَ لله جميعًا.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ عمرٌو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ عز وجل:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ} . يقولُ: مَن كان يريدُ العزةَ بعبادته الآلهة فإنَّ العِزَّةَ لِلَّهِ جميعًا
(1)
.
وقال آخرون: معنى ذلك: مَن كان يريدُ العزة فليتَعزَّزْ بطاعةِ اللهِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} . يقولُ: فليتعزَّزْ بطاعةِ اللهِ
(2)
.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: من كان يريدُ علمَ العزةِ لمن هي؟ فإنها للهِ جميعًا كلَّها، أي: كلُّ وجهٍ من العزةِ فللهِ.
والذي هو أولى الأقوال بالصوابِ عندى قولُ من قال: مَن كان يريدُ العزةَ، فباللهِ فليتعزَّزْ، فللهِ العزةُ جميعًا، دونَ كلِّ ما دونه من الآلهةِ والأندادِ
(3)
والأوثانِ.
(1)
تفسير مجاهد ص 557، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 245 إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
ذكره البغوي في تفسيره 6/ 414 وابن كثير في تفسيره 6/ 523.
(3)
سقط من: م، ت 1.
وإنما قلتُ: ذلك أَولى بالصوابِ؛ لأن الآياتِ التي قبلَ هذه الآيةِ، جَرَت بتَقْريعِ الله المشركين على عبادِتهم الأوثانَ، وتوبيخِه إياهم، ووعيده لهم عليها، فأُولَى بهذه أيضًا أن تكونَ مِن جنسِ الحَثِّ على [فِراقِ ذلك، فكانت]
(1)
بقصتُها شبيهةً بقصتِها، وكانت في سياقها.
وقولُه: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} . يقولُ تعالى ذكرُه: إلى اللهِ يصعدُ ذكرُ العبدِ إياه، وثناؤُه عليه، {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}. يقولُ: ويرفع ذكرَ العبدِ ربَّه إليه عملُه الصالحُ، وهو العملُ بطاعتِه، وأداءُ فرائضه، والانتهاءُ إلى ما أمَره به.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ إسماعيلَ الأحْمُسِيُّ، قال: أخبَرني جعفرُ بنُ عَونٍ، عن عبدِ الرحمنِ بن عبدِ اللهِ المسعوديِّ، عن عبدِ اللَّهِ بن المُخارِقِ، عن
(2)
أبيه المُخارقِ بن سُلَيمٍ، قال: قال لنا عبدُ اللَّهِ: إذا حدَّثناكم بحديثٍ أتيناكم بتَصْديقِ ذلك مِن كتابِ اللهِ؛ إن العبدَ المسلمَ إذا قال: سبحانَ اللهِ وبحمدهِ، الحمدُ للهِ، لا إلهَ إلا اللهُ، واللهُ أكبرُ، تبارَك اللهُ. أَخَذَهنَّ مَلَكٌ، فجعَلهن تحتَ جَناحَيْه، ثم صعِد بهنَّ إلى السماءِ، فلا يمرُّ بهن على جمعٍ من الملائكة إلا استغفروا لقائلهنَّ حتى يجيءَ بهنَّ إلى
(3)
وجهِ الرحمنِ، ثم قرَأ عبدُ اللَّهِ:{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}
(4)
.
(1)
في الأصل: "قراءة ذلك إذا كانت".
(2)
في الأصل: "وعن".
(3)
سقط من: م، ت 1.
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 523 عن المصنف، وأخرجه البيهقى في الأسماء والصفات (667) من طريق جعفر بن عون به، وأخرجه الطبراني (9144)، والحاكم 2/ 425، والبغوى في تفسيره 6/ 414 =
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا ابن عُلَيَّةَ، قال: أخبَرنا سعيدٌ الجُرَيريُّ، عن عبدِ اللهِ بن شقيقٍ، قال: قال
(1)
كعبٌ: إن لسبحانَ اللهِ، والحمدُ للهِ، ولا إلهَ إلا اللهُ، واللهُ أكبرُ، لدَوِيًّا [حولَ العرشِ]
(2)
، كدويِّ النحلِ، يُذكِّرنَ
(3)
بصاحبِهنَّ، والعملُ يرفعه
(4)
في الخزائنِ
(5)
.
حدَّثني يونسُ، قال: ثنا سفيانُ، عن لَيْثِ بن أبي سُلَيم، عن شهرِ بن حَوْشَبٍ الأشعريِّ قولَه:{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} . قال: العملُ الصالحُ يرفعُ الكَلِمَ الطيب
(6)
.
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} . قال: الكلامُ الطيبُ: ذكرُ اللَّهِ، والعملُ الصالحُ: أداءُ فرائضِه، فمَن ذكَر الله سبحانَه في أداءِ فرائضِه، حمَل عملُه
(7)
ذكرَ اللهِ، فصعدِ به إلى اللهِ، ومَن ذَكَر الله، ولم يؤدِّ فرائضَه، رُدَّ كلامُه على عملِه، فكان أولَى به
(8)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى؛ وحدَّثنى
= من طريق المسعودى به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 245 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(1)
بعده في الأصل: "عبد الله عن".
(2)
سقط من الأصل.
(3)
في الأصل: "يذكرون".
(4)
في م، ت، ت، ومصادر التخريج:"الصالح".
(5)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 523، 524 عن المصنف، وأخرجه ابن المبارك في الزهد (932) عن سعيد الجريرى به، وينظر صفة الصفوة 4/ 204.
(6)
أخرجه سعيد بن منصور - كما في الدر المنثور 5/ 246 - ومن طريقه البيهقي في الشعب (6847) عن سفيان به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 246 إلى ابن أبي حاتم.
(7)
في م، ت 1:"عليه".
(8)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره - كما في الإتقان 2/ 38 - والبيهقى في الأسماء والصفات (899) من طريق أبي صالح به.
الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ قوله:{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} . قال: العملُ الصالحُ يرفعُ الكلامَ الطيبَ
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} . قال: قال الحسنُ وقتادةُ: لا يقبلُ اللهُ قولًا إلا بعملٍ، من قال وأحسَن العملَ، قبل الله منه
(2)
.
وقولُه: {وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ} . يقولُ تعالى ذكرُه: والذين يكسِبون السيئاتِ [ويعملون بها، أولئك {لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} بمعنى أن]
(3)
لهم عذابَ جهنمَ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثني سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ} . [أي: يعملون السيئاتِ]
(3)
(4)
.
[حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} . قال: هؤلاء أهلُ الشركِ
(5)
.
(1)
تفسير مجاهدٍ ص 557، ومن طريقه البيهقى في الأسماء والصفات (900). وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 246 إلى آدم بن أبى إياس والبغوى والفريابي وعبد بن حميد.
(2)
أخرجه أبو نعيم في الحلية 2/ 335 من طريق شيبان به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 246 إلى عبد بن حميد.
(3)
سقط من م، ت 1.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 246 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 246 إلى ابن أبي حاتم.
وقولُه: {وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ} . يقولُ: وعملُ هؤلاءِ المشركين يَبورُ، فيبطُل فيذهَبُ؛ لأنه لم يكنْ للهِ، فلم ينفعْ عاملَه.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ} . أي: يفسُدُ
(1)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا سفيانُ، عن ليثِ بن أَبِي سُلَيْمٍ، عَن شَهْرِ بن حَوْشَبٍ:{وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ} . قال: هم أصحابُ الرياءِ
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمارة، قال: ثنا سهلُ بنُ عامرٍ، قال: ثنا جعفرٌ الأحمرُ عن ليثٍ، عن شَهْرِ بن حَوْشَبٍ في قولِه:{وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ} . قال: هم أصحابِ الرياءِ.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وَهْبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قوله: {وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ} . قال: بَارَ فلم ينفعهْم، ولم ينتفعوا به، وضرَّهم
(3)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 134 عن معمر عن قتادة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 246 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
أخرجه سعيد بن منصور - كما في الدر المنثور 5/ 246 - ومن طريقه البيهقي في الشعب (6847) عن سفيان به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 246 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 246 إلى ابن أبي حاتم.
مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11)}.
يقولُ تعالى ذكرُه: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ} أيها الناسُ، {مِنْ تُرَابٍ} . يَعْنى بذلك أنه خلَق أباهم آدمَ مِن ترابٍ، فجعَل خلقَ أبيهم منه لهم خلًقا، {ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ}. يقولُ: ثم خلَقكم من نطفةِ الرجلِ والمرأةِ، {ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا} . يعنى أنه زوَّج منهم الأنثى مِن الذكرِ.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} . يعني آدمَ، {ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} . يعني ذرَّيته، {ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا} ، فزوَّج بعضكم
(1)
بعضًا
(2)
.
وقولُه: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} . يقولُ تعالى ذكرُه: وما تحملُ مِن أنثى منكم أيُّها الناسُ مِن حمل، ولا تضعُ
(3)
إلا وهو عالمٌ بحملها إياه
(4)
. ووضعِها، وما هو ذكرٌ أو أنثى، لا يخفَى عليه شيءٌ مِن ذلك.
وقولُه: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ} . اختلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِ ذلك؛ فقال بعضُهم: معناه: وما يُعمَّرُ مِن معمرٍ فيطولُ عمره، ولا يُنقصُ من عمرٍ آخرَ غيرِه عن عمر هذا الذي عُمِّر عمرًا طويلًا، {إِلَّا فِي
(1)
في الأصل: "بعضهم".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 246 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم، وذكره القرطبي في تفسيره 14/ 332 عن سعيد عن قتادة.
(3)
في م، ت 1:"نطفة".
(4)
في الأصل: "أيضاه".
كِتَابٍ} عندَه مكتوبٍ قبلَ أن تحِملَ به أمُّه، وقبلَ أن تضَعَه، قد أحصَى ذلك كلَّه، وعلمه قبلَ أن يخلُقَه، لا يُزادُ فيما كتَب له ولا يُنقَصُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثني عمِّي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ} إلى {يَسِيرٌ} . يقولُ: ليس أحدٌ قضيتُ له طولَ العمرِ والحياةِ إلا وهو بالغٌ ما قدَّرتُ له مِن العمرِ، وقد قضَيتُ ذلك له، فإنما
(1)
ينتهى إلى الكتابِ الذي قدَّرت له، لا يُزادُ عليه، وليس أحدٌ قضَيتُ له أنه قصيرُ العمرِ والحياةِ ببالغٍ العمرَ، ولكن ينتهى إلى الكتابِ الذي كُتِب
(2)
له، [لا يزادُ عليه]
(3)
، فذلك قولُه:{وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ} . يقولُ: كلُّ ذلك في كتابٍ عندَه
(4)
.
حُدِّثْتُ عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: [أخبَرنا عبيدٌ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ} الآيةَ، يقولُ]
(5)
: مَن قضيتُ له أن يُعمَّرَ حتى يُدركَه الكبرُ، أو يُعَمَّرَ أنْقَصَ من ذلك، فكلٌّ بالغٌ أجلَه الذي قد قُضِى له، كلُّ ذلك في كتابٍ
(6)
.
(1)
في م: "وإنما".
(2)
في م، ت 1:"قدرت".
(3)
سقط من: الأصل.
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 525 عن العوفي، عن ابن عباس، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 246 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(5)
سقط من م، ت 1.
(6)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 525.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ} . قال: ألا ترى الناسَ
(1)
؛ الإنسانُ يعيشُ مائة سنةٍ، وآخرُ يموتُ حين يولدُ؟! فهذا هذا
(2)
.
فالهاءُ التي في قولِه: {وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} على هذا التأويلِ، وإن كانت في الظاهرِ أنَّها كنايةٌ عن اسمِ المُعمَّرِ الأَوَّلِ، فهي كنايهُ اسمٍ آخرَ غيرِه، وإنما حسُن ذلك؛ لأن صاحبَها لو أظهِر أظهِر
(3)
بلفظِ الأوَّل، وذلك كقولِهم: عندى ثوبٌ ونصفُه، والمعنى: ونصفُ الآخرِ
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وما يُعمَّرُ مِن معمَّرٍ ولا يُنْقَصُ مِن عمره، بفناءِ ما فنِى من أيامِ حياتهِ، فذلك هو نقصانُ عمرِه. والهاءُ على هذا التأويلِ للمُعَمَّرِ الأَوَّلِ؛ لأن معنى الكلامِ: ما يُطوَّلُ عمرُ أحدٍ، ولا يذهبُ من عمرِه شيءٌ فيُنْقَصَ، إلا وهو في كتابٍ عندَ اللهِ مكتوبٍ، قد [أحصاه وعلمهٍ]
(4)
.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني أبو حَصينٍ عبدُ اللهِ بنُ أحمدَ بن يونسُ، قال: ثنا عبثْرٌ
(5)
، قال: ثنا حصينٌ، عن أبي مالكٍ في هذه الآيةِ:{وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ} . قال: ما يُنقصُ
(6)
مِن أيامِه التي عددتُ له إلا في كتابٍ
(7)
.
(1)
سقط من: الأصل، ت 1.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 525، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 247 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(3)
في م، ت 1:"لظهر".
(4)
في الأصل: "عليه".
(5)
في م: "عبتر". وغير منقوطة في ت 1.
(6)
في م، ت 1:"يقضى".
(7)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 247 إلى المصنف وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
[حدَّثني [ابن سنانٍ القزازُ]
(1)
، قال: حدَّثني الحسينُ بنُ الحسنِ الأشقرُ، قال: حدَّثنا أبو كُدَيْنةَ، عن عطاءِ بن السائبِ، عن سعيدِ بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ في قولِه:{وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} . قال: يُكتبُ نقَص شهرٌ، نقَص شهران، نقَص ثلاثة أشهر، نقَص سنةٌ، نقَص سنتان، نقَص ثلاثُ سنين، حتى يأتىَ على أجلِه فيموت]
(2)
(3)
.
وأولى التأويلين في ذلك عندى بالصوابِ التأويلِ الأوّلُ، وذلك أن ذلك هو أظهرُ معنييه، وأشبهُهما بظاهرِ التنزيلِ.
وقولُه: {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} يقولُ تعالى ذكرُه: إن إحصاءَ أعمارِ خَلْقِه عليه يسيرٌ سهلٌ، طويلُ ذلك وقصيرُه، لا يتعذَّرُ عليه شيءٌ منه.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وما يعتدِلُ البحرانِ فيستويان؛ أحدُهما {عَذْبٌ فُرَاتٌ} ، [والفراتُ هو أعذبُ العذْبِ، {وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ}: يقولُ]
(4)
: والآخرُ منهما {مِلْحٌ أُجَاجٌ} ، وذلك هو ماءُ البحرِ الأخضرِ، والأجاجُ: المر، وهو أشدُّ المياهِ ملوحةً.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه: {وَهَذَا
(1)
في الأصل: "أبو سفيان القرار". والمثبت هو الصواب.
(2)
سقط من: م، ت 1.
(3)
ذكره القرطبي في تفسيره 14/ 333 عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس بنحوه.
(4)
سقط من: الأصل.
مِلْحٌ أُجَاجٌ}. والأُجاجُ: المرُّ
(1)
.
وقولُه: {وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا} . يقولُ: ومِن كلِّ البحارِ تأكلون لحمًا طَرِيًّا، وذلك السمكُ؛ من عذبِهما الفراتِ، ومِلْحِهما الأُجاجِ {وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} يعنى: الدرَّ والمَرْجانَ، تستخرجونها من الملحِ الأُجاجِ. وقد بيَّنا قبلُ وجهَ {وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً} ، وإنما يُستخرَجُ مِن المِلحِ، فيما مضى، بما أغنَى عن إعادتِه
(2)
.
{وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِر} . يقولُ تعالى ذكرُه: وترى السفنَ في كلِّ تلك البحارِ مواخرَ، تمخُرُ الماءَ بصدورِها، وذلك خرقُها إياه إذا مرَّت، واحدتُها ماخرةٌ، يقالُ. منه: مَخَرت تمخُرُ وتمخَرُ مَخْرًا، وذلك إذا شقَّت الماء بصدورِها.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا} [أي: منهما جميعًا]
(3)
، {وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا}: هذا اللؤلؤُ، {وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ}: فيه السفنُ مُقبلة ومُدْبِرةً بريحٍ واحدةٍ
(4)
.
حدَّثنا عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 247 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
ينظر ما تقدم في 14/ 185، 186.
(3)
سقط من: ت 1.
(4)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 354، 2/ 134 عن معمر، عن قتادة ببعضه. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 247 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم، وينظر ما تقدم 14/ 188.
قولَه: {وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ} . يقولُ: جَوارِىَ
(1)
.
وقولُه: {لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} . يقولُ: لتطلُبوا برُكْوبِكم في هذه البحارِ في الفلكِ مِن معايشِكم، ولتتصرَّفوا فيها في تجاراتِكم، وتشكُروا
(2)
الله على تَسْخيرِه ذلك لكم، وما رزَقكم منه مِن طيباتِ الرزقِ، وفاخرِ الحُليِّ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه: يُدْخِلُ الليل في النهار؛ وذلك ما نقَص من الليلِ أدخَله في النهارِ فزادَه فيه، ويولجُ النهارِ في الليلِ؛ وذلك ما نقَص مِن أجزاءِ النهارِ، زادَ في أجزاء الليلِ فأدخَله فيها.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} : زيادةُ هذا في نُقْصَانِ هذا، ونقصانُ هذا في زيادةِ هذا
(3)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعد، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} . يقولُ: هو انتقاصُ أحدهما مِن الآخرِ
(4)
.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره - كما في الإتقان 2/ 12 - من طريق أبي صالح به.
(2)
في الأصل: "لتشكروا".
(3)
تقدم تخريجه 5/ 306، و 18/ 576، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 247، 248 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4)
تقدم تخريجه في 5/ 305.
وقولُه: {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ [وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى} . يقولُ: وأَجْرَى لكم الشمسَ]
(1)
والقمر؛ نعمةً منه عليكم، ورحمةً منه بكم، لتَعْلَموا عددَ السنينَ والحسابَ، وتعرِفوا الليلَ من النهارِ.
وقولُه: {كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى} . يقولُ: كلُّ ذلك يجرى لوقتٍ معلومٍ.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى} : أجلٍ معلومٍ، وحدٍّ لا يَقْصُرُ دونَه ولا يتعدَّاه
(2)
.
وقولُه: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ} . يقولُ: الذي يفعلُ هذه الأفعالَ معبودُكم، أيُّها الناسُ، الذي لا تصلحُ العبادةُ إلا له، وهو اللهُ ربُّكم.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ} . أي: هو الذي يفعلُ هذا
(3)
.
وقولُه: {لَهُ الْمُلْكُ} . يقولُ تعالى ذكرُه: له الملكُ التامُّ الذي لا ينبغى
(4)
إلا وهو في مُلْكِه وسلطانِه.
(1)
سقط من: الأصل.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 247، 248 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم، وينظر ما تقدم في 18/ 576.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 247، 248 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4)
في م، ت 1:"شيء".
وقولُه
(1)
: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} . يقولُ تعالى ذكرُه: والذين تعبُدون أيُّها الناسُ مِن دونِ ربِّكم الذي هذه الصفةُ - التي ذكَرها في هذه الآياتِ؛ الذي له المُلْكُ الكامل الذي لا يُشْبِهُه مُلْكُ - صفتُه
(2)
، {مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ}. يقولُ: ما يملكون قِشْرَةَ نواةٍ فما فوقَها.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيم، قال: ثنا هُشَيمٌ، قال: أخبَرنا عوفٌ، عمن حدَّثه، عن ابن عباسٍ قوله:{مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} . قال: هو [جلدُ النواةِ]
(3)
.
[حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسِ قولِه: {مِنْ قِطْمِيرٍ}. يقولُ: الجلد الذي يكونُ على ظهرِ النواةِ]
(4)
(5)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعد، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قوله:{مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} . يعنى: قِشرِ النواةِ.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ
(1)
في الأصل: "قرأ".
(2)
ليست في: الأصل.
(3)
ليس في: الأصل.
(4)
في الأصل: "الجلد الذي يكون على ظهر النواة"، ويبدو أن الناسخ قد أدخل سند هذا الأثر في متن الأثر التالي، والله أعلم.
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 248 إلى المصنف وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
في قولِ اللهِ: {مِنْ قِطْمِيرٍ} قال: لِفافَةِ النواةِ كسَحاةِ
(1)
البيضةِ
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ في قولِه:{مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} . والقِطْمِيرُ: القشرة التي على رأسِ النواةِ
(3)
.
حدَّثنا عمرُو بنُ عبدِ الحميدِ، قال: ثنا مرْوانُ بنُ معاويةَ، عن جُوَيبرٍ، عن بعضِ أصحابِه في قولِه:{مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} . قال: هو القَمْعُ الذي يكونُ على التمرةِ
(4)
.
حدَّثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو عامرٍ، قال: ثنا قُرَّةُ، عن عطية، قال: القِطْمِيرُ: قشرُ النواةِ
(5)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)} .
قوله: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} . يقولُ تعالى ذكرُه: إن تَدْعوا أيُّها الناسُ هؤلاء الآلهةَ التي تعبُدونها مِن دونِ اللهِ، لا يسمَعوا دعاءَكم؛ لأنها جمادٌ لا تفهَمُ عنكم ما تقولون، {وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ}. يقولُ: ولو سمِعوا دعاءَكم إيَّاهم، وفهِموا عنكم أيضًا
(6)
قولَكم، بأن جعَل لهم سمعًا
(7)
يسمَعون به، ما استَجابوا لكم؛ لأنها ليست ناطقةً، وليس كلُّ
(1)
السحاة: ما انقشر من الشيء. اللسان (س ح و).
(2)
تفسير مجاهد ص 557 ومن طريقه الفريابي - كما في التغليق 4/ 290 وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 248 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 527.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 248 إلى المصنف وابن المنذر عن الضحاك، وينظر البحر المحيط 7/ 305.
(5)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 527.
(6)
في م، ت 2:" أنها"، وفي ت 1:"انهاء".
(7)
في م، ت 1، ت 2:"سمع".
سامعٍ قولًا مُتَيَسِّرًا له الجوابُ عنه. يقولُ تعالى ذكرُه للمشركين به الآلهةَ والأوثانَ: فكيف تعبُدون مِن [دونى ما كانت]
(1)
هذه صفته، وهو لا نفعَ لكم عندَه، ولا قُدْرةَ له على ضَرِّكم، وتَدعون عبادةَ الذي بيدِه نفعُكم وضَرُّكم، وهو الذي خلَقكم وأنعَم عليكم؟!
وبنحوِ الذي قلْنا في تأويلِ ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} . أي: ما قَبِلوا ذلك عنكم، ولا نفَعوكم فيه
(2)
.
وقولُه: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} يقولُ تعالى ذكرُه للمشركين مِن عَبَدةٍ الأوثانِ: ويومَ القيامةِ تَتَبرَّأُ آلهتُكم التي تعبُدونها مِن دونِ اللَّهِ، مِن أن تكونَ كانت للهِ شريكًا في الدنيا.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} إيَّاهم ولا يرضَون
(3)
، ولا يُقِرُّون به (2).
وقولُه: {وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} . يقولُ تعالى ذكرُه: ولا يُخبرك يا محمدُ عن آلهةِ هؤلاء المشركين، وما يكونُ مِن أمرِها وأمرِ عَبَدَتِها يومَ القيامةِ، مِن تَبَرُّئِها منهم وكفرِها بهم - مثلُ ذى خِبْرةٍ بأمرها وأمرِهم، وذلك الخبيرُ هو الله الذي لا
(1)
في م: "من دون الله مِن".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 248 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
بعده في الأصل: "به".
يَخْفى عليه شيءُ كان أو يكونُ، سبحانَه.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} : واللهُ هو الخبيرُ أنه سيكونُ هذا [مِن أمرِهم]
(1)
يومَ القيامةِ
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15)} .
قال أبو جعفرٍ، رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه: يا أيها الناسُ أنتم أُولو الحاجةِ والفقرِ إلى ربِّكم، فإيَّاه فاعبُدوا، وفى رِضاه فسارِعوا، يُغْنِكُم مِن فقركم، ويُنْجِحْ لدَيه حوائجَكم، {وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ} عن عبادتكم إيَّاه، وعن خدمتِكم، وعن غيرِ ذلك مِن الأشياء منكم ومِن غيرِكم، {الْحَمِيدُ}. يعني: المحمودُ على نِعَمِه؛ فإن كلَّ نعمةٍ بكم وبغيركِم فمنه؛ فله الحمدُ والشكرُ بكلِّ حالٍ.
يقولُ الله تعالى ذكرُه: إن يشأ يُهْلِكُكم أيُّها الناسُ رَبُّكم؛ لأنه أنشَأكم مِن غيرِ ما حاجةٍ به إليكم، {وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ}. يقولُ: ويأتِ بخلقٍ سواكم يُطِيعونه،
(1)
في م: "منهم"، وفي ت 1:"من أمورهم".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 248 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
ويَأْتَمرون لأمرِه، ويَنْتَهون عما نَهاهم عنه.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} . أي: ويأتِ بغيرِكم
(1)
.
وقولُه: {وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} يقولُ: وما إذهابُكم والإتيانُ بخلقٍ سِواكم على اللهِ بشديدٍ، بل ذلك عليه يسيرٌ سهلٌ، يقولُ: فاتَّقوا اللَّهَ أَيُّها الناسُ، وأطِيعوه
(2)
قبلَ أن يفعلَ بكم
(3)
ذلك.
وقولُه: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} . يقولُ تعالى ذكرُه: ولا تحمِلُ آثمةٌ إثمَ أخرى غيرِها، {وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى}. يقولُ تعالى ذكرُه: وإن تسألْ ذاتُ ثِقْلٍ مِن الذنوبِ مَن يحملُ عنها ذنوبَها وتطلب ذلك، لم تَجِدْ مَن يحمِلُ عنها شيئًا منها، ولو كان الذي سألَتْه ذلك ذا قَرابةٍ له مِن أبٍ أو [ابنٍ أو]
(4)
أخٍ.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعد، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قوله:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} . يقولُ: يكون عليه وزْرٌ، لا يجد أحدًا يحمل
(1)
تقدم تخريجه 7/ 582، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 74 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر: بلفظ: "بخلق آخر".
(2)
ليست في: الأصل.
(3)
ليست في: م.
(4)
سقط من: م، ت 1.
عنه مِن وزرِه شيئًا
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ} ذُنوبًا
(2)
{إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ} : كنحوِ: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}
(3)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا} : [إلى ذنوبِها]
(4)
، {لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ [وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} . أي]
(5)
: قريبَ القرابةِ منها، لا يَحملُ مِن ذنوبه
(6)
، ولا تحملُ على غيرِها مِن ذنوبها شيئًا قال:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}
(7)
.
ونصبُ {ذَا قُرْبَى} على تمامِ كان؛ لأن معنى الكلامِ: ولو كان الذي تسألُه أن يحملَ عنها ذنوبها ذا قُرْبى لها. وأُنِّثت {مُثْقَلَةٌ} ؛ لأنه ذهَب بالكلامِ إلى النَّفْسِ، كأنه قيل: وإن تَدْعُ نفسٌ مثقلةٌ مِن الذنوبِ إلى حملِ ذنوبِها. وإنما قيل كذلك؛ لأن النفسَ تؤدِّى عن الذكرِ والأنثى، كما قيل:{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185]. يعنى بذلك كلَّ
(8)
ذكرٍ وأنثى
(9)
.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 248 إلى المصنف وابن أبي حاتم
(2)
في الأصل: "ذنوب"، وسقطت من: م.
(3)
تفسير مجاهد ص 557 ومن طريقه الفرياني - كما في التغليق - 4/ 290 وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 248 إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم.
(4)
ليس في: الأصل، ت 1.
(5)
ليس في: الأصل. وينظر مصدر التخريج.
(6)
في الأصل: "شيء"، وينظر مصدر التخريج.
(7)
بعده في الأصل: "فيعبد الله"، والأثر عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 248، 249 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن أبي حاتم.
(8)
في الأصل: "نفس تدلك على".
(9)
ينظر معاني القرآن 2/ 368.
وقولُه: {إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} . يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم: إنما تنذِرُ يا محمدُ الذين يخافون عذابَ
(1)
اللهِ يومَ القيامةِ، مِن غيرِ مُعاينةٍ منهم لذلك، ولكن لإيمانهم بما أتيتَهم به، وتَصْديقِهم لك
(2)
فيما أنبَأتَهم عن اللهِ، فهؤلاء الذين ينفعُهم إنذارُك، ويَتَّعِظون بمَواعظِك، لا الذين طَبَعَ اللهُ على قلوبِهم فهم لا يَفْقَهون.
كما
(3)
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} . أي: يَخْشَوْن النارَ والحسابَ
(4)
.
وقولُه: {وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} . يقولُ: وأدَّوا الصلاةَ المفروضةَ بحدودِها، على ما فرَضها الله عليهم
(5)
.
وقولُه: {وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ} . يقولُ تعالى ذكرُه: ومَن يتَطهَّرْ مِن دَنَسِ الكفر والذنوبِ، بالتوبة إلى الله، والإيمان به، والعمل بطاعته، فإنما يتطهَّرُ لنفسه، وذلك أنه يُكسبُها
(6)
به رضا اللهِ، والفوزَ بجِنانِه، والنجاةَ مِن عقابِه الذي أعَدَّه لأهلِ الكفرِ به.
(1)
في م، ت 1، ت 2:"عقاب".
(2)
في الأصل: "بذلك".
(3)
في الأصل: "كلمة".
(4)
سقط مِن: م، ت 1، ت 2، والأثر عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 248، 249 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن أبي حاتم.
(5)
في الأصل: "عليه".
(6)
في م ت: "يثيبها"، وفى ت 1:"يلبسها".
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ} . أي: مَن يعملْ صالحًا فإنما يعملُه لنفسِه
(1)
.
وقولُه: {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} . يقولُ: وإلى اللهِ مصيرُ كلِّ عاملٍ منكم أيُّها الناسُ؛ مؤمنكم وكافرِكم، وبَرِّكم وفاجرِكم، وهو مُجازٍ جميعَكم بما قدَّم مِن خيرٍ أو شرٍّ على ما هو
(2)
أهلٌ، منه.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23)} .
قال أبو جعفرٍ: يقولُ تعالى ذكرُه: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى} ، عن دينِ اللَّهِ الذي به ابتَعث نبيِّه محمدًا صلى الله عليه وسلم {وَالْبَصِيرُ} به
(3)
، الذي قد أبصَر فيه رُشْدَه، واتَّبَع محمدًا وصدَّقه، وقَبِل عن اللهِ ما ابتَعثه به،
{وَلَا الظُّلُمَاتُ} . يقولُ: وما يَستوِى ظلماتُ الكفرِ، ونورُ الإيمانِ،
{وَلَا الظِّلُّ} . قيل: ولا الجنةُ. {وَلَا الْحَرُورُ} . قيل: النارُ. كأن معناه عندَهم: ولا تَسْتوى الجنةُ ولا النارُ. والحرُورُ بمنزلةِ السَّموم، وهى الرياحُ الحارَّةُ.
وذكَر أبو عبيدةَ، مَعْمَرُ بنُ المُثَنَّى
(4)
، عن رُؤْبةَ بن العَجَّاجِ، أنه كان يقولُ: الحرورُ بالليلِ والسَّمومُ بالنهارِ. وأما أبو عبيدةَ فإنه قال: الحَرورُ في هذا الموضعِ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 248، 249 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن أبي حاتم
(2)
سقط من: م.
(3)
ليست في: م، ت 1، ت 2.
(4)
مجاز القرآن 2/ 154.
بالنهارِ مع الشمسِ. وأما الفراءُ فإنه كان يقولُ: الحرورُ يكونُ بالليلِ والنهارِ والسَّموم لا يكونُ بالليلِ، إنما يكونُ بالنهارِ.
والصوابُ في ذلك عندنا، أن الحرورَ يكونُ بالليلِ والنهارِ، غيرَ أنه يكونُ
(1)
في هذا الموضعِ بأن يكونَ كما قال أبو عُبَيدةَ، أشبهَ، مع الشمسِ؛ لأن الظلَّ إنما يكونُ في يومِ شمسٍ، فذلك يدلُّ على أنه أُريدَ بالحَرورِ: الذي يوجدُ في حالِ وجودِ الظلِّ.
وقولُه: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ} . يقولُ: وما يَسْتوى الأحياءُ القلوبِ بالإيمانِ باللهِ ورسولِه، ومعرفةِ تنزيلِ اللهِ، ولا
(1)
الأمواتُ القلوبِ لغَلَبةِ الكفرِ عليها، حتى صارت لا تعقلُ عن اللهِ أمرَه ونهيَه، ولا تعرفُ الهُدى مِن الضلالِ. وكلُّ هذه أمثالٌ ضرَبها الله للمؤمنِ والإيمانِ، والكافرِ والكفرِ.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعد، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} إلى آخرِ الآيةِ. قال: هو مَثَلٌ ضرَبه اللَّهُ لأهلِ الطاعةِ وأهلِ المعصيةِ، يقولُ: وما يَسْتوى الأعمى والظلماتُ، والحرورُ ولا الأمواتُ، فهو مَثَلُ أهلِ المعصيةِ، ولا يَسْتوى البصيرُ ولا النورُ، ولا الظلُّ والأحياء، فهو مَثَلُ أهلِ الطاعةِ.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَمَا يَسْتَوِي}
(1)
سقط من: م، ت 1.
الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} الآية: خَلْقًا فُضِّل بعضُه
(1)
على بعض؛ فأما المؤمنُ فعبدٌ
(2)
حيُّ الأثَرِ، حيُّ البصرِ، حيُّ النيةِ، حيُّ العمل
(3)
، وأما الكافرُ فعبدٌ ميتٌ؛ ميتُ البصرِ: ميتُ القلبِ، ميتُ العملِ
(4)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ} . قال: هذا مَثَلٌ ضرَبه اللهُ؛ فالمؤمنُ بصيرٌ في دينِ اللهِ، والكافرُ أعمى، كما لا يَسْتوى الظلُّ ولا
(5)
الحرورُ، ولا الأحياءُ ولا الأمواتُ، فكذلك لا يَسْتوى هذا المؤمنُ الذي يُبْصِرُ دينه، ولا هذا الأعمى. وقرَأ:{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} [الأنعام:122]. قال: الهُدى الذي هداه اللهُ به، ونوَّره
(6)
له، هذا مَثَلٌ ضرَبه اللهُ لهذا المؤمنِ الذي يُبْصِرُ دينَه، وهذا الكافرِ الأعمى
(7)
، فجعَل المؤمنَ حَيًّا، وجعَل الكافرَ ميتًا؛ ميتَ القلبِ، {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام: 122]. قال: هَديناه إلى الإسلامِ، {كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ} . أعمى القلبِ، وهو في الظلماتِ، [أهذا وهذا سواءٌ]
(8)
؟!
واختلَف أهلُ العربيةِ في وجهِ دخولِ "لا" مع حروفِ
(9)
العطفِ في قولِه:
(1)
في الأصل: "بعضها".
(2)
بعده في م، ت 1:"حي".
(3)
في الأصل: "العقل".
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 4/ 1296 (7323، 7325) من طريق يزيد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 248، 249 إلى المصنف وعبد بن حميد، وتقدم تخريجه 9/ 257.
(5)
ليس في الأصل.
(6)
في م، ت 1:"نور".
(7)
ليس في الأصل، وفي ت 1:"أعمى".
(8)
في الأصل: "أهدى وهذا سواه".
(9)
في م، ت 1:"حرف".
{وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ} . فقال بعضُ نحويِّي البصرة: قال: {وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ} ، فيُشْبِهُ أن تكونَ "لا" زائدةٌ؛ لأنك لو قلت: لا يَسْتوى عمرٌو ولا زيدٌ. في هذا المعنى، [لم يكنْ]
(1)
إلا أن تكونَ
(2)
زائدةً، وكان غيرُه يقولُ: إذا لم تدخل "لا" مع "الواو"، فإنما لم تدخل اكتفاءً بدخولها في أولِ الكلامِ، وإذا أُدخِلت فإنه يرادُ بالكلامِ أن كلَّ واحدٍ منهما لا يُساوى صاحبَه. فكان معنى الكلامِ إذا أُعيدت "لا" مع "الواو "عندَ صاحبِ هذا القولِ: لا يُساوى الأعمى البصيرَ، ولا
(3)
البصير الأعمى، فكلُّ واحدٍ منهما لا يُساوى صاحبَه.
وقولُه: {إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُور} . يقولُ تعالى ذكرُه: [إن الله يعظُ بكتابِه وتنزيلِهَ مِن يشاءُ مِن خلقه؛ حتى يتعظَ به ويعتبرَ وينقاد للحقِّ ويؤمنَ به، وما أنت يا محمدُ بمُسمِعٍ]
(4)
مِن في القبورِ، كتابَ اللهِ فتهديَهم به إلى سبيلِ الرشادِ، فكذلك لا تقدرُ أن تنفعَ بمواعظِ كتابِ
(5)
اللهِ، وبيناتِ
(6)
حُجَجه، مَن كان ميتَ القلبِ مِن أحياءِ عبادِه، عن معرفةِ اللَّهِ، وفَهْمِ كتابه وتنزيله، وأوضحِ
(7)
حُجَجِه.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ}
(1)
في م: "لم يجز"، وفي ت 1:"لا يجوز".
(2)
بعده في م، ت 1:"لا"
(3)
بعده في م، ت 1:"يساوى".
(4)
في م: "كما لا يقدر أن يسمع"، وفى ت 1:"كما لا تقدر أن تسمع".
(5)
سقط من: م، ت 1.
(6)
في م: "بيان".
(7)
في م، ت 1:"واضح".
مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ}: [كما لا يسمع مِن في القبورِ]
(1)
، كذلك الكافر لا يسمعُ ولا ينتفع بما يسمعُ
(2)
.
وقولُه: {إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ} . يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: ما أنت إلا نذيرٌ، تُنْذِرُ هؤلاء المشركين باللهِ، الذين طبَع اللهُ على قلوبِهم، ولم يُرْسِلك ربُّك إليهم إلا لتُبَلِّغ
(3)
رسالتَه، ولم يُكلِّفْك مِن الأمرِ ما لا سبيلَ لك إليه، فأما اهتداؤُهم وقَبولُهم منك ما جئتَهم به، فإن ذلك بيدِ اللهِ لا بيدِك، ولا بيدِ غيرِك مِن الناسِ، فلا تَذهبْ نفسُك عليهم حَسَراتٍ، إن هم لم يَسْتَجيبوا لك.
قال أبو جعفرٍ اللهُ: يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ} يا محمد {بِالْحَقِّ} . [يعني: بالدِّينِ الحقِّ]
(4)
، وهو الإيمانُ باللهِ، وشرائعِ الدينِ التي افترَضها على عبادِه، {بَشِيرًا}. يقولُ: مُبَشِّرًا بالجنةِ مَن صدَّقك، وقَبل منك ما جئتَه
(5)
به مِن عندِ اللهِ مِن النصيحةِ، {وَنَذِيرًا}: تُنذِرُ النارَ
(6)
مَن كذَّبك ورَدَّ عليك ما جئتَه (5) به مِن عندِ اللَّهِ مِن النصيحةِ؛ {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ
(1)
سقط من: م، ت 1.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 249 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن أبي حاتم.
(3)
في م، ت 1:"لتبلغهم".
(4)
سقط من: م.
(5)
في م، ت 1:"جئت".
(6)
في م: "الناس".
إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ}
(1)
. يقولُ: وما مِن أمةٍ مِن الأممِ الحاليةِ
(2)
الدائنةِ بمِلَّةِ، إلا خَلا فيها مِن قبلك [نذيرٌ، ينذرُهم]
(3)
بأسَنا على كفرِهم باللهِ.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} : كلُّ أمةٍ كان لها رسولٌ
(4)
.
وقولُه: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} . يقولُ تعالى ذكرُه، مُسَلَّيًا نبيِّه صلى للهُ عليه وسلم فيما يَلْقَى مِن مُشرِكى قومِه مِن التكذيبِ:{وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ} يا محمدُ، مُشرِكو قومِك، {فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} مِن الأم الذين
(5)
{جَاءَتْهُمْ} رسلُنا
(6)
، {بِالْبَيِّنَاتِ}. يقولُ: بحُجَجٍ مِن اللهِ واضحةٍ، {وَبِالزُّبُرِ}. يقولُ: وجاءتْهم بالكتبِ مِن عندِ اللَّهِ.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ} . أي: الكتبِ.
وقولُه: {وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} . يقولُ: وجاءهم مِن اللهِ الكتابُ المنيرُ لمَن تأمَّله وتدبرَّه، أنه الحقُّ.
كما حدَّثنا بشرٌ قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} : يُضَعِّفُ
(7)
الشيءَ وهو واحد.
(1)
ليس في: الأصل.
(2)
سقط مِن: م، ت 1.
(3)
في الأصل: "نذيرا تنذرهم".
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 249 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن أبي حاتم.
(5)
ليس في: الأصل.
(6)
في م: "رسلهم".
(7)
قوله: يضعف، يريد التكرار، واللهُ أعلم. وقد ذكر البغوي في تفسيره أن تكرار الكتاب بعد الزبر على طريق التأكيد، وذكر القرطبي أنه تكرار لاختلاف اللفظين. البغوي 6/ 418، القرطبي 14/ 341.
وقولُه: {ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} . يقولُ تعالى ذكرُه: ثم أَهْلَكْنا الذين جَحَدوا رسالةَ
(1)
رُسُلنا، وحقيقةَ ما دعَوهم إليه مِن آياتِنا، وأصرُّوا على جُحُودِهم، {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ}. يقولُ: فانظُرْ
(2)
يا محمدُ كيف كان تَغْيِيرى لهم
(3)
وحلولُ عُقوبتى بهم
(4)
.
يقولُ تعالى ذكرُه: ألم تر يا محمد أن الله أَنْزَلَ مِن السماءِ {مَاءً}
(5)
: غيثًا، {فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا}. يقولُ: فسقيناه أشجارًا في الأرضِ، فأخرَجْنا به مِن تلك الأشجارِ ثمراتٍ مختلفًا ألوانها؛ منها الأحمرُ، ومنها الأسودُ، والأصفرُ، وغيرُ ذلك مِن ألوانها. {وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ}. يقولُ تعالى ذكرُه: ومِن الجبالِ طرائقُ، وهى الجُدَدُ؛ وهى الخُطَطُ
(6)
تكونُ في الجبالِ، بيضٌ وحمرٌ وسودٌ، كالطرقِ، واحدتُها جُدَّةٌ، ومنه قوُل امرئ القيسِ
(7)
في صفةِ حمارٍ:
(1)
في الأصل: "رسالته"، وفي ت 1:"آياتنا ورسالة".
(2)
في الأصل: "فانظروا".
(3)
في م، ت 1:"بهم"
(4)
بعده في ت 1: "لا رب سواه".
(5)
سقط مِن: م، ت 1.
(6)
في الأصل: "الخلط"، وعنى بالخطط الجددَ لا الطرائق. وينظر معاني القرآن للفراء 2/ 369.
(7)
ديوانه ص 181.
كأنَّ سَرَاتَهُ وَجُدَّةَ مَتْنِهِ
…
كَنائِنُ يَجْرى فَوْقَهُنَّ دَلِيصُ
(1)
.
يعنى بالجُدَّة: الخُطَّةَ السوداءَ تكونُ في متنِ الحمارِ.
وقولُه: {مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا} . يعني: مختلفٌ ألوانُ الجُدَدِ، {وَغَرَابِيبُ سُودٌ} ، وذلك مِن المقدَّمِ الذي هو بمعنى التأخيرِ، وذلك أن العربَ تقول: هو أسودُ غربيبٌ. إذا وصَفوه بشدةِ السوادِ، وجُعل ههنا السواد صفةً للغرابيبِ. وقولُه:{وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ [كَذَلِكَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: ومن الناسِ والدوابِّ والأنعامِ مختلفٌ ألوانُه]
(2)
، كما مِن الثمراتِ والجبالِ مختلِفٌ ألوانُه؛ بالحمرةِ والبياضِ والسوادِ والصفرةِ، وغيرِ ذلا وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، في قولِه:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا} : أحمرُ وأَخضرُ وأصفرُ، {وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ}: أي طرائق بيضٌ، {وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا}: أي جبالٌ حمرٌ
(3)
، {وَغَرَابِيبُ سُودٌ}: هو الأسودُ، يعنى لونَه، كما اختلَف ألوانُ هذه و
(4)
اختلَف ألوانُ الناسِ والدوابِّ والأنعامِ كذلك
(5)
.
(1)
سراته: ظهره، وجدة ظهره: الخط الذي في وسط ظهره، وكنائن، جمع كنانة، وهى الجعاب، ودليص: ذهب له بريق؛ شبَّه الخط الذي على ظهره بجعاب مذهبة. المصدر السابق.
(2)
سقط مِن: م، ت 1.
(3)
بعده في م: "وبيص".
(4)
سقط من: م، ت 1.
(5)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 135 عن معمر عن قتادة، مختصرا، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 249 إلى المصنف وعبد بن حميد.
حُدِّثْتُ عن الحسين، قال: سمعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبَرنا عبيدٌ، قال: سمِعْتُ الضحاكَ يقولُ في قوله: {وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ} : طرائقُ؛ بيضٌ وحمرٌ وسودٌ، وكذلك الناسُ مختلفٌ ألوانُهم.
حدَّثنا عمرُو بنُ عبدِ الحميدِ الآمُلِيُّ
(1)
، قال: ثنا مَرْوانُ، عن جُوَيْبِرٍ، عن الضحاكِ قولَه:{وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ} . قال: هي طرائقُ؛ حمرٌ وسودٌ.
وقولُه: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} . يقولُ تعالى ذكرُه: إنما يخافُ اللَّهَ فيَتَّقِى عقابَه بطاعتِه، العلماءُ؛ بقدرتِه على ما يشاءُ مِن شيءٍ، وأنه يفعلُ ما يريدُ؛ لأن مَن علم ذلك، أيقَن بعقابِه على معصيتِه، فخافه ورهِبه؛ خشيةً منه أن يُعاقِبَه.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا عبدُ اللهِ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قوله:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} . قال: الذين يَعْلَمون أن الله على كلِّ شيءٍ قديرٌ
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادَةَ:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} . قال: كان يقالُ: كفى بالرهبةِ علمًا
(3)
.
(1)
في الأصل: "الابلى". وقد تقدم في 3/ 500.
(2)
أخرجه اللالكائي في السنة (945) من طريق أبي صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 250/ 5 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
أخرجه أبو نعيم في الحلية 2/ 335 من طريق آخر عن قتادة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 249 إلى عبد بن حميد.
وقولُه: {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} . يقولُ تعالى ذكرُه: إن الله {عَزِيزٌ} في انتقامِه ممن كفَر به، {غَفُورٌ} لذنوبِ مَن آمَن به وأطاعَه.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: إن الذين يقرَءون كتاب الله الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم. {وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} . يقولُ: وأدَّوا
(1)
الصلاةَ المفروضةَ لمواقيتِها بحدودِها. وقال: {وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} . بمعنى: ويقيمون
(2)
الصلاةَ.
وقولُه: {وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً} . يقولُ: وتصدَّقوا بما أعطيناهم من الأموالِ، {سِرًّا}: في خفاءٍ، {وَعَلَانِيَةً}: جهارًا. وإنما معنى ذلك أنهم يؤدُّون زكاةَ ذلك
(3)
المفروضةَ، ويتطوَّعون أيضًا بالصدقةِ منه بعد أداءِ الفرضِ الواجبِ عليهم فيه. وقولُه:{يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: يرجون بفعلِهم
(4)
ذلك تجارةً لن تبورَ. يعنى: لن تكْسُدَ ولن تَهْلِكَ، من قولِهم: بارتِ السوقُ. إذا كسَدتْ، وبار الطعامُ. وقولُه: [{تِجَارَةً} . جوابٌ لأوَّلِ الكلامِ.
وقولُه]
(5)
{لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ} . يقولُ: ويوفيهم اللهُ على فعلِهم ذلك، ثوابَ أعمالِهم التي عمِلوها في الدنيا، {وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ}. يقولُ: وكى يزيدَهم على الوفاءِ مِن فضلِه، ما هو له أهلٌ. وكان مُطَرِّفُ بنُ عبدِ اللَّهِ
(1)
في الأصل: "وأقاموا أدوا"، وفي ت 1:"وأداموا".
(2)
في م: "ويقيموا"، وبعده في الأصل:"الصلاة المفروضة لمواقيتها بحدودها".
(3)
سقط من: م.
(4)
في الأصل: "بفعالهم".
(5)
سقط من: الأصل. وينظر معاني القرآن للفراء 2/ 369.
يقولُ: هذه آيةُ القراءِ.
حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا عمرُو بنُ عاصمٍ، قال: ثنا معتمرٌ، عن أبيه، عن قتادةَ، قال: كان مطرفٌ إذا مرَّ بهذه الآيةِ: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ} . يقولُ: هذه آيةُ القراءِ
.
حدَّثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن يزيدَ، عن مُطَرِّفُ بن عبدِ اللهِ، أنه قال في هذه الآيةِ:{إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ} إلى آخرِ الآيةِ، قال: هذه آيةُ القراءِ
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، قال: كان مُطَرِّفُ بنُ عبدِ اللَّهِ يقولُ: هذه آيةُ القراءِ: {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} .
وقولُه: {إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} . يقولُ: إن الله غَفُورٌ لذنوبِ هؤلاء القومِ الذين هذه صفتُهم، شَكُورٌ لحسناتِهم.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} . إنه غفورٌ لذنوبهِم، شَكُورٌ لحسناتِهم
(3)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31)} .
أخرجه ابن المبارك في الزهد (794)، وأبو نعيم في الحلية 2/ 203 من طريق آخر عن قتادة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 251 إلى عبد بن حميد ومحمد بن نصر وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة 13/ 476، 477، وأبو نعيم 2/ 203 من طريق محمد بن جعفر به، وأخرجه ابن المبارك في الزهد (794) من طريق شعبة به.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 251 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن أبي حاتم.
(1)
يقولُ تعالى ذكرُه: {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ} يا محمدُ، وهو هذا القرآنُ الذي أنْزَله اللهُ عليه، {هُوَ الْحَقُّ}. يقولُ: هو الحقُّ، عليك وعلى أمتِك أن تَعْمَلَ به، وتَتَّبعَ ما فيه دونَ غيِره مِن الكتبِ التي أُوحِيَت إلى غيرِك، {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ}. يقولُ: هو يُصَدِّقُ ما مضَى بين يديْه فصار أمامَه، من الكتبِ التي أنْزَلْتُها إلى مَن قبلَك مِن الرسلِ.
كما حدَّثنا بشرٌ قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} . للكتبِ التي خلَتْ قبلَه
(1)
.
وقولُه: {إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ} . يقولُ تعالى ذكرُه: إن الله بعبادِه لَذو علمٍ وخبرةٍ بما يَعْمَلون، بصيرٌ بما يُصْلِحُهم مِن التدبيرِ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)} .
اخْتَلَف أهلُ التأويلِ في معنى الكتابِ الذي ذكَر اللهُ في هذه الآيةِ أنه أَوْرَثه الذين اصْطَفاهم مِن عبادِه، ومَن المُصْطَفَوْنَ
(2)
مِن عبادِه، والظالمُ لنفسِه؛ فقال بعضُهم: الكتابُ هو الكتبُ التي أنْزَلها اللهُ مِن قبلِ الفُرقانِ، والمصطَفَوْنَ مِن عبادِه أمةُ محمدٍ، والظالمُ لنفسِه أهلُ الإجرامِ منهم.
(1)
تقدم في 5/ 181.
(2)
في الأصل، ت 1:"المصطفين".
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا عليٌّ، قال: ثنا أبو صالح، قال:[ثني معاويةُ، عن]
(1)
عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ} إلى قولِه: {الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} . هم أمةُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم ورَّثهم اللهُ كلَّ كتابٍ أنْزَله؛ فظالِمُهم يُغفَرُ له، ومُقْتَصِدُهم يُحاسَبُ
(2)
حسابًا يسيرًا، وسابِقُهم يَدْخُلُ الجنةَ بغيرِ حسابٍ
(3)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا الحكمُ بنُ بَشيرٍ، قال: ثنا عمرُو بنُ قيسٍ، عن عبدِ اللهِ بن عيسى، عن يزيدَ بن الحارثِ، عن شَقيقٍ
(4)
أبي وائلٍ، عن عبدِ اللَّهِ بن مسعودٍ أنه قال: هذه الأُمَّةُ ثلاثةُ أثلاثٍ يومَ القيامةِ؛ ثُلُثٌ يَدْخُلون الجنةَ بغيرِ حسابٍ، وثلُثٌ يُحاسَبون حسابًا يسيرًا، وثُلُثٌ يَجِيئون بذنوبٍ عِظامٍ، حتى يقولَ: ما هؤلاء؟ وهو أعلمُ تبارك وتعالى، فتقولُ الملائكةُ: هؤلاء جاءوا بذنوبٍ عِظامٍ، إلا أنهم لم يُشْرِكوا بك. فيقولُ الربُّ: أدْخِلوا هؤلاء في سَعةِ رحمتى. وتلا عبدُ اللهِ هذه الآيةَ: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا}
(5)
.
حدَّثنا [حُميدُ بنُ مَسْعَدةَ]
(6)
، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُرَيْعٍ، قال: ثنا عوفٌ
(7)
، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ الحارثِ بن نوفلٍ، قال: ثنا كعبُ الأخبارِ أن الظالمَ لنفسِه مِن هذه الأمةِ،
(1)
سقط من: الأصل.
(2)
في الأصل: "يحاسبهم"، وفي ت 1:"يحاسبه".
(3)
أخرجه البيهقى في البعث والنشور (73) من طريق أبي صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 251 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.
(4)
بعده في م: "عن"، وينظر تهذيب الكمال 12/ 548.
(5)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 534 عن المصنف، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 251 إلى المصنف.
(6)
في الأصل: "محمد بن مسعود"، وينظر تهذيب الكمال 7/ 395.
(7)
في م: "عون".
والمُقْتَصِدَ، والسابقَ بالخيراتِ كلُّهم في الجنةِ، ألم تَرَ أن الله قال:{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} إلى قوله: {كُلَّ كَفُورٍ}
(1)
.
حدَّثني عليُّ بنُ سعيدٍ
(2)
الكِنْديُّ، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ المباركِ، عن عوفٍ، عن عبدِ اللهِ بن الحارثِ بن نوفلٍ، قال: سمِعْتُ كعبًا يقولُ: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} . قال: كلُّهم في الجنةِ. وتلا هذه الآيةَ: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} .
حدَّثنا الحسنُ بنُ عرفةَ، قال: ثنا مروانُ بنُ معاويةَ الفَزاريُّ، عن عوفِ بن أبى جَميلةَ
(3)
، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ الحارثِ بن نوفلٍ، قال: ثنا كعبٌ، أن الظالمَ مِن هذه الأمةِ، والمقتصدَ، والسابقَ بالخيراتِ كلُّهم في الجنةِ، ألم تَرَ أن الله قال:{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} إلى قولِه: {لُغُوبٌ} ، {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ}. قال: قال كعبٌ: فهؤلاء أهلُ النارِ
(4)
.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابن عليةَ، عن عوفٍ، قال: سَمِعْتُ عبدَ اللَّهِ بنَ الحارثِ يقولُ: قال كعبٌ: إن الظالمَ لنفسِه، والمقتصدَ، والسابقَ بالخيراتِ مِن هذه الأمةِ كلُّهم في الجنةِ، ألم تَرَ أن الله يقولُ:{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} . حتى بلَغ قولَه: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} .
(1)
أخرجه الحسين المروزى في زوائده على زهد ابن المبارك (1571) عن يزيد بن زريع به.
(2)
في الأصل: "مسعود"، وينظر تهذيب الكمال 20/ 450.
(3)
في م: "جبلة".
(4)
أخرجه البيهقى في البعث (70) من طريق مروان بن معاوية به، وأخرجه الثوري في تفسيره ص 246، والبيهقى في البعث (71) من طريق عوف به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 252 إلى سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا ابن عُلَيةَ، قال: أخبَرنا حميدٌ، عن إسحاقَ بن عبدِ اللهِ بن الحارثِ، عن أبيه، أن ابنَ عباسٍ سأَل كعبًا عن قولِه تعالى:{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} إلى قولِه: {بِإِذْنِ اللَّهِ} . فقال: تَماسَّت مناكبُهم وربِّ الكعبةِ
(1)
، ثم أُعْطُوا الفضلَ بأعمالِهم
(2)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا الحكمُ بنُ بَشيرٍ، قال: ثنا عمرُو بنُ قيسٍ، عن أبي إسحاقَ السَّبِيعيِّ، في هذه الآيةِ:{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا} . قال: قال أبو إسحاقَ: أمَّا ما سمِعْتُ منذُ ستين سنةً، فكلُّهم ناجٍ
(3)
.
[حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: حدَّثنا الحكمُ]
(4)
، قال: ثنا عمرٌو، عن محمدِ ابن الحَنَفيةِ، قال: إنها أُمَّةٌ مرحومةٌ؛ الظالمُ مغفورٌ له، والمقتصدُ في الجِنانِ
(5)
عندَ اللهِ، والسابقُ بالخيراتِ في الدرجاتِ عندَ اللهِ
(6)
.
وقال آخرون: الكتابُ الذي أوْرَث هؤلاء القومَ، هو شهادةُ أن لا إلهَ إلا اللَّهُ، والمُصْطَفَوْنَ هم أمةُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، والظالمُ لنفسِه منهم هو المنافقُ، وهو في النارِ، والمقتصدُ والسابقُ بالخيراتِ في الجنةِ.
(1)
في ت 1: "كعب". وهو لفظ رواية تفسير ابن كثير.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 535 عن المصنف، وأخرجه الحسين المروزي في زوائده علي زهد ابن المبارك (1413) من طريق حميد به، مطولا، وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 136 من طريق عبد الله بن الحارث به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 253 إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 535 عن المصنف.
(4)
سقط من: م، ت 1.
(5)
في م: "الجنات".
(6)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 535 عن المصنف، ورواه الثورى - كما في تفسير ابن كثير 6/ 536 - من طريق ابن الحنفية به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 253 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أبو عمارٍ الحسينُ بنُ حُرَيْثٍ
(1)
المَرْوزيُّ، قال: ثنا الفضلُ بنُ موسى، عن حسينِ بن واقدٍ، عن يزيدَ، عن عكرمةَ، عن عبدِ اللَّهِ:{فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} . قال: اثنان في الجنةِ، وواحدٌ في النارِ.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} إلى آخرِ الآيةِ. قال: جعَل أهلَ الإيمانِ على ثلاثةِ منازلَ، كقولِه:{وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ} [الواقعة: 41]، {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ} [الواقعة: 27]، {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة:10، 11]. فهم على [هذا المثال]
(2)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا يحيى بنُ واضحٍ، قال: ثنا [الحسينُ، عن]
(3)
يزيدَ، عن عكرمةَ قولَه:{فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} الآية، قال: الاثنان في الجنةِ، وواحدٌ في النارِ، وهى بمنزلةِ التي في الواقعةِ:{وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ} ، {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ} ، {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ}
(4)
.
حدَّثنا سهلُ بنُ موسى، قال: ثنا عبدُ المَجيدِ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} .
(1)
في الأصل: "الحارث"، وينظر تهذيب الكمال 6/ 358.
(2)
في الأصل: "هذه المنازل". والأثر عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 252 إلى المصنف وابن مردويه، وأخرجه الثورى في تفسيره ص 246 من طريق آخر عن ابن عباس.
(3)
في الأصل: "الحسن بن".
(4)
ذكره أبو حيان في البحر المحيط 3/ 313.
قال: هم أصحابُ المَشْأَمةِ. {وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} . قال: هم أصحابُ المَيْمَنةِ. {وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} . قال: هم السابقون مِن الناسِ كلِّهم.
حدَّثنا الحسنُ
(1)
بنُ عرفةَ، قال: ثنا مروانُ بنُ معاويةَ، قال: قال عوفٌ، قال الحسنُ: أما الظالمُ لنفسِه فإنه هو المنافقُ، سقَط هذا، وأما المقتصدُ والسابقُ بالخيراتِ فهما صاحبا الجنةِ
(2)
.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابن عُلَيَّةَ، عن عوفٍ، قال: قال الحسنُ: الظالمُ لنفسِه المنافقُ
(3)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} : شهادةَ أن لا إلهَ إلا اللهُ، {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ}: هذا المنافقُ - في قولِ قتادةَ والحسنِ - {وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} . قال: هذا صاحبُ اليمينِ، {وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ}. قال: هذا المُقَرَّبُ. قال قتادةُ: كان الناسُ ثلاثةَ منازلَ في الدنيا، وثلاثةَ منازلَ عندَ الموتِ، وثلاثةَ منازلَ في الآخرةِ، أما الدنيا، فكانوا: مؤمنٌ، ومنافقٌ، ومشركٌ، وأما عندَ الموتِ، فإن الله قال:{فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} [الواقعة: 88 - 94]. وأما في الآخرة فكانوا أزواجًا ثلاثة، {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8)
(1)
في الأصل: "الحسين"، وينظر تهذيب الكمال 6/ 201.
(2)
أخرجه البيهقى في البعث (75) من طريق مروان بن معاوية به، وأخرجه في (76) من طريق عوف به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 252 إلى عبد بن حميد.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 135 عن معمر عن الحسن.
وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ}
(1)
[الواقعة: 8 - 11].
حدَّثني محمدُ بنُ عمروٍ، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قوله:{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} . قال: هم أصحابُ المشْامةِ، {وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ}. قال: أصحابُ الميمنةِ. {وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} . قال: فهم السابقون مِن الناسِ كلِّهم
(2)
.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا [قُرَّةُ، عن الضحاكِ في قولِه]
(3)
: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} . قال: سقط هذا. {وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} . قال: سَبَق هذا بالخيراتِ، وهذا مُقْتَصِدٌ على أَثَرِه.
وأولى الأقوالِ في تأويلِ ذلك بالصوابِ: تأويلُ مَن قال: عُنى بقولهِ: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} . الكُتُبُ التي أُنزِلَت مِن قَبْلِ الفُرْقانِ.
فإن قال قائلٌ: وكيف يجوزُ أن يكونَ ذلك معناه، وأمَّةُ محمد صلى الله عليه وسلم لا يَتْلُون غير كتابِهم، ولا يَعْمَلُون إلا بما فيه مِن الأحكامِ والشرائعِ؟ قيل: إن معنى ذلك على غيرِ الذي ذهبتَ إليه، وإنما معناه: ثم أَوْرَثْنا الإيمانَ بالكتابِ، الذين اصْطفَيْنا؛ فمنهم مؤمِنون بكلِّ كتابٍ أنزَله اللهُ مِن السماءِ قبْلَ كتابِهم وعامِلون به؛
(1)
أخرج عبد الرزاق في تفسيره 2/ 135 قوله: "هذا منافق" عن معمر عن الحسن وقتادة، وعزاه - أي اللفظ المطول - السيوطي في الدر المنثور 5/ 252 إلى المصنف وعبد بن حميد.
(2)
تفسير مجاهد ص 557، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 253 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
في م: "عيسى وحدثني الحارث قال ثنا الحسن قال ثنا ورقاء جميعًا عن ابن أبي نجيح عن مجاهد".
لأن كلَّ كتابٍ أُنْزِل مِن السماءِ قبْلَ الفُرْقانِ، فإنه يأْمرُ بالعملِ بالفُرْقانِ عندَ نُزُولِه، وباتِّباع مَن جاء به، وذلك عملُ مَن أقرَّ بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به، وعَمِل بما دعاه إليه، بما في الفرقانِ وبما في غيرِه من الكُتُبِ التي أُنْزِلت قَبْلَه.
وإنما قلنا
(1)
: عُنى بقوله: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ} . الكُتُبُ التي ذكَرْنا؛ لأن الله جلَّ ثناؤُه قال لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} . ثم أَتْبَع ذلك قولَه: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا} . فكان معلُومًا - إذ كان معنى الميراثِ إنما هو انْتِقالُ معنىً مِن قومٍ إلى آخرين، ولم تكن أُمَّةٌ على عَهْدِ نبيِّنا صلى الله عليه وسلم انْتَقل إليهم كتابٌ مِن قومٍ كان
(2)
قَبْلَهم غيَر أُمَّتِه - أن ذلك معناه. وإذ كان ذلك كذلك، فَبَيِّنٌ أن المصطفَيْنَ مِن عبادِه هم مؤمِنو أُمَّتِه، وأمَّا الظالمُ لنفْسِه، فإنه لأن يكونَ مِن
(3)
أهلِ الذُّنوبِ والمعاصِي، التي هي دونَ النفاقِ والشِّرْكِ عندِى، أشبَهُ بمعنى الآيةِ، مِن أن يكونَ المنافقَ أو الكافرَ، وذلك أن الله تعالى ذكْرُه أَتْبَع هذه الآيةَ قولَه:{جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} . فعمَّ بدُخُولِ الجنَّةِ جميعَ الأصنافِ الثلاثةِ.
فإن قال قائلٌ: فإن قولَه: {ويَدْخُلُونَهَا} . إنما عُنى به: المُقتصدُ والسابقُ. قِيل له: وما بُرْهانُك على أن ذلك كذلك مِن خبرٍ أو عقلٍ؟ فإن قال: قيامُ الحُجَّةِ، بأن الظالمَ مِن هذه الأمَّةِ سيدخلُ
(4)
النارَ، ولو لم يَدْخُلِ النارَ من هذه الأصنافِ الثلاثةِ أحدٌ، وجَب ألا يكونَ لأهلِ الإيمانِ وَعيدٌ. قيل: إنه ليس في الآيةِ خبرٌ
(1)
في م، ت 1:"قيل".
(2)
في م: "كانوا".
(3)
سقط من: الأصل.
(4)
في الأصل، ت 1:"سيدخلون".
أنهم لا يَدْخُلون النارَ، وإنما فيها إخبارٌ مِن اللهِ تعالى ذكرُه، أنهم يَدْخُلُون جناتِ عَدْنٍ، وجائزٌ أن يَدْخُلَها الظالمُ لنفسِه بعدَ عقوبةِ اللهِ إياه على ذنوبه التي أصابَها في الدنيا، وظلمِه نفسَه فيها، بالنارِ، أو بما شاء مِن عقابِه، ثم يُدْخِلُه الجنةَ، فيكونُ ممن عمَّه خبرُ اللَّهِ جلَّ ثناؤُه بقولهِ:{جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} .
وقد رُوِى عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بنحوِ الذي قلنا مِن ذلك أخبارٌ، وإن كان في أسانيدِها نظرٌ، مع دليلِ الكتابِ على صحتِه، على النحوِ الذي بيَّنتُ.
ذكرُ الروايةِ الواردةِ بذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا أبو أحمدَ الزُّبيريُّ
(1)
، قال: ثنا سفيانُ، عن الأعمشِ قال: ذكَر أبو ثابتٍ [قال: دخَل رجلٌ المسجدَ]
(2)
، فجلَس إلى جنبِ أبي الدرداءِ، فقال: اللهم آنِسْ وَحْشَتى، وارْحَمْ غُرْبتي، ويسِّرْ لي جليسًا صالحًا. فقال أبو الدرداءِ: لئن كنتَ صادقًا لأنا أسعدُ به منك، سأُحَدِّثُك حديثًا سمِعْتُه من رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، لم أُحَدِّثْ به منذُ سمِعْتُه ذكَر هذه الآية، {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} ، فأما السابقُ بالخيراتِ فيَدْخُلُها بغيرِ حسابٍ، وأما المُقْتَصِدُ فيُحاسَبُ حسابًا يسيرًا، وأما الظالمُ لنفسِه فيُصِيبُه في ذلك المكانِ من الغمِّ والحزنِ، فذلك قولُه:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ}
(3)
.
(1)
في ت 1: "الزهرى"، وينظر تهذيب الكمال 25/ 476.
(2)
في م: "أنه دخل المسجد"، وفى ت 1:"قال دخل المسجد".
(3)
أخرجه أحمد 5/ 194، 6/ 444 (الميمنية)، وابن أبي الدنيا في الأهوال (276)، وابن أبي حاتم - كما في تفسير ابن كثير 6/ 534 - والبغوى في تفسيره 6/ 421 من طريق الثورى به، وأخرجه الحاكم 2/ 426، والبيهقي في البعث (62)، من طريق الأعمش به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 251 إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه والطبراني.
حدَّثنا ابن بشَّارٍ
(1)
، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن الوليدِ بن العَيزَارِ
(2)
، أنه سمِع رجلًا مِن ثَقِيفٍ، حدَّث عن رجلٍ مِن كنِانةَ، عن أبي سعيدٍ الخدريِّ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال في هذه الآيةِ:{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} . قال: "هؤلاء كلُّهم بمنزلةٍ واحدةٍ، وكلُّهم في الجنةِ"
(3)
.
وعُنِى بقوله: {الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} : الذين اخْتَرْناهم لطاعتِنا واجْتَبَيْناهم. وقولُه: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} . يقولُ: فمِن هؤلاء الذين اصْطَفَيْنا مِن عبادِنا، مَن يَظْلِمُ نفسَه؛ بركوبِه المآثمَ، واجترامِه المعاصىَ، واقترافِه الفواحشَ، {وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} . وهو غيرُ المُبالِغ في طاعةِ ربِّه، وغيرُ المجتهدِ [فيها لربِّه مِن خدمتِه]
(4)
، حتى يكونَ عملُه في ذلك قصدًا، {وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} . وهو المُبَرِّزُ [في طاعة اللهِ]
(5)
الذي قد تقَدَّم المجتهدين في
(6)
خدمةِ ربِّه، وأداءِ ما ألزَمه
(7)
مِن فرائضِه، فسبَقَهم بصالحاتِ
(8)
الأعمالِ، وهى الخيراتُ التي قال اللهُ جلَّ ثناؤُه:{بِإِذْنِ اللَّهِ} . يقولُ: بتوفيقِ اللهِ إياه لذلك.
(1)
في م، ت 1:"المثنى".
(2)
في م: "المغيرة"، وينظر تهذيب الكمال 31/ 64.
(3)
أخرجه الترمذى (3225) عن محمد بن المثنى به، وأخرجه أحمد 18/ 270 (11745) عن محمد بن جعفر به، وأخرجه الطيالسي (2350)، والبيهقى في البعث (62)، كلاهما من طريق شعبة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 251 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.
(4)
في م: "فيما ألزمه من خدمة ربه"، وفى ت 1:"فيها ألزمه من خدمته".
(5)
سقط من: م.
(6)
سقط من: م، ت 1.
(7)
في م: "لزمه".
(8)
في م: "بصالح".
وقولُه: {ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} . يقولُ تعالى ذكرُه: سبوقُ هذا السابقِ مَن سبَقه بالخيراتِ بإذنِ اللَّهِ؛ هو الفضلُ الكبيرُ الذي فضَل به مَن كان مُقَصِّرًا عن منزلتِه في طاعةِ اللهِ؛ مِن المقتصدِ والظالمِ لنفسِه.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه: بَساتينُ إقامةٍ، يدخلُها هؤلاء الذين أوْرَثْناهم الكتابَ؛ الذين اصْطَفَيْنا مِن عبادِنا يومَ القيامةِ، {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ}: يُلْبَسون في جناتِ عدنٍ أَسْوِرةً مِن ذهبٍ {وَلُؤْلُؤًا} ، {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ}. يقولُ: ولباسُهم في الجنةِ حريرٌ.
وقولُه: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} . اخْتَلَف أهلُ التأويلِ في الحَزَنِ الذي حَمِد الله على إذهابهِ عنهم هؤلاء القومُ، فقال بعضُهم: ذلك الحزَنُ الذي كانوا فيه قبلَ دخولِهم الجنةَ مِن خوفِ النارِ، إذ كانوا خائفين أن يَدْخُلوها.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني قتادةُ بنُ سعيدِ بن قتادةَ السَّدوسيُّ، قال: ثنا معاذُ بنُ هشامٍ صاحبُ الدَّسْتُوائيِّ، قال: حدثنى أبي، عن عمرِو بن مالكٍ، عن أبي الجَوْزاءِ، عن ابن عباسٍ في قولِه:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} . قال: حَزَنَ النارِ
(1)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا ابن المباركِ، عن معمرٍ، عن يحيى بن المختارِ، عن
(1)
أخرجه ابن أبي الدنيا في الهم والحزن (25)، والحاكم 2/ 427 من طريق معاذ بن هشام به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 253 إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم.
الحسنِ: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} . قال: إن المؤمنين قومٌ ذُلُلٌ، ذلَّت واللهِ الأسماعُ والأبصارُ والجوارحُ، حتى يَحْسَبَهم الجاهلُ مَرْضَى، وما بالقومِ مِن مرضٍ، وإنهم لأصِحَّةُ القلوبِ، ولكن دخَلَهم مِن الخوفِ ما لم يَدْخُلْ غيرَهم، ومنَعَهم من الدنيا علمُهم بالآخرةِ، فقالوا:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} . واللهِ ما حزَنهم حزَنُ الدنيا، ولا تَعاظَم في أنفسِهم ما طلَبوا به الجنةَ، أبكاهم الخوفُ مِن النارِ، وإنه مَن لا يَتَعَزَّ بعزاءِ اللَّهِ يَقْطَعْ نفسَه على الدنيا حَسَراتٍ، ومَن لم يَرَ للهِ عليه نعمةً إلا في مَطْعَمٍ أو مَشْرَبٍ، فقد قلَّ علمُه، وحضَر عذابُه
(1)
.
وقال آخرون: عُنِى به الموتُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أبو كُرَيبٍ، قال: ثنا ابن إدريسَ، عن أبيه، عن عطيةَ في قولهِ:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} . قال: الموتَ
(2)
.
وقال آخرون: عُنِى به حَزَنُ الخُبْزِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا يعقوبُ، عن حفصٍ - يعني ابنَ حميدٍ - عن شِمْرٍ قال: لما أدْخَل اللهُ أهلَ الجنةِ الجنةَ، قالوا:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} . قال: حَزَنَ الخُبْزِ
(3)
.
(1)
تقدم تخريجه في 17/ 493.
(2)
أخرجه ابن أبي الدنيا في الهم والحزن (26) من طريق ابن إدريس به.
(3)
أخرجه الحسين المروزى في زوائده على ابن المبارك (1570) من طريق آخر عن شمر بلفظ: حزن الطعام، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 253 إلى سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا وابن أبي حاتم والبيهقى في شعب الإيمان.
وقال آخرون: عنَى بذلك الحَزَنَ مِن التعبِ الذي كانوا فيه في الدنيا.
ذكْرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} . قال: كانوا في الدنيا يعمَلون وينصَبون، وهم في خوفٍ أو يحزنون
(1)
.
وقال آخرون: بل عنَى بذلك الحَزَنَ الذي ينالُ الظالمَ لنفْسِه في موقفِ القيامةِ.
ذكْرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا سفيانُ، عن الأعمشِ، قال: ذكَر أبو ثابتٍ أن أبا الدرداءِ قال: سمِعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ: "أمَّا الظَّالِمُ لِنفْسِه، فَيُصيبُه في ذلك المكانِ مِن الغمِّ والحزَنِ، فذلك قولُه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} "
(2)
.
وأولى الأقوالِ في ذلك بالصوابِ أن يقالَ: إن الله تعالى ذكْرُه أخبَر عن هؤلاء القومِ الذين أكرَمهم بما أكرَمهم به، أنهم قالوا حينَ دخَلوا الجنةَ:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} . وخوفُ دخولِ النارِ مِن الحزَنِ، والجزَعُ مِن الموتِ مِن الحَزَنِ، والجزَعُ مِن الحاجةِ إلى المطْعمِ مِن الحزَنِ، ولم يَخْصُصِ اللَّهُ إِذ أَخبَر عنهم أنهم حمِدوه على إِذْهَابِه الحَزَنَ عنهم، نوعًا
(3)
دونَ نوعٍ، بل أخبَر عنهم أنهم عمُّوا جميعَ أنواعِ الحزَنِ بقولِهم ذلك، وكذلك ذلك؛ لأن مَن دخَل الجنةَ فلا حَزَنَ عليه بعدَ ذلك، فحمْدُهم الله على إِذْهَابِه عنهم جميعَ معاني الحزَنِ.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 253 إلى عبد بن حميد والمصنف.
(2)
تقدم تخريجه في ص 375، مطولًا.
(3)
في الأصل، ت 1:"أن حمدهم ذلك كان منهم على نوع من إذهابه الحزن عنهم".
وقولُه: {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} . يقولُ تعالى ذكْرُه مخبرًا عن قيلِ هذه الأصنافِ الذين أخبَر أنه اصْطَفاهم مِن عبادِه عندَ دخولِهم الجنةَ: إن ربّنا لغفورٌ لذُنوبِ عبادِه الذين تابوا مِن ذُنوبِهم، فساتِرُها عليهم بعفْوِه لهم عنها، شكورٌ لهم على طاعتِهم إياه، وصالحِ ما قدَّموا في الدنيا مِن الأعمالِ.
وبنحوِ الذي قُلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكْرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} . لحسَناتِهم
(1)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا يعقوبُ، عن حفصٍ، عن شِمْرٍ:{إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} : غفَر لهم ما كان مِن ذنبٍ، وشكَر لهم ما كان مِنهم
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35)} .
يقولُ تعالى ذكْرُه مخبرًا عن قيلِ الذين أُدْخِلوا الجنةَ: {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ} . أي: ربَّنا الذي أنزَلنا هذه الدارَ، يَعْنون الجنةَ، فـ "دَارُ المقامةِ" دارُ الإقامةِ التي لا نُقْلَةَ معها عنها ولا تحوُّلَ. والميمُ إذا ضُمَّت من {الْمُقَامَةِ} ، فهى مِن الإقامةِ، وإذا فُتِحت فهى مِن المَجْلسِ والمكانِ الذي يُقامُ فيه، قال الشاعرُ
(3)
:
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 253 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم، وتقدم في ص 366.
(2)
أخرجه البيهقي في الشعب (272، 7142، 7148) من طريق آخر عن شمر بنحوه، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 253 إلى سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا وابن أبي حاتم.
(3)
تقدم في ص 219.
يومان يومُ مَقاماتٍ وأنْدِيةٍ
…
ويومُ سَيْرٍ إلى الأعداءِ تَأْويبِ
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ} : أقاموا فلا يَتَحَوَّلون
(1)
.
وقولُه: {لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ} . يقولُ: لا يُصِيبُنا فيها تعبٌ
(2)
ولا وَجَعٌ، {وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ}. يعنى باللُّغوبِ: العَناءَ والإعْياءَ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ عبيدٍ، قال: ثنا موسى بنُ عميرٍ، عن أبي صالحٍ، عن ابن عباسٍ في قولِه:{لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} . قال: [اللَّغوبُ العناء]
(3)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ} . أي: وَجَعٌ
(4)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 254،255 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
في الأصل: "نصب".
(3)
في الأصل: "لغوب العيا"، والأثر عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 254 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 254 إلى المصنف.
يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ}.
يقولُ تعالى ذكرُه: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا} بِاللَّهِ ورسولِه، {لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ}. يقولُ: لهم نارُ جهنمَ مخلَّدين فيها، لا حظَّ لهم في الجنةِ ولا نعيمِها.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ} بالموتِ فيمُوتوا؛ لأنهم لو ماتوا لاسْتَراحوا، {وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا}. يقولُ: ولا يُخَفَّفُ عنهم مِن عذابِ نارِ جهنمَ بإماتتِهم، فيُخَفِّفَ ذلك عنهم.
كما حدَّثني مُطَرْفُ بنُ محمدٍ
(1)
الضَّبِّيُّ، قال: ثنا أبو قُتيبةَ، قال: ثنا أبو هلالٍ الراسبيُّ، عن قتادةَ، عن أبي السوداءِ، قال: مساكينُ أهلُ النارِ! لا يموتون، لو ماتوا لاسْتَراحوا.
حدَّثني عقبةُ بنُ سِنانٍ القَزَّازُ
(2)
، قال: ثنا غَسَّانُ
(3)
بنُ مُضَرَ، قال: ثنا سعيدُ بنُ يزيدَ، وحدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابن عُلَيَّةَ، عن سعيدِ بن يزيدَ، وحدَّثنا سَوَّارُ بنُ عبدِ اللهِ، قال: ثنا بشرُ بنُ المُفَضَّلِ، قال: ثنا أبو مَسْلَمةَ
(4)
، عن أبي نَضْرَةَ، عن أبي سعيدٍ، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أما أهلُ النارِ الذين هم أهلُها، فإنهم لا يَموتون فيها ولا يَحْيَوْن، لكنَّ ناسًا - أو كما قال - تُصِيبُهم النارُ بذنوبِهم - أو قال:
(1)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"عبد الله".
(2)
جاء في كتاب الأنساب 5/ 629، وتهذيب الكمال 23/ 108 - ترجمة غسان بن مضر -:"الهدادى"، وقد تقدم قبل ذلك في 1/ 592 بـ "البصرى".
(3)
في الأصل: "عثمان".
(4)
في النسخ: "سلمة"، وهذه كنية سعيد بن يزيد، وينظر تهذيب الكمال 11/ 114.
بخَطاياهم - فتُمِيتُهم
(1)
إماتةً، حتى إذا صاروا فَحْمًا أُذِن في الشفاعةِ، فجِيءَ بهم ضَبائرَ ضَبائرَ
(2)
، فبُثُّوا على أنهارِ
(3)
الجنةِ، فيقالُ: يا أهلَ الجنةِ، أفِيضوا عليهم. فيَنْبُتُون كما تَنْبُتُ الحِبَّةُ في حَمِيلِ السَّيْلِ
(4)
". فقال رجلٌ مِن القومِ حينَئذٍ: كأن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قد كان بالباديةِ
(5)
.
فإن قال قائلٌ: وكيف قيل: {وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} ، وقد قيل في موضعٍ آخرَ:{كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} [الإسراء: 97]؟ قيل: معنى ذلك: ولا يُخَفَّفُ عنهم من هذا النوعِ مِن العذابِ.
وقولُه: {كَذَلِكَ نَجْزِي
(6)
كُلَّ كَفُورٍ}. يقولُ تعالى ذكرُه: هكذا نُكافِئُ كلَّ جَحودٍ لنعمِ ربِّه يومَ القيامةِ؛ بأن نُدْخِلَه
(7)
نارَ جهنمَ بسيئاتِهم التي قدَّموها في الدنيا.
وقولُه: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} . يقولُ تعالى ذكرُه: هؤلاء الكفارُ يَسْتَغِيثون، ويَضِجُّون في النارِ، يقولون: يا ربَّنا، أخْرِجْنا نَعْمَلْ صالحًا، أي: نعمَلْ
(8)
بطاعتِك غيرَ الذي كنا نعمَلُ
(1)
في م، ت 1:"فيميتهم".
(2)
الضبائر: هم الجماعات في تفرقة. واحدتها ضُبارة. صحيح مسلم بشرح النووى 3/ 38.
(3)
في م، ت 1:"أهل"، وبثوا: فُرِّقوا. المصدر السابق.
(4)
الحبة، بكسر الحاء: وهى بزر البقول والعشب تنبت في البراري وجوانب السيول، وجمعها حِبَبٌ، وأما حميل السيل: ما جاء به السيل من طين أو غثاء، ومعناه محمول السيل، والمراد التشبيه في سرعة النبات وحسنه وطراوته. صحيح مسلم بشرح النووى 3/ 23.
(5)
تقدم بسنده ومتنه مختصرًا في 1/ 592، فينظر تخريجه هناك.
(6)
في ت 1: "يجزى"، ويجزى، بضم الياء، قراءة أبي عمرو، وينظر السبعة ص 535.
(7)
في م، ت 1:"يدخلهم". وفى ت 2: "تدخلهم".
(8)
في م: "فعمل".
قبلُ مِن مَعاصِيك.
وقولُه: {يَصْطَرِخُونَ} : يَفْتَعِلون، مِن الصُّراخِ، حُوِّلَت تاؤُها طاءً؛ لقربِ مخرجِها مِن الصادِ لمَّا ثَقُلَت.
وقولُه: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} . اخْتَلَف أهلُ التأويلِ في مبلغِ ذلك؛ فقال بعضُهم: ذلك أربعون سنةً.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا بشرُ بنُ المُفَضَّل، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ بنُ عثمانَ بن خُثَيْم، عن مجاهدٍ، قال: سمِعْتُ ابنَ عباسٍ يقولُ: العُمُرُ الذي أَعْذَر اللَّهُ إلى ابن آدمَ {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} أربعون سنةً
(1)
.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا هُشَيمٌ
(2)
، عن مجالدٍ، عن الشعبيِّ، عن مسروقٍ، أنه كان يقولُ: إذا بلَغ أحدُكم أربعين سنةً، فَلْيَأْخُذُ حِذْرَه مِن اللهِ
(3)
.
وقال آخرون: بل ذلك ستون سنةً.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن ابن خُثَيْمٍ، عن مجاهدٍ، عن ابن عباسٍ: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 539 عن المصنف.
(2)
في الأصل: "هشام".
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 539 عن هشيم به.
تَذَكَّرَ}. قال: ستون سنةً
(1)
.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا ابن إدريسَ، قال: سمِعْتُ عبدَ اللَّهِ بنَ عثمانَ بن خُثَيْمٍ، عن مجاهدٍ، عن ابن عباسٍ، قال: العُمُرُ الذي أعْذَر اللَّهُ فيه لابنِ آدمَ ستون سنةً
(2)
.
حدَّثنا عليُّ بنُ شعيبٍ، قال: ثنا محمدُ بنُ إسماعيلَ بن أبي فُدَيْكٍ، عن إبراهيمَ بن الفضلِ، عن ابن
(3)
أبى حسينٍ المكيِّ، عن عطاءِ بن أبي رَباحٍ، عن ابن عباسٍ، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إذا كان يومُ القيامةِ نُودِى: أين أبناءُ الستين؟ ". وهو العمرُ الذي قال اللهُ: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ}
(4)
.
حدَّثني أحمدُ بنُ الفرجِ الحِمْصيُّ، قال: ثنا بقيةُ بنُ الوليدِ، قال: ثنا مُطَرِّفُ بنُ مازنٍ الكِنانيُّ
(5)
، قال: ثنى معمرُ بنُ راشدٍ، قال: سمِعْتُ محمدَ بنَ عبدِ الرحمنِ الغِفاريَّ يقولُ: سمِعْتُ أبا هريرةَ يقولُ: قال رسولُ اللهِ: "لقد أعْذَر اللهُ إلى
(1)
تفسير الثورى ص 47، ومن طريقه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 138، والحاكم 2/ 427، والبيهقى 3/ 370، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 254 إلى الفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وأبى الشيخ وابن مردويه.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 539 عن ابن إدريس.
(3)
سقط من: م.
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 539 عن المصنف، وأخرجه ابن أبي حاتم - كما في تفسير ابن كثير 6/ 539 - والطبراني (11415)، وفى الأوسط (9138)، والرامهرمزى في الأمثال ص 63، والبيهقي 3/ 370، وفي الشعب (10254) من طريق محمد بن إسماعيل بن أبي فديك به، والطبراني في الأوسط (7925) من طريق إبراهيم بن الفضل به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 254 إلى الحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن المنذر وابن مردويه.
(5)
في الأصل: "الكندى"، وينظر الجرح والتعديل 8/ 314.
صاحبِ الستين سنةً والسبعين"
(1)
.
حدَّثنا أبو صالحٍ الفَزاريُّ، قال: ثنا محمدُ بنُ سَوَّارٍ، قال: ثنا يعقوبُ بنُ عبدِ الرحمنِ بن عبدٍ
(2)
القارِيُّ الإسْكَنْدَرانيُّ، قال: ثنا أبو حازمٍ، عن سعيدٍ المَقْبُريِّ، عن أبي هريرةَ، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَن عمَّره اللهُ ستين سنةً فقد أعْذَر إليه في العمرِ"
(3)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ سَوَّارٍ، قال: ثنا النضرُ
(4)
بنُ حميدٍ، عن سعدِ
(5)
بن طريفٍ، عن الأصبغِ بن نُباتةَ، عن عليٍّ رضي الله عنه في قولِه:{أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} . قال: العمُرُ الذي عمَّرهم
(6)
اللهُ به ستون سنةً
(7)
.
وأشبهُ القولين بتأويلِ الآيةِ، إذ كان الخبرُ الذي ذكَرْناه عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم خبرًا
(1)
أخرجه الحاكم 2/ 427 من طريق مطرف بن مازن به، وذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 540 عن المصنف.
(2)
في ت 1: "عبيد"، وينظر تهذيب الكمال 32/ 348.
(3)
أخرجه أحمد 15/ 230 (9394) من طريق يعقوب به، وأخرجه البزار - كما في تفسير ابن كثير 6/ 540 - والنسائى في الكبرى - كما في التحفة (12959) - والرامهرمزي في الأمثال ص 64، والبيهقى 3/ 370، وفي الآداب (1115) من طريق أبي حازم به، وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 138، وأحمد 13/ 139، 14/ 14، 15/ 142 (7713، 8262، 9251)، والبخارى (6419)، والبغوى في تفسيره 6/ 425، وابن أبي حاتم - كما في تفسير ابن كثير 6/ 540 - والحاكم 2/ 427، 428، والبيهقى في الشعب (10252) من طريق سعيد المقبري به. وذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 540 عن المصنف، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 254 إلى عبد بن حميد وابن مردويه.
(4)
في الأصل: "محمد"، وفى م، ت 1، ت 2، ت 3:"أسد". وينظر الجرح والتعديل 8/ 476، وتهذيب الكمال 273/ 10.
(5)
في الأصل: "سفيان"، وفى م:"سعيد"، وينظر تهذيب الكمال 10/ 271.
(6)
في م: "عمركم"، وفى تفسير ابن كثير:"عيرهم".
(7)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 539 عن أصبغ بن نباتة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 254 إلى المصنف.
في إسنادِه بعضُ مَن يَجِبُ التثَبُّتُ في نقلِه
(1)
- قولُ مَن قال: ذلك أربعون سنةً؛ لأن في الأربعين يَتَناهى عقلُ الإنسانِ وفهمُه، وما قبلَ ذلك وما بعدَه، مُنْتَقَصٌ عن كمالِه في حالِ الأربعين.
وقوله: {وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} .
اخْتَلَف أهلُ التأويلِ في معنى النذيرِ
(2)
؛ فقال بعضُهم: عنَى به محمدًا صلى الله عليه وسلم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونُسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} . قال: النذيرُ: النبيُّ. وقرَأ: {هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى}
(3)
[النجم: 56].
وقيل: عنَى به الشيبَ.
فتأويلُ الكلامِ إذًا: أولم نُعَمِّرُكم يا معشرَ المشركين باللهِ مِن قريشٍ مِن السنين، ما يَتَذَكَّرُ فيه مَن تذَكَّر، مِن ذَوِى الألبابِ والعقولِ، واتَّعَظ منهم مَن اتَّعَظ، وتاب مَن تاب، وجاءكم من اللهِ منذِرٌ يُنْذِرُكم ما أنتم فيه اليومَ مِن عذابِ اللهِ، فلم تَتَذَكَّروا مَواعظَ اللهِ، ولم تَقْبلوا مِن نذيرِ اللهِ الذي جاءكم، ما أتاكم به مِن عندِ ربِّكم.
(1)
قال ابن كثير في تفسيره 6/ 541 بعد أن ذكر حديث أبى هريرة الماضي بسند المصنف: فقد صح هذا الحديث من هذه الطرق، فلو لم يكن إلا الطريق التي ارتضاها أبو عبد الله البخارى شيخ هذه الصناعة - لكفت، وقول ابن جرير:"إن في رجاله بعض من يجب التثبت في أمره"، لا يلتفت إليه مع تصحيح البخاري، والله أعلم.
(2)
بعده في الأصل: "الذي عناه الله في هذا الموضع".
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 254 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
القولُ في تأويلِ قولهِ عز وجل: {فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه: {فَذُوقُوا} عذابَ نارِ جهنمَ الذي قد صَلِيتُموه أيُّها الكافرون باللَّهِ، {فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ}. يقولُ: فما للكافرين الذين ظلَموا أنفسَهم، فأَكْسَبُوها غضبَ اللهِ بكفرِهم باللهِ في الدنيا، من نصيرٍ يَنْصُرُهم اليومَ مِن اللَّهِ فيَسْتنقِذُهم مِن عقابِه.
وقولُه: {إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} . يقولُ تعالى ذكرُه: إن الله عالمُ ما تُخْفُون أيُّها الناسُ في أنفسِكم وتُضْمِرونه، وما لم تُضْمِروه ولم تَنْوُوه مما ستَنْؤونه، وما هو غائبٌ عن أبصارِكم في السماواتِ والأرضِ، فاتَّقُوه أن يَطَّلِعَ عليكم وأنتم تُضْمِرون في أنفسِكم مِن الشكِّ في وَحْدانيةِ اللهِ، أو في نبوةِ محمدٍ، غيرَ الذي تُبْدونه بألسنتِكم، فإنَّه عَلِيمٌ بذاتِ الصُّدُورِ.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (39)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: [اللهُ الذي جعَلكم أيُّها الناسُ خَلائِفَ]
(1)
في الأرضِ مِن بعدِ عادٍ وثمودَ، ومَن مضَى قبلَكم مِن الأممِ، فجعَلكم تَخْلُفونهم في ديارِهم ومساكنِهم.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه: {هُوَ الَّذِى
(1)
في الأصل: "الذي خلقكم أيها الناس وجعلكم خلائف".
جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ}: أمةً بعدَ أمةٍ، وقرنًا بعدَ قرنٍ
(1)
.
وقولُه: {فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} . يقولُ تعالى ذكرُه: فمَن كفَر باللهِ منكم أيُّها الناسُ، فعلى نفسِه ضُرُّ كفرِه، لا يَضُرُّ بذلك غيرَ نفسِه؛ لأنه المُعاقَبُ عليه دونَ غيرِه.
وقولُه: {وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا} . يقولُ تعالى: ولا يزيدُ الكافرين كفرُهم عندَ ربِّهم إلا بُعْدًا مِن رحمةِ اللهِ، {وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا}. يقولُ: ولا يَزِيدُ الكافرين كفرُهم باللهِ إلا هلاكًا.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ
(2)
مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا (40)}.
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: {قُلْ} يا محمدُ لمشركي قومِك: {أَرَأَيْتُمْ} أيُّها القومُ {شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ
(3)
مِنْ دُونِ اللَّهِ}، [أي: تعبدون مِن دونِ اللهِ]
(4)
، {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ}. يقولُ: أَرُونى أَيَّ شيءٍ خلَقوا مِن الأرضِ، {أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ}. يقولُ: أم لشركائِكم شِرْكٌ مع اللهِ في السماواتِ، إن لم يكونوا خَلَقوا مِن الأرضِ شيئًا؟!
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 137 عن معمر عن قتادة بنحوه، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 254 إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم.
(2)
في الأصل: "بينات"، وهى قراءة نافع وابن عامر والكسائي وأبى بكر، والمثبت قراءة حفص وابن كثير وأبو عمرو وحمزة. السبعة لابن مجاهد ص 535.
(3)
في ت 2، ت 3:"تعبدون".
(4)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
{أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ
(1)
مِنْهُ}. يقولُ: أم آتَيْنا هؤلاء المشركين كتابًا أنْزَلْناه عليهم من السماءِ، بأن يُشْرِكوا باللهِ الأوثانَ والأصنامَ؟! {فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ
(1)
مِنْهُ}. يقولُ: فهم على برهانٍ مما أمَرْتُهم فيه مِن الإشراكِ بي.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ} : لا شيءَ واللَّهِ خَلقوا منها، {أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ}: لا واللهِ ما لهم فيها مِن شركٍ، {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ}. يقولُ: أم آتَيْناهم كتابًا فهو يَأْمُرُهم أن يُشْرِكوا
(2)
.
وقولُه: {بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا} . [يقول تعالى ذكرُه: ليس من هذه الخلالِ شيءٌ، ولكنْ ما يعِدُ الكافرون باللهِ بعضُهم بعضًا إلا غرورًا
(3)
، وذلك قولُ بعضِهم لبعضٍ: ما نعْبُدُ الهتنَا إلا لِيُقَرِّبونا إلى اللَّهِ زُلْفَى. خِداعًا مِن بعضِهم لبعضٍ وغُرورًا، وإنما تُزْلِفُهم آلهتُهم إلى النارِ، وتُقْصِيهم مِن اللهِ ورحمتِه.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه: إن الله يُمْسِكُ السماواتِ والأرضَ؛ لئلا تَزُولا مِن أماكنِهما، {وَلَئِنْ زَالَتَا}. يقولُ: ولو زالتا، {إِنْ
(1)
في الأصل: "بينات".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 254 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن أبي حاتم.
(3)
سقط من: الأصل، م.
أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ}. يقولُ: ما أمْسَكهما أحدٌ سواه.
ووُضِعت "لَئِن" في قولِه: {وَلَئِنْ زَالَتَا} ، في موضعِ "لو"؛ لأنهما يُجابان بجوابٍ واحدٍ، فيَتَشابهان في المعنى، ونظيرُ ذلك قولُه:{وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ} [الروم: 51]. بمعنى: ولو أرْسَلْنا ريحًا. وكما قال: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [البقرة: 145]. بمعنى: ولو أتَيْتَ. وقد بيَّنا ذلك فيما مضَى بما أغْنَى عن إعادتِه في هذا الموضعِ
(1)
.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا} : مِن مكانِهما
(2)
.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن الأعمشِ، عن أبي وائلٍ، قال: جاء رجلٌ إلى عبدِ اللَّهِ، فقال: مِن أين جئتَ؟ قال: من الشام. قال: مَن لقِيتَ؟ قال: لقِيتُ كعبًا. فقال: ما حدَّثك كعبٌ؟ قال: حدَّثني أن السماواتِ
(3)
تَدورُ على مَنْكِبِ مَلَكٍ. قال: فصدَّقْتَه أو كذَّبْتَه؟ قال: ما صدَّقْتُه ولا كذَّبْتُه. قال: لَودِدْتُ أنك افْتَدَيْتَ مِن رحلتِك إليه براحلتِك ورَحْلِها، كذَب كعبٌ؛ إن الله يقولُ:{إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ}
(4)
.
(1)
تقدم في 2/ 667.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 255 إلى المصنف وعبد بن حميد.
(3)
بعده في الأصل: "والأرض". وينظر مصدر التخريج.
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 544 عن المصنف. وقال ابن كثير: وهذا إسناد صحيح إلى كعب وابن مسعود. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 255 إلى سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر.
حدَّثنا [ابن حميدٍ، قال: ثنا]
(1)
جريرٌ، عن مغيرةَ، عن إبراهيمَ، قال: ذهَب جُنْدَبُ البَجَليُّ إلى كعبِ الأحبارِ، فقدِم عليه، ثم رجَع، فقال له عبدُ اللَّهِ: حدِّثْنا ما حدَّثَك. فقال: حدَّثني أن السماءَ في قُطْبٍ كقُطْبِ الرَّحَى، والقُطْبُ عمودٌ على مَنْكِبِ مَلَكٍ. قال عبدُ اللهِ: لودِدْتُ أنك افْتَدَيْتَ رحلتَك
(2)
بمثلِ راحلتِك. ثم قال: ما سكَنتِ
(3)
اليهوديةُ في قلبِ عبدٍ، فكادَت أن تُفارِقَه. ثم قال:{إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا} ، وكفَى بها زوالًا أن تَدورَ
(4)
.
وقولُه: {إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} . يقولُ تعالى ذكرُه: إن الله كان {حَلِيمًا} عمَّن أَشْرَك وكفَر به مِن خلقِه، في تركِه تعجيلَ عذابِه له، {غَفُورًا} لذنوبِ مَن تاب منهم وأناب إلى الإيمانِ به والعملِ بما يُرْضِيه.
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه: وأَقْسَم هؤلاء المشركون باللهِ {جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} . يقولُ: أشدَّ الأيْمانِ، فبالَغوا فيها، لئن جاءهم مِن اللهِ مُنْذِرٌ يُنذِرُهم بأسَ اللهِ، {لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ}. يقولُ: ليَكونُنَّ أسلكَ لطريقِ الحقِّ، وأشدَّ قَبولًا لما يَأْتيهم به النذيرُ مِن عندِ اللهِ، مِن إحدى الأممِ التي قد خلَت قبلَهم، {فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ} . يعنى بالنذيرِ محمدًا صلى الله عليه وسلم، يقولُ: فلما جاءهم
(1)
سقط من: م.
(2)
في الأصل: "حينئذٍ". وينظر الأثر المتقدم.
(3)
في م: "تنتكت". وفى ت 1، ت 2، ت 3:"تنتكب".
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 5/ 544 عن المصنف.
محمدٌ يُنْذِرُهم عقابَ اللهِ على كفرِهم.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ} . وهو محمدٌ صلى الله عليه وسلم
(1)
.
وقولُه: {مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا} . يقولُ: ما زادهم مَجئُ النذيرِ مِن الإيمانِ باللهِ واتِّباعِ الحقِّ وسلوكِ هدى الطريقِ، إلا نفورًا وهربًا.
وقولُه: {اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ} . يقولُ: نفَروا استكبارًا في الأرضِ [وأنفَةً أن يُقرُّوا بنبوَّةِ محمدٍ عليه السلام ويَدْعوا باتِّباعِه، {وَمَكْرَ السَّيِّئِ}. يقولُ: فعَلوا ذلك استكبارًا في الأرضِ
(2)
، وخُدْعةً سيئةً، وذلك أنهم صدُّوا الضعفاءَ عن اتِّباعِه، مع كفرِهم به. والمكرُ هاهنا هو الشركُ.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَمَكْرَ السَّيِّئِ} : وهو الشركُ (1).
وأُضِيف المكرُ إلى السيئَ، والسيئُ مِن نعتِ المكرِ، كما قيل:{إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ} [الواقعة: 95]. وقيل: إن ذلك في قراءةِ عبدِ اللَّهِ: (وَمَكْرًا سَيِّئًا)
(3)
. وفى ذلك تحقيقُ القولِ الذي قلْناه من أن السيئَ في المعنى مِن نعتِ المكرِ.
وقرَأ ذلك قرأةُ الأمصارِ غيرَ الأعمشِ وحمزةَ [بهمزِ السيئِ وخفضِه. وقرَأه الأعمشُ وحمزةُ بهمزِه
(4)
وتسكينِ الهمزةِ، اعْتِلالًا منهما بأن الحركاتِ لما كثُرَت
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 256 إلى المصنف وعبد بن حميد.
(2)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(3)
وهى قراءة شاذة. ينظر البحر المحيط 7/ 320.
(4)
في م: "بهمزة محركة بالخفض. وقرأ ذلك الأعمش وحمزة بهمزة". وفي ت 1، ت 2، ت 3:"بهمز".
في ذلك ثَقُل، فسكَّنا الهمزةَ
(1)
، كما قال الشاعرُ
(2)
:
إذا اعْوَجَجْنَ قلتُ صاحِبْ قَوَّمِ
فسكَّن الباءَ؛ لكثرةِ الحركاتِ.
والصوابُ مِن القراءةِ في ذلك عندنا ما عليه قرأةُ الأمصارِ، من تحريكِ الهمزةِ فيه إلى الخفضِ
(3)
. وغير جائزٍ في القرآنِ أن يُقْرَأَ بكلِّ ما جاز في العربيةِ؛ لأن القراءةَ إنما هي ما قرَأَت به الأئمةُ الماضيةُ، وجاء به السلفُ على النحوِ الذي أخَذوا عمن قبلَهم.
وقولُه: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} . يقولُ: ولا يَنْزِلُ المكرُ السيئُ إلا بأهلِه، يعني: بالذين يَمْكُرونه. وإنما عنَى أنه لا يحِلُّ مكروهُ ذلك المكرِ الذي مكَره هؤلاء المشركون إلا بهم.
وقال قتادةُ في ذلك ما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} : وهو الشركُ
(4)
.
وقوله: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: فهل يَنْتَظِرُ هؤلاء المشركون من قومك يا محمدُ إلا سنةَ اللهِ [في الأولين الذين مضَوْا قبلَهم، وذلك إحلالُ اللهِ]
(5)
بهم في عاجلِ الدنيا على كفرهم به، أليمَ العقابِ. يقولُ: فهل يَنْتَظِرُ هؤلاء إلا أن أُحِلَّ بهم من نِقْمتى على شركِهم بي، وتكذيبِهم رسولى، مثلَ الذي أحْلَلْتُ بمَن قبلَهم مِن أشكالِهم مِن الأممِ؟!
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه: {فَهَلْ
(1)
ينظر السبعة لابن مجاهد ص 535، 536، وإتحاف فضلاء البشر ص 223.
(2)
البيت لأبي نخيلة السعدى، ينظر الكتاب 4/ 203، ومعاني القرآن للفراء 2/ 371، واللسان (ع و م).
(3)
القراءتان كلتاهما صواب.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 256 إلى المصنف وعبد بن حميد
(5)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ}. أي: عقوبةَ الأولين
(1)
.
وقولُه
(2)
: {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} . يقولُ: فلن تَجِدَ يا محمد لسنةِ اللَّهِ تغييرًا.
وقولُه: {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} . يقولُ: ولن تَجِدَ لسنةِ اللهِ في خلقِه تبديلًا
(3)
. يقولُ: لن يُغَيِّرَ ذلك ولن يُبَدِّلَه؛ لأنه لا مَرَدَّ لقضائِه.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44)} .
قال أبو جعفر رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه: أو لم يَسرْ يا محمدُ هؤلاء المشركون باللهِ، في الأرضِ التي أهْلَكْنا أهلَها بكفرِهم بنا، وتكذيبِهم رسلَنا؛ فإنهم تُجَّارٌ يَسْلُكون طريقَ الشامِ، {فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} مِن الأممِ التي كانوا بها، ألم نُهْلِكْهم، ونُخْرِبْ مساكنَهم، ونَجْعَلْهم مثلًا لمن بعدَهم، فيتَّعِظوا بهم، ويَنزَجِروا عما هم عليه من عبادة الآلهةِ والشركِ باللهِ، ويَعْلَموا أن الذي فعل بأولئك ما فعَل، وكانوا أشدَّ منهم قوَّةً وبطشًا، لن يَتَعَذَّرَ عليه أن يَفْعَلَ بهم مثلَ الذي فعَل بأولئك، مِن تعجيلِ النِّقْمةِ والعذابِ لهم.
وبنحوِ الذي قلنا في قولِه: {وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} . قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ: {وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ
(1)
وتمام الأثر متقدم في الصفحة السابقة.
(2)
سقط من: م، ت 1.
(3)
في ت 1: "تحويلا".
قُوَّةً}: يُخْبِرُكم أنه أَعْطَى القومَ ما لم يُعْطِكم.
وقولُه: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} . يقول تعالى ذكرُه: ولن يُعْجِزَنا هؤلاء المشركون باللهِ من عَبَدةِ الأوثانِ
(1)
، المكذِّبون محمدًا، فيَسْبِقونا هَرَبًا في الأرضِ، إذا نحن أرَدْنا هلاكهم؛ لأن الله لم يَكُنْ لِيُعْجِزَه شيءٌ يُرِيدُه في السماواتِ ولا في الأرضِ، ولن يَقْدِرَ هؤلاء المشركون أن يَنْفُذوا أقطارَ السماواتِ والأرضِ.
وقولُه: {إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} . يقولُ تعالى ذكرُه: إن الله كان عليمًا بخلقِه، وما هو كائنٌ، ومَن المستحِقُّ منهم تعجيلَ العقوبةِ، ومَن هو عن ضلالتِه منهم راجعٌ، وإلى الهدى آيبٌ، قديرًا
(2)
على الانتقامِ ممن شاء منهم، وتوفيقِ من أراد منهم للإيمانِ.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ} . يقولُ: ولو يُعاقِبُ اللهُ الناسَ ويُكافِئُهم بما عمِلوا مِن الذنوبِ والمعاصى واجْتَرَحوا من الآثامِ، {مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ}
(3)
يعني: على ظهرِ الأرضِ من دابةٍ تَدِبُّ عليها، {وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}. يقولُ: ولكن يُؤَخِّرُ عقابَهم ومُؤاخَذْتَهم بما كسَبوا، إلى أجلٍ معلومٍ عنده محدودٍ، لا يَقْصُرون
(1)
في م، ت 2، ت 3:"الآلهة".
(2)
في النسخ: "قدير".
(3)
بعده في الأصل: "يعنى على ظهر الأرض من دابة".
دونَه، ولا يُجاوِزونه إذا بلَغوه.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولهَ:{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} . [قال: قد فَعَل ذلك بهم
(1)
في زمانِ نوحٍ فأَهلَك ما على ظهرِها من دابَّةٍ]
(2)
، إلا ما حمَل نوحٌ في السفينة
(3)
.
وقولُه: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا} . يقولُ تعالى ذكرُه: فإذا جاء أجلُ عقابِهم، فإن الله كان بعبادِه بصيرًا؛ مَن الذي يستحقُّ أن يُعاقَبَ منهم، ومَن الذي يستوجبُ الكرامةَ، ومَن الذي كان منهم في الدنيا له مطيعًا، ومن كان منهم فيها به مشركًا، لا يخفَى عليه أحدٌ منهم، ولا يعزُبُ عليه
(4)
علمُ شيءٍ من أمرِهم.
آخرُ تفسيرِ سورةِ "فاطر"
(1)
بعده في ت 2، ت 3:"مرة".
(2)
سقط من: م، ت 1.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 137 عن معمر عن قتادة.
(4)
سقط من: ت 2، ت 3، وفى م:"عنه".
بسم الله الرحمن الرحيم
تفسيرُ سورةِ "يس"
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ
(4)}.
قال أبو جعفرٍ: اخْتلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِ قولِه: {يس} ؛ فقال بعضُهم: هو قسَمٌ أقسَم اللهُ به، وهو من أسماءِ اللهِ عز وجل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{يس} . قال: فإنه قسمٌ أَقْسَمه اللهُ، وهو من أسماءِ اللهِ
(1)
.
وقال آخرون: معناه: يا رجلُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا أبو تُميلةَ، قال: ثنا الحسينُ بن واقدٍ، عن يزيدَ، عن عكرمةَ، عن ابن عباسٍ في قوله:{يس} . قال: يا إنسانُ. بالحَبَشيَّةِ
(2)
.
حدَّثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن شَرْقيٍّ، قال: سمِعتُ عكرمةَ يقولُ: تفسيرُ {يس} : يا إنسانُ
(3)
.
(1)
تقدم تخريجه في 1/ 207.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 258 إلى المصنف وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 258 إلى عبد بن حميد.
وقال آخرون: هو مِفْتاحُ كلامٍ افْتَتح اللهُ به كلامَه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا مُؤَمَّلٌ، قال: ثنا سفيانُ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ، قال:{يس} : مِفتاحُ كلامٍ افْتَتح اللهُ به كلامَه
(1)
.
وقال آخرون: بل هو اسمٌ من أسماء القرآن.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{يس} . قال: كلُّ هجاء في القرآن اسمٌ من أسماء القرآن
(2)
.
قال أبو جعفرٍ: وقد بيَّنا القولَ فيما مضَى في نظائرِ ذلك من حروفِ الهجاءِ، بما أغنَى عن إعادتِه وتكريرِه في هذا الموضعِ
(3)
.
وقوله: {وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} . يقولُ: والقرآن المحكَمِ بما فيه من أحكامِه وبيِّناتِ حُججِه، {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ}. يقول تعالى ذكرُه مقسمًا بوحيهِ وتنزيلِه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: إنك يا محمد لمن المرسلين بوحى اللهِ إلى عبادِه.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} : قسَمٌ كما تسمَعون،
{إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}
(4)
.
(1)
أخرجه الثورى في تفسيره ص 248 عن ابن أبي نجيح به، وينظر ما تقدم في 1/ 205.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 139 عن معمر عن قتادة، وينظر ما تقدم في 1/ 204.
(3)
تقدم في 1/ 204 وما بعدها.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 258 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر.
وقولُه: هو {عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} . يقولُ: على طريقٍ لا اعوجاجَ فيه من الهُدَى، وهو الإسلامُ.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} : أي: الإسلامِ
(1)
.
وفى قولِه: {عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وجهان؛ أحدُهما أن يكونَ معناه: إنك لمن المرسلين على استقامةٍ من الحقِّ، فيكونَ حينئذٍ {عَلَى} من قولِه:{عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . من صلةِ الإرسالِ. والآخرُ أن يكون خبرًا مبتدأً، كأنه قيل: إنك لمن المرسلين، إنك على صراطٍ مستقيمٍ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5)}
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: اختلَفت القرأةُ في قراءةِ قولِه: {تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} ؛ فقرأته عامة قرأة المدينة والبصرةِ: (تَنزيلُ العزيزِ الرحيمِ) برفعِ "تنزيل"
(2)
، والرفعُ في ذلك يتَّجه من وجهين؛ أحدُهما بأن يُجْعَلَ خبرًا؛ فيكونُ معنى الكلامِ حينَئذٍ: إنك
(3)
لمن المرسلين، هذا تنزيلُ العزيزِ الرحيمِ. وقرأته عامةُ قرأةِ الكوفةِ وبعضُ أهلِ الشامِ:{تَنْزِيلَ} نصبًا على المصدرِ
(4)
، من قولِه:{إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} ؛ لأن الإرسالَ إنما هو عن التنزيلِ، فكأنه قيل: إنك لَمُنَزَّلٌ تنزيلَ العزيزِ الرحيمِ حقًّا.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 258 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
هي قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو وعاصم في رواية يحيى بن آدم عن أبي بكر. السبعة لابن مجاهد ص 539.
(3)
في م: "إنه".
(4)
هي قراءة ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم. المصدر السابق.
والصوابُ مِن القولِ في ذلك عندى أنهما قراءتان مشهورتان في قرأةِ الأمصارِ، متقاربتا المعنى، فبأيَّتِهما قرَأ القارئُ فمصيبٌ الصوابَ.
ومعنى الكلامِ: إنك لمن المرسلين يا محمدُ إرسالَ الربِّ العزيزِ في انتقامِه من أهل الكفرِ به، الرحيمِ بمن تاب إليه
(1)
، وأناب من كفرِه وفسوقِه، أن يعاقبَه على سالفِ جُرْمِه بعدَ توبته منه
(2)
.
القولُ في تأويلِ قوله عز وجل: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7)} .
قال أبو جعفرٍ: اخْتلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِ قولِه: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ} ؛ فقال بعضُهم: معناه: لتُنِذرَ قومًا ما أَنْذَر اللهُ من قبلَهم من آبائِهم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ المثنى، قال: ثنا محمدُ بن جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن سماك، عن عكرمةَ في هذه الآيةِ:{لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ} قال: قد أُنْذِروا
(3)
.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: لتنذرَ قومًا [لم يُنْذَرُ]
(4)
آبَاؤُهم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ
(1)
في الأصل: "وآمن".
(2)
في م: "له"، وفي ت 1:"به".
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور إلى المصنف كما في المخطوطة المحمودية ص 350.
(4)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"ما أنذر".
آبَاؤُهُمْ}. قال: قال بعضُهم: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ} [ما أُنْذِر الناسُ من]
(1)
قبلهم. وقال بعضُهم: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ} . أي: هذه الأمةُ لم يأتِهم نذيرٌ، حتى جاءهم محمدٌ صلى الله عليه وسلم
(2)
.
واخْتَلف أهلُ العربيةِ في معنى {مَا} التي في قولِه: {مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ} . إذا وُجِّه معنى الكلامِ إلى أن آباءَهم قد كانوا أُنْذِروا، ولم يُرَدُّ بها الجحدُ؛ فقال بعضُ نحويِّى البصرةِ: معنى ذلك - إذا أُريد به غيرُ الجحدِ -: لتنذرَهم الذي أنْذِر آباؤُهم فَهُم غَافِلُونَ. وقال: ودخولُ الفاء في هذا المعنى لا يجوزُ، واللهُ أعلمُ. قال: وهو على الجحدِ أحسنُ، فيكونُ معنى الكلامِ: إنك لمن المرسلين إلى قومٍ لم يُنْذَرْ آباؤُهم؛ لأنهم كانوا في الفترةِ.
وقال بعضُ نحويِّى الكوفةِ
(3)
: إذا لم يُرَدُّ بـ "ما" الجحدُ، فإن معنى الكلامِ: لتنذرهم بما أُنْذِر آباؤُهم. فتُلْقَى الباءُ، فتكونُ "ما" في موضعِ نصبٍ:[كما قال: {أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت: 13].
وقوله]
(4)
: {فَهُمْ غَافِلُونَ} . يقولُ: فهم غافلون عما اللهُ فاعلٌ بأعدائِه المشركين به، من إحلالِ نقمتِه وسطوتِه بهم.
وقولُه: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} . يقول تعالى ذكرُه: لقد وجَب العذاب
(5)
على أكثرِهم؛ بأن
(6)
الله قد حتَم عليهم في أمِّ الكتابِ أنهم لا
(1)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"من إنذار الناس".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور إلى المصنف كما في المخطوطة المحمودية ص 350.
(3)
هو الفراء كما في معاني القرآن 2/ 272.
(4)
سقط من: م، ت 1.
(5)
في م: "العقاب".
(6)
في م: "لأن".
يُؤْمِنون [فلا يؤمنون]
(1)
، باللهِ، ولا يصدِّقون رسولَه.
القول في تأويلِ قولِه عز وجل: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9)}
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه: إنا جعَلنا أَيْمانَ هؤلاء الكفارِ مغلولةً إلى أعناقِهم بالأغلالِ، فلا تَنْبسِطُ
(2)
بشيءٍ من الخيراتِ. وهي في قراءةِ عبد اللهِ فيما ذُكِر: (إنا جعَلنا في أيمانِهم أغلالًا فهى إلى الأذقانِ)
(3)
.
وقولُه: {فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ} . يعنى: فأيمانهم مجموعةٌ بالأغلال في أعناقِهم، فكنَّى عن الأيمانِ، ولم يجرِ لها ذكرٌ؛ لمعرفةِ السامعين بمعنى الكلامِ، وأن الأغلالَ إذا كانت في الأعناقِ لم تكنْ إلَّا وأَيْمُنُ
(4)
أيدى المغلولين مجموعةٌ بها إليها، فاسْتُغنىَ بذكرِ كونِ الأغلالِ في الأعناقِ من ذكرِ الأيمانِ، كما قال الشاعرُ
(5)
:
وما أَدْرى إذا يمَّمتُ وجهًا
…
أريدُ الخيرَ أيُّهما يَلِيني
أَأَلْخيرُ الذي أنا أبْتَغِيهِ
…
أمِ الشرُّ الذي لا يَأْتليني
فكنَّى عن الشرِّ، وإنما ذكّر الخيرَ وحدَه؛ لعلم سامعِ ذلك بمعنى قائلِه، إذ كان الشرُّ مع الخيرِ يُذْكَرُ. والأذقانُ: جمعُ ذَقَنٍ، والذَّقَنُ: مجمعُ اللَّحْيَين.
وقوله: {فَهُمْ مُقْمَحُونَ} . والمُقْمَحُ: هو المُقْنِعُ، وهو أن يَحْدُرَ
(6)
الذقنَ
(1)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
(2)
في م، ت 1:"تبسط".
(3)
وهى قراءة شاذة لمخالفتها رسم المصحف. ينظر معاني القرآن للفراء 2/ 373.
(4)
سقط من: م، ت 1.
(5)
هو المثقب العبدى والبيت في ديوانه، وقد تقدم تخريج البيت الأول في 14/ 324.
(6)
حدر الشيء: أنزله من علو إلى سفل. الوسيط (ح د ر).
حتى يصيرَ في الصدر، ثم يرفَعَ رأسَه، في قولِ بعضِ أهلِ العلمِ بكلامِ العربِ مِن أهل البصرةِ
(1)
. وفى قولِ بعضِ الكوفيين
(2)
: هو الغاضُّ بصرَه بعدَ رفعِ رأسِه وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بن سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ} . قال: هو كقولِ اللهِ: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} [الإسراء: 29]. يعنى بذلك أن أيديَهم مُوثَقةٌ إلى أعناقِهم، لا يستطيعون أن يَبْسُطوها بخيرٍ
(3)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{فَهُمْ مُقْمَحُونَ} . قال: رافعو رءوسِهم، وأيديهم موضوعةٌ على أفواهِهم
(4)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ} . أي: فهم مغلولون عن كلِّ خيرٍ
(5)
.
(1)
هو أبو عبيدة كما في مجاز القرآن 2/ 157
(2)
هو الفراء كما في معاني القرآن 2/ 373
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 549، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 259 إلى ابن أبي حاتم مختصرًا.
(4)
تفسير مجاهد ص 559، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 259 إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم، وينظر تفسير ابن كثير 6/ 550.
(5)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 139، 140 عن معمر عن قتادة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 259 إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم.
وقوله: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا} . يقولُ تعالى ذكرُه: وجعَلنا من بين أيدى هؤلاء المشركين سَدًّا، وهو الحاجزُ بين الشيئين؛ إذا فُتح كان من فعلِ بني آدمَ، وإذا كان من فعل اللهِ كان بالضمِّ. وبالضمِّ قرأ ذلك عامةُ قرأةِ المدينةِ والبصرةِ وبعضُ الكوفيين
(1)
. وقرأه بعضُ المكيين وعامةٌ قرأة الكوفيين بفتحِ السينِ: {سَدًّا} في الحرفين كليهما
(2)
. والضمُّ أعجبُ القراءتين إليَّ في ذلك، وإن كانت الأخرى جائزةً صحيحةً.
وعنى بقولِه: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا} أنه زُيِّن لهم سوءُ أعمالِهم، فهم يَعْمَهون، ولا يُبْصِرون رَشَدًا، ولا يتبيَّنون
(3)
حقًّا.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني ابن حُميدٍ، قال: ثنا حكَّامٌ، عن عَنْبسةَ، عن محمدِ بن عبدِ الرحمنِ، عن القاسمِ بن أبى بَزَّةَ، عن مجاهدٍ في قوله:{مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا} . قال: عن الحقِّ.
حدَّثني محمد بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا} : عن الحقِّ، فهم يتردَّدون
(4)
.
(1)
وهى قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو وابن عامر وأبى بكر عن عاصم. السبعة لابن مجاهد ص 539.
(2)
وهي قراءة حمزة والكسائي وحفص عن عاصم. المصدر السابق.
(3)
في الأصل، ت 1:"يثبتون"، وفى م:"يتنبهون".
(4)
تفسير مجاهد ص 559، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 259 إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم، وينظر تفسير ابن كثير 6/ 550.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا} . قال: ضلالاتٍ
(1)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابنِ زيدٍ في قولِ اللَّهِ: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} . قال: جعَل هذا السدَّ بينهم وبينَ الإسلامِ والإيمانِ، فهم لا يَخْلُصون إليه. وقرأ:{سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6]. وقرأ: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ} الآية كلها [يونس: 96]. وقال: من منَعه اللهُ لا يستطيعُ
(2)
.
وقوله: {فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} . يقولُ: فَأَغْشَيْنَا أَبصارَ هؤلاء، أي: جعَلنا عليها غشاوةً، فهم لا يُبْصِرون هُدًى ولا ينتفعون به.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} هُدًى، ولا ينتفعون به
(3)
.
وذُكِر أن هذه الآيةَ نزَلت في أبى جهلِ بن هشامٍ حينَ حلَف أن يقتُلَه، أو يشدَخَ رأسَه بصخرةٍ.
ذكرُ الرواية بذلك
حدَّثني عمرانُ بنُ موسى، قال: ثنا عبد الوارثِ بنُ سعيدٍ، قال: ثنا عُمارةُ بنُ
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 140 عن معمر عن قتادة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور إلى عبد بن حميد والمصنف وابن أبي حاتم، كما في المخطوطة المحمودية ص 350.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 550، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 260 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور إلى عبد بن حميد والمصنف وابن أبي حاتم، كما في المخطوطة المحمودية ص 350.
أبي حفصة، عن عكرمة، قال: قال أبو جهل: لئن رأيتُ محمدًا لأفعَلَنَّ ولأفعلَنَّ. فأُنزلت: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا} إلى قولِه: {فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} . قال: فكانوا يقولون: هذا محمدٌ. فيقولُ: أين هو؟ أين هو؟ [لا يُبْصِرُه]
(1)
.
وقد رُوى عن ابن عباسٍ، أنه كان يقرأُ ذلك:{فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} بالعينِ، بمعنى أَعْشَيناهم عنك، وذلك أن العَشا [بالليل؛ و]
(2)
هو أن يمشىَ بالليلِ ولا يُبْصِرُ
(3)
.
القولُ في تأويل قولِه تعالى: {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11)}
قال أبو جعفر رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه: وسواءٌ يا محمدُ على هؤلاء الذين حق عليهم القولُ، أيُّ الأمرين كان منك إليهم؛ الإنذار، أو ترك الإنذارِ، فإنهم لا يؤمنون؛ لأن الله قد حكم عليهم بذلك.
وقولُه: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ} . يقول تعالى ذكرُه: إنما ينفَعُ إنذارُك يا محمدُ من آمن بالقرآنِ، واتَّبع ما فيه من أحكامِ اللَّهِ، {وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ}. يقولُ: وخاف الله حينَ يغيبُ عن أبصارِ الناظرين، لا المنافقَ الذي يستخفُّ بدينِ اللهِ إذا خلا، ويُظهرُ الإيمان في الملَا، ولا المشركَ الذي قد طبَع اللهُ على قلبِه.
(1)
في الأصل، ت 1:(أو لا يبصر). ولعل الصواب: (أي لا يبصر). والأثر عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 258 إلى المصنف.
(2)
سقط من: م، ت 1، وفي ت 2:"و".
(3)
ذكره القرطبي في تفسيره 15/ 10، وابن كثير في تفسيره 6/ 550.
وقوله: {فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ} . يقولُ: فبشِّرْ يا محمدُ هذا الذي اتَّبع الذكرَ وخشِيَ الرحمنَ بالغيبِ بمغفرةٍ من اللهِ لذنوبِه، {وَأَجْرٍ كَرِيمٍ}. يقولُ: وثوابٍ منه له في الآخرةِ كريمٍ، وذلك أن يعطيه على عمله ذلك الجنةَ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك
(1)
قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ} : اتباعُ الذكرِ اتباعُ القرآنِ
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)} .
قال أبو جعفر رحمه الله: يقول تعالى ذكرُه: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى} من خلقِنا، وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا} في الدنيا من خيرٍ وشرٍّ، وصالح الأعمال وسيئها.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلٌ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله:{إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا} [من عملٍ
(3)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه:]
(4)
(1)
بعده في الأصل: "قوله من اتبع الذكر".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 260 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
ذكره القرطبي في تفسيره 15/ 11 عن قتادة.
(4)
سقط من: الأصل، ت 1.
[{وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا}]
(1)
. قال: ما عمِلوا
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{مَا قَدَّمُوا} . قال: أعمالَهم
(3)
.
وقولُه: {وَآثَارَهُمْ} . يعنى: وآثارَ خُطاهم بأرجلهم. وذُكِر أن هذه الآيةَ نزَلت في قومٍ أرادوا أن يقرَبوا من مسجدِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ليقرَبَ عليهم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا نصرُ بنُ عليٍّ الجَهْضَميُّ، قال: ثنا أبو أحمدَ الزُّبَيريُّ، قال: ثنا إسرائيلُ، عن سماكٍ، عن عكرمةَ، عن ابن عباسٍ، قال: كانت منازلُ الأنصارِ متباعدةً من المسجدِ، فأرادوا أن ينتقلوا إلى المسجدِ، فنزَلت:{وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} . فقالوا: نثبتُ مكانَنا
(4)
.
حدَّثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبى، عن إسرائيل، عن سماكٍ، عن عكرمةَ، عن ابن عباسٍ، قال: كانت الأنصارُ بعيدةً منازلهم من المسجدِ، فأرادوا أن ينتقلوا. قال: فنزَلت: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} فثبتوا
(5)
.
حدَّثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبدُ الصمدِ، قال: ثنا شعبةُ، قال: ثنا الجُريريُّ،
(1)
سقط من: الأصل، ت 1.
(2)
ذكره القرطبي في تفسيره 15/ 11 عن ابن زيد.
(3)
تفسير مجاهد ص 559، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 260 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 553 عن المصنف.
(5)
أخرجه ابن ماجه (785) عن وكيع به، وأخرجه الطبراني (12310) من طريق إسرائيل عن سماك عن سعيد، عن ابن عباس، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 260 إلى الفريابي وأحمد في الزهد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه.
عن أبي نَضْرةَ، عن جابرٍ، قال: أراد بنو سلِمةَ قربَ المسجدِ. قال: فقال لهم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يا بني سلِمةَ، ديارَكم، فإنها
(1)
تُكْتَبُ آثارُكم"
(2)
.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا معتمرٌ، قال: سمِعتُ كَهْمسًا يحدِّثُ، عن أبي نَضْرةَ، عن جابرٍ، قال: أراد بنو سلِمةَ أن يتحوّلوا إلى قربِ المسجدِ. قال: والبقاعُ خاليةٌ، فبلَغ ذلك النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"يا بني سلِمةَ، ديارَكم، فإنها (1) تُكتب آثارُكم". قال: فأقاموا وقالوا: ما يَسرُّنا أنَّا كنا تحوَّلنا
(3)
.
حدَّثنا سليمان بن عمر بن خالد الرَّقي، قال: ثنا ابن المبارك، عن سفيانَ، عن طريفٍ، عن أبي نَضْرَةَ، عن أبي سعيدٍ الخُدْريِّ، قال: شكَت بنو سلِمةً بُعدَ منازلِهم إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فنزَلت:{إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} . فقال: "عَلَيْكم منازلَكم تُكتَبْ آثارُكم"
(4)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا أبو تُميلةَ، قال: ثنا الحسينُ، عن ثابتٍ، قال: مشيتُ مع أنسِ بن مالكٍ، فأسرَعتُ المشىَ، فأخَذ بيدى، فمشَينا رُويدًا، فلما قضَينا الصلاةَ قال أنسٌ: مشيتُ مع زيدِ بن ثابتٍ، فأَسْرعتُ المشيَ، فقال: يا
(1)
في م، ت 1:"إنها".
(2)
أخرجه أحمد 23/ 241 (14992)، وأبو عوانة 1/ 387، والبيهقى في الشعب (2888) من طريق عبد الصمد به، ومسلم (665/ 280)، والبيهقى في الشعب (2889) كلاهما من طريق عبد الصمد عن أبيه عن الجريري به، وأخرجه ابن حبان (2042) عن الجريرى به.
(3)
أخرجه البيهقى 3/ 64 من طريق محمد بن عبد الأعلى به، وأخرجه مسلم (665/ 281)، وأبو عوانة 1/ 388، والطبراني في الأوسط (4379) كلهم من طريق معتمر به، وابن خزيمة (451) من طريق أبي نضرة به.
(4)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف (1982)، والترمذى (3226)، وابن أبي حاتم - كما في تفسير ابن كثير 6/ 552، والواحدى في أسباب النزول ص 274، والحاكم 2/ 428، والبيهقي في الشعب (2890) من طريق سفيان الثورى به، والبزار - كما في تفسير ابن كثير 6/ 553 - من طريق أبي نضرة به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 260 إلى ابن المنذر وابن مردويه.
أنسُ، أما شعَرتَ أن الآثارَ تُكتَبُ؟ [أما شعَرتَ أن الآثارَ تُكْتبُ]
(1)
؟
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابن عُليَّةَ، عن يونسَ، عن الحسنِ، أن بني سلِمةَ كانت دُورُهم قاصيةً عن المسجدِ، فهمُّوا أن يتحوّلوا قربَ المسجدِ، فيشهَدوا الصلاةَ مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال لهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"ألا تحتسِبون آثارَكم يا بني سلِمةَ؟ ". فمكثوا في ديارهم
(2)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا حكَّامٌ، عن عَنْبسةَ، عن محمدِ عبد الرحمنِ، عن القاسمِ بن أبي بَزَّةَ، عن مجاهدٍ في قولِه:{مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} . قال: خُطاهم بأرجلِهم.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَآثَارَهُمْ} . قال: خُطاهم
(3)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة:{وَآثَارَهُمْ} . قال: قال الحسنُ [وقتادة]
(4)
: {وَآثَارَهُمْ} : خُطاهم
(5)
. وقال قتادةُ: لو كان مُغْفِلًا شيئًا من شأنِك يا بنَ آدمَ، أَغْفَل ما تُعَفِّى الرياحُ من هذه الآثارِ
(6)
.
(1)
سقط من: م، ت 1. والأثر ذكره ابن كثير 6/ 553 عن المصنف.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة 2/ 207 عن ابن علية به.
(3)
تفسير مجاهد ص 559، وأخرجه عبد بن حميد في تفسيره - كما في التغليق 2/ 278 - من طريق ابن أبي نجيح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 260 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4)
سقط من: م، ت 1.
(5)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 552.
(6)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 552، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 260 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن أبي حاتم.
وقوله: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} . يقولُ تعالى ذكرُه: وكلَّ شيءٍ كان أو هو كائنٌ أَحْصيناه فأَثْبتناه في أمِّ الكتابِ، وهو الإمامُ المبينُ. وقيل:{مُبِينٍ} ؛ لأنه يُبِينُ عن حقيقةِ جميعِ ما أُثْبِت فيه.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكر من قال ذلك
حدَّثنا ابنُّ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن منصورٍ، عن مجاهد:{فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} . قال: في أمِّ الكتابِ
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} : كلُّ شيءٍ مُحْصى عندَ اللهِ في كتابٍ
(2)
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} . قال: أمُّ الكتابِ الذي
(3)
عند الله فيه
(4)
الأشياءُ كلُّها، هو
(5)
الإمامُ المبينُ
(6)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ
(1)
تفسير الثورى ص 248 عن ليث عن مجاهد، وأخرجه ابن الضريس في فضائل القرآن (152) من طريق سفيان عن مجاهد، وذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 553، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 260، 261 إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 553، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 261 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن أبي حاتم.
(3)
في م، ت 1:"التي".
(4)
في م، ت 1، ت 2:"فيها".
(5)
في م: "هي".
(6)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 553.
مُرْسَلُونَ (14)}.
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكره لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: ومثِّلْ يا محمدُ لمشركي قومك مثلًا أصحاب القرية. ذكر أنها أنطاكية
(1)
، {إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ} ، اخْتَلف أهلُ العلمِ في هؤلاء الرسلِ، وفيمن كان أَرْسَلهم إلى أصحابِ القريةِ؛ فقال بعضُهم: كانوا رسلَ عيسى ابن مريمَ، وعيسى الذي كان أَرْسَلهم إليهم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدٌ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} . قال: ذُكِر لنا أن عيسى ابنَ مريمَ بعَث رجلين من الحواريِّين إلى أنطاكيةَ، مدينةٌ بالرومِ، فكذَّبوهما، فأعزَّهما بثالثٍ، {فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ} الآية)
(2)
.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا يحيى وعبدُ الرحمنِ، قالا: ثنا سفيانُ، قال: ثنى السُّديِّ، عن عكرمةَ:{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ} . قال: أنطاكيةَ
(3)
.
وقال آخرون: بل كانوا رسلًا من عندِ اللَّهِ أَرْسَلهم اللهُ إليهم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلَمةُ، قال: ثنا ابن إسحاقَ، فيما بلَغه،
(1)
أنطاكية: مدينة من الثغور الشامية معروفة. معجم ما استعجم للبكرى 1/ 200.
(2)
أخرجه المصنف في تاريخه 2/ 19، وعبد الرزاق في تفسيره 2/ 140، 141 عن معمر عن قتادة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 261 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره /6/ 554، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 261 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر.
عن ابن عباسٍ، وعن كعبِ الأحبارِ، وعن وهبِ بن مُنَبِّهٍ، قال: كان بمدينةِ أنطاكيَّة، فرعونُ من الفراعنةِ، يقال له: أبطيحسُ
(1)
بنُ أبطيحسَ [بن أبطيحسَ]
(2)
. يعبُدُ الأصنامَ، صاحبُ شركٍ، فبعَث اللهُ المرسلين، ثلاثةٌ؛ صادقٌ، و [صدوقٌ، وشلومٌ]
(3)
، فقدَّم الله إليه وإلى أهلِ مدينته منهم اثنين، فكذبوهما، ثم عزَّز اللهُ بثالثٍ، فلما دعتْه الرسلُ، ونادتْه بأمرِ اللهِ، وصدَعت بالذي أُمِرت به، وعابَت دينَه، وما هم عليه، قال لهم:{إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ}
(4)
.
وقوله: {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} . يقولُ تعالى ذكرُه: حينَ أَرْسَلنا إليهم اثنين يدعوانِهم إلى اللهِ، فكذَّبوهما فشدَّدناهما بثالثٍ، وقوَّيناهما به.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} . قال: شدَّدنا
(5)
.
حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا حكَّامٌ، عن عَنْبسةً، عن محمدِ بن عبدِ الرحمنِ،
(1)
في ت 1: "أنطبخس"، وفى التاريخ، وتفسير ابن كثير:"أنطيخس". والمثبت موافق لما في عرائس المجالس ص 363.
(2)
سقط من: م، ت 1.
(3)
في م، ت:1: "مصدوق، وسلوم".
(4)
أخرجه المصنف في تاريخه 2/ 18، 19.
(5)
تفسير مجاهد ص 559 ومن طريقه الفريابي - كما في التغليق 4/ 291.
عن القاسمِ بن أبي بَزَّةَ، عن مجاهدٍ في قولِه:{فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} . قال: زِدْنا.
حدَّثنا يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زِيدٍ في قولِه: {فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} . قال: جعَلناهم ثلاثةً. قال: ذلك التعزُّزُ. قال: والتعزُّزُ: القوةُ.
وقولُه: {فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ} . يقولُ: فقال المرسلون الثلاثةُ لأصحابِ القريةِ: إنا إليكم أيُّها القومُ مرسلون، بأن تُخْلِصوا العبادةَ للهِ وحدَه لا شريكَ له، وتتبرَّءوا مما تعبُدون من الآلهةِ والأصنامِ.
وبالتشديدِ في قولِه: {فَعَزَّزْنَا} . قرأت القرأةُ سوى عاصمٍ، فإنه قرأه بالتخفيفِ
(1)
، والقراءة عندنا بالتشديدِ؛ لإجماعِ الحجةِ من القرأةِ عليه، وأن معناه إذا شُدِّد: فقوَّينا، وإذا خُفِّف: فغلَبنا، وليس لـ "غلَبنا" في هذا الموضعِ كثيرُ معنًى.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرهُ: قال أصحابُ القريةِ للثلاثةِ الذين أُرْسِلوا إليهم، حينَ أَخْبَروهم أنهم أُرْسلوا إليهم بما أُرْسِلوا به: ما أنتم أيُّها القومُ إلا ناسٌ مثلُنا، ولو كنتم رسلًا، كما تقولون، لكنتم ملائكة، {وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ}. يقولُ: قالوا: وما أَنْزَل الرحمنُ إليكم من رسالةٍ ولا كتابٍ، ولا
(1)
قرأ بالتشديد ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم، وقرأ بالتخفيف أبو بكر والمفضل عن عاصم. ينظر السبعة لابن مجاهد ص 539.
أمَركم فينا بشيءٍ، {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ}. [يقولُ: ما أنتم في شيءٍ إلا أنكم تكذِبون]
(1)
في قِيلِكم أنكم إلينا مرسلون،
{قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} . يقولُ: قال الرسلُ: ربُّنا يعلَمُ إنا إليكم لمرسلون فيما دَعَوْناكم إليه، وإنا لصادقون،
{وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} . يقولُ: وما علينا إلا أن نبلِّغكم رسالةَ اللَّهِ التي أَرْسَلنا بها إليكم، بلاغًا يبين لكم أنا أَبْلَغنا كموها، فإن قبِلتموها فحظَّ أنفسِكم تُصيبون، وإن لم تقبَلوها فقد أدَّينا ما علينا، واللهُ وليُّ الحكمِ فيه.
القولُ في تأويلِ قولهِ تعالى: {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه: قال أصحابُ القريةِ للرسلِ: {إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} : يعنون: إنا تشاءَمنا بكم، فإن أصابَنا بلاءٌ فمن أجلِكم.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} : قالوا: إن أصابَنا شر، فإنما هو من أجلِكم
(2)
.
وقولُه: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ} . يقولُ: لئن لم تنتهوا عما ذكَرتم من أنكم أُرْسِلتم إلينا بالبراءةِ من آلهتِنا والنهيِ عن عبادتِنا، {لَنَرْجُمَنَّكُمْ}. قيل: عنى بذلك لنَرْجُمَنَّكم بالحجارةِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا
(1)
سقط من: م، ت 1.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 141، عن معمر عن قتادة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 261 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
لَنَرْجُمَنَّكُمْ}: بالحجارةِ
(1)
.
{وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} . يقولُ: ولينالَنَّكم منا عذابٌ مُوجِعٌ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه: قالت الرسلُ لأصحابِ القريةِ: {قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ} . يقولون: أعمالُكم وأرزاقُكم وحظُّكم من الخيرِ والشرِّ معكم، ذلك كلُّه في أعناقِكم، وما ذلك من شؤمِنا؛ إن أصابكم سوءٌ فيما كُتِب عليكم، وسبَق لكم من اللهِ
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} : أي: أعمالُكم معكم
(1)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلَمةُ، عن ابن إسحاقَ، فيما بلَغه، عن ابن عباس، وعن كعبٍ، وعن وهبِ بن مُنَبِّهٍ: قالت لهم الرسلُ: {طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} أي: أعمالُكم معكم
(2)
.
وقولُه: {أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ} . اختلفت القرأةُ في قراءةِ ذلك؛ فقرأتْه عامةُ قرأةِ
(1)
تقدم تخريجه في الصفحة السابقة.
(2)
تقدم تخريجه في ص 413، 414.
الأمصارِ: {أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ} . بكسرِ الألفِ من "إن" وفتحِ ألفِ الاستفهامِ
(1)
، بمعنى: إنْ ذكَّرناكم فمعكم طائرُكم، ثم أُدْخِل على "إِنْ" التي هي حرفُ جزاءٍ أَلفُ استفهامٍ، في قول بعضِ نحويِّى البصرةِ، وفى قولِ بعضِ الكوفيين منويٌّ به التكريرُ، كأنه قيل: قالوا طائرُكم معكم إن ذُكِّرتم فمعكم طائرُكم. فحُذِف الجوابُ اكتفاءً بدلالةِ الكلامِ عليه.
وإنما أَنْكَر قائلُ هذا القولِ القولَ الأولَ؛ لأن ألفَ الاستفهامِ قد حالت بينَ الجزاءِ وبينَ الشرطِ، فلا تكونُ شرطًا لما قبلَ حرفِ الاستفهامِ.
وذُكِر عن أبي رَزِينٍ أنه قرَأ ذلك: {أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ} . بمعنى: أَلِأَن ذُكِّرتم، طائرُكم معكم
(2)
؟
وذُكِر عن بعض قارئِيه أنه قرأه: (قالوا طائرُكم مَعَكُمْ أَيْنَ ذُكِرْتُمْ). بمعنى: حيثُ ذُكِرْتُم، بتخفيفِ الكافِ مِن {ذُكِّرْتُمْ}
(3)
:
والقراءةُ التي لا نجيزُ القراءةَ بغيرِها القراءةُ التي عليها قرأَةُ الأمصارِ، وهى دخولُ ألفِ الاستفهامِ على حرفِ الجزاءِ، وتشديدِ الكافِ، على المعنى الذي ذكرناه عن قارئيه كذلك؛ لإجماعِ الحجة من القرأةِ عليه
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ} :
(1)
قرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائى بهمزتين، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو بهمزة بعدها ياء أي بتسهيل الهمزة الثانية. ينظر السبعة لابن مجاهد ص 540.
(2)
ذكر هذه القراءة الفراء في معاني القرآن 2/ 374، وهي قراءة شاذة.
(3)
ذكرت هذه القراءة عن أبي جعفر والحسن وقتادة وعيسى الهمداني، وهى قراءة شاذة. ينظر البحر المحيط 7/ 327.
أي: إن ذكَّرناكم الله تطيَّرتم بنا؟! {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ}
(1)
.
وقوله: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} . يقولُ: قالوا لهم: ما بكم التطيُّرُ بنا، ولكنكم قومٌ أهلُ معاصٍ للَّهِ وآثامٍ، قد غلَبت عليكم الذنوبُ والآثامُ.
وقولُه: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} . يقولُ: وجاء من أقصى مدينةِ هؤلاء القومِ الذين أَرْسَلتُ إليهم هذه الرسلَ، رجلٌ يسعى إليهم، وذلك أن أهلَ مدينتِه هذه عزَموا واجْتَمعت آراؤُهم على قتلِ هؤلاء الرسلِ الثلاثةِ، فيما ذُكِر، فبلَغ ذلك هذا الرجلَ، وكان منزلُه أقصى المدينةِ، وكان مؤمنًا، وكان اسمُه، فيما ذُكِر، حبيبَ بنَ مُرَى.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك جاءت الأخبارُ.
ذكرُ الأخبار الواردةِ بذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا مؤمَّلُ بنُ إسماعيلَ، قال: ثنا سفيانُ، عن عاصمٍ الأحولِ، عن أبي مِجْلَزٍ، قال: كان اسمُ صاحبِ "يس" حبيبَ بنَ مُرَى
(2)
.
حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا سلَمةُ، قال: كان من حديثِ صاحبِ "يس" فيما حدَّثنا محمدُ بن إسحاقَ، فيما بلَغه، عن ابن عباسٍ، وعن كعبِ الأحبارِ، وعن وهبِ بن منبهٍ اليمانيِّ، أنه كان رجلًا من أهلِ أنطاكيَةَ، وكان اسمُه حبيبًا، وكان يعملُ الجَريرَ
(3)
، وكان رجلًا سقيمًا قد أَسْرَع فيه الجُذامُ، وكان منزلُه
(1)
تقدم تخريجه في ص 416.
(2)
أخرجه المصنف في تاريخه 2/ 21، وأخرجه سفيان الثورى في تفسيره - كما في فتح البارى 6/ 467 - عن عاصم به.
(3)
في ت 1، والتاريخ:"الحرير". والجرير: الحبال. ينظر التاج: (ج ر ر).
عندَ بابٍ من أبوابِ المدينةِ قاصيًا، وكان مؤمنًا ذا صدَقةٍ، يجمَعُ كسبَه إذا أَمْسَى، فيما يذكرون، فيقسِمُه نصفين، فيُطعِمُ نصفًا عيالَه، ويتصدَّقُ بنصفٍ، فلم يُهِمَّه سقمُه ولا عملُه ولا ضعفُه عن عملِ ربِّه، قال: فلما أَجْمَع قومُه على قتلِ الرسلِ، بلَغ ذلك حبيبًا وهو على بابِ المدينةِ الأقصى، فجاء يسعى إليهم يذكِّرُهم باللهِ، ويدعوهم إلى اتباعِ المرسلين، فقال:{يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ}
(1)
.
حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا سلَمةُ، عن ابن إسحاقَ، عن عبدِ اللهِ بن عبد الرحمنِ بن معمرِ
(2)
بن حزمٍ، أنه حدَّث عن كعبِ الأحبارِ، قال: ذُكِر له حبيبُ بن زيدِ بن عاصمٍ، أخو بنى مازنِ بن النجَّارِ، الذي كان مُسَيْلِمةُ الكذَّابُ قطَّعه باليمامةِ حين جعَل يسألُه عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فجعَل يقولُ: أتَشهدُ أن محمدًا رسولُ اللهِ؟ فيقولُ: نعم. ثم يقولُ: أتشهدُ أني رسولُ اللهِ؟ فيقولُ له: لا أسمعُ. فيقولُ مسيلِمةُ: أتسمَعُ هذا، ولا تسمَعُ هذا؟ فيقولُ: نعم. فجعَل يقطِّعُه عضوًا عضوًا، كلَّما سأَله لم يزدْه على ذلك حتى مات في يديه. قال كعبٌ حينَ قيل له: اسمُه حبيبٌ: وكان واللهِ صاحبُ (يس) اسمُه حبيبٌ
(3)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلَمةُ، عن ابن إسحاقَ، عن الحسنِ بن عُمارةَ، عن الحكمِ بن عُتيبةَ، عن مِقْسمٍ أبي القاسمِ، مولى عبدِ اللهِ بن الحارثِ بن نوفلِ، عن مجاهدٍ، عن عبدِ اللَّهِ بن عباسٍ، أنه كان يقولُ: كان اسمُ صاحبِ "يس" حبيبًا، وكان الجُذامُ قد أَسْرَع فيه
(4)
.
(1)
تقدم تخريجه ص 413، 414.
(2)
بعده في الأصل، م:"بن عمرو"، وبعده في ت:1: "عن عمرو". والمثبت من تفسير ابن كثير. وينظر تهذيب الكمال 15/ 217.
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 558 عن ابن إسحاق به، كما ذكره الحافظ في الفتح 6/ 467 عن عبد الله بن عبد الرحمن أبى طوالة به.
(4)
أخرجه المصنف في تاريخه 2/ 21.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} . قال: ذُكِر لنا أن اسمَه حبيبٌ، وكان في غارٍ يعبُدُ ربَّه، فلما سمِع بهم أَقْبَل إليهم
(1)
.
وقوله: {قَالَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: قال الرجلُ الذي جاء من أقصى المدينة لقومِه: يا قومِ، اتَّبِعوا المرسلين الذين أَرْسَلهم اللهُ إليكم، واقْبَلوا منهم ما أَتَوْكم به.
وذُكر أنه لما أتى الرسلَ سألهم: هل يطلُبون على ما جاءوا به أجرًا؟ فقالت الرسلُ: لا. فقال لقومِه حينَئذٍ: {اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ} على نصيحتِهم لكم {أَجْرًا} .
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشر، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، قال: لما انتهى إليهم، يعنى إلى الرسلِ، قال: هل تسألون على هذا من أجر؟ قالوا: لا. فقال عندَ ذلك: {يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ}
(2)
.
حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا سلَمةُ، عن ابن إسحاقَ، فيما بلَغه، عن ابن عباسٍ، وعن كعبِ الأحبارِ، وعن وهبِ بن منبِّهٍ:{اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} : أي: لا يسألونكم أموالَكم على ما جاءوكم به من الهُدَى، وهم لكم ناصحون، فاتَّبِعوهم تهتدوا بهُداهم
(3)
.
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 141 عن معمر عن قتادة.
(2)
أخرجه المصنف في تاريخه 2/ 20، وعبد الرزاق في تفسيره 2/ 141 عن معمر عن قتادة مطولًا، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 261 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
أخرجه المصنف في تاريخه 2/ 20، وتقدم أوله ص 413، 414.
وقولُه: {وَهُمْ مُهْتَدُونَ} . يقولُ: وهم على إستقامةٍ من طريقِ الحقِّ، فاهْتَدوا أيُّها القومُ بهداهم.
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقول تعالى ذكرُه مخبرًا عن قيلِ هذا الرجلِ المؤمنِ: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} . أي: وأيُّ شيءٍ لى لا أعبُدُ الربَّ الذي خلَقني؟ {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} . يقولُ: وإليه تصيرون أنتم أيُّها القومُ، وتُردُّون جميعًا. وهذا حينَ أَبْدَى لقومِه إيمانَه باللَّهِ وتوحيدَه.
كما حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلَمةُ، عن ابن إسحاقَ، فيما بلَغه، عن ابن عباسٍ، وعن كعبِ الأحبارِ، وعن وهبِ بن منبهٍ قال: ناداهم، يعني نادي قومَه، بخلافِ ما هم عليه من عبادةِ الأصنامِ، وأَظْهر لهم دينَه وعبادةَ ربِّه، وأَخْبَرهم أنه لا يملِكُ نفعَه ولا ضرَّه غيرُه، فقال:{وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} . ثم عابَها، فقال: {إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ
(1)
لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ}
(2)
.
وقولُه: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} . يقولُ: أأعبُدُ من دونِ اللَّهِ آلهةً، يعنى: معبودًا سواه، {إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ شَيْئًا}. يقولُ: إن مسَّنىَ الرحمنُ بضرٍّ وشدَّةٍ {لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ} . يقولُ: لا تغن عنى شيئًا بكونِها لى شفعاءَ،
(1)
بعده في م: "وشدة".
(2)
تتمة الأثر السابق.
ولا تقدر على دفع ذلك الضر عنى، وَلَا يُنقِذُونِ ?. يقولُ: ولا يخلصونى من ذلك الضرِّ إذا مسَّنى.
وقولُه: {إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} . يقول: إنى إذا اتخذتُ من دونِ اللَّهِ آلهةً هذه صفتُها، إذن لفي ضلال مبين، لمن تأمَّله، جورُه عن سبيلِ الحقِّ.
وقولُه: {إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} . اخْتُلِف في معنى ذلك؛ فقال بعضُهم: قال هذا القولَ هذا المؤمنُ لقومِه، يُعْلِمُهم إيمانَه باللهِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ، فيما بلَغه، عن ابن عباسٍ، وعن كعبٍ، وعن وهبِ بن منبِّهٍ:{إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} : إنى آمنت بربِّكم الذي كفَرتم به، فاسمَعوا قولى
(1)
.
وقال آخرون: بل خاطَب بذلك الرسلَ وقال لهم: اسْمَعوا قولى، لتشهَدوا لى بما أقولُ لكم عندَ ربي، وأنى قد آمنتُ بكم واتبعتُكم. فَذُكِر أنه لما قال هذا القولَ، ونصَح لقومِه النصيحةَ التي ذكَرها اللهُ في كتابِه، وثَبوا عليه فقتَلوه.
ثم اخْتَلف أهلُ التأويلِ في صفةِ قتلِهم إياه؛ فقال بعضُهم: رجَموه بالحجارةِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} : هذا رجلٌ دعا قومَه إلى اللَّهِ، وأَبْدَى لهم النصيحةَ، فقتَلوه على ذلك. وذُكِر لنا أنهم كانوا يرجُمونه بالحجارةِ، وهو يقولُ: اللهمَّ اهدِ قومى،
(1)
تتمة الأثر المتقدم في ص 421.
اللهمَّ اهدِ قومى، اللهمَّ اهدِ قومى. حتى أَقْعَصوه
(1)
كذلك
(2)
.
وقال آخرون: بل وثَبوا عليه، فوطِئوه بأقدامِهم حتى مات.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا سلَمةُ، عن ابن إسحاقَ، فيما بلَغه، عن ابن عباسٍ، وعن كعبٍ، وعن وهبِ بن منبهٍ، قال:[لما قال]
(3)
لهم: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} إلى قولِه: {فَاسْمَعُونِ} . وثَبوا عليه
(4)
وثبةَ رجلٍ واحدٍ، فقتَلوه واستضعفوه، لضعفه وسقمِه، ولم يكنْ أحدٌ يدفَعُ عنه
(5)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلَمةُ، عن ابن إسحاقَ، عن بعضِ أصحابِه، أن عبدَ اللهِ بنَ مسعودٍ كان يقولُ: وطِئوه بأرجلِهم حتى خرَج قُصْبُه
(6)
من دُبِرِه
(7)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه: قال اللهُ له إذ قتَلوه كذلك فلقِيه: {ادْخُلِ الْجَنَّةَ} . فلما دخلها وعاين ما أَكْرمه اللهُ به لإيمانِه وصبرِه فيه،
قال: {يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي} . يقولُ: يا ليتهم يعلَمون أن السببَ الذي
(1)
ضربه فأقعصه: أي قتله مكانه. اللسان (ق ع ص).
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 141 عن معمر عن قتادة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 261 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
سقط من: م.
(4)
سقط من: م.
(5)
تتمة الأثر المتقدم في ص 421.
(6)
القصب: الأمعاء.
(7)
أخرجه المصنف في تاريخه 2/ 20.
من أجلِه غفَر لي ربي ذنوبي، وجعَلنى من الذين أَكْرَمهم اللهٌ [بإدخالهم إياهم]
(1)
جنتَه، كان إيماني باللهِ وصبرى فيه حتى قُتِلت، فيؤمنوا باللهِ ويَسْتَوجِبوا الجنةَ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا سلَمةُ، قال: ثنى ابن إسحاقَ، عن بعضِ أصحابهِ، أن عبدَ اللهِ بنَ مسعودٍ كان يقولُ: قال اللهُ له: ادخلِ الجنةَ. فدخَلها حيًّا يُرْزَقُ فيها، قد أَذْهَب اللهُ عنه سقمَ الدنيا وحزنَها ونصبَها، فلما أَفْضَى إلى رحمةِ اللهِ وجنتِه وكرامتِه قال:{يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ}
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ} . فلما دخَلها {قَالَ يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} . قال: فلا تَلْقى المؤمنَ إلا ناصحًا، ولا تَلْقاه غاشًّا، فلما عايَن ما عايَن من كرامةِ اللهِ قال:{يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} . تمنَّى على اللهِ أن يعلَمَ قومُه ما عايَن من كرامةِ اللهِ، وما هجَم عليه
(3)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ} . قال: قيل: قد وجَبت له الجنةُ. قال ذاك حينَ رأى الثوابَ
(4)
.
(1)
في م: "بإدخاله إياه".
(2)
تقدم تخريجه في الصفحة السابقة
(3)
ذكره ابن كثير في البداية 2/ 14. وفي التفسير 6/ 557.
(4)
تفسير مجاهد ص 559، 560، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 262 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا مؤمَّلٌ، قال: ثنا سفيانُ، عن ابن جُرَيجٍ، عن مجاهدٍ:{قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ} . قال: وجَبت لك الجنةُ
(1)
.
حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا حكَّامٌ، عن عَنْبسةَ، عن محمدِ بن عبدِ الرحمنِ، عن القاسمِ بن أبى بَزَّةَ، عن مجاهدٍ:{قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ} . قال: وجَبت له الجنةُ.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا يحيى، عن سفيانَ، عن عاصمٍ الأحولِ، عن أبي مِجْلَزٍ في قولِه:{بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي} . قال: إيماني بربِّي، وتصديقى رسلَه
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه: وما أنزَلنا على قومِ هذا المؤمنِ الذي قتَله قومُه لدعائِه إيَّاهم إلى اللهِ، ونصيحتِه لهم، {مِنْ بَعْدِهِ}. يعنى: مِن بعدِ مَهْلِكه، {مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ} .
واختَلف أهلُ التأويلِ في معنى الجندِ الذي أخبَر اللهُ أنه لم يُنْزِلْ إلى قومِ هذا المؤمنِ بعدَ قَتْلِهموه؛ فقال بعضُهم: عُنِى بذلك أنه لم يُنْزِلِ اللهُ بعد ذلك إليهم رسالةً، ولا بَعَث إليهم نبيًّا.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى،، وحدَّثني
(1)
تفسير الثورى ص 249.
(2)
تفسير الثورى ص 249، وذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 557 عن سفيان به.
الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ} . قال: رسالةٍ
(1)
.
حدَّثنا ابن حُمَيدٍ، قال: ثنا حَكَّامٌ، عن عَنْبَسةَ، عن محمدِ بن عبدِ الرحمنِ، عن القاسمِ بن أبي بَزَّةَ، عن مجاهدٍ مثلَه.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ} .
قال: فلا واللهِ ما عاتَب اللهُ قومَه بعدَ قتلِه، {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ}
(2)
.
وقال آخرون: بل عُنِى بذلك أن الله تعالى ذكرُه لم يَبْعَثُ لهم جنودًا يُقاتِلُهم بها، ولكنه أهلَكهم بصيحةٍ واحدةٍ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن حُمَيدٍ، قال: ثنا سَلَمةُ، قال: ثنى محمدُ بنُ إسحاقَ، عن بعضِ أصحابِه، أن عبدَ اللهِ بنَ مسعودٍ، قال: غضِب اللهُ له - يعني لهذا المؤمن - لاستضعافِهم إيَّاه، غَضْبَةً لم يُبْقِ
(3)
مِن القوم شيئًا، [فعَجَّل لهم النِّقْمَةَ]
(4)
بما اسْتَحَلُّوا منه، وقال:{وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ} . يقول: ما كابَدْناهم
(5)
بالجُموعِ. أي: الأمرُ أيْسَرُ علينا من ذلك، {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} ، فأَهْلَك اللهُ ذلك الملكَ وأهلَ
(1)
تفسير مجاهد ص 560.
(2)
تفسير عبد الرزاق 2/ 141 عن معمر عن قتادةَ بنحوه.
(3)
في م: "تبق".
(4)
في الأصل: "فعجل الله النقمة له"، والمثبت موافق لمصدر التخريج.
(5)
في م: "كاثرناهم"، وفي ت 1، ت 2:"قايدناهم".
أَنْطَاكِيَةَ، فبادُوا عن وجهِ الأرضِ، فلم تَبْقَ
(1)
منهم باقيةٌ
(2)
.
وهذا القولُ الثاني أولى التأويلين بتأويلِ الآية، وذلك أن الرسالةَ لا يقالُ لها جُنْدٌ، إلا أن يكونَ أراد مجاهدٌ بذلك الرسلَ، فيكون وجهًا، وإن كان أيضًا من المفهومِ بظاهرِ الآيةِ بعيدًا، وذلك أن الرسلَ من بنى آدمَ لا يُنْزَلون من السماءِ، والخبرُ في ظاهرِ هذه الآيةِ عن أنه لم يُنْزِلْ من السماءِ بعدَ مَهْلِكِ هذا المؤمنِ على قومِه جندًا، وذلك بالملائكةِ أشبهُ منه بينى آدمَ.
وقوله: {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} . يقولُ: ما كانت هَلَكَتُهم إلا صيحةً واحدةً، أنزلها اللهُ من السماءِ عليهم.
واختَلَفت القَرَأةُ في قراءةِ ذلك؛ فقَرَأته عامةُ قَرَأةِ الأمصارِ: {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} ، نصبًا على التأويلِ الذي ذكرتُ، وأنّ في {كَانَتْ} مضمرًا، وذُكِر عن أبي جعفرٍ المدنيِّ أنه قرَأه (إلا صيحةٌ واحدةٌ) رفعًا على أنها مرفوعةٌ بـ "كان"، ولا مضمَرَ في "كان"
(3)
.
والصوابُ مِن القراءة في ذلك عندى النَّصْبُ
(4)
؛ لإجماعِ الحجةِ على ذلك، [وعلى أن في "كانت" مضمرًا]
(5)
.
وقولُه: {فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} . يقولُ: فإذا هم هالِكون.
القولُ في تأويلِ قوله عز وجل: {يَاحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30)} .
(1)
في ت 1، والتاريخ:"يبق".
(2)
أخرجه المصنف في تاريخه 2/ 20، 21.
(3)
ينظر النشر 2/ 264.
(4)
قراءة الرفع والنصب كلتاهما صواب.
(5)
سقط من: الأصل.
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه: يا حسرةً من العبادِ على أنفسِها، وتَنَدُّمًا وتَلَهُّفًا في استهزائِهم برسلِ الله، {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ} من اللهِ، {إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} . وذُكِر أن ذلك في بعضِ القراءةِ
(1)
: (يا حَسْرَةَ العِبادِ علَى أنفُسِها)
(2)
.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{يَاحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} : أي: يا حسرةَ العبادِ على أنفسِها، على ما ضَيَّعَتْ مِن أمرِ اللهِ، وفَرَّطَتْ في جَنْبِ اللهِ. قال: وفى بعضِ القراءةِ (1): (يا حَسْرَةَ العِبادِ على أنْفُسِها)
(3)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{يَاحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} . قال: كانت حسرةً عليهم استهزاؤُهم بالرسلِ
(4)
.
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ
(1)
في م: "القراءات".
(2)
هي قراءة شاذة لمخالفتها المصحف.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 141 عن معمر به مختصرا، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 262 إلى عبد بن حميدٍ وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4)
تفسير مجاهدٍ ص 560. ومن طريقه الفريابي - كما في تغليق التعليق 4/ 291 - وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 262 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
قولَه: {يَاحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} . يقولُ: يا وَيْلًا للعبادِ
(1)
.
وكان بعضُ أهلُ العربيةِ يقولُ
(2)
: معنى ذلك: يا لها حسرةً على العبادِ.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه: ألم يَرَ هؤلاء المشركون باللهِ من قومِك يا محمدُ كم أهلَكنا قبلَهم بتكذيبِهم رسلَنا، وكفرِهم بآياتِنا من القرونِ الخاليةِ:{أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ} . يقولُ: ألم يَرَوا أنهم إليهم لا يَرْجِعون.
وبنحوِ الذي قلنا الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ} . قال: عادًا، وثمودَ، وقرونًا بينَ ذلك كثيرًا
(3)
.
و "كم" من قوله: {كَمْ أَهْلَكْنَا} في موضعِ نصبٍ، إن شئتَ بوقوعِ "يروا" عليها - وقد ذُكِر أن ذلك في قراءة عبدِ اللهِ:(أَلَمْ يَرَوْا مَنْ أَهْلَكْنا) - وإن شئتَ بوقوعِ "أهلكنا" عليها، وأما "أنهم" فإن الألفَ منها فُتِحت بوقوعِ "يروا" عليها، وذُكر عن بعضهم أنه كسر الألفَ منها على وجه الاستئناف بها، وتَرْكِ إعمالِ "يروا" فيها.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره - كما في الإتقان 2/ 38 من طريق أبي صالح به، وذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 560 عن علي بن أبي طلحة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 262 إلى ابن المنذر.
(2)
هو الفراء في معاني القرآن 2/ 375.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 263 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
وقولُه: {وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: وإِنَّ كلَّ هذه القرونِ التي أَهْلَكناها والذين لم يُهْلِكُهم وغيرَهم، عندَنا يومَ القيامةِ جميعُهم {مُحْضَرُونَ} .
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} . أي: هم يومَ القيامةِ
(1)
.
واختَلَفت القَرَأَةُ في قراءةِ ذلك؛ فقرَأته عامةُ قَرَأةِ المدينةِ والبصرةِ وبعضُ الكُوفيِّين: (وَإِنْ كُلٌّ لَمَا) بالتخفيفِ، توجيهًا منهم إلى أن ذلك "ما" أُدخِلت عليها اللامُ التي تَدْخُلُ جوابًا لـ "إن"، وأنَّ معنى الكلام: وإِنْ كلٌّ لجميعٌ
(2)
لدينا مُحْضَرون. وقرَأ ذلك عامةُ قَرَأَةِ أهلِ الكوفةِ: {لما} لما بتشديدِ الميمِ
(3)
. ولتشديدِهم ذلك عندَنا وجهان؛ أحدُهما، أن يكونَ الكلامُ عندَهم كان مرادًا به: وإن كلٌّ لمِمَّا جميعٌ. ثم حُذِفت إحدى الميماتِ لَمّا كَثُرْن، كما قال الشاعرُ
(4)
:
غداةَ طَفَتْ عَلْمَاءِ
(5)
بَكْرُ بنُ وائلٍ
…
وعُجْنا صُدورَ الخيلِ نحوَ تَمِيمِ
والآخرُ، أن يَكُونوا أرادوا أن تكونَ "لَمَّا" بمعنى إلّا مع "إنْ" خاصةً، فتكونَ نَظِيرةَ "إنما" إذا وُضِعتْ موضعَ "إلّا". وقد كان بعضُ نَحْويِّى الكوفةِ يقولُ: كأنها "لَمْ" ضُمَّتْ إليها "ما"، فصارتا جميعًا استثناءً، وخرَجتا من حدِّ الجَحْدِ. وكان
(1)
تتمة الأثر المتقدم تخريجه في الصفحة السابقة.
(2)
في الأصل: "لما جميع".
(3)
قرأ بالتشديد عاصم وابن عامر وحمزة، والباقون بالتخفيف. ينظر التيسير ص 103.
(4)
نسبه المبرد في الكامل 3/ 297 لقَطَرِيِّ بن الفُجاءة، وذكره الفراء في معاني القرآن 2/ 377 غير منسوب.
(5)
قال المبرد 3/ 299: وهو يريد: على الماء. فإن العرب إذا التقت في مثل هذا الموضع لامان، استجازوا حذف أحدهما استثقالًا للتضعيف. اهـ.
بعضُ أهلُ العربية يقولُ
(1)
: لا أعْرِفُ وجهَ "لمَّا" بالتشديدِ.
والصواب من القولِ في ذلك عندى أنهما قراءتان مشهورتان، متقارِبَتا المعنى، فبأيِتهما قرَأ القارئُ فمصيبٌ.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه: ودلالةٌ لهؤلاء المشركين على قدرةِ اللهِ على ما يشاءُ، وعلى إحيائِه من مات من خلقِه، وإعادتِه بعدَ فَنائِه كهيئتِه قبلَ مماتِه - إحياؤُه الأرضَ الميْتةَ التي لا نَبْتَ فيها ولا زرعَ، بالغيثِ الذي يُنْزِلُه من السماءِ، حتى يُخْرج زرعَها، ثم إخراجُه منها الحبَّ، الذي هو قوتٌ لهم وغذاءٌ، فمنه يأكلون.
وقولُه: {وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} . يقولُ تعالى ذكرُه: وجعَلنا في هذه الأرضِ التي أحْييناها بعدَ موتها، بساتينَ من نخيلٍ وأعنابٍ، {وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ}. يقولُ: وأنْبَعنا فيها من عيونِ الماءِ.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقول تعالى ذكرُه: أنشأنا هذه الجناتِ في هذه الأرضِ؛ ليَأْكُل عبادى من ثمرِه (وَمَا عَمِلَتْ
(2)
أَيْدِيهِمْ). يقولُ: ليَأْكُلوا من ثمرِ
(1)
ذكر الفراء في معاني القرآن 2/ 377 هذا القول ونسبه للكسائي.
(2)
في ت 1، ت 2:"عملته". وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم: (وما عملت) بغير الهاء - =
الجناتِ التي أنشأنا لهم، وما عَمِلت أيديهم مما غرَسوا هم وزرَعوا.
و "ما" التي في قولِه: (وَما عَمِلَتْ
(1)
أيديهم) في موضعِ خفضٍ، عطفًا على الثمرِ، بمعنى: ومِن الذي عَمِلت أيديهم
(2)
. وهي في قراءةِ عبدِ اللهِ فيما ذُكِر: (ومِمَّا
(3)
عَمِلَتْهُ) بالهاءِ، على هذا المعنى، فالهاءُ في قراءتِنا مُضمَرةٌ؛ لأن العربَ تُضْمِرُها أحيانًا وتُظْهِرُها في صِلاتِ "مَن" و "ما" و "الذي". ولو قيل:"ما" بمعنى المصدرِ، كان مذهبًا، فيكونُ معنى الكلامِ: ومِن عمل أيديهم. ولو قيل: إنها بمعنى الجَحْدِ، ولا موضعَ لها كان أيضًا مذهبًا، فيكونُ معنى الكلامِ: ليَأْكُلوا من ثمرِه، ولم تَعْمَلُه أيديهم.
وقولُه: {أَفَلَا يَشْكُرُونَ} . يقولُ: أفلا يَشْكُرُ هؤلاء القومُ الذين رزَقناهم هذا الرزقَ، من هذه الأرضِ المَيْتَةِ التي أحْيَيْناها لهم، مَن رَزَقهم ذلك وأنعم عليهم به.
القولُ في تأويلِ قوله عز وجل: {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه: تنزيهًا وتبرِئةً للذى خلَق الألوانَ المختلفةَ كلَّها من نباتِ الأرضِ، {وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ}. يقولُ: وخلَق من أولادِهم ذكورًا وإناثًا، {وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ} أيضًا من الأشياءِ التي لم يُطْلِعْهم عليها، خلَق كذلك أزواجًا مما يُضِيفُ إليه هؤلاء المشركون، ويَصِفُونه به من الشركاءِ، وغيرَ ذلك.
= وهى اختيار المصنف - وقرأ الباقون: {وما عملته} بالهاء. ينظر الكشف عن وجوه القراءات السبع 2/ 216، وحجة القراءات ص 598.
(1)
في ت 1، ت 2:"عملته".
(2)
سقط من: م، ص، ت 1، ت 2، ت 3.
(3)
في الأصل، ومعاني القرآن للفراء 2/ 377:"ما"، والمثبت موافق لما في تفسير ابن كثير 6/ 561، وقراءة:(مما عملته) شاذة.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه: ودليلٌ لهم أيضًا على قدرةِ اللهِ على فعلِ كلِّ ما شاء، {اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ}. يقولُ: نَنْزِعُ عنه النهارَ. ومعنى "منه" في هذا الموضعِ: "عنه"، كأنه قيل: نَسْلَخُ عنه النهارَ، فتَأْتِى بالظُّلمةِ ونَذْهَبُ بالنهارِ. ومنه قولُه:{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا} [الأعراف: 175]. أي: خرَج منها وترَكها، فكذلك انسلاخُ الليلِ من النهارِ. وقولُه:{فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} . يقولُ: فإذا هم قد صاروا في ظلمةٍ بمجيءِ الليلِ.
وقال قتادةُ في ذلك ما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} . قال: يُولِجُ الليلَ في النهارِ، ويُولِجُ النهارَ في الليلِ
(1)
.
وهذا الذي قاله قتادةُ في ذلك عندى، من معنى سلخِ النهارِ من الليلِ - بعيدٌ؛ وذلك أن إيلاجَ الليلِ في النهارِ إنما هو زيادةُ ما نقَص من ساعاتِ هذا في ساعاتِ الآخرِ، وليس السَّلْخُ من ذلك في شيءٍ؛ لأن النهارَ يُسْلَخُ من الليلِ كلِّه، وكذلك الليلُ من النهارِ كلِّه، وليس يُولَجُ كلُّ الليلِ في كلِّ النهارِ، ولا كلُّ النهارِ في كلِّ الليلِ.
وقولُه: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} . يقولُ تعالى ذكرُه: والشمسُ تَجْرِى لموضعِ قرارِها. بمعنى: إلى موضعِ قرارِها. وبذلك جاء الأثرُ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 263 إلى المصنف وعبد بن حميدٍ وابن أبي حاتم.
ذكرُ الروايةِ بذلك
حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: ثنا جابرُ بنُ نوحٍ، قال: ثنا الأعمشُ، عن إبراهيمَ التيميِّ، عن أبيه، عن أبي ذرٍّ الغِفاريِّ، قال: كنتُ جالسًا عندَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في المسجدِ، فلما غرَبَتِ الشمسُ قال:"يا أبا ذَرٍّ، هل تَدْرِى أَينَ تَذْهَبُ الشمسُ"؟ قلتُ: اللهُ ورسولُه أعلمُ. قال: "فإنها تَذْهَبُ فَتَسْجُدُ بينَ يَدَيْ رَبِّهَا، ثم تَسْتَأْذِنُ بالرجوعِ فيُؤْذَنُ لها، وكأنها قد قيل لها: ارْجِعى من حيث حِئْتِ. فتَطْلُعُ من مكانِها، وذلك مستقَرُّها"
(1)
.
وقال بعضُهم في ذلك بما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} . قال: وقتٌ واحدٌ لا تَعْدُوهُ
(2)
.
وقال آخرون: معنى ذلك: تَجْرِى لمجْرًى لها إلى مقاديرِ مواضعِها. بمعنى أنها تَجْرى إلى أبعد منازلِها في الغروبِ، ثم تَرْجِعُ ولا تُجاوِزُه. قالوا: وذلك أنها لا تزالُ تَتَقَدَّمُ كلَّ ليلةٍ، حتى تَنْتَهِيَ إلى أبعدِ مغارِبِها، ثم تَرْجِعُ.
وقولُه: {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} . يقولُ: هذا الذي وصَفْنا من جريِ الشمسِ لمستقَرٍّ لها، تقديرُ العزيزِ في انتقامِه من أعدائِه، العليمِ بمصالحِ خلقِه وغيرِ ذلك من الأشياءِ كلِّها، لا تَخْفَى عليه خافيةٌ.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ
(1)
أخرجه الطيالسي (462)، وأحمد 5/ 152، 108، 177 (الميمنية)، والبخاري (3199، 4802، 7424)، ومسلم (159)، والترمذى (2186، 3227)، والنسائى في الكبرى (11430)، وابن حبان (6154) وغيرهم، من طريق الأعمش به. وأخرجه أحمد (5/ 145، 165 (الميمنية)، ومسلم (159)، وأبو داود (4002)، وابن حبان (6153) وغيرهم، من طريق إبراهيم التيمى به. وينظر ما تقدم 10/ 15، 21.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 263 إلى المصنف وعبد بن حميدٍ وابن أبي حاتم وابن الأنباري في المصاحف.
الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)}.
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: اختَلَفت القَرَأَةُ في قراءةِ قوله: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} ؛ فقرأه بعضُ المَكِّيين وبعضُ المَدَنيين وبعضُ البَصْريين: (والقَمَرُ) رفعًا
(1)
، عطفًا بها على "الشمسِ"، إذ كانت "الشمسُ" معطوفةً على "الليلِ"، فأتبَعوا "القمرَ" أيضًا "الشمسِ" في الإعرابِ؛ لأنه أيضًا من الآياتِ، كما الليلُ والشمسُ
(2)
آيتان، فعلى هذه القراءةِ تأويلُ الكلامِ: وآيةٌ لهم القمرُ قَدَّرناه منازلَ. وقرأ ذلك بعضُ المَكِّيين وبعضُ المَدَنيين وبعضُ البَصْريين وعامةُ قَرَأةِ الكوفةِ نصبًا: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ}
(3)
. بمعنى: وقَدَّرنا القمرَ منازلَ، كما فعَلنا ذلك بالشمس. فرَدُّوه على الهاءِ من الشمسِ في المعنى؛ لأن الواوَ التي فيها للفعل المتأخرِ.
والصوابُ من القولِ في ذلك عندَنا أنهما قراءتان مشهورتان صحيحتا المعنى، فبأيتِهما قرأ القارئُ فمصيبٌ، فتأويلُ الكلامِ: وآيةٌ لهم تقديرُنا القمرَ منازل؛ للنقصانِ بعدَ تناهيه وتمامِه واستوائِه. {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} ، والعُرْجونُ: هو
(4)
من العِذْقِ من الموضعِ النابتِ في النخلةِ إلى موضعِ الشَّماريخ.
وإنما شَبَّهَه جلَّ ثناؤُه بالعرجونِ القديمِ - والقديمُ هو اليابسُ - لأن ذلك من العِذْقِ لا يكادُ يوجَدُ إلا متقوِّسًا منحنيًا إذا قَدُم ويَبِسَ، ولا يكادُ أن يُصابَ مستويًا معتدِلًا كأغصانِ سائر الأشجارِ وفروعِها، فكذلك القمرُ إذا كان في آخرِ الشهرِ قبلَ
(1)
قراءة الرفع هي قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو، ينظر حجة القراءات ص 599.
(2)
في م: "النهار".
(3)
قراءة النصب هي قراءة ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي. المصدر السابق.
(4)
ليست في: م، ت 1، ت 2.
استسرارِه
(1)
، صار في انحنائِه وتَقَوُّسِه نظيرَ ذلك العُرْجونِ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} . يقولُ: أَصلِ العِذْقِ العتيقِ
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} . يعنى بالعُرْجُونِ: العِذْقَ اليابسَ.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا ابن عُليَّةَ، عن أبي رَجاءٍ، عن الحسنِ في قولِه:{وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} . قال: كعِذْقِ النخلةِ إذا قَدُم فانحنَى
(3)
.
حدَّثني أحمدُ بنُ إبراهيمَ الدَّوْرَقيُّ، قال: ثنا أبو يزيدَ الخَرّازُ، يعنى خالدَ بنَ حَيَّانَ الرَّقِّيَّ، عن جعفرِ بن بُرْهَانَ، عن يزيد بن الأصمِّ في قولِه:{حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} . قال: عِذْقِ النخلة إذا قدم انحنَى.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا يحيى بنُ واضحٍ، قال: ثنا عيسى بنُ عبيدٍ، عن عكرمةَ في قولِه:{كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} . قال: النخلةِ القديمةِ.
حدَّثني محمدُ بنُ عُمارةَ الأسديُّ، قال: ثنا عبيدُ اللهِ بنُ موسى، قال: أخبَرنا
(1)
استسر القمر: خفى ليلة السرار، وهى آخر ليلة في الشهر. الوسيط (س ر ر).
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره - كما في الإتقان 2/ 38 - من طريق أبي صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 264 إلى ابن المنذر.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 264 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
إسرائيلُ، عن أبي يحيى، عن مجاهدٍ:{كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} قال: العِذْقِ اليابسِ
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمر بن علي المُقَدَّميُّ، [سَمِعتُ أبا عاصمٍ، يقولُ وحدَّثنا ابن سنانٍ القَزّازُ، قال: حدَّثنا أبو عاصمٍ يقولُ]
(2)
: سَمِعتُ سليمانَ التيميَّ في قولِه: {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} . قال: العِذْقِ.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} . قال: قَدَّره اللهُ منازلَ، فجعَل يَنْقُصُ حتى كان مِثلَ عِذْقِ النخلةِ، شَبَّهه بعِذْقِ النخلةِ
(3)
.
وقولُه: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: لا الشمسُ يَصْلُحُ لها إدراكُ القمرِ، فيَذْهَبَ ضوءُها بضوئه، فتكونَ الأوقاتُ كلُّها نهارًا لا ليلَ فيها، {وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ}. يقولُ تعالى ذكرُه: ولا الليلُ بفائتٍ النهارَ، حتى تَذْهَبَ ظُلمتُه بضيائه، فتكونَ الأوقاتُ كلُّها ليلًا.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ، على اختلافٍ منهم في ألفاظِهم في تأويلِ ذلك، إلا أن معانيَ عامتِهم الذي قلناه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا حَكّامٌ عن عَنْبَسَةَ، عن محمدِ بن عبدِ الرحمنِ،
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 264 إلى المصنف وعبد بن حميد.
(2)
في م، ت 2:"وابن سنان القزاز قالا ثنا أبو عاصم والمقدمى قال"، وفي ت 1:"وحدثنا ابن سنان القزاز قالا سمعنا أبا عاصم يقول".
(3)
أخرجه أبو الشيخ في العظمة (682) من طريق سعيد به. وهو في تفسير عبد الرزاق 2/ 141 عن معمر، عن قتادة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 264 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
عن القاسمِ بن أبي بَزَّةَ، عن مجاهدٍ في قولِه:{لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} . قال: لا يَسْتُرُ
(1)
ضوءُها ضوءَ الآخَرِ، لا يَنْبَغِى لها ذلك.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجِيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} . قال: لا يَسْتُرُ
(2)
أحدُهما ضوءَ الآخَرِ، ولا يَنْبَغِى ذلك لهما. وفى قولِه:{وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} . قال: يَتَطالبان حَثِيثَيْن، يُسْلَخُ
(3)
أَحدُهما من الآخَرِ
(4)
.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا الأَشْجَعِيُّ، عن سفيانَ، عن إسماعيلَ، عن أبي صالحٍ:{لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} . قال: لا يُدْرِكَ هذا ضوءَ هذا، ولا هذا ضوءَ هذا
(5)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} : ولكلٍّ حدٌّ وعلمٌ لا يَعْدُوه، ولا يقصرُ دونَه، إذا جاء سلطانُ هذا ذهَب سلطانُ هذا، وإذا جاء سلطانُ هذا ذهَب سلطانُ هذا
(6)
.
(1)
في النسخ: "يشبه".
(2)
في النسخ: "يشبه. وهو تصحيف. والمثبت من صحيح البخارى موافق للسياق. وبعده في م، وتفسير مجاهد: "ضوء".
(3)
في م: "ينسلخ".
(4)
تفسير مجاهد ص 560. ومن طريقه الفريابي - كما في تغليق التعليق 4/ 291.
(5)
تفسير سفيان ص 249، ومن طريقه أخرجه أبو الشيخ في العظمة (670) بنحوه، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 264 إلى ابن أبي حاتم.
(6)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 264 إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم.
ورُوِى عن ابن عباسٍ في ذلك ما حدَّثنا محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قوله:{لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} . يقولُ: إذا اجتَمعا في السماءِ كان أحدُهما بينَ يَدَى الآخرِ، فإذا غابا غابَ أَحدُهما بينَ يَدَيِ الآخرِ.
حُدِّثتُ عن الحسينِ، قال: سَمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبَرنا عُبَيدٌ، قال: سَمِعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} : هذا في ضوءِ القمرِ وضوءِ الشمسِ، إذا طلعت الشمسُ لم يَكُنْ للقمرِ ضوءٌ، وإذا طلَع القمرُ بضوئِه
(1)
لم يَكُنْ للشمسِ ضوءٌ، {وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ}. قال: في قضاءِ اللهِ وعلمِه أن لا يَفُوتَ الليل النهارُ حتى يُدْركَه، فيُذْهِبَ ظُلْمَتَه، وفى قضاءِ اللهِ أن لا يَفُوتَ النهارَ الليلُ حتى يُدْرِكَه، فيَذْهَبَ بضوئِه
(2)
.
و "أنْ" مِن قولِه: {أَنْ تُدْرِكَ} في موضعِ رفعٍ بقولِه: {يَنْبَغِي} .
وقولُه: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} . يقولُ: وكلُّ ما ذكَرنا
(3)
مِن الشمسِ والقمرِ والليلِ والنهارِ في فَلَكٍ يَجْرُون.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ المثنى، قال: ثنا أبو النُّعْمانِ الحَكَمُ بنُ عبدِ اللهِ العِجْليُّ، قال: ثنا شعبةُ، عن مسلمٍ البَطينِ، عن سعيدِ بن جُبَيرٍ، عن ابن عباسٍ:
(1)
سقط من: الأصل.
(2)
ذكره أبو حيان في البحر المحيط 7/ 337.
(3)
في الأصل، ت 2:"ذكرت".
{وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} . قال: في فَلَكٍ كَفَلَكِ المَغْزَلِ.
حدَّثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبدُ الصَّمَدِ، قال: ثنا شعبةُ، قال: ثنا الأعمشُ، عن مسلمٍ البَطينِ، عن سعيدِ بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ مثلَه
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، قال: مَجْرَى كلِّ واحدٍ منهما - يعنى الليلَ والنهارَ - {فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} : يَجْرُون
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} . أي: في فَلَكِ السماءِ يَسْبَحون
(3)
.
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}
(4)
. يقولُ: دَورَانٍ، {يَسْبَحُونَ}. يقولُ: يَجْرُون
(5)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} . يعنى: كلٌّ في فلكٍ في السماواتِ
(6)
.
(1)
أخرجه أبو الشيخ في العظمة (654)، وإبراهيم الحربى في غريبه - كما في تغليق التعليق 4/ 258 - من طريق الأعمش به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 318 إلى ابن أبي حاتم.
(2)
تقدم تخريجه في 16/ 267.
(3)
تقدم تخريجه في 16/ 266.
(4)
بعده في م، ت 2:"دورانا".
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره - كما في الإتقان 2/ 29 - من طريق أبي صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 318 إلى ابن المنذر.
(6)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 318 إلى المصنف وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.
القولُ في تأويل قولِه عز وجل: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ
(1)
فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44)}.
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه: ودليلٌ لهم أيضًا، وعلامةٌ على قُدْرتِنا على كلِّ ما نشاءُ، {حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ}. يعنى: مَن نَجَا مِن ولدِ آدم في سفينةِ نوحٍ، وإيَّاها عنَى جلَّ ثناؤُه بالفُلْكِ المشحونِ، والفلكُ: هي السفينةُ، والمشحونُ: المملوءُ المُوقَرُ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} . يقولُ: الممتلئِ
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} . يعنى: المُثَقَّلِ
(3)
.
حدَّثنا سليمانُ بنُ عبدِ الجبارِ، قال: ثنا محمدُ بنُ الصلتِ، قال ثنا أبو كُدَينةَ، عن عطاءٍ، عن سعيدٍ:{الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} . قال: المُوقَرِ
(4)
.
حدَّثنا عِمرانُ بنُ موسى، قال: ثنا عبدُ الوارثِ، قال: أخبَرنا يونسُ، عن
(1)
هنا وفيما سيأتي في الأصل: "ذرياتهم". وهى قراءة نافع وابن عامر. وقرأ الباقون؛ وهم ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائى {ذريتهم} على التوحيد. ينظر حجة القراءات ص 599، 600.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره - كما في الإتقان 2/ 39 - من طريق أبي صالح به.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 91 إلى المصنف.
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 565.
الحسنِ في قولِه: {الْمَشْحُونِ} . قال: المحمولِ.
حُدِّثْتُ عن الحسينِ، قال: سمعتُ أبا مُعاذٍ يقولُ: أَخبَرنا عُبَيدٌ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} . يعنى سفينةَ نوحٍ عليه السلام
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} : المُوقَرِ، يعنى سفينةَ نوحٍ.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} . قال: الفلك المشحونُ: المَرْكَبُ الذي كان فيه نوحٌ، والذرِّيةُ: التي كانت في ذلك المَرْكَبِ، قال: والمشحونُ: الذي قد شُحِن، الذي قد جُعل فيه ليَرْكَبَه أهلُه، جعَلوا فيه ما يُريدون، فربَّما امتَلأ، وربما لم يَمْتَلِئْ.
حدَّثنا الفضلُ بنُ الصبّاحِ، قال: ثنا محمدُ بنُ فُضَيلٍ، عن عطاءٍ، عن سعيدِ بن جُبَيرٍ، عن ابن عباسٍ، قال: أتَدْرون ما الفُلْكُ المشحونُ؟ قلنا: لا. قال: هو المُوقَرُ
(2)
.
حدَّثنا عمرُو بنُ عبدِ الحميدِ الآمُليُّ، قال: ثنا مَرْوانُ
(3)
، عن جُوَيبرِ، عن الضحاكِ في قولِه:{الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} . قال: المُوقَرِ.
وقولُه: {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: وخلَقْنا
(1)
ذكرُه ابن كثير في تفسيره 6/ 565.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 8/ 2791 من طريق ابن فضيل به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 91 إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر. ونقله الحافظ في تغليق التعليق 4/ 292 عن المصنف وقال: هذا إسناد حسن وتقدم تخريجه 17/ 605.
(3)
في م: "هارون". وينظر تهذيب الكمال 27/ 403.
لهؤلاء المشركين المُكَذِّبيك يا محمدُ، تَفَضُّلًا منا عليهم، مِن مثلِ ذلك الفُلْكِ الذي كنا حَمَلْنا مِن ذرِّيةِ آدمَ مَن حمَلنا فيه، الذي يَرْكَبونه من المراكبِ.
ثم اختلَف أهلُ التأويلِ في الذي عُنِى بقولِه: {مَا يَرْكَبُونَ} ؛ فقال بعضُهم: هي السفنُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا الفضلُ بنُ الصَّبَّاحِ، قال: ثنا محمدُ بنُ فُضَيلٍ، عن عطاءٍ، عن سعيدِ بن جُبيَرٍ، عن ابن عباسٍ قال: أَتَدْرُون ما: {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} ؟ قلنا: لا. قال: هي السفنُ، جُعِلت لهم
(1)
مِن بعدِ سفينةِ نوحٍ على مِثْلِها
(2)
.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ
(3)
، قال: ثنا سفيانُ، عن السُّدِّيِّ، عن أبي مالكٍ:{وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} . قال: السفنَ الصغارَ
(4)
.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا يحيى، قال: ثنا سفيانُ، عن السُّدِّيِّ، عن أبي مالكٍ في قولِه:{وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} . قال: السفنَ الصغارَ، ألَا تَرَى أنه قال:{وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ} ؟
حدَّثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن منصورِ بن زاذانَ، عن الحسنِ في هذه الآيةِ:{وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} . قال: السفنَ الصغارَ
(5)
.
(1)
سقط من: م، ت 2.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 566 عن المصنف، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 264 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(3)
بعده في م: "قال ثنا يحيى".
(4)
ينظر تفسير القرطبي 15/ 35 وتفسير ابن كثير 6/ 566.
(5)
ينظر تفسير القرطبي 15/ 35.
حدَّثنا حاتمُ بنُ بكرٍ الضَّبِّيُّ، قال: ثنا عثمانُ بنُ عمرَ، عن شعبةَ، عن إسماعيلَ، عن أبي صالحٍ:{وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} . قال: السفنَ الصغارَ
(1)
.
حُدِّثْتُ عن الحسينِ، قال: سمعتُ أبا مُعاذٍ، يقولُ: أخبَرنا عبيدٌ، قال: سَمِعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} . يعنى: السفنَ التي اتُّخِذَت بعدها، يعنى بعدَ سفينةِ نوحٍ
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} . قال: هي السفنُ التي يُنتفعُ بها
(3)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} . قال: وهى هذه الفُلُوكُ
(4)
.
حدَّثني يونسُ، قال: ثنا محمدُ بنُ عُبَيدٍ، عن إسماعيلَ بن أبي خالدٍ، عن أبي صالحٍ في قولِه:{وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} . قال: نعم مِن مِثْلِ سفينةِ نوحٍ
(5)
.
وقال آخرون: بل عنى بذلك الإبلَ.
(1)
ينظر تفسير ابن كثير 6/ 566.
(2)
ينظر تفسير القرطبي 15/ 35، وتفسير ابن كثير 6/ 566.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 264 إلى المصنف وعبد بن حميد.
(4)
كذا في الأصل، ت 1، ت 2. وفى م:"الفلك". ولفظة الفلك تطلق على المفرد والجمع والمذكر والمؤنث. وذكر سيبويه أنها تجمع على "أفلاك". ولم نجد فيما بين أيدينا من مراجع أنها تجمع على "فلوك". ينظر اللسان وتاج العروس (ف ل ك)، وليس في كلام العرب لابن خالويه ص 268، 269.
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 264 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} . يعنى: الإبلَ خَلَقها اللهُ كما رأيتَ: فهى سفنُ البَرِّ، يَحْمِلون عليها ويَرْكَبونها
(1)
.
حدَّثنا نصرُ بنُ عليٍّ، قال: ثنا غُنْدَرٌ،، عن عثمانَ بن غِياثٍ، عن عكرمةَ:{وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} . قال: الإبلَ.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن السُّدِّيِّ، قال: قال عبدُ الله بنُ شَدَّادٍ: {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} هي الإبلُ
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} . قال: من الأنعامِ
(3)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، قال: قال الحسنُ: هي الإبلُ
(4)
.
وأشبهُ القولَين بتأويلِ ذلك قولُ مَن قال: عُنِى بذلك السفنُ. وذلك لدلالةِ قولِه: {وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ} . على أن ذلك كذلك، وذلك أن الغَرَقَ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 264 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 264، 265 إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد والمصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
تفسير مجاهد ص 560، ومن طريقه الفريابي في تفسيره - كما في تغليق التعليق 4/ 291 - وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 265 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 264 إلى المصنف وعبد بن حميد.
معلومٌ أنه لا يكونُ إلا في الماءِ، ولا غَرَقَ في البرِّ.
وقولُه: {وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ} . يقولُ تعالى ذكرُه: وإِن نَشَأْ نُغْرِقْ هؤلاء المشركين إذا ركِبوا الفُلْكَ في البحرِ، {فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ}. يقولُ: فلا مُغِيثَ لهم إذا نحن غَرَّقْناهم يُغِيثُهم فيُنَجِّيهم من الغرقِ.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ} . أي: فلا مُغِيثَ لهم
(1)
.
وقولُه: {وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ} . يقولُ: ولا هو يُنْقِذُهم مِن الغَرَقِ شيءٌ إن نحن أغرَقْناهم في البحرِ، إلا أن تُنْقِذَهم نحن رحمةً مِنَّا لهم، فنُنَجِّيَهم منه.
وقولُه: {وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} . يقولُ: ولِيُمَتِّعَهم إلى أجلٍ هم بالِغوه. فكأنه قال: ولا هم يُنْقَذون، إلا أن نَرْحَمَهم فنُمَتِّعَهم إلى أجلٍ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} .
أي: إلى الموتِ
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (46)} .
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 144 عن معمر عن قتادةَ. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 265 إلى عبد بن حميدٍ وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 265 إلى عبد بن حميد والمصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه: وإذا قيل لهؤلاء المشركين باللهِ، المُكذِّبين رسولَه محمدًا صلى الله عليه وسلم: احْذَروا ما مضَى بينَ أيديكم مِن نِقَمِ اللهِ ومَثُلاتِه بمَن حلَّ ذلك
(1)
به من الأممِ قبلَكم، أن يَحِلَّ مثلُه بكم، بشِرْكِكم وتكْذيبِكم رسولَه، {وَمَا خَلْفَكُمْ}. يقولُ: وما بعدَ هَلاكِكم، مما أنتم لاقُوه إن هَلَكتُم على كفرِكم الذي أنتم عليه، {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}. يقولُ: ليَرْحَمَكُم ربُّكم إن أنتم حذِرتُم ذلك، واتَّقيتُموه بالتوبةِ من شِرْكِكم، والإيمانِ به، ولُزُومِ طاعتِه فيما أوجَب عليكم مِن فرائضِه.
وينحو الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ} : وقائعَ اللهِ فيمَن خَلا قبلَهم من الأممِ، وما خلفَهم مِن أمرِ الساعةِ
(2)
.
وكان مجاهدٌ يقولُ في ذلك ما حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ}
(3)
. قال: ما مضَى من ذنوبِهم، [{وَمَا خَلْفَكُمْ}
(4)
. قال: ذنوبَهم
(5)
]
(6)
.
(1)
سقط من: الأصل، ت 1.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 144 عن معمر عن قتادة به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 265 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
في الأصل، ت 1، ت 2:"أيديهم".
(4)
في الأصل، الأصل، ت 1، ت 2:"خلفهم".
(5)
تفسير مجاهد ص 560. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 265 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(6)
سقط من: م.
وهذا القولُ قريبُ المعنى من القولُ الذي قلنا؛ لأن معناه: اتَّقوا عقوبةَ ما بينَ أيديكم مِن ذنوبِكم، وما خلفَكم مما تَعْمَلون من الذنوبِ ولم تَعْمَلوه بعد، فذلك بعدَ تخويفٍ لهم العقابَ على كفرِهم.
وقولُه: {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} . يَقولُ تعالى ذكرُه: وما تَجِيءُ هؤلاء المشركين من قريشٍ آيةٌ. يعنى حجةٌ مِن حُجَجِ اللهِ، وعلامةً مِن علاماتِه على حقيقةِ توحيدِه، وتَصْديقِ رسولِه، {إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ}: لا يتفكَّرون فيها، ولا يَتَدَبَّرونها، فيَعْمَلوا
(1)
بها، ما احتجَّ اللهُ عليهم بها.
فإن قال قائلٌ: وأين جوابُ قولِه: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ} ؟ قيل: جوابُه وجوابُ قولِه: {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ} قولُه: {إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} ؛ لأن الإعراضَ منهم كان عن كلِّ آيةٍ للهِ، فاكْتُفِى بالجوابِ عن قولِه:{اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ} ، وعن قولِه:{وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ} . بالخبرِ عن إعراضِهم عنها لذلك؛ لأن معنى الكلام: وإذا قيل لهم: اتَّقوا ما بينَ أيديكم وما خلفَكم أعرَضوا، وإذا أتَتْهم آيةٌ أعرَضوا.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه: وإذا قيل لهؤلاء المشركين باللهِ: أنفِقوا من رزقِ اللهِ الذي رزَقكم، فأدُّوا منه ما فَرض اللهُ عليكم فيه لأهلِ حاجتِكم
(1)
في م، ت 1، ت 2:"فيعلموا".
ومَسْكَنَتِكم. قال الذين أنكَروا وحدانيةَ اللهِ وعبَدوا مَن دونَه، للذين آمنوا باللهِ ورسولِه: أَنُطْعِمُ أموالَنا وطعامَنا مَن لو يشاءُ اللهُ أطعَمه؟!
وفي قولِه: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} وجهان؛ أحدُهما، أن يكونَ مِن قيلِ الكفارِ للمؤمنين، فيكونَ تأويلُ الكلامِ حينَئذٍ: ما أنتم أيُّها القومُ في قبلِكم لنا: أنفِقوا مما رزَقكم اللهُ على مساكينِكم إلا في ذَهابٍ عن الحقِّ، وجَوْرٍ عن الرُّشْدِ، مُبِينٍ لَمَن تَأمَّلَه وتَدَبرَه أنه في ضلالٍ. وهذا أولى وجهَيه بتأويلِه.
والوجهُ الآخرُ، أن يكونَ ذلك من قبلِ اللهِ للمشركين، فيكونَ تأويلُه حينَئذٍ: ما أنتم أيُّها الكافرون في قيلِكم للمؤمنين: أَنُطْعِمُ مَن لو يشاءُ اللهُ أطعَمه. إلا في ضلالٍ مبينٍ، عن أن قيلَكم ذلك لهم ضلالٌ.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه: ويقولُ هؤلاء المشركون المُكذِّبون وعيدَ اللهِ، والبعثَ بعدَ المماتِ، يَسْتَعْجِلون ربَّهم بالعذابِ:{مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} . أي: الوعدُ بقيامِ الساعةِ: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أيُّها القومُ، وهذا قولُهم لأهلِ الإيمانِ بالله ورسولِه.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه: ما يَنْتَظِرُ هؤلاء المشركون الذين يَسْتعجِلون بوعيدِ اللهِ إيَّاهم إلا صيحةً واحدةً تأخُذُهم. وذلك نفخةُ الفَزَعِ عندَ قيامِ الساعةِ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ [وجاءت الآثارُ]
(1)
.
ذكرُ مَن قال ذلك، وما فيه من الأثرِ
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا ابن أبي عَدِيٍّ ومحمدُ بنُ جعفرٍ، قالا: ثنا عوفُ بنُ أبي جميلةَ، عن أبي المغيرةِ القوَّاسِ، عن عبد اللهِ بن عمرٍو، قال: لَيُنْفَخَنَّ في الصورِ والناسُ في طُرُقِهم وأسواقِهم ومجالسِهم، حتى إن الثوبَ لَيَكونُ بينَ الرجلَين يَتَساوَمان، فما يُرْسِلُه أحدُهما من يده حتى يُنْفَخَ في الصورِ، وحتى إن الرجلَ ليَغْدُو مِن بيتِه، فما يَرْجِعُ [إلى بيتِه]
(2)
حتى يُنْفَخَ في الصُّورِ، وهي التي قال اللهُ:{مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً} الآية
(3)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ} : ذُكر لنا أن نبيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم كان يقولُ: "تَهِيجُ الساعةُ بالناسِ؛ والرجلُ يَسْقِي ماشيتَه، والرجلُ يُصْلِحُ حوضَه، والرجلُ يُقِيمُ سِلْعتَه في سوقِه، والرجلُ يَخْفِضُ مِيزانَه ويَرْفَعُه، وتَهِيجُ بهم وهم كذلك، فلا يَسْتطيعون تَوْصِيةً ولا إلى أَهْلِهِم يَرْجِعون"
(4)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} . قال: النفخةُ نفخةٌ واحدةٌ.
حدَّثنا أبو كُرَيبٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ بنُ محمدٍ المُحاربيُّ، عن إسماعيلَ
(1)
سقط من: الأصل، ت 1.
(2)
سقط من: م، ت 2.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 265 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 265 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن أبي حاتم.
ابن رافعٍ، عمَّن ذكرُه، عن محمدِ بن كعبٍ القُرَظِيِّ، عن أبي هريرةَ، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إن الله لمَّا فَرَغَ مِن خَلْقِ السماواتِ والأرضِ، خلَق الصُّورَ فأعْطاه إسرافيلَ، فهو واضِعُه على فِيهِ، شاخصٌ ببصرِه إلى العرشِ، يَنْتَظِرُ متى يُؤْمَرُ". قال أبو هريرةَ: يا رسولَ اللهِ، وما الصورُ؟ قال:"قَرْنٌ". قال: وكيف هو؟ قال: "قَرْنٌ عظيمٌ يُنْفَخُ فيه ثلاثُ نَفَخَاتٍ؛ الأُولَى نَفْخَةُ الفَزَعِ، والثانيةُ نَفْخَةُ الصَّعْقِ، والثالثةُ نَفْخَةُ القيامِ لربِّ العَالَمين، يأمرُ اللهُ إسرافيلَ بالنَّفْخَةِ الأُولى، فيقولُ: انْفُخْ نَفْخَةَ الفَزَع. فيَفْزَعُ أهلُ السماواتِ وأهلُ الأَرضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللهُ، ويأمُرُه اللهُ فَيُدِيمُها ويُطَوِّلُها، فلا يَفْتُرُ، وهى التي يقولُ اللهُ:{مَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ} [ص: 15]، ثم يأمرُ اللهُ إسرافيلَ بنَفْخَةِ الصَّعْقِ، فيقولُ: انْفُخْ نَفْخَةَ الصَّعْقِ. فَيَصْعَقُ أهلُ السماواتِ و
(1)
الأَرضِ إِلا مَن شاءَ اللهُ، فإذا هم خامِدُون ثم يُمِيتُ مَن بَقِيَ، فإذا لم يَبْقَ إلا اللهُ الواحدُ الصَّمَدُ، بَدَّل الأرضَ غير الأرضِ والسماواتِ، فيَبْسُطُها ويَسْطَحُها، ويَمُدُّها مَدَّ الأديمِ العُكَاظِيِّ، لا تَرَى فيها عِوَجًا ولا أمْتًا، ثم يَزْجُرُ اللهُ الخَلْقَ زَجْرَةً، فإذا هُمْ في هذه المُبَدَّلَةِ في مِثْلِ مواضعهم من الأُولَى، ما كان في بَطْنِها كان في بَطْنِها، وما كان على ظَهْرِها كان على ظهْرِها"
(2)
.
واختلفَت القَرَأَةُ في قراءةِ قولِه: {وَهُمْ يَخِصِّمُونَ} ؛ فقرأ ذلك بعضُ قرأةِ المدينةِ: (وهم يَخْصِّمُون) بسكونِ "الخاءِ" وتشديدِ الصادِ، فجمَع بينَ الساكنَين، بمعنى: يَخْتَصِمون، ثم أدغَم التاءَ في الصادِ، فجعَلها صادًا مشددةً، وتركَ الخاءَ على سكونِها في الأصلِ.
(1)
بعده في الأصل، ت 1:"أهل".
(2)
جزء من حديث طويل تقدم تخريجه في 3/ 611 - 613.
وقرَأ ذلك بعضُ المكيِّين والبصريِّين: (وهم يَخَصِّمونَ). بفتح الخاءِ وتشديد الصادِ، بمعنى: يَخْتَصِمون، غيرَ أنهم نقلوا حركةَ التاءِ، وهى الفتحةُ التي في "يَفتَعِلون" إلى الخاءِ منها، فحَرَّكوها بتَحْريكِها، وأدغَموا التاءَ في الصادِ وشدَّدوها.
وقرأ ذلك بعضُ قرأةِ الكوفةِ: {يَخِصِّمُونَ} بكسرِ الخاءِ، وتشديدِ الصادِ، فكسَر
(1)
الخاء بكسرِ الصادِ، وأدغَم التاءَ في الصادِ وشدَّدها.
وقرَأ ذلك آخرون منهم: (يَخْصِمُونَ) بسكونِ الخاءِ وتخفيفِ الصادِ، بمعنى "يَفْعِلون"، مِن الخصومةِ
(2)
، وكأن معنى قارئِ ذلك كذلك: كأنهم يتكلَّمون، أو يكونُ معناه عندَه: كان عندَ أنفسِهم يَخْصِمون مَن وعَدَهم مجئَ الساعةِ، وقيامَ القيامةِ، ويَغْلِبونه بالجَدَلِ في ذلك.
والصوابُ مِن القولِ فى ذلك عندى أن هذه قراءاتٌ مشهوراتٌ معروفاتٌ في قرأةِ الأمصارِ، متقارباتُ المعانى، فبأيَّتهن قرأ القارئُ فمصيبٌ.
وقولُه: {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً} . يقولُ تعالى ذكرُه: فلا يستطيعُ هؤلاء المشركون عندَ النفخِ في الصُّورِ أن يُوصُوا في أموالِهم
(3)
أحدًا، {وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ}. يقولُ: ولا يستطيعُ مَن كان منهم خارجًا عن أهلِه أن يَرجِعَ إليهم، لأنهم لا يُمْهَلون بذلك، ولكن يُعجَّلون بالهلاكِ.
(1)
في م، ت 2:"فكسروا" بضمير الجمع، وكذلك في "أدغم"، و "شددها" الآتيين.
(2)
قرأ قالون وأبو عمرو بإخفاء حركة الخاء، والتشديد، وروى عن أبي عمرو الاختلاس، وقرأ ابن كثير وهشام وورش (يَخَصِّمون) بفتح الخاء وتشديد الصاد. وقرأ ابن ذكوان وعاصم والكسائي:{يخِصِّمون} بكسر الخاء وتشديد الصاد. وقرأ حمزة: (يَخْصِمون) بسكون الخاء وتخفيف الصاد. ينظر حجة القراءات ص 600، والكشف 2/ 217، 218.
(3)
في الأصل: "أمرهم"، وفي ت 1:"أمورهم".
وبنحو الذي قلنا فى ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً} . أى: فيما في أيديهم، {وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ}. قال: أُعْجِلوا عن ذلك
(1)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} الآية. قال: هذا مبتدأُ يوم القيامة. وقرَأ: {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً} ، حتى بلغ:{إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ}
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} ، وقد ذكرنا اختلافَ المختلفين [في معنى الصُّورِ]
(3)
، والصوابَ من القول فيه، بشواهدِه فيما مضَى قبلُ، بما أغنَى عن إعادتِه فى هذا الموضعِ
(4)
، ويَعْنِى بهذه النفخةِ نفخةَ البعثِ.
وقولُه: {فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ} . يعنى: من أجداثِهم. وهى قبورُهم،
(1)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 265 إلى عبد بن حميد والمصنف وابن أبي حاتم.
(2)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 265 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(3)
سقط من: م.
(4)
ينظر ما تقدم في 9/ 339 وما بعدها.
واحدُها جَدَثٌ، وفيها لغتان؛ فأما أهلُ العالية فتقولُه بالثاء: جَدثٌ، وأما أهلُ السافلةِ فتقولُه بالفاءِ: جَدَفٌ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني علىٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن علىٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} . يقولُ: مِن القبور
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة:{فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ} . أى: مِن القبورِ
(2)
.
وقولُه: {إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} . يقولُ: إلى ربِّهم يَخْرُجون سراعًا. والنَّسَلانُ: الإسراعُ في المَشْيِ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني علىٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن علىٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{يَنْسِلُونَ} . يقول: يخرُجون
(3)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ: {إِلَى رَبِّهِمْ
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم فى تفسيره -كما في الإتقان 2/ 39 - من طريق أبي صالح به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 265 إلى ابن المنذر.
(2)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 265 إلى عبد بن حميد.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره -كما في تغليق التعليق 4/ 292 - من طريق أبي صالح به. وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 265 إلى ابن المنذر.
يَنْسِلُونَ}. أى: يخرُجون
(1)
.
وقولُه: {قَالُوا يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: قال هؤلاء المشركونَ لمَّا نُفِخ في الصور نفخةُ البعثِ لموقفِ القيامةِ، فرُدَّت أرواحُهم إلى أجسامِهم، وذلك بعدَ نومةٍ نامُوها:{يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} . وقد قيل: إن ذلك نومةٌ بينَ النفختين.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بن بشارٍ، قال: ثنا أبو أحمدَ الزُّبيْرىُّ، قال: ثنا سفيانُ، عن منصورٍ، عن خَيْثمةَ، عن الحسنِ، عن أُبَىِّ بن كعبٍ في قولِه:{يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} . قال: نامُوا نومةً قبل البعثِ
(2)
.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا مُؤمَّلٌ، قال: ثنا سفيانُ، عن منصورٍ، عن رجلٍ يقالُ له: خَيْثَمَةُ. فى قولِه: {يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} . قال: يَنامُون نومةً قبل البعثِ.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة:{قَالُوا يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} : هذا قولُ أهلِ الضلالة. والرَّقْدةُ: ما بينَ النفختَين
(3)
.
(1)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 265 إلى عبد بن حميد.
(2)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 266 إلى الفريابي وعبد بن حميد والمصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 567.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسي، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا} . قال: الكافرون يقولونه
(1)
.
ويعنى بقوله: {مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا} : مَن أيقَظَنَا مِن مَنامِنَا. وهو من قولِهم: بَعَث فلانٌ ناقتَه فانبعَثَت. إذا أثارَها فثارَت. وقد ذُكر أن ذلك في قراءةِ ابنِ مسعودٍ: (مَن أَهَبَّنا
(2)
مِن مَرْقَدِنَا هَذَا).
وفى قولِه {هَذَا} وجهان؛ أحدُهما، أن تكونَ إشارةً إلى {مَا} ، ويكون ذلك كلامًا مبتدأً بعد تَناهى الخبرِ الأوَّلِ بقولِه:{مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} ، فتكونَ {مَا} حينَئذٍ مرفوعةً بـ {هَذَا} ، ويكونَ معنى الكلام: هذا وعدُ الرحمن، وصدَق المرسلون. والوجهُ الآخرُ: أن تكونَ مِن صفةِ "المَرْقَدِ"، وتكونَ خفضًا، ردًّا على "المرقدِ"، وعندَها
(3)
تمامُ الخبرِ عن الأوَّلِ، فيكونَ معنى الكلام: مَن بعَثنا مِن مَرْقَدِنا هذا. ثم يَبْتَدِئُ الكلامَ فيقالُ: ما وعَد الرحمنُ. بمعنى: بَعْثُكم وعدُ الرحمنِ. فتكونَ {مَا} حينَئذٍ رفعًا على هذا المعنى.
وقد اختَلف أهلُ التأويل فى الذى يقولُ حينئذٍ: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ} ؛ فقال بعضُهم: يقولُ ذلك أهلُ الإيمان بالله.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن
(1)
تفسير مجاهد ص 560.
(2)
بياض فى الأصل، والقراءة في تفسير الثوري ص 250.
(3)
في م: "عند".
مجاهدٍ: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ} : [ما بَيَّن، المؤمنون يقولونه]
(1)
، هذا حينَ البعثِ
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ في قولِه:{هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} . قال: قال أهلُ الهدى: هذا ما وعَد الرحمنُ وصدَق المرسَلون
(3)
.
وقال آخرون: بل كِلا القولين -أعنى: {يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} - من قول الكفارِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ فى قولِه: {يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} : ثم قال بعضُهم لبعضٍ: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} ، كانوا أخبَرونا أنا نُبعَثُ بعد الموتِ، ونحاسَبُ ونُجازَى
(4)
.
والقولُ الأوَّلُ أشبهُ بظاهر التنزيلِ، وهو أن يكون من كلام المؤمنين؛ لأن الكفارَ في قيلِهم:{مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} . دليلٌ على أنهم كانوا بمَن بعَثهم من مرْقَدِهم جُهَّالًا؛ وذلك من جَهْلِهم استَثْبَتوا، ومحالٌ أن يكونوا استَثْبَتوا ذلك إلَّا من
(1)
فى م: "مما سر المؤمنون يقولون"، وفى ت 1:"ما سر المؤمنون يقولون"، وفي ت 2:"مايتين المؤمنون يقولونه"، وفى تفسير مجاهد ص 561 كما في الحاشية:"ماسر المؤمنين يقولون".
(2)
تفسير مجاهد ص 560، 561.
(3)
أخرجه ابن أبي الدنيا فى الأهوال (87) من طريق سعيد بمعناه. وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 144 عن معمر، عن قتادة بمعناه. وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 266 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4)
ينظر البحر المحيط 7/ 341.
غيرِهم، ممن خالفَت صفتُه صفتَهم في ذلك.
وقولُه: {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: إن كانت إعادتُهم أحياءً بعدَ مَماتِهم إلا صيحةً واحدةً، وهى النفخةُ الثالثةُ فى الصور، {فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ}. يقولُ: فإذا هم مُجتمعون لدينا قد أُحْضِروا، فأُشْهِدوا مَوْقفَ العرضِ والحسابِ، لم يَتَخَلَّفْ عنه منهم أحدٌ.
وقد بَيَّنَّا اختلافَ المختلفين في قراءتِهم: {إِلَّا صَيْحَةً} بالنصبِ والرفعِ، فيما مضَى، بما أغنَى عن إعادتِه في هذا الموضعِ
(1)
.
القولُ في تأويل قولِه عز وجل: {فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا (54) إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: {فَالْيَوْمَ} . يعنى يوم القيامةِ، {لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} ، كذلك ربُّنا لا يَظْلِمُ نفسًا شيئًا، فلا يوفِّيها جزاء عملِها الصالحِ، ولا يَحْمِلُ عليها وِزْرَ غيرِها، ولكنه يُوَفِّى كلُّ نفسٍ أجرَ ما عمِلت من صالحٍ، ولا يُعاقِبُها إلا بما اجتَرَمت واكتَسَبت من شيءٍ، {وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}. يقولُ: ولا تُكافَئُون إلا مكافأةَ أعمالِكم التي كنتم [تعملون بها]
(2)
في الدنيا.
وقولُه: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ} . اختلف أهلُ التأويل في معنى الشُّغُلِ الذى وصَف اللهُ جلَّ ثناؤُه أصحابَ الجنةِ أنهم فيه يومَ القيامةِ؛ فقال بعضُهم: ذلك افتضاضُ العَذارَى.
(1)
تقدم في ص 428.
(2)
فى م، ت 1، ت 2:"تعملونها".
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابنُ حُمَيدٍ، قال: ثنا يعقوبُ، عن حفصِ بنِ حُمَيدٍ، عن شِمْرِ ابن عطيةَ، عن شَقِيقِ بنِ سَلَمةَ، عن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ في قولِه:{إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ} . قال: شَغَلَهم افتضاضُ العَذارَى
(1)
.
حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا المعتمِرُ، عن أبيه، عن أبي عمرٍو، عن عكرمةَ، عن ابن عباسٍ:{إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ} . قال: افتضاضِ الأبكارِ
(2)
.
حدَّثني عُبَيدُ بنُ أَسْباط بن محمدٍ، قال: ثنا أبي، عن أبيه، عن عكرمةَ، عن ابن عباسٍ:{إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ} . قال: افتضاضِ الأبكارِ
(3)
.
حدَّثني الحسنُ بنُ زُرَيْقٍ الطَّهَوِيُّ، قال: ثنا أسباطُ بنُ محمدٍ، عن أبيه، عن عكرمة، عن ابن عباسٍ مثلَه.
حدَّثنى الحسينُ بنُ علىٍّ الصَّدَائىُّ، قال: ثنا أبو النضر، عن الأشجعيِّ، عن وائلِ بن داودَ، عن سعيد بن المسيب في قوله:{إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ} . قال: فى افتضاضِ العَذارَى
(4)
.
(1)
أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنة (276)، وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد -كما في حادي الأرواح ص 182 - عن ابن حميد به. وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 266 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنة (277) من طريق سليمان التيمى به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 266 إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.
(3)
أخرجه هناد في الزهد (89) عن أسباط، عن أبيه، عن عكرمة من قوله.
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 569.
وقال آخرون: بل عُنِى بذلك أنهم في نعمةٍ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ} . قال: فى نعمةٍ
(1)
.
وقال آخرون: بل معنى ذلك أنهم فى شُغُلِ عما فيه أهلُ النارِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا عمرُو بنُ عبدِ الحميدِ، قال: ثنا مَرْوانُ، عن جُوَيبرٍ، عن أبي سَهْلٍ، عن الحسنِ فى قولِ اللهِ:{إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} الآية. قال شَغَلهم النعيمُ عما فيه أهلُ النارِ من العذابِ
(2)
.
حدَّثنا نصرُ بنُ علىٍّ الجَهْضَمِيُّ، قال: ثنا أبي، عن شُعْبَةَ، عَن أَبانِ بنِ تَغْلِبَ، عن إسماعيل بن أبي خالدٍ:{إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} الآية. قال: في شُغُلٍ عما يَلْقَى أهلُ النارِ
(3)
.
وأَولى الأقوالِ فى ذلك بالصواب أن يقالَ كما قال اللهُ جل ثناؤه: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} وهم أهلُها، {فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ} بنِعَمٍ بأنهم
(4)
في شُغُلٍ، وذلك
(1)
تفسير مجاهد 561. ومن طريقه الفريابي في تفسيره -كما فى تغليق التعليق 4/ 291 - وعزاه السيوطى في الدر المنثور 5/ 266 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 568. وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 266 إلى عبد بن حميد والمصنف وابن المنذر.
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 568.
(4)
فى م: "تأتيهم".
الشُّغُلُ الذي هم فيه نعمةٌ، وافتضاضُ أبكارٍ، ولَهْوٌ، ولَذَّةٌ، وشُغُلٌ عما يَلْقَى أهلُ النار.
وقد اختلَفت القَرَأَةُ فى قراءة قولِه: {فِي شُغُلٍ} ؛ فقرأت ذلك عامةُ قرأة المدينةِ، وبعضُ البَصْريين على اختلافٍ عنه فيه:(فى شُغْلٍ) بضمِّ الشين وتسكينِ الغينِ
(1)
.
وقد رُوِى عن أبي عمرٍو الضمُّ فى الشين والتسكينُ في الغينِ، والفتحُ في الشين والغينِ جميعًا (في شَغَلٍ).
وقَرأ ذلك بعضُ أهل المدينة والبصرة وعامةُ قرأة أهل الكوفة: {فِي شُغُلٍ} بضمِّ الشينِ والغينِ
(1)
.
والصوابُ في ذلك عندى قراءتُه بضَمِّ الشين والغين، أو بضمِّ الشينِ وسكونِ الغين، بأىِّ ذلك قرَأه القارئُ فهو مصيبٌ؛ لأن ذلك هو القراءةُ المعروفةُ في قرأةِ الأمصارِ مع تقارُبِ معنَيَيهما.
وأما قراءتُه بفتح الشين والغين فغيرُ جائزةٍ عندى؛ لإجماع الحجةِ من القرأةِ على خلافِها.
واختلَفوا أيضًا فى قراءة قوله: {فَاكِهُونَ} ؛ فقرأت ذلك عامةُ قرأة الأمصار: {فَاكِهُونَ} بالألفِ. وذُكر عن أبي جعفرٍ القارئ أنه كان يقرؤُه: (فَكِهُونَ) بغيرِ ألفٍ
(2)
.
(1)
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: (شُغْل) ساكنة الغين -وروى أبو زيد وعلى بن نصر عن أبي عمرو: (شُغْل) و {شُغُل} - وقرأ الباقون (شُغُل) بضم الشين والغين. السبعة ص 541، 542. وقراءة أبي عمرو بفتح الشين والغين في الإملاء للعكبرى 2/ 110، وإعراب القرآن للنحاس 2/ 728، والكشاف 3/ 327، ومعجم القراءات القرآنية 5/ 214. وهي قراءة شاذة.
(2)
ينظر النشر 2/ 265، 266.
والصوابُ من القراءة فى ذلك عندى قراءةُ من قرأه بالألف
(1)
؛ لأن ذلك هو القراءةُ المعروفةُ.
واختلَف أهلُ التأويل في تأويل ذلك؛ فقال بعضُهم: معناه: فَرِحون.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنى علىٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن علىٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ} . يقولُ: فَرِحون
(2)
.
وقال آخرون: معناه: عَجِبون.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسي وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{فَاكِهُونَ} . قال: عَجِبون
(3)
.
واختلَف أهلُ العلم بكلام العرب فى ذلك؛ فقال بعضُ البَصْريين منهم: الفَكِهُ الذى يَتَفَكَّهُ. وقال: تقولُ العربُ للرجل إذا كان يَتَفكَّهُ بالطعام أو بالفاكهة أو بأعراضِ الناسِ: إن فلانًا لفَكِهٌ بأعراضِ الناسِ. قال: ومَن قرأها: {فَاكِهُونَ} جعَله كثيرَ الفواكهِ
(4)
، صاحبَ فاكهةٍ. واستشهَدَ لقولِه ذلك ببيتِ الحُطَيئةِ
(5)
:
(1)
القراءتان كلتاهما صواب.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم فى تفسيره -كما في الإتقان 2/ 39 - من طريق أبي صالح به.
(3)
تفسير مجاهد ص 561. ومن طريقه الفريابي في تفسيره -كما في تغليق التعليق 4/ 291.
(4)
في الأصل، ت 1:"الفاكهة".
(5)
ديوانه ص 168.
ودَعَوتَنِي
(1)
وزَعَمْتَ أَنـ
…
ـك لَابِنٌ بالصيفِ تامِرْ
أي: عندَه لَبَنٌ كثيرٌ، وتمرٌ كثيرٌ، وكذلك عاسلٌ، ولاحِمٌ، وشاحمٌ
(2)
.
وقال بعضُ الكُوفيِّين: ذلك بمنزلة: حاذِرون وحَذِرون
(3)
.
وهذا القولُ الثاني أشبهُ بالكلمة.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يعني تعالى ذكرُه جميعًا بقولِه: {هُمْ} أصحابَ الجنةِ، {وَأَزْوَاجُهُمْ} مِن أهل الجنة فى الجنةِ.
كما حدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ عن مجاهدٍ قولَه:{هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ} . قال: حلائلُهم في ظُلَلٍ
(4)
.
واختلَفت القرأةُ فى قراءة ذلك؛ فقرَأ ذلك بعضُهم: (في ظُلَلٍ) بمعنى: جمعُ ظُلَّةٍ، كما تُجْمَعُ الحُلَّةُ حُلَلًا.
وقَرَأه آخرون: {فِي ظِلَالٍ} . وإذا قُرِئ ذلك كذلك كان له وجهان؛ أحدُهما: أن يكون مُرادًا به جمعُ الظلِّ
(5)
الذى هو بمعنى الكِنِّ، فيكونُ معنى الكلام حينَئذٍ: هم وأزواجُهم في كِنٍّ لا يَضْحَون لشمسٍ كما يَضْحَى لها أهلُ
(1)
كذا فى م، ت 1، ت 2، ومجاز القرآن. وفى الأصل:"وغررتنى"، وفي الديوان:"أغررتني".
(2)
مجاز القرآن 2/ 163، 164.
(3)
معانى القرآن 2/ 380.
(4)
تفسير مجاهد ص 561. وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 266 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(5)
فى م، ت 1، ت 2:"الظلل".
الدنيا؛ لأنه لا شمسَ فيها. والآخرُ: أن يكون مرادًا به جمعُ ظُلَّةٍ، فيكونُ وجهُ جمعِها كذلك نظيرَ جمعِهم الخُلَّةَ فى الكثرة الخِلالَ، والقُلَّةَ القِلالَ
(1)
.
وقولُه: {عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ} . فالأرائكُ هى الحِجالُ
(2)
فيها السُّرُرُ والفُرُشُ، واحدتُها أريكةٌ. وكان بعضُهم يَزْعُمُ أَن كلَّ فِراشٍ أريكةٌ، ويَستَشْهِدُ لقولِه ذلك بقولِ ذي الرُّمَّةِ
(3)
:
. . . . . . . . . . . . كأنَّما
…
يُباشِرْنَ بالمَعْزاءِ مَسَّ الأرائِكِ
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا هُشَيمٌ، قال: أخبَرنا حُصَينٌ، عن مجاهدٍ، عن ابن عباسٍ في قولِه:{عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ} . قال: هي السُّرُرُ في الحِجَال.
حدَّثنا هَنَّادٌ، قال: ثنا أبو الأحوص، عن حُصَينٍ، عن مجاهدٍ في قول الله:{عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ} . قال: الأرائكُ: السُّرُرُ عليها الحِجالُ.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا مُؤَمَّلٌ، قال ثنا سفيانُ، قال: ثنا حُصَينٌ، عن مجاهدٍ في قوله:{عَلَى الْأَرَائِكِ} . قال: الأرائكُ: السُّرُرُ فى الحِجالِ
(4)
.
(1)
قرأ حمزة والكسائي: (ظُلَل) بضم الظاء من غير ألف. وقرأ الباقون: {ظِلَالٍ} بكسر الظاء وبألف بعد اللام. ينظر الكشف 2/ 219، وحجة القراءات ص 601.
(2)
الحجال والحَجَل: جمع الحَجَلَة، وهو موضع يزين بالثياب والستور والأسرة للعروس. تاج العروس (ح ج ل).
(3)
ديوانه 3/ 1729. وتقدم في 15/ 256.
(4)
تفسير الثورى ص 251.
حدَّثنا أبو السائبِ، قال: ثنا ابنُ إدريسَ، قال: أخبَرنا حُصَينٌ، عن مجاهدٍ في قوله:{عَلَى الْأَرَائِكِ} . قال: سُرُرٌ عليها الحِجَالُ.
حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا المعتمرُ، عن أبيه، قال: زعَم محمدٌ أن عكرمة قال: الأرائكُ: السُّرُرُ فى الحِجالِ
(1)
.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابنُ عُليةَ، عن أبي رجاءٍ، قال: سَمِعتُ الحسنَ وسأله رجلٌ عن الأرائكِ، فقال: هى الحِجالُ. وأهلُ اليمن يقولون: أريكةُ فلانٍ. وسَمِعتُ عكرمةَ وسُئِل عنها، فقال: هى الحِجالُ على السُّرُر
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ} . قال: هى الحِجالُ فيها السُّرُرُ
(2)
.
وقولُه: {لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ} . يقولُ: لهؤلاء -الذين ذكَرهم اللهُ تبارك وتعالى من أهلِ الجنةِ- في الجنةِ فاكهةٌ، {وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ}. يقولُ: ولهم فيها ما يَتَمَنَّون. وذُكر عن العربِ أنها تقولُ: ادَّعِ
(3)
علىَّ ما شئتَ. أى: تَمَنَّ عليَّ ما شئتَ.
وقولُه: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} . وفي رفعِ {سَلَامٌ} وجهان في قولِ بعضِ نحويِّى الكوفةِ؛ أحدُهما: أن يكونَ خبرًا لـ {مَا يَدَّعُونَ} ، فيكون معنى الكلامِ: ولهم فيها
(4)
ما يَدَّعون مُسَلَّمٌ لهم خالصٌ. وإذا وُجِّه معنى الكلامِ إلى ذلك، كان القولُ حينَئذٍ منصوبًا، توكيدًا خارجًا من السلام، كأنه قيل: ولهم فيها
(1)
ينظر تفسير ابن كثير 6/ 569.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 145 عن معمر عن قتادة به.
(3)
في الأصل: "ادعى"، وفى م:"دع".
(4)
ليست فى: م، ت 1، ت 2.
ما يدَّعون مسلَّمٌ خالصٌ حقًّا، كأنه قيل: قاله قولًا. والوجهُ الثاني: أن يكونَ قولُه: {سَلَامٌ} مرفوعًا على المدح، بمعنى: هو سلامٌ لهم قولًا مِن الله. وقد ذُكر أنها في قراءة عبد اللهِ: (سَلامًا قَوْلًا)
(1)
على أن الخبرَ مُتَنَاهٍ عندَ قولِه: {وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ} ، ثم نصَب (سَلامًا) على التوكيد، بمعنى:: مُسَلَّمًا قولًا.
وكان بعضُ نحويِّى البصرة يقولُ: انتَصَب {قَوْلًا} على البدل من اللفظِ بالفعلِ، كأنه قال: أقولُ ذلك قولًا. قال: ومَن نصَبها نصَبها على خبر المعرفة على قولِه: {وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ} .
والذى هو أولى بالصوابِ -على ما جاء به الخبرُ عن محمدِ بن كعبٍ القُرَظِىِّ- أن يكونَ: {سَلَامٌ} خبرًا لقولِه: {وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ} ، فيكونُ معنى ذلك: ولهم فيها ما يدَّعون، وذلك هو سلامٌ من الله عليهم، بمعنى: تسليمٌ من الله، ويكونُ {سَلَامٌ} ترجمةً عما يدَّعون، ويكونُ القولُ خارجًا من قولِه:{سَلَامٌ} .
وإنما قلتُ ذلك أولَى بالصوابِ؛ لما حدَّثنا به إبراهيمُ بنُ سعيدٍ الجوهرىُّ، قال: ثنا أبو عبد الرحمن المقرِئُ، عن حَرْملةَ، عن سليمانَ بن حُمَيدٍ، قال: سمعتُ محمدَ بنَ كعبٍ يحدِّثُ عمرَ بنَ عبدِ العزيزِ، قال: إذا فرَغ اللهُ مِن أهل الجنةِ وأهلِ النارِ، أقبَل يَمْشِى فى ظُلَلٍ مِن الغَمام والملائكةِ، فيَقِفُ على أول أهل درجةٍ، فيُسَلِّمُ عليهم، فيَرُدُّون عليه السلامَ، وهو في القرآن:{سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} ، فيقولُ: سَلُوا. فيقولون: ما نسألُك؟ وعِزَّتِك وجلالِك لو أنك قَسَمْتَ بينَنا أرزاقَ الثَّقَلَين لأطعَمْناهم وسَقَيناهم وكَسَوناهم. فيقولُ: سَلُوا. فيقولون: نسألُك رضاك. فيقولُ: رِضائى أحَلَّكم دارَ كَرامتى. فيَفْعَلُ ذلك بأهلِ كلِّ درجةٍ حتى
(1)
ينظر مختصر الشواذ ص 126، والبحر المحيط 7/ 343.
ينتهىَ. قال: ولو أن امرأةً مِن الحُورِ العِينِ اطَّلعَت
(1)
، لأطفأ ضوءُ سِوارَيها الشمسَ والقمرَ، فكيف بالمُسَوَّرةِ
(2)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: ثنا حَرْمَلَةُ، عن سليمانَ بنِ حُمَيدٍ، قال: سمعتُ محمدَ بنَ (*) كعبٍ القُرَظِىَّ يحدِّثُ عمرَ بنَ عبدِ العزيز، قال: إذا فرَغ اللهُ مِن أهل الجنةِ وأهلِ
(3)
النارِ، أقبَل في ظُللٍ مِن الغَمَامِ والملائكةِ. قال: فيُسَلِّمُ على أهل الجنة، فيَرُدُّون عليه السلامَ. قال القُرَظىُّ: وهذا في كتاب الله: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} فيقولُ: سَلُونى. فيقولون: ماذا نسألُك أى ربِّ؟ قال: بل سَلُونى. قالوا: نسألُك أى ربِّ رضاك. قال: رضائى أحَلَّكم دارَ كرامتى. قالوا: ياربّ، وما الذى نسألُك؟ فوعزَّتِك وجلالك وارتفاعِ مكانِك، لو قَسَمتَ علينا رزقَ الثَّقَلَين لأطعَمْناهم ولأسقَيناهم ولألبَسْناهم ولأخْدَمناهم، لا يَنْقُصُنا ذلك شيئًا. قال: إن لدىَّ مزيدًا. قال: فيفعلُ الله ذلك بهم في دَرَجِهم، حتى يستوىَ فى مجلسِه. قال: ثم تأتيهم التحفُ مِن اللهِ تَحْمِلُها إليهم الملائكةُ. ثم ذكَر نحوَه
(4)
.
حدَّثنا ابنُ سنانٍ القَزَّازُ، قال: ثنا أبو عبد الرحمن، قال: ثنا حَرْملةُ، قال: ثنا سليمانُ بنُ حُمَيدٍ، أنه سمع محمد بن كعبٍ القُرَظِيَّ يحدِّثُ عمر بن عبد العزيز،
(1)
في م: "طلعت".
(2)
أخرجه اللالكائي في اعتقاد أهل السنة (771) من طريق أبي عبد الرحمن المقرئ ببعضه. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 267 إلى المصنف وأبى نصر السجزي في الإبانة.
(*) سقطت اللوحة [123 ظ، 124 و] من مصورة الأصل.
(3)
سقط من: م، ت 2.
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 570 عن المصنف.
قال: إذا فرَغ اللهُ مِن أهل الجنة وأهل النار، أقبَل يَمْشِي في ظُلَلٍ مِن الغَمَامِ ويقفُ.
قال: ثم ذكَر نحوَه، إلا أنه قال: فيقولون: فماذا نسألُك يا ربِّ؟ فوعزَّتِك وجلالك وارتفاع مكانِك، لو أنك قسَمتَ علينا أرزاق الثقلين؛ الجنِّ والإنسِ، لأطعَمْناهم ولسقَيناهم ولأخدَمْناهم، مِن غير أن يَنتقِصَ ذلك شيئًا مما عندنا. قال: بلي فسَلُونى. قالوا: نسألُك رضاك. قال: رضائى أحلَّكم دارَ كرامتى. فيفعلُ هذا بأهل كلِّ درجةٍ، حتى ينتهىَ إلى مجلسه. وسائرُ الحديث مثلُه. فهذا القولُ الذى قاله محمدُ بنُ كعبٍ، يُنْبِئُ عن أن {سَلَامٌ} بيانٌ عن قوله:{مَا يَدَّعُونَ} ، وأن "القول" خارجٌ من "السلام".
وقولُه: {مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} . يعني: رحيمٍ بهم، إذ لم يعاقِبْهم بما سلف لهم مِن جُرْمٍ في الدنيا.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)} .
يعنى بقولِه: {وَامْتَازُوا} : تَمَيَّزوا، وهى افتَعلوا، مِن مازَ يَميزُ، وفعل يفعلُ، منه: امتازَ يمتازُ امتيازًا.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة قولَه:{وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} . قال: عُزِلوا عن كلِّ خيرٍ
(1)
.
(1)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 267 إلى عبد بن حميد والمصنف وابن أبي حاتم.
حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمن بنُ محمدٍ المُحاربيُّ، عن إسماعيلَ بنِ رافعٍ، عمَّن حدَّثه، عن محمدِ بنِ كعبٍ القُرَظِيِّ، عن أبي هريرةَ، أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال:"إذا كان يوم القيامة أمَر الله جهنمَ، فيَخْرُجُ منها عُنُقٌ ساطِعٌ مُظْلِمٌ، ثم يقولُ: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}، امْتَازُوا اليوم أيُّها المجرمون. فيَتَمَيَّزُ الناسُ ويَجْثُون، وهى قولُ اللهِ: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} "
(1)
[الجاثية: 28].
فتأويلُ الكلام إذن: وتَمَيَّزوا من المؤمنين اليوم أيُّها الكافرون باللهِ، فإنكم واردون غيرَ مَوْرِدِهم، وداخلون غير مَدْخَلِهم.
وقولُه: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} ، وفى الكلام متروكٌ استُغْنِى بدلالة الكلام عليه منه، وهو: ثُم يقالُ: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ} . يقولُ: ألم أُوصِكم وآمُرْكم في الدنيا ألا تَعْبُدوا الشيطان، فتُطيعوه في معصية الله؟! {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}. يقولُ: وأقولُ لكم: إن الشيطان لكم عدوٌّ مبينٌ، قد أبان لكم عداوتَه، بامتناعه من السجودِ لأبيكم آدمَ؛ حسدًا منه له على ما كان الله أعطاه من الكرامةِ، وغُرورَه إياه، حتى أخرَجه وزوجتَه من الجنةِ.
وقولُه: {وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} . يقولُ: وألم أَعْهَدْ إليكم أن اعبُدونى دونَ كلِّ ما سواى من الآلهةِ والأنداد، وإياى فأطيعوا؛ فإن إخلاصَ
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 571 عن المصنف. وهو جزء من حديث طويل تقدم تخريجه في 3/ 611 - 613.
عبادتي، وإفرادَ طاعتى، ومعصية الشيطان، هو الدينُ الصحيحُ، والطريقُ المستقيمُ؟!
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يعنى تعالى ذكرُه بقوله: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا} : ولقد صَدَّ الشيطانُ منكم خلقًا كثيرًا عن طاعتى وإفرادى بالأُلوهةِ، حتى عبدوه، واتَّخَذوا من دونى آلهةً يَعْبُدونها.
كما حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا} . قال: خلقًا
(1)
.
واختَلَفت القَرَأَةُ فى قراءةِ ذلك؛ فقرأته عامةُ قَرَأةِ المدينة وبعضُ الكُوفيين: {جِبِلًّا} بكسر الجيم وتشديد اللام. وكان بعضُ المكيِّين وعامةُ قرأة الكوفة يَقْرَءُونه: (جُبُلًا) بضمِّ الجيمِ والباءِ وتخفيف اللام، وكان بعضُ قرأةِ البصرةِ يَقْرَؤُه:(جُبْلًا) بضمِّ الجيم وتسكين الباء
(2)
. وكلُّ هذه لغاتٌ معروفات؛ غير أنى لا أحبُّ القراءة فى ذلك إلَّا بإحدَى القراءتين اللتين إحداهما بكسر الجيم وتشديد اللام، والأخرى: ضمُّ الجيم والباء وتخفيف اللام؛ لأن ذلك هي القراءةُ التي عليها عامةُ
(1)
تفسير مجاهد ص 561.
(2)
قرأ نافع وعاصم: {جِبِلًّا} بكسر الجيم والباء تشديد اللام، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي:(جُبُلًا) بضم الجيم والباء، وقرأ أبو عمرو وابن عامر:(جُبْلًا) بضم الجيم وتسكين الباء. ينظر حجة القراءات ص 601، 602.
قَرَأةِ الأمصارِ.
وقولُه: {أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} . يقولُ: أفلم تكونوا تَعْقِلُون أيُّها المشركون -إذ أطَعتم الشيطان فى عبادة غيرِ اللهِ- أنه لا يَنْبَغِى لكم أن تُطِيعوا عدوَّكم وعدوَّ الله، وتَعْبُدوا غير الله.
وقولُه: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} . يقولُ: هذه جهنمُ التي كنتم تُوعَدون بها في الدنيا على كفركم بالله، وتكذيبكم رسله، فكنتم بها تُكَذِّبون. وقيل: إن جهنم أولُ بابٍ من أبواب النارِ.
وقولُه: {اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} . يقولُ: احتَرِقوا بها اليومَ ورِدُوها. يعنى باليوم: يوم القيامة، {بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ}. يقولُ: بما كنتم تَجْحَدونها في الدنيا، وتُكَذِّبون بها.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يعنى تعالى ذكرُه بقوله: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ} : اليومَ نطبعُ على أفْواه المشركين، وذلك يوم القيامةِ، {وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ} بما عملوا في الدنيا من مَعاصى اللهِ، {وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ}. قيل: إن الذى ينطقُ مِن أرجلِهم أفخاذُهم من الرِّجْل اليُسرى، {بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} في الدنيا من الآثامِ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيم، قال: ثنا ابنُ عُلَيَّةَ، قال: ثنا يونسُ بنُ عُبَيدٍ، عن حُميد بن هلالٍ، قال: قال أبو بُرْدةَ، قال أبو موسى: يُدْعَى المؤمنُ للحسابِ يومَ
القيامةِ، فيَعْرِضُ عليه ربُّه عمله فيما بينَه وبينَه، فيعترفُ، فيقولُ: نعم أى ربِّ، عمِلتُ عمِلتُ عمِلتُ. قال: فيغفرُ الله له ذنوبَه، ويسترُه منها، فما على الأرضِ خليقةٌ يرى من تلك الذُّنوبِ شيئًا، وتَبْدو حسناتُه، فودَّ أن الناس كلَّهم يَرَونها، ويُدْعَى الكافرُ والمنافقُ للحسابِ، فيَعرِضُ عليه ربُّه عمله فيَجْحَدُه، ويقولُ: أى ربِّ، وعِزَّتِك لقد كتَب علىَّ هذا المَلَكُ ما لم أعملْ. فيقولُ له المَلَكُ: أما عمِلتَ كذا في يومِ كذا في مكان كذا؟ فيقولُ: لا وعِزَّتِك، أى ربِّ، ما عملتُه. فإذا فعل ذلك خُتِم على فِيهِ. قال الأشعرىُّ: فإنى أحسَبُ أوَّلَ ما ينطقُ منه لَفَخِذَه اليُمْنى. ثم تلا: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}
(1)
.
حدَّثنا أبو كُرَيبٍ، قال: ثني يحيى، عن أبي بكر بن عَيَّاشٍ، عن الأعمش، عن الشعبيِّ، قال: يقالُ للرجل يومَ القيامة: عملت كذا وكذا. فيقولُ: ما عملتُ. فيُخْتَمُ على فِيهِ، وتنطقُ جَوارحُه، فيقولُ لجوارحه: أَبْعَدَكُنَّ اللهُ، ما خاصَمتُ إِلا فيكنَّ
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ} الآية. قال: قد كانت خصوماتٌ وكلامٌ، فكان هذا آخره، وخُتِم على أفواهِهم
(3)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عوفٍ الطائيُّ
(4)
، قال: ثنا ابنُ المباركِ، عن ابنِ عَيَّاشٍ، عن
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 573 عن المصنف، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 267 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(2)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 268 إلى المصنف.
(3)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 268 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن أبي حاتم.
(4)
في الأصل: "الطى".
ضَمْضَمِ بنِ زُرْعةَ، عن شُرَيحِ بنِ عُبَيدٍ، عن عقبة بن عامرٍ، أنه سمع النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقولُ:"أوَّلُ شَيْءٍ يتكلمُ من الإنسانِ يومَ يختمُ اللهُ على الأفواهِ، فَخِذُه مِن رِجْلِه اليُسْرَى"
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ (67)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: اختلَف أهلُ التأويل في تأويلِ قولِه: {وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ} ؛ فقال بعضُهم: عنى بذلك: ولو نشاءُ لأعْمَيناهم عن الهُدى، وأَضْلَلْناهم عن قَصْدِ الحُجَّةِ
(2)
.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني علىٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن علىٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ} . يقولُ: أضْلَلتُهم وأعمَيتُهم عن الهُدى
(3)
.
وقال آخرون: معني ذلك: ولو نشاءُ لترَكْناهم عُمْيًا.
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 573 عن المصنف وأخرجه ابن أبي عاصم في الأوائل (53) والطبراني 17/ 333 (921)، وابن أبي حاتم -كما في تفسير ابن كثير 6/ 572 - من طريق إسماعيل بن عياش به، وأخرجه أحمد 28/ 602 (17374) من طريق إسماعيل بن عياش به موصولًا، عن شريح بن عبيد، عمن حدثه عن عقبة، وينظر علل ابن أبي حاتم 2/ 87 وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 267 إلى ابن مردويه.
(2)
فى م، ت 1:"المحجة".
(3)
أخرجه البيهقى فى الأسماء والصفات (308) من طريق أبي صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 268 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يعقوبُ، [قال: ثنا]
(1)
ابنُ عُلَيَّةَ، عن أبي رجاءٍ، عن الحسن في قوله:{وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ} . قال: لو يشاءُ لطَمَس على أعينهم فترَكهم عُمْيًا يتردَّدون
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة قوله:{وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ} . يقولُ: ولو شِئْنا لترَكْناهم عُمْيًا يتردَّدون
(3)
.
وهذا القولُ الذي ذكرناه عن الحسن وقتادة أشبهُ بتأويل الكلام؛ لأن الله إنما تهدَّد به قومًا كفارًا، فلا وجه لأن يقال وهم كفارٌ: لو نشاء لأضْلَلْناهم. وقد أضَلَّهم، ولكنه قال: لو نشاءُ لعاقبناهم على كفرهم، فطَمَسْنا على أعينهم فصَيَّرْناهم عُمْيًا لا يُبْصِرون طريقًا، ولا يَهْتَدون له. والطَّمْسُ على العين: هو أَلَّا يكونَ بينَ جَفْنَى العينِ غَرٌّ؛ وذلك هو الشِّقُّ الذى يكونُ بين الجفنَين، كما تَطْمِسُ الريحُ الأَثَرَ، يقال: أعمى مطموسٌ وطَمِيسٌ.
وقولُه: {فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ} . يقولُ: فابتَدَروا الطريق.
كما حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ
(1)
سقط من: الأصل.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 268 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن أبي حاتم، وينظر تفسير ابن كثير 6/ 573.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 145 عن معمر عن قتادة به.
قولَه: {فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ} . قال: الطريق
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ} . أى: الطريق
(2)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قوله: {فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ} . قال: الصِّراطُ: الطريقُ.
وقولُه: {فَأَنَّى يُبْصِرُونَ} . يقولُ: فأَىَّ وَجْهٍ يُبْصرون أن يَسْلُكوه من الطرق، وقد طَمَسْنا على أعينهم!
كما حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{فَأَنَّى يُبْصِرُونَ} وقد طمَسْنا على أعينهم
(3)
.
وقال الذين وجَّهوا تأويلَ قوله: {وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ} إلى أنه معنىٌّ به العَمَى عن الهدَى: تأويلُ قولِه: {فَأَنَّى يُبْصِرُونَ} : فأَنّي يَهْتَدُون للحقِّ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنى علىٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن علىٍّ، عن ابنِ عباسٍ:{فَأَنَّى يُبْصِرُونَ} . يقولُ: فكيف يَهْتَدون
(4)
!
(1)
تفسير مجاهد ص 561، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 268 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
تفسير ابن كثير 6/ 573.
(3)
تفسير مجاهد ص 561، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 268 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4)
أخرجه البيهقى فى الأسماء والصفات (308) من طريق أبي صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 268 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ:{فَأَنَّى يُبْصِرُونَ} . يقولُ: لا يُبْصِرون الحقَّ
(1)
.
وقولُه: {وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ} . يقولُ تعالى ذكرُه: ولو نشاءُ لأقْعَدْنا هؤلاء المشركين من أرجلهم في منازلهم، {فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ}. يقولُ: فلا يستطيعون أن يَمْضُوا أمامَهم، ولا أن يرجعوا وراءَهم.
وقد اختلَف أهلُ التأويل فى تأويلِ ذلك؛ فقال بعضُهم بنحو الذي قلنا في ذلك.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابنُ عُلَيَّةَ، عن أبي رجاءٍ، عن الحسن:{وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ} . قال: لو نشاءُ لأقْعَدْناهم
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة:{وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ} . أى: لأقْعَدْناهم على أرجلهم، {فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ}: فلم يستطيعوا أن يتقدَّموا ولا يتأخَّروا
(3)
.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولو نشاءُ لأهلَكْناهم في منازلهم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن
(1)
تفسير ابن كثير 6/ 573.
(2)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 268 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن أبي حاتم بلفظ: لجعلناهم كسحا لا يقومون. وينظر تفسير ابن كثير 5/ 573.
(3)
أخرج الجزء الأول منه عبد الرزاق فى تفسيره 2/ 145 بنحوه، وأما الجزء الآخر فعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 268 إلى المصنف وعبد بن حميد، وينظر تفسير ابن كثير 6/ 573.
أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ} . يقولُ: ولو نشاءُ أهلَكْناهم فى مساكِنهِم
(1)
.
والمكانةُ والمكانُ بمعنًى واحدٍ، وقد بَيَّنَّا ذلك فيما مضى قبلُ
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68) وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه: {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ} فنَمُدَّ له في العُمُرِ، {نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ}. يقولُ: نرُدُّه إلى مثل حاله في الصِّبا مِن الهَرَمِ والكِبَرِ، وذلك هو النَّكسُ فى الخلقِ، فيصيرُ لا يعلمُ شيئًا بعد العلم الذي كان يعلمُه.
وبالذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ} . يقولُ: مَن نَمُدَّ له في العُمُرِ نُنَكِّسْه في الخلقِ، لكيلا يعلمَ بعدَ علمٍ شيئًا، يعنى الهَرَم
(3)
.
واختلَفت القرأةُ فى قراءةِ قولِه: {نُنَكِّسْهُ} ؛ فقرأه عامةُ قرأة المدينةِ
(1)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 268 إلى المصنف وابن أبي حاتم، وذكره ابن حجر في تغليق التعليق 4/ 292 عن المصنف، وزاد فيه: والمكانة والمكان واحد. وهو من كلام المصنف.
(2)
ينظر ما تقدم في 9/ 567.
(3)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 268 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
والبصرةِ وبعضُ الكوفيِّين: (نَنْكُسْهُ) بفتح النون الأولى وتَسْكين الثانية
(1)
. وقرأته عامَّةُ قرأة الكوفة: {نُنَكِّسْهُ} بضمِّ النون الأولى وفتح الثانية وتشديد الكافِ
(2)
.
والصوابُ من القولِ فى ذلك أنهما قراءتان مشهورتان في قرأةِ الأمصارِ، فبأيَّتِهما قرأ القارئُ فمصيبٌ، غير أن التي عليها عامةُ قرأة الكوفيِّين أعجبُ إليَّ؛ لأن التنكيس من الله فى الخلقِ إنما هو حالٌ بعد حالٍ، وشيءٌ بعد شيءٍ، فذلك [تأكيدُ التشديد]
(3)
.
وكذلك اختلَفوا فى قراءة قوله: {أَفَلَا يَعْقِلُونَ} ؛ فقرأته قرأةُ
(4)
المدينةِ: (أَفَلا تَعْقِلُونَ) بالتاء على وَجْهِ الخطابِ
(5)
. وقرأته قرأةُ الكوفة بالياء على الخبرِ
(6)
، وقراءةُ ذلك بالياء أشبهُ بظاهر التنزيلِ؛ لأنه احتجاجٌ من الله على المشركين الذين قال لهم
(7)
: {وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ} فإخراجُ ذلك خبرًا على نحو ما خُرِّج قولُه: {لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ} أعجبُ إلىَّ، وإن كان الآخر غير مدفوعٍ.
ويعنى تعالى ذكرُه بقوله: {أَفَلَا يَعْقِلُونَ} : أفلا يعقلُ هؤلاء المشركون قُدْرةَ الله على ما يشاءُ بمُعاينتِهم ما يُعايِنون من تَصْريفِ خلقِه فيما شاء وأحبَّ، من
(1)
وهى قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو وابن عامر والكسائي. السبعة لابن مجاهد ص 543.
(2)
وهى قراءة عاصم وحمزة. إتحاف فضلاء البشر ص 225.
(3)
في م، ت 1:"تأييد للتشديد".
(4)
بعده في الأصل: "عامة".
(5)
وهى قراءة نافع. السبعة لابن مجاهد ص 543.
(6)
وهى قراءة ابن كثير وأبي عمرو وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي. المصدر السابق.
(7)
سقط من: م، ت 1.
صِغَرٍ إلى كِبَرٍ، ومن تَنْكيسٍ بعد كِبَرٍ في هَرَمٍ؟
وقولُه: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} . يقولُ تعالى ذكرُه: وما عَلَّمْنا محمدًا الشعرَ، وما ينبغى له أن يكونَ شاعرًا.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة قوله:{وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} . قال: قيل لعائشةَ: هل كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَتَمَثَّلُ بشيءٍ مِن الشِّعْرِ؟ قالت: كان أبغض الحديثِ إليه، غير أنه كان يتمثَّلُ ببيت أخي بني قيسٍ، فيجعلُ آخرَه أوَّلَه، وأوَّله آخره، فقال له أبو بكرٍ: إنه
(1)
ليس هكذا. فقال نبىُّ الله: "إنِّى والله ما أنا بشاعرٍ، ولا يَنْبَغى لى"
(2)
.
وقولُه: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ} . يقولُ تعالى ذكرُه: ما هو إلا ذكرٌ. يعنى بقوله: {إِنْ هُوَ} . أى
(3)
: محمدٌ، {إِلَّا ذِكْرٌ} لكم أيُّها الناسُ، ذكَّركم الله بإرساله إيَّاه إليكم، ونَبَّهَكم به على حَظِّكم، {وَقُرْآنٌ مُبِينٌ}. يقولُ: وهذا الذي جاءكم به محمدٌ قرآنٌ مبينٌ، يقولُ: يَبِينُ لمَن تَدَبَّره بعقلٍ ولُبٍّ، أنه تنزيلٌ من الله، أنزَله إلى محمدٍ، وأنه ليس بشعْرٍ ولا سَجْعِ كاهنٍ.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} . قال: هذا القرآنُ
(4)
.
(1)
في الأصل: "لله أنت".
(2)
أخرجه عبد الرزاق فى تفسيره 2/ 145، 146 عن معمر عن قتادة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 268 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم. والبيت المقصود هو قول طرفة:
ستبدى لك الأيام ما كنت جاهلا
…
ويأتيك بالأخبار من لم تزود
(3)
في الأصل، ت 1:"يا".
(4)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 268 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن أبي حاتم.
وقولُه: {لِيُنْذِرَ
(1)
مَنْ كَانَ حَيًّا}. يقولُ: إنْ محمدٌ إلا ذكرٌ لكم ليُنْذِرَ منكم أيُّها الناسُ من كان حىَّ القلبِ، يَعْقِلُ ما يقالُ له، ويفهمُ ما يُبَيِّنُ له، غير ميتِ الفؤادِ بَلِيدٍ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا أبو معاويةَ، عن رجلٍ، عن أبي رَوْقٍ، عن الضحاكِ في قولِه:{لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا} . قال: مَن كان عاقلًا
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة:{لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا} : حىَّ القلب، حىَّ البصر
(3)
.
وقولُه: {وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} . يقولُ: ويجب
(4)
العذابُ على أهلِ الكفر بالله، المُوَلِّين عن اتِّباعه، المُعْرِضين عما أتاهم به من عند الله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ: {وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى
(1)
في الأصل: "لتنذر"، وهى قراءة نافع وابن عامر. السبعة لابن مجاهد ص 544.
(2)
أخرجه البيهقي في الشعب (4653) من طريق أبي كريب به، وأخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب العقل (31)، والبزار في مسنده (3211) من طريق أبي معاوية به، ولم يذكر كل من البزار والبيهقي في الإسناد: عن رجل.
(3)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 268 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن أبي حاتم، وينظر تفسير ابن كثير 6/ 578.
(4)
فى م: "يحق".
الْكَافِرِينَ}؛ بأعمالِهم
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه: {أَوَلَمْ يَرَوْا} ؛ هؤلاء المشركون باللهِ الآلهةَ والأوثانَ، {أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا}. يقولُ: مما خلَقْنا من الخلقِ، {أَنْعَامًا} وهى المواشى التي خلقها الله لبنى آدم، فسَخَّرها لهم من الإبل والبقر والغنم، {فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ}. يقولُ: فهم لها مُصَرِّفون كيف شاءوا بالقهر منهم لها والضَّبْطِ.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} . أى: ضابِطون
(2)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} فقيل له: أهى الإبلُ؟ فقال: نعم. قال: والبقرُ من الأنعام، وليست بداخلةٍ
(3)
في هذه الآية. قال: والإبلُ والبقرُ والغنمُ من الأنعامِ. وقرأ: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الأنعام: 143]. قال: والبقرُ والإبلُ هى النَّعمُ
(4)
، وليست تدخُلُ الشاءُ
(5)
في النَّعمِ (4).
(1)
في ت 1: "المعرضين عما أتاهم". والأثر عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 268 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن أبي حاتم.
(2)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 269 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
فى الأصل، ت 1:"بداخل".
(4)
في الأصل: "الغنم".
(5)
في الأصل: "الشاة".
وقولُه: {وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ} . يقولُ: وذَلَّلْنا هذه الأنعام لهم، {فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ}. يقولُ: فمنها ما يركبون كالإبل يسافرون عليها، يقالُ: هذه دابةٌ رَكُوبٌ. والرُّكُوبُ بالضمِّ: هو الفعلُ، {وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} لحومَها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة:{وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ} يركبونها يسافرون عليها، {وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} لحومها
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (73) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه: {وَلَهُمْ} فى هذه الأنعام، {مَنَافِعُ} . وذلك منافعُهم فى أصوافِها وأوبارِها وأشعارها، باتخاذهم من ذلك أثاثًا ومتاعًا، ومن جلودها أكنانًا، {وَمَشَارِبُ} يشربون ألبانها.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة:{وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} : يَلْبَسون أصوافَها، {وَمَشَارِبُ}: يشرَبون ألبانَها
(1)
.
وقولُه: {أَفَلَا يَشْكُرُونَ} . يقولُ: أفلا يشكُرون نِعْمتى
(2)
هذه، وإحْساني إليهم؛ بطاعتى وإفرادِ الأُلوهةِ لى والعبادة، وترك طاعة الشيطان وعبادة الأصنام؟!.
(1)
عزاه السيوطى في الدر المنثور 5/ 269 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
في الأصل: "يعني".
وقولُه: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً} . يقولُ: واتَّخَذ هؤلاء المشركون مِن دونِ اللهِ آلهةً يعبُدونها، {لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ}. يقولُ: طَمَعًا أن تنصُرَهم تلك الآلهةُ مِن عقابِ اللهِ وعذابِه.
القولُ فى تأويلِ قولِه تعالى: {لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه: لا تستطيعُ هذه الآلهة نصرَهم مِن اللهِ إن أراد بهم سُوءًا، ولا تدفعُ عنهم ضُرًّا.
وقولُه: {وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ} . يقولُ: وهؤلاء المشركون لآلهتِهم جندٌ مُحْضَرون.
واختلَف أهلُ التأويلِ فى تأويلِ قولِه: {مُحْضَرُونَ} . وأين حُضُورُهم إياهم؛ فقال بعضُهم: عنَى بذلك: وهم لهم جندٌ مُحْضَرون عندَ الحسابِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنى محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مجاهدٍ فى قولِه:{وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ} . قال: عندَ الحسابِ
(1)
.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وهم لهم جندٌ مُحْضَرون فى الدنيا يغضَبون
(2)
لهم.
(1)
تفسير مجاهد ص 561، ومن طريقه الفريابى -كما فى تغليق التعليق 4/ 291.
(2)
فى الأصل: "محضرون".
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ} : الآلهةُ، {وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ}: والمشركون يغضَبون للآلهةِ فى الدنيا، وهى لا تسوقُ إليهم خيرًا، ولا تدفع عنهم سوءًا
(1)
، إنما هي أصنامٌ
(2)
.
وهذا الذى قاله قتادةُ أولى القولَين عندَنا بالصوابِ فى تأويلِ ذلك؛ لأن المشركين عند الحساب تتبرأُ منهم
(3)
الأصنامُ، وما كانوا يعبُدونه، فكيف يكونون لها جندًا حينَئذٍ، ولكنهم فى الدنيا هم لهم جندٌ يغضَبون
(4)
لهم، ويُقاتِلون دونَهم.
وقولُه تعالى: {فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ} . يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: فلا يَحْزُنْك يا محمدُ قولُ هؤلاء المشركين باللهِ مِن قومِك لك: إنك شاعرٌ، وما جِئتَنا به شعرٌ ولا تكذيبُهم بآياتِ اللهِ وجحودُهم نُبُوَّتَك.
وقولُه: {إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: إنا نعلمُ أن الذى يَدْعُوهم إلى قيلِ ذلك لك الحسدُ، وهم يعلَمون أن الذى جئتَهم به ليس بشعرٍ، ولا يُشْبِهُ الشعرَ، وأنك لستَ بكذَّابٍ، فنعلمُ ما يُسِرُّون مِن معرفتِهم بحقيقةِ ما تدعوهم إليه، وما يُعْلِنُون مِن جُحُودِهم ذلك بألسنتِهم علانيةً.
القولُ فى تأويلِ قولِه تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ
(1)
فى الأصل: "شرا".
(2)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 269 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبى حاتم.
(3)
فى الأصل: "منها".
(4)
فى الأصل: "محضرون".
رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79)}.
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ} . واختُلِف فى الإنسانِ الذى عُنى بقولِه: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ} ؛ فقال بعضُهم: عُنِى به أُبىُّ بنُ خلفٍ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنى محمدُ بنُ عُمارةَ، قال: ثنا عبيدُ اللهِ بنُ موسى، قال: ثنا إسرائيلُ، عن أبى يحيى، عن مجاهدٍ فى قولِه:{مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} . قال: أُبىُّ بنُ خَلَفٍ أَتَى رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بعَظْمٍ
(1)
.
حدَّثنى محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:
{وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا} . قال: أُبىُّ بنُ خلفٍ
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ،
عن قتادةَ قولَه: {قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} : ذُكِر لنا أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أتاه أبىُّ بنُ خلفٍ بعَظْمٍ حائلٍ، فَفَتَّه، ثم ذَرَاه فى الريحِ، ثم قال: يا محمدُ، مَن يُحْيى هذا وهو رميمٌ؟ قال: "اللهُ يُحْيِيه، ثم يُمِيتُك
(3)
، ثم يُدْخِلُك النارَ". قال: فقتَله رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يومَ أُحُدٍ
(4)
.
وقال آخرون: بل عُنِى به العاصُ بنُ وائلٍ السَّهْمِىُّ.
(1)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 270 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبى حاتم.
(2)
تفسير مجاهد ص 561.
(3)
فى م: "يميته".
(4)
أخرجه عبد الرزاق فى تفسيره 2/ 146 عن معمر عن قتادة، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 270 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هُشَيمٌ، قال: أخبَرنا أبو بشرٍ، عن سعيدِ بنِ جبيرٍ، قال: جاء العاصُ بنُ وائلٍ السَّهْمِىُّ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بعَظْمٍ حائلٍ، فَفَتَّه بينَ يدَيه، فقال: يا محمدُ، أيبعثُ اللهُ هذا حيًّا بعدَما أرَمَّ
(1)
؟ قال: "نَعَمْ يَبْعَثُ اللهُ هذا، ثم يُمِيتُكَ ثم يُحْيِيكَ، ثم يُدْخِلُك نارَ جهنمَ". قال: فنزَلت الآياتُ: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} إلى آخرِ الآيةِ
(2)
.
وقال آخرون: بل عُنى به عبدُ اللهِ بنُ أُبىٍّ
(3)
.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنى محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبى، قال: ثنى عمى، قال: ثنى أبى، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ:{أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ} إلى قولِه: {وَهِيَ رَمِيمٌ} . قال: جاء عبدُ اللهِ بنُ أُبىٍّ إلى النبىِّ صلى الله عليه وسلم بعَظْمٍ حائلٍ، فكسَره بيدِه، ثم قال: يا محمدُ، كيف يبعثُ اللهُ هذا وهو رَمِيمٌ؟ فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"يَبْعَثُ اللهُ هذا، ويُمِيتُك، ثم يُدْخِلُك جهنمَ". فقال اللهُ: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ}
(4)
.
(1)
فى الأصل، ت 1:"أدى".
(2)
ذكره ابن كثير فى تفسيره 6/ 580 عن المصنف، وأخرجه ابن أبى حاتم -كما فى تفسير ابن كثير 6/ 580 - والحاكم 2/ 429 من طريق هشيم به موصولا عن ابن عباس.
(3)
بعده فى الأصل: "الزمن"
(4)
أخرجه ابن مردويه -كما فى تخريج الزيلعى 3/ 168 - من طريق محمد بن سعد به، وذكره ابن كثير فى تفسيره 6/ 580 ثم قال: وهذا منكر؛ لأن السورة مكية، وعبد الله بن أبى ابن سلول إنما كان بالمدينة.
فتأويلُ الكلامِ إذن: أو لم يَرَ هذا الإنسانُ الذى يقولُ: {مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} أنَّا خلَقناه مِن نطفةٍ فسَوَّيناه خلقًا سَوِيًّا، {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ}. يقولُ: فإذا هو ذو خُصُومةٍ لربِّه، يُخاصِمُه فيما قال له ربُّه إنى فاعلٌ، وذلك إخبارُ اللهِ إيَّاه أنه مُحْيى خلقِه بعدَ مماتِهم، فيقولُ: مَن يُحْيِى هذه العظامَ وهى رَمِيمٌ؟ إنكارًا منه لقُدرةِ اللهِ على إحْيائِها.
وقولُه: {مُبِينٌ} . يقولُ: يَبينُ لمَن سمِع خُصومتَه وقيلَه ذلك، أنه مخاصمٌ ربَّه الذى خلَقه.
وقولُه: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ} . يقولُ: ومَثَّل لنا شَبَهًا بقولِه: {مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} إذ كان لا يقدِرُ على إحياءِ ذلك أحدٌ، يقولُ: فجعَلَنا كمَن لا يقدرُ على إحياءِ ذلك مِن الخلقِ، {وَنَسِيَ خَلْقَهُ}. يقولُ: ونسِى خَلْقَنا إيَّاه كيف خلَقناه، وأنه لم يَكُنْ إلا نطفةً، فجعَلناها خَلْقًا سَوِيًّا ناطقًا. [يقولُ: فلم يُفكِّرْ فى خَلْقِناه، فيعلمَ أن مَن خَلَقه مِن نطفةٍ حتى صار بَشَرًا سويًّا ناطقًا]
(1)
مُتَصَرِّفًا، لا يَعْجِزُ أن يُعِيدَ الأمواتَ أحياءً، والعظامَ الرَّميمَ بَشَرًا كهيئتِهم التى كانوا بها قبلَ الفناءِ، يقولُ اللهُ عز وجل لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم:{قُلْ} لهذا المشركِ القائلِ لك: مَن يُحْيِى العظامَ وهى رَمِيمٌ: {يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} . يقولُ: يُحْيِيها الذى ابتدَع خَلْقَها أولَ مرةٍ ولم تَكُنْ شيئًا، {وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ}. يقولُ: وهو بجميعِ خلقِه ذو علمٍ؛ كيف يميتُ، وكيف يُحْيى، وكيف يُبْدِئُ، وكيف يُعيدُ، لا يَخْفَى عليه شيءٌ مِن أمرِ خلقه.
(1)
سقط من: الأصل.
القولُ فى تأويلِ قولِه تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه: قُلْ يُحْيِيها الذى أنشَأها أوَّلَ مرةٍ، {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا}. يقولُ: الذى أخرَج
(1)
لكم مِن الشجرِ الأخضرِ نارًا تُحْرِقُ الشجرَ، لا يمتنعُ عليه فعلُ ما أرادَ، ولا يعجِزُ عن إحياءِ العظامِ التى قد رَمَّت، وإعادتِها بَشَرًا سويًّا وخلقًا جديدًا، كما بدَأها أوَّلَ مرةٍ.
وبنحوِ الذى قلنا فى ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا} . يقولُ: الذى أخرَج هذه النارَ مِن هذا الشجرِ الأخضرِ
(2)
قادرٌ أن يبعثَه
(3)
.
قولُه: {فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} . يقولُ: فإذا أنتم مِن الشجرِ توقِدون النارَ.
وقال: {مِنْهُ} و "الهاءُ" مِن ذكرِ الشجرِ، ولم يَقُلْ:"منها". والشجرُ جمعُ شجرةٍ؛ لأنه خُرِّج
(4)
مخرجَ الثمرِ والحصَى، ولو قيل:"منها". كان صوابًا
(1)
فى الأصل: "جعل".
(2)
سقط من: م، ت 1.
(3)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 270 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبى حاتم.
(4)
بعده فى الأصل: "منها".
أيضًا؛ لأن العربَ تُذكِّرُ مثلَ هذا وتُؤنِّثُه.
وقولُه: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} . يقوُل تعالى ذكرُه مُنَبِّهًا هذا الكافرُ الذى قال: من يحيى العظامَ وهى رَميمٌ. على خطأِ قولِه وعظيمِ جهلِه: أوَ ليس الذى خلَق السماواتِ السبعَ والأرضَ بقادرٍ على أن يخلُقَ مثلَكم
(1)
، فإن خلقَ مثلِكم مِن العظامِ الرَّمِيمِ ليس بأعظمَ مِن خلقِ السماواتِ والأرضِ. يقولُ: فمَن لم يَتعذَّرْ عليه خلقُ ما هو أعظمُ مِن خَلْقِكم، فكيف يَتعذَّرُ عليه إحياءُ العظامِ مِن بعدِ ما قد رَمَّت وبَلِيَت؟
وقولُه: {بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} يقولُ: بلى، هو قادرٌ على أن يخلُقَ مثلَهم، وهو الخلّاقُ لِما يشاءُ، الفَعَّالُ لِما يريدُ، العليمُ بكلِّ ما خلَق ويخلُقُ، لا يخفَى عليه خافيةٌ.
القولُ فى تأويلِ قولِه تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه: إنَّما أَمْرُ اللهِ إذا أراد خلقَ شيءٍ أن يقولَ لهُ: كنْ. فيكونُ.
وكان قتادةُ يقولُ فى ذلك ما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} . قال: هذا مِثْلُ: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} . قال: ليس مِن كلامِ العربِ شيءٌ هو أخفَّ مِن ذلك، ولا
(1)
فى الأصل: "مثلهم" ـ
أهونَ، فأمْرُ اللهِ كذلك
(1)
.
وقولُه: {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} . يقولُ تعالى ذكرُه: فتَنْزيهٌ للذى
(2)
بيدِه مُلْكُ كلِّ شيءٍ وخزائنُه.
وقولُه: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} . يقولُ: وإليه تُرَدُّون، وتَصِيرون بعدَ مماتِكم.
آخرُ تفسيرِ سورةِ "يس".
(1)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 270 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبى حاتم.
(2)
فى م، ت 1:"الذى".
تفسيُر سورةِ الصَّافَّاتِ
بسم الله الرحمن الرحيم
القولُ فى تأويلِ قولِه عز وجل: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا
(3)}.
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: أقسَم اللهُ تعالى ذكرُه بالصَّافَّات، والزّاجِراتِ، والتّالِياتِ الذِّكرَ
(1)
؛ فأما الصَّافَّاتُ فإنّها الملائكةُ الصَّافَّاتُ لربِّها فى السماءِ، وهى جمعُ صافَّةٍ، فالصَّافَّاتُ جَمْعُ جَمْعٍ، وبذلك جاء تأويلُ أهلِ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنى سلمُ بنُ جُنادةَ، قال: ثنا أبو معاويةَ، عن الأعمشِ، عن مسلمٍ، قال: كان مسروقٌ يقولُ فى الصَّافَّاتِ: هى الملائكةُ
(2)
.
حدَّثنا إسحاقُ بنُ أبى إسرائيلَ، قال: أخبَرنا النضرُ بنُ شُميلٍ، قال: أخبَرنا شُعْبةُ، عن سليمانَ، قال: سمِعتُ أبا الضحى
(3)
، عن مسروقٍ، عن عبدِ اللهِ بمثلِه
(4)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:
(1)
فى م، ت 1:"ذكرًا".
(2)
ذكره ابن كثير فى تفسيره 7/ 3، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 271 إلى سعيد بن منصور.
(3)
فى الأصل: "الضحاك".
(4)
أخرجه عبد الرزاق فى تفسيره 2/ 147، والفريابى -كما فى الدر المنثور 5/ 271 - ومن طريقه الطبراني (9041)، والحاكم 2/ 429 من طريق الأعمش به، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبى حاتم.
{وَالصَّافَّاتِ صَفًّا} . قال: قسمٌ؛ أقسَم اللهُ بخلقٍ ثم خلقٍ ثم خلقٍ. والصَّافَّاتُ: الملائكةُ صُفوفًا فى السماءِ
(1)
.
حدَّثنى محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المفضلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السدىِّ فى قولِه:{وَالصَّافَّاتِ صَفًّا} . قال: هم الملائكةُ
(2)
.
حدَّثنى يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ فى قولِه: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا} . قال: هذا قسمٌ أقسَم اللهُ به.
واختلَف أهلُ التأويلِ فى تأويلِ قولِه: {فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا} ؛ فقال بعضُهم: هى الملائكةُ تَزْجُرُ السحابَ تَسُوقُه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنى محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبى نجيحٍ، عن مجاهدٍ فى قولِه:{فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا} . قال: الملائكةُ
(3)
.
حدَّثنى محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المفضلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السدىِّ فى قولِه:{فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا} . قال: هم الملائكةُ
(4)
.
وقال آخرون: بل ذلك آىُ القرآنِ التى زجَر اللهُ بها عمّا زجَر بها عنه فى القرآنِ.
(1)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 271 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 271 إلى المصنف وابن أبى حاتم.
(3)
تفسير مجاهد ص 566، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 271 إلى عبد بن حميد.
(4)
ينظر تفسير القرطبى 5/ 62، وتفسير ابن كثير 7/ 3.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا} . قال: ما زجَر اللهُ عنه فى القرآنِ
(1)
.
قال أبو جعفرٍ: والذى هو أولى بتأويلِ الآيةِ عندَنا ما قاله مجاهدٌ ومن قال: هم الملائكةُ. لأن اللهَ جلَّ ثناؤه ابتدَأ القسَمَ بنوعٍ من
الملائكةِ، وهم الصافُّون بإجماعٍ من أهلِ التأويلِ، فلأن يكونَ الذى بعدَه قسمًا بسائرِ أصنافِهم أشبهُ.
وقولُه: {فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا} . يقولُ: فالقارئاتِ كتابًا.
واختلَف أهلُ التأويلِ فى المعنىِّ بذلك؛ فقال بعضُهم: هم الملائكةُ.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنى محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبى نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا} . قال: الملائكةُ
(2)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المفضلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السدىِّ:{فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا} . قال: هم الملائكةُ
(3)
.
(1)
أخرجه عبد الرزاق فى تفسيره 2/ 147 عن معمر عن قتادة، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 271 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبى حاتم.
(2)
تفسير مجاهد ص 566، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 271 إلى عبد بن حميد.
(3)
ذكره ابن كثير فى تفسيره 7/ 3.
وقال آخرون: هو ما يُتلَى مما
(1)
فى القرآنِ من أخبارِ الأممِ قبلَنا.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا} . قال: ما يُتلَى عليكم فى القرآنِ من أخبارِ الناسِ [والأممِ قبلَكم]
(2)
(3)
.
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يعنى تعالى ذكرُه بقولِه: {إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ} : والصَّافَّاتِ صفًّا، إن معبودَكم الذى يَستوجِبُ عليكم أيُّها الناسُ العبادةَ، وإخلاصَ الطاعةِ منكم له، لواحدٌ لا ثانىَ له ولا شريكَ. يقولُ: فله أخْلِصوا العبادةَ، وإياه فأفرِدوا بالطاعةِ، ولا تجعَلوا له فى عبادتِكم إياه شريكًا.
وقولُه: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ} . [يقولُ: هو واحدٌ مدبرٌ
(4)
السماواتِ السبعَ والأرضَ
(5)
وما بينَهما] (2) من الخَلْقِ، ومالكٌ ذلك كلَّه، والقيِّمُ على جميعِ ذلك.
(1)
سقط من: م.
(2)
سقط من: ت 1.
(3)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 271 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبى حاتم.
(4)
فى م: "خالق".
(5)
سقط من: م.
يقولُ: فالعبادةُ لا تَصلُحُ إلا لمَن هذه صفتُه، فلا تَعبُدوا غيرَه، ولا تُشرِكوا معَه فى عبادتِكم إياه من لا يَضُرُّ ولا يَنفَعُ، ولا يَخلُقُ شيئًا ولا يُفْنيه.
واختلَف أهلُ العربيةِ فى وجهِ رفعِ: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ} ؛ فقال بعضُ نحويِّى البصرةِ: رُفِع على معنى: إن إلهَكم لربٌّ. وقال غيرُه: هو رَدٌّ على {إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ} . ثم فسَّر الواحدَ، فقال:{رَبُّ السَّمَاوَاتِ} فهو ردٌّ على واحدٍ. وهذا القولُ عندى أشبهُ بالصوابِ فى ذلك؛ لأن الخبرَ هو قولُه: {لَوَاحِدٌ} ، وقولُه:{رَبُّ السَّمَاوَاتِ} ترجمةٌ عنه، وبيانٌ مردودٌ على إعرابهِ.
وقولُه: {وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} . يقولُ: ومُدبِّرُ مشارقِ الشمسِ فى الشتاءِ والصيفِ، ومغاربِها، والقيِّمُ على ذلك ومُصلِحُه. وترَك ذكرَ المغاربِ، لدلالةِ الكلامِ عليه، واستَغنَى بذكرِ المشارقِ مِن ذكرِها، إذ كان معلومًا أن معَها المغاربَ.
وبنحوِ الذى قلنا فى ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ} : وقَع القسَمُ على هذا؛ إنَّ إلهَكم لواحدٌ، {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ}. قال: مشارقِ الشمسِ فى الشتاءِ والصيفِ
(1)
.
حدَّثنى محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المفضلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن
(1)
عزا السيوطى شطره الأول فى الدر المنثور 5/ 271 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبى حاتم. وأخرج عبد الرزاق شطره الثانى فى تفسيره 2/ 147 عن معمر عن قتادة، وفيه زيادة فى أوله، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 271 إلى ابن المنذر.
السدىِّ قولَه: {وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} . قال: المشارقُ ستون وثلاثُمائةِ مشرقٍ، والمغارِبُ مثلُها، عددَ أيامِ السنةِ
(1)
.
وقولُه: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} . اختلَفتِ القرأةُ فى قراءةِ قولِه: {بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} ؛ فقرَأته عامةُ قرأةِ المدينةِ والبصرةِ وبعضُ قرأةِ الكوفةِ: (بزينةِ الكواكبِ) بإضافةِ الزينةِ إلى الكواكبِ، وخفضِ الكواكبِ، بمعنى: إنا زيَّنا السماءَ الدنيا التى تليكم أيها الناسُ، وهى الدنيا إليكم، بتزيينِها الكواكبُ. أى بأنْ زيَّنتها الكواكبُ. وقرَأ ذلك جماعةٌ من قرأةِ الكوفة:{بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} بتنوينِ الزينةِ، وخفضِ الكواكبِ؛ ردًّا لها على الزينةِ، بمعنى: إنا زينا السماءَ الدنيا بزينةٍ هى الكواكبُ، كأنه قال: زيَّناها بالكواكبِ. ورُوى عن بعضِ قرأةِ الكوفةِ أنه كان يُنوِّنُ الزينةَ، ويَنصِبُ الكواكبَ
(2)
، بمعنى: إنا زينا السماءَ الدنيا بتزيينِنا الكواكبَ. ولو كانت القراءةُ فى الكواكبِ جاءت رفعًا، إذا نُوِّنت الزينةُ، لم يكنْ لحنًا، بَلْ
(3)
كان صوابًا فى العربيةِ، وكان معناه: إنا زيَّنا السماءَ الدنيا بتزيينِها الكواكبُ. أى بأنْ زيَّنتها الكواكبُ. وذلك أن الزينةَ مصدرٌ، فجائزٌ توجيهُها إلى أىِّ هذه الوجوهِ التى وُصِفت فى العربيةِ.
وأما القراءةُ فأعجبُها إلىَّ بإضافةِ الزينةِ إلى الكواكبِ وخفضِ الكواكبِ؛ لصحةِ معنى ذلك فى التأويلِ والعربيةِ وأنَّها قراءةُ أكثرِ قرأةِ الأمصارِ، وإن كان التنوينُ فى الزينةِ وخفضُ الكواكبِ عندى صحيحًا أيضًا، فأما النصبُ فى
(1)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 271. إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(2)
قرأ عاصم وحمزة بتنوين الزينة، وقرأ الباقون وهم نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر والكسائى بغير تنوين. وقرأ أبو بكر بنصب الكواكب، وقرأ الباقون بخفضها. التيسير ص 150.
(3)
فى م، ت 1:"و".
الكواكبِ والرفعُ، فلا أستجيزُ القراءةَ بهما؛ لإجماعِ الحجةِ من القرأةِ على خلافِهما، وإن كان لهما فى الإعراب والمعنى وجهٌ صحيحٌ.
وقد اختلَف أهلُ العربيةِ فى تأويلِ ذلك إذا أضيفت الزينةُ إلى الكواكبِ؛ فكان بعضُ نحويِّى البصرةِ يقولُ: إذا قُرئ ذلك كذلك، فليس يعنى بعضَها، ولكنَّ زينتَها حُسنُها، وكان غيرُه يقولُ: معنى ذلك إذا قُرِئ كذلك: إنا زيَّنا السماءَ الدنيا بأن زيَّنتْها الكواكبُ. وقد بيَّنا الصوابَ فى ذلك عندَنا.
وقولُه: {وَحِفْظًا} . يقولُ تعالى ذكرُه: وحفظًا للسماءِ الدنيا زيَّناها بزينةِ الكواكبِ.
وقد اختلَف أهلُ العربيةِ فى وجهِ نصبِ قولِه: {وَحِفْظًا} ؛ فقال بعضُ نحويِّى البصرةِ: قال: {وَحِفْظًا} ؛ لأنه بدلٌ من اللفظِ بالفعلِ، كأنه قال: وحفِظناها حفظًا. وقال بعضُ نحويِّى الكوفةِ: إنما هو من صلةِ التزيينِ؛ إنا زيَّنا السماءَ الدنيا حفظًا لها. وأدخَل الواوَ على التكريرِ؛ أى: وزيَّناها حفظًا لها. فجعَله من التزيينِ. وقد بيَّنتُ
(1)
القولَ فيه عندَنا، وتأويلُ الكلامِ: وحفظًا لها من كل شيطانٍ عاتٍ خبيثٍ زيَّناها.
كما حدثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَحِفْظًا} . يقولُ: جعَلتُها حفظًا من كلِّ شيطانٍ ماردٍ.
وقولُه: {لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى} . اختلَفت القرأةُ فى قراءةِ قولِه: {لَا يَسَّمَّعُونَ} ؛ فقرَأ ذلك عامةُ قرأةِ المدينةِ والبصرةِ وبعضُ الكوفيين: (لا يسْمَعون) بتخفيفِ السينِ مِن {يَسَّمَّعُونَ} بمعنى أنهم يَتسمَّعون ولا يَسمعون.
(1)
فى م: "بينا".
وقرَأه عامةُ قرأةِ الكوفيين بعدُ: {لَا يَسَّمَّعُونَ} بمعنى: لا يتسمَّعون، ثم أدغَموا التاءَ فى السينِ فشدَّدوها
(1)
.
وأولى القراءتين فى ذلك عندى بالصوابِ قراءةُ مَن قرَأه بالتخفيفِ
(2)
؛ لأن الأخبارَ الواردةَ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وعن أصحابِه، أن الشياطينَ قد تتسمَّعُ
(3)
الوحىَ، ولكنها تُرْمَى بالشُّهُبِ لئلا تَسْمَعَ.
ذكرُ روايةِ بعضِ ذلك
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا وكيعٌ، عن إسرائيلَ، عن أبى إسحاقَ، عن سعيدِ بنِ جبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: كانت للشياطينِ مقاعدُ فى السماءِ. قال: فكانوا يَسمَعون الوحىَ. قال: وكانت النجومُ لا تُجرَى
(4)
، وكانت الشياطينُ لا تُرْمَى. قال: فإذا سمِعوا الوحىَ نزَلوا إلى الأرضِ، فزادوا فى الكلمةِ تسعًا. قال: فلما بُعِثَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم جعَل الشيطانُ إذا قعَد مقعدَه جاءه شهابٌ، فلم يُخْطِه حتى يَحرِقَه. قال: فشكَوا ذلك إلى إبليسَ، فقال: ما هو إلا لأمرٍ حدَث. قال: فبَثَّ
(5)
جنودَه، فإذا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قائمٌ يُصلِّى بينَ جَبَلَىْ نخلةَ. قال أبو كريبٍ: قال وكيعٌ: يعنى بطنَ نخلةَ. قال: فرجَعوا إلى إبليسَ فأخبَروه. قال: فقال: هذا
(6)
الذى حدَث
(7)
.
(1)
قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وأبو عمرو، وعاصم فى رواية أبى بكر بتخفيف السين، وقرأ حمزة والكسائى وحفص عن عاصم بالسين مشددة. السبعة ص 547.
(2)
القراءتان كلتاهما صواب.
(3)
فى الأصل: "تسمع".
(4)
فى الأصل: "تدرى".
(5)
فى م: "فبعث".
(6)
فى الأصل: "هو".
(7)
أخرجه أحمد 4/ 283، 284 (2482)، والترمذى (3324)، والطبرانى (12431) من طريق =
حدَّثنا ابنُ وكيعٍ وأحمدُ بنُ يحيى الصوفىُّ، قالا: ثنا عبيدُ اللهِ، عن إسرائيلَ: عن أبى إسحاقَ، عن سعيدِ بنِ جبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: كانت الجنُّ يصعَدون إلى السماءِ الدنيا، يَستمعون الوحىَ، فإذا سمِعوا الكلمةَ زادوا فيها تسعًا، فأما الكلمةُ فتكونُ حقًّا، وأما ما زادوا
(1)
فيكونُ باطلًا، فلما بُعِث النبىُّ صلى الله عليه وسلم مُنِعوا مقاعدَهم، فذكَروا ذلك لإبليسَ، ولم تكنِ النجومُ يُرْمَى بها قبلَ ذلك، فقال لهم إبليسُ: ما هذا إلا لأمرٍ حدَث فى الأرضِ. فبعَث جنودَه، فوجَدوا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قائمًا يُصلِّى، فأتَوه فأخبَروه، فقال: هذا الحدثُ الذى حدَث
(2)
.
حدَّثنا ابنُ المثنى، قال: ثنا [عبدُ اللهِ]
(3)
بنُ رجاءٍ، قال: ثنا إسرائيلُ، عن أبى إسحاقَ، عن سعيدِ بنِ جبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: كانت الجنُّ لهم
(4)
مقاعدُ. ثم ذكَر نحوَه.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا يونسُ بنُ بُكيرٍ، قال: ثنا محمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنى الزهرىُّ، عن علىِّ بنِ الحسينِ
(5)
، عن ابنِ عباسٍ، قال: حدَّثنى رهطٌ مِن الأنصارِ، قالوا: بينا نحنُ جلوسٌ ذاتَ ليلةٍ معَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، إذ رأى كوكبًا رُمِى به، فقال: "ما تقولون فى هذا الكوكبِ الذى رُمِى
(6)
به؟ ". فقلنا: يُولَدُ مولودٌ، أو يَهلِكُ هالِكٌ، ويموتُ مَلِكٌ، ويَملِكُ مَلِكٌ. فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:
= إسرائيل به. وأخرجه أبو يعلى (2502)، والبيهقى فى الدلائل 2/ 239، 240 من طريق أبى إسحاق به.
(1)
بعده فى الأصل: "فيها".
(2)
أخرجه النسائى (11626 - كبرى) من طريق عبيد الله به.
(3)
سقط من: الأصل.
(4)
فى الأصل: "لها".
(5)
بعده فى م: "عن أبى إسحاق". وفى ت 1: "عن ابن إسحاق". وتنظر مصادر التخريج، وينظر أيضا تهذيب الكمال 20/ 382.
(6)
فى م، ت 1:"يرمى".
"ليس كذلك، ولكن اللهَ كان إذا قضَى أمرًا فى السماءِ، سبَّح لذلك حَمَلةُ العرشِ، فسبَّح
(1)
لتسبيحِهم مَن يَلِيهم مِن تحتِهم مِن الملائكةِ، فما يزالون كذلك حتى يَنتهِىَ التسبيحُ إلى السماءِ الدنيا، فيقولُ أهلُ السماءِ الدنيا لمَن يَلِيهم مِن الملائكةِ: ممَّ سبَّحتُم؟ فيقولون: ما ندرى، سمِعنا مَن فوقَنا مِن الملائكةِ سبَّحُوا، فسبَّحنا اللهَ لتسبيحِهم، ولكنَّا سنَسألُ. فيَسألون مَن فوقَهم، فما
(2)
يزالون كذلك حتى يُنتهَى
(3)
إلى حملةِ العرشِ، فيقولون: قضَى اللهُ كذا وكذا. فيُخبِرون به مَن يَلِيهم حتى يَنتهُوا إلى السماءِ الدنيا، فيَسترِقُ الجنُّ ما يقولون، [فيَنزِلون به]
(4)
إلى أوليائِهم من الإنسِ، فيُلقُونَه على ألسنتِهم، بتوهُّمٍ منهم، فيُخبِرونهم به، فيكونُ بعضُه حقًّا وبعضُه كذبًا، فلم تزَلِ الجنُّ كذلك حتى رُمُوا بهذه الشُّهُبِ"
(5)
.
حدَّثنا ابنُ وكيعٍ وابنُ المثنى، قالا: ثنا عبدُ الأعلى، عن معمرٍ، عن الزهرىِّ، عن علىِّ بنِ حسينٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: بينما النبىُّ صلى الله عليه وسلم فى نفرٍ من الأنصارِ، إذ رُمِىَ بنجمٍ، فاستنار، فقال النبىُّ صلى الله عليه وسلم:"ما كنتم تقولون لمثلِ هذا فى الجاهليةِ إذا رأيتُمُوه؟ ". قالوا: كنا نقولُ: يموتُ عظيمٌ، أو يُولَدُ عظيمٌ. قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "فإنه لا يُرمَى به لموتِ أحدٍ ولا لحياتِه، ولكنْ ربُّنا تبارك اسمُه إذا قضَى أمرًا سبَّح حملةُ العرشِ، ثم سبَّح أهلُ السماءِ الذين يَلُونَهم، [ثم الذين يَلُونهم]
(6)
(1)
فى م، ت 1:"فيسبح".
(2)
فى ت 1: "فلا".
(3)
فى الأصل: "ينتهوا".
(4)
فى الأصل: "فينزلونه". وفى م: "فينزلون".
(5)
أخرجه أحمد 3/ 373، 374 (1883)، ومسلم (2229)، والطحاوى فى مشكل الآثار (2332 - 2334)، وابن حبان (6129)، وأبو نعيم فى الحلية 3/ 143، والبيهقى فى الدلائل 2/ 236 وفى الأسماء والصفات (436)، وابن منده فى الإيمان (701) من طريق الزهرى به، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 6/ 273 إلى ابن أبى شيبة وعبد بن حميد وابن مردويه.
(6)
سقط من: ت 1.
حتى يَبلُغَ التسبيحُ أهلَ هذه السماءِ، ثم يسألُ أهلُ السماءِ السابعةِ حملةَ العرشِ: ماذا قال ربُّنا؟ فيُخبِرونهم، ثم يَستخبِرُ أهلُ كلِّ سماءٍ سماءً
(1)
، حتى يَبلُغَ الخبرُ أهلَ
(2)
السماءِ الدنيا، ويَخطِفُ الشياطينُ السمعَ، فيُرمَون، فيَقذِفونه إلى أوليائِهم، فما جاءوا به على وجهِه فهو حقٌّ، ولكنَّهم يَزِيدون"
(3)
.
حدَّثنا ابنُ المثنى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: أخبَرنا معمرٌ، قال: ثنا ابنُ شهابٍ، عن علىِّ بنِ حسينٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم جالسًا فى نفرٍ من أصحابِه. قال: فرُمِى بنجمٍ. ثم ذكَر نحوَه، إلا أنه زاد فيه: قلتُ للزهرىُّ: أكان يُرْمَى بها فى الجاهليةِ؟ قال: نعم، ولكنها غُلِّظتْ
(4)
حينَ بُعث النبىُّ صلى الله عليه وسلم
(5)
.
حدَّثنى علىُّ بنُ داودَ، قال: ثنا عاصمُ بنُ علىٍّ، قال: ثنا أبى علىُّ بنُ عاصمٍ، عن عطاءِ بنِ السائبِ، عن سعيدِ بنِ جبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: كان للجنِّ مقاعدُ فى السماءِ، يَستمِعون الوحىَ، وكان الوحىُ إذا أُوحِى سمِعت الملائكةُ كهيئةِ الحديدةِ يُرْمَى بها على الصَّفْوانِ
(6)
، فإذا سمِعت الملائكةُ صلصلةَ الوحىِ خرُّوا
(7)
لجباهِهم مَنْ فى السماءِ من الملائكةِ، فإذا نزَل عليهم أصحابُ الوحىِ
(1)
سقط من: م.
(2)
فى الأصل: "إلى".
(3)
أخرجه الترمذى (3224) من طريق عبد الأعلى به.
(4)
فى الأصل، ت 1:"خلطت". وينظر مسند الإمام أحمد وتفسير عبد الرزاق.
(5)
أخرجه أحمد 3/ 372 (1882) عن محمد بن جعفر به، وأخرجه عبد الرزاق فى تفسيره 2/ 321 - ومن طريقه أحمد 3/ 373 إثر رقم (1882)، وعبد بن حميد (682)، والبيهقى فى الدلائل 2/ 238 - عن معمر به.
(6)
فى الأصل: "الصفر". والصُّفْر هو النحاس الأصفر. على أن مصادر التخريج مطبقة على أنه الصفوان أو الصفا -كما فى بعضها- وهو الحجر الأملس. وينظر أيضًا فتح البارى 8/ 537، 538.
(7)
فى م: "خر".
قالوا: {مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} ؟ قالوا: {الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ: 23]. قال: فيتنادَون: قال ربُّكم الحقَّ وهو العلىُّ الكبيرُ. قال: فإذا أُنزِل إلى السماءِ الدنيا قالوا: يكونُ فى الأرضِ كذا وكذا موتًا، وكذا وكذا حياةً، وكذا وكذا جُدوبةً
(1)
، وكذا وكذا خِصْبًا. وما يُريدُ أن يَصنَعَ، وما يُريدُ أن يَبتدِئَ تبارك وتعالى، فنزَلت الجنُّ، فأوحَوا إلى أوليائِهم من الإنسِ بما يكونُ فى الأرضِ، فبينا هم كذلك، إذ بعَث اللهُ النبىَّ صلى الله عليه وسلم، فزجَرت
(2)
الشياطينَ من السماءِ ورَمَوهم بالكواكبِ، فجعَل لا يَصعَدُ أحدٌ منهم إلا احترَق، وفزِع أهلُ الأرضِ لِمَا رأَوا فى الكواكبِ
(3)
، ولم يكنْ قبلَ ذلك، وقالوا: هلَك مَنْ فى السماءِ. وكان أهلُ الطائفِ أَوَّلَ مَن فزِع، فيَنطلِقُ الرجلُ إلى إبلِه فيَنحَرُ كلَّ يومٍ بعيرًا لآلهتِهم، ويَنطلِقُ صاحبُ الغنمِ فيَذبَحُ كلَّ يومٍ شاةً، ويَنطلِقُ صاحبُ البقر فيذبَحُ كلَّ يومٍ بقرَةً، فقال لهم رجلٌ: ويْلَكم! لا تُهْلِكوا أموالَكم. فإن معالمَكم من الكواكبِ التى تهتدون بها لم يَسقُطْ منها شيءٌ. فأقلَعوا، وقد أسرَعوا فى أموالِهم، وقال إبليسُ: حدَث فى الأرضِ حدثٌ. فأُتِى مِن كلِّ أرضٍ بتربةٍ، فجعَل لا يُؤتَى بتربةِ أرضٍ
(4)
إلا شمَّها، فلما أُتِى بتربةِ تِهامةَ، قال: هاهنا حدَث الحدثُ. وصرَف اللهُ إليه نفرًا من الجنِّ وهو يقرَأُ القرآنَ، فقالوا:{إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} [الجن: 1] حتى ختَم الآيةَ - فولَّوا إلى قومِهم مُنذرِين
(5)
.
(1)
فى ت 1: "حزونة".
(2)
فى ت 1: "فدحرت". يريد: فزجرت الملائكة الشياطين.
(3)
بعده فى الأصل: "مارأوا".
(4)
سقط من: الأصل.
(5)
أخرجه أبو نعيم فى الدلائل (177)، والبيهقى فى الدلائل 2/ 240، 241. من طريق عطاء به. وأخرجه أحمد 3/ 283، 284 (2482)، والنسائى (11626 - كبرى)، والطحاوى فى المشكل (2331) من طريق سعيد به.
حدَّثنى يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: أخبَرنى ابنُ لَهيعةَ، عن محمدِ بنِ عبدِ الرحمنِ، عن عُروةَ، عن عائشةَ، أنها قالت: سمِعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ: "إن الملائكةَ تَنزِلُ فى العَنانِ وهو السَّحابُ، فتَذكُرُ الأمرَ
(1)
قُضِى فى السماءِ، فتَسترِقُ الشياطينُ السمعَ، فتسمَعُه، فتُوحيه إلى الكُهّانِ، فيُكذِبون معَها مائةَ كِذْبةٍ مِن عندِ أنفسِهم"
(2)
. فهذه الأخبارُ تُنْبئُ عن أن الشياطينَ تَتَسمَّعُ، ولكنها تُرْمَى بالشُّهُبِ لئلا تَسمَعَ.
فإن ظنَّ ظانٌّ أنه لما كان فى الكلامِ "إلى"، كان التسمُّعُ أولى بالكلامِ مِن السمعِ، فإن الأمرَ فى ذلك بخلافِ ما ظنَّ، وذلك أن العربَ تقولُ: سمِعتُ فلانًا يقولُ كذا، وسمِعتُ إلى فلانٍ يقولُ كذا، وسمِعتُ من فلانٍ.
وتأويلُ الكلامِ: إنا زيَّنَّا السماءَ الدنيا بزينةِ الكواكبِ، وحفظًا من كلِّ شيطانٍ ماردٍ أن لا يَسَّمَّعَ إلى الملأ الأعلى. فحُذِفت "أن" اكتفاءً بدلالةِ الكلامِ عليها، كما قيل:{كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ} [الشعراء: 200، 201]. بمعنى: أن لا يؤمنوا به. ولو كان مكانَ {لَا} "أن"، لكان فصيحًا. كما قيل:{يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء: 176]. بمعنى: أن لا تَضِلُّوا. وكما قال: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} [النحل: 15]. بمعنى: أن لا تميدَ بكم. والعربُ قد تَجزِمُ مع "لا" فى مثلِ هذا الموضعِ الكلامَ، فتقولُ: ربطتُ الفرسَ لا يَنْفَلِتْ. كما قال بعضُ بنى عُقَيلٍ
(3)
:
(1)
فى م: "ما".
(2)
أخرجه البخارى (3210) من طريق محمد بن عبد الرحمن به، وأخرجه مسلم (2228)، وابن حبان (6136)، وابن منده فى الإيمان (699) من طريق عروة به.
(3)
البيت من شواهد الفراء فى المعانى 2/ 383، قال: وأنشدنى بعض بنى عقيل. فذكره.=
وحتى رأَينا أحسنَ الوُدِّ بينَنا
…
مُساكتةً
(1)
لا يَقرِفِ الشَّرَّ قارِفُ
ويُروى: لا يَقرِفُ. رفعًا، والرفعُ لغةُ أهلِ الحجازِ، فيما قيل.
وقال قتادةُ فى ذلك ما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى} . قال: مُنِعوها.
ويعنى بقولِه: {إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى} . إلى جماعةِ الملائكةِ التى هم أعلى مِمَّن هم دونَهم.
وقولُه: {وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا} : ويُرْمَون مِن كلِّ جانبٍ من جوانبِ السماءِ دُحُورًا، والدُّحورُ: مصدرٌ من قولِك: دَحَرْتُه أَدحَرُه دَحْرًا ودُحورًا. والدَّحْرُ هو الدفعُ والإبعادُ، يقالُ منه: ادْحَرْ عنك الشيطانَ. أى ادفَعْه عنك وأَبعِدْه.
وبنحوِ الذى قلنا فى ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا} قذفًا قدفًا بالشُّهُبِ
(2)
.
حدَّثنى محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى
= وقد ورد هذا البيت فى حماسة أبى تمام 2/ 131، والتذكرة السعدية 1/ 477 من دون عزو فى كليهما، ومعه بيت قبله هو:
وما برح الواشون حتى ارتموا بنا
…
وحتى قلوبٌ عن قلوب صوادف
(1)
فى م، ت 1، والحماسة:"مساكنة". وينظر الفراء والتذكرة.
(2)
أخرجه عبد الرزاق فى تفسيره 2/ 147 عن معمر عن قتادة، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 271 إلى عبد بن حميد.
الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبى نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{وَيُقْذَفُونَ} يُرمَون، {مِنْ كُلِّ جَانِبٍ}. قال: مِن كلِّ مكانٍ. وقولُه: {دُحُورًا} . قال: مطرودين
(1)
.
حدَّثنى يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ فى قولِه: {وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا} . قال: الشياطينُ يُدْحَرون بها عن الاستماعِ. وقرَأ: {إِلَّا مَنْ [خَطِفَ الْخَطْفَةَ]
(2)
فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ}.
وقولُه: {وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ} . يقولُ تعالى ذكرُه: ولهذه الشياطينِ المسترِقةِ السمعَ عذابٌ مِن اللهِ واصبٌ.
واختلَف أهلُ التأويلِ فى معنى الواصبِ؛ فقال بعضُهم: معناه: المُوجِعُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا ابنُ أبى زائدةَ، عن إسماعيلَ بنِ أبى خالدٍ، عن أبى صالحٍ:{وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ} . قال: مُوجِعٌ
(3)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المفضلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السدىِّ فى قولِه:{وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ} . قال: المُوجِعُ
(3)
.
وقال آخرون: بل معناه: الدائمُ.
(1)
تفسيره مجاهد ص 566، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 271 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبى حاتم.
(2)
فى النسخ: "استرق السمع". وصواب التلاوة ما أثبتنا.
(3)
ذكره القرطبى فى تفسيره 15/ 66.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ} . أى: دائمٌ
(1)
.
حدَّثنى محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبى نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ} . قال: دائمٌ
(2)
.
حدَّثنى محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبى، قال: ثنى عمى، قال: ثنى أبى، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ:{وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ} . يقولُ: لهم عذابٌ دائمٌ
(3)
.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا ابنُ أبى زائدةَ، [عن إسماعيلَ بنِ أبى خالدٍ]
(4)
، عمَّن ذكَره، عن عكرمةَ:{وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ} . قال: دائمٌ
(5)
.
حدَّثنا يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ فى قولِه: {وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ} . قال: الواصبُ: الدائبُ.
وأولى التأويلين فى ذلك
(6)
تأويلُ مَن قال: معناه: دائمٌ خالصٌ. وذلك أن اللهَ عز وجل قال: {وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا} [النحل: 52]. فمعلومٌ أنه لم يَصِفْه بالإيلامِ
(1)
أخرجه عبد الرزاق فى تفسيره 2/ 147 عن معمر عن قتادة، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 271 إلى عبد بن حميد.
(2)
تفسير مجاهد ص 566، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 271 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبى حاتم.
(3)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 271 إلى المصنف.
(4)
سقط من: م، ت 1.
(5)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 271 إلى المصنف وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر.
(6)
بعده فى م: "بالصواب".
والإيجاعِ، وإنما وصَفه بالثباتِ والخلوصِ، ومنه قولُ أبى الأسودِ الدُّؤَلىِّ
(1)
:
لا أَشترِى الحمدَ القليلَ بقاؤه
…
يومًا بذمِّ الدهرِ أجمعَ واصِبا
أى: دائمًا.
وقولُه: {إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ} . يقولُ: إلا مَن استرَق السمعَ منهم، {فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ}. يعنى: مضئٌ متوقِّدٌ.
وبنحوِ الذى قلنا فى ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} : مِن نارٍ، وثُقُوبُه: ضوءُه
(2)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المفضلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السدىِّ قولَه:{شِهَابٌ ثَاقِبٌ} . قال: شهابٌ مضئٌ يَحرِقُه حينَ يُرْمَى به.
حدَّثنى محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبى، قال: ثنى عمى، قال: ثنى أبى، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ} . قال: كان ابنُ عباسٍ يقولُ: لا يُقتَلون بشهابٍ
(3)
، ولا يموتون، ولكنها تَحرِقُهم مِن غيرِ قتلٍ، [وتُخَبِّلُ وتَجرَحُ]
(4)
من غيرِ قتلٍ
(5)
.
(1)
ديوانه (نفائس المخطوطات) ص 45.
(2)
أخرجه عبد الرزاق فى تفسيره 2/ 147 عن معمر عن الحسن وقتادة.
(3)
فى م: "الشهاب".
(4)
فى م: "وتخبل وتخدج". وفى ت 1: "وتحبل".
والخَبْل: فساد الأعضاء حتى لا يدرى كيف يمشى. ورجل مُخبَّل: كأنه قد قطعت أطرافه. اللسان (خ ب ل).
(5)
ذكره القرطبى فى تفسيره 15/ 67 مختصرًا.
حدَّثنى يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ فى قولِه: {فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} . قال: والثاقبُ: المُستَوقَدُ. قال: والرجلُ يقولُ: أَثقِبْ نارَك. ويقولُ: استثقِبْ نارَك: استوقِد نارَك
(1)
.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا يحيى بنُ واضحٍ، قال: ثنا عبيدُ اللهِ، قال: سُئل الضحاكُ: هل للشياطينِ أجنحةٌ؟ فقال: كيف يطيرون إلى السماءِ إلا ولهم أجنحةٌ.
القولُ فى تأويلِ قولِه عز وجل: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12)} .
يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: فاستفتِ يا محمدُ هؤلاء المشركين الذين يُنكِرُون البعثَ بعدَ المماتِ والنشورَ بعد البِلَى
(2)
. يقولُ: فسَلْهم: أهم أشدُّ خلقًا؟ يقولُ: أَخَلْقُهم أشدُّ أم خلقُ مَن عدَدْنا خلقه؛ مِن الملائكةِ والشياطينِ والسماواتِ والأرضِ؟
وذُكر أن ذلك فى قراءةِ عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ: (أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ عَدَدْنا)
(3)
.
وبنحوِ الذى قلنا فى ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنى محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى
(1)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 272 إلى ابن أبى حاتم مختصرًا.
(2)
فى م: "البلاء". والبِلى والبَلاء بمعنى، قال فى اللسان: وبلى الثوبُ يَبْلَى بِلًى وبَلاءً. اللسان (ب ل ى).
(3)
وهى قراءة شاذة ينظر البحر المحيط 7/ 354، وتفسير ابن كثير 7/ 5.
الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبى نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا} . قال: السماواتُ والأرضُ والجبالُ
(1)
.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا يحيى بنُ واضحٍ، قال: ثنا عبيدُ بنُ سليمانَ، عن الضحاكِ أنه قرَأ:(أهُمْ أشدُّ خَلْقًا أمْ مَنْ عَدَدْنا). وفى قراءةِ عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ: (عَدَدْنا). يقولُ
(2)
: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} [الصافات: 5]. يقولُ: أهم أشدُّ خلقًا أم السماواتُ والأرضُ؟ يقولُ: السماواتُ والأرضُ أشدُّ خلقًا مِنهم.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ [خَلَقْنَا} : أم من]
(3)
عدَدْنا
(4)
من خَلْقِ السماواتِ والأرضِ؟ قال اللهُ: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} الآية
(5)
[غافر: 57].
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المفضلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السدىِّ:{فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا} . قال: يعنى المشركين، سَلْهم:{أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا} .
وقولُه: {إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ} . يقولُ: إنا خلَقناهم من طينٍ لاصقٍ. وإنما وصَفه جلَّ ثناؤه باللُّزوبِ؛ لأنه ترابٌ مخلوطٌ بماءٍ، وكذلك خُلِق ابنُ
(1)
تفسير مجاهد ص 567، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 272 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبى حاتم.
(2)
فى الأصل: "وقوله تبارك وتعالى".
(3)
سقط من: م، ت 1.
(4)
فى الأصل، ت 1:"عندنا".
(5)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 272 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبى حاتم.
آدمَ من ترابٍ وماءٍ ونارٍ وهواءٍ، والترابُ إذا خُلط بماءٍ صار طينًا لازبًا. والعربُ تُبدلُ أحيانًا هذه الباءَ ميمًا، فتقولُ: طينٌ لازمٌ. ومنه قولُ النجاشىُّ الحارثىِّ
(1)
:
بَنَى اللُّؤْمُ بيتًا فاستقرَّ
(2)
عِمادُهُ
…
عليكم بَنِى النَّجَّارِ ضَربةَ لازِمِ
ومن اللازبِ قولُ نابغةِ بنى ذُبيانَ
(3)
:
ولا يَحسَبون الخيرَ لا شرَّ بعدَهُ
…
ولا يَحسَبون الشرَّ ضربةَ لازِبِ
وربما أبدَلوا الزاىَ التى فى اللازبِ تاءً، فيقولون: طينٌ لاتِبٌ. وذُكِر أن ذلك فى قَيسٍ، زعَم الفراءُ أن أبا الجرَّاحِ أنشَده
(4)
:
صُداعٌ وتَوْصِيمُ العظامِ وفَتْرَةٌ
…
وغَثْىٌ
(5)
مع الإشراقِ فى الجوفِ لاتبُ
بمعنى: لازمٌ، والفعلُ مِن لازبٍ: لَزِب يَلزَبُ لَزْبًا
(6)
ولُزوبًا. وكذلك من لاتبٍ: لتَب يَلْتُبُ لُتوبًا.
وبنحوِ الذى قلنا فى معنى ذلك
(7)
قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنى عبيدُ اللهِ بنُ يوسفَ الجُبَيرِىُّ
(8)
، قال: ثنا محمدُ بنُ كثيرٍ، قال: ثنا
(1)
مجاز القرآن 2/ 167، وفيه: ضربة لازب.
(2)
فى م: "فاستقرت".
(3)
ديوانه ص 48.
(4)
معانى القرآن للفراء 2/ 384، واللسان (ل ت ب)، وتفسير القرطبى 15/ 69.
(5)
فى الأصل: "عين". وفى ت 1: "عى". وفى اللسان وتفسير القرطبى: "غم" وينظر معانى القرآن. ويقال: غثت نفسه تَغْثِى غَثْيًا وغَثَيانًا. قال بعضهم: هو تَحلُّب الفم فربما كان منه القئ. اللسان (غ ث ى).
(6)
فى الأصل: "ويلزب". وينظر اللسان (ل ز ب).
(7)
فى م، ت 1:"لازب".
(8)
فى الأصل: "الخيبرى". وينظر تهذيب الكمال 19/ 179، والأنساب 2/ 23.
مسلمٌ
(1)
، عن مجاهدٍ، عن ابنِ عباسٍ فى قولِه:{مِنْ طِينٍ لَازِبٍ} . قال: هو الطينُ الحرُّ الجيِّدُ اللَّزِقُ
(2)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا يحيى بنُ سعيدٍ وعبدُ الرحمنِ، قالا: ثنا سفيانُ، عن الأعمشِ، عن مسلمٍ البَطينِ، عن سعيدٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: اللازبُ الجيدُ
(3)
.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا عثمانُ بنُ سعيدٍ، قال: ثنا بشرُ بنُ عمارةَ، عن أبى رَوْقٍ، عن الضحاكِ، عن ابنِ عباسٍ، قال: اللازبُ اللَّزِجُ الطيِّبُ.
حدَّثنى علىٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ، عن علىٍّ، عن ابنِ عباسٍ فى قولِه:{مِنْ طِينٍ لَازِبٍ} . يقولُ: مُلتصِقٍ
(4)
.
حدَّثنى محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبى، قال: ثنى عمى، قال:
ثنى أبى، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ} . قال: من الترابِ والماءِ فيَصيرُ طينًا يَلْزَقُ.
حدَّثنا هنادٌ، قال: ثنا أبو الأحوصِ، عن سماكٍ، عن عكرمةَ فى قولِه:{إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ} . قال: اللازِبُ اللَّزِجُ
(5)
.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا يحيى بنُ واضحٍ، قال: ثنا عبيدُ بنُ سليمانَ، عن الضحاكِ:{إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ} . واللازبُ الطينُ الجيِّدُ.
(1)
فى الأصل: "سلم".
(2)
فى م: "اللزج".
(3)
تقدم فى 14/ 57.
(4)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 272 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبى حاتم.
(5)
أخرجه أبو الشيخ فى العظمة (1017) من طريق أبى الأحوص به.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ: قال اللهُ: {إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ} . واللازبُ
(1)
الذى يَلْزَقُ باليدِ
(2)
.
حدَّثنى محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبى نجيحٍ، عن مجاهدٍ فى قولِه:{مِنْ طِينٍ لَازِبٍ} . قال: لازِمٍ
(3)
(4)
.
حدَّثنى يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ فى قولِه: {إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ} . قال: اللازبُ: الذى يَلتصِقُ كأنه غِراءٌ؛ ذلك اللازبُ.
[حدَّثنا عمرُو بنُ عبدِ الحميدِ الآمُلِىُّ، قال: ثنا مروانُ بنُ معاويةَ، عن
(5)
جُوَيبرٍ، عن الضحاكِ فى قولِه:{مِنْ طِينٍ لَازِبٍ} . قال: هو اللازِقُ]
(6)
.
قولُه: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} . اختلَفت القرأة فى قراءةِ ذلك، فقرَأته عامةُ قرأةِ الكوفةِ:(بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخَرُونَ) بضمِّ التاءِ مِن {عَجِبْتَ} ، بمعنى: بل عظُم عندى وكبُر اتخاذُهم لى شريكًا، وتكذيبُهم تنزيلى وهم يَسْخَرُون. وقرَأ ذلك عامةُ قرأةِ المدينةِ والبصرةِ وبعضُ قرأةِ الكوفةِ:{بَلْ عَجِبْتَ} بفتح التاءِ. بمعنى: بل عجبتَ أنت يا محمدُ، ويسخرون مِن هذا القرآنِ
(7)
.
(1)
فى الأصل: "اللازق".
(2)
أخرجه عبد الرزاق فى تفسيره 2/ 148 عن معمر عن قتادة بنحوه، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 272 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبى حاتم.
(3)
فى الأصل: "لازق". وفى ت 1: "اللازق". وينظر مصدرى التخريج.
(4)
تفسير مجاهد ص 567، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 272 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(5)
فى م: "قال: ثنا".
(6)
سقط من: م. وقد جاء هذا الأثر فى م قبل سابقه.
(7)
قرأ حمزة والكسائى بضم التاء، وقرأ الباقون بفتحها. السبعة ص 546.
والصوابُ من القولِ فى ذلك أن يُقالَ: إنهما قراءتان مشهورتان في قرأة الأمصار، فبأيتِهما قرأ القارئ فمصيبٌ.
فإن قال قائلٌ: وكيف يكونُ مصيبًا القارئُ بهما مع اختلاف معنَييْهما؟ قيل: إنهما وإن اختلف معنياهما فكلُّ واحدٍ من معنَييْه صحيحٌ؛ قد عجِب محمدٌ مما أعطاه اللهُ من الفضل، وسخِر منه أهلُ الشركِ باللهِ، وقد عجِب ربُّنا من عظيمِ ما قاله المشركون فى اللهِ، وسَخِر المشركون بما
(1)
قالوه.
فإن قال: أفكان التنزيلُ بإحداهما أو بكلتيهما؟ قيل: التنزيل بكلتيهما. فإن قال: وكيف يكونُ تنزيلُ حرفٍ مرّتين؟ قيل: إنه لم يَنْزِلْ مرّتين، إنما أُنزِل مرّةً، ولكنه أُمِر صلى الله عليه وسلم أن يقرَأ بالقراءتين كلتيهما، ولهذا مَوضعٌ سنستقصى إن شاء اللهُ فيه البيانَ عنه، بما فيه الكفايةُ
(2)
.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة:{بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} . قال: عجِب محمدٌ من هذا القرآنِ حينَ أُعطِيَه، وسخِر منه أهل الضلالةِ
(3)
.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذَا رَأَوْا
(1)
في الأصل: "مما".
(2)
ينظر كلام المصنف عن القراءات في 1/ 20 - 62.
(3)
أخرجه عبد الرزاق فى تفسيره 2/ 148 بنحوه، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 272 إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم.
آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14)}.
يقولُ تعالى ذكرُه: وإذا ذُكِّر هؤلاء المشركون حُجَجَ الله عليهم، ليعتبروا ويتفكَّروا، فيُنيبوا إلى طاعةِ اللهِ {لَا يَذْكُرُونَ}. يقولُ: لا ينتفعون بالتذكيرِ فيتذكَّروا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ} : أى لا ينتفعون ولا يُبْصِرون
(1)
.
وقولُه: {وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ} . يقولُ: وإذا رأوا حُجَّةً مِن حجج الله عليهم، ودلالةً على نبوّةِ نبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم {يَسْتَسْخِرُونَ}. يقولُ: يَسخَرون منها ويستهزِئون.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ} : يَسخَرون منها ويستهزِئون
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ
(1)
جزء من الأثر السابق.
(2)
بقية الأثر السابق.
قولَه: {وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ} . قال: يستهزِئون ويَسخَرون
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (19)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وقال هؤلاء المشركون من قريشٍ باللهِ: يا محمد، ما هذا الذي جئتَنا به {إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ}. يقولُ: يُبينُ
(2)
لمَن تأمَّله ورآه أنه سحرٌ:
{أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} . يقولون منكرين بعثَ اللهِ إياهم بعدَ بِلاهم
(3)
: أئنا لمبعوثون أحياءً من قبورنا بعد مماتِنا، ومصيرنا ترابًا وعظامًا قد ذهَب عنها
(4)
اللحومُ؟!
{أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ} الذين مضوا من قبلنا، فبادُوا وهلكوا؟ يقولُ الله جلّ ثناؤه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم:
قل لهم
(5)
: نعم، أنتم مبعوثون بعد مصيركم ترابًا وعظامًا، أحياءً كما كنتم قبل مماتِكم، وأنتم داخرون.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ} : تكذيبًا بالبعثِ، {قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ} .
(1)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 272 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
في الأصل: "يتبين". وفى ت 1: "تبين".
(3)
فى م: "بلائهم".
(4)
في ت 1: "عنا".
(5)
فى م: "لهؤلاء".
وقولُه: {وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: وأنتم صاغرون أشدَّ الصَّغارِ
(1)
. من قولهم: داخرٌ صاغرٌ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ} : أى صاغرون
(2)
.
حدَّثني محمدُ بن الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المفضل، قال: ثنا أسباطُ، عن السدىِّ فى قوله:{وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ} . قال: صاغرون
(2)
.
وقولُه: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: فإنما هي صيحةٌ واحدةٌ، وذلك هو النفخ في الصور، {فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ}. يقولُ: فإذا هم شاخصةٌ أبصارُهم ينظرون إلى ما كانوا يُوعَدونه من قيام الساعة ويُعاينونه.
كما حدَّثنا محمد بن الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بن المفضلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ في قوله:{زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ} . قال: هي النفخةُ
(3)
.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {وَقَالُوا يَاوَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وقال هؤلاء المشركون المكذِّبون إذا زُجِرَتْ زَجْرَةٌ واحدةٌ،
(1)
فى م، ت 1، ت 2:"الصغر". وهما بمعنى.
(2)
ينظر التبيان 8/ 447.
(3)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 272 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
ونُفِخ فى الصور نفخةٌ واحدةٌ: {يَاوَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ} . يقول
(1)
: يقولون: هذا يوم المجازاةِ
(2)
والمحاسبةِ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{هَذَا يَوْمُ الدِّينِ} . قال: يَدينُ اللهُ فيه العباد بأعمالهم
(3)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المفضلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السدىِّ فى قولِه:{هَذَا يَوْمُ الدِّينِ} . قال: يومُ الحسابِ.
وقولُه: {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: هذا يومُ فصلِ اللهِ بينَ خلقِه بالعدلِ من قضائه، الذي كنتم به تكذِّبون في الدنيا فتنكِرونه.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} . يعنى: يومُ القيامةِ
(4)
.
(1)
سقط من: م، ت 1.
(2)
فى م: "الجزاء".
(3)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 272 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4)
بقية الأثر المتقدم عن قتادةَ.
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المفضلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ في قولِه:{هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ} . قال: يومُ يُقضَى بينَ أهلِ الجنةِ وأهلِ النار.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23)} .
وفي هذا الكلامِ متروكٌ استُغنى بدلالة ما ذُكر عما تُرِك، وهو: فيقالُ: احشُروا الذين ظلَموا. ومعنى ذلك: اجمَعوا الذين كفروا بالله في الدنيا، وعصَوه وأزواجَهم -وهم
(1)
أشياعُهم، على ما كانوا عليه من الكفرِ باللهِ- وما كانوا يَعبُدون من دونِ اللهِ من الآلهةِ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن سماكِ بنِ حربٍ، عن النعمانِ بنِ بَشيرٍ، عن عمرَ بنِ الخطابِ:{احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} . يقولُ: ضُرَباءَهم
(2)
.
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابنِ
(1)
سقط من: م.
(2)
أخرجه أحمد بن منيع -كما في المطالب العالية 9/ 20 - من طريق سفيان به، وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 148، والحاكم 2/ 430 من طريق سماك به، وهو في تفسير عبد الرزاق من قول النعمان بن بشير، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 272، 273 إلى الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في البعث.
عباسٍ: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} . يقولُ: نُظَراءَهم
(1)
.
حدَّثني محمدُ بن سعدٍ، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} . يعنى: أتباعَهم ومَن أشبَههم من الظَّلَمةِ.
حدَّثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا ابن أبى عدىٍّ، عن داودَ، قال: سألتُ أبا العاليةِ عن قولِ اللهِ: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ} . فقال: الذين ظلموا وأشياعَهم
(2)
.
حدَّثنا ابنُ المثنى، قال: ثنى عبد الأعلى، قال: ثنا داودُ، عن أبى العالية، أنه قال في هذه الآية:{احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} . قال: أشياعَهم.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيم، قال: ثنا ابنُ عليةَ، قال: ثنا داود، عن أبي العالية مثلَه.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} : أى وأشياعَهم الكفارَ مع الكفارِ
(3)
.
حدَّثني محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المفضلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السدىِّ فى قوله:{احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} . قال: وأشباهَهم (2).
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {احْشُرُوا
(1)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 273 إلى المصنف والفريابي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في البعث.
(2)
تفسير ابن كثير 7/ 6.
(3)
أخرجه عبد الرزاق 2/ 148 عن معمر عن قتادةَ بلفظ: "هم وأشكالهم". وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 273 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.
الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ}. قال: أزواجَهم فى الأعمالِ، وقرأَ:{وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} [الواقعة: 7 - 10]. فالسابقون زوجٌ، وأصحابُ الميمنة
(1)
زوجٌ، وأصحابُ الشمال زوجٌ. قال: كلُّ مَن كان مِن هذا حشَره الله معه. وقرأ: {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} [التكوير: 7]. قال: زُوِّجت على الأعمال، لكلِّ واحدٍ من هؤلاء زوجٌ، زوّج اللهُ بعض هؤلاء بعضًا، زوَّج أصحاب اليمين أصحاب اليمين، وأصحاب المشأمة أصحاب المشأمةِ، والسابقين السابقين. قال: فهذا قولُه: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} . قال: أزواجُ الأعمال التي زوَّجَهن الله.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قوله:{وَأَزْوَاجَهُمْ} . قال: أمثالَهم
(2)
.
وقولُه: {وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} . يقولُ تعالى ذكرُه: احشروا هؤلاء المشركين وآلهتهم التى كانوا يعبدونها مِن دونِ اللهِ، فوجِّهوهم إلى طريق الجحيمِ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
(1)
في الأصل: "اليمين".
(2)
تفسير مجاهد ص 567، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 273 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ} . قال: الأصنامَ
(1)
.
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قوله:{فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} . يقولُ: وجِّهوهم، وقيل: إن الجحيم البابُ الرابع من أبواب النار
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27)}
قال أبو جعفرٍ: يعنى تعالى ذكرُه بقوله: {وَقِفُوهُمْ} : احبسوهم: أى احبسوا أيها الملائكة هؤلاء المشركين الذين ظلموا أنفسهم، وأزواجهم، وما كانوا يَعْبُدون من دونِ اللهِ من الآلهة:{إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} .
واختلف أهلُ التأويل فى المعنى الذى يَأْمُرُ الله تعالى ذكره بوقفهم لمسألتهم عنه؛ فقال بعضُهم: يَسْأَلُهم: هل يُعْجِبُهم ورودُ الماء
(3)
؟.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمد بن بشارٍ، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن سلمة بن كُهيلٍ، قال: ثنا أبو الزَّعْراءِ، قال: كنا عند عبد الله، فذكر قصةً، ثم قال: يَتَمَثَّلُ اللهُ للخلقِ فيلقاهم، فليس أحدٌ من الخلق كان يَعْبُدُ من دونِ اللهِ شيئًا إِلَّا وهو
(1)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 273 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره -كما في الإتقان 2/ 39 من طريق أبي صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 273 إلى ابن المنذر.
(3)
فى م، ت 1:"النار".
مرفوعٌ له يَتْبَعُه، قال: فيَلْقى اليهود فيقولُ: مَن تَعْبُدون؟ قال: فيقولون: نَعْبُدُ عُزَيرًا. قال: فيقولُ: هل يَسُرُّكم الماءُ؟ فيقولون: نعم. فيُرِيهم جهنم وهى كهيئة السراب، ثم قرأ:{وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا} [الكهف: 100]. قال: ثم يلقى النصارى فيقولُ: مَن تَعْبُدون؟ فيقولون: المسيح. فيقولُ: هل يَسُرُّكم الماء؟ فيقولون: نعم، قال: فيُرِيهم جهنم وهى كهيئة السراب، ثم كذلك لمن كان يَعْبُدُ من دونِ اللهِ شيئًا، ثم قرأ عبد الله:{وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ}
(1)
.
وقال آخرون: بل ذلك للسؤال عن أعمالهم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يعقوب بن إبراهيمَ، قال: ثنا معتمرٌ، عن ليثٍ، عن رجلٍ، عن أنس ابنِ مالكٍ، قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أيُّما رجلٍ دعا رجلًا إلى شيءٍ كان موقوفًا لازمًا [به، لا يُغادِرُه ولا]
(2)
يُفارِقه
(3)
، ثم قرأ هذه الآية:{وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} "
(4)
.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وَقِفوا هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم وأزواجهم، إنهم مسئولون عما كانوا يَعْبُدون من دونِ اللهِ.
وقوله: {مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ} . يقول: ما لكم أيُّها المشركون باللهِ لا يَنْصُرُ
(1)
تقدم تخريجه في 3/ 34.
(2)
سقط من: ت 1، وفى الأصل:"يغاربه لا".
(3)
فى ت 1: "يقاد به".
(4)
أخرجه الدارمي 1/ 131، والبخارى في تاريخه 2/ 86 (1778)، والترمذى (3228)، والحاكم 2/ 430 من طريق المعتمر عن ليث، عن بشر، عن أنس به، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 273 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.
بعضُكم بعضًا،
{بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} . يقولُ: بل هم اليومَ مُستسلمون لأمر الله فيهم وقضائه، مُوقِنون بعذابِه.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قوله:{مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ} . لا والله لا يتناصرون، ولا يَدْفَعُ بعضُهم عن بعضٍ:{بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} فى عذابِ اللهِ
(1)
.
وقولُه: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} . قيل: معنى ذلك: وأقبل الإنس على الجنِّ يتساءلون.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قوله:{وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} : الإنس على الجنِّ
(1)
(*).
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28) قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (30)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: قالت الإنس للجنِّ: إنكم أيُّها الجنُّ، كنتم تأْتوننا من قبل الدِّين والحقِّ، فتَخْدَعوننا بأقوى الوجوه. واليمين: القوَّةُ والقدرة في كلام العرب، ومنه قولُ الشاعرِ
(2)
:
(1)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 273 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(*) هنا تم السفر السادس والثلاثون من مخطوط خزانة كلية القرويين المشار إليه بـ: "الأصل"، وستوضع فيما يأتى أرقام مخطوط آيا صوفيا المشار إليه بـ "ت 1".
(2)
البيت للشماخ في ديوانه ص 336.
إذا ما رايةٌ رُفِعت لمجدٍ
…
تلقَّاها عَرَابَةُ باليَمينِ
يَعْنى: بالقوة والقدرة.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قوله:{تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} . قال: عن الحقِّ، الكفارُ تَقُولُه للشياطين
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} . قال: [قالت الإنسُ للجنِّ: إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين. قال]
(2)
: من قِبَلِ الخير، فتَنْهوننا عنه، وتُثبِّطوننا
(3)
عنه
(4)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المفضلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ فى قولِه:{إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} . قال: تَأْتوننا من قِبَلِ الحَقِّ، تُزَيِّنون لنا الباطل، وتَصُدُّوننا عن الحقِّ
(5)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قوله: {إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} . قال: قال بنو آدم للشياطين الذين كفروا: إنكم كنتم
(1)
تفسير مجاهد ص 567، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 273 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبى حاتم.
(2)
سقط من: ت 1.
(3)
في ت 1: "تبطئوننا".
(4)
أخرجه عبد الرزاق فى تفسيره 2/ 148 عن معمر عن قتادةَ بمعناه، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 273 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(5)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 8.
تأْتوننا عن اليمينِ، قال: تحُولُون بيننا وبين الخير، وردَدْتمونا عن الإسلام والإيمانِ، والعملِ بالخير الذى أمرنا اللهُ به
(1)
.
وقولُه: {قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29)[وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ]
(2)
}. يقولُ تعالى ذكرُه: قالتِ الجنُّ للإنس مجيبةً لهم: بل لم تكونوا بتوحيدِ الله مُقِرِّين، وكنتم للأصنام عابدين:{وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} .
يقولُ: قالوا: وما كان لنا عليكم من حُجَّةٍ، فنَصُدَّكم بها عن الإيمان، ونحولَ بينكم من أجلِها وبين اتِّباع الحقِّ:{بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ} . يقولُ: قالوا لهم: بل كنتم أيُّها المشركون قومًا طاغين، على اللهِ مُتَعدِّين إلى ما ليس لكم التعدِّى إليه من معصية الله وخلافِ أمرِه.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قال: قالت لهم الجنُّ: {بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} ، حتى بلغ:{قَوْمًا طَاغِينَ} .
(3)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المفضلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ في قوله:{وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} . قال: الحجة. وفي قوله: {بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ} . قال: كفَّارًا ضُلَّالًا.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 8.
(2)
سقط من: ت 1.
(3)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 273 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
بِالْمُجْرِمِينَ (34)}.
يقولُ تعالى ذكرُه: {فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا} : فوجب علينا عذابُ ربِّنا: {إِنَّا لَذَائِقُونَ} . [يقولُ: إنا لذائقون]
(1)
العذابَ نحن وأنتم؛ بما قدَّمنا من ذنوبنا ومعصيتِنا فى الدنيا. فهذا خبرٌ من الله عن قيل الجنِّ والإنسِ.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا} الآية. قال: هذا قولُ الجنِّ
(2)
.
وقولُه: {فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ} . يقولُ: فأضللناكم عن سبيل الله والإيمان به إنَّا كنا ضالين. وهذا أيضًا خبرٌ من الله عن قيل الجنِّ والإنس.
قال الله: {فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} . [يقولُ: فإن الإنس الذين كفروا بالله وأزواجَهم، وما كانوا يَعْبُدون من دونِ اللهِ، والذين أغْوَوا الإنس من الجنِّ يوم القيامةِ - في العذابِ مشترِكون]
(3)
جميعًا في النار، كما اشتركوا في الدنيا في معصية الله.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قوله: {فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} . قال: هم والشياطينُ.
{إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: إنَّا هكذا نَفْعَلُ بالذين اختاروا معاصى الله في الدنيا على طاعته، والكفر به على الإيمانِ، فنُذِيقُهم العذابَ الأليم، ونجمعُ بينهم وبين قرنائهم فى النارِ.
(1)
سقط من: م.
(2)
في ت 1: "الحق".
والأثر تقدم أوله ص 525.
(3)
سقط من: ت 1.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: إن هؤلاء المشركين بالله الذين وصف صفتَهم في هذه الآياتِ، كانوا فى الدنيا إذا قيل لهم: قولوا: {لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} . يقولُ: يَتَعَظَّمون عن قيل ذلك ويتكَبَّرون. وترك من الكلام "قولوا"؛ اكتفاءً بدلالة الكلام عليه من ذكره.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمد بن مُفَضِّلٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السدىِّ فى قوله:{إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} . قال: يعنى المشركين خاصةً.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قوله:{إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} . قال: قال عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه: احضُروا موتاكم ولقِّنوهم لا إلهَ إِلَّا اللهُ، فإنهم يَرَون ويَسْمَعون.
وقولُه: {وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} . يقولُ تعالى ذكرُه: ويقول هؤلاء المشركون من قريشٍ: أَنَتْرُكُ عبادة آلهتِنا {لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} . [يقولُ: لاتِّباع شاعرٍ مجنونٍ -يَعْنون بذلك نبيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم- ونَقولُ: لا إلهَ إِلَّا اللهُ؟!]
(1)
(1)
سقط من: ت 1.
[كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36)} . يَعْنون محمدًا صلى الله عليه وسلم
(1)
.
وقولُه: {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ} ]
(2)
. وهذا خبرٌ من اللهِ مُكَذِّبًا للمشركين الذين قالوا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: شاعرٌ مجنونٌ. كذَبوا، ما محمدٌ كما وصفوه به من أنه شاعرٌ مجنونٌ، بل هو لله نبيٌّ جاء بالحقِّ من عندِه، وهو القرآنُ الذى أنزَله عليه، وصدَّق المرسلين الذين كانوا من قبله.
وبمثلِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ} : بالقرآنِ، {وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ}. أى: صدَّق من كان قبلَه من المرسَلين.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38) وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41)} .
يقولُ تعالى ذكرُه لهؤلاء المشركين من أهل مكةَ، القائلين لمحمدٍ: شاعرٌ مجنونٌ: {إِنَّكُمْ} أيُّها المشركون {لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ} : الموجِع في الآخرةِ،
{وَمَا تُجْزَوْنَ} . يقولُ: وما تُثابون في الآخرةِ إذا ذُقتم العذابَ الأليمَ فيها {إِلَّا} ثوابَ {مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} في الدنيا من
(3)
معاصِى الله.
وقولُه: {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} . يقولُ: إلا عبادَ اللهِ الذين أخلصهم يومَ خَلقهم لرحمتِه، وكتب لهم السعادة في أمِّ الكتابِ، فإنهم لا يذوقون العذابَ؛
(1)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 273 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
سقط من: ت 1.
(3)
سقط من: م.
لأنهم أهلُ طاعة الله وأهلُ الإيمانِ به.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} . قال: هذه ثَنيَّةُ
(1)
اللهِ.
وقولُه: {أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ} . يقولُ: هؤلاء، وهم عباد الله المخلَصون، لهم رزقٌ معلومٌ، وذلك الرزقُ المعلومُ: هو الفواكهُ التى خلقها الله لهم فى الجنةِ.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ} : في الجنةِ.
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المُفضّلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السدىِّ فى قوله:{أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ} . قال: في الجنةِ
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (44) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47)} .
قولُه: {فَوَاكِهُ} . ردًّا على الرزقِ المعلومِ، تفسيرًا له؛ ولذلك رُفِعت. وقولُه:{وَهُمْ مُكْرَمُونَ} . يقولُ: وهم مع الذى لهم من الرزقِ المعلومِ في الجنةِ، مُكرَمون بكرامة اللهِ التى أكرمهم بها،
{فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} . يعني: في بساتين النعيمِ،
{عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} . يعنى: أن بعضَهم يُقابِلُ بعضًا، ولا يَنْظُرُ بعضُهم في قفا بعضٍ.
وقوله: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} . يقولُ تعالى ذكرُه: يطوفُ الخدمُ عليهم بكأسٍ من خمرٍ جاريةٍ، ظاهرةٍ لأعينهم غيرِ غائرةٍ.
(1)
الثنية: ما استُثنى. اللسان (ث ن ي).
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 10.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ. قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} . قال: كأس من خمرٍ جاريةٍ، والمعين هي الجاريةُ
(1)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا سفيانُ، عن سلمة بن نُبَيْطٍ، عن الضحاك بن مزاحمٍ في قوله:{بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} . قال: كلُّ كأسٍ في القرآن فهو خمرٌ
(2)
.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ
(3)
اللهِ بن داودَ، عن سلمة بن نُبَيْطٍ، عن الضحاكِ ابن مزاحمٍ، قال: كلُّ كأسٍ فى القرآنِ فهو خمرٌ
(4)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المُفَضَّلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ في قوله:{بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} . قال: الخمرُ. والكأسُ عند العرب كلُّ إناءٍ فيه شرابٌ، فإن لم يَكُنْ فيه شرابٌ لم يَكُنْ كأسًا، ولكنه يَكونُ إناءً
(5)
.
وقولُه: {بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} . يعنى بالبيضاءِ: الكأس، ولتأنيث "الكأس" أُنِّثت "البيضاءُ"، ولم يَقُلْ:"أبيض". وذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله: (صفراء)
(6)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المُفَضَّل، قال: ثنا أسباطُ، عن
(1)
أخرجه عبد الرزاق 2/ 148 في تفسيره عن معمر، عن قتادةَ، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 274 إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي حاتم.
(2)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 274 إلى المصنف وابن أبي شيبة وهناد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
فى ت 1: "عبيد". ينظر تهذيب الكمال 11/ 321.
(4)
أخرجه هناد في الزهد (72) من طريق سلمة بن نبيط به.
(5)
ذكره القرطبي في تفسيره 15/ 77.
(6)
وهى قراءة شاذة. ينظر البحر المحيط 7/ 359.
السديِّ في قوله: {بَيْضَاءَ} . قال السديُّ: في قراءة عبدِ اللهِ: (صفراء)
(1)
.
وقولُه: {لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} . يقولُ: هذه الخمر لذةٌ يَلْتَذُّ بها شاربوها.
وقولُه: {لَا فِيهَا غَوْلٌ} . يقولُ: لا فى هذه الخمرِ غَوْلٌ، وهو أَن تَغْتَالَ عقولهم. يقولُ: لا تَذْهَبُ هذه الخمرُ بعقول شاربيها كما تَذْهَبُ بها خمورُ أهل الدنيا إذا شربوها فأكثروا منها، كما قال الشاعرُ
(2)
:
وما زالت الكأسُ تَغْتالُنا
(3)
…
وتَذْهَبُ بالأَوَّلِ الأوَّلِ
والعربُ تقولُ: ليس فيها غيلَةٌ وغائلةٌ وغَولٌ. بمعنًى واحدٍ. ورُفع "غَوْلٌ" ولم يُنْصَبْ بـ "لا"؛ لدخول حرفِ الصفةِ بينها وبينَ الغَول، وكذلك تَفْعَلُ العربُ في التبرئة، إذا حالت بين "لا" والاسمِ بحرفٍ من حروفِ الصفاتِ، رفعوا الاسمَ ولم يَنْصِبوه. وقد يَحْتَمِلُ قولُه:{لَا فِيهَا غَوْلٌ} . أن يكونَ مَعْنِيًّا به: ليس فيها ما يُؤْذيهم من مكروهٍ. وذلك أن العرب تقولُ للرجل يُصابُ بأمرٍ مكروهٍ، أو يُنالُ بداهيةٍ عظيمةٍ: غال فلانًا غُولٌ.
وقد اختلَف أهلُ التأويلِ فى تأويلِ ذلك؛ فقال بعضهم: معناه: ليس فيها صداعٌ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنى علىٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{لَا فِيهَا غَوْلٌ} . يقولُ: ليس فيها صُداعٌ
(4)
.
(1)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 274 إلى المصنف.
(2)
البيت فى مجاز القرآن لأبي عبيدة 2/ 169، واللسان مادة (غ و ل)، غير منسوب.
(3)
في ت 1: "تغتالها".
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم -كما في الإتقان 2/ 39 - والبيهقي في البعث (357) من طريق أبي صالح به، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 274 إلى ابن المنذر.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ليس فيها أذًى، [فتشكَّى منه بطونُهم]
(1)
.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمد بن سعدٍ، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ:{لَا فِيهَا غَوْلٌ} . قال: هي الخمرُ، ليس فيها وَجَعُ بطنٍ
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى. وحدثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{لَا فِيهَا غَوْلٌ} . قال: وَجَعُ بطنٍ
(3)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {لَا فِيهَا غَوْلٌ} . قال: الغَوْلُ ما يُوجِعُ البطونَ، وشاربُ الخمرِ ههنا يَشْتَكى بطنه.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{لَا فِيهَا غَوْلٌ} يقولُ: ليس فيها وجعُ بطنٍ ولا صداعُ رأسٍ
(4)
.
وقال آخرون: معنى ذلك: أنها لا تغول عقولهم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بن الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المفَضَّلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن
(1)
سقط من: ت 1.
(2)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 274 إلى المصنف.
(3)
تفسير مجاهد ص 568، وأخرجه عبد بن حميد -كما في تغليق التعليق 3/ 500 - من طريق ابن أبي نجيح به، وأخرجه هناد في الزهد (73) من طريق رجل عن مجاهد، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 274 إلى ابن أبي حاتم.
(4)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 148، 149 عن معمر، عن قتادةَ، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 274 إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي حاتم.
السدىِّ: {لَا فِيهَا غَوْلٌ} . قال: لا تَغْتال عقولهم
(1)
.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ليس فيها أذًى ولا مكروهٌ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حُدِّثت عن يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، عن إسرائيل، عن سالمٍ الأفطس، عن سعيد بن جبيرٍ فى قوله:{لَا فِيهَا غَوْلٌ} . قال: أذًى ولا مكروهٌ
(2)
.
حدَّثنا محمد بن سنانٍ القزازُ، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ بَزيعٍ
(3)
. قال: أخبرنا إسرائيل، عن سالمٍ، عن سعيد بن جبيرٍ في قوله:{لَا فِيهَا غَوْلٌ} . قال: ليس فيها أذًى ولا مكروهٌ.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ليس فيها إثمٌ.
قال الإمام أبو جعفرٍ رحِمهُ اللهُ تعالى: ولكلِّ هذه الأقوال التي ذكرناها وجهٌ، وذلك أن الغُول فى كلام العرب: هو ما غال الإنسان فذهب به، فكلُّ مَن ناله أمرٌ يَكْرَهُه ضربوا له بذلك المثل، فقالوا: غالت فلانًا غُولٌ. فالذاهب العقل مِن شُرب الشراب، والمشتكى البطنِ منه، والمصدَّعُ الرأس من ذلك، والذي ناله منه مكروهٌ، كلُّهم قد غالته غُولٌ.
فإذ كان ذلك كذلك، وكان الله تعالى ذكره قد نفى عن شراب الجنة أن يكون فيه غَوْلٌ، فالذى هو أولى بصفته أن يُقال فيه؛ كما قال جل ثناؤُه: {لَا فِيهَا
(1)
ذكره القرطبي في تفسيره 15/ 79، وابن كثير في تفسيره 7/ 11.
(2)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 274 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن أبي حاتم.
(3)
في م: "بزيعة". ينظر الكامل لابن عدى 4/ 1566.
غَوْلٌ}. فيعمُّ بنفي كلِّ معانى الغَوْلِ عنه، وأعمُّ ذلك أن يُقال: لا أذًى فيها ولا مكروهٌ على شاربيها؛ في جسمٍ، ولا عقلٍ، ولا غير ذلك.
واختلفت القرأَةُ فى قراءة قوله: {وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ} ؛ فقرأته عامة قرأة المدينة والبصرة وبعضُ قرأة الكوفة: {يُنْزَفُونَ} . بفتح الزاي
(1)
، بمعنى: ولا هم عن شُرْبِها تُنْزَفُ عقولهم.
وقرأ ذلك عامةُ قرأة الكوفة: (ولا هُمْ عَنْها يُنْزِفُونَ). بكسرِ الزاي
(2)
، بمعنى: ولا هم عن شربها يَنْفَدُ شرابهم.
والصوابُ من القول فى ذلك أنهما قراءتان معروفتان صحيحتا المعنى غيرُ مختلِفتيه، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيبٌ، وذلك أن أهل الجنةِ لا يَنْفَدُ شرابهم، ولا يُسْكرهم شُربُهم إياه فيُذْهِبَ عقولهم.
واختلف أهل التأويل فى معنى ذلك؛ فقال بعضُهم: معناه: لا تَذْهَبُ عقولُهم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابنِ عباسٍ:{وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ} . يقولُ: لا تَذهَبُ عقولهم
(3)
.
حدَّثني محمد بن سعدٍ، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن
(1)
وهى قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو وابن عامر وعاصم، ينظر السبعة لابن مجاهد ص 547.
(2)
وهى قراءة حمزة والكسائي. المصدر السابق.
(3)
أخرجه البيهقي في البعث (357) من طريق أبي صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 274 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
أبيه، عن ابن عباسٍ:{وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ} . قال: لا تُنْزَفُ فَتَذْهَبَ عقولهم.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ} . قال: لا تَذْهَبُ عقولهم
(1)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المُفَضَّل، قال: ثنا أسباطُ، عن السدىِّ في قوله:{وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ} . قال: لا تُنْزَفُ عقولهم
(2)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ} . قال: لا تُنْزَفُ العقولُ.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ} . قال: لا تَغْلِبُهم على عقولهم
(3)
.
وهذا التأويلُ الذي ذكرْناه عمّن ذكرْنا عنه لم تُفَصِّلْ لنا رواتُه القراءةَ التى
(4)
هذا تأويلُها، وقد يَحْتَمِلُ أن يكون ذلك تأويلَ قراءةِ من قرأها:(يُنْزِفُون) و {يُنْزَفُونَ} كلتيهما، وذلك أن العرب تقولُ: قد نُزِف الرجلُ فهو مَنْزوفٌ. إذا ذهَب عقلُه من السُّكْر، و: أنزف فهو مُنْزِفٌ. مَحْكِيَّةٌ عنهم اللغتان كلتاهما،
(1)
تفسير مجاهد ص 568، وأخرجه عبد بن حميد -كما في تغليق التعليق 3/ 500 - من طريق ابن أبي نجيح، به، وأخرجه هناد في الزهد (73) من طريق رجل عن مجاهد، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 274 إلى ابن أبي حاتم.
(2)
ينظر تفسير ابن كثير 7/ 11.
(3)
أخرجه عبد الرزاق فى تفسيره 2/ 148، 149 عن معمر، عن قتادةَ قوله، وعزاه السيوطى في الدر المنثور 5/ 274 إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي حاتم.
(4)
في م: "الذي".
في ذَهَابِ العقلِ من السكر، وأما إذا فَنِيت خمرُ القومِ، فإني لم أَسْمَعْ فيه إلا: أنزف القومُ. بالألفِ، ومن الإنزافِ بمعنى ذَهَابِ العقل من السكرِ، قولُ الأُبَيْرِد:
لعَمْرى لئن أَنْزَفْتُمُ أو صَحوتُمُ
(1)
…
لبِئْس النَّدامَى كنتُمُ آل أَبْجَرا
(2)
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وعند هؤلاء المخلَصين من عبادي
(3)
في الجنة قاصراتُ الطرفِ، وهنّ النساء اللاتى قصَرن أطرافهن على بُعولتهن، فلا يُرِدْنَ غيرهم، ولا يمدُدْنَ أبصارهن إلى غيرهم.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابنِ عباسٍ:{وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} . يقولُ: عن غيرِ أزواجهن
(4)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ} . قال: على أزواجهن. زاد الحارثُ في حديثه:
(1)
في ت 1: "صحيتم".
(2)
البيت في مجاز القرآن 2/ 169، 249، واللسان والتاج (ن ز ف).
(3)
في م: "عباد الله".
(4)
أخرجه البيهقي في البعث (377) من طريق أبي صالح به، وعزاه السيوطى في الدر المنثور 5/ 274 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
لا تَبْغِي غيرهم
(1)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ في قولِه:{وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} . قال: قصرن أبصارهن وقلوبهن على أزواجِهن، فلا يُرِدْنَ غيرَهم
(2)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ
(3)
، قال: ذُكِر أيضًا عن منصورٍ، عن مجاهدٍ مثلُه.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} قال: قصَرن طرفَهن على أزواجهن فلا يُرِدنَ غيرَهم
(4)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِ اللهِ: {قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} . قال: لا يَنْظُرْنَ إلَّا إلى أزواجهن، قد قصرن أطرافهن على أزواجهن، ليس كما يكونُ نساءُ أهلِ الدنيا
(5)
.
وقولُه: {عِينٌ} . يعنى بالعِينِ النُّجْلَ العيونِ عظامَها، وهي جمعُ عيناء، والعيناءُ: المرأة الواسعة العين عظيمتُها، وهى أحسن ما يكون من العيونِ.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
(1)
تفسير مجاهد ص 568، وليس فيه زيادة الحارث. وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 274 إلى عبد بن حميد.
(2)
ينظر تفسير ابن كثير 7/ 11.
(3)
بعده في م: "عن السدي".
(4)
أخرجه عبد الرزاق فى تفسيره 2/ 149 عن معمر عن قتادة، وعزاه السيوطى في الدر المنثور 5/ 275 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(5)
ينظر البحر المحيط 7/ 360.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المفضلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ فى قوله:{عِينٌ} . قال: عظامُ الأعينِ
(1)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قوله: {عِينٌ} . قال: العَيناءُ: العظيمةُ العين.
حدَّثنا أحمدُ بنُ عبدِ الرحمن بن وهبٍ، قال: ثنا محمدُ بنُ الفرجِ الصَّدَفىُّ الدِّمياطىُّ، عن عمرو بن هاشمٍ، عن ابن أبي كريمة
(2)
، عن هشام بن حسانَ، [عن الحسن، عن أمِّه]
(3)
، عن أمِّ سلمة زوج النبىِّ صلى الله عليه وسلم أنها قالت: قلت يا رسول الله، أَخْبِرْني عن قولِ اللهِ:{وَحُورٌ عِينٌ} [الواقعة: 22]. قال: "العينُ: الضخام العيون، شَفْرُ الحوراء بمنزلة جناحِ النَّسْرِ"
(4)
.
وقولُه: {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} . اختلف أهل التأويل في الذى به شُبِّهن من البَيْضِ بهذا القولِ؛ فقال بعضُهم: شُبِّهن ببطنِ البَيْضِ في البياضِ وهو الذي داخلَ القشر، وذلك أن ذلك لم
(5)
يَمَسَّه شيءٌ.
(1)
ذكره القرطبي في تفسيره 15/ 80.
(2)
في ت 1: "ديمة".
(3)
سقط من: ت 2. وفى م، ت 3: "عن أبيه". وفي ت 1: "عن الحسن، عن أبيه". والحسن يروى عن أمه، لا عن أبيه، وسيأتي على الصواب ص 542. وينظر مصادر التخريج، وتهذيب الكمال 6/ 95.
(4)
أخرجه العقيلي في الضعفاء 2/ 138، والطبراني 23/ 367، 368 (870)، وفى الأوسط (3141)، وابن عدى فى الكامل 3/ 1112 من طريق عمرو بن هاشم به.
(5)
في ت 1: "لا".
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا ابن يمانٍ، عن أشعثَ، عن جعفرٍ، عن سعيد بن جبيرٍ فى قوله:{كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} . قال: كأنهن بطنُ البَيْضِ
(1)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المُفَضَّل، قال: ثنا أسباطُ، عن السدىِّ:{كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} قال: البَيْضُ حينَ يُقَشَّرُ قبلَ أن تَمَسَّه الأيدى
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} : لم تَمُرَّ به الأيدى ولم تَمَسَّه، يُشْبِهْنَ بياضَه
(3)
.
وقال آخرون: شُبِّهن بالبيض الذى يَحْضُنُه الطائر، فهو إلى الصفرة، فشُبِّه بياضُهن في الصفرةِ بذلك.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} . قال: البيضُ الذى يُكِنُّه الريشُ، مثلُ بَيْضِ النعام الذي قد أكنَّه الريش من الريح، فهو أبيضُ إلى الصفرة، فكأنه يَبْرُقُ، فذلك المكنونُ
(4)
.
وقال آخرون: بل عَنَى بالبيض فى هذا الموضع اللؤلؤ، وبه شبِّهن في
(1)
عزاه السيوطى في الدر المنثور 5/ 274، 275 إلى المصنف وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
ذكره القرطبي في تفسيره 15/ 80، وابن كثير في تفسيره 7/ 12.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 148 عن معمر، عن قتادةَ، وعزاه السيوطى في الدر المنثور 5/ 275 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(4)
ذكره القرطبي في تفسيره 15/ 80.
بياضِه وصفائِه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني علىٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قوله:{كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} . يقول: اللؤلؤ المكنونُ
(1)
.
وأولى الأقوالِ فى ذلك بالصوابِ عندى: قولُ مَن قال: شُبِّهن في بياضهن، وأنهن لم يَمَسَّهن قبلَ أزواجِهن إنسٌ ولا جانٌّ - ببياض البيض الذي هو داخل القشر، وذلك هو [الجلدة المُلْبَسةُ]
(2)
المُحَّ
(3)
، قبل أن تمسَّه يَدٌ أو شيءٌ غيرها
(4)
، وذلك لا شكَّ هو المكنونُ؛ فأما القشرةُ العليا فإن الطائرَ يَمَسُّها والأيدى تُباشِرُها والعُشُّ
(5)
يَلْقاها. والعربُ تقولُ لكلِّ مصونٍ: مكنونٌ. ما كان ذلك الشيءُ؛ لؤلؤًا كان أو بيضًا أو متاعًا، كما قال أبو دَهْبَلٍ
(6)
:
وَهْي زهراءُ مثلُ لؤلؤةِ الغَوَّ
…
اصِ مِيزَت من جَوْهرٍ مكنونِ
وتقولُ لكلِّ شيءٍ أَضْمَرَتْه الصدورُ: أَكنَّته، فهو مُكَنٌّ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك جاء الأثرُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم -كما في الإتقان 2/ 39، وتعليق التعليق 4/ 293 - ، والبيهقي في البعث والنشور (377) من طريق أبي صالح به، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 274 إلى ابن المنذر.
(2)
في ت 1: "الجلد الملبسته".
(3)
المح: صفرة البيض، أو ما في البيض كله من أصفر وأبيض. وقيل: المحة: الصفراء، والغِرْقِئُ: البياض الذي يؤكل. ينظر التاج (م ح ح).
(4)
فى ت 1: "أو غيرها".
(5)
في ت 1: "العس".
(6)
في ت 1: "الشاعر"، والبيت في ديوان أبي دهبل الجمحي ص 69.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أحمدُ بنُ عبدِ الرحمنِ بن وهبٍ، قال: ثنا محمد بن الفرجِ الصدفيُّ الدِّمياطىُّ، عن عمرو بن هاشمٍ، عن ابن أبى كريمةَ، عن هشامٍ، عن الحسنِ، عن أمِّه، عن أمِّ سلمة: قلت: يا رسولَ اللهِ، أَخْبِرْني عن قولِه:{كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} . قال: "رِقَّتُهن
(1)
كرِقَّةِ الجلدة التى رأيتها في داخل البيضة التي تلى القِشْرَ، وهي الغِرْقِئُ
(2)
".
وقولُه: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} . يقولُ [تعالى ذكرُه: فأقبل بعضُ أهل الجنة على بعضٍ يتساءلون؛ يقولُ]
(3)
: يَسْأَلُ بعضُهم بعضًا.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} : أهل الجنة
(4)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قوله: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} . قال: أهل الجنة.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: قال قائلٌ من أهلِ الجنةِ، إذ أقبل بعضُهم على بعضٍ يتساءلون:{إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ} . واختلف أهل التأويل في القرين الذي ذُكر في
(1)
فى ت 1: "رقهن".
(2)
في ت 1: "العوقا". وتقدم تخريجه ص 539.
(3)
سقط من: ت 1.
(4)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 275 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
هذا الموضعِ؛ فقال بعضُهم: كان ذلك القرينُ شيطانًا، وهو الذي كان يقولُ:
{أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ} بالبعث بعد المماتِ؟
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ:{إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ} . قال: شيطانٌ
(1)
.
وقال آخرون: كان ذلك القرينُ شريكًا كان له من بنى آدم، أو صاحبًا.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ} . قال: هو الرجلُ المشرِكُ يكون له الصاحب في الدنيا من أهل الإيمانِ، فيقولُ له المشرك: إنك لتُصَدِّقُ بأنك مبعوثٌ من بعد الموت، أئذا كنا ترابًا؟! فلما صاروا إلى الآخرة، وأُدخل المؤمن الجنة، وأُدخل المشرك النار، فاطَّلَع المؤمنُ فرأى صاحبه في سَواءِ الجحيم قال:{تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ}
(2)
.
حدَّثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بنِ الشهيد، قال: حدَّثنا عتَّابُ
(3)
بنُ
(1)
تفسير مجاهد ص 568، ومن طريقه الفريابي -كما في تغليق التعليق 4/ 293 - وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 275 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 12 مختصرًا.
(3)
في ت 1: "غياث". ينظر تهذيب الكمال 19/ 286.
بشيرٍ، عن خُصيفٍ، عن فُراتِ بن ثعلبةَ البَهْرانىِّ فى قوله:{إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ} . قال: إن رجلين كانا شريكين، فاجتمَع لهما ثمانيةُ آلاف دينارٍ، وكان أحدُهما له حرفةٌ، والآخر ليس له حرفةٌ، فقال الذى له حرفةٌ للآخرِ: ليس عندك
(1)
حرفةٌ، ما أُرانى إِلَّا مُفارِقَك ومُقاسِمَك. فقاسَمه وفارَقه، ثم إن الرجلَ اشترى دارًا بألف دينارٍ، كانت لملكٍ مات، فدعا صاحبَه فأراه
(2)
، فقال: كيف ترى هذه الدارَ؟ ابتعتُها بألفِ دينارٍ. قال: ما أحسنَها! فلما خرَج قال: اللهم إن صاحبي هذا قد ابتاع هذه الدارَ بألفِ دينارٍ، وإنى أَسْأَلُك دارًا من دورِ الجنةِ. فتصدَّق بألفِ دينارٍ، ثم مكَث ما شاء اللهُ أن يَمْكُثَ، ثم إنه تزوَّج امرأةً بألفِ دينارٍ، [فدعاه وصنعَ له طعامًا، فلما أتاه قال: إنى تزوَّجت هذه المرأةَ بألفِ دينارٍ]
(3)
. قال: ما أحسنَ هذا! فلما انصرَف قال: يا ربِّ، إن صاحبى تزوَّج امرأةً بألفِ دينارٍ، وإنى أَسْأَلُك امرأةً من الحورِ العينِ. فتصدَّق بألفِ دينارٍ، ثم إنه مكَث ما شاء اللهُ أن يَمْكُثَ، ثم اشترى بستانين بألفَى دينارٍ، ثم دعاه فأراه، فقال: إنى ابتَعت هذين البستانين. فقال: ما أحسنَ هذا! فلما خرَج قال: يا ربِّ، إن صاحبي قد اشترى بستانين بألفَي دينارٍ، وإني أَسْأَلُك بستانين من الجنةِ. فتصدَّقَ بألفي دينارٍ، ثم إن الملَكَ أتاهما فتوفَّاهما، ثم انطلَق بهذا المتصدِّقِ
(4)
فَأَدْخَله دارًا تُعْجِبُه، فإذا امرأةٌ تَطْلعُ يُضيءُ ما تحتَها من حُسْنِها، ثم أَدْخَله بستانين وشيئًا اللهُ به عليمٌ، فقال عندَ ذلك: ما أشبَهَ هذا برجلٍ كان من أمرِه كذا وكذا! قال: فإنه ذاك، ولك هذا المنزلُ والبستانان والمرأةُ. قال: فإنه كان لي صاحبٌ
(1)
في م: "لك".
(2)
في ت 1: "فأتاه".
(3)
سقط من: ت 1.
(4)
فى ت 1: "المصدق".
يقولُ: {أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ} ؟! قِيل له: [فإنه في الجحيم. قال: فهل أنتم مُطَّلِعون؟ فاطَّلع فرآه في سواء الجحيم، فقال]
(1)
[عند ذلك]
(2)
: {تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} الآياتُ
(3)
.
وهذا التأويلُ الذى تأوَّله فراتُ بنُ ثعلبةَ يُقَوِّى قراءةَ مَن قرأ: (إنك لمن المصَّدِّقين). بتشديد الصادِ بمعنى: لمن المتصدِّقين؛ لأنه يَذْكُرُ أن الله تعالى ذِكْرُه إنما أعطاه ما أعطاه على الصدقةِ لا على التصديقِ
(4)
. وقراءةُ قرأةِ الأمصارِ على خلافِ ذلك، بل قراءتُها بتخفيفِ الصادِ وتشديدِ الدالِ، بمعنى إنكارِ قرينِه عليه التصديقَ أنه بعدَ الموتِ مبعوثٌ. كأنه قال: أَتُصَدِّقُ بأنك مبعوثٌ بعدَ مماتِك وتُجرى بعملِك وتُحاسَبُ؟! يَدُلُّ على ذلك قولُ اللهِ عز وجل: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ} . وهى القراءة الصحيحةُ عندَنا، التي لا يجوزُ خلافُها؛ لإجماعِ الحُجَّةِ من القرأَةِ عليها.
وقولُه: {أَإِنَّا لَمَدِينُونَ} . يقولُ: أئنا لمحاسَبون ومَجزِيُّون
(5)
، بعدَ مصيرِنا عظامًا ولحومِنا ترابًا؟!
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قوله:{أَإِنَّا لَمَدِينُونَ} . يقول: أئنا لمجازَوْن بالعملِ؟! كما
(1)
سقط من ت 1.
(2)
فى ت 2، ت 3:"عبد الله".
(3)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 275 إلى المصنف وسعيد بن منصور.
(4)
البحر المحيط 7/ 360.
(5)
فى ت 1: "مخرجون".
تَدِينُ تُدَانُ.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{أَإِنَّا لَمَدِينُونَ} : أئنا لمحاسَبون
(1)
؟!
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المُفَضّلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السدىِّ:{أَإِنَّا لَمَدِينُونَ} : محاسَبون
(2)
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57)} .
يقول تعالى ذكرُه: قال هذا المؤمنُ الذي أُدخل الجنة لأصحابهِ: هل أنتم مُطَّلِعون في النارِ، لعلِّى أرَى قرينىَ الذى كان يقولُ لى: إنك لمن المصدِّقين بأنا مَبْعوثون بعدَ المماتِ!
وقولُه: {فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} . يقولُ: فاطَّلع في النارِ فرَآه في وسَطِ الجحيمِ. وفى الكلام متروكٌ استُغنِى بدلالةِ الكلامِ عليه من ذكرِه، وهو: فقالوا: نعمْ.
وبنحوِ الذي قلْنا في تأويلِ قولِه: {فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني علىٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن علىٍّ، عن ابنِ عباسٍ
(1)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 276 إلى المصنف وعبد بن حميد.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 13.
قولَه: {فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} : في وسَطِ الجحيمِ
(1)
.
[حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ: {فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ}. يعني: في وسط الجحيم]
(2)
.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عبد الرحمنِ، قال: ثنا عبَّادُ بنُ راشدٍ، عن الحسنِ في قوله:{فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} . قال: وسَطِ الجحيمِ
(3)
.
[حدَّثنا ابنُ سِنانٍ، قال: ثنا عبدُ الصمدِ، قال: ثنا عبَّادُ بنُ راشدٍ، قال: سمِعتُ الحسنَ، فذكَر مثلَه](2).
حدَّثنا ابنُ بشَّارٍ، قال: ثنا سليمانُ بن حربٍ، قال: ثنا أبو هلالٍ، قال: ثنا قتادةُ في قولِه: {سَوَاءِ الْجَحِيمِ} . قال: وسَطِها
(4)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، [قال:{هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ} ؟ قال: سأَل ربَّه أن يُطْلِعَه. قال: {فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} . أي: في وسَطِ الجحيمِ.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ] (2)، عن خُلَيدٍ العَصَرىِّ، قال: لولا أن اللهَ عرَّفه إياه ما عَرفه، لقد تغيَّر حِبرُه وسِبرُه
(5)
بعدَه، وذُكِر لنا أنه اطَّلَع
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم -كما في الإتقان 2/ 39 - من طريق أبي صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 277 إلى ابن المنذر.
(2)
سقط من: ت 1.
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 13.
(4)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 277 إلى المصنف وعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(5)
حبره وسبره: لونه وهيئته. التاج (ح ب ر).
فرأَى جماجمَ القومِ تَغْلى
(1)
، فقال:{تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ}
(2)
.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا إبراهيمُ بنُ أبى الوزيرِ، قال: ثنا سفيانُ بنُ عيينةَ، عن سعيدِ بنِ أبي عروبةَ، عن قتادةَ، عن مطرِّفِ بنِ عبدِ اللهِ في قولِه:{فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} . قال: واللهِ لولا أنه عرَّفه ما عرَفه، لقد غيَّرتِ النارُ حِبرَه وسِبرَه
(3)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمد بنُ المفضلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السدىِّ قولَه:{هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ} . قال: كان ابنُ عباسٍ يَقْرَؤُها: (هَلْ أَنْتُمْ مُطْلِعونِ
(4)
، فأُطْلِعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الجَحيمِ)
(5)
. قال: في وسَطِ الجحيمِ.
وهذه القراءةُ التي ذكَرها السدىُّ عن ابنِ عباسٍ، أنه كان يَقْرَأُ في:{مُطَّلِعُونَ} ، إن كانت محفوظةً عنه، فإنها من شواذِّ الحروفِ، وذلك أن العربَ لا تُؤثِرُ في المَكْنِىِّ من الأسماءِ إذا اتصَل بفاعلٍ على الإضافةِ، في جمعٍ أو توحيدٍ، لا يَكادون أن يقولوا
(6)
: أنت مُكَلِّمِى. ولا أنتما مُكَلِّماني. ولا أنتم مُكَلِّمونى ولا مُكَلِّموننى. وإنما يقولون: أنت مُكَلِّمى. وأنتما مُكَلِّماىَ
(7)
. وأنتم مُكلمِىَّ.
(1)
سقط من: م، ت 2، ت 3. وينظر مصدرا التخريج.
(2)
أخرجه عبد الرزاق فى تفسيره 2/ 149 عن معمر عن قتادةَ عن خليد العصرى، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 277 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
أخرجه أبو نعيم في الحلية 2/ 201 من طريق سفيان به.
(4)
فى م: "مطلعوني". وضبطناه بكسر النون -وإن كانت الرواية بفتحها- لمناسبة ما سيأتي من كلام المصنف والظاهر أن الرواية عنده بالكسر. جاء فى البحر المحيط 7/ 361: وقرأ أبو عمرو في رواية الجعفى (مطْلعونَ) بإسكان الطاء وفتح النون. قال: وهى قراءة ابن عباس وابن محيصن وعمار بن أبي عمار وأبى سراج. قال: وقرأ أبو البرهسم وعمار بن أبي عمار فيما ذكره خلف عن عمار: (مطْلعونِ) بتخفيف الطاء وكسر النون. قال: ورد هذه القراءة أبو حاتم وغيره. وينظر المحتسب 2/ 220.
(5)
ينظر مختصر الشواذ لابن خالويه ص 128، والمحتسب 2/ 219، 220، والبحر المحيط 7/ 361.
(6)
فى ت 1، ت 2، ت 3:"يقولون".
(7)
في ت 1: "مكلماني".
وإن قال قائلٌ منهم ذلك، قاله على وجهِ الغَلطِ؛ توهمًا به: أنت تُكَلِّمُنى. و: أنتما تُكَلِّمانَنى. و: أنتم تُكَلِّمُونَنى. كما قال الشاعرُ
(1)
:
وما أَدْرى وظَنِّى كلَّ ظَنٍّ
…
أَمُسْلِمُنى إلى قومي شَراحي
فقال: أمُسْلِمُنى. وليس
(2)
ذلك وجهَ الكلام، بل وجهُ الكلامِ: أَمُسْلِمى. فأما إذا كان الاسمُ
(3)
ظاهرًا ولم يَكُنْ متصلًا بالفاعلِ، فإنهم ربما أضافوا، وربما لم يُضيفوا، فيقال: هذا مكلِّمٌ أخاك ومُكلِّمُ أخيك. و: هذان مُكَلِّما أخيك ومُكلِّمان أخاك. و: هؤلاء مُكَلِّمو أخيك. و: مُكَلِّمون أخاك. وإنما تُختارُ الإضافةُ في المكنىِّ المتصلِ بفاعلٍ؛ لمصيرِ الحرفين باتصالِ أحدِهما بصاحبِه كالحرفِ الواحدِ.
وقولُه: {تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ} . يقولُ: فلما رأى قرينَه في النارِ قال: تاللَّهِ إن كدتَ في الدنيا لَتُهْلِكُنى بصدِّك إياى عن الإيمان بالبعثِ والثوابِ والعقابِ.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السدىِّ قولَه:{إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ} . قال: لَتُهْلِكُنى.
يقالُ منه: أردَى فلانٌ فلانًا. إذا أهلَكه، و: ردِى فلانٌ. إذا هلَك، كما قال الأَعْشَى
(4)
:
(1)
هو يزيد بن محمد الحارثى كما في الدرر اللوامع 1/ 43. والبيت بلا نسبة في المحتسب 2/ 22، ومعاني الفراء 2/ 386.
(2)
فى ت 1: "لم يقل".
(3)
في م: "الكلام".
(4)
ديوانه ص 41.
أفي الطَّوفِ خِفْتِ عَلَىَّ الرَّدَى
…
وكم مِن رَدٍ أهلَه لم يَرِمْ
يعنى بقوله: وكم من ردٍ. وكم من هالكٍ.
وقولُه: {وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} . يقولُ: ولولا أن اللَّهَ أَنعَم علىَّ بهدايتِه والتوفيقِ للإيمانِ بالبعث بعدَ الموتِ، لكنتُ من المحضرين معَك في عذابِ اللهِ.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} . أى: فى عذابِ اللهِ
(1)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المفضلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السدىِّ قولَه:{لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} . قال: من المعذَّبين
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61)} .
يقول تعالى ذكرُه مُخبِرًا عن قيلِ هذا المؤمنِ الذي أعطاه اللهُ ما أعطاه من كرامتِه في جنتِه، سرورًا منه بما أعطاه فيها:{أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى} .
يقولُ: أفما نحن بميِّتين غيرَ مَوْتَتِنا الأولى فى الدنيا {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} . يقولُ: وما نحن بمعذَّبين بعدَ دخولِنا الجنةَ.
{إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} . يقولُ: إن هذا الذى أعطاناه اللهُ من الكرامة في الجنةِ؛ من
(2)
أنَّا لا نُعذِّبُ ولا نَموتُ لهو النَّجاءُ العظيمُ مما كنا فى الدنيا نَحْذَرُ من عقابِ اللهِ، وإدراكُ ما كنا
(1)
أخرجه عبد الرزاق فى تفسيره 2/ 149 عن معمر، عن قتادةَ بنحوه، وعزاه السيوطى في الدر المنثور 5/ 277 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
سقط من: م.
فيها نَأْمُلُ
(1)
بإيمانِنا وطاعتِنا ربَّنا.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قوله:{أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ} إلى قوله: {الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} . قال: هذا قولُ أهلِ الجنةِ
(2)
.
وقولُه: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} . يقول تعالى ذكرُه: لمثلِ هذا الذى أعطَيْتُ هؤلاء المؤمنين من الكرامةِ في الآخرةِ، فليَعْمَلْ في الدنيا لأنفسِهم العاملون؛ ليُدْرِكوا ما أدرك هؤلاء بطاعة ربِّهم.
القول في تأويلِ قوله تعالى: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66)} .
يقول تعالى ذكرُه: أهذا الذي أَعْطَيْتُ هؤلاء المؤمنين، الذين وصَفْتُ صفتَهم، من كرامتى فى الجنةِ، ورزَقْتُهم فيها من النعيم - خيرٌ، أو ما أعْدَدْتُ لأهل النارِ مِن الزَّقُومِ؟
وعُنى بالنُّزُلِ: الفضلُ، وفيه لغتان؛ نُزُلٌ ونُزْلٌ، يقالُ للطعام الذى له رَيْعٌ: هو طعامٌ له نُزُلٌ ونُزْلٌ. وقولُه: {أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ} .
ذُكِر أن الله تعالى لما أَنْزَل هذه الآية، قال المشركون: كيف يَنْبُتُ الشجرُ في النارِ، والنارُ تُحرِقُ الشجر؟ فقال الله:{إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ} . يعنى: لهؤلاء المشركين الذين قالوا في ذلك ما قالوا، ثم أخْبَرهم بصفةِ هذه الشجرةِ، فقال:
(1)
في م: "نؤمل".
(2)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 277 إلى المصنف وعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ} ؟ حتى بلَغ: {فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ} . قال: لما ذكَر شجرة الزَّقُّوم افْتَتَن بها الظلمةُ، فقالوا: يُنَبِّئُكم صاحبُكم هذا أن في النارِ شجرةً، والنارُ تأكلُ الشجر. فأنْزَل اللهُ ما تَسْمَعون:{إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ} ؛ غُذِّيَت بالنارِ، ومنها خُلِقَت
(1)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المفضَّلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السدىِّ، قال: قال أبو جهلٍ: لما نزلت: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ} [الدخان: 43]. قال: تَعْرِفونها فى كلام العرب؟ أنا آتيكم بها. فدعا جاريةً، فقال: ائْتِينى بتمرٍ وزُبْدٍ. فقال: دونَكم تَزَقَّموا، فهذا الزَّقُّومُ الذى يُخَوِّفُكم به محمدٌ. فأنزل اللهُ تفسيرَها:{أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ} . قال: لأبي جهلٍ وأصحابِه.
حدَّثني محمد بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قوله:{إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ} . قال: قولُ أبي جهلٍ: إنما الزَّقُّومُ التمرُ والزُّبْدُ أَتَزَقَّمُه
(2)
.
(1)
أخرجه عبد الرزاق فى تفسيره 2/ 150 عن معمر، عن قتادةَ بنحوه، وعزاه السيوطى في الدر المنثور 5/ 277 إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم.
(2)
تفسير مجاهد ص 568، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 277 إلى عبد بن حميد.
وقوله: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} . يقولُ تعالى ذكرُه: كأن طَلْعَ هذه الشجرة -يعنى شجرةَ الزقومِ- في قُبْحِه وسَماجتِه
(1)
رءوسُ الشياطينِ في قُبْحِها.
وذُكر أن ذلك فى قراءةِ عبدِ اللَّهِ: (إنها شجرةٌ نابتةٌ فى أصلِ الجحيمِ)
(2)
.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قوله:{طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} . قال: شبَّهه بذلك
(3)
.
فإن قال قائلٌ: وما وجه تشبيهه طَلْعَ هذه الشجرة برءوسِ الشياطينِ في القُبْح، ولا علمَ عندنا بمبلغ قبح رءوسِ الشياطينِ، وإنما يُمَثَّلُ الشيءُ بالشيءِ، تعريفًا مِن المُمثِّلِ المُمثَّلَ له، قربَ
(4)
اشتباه الممثَّل أحدِهما بصاحبهِ، مع معرفةِ المُمَثَّلِ له الشيئين كليهما، أو أحدَهما. ومعلومٌ أن الذين خُوطِبوا بهذه الآية من المشركين، لم يكونوا عارفين بشجرةِ الزَّقُّومِ، ولا برءوسِ الشياطينِ، ولا كانوا رأَوْهما، ولا واحدًا منهما؟
قيل له: أما شجرة الزقُّومِ فقد وصَفَها اللهُ تعالى ذكرُه لهم وبيَّنها، حتى عرَفوها ما هى، وما صفتُها، فقال لهم:{إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} ، فلم يَتْرُكْهم فى عَماءٍ منها. وأما في تمثيله طلعَها برءوسِ الشياطينِ، [فأقوالٌ لكلٍّ منها وجهٌ مفهومٌ. أحدُها: أن يكونَ مثَّل ذلك برءوسِ الشياطينِ]
(5)
، على نحو ما قد جرَى به استعمالُ المخاطبين بالآية بينهم، وذلك
(1)
في ت 2: "كأنه".
(2)
وهى قراءة شاذة.
(3)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 277 إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم.
(4)
في ت 1: "أقرب".
(5)
سقط من: ت 1.
أن استعمالَ الناسِ قد جرى بينَهم فى مبالغتِهم، إذا أراد المبالغة في تقبيح الشيء، قالوا: فكأنه شيطانٌ، فذلك أحدُ الأقوالِ. والثاني: أن يكون مُثِّل برأسِ حيةٍ معروفةٍ عند العرب تُسمى شيطانًا، وهي حيةٌ له عُرْفٌ. فيما ذُكر، قبيحُ الوجهِ - والمنظرِ، وإياه عنى الراجزُ بقولِه:
عَنْجَرِدٌ
(1)
تَحْلِفُ حينَ أحْلِفُ
…
كمِثلِ شَيْطانِ الحَماطِ
(2)
أَعْرَفُ
(3)
ويروى عُجَيِّزٌ.
والثالثُ: أن يكونَ مُثِّل نبتٌ معروف برءوس الشياطينِ، ذُكِر أنه قبيحُ الرأسِ
(4)
. {فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ} . يقول تعالى ذكرُه: فإن هؤلاء المشركين الذين جعَل اللهُ هذه الشجرةَ لهم فتنةً، لآكلون من هذه الشجرةِ التى هى شجرةُ الزَّقومِ، فمالئون من زَقُّومِها بطونَهَم
(5)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70)} .
يعني تعالى ذكره بقوله: {ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ} . ثم إن لهؤلاء المشركين على ما يِأْكُلون مِن هذه الشجرةِ؛ شجرةِ الزقومِ - شَوْبًا، وهو الخَلْطُ، مِن قولِ العربِ: شاب فلانٌ طعامَه فهو يَشوبُه شَوْبًا وشِيابًا، {مِنْ حَمِيمٍ} والحميمُ: الماءُ
(1)
امرأة عنجرد: خبيثة سيئة الخلق. اللسان (عنجرد).
(2)
قال الأصمعي: العرب تقول الجنس من الحيات: شيطان الحماط. وقيل: الحماط بلغة هذيل شجر عظام تنبت في بلادهم تألفها الحيات. ينظر تهذيب اللغة، 4/ 401، 402.
(3)
البيتان فى معانى القرآن للفراء، 2/ 387، واللسان (عنجرد، ح م ط، ش ط ن).
(4)
فى ت 1: "الرؤس".
(5)
في ت 1: "البطون".
المحمومُ، وهو الذى أُسْخِن فانْتَهَى حرُّه. وأصلُه مفعولٌ، صُرِّف إلى فعيلٍ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنى علىٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن علىٍّ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ} . يقولُ: لَمَزْجًا
(1)
.
حدَّثني محمد بنُ سعدٍ، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:{ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ} . يعنى: شربَ الحميمِ على الزقُّومِ
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة قوله:{ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ} . قال: مِزاجًا من حميمٍ
(3)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ مُفَضَّلٍ، قال: ثنا أسْباطُ، عن السدىِّ:{ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ} . قال: الشَّوبُ الخَلْطُ، وهو المَزْجُ
(4)
.
حدَّثني يونُسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زِيدٍ في قوله: {ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ} . قال: حَميمٌ يُشابُ لهم بغَسَّاقٍ مما تَغْسِقُ أعينُهم، وصديدٍ من قَيْحِهم ودمائِهم، مما يَخْرُجُ مِن أجسادهم.
(1)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 277 إلى المصنف وابن المنذر.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 17.
(3)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 278 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم، وذكره ابن رجب في التخويف من النار ص 148.
(4)
فى ت 1: "المزاج". والأثر ذكره الحافظ في الفتح 6/ 332، وعزاه إلى المصنف.
وقوله: {ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ} . يقولُ تعالى ذكره: ثم إن مآبَهم ومصيرَهم لإلى الجحيمِ.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة قوله:{ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ} . فهم في عناءٍ وعذابٍ من نارِ جهنمَ
(1)
. وتلا هذه الآية: {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} [الرحمن: 44].
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ في قولِه:{ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ} . قال في قراءةِ عبدِ اللَّهِ: (ثمَّ إِنَّ مُنْقَلَبَهُمْ لإلى الجحيم)
(2)
. وكان عبدُ اللهِ يقولُ: والذي نفسي بيدِه لا يَنْتَصِفُ النَّهارُ يومَ القيامةِ حتى يَقيلَ أهلُ الجنةِ فى الجنةِ، وأهلُ النارِ فى النارِ، ثم قال:{أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا}
(3)
[الفرقان: 24].
حدَّثني يونُسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ} . قال: موتَهم.
وقوله: {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ} . يقولُ: إن هؤلاء المشركين الذين إذا قيل لهم: قولوا: لا إله إلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرون، وجدوا آباءَهم ضُلَّالًا عن قصدِ السبيلِ، غيرَ سالكين مَحَجَّةَ الحَقِّ.
{فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} . يقولُ: فهؤلاء يُسْرَعُ بهم في طريقهم؛ ليَقْتَفُوا آثارهم وسُنَّتَهم. يقالُ منه: أُهْرِع فلانٌ: إذا سار سيرًا حثيثًا، فيه شَبَهٌ بالرِّعْدةِ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
(1)
في ت 1: "حميم".
(2)
وهى قراءة شاذة.
(3)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 278 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني علىٌّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قوله:{إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ} . أى: وجدوا آباءهم ضالِّين
(1)
.
حدثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ} . أى: وجَدوا آباءَهم
(2)
.
وبنحوِ الذي قلنا في "يُهْرَعون" -أيضًا- قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسي، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قوله:{فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} . قال: كهيئةِ الهَرْوَلةِ
(3)
.
[حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ: {فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ}. أى: يُسْرِعون إسراعًا في ذلك]
(4)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المُفَضَّل، قال: ثنا أسباطُ، عن السدىِّ فى قوله:{يُهْرَعُونَ} . قال: يُسرعون.
حدَّثنى يونُسُ، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {يُهْرَعُونَ
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره -كما في الإتقان- 2/ 39 من طريق أبي صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 278 إلى ابن المنذر.
(2)
عزاه السيوطى في الدر المنثور 5/ 278 إلى المصنف وعبد بن حميد.
(3)
تفسير مجاهد ص 568، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 278 إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم.
(4)
سقط من: ت 1.
إِلَيْهِ}. قال: يَسْتَعجلون إليه.
القولُ في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74)} .
يقول تعالى ذكرُه: ولقد ضَلَّ يا محمدُ عن قصدِ السبيلِ ومَحَجَّةِ الحقِّ قبلَ مُشْركي قومِك من قريشٍ - أكثرُ الأمم الخاليةِ من قبلِهم:
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ} ، يقولُ: ولقد أَرْسَلْنا في الأممِ التى خلَت من قبلِ أُمَّتِك، ومِن قبلِ قومِك المكذِّبِيك، مُنْذِرين يُنذرونهم بأسَنا على كفرِهم بنا، فكذَّبوهم، ولم يَقْبَلوا منهم نصائحَهم، فأحْلَلْنا بهم بأسَنا وعقوبتَنا
{فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ} . يقولُ: فتأَمَّلْ وتبَيَّنْ كيف كان غِبُّ أمرِ الذين أَنْذَرَتهم أنبياؤنا، وإلامَ
(1)
صار أمرُهم؟ وما الذى أعْقَبهم كفرُهم باللَّهِ؟ ألم نُهْلِكُهم فنُصَيَّرَهم للعبادِ عبرةً؟ ولمن بعدَهم عِظَةً؟
وقوله: {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: فانْظُرْ كيف كان عاقبةُ المُنْذَرِين، إلا عبادَ اللهِ الذين أخْلَصْناهم للإيمان بالله وبرسلِه. واسْتَثْنَى عبادَ اللَّهِ من المنذَرِين؛ لأن معنى الكلامِ: فانْظُرْ كيف أهْلَكْنا المنذَرِين إلا عبادَ اللهِ المؤمنين، فلذلك حسُن استثناؤُهم منهم.
وبنحو الذي قلنا في قوله: {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} . قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ مُفَضَّلٍ، قال: ثنا أسْباطُ، عن السدىِّ فى قوله:{إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} . قال: الذين
(1)
في ت 1: "إلا ما".
اسْتَخْلَصَهم الله
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77)} .
يقول تعالى ذكرُه: ولقد نادانا نوحٌ بمسألتِه إيانا هلاكَ قومِه، فقال:{رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا} . [إلى قولِه]
(2)
: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 5 - 26].
وقولَه: {فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} . يقولُ: فلَنعم المجيبون كنا له إذ دعانا، فأجَبْنا له دعاءَه، فأهْلَكُنا قومَه.
{وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ} . يعنى: أهلَ نوحٍ الذين ركِبوا معه السفينةَ. وقد ذكَرْناهم فيما مضَى قبلُ، وبيَّنا اختلافَ العلماءِ فى عددِهم
(3)
.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} . قال: أجابه الله
(4)
.
وقوله: {مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} . يقولُ: مِن الأذى والمكروهِ الذي كان فيه مِن الكافرين، ومن كربِ الطُّوفانِ والغرقِ الذى هلَك به قومُ نوحٍ.
(1)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 278 إلى المصنف.
(2)
سقط من: ت 1، ت 2.
(3)
ينظر ما تقدم في 10/ 263، و 12/ 409 - 413.
(4)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 278 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
كما حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المُفَضَّل، قال: ثنا أسباطُ، عن السدىِّ:{وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} . قال: مِن الغرقِ
(1)
.
وقوله: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} . يقولُ: وجعَلَنا ذريةَ نوحٍ هم الذين بقُوا في الأرضِ بعدَ مَهْلِكِ قومِه. وذلك أن الناسَ كلَّهم مِن بَعدِ مَهْلِكِ قومِ
(2)
نوحٍ إلى اليومِ، إنما هم ذريةُ نوحٍ، فالعَجَمُ والعربُ أولادُ سامِ بنِ نوحٍ، والتُّركُ والصَّقالِبةُ والخَزَرُ أولادُ يافثَ بن نوحٍ، والسُّودان أولادُ حامِ بنِ نوحٍ. وبذلك جاءتِ الآثارُ، وقالتِ العلماءُ.
[ذكرُ مَن قال ذلك]
(3)
حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا ابنُ عَثْمةَ، قال: ثنا سعيدُ بن بشيرٍ، عن قتادةَ، عن الحسن، عن سَمُرةَ، عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم في قوله:{وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} . قال: "سامٌ، وحامٌ، ويافثُ"
(4)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ في قولِه:{وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} . قال: فالناسُ كلُّهم مِن ذريةِ نوحٍ
(5)
.
(1)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 278 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(2)
سقط من: م، ت 2.
(3)
سقط من: م، ت 1.
(4)
أخرجه الترمذى (3230) من طريق ابن عثمة به، وأخرجه ابن أبي حاتم -كما في تفسير ابن كثير 7/ 19 - من طريق سعيد بن بشير به، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 278 إلى ابن مردويه.
(5)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 19 عن سعيد به، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 278 إلى المصنف وعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
حدثنا علىٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن علىٍّ، عن ابن عباسٍ فى قولِه:{وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} . يقولُ: لم يَبْقَ إلا ذريةُ نوحٍ
(1)
.
القولُ في تأويل قولِه تعالى: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82)} .
يعني تعالى ذكرُه بقولِه: وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ). وأبقينا عليه -يعنى على نوحٍ- ذكرًا جميلًا، وثناءً حسنا:{فِي الْآخِرِينَ} . يعنى: فيمن تأخَّر بعدَه مِن الناسِ، يَذكُرونه به.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني علىٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابنِ عباسٍ قولِه:{وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ} . يقولُ: يُذكَرُ بخيرٍ
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ
(3)
، قال: ثنا عيسي، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ} . يقولُ: جعَلنا لسانَ صدقٍ للأنبياء كلِّهم
(4)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي
(1)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 278 إلى المصنف وابن المنذر، وينظر تفسير ابن كثير 7/ 18.
(2)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 278 إلى المصنف وابن المنذر، وينظر تفسير ابن كثير 7/ 19.
(3)
في ت 1: "صالح".
(4)
تفسير مجاهد ص 569، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 278 إلى عبد بن حميد، وينظر تفسير ابن كثير 7/ 19.
الْآخِرِينَ}. قال: أبْقَى اللهُ عليه الثناءَ الحسنَ في الآخِرِين
(1)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، [قال: ثنا أحمدُ بنُ المفضَّلِ]
(2)
، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ قولَه:{وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ} . قال: الثناءَ الحسنَ
(3)
.
وقوله: {سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ} . يقولُ: أَمَنَةٌ مِن اللهِ لنوحٍ في العالَمين، أن يَذْكُرَه [أحدٌ بسوءٍ]
(4)
.
و"سلامٌ" مرفوعٌ بـ"على"، وقد كان بعضُ أهلِ العربيةِ مِن أهلِ الكوفةِ يقولُ
(5)
: معناه: وترَكْنا عليه في الآخِرين. {سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ} . أى: ترَكْنا عليه هذه الكلمةَ، كما تقولُ: قَرَأْتُ مِن القرآنِ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، فتكونُ الجملةُ في معنى نصبٍ، وتَرْفَعُها باللام
(6)
، كذلك:{سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ} تَرْفَعُه بـ"على" وهو في تأويلِ نصبٍ. قال: ولو كان: ترَكنا عليه سلامًا. كان صوابًا.
وقوله: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: إنا كما فعَلْنا بنوحٍ، مُجازاةً له على طاعتِنا، وصبرِه على أذَى قومِه فى رِضانا {وَنَجَّيْنَاهُ
(7)
وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ}، وأبْقَينا عليه ثناءً في
(1)
أخرجه عبد الرزاق فى تفسيره 2/ 150 عن معمر عن قتادة، وعزاه السيوطى في الدر المنثور 5/ 278 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
سقط من النسخ، وهو سند دائر قد تقدم كثيرًا.
(3)
ينظر تفسير ابن كثير 7/ 20.
(4)
في ت 2: "آخرون".
(5)
هو الفراء. ينظر معاني القرآن 2/ 387.
(6)
في معاني القرآن: "بالكلام".
(7)
فى م: "فأنجيناه".
الآخرين. {كَذَلِكَ نَجْزِي} الذين يُحْسِنون فيُطِيعوننا، وينْتَهون إلى أمرِنا، ويَصْبِرون على الأذى فينا.
وقوله: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} . يقولُ: إن نوحًا من عبادِنا الذين آمنوا بنا، فوحَّدُونا، وأخْلَصوا لنا العبادةَ، وأفْرَدونا بالأُلوهةِ.
وقوله: {ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ} . يقولُ تعالى ذكره: ثم أَغْرَقُنا حين نجَّيْنا نوحًا وأهلَه من الكربِ العظيمِ، مَن بقِى مِن قومِه.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ} . قال: أنجاه اللهُ ومَن معه في السفينةِ، وأغْرَق بقيةَ قومِه.
القولُ في تأويل قولِه تعالى: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وإن مِن أشياعِ
(1)
نوحٍ على مِنْهاجِه وملَّتِه واللهِ، لإبراهيمَ خليلَ الرحمنِ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
(1)
في ت 1: "تباع"، وفي ت 2:"أتباع".
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنى علىٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنا معاويةُ، عن علىٍّ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ} . يقولُ: مِن أَهلِ دينه
(1)
.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا حَكَّامٌ، عن عَنْبَسةَ، عن محمدِ بنِ عبدِ الرحمنِ، عن القاسمِ بن أبى بَزَّة، عن مجاهدٍ في قولِه:{وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ} . قال: على مِنْهاجِ نوحٍ وسنَّتِه.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ} . قال: على مِنْهاجه وسنَّتِه
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ} . قال: على دينه وملَّتِه
(3)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ في قولِه:{وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ} . قال: مِن أهل دينِه
(4)
.
وقد زعَم بعضُ أهلِ العربيةِ
(5)
أن معنى ذلك: وإن مِن شيعةِ محمدٍ لإبراهيمَ.
وقال: ذلك مثلُ قولِه: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ} [يس: 41]. بمعنى: أَنَّا حَمَلْنا ذريةَ مَن هم منه، فجعَلَها ذريةً لهم، وقد سبَقَتهم.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم فى تفسيره - كما في الإتقان 2/ 39 من طريق أبي صالح به.
(2)
تفسير مجاهد ص 569، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 278 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 279 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر، وينظر البحر المحيط 7/ 365.
(4)
ينظر البحر المحيط 7/ 365.
(5)
هو الفراء. ينظر معاني القرآن 2/ 388.
وقولُه: {إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} . يقولُ تعالى ذكرُه: إذ جاء إبراهيم ربَّه بقلبٍ سليمٍ من الشركِ، مُخْلِصٍ له التوحيدَ.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} ، واللهِ، مِن الشركِ
(1)
.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ في قولِه:{إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} . قال: سليمٍ من الشركِ.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ:{بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} .
قال: لا شكَّ فيه
(2)
.
وقال آخرون في ذلك بما حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا عَثَّامُ بنُ علىٍّ، قال: ثنا هشامٌ، عن أبيه، قال: يا بَنِىَّ لا تكونوا لَعَّانين، ألم تَرَوْا إلى إبراهيمَ لم يَلْعَنْ شيئًا قطُّ، فقال اللهُ:{إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}
(3)
.
وقولُه: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ} . [يقولُ: حين قال -يعنى: إبراهيمُ- لأبيه وقومِه: أيَّ شيءٍ تَعْبُدون؟
وقوله]
(4)
:
{أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ} . يقولُ: أَكَذِبًا معبودًا غيرَ اللَّهِ تُريدون؟
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي
(1)
أخرجه عبد عبد الرزاق في تفسيره 2/ 150 عن معمر، عن قتادة، وعزاه السيوطى في الدر المنثور 5/ 279 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 278 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
ينظر القرطبي في تفسيره 15/ 91، والبحر المحيط 7/ 365، وابن كثير في تفسيره 7/ 20.
(4)
سقط من: ت 1.
النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92)}.
يقول تعالى ذكرُه مُخْبِرًا عن قيل إبراهيمَ لأبيه وقومه: {فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} . يقولُ: فأىَّ شيءٍ تَظُنُّون أيُّها القومُ أنه يَصْنَعُ بكم إن لقيتُموه، وقد عبَدتُم غيرَه؟
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} . يقولُ: إذا لقِيتُموه، وقد عبَدْتُم غيرَه؟
(1)
وقولُه: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} . ذُكر أن قومَه كانوا أهلَ تَنْجيمٍ، فرأَى نجمًا قد طلَع، فعصَب رأسَه.
وقال: إنى مطعونٌ، وكان قومُه يَهْرُبون مِن الطاعونِ، فأراد
(2)
أن يَتْرُكوه في بيتِ آلهتِهم، ويَخْرُجوا عنه؛ ليُخالِفَهم إليها فيَكْسِرَها.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولِه:{فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} . قال: قالوا وهو في بيتِ آلهتهم: اخرُجْ. فقال: إني مَطْعونٌ. فترَكوه مَخافةَ الطاعونِ
(3)
.
(1)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 279 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر، وذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 20، والبداية والنهاية 1/ 333.
(2)
في ت 1: "فأرادوا".
(3)
ينظر تفسير ابن كثير 7/ 21، والبحر المحيط 7/ 366.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابنُ عُلَيَّةَ، عن سعيدٍ، عن قتادة، عن سعيدِ بنِ المسيَّبِ:{فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} . قال: رأَى نجمًا طلَع.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، عن سعيدِ بنِ المسيَّبِ، أنه رأَى نَجمًا طلَع فقال:{إِنِّي سَقِيمٌ} . قال: كايَد
(1)
نبيُّ الله عن دينه، فقال: إني سقيمٌ
(2)
.
حُدِّثْتُ عن الحسينِ، قال: سمِعْتُ أبا مُعاذٍ يقولُ: أخبَرنا عبيدٌ، قال: سَمِعْتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} : قالوا لإبراهيمَ، وهو في بيتِ آلهتِهم: اخرُجْ معنا. فقال لهم: إنى مطعونٌ. فترَكوه مَخافةَ أن يُعْدِيَهم
(3)
.
حدَّثني يونُسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ، عن أبيه في قول اللهِ:{فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} . قال: أَرْسَل إليه ملِكُهم، فقال: إن غدًا عيدَنا
(4)
، فاحضُرْ معنا. قال: فنظَر إلى نَجمٍ، فقال: إن ذلك النجمَ لم يَطْلُعْ قطُّ إلا طلَع بسُقمٍ لى
(5)
. فقال: {إِنِّي سَقِيمٌ}
(6)
.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابنِ إسحاقَ:{فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} : يقولُ اللَّهُ: {فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ} . وقولُه: {إِنِّي سَقِيمٌ} . أى: طَعِينٌ، أو لسُقْمٍ كانوا يَهْرُبون منه إذا سمِعوا به، وإنما يُرِيدُ إبراهيمُ أن
(1)
فى ت 1، ت 2:"كابد".
(2)
عزاه السيوطى في الدر المنثور 5/ 279 إلى المصنف وعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 279 إلى المصنف وابن أبى شيبة وابن المنذر، وينظر تفسير القرطبي 15/ 93.
(4)
فى ت 1، ت 2:"عيدا".
(5)
سقط من: ت 1.
(6)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 279 إلى ابن أبي حاتم، وينظر تفسير القرطبي 15/ 92.
يَخْرُجوا عنه، ليَبْلُغَ من أصنامِهم الذي يُرِيدُ
(1)
.
واخْتُلف فى وجهِ قيلِ إبراهيم لقومه: {إِنِّي سَقِيمٌ} . وهو صحيحٌ، فرُوِى عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لم يَكْذِبْ إبراهيمُ إلا ثلاثَ كذباتٍ".
ذكرُ الروايةِ بذلك
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا أبو أسامةَ، قال: ثني هشامٌ، عن محمدٍ، عن أبي هريرة، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لم يَكذِبْ إبراهيمُ غيرَ ثلاثِ كذباتٍ؛ ثِنتَيْن في ذاتِ الله؛ قولِه: {إِنِّي سَقِيمٌ}. وقولُه: {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63]. وقوله فى سارَةً: هى أختى"
(2)
.
حدَّثنا سعيدُ بنُ يحيى، قال: ثنا أبى، قال: ثنا محمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثني أبو الزِّناد، عن عبدِ الرحمنِ الأعرجِ، عن أبي هريرةَ، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: لم يَكذِبْ إبراهيمُ فى شيءٍ قطُّ إلا فى ثلاثٍ". ثم ذكر نحوَه
(3)
.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن مغيرةَ، عن المسيَّب بنِ رافعٍ، عن أبى هريرةَ، قال: ما كذَب إبراهيمُ غيرَ ثلاثِ كذباتٍ؛ قولُه: {إِنِّي سَقِيمٌ} . وقولُه: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63]. وإنما قاله موعظةً، وقولُه حينَ سأَله
(1)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 236.
(2)
أخرجه المصنف فى تاريخه 1/ 245، وأخرجه النسائى (8374 - كبرى) من طريق أبي أسامة به، وأخرجه مسلم (2371)، وأبو داود (2212)، وأبو يعلى (6039)، وابن حبان (5737) من طريق هشام به، وأخرجه البخارى (3357، 5084)، والبيهقى 7/ 366، وفى الأسماء والصفات (616) من طريق محمد بن سيرين به.
(3)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 246، وأخرجه الترمذى (3166) عن سعيد بن يحيى به، وأخرجه أحمد 15/ 131 - 133 (9241)، والبخاري (2217، 2635، 6950)، والنسائى (8373 - كبري) من طريق أبي الزناد به.
الملِكُ، فقال: أختى. لسارَةَ، وكانت امرأتَه
(1)
.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا ابنُ عُلَيةَ، عن أيوبَ، عن محمدٍ، قال: إن إبراهيمَ ما كذَب إلا ثلاثَ كذباتٍ؛ ثِنْتان في اللهِ، وواحدةٌ في ذاتِ نفسِه، فأما الثنتان فقولُه:{إِنِّي سَقِيمٌ} . وقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} . وقصتُه في سارَةَ، وذكَر قصتَها وقصةَ الملِكِ
(1)
.
وقال آخرون: إن قولَه: {إِنِّي سَقِيمٌ} . كلمةٌ فيها مِعْراضٌ، ومعناها أن كلَّ مَن كان في عُقْبةِ الموتِ فهو سقيمٌ، وإن لم يَكُنْ به حينَ قالها سُقْمٌ ظاهرٌ.
والخبرُ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بخلافِ هذا القول وقولُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم هو الحقُّ دونَ غيرِه.
قولُه: {فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ} . يقولُ: فتولَّوْا عن إبراهيمَ مُدْبِرِين عنه؛ خوفًا من أن يُعدِيَهم السُّقْمُ الذى ذكَر أنه به.
كما حُدِّثْتُ عن يحيى بنِ زكريا عن بعضِ أصحابِه، عن حكيمِ بنِ جبيرٍ، [عن سعيدِ بنِ جبيرٍ]
(2)
، عن ابن عباسٍ:{إِنِّي سَقِيمٌ} . يقولُ: مطعونٌ.
{فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ} . قال سعيدٌ: إن كان الفرارُ مِن الطاعونِ لَقديمًا
(3)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{فَتَوَلَّوْا} : فنكَصوا عنه مُدبِرِين مُنْطَلِقين
(4)
.
(1)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 247.
(2)
سقط من: ت 2.
(3)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور ص 354 (مخطوط المكتبة المحمودية) إلى المصنف.
(4)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 279 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
وقولُه: {فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ} . [يقولُ تعالى ذكرُه: فمال إلى آلهتهم]
(1)
بعدَما خرَجوا عنه وأدْبَروا.
وأرَى أن أصلَ ذلك مِن قولِهم: راغ فلانٌ عن فلانٍ، إذا حاد عنه،، فيكونُ معناه إذا كان كذلك: فراغ عن قومِه، والخروجِ معهم إلى آلهتِهم، كما قال عديُّ بنُ زيدٍ
(2)
:
حينَ لا يَنْفَعُ الرَّواغُ ولا يَنْـ
…
ــــفَعُ إلا المصادقُ النِّحْريرُ
يعنى بقولِه: لا يَنْفَعُ الرَّواغُ: الحِيادُ. أما أهلُ التأويلِ فإنهم فسَّروه بمعنى: فمال.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ} : أي: فمال إلى آلهتهم. قال: ذهَب
(3)
.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسْباطُ، عن السدىِّ قولَه:{فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ} . قال: ذهَب
(4)
.
وقوله: {فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ} . هذا خبرٌ مِنَ اللَّهِ عن قيلِ إبراهيمَ للآلهةِ، وفى الكلامِ محذوفٌ اسْتُغْنِى بدَلالة الكلامِ عليه مِن ذكرِه، وهو: فقرَّب إليها الطعامَ، فلم يَرَها تَأْكُلُ، فقال لها:{أَلَا تَأْكُلُونَ} . فلمَّا لم يَرَها تَأْكُلُ
(1)
سقط من: ت 1.
(2)
البيت فى الأمالي الشجرية 1/ 92.
(3)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 279 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم، وينظر تفسير القرطبي 15/ 94.
(4)
ينظر تفسير القرطبي 15/ 94.
قال لها: ما لكم لا تأْكُلون؟ فلم يرَها تَنْطِقُ، فقال لها:{مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ} ؟ مُسْتَهْزِئًا بها. وكذلك ذكَر أنه فعَل بها، وقد ذكَرْنَا الخبرَ بذلك فيما مضَى قبلُ
(1)
.
وقال قتادةُ فى ذلك ما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ} ؛ يَسْتَنْطِقُهم: {فَقَالَ أَلَا تَنْطِقُونَ} ؟
(2)
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: فمال على آلهةِ قومِه ضربًا لها باليمينِ، بفأسٍ في يدِه يَكْسِرُهن.
كما حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثنى أبى، عن أبيه، عن ابن عباسٍ، قال: لما خلا جعَل يَضْرِبُ آلهتَهم باليمين.
حُدِّثْتُ عن الحسينِ، قال: سمِعْتُ أبا مُعاذٍ يقولُ: أخْبَرنا عبيدٌ، قال: سمعتُ الضحاكَ، فذكَر مثلَه.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ} : فأقبل عليهم يَكْسِرُهم
(2)
.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابنِ إسحاقَ: ثم أقْبَل عليهم، كما قال اللهُ:{ضَرْبًا بِالْيَمِينِ} . ثم جعَل يَكْسِرُهن بفأسٍ في يدِه
(3)
.
(1)
ينظر ما تقدم في 16/ 295.
(2)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 279 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 238.
وكان بعضُ أهل العربيةِ
(1)
يَتَأَوَّلُ ذلك بمعنى: فراغ عليهم ضربًا بالقوةِ والقدرةِ، ويقولُ: اليمينُ فى هذا الموضعِ القوةُ. وبعضُهم كان يَتَأَوَّلُ اليمينَ في هذا الموضعِ الحَلِفَ، ويقولُ: جعَل يَضْرِبُهن باليمينِ التي حلَف بها بقولِه: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} [الأنبياء: 57].
وذُكِر أن ذلك فى قراءةِ عبدِ اللَّهِ: (فراغ عليهم صَفْقًا باليمينِ)
(2)
. ورُوِى نحوُ ذلك عن الحسنِ
(3)
.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا يحيى بنُ واضحٍ، قال: ثنا [خالد بنُ عبيدٍ العَتَكيُّ]
(4)
، قال: سمِعْتُ الحسن قرَأ: (فراغ عليهم صفقًا باليمينِ). أى: ضربًا باليمينِ.
وقولُه: {فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ} . اخْتَلَفت القرأةُ في قراءة ذلك؛ فقرَأَتْه عامةُ قرأةِ المدينةِ والبصرةِ، وبعضُ قرأةِ الكوفة:{فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ} بفتح الياءِ وتشديدِ الفاءِ
(5)
، من قولِهم: زَفَّت النَّعَامةُ، وذلك أولُ عَدْوِها، وآخرُ مشيها، ومنه قولُ الفَرزدقِ
(6)
:
وجاء قَرِيعُ الشَّوْلِ قبلَ إفالِها
…
يَزِفُّ وجاءَت خلفَه وَهُيَ زُفَّفُ
(1)
نسب القرطبي هذا القول للفراء وثعلب. تفسير القرطبي 15/ 94.
(2)
وهى قراءة شاذة، ينظر معانى القرآن للفراء 2/ 388.
(3)
ينظر المحتسب 2/ 221.
(4)
فى م: "خالد بن عبد الله الجشمى"، وفى ت 1:"خالد بن عبد الله الجشيمي"، وفي ت 2:
"خلف بن عبد الله الجشمى". ينظر تهذيب الكمال 8/ 125.
(5)
هي قراءة ابن كثير ونافع وابن عامر وأبي عمرو وعاصم والكسائي. ينظر السبعة لابن مجاهد ص 548.
(6)
ديوانه ص 559.
وقرَأ ذلك جماعةٌ مِن أهلِ الكوفة: (يُزِفُّونَ) بضمِّ الياء، وتشديدِ الفاءِ
(1)
، مِن أَزَفَّ فهو يُزِفُّ. وكان الفرَّاءُ يَزْعُمُ أَنه لم يَسمَعْ في ذلك إلا زفَفْتُ، ويقولُ: لعل قراءةَ مَن قرَأه: (يُزفُّونَ) بضمِّ الياءِ من قولِ العرب: أطْرَدْتُ الرجل، أي: صيَّرته طَريدًا، وطرَدْتُه. إذا أنت خسَأتَه، إذا قلتَ: اذْهَبْ عنا. فيكونُ (يُزِفُّون) أى: جاءوا على هذه الهيئةِ بمنزلةِ المزفوفةِ على هذه الحالةِ، فَتُدْخِلُ الألفَ، كما تقولُ: أَحْمَدْتُ الرجلَ. إذا أظْهَرْتَ حمدَه، و: هو محمدٌ. إذا رأيْتَ أمرَه إلى الحمدِ، ولم تَنْشُرْ حمدَه. قال: وأَنْشَدَنيَ المُفَضَّلُ
(2)
:
تمَنَّى حُصَيْنٌ أن يَسُودَ جذاعَه
…
فأمْسَى حُصَينٌ قد أذَلُّ وأَقْهَرَا
فقال: أَقْهَرَ. وإنما هو قُهِر، ولكنه أراد: صار إلى حالِ قهرٍ. وقرَأ ذلك بعضُهم: (يَزِفُونَ) بفتحِ الياء، وتخفيف الفاءِ
(3)
، مِن وَزَف يَزِفُ. وذُكِر عن الكِسائيِّ أنه لا يَعْرِفُها. وقال الفرَّاءُ: لا أَعْرِفُها إلا أن تكونَ لغةٌ لم أَسْمَعُها
(4)
.
وذُكر عن مجاهدٍ أنه كان يقولُ: الوَزْفُ النَّسَلانُ.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسي، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{إِلَيْهِ يَزِفُّونَ} . قال: الوزيفُ النَّسَلانُ
(5)
(1)
هي قراءة حمزة والمفضل عن عاصم. المصدر السابق.
(2)
البيت للمخبل السعدى. ينظر معانى القرآن للفراء 2/ 389، واللسان (ق هـ ر).
(3)
هي قراءة مجاهد وعبد الله بن يزيد والضحاك ويحيى بن عبد الرحمن المقرئ وابن أبي عبلة، وهي قراءة شاذة. البحر المحيط 7/ 366.
(4)
ينظر معانى القرآن للفراء 2/ 389.
(5)
تفسير مجاهد ص 569، وأخرجه عبد بن حميد من طريق ابن أبي نجيح -كما في تعليق التعليق =
والصوابُ مِن القراءةِ فى ذلك عندَنا: قراءةُ مَن قرَأه بفتحِ الياءِ، وتشديدِ الفاءِ؛ لأن ذلك هو الصحيحُ المعروفُ مِن كلامِ العربِ، والذي عليه قراءةُ الفُصحاءِ مِن القرأةِ.
وقد اخْتَلَف أهلُ التأويلِ فى معناه؛ فقال بعضُهم: معناه: فأَقْبَل قومُ إبراهيمَ إلى إبراهيمَ يَجْرُون.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني علىٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ} : فَأَقْبَلُوا إِلَيهِ يَجْرُونَ
(1)
.
وقال آخرون: معناه: أقْبَلوا إليه يَمْشُون.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المُفَضَّل، قال: ثنا أسباطُ، عن السدىِّ فى قولِه:{فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ} . قال: يَمْشُونَ
(2)
.
وقال آخرون: معناه: فَأقْبَلوا يَسْتَعْجِلون.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونُسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ، عن أبيه:{فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ} . قال: يَسْتَعْجِلون. قال: يَزِفُّ: يَسْتَعْجِلُ.
= 4/ 294 - وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 279 إلى ابن المنذر.
(1)
عزاه السيوطى في الدر المنثور 5/ 279 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
ينظر تفسير القرطبي 15/ 95، والتبيان 8/ 469.
وقولُه: {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: قال إبراهيمُ لقومِه: أتَعْبُدون أيُّها القومُ ما تَنْحِتون بأيديكم مِن الأصنامِ؟! كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} : الأصنامَ
(1)
.
وقولُه: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} . يقولُ تعالى ذكرُه مُخْبِرًا عن قِيلِ إبراهيمَ لقومِه: واللهُ خلَقَكم أيُّها القومُ وما تَعْمَلُون.
وفي قولِه: {وَمَا تَعْمَلُونَ} وجهان؛ أحدُهما: أن يكونَ قولُه "ما" بمعنى المصدرِ، فيكونَ معنى الكلامِ حينَئذٍ: واللهُ خلَقَكم وعملَكم، والآخرُ: أن يكونَ بمعنى الذي، فيكونَ معنى الكلامِ عندَ ذلك: واللهُ خلَقكم والذي تَعْمَلونه، أي: والذى تَعْمَلون منه الأصنامَ، وهو الخشبُ والنُّحاسُ والأشياءُ التي كانوا يَنْحِتون منها أصنامَهم.
وهذا المعنى الثاني قصَد، إن شاء اللهُ، قتادةُ (*) بقولِه الذى حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} : بأيديكم
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98) وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: قال قومُ إبراهيمَ، لمَّا قال لهم إبراهيمُ:{أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} : ابْنُوا لإبراهيمَ بُنْيانًا. ذُكِر أنهم بَنَوْا له
(1)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 279 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(*) إلى هنا انتهى الخرم الموجود فى مخطوط دار الكتب المصرية المشار إليه في ص 155.
بُنيانًا يُشبهُ التَّنُّورَ، ثم نقَلوا إليه الحطبَ، وأوْقَدوا عليه، {فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ} .
والجحيمُ عندَ العربِ جَمْرُ النارِ بعضُه على بعضٍ، والنارُ على النارِ.
وقولُه: {فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا} . يقولُ تعالى ذكرُه: فأراد قومُ إبراهيمَ بإبراهيمَ كيدًا، وذلك ما كانوا أرادوا مِن إحراقِه بالنارِ. يقولُ اللهُ:{فَجَعَلْنَاهُمُ} . أى: فجعَلْنا قومَ إبراهيمَ {الْأَسْفَلِينَ} يعنى: الأَذَلِّين حُجَّةٌ، وغلَّبْنا إبراهيمَ عليهم بالحجةِ، وأنقَذْناه مما أرادوا به مِن الكيدِ.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ} . قال: فما ناظَرَهم بعد ذلك حتى أهْلَكَهم
(1)
.
وقولُه: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} . يقولُ تعالى ذكرُه: وقال إبراهيمُ لما أفْلَجَه اللهُ على قومِه، ونجَّاه من كيدِهم:{إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي} . يقولُ: إلى مُهاجِرٌ مِن بلدةِ قومى إلى اللهِ. أى: إلى الأرضِ المقدَّسةِ، ومُفارِقُهم، فمُعْتَزِلُهم لعبادةِ اللهِ.
وكان قتادةُ يقولُ فى ذلك ما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} : ذاهبٌ بعملِه وقلبِه ونيتِه
(2)
.
وقال آخرون في ذلك: إنما قال إبراهيمُ: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي} . حينَ أرادوا أن يُلقُوه في النارِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ المثنى، قال: ثنا أبو داودَ، قال: ثنا شعبةُ، عن أبي إسحاقَ،
(1)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 279 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
ينظر التبيان 8/ 472.
قال: سمِعْتُ سليمانَ بنَ صُرَدَ يقولُ: لما أرادوا أن يُلقُوا إبراهيمَ في النارِ، قال:{إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} . فجُمِع الحطبُ، فجاءت عجوزٌ على ظهرِها حطبٌ، فقيل لها: أين تُرِيدين؟ قالت: أُرِيدُ أن أَذهَبَ إلى هذا الرجل الذي يُلقَى في النارِ، فلما أُلقِى فيها قال: حَسْبيَ اللهُ، عليه توكلتُ، أو قال: حسبيَ اللهُ ونعم الوكيلُ. قال: فقال اللهُ: {قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69]. قال: فقال ابنُ لوطٍ، أو ابنُ أخى لوطٍ: إن النارَ لم تُحرِقْه مِن أجلى. وكان بينَهما قَرابةٌ، قال: فأرسَل الله عليه عُنُقًا مِن النارِ
(1)
، فأَحْرَقَتْه
(2)
.
وإنما اخْتَرْتُ القولَ الذى قلتُ في ذلك؛ لأن اللهَ تبارك وتعالى ذكَر خبرَه وخبرَ قومِه في موضعٍ آخرَ، فأَخْبَر أنه لما نجَّاه مما حاوَل قومُه مِن إحراقِه، قال:{إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} [العنكبوت: 26]. ففسَّر أهلُ التأويلِ ذلك أن معناه: إنى مهاجرٌ إلى أرضِ الشامِ. فكذلك قولُه: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} . لأنه كقولِه: {إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} . وقوله: {سَيَهْدِينِ} . يقولُ: سيُثَبِّتُنى على الهُدَى الذى أبْصَرْتُه، ويُعِينُني عليه.
وقوله: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} . وهذا مسألةُ إبراهيمَ رَبَّه أن يَرْزُقَه ولدًا صالحًا، يقولُ: قال: يا ربِّ، هَبْ لى منك ولدًا يكونُ مِن الصالحين، الذين يُطِيعونك ولا يَعْصُونك، ويُصْلِحون في الأرض ولا يُفْسِدون.
كما حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المُفَضَّل، قال: ثنا أسباطُ، عن السدىِّ فى قولِه:{رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} . قال: ولدًا صالحًا
(3)
.
(1)
عنق من النار: أى طائفة منها. النهاية 3/ 310.
(2)
ينظر تفسير القرطبي 15/ 98، وفيه:"أبو لوط".
(3)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 279 إلى ابن أبي حاتم.
وقال: {مِنَ الصَّالِحِينَ} . ولم يَقُلْ: صالحًا من الصالحين.
اجتزاءً [بـ {مِنَ} مِنْ ذكرِ]
(1)
المتروكِ، كما قال عز وجل:{وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} [يوسف: 20]. بمعنى: زاهِدِين مِن الزاهدين.
القولُ في تأويل قولِه تعالى: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: فبشَّرْنا إبراهيمَ {بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} . يعني: يغلامٍ ذى حِلْمٍ إذا هو كَبِر، فأما في طفولتِه فى المَهْدِ، فلا يُوصَفُ بذلك. وذُكِر أن الغلامَ الذي بشَّر اللهُ به إبراهيمَ إسحاقُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ حُميدٍ، قال: ثنا يحيى بنُ واضحٍ، قال: ثنا الحسينُ، عن يزيدَ، عن عكرمةَ:{فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} . قال: هو إسحاقُ
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} : بُشِّر بإسحاقَ. قال: لم يُثْنِ بالحِلْمِ على أحدٍ غيرِ إسحاقَ وإبراهيمَ
(3)
.
وقولُه: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} . يقولُ: فلمَّا بلَغ الغلامُ الذي بُشِّر به إبراهيمُ مع إبراهيمَ، العملَ، وهو السعىُ، وذلك حينَ أطاق معونتَه على عملِه.
(1)
فى ص، م، ت 2:"بمن ذكر"، وفى ت 1:"بذكر عن من". والمثبت يقتضيه السياق.
(2)
ذكره البغوى فى تفسيره 7/ 46، وابن كثير في تفسيره 7/ 28، وعزاه السيوطى في الدر المنثور 5/ 280 إلى المصنف.
(3)
ذكره البغوى فى تفسيره 7/ 46، وابن كثير في تفسيره 7/ 28، وعزاه السيوطى في الدر المنثور 5/ 279 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن أبي حاتم.
وقد اخْتَلَف أهلُ التأويلِ فى معنى ذلك؛ فقال بعضُهم نحوَ الذي قلنا فيه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني علىٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن علىٍّ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} . يقولُ: العملَ
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمروٍ، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} . قال: لما شَبَّ حتى أَدْرَك سعيه سَعْيَ إبراهيمَ في العملِ
(2)
.
حدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه، إلا أنه قال: لما شَبَّ حينَ أَدْرَك سعيَه.
حدَّثنا ابنُ المثنى، قال: ثنا ابنُ أبي عَدِيٍّ، عن شعبةَ، عن الحكمِ، عن مجاهدٍ:{فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} . قال: سَعْيَ إبراهيمَ.
حدَّثنا ابنُ المثنى، قال: ثنا سهلُ بنُ يوسفَ، عن شعبةَ، عن الحكمِ، عن مجاهدٍ:{فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} . قال: سَعْىٌ لإبراهيمَ.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {فَلَمَّا بَلَغَ
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره -كما في الإتقان- 2/ 39 من طريق أبي صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 280 إلى ابن المنذر.
(2)
تفسير مجاهد ص 569، وذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 23، وعزاه السيوطى في الدر المنثور 5/ 280 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
مَعَهُ السَّعْيَ}. قال: السعىُ هاهنا العبادةُ
(1)
.
وقال آخرون: معنى ذلك: فلمَّا مشَى مع إبراهيمَ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} . أي: لما مشَى مع أبيه
(2)
.
وقولُه: {قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} . يقول تعالى ذكرُه: {قَالَ} إبراهيمُ خليلُ الرحمنِ لابنِه: {يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} . وكان فيما ذُكِر أن إبراهيمَ نذَر حينَ بشَّرَته الملائكةُ بإسحاقَ ولدًا، أن يَجْعَلَه إذا ولَدَته سارَةُ للَّهِ ذَبيحًا، فلمَّا بلَغ إسحاقُ مع أبيه السعىَ أُرِى إبراهيمُ في المنامِ، فقيل: فِ
(3)
للهِ بنذرِك. ورُؤيا الأنبياء، صلوات الله عليهم، يقينٌ؛ فلذلك مضَى لِما رأَى فى المنامِ، وقال له ابنُه إسحاقُ ما قال.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السدىِّ، قال: قال جبريلُ عليه السلام لسارَةَ: أبْشِرِى بولدٍ اسمُه إسحاقُ، ومِن وراءِ إسحاقَ يعقوبُ. فضرَبت جبهتَها عَجَبًا، فذلك قولُه: {[قَالَتْ يَاوَيْلَتَى]
(4)
أَأَلِدُ
(1)
ذكره الطوسى فى التبيان 8/ 473، والقرطبي في تفسيره 15/ 99.
(2)
ذكره البغوى فى تفسيره 7/ 46، والقرطبي في تفسيره 15/ 99، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 280 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن أبي حاتم.
(3)
في م: "أوف".
(4)
في النسخ: "فصكت وجهها".
وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ}. إلى قولِه: {حَمِيدٌ مَجِيدٌ} [هود: 72، 73]. قالت سارَةُ لجبْرِيلَ: ما آيةُ ذلك؟ فأخَذ بيدِه عُودًا يابسًا، فَلَواه بينَ أصابعِه، فاهْتَزَّ أخضرَ، فقال إبراهيمُ: هو للهِ إذن ذبيحٌ. فلما كبِر إسحاقُ أُتِي إبراهيمُ في النومِ، فقيل له: أوْفِ بنذرِك الذى نذَرْتَ؛ إنِ اللهُ رزَقَك غلامًا مِن سارَةً أن تَذْبَحَه. فقال لإسحاقَ: انْطَلِقُ نُقَرِّبْ قُرْبانًا إلى اللهِ. وأخَذ سكينًا وحبلًا، ثم انْطَلَق معه حتى إذا ذهَب به بين الجبالِ، قال له الغلامُ: يا أبتِ، أين قُربانُك؟ قال: يا بُنَيَّ، إني رأيْتُ فى المنامِ أني أَذْبَحُك، فانْظُرْ ماذا تَرَى؟ قال: يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ، ستَجِدُنى إن شاء اللهُ مِن الصابرين. فقال له إسحاقُ: يا أَبَتِ، اشْدُدْ رِباطي حتى لا أَضْطَرِبَ، واكْفُفْ عنى ثيابَك، حتى لا يَنْتَضِحَ عليها مِن دمى شيءٌ، فتراه سارَةُ فتَحْزَنَ، وأَسْرِعْ مَرَّ السكين على حَلْقى؛ ليكونَ أهونَ للموتِ عليَّ، فإذا أَتَيْتَ سارَةً، فاقْرَأْ عليها منى السلامَ. فأقْبَل عليه إبراهيمُ يُقبِّلُه، وقد ربَطه، وهو يَبْكي، وإسحاقُ يَبْكى. حتى اسْتَنْقَع الدموعُ تحتَ خدِّ إسحاقَ، ثم إنه جرَّ السكينَ على حَلْقِه، فلم تُحِكِ السكينُ، وضرَب اللهُ صَفيحةً مِن نُحاسٍ على حَلْقِ إسحاق، فلما رأَى ذلك، ضرَب به على جَبينِه، وحزَّ مِن قَفاه، فذلك قولُه:{فَلَمَّا أَسْلَمَا} . يقولُ: سلَّما للَّهِ الأمرَ، {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ}. فنُودِى يا إبراهيمُ: قد صدَّقْتَ الرؤيا بالحقِّ. فالْتَفَت فإذا بكبشٍ، فأخَذَه وخلَّى عن ابنِه، فأَكَبَّ على ابنِه يُقبِّلُه وهو يقولُ: اليوم يا بُنَيَّ وُهِبْتَ لى. فلذلك يقولُ اللَّهُ: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} . فرجَع إلى سارَةً، فأخْبَرها الخبرَ، فجزِعت سارَةُ، وقالت: يا إبراهيمُ، أَرَدْتَ أن تَذْبَحَ ابنى ولا تُعْلِمَنى
(1)
.
(1)
أخرجه المصنف في تاريخه (1/ 272، 1/ 267 مختصرًا، وعزاه الحافظ في الفتح 12/ 377، 378، والسيوطى في الدر المنثور (5/ 282، 283 إلى ابن أبي حاتم، وذكره البغوى في تفسيره 7/ 47، 49.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} . قال: رؤيا الأنبياء حقٌّ، إذا رأوا في المنام شيئًا فعَلُوه
(1)
.
حدَّثنا مجاهدُ بنُ موسى، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سفيانُ بنُ عيينةَ، عن عمرِو بنِ دينارٍ، عن عُبيدِ بن عُميرٍ، قال: رؤيا الأنبياءِ وَحْىٌ. ثم تلا هذه الآيةَ: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ}
(2)
.
وقوله: {فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} . اختلفت القرأةُ فى قراءةِ قولِه: {مَاذَا تَرَى} ؛ فقرَأَته عامةُ قرأةِ أهلِ المدينةِ والبصرةِ، وبعضُ قرأةِ أهلِ الكوفةِ:{فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} بفتحِ التاءِ
(3)
؛ بمعنى: أيَّ شيءٍ تَأْمُرُ؟ أو فانْظُرْ ما الذي تَأْمُرُ. وقرَأ ذلك عامةُ قرأةِ الكوفةِ: (ماذا تُرِى) بضمِّ التاءِ
(4)
؛ بمعنى: ماذا تُشِيرُ، وماذا تُرِينى
(5)
مِن صبرِك أو جَزَعِك من الذبحِ؟
والذى هو أولى القراءتين فى ذلك عندى بالصوابِ قراءةُ مَن قرَأه: {مَاذَا تَرَى} بفتحِ التاءِ
(6)
، بمعنى: ماذا تَرَى مِن الرأيِ؟
فإن قال قائلٌ: أوَ كان إبراهيمُ يُؤامِرُ ابنَه في المُضِيِّ لأمرِ اللهِ، والانتهاءِ إلى طاعته؟
(1)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 280 إلى عبد بن حميد.
(2)
أخرجه الحميدى (474)، والبخارى (138، 859)، والبيهقى 1/ 122، وفي الأسماء والصفات (420) من طريق ابن عيينة به، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 280 إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر والطبراني.
(3)
هي قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو وابن عامر وعاصم. السبعة لابن مجاهد ص 548.
(4)
هي قراءة حمزة والكسائي. المصدر السابق.
(5)
في م: "ترى".
(6)
القراءتان كلتاهما صواب.
قيل: لم يَكُنْ ذلك منه مُشاوَرةٌ لابنِه في طاعةِ اللهِ، ولكنه كان منه ليَعْلَمَ ما عندَ ابنِه مِن العَزْمِ؛ هل هو مِن الصبرِ على أمرِ اللَّهِ على مثلِ الذي هو عليه، فيُسَرَّ بذلك، أم لا؟ وهو في الأحوالِ كلّها ماضٍ لأمرِ اللهِ.
وقولُه: {قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} . يقولُ تعالى ذكرُه: قال إسحاقُ لأبيه: يا أبتِ، افْعَلْ ما يَأْمُرُك به ربُّكَ مِن ذَبحى، {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}. يقولُ: سَتَجِدُنى إن شاء الله صابرًا من الصابرين لِما يَأْمُرُنا به ربُّنا. وقال: {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} . ولم يَقُلْ: ما تُؤْمَرُ به. لأن المعنى: افْعَلِ الأمرَ الذى تُؤْمَرُه، وذُكِر أن ذلك فى قراءةِ عبدِ اللهِ:(إنى أرَى فى المنامِ افْعَلْ ما أُمِرْتَ به)
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: فلمَّا أَسْلَما أمرَهما للهِ، وفوَّضاه إليه، واتَّفَقا على التسليمِ لأمرِه، والرضا بقضائِه.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني سليمانُ بن عبدِ الجبارِ، قال: ثنا ثابتُ بنُ محمدٍ، قال
(2)
: ثنا عبدُ اللَّهِ ابنُ المباركِ، عن إسماعيلَ بن أبي خالدٍ، عن أبي صالحٍ في قولِه:{فَلَمَّا أَسْلَمَا} . قال: اتفَقا على أمرٍ واحدٍ
(3)
.
(1)
وهى قراءة شاذة، ينظر معانى القرآن للفراء 2/ 390.
(2)
فى م، ت 2:"وحدثنا ابن بشار قال ثنا مسلم بن صالح قالا".
(3)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 283 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا يحيى بنُ واضحٍ، قال: ثنا الحسينُ، عن يزيدَ، عن عكرمةَ قولَه:{فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} . قال: أسْلَما جميعًا لأمرِ اللهِ؛ رضِى
(1)
الغلامُ بالذبحِ، ورضِى الأبُ بأن يَذْبَحَه، فقال: يا أبتِ اقْذِقْنى للوجهِ، كيلا تَنْظُرَ إلىَّ فتَرْحَمَنى، وأَنْظُرَ أنا إلى الشَّفْرَةِ فَأَجْزَعَ، ولكن أَدْخِل الشفرةَ مِن تحتى، وامْضِ لأمرِ اللهِ. فذلك قولُ اللهِ:{فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} .
فلمَّا فعَل ذلك {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{فَلَمَّا أَسْلَمَا} . قال: أسْلَم هذا نفسَه للهِ، وأَسْلَم هذا ابنَه للهِ
(3)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{فَلَمَّا أَسْلَمَا} . قال: أَسْلَما ما أُمِرا به
(4)
.
حدَّثنا موسي، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السدىِّ:{فَلَمَّا أَسْلَمَا} . يقولُ: سلَّما لأمرِ اللَّهِ
(5)
.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابنِ إسحاقَ:{فَلَمَّا أَسْلَمَا} أي: سلَّم إبراهيمُ لذبحِه حينَ أُمِر به، وسلَّم ابنُه للصبرِ عليه، حين عرفَ أن اللهَ أمَره بذلك
(1)
في م: "ورضى".
(2)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 278 عن ابن حميد به.
(3)
ذكره البغوى فى تفسيره 7/ 48، والقرطبي في تفسيره 15/ 104، وابن كثير في تفسيره 7/ 24، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 283 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن أبي حاتم.
(4)
تفسير مجاهد ص 570، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 280 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(5)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 272، 273 عن موسي به مطولًا.
فيه
(1)
.
وقولُه: {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} . يقولُ: وصرَعه للجَبينِ. والجَبينان ما عن يمينِ الجبهة وعن شمالها
(2)
، وللوجهِ جَبينان، والجبهةُ بينَهما.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} . قال: وضَع وجهَه للأرضِ. قال: لا تَذْبَحْنى وأنت تَنْظُرُ إلى وَجْهى، عسى أن تَرْحَمَنى فلا تُجْهِزَ علىَّ، ارْبِطُ يَدىَّ إلى رَقَبَتى، ثم ضَعْ وَجْهى للأرضِ
(3)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة:{وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} : أى: وكَبَّه لِفِيهِ، وأَخَذ الشَّفْرَةَ، {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} حتى بلَغ:{وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ}
(4)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ:{وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} . قال: أكَبَّه على جبهتِه
(5)
.
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 24.
(2)
في ص، ت 1:"يسارها".
(3)
تفسير مجاهد ص 570، وأخرجه المصنف في تاريخه 1/ 276 عن محمد بن عمرو به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 280 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 24، وفي البداية 1/ 364.
(5)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 24، وفى البداية 1/ 364، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 283 إلى المصنف.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} . قال: جبينِه. قال: أَخَذ جبينَه لِيَذْبَحَه.
حدَّثنا ابنُ سِنانٍ، قال: ثنا حجاجٌ، عن حمادٍ، عن أبي عاصمٍ الغَنَوىِّ، عن أبي الطُّفيْلِ، قال: قال ابنُ عباسٍ: إن إبراهيمَ لما أُمِر بالمناسكِ عرَض له الشيطانُ عندَ المَسْعَى
(1)
فسابَقَه، فسبَقه إبراهيمُ، ثم ذهَب به جبريلُ إلى جمرةِ العقبةِ، فعرَض له الشيطانُ، فرماه بسبعِ حَصَياتٍ حتى ذهَب، ثم عرَض له عندَ الجمرةِ الوُسْطى، فرماه بسبعِ حَصَياتٍ حتى ذهَب، ثم تلَّه للجبينِ، وعلى إسماعيلَ قميصٌ أبيضُ، فقال له: يا أبتِ، إنه ليس لى ثوبٌ تُكَفِّتُنى فيه غيرَ هذا، فاخْلَعْه [عنِّي، فكفنِّى]
(2)
فيه. فالتفت إبراهيمُ، فإذا هو بكبشٍ أَعْيَنَ أبيضَ أقرنَ
(3)
، فذبَحه، فقال ابنُ عباسٍ: لقد رأيْتُنا نَتَتَبَّعُ هذا الضَّرْبَ مِن الكِباشِ
(4)
.
وقولُه: {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} . وهذا جوابُ قولِه: {فَلَمَّا أَسْلَمَا} . ومعنى الكلامِ: فلمَّا أسْلَما وتلَّه للجبينِ نادَيْناه: أن يا إبراهيمُ. وأُدْخِلَت الواوُ فى ذلك كما أُدْخِلَت فى قولِه: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 73]. وقد تَفْعَلُ العربُ ذلك، فتُدْخِلُ الواو في جوابِ "فلما" و"حتى إذا"، وتلقيها.
ويعنى بقولِه: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} . التى أرَيْناكها في منامِك بأمْرِناك بذبحِ ابنِك.
(1)
في ص، ت 1:"السعى".
(2)
في م: "حتى تكفنني".
(3)
سقط من: م.
(4)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 276 عن محمد بن سنان القزاز به، والطيالسي (2820)، وأحمد 4/ 436 - 438 (2707)، والطبراني (10628)، والبيهقي في الشعب (4077) من طريق حماد بن سلمة به، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 280 إلى ابن أبي حاتم وابن مردويه.
وقوله: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} . يقولُ: إنا كما جزَيْناك بطاعتِنا يا إبراهيمُ، كذلك نَجْزِى الذين أحْسَنوا، وأطاعوا أمرَنا، وعمِلوا في رضانا.
وقولُه: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ} . يقولُ تعالى ذكرُه: إنَّ أمرَنا إياك يا إبراهيمُ بذبحِ ابنِك إسحاقَ {لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ} . يقولُ: لَهو الاختبارُ الذى يَبِينُ لمن فكَّر فيه، أنه بلاءٌ شديدٌ ومحنةٌ عظيمةٌ. وكان ابنُ زيدٍ يقولُ: البلاءُ في هذا الموضعِ الشرُّ، وليس باختبارٍ.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ} . قال: هذا فى البلاءِ الذي نزَل به، في أَن يَذْبَحَ ابنَه، {صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} ابْتُلِيتَ ببلاءٍ عظيمٍ، أُمِرْتَ أَن تَذْبَحَ ابْنَك. قال: وهذا مِن البلاءِ المكروهِ، وهو الشرُّ، وليس مِن بلاءِ الاختبارِ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111)} .
وقولُه: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} . يقولُ: وفدَيْنا إسحاقَ بذبْحٍ عظيمٍ.
والفِدْيةُ الجزاء، يقولُ: جزَيْناه بأن جعَلْنا مكانَ ذَبْحِهِ ذَبْحَ كبشٍ عظيمٍ، وأَنْقَذْناه مِن الذَّبْحِ.
واخْتَلَف أهلُ التأويلِ فى المَفْدِىِّ بالذِّبحِ
(1)
، مِن ابنى إبراهيمَ؛ فقال بعضُهم: هو إسحاق.
(1)
فى م: "من الذبح".
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا ابنُ يَمانٍ، عن مباركٍ، عن الحسنِ، عن الأحنفِ بنِ قيسٍ، عن العباسِ بنِ عبدِ المطلبِ:{وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} . قال: هو إسحاقُ
(1)
.
حدَّثني الحسينُ بنُ يزيدَ الطَّحانُ
(2)
، قال: ثنا ابنُ إدريسَ، عن داودَ بنِ أبي هندٍ، عن عكرمةَ، عن ابنِ عباسٍ، قال: الذى أُمِر بذبحِه إبراهيمُ هو إسحاقُ
(3)
.
حدَّثنا ابنُ المثنى، قال: ثنا ابنُ أبي عَدِيٍّ، عن داودَ، عن عكرمةَ، عن ابنِ عباسٍ:{وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} . قال: هو إسحاقُ
(4)
.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابنُ عليةَ، عن داودَ، عن عكرمةَ، قال: قال ابنُ عباسٍ: الذبيحُ إسحاقُ
(4)
.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا زيدُ بنُ حُبابٍ، عن الحسنِ بنِ دينارٍ، عن علىِّ بنِ زيدِ بن جُدْعانَ، عن الحسنِ، عن الأحنفِ بن قيسٍ، عن العباسِ بنِ عبدِ المطلبِ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في حديثٍ ذكَرَه، قال: هو إسحاقُ
(5)
.
(1)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 263، 264 عن أبي كريب به، ومجاهد في تفسيره ص 569، وابن أبي حاتم -كما في تفسير ابن كثير 7/ 28 - من طريق مبارك بن فضالة به، والبخارى في تاريخه 2/ 292 من طريق الحسن به، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 282 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه.
(2)
في ص، م:"ابن إسحاق". وينظر تهذيب الكمال، 6/ 501، والجرح والتعديل 3/ 67.
(3)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 264 عن الحسين بن يزيد به، والحاكم 2/ 558 من طريق ابن أبي هند به، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 282 إلى الفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد.
(4)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 264 عن ابن المثنى ويعقوب به.
(5)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 263 عن أبى كريب به، والبخارى فى تاريخه 2/ 292 من طريق زيد بن الحباب به، وابن أبي حاتم في تفسيره - كما في تفسير ابن كثير 7/ 28، والحاكم في المستدرك 2/ 556 من طريق على بن زيد به.
حدَّثنا ابنُ المثنى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن أبي إسحاقَ، عن أبى الأحوصِ، قال: افْتَخَر رجلٌ عندَ ابنِ مسعودٍ، فقال: أنا فلانُ بن فلانٍ، ابنُ
(1)
الأشياخِ الكرامِ. فقال عبدُ اللهِ: ذاك يوسفُ بنُ يعقوبَ بنِ إسحاقَ ذبيحِ اللَّهِ بنِ إبراهيمَ خليلِ اللهِ
(2)
.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا إبراهيمُ بن المختارِ، قال: ثنا محمدُ بنُ إسحاقَ، عن عبدِ الرحمنِ بن أبي بكرٍ، عن الزهريِّ، عن العلاءِ بنِ جارِيةَ
(3)
الثَّقفيِّ، عن أبي هريرةَ، عن كعبٍ في قولِه:{وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} . قال: من ابنه إسحاقَ
(4)
.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا هُشيمٌ، قال: ثنا زكريا وشعبةُ، عن أبي
(5)
إسحاقَ، عن مسروقٍ في قولِه:{وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} . قال: هو إسحاقُ
(6)
.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا ابنُ يَمانٍ، عن سفيانَ، عن زيدِ بنِ أَسْلَمَ، عن عبيد ابنِ عميرٍ، قال: هو إسحاقُ
(7)
.
حدَّثنا عمرُو بنُ علىٍّ، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا سفيانُ، عن زيدِ بنِ أسلمَ،
(1)
سقط من: ص، ت 1.
(2)
أخرجه المصنف فى تاريخه 1/ 264 عن ابن المثنى، وعبد الرزاق فى تفسيره 2/ 152، والطبراني (8916) من طريق أبي إسحاق به، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 282 إلى عبد بن حميد.
(3)
في النسخ: "حارثة"، والصواب ما أثبتناه كما في تاريخ المصنف 1/ 265، وينظر الاستيعاب 3/ 1085، وتعجيل المنفعة 2/ 89، 90.
(4)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 265 عن ابن حميد به.
(5)
في النسخ: "ابن". والمثبت من تاريخ المصنف 1/ 267.
(6)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 267 عن يعقوب به، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 282 إلى عبد بن حميد.
(7)
أخرجه عبد الرزاق فى تفسيره 2/ 152 عن معمر عن ابن جريج عن عبيد بن عمير.
عن عبد الله [بن عبيد]
(1)
بنِ عميرٍ، [عن أبيه]
(2)
، قال: قال موسى: يا ربِّ، يقولون: يا إلهَ إبراهيمَ وإسحاقَ ويعقوبَ، فبمَ قالوا ذلك؟ قال: إن إبراهيمَ لم يَعْدِلْ بي شيئًا قطُّ إلا اخْتارني عليه، وإن إسحاقَ جاد لى بالذبحِ، وهو بغيرِ ذلك أجودُ، وإن يعقوبَ كلما زِدْتُه بلاءً زادني حسنَ ظنٍّ
(3)
.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا مُؤَمَّلٌ، قال: ثنا سفيانُ، عن زيدِ بنِ أسلمَ، عن عبدِ اللهِ بنِ عبيدِ بنِ عميرٍ، عن أبيه، قال: قال موسى: أىْ ربِّ، بم أَعْطَيْتَ إبراهيمَ وإسحاقَ ويعقوبَ ما أعْطَيْتَهم؟ فذكَر معنى حديثِ عمرِو بنِ علىٍّ
(4)
.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا ابنُ يَمانٍ، عن سفيانَ، عن أبي سِنانٍ الشَّيْبانيِّ، عن ابنِ أبي الهُذَيْلِ، قال: الذبيحُ هو إسحاقُ
(5)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: أخبَرني يونسُ، عن ابنِ شهابٍ، أن عمرو بنَ أبي سفيانَ بن أَسِيدِ بنِ جاريةَ
(6)
الثقفىَّ، أخبره أن * كعبًا قال لأبي هريرةَ: ألا أُخْبِرُك عن إسحاقَ بنِ إبراهيمَ النبيِّ؟ قال أبو هريرةَ: بلى. قال كعبٌ: لمَّا رأى
(7)
إبراهيمُ ذبحَ إسحاقَ قال الشيطانُ: واللهِ لئن لم أَفْتِنْ عندَ هذا آلَ إبراهيمَ، لا أفْتِنْ أحدًا منهم أبدًا. فتمَثَّل الشيطانُ لهم رجلًا يَعْرِفونه، فأقْبَل حتى إذا خرَج إبراهيمُ بإسحاقَ ليَذْبَحَه دخَل على سارَةً امرأةِ إبراهيمَ، فقال لها: أين أصْبَح إبراهيمُ غاديًا بإسحاقَ؟
(1)
سقط من: م.
(2)
سقط من: ص، م، ت 1.
(3)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 266 عن عمرو بن على به، والبيهقى فى الشعب (10008) من طريق سفيان به. وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 281 إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد.
(4)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 266 عن ابن بشار به
(5)
أخرجه المصنف فى تاريخه 1/ 266 عن أبي كريب به.
(6)
في النسخ: (حارثة). وينظر تهذيب الكمال 22/ 44.
(*) من هنا يبدأ سقط من المخطوط "ص".
(7)
في ت 1: "أرى".
قالت سارَةُ: غدا لبعضِ حاجتِه. قال الشيطانُ: لا واللهِ ما لذلك غدا به. قالت سارَةُ: فلِمَ غَدا به؟ قال: غدا به ليذْبَحَه. قالت سارَةُ: ليس مِن ذلك شيءٌ، لم يَكنْ لِيَذْبَحَ ابنَه. قال الشيطانُ: بلى واللهِ. قالت سارَةُ: فلِمَ يَذْبَحُه؟ قال: زَعَم أنَّ ربَّه أمَرَه بذلك. قالت سارةُ: فهذا أحسنُ بأن يُطِيعَ ربَّه إن كان أمَرَه بذلك. فخرج الشيطانُ من عِندِ سَارَةَ حتى أدْرَكَ إسحاقَ وهو يَمْشِى على إثْرِ أبيه فقال له: أين أصبحَ أبوك غاديًا بك؟ قال: غدا بي لبعض حاجتِه. قال الشيطانُ: لا واللهِ ما غدا بك لبعضِ حاجتِه، ولكنه غدا بك ليَذْبَحَك. قال إسحاقُ: ما كان أبى ليَذْبَحَنى. قال: بلى. قال: لِمَ؟ قال: زعم أن ربَّه أمَرَه بذلك. قال إسحاقُ: فوالله لئن أمَرَه بذلك ليُطِيعَنَّه. قال: فترَكه الشيطانُ، وأسْرَع إلى إبراهيم، فقال: أين أصْبَحْتَ غاديًا بابنِك؟ قال: غدَوْتُ به لبعضِ حاجتى. قال: أمَا واللهِ ما غدَوْتَ به إلا لتَذْبَحَه، قال: لِمَ أَذْبَحُه؟ قال: زعَمْتَ أن ربَّكَ أَمَرَك بذلك. قال
(1)
: فوالله لئن كان أمَرَنى بذلك ربي لأَفْعَلَنَّ. قال: فلمَّا أَخَذ إبراهيمُ إسحاقَ ليَذْبَحَه، وسلَّم إسحاقُ، أعْفاه اللهُ، وفداه بذِبْحٍ عظيمٍ. قال إبراهيمُ لإسحاقَ: قُمْ، أى بُنىَّ، فإن اللهَ قد أعْفاك. وأوْحَى اللهُ إلى إسحاقَ: إني قد أعْطَيْتُك دعوةً أَسْتَجِيبُ لك فيها. قال إسحاقُ: اللهم إنى أدْعُوك أن تستجيبَ لي، أيُّما عبدٍ لقيك من الأوَّلين والآخِرِين لا يُشْرِكُ بك شيئًا، فأَدْخِلْه الجنةَ
(2)
.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، قال: ثنى ابنُ إسحاقَ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ أبي بكرٍ، عن محمدِ بنِ مسلمٍ الزهرىِّ، عن أبي سفيانَ بنِ العَلاء بنِ جاريةَ
(3)
الثقفيِّ،
(1)
بعده في م: "الله".
(2)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 265، 266 عن يونس به، والحاكم، 2/ 557، 558، وابن عساكر في تاريخ دمشق 6/ 203، 204 من طريق ابن وهب به، وأخرجه عبد الرزاق فى تفسيره 2/ 150، 151، ومن طريقه البيهقي في الشعب (7328) وابن عساكر في تاريخه 6/ 202 عن معمر عن الزهري عن القاسم قال: اجتمع أبو هريرة وكعب
…
فذكره، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 282 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
في النسخ: "حارثة".
حليفِ بني زُهْرةَ، عن أبى هريرةَ، عن كعبِ الأحبارِ: أن الذى أُمِر إبراهيمُ بذبحِه مِن ابنَيْه إسحاقُ، وأن اللهَ لما فرّج له ولابنِه مِن البلاءِ العظيمِ الذي كان فيه، قال اللهُ لإسحاقَ: إني قد أعْطَيْتُك بصبرِك لأمرى دعوةً أُعْطِيك فيها ما سألتَ، فسَلْنى. قال: ربِّ أَسْأَلُك أَلَّا تُعَذِّبَ عبدًا من عبادِك لقِيَك وهو مؤمنٌ بك. فكانت تلك مسألتَه التي سأَل
(1)
.
حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا ابنُ يمانٍ، قال: ثنا إسرائيلُ، عن جابرٍ، عن ابنِ سابطٍ قال: هو إسحاقُ
(2)
.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا سفيانُ بنُ عقبةَ، عن حمزةَ الزَّيَّاتِ، [عن أبي إسحاقَ]
(3)
، عن أبي مَيْسَرَةً، قال: قال يوسفُ للملِكِ في وجهِه: تَرْغَبُ أَن تَأْكُل معى، وأنا واللهِ يوسُفُ بنُ يعقوبَ نبىِّ اللهِ بنِ إسحاقَ ذبيحِ اللهِ بن إبراهيمَ خليلِ اللهِ
(4)
؟!
قال: ثنا وكيعٌ، عن سفيانَ، عن أبي سِنانٍ، عن ابنِ أبي الهُذَيْلِ، قال: قال يوسُفُ للملِكِ، فذكر نحوَه
(5)
.
وقال آخرون: الذى فُدِى بالذِّبْحِ العظيمِ مِن ابنَيْ إبراهيمَ إسماعيلُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أبو كريبٍ وإسحاقُ بن إبراهيمَ بنِ حبيبِ بنِ الشهيدِ، قالا: ثنا يحيى بنُ
(1)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 265 عن ابن حميد به مختصرًا.
(2)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 266 عن أبي كريب به.
(3)
سقط من: ص، م، ت 2، ت 3. وينظر تهذيب الكمال 7/ 314.
(4)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 266 عن أبي كريب به.
(5)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 267 عن أبى كريب به.
يَمانٍ، عن إسرائيلَ، عن ثويرٍ
(1)
، عن مجاهدٍ، عن ابنِ عمرَ، قال: الذبيحُ إسماعيلُ
(2)
.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، [قال: ثنا يحيى]
(3)
، قال: ثنا سفيانُ، قال: ثني بيانٌ، عن الشعبيِّ، عن ابنِ عباسٍ:{وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} قال: إسماعيلَ
(4)
.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا يحيى بنُ واضحٍ، قال: ثنا أبو حمزةَ
(5)
محمدُ بنُ ميمونٍ السُّكَّرىُّ، عن* عطاءِ بنِ السائبِ، عن سعيدِ بنِ جبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: إن الذى أُمر بذبحه هو إسماعيل"
(6)
.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا هشيمٌ، عن علىِّ بنِ زيدٍ، عن عمارٍ مولى بنى هاشمٍ، أو عن يوسفَ بن مِهْرانَ، عن ابنِ عباسٍ، قال: هو إسماعيلُ. يعنى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ}
(7)
.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابنُ عُليةَ، قال: ثنا داودُ، عن الشعبيِّ، قال: قال ابنُ
(1)
في م: "ثور".
(2)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 267 عن أبى كريب وإسحاق به، والحاكم 2/ 554 من طريق إسرائيل به مطولًا، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 281 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
سقط من: م، ت 1.
(4)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 267 عن ابن بشار به، والحاكم في المستدرك 2/ 554 من طريق يحيى بن يمان به، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 280، 281 إلى الفريابي وابن أبي شيبة وابن المنذر.
(5)
بعده فى م، ت 2، ت 3:"عن".
(*) هنا ينتهى سقط المخطوطة "ص" المشار إليه ص 590.
(6)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 267، 268 عن ابن حميد به
(7)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 268 عن يعقوب به، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 281 إلى عبد بن حميد.
عباسٍ: هو إسماعيلُ
(1)
.
وحدَّثنى به يعقوبُ مرةً أخرى، قال: ثنا ابنُ عُليةَ، قال: سُئِل داودُ بنُ أبي هندٍ: أىُّ ابنى إبراهيمَ الذى أُمِر بذبحِه؟ فزعَم أن الشعبيَّ قال: قال ابنُ عباسٍ: هو إسماعيلُ
(1)
.
حدَّثنا ابنُ المثنى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن بَيانٍ، عن الشعبيِّ، عن ابنِ عباسٍ، أنه قال فى الذى فداه اللهُ بذبْحٍ عظيمٍ، قال: هو إسماعيلُ
(2)
.
حدَّثنا يعقوبُ، قال: ثنا ابنُ عُليةَ، قال: ثنا ليثٌ، عن مجاهدٍ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} . قال: هو إسماعيلُ
(3)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: أخبَرني عمرُ بنُ قيسٍ، عن عطاءِ بنِ أبي رَباحٍ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ عباسٍ، أنه قال: المَفْدِىُّ إسماعيلُ، وزَعَمت اليهود أنه إسحاقُ، وكذبَت اليهودُ
(4)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ سِنانٍ القَزَّازُ، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن مباركٍ، عن علىِّ بنِ زيدٍ، عن يوسُفَ بنِ مِهْرانَ، عن ابنِ عباسٍ: الذي فداه اللهُ هو إسماعيلُ
(5)
.
(1)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 268 عن يعقوب به، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 280، 281 إلى الفريابي وابن أبي شيبة وابن المنذر.
(2)
أخرجه المصنف فى تاريخه 1/ 268، والحاكم 2/ 555 من طريق ابن المثنى به.
(3)
أخرجه المصنف فى تاريخه 1/ 268 عن يعقوب به، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 281 إلى سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 268 عن يونس به، والحاكم 2/ 554، 555 من طريق ابن وهب به.
(5)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 268 عن محمد بن سنان به، وهو في تفسير مجاهد ص 569 من طريق مبارك فضالة بن به، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 281 إلى عبد بن حميد.
حدَّثنا ابنُ سِنانٍ القَزَّازُ، قال: ثنا حجاجٌ، عن
(1)
حمادٍ، عن أبي عاصمٍ الغَنَوىِّ، عن أبي الطُّفَيلِ، عن ابنِ عباس مثلَه
(2)
.
حدَّثني إسحاقُ بنُ شاهينَ، قال: ثنا خالدُ بنُ عبدِ اللهِ، عن داودَ، عن عامرٍ، قال: الذي أراد إبراهيمُ ذبحَه إسماعيلُ
(3)
.
حدَّثني ابنُ
(4)
المثنى، قال: ثنا عبدُ الأعلى، قال: ثنا داودُ، عن عامرٍ، أنه قال في هذه الآية:{وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} . قال: هو إسماعيلُ. قال: وكان قَرْنا الكبشِ مَنُوطَيْن بالكعبةِ
(5)
.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا ابنُ يَمانٍ، عن إسرائيلَ، عن جابرٍ، عن الشعبىِّ، قال: الذبيحُ إسماعيلُ
(6)
.
قال: ثنا ابنُ يَمانٍ، عن إسرائيلَ، عن جابرٍ، عن الشعبيِّ، قال: رأيتُ قرنَيِ الكبشِ فى الكعبةِ
(6)
.
قال: ثنا ابنُ يَمانٍ، عن مباركِ بنِ فَضالةَ، عن علىِّ بنِ زيدِ بنِ جُدْعَانَ، عن يوسفَ بن مِهْرانَ، قال: هو إسماعيلُ
(6)
.
قال: ثنا ابنُ يَمانٍ، قال: ثنا سفيانُ، عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، قال: هو
(1)
في م: "بن".
(2)
أخرجه المصنف فى تاريخه 1/ 268 عن محمد بن سنان به، وعزاه السيوطى في الدر المنثور 5/ 281 إلى عبد بن حميد.
(3)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 269 عن إسحاق بن شاهين به.
(4)
سقط من: م، ت 2، ت 3.
(5)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 269 عن ابن المثنى به.
(6)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 269 عن أبي كريب به.
إسماعيلُ
(1)
.
[حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هشيمٌ، قال: ثنا عوفٌ، عن الحسن: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ}. قال: هو إسماعيلُ]
(2)
.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابنِ إسحاقَ، قال: سَمِعْتُ محمدَ بنَ كعبٍ القُرَظىَّ وهو يقولُ: إن الذى أمَر اللهُ إبراهيمَ بذبحِه من ابنَيه
(3)
إسماعيلُ، وإنا لَنَجِدُ ذلك في كتابِ اللهِ في قصةِ الخبرِ عن إبراهيمَ، وما أُمِر به مِن ذبحِ ابنِه، إسماعيلَ، وذلك أن اللهَ يقولُ حينَ فرَغ مِن قصةِ المذبوحِ مِن ابنىْ
(4)
إبراهيمَ، قال:{وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} . يقول: بشَّرْناه بإسحاقَ، ومِن وراءِ إسحاقَ يعقوبَ، يقولُ: بابنٍ وابنِ ابنٍ. فلم يَكُنْ لِيَأْمُرَه بِذَبْحِ إسحاقَ، وله فيه مِن اللَّهِ الموعودُ ما وعَدَه
(5)
، وما الذى أُمِر بذبحِه إلا إسماعيلُ
(6)
.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابنِ إسحاقَ، عن الحسنِ بنِ دينارٍ وعمرو بنِ عبيدٍ، عن الحسنِ بنِ أبى الحسنِ البصرىِّ، أنه كان لا يَشُكُّ في ذلك، أن الذي أُمِر بذبحِه من ابنى إبراهيمَ إسماعيلُ
(7)
.
حدَّثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمةُ، قال: قال محمدُ بنُ إسحاقَ: سمِعْتُ
(1)
أخرجه المصنف فى تاريخه 1/ 269 عن أبى كريب به، وهو في تفسير الثورى ص 253، ومن طريقه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 153.
(2)
سقط من: ص، ت 1. والأثر أخرجه المصنف فى تاريخه 1/ 269 عن يعقوب به.
(3)
فى م: "بنيه".
(4)
سقط من: ص، م.
(5)
بعده في ص، م، ت:"الله".
(6)
أخرجه المصنف في تاريخه (1/ 269، 270 عن ابن حميد به، وأخرجه الحاكم 2/ 555 من طريق ابن إسحاق به، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 281 إلى عبد بن حميد.
(7)
أخرجه المصنف في تاريخه عن ابن حميد به 1/ 270.
محمدَ بنَ كعبٍ القُرَظىَّ يقولُ ذلك كثيرًا
(1)
.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، قال: ثنى محمدُ بنُ إسحاقَ، عن بُرَيْدَةَ بنِ سفيانَ بنِ فَرْوَةَ الأَسْلَمىِّ، عن محمدِ بنِ كعبٍ القُرَظىِّ، أنه حدَّثهم أنه ذكَر ذلك لعمرَ بنِ عبدِ العزيزِ، وهو خليفةٌ، إذ كان معه بالشامِ، فقال له عمرُ: إن هذا لشَيءٌ ما كنتُ أَنْظُرُ فيه، وإني لأُراه كما قلتَ
(2)
. ثم أرْسَل إلى رجلٍ كان عندَه بالشامِ كان يهوديًّا، فأسْلَم فحسُن إسلامُه، وكان يُرَى أنه مِن علماء يهودَ، فسأَله عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ عن ذلك، فقال محمدُ بنُ كعبٍ: وأنا عندَ عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ، فقال له عمرُ: أَيُّ ابنَى إبراهيمَ أُمِر بذبحِه؟ فقال: إسماعيلُ والله يا أميرَ المؤمنين، وإن يهودَ لَتَعْلَمُ بذلك، ولكنهم يَحْسُدونكم معشرَ العرب، على أن يكونَ أباكم الذي كان مِن أمرِ اللهِ فيه، والفضلِ الذى ذكَره اللهُ منه؛ لصبرِه لما أُمِر به، فهم يَجْحَدون ذلك، ويَزْعُمون أنه إسحاقُ؛ لأن إسحاقَ أبوهم. فاللهُ أعلمُ أيُّهما كان، كلٌّ قد كان طاهرًا طيبًا مطيعًا لربِّه
(3)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمارٍ الرازىُّ، قال: ثنا إسماعيلُ بنُ عبيدٍ بنِ أبي كَريمةَ، قال: ثنا عمرُ بنُ عبدِ الرَّحيمِ الخطابيُّ، عن عبد
(4)
اللهِ بنِ محمدٍ العُتْبىِّ، مِن ولدِ عتبةَ ابنِ أبي سفيانَ، عن أبيه، قال: ثنى عبدُ الله بنُ سعدٍ
(5)
، عن الصُّنابحىِّ، قال: كنا
(1)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 270 عن ابن حميد به.
(2)
فى م: "هو".
(3)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 270 عن ابن حميد به، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 281 إلى ابن إسحاق.
(4)
فى ص، م، ت 1، ت 3، وتفسير ابن كثير:"عبيد". وينظر جمهرة أنساب العرب ص 111.
(5)
في النسخ والتاريخ والمستدرك: "سعيد"، والصواب ما أثبتناه. ينظر التاريخ الكبير 5/ 106، وتهذيب الكمال 15/ 20.
عندَ معاويةَ بن أبي سفيانَ، فذكَروا الذبيحَ؛ إسماعيلُ أو
(1)
إسحاقُ؟ فقال: على الخبيرِ سقَطْتُم؛ كنا عندَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فجاءه رجلٌ، فقال: يا رسولَ اللَّهِ، عُدْ علىَّ مما أفاء اللهُ عليك يا بنَ الذَّبِيحَيْن. فضحِك رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقيل
(2)
له: يا أميرَ المؤمنين، وما الذَّبيحان؟ فقال: إن عبدَ المطلبِ لما أُمِر بحفرِ زمزمَ، نذَر للَّهِ لئن سَهَّل اللهُ له أمرَها، ليَذْبَحَنَّ أحدَ ولدِه. قال: فخرَج السهمُ على عبدِ اللَّهِ، فمنعَه أخوالُه، وقالوا: افْدِ ابنَك بمائةٍ مِن الإبلِ. ففَداه بمائةٍ من الإبلِ، وإسماعيلُ الثاني
(3)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا عثمانُ بنُ عمرَ، قال: ثنا ابنُ جريجٍ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} . قال: الذي فُدِى به إسماعيلُ
(4)
.
ويعنى تعالى ذكرُه بالذِّبح الكبشَ الذى فُدِى به إسحاقُ، والعربُ تقولُ لكلِّ ما أُعِدَّ للذَّبْحِ: ذِبْحٌ. وأما الذَّبْحُ بفتحِ الذالِ، فهو الفعلُ.
قال أبو جعفرٍ: وأولى القولين فى ذلك بالصواب في المَفْدِىِّ مِن ابنى إبراهيمَ خليلِ الرحمنِ، على ظاهرِ التنزيل قولُ مَن قال: هو إسحاقُ؛ لأن اللهَ تعالى ذكرُه قال: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} . فذكَر أنه فدَى الغلامَ الحليمَ الذي بُشِّر به إبراهيمُ، حينَ سأله أن يَهَبَ له ولدًا صالحًا مِن الصالحين، فقال:{رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} . فإذ كان المَفْدِىُّ بالذبحِ مِن ابنيه هو المُبَشِّرَ به، وكان اللهُ تعالى ذكره قد بيَّن في كتابِه أن الذى بُشِّر به هو إسحاقُ، ومِن وراءِ إسحاقَ يعقوبُ، فقال
(1)
في ص، ت 2، ت 3:"و".
(2)
في م: "فقلنا".
(3)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 263 عن محمد بن عمار الرازى به، وأخرجه الحاكم 2/ 554 من طريق إسماعيل به، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 281 إلى الأموى فى مغازيه والخلعى فى فوائده وابن مردويه.
(4)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 269 من طريق ابن أبي نجيح به.
جلَّ ثناؤُه: {فَبَشَّرْنَاهَا
(1)
بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود: 71]. وكان في كلِّ موضعٍ مِن القرآنِ ذكَر تبشيرَه إياه بولدٍ، فإنما هو معنىٌّ به إسحاقُ - كان بيِّنًا أن تبشيرَه إياه بقولِه:{فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} . فى هذا الموضعِ، نحو سائرِ أخبارِه في غيرِه مِن آياتِ القرآنِ.
وبعدُ، فإن اللَّهَ أَخْبَر جلَّ ثناؤُه في هذه الآيةِ عن خليلِه أنه بشَّره بالغلامِ الحليمِ، عن مسألتِه إياه أن يَهَبَ له ولدًا
(2)
مِن الصالحين، ومعلومٌ أنه لم يَسْأَلْه ذلك إلا في حالٍ لم يَكُنْ له فيه ولدٌ مِن الصالحين؛ لأنه لم يَكُنْ له
(3)
مِن ابنَيه إلا إمامُ الصالحين، وغيرُ موهومٍ منه أن يكونَ سأَل ربَّه في هبةِ ما قد كان أعْطاه ووهَبه له، فإذ كان ذلك كذلك، فمعلومٌ أن الذى ذكَر تعالى ذكرُه فى هذا الموضع هو الذي ذكَر في سائرِ القرآنِ أنه بشَّره به، وذلك لا شكَّ أنه إسحاقُ، إذ
(4)
كان المفدىُّ هو المبشَّرَ به.
وأما الذى اعْتَلَّ به من اعْتَلَّ فى أنه إسماعيلُ، أن اللهَ قد كان وعَد إبراهيمَ أن يكونَ له مِن إسحاقَ ابنُ ابنٍ، فلم يَكُنْ جائزًا أن يَأْمُرَه بذبحِه، مع الوعدِ الذي قد تقَدَّم، فإن اللهَ تعالى ذكرُه إنما أمَره بذبحِه بعدَ أن بلَغ معه السعيَ، وتلك حالٌ غير منكرٍ
(5)
أن يكونَ قد كان وُلِد لإسحاقَ فيها أولادٌ، فكيف
(6)
الواحدُ؟ وأما اعتلالُ مَن اعْتَلَّ بأن الله أتْبَع قصةَ المَفْدِىِّ مِن ولدِ إبراهيمَ بقولِه:
(1)
في النسخ: "وبشرناه". والمثبت نص الآية.
(2)
سقط من: ص، م، ت 1.
(3)
سقط من: ت 2، ت 3.
(4)
فى ص: "وإذا فإنه"، وفى ت 1:"وإذا"، وفى ت 2، ت 3:"وإذا كافه".
(5)
في م، ت 2، ت 3:"ممكن".
(6)
في ت 2، ت 3:"فيكون".
{وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا} . ولو كان المفدىُّ هو إسحاقَ لم [يُبَشِّرْ به]
(1)
بعدُ، وقد وُلِد، وبلَغ معه السعىَ، فإن البشارةَ
(2)
بنبوةِ
(3)
إسحاقَ مِن اللهِ فيما جاءت به الأخبارُ، جاءت إبراهيمَ وإسحاقَ بعدَ أن فُدِى؛ تَكْرِمةٌ مِن اللهِ له على صبرِه لأمرِ ربِّه، فيما امْتَحَنَه به مِن الذبحِ، وقد تقَدَّمت الروايةُ قبلُ عمن قال ذلك.
وأما اعتلالُ مَن اعْتَلَّ بأنَّ قرْنَ الكبشِ كان مُعَلَّقًا في الكعبةِ، فغيرُ مستحيلٍ أن يكونَ حُمِل مِن الشامِ إلى مكةَ. وقد رُوى عن جماعةٍ مِن أهلِ العلمِ، أن إبراهيمَ إنما أُمِر بذبحِ ابنِه إسحاقَ بالشامِ، وبها أراد ذبحَه
(4)
.
واختَلَف أهلُ العلمِ فى الذِّبْحِ الذى فُدِى به إسحاقُ؛ فقال بعضُهم: كان كبشًا.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا ابنُ يَمانٍ، عن سفيانَ، عن جابرٍ، عن أبي الطُّفيلِ، عن علىٍّ:{وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} . قال: كبشٍ أبيضَ أقرنَ أعْينَ،
(1)
فى ص، ت 1:"يبشره".
(2)
سقط من: ص، ت 1.
(3)
في ت 1: "نبوة".
(4)
قال ابن كثير ردًّا على ما قاله ابن جرير من كون المفدى بالذبح إسحاق: ليس ما ذهب إليه بمذهب ولا لازم، بل هو بعيد جدًّا، والذي استدل به محمد بن كعب القرظى على أنه إسماعيل أثبت وأصح وأقوى. وقال ابن قيم الجوزية: وإسماعيل هو الذبيح على القول الصواب عند علماء الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وأما القول بأنه إسحاق فباطل بأكثر من عشرين وجهًا، وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: هذا القول إنما هو متلقى عن أهل الكتاب، مع أنه باطل بنص كتابهم، فإن فيه: إن الله أمر إبراهيم أن يذبح ابنه بكره، وفي لفظ: وحيده، ولا يشك أهل الكتاب مع المسلمين أن إسماعيل هو بكر أولاده، والذي غر أصحاب هذا القول أن فى التوراة التى بأيديهم: اذبح ابنك إسحاق، قال: وهذه الزيادة من تحريفهم وكذبهم. ينظر تفسير ابن كثير، 7/ 30، وزاد المعاد 1/ 71 وما بعدها.
مربوطٍ بسَمُرٍ
(1)
في ثَبِيرٍ
(2)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: أخبَرني ابنُ جريجٍ، عن عطاءِ بنِ أبي ربَاحٍ، عن ابنِ عباسٍ:{وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} . قال: كبشٍ. قال عبيدُ بنُ عميرٍ: ذُبح بالمَقامِ. وقال مجاهدٌ: ذُبِح بمنًى فى المَنْحَرِ
(3)
.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن ابنِ خُثَيَّمٍ، عن سعيدٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: الكبشُ الذى ذبَحه إبراهيمُ هو الكبشُ الذى قرَّبه ابنُ آدم، فتُقُبِّل منه
(4)
.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هُشيمٌ، قال: أخبَرنا سَيَّارٌ، عن عكرمةَ، أن ابنَ عباسٍ كان أفْتَى الذي جعَل عليه أن يَنْحَرَ نفسَه، فأَمَرَه بمائةٍ مِن الإبلِ، قال: فقال ابنُ عباسٍ بعدَ ذلك: لو كنتُ أفْتَيْتُه بكبشٍ لَأَجْزَاهِ أَن يَذْبَحَ كبشًا، فإِن اللَّهَ قال في كتابِه:{وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ}
(5)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} . قال: ذِبْحٍ: كبشٍ.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ
(1)
في م: (بسمرة).
(2)
ثبير: أحد جبال مكة. والأثر أخرجه المصنف فى تاريخه 1/ 276 عن أبي كريب به، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 284 إلى ابن أبي حاتم وابن مردويه.
(3)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 277 عن يونس به.
(4)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 277 عن محمد بن بشار به، وأخرجه ابن أبي حاتم - كما في تفسير ابن كثير 7/ 26 - من طريق ابن خثيم به، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 284 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(5)
أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (15910)، والطبراني (11443) من طريق آخر عن ابن عباس، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 284 إلى ابن المنذر وابن مردويه.
عَظِيمٍ}. قال: قال ابنُ عباسٍ: الْتَفَتَ فإذا كبشٌ، فأَخَذه فذبَحه
(1)
.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا يعقوبُ، عن جعفرٍ، عن سعيدِ بنِ جبيرٍ:{وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} . قال: كان الكبشُ الذى ذبَحه إبراهيمُ رعَى في الجنةِ أربعين سنةً، وكان كبشًا أملحَ، صوفُه مثلُ العِهْنِ الأحمرِ
(2)
.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا وكيعٌ عن سفيانَ، عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} . قال: بكبشٍ.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابنُ عُليةَ، قال: أخبَرنا ليثٌ، قال: قال مجاهدٌ: الذِّبحُ العظيمُ شاةٌ
(3)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ جميعًا، عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{بِذِبْحٍ} . قال: بكبشٍ.
حدَّثنا الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا شَريكٌ، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ:{وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} . قال: الذِّبْحُ الكبشُ.
حدَّثنا موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السدىِّ، قال: الْتَفَت - يعنى إبراهيم - فإذا بكبشٍ، فأَخَذَه وخلَّى عن ابنِه
(4)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ
(5)
: الذِّبحُ العظيمُ:
(1)
تفسير عبد الرزاق 2/ 153.
(2)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 277 عن ابن حميد به.
(3)
ينظر تفسير ابن كثير 7/ 26.
(4)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 272، 273 عن موسي به مطولًا.
(5)
بعده في ص، ت 1:"فى".
الكبشُ الذى فدَى اللهُ به إسحاقَ.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابنِ إسحاقَ، عن الحسنِ بنِ دينارٍ، عن قتادةَ بنِ دِعامةَ، عن جعفرِ بنِ إياسٍ، عن عبدِ اللهِ بنِ العباسِ في قولِه:{وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} . قال: خرَج عليه كبشٌ [من الجنةِ]
(1)
، قد رَعاها قبلَ ذلك أربعين خريفًا، فأرْسَل إبراهيمُ ابنَه، فاتَّبَع الكبشَ، فأَخْرَجه إلى الجمرةِ الأولى، فرماه
(2)
بسبعِ حَصَياتٍ، فأفْلَته عندَه، فجاء الجمرةَ الوسطى، فأخْرَجه عندَها، فرماه بسبعِ حَصَياتٍ، ثم أفْلَته، فأدْرَكه عندَ الجمرةِ الكبرى، فرماه بسبعِ حَصَياتٍ، فأَخْرَجه عندَها، ثم أخَذه فأتَى به المَنْحَرَ مِن منًى فذبَحه، فوالذي نفسُ ابنِ عباسٍ بيدِه، لقد كان أولَ الإسلامِ، وإن رأسَ الكبشِ لَمُعَلَّقٌ بقرْنَيْه فى مِيزابِ الكعبةِ قد وَخُشَ
(3)
. يعني: يَبِس
(4)
.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، قال: قال ابنُ إسحاقَ: ويَزْعُمُ أَهلُ الكتابِ الأوَّل وكثيرٌ من العلماءِ، أن ذبيحةَ إبراهيمَ التي فدَى بها ابنَه كبشٌ أملحُ أقرنُ أعينُ.
حدَّثنا عمرُو بنُ عبدِ الحميدِ، قال: ثنا مَرْوانُ بنُ معاويةَ، عن جويبرٍ، عن الضحاكِ فى قولِه:{وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} . قال: بكبشٍ.
وقال آخرون: كان ذلك الذِّبْحُ وَعِلًا.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا معاويةُ بنُ هشامٍ، عن سفيانَ، عن رجلٍ، عن أبى
(1)
سقط من: ص، ت 1.
(2)
في ص، م، ت 1:"فرمي".
(3)
في م: "حشَّ"، وكلاهما بمعنًى.
(4)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 275 عن ابن حميد به.
صالحٍ، عن ابنِ عباسٍ:{وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} . قال: كان وَعِلًا
(1)
.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ، عن عمرِو بن عبيدٍ، عن الحسنِ، أنه كان يقولُ: ما فُدِى إسماعيل إلا بتَيْسِ مِن الأَرْوَى، أُهْبِط عليه مِن ثَبيرٍ
(2)
.
واخْتَلَف أهلُ التأويلِ فى السببِ الذى مِن أجلِه قيلَ للذَّبْحِ الذى فُدِى به إسحاقُ: عظيمٌ، فقال بعضُهم: قيل ذلك كذلك لأنه كان رعَى في الجنةِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا ابنُ يَمانٍ، عن سفيانَ، عن عبدِ اللهِ بنِ عيسى، عن سعيدِ بنِ جبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ:{وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} . قال: رعَى في الجنةِ أربعين خريفًا
(3)
.
وقال آخرون: قيل له: عظيمٌ؛ لأنه كان ذِبْحًا مُتَقَبَّلًا.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا وكيعٌ، عن سفيانَ، عن ابنِ [أبي نجيحٍ]
(4)
، عن مجاهدٍ:{عَظِيمٍ} . قال: مُتَقَبَّلٍ
(5)
.
(1)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 277 عن أبي كريب به.
(2)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 277 عن ابن حميد به.
(3)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 284 إلى المصنف وابن أبى شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4)
فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"جريج".
(5)
تفسير سفيان ص 253، ومن طريقه عبد الرزاق فى تفسيره 2/ 153، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 284 إلى عبد بن حميد.
حدَّثنا الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا شَريكٌ، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ فى:{وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} . قال: العظيمُ المتقبَّلُ.
[ثنا ابنُ سنانٍ، قال: ثنا عثمانُ بنُ عمرَ، قال: أخبَرنا ابنُ جريجٍ، عن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ}. قال: سليمٍ مُتقبَّلٍ]
(1)
.
وقال آخرون: قيل له: عظيمٌ؛ لأنه ذبحٌ ذُبح بالحقِّ، وذلك ذَبْحُه بدينِ إبراهيمَ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ، عن عمرِو بن عبيدٍ، عن الحسنِ أنه كان يقولُ: ما يقولُ اللهُ: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} لذبيحتِه التي ذبَح فقط، ولكنه الذَّبحُ على دينِه، فتلك السُّنَّةُ إلى يومِ القيامةِ، فاعْلَموا أن الذبيحةَ تَدْفَعُ مِيتةَ السَّوْءِ، فضحُّوا عبادَ اللهِ
(2)
.
قال أبو جعفرٍ: ولا قولَ فى ذلك أصحُّ مما قال اللهُ جلَّ ثناؤُه، وهو أن يقالَ: فداه اللهُ بذِبْحٍ عظيم. وذلك أن اللهَ عَمَّ وصفَه إياه بالعِظَمِ دونَ تخصيصِه، فهو كما عمَّه به.
وقولُه: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ} . يقوُل تعالى ذكرُه: وأَبْقَيْنا عليه فيمَن بعدَه إلى يومِ القيامةِ ثناءً حسنًا.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي
(1)
سقط من: ص، م، ت 1.
(2)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 277 عن ابن حميد به.
الْآخِرِينَ}. قال: أبْقَى اللهُ عليه الثناءَ الحسنَ في الآخِرِين
(1)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زِيدٍ فى قولِه: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ} . قال: سأَل إبراهيمُ، فقال: واجْعَلْ لى لسانَ صدقٍ في الآخِرِين. قال: فترَك اللهُ عليه الثناءَ الحسنَ في الآخرين، كما ترَك الثناءَ
(2)
السَّوْءَ على فرعونَ وأشباهِه، كذلك ترَك اللسان الصِّدقَ والثناءَ الصالحَ على هؤلاء.
وقيل: معنى ذلك: وترَكنا عليه في الآخرين السلامَ، وهو قولُه:{سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} .
وذلك قولٌ يُرْوَى عن ابنِ عباسٍ، ترَكْنا ذكرَه؛ لأن في إسنادِه مَن لا نستجيزُ ذكرَه، وقد ذكَرْنا الأخبارَ المرويةَ فى قولِه:{وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ} . فيما مضَى قبلُ
(3)
.
وقيل: معنى ذلك: وترَكْنا عليه فى الآخرين أن يقالَ: سلامٌ على إبراهيمَ.
وقولُه: {سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: أَمَنَةٌ مِنَ اللهِ فِي الأَرضِ لإبراهيمَ، أن
(4)
يُذْكَرَ مِن بعدِه إلا بالجميلِ مِن الذكرِ.
وقولُه: {كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} . يقولُ: كما جزَيْنا إبراهيم على طاعتِه إيانا، وإحسانِه فى الانتهاءِ إلى أمرِنا، كذلك نَجْزِي المحسنين.
{إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} . يقولُ: إن إبراهيمَ من عبادِنا المُخْلِصِين لنا الإيمانَ.
(1)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 285 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
في م: "اللسان".
(3)
ينظر ما تقدم في ص 561، 562.
(4)
في م: "أن لا".
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وبشَّرْنا إبراهيمَ بإسحاقَ نبيًّا؛ شكرًا له على إحسانِه وطاعتِه.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} . قال: بُشِّر به بعد ذلك نبيًّا، بعد ما كان هذا مِن أمرِه، لما جاد اللهِ بنفسِه
(1)
.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابنُ عُليةَ، عن داودَ، عن عكرمةَ، قال: قال ابنُ عباسٍ: الذَّبيحُ إسحاقُ. قال: وقولُه: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} . قال: بُشِّر بنبوَّتِه. قال: وقولُه: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا} [مريم: 53]. قال: كان هارونُ أكبرَ مِن موسى، ولكن أراد: وهَب اللهُ له نبوَّتَه
(2)
.
حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا معتمرُ بنُ سليمانَ، قال: سمِعْتُ داودَ يُحَدِّثُ، عن عكرمةَ، عن ابنِ عباسٍ فى هذه الآيةِ:{وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} قال: إنما بُشِّر به نبيًّا حين فداه اللهُ مِن الذَّبحِ، ولم تَكُنِ البشارةُ بالنبوةِ عندَ مولدِه
(3)
.
حدَّثني الحسينُ بنُ يزيدَ الطَّحَّانُ، قال: ثنا ابنُ إدريسَ، عن داودَ، عن عكرمةَ،
(1)
أخرجه عبد الرزاق فى تفسيره 2/ 154 عن معمر به، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 285 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 30 عن المصنف.
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 30 عن المصنف، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 285 إلى المصنف.
عن ابنِ عباسٍ في قولِ اللهِ: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا} . قال: إنما بُشِّر بالنبوَّةِ
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} . قال: بُشِّر إبراهيمُ بإسحاقَ.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ قولَه:{وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} . قال: بُشِّر بنبوَّتِه.
حدَّثني أبو السائبِ، قال: ثنا ابنُ فُضيلٍ، عن ضِرارٍ، عن شيخٍ مِن أهلِ المسجدِ، قال: بُشِّر إبراهيمُ لسبعَ عشْرةَ ومائةِ سنةٍ.
وقولُه: {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: وبارَكْنا على إبراهيمَ وعلى إسحاقَ، {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ} . يعنى بالمحسنِ المؤمنَ المطيعَ للهِ، المحسنَ في طاعتِه إياه، {وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} ، ويعنى بالظالمِ لنفسِه الكافرَ باللهِ، الجالبَ على نفسِه بكفره عذابَ اللهِ، وأليمَ عقابِه، {مُبِينٌ} يعنى: الذي قد أبان ظلمه نفسَه بكفرِه باللهِ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدٌ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المفضَّلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ فى قولِه:{مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} . قال: المحسنُ
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره -كما في تفسير ابن كثير 7/ 30 - وأخرجه الحاكم في مستدركه 2/ 557 من طريق داود به، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 285 إلى عبد بن حميد وابن أبي شيبة وابن المنذر.
المطيعُ للهِ، والظالمُ لنفسِه العاصى للهِ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (116)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: ولقد تفَضَّلْنا على موسى وهارونَ ابنى عمرانَ، فجعَلْناهما نَبِيِّيْن،
ونجَّيْناهما وقومَهما مِن الغَمِّ، والمكروهِ العظيمِ الذي كانوا فيه، من عُبودةِ آلِ فرعونَ، ومما أَهْلَكْنا به فرعونَ وقومَه من الغرقِ.
وبنحوِ الذى قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المفضَّلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ فى قولِه:{وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} . قال: من الغرقِ.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} ، أي: من آلِ فرعونَ
(1)
.
وقولُه: {وَنَصَرْنَاهُمْ} . يقولُ: ونصَرْنا موسى وهارونَ وقومَهما، على فرعونَ وآلِه بتغريقِناهم، {فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ} ، لهم.
وقال بعضُ أهلُ العربيةِ: إنما أُرِيد بالهاءِ والميمِ في قولِه: {وَنَصَرْنَاهُمْ} : موسى وهارونُ، ولكنها أُخْرِجَت على مخرجِ مُكَنَّى الجمعِ؛ لأن العربَ تَذْهَبُ بالرئيسِ؛ كالنبيِّ والأميرِ وشبهِه، إلى الجمعِ بجنودِه وأتباعِه، وإلى التوحيدِ؛ لأنه
(1)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 285 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
واحدٌ في الأصلِ، ومثلُه:{عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ} [يونس: 83]. وفي موضعٍ آخرَ {وَمَلَئِهِ} [الأعراف: 103]. قال: وربما ذهَبَتِ العربُ بالاثنين إلى الجمعِ، كما تَذْهَبُ بالواحدِ إلى الجمعِ، فتُخاطِبُ الرجلَ، فتقولُ: ما أَحَسَنتُم ولا أَجْمَلْتُم. وإنما تُرِيدُه بعينِه.
وهذا القولُ الذى قاله هذا الذى حكَيْنا قولِه في قولِه: {وَنَصَرْنَاهُمْ} . وإن كان قولًا غيرَ مدفوعٍ، فإنه لا حاجةَ بنا إلى الاحتيالِ به لقولِه:{وَنَصَرْنَاهُمْ} . لأن اللهَ أتْبَع ذلك قولَه: {وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} . ثم قال: {وَنَصَرْنَاهُمْ} . يعنيهما
(1)
، وقومَهما؛ لأن فرعونَ وقومَه، كانوا أعداءً الجميعِ بني إسرائيلَ، قد اسْتَضْعَفوهم؛ يُذَبِّحون أبناءَهم، ويَسْتَحْيون نساءَهم، فنصَرهم اللهُ عليهم، بأن غرَّقهم، ونجَّى الآخرين.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ (119) سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وآتَيْنا موسى وهارونَ الكتابَ. يعنى: التوراةَ.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ} : التوراةَ
(2)
.
ويعنى بـ {الْمُسْتَبِينَ} : المُتَبَيَّنَ هُدَى ما فيه وتفصيلُه وأحكامُه.
(1)
في م: "يعني هما".
(2)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 285 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
وقولُه: {وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: وهدَيْنا موسى وهارونَ الطريقَ المستقيمَ، الذى لا اعْوِجاجَ فيه؛ وهو الإسلامُ، دينُ اللهِ الذى ابْتَعَث به أنبياءَه.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} : الإسلامَ
(1)
.
وقولُه: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ} . يقولُ: وترَكْنا عليهما في الآخِرين بعدَهم الثناءَ الحسنَ عليهما.
وقولُه: {سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ} . يقولُ: وذلك أن يقالَ: سلامٌ على موسى وهارونَ.
وقولُه: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} . يقولُ: هكذا تَجْزِى أهلَ طاعتِنا، والعاملين بما يُرْضِينا عنهم،
{إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} . يقولُ: إن موسى وهارونَ عبدانِ من عبادِنا المخلِصِين لنا الإيمانَ.
(1)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 285 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
يقولُ تعالى ذكرُه: {وَإِنَّ إِلْيَاسَ} . وهو إلياسُ بنُ تسبى
(1)
بنِ فِنْحاصَ بنِ العَيْزارِ بنِ هارونَ بن عِمْرانَ، فيما حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابنِ إسحاقَ
(2)
.
وقيل: إنه إدريسُ، حدَّثنا بذلك بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، قال: كان يُقالُ: إلياسُ هو إدريسُ
(3)
. وقد ذكرنا ذلك فيما مضَى قبلُ
(4)
.
وقولُه: {لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} . يقول جلَّ ثناؤُه: لمُرْسَلٌ مِن المرسَلِين.
{إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ} ؟ يقولُ: حينَ قال لقومِه مِن بني إسرائيلَ: أَلا تَتَّقون اللهَ أَيُّها القومُ، فتخافُونه، وتَحْذَرون عقوبتَه على عبادتِكم ربًّا غيرَ اللهِ، وإلهًا سِواه،
{وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ} . يقولُ: وتَدَعُون عبادةً أحسنِ مَن قيل له: خالقٌ.
وقد اخْتُلِف في معنى "بَعْلٍ"، فقال بعضُهم: معناه: أتَدْعُون ربًّا؟ وقالوا: هى لغةٌ لأهلِ اليمنِ، معروفةٌ فيهم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابنُ المثنى، قال: ثنا حَرَميُّ بنُ عُمارةَ، قال: ثنا شعبةُ، قال: أخبَرني عُمارةُ، عن عكرمةَ فى قولِه:{أَتَدْعُونَ بَعْلًا} ؟ قال: إلهًا.
حدَّثنا عمرانُ بنُ موسى، قال: ثنا عبدُ الوارثِ، قال: ثنا عُمارةُ، عن عكرمةَ
(1)
فى م، ت:1 "ياسين". والمثبت كما تقدم في 9/ 383.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 31، وأبو حيان في البحر المحيط 7/ 372.
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 31، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 285 إلى المصنف وعبد بن حميد.
(4)
تقدم في 9/ 383.
في قولِه: {أَتَدْعُونَ بَعْلًا} ؟ يقولُ: أَتَدْعُون ربًّا؟ وهى لغةُ اليمنِ، تقولُ: مَن بَعْلُ هذا الثَّوْرِ؟ أَى: مَن ربُّه
(1)
؟
حدَّثني زكريا بنُ يحيى بنِ أبي زائدةَ، ومحمدُ بنُ عمرٍو، قالا: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{أَتَدْعُونَ بَعْلًا} ؟ قال: ربًّا
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{أَتَدْعُونَ بَعْلًا} ؟ قال: هذه لغةٌ باليَمانيةِ، أتَدْعون ربًّا دونَ اللهِ؟
(3)
.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ قولَه:{أَتَدْعُونَ بَعْلًا} ؟ قال: ربًّا
(4)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن عبدِ اللهِ بنِ أبي يزيدَ، قال: كنتُ عندَ ابنِ عباسٍ، فسأَلوه عن هذه الآيةِ:{أَتَدْعُونَ بَعْلًا} ؟ قال: فسكَت ابنُ عباسٍ، فقال رجلٌ: أنا بعلُها
(5)
. فقال ابنُ عباسٍ: كفانى هذا الجوابَ
(6)
.
وقال آخرون: هو صنمٌ كان لهم يقالُ له: بَعْلٌ. وبه سُمِّيَت بَعْلَبَكُّ.
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 32، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 286 إلى ابن المنذر.
(2)
تفسير مجاهد ص 570، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 286 إلى عبد بن حميد.
(3)
أخرج جه عبد الرزاق فى تفسيره 2/ 154 عن معمر به، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 286 إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم.
(4)
ذكره القرطبي في تفسيره 15/ 117، وابن كثير في تفسيره 7/ 32.
(5)
كذا في النسخ، فلعل هناك سقطا، أو لعل فى الكلام محذوفا، فيكون هذا جوابًا لمن نشد ضالة.
(6)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 286 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر.
ذكرُ مَن قال ذلك
حُدِّثْتُ عن الحسينِ، قال: سمِعْتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبَرنا عبيدٌ، قال: سمِعْتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {أَتَدْعُونَ بَعْلًا} ؟ يعنى: صنمًا كان لهم يُسَمَّى بَعْلًا
(1)
.
حدَّثني يونُسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ} ؟ قال: بعلٌ صنمٌ لهم كانوا يَعْبُدون، كانوا ببَعْلَبكَّ -وهى وراءَ دمشقَ- وكان بها البعلُ الذى كانوا يَعْبُدون
(2)
.
وقال آخرون: كان بَعْلٌ امرأةٌ كانوا يَعْبُدونها.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ، قال: سمِعْتُ بعضَ أهلِ العلمِ يقولُ: ما كان بَعْلٌ إلا امرأةٌ يَعْبُدونها مِن دونِ اللهِ
(3)
.
وللبعلِ في كلامِ العربِ أوجهٌ؛ يقولون لربِّ الشيءِ: هو بَعْلُه. يُقالُ: هذا بَعْلُ هذه الدابَّةِ
(4)
. يَعنِى به ربَّها، ويقولون لزوجٍ المرأةِ: بعلُها. ويقولون لما كان مِن الغُروسِ والزُّروعِ مُسْتَغْنِيًا بماءِ السماءِ، ولم يَكُنْ سِقْيًا: هو بعلٌ، وهو العَذْىُ.
وذُكِر أن اللهَ بعث إلى بني إسرائيلَ إلياسَ بعدَ مَهْلِكِ حِزْقِيلَ بنِ بوزى
(5)
، وكان من قصتِه وقصةِ قومِه فيما بلَغَنا ما حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 32، وأبو حيان في البحر المحيط 7/ 373.
(2)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 286 إلى ابن أبي حاتم، ولكن عن زيد بن أسلم.
(3)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 461 عن ابن حميد به.
(4)
فى م: "الدار".
(5)
فى م، ت 2، ت 3:"يوزا"، وفى التاريخ 1/ 460، والبداية 2/ 280:"بوذي".
محمدِ بنِ إسحاقَ، عن وهبِ بن مُنَبِّهٍ، قال: إن اللهَ قبَض حِزْقِيلَ، وعظُمَت في بني إسرائيلَ الأحْداثُ، ونَسُوا ما كان مِن عهدِ اللهِ إليهم، حتى نصَبوا الأوثانَ، وعبَدوها دونَ اللهِ، فبعث اللهُ إليهم إلياسَ بنَ تسبى
(1)
بنِ فِنْحاصَ بنِ العَيْزارِ بنِ هارونَ بنِ عِمْرانَ نبيًّا. وإنما كانتِ الأنبياءُ من بنى إسرائيلَ بعدَ موسى يُبْعَثون إليهم بتجديدِ ما نَسُوا من التوراةِ، فكان إلياسُ مع مَلِكٍ مِن ملوكِ بني إسرائيلَ، يقالُ له: أحابُ. كان اسمُ امرأتِه أربلَ، وكان يَسْمَعُ منه ويُصَدِّقُه، وكان إلياس يُقِيمُ له أمرَه، وكان سائرُ بني إسرائيلَ قد اتَّخَذوا صنمًا يَعْبُدونه مِن دونِ اللهِ، يقالُ له: بَعْلٌ
(2)
. قال ابنُ إسحاق: وقد سمِعْتُ بعض أهلُ العلم يقولُ: ما كان بعلٌ إلا امرأةً يَعْبُدونها مِن دونِ اللهِ، يقولُ الله لمحمدٍ:{وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ} إلى قولِه: {وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} . فجعَل إلياسُ يَدْعوهم إلى اللهِ، وجعَلوا لا يَسْمَعون منه شيئًا إلا ما كان مِن ذلك الملك، والملوكُ متفرقةٌ بالشام، كلُّ ملِكٍ له ناحيةٌ منها يَأْكُلُها، فقال ذلك الملكُ الذي كان إلياسُ معه يُقَوِّمُ له أمرَه، ويَراه على هُدًى مِن بين أصحابِه يومًا: يا إلياسُ، واللهِ ما أرَى ما تَدْعُو إليه إلا باطلًا، واللهِ ما أَرَى فلانًا وفلانًا - يُعَدِّدُ مُلوكًا مِن ملوكِ بني إسرائيلَ قد عبَدوا الأوثانَ مِن دونِ اللهِ - إلا على مثل ما نحن عليه، يَأْكُلون ويَشْرَبون ويَنْعَمون مُمَلَّكِين، ما يَنْقُصُ دنياهم أمرُهم الذى تَزْعُمُ أنه باطلٌ، وما نَرَى لنا عليهم مِن فضلٍ. فيَزْعُمون، واللهُ أَعْلَمُ، أن إلياسَ اسْتَرْجَع، وقام شعرُ رأسِه وجلده، ثم رفَضه وخرَج عنه، ففعل ذلك الملكُ فِعْلَ أصحابِه، عبَد الأوثانَ، وصنَع ما يَصْنَعون، فقال إلياسُ: اللهم إنَّ بني إسرائيلَ قد أبَوْا إلا الكفرَ
(3)
بك والعبادةَ لغيرِك،
(1)
في م: "ياسين".
(2)
أخرجه المصنف فى التاريخ 1/ 461 عن ابن حميد به.
(3)
في م: "أن يكفروا".
فغَيِّرْ ما بهم مِن نعمتِك. أو كما قال
(1)
.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، قال: ثنا محمدُ بن إسحاقَ، قال: فذُكِر لى أنه أُوحِى إليه: إنا قد جعَلْنا أمرَ أرزاقِهم بيدِك وإليك، حتى تكونَ أنت الذي تَأْذَنُ لهم في ذلك. فقال إلياسُ: اللهم فأَمْسِكْ عنهم
(2)
المطرَ. فحُبِس عنهم ثلاثَ سنينَ، حتى هلَكَت الماشيةُ والدوابُّ والهَوامُّ والشجرُ، وجَهد الناسُ جَهْدًا شديدًا. وكان إلياسُ فيما يَذْكُرون حينَ دعا بذلك على بني إسرائيلَ قد اسْتَخْفَى؛ شَفَقًا على نفسِه منهم، وكان حيثما كان وُضِع له رِزقٌ، وكانوا إذا وجَدوا ريحَ الخبزِ في دارٍ أو بيتٍ، قالوا: لقد دخَل إلياسُ هذا المكانَ. فطلَبوه، ولقِى منهم أهلُ ذلك المنزلِ شرًّا. ثم إنه أوَى
(3)
ليلةً إلى امرأةٍ مِن بنى إسرائيلَ لها ابنٌ يقالُ له: الْيَسَعُ بنُ أخطوبَ. به ضُرٌّ، فَآوَته وأخْفَت أمرَه، فدعا إلياسُ لابنِها، فعُوفِى من الضُّرِّ الذى كان به، واتَّبَعَ الْيَسَعُ إلياسَ، فآمَن به وصدَّقه ولزِمه، فكان يذهبُ معه حيثما ذهَب، وكان إلياسُ قد أسَنَّ وكبرِ، وكان الْيَسَعُ غلامًا شابًّا، فيَزْعُمون، واللهُ أعلمُ، أن اللهَ أوْحَى إلى إلياسَ: إنك قد أهْلَكْتَ كثيرًا مِن الخلقِ ممن لم يَعْصِ، سوى بنى إسرائيلَ [ممن لم أكُنْ أريدُ هلاكَه بخطايا بني إسرائيلَ]
(4)
من البهائمِ والدوابِّ والطيرِ والهوامِّ والشجرِ، بحبسِ المطرِ عن بني إسرائيلَ، فيَزْعُمون، واللهُ أعلمُ، أن إلياسَ قال: أى ربِّ، دَعْنى أكُنْ
(5)
أنا الذى أدْعُو لهم به، وأكونُ أنا الذى آتِيهم بالفرجِ مما هم فيه من البلاءِ الذي أصابهم، لعلهم أن يَرْجِعوا ويَنْزِعوا عما هم عليه مِن عبادةِ غيرِك. قيل له: نعم. فجاء إلياسُ إلى بنى إسرائيلَ، فقال لهم: إنكم قد هلَكْتُم جَهْدًا، وهلَكتِ البهائمُ والدوابُّ والطيرُ والهوامُّ
(1)
أخرجه المصنف فى التاريخ 1/ 461 عن ابن حميد به.
(2)
فى م: "عليهم".
(3)
في ص، ت 1:"أتى".
(4)
سقط من: م.
(5)
سقط من: م.
والشجرُ بخطاياكم، وإنكم على باطلٍ وغرورٍ -أو كما قال لهم- فإن كنتم تُحِبُّون أن تَعْلَموا ذلك، وتَعْلَموا أن اللهَ عليكم ساخطٌ فيما أنتم عليه، وأن الذى أدْعُوكم إليه الحقُّ، فاخرُجوا بأصنامِكم هذه التي تَعْبُدون وتَزْعُمون أنها خيرٌ مما أَدْعُوكم إليه، فإن اسْتَجابَت لكم، فذلك كما تقولون، وإن هى لم تَفْعَلْ علِمْتُم أنكم على باطلٍ، فنزَعْتم، ودعَوْتُ اللهَ، ففرَّج عنكم ما أنتم فيه من البلاءِ. قالوا: أَنْصَفْتَ. فخرَجوا بأوثانِهم، وما يَتَقَرَّبون به إلى اللهِ مِن أحداثِهم التي
(1)
لا يَرْضَى، فدعَوْها، فلم تَسْتَجِبْ لهم، ولم تُفَرِّجْ عنهم ما كانوا فيه ما كانوا فيه من البلاءِ، حتى عرَفوا ما هم فيه مِن الضلالةِ والباطلِ، ثم قالوا لإلياسَ: يا إلياسُ، إنا قد هلَكْنا، فادْعُ اللهَ لنا. فدعا لهم إلياسُ بالفرجِ مما هم فيه، وأن يُسْقَوْا، فخَرجَت سَحابةٌ مثلُ التَّرْسِ بإِذنِ اللهِ، على ظهرِ البحرِ، وهم يَنْظُرون، ثم تَرامى إليه السَّحابُ، ثم أَدْجَنت
(2)
. ثم أَرْسَل اللهُ المطرَ، فأغاثهم، فحَيِيَت بلادُهم، وفرَّج عنهم ما كانوا فيه من البلاءِ، فلم يَنْزِعوا، ولم يَرْجِعوا، وأقاموا على أخْبَثِ ما كانوا عليه، فلما رأَى ذلك إلياسُ من كفرِهم، دعا ربَّه أن يَقْبِضَه إليه، فيُرِيحَه منهم، فقيل له - فيما يَزْعُمون -: انْظُرْ يومَ كذا وكذا، فاخْرُجْ فيه إلى بلدِ كذا وكذا، فماذا جاءك من شيءٍ، فارْكَبه ولا تَهَبْه. فخرَج إلياسُ، وخرَج معه اليسعُ بنُ أخطوبَ، حتى إذا كان في البلدِ الذي ذُكِر له، في المكانِ الذي أُمِر به، أقْبَل إليه فرسٌ مِن نارٍ، حتى وقَف بينَ يديه، فوثَب عليه، فانْطَلَق به، فناداه الْيَسَعُ: يا إلياسُ، يا إلياسُ، ما تَأْمُرُنى؟ فكان آخرَ عهدِهم به، فكساه اللهُ الريشَ، وأَلْبَسَه النورَ، وقطَع عنه لذةَ المَطْعَمِ والمَشْرَبِ، وطار في الملائكةِ، فكان إنْسِيًّا مَلَكيًّا، أرضيًّا سماويًّا
(3)
.
(1)
في م: "الذي".
(2)
في م: "أدحست"، أدجنت: أضبت فأظلمت. ينظر اللسان (د ج ن).
(3)
أخرجه المصنف في التاريخ 1/ 462 - 464 عن ابن حميد به.
واخْتَلَفت القرأةُ فى قراءةِ قولِه: {اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} ؛ فقرَأته عامةُ قرأةِ مكةَ والمدينةِ والبصرةِ وبعضُ قرأةِ الكوفةِ: (اللهُ ربُّكم وربُّ آبائِكم الأولين). رفعًا على الاسِتئنافِ
(1)
، وأن الخبرَ قد تَناهَى عند قولِه:{أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ} . وقرَأ ذلك عامةُ قرأةِ الكوفةِ: {اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} نصبًا
(2)
، على الردِّ على قولِه:{وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ} . على أن ذلك كلَّه كلامٌ واحدٌ.
والصوابُ مِن القولِ فى ذلك عندَنا أنهما قراءتان مُتقارِبتا المعنى، مع استفاضةِ القراءةِ بهما فى القرأةِ، فبأيِّ ذلك قرَأ القارئُ فمصيبٌ. وتأويلُ الكلامِ: ذلك معبودُكم أيُّها الناسُ، الذي يَسْتَحِقُّ عليكم العبادةَ، ربُّكم الذي خلَقكم، وربُّ آبائِكم الماضِين قبلَكم، لا الصنمُ الذي لا يَخْلُقُ شيئًا، ولا يَضُرُّ ولا يَنْفَعُ.
وقولُه: {فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} . يقولُ: فكذَّب إلياسَ قومُه، {فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ}. يقولُ: فإنهم لَمُحْضرون فى عذابِ اللهِ، فيَشْهَدونه.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ،، عن قتادة:{فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} : في عذابِ اللهِ.
{إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} . يقولُ: فإنهم يُحْضَرون فى عذابِ اللهِ، إلا عبادَ اللهِ الذين أخْلَصهم مِن العذابِ،
{وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ} . يقولُ: وأَبْقَيْنا عليه الثناءَ الحسنَ فى الآخِرِين مِن الأممِ بعدَه.
(1)
هي قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو وابن عامر وأبى بكر عن عاصم. السبعة لابن مجاهد ص 549.
(2)
هي قراءة حمزة والكسائي وحفص عن عاصم. المصدر السابق.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: أَمَنَةٌ مِنَ اللهِ لآلِ ياسينَ.
واختَلَفَت القرأةُ فى قراءةِ قولِه: {سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} . فقرَأَته عامَّةُ قرأةِ مكةَ والبصرةِ والكوفةِ: {سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} بكسرِ الألفِ مِن {إِلْ يَاسِينَ}
(1)
.
فكان بعضُهم يقولُ: هو اسمُ إلياسَ. ويقولُ: إنه كان يُسَمَّى باسمَيْن؛ إلياسَ، وإلياسينَ، مثلَ إبراهيمَ، وإبراهامَ، يُسْتَشْهَدُ على أن ذلك كذلك، بأن جميعَ ما في السورةِ مِن قوِله:{سَلَامٌ} . [فإنما هو]
(2)
سلامٌ على النبيِّ الذي ذُكِر دونَ آلِه، فكذلك إلياسينُ
(3)
، إنما هو سلامٌ على إلياسَ دونَ آلِه.
وكان بعضُ أهلِ العربيةِ يقولُ: إلياسُ اسمٌ مِن أسماءِ العبْرانيةِ؛ كقولِهم: إسماعيلُ وإسحاقُ. والألفُ واللامُ منه، ويقولُ: لو جَعَلْته عربيًّا مِن الأَلْيَسِ
(4)
، فتَجْعَلُه إفعالًا، مثلَ الإخراجِ، والإدخالِ، أُجْرِى. ويقولُ: قال: سلامٌ على إلْياسينَ، فتَجْعَلُه بالنونِ، والعَجَمِيُّ مِن الأسماءِ قد تَفْعَلُ به هذا العربُ، تقولُ: مِيكالُ وميكائيلُ وميكائينُ، وهى فى بنى أسدٍ تقولُ: هذا إسماعينُ قد جاء. وسائرُ العربِ باللامِ، قال: وأَنْشَدَنى بعضُ بنى نُمَيْرِ لضبٍّ صاده
(5)
:
(1)
هي قراءة حمزة والكسائي وابن كثير وأبي عمرو وعاصم. السبعة لابن مجاهد ص 549.
(2)
في م: "فإنه".
(3)
في ص: "إلياس".
(4)
في م: "الألس". وينظر معانى القرآن للفراء 2/ 391.
(5)
البيتان بغير نسبة في معانى القرآن للفراء 2/ 391، والمعانى الكبير 2/ 646، وليس في كلام العرب لابن خالويه ص 204، والسمط 2/ 681.
يقول أهلُ
(1)
السوقِ لما جِينا
…
هذا وربِّ البيتِ إسرائينا
قال: فهذا كقولِه: {إِلْ يَاسِينَ} . قال: وإن شئتَ ذَهَبْتَ بـ "إلياسينَ" إلى أن تَجْعَلَه جمعًا، فتَجْعَلَ أصحابَه داخلين في اسمِه، كما تقولُ لقومٍ رئيسُهم المُهَلَّبُ: قد جاءَتكم المهالِيةُ والمُهَلَّبون، فيكونُ بمنزلةِ قولِهم: الأشْعَرِين بالتخفيفِ، والسَّعْدِين بالتخفيفِ وشِبهِه، قال الشاعرُ
(2)
:
أنا ابنُ سعدٍ سَيِّدِ السَّعْدِينا
قال: وهو في الاثنَين أن يُضَمَّ أحدُهما إلى صاحبِه إذا كان أشهرَ منه اسمًا كقولِ الشاعرِ
(3)
.
جَزَانِي الزَّهْدَمَانِ
(4)
جَزاءَ سَوءٍ
…
وكُنْتُ المَرْءَ يُجْزَى بالكَرامَهْ
واسمُ أحدِهما زَهْدَمٌ. وقال الآخرُ
(5)
:
جَزَى اللهُ فيها الأَعْوَرَينِ ذمامةً
…
وفَرْوَةَ ثَفْرَ الثَّوْرِةِ المُتَضاجِمِ
(6)
واسمُ أحدِهما أعورُ.
وقَرأ ذلك عامَّةُ قرأةِ المدينةِ: (سَلَامٌ عَلَى آلِ ياسِينَ). بقطعِ آلِ مِن ياسينَ
(7)
؛
(1)
في م، ت 2:"رب".
(2)
البيت في ملحق ديوان رؤبة 191 برواية: "أكرم".
(3)
البيت لقيس بن زهير فى مجاز القرآن 2/ 173، والأغانى 11/ 151، و المخصص 13/ 227، واللسان (ز هدم)، وبلا نسبة فى المقتضب 4/ 326 وأمالي المرتضى 2/ 149، ومعاني القرآن للفراء 2/ 392.
(4)
الزهدمان: قال أبو عبيدة: هما زهدم و كردم. قال ابن بري في الزهدمان: قال أبو عبيد: ابنا جزء. وقال على بن حمزة: ابنا حزن. وزهدم من أسماء الأسد. اللسان (زهدم).
(5)
البيت للأخطل وهو في شرح ديوانه ص 674 برواية: "منعة .. وفروة".
(6)
المتضاجم: المعوج الفم. اللسان (ض ج م).
(7)
هي قراءة نافع وابن عامر. السبعة لابن مجاهد ص 549.
فكان بعضُهم يتأوَّلُ ذلك بمعنى: سلامٌ على آلِ محمدٍ. وذُكِر عن بعضِ القرأةِ أنه كان يقرأُ قولَه: (وَإِنَّ الْيَاسَ) بتَرْكِ الهمزِ فى "الياسَ"، ويجعَلُ الألفَ واللامَ داخلتَين على "ياس" للتعريفِ، ويقولُ: إنما كان اسمُه "ياس"، أُدخلت عليه ألفٌ ولامٌ، ثم يقرأُ على ذلك:(سلامٌ على الياسينَ).
والصوابُ مِن القراءةِ فى ذلك عندَنا، قراءةُ مَن قرَأه:{سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} بكسر ألفِها
(1)
، على مثال "إِدْرَاسِينَ"؛ لأن الله تعالى ذكرُه إنما أخبَر عن كلِّ موضعٍ ذكَر فيه نبيًّا من أنبيائِه، صلواتُ اللهِ عليهم، فى هذه السورةِ، بأن عليه سلامًا، لا على آلِه، فكذلك السلامُ فى هذا الموضعِ، ينبغى أن يكونَ على "إلياسَ" كسلامِه على غيرِه من أنبيائِه، لا على آلهِ، على نحوِ ما بَيَّنَّا من معنى ذلك.
فإن ظَنَّ ظانٌّ أن "إلياسينَ" غيرُ "إلياسَ"، فإن فيما حكَينا، مِن احتجاجِ مَن احتجَّ بأن "إلياسينَ" هو "إلياسُ"، غِنًى عن الزيادةِ فيه.
مع أن فيما حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المفضَّلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:{سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} . قال: إلياسَ.
وفي قراءة عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ
(2)
: (سَلامٌ علَى إِدْرَاسِينَ) دلالةٌ واضحةٌ على خطأِ قولِ مَن قال: عُنى بذلك: سلامٌ على آلِ محمدٍ، وفسادِ قراءةِ مَن قرأ:(وإنَّ الياسَ) بوصلِ النونِ مِن "إن" بإلياسَ
(3)
، وتوجيهِ الألفِ واللامِ فيه، إلى أنهما أدخِلَتا تعريفًا للاسْمِ الذى هو "ياسُ"، وذلك أن عبدَ اللهِ كان يقولُ: إلياسُ هو إدريسُ، ويقرأُ:(وَإِنَّ إدريسَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ)، ثم يقرأُ على ذلك:(سلامٌ علَى إدْرَاسِينَ)، كما قرَأ الآخرون:{سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} . فلا وجهَ على ما ذكَرنا مِن
(1)
القراءتان كلتاهما صواب.
(2)
هى قراءة شاذة. وينظر المصاحف ص 69.
(3)
هي قراءة شاذة.
قراءةِ عبدِ اللهِ، لقراءةِ مَن قرَأ ذلك:[(سَلامٌ علَى آلِ ياسينَ)]
(1)
بقطعِ "الآلِ" مِن "ياسينَ"، ونظيرُ تَسْميةِ إلياسَ بالياسينَ:{وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ} [المؤمنون: 20]. ثم قال فى موضعٍ آخرَ: {وَطُورِ سِينِينَ} [التين: 2]، وهو موضعٌ واحدٌ، سُمِّي بذلك.
وقولُه: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} يقولُ تعالى ذكرُه: إنا هكذا نَجْزِى أهلَ طاعتِنا والمحسنين أعمالًا.
وقولُه: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} يَقولُ: إِن إِلياسَ عبدٌ مِن عبادِنا الذين آمَنوا، فوحَّدونا، وأطاعُونا، ولم يُشركوا بِنا شيئًا.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وإن لوطًا لَمُرسَلٌ
(2)
من المُرْسَلِين،
{إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ} . يقولُ: إذ نجَّيْنا لوطًا وأهلَه أجْمعين، مِن العذابِ الذي أحْلَلْناه بقومِه فأَهْلَكْناهم به،
{إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ} . يقولُ: إلا عجوزًا في الباقِين؛ وهي امرأةُ لوطٍ، وقد ذكَرْنا خبرَها فيما مضَى، واختلافَ المختَلِفِين في معنى قولِه:{فِي الْغَابِرِينَ} ، والصوابَ من القولِ فى ذلك عندَنا
(3)
.
وقد حُدِّثْتُ عن المسيَّبِ بنِ شَرِيكٍ، عن أبى رَوْقٍ، عن الضحاكِ:{إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ} . يقولُ: إلا امرأتَه تخَلَّفَت، فمُسِخَت حجرًا، وكانت تُسَمَّى هَيْشَفعَ
(4)
.
(1)
سقط من: ص، ت 1.
(2)
فى م، ت 3:"المرسل".
(3)
تقدم في 10/ 308، 309.
(4)
في ت 1، ت 2:"هيسفع". والأثر عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 286 إلى المصنف.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ قولِه: هو {إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ} . قال: الهالِكين
(1)
.
وقولُه: {ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ} . يقولُ: ثم قذَفْناهم بالحجارةِ من فوقِهم، فأهْلَكْناهم بذلك.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138)} .
يقولُ تعالى ذكرُه لمشركي قريشٍ: وإنكم لَتَمرُّون على قومِ لوطٍ الذين دمَّرْناهم، عندَ إصباحِكم نهارًا، وبالليلِ.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة:{وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ} . قال: نَعَمْ واللهِ [صباح مساءٍ]
(2)
، يَطَئُونَها وَطْئًا، مَن أَخَذَ مِن المدينةِ إلى الشامِ أخَذ على سَدُومَ؛ قريةِ قومِ لوطٍ
(3)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المُفَضَّلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ فى قولِه:{لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ} . قال: في أسفارِكم
(4)
.
وقولُه: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} . يقولُ: أفليس لكم عقولٌ تتدبَّرون بها وتَتَفَكَّرون، فتَعْلَمون أن مَن سلَك من عبادِ اللهِ فى الكفرِ به وتكذيبِ رسلِه، مَسْلَكَ هؤلاء الذين وصَف صفتَهم من قومِ لوطٍ -نازلٌ بهم من عقوبةِ اللهِ، مثلُ الذى نزَل
(1)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 286، 287 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(2)
فى م: "صباحًا ومساء".
(3)
أخرجه عبد الرزاق فى تفسيره 2/ 154 عن معمر عن قتادة مختصرًا بمعناه، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 287 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 287 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
بهم على كفرِهم باللهِ وتكذيبِ [رُسلِه
(1)
، فيَزْجُرَكم ذلك عما أنتم عليه من الشركِ
(2)
باللهِ وتكذيبِ]
(3)
محمدٍ عليه الصلاة والسلام؟!
كما حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} . قال: أفلا تَتَفَكَّرون ما أصابهم في معاصى اللهِ أن يُصِيبَكم ما أصابَهم؟! قال: وذلك المرورُ أن يَمُرَّ عليهم.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142)} .
يقولُ تعالى ذكره: وإن يونس لمرسلٌ [إلى قومِه]
(4)
من المرسَلين إلى أقوامِهم،
{إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} . يقولُ: حينَ فرَّ إلى الفلكِ -وهو السفينةُ- المشحونِ. وهو المملوءُ من الحمولةِ الموقَرُ.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} : كُنَّا نُحدَّثُ أنه المُوقَرُ من الفُلْكِ
(5)
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ في قولِه:{الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} . قال: المُوقَرِ
(6)
.
وقولُه: {فَسَاهَمَ} . يقولُ: فقارَع.
(1)
في م: "رسوله".
(2)
فى ت 3: "الشك".
(3)
سقط من: ص، ت 1.
(4)
سقط من: م.
(5)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 91 إلى عبد بن حميد.
(6)
ذكره الطوسي في التبيان 8/ 484.
وبنحوِ الذي الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنا معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{فَسَاهَمَ} . يقولُ: أَقرَع
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} . قال: فاحْتُبِست السفينةُ، فعلم القومُ أنما احتُبِست من حدثٍ أحدَثوه، فتَساهَموا، فقُرِع يونسٌ، فرمَى بنفسِه فالتقَمه الحوتُ
(2)
.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{فَسَاهَمَ} . قال: قارَع
(3)
.
وقولُه: {فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} . يعنى: فكان من المَسْهومِين المَغْلُوبين. يُقالُ منه: أدحَض اللهُ حُجَّةً فلانٍ فدحَضت. أى: أبطلَها فبطَلت. والدَّحْضُ أصلُه الزَّلْقُ في الماءِ والطينِ، وقد ذُكِر عنهم: دحَض اللهُ حُجَّتَه. وهى قليلةٌ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابنِ عباسٍ
(1)
أخرجه البيهقى 10/ 287 من طريق أبي صالح به بنحوه وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 288 إلى ابن المنذر.
(2)
أخرجه البيهقى 10/ 287 من طريق شيبان عن قتادة، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 287 إلى أحمد في الزهد وعبد بن حميد.
(3)
ذكره الطوسي في التبيان 8/ 484.
قولَه: {فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} . يقولُ: من المَقْرُوعين
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{مِنَ الْمُدْحَضِينَ} . قال: من المَسْهُومين
(2)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المُفَضَّل، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ قولَه:{فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} . قال: من المَقْرُوعِين.
وقولُه: {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ} . يقولُ: فابْتَلَعه الحوتُ. وهو افْتَعَل، مِن اللَّقْمِ
وقولُه: {وَهُوَ مُلِيمٌ} . يقولُ: وهو مُكْتَسِبٌ اللومَ. يقالُ: قد ألام الرجلُ. إذا أتَى ما يُلامُ عليه مِن الأمرِ، وإن لم يُلَمْ، كما يقالُ: أَصْبَحْتَ مُحْمِقًا مُعْطِشًا. أى: عندَك الحمقُ والعطشُ؛ ومنه قولُ لَبيدٍ
(3)
:
سَفَهًا عَذَلْتِ وَلُمْتِ غيرَ مُلِيمٍ
…
وهَداكِ قبلَ اليومِ غيرُ حَكيمِ
فأما الملومُ
(4)
: فهو الذى يُلامُ باللسانِ، ويُعْذَلُ بالقولِ.
وبنحوِ الذى قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ
(1)
أخرجه البيهقى 10/ 287 من طريق أبي صالح به، وعزاه السيوطى في الدر المنثور 5/ 288 إلى ابن المنذر بلفظ:"المسهومين".
(2)
تفسير مجاهد ص 570.
(3)
شرح ديوانه ص 107، مع بعض اختلاف.
(4)
في ت 2، ت 3:"الملام".
قولَه: {وَهُوَ مُلِيمٌ} . قال: مُذْيَبٌ
(1)
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَهُوَ مُلِيمٌ} . أى: في صنيعهِ
(2)
.
حدَّثني يونُسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَهُوَ مُلِيمٌ} . قال: وهو مُذنِبٌ. قال: والمُلِيمُ المُذْنِبُ
(3)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: فلولا أنه -يعنى يونُسَ- كانَ من المُصَلِّين للهِ قبلَ البَلاءِ الذي ابْتُلِى به، من العقوبةِ بالحبسِ فى بطنِ الحوتِ.
{لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} . يقولُ: لَبَقِى فى بطنِ الحوتِ إلى يومِ القيامةِ؛ يومٌ يَبْعَثُ اللهُ فيه خلقَه - محبوسًا، ولكنه كان مِن الذاكرِين اللهَ
(4)
قبلَ البلاءِ، فذكَره اللهُ في حالِ البَلاءِ، فأنْقَذه ونجَّاه.
وقد اخْتَلَف أهلُ التأويلِ في وقتِ تَسْبيحِ يونُسَ الذي ذكَره اللهُ به فقال: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} ؛ فقال بعضُهم نحوَ الذي قلنا في ذلك، وقالوا
(1)
في ص، ت 1:"هو مذنب"، والأثر في تفسير مجاهد ص 570، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 289 إلى عبد بن حميد.
(2)
في م، ت، ت 3:"صنعه". والأثر أخرجه البيهقى 10/ 287 من طريق شيبان عن قتادة بنحوه، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 288 إلى أحمد في الزهد وعبد بن حميد.
(3)
ذكره الطوسي في التبيان 8/ 485.
(4)
في ص: "لله".
مثلَ قولِنا في معنى قولِه: {مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} .
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} : كان
(1)
كثيرَ الصلاةِ في الرَّخاءِ، فنجَّاه اللهُ بذلك، وقد كان يُقالُ الحكمةِ: إن العملَ الصالحَ يَرْفَعُ صاحبَه إذا ما عثَر، فإذا صُرِع وجَد مُتَّكأً
(2)
.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابنُ عُلَيةَ، عن بعضِ أصحابِه، عن قتادةَ، في قولِه:{فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} . قال: كان طويلَ الصلاةِ في الرَّخاءِ. قال: وإن العملَ الصالحَ يَرفَعُ صاحبَه إذا عثَر، وإذا صُرِع وجَد متكأً
(3)
.
حدَّثني يونُسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: ثنا أبو صخرٍ، أن يزيدَ الرَّقاشيَّ حدَّثه، قال: سمِعْتُ أنسَ بنَ مالكٍ -قال: ولا أَعْلَمُ إلا أن أنسًا يَرْفَعُ الحديثَ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم-: "إن يونُسَ النبيَّ حينَ بدا له أن يَدْعُو اللهَ بالكلمات، حينَ ناداه وهو في بطنِ الحوتِ، فقال: اللهم لا إلهَ إلا أنت، [سبحانَك إني كنتُ مِن الظالمين. فأَقْبَلَت الدعوةُ [تَحُفُّ بالعرشِ]
(4)
]
(5)
، فقالت الملائكةُ: يا ربِّ، هذا صوتٌ ضعيفٌ معروفٌ من بلادِ غريبةٍ. قال: أما تَعْرِفون ذلك؟ قالوا: يا ربِّ، ومَن هو؟ قال: ذاك
(1)
في ص، ت 1:"قال".
(2)
فى م، ت 2، ت 3:"متكئًا". والأثر أخرجه أبو نعيم في الحلية 2/ 339، والبيهقي في سننه 10/ 287 من طريق شيبان عن قتادة.
(3)
أخرجه أحمد في الزهد ص 34 عن ابن علية عن ابن أبي عروبة عن قتادة.
(4)
في م، ت 2:"تحت العرش". وفى ت 3: "تحز بالعرش". والمثبت كما في الفرج بعد الشدة وتفسير ابن كثير، الموضعين، والدر المنثور 4/ 334.
وينظر تفسير عبد الرزاق 2/ 156، والبداية والنهاية 2/ 23، وفيهما:"تحن بالعرش". والغالب أنه تحريف.
(5)
سقط من: ص، ت 1.
عبدى يونُسُ. قالوا: عبدُك يونُسُ الذى لم يَزَلْ يُرْفَعُ له عملٌ مُتَقَبَّلٌ، ودعوةٌ مُجَابَةٌ
(1)
. قالوا: يا ربِّ، أوَ لا يُرْحَمُ بما كان يَصْنَعُ فى الرخاءِ، فَتُنَجِّيَه من البلاءِ؟ قال: بلى. فأمَر الحوتَ، فطرَحه بالعَراءِ"
(2)
.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن عاصمٍ، عن أبى رَزِينٍ، عن ابنِ عباسٍ:{فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِ} . قال: مِن المُصَلِّين
(3)
.
[حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ]
(4)
، قال: ثنا سفيانُ، عن أبي الهيثمِ، عن سعيدِ بن جبيرٍ:{فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} . قال: مِن المصلِّين
(5)
.
حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا ابنُ يَمانٍ، عن أبي جعفرٍ، عن الربيعِ بنِ أنسٍ، عن أبي العاليةِ:{فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} . قال: كان له عملٌ صالحٌ فيما خلا
(6)
.
(1)
فى ص، ت 1:"مستجابة".
(2)
أخرجه ابن أبي الدنيا في الفرج بعد الشدة ص 12، وابن أبي حاتم - كما في تفسير ابن كثير 5/ 362، 7/ 34، والبداية والنهاية 2/ 22، 23 - من طريق ابن وهب به. وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 4/ 334 إلى ابن أبي حاتم وابن مردويه. وأخرجه مرفوعًا على وجه القطع واليقين عبد الرزاق في تفسيره 2/ 156، 157 من طريق أبي صخر حميد بن صخر به، غير أنه سقط من سنده يزيد الرقاشي. وعزاه السيوطي في الدر 5/ 287 إلى ابن أبي حاتم وابن مردويه.
(3)
تفسير الثورى ص 254 - وفيه زر بن حبيش بدلًا من أبى رزين- وعنه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 155، وعزاه السيوطى في الدر المنثور 5/ 289 إلى الفريابي وأحمد في الزهد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4)
ليس في ص، وسقط الأثر كاملًا من ت 1.
(5)
تفسير الثورى ص 253، 254 - وفيه: عن أبى الهيثم عن إبراهيم عن سعيد بن جبير- ومن طريقه ابن أبي الدنيا في العقوبات (179)، والفرج بعد الشدة ص 13 وعزاه السيوطى في الدر المنثور 5/ 289 إلى أحمد في الزهد وعبد بن حميد وابن أبي حاتم.
(6)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 34.
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ مُفَضَّلٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ فى قولِه:{مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} . قال: المصلِّين
(1)
.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا كثيرُ بنُ هشامٍ، قال: ثنا جعفرٌ، قال: ثنا ميمونُ بنُ مِهْرانَ، قال: سمِعْتُ الضحاكَ بنَ قيسٍ يقولُ على منبرِه: اذْكُروا اللهَ فى الرَّخاءِ يَذْكُرْكم فى الشدةِ؛ إن يونُسَ كان عبدًا للهِ ذاكرًا، فلما أصابتْه الشدةُ دعا اللهَ، فقال اللهُ:{فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} فذكَرَه اللهُ بما كان منه، وكان فرعونُ طاغيًا باغيًا، فلمّا أدرَكه الغرقُ قال:{آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 90، 91]. قال الضحاكُ: فاذْكُروا اللهَ فى الرخاءِ يَذْكُرْكم في الشدةِ
(2)
.
وقيل: إنما أحْدَث الصلاةَ -التى أخْبَر اللهُ عنه بها فقال: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} - في بطنِ الحوتِ.
وقال بعضُهم: كان ذلك تسبيحًا، لا صلاةً.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا أبو داودَ، قال: ثنا عِمْرانُ القَطَّانُ، قال: سَمِعْتُ الحسنَ يقولُ في قولِه: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} . قال: فواللهِ ما كانت إلا صلاةً أحْدَثها في بطنِ الحوتِ. قال عِمرانُ: فذكَرْتُ ذلك لقتادةَ، فأنْكَر ذلك، وقال: كان واللهِ يُكْثِرُ الصلاةَ فى الرَّخاءِ
(3)
.
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 34.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة 13/ 375 من طريق جعفر به.
(3)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 289 إلى أحمد في الزهد وابن أبي حاتم.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا حَكَّامٌ، عن عَنْبَسةَ، عن المغيرةِ بنِ النعمانِ، عن سعيدِ بنِ جبيرٍ:{فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ} . قال: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87]. فلما قالها، قذَفه الحوتُ وهو مُغْرَبٌ
(1)
.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة قولَه:{لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} : لَصار له بطنُ الحوتِ قبرًا إلى يومِ القيامةِ
(2)
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن السديِّ، عن أبي مالكٍ، قال: لبِث يونُسُ في بطنِ الحوتِ أربعين يومًا
(3)
.
وقولُه: {فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ} . يقولُ: فقذَفْناه بالفَضاءِ مِن الأرضِ، حيثُ لا يُوارِيه شيءٌ مِن شجرٍ ولا غيرِه، ومنه قولُ الشاعرِ
(4)
:
ورفَعْتُ رِجْلًا لا أخافُ عِثارَها
…
ونبَذْتُ بالبلدِ العَراءِ ثِيابي
(1)
في ت 1: "معرًّى"، وأُغْرِب الرجل: اشتد وجعه من مرض أو غيره، والتغريب في الأرض الإمعان والإبعاد. وينظر التاج (غ ر ب). والأثر ذكره القرطبي في تفسيره 15/ 127 بنحوه مختصرًا.
(2)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 288 إلى المصنف وأحمد في الزهد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي.
(3)
تفسير الثورى ص 254، ومن طريقه ابن أبي شيبة 11/ 543، وأحمد في الزهد ص 35، وابن أبي الدنيا في العقوبات (180)، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 289 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبى الشيخ.
(4)
قال فى مجاز القرآن: 2/ 175: "قال الخزاعي". ثم ذكر البيت. وذكره صاحب اللسان (ع ر ا) غير منسوب. وينظر القرطبي 15/ 129.
يعني: بالبلدِ الفضاء.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ} . يقول: الْقَيْناه بالساحلِ
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ} : بأرضٍ ليس فيها شيءٌ ولا نباتٌ.
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المفضلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ في قولِه:{بِالْعَرَاءِ} . قال: بالأرضِ.
وقولُه: {وَهُوَ سَقِيمٌ} . يقولُ: وهو كالصبيِّ المنفوسِ، لحمٌ نِئٌ.
كما حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{وَهُوَ سَقِيمٌ} : كهيئةِ الصبيِّ
(2)
.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابنِ إسحاقَ، عن يزيدَ بن زيادٍ، عن عبدِ اللهِ بن أبي سلمةَ، عن سعيدِ بنِ جبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: خرَج به -يعني الحوتَ- حتى لفَظه في ساحلِ البحرِ، فطرَحه مِثلَ الصبيِّ المَنْفوسِ، لم يَنْقُصْ مِن خَلْقِه شيءٌ
(3)
.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره -كما في الإتقان 2/ 39، 40 - من طريق أبي صالح به.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 35، وفى البداية والنهاية 2/ 24.
(3)
أخرجه المصنف في تاريخه 2/ 16، وأخرجه ابن أبى شيبة 13/ 578 مطولًا من طريق سعيد به.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ: ما لفَظه الحوتُ حتى صار مِثلَ الصبيِّ المَنْفوسِ، [قد نُشِر اللَّحمُ والعَظْمُ، فصار مِثلَ الصبيِّ المَنْفوسِ]
(1)
، فأَلْقاه في موضعٍ، وأنْبَت اللهُ عليه شجرةً مِن يَقْطِينٍ
(2)
.
وقولُه: {وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ} . يقولُ تعالى ذكرُه: وأنبَتْنا على يونسَ شجرةً مِن الشجرِ الذى لا يقومُ على ساقٍ، وكلُّ شجرةٍ لا تقومُ على ساقٍ؛ كالدُّبَّاءِ والبطَّيخِ والحَنْظَلِ ونحوِ ذلك، فهى عندَ العربِ يَقْطِينٌ.
واختلَف أهلُ التأويلِ فى ذلك؛ فقال بعضهم نحوَ الذي قلنا في ذلك
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هشيمٌ، عن القاسمِ بنِ أبي أيوبَ، عن سعيدِ بنِ جبيرٍ في قولِه:{وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ} . قال: هو كلُّ شيءٍ ينْبُتُ على وجهِ الأرضِ ليس له ساقٌ
(3)
.
حدَّثني مطرُ بنُ محمدٍ الضَّبِّيُّ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا الأصبغُ بنُ زيدٍ، عن القاسمِ بنِ أبي أيوبَ، عن سعيدِ بنِ جبيرٍ في قولِه:{وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ} . قال: كلُّ شيءٍ ينْبُتُ ثم يموتُ مِن عامِه
(4)
.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمن، قال: ثنا سفيانُ، عن حَبيبٍ، عن سعيدِ بنِ جبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ قال:{شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ} . فقالوا عندَه: القَرْعُ.
(1)
سقط من: ت 1.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 35، وفى البداية والنهاية 2/ 24.
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 35 عن هشيم به، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 291 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن أبي حاتم.
(4)
ذكره القرطبي في تفسيره 15/ 129.
قال: وما يَجْعلُه أَحقِّ مِن البطِّيخِ
(1)
؟!
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ} . قال: غيرَ ذاتِ أصلٍ مِن الدُّبَّاءِ أو غيرِه مِن نحوِه
(2)
.
وقال آخرون: هو القَرْعُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن علىٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ} ، قال: القَرْعُ
(3)
.
حدثنا محمدُ بنُ المثنى، قال: ثنا محمدُ بن جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن أبى إسحاقَ، عن عمرِو بن ميمونٍ، عن عبدِ اللهِ أنه قال في هذه الآيةِ:{وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ} . قال: القَرْعُ
(4)
.
حدَّثني مطرُ بنُ محمدِ الضَّبِّيُّ، قال: ثنا عبدُ الله بن داودَ الواسطىُّ، قال: ثنا شَريكٌ، عن أبي إسحاقَ، عن عمرِو بن ميمونٍ الأَوْدِيِّ في قولِه:{وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ} . قال: القَرْعُ
(5)
.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ: {وَأَنْبَتَنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً
(1)
تفسير الثورى ص 254 بنحوه، ولم يذكر فيه سعيد بن جبير.
(2)
تفسير مجاهد ص 570، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 291 إلى عبد بن حميد.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 291 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 291 إلى المصنف وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأبي المنذر وابن أبي حاتم.
(5)
ذكره أبو حيان في تفسيره 7/ 375.
مِّن يَقْطِينٍ}: كنَّا نحدَّثُ أنها الدُّبَّاءُ، هذا القَرْعُ الذي رأيتم، أَنْبَتها اللَّهُ عليه يأكلُ منها
(1)
.
حدَّثني يونس، قال: أخبرنا ابنُ وهبٍ، قال: ثني أبو صخرٍ، قال: ثني ابنُ قُسَيْطٍ، أنه سمِع أبا هريرةَ يقولُ: طُرِح بالعراءِ، فأنبت الله عليه يَقْطِينَةً. فقلنا: يا أبا هريرةَ، وما اليَقْطِينةُ؟ قال: شجرةُ الدُّبَّاء، هيَّا الله له أُرْوِيَّةً
(2)
وحُشِيَّةً، تأكلُ مِن خَشَاشِ الأَرضِ -أو هَشاشِ- فتَفْشَحُ
(3)
عليه، فتزويه من لبنها كلَّ عشيَّةٍ وبُكْرةٍ، حتى نبَت. وقال ابنُ أبى الصلتِ قبلَ الإسلام في ذلك بيتًا من شعرٍ
(4)
:
فأَنْبَتَ يَقْطِينًا عليه برَحْمَةٍ
…
مِن اللَّهِ لولا اللَّهُ أُلْفِي ضَاحِيا
(5)
حدَّثني يحيى بنُ طلحةَ اليربوعيُّ، قال: ثنا فُضَيلُ بنُ عِياضٍ، عن مغيرةَ في قولِه:{وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ} . قال: القَرْعُ.
حدِّثت عن الحسينِ، قال: سمِعتَ أبا معاذٍ يقولُ: أخبرنا عبيد، قال: سمعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ} . قال: القَرْعُ
(6)
.
حدَّثني يونس، قال: أخبرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيد: أَنْبَت اللهُ عليه شجرةً مِن يَقْطِينٍ. قال: فكان لا يتناولُ منها ورقةً فيأخذها إلا أرْوَته لبنًا. أو قال:
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 291 إلى المصنف وعبد بن حميد.
(2)
الأروية: الأنثى من الوعول. اللسان (ر و ى).
(3)
في ص: "فتفشخ". وفشحت الدابة وفشجت إذا فرَّجت بين رجليها. اللسان (ف ش ح).
(4)
ديوانه ص 65.
(5)
أخرجه المصنف في تاريخه 2/ 16، 17، وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 157، وابن أبي حاتم -كما في تفسير ابن كثير 7/ 34 والبداية والنهاية 2/ 23 - من طريق أبي صخر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 287، 288، 291 إلى ابن مردويه.
(6)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 35، وفى البداية والنهاية 2/ 24.
شرِب منها ما شاء حتى نَبَت
(1)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسين، قال: ثنا أحمدُ بنُ مُفَضَّل، قال: ثنا أسباطُ: عن السدى في قولِه: {شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ} . قال: هو القَرْعُ، والعرب تسمِّيه الدُّبَّاء
(2)
.
حدثنا عمرُو بنُ عبدِ الحميد، قال: ثنا مَرْوانُ بنُ معاويةَ، عن ورقاء، عن سعيدِ ابن جبيرٍ في قولِ اللَّهِ:{وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ} . قال: هو القَرْعُ
(3)
.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جريرٌ، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ قولِه:{وَأَنْبَتَنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ} . قال: القَرْعُ
(3)
.
وقال آخرون: كان اليَقْطِينُ شجرةً أظلت يونسَ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ثابتُ بن يزيدَ، عن هلالِ بنِ حَبّابٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، قال: اليَقْطِينُ شجرةٌ سماها اللهُ يَقْطِينا، أظلَّته، وليس بالقَرْعِ. قال: فيما ذُكر، أرسل الله عليه دابَّةَ الأرضِ، فجَعَلتْ تَقْرِضُ عروقَها، وجعل ورقُها يتساقطُ حتى أفضَتْ إليه الشمسُ وشَكاها، فقال: يا يونس، جزِعْتَ من حرِّ الشمسِ، ولم تَجزَعْ لِمائة ألفٍ أو يزيدونَ تابوا إليَّ، فتبتُ عليهم
(4)
؟
القول في تأويل قولِه تعالى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148) فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149)} .
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 291 إلى المصنف.
(2)
ينظر تفسير ابن كثير 7/ 35 والبداية والنهاية 2/ 24.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 291 إلى عبد بن حميد.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 291 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم مختصرا.
يقولُ تعالى ذكره: وأرسَلْنا يونسَ إلى مائة ألف من الناسِ، أو يزيدون على مائة ألفٍ. وذُكر عن ابن عباسٍ أنه كان يقولُ: معنى قولِه: {أَوْ يَزِيدُونَ} : بل يزيدون.
ذكرُ الرواية بذلك
حدثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا مؤمَّلٌ، قال: ثنا سفيانُ، عن منصورٍ، عن سالم بن أبي الجعدِ، عن الحكم بنِ عبدِ اللَّهِ بنِ الأَزْوَرِ، عن ابنِ عباس في قولِه:{وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} . قال: بل يزيدون؛ كانوا مائةَ ألفٍ وثلاثين ألفا
(1)
.
حدثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا يعقوبُ، عن جعفرٍ، عن سعيد بن جبير في قولِه:{مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} . قال: يزيدون سبعين ألفًا، وقد كان العذاب أُرسِل عليهم، فلما فرَّقوا بين النساء وأولادها، والبهائمِ وأولادها، وعجّوا إلى اللهِ، كشف عنهم العذاب، ومطَرتِ السماءُ دمًا
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عبدِ الرحيم البرقيُّ، قال: ثنا عمرو بن أبي سلمة، قال: سمِعتُ زُهيرًا، عمّن سمع أبا العالية، قال: ثني أبي بن كعب أنه سأل رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عن قولِه: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} . قال: "يزيدون عشرين ألفًا"
(3)
.
(1)
تفسير الثورى ص 254، 255 عن منصور، عن الحكم، عن مولى لابن عباس، عن ابن عباس، وأخرجه ابن أبي الدنيا في العقوبات (174) من طريق الثورى عن عبد الله البصرى، عن رجل، عن ابن عباس، كلاهما بدون لفظ: بل يزيدون، وبدونه أيضًا عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 291 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم، وذكره بتمامه ابن كثير في تفسيره 7/ 35.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 290، 291 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 35 عن المصنف، وأخرجه الترمذى (3229) من طريق زهير به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 291 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.
وكان بعضُ أهل العربية من أهل البصرة يقولُ في معناه: إلى مائة ألف أو كانوا يزيدون عندكم. يقولُ: كذلك كانوا عندكم.
وإنما عُنِى بقولِه: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} . أنه أرسله إلى قومه الذين وعدهم العذابَ، فلما أظلَّهم تابوا، فكشَف اللهُ عنهم. وقيل: إنهم أهلُ نِينَوَى.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} : أُرسِل إلى أهلِ نِينَوَى مِن أَرضِ المَوْصِلِ. قال الحسنُ: بعثَه الله قبل أن يُصيبَه ما أصابه، {فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ}
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولِه:{إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} . قال: قوم يونسَ الذين أرسل إليهم قبلَ أن يلتقمه الحوتُ
(2)
.
وقيل: إن يونسَ أُرسِل إلى أهل نِينَوَى بعد ما نبذَه الحوتُ بالعراءِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: سمِعتُ أبا هلالٍ محمدَ بنُ سليمٍ
(3)
،
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 291 إلى المصنف وعبد بنُ حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن وقتادة.
(2)
تفسير مجاهد ص 571، وذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 35 عن ابن أبي نجيح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 291 إلى عبد بنُ حميد وابن المنذر.
(3)
في م: "سليمان". وينظر تهذيب الكمال 25/ 292.
قال: ثنا شَهْرُ بنُ حَوْشبٍ، قال: أتاه جبريلُ -يعنى يونسَ- وقال: انطلق إلى أهلِ نِينَوَى، فأنذِرْهم أنّ العذابَ قد حضَرهم. قال: ألتمِسُ دابّةً. قال: الأمرُ أعجلُ مِن ذلك. قال: ألتمِسُ حِذاءً. قال: الأمرُ أعجلُ من ذلك. قال: فغَضب، فانطلق إلى السفينة فركب، فلما ركِب احتبِست السفينةُ؛ لا تُقَدِّمُ ولا تُؤَخِّرُ. قال: فتساهموا. قال: فسُهِم، فجاء الحوتُ يُبصبِصُ بذنَبِه، فنُودِى الحوتُ: أيا حوتُ، إنا لم نَجْعَلْ يونس لك رزقًا، إنما جعلناك له حِرْزًا
(1)
ومسجدًا. قال: فالتقمه الحوتُ، فانطلق به من ذلك المكان، حتى مرّ به على الأَيْلَةِ، ثم انطلق به، حتى مرّ به على دِجْلَةَ، ثم انطلق به حتى أَلْقاه في نِينَوَى
(2)
.
حدَّثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا أبو هلالٍ، قال: ثنا شهْرُ بنُ حَوْشبٍ، عن ابن عباسٍ، قال: إنما كانت رسالة يونسَ بعدما نبَذه الحوتُ
(3)
.
وقوله: {فَآمَنُوا} . يقولُ: [فوحَّد الله الذين]
(4)
أُرسل إليهم يونسُ، وصدّقوا بحقيقةِ ما جاءهم به يونسٌ مِن عنْدِ اللهِ.
وقوله: {فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} . يقولُ: فأخَّرنا عنهم العذاب، ومتَّعناهم إلى حين بحياتهم، إلى بلوغ آجالِهم مِن الموتِ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويلِ.
(1)
في م: "حوزا". والحرز: الموضع الحصين. اللسان (ح ر ز).
(2)
أخرجه المصنف في تاريخه 2/ 12، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 289 إلى عبد بنُ حميد.
(3)
أخرجه المصنف في تاريخه 2/ 12، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 291 إلى أحمد في الزهد وعبد بنُ حميد وابن مردويه.
(4)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"فوحدوا الله الذى".
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة:{فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} : الموتِ
(1)
.
حدَّثني محمد بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المُفَضَّل، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ في قولِه:{فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} . قال: الموتِ
(2)
.
وقوله: {فَاسْتَفْتِهِمْ} . يقول تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: سلْ يا محمدُ مشركي قومِك مِن قريشٍ.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{فَاسْتَفْتِهِمْ} : يعني مشرِكي قريشٍ
(3)
.
حدَّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قولِه: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ} . قال: سلهم. وقرأ: {وَيَسْتَفْتُونَكَ} [النساء: 127]. قال: يسألونك.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباطُ، عن السدي:{فَاسْتَفْتِهِمْ} . يقول: يا محمدُ، سلْهم.
وقولُه: {أَلرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ} : ذكر أن مشركي قريشٍ كانوا
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 157 عن معمر عن قتادة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 192 إلى عبد بنُ حميد وابن المنذر.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 6/ 1990 من طريق أسباط به، بلفظ:"إلى أجلهم".
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 292 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
يقولون: الملائكة بناتُ اللَّهِ. وكانوا
(1)
يعبُدونها، فقال الله لنبيِّه محمد عليه الصلاة والسلام: سلْهم وقلْ لهم: أَلِربِّيَ البناتُ ولكم البنونَ؟!
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ} . لأنهم قالوا -يعنى مشركي قريشٍ-: للَّهِ البناتُ، ولهم البنونَ
(2)
.
حدثنا محمد بنُ الحسين، قال: ثنا أحمدُ بنُ الفَضَّل، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ في قولِه:{فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ} . قال: كانوا يعبُدون الملائكةَ.
القول في تأويل قولِه تعالى: {أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150) أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152)} .
يقول تعالى ذكره: أم شهد هؤلاء القائلون من المشركين: الملائكةُ بناتُ اللَّهِ. خَلْقيَ الملائكةَ وأنا أخلقهم إناثًا، فشهدوا هذه الشهادة، ووصفوا الملائكة بأنها إناثٌ؟
وقوله: {أَلَا إِنَّهُم مِّنْ إفْكِهِمْ} . يقولُ تعالى ذكرُه: ألا إن هؤلاء المشركين، من كَذِبهم {لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَذِبُونَ} في قيلِهم ذلك.
(1)
في م: "كان".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 292 إلى المصنف وعبد بنُ حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة:{أَلَا إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ} : [أي: من كذِبِهم {لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ}
(1)
.
حدثنا محمد بنُ الحسين، قال: حدثنا أحمدُ بنُ المفضلِ، قال: حدَّثنا أسباطُ، عن السديِّ في قولِه]
(2)
: {أَلَا إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ} . قال: من كذِبِهم (1).
القولُ في تأويل قولِه تعالى: {أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157)} .
يقول تعالى ذكره مُوَبِّخًا هؤلاء القائلين: للَّهِ البناتُ. من مشركي قريشٍ: {أَصْطَفَى البَنَاتِ عَلَى البَنِينَ} ؟ والعربُ إذا وجَّهوا الاستفهامَ إلى التوبيخِ أثْبَتوا ألفَ الاستفهامِ أحيانًا، وطرحوها أحيانًا، كما قيل: {أَذْهَبْتُمْ
(3)
طَيْبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيا} [الأحقاف: 20]. يُستفهمُ بها، ولا يُستفهمُ بها، والمعنى في الحالينِ واحدٌ، وإذا لم يُسْتفهمْ في قولِه:{أَصْطَفَى البَنَاتِ} . ذهبت ألفُ "اصطفى" في الوصلِ، ويُبتدأ بها بالكسرِ، وإذا استُفهِم فُتِحَت وقُطِعَت.
وقد ذكر عن بعض أهل المدينة أنه قرأ ذلك بترك الاستفهام، والوصل. فأما قرأَةُ الكوفةِ والبصرةِ، فإنهم في ذلك على قراءته بالاستفهام، وفتح ألفِه في الأحوالِ كلِّها
(4)
، وهى القراءةُ التي نَختارُ؛ لإجماع الحجة من القرأة عليها.
وقوله: {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} . يقولُ: بئس الحكْمُ تحكمون أيُّها القومُ؛
(1)
ذكره الطوسي في التبيان 8/ 488.
(2)
سقط من: م.
(3)
بعده في م: "بالقصر".
(4)
قراءة ترك الاستفهام والوصل هى قراءة الأصبهاني عن ورش، وأبى جعفر، وقراءة إثبات الهمز على الاستفهام هى قراءة الباقين وهم قالون وورش في رواية الأزرق، وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائى ويعقوب وخلف. ينظر النشر 2/ 270، والإتحاف ص 228.
أن يكونَ للهِ البناتُ ولكم البنونَ، وأنتم لا تَرْضَون البنات لأنفسكم، فتجعلون له ما لا تَرْضَونه لأنفسكم؟
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ من قال ذلك
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} . يقولُ: كيف يجعلُ لكم البنين، ولنفسِه البناتِ؟ ما لكم كيف تحكُمون
(1)
؟!
وقوله: {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} . يقولُ: أفلا تتدَبَّرون ما تقولون، فتعرِفوا خطأَه، فتنتهوا عن قيله؟
وقوله: {أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ} . يقولُ: ألكم حجةٌ تبين صحتُها لمن سمِعها، بحقيقةِ ما تقولون؟
كما حدثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ} : أي: عذرٌ مبينٌ
(1)
.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديٍّ في قولِه:{سُلطَانٌ مُّبِينٌ} . يقولُ: حجةٌ.
وقوله: {فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ} . يقولُ: فأتوا بحجتكم من كتاب جاءكم من عندِ اللهِ؛ بأن الذى تقولون من أن للهِ البناتِ ولكم البنين، كما تقولون.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 292 إلى المصنف وعبد بنُ حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ} : أي: بعذْرِكم، {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}
(1)
.
حدَّثنا محمد بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المفضلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ} أن هذا كذا؛ بأن له البنات، ولكم البنون.
وقوله: {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} . يقول: إن كنتم صادقين أن لكم بذلك حجةً.
القول في تأويل قولِه تعالى: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160)} .
يقول تعالى ذكره: وجعل هؤلاء المشركون بينَ الله وبين الجنّة نسبًا.
واختلَف أهل التأويلِ في معنى النسب الذى أخبرَ اللهُ عنهم أنهم جعلوه للهِ تعالى؛ فقال بعضُهم: هو أنهم قالوا -أعداء الله-: إن الله وإبليسَ أَخَوانِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قولِه:{وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ نَسَباً} . قال: زعَم أعداءُ اللَّهِ أَنه تبارك وتعالى وإبليس أخَوانِ
(1)
.
وقال آخرون: هو أنهم قالوا: الملائكةُ بناتُ اللهِ. وقالوا: الجِنّةُ هي الملائكة.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 292 إلى المصنف.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ نَسَبًا} . قال: قال كفارُ قريشٍ. قال: قال كفارُ قريشٍ: الملائكة بناتُ اللَّهِ. فقال
(1)
أبو بكر: من أمهاتُهنَّ؟! فقالوا: بناتُ سَرَوَاتِ الجِنِّ
(2)
، يحسبون أنهم خُلقوا مما خُلِق منه إبليس
(3)
.
حدثنا عمرُو بنُ يحيى بنُ عمران بنُ عُفْرَةَ، قال: ثنا عمرو بنُ سعيد الأَبَحُّ، عن سعيد بنُ أبي عَرُوبةً، عن قتادة في قولِه:{وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} : قالت اليهودُ: إن اللهَ تبارك وتعالى تزوَّج إلى الجِنِّ، فخرج منها
(4)
الملائكة. قال: سبحانه؛ سبّح نفسَه
(5)
.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ قولِه:{وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} . قال: الجِنَّةُ الملائكةُ، قالوا: هنَّ بناتُ اللهِ
(6)
.
حدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} : الملائكة
(3)
.
(1)
في م: "فسأل".
(2)
سروات الجن: أشرافهم. اللسان (س ر ا).
(3)
تفسير مجاهد ص 571، ومن طريقه البيهقي في الشعب (141)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 292 إلى عبد بنُ حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4)
في م: "منهما".
(5)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 37.
(6)
ذكره القرطبي في تفسيره 15/ 130.
حدَّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيد في قولِه: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} . قال: بين الله وبين الجِنَّةِ نسبًا؛ افترَوْا
(1)
.
وقوله: {وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجَنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} . اختلف أهلُ التأويل في معنى ذلك؛ فقال بعضُهم: معناه: ولقد علمتِ الجِنَّةُ إنهم لمُشْهَدون الحسابَ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمد بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} : إنها ستُحضَرُ الحسابَ
(2)
.
وقال آخرون: معناه: إن قائلى هذا القول سيُحضرون العذابَ في النارِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباطُ، عن السدىٍّ:{إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} : إن هؤلاء الذين قالوا هذا لمُحضَرون: لمعذَّبون
(3)
.
وأولى القولين في ذلك بالصواب قولُ مَن قال: إنهم لمُحضَرون العذابَ؛ لأن سائرَ الآياتِ التى ذكَر اللهُ فيها الإحضارَ في هذه السورة، إنما عنَى به الإحضارَ في العذابِ، فكذلك في هذا الموضعِ.
وقوله: {سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ} . يقول تعالى ذكره: تنزيهًا للهِ، وتبرئةً له مما يُضِيفُ إليه هؤلاء المشركون به، ويفتَرون عليه، ويصِفونه، من أن له
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 37.
(2)
تقدم أوله في الصفحة السابقة.
(3)
ذكره الطوسي في التبيان 8/ 489.
بناتٍ، وأن له صاحبةً.
وقوله: {إلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} . [يقولُ: ولقد علمت الجنَّةُ إن الذين قالوا: إن الملائكة بناتُ اللَّهِ. لمُحضَرون العذابَ، إلا عبادَ اللَّهِ]
(1)
الذين أخلَصهم لرحمتِه، وخلَقهم لِجَنَّتِه.
القول في تأويل قولِه تعالى: {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163) وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164)} .
يقول تعالى ذكره: فإنَّكُم أيها المشركون بالله وما تَعْبُدُون مِن الآلهة والأوثانِ،
{مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ} . يقولُ: ما أنتم على ما تعبُدون من دونِ اللهِ بفاتنين؛ أي: بمضلِّين أحدًا، {إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الجَحِيمِ}. يقولُ: إلا أحدًا سبق في علْمي أنه صالِ الجحيمِ.
وقد قيل: إن معنى {عَلَيْهِ} في قولِه: {مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ} . بمعنى به.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ} . يقول: لا تُضلُّون أنتم، ولا أُضِلُّ منكم إلا مَن قد قضيتُ عليه
(2)
أنه صال الجحيم
(3)
.
(1)
سقط من: م، ت 1.
(2)
سقط من: م، ت 2، ت 3.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره -كما في الإتقان 2/ 40، واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (1004) من طريق أبي صالح به.
حدَّثني محمد بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قولَه:{مَا أَنتُم عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} . يقولُ: ما أنتم بفاتنين على أوثانِكم أحدًا، إلا من قد سبق له أنه صال الجحيم
(1)
.
حدَّثني يعقوب بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا ابنُ عُلَيَّةَ، عن خالد، قال: قلتُ للحسنِ قولِه: {مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} : إلا من أوجَب الله عليه أن يَصْلى الجحيمَ
(2)
.
حدَّثنا عليُّ بنُ سهلٍ، قال: ثنا زيدُ بنُ أَبي الزَّرْقاءِ، عن حماد بنُ سلمةَ، عن حميدٍ، قال: سألت الحسن عن قول الله: {مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} . قال: ما أنتم عليه بمضلِّين إلا من كان في علمِ اللهِ أنه سيَصْلى الجحيمَ.
[حدثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا عبد الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن منصورٍ، عن إبراهيم: {مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ}: إلا من قُدِّر عليه أنه يَصْلى الجحيمَ]
(3)
.
حدثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا يعقوبُ، عن جعفرٍ، عن العشَرةِ الذين دخَلوا على عمرَ بنُ عبد العزيزِ، [وكانوا متكلِّمين كلُّهم، فتكلَّموا، ثم إن عمرَ بنَ عبد العزيز]
(4)
تكلّم بشيءٍ، فظَننَّا أنه تكلَّم بشيءٍ ردَّ به ما كان في أيدينا، فقال لنا: هل تعرفون تفسير هذه الآية: {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (163) إِلَّا مَنْ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 292 إلى ابن أبي حاتم.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 292 إلى المصنف وعبد بنُ حميد.
(3)
سقط من: ص، ت 1. والأثر عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 292 إلى عبد بنُ حميد.
(4)
سقط من: ت 1.
هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ}؟ قال: إنكم والآلهة التى تعبدونها لستم بالذي تَفتِنون عليها إلا من قضَيْتُ عليه أنه يَصْلى الجحيم
(1)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن منصورٍ، عن إبراهيمَ:{إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الجَحِيمِ} . قال: ما أنتم بمضلِّين إلا مَن كُتب عليه أنه يَصْلى الجحيمَ.
حدثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة:{فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ} حتى بلَغ {صَالِ الْجَحِيمِ} . يقول: ما أنتم بمضلِّين أحدًا من عبادى بباطلكم هذا، إلا من تولَّاكم بعملِ أهلِ
(2)
النارِ.
حدَّثنا محمد بنُ الحسين، قال: ثنا أحمدُ بنُ المُفَضَّل، قال: ثنا أسباطُ، عنِ السدىِّ:{مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ} : بمضلِّين، {إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ}: إِلا مَن كتَب الله عليه أنه يَصْلى الجحيم.
حدِّثت عن الحسينِ، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيدٌ، قال: سمِعتُ الضحاك يقولُ في قولِه: [{مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ}]
(3)
. يقولُ: لا تُضِلُّون بآلهتِكم أحدًا، إلا من سبَقتْ له الشقاوةُ، ومن هو صالِ الجحيم
(4)
.
حدَّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قولِه: {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الجَحِيم} . [يقولُ: لا تفتِنون به أحدًا، ولا تُضِلُّونه، إلا من قضى الله أنه صالِ الجحيم]
(3)
؛ إلا من
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 292 إلى عبد بن حميد.
(2)
سقط من: م، ت 2.
(3)
سقط من: ص، ت 1.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 292 إلى عبد بن حميد.
قد قضَى أنه مِن أهلِ النار.
وقيل: {بِفَاتِنِينَ} . من: فَتَنتُ أفتِنُ، وذلك لغةُ أهل الحجاز، وأما أهلُ نجدٍ فإنهم يقولون: أفتته فأنا أُفتِنُه.
وقد ذكر عن الحسن أنه قرأ: (إِلَّا مَن هو صالُ الجحيمِ)
(1)
، برفع اللَّامِ مِن {صَالِ} ، فإن كان أراد بذلك الجمعَ كما قال الشاعرُ
(2)
:
إذا ما حَاتمٌ وُجِد ابْنَ عَمِّى
…
مَجَدنا مَن تكلَّم أَجْمَعِينا
فقال: أجمعينا. ولم يقُلْ: تكلَّموا. أو كما يقالُ في الرجالِ: مَن هو إخوتك؟ يذهبُ بـ "هو" إلى الاسم المجهولِ ويُخرَّج فعله على الجمعِ، فذلك وجهٌ، وإن كان غيره أفصحَ منه، وإن كان أراد بذلك واحدًا، فهو عند أهل العربيةِ لحنٌ؛ لأنَّه لحنٌ عندهم أن يقال: هذا رامٌ وقاضٌ. إلا أن يكون سُمِع في ذلك من العربِ لغةٌ مقلوبةٌ
(3)
، مثلَ قولِهم: شاكُ السلاحِ، وشاكي السلاحِ، وعاث وعثا، وعاق وعقا. فيكونَ لغةً، ولم أسمعْ أحدًا يذكُر سماعَ ذلك مِن العربِ.
وقولُه: {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} . وهذا خبرٌ من اللهِ عن قيلِ الملائكةِ أنهم قالوا: وما منا -معشَرَ الملائكة- إلا مَن له مقامٌ في السماءِ معلومٌ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المُفضَّل، قال: ثنا أسباطُ، عن
(1)
وهى قراءة شاذة. ينظر البحر المحيط 7/ 379.
(2)
البيت في معانى القرآن للفراء 2/ 395، غير منسوب.
(3)
في ص: "معلومة". وينظر معانى القرآن للفراء 2/ 394.
السدى في قولِه: {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} . قال: الملائكة.
[حدَّثني يونسُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ في قولِه: {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ}. قال الملائكة]
(1)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} . قال: هؤلاء الملائكةُ.
حدِّثتُ عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبرنا عبيد، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ المُسَبِّحُونَ} : كان مسروقُ بنُ الأجْدعِ يروى عن عائشةَ، أنها قالت: قال نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم: "ما في السماء الدنيا مَوْضعُ قَدَمٍ إلا عليه مَلَكٌ ساجدٌ أو قائمٌ". فذلك قول الملائكة: {وَمَا منا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ المُسبِّحُونَ}
(2)
.
حدثنى موسى بنُ إسحاقَ الكنانيُّ
(3)
المعروفُ بابن القوّاسِ، قال: ثنا يحيى بنُ عيسى الرَّمليُّ، عن الأعمشِ، عن أبي يحيى، عن مجاهدٍ، عن ابن عباسٍ، قال: لو عن أن قطرةً من زَقُومِ جهنمَ أُنزلت إلى الدنيا، لأفسدت على الناس معايشَهم، وإن نارَكم هذه لتَعوَّذُ مِن نارِ جهنمَ.
حدثنا موسى بنُ إسحاق، قال: ثنا يحيى بنُ عيسى، عن الأعمشِ، عن زيدِ ابن وهبٍ، قال: قال عبد الله بنُ مسعودٍ: إن ناركم هذه لما أُنزِلت، ضُرِبَت في
(1)
سقط من: ت 1.
(2)
أخرجه المروزى في تعظيم قدر الصلاة 1/ 260، وأبو الشيخ في العظمة (510) من طريق أبي معاذ به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 292 إلى ابن أبي حاتم وابن مردويه.
(3)
في م: "الجبئى". وفى ت 2، ت 3:"الجبائي". وله ترجمة في الجرح والتعديل 8/ 135، ولم يذكر فيها هذا النسب. وينظر تهذيب الكمال 31/ 490.
البحرِ مرّتين، ففتَرَت، فلولا ذلك لم تنتَفِعوا بها
(1)
.
القولُ في تأويل قولِه تعالى: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169)} .
يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل ملائكتِه: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُونَ} للهِ لعبادتِه،
{وَإِنَّا لَنَحْنُ المُسَبِّحُونَ} له. يعنى بذلك: المصلّون له.
وبنحو الذي قلنا في ذلك جاء الأثرُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال به أهلُ التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمد بنُ عليِّ بنِ الحسنِ بنُ شقيقٍ المَرْوَزِيُّ، قال: ثنا أبو معاذٍ الفضلُ ابنُ خالدٍ، قال: ثنا عبيد بنُ سليمان، قال: سمعتُ الضحاك بنُ مزاحم يقولُ: قولِه: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ المُسَبِّحُونَ} . كان مسروقُ بنُ الأَجْدَعِ يروى عن عائشة أنها قالت: قال نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم: "ما في السماء الدنيا مَوضِعُ قَدَم إلا عليه ملكٌ ساجدٌ أو قائمٌ". فذلك قولُ اللَّهِ: {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ المُسَبِّحُونَ}
(2)
.
حدَّثني أبو السائبِ، قال: ثنا أبو معاويةَ، عن الأعمشِ، [عن مسلمٍ]
(3)
، عن مسروقٍ، قال: قال عبد الله: إن في السماواتِ لسماءً ما فيها مَوضِعُ شِبْرٍ إلا وعليه
(1)
أخرجه هناد في الزهد (235) من طريق الأعمش به.
(2)
تقدم تخريجه في الصفحة السابقة.
(3)
سقط من: ص، ت 1.
جبهةُ مَلَكٍ أو قدمُه قائمًا. قال: ثم قرَأ: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ}
(1)
.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيانُ، عن الأعمشِ، عن أبى الضُّحَى، عن مسروقٍ، عن عبدِ اللهِ، قال: إن من السماواتِ سماءً ما فيها موضعٌ إلا فيه مَلَكٌ ساجدٌ أو
(2)
قائم. ثم قرأ: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ}
(3)
.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا ابنُ عُليَّةَ، قال: أخبرني الجُرَيْرِيُّ، عن أبي نَضْرةَ، قال: كان عمرُ إذا أُقِيمتِ الصلاةُ أقبَل على الناسِ بوجهِه، فقال: أيُّها الناسُ استَوُوا، إن اللهَ إنما يريدُ بكم هَدْىَ الملائكة؛ {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} . استَوُوا، تقدَّم أنت
(4)
، تأخَّرْ أنت أي هذا. فإذا استَوَوْا تقدَّم فكبَّر
(5)
.
حدَّثنى موسى بنُ عبد الرحمنِ، قال: ثنا أبو أسامةَ، قال: ثني الجُرَيْرِىّ سعيدُ ابنُ إياس أبو مسعودٍ، قال: ثنى أبو نَضْرَةَ، قال: كان عمرُ بنُ الخطاب رضي الله عنه إذا أُقيمتِ الصلاةُ استقبل الناسَ بوجهِه، ثم قال: أَقيموا صُفُوفَكم واستَوُوا، فإنما يريدُ الله بكم هَدْىَ الملائكةِ، يقولُ: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ
(1)
أخرجه البيهقي في الشعب (159) من طريق أبي معاوية به، وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 158، والفريابي -كما في الدر المنثور 5/ 293 - ومن طريقه الطبراني (9042) من طريق الأعمش به، وسقط مسروق عند الطبراني، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 293 إلى سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
بعده في ص، م، ت 1:"قدماه". وبعده في ت 2، ت 3:"قدامه". وينظر مصدر التخريج.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في التفسير 2/ 158 عن الثورى به.
(4)
بعده في م، ت 2:"يا فلان".
(5)
أخرجه ابنُ أبي حاتم في تفسيره -كما في تفسير ابنُ كثير 7/ 39 - من طريق أبي نضرة به، وذكره القرطبي في تفسيره 15/ 138.
الْمُسَبِّحُونَ}. ثم ذكَر نحوَه.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابنُ عباس قوله:{وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُونَ} . قال: يعنى الملائكة، {وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ}. قال: الملائكةُ صافون تسبِّحُ للَّهِ عز وجل
(1)
.
حدثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُونَ} . قال: الملائكة
(2)
.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا سليمانُ، قال: ثنا أبو هلالٍ، عن قتادةَ:{وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ} . قال: الملائكة
(3)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله:{وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ} . قال: صُفُوفٌ في السماءِ، {وَإِنَّا لَنَحْنُ المُسَبِّحُونَ}. أي: المصلّون، وهذا قولُ الملائكةِ يُثنون بمكانِهم من العبادةِ
(4)
.
حدَّثنا محمد بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمد بنُ المُفَضَّلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ في قولِه:{وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُونَ} . قال: للصلاةِ.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، قال: ذكَر السديُّ، [عن عبد الله]
(5)
، قال: ما في السماءِ مَوضِعُ شِبْرٍ إلا عليه جبهةُ مَلَكٍ أو قدماه، ساجدًا أو
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 292 إلى المصنف وعبد الرزاق وعبد بنُ حميد.
(2)
تفسير مجاهد ص 571، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 292 إلى عبد بن حميد.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 158 من طريق معمر عن قتادة به.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 294 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن أبي حاتم.
(5)
سقط من: ت 1.
قائمًا أو راكعًا. قال: ثم قرَأ هذه الآيةَ: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} .
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهب، قال: قال ابنُ زيدٍ في قوله: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُونَ} . قال: الملائكة، هذا كلُّه لهم.
وقوله: {وَإِن كَانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْرًا مِّنَ الْأَوَّلِينَ} . يقول تعالى ذكرُه: وكان هؤلاء المشركون من قريشٍ يقولون، قبلَ أن يُبعثَ إليهم محمدٌ صلى الله عليه وسلم نبيًّا:
{لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِين} . يعنى كتابًا أُنزِلَ مِن السماء؛ كالتوراةِ يعني والإنجيلِ، أو نبيًّا أتانا، مثلَ الذى أتى اليهودَ والنصارى -
لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الذين أخلَصهم لعبادِته، واصطفاهم لجنتِه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَإِن كَانُوا ليَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} . قال: قد قالت هذه الأمّةُ ذاك قبلَ أن يُبعثَ محمد صلى الله عليه وسلم: لو كان عندنا ذكرٌ من الأولين، لكنا عبادَ اللَّهِ المخلصين. فلما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم كفروا به، فسوف يعلمون
(1)
.
حدَّثنا محمد بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المُفضَّلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السدىِّ في قولِه:{ذِكْرًا مِّنَ الْأَوَّلِينَ} . قال: هؤلاء ناسٌ من مشركي العرب قالوا: لو أن عندَنا كتابًا من كُتُبِ الأوّلين، أو جاءنا علمٌ من علم الأوّلين. قال: قد جاءكم
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 294 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن أبي حاتم.
محمدٌ بذلك.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهب، قال: قال ابنُ زيد: رجَع الحديثُ إلى الأولين أهلِ الشركِ: {وَإِن كَانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْرًا مِّنَ الْأَوَّلِينَ} .
حدِّثتُ عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: حدَّثنا عبيدٌ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكرًا مِّنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} : هذا قولُ مشركي أهلِ مكةَ، فلما جاءهم ذكرُ الأولين وعلمُ الآخرين، كفروا به، فسوف يعلمون.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170) وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173)} .
يقول تعالى ذكرُه: فلما جاءهم الذكرُ من عندِ اللَّهِ كَفَروا به، وذلك كفرُهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبما جاءهم به من عندِ اللهِ من التنزيلِ والكتابِ، يقولُ اللَّهُ:{فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} إذا ورَدوا عليَّ، ماذا لهم من العذابِ بكفرِهم بذلك.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهُل التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثني محمد بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباس قوله:{لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} . قال: لما جاء المشركين من أهل مكةَ ذكرُ الأولينَ وعِلمُ الآخرينَ، كفَروا بالكتابِ، {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}
(1)
.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 294 إلى المصنف وابن مردويه.
[حدَّثنا محمد بنُ الحسين، قال: حدَّثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ: {فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}]
(1)
. يقولُ: قد جاءكم محمدٌ بذلك، فكفَروا بالقرآنِ وبما جاء به محمدٌ عليه السلام.
وقوله: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: ولقد سبَق منا القولُ لرُسُلنا:
{إِنَّهُمْ هُمُ الْمَنصُورُونَ} . أي: مضَى بهذا منّا القضاءُ والحكمُ في أمِّ الكتابِ، وهو أنهم لهم النُّصرةُ والغلبَةُ بالحجج.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ} حتى بلَغ: {لَهُمُ الْغَالِبُونَ} . قال: سبق هذا من اللهِ لهم؛ أن ينصرَهم.
حدَّثنا محمد بن الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المفضلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ في قوله:{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) [إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ} . يقولُ: بالحجج
(2)
.
وكان بعضُ أهلِ العربيةِ يتأولُ ذلك: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ} ]
(3)
بالسعادةِ. وذُكِر أن ذلك في قراءةِ عبدِ اللَّهِ: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا على عبادِنا المُرْسَلِينَ)
(4)
. فجُعِلت "على" مكانَ اللامِ، فكأن المعنى: حقَّت عليهم ولهم. كما قيل: على مُلكِ سليمانَ. و: في مُلكِ سليمانَ. إذ كان معنى ذلك واحدًا.
(1)
سقط من: م.
(2)
ذكره الطوسي في التبيان 8/ 492.
(3)
سقط من: ت 1.
(4)
وهي قراءة شاذة.
وقوله: {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَلِبُونَ} . يقولُ: وإن حزبَنا وأهلَ ولايتنا {لَهُمُ
(1)
الْغَالِبُونَ}. يقولُ: لهم الظفرُ والفَلَحُ
(2)
على أهل الكفرِ بنا والخلافِ علينا.
القول في تأويل قولِه تعالى: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177)} .
يعني تعالى ذكرُه بقوله: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ} : فأعرِض عنهم إلى حينٍ.
واختلَف أهلُ التأويلِ في هذا الحينِ؛ فقال بعضُهم: معناه: إلى الموت.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ} . أي: إلى الموتِ
(3)
.
وقال آخرون: إلى يومِ بدرٍ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المفضلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ في قوله:{فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ} . قال: حتى يومِ بدرٍ
(4)
.
وقال آخرون: معنى ذلك: إلى يوم القيامةِ.
(1)
سقط من: ص، ت 1.
(2)
في م: "الفلاح". وفى ت 3: "الفلج". والفَلَح: أي الفوز والبقاء. والفَلج والفلح بمعنًى. ينظر النهاية 3/ 469، والتاج (ف ل ح).
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 294 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن أبي حاتم.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 294 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيد في قوله: {فَتَوَلَّ عَنهُم حَتَّى حِينٍ} . قال: يومِ القيامةِ.
وهذا القولُ الذى قاله السدىُّ أشبهُ بما دلَّ عليه ظاهرُ التنزيلِ، وذلك أن اللهَ وعَدهم بالعذابِ الذى كانوا يستعجِلونه، فقال:{أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ} . وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يُعْرِضَ عنهم
(1)
إلى مجيءِ حينهِ، فتأويلُ الكلامِ: فتولَّ عنهم يا محمدُ إلى حين مجئِ عذابِنا ونزولِه بهم.
وقولُه: {وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} . يقولُ: وأنظِرْهم فسوفَ يرَون ما يحِلُّ بهم من عقابِنا.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} . حين لا ينفعُهم البصرُ
(2)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زِيدٍ في قوله: {وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} . [يقولُ: أنظِرْهم فسوفَ يبصِرون ما لهم]
(3)
بعدَ اليومِ، قال: يقولُ: يبصِرون يومَ القيامةِ ما ضيَّعوا من أمرِ اللَّهِ، وكفرهم باللهِ ورسولِه وكتابِه، قال:
(1)
في م: "عليهم".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 294 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن أبي حاتم.
(3)
في ت 1: "ما هم فيه".
فـ: {أَبْصِرْهُمْ} و: {أَبْصِرِ} واحدٌ
(1)
.
وقوله: {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ} . يقولُ: أَفبنزولِ عذابِنا بهم يستعجِلونك يا محمدُ؟! وذلك قولُهم للنبي صلى الله عليه وسلم: {ومَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [يس: 48].
وقوله: {فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ} . يقولُ: فإذا نزَل بهؤلاء المشرِكين المستعجِلين بعذابِ اللهِ العذابُ. والعربُ تقولُ: نزَل بساحةِ فلانٍ العذابُ والعقوبةُ. وذلك إذا نزَل به، والساحةُ: هى فناءُ دارِ الرجلِ، {فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ}. يقولُ: فبئسَ صباحُ القومِ الذين أنذَرهم رسولُنا نزولَ ذلك العذابِ بهم، فلم يصدِّقوا به.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بن الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المفضلِ، قال: ثنا أسباط، عن السدى في قوله:{فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ} . قال: بدارِهم، {فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ}. قال: بئسما يُصبحون
(2)
.
القولُ في تأويل قوله تعالى: {وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)} .
يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم: وأعرض يا محمدُ عن هؤلاء المشرِكين، وخلِّهم وفِريَتَهم على ربِّهم، {حَتَّى حِينٍ}. يقولُ: إلى حينِ يأذن الله بهلاكهم،
(1)
ذكره بنحوه الطوسي في التبيان 8/ 492.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 294 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
{وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} . يقولُ: وأنظِرْهم فسوف يرَوْن ما يحِلُّ بهم من عقابِنا، في حين لا تنفعُهم التوبةُ، وذلك عندَ نزولِ بأسِ اللهِ بهم.
وقوله: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: تنزيهًا لربِّك يا محمدُ، وتبرئةً له، {رَبِّ الْعِزَّةِ}. يقولُ: ربِّ القوةِ والبطشِ، {عَمَّا يَصِفُونَ}. يقولُ: عما يصفُ هؤلاء المفترُون عليه من مشرِكي قريشٍ، من قولهم: ولَد اللهُ. وقولِهم: الملائكةُ بناتُ اللهِ. وغير ذلك من شركِهم وفِرْيتِهم على ربِّهم.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة:{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّة عَمَّا يَصِفُونَ} . أي: عما يكذِبون، يسبِّحُ نفسَه إذ
(1)
قيل عليه البُهتانُ
(2)
.
وقوله: {وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} . يقولُ: وأمَنَةٌ من اللهِ للمرسلين، الذين أرسلهم إلى أممِهم، الذين ذكَرهم في هذه السورة وغيرهم - من فزعِ يومِ العذابِ الأكبرِ، وغيرِ ذلك من مكروهٍ أن ينالَهم من قِبلِ اللهِ تبارك وتعالى.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة:{وَسَلَامٌ عَلَى المُرْسَلِينَ} . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا سلَّمتم عَليَّ فسلِّموا على المرسَلين، فإنما أنا رسولٌ من المرسَلين"
(3)
.
(1)
في ص، م:"إذا".
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 159 من طريق معمر عن قتادة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 294 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
أخرجه ابنُ أبي حاتم في تفسيره - كما في تفسير ابن كثير 7/ 41 من طريق سعيد به، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره - كما في تفسير ابن كثير من طريق شيبان عن قتادة، عن أنس، عن أبي طلحة مرفوعًا، =
{وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: والحمدُ للهِ رَبِّ الثَّقَلَين؛ الجنِّ والإنسِ، خالصًا دون ما سواه؛ لأن كلَّ نعمةٍ لعبادِه فمنه، والحمدُ له خالصٌ، لا شريكَ له فيه، كما لا شريكَ له في نعمِه عندَهم، بل كلُّها من قِبَلِه، ومن عندِه.
آخرُ تفسيرِ سورةِ الصافاتِ
= وأخرجه أبو الشيخ في طبقات أصبهان 2/ 167 من طريق أبى العوام عن قتادة، عن أنس مرفوعًا، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 294 إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر.