الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
تفسيُر سورةِ "ص"
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ
(2)}.
قال أبو جعفرٍ: اختلَف أهلُ التأويلِ في معنى قولِ اللهِ عز وجل: {ص} ؛ فقال بعضُهم: هو من المصاداة، من: صادَيتُ فلاناً. وهو أمرٌ من ذلك؛ كأن معناه عندَهم: صادِ بعملك القرآنَ. أي: عارِضه به. ومَن قال: هذا تأويله. فإنه يقرؤُه بكسرِ الدال؛ لأنَّه أمرٌ، وكذلك رُوِى عن الحسنِ
(1)
.
ذكرُ الروايةِ بذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، قال: قال الحسنُ: (صادِ). قال: حادِثِ القرآنَ
(2)
.
وحُدِّثتُ عن عليِّ بن عاصمٍ، عن عمرِو بن عبيدٍ، عن الحسنِ في قولِه:(صادِ). قال: عارِض القرآن بعملِك.
حُدِّثتُ عن عبد الوهاب، عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن، في قوله:(صادِ والقرآنِ). قال: عارِضِ القرآن. قال عبدُ الوهابِ: يقولُ: اعرِضه على عملِك،
(1)
وكذا قرأ أُبي وابن أبي إسحاق وأبو السمال وابن أبي عبلة ونصر بن عاصم. ينظر مختصر الشواذ ص 129، والبحر المحيط 7/ 383.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 296 إلى المصنف وعبد بن حميد.
فانظُرْ أينَ عملُك من القرآنِ
(1)
.
حدثني أحمدُ بنُ يوسفَ، قال: ثنا القاسمُ، قال: ثنا حجاجٌ، عن هارونَ، عن إسماعيلَ، عن الحسنِ، أنه كان يقرأُ:(صادِ والقرآنِ) بخفضِ الدالِ، وكان يجعلُها من المصاداةِ، يقولُ: عارِضِ القرآن
(2)
.
وقال آخرون: هي حرفُ هجاءٍ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المفضلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ: أما {ص} فمن الحروفِ
(3)
.
وقال آخرون: هو قَسمٌ أقسَم اللهُ به.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابنُ عباسٍ قوله:{ص} . قال: قَسَمٌ أقسَمه اللهُ، وهو من أسماءِ اللهِ
(4)
.
وقال آخرون: هو اسمٌ من أسماء القرآنِ، أقسَم اللهُ به.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{ص} . قال: هو
(1)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 296 إلى المصنف.
(2)
ينظر التبيان 8/ 495.
(3)
تقدم تخريجه في 1/ 208.
(4)
تقدم تخريجه في 1/ 207.
اسمٌ من أسماءِ القرآنِ، أقسم الله به
(1)
.
وقال آخرون: معنى ذلك: صدَق اللهُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حُدِّثتُ عن المسيبِ بنِ شريكٍ، عن أبى روقٍ، عن الضحاكِ في قولِه:{ص} . قال: صدَق اللهُ
(2)
.
واختلفت القرأةُ في قراءةِ ذلك؛ فقرَأته عامةُ قرأةِ الأمصارِ خلا عبدَ اللَّهِ بنَ أبى إسحاق وعيسى بن عمر، بسكونِ الدالِ، فأما عبدُ اللَّهِ بن أبي إسحاقَ فإنه كان يكسِرُها؛ لاجتماعِ الساكِنَين، ويجعلُ ذلك بمنزلِة الأداةِ؛ كقولِ العربِ: تركته حاتِ باثِ، وخازِ بازِ. يُخفضانِ من أجلِ أن الذى يلى آخرَ الحروفِ ألفٌ، فيَخفِضون مع الألفِ، ويَنصِبون مع غيرِها، فيقولون: حيثَ بيثَ. و: لأجعَلنَّك في حيصَ بيصَ. إذا ضيَّق عليه
(3)
. وأما عيسى بنُ عمرَ فكان يوفِّقُ بينَ جميعِ ما كان قبل آخر الحروفِ منه ألفٌ، وما كان قبلَ آخرِه ياءٌ أو واوٌ، فيفتَحُ جميعَ ذلك ويَنصِبُه، فيقولُ:(صادَ)، و (قافَ)، و (نونَ)، و (ياسينَ)، فيجعل ذلك مثلَ الأداةِ؛ كقولِهم: ليتَ، وأين. وما أشبَهَ ذلك.
والصوابُ من القراءةِ في ذلك عندَنا السكونُ في كلِّ ذلك؛ لأن ذلك القراءةُ التي جاءت بها قرأةُ الأمصارِ مستفيضةً فيهم، وأنها حروفُ هجاءٍ لأسماءِ المسمياتِ، فيُعرَبْن إعرابَ الأسماءِ والأدواتِ والأصواتِ، فيُسلَكُ بهن مسالكِهن. فتأويلُها إذ كانت كذلك تأويل نظائرِها التي قد تقدَّم بيانُناها قبلُ فيما مضى
(4)
.
(1)
تقدم تخريجه في 1/ 204.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 296 إلى المصنف.
(3)
ينظر معاني القرآن 2/ 396.
(4)
ينظر ما تقدم في 1/ 213 - 228. ومعانى القرآن 1/ 9، 10.
وكان بعضُ أهلِ العربيةِ يقولُ: {ص} في معناها كقولِك: وجَب واللهِ. نزَل واللهِ، وحَقَّ واللهِ. وهى جوابٌ لقولِه:{وَالْقُرْءَانِ} كما تقولُ: حقًّا واللهِ، نزل واللهِ
(1)
.
وقوله: {وَالْقُرْءَانِ ذِى الذِّكْرِ} ؛ وهذا قسَمٌ أقسَمه اللهُ تبارك وتعالى بهذا القرآن، فقال:{وَالْقُرْءَانِ ذِى الذِّكْرِ} .
واختلف أهلُ التأويلِ في تأويلِ قولِه: {ذِى الذِّكْرِ} ؛ فقال بعضُهم: معناه: ذى الشرف.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا نصرُ بنُ عليٍّ، قال: ثنا أبو أحمدَ، عن قيسٍ، عن أبي حَصينٍ، عن سعيدٍ:{ص وَالْقُرْءَانِ ذِي الذِّكْرِ} . قال: ذى الشرفِ
(2)
.
حدَّثنا نصرُ بنُ عليٍّ وابنُ بشارٍ، قالا: ثنا أبو أحمدَ، عن مسعرٍ، عن أبي حَصينٍ:{ذِي الذِّكْرِ} : ذى الشرفِ
(2)
.
قال: ثنا أبو أحمدَ، عن سفيانَ، عن إسماعيلَ، عن أبي صالحٍ أو
(3)
غيرِه: {ذِي الذِّكْرِ} : ذى الشرفِ
(2)
.
حدَّثنا محمد بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المفضلِ، قال: ثنا أسباطُ، السدىِّ:{وَالْقُرْءَانِ ذِي الذِّكْرِ} . قال: ذى الشرفِ
(2)
.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا معاويةُ بنُ هشامٍ، عن سفيانَ، عن يحيى بنِ عُمارة، عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ:{ص وَالْقُرْءَانِ ذِي الذِّكرِ} : ذى
(1)
ينظر معانى القرآن 2/ 396، 397.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 43.
(3)
في ت 1: "و".
الشرفِ
(1)
.
وقال بعضُهم: بل معناه: ذى التذكيرِ؛ ذكَّركم اللهُ به.
ذكرُ مَن قال ذلك
حُدِّثتُ عن المسيبِ بن شريكٍ، عن أبى روقٍ، عن الضحاكِ:{ذِي الذِّكرِ} . قال: فيه ذكرُكم. قال: ونظيرتُها: {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ}
(2)
[الأنبياء: 10].
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{ذِي الذِّكرِ} . أي: ما ذكَّر فيه
(3)
.
وأولى القولَين في ذلك بالصوابِ قولُ مَن قال: معناه: ذى التذكير لكم؛ لأن اللهَ أتبَع ذلك قوله: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} . فكان معلومًا بذلك أنه إنما أخبَرعن القرآنِ أنه أنزَله ذكرًا لعبادِه ذكَّرهم به، وأن الكفارَ من الإيمانِ به في عِزَّةٍ وشقاقٍ.
واختُلِف في الذى وقَع عليه اسمُ القسمِ؛ فقال بعضُهم: وقَع القسمُ على قولِه: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةِ وَشِقَاقٍ} .
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 296 إلى المصنف، وذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 43.
(2)
ينظر تفسير البغوى 7/ 269.
(3)
ينظر التبيان 8/ 495.
عِزَّةِ". قال: هاهنا وقَع القَسَمُ
(1)
.
وكان بعضُ أهلِ العربيةِ يقولُ: {بَلِ} دليلٌ على تكذيبهم، فاكتُفِى بـ {بَلِ} من جواب القسمِ، وكأنه قيل:{ص} ما الأمرُ كما قلتُم، بل أنتم في عزَّةٍ وشقاقٍ.
وكان بعضُ نحويِّي البصرةِ
(2)
يقولُ: زعَموا أن موضعَ القسمِ في قولِه: {إِن كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ} [ص: 14]. وقال بعضُ نحويِّي الكوفةِ: قد زعَم قومٌ أن جوابَ {وَالْقُرْءانِ} قوله: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} [ص: 64]. قال: وذلك كلامٌ قد تأخَّر عن قولِه: {وَالْقُرْءَان} تأخُّرًا شديدًا، وجرَت بينهما قصصٌ مختلفةٌ، فلا نجدُ ذلك مستقيمًا في العربيةِ، والله أعلمُ.
قال: ويقالُ: إن قوله: {وَالْقُرْءانِ} يمينٌ، اعترض كلامٌ دون موقعِ جوابِها، فصار جوابُها جوابًا للمعترِضِ ولليمين، فكأنه أراد: والقرآن ذى الذكرِ، لَكُمْ أهلكنا. فلما اعترض قولُه:{بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ} صارت {كَمْ} جوابًا للعزَّةِ واليمين. قال: ومثله قوله: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس: 1]. اعترَض دونَ الجوابِ قولُه: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهُمَها} . فصارَت {قَدْ أَفْلَحَ} تابعةً لقولِه: {فَأَلْهْمَهَا} . وكفى من جوابِ القسمِ، فكأنه قال: والشمسِ وضحاها لقد أفلِح
(3)
.
والصوابُ من القولِ في ذلك عندى القولُ الذي قاله قتادةُ، وأن قولَه:{بَلِ}
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 296 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن الأنباري في المصاحف، وذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 43.
(2)
في م، ص، ت 1، ت:"الكوفة".
(3)
ينظر معانى القرآن للفراء 2/ 397.
لما دلَّت على التكذيب، وحلَّت محلَّ الجواب، استُغْنى بها من الجواب، إذ عُرِف المعنى، فمعنى الكلام إذ كان ذلك كذلك:{ص وَالْقُرْءَانِ ذِي الذِّكْرِ} ، ما الأمرُ كما يقولُ هؤلاء الكافرون، بل هم في عزّةٍ وشقاقٍ.
وقولُه: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} . يقولُ تعالى ذكرُه: بل الذين كفَروا بالله من مشرِكي قريشٍ في حميةٍ ومُشاقَّةٍ وفراقٍ لمحمدٍ وعداوةٍ، وما بهم ألاَّ يكونوا أهلَ علمٍ بأنه ليس بساحرٍ ولا كذابٍ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قوله:{فِي عِزَّةٍ} . قال: مُعازِّينَ
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} . أي: في حميةٍ وفراقٍ
(2)
. حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} . قال: يعادُونَ أمرَ اللهِ ورسلَه وكتابَه ويشاقُّون، ذلك عزةٌ وشقاقٌ. فقلتُ له: الشقاقُ الخلافُ؟ فقال: نعم.
القول في تأويل قوله تعالى: {كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ فَنَادَوا وَلَاتَ حِينَ
(1)
تفسير مجاهد ص 572 ومن طريقه الفريابي - كما في تغليق التعليق 4/ 295 وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 296 إلى عبد بن حميد.
(2)
وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 296 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن الأنباري في المصاحف، وذكره الحافظ في الفتح 8/ 545 عن سعيد به وعزاه إلى المصنف.
مَنَاصٍ}.
يقولً تعالى ذكرُه: كثيرًا أهلكنا من قبلِ هؤلاء المشركين من قريشٍ، الذين كذَّبوا رسولنا محمدًا صلى الله عليه وسلم فيما جاءهم به من عندِنا من الحقِّ - {مِّن قَرْنٍ}. يعني: من الأمم الذين كانوا قبلهَم، فسلَكوا سبيلَهم في تكذيب رسلهم فيما أتَوهم به من عندِ اللهِ، {فَنَادَوا}. يقولُ: فعَجُّوا إلى ربِّهم، وضجُّوا واستغاثُوا بالتوبة إليه حين نزَل بهم بأسُ اللَّهِ، وعاينُوا به عذابَه، فرارًا من عقابِه، وهربًا من أليمِ عذابِه، {وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ}. يقولُ: وليس ذلك حينَ فرارٍ ولا هربٍ من العذابِ بالتوبةِ وقد حقَّت كلمة العذابِ عليهم، وتابوا حينَ لا تنفعُهم التوبةُ، واستقالُوا في غيرِ وقت الإقالِة.
وقوله: {مَنَاصٍ} : مَفْعَلٌ من النَّوْصِ، والنوصُ في كلامِ العربِ التأخرُ، والمناصُ المَفْرُ
(1)
؛ ومنه قولُ امرئِ القيسِ
(2)
:
أمِنْ ذكرٍ سَلمَى إِذْ نَأَتْكَ تَنُوصُ
…
فتَقصُرُ عنها خُطوَةً أو تبوصُ
يقولُ: أو تَقَدَّمُ. يقالُ من ذلك: ناصَنى فلانٌ. إذا ذَهب عنك، وباصَني. إذا سبَقك، وناض في البلادِ. إذا ذَهب فيها، بالضادِ. وذكر الفراءُ أن العقيليَّ أنشَده:
إذا عاشَ إِسْحَاقٌ وَشَيْخُهُ لم أُبَلْ
…
فَقِيدًا وَلَمْ يَصْعُبْ عَلَىَّ مَناضُ
ولَوْ أَشْرَفَتْ مِنْ كُفَّةِ السِّتْرِ عاطِلًا
…
لَقُلْتُ غَزَالٌ ما عَلَيْهِ خُضَاضُ
والخضاض: الحليُّ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
(1)
بعده في ت 2، ت 3:"يقال منه: قد ناص فلان ينوص نوصا فأما البوص فالتقدم".
(2)
ديوانه ص 177.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن أبي إسحاقَ، عن التميميِّ، عن ابن عباسٍ في قولِه:{وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ} . قال: ليس بحينِ نَزوٍ، ولا حينِ فرارٍ
(1)
.
حدَّثنا أبو كُرَيبٍ، قال: ثنا ابنُ علية
(2)
، قال: ثنا إسرائيلُ، عن أبي إسحاقَ، عن التميميِّ، قال: قلتُ لابنِ عباسٍ: أرأيتَ قولَ اللهِ: {وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ} ، قال: ليس بحينِ نَزوٍ ولا فرارٍ؛ ضُبط القومُ
(3)
.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا حكامٌ، عن عنبسة، عن أبي إسحاقَ الهمدانيِّ، عن التميميِّ، قال: سأَلتُ ابنَ عباسٍ عن
(4)
قولِ اللَّهِ: {وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ} . قال: ليس حينَ نزوٍ ولا فرارٍ
(5)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:{وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ} . قال: ليسَ حينَ نَزو ولا فرارٍ.
حدثني عليٌّ، قال: ثنا عبدً اللهِ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ} . يقولُ: ليسَ حينَ مَغاثٍ
(6)
.
(1)
تفسير الثورى ص 256.
(2)
في النسخ: "عطية". وقد تقدم مرارا.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 160، والحاكم 2/ 432، 433 من طريق إسرائيل به.
(4)
سقط من: ص، م.
(5)
أخرجه الطيالسي - كما في تفسير ابن كثير 7/ 44 - من طريق أبي إسحاق به. وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 160 من طريق أبي إسحاق عن رجل من بنى تميم أنه سأل ابن عباس
…
، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 296 إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر.
(6)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره - كما في الإتقان 2/ 40 من طريق أبي صالح به بلفظ "فرار". وذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 44 عن على بن أبي طلحة به.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ:{وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ} . قال: ليس هذا بحينِ فرارٍ
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة:{فَنَادَوا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ} . قال: نادى القومُ على غير حين نداءٍ، وأرادُوا التوبةَ حين عايَنوا عذابَ الله، فلم يُقبل منهم ذلك
(2)
.
حدَّثنا محمد بن الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المفضلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ قولَه:{وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ} . قال: حينَ نزَل بهم العذابُ لم يستطيعوا الرجوعَ إلى التوبةِ، ولا فرارًا من العذابِ.
حُدِّثتُ عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: ثنا عبيدٌ، قال: سمعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {فَنَادَوا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ} . يقولُ: وليس حينَ فرارٍ
(3)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ} : ولاتَ حِينَ مَنْجِّى ينجُون منه.
ونُصب {حِينَ} في قوله: {وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ} تشبيها لـ"لات" بـ"ليس"، وأُضمِر فيها اسمُ الفاعل.
وحكَى بعضُ نحويِّى أهلِ البصرةِ الرفعَ مع "لاتَ" في "حينُ"، زُعم أن
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 296 إلى المصنف والفريابي وعبد بن حميد.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 160 عن معمر، عن قتادة إلى قوله:"حين نداء". وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 296 إلى عبد بن حميد.
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 44.
بعضهم رفَع: (وَلَاتَ حِينُ مَناصٍ) فجعَله في قولِه مثلَ
(1)
"ليس"، كأنه قال: ليس. وأضمَر الخبرَ. قال: وفي الشعرِ
(2)
:
طلَبوا صُلْحَنا ولاتَ أوانِ
…
فأجَبنا أن ليسَ حينَ بقاءِ
فجرَّ (أوان)، وأضمَر الحيَن، [وأضاف]
(3)
إلى "أوان"؛ لأن "لاتَ" لا تكونُ إلا مع الحينِ. قال: ولا تكونُ "لات" إلا مع "حين"
(4)
.
وقال بعضُ نحويِّى الكوفةِ
(5)
: من العرب من يضيفُ "لاتَ" فيخفضُ بها، وذكَر أنه أُنْشِد:
* لاتَ ساعةِ مَندَمِ *
بخفضِ الساعةِ، قال: والكلام أن يُنصب بها؛ لأنها في معنى "ليس". وذكَر أنه أُنشِد:
تَذَكَّرَ حَبَّ ليلى لاتَ حينا
…
وأضحَى الشيبُ قد قطع القرينا
قال: وأنشدني بعضُهم:
طلبوا صُلْحَنا ولات أوان
…
فأجَبنا أن ليسَ حيَن بقاءِ
بخفضِ "أوان". قال: وتكونُ "لات" مع الأوقات كلِّها.
واختلَفوا في وجهِ الوقفِ على قولِهِ
(6)
{وَلَاتَ حِينَ} ؛ فقال بعضُ أهلِ
(1)
سقط من: ص، م، ت 1.
(2)
البيت لأبي زبيد الطائي، وهو في شعره ص 30.
(3)
سقط من: ص، م، ت 1.
(4)
ينظر الكتاب لسيبويه 1/ 58 - 60، والبحر المحيط 7/ 383، 384.
(5)
هو الفراء، ينظر معاني القرآن 2/ 397.
(6)
في م، ت 1:"قراءة".
العربية: الوقفُ عليه "ولاتْ" بالتاءِ، ثم يُبتدأُ: حينَ مناصٍ. قالوا: وإنما هي "لا" التي بمعنى "ما" و"إن" في الجحدِ، وُصِلَت بالتاءِ، كما وُصِلت "ثُمَّ" بها، فقيل:"ثُمَّت"، وكما وُصِلَت "ربَّ"، فقيل:"رُبَّت".
وقال آخرون منهم: بل هى هاءٌ زيدت في "لا"، فالوقفُ عليها "لاه"؛ لأنها هاءٌ زيدت للوقفِ، كما زيدَت في قولِهم
(1)
:
العاطِفُونَةَ حِينَ ما مِنْ عاطِفٍ
…
والمُطْعِمُونَةَ حِينَ أَيْنَ المُطعِمُ
فإذا وُصِلت صارت تاءً.
وقال بعضُهم: الوقفُ على "لا"، والابتداءُ بعدَها "تحينَ"، وزعَم أن حكمَ التاءِ أن تكونَ في ابتداءِ "حينَ"، و"أوانَ"، و"الآنَ"؛ ويَسْتَشْهِدُ لقيلِه ذلك بقولِ الشاعرِ
(2)
:
نَوِّلِي قبل يومِ سَبي جمانا
…
وصِلينا كما زَعَمْتِ تَلانا
وأنَّه ليس هاهنا "لا"، فيُوصَلَ بها هاءٌ أو تاءٌ. ويقولُ: إن قوله: {وَلَاتَ حِينَ} ، إنما هي ليس "حينَ"، ولم توجد "لاتَ" في شيءٍ مِن الكلام
(3)
.
والصواب من القولِ في ذلك عندَنا، أن "لا" حرفُ جحدٍ كـ "ما" وإن وُصلت بهاءٍ تصيرُ في الوصلِ تاءً، كما فعلتِ العربُ ذلك بالأدواتِ، ولم تستعملْ ذلك
(4)
للعلةِ التى اعتلَّ بها القائلُ أنه لم يجدْ "لاتَ" في شيءٍ من كلامِ العربِ،
(1)
البيت لأبي وجزة، وهو مركب من مصراعي بيتين. وهو في اللسان (ل ى ت، ح ى ن)، وخزانة الأدب 4/ 175.
(2)
البيت لعمرو بن أحمر الباهلي. وهو في اللسان (ح ى ن)، وخزانة الأدب 4/ 179.
(3)
ينظر القرطبي 15/ 146 - 149.
(4)
بعده في م: "كذلك مع لا المدة إلا للأوقات دون غيرها، ولا وجه"، وبعده في ت 2، ت 3:"كذلك مع "لا" الأوقات دون غيرها ولا وجه".
فيجوزَ توجيهُ قوله: {وَلَاتَ حِينَ} إلى ذلك؛ لأنها تستعملُ الكلمةَ في موضعٍ، ثم تستعمِلُها في موضعٍ آخر بخلافِ ذلك، وليس ذلك بأبعدَ في القياسِ من الصحةِ من قولِهم: رأيتُ. بالهمز، ثم قالوا: فأنا أراه. بتركِ الهمزِ؛ لما جرَى به استعمالُهم، وما أشبَه ذلك من الحروف التى تأتى في موضع على صورةٍ، ثم تأتى بخلافِ ذلك في موضعٍ آخر؛ للجارى من استعمال العرب ذلك بينَها. وأما ما استشهَد به من قول الشاعرِ:"كما زعَمْتِ تَلانا". فإن ذلك منه غلطٌ في تأويلِ الكلمِة، وإنما أراد الشاعرُ بقولِه:"وصِلينا كما زعَمْتِ تَلانا": وصلينا كما زعَمتِ أنتِ الآن، فأسقَط الهمزةَ من "أنتِ"، فَلَقِيتِ التاءُ من "زعمتِ" النونَ من "أنت"، وهى ساكنةٌ، فسقطَت من اللفظِ، وبقيَتِ التاءُ من "أنت"، ثم حذفت الهمزة من من "الآنَ"، فصارت الكلمة في اللفظ كهيئةِ" تلانَ"، والتاء الثانية على الحقيقةِ منفصلةٌ من "الآنَ"؛ لأنها تاءُ "أنتِ"، وأما زعمُه أنه رأَى في المصحفِ الذي يقالُ له:"الإمامُ". التاء متصلةً بـ {حِينَ}
(1)
، فإن الذي جاءت به مصاحفُ المسلمين في أمصارِها، هو الحجةُ على أهلِ الإسلامِ، والتاءُ في جميعها منفصلةٌ عن {حِينَ}؛ فلذلك اختَرنا أن يكونَ الوقفُ على الهاءِ في قولِه:{وَلَاتَ حِينَ} .
القول في تأويل قوله تعالى: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5)} .
يقولً تعالى ذكرُه: وعجب هؤلاء المشركون من قريشٍ، أنْ جاءهم منذرٌ يُنذرُهم بأسَ اللهِ على كفرِهم به من أنفسِهم، ولم يأتِهم بملَكٍ من السماءِ بذلك، {وَقَالَ الكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ}. يقولُ: وقال المنكِرون وحدانيةَ اللهِ: هذا - يعنون محمدا صلى الله عليه وسلم - ساحرٌ كذابٌ.
(1)
هذا الزعم لأبي عبيد كما في تفسير القرطبي 15/ 148.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ} : يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم، فـ {قَالَ الكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ}
(1)
.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ قولَه:{سَاحِرٌ كَذَابٌ} . يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم.
وقولُه: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهَا وَحِدًا} . يقولُ: وقال هؤلاء الكافرون الذين لا قالوا: محمدٌ ساحرٌ كذابٌ: أجعل محمدٌ المعبوداتِ كلَّها معبودًا
(2)
واحدًا، يسمَعُ دعاءَ جميعِنا، ويعلمُ عبادةَ كلِّ عابدٍ عبَدَه منا؟! {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}. أي: إِن هذا لشيءٌ عجيبٌ.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} . قال: عجب المشركون أن دُعُوا إلى اللهِ وحدَه، وقالوا: يسمعُ لحاجاتِنا جميعًا إلهٌ واحدٌ؟! ما سمِعنا بهذا في الملةِ الآخرِة.
وكان سبب قيل هؤلاء المشركين ما أخبَر اللهُ عنهم أنهم قالوه من ذلك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم:"أسألُكم أنْ تُجيبونى إلى واحدةٍ تدينُ لكم بها العربُ، وتُعطيكم بها الخَراجَ العَجَمُ". فقالوا: وما هي؟ فقال: "تقولون: لا إله إلا الله". فعندَ ذلك قالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} ؟! تعجبًا منهم من ذلك.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 296 إلى المصنف وعبد بن حميد مطولا.
(2)
سقط من: م.
ذكرُ الروايةِ بذلك
حدَّثنا أبو كريبٍ وابنُ وكيعٍ، قالا: ثنا أبو أسامةَ، قال: ثنا الأعمشُ، قال: ثنا عبّادٌ، عن سعيدِ بنِ جبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: لما مرِض أبو طالبٍ دخَل عليه رهطٌ من قريشٍ فيهم أبو جهلِ بنُ هشامٍ، فقالوا: إن ابنَ أخيك يشتُمُ آلهتنا، ويفعلُ ويفعلُ، ويقولُ ويقولُ، فلو بعَثْت إليه فنهيتَه، فبعَث إليه، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم، فدخَل البيتَ، وبينَهم وبينَ أبي طالب قدرُ مجلسِ رجلٍ. قال: فخشي أبو جهلٍ إن جلَس إلى جنبِ أبي طالبٍ أن يكون أرقَّ له عليه، فوثَب فجلَس في ذلك المجلسِ، ولم يجِدْ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مجلسًا قربَ عمِّه، فجلَس عندَ البابِ، فقال له أبو طالبٍ: أي ابنَ أخي، ما بالُ قومِك يشكُونك؟ يزعُمون أنك تشتُمُ آلهتَهم، وتقولُ وتقولُ! قال: فأكثَروا عليه القولَ. وتكلَّم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقال:"يا عَمِّ إني أريدُهم على كلمةٍ واحدةٍ يقولونها، تَدينُ لهم بها العربُ، وتؤدِّى إليهم بها العَجَمُ الجزيةَ". ففزِعوا لكلمته ولقولِه، فقال القومُ: كلمةً واحدةً؟! نعم وأبيك عشرًا. فقالوا: وما هي؟ فقال أبو طالبٍ: وأيُّ كلمةٍ هى يا بنَ أخي؟ قال: "لا إله إلا الله". قال: فقاموا فزِعين ينقُضُون ثيابهم وهم يقولون: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} ! قال: ونزَلَت من هذا الموضعِ إلى قولِه: {لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ} . اللفظ لأبي كُرِيبٍ
(1)
.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا معاويةُ بن هشام، عن سفيانَ، [عن الأعمش]
(2)
، عن يحيى بنِ عُمارةً، عن سعيدِ بن جبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: مرِض أبو طالبٍ، فأتاه رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يعودُه، وهم حولَه جلوسٌ، وعندَ رأسِه مكانٌ فارغٌ، فقام أبو جهلٍ
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 46 عن المصنف، وأخرجه ابن أبي شيبة 14/ 299، وأحمد 5/ 393، 394 (3419)، والنسائي (11437 - كبرى)، والضياء في المختارة (416، 417) من طريق أبي أسامة به.
(2)
سقط من النسخ. والمثبت من الطرق قبله وبعده. وينظر تهذيب الكمال 31/ 475، 476.
فجلَس فيه، فقال أبو طالبٍ: يا بن أخي، ما لقومك يشكُونك؟ قال:"يا عَمِّ، أريدُهم على كلمةٍ تَدِينُ لهم بها العربُ، وتؤدِّى إليهم بها العَجَمُ الجزية". قال: ما هى؟ قال: "لا إله إلا الله". فقاموا وهم يقولون: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7)} . ونزل القرآنُ: {ص وَالْقُرْءَانِ ذِي الذِّكْرِ} : ذى الشرفِ، {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} حتى قوله:{أَجَعَلَ الأَلِهَةَ إِلَهًا وَحِدًا}
(1)
.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا يحيى بنُ سعيدٍ، عن سفيانَ، عن الأعمشِ، عن يحيى بن عُمارةً، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ، قال: مرض أبو طالبٍ. ثم ذكَر نحوَه، إلا أنه لم يقلْ: ذى الشرفِ. وقال: إلى قولِه: {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٍ عُجَابٌ}
(2)
.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن الأعمش، عن يحيى بنِ عُمارةَ، عن سعيدِ بن جبيرٍ، [عن ابنِ عباسٍ]
(3)
قال: مرِض أبو طالبٍ. قال: فجاء النبيُّ صلى الله عليه وسلم يعودُه، فكان عندَ رأسِه مَقعَدُ رجلٍ، فقام أبو جهل فجلَس فيه، فشكَوا النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي طالبٍ، وقالوا: إنه يقعُ في آلهتنا. فقال
(4)
: يا بن أخي، ما تريدُ إلى هذا؟ قال: "يا عمِّ، إنما
(5)
أريدُهم على كلمةٍ تَدينُ لهم بها العرب، وتؤدى إليهم العَجَمُ الجزية". قال: وما هى؟ قال: "لا إله إلا الله". فقالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}
(6)
!
(1)
أخرجه الضياء في المختارة (414) من طريق أبي كريب به.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة 3/ 359، وأحمد 3/ 458 (2008)، والترمذى عقب ح (3232)، والنسائي (11436 - كبرى)، والضياء في المختارة (416) من طريق يحيى بن سعيد به.
(3)
سقط من: النسخ. والمثبت من الطرق قبله ومصدر التخريج.
(4)
بعده في ص، ت 1، ت 2، ت 3 "له".
(5)
في م: "إني".
(6)
أخرجه أبو يعلى (2583)، ومن طريقه الضياء في المختارة (415)، من طريق عبد الرحمن بن مهدي به، وأخرجه عبد بن حميد - كما في الدر المنثور 5/ 295، وعنه الترمذى (3232)، والحاكم 2/ 432، والواحدي في أسباب النزول ص 275 من طريق سفيان به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.
القولُ في تأويل قوله تعالى: {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وانطلق الأشرافُ من هؤلاء الكافرين من قريشٍ، القائلين:{أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} بأن امضُوا فاصبروا على دينكم وعبادة آلهتِكم ف {أَنِ} من قوله: {أَنِ امْشُوا} في موضع نصبٍ، يتعلق انطلقوا بها، كأنه قيل: انطلِقوا مشيّا، ومُضيًّا على دينِكم. وذُكِر أن ذلك في قراءةِ عبدِ اللَّهِ:(وانطَلَق الملأُ منهم يمشُون، أن اصبِروا على آلهتِكم)
(1)
.
وذكِر أن قائلَ ذلك كان عُقْبَةَ ابن أبى مُعَيْطٍ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمن، قال: ثنا سفيانُ، عن إبراهيمَ بنِ مهاجرٍ، عن مجاهدٍ:{وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ} . قال: عقبةُ بن أبي معيطٍ
(2)
.
وقوله: {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} . أي: إن هذا القول الذى يقول محمدٌ، ويدعونا إليه، من قول: لا إلهَ إلا اللهُ. شيءٌ يريدُه منا محمدٌ، يطلبُ به الاستعلاءَ علينا، وأن نكونَ له فيه أتباعًا، ولسنا مُجيبيه إلى ذلك.
وقولُه: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ} . اختلفَ أهلُ التأويلِ في تأويلِه؛ فقال بعضُهم: معناه: ما سمِعنا بهذا الذى يدعونا إليه محمدٌ؛ من البراءةِ من جميعِ الآلهة إلا من اللهِ تعالى ذكرُه، وبهذا الكتابِ الذي جاء به - في الملةِ النصرانية. قالوا: وهى الملةُ الآخرةُ.
(1)
القراءة شاذة لمخالفتها المصحف.
(2)
تفسير سفيان ص 256. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 296، 297 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا عبدُ اللهِ، قال: ثني معاويةٌ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ} . يقولُ: النصرانية
(1)
.
حدَّثني محمدُ بن سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباس قوله:{مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ} : يعنى: النصرانية، فقالوا: لو كان هذا القرآنُ حقًّا، أخبَرَتْنا به النصارى
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ إسحاق، قال: ثنا يحيى بنُ معينٍ، قال: ثنا ابنُ عُيينةَ، عن ابن أبى لبيدٍ، عن القُرظِيِّ في قوله:{مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ} . قال: ملةِ عيسى
(3)
.
حدَّثني محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمد بنُ المفضلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ}
(4)
: النصرانية
(5)
.
وقال آخرون: بل عَنَوا بذلك: ما سمِعنا بهذا في دينِنا؛ دينِ قريشٍ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا حكامٌ، عن عنبسةَ، عن محمدِ بنِ عبدِ الرحمنِ، عن القاسمِ بن أبي بَزَّةَ، عن مجاهدٍ في قوله:{مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ} . قال: ملةِ قريشٍ.
(1)
ذكره الحافظ في الفتح 8/ 545 عن على بن أبي طلحة به وعزاه إلى المصنف.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 47 عن العوفى به.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 297 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4)
بعده في ت 2: "والملة الآخرة".
(5)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 47، والحافظ في الفتح 8/ 545.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ} . قال: ملةِ قريشٍ
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ} . أي: في ديننا هذا، ولا في زماننا قطُّ
(2)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيد في قوله: {مَا سَمِعْنَا بهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ}
(3)
: الدين الآخِرِ. قال: والملةُ الدينُ.
وقيل: إن الملأَ الذين انطلَقوا نفرٌ من مشيخةِ قريشٍ؛ منهم أبو جهلٍ، والعاصُ ابنُ وائل، والأسودُ بنُ عبدِ يغوثَ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمد بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمد بنُ المفضلِ، قال: ثنا أسباط، عن السدىٍّ: أن ناسًا من قريش اجتمعوا؛ فيهم أبو جهلِ بنُ هشامٍ، والعاص بنُ وائل، والأسودُ بنُ المطلب، والأسودُ بنُ عبدِ يغوث، في نفرٍ من مشيخة قريشٍ، فقال بعضُهم لبعض: انطلقوا بنا إلى أبى طالب، فلنكلِّمه فيه، فلْيُنصِفْنا منه، فيأمره فَلْيَكُفَّ عن شتم آلهتنا، ونَدَعَه وإلهَه الذي يَعبُدُ، فإنا نخافُ أن يموت هذا الشيخُ، فيكونَ مِنَّا شيء، فتُعَيّرنا العربُ؛ يقولون: تَرَكوه حتى إذا مات عمُّه تناولُوه. قال: فبعثوا رجلًا منهم يُدعَى المطَّلبَ، فاستأذن لهم على أبي طالبٍ، فقال: هؤلاء
(1)
تفسير مجاهد ص 572، ومن طريقه الفريابي، كما في الفتح 8/ 545.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 160 عن معمر عن قتادة بلفظ: هو الدين الذي نحن عليه. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 297 إلى عبد بن حميد.
(3)
بعده في م، ت 2، ت 3:"قال: الملة الآخرة".
مشيخةُ قومك وسَرَواتُهم يستأذنون عليك. قال: أدخلهم. فلما أُدخلوا عليه قالوا: يا أبا طالب، أنت كبيرنا وسيدنا، فأنصفنا من ابن أخيك، فمُرْه فليكُفَّ عن شتم آلهتنا، ونَدَعَه وإلهَه. قال: فبعث إليه أبو طالب؛ فلما دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا بنَ أخى، هؤلاء مشيخة قومك وسَرَواتُهم، وقد سألوك النَّصَفَ؛ أن تكفَّ عن شتم آلهتهم، ويَدَعُوك وإلهَك. قال: فقال: "أي عَمِّ، أَوَ لا أَدْعُوهم إلى ما هو خيرٌ لهم منها؟ ". قال: وإلامَ تدْعُوهم؟ قال: "أدْعُوهم إلى أن يتكلموا بكلمةٍ تَدين لهم بها العربُ، ويملكون بها العَجَمَ". قال: فقال أبو جهل من بين القومِ: ما هى وأبيك؟ لنُعطِينَّكَها وعشرَ أمثالِها. قال: "تقولون: لا إله إلا الله". قال: فنفَروا وقالوا: سَلْنا غيرَ هذه. قال: "لو جئتُموني بالشمسِ حتى تضعوها في يدى، ما سألتكم غيرَها". قال: فغضبوا، وقاموا من عنده غضابًا، وقالوا: واللَّهِ لنشتُمَنَّك وإلهك
(1)
الذى يأمرك بهذا. {وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى ءَالهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} إلى قوله: {إِلَّا اخْتِلَاقٌ} . وأقبل على عمِّه، فقال له عمِّه: يا بنُ أخى، ما شطَطْتَ عليهم. فأقبل على عمِّه، فدعاه فقال:"قل كلمةً أَشْهَدُ لك بها يومَ القيامةِ، تقول: لا إله إلا الله". فقال: لولا أن تعيبَكم بها العربُ، يقولون: جزِع من الموتِ لأعطَيتُكها، ولكن على ملةِ الأشياخِ. قال: فنزلت هذه الآيةُ: {إِنَّكَ لَا تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ}
(2)
[القصص: 56].
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ قوله:{وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى ءَالهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} . قال: نزلت حين انطلق أشراف قريشٍ إلى أبي طالبٍ، فكلَّموه في
(1)
سقط من: م، ت 2، ت 3.
(2)
ذكره السيوطي في الدر المنثور 5/ 295 إلى قوله: {إلا اختلاق} . وعزاه إلى المصنف وابن أبي حاتم.
النبي صلى الله عليه وسلم
(1)
.
وقوله: {إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ} . يقول تعالى ذكرُه مخبرا عن قيل هؤلاء المشركين في القرآن: ما هذا القرآن إلا اختلاقٌ. أي: كذبٌ اختلقه محمدٌ وتخرَّصه.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا عليٌّ، قال: ثنا عبدُ الله، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قوله:{إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ} . يقولُ: تخريصٌ
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ} . قال: كذبٌ
(3)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا حكامٌ، عن عنبسةَ، عن محمدِ بنِ عبدِ الرحمنِ، عن القاسم بنُ أبي بَزَّةَ، عن مجاهد:{إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ} . يقولُ: كذبٌ.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ} : إلا شيءٌ تَخَلَّقَه
(4)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمد بنُ المفضلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 296 إلى المصنف وابن مردويه.
(2)
تخريص: يقال: تخرص عليه فلان. إذا افترى وتكذب بالباطل. واخترص القول. إذا افتعله واختلقه. ينظر تاج العروس واللسان (خ ر ص)، والأثر أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره - كما في الإتقان 2/ 40 - من طريق أبي صالح به. وذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 47.
(3)
تفسير مجاهد ص 572 ومن طريقه الفريابي، كما في الفتح 8/ 545.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 297 إلى المصنف وعبد بن حميد.
السديِّ: {إِن هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ} اختلَقه محمدٌ صلى الله عليه وسلم.
حدَّثني يونس، قال: أخبرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ} : قالوا: إن هذا إلا كذبٌ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9)} .
يقولُ تعالى ذكرُه مخبرا عن قيل هؤلاء المشركين من قريش: أَأُنزلَ على محمدٍ الذكرُ من بيننا، فخُصَّ به، وليس بأشرفَ منا حسبًا؟!
وقوله: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي} . يقولُ تعالى ذكرُه: ما بهؤلاء المشركين ألَّا يكونوا أهلَ علمٍ بأن محمدًا صادقٌ، ولكنهم في شكّ من وحيِنا إليه، وفي هذا القرآنِ الذى أنزَلناه إليه أنه مِن عندِنا، {بَل لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابٍ}. يقولُ: بل لم ينزِلْ بهم بأسُنا، فيَذوقوا وبالَ تكذيبِهم محمدًا، وشكِّهم في تنزيلِنا هذا القرآن عليه، ولو ذاقوا العذابَ على ذلك علِموا وأيقَنوا حقيقةً ما هم به مكذِّبون، حينَ لا ينفعُهم علمُهم.
{أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ} . يقولُ تعالى ذكرُه: أم عندَ هؤلاء المشركين المنكرين وحىَ اللهِ إلى محمدٍ {خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ} . يعني: مفاتيحُ رحمةِ ربِّك يا محمدُ، {الْعَزِيزِ} في سلطانِه، {الْوَهَّابِ} لمن يشاءُ من خلقِه ما يشاءُ، من مُلكٍ وسلطانٍ ونبوةٍ - فيَمنَعوك يا محمدُ ما منَّ اللهُ به عليك من الكرامةِ، وفضَّلك به من الرسالة.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10) جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: أم لهؤلاء المشركين الذين هم في عِزةٍ وشقاقٍ {مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} ، فإنه لا يُعازُّنى ويُشاقُّنى [إلا من [كان له]
(1)
ذلك. يقولُ: ليس ذلك لأحدٍ غيرى، فكيف يُعازُّنى ويشاقُّني]
(2)
مَن كان في مُلكي وسلطاني!
وقولَه: {فَلْيَرَتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ} . يقولُ: وإن كان لهم مُلكُ السماواتِ والأرض وما بينهما، فلْيَصْعدوا في أبواب السماءِ وطُرقها، فإِنَّ مَن كان له مُلكُ شيءٍ، لم يتعذَّر عليه الإشرافُ عليه وتفقُّدُه وتعهُّدُه.
واختلَف أهلُ التأويلِ في معنى الأسبابِ التي ذكَرها اللهُ في هذا الموضعِ؛ فقال بعضهم: عُنِى بها أبوابُ السماءِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعُا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قوله:{فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ} . قال: طُرقِ السماءِ وأبوابِها
(3)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{فَلْيَرْتَقُوا فِي الأَسْبَابِ} . يقولُ: في أبوابِ السماءِ
(4)
.
(1)
في ت 1: كان كذلك له"، وفى ت 2، ت 3: "كان له ملك".
(2)
سقط من: م.
(3)
تفسير مجاهد ص 572. ومن طريقه الفريابي، كما في تعليق التعليق 4/ 296. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 297 إلى عبد بنُ حميد.
(4)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 160 عن معمر عن قتادة. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 297 إلى عبد بن حميد.
حدَّثنا محمد بنُ الحسين، قال: ثنا أحمد بنُ المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدى: أما قوله: {فِي الْأَسْبَابِ} . قال: أسباب السماوات.
حدَّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيد في قوله: {فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ} . قال: طُرقِ السماواتِ.
حُدِّثْتُ عن المحاربيٍّ، عن جُوَيبرٍ، عن الضحاك:{أَمْ لَهُم مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} . يقول: إن كان لهم ملكُ السماواتِ والأرضِ وما بينَهما، {فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ}. يقولُ: فليرتقُوا إلى السماءِ السابعةِ
(1)
.
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا عبدُ الله، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{فَلْيَرَتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ} . يقولُ: في السماءِ
(2)
.
وذُكِر عن الربيع بنِ أنسٍ في ذلك ما حُدِّثْتُ عن المسيب بنُ شريكٍ، عن أبى جعفرٍ الرازيِّ، عن الربيع بنُ أنسٍ، قال: الأسباب أدقُّ من الشعر، وأشدُّ من الحديد، وهو بكلِّ مكان غير أنه لا يُرَى
(3)
.
وأصلُ السببِ عندَ العربِ كلُّ ما تسبَّب به إلى الوصولِ إلى المطلوبِ؛ من حبلٍ، أو وسيلةٍ، أو رَحِمٍ، أو قرابةٍ، أو طريق، أو محجَّة، وغير ذلك.
وقولُه: {جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّنَ الْأَحْزَابِ} . يقولُ تعالى ذكرُه: هم {جُندٌ} . يعنى الذين في عزة وشقاقٍ، {هُنَالِكَ}. يعني: ببدرٍ {مَهْزُومٌ} .
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 48.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره - كما في الإتقان 2/ 40 - من طريق عبد الله بن صالح به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 297 إلى ابن المنذر.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 297 إلى المصنف.
وقولُه: {هُنَالِكَ} من صلةِ {مَهْزُومٌ} .
وقولُه: {مِنَ الْأَحْزَابِ} . يعنى: من أحزابِ إبليسَ وأتباعِه، الذين مضَوا قبلَهم فأهلَكهم اللهُ بذنوبِهم.
و {مِّنَ} من قوله: {مِنَ الْأَحْزَابِ} . من صلةِ قوله: {جُندٌ} .
ومعنى الكلامِ: هم جندٌ من الأحزاب مهزومٌ هنالِك. {مَّا} في قوله: {جُندٌ مَّا هُنَالِكَ} صلةٌ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّنَ الْأَحْزَابِ} . قال: قريشٌ، {مِّنَ الْأَحْزَابِ}. قال: القرون الماضية
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّنَ الْأَحْزَابِ} . قال: وعَده اللَّهُ وهو بمكة يومَئِذٍ أنه سيهزم جندًا من المشركين، فجاء تأويلها يومَ بدرٍ
(2)
.
وكان بعضُ أهل العربية يتأوَّلُ ذلك: {جُندٌ مَّا هُنَالِكَ} : مغلوبٌ عن أن يصعدَ إلى السماء.
(1)
تقدم أوله في ص 27.
(2)
ذكره الحافظ في الفتح 8/ 545 عن سعيد به وعزاه إلى المصنف، وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 161 عن معمر عن قتادة بنحوه. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 297 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
القولُ في تأويلِ قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: كذَّبت قبلَ هؤلاء المشركين مِن قريش، القائلين: أجعَل الآلهة إلهًا واحدًا. رسلَها - قومُ نوحٍ، وعادٌ، وفرعونُ ذو الأوتادِ.
واختلف أهلُ العلم في السبب الذى من أجلِه قيل لفرعونَ: {ذُو الْأَوْتَادِ} ؛ فقال بعضُهم: قيل ذلك له؛ لأنَّه كانت له ملاعبُ من أوتادٍ، يُلْعَبُ له عليها.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدِّثتُ عن عليِّ بنُ الهيثمِ، عن عبد الله بنِ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن سعيدِ بنِ جبير، عن ابنِ عباسٍ:{وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ} . قال: كانت ملاعبُ يُلعب له تحتَها
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قوله:{وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ} . قال: كان له أوتاد وأرسانٌ
(2)
، وملاعبُ يُلعبُ له عليها
(3)
.
وقال آخرون: بل قيل ذلك له كذلك؛ لتعذيبه الناسَ بالأوتادِ.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 348، إلى المصنف وعبد الرزاق وعبد بن حميد بنحوه. وذكره القرطبي في تفسيره 15/ 154.
(2)
الأرسان: جمع رَسَن، وهو الحبل الذى يقاد به البعير وغيره. اللسان (ر س ن).
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 371 عن معمر عن قتادةَ. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 297 إلى عبد بنُ حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمد بنُ الحسين، قال: ثنا أحمدُ بنُ المفضل، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ قوله:{ذُو الْأَوْتَادِ} . قال: كان يعذِّبُ الناس بالأوتاد، يعذِّبُهم بأربعةِ أوتادٍ، ثم يرفعُ صخرةً تُمدُّ بالحبالِ، ثم تُلْقَى عليه فتشدَخُه
(1)
.
حدِّثت عن عليِّ بنُ الهيثمِ، عن ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيع بنُ أنسٍ، قال: كان يعذبُ الناس بالأوتادِ.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ذو البنيانِ. قالوا: والبنيانُ هو الأوتادُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حُدِّثتُ عن المحاربيِّ، عن جُوَيبرٍ، عن الضحاكِ:{ذُو الْأَوْتَادِ} . قال: ذو البنيان
(2)
.
وأشبه الأقوالِ في ذلك بالصوابِ قولُ مَن قال: عُنِى بذلك الأوتادُ؛ إما لتعذيبِ الناسِ، وإما للعبٍ كان يُلْعَبُ له بها، وذلك أن ذلك هو المعروفُ من معنى الأوتاد.
{وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ} . وقد ذكرنا أخبارَ كلِّ هؤلاء فيما مضَى قبلُ من كتابِنا هذا، {وَأَصْحَبُ لَئَيْكَةِ}. يعنى: وأصحابُ الغَيْضةِ.
وكان أبو عمرو بنُ العلاءِ فيما حُدِّثتُ عن معمرِ بنِ المثنى، عن أبي عمرٍو، يقولُ: الأيكةُ الحَرجةُ من النبعِ والسِّدر وهو الملتفُّ، ومنه قولُ الشاعرِ:
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 348 إلى ابن أبي حاتم.
(2)
ذكره القرطبي في تفسيره 15/ 154.
أفمِن بكاءِ حمامةٍ في أَيْكَةِ
…
يَرْفَضُّ دَمْعُكَ فوقَ ظهرِ المِحْمَلِ
يعنى مِحْمَل السيفِ
(1)
.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَأَصْحَابُ لْئَيْكَةِ} . قال: كانوا أصحابَ شجرٍ. قال: وكان عامَّةُ شجرِهم الدَّوْمَ
(2)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسين، قال: ثنا أحمد بنُ المفضلِ، قال: ثنا أسباط، عن السدىِّ قوله:{وَأَصْحَابُ لْئَيْكَةِ} . قال: أصحابُ الغَيْضةِ
(3)
.
وقوله: {أَوْلَئِكَ الْأَحْزَابُ} . يقولُ تعالى ذكرُه: هؤلاء الجماعاتُ المجتمعةُ، والأحزابُ المتحزِّبةُ على معاصى اللهِ والكفرِ به، الذين منهم يا محمدُ مشرِكو قومِك، وهم مَسْلُوكٌ بهم سبيلُهم، {إِن كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ}. يقولُ: ما كلُّ هؤلاء الأمم إلا كذَّب رسلَ اللهِ. وهى في قراءةِ عبدِ اللَّهِ فيما ذُكِر لي: (إِن كُلٌّ ما كَذَّب الرُّسلَ)
(4)
، {فَحَقَّ عِقَابِ}. يقولُ: فوجَب عليهم عقابُ اللهِ إياهم
(5)
.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{إِن كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقِّ عِقَابِ} . قال: هؤلاء كلُّهم قد كذَّبوا الرسلَ، فحقَّ عليهم العذابُ
(6)
.
(1)
مجاز القرآن 2/ 178.
(2)
تقدم تخريجه في 14/ 100.
(3)
تقدم تخريجه في 10/ 322، 323.
(4)
كذا في النسخ، وفى معانى القرآن 2/ 400، ومختصر الشواذ ص 130:(إن كلهم لما كذب الرسل) وعلى كل فالقراءة شاذة.
(5)
ينظر معاني القرآن للفراء 2/ 400.
(6)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 297 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم. وتقدم ص 29.
القولُ في تأويلِ قوله تعالى: {وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15) وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: {وَمَا يَنظُرُ هَؤُلَاءِ} المشركون باللَّهِ من قريشٍ، {إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} . يعنى بالصيحةِ الواحدةِ النفخةَ الأولى في الصُّورِ، {مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ}. يقولُ: ما لتلك الصيحةِ
(1)
من فِيقةٍ. يعنى: من فتورٍ ولا انقطاعٍ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{مَا يَنظُرُ هَؤُلَاءِ إلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} . يعنى: أمةً محمد صلى الله عليه وسلم {مَّا لَهَا مِن فَواقٍ}
(2)
.
حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا المحاربيُّ، عن إسماعيلَ بنُ رافعٍ، عن يزيدَ بن زيادٍ، عن رجلٍ من الأنصارِ، عن محمدِ بنِ كعبٍ القُرَظيِّ، عن أبي هريرةَ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لمَّا فرَغ من خلق السماوات والأرض، خلق الصُّورَ، فأعطاه إسرافيلَ، فهو واضعُه على فِيهِ، شاخصٌ ببصره إلى العرشِ، يَنْتَظِرُ متى يُؤْمرُ". قال أبو هريرةَ: يا رسولَ اللَّهِ، وما الصُّورُ؟ قال:"قَرْنٌ". قال: كيف هو؟ قال: "قَرْن عظيمٌ، يُنفَخُ فيه ثَلاثُ نفخاتٍ؛ نفخةُ الفزع الأولى، والثانيةُ نفخةُ الصَّعْقِ، والثالثة نفخة القيامِ لربِّ العالمين، يأمرُ الله إسْرافيل بالنفخةِ الأولى، فيقولُ: انفخ نفخةَ الفزعِ. فيَفْزَعُ أهلُ السماواتِ وأهلُ الأرضِ إلا مَن شاء اللهُ، ويأمرُه اللهُ فَيُدِيمُها ويُطَوِّلُها فلا يفتُرُ، وهى التى يقولُ اللَّهُ: {مَا يَنظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا
(1)
في ت 2، ت 3:"النفخة".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 297 إلى المصنف وعبد بنُ حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
صَيْحَةً وَاحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ}
(1)
.
واختلَف أهل التأويل في معنى قوله: {مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ} ؛ فقال بعضُهم: يعنى بذلك: ما لتلك الصيحة من ارتدادٍ ولا رجوعٍ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا عبدُ اللهِ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابنِ عباسٍ:{مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ} . يقولُ: مِن تَرْدادٍ
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ:{مَّا لَهَا مِن فَواقٍ} . يقولُ: ما لها من رجعةٍ
(3)
.
حدَّثني محمد بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{مَّا لَهَا مِن فَواقٍ} . قال: من رجوعٍ
(4)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{مَا لَهَا مِن فَواقٍ} . يعنى الساعةَ، ما لها من رجوعٍ [ولا مَثْنَويَّةٍ]
(5)
ولا ارتدادٍ
(6)
.
(1)
تقدم تخريجه في 3/ 613.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم - كما في الإتقان 2/ 40 - من طريق عبد الله بنُ صالح به.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 297 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4)
تفسير مجاهد ص 572. ومن طريقه الفريابي، كما في تغليق التعليق 4/ 296. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 297 إلى عبد بنُ حميد.
(5)
سقط من: م. ومثنوية: يقال: حلف فلان يمينا ليس فيها ثُنْيا ولا ثَنْوَى ولا ثنية ولا مثنوية ولا استثناء، كله واحد. وأصل هذا كله من الثنى والكف والرد. ينظر لسان العرب (ث ن ى).
(6)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 161 عن معمر عن قتادةَ مختصرًا، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 297 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم. وتقدم أوله ص 29.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ما لهؤلاء المشركين بعدَ ذلك إفاقةٌ، ولا رجوعٌ إلى الدنيا.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمد بنُ المفضلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السدىِّ:{مَّا لَهَا مِن فَواقٍ} . يقولُ: ليس لهم بعدَها إفاقةُ ولا رجوعٌ إلى الدنيا
(1)
.
وقال آخرون: الصيحةُ فى هذا الموضعِ العذابُ. ومعنى الكلامِ: ما ينتظرُ هؤلاء المشركون إلا عذابًا يهلكهم، لا إفاقة لهم منه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زِيدٍ في قوله: {مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ} . قال: ما ينتظرون إلا صيحةً واحدةً ما لها من فَواقٍ، يالها من صيحةٍ لا يُفيقُون فيها كما يُفيقُ الذي يُغشَى عليه، وكما يفيقُ المريضُ - تهلكهم، ليس لهم فيها إفاقةٌ.
واختلفت القرأةُ فى قراءة ذلك؛ فقرأَته عامةُ قرأة المدينةِ والبصرةِ وبعضُ أهلِ الكوفة: {مِن فَوَاقٍ} . بفتحِ الفاءِ
(2)
، وقرَأته عامة قرأة أهل الكوفة:(مِن فُوَاقٍ). بضمِّ الفاءِ
(3)
.
واختلف أهلُ العربية فى معناها إذا قُرِئت بفتحِ الفاءِ، وضمِّها؛ فقال بعضُ
(1)
عزاه الحافظ في الفتح 8/ 545 إلى ابن أبي حاتم.
(2)
هي قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو وابن عامر وعاصم. التيسير ص 152.
(3)
هي قراءة حمزة والكسائي. المصدر السابق.
البصريين منهم: معناها إذا فُتِحت الفاءُ: ما لها من راحةٍ. وإذا ضُمَّت جعلها [مِن فُواقِ الناقةِ]
(1)
: ما بينَ الحَلْبَتين.
وكان بعضُ الكوفيين منهم يقولُ: معنى الفتح والضم فيها واحدٌ، وإنما هما لغتان مثلُ السَّوَافِ
(2)
والسُّوافِ، وجَمامِ المكُّوكِ
(3)
وجُمامِه، وقَصاصِ الشَّعرِ وقُصاصِه.
والصوابُ من القول فى ذلك أنهما لغتان، وذلك أنَّا لم نجد أحدًا من المتقدِّمين على اختلافهم في قراءته يفرِّقون بين معنى الضمِّ فيه والفتحِ، ولو كان مختلِفَ المعنى باختلافِ الفتحِ فيه والضمِّ لقد كانوا فرَّقُوا بين ذلك في المعنى. فإذ كان ذلك كذلك، فبأيِّ القراءتين قرأ القارئ فمصيبٌ. وأصلُ ذلك من قولهم: أفاقت الناقةُ، فهي تُفِيقُ إفاقةً. وذلك إذا درَّت
(4)
ما بين الرضعتين ولدَها إلى الرضعةِ الأخرى، وذلك أن تَرضَعَ البَهْمَةُ أمَّها، ثم تتركها حتى ينزل شيءٌ من اللبن، فتلك الإفاقةُ، يقالُ إِذا اجتمع ذلك فى الضَّرْعِ: فِيقةٌ
(5)
. كما قال الأعشى
(6)
:
حتى إذا فِيقَةٌ في ضَرْعِها اجتمعت
…
جاءت لتُرضِعَ شِقَّ النَّفْسِ لو رضَعا
وقوله: {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} . يقول تعالى ذكرُه: وقال هؤلاء المشركون بالله من قريشٍ: يا ربَّنا عجِّل لنا كُتُبَنا قبلَ يومِ القيامةِ. والقِطُّ
(1)
في ص، م، ت 2، ت 3:"فواق ناقة".
(2)
السواف: مرض أو وباء يصيب الإبل. ينظر الوسيط (س و ف).
(3)
المكوك: مكيال معروف لأهل العراق، وجمامه: الكيل إلى رأسه وما علا رأسه فوق طفافه. لسان العرب (م ك ك، ج م م).
(4)
فى م، ت 2، ت 3:"ردت".
(5)
ينظر معانى القرآن للفراء 2/ 400.
(6)
ديوانه ص 105.
في كلام العربِ الصحيفةُ المكتوبةُ، ومنه قولُ الأعشى
(1)
:
ولا الملِكُ النُّعمانُ يومَ لقيتَه
…
بنِعْمَتِه يُعْطِي القُطوطَ ويأفِقُ
يعنى بالقُطوطِ: جمعَ القِطِّ، وهي الكتبُ بالجوائزِ.
واختلف أهلُ التأويلِ فى المعنى الذى أراد هؤلاء المشركون بمسألتِهم ربَّهم تعجيلَ القِطِّ لهم؛ فقال بعضُهم: إنما سألوا ربَّهم تعجيلَ حظِّهم من العذابِ الذي أُعِدَّ لهم في الآخرة في الدنيا، كما قال بعضُهم:{إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32].
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنى علىٌّ، قال: ثنا عبدُ اللهِ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليِّ، عن ابنِ عباسٍ قوله:{عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا} . يقولُ: العذابُ
(2)
حدَّثني محمدُ بنُ سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:{وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} . قال: سألوا الله أن يعجل لهم العذاب قبل يوم القيامةِ
(3)
.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا حكامٌ، عن عنبسةَ، عن محمدِ بنِ عبدِ الرحمنِ، عن القاسمِ بنُ أبى بَزَّةَ، عن مجاهدٍ في قولِه:{عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا} . قال: عذابَنا.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ
(1)
ديوانه ص 219.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم - كما في الإتقان 2/ 40 - من طريق عبد الله بن صالح به.
(3)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 297 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
قوله: {عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا} . قال: عذابَنا
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} . أى: نصيبَنا؛ حظَّنا من العذابِ قبلَ يومِ القيامةِ. قال: قد قال ذلك أبو جهلٍ: اللهمَّ إن كان ما يقولُ محمدٌ حقًّا {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ} الآية
(2)
.
وقال آخرون: بل إنما سألوا ربَّهم تعجيلَ أنصِبائِهم [ومنازلِهم]
(3)
من الجنةِ حتى يرَوها، فيعلَموا حقيقةَ ما يَعِدُهم محمدٌ صلى الله عليه وسلم، فيؤمنوا حينئذٍ به ويصدِّقوه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المفضل، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ قوله:{عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا} . قالوا: أرِنا منازلنا في الجنة حتى نتابعَك
(4)
.
وقال آخرون: مسألتهم نصيبهم من الجنةِ، ولكنهم سأَلوا تعجيلَه لهم في الدنيا.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن ثابتٍ الحدَّاد، قال: سمِعتُ سعيدَ بنُ جُبَيرٍ يقولُ في قوله: {عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} .
(1)
تفسير مجاهد ص 573. ومن طريقه الفريابي، كما فى تغليق التعليق 4/ 296، وابن خزيمة في التوحيد ص 67. وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 297 إلى عبد بن حميد.
(2)
أخرجه عبد الرزاق فى تفسيره 2/ 161 عن معمر، عن قتادة، إلى قوله:"من العذاب". وقد تقدم أوله في ص 29.
(3)
سقط من: ص، ت 1.
(4)
ذكره القرطبي في تفسيره 15/ 157، والحافظ في الفتح 8/ 546 وعزاه إلى المصنف.
قال: نصيبنا من الجنةِ
(1)
.
وقال آخرون: بل سألوا ربَّهم تعجيلَ الرزقِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرَ بنُ عليٍّ، قال: ثنا أشعثُ السِّجِسْتانيُّ، قال: ثنا شعبةُ، عن إسماعيلَ بنُ أبي خالدٍ في قولِه:{عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا} . قال: رزقَنا
(2)
.
وقال آخرون: [بل سأَلوا الله]
(3)
أن يعجلَ لهم كتبَهم التي قال اللَّهُ: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} [الحاقة: 19]، {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ} [الحاقة: 25]. في الدنيا، لينظُروا بأيمانِهم يُعْطَوْنها أم بشمائلِهم؟ ولينظُروا من أهلِ الجنةِ هم، أم مِن أهلِ النارِ، قبلَ يومِ القيامةِ، استهزاءً منهم بالقرآنِ وبوعدِ اللهِ.
وأولى الأقوالِ فى ذلك عندى بالصوابِ أن يقالَ: إن القومَ سألوا ربَّهم تعجيلَ صِكاكِهم بحظوظِهم من الخيرِ أو الشرِّ، الذى وعَد اللهُ عبادَه أن يؤتِيَهموها
(4)
في الآخرةِ، قبلَ يومِ القيامةِ في الدنيا، استهزاءً بوعيدِ اللَّهِ.
وإنما قلنا: إن ذلك كذلك؛ لأن القِطَّ هو ما وصَفتُ من الكتبِ بالجوائزِ والحظوظِ، وقد أخبر اللهُ عن هؤلاءِ المشركين أنهم سأَلوه تعجيلَ ذلك لهم، ثم أتبع ذلك قولَه لنبيِّه:{اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} . فكان معلومًا بذلك أن مسألتَهم ما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم لو لم تكن على وجه الاستهزاءِ منهم، لم يكُن بالذي يُتبع
(5)
الأمرَ بالصبرِ
(1)
أخرجه ابن خزيمة في التوحيد ص 67 من طريق سفيان به.
(2)
أخرجه ابن خزيمة في التوحيد ص 68 عن محمد بنُ عمر به.
(3)
في م، ت 2، ت 3:"سألوا".
(4)
في ت 1: "يريهموها".
(5)
بعده في ت 2، ت 3:"ذلك".
عليه، ولكن لما كان ذلك استهزاءً، وكان فيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم أَذًى، أمره الله بالصبرِ عليه منهم، حتى يأتيَه قضاؤُه فيهم، ولما لم يكنْ فى قولِه:{عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا} . بيانُ أى
(1)
القُطوطِ [أراد بهم]
(2)
لم يكنْ لنا توجيهُ ذلك إلى أنه معنيٌّ به القُطوطُ، ببعضِ معانى الخير أو الشرِّ؛ فلذلك قلنا: إن مسألتهم كانت
(3)
بما ذكرتُ من حظوظِهم من الخير والشرِّ.
يقول تعالى ذكرُه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: اصبر يا محمدُ، على ما يقولُ مُشركو قومِك لك مما تَكْرَهُ قِيلَهم لك، فإنَّا مُمتَحِنوك بالمكاره، امْتِحانَنا سائرَ رُسُلِنا قبلك، ثم جاعِلو العُلُوِّ والرِّفْعَةِ والظَّفَرِ لك، على مَن كَذَّبك وشاقَّك، سُنَّتُنا في الرسل الذين أرْسَلْناهم إلى عبادِنا قبلَك؛ فمنهم عبدُنا أيوب وداودُ بنُ إِيشَا فاذكُره، ذا الأيدِ، ويعنى بقوله:{ذَا الْأَيْدِ} : ذا القُوَّةِ والبَطْش الشديد في ذاتِ الله، والصبرِ على طاعتِه.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
(1)
في ص: "أن".
(2)
فى م، ت 1، ت 2، ت 3:"إرادتهم".
(3)
بعده في ص: "ما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم التي كانت".
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمد بنُ سعدٍ، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ:{دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ} . قال: ذا القوَّةِ
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثني أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ قوله:{ذَا الْأَيْدِ} . قال
(2)
: القوَّةِ فى طاعةِ اللهِ
(3)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ} . قال: أُعْطِى قوةً فى العبادة، وفِقهًا في الإسلام، وقد ذُكر لنا أن داودَ صلى الله عليه وسلم كان يقومُ الليل ويصومُ نصفَ
(4)
الدهرِ
(5)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسين، قال: ثنا أحمدُ بنُ المُفَضَّل، قال: ثنا أسباط، عن السُّدِّيِّ قولَه:{دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ} . [قال: ذو]
(6)
القوة في طاعة الله
(7)
.
حدَّثني يونسُ قال: أخبرنا ابنُ وهب، قال: قال ابنُ زيدٍ في قوله: {دَاوُودَ ذَا
(1)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 297 إلى المصنف.
(2)
بعده فى م، وتفسير مجاهد:"ذا".
(3)
تفسير مجاهد ص 573، وعنده زيادة:"والبصر فى الحق". وذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 49.
(4)
سقط من: ص، ت 1.
(5)
أخرجه المصنف فى تاريخه 1/ 479، وأخرجه عبد الرزاق فى تفسيره 2/ 161 عن معمر عن قتادةَ بلفظ:"ذا القوة في العبادة"، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 297 إلى عبد بن حميد. أما ما أرسله قتادةَ في قوله: "وقد ذكر لنا
…
" فقد أخرجه بنحوه البخارى (1131)، ومسلم (189، 190/ 1159) من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعًا.
(6)
في ص: "ذو"، وفى م:"ذا".
(7)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 49 بلفظ: "الأيد القوة".
الْأَيْدِ}. قال: ذو
(1)
القوَّةِ فى عبادة
(2)
الله. الأيدُ: القوة. وقَرَأَ: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} [الذاريات: 47]. قال: بقُوَّةٍ
(3)
.
وقوله: {إِنَّهُ أَوَّابٌ} . يقولُ: إن داودَ رَجَاعٌ مِمَّا
(4)
يَكْرَهُهُ اللهُ إِلى مَا يُرْضِيه، تَوَّابٌ
(5)
. وهو مِن قولِهم: آبَ الرجلُ إلى أهلِه. إذا رجَع.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيح، عن مجاهدٍ قوله:{إِنَّهُ أَوَّابٌ} . قال: رَجَّاعٌ عن الذنوبِ
(6)
.
حدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ
(7)
، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{إِنَّهُ أَوَّابٌ} . قال: الراجعُ عن الذنوبِ.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قوله:{إِنَّهُ أَوَّابٌ} . أى: كان مُطِيعًا للهِ، كثير الصلاةِ
(8)
.
(1)
في م، ت 3:"ذا".
(2)
في ت 3: "طاعة".
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 49 بنحوه.
(4)
في م: "لما".
(5)
فى م: "أواب"، وصفة "التواب" ستأتى من قول ابن زيد في الصفحة التالية.
(6)
تفسير مجاهد ص 573، بلفظ:"الراجع عن الذنب المنيب"، وذكره السيوطي في الدر المنثور 5/ 298 بلفظ:"منيب راجع عن الذنوب" وعزاه إلى عبد بن حميد.
(7)
بعده فى م، ت 2، ت 3:"جميعا".
(8)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 298 إلى المصنف وعبد بن حميد. وقد سقط من مطبوعة الدر =
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المفضلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدى قولَه:{إِنَّهُ أَوَّابٌ} . قال: المُسَبِّحُ
(1)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابنُ وهب، قال: قال ابنُ زيدٍ في قوله: {إِنَّهُ أَوَّابٌ} . قال: الأَوَّابُ: التوابُ الذى يَتُوبُ إلى طاعةِ اللهِ ويَرْجِعُ إليها، ذلك الأَوَّابُ. قال: والأَوَّابُ المُطِيعُ
(2)
.
وقوله: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ} . يقولُ تعالى ذكرُه: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ} يُسَبِّحن
(3)
مع داودَ {بِالْعَشِيِّ} ، وذلك من وقت العصر إلى الليل، {وَالْإِشْرَاقِ} ، وذلك بالغَدَاةِ وَقتَ الضُّحَى. ذُكر أن داود كان إذا سَبَّح سبَّحَتْ معه الجبالُ.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ} : يُسَبِّحْنَ مع داود إذا سبح بالعَشِى والإشراق
(4)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ} . قال: حينَ تُشْرِقُ الشمسُ وتَضْحَى
(5)
.
حدَّثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا محمد بنُ بشرٌ، عن مِسْعَرٍ، عن
(6)
عبد الكريم، عن
= المنثور ذكر المصنِّف، وهو في مخطوطته.
(1)
ذكره أبو حيان في البحر المحيط 7/ 390.
(2)
ذكره الطوسى فى التبيان 8/ 502 بلفظ: تواب.
(3)
سقط من: ص، ت 1.
(4)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 298 إلى عبد بن حميد.
(5)
تضحى: تبرز. ينظر تاج العروس (ض ح و).
(6)
فى ص، م، ت 1:"بنُ"، والمثبت موافق لما في تفسير ابن كثير. وعبد الكريم هو ابن مالك الجزرى =
موسى بنُ أبي كثير، عن ابنِ عباسٍ، أنه بَلَغه أن أمَّ هانئ ذكَرَت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة صلَّى الضُّحَى ثمانَ رَكَعَاتٍ، فقال ابن عباس: قد ظَنَنْتُ أن لهذه الساعةِ صلاةً؛ يقولُ الله: {يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ}
(1)
.
حدَّثنا ابن عبد الرحيم البرقيُّ، قال: ثنا عمرُو بنُ أبي سَلَمَةَ، قال: ثنا صَدَقَةُ، قال: ثنى سعيدٌ بنُ أبي عروبة، عن أبى المتوكل، عن أيوبَ بنِ صَفْوانَ، عن عبدِ الله بنُ الحارثِ بنِ نَوْفلٍ، أن ابنَ عباسٍ كان لا يُصَلِّى الضُّحَى. قال: فأَدْخَلْتُه على أمِّ هانئٍ، فقلتُ: أخبرى هذا بما أخبرتنى به. فقالت أم هانئٍ: دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يومَ الفتحِ فى بيتى، فأمر بماءٍ فصُبَّ
(2)
في قَصعةٍ، ثم أمر بثوبٍ فأخذ بيني وبينَه، فاغتسل، ثم رَشَّ ناحيةَ البيتِ، فصلَّى ثمانَ ركعاتٍ، وذلك من الضُّحَى؛ قيامُهنَّ وركوعُهنَّ وسُجُودُهنَّ وجُلُوسُهِنَّ سواءٌ
(3)
، قَريبٌ بعضُهن مِن بعضٍ. فخرج ابنُ عباسٍ وهو يقولُ: لقد قرأتُ ما بين اللَّوحَين فما عرَفتُ صلاةَ الضُّحَى إلا الآن: {يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ} ، وكنتُ أقولُ: أين صلاةُ الإشراقِ؟ ثم قال بَعْدُ: هُنَّ صلاة الإشراقِ
(4)
.
حدَّثنا عمرو بنُ علي، قال: ثنا عبد الأعلى، قال: ثنا سعيدُ بنُ أبي عَروبةَ، عن مُتَوكَّل، عن أيوب بنُ صَفْوانَ، مولى عبدِ اللهِ بنِ الحارث، [عن عبدِ اللهِ بنِ الحارث]
(5)
، أن أم هانئ ابنة أبي طالبٍ، حَدَّثَتْ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتحِ دخَل
= أبو سعيد الحراني، ينظر ترجمته في تهذيب الكمال 18/ 252.
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 49 عن المصنف.
(2)
بعده في ص، ت 1:"عليه".
(3)
زيادة من: م، وتفسير ابن كثير.
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 50 عن سعيد بن أبي عروبة به وعزاه إلى المصنف، وأخرجه الطبراني 24/ 425 (1033)، والحاكم 4/ 53 من طريق سعيد به بدون ذكر أبى المتوكل ووقع تصحيف في مسند الطبراني.
(5)
سقط من: ص، ت 1، وينظر ترجمة عبد الله هذا في تهذيب الكمال 14/ 396، وترجمة أيوب ابن صفوان في التاريخ الكبير 1/ 418.
عليها. ثم ذكَر [نحوَه
(1)
.
وعن]
(2)
ابن عباسٍ في قوله: {يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ} مثل ذلك
(3)
.
وقوله: {وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً} . يقول تعالى ذكرُه: وسخَّرْنا الطيرَ يُسَبِّحْنَ معه محشورة، يعنى مجموعة له. ذُكر أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا سبَّح أجابته الجبال، واجْتَمَعَت إليه الطيرُ فَسَبَّحت معه، واجتماعُها إليه كان حَشْرَها
(4)
.
وقد ذكرنا أقوالَ أهلِ التأويلِ في معنى الحشرِ فيما مضَى
(5)
، فكَرِهنا إعادته.
وكان قتادةُ يقولُ في ذلك في هذا الموضعِ ما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً} : مُسَخَّرةً
(6)
.
وقوله: {كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} . يقولُ: كلُّ ذلك له مُطيعٌ، رَجَّاعٌ إلى طاعتِه وأمرِه. ويعنى بالكُلِّ: كلَّ الطير.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} . أي: مُطيعٌ
(7)
.
(1)
أخرجه البخارى فى تاريخه 1/ 418 معلقًا عن عبد الأعلى به.
(2)
فى ص، ت 1:"عروة عن". وفى ت 2: "نحوه عن".
(3)
أخرجه الحميدى (333)، وإسحاق بن راهويه (4)، والطبرانى 24/ 425 (1034) وغيرهم من طريق عبد الله بن الحارث به.
(4)
ذكره القرطبي في تفسيره 15/ 161 على أنه قول ابن عباس.
(5)
تقدم في 9/ 234 - 237.
(6)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 299 إلى المصنف وعبد الرزاق وعبد بن حميد.
(7)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 161 عن معمر عن قتادة، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 299 إلى عبد بن حميد.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} . قال: كلٌّ له مُطِيعٌ
(1)
.
وقال آخرون: معنى ذلك: كلُّ ذلك للهِ مُسَبِّحٌ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المُفضَّل، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ قولَه: [{وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} . يقولُ: مُسَبِّحٌ للهِ
(2)
.
وقوله]
(3)
: {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ} . [اخْتَلَف أهل التأويل في المعنى الذي به شُدِّد مُلكُه؛ فقال بعضُهم: شُدّد ذلك بالجنودِ والرجالِ]
(3)
؛ فكان يَحْرُسُه كلَّ يومٍ وليلةٍ أربعةُ آلافٍ، [أربعة آلاف.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمد بنُ الحسين، قال: ثنا أحمدُ بنُ المُفضَّل، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ قولَه:{وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ} . قال: كان يحرُسُه كل يوم وليلةٍ أربعة [آلافٍ، أربعة آلاف]]
(4)
(5)
(6)
.
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 50.
(2)
ذكره أبو حيان فى البحر المحيط 7/ 390.
(3)
سقط من: ص، ت 1.
(4)
سقط من: ت 1. وفى ص: "أربعة آلاف".
(5)
في ت 3: "ألف ألف".
(6)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 479، وعنده:"أربعة آلاف" فقط، وأخرجه الحاكم 2/ 586، 587 من طريق أسباط به، مطولا وعنده:"أربعة ألف أربعة ألف"، وذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 50 بلفظ: "
…
في كل يوم أربعة آلاف".
وقال آخرون: كان الذى شُدَّد به مُلْكُه، أن أُعْطِي هَيبةً مِن الناسِ له؛ لقضيةٍ كان قَضاها.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني ابنُ حربٍ، قال: ثنا موسى، قال: ثنا داودُ، عن [عِلْباءَ بنِ أَحمرَ]
(1)
، عن عكرمة، عن ابنِ عباسٍ، أن رجلًا من بنى إسرائيل اسْتعْدَى على رجلٍ مِن عظمائِهم، فاجْتمَعا عندَ داودَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال المُسْتَعْدِى: إِن هذا اغْتَصَبَنِى بَقَرًا لى. فسأل داودُ الرجلَ عن ذلك، فجحَده، فسأل الآخَرَ البَيِّنَةَ، فلم يَكُنْ له بَيِّنةٌ، فقال لهما داودُ: قُوما حتى أنظرَ فى أمرِكما. فقاما مِن عندِه، فأوحَى اللهُ إلى داودَ فى منامه أن يَقْتُلَ الرجلَ الذي اسْتُعْدِى عليه، فقال: هذه رُؤْيا، ولستُ أعجَلُ حتى أَتَثَبَّتَ. فأوحَى اللهُ إلى داودَ فى منامِه مرةً أخرى أن يقتُلَ الرجلَ، وأوحَى الله إليه الثالثة أن يقتله، أو تَأْتِيَه العقوبةُ مِن الله، فأَرْسَل داود إلى الرجلِ: إن الله قد أوحَى إليَّ أن أقتُلَك. فقال الرجلُ: تَقْتُلُنى بغير بينةٍ [ولا ثَبَتٍ]
(2)
؟ فقال
(3)
داود: نعم، واللهِ لأُنْفِذنَّ أمرَ اللهِ فيك. فلمَّا عرَف الرجلُ أنه قاتِلُه قال: لا تَعْجَلْ علىَّ حتى أُخْبِرَك؛ إنى واللهِ ما أُخِذتُ بهذا الذنبِ، ولكنِّى كنتُ اغْتَلْتُ والدَ هذا فقتلتُه، فبذلك قُتِلتُ. فأمَر به داودُ فقُتِل، فاشْتَدَّتْ هَيبةُ بنى إسرائيلَ عندَ ذلك لداودَ، وشُدِّد به مُلْكُه، فهو قولُ الله:{وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ}
(4)
.
(1)
في تفسير البغوى: "على بن أحمد" وينظر ترجمة علباء هذا في تهذيب الكمال 20/ 293.
(2)
ليست في: ص، ت 1، ت 2، ت 3. وفى م، والدر المنثور: "ولا تثبت". والثَّبَت، بالتحريك: الحُجَّة والبَيِّنة. ينظر النهاية 1/ 206، وتاج العروس (ث ب ت).
(3)
بعده في م، ت 2، ت 3:"له".
(4)
أخرجه البغوي في تفسيره 7/ 77، وابن عساكر في تاريخ دمشق 17/ 102، 103 من طريق داود -وهو ابن أبى الفرات- به، وأخرجه ابن أبي حاتم فى تفسيره -كما في تفسير ابن كثير 7/ 50 - من طريق علباء به، مختصرا، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 299، 300 إلى عبد بن حميد.
وأَولى الأقوالِ فى ذلك بالصواب أن يقالَ: إن الله تبارك وتعالى، أخبر أنه شَدَّد مُلْكَ داودَ، ولم يَخُصَّ
(1)
ذلك مِن تَشْديده على التشديد بالرجال والجنود، دونَ الهيبةِ مِن الناسِ له، ولا على هيبة الناس له دونَ الجنودِ. وجائزٌ أن يكونَ تشديدُ
(2)
ذلك كان ببعض ما ذَكَرْنا، وجائزٌ أن يكون كان بجميعِه
(3)
، ولا قولَ أوْلَى فى ذلك بالصحةِ من قولِ اللهِ، إذ لم يَخُصَّ
(4)
ذلك على بعضِ معانى التشديدِ خبرٌ يَجبُ التسليم له.
وقوله: {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ} ، اختَلف أهلُ التأويلِ في معنى الحكمةِ في هذا الموضعِ؛ فقال بعضهم: عُنى بها النُّبوَّةُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المُفَضَّلِ، قال: ثنا أسْباطُ، عن السُّدِّيِّ قوله:{وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ} . قال: النُّبُوَّةَ
(5)
.
وقال آخرون: عُنِى بها أنه عُلِّمَ السُّنَنَ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ} : أى السُّنَّةَ
(6)
.
(1)
فى م: "يحصر"، وفي ت 2، ت 3:"يحصوا".
(2)
فى م، ت 2، ت 3:"تشديده".
(3)
في ص، ت 1:"بجميعهم"، وفى م:"بجميعها".
(4)
فى م: "يحصر"، وفى ت 2، ت 3:"يكن يحصر".
(5)
تقدم تخريجه فى 4/ 514 من طريق أسباط به.
(6)
تقدم تخريجه في 4/ 576.
وقد بَيَّنَّا معنى ذلك
(1)
في غيرِ هذا الموضعِ بشواهدِه، فأغنَى ذلك عن إعادتِه في هذا الموضعِ.
وقوله: {وَفَصْلَ الْخِطَابِ} ، اخْتَلَف أهلُ التأويلِ في معنى ذلك؛ فقال بعضُهم: عُنِى به أنه عُلِّمَ القضاءَ والفَهْمَ به.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ:{وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} . قال: أُعْطِى الفهمَ
(2)
.
حدَّثنا أبو كُرَيبٍ، قال: ثنا ابنُ إدريس، عن لَيْثٍ، عن مجاهدٍ:{وَفَصْلَ الْخِطَابِ} . قال: إصابةُ القَضاءِ وفهمُه
(3)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المُفضَّل، قال: ثنا أسباطُ، عن السدىِّ فى قولِه:{وَفَصْلَ الْخِطَابِ} . قال: علمَ القضاءِ
(4)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} . قال: الخُصوماتُ التي يُخاصِمُ الناسُ إليه؛ فصلُ ذلك الخطابِ: الكلامُ الفَهْمُ، وإصابةُ القضاءِ والبَيِّنَاتِ.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمن، قال: ثنا سفيانُ، عن أبي حَصِينٍ،
(1)
في م: "الحكمة". وينظر ما تقدم في 2/ 575 - 577.
(2)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 300 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 51 بنحوه، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 300 إلى المصنف وابن المنذر.
(4)
ذكره أبو حيان في البحر المحيط 7/ 390 بلفظ: "القضاء بين الناس بالحق وإصابته وفهمه".
قال: سمعتُ أبا عبدِ الرحمنِ يقولُ: {وَفَصْلَ الْخِطَابِ} : فصلَ
(1)
القضاء
(2)
.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: {وَفَصْلَ الْخِطَابِ} ، بتكليف المُدَّعى البينة، واليمين على المُدَّعَى عليه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أبو كُرَيبٍ، قال: ثنا هُشيمٌ، قال: أخبرنا داودُ بنُ أبي هندٍ، قال: ثنى الشعبيُّ أو غيره، عن شُريحٍ، أنه قال في قوله:{وَفَصْلَ الْخِطَابِ} . قال: بَيِّنةُ المُدَّعِي، أو يمينُ المُدَّعَى عليه
(3)
.
حدَّثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابنُ عُلَيَّةَ، عن داودَ بن أبي هند في قوله:{وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} . قال: نُبِّئتُ عن شُرَيحٍ أنه قال: شاهدان أو يمينٌ.
حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا معتمرٌ، قال: سمِعتُ داودَ يقولُ: بلَغني أن شُرَيحًا قال: فصلُ الخطابِ: الشاهدان على المُدَّعِي، واليمينُ على المُنْكِرِ
(4)
.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمن، قال: ثنا سفيانُ، عن منصورٍ، عن كُرْدُوسٍ
(5)
، أن شُرَيحًا قال لرَجُلٍ: إن هذا يَعيبُ عليَّ ما أُعْطِيَ داودُ؛ الشُّهودُ
(1)
سقط من: م.
(2)
تفسير الثورى ص 257. وأخرجه البيهقى 10/ 181، وابن عساكر في تاريخ دمشق 17/ 102 من طريق أبي حصين به بمعناه، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 300 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
أخرجه وكيع في أخبار القضاة 2/ 355 من طريق ابن سيرين عن شريح، وذكره القرطبي في تفسيره 15/ 162 بلفظ:"هو البينة على المدعى واليمين على من أنكر".
(4)
أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (15190) عن معتمر به.
(5)
فى ص، م، ت 1:"طاوس"، والمثبت موافق لما فى تفسير الثورى، وينظر الجرح والتعديل 7/ 175.
والأيمانُ
(1)
.
حدَّثنا ابنُ المثنى، قال: ثنا محمدُ بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن الحكم، عن شُرَيحٍ أنه قال فى هذه الآية:{وَفَصْلَ الْخِطَابِ} . قال: الشهودُ والأيمانُ
(2)
.
حدَّثنا عمرانُ بن موسى، قال: ثنا عبدُ الوارث، قال: ثنا داودُ، عن الشعبيِّ في قوله:{وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} . قال: يمينٌ أو شاهدٌ
(3)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَفَصْلَ الْخِطَابِ} : البينة على الطالبِ، واليمينُ على المطلوبِ، هذا فصلُ الخطاب
(4)
.
وقال آخرون: بل هو قولُ: أَمَّا بَعْدُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أبو كُرَيبٍ، قال: ثنا جابرُ بنُ نوحٍ، قال: ثنا إسماعيل، عن الشعبيِّ فى قولِه:{وَفَصْلَ الْخِطَابِ} . قال: قولُ الرجلِ: أمَّا بعدُ
(5)
.
(1)
تفسير الثوري ص 257.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة 7/ 232، والبيهقى 10/ 181، وابن عساكر فى تاريخ دمشق 17/ 102، من طريق شعبة به، وأخرجه وكيع في أخبار القضاة 2/ 267 من طريق الحكم به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 300 إلى عبد بن حميد.
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 51 بلفظ الأثر السابق.
(4)
أخرجه البيهقى 10/ 253، وابن عساكر في تاريخ دمشق 17/ 101 من طريق سعيد به، بلفظ:"البينة على المدعى واليمين على المدعى عليه"، وعبد الرزاق فى تفسيره 2/ 161 عن معمر عن قتادةَ مختصرًا، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 299 إلى عبد بن حميد.
(5)
ذكره البغوى فى تفسيره 7/ 78، وابن كثير في تفسيره 7/ 51، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 300 إلى المصنف.
وأوْلَى الأقوالِ في ذلك بالصوابِ أن يقالَ: إن الله أخبر أنه آتَى داودَ -صلواتُ الله عليه- فصل الخطاب، والفصلُ هو القَطْعُ، والخطابُ هو المُخاطَبَةُ، ومِن قَطعِ مُخاطبةِ الرجلِ الرجلَ فى حالِ احْتِكامِ أحدهما إلى صاحبه -قَطْعُ المحتكم إليه الحُكْمَ بين المحتكم إليه وخَصْمِه، بصوابٍ مِن الحُكْمِ. ومِن قَطْعِ مُخاطَبَتِه أيضًا صاحبه إلزامُ المخاطَب في الحكم ما يجب عليه؛ إن كان مُدَّعِيًا فإقامة البينة على دَعواه، وإن كان مُدَّعًى عليه فتكليفُه اليمينَ إن طلبَ ذلك خَصْمُه، ومِن قَطْعِ الخطابِ أيضًا، الذى هو خُطْبَةٌ، عندَ انْقِضاءِ قصةٍ وابتداءٍ بأُخرَى، الفصلُ بينَهما بـ: أمَّا بعدُ.
فإذ كان ذلك كلُّه مُحْتَمِلًا ظاهرَ الخبرِ، ولم تَكُنْ في الآيةِ دَلالةٌ على أيِّ ذلك المرادُ، ولا وَرَدَ به خبرٌ عن الرسول صلى الله عليه وسلم ثابتٌ
(1)
، فالصواب أن يُعَمَّ الخبرُ كما عَمَّه الله، فيقالُ: أُوتى
(2)
داود فصلَ الخطابِ فى القضاءِ والمُحاورةِ والخُطَبِ
(3)
.
القولُ في تأويل قوله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22)} .
يقولُ تعالى ذكرُه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وهل أتاك يا محمدُ خبرُ
(4)
الخَصمِ. وقِيل: إنه عُنِى بالخَصمِ في هذا الموضعِ مَلَكانِ، وخرَج في لفظِ الواحدِ؛ لأنه مصدرٌ، مثلَ الزَّوْرِ والسَّفْرِ
(5)
، لا يُثَنَّى ولا يُجْمَعُ، ومنه
(1)
سقط من: ت 2، ت 3.
(2)
في ت 3: "وآتى".
(3)
فى ت 3: "الخطاب".
(4)
في م: "نبأ".
(5)
الزَّور: الذى يزورك. ورجلٌ زورٌ وقومٌ زورٌ وامرأةٌ زورٌ ونساء زورٌ، يكون للواحد والجمع والمذكر =
قولُ لَبيدٍ
(1)
:
وخصم [يَعُدُّونَ الذُّحُولَ]
(2)
كأَنَّهم
…
قُرُومٌ غَيَارَى كُلَّ أَزْهَرَ مُصْعَبِ
(3)
وقوله: {إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} . يقولُ: دخَلوا عليه مِن غيرِ بابِ المحراب، والمحرابُ مُقَدَّمُ كلِّ مجلس وبيتٍ وأَشْرَفُه.
وقوله: {إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ} ؛ فكَرَّر "إذ" مرَّتَيْن. وكان بعضُ أهل العربيةِ يقولُ فى ذلك
(4)
: قد يكونُ معناهما كالواحدِ؛ كقولِك: ضَرَبْتُكَ إِذ دَخَلْتَ عليَّ إذ اجْتَرَأْت. فيكون الدخولُ هو الاجتراءَ، ويكونُ
(5)
أن تجعلَ إحداهما على مذهبِ "لمَّا"، فكأنه قال: إذ تَسَوَّروا المحرابَ لمَّا دخلوا. قال: وإن شئت جعلت "لمَّا" في الأول. فإذا كان "لمَّا" أولاً أو
(6)
آخرًا، فهى بعد صاحبتها
(7)
، كما تقولُ: أعطيتُه لما سألني. فالسؤال قبلَ الإعطاءِ فى تقدُّمِه وتأخُّرِه.
وقوله: {فَفَزِعَ مِنْهُمْ} . يقول القائلُ: وما كان وجهُ فزعِه منهما وهما خَصْمان؟
= والمؤنث بلفظ واحد. والسَّفْر: جمع سافر وهو المسافر. يقال: رجلٌ سفرٌ وقوم سَفْرٌ. ينظر لسان العرب (ز و ر)، (س ف ر).
(1)
شرح ديوان لبيد ص 19، ومجاز القرآن 2/ 180، ولسان العرب (خ ص م)، والبحر المحيط 7/ 391.
(2)
في ص: "يعدون الدحول"، وفى ت 1:"يعدون الذخول"، وفى ت 2، ت 3 واللسان والبحر المحيط:"يعدون الدخول". والذحول: جمع ذَحْل، وهو الثأر. ينظر لسان العرب (ذ ح ل).
(3)
القروم: جمع قَرْم. وهو فحل الإبل. وغيارى: جمع غَيْران؛ من الغَيْرَة وهى الحمية والأنفة. والأزهر: الأبيض، من الزُّهرة وهى البياض. والمُصْعَب: الصعب غير المُنقاد ولا الذّلُول. يشير به هنا إلى شدته. وقوله: "كل أزهر مصعب" كأنه قال: أعنى
…
إلخ. ينظر لسان العرب (ق ر م)، (غ ي ر)، (ز هـ ر)، (ص ع ب)، شرح الديوان ص 19 وحاشية محققه.
(4)
ينظر معانى القرآن للفراء 2/ 401.
(5)
يكون هنا بمعنى "يَجُوز".
(6)
في ت 1، ومعانى القرآن:"و". والمثبت هنا هو المتوجِّه.
(7)
يعني بصاحبتها: إذ.
فإِنَّ فَزَعَه منهما كان لدخولِهما عليه [من غير الباب الذى منه
(1)
كان المَدْخَلُ عليه]
(2)
، فَراعَه دخولُهما كذلك عليه. وقيل: إن فزعَه كان منهما؛ لأنهما دخَلا عليه ليلًا في غير وقتِ نظره بين الناسِ، {قَالُوا لَا تَخَفْ}. يقولُ تعالى ذكرُه: قال له الخصمُ: لا تَخَفْ يا داودُ. وذلك لمَّا رأياه قد ارْتاعَ من دخولِهما عليه من غيرِ البابِ. وفي الكلام محذوفٌ اسْتُغْنِيَ بدَلالة ما ظهَر من الكلام منه، وهو مُرافِعُ
(3)
"خَصْمان"، وذلك "نحن". وإنما جازَ تركُ إظهار ذلك مع حاجة الخصمين إلى المُرافِعِ؛ لأن قوله:{خَصْمَانِ} فعلٌ للمتكلِّم، والعرب تُضمِرُ للمتكلم والمُكلَّمِ المخاطبِ
(4)
ما يَرْفَعُ أفعالهما، ولا يكادون أن يفعلوا ذلك بغيرِهما، فيقولون للرجلِ يُخاطبونه: أمُنطَلِقٌ يا فلانُ؟ ويقولُ المتكلِّمُ لصاحبِه: أُحْسِنُ إليك ومُجْمِلٌ
(5)
. وإنما يفعلون ذلك كذلك فى المتكلم والمكلَّم؛ لأنهما حاضِران يَعْرِفُ السامعُ مرادَ المتكلِّم إذا حُذف الاسمُ، وأكثرُ ما يَجيءُ ذلك في الاستفهام -وإن كان جائزًا في غير الاستفهام- فيُقالُ: أجالسٌ، أراكِبٌ
(6)
؟ فمن ذلك قوله: {خَصْمَانِ} ، ومنه قول الشاعر
(7)
:
وَقُولا إِذا جاوَزْتُما أَرضَ عامرٍ
…
وجاوَزْتُما الحَيَّيْنِ نَهْدًا وَخَثْعَما
(1)
ليس في: م.
(2)
سقط من: ص، ت 1.
(3)
أى هو رافع قوله تعالى: {خصمان} . ورافعه بمعنى رفعه، يعنى المصنف أن {خصمان} رُفع بإضمار: نحن خصمان. ينظر معانى القرآن للفراء 2/ 401، والوسيط (ر ف ع).
(4)
فى م: "والمخاطب". وينظر معاني القرآن 2/ 401.
(5)
في م: "تجمل". وذكر الفراء في معانى القرآن 2/ 402 مثلًا أوضح من هذا؛ قال: أو أن يقول المتكلِّم: واصلكم إن شاء الله ومحسنٌ إليكم.
(6)
في ص، م، ت 1:"راكب". والمثبت موافق لصورة المثل الذى ذكره الفراء في معاني القرآن 2/ 402، فعنده: أجادٌّ، أمنطلقٌ.
(7)
معانى القرآن 2/ 402 غير منسوب لقائله.
نَزِيعانِ
(1)
مِن جَرْمِ بنِ زَبَّانَ
(2)
إنهم
…
أبوا أن يُمِيرُوا فى الهَزَاهِزِ مِحْجَما
(3)
وقول الآخر
(4)
:
تقولُ ابنةُ الكَعْبيِّ يومَ لَقِيتُها
…
أمُنْطَلِقٌ في الجيش أمْ مُتَثاقِلُ
ومنه قولُهم: مُحْسِنَةٌ فَهيلى
(5)
. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "آيبُون تائِبُون"
(6)
. وقولُه: "جاءَ يومَ القيامة مكتوبٌ بين عينيه: آيسٌ من رحمة الله"
(7)
. كلُّ ذلك بضميرٍ رَفَعَه.
وقولُه عز وجل: {بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} . يقولُ: تَعَدَّى أحدُنا على صاحبه
(1)
نَزِيعان: النَّزِيع: الشَّرِيف من القوم الذى نَزَع إلى عِرْقٍ كريم. ينظر لسان العرب (ن ز ع).
(2)
في ص: "رىان" غير منقوطة، وفى م:"ربان"، وفي ت 1، ت 2:"زيان". والمثبت من ت 2 موافق لما في معاني القرآن. وجرم بن زبان بطن فى قُضاعةَ. وجاء هذا الاسم بالزاي والباء في القاموس المحيط، وتاج العروس (ج ر م)، ومعجم قبائل العرب القديمة والحديثة 1/ 182، وجاء بالراء والباء في كتاب النسب للقاسم ابن سلام ص 370، وجمهرة أنساب العرب لابن حزم ص 451، وجاء بالزاى والياء في لسان العرب (ج ر م). وتنظر مصادر أخرى فى هذا في معجم قبائل العرب 1/ 182.
(3)
يميروا: يُسيِّلوا ويُجْروا؛ يقال: مار الدمُ. إذا جَرَى وسال. وأمَرْتُه أنا. والهَزاهِز: الفِتَن يَهْتَزُّ فيها الناس. والمحجم: القارورة التى يُجْمَع فيها دم الحِجامة. يمدحهما أنهما لا يسيلان الدماء في وقت الفتن ولو بقدر محجم. ينظر لسان العرب (م و ر)، (هـ ز ز)، (ح ج م).
(4)
معانى القرآن 2/ 402 غير منسوب لقائله.
(5)
مَثَلٌ، أصله أن امرأة كانت تُفرغ طعامًا من وعاءِ رجلٍ فى وعائها، فلمَّا جاء أخذت تُفرغ من وعائها في وعائه، فقال: ما تصنعين؟ قالت: أُهِيلُ من هذا فى هذا. فقال: محسنةٌ -أى أنتِ محسنةٌ- فهيلي. ويضرب مثلًا لَمن يعمل العمل يكون فيه مُصيبًا. ينظر مجمع الأمثال للميداني 3/ 243.
(6)
أخرجه أحمد 10/ 394، 395 (6311)، ومسلم (1342) -وغيرهما- مطولًا من حديث عبد الله ابن عمر مرفوعًا.
(7)
أخرجه ابن ماجه (2620)، والعقيلي 4/ 382، والبيهقى 8/ 22 من حديث أبي هريرة مرفوعًا، والطبراني (11102) من حديث ابن عباس مرفوعا، وأبو نعيم في الحلية 5/ 74 من حديث عمر مرفوعا.
بغير حقٍّ، {فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ}. يقولُ: فاقض بينَنا بالعَدْلِ، {وَلَا تُشْطِطْ} .
يقولُ: ولا تَجرُ ولا تُسْرف في حُكْمِك، بالمَيْلِ منك مع أحدِنا على صاحبِه.
وفيه لغتان: أشَطَّ، و: شَطَّ. ومن الإشْطاطِ قولُ الأحوصِ
(1)
:
ألا يا لَقَومٍ قد أَشَطَّتْ عَوَاذِلي
…
ويَزْعُمْنَ أَنْ أَوْدَى بِحَقِّى باطِلى
(2)
ومسموعٌ من بعضهم: شَطَطْتَ عليَّ في السَّومِ. فأما في البُعْدِ فإن أكثرَ كلامهم: شَطَّتِ الدارُ، فهي تَشِطُّ. كما قال الشاعرُ
(3)
:
تَشِطُّ غدًا دارُ جيرانِنا
…
[وللدَّارُ]
(4)
بَعْدَ غَدٍ أَبْعَدُ
وقوله: {وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ} يقولُ: وأرشِدْنا إلى قَصْدِ الطريقِ المستقيمِ.
وبنحوِ الذي قُلْنَا في تأويلِ قولِه: {وَلَا تُشْطِطْ} ، قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَلَا تُشْطِطْ} : أى لا تَمِلْ
(5)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المفضلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن
(1)
شعر الأحوص -مجموع- ص 179، ومجاز القرآن 2/ 180، والتبيان 8/ 505، ولسان العرب (ش ط ط). وفى هذه المصادر -عدا مجاز القرآن-:"لقومي" بدل "لقوم".
(2)
أَوْدَى بالشيءِ: ذهَب به. لسان العرب (و د ى). وأصل الكلام هنا: ويزعمن أن أودى باطلى بحقى.
(3)
هو عمر بن أبي ربيعة، شرح ديوانه ص 308، ومجاز القرآن 2/ 181، ولسان العرب (ش ط ط).
(4)
في ص، ت 1:"فللدار".
(5)
ذكره القرطبي في تفسيره 15/ 172، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 303 إلى المصنف.
السديِّ: {وَلَا تُشْطِطْ} . يقولُ: لا تَحِفْ
(1)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قوله: {وَلَا تُشْطِطْ} : تُخالِفْ عن الحقِّ.
وكالذي قلنا أيضًا في قوله: {وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ} قالوا.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ} : إلى عدلِه
(2)
وخيرِه
(3)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المفضلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السدىِّ:{وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ} : إلى عدلِ القضاءِ
(4)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ} . قال: إلى الحقِّ الذى هو الحقُّ؛ الطريقِ المستقيمِ: {وَلَا تُشْطِطْ} : تَذْهَبْ إِلى غيرِها.
حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا سَلَمَةُ، عن ابن إسحاقَ، عن بعض أهلِ العلمِ، عن وهبِ ابنِ مُنَبِّهِ:{وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ} : أي: احْمِلْنا على الحقِّ، ولا تُخالِفْ بنا إلى غيرِه.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23)} .
(1)
ذكره القرطبي في تفسيره 15/ 172 بلفظ: "لا تَجُر"، ويأتي مطولا في ص 66.
(2)
في ت 2: "أعدله".
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2961 من طريق يزيد به، وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 90 عن معمر عن قتادةَ ولفظه عندهما "قصد السبيل".
(4)
يأتي مطولا في ص 66.
وهذا مَثَلٌ ضرَبه الخَصْمُ المُتسَوِّرُونَ على داودَ مِحْرابَه له؛ وذلك أن داودَ كانت له -فيما قيل- تسعٌ وتسعون امرأةً، وكانت للرجلِ الذى أغْزاه حتى قُتِل امرأةٌ واحدةٌ، فَلَمَّا قُتِل نكَح -فيما ذُكر- داودُ امرأتَه، فقال له أحدُهما: إن هذا أخى
(1)
: على ديني.
كما حدَّثنا ابنُ حُمَيدٍ، قال: ثنا سَلَمةُ، عن ابن إسحاقَ، عن بعضِ أهلِ العلمِ، عن وهبِ بن مُنَبِّهٍ:{إِنَّ هَذَا أَخِي} . أى: على ديني، {لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ} .
وذُكر أن ذلك فى قراءةِ عبدِ اللهِ: (إِنَّ هذا أخي
(2)
له تسعٌ وتسعونَ نعجة أُنْثَى). وذلك على سبيلِ توكيدِ العربِ الكلمةَ، كقولِهم: هذا رجلٌ ذكرٌ. ولا يَكادون أن يفعَلوا ذلك إلا فى المؤنثِ والمذكرِ الذي تذكيره وتأنيثُه في نفسه؛ كالمرأةِ والرجل والناقة، ولا يكادون أن يقولوا: هذه دارٌ أُنثى، و: مِلْحَفَةٌ أُنثَى. لأن تأنيثها في اسمها لا في معناها. وقيل: عُنى بقوله: أُنثى. أنها حَسَنةٌ
(3)
.
ذكرُ مَن قال ذلك
حُدِّثْتُ عن المُحاربيِّ، عن جُويبرٍ، عن الضحاكِ:(إن هذا أخي له تسعٌ وتسعونَ نعجةً أُنْثَى)؛ يَعْنى بتَأْنيثها حُسْنَها.
(1)
بعده في م: "يقول: أخى".
(2)
بعده فى معانى القرآن 2/ 403، ومختصر الشواذ ص 130، وتفسير القرطبى 15/ 174:"كان". وقراءة عبد الله هذه شاذة.
(3)
ينظر معانى القرآن 2/ 403، 404.
وقولُه: {فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا} . يقولُ: فقال لى: انْزِلْ عنها لي، وضُمَّها إليَّ.
كما حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابن زيد في قولِه: {أَكْفِلْنِيهَا} . قال: أعْطِنيها؛ طَلِّقْها لى أنْكِحْها، وخَلِّ سبيلها
(1)
.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا سَلَمةُ، عن ابن إسحاق، عن بعض أهلِ العلمِ، عن وهب بن مُنَبِّهِ:{فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا} . أى: احْمِلْنى عليها
(2)
.
وقوله: {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} . يقولُ: وصار أعَزَّ مني في مخاطبته إياى؛ لأنه إن تَكلَّم فهو أبْينُ منى، وإن بَطَش كان أشدَّ منى فقَهَرَنى.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابنُ حُمَيدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن الأعمش، عن أبى الضُّحَى، عن مسروق، قال: قال عبد الله فى قوله: {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} . قال: ما زادَ داودُ على أن قال: انزِلْ لى عنها
(3)
.
حدَّثنا ابنُ وكيعٍ، قال: ثني أبي، عن المسعودىِّ، عن المِنْهالِ، عن سعيدِ بنِ جُبَيرٍ، عن ابن عباسٍ قال: ما زادَ على أن قال: انْزِلْ لى عنها
(4)
.
(1)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 303 إلى المصنف.
(2)
يأتي مطولا في ص 71.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 163، والطبراني (9043) من طريق الأعمش به بنحوه.
(4)
تفسير مجاهد ص 573، وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 163 من طريق المسعودي به بنحوه، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 303 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
وحدَّثني يحيى بنُ إبراهيمَ المسعودىُّ، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن جدِّه، عن الأعمشِ، عن مسلمٍ، عن مسروقٍ، قال: قال عبدُ اللهِ: ما زادَ داودُ على أن قال: {أَكْفِلْنِيهَا}
(1)
.
حدَّثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:{وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} . قال: إن دعوتُ ودَعا كان أكثر، وإن بطشتُ وبطش كان أشدَّ منى. فذلك قوله:{وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} .
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} . أى: ظلمنى وقهرني.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} . قال: قهَرني. ذلك
(2)
العزُّ. قال: والخطابُ: الكلامُ
(3)
.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا سَلَمةُ، عن ابنِ إسحاقِ، عن بعضِ أهلِ العلمِ، عن وهبِ بنِ مُنَبِّهِ:{وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} . [أى: قهَرني في الخطابِ]
(4)
، وكان أقوى منى، فحازَ نعجتي
(5)
إلى نِعاجِه، وترَكني لا شيءَ
(1)
أخرجه عبد الرزاق فى تفسيره 2/ 163، والفريابي -كما في الدر المنثور 5/ 303 ومن طريقه الطبراني (9043) - من طريق الأعمش به، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور إلى أحمد في الزهد.
(2)
في م: "وذلك".
(3)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 303 إلى المصنف.
(4)
سقط من: ت 1، ت 2، ت 3.
(5)
في م: "نعجته".
لي
(1)
.
حُدِّثْتُ عن الحسين، قال: سمعتُ أبا مُعاذٍ يقولُ: أخبرنا عُبيدٌ، قال: سمعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} . قال: إن تكلَّم كان أبْيَنَ منى، وإن بطَش كان أشدَّ مني، وإن دَعا كان أكثرَ منى
(2)
.
يقول تعالى ذكرُه: قال داودُ للخَصْمِ المُتظلِّمِ مِن صاحبِه: لقد ظَلَمك [صاحبك بسؤاله]
(3)
نعجتَك إلى نعاجِه.
وهذا مما حُذِفت منه "الهاءُ"، فأُضِيفَ بسقوطِ "الهاء" منه إلى المفعول به، ومثله قوله عز وجل:{لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ} [فصلت: 49]. والمعنى: من دُعائِه بالخيرِ. فلما أُلقيت "الهاء" من الدعاءِ، أُضِيفَ إلى الخيرِ، وأُلْقِيَ مِن الخير "الباء"، وإنما كَنَى بالنعجة هاهنا عن المرأةِ، والعربُ تفعلُ ذلك
(4)
، ومنه قولُ الأعشى
(5)
:
قد كنتُ رائِدَها وشاةِ مُحاذِرٍ
…
حَذَرًا يُقِلُّ بِعَيْنِهِ إِغْفَالَهَا
(6)
(1)
يأتي مطولا في ص 71.
(2)
ذكره البغوى في تفسيره 7/ 80، والقرطبي في تفسيره 15/ 174، وأبو حيان في البحر المحيط 7/ 392، بنحوه.
(3)
في ص، ت 1:"بسؤال".
(4)
ينظر معانى القرآن 2/ 404.
(5)
ديوان الأعشى ص 27.
(6)
رائدها: تتعلق هذه الكلمة بالبيت الذي قبله، يتكلم عن أرض أصابها المطر كأنها لما أزهرت نُشِر عليها =
يعنى بالشاةِ: امرأةَ رجلٍ يَحْذَرُ الناسَ عليها.
وإنما يعنى: لقد ظَلَمَك
(1)
بسؤالِ امرأتِك الواحدة إلى التسع والتسعين من نسائِه.
وقوله: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} . يقولُ: وإن كثيرًا من الشركاءِ لَيَتَعَدَّى بعضُهم على بعض، {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} بالله {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}. يقولُ: وعمِلوا بطاعةِ اللهِ، وانتهوا إلى أمرِه ونَهْيِه، ولم يَتَجاوَزُوه، {وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} وفى "ما" التى فى قوله:{وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} ، وجهان؛ أحدهما: أن تكون صلةً بمعنى: وقليلٌ، هم، فيكونَ إثباتها وإخراجها من الكلامِ لا يُفسِدُ معنى الكلام. والآخَرُ: أن تكون اسمًا، و"هم" صلةً لها، بمعنى: وقليلٌ ما تجدُهم. كما يُقالُ: قد كنتُ أحْسَبُك أعقلَ مما أنت. فتكونَ "أنت" صلةً لـ"ما"، والمعنى: كنتُ أحسبُ عقلك أكثرَ مما هو. فتكونُ "ما" والاسمُ مصدرًا، ولو لم [ترد [المصدر]
(2)
لكان الكلامُ بـ"مَنْ"؛ لأن "مَن" التي تكونُ للناس وأشباههم. ومَحْكىٌّ عن العربِ: قد كنتُ [أراك أعقل منك]
(3)
. مثل كلمة
(4)
: قد كنتُ]
(5)
أرى أنه غيرُ ما هو. بمعنى: كنتُ أراه على غير ما رأيتُ.
وروى عن ابن عباسٍ في ذلك ما حدَّثني علىٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ،
= برود زاهية الألوان. وشاة محاذِرٍ
…
إغفالها: يعنى ورُبَّ شاةِ محاذِرٍ حذرًا يجعل -في عينه- غفلته عنها قليلة. ينظر ديوان الأعشى ص 26، 27.
(1)
فى م: "ظلمت".
(2)
في ص، ت 1:"يرد المصادر".
(3)
سقط من: ت 3.
(4)
فى م، ت 2، ت 3:"ذلك و".
(5)
سقط من: ت 1.
عن عليٍّ، عن ابن عباس في قوله:{وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} . يقولُ: وقليلٌ الذين هم
(1)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابنُ زيدٍ في قوله: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} . قال: قليلٌ مَن يَتَّقى
(2)
.
فعلى هذا التأويل الذى تَأَوَّله ابنُ عباس، مَعْنَى الكلام: إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحاتِ، وقليلٌ الذين هم كذلك. بمَعْنَى: الذين لا يَبغِى بعضُهم على بعضٍ، و"ما" على هذا القول بمعنى "مَنْ".
وقوله: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} . يقولُ: وعلم داود أنما ابتَلَيناه.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَظَنَّ دَاوُودُ} : علم داود
(3)
.
حدَّثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابنُ عُلَيَّةَ، عن أبى رجاءٍ، عن الحسن: {وَظَنَّ دَاوُودُ
(4)
أَنَّمَا فَتَنَّاهُ}. قال: ظَنِّ أَنمَا [ابْتُغِي بذلك]
(5)
(6)
.
حدَّثني علىٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن علىٍّ، عن ابنِ عباسٍ:{وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} : اخْتبَرْناه
(7)
.
(1)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 303 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
فى م: "لا يبغى".
(3)
عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 303 إلى المصنف.
(4)
بعده في ت 2: "وعلم داود".
(5)
فى م: "ابتلى بذاك"، وفى ص، ت 1:"ابتغي بذاك". والمثبت موافق لما فى مخطوطة الدر المنثور.
(6)
بعده في م: "حدَّثنى على قال ثنا أبو صالح قال ثنى معاوية عن علي ابن عباس: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ}. قال: ظن أنما ابتلى بذاك". وأثر الحسن هذا، عزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 303 إلى المصنف، ووقع في مطبوعة الدر المنثور:"قتادةَ" مكان "الحسن"، ووقع في لفظ مطبوعته كذلك:"ابتلى"، وجاء هذان على الصواب في مخطوطته.
(7)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره -كما في تغليق التعليق 4/ 31 - من طريق أبي صالح به، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 303 إلى ابن المنذر.
والعربُ تُوجِّه الظنَّ -إذا أدخَلَتْه على الإخبار- كثيرًا، إلى العلم الذي هو مِن غيرِ وَجْهِ العيانِ.
وقوله: {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ} . يقولُ: فسأل داود ربَّه غفران ذنبه، {وَخَرَّ رَاكِعًا}. يقولُ: وخَرَّ ساجدًا لله، {وَأَنَابَ}. [يقولُ: و]
(1)
رجع إلى رِضا ربِّه، وتابَ مِن خطيئته.
واخْتُلِف فى سببِ البَلاءِ الذى ابتُلى به نبي الله داودُ صلى الله عليه وسلم؛ فقال بعضُهم: كان سبب ذلك أنه تَذَكَّر ما أعطى اللهُ إبراهيمَ وإسحاقَ ويعقوبَ مِن حُسْنِ الثناءِ الباقي لهم فى الناسِ، فتَمَنَّى مثلَه، فقِيل له: إنهم امْتُحِنوا فصَبَرُوا. فسأل أن يُبْتَلى كالذي ابتُلُوا، ويُعْطَى كالذي أعْطُوا إن هو صبَر.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بن سعدٍ، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} . قال: إن داودَ قال: يا ربِّ قد أعطيتَ إبراهيمَ وإسحاقَ ويعقوبَ من الذِّكرِ ما لوَدِدتُ
(2)
أنك أعطيتني مثله
(3)
. قال الله: إنى ابْتَلَيْتُهم بما لم أبْتَلِكَ به، فإن شئتَ ابتليتُك بمثلِ ما ابتليتُهم به، وأعطيتُك كما أعطيتُهم. قال: نعم. قال له: فاعْمَلْ حتى أرَى بلاءَك. فكان ما شاءَ الله أن يكونَ، وطال ذلك عليه، فكاد أن يَنْساه، فبينَا هو في مِحْرابِه، إذ وقعَت عليه حمامةٌ
(4)
فأراد أن يأخُذَها، فطارتْ إلى كُوَّةِ المحراب،
(1)
فى ص، ت 1:"يعني".
(2)
فى ت 1، والدر المنثور:"لو وددت".
(3)
في مخطوطة الدر المنثور: "مثلهم".
(4)
بعده فى م: "من ذهب".
فذهب ليأخذَها، فطارت، فاطَّلع من الكُوَّةِ، فرأى امرأةً تغتسلُ، فنزل نبي الله صلى الله عليه وسلم من المحرابِ، فأرْسَل إليها فجاءَتْه، فسألها عن زوجها وعن شأنها
(1)
، فأخبَرَتْه أن زوجها غائبٌ، فكتب إلى أمير تلك السَّرِيَّةِ
(2)
أن يُؤمِّرَه على السَّرايا؛ ليَهْلِكَ زوجُها، ففعل، فكان يُصاب أصحابُه وينجو، وربما نُصِروا، وإن الله عز وجل لما رأى الذى وقع فيه داودُ، أرادَ أن يَسْتَنْقِذَه، فبينما داود ذاتَ يوم في محرابِه، إذ تَسوَّر عليه الخَصمان من قِبَل وجهه، فلما رآهما وهو يقرأُ، فزع وسكت، وقال: لقد استُضْعِفتُ في مُلْكِى، حتى إن الناسَ يَتَسَوَّرون علىَّ مِحْرابي. قالا له:{لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} ، ولم يَكُنْ لنا بدٌّ مِن أن نأتيك، فاسمَعْ مِنَّا. قال أحدهما:(إنَّ هذا أخى له تسعٌ وتسعون نعجةً أُنثَى ولى نعجةٌ واحدةٌ فقال أكفلنيها)
(3)
؛ يريدُ أن [يُتَمِّمَ بها مائةً]
(4)
، ويَتْرُكَنى ليس لى شيءٌ، {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ}. قال: إن دعوتُ ودَعا كان أكثرَ منى
(5)
، وإن بطَشَتُ وبطش كان أشدَّ منى. فذلك قولُه:{وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} . قال له داودُ: أنت كنتَ أحوج إلى نعجتك منه، {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} إلى قوله:{وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} . ونَسِي نفسه صلى الله عليه وسلم، فنظر المَلَكان أحدُهما إلى الآخرِ، حين قال ذلك، فتبسَّم أحدُهما إلى الآخرِ، فرَآه داودُ، فظَنَّ
(6)
أنما فُتِن، {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} أربعين ليلةً، حتى نَبَتَت الخُضْرةُ مِن دموعِ عينيه، ثم
(1)
في ص، ت 1:"شأنه".
(2)
في ص، ت 1:"القرية". وينظر الأثر القادم في الصفحة التالية.
(3)
هي قراءة ابن مسعود. مختصر الشواذ ص 130.
(4)
في ص، ت 1:"يتم بها مائة"، وفى مطبوعة الدر المنثور:"يتم مائة".
(5)
سقط من: م، ت 2، ت 3.
(6)
في ص، م:"وظن".
شدَّد اللهُ له مُلْكَه
(1)
(2)
.
حدَّثنا محمد بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المُفَضَّل، قال: ثنا أسباطُ، عن السدىِّ في قولِه:{وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21)} . قال: كان داودُ قد قَسَم الدهرَ ثلاثةَ أيامٍ؛ يومًا
(3)
يَقْضِى فيه بينَ الناسِ، ويومًا
(4)
يخلو فيه لعبادة ربِّه، ويوما
(3)
يَخْلو فيه لنسائِه، وكان له تسعٌ وتسعون امرأةً، وكان فيما يقرأُ من الكتبِ، أنه كان يجدُ فيه فضلَ إبراهيمَ وإسحاقَ ويعقوبَ، فلما وجَد ذلك فيما يَقْرأُ مِن الكتبِ، قال: يا ربِّ، أَرَى
(5)
الخير كلَّه قد ذهَب به آبائي الذين كانوا قبلى، فأعطني مثلَ ما أعطيتَهم، وافْعَلْ بي مثلَ ما فعلتَ بهم. قال: فأوحَى اللهُ إليه: إن آباءَكَ ابْتُلُوا ببَلايا لم تُبْتَل بها؛ ابتلى إبراهيمُ بذَبْحِ ابنِه، وابتلى إسحاقُ بذَهابِ بصرِه، وابتُلِى يعقوبُ بحُزْنِه على يوسفَ، وإنك لم تُبْتَلَ مِن ذلك بشيءٍ. قال: يا ربِّ ابْتَلنى بمثلِ ما ابتليتهم به، وأعطنى مثلَ ما أعطيتَهم. قال: فأُوحِى إليه: إنك مُبْتَلى، فاحْتَرِسُ. قال: فمكث بعد ذلك ما شاء اللهُ أن يَمكُثَ، إذ جاءَه الشيطانُ قد تَمَثَّل في صورةِ حمامةٍ من ذهبٍ، حتى وقَع عندَ رِجلَيْه وهو قائمٌ يُصَلِّى. قال: فمَدَّ يدَه ليأخُذَه
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 301 إلى المصنف.
(2)
قال الحافظ ابن كثير في تفسيره 7/ 51 عند كلامه على هذه الآيات: قد ذكر المفسرون هاهنا قصة أكثرها مأخوذ من الإسرائيليات، ولم يثبت فيها عن المعصوم حديث يجب اتباعه، ولكن روى ابن أبي حاتم هنا حديثا لا يصح سنده؛ لأنَّه من رواية يزيد الرقاشي عن أنس، ويزيد وإن كان من الصالحين، لكنه ضعيف الحديث عند الأئمة، فالأولى أن يقتصر على مجرد تلاوة هذه القصة -يعنى ابنُ كثير: تلاوة نصها من القرآن الكريم- وأن يُرَدَّ عِلْمُها إلى الله عز وجل؛ فإن القرآن حق، وما تضمن فهو حق أيضا. وسيسوق المصنف روايات أُخَر بإسناده عن السدى ووهب بن منبه وغيرهما، ومن ضمنها رواية يزيد الرقاشي عن أنس المذكورة في كلام ابن كثير.
(3)
في ص، م، ت 1:"يوم".
(4)
في م، ت 1:"يوم".
(5)
في م، ت 2، ت 3:"إن".
فتَنَحَّى، فتَبِعَه فتَباعَد، حتى وقع في كُوَّةٍ، فذهَب ليأخُذَه فطارَ مِن الكُوَّةِ، فنظَر أين يقعُ فَيَبْعَثَ في أثره. قال: فأبْصَر امرأة تغتسل على سطح [لها، فرأى امرأةً من أجملِ الناسِ خَلْقًا، فحانَتْ منها التفاتةٌ فأبصَرَتْه]
(1)
، فألقَتْ شعرَها فاسْتَتَرَتْ به. قال: فزادَه ذلك فيها رغبةً، قال: فسأل عنها فأُخبر أن لها زوجًا، وأن زوجها غائبٌ بمَسْلَحَةِ كذا وكذا. قال: فبعَث إلى صاحب المَسْلَحَةِ يَأْمُرُه
(2)
أن يَبْعَثَ أهريا إلى عدوِّ كذا وكذا، قال: فبعَثه ففُتِح له. قال: وكتب إليه بذلك، فكتب إليه أيضًا: أن ابعثه إلى عدوِّ كذا وكذا، أشدَّ منهم بأسًا. قال: فبعَثه ففُتِح له أيضًا. قال: فكتَب إلى داودَ بذلك. قال: فكتَب إليه: أن ابعثْه إلى عدوِّ كذا وكذا. فبعَثه. قال: فقُتِل المرةَ الثالثةَ. قال: وتَزَوَّج امرأته، فلَمَّا دخَلَتْ عليه لم تَلْبَثْ عندَه إلا يسيرًا حتى بعث اللهُ مَلَكَيْن في صورةِ إنْسِيَّيْن، فَطَلَبا أن يَدْخُلا عليه، فوَجَداه في يوم عبادتِه، فمَنَعَهما الحرسُ أن يدخُلا [عليه، فتَسَوَّرا]
(3)
عليه المحرابَ. قال: فما شَعَر وهو يُصلَّى إِذ
(4)
هو بهما بينَ يَدَيه جالسَيْن. قال: ففَزِع منهما، فقالا:{لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ} ؛ يقولُ: لا تَحِفْ
(5)
. {وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ} ؛ إلى عدلِ القضاءِ. قال: فقال: قُصَّا على قصتَكما. قال: فقال أحدُهما: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِىَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ} ، فهو يريدُ أن يأخذَ نَعْجَتي فيُكمل بها نِعاجَه مائةً. قال: فقال للآخرِ: ما تقولُ؟ فقال: إن لي تسعًا وتسعين نعجةً، ولأخى هذا نعجةٌ واحدةً، فأنا أريد أن أخُذَها منه فأُكْمِلَ بها نِعاجى مائةً. قال:
(1)
سقط من: ص، ت 1.
(2)
سقط من: م.
(3)
في م: "فتسوروا".
(4)
في ص، ت 2، ت 3:"إذا".
(5)
في ص، م، ت 2، ت 3، والمستدرك:"تخف".
وهو كارِهٌ؟ [قال: وهو كارِهٌ]
(1)
. قال: إذن لا نَدَعُك وذاك. قال: ما أنت على ذلك بقادرٍ. قال: فإن ذهبتَ ترومُ ذلك، أو تريد ذلك
(2)
، ضَرَبْنا منك هذا وهذا [وهذا]
(3)
. وفَسَّر أسباطُ؛ طَرَفَ الأنف، [وأصل الأنف]
(3)
، والجبهةَ. قال: يا داودُ، أنت أحقُّ أن يُضربَ منك هذا وهذا [وهذا]
(3)
؛ حيث لك تسعٌ وتسعون
(4)
امرأةً، ولم يَكُنْ لأهريا إلا امرأةٌ واحدةٌ، فلم تَزَلْ به تُعرِّضُه للقتل حتى قَتَلْتَه
(5)
، وتزوَّجتَ امرأتَه. قال: فنظر فلم يَرَ شيئًا، فعَرَف ما قد وقَع فيه، وما قد ابتُلى به. قال: فخَرَّ ساجدًا. قال: فبكَى. قال: فمكَث يَبْكى ساجدًا أربعين يومًا، لا يرفع رأسَه إلا الحاجة [لابدَّ]
(6)
منها، ثم يقعُ ساجدًا يبْكى، ثم يَدْعو، حتى نبَت العُشْبُ مِن دموعِ عينَيه. قال: فأوحَى اللهُ إليه بعدَ أربعين يومًا: يا داودُ، ارفع رأسَك، فقد غفرتُ لك. فقال: يا ربِّ، كيف أعلم أنك قد غفرت لي، وأنت حَكَمٌ عَدْلٌ لا تَحِيفُ في القضاء؛ إذا [جاءَ أهريا]
(7)
يوم القيامة آخذًا رأسه بيمينه أو بشماله، تَشْحُبُ أَوْداجه دما في قِبَلِ عرشِك يقولُ: يا ربِّ، سَلْ هذا فيمَ قَتَلَنى؟ قال: فأوحى [اللهُ إليه]
(8)
: إذا كان ذلك دَعوتُ أهريا، فأستَوهِبُك منه، فيهبُك لي، فأُثِيبُه بذلك الجنةَ. قال: ربِّ، الآنَ علمتُ أنك قد غفرتَ لي. قال: فما استطاعَ أن يملأَ عينيه مِن السماءِ حَياءً مِن ربِّه حتى قُبِض صلى الله عليه وسلم
(9)
.
(1)
سقط من: ت 2، ت 3. وبعده في ص، م: "قال وهو كاره".
(2)
سقط من: م.
(3)
ليست في تاريخ المصنف.
(4)
بعده في م: "نعجة".
(5)
في تاريخ المصنف: "قتل".
(6)
سقط من النسخ. والمثبت من تاريخ المصنف.
(7)
في ص، ت 1:"جاءك هريا"، وفى م:"جاءك أهريا".
(8)
في ص، م، ت 2، ت 3:"إليه".
(9)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 479، وأخرجه الحاكم 2/ 586، 587 من طريق أسباط به.
حدَّثنى عليُّ بن سهلٍ، قال: ثنا الوليدُ بنُ مسلمٍ، عن عبدِ الرحمن بنِ يزيدَ بنِ جابرٍ، قال: ثنى عطاءٌ الخراسانيُّ، قال: نقَش داودُ خطيئته في كفِّه لكيلا يَنْساها، فكان [إذا رآها]
(1)
خَفَقَتْ يدُه واضطَرَبَتْ
(2)
.
وقال آخرون: بل كان ذلك لعارضٍ كان عرَض في نفسِه، مِن ظَنِّ أنه يُطِيقُ يومًا
(3)
أن يُتِمَّ يومًا لا يُصيبُ فيه حَوْبَةً
(4)
، فابْتُلى بالفتنةِ التي ابتُلي بها في اليومِ الذي طَمِع في نفسه بإتمامه بغير إصابة ذنبٍ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن مَطَر، عن الحسن: إن داودَ جَزَّأَ الدهرَ أربعة أجزاء؛ يومًا لنسائِه، ويومًا لعبادتِه، ويومًا لقضاءِ بني إسرائيلَ، ويومًا لبنى إسرائيلَ، يُذاكرهم ويُذاكِرُونه، ويُبْكيهم ويُبْكونه، فلما كان يومُ بنى إسرائيلَ قال: ذَكِّروا. فقالوا: هل يأتى على الإنسان يوم لا يُصيبُ فيه ذنبًا؟ فَأَضْمَر داود في نفسه أنه سيُطيقُ ذلك، فلَمَّا كان يومُ عبادتِه، غَلَّق
(5)
أبوابه، وأمر أن لا يُدْخَلَ عليه أحدٌ، وأكبَّ على التوراةِ، فبينما هو يقرؤُها إذا
(6)
حمامةٌ من ذهبٍ فيها من كلِّ لونٍ حسنٍ، قد وقَعَتْ بين يَدَيْه، فأهْوَى إليها ليأخذَها. قال: فطارَتْ فوقعَتْ غير بعيدٍ، من غير أن تُؤيسَه مِن نفسها. قال: فما زالَ يَتْبَعُها حتى أشرفَ على امرأةٍ
(1)
في ص: "مما إذا رآها"، وفى ت 1:"مهما رآها"، وفى ت 2، ت 3:"مما إذا أراها".
(2)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 481. وأخرجه ابن المبارك في الزهد (489 - زيادات الحسين)، وأبو نعيم في الحلية 5/ 196 من طريق الوليد به نحوه.
(3)
سقط من: م.
(4)
الحَوْبة، بفتح الحاء، وتُضَمّ: الإثم. ينظر النهاية 1/ 455، وتاج العروس (ح و ب).
(5)
في م: "أغلق".
(6)
في م: "فإذا". وفى ت 1: "إذ"، وهو موافق لما في مطبوعة الدر المنثور.
تَغْتَسِلُ، فأَعْجَبَه خَلْقُها وحُسْنُها. قال: فَلَمَّا رأتْ ظِلِّه في الأرضِ، جَللَتْ نفسَها بشَعْرِها، فزاده ذلك أيضًا إعجابًا بها، وكان قد بعث زوجَها على بعضِ جيوشِه، فكتب إليه أن يسيرَ إلى مكان كذا وكذا. مكانٌ إذا سارَ إليه لم يَرْجِعْ. قال: ففعَل فأُصِيب، فخَطَبها فتَزَوَّجها. قال
(1)
: وقال قتادةُ: بَلَغَنا أنها أُمُّ سليمانَ. قال: فبينَما هو في المحراب إذ تسوَّر الملَكان عليه، وكان الخَصْمان إذا أتَوه يَأْتونه من باب المحرابِ، ففَزِع منهم حينَ تَسَوَّروا المحرابَ، فقالوا:{لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} . حتى بلَغ: {وَلَا تُشْطِطْ} . أي: لا تَمِلْ، {وَاهْدِنَا إِلَّى سَوَاءِ الصِّرَاطِ}. أي: أعدله وخَيْرِه، {إنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وتِسْعُونَ نَعْجَةً} ، وكان لداود تسعٌ وتسعون امرأةً، {تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً}. قال: وإنما كان للرجلِ امرأةٌ واحدةٌ. {فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} . أي: ظلَمنى وقهرني. فقال: {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُوَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} إلى قوله: {وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ} . {وَظَنَّ دَاوُدُ} : فعلِم داودُ أنما صُمِدَ
(2)
له، أي: عُنِى به ذلك. فخَرَّ راكعا وأناب. قال: وكان في حديثِ مَطَرٍ، أنه سجَد أربعين ليلةً، حتى أوحَى اللهُ إليه: إنى قد غفرتُ لك. قال: ربِّ، كيف
(3)
تغفرُ لي وأنت حَكَمٌ عدلٌ لا تظلمُ أحدًا؟ فقال: إنى أقضِيك له، ثم أستوهِبُه دمَك، أو ذنبَك
(4)
، ثم أُثِيبُه حتى يرضَى. قال: الآن طابَت نفسى، وعلمتُ أنك قد غفرتَ لي
(5)
.
(1)
القائل: "وقال قتادة" هو سعيد الراوى عن مطر.
(2)
في تاريخ المصنف: "أُضْمِر". وصمد له: الصَّمْد: القَصْد. صَمَدَه يَصْمُدُه صَمْدًا، وصَمَدَ إِليه، كلاهما: قَصَدَه. وأَضْمَرَه: أخفاه. ينظر تاج العروس (ص م د)، (ض م ر).
(3)
في م: "وكيف".
(4)
في ص، ت 1:"ذنبه".
(5)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 482 دون قوله: "قال: وكان في حديث مطر أنه سجد
…
إلخ"، وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 161 - 163، والمروزى في تعظيم قدر الصلاة (21) من طرق عن الحسن بنحوه. وذكره السيوطي في الدر المنثور 5/ 301، 302 بنحوه، وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا سَلَمةُ، قال: ثنى محمدُ بنُ إسحاق، عن بعض أهل العلم، عن وهب بن مُنَبِّهٍ اليَمَانى، قال: لما اجْتَمَعتْ بنو إسرائيل على داود، أنزَل الله عليه الزَّبورَ، وعَلّمه صَنْعَةَ الحديد فألانه له، وأمر الجبال والطير أن يُسَبِّحْن معه إذا سبَّح، ولم يُعْطِ الله -فيما يذكرون- أحدًا من خلقه مثلَ صوتِه، كان إذا قرَأ الزبور -فيما يَذْكُرون- تَدْنو له الوحوشُ
(1)
، حتى يأخُذ بأعناقِها، وإنها لمُصِيخَةٌ تَسمعُ
(2)
لصوتِه، وما صنعت الشياطين المزامير والبَرابط والصُّنُوجَ
(3)
، إلا على أصنافِ صوتِه، وكان شديدَ الاجتهادِ، [دائبَ العبادةِ، [فأقامَ في بني إسرائيلَ يحكمُ فيهم بأمر الله نبيًّا مُسْتَخْلفًا، وكان شديد الاجتهاد]
(4)
من الأنبياء]
(5)
، كثيرَ البكاءِ
(6)
، ثم عرَض من فتنة تلك المرأة ما عرَض له، وكان له مِحْرابٌ يَتَوَحَدُ فيه لتلاوةِ الزَّبورِ، ولصلاته إذا صلَّى، وكان أسْفَلَ منه جُنَيْنَةٌ لرجلٍ من بنى إسرائيلَ، [وكان]
(7)
عند ذلك الرجل المرأةُ التي أصابَ داودُ فيها ما أصابَهُ
(8)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سَلَمةُ، عن محمدِ بنِ إسحاقَ، عن بعضِ أهلِ العلمِ، عن وهبِ بنِ مُنَبِّهٍ، أن داودَ حينَ دخَل محرابَه ذلك اليوم قال: لا يدْخُلَنَّ
(1)
في ت 2، ت 3:"الوحش". وهو موافق لأحد نسخ تاريخ المصنف، كما ذكره محققُه في حاشيته.
(2)
في ص، ت 2، ت 3:"تستمع". ومصيخة: مستمعة منصتة. ينظر تاج العروس (ص ى خ).
(3)
البَرَابط: جمع بَرْبَط. والبربط هو العود، من آلات الملاهى. والصنوج: جمع صَنْج. والصنج: شيءٌ يُتخذ من صُفْرٍ يُضْرَب أحدُهما على الآخر، وهو أيضًا آلة ذو أوتار يُضْرب بها. ينظر تاج العروس (بربط)، (ص ن ج).
(4)
سقط من: ت 2.
(5)
ليس في تاريخ المصنف.
(6)
بعده في تاريخ المصنف: "وكان كما وصفه الله عز وجل لنبيه محمد عليه السلام فقال: {واذكر عبدنا داود .... يسبحن بالعشى والإشراق}: يعنى بذلك ذا القوة". وهو آخر لفظ الأثر في التاريخ.
(7)
في م: "كان".
(8)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 478، 479 مختصرا نحوه، وأخرجه المروزي في تعظيم قدر الصلاة (20) من طريق إبراهيم بن سعد عن ابن إسحاق قوله.
عليَّ محرابي اليوم أحدٌ حتى الليلِ، ولا يَشْغَلْنى شيءٌ عما خَلَوتُ له حتى أُمْسِيَ. ودخل مِحْرابَه ونشَر زَبورَه يَقْرَؤُه، وفى المحرابِ كُوَّةٌ تُطْلِعُه على تلك الجنينة، فبَيْنَا هو جالسٌ يقرأُ زبورَه، إذ أقبلت حمامةٌ من ذهب، حتى وقَعَتْ في الكُوَّةِ، فرفَع رأسه فرَآها، فأَعْجَبَتْه. ثم ذكَر ما كان قال؛ لا يَشْغَلُه شَيْءٌ عما دخَل له، فنَكَّس رأسَه وأَقْبَل على زَبورِه، فتَصَوَّبَتِ الحمامةُ، للبلاءِ والاختبارِ، مِن الكُوَّةِ، فوقَعَتْ بين يديه، فتناولها بيده فاسْتَأْخَرَتْ غيرَ بعيدٍ، فَاتَّبَعَها، فنَهَضَت إلى الكُوَّةِ، فتناوَلها في الكُوَّةِ فتصَوَّبَتْ إلى الجنينةِ، فأَتْبَعَها بصرَه أين تَقَعُ، فإذا المرأةُ جالسةٌ تَغْتَسلُ، بهيئةٍ الله أعلمُ بها في [الجمالِ والحُسنِ والخَلْقِ]
(1)
. فيَزْعُمون أنها لمَّا رَأته نَقَضَتْ رأسَها فوارَتْ به جسدَها منه واختطَفَتْ قلبَه، ورجَع إلى زبورِه ومجلسِه وهى من شأنه، لا يُفارِقُ قلبه ذكرُها، وتَمادَى به البلاءُ حتى أغزَى زوجَها، ثم أمرَ صاحبَ جيشه
(2)
-فيما يزعُمُ أهل الكتابِ- أن يُقدِّم زوجها للمهالكِ، حتى أصابه بعضُ ما أرادَ به من الهلاكِ، ولداودَ تسعٌ وتسعون امرأةٌ، فلمَّا أُصِيب زوجها خطَبها داود، فنَكَحَها، فبعث اللهُ إليه وهو في محرابِه مَلَكَيْن يَخْتَصمان إليه، مثلاً يَضْرِبُه له ولصاحبِه، فلم يُرعْ داود إلا بهما واقفَين على رأسِه في محرابِه، فقال: ما أَدْخَلَكما عليَّ؟ قالا: لا تَخَفْ، لم ندخل لبأسٍ ولا لريبةٍ، {خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} فجئناك لتَقْضِيَ بينَنَا، {فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ}. أي: احْمِلْنا على الحقِّ، ولا تُخالِف بنا إلى غيره. قال المَلَكُ الذى يتكلَّمُ عن أوريا ابنِ حنانيا، زوجِ المرأة:{إِنَّ هَذَا أَخِي]. أي: على ديني، {لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا} . أي: احمِلني عليها، ثم {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} . أي قهرنى في الخطابِ، وكان أقوى منى هو وأعزَّ، فحازَ نَعْجتي إلى نعاجِه،
(1)
في ص: "الجمال والخلق"، وفى ت 1:"الجمال".
(2)
في ص، ت 1:"الجيش".
وترَكني لا شيء لي. فَغَضِب داود، فنظر إلى خَصْمِه الذي لم يتكلَّم، فقال: لئن كان صدَقنى ما يقولُ لأَضْرِبنَّ بين عينيك بالفأسِ. ثم ارْعَوَى داود فعرف أنه هو الذي يُرادُ؛ بما صنَع في امرأة أوريا، فوقع ساجدًا تائبًا مُنِيبًا باكيًا، فسجد أربعين صباحًا صائمًا لا يأكُلُ فيها ولا يشرَبُ، حتى أنْبَت دمعُه الخَضِرَ تحتَ وجهه، وحتى أنْدَب السجود في لحمِ وجهِه، فتابَ اللهُ عليه، وقَبِل منه. فيَزْعُمون أنه قال: أي ربِّ هذا غفرَتَ ما جنيتُ في شأن
(1)
المرأةِ، فكيف بدم القتيل المظلومِ؟ فقيل له: يا داود -فيما زعَم أهلُ الكتابِ- أما إن ربَّك لم
(2)
يَظْلِمُه بدمِه، ولكنَّه سيسألُه إيَّاك فيُعْطِيه، فيَضَعُه عنك. فلما فُرِّج عن داودَ ما كان فيه، رسم
(3)
خطيئته في كفِّه اليمنى؛ بطن راحتِه، فما رفَع إلى فِيهِ طعامًا ولا شرابًا قَطُّ إلا بكَى إذا رآها، وما قامَ خطيبًا في الناس قط إلا نشَر راحتَه، فاستقبل بها الناسَ، ليَرَوْا رسم
(3)
خطيئته في يده
(4)
.
حدَّثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن إدريسَ، قال: سمعتُ لَيْثًا يذكرُ عن مجاهد قال: لما أصابَ داود الخطيئة خَرَّ لله ساجدًا أربعين يوما، حتى نبت من دموعِ عينيه من البَقْلِ ما غَطَّى رأسَه، ثم نادَى: ربِّ قَرح الجبين، وجَمَدتِ العينُ، وداود لم يُرجع إليه في خطيئته شيءٌ. فنُودِى: أجائعٌ فتُطْعَمَ، أم مريضٌ فتشفى، أم مظلومٌ فيُنْتَصَرَ لك؟ قال: فنَحَب نَحْبةً هاجَ كلّ شيءٍ كان نَبَت، فعند ذلك غُفِر له، وكانت خطيئته مكتوبةً بكفّه يقرؤُها، وكان يؤتَى بالإناءِ ليشربَ فلا يشربُ إلا ثلثَه أو نصفَه، وكان يذكُرُ خطيئته، فيَنْتَحِبُ
(5)
النَّحْبة تكادُ مفاصلُه يزولُ بعضُها مِن
(1)
في ص، ت 1:"حق".
(2)
في ص: "لن".
(3)
في ت 2، ت 3:"وشم".
(4)
أخرجه المروزى في تعظيم قدر الصلاة (20) من طريق إبراهيم بن سعد عن ابن إسحاق قوله.
(5)
في ص، م، ت 2، ت 3:"فينحب".
بعضٍ، ثم ما يُتِمُّ شرابَه حتى
(1)
حتى يملأَه من دموعِه، وكان يقالُ: إن دمعةَ داودَ تَعْدِلُ دمعة الخلائقِ، ودمعةَ آدم تعدلُ دمعة داود ودمعة الخلائق. قال: فهو يجيءُ يومَ القيامة خطيئته مكتوبةٌ بكفِّه، فيقولُ: ربِّ ذنبي ذنبي، قَدِّمْني. قال: فيُقَدَّمُ، فلا يَأْمَنُ، فيقولُ: ربِّ أَخُرْنى. فيُؤَخِّرُ فلا يأمن
(2)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابنُ وهبٍ، قال: أخبرني ابن لَهيعةَ، عن أبي صخرٍ، عن يزيد الرَّقاشيِّ، عن أنس بن مالك، سمعه يقولُ: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: "إن داود النبي صلى الله عليه وسلم حين نَظَر إلى المرأةِ فَأَهِمَّ، قطَع على بني إسرائيلَ بَعْثًا
(3)
فأوصى صاحب البعث فقال: إذا حضر العدوّ، فقَرَّبْ فلانًا بينَ يَدَى التابوتِ. وكان التابوتُ في ذلك الزمانِ يُسْتَنْصَرُ به؛ مَن قُدِّمَ بينَ يَدَى التابوتِ لم يَرْجِعْ حتى يُقْتَلَ أو يَنْهَزِمَ عنه الجيشُ، فقُتِل زوج المرأة، ونزل الملكان على داودَ يَقُصَّانِ عليه قصته، ففَطِن داود، فسجد، فمكث أربعين ليلة ساجدا، حتى نبت الزرعُ مِن دموعِه على رأسه، وأكَلَت الأرضُ جَبينَه، وهو يقولُ في سُجُودِه -فلم أُحْصِ مِن الرَّقاشِيِّ إلا هؤلاء الكلمات-: رَبِّ، زَلَّ داودُ زَلَّةٌ أَبْعَدَ مِمَّا
(4)
بينَ المشرقِ والمغرب
(5)
، إن لم تَرْحَمْ ضعف داودَ وتَغْفِرْ ذنبه، جعلت ذنبه حديثا في
(1)
في تاريخ المصنف: "شربه".
(2)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 483. وأخرجه ابن أبي شيبة 11/ 552، وهناد في الزهد (454) - من طريق ليث به نحوه مطولا. وذكره السيوطي في الدر المنثور 5/ 304 بنحوه، وعزاه إلى عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد
(3)
سقط من النسخ والدر المنثور، والمثبت من تاريخ المصنف. وقطع بعثا: أي أَفْرَدَ قومًا يَبْعَثُهم في الغزو ويُعَيِّنهم من غيرهم. ينظر النهاية 4/ 82.
(4)
في م: (ما).
(5)
بعده في ت 2، وتفسير البغوى:"رب".
الخُلُوفِ مِن بعدِه. فجاءه جبريلُ مِن بعدِ أربعين
(1)
ليلةً، فقال: يا داودُ إن اللهَ قد غفر لك الهَمَّ الذى هَمَمْتَ به. فقال داودُ: قد
(2)
علمتُ أن الربَّ قادرٌ على أن يغفر لي الهَمَّ الذى هَمَمْتُ به، وقد عرَفتُ أن اللهَ عَدْلٌ لا يميلُ، فكيف بفلانٍ إذا جاء يومَ القيامةِ فقال: يا ربِّ دَمِى الذى عند داودَ؟ فقال جبريلُ: ما سألتُ ربَّك عن، ولئن شئتَ لأفْعَلَنَّ. قال: نعم. فعَرَج جبريلُ وسجَد داود، فمكَث ما شاء اللهُ، ثم نزَل فقال: قد سألتُ اللهَ يا داودُ عن الذى أَرْسَلْتَنى فيه. فقال: قُلْ لداودَ: إن اللهَ يَجْمَعُكما يومَ القيامة فيقولُ: هَبْ لي دمَك الذى عندَ داودَ. فيقولُ: هو لك يا ربِّ. فيقولُ: فإن لك في الجنةِ ما شئتَ وما اشتهيتَ عِوَضًا"
(3)
.
حدَّثني عليُّ بن سهلٍ، قال: ثنا الوليدُ بن مسلمٍ، قال: ثنا ابنُ جابرٍ، عن عطاءٍ الخُراسانيِّ، أن كتابَ صاحبِ البعثِ جاء يَنْعِى مَن قُتِلَ، فَلَمَّا قَرَأَ داودُ نَعْيَ رجلٍ منهم رجَّع
(4)
، فلمَّا انتَهى إلى اسمِ الرجلِ قال: كتَب اللهُ على كلِّ نفسٍ الموتَ. قال: فلما انْقَضَتْ عِدَّتُها خَطَبها.
القولُ في تأويل قولِه تعالى: {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25) يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ
(1)
في م: "الأربعين".
(2)
سقطت من م، ت 2، ت 3.
(3)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 483، 484، وأخرجه البغوى في تفسيره 7/ 82 من طريق المصنف به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 300، 301 بنحوه مُضعِّفا إسناده إلى الحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن أبي حاتم. وينظر ما تقدم في صفحة 66.
(4)
رجَّع: قال: إنا لله وإنا إليه راجعون. يقال منه: رجَّع واسترجع. النهاية 2/ 202، والوسيط (ر ج ع)
شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)}.
يعني تعالى ذكرُه بقوله: {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ} : فَعَفَوْنا عنه، وصَفَحْنا له عن أن نُؤاخِذَه بخطيئته وذنبه ذلك، {وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى}. يقولُ: وإِن له عندَنا لَلْقُرْبَةَ منَّا يومَ القيامةِ.
وبنحوِ الذي قلنا في قولِه: {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ} قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
[حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ} : الذنب
(1)
.
وقولُه: {وَحُسْنَ مَتَابٍ} . يقولُ: مَرْجعٍ ومُنْقَلَبٍ ينقلبُ إليه يومَ القيامة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك]
(2)
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَحُسْنَ مَتَابٍ} . أي: حُسْنَ مصيرٍ
(3)
.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 306 إلى المصنف.
(2)
سقط من: ص، ت 1. وسقط من ت 2 قوله:"حدَّثنا بشرٌ، قال".
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 306 إلى المصنف بلفظ: "حسن المنقلب".
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ قوله:{وَحُسْنَ مَئَابٍ} . قال: حسنَ المُنْقَلَبِ
(1)
.
وقوله: {يَادَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ} . يقولُ تعالى ذكرُه: وقلنا لداودَ: يا داودُ إنا اسْتَخْلَفْناك في الأرضِ، مِن بعدِ مَن كان قبلَك مِن رُسُلِنَا، حَكَمًا بين أهلها.
كما حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً} : مَلَّكَه في الأرضِ.
[وقوله:]
(2)
{فَاحْكُم بَينَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} . يقول
(3)
: بالعدل والإنصافِ، {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى}. يقولُ: ولا تُؤْثِرُ هَواك، في قضائك بينهم، على [العدلِ والحقِّ]
(4)
فيه، فتَجُورَ عن الحقِّ، {فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ}. يقولُ: فيميلَ بك اتِّباعُك هَواك، في قضائِك، على العدلِ والعملِ بالحقِّ - عن طريقِ اللهِ الذى جعَله لأهل الإيمان به، فتكونَ مِن الهالكين بضلالك عن سبيل الله.
وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} . يقولُ تعالى ذكرُه: إن الذين يَميلون عن سبيلِ اللهِ، وذلك: الحقُّ الذى شرَعه لعبادِه وأمَرهم بالعمل به، فيجورُون عنه في الدنيا -لهم في الآخرة، يومَ الحسابِ، عذابٌ شديدٌ على ضلالِهم عن سبيلِ اللهِ؛ {بِمَا نَسُوا} أمرَ الله. يقولُ:
(1)
تقدم تخريجه في 5/ 267، بزيادة:"وهى الجنة".
(2)
سقط من: م، ت 2، ت 3.
(3)
في م، ت 2، ت 3:"يعني".
(4)
في م، ت 2، ت 3:"الحق والعدل".
بما ترَكوا القضاءَ بالعدلِ، والعملَ بطاعةِ اللهِ [{يَوْمَ الْحِسَابِ}]
(1)
. و
(2)
"يومَ الحسابِ" من صلةِ العذابِ الشديدِ.
وبنحو الذي قلنا في تأويلِ ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هشيمٌ، قال: أخبَرنا العَوَّامُ، عن عكرمةَ في قوله:{عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} . قال: هذا من التقديمِ والتأخيرِ، يقولُ: لهم يومَ الحسابِ عذابٌ شديدٌ بما نسُوا
(3)
.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السدىِّ قوله:{بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} . قال: نسُوا: ترَكوا
(4)
.
يقولُ تعالى ذكرُه: وما خلَقنا السماءَ والأرضَ وما بينهما عَبَثًا ولعبًا
(5)
، ما خلَقناهما إلا ليُعْمَلَ فيهما بطاعتِنا، ويُنتهى إلى أمرِنا ونَهْينا.
(1)
ليس في: م، ت، ت 3.
(2)
سقط من: م.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 306 إلى المصنف.
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 54.
(5)
في م: "لهوا".
{ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} . يقول: [إن ظنًّا]
(1)
أنا خلَقنا ذلك باطلا ولَعِبًا ظَنُّ الذين كفروا بالله فلم يوحِّدوه، ولم يعرفوا عظمته، وأنَّه لا ينبغى
(2)
أن يَعْبَثَ، فيَتَيقَّنوا بذلك أنه لا يخلُقُ شيئًا باطلًا، {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ}. يعنى: مِن نارِ جهنمَ.
وقوله: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّلِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ} . يقولُ: أنجعَلُ
(3)
الذين صدَّقوا اللهَ ورسولَه وعمِلوا بما أمَر الله به، وانتهوا عما نهَاهم، {كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ}. يقولُ: كالذين يُشرِكون بالله ويعضُونه ويُخالفون أمرَه ونهيَه، {أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ}. يقولُ: الذين اتَّقوا الله بطاعته وراقَبوه، فحَذِروا معاصيَه، {كَالْفُجَّارِ}. يعني: كالكفارِ
(4)
المُنتَهِكِين حرماتِ اللهِ.
وقوله: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ} . يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم: [وهذا القرآن]
(5)
كتابٌ أنزَلناه إليك يا محمدُ مباركٌ، {لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ}. يقولُ: ليتَدبَّروا حُجَجَ اللهِ التى فيه، وما شرَع فيه مِن شرائعِه، فيَتَّعِظوا ويعمَلوا به.
واختلفت القرأة في قراءةِ ذلك؛ فقرأته عامةُ القرأةِ: {لِّيَدَّبَّرُوا} بالياءِ، يعني: ليتَدَبَّرَ هذا القرآنَ مَن أرَسلناك إليه مِن قومِك يا محمدُ. وقَرأه أبو جعفرٍ وعاصمٌ: (لِتَدَبَّرُوا آياته) بالتاءِ
(6)
، بمعنى: لتَتَدبَّرَه
(7)
أنت يا محمدُ وأتباعُك.
(1)
في م: "أي ظن"، وفي ت 2، ت 3:"أي ظنا".
(2)
بعده في ت 2: "له".
(3)
في ت 2: "أم نجعل".
(4)
في ت 2: "كالفجار".
(5)
ليس في: ص، ت 1.
(6)
قراءة {ليدبروا} بالياء وتشديد الدال هى قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو وابن عامر وعاصم والكسائي ويعقوب وخلف، وقراءة (لتدَبروا) بالتاء وتخفيف الدال هى قراءة أبي جعفر وجاء كذلك عن عاصم في رواية الكسائي وحسين عن أبي بكر، وينظر السبعة لابن مجاهد ص 553، والبحر المحيط 7/ 395، 396، والنشر في القراءات العشر 2/ 270، والإتحاف ص 229.
(7)
فى ت 2، ت 3:"لتتدبر".
وأَولى القراءتَين عندَنا بالصوابِ في ذلك أن يقالَ: إنهما قراءتان مَشْهورتان صَحيحتا المعنى، فبأيَّتِهما قرأ القارئُ فمصيبٌ.
{وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبَاب} . يقولُ: وليعتبرَ أولو العقولِ والحِجا ما في هذا الكتابِ من الآياتِ، فيَرْتدعوا عما هم عليه مُقيمون مِن الضلالةِ، ويَنْتَهُوا إلى ما دَلَّهم عليه مِن الرشادِ وسبيلِ الصوابِ.
وبنحو الذي قلنا في معنى قولِه: {أُولُوا الأَلْبَبِ} قال أهل التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{أُولُوا الأَلْبَابِ} . قال: أَولو العقولِ مِن الناسِ.
وقد بَيَّنا ذلك فيما مضَى قبلُ بشواهدِه، بما أغنَى عن إعادتِه في هذا الموضعِ
(1)
.
يقولُ تعالى ذكرُه: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ} ابنَه ولدًا، [{نِعْمَ الْعَبْدُ} . يقولُ
(2)
: نعم العبدُ سليمانُ، {إنَّهُ أَوَّابٌ}. يقولُ: إنه رجَّاعٌ إلى طاعةِ اللَّهِ،
(1)
ينظر ما تقدم في 3/ 123.
(2)
سقط من: ص، ت 1.
توَّابٌ إليه مما يكرهُه منه. وقيل: إنه عُنى به أنه كثيرُ الذكرِ للهِ والصلاةِ
(1)
.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ:{نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} . قال: الأَوَّابُ المُسبِّحُ.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} . قال: كان مُطِيعًا للهِ، كثيرَ الصلاةِ
(2)
.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّى قولَه:{نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} . قال: المُسَبِّحُ
(3)
.
والمُسبِّح قد يكون في الصلاةِ والذكرِ، وقد بَيَّنَّا معنى الأوَّابِ، وذكَرنا اختلافَ أهلِ التأويلِ فيه فيما مضَى، بما أغنَى عن إعادتِه هاهنا
(4)
.
وقولُه: {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ} . [يقولُ تعالى ذكرُه: إنه توَّابٌ
(5)
إلى اللهِ مِن خطيئتِه التى أخْطأها إذْ عُرض عليه بالعشيِّ الصافناتُ]
(6)
. ف {إِذْ} مِن صلة {أَوَّابٌ} ، والصَّافنات جمعُ الصَّافِنِ من الخيل، والأنثى صافِنةٌ، والصافن منها عند بعضِ العرب: الذى يجمعُ بين يديه، ويَثْنِي طَرَفَ سُنْبُكِ إحدَى رجلَيه، وعندَ آخرين: الذي يجمعُ يدَيه، وزعَم الفراءُ أن
(1)
في ص، م، ت 1:"الطاعة".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 309 إلى المصنف وعبد بن حميد. وستأتى تتمته في ص 82، 84.
(3)
تقدم تخريجه في ص 43.
(4)
ينظر ما تقدم في ص 42 وما بعدها.
(5)
في ت 3: "أواب".
(6)
سقط من: ص، ت 1.
الصافنَ هو القائمُ، يقالُ منه: صَفَنَتِ الخيلُ تَصْفِنُ صُفُونًا
(1)
.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابنِ أبى نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قول اللهِ:{الصَّافِنَاتُ الْجَيَادُ} . قال: صُفُونُ الفرسِ رَفْعُ إحدى يَدَيْه، حتى يَكونَ على طرفِ الحافِرِ.
حدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ: صَفَن الفرسُ: رفع إحدَى يدَيه، حتى يكونَ على طرَفِ الحافِرِ
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ} . يعنى: الخيلَ، وصُفُونُها: قيامُها وبَسْطُها قوائمها
(3)
.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{الصَّافِنَاتُ} . قال: الخيلُ.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ} . قال: الخيلُ، أخرجها الشيطان لسليمانَ، مِن مَرْج مِن مُرُوج البحر. قال: الخيلُ والبغالُ والحميرُ تَصْفِنُ، والصَّفْنُ أن تقومَ على ثلاثٍ، وترفعَ رجْلاً واحدةً، حتى يكونَ طرَفُ الحافِرِ على الأرضِ
(4)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ: {الصَّافِنَاتُ} :
(1)
ينظر معاني القرآن 2/ 405.
(2)
تفسير مجاهد ص 574 وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 309 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
تتمة الأثر المتقدم في الصفحة السابقة.
(4)
ذكره القرطبي في تفسيره 15/ 194 إلى قوله: "مروج البحر".
الخيلُ، وكانت لها أجنحةٌ. وأما {الْجِيَادُ} فإنها السِّراعُ، واحدُها جوادٌ.
كما حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{الْجِيَادُ} : السِّراعُ
(1)
.
وذُكر أنها كانت عشرين فَرَسًا ذواتِ أجنحةٍ.
ذكرُ الخبرِ بذلك
حدَّثنا محمدُ بن بشارٍ، قال: ثنا مُؤمَّلٌ، قال: ثنا سفيانُ، عن أبيه، عن إبراهيمَ التَّيْمِيِّ في قوله:{إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ} . قال: كانت عشرين فرسًا ذواتِ أجنحةٍ
(2)
.
وقوله: {فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} . وفى هذا الكلام محذوفٌ استغنى بدلالةِ الظاهرِ عليه مِن ذكرِه: فلهِىَ عن الصلاةِ حتى فاتَتْه، فقال:{إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ} .
ويعنى بقوله: {فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الخَيْرِ} . أي: أحببتُ حبًّا للخيرِ، ثم أُضيف الحبُّ إلى الخيرِ. وعُنِى بالخير في هذا الموضعِ الخيلُ. والعربُ فيما بلَغنى تُسَمِّى الخيلَ الخيرَ، والمالُ أيضًا يُسَمُّونه الخيرَ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
(1)
تفسير مجاهد ص 574. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 309 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 56 عن المصنف، وذكره السيوطي في الدر المنثور 5/ 309 بلفظ:"عشرين ألف فرس"، وعزاه إلى المصنف والفريابي وعبد بن حميد وابن أبي حاتم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الخَيْرِ} . أي: المالُ والخيلُ، أو الخيرُ مِن المالِ
(1)
.
حدَّثنا أبو كُرَيبٍ، قال: ثنا ابنُ يَمانٍ، عن سفيان، [عن السُّدِّيِّ]
(2)
: {فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ} . قال: الخيلُ.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّى قوله:{إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الخَيْرِ} . قال: المالُ
(3)
.
وقوله: {عَن ذِكْرِ رَبِّي} . يقولُ: إنى أحببتُ حُبَّ الخيرِ، حتى سَهَوتُ عن ذكرِ ربِّي، وأداءِ فريضتِه
(4)
. وقيل: إن ذلك كان
(5)
صلاة العصرِ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{عَن ذِكْرِ رَبِّي} : عن صلاة العصر
(6)
.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّى: {عَن ذِكْرِ
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 163، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 309 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
سقط من: ص، ت 1.
(3)
ذكره الطوسي في التبيان 8/ 512، وأبو حيان في البحر المحيط 7/ 396.
(4)
في ص، ت 1:"فرائضه".
(5)
بعده في ت 2 ت 3: "في".
(6)
تتمة الأثر المتقدم في ص 81.
رَبِّي}. قال: صلاةِ العصرِ
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ عبدِ الحكمِ، قال: ثنا أبو زُرعةَ، قال: ثنا حيوةُ بنُ شريحٍ، قال: أخبرنا أبو صخرٍ، أنه سمع أبا معاويةَ البَجَليَّ مِن أهل الكوفةِ يقولُ: سمعتُ أبا الصَّهباء البكريَّ يقولُ: سألتُ عليَّ بن أبى طالبٍ عن الصلاةِ الوسطَى، فقال: هى العصرُ، وهى التى فُتِن بها سليمانُ بن داودَ
(2)
.
وقوله: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} . يقولُ: حتى تَوارتِ الشمسُ بالحجابِ، يعني: تَغيَّبت في مَغِيبها.
كما حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا سَلَمةُ
(3)
، قال: ثنا ميكائيلُ، عن داودَ بن أبى هندٍ، قال: قال ابن مسعودٍ في قولِه: {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} . قال: تَوارَت الشمسُ من وراءِ ياقوتةٍ خضراءَ، فخُضْرة السماءِ منها
(4)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَاب} : حتى دَلَكَتْ بَرَاحِ
(5)
. قال قتادةُ: فوالله ما نازعَته بنو إسرائيلَ ولا كابَروه، ولكن وَلَّوه من ذلك ما ولَّاه اللهُ.
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المفضلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:{حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} : حتى غابَت.
(1)
ذكره الطوسي في التبيان 8/ 512.
(2)
تقدم تخريجه في 4/ 343، 344.
(3)
بعده في ص، ت 1:"عن ابن إسحاق".
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 309 إلى المصنف وابن إسحاق.
(5)
بَراحِ بوزن قطامِ: من أسماء الشمس. النهاية 1/ 114.
وقوله: {رُدُّوهَا عَلَيَّ} . يقولُ: رُدُّوا عليَّ الخيلَ التي عُرضت عليَّ، فشَغَلَتني عن الصلاة، فكُرُوها عليَّ.
كما حدَّثني محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المفضلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:{رُدُّوهَا عَلَيَّ} . قال: الخيلَ.
وقوله: {فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} . يقولُ: فجعَل يمسحُ منها السُّوقَ -وهي جمعُ الساقِ- والأعناقَ.
واختلَف أهلُ التأويل في معنى مَسْحِ سليمانَ بسُوقِ هذه الخيل الجيادِ وأعناقِها؛ فقال بعضُهم: معنى ذلك: أنه عقَرها وضرَب أعناقَها، مِن قولِهم: مَسَح علاوتَه. إذا ضرَب عُنُقَه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ والْأَعْنَاقِ} . قال: قال الحسنُ: قال
(1)
: لا، واللهِ لا تَشْغَلَيني عن عبادة ربي آخِرَ ما عليكِ. قال: قولُهما فيه -يعنى قتادةَ والحسنَ- قال: فكَشَف عراقيبَها، وضرَب أعناقها
(2)
.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السدىِّ:{فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} : فضرَب سوقَها وأعناقَها.
(1)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ت 3.
(2)
أخرجه المروزى في تعظيم قدر الصلاة (18) من طريق شيبان عن قتادةَ، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 309 إلى عبد بن حميد وابن المنذر. وينظر تفسير ابن كثير 7/ 57، وفتح البارى 6/ 459، وأحكام القرآن للجصاص 5/ 258.
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ بَزيعٍ، قال: ثنا بشرٌ بن المفضلِ، عن عوفٍ، عن الحسنِ، قال: أمر بها فعُقِرت.
وقال آخرون: بل جعَل يمسحُ أعرافَها وعراقيبَها بيدِه؛ حُبًّا لها
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن علىٍّ، عن ابن عباسٍ قوله:{فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} . يقولُ: جعل يمسحُ أعراف الخيلِ وعراقيبَها؛ حُبًّا لها
(1)
.
وهذا القولُ الذي ذكَرناه عن ابن عباسٍ أشبه بتأويل الآيةِ؛ لأن نبيَّ اللَّهِ لَم يَكُنْ إن شاء الله ليعذِّبَ حيوانًا بالعَرْقبةِ، ويُهلك مالًا من ماله بغيرِ سببٍ، سِوى أنه اشتغل عن صلاته بالنظرِ إليها، ولا ذنبَ لها [في اشتغاله]
(2)
بالنظرِ إليها.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: ولقد ابتَلَينا سليمانَ، وألقينا على كُرْسِيِّه جسدَ شيطانٍ مُمَثَّل بإنسانٍ، ذكروا أن اسمَه صخرٌ. وقيل: إن اسمه آصَفُ. وقيل: إن اسمَه آصر. وقيل: إن اسمَه حبقيقُ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم -كما في تغليق التعليق 4/ 297، والإتقان 2/ 40 - من طريق أبي صالح به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 309 إلى ابن المنذر.
(2)
في م: "باشتغاله".
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قوله:{وَأَلْقيْنَا عَلَى كُرسِيِّهِ جَسَدًا} . قال: هو صخرٌ الجِنِّيُّ، تمثل على كُرْسِيِّه جسدًا
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ قوله:{وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ} . قال: الجسدُ الشيطانُ الذى كان دفَع إليه سليمانُ خاتمَه فقذَفه في البحرِ، وكان مُلْكُ سليمانَ في خاتمِه، وكان اسمَ الجنيِّ صخرٌ
(2)
.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا أبو داودَ، قال: ثنا مباركٌ، عن الحسن:{وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا} . قال: شيطانًا
(3)
.
حدَّثنا ابنُ بشار، قال: ثنا أبو داودَ، قال: ثنا شعبةُ، عن أبي بشرٍ، عن سعيدِ بنِ جبير:{وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا} . قال: شيطانًا
(3)
.
حدَّثنا ابنُ بشار، قال: ثنا أبو داودَ، قال: ثنا ورقاءُ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا} . قال: شيطانًا يقال له: آصرُ
(4)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى
(5)
عن ابنِ أبى
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 310 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم، وينظر الإتقان 2/ 40.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 312 إلى المصنف.
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 57.
(4)
ذكره الحافظ في الفتح 6/ 459 وعزاه إلى المصنف، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 312 إلى المصنف وفيه "آصف".
(5)
بعده في ص، م، ت 1:"وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعًا".
نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه: {[وَأَلْقِينَا]
(1)
عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا}. قال: شيطانا يقال له: آصفُ. فقال له سليمانُ: كيف تَفْتِنون الناس؟ قال: أَرِنى خاتَمَكَ أُخْبِرُك. فلما أعطاه إيَّاه نبَذه آصفُ في البحرِ، فساح سليمانُ وذهَب مُلْكُه، وقعَد آصفُ على كُرسيِّه، ومنعه اللهُ نساءَ سليمانَ، فلم يَقْرَبُهِنَّ
(2)
وأنكَرْنه، قال: فكان سليمانُ يَسْتَطْعِمُ فَيَقولُ: أَتَعْرِفُونى؟ أَطْعِمُونى، أنا سليمانُ. فيُكَذِّبُونه، حتى أَعْطَتْه امرأةٌ يومًا حوتًا يُطيب بطنَه، فوجد خاتمه في بطنِه، فرجع إليه مُلْكُه، وفرَّ آصف فدخَل البحرَ فارًّا
(3)
.
حدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ بنحوِه، غيرَ أنه قال في حديثِه:[ومنَعه الله نساءَ سليمان فلم يقربهن. وقال أيضًا في حديثه]
(4)
: فيقولُ: لو تَعْرِفونى أَطْعَمْتُمونى
(5)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قوله:{وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ} . قال: حدَّثنا قتادةُ أن سليمانَ أُمر ببناءِ بيت المقدس، [فقيل له: ابنه]
(6)
ولا يُسْمَعُ فيه صوتُ حديد. قال: فطلب ذلك فلم يَقْدِرُ عليه. فقيل له: إن شيطانا في البحرِ يُقال له: صَخرٌ. شَبَهُ المارد. قال: فطلَبه: وكانت عينٌ في البحرِ يَرِدُها في كلِّ سبعة أيام مرةً، فنزح ماؤُها، وجُعِل فيها خمرٌ، فجاء يومُ وروده، فإذا هو بالخمرِ، فقال: إنكِ لشرابٌ طيِّبٌ، إلا أنك تُصْبِين الحليمَ
(1)
سقط من: م، ت، ت 3.
(2)
في م: "يقربنه".
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 311 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر.
(4)
سقط من: ص، م، ت 1.
(5)
في ص، ت 2، ت 3:"أطعموني". والأثر في تفسير مجاهد ص 574.
(6)
سقط من: ص، ت 1.
وتَزيدين الجاهلَ جهلًا. قال: ثم رجَع حتى عطِش عطشًا شديدًا، ثم أتاها فقال: إنكِ لشرابٌ طيبٌ، إلا أنك تُصْبِين الحليمَ وتَزيدين الجاهلَ جهلًا. قال: ثم شَرِبها حتى غلَبت على عقلِه، قال: فأُرِى الخاتمَ أو خُتِم به بين كتفيه، فذلَّ، قال: فكان مُلكُه في خاتمِه، فأتى به سليمانُ، فقال: إنَّا قد أمِرْنا ببناءِ هذا البيتِ، وقيل لنا: لا يُسْمَعَنَّ فيه صوتُ حديدٍ. قال: فأتى ببيض الهدهدِ، فجعَل عليه زجاجةً. فجاء الهدهُد، فدار حولَها، فجعَل يَرَى بيضه ولا يَقْدِرُ عليه، فذهب فجاء بالماسِ، فوضعه عليه، فقطَعها به، حتى أفضَى إلى بيضِه، فأخذ الماسَ، فجعلوا يَقْطَعون به الحجارةَ، فكان سليمانُ إذا أراد أن يَدْخُلَ الخلاء أو الحمَّامَ لم يَدْخُلُ بخاتمِه، فانطَلَق يومًا إلى الحمَّامِ، وذلك الشيطانُ صخرٌ معه، وذلك عند مقارفةِ ذنب قارَف فيه بعضَ نسائِه. قال: فدخَل الحمَّامَ
(1)
، وأعطى الشيطانَ خاتمَه، فألقاه
(2)
في البحرِ، فالتقمَته سمكةٌ، ونُزع مُلكُ سليمانَ منه، وأُلْقِى على الشيطانِ شَبَه سليمان. قال: فجاء فقعد على كرسيِّه وسريره، وسُلِّط على مُلكِ سليمان كله غيرَ نسائِه. قال: فجعَل يَقْضى بينَهم، وجعلوا يُنكرون منه أشياءَ، حتى قالوا: لقد فُتِن نبيُّ الله. وكان فيهم رجلٌ يُشَبِّهونَه بعمرَ بن الخطَّابِ في القوَّةِ، فقال: واللَّهِ لأُجَرِّبَنَّه. قال: فقال له: يا نبيَّ الله، وهو لا يرى إلا أنه نبيُّ الله، أحدنا تُصيبه الجنابة في الليلة الباردة، فيَدَعُ الغُسْل عمدًا حتى تَطْلُعَ الشمسُ، أَتَرى عليه بأسًا؟ قال: لا. قال: فبينا هو كذلك أربعين ليلةً حتى وجد نبيُّ اللهِ خاتمه في بطنِ سمكةٍ، فأقبل فجعَل لا يَسْتَقْبِلُه جنيٌّ ولا طيرٌ إلا سجَد له، حتى انتهَى إليهم:{وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا} . قال: هو الشيطانُ صخرٌ
(3)
.
(1)
بعده في ت 2: "يوما".
(2)
في ص، ت 1:"فألقى".
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 58 عن سعيد بن أبي عروبة به. وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 164 ومصنفه (9753) عن معمر عن قتادة. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 311، 312 إلى عبد =
حدَّثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ في قوله:{وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ} . قال: لقد ابْتَلَيْناه، {وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا}. قال: الشيطان حين جلس على كرسيِّه أربعين يوما. قال: كان لسليمان مائة امرأةٍ، وكانت امرأةٌ مِنْهن يُقال لها: جرادةُ. وهى آثر
(1)
نسائِه عندَه، وآمَنُهنَّ عندَه، وكان إذا أجنَب أو أتى حاجةً نزَع خاتمَه، ولم يَأْتَمِن عليه أحدًا من الناسِ غيرَها، فجاءته يومًا من الأيامِ، فقالت: إن أخى بينَه وبينَ فلان خصومةٌ، وأنا أحبُّ أن تَقْضِيَ له إذا جاءك. فقال لها: نعم. ولم يَفْعَلْ، فابتُلِى فأعطاها خاتمه، ودخَل المخرجَ، فخرَج الشيطانُ في صورتِه، فقال
(2)
: هاتى الخاتَم. فأعطَته، فجاء حتى جلَس على مَجْلِسِ سليمانَ، وخرَج سليمانُ بعد، فسألها أن تُعْطِيه خاتمه، فقالت ألم تَأْخُذْه قبلُ؟ قال: لا. وخرج من
(3)
مكانه تائهًا، قال: ومكَث الشيطانُ يَحْكُمُ بينَ الناسِ أربعين يومًا. قال: فأنكر الناسُ أحكامَه، فاجتمع قرأةُ بني إسرائيلَ وعلماؤهم، فجاءوا حتى دخَلوا على نسائِه، فقالوا: إنَّا قد أنكَرْنا هذا، فإن كان سليمانَ، فقد ذهَب عقلُه، وأنكَرْنا أحكامَه. قال: فبكى النساءُ عند ذلك. قال: فأقبَلوا يَمشون حتى أَتَوه، فأحدقوا به، ثم نَشَروا فقرءوا التوراةَ. قال: فطار من بين أيديهِم حتى وقَع على شرفةٍ والخاتم معه، ثم طار حتى ذهَب إلى البحرِ، فوقع الخاتم منه في البحرِ، فابتلعه حوتٌ من حِيتانِ البحرِ. قال: وأقبل سليمان في حالِه التي كان فيها حتى انتَهى إلى صيَّادٍ من صيَّادِى البحر وهو جائعٌ، وقد اشتدَّ جوعُه، فاستطعَمه
(4)
مِن صيدِهم
(5)
. قال: إني أنا سليمانُ. فقام إليه
=ابن حميد وابن المنذر. وستأتي تتمته في ص 93.
(1)
في ت 1، ت 2، ت 3:"أبر".
(2)
بعده في ص، م، ت 1:"لها".
(3)
سقط من: النسخ.
(4)
في م: "فاستطعمهم".
(5)
في ت 1: "صيده".
بعضُهم فضربه بعضًا فشجَّه، فجعَل يَغْسِلُ دمه وهو على شاطئ البحرِ، فلام الصيَّادون صاحبَهم الذى ضرَبه، فقالوا: بئس ما صنعت حيثُ ضَرَبْتَه. قال: إنه زعَم أنه سليمانُ. قال: فأعطَوه سمَكتَيْنِ، مما قد مذِر
(1)
عندَهم، فلم يَشْغَلْه ما كان به من الضرب
(2)
حتى قام إلى شطِّ البحرِ، فشقَّ بطونَهما، وجعَل يَغْسِلُ، فوجَد خاتمه في بطنِ إحداهما، فأخَذه فلبِسه، فردَّ اللهُ عليه بهاءَه ومُلْكَه، وجاءت الطيرُ، حتى حامَت عليه، فعرَف القومُ أنه سليمانُ، فقام القومُ يَعْتَذِرون مما صنَعوا، فقال: ما أَحْمَدُكم على عذرِكم، ولا أَلومُكم على ما كان منكم، كان هذا الأمر لا بدَّ منه. قال: فجاء حتى أتى، مُلْكَه، فأرسَل إلى الشيطانِ، فجيء به، وسُخِّر له الريحُ والشياطينُ يومئذٍ، ولم تَكُنْ سخّرت له قبلَ ذلك، وهو قولُه:{وَهَبْ لِي مُلكًا لَا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِى إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ} . قال: وبعَث إلى الشيطانِ، فأُتِى به
(3)
، فأمرَ به فجُعِل في صندوق من حديدٍ، ثم أطبق عليه، فأقفَل عليه بقُفْلٍ، وختَم عليه بخاتمِه، ثم أمَر به، فأُلقى في البحرِ، فهو فيه حتى تَقُومَ الساعةُ، وكان اسمُه حبقيقَ
(4)
.
وقوله: {ثُمَّ أَنَابَ} سليمانُ، فرجَع إلى ملكِه من بعدِ ما زال عنه ملكُه فذهَب.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
(1)
في ص، ت 1:"صدر". ومذر: فسد. اللسان (م ذ ر).
(2)
في ص، م:"الضرر"، وفى ت 1:"الضر".
(3)
بعده في ص: "في صندوق فأتى به".
(4)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 499 - 501.
ذكرُ مَن قال ذلك
حُدِّثْتُ عن المحاربيِّ، عن عبدِ الرحمنِ، عن جوَيبرٍ، عن الضحاكِ في قولِه:{ثُمَّ أَنَابَ} . قال: دخل سليمانُ على امرأةٍ تَبِيعُ السمكَ، فاشترى منها سمكةً فشقَّ بطنَها، فوجد خاتمه فجعَل لا يَمُرُّ على شجرةٍ
(1)
ولا على
(2)
حجرٍ ولا شيءٍ إلا سجَد له، حتى أتى مُلْكَه وأهلَه، فذلك قولُه:{ثُمَّ أَنَابَ} . يقولُ: ثم رجَع
(3)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{ثُمَّ أَنَابَ} ، وأقبَل، يعني: سليمانُ
(4)
.
قوله: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلكًا لَّا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِى} . يقولُ تعالى ذكرُه: قال سليمان راغبًا إلى ربِّه: ربِّ استُرْ عليَّ ذنبي الذي أذنَبْتُ بيني وبينك، فلا تعاقبنى به، {وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} لا يَسْلُبْنِيه أحدٌ كما سلَبنيه قبل هذا
(5)
الشيطانُ.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِى} . يقولُ: مُلْكًا لا أُسلَبُه كما سُلِبتُه (4).
(1)
في م: "شجر".
(2)
سقط من: م.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 313 إلى المصنف.
(4)
تتمة الأثر المتقدم في ص 89، 90.
(5)
في م، ت 2، ت 3:"هذه".
وكان بعضُ أهلِ العربيةِ يُوجِّهُ معنى قوله: {لَا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} إلى: أن لا يكون لأحدٍ من بعدِى، كما قال ابنُ أحمرَ
(1)
:
ما أُمُّ غُفْرٍ على دَعْجَاءِ ذى عَلَقٍ
…
يَنْفى القراميدَ عنها الأَعصَمُ الوَقِلُ
في رأسِ خَلْقاءَ
(2)
من عَنْقاءَ مُشْرِفَةٍ
…
لا يَنْبَغِي
(3)
دونَها سَهْلٌ ولا جَبَلٌ
بمعنى: لا يكونُ فوقها سهلٌ ولا جبلٌ أحصنَ منها.
وقوله: {إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ} . يقولُ: [إنك وهابُ]
(4)
ما تَشاءُ لمن تَشَاءُ، بيدِك خزائنُ كلّ شيءٍ، تَفْتَحُ مِن ذلك ما أردتَ لمن أردتَ.
يقولُ تعالى ذكرُه: فاستجَبْنا له دعاءه، فأعطيناه مُلكًا لا يَنْبَغى لأحدٍ مِن بعده، {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ} مكانَ الخيلِ التي شغَلته عن الصلاةِ، {تَجْرِى بِأَمْرِهِ رُخَاءً}. يعنى: رَخوةً ليِّنةً، وهى من الرَّخاوةِ.
كما حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ اللَّهِ بنِ بَزِيعٍ، قال: ثنا بشرُ بنُ المُفضَّلِ، قال: ثنا عوفٌ، عن الحسنِ، أَنَّ نبيَّ اللهِ سليمانَ لما عُرِضت عليه الخيلُ، فشغَله النظرُ إليها عن صلاةِ العصرِ حتى توارَتْ بالحجابِ، فغضِب للهِ، فأمر بها فعُقِرت، فأبدَلَه الله مكانَها أسرعَ منها؛ سخَّر الريحَ تجرِى بأمرِه رُخاءً حيثُ شَاءَ، فكان يَغدو من إيلياءَ
(1)
البيت الأول في اللسان (د ع ج، ع ل ق)، والبيت الثاني تقدم في 15/ 538، 641.
(2)
في م: "حلقاء".
(3)
في ت 1: "يبتغى".
(4)
سقط من: ت 1، وبعده في ص:"أنت"، وبعده في ت 3:"أنت أنت".
ويَقِيلُ بقَزْوِينَ، ثم يَرُوحُ من قزوينَ ويَبِيتُ بكابُلَ
(1)
.
حدثت عن الحسينِ، قال: سمعت أبا معاذ يقولُ: أخبرنا عبيدٌ، قال: سمعتُ الضحاك يقولُ في قوله: {وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} : فإنه دعا يومَ دعا، ولم يَكُنْ في مُلكه الريحُ وكلُّ بنّاءٍ وعَوَّاصٍ من الشياطين، فدعا ربَّه عند توبته واستغفارِه، فوهَب الله له ما سأل، فتمَّ مُلكه.
واختلف أهل التأويل في معنى الرُّخاءِ؛ فقال فيه بعضُهم نحو الذي قلنا فيه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثني محمد بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهد في قوله:{تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً} . قال: طَيِّبةً.
حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاءُ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهد بنحوه
(2)
.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ} . قال: سريعةً طيبةً. قال: ليست بعاصفٍ ولا بطيئةٍ
(3)
.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {رُخَاءً} . قال: الرُّخاءُ اللَّيِّنة
(3)
.
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 127 عن معمر عن الحسن بنحوه، وذكره السيوطي في الدر المنثور 5/ 314 إلى قوله: حيث شاء بمعناه، وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر. والشطر الثاني ذكره الطوسي في التبيان 8/ 516.
(2)
تفسير مجاهد ص 575.
(3)
ذكره الطوسي في التبيان 8/ 516.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا أبو عامرٍ، قال: ثنا قُرَّةُ، عن الحسنِ في قولِ {رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ}. قال: ليست بعاصفةٍ، ولا الهيِّنةِ، بينَ
(1)
ذلك رُخاءٌ
(2)
.
وقال آخرون: معنى ذلك: مُطيعةٌ لسليمانَ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{رُخَاءً} . يقولُ: مُطيعةً له
(3)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبى، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ:{تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً} . قال: يعنى بالرُّخاءِ: المطيعةَ
(4)
.
حدَّثنا ابنُ المثنى، قال: ثنا أبو النعمان الحكمُ بنُ عبدِ اللهِ، قال: ثنا شعبةُ، عن أبى رجاءٍ، عن الحسنِ في قولِه:{تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً} . قال: مُطيعةً
(5)
.
حُدِّثتُ عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبرَنا عبيدٌ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يَقولُ في قولِه: {رُخَاءً} . يقولُ: مطيعةً
(6)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ قولَه:{رُخَاءً} . قال: طوعًا
(6)
.
(1)
سقط من: ص، ت 1.
(2)
أخرجه عبد الرزاق فى تفسيره 2/ 166 من طريق قرة به. وعزاه السيوطى فى الدر المنثور 5/ 314 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره -كما في الإتقان 2/ 40 - من طريق أبي صالح به.
(4)
أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق 22/ 269، 270 من طريق أبي صالح (باذام) عن ابن عباس.
(5)
أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق 22/ 270 من طريق قتادة عن الحسن. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 314 إلى ابن المنذر.
(6)
ذكره الطوسي في التبيان 8/ 516.
وقوله: {حَيْثُ أَصَابَ} . يقولُ: حيثُ أراد، من قولِهم: أصاب اللهُ بك خيرًا. أي: أراد اللهُ بك خيرًا.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{حَيْثُ أَصَابَ} . يقولُ: حيثُ أراد
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{حَيْثُ أَصَابَ} . يقولُ: حيثُ أراد انتَهى عليها
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{حَيْثُ أَصَابَ} . قال: حيثُ شاء
(3)
.
حدَّثنا ابن المثنى، قال: ثنا أبو النعمانِ الحكمُ بنُ عبدِ اللهِ، قال: ثنا شعبةُ، عن أبى رجاءٍ، عن الحسنِ في قولِه:{حَيْثُ أَصَابَ} . قال: حيثُ أراد
(4)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{حَيْثُ أَصَابَ} .
قال: إلى حيثُ أراد
(5)
.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره - كما في الإتقان 2/ 40 - من طريق أبي صالح به.
(2)
أخرجه ابن عساكر في تاريخه 22/ 270 من طريق أبي صالح عن ابن عباس.
(3)
تفسير مجاهد ص 575.
(4)
أخرجه ابن عساكر في تاريخه 22/ 270 من طريق قتادة عن الحسن. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 314 إلى ابن المنذر.
(5)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 166 عن معمر عن قتادة. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 314 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
حُدِّثتُ عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبرَنا عبيدٌ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {حَيْثُ أَصَابَ} . يقولُ: حيثُ أراد
(1)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ، عن بعضِ أهلِ العلمِ، عن وهبِ بن مُنبِّهٍ:{حَيْثُ أَصَابَ} : أي حيثُ أراد
(2)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المُفَضَّلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{حَيْثُ أَصَابَ} . قال: حيثُ أراد
(3)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرَنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {حَيْثُ أَصَابَ} . قال: حيثُ أراد.
وقولُه: {وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ} . يقولُ تعالى ذكرُه: وسخَّرْنا له الشياطينَ، فسلَّطناه عليها مكانَ ما ابتلَيْناه بالذي ألقَيْنا على كرسيِّه منها، يَسْتَعْمِلُها فيما شاء من أعمالِه، من بنَّاءٍ وغَوَّاصٍ، فالبُناةُ منها يَصْنَعون مَحاريبَ وتماثيلَ، والغاصَةُ يَسْتَخْرِجون له الحُلِيَّ من البحارِ، وآخرون يَنْحِتون له جِفانًا وقُدُورًا، والمردةُ في الأغلالِ مُقَرَّنون.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ} . قال: يَعْمَلون له ما يشاءُ من محاريبَ وتماثيلَ، {وَغَوَّاصٍ} يَسْتَخْرِجون الحُلِيَّ من البحرِ، {وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ}. قال: مَرَدَةَ الشياطينِ في الأغلالِ
(4)
.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 314 إلى المصنف وابن المنذر.
(2)
ذكره أبو حيان في البحر المحيط 7/ 398.
(3)
ذكره الطوسي في التبيان 8/ 516.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 314 إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر.
حُدِّثتُ عن المحاربيِّ، عن جُوَيبرٍ، عن الضحاكِ:{وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ} . قال: لم يَكُنْ هذا في مُلْكِ داودَ، أعطاه اللهُ مُلكَ داودَ وزاده الريحَ والشياطينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وغوّاصٍ.
{وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ} . يقولُ: في السلاسلِ.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ قولَه:{الْأَصْفَادِ} . قال: تَجْمَعُ اليدينِ إلى عنقِه
(1)
.
والأصفادُ جمعُ "صَفَدٍ"، وهى الأغلالُ.
وقولُه: {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} .
اختلَف أهلُ التأويلِ في المشارِ إليه بقولِه: {هَذَا} من العطاءِ، وأيُّ عطاءٍ أُرِيد بقولِه:{عَطَاؤُنَا} ؛ فقال بعضُهم: عُنِى به
(2)
الملكُ الذي أعطاه اللهُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ في قولِه:{هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} . قال: قال الحسنُ: الملكُ الذي أعطَيْناك، فأَعْطِ ما شئْتَ، وامنَعْ
(3)
ما شئتَ
(4)
.
حُدِّثتُ عن المحاربيِّ، عن جويبرٍ، عن الضحاكِ:{هَذَا عَطَاؤُنَا} : هذا مُلْكُنا
(5)
.
(1)
ذكره الطوسي في التبيان 8/ 517.
(2)
في ص، ت 1:"بذلك".
(3)
في ص، ت 1:"أمسك".
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 315 إلى عبد بن حميد.
(5)
تفسير القرطبي 15/ 206.
وقال آخرون: بل عُنِى بذلك تسخيرُه له الشياطينَ. قالوا: ومعنى الكلامِ: هذا الذي أعطَيْناك من كلِّ بنَّاءٍ وغَوَّاصٍ، من الشياطينِ وغيرِهم، عطاؤُنا.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} . قال: هؤلاء الشياطينُ، احبِسْ مَن شئْتَ منهم في وَثاقِك وفي عذابِك، أو سرِّحْ مَن شئْتَ منهم تَتَّخِذْ عندَه يدًا، اصنَعْ ما شئْتَ
(1)
.
وقال آخرون: بل ذلك ما كان أُوتى من القوَّةِ على الجِماعِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حُدِّثتُ عن أبي يوسفَ، عن سعدِ
(2)
بن طريفٍ، عن عكرمةَ، عن ابن عباسٍ، قال: كان سليمانُ في ظهرِه ماءُ مِائَةِ رجلٍ، وكان له ثلاثُمِائةِ امرأةٍ، وتسعُمِائةِ سُرِّيَّةٍ، {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}
(3)
.
وأولى الأقوالِ في ذلك عندِى بالصوابِ القولُ الذي ذكَرْناه عن الحسنِ والضحَّاكِ، من أنه عَنَى بالعطاءِ ما أَعْطَاه من المُلْكِ تعالى ذكرُه؛ وذلك أنه جلَّ ثناؤُه ذكَر ذلك عَقِيبَ خبرِه عن مسألةِ نبيِّه سليمانَ صلواتُ اللهِ وسلامُه عليه إياه مُلْكًا لا يَنْبَغي لأحدٍ من بعدِه، فأخبرَ أنه سخَّر له ما لم يُسَخِّرْ لأحدٍ من بني آدمَ، وذلك تسخيرُه له الريحَ والشياطينَ على ما وصَف
(4)
، ثم قال له عزَّ ذكرُه: هذا الذي
(1)
تفسير القرطبي 15/ 207.
(2)
في ص، م، ت 3:"سعيد". ينظر تهذيب الكمال 10/ 271.
(3)
تفسير القرطبي 5/ 206.
(4)
في م، ت 2، ت 3:"وصفت".
أعطَيْناك من المُلكِ، وتسخيرِنا ما سخَّرنا لك - عطاؤُنا، وهِبَتُنا
(1)
لك ما سأَلْتَنا أن نَهِبَه لك من المُلكِ الذي لا يَنْبَغى لأحدٍ من بعدِك، {فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} .
واختلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِ قولِه: {فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} ؛ فقال بعضُهم: معنى ذلك: فأَعْطِ مَن شئْتَ ما شئتَ من المُلكِ الذي آتيناك، وامنَعْ من شئتَ منه ما شئتَ، لا حسابَ عليك في ذلك
(2)
.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، قال: قال الحسنُ: {فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} : المُلكُ الذي أعطَيْنَاكَ، فَأَعْطِ ما شئْتَ وامنَعْ ما شئْتَ، فليس عليك
(3)
تَبِعةٌ ولا حسابٌ
(4)
.
حُدِّثتُ عن المحاربيِّ، عن جُوَيبرٍ، عن الضحَّاكِ:{فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} : سأل مُلكًا هنيئًا
(5)
، لا يُحاسَبُ به يومَ القيامةِ، فقال: ما أَعطيتَ وما أَمْسَكْتَ، فلا حرَجَ عليك
(6)
.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبى، عن سفيانَ، عن أبيه، عن عكرمةَ:{فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} . قال: أَعْطِ أو أَمْسِكْ، فلا حسابَ عليك
(7)
.
(1)
في م، ت 2، ت 3:"وهبنا".
(2)
بعده في ت 1: "ولا حرج".
(3)
في ص: "عليه".
(4)
تقدم تخريجه في ص 99.
(5)
في ص، ت 1، ت 2:"هينا".
(6)
ذكره الطوسي في التبيان 8/ 517.
(7)
تفسير الثورى ص 258. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 315 إلى عبد بن حميد.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى؛ وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{فَامْنُنْ} . قال: أعْطِ أو أَمسِكْ بغيرِ حسابٍ
(1)
.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أَعْتِقْ مِن هؤلاء الشياطينِ - الذين سخَّرناهم لك من الخدمةِ أو من الوَثاقِ، ممن كان منهم مُقَرَّنًا في الأصفادِ - مَن شئتَ، واحبِسْ مَن شئتَ، فلا حرَجَ عليك في ذلك.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} . يقولُ: هؤلاء الشياطينُ، احبِسْ مَن شئْتَ منهم في وثاقِك وفي عذابِك، وسرِّحْ مَن شئْتَ منهم تتَّخِذْ عندَه يدًا، اصنَعْ ما شئْتَ لا حسابَ عليك في ذلك
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ:{فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} . يقولُ: أَعتِقْ من الجنِّ مَن شئْتَ، وأَمسِكْ مَن شئتَ
(3)
.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ قولَه: {فَامْنُنْ أَوْ
أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}. قال: تَمُنُّ على مَن تشاءُ منهم فتُعْتِقُه، وتُمْسِكُ مَن شئتَ
فتَسْتَخْدِمُه. ليس عليه في ذلك حسابٌ
(4)
.
(1)
تفسير مجاهد ص 575، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 315 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
ذكره أبو حيان في البحر المحيط 7/ 399.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 315 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(4)
ذكره القرطبي في تفسيره 15/ 207.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: هذا الذي أعطَيْناك من القوَّةِ على الجماعِ عطاؤُنا، فجامِعْ مَن شئْتَ من نسائِك وجَوَارِيك، ما شئْتَ بغيرِ حسابٍ، واترُكْ جِماعَ مَن شئتَ منهنَّ.
وقال آخرون: بل
(1)
ذلك من المقدَّمِ والمؤخَّرِ، ومعنى الكلامِ: هذا عطاؤُنا بغيرِ حسابٍ، فامْنُنْ أو أَمْسِكْ. وذُكِر أن ذلك في قراءةِ عبدِ اللهِ:(هذا فامنن أو أمسك عطاؤنا بغير حساب).
وكان بعضُ أهلِ العلمِ بكلامِ العربِ من البصريِّين يقولُ
(2)
: في قولِه: {بِغَيْرِ حِسَابٍ}
(3)
وجهان؛ أحدُهما: بغيرِ جزاءٍ ولا ثوابٍ، والآخرُ: منةٍ ولا قلةٍ.
والصوابُ من القولِ في ذلك ما ذكَرْتُه عن أهلِ التأويلِ من أن معناه: لا يُحاسبُ على ما أُعْطى من ذلك الملكِ والسلطانِ.
وإنما قلْنا ذلك هو الصوابُ؛ لإجماعِ الحجةِ من أهلِ التأويلِ عليه.
وقولُه: {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} . يقولُ: وإن لسليمانَ عندَنا لقُربةً؛ بإنابتِه إلينا وتوبتِه وطاعتِه لنا. {وَحُسْنَ مَآبٍ} . يقولُ: وحُسنَ مَرْجِعٍ ومصيرٍ في الآخرةِ.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} . أي: مصيرٍ
(4)
.
إن قال لنا قائلٌ: وما وَجْهُ رغبةِ سليمانَ إلى ربِّه في الملكِ وهو نبيٌّ من الأنبياء،
(1)
سقط من: ص، ت 1.
(2)
هو أبو عبيدة. ينظر مجاز القرآن 2/ 184.
(3)
بعده في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"له".
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 315 إلى المصنف وعبد بن حميد.
وإنما يَرْغَبُ في الملكِ أهلُ الدنيا المؤثِرُون لها على الآخرةِ؟ أم ما وَجْهُ مسألتِه إياه إذ سأَله ذلك مُلْكًا لا يَنْبَغى لأحدٍ من بعدِه؟ وما كان يَضُرُّه أن يكونَ كلُّ مَن بعدَه يُؤْتَى
(1)
مثلَ الذي أُوتى من ذلك؟ أكان به بخلٌ بذلك، فلم يَكُنْ مِن مُلكِه، يُعْطَى ذلك مَن يُعْطاه أم حسدٌ للناسِ؟! - كما ذُكِر عن الحجاجِ بن يوسفَ
(2)
؛ فإنه ذُكِرَ أنه قرَأ قولَه: {وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} . فقال: إن كان لَحَسودًا - فإن ذلك ليس من أخلاقِ الأنبياءِ صلواتُ اللهِ عليهم؟! قيل: أَمَّا رغبَتُه إلى ربِّه فيما رغِب إليه من المُلكِ، فلم تكُنْ إن شاء اللهُ به رغبةٌ في الدنيا، ولكن إرادةٌ منه أن يَعْلَمَ منزلتَه من اللهِ، في إجابتِه فيما رغِبَ إليه فيه، وقبولِه توبتَه وإجابتِه دعاءَه.
وأما مسألتُه ربَّه مُلكًا لا يَنْبَغى لأحدٍ من بعدِه؛ فإنا قد ذكَرْنا فيما مضى قبلُ قولَ مَن قال: إن معنى ذلك: هبْ لى مُلكًا لا أُسْلَبُه كما سُلِبتُه قبلُ
(3)
. وإنما معناه عندَ هؤلاء: هبْ لى مُلْكًا لا يَنْبَغِى لأحدٍ من بعدِى أَن يَسْلُبَنيه. وقد يَتَّجِهُ ذلك أن يكونَ بمعنى: لا يَنْبَغى لأحدٍ سِواىَ من أهلِ زمانى، فيكونَ حجةً وعلَمًا لى على نُبُوَّتى، وأَنِّي [رسولٌ لك]
(4)
إليهم مبعوثٌ؛ إذ كانت الرسلُ لا بدَّ لها من أعلامٍ تُفارقُ بها سائرَ الناسِ سواهم. ويتَّجِهُ أيضًا لأن يكونَ معناه: وهبْ لي مُلْكًا تَخُصُّنى به، لا تُعْطِيه أحدًا غيرِى، تشريفًا منك لى بذلك وتكرمةً؛ لتُبيِّنَ منزلتى منك به من منازلِ مَن سِواىَ. وليس في وجهٍ من هذه الوجوه مما ظنَّه الحجاجُ في معنى ذلك شيءٌ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ
(1)
في ص، ت 1:"أوتى".
(2)
تاريخ دمشق 12/ 161.
(3)
ينظر ما تقدم في ص 93.
(4)
في م: "رسول".
الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42)}
يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: {وَاذْكُرْ} أيضًا يا محمدُ {عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ} مستغيثًا به فيما نزَل به من البلاءِ: يا ربِّ، إِنِّي مسَّنِى الشيطانُ بنُصْبٍ.
واختلَفت القرأةُ في قراءةِ قولِه: {بِنُصْبٍ} ؛ فقرَأته عامةُ قرأةِ الأمصارِ خلا أبي جعفرٍ القارئَ: {بِنُصْبٍ} ، بضمِّ النونِ وسكونِ الصادِ. وقرَأ ذلك أبو جعفرٍ بضمِّ النونِ والصادِ كليهما، وقد حُكِى عنه بفتحِ النونِ والصادِ
(1)
. والنُّصْبُ والنَّصَبُ بمنزلةِ الحُزْنِ والحَزَنِ، والعُدْمِ والعَدَمِ، والرُّشْدِ والرَّشَدِ، والصُّلْبِ والصَّلَبِ.
وكان الفرَّاءُ
(2)
يقولُ: إذا ضُمَّ أولُه لم يُثَقَّلْ؛ لأنهم جعَلوهما على سَمْتَين؛ إذا فتَحوا أولَه ثَقَّلُوا، وإذا ضَمُّوا أولَه خفَّفُوا. قال: وأنشَدني بعضُ العربِ:
لئن بَعَثَتْ أُمُّ الحُمَيدَينِ مائِرًا
…
لقد غَنِيَتْ فِي غَيرِ بُؤْسٍ ولا جُحْدِ
من قولِهم: جحِد عيشُه. إذا ضاق واشتدَّ، قال: فلما قال: "جُحْد" خفَّف.
وقال بعضُ أهلِ العلمِ بكلامِ العربِ من البصريين
(3)
: النُّصْبُ من العذابِ. وقال: العربُ تقولُ: أَنْصَبني. عذَّبنى وبرَّح بي، قال: وبعضُهم يقولُ: نَصَبَنى.
واستشهَد لقيلِه ذلك بقولِ بشرِ بن أبى خازمٍ
(4)
:
تعَنَّاكَ نُصْبٌ من أُمَيْمَةَ مُنْصِبُ
…
كذِى الشَّجْوِ
(5)
لمَّا يَسْلُه وسَيَذْهَبُ
(1)
ينظر النشر في القراءات العشر 2/ 270.
(2)
في معاني القرآن 2/ 406.
(3)
هو أبو عبيدة. ينظر مجاز القرآن 2/ 184.
(4)
ديوانه ص 7.
(5)
في الديوان: "الشوق".
وقال: يعنى بالنُّصْبِ البلاءَ والشرَّ.
ومنه قولُ نابغةِ بني ذُبيانَ
(1)
:
كِلِيني لِهَمٍّ يا أُمَيْمَةَ ناصِبِ
…
وليلٍ أُقَاسِيهِ بَطِيءِ الكَوَاكِبِ
قال: والنَّصَبُ إذا فُتحت وحُرِّكت حروفُها كانت من الإعياءِ، والنَّصْبُ إذا فُتِح أولُه وسُكِّن ثانيه واحدةُ أنصابِ الحرمِ، وكلُّ ما نُصِب علمًا. وكأن معني النُّصْبِ في هذا الموضِعِ العلةُ التي نالته في جسدِه، والعناءُ الذي لاقَى فيه، والعذابُ في ذهابِ مالِه.
والصوابُ من القراءةِ في ذلك عندَنا
(2)
ما عليه قرأةُ الأمصارِ، وذلك الضمُّ في النونِ، والسكونُ في الصادِ.
وأما التأويلُ، فبنحوِ الذي قلْنا فيه قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ} ، حتى بلَغ:{بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} : ذهابِ المالِ والأهلِ، والضرِّ الذي أصابه في جسدِه، قال: ابتُلي سبعَ سنينَ وأشهرًا، مُلْقًى على كُناسةٍ لبنى إسرائيلَ، تخْتَلِفُ الدوابُّ في جسدِه، ففرَّج اللهُ عنه، وعظَّم له الأجرَ، وأحسَن عليه الثناءَ
(3)
.
(1)
تقدم تخريجه في 13/ 595.
(2)
القراءتان كلتاهما الصواب.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 167 عن معمر عن قتادة، ومن طريقه ابن عساكر في تاريخ دمشق 10/ 65. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 315 إلى عبد بن حميد.
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المُفَضَّلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ قولَه:{مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} . قال: نُصْبٍ في جسدى، وعذابٍ في مالي
(1)
.
حُدِّثْتُ عن المحاربيِّ، عن جُوَيبرٍ، عن الضحاكِ:{أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ} . يعنى: البلاءَ في الجسدِ، {وَعَذَابٍ} ، قولُه:{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30].
وقوله: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} ، ومعنى الكلامِ: إذ نادى ربَّه مُستغِيثًا به، أَنِّي مسَّنى الشيطانُ ببلاءٍ في جسدى، وعذابٍ بذهابِ مالي وولدى، فاستجَبْنا له، وقلْنا له: اركُضْ برجلِك الأرضَ. أي حرِّكْها وادفَعْها برجلِك. والرَّكْضُ حركةُ الرِّجلِ. يقالُ منه: رُكِضَت
(2)
الدابةُ. و: لا تَرْكُضُ ثوبَك برجلِك.
وقيل: إن الأرضَ التي أُمِر أيوبُ أن يركُضَها برجلِه الجابيةُ
(3)
.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} .
الآية، قال: ضرَب برجلِه الأرضَ؛ أرضًا يقالُ لها: الجابيةُ
(4)
.
وقولُه: {هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} . ذُكِر أنه نبَعَت له حينَ ضرَب برجلِه الأرضَ عينان، فشرِب من إحداهما، واغتَسَل من الأخرى.
(1)
ذكره أبو حيان في البحر المحيط 7/ 400.
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"ركضته".
(3)
الجابية: قرية من أعمال دمشق. معجم البلدان 2/ 3.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 316 إلى المصنف وعبد بن حميد.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، قال: ضرَب برجلِه الأرضَ، فإذا عينان تَنْبُعان، فشرِب من إحداهما، واغتَسَل من الأخرى
(1)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ، عن بعضِ أهلِ العلمِ، عن وهبِ بن مُنَبِّهٍ:{ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} . قال: فركَض برجلِه، فانفجَرت له عينٌ، فدخَل فيها واغتَسَل، فأذهَب اللهُ عنه كلَّ ما كان به من البلاءِ.
حدَّثني بشرُ بنُ آدمَ، قال: ثنا أبو قُتَيبةَ، قال: ثنا أبو هلالٍ، قال: سمِعتُ الحسنَ في قولِ اللهِ: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} : فركَض برجلِه، فنبَعت عينٌ، [فاغتَسَل منها، ثم مشى نحوًا من أربعين ذراعًا، ثم ركَض برجلِه، فنبَعت عينٌ]
(2)
، فشرِب منها، فذلك قولُه:{ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ}
(3)
.
وعُنِى بقولِه: {مُغْتَسَلٌ} : ما يُغتَسَلُ به من الماءِ، يقالُ منه: هذا مُغْتَسَلٌ وغَسُولٌ. للذى
(4)
يُغْتَسلُ به من الماءِ.
وقولُه: {وَشَرَابٌ} . يعنى: ويَشْرَبُ منه. والموضِعُ الذي يُغْتَسَلُ فيه يُسَمَّى مُغْتَسَلًا.
القولُ في تأويلِ قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)} .
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 316 إلى المصنف وعبد بن حميد.
(2)
سقط من: ص، ت 1.
(3)
ينظر ما تقدم في 16/ 364.
(4)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"الذي".
اختلَف أهلُ التأويلِ في معنى قولِه: {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} . وقد ذكَرْنا اختلافَهم في ذلك والصوابَ من القولِ عندَنا فيه في سورةِ "الأنبياءِ"، بما أغنَى عن إعادتِه في هذا الموضعِ
(1)
.
فتأويلُ الكلامِ: فاغتَسَل وشرِب، ففرَّجنا عنه ما كان فيه من البلاءِ، ووهَبْنا له أهلَه من زوجةٍ وولدٍ:{وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا} له
(2)
ورأفةً، {وَذِكْرَى}. يقولُ: وتذكيرًا لأولى العقولِ؛ ليعتَبِروا بها فيتَّعِظوا.
وقد حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: أخبَرني نافعُ بنُ يزيدَ، عن عُقيلٍ، عن ابن شهابٍ، عن أنسِ بن مالكٍ، أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: "إن نبيَّ اللهِ أيوبَ لبِث به بلاؤُه ثمانيَ عشْرةَ سنةً، فرفَضه القريبُ والبعيدُ إلا رجلان
(3)
من إخوانِه، كانا من أخصِّ إخوانِه به، كانا يَغْدُوَان إليه ويَرُوحان، فقال أحدُهما لصاحبِه: تَعْلَمُ واللهِ لقد أذنَب أيوبُ ذَنْبًا ما أذنَبه أحدٌ من العالمين. قال له صاحبُه: وما ذاك؟ قال: ثمانيَ عشرةَ سنةً لم يَرْحَمْهُ اللهُ، فيَكْشِفَ ما به. فلما راحا إليه لم يَصبرِ الرجلُ حتى ذكَر ذلك له، فقال أيوبُ: لا أَدْرى ما تَقولُ، غيرَ أن الله يَعْلَمُ أنى كُنْتُ أمُرُّ على الرجلين يَتَنازعان فيَذْكُران الله فَأَرجِعُ إلى بيتى فأُكَفِّرُ عنهما، كراهيةَ أن يُذْكَرَ اللهُ إلا في حقٍّ. قال: وكان يَخرُجُ إلى حاجتِه، فإذا قضاها أَمْسَكَت امرأتُه بيدِه حتى يَبْلُغَ، فلما كان ذاتَ يومٍ أبطَأ عليها، وأُوحِيَ إلى أيوبَ في مكانِه: أن {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} . فاستبطَأَته، فتلقَّته تَنْظُرُ، وأقبَل عليها قد أذهَب اللهُ ما به من البلاءِ، وهو على أحسنِ ما كان، فلما رأَته
(1)
ينظر ما تقدم في 16/ 365 - 367.
(2)
سقط من: ت 2، ت 3.
(3)
كذا بالنسخ؛ وفى معظم مصادر التخريج: "رجلين".
قالت: أي بارَك اللهُ فيك، هل رأيتَ نبيَّ اللهِ هذا المُبْتَلَى؟ فواللهِ على ذلك ما رَأَيتُ أحدًا أشبهَ به منك إذ كان صحيحًا. قال: فإني أنا هو. قال: وكان له أَنْدَرانِ
(1)
؛ أندرٌ للقمحِ، وأندرٌ للشعيرِ، فبعَث اللهُ سحابَتَينِ، فلما كانت إحداهما على أَنْدَرِ القمحِ، أفرَغت فيه الذهبَ حتى فاض، وأفرَغت الأخرى في أندرِ الشعيرِ الورِقَ حتى فاض"
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} . قال: قال الحسنُ وقتادةُ: فأحياهم
(3)
اللهُ بأعيانِهم، وزاده
(4)
مثلَهم معهم
(5)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عوفٍ، قال: ثنا أبو المغيرةِ، قال: ثنا صفوانُ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ بنُ جبيرٍ، قال: لما ابتُلى أيوبُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بمالِه وولدِه وجسدِه، وطُرِح في المزبلةِ، جعَلتِ امرأتُه تَخْرُجُ تَكْسِبُ عليه ما تُطْعِمُه، فحسَده الشيطانُ على ذلك، وكان يأتى أصحابَ الخبزِ والشِّواءِ الذين كانوا يَتَصدَّقون عليها، فيقولُ: اطرُدوا هذه المرأةَ التي تَغْشَاكم، فإنها تُعالِجُ صاحبَها وتَلْمَسُه بيدِها، فالناسُ يتَقَذَّرون طعامَكم من أجلِ أنها تَأتيكم وتَغْشَاكم على ذلك، وكان يَلْقاها إذا خرَجت كالمحزونِ لما لقِىَ أيوبُ، فيقولُ: لجَّ صاحبُك، فأبى إلا ما أتى، فواللهِ لو
(1)
الأَنْدَرُ: البَيْدَرُ. وهو الموضع الذي تُداس فيه الحبوب. القاموس المحيط (ن د ر).
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم - كما في البداية والنهاية 1/ 510 - ، وابن عساكر في تاريخه 10/ 71، 72 من طريق يونس به. وأخرجه البزار (2357 - كشف)، وأبو يعلى (3617) - ومن طريقه ابن عساكر في تاريخه 10/ 73، 74 - وابن حبان (2898)، والحاكم 2/ 581، 582، وأبو نعيم في الحلية 3/ 374، 375 من طريق نافع به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 330 إلى ابن أبي الدنيا وابن مردويه.
(3)
في ت 1: "قد خباهم". وبدون نقط في ص.
(4)
في م: "زادهم".
(5)
سقط من: م، ت 2، ت 3. والأثر تقدم تخريجه في 16/ 367.
تَكَلَّمَ بكلمةٍ واحدةٍ لكُشِف عنه كلُّ ضرٍّ، ولرجَع إليه مالُه وولدُه. فتَجِيءُ فتُخْبِرُ أيوبَ، فيقولُ لها: لَقِيَكِ عدوُّ الله فلقَّاك هذا الكلامَ، ويلَكِ إنما مثلُك كمثلِ المرأةِ الزانيةِ إذا جاء صديقُها بشيءٍ، قبَّلته وأدخَلته، وإن لم يَأْتِها بشيءٍ طرَدته وأغلَقت بابَها عنه؛ لمَّا أعطانا اللهُ المالَ والولدَ آمنَّا به، وإذا قبَض الذي له منا نَكْفُرُ به، ونُبَدِّلُ غيرَه؛ إن أقامني اللهُ من مرضى هذا لأجْلِدَنَّك مائةً. قال: فلذلك قال الله: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ}
(1)
.
وقولُه: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا} . يقولُ: وقلْنا لأيوبَ: خُذْ بيدِك ضغثًا. وهو ما يُجْمَعُ من شيءٍ، مثلُ حُزْمَةِ الرُّطْبَةِ، وكملءِ الكفِّ من الشجرِ أو الحشيشِ والشماريخِ، ونحوِ ذلك مما قام على ساقٍ، ومنه قولُ عوفِ بن الخَرِعِ
(2)
:
وأسفلَ مِنِّي نَهْدةً قد ربَطتُها
…
وأَلْقَيتُ ضِغْثًا من خَلًى
(3)
مُتَطَيَّبِ
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا} . يقولُ: حُزْمةً
(4)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} . قال: أُمِر أن
(1)
أخرجه أحمد في الزهد ص 89 عن أبي المغيرة به. وستأتي تتمته في ص 113.
(2)
البيت في مجاز القرآن 2/ 185.
(3)
الخلى: هو الرطب من النبات. الوسيط (خ ل ى).
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره - كما في الإتقان 2/ 40 - من طريق أبي صالح به.
يَأْخُذَ ضِغْثًا من رُطبةٍ بقدرِ ما حلَف عليه، فيَضْرِبَ به.
حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا ابن يمانٍ، عن ابن جريجٍ، عن عطاءٍ في قولِه:{وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا} . قال: عِيدانًا رَطْبةً.
حدَّثنا أبو هشامٍ الرِّفاعيُّ، قال: ثنا يحيى، عن إسماعيلَ بن إبراهيمَ بن المهاجرِ، عن أبيه، عن مجاهدٍ، عن ابن عباسٍ:{وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا} . قال: هو الأَثْلُ
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا} الآية، قال: كانت امرأتُه قد عرَضت له بأمرٍ، وأرادها إبليسُ على شيءٍ، فقال: لو تكلَّمتِ بكذا وكذا. وإنما حمَلها عليها الجزَعُ، فحلَف
(2)
لئن شفاه اللهُ ليَجْلِدَنَّها مِائةَ جلدةٍ، قال: فأُمِر بغصنٍ فيه تسعةٌ وتسعون قضيبًا، والأصلُ تكملةُ المِائةِ، فضرَبها ضربةً واحدةً، فأبرَّ نبيُّ اللهِ، وخفَّف اللهُ عن أَمَتِه، واللهُ رحيمٌ
(3)
.
حُدِّثتُ عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبَرنا عبيدٌ، قال: سمعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا} . يعنى: ضِغْثًا من الشجرِ الرَّطْبِ، كان حلَف على يمينٍ، فأخَذ من الشجرِ عددَ ما حلَف عليه، فضرَب به ضربةً واحدةً فبرَّت يمينُه، وهو اليومَ في الناسِ يمينُ أيوبَ، مَن أخَذ بها فهو حسنٌ.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} . قال: ضِغْثًا واحدًا من الكلأِ فيه أكثرُ من مائةِ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 317 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
بعده في م، ت 2، ت 3:"نبي الله".
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 167، 168 عن معمر عن قتادة بنحوه. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 317 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
عودٍ، فضرَب به ضربةً واحدةً، فذلك مائةُ ضربةٍ.
حدَّثني محمدُ بنُ عوفٍ، قال: ثنا أبو المغيرةِ، قال: ثنا صفوانُ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ بنُ جُبَيرٍ: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ} . [يعنى بالضِّغْثِ القبضةَ من المكانسِ]
(1)
(2)
.
[وقولُه: {فَاضْرِبْ بِهِ}]
(3)
. يقولُ: فاضرِبْ زوجتَك بالضِّغْثِ، لتَبَرَّ في يمينِك التي حلَفت بها عليها أن تَضْربَها. {وَلَا تَحْنَثْ}. يقولُ: ولا تحنثْ في يمينِك.
وقولُه: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ} . يقولُ: إنا وجَدْنا أيوبَ صابرًا على البلاءِ، لا يحمِلُه البلاءُ على الخروجِ عن طاعةِ اللهِ والدخولِ في معصيتِه:{نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} . يقولُ: إنه إلى طاعةِ اللهِ مقبلٌ، وإلى رِضاه رَجَّاعٌ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا
(4)
إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47)}.
اختلَفت القرأةُ في قراءةِ قولِه: {عِبَادَنَا} ؛ فقرَأته قرأةُ الأمصارِ: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا} . على الجماعِ غيرَ ابن كثيرٍ، فإنه ذُكِر عنه أنه قرَأه:(واذكُرْ عبدَنا). على التوحيدِ
(5)
، كأنه يُوجِّهُ الكلامَ إلى أن إسحاقَ ويعقوبَ من ذرِّيةِ إبراهيمَ، وأنهما
(1)
سقط من: النسخ. والمثبت من مصدر التخريج، وهو ما يقتضيه السياق.
(2)
تتمة الأثر المتقدم تخريجه في ص 111.
(3)
سقط من: م، ت 2، ت 3.
(4)
في ت 2 ت 3: "عبدنا". وهى قراءة كما سيأتي.
(5)
ينظر التيسير ص 152.
ذُكِرا من بعدِه.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا ابن عيينةَ، عن عمرٍو، عن عطاءٍ، سمِع ابنَ عباسٍ يَقْرَأُ: (واذكُرْ عبدَنا إبراهيمَ
(1)
). قال: إنما ذكِر إبراهيمُ، ثم ذُكِر ولدُه بعدَه
(2)
.
والصوابُ عندَنا في ذلك من القراءةِ
(3)
قراءةُ مَن قرَأه على الجماعِ، على أن إبراهيمَ وإسحاقَ ويعقوبَ بيانٌ عن العبادِ، وترجمةٌ عنهم
(4)
؛ لإجماعِ الحجةِ من القرأةِ عليه.
وقولُه: {أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} . ويعنى بالأيدى القوَّةَ، يقولُ: أهلَ القوةِ على عبادةِ اللهِ وطاعتِه. ويعنى بالأبصارِ أنهم أهلُ أبصارِ القلوبِ، يعنى به: أولى العقولِ للحقِّ.
وقد اختلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِ ذلك؛ فقال بعضُهم في ذلك نحوًا مما قلْنا فيه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} . يقولُ: أولى القوةِ والعبادةِ، {وَالْأَبْصَارِ}. يقولُ: الفقهِ في الدينِ
(5)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن
(1)
سقط من: ص، ت 1.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 317، 318 إلى المصنف وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن أبي حاتم.
(3)
القراءتان كلتاهما صواب.
(4)
في م، ت 2، ت 3:"عنه".
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره - كما في تغليق التعليق 4/ 296، والإتقان 2/ 40 - من طريق أبي صالح به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 318 إلى ابن المنذر.
أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} . قال: فُضِّلوا بالقوَّةِ والعبادةِ.
حدَّثني محمدُ بنُ المثنى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن منصورٍ أنه قال في هذه الآيةِ:{أُولِي الْأَيْدِي} . قال: القوَّةِ
(1)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا حكَّامٌ، عن عنبسةَ، عن محمدِ بن عبدِ الرحمنِ، عن القاسمِ بن أبي بَزَّةَ، عن مجاهدٍ في قوله:{أُولِي الْأَيْدِي} . قال: القوةِ في أمرِ اللهِ.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا حكَّامٌ، عن عمرٍو، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ:{أُولِي الْأَيْدِي} . قال: الأيدى: القوةُ في أمرِ اللهِ، {وَالْأَبْصَارِ}: العقولِ
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{أُولِي الْأَيْدِي} . قال: القوةِ في طاعةِ اللهِ. {وَالْأَبْصَارِ} : قال: البصرِ في الحقِّ
(3)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} . يقولُ: أُعطوا قوةً في العبادةِ، وبصرًا في الدينِ
(4)
.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ قولَه: {أُولِي
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"قوة".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 318 إلى المصنف وعبد بن حميد.
(3)
تفسير مجاهد ص 573، وذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 67.
(4)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 168 عن معمر عن قتادة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 318 إلى عبد بن حميد.
الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ}. قال: الأيدى: القوةُ في طاعةِ اللهِ. {وَالْأَبْصَارِ} : البصرِ بعقولِهم في دينِهم
(1)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} . قال: الأيدى: القوةُ، والأبصارُ: العقولُ.
فإن قال لنا قائلٌ: وما الأيدى من القوةِ، والأيدى إنما هي جمعُ يدٍ، واليدُ جارحةٌ؟ وما العقولُ من الأبصارِ، وإنما الأبصارُ جمعُ بصرٍ؟ قيل: إن ذلك مَثَلٌ. وذلك أن باليدِ البطشَ، وبالبطشِ تُعرَفُ قوَّةُ القَوِيِّ؛ فلذلك قيل للقويِّ: ذو يَدٍ. وأما البصرُ فإنه عنَى به بصرَ القلبِ، وبه تُنالُ معرفةُ الأشياءِ، فلذلك قيل للرجلِ العالمِ بالشيءِ: بصيرٌ به. وقد يُمكِنُ أن يكونَ عنَى بقولِه: {أُولِي الْأَيْدِي} : أولى الأيدى عندَ اللهِ بالأعمالِ الصالحةِ. فجعَل اللهُ أعمالَهم الصالحةَ التي عمِلوها في الدنيا أيديًا لهم عندَ اللهِ، تمثيلًا لها باليدِ تكونُ عندَ
(2)
الرجلِ لآخرَ.
وقد ذُكِر عن عبدِ اللهِ أنه كان يقرؤُه: (أُولى الأَيدِ) بغيرِ ياءٍ
(3)
. وقد يحتمِلُ أن يكونَ ذلك من التأييدِ، وأن يكونَ بمعنى الأيدى، ولكنه أسقَط منه الياءَ، كما قيل:{يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ} [ق: 41]. بحذفِ الياءِ
(4)
.
وقولُه: {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ} . يقولُ تعالى ذكرُه: إنا خصَصْناهم بخاصةٍ ذكرى الدارِ.
واختلَفت القرأةُ في قراءةِ قولِه: {بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} ؛ فقرَأته عامَّةُ قرأةِ
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 67.
(2)
في ص، ت 1:"قبل".
(3)
البحر المحيط 7/ 402.
(4)
ينظر معاني القرآن 2/ 406، 407.
المدينةِ: (بخالِصَةِ ذِكرَى الدَّارِ)
(1)
. بإضافةِ "خالصةِ" إلى "ذكرى الدارِ". بمعنى أنهم أُخلِصوا بخالصةِ
(2)
الذكرى، و"الذكرى" إذا قُرِئ كذلك غيرُ "الخالصةِ"، كما "المتكبرُ" إذا قُرِئ:{عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ} [غافر: 35]. بإضافةِ "القلبِ" إلى "المتكبرِ"، هو الذي له القلبُ وليس بالقلبِ. وقرَأ ذلك عامَّةُ قرأةِ العراقِ:{بِخَالِصَةِ ذِكْرَى الدَّارِ} . بتنوينِ قولِه: "خالصةٍ"، وردِّ {ذِكْرَى} عليها
(3)
. على أن الدارَ هي الخالصةُ، فردُّوا "الذكرى" وهي معرفةٌ على "خالصةٍ" وهى نكرةٌ، كما قيل:{لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ} [ص: 55، 56]. فردَّ "جهنمَ" وهى معرفةٌ على "المآب" وهى نكرةٌ
(4)
.
والصوابُ من القولِ في ذلك عندِى أنهما قراءتان مستفيضتان في قرأةِ الأمصارِ، فبأيَّتِهما قرَأ القارئُ فمصيبٌ.
وقد اختلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِ ذلك؛ فقال بعضُهم: معناه: إِنَّا أخلَصْناهم بخالصةٍ هي ذكرى الدارِ، أي أنهم كانوا يُذَكِّرون الناسَ الدارَ الآخرةَ، ويَدْعُونهم إلى طاعةِ اللهِ، والعملِ للدارِ الآخرةِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} . قال: بهذه أخلَصَهم اللهُ، كانوا يَدْعون إلى الآخرةِ وإلى اللهِ
(5)
.
وقال آخرون: معنى ذلك أنه أخلَصهم بعملِهم للآخرةِ وذِكْرِهم لها.
(1)
وهى قراءة نافع وابن عامر في رواية هشام. التيسير ص 152.
(2)
في ت 1: "الخالصة".
(3)
وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو وابن عامر - في رواية ابن ذكوان - وعاصم وحمزة والكسائي. المصدر السابق.
(4)
ينظر معاني القرآن 2/ 407.
(5)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 168 عن معمر عن قتادة.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليُّ بنُ الحسنِ الأَزْديُّ، قال: ثنا يحيى بنُ يمانٍ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} . قال: بذكرِ الآخرة، فليس لهم همٌّ غيرُها
(1)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المفضَّلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} . قال: بذكرِهم الدارَ الآخرةَ وعملِهم للآخرةِ
(2)
.
وقال آخرون: معنى ذلك: إنا أَخْلَصناهم بأفضلِ ما في الآخرةِ. وهذا التأويلُ على قراءةِ من قرَأه بالإضافةِ، وأما القولان الأوَّلان فعلى تأويلِ قراءةِ من قرَأه بالتنوينِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} . قال: بأفضلِ ما في الآخرةِ، أخلَصْناهم به وأعطَيْناهم إياه. قال: والدارُ: الجنةُ. وقرَأ: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ} [القصص: 83]. قال: الجنةُ. وقرَأ: {وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} [النحل: 30]. قال: هذا كلُّه الجنةُ. وقال: أَخْلَصناهم بخيرِ الآخرةِ
(3)
.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: بخالصةٍ عقبى الدارِ.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 318 إلى المصنف وابن المنذر.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 67.
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 67 مختصرا جدًّا.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبي، عن شريكٍ، عن سالمٍ الأفطسِ، عن سعيدِ بن جبيرٍ:{بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} . قال: عُقْبَى الدارِ
(1)
.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: بخالصةٍ أهلِ الدارِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حُدِّثتُ عن ابن أبي زائدةَ، عن ابن جريجٍ، قال: ثني ابن أبي نجيحٍ، أنه سمِع مجاهدًا يقولُ:{بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} : هم أهلُ الدارِ، وذو الدارِ، كقولِك: ذو الكَلاعِ، وذو يَزَنٍ.
وكان بعضُ أهلِ العلمِ بكلامِ العربِ من البصريين يَتَأَوَّلُ ذلك على القراءةِ بالتنوينِ: {بِخَالِصَةٍ} : عملٍ في ذكرى الآخرةِ
(2)
.
وأولى الأقوالِ بالصوابِ في ذلك على قراءةِ من قرَأه بالتنوينِ - أن يُقالَ: معناه: إِنَّا أَخْلَصْناهُم بخالصةٍ، هي ذكرى الدارِ الآخرةِ، فعمِلوا لها في الدنيا، فأطاعوا الله وراقَبوه، وقد يَدْخُلُ في وصفِهم بذلك، أن يكونَ من صفتِهم أيضًا الدعاءُ إلى اللهِ، وإلى الدارِ الآخرةِ؛ لأن ذلك من طاعةِ اللهِ والعملِ للدارِ الآخرةِ، غيرَ أن معنى الكلمةِ ما ذكَرْتُ.
وأما على قراءةِ من قرَأه بالإضافةِ، فأن يُقالَ: معناه: إنا أَخْلَصْناهم بخالصةِ ما ذُكِر في الدارِ الآخرةِ؛ فلمَّا لم تُذْكَرْ "في" أُضيفت "الذكرى" إلى "الدارِ"، كما قد بيَّنا قبلُ في معنى قولِه:{لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ}
(3)
[فصلت: 49].
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 318 إلى المصنف وعبد بن حميد.
(2)
ينظر مجاز القرآن 2/ 185.
(3)
ينظر ما تقدم في ص 61.
وقولِه: {بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} .
وقولُه: {وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ} . يقولُ: وإن هؤلاء الذين ذكَرْنا، عندَنا، لمن الذين اصطفيناهم لذكرى الآخرةِ، الأخيارِ، الذين اختَرْناهم لطاعتِنا ورسالتِنا إلى خلقِنا.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (48) هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49)} .
يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: واذكُرْ يا محمدُ إسماعيلَ واليسعَ وذا الكفلِ، وما أبلَوْا في طاعةِ اللهِ، فتأسَّ بهم واسلُكْ مِنهاجَهم في الصبرِ على ما نالَك في اللهِ، والنفاذِ لبلاغِ رسالتِه. وقد بيَّنا قبلُ من أخبارِ إسماعيلَ واليسَعَ وذى الكفلِ فيما مضى من كتابِنا هذا بما أغنى عن إعادتِه في هذا الموضعِ
(1)
.
والكِفلُ في كلامِ العربِ: الحظُّ والجَدُّ.
وقولُه: {هَذَا ذِكْرٌ} . يقولُ تعالى ذكرُه: هذا القرآنُ الذي أنزَلناه إليك يا محمدُ ذِكرٌ لك ولقومِك، ذكَّرناك وإيَّاهم به.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المُفَضَّلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{هَذَا ذِكْرٌ} . قال: القرآنُ
(2)
.
(1)
ينظر ما تقدم في 2/ 554 وما بعدها، 9/ 384، 16/ 368 - 373.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 67.
وقولُه: {وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ} . يقولُ: وإن للمُتَّقين الذين اتقوا الله فخافوه؛ بأداءِ فرائضِه، واجتنابِ معاصِيه - لحسنَ مَرْجِعٍ يَرْجِعون إليه في الآخرة، ومَصيرٍ يَصيرون إليه.
ثم أخبرَ تعالى ذكرُه عن ذلك الذي وعَدهم من حُسْنِ المآبِ ما هو، فقال:{جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ} .
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ قولَه:{وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ} . قال: لحسنَ مُنْقَلبٍ
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51)} .
قولُه تعالى ذكرُه: {جَنَّاتِ عَدْنٍ} : بيانٌ عن حسنِ المآبِ وترجمةٌ عنه، ومعناه: بساتينُ إقامةٍ. وقد بيَّنا معنى ذلك بشواهدِه، وذكَرْنا ما فيه من الاختلافِ فيما مضَى، بما أغنى عن إعادتِه في هذا الموضعِ
(2)
.
وقد حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{جَنَّاتِ عَدْنٍ} . قال: سأَل عمرُ كعبًا: ما عَدْنٌ؟ قال: يا أميرَ المؤمنين، قصورٌ في الجنةِ من ذهبٍ، يَسْكُنُها النبيُّون والصدِّيقون والشُّهداءُ وأئمةُ العدلِ
(3)
.
وقولُه: {مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ} . يعنى: مُفتَّحَةً لهم أبوابُها. وأُدخِلت الألفُ واللامُ في الأبوابِ بدلًا من الإضافةِ، كما قيل:{فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}
(1)
تقدم تخريجه في 5/ 267.
(2)
ينظر ما تقدم في 11/ 559 - 564.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 178 عن معمر عن قتادة. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 347 إلى عبد بن حميد.
[النازعات: 41]. بمعنى: هي مَأْوَاه، وكما قال الشاعرُ
(1)
:
ما ولَدَتكم حَيَّةُ ابنةُ مالكٍ
…
سِفاحًا وما كانت أحاديثَ كاذِبِ
ولكن نرَى أقدامَنا في نعالِكم
…
وآنَفَنا بينَ اللِّحَى والحَوَاجِبِ
بمعنى: بينَ لِحاكم وحواجبِكم. ولو كانت "الأبوابُ" جاءت بالنصبِ لم يَكُنْ لحنًا، وكان نصبُه على توجيهِ المُفَتَّحةِ في اللفظِ إلى "جناتٍ"، وإن كان في المعنى للأبوابِ، وكان كقولِ الشاعرِ
(1)
:
وما قومى بثعلبةَ بن سعدٍ
…
ولا بفَزَارةَ الشُّعْرِ الرِّقابا
ثم نُوِّنت "مُفَتَّحة"، ونُصِبَت "الأبواب".
فإن قال لنا
(2)
قائلٌ: وما في قولِه: {مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ} . من فائدةِ خبرٍ حتى ذُكِر ذلك؟ قيل: فإن الفائدةَ في ذلك إخبارُ اللهِ تعالى عنها أن أبوابَها تُفْتَحُ لهم بغيرِ فتحِ سكانِها إيَّاها بمعاناةٍ بيدٍ ولا جارحةٍ ولكن بالأمرِ، فيما ذُكِر.
كما حدَّثنا أحمدُ بنُ الوليدِ الرَّمْليُّ، قال: ثنا ابن نُفَيلٍ، قال: ثنا ابن دَعْلَجٍ
(3)
، عن الحسنِ في قولِه:{مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ} . قال: أبوابٌ تُكَلَّمُ؛ فتُكَلَّمُ: انفتِحى، انغلِقى
(4)
.
وقولُه: {مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ} . يقولُ: مُتَّكِئِين في جناتِ عدنٍ على سُرُرٍ، {يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ}. يعنى: بثمارٍ من ثمارِ الجنةِ
(1)
معاني القرآن 2/ 408.
(2)
سقط من: ت 1، ت 2، ت 3.
(3)
في م: "دعيج". ينظر تهذيب الكمال 8/ 307.
(4)
تقدم في 15/ 577.
كثيرةٍ وشرابٍ من شرابِها.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وعندَ هؤلاء المتقين الذين أكرمهم اللهُ بما وصَف في هذه الآيةِ من إسكانِهم جناتِ عدنٍ - {قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} . يعنى: نساءٌ قصَرت أطرافَهُنَّ على أزواجِهنَّ، فلا يُرِدْنَ غيرَهم، ولا يمدُدْنَ أعْيُنَهُنَّ إلى سِواهم.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} . قال: قصَرن طرفَهن على أزواجِهن، فلا يُرِدْنَ غيرَهم
(1)
.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} . قال: قصَرن أبصارَهن
(2)
وقلوبَهن وأسماعَهن على أزواجِهن، فلا يُرِدْنَ غيرَهم
(3)
.
وقوله: {أَتْرَابٌ} . يعنى: أسنانٌ واحدةٌ.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ على اختلافٍ بينَ أهلِ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:
(1)
تقدم تخريجه في ص 56.
(2)
في ت 1: "أطرافهن".
(3)
ينظر ما تقدم في ص 56، 57.
{قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ} . قال: أمثالٌ
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{أَتْرَابٌ} . سنٌّ واحدةٌ
(2)
.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{أَتْرَابٌ} .
قال: مُستَوِياتٌ
(3)
.
قال: وقال بعضُهم
(4)
: مُتَواخِياتٌ؛ لا يتَبَاغَضْنَ، ولا يَتَعَادَينَ، ولا يَتَغايَرْنَ، ولا يَتَحاسَدْنَ.
وقولُه: {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ} . يقولُ تعالى ذكرُه: هذا الذي يَعِدُكم اللهُ في الدنيا أيُّها المؤمنون به من الكرامةِ لمن أدخَله الجنةَ منكم في الآخرة.
كما حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ} . قال: هو في الدنيا ليومِ القيامةِ.
وقولُه: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} . يقولُ تعالى ذكرُه: إن هذا الذي أعطَيْنا هؤلاء المتقين في جنَّاتِ عدنٍ من
(5)
الفاكهةِ الكثيرةِ والشرابِ والقاصراتِ
(1)
تفسير مجاهد ص 576، 643. ومن طريقه البيهقى في البعث والنشور (384)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 159 إلى سفيان بن عيينة وعبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 271، 343 عن معمر عن قتادة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 158 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 68.
(4)
هو مجاهد، كما ذكر ذلك الشوكاني في فتح القدير 4/ 438.
(5)
بعده في ت 1: "الكرامة و".
الطرفِ، ومكَّنَّاهم فيها من الوصولِ إلى اللذَّاتِ
(1)
وما اشتَهته فيها أنفسُهم - {لَرِزْقُنَا} رزَقْناهم فيها كرامةً منَّا لهم، {مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ}. يقولُ: ليس له عنهم انقطاعٌ، ولا له فناءٌ، وذلك أنهم كلَّما أخَذوا ثمرةً من ثمارِ شجرةٍ من أشجارِها فأكَلوها، عادت مكانَها أخرى مثلُها، فذلك لهم دائمٌ أبدًا، لا يَنْقَطِعُ انقطاعَ ما كان أهلُ الدنيا أُوتوه في الدنيا، فانقَطَع بالفناءِ، ونَفِد بالإنفادِ. وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المُفَضَّلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} . قال: رزقُ الجنةِ، كلما أُخِذ منه شيءٌ عاد مثلُه مكانَه، ورزقُ الدنيا له نفَادٌ.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} .
أي ما له من انقطاعٍ
(2)
.
يعنى تعالى ذكرُه بقولِه: {هَذَا} : الذي وصَفتُ لهؤلاء المتقين. ثم استأنَف جلَّ وعزَّ الخبرَ عن الكافرين به الذين طَغَوا عليه وبَغَوا، فقال: {وَإِنَّ
(1)
في ص، ت 1:"الله".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 318 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
لِلطَّاغِينَ}. وهم الذين تمرَّدوا على ربِّهم فعصَوا أمرَه، مع إحسانه إليهم {لَشَرَّ مَآبٍ}. يقولُ: لشرَّ مرجِعٍ ومصيرٍ يصيرون إليه في الآخرةِ بعدَ خروجِهم من الدنيا.
كما حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المُفَضَّلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ} . قال: لشرَّ مُنْقَلبٍ.
ثم بَيَّن تعالى ذكرُه ما ذلك الذي إليه يَنْقَلبون ويَصيرون في الآخرةِ، فقال:{جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا} . فترجَم بـ [{جَهَنَّمَ} عن قولِه]
(1)
: {لَشَرَّ مَآبٍ} . ومعنى الكلامِ: وإن للكافرين لشرَّ مصيرٍ يَصِيرون إليه يومَ القيامةِ؛ لأن مصيرَهم إلى جهنمَ، وإليها منقلبُهم بعدَ وفاتِهم:{فَبِئْسَ الْمِهَادُ} . يقولُ تعالى ذكرُه: فبئس الفِراشُ الذي افترَشوه لأنفسِهم جهنَّمُ.
وقولُه: {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} . يقولُ تعالى ذكرُه: هذا حميمٌ، وهو الذي قد أُغْلِىَ حتى انتهى حرُّه، وغساقٌ فليذوقوه. فالحميمُ مرفوعٌ بـ {هَذَا}. وقولُه:{فَلْيَذُوقُوهُ} . معناه التأخيرُ؛ لأن معنى الكلام ما ذكَرتُ، وهو: هذا حميمٌ وغسَّاقٌ فليذُوقوه. وقد يَتَّجِهُ ذلك إلى أن يَكُونَ {هَذَا} مُكْتَفِيًا بقولِه {فَلْيَذُوقُوهُ} . ثم يُبْتَدَأُ فيُقالُ: حميمٌ وغسَّاقٌ، بمعنى: منه حميمٌ ومنه غسَّاقٌ، كما قال الشاعرُ
(2)
:
حتى إذا ما أضاءَ الصُّبحُ في غَلَسٍ
…
وغُودِرَ البقلُ مَلْوِيٌّ ومَحْصودُ
وإذا وُجِّه إلى هذا المعنى، جاز في {هَذَا} النصبُ والرفعُ. النصبُ على أن
(1)
في م: "عن جهنم بقوله".
(2)
البيت في معاني القرآن 2/ 410.
يُضْمرَ قبلَها لها ناصبٌ، كما قال الشاعرُ
(1)
:
زِيادَتَنا نُعمانُ لا تَحْرِمَنَّها
(2)
…
تَقِ الله فينا والكتابَ الذي تَتْلُو
والرفعُ بالهاءِ في قولِه: {فَلْيَذُوقُوهُ} . كما يقالُ: الليلَ فبادِرُوه، والليلُ فبادِرُوه.
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بن المفضَّلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} . قال: الحميمُ: الذي قد انتهى حرُّه
(3)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ: الحميمُ دموعُ أعينِهم، يجتمِعُ
(4)
في حياضِ النارِ، فيُسْقَونه
(5)
.
وقولُه: {وَغَسَّاقٌ} . اختلَفت القرأةُ في قراءتِه؛ فقرَأته عامَّةُ قرأةِ الحجازِ والبصرةِ وبعضُ الكوفيين والشامِ بالتخفيف: {وَغَسَّاقٌ} ، وقالوا: هو اسمٌ موضوعٌ. وقرَأ ذلك عامةُ قرأةِ الكوفةِ: {وَغَسَّاقٌ} مشددةً، ووجَّهوه إلى أنه صفةٌ من قولِهم: غسَقِ يَغْسِقُ غُسُوقًا. إذا سال، وقالوا: إنما معناه: أنهم يُسْقَون الحميمَ، وما يَسِيلُ من صديدِهم
(6)
.
والصوابُ من القولِ في ذلك عندِى أنهما قراءتان، قد قرَأ بكلِّ واحدةٍ منهما علماءُ من القرَأَةِ، فبأيَّتِهما قرَأ القارئُ فمصيبٌ، وإن كان التشديدُ في
(1)
البيت لعبد الله بن همام السلولى، وهو في معاني القرآن 4/ 410، واللسان (و ق ى).
(2)
في م: "تحرمننا".
(3)
ذكره ابن رجب في التخويف من النار ص 152.
(4)
في م: "تجمع".
(5)
ذكره القرطبي في تفسيره 15/ 222، وابن رجب في التخويف من النار ص 152.
(6)
قرأ بالتشديد حمزة والكسائي وحفص عن عاصم، وقرأ بالتخفيف ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر. ينظر السبعة لابن مجاهد ص 555.
السِّينِ آثرُ
(1)
عندَنا في ذلك؛ لأن ذلك المعروفُ في الكلامِ، وإن كان الآخرُ غيرَ مدفوعةٍ صحتُه.
واختلَف أهلُ التأويلِ في معنى ذلك؛ فقال بعضُهم: هو ما يَسيلُ من جلودِهم من الصديدِ والدمِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} . قال: كنا نُحدَّثُ أن الغسَّاقَ ما يسيلُ من بين جلدِه ولحمِه
(2)
.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ، قال: الغسَّاقُ الذي يَسيلُ من أعينِهم من دموعِهم، يُسْقَونه مع الحميمِ
(3)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن منصورٍ، عن إبراهيمَ، قال: الغسَّاقُ: ما يَسيلُ من سُرْمِهم
(4)
، وما ينقطِعُ
(5)
من جلودِهم
(6)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ: الغسَّاقُ: الصديدُ يَخْرجُ
(7)
من جلودِهم مما تَصْهَرُهم النارُ في حياضٍ يَجْتَمِعُ فيها فيُسْقَونه.
(1)
في ص، م، ت 1:"أتم".
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 168 عن معمر عن قتادة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 318 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
ذكره القرطبي في تفسيره 15/ 222، وابن رجب في التخويف من النار ص 153.
(4)
السرم: مخرج الثُّفْل، وهو طرف المعى المستقيم، كلمة مولدة. الصحاح (س ر م).
(5)
في م، ت 2، ت 2:"يسقط".
(6)
أخرجه البيهقي في البعث (568) من طريق جرير به، وأخرجه نعيم بن حماد في زوائده على زهد ابن المبارك (297)، وهناد في الزهد (291) من طريق منصور به.
(7)
في ص، م، ت 1:"يجمع".
حدَّثني يحيى بنُ عثمانَ بن صالحٍ السَّهْمِيُّ، قال: ثنى أبي، قال: ثنا ابن لهيعةَ، قال: ثني أبو قَبيلٍ، أنه سمِع أبا هُبيرةَ الزياديَّ يقولُ: سمِعتُ عبدَ اللهِ بنَ عمرٍو يقولُ: أيُّ شيءٍ الغسَّاقُ؟ قالوا: اللهُ أعلمُ. فقال عبدُ الله بنُ عمرٍو: هو القيحُ الغليظُ، لو أن قطرةً منه تُهَراقُ في المغربِ لأَنْتَنت أهلَ المشرقِ، ولو تُهَراقُ في المشرقِ لأَنْتَنت أهلَ المغربِ
(1)
.
قال يحيى بنُ عثمانَ: قال أبي: ثنا ابن لَهِيعةَ مرةً أخرى، فقال: ثنا أبو قَبِيلٍ، عن عبدِ الله بن هُبيرةَ، ولم يَذْكُرْ لنا أبا هُبَيرةَ.
حدَّثنا ابن عوفٍ، قال: ثنا أبو المغيرةِ، قال: ثنا صفوانُ، قال: ثنا أبو يحيى عطيةُ الكَلاعِيُّ، أن كعبًا كان يقولُ: هل تَدْرون ما غسَّاقٌ؟ قالوا: لا والله. قال: عينٌ في جهنم يَسيلُ إليها حُمَةُ كلِّ ذاتِ حُمَةٍ، من حيَّةٍ أو عَقْرَب أو غيرِها، فيَسْتَنْقِعُ، فيُؤْتَى بالآدميِّ، فَيُغْمَسُ فيها غمسةً واحدةً، فيَخْرُجُ وقد سقَط جلدُه ولحمُه عن العظامِ، حتى يَتَعَلَّقَ جلدُه في كعبَيْهِ وعقِبَيْهِ، ويَجُرَّ لحمَه جرَّ الرجلِ ثوبَه
(2)
.
وقال آخرون: هو الباردُ الذي لا يُسْتَطاعُ من برْدِه
ذكرُ مَن قال ذلك
حُدِّثتُ عن يحيى بن أبي زائدةَ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ:{وَغَسَّاقٌ} .
(1)
عزاه ابن حجر في الفتح 6/ 331 إلى المصنف، وذكره المنذري في الترغيب والترهيب 4/ 479.
(2)
أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة النار (91) من طريق صفوان به، وابن أبي حاتم - كما في تفسير ابن كثير 7/ 69.
قال: باردٌ لا يُسْتَطاعُ. أو قال: بَرْدٌ لا يُسْتَطاعُ
(1)
.
حدَّثني عليُّ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا المحاربيُّ، عن جُوَيبرٍ، عن الضحِّاكِ:{هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} . قال: يقالُ: الغسَّاقُ: أَبْرَدُ البرْدِ. ويقولُ آخرون: لا، بل هو أنتنُ النَّتْنِ.
وقال آخرون: بل هو المُنْتِنُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حُدِّثتُ عن المسيِّبِ، عن إبراهيمَ النُّكْريِّ، عن صالحٍ بن حيانَ، عن أبيه، عن عبدِ اللهِ بن بريدةَ، قال: الغسَّاقُ: المُنْتِنُ، وهو بالطُّخَارِيَّةِ
(2)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرَنا ابن وهبٍ، قال: ثني عمرُو بنُ الحارثِ، عن درَّاجٍ، عن أبي الهيثمِ، عن أبي سعيدٍ الخُدرِيِّ، أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم، قال: "لو أن دَلْوًا من غسَّاقِ يُهَراقُ في الدنيا لأنتنَ أهلَ الدنيا
(3)
".
وأولى الأقوالِ في ذلك عندى بالصوابِ قولُ مَن قال: هو ما يَسيلُ من صديدِهم؛ لأن ذلك هو الأغلبُ من معنى الغُسُوقِ، وإن كان للآخَرِ وجهٌ صحيحٌ.
وقولُه: {وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} . اختلَفت القرأةُ في قراءةِ ذلك؛ فقرَأته
(1)
أخرجه هناد في الزهد (290) من طريق ليث عن مجاهد، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 318 إلى عبد بن حميد.
(2)
بالطخارية، أي: بلغة أهل طَخارستان. ينظر التاج (ط خ ر)، والأثر عزاه ابن حجر في الفتح 6/ 331 والسيوطي في الدر المنثور 5/ 318 إلى المصنف.
(3)
أخرجه الحاكم 4/ 601، 602، والبيهقي في البعث (604) من طريق ابن وهب به، وأخرجه الترمذي (2584) من طريق عمرو بن الحارث به، وأخرجه أحمد 17/ 331 (11230)، 18/ 310 (11786)، وأبو يعلى (1381) من طريق دراج به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 318 إلى ابن أبي حاتم وابن مردويه.
عامَّةُ قرأةِ المدينةِ والكوفةِ: {وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} على التوحيدِ
(1)
، بمعنى: هذا حميمٌ وغساقٌ فليذُوقوه، وعذابٌ آخرُ من نحوِ الحميمِ ألوانٌ وأنواعٌ. كما يُقالُ: لك عذابٌ من فلانٍ ضروبٌ وأنواعٌ. وقد يَحْتَمِلُ أن يكُونَ مرادًا بالأزواجِ، الخبرُ عن الحميمِ والغسَّاقِ وآخَرَ من شَكْلِه، وذلك ثلاثةٌ، فقيل:{أَزْوَاجٌ} . يُرادُ أن يُنْعَتَ بالأزواجِ تلك الأشياءُ الثلاثةُ. وقرَأ ذلك بعضُ المكيِّين وبعضُ البصريِّين: (وأُخَرُ) على الجماعِ
(2)
، وكأن مَن قرَأ ذلك، كان عندَه لا يَصْلُحُ أن يكونَ الأزواجُ - وهى جمعٌ - نعتًا لواحدٍ؛ فلذلك جمَع "آخرَ" لتكونَ الأزواجُ نعتًا لها، والعربُ لا تمتنِعُ أن تَنْعَتَ الاسمَ إذا كان فعلًا بالكثيرِ والقليلِ والاثنين، كما بيَّنا، فتقُولُ: عذابُ فلانٍ أنواعٌ. و: نوعان مختلفان
(3)
.
وأعجَبُ القراءتين إليَّ أن أَقْرَأَ بها: {وَآخَرُ} على التوحيدِ، وإن كانت الأخرى صحيحةً؛ لاستفاضةِ القراءةِ بها في قرأةِ الأمصارِ، وإنما اختَرنا التوحيدَ؛ لأنه أصَحُّ مَخرجًا في العربيةِ، وأنه في التفسيرِ بمعنى التوحيدِ.
وقيل: إنه الزَّمهريرُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن السديِّ، عن مُرَّةَ، عن عبدِ اللهِ:{وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} . قال: الزمهريرُ
(4)
.
(1)
هي قراءة ابن كثير ونافع وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي. السبعة لابن مجاهد ص 555.
(2)
هي قراءة أبي عمرو. المصدر السابق.
(3)
ينظر معاني القرآن 2/ 411.
(4)
تفسير سفيان ص 260، 261، وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 166، 167، وهناد في الزهد (294)، والبيهقي في البعث (570)، من طريق سفيان به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 318 إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا يحيى، قال: ثنا سفيانُ، عن السديِّ، عن مرةً، عن عبدِ الله بمثلِه.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا معاويةُ، عن سفيانَ، عن السديِّ، عمَّن أخبَره، عن عبدِ الله بمثلِه، إلا أنه قال: عذابُ الزمهريرِ.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ، عن مرةً الهَمْدانيِّ، عن عبدِ اللهِ بن مسعودٍ، قال: هو الزمهريرُ.
حُدِّثتُ عن يحيى بن أبي زائدةَ، عن مباركِ بن فضالةَ، عن الحسنِ، قال: ذكَر الله العذابَ، فذكَر السلاسلَ والأغلالَ وما يكونُ في الدنيا، ثم قال:{وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} . قال: وآخرُ لم يُرَ في الدنيا
(1)
.
وأما قولُه: {مِنْ شَكْلِهِ} . فإن معناه: من ضَرْبِه ونحوِه. يقولُ الرجلُ للرجلِ: ما أنت من شَكْلى. بمعنى: ما أنت من ضَرْبي. بفتحِ الشينِ، وأما الشِّكْلُ فإنه من المرأةِ: ما عَلَّقَت مما تَحَسَّنُ به. وهو الدَّلُّ
(2)
أيضًا منها.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} . يقولُ: من نحوِه
(3)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ: {وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ
(1)
ذكره الطوسي في التبيان 8/ 526، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 318 إلى المصنف.
(2)
الدل: حسن الهيئة والحديث. ينظر اللسان (د ل ل).
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 318 إلى المصنف وابن المنذر.
أَزْوَاجٌ}: من نحوِه
(1)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} . قال: من كلِّ شَكْلِ ذلك العذابِ الذي سمَّى الله، أزواجٌ لم يُسَمِّها الله. قال: والشَّكْلُ: الشَّبِيهُ.
وقولُه: {أَزْوَاجٌ} . يعنى: ألوانٌ وأنواعٌ.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابن عُلَيةَ، عن أبي رجاءٍ، عن الحسنِ في قولِه:{وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} . قال: ألوانٌ من العذابِ
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{أَزْوَاجٌ} : زوجٌ زوجٌ من العذابِ
(3)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيد في قولِه: {أَزْوَاجٌ} . قال: أزواجٌ من العذابِ في النارِ.
وقولُه: {هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ} : يعني تعالى ذكرُه بقولِه: {هَذَا فَوْجٌ} : هذا فرقةٌ وجماعةٌ مُقتحِمةٌ معكم أيُّها الطاغون النارَ. وذلك دخولُ أمةٍ من
(1)
ذكره القرطبي في تفسيره 15/ 222، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 318 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة 13/ 167 عن ابن علية به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 318 إلى ابن المنذر.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 318 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
الأممِ الكافرةِ بعدَ أمةٍ، {لَا مَرْحَبًا بِهِمْ} ، وهذا خبرٌ من اللهِ عن قيلِ الطاغين الذين كانوا قد دخَلوا النارَ قبلَ هذا الفوجِ المقتحمِ للفوجِ المقتحِمِ فيها عليهم:{لَا مَرْحَبًا بِهِمْ} . ولكن الكلامَ اتَّصَل، فصار كأنه قولٌ واحدٌ، كما قيل:{يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} [الأعراف: 110]. فاتصَل قولُ فرعونَ بقولِ ملئه، وهذا كما قال تعالى ذكرُه مُخبِرًا عن أهلِ النارِ:{كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} [الأعراف: 38].
ويعنى بقولِه: {لَا مَرْحَبًا بِهِم} : لا اتَّسَعت بهم مداخلُهم. كما قال أبو الأسودِ
(1)
:
* [ألا مَرْحَبٌ]
(2)
وَادِيكَ غيرُ مَضِيقٍ *
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ} في النارِ {لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ (59) قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ} حتى بلَغ: {فَبِئْسَ الْقَرَارُ} . قال: هؤلاء التُّبَّاعُ يقولون للرءوسِ
(3)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ} . قال: الفوجُ: القومُ الذين يَدْخُلون فوجًا بعدَ
(1)
ديوانه ص 29 (نفائس المخطوطات). وهذا عجز بيت وصدره:
* ولما رآني مقبلًا قال: مرحبًا *
(2)
في م: "لا مرحب". وفي الديوان: "ألا مرحبًا".
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 318 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر.
فوجٍ. وقرَأ: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} : التي كانت قبلَها.
وقوله: {إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ} . يقولُ: إنهم وارِدو النارِ وداخِلُوها. {قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ} . يقولُ: قال الفوجُ الوارِدون جهنمَ على الطاغين الذين وصَف جل ثناؤُه صفتَهم لهم: بل أنتم أيُّها القومُ لا مرحبًا بكم. أي: لا اتَّسعت بكم أماكنُكم، {أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا}. يَعْنون: أنتم قدَّمتم لنا سُكنَى هذا المكانِ وصِلِيَّ النارِ بإضلالِكم إيَّانَا، ودُعائكم لنا إلى الكفر بالله، وتكذيبِ رُسُلِه؛ حتى ضلَلْنا باتباعِكم، فاستَوْجَبْنا سُكْنَى جهنمَ اليومَ. فذلك تقديُمهم لهم ما قدَّموا في الدنيا من عذابِ اللهِ لهم في الآخرةِ، {فَبِئْسَ الْقَرَارُ}. يقولُ: فبئْس المكانُ يُسْتَقرُّ فيه جهنَّمُ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61)} .
وهذا أيضًا قولُ الفوجِ المقتحِمِ على الطاغين، وهم كانوا أتباعَ الطاغين في الدنيا، يقولُ جلَّ ثناؤُه: قال الأتباعُ: {رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا} . يَعْنُون مَن قدَّم لهم في الدنيا بدعائِهم إلى العملِ الذي يُوجِبُ لهم النارَ التي ورَدوها، وسُكْنَى المنزلِ الذي سكَنوه منها. ويَعْنون بقولِهم:{هَذَا} : هذا العذابَ الذي ورَدْناه. {فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ} . يَقولون: فأَضْعِفُ له العذابَ في النارِ على العذابِ الذي هو فيه فيها، وهذا أيضًا من دعاءِ الأتباعِ للمَتْبوعين.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63) إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وقال الطاغون الذين وصَف جلَّ ثناؤه صفتَهم في هذه الآياتِ، وهم فيما ذُكِر؛ أبو جهلٍ والوليدُ بنُ المغيرةِ وذووهما:{مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا} . يقولُ: ما بالُنا
(1)
لا نَرى معنا في النارِ رجالًا {كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ} . يقولُ: كنا نَعُدُّهم في الدنيا من أشرارِنا. وعَنَوا بذلك فيما ذُكِر: صُهَيبًا وخَبَّابًا وبِلالًا وسَلْمَانَ.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ} : قال: ذاك أبو جهلِ بنُ هشامٍ والوليدُ بنُ المغيرةِ - وذكَر أناسًا؛ صُهَيبًا وعمَّارًا وخبابًا -: كنا نَعُدُّهم من الأشرارِ في الدنيا.
حدَّثنا أبو السائبِ، قال: ثنا ابن إدريسَ، قال: سمِعتُ ليثًا يَذْكُرُ عن مجاهدٍ في قولِه: {وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ} . قال: قالوا: أينَ سَلْمانُ؟ أينَ خَبَّابٌ؟ أينَ بلالٌ
(2)
؟
وقولُه: {أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا} . اختلَفت القرأةُ في قراءتِه؛ فقرَأته عامَّةُ قرأةِ المدينةِ والشامِ وبعضُ قرأةِ الكوفِة: {أَتَّخَذْنَاهُمْ} بفتحِ الألفِ من: {أَتَّخَذْنَاهُمْ}
(1)
في ت 2، ت 3:"لنا".
(2)
أخرجه ابن سعد في الطبقات 3/ 233، وأحمد في فضائل الصحابة 2/ 859 (1602)، وابن عساكر في تاريخه 10/ 465، 466 من طريق ليث به مطولًا، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 319 إلى عبد بن حميد وابن المنذر مطولًا.
وقطعِها على وجهِ الاستفهامِ
(1)
. وقرَأته عامةُ قرأةِ الكوفةِ والبصرةِ، وبعضُ قرأةِ مكةَ بوصلِ الألفِ (من الأشرارِ اتَّخَذْناهُمْ)
(2)
.
وقد بيَّنا فيما مضى قبلُ أن كلَّ استفهامٍ كان بمعنى التعجبِ والتوبيخِ، فإن العربَ تَسْتَفهِمُ فيه أحيانًا، وتُخْرِجُه على وجهِ الخبرِ أحيانًا
(3)
.
وأولى القراءتين في ذلك بالصوابِ
(4)
قراءةُ من قرَأه بالوصلِ على غيرِ وجهِ الاستفهامِ؛ لتقدُّمِ الاستفهامِ قبلَ ذلك في قولِه: {مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا} . فيَصيرُ قولُه: (اتَّخَذْناهُمْ) بالخبرِ أولى، وإن كان للاستفهام وجهٌ مفْهومٌ لما وصَفتُ قبلُ من أنه بمعنى التعجبِ.
وإذ كان الصوابُ من القراءةِ في ذلك ما اختَرنا؛ لما وصَفْنا، فمعنى الكلامِ: وقال الطاغون: ما لنا لا نرى سَلْمَانَ وبِلالًا وخبَّابًا - الذين كنا نَعُدُّهم في الدنيا أشرارَنا
(5)
، اتَّخذناهم فيها سِخْريًّا نَهْزَأُ بهم فيها - معنا اليومَ في النارِ؟! وكان بعضُ أهلِ العلمِ بالعربيةِ من أهلِ البصرِة يقولُ
(6)
: من كسَر السينَ من السِّخْرِيٌّ فإنه يُرِيدُ به الهُزْءَ، يُريدُ: يُسخَرُ به. ومن ضمَّها فإنه يجعَلُه من السُّخْرةِ، يتسَخَّرونهم
(7)
؛ يَسْتَذِلُّونهم - أزاغت عنهم أبصارُنا وهم معنا!
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
(1)
هي قراءة ابن كثير ونافع وابن عامر وعاصم. السبعة لابن مجاهد ص 556.
(2)
هي قراءة أبي عمرو وحمزة والكسائي. المصدر السابق.
(3)
ينظر ما تقدم في 9/ 360.
(4)
القراءتان كلتاهما صواب.
(5)
في م: "أشرارا".
(6)
هو أبو عبيدة في مجاز القرآن 2/ 187.
(7)
في م: "يستسخرونهم".
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ:{أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ} . يقولُ: أهم في النارِ، لا نعرِفُ مكانَهم
(1)
؟
وحُدِّثتُ عن المحاربيِّ، عن جويبرٍ، عن الضحاكِ:{وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ} . قال: هم قومٌ كانوا يَسْخرون من محمدٍ وأصحابِه، فانطُلِق به وبأصحابِه إلى الجنةِ، وذُهِب بهم إلى النارِ، {وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ}. يقولون: أزاغت أبصارُنا عنهم، فلا نَدْرِى أينَ هم
(2)
؟
حدَّثني محمدُ بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا} . قال: أَخطَأْناهم {أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ} فلا نراهم
(3)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ} . قال: فقَدوا أهلَ الجنةِ، {أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا} في الدنيا {أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ} وهم مَعنا في النارِ
(4)
.
وقولُه: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ} . يقولُ تعالى ذكرُه: إن هذا الذي أخبِرتُكم أيُّها
(1)
تقدم تخريجه ص 136.
(2)
ذكره الطوسي في التبيان 8/ 528 مختصرًا.
(3)
تفسير مجاهد ص 576.
(4)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 168 عن معمر عن قتادة بنحوه، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 319 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
الناسُ من الخبرِ عن تراجُعِ أهلِ النارِ، ولَعْنِ بعضِهم بعضًا، ودعاءِ بعضِهم على بعضٍ في النارِ {لَحَقٌّ} يقينٌ، فلا تَشُكُّوا في ذلك، ولكن استَيْقِنوه؛ {تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ}. وقولُه:{تَخَاصُمُ} رَدُّ على قوله: {لَحَقٌّ} . ومعنى الكلامِ: إِنَّ تخاصُمَ أهلِ النارِ الذي أخبَرتُكم به لحقٌّ.
وكان بعضُ أهلِ العربيةِ من أهلِ البصرةِ
(1)
يُوجِّه معنى قولِه: {أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ} . إلى: بل زاغَت عنهم.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرَنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} ، فقرَأ:{تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 97، 98]. وقرَأ: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا} حتى بلَغ {إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ} [يونس: 28، 29]. قال: إن كنتم تَعبُدوننا، كما تقولون، إن كنا عن عبادتِكم لغافلين، ما كنا نَسْمَعُ ولا نُبْصِرُ.
قال: وهذه الأصنامُ. قال: هذه خصومةُ أهلِ النارِ. وقرَأ: {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [يونس: 30]. قال: وضلَّ عنهم يومَ القيامةِ ما كانوا يَفتَرون في الدنيا.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66)} .
يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: {قُلْ} يا محمدُ لمشرِكي قومِك: {إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ} لكم يا معشرَ قريشٍ بينَ يدَىْ عذابٍ شديدٍ، أُنْذِرُكم عذابَ اللهِ وسخطَه أن يَحِلَّ بكم، على كفرِكم به، فاحذَروه وبادِروا حلولَه بكم بالتوبةِ. {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}. يقولُ: وما من معبودٍ تصلُحُ له العبادةُ، وتَنْبَغِى
(1)
هو أبو عبيدة، ينظر مجاز القرآن 2/ 186.
له الربوبيةُ إلا الله الذي يَدِينُ له كلُّ شيءٍ، ويعْبُدُه كلُّ خلقٍ، الواحدُ الذي لا ينْبَغي أن يكونَ له في ملكِه شريكٌ، ولا يَنْبَغى أن تكُونَ له صاحبةٌ، القهارُ لكلِّ ما دونَه بقدرتِه،
{رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} . يقولُ: مالكُ السماواتِ والأرضِ وما بينَهما من الخلقِ. يقولُ: فهذا الذي هذه صفتُه، هو الإلهُ الذي لا إلهَ سِوَاه، لا الذي لا يَمْلِكُ شيئًا ولا يَضُرُّ ولا يَنْفَعُ.
وقولُه: {الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} .
يقولُ: العزيزُ في نقمتِه مِن أهلِ الكفرِ به، والمدّعين معه إلهًا غيرَه، الغفارُ لذنوبِ مَن تاب منهم ومِن غيرِهم، من كفرِه ومعاصيه، فأناب إلى الإيمانِ به والطاعةِ له، بالانتهاءِ إلى أمرِه ونهيِه.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70)} .
يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: {قُلْ} يا محمدُ لقومكِ المكذِّبيك فيما جئتَهم به مِن عندِ الله مِن هذا القرآنِ، القائلين لك فيه: إنْ هذا إلا اختلاقٌ: {هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ} . يقولُ: هذا القرآنُ خبرٌ عظيمٌ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عبدُ الأعلى بنُ واصلٍ الأسَدِيُّ، قال: ثنا أبو أسامة، عن شِبْلِ بن عبَّادٍ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه: {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ
مُعْرِضُونَ}. قال: القرآنُ
(1)
.
حدَّثني يعقوبُ بن إبراهيمَ، قال: ثنا هشيمٌ، قال: أخبَرنا هشامٌ، عن ابن سيرينَ، عن شُرَيْحٍ، أن رجلًا قال له: أتقضى عليَّ بالنبأ؟! قال: فقال له شريحٌ: أوَ ليس القرآنُ نبأً؟ قال: وتلا هذه الآيةَ: {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ} . قال: وقَضَى عليه
(2)
.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ قولَه:{قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} . قال: القرآنُ
(2)
.
وقولُه: {أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} . يقولُ: أنتم عنه منصرِفون، لا تعمَلون به، ولا تُصدِّقون بما فيه من حُججِ الله وآياتِه.
وقولُه: {مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى} . يقولُ لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: قل يا محمدُ لمشرِكي قومِك: {مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى} [من الملائكةِ]
(3)
، {إِذْ يَخْتَصِمُونَ} في شأنِ آدمَ مِن قبلِ أن يوحِىَ إليَّ ربِّي، فيُعلِمَنى ذلك. يقولُ: ففى إخبارى لكم عن
(4)
ذلك، دليل واضحٌ على أن هذا القرآنَ وحىٌ مِن اللهِ، وتنزيلٌ مِن عنده؛ لأنكم تعلَمون أن علمَ ذلك لم يكن عندى قبلَ نزولِ هذا القرآنِ، ولا هو مما شاهدتُه فعاينتُه، ولكنى علِمتُ ذلك بإخبارِ اللهِ إيَّاي به.
(1)
ذكره البغوي في تفسيره 7/ 101 وابن كثير في تفسيره 7/ 71، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 319 إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وأبي نصر السجزي في الإبانة.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 71.
(3)
سقط من: م.
(4)
ليست في: ص، ت 1.
وبنحوِ الذي قلنا في تأويلِ ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بن سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ} . قال: الملأُ الأعلى: الملائكةُ حينَ شووِروا
(1)
في خلْقِ آدمَ، فاختَصَموا فيه، وقالوا: لا تجعلْ في الأرضِ خليفةً
(2)
.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ} : هو: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30].
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى} . قال: هم الملائكةُ، كانت خصومتُهم في شأنِ آدمَ حين قال ربُّك للملائكةِ:{إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ} حتى بلَغ: {سَاجِدِينَ} . وحينَ قال: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} حتى بلَغ: {وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} . ففي هذا اختصَم الملأُ الأعلى
(3)
.
وقولُه: {إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} . يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: قل يا محمدُ لمشرِكي قريشٍ: ما يوحِى الله إليَّ علمَ ما لا علْمَ لى به، مِن نحوِ العلمِ بالملأَ الأعلى، واختصامِهم في أمرِ آدمَ إذْ أراد خَلْقَه - إلا لأنى إنما أنا
(1)
في ت 1: "تشاوروا".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 319 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 319 إلى المصنف وعبد بن حميد ومحمد بن نصر في كتاب الصلاة.
نذيرٌ مبينٌ. فـ {أَنَّمَا} ، على هذا التأويلِ، في موضعِ خفضٍ، على قولِ مَن كان يرى أن مثلَ هذا الحرفِ الذي ذَكرْنا
(1)
لا بدَّ له من حرفٍ خافضٍ، فسواءٌ إسقاطُ خافضِه منه وإثباتُه. وأما على قولِ مَن رأى أن مثلَ هذا يُنْصَبُ إذا أُسْقِط منه الخَافضُ، فإنه على مذهبِه نَصْبٌ، وقد بيَّنا ذلك فيما مضَى، بما أغنَى عن إعادتِه في هذا الموضِعِ
(2)
.
وقد يتجِهُ لهذا الكلامِ وجهٌ آخرُ، وهو أن يكونَ معناه: ما يوحِى الله إليَّ
(3)
إلا إنذارَكم. وإذا وُجِّه الكلامُ إلى هذا المعنى، كانت {أَنَّمَا} في موضعِ رفعٍ؛ لأن الكلامَ يصيرُ حينئذٍ بمعنى: ما يُوحَى إليَّ إلا الإنذارُ.
وقولُه: {إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} . يقولُ: إلا أني نذيرٌ لكم، مُبِينٌ لكم إنذارَه إياكم. وقيل:{إِلَّا أَنَّمَا أَنَا} . ولم يُقَلْ: إلا أنما أنك. والخبرُ مِن محمدٍ عن الله؛ لأن الوحىَ قولٌ، فصار في معنى الحكايةِ، كما يُقالُ في الكلامِ: أخبَروني أني مسئٌ. و: أخبَرونى أنك مسئٌ. بمعنًى واحدٍ، كما قال الشاعرُ
(4)
:
رَجْلَانِ مِن ضَبَّةَ أَخْبَرَانا
إِنَّا رأيْنا رَجُلًا عُرْيانا
بمعنى: أخبَرانا أنهما رأيا. وجاز ذلك لأن الخبرَ أصلُه حكايةٌ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ
(1)
بعده في ص، ت 1:"الذي".
(2)
ينظر ما تقدم في 1/ 169، 170.
(3)
سقط من: م.
(4)
البيت في معاني القرآن للفراء 2/ 412، 3/ 240، والمحتسب لابن جنى 1/ 109، 250، والخصائص 2/ 338، وخزانة الأدب للبغدادي 9/ 183، غير منسوب.
طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74)}.
وقولُه: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ} . مِن صلةِ قولِه: {إِذْ يَخْتَصِمُونَ} . وتأويلُ الكلامِ: ما كان لي مِن علمٍ بالملأَ الأعلى إذ يختصِمون حينَ قال ربُّك يا محمدُ للملائكةِ: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ} . يعنى بذلك خَلْقَ آدَمَ.
وقولُه: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} . يقولُ تعالى ذكرُه: فإذا سوَّيتُ خَلْقَه، وعدَّلْتُ صورتَه، {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي}. قيل: عُنِى بذلك: ونَفَخْتُ فيه مِن قُدْرتي.
ذكرُ مَن قال ذلك
حُدِّثتُ عن المسيَّبِ بن شَرِيكٍ، عن أبي رَوْقٍ، عن الضحاكِ:{وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} . قال: مِن قُدْرتى.
{فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} . يقولُ: فاسجُدوا له وخِرُّوا له سُجَّدًا.
وقولُه: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: فلما سوَّى اللهُ خَلْقَ ذلك البشرِ، وهو آدمُ، ونفَخ فيه من رُوحِه، سجَد له الملائكةُ كلُّهم أجمعون، يعنى بذلك: الملائكةُ الذين هم في السماواتِ والأرض، {إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ}. يقولُ: غيرَ إبليسَ، فإنه لم يسْجُدْ، استكبرَ عن السجودِ له
(1)
؛ تعظُّمًا وتكبُّرًا
(2)
، {وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ}. يقولُ: وكان بتعظُّمِه ذلك، وتكبُّرِه على ربِّه، ومعصيتِه أمرَه، ممن كفَر في علمِ الله السابقِ، فَجَحَد ربوبيتَه، وأنكَر ما عليه
(1)
سقط من: ص، ت 1.
(2)
في ص، ت 1:"كبرا"، وفي ت 2، ت 3:"كفرا".
الإقرارُ له به، مِن الإذعانِ له بالطاعةِ.
كما حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: قال أبو بكرٍ في: {إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} . قال: قال ابن عباسٍ: كان في علمِ الله مِن الكافرين.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: قال الله لإبليسَ، إذ لم يسجُدْ لآدمَ وخالَف أمرَه:{يَاإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ} . يقولُ: أيُّ شيءٍ منعك مِن السجودِ، {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}. يقولُ: لخَلْقِ يديَّ. يُخْبرُ تعالى ذكرُه بذلك، أنه خلَق آدمَ بيَدَيه.
كما حدَّثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، قال: أخبَرنى عُبيدٌ المُكْتِبُ، قال: سمعتُ مجاهدًا يحدِّثُ عن ابن عمرَ، قال: خلَق الله أربعةً بيدِه؛ العرشَ، وعَدْنَ، والقلمَ، وآدمَ، ثم قال لكلِّ شيءٍ: كُنْ. فكان
(1)
.
وقولُه: {أَسْتَكْبَرْتَ} . يقولُ تعالى ذكرُه لإبليسَ: أتعظَّمتَ عن السجودِ لآدمَ، فتركت السجود له استكبارًا عليه، ولم تكن من المتكبرين العالين قبل {أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ}. يقولُ: أم كنتَ كذلك مِن قبلُ ذا عُلوٍّ وتكبُّرٍ على ربِّك؟ {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ} . يقولُ جلَّ ثناؤه: قال إبليسُ لربِّه: فعَلتُ ذلك فلم أسجدْ للذي أمرْتني بالسجودِ له؛ لأنى خيرٌ منه، وكنتُ خيرًا لأنك
(1)
أخرجه أبو الشيخ في العظمة (1030) من طريق ابن المثنى به، وأخرجه الدارمي في الرد على المريسي ص 35، 90، والآجرى في الشريعة (756) والحاكم 2/ 319، والبيهقي في الأسماء والصفات (693) من طريق عبيد المكتب به.
خلقتني مِن نارٍ وخلقتَه مِن طينٍ، والنارُ تأكلُ الطينَ وتُحرِقُه، فالنارُ خيرٌ منه. يقولُ: لم أفعلْ ذلك استكبارًا عليك، ولا لأنى كنتُ مِن العالين، ولكني فعَلتُه مِن أجلِ أنى أشرفُ منه.
وهذا تقريعٌ مِن الله المشركين
(1)
، الذين كفَروا بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، وأبَوا الانقيادَ له، واتِّباعَ ما جاءهم به مِن عندِ الله؛ استكبارًا عن أن يكونوا تَبَعًا لرجلٍ منهم، حين قالُوا:{أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا} [ص: 8]، و:{هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الأنبياء: 3]. فقَصَّ عليهم تعالى ذكرُه قصةَ إبليسَ وهلاكِه
(2)
باستكبارِه عن السجودِ لآدمَ، بدعواه أنه خيرٌ منه، مِن أجلِ أنه خُلِقَ مِن نارٍ، وخُلِقَ آدمُ مِن طينٍ، حتى صار شيطانًا رجيمًا، وحَقَّت عليه مِن الله لعنتُه - محذِّرَهم بذلك أن يستحِقُوا باستكبارِهم على محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وتكذيبِهم إياه فيما جاءهم به مِن عندِ الله، حسدًا وتعظُّمًا، مِن اللعنِ منه
(3)
والسُّخْطِ، ما استَحقَّه إبليسُ بتكبُّرِه عن السجودِ لآدمَ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: [قال اللهُ]
(4)
لإبليسَ: {فَاخْرُجْ مِنْهَا} . يعنى مِن الجنةِ، {فَإِنَّكَ رَجِيمٌ}. يقولُ: فإنك مَرْجومٌ بالقولِ، مشتومٌ ملعونٌ.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه: {فَاخْرُجْ مِنْهَا
(1)
في م: "للمشركين".
(2)
في م: "إهلاكه".
(3)
سقط من: م.
(4)
ليس في: ص، م، ت 1.
فَإِنَّكَ رَجِيمٌ}. قال: والرجيمُ اللعينُ
(1)
.
حدِّثتُ عن المُحاربيِّ، عن جُوَيبرٍ، عن الضحاكِ بمثلِه.
وقولُه: {وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي} . يقولُ: وإن لك طردى مِن الجنةِ، {إِلَى يَوْمِ الدِّينِ}. يعنى: إلى يومِ مجازاةِ العبادِ ومحاسبتِهم.
{قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: قال إبليسُ لربِّه: ربَّ فإذ لعَنْتنى وأخرَجتنى مِن جنتِك، {فَأَنْظِرْنِي}. يقولُ: فأخِّرْنى في الأجلِ، ولا تُهْلِكُنى، {إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}. يقولُ: إلى يومِ تَبْعَثُ خلقَك مِن قبورِهم.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: قال اللهُ لإبليسَ: فإنك ممن أنظَرتُه إلى يومِ الوقتِ المعلومِ، وذلك الوقتُ الذي جعَله الله أجلًا لهلاكِه. وقد بيَّنتُ وقتَ ذلك فيما مضَى، واختلافَ أهلِ العلمِ فيه
(2)
.
{قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: قال إبليسُ: {فَبِعِزَّتِكَ} ، أي: بقدرتِك وسلطانِك وقهرِك ما دونَك من خلْقِك، {لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}. يقولُ: لأُضِلَّنَّ بني آدمَ أجمعين.
{إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} . يقولُ: إلا مَن أخلَصتَه منهم لعبادتِك، وعصَمتَه مِن إضلالي، فلم تجعَلْ لي عليه سبيلًا، فإني لا أقْدِرُ على إضلالِه وإغوائِه.
(1)
تقدم تخريجه في 14/ 67.
(2)
ينظر ما تقدم في 10/ 90، 91.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} . قال: عَلِم عدوُّ الله أنه ليست له عزّةٌ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86)} .
اختلفتِ القرأةُ في قراءةِ قولِه: {قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ} ؛ فقرَأه بعضُ أهلِ الحجازِ وعامةُ الكوفيِّين برفعِ الحقِّ الأوّلِ، ونَصْبِ الثاني
(1)
. وفي رفعِ الحقِّ الأوّلِ إذا قُرئ كذلك وَجْهان؛ أحدُهما: رَفْعُه بضميرٍ: الله الحقُّ، أو: أنا الحقُّ وأقولُ الحقَّ. والثاني: أن يكونَ مرفوعًا بتأويلِ قولِه:
{لأَمْلأَنَّ} . فيكونَ معنى الكلامِ حينئذٍ: فالحقُّ أن أملأَ جهنمَ منك. كما يقالُ
(2)
: عَزْمةٌ صادقةٌ لآتينّك. فرفَعَ "عَزْمةً" بتأويلِ "لآتينّك"؛ لأن تأويلَه: أن آتيَك. كما قال: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ} [يوسف: 35]. ولا بدَّ لقولِه: {بَدَا لَهُمْ} مِن مرفوعٍ، وهو مضمرٌ في المعنى.
وقرَأ ذلك عامةُ قرأةِ المدينةِ والبصرةِ وبعضُ المكيِّين والكوفيِّين، بنصْبِ الحقِّ الأوّلِ والثانى كليهما
(3)
، بمعنى: حقًّا لأملأنَّ جهنمَ، والحقَّ أقولُ. ثم أُدخِلَتِ الألفُ واللَّامُ عليه وهو منصوبٌ؛ لأن دخولَهما - إذا كان ذلك معنى الكلامِ - وخروجَهما منه سواءٌ، كما سواءٌ قولُهم: حمدًا لله. و: الحمدَ لله. عندهم إذا نُصِبَ. وقد يَحتمِلُ أن يكونَ نصْبُه على وجهِ الإغراءِ، بمعنى: الزموا الحقَّ. أو:
(1)
هي قراءة عاصم وحمزة. السبعة لابن مجاهد ص 557.
(2)
في م: "يقول".
(3)
هي قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو وابن عامر والكسائي، ورواية المفضل عن عاصم. السبعة لابن مجاهد ص 557.
اتَّبِعوا الحقَّ. والأوّلُ أشبَهُ؛ لأنه خطابٌ مِن اللهِ لإبليسَ، بما هو فاعلٌ به وبتُبَّاعِه.
وأولى الأقوالِ في ذلك عندِى بالصوابِ أن يقالَ: إنهما قراءتان مستفيضتان في قرأةِ الأمصارِ، فبأيَّتِهما قرَأ القارئُ فمصيبٌ؛ لصحةِ معنَيَيْهما.
وأما الحقُّ الثاني فلا اختلافَ في نصبِه بين قرأةِ الأمصارِ كلِّهم، بمعنى: وأقولُ الحقَّ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن الأعمشِ، عن مجاهدٍ في قولِه:{فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ} . يقولُ الله: أنا الحقُّ، والحقَّ أقولُ
(1)
.
وحدِّثتُ عن ابن أبي زائدةَ، عن ابن جُرَيجٍ، عن مجاهدٍ، قال:{فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ} : يقولُ الله: الحقُّ منى، وأقولُ الحقَّ
(2)
.
حدَّثنا أحمدُ بنُ يوسفَ، قال: ثنا القاسمُ، قال: ثنا حجاجٌ، عن هارونَ، قال: ثنا أبانُ بنُ تَغْلِبَ، عن طلحةَ الياميِّ، عن مجاهدٍ، أنه قرَأها:{فَالْحَقُّ} ، بالرفعِ، {وَالْحَقَّ أَقُولُ} نصبًا، وقال: يقولُ الله: أنا الحقُّ، والحقَّ أقولُ
(3)
.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ في قولِه:{فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ} . قال: قسمٌ أقسَم الله به
(4)
.
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 72، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 321 إلى المصنف وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
تفسير مجاهد ص 576 موقوفًا على ابن جريج، وذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 72 عن مجاهد.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 321 إلى المصنف.
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 72.
وقولُه: {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ} . يقولُ لإبليسَ: لأملأَنَّ جهنمَ منك [ومن تُبَّاعِك]
(1)
مِن بنى آدمَ أجمعين.
وقولُه: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} . يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: قلْ يا محمدُ لمشرِكي قومِك، القائلين لك:{أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا} [ص: 8]: ما أسألُكم على هذا الذكرِ، وهو القرآنُ الذي أتيتُكم به مِن عندِ اللهِ - أجرًا. يعنى: ثوابًا وجزاءً، {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ}. يقولُ: وما أنا ممن يتكلَّفُ تخرُّصَه وافتراءَه، فتقولوا:{إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ} [الفرقان: 4]، و:{إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ} [ص: 7].
كما حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} . قال: لا أسألُكم على القرآنِ أجرًا، تعطوننى شيئًا، وما أنا من المُتكلِّفين؛ أتخرَّصُ وأتكلَّفُ ما لم يأْمُرْنى الله به.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)} .
يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: قلْ لهؤلاء المشركين مِن قومِك: {إِنْ هُوَ} . يعنى: ما هذا القرآنُ، {إِلَّا ذِكْرٌ}. يقولُ: إلا تذكيرٌ مِن اللهِ {لِلْعَالَمِينَ} مِن الجنِّ والإنسِ، ذكَّرهم ربُّهم؛ إرادةَ استنقاذِ مَن آمَن به منهم من الهلَكةِ.
وقولُه: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} . يقولُ: ولتعلمُنَّ أَيُّها المشركون باللهِ مِن قريشٍ، {نَبَأَهُ}. يعني: نبأَ هذا القرآنِ، وهو خبرُه، يعنى حقيقةَ ما فيه مِن الوعدِ
(1)
في م: "وممن تبعك".
والوعيدِ - بعدَ حينٍ.
وبمثْلِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ} . قال: صِدْقَ هذا الحديثِ؛ نبأَ ما كذَّبوا به.
وقيل: {نَبَأَهُ} : حقيقةَ أمرِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، أنه نبيٌّ.
ثم اختلَفوا في مدةِ الحينِ الذي ذكَره الله في هذا الموضعِ؛ ما هي، وما نهايتُها؛ فقال بعضُهم: نهايتُها الموتُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} : أي بعدَ الموتِ، وقال الحسنُ: يا بنَ آدمَ، عندَ الموتِ يأتيك الخبرُ اليقينُ
(1)
.
وقال بعضُهم: كانت نهايتُها إلى يومِ بدرٍ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ في قولِه:{وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} : قال بعضُهم
(2)
: يومَ بدرٍ. وقال بعضُهم: يومَ
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 169 عن معمر عن قتادة، ولم يذكر قول الحسن، وعزاه السيوطي في الدر المنثور - كما في المخطوطة المحمودية ص 362 - إلى عبد بن حميد.
(2)
سقط من: م.
القيامةِ
(1)
.
وقال بعضُهم: نهايتُها القيامةُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} . قال: يومَ القيامةِ يعلَمون نبأَ ما كذَّبوا به بعدَ حينٍ مِن الدنيا، وهو يومُ القيامةِ. وقرَأ:{لِكُلِّ نَبَإ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الأنعام: 67]. قال: وهذا أيضًا الآخرةُ؛ يستقِرُّ فيها الحقُّ، ويَبْطُلُ الباطلُ
(2)
.
وأولى الأقوالِ في ذلك بالصوابِ أن يقالَ: إن الله أعلَم المشركين المكذِّبين بهذا القرآنِ، أنهم يعلَمون نبأَه بعدَ حينٍ، مِن غيرِ حدٍّ منه لذلك الحينِ بحدٍّ، وقد علِم نبأَه مِن أحيائهم الذين عاشوا إلى ظُهورِ حقيقتِه ووضُوحِ صحتِه في الدنيا، ومنهم مَن علِم حقيقةُ ذلك بهلاِكه ببدرٍ، وقبلَ ذلك، ولا حدَّ عندَ العربِ للحينِ لا يُجاوَزُ ولا يُقصَرُ عنه. فإذ كان ذلك كذلك، فلا قولَ فيه أصحَّ من أن يُطْلَقَ كما أطلَقه الله تعالى، من غيرِ حصرِ ذلك على وقتٍ دونَ وقتٍ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال
(3)
أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا ابن عُلَيَّةً، قال: ثنا أيوبُ، قال: قال عكرمةُ: سُئِلْتُ عن رجلٍ حلَف أن لا يصنعَ كذا وكذا إلى حينٍ، فقلتُ: إن مِن
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور - كما في مخطوطة المحمودية ص 362 - إلى المصنف.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 322 إلى المصنف.
(3)
بعده في ت 2، ت 3:"جماعة".
الحينِ حينًا لا يُدْرَكُ، ومِن الحينِ حِينٌ يُدْرَكُ، فالحينُ الذي لا يُدْرَكُ قولُه:{وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} ، والحينُ الذي يُدْرَكُ قولُه:{تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم: 25]. وذلك مِن حينِ تُصْرَمُ النخلةُ إلى حينِ تُطْلِعُ، وذلك ستةُ أشهرٍ
(1)
.
آخرُ تفسيرِ سورةِ "ص".
(1)
ذكره القرطبي في تفسيره 15/ 231.
بسم الله الرحمن الرحيم
تفسيرُ سورةِ "الزُّمَرِ"
يقولُ تعالى ذكرُه: تَنزِيلُ
(1)
الكتابِ الذي نزَّلناه عليك يا محمدُ، مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ في انتقامِه مِن أعدائِه، الحَكيمِ في تدبيرِه خلقَه، لا مِن غيرِه، فلا تكوننَّ في شكٍّ من ذلك.
ورُفِع قولُه: {تَنْزِيلُ} بقولِه: {مِنَ اللَّهِ} . وتأويلُ الكلامِ: مِن الله العزيزِ الحكيمِ تنزيلُ الكتابِ. وجائزٌ رفْعُه بإضمارِ "هذا"، كما قيل:{سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا} [النور: 1]. غيرَ أن الرفعَ في قولِه: {تَنْزِيلُ} بما بعدَه، أحسنُ مِن رفعِ {سُورَةٌ} بما بعدَها؛ لأن {تَنْزِيلُ} وإن كان فعلًا، فإنه إلى المعرفةِ أقربُ، إذ كان مضافًا إلى معرفةٍ، فحسُن رفعُه بما بعدَه، وليس ذلك بالحسنِ في {سُورَةٌ} ؛ لأنه نكرةٌ.
وقولُه: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} . يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: إنا أنزَلنا إليك يا محمدُ الكتابَ. يعنى بالكتابِ القرآنَ، {بِالْحَقِّ} .
يعنى: بالعدلِ. يقولُ: أنزَلنا إليك هذا القرآنَ يأمرُ بالحقِّ والعدلِ، ومِن ذلك الحقِّ والعدلِ أن تعبدَ الله مخلِصًا له الدينَ؛ لأن الدينَ له، لا للأوثانِ التي لا تملِكُ ضَرًّا ولا نفْعًا.
(1)
بعده في ت 2، ت 3:"هذا".
وبنحوِ الذي قلنا في معنى قولِه: {الْكِتَابَ} . قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} : يعنى القرآنَ
(1)
.
وقولُه: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: فاخْشَعْ لله يا محمدُ بالطاعةِ، وأخلِصْ له الألوهةَ، وأفرِدْه بالعبادةِ، ولا تجعَلْ له في عبادتِك إياه شريكًا، كما فعَله
(2)
عَبَدَةُ الأوثانِ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا يعقوبُ، عن حفصٍ، عن شِمْرٍ، قال: يُؤْتَى بالرجلِ يومَ القيامةِ للحسابِ، وفي صحيفتِه أمثالُ الجبالِ مِن الحسناتِ، فيقولُ ربُّ العزةِ تبارك وتعالى: صلَّيتَ يومَ كذا وكذا ليقالَ: صلَّى فلانٌ. أنا الله لا إلهَ إلا أنا، لىَ الدينُ الخالصُ، صُمْتَ يومَ كذا وكذا ليقالَ: صام فلانٌ. أنا الله لا إلهَ إلا أنا، لىَ الدينُ الخالصُ، تصدَّقْتَ يومَ كذا وكذا ليقالَ: تصدَّق فلانٌ. أنا الله لا إلهَ إلا أنا، لىَ الدينُ الخالصُ. فما يزالُ
(3)
يمْحو شيئًا بعدَ شيءٍ، حتى تَبْقَى صحيفتُه ما فيها شيءٌ، فيقولُ ملَكاه: يا فلانُ، ألِغَيرِ اللهِ كنتَ تعملُ؟
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ: أما قولُه:
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 322 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
في م، ت 2، ت 3:"فعلت".
(3)
في ت 2، ت 3:"زال".
{مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} . فالتوحيدُ.
و {الدِّينَ} منصوبٌ بوقوعِ {مُخْلِصًا}
(1)
عليه.
وقولُه: {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} . يقولُ تعالى ذكرُه: ألا للهِ العبادةُ والطاعةُ وحدَه لا شريكَ له، خالصةً لا شِركَ لأحدٍ معه فيها، فلا ينبغى ذلك لأحدٍ؛ [لأن كلَّها دونَه ومِلْكُه]
(2)
، وعلى المَمْلوكِ طاعةُ مالِكهِ، لا
(3)
مَن لا يملكُ منه شيئًا.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} : شهادةُ أن لا إلهَ إلا اللهُ
(4)
.
وقولُه: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} . يقولُ تعالى ذكرُه: والذين اتخذوا مِن دونِ اللهِ أولياءَ يَتَولَّونهم، ويعبُدونهم مِن دونِ اللهِ، يقولون لهم: ما نعبُدُكم أيُّها الآلهةُ إلا لتقرِّبونا إلى اللهِ زُلْفَى؛ قربةً ومنزلةً، وتشْفَعوا لنا عندَه في حاجاتِنا.
وهي فيما ذُكِر في قراءةِ أُبيٍّ: (ما نَعْبُدُكُمْ)، وفي قراءةِ عبدِ اللهِ:(قالُوا ما نَعْبُدُهُمْ)
(5)
. وإنما حسُن ذلك لأن الحكايةَ إذا كانت بالقولِ - مضمرًا كان أو
(1)
في ت 1، ت،2، ت 3:"مخلص".
(2)
في م: "لأن كل ما دونه ملكه".
(3)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ت 3.
(4)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 171 عن معمر عن قتادة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 322 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(5)
معاني القرآن 2/ 414، والبحر المحيط 7/ 415.
ظاهرًا - جُعِل الغائبُ أحيانًا كالمخاطَبِ، ويُتركُ أخرى كالغائبِ، وقد بيَّنْتُ ذلك في موضعِه فيما مضَى
(1)
.
حدَّثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمدُ بنُ المُفضَّل، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ، قال: هي في قراءةِ عبدِ اللهِ: (قالُوا ما نَعْبُدُهُم).
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمد بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} . قال: قريشٌ تقولُه للأوثانِ، ومَن قَبْلَهم يقولُه للملائكةِ ولعيسى ابن مريمَ ولعُزَيرٍ
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} . قالوا: ما نعبُدُ هؤلاء إلا
(3)
ليشفَعوا لنا عندَ اللهِ
(4)
.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ في قولهِ:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} . قال: هي منزلةٌ
(5)
.
(1)
ينظر ما تقدم في 2/ 294.
(2)
تفسير مجاهد ص 577، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 322 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
سقط من ت 2 ت 3، وبعده في ص، م، ت 1:"ليقربونا إلا".
(4)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 171 عن معمر عن قتادة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 322 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(5)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 75.
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ في قولِه:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} ، وقولِه:{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا} [الأنعام: 107]. يقولُ سبحانه: لو شئتُ لجمعتُهم على الهُدَى أجمعين
(1)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} . قال: قالوا: هم شفعاؤنا عندَ اللهِ، وهم الذين يقرِّبوننا إلى اللهِ زُلْفى يومَ القيامةِ، للأوثانِ، والزَّلْفى القُربُ
(2)
.
وقولُه: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: إن الله يَفْصِلُ بين هؤلاء الأحزابِ الذين اتخذوا في الدنيا مِن دونِ اللهِ أولياءَ - يومَ القيامةِ، {فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} في الدنيا من عبادتِهم ما كانوا يعبُدون فيها، بأن يُصْلِيَهم جميعًا جهنمَ، إلا مَن أخلَص الدينَ للهِ، فوحَّده ولم يُشرِكْ به شيئًا.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ
(4)}.
يقولُ تعالى ذكرُه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي} إلى الحقِّ ودينهِ الإسلامِ، والإقرارِ بوحدانيتِه، فيوفقَه له، {مَنْ هُوَ كَاذِبٌ} مُفْترٍ على اللهِ، يتقوَّلُ عليه الباطلَ، ويُضيفُ إليه ما ليس مِن صفتِه، ويزعُمُ أن له ولدًا افتراءً عليه، {كَفَّارٌ} لنِعَمِه، جَحُودٌ لربوبيتِه.
(1)
تقدم تخريجه في 9/ 228، 480.
(2)
ذكره الطوسي في التبيان 9/ 5.
وقولُه: {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} . يقولُ تعالى ذكرُه: لو شاء اللهُ اتخاذَ ولدٍ - ولا ينْبغِى له ذلك - {لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} . يقولُ: لاختار مِن خَلْقِه ما يشاءُ.
وقوله: {سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} . يقولُ: تنزيهًا للهِ عن أن يكونَ له ولدٌ، وعما أضاف إليه المشركون به من شِركِهم، {هُوَ اللَّهُ}. يقولُ: هو الذي يعبدُه كلُّ شيءٍ، ولو كان له ولدٌّ لم يكنْ له عبدًا، يقولُ: فالأشياءُ كلُّها له مِلكٌ، فأَنَّى يكونُ له ولدٌ، وهو الواحدُ الذي لا شريكَ له في مُلْكِه وسلطانِه، والقهَّارُ الخَلْقِه بقدرتِه! فكلُّ شيءٍ له متذلِّلٌ، ومن سَطْوتِه خاشعٌ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5)} .
يقولُ تعالى ذكرُه واصفًا نفسَه بصفتِها
(1)
: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} . يقولُ: يُغْشِى هذا على هذا، وهذا على هذا، كما قال:{يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} .
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} . يقولُ:
(1)
في ت 2، ت 3:"بصفاتها".
يحمِلُ الليلَ على النهارِ
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ} . قال: يُدَهُوِرُه
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} . قال: يُغْشِي هذا هذا، ويُغْشِي هذا هذا
(3)
.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّديِّ قولَه:{يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} . قال: يجيءُ بالنهارِ وَيَذهَبُ بالليلِ، ويجيءُ بالليلِ ويَذْهَبُ بالنهارِ
(4)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولهِ: {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} : حينَ يذهبُ بالليلِ ويكوِّرُ النهارَ عليه، ويذهبُ بالنهارِ ويكوِّرُ الليلَ عليه.
وقولُه: {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: وسخَّر الشمسَ والقمرَ لعبادِه، ليعلَموا بذلك عددَ السنينَ والحسابَ، ويعرِفوا الليلَ مِن النهارِ لمصلحةِ معاشِهم، {كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى}. يقولُ: كلُّ ذلك، يعنى الشمس والقمر، {يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى}. يعنى: إلى قيام الساعة، وذلك
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم - كما في الإتقان 2/ 41 - من طريق أبي صالح به.
(2)
دهور كلامه: قَحَّم بعضه في إثر بعض. اللسان (د هـ ر). والأثر في تفسير مجاهد ص 577.
(3)
تفسير عبد الرزاق 2/ 171، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 322 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(4)
ينظر تفسير ابن كثير 7/ 76.
إلى أن تُكوَّرَ الشمسُ، وتَنكدِرَ النجومُ. وقيل: معنى ذلك أن لكلِّ واحدٍ منهما منازلَ، لا تَعْدوه ولا تَقْصُرُ دونَه، {أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ}. يقولُ تعالى ذكرُه: ألا إن الله الذي فعل هذه الأفعال، وأنعم على خلقه هذه النعم، هو العزِيزُ في انتقامِه ممن عاداه، الغَفَّارُ لذنوبِ عبادِه التائبِين إليه منها، بعَفْوِه لهم عنها.
يقولُ تعالى ذكرُه: {خَلَقَكُمْ} أيُّها الناسُ، {مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ}. يعني: مِن آدمَ، {ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا}. يقولُ: ثم جعَل مِن آدمَ زوجَه حواءَ، وذلك أن الله خلَقها مِن ضِلَعٍ مِن أضلاعِه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة قولَه:{خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} : يعنى آدمَ، ثم خلَق منها زوجَها حواءَ؛ خلَقها مِن ضِلَعٍ مِن أضْلاعِه
(1)
.
فإن قال قائلٌ: وكيف قيل: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} . وإنما خُلِق ولدُ آدمَ من آدمَ وزوجتِه، ولا شكَّ أن الوالدَين قبلَ الولدِ؟
فإن في ذلك أقوالًا؛ أحدُها: أن يقال: قيل ذلك لأنه روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
(1)
تقدم تخريجه 6/ 341، 10/ 617، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 322 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر.
الله لمَّا خَلَقَ آدمَ مسَح ظهرَه، فأخرَج كلَّ نَسَمَةٍ هي كائنةٌ إلى يومِ القيامِة، ثم أسْكَنه بعدَ ذلك الجنةَ، وخَلَق بعدَ ذلك حواءَ من ضِلَعٍ مِن أضْلاعِه
(1)
، فهذا قولٌ. والآخرُ: أن العربَ ربَّما أخبَر الرجلُ منهم عن رجلٍ بفعلَين، فيَرُدُّ الأولَ منهما في المعنى بـ "ثم"، إذا كان مِن خبرِ المتكلمِ، كما يقالُ: قد بلَغنى ما كان منك اليومَ، ثم ما كان منك أمسِ أعجبُ. فذلك نَسَقٌ من خبر المتكلم، والوجه الآخرُ: أن يكونَ خلقُه الزوجَ مردودًا على {وَاحِدَةٍ} كأنه قيل: خلَقكم من نفسٍ وحدَها، ثم جعَل منها زوجَها. فيكون في {وَاحِدَةٍ} معنى: خلَقها وحدَها، كما قال الراجزُ
(2)
:
أعْدَدْتَه للخضمِ ذى التَّعَدِّى
كَوَّحْتَه منك بدونِ الجَهْدِ
بمعنى: الذي إذا تَعَدَّى كوَّحْتَه، ومعنى: كَوَّحْتَه: غَلَبْتَه.
والقولُ الذي يقولُه أهلُ العلمِ أَولى بالصوابِ، وهو القولُ الأَوَّلُ الذي ذكرتُ أنه يقالُ: إن الله أخرَج ذريةَ آدمَ مِن صُلْبِه قبل أن يخلُقَ حواءَ، وبذلك جاءت الروايةُ عن جماعةٍ من أصحابِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، والقولان الآخران على مذاهبِ أهلِ العربيةِ
(3)
.
وقولُه: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} . يقولُ تعالى ذكرُه: وجعَل لكم مِن الأنعامِ ثمانيةَ أزواجٍ؛ مِن الإبلِ زوجَين، ومِن البقرِ زوجَين، ومِن الضأنِ اثنَين، ومِن المعْزِ اثنَينِ، كما قال جلَّ ثناؤهُ: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ
(1)
ينظر ما تقدم من حديث ابن عباس وعمر بن الخطاب وغيرهما في 10/ 547 وما بعدها.
(2)
معاني القرآن للفراء 2/ 415، واللسان (ك و ح).
(3)
ينظر معاني القرآن للفراء 2/ 414، 415.
اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ} [الأنعام: 143].
كما حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} . قال: مِن الإبلِ والبقرِ والضأنِ والمعزِ
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} : من الإبلِ اثنَين، ومِن البقرِ اثنَين، ومِن الضأنِ اثنَين، ومن المَعْزِ اثنَين، مِن كُلِّ واحدٍ زوجٌ
(2)
.
حُدِّثْتُ عن الحسينِ، قال: سمعتُ أبا معاذٍ يقولُ: حدَّثنا عُبيدٌ، قال: سمعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} . يعنى: مِن المَعْزِ اثنَين، ومِن الضأْنِ اثنَين، ومِن البقرِ اثنَين، ومِن الإبلِ اثنَين
(3)
.
وقولُه: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} . يقولُ تعالى ذكرُه: يبتدئُ خلقَكم أيُّها الناسُ في بُطُونِ أمهاتِكم خلقًا مِن بعدِ خلقٍ. وذلك أنه يُحْدِثُ فيها نُطْفَةً، ثم يجعلُها عَلَقةً، ثم مُضْغَةً، ثم عظامًا، ثم يَكْسو العظامَ لحمًا، ثم يُنْشِئُه خلقا آخرَ، تبارك اللهُ ربُّنا وتعالى، فذلك خَلْقُه إيَّاه خلقًا بعدَ خلقٍ.
كما حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن سِماكٍ؛ عن عكرمةَ:{يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} . قال: نُطْفةً، ثم
(1)
تفسير مجاهد ص 577، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 322 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 171 عن معمر عن قتادة.
(3)
ذكره الطوسي في التبيان 9/ 9.
عَلَقةً، ثم مُضْعَةً
(1)
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} . قال: نطفةً، ثم ما يَتْبَعُها، حتى تَمَّ خلقُه
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} : نطفةً، ثم علقةً، ثم مُضْغَةً، ثم عظامًا، ثم لحمًا، ثم أنبتَ الشعرَ؛ أطوارَ الخلقِ
(3)
.
حدَّثنا هَنَّادُ بنُ السَّرِيِّ، قال: ثنا أبو الأحوصِ، عن سِماكٍ، عن عكرمةَ في قولِه:{يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} . قال: يخلقِ
(4)
بعدَ الخلقِ؛ علقةً، ثم مُضْغَةً، ثم عظامًا.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّديِّ في قولِه:{يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} . قال: يكونون نُطَفًا، ثم يكونون عَلَقًا، ثم يكونون مُضَعًا، ثم يكونون عظامًا، ثم يُنفخُ فيهم الروحُ
(5)
.
حُدِّثْتُ عن الحسينِ، قال: سمعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبرَنا عُبَيدٌ، قال: سمعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} : خُلِق نطفةً، ثم علقةً، ثم مُضْغةً
(6)
.
(1)
تفسير الثوري ص 262.
(2)
تفسير مجاهد ص 577، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 322 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 322 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر.
(4)
في م: "يعني بخلق". وفى ت 1، ت 2، ت 3:"يخلق".
(5)
ذكره القرطبي في تفسيره 15/ 236.
(6)
ذكره الطوسي في التبيان 9/ 9.
وقال آخرون: بل معني ذلك: يخلُقُكم في بُطُونِ أمهاتِكم مِن بعدِ خلقِه إيَّاكم في ظهرِ آدمَ. قالوا: فذلك هو الخلقُ مِن بعدِ الخلقِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} . قال: خَلْقًا في البطونِ، مِن بعدِ الخلقِ الأَوَّلِ الذي خلَقكم في
(1)
ظهرِ آدمَ.
وأَولى القولَين في ذلك بالصوابِ، القولُ الذي قالَه عكرمةُ ومجاهدٌ ومَن قال في ذلك مثلَ قولِهما؛ لأن الله جلَّ وعزَّ أخبر أنه يخلقُنا خلقًا مِن بعدِ خلقٍ في بُطُونِ أمهاتِنا في ظُلُماتٍ ثلاثٍ، ولم يخبرْ أنه يخلقُنا في بطونِ أمهاتِنا مِن بعدِ خلقِنا في ظهرِ آدمَ، وذلك نحو قولِه:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً} الآية [المؤمنون: 12 - 14].
وقولُه: {فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ} . يعنى: في ظلمةِ البَطنِ، وظلمةِ الرَّحِمِ، وظُلْمةِ المَشِيمةِ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا هَنَّادُ بنُ السُّرِيِّ، قال: ثنا أبو الأحوصِ، عن سِماكٍ، عن عكرمة:{فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ} . قال: الظلماتُ الثلاثُ البَطنُ، والرحمُ، والمَشِيمةُ.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن سِماكٍ، عن
(1)
في م، ت 2، ت 3:"خلقهم".
عكرمةَ: {فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ} . قال: البطنِ، والمشيمةِ، والرحمِ
(1)
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ:{فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ} . قال: يعني بالظلماتِ الثلاث، بطنَ أمِّه، والرَّحِمَ، والمَشِيمةَ
(2)
.
حدَّثني محمد بن عمروٍ، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهدٍ قولَه:{فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ} . قال: البطنِ، والرحم، والمَشِيمةِ
(3)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة:{فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ} : المَشِيمةِ، والرحمِ، والبطنِ
(4)
.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّي:{فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ} . قال: ظلمةِ
(5)
المَشِيمةِ، وظلمةِ الرحمِ، وظلمةِ
(6)
البطنِ
(7)
.
حدَّثني يونس، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قوله: {فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ} . قال: المشيمةُ في الرحمِ، والرحمِ في البطنِ
(7)
.
حُدِّثْتُ عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: ثنا عُبَيدٌ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ في قوله: {فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ} : الرحمِ، والمَشِيمةِ،
(1)
تفسير الثورى ص 262.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 323 إلى المصنف وسعيد بن منصور وابن أبي حاتم.
(3)
تفسير مجاهد ص 577، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 322 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(4)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 171 عن معمر عن قتادة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 322 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(5)
في م: "ظلمات". وفى ت 2، ت 3:"الظلمة".
(6)
في ت 2، ت 3:"الظلمة".
(7)
ذكره الطوسى في التبيان 9/ 9، وابن كثير في تفسيره 7/ 77.
والبطن
(1)
.
والمَشِيمةُ: التي تكونُ على الولدِ إذا خرَج، وهى من الدوابِّ: السَّلا.
وقوله: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ} . يقولُ تعالى ذكرُه: هذا الذي فعَل هذه الأفعالَ أيُّها الناسُ هو ربُّكم، لا مَن لا يجلُبُ لنفسِه نفعًا، ولا يدفعُ عنها ضُرًّا، ولا يسوقُ إليكم خيرًا، ولا يدفعُ عنكم سُوءًا، مِن أوثانِكم وآلهتِكم.
وقوله: {لَهُ الْمُلْكُ} . يقولُ جل وعز: لربِّكم أيُّها الناسُ الذي صفتُه ما وصَف لكم، وقُدْرتُه ما بيَّن لكم - المُلْكُ مُلْكُ الدنيا والآخرة وسلطانُهما، لا لغيره، فأما ملوكُ الدنيا فإنما يملكُ أحدُهم شيئًا دونَ شيءٍ، فإنما له خاصٌّ مِن المُلْكِ، وأما المُلْكُ التامُّ الذي هو المُلْكُ بالإِطلاقِ، فللهِ الواحد القهارِ.
وقولُه: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: لا ينبغى أن يكونَ معبودٌ سِواه، ولا تصلحُ العبادةُ إلا له، {فَأَنَّى تُصْرَفُونَ}. يقولُ تعالى ذكرُه: فأَنَّى تُصْرَفون أيُّها الناسُ فتذهَبون عن عبادةِ ربِّكم، الذي هذه الصفةُ صفتُه، إلى عبادةِ مَن لا ضُرَّ عندَه لكم ولا نفعَ؟!
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} .
قال: كقولِه: {تُؤْفَكُونَ}
(2)
[الأنعام: 95].
(1)
ذكره الطوسي في التبيان 9/ 9، وابن كثير في تفسيره 7/ 77.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 322 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} . قال للمشركين: أنَّى تُصْرَفُ عقولُكم عن هذا؟
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)} .
اختَلف أهلُ التأويلِ في تأويلِ قولِه: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} ؛ فقال بعضُهم: ذلك لخاصٍّ مِن الناسِ، ومعناه: إن تكفُروا أيُّها المشركون باللهِ، فإن الله غنيٌّ عنكم، ولا يَرْضَى لعبادِه المؤمنين الذين أخلَصهم لعبادتِه وطاعتِه - الكفرَ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} . يعنى الكفارَ الذين لم يُرِدِ اللهُ أن يُطَهِّرَ قلوبَهم فيقولوا: لا إلهَ إلا اللهُ. ثم قال: {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} ، وهم عبادُه المُخْلِصون الذين قال:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42]. فألزَمهم شهادةَ أن لا إلهَ إلا اللهُ، وحَبَّبها إليهم
(1)
.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّديِّ:{وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} . قال: لا يرضَى لعبادِه المؤمنين أن يكفُروا
(2)
.
(1)
أخرجه البيهقى في الأسماء والصفات (323) من طريق أبي صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 323 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
ذكره البغوي في تفسيره 7/ 109، والقرطبي في تفسيره 15/ 236.
وقال آخرون: بل ذلك عام لجميع الناس، ومعناه: أيها الناسُ إن تكفروا، فإن الله غنيٌّ عنكم، ولا يرضى لكم أن تكفُروا به.
والصوابُ مِن القولِ في ذلك ما قال جلَّ ثناؤه: {إِنْ تَكْفُرُوا} باللهِ أَيُّها الكفارُ به، {فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ} عن إيمانِكم وعبادتِكم إيَّاه، {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ}. بمعنى: ولا يَرْضَى لعبادِه أن يكفُروا به، كما يقالُ: لستُ أحبُّ الظلمَ، وإن أحببتُ أن يظلِمَ فلانٌ فلانًا فيُعاقبَ.
وقولُه: {وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} . يقولُ: وإن تؤمِنوا بربِّكم وتُطِيعوه، يَرْضَ شُكْرَكم له. وذلك هو إيمانُهم به وطاعتُهم إياه، فكَنَى عن الشكرِ ولم يُذْكَرْ، وإنما ذَكَر الفعلَ الدالَّ عليه، وذلك نظيرُ قولِ اللهِ:{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا} [آل عمران: 173]. بمعنى: فزادَهم قولُ الناسِ لهم ذلك إيمانًا.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّديِّ:{وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} . قال: إن تُطِيعوا يَرْضَه لكم.
وقوله: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} . يقولُ: لا تأْثَمُ آثمةٌ إِثمَ آثمةٍ أخرى غيرِها، ولا تؤخَذُ إلا بإثمِ نفسِها. يُعْلِمُ عز وجل عبادَه أن على كلِّ نفسٍ ما جَنَت وأنها لا تؤخَذُ بذنبِ غيرِها.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السُّديِّ: {وَلَا تَزِرُ
وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}. قال: لا يُؤْخَذُ أحدٌ بذنبِ أحدٍ.
وقولُه: {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: ثم بعدَ اجْتراحِكم في الدنيا ما اجْتَرحْتُم مِن صالحٍ وسَيِّئٍ، وإيمانٍ وكفرٍ أَيُّها الناسُ، إلى ربِّكم مصيرُكم من بعد وفاتِكم، {فَيُنَبِّئُكُمْ}. يقولُ: فيخبرُكم بما كنتم في الدنيا تعمَلون مِن خيرٍ وشرٍّ، فيُجازِيكم على كلِّ ذلك جزاءَكم؛ المحسنَ منكم بإحسانِه، والمسيءَ بما يَسْتحِقُّه، يقولُ عز وجل لعبادِه: فاتَّقُوا أن تَلْقَوا رَبَّكم وقد عمِلتُم في الدنيا بما لا يَرْضاه منكم فتَهْلِكوا، فإنه لا يخفَى عليه عملُ عاملٍ منكم.
وقولُه: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} . يقولُ تعالى ذكرُه: إن الله لا يَخْفَى عليه ما أضمرَته صدورُكم، أيُّها الناسُ، مما لا تُدْرِكُه أعينُكم، فكيف بما أدركَته العيونُ، ورأتْه الأبصارُ؟ وإنما يعنى جلّ ثناؤه بذلك، الخبرَ عن أنه لا يخفَى عليه شيءٌ، [وأنه مُحْصٍ على عبادِه أعمالَهم ليجازيَهم بها]
(1)
، كي يَتَّقُوه في سِرِّ أمورِهم وعلانيتِها.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وإذا مسَّ الإنسانَ بَلاءٌ في جسدِه مِن مرضٍ، أو عاهةٍ، أو شدّةٍ في معيشتِه، وجهدٍ وضيقٍ، {دَعَا رَبَّهُ}. يقولُ: استغاثَ بربِّه الذي خلقَه، من شدَّةِ ذلك، ورغِب إليه في كشفِ ما نزَل به من شدةِ ذلك.
(1)
سقط من: ص، ت 1.
وقولُه: {مُنِيبًا إِلَيْهِ} . يقولُ: تائبًا إليه مما كان مِن قبلِ ذلك عليه مِن الكفرِ به، وإشراكِ الآلهة والأوثانِ به في عبادتِه، راجعًا إلى طاعتِه.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ} . قال: الوجعُ والبلاءُ والشدةُ، {دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ}. قال: مُسْتَغِيثًا به.
وقولُه: {ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ} . يقولُ تعالى ذكرُه: ثم إذا منَحه ربُّه نعمةً منه، يعنى عافيةً، فكشَف عنه ضُرَّه، وأبدَله بالسَّقمِ صحةً، وبالشدةِ رخاءً. والعربُ تقولُ لكلِّ مَن أعطَى غيرَه مِن مالٍ أو غيرِه: قد خَوَّله. ومنه قولُ أبي النَّجْمِ العِجْلِيِّ
(1)
:
أعطَى * فلم يَبْخَلْ ولم يُبَخَّلِ
…
كُومَ الذُّرَا مِن خَوَلِ المُخَوَّلِ
وحُدِّثْتُ عن أبي عُبَيدةَ معمرِ بن المثنى أنه قال: سمعتُ أبا عمرٍو يقولُ في بيتِ زُهَيرٍ
(2)
:
هنالك إن يُسْتَخْوَلوا المالَ يُخْوِلوا
…
وإن يُسْأَلُوا يُعْطُوا وإن يَيْسِروا يُغْلوا
قال معمرٌ: قال يونسُ: إنما سمِعناه:
* هنالك إِن يُسْتَخْبَلُوا المالَ يُخْبَلُوا *
(1)
تقدم في 9/ 415.
(2)
مجاز القرآن 2/ 188، وتقدم في 9/ 415، 416.
* من هنا خرم في مخطوطتى مكتبة آيا صوفيا المرموز لهما بـ ت 2، ت 3، وينتهي في ص 174.
قال: وهى معناها.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّديِّ:{ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ} : إذا أصابَته عافيةٌ أو خيرٌ.
وقولُه: {نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ} . يقولُ: ترَك دعاءَه الذي كان يَدْعو إلى الله من قبلِ أن يُكشِفَ ما كان به مِن ضُرٍّ، {وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا}. يعنى: شركاءَ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:{نَسِيَ} .
يقولُ: ترك، هذا في الكافرِ خاصةً.
ولـ "مَا" التي في قولِه: {نَسِيَ مَا كَانَ} . وجهان؛ أحدُهما: أن يكونَ بمعنى "الذي"، ويكونَ معنى الكلامِ حينَئذٍ: ترَك الذي كان يَدْعوه في حالِ الضُّرِّ الذي كان به. يعنى به الله تعالى ذكرُه فتكونُ "مَا" موضوعةً عندَ ذلك موضعَ "مَن"، كما قيل:{وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون: 5]. يعنى به الله، وكما قيل:{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3]. والثاني: أن يكونَ بمعنى المصدرِ على ما ذكرتُ، وإذا كانت بمعنى المصدرِ، كان في "الهاءِ" التي في
قولِه: {إِلَيْهِ} . وجهان؛ أحدُهما: أن يكونَ مِن ذكرِ {مَا} . والآخرُ: مِن ذكرِ الربِّ.
وقولُه: {وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا} . يقولُ: وجعَل للهِ أمثالًا وأشْباهًا.
ثم اختلَف أهلُ التأويلِ في المعنى الذي جعَلوها فيه له أندادًا؛ فقال بعضُهم: جعَلوها له أندادًا في طاعتِهم إيَّاهم في معاصى اللهِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّديِّ:{وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا} . قال: الأندادُ مِن الرجال، يُطيعونهم في معاصى اللهِ
(1)
.
وقال آخرون: عُنِى بذلك أنه عبَد الأوثانَ، فجعَلها للهِ أندادًا في عبادتِهم إيَّاها.
وأَولى القولَين في ذلك بالصوابِ قولُ مَن قال: عُنِي به أنه أطاعَ الشيطانَ في عبادةِ الأوثانِ، فجعَل له الأوثانَ أندادًا؛ لأن ذلك في سياقِ عتابِ اللهِ إيَّاهم على عبادتِها.
وقولُه: {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} . يقولُ: ليُزيلَ مَن أرادَ أن يُوحِّدَ الله ويؤمنَ به، عن توحيدِه والإقرارِ به والدخولِ في الإسلامِ.
وقولُه: {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا} . يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: قُل يا محمدُ لفاعلِ ذلك: تمتَّعْ بكفرِك باللهِ قليلًا إلى أن تَسْتوفىَ أجلَك، فتَأْتِيَك مَنِيَّتُك، {إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ}. أي: إنك مِن أهلِ النارِ المَاكِثِين فيها.
(1)
تقدم تخريجه في 3/ 18.
وقولُه: {تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ} : وعيدٌ مِن اللهِ وتَهَدُّدٌ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)}
اختلفَت القرأةُ في قراءةِ قولِه: {أَمَّنْ} ؛ فقَرأ ذلك بعضُ المكيِّين وبعضُ المدنيِّين وعامةُ الكوفيِّين: (أمَنْ) بتخفيفِ الميمِ
(1)
. ولقراءتِهم ذلك كذلك وجهان؛ أحدُهما: أن يكونَ الألفُ في "أمَنْ" بمعنى الدعاءِ، يرادُ بها: يا مَن هو قانتٌ آناءَ الليلِ. والعربُ تُنادى بالألفِ * كما تُنادى بـ "يا"، فتقولُ: أزيدُ أقبِلْ. و: يا زيدُ أقِبلْ. ومنه قولُ أوسِ بن حَجَرٍ
(2)
:
أَبَنِي لُبَيْتَى لَسْتُم بِيدٍ
…
إلا يدٍ ليسَت لها عَضُدُ
وإذا وُجِّهَتِ الألفُ إلى النداءِ كان معنى الكلامِ: قُلْ تمتعْ أيُّها الكافرُ بكفرِك قليلًا، إنك مِن أصحابِ النارِ، ويا مَن هو قانتٌ آناءَ الليلِ ساجدًا وقائمًا، إنك مِن أهلِ الجنةِ. ويكونُ في [البيانِ عمَّا]
(3)
للفريقِ الكافرِ عندَ اللهِ مِن الجزاءِ في الآخرةِ - الكفايةُ عن بيانِ ما للفريقِ المؤمنِ؛ إذ كان معلومًا اختلافُ أحوالِهما في الدنيا، ومعقولًا أن أحدَهما إذا كان مِن أصحابِ النارِ لكفرِه بربِّه، أن الآخرَ مِن أصحابِ الجنةِ، فحَذَف الخبرَ عما له، اكتفاءً بفَهْمِ السامعِ المرادَ منه مِن ذكرِه، إذ كان قد دلَّ على المحذوفِ بالمذكورِ. والثاني: أن تكونَ الألفُ التي في قولِه: (أمَنْ) ألفَ
(1)
هي قراءة ابن كثير ونافع وحمزة. السبعة لابن مجاهد ص 561، والتيسير ص 153.
* هنا نهاية الخرم المشار إليه في ص 171.
(2)
تقدم في 14/ 229، 230. وينظر معاني القرآن للفراء 2/ 416.
(3)
في ص: "التنارعما"، وفى ت 1، ت 2، ت 3:"التنارغما"، وفى م:"النار عمى". وصواب القراءة ما أثبتنا.
استفهامٍ، فيكونَ معنى الكلامِ: أهذا كالذى جعَل للهِ أندادًا ليُضِلَّ عن سبيلِه؟ ثم اكتفَى بما قد سبَق مِن خبرِ اللهِ عن فريقِ الكفرِ به مِن أعدائِه، إذ كان مفهومًا المرادُ بالكلامِ، كما قال الشاعرُ
(1)
:
فأُقسِمُ لو شيءٌ أتانا رسولُه
…
سِواكَ ولكنْ لم نَجِدْ لك مَدْفَعَا
فحذَف "لدفَعْناه" وهو مرادٌ في الكلامِ إذ كان مفهومًا عندَ السامعِ مرادُه.
وقرأ ذلك بعضُ قرأةِ المدينةِ والبصرةِ وبعضُ أهلِ الكوفةِ: {أَمَّنْ} بتشديدِ الميمِ
(2)
، بمعنى: أم مَن هو؟ ويقولون: إنما هي {أَمَّنْ} استفهام اعتُرِض في الكلامِ بعدَ كلامٍ قد مضَى، فجاء بـ "أم"، فعلى هذا التأويلِ يجبُ أن يكونَ جوابُ الاستفهامِ متروكًا مِن أجلِ أنه قد جرَى الخبرُ عن فريقِ الكفرِ، وما أُعِدَّ له في الآخرةِ، ثم أُتبِع الخبرَ عن فريقِ الإيمانِ، فعُلِم بذلك المرادُ، فاستُغْنِى بمعرفةِ السامعِ بمعناه مِن ذكرِه، إذ كان معقولًا أن معناه: أهذا أفضلُ أم هذا؟
والقولُ في ذلك عندنا أنهما قراءتان قرَأ بكلِّ واحدةٍ علماءُ مِن القرأةِ، مع صحةِ كلِّ واحدةٍ منهما في التأويلِ والإعرابِ، فبأيَّتِهما قرَأ القارئُ فمصيبٌ.
وقد ذكَرنا اختلافَ المختلفِين والصوابَ مِن القول عندَنا، فيما مضَى قبلُ في معنى القانتِ، بما أغنَى عن إعادتِه في هذا الموضعِ
(3)
، غيرَ أنَّا نذكرُ بعضَ أقوالِ أهلِ التأويلِ في ذلك في هذا الموضعِ؛ ليعلمَ الناظرُ في الكتابِ اتفاقَ معنى ذلك في هذا الموضعِ وغيرِه؛ فكان بعضُهم يقولُ: هو في هذا الموضعِ قراءةُ القارئ قائمًا في الصلاةِ.
(1)
تقدم في 12/ 362.
(2)
هي قراءة عاصم وأبي عمرو وابن عامر والكسائي. السبعة لابن مجاهد ص 561، والتيسير ص 153.
(3)
تقدم في 14/ 392.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن المثنى، قال: ثنا يحيى، عن عُبيد اللهِ، أنه قال: أخبَرنى نافعٌ، عن ابن عمرَ، أنه كان إذا سُئِل عن القُنُوتِ، قال: لا أعلمُ القنوتَ إلا قراءةَ القرآنِ وطولَ القيامِ. وقرَأ: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا}
(1)
.
وقال آخرون: هو الطاعةُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدِ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ} . يعنى بالقنوتِ الطاعةَ، وذلك أنه قال:{ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} إلى: {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [الروم: 25، 26]. قال: مُطِيعون
(2)
.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّديِّ في قولِه:{أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ} . قال: القانتُ المُطِيعُ
(2)
.
وقوله: {آنَاءَ اللَّيْلِ} . يعنى: ساعاتِ الليلِ.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ} : [ساعاتِ الليل]
(3)
؛ أوَّلَه، وأوسطَه، وآخرَه
(4)
.
(1)
أخرجه أبو عبيد القاسم بن سلام - كما في تخريج الزيلعي 3/ 199 - عن يحيى بن سعيد عن عبد الله به.
(2)
ذكره الطوسى في التبيان. 9/ 12 وينظر ما تقدم في 2/ 462.
(3)
سقط من: م.
(4)
تقدم في 5/ 696.
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:{آنَاءَ اللَّيْلِ} . قال: ساعاتِ الليلِ
(1)
.
وقد مضَى بيانُنا عن معنى "الآناءِ" بشواهدِه وحكايةُ أقوالِ أهلُ التأويلِ فيها، بما أغنى عن إعادتِه في هذا الموضعِ
(2)
.
وقولُه: {سَاجِدًا وَقَائِمًا} . يقولُ: يَقْنُتُ ساجدًا أحيانًا، وأحيانًا قائمًا. يعنى: يطيعُ، والقنوتُ عندَنا: الطاعةُ، ولذلك نُصِب قولُه:{سَاجِدًا وَقَائِمًا} . لأن معناه: أمَّن هو يقنُتُ آناءَ الليلِ ساجدًا طورًا، وقائمًا طورًا. فهُما حالٌ مِن قانتٍ.
وقولُه: {يَحْذَرُ الْآخِرَةَ} . يقولُ: يَحْذَرُ عذابَ الآخرةِ.
كما حدَّثنا عليُّ بنُ الحسنِ الأزْدِيُّ، قال: ثنا يحيى بنُ اليَمانِ، عن أشعثَ، عن جعفرٍ، عن سعيدِ بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ في قولِه:{يَحْذَرُ الْآخِرَةَ} . قال: يحذرُ عذابَ
(3)
الآخرةِ
(4)
.
{وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} . يقولُ: ويَرْجو أن يرحمَه اللهُ، فيُدْخِلَه الجنةَ.
وقولُه: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: قُلْ يا محمدُ لقومِك: هل يستوى الذين يعلَمون ما لهم في طاعتِهم لربِّهم مِن الثوابِ، وما عليهم في معصيتِهم إيَّاه مِن التَّبِعاتِ، والذين لا يعلَمون ذلك، فهم
(1)
تقدم في 5/ 696 بلفظ: "أما آناء الله: فجوف الليل". وينظر تفسير ابن كثير 7/ 78.
(2)
ينظر ما تقدم في 5/ 695 وما بعدها.
(3)
في ص، م، ت 2، ت 3:"عقاب". وينظر مصدر التخريج.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 322 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
يَخْبِطون في عَشْواءَ، لا يرجُون بحَسَنِ أعمالهم خيرًا، ولا يَخافون بسيِّئِها شرًّا؟!
يقولُ: ما هذان بمُتَساوِيَين.
وقد رُوِى عن أبي جعفرٍ محمدِ بن عليٍّ في ذلك ما حدَّثني محمدُ بنُ خلفٍ، قال: ثنى نصرُ
(1)
بنُ مُزَاحِمٍ، قال: ثنا [سعدانُ الجهني]
(2)
، عن [سعدِ أبى]
(3)
مجاهدٍ، عن جابرٍ، عن أبي جعفرٍ رضوانُ اللهِ عليه:{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} . قال: نحن الذين يعلَمون، وعدوُّنا الذين لا يعلَمون
(4)
.
وقولُه: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} . يقولُ تعالى ذكرُه: إنما يَعْتَبِرُ حُجَجَ اللهِ فيتّعظُ ويَتفكَّرُ فيها فيتدبَّرُها - أهلُ العقولِ والحِجا، لا أهلُ الجهلِ والنَّقْصِ في العقولِ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10)} .
يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: قُلْ يا محمدُ لعباديَ الذين آمَنوا: يا عباديَ الذين آمَنوا باللهِ، وصدَّقوا رسولَه، اتقوا ربكم بطاعتِه، واجتنابِ معاصيه، {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ} .
ثم اختَلف أهلُ التأويلِ في تأويلِ ذلك؛ فقال بعضُهم: معناه: للذين أطاعوا الله حسنةٌ في هذه الدنيا. وقال: "في" مِن صلةِ "حسنة"، وجعَل معنى الحسنةِ: الصحةَ والعافيةَ.
(1)
في ت 1، ت 2، ت 3:"نظر". وينظر تاريخ بغداد 13/ 282.
(2)
في النسخ: "سفيان الجريري".
(3)
في ص: "سعد بن أبي"، وفى م:"سعيد بن أبي"، وفي ت 1:"سعد بن". ينظر تهذيب الكمال 10/ 317.
(4)
ذكره الطوسى 9/ 13 من طريق جابر عن أبي جعفر.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّديِّ:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ} . قال: العافيةُ والصحةُ
(1)
.
وقال آخرون: "في" مِن صلةِ "أحسنوا"، ومعنى الحسنةِ: الجنةُ.
وقولُه: {وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ} . يقولُ تعالى ذكرُه: وأرضُ اللهِ فسيحةٌ واسعةٌ، فهاجِروا مِن أرضِ الشركِ إلى دارِ الإسلامِ.
كما حدَّثني محمدُ بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارث، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ} : فهاجِروا واعتَزِلوا الأوثانَ
(2)
.
وقولُه: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} . يقولُ تعالى ذكرُه: إنما يُعطِى الله أهلُ الصبرِ على ما لَقُوا فيه في الدنيا أجرَهم في الآخرة، {بِغَيْرِ حِسَابٍ}. [يقولُ: ثوابَهم بغيرِ حسابٍ]
(3)
.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} : لا واللهِ ما هُناك مِكيالٌ ولا ميزانٌ
(4)
.
(1)
ينظر التبيان 9/ 13.
(2)
تفسير مجاهد ص 578، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 323 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
سقط من: ت 2، ت 3.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 323 إلى المصنف وعبد بن حميد.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّديِّ:{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} . قال: في الجنةِ
(1)
.
[القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13)} .
يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: قُلْ يا محمدُ لمُشركي قومِك: إن الله: أمَرني أن أعبدَه مُفْرِدًا له العبادةَ
(2)
دونَ كلِّ ما تَدْعُون مِن دونِه مِن الآلهةِ والأندادِ.
{وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} . يقولُ: وأمَرني ربِّي جلّ ثناؤُه بذلك، لأن أكونَ بفعلِ ذلك أوَّلَ مَن أسلَم منكم، فخضَع له بالتوحيدِ، وأخلَص له العبادةَ، وبَرِئَ مِن كُلِّ ما دونَه مِن الآلهةِ.
وقولُه تعالى: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} . [يقولُ تعالى ذكرُه: {قُلْ} يا محمدُ لهم: {إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي}]
(3)
فيما أَمَرنى به من عبادتِه مخلصًا له الطاعةَ ومُفْرِدَه بالربوبيةِ - {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} . يعني: عذابَ يومِ القيامةِ، وذلك هو اليومُ الذي يَعْظُمُ هولُه]
(4)
.
القولُ في تأويل قولِه تعالى: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15)}
يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: قل يا محمدُ لمشركي
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 80.
(2)
في م: "الطاعة".
(3)
سقط من: ص، ت 1.
(4)
سقط من: ت 2، ت 3.
قومِك: الله أعبدُ
(1)
مفرِدًا له طاعتى وعبادتى، لا أجعلُ له في ذلك شريكًا، ولكنى أُفرِدُه بالألوهةِ، وأَبْرأُ مما سواه من الأندادِ والآلهةِ.
فاعبُدوا أنتم أيُّها القومُ، ما شِئتم من الأوثانِ والأصنامِ وغيرِ ذلك مما تعبُدون من سائرِ خلقِه، فستعلَمون وَبَالَ عاقبةِ عبادتِكم ذلك إذا لقيتُم ربَّكم.
وقولُه: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} . يقولُ تعالى ذكرُه: قل يا محمدُ لهم: إن الهالكِين الذين غَبَنوا أنفسَهم، وهلَكت بعذابِ اللهِ أهْلُوهم مع أنفسِهم، فلم يَكُنْ لهم إذ دخَلوا النارَ فيها أهلٌ، وقد كان لهم في الدنيا أهلون.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} . قال: هم الكفارُ الذين خلَقهم اللهُ للنارِ وخلَق النارَ لهم، فزالت عنهم الدنيا، وحُرّمت عليهم الجنةُ، قال اللهُ: {خَسِرَ
(2)
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ} [الحج: 11]
(3)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زِيدٍ في قولِه: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} . قال: هؤلاء أهلُ النارِ، خسِروا أنفسَهم في الدنيا، وخسِروا الأهلين، فلم يجِدوا في النارِ أهْلًا، وقد كان لهم في الدنيا أهلٌ.
حُدِّثتُ عن ابن أبي زائدةَ، عن ابن جُرَيجٍ، عن مجاهدٍ، قال: غُبنوا أنفسَهم
(1)
بعده في م، ت 3:"مخلصا"، وبعده في ت 2:"مخلصا له"
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"خسروا".
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 324 إلى المصنف.
وأهْلِيهم. قال: يخسَرون أهْلِيهم، فلا يكونُ لهم أهلٌ يرجِعون إليهم، ويخسَرون أنفسَهم، فيَهْلكون في النارِ، فيَمُوتون وهم أحياءٌ، فيخسَرونها
(1)
.
وقولُه: {أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} . يقولُ تعالى ذكرُه: أَلَا إِن خُسْرانَ هؤلاء المشركين أنفسَهم وأهْلِيهم يومَ القيامةِ، وذلك هَلَاكُها، {هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}. يقولُ تعالى ذكرُه: هو الهلاكُ الذي يَبِينُ
(2)
لمَن عايَنه وعلِمه أنه الخسرانُ.
يقولُ تعالى ذكرُه: لهؤلاء الخاسرين يومَ القيامة في جهنمَ {مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ} ؛ وذلك كهيئة الظُّلَلِ المبنيةِ مِن النارِ، {وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ}. يقولُ: ومن تحتِهم من النارِ ما يَعْلوهم، حتى يصيرَ ما يَعْلُوهم منها من تحتهم ظُلَلًا، وذلك نظيرُ قوله جل ثناؤه:{لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف: 41]. يَغْشاهم مما هو تحتَهم فيها مِن المِهادِ.
وقولُه: {ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَاعِبَادِ فَاتَّقُونِ} . يقولُ تعالى ذكرُه: هذا الذي أخبرتُكم أيُّها الناسُ به، مما للخاسرِين يومَ القيامةِ من العذابِ، تخويفٌ مِن ربِّكم لكم؛ يخوِّفُكم به لتَحْذروه، فتَجْتَنِبوا معاصيَه، وتُنِيبوا مِن كفرِكم إلى الإيمانِ
(1)
في م: "فيخسرونهما". والأثر عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 324 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
في ت 1: "تبين"، وفى ت 2 ت 3:"بين".
به وتَصْديقِ رسولِه، واتباعِ أمرِه ونَهْيِه، فتَنْجُوا مِن عذابِه في الآخرةِ، {فَاتَّقُونِ}. يقولُ: فاتَّقُونِ بأداءِ فَرائضى عليكم، واجتنابِ معاصيَّ، لتَنْجُوا مِن عذابي وسَخَطِى.
وقولُه: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا [الطَّاغُوتَ} . أي: اجْتَنَبوا]
(1)
عبادةَ كلِّ ما عُبد مِن دونِ اللهِ مِن شيءٍ. وقد بَيَّنَّا معنى الطاغوتِ فيما مضَى قبلُ بشواهدِ ذلك، وذكَرنا اختلافَ أهلِ التأويلِ فيه، بما أغنَى عن إعادتِه في هذا الموضعِ
(2)
، وذكَرنا أنه في هذا الموضعِ الشيطانُ، وهو في هذا الموضعِ وغيرِه بمعنًى واحدٍ عندَنا.
ذكرُ مَن قال ما ذكرنا في هذا الموضعِ
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ} . قال: الشيطانَ
(3)
.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّديِّ:{وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا} . قال: الشيطانَ
(4)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا} . قال: الشيطانَ، هو هاهنا واحدٌ وهى جماعةٌ
(5)
.
(1)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ت 3.
(2)
تقدم في 4/ 555 وما بعدها، 7/ 189 وما بعدها.
(3)
تفسير مجاهد ص 578 وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 324 إلى عبد بن حميد.
(4)
تقدم تخريجه في 4/ 557
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 324 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
والطاغوتُ على قولِ ابن زيدٍ هذا واحدٌ مؤنثٌ، ولذلك قيل:{أَنْ يَعْبُدُوهَا} . وقيل: إنما أُنِّثت؛ لأنها في معنى جماعةٍ.
وقوله: {وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ} . يقولُ: وتابوا إلى اللهِ، ورجعوا إلى الإقرارِ بتوحيدِه، والعملِ بطاعته، والبراءةِ مما سِواه مِن الآلهةِ والأندادِ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ} : وأقبَلوا إلى اللهِ
(1)
.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّديِّ قولَه:{وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ} . قال: أجابُوا إليه.
وقولُه: {لَهُمُ الْبُشْرَى} . يقولُ: لهم البُشْرَى في الدنيا بالجنةِ في الآخرةِ، {فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ}. يقولُ جلَّ ثناؤه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: فبَشَّرْ يا محمدُ عبادىَ الذين يَسْتَمِعون القولَ مِن القائلين، فيَتَّبعون أرشدَه وأهْدَاه إلى الحقِّ، وأدلَّه على توحيدِ اللهِ والعملِ بطاعتِه، ويترُكون ما سِوى ذلك مِن القولِ الذي لا يدُلُّ على رشادٍ، ولا يَهْدى إلى سَدادٍ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ: {فَيَتَّبِعُونَ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 324 إلى المصنف وعبد بن حميد.
أَحْسَنَهُ}: وأحسنُه طاعةُ اللهِ
(1)
.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ في قولِه:{فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} . قال: أحسنَ ما يؤمَرون به فيعمَلون به
(2)
.
وقولُه {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ} . يقولُ تعالى ذكرُه: والذين يَستمعون القولَ فيَتَّبعون أحسنَه، {الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ}. يقولُ: وفَّقَهم اللهُ للرشادِ وإصابةِ الصوابِ، لا الذين يُعْرِضون عن سماعِ الحقِّ، ويعبُدون ما لا يضُرُّ ولا ينفعُ.
وقولُه: {وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} . يعنى: أولو العقولِ والحِجا.
وذُكر أن هذه الآية نزلت في رَهْطٍ معروفين وحَّدوا الله، وبَرِئوا مِن عبادةِ كلِّ ما دونَ اللهِ، قبل أن يُبْعَثَ نبيُّ اللهِ، فأنزَل الله هذه الآية على نبيِّه يمدحُهم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا} الآيتين، حدَّثنى أبى أن هاتَين الآيتَين نزَلتا في ثلاثةِ نفرٍ كانوا في الجاهليةِ يقولون لا إله إلا اللهُ؛ زيدِ بن عمرٍو، وأبي ذرٍّ الغِفاريِّ، وسلمانُ الفارسيِّ، نزَل فيهم:{وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا} في جاهليتِهم، {وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} ؛ لا إله إلا اللهُ، {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ} بغيرِ كتابٍ ولا نبيٍّ، {وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ}
(3)
.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 324 إلى المصنف وعبد بن حميد.
(2)
ذكره البغوي في تفسيره 7/ 113.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 324 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20)} .
يعنى تعالى ذكره بقوله: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ} : أفمَن وجَبَت عليه كلمةُ العذابِ في سابقِ علم ربِّك يا محمد بكفره به.
كما حدثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة قوله:{أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ} : بكُفْرِه.
وقوله: {أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} . يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: أفأنت تنقد يا محمدُ مَن هو في النارِ؛ مَن حقَّ عليه كلمةُ العذابِ، فأنت تُنقِذُه. فاستغنى بقوله:{تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} عن هذا.
وكان بعض نحويِّي الكوفة يقولُ: هذا مما يراد به استفهام واحد، فيَسبِقُ الاستفهام إلى غير موضعه، فيُرَدُّ الاستفهام إلى موضعه الذي هو له. وإنما المعنى، والله أعلم، أفأنت تنقذُ مَن في النارِ؛ مَن حقَّتْ عليه كلمة العذاب. قال: ومثله من غير الاستفهام: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ} [المؤمنون: 35] فردد {أَنَّكُمْ} مرتين. والمعنى، والله أعلم، أبعدكم أنكم مُخرجون إذا مِتُّم، ومثله قوله:{لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ} [آل عمران: 188].
وكان بعضُهم يستخطيء القول الذي حكيناه عن البصريين، ويقولُ: لا تكون {من} في قوله {أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النَّارِ} كناية عمَّن تقدَّم، لا يقال:
القومُ ضربتُ مَن قام. يقولُ: المعنى التقرير
(1)
: أفأنت تُنقذ من في النار منهم. وإنما معنى الكلمة: أفأنت تَهْدِى يا محمد من قد سبق له في علم الله أنه من أهل النار إلى الإيمانِ، فتُنْقِذَه من النار بالإيمانِ؟ لستَ على ذلك بقادرٍ.
وقوله: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ} . يقول تعالى ذكره: لكن الذين اتَّقَوا ربَّهم بأداء فرائضه واجتناب محارمه، لهم في الجنة غُرفٌ من فوقها غرف مبنيةٌ، عَلاليَّ بعضُها فوق بعض، {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}. يقول تعالى ذكره: تَجرى من تحت أشجارها
(2)
؛ جَنَّاتِها الأنهار.
وقوله: {وَعْدَ اللَّهِ} . يقولُ جلَّ ثناؤه: وعَدْنا هذه الغُرَفَ التي من فوقها غرفٌ مبنية في الجنة، هؤلاء المتقين، {لا يُخلِفُ اللهُ الْمِيعَادَ}. يقول جل ثناؤه: والله لا يُخلفهم وعده، ولكنه يُوفي بوعده.
القولُ في تأويل قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21)} .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {أَلَمْ تَرَ} يا محمد، {أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} وهو المطرُ، {فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ}. يقولُ: فأجراه عيونا في الأرضِ، واحدُها يَنبوعٌ، وهو ما جاشَ
(3)
مِن الأرض.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
(1)
في النسخ: "التجرية"، ولعله تصحيف. ينظر تفسير القرطبي 15/ 244، 245، والبحر المحيط 7/ 421.
(2)
في م: "أشجار"، ولعل:"جناتها" بدلا من: "أشجارها".
(3)
جاش الماء: تَدَفَّق وجرى. الوسيط (ج ى ش).
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يمانٍ، عن سفيان، عن جابر، عن الشعبي في قوله:{فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ} . قال: كل [ندًى وماءٍ]
(1)
في الأرض من السماءِ نزل
(2)
.
قال: ثنا ابن يَمانٍ، عن سفيان، عن جابر، عن الحسنِ بن مسلم بن يَنَّاقَ
(3)
.
قال: ثم يُنبت
(4)
بذلك الماء الذي أنزله من السماء، فجعله في الأرض عُيُونًا - {زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ}. يعنى: أنواعًا مختلفة؛ مين بين حنطة وشعير وسمسم وأُرز، ونحو ذلك من الأنواع المختلفة، {ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا}. يقولُ: ثم يَيْبَسُ ذلك الزرعُ مِن بعدِ خُضْرتِه، يقالُ للأرضِ إذا يَبِس ما فيها مِن الخَضِرِ وذَوَى
(5)
: هاجت الأرضُ. و: هاج الزرعُ.
وقوله: {فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا} . يقول: فتراه من بعدِ خُضْرته ورطوبته قد يبس فصار أصفر، وكذلك الزرعُ إذا يبس اصفر، {ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا} ، والحطام: فتاتُ التِّبْنِ والحشيش، يقولُ: ثم يجعل ذلك الزرع بعد ما صار يبَسًا فُتاتًا مُتكسِّرًا.
(1)
في ص: "ند وماء"، وفي ت 1:"بذر ماء"، وفى كتاب العظمة:"بذر وماء"، وفي ت 2، ت 3:"بدو ماء".
(2)
أخرجه أبو الشيخ في العظمة (738) من طريق ابن يمان به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 325 إلى الخرائطي في مكارم الأخلاق.
(3)
في م، ت 2 ت 3:"بيان"، وينظر تهذيب الكمال 6/ 325، ولعل هنا سقطت تكملة الأثر.
(4)
في م: "أنبت".
(5)
في ت 1، ت 2، ت 3:"ذرى"، وذرى: طار في الهواء وتفرق. وأما: "ذوى": يبس وضعف. ينظر الوسيط (ذرى، ذوى).
وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} . يقول تعالى ذكره: إن في فعل الله ذلك - كالذي وصف - لتذكرةً وموعظةً لأهل العقول والحجا، يتذكرون به، فيعلمون أن من فعل ذلك فلن يتعذر عليه إحداث ما شاء من الأشياء، وإنشاء ما أرادَ مِن الأجسام والأغراض، وإحياءُ مَن هلَك مِن خلقه مِن بعد مماته، وإعادته من بعدِ فَنائِه كهيئته قبلَ فَنائِه، كالذى فعل بالأرض التي أنزل عليها من بعد موتها الماءَ، فأنبت بها الزرع المختلف الألوانِ بقدرته.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22)} .
يقول تعالى ذكره: أفمَن فَسَح الله قلبه لمعرفته والإقرار بوحدانيته والإذعان لربوبيته والخضوع لطاعتِه، {فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ}. يقولُ: فهو على بصيرة مما هو عليه ويقين؛ بتنوير الحقِّ في قلبه، فهو لذلك لأمرِ اللهِ مُتَّبعٌ، وعما نهاه عنه مُنْتَهٍ، فيما يُرْضِيه - كمَن أقسى الله قلبه وأخْلَاه مِن ذكرِه وضيَّقَه عن استماع الحقِّ واتباع الهُدى والعمل بالصوابِ. وترك ذكر الذي أقسى الله قلبه، وجوابَ الاستفهام، اجتزاءً بمعرفة السامعين المراد من الكلام، إذ ذكر أحد الصنفين، وجعَل مكانَ ذكرِ الصنف الآخرِ الخبر عنه، بقوله:{فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله:{أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} : يعني كتابَ اللهِ، هو المؤمِنُ، به يأخُذُ،
وإليه ينتهي
(1)
.
حدثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السُّديِّ قولَه:{أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} . قال: وسَع صدره للإسلام، والنورُ الهُدَى
(1)
.
حُدِّثْتُ عن ابن أبي زائدة، عن ابن جُرَيجٍ، عن مجاهد:{أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} . قال: ليس المنشرحُ صدرُه مثل القاسى قلبه
(2)
.
قوله: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} . يقول تعالى ذكره: فويلٌ للذين جفت قلوبهم ونَأَتُ عن ذكر الله وأعرضَت، يعني عن القرآن الذي أنزله تعالى ذكرُه، مُذكِّرًا به عبادَه - فلم يؤمن به، ولم يُصدِّق بما فيه. وقيل:{مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} . والمعنى: عن ذكرِ اللهِ، فوُضِعت "مِن" مكانَ "عن"، كما يقالُ في الكلام: اتَّخَمْتُ مِن طعام أكلتُه، و: عن طعامٍ أكلته. بمعنى واحدٍ.
وقوله: {أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} . يقول تعالى ذكره: هؤلاء القاسية قلوبهم من ذكر الله في ضلال مبين، لمن تأمله وتدبره بفهم، أنه ضلال عن الحق جائز.
يقول تعالى ذكرُه: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا} . يعني به القرآنَ، {مُتَشَابِهًا}. يقولُ: يُشبهُ بعضه بعضا، لا اختلاف فيه ولا تضاد.
(1)
تقدم تخريجه 9/ 535، 536.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 325 إلى المصنف وابن المنذر.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله:{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} : الآية تُشبه الآية، والحرفُ يُشبه الحرف
(1)
.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباط، عن السُّديِّ:{كِتَابًا مُتَشَابِهًا} . قال: المتشابهُ يُشبهُ بعضُه بعضًا.
حدثنا ابن حُمَيدٍ، قال: ثنا جرير، عن يعقوب، عن جعفر، عن سعيد بن جبيرٍ في قوله:{كِتَابًا مُتَشَابِهًا} . قال: يُشبهُ بعضه بعضا، ويُصَدِّقُ بعضه بعضا، ويدلّ بعضُه على بعضٍ
(2)
.
وقوله: {مَثَانِيَ} . يقولُ: تُثْنَى فيه الأنباء والأخبار والقضاء والأحكام والحُجَجُ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن عُلَيَّةَ، عن أبي رجاء، عن الحسن في قوله:{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} . قال: ثنَّى الله فيه القضاء، تكونُ السورةُ فيها الآية في سورة أخرى آيةٌ تُشْبهها
(3)
. وسُئِل عنها عكرمة
(4)
.
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 172 عن معمر عن قتادة.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 325 إلى المصنف وابن المنذر.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 325 إلى المصنف وعبد بن حميد. وينظر ما تقدم في 14/ 118.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 325 إلى عبد بن حميد عن أبي رجاء.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عيسى، وحدثني الحارثُ، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهد قوله:{كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} . قال: في القرآن كله
(1)
.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة:{مَثَانِيَ} . قال: ثنَّى الله فيه الفرائضَ والقضاء والحدودَ
(2)
.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قوله:{مَثَانِيَ} . قال: كتابُ اللهِ مَثانى، ثنَّى فيه الأمرَ مِرارًا
(3)
.
حدثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط،، عن السُّديِّ في قوله:{مَثَانِيَ} . قال: كتابُ اللهِ مَثانى، ثنّى فيه الأمر مرارًا.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السُّديِّ في قوله:{مَثَانِيَ} : ثَنَّى في غير مكانٍ.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيدٍ في قوله: {مَثَانِيَ} : مُرَدَّدٌ؛ رُدِّد موسى في القرآن وصالحٌ وهود والأنبياء في أمكنةٍ كثيرةٍ
(4)
.
وقوله: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} . يقول تعالى ذكره: تقشعر من سماعه إذا تُلِي عليهم، جلود الذين يخافُون ربَّهم، {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ
(1)
تقدم تخريجه في 14/ 120، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 325 إلى المصنف وعبد بن حميد.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 172 عن معمر عن قتادة به.
(3)
تقدم تخريجه 14/ 120، 121، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 325 إلى المصنف وابن مردويه.
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 84.
وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}. يعنى إلى العمل بما في كتاب الله والتصديق به.
وذكر أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل أن أصحابه سألوه الحديث.
ذكرُ الرواية بذلك
حدثنا نصرُ بنُ عبدِ الرحمنِ الأَوْدِيُّ، قال: ثنا حَكَّامُ بنُ سَلْمٍ، عَن أَيُّوبَ بِنِ موسى، عن عمرو الملائي
(1)
، عن ابن عباس، قالوا: يا رسول الله لو حدثتنا؟ قال: فنزلت: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ}
(2)
.
حدثنا ابن حُمَيدٍ، قال: ثنا حكّام، عن أيوب بن سيَّارٍ أبي عبدِ الرحمنِ، عن عمرو بن قيس، قال: قالوا: يا نبي الله. فذكر مثله.
{ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ} . يقول تعالى ذكره: هذا الذي يصيب هؤلاء القوم الذين وصفت صفتهم عند سماعهم القرآنَ؛ مِن اقشعرارِ جلودهم، ثم لينها ولين قلوبهم إلى ذكرِ اللهِ مِن بعدِ ذلك - {هُدَى اللهِ}. يعني: توفيق الله إيَّاهم، وفَّقهم له، {يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ}. يقولُ: يَهْدِى تبارك وتعالى بالقرآنِ مَن يَشَاءُ مِن عباده.
وقد يتوجه معنى قوله: {ذَلِكَ هُدَى} الله إلى أن يكونَ {ذَلِكَ} مِن ذكرِ القرآن، فيكون معنى الكلام: هذا القرآن بيانُ اللهِ يَهْدِى بِه مَن يَشَاءُ؛ يوفِّقُ للإيمان به مَن يشاءُ.
وقوله: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} . يقول تعالى ذكره: ومَن يَخْذُلْه
(1)
في م: "الملئى". وينظر تهذيب الكمال 22/ 200.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 325 إلى المصنف.
الله عن الإيمان بهذا القرآن والتصديق بما فيه، فيُضِلَّه عنه - {فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}. يقولُ: فما له من مُوفِّقٍ له، ومسدِّدٍ يُسَدِّدُه في اتِّباعه.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25)} .
اختلف أهل التأويل في صفة اتِّقاء هذا الضالِّ بوجهه سُوء العذابِ؛ فقال بعضُهم: هو أن يُرْمَى به في جهنم مَكْبوبًا على وجهه، فذلك اتِّقاؤُه إيَّاه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثني محمد بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قوله:{أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ} . قال: يَخِرُّ على وَجْهه في النار، يقول: هو مِثْلُ: {أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ}
(1)
[فصلت: 40].
وقال آخرون: هو أن يُنْطَلَقَ به إلى النارِ مكتوفًا، ثم يُرْمَى به فيها، فأَوَّلُ ما تَمَسُّ النار وجهه. وهذا قولٌ يُذكرُ عن ابن عباس من وجه كرهت ذكره؛ لضعف سَنَدِه
(2)
، وهذا أيضًا مما تُرِك جوابه، استغناءً بدلالة ما ذُكر من الكلام عليه عنه. ومعنى الكلام: أفمَن يَتَّقِي بوجهه سُوء العذاب يومَ القيامة خيرٌ، أم مَن ينعَمُ في الجنانِ؟
وقوله: {وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} . يقولُ: ويقالُ
(1)
تفسير مجاهد ص 578، ومن طريقه الفريابي - كما في التغليق 4/ 297، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 326 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 326 إلى المصنف.
يومئذ للظالمين أنفسهم بإكسابهم
(1)
إيَّاها سَخَطَ اللهِ: ذُوقوا اليومَ أَيُّها القومُ وَبالَ ما كنتم في الدنيا تكسبون من معاصى الله.
وقوله: {كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} . يقول تعالى ذكره: كذَّب الذين من قبلِ هؤلاء المشركين من قريش، من الأمم الذين مَضَوا في الدهورِ الخالية - رُسُلَهم، {فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ}. يقولُ: فجاءهم عذابُ اللهِ مِن الموضع الذي لا يشعُرون؛ أي لا يعلمون بمجيئه منه.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26)} .
يقول تعالى ذكره: فعجل الله لهؤلاء الأمم الذين كذَّبوا رُسُلَهم الهوانَ في الدنيا والعذاب قبل الآخرة، ولم يُنْظِرْهم إذ عَتَوا عن أمرِ ربِّهم، {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ}. يقولُ: ولعذابُ اللهِ إيَّاهم في الآخرة إذا أدخلهم النار، فعذَّبهم بها - أكبرُ من العذابِ الذي عذَّبهم به في الدنيا، {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}. يقولُ: لو علم هؤلاء المشركون من قريشٍ ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28)} .
يقول تعالى ذكره: ولقد مَثَّلنا لهؤلاء المشركين باللهِ مِن كُلَّ مَثَلٍ مِن أمثالِ القُرون
(2)
الخالية؛ تخويفًا مِنَّا لهم وتحذيرًا، {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}. يقولُ: ليتذكروا فيَنْزَجروا عما هم عليه مُقيمون من الكفر بالله.
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"باكتسابهم".
(2)
بعده في ص، م:"للأمم"، وفي ت 1:"والأمم".
وقوله: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} . يقول تعالى ذكره: ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كلِّ مثلٍ قرآنًا عربيًا، {غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} . يعنى
(1)
: ذى لَبْسٍ.
كما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهدٍ:{قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} : غيرَ ذِي لَبْسٍ
(2)
.
ونُصِب قوله: {قُرْآنًا} على الحال من قوله
(3)
: {هَذَا الْقُرْآنِ} ؛ لأن القرآن معرفةٌ، وقوله:{قُرْآنًا عَرَبِيًّا} نكرة.
وقوله: {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} . يقولُ: جعلنا قرآنا عربيا، إذ كانوا عَرَبًا، ليفهموا ما فيه من المواعظ، حتى يَتَّقوا ما حَذَّرهم الله فيه من بأسه وسَطوتِه، فيُنيبوا إلى عبادته، وإفرادِ الألوهة له، ويَتَبرَّءُوا مِن الأَنْدادِ والآلهة.
القول في تأويل قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا
(4)
لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29)}.
يقول تعالى ذكره: مَثَّل الله مثلا للكافر بالله، الذي يعبدُ آلهةً شَتَّى، ويطيعُ جماعة من الشياطين، والمؤمن الذي لا يعبد إلا الله الواحد. يقول تعالى ذكره:{ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا} لهذا الكافر، {رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ}. يقولُ: هو بين جماعةٍ مالكين متشاكسين، يعنى مختلفين متنازعين، سيئةً أخلاقهم، من قولهم: رجلٌ شَكِسٌ. إذا كان سيِّئ الخُلُق، وكل واحد منهم يستخدمه بقدر نصيبه وملكه فيه، {وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ}. يقولُ: ورجلا خُلُوصًا لرجلٍ، يعنى المؤمنَ الموحد، الذي
(1)
بعده في ص، ت 1، ت،2، ت:"ذي عوج".
(2)
تفسير مجاهد ص 578 ومن طريقه الفريابي - كما في التغلق 4/ 297، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 326 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"قولهم".
(4)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"سالما"، وهي قراءة كما سيأتي.
أخلص عبادته لله لا يعبد غيره، ولا يدين لشيءٍ سواه بالربوبية.
واختلفت القرأة في قراءة قوله: {وَرَجُلًا سَلَمًا} ؛ فقرأ ذلك بعضُ قرأةِ أهل مكة والبصرة: (ورَجُلًا سالمًا لرجلٍ)
(1)
، وتأوَّلوه بمعنى: رجلا خالصا لرجلٍ. وقد روى ذلك أيضًا عن ابن عباس.
حدثنا أحمد بن يوسفَ، قال: ثنا القاسم، قال: ثنا حجاج، عن هارون، عن جرير بن حازم، عن حميد، عن مجاهد، عن ابن عباس، أنه قرأها:(سالمًا لرَجُل). يعني بالألف، وقال: ليس فيه لأحد شيءٌ
(2)
.
وقرأ ذلك عامة قرأة المدينة والكوفة: {وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ}
(3)
بمعنى: صُلْحًا.
والصوابُ مِن القولِ في ذلك عندنا أنهما قراءتان معروفتان، قد قرأ بكل واحدة منهما علماءُ من القرأَةِ، مُتقاربتا المعنى، فبأيَّتِهما قرأ القارئُ فهو مصيبٌ، وذلك أن السَّلَمَ مصدرٌ، مِن قول القائل: سَلِمَ فلانٌ للهِ سَلَمًا. بمعنى: خَلَص له خُلُوصًا. تقولُ العرب: ربح فلانٌ في تجارته رِبْحًا ورَبَحًا. وسَلِمَ سِلْمًا وسَلَمًا وسلامةً، وأن السالم من صفة الرجل، وسَلَمٌ مصدرٌ من ذلك. وأما الذي توهَّمه مَن رغب عن قراءة ذلك {سَلَمًا} من أن معناه صُلحًا، فلا وجه للصُّلح في هذا الموضع؛ لأن الذي تقدم من صفة الآخرِ، إنما تقدَّم بالخبر عن اشتراك جماعةٍ فيه دونَ الخبر عن حربه بشيءٍ مِن الأشياء، فالواجب أن يكون الخبرُ عن مخالفه بخلوصه لواحد لا شريك له، ولا موضع للخبر عن الحرب والصُّلْحِ
(1)
هي قراءة ابن كثير وأبى عمرو. ينظر السبعة ص 562، والتيسير ص 135.
(2)
أخرجه الفراء في معاني القرآن 2/ 419 من طريق إبراهيم التيمي عن ابن عباس، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 327 إلى ابن أبي حاتم.
(3)
هي قراءة نافع وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي. ينظر السبعة ص 562. والتيسير ص 135.
في هذا الموضعِ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثني محمدُ بنُ عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:(رجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشَاكِسونَ ورَجُلًا سالمًا لرجل). قال: هذا مَثَلُ إلهِ الباطل وإله الحق
(1)
.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله:{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ} . قال: هذا المُشْرِكُ تتنازعه الشياطين، لا يُقر به بعضُهم لبعضٍ، (ورَجُلًا سالمًا لرَجُلٍ). قال: هو المؤمنُ، أخلَص الدعوة لله والعبادة
(2)
.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ} إِلى قوله: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} . قال: الشركاء المتشاكسون: الرجلُ الذي يعبد آلهةٌ شَتَّى، كلُّ قوم يعبدون إلها يرضونه، ويكفرون بما سواه من الآلهة، فضرب الله هذا المثل لهم، وضرب لنفسه مثلا، يقول. رجُلٌ سَلَمٌ لرجل
(3)
. يقولُ: يعبدون إلها واحدًا لا يختلفون فيه
(4)
.
(1)
تفسير مجاهد ص 579 ومن طريقه الفريابي - كما في التغليق 4/ 298، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 327 إلى عبد بن حميد.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 172 عن معمر عن قتادة بنحوه، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 327 إلى عبد بن حميد.
(3)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"رجلا".
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 327 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط،، عن السُّديِّ في قوله:{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ} . قال: مَثَلٌ لأوثانهم التي كانوا يعبدون
(1)
.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيد في قوله: (ضَرَبَ اللهُ مثَلًا رَجُلًا فيهِ شُرَكاءُ متشاكِسُونَ ورَجُلًا سالما لرَجُلٍ). قال: أرأيتَ الرجل الذي فيه شركاءُ مُتشاكسون، كلهم سيء الخُلُقِ، ليس منهم واحدٌ [يَلْقاه إلَّا أخذ بطَرَفٍ مِن مال - إلَّا استخدمه - أسَواءٌ هم]
(2)
والذي لا يملكه إلا واحدٌ؟ فإنما هذا مَثَلٌ ضرَبه الله لهؤلاء الذين يعبدون الآلهة، وجعلوا لها في أعناقهم حقوقا، فضربه الله مثلا لهم، وللذى يعبُدُه وحدَه، {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}. وفى قوله:(ورَجُلًا سالما لرَجُلٍ). يقولُ: ليس معه شِرْكٌ
(3)
.
وقوله: {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا} . يقول تعالى ذكره: هل يَستوي مَثَلُ هذا الذي يخدِمُ جماعةً شركاء سيئةً أخلاقهم مختلفةً فيه لخدمته، مع مُنازعته شركاءه فيه، والذي يخدِمُ واحدًا لا ينازعه فيه مُنازعٌ، إذا أطاعه عرف له موضعَ طاعته وأكرمه، وإذا أخطأ صفح له عن خَطَئِه. يقولُ: فأيُّ هذين أحسن حالًا، وأروح جسمًا، وأقلُّ تَعَبًا ونَصَبًا.
كما حدثني محمد بن سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:{هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} . يقولُ: مَن اختلف فيه خيرٌ، أم من لم يُخْتلَف فيه؟
(1)
ذكره الطوسي في التبيان 9/ 25.
(2)
في م: "إلا تلقاه آخذا بطرف من مال لاستخدامه أسواؤهم".
(3)
ذكره الطوسى في التبيان 9/ 25 بنحوه مختصرا.
وقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} . يقولُ: الشكر الكامل، والحمد التام لله وحده، دون كل معبود سواه.
وقوله: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} . يقول جل ثناؤه: وما يَستوى هذا المُشْتَرَكُ فيه، والذي هو منفردٌ مِلْكُه لواحدٍ، بل أكثر هؤلاء المشركين بالله لا يعلمون أنهما لا يستويان، فهم بجهلهم بذلك يعبدون آلهة شتَّى مِن دونِ الله. وقيل:{هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا} . ولم يُقَلْ: مَثَلين. لأنهما كليهما ضُرِبا مثلا واحدًا، فجرَى المَثَلُ فيهما بالتوحيد، كما قال جل ثناؤه:{وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آَيَةً} [المؤمنون: 50] إذ كان معناهما واحدا في الآية. والله أعلم.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32)}
يقول تعالى ذكره لنبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم: إنك يا محمد ميت عن قليل، وإن هؤلاء المُكَذِّبيكَ مِن قومك والمؤمنين منهم ميتون،
{ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} . يقولُ: ثم إن جميعكم؛ المؤمنين والكافرين يوم القيامة عند ربكم تختصمون، فيأخذ للمظلوم منكم من الظالم، ويَفْصِلُ بين جميعكم بالحق.
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛ فقال بعضُهم: عُنى به اختصام المؤمنين والكافرين، واختصام المظلوم به
(1)
والظالم.
(1)
سقط من: م.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عباس في قوله:{ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} . يقولُ: يُخاصِمُ الصادقُ الكاذب، والمظلوم الظالم، والمهتدى الضال، والضعيفُ المستكبر
(1)
.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} . قال: أهل الإسلام وأهل الكفر
(2)
.
حدثنا ابن البَرْقيِّ، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: ثنا ابن الدَّراوَرْدِيِّ، قال: ثنى محمد بن عمرو، عن يحيى بن عبدِ الرحمن بن حاطب، عن عبدِ اللهِ بن الزبير، قال: لما نزلت هذه الآية: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} . قال الزبير: يا رسولَ اللهِ، أَيُكَرَّرُ
(3)
علينا ما كان بيننا في الدنيا مع خواصِّ الذنوبِ؟ فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "نَعَمْ، حتى يُؤدَّى إلى كلِّ ذِي حَقٌّ حقُّه"
(4)
.
وقال آخرون: بل عُنِي بذلك اختصام أهل الإسلام.
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 88 عن علي بن أبي طلحة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 328 إلى المصنف.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 89.
(3)
في م: "أينكر"، وفى ت 3:"أنكر"، وفي ت 1، ت 2، ص:"ابكر" غير منقوطة، والمثبت من مصادر التخريج.
(4)
أخرجه أبو نعيم في الحلية 1/ 91 من طريق الدراوردى به، وأخرجه الحميدى (60)، وأحمد (1405، 1434)، والترمذى (3236)، والبزار (964، 965)، وأبو يعلى (668)، وابن أبي حاتم - كما في تفسير ابن كثير 7/ 87 - والطبرانى في الكبير قطعة من الجزء (13)(303)، وأبو نعيم في الحلية 1/ 337، والحاكم 2/ 435 وغيرهم من طريق محمد بن عمرو به.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا يعقوب، عن جعفرٍ، عن سعيد، عن ابن عمر، قال: نزلت علينا هذه الآية وما ندرى ما تفسيرها، حتى وقعت الفتنةُ، فقلنا: هذا الذي وَعَدَنا ربُّنا أن نخْتَصِمَ فيه: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ}
(1)
.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَيَّةَ، قال: ثنا ابن عون، عن إبراهيم، قال: لما نزلت: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ} الآية، قالوا: ما خُصومتنا بينَنا [ونحن إخوان]
(2)
؟ قال: فلما قُتِل عثمان بن عفان، قالوا: هذه خصومتنا بيننا
(3)
.
حُدِّثْتُ عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية في قوله:{ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} . قال: هُم أهل القبلة
(4)
.
وأَولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: عُنى بذلك: إنك يا محمد ستموتُ، وإنكم أيُّها الناسُ ستموتون، ثم إن جميعكم أيُّها الناسُ تَخْتَصِمون عندَ ربِّكم؛ مؤمنكم وكافرُكم، ومُحِقُّوكم ومُبْطِلُوكم، وظالموكم ومظلوموكم،
(1)
أخرجه النسائي في الكبرى (11447)، وابن أبي حاتم - كما في تفسير ابن كثير 7/ 89 - وأبو عمرو الداني في السنن الواردة في الفتن (18) من طريق يعقوب به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 327 إلى عبد بن حميد وابن مردويه.
(2)
في ص، ت 1:"وبين إخوان"، وفي ت 2، ت 3:"وبين إخواننا".
(3)
تفسير عبد الرزاق 2/ 172 - ومن طريقه ابن عساكر في تاريخ دمشق (ترجمة عثمان بن عفان ص 502 - من طريق إسماعيل بن عبد الله بن الحارث عن ابن عون، به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 327 إلى عبد بن حميد.
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 89.
حتى يؤخذ لكلِّ [من كلٍّ منكم]
(1)
ممن لصاحبِه قِبَلَه حَقٌّ - حقُّه.
وإنما قلنا هذا القول أولى بالصواب؛ لأن الله عمَّ بقوله: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} خطابَ جميعِ عباده، فلم يَخْصُصْ بذلك منهم بعضًا دونَ بعضٍ، فذلك على عمومه على ما عَمَّه الله به، وقد تنزلُ الآية في معنًى، ثم يكون داخلًا في حكمها كلُّ ما كان في حكم
(2)
معنى ما
(3)
نزلت به.
وقوله: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ} يقول تعالى ذكره: فمَن مِن خلق الله أعظمُ فِرْيَةً ممن كذب على الله، فادَّعَى أن له ولدا وصاحبة، أو أنه حرَّم ما لم يُحَرَّمه من المطاعم، {وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ} يقول: وكذب بكتاب الله إذ أنزله على محمد، وابتعثه الله به رسولا، وأنكر قول لا إله إلا الله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة:{وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ} . أي: بالقرآن
(4)
.
وقوله: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} . يقولُ تبارك وتعالى: أليس في النار مأوى ومسكنٌ لمن كفر باللهِ، وامتنع من تصديق محمد صلى الله عليه وسلم، واتباعه على
(1)
في م، ت 1:"منكم"، وفي ت 2:"منكم من كل"، وفى ت 3:"منكم من كل لما".
(2)
سقط من: ص، م، ت 2، ت 3.
(3)
في ت 2، ت 3:"بما".
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 328 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن أبي حاتم.
ما يَدعوه إليه، مما أتاه به مِن عندِ الله من التوحيد، وحكم القرآن.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34)}
اختلف أهل التأويل في الذي جاء بالصدقِ وصدق به، وما ذلك؟ فقال بعضُهم: الذي جاء بالصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: والصدق الذي جاء به: لا إله اللَّهِ إلا الله، والذي صدق به أيضًا، هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:{وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ} . يقولُ: مَن جاء بـ "لا إله إلا الله"، {وَصَدَّقَ بِهِ} . يعني رسوله
(1)
.
وقال آخرون: الذي جاء بالصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي صدق به أبو بكر اللَّهِ رضي الله عنه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثني أحمد بن منصورٍ، قال: ثنا أحمدُ بنُ مُصعبٍ
(2)
المَرْوَزِيُّ، قال: ثنا عمر بن إبراهيم بن خالد، عن عبد الملكِ بن عُمَيرٍ، عن أَسِيدِ بن صفوان، عن
(3)
علي رضي الله عنه في قوله: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ} . قال: محمد صلى الله عليه وسلم،
(1)
أخرجه البيهقى في الأسماء والصفات (206) من طريق أبي صالح به مطولا، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 328 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم، وابن مردويه.
(2)
في م: "مصعد". وينظر تهذيب الكمال 1/ 491، والثقات 8/ 37، ولسان الميزان 1/ 311.
(3)
في م، ت 2:"على".
{وَصَدَّقَ بِهِ} . قال: أبو بكر رضي الله عنه
(1)
.
وقال آخرون: الذي جاء بالصدق: رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصدقُ القرآن، والمُصَدِّقون به المؤمنون.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة:{وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ} . قال: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء بالقرآن، وصدَّق به المؤمنون
(2)
.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ} : رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وصدَّق به المسلمون
(3)
.
وقال آخرون: الذي جاء بالصدقِ جبريلُ، والصدقُ: القرآنُ الذي جاء به من عند الله، وصدق به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السدي في قوله:{وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} : محمد صلى الله عليه وسلم
(4)
.
وقال آخرون: الذي جاء بالصدقِ المؤمنون، والصدقُ القرآنُ، وهم المصدِّقون به.
(1)
أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق 30/ 440 من طريق أحمد بن منصور به، وفي 30/ 438 من طريق عمر بن إبراهيم به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 328 إلى الباوردي في معرفة الصحابة.
(2)
تفسير عبد الرزاق 2/ 172 عن معمر عن قتادة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 328 إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم.
(3)
ذكره القرطبي في تفسيره 15/ 256، وابن كثير في تفسيره 7/ 90.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 328 إلى المصنف، وابن أبي حاتم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد قوله:{وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} . قال: الذين يجيئون بالقرآن يوم القيامة، فيقولون: هذا الذي أعطيتُمونا، فاتَّبَعْنا ما فيه
(1)
.
قال: ثنا حكامٌ، عن عمرو، عن منصور، عن مجاهدٍ {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ}. قال: هم أهل القرآن، يجيئون به يوم القيامة يقولون: هذا الذي أعطيتُمونا، فاتَّبَعْنا ما فيه.
والصوابُ مِن القولِ في ذلك أن يقال: إن الله تعالى ذكره عنى بقوله: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} . كلَّ مَن دَعا إلى توحيدِ اللَّهِ، وتصديق رسوله، والعمل بما ابتعث به رسوله؛ من بين رسول
(2)
الله وأتباعه والمؤمنين به، وأن يقال: الصدقُ هو القرآنُ، وشهادة أن لا إله إلا الله، والمُصَدِّقُ به المؤمنون بالقرآنِ، مِن جميع خلق الله كائنا من كان من نبي الله وأتباعه.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب؛ لأن قوله تعالى ذكرُه: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} عَقِيبَ قوله: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ} ، وذلك ذمّ مِن اللَّهِ المُفْتَرِين عليه، المُكذَّبين بتنزيله ووَحْيِه، الجاحدين وحدانيته، فالواجب أن يكون عقيب ذلك مدحُ مَن كان بخلافِ صفة هؤلاء
(1)
أخرجه ابن الضريس في فضائل القرآن (104) من طريق جرير به، وابن المبارك في الزهد (805)، وابن عيينة في تفسيره - كما في تغليق التعليق 4/ 298 - وعبد الرزاق في تفسيره 2/ 173، وأبو نعيم في الحلية 3/ 281 من طريق منصور به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 328 إلى سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
في ت 2، ت 3:"رسل".
المذمومين، وهم الذين دَعوهم إلى توحيدِ اللهِ، ووصفه بالصفة التي هو بها، وتصديقهم بتنزيلِ اللهِ ووَحْيِه، والذين هم كانوا كذلك يوم نزلت هذه الآيةُ؛ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومن بعدهم، القائمون في كل عصر وزمان بالدعاء إلى توحيد الله، وحكم كتابه؛ لأن الله تعالى ذكره، لم يَخُصَّ وصفه بهذه الصفة التي في هذه الآية، على أشخاصٍ بعينهم
(1)
، ولا على أهل زمانٍ دون غيرهم، وإنما وصفهم بصفة، ثم مدحهم بها، وهى المجيء بالصدق والتصديق به، فكلُّ مَن كان ذلك وصفه، فهو داخلٌ في جملة هذه الآية، إذا كان من بنى آدم.
ومن الدليل على صحة ما قلنا، أن ذلك كذلك في قراءة ابن مسعود: (وَالَّذِى
(2)
جاءُوا بالصِّدْقِ وصدَّقُوا به)
(3)
، فقد بُيِّن ذلك من قراءته، أن "الذي" من قوله:{وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ} لم يُعْنَ بها واحد بعينه، وأنه مراد بها جماع، ذلك صفتهم، ولكنها أُخرجت بلفظ الواحد، إذ لم تَكُنْ موقتة
(4)
، وقد زعم بعضُ أهل العربية من البصريين، أن (الذي) في هذا الموضع، جُعِل في معنى جماعة، بمنزلة "من"، ومما يؤيدُ ما قلنا أيضًا قوله:{أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} فَجُعِل الخبرُ عن "الذي" جماعًا؛ لأنها في معنى جماع، وأما الذين قالوا: عُنِي بقوله: {وَصَدَّقَ بِهِ} . غيرُ "الذي جاء بالصدقِ"، فقول بعيد من المفهوم؛ لأن ذلك لو كان كما قالوا، لكان التنزيل: والذي جاء بالصدقِ، والذي صدق به، أولئك هم المُتَّقُون، فكانت تكونُ "الذي" مكررةً مع التصديق، ليكونَ المصدَّقُ غيرَ
(1)
في ص، م، ت 1:"بأعيانهم".
(2)
في ص، م، ت 1، ت 3:"والذين".
(3)
ينظر البحر المحيط 7/ 428، وقد ورد القراءة في مختصر الشواذ ص 132:"والذي جاء"، وفى البغوي 7/ 120:"والذين جاءوا".
(4)
أي محددة. ينظر تاج العروس (و ق ت).
المصدِّقِ، فأما إذا لم يُكَرَّر، فإن المفهوم من الكلام، أن التصديق من صفة الذي جاء بالصدقِ لا وجه للكلام غيرُ ذلك
(1)
.
وإذا كان ذلك كذلك، وكانت "الذي" في معنى الجماعِ، بما قد بَيَّنَّا، كان الصواب من القول في تأويله ما بَيَّنَّا.
وقوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} . يقول جل ثناؤه: هؤلاء الذين هذه صفتهم، هم الذين اتَّقَوا الله، بتوحيده والبراءة من الأوثان والأنداد، وأداء فرائضه، واجتناب معاصيه، فخافوا عقابه.
كما حدثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:{أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} . يقولُ: اتَّقَوا الشرك
(2)
.
وقوله: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} . يقول تعالى ذكره: لهم عند ربهم يوم القيامة، ما تَشْتَهِيه أنفسهم، وتَلَذَّه أعينهم، {ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ}. يقولُ تعالى ذكره: هذا الذي لهم عند ربهم، جزاء من أحسن في الدنيا، فأطاع الله فيها، وائْتَمَر لأمره، وانتهى عما نهاه فيها عنه.
القول في تأويل قوله تعالى: {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35)} .
يقول تعالى ذكره: وجَزَى هؤلاء المحسنين ربُّهم بإحسانهم، كى يكفِّرَ عنهم أسوأ الذي عملوا في الدنيا من الأعمال، فيما بينهم وبين ربهم، بما كان منهم فيها من توبةٍ، وإنابةٍ مما اجترحوا من السيئات فيها:{وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ} . يقول:
(1)
ينظر معاني القرآن 2/ 419، والبحر المحيط 7/ 428.
(2)
أخرجه البيهقى في الأسماء والصفات (206) من طريق أبي صالح به، وتقدم أوله في ص 204، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 328 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.
ويُثيبهم ثوابهم، {بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} في الدنيا مما يُرْضِى الله عنهم، دون أسوئها.
كما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} : ألهم
(1)
ذنوب؟ أي ربِّ نَعَمْ: {لَهُم} فيها {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} ؛ وقرأ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} حتى بلغ: {وَمَغْفِرَةٌ} [الأنفال: 2 - 4]؛ لئلا يَيْأَسَ مَن لهم الذنوبُ ألا يكونوا منهم، {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}. وقرأ:{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} [الأحزاب: 35] إلى آخر الآية.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (37)} .
اختلفت القرأة في قراءةِ قوله: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} ؛ فقرأ ذلك بعضُ قرأةِ المدينة وعامة قرأة الكوفة: (أليس الله بكافٍ عبادَه) على الجماع
(2)
، بمعنى: أليس الله بكافٍ محمدًا وأنبياءه من قبله ما خوَّفَتْهم أممهم، من أن تنالهم آلهتهم بسُوءٍ.
وقرأ ذلك عامةُ قرأة المدينة والبصرة، وبعضُ قرأة الكوفة:{بِكَافٍ عَبْدَهُ} . على التوحيد، بمعنى: أليس الله بكاف عبده محمدًا.
(1)
في م: "أي ولهم".
(2)
هي قراءة أبي جعفر وحمزة والكسائي وخلف. ينظر النشر 2/ 271.
والصواب من القولِ في ذلك أنهما قراءتان مشهورتان في قرأةِ الأمصار، فبأيَّتِهما قرأ القارئُ فمصيبٌ؛ لصحة معنيَيهما، واستفاضة القراءةِ بهما في قرأةِ الأمصار.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثني محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السُّدِّيِّ:{أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} . يقول: محمدا صلى الله عليه وسلم
(1)
.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} . قال: بلى، واللَّهِ ليَكْفِينَّه الله، ويُعِزُّه وينصُرُه كما وعده
(2)
.
وقوله: {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} . يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ويُخوَّفُك هؤلاء المشركون يا محمد، بالذين مِن دونِ اللَّهِ مِن الأوثان والآلهة، أن تُصِيبَك بسُوءٍ، ببراءتك منها، وعيبك لها، والله كافيك ذلك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة:{وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} : الآلهة، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى شعبٍ بسُقَامٍ
(3)
ليكسر العُزَّى، فقال سادِنُها
(4)
، وهو قَيِّمُها: يا خالدُ، إِنِّي أُحَذِّرُكَها، إن لها
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 328 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(2)
ذكره الطوسي في التبيان 9/ 28.
(3)
سقام: واد بالحجاز. معجم ما استعجم 3/ 741.
(4)
في ت 2: "ساداتها"، وفي ت 3:"ساديها".
شدّةً لا يقومُ إليها شيء. فمشى إليها خالدٌ بالفأس، فهَشَّم أنفها
(1)
.
حدثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السُّدِّيِّ:{وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} . يقولُ: بآلهتهم التي كانوا يعبدون
(2)
.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قوله: {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} . قال: يُخوِّفونك بآلهتهم التي مِن دونِه
(2)
.
وقوله: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} . يقول تعالى ذكره: ومَن يَخْذُله الله، فيُضله عن طريق الحق وسبيل الرشد، فما له سواه مِن مُرشدٍ ومُسَدِّدٍ إلى طريق الحق، ومُوَفِّقٍ للإيمان بالله، وتصديق رسوله، والعمل بطاعته، {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ}. [يقولُ: ومَن يوفِّقه الله للإيمان به والعمل بكتابه، {فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ} ]
(3)
. يقولُ: فما له مِن مُزِيعٍ يُزِيغُه عن الحق الذي هو عليه إلى الارتداد إلى الكفرِ، {أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ}. يقولُ جلَّ ثناؤه: أليس الله يا محمد بعزيز في انتقامه مِن كَفَرة خلقه، ذى انتقام من أعدائه، الجاحدين وحدانيته.
يقول تعالى ذكره لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: ولئن سألت يا محمد هؤلاء المشركين،
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 173 عن معمر عن قتادة بنحوه، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 328 إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم.
(2)
ذكره الطوسي في التبيان 9/ 28.
(3)
سقط من: ت 2، ت 3.
العادلين بالله الأوثان والأصنام: من خلق السموات والأرضَ؟ ليقولُنَّ: الذي خلقهنَّ اللَّهُ. فإذا قالوا ذلك، فَقُلْ: أفرأيتُم أيُّها القومُ، هذا الذي تعبدون مِن دونِ اللَّهِ من الأصنام والآلهة، {إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ}. يقولُ: بشدةٍ في معيشتي، هل هنَّ كاشفاتٌ عنِّي ما يُصِيبُني به ربِّي مِن الضُّرِّ؟ {أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ}. يقول: إن أرادَني ربِّي أن يُصِيبَني سَعَةٌ في معيشتي، وكثرة مالي، ورخاءٌ وعافيةٌ في بَدَني، هل هنَّ ممسكاتٌ عنِّي ما أراد أن يُصِيبَني به من تلك الرحمة؟ وترك الجواب لاستغناء السامع بمعرفة ذلك، ودلالة ما ظهر من الكلام عليه. والمعنى: فإنهم سيقولون: لا. فقل: حسبي الله مما سواه من الأشياء كلِّها، إيَّاه أعبد، وإليه أفزَع في أموري، دونَ كلِّ شيءٍ سواه،، فإنه الكافي، وبيده الضُّرُّ والنفعُ، لا إلى الأصنام والأوثان التي لا تضُرُّ ولا تنفَعُ، {عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكَّلُونَ}. يقولُ: على الله يتوكل من هو متوكلٌ، وبه فليثق لا بغيره.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة قوله:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} حتى بلغ: {كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ} . يعنى الأصنامَ، {أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ}
(1)
.
واختلفت القرأةُ في قراءةِ: {كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ} : {مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ} ؛ [فقرأه بعضُهم]
(2)
بالإضافة، وخفض الضُّرِّ والرحمة
(3)
. وقرأه بعض قرأة المدينة
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 328 إلى المصنف وعبد بن حميد.
(2)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ت 3.
(3)
هي قراءة نافع وابن كثير وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي. التيسير ص 154.
وعامة قرأة البصرة بالتنوين، ونصبِ الضُّرِّ والرحمة
(1)
.
والصواب من القول في ذلك عندنا أنهما قِراءتان مشهورتان، متقاربتا المعنى، فبأيّتِهما قرأ القارئ فمصيبٌ، وهو نظيرُ قوله: {مُوهِنُ
(2)
كَيْدِ الكَافِرِينَ} [الأنفال: 18]. في حال الإضافة والتنوين
(3)
.
القولُ في تأويل قوله تعالى: {قُلْ يَاقَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (40)} .
يقول تعالى ذكره لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: قُلْ يا محمد لمُشْركي قومك، الذين اتَّخَذوا الأوثان والأصنام آلهةً يعبدونها من دونِ اللَّهِ: اعملوا أَيُّها القومُ على تمكُّنِكم من العمل الذي تعملون ومنازلكم.
كما حدثني محمد بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثنى الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قوله:{عَلَى مَكَانَتِكُمْ} . قال: على ناحيتكم
(4)
.
{إِنِّي عَامِلٌ} كذلك على تُؤَدَةٍ، على عمل مَن سَلَفَ مِن أنبياءِ اللَّهِ قبلي، {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} إذا جاءكم بأسُ اللَّهِ، من المُحَقُّ مِنَّا مِن المُبْطِلِ، والرشيدُ مِن الغَوِيِّ.
وقوله: {مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} . يقول تعالى ذكره: مَنْ يأتيه عَذَابٌ يُخْزِيه ما أتاه من ذلك العذاب، يعنى يُذِلُّه ويُهِينُه، {وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ
(1)
هي قراءة أبي عمرو. ينظر التيسير ص 154.
(2)
سقط من: النسخ. والمثبت من معاني القرآن.
(3)
ينظر معاني القرآن 2/ 420.
(4)
تفسير مجاهد ص 579.
مُقِيمٌ}. يقولُ: ويَنزِلُ عليه عذابٌ دائمٌ لا يُفارِقُه.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41)} .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: إنا أنزلنا عليك يا محمد الكتابَ تِبْيانًا للناس بالحقِّ، {فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ}. يقولُ: فمَن عمل بما في الكتاب الذي أنزلناه إليك واتَّبَعه، {فَلِنَفْسِهِ} ، يقولُ: فإنما عمل بذلك لنفسه، وإياها بغَى الخير لا غيرها؛ لأنه أكسبها رضا الله والفوز بالجنة، والنجاةَ مِن النارِ، {وَمَنْ ضَلَّ}. يقولُ: ومَن جار عن الكتاب الذي أنزلناه إليك، والبيان الذي بَيَّناه لك، فضَلَّ عن قصدِ المَحَجَّةِ
(1)
، وزال عن سواء السبيل، فإنما يجورُ على نفسه، وإليها يسوقُ العَطَبَ والهلاك؛ لأنه يُكْسِبُها سَخَطَ اللَّهِ، وأليم عقابه، والخزي الدائم، {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ}. يقول تعالى ذكره: وما أنت يا محمد على من أرسلتك إليه من الناسِ، برقيبٍ تَرقُبُ أعمالهم، وتحفَظُ عليهم
(2)
أفعالهم، إنما أنت رسولٌ، وإنما عليك البلاغ، وعلينا الحساب.
كما حدثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله:{وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} . أي: بحفيظ
(3)
.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السُّدِّيِّ في قوله:{وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} قال: بحفيظ
(4)
.
(1)
في ت 2، ت 3:"الحجة".
(2)
في 2، ت 3:"إليهم".
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 328 إلى المصنف وعبد بن حميد.
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 6/ 1993 من طريق أحمد بن المفضل به.
القولُ في تأويل قوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)} .
يقول تعالى ذكره: ومن الدلالة على أن الألوهةَ لله الواحد القهار خالصةٌ، دونَ كلِّ ما سواه - أنه يُمِيتُ ويُحْيِي، ويفعَلُ ما يشاء، ولا يقدِرُ على [شيء من ذلك]
(1)
سواه. فجعل ذلك خبرًا يُنبِّههم به على عظيم قُدرتِه، فقال:{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} ، فيَقْبِضُها عند فناء أجلها، وانقضاء مدة حياتها، ويَتَوفَّى أيضًا التي لم تمت في منامها، كما التي ماتت عند مماتِها، {فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ} . ذكر أن أرواح الأحياء والأمواتِ تلتقى في المنام، فيتعارفُ ما شاء الله منها، فإذا أراد جميعها الرجوع إلى أجسادِها، أمسك الله أرواح الأموات عنده وحبسها، وأرسل أرواح الأحياء حتى ترجع إلى أجسادِها، إلى أجل مسمى، وذلك إلى انقضاء مدة حياتها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد بن جُبَيرٍ في قوله:{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} الآية. قال: يَجمعُ بين أرواح الأحياء وأرواح الأموات، فيتعارفُ منها ما شاء الله أن يتعارف، فيُمسك التي قضى عليها الموتَ، ويُرْسِلُ الأخرى إلى أجسادِها
(2)
.
(1)
في ص، م، ت 1، ت 2:"ذلك شيء".
(2)
أخرجه بقي بن مخلد - كما في التمهيد 5/ 241 - وأبو الشيخ في العظمة (431) من طريق يعقوب به.
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المفضلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ في قولِه:{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} . قال: تُقْبَضُ الأرواحُ عندَ نيامِ النائمِ، فيَقبِضُ روحَه في منامِه، فيَلقَى الأرواحُ بعضُها بعضًا؛ أرواحُ الموتى وأرواحُ النيامِ، فتَلتقِي فتَساءَلُ. قال: فيُخلَّى عن أرواحِ الأحياءِ، فترجعُ إلى أجسادِها، وتريدُ الأخرى أن ترجِعَ، فيَحبِسُ التي قضَى عليها الموتَ، {وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}. قال: إلى بقية آجالِها
(1)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} . قال: فالنومُ وفاةٌ، {فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى} التي لم يَقبِضْها، {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}
(2)
.
وقولُه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: إن في قبضِ اللهِ نفسَ النائمِ والميتِ، وإرسالِه بعدُ نفسَ هذا ترجِعُ إلى جسمِها، وحبسِه لغيرِها عن جسمِها - لعبرةً وعظةً لَمن تفكَّر وتدبَّر، وبيانًا له أَن الله يُحيي مَن يَشَاءُ من خلقِه إذا شاء، ويُمِيتُ مَن شاء إذا شاء.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: أَتَّخَذ هؤلاء المشركون باللهِ مِن دونِه آلهتَهم التي يعبُدونها
(1)
ذكره الطوسي في التبيان 9/ 32، وذكر آخره ابن كثير في تفسيره 7/ 93.
(2)
تفسير القرطبي 15/ 261.
شفعاءَ تشفعُ لهم عندَ اللهِ في حاجاتِهم؟!
وقولُه: {قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ} . يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: قل يا محمدُ لهم: أتتخِذون هذه الآلهةَ شفعاءَ كما تزعُمون، ولو كانوا لا يملِكُون لكم نفعًا ولا ضرًّا ولا يعقِلون شيئا؟! قل لهم: إن تكونوا تعبُدونها لذلك، وتشفَعُ لكم عندَ اللهِ، فأخلِصوا عبادتكم للهِ، وأفرِدوه بالألوهةِ؛ فإن الشفاعةَ جميعًا له، لا يشفَعُ عنده إلا مَن أذِن له، ورضِى له قولًا، وأنتم متى أخلَصتم له العبادةَ فدَعوتموه، شفَّعَكم. {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}. يقولُ: للهِ سلطانُ السماواتِ والأرضِ ومُلكُها، وما تعبُدون أيُّها المشرِكون من دونِه مِلْكٌ له. يقولُ: فاعبُدوا المَلِكَ لا المملوكَ الذي لا يملِكُ شيئًا، {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}. يقولُ: ثم إلى الله مصيرُكم، وهو معاقِبُكم على إشراكِكم به إن مُتُّم على شركِكم.
ومعنى الكلامِ: للهِ الشفاعةُ جميعًا، له مُلكُ السماواتِ والأرضِ، فاعبُدوا المالكَ الذي له مُلكُ السماواتِ والأرضِ، الذي يقدِرُ على نفعِكم في الدنيا، وعلى ضرِّكم فيها، وعندَ مرجعِكم إليه بعدَ مماتِكم، فإنكم إليه تُرجَعون.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ} : الآلهة، {قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا}: الشفاعة
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني
(1)
تفسير عبد الرزاق 2/ 174، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 329 إلى المصنف وعبد بن حميد.
الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} . قال: لا يشفعُ عندَه أحدٌ إلا بإذنه
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وإذا أُفْرِد اللهُ جلَّ ثناؤُه بالذكرِ، فدُعِي وحدَه، وقيل: لا إلهَ إلا اللهُ. اشْمَأَزَّت قلوبُ الذين لا يؤمِنون بالمعادِ والبعثِ بعدَ المماتِ. وعُنِي بقولِه: {اشْمَأَزَّتْ} : نفَرَت من توحيدِ اللهِ، {وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ}. يقولُ: وإذا ذُكِر الآلهةُ التي يدْعُونها من دونِ اللهِ مع اللهِ، فقيل: تلك الغرانيقُ العُلَى، وإن شفاعتَها لتُرْتجَى
(2)
- إذا الذين لا يؤمِنون بالآخرةِ، يستبشِرون بذلك ويفرَحون.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قوله:{وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} . أي: كفَرَت
(3)
قلوبُهم واستكبَرت، {وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ}: الآلهةُ، {إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ}
(4)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ
(1)
تفسير مجاهد ص 579، ومن طريقه البيهقي في البعث والنشور (2)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 329 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
في ت 1، ت 2، ت 3:"لترجى".
(3)
في م: "نفرت". والمثبت موافق لما في مصدري التخريج.
(4)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 174 عن معمر عن قتادة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 330 إلى عبد بن حميد.
قولَه: {اشْمَأَزَّتْ} . قال: انقبَضت. قال: وذلك يومَ قرَأ عليهم "النجم"، عندَ بابِ الكعبةِ
(1)
.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ في قولِه:{اشْمَأَزَّتْ} . قال: نفَرَت، {وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ}: أوثانُهم
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46)} .
يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: قلْ يا محمدُ: اللهمَّ
(3)
خالقَ السماواتِ والأرضِ {عَالِمَ الْغَيْبِ} ، الذي لا تراه الأبصارُ، ولا تُحِسُّه العيونُ، {وَالشَّهَادَةِ}: الذي تشهَدُه أبصارُ، خلقِه، وتراه أعينُهم، {أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ} فتفصِلُ بينَهم بالحقِّ يومَ تجمعُهم لفصلِ القضاءِ بينَهم فيما كانُوا فيه في الدنيا يختلِفون من القولِ فيك وفي عظمتِك وسلطانِك، وغيرِ ذلك من اختلافِهم بينَهم، فتقضِي يومَئذٍ بينَنا وبينَ هؤلاء المشركين، الذين إذا ذُكِرْتَ وحدَك اشمأزَّت قلوبُهم، وإذا ذُكِر مَن دونَك استبشَروا - بالحقِّ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ في قولِه:{فَاطِرَ} . قال: خالقَ
(4)
. وفى قولِه: {عَالِمَ الْغَيْبِ} . قال: ما غاب عن
(1)
تفسير مجاهد ص 579، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 329 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 93.
(3)
في النسخ: "الله". والمثبت هو الصواب.
(4)
تقدم تخريجه في 9/ 176.
العبادِ، فهو يعلمُه، {وَالشَّهَادَةِ}: ما عرَف العبادُ وشهِدوا، فهو يعلمُه.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: ولو أن لهؤلاء المشركين باللهِ يومَ القيامةِ، وهم الذين ظلَموا أنفسَهم، {مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} في الدنيا من أموالِها وزينتِها، {وَمِثْلَهُ مَعَهُ} مضاعفًا، فقُبِل ذلك منهم عوضًا من أنفسِهم، لفَدَوا بذلك كلِّه أنفسَهم عِوضًا منها؛ لينجُوا من سوءِ عذابِ اللهِ، الذي هو معذِّبُهم به يومَئذٍ، {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ}. يقولُ: وظهَر لهم يومَئذٍ من أمرِ اللهِ وعذابِه، الذي كان أعدَّه لهم، {مَا لَمْ يَكُونُوا} قبلَ ذلك {يَحْتَسِبُونَ} أنه أعدَّه لهم.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (48)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وظهَر لهؤلاءِ المشركين يومَ القيامةِ {سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا} من الأعمالِ في الدنيا، إذ أُعطُوا كتبَهم بشمائلِهم، {وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}: ووجَب عليهم حينَئذٍ، فلزِمهم، عذابُ اللهِ الذي كان نبيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم في الدنيا يعدِهُم على كفرِهم بربِّهم، فكانوا به يسخَرون؛ إنكارًا أن يصيبَهم ذلك أو ينالَهم؛ تكذيبًا منهم به، وأحاط ذلك بهم.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: فإذا أصاب الإنسانَ بؤسٌ وشدَّةٌ دعانا مستغيثًا بنا من جهةِ
ما أصابه من الضرِّ، {ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا}. يقولُ: ثم إذا أعطَيناه فرَجًا مما كان فيه من الضرِّ؛ بأن أبدَلْناه بالضرِّ رخاءً وسَعَةً، وبالسَّقمِ صحةً وعافيةً، فقال: إنما أُعطِيتُ الذي أُعطِيتُ؛ من الرخاءِ والسَّعَةِ في المعيشةِ، والصحةِ في البدنِ والعافيةِ، {عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي
(1)
} [القصص: 78]. يعني: على علمٍ الله بأنى له أهلٌ؛ لشرفى ورضاه بعملي، {عِنْدِي}. يعني: فيما عندي، كما يقالُ: أنت محسنٌ في هذا الأمرِ عندي. أي: فيما أظنُّ وأحسَبُ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا} . حتى بلَغ: {عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي
(1)
}. أي: على خيرٍ عندي
(2)
.
حدَّثني محمدُ بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا} . قال: أعطَيناه
(3)
.
وقولُه: {أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ
(4)
}. أي: على شرفٍ أعطانيه.
وقولُه: {بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ} . يقولُ تعالى ذكرُه: بل عَطِيَّتُنا إياهم تلك النعمةَ
(1)
ليست لفظة "عندي" ضمن هذه الآية التي يفسرها المصنف. وإنما هي جزء من آية في سورة القصص. ولعل ما وقع، في هذا الموضع وما سيأتي، هو سبق قلم من المصنف رحمه الله.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 174 عن معمر عن قتادة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 330 إلى عبد بن حميد وابن المنذر. وليس فيه لفظة:{عندي} .
(3)
تفسير مجاهد ص 579، 580، ومن طريقه الفريابي - كما في تغليق التعليق 4/ 298 - وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 330 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(4)
بعده في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"عندي".
من بعدِ الضرِّ الذي كانوا فيه فتنةٌ لهم. يعني: بلاءٌ ابتلَيْناهم به، واختبارٌ اختبَرناهم به، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ} ؛ لجهلِهم وسوءِ رؤياهم، {لَا يَعْلَمُونَ} لأيِّ سببٍ أُعْطُوا ذلك.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ} . أي: بلاءٌ
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: قد قال هذه المقالةَ - يعني قولَهم لنعمةِ اللهِ التي خوَّلهم وهم مشرِكون: أوتيناه على علمٍ عندَنا - {الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} . يعني: الذين من قبلِ مشركي قُرَيشٍ من الأممِ الخاليةِ لرسلِها؛ تكذيبًا منهم لهم، واستهزاءً بهم.
وقولُه: {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} . يقولُ: فلم يُغْنِ عنهم حينَ أتاهم بأسُ اللهِ على تكذيبِهم رسلَ اللهِ، واستهزائِهم بهم - ما كانوا يكسبون من الأعمالِ، وذلك عبادتُهم الأوثانَ. يقولُ: لم ينفَعْهم خدمتُهم إياها، ولم تشفَعْ آلهتُهم لهم عندَ اللهِ حينَئذٍ، ولكنها أسلَمَتهم، وتبرَّأَت منهم.
وقولُه: {فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا} . يقولُ: فأصاب الذين قالوا هذه المقالةَ من الأممِ الخاليةِ، وبالُ سيئاتِ ما كسَبوا من الأعمالِ، فعوجِلوا بالخزي في دارِ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 330 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر، وتقدم أوله في الصفحة السابقة.
الدنيا؛ وذلك كقارونَ الذي قال حينَ وُعِظ: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص: 78]. فخسَف اللهُ به وبدارِه الأرضَ، {فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ} [القصص: 81]. يقولُ اللهُ جلَّ ثناؤه: {وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ} . يقولُ لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: والذين كفَروا باللهِ يا محمدُ من قومِك، وظلَموا أنفسَهم وقالوا هذه المقالةَ، {سَيُصِيبُهُمْ} أيضًا وبالُ سيئاتِ ما كسَبوا، كما أصاب الذين من قبلهم بقيلِهموها، {وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ}. يقولُ: وما يفُوتون ربَّهم، ولا يسبِقونه هربًا في الأرضِ من عذابِه إذا نزَل بهم، ولكنه يصيبُهم، {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 62]، ففعَل اللهُ ذلك بهم، فأحلَّ بهم خِزْيَه في عاجلِ الدنيا، فقتَلهم بالسيفِ يومَ بدرٍ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، السديِّ:{قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} : الأممُ الماضيةُ، {وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ}. قال: من أُمةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: أو لم يَعلَمْ يا محمدُ هؤلاء الذين كشَفْنا عنهم ضُرَّهم، فقالوا: إنما أوتيناه على علمٍ منا. أن الشدَّةَ والرخاءَ والسَّعَةَ والضيقَ والبلاءَ بيدِ اللهِ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 330 إلى المصنف.
دونَ كُلِّ مَن سواه، يَبْسطُ الرزقَ لمَن يشاءُ، فيوسِّعُه عليه، ويَقدِرُ ذلك على مَن يشاءُ من عبادِه فيضيقُه، وأن ذلك من حُججِ الله على عبادِه؛ ليعتبِروا به ويتذكَّروا، فيعلَموا أن الرغبةَ إليه والرهبةَ دونَ الآلهةِ والأندادِ، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ}. يقولُ: إن في بسطِ اللهِ الرزقَ لمَن يشاءُ، وتقتيرِه على مَن أراد، {لَآيَاتٍ}. يعني: دلالاتٍ وعلاماتٍ، {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}. يعني: يصدِّقون بالحقِّ، فيُقرُّون به إذا تبيَّنوه وعلِموا حقيقتَه، أن الذي يفعلُ ذلك هو اللهُ دونَ كلِّ ما
(1)
سواه.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)} .
اختلَف أهلُ التأويلِ في الذين عُنُوا بهذه الآيةِ؛ فقال بعضُهم: عُنِي بها قومٌ من أهلِ الشركِ، قالوا لما دُعوا إلى الإيمانِ باللهِ: كيف نؤمنُ وقد أشرَكنا وزنَينا، وقتَلنا النفسَ التي حرَّم اللهُ، واللهُ يعِدُ فاعلَ ذلك النارَ، فما ينفعُنا مع ما قد سلَف منا الإيمانُ؟! فنزَلت هذه الآيةُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ:{قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} : وذلك أن أهلَ مكةَ قالوا: يزعمُ محمدٌ أنه مَن عبَد الأوثانَ، ودعَا مع اللهِ إلهًا آخرَ، وقتَل النفسَ التي حرَّم اللهُ، لم يُغفَرْ له، فكيف نهاجرُ ونُسلِمُ، وقد عبَدنا الآلهةَ، وقتَلنا النفسَ التي حرَّم اللهُ، ونحنُ أهلُ الشركِ؟! فأنزَلَ اللهُ:{يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} . يقولُ: لا تيأَسوا من رحمتي،
(1)
في ت 1: "من".
{إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} . قال: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} [الزمر: 54]، وإنما يعاتبُ اللهُ أولي الألبابِ، وإنما الحلالُ والحرامُ لأهلِ الإيمانِ، فإياهم عاتَب، وإياهم أمَر إن أسرَف أحدُهم على نفسِه، أن لا يقْنَطَ من رحمةِ اللهِ، وأن يُنيبَ ولا يُبِطئَ بالتوبةِ من ذلك الإسرافِ والذنبِ الذي عمِل، وقد ذكَر اللهُ في سورةِ "آلِ عمرانَ" المؤمنين، حينَ سأَلوا الله المغفرةَ فقالوا:{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} [آل عمران: 147]. فينبَغي أن يُعلمَ أنهم قد كانوا يُصيبون الإسرافَ، فأمَرهم بالتوبةِ من إسرافِهم
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ:{الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} . قال: قَتْلُ النفسِ في الجاهليةِ
(2)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، قال: ثنا ابن إسحاقَ، عن بعضِ أصحابِه، عن عطاءِ بن يسارٍ، قال: نزَلت هذه الآيات الثلاثُ بالمدينةِ في وحْشيٍّ وأصحابِه: {يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} إلى قولِه: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ}
(3)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: أخبَرني أبو صخرٍ، قال: قال زيدُ بن أسلمَ في قولِه تعالى: {يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} . قال: إنما هي للمشركين.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه: {يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 331 إلى المصنف وابن مردويه، وينظر أسباب النزول ص 277.
(2)
تفسير مجاهد ص 580.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 331 إلى المصنف.
أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} حتى بلَغ: {الذُّنُوبَ جَمِيعًا} . قال: ذُكِر لنا أن ناسًا أصابوا ذنوبًا عظامًا في الجاهليةِ، فلما جاء الإسلامُ أشفَقوا أن لن
(1)
يُتابَ عليهم، فدعاهم اللهُ بهذه الآيةِ:{يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} الآية
(2)
.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ في قولِه:{يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} . قال: هؤلاء المشركون من أهلِ مكةَ. قالوا: كيف نجيبُك وأنت تزعُمُ أنه من زَنَى، أو قَتَل، أو أشرَك بالرحمنِ، كان هالكًا من أهلِ النارِ، فكلُّ هذه الأعمالِ قد عمِلناها؟! فأُنزِلت فيهم هذه الآيةُ:{يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} .
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} الآية. قال: كان قومٌ مسخوطون
(3)
في أهلِ الجاهليةِ، فلما بَعث اللهُ نبيَّه قالوا: لو أتَينا، محمدًا صلى الله عليه وسلم، فآمَنَّا به واتَّبَعْناه. فقال بعضُهم لبعضٍ: كيف يقبلُكم اللهُ ورسولُه في دينِه؟ فقالوا: ألَا نبعثُ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم رجلًا؟ فلما بعَثوا نزَل القرآنُ: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} ، فقرَأ حتى بلَغ:{فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} .
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن منصورٍ، عن الشعبيِّ، قال: تَجالَس شُتَيْرُ بنُ شَكَلٍ ومسروقٌ، فقال شُتَيرٌ: إما أن تحدِّثَ ما سمعت من ابن مسعودٍ فأصدِّقَك، وإما أن أحدِّثَ فتصدِّقَني. فقال مسروقٌ: لا، بل حدِّثْ فأصدَّقَك.
(1)
في م: "لا".
(2)
تفسير عبد الرزاق 2/ 174، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 332 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
في م: "مسخوطين": والمسخوط: المكروه. التاج (س خ ط).
فقال: سمِعتُ ابنَ مسعودٍ يقولُ: إِنَّ أكبرَ آيةٍ فَرَحًا
(1)
في القرآنِ: {يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} . فقال مسروقٌ: صدَقْتَ
(2)
.
وقال آخرون: بل عُنِي بذلك أهلُ الإسلامِ. وقالوا: تأويلُ الكلامِ: إِنَّ الله يغفِرُ الذنوبَ جميعًا لمن يشاءُ. قالوا: وهي كذلك في مصحفِ عبدِ اللهِ. وقالوا: إنما نزَلَتْ هذه الآيةُ في قومٍ صدَّهم المشركون عن الهِجْرةِ وفتَنوهم، فأشفَقوا ألَّا يكونَ لهم توبةٌ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا إبراهيمُ بنُ سعيدٍ الجَوْهريُّ، قال: ثنا يحيى بنُ سعيد الأُمويُّ، عن ابن إسحاقَ، عن نافعٍ، عن ابن عمرَ، قال: قال - يعني عمرَ -: كنا نقولُ: ما لمن افتتن من توبةٍ. وكانوا يقولون: ما اللهُ بقابلٍ منا شيئًا، ترَكْنا الإسلامَ ببلاءٍ أصابَنا بعدَ معرفتِه. فلما قدِم رسولُ اللهِ المدينةَ، أنزَل اللهُ فيهم:{يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} إلى آخرِ الآيةِ. قال عُمرُ: فكتبتُها بيدي، ثم بعثتُ بها إلى هشامِ بن العاصِ. قال هشامٌ: فلما جاءتني جعلتُ أقرَؤُها ولا أفهمُها، فوقَع في نفسي أنها أُنزلت فينا؛ لما كنا نقولُ، فجلستُ على بعيري، ثم لحِقتُ بالمدينةِ
(3)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، قال: ثني محمدُ بنُ إسحاقَ، عن نافعٍ، عن ابن عمرَ، قال: إنما أُنزِلت هذه الآياتُ في عَيَّاشِ بن أبي ربيعةَ، والوليدِ بن الوليدِ، ونفرٍ من المسلمين، كانوا قد أسلَموا ثم فُتِنوا وعُذِّبوا، فافتُتِنوا، كنا نقولُ: لا يقبَلُ اللهُ من هؤلاء صَرفًا ولا عَدْلًا أبدًا؛ قومٌ أسلَموا ثم ترَكُوا دينَهم بعذابٍ
(1)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"فرجا".
(2)
أخرجه ابن أبي الدنيا في حسن الظن بالله (75) من طريق جرير به. والطبراني (8658) من طريق منصور به مطولا، وفي (8659، 8660) من طريقين آخرين عن الشعبي.
(3)
أخرجه الواحدي في أسباب النزول ص 277، 278 من طريق ابن إسحاق به، بنحوه.
فنزَلت هؤلاء الآياتُ، وكان عمرُ بن الخطابِ كاتبًا، قال: فكتَبها بيدِه، ثم بعَث بها إلى عَيّاشِ بن أبي ربيعةَ، والوليدِ بن الوليدِ، وإلى أولئك النفرِ، فأسلَموا وهاجروا
(1)
.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابن عُلَيةَ، قال: ثنا يونسُ، عن ابن سيرينَ، قال: قال عليٌّ رضي الله عنه: أيُّ آيةٍ في القرآنِ أوسعُ؟ فجعلوا يذْكُرون آياتٍ من القرآنِ: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 110]. ونحوَها. فقال عليٌّ: ما في القرآنِ آيةٌ أوسعَ من قولِه: {يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} إلى آخرِ الآيةِ
(2)
.
حدَّثنا أبو السائبِ، قال: ثنا أبو معاويةَ، عن الأعمشِ، عن أبي سعدٍ
(3)
الأزديِّ، عن أبي الكَنودِ، قال: دخَل عبدُ اللهِ المسجدَ، فإذا قاصٌّ يُذَكِّرُ النارَ والأغلالَ، قال: فجاء حتى قام على رأسِه، فقال:[يا مُذَكِّرُ]
(4)
أتقنِّطُ الناسَ؟ {يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} الآية
(5)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: أخبَرني أبو صخرٍ، عن القُرَظيِّ، أنه قال في هذه الآيةِ:{يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} . قال: هي للناسِ أجمعين.
حدَّثني زكريا بنُ يحيى بن أبي زائدةَ، قال: ثنا حجاجٌ، قال: ثنا ابن لَهِيعةَ،
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 331 إلى المصنف، وينظر تفسير البغوي 7/ 126، وأسباب النزول للواحدي ص 277.
(2)
أخرجه ابن أبي الدنيا في حسن الظن بالله (69) من طريق إسماعيل بن إبراهيم به.
(3)
في م، ت 3:"سعيد"، وكلاهما صواب. ينظر تهذيب الكمال 33/ 344.
(4)
في م: "ما يذكر".
(5)
أخرجه ابن أبي شيبة 13/ 185 من طريق أبي معاوية به، وابن أبي الدنيا في حسن الظن بالله (50)، وابن أبي حاتم - كما في تفسير ابن كثير 7/ 99 - والبيهقي في الشعب (1053) من طريق الأعمش به، والطبراني (8635) من طريق الأعمش عن ابن مسعود به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 331 إلى عبد بن حميد.
عن أبي قَبيلٍ
(1)
، قال: سمعتُ أبا عبدِ الرحمنِ المرادي
(2)
يقولُ: ثني أبو عبدِ الرحمنِ الجُبْلانيُّ
(3)
، أنه سمِع ثَوْبانَ مولى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ: سمِعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ: "ما أُحِبُّ أنَّ ليَ الدُّنْيا وما فيها بهذه الآيةِ: {يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} الآية. فقال رجلٌ: يا رسولَ اللهِ، ومَن أشرَك؟ فسكَت النبيُّ صلى الله عليه وسلم، ثم قال: "ألا ومَن أشْرَك، ألا ومَن أَشْرَك". ثلاثَ مَرَّاتٍ
(4)
.
وقال آخرون: نزَل ذلك في قومٍ كانوا يَرَوْن أهلَ الكبائرِ
(5)
من أهلِ النارِ، فأعلَمَهم اللهُ بذلك أنه يغفِرُ الذنوبَ جميعًا لمن يشاءُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني ابن البرقيِّ، قال: ثنا عمرُو بن أبي سلمةَ، قال: ثنا أبو معاذٍ الخراسانيُّ، عن مقاتلِ بن حيانَ، عن نافعٍ، عن ابن عمرَ، قال: كنا معشرَ أصحابِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم نرى أو نقولُ: إنه ليس شيءٌ من حسناتِنا إلا وهي مقبولةٌ، حتى نزلت هذه الآيةُ:{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33]. فلما نزلت هذه الآيةُ قُلْنا: ما هذا الذي يُبطلُ أعمالَنا؟ فقلنا: الكبائرُ والفواحشُ. قال: فكنا إذا
(1)
في م: "قنبل". ينظر تهذيب الكمال 7/ 490.
(2)
سقط من: ت 1، وفي ص، م، ت 2، ت 3:"المزني". وينظر كنى البخاري 9/ 51، والجرح 7/ 323، 9/ 403، والتعجيل 2/ 494.
(3)
في ص: "الجلاني". وفي ت 1: "الجيلاني"، وفي ت 2، ت 3:"الحلالي"، وفي م:"الجلائي".
ينظر تهذيب الكمال 4/ 415.
(4)
أخرجه أحمد 5/ 275 (الميمنية)، وابن أبي الدنيا في حسن الظن (49)، والبيهقي في الشعب (7137) من طريق حجاج به، والطبراني في الأوسط (1890) من طريق ابن لهيعة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 331 إلى ابن أبي حاتم وابن مردويه.
(5)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"الكتاب".
رأينا مَن أصاب شيئًا منها قلنا: قد هلَك. حتى نزلت هذه الآيةُ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]. فلما نزَلت هذه الآيةُ كَفَفْنا عن القولِ في مثلِ
(1)
ذلك، فكُنَّا إذا رأَيْنا أحدًا أصاب منها شيئًا خِفْنا عليه، وإن لم يُصِبْ منها شيئًا رجَونا له
(2)
.
وأولى الأقوالِ في ذلك بالصوابِ قولُ مَن قال: عَنى اللهُ تعالى ذكرُه بذلك جميعَ من أسرَف على نفسِه من أهلِ الإيمانِ والشركِ؛ لأن الله عمَّ بقولِه: {يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} جميعَ المسرفين، فلم يخصُصْ به مسرفًا دونَ مسرفٍ.
فإن قال قائلٌ: يغفرُ اللهُ الشركَ؟ قيل: نعم، إذا تاب منه المشركُ. وإنما عنَى بقولِه:(إن الله يغفرُ الذنوبَ جميعًا لمن يشاءُ)
(3)
، كما قد ذكَرنا قبلُ أنَّ ابنَ مسعودٍ كان يقرؤه، وأنَّ الله قد استثنى منه الشركَ إذا لم يُتبْ منه صاحبُه، فقال:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} ، فأخبَر أنه لا يغفرُ الشركَ إلا بعدَ توبةٍ بقولِه:{إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا} [الفرقان: 70]. فأما ما عدَاه، فإن صاحبَه في مشيئةِ ربِّه، إن شاء تفضَّل عليه، فعفا له عنه، وإن شاء عدَل عليه، فجازاه به.
وأما قولُه: {لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} . فإنه يعني: لا تيأسوا من رحمةِ اللهِ، كذلك حدَّثني محمد بن سعد، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس.
(1)
زيادة من: ت 1، ت 2.
(2)
ذكره البغوي في تفسيره 7/ 126 عن مقاتل به.
(3)
ينظر مختصر الشواذ ص 132.
وقد ذكَرنا ما في ذلك من الرواياتِ قبلُ، فيما مضى، وبيَّنا معناه.
وقولُه: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} . يقولُ: إن الله يستُرُ على الذنوبِ كلِّها، بعفوِه عن أهلِها، وتَركِه عقوبتَهم عليها إذا تابوا منها، إنه هو الغفورُ الرحيمُ بهم، أن يعاقبَهم عليها بعدَ توبتِهم منها.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وأقبِلوا أيُّها الناس إلى ربِّكم بالتوبةِ، وارجِعوا إليه بالطاعةِ له، واستجيبوا له إلى ما دعاكم إليه من توحيدِه، وإفرادِ الأُلوهةِ له، وإخلاصِ العبادةِ له.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ} : أي أَقْبِلوا إِلى رَبِّكم
(1)
.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{وَأَنِيبُوا} .
قال: أجِيبوا.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زِيدٍ في قولِه: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ} . قال: الإنابةُ الرجوعُ إلى الطاعةِ، والنزوعُ عما كانوا عليه، ألا تراه يقولُ:{مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ} [الروم: 31].
وقولُه: {وَأَسْلِمُوا لَهُ} . يقولُ: واخْضَعوا له بالطاعةِ والإقرارِ بالدينِ؛: الحنيفيةِ {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ} من عندِه على كفرِكم به، {ثُمَّ لَا
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 332 إلى المصنف وعبد بن حميد.
تُنْصَرُونَ}. يقولُ: ثم لا ينصُرُكم ناصرٌ، فينقِذُكم من عذابِه النازلِ بكم.
وقولُه: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} . يقولُ تعالى ذكرُه: واتَّبعوا أيُّها الناسُ ما أمَركم به ربُّكم في تنزيلِه، واجْتَنِبوا ما نهاكم فيه عنه، وذلك هو أحسنُ ما أُنزِل إلينا من ربِّنا.
فإن قال قائلٌ: ومِن القرآنِ شيءٌ هو أحسنُ مِن شيءٍ؟ قيل له: القرآنُ كلُّه حسنٌ، وليس معنى ذلك ما توهَّمْتَ، وإنما معناه: واتَّبِعوا مما أُنزِلَ إليكم من ربِّكم من الأمرِ والنهي والخبرِ والمَثَلِ والقَصَصِ والجَدَلِ والوعدِ والوعيد، أحسنَه، وأحسنُه أن تَأْتَمِروا لأمرِه، وتنتَهوا عما نهَى عنه؛ لأن النهيَ مما أُنزِل في الكتابِ، فلو عمِلوا بما نُهوا عنه كانوا عاملين بأقبحِه، فذلك وجهُه.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} . يقولُ: ما أُمِرتُم به في الكتابِ، {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ}
(1)
.
وقولُه: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً} . يقولُ: من قبلِ أن يأتيَكم عذابُ اللهِ فجأةً، {وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ}. يقولُ: وأنتم لا تَعْلَمون به حتى يَغْشاكم فجأةً.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ
(1)
ذكره البغوي في تفسيره 7/ 128.
الْمُتَّقِينَ (57)}.
يقولُ تعالى ذكرُه: وأنيبوا إلى ربِّكم، وأسلِموا له؛ {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ}. بمعنى: لئلَّا تقولَ نفسٌ: {يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} . وهو نظيرُ قولِه: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} [النحل: 15]. بمعنى: ألَّا تميدَ بكم، [فـ "أن" - إذ]
(1)
كان ذلك معناه - في موضعِ نصبٍ.
وقولُه: {يَاحَسْرَتَا} . يعني أن تقولَ: يا نَدَما.
كما حدَّثني محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المفضلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ في قولِه:{يَاحَسْرَتَا} . قال: الندامةُ
(2)
.
والألفُ في قولِه: {يَاحَسْرَتَا} . هي ياءُ كنايةِ المتكلمِ
(3)
، وإنما أريد: يا حسرتِي، ولكن العربُ تحوِّلُ الياءَ التي في كنايةِ اسمِ المتكلمِ في الاستغاثةِ ألفًا، فتقولُ: يا ويلتا، ويا ندما. فيُخرِجون ذلك على لفظِ الدعاءِ، وربما قيل: يا حسرتِ
(4)
على العبادِ. كما قيل: يا لَهْفِ عليه
(5)
، ويا لهفَا عليه. وذكَر الفرَّاءُ أن أبا ثَرْوانَ أَنشَدَه
(6)
:
تَزُورُونها ولا أزورُ نساءَكمْ
…
ألَهْفِ لأوْلادِ الإماءِ الحواطِبِ
خفضًا كما يُخفضُ في النداءِ إذا أضافه المتكلمُ إلى نفسِه، وربما أدخلوا الهاءَ
(1)
في ت 2، ت 3:"فأراد".
(2)
تقدم تخريجه في 9/ 215.
(3)
في ت 1: "بالكناية"، وفي ص، ت 2، ت 3:"ياء الكناية".
(4)
في ص، ت 1:"يالحسرة"، وفي ت 2، ت 3:"بالحسرة"، وفي م:"ياحسرة". والمثبت من معاني القرآن 2/ 421.
(5)
سقط من: م.
(6)
معاني القرآن للفراء 2/ 421.
بعد هذه الألفِ، فيخفِضونها أحيانًا، ويرفعونها أحيانًا؛ وذكَر الفرَّاءُ أن بعضَ بني أسدٍ أنشده
(1)
:
يا رَبِّ يَا رَبَّاه إِيَّاكَ أَسَلْ
…
عَفْرَاءَ يا رَبَّاهِ مِنْ قَبْلِ الأَجَلْ
خفضًا، قال: والخفضُ أكثرُ في كلامِهم، إلا في قولِهم: يا هنَاهُ، ويا هَنْتَاهُ. فإن الرفعَ فيهما أكثرُ من الخفضِ؛ لأنه كثيرٌ في الكلامِ، حتى صار كأنه حرفٌ واحدٌ.
وقولُه: {عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} . يقولُ: على ما ضيَّعْتُ من العملِ بما أمَرني اللهُ به، وقصَّرْتُ في الدنيا في طاعةِ اللهِ.
وبنحوِ الذي قُلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال
(2)
: ثنا حكامٌ، عن عنبسةَ، عن محمدِ بن عبدِ الرحمنِ، القاسمِ بن أبي بَزَّةَ، عن مجاهدٍ في قولِه:{يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} . يقولُ: في أمرِ اللهِ.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارث، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ:{عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} . قال: في أمرِ اللهِ
(3)
.
(1)
المصدر السابق 2/ 422.
(2)
بعده في ت 1: "ثنا سلمة قال".
(3)
تفسير مجاهد ص 580، ومن طريقه أخرجه البيهقي في الأسماء الصفات (772)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 333 إلى عبد بن حميد وابن المنذر بلفظ:"في ذكر الله".
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ في قولِه:{عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} . قال: تركتُ من أمرِ اللهِ.
وقولُه: {وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} . يقولُ: وإن كنتُ لمن المستهزئين بأمرِ اللهِ وكتابِه ورسولِه والمؤمنين به.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادَة في قولِه:{أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56)} . قال: فلم يكفِه أَنْ ضيَّع طاعةَ اللهِ، حتى جعَل يَسْخرُ بأهلِ طاعةِ اللهِ. قال: هذا قولُ صِنْفِ منهم
(1)
.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} . يقولُ: من المستهزئينَ بالنبيِّ، وبالكتابِ، وبما جاء به
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وأنيبوا إلى ربِّكم أيُّها الناسُ، وأَسْلِموا له، ألَّا تقولَ نفسٌ يومَ القيامةِ: يا حسرتا على ما فرَّطتُ في أمرِ الله.
وألَّا تقولَ نفسٌ أخرى: لو أنَّ الله هداني للحقِّ، فوفَّقَني للرشادِ، لَكُنْتُ ممن اتَّقاه بطاعتِه واتِّباعِ رضاه. أو
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 333 إلى المصنف وعبد بن حميد.
(2)
ذكره الطوسي في التبيان 9/ 39.
ألَّا تقولَ أخرى حينَ تَرى عذابَ اللهِ فتُعاينُه: {لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً} . تقولُ: لو أنَّ لي رَجعةً إلى الدنيا، {فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} الذين أَحْسَنوا في طاعتِهم ربَّهم، والعملِ بما أمرَتْهم به الرسلُ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} . الآية. قال: هذا قولُ صِنْفِ منهم، [{أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي} الآية. قال: هذا قولُ صِنْفٍ آخرَ]
(1)
، {أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ} الآية. يعني بقوله:{لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً} : رَجْعَةً إلى الدنيا. قال: هذا صِنْفٌ آخرُ
(2)
.
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} . قال: أخبَر اللهُ ما العبادُ قائلوه قبلَ أنْ يقولوه، وعملَهم قبلَ أن يعمَلوه، قال - {وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 14]-: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} ، {أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي} إلى:{فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} . يقولُ: من المهتدين. فأخبَر اللهُ سبحانَه أنَّهم لو رُدُّوا لم يَقْدِروا على الهدى، وقال:{وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: 28]. وقال: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 110]. وقال: ولو رُدُّوا إلى الدنيا
(1)
سقط من: ت 2، ت 3.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 333 إلى المصنف وعبد بن حميد.
لحِيلَ بينَهم وبين الهدى، كما حُلْنا بينَهم وبينَه أَوَّلَ مرّةٍ وهم في الدنيا
(1)
.
وفي نصبِ قولِه: {فَأَكُونَ} . وجهان؛ أحدُهما: أن يكونَ نصبُه على أنه جوابُ {لَوْ} . والثاني: على الردِّ على موضعِ الكرّةِ، وتوجيهُ الكرّةِ في المعنى إلى: لو أنَّ لي
(2)
أن أكِرَّ، كما قال الشاعرُ
(3)
:
فما لك منها غيرُ ذِكْرَى وحَسْرةٍ
(4)
…
وتَسْأَلَ عن رُكْبانِها أَينَ يَمَّمُوا
فنصَب "تسأل" عطفًا بها على موضعِ الذكرى؛ لأن معنى الكلامِ: فما لك
(5)
بـ: "يرسل" على موضعِ "الوحي" في قولِه: {إِلَّا وَحْيًا} [الشورى: 51].
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59)} .
يقولُ تعالى ذكرُه مكذَّبًا للقائلِ: {لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} . وللقائلِ: {لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} : ما القولُ كما تقولون، {بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ} - أيها المتمنَّي على اللهِ الردَّ إلى الدنيا؛ لتكونَ فيها من المحسنين - {آيَاتِي}. يقولُ: قد جاءتك حُجَجي من بين رسولٍ أرسلْتُه إليك، وكتابٍ أنزلتُه يتلى عليك ما فيه من الوعدِ والوعيدِ والتذكيرِ، فكذَّبت
(1)
تقدم تخريجه في 9/ 491.
(2)
بعده في ت 1: "كرة لي".
(3)
معاني القرآن 2/ 423.
(4)
في ص، ت 1:"حسية"، وفي ت 2:"حينه"، وفي ت 3:"حديثه". والمثبت موافق لما في البحر المحيط 7/ 436.
(5)
كذا في النسخ، ولعل سقطا وقع من النسخ، لعله:"فمالك غير أن تذكر وتسأل، كما عطف". وينظر معاني القرآن 2/ 422، 423.
بآياتي، واستكبرت عن قَبولها واتَّباعِها، {وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ}. يقولُ: وكنتَ ممن يعملُ عملَ الكافرين، ويستنُّ بسنتِهم، ويتبعُ منهاجَهم.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ: يقولُ اللهُ ردًّا لقولِهم، وتكذيبًا لهم - يعني لقولِ القائلين:{لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي} . والصنفِ الآخرِ - {قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي} الآية
(1)
.
وبفتحِ الكافِ والتاءِ من قولِه: {قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ} على وجهِ المخاطبةِ للذكورِ، قرأه القرأةُ في جميعِ أمصارِ الإسلامِ. وقد رُوِي عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أنه قرَأ ذلك بكسرِ جميعِه، على وجهِ الخطابِ للنفسِ، كأنه قال: أن تقولَ نفسٌ: يا حسرتا على ما فرَّطتُ في جنبِ اللهِ. بلى قد جاءتكِ أَيُّها النفسُ آياتي، فكذَّبتِ بها. أجرى الكلامَ كلَّه على النفسِ، إذ كان ابتداءُ الكلامِ بها جرى، والقراءةُ التي لا أستجيزُ خلافَها، ما جاءت به قرأةُ الأمصارِ مُجْمِعةً عليه به، نقلًا عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وهو الفتحُ في جميعِ ذلك.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: ويومَ القيامَةِ تَرَى يا محمدُ، هؤلاء الذين كَذَبوا على اللهِ من قومِك، فزعَموا أنَّ له ولدًا، وأنَّ له شركاءَ
(2)
، وعبَدُوا آلهةً وعبدوا آلهة من دونِه،
(1)
وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 333 إلى المصنف وعبد بن حميد.
(2)
في م، ت 2، ت 3:"شريكا".
{وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} .
والوجوهُ وإن كانت مرفوعةً بـ {مُسْوَدَّةٌ} ، فإن فيها معنى نصبٍ؛ لأنها مع خبرِها تمامُ {تَرَى} ، ولو تقدَّم قولُه:{مُسْوَدَّةٌ} قبلَ الوجوهِ، كان نصبًا، ولو نصَبَ "الوجوهَ المسودَّةَ"، ناصبٌ في الكلامِ لا في القرآنِ، إذا كانت المسودّةُ متأخرةً، كان جائزًا، كما قال الشاعرُ
(1)
:
ذَرِيني إِنَّ أمرَكِ لن يُطاعَا
…
وما ألفيتِني حلمى
(2)
مُضاعا
فنصَبَ الحلمَ والمضاعَ على تكريرِ "ألفيتِني"، وكذلك تفعلُ العربُ في كلِّ ما احتاج إلى اسمٍ وخبرٍ، مثلَ "ظنَّ وأخواتِها".
وفي {مُسْوَدَّةٌ} للعربِ لغتان: "مسودّةٌ"، و "مسوادّةٌ"، وهي في أهلِ الحجازِ، يقولون فيما ذُكِر عنهم: قد اسوادَّ وجهُه، واحمارَّ، واشهابَّ. وذكَر بعضُ نحويِّي البصرةِ عن بعضِهم، أنه قال: لا يكونُ "افعالَّ" إلا في ذي اللونِ
(3)
الواحدِ، نحوَ الأشهبِ
(4)
. قال: ولا يكونُ في نحوِ الأحمرِ؛ لأن الشهَبَ
(5)
لونٌ يحدُثُ، والأحمرَ لا يحدثُ.
وقولُه: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ} . يقولُ: أليس في جهنمَ مَأْوًى ومسكنٌ لمن تكبَّر على اللهِ، فامتنَع من توحيدِه، والانتهاءِ إلى طاعتِه، فيما أمَره ونهاه عنه؟
(1)
هو عدي بن زيد العبادي، وقد تقدم البيت في 13/ 622.
(2)
في ص، ت 1:"حكمي".
(3)
في ص، ت 1:"النون".
(4)
في ت 1: "شهاب".
(5)
في ت 2: "أشهب" وفي م، ت 3:"الأشهب".
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (61) اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: ويُنَجِّي اللهُ من جَهَنَّمَ وعذابِها الذين اتَّقَوه بأداءِ فرائضِه، واجتنابِ معاصيه في الدنيا، {بِمَفَازَتِهِمْ}. يعني: بفوزِهم. وهي "مَفْعَلَةٌ" منه.
وبنحوِ الذي قلنا في تأويلِ ذلك قال أهلُ التأويلِ، وإن خالفَت ألفاظُ بعضِهم الألفاظَ
(1)
التي قلناها في ذلك.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ في قولِه:{وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ} . [قال: بفضائلِهم.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ} ]
(2)
. قال: بأعمالِهم. قال: والآخَرُون يحمِلُون أوزارَهم يومَ القيامةِ {وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ}
(3)
[النحل: 25].
واختلفت القرأةُ في قراءةِ ذلك؛ فقرأته عامةُ قرأةِ المدينةِ وبعضُ قرأةِ مكةَ والبصرةِ: {بِمَفَازَتِهِمْ} . على التوحيدِ
(4)
. وقرأتْه عامَّةُ قرأةِ الكوفةِ:
(1)
في ص، م، ت 2، ت 3:"اللفظة".
(2)
سقط من: ت 2، ت 3.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 333 إلى المصنف.
(4)
هي قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم وأبي جعفر ويعقوب. النشر 2/ 272.
(بمَفازاتِهم). على الجماعِ
(1)
.
والصوابُ عندي من القولِ في ذلك أنهما قراءتان مستفيضتان، قد قرَأ بكلِّ واحدةٍ منهما علماءُ من القرأةِ، فبأيتِهما قرَأ القارئُ فمصيبٌ؛ لاتفاقِ معنَيَيْهما، والعربُ توحِّدُ مثلَ ذلك أحيانًا وتجمعُ، بمعنًى واحدٍ، فيقولُ أحدُهم: سمِعتُ صوتَ القومِ، وسمِعتُ أصواتَهم. كما قال جلَّ ثناؤُه:{إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان: 19]. ولم يقُلْ: أصواتُ الحميرِ. ولو جاء ذلك كذلك كان صوابًا.
وقولُه: {لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: لا يمَسُّ المتقين من أذَى جَهَنَّمَ شيءٌ، وهو السوءُ الذي أخبَر جلّ ثناؤُه أنه لن يَمسَّهم، {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}. يقولُ: ولا هم يحزنون على ما فاتهم من آرابِ
(2)
الدنيا، إذ صاروا إلى كرامةِ اللهِ، ونعيمِ الجنانِ.
وقولُه: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} . يقولُ تعالى ذكرُه: اللهُ الذي له الألوهةُ من كلِّ خلقِه، الذي لا تصلُحُ العبادةُ إلا له، خالقُ كلِّ شيءٍ لا ما لا يقدِرُ على خلقِ شيءٍ، {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}. يقولُ: وهو على كلَّ شيءٍ قَيِّمٌ بالحفظِ والكَلاءةِ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: له مفاتيحُ خزائنِ السماواتِ والأرضِ، يفتَحُ منها على مَن
(1)
هي قراءة حمزة والكسائي وخلف وشعبة عن عاصم. المصدر السابق.
(2)
في ص، ت 2، ت 3:"آداب". والأَرب: الحاجة والبغية والأمنية. الوسيط (أ ر ب).
يشاءُ، ويُمسِكُها على
(1)
مَن أحبَّ من خلقِه. واحدُها مِقْليدٌ. وأما الإقليدُ فواحدُ الأقاليدِ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} : مفاتيحُها
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} . أي: مفاتيحُ السماواتِ والأرضِ
(3)
.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ قولَه:{لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} . قال: خزائنُ السماواتِ والأرضِ
(4)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} . قال: المقاليدُ المفاتيحُ. قال: له مفاتيحُ خزائنِ السماواتِ والأرضِ
(5)
.
وقولُه: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: والذين كفَروا بحججِ اللهِ فكذَّبوا بها وأنكَروها، أولئك هم المَغبُونون
(1)
في م: "عن".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 333 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 190 عن معمر عن قتادة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 333 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(4)
ذكره القرطبي في تفسيره 15/ 274، وابن كثير في تفسيره 7/ 102.
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 334 إلى المصنف.
حظوظَهم [من خيرِ السماواتِ]
(1)
التي بيدِه مفاتيحُها؛ لأنهم حُرِموا ذلك كلَّه في الآخرةِ بخلودِهم في النارِ، وفي الدنيا بخِذلانِهم عن الإيمانِ باللهِ عز وجل.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65)} .
يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه: قلْ يا محمدُ لمشركي قومِك، الداعِيك إلى عبادةِ الأوثانِ: أَفَغَيرَ اللهِ أَيُّها الجاهِلون باللهِ تأمُرُونِّي أن أعبُدَ؟ ولا تصلحُ العبادةُ لشيءٍ سواه.
واختلَف أهلُ العربيةِ في العاملِ في قولِه: {أَفَغَيْرَ} . النصبَ؛ فقال بعضُ نحويِّي البصرةِ: قيل
(2)
: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي} . يريدُ
(3)
: أفغيرَ اللهِ أعبدُ، تأمُرُونِّي؟! كأنه أراد به الإلغاءَ، واللهُ أعلمُ، كما تقولُ: ذهَب فلأن يدرِى. جعَله على معنى: فما
(4)
يدرِي. وقال بعضُ نحويِّي الكوفةِ: "غير" منتصبةٌ بـ "أعبدُ"، و"أن" تحذفُ وتدخلُ؛ لأنها علمٌ للاستقبالِ، كما تقولُ: أريدُ أن أضربَ، وأريدُ أضربُ، وعسى أن أضربَ، وعسى أضربُ، فكانت في طلبِها الاستقبالَ كقولِك: زيدًا سوفَ أضربُ. فلذلك حُذِفت وعمِل ما بعدَها فيما قبلَها، ولا حاجةَ بنا إلى اللغوِ.
(1)
في ص: "خيرات خزائن الله"، وفي ت 2، ت 3:"خيرات خزائن السماوات".
(2)
في م، ت 1:"قل".
(3)
في م، ت 2، ت 3:"يقول".
(4)
سقط من: ت 2، ت 3.
وقولُه: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: ولقد أوحَى إليك ربُّك يا محمدُ، وإلى الذين من قبلِك من الرسلِ، {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ}. يقولُ: لَئِنْ أَشرَكتَ باللهِ شيئًا يا محمدُ، ليَبطُلَنَّ عملُك ولا تنالُ به ثوابًا، ولا تدركُ به جزاءً إلا جزاءَ مَن أشرَك باللهِ. وهذا من المؤخَّرِ الذي معناه التقديمُ. ومعنى الكلامِ: ولقد أوحِي إليك لئن أشرَكتَ ليحبطنَّ عملُك، ولتكونَنَّ من الخاسِرين، {وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ}. بمعنى: وإلى الذين مِن قبلِك من الرسلِ من ذلك، مثلُ الذي أوحِي إليك منه، فاحذَرْ أن تشركَ باللهِ شيئًا فتَهلِكَ.
ومعنى قولِه: {وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} . ولتكونَنَّ من الهالِكين بالإشراكِ باللهِ، إن أشرَكتَ به شيئًا.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66) وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)} .
يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: لا تعبدْ ما أمَرك به هؤلاء المشركون من قومِك يا محمدُ بعبادتِه، بل الله فاعبُدْ دونَ كلِّ ما
(1)
سواه من الآلهةِ والأوثانِ والأندادِ، {وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} للهِ على نعمتِه عليك، بما أنعَم عليك من الهدايةِ لعبادتِه
(2)
، والبراءةِ من عبادةِ الأصنامِ والأوثانِ، ونُصِبَ اسمُ {اللَّهَ} بقولِه:{فَاعْبُدْ} . وهو بعدَه؛ لأنه ردُّ كلامٍ، ولو نُصِب بمضمرٍ قبلَه، إذ كانت العربُ تقولُ: زيدٌ فليقُمْ، [وزيدًا فليقُمْ]
(3)
. رفعًا ونصبًا؛ الرفعُ على: فليُنظَرْ زيدٌ
(1)
في ت 1: "من".
(2)
في ت 2، ت 3:"لعباده".
(3)
سقط من: ت 2، ت 3.
فليقُمْ. والنصبُ على: انظُروا زيدًا فليقُمْ - كان صحيحًا جائزًا.
وقولُه: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} . يقولُ تعالى ذكرُه: وما عظَّم الله حَقَّ عظمتِه، هؤلاء المشركون باللهِ، الذين يدعونك إلى عبادةِ الأوثانِ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} . قال: هم الكفارُ الذين لم يؤمِنوا بقدرةِ اللهِ عليهم؛ فمن آمَن أن الله على كلَّ شيءٍ قديرٌ، فقد قدَر الله حَقَّ قدرِه، ومَن لم يُؤْمِنْ بذلك، فلم [يقدُرِ الله]
(1)
حقَّ قدرِه
(2)
.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديّ:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} : ما عظَّموا الله حقَّ عظمتِه
(3)
.
وقولُه: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} . يقولُ تعالى ذكرُه: والأرضُ كلُّها قبضتُه في يومِ القيامةِ، {وَالسَّمَاوَاتُ} كلُّها {مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ}. فالخبرُ عن الأرضِ متناهٍ عندَ قولِه:{يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ، و {وَالْأَرْضُ} مرفوعةٌ بقولِه:{قَبْضَتُهُ} ، ثم استأنَف
(4)
الخبرَ عن السماواتِ فقال: {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} . وهي مرفوعةٌ بـ {مَطْوِيَّاتٌ} .
(1)
في ص، ت 1، ت 2:"يؤمن بالله".
(2)
تقدم تخريجه في 9/ 397.
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 103.
(4)
في ص، ت 1، ت 2:"استؤنف".
ورُوِى عن ابن عباسٍ وجماعةٍ غيرِه أنهم كانوا يقولون: الأرضُ والسماواتُ جميعًا في يمينِه يومَ القيامةِ.
ذكرُ الروايةِ بذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قوله:{وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} . يقولُ: قد قبَض الأرَضينَ والسماواتِ جميعًا بيمينِه، ألم تسمَعْ أنه قال:{مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} يعنى: الأرضُ والسماواتُ بيمينِه جميعًا. قال ابن عباسٍ: وإنما يستعينُ بشمالِه المشغولةُ يمينُه
(1)
.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا معاذُ بن هشامٍ، قال: ثنى أبي، عن عمرِو بن مالكٍ، عن أبي الجوزاءِ، عن ابن عباسٍ، قال: ما السماواتُ السبعُ والأَرَضُونَ السبعُ في يدِ اللهِ، إلا كخردلةٍ في يدِ أحدِكم
(2)
.
قال: ثنا معاذُ بن هشامٍ، قال: ثنى أبي، عن قتادةَ، قال: ثنا النضرُ بنُ أنسٍ، عن ربيعةَ الجُرَشيِّ
(3)
، قال:{وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} . قال: ويدُه الأخرى خِلْوٌ ليس فيها شيءٌ.
حدَّثني عليُّ بنُ الحسنِ الأزديُّ، قال: ثنا يحيى بنُ يمانٍ، عن عمارِ بن عمرَ
(4)
، عن الحسنِ في قولِه:{وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ} . قال: كأنها
(1)
في ت 1، ت 3:"بيمينه".
(2)
أخرجه أبو الشيخ في العظمة (137) من طريق أبي الجوزاء به.
(3)
في م، ت 1:"الجرسى"، وفى ت 2، ت 3:"الحرسى". وينظر الأنساب 2/ 45.
(4)
في م: "عمرو". قال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: أخطأ يحيى بن يمان فيما قال: عمار بن عمر وإنما هو عمار بن عمارة. ينظر الجرح والتعديل 6/ 391.
جوزةٌ [بقَضِّها وقَضِيضها]
(1)
.
حُدِّثتُ عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: ثنا عبيدٌ، قال: سمعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} . يقولُ: السماواتُ والأرضُ مطوياتٌ بيمينِه جميعًا
(2)
.
وكان ابن عباسٍ يقولُ: إنما يستعينُ
(3)
بشمالِه المشغولةُ يمينُه
(4)
، وإنما الأرضُ والسماواتُ كلُّها بيمينِه، وليس في شمالِه شيءٌ.
حدَّثنا الربيعُ، قال: ثنا ابن وهبٍ، قال: أخبَرني أسامةُ بنُ زيدٍ، عن أبي حازمٍ، عن عبدِ اللهِ بن عمرَ، أنه رأى رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم على المنبرِ يخطبُ الناسَ، فمرَّ بهذه الآيةِ:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يأخُذُ السماواتِ السبعَ
(5)
والأرضينَ السبعَ فيجعلُها في كفَّيه
(6)
، ثم يقولُ [بهما كما يقولُ الغلامُ بالكرةِ]
(7)
: أنا اللهُ الواحدُ، أنا اللهُ العزيزُ". لقد رأَينا المنبرَ، وإنه ليكادُ أن يسقطَ به
(8)
.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا يحيى، عن سفيانَ، قال: ثنى منصورٌ وسليمانُ،
(1)
في ت 1: "يقبضها فقبضها". والأثر أخرجه أبو الشيخ في العظمة (135) من طريق يحيى بن اليمان به.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 336 إلى المصنف وعبد بن حميد.
(3)
في ت 2: "يستغنى".
(4)
في ت 1، ت 3:"بيمينه".
(5)
سقط من: ص، م.
(6)
في م، ت 1:"كفه".
(7)
في ص، ت 2، ت 3:"الغلام بهما كما يقول الكرة"، وفى ت 1:"الغلام بهما يقول الكرة"، وفي مصدر التخريج:"بهم هكذا كما يقول الغلام بالكرة".
(8)
أخرجه ابن منده في الرد على الجهمية (57) من طريق الربيع به.
عن إبراهيمَ، عن عَبِيدةَ السَّلْمانيِّ، عن عبدِ اللهِ، قال: جاء يهوديٌّ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمدُ، إن الله يُمسِكُ السماواتِ على إصبَعٍ، والأرَضينَ على إصبعٍ، والجبالَ على إصبعٍ، والخلائقَ على إصبعٍ، ثم يقولُ: أنا الملكُ. قال: فضحِك النبيُّ صلى الله عليه وسلم حتى بدَت نواجذُه، وقال:" {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} "
(1)
.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا يحيى، قال: ثنا فُضَيلُ بن عياضٍ، عن منصورٍ، عن إبراهيمَ، عن عَبِيدةَ، عن عبدِ اللهِ، قال: فضحِك النبيُّ صلى الله عليه وسلم تعجبًا وتصديقًا
(2)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المفضلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ، عن منصورٍ، عن خيثمةَ بن [عبدِ الرحمنِ]
(3)
، عن علقمةَ، عن عبدِ اللهِ بن مسعودٍ، قال: كنا عندَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، حينَ جاءه حَبرٌ من أحبارِ اليهودِ فجلَس إليه، فقال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"حَدَّثْنا". قال: إن الله تبارك وتعالى إذا كان يومُ القيامةِ، جعَل السماواتِ على إصبعٍ، [والأَرْضِينَ على إصبعٍ، والجبالَ على إصبعٍ]
(4)
، والماءَ والشجرَ على إصبعٍ، وجميعَ الخلائقِ على إصبعٍ، ثم يهزُّهنَّ، ثم يقولُ: أنا الملكُ. قال: فضحِك رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذُه؛ تصديقا لما قال، ثم قرَأ هذه الآيةَ:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} ، الآية
(5)
.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ نحوَ ذلك.
(1)
أخرجه الترمذى (3238) عن ابن بشار به، وأحمد 7/ 164 (4087)، والبخارى (7414)، والنسائى في الكبرى (11451) من طريق يحيى بن سعيد به.
(2)
أخرجه الترمذى (3239) عن ابن بشارٍ به، ومسلم (19/ 2786) من طريق فضيل به، وأحمد 7/ 377 (4368) والبخاري (7513، 4811)، والنسائي في الكبرى (11450) من طريق منصور به.
(3)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"عبد الرحيم". وينظر تهذيب الكمال 8/ 370.
(4)
سقط من: ت 2، ت 3.
(5)
أخرجه البيهقى في الأسماء والصفات (735) من طريق أحمد بن المفضل عن أسباط عن منصور به، بإسقاط السدى بين أحمد وأسباط. ينظر ما يأتي.
حدَّثني سليمانُ بنُ عبدِ الجبارِ وعباسُ بنُ أبى طالبٍ، قالا: ثنا محمدُ بنُ الصلتِ، قال: ثنا أبو كُدَينةَ، عن عطاءِ بن السائبِ، عن أبي الضحى، عن ابن عباسٍ، قال: مرَّ يهوديٌّ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم وهو جالسٌ، فقال:"يا يهوديُّ، حدِّثْنا". فقال: كيف تقولُ يا أبا القاسمِ يومَ يجعلُ اللهُ السماءَ على ذِهِ، والأَرضَ على ذِهِ، والجبالَ على ذِهِ، وسائر الخلقِ على ذِهِ؟ فَأَنزَلَ اللهُ:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} ، الآية
(1)
.
حدَّثني أبو السائبِ، قال: ثنا أبو معاويةَ، عن الأعمشِ، عن إبراهيمَ، عن علقمةَ، عن عبدِ اللهِ، قال: أتَى النبيَّ صلى الله عليه وسلم رجلٌ من أهلِ الكتابِ، فقال: يا أبا القاسم، أَبْلَغك أن الله يحملُ الخلائقَ على إصبعٍ، والسماواتِ على إصبعٍ، والأَرَضينَ على إصبعٍ، والشجرَ على إصبعٍ، والثَّرَى على إصبعٍ؟! قال: فضحِك النبيُّ صلى الله عليه وسلم حتى بدَتْ نواجذُه، فأنزَل اللهُ:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ} إلى آخرِ الآيةِ
(2)
.
وقال آخرون: بل السماواتُ في يمينِه، والأَرَضونَ في شمالِه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا عليُّ بنُ داودَ، قال: ثنا ابن أبي مريمَ، قال: أخبَرنا ابن أبي حازمٍ، قال: ثنى أبو حازمِ، عن عبيدِ اللهِ بن
(3)
مِقْسَمٍ، أنه سمِع عبدَ اللهِ بن عمرَ يقولُ: رَأَيْتُ
(1)
أخرجه الترمذى (3240)، وابن خزيمة في التوحيد ص 53، وابن منده في الرد على الجهمية (65) من طريق محمد بن الصلت به، وأخرجه أحمد 4/ 126، 5/ 129 (2267، 2988) من طريق أبى كدينة به.
(2)
أخرجه ابن خزيمة في التوحيد ص 52 عن أبي السائب سلم بن جنادة به، وأحمد 6/ 69 (3590)، ومسلم (2786/ 22) من طريق أبى معاوية به. والبخارى (7415، 7451)، ومسلم (2786/ 21، 22)، والنسائى في الكبرى (11452) كلهم من طريق الأعمش به.
(3)
في ص، ت 1:"عن".
رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وهو على المنبرِ يقولُ: "يأخُذُ الجبارُ سماواتِه وأرضَه بيدَيْه". وقبَض رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يدَيه، وجعل يقبضُهما ويسطُهما، قال:"ثم يقولُ: أنا الرحمنُ، أنا المَلِكُ، أين الجبَّارون، أينَ المتكَبِّرون؟ ". وتمايَلَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن يمينِه، وعن شمالِه، حتى نظَرتُ إلى المنبرِ يتحرَّكُ من أسفلِ شيءٍ منه، حتى إنى لأقولُ: أساقطٌ هو برسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم
(1)
.
حدَّثني أبو علقمةَ الفَرْوِيُّ عبدُ اللهِ بنُ محمدٍ، قال: ثنى عبدُ اللهِ بنُ نافعٍ، عن عبدِ العزيزِ بن أبي حازمٍ، عن أبيه، عن عُبيدِ
(2)
بن عميرٍ، عن عبدِ اللهِ بن عمرَ، أنه قال: سمِعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ: "يأخذُ الجبَّارُ سماواتِه وأرضَه بيدِه
(3)
". وقبض يدَه، فجعَل يقبِضُها ويبسطُها، ثم يقولُ: أنا الجبَّارُ، أنا المَلِكُ، أينَ الجبَّارون، أينَ المتكبِّرون؟ ". قال: ويميلُ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن يمينِه وعن شمالِه، حتى نظَرتُ
(4)
إلى المنبرِ يتحرَّكُ من أسفلِ شيءٍ منه، حتى إنى لأقولُ: أساقِطٌ هو برسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم
(5)
.
حدَّثني الحسنُ بنُ عليّ بن عياشٍ
(6)
الحِمْصيُّ، قال: ثنا بشرُ بنُ شعيبٍ، قال: أخبَرني أبي، قال: ثنا محمدُ بنُ مسلمِ بن شهابٍ، قال: أخبَرني سعيدُ بنُ المسيبِ، عن أبي هريرةَ، أنه كان يقولُ: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يقبِضُ اللهُ عز وجل الأرضَ يومَ القيامةِ، ويطوِى السماواتِ بيمينِه، ثم يقولُ: أنا الملكُ، أينَ ملوكُ
(1)
أخرجه مسلم (2788/ 26)، والنسائى في الكبرى (7689)، وابن ماجه (198، 4275)، وابن منده في الرد على الجهمية (46) من طريق عبد العزيز بن أبي حازم به، ومسلم (2788/ 25) من طريق آخر عن أبي حازم به.
(2)
في ت 3: "عبيد الله". ينظر تهذيب الكمال 9/ 223.
(3)
في ص: "يديه".
(4)
في ص، ت 3:"نظر".
(5)
أخرجه الطبراني (13437) من طريق عبد العزيز به.
(6)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"عباس". ينظر ما تقدم في 15/ 37.
الأرضِ؟ "
(1)
.
حُدِّثتُ عن حرملةَ بن يحيى، قال: ثنا إدريسُ بنُ يحيى القائدُ، قال: أخبَرنا حَيْوَةُ، عن عقيلٍ، عن ابن شهابٍ، قال: أخبرني نافعٌ مولى ابن عمرَ، عن عبدِ اللهِ ابن عمرَ، أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال:"إن الله يَقبِضُ الأرضَ يومَ القيامةِ بيدِه، ويطوِى السماءَ بيمينِه، ويقولُ: أنا المَلِكُ"
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عوفٍ
(3)
، قال: ثنا أبو المغيرةِ، قال: ثنا ابن أبي مريمَ، قال: ثنا سعيدُ بنُ ثَوْبانَ الكُلاعيُّ، عن أبي أيوبَ الأنصاريِّ، قال: أتى رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَبرٌ من اليهود، فقال: أرأيتَ إذ يقولُ اللهُ في كتابِه: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} . فأينَ الخلقُ عند ذلك؟ قال: "هم فيها كرَقْمِ الكتابِ"
(4)
.
حدَّثنا إبراهيمُ بنُ سعيدٍ الجوهريُّ، قال: ثنا أبو أسامةَ، قال: ثنا عمرُ
(5)
بنُ حمزةَ، قال: ثنى سالمٌ، عن أبيه، أنه أخبرَه، أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال:"يَطوِى اللهُ السماواتِ، فيأخذُهن بيمينِه، ويَطوِى الأرضَ، فيأخذُها بشمالِه، ثم يقولُ: أنا المَلِكُ، أينَ الجبَّارون، أينَ المتكبِّرون؟ "
(6)
.
وقيل: إن هذه الآية نزَلت من أجلِ يهوديٍّ سأل رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن صفةِ الربِّ.
(1)
أخرجه أحمد 14/ 451 (8863)، والبخارى (6519، 7382)، ومسلم (2787/ 23)، والنسائي في الكبرى (7692، 11455)، وابن ماجه (192) من طريق ابن شهاب الزهري به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 335 إلى ابن المنذر وعبد بن حميد وابن مردويه.
(2)
أخرجه البخارى (7412) من طريق نافع به.
(3)
في م، ت 2، ت 3:"عون". ينظر تهذيب الكمال 26/ 236.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 336 إلى المصنف.
(5)
في م: "عمرو". ينظر تهذيب الكمال 21/ 311.
(6)
أخرجه أبو داود (4732)، وعبد بن حميد (740 - منتخب)، وأبو الشيخ في العظمة (141) من =
ذكرُ الروايةِ بذلك
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، قال: ثنى ابن إسحاقَ، عن محمدٍ، عن سعيدٍ، قال: أتى رهطٌ من اليهودِ نبيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا محمدُ، هذا اللهُ خلَق الخلقَ، فمن خلقَه؟ فغضِب النبيُّ صلى الله عليه وسلم حتى انتُقِع لونُه
(1)
، ثم ساوَرَهم
(2)
غضبًا لربِّه، فجاءه جبريلُ فسكَّنه، وقال: اخفِضْ عليك جَناحَك يا محمدُ. وجاءه من اللهِ جوابُ ما سأَلوه عنه. قال: يقولُ اللهُ تبارك وتعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الصمد 1 - 4]. قال: فلما تلاها عليهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم قالوا: صِفْ لنا ربَّك، كيف خَلْقُه؟ وكيفَ عَضُده؟ وكيف ذراعُه؟ فغضِب النبيُّ صلى الله عليه وسلم أشدَّ من غضبِه الأولِ، ثم ساوَرَهم
(2)
، فأتاه جبريلُ، فقال مثلَ مقالتِه، وأتاه بجوابِ ما
(3)
سأَلوه عنه، [قال: يقولُ اللهُ]
(4)
(5)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا يعقوبُ، عن جعفرٍ، عن سعيدٍ، قال: تكلَّمت اليهودُ في صفةِ الربِّ، فقالوا ما لم يعلَموا ولم يرَوا، فأنزَل اللهُ على نبيِّه صلى الله عليه وسلم:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} ، ثم بيَّن للناسِ عظمتَه، فقال:{وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} . فجعَل صفتَهم التي وصَفوا الله بها شِركًا
(6)
.
= طريق أبي أسامة به.
(1)
يقال: انتقع لونه وامتقع، إذا تغيَّر من خوف أو ألم ونحو ذلك. النهاية 5/ 109.
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"شاورهم". وساورهم: واثبهم. ينظر الوسيط (س و ر).
(3)
في ت 2: "مثل ما".
(4)
زيادة من: ت 3.
(5)
سيرة ابن هشام 1/ 571.
(6)
أخرجه أبو الشيخ في العظمة (83) من طريق يعقوب به، والبيهقى في الأسماء والصفات (737) =
وقال بعضُ أهلِ العربيةِ من أهلِ البصرةِ: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} . يقولُ: في قدرتِه؛ نحوَ قولِه: {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 36]. أي: وما كانت لكم عليه
(1)
قدرةٌ. وليس المِلكُ لليمينِ دونَ سائرِ الجسدِ. قال: وقولُه: {قَبْضَتُهُ} . نحوُ قولِك للرجلِ: هذا في يدِك، وفى قبضتِك. والأخبارُ التي ذكَرناها عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وعن أصحابِه وغيرِهم، تشهدُ على بُطُولِ هذا القولِ.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا هارونُ بنُ المغيرِة، عن عَنْبسةَ، عن حبيبِ بن أبى عمْرةً، عن مجاهدٍ، عن ابن عباسٍ، عن عائشةَ قالت: سألتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن قولِه: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} . فأينَ الناسُ يومَئذٍ؟ قال: "على الصِّراطِ"
(2)
.
وقوله: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: تنزيهًا وتبرئةً للهِ، وعلوًّا وارتفاعًا عما يُشركُ به هؤلاء المشركون من قومِك يا محمدُ، القائِلون لك: اعبُدِ الأوثانَ مِن دونِ اللهِ، واسجُدْ لآلهتِنا.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا
(3)
مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68)}.
= من طريق يعقوب موصولًا عن ابن عباس. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 335 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(1)
سقط من: ص، ت 2، ت 3.
(2)
أخرجه أحمد 6/ 116 (الميمنية)، والترمذى (3241)، والنسائى في الكبرى (11453)، والحاكم 2/ 436، والبيهقى في البعث والنشور (629) من طريق عنبسة به مطولا ومختصرًا، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 335 إلى عبد بن حميد وابن مردويه.
(3)
سقط من: م.
يقولُ تعالى ذكرُه: ونفَخ إسرافيلُ في القَرْنِ، وقد بيَّنا معنى الصُّورِ فيما مضَى بشواهدِه، وذكَرْنا اختلافَ أهلِ العلمِ فيه والصوابَ من القولِ فيه بشواهدِه، فأغْنَى ذلك عن إعادتِه في هذا الموضعِ
(1)
.
وقولُه: {فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} . يقولُ: مات، وذلك في النفخةِ الأولى.
كما حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} قال: مات
(2)
.
وقولُه: {إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} . اخْتَلَف أهلُ التأويلِ في الذي عنَى اللهُ بالاستثناءِ في هذه الآيةِ؛ فقال بعضُهم: عنَى به جبريلَ وميكائيلَ وإسرافيلَ وملكَ الموتِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} قال: جبريلُ ومكيائيلُ وإسرافيلُ وملكُ الموتِ
(2)
.
حدَّثني هارونُ بنُ إدريسَ الأصَمُّ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ بنُ محمدٍ المُحارِبيُّ، قال: ثنا محمدُ بنُ إسحاقَ، قال: ثنا الفضلُ بنُ عيسى، عن عمِّه يزيدَ الرَّقَاشيِّ، عن أنسِ بن مالكٍ قال: قرأ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} . فقيل: مَن هؤلاء الذين اسْتَثْنى اللهُ يا رسولَ اللهِ؟ قال: "جبريلُ وميكائيلُ وملكُ الموتِ، فإذا قبَض أرواحَ الخلائقِ قال:
(1)
ينظر ما تقدم في 9/ 339 - 341.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 338 إلى المصنف.
يا مَلَكَ الموتِ، مَن بقِى؟ وهو أعلمُ. قال: يقولُ: سبحانَك تبارَكْتَ ربي ذا الجَلَالِ والإكرامِ، بقِى جبريلُ وميكائيلُ وملكُ الموتِ. قال: يقولُ: يا ملكَ الموتِ، خُذ نفسَ ميكائيلَ. قال: فيَقَعُ كالطَّوْدِ العظيمِ. قال: ثم يقولُ: يا ملكَ الموتِ، مَن بقِى؟ قال: فيقولُ: سبحانَك ربي ياذا الجلالِ والإكرامِ، بقى جبريلُ وملكُ الموتِ. قال: فيقولُ: يا ملكَ الموتِ، مُتْ. قال: فيموتُ. قال: ثم يقولُ: يا جبريلُ، مَن بقِى؟ قال: فيقولُ جبريلُ: سبحانَك ربي يا ذا الجلالِ والإكرامِ، بقِى جبريلُ. وهو مِن اللهِ بالمكانِ الذي هو به. قال: فيقولُ: يا جبريلُ، ما
(1)
بدٌّ مِن مَوْتةٍ. قال: فيَقَعُ ساجدًا يُخْفِقُ بجَناحَيْه. يقولُ: سبحانَك ربي، تبارَكْتَ وتعالَيْتَ ياذا الجلالِ والإكرامِ، أنت الباقى، وجبريلُ الميتُ الفاني. قال: ويَأْخُذُ رُوحَه في الخَلْقةِ
(2)
التي خُلق منها. قال: فيَقَعُ على ميكائيلَ أن فضلَ خلقِه على خلقِ مِيكائيلَ، كفضلِ الطَّوْدِ العظيمِ على الظَّرِبِ
(3)
مِن الظِّرابِ"
(4)
.
وقال آخرون: عنى بذلك الشهداءَ.
[ذكرُ مَن قال ذلك]
(5)
حدَّثنا محمدُ بنُ المثنى، قال: ثنى وهبُ بنُ جريرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن عُمارة، عن ذى حُجْرِ اليَحْمَديِّ
(6)
، عن سعيدِ بن جبيرٍ في قولِه: {فَصَعِقَ مَنْ فِي
(1)
في م: "لا".
(2)
في ت 1: "الحلقة".
(3)
الظرب: الجبل المنبسط. الوسيط (ظ ر ب).
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 336 إلى الفريابي وعبد بن حميد وأبي نصر السجزي في الإبانة وابن مردويه.
(5)
سقط من: م.
(6)
كذا ورد اسمه في النسخ، وجاء في سنن سعيد بن منصور:"حجر الهجرى"، ووقع في النسختين المخطوطتين لمصنف ابن أبي شيبة:"صخر"، وأثبته محقق المصنف - كما في نسخنا -. وذكره البخاري في تاريخه وابن أبي حاتم =
السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ}. قال: الشهداءُ ثَنِيَّةُ
(1)
اللهِ حولَ العرشِ، مُتَقَلَّدين السيوفَ
(2)
.
وقال آخرون: عنَى بالاستثناءِ في الفَزَعِ الشهداءَ، وفي الصَّعْقِ جبريلَ وملكَ الموتِ وحَمَلةَ العرشِ.
ذكرُ مَن قال ذلك، والخبرِ الذي جاء فيه عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا المُحاربيُّ عبدُ الرحمنِ بنُ محمدٍ، عن إسماعيلَ بن رافعٍ
(3)
المَدَنيِّ، عن يزيدَ، عن رجلٍ من الأنصارِ، عن محمدِ بن كعبٍ القُرَظيِّ، عن رجلٍ من الأنصارِ، عن أبي هريرةَ أنه قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يُنْفَخُ في الصُّورِ ثلاثُ نَفَخاتٍ؛ الأولى: نفخةُ الفَزَعِ، والثانيةُ: نفخةُ الصَّعْقِ، والثالثةُ: نفخةُ القيامِ لربِّ العالمين، تبارك وتعالى. يَأْمُرُ اللهُ إسرافيلَ بالنفخةِ الأولى، فيقولُ: انْفُخُ نفخةَ الفزعِ. فيَفْزَعُ أهلُ السماواتِ وأهلُ الأرضِ، إلا مَن شاء اللهُ". قال أبو هريرةَ: يا رسولَ اللهِ، فمَنِ اسْتَثْنى اللهُ حينَ يقولُ:{فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} ] النمل: 87]؟ قال: "أولئك الشهداءُ، وإنما يَصِلُ الفَزَعُ إلى الأحياءِ، أولئك أحياءٌ عندَ ربِّهم يُرْزَقون، وقَاهم اللهُ فَزَعَ ذلك اليومِ وأمَّنَهم. ثم يَأْمُرُ اللهُ إسرافيلَ بنفخةِ الصعقِ، فيقولُ: انْفُخُ نفخةَ الصعقِ. فيُصْعَقُ أَهلُ
= في الجرح باسم: "حجر الهجري"، وقال: ابن أبي حاتم: ويقال: الأصبهاني. سئل عنه أبو زرعة، فقال: رجل من أهل هجر لا أعرفه. ينظر التاريخ الكبير 3/ 73، والجرح والتعديل 3/ 267.
(1)
في ت 1: "ثبتة". وثنية الله: هم الذين استثناهم الله من الصعق. ينظر النهاية 1/ 225.
(2)
أخرجه سعيد بن منصور في سننه (2568)، وهناد في الزهد (164)، وابن أبي الدنيا في الأهوال (61) من طريق شعبة به، وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 5/ 298 من طريق عمارة به، وعبد الرزاق في تفسيره 2/ 175 من طريق شعبة عن عمارة بن أبي حفصة عن رجل عن سعيد بن جبير قوله.
(3)
في ت 1: "نافع" وقد تقدم على الصواب في 3/ 611، وينظر البداية والنهاية 19/ 323.
السماواتِ والأرضِ إلا مَن شاء اللهُ، فإذا هم خامِدون، ثم يأتى ملكُ الموتِ إلى الجبارِ تبارك وتعالى، فيقولُ: يا ربِّ، قد مات أهلُ السماواتِ والأرضِ إلا مَن شئْتَ. فيقولُ له، وهو أعلمُ: فمَن بقِى؟ فيقولُ: بقِيتَ أنت الحيُّ
(1)
الذي لا تَموتُ
(2)
، وبقى حَمَلةُ عرِشك، وبقِى جبريلُ وميكائيلُ. فيقولُ اللهُ له: اسْكُتْ، إنى كتَبْتُ الموتَ على من كان تحتَ
(3)
عرشى. ثم يأتى ملكُ الموتِ فيقولُ: يا ربِّ، قد مات جبريلُ وميكائيلُ. فيقولُ اللهُ، وهو أعلمُ: فمن بقِى؟ فيقولُ: بقيتَ أنت الحيُّ الذي لا تَموتُ (2)، وبقى حَمَلةُ عرشِك، وبقيتُ أنا. فيقولُ اللهُ: فلْيَمُتْ حَمَلةُ العرش. فيَموتون، ويَأْمُرُ اللهُ تبارك تعالى العرشَ فيَقْبِضُ الصُّورَ، فيقولُ: يا
(4)
ربِّ، قد مات حملةُ عرشِك. فيقولُ: ومَن بقِى؟ وهو أعلمُ، فيقولُ: بقِيتَ أنت الحيُّ الذي لا تَموتُ (2)، وبقِيتُ أنا. قال: فيقولُ اللهُ: أنت مِن خلقى خلَقْتُك لما رأيْتَ، فمُتْ لا تَحْىَ. فيَموتُ"
(5)
.
وهذا القولُ الذي رُوِى في ذلك عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أولى بالصحةِ؛ لأن الصَّعقَ
(6)
في هذا الموضعِ الموتُ، والشهداءُ وإن كانوا أحياءً عندَ اللهِ، كما أخْبَر تعالى ذكرُه، فإنهم قد ذاقوا الموتَ قبلَ ذلك.
وإنما عنى جلَّ ثناؤُه بالاستثناءِ في هذا الموضعِ الاستثناءَ من الذين صَعِقوا عندَ نفخةِ الصعقِ، لا مِن الذين قد ماتوا قبلَ ذلك بزمانٍ ودهرٍ طويلٍ، وذلك أنه لو جاز
(1)
بعده في: ت 2، ت 3:"القيوم".
(2)
في م: "يموت".
(3)
في ت 3: "تحتى تحت".
(4)
في م: "أي".
(5)
تقدم حديث الصور في 3/ 611 - 613.
(6)
في م: "الصعقة".
أن يكونَ المرادُ بذلك مَن قد هلَك وذاق الموتَ قبلَ وقتِ نفخةِ الصَّعْقِ، وجَب أن يكونَ المرادُ بذلك مَن قد هلَك فذاق الموتَ مِن قبلِ ذلك؛ لأنه ممن
(1)
لا يُصْعَقُ في ذلك الوقتِ، إذ
(2)
كان الميتُ لا يُجَدَّدُ له موتٌ آخرُ في تلك الحالِ.
وقال آخرون في ذلك ما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} . قال الحسنُ: يَسْتَثْنِى اللهُ، وما يَدَعُ أحدًا مِن أهلِ السماواتِ ولا أهلِ الأرضِ، إلا أذاقه الموتَ. قال قتادةُ: قد اسْتَثْنَى اللهُ، واللهُ أعلمُ إلى [ما صارت ثَنِيَّتُه]
(3)
. قال: ذُكِر لنا أن نبيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: "أتاني مَلَكٌ فقال: يا محمدُ، اخْتَرْ؛ نبيًّا مِلكًا، أو نبيًّا عبدًا. فَأَوْمَأ إليَّ أن تواضَعْ، قال: نبيًّا عبدًا. قال: فأُعطِيتُ خَصْلتين؛ أَن جُعِلْتُ أُولَ مَن تَنْشَقُّ عنه الأرضُ، وأول شافعٍ، فأَرْفَعُ رأسى، فَأَجِدُ موسى آخِذًا بالعرشِ، فاللهُ أعلمُ أصَعِق بعد الصعقةِ الأولى أم لا؟ "
(4)
.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا عَبْدةُ بنُ سليمانَ، قال: ثنا محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو سلمةَ، عن أبي هريرةَ، قال: قال يهوديُّ بسوقِ المدينةِ: والذي اصْطَفَى موسى على البشرِ. قال: فرفَع رجلٌ من الأنصارِ يدَه، فصكَّ
(5)
وجهَه، فقال: تقولُ هذا، وفينا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟! فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "ونُفِخَ في الصور، فصعق من في السماواتِ، ومَن في الأرضِ إلا من شاء اللهُ، ثم نُفِحَ فيه أخرى، فإذا هم قيامٌ
(1)
في ت 2، ت 3:"مما".
(2)
في م، ت 2:"إذا".
(3)
في ص: صار ثنيته"، وفى ت 1: "ذا يثتثنيه"، وفى ت 3: "صار تنشيته".
(4)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 175 عن معمر عن قتادة دون قول الحسن، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 337 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم، والجزء المرفوع في هذا الأثر عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 338 إلى المصنف وعبد بن حميد.
(5)
بعده في ص، م، ت 2، ت 3:"بها".
يَنْظُرون، فأكونُ أول مَن يَرْفَعُ رأسَه، فإذا موسى أخذٌ بقائمةٍ من قوائمِ العرشِ، فلا أدْرِى أرفع رأسَه قبلى، أو كان ممن اسْتَثْنى اللهُ؟ "
(1)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن عطاءٍ، عن الحسنِ، قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "كأنى أنْفُضُ رأسى مِن الترابِ أولَ خارجٍ، [فأَلْتَفِتُ فلا أَرَى أحدًا]
(2)
إلا موسى مُتَعَلِّقًا بالعرشِ، فلا أَدْرِى أممن
(3)
اسْتَثْنى اللهُ أَن لا تُصِيبَه النفخةُ، أو بُعِث قبلي؟ "
(4)
.
وقولُه: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: ثم نُفِخ في الصورِ نفخةٌ أخرى. والهاءُ التي في {فِيهِ} مِن ذكرِ الصورِ.
كما حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى} . قال: في الصُّورِ، وهى نفخةُ البعثِ
(5)
.
وذُكِر أن بينَ النفختين أربعين سنةً.
ذكرُ الروايةِ بذلك
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا أبو معاويةَ، عن الأعمشِ
(6)
، عن أبي صالحٍ، عن أبي هريرةَ، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "ما بينَ النفختين أربعون
(7)
". قالوا: يا أبا
(1)
أخرجه الترمذى (3245) عن أبي كريب به، وابن ماجه (4274) من طريق محمد بن عمرو به. وزادا في آخره:"ومن قال أنا خير من يونس بن متى فقد كذب".
(2)
في ت 2، ت 3:"فالتقم فلا أدرى آخذا".
(3)
في ت 2: "ممن".
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 338 إلى المصنف.
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 338 إلى المصنف، وهو جزء من الأثر المتقدم ص 254.
(6)
بعده في ت 3: "عن صالح".
(7)
بعده في ت 2، ت 3:"سنة".
هريرةَ، أربعون يومًا؟ قال: أَبَيْتُ. قالوا: أربعون شهرًا؟ قال: أبَيْتُ. قالوا: أربعون سنةً؟ قال: أبَيْتُ. "ثم يُنْزِلُ اللهُ مِن السماءِ ماءً، فيَنْبُتون كما يَنْبُتُ البَقْلُ". قال: "وليس من الإنسانِ شيءُ إلا
(1)
يَبْلَى، إلا [عظمًا واحدًا]
(2)
، وهو عَجْبُ الذَّنَبِ
(3)
، ومنه يُرَكَّبُ الخَلْقُ يومَ القيامةِ"
(4)
.
حدَّثنا يحيى بنُ واضحٍ، قال: ثنا البَلْخِيُّ بنُ إياسٍ، قال: سَمِعْتُ عكرمةَ يقولُ في قولِه: {فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} الآية. قال: الأُولى من الدنيا، [والأخيرةُ مِن]
(5)
الآخِرةِ
(6)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} . قال نبيُّ اللهِ: "بينَ النفختين أربعون". قال: قال أصحابُه: فما سأَلْناه عن ذلك، ولا زادَنا على ذلك. غيرَ أنهم كانوا يَرَوْن من رأيِهم أنها أربعون سنةً. وذُكِر لنا أنه يُبْعَثُ في تلك الأربعين مطرٌ، يقالُ له: مطرُ
(7)
الحياةِ. حتى تَطِيبَ الأرضُ وتَهْتَزَّ، وتَنْبُتُ أجسادُ الناسِ نباتَ البَقْلِ، ثم يُنْفَخُ فيه الثانيةُ:{فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ}
(8)
.
(1)
في ت 1، ص:"لا".
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"عظم واحد".
(3)
عجب الذنب: العظم الذي في أسفل الصلب عند العجز. النهاية 3/ 184.
(4)
أخرجه مسلم (2955/ 141) عن أبي كريب به، والبخارى (4935)، والنسائي في الكبرى (11459) من طريق أبي معاوية به، والبخارى (4814) من طريق الأعمش به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 337 إلى ابن مردويه.
(5)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ت 3.
(6)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 339 إلى المصنف.
(7)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"مطرا".
(8)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 339 إلى عبد بن حميد.
قال: ذُكِر لنا أن معاذَ بنَ جبلٍ سأَل نبيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم: كيف يُبْعَثُ المؤمنون يومَ القيامةِ؟ قال: "يُبْعَثون جُرْدًا مُرْدًا مُكَحَّلين بنى ثلاثين سنةً"
(1)
.
وقولُه: {فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} . يقولُ: فإذا مَن صَعِق عند النفخةِ التي قبلَها وغيرُهم، من جميع خلقِ اللهِ تعالى الذين كانوا أمواتًا قبل ذلك - قيامٌ مِن قبورِهم وأماكنِهم مِن الأرضِ، أحياءٌ كهيئتِهم قبلَ مَماتِهم، يَنْظُرون أمرَ اللهِ فيهم.
كما حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} . قال: حينَ يُبْعَثون.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: فأضاءَت الأرضُ بنورِ ربِّها. يقال: أَشْرَقَت الشمسُ؛ إذا صَفَت وأضاءَت. وشرَقَت
(2)
؛ إذا طلعت. وذلك حين يَبْرُزُ الرحمنُ لفصلِ القضاءِ بينَ خلقِه.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} . قال: فما يَتَضارُّون في نوره إلا كما يَتَضارُّون في الشمسِ في اليومِ الصَّحْوِ الذي لا دَخَنَ فيه
(3)
.
(1)
أخرجه أحمد 5/ 232 (الميمنية)، والبيهقى في البعث والنشور (467)، (468) من طريق قتادة عن شهر بن حوشب عن معاذ بن جبل به.
(2)
في م: "أشرقت". وينظر اللسان (ش ر ق).
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 342 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسبْاطُ، عن السديِّ:{وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} . قال: أضاءَت
(1)
.
وقولُه: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ} . يعنى: كتابُ أعمالِهم لمحاسبتِهم ومُجازاتِهم.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَوُضِعَ الْكِتَابُ} . قال: كتابُ أعمالِهم.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{وَوُضِعَ الْكِتَابُ} . قال: الحسابُ
(1)
.
وقولُه: {وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ} . يقولُ
(2)
: وجِيء بالنَبيِّين ليَسْأَلَهم ربُّهم عما أجابَتهم به أمُمهم، وردَّت عليهم في الدنيا، حين أتَتْهم رسالةُ اللهِ، {وَالشُّهَدَاءِ} . يعنى بالشهداءِ
(3)
أمةَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، يَسْتَشْهِدُهم ربُّهم على الرسلِ، فيما ذكَرَت مِن تبليغِها رسالةَ اللهِ التي أرْسَلَهم بها ربُّهم إلى أمِمها، إذا
(4)
جحَدَت أممُهم أن يكونوا أبْلَغوهم رسالةَ اللهِ.
والشهداءُ جمعُ شهيدٍ، وهذا نظيرُ قولِ اللهِ:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143].
وقيل: عَنَى بقولِه: {وَالشُّهَدَاءِ} : الذين قُتِلوا في سبيلِ اللهِ. وليس لما قالوا مِن ذلك في هذا الموضعِ كبيرُ معنًى؛ لأن عقيبَ قولِه: {وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 342 إلى المصنف.
(2)
في ص، ت 1:"وقبل"، وفى ت 2، ت 3:"وقيل".
(3)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"بالشهود".
(4)
في م: "إذ".
وَالشُّهَدَاءِ}؛ {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ} . وفى ذلك دليلٌ واضحٌ على صحةِ ما قلْنا، مِن أنه إنما دُعِى بالنبيين والشهداءِ، للقضاء بين الأنبياءِ وأممِها، وأن الشهداءَ إنما هي جمعُ شهيدٍ، الذين يَشْهَدون للأنبياءِ على أممِهم، كما ذكَرْنا.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ} . فإنهم لَيْشْهَدون للرسلِ بتبليغِ الرسالةِ، وبتكذيبِ الأممِ إياهم
(1)
.
ذكرُ مَن قال ما حكَيْنا قولَه من القولِ الآخرِ
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ} : الذين اسْتُشْهِدوا في طاعةِ اللهِ.
وقولُه: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ} . يقولُ تعالى ذكرُه: وقُضِى بينَ النبيين وأممِها بالحقِّ، [وقضاؤُه بينَهم بالحقِّ]
(2)
أَلَّا يَحْمِلَ على أحدٍ ذنبَ غيرِه، ولا يُعاقِبَ نفسًا إلا بما كسَبَت.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 342 إلى المصنف وابن مردويه.
(2)
سقط من: ت 2، ت 3.
وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71)}.
يقولُ تعالى ذكرُه: ووفَّى اللهُ حينَئذٍ كلَّ نفسٍ جزاءَ عملِها من خيرٍ وشرٍّ، وهو أعلمُ بما يَفْعَلون في الدنيا، مِن طاعةٍ أو معصيةٍ، ولا يَعْزُبُ عنه علمُ شيءٍ مِن ذلك، وهو مُجازِيهم عليه يومَ القيامةِ، فمثيبٌ المحسنَ بإحسانِه، والمسيءَ بما يَشاءُ
(1)
.
وقولُه: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا} . يقولُ: وحُشِر الذين كفَروا باللهِ، إلى نارِه التي أعَدَّها لهم يومَ القيامةِ جماعاتٍ؛ جماعةً جماعةً، وحزبًا حزبًا.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ في قولِه:{زُمَرًا} . قال: جماعاتٍ. وقولُه: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} السبعةُ، {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا}: قُوَّامُها: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ} . يعنى: كتابَ اللهِ المُنزَّلَ على رسلِه
(2)
، وحججَه التي بعَث بها رسلَه إلى أممِهم، {وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا}. يقولُ: ويُنْذِرونكم ما تَلْقَوْن في يومِكم هذا وقد يَحْتَمِلُ أن يكون معناه: ويُنْذِرونكم مصيرَكم إلى هذا اليومِ، {قَالُوا بَلَى}. يقولُ: قال الذين كفروا مُجِيبين لخَزَنةِ جهنمَ: بلى، قد أتَتْنا الرسلُ منا، فأَنْذَرَتْنا
(3)
لقاءَنا هذا اليومَ، {وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ}. يقولُ: قالوا:
(1)
في م: "أساء".
(2)
في ت 1: "رسوله".
(3)
في ت 1، ت 2، ت 3:"فأنذروننا".
ولكن وجبَت
(1)
كلمةُ اللهِ، أن عذابَه لأهلِ الكفر به علينا، بكفرِنا به.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} . بأعمالِهم
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: فيَقولُ خَزَنةُ جهنمَ للذين كفَروا حينَئذٍ: {ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ} السبعةَ، على قدرِ منازِلكم
(3)
فيها، {خَالِدِينَ فِيهَا}. يقولُ: ماكِثين فيها، لا تُنْقَلُون
(4)
عنها إلى غيرِها. {فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} . يقولُ: فبئس مسكنُ المتكبِّرِين على اللهِ في الدنيا، أن يُوَحِّدوه ويُفْرِدوا له الأُلوهةَ - جهنمُ يومَ القيامةِ.
يقولُ تعالى ذكرُه: وحُشِر الذين اتَّقَوا ربَّهم بأداءِ فرائضِه واجتنابِ مَعاصِيه في الدنيا، وأخْلَصوا له فيها الأُلوهةَ، وأفْرَدوا له العبادةَ، فلم يُشْرِكوا في عبادتِهم إياه شيئًا - {إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا} . يعنى جماعاتٍ، فكان سَوْقُ هؤلاء إلى منازلِهم من
(1)
في ت 1: "حقت".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 342 إلى المصنف وعبد بن حميد.
(3)
في ت 2، ت 3:"منازلهم".
(4)
في ص، م، ت 2، ت 3:"ينقلون".
الجنةِ وفدًا، على ما قد بيَّنا قبلُ في سورةِ "مريمَ"
(1)
، على نَجائبَ مِن نجائبِ الجنةِ، وسَوقُ الآخرين إلى النارِ دَعًّا ووِرْدًا، كما قال اللهُ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ، وقد ذكَرْنا ذلك في أماكنِه من هذا الكتابِ.
وقد حدَّثني يونُسُ، قال: أخْبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قوِله: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا} . وفي قولِه: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا} . قال: كان سَوْقُ أولئك عُنْفًا وتَعَبًا ودَفْعًا. وقرَأ: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} [الطور: 13]. قال: يُدفعون دفعًا. وقرَأ: {فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ} [الماعون: 2]. قال: يَدْفَعُه. وقرَأ: {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا} [مريم: 86]. و {نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا} [مريم: 85]. ثم قال: فهؤلاء وفدُ اللهِ.
حدَّثنا مجاهدُ بنُ موسى، قال: ثنا يزيدُ، قال: أخبَرنا شَرِيكُ بنُ عبدِ اللهِ، عن أبى إسحاقَ، عن عاصمِ بن ضَمْرَةَ، عن عليٍّ رضِى اللهُ قولَه:{وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا} . حتى إذا انْتَهَوا إلى بابِها، إذا هم بشجرةٍ يَخْرُجُ مِن أصلِها عينان، فعمَدوا إلى إحداهما، فشرِبوا منها، كأنما أُمِروا بها، فخرَج ما في بطونِهم مِن قَذَرٍ أو
(2)
أذًى أو قَذًى، ثم عمَدوا إلى الأخرى، فتوَضَّئوا منها كأنما أُمِروا بها
(3)
، فجرَت عليهم نَضْرِةُ النعيمِ، فلن تَشْعَثَ رءوسُهم بعدَها أبدًا، ولن تَبْلَى ثيابُهم بعدَها، ثم دخَلوا الجنةَ، فتلَقَّتْهم الوِلْدانُ كأنهم اللؤلؤُ
(1)
ينظر ما تقدم في 15/ 629 - 631.
(2)
في ت 2: "أي".
(3)
في م: "به".
المكنونُ، فيقولون: أبْشِرْ [عبدَ اللهِ]
(1)
، أَعَدَّ اللهُ لك كذا، وأعَدَّ لك كذا وكذا. ثم يَنْظُرُ إلى تأسيسِ بنيانِه؛ جَنْدَلُ
(2)
اللؤلؤِ الأحمرِ والأصفرِ والأخضرِ، يتلأْلأُ كأنه البرقُ، فلولا أن الله قضَى أَلا يَذْهَبَ بصرُه لَذَهَب، ثم يَأْتى بعضُهم إلى بعضِ أزواجِه، فيقولُ: أَبْشِرِى، قد قدِم فلانُ بنُ فلانٍ. فيُسَمِّيه باسمه واسم أبيه، فتقولُ: أنت رأيْتَه؟ أنت رأيْتَه؟ فيَسْتَخِفُّها الفرحُ حتى تقومَ، فتَجْلِسُ على أُسْكُفَّةِ بابِها، فيَدْخُلُ فيَتَّكئُ على سريرِه، ويَقْرَأُ هذه الآيةَ:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف: 43]. الآية
(3)
.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ، قال: ذكَر أبو إسحاقَ، عن الحارثِ، عن عليٍّ رضي الله عنه قال: يُساقُون إلى الجنةِ، فيَنْتَهُون إليها، فيَجِدون عندَ بابِها شجرةً، في أصلِ ساقِها عينان تَجْرِيان، فيَعْمِدون إلى إحداهما، فيَغتَسِلون منها، فتَجْرِى عليهم نضرةُ النعيمِ، فلن تَشْعَثَ رءوسُهم بعدَها أبدًا، ولن تَغْبَرَّ جلودُهم بعدَها أبدًا، كأنما دُهِنوا بالدِّهانِ، ويَعْمِدون إلى الأخرى، فيَشْرَبون منها، فيُذْهَبُ ما في بطونِهم من قَذًى أو أذًى، ثم يَأتون بابَ الجنةِ فيَسْتَفْتِحون، فيُفْتَحُ لهم، فتَلَقَّاهم خزنةُ الجنةِ، فيقولون:{سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32]. قال: وتَتَلَقَّاهم
(4)
الوِلْدانُ المُخَلَّدون، يُطِيفون بهم كما يُطِيفُ وِلْدانُ أهلُ الدنيا بالحَميمِ إذا جاء مِن الغَيْبةِ،
(1)
زيادة من: ت 1.
(2)
في م: "جنادل".
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 176، وابن أبي شيبة 13/ 112 والحسين المروزي في زوائده على زهد ابن المبارك (1450)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنة (8)، وابن أبي حاتم في تفسيره - كما في تفسير ابن كثير 7/ 144 - والبيهقي في البعث (272) من طريق أبي إسحاق به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 342 إلى عبد بن حميد وإسحاق بن راهويه والضياء في المختارة.
(4)
في ص، ت 1:"فتلقاهم".
يقولون: أبْشِرْ أَعَدَّ اللهُ لك كذا، وأعَدَّ لك كذا. فيَنْطَلِقُ أحدُهم إلى زوجتِه، فيُبَشِّرُها به، فيقولُ: قدِم فلانٌ. باسمِه الذي كان يُسَمَّى به في الدنيا. قال: فيَسْتَخِفُّها الفرحُ، حتى تقومَ على أُسْكُفَّةِ بابِها، وتقولُ: أنت رأيْتَه؟ أنت رأيْتَه؟ قال: فيقولُ: نعم. قال: فيَجِيءُ حتى يَأْتىَ منزلَه، فإذا أصولُه مِن جَنْدلِ اللؤلؤِ، مِن بين أصفرَ وأحمرَ وأخضَر. قال: فيَدْخُلُ، فإذا الأكوابُ موضوعةٌ، والنَّمارِقُ مصفوفةٌ، والزَّرابيُّ مَبْثوثةٌ. قال: ثم يَدْخُلُ إلى زوجتِه مِن الحُورِ العِينِ، فلولا أن الله أَعَدَّها له، لَالْتُمِع
(1)
بصرُه مِن نوِرها وحسنِها. قال: فاتَّكَأ عند ذلك، ويقولُ:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} . قال: فتُنادِيهم الملائكةُ: {أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 43].
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، قال: ذكر السديُّ نحوَه أيضًا، غيرَ أنه قال: لهو أهْدَى إلى منزلِه في الجنةِ، منه إلى منزلِه في الدنيا. ثم قرأ السديُّ:{وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد: 6].
واخْتَلَف أهلُ العربيةِ في موضعِ جوابِ "إذا" التي في قولِه: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا} ؛ فقال بعضُ نحويِّى البصرةِ: يقالُ: إن قولَه: {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا} . في معنى: قال لهم، كأنه يُلْغِى الواوَ، وقد جاء في الشعرِ شيءٌ يُشْبِهُ أن تكونَ الواوُ زائدةً، كما قال الشاعرُ
(2)
:
فإذا وذلك يا كُبَيْشَةُ لم يَكُنْ
…
إلا توهُّمُ
(3)
حالمٍ بخَيَالِ
فيُشْبِهُ أن يكونَ يُرِيدُ: فإذا ذلك لم يَكُنْ. قال: وقال بعضُهم: فأُضْمِر الخبرُ، وإضمارُ الخبرِ أيضًا أحسنُ في الآيةِ، وإضمارُ الخبرِ في الكلامِ كثيرٌ. وقال آخرُ
(1)
التُمع: اختُلس. النهاية 4/ 271.
(2)
هو ابن مقبل. والبيت في ديوانه ص 259.
(3)
في الديوان: "كحلمة".
منهم: هو مكفوفٌ
(1)
عن خبرِه. قال: والعربُ تَفْعَلُ مثلَ هذا، قال عبدُ مَنافِ بنُ رِبْعٍ في آخرِ قصيده
(2)
:
حتى إذا أسْلَكُوهم في قُتائِدةٍ
…
شَلًّا كما تَطْرُدُ الجَمَّالةُ الشُّرُدا
وقال الأخطلُ في آخرِ قصيده
(3)
:
خَلَا أن حيًّا من قريشٍ تفَضَّلوا
…
على الناسِ أو أنَّ الأكارمَ نَهَشَلا
وقال بعضُ نحويِّي الكوفةِ: أُدْخِلَت في "حتى إذا" وفى "فلما" الواوُ، في
(4)
جوابِها، وأُخْرِجَت، فأما مَن أَخْرَجها فلا شيءَ فيه، ومَن أَدْخَلَها شَبَّه الأوائلَ بالتعجبِ، فجعَل الثاني نسَقًا على الأولِ، وإن كان الثاني جوابًا، كأنه قال: أَتَعَجَّبُ لهذا وهذا.
وأولى الأقوالِ في ذلك عندى بالصوابِ قولُ مَن قال: الجوابُ متروكٌ. وإن كان القولُ الآخرُ غيرَ مدفوعٍ، وذلك أن قولَه:{وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} . يَدُلُّ على أن في الكلام متروكًا، إذ
(5)
كان عَقِيبَه {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} . وإذا كان ذلك كذلك، فمعنى الكلامِ: حتى إذا جاءُوها، وفُتِحَت أبوابُها، وقال لهم خزنتُها: سلامٌ عليكم طِبْتُم، فادْخُلوها خالدين. دخَلوها وقالوا: الحمدُ للهِ الذي صَدَقنا وعدَه. وعَنَى بقولِه: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} : أَمَنَةٌ من اللهِ لكم، أن ينالكم بعدُ مكروهٌ أو أذًى
(1)
في ت 2، ت 3:"معكوف".
(2)
تقدم في 1/ 467.
(3)
البيت في مجاز القرآن 1/ 331، 2/ 192، والخزانة 10/ 461، ولم نجده في ديوان الأخطل.
(4)
في ص، ت 1، ت 2:"وفي".
(5)
في ت 1، ت 2، ت 3:"إذا".
وقولُه: {طِبْتُمْ} . يقولُ: طابت أعمالُكم في الدنيا، فطابَ اليومَ مَثْواكم.
وكان مجاهدٌ يقولُ في ذلك، ما حدَّثني محمدُ بنُ عمرو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهِدٍ قولَه:{طِبْتُمْ} . قال: كنتم طيِّبين في طاعةِ اللهِ
(1)
.
وقولُه: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} . يقولُ: وقال الذين سِيقوا زُمَرًا، وادَّخَلُوها
(2)
: الشكرُ خالصٌ للهِ تعالى، الذي صدَقَنا وعدَه، الذي كان وعَدَناه في الدنيا على طاعتِه، فحقَّقه بإنجازِه لنا اليومَ، {وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ}. يقولُ: وجعَل أرضَ الجنةِ التي كانت لأهلِ النارِ - لو كانوا أطاعوا الله في الدنيا، فدَخَلُوها - لنا ميراثًا عنهم.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ} . قال: أرضَ الجنةِ
(3)
.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ} أَرضَ الجنة.
حدَّثني يونُسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ} . قال: أرضَ الجنةِ. وقرَأ: {أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105].
(1)
تفسير مجاهد ص 581، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 343 إلى عبد بن حميد.
(2)
في م: "دخلوها".
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 343 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
وقولُه: {نَتَبَوَّأُ [مِنَ الْجَنَّةِ]
(1)
حَيْثُ نَشَاءُ}. يقولُ: نَتَّخِذُ مِن الجنةِ بيتًا، ونَسْكُنُ منها حيث نُحِبُّ ونَشْتَهِى.
كما حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ: {نَتَبَوَّأُ [مِنَ الْجَنَّةِ]
(2)
حَيْثُ نَشَاءُ} نَنْزِلُ منها حيث نشاءُ.
وقولُه: {فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} . يقولُ: فنعم ثوابُ المُطِيعين للهِ، العامِلِين له في الدنيا، الجنةُ لمن أعْطاه الله إياها في الآخرةِ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وتَرَى يا محمدُ الملائكةَ مُحْدِقين من حولِ عرشِ الرحمنِ، ويعنى بالعرشِ السريرَ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ} . مُحْدِقِين
(3)
.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ [مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ} . قال]
(4)
: مُحْدِقين حولَ العرشِ. قال: العرشُ السريرُ.
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"منها".
(2)
في النسخ: "منها".
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 343 إلى المصنف وعبد بن حميد.
(4)
سقط من: ت 1، ت 2، ت 3.
واخْتَلَف أهلُ العربيةِ في وجهِ دخولِ {مِنْ} في قوله: {حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ} . والمعنى: حافِّين حولَ العرشِ. وفي قولِه: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65]؛ فقال بعضُ نحويِّى البصرةِ: أُدْخِلَت "مِن" في هذين الموضعين توكيدًا، واللهُ أعلمُ، نحوَ قولِك: ما جاءني مِن أحدٍ.
وقال غيرُه: "قبل" و "حول" و ما أشبهَهما ظروفٌ تَدْخُلُ فيها "مِن" وتَخْرُجُ، نحوَ: أَتَيْتُك قبل زيدٍ، ومِن قبل زيدٍ، وطُفْنا حولَك، ومن حولِك. وليس ذلك مِن نوعِ: ما جاءنى مِن أحدٍ. لأن موضعَ "مِن" في قولِهم: ما جاءنى من أحدٍ. رفعٌ، وهو اسمٌ.
والصوابُ مِن القولِ في ذلك عندى أن {مِنْ} في هذه الأماكنِ، أعنى في قولِه:{مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ} . و {مِنْ قَبْلِكَ} ، وما أشْبَه ذلك، وإن كانت دخَلَت على الظروفِ، فإنها بمعنى التوكيدِ.
وقولُه: {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} . يقولُ: يُصَلُّون حول عرشِ اللهِ؛ شكرًا له. والعربُ تُدْخِلُ الباءَ أحيانًا في التسبيحِ، وتَحْذِفُها أحيانًا، فتقولُ: سَبِّحْ بحمدِ اللهِ، وسبِّحْ حمدَ اللهِ. كما قال جلَّ ثناؤُه:{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1].
وقال في موضعٍ آخرَ: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 74].
وقولُه: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ} . يقولُ: وقضَى اللهُ بينَ النبيِّين الذين جيء بهم، والشهداءِ وأممِها بالعدلِ، فأسْكَن أهلَ الإيمانِ باللهِ وبما جاءت به رسلُه، الجنةَ، وأهلَ الكفرِ به وبما جاءت به رسلُه، النارَ.
{وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . يقولُ: وخُتِمَت خاتمةُ القضاءِ بينَهم بالشكرِ للذى ابْتَدَأ خلقَهم، الذي له الأُلوهةٌ، وملكُ جميعِ ما في السماواتِ
والأرضِ مِن الخلقِ، مِن مَلَكِ وجنٍّ وإنسٍ، وغيرِ ذلك من أصنافِ الخلقِ.
وكان قتادةَ يقولُ في ذلك ما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} الآيةَ كلَّها. قال: فتَح أولَ الخلقِ بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ} ، فقال:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [الأنعام: 1]. وختَم بالحمدِ فقال: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
(1)
.
آخرُ تفسير سورةِ "الزُّمَر"، يتلوه سورةُ "المؤمن".
والحمدُ للهِ وحدَه، وصلى وحده، وصلى اللهُ على محمدٍ.
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 177 عن معمر عن قتادةَ، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 344 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
بسم الله الرحمن الرحيم
تفسيرُ سورةِ حم المؤمنِ
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ وعزَّ: {حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ
(3)}.
اخْتَلَف أهلُ التأويلِ في معنى قولِه: {حم} ، فقال بعضُهم: هي حروفٌ مُقَطَّعَةٌ مِن اسمِ اللهِ، الذي هو الرحمنُ
(1)
، وهو، وهو الحاءُ والميمُ منه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عبد اللهِ بنُ أحمدَ بن شَبُّويَهْ المَرْوَزيُّ، قال: ثنا عليُّ بنُ الحسينِ، قال: ثنى أبي، عن يزيدَ، عن عكرمةَ، عن ابن عباسٍ:{الر} ، و {حم} ، و {ن} ، حروفُ "الرحمنِ" مُقَطَّعةً
(2)
.
وقال آخرون: هو قسمٌ أقْسَمه اللهُ، وهو اسمٌ مِن أسماءِ اللهِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ، قال:{حم} قسمٌ أقْسَمه اللهُ، وهو اسمٌ مِن أسماءِ اللهِ
(3)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المُفضَّل، قال: ثنا أسباطُ، عن
= من هنا يبدأ الجزء الرابع والأربعون من مخطوط خزانة القرويين والمشار لها بالرمز "الأصل".
(1)
بعده في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"الرحيم".
(2)
تقدم تخريجه في 12/ 104، وسيأتي في سورة "القلم" الآية (1).
(3)
تقدم تخريجه في 1/ 207.
السديِّ قولَه: {حم} : من حروفِ أسماءِ اللهِ
(1)
.
وقال آخرون: بل هو اسمٌ من أسماءِ القرآنِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{حم} . قال: اسمٌ من أسماءِ القرآنِ
(2)
.
وقال آخرون: هو حروفُ هجاءٍ.
وقال آخرون: بل هو اسمٌ. واحْتَجُّوا لقولِهم ذلك بقولِ شُرَيْحٍ بن أَوْفَى العَبْسيِّ
(3)
:
يُذْكِّرُني حَامِيمَ والرُّمْحُ شَاجِرٌ
…
فهلَّا تلا حاميمَ قبلَ التقَدُّمِ
وبقولِ الكُمَيْتِ
(4)
:
وجَدْنا لكم في آلِ حامِيمَ آيةٌ
…
تأوَّلها منا تَقِيٌّ ومُعْرِبُ
وحُدِّثْتُ عن معمرِ بن المثنى أنه قال: قال يونُسُ - يعنى يونسَ الجَرْميَّ -: ومَن قال هذا القول فهو مُنْكَرٌ
(5)
عليه؛ لأن السورةَ "حم" ساكنةُ الحروفِ، فخرَجَت مخرجَ التَّهَجِّى، وهذه أسماءُ سورٍ خرَجَت متحركاتٍ، وإذا سُمِّيت سورةٌ بشيءٍ من هذه الأحرفِ المجزومةِ، دخَلَه الإعرابُ.
(1)
تقدم تخريجه في 1/ 208.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 178 عن معمر عن قتاده، وينظر ما تقدم تخريجه في 1/ 204، 10/ 53، 12/ 104، 15/ 452.
(3)
البيت في مجاز القرآن 2/ 193، واللسان (ح م م).
(4)
البيت في مجاز القرآن 2/ 193، وخزانة الآدب 4/ 314.
(5)
في ت 1، ت 2، ت 3:"منكسر".
والقولُ في ذلك عندى نظيرُ القول في أخواتِها، وقد بيَّنا ذلك في قولِه:{الم} ، ففى ذلك كفايةٌ عن إعادته في هذا الموضعِ
(1)
، إذ كان القولُ في {حم} ، وجميعِ ما جاء في القرآن على هذا الوجهِ - أغنى حروف التَّهَجِّي - قولًا واحدًا.
وقولُه: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} . يقولُ تعالى ذكرُه: مِن اللهِ العزيزِ في انتقامِه من أعدائِه، العليم بما تَعْمَلون مِن الأعمالِ وغيرِه
(2)
تنزيلُ هذا الكتابِ. فالتنزيلُ مرفوعٌ بقولِه: {مِنَ اللَّهِ} .
وفي قولِه: {غَافِرِ الذَّنْبِ} . وجهان؛ أحدهما: أن يكونَ بمعنى: يَغْفِرُ ذنوبَ العبادِ. وإذا أُرِيد هذا المعنى كان خفضُ {غَافِرِ} و {وَقَابِلِ} مِن وجهين؛ أحدِهما: مِن نيةِ تكريرِ "من"، فيكونُ معنى الكلامِ حينَئذٍ: تنزيلُ الكتابِ من اللهِ العزيزِ العليمِ، من غافرِ الذنبِ وقابلِ التوب؛ لأن {غَافِرِ الذَّنْبِ} نكرةٌ، وليس بالأفصحِ أن يكونَ نعتًا للمعرفةِ وهو نكرةٌ.
والآخرِ: أن يكونَ أُجْرِى في إعرابِه، وهو نكرةٌ، على إعرابِ الأولِ، كالنعتِ له، لوقوعِه بينَه وبينَ قوله:{ذِي الطَّوْلِ} ، وهو معرفةٌ. وقد يَجوزُ أن يكونَ أُتبِع إعرابُه، وهو نكرةٌ، إعرابَ الأولِ، إذ كان مدحًا، وكان المدحُ يُتْبَعُ إعرابُه ما قبلَه أحيانًا، ويُعْدَلُ به عن إعرابِ الأوّلِ أحيانًا، بالنصبِ والرفعِ، كما قال الشاعرُ
(3)
:
لا يَبْعَدَنْ قومى الذين هُمُ
…
سَمُّ العُداة وآفةُ الجُزْرِ
النازلين بكلِّ مُعْتَرَكٍ
…
والطَّيِّبِين مَعاقِدَ الأَزْرِ
(1)
ينظر ما تقدم في 1/ 204 - 228.
(2)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"غيرها".
• من هنا خرم بالمخطوط الأصل ينتهي في ص 322.
(3)
البيتان لخرنق بنت بدر بن هفان، وقد تقدم تخريجهما في 1/ 346.
وكما قال جلَّ ثناؤُه: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج: 14 - 16]. فرفَع {فَعَّالٌ} وهو نكرةٌ محضةٌ، وأُتْبِع إعرابَ
(1)
{الْغَفُورُ الْوَدُودُ} .
والآخرُ: أن يكونَ معناه أن ذلك مِن صفتِه تعالى ذكرُه، إذ كان [لم يَزَلْ]
(2)
لذنوبِ العبادِ غفورًا مِن قبلِ نزولِ هذه الآيةِ، وفى حالِ نزولِها، ومن بعدِ ذلك، فيكونَ عندَ ذلك معرفةً صحيحةً، ونعنًا على الصحةِ. وقال:{غَافِرِ الذَّنْبِ} ، ولم يَقُلِ:"الذنوب". لأنه أُرِيد به الفعلُ.
وأما قولُه: {وَقَابِلِ التَّوْبِ} . فإن التوبَ قد يكونُ جمعَ توبةٍ، كما يُجْمَعُ الدَّوْمةُ دَوْمًا، والعَومةُ عَوْمًا، مِن عَومةِ السفينةِ، كما قال الشاعرُ
(3)
:
* عَوْمَ السَّفِينِ فلمَّا حالَ دونَهمُ *
وقد يكونُ مصدرَ
(4)
: تاب يَتوبُ توبًا.
وقد حدَّثني محمدُ بنُ عبيدٍ المُحاربيُّ، قال: ثنا أبو بكرِ بنُ عَيَّاشٍ، عن أبي إسحاقَ، قال: جاء رجلٌ إلى عمرَ، فقال: إنى قتَلْتُ، فهل لي من توبةٍ؟ قال: نعم، اعْمَلْ ولا تَيْأَسْ. ثم قرَأ:{حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ}
(5)
.
(1)
في ت 1: "إعرابه".
(2)
سقط من: ت 2، ت 3.
(3)
صدر بيت لزهير بن أبي سلمى، وعجزه: * فيد القريات فالعتكان فالكرم *
وهو في شرح ديوانه ص 148.
(4)
في ص، ت 3:"مصدرا".
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره - كما في تفسير ابن كثير 7/ 118 - من طريق أبي بكر بن عياش به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 345 إلى ابن المنذر.
وقولُه: {شَدِيدِ الْعِقَابِ} . يقولُ تعالى ذكرُه: شديدٌ عقابُه لمن عاقَبه مِن
أهلِ العصيانِ له، فلا تَتَّكِلوا على سَعةِ رحمتِه، ولكن كونوا منه على حذرٍ،
باجتنابِ مَعاصيه، وأداءِ فرائضِه، فإنه كما أنه لا يُؤيِسُ أهل الإجرامِ والآثامِ مِن
عفوِه، وقبولِ توبةِ مَن تاب منهم مِن جُرْمِه، كذلك لا يُؤَمِّنُهم مِن عقابِه وانتقامِه
منهم، بما اسْتَحَلُّوا
(1)
منِ محارمِه، وركِبوا من معاصِيه.
وقولُه: {ذِي الطَّوْلِ} . يقولُ: ذى الفضلِ والنِّعمِ المبسوطةِ على مَن شاء مِن خلقِه. يقالُ منه: إن فلانًا لَذو طَوْلٍ على أَصحابِه. إذا كان ذا فضلٍ عليهم.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{ذِي الطَّوْلِ} . يقولُ: ذى السَّعةِ والغِنى
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ:{ذِي الطَّوْلِ} : الغِنى
(3)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{ذِي الطَّوْلِ} :
(1)
في ت 2، ت 3:"استحلوه".
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره - كما في الإتقان 2/ 41 - والبيهقى في الأسماء والصفات (69) من طريق عبد الله بن صالح، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 345 إلى ابن المنذر.
(3)
تفسير مجاهد ص 582 وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 345 إلى عبد بن حميد
أي: ذى النِّعَمِ
(1)
.
وقال بعضُهم: الطَّوْلُ: القُدْرةُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا يونُسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {ذِي الطَّوْلِ} . قال: الطولُ: القدرةُ، ذاك الطَّوْلُ
(2)
.
وقولُه: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} . يقولُ: لا معبودَ تَصْلُحُ له العبادةُ إلا اللهُ العزيزُ العليمُ، الذي صفتُه ما وصَف جلَّ ثناؤُه، فلا تَعْبُدوا شيئًا سواه.
{إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} . يقولُ تعالى ذكرُه: إلى اللهِ مصيرُكم ومَرْجِعُكم أيُّها الناسُ، فإياه فاعْبُدوا، فإنه لا يَنْفَعُكم شيءٌ عبَدْتُموه عند ذلك سواه.
يقولُ تعالى ذكرُه: ما يُخاصِمُ في حججِ اللهِ وأدلتِه على وحْدانيتِه بالإنكارِ لها، إلا الذين جحَدوا توحيدَه.
وقولُه: {فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ} . يقولُ جلَّ ثناؤُه: فلا يَخْدَعْك يا محمدُ تصرُّفُهم في البلادِ، وبقاؤُهم ومُكثُهم فيها، مع كفرِهم بربِّهم،
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 345 إلى عبد بن حميد.
(2)
ذكره أبو حيان في البحر المحيط 7/ 449.
فتَحْسَبَ أنهم إنما أُمْهِلوا وتقَلَّبوا، فتصَرَّفوا في البلادِ مع كفرِهم باللهِ، ولم يُعاجَلوا بالنِّقْمةِ والعذابِ على كفرِهم، لأنهم على شيءٍ مِن الحقِّ، فإنا لم نُمْهِلْهم لذلك، ولكن ليَبْلُغَ الكتابُ أجلَه، ولتَحِقَّ عليهم كلمةُ العذابِ؛ عذابِ ربِّك.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ} : أسفارُهم فيها، ومجيئُهم وذَهابُهم
(1)
.
ثم قصَّ على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَصَصَ الأممِ المكذِّبةِ رسلَها، وأخْبَره
(2)
أنهم كانوا مِن جدالِهم لرسلِه
(3)
على مثلِ الذي عليه قومُه الذين أُرْسِل إليهم، وأنه أحَلَّ بهم مِن نِقْمته عندَ بلوغِهم أمَدَهم، بعدَ إِعْذارِ رسلِه إليهم وإنذارِهم بأسَه، ما قد ذكَر في كتابِه، إعلامًا منه بذلك نبيَّه أن سنتَه في قومِه الذين سلَكوا سبيلَ أولئك في تكذيبِه وجِدالِه، سنتُه من إحلالِ نقمتِه بهم، وسَطْوتِه بهم، فقال تعالى ذكرُه: كذَّبَت قبلَ قومِك المكذِّبين لرسالتِك إليهم رسولًا، المُجادِليك بالباطلِ، قومُ نوحٍ والأحزابُ مِن بعدِهم؛ وهم الأممُ الذين تحَزَّبوا وتجَمَّعوا على رسلِهم بالتكذيبِ لها، كعادٍ، وثمودُ، وقومِ لوطٍ، وأصحابِ مَدْيَنَ، وأشباهِهم.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة قولَه: {كَذَّبَتْ
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 178 عن معمر عن قتادة، عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 346 إلى عبد بن حميد.
(2)
في ت 2، ت 3:"أخبرهم".
(3)
في ص، ت 2، ت 3:"أرسله".
قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ}. قال: الكفارُ
(1)
.
وقولُه: {وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ} . يقولُ تعالى ذكرُه: وهمت كلُّ أمةٍ من هذه الأممِ المكذِّبةِ رسلَها، المُتَحزِّبةِ على أنبيائِها، برسولِهم
(2)
الذي أُرْسِل إليهم، ليَأْخُذوه فيَقْتُلوه.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ: {وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ
(3)
}. أي: ليَقْتُلُوه (1).
وقيل: {بِرَسُولِهِمْ} ، وقد قيل قبلُ
(4)
: {كُلُّ أُمَّةٍ} . فوُجِّهَتِ الهاءُ والميمُ إلى الرجلِ دون لفظِ الأمَّةٍ، وقد ذُكِر أن ذلك في قراءةِ عبدِ اللهِ:(برسولها)
(5)
. بمعنى
(6)
: برسولِ الأمةِ.
وقولُه: {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} . يقولُ: وخاصَموا رسولَهم بالباطلِ مِن الخُصومةِ، ليُبْطِلوا بجِدالِهم إياه وخُصومتِهم له، الحقَّ الذي جاءهم به من عندِ اللهِ؛ من الدخولِ في طاعتِه، والإقرارِ بتوحيدِه، والبراءةِ مِن عبادةِ ما سواه، كما يُخاصِمُك كفارُ قومِك يا محمدُ بالباطلِ.
وقولُه: {فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} . يقولُ تعالى ذكرُه:
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 178 عن معمر عن قتادة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 346 إلى عبد بن حميد.
(2)
في ت 2: "برسلهم".
(3)
سقط من: ت 3، وفي ت 2:"الذي أرسل إليهم".
(4)
سقط من: ص، م.
(5)
البحر المحيط 7/ 449.
(6)
في م: "يعني".
فأَخَذْتُ
(1)
الذين همُّوا برسولِهم ليأْخُذوه، بالعذابِ مِن عندى، فكيف كان عقابي إياهم؟ ألم أُهْلِكْهم، فأَجْعَلْهم للخلقِ عِبْرةً، ولمن بعدَهم عِظَةً، وأَجْعَلْ ديارَهم ومساكنَهم منهم خَلاءً، وللوحوشِ ثَوَاءً؟
وقد حدَّثنا حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} . قال: شديدٌ [واللهِ]
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6)} .
يقولُ تعالى ذكره: وكما حقَّ على الأممِ التي كذَّبَت رسلَها - التي قصَصْتُ عليك يا محمدُ قصصَها - عذابي، وحلَّ بها عقابي، بتكذيبِهم رسلَهم، [وجِدالِهم إياهم بالباطلِ]
(3)
ليُدْحِضوا به الحقَّ، كذلك وجَبَت كلمةُ ربِّك على الذين كفروا باللهِ مِن قومِك الذين يُجادِلون في آياتِ اللهِ.
وقولُه: {أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} . اخْتَلَف أهلُ العربيةِ في موضعِ قولِه: {أَنَّهُمْ} ؛ فقال بعضُ نحويِّى البصرةِ
(4)
: معنى ذلك: حقَّت كلمةُ ربِّك على الذين كفَروا أنهم أصحابُ النارِ. أي: لأنهم، أو بأنهم
(5)
، وليس "أنهم" في موضعِ مفعولٍ، ليس مثلَ قولِك:[أحْقَقْتُ أنهم. لو كان كذلك كان أيضًا]
(6)
:
(1)
في ت 2، ت 3:"فاتخذت".
(2)
في ت 3: "العقاب".
والأثر عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 346 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
سقط من: ت 2، ت 3.
(4)
هو الأخفش. ينظر تفسير البغوي 7/ 139، وفتح القدير 4/ 482.
(5)
في ت 2، ت 3:"فأنهم".
(6)
سقط من: ت 2، ت 3.
أحْقَقْتُ لأنهم.
وكان غيرُه يقولُ: {أَنَّهُمْ} بدلٌ من الكلمةِ، كأنه: حقَّت
(1)
الكلمةُ حقًّا أنهم أصحابُ النارِ.
والصوابُ مِن القولِ في ذلك أن قولَه: {أَنَّهُمْ} . ترجمةٌ عن الكلمةِ، بمعنى: وكذلك حقَّ عليهم عذابُ النارِ، الذي وعَد اللهُ أهلَ الكفرِ به.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: الذين يَحْمِلون عرشَ اللهِ من ملائكتِه، ومَن حولَ عرشِه ممن يَحُفُّ به من الملائكةِ، {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ}. يقولُ: يُصَلُّون لربِّهم بحمدِه وشكرِه، {وَيُؤْمِنُونَ بِهِ}. يقولُ: ويُقِرُّون باللهِ أنه لا إلهَ لهم سواه ويَشْهَدون بذلك، لا يَسْتَكْبِرون عن عبادتِه، {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا}. يقولُ: ويَسْأَلُون ربَّهم أن يَغْفِرَ للذين أَقَرُّوا بمثلِ إقرارِهم مِن توحيدِ اللهِ، والبراءةِ مِن كلِّ معبودٍ سواه - ذنوبَهم، فيَعْفُوها عنهم.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} : لأهلِ لا إلهَ إلا اللهُ.
وقولُه: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} . وفى هذا الكلامِ محذوفٌ، وهو: يقولون. ومعنى الكلامِ: ويَسْتَغْفِرون للذين آمنوا يقولون: يا ربَّنا وسِعْتَ كلَّ شيءٍ رحمةً وعلمًا. ويعنى بقولِه: {وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً
(1)
في ص، ت 2، ت 3:"أحققت".
وَعِلْمًا}: وسِعَتْ رحمتُك وعلمُك كلَّ شيءٍ مِن خلقك، فعلِمْتَ كُلَّ شيءٍ، فلم يَخْفَ عليك شيءٌ، ورحِمْتَ خلقَك، ووسِعْتَهم برحمتِك.
وقد اخْتَلَف أهلُ العربيةِ في وجهِ نصبِ الرحمةِ والعلمِ؛ فقال بعضُ نحويِّي البصرةِ: انتصابُ ذلك كانتصابِ: لك مثلُه عبدًا. لأنك قد جَعَلْتَ: {وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ} ، وهو مفعولٌ له، والفاعلُ التاءُ، وجاء بالرحمةِ والعلمِ تفسيرًا، وقد شغَلْتَ عنهما الفعلَ، كما شغَلْتَ المثلَ بالهاءِ، فلذلك نصَبْتَه، تشبيهًا بالمفعولِ بعدَ الفاعلِ.
وقال غيرُه: هو مِن المنقولِ، وهو مُفَسَّرٌ: وسِعَت رحمتُه وعلمُه، ووسِع هو كلَّ شيءٍ رحمةً، كما تقولُ: طابَت به نفسى، وطبتُ به نفسًا. وقال: أمّا: لك مثُله عبدًا. فإن المقاديرَ لا تكونُ إلا معلومةً، مثلَ: عندى رِطْلٌ زيتًا. والمثلُ غيرُ معلومٍ، ولكنَّ لفظه لفظُ المعرفةِ، والعبدُ نكرةٌ، فلذلك نصَب العبدَ، وله أن يَرْفَعَ، واسْتَشْهَد لقيلِه ذلك بقولِ الشاعرِ:
ما في مَعَدٍّ والقبائلِ كلِّها
…
قحطانُ مثلُك واحدٌ معدودُ
وقال: ردَّ الواحدَ على "مثل"؛ لأنه نكرةٌ. قال: ولو قلتَ: ما مثلُك رجلٌ. و: مثلُك رجلٌ. و: مثلُك رجلًا. جاز؛ لأن "مثل" يكونُ نكرةً، وإن كان لفظُها
(1)
معرفةً.
وقولُه: {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} . يقولُ: فَاصْفَحْ عن جُرْمِ مَن تاب مِن الشركِ بك مِن عبادِك، فرجَع إلى توحيدِك واتباعِ
(2)
أمرِك ونهيِك.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ: {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ
(1)
في ت 3: "لفظهما".
(2)
في م: "اتبع".
تَابُوا}: من الشركِ
(1)
.
وقولُه: {وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} . يقولُ: وسلَكوا الطريقَ الذي أمَرْتَهم أن يَسْلُكوه، ولزِموا المِنْهاجَ الذي أمَرْتَهم بلزومِه، وذلك الدخولُ في الإسلامِ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} . أي: طاعتَك
(1)
.
وقولُه: {وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} . يقولُ: واصْرِفْ عن الذين تابوا من الشركِ، واتَّبَعوا سبيلك، عذابَ النارِ يومَ القيامةِ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8)} .
يقولُ تعالى ذكرُه مخبرًا عن دعاءِ ملائكتِه لأهلِ الإيمانِ به من عبادِه: تقولُ: يا {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ} . يعنى: بساتينَ إقامةٍ، {الَّتِي وَعَدْتَهُمْ}. يعني: التي وعَدْتَ أهلَ الإنابةِ إلى طاعتِك أن تُدْخِلَهُمُوها، {وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ}. يقولُ: وأَدْخِلْ مع هؤلاء الذين تابوا واتَّبَعوا سَبِيلَك جناتِ عَدْنٍ، من صلَح من آبائِهم وأزواجِهم وذرياتِهم فعمِل بما يُرْضِيك عنه
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 179 عن معمر عن قتادة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 347 إلى عبد بن حميد.
من الأعمالِ الصالحةِ في الدنيا. وذُكِر أنه يَدْخُلُ مع الرجلِ أبواه
(1)
وولدُه وزوجتُه
الجنةَ، وإن لم يكونوا عمِلوا عملَه
(2)
؛ بفضلِ رحمةِ اللهِ إياه.
كما حدَّثنا أبو هشامٍ، قال: ثنا يحيى بنُ يمانٍ العِجْليُّ، قال: ثنا شَريكٌ، عن سعيدٍ، قال: يَدْخُلُ الرجلُ الجنةَ، فيقولُ: أين أبى؟ أين أمي؟ أين ولدى؟ أين زوجتى؟ فيقالُ: لم يَعْمَلُوا مثلَ عملِك. فيقولُ: كنتُ أَعْمَلُ لى ولهم. فيقالُ: أَدْخِلوهم الجنةَ. ثم قرَأ: {جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ}
(3)
.
فـ {مَنْ} إذن إذ كان ذلك معناه، في موضع نصبٍ عطفًا على الهاءِ والميمِ في قولِه:{وَأَدْخِلْهُمْ} . وجائزٌ أن يكونَ نصبًا على العطفِ على الهاءِ والميمِ في: {وَعَدْتَهُمْ} .
{إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} . يقولُ: إنك أنت، يا ربَّنا، العزيزُ في انتقامِه من أعدائِه، الحكيمُ في تدبيرِه خلقَه.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)} .
يعني تعالى ذكرُه بقوله مُخبِرًا عن قيلِ ملائكتِه: {وَقِهِمُ} : اصرِفْ عنهم سوء عاقبةِ سيئاتِهم التي كانوا أتَوْها قبلَ توبتِهم وإنابتِهم. يقولون: لا تُؤَاخِذْهم
(4)
بذلك، فتُعَذِّبَهم به، {وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ}. يَقولُ: ومَن
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"أبوه".
(2)
سقط من: ت 2، ت 3.
(3)
ذكره البغوي في تفسيره 7/ 141، 142، وابن كثير في تفسيره 7/ 122.
(4)
في ص، ت 2، ت 3:"تأخذهم".
تَصْرِفْ عنه سوءَ عاقبةِ سيئاتِه
(1)
بذلك يومَ القيامةِ، فقد رحِمْتَه، فنجَّيْتَه من عذابِك، {وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} ؛ لأنه مَن نجا مِن النارِ وأُدْخِل الجنةَ، فقد فاز، وذلك لا شكَّ هو الفوزُ العظيمُ.
وبنحوِ الذي قلنا في [معنى السيئاتِ]
(2)
قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ} . أي: العذابَ
(3)
.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا [يَعْمَرُ بنُ بشرٍ]
(4)
قال: ثنا ابن المباركِ، عن معمرٍ، عن قتادةَ، عن مُطَرِّفٍ، قال: وجَدْنا أنصحَ العبادِ للعبادِ الملائكةَ، وأغَشَّ العبادِ للعبادِ الشياطينَ. وتلا:{الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} الآية
(5)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، قال مُطَرِّفٌ: وجَدْنا أغَشَّ عبادِ اللهِ لعبادِ اللهِ الشياطينَ، ووجَدْنا أنصحَ عبادِ الله لعبادِ اللهِ الملائكةَ. القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"سيئاتهم".
(2)
في ت 2: "ذلك".
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 179 عن معمر عن قتادة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 347 إلى عبد بن حميد.
(4)
في م، ت 1:"معمر بن بشير"، وفى ت 3:"معمر بن بشر". ينظر الجرح والتعديل 9/ 313.
(5)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 178، 179، ومن طريقه أبو نعيم في الحلية 2/ 208 من طريق معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 347 إلى عبد بن حميد.
مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11)}.
يقولُ تعالى ذكرُه: إن الذين كفروا باللهِ يُنادَوْن في النارِ يومَ القيامةِ إذ
(1)
دخَلوها، فمقَتوا بدخولهِمُوها أنفسَهم، حينَ عاينَوا ما أعَدَّ اللهُ لهم فيها مِن أنواعِ العذابِ، فيقالُ لهم: لمقْتُ اللهِ إياكم أيُّها القومُ في الدنيا إذ تُدْعَوْن فيها إلى الإيمانِ بالله فتَكْفُرون - أكبرُ مِن مقتِكم اليومَ أنفسَكم، لمَا حَلَّ بكم مِن سَخَطِ اللهِ عليكم.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} . قال: مقَتوا أنفسَهم حينَ رأَوْا أعمالَهم، ومَقْتُ اللهِ إياهم في الدنيا، إذ يُدْعَوْن إلى الإيمانِ فيَكْفُرون - أكبرُ
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} . يقولُ: لمقتُ اللهِ أهلَ الضَّلالةِ، حينَ عُرِض عليهم الإيمانُ في الدنيا، فتَركوه، وأبَوا أن يَقْبَلوا - أكبرُ مما مقَتوا أنفسَهم، حينَ عايَنوا عذابَ اللهِ يومَ القيامةِ
(3)
.
(1)
في م، ت 3:"إذا".
(2)
تفسير مجاهد ص 582، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 347 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 179 عن معمر عن قتادة.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ قولَه:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} في النارِ، {إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ} في الدنيا، {فَتَكْفُرُونَ}
(1)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ} الآية. قال: لما دخَلوا النارَ مقَتوا أنفسَهم في معاصى اللهِ التي ركِبوها، فنُودُوا: إن مقتَ اللهِ إياكم حينَ دعاكم إلى الإسلامِ أشدُّ من مقتِكم أنفسَكم اليومَ حينَ دخلْتم النارَ
(1)
.
واخْتَلَف أهلُ العربيةِ في وجهِ دخولِ هذه اللامِ في قولِه: {لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ} ؛ فقال بعضُ أهلِ العربيةِ من أهلِ البصرةِ
(2)
: هي لامُ الابتداءِ، كأنَّ {يُنَادَوْنَ}: يُقالُ لهم؛ لأن
(3)
النداء قولٌ. قال: ومثلُه في الإعرابِ يقالُ: لزيدٌ أَفضلُ مِن عمرٍو.
وقال بعضُ نحويى الكوفةِ
(4)
: المعنَى فيه: يُنادَوْن أنَّ مقتَ اللهِ إياكم. ولكنَّ اللامَ تَكْفِى مِن أن تقولَ في الكلامِ: نادَيْتُ أنَّ زيدًا قائمٌ. قال: ومثلُه قولُه: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} [يوسف: 35]. اللامُ
(5)
بمنزلةِ "أنَّ" في كلِّ كلامٍ ضارَع القولَ، مثلَ: يُنادَون ويُخْبَرون، وأشباهِ ذلك.
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 122.
(2)
هو الأخفش. ينظر تفسير القرطبي 15/ 296، وفتح القدير 4/ 483.
(3)
بعده في م: "في".
(4)
هو الفراء. ينظر معاني القرآن 3/ 6.
(5)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"الكلام".
وقال آخرُ غيرُه منهم: هذه لامُ اليمينِ، تَدْخُلُ مع الحكايةِ، وما ضارَع الحكايةَ؛ لتَدُلَّ على أن ما بعدَها ائتنافُ
(1)
. قال: ولا يجوزُ في
(2)
جواباتِ الأيمانِ أن تقوم مقامَ اليمينِ؛ لأن اللامَ - كانت معها النونُ أو لم تَكُنْ - اكتفى
(3)
بها مِن اليمينِ؛ لأنها لا تَقَعُ إلا معها.
وأولى الأقوالِ في ذلك بالصوابِ قولُ مَن قال: دخَلَت لتُؤْذِنَ أن ما بعدَها ائْتِنافٌ
(4)
، وأنها لامُ اليمينِ.
وقولُه: {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} . قد أتَينا عليه في سورةِ "البقرة"، فأغْنَى ذلك عن إعادتِه في هذا الموضعِ
(5)
، ولكنا نَذْكُرُ بعضَ ما قال بعضُهم فيه:
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} . قال: كانوا أمواتًا في أصلابِ آبائِهم، فأحْياهم اللهُ في الدنيا، ثم أماتهم الموتةَ التي لا بدَّ منها، ثم أحْياهم للبعثِ يومَ القيامةِ، فهما حياتان وموتتان
(6)
.
وحُدِّثْتُ عن الحسينِ، قال: سمِعْتُ أبا مُعاذٍ يقولُ: أخْبَرنا عبيدٌ، قال: سمِعْتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} . هو قولُ اللهِ: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ
(1)
في ت 1: "استئناف".
(2)
في ص، ت 2، ت 3:"من".
(3)
في النسخ: "فاكتفى".
(4)
في ت 3: "استئناف".
(5)
تقدم في 1/ 443 - 451.
(6)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 348 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وينظر ما تقدم في 1/ 446.
إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}
(1)
[البقرة: 28].
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} . قال: هو كقولِه: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا} الآية
(2)
.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن أبي إسحاقَ، عن أبي الأحوصِ، عن عبد اللهِ في قولِه:{أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} . قال: هي كالتي في البقرة: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ}
(3)
.
حدَّثني أبو حَصِينٍ عبدُ اللهِ بنُ أحمدَ بن يونُسَ، قال: ثنا عَبْثَرٌ
(4)
، قال: ثنا حُصَيْنٌ، عن أبي مالكٍ في هذه الآية:{أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} . قال: خلَقْتَنا، ولم نَكُنْ شيئًا، ثم أمَتَّنا، ثم أحْيَيْتَنا
(5)
.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا هُشَيمٌ، عن حُصَينٍ، عن أبي مالكٍ في قولِه:{أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} . قال
(6)
: كانوا أمواتًا فأحْياهم اللهُ، ثم أماتهم، ثم أحْياهم
(5)
.
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 123.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 347 إلى المصنف وابن أبي حاتم وابن مردويه.
(3)
تقدم في 1/ 443، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 73 (300) من طريق عبد الرحمن بن مهدي به، والطبراني (9045)، والحاكم 2/ 437 من طريق أبي إسحاق به، وأخرجه الطبراني (9044) من طريق أبي إسحاق عن أبي الضحى عن ابن مسعود به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 347 إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر.
(4)
في ت 1، ت 2:"بشر".
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 348 إلى عبد بن حميد، وتقدم في 1/ 443.
(6)
في م: "قالوا".
وقال آخرون فيه ما حدَّثنا محمدٌ؛ قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ قولَه:{أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} . قال: أُمِيتوا في الدنيا، ثم أُحْيُوا في قبورِهم فسُئِلوا أو خُوطِبوا، ثم أُميتوا في قبورِهم، ثم أُحْيُوا في الآخرةِ
(1)
.
وقال آخرون في ذلك ما حدَّثني يونُسُ؛ قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} . قال: خلَقَهم من ظهرِ آدمَ، حين أخذ عليهم الميثاقَ. وقرَأ: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ
(2)
}، فقرَأ حتى بلَغ:{الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف: 172]. قال: فنسَّاهم الفعلَ، وأخَذ عليهم الميثاقَ. قال: وانتزَعَ ضِلَعًا مِن أضلاعِ آدمَ القُصْرَى، فخلَق منه حَوَّاءَ. ذكَره عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم. قال: وذلك قولُ اللهِ: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء: 1]. قال: بثَّ منهما بعدَ ذلك في الأرحامِ خلقًا كثيرًا. وقرَأ: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} [الزمر: 6]. قال: خلقًا بعدَ ذلك. قال: فلمَّا أَخَذ عليهم الميثاقَ أماتهم، ثم خلَقَهم في الأرحامِ، ثم أماتهم، ثم أحْياهم يومَ القيامةِ، فذلك قولُ اللهِ:{رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا} . وقرَأ قولَ اللهِ: {وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء: 154، الأحزاب: 7]. قال: يومئذٍ. وقرَأ قولَ اللهِ: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا}
(3)
[المائدة: 7].
وقولُه: {فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا} . يقولُ: فأَقْرَرْنا بما عمِلْنا من الذنوبِ في
(1)
ذكره القرطبي في تفسيره 15/ 297، وابن كثير في تفسيره 7/ 123.
(2)
في ت 1، ت 2، ت 3:"ذرياتهم". وهما قراءتان تقدم تخريجهما في 1/ 436.
(3)
تقدم في 1/ 446، 447.
الدنيا، {فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ}. يقولُ: فهل إلى خروجٍ مِن النارِ لنا سبيلٌ؛ لنَرْجِعَ إلى الدنيا، فنَعْمَلَ غير الذي كنا نَعْمَلُ فيها؟
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} : فهل إلى كَرَّةٍ إلى الدنيا؟
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12)} .
وفي هذا الكلامِ متروكٌ، اسْتُغْنِى بدلالةِ الظاهرِ من ذكرِه عليه، وهو: فأُجِيبوا ألَّا سبيلَ إلى ذلك، هذا الذي لكم من العذابِ أيُّها الكافرون؛ {بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ} ، فأَنْكَرْتُم أن تكونَ الأُلوهةُ له خالصةً، وقلتُم:{أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص: 5].
{وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا} . يقولُ: وإِن يُجْعَلْ للهِ شَرِيكٌ تُصَدِّقُوا مَن جَعَل ذلك له، {فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ}. يقولُ: فالقضاءُ للهِ العليِّ على كلِّ شيءٍ، الكبير الذي كلُّ شيءٍ دونَه مُتَصاغرٌ
(2)
له اليومَ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: الذي يُريكم أيُّها الناسُ حُجَجَه وأدِلَّته على وَحْدانيَّتِه ورُبوبِيَّتِه، {وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا}. يقولُ: يُنَزِّلُ لكم مِن أرزاقِكم مِن
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 348 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
في ص، م، ت 1:"متصاغرا".
السماءِ، بِإِدْرارِ الغَيْثِ - الذي يُخْرِجُ به أقْواتَكم مِن الأرضِ، وغِذاءً أَنْعامِكم - عليكم، {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ}. يقولُ: وما يَتَذَكَّرُ حُجَجَ اللهِ التي جعلها أدِلَّةً على وَحْدانيَّتِه، فيَعْتَبِرَ بها ويَتَّعِظُ، ويَعلَمَ حقيقة ما تَدُلُّ عليه - {إِلَّا مَنْ يُنِيبُ}. يقولُ: إِلا مَن يَرْجِعُ إلى توحيده، ويُقْبِلُ على
(1)
طاعتِه.
كما حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:{إِلَّا مَنْ يُنِيبُ} . قال: مَن يُقْبِلُ إلى طاعةِ اللهِ.
وقولُه: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} . يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين به: فاعْبُدوا الله، أَيُّها المؤمنون له، مُخْلِصِين له الطاعةَ، غيرَ مُشْرِكين به شيئًا مما دونَه، {وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}. يقولُ: ولو كَرِه عبادتَكم إياه مخلصين له الطاعةَ - الكافرون المشرِكون في عبادتهم إياه الأوثانَ والأندادَ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16)}
يقولُ تعالى ذكرُه: هو رفيعُ الدرجاتِ. ورُفِع قولُه: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ} . على الابْتِداءِ، ولو جاء نصبًا على الرَّدِّ على قوله:{فَادْعُوا اللَّهَ} ، كان صوابًا. {ذُو الْعَرْشِ}. يقولُ: ذو السَّريرِ المُحيطِ بما دونَه.
وقولُه: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} . يقولُ: يُنْزِلُ الوَحْىَ مِن أمرِه على مَن يَشَاءُ مِن عبادِه.
وقد اختلَف أهلُ التأويلِ في معنى الرُّوحِ في هذا الموضعِ؛ فقال بعضُهم: عَنَى به
(1)
في ت 2 ت: "إلى".
الوحيَ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ} . قال: الوحيَ مِن أَمرِه
(1)
.
وقال آخرون: عَنَى به القرآنَ والكتابَ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني هارونٌ بن إدريسَ الأصَمُّ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ بنُ محمدٍ المُحارِبيُّ، عن جُوَيبرٍ، عن الضَّحَّاكِ في قولِه:{يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} . قال: يَعْنى بالرُّوحِ الكتابَ، يُنْزِلُه على مَن يَشَاءُ.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} . وقرَأ: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52]. قال: هذا القرآنُ هو الرُّوحُ، أوْحاه اللهُ إلى جبريلَ، وجبريلُ روحٌ نزَل به على النبيِّ صلى الله عليه وسلم. وقرَأ:{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} [الشعراء: 193]. قال: فالكُتُبُ التي أنْزَلها اللهُ على أنبيائِه هي الرُّوحُ، ليُنْذِرَ بها ما قال اللهُ يومَ التَّلاقِ، {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا} [النبأ: 38]. قال: الرُّوحُ؛ القرآنُ. كان أبي يقولُه. قال ابن زيدٍ: يَقومون له صَفًّا بين السماءِ والأرضِ، حينَ يَنْزِلُ جل جلاله
(2)
.
وقال آخرون: عَنَى به النُّبوَّةَ.
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 179 عن معمر عن قتادةَ به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 348 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
ذكره القرطبي في تفسيره 15/ 299 مختصرا.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ في قولِ اللهِ:{يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} . قال: النُّبوَّةَ على مَن يَشَاءُ
(1)
.
وهذه الأقوالُ مُتَقارِباتُ المَعانى، وإن اختلَفت ألفاظُ أصحابِها بها.
وقولُه: {لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ} . يقولُ: لِيُنْذِرَ مَن يُلْقَى
(2)
الرُّوحُ عليه مِن عبادِه، مَن أمَر اللهُ بِإِنْدَارِه مِن خَلْقِه - عذابَ يوم يَلْتَقى فيه أهلُ السماءِ وأهلُ الأرضِ، وهو يومُ التَّلاقِ، وذلك يومُ القيامةِ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليّ بن أبي طلحةَ، عن ابن عباسٍ قولَه:{يَوْمَ التَّلَاقِ} : من أسماءِ يومِ القيامةِ، عَظْمه اللهُ، وحَذَّرَه عبادَه
(3)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{يَوْمَ التَّلَاقِ} : يومٌ يَلْتَقى فيه أهلُ السماءِ وأهلُ
(4)
الأرضِ، والخالِقُ والخَلْقُ
(5)
.
(1)
ذكره أبو حيان في البحر المحيط 7/ 455.
(2)
في ص، ت 1:"ألقى".
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 125 عن علي بن أبي طلحة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 348 إلى ابن المنذر.
(4)
سقط من: ص 1، ت 2، ت 3.
(5)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 180 عن معمر عن قتادة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 348 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:{يَوْمَ التَّلَاقِ} : يومَ
(1)
يَلْتَقى أهلُ السماءِ وأهلُ الأرضِ
(2)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ: {يَوْمَ التَّلَاقِ} . قال: يومَ القيامةِ. قال: يومَ يتَلاقَى العبادُ
(3)
.
وقولُه: {يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ} . يَعْنى بقولِه: {يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ} ، يَعْنى: المُنْذَرون الذين أَرْسَل اللهُ إليهم رسله ليُنْذِروهم
(4)
ظاهِرون - يعنى للناظرين - لا يحولُ بينَهم وبينَهم جبلٌ ولا شجرٌ، ولا يَسْتُرُ بعضَهم عن بعضٍ ساتِرٌ، ولكنَّهم بقاعٍ صَفْصَفٍ، لا أُمَّتَ فيه ولا عِوَجَ.
{هُمْ} من قوله: {يَوْمَ هُمْ} ، في موضعِ رفعٍ بما بعدَه، كقولِ القائلِ: فَعَلْتُ ذلك يومَ الحَجَّاجُ أَميرٌ.
واخْتَلَف أهلُ العربيةِ في العِلَّة التي من أجلِها لم تُخْفَضُ {هُمْ} بـ {يَوْمَ} ، وقد أُضِيفَ إليه؛ فقال بعضُ نَحْويِّى البصرةِ: أضاف {يَوْمَ} إلى {هُمْ} في المعنى، فلذلك لا يُنَوَّنُ اليومُ، كما قال:{يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} [الذاريات: 13]. وقال: {هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ} [المرسلات: 35]. ومعناه: هذا يومُ فتنتِهم. ولكنْ لمَّا ابْتَدَأَ الاسمُ
(5)
، وبُنِي عليه، لم يُقْدَرْ على جرِّه، وكانت الإضافةُ في المَعْنَى إلى الفتنةِ، وهذا إنما يكونُ إذا كان "اليوم" في معنى "إذ"، وإلا فهو
(1)
سقط من: ص، م، ت 1.
(2)
ذكرُه أبو حيان في البحر المحيط 4557، وابن كثير في تفسيره 7/ 125.
(3)
ذكره البغوي في تفسيره 7/ 143، وابن كثير في تفسيره 7/ 125.
(4)
بعده في النسخ: "وهم".
(5)
في م: "بالاسم".
قبيحٌ؛ ألا تَرَى أنك تقولُ: لَقِيتُك زمن زيدٌ أميرٌ. أيْ: إذ زيدٌ أميرٌ. ولو قُلتَ: ألقاك زمنَ زيدٌ أميرٌ. لم يَحْسُنْ.
وقال غيرُه: مَعْنَى ذلك أن الأوقاتَ جُعِلَتْ بمعنى "إذ" و "إذا"، فلذلكَ بَقِيَتْ على نصبِها في الرفعِ والخفضِ والنصبِ، فقال:(ومن خزي يومَئذٍ)
(1)
[هود: 66] فَنَصبوا، والموضعُ خفضٌ، فذلك
(2)
دليل على أنه جُعِل موضعَ الأداةِ، ويَجوزُ أن يُعْرَبَ بوجوهِ الإعرابِ؛ لأنه ظهر ظُهورَ الأسماءِ؛ ألا ترى أنه لا يعودُ عليه العائِدُ كما يعودُ على الأسماءِ، فإن عاد العائدُ نُوِّن وأُعْرِب ولم يُضَفْ، فقِيل: أعْجَبَنى يومٌ فيه تقومُ
(3)
. لَمَّا أن خرَج من معنى الأداةِ، وعاد عليه الذِّكرُ صار اسمًا صحيحًا. قال: وجائزٌ في "إذ أن تقولَ: أَتَيْتُك إذ تقومٌ. كما تقولُ: أتيتُك يومَ يَجْلِسُ القاضي. فيكونُ زمنًا معلومًا، فأَمَّا: آتِيكَ
(4)
يومَ تقومُ. فلا مَئُونَة
(5)
فيه، وهو جائزٌ عندَ جميعِهم. قال: وهذه التي تُسَمَّى إضافةً غيرَ مَحْضَةٍ.
والصوابُ مِن القولِ عندى في ذلك أنَّ نصبَ "يَوْم" وسائرِ الأزمنةِ في مثلِ هذا الموضعِ، نظيرٌ نصبِ الأدواتِ؛ لوقوعِها مواقعَها، وإذ أُعْرِبَتْ بوجوهِ الإعراب؛ فلأنها ظَهَرَتْ ظهورَ الأسماءِ، فعُومِلَتْ معاملَتَها.
وقولُه: {لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ} . [يقولُ: لا يخفى على اللهِ منهم]
(6)
ولا مِن
(1)
يومَئذٍ، بفتح الميم، وهى قراءة نافع والكسائي، وقرأ الباقون بكسرها. يُنظر التيسير في القراءات السبع ص 102.
(2)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"وذلك".
(3)
سقط من: ت 2. وفى م: "تقول".
(4)
في م: "أتيتك".
(5)
في م، ت 2، ت 3:"مؤنة". وهما بمعنًى.
(6)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ت 3. وفى م:"أي". والمثبت ما يقتضيه السياق.
أعمالِهم التي عمِلوها في الدنيا {شَيْءٌ} .
وكان قتادةُ يقولُ في ذلك ما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ} : ولكنَّهم برَزوا له يومَ القيامةِ، فلا يَسْتَتِرون بجبلٍ ولا مَدَرٍ
(1)
.
وقولُه: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} . يعنى بذلك: يقولُ الرَّبُّ: لمن الملكُ اليومَ؟ وترَك ذِكْرَ "يقولُ" اسْتِغْناءً بدَلالةِ الكلامِ عليه.
وقولُه: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} . وقد ذَكَرْنا الروايةَ الواردةَ بذلك فيما مضَى قبْلُ
(2)
، ومعنى الكلامِ: يقولُ الرَّبُّ: لمن السلطانُ اليومَ؟ وذلك يومَ القيامةِ، فيُجيبُ نفسَه، فيقولُ:{لِلَّهِ الْوَاحِدِ} الذي لا مِثْلَ له ولا شَبِيةَ، {الْقَهَّارِ} لكلِّ شيءٍ سواه بقُدْرَتِه، الغالبِ بعزَّتِه.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17)} .
يقولُ تعالى ذكرُه مُخْبِرًا عن قِيلِه يومَ القيامةِ، حينَ يَبْعَثُ خَلْقَه مِن قبورِهم لموقفِ الحسابِ:{الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} . يقولُ: اليومَ يُتَابُ كلُّ عاملٍ بعملِه، فيُوَفَّى أجرَ عملِه، فعامِلُ الخيرِ يُجْزَى الخيرَ، وعاملُ الشَّرِّ يُجَزى جزاءَه.
وقولُه: {لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ} . يقولُ: لا بَخْسَ على أحدٍ فيما اسْتَوْجَبَه مِن أجرِ عملِه في الدنيا، فيُنْقَصَ منه إن كان محسنًا، ولا حَمْلَ على مُسئٍ إِثْمَ ذنبٍ لم
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 180 عن معمر عن قتادة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 348 إلى عبد بن حميد.
(2)
تقدم في 13/ 164،165، 496، 740، وينظر أيضًا ص 139، 140.
يَعْمَلْه، فيُعاقب عليه، {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}. يقولُ: إِن الله ذو سرعةٍ في مُحاسَبةِ عبادِه يومَئذٍ على أعمالِهم التي عمِلوها في الدنيا، ذُكِر أن ذلك اليومَ لا يَنْتَصِفُ حتى يَقِيلَ أهلُ الجنةِ في الجنةِ، وأهلُ النارِ في النارِ، وقد فُرغ مِن حسابِهم والقضَاءِ بينَهم.
يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه: وأنْذِرْ يا محمدُ مشركي قومِك يومَ الآزِفَةِ - يَعْنى يومَ القيامةِ - أن يُوافُوا الله فيه بأعمالِهم الخبيثةِ، فيَسْتَحِقُوا مِن اللهِ عقابَه الأليمَ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ:{يَوْمَ الْآزِفَةِ} . قال: يومَ القيامةِ
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ} : يومَ القيامةِ
(2)
.
(1)
تفسير مجاهد ص 582. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 349 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 180 عن معمر عن قتادة. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 349 إلى عبد بن حميد بنحوه.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:{وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ} . قال: يومَ القيامةِ.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ} . قال: يومَ القيامةِ. وقرأ: {أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ}
(1)
[النجم: 57، 58].
وقولُه: {إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: إذ قلوبُ العبادِ من مخافةِ عقابِ اللهِ لَدَى حناجِرِهم، قد شَخَصَتْ مِن صُدورِهم فتَعَلَّقَتْ بحُلوقِهم، كاظِمِيها، يَرومون رَدَّها إلى مَواضِعها مِن صدورِهم فلا تَرْجِعُ، ولا هي تَخْرُجُ مِن أبدانِهم فيموتوا.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ} . قال: قد وَقَفَتِ
(2)
القلوبُ في الحناجرِ مِن المخَافةِ، فلا هي تَخْرُجُ، ولا تعودُ إلى
(3)
أمْكِنَتِها
(4)
.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ: {إِذِ الْقُلُوبُ
(1)
ينظر البحر المحيط 7/ 456.
(2)
في النسخ: "وقعت"، والمثبت من تفسير ابن كثير 7/ 126، والدر المنثور (المخطوطة المحمودية) ص 368.
(3)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"في".
(4)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 180 عن معمر عن قتادةَ، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 349 إلى عبد بن حميد.
لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ}. قال: شَخَصَتْ أَفْئِدَتُهم عن أَمْكِنَتِها، فتشَّبثتْ
(1)
في حُلوقِهم، فلم تَخْرُجْ مِن أجوافِهم فيموتوا، ولم تَرْجِعْ إلى أمكنتها فتَسْتَقِرَّ.
واخْتَلَف أهلُ العربيةِ في وجهِ نصبِ {كَاظِمِينَ} ؛ فقال بعضُ نَحْويِّي البصرةِ: انْتِصابُه على الحالِ. كأنه أراد: إذ القلوبُ لدى الحناجرِ في هذه الحالِ. وكان بعضُ نَحْويِّى الكوفةِ يقولُ: الألفُ واللامُ بَدَلٌ مِن الإضافةِ، كأنه قال: إذ قلوبُهم لدى حناجرِهم في حالِ كَظْمِهم. وقال آخَرُ منهم
(2)
: هو نصبٌ على القطعِ من المَعْنى الذي يَرْجِعُ مِن ذكرِهم في القلوبِ والحناجرِ، المَعْنى: إذ قلوبُهم لدى حناجِرِهم كاظِمينَ. قال: فإن شئتَ جَعَلتَ قَطْعَه مِن الهاءِ التي في قولِه: {وَأَنْذِرْهُمْ} . قال: والأَوَّلُ أجْوَدُ في العربيةِ. وقد تَقَدَّم بيانُ وجهِ ذلك.
وقولُه: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ} . يقولُ جلَّ ثناؤه: ما للكافرين باللهِ يومَئذٍ مِن حميمٍ يُحِمُّ لهم، فيَدْفَعَ عنهم عظيمَ ما نزَل بهم مِن عذابِ، اللهِ، ولا شفيعٍ يَشْفَعُ لهم عندَ ربِّهم، فيُطاعَ فيما شفَع، ويُجابَ فيما سأَل.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّديِّ:{مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ} . قال: مَن يَعْنِيه أمرُهم، ولا شفيعَ لهم.
وقولُه: {يُطَاعُ} . صلةٌ للشفيعِ، ومعنى الكلامِ: ما للظالمينَ مِن حميمٍ، ولا شفيعٍ إذا شفَع أطِيعَ فيما شفَع، فأُجِيب وقُبِلَتْ شَفاعتُه
(3)
.
(1)
في م: "فنشبت".
(2)
هو الفراء في معاني القرآن 3/ 6.
(3)
بعده في م: "له".
وقولُه: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ} . يقولُ جلَّ ذكرُه مُخْبِرًا عن صفةِ نفسِه: يَعْلَمُ ربُّكم ما خانتْ أعيُنُ عبادِه، وما أخْفَتْه صدورُهم. يعنى: وما أَضْمَرَتْه قلوبُهم. يقولُ: لا يَخْفَى عليه شيءٌ مِن أُمورِهم، حتى ما تُحَدِّثُ به نفسُه، ويُضْمِرُه قلبُه؛ إذا نظر ماذا يُريدُ بنَظَرِه، وما يَنْوِى ذلك بقلبِهِ، {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ}. يقولُ: واللهُ تعالى ذكرُه يَقْضِى في الذي خانَتْه الأَعْيُنُ بنظرِها، وأَخْفَتْه الصُّدورُ عند نظرِ العيونِ، بالحقِّ؛ فيَجْزِى الذين أغْمَضوا أبصارَهم وصرَفوها عن محارمِه، حِذَارَ الموقِفِ بينَ يَدَيْهِ، ومَسْأَلَتِه عنه، بالحُسنى، والذين ردُّوا
(1)
النظرَ، وعَزَمتْ قلوبُهم على مُواقعَةِ الفَواحِشِ إِذا قَدَرَتْ، جزاءَها.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عبدُ اللهِ بنُ أحمدَ المَرْوَزِيُّ، قال: ثنا عليُّ بن حسينِ بن واقِدٍ، قال: ثنى أبى، قال: ثنا الأعمشُ، قال: ثنا سعيدُ بنُ جُبيرٍ، عن ابن عباسٍ:{يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ} : إذا نَظَرْتَ إليها؛ تُريدُ الخيانةَ أمْ لا؟ {وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} : إذا قَدَرْتَ عليها؛ أتَزْنى بها أمْ لا؟ قال: ثم سكَت، ثم قال: ألا أُخبِرُكم بالتي تَلِيها؟ قلتُ: نعم. قال: واللهُ يَقْضى بالحقِّ، قادرٌ على أن يَجْزِيَ بالحسنةِ الحسنةَ، وبالسيئةِ السيئةَ، {إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} . قال الحسينُ
(2)
: فقلتُ للأعمشِ: حدَّثني به الكَلْبِيُّ، إلا أنه قال: إن الله قادرٌ على أن يَجْزِيَ بالسيئةِ السيئةَ، وبالحسنةِ عَشْرًا. فقال الأعمشُ: لو
(3)
أن الذي عندَ الكلبيِّ عندى، ما خرَج
(1)
في م: "رددوا". وهما بمعنًى.
(2)
في م، ت 2، ت 3:"الحسن". والحسين هو ابن واقد.
(3)
سقط من: م.
منى إلا بخفير
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ} . قال: نَظَرَ الأعْيُنِ إلى ما نهَى اللهُ عنه
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ} : أي يَعْلَمُ هَمْزَه بعينِه وإغْماضَه، فيما لا يُحِبُّ اللهُ ولا يَرْضاه
(3)
.
وقولُه: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ} . يقولُ: والأوثانُ والآلهةُ التي يَعْبُدُها هؤلاء المشركون باللهِ مِن قومِك من دونِه، لا يقْضون بشيءٍ؛ لأنها لا تَعْلَمُ شيئًا، ولا تَقْدِرُ على شيءٍ. يقولُ جلَّ ثناؤُه لهم: فاعْبُدوا الذي يَقْدِرُ على كلِّ شيءٍ، ولا يَخْفَى عليه شيءٌ مِن أعمالِكم، فيَجْزِى مُحْسِنَكم بالإحسانِ، والمسيءَ بالإساءةِ، لا ما لا يَقْدِرُ على شيءٍ، ولا يَعْلَمُ شيئًا، فيَعْرِفَ المحسنَ مِن المسيءِ، فيُثيبَ المحسنَ، ويُعاقِبَ المسيءَ.
وقولُه: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} . يقولُ: إن الله هو السميعُ لِمَا تَنْطِقُ به ألسنتُكم أيها الناسُ، البصيرُ بما تَفْعلون مِن الأفعالِ، مُحيطٌ بكلِّ ذلك، مُحْصِيهِ
(1)
في م: "بحقير"، وفي ت 2، ت 3:"بحفر". والمثبت كما تقدم في 1/ 87. والأثر أخرجه الطبراني في الأوسط (1283) من طريق عبد الله بن أحمد به، وأخرجه أبو نعيم في الحلية 1/ 323، والبيهقي في الشعب (5443)، من طريق على بن الحسين به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 349 إلى ابن أبي حاتم. وقوله: "قال الحسين: فقلت للأعمش .. إلخ" تقدم في 1/ 87.
(2)
تفسير مجاهد ص 583، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 349 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
أخرجه أبو الشيخ في العظمة (174) من طريق يزيد به، وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 180 عن معمر عن قتادةَ، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 349 إلى عبد بن حميد.
عليكم، ليُجازِىَ جميعَكم جزاءَه يومَ الجزاءِ.
واخْتَلَفَت القَرَأَةُ في قراءةِ قولِه: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} ؛ فقَرَأ ذلك عامَّةُ قرأةِ المدينةِ: (وَالَّذِينَ تَدْعُون مِن دُونِه). بالتاءِ على وجهِ الخِطابِ، وقرَأ ذلك عامَّةُ قرأةِ الكوفةِ بالياءِ على وجهِ الخبرِ
(1)
.
والصوابُ مِن القولِ في ذلك أنهما قِراءَتان مَعْروفَتان، صحيحتا المَعْنَى، فبأيَّتِهما قرَأ القارئُ فمصيبٌ
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: أو لم يَسِرْ هؤلاء المُقِيمون على شركِهم بالله، المُكَذِّبون رسولَه من قُريشٍ، في البلادِ، {فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ}. يقولُ: فيَرَوْا ما الذي كان خاتمةً أُمَمِ الذين كانوا مِن قبلِهم، من الأُممِ الذين سَلَكوا سبيلَهم؛ في الكفرِ باللهِ وتكذيبِ رُسُلِهِ، {كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً}. يقولُ: كانت تلك الأُممُ الذين كانوا مِن قبلِهم، أشَدَّ منهم بطشًا، وأبْقَى في الأرضِ آثارًا، فلم تَنْفَعْهم شِدَّهُ قُواهم، وعِظَمُ أجسامِهم، إذ جاءَهم أمرُ اللهِ، وأخَذَهم بما أجْرَموا مِن مَعاصِيهِ واكْتَسَبوا من الآثامِ، ولكنَّه أبادَ جَمْعَهم، وصارتْ مساكنُهم خاويةً منهم بما ظَلَموا، {وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ}. يقولُ: وما كان لهم مِن عذابِ اللهِ إذ جاءَهم، مِن واقٍ يَقِيهم، فيَدْفَعَه عنهم.
(1)
قرأ نافع وابن عامر: (والذين تدعون). بالتاء، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي:{وَالَّذِينَ يَدْعُونَ} . بالياء، ينظر السبعة لابن مجاهد ص 568.
كالذى حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ} : يَقِيهم ولا يَنْفَعُهم
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: هذا الذي فَعَلْنا
(2)
بهؤلاء الأُمَمِ الذين مِن قبلِ مشركي قُريشٍ، من إهلاكِناهم بذنوبِهم، فَعلْنا بهم بأنهم كانتْ تأتيهم رسلُ اللهِ إليهم بالبَيَّنَاتِ؛ يعنى بالآياتِ الدَّالّاتِ على حقيقةِ ما تَدْعوهم إليه مِن توحيدِ اللهِ، والانْتِهاء إلى طاعتِه، {فَكَفَرُوا}. يقولُ: فأنْكَروا رِسالَتها، وجحَدوا توحيدَ اللهِ، وأبَوْا أن يُطِيعوا الله، {فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ}. يقولُ: فأخَذهم اللهُ بعذابِه فأهْلَكهم، {إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ} .
يقولُ: إن الله ذو قوةٍ، لا يَقْهَرُه شيءٌ ولا يَغْلِبُه، ولا يُعْجِزُه شيءٌ أَرادَه، شديدٌ عقابُه مَن عاقَب مِن خَلْقِه. وهذا وعيدٌ مِن اللهِ مشركي قُريشٍ، المُكَذِّبين رسولَه محمدًا صلى الله عليه وسلم، يقولُ لهم جلَّ ثناؤُه: فاحْذَروا أيُّها القومُ أن تَسْلُكوا سبيلَهم في تكذيبِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وجحودِ توحيد اللهِ ومخالفةِ أمرِه ونهيِه، فيَسْلُكَ بكم في تَعْجيلِ الهلاكِ لكم مَسْلَكَهم. القولُ في تأويلِ قولِه تعالى:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24)} .
يقولُ تعالى ذكرُه مُسَلِّيًا نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم، عمَّا كان يَلْقَى مِن مشركي قومِه مِن قريشٍ، بإعلامِه ما لَقِى موسى مِمَّن أُرْسِل إليه مِن التكذيبِ، ومُخْبِرَه أَنه مُعْلِيهِ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 349 إلى عبد بن حميد.
(2)
في م: "فعلت".
عليهم، وجاعِلٌ دائرةَ السَّوْءِ على من حادَّه وشاقَّه، كسُنَّتِه في موسى صلواتُ اللهِ عليه، إذ أعْلاه وأهْلَك عدوَّه فرعونَ:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا} - يَعْنى بأدِلَّتِه - {وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ} . كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ} . أي: عُذْرِ مبينٍ
(1)
.
يقولُ: وحُجَجُه المُبينةُ لَمَن يَرَاها أنها حُجَّةٌ مُحَقِّقَةٌ ما يَدْعو إليه موسى، {إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ}. يقولُ: فقال هؤلاء الذين أُرْسِل إليهم موسى لموسى: هو ساحرٌ يَسْحَرُ العصا، فيَرَى الناظِرُ إليها أنها حَيَّةٌ تَسْعَى، {كَذَّابٌ}. يقولُ: يَكْذِبُ على اللهِ، ويَزْعُمُ أَنه أَرْسَلَه إلى الناسِ رسولًا.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: فلمَّا جاء موسى هؤلاء الذين أرْسَلَه اللهُ إليهم بالحقِّ مِن عندِنا؛ وذلك مجيئُه إياهم بتوحيدِ اللهِ والعملِ بطاعتِه، مع إقامةِ الحُجَّةِ عليهم، بأن الله ابْتَعَثَه إليهم بالدعاءِ إلى ذلك، {قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا} باللهِ {مَعَهُ} مِن بنى إسرائيلَ، {وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ}. يقولُ: واسْتَبْقُوا نساءَهم للخِدْمةِ.
فإن قال قائلٌ: وكيف قيل: فلَمَّا جاءَهم موسى بالحقِّ مِن عندِنا قالوا اقْتُلوا أبناءَ الذين آمَنوا معه، واسْتَحْيوا نِساءَهم؟ وإنما كان قتلُ فرعونَ الوِلْدَانَ مِن بنى
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 6/ 2080 من طريق سعيد به.
إسرائيلَ، حِذارَ المولودِ الذي كان أُخْبِر أنه على رأسِه ذَهابُ مُلْكِه وهلاكُ قومِه، وذلك كان - فيما يقالُ - قبل أن يَبْعَثَ اللهُ موسى نبيًّا؟ قيل: إن هذا الأمرَ بقتلِ أبناءِ الذين آمنوا مع موسى، واستحياءِ نسائِهم، كان أمرًا من فرعونَ ومَلَئِه مِن بعدِ الأمرِ الأَوَّلِ الذي كان مِن فرعونَ قبَل مَوْلدِ موسى.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ} .
قال: هذا قتلٌ
(1)
غيرُ القتلِ
(2)
الأوَّلِ الذي كان
(3)
.
وقولُه: {وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} . يقولُ: وما احتيالُ أهلِ الكفرِ لأهلِ الإيمانِ باللهِ إلا في جَوْرٍ عن سبيلِ الحقَّ، وصَدٍّ عن قَصْدِ المَحَجَّةِ، وأخْذٍ على غير هُدًى.
القولٌ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ
(4)
أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26)}.
يقولُ تعالى ذكرُه: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ} لمَلَئِهِ: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ} الذي يَزْعُمُ أنه أرْسَله إلينا، فيَمْنَعَه منا، {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ}. يقولُ: إنى أخافُ أن يُغَيِّرَ دينَكم الذي أنتم عليه بسحرِه.
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"قيل".
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"القيل".
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 180 عن معمر عن قتادة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 350 إلى عبد بن حميد.
(4)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:(و). وينظر الصفحة القادمة.
واخْتَلَفَتِ القرأةُ في قراءةِ قولِه: {أَوْ
(1)
أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ}؛ فقرأ ذلك عامةُ قرأةِ المدينةِ والشامِ والبصرةِ: (وأنْ يُظْهِرَ في الأرضِ الفسادَ). بغيرِ ألفٍ، وكذلك ذلك في مصاحف أهلِ المدينةِ.
وقرأ ذلك عامّة قرأةِ الكوفةِ: {أَوْ أَنْ} بالألفِ، وكذلك ذلك في مصاحفِهم، (يَظْهَرَ في الأرضِ) بفتحِ الياءِ ورفعِ الفسادِ
(2)
.
والصوابُ مِن القول في ذلك عندَنا أنهما قِراءَتان مَشْهورتان في قَرَأَةِ الأمصارِ، مُتَقارِبَتا المعنى؛ وذلك أن الفسادَ إذا أظْهَرَه مُظْهِرٌ، كان ظاهرًا، وإذا ظهَر فبإظهارِ مُظْهِرٍ
(3)
يَظْهَرُ، ففى القراءةِ بإحدى القراءتَيْن في ذلك دليل
(4)
على صحةِ معنى الأُخرى. وأمَّا القراءةُ في {أَوْ أَنْ يُظْهِرَ} بالألفِ وبحذفِها، فإنهما أيضًا مُتَقارِبَتا المعنى؛ وذلك أن الشيءَ إذا بُدِّل إلى خِلافِه، فلا شكَّ أن خِلافَه المبدَّلَ إليه الأوَّلُ هو الظاهرُ دُونَ المبدَّلِ، فَسَوَاءٌ عُطِفَ على خبرِه عن خوفِه من موسى أن يُبَدِّلَ دينَهم، بالواوِ أو بـ "أو"؛ لأن تبديلَ دينِهم كان عندَه هو ظهورُ الفسادِ، وظهورُ الفسادِ كان عندَه هو تبديلَ الدينِ.
فتأويلُ الكلامِ إذن: إني أخافُ مِن موسى أن يُغيِّر دينَكم الذي أنتم عليه، أو أن
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"و".
(2)
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر: "وأنْ يظهرَ" بغير ألفٍ قبل واو. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي: (أو أنْ يظهرَ) بألفٍ قبل الواو. وقرأ نافع وأبو عمرو: (يُظْهِرَ) مضمومة الياء، (الفسادَ) نصبًا. وقرأ ابن كثير وابن عامر:(يُظْهَرَ) منصوبة الياء، (الفسادُ) رفعًا. وقرأ عاصمٍ في رواية أبي بكر وحمزة والكسائي:(يَظْهَرَ) بفتح الياء، (الفسادُ) رفعًا. وقرأ حفص عن عاصم:(يُظْهِرَ) برفع الياء، (الفسادَ) نصبا. ينظر السبعة في القراءات ص 569.
(3)
في م: "مظهره".
(4)
بعده في م: "واضح".
يُظهِرَ في أرضِكم، أرضِ مصرَ، عبادةَ ربِّه الذي يَدْعوكم إلى عبادتِه. وذلك كان عندَه هو الفسادَ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك، قال أهلُ التأويلِ.
[ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ} . أي: أمْرَكم الذي أنتم عليه، {أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} ، والفسادُ عندَه: أن يُعْملَ بطاعةِ اللهِ]
(1)
(2)
.
يقولُ تعالى ذكرُه: وقال موسى لفرعونَ ومَلَئِه: إني اسْتَجَرْتُ، أَيُّها القومُ، بربي وربِّكم مِن كلِّ مُتَكبِّرٍ عليه؛ تَكَبَّر عن توحيدِه والإقرارِ بأُلوهيَّتِه وطاعتِه، لا يؤمنُ بيومٍ يُحاسِبُ اللهُ فيه خَلْقَه، فيُجازِى المحسنَ بإحسانِه، والمسيءَ بما أساء
(3)
. وإنما خصَّ موسى صلواتُ اللهِ وسلامُه عليه الاستعاذةَ باللهِ مِمَّن لا يُؤْمِنُ بيومِ الحسابِ؛ [لأن مَن لم يُؤْمِنْ بيومِ الحسابِ]
(4)
مُصدَّقًا، لم يكنْ للثوابِ على
(1)
سقط من: ت 3.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 180 عن معمر عن قتادةَ. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 350 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
في ص، ت 1، ت 3:"شاء"، وفي ت 2:"ساء".
(4)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ت 3.
الإحسانِ راجيًا، ولا للعقابِ على الإساءِة وقبيحِ ما يَأْتى من الأفعالِ خائفًا، ولذلك كانت اسْتِجارَتُه من هذا الصِّنْفِ مِن الناسِ خاصَّةً.
وقولُه: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} . اخْتَلَف أهلُ العلمِ في هذا الرجلِ المؤمنِ؛ فقال بعضُهم: كان من قومِ فرعونَ غيرَ أنه كان قد آمن بموسى، وكان يُسِرُّ إيمانَه مِن فرعونَ وقومِه خوفًا على نفسِه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدٌ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:{وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} . قال: هو ابن عمِّ فرعونَ، ويُقالُ: هو الذي نَجا مع موسى
(1)
.
فمن قال هذا القول وتَأَوَّل هذا التأويلَ، كان صوابًا الوقفُ - إذا أراد القارئُ الوقوفَ
(2)
- على قولِه: {مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} ؛ لأن ذلك خبرٌ مُتَناهٍ قد تَمَّ.
وقال آخرون: بل كان الرجلُ إسرائيليًّا، ولكنَّه كان يَكْتُمُ إيمانَه مِن آلِ فرعونَ.
والصوابُ على هذا القولِ، لمن أراد الوقفَ، أن يَجْعَلَ وقفَه على قولِه:{يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} ؛ لأن قولَه: {مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} صلةٌ لقولِه: {يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} ، فتمامُه قولُه:{يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} .
وذُكِر أن اسمَ هذا الرجلِ المؤمنِ من آلِ فرعونَ: خبرك
(3)
. كذلك حدَّثنا ابن
(1)
ذكره البغوي في تفسيره 7/ 146، والقرطبي في تفسيره 15/ 306، وابن كثير في تفسيره 7/ 129.
(2)
في م: "الوقف".
(3)
في م: "جبريل"، وفي ت 2، ت 3:"حمويل". وفي مصدر التخريج: "حبرك".
حميدٍ، قال: ثنا سَلَمَةُ، عن ابن إسحاقَ
(1)
.
وأَوْلَى القولَيْن في ذلك بالصوابِ عندى القولُ الذي قاله السُّديُّ، مِن أن الرجلَ المؤمنَ كان من آلِ فرعونَ، قد أصْغَى لكلامِه واسْتَمَع منه ما قاله، وتَوَفَّف عن قتل موسى عندَ نَهْيِه عن قتلِه وقيلِه ما قال، وقال له: ما أُريكم إلا ما أَرَى، وما أَهدِيكم إلَّا سبيلَ الرشادِ. ولو كان إسرائيليًّا لكان حَرِيًّا أن يُعاجِلَ هذا القائلَ له ولمَلَئِه ما قال، بالعقوبة على قولِه؛ لأنه لم يكنْ يَسْتَنْصِحُ بني إسرائيلَ؛ لاعْتدادِه إياهم أعداءً له، فكيف بقولِه عن قتلِ موسى لو وَجَد إليه سبيلًا، ولكنَّه لمَّا كان مِن مَلإِ قومِه، اسْتَمَع قولَه وكفَّ عمَّا كان همَّ به في موسى.
وقولُه: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} . يقولُ: أَتَقْتُلُونَ، أَيُّها القومُ، موسى؛ لِأَنْ يقولَ ربيَ اللهُ؟! فـ "أنْ" في موضعِ نصبٍ؛ لِمَا وَصَفْتُ، {وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ}. يقولُ: وقد جاءَكم بالآياتِ الواضحاتِ على حقيقةِ ما يقولُ مِن ذلك، وتلك البيناتُ من الآياتِ يدُه وعصاه.
كما حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ:{وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} : بعصاه وبيدِه
(1)
.
وقولُه: {وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ} . يقولُ: وإن يَكُ موسى كاذبًا في قِبلِه أن الله أرْسَله إليكم يَأْمُرُكم بعبادتِه، وتركِ دينِكم الذي أنتم عليه، فإنما إثمُ كَذِبِه عليه دونَكم، {وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} .
يقولُ: وإن يَكُ صادقًا في قِيلِه ذلك، أصابكم الذي وعَدَكم من العقوبةِ على
(1)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 407 عن ابن حميد به، لكن عنده أن ابن إسحاق قال: حدثت عن وهب.
مُقامِكم على الدينِ الذي أنتم عليه مُقيمون، فلا حاجةَ بكم إلى قتلِه، فتَزِيدوا ربَّكم بذلك إلى سُخْطِه عليكم بكفرِكم سُخْطًا، {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ}. يقول: إن الله لا يُوَفِّقُ للحقِّ من هو مُتعدٍّ
(1)
إلى فِعْلِ ما ليس له فِعلُه، {كَذَّابٌ}: عليه يَكْذِبُ، ويقولُ عليه الباطلَ وغيرَ الحقِّ.
وقد اخْتَلَف أهلُ التأويلِ في معنى الإسرافِ الذي ذكَره المؤمنُ في هذا الموضعِ؛ فقال بعضُهم: عَنَى به الشركَ، وأراد: إن الله لا يهدى مَن هو مشركٌ به، مُفْتَرٍ عليه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} : مشركٌ أسرَف على نفسِه بالشركِ
(2)
.
وقال آخرون: عَنَى به مَن هو قَتَّالٌ سَفَّاكٌ للدماءِ بغيرِ حقٍّ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} . قال: المسرفُ هو صاحبُ الدمِ. ويُقالُ: هم المشركون
(3)
.
والصوابُ من القولِ في ذلك أن يُقالَ: إن الله أَخْبَر عن هذا المؤمنِ أنه عَمَّ بقولِه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} . والشركُ مِن الإسرافِ،
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"معتد".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 350 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
ينظر البحر المحيط 7/ 461.
وسفكُ الدمِ بغيرِ حقٍّ مِن الإسرافِ، وقد كان مُجْتَمِعًا في فرعونَ الأمران كلاهما، فالحقُّ أن يُعَمَّ ذلك، كما أخبَر جلَّ ثناؤُه عن قائلِه، أنه عَمَّ القولَ بذلك.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {يَاقَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29)} .
يقولُ تعالى ذكرُه مُخْبِرًا عن قِيلِ المؤمنِ مِن آلِ فرعونَ لفرعونَ ومَلَئِهِ: {يَاقَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ} . يَعْنى أرضَ مصرَ. يقولُ: لكم السلطانُ اليومَ والملكُ، ظاهرين أنتم على بني إسرائيلَ في أرضِ مصرَ، {فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ}. يقولُ: فمن يَدْفَعُ عنا بَأْسَ اللهِ وسَطْوَتَه إِن حَلَّ بنا، [وعقوبتَه]
(1)
إن جاءَتْنا؟ {قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى} . يقول: قال فرعونُ مجيبًا لهذا المؤمنِ الناهي عن قتلِ موسى: ما أُرِيكم، أيُّها الناسُ، مِن الرَّأْيِ والنصيحةِ إلا ما أَرَى لنفسي ولكم صلاحًا وصوابًا، {وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ}. يقولُ: وما أَدْعُوكم إلا إلى طريقِ الحقِّ والصوابِ في أمرِ موسى وقتلِه، فإنكم إن لم تَقْتُلوه بَدَّل دينَكم، وأظْهَر في أرضِكم الفسادَ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَاقَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وقال المؤمنُ مِن آلِ فرعونَ لفرعونَ ومَلَئِه: يا قومِ، إني أخافُ عليكم بقتلِكم موسى، إن قَتَلتُموه، مِثْلَ يومِ الأحزابِ الذين تَحَزَّبوا
(1)
في ص، ت 1، ت 2:"وعقوبة منه".
على رُسُلِ اللهِ؛ نوحٍ وهودٍ وصالحٍ، فأهْلَكَهم اللهُ بتَحَزُّبِهم
(1)
عليهم، فيُهْلِكُكم كما أَهْلَكَهم.
وقولُه: {مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ} . يقولُ: يَفْعَلُ ذلك بكم فيُهْلِكُكُم مِثْلَ سُنَّتِه في قومِ نوحٍ وعادٍ وثمودَ وفِعْلِه بهم.
وقد بَيَّنا مَعْنَى الدَّأْبِ فيما مضَى بشواهدِه المُغْنِيَةِ عن إعادتِه، مع ذكرِ أقوالِ أهلِ التأويلِ فيه
(2)
.
وقد حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ:{مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ} . يقولُ: مثلَ حالِ
(3)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ} . قال: مثلَ ما أصابَهم.
وقولُه: {وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ} . يَعْنى قومَ إبراهيمَ، وقومَ لوطٍ، وهم أيضًا من الأحزابِ.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ} . قال: هم الأحزابُ
(4)
.
وقولُه: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} . يقولُ تعالى ذكرُه مُخْبِرًا عن قِيلِ المؤمِنِ من آلِ فرعونَ لفرعونَ ومَلَئِه: وما أَهْلَك اللهُ هذه الأحزابَ مِن هذه الأممِ ظُلمًا منه
(1)
في م: "بتجرئهم".
(2)
ينظر ما تقدم في 5/ 235 - 237.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره - كما في الإتقان 2/ 41 - من طريق أبي صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 350 إلى ابن المنذر.
(4)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 181 عن معمر عن قتادة.
لهم، بغيرِ جُرْمٍ اجْتَرَموه بينَهم وبينَه؛ لأنه لا يُريدُ ظلمَ عبادِه ولا يَشاؤُه، ولكنَّه أهْلَكَهم بإجرامِهم وكفرِهم به وخِلافِهم أمْرَه.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَيَاقَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33)} .
يقولُ تعالى ذكرُه مخبرًا عن قِيلِ هذا المؤمنِ لفرعونَ وقومِه: {وَيَاقَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ} بِقَتْلِكم موسى إن قَتَلْتُموه عقابَ اللهِ {يَوْمَ التَّنَادِ} .
واختَلفتِ القرأَةُ في قراءةِ قولِه: {يَوْمَ التَّنَادِ} ؛ فقرأ ذلك عامَّةُ قرأَةِ الأمصارِ: {يَوْمَ التَّنَادِ} بتخفيفِ الدالِ، وتركِ إثباتِ الياءِ
(1)
، بمعنى التَّفاعُلِ، مِن: تَنادَى القومُ تَنادِيًا. كما قال جلَّ ثناؤُه: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ} [الأعراف: 44]. وقال: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ} [الأعراف: 50]. فكذلك
(2)
تَأَوَّلَه قارئو ذلك.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا محمدُ بنُ عبدِ اللهِ الأنصاريُّ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، أنه قال في هذه الآيةِ:{يَوْمَ التَّنَادِ} . قال: يومَ يُنَادِى
(3)
أهلُ النارِ أهلَ الجنةِ {أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ} .
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه: {وَيَاقَوْمِ إِنِّي
(1)
قرأ عاصم وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائى وخلف بغير ياء. السبعة لابن مجاهد ص 568، والنشر 2/ 274.
(2)
في م، ت 2، ت 3:"فلذلك".
(3)
في ص، ت 1، ت 2:"ينادون".
أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ}: يومَ ينادى أهلُ الجنةِ أهلَ النارِ {أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا} . ويُنادِى أهلُ النارِ أهلَ الجنةِ {أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ}
(1)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أَخْبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {يَوْمَ التَّنَادِ} . قال: يومَ القيامةِ، يُنادى أهلُ الجنةِ أهلَ النارِ
(2)
.
وقد رُوى عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في مَعْنَى ذلك على هذه القراءةِ، تأويلٌ آخرُ على غير هذا الوجهِ.
وهو ما حدَّثنا به أبو كُريبٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمن بنُ محمدٍ المُحاربيُّ، عن إسماعيلَ بن رافعٍ المدنيِّ، عن يزيدَ بن زيادٍ، عن محمدِ بن كعبٍ القُرظيِّ، عن رجلٍ مِن الأنصارِ، عن أبي هريرةَ، أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: "يَأْمُرُ اللهُ إِسرافِيلَ بالنَّفْحَةِ الأُولى فيقولُ: انْفُخُ نَفْخَةَ الفزعِ. ففَزِع أهلُ السماواتِ وأهلُ الأَرضِ إِلَّا مَن شاء اللهُ، ويَأْمُرُه الله فيدِيمُها
(3)
ويُطَوِّلُها فلا يَفْتُرُ، وهى التي يقولُ اللهُ:{وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ} [ص: 15]. فَيُسيِّرُ اللهُ الجبالَ فتكونُ سرابًا، فَتُرَجُّ الأرضُ بأهلِها رَجًّا، وهى التي يقولُ اللهُ:{يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ} [النازعات: 6 - 8]. فتكونُ كالسفينةِ
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 181 عن معمر عن قتادة بنحوه، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 51 إلى عبد بن حميد.
(2)
ذكره الطوسى في التبيان 9/ 73، 74.
(3)
في م، ت 1:"أن يديمها"، وفى ت 2، ت 3:"يديمها". وفى الأهوال والبعث والنشور والبداية والنهاية: "فيمدها"، وفى تفسير ابن أبي حاتم:"فيمد بها"، وفى الدر المنثور:"أن يمدها". والمثبت موافق لما في الأحاديث الطوال والعظمة.
المُرَنِّقَةِ
(1)
في البحرِ، تَضْرِبُها الأمْواجُ
(2)
تَكَفَّأُ بِأَهلِها، أو كالقِنْدِيلِ المُعَلَّقِ بِالعَرْشِ تَرُجُّه
(3)
الأَرْوَاحُ
(4)
، فيَمِيدُ الناسُ على ظَهْرِها، فتَذْهَلُ المَراضِعُ، وتَضَعُ الحوامِلُ، وتشِيبُ الوِلْدانُ، وتطيرُ الشياطينُ هاربةً حتى تأتى الأقطارَ، فتَلَقَّاها الملائكةُ فتَضْرِبُ وُجُوهَها فتَرْجِعُ، ويُوَلِّي النَّاسُ مُدبِرِين، يُنادى بعضُهم بعضًا، وهو الذي يقولُ اللهُ:{يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ} "
(5)
.
فعلى هذا التأويلِ معنى الكلامِ: ويا قومِ إني أخافُ عليكم يومَ يُنادى الناسُ بعضُهم بعضًا مِن فَزَع نَفْخَةِ الفَزَعِ.
وقرأ ذلك آخرون: (يومَ التَّنادِّ). بتشديدِ الدالِ
(6)
، بمعنى التَّفاعُلِ مِن النَّدِّ، وذلك إذا هرَبوا فنَدُّوا في الأرضِ، كما تَنِدُّ الإبلُ إذا شَرَدَتْ على أربابِها.
ذكرُ مَن قال ذلك كذلك، وذكرُ المَعْنَى الذي قصد بقراءَتِه ذلك كذلك
حدَّثني موسى بنُ عبدِ الرحمنِ المَسْروقيُّ، قال: ثنا أبو أسامةَ، عن الأَجْلَحِ،
(1)
في م: "المرتعة"، وفى الأهوال:"المرفأة"، وفى الأحاديث الطوال والبداية والنهاية:"الموبقة"، وفى العظمة:"المرتفعة"، وفى البعث والنشور:"الموقرة"، وفى الدر المنثور:"الموسقة". والمُرَنِّقَة: يقال رَنَّقَتِ السفينةُ. إذا دارتْ في مكانها ولم تَسِرْ. النهاية 2/ 270.
(2)
في الدر المنثور: "الرياح".
(3)
في ص: "نرححه"، وفى ت 1، وتفسير ابن أبي حاتم:"ترججه"، وفى ت 3:"ترحمه". وفي الأحاديث الطوال، والعظمة، والبعث والنشور، والبداية والنهاية:"ترجحه". وفى الدر المنثور: "تميلها".
(4)
في ت 1، ت 3:"الأرياح". وفي الأحاديث الطوال: "الرياح الأرْواح"، وفي الدر المنثور:"الرياح". وتُجمع الرِّيح على أرواح، كما تجمع على رياح. ينظر تاج العروس (ر و ح).
(5)
تقدم تخريجه في 3/ 613.
(6)
هي قراءة ابن عباس والضحاك وأبي صالح والكلبى. ينظر مختصر الشواذ ص 133، والمحتسب 2/ 243.
قال: سمِعتُ الضحاكَ بنَ مُزاحِمٍ، قال: إذا كان يومُ القيامةِ، أمر اللهُ السماءَ الدنيا فتشقَّقَتْ بأهلِها، ونزَل من فيها مِن الملائكةِ فأحاطوا بالأرضِ ومَن عليها، ثم الثانيةَ، ثم الثالثةَ، ثم الرابعةَ، ثم الخامسةَ، ثم السادسةَ، ثم السابعةَ، فصَفُّوا صَفًّا دونَ صفٍّ، ثم يَنْزِلُ المَلِكُ الأعلى، على مُجَنّبَتِهِ اليُسرى جَهَنمُ، فإذا رآها أهلُ الأرضِ نَدُّوا، فلا يَأْتون قُطرًا مِن أقطارِ الأرضِ إلا وجَدوا سبعةَ صفوفٍ مِن الملائكةِ، فيَرْجِعون إلى المكانِ الذي كانوا فيه، فذلك قولُ اللهِ:(إني أخافُ عليكم يوم التَّنادِّ * يومَ تولُّون مُدبْرِين). وذلك قولُه: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} [الفجر: 22، 23]. وقولُه: {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} [الرحمن: 33]. وذلك قولُه: {وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا}
(1)
[الحاقة: 16، 17].
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ قولَه:(يومَ التنادِّ). قال: يَندُّون
(2)
.
ورُوى عن الحسنِ البصريِّ أنه قرَأ ذلك: (يومَ التَّنادِى) بإثباتِ الياءِ وتخفيفِ الدالِ
(3)
.
والصوابُ مِن القراءةِ في ذلك عندَنا ما عليه قرأةُ الأمصارِ، وهو تخفيفُ الدالِ، وبغير إثباتِ الياءِ. وذلك أن ذلك هو القراءةُ التي عليها الحُجَّةُ مُجْمِعَةٌ مِن قرأةِ
(1)
أخرجه نعيم في زوائده على الزهد لابن المبارك (354) من طريق جويير عن الضحاك نحوه، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 350 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
في م: "تندون".
(3)
أثبت الحسن الياء في الوصل فقط، وأثبتها وصلًا أيضًا ورش وابن وردان وقالون بخُلف عنه. وأثبتها وصلًا ووقفًا ابن كثير ويعقوب، وكلهم يخفف الدال. النشر 2/ 274، والإتحاف ص 233.
الأمصارِ، وغيرُ جائزٍ خِلافُها فيما جاءتْ به نَقْلًا. فإذْ كان ذلك هو الصوابَ، فمعنى الكلامِ: ويا قومِ إني أخافُ عليكم يومَ يُنادِى الناسُ بعضُهم بعضًا؛ إِمَّا مِن هَوْلِ ما قد
(1)
عَايَنوا من عظيمِ سلطانِ اللهِ، وفَطَاعةِ ما غَشِيَهم مِن كَرْبِ ذلك اليومِ، وإمَّا لتذكير بعضهم بعضًا إنجازَ اللهِ إياهم الوعدَ الذي وعدهم في الدنيا، واسْتِغاثةً مِن بعضِهم ببعضٍ، مما لَقِى مِن عظيمِ البلاءِ فيه.
وقولُه: {يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ} . فتأويلُه على التأويلِ الذي ذَكَرْنا مِن الخبرِ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: يومَ يُوَلُّون
(2)
هارِبين في الأرضِ؛ حِذَارَ عذابِ اللهِ وعقابِه عندَ مُعايَنَتِهم جهنمَ.
وتأويلُه على التأويلِ الذي قاله قتادةُ في معنى: {يَوْمَ التَّنَادِ} : يومَ تولُّون مُنصرِفين عن موقفِ الحسابِ إلى جهنمَ.
وبنحوِ ذلك رُوِى الخبرُ عنه وعمَّن قال نحوَ مقالتِه في معنى: {يَوْمَ التَّنَادِ} .
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ} . أي: مُنْطَلَقًا بكم إلى النارِ
(3)
.
وأَوْلَى القولَيْنِ في ذلك بالصوابِ القولُ الذي رُوِى عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وإن كان الذي قاله قتادةُ في ذلك غيرَ بعيدٍ مِن الحقِّ، وبه قال جماعةٌ مِن أهلِ التأويلِ.
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"به".
(2)
في ت 1، ت 2 ت 3:"تولون".
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 181 عن معمر عن قتادة.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ} . قال: فارِّينَ غَيْرَ مُعْجِزين
(1)
.
وقولَه: {مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ} . يقولُ: ما لكم مِن الله مانعٌ يَمْنَعُكم، وناصرٌ ينصُرُكم.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ} : أي مِن ناصرٍ
(2)
.
وقولُه: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} . يقولُ: ومَن يَخْذُلْه اللهُ فلم يُوَفِّقْه لرُشْدِه، فما له مِن مُوَفِّقٍ يُوفِّقُه له.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: ولقد جاءَكم يوسفُ بنُ يعقوبَ، يا قومِ، مِن قبلِ موسى بالواضِحاتِ مِن حُجَجِ اللهِ.
(1)
تفسير مجاهد ص 583.
(2)
ينظر البحر المحيط 7/ 464.
كما حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ} . قال: قبلِ موسى.
وقولُه: {فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ} . يقولُ: فلم تَزَالُوا مُرْتابين فيما أتاكم به يوسفُ من عندِ ربِّكم، غير مُوقِنى القلوبِ بحقيقتِه، {حَتَّى إِذَا هَلَكَ}. يقولُ: حتى إذا مات يوسفُ قلتم أيُّها القومُ: لن يَبْعَثَ اللهُ مِن بعدِ يوسفَ إليكم رسولًا بالدُّعاءِ إلى الحقِّ، {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ}. يقولُ: هكذا يَصُدُّ اللهُ عن إصابةِ الحقِّ وقصدِ السبيلِ مَن هو كافرٌ به، {مُرْتَابٌ} شاكٌّ في حقيقةِ أخبارِ رسلِه.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35)} .
يقولُ تعالى ذكرُه مخبرًا عن قيلِ المؤمنِ مِنْ آلِ فرعونَ: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ} .
فقولُه: {الَّذِينَ} مَرْدودٌ على {مَنْ} في قولِه: {مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ} .
وتأويلُ الكلامِ: كذلك يُضِلُّ اللهُ أهل الإسرافِ والغُلُوِّ فِي ضَلالِهم، بكفرِهم باللهِ واجْتِرائِهم على معاصيه، المُرْتابين في أخبارِ رسلِه، الذين يُخاصِمون في حُجَجِه التي أَتَتْهم بها رسلُه؛ ليُدْحِضوها بالباطلِ مِن الحُجَج، {بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ}. يقولُ: بغيرِ حُجَّةٍ أَتَتْهم من عندِ ربِّهم يَدْفَعون بها حقيقةَ الحُجَجِ التي أَتَتْهم بها الرسلُ، {الَّذِينَ} - إذا كان معنى * الكلامِ ما ذَكَرْنا - في
* إلى هنا ينتهى الخرم في مخطوط الأصل والذي بدأ في ص 276.
موضعِ نصبٍ رَدًّا على {مَنْ} .
وقولُه: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ} . يقولُ: كبُر ذلك الجدالُ الذي يُجادِلُونَه في آياتِ اللهِ مقتًا عندَ اللهِ، وعند الذين آمنوا باللهِ، وإنما نُصِبَ قولُه:{مَقْتًا} ، لِمَا في قولِه:{كَبُرَ} . مِن ضميرِ الجِدالِ، وهو نظيرُ قولِه:{كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [الكهف: 5]. فنَصَب {كَلِمَةً} مَنْ نَصَبها؛ لأنه جعَل في قولِه: {كَبُرَتْ} ضميرَ قولِهم: {اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} [الكهف: 4]. وأما مَن لم يُضْمِرْ ذلك فإنه رفَع الكلمةَ.
وقولُه: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} . يقولُ: كما طبَع اللهُ على قلوبِ المسرفين الذين يُجادِلون في آياتِ اللهِ بغيرِ سلطانٍ أَتَاهم، كذلك يَطْبَعُ اللهُ على كلِّ قلبِ متكبِّرٍ على اللهِ أَن يُوَحِّدَه ويُصَدِّقَ رسلَه، {جَبَّارٍ}. يَعْنى: مُتَعَظِّمٍ عن اتِّبَاعِ الحَقِّ.
واخْتَلَفتِ القرأةُ في قراءةِ ذلك؛ فَقَرَأَتْه عامةُ قرأةِ الأمصارِ، خلا أبي عمرِو بن العلاءِ
(1)
: {عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ} . بإضافةِ "القلبِ" إلى "المتكبرِ"، بمعنى الخبرِ عن أن الله طبَع على قلوبِ المتكبِّرين كلِّها، ومَن كان ذلك قراءتَه، كان قولُه:{جَبَّارٍ} مِن نعتِ {مُتَكَبِّرٍ} .
وقد رُوِى عن ابن مسعودٍ أنه كان يَقْرَأُ ذلك: (كذلكَ يَطْبَعُ اللهُ على قلبِ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ)
(2)
.
حدَّثني بذلك ابن يوسفَ، قال: ثنا القاسمُ، قال: ثني حجاجٌ، عن هارونَ،
(1)
قرأ أبو عمرو: (على كلِّ قلبٍ متكبرٍ) بتنوين قلبٍ، واختلف في ذلك عن ابن عامر. النشر 2/ 273.
(2)
مختصر الشواذ ص 133.
أنه كذلك في حرفِ ابن مسعودٍ
(1)
.
وهذا الذي ذُكِر عن ابن مسعودٍ مِن قراءتِه، يُحَقِّقُ قراءةَ مَن قرأ ذلك بإضافةِ "قَلْب" إلى "المتكبِر"؛ لأن تقديمَ "كُلّ" قبلَ "القلبِ"، وتأخيرَها بعدَه، لا يُغَيِّرُ المعنَى، بل مَعْنَى ذلك في الحالتَيْن واحدٌ. وقد حُكِى عن بعضِ العربِ سَماعًا: هو يُرَجِّلُ شعرَه يومَ كلِّ جمعةٍ. يَعْنى: كلَّ يومِ جمعةٍ. وأما أبو عمرٍو فقرَأ ذلك بتنوين "القلبِ" وتَرْكِ إضافتِه إلى "متكبرٍ"، وجعَل "المتكبرَ" و "الجبارَ" من صفةِ "القلبِ".
وأَوْلَى القراءتَيْن في ذلك عندى بالصوابِ قراءةُ مَن قرأَه بإضافةِ "القلبِ" إلى "المتكبرِ"؛ لأن التكبُّرَ فِعْلُ الفاعلِ بقلبهِ، كما أن القاتلَ إذا قتَل قتيلًا، وإن كان قَتَلَه بيدِه، فإن الفِعْلَ مضافٌ إليه، وإنما القلبُ جارِحَةٌ مِن جَوارحِ المتكبرِ، وإن كان بها التَّكَبُّرُ، فإن الفعلَ إلى فاعِلِه مضافٌ، نظيرُ الذي قُلْنا في القتلِ. وذلك وإن كان كما قُلْنا فإن الأُخْرَى غيرُ مَدْفوعةٍ؛ لأن العربَ لا تَمْتَنِعُ
(2)
أن تقولَ: بَطَشَتْ يدُ فلانٍ، ورَأَتْ عَيْناهُ كذا، وفَهِم قلبُه. فتُضِيفُ الأفعالَ إلى الجوارحِ، وإن كانتْ في الحقيقةِ لأصحابِها.
يقولُ تعالى ذكرُه: وقال فرعونُ - لمَّا وعظَه المؤمنُ مِنْ آلِه بما وعظَه به، وزجَره عن قتلِ موسى نبيِّ اللهِ، وحَذَّره مِن بأسِ اللهِ على [قَتْلِهِ إِنْ قَتَلَهُ]
(3)
ما حَذَّره - لوزيرِه
(1)
أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن ص 183 عن الحجاج به.
(2)
في م: "تمنع".
(3)
في م: "قيله اقتله".
وزيرِ السَّوءِ هامانَ: {يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا} . يعني بِناءً. وقد بَيَّنا معنَى الصَّرْحِ فيما مضَى بشواهدِه
(1)
، بما أغْنَى عن إعادتِه في هذا الموضعِ. {لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ}. اخْتَلَف أهلُ التأويلِ في معنى الأسبابِ في هذا الموضعِ؛ فقال بعضُهم: أسبابُ السماواتِ: طُرُقُها.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أحمدُ بنُ هشامٍ، قال: ثنا [عُبَيدُ اللهِ]
(2)
بنُ موسى، عن إسرائيلَ، عن السُّدِّيِّ، عن أبي صالحٍ:{أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ} . قال: طُرُقَ السماواتِ
(3)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بن المُفَضَّلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ} . قال: طُرُقَ السماواتِ
(4)
.
وقال آخرون: عَنَى بأسبابِ السماواتِ أبوابَ السماواتِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا} . وكان أوَّلَ مَن بنَى بهذا الآجُرِّ وطَبَخَه، {لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ}. أي: أبوابَ السماواتِ
(5)
.
(1)
ينظر ما تقدم في 18/ 81 - 84، 250، 256.
(2)
في م، ت 2، ت 3:"عبد الله".
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 351 إلى عبد بن حميد.
(4)
ينظر التبيان 9/ 76.
(5)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 405 عن بشر به، وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 91، 181 عن معمر عن قتادة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 351 إلى عبد بن حميد.
وقال آخرون: بل عَنَى به مَنْزِلَ السماءِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ} . قال: مَنْزِلَ السماءِ.
وقد بَيَّنَا فيما مضَى قبلُ
(1)
، أن السببَ هو كلُّ ما تُسُبِّبَ به إلى الوصولِ إلى ما يُطْلَبُ؛ مِن حبلٍ وسُلَّمٍ وطريقٍ، وغيرِ ذلك.
فأَوْلَى قول بالصوابِ في ذلك أن يقالَ: مَعْناه: لَعَلِّى أَبْلُغُ مِن أسبابِ السماواتِ أسبابًا أَتَسَبَّبُ بها إلى رؤيةِ إله موسى، طُرُقًا كانت تلك الأسبابُ منها، أو أبوابًا، أو منازلَ، أو غيرَ ذلك.
وقولُه: {فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} . اخْتَلَفتِ القرأةُ في قراءةِ قولِه: {فَأَطَّلِعَ} ؛ فقرأَتْ ذلك عامة قرأة الأمصارِ: (فأطَّلِعُ) بضَمِّ العينِ، رَدًّا به على قولِه:{أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ} ، وعطفًا به عليه
(2)
. وذُكِر عن حُميدٍ الأعرجِ أنه قَرَأه: {فَأَطَّلِعَ}
(3)
. نصبًا، جوابًا لـ "لعل"
(4)
، وقد ذكَر الفَرَّاءُ أن بعضَ العربِ أَنْشَدَه
(5)
:
(1)
تقدم في 15/ 371 - 374، 381، 384، 16/ 478 - 482.
(2)
قرأ عاصم في رواية حفص عنه: {فَأَطَّلِعَ} نصبًا، وقرأ الباقون وعاصم في رواية أبي بكر عنه:(فأطَّلِعُ) رفعًا. السبعة لابن مجاهد ص 570، وينظر النشر 2/ 273.
(3)
ينظر تفسير البغوي 7/ 149، وتفسير القرطبي 15/ 315، والبحر المحيط 7/ 465.
(4)
في ص، م، ت 2، ت 3:"لعلي".
(5)
معاني القرآن للفراء 3/ 9، وينظر شرح شواهد المغنى للسيوطى 1/ 454.
عَلَّ
(1)
صُرُوفَ الدَّهْرِ أو دُولاتِها
يُدِلْنَنَا اللَّمَّةَ مِن لَمَّاتِها
فتَسْتَرِيحَ النَّفْسُ مِن زَفْراتِها
فنَصَب "تستريحَ" على أنها جوابٌ لـ "لَعَلَّ".
والقراءةُ التي لا أَسْتَجِيزُ غيرَها الرفعُ في ذلك؛ لإجماعِ الحُجَّةِ من القرأَةِ عليه.
وقولُه: {وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِبًا} . يقولُ: وإني لأَظُنُّ موسى كاذبًا فيما يقولُ ويَدَّعى من أن له في السماءِ ربًّا أَرْسَلَه إلينا.
وقولُه: {وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ} . يقولُ اللهُ تعالى ذكرُه: وهكذا زَيَّن اللهُ لفرعونَ حينَ عَنا عليه وتَمَرَّد قبيحَ عملِه، حتى سَوَّلَتْ له نفسُه بلوغَ أسبابِ السماواتِ؛ ليَطَّلِعَ إلى إلهِ موسى.
وقولُه: {وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ} . اخْتَلَفتِ القرأةُ في قراءة ذلك؛ فَقَرَأَتُه عامةُ قرأَةِ البصرةِ
(2)
والكوفةِ: {وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ} بضمِّ الصادِ، على وجهِ ما لم يُسَمَّ فاعلُه
(3)
.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ} . قال: فُعِل ذلك به، زُيِّن له سوءُ عملِه، وصُدَّ عن السبيلِ
(4)
.
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3: على. والدُّولات: جمع دُولَة وهو ما يُتداول. وكذلك الغَلَبة.
ويُدلننا: ينصُرننا. واللَّمَّة: الشِّدَّة. ينظر شرح شواهد المغنى 1/ 454، وتاج العروس (ز ف ر).
(2)
في النسخ: "المدينة". وهو خطأ دلت عليه مصادر القراءات، وينظر ما سيأتي بعد قليل.
(3)
هي قراءة عاصم وحمزة والكسائى ويعقوب وخلف. النشر 2/ 223.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 351 إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد.
وقرَأ ذلك حُميدٌ وأبو عمرٍو وعامةُ قرأَةِ المدينةِ
(1)
: (وَصَدَّ) بفتحِ الصادِ، بمعنى: وأَعْرَض فرعونُ عن سبيلِ اللهِ التي ابُتُعِثَ بها موسى اسْتِكْبارًا
(2)
.
والصوابُ مِن القولِ في ذلك أن يقال: إنهما قِراءَتان مَعْروفَتان في قرأَةِ الأمصارِ، فبأيَّتِهما قرأ القارئٌ فمصيبٌ.
وقولُه: {وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ} . يقولُ تعالى ذكرُه: وما احتيالُ فرعونَ الذي كان يختالُه للاطِّلاعِ إلى إلهِ موسى، إلا في خَسارٍ وذَهَابِ مالٍ وغَبْنٍ؛ لأنه ذهَبَتْ نفقتُه التي أنْفَقَها على الصَّرْحِ باطلًا، ولم يَنَلْ بما أنفَق شيئًا مما أرادَه، فذلك هو الخَسارُ والتَّبابُ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ} . يقولُ: في خُسرانٍ
(3)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{فِي تَبَابٍ} . قال: خَسارٍ
(4)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ: {وَمَا كَيْدُ
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"البصرة".
(2)
هي قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو وابن عامر وأبى جعفر. السبعة ص 571 النشر 2/ 223.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره - كما في الإتقان 2/ 41 - من طريق أبي صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 351 إلى ابن المنذر.
(4)
تفسير مجاهد ص 583، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 351 إلى عبد بن حميد
فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ}. أي: في خَسارٍ وضلالٍ
(1)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ} . قال: التَّبابُ والضَّلال واحدٌ.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ وعزَّ: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَاقَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39)} .
يقولُ تعالى ذكرُه مُخبرًا عن المؤمنِ باللهِ مِن آل فرعونَ: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ} مِن قومِ فرعونَ لقومِه: {يَاقَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} . يقولُ: إن اتَّبَعْتُمونى فقَبِلْتم منى ما أقولُ لكم، بَيَّنْتُ لكم طريقَ الصوابِ الذي تَرْشُدون إذا أَخَذْتم فيه وسَلَكْتُموه، وذلك هو دينُ اللهِ الذي ابْتَعَث به موسى،
{[يَاقَوْمِ]
(2)
إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ}. يقولُ لقومِه: ما هذه الحياةُ
(3)
العاجلةُ التي عُجِّلَتْ لكم في هذه الدارِ، إلا متاعٌ تَسْتَمْتعون بها إلى أجلٍ أنتم بالِغوه، ثم تموتون وتزولُ عنكم، {وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ}. يقولُ: وإن الدارَ الآخرةَ هي
(4)
دارُ القرارِ التي تَسْتَقِرُّون فيها فلا تموتون ولا تزولُ عنكم. يقولُ: فلها فاعْمَلوا، وإياها فاطْلُبوا.
وبنحوِ الذي قُلْنا في معنى قولِه: {وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} . قال
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 181 عن معمر عن قتادة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 351 إلى عبد بن حميد.
(2)
في م: "يقول".
(3)
بعده في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"الدنيا".
(4)
في م: "وهى".
أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} : اسْتَقَرَّتِ الجنةُ بأهلِها، واستقرَّتِ النارُ بأهلِها
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40)} .
يقولُ: مَن عمِل بمعصيةِ اللهِ في هذه الحياةِ الدنيا، فلا يَجْزيه اللهُ في الآخرةِ إلا سيئةً مثلَها، وذلك أن يعاقبَه بها، {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى}. يقولُ: ومَن عمِل بطاعةِ اللهِ في الدنيا، وأْتَمَر لأمرِه، وانتهى فيها عمّا نهاه عنه؛ من رجُلٍ أو امرأةٍ، وهو مؤمنٌ باللهِ، {فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} .
يقولُ: فالذين يعملون ذلك من عبادِ اللهِ يدخلون في الآخرةِ الجنةَ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} . أي: شِرْكًا، السيئةُ عندَ قتادةَ شركٌ، {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا}؛ أي: خيرًا، {مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ}
(1)
.
وقولُه: {يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} . يقولُ: يرزقُهم اللهُ في الجنةِ من
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 351 عبد بن حميد.
ثمارِها، وما فيها من نعيمِها ولذّاتِها، بغيرِ حسابٍ.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} . قال: لا واللهِ ما هُناكُم مكيالٌ ولا مِيزانٌ
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ وعزَّ: {وَيَاقَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42)} .
يقولُ تعالى ذكرُه مخبرًا عن قيلِ هذا المؤمنِ لقومِه من الكفرةِ: {مَا لِي أَدْعُوكُمْ} [يا قومِ]
(2)
{إِلَى النَّجَاةِ} مِن عذابِ اللهِ وعقوبتهِ، بالإيمانِ به واتّباعِ رسولِه موسى، وتصديقِه فيما جاءكم به من عندِ رَبِّه
(3)
، {وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ}. يقولُ: وتدعونني إلى عملِ أهلِ النارِ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ} . قال: الإيمانِ باللهِ
(4)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {مَا لِي
(1)
تتمة الأثر السابق.
(2)
سقط من: م.
(3)
في ت 2، ت 3:"ربكم".
(4)
تفسير مجاهد ص 583، ومن طريقه الفريابي - كما في تغليق التعليق 4/ 299 - وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 351 إلى سعيد بن منصور وعبد بن حميد.
أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ}. قال: هذا مؤمنُ آلِ فرعونَ. قال: يدعونه إلى دينِهم والإقامةِ معهم
(1)
.
وقولُه: {تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ} . [يقولُ لهم: تدعونني إلى أن أكفرَ باللهِ]
(2)
، {وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ}. يقولُ: وأُشرِكَ باللهِ في عبادتِه أوثانًا، لستُ أعلمُ أنه يصلُحُ لى عبادتُها وإشراكُها في عبادةِ اللهِ؛ لأن الله لم يأذنْ لي في ذلك بخبرٍ ولا عقلٍ.
وقولُه: {وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ} . يقول: وأنا أدعوكم إلى عبادةِ العزيزِ في انتقامِه ممّن كفَر به، الذي لا يمنعُه إذا انتقم من عدوِّ له شيءٌ، الغفارِ لمن تاب إليه بعدَ معصيتِه إياه، بعفوِه
(3)
عنه، فلا يضرُّه شيءٌ مع عفوِه عنه، يقولُ: فهذا الذي هذه الصفةُ صفتُه، فاعبدوا؛ لا ما لا ضُرَّ عندَه ولا نفعَ.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ وعزَّ: {لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: حقًّا أن الذي تدعونني إليه من الأوثانِ، ليس له دعاءٌ في الدنيا ولا في الآخرةِ؛ لأنه جمادٌ لا ينطِقُ، ولا يفهم شيئًا.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ
(1)
ينظر التبيان 9/ 79.
(2)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(3)
في م: "لعفوه".
قولَه: {لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا} . قال: الوثَنُ؛ ليس بشيءٍ
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ} . أي: لا يضرُّ ولا ينفعُ
(2)
.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ في قولِه:{لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا} . [يقولُ: هذا الصنمُ لا يستجيبُ لأحدٍ في الدنيا]
(3)
(4)
.
وقولُه: {وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ} . يقولُ: وأن مرجعَنا ومنقلبَنا بعدَ مماتِنا إلى اللهِ، {وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ}. يقولُ: وأن المشركين باللهِ المتعدِّين حدودَه، القَتَلَةَ النفوسَ التي حرّم اللهُ قتلَها، هم أصحابُ نارِ جهنمَ، عندَ مرجعِنا إلى اللهِ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ، على اختلافٍ منهم في معنى المسرفين في هذا الموضعٍ؛ فقال بعضُهم: هم سفَّاكو الدماءِ بغير حقِّها.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا حكامٌ، عن عنبسةَ، عن محمدِ بن عبدِ الرحمنِ، عن القاسمِ بن أبي بَزَّةَ، عن مجاهدٍ في قولِه: {وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ
(1)
تفسير مجاهد ص 583، ومن طريقه الفريابي - كما في التغليق 4/ 299 - ، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 351 إلى سعيد بن منصور وعبد بن حميد.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 351 إلى عبد بن حميد.
(3)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(4)
بعده في ت 1: "لأنه جماد".
والأثر ذكره البغوي في تفسيره 7/ 150، وابن كثير في تفسيره 7/ 135.
النَّارِ}. قال: السفَّاكون
(1)
الدماءَ بغيرِ حِلِّها
(2)
.
حدَّثنا عليُّ بنُ سهلٍ، قال: ثنا حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ في قولِه عز وجل {وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ}. قال: هم السفَّاكون للدماءِ بغيرِ حقِّها.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ} . قال: السفَّاكون الدماءَ بغيرِ حقِّها، {هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ}
(3)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} . قال: سمّاهم اللهُ مسرفين؛ فرعونَ ومَن معه.
وقال آخرون: هم المشركون.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} . أي: المشركين
(4)
.
وقد بيَّنا معنى الإسرافِ فيما مضى قبلُ
(5)
بما فيه الكفايةُ من إعادتِه في هذا
(1)
في ت 2، ت 3:"السافكون".
(2)
في ص، م، ت 1:"حقها".
(3)
تفسير مجاهد ص 583، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 351 إلى الفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد.
(4)
تفسير عبد الرزاق 2/ 181، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 351 إلى عبد بن حميد.
(5)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ت 3.
الموضعِ
(1)
.
وإنما اختَرنا في تأويلِ ذلك في هذا الموضعِ ما اختَرنا؛ لأن قائلَ هذا القولِ لفرعونَ وقومِه، إنما قصَد به فرعونَ؛ لكفرِه
(2)
، وما كان همَّ به من قتلِ موسى، وكان فرعونُ عاليًا عاتيًا في كفرِه باللهِ، سفَّاكًا للدماءِ التي كان محرَّمًا عليه سفكُها، وكلُّ ذلك مِن الإسرافِ، فلذلك اختَرنا ما اختَرنا من التأويلِ في ذلك.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45)} .
يقولُ تعالى ذكرُه مخبِرًا عن قيل هذا المؤمنِ مِن آل فرعونَ لفرعونَ وقومِه: فستذكرون أيُّها القومُ إذا عاينتم عقاب اللهِ قد حلَّ بكم، [ولقِيتم ما]
(3)
لقيتموه - صِدْقَ ما أقولُ، وحقيقةَ ما أُخبرُكم به، من أن المسرفين هم أصحابُ النارِ.
كما حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدِ في قولِه: {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ} . فقلتُ له: أذلك في الآخرةِ؟ قال: نعم.
وقولُه: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ} . يقولُ: وأُسلِمُ أمرِى إلى اللهِ، وأجعلُه إليه، وأتوكلُ عليه، فإنه الكافي مَنْ تَوَكَّلَ عليه.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ: {وَأُفَوِّضُ
(1)
ينظر ما تقدم في 6/ 119، 408، 409.
(2)
سقط من الأصل.
(3)
في الأصل: "إذا".
أَمْرِى إِلَى اللَّهِ}، قال: أجعلُ أمرى إلى اللَّهِ.
وقوله: {إِنَّ الله بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} ، يقولُ: إن الله عالمٌ بأمور عبادِه، ومنِ المطيعُ منهم له والعاصى، والمستحقُّ جميل الثواب، والمستوجِبُ سيِّئَ العقابِ.
وقوله: {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا} ، يقول تعالى ذكره: فدفع الله عن هذا المؤمن من آل فرعونَ بإيمانِه به وتصديقه
(1)
رسوله موسى - مَكْرُوهَ ما كان فرعونُ ينالُ به أهلَ الخلافِ عليه من العذابِ والبلاء، فنجَّاه منه.
[وذكر أنه نجا مع موسى من الغرق]
(2)
.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة:{فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا} ، قال: وكان قبْطِيًّا من قوم فرعون، فنجا مع موسى، قال: وذُكر لنا أنه كان بين يدَيْ موسى يومئذٍ يسير ويقولُ: أين أُمِرتَ يا نبيَّ اللهِ؟ فيقول له موسى: أمامَك. فيقول له المؤمنُ: وهل أمامى إلا البحرُ؟! فيقولُ موسى: أما
(3)
والله ما كَذَبتُ ولا كُذِبْتُ، ثم يَسيرُ ساعةً ويقولُ: أين أُمرتَ يا نبيَّ اللَّهِ؟ فيقولُ: أمامَك، فيقولُ: وهل أمامى إلا البحرُ؟! فيقولُ: لا والله ما كَذَبتُ ولا كُذِبْتُ. حتى [انتهى إلى]
(4)
البحر
(5)
، فانفلق اثنَىْ عشر طريقا، لكلِّ سبط طريقٌ
(6)
.
وقوله: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ} ، يقولُ: وحلَّ بآل فرعونَ، ووجب عليهم.
(1)
في م، ت 1:"تصديق".
(2)
في ص، م، ت 1، 2، 3:"وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل".
(3)
في م: "لا".
(4)
في ص، ت 2، 3:"أتى إلى"، وفى م:"أتى على"، وفى ت 1:"أتى".
(5)
بعده في م: "بعصاه".
(6)
تفسير عبد الرزاق 2/ 181 عن معمر عن قتادة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 351 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
وغنَى بـ: {آالِ فِرْعَونَ} ، في هذا الموضعِ تُبَّاعه وأهل طاعته من قومه.
كما حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السدي في قول الله عز وجل:{وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} ، قال: قوم فرعون.
وعنى بقوله: {سُوءُ الْعَذَابِ} : ما ساءَهم من عذابِ الله، وذلك نار جهنم.
القولُ في تأويل قوله تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)} .
يقول تعالى ذكره مبيِّنًا عن سوء العذابِ الذي حلَّ بهؤلاء الأشقياءِ مِن قوم فرعونَ: ذلك الذي حاق بهم من سوء عذاب اللهِ {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا [غُدُوا وَعَشِيًّا} ، وإذا كان ذلك معناه كانت النار مرفوعةً بالردِّ على السوء إن شئتَ، وإن شئتَ بالراجع من ذكره في قوله:{عَلَيْهَا} .
قيل: عنى بقوله: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا} ]
(1)
، أنهم لما هلكوا وغرقهم الله، جعلت أرواحهم في أجوافٍ طَيْرٍ سودٍ، فهى تُعرَضُ على النارِ كلّ يوم مرَّتين؛ {غُدُوًّا وَعَشِيًّا} إلى أن تقوم الساعةُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمنِ، قال: ثنا سفيان، عن أبي قيسٍ، عن الهزيل
(2)
بن شرحبيل، قال: أرواح آل فرعون في أجواف طير سُودٍ، تَغْدو وتَرُوحُ على النارِ، وذلك عرضها
(3)
.
(1)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(2)
في ص، م، ت 1، ت 2:"الهذيل"، وفى ت:"الهذلي"، وينظر تهذيب الكمال 30/ 172.
(3)
تفسير سفيان ص 263، ومن طريقه ابن أبي شيبة 13/ 165، 166، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 351 إلى هناد وعبد بن حميد.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قال: بلغني أن أرواحَ قوم فرعونَ في أجوافِ طيرِ سُودٍ، تُعرَضُ على النارِ غدوًّا وعشيًّا، حتى تقومَ الساعة
(1)
.
حدثنا عبد الكريم بن أبي عمير، قال: ثنا حماد بن محمدٍ الفَزَارِيُّ البَلْخِيُّ، قال: سمعتُ الأوزاعيَّ وسأله رجلٌ فقال: رحمك الله، رأينا طيورًا تخرُجُ مِن البحرِ، تأخذُ ناحيةَ الغربِ، بيضًا، فوجًا فوجًا، لا يَعلَمُ عددَها إِلا اللَّهُ، فإذا كان العشيُّ رجع مثلها سودٌ
(2)
. قال: وفَطِنتم إلى ذلك؟ قال
(3)
: نعم. قال: إن ذلك
(4)
لطيورٌ
(5)
في حواصلِها أرواحُ آل فرعونَ، يُعرَضُون على النارِ غدوا وعشيًّا، فترجِع إلى وكورها وقد احترقت رياشُها، وصارت سوداءَ، فتَنبُتُ عليها من الليل رياشٌ بيضٌ، و [تتناثر السودُ]
(6)
، ثم تغدُو، ويُعرَضُون على النارِ غدوا وعشيًّا، ثم ترجِع إلى وكورها، فذلك دأبهم في الدنيا، فإذا كان يوم القيامة، قال الله:{أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} . قال
(7)
: وكانوا يقولون: إنهم ستُّمائةِ ألفِ مقاتلٍ
(8)
.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثنى حرملة، عن سليمانَ بن حميدٍ، قال: سمعتُ محمد بن كعبٍ القرظيَّ يقولُ: ليس في الآخرة ليلٌ ولا نصف نهارٍ، وإنما هو بكرةٌ وعشيٌّ، وذلك في القرآن في آلِ فرعونَ:{يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} ، وكذلك قال لأهلِ الجنة: {لَهَمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً
(1)
ينظر تفسير البغوي 7/ 151.
(2)
في م: "سودا".
(3)
في م، ت 1:"قالوا".
(4)
في م: "تلك".
(5)
في م، ت 1:"الطيور".
(6)
في ص، ت 1، ت 2:"يتناثر السواد"، وفى ت 3:"تتناثر السواد".
(7)
في م: "قالوا".
(8)
أخرجه ابن أبي الدنيا في من عاش بعد الموت (48) من طريق حماد به.
وَعَشِيًّا}
(1)
[مريم: 62].
وقيل: عُنِى بذلك: أنهم يُعرَضون على منازلهم في النارِ؛ تعذيبًا لهم، غدوا وعشيًّا.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة:{النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} . قال: يُعرضون عليها صباحًا ومساءً، يُقال لهم: يا آل فرعونَ، هذه منازلكم. توبيخًا ونقمةً وصغارًا لهم
(2)
.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{غُدُوًّا وَعَشِيًّا} . قال: ما كانت الدنيا
(3)
.
وأولى الأقوال في ذلك بالصوابِ أن يُقالَ: إن الله أخبر أن آلَ فرعونَ يُعرضون على النار غدوا وعشيا. وجائز أن يكون ذلك العرضُ على النار على نحو ما ذكرناه عن الهزيل
(4)
بن شُرحبيلَ ومَن قال مثلَ قوله، وأن يكونَ كما قال قتادة، ولا خبَرَ بذلك يُوجِبُ الحجة بأن ذلك المعنيُّ به؛ فلا قول في ذلك إلا ما دلَّ عليه ظاهرُ القرآنِ، وهو أنهم يُعرضون على النارِ غدوا وعشيًّا. وأصلُ الغدوِّ والعشى
(5)
مصادرُ جُعِلت أوقاتا.
وكان بعض نحويِّى البصرةِ يقولُ في ذلك: إنما هو مصدرٌ، كما تقولُ: أتيتُه ظلامًا. جعله ظرفًا وهو مصدرٌ. قال: ولو قلتَ: موعدك غدوةٌ. أو: موعدُك
(1)
ينظر تفسير القرطبي 15/ 319، والبحر المحيط 7/ 468.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 352 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
تفسير مجاهد ص 583، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 352 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(4)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3 "الهذيل"، وينظر ما تقدم في ص 337.
(5)
بعده في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"ويوم تقوم الساعة".
ظلامٌ. فرفعتَه، كما تقولُ: موعدك يوم الجمعة. لم يحسُن؛ لأن هذه المصادر وما أشبَهَها من نحو "سَحَر"، لا تُجعَلُ إلا ظرفًا. قال: والظرف كله ليس بمتمكنٍ.
وقال نحويو
(1)
الكوفة: لم نسمَع
(2)
في هذه الأوقات، وإن كانت مصادر، إلا التعريب؛ موعدك يومٌ، وموعدك صباحٌ ورواحٌ، كما قال جل ثناؤه:{غُدُوهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} [سبأ: 12]. فرفَع، وذكَروا أنهم سمِعوا: إنما الطيلسان شهران. قالوا: ولم نسمع
(2)
في الأوقاتِ النكرات إلا الرفع، إلا قولهم: إنما سخاؤُك أحيانًا. وقالوا: إنما جاز ذلك؛ لأنَّه بمعنى: إنما سخاؤُك الحين بعد الحين. فلما كان تأويله الإضافةَ نُصِب.
وقوله: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)} .
اختلفتِ القرأة في قراءة ذلك؛ فقرأته عامة قرأة الحجاز والعراق، سوى عاصم وأبى عمرو:{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ} . بفتح الألفِ مِن {أَدْخِلُوا} في الوصل والقطع
(3)
، بمعنى الأمرِ بإدخالهم النارَ. وإذا قُرِئ ذلك كذلك كان الآل
(4)
نصبًا بوقوع {أدْخِلُوا} عليه. وقرأ ذلك عاصمٌ وأبو عمرٍو: (ويومَ تقُومُ السَّاعَةُ ادخُلُوا). [على وجه الأمرِ لآلِ فرعون بالدخولِ إذا قامت الساعة]
(5)
، بوصلِ الألف وسقوطها في الوصل من اللفظ، وبضمِّها إذا ابتُدئ بعد الوقفِ على الساعة
(6)
. ومَن قرأ ذلك كذلك كان الآلُ]
(4)
على قراءته نصبا بالنداءِ؛ لأن معنى الكلام على قراءته: ادْخُلُوا يا آل فرعون أشدَّ العذاب.
(1)
في ص، ت 2، ت 3:"نحوى"، وفى ت 1:"بعض نحويي".
(2)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"يسمع".
(3)
هي قراءة نافع وحمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص. ينظر السبعة لابن مجاهد ص 572.
(4)
في الأصل، ص، ت 1، ت 2، ت 3:"الأول".
(5)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(6)
وهى قراءة ابن كثير وأبي عمرو وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر. ينظر السبعة لابن مجاهد ص 572.
والصوابُ من القولِ في ذلك عندى أن يُقالَ: إنهما قراءتانِ معروفتانِ، متقاربنا المعنى، قد قرَأ بكلِّ واحدة منهما جماعةٌ من القرأة، فبأيتِهما قرأ القارئ فمصيبٌ. فمعنى الكلام إذن: ويوم تقومُ الساعةُ يقالُ لآلِ فرعونَ: ادْخلوا يا آلَ فرعونَ أشد العذاب. فهذا على قراءةِ مَن وصل الألفَ مِن {أَدْخِلُوا} ولم يقطَعْ، ومعناه على القراءة الأخرى: ويوم تقومُ الساعةُ يقولُ الله لملائكته: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)} .
يقول تعالى ذكره لنبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ} [غافر: 18]، {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ}. يقولُ: وإذ يَتخاصَمون في النارِ. وعُنِى بذلك: إذ يتخاصَمُ الذين أمَر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بإنذارهم مِن مُشْرِكى قومه في النارِ، {فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ} منهم [في الدنيا]
(1)
، وهم التُّبَّاعُ
(2)
[{لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} منهم وهم المتبوعون]
(3)
على الشركِ باللهِ: {إنا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا} . تقولُ لرُؤسائهم الذين اتَّبَعوهم على الضلالةِ: إنا كنا لكم في الدنيا تبعا على الكفر باللهِ، {فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ} اليومَ {عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ}. يَعْنُون: حَظًّا، فَتُخَفِّفونه
(4)
عَنَّا، فقد كُنَّا نسارع في محبتكم في الدنيا، ومن قبلكم أُتينا، لولا أنتم لكُنَّا في الدنيا مؤمنين، فلم يُصِبْنا اليومَ هذا البلاءُ.
(1)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"المبتدعون"، وفى م:"المتبعون".
(3)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ت 3.
(4)
في م: "فتخففوه".
والتَّبَعُ يكون واحدًا وجماعةً في قول بعض نحويِّى البصرةِ، وفي قولِ بعضِ نحويِّى الكوفةِ جمعٌ لا واحدَ له؛ لأنَّه كالمصدر. قال: وإن شئت كان واحده "تابع"، فيكون مثل خائل وخَوَلٍ، وغائب وغَيَبٍ
(1)
.
والصوابُ مِن القولِ في ذلك عندى أنه جمعٌ، واحده تابع، وقد يجوز أن يكون واحدًا، فيكون جمعه "أتباع".
فأجابهم [المتبوعون بما أخبر الله عنهم؛ {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} وهم الرؤساء المَتْبُوعون]
(2)
على الضلالة في الدنيا: إنَّا أيُّها القوم وأنتم، كُلُّنا في هذه النارِ مُخَلَّدون، لا خلاص لنا منها، {إِنَّ الله قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} بِفَصْلِ قضائِه، فأسكن أهل الجنة الجنةَ، وأهل النارِ النارَ، فلا نحن مما نحن فيه من البلاءِ خارجون، ولا هم مما هم فيه من النعيم مُنْتَقِلون.
ورفع قوله: {كُلٌّ} . بقوله: {فِيهَا} . ولم يُنْصَبْ على النعتِ.
وقد اختلف في جواز النصب في ذلك في الكلام. وكان بعضُ نحويِّي البصرةِ يقولُ: إذا لم تُضَفْ "كلّ" لم يجز الإتباعُ.
وكان بعض نحويِّى الكوفة يقولُ: ذلك جائزٌ في الحذفِ وغير الحذفِ؛ لأن أسماءَها إذا حذفت اكتفى بها منها.
وقد بَيَّنا الصوابَ من القول في ذلك فيما مضَى، بما أغنى عن إعادته
(3)
.
القولُ في تأويل قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ
(1)
ينظر اللسان (ت ب ع).
(2)
في ت 2، ت: 3 "المتبعون".
(3)
ينظر ما تقدم في 6/ 168.
بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50)}.
يقول تعالى ذكرُه: وقال أهل جهنم لخزنتها وقُوَّامِها؛ استغاثةً بهم من عظيم ما هم فيه من البلاء، ورجاءً أن يجدوا من عندهم فَرَجًا:{ادْعُوا رَبَّكُمْ} لنا، {يُخَفَّفَ عَنَّا يَوْمًا} واحدًا، يعنى: قَدْرَ يوم واحدٍ من أيامٍ الدنيا، {مِّنَ الْعَذَابِ} الذي نحن فيه.
وإنما قلنا: معنى ذلك: قَدْرَ يومٍ من أيامِ الدنيا؛ لأن
(1)
الآخرة يوم لا ليلَ بعده
(2)
فيقال: خَفِّف عنهم يوما واحدا.
وقوله: {قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيَّنَتِ} . يقول تعالى ذكره: قالت خَزَنةُ جهنم لهم: أو لم تَكُ تأتيكم في الدنيا رُسُلُكم بالبينات من الحججِ على توحيدِ اللهِ، فتُوحِّدوه وتؤمِنوا به وتَتبرَّءُوا مما دونَه مِن الآلهة؟ قالوا: بلى، قد أتثنا رُسُلُنا بذلك.
وقوله: {قَالُوا فَادْعُوا} . يقولُ جلَّ ثناؤه: قالت الخزنة لهم: فادْعُوا إذن ربَّكم الذي أَتَتكم الرسلُ بالدعاء إلى الإيمان به.
وقوله: {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50)} . يقولُ: فَدَعَوا
(3)
، وما دعاؤُهم إلا في ضلال؛ لأنَّه دعاء لا ينفعهم ولا يجاب
(4)
لهم، بل يقال لهم:{اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلَّمُونِ} [المؤمنون: 108].
القولُ في تأويل قوله تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءَامَنُوا فِي
(1)
بعده في م: "يوم".
(2)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"فيه".
(3)
في ص، م، ت 1، 2، ت 3:"قد دعوا".
(4)
في م: "يستجاب".
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52)}.
يقول القائل: وما معنى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} . وقد علمنا أن منهم من قتله أعداؤُه ومَثَّلوا به؛ كشَعْيا
(1)
ويحيى بن زكريا وأشباههما، ومنهم مَن هَمَّ بقتله
(2)
قومه، فكان أحسنَ أحواله أن تَخلَّص
(3)
منهم حتى فارَقهم ناجيًا بنفسه؛ كإبراهيم الذي هاجر إلى الشامِ من أرضِه، مفارقًا لقومِه، وعيسى الذي رُفع إلى السماءِ إذ أراد قومه قتله؟ فأين النُّصْرَةُ التي أخبرنا أنه ينصُرُها رُسُلَه والمؤمنين به في الحياة الدنيا، وهؤلاء أنبياؤُه قد نالهم من قومهم ما قد علِمتَ، وما نُصِروا على من نالهم بما نالهم به؟
قيل: إن لقوله: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} . وجهَين، كلاهما صحيحٌ معناه؛ أحدهما: أن يكون معناه: إنا لنَنْصُرُ رُسُلَنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا؛ إما بإغلائِناهم على مَن كَذَّبَنا وإظفارِناهم
(4)
بهم، حتى يَقْهَروهم غَلَبَةً
(5)
، ويُذِلُّوهم بالظَّفَرِ ذِلَّةً - كالذى فعل من ذلك بداود وسليمانَ، فأَعْطَاهما مِن المُلْكِ والسلطانِ ما قَهَرا به كلَّ كافرٍ، وكالذي فعل بمحمد صلى الله عليه وسلم من إظهارِه على مَن كذَّبه مِن قومه - وإمَّا بانتقامنا ممن حادَّهم وشاقَّهم؛ بإهلاكهم وإنجاءِ الرسلِ ممن كذَّبهم وعاداهم - كالذي فعَل تعالى ذكره بنوحٍ وقومه من تَغْريقِ قومه وإنجائه منهم، وكالذي فعل بموسى وفرعون وقومه إذ أهلكهم غَرَقًا، ونجَّى موسى ومن آمن به
(6)
من بني إسرائيل وغيرهم، ونحو ذلك - أو بانتقامنا في الحياة
(1)
في ت 2، ت 3:"كشعيبا".
(2)
في ت 2، ت 3:"به".
(3)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"يخلص".
(4)
في م: "وإظفارنا"، وفى ت 2، ت:"وأظفرناهم".
(5)
في الأصل: "عليه"، وسقط من: ت 2، ت 3.
(6)
في ت 2، ت 3:"معه".
الدنيا من مُكَذِّبِيهم بعد وفاةِ رسولنا من بعدِ مَهْلِكهم، كالذي فعلنا مِن نُصْرتِنا شَعْيا بعدَ مَهْلكه، بتَسْليطنا على قَتَلتِه مَن سلَّطنا حتى انتصَرنا بهم من قَتلته، وكفعلنا بقتلة يحيى، مِن تَسْليطنا بُخْتَنَصَّرَ عليهم حتى انتصرنا به [وبجنده]
(1)
من قتلته
(2)
له، وكانتصارنا لعيسى مِن مُريدى قتله بالروم حتى أهلكناهم بهم.
فهذا أحد وجهَيه. وقد كان بعض أهل التأويل يُوجِّه معنى ذلك إلى هذا الوجه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السُّديِّ قولَ اللهِ:{إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} . قال: قد كانت الأنبياء والمؤمنون يُقْتَلون في الدنيا، وهم مَنْصُورون، وذلك أن تلك الأمة التي تفعل ذلك بالأنبياء والمؤمنين لا تذهب حتى يبعث الله قومًا، فينتصر بهم لأولئك الذين قتلوا منهم
(3)
.
والوجه الآخرُ أن يكون هذا الكلام على وجه الخبر عن الجميع من الرسل والمؤمنين، [والمعنيُّ به خاصٌّ من الرسل والمؤمنين]
(4)
، فيكون تأويل الكلام حينئذٍ: إنا لننصُرُ رسولنا
(5)
محمدًا صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا به في الحياة الدنيا، ويوم يقومُ الأشهادُ، كما قد بيَّنا فيما مضَى أن العرب تُخرج الخبر بلفظ الجميعِ، والمراد واحدٌ إذا لم تَنْصِبْ للخبرِ شخصًا بعَيْنِه
(6)
.
(1)
سقط من: م.
(2)
في م: "قتله".
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 352 إلى ابن أبي حاتم.
(4)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت: 3: "والمراد واحد".
(5)
في ت 1، ت 2، ت 3:"رسلنا".
(6)
ينظر ما تقدم في 1/ 534.
واختلفت القرأةُ في قراءةِ قوله: {وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ} ؛ فقرأ ذلك عامةُ قرأة المدينة والكوفةِ: {وَيَوْمَ يَقُومُ بالياء، و: {يَنفَعُ} أيضًا بالياء
(1)
. وقرأ ذلك بعضُ أهل مكة وبعضُ قرأةِ البصرة: (تَقُومُ) بالتاءِ، و:(تَنْفَعُ) بالتاء)
(2)
.
والصوابُ مِن القولِ في ذلك أنهما قراءتان معروفتان، بمعنًى واحدٍ، فبأيَّتِهما قرأ القارئُ فمصيبٌ. وقد بينا فيما مضَى أن العرب تذكُرُ فعلَ جمع الرجل وتُؤَنِّثُ إذا تقدَّم، بما أغنى عن إعادته
(3)
.
وعنى بقوله: {وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} : يومَ يقوم الأشهادُ من الملائكةِ والأنبياء والمؤمنين على الأممِ المُكَذِّبِةِ رُسُلَها، بالشهادة بأن الرسل قد بلغتهم رسالاتِ ربِّهم، وأن الأم كذَّبَتهم. والأشهاد جمعُ شهيدٍ، كما الأشرافُ جمعُ شريفٍ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة:{وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} : من ملائكة الله وأنبيائه والمؤمنين به
(4)
.
حدَّثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السُّديِّ:{وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ}
(5)
: يوم القيامة.
(1)
وهى قراءة نافع وعاصم وحمزة والكسائي. السبعة لابن مجاهد ص 572.
(2)
وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو وابن عامر. المصدر السابق.
(3)
ينظر ما تقدم في 5/ 363 - 365.
(4)
تفسير عبد الرزاق 2/ 182 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 352 إلى عبد بن حميد.
(5)
بعده في ت 2 ت 3: "من ملائكة الله وأنبيائه والمؤمنين".
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا مُؤَمَّلٌ، قال: ثنا سفيان، عن الأعمشِ، عن مجاهدٍ في قولِ الله:{وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} . قال: الملائكة
(1)
.
وقولُه: {يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ} . يقول تعالى ذكره: ذلك يوم لا ينفعُ أهلَ الشركِ اعتذارهم؛ لأنهم لا يعتذرون إن اعتذروا إلا باطلٍ، وذلك أن الله قد أعذر إليهم في الدنيا، وتابع عليهم الحُجَجَ فيها، فلا حُجَّةَ لهم في الآخرة إلا الاعتصام بالكذب، [وأن]
(2)
يقولوا: {واللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23].
وقوله: {وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ} . يقولُ: وللظالمين اللَّعْنَةُ، وهي البُعْدُ مِن رحمةِ اللهِ، {وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}. يقولُ: ولهم مع اللعنة مِن اللهِ شَرُّ ما في الدارِ الآخرة، وهو العذاب الأليم.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53) هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55)} .
يقول تعالى ذكره: ولقد آتينا موسى البيان للحقِّ الذي بعثناه به، كما آتينا ذلك محمدًا صلى الله عليه وسلم، فكذَّب به فرعون وقومه، كما كذَّبَت قريش محمدا صلى الله عليه وسلم، {وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَاءِيلَ الْكِتَابَ}. يقولُ: وأورثنا بني إسرائيل التوراة، فعَلَّمناهموها، وأنزَلْناها إليهم، {هُدًى} .
يعنى: بيانًا لأمرِ دينهم، وما ألزمناهم من فرائضنا
(3)
، {وَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ}. يقولُ: وتَذْكيرًا مِنا لأهلِ الحجا والعقول منهم بها.
(1)
تفسير سفيان ص 263، ومن طريقه أخرجه أبو الشيخ في العظمة (342).
(2)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"بأن".
(3)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"فرائضها".
وقولُه: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} . يقولُ تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فاصبر يا محمد لأمرِ ربِّك، وانفذ لما أرسَلك به من الرسالةِ، وبلِّغْ قومك ومَن أُمرتَ بإبلاغه ما أُنزل إليك، وأيقن بحقيقة وعد الله الذي وعدك؛ مِن نُصْرَتِكَ ونُصْرَةِ مَن صدَّقكَ وآمن بك، على مَن كذَّبك وأنكَر ما جئتَه به مِن عندِ ربِّك، إن وعد الله حقٌّ لا خُلْفَ له، وهو [منجزه لك]
(1)
، {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ}. يقولُ: وسَلْه غفران ذنبِك، وعفوه لك عنه، {وَسَبَّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ}. يقولُ: وصَلِّ بالشكر منك لربك، {بِالْعَشِيِّ} ، وذلك من زوال الشمس إلى الليلِ، {وَالْإِبْكَارِ} ، وذلك من طلوع الفجر الثاني إلى طلوع الشمس.
وقد وَجَّه قومُ الإبكار إلى أنه من طلوع الشمسِ إلى ارتفاعِ الضُّحَى، وخُرُوجِ وقتِ الضُّحَى، والمعروف عند العرب القول الأول.
واختلف أهلُ العربية في وَجْهِ عطف الإبكارِ، والباء غيرُ حسن دخولها فيه؛ على العَشِيِّ، والباءُ تحسُنُ فيه؛ فقال بعضُ نحويى البصرة: معنى ذلك: وسبِّح بحمد ربك بالعشيِّ وفى الإبكارِ. وقال: قد يقالُ: بالدار زيدٌ. يراد: في الدارِ زيد. وقال غيره: إنما قيل ذلك كذلك؛ لأن معنى الكلام: صلِّ بالحمدِ بهذين الوقتَين، وفى هذين الوقتين. فإدخال "الباءِ" و "في" واحدٌ فيهما.
القولُ في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56)} .
يقول تعالى ذكره: إن الذين يُخاصمونك يا محمد فيما أتيتهم به من عندِ ربِّك مين الآيات، {يغيرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ}. يقولُ: بغيرِ حُجَّةٍ جَاءَتْهم من عندِ اللهِ
(1)
في ص، م، ت 2، ت 3:"منجز له".
بمخاصمتك فيها، {إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبَرٌ}. يقولُ: ما في صُدُورِهم إلا كبرٌ يتكبرون مِن أجله عن اتباعِك وقبول الحقِّ الذي أتيتهم به؛ حسدًا منهم على الفضلِ الذي آتاك الله، والكرامة التي أكرمك بها مِن النُّبُوةِ، {ما هُم بِبَالِغِيهِ}. يقول: الذي حسدوك عليه أمرٌ ليسوا بمدُرِكيه ولا نائليه؛ لأن ذلك فضلُ اللهِ يُؤتيه من يشاءُ، وليس بالأمر الذي يُدْرَكُ بالأمانيِّ.
وقد قيل: إن معناه: إن في صدورهم إلا عظمةٌ، ما هم يبالغى تلك العظمةِ؛ لأن الله مُذِلُّهم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهدٍ قولَه:{إِن في صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ} . قال: عَظَمةٌ
(1)
.
وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَدِلُونَ فِي ءَايَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ} . قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله:{إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ} : لم يأتِهم بذلك سلطان.
وقوله: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} . يقولُ تعالى ذكره: فاسْتَجِرْ بالله يا محمد، من شرِّ هؤلاء الذين يُجادِلون في آيات الله بغيرِ
(1)
تفسير مجاهد ص 584، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 353 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
سلطانٍ، ومن الكبْرِ؛ أن يَعْرِضَ في قلبك منه شيء، {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}. يقولُ: إن الله هو السميع لما يقولُ هؤلاء المجادلون في آياتِ اللهِ وغيرهم من قول، البصير بما تعمَلُه جَوارحُهم، لا يخفى عليه من ذلك شيءٌ.
القول في تأويل قوله تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57)} .
يقول تعالى ذكره: لَابْتِداعُ السماوات والأرضِ وإنشاؤها من غيرِ شيء، أعظم أيُّها الناسُ عندكم - إن كنتم مُسْتَعْظِمى خلقِ الناس وإنشائهم من غير شيءٍ - من خلق الناس، ولكنَّ أكثر الناس لا يعلمون أن خلق جميع ذلك هَيِّنٌ على الله.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ
(1)
(58)}.
يقول تعالى ذكره: وما يَسْتَوى الأعْمَى الذي لا يُبْصِرُ شيئًا، وهو مَثَلُ الكافر الذي لا يتأمَّلُ حُجَجَ اللهِ بعَيْنَيه فيتَدبَّرَها ويعتبر بها، فيعلم وحدانيته وقدرته على خلقِ ما شاء من شيء، ويؤمِنَ به ويُصدِّقَ، {وَالْبَصِيرُ} الذي يرى بعينيه ما شَخَص لهما ويُبصِرُه، وذلك مَثَلٌ للمؤمن الذي يرى بعينيه حُجَجَ اللهِ، فيُفكِّرُ
(2)
فيها ويتَّعِظُ بها
(3)
، ويعلمُ ما دلَّت عليه من توحيد صانعه، وعظيمِ سلطانِه، وقدرته على خلق ما يشاءُ. يقولُ جلَّ ثناؤه: كما لا يَسْتَوِى هذا الأعمى الذي وصفنا صفته وهذا البصير، كذلك لا يَسْتَوى الكافرُ والمؤمنُ.
{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} . يقول جل ثناؤه: ولا يَسْتوى أيضًا كذلك المؤمنون بالله ورسوله المطيعون لربهم، {وَلَا الْمُسِيءْ} ، وهو الكافرُ
(1)
هنا وفيما يأتى في الأصل، ص، ت 1، ت 2، ت 3:"يتذكرون"، وسيأتي بيان القراءة بها.
(2)
في م، ت 3:"فيتفكر".
(3)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
بربِّه، العاصي له، المخالفُ أمرَه، {قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ}. يقول جل ثناؤه: قليلا ما تتذكَّرون أيها الناسُ حُجَجَ الله، فتعتبرون وتتَّعظون. يقولُ: لو تَذَكَّرتم آياته واعتبرتم، لعرفتم خطأ ما أنتم عليه مقيمون من إنكاركم قدرة الله على إحيائه من فَنِيَ من خلقه من بعدِ الفَناءِ، وإعادته
(1)
لحياتهم من بعد وفاتهم، وعلمتم قُبْحَ شرككم من تُشْرِكون في عبادة ربِّكم.
واختلفت القرأة في قراءة قوله: {تَتَذَكَّرُونَ} ؛ فقرأت ذلك عامة قرأة المدينة والبصرةِ: (يَتَذَكَّرون) بالياء على وجه الخبر
(2)
. وقرأته عامة قرأة الكوفة: {تَتَذَكَّرُونَ} بالتاءِ على وجه الخطاب
(3)
، والقولُ في ذلك عندنا أن القراءة بهما صوابٌ.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59) وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)} .
يقول تعالى ذكره: إن الساعة التي يُحيى الله فيها الموتى للثواب والعقاب لجائيةٌ أيُّها الناسُ، لا شكَّ في مجيئها. يقولُ: فأيقنوا بمجيئها، وأنكم مبعوثون من بعدِ مماتكم، ومُجازَوْن بأعمالكم، فتوبوا إلى ربِّكم، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ}. يقولُ: ولكن أكثر قريشٍ لا يُصَدِّقون بمجيئِها.
وقوله: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} . يقول تعالى ذكره: يقولُ ربُّكم أيها الناسُ لكم: {ادْعُونِي} . يقولُ: اعبدوني وأخلصوا لي العبادةَ، دونَ
(1)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"إعادتهم".
(2)
هي قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو وابن عامر وأبي جعفر ويعقوب. النشر 2/ 273.
(3)
هي قراءة عاصم وحمزة والكسائى وخلف. المصدر السابق.
ما
(1)
تعبدون من دونى؛ من الأوثانِ والأصنام وغير ذلك، {أَسْتَجِبْ لَكُمْ} .
يقولُ: أَجِبْ دعاءَكم، فأعفُو عنكم وأرحمُكم.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثني عليٌّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:{ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} . يقولُ: وَحِّدونى أغفرْ لكم
(2)
.
حدثنا عمرو بن علي، قال: ثنا عبد الله بن داودَ، عن الأعمش، عن ذَرٍّ
(3)
، عن يُسَيْعٍ الحضرميِّ، عن النعمان بن بشيرٍ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والدُّعاءُ هو
(4)
العبادة". وقرأ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} "
(5)
.
حدثنا محمد بن بشارٍ، قال: ثنا عبد الرحمنِ، قال: ثنا سفيان، عن منصورٍ والأعمش، عن ذَرٍّ
(3)
، عن يُسَيْع الحَضْرَميِّ، عن النعمان بن بشيرٍ، قال: سمعتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقولُ: "الدعاءُ هو
(4)
العبادةُ، {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} "
(6)
.
(1)
في ص، م، ت 1:"من".
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره - كما في الإتقان 2/ 41 - من طريق أبي صالح به، وأبو الشيخ في العظمة (169) من طريق آخر عن ابن عباس، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 355 إلى ابن المنذر.
(3)
في م: "زر". وينظر تهذيب الكمال 8/ 511.
(4)
في الأصل: "هي".
(5)
أخرجه النَّسَائِي في الكبرى (11464)، والطبراني في الدعاء (4)، (6) من طريق عبد الله عن الأعمش به، وأخرجه ابن أبي شيبة 10/ 200، وأحمد 30/ 1380 (18432)، وابن ماجه (3828)، والترمذى (2969، 3372)، والطبراني في الصغير (2/ 97)، وأبو نعيم في الحلية 8/ 120، والبزار (3242) من طريق الأعمش عن ذر به.
(6)
أخرجه أحمد 30/ 382 (18436)، والبزار (3243)، والحاكم 1/ 490، 491، والبيهقي في شعب الإيمان (1105) من طريق عبد الرحمن به، وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 182، 183 - ومن طريقه أحمد 30/ 297 (18352) - والطبراني في الدعاء (1)، والبغوى في السنة (1384) وغيرهم من طريق سفيان به.
حدَّثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن منصورٍ، عن [ذَرٍّ، عن يُسَيْعٍ، قال أبو موسى: هكذا قال غُنْدَرٌ، عن شعبة
(1)
، عن منصورٍ، عن ذَرٍّ]
(2)
، عن يُسَيعٍ، عن النعمان بن بشيرٍ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الدعاء هو
(3)
العبادةُ، {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} "
(4)
.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الرحمن بنُ مَهدِيٍّ، قال: ثنا شعبةُ، عن منصور، عن ذَرٍّ
(1)
، عن يُسَيعٍ، عن النعمان بن بشير، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.
حدثنا الحسن بن عرفة، قال: ثنا يوسف بن الغَرقِ
(5)
الباهليُّ، عن الحسن بن أبى جعفر، عن محمد بن جحادَةَ، عن يُسَيْعٍ الحضرميِّ، عن النعمان بن بشيرٍ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " [قال الله]
(6)
تبارك وتعالى: إن عِبادَتي دُعائى". ثم تلا هذه الآية: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي}. قال: "عن دعائى".
حدثنا عليُّ بن سهلٍ، قال: ثنا مُؤَمَّلٌ، قال: ثنا عُمارة، عن ثابتٍ، قال: قلتُ لأنسٍ: يا أبا حمزةَ، أبَلَغَك أن الدعاء نصفُ العبادة؟ قال: لا، بل هو
(7)
العبادة كلُّها.
(1)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"سعيد"، والمثبت هو الصواب.
(2)
في م: "زر".
(3)
في الأصل: "هي".
(4)
أخرجه أحمد 30/ 1382 (18437) عن محمد بن جعفر به، وابن المبارك في الزهد (1298)، والطيالسي (838)، والبخارى في الأدب المفرد (714) وأبو داود (1479)، والطبراني في الدعاء (2)، والبيهقي في الشعب (1105) من طريق شعبة عن منصور به، وأخرجه ابن حبان (890)، والطبراني في الدعاء (3) وغيرهم من طريق منصور به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 355 إلى سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(5)
في م: "العرف". وينظر، الإكمال 7/ 10، والجرح والتعديل 9/ 227.
(6)
سقط من: ص، م، وفى ت 2:"قال".
(7)
في الأصل، ت 1، ت 2، ت 3:"هي".
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال ثنا أسباط
(1)
، قال: أخبرنا منصور، عن ذَرٍّ
(2)
، عن يُسَيْعٍ الحَضْرميِّ، عن النعمان بن بشيرٍ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدعاء هو العبادةُ". ثم قرأ هذه الآية: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} ".
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هاشم بن القاسم، عن الأشجعيِّ، قال: قيل لسُفْيانَ: ادعُ الله. قال: إِنَّ تركَ الذنوب هو الدعاءُ
(3)
.
وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} . يقولُ: إن الذين يَتَعظَّمون عن إفْرادى بالعبادة وإخلاص
(4)
الألوهة لي، {سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}. بمعنى: صاغرين. وقد دلَّلنا فيما مضى قبلُ على معنى الدَّخَرِ بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع
(5)
.
وقد قيل: إن معنى قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} : إن الذين يَسْتكبِرون عن دُعائى.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضلِ، قال: ثنا أسباط، عن السُّديِّ:{إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} . قال: عن دُعائى. [وقوله]
(6)
: {دَاخِرِينَ} . قال: صاغِرِين
(7)
.
(1)
بعده في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"عن السدى". وينظر تهذيب الكمال 3/ 132.
(2)
في م: "زر".
(3)
أخرجه أبو نعيم في الحلية 6/ 393 من طريق أبي النضر هاشم بن القاسم به.
(4)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"إفراد".
(5)
ينظر ما تقدم في 14/ 242، 243.
(6)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط عن السدي".
(7)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 355، 356 إلى المصنف.
القول في تأويل قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61)} .
يقول تعالى ذكرُه: الله الذي لا تصلُحُ الألوهة إلا له، ولا تنبغى العبادة لغيره، الذي صفته أنه جعل لكم أيُّها الناسُ الليلَ سَكَنَا لتَسْكُنوا فيه، فتَهْدَءُوا مِن التصرُّفِ والاضطراب للمعاشِ، والأسباب التي كنتم تتصرفون لها
(1)
في نهاركم، {وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا}. يقولُ: وجعَل النهارَ مُبْصِرًا لمن
(2)
اصطَرف
(3)
فيه لمعاشِه، وطلَبِ حاجاتِه؛ نعمةً منه بذلك عليكم، {إنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} .
يقولُ: إن الله لمتفضِّلٌ عليكم أيُّها الناسُ بما لا كُفْءَ له مِن الفضلِ، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ}. يقولُ: ولكن [أكثركم لا تشكُرونه]
(4)
بالطاعة له، وإخلاص الألوهة والعبادة له، [ولكنه يَعْبُدُ معه ما يَضُرُّه ولا يَنْفَعُه، من غير نعمةٍ قد سلفت له إليه]
(5)
، ولا يد تقدَّمَت له عندَه استوجب بها منه الشكرَ عليها.
القول في تأويل قوله جلَّ وعزَّ: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63)} .
يقول تعالى ذكره: الذي فعل هذه الأفعال، وأنعَم عليكم هذه النعم أيها الناسُ، الله مالِكُكم ومُصْلِحُ أموركم، وهو خالقكم وخالق كلِّ شيءٍ، {لَا إِلَهَ
(1)
في م: "فيها".
(2)
في ص، م، ت 2، ت 3:"من".
(3)
في م: "اضطرب"، وفى ت 1:"اضطر"، ويقال: فلان يصرف ويتصرف ويصطرف لعياله. أي: يكتسب لهم. ينظر اللسان (ص ر ف).
(4)
في م: "أكثرهم لا يشكرون".
(5)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
إلَّا هُوَ}. يقول: لا معبود تصلح له العبادة غيره، {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ}. يقولُ: فَأَيَّ وجهٍ تأخُذون؟ وإلى أين تذهبون عنه فتعبُدون سواه؟
وقوله: {كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63)} . يقولُ: كذَهابكم عنه أيُّها القومُ، وانصرافكم عن الحق إلى الباطل، والرشد إلى الضلال، ذهب عنه الذين كانوا من قبلكم من الأمم {بِآيَاتِ اللَّهِ} - يعنى: بحُجَجِ اللهِ وأدلته - يُكذَّبون فلا يؤمنون. يقولُ: فسلكتُم أنتم معشر قريش مسلكهم، وركبتُم مَحَجَّتَهم في الضلالِ.
يقول تعالى ذكره: {اللَّهُ} الذي له الألوهةُ خالصةً أيُّها الناسُ، {الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ} التي أنتم على ظهرها سكان، {قَرَارًا} تستقرون عليها، وتسكنون فوقها، {وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} ، بناها فرقعها فوقكم بغيرِ عَمَدٍ تَرَونها، لمصالحكم، وقوام دنياكم إلى بلوغ آجالِكم، {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ}. يقولُ: وخلقكم فأحسن خلقكم، {وَرَزَقَكُم مَّنَ الطَّيِّبَاتِ}. يقولُ: ورزقكم من حلال الرزق ولذيذات المطاعمِ والمشاربِ.
وقوله: {ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ} . يقول تعالى ذكره: فالذي فعل هذه الأفعال، وأنعم عليكم أيها الناس هذه النعم، هو الله الذي لا تَنْبَغى الألوهةُ إلا له، وربُّكم الذي لا تصلُحُ الربوبية لغيره، لا الذي لا ينفعُ ولا يضُرُّ، ولا يخلُقُ ولا يرزُقُ، {فَتَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}. يقول: فتبارك الله مالك جميعِ
الخلقِ؛ جنِّهم وإنسهم، وسائر أجناس الخلقِ غيرهم، {هُوَ الْحَيُّ}. يقولُ: هو الحيُّ الذي لا يموتُ، الدائم الحياةِ، وكلُّ شيءٍ سواه فمنقطع الحياة غير دائمها، {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}. يقولُ: لا معبودَ
(1)
تجوز عبادتُه، وتصلُحُ الألوهة له، إلا الله الذي هذه الصفات [صفته، {فَادْعُوهُ
(2)
مُخْلِصِينَ لَهُ الدَّين}. يقولُ، فاعْبُدوا الإله الذي هذه الصفاتُ]
(3)
صفاتُه [أيُّها الناسُ]
(4)
مخلصين له الطاعة، مفردين له الألوهةَ، لا تشركوا في عبادته شيئًا سواه؛ مِن وَثَن وصنمٍ، ولا تجعلوا له نِدًّا ولا عدلًا.
{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . يقولُ: الشكرُ للهِ الذي هو مالك جميع أجناسِ الخلقِ؛ مِن مَلَكِ وجنٍّ وإنسٍ وغيرهم، لا للآلهة والأوثان التي لا تملك شيئًا، ولا تقدرُ على ضُرٍّ ولا نفعٍ، بل هو مملوكٌ، إن ناله نائل بسوءٍ لم يقدر له عن نفسه دفعًا.
وكان جماعةٌ مِن أهل العلم يأمرون من قال: لا إلهَ إلا الله. أن يُتبعَ ذلك: الحمدُ للهِ ربِّ العالمين. تأولًا منهم هذه الآية بأنها أمرٌ من الله بقيل ذلك.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثني محمد بن عليّ بن الحسن بن شقيق، قال: سمعت أبي، قال: أخبرنا الحسين بن واقد، قال: ثنا الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: من قال: لا إلهَ إلا الله. فليَقُلْ على إثرها: الحمد لله ربِّ العالمين. قال: فذلك قوله: {فَادْعُوهُ
(5)
(1)
بعده في م: "بحق".
(2)
في الأصل: "فادعوا الله". وهو سهو.
(3)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(4)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"ادعوا الله أيها الناس مخلصين له الدين"، وفى م:"فادعوه أيها الناس مخلصين له الدين".
(5)
في الأصل: "فادعوا الله"، وفى ص، ت 1، ت 2، ت 3:"ادعوا الله".
مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
(1)
.
حدثنا عبد الحميد بن بيان السُّكّريُّ، قال: ثنا محمد بن يزيد، عن إسماعيلَ، عن سعيدِ بن جبير، قال: إذا قال أحدكم: لا إله إلا الله وحده لا شريك له. فليَقُلْ: الحمدُ لله رب العالمين. ثم قرأ: {فَادْعُوهُ
(2)
مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
(3)
.
حدثني موسى
(4)
بن عبد الرحمن، قال: ثنا محمد بن بشر، قال: ثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن سعيد بن جُبيرٍ، أنه كان يَسْتَحِبُّ إذا قال: لا إلهَ إلا الله. [أن يُتبعَها: الحمد لله رب العالمين]
(5)
. ثم قرأ هذه الآية: {هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
(3)
.
حدثني محمدُ بنُ عُمارةَ، قال: ثنا عُبيدُ اللهِ بن موسى، قال: أخبرنا إسماعيلُ
بن أبي خالد، عن عامر، عن سعيد بن جبير، قال: إذا قال أحدكم: لا إله إلا الله
وحدَه. فليَقُلْ بإثْرِها: الحمد لله ربِّ العالمين. ثم قرأ: {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
القول في تأويل قوله عز وجل: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (66)} .
يقول تعالى ذكره لنبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم: قُلْ يا محمد لمُشْرِكي قومك من قريشٍ: {إِنِّي نُهِيتُ} أيُّها القومُ، {أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} من الآلهةِ
(1)
أخرجه الحاكم 2/ 438، والبيهقى في الأسماء والصفات (194) عن علي بن الحسن بن شقيق به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 357 إلى ابن المنذر وابن مردويه.
(2)
في ت 1، ت 2، ت 3:"فادعوا الله".
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 145 عن إسماعيل بن أبي خالد، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 357 إلى عبد بن حميد.
(4)
في م: "محمد"، وينظر تهذيب الكمال 29/ 98، 99.
(5)
في ص، م:"يتبعها الحمد لله".
والأوثان، {لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِن رَّبِّي}. يقولُ: لما جاءني الآيات الواضحات من عند ربِّي. وذلك آيات كتاب الله الذي أنزَله عليه
(1)
، {وَأُمِرْتُ أَنْ أَسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}. يقولُ: وأمرنى ربى أن أَذِلَّ لربِّ [العالمين ربِّ]
(2)
كلِّ شيءٍ، ومالكِ كلِّ خلقٍ بالخضوع، وأَخْضَعَ له بالطاعةِ دون غيره من الأشياءِ.
القول في تأويل قوله عز وجل: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67)} [غافر: 67].
يقول تعالى ذكرُه، آمرًا نبيّه محمدا صلى الله عليه وسلم بتنَبْيِهِ مُشركي قومه على حُجَجه عليهم في وحدانيته: قُلْ يا محمد لقومِك: أُمِرتُ أن أُسلِمَ لربِّ العالمين، الذي صفته هذه الصفاتُ، وهى أنه خلق أباكم آدمَ من ترابٍ، ثم خلقكم من نُطْفَةٍ، ثم من علَقَةٍ بعد أن كنتم نُطَفًا، ثم يُخْرِجُكم طفلًا مِن بُطُونِ أمهاتكم صغارًا، ثم لتبلغوا أَشُدَّكم، فتتكاملَ قُوَاكم، ويَتناهَى شبابكم وتمام خلقكم، [ثم لتكونوا من بعد ما تَناهَى كمالُ قُواكم وتمام خلقكم]
(2)
شُيوخًا، ومنكم من يُتوفّى من قبل أن يبلغ الشيخوخة، {وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمَّى}. يقولُ: ولتَبْلُغُوا ميقاتًا مؤقَّتًا لحياتكم، وأجلا محدودًا لا تُجاوزونه، ولا تتقدَّمون قبله، {وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}. يقولُ: وكى تَعْقِلُوا حجَجَ الله عليكم بذلك، وتتدبَّروا آياته، فتعرفوا بها أنه لا إله غيرُه فعل ذلك.
القول في تأويل قوله عز وجل: {هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69)} .
(1)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(2)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
يقول تعالى ذكره لنبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم: قُلْ لهم يا محمد: {هُوَ الَّذِى يُحيِ وَيُمِيتُ} . يقولُ: قُلْ لهم: ومِن صفتِه جلَّ ثناؤه أنه هو الذي يُحْيِي مَن يَشَاءُ بعد مماتِه، ويُميتُ مَن يشاءُ من الأحياءِ بعد حياتِه، {فَإِذَا قَضَى أَمْرًا}. يقولُ: وإذا قضَى كونَ أمرٍ مِن الأمور التي يريد تكوينها، {فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ}. يعنى: للذى يريد تكوينه: {كُن} . فيكون ما أراد تكوينه موجودا بغير مُعاناةٍ ولا كُلفةِ مؤنةٍ.
وقوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ} . يقول لنبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم: ألم تَرَ يا محمد إلى
(1)
هؤلاء المشركين من قومِك، الذين يُخاصمونك في حُجَحِ الله وآياته، {أَنَّى يُصْرَفُونَ}. يقولُ: أَيَّ وجهٍ يُصْرَفون عن الحقِّ، ويَعْدِلون عن الرُّشْدِ.
كما حدثنا بشرٌ، قال ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله:{أَنَّى يُصْرَفُونَ} : أنى يُكَذِّبون ويَعْدِلُونَ
(2)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيد في قوله: {أَنَّى يُصْرَفُونَ} . قال: يُصْرَفون عن الحقِّ.
واختلف أهل التأويلِ في الذين عُنُوا بهذه الآيةِ؛ فقال بعضُهم: عُنى بها أهلُ القَدَرِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا محمد بن بشارٍ ومحمد بن المثنى، قالا: ثنا مُؤمَّلٌ، قال: ثنا سفيانُ، عن داود بن أبي هند، عن محمد بن سيرين، قال: إن لم تَكُنْ هذه الآية نزلت في القَدَريةِ فإنى لا أدرى فيمَن نزلت: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى
(1)
سقط من: م، ت 2، ت 3.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 257 إلى عبد بن حميد.
يُصْرَفُونَ} إلى قوله: {لَمْ نَكُن نَدْعُوا مِن قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكَافِرِينَ}
(1)
.
حدثني علي بن سهل، قال: ثنا زيد بن أبى الزرقاءِ، عن سفيان، عن داود بن أبي هند، عن ابن سيرين، قال: إن لم يَكُنْ أهل القدر الذين يخوضون في آياتِ اللهِ فلا علم لنا به.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني مالك بن
(2)
الخير الزبادى
(3)
، عن أبي قبيل، قال: أخبرني عقبة بن عامر الجُهَنيُّ، أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: "سَيَهْلِكُ من أُمتى أهل الكتاب وأهلُ اللَّبَنِ
(4)
. فقال عقبة: يا رسول الله، وما أهل الكتاب؟ قال:"قوم يتَعلَّمون كتاب الله يُجادِلون الذين آمنوا". فقال عقبةُ: يا رسول الله، وما أهلُ اللَّبَنِ
(4)
؟ قال: "قومٌ يَتَّبِعون الشَّهَواتِ، ويُضَيِّعون الصَّلَواتِ"
(5)
.
قال أبو قَبِيل: لا أحسَبُ المُكذِّبين بالقَدَرِ إلا الذين يجادلون الذين آمنوا، وأما أهلُ اللَّبَن
(4)
فلا أحسبهم إلا أهل العمود
(6)
، ليس عليهم إمام جماعةٍ، ولا يعرفون شهر رمضان.
وقال آخرون: بل عُنِى بذلك أهل الشركِ.
(1)
ذكره البغوي في تفسيره 7/ 158، والقرطبي في تفسيره 15/ 331.
(2)
بعده في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"أبي". وينظر الجرح والتعديل 8/ 208.
(3)
في الأصل، م، ت 2، ت 3:"الزيادي"، وغير منقوطة في ص، ت 1. والزبادي: نسبة إلى زَبَاد وهو موضع بالمغرب. الأنساب 3/ 127، وينظر الإكمال 4/ 210.
(4)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"اللين"، وأهل اللبن: أناس يحبون اللبن، فيتبعون الشهوات ويدعون الجماعات والجمع، وينظر مصادر التخريج الآتية.
(5)
أخرجه الطبراني في الكبير 17/ 296 (817)، والحاكم 2/ 374، والبيهقى في الشعب (2964) من طريق ابن وهب به، وأخرجه أحمد 28/ 555، 632، 636 (17318، 17415، 17421)، والطبراني في الكبير 17/ 295، 296 (815، 816)، وأبو يعلى في مسنده (1746)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم (2359)، والفسوى في المعرفة والتاريخ 2/ 507، وابن عبد الحكم في فتوح مصر ص 293 من طريق أبي قبيل به.
(6)
في ت 1: "العهود". ويقال لأصحاب الأخبية الذين لا ينزلون غيرها: هم أهل محمود، وأهل عماد. ينظر تاج العروس (ع م د).
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زِيدٍ في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ} . قال: هؤلاء المشركون
(1)
.
والصوابُ مِن القول في ذلك ما قاله ابن زيد، وقد بيَّن الله حقيقة ذلك بقولِه:{الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا} .
يقول تعالى ذكره: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا} ، بكتابِ اللهِ، وهو هذا القرآنُ، و {الَّذِينَ} الثانيةُ في موضعِ خفضٍ ردًّا لها على {الَّذِينَ} الأُولى، على وجهِ النعتِ، {وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا}. يقولُ: وكذَّبوا أيضًا - مع تَكْذيبِهم بكتابِ اللهِ - بما أرسلنا به رُسُلَنا مِن إخلاصِ العبادة لله، والبراءةِ مما يُعبد من دونِه مِن الآلهة والأندادِ، والإقرارِ بالبعث بعدَ المماتِ للثواب والعقابِ.
وقوله: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ} . وهذا تهديد من الله المشركين، يقولُ جلَّ ثناؤه: فسوف يعلم هؤلاء الذين يجادلون في آيات الله، المكذِّبون بالكتاب، حقيقةَ ما تخبرهم به يا محمد، وصحةَ ما هم به اليوم
(1)
ينظر التبيان 9/ 92، وتفسير القرطبي 15/ 331.
مُكَذِّبون من هذا الكتاب، حينَ تُجعل الأغلال والسلاسل في أعناقهم في جهنم.
وقرأت قرأةُ الأمصار: {وَالسَّلَاسِل} برفعها، عطفًا بها على {الأَغْلَالُ} ، على المعنى الذي بيَّنتُ، وذُكر عن ابن عباسٍ أنه كان يقرؤه:(والسَّلاسِلَ يَسْحَبون) بنصب السلاسلِ [وفتح (يَسْحَبُون)، بمعنى: ويَسْحَبون السلاسلَ]
(1)
، {فِي الْحَمِيمِ}
(2)
.
وقد حكى أيضًا عنه أنه كان يقولُ: إنما هو: وهم في السلاسلِ يُسْحَبون
(3)
. ولا يُجيرُ أهل العلم بالعربية خفض الاسم والخافض مضمرٌ. وكان بعضهم
(4)
يقول في ذلك: لو أن مُتَوَهِّمًا قال: إنما المعنى: إذ أعناقهم في الأغلال وفي
(5)
السلاسلِ يُسْحَبون. جازَ الخفضُ في "السلاسلِ" على هذا المذهب. وقال: مثله مما رُدَّ إلى المعنى قول الشاعر
(6)
:
قد سالَمَ الحيَّاتُ منه القَدَما
…
الأُفْعُوانَ والشُّجَاعَ الأَرْقَما
(7)
فنصب الشُّجاعَ، والحياتُ قبل ذلك مرفوعةٌ؛ لأن المعنى: قد سالَمت رِجْلَه الحياتُ وسالمتها، فلما احتاجَ إلى نصب القافيةِ، جعل الفعلَ من القدم واقعا على الحيَّاتِ.
(1)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(2)
وهى قراءة ابن مسعود وابن عباس وزيد بن علي وابن وثاب والمسيّبى في اختياره. وقال ابن عباس: إذا كانوا يجرونها فهو أشد عليهم، يكلفون ذلك وهم لا يطيقون. البحر المحيط 7/ 474، 475.
(3)
ينظر البحر المحيط 7/ 475.
(4)
هو الفراء في معاني القرآن 3/ 11.
(5)
سقط من: م.
(6)
هو من أرجوزة لأبي حيان الفقعسى، وقيل: لمساور بن هند العبسى. وبه جزم الترمذى والبطليوسي، وقيل: للعجاج، وقال السيرافي: قائله التدمرى. وقال الصغاني: قائله عبد بني عبس. شرح شواهد المغني 2/ 973.
(7)
كتب فوق هذه الكلمة في الأصل: "الشجعما". وهي رواية البيت في شرح شواهد المغنى 2/ 974 والشجعم ذكر الحيات الجرئ المسلط.
والصوابُ من القراءةِ عندَنا في ذلك ما عليه قرأةُ الأمصارِ؛ لإجماع الحجةِ عليه، وهو رفع "السلاسلِ" عطفًا بها على ما في قوله:{فِي أَعْنَاقِهِمْ} مِن ذكرِ {الْأَغْلَالُ} .
وقوله: {يُسْحَبُونَ} . يقولُ: يَسحب هؤلاء الذين كذَّبوا في الدنيا بالكتاب زبانية العذاب يوم القيامة {فِي الْحَمِيمِ} ؛ وهو ما قد انتهى حرُّه، وبلَغ غايتَه.
وقوله: {ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} . يقولُ: ثم هم
(1)
في نار جهنم يُحرقون، يقولُ: تُسْجَرُ بهم
(2)
جهنم. أي: توقَدُ بهم.
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهدٍ في قوله:{يُسْجَرُونَ} . قال: تُوقَدُ بهم النارُ
(3)
.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباطُ: عن السُّديِّ: {ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} . قال: يُحْرَقون في النارِ
(4)
.
حدثني يونسُ، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {ثُمَّ فِي
(1)
سقط من: م.
(2)
في م: "بها".
(3)
تفسير مجاهد ص 584، ومن طريقه الفريابي - كما في التغليق 4/ 300 - وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 357 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4)
ينظر البحر المحيط 7/ 475.
النَّارِ يُسْجَرُونَ}. قال: يُسْجَرون في النارِ؛ يُوقَدُ عليهم فيها.
وقوله: {ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِن دُونِ اللَّهِ} . يقولُ: ثم قيل لهم
(1)
: أين الذين كنتم تُشركون بعبادتكم إياهم
(2)
من دونِ اللهِ، مِن آلهتِكم وأوثانِكم، حتى يُغيثوكم فيُنْقِذوكم مما أنتم فيه من البلاء والعذابِ، فإن المعبود يُغِيثُ مَن عبَده وخدَمه؟! وإنما يقالُ لهم هذا توْبيخًا وتَقْريعًا على ما كان منهم في الدنيا من الكفر بالله وطاعة الشيطانِ، فأجاب المساكين عند ذلك فقالوا:{ضَلُّوا عَنَّا} . يقولون
(3)
: عَدَلوا عنا، فأخذوا غير طريقنا، وتركونا في هذا البلاء، بل ما ضَلُّوا عَنَّا، ولكنا لم نَكُنْ نَدْعُو من قبل في الدنيا شيئًا. أي: لم نكن نعبد شيئًا.
يقول الله تعالى ذكرُه: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكَفِرِينَ} . يقولُ: كما أضلَّ هؤلاء الذين ضَلَّ عنهم في جهنم ما كانوا يعبدون في الدنيا من دونِ الله من الآلهة والأوثان آلهتهم وأوثانهم، كذلك يُضِلُّ الله أهل الكفر به عنه، وعن رحمته وعبادته، فلا يرحمهم فيُنَجِّيَهم من النارِ، ولا يُغِيتُهم فيُخَفِّفَ عنهم ما هم فيه من البلاء.
القولُ في تأويل قوله تعالى: {ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76)} .
يعنى تعالى ذكره بقوله: {ذَلِكُم بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} : هذا الذي فعلنا بكم أيها القومُ اليومَ؛ مِن تَعْذيبناكم العذابَ الذي أنتم فيه - بفَرَحِكم الذي كنتم تفرَحونه في الدنيا، بغير ما أذِن الله لكم به من الباطلِ والمعاصى، وبمرحكم فيها. والمرحُ: هو الأمرُ والبَطَرُ.
(1)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(2)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"إياها".
(3)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"يقول".
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} إلى: {فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} . قال: الفَرحُ والمَرحُ: الفَخْرُ والخُيَلاءُ، والعملُ في الأرضِ بالخطيئةِ، وكان ذلك في الشركِ، وهو مثلُ قولِه لقارونَ:{إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص: 76]. وذلك في الشركِ
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ} . قال: تَبْطَرون وتَأْشَرُون
(2)
.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّديِّ قولَه:{تَمْرَحُونَ} . قال: تَبْطَرون.
وقولُه: {ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} . يقولُ تعالى ذكرُه: يقالُ
(3)
لهم: ادخُلوا أبوابَ جهنمَ السبعةَ، من كلِّ بابٍ منها جزءٌ مقسومٌ منكم خالدين فيها، {فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ}. يقولُ: فبئسَ مَنْزِلُ المُتَكبرين في الدنيا على اللهِ أن يُوَحِّدوه ويؤمِنوا برُسُلِه اليومَ - جهنمُ.
(1)
ينظر البحر المحيط 7/ 475.
(2)
تفسير مجاهد ص 584، ومن طريقه الفريابي كما في التغليق 4/ 300، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 357 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ وعزَّ: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77)} .
يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: فاصبِرْ يا محمدُ على ما يُجادِلُك به هؤلاء المشركون في آياتٍ اللهِ التي أنزَلْناها عليك، وعلى تَكْذيبهم إياك، فإن الله مُنْجِزٌ لك فيهم ما وَعَدك؛ مِن الظَّفَرِ بهم
(1)
والعُلُوِّ عليهم، وإحلالِ العذابِ
(2)
بهم، سُنَّتَنا
(3)
في موسى بن عمرانَ ومَن كذَّبه، {فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ}. يقولُ جلَّ ثناؤُه: فإما نُرِيَنَّك يا محمدُ في حياتِك بعض الذي نَعِدُ هؤلاء المشركين من العذابِ والنِّقْمةِ أن يَحِلَّ بهم، {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} قبلَ أن يَحِلَّ ذلك بهم، {فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ}. يقولُ: فإلينا مصيرُك ومصيرُهم، فنحكُمُ عند ذلك بينَك وبينَهم بالحقِّ؛ بتَخْليدِناهم في النارِ، وإكرامِناك بجوارِنا في جناتِ النعيمِ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78)} .
يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا} يا محمدُ، {رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ} إلى أممِها، {مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ}. يقولُ: مِن أولئك الرسلِ
(4)
الذين أرسلناهم
(5)
إلى أممِهم مَن قَصَصْنا عليك نبأَهم، {وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} نبأَهم.
(1)
في م: "عليهم".
(2)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"العقاب".
(3)
في م: "كسنتنا".
(4)
سقط من: م.
(5)
في م: "أرسلنا".
وذُكر عن أنسٍ أنهم ثمانيةُ آلافٍ.
ذكرُ الروايةِ بذلك
حدَّثنا عليُّ بنُ شعيبٍ السِّمْسَارُ، قال: ثنا معنُ بنُ عيسى، قال: ثنا إبراهيمُ بنُ المهاجرِ بن مِشمارٍ، عن محمدِ بن المُنْكَدرِ، عن يزيدَ بن أبانٍ، عن أنسِ بن مالكٍ، قال: بُعِث النبيُّ صلى الله عليه وسلم بعدَ ثمانيةِ آلافٍ مِن الأنبياء؛ منهم أربعةُ آلافٍ مِن بني إسرائيلَ
(1)
.
حدَّثنا أبو كُرَيبٍ، قال: ثنا يونسُ بنُ بُكَيرٍ، عن عُتْبَةَ بن عُتيبةَ البصريِّ العَبْدِيِّ، عن
(2)
أبي سهلٍ، عن وهبِ بن عبدِ اللهِ بن كعبِ بن سَورٍ الأَزْدِيِّ، عن سَلْمَى
(3)
، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"بعَث اللهُ أربعةَ آلافٍ نبيٍّ"
(4)
.
حدَّثني أحمدُ بنُ الحسينِ التِّرمِذِيِّ، قال: ثنا آدمُ بن أبي إياسٍ العسقلانيُّ، قال: ثنا إسرائيلُ، عن جابرٍ، عن عبدِ الله بن نُجِيٍّ
(5)
، عن عليّ بن أبي طالبٍ في قولِه:{مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} . قال: بعَث اللهُ عبدًا حَبَشِيًّا نَبِيًّا، فهو الذي لم نَقْصُصْ
(6)
عليك
(7)
.
(1)
أخرجه الحاكم 2/ 597 من طريق إبراهيم به، وأخرجه الطبراني في الأوسط (774) من طريق إبراهيم عن صفوان عن يزيد عن أنس به، وأخرجه أبو نعيم في الحلية 3/ 162 من طريق محمد عن صفوان عن أنس، وأخرجه ابن سعد في الطبقات 1/ 192 من طريق محمد عن أنس، وأخرجه أبو يعلى (4132)، وأبو نعيم في الحلية 3/ 53، والقزوينى في التدوين في أخبار قزوين 1/ 270 من طريق يزيد عن أنس به.
(2)
سقط من: الأصل. ولم أجد ترجمة عتبة بن عتيبة البصرى ولا ترجمة أبي سهل، فيما بين يدى من المصادر.
(3)
في النسخ: "سليمان"، وترجمتها في مصدرى التخريج غير منسوبة.
(4)
أخرجه ابن منده وأبو نعيم - كما في أسد الغابة 7/ 151 - من طريق وهب به، وذكره ابن حجر في الإصابة 7/ 710، 711 وعزاه إلى ابن منده.
(5)
في النسخ: "يحيى"، وينظر تهذيب الكمال 16/ 219.
(6)
في الأصل: "يقص".
(7)
أخرجه الطبراني في الأوسط (9319)، وابن مردويه - كما في تخريج الزيلعي 3/ 222 - من طريق آدم ابن أبي إياس به، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 4/ 1119 (6284) من طريق إسرائيل به.
وقولُه: {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} . يقولُ تعالى ذكرُه: وما جعَلنا لرسولٍ ممن أرسَلناه من قبلِك، الذين قَصَصْناهم عليك، والذين لم نَقْصُصْهم عليك، إلى أممِها، أن يأتىَ قومَه بآيةٍ فاصلةٍ بينَه وبينَهم، إلا بإذنِ اللهِ له بذلك، فيأتِيَهم بها، يقولُ جلَّ ثناؤُه لنبيِّه: فلذلك لم نجعلْ لك أن تأتىَ قومَك بما يَسْألونك من الآياتِ دونَ إذْننِا لك بذلك، كما لم نجعلْ لمَن قبلَك مِن رُسُلِنا، إلا أن نأذنَ له به، {فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ}. [يقولُ: فإذا جاء قضاءُ اللهِ بينَ رسلِه وأممِها قُضِى بالحقِّ]
(1)
. يعنى: بالعدلِ، وهو أن يُنَجِّيَ رُسُلَه والذين آمنَوا معهم، {وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ}. يقولُ: وهَلَك هنالك الذين أَبطَلوا؛ في قيلِهم الكذبَ، وافترائِهم على اللهِ، وادعائِهم له شريكًا.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: {اللَّهُ} الذي لا تصلُحُ الأُلوهةُ إلا له، أيُّها المشركون به مِن قريشٍ، {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ} ؛ مِن الإبلِ والبقرِ والغنمِ والخيلِ، وغيرِ ذلك مِن البهائمِ التي يَقْتَنيها أهلُ الدنيا
(2)
؛ لمَرْكَبٍ أو لَمَطْعَمٍ، {لِتَرْكَبُوا مِنْهَا} . يعنى الخيلَ [والبغالَ](1) والحميرَ، {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ}. يعنى الإبلَ والبقرَ والغنمَ. وقال:{لِتَرْكَبُوا مِنْهَا} . ومعناه: لتركَبوا منها بعضًا، ومنها بعضًا تأكُلون. فحُذِف
(3)
استغناءً بدلالةِ الكلامِ على ما حُذف.
(1)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(2)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"الإسلام".
(3)
بعده في ت 1: "بعضا".
وقولُه: {وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} . [يقولُ: ولكم في الأنعامِ التي جعَلها لكم منافعُ]
(1)
، وذلك أنْ جعَل لكم من جلودِها {بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [النحل: 80].
وقولُه: {وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ} . يقولُ: ولتَبْلُغوا بالحَمُولةِ على بعضِها؛ وذلك الإبلُ، {حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ} ، لم تكونوا لِتَبْلُغوها
(2)
، لولا هي، إلا بشِقِّ أنفسِكم. كما قال جلَّ ثناؤه:{وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ} [النحل: 7].
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ} . يعنى: الإبلُ تحملُ أثقالَكم إلى بلدٍ
(3)
.
حدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ} : لحاجتِكم ما كانت
(4)
.
قولُه: {وَعَلَيْهَا} . يعنى: على هذه الإبل وما جانسها من الأنعامِ المركوبةِ، {وَعَلَى الْفُلْكِ}. يعني: وعلى السفنِ، {تُحْمَلُونَ}. يقولُ: نحملُكم على هذه في البَرِّ، وعلى هذه في البحرِ، {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ}. يقولُ: ويُرِيكُم حُجَجَه، {فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ}. يقولُ: فأَيَّ حُجَجِ اللهِ التي يُرِيكم أيُّها الناسُ في السماءِ وفي
(1)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(2)
سقط من: ت 2، ت 3. وفى ص، م: "بالغيها"، وفي ت 1: "بالغيه".
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 183 عن معمر عن قتادة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 358 إلى عبد بن حميد.
(4)
تفسير مجاهد ص 584، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 357 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
الأرضِ تُنْكِرون صحتَها، فتكذِّبون من أجل فسادِها بتوحيدِ اللهِ، وتَدْعون مِن دونِه إلهًا.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: أفلم يَسِرْ يا محمدُ هؤلاء المُجادِلوك
(1)
في آياتِ اللهِ مِن مُشركي قومِك في البلادِ، فإنهم أهلُ سفرٍ إلى الشامِ واليمنِ - رحلتُهم في الشتاءِ والصيفِ - فينظُروا فيما وَطِئوا من البلادِ إلى وقائِعنا بمَن أوقَعنا به مِن الأممِ قبلَهم، ويَرَوا ما أَحْلَلْنا بهم من بأسِنا بتكْذيبِهم رُسُلَنا وجُحُودِهم آياتِنا، كيف كان عُقْبَى تَكْذيبِهم؟ {كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ}. يقولُ: كان أولئك الذين من قبلِ هؤلاء المُكَذِّبيك مِن قريشٍ أكثرَ عددًا مِن هؤلاء، وأشدَّ بَطْشًا، وأقوى قوةً، وأبقَى في الأرضِ آثارًا؛ لأنهم كانوا يَنْحِتون مِن الجبالِ بيوتًا، ويتخِذون مصانعَ.
وكان مجاهدٌ يقولُ في ذلك ما حدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ} : المَشْيَ بأرجلِهم
(2)
.
{فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} . يقولُ: فلما جاءهم بأسُنا وسطوتُنا، لم يُغْنِ عنهم الذي كانوا يعمَلون من البيوتِ في الجبالِ، ولم يدفَعْ ذلك عنهم شيئًا، ولكنهم بادُوا جميعًا فهلَكوا. وقد قيل: إن معنى قولِه: {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ} : فأَيُّ شيءٍ أغنَى عنهم؟ وعلى هذا التأويلِ يجبُ أن تكونَ "ما" الأولى في موضعِ نصبٍ، والثانيةُ في موضعِ رفعٍ. يقولُ: فلهؤلاء المُجادِليك مِن قومِك يا محمدُ في أولئك مُعْتَبَرٌ إِن اعْتَبَروا، ومُتَّعَظٌ إِن اتَّعَظوا، وإِنَّ بِأسَنا إذا حلَّ
(1)
في ص، م، ت 1، ت 2:"المجادلون"، وفى ت 3:"الذين يجادلون".
(2)
تفسير مجاهد ص 584، وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 183 عن ابن جريج عن مجاهد، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 307، 308 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
بالقومِ المجرمين لم يدفعه دافعٌ، ولم يمنعْه مانعٌ، وهو بهم إن لم يُنِيبوا إلى تَصْديقِك واقعٌ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: فلما جاءت هؤلاء الأممَ الذين مِن قبلِ قريشٍ المُكذِّبةَ رُسُلَها - رُسُلُهم الذين أرسَلهم اللهُ إليهم {بِالْبَيِّنَاتِ} ، يعنى: بالواضحاتِ مِن حُجَجِ اللهِ عز وجل، {فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ}. يقولُ: فرِحوا، جهلًا منهم، بما عندَهم من العلمِ، وقالوا: لن نُبْعَثَ، ولن يُعَذِّبَنا اللهُ.
كما حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ:{فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} . قال: قولُهم: نحن أعلمُ منهم، لن نُعَذَّبَ، ولن نُبْعَثَ
(1)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المفضلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:{فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} : بجهالتِهم
(2)
.
وقولُه: {وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} . يقولُ: وحَلَّ
(3)
بهم مِن عذابِ اللهِ ما كانوا يَسْتَعْجِلون رُسُلَهم به؛ استهزاءً به وسخريةً.
(1)
تفسير مجاهد ص 584، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 357، 358 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 149.
(3)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"حاق".
كما حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} : ما جاءتهم به رُسُلُهم مِن الحقِّ
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ وعزَّ: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: فلما رَأَت هذه الأممُ المُكَذِّبةُ رُسُلَها {بَأْسَنَا} . يعنى: عقابَ اللهِ الذي وَعَدتْهم رُسُلُهم قد حَلَّ بهم.
كما حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} . قال: النَّقِمات التي نزَلت بهم.
وقولُه: {قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} . يقولُ: قالوا: أقرَرْنا بتوحيدِ اللهِ، وصَدَّقْنا أنه لا إلهَ غيرُه، {وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ}. يقولُ: قالوا
(2)
: وجَحَدنا الآلهةَ التي كُنَّا قبلَ وقتِنا هذا تُشْرِكُها في عبادتِنا الله، ونعبدُها معه، ونتخذُها آلهةً، فبَرِئْنا منها.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: فلم يَكُ ينفعُهم تَصْدِيقُهم في الدنيا بتوحيدِ اللهِ، عندَ معاينتِهم عقابَه قد نزَل، وعذابَه قد حَلَّ؛ لأنهم صدَّقوا حين لا ينفعُ التَّصْدِيقُ
(1)
تفسير مجاهد ص 584، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 357، 358 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
سقط من: ص، م، ت 2.
مُصَدِّقًا، إذ كان قد مضَى حكمُ اللهِ في السابقِ من علمِه أن مَن تَابَ بعدَ نزولِ العذابِ به
(1)
مِن اللهِ على تكذيبِه، لم تنفعْه توبتُه.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} : لمَّا رَأَوا عذابَ اللهِ في الدنيا، لم ينفعْهم الإيمانُ عندَ ذلك
(2)
.
وقولُه: {سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ} . يقولُ: تَرَك اللهُ تبارك وتعالى إقالتَهم، وقبولَ التوبةِ منهم، ومراجعتَهم الإيمانَ باللهِ، وتصديقَ رُسُلِهم، بعدَ مُعاينتِهم بأسَه قد نزَل بهم؛ سُنَّتَه التي قد مضَت في خلقِه، فلذلك لم يُقِلْهم، ولم يقبلْ توبتَهم في تلك الحالِ.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ} . يقولُ: كذلك كانت سنةُ اللهِ في الذين خَلَوا مِن قبلُ، إذا عايَنوا عذابَ اللهِ لم ينفعْهم إيمانُهم عندَ ذلك
(2)
.
وقولُه: {وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} . يقولُ: وهلَك عندَ مجيءِ بأسِ اللهِ، فغَبِنت صَفْقتُه، ووَضُع في بيعِه الآخرةَ بالدنيا، والمغفرةَ بالعذابِ، والإيمانَ بالكفرِ - الكافرون بربِّهم، الجاحِدون توحيدَ خالقِهم، المُتَّخِذون مِن دونِه آلهةً يعبُدونها مِن دونِ بارئِهم.
آخرُ تفسيرِ سورةِ "حم المؤمن"
(1)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 183 عن معمر عن قتادةَ به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 358 إلى عبد بن حميد.
بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير سورةِ "فصلت"
(1)
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ
(4)}.
قال أبو جعفرٍ: قد تقدَّم القولُ مِنَّا فيما مضَى قبلُ في معنى: {حم} ، والقولُ في هذا الموضعِ كالقولِ في ذلك
(2)
.
وقولُه: {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} . يقولُ تعالى ذكرُه: هذا القرآنُ تنزيلٌ من عندِ الرحمنِ الرحيمِ، نزَّله على نبيِّه محمدِ صلى الله عليه وسلم.
{كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} . يقولُ: كتابٌ بُيِّنَت آياتُه.
[كما حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ قولَه: {فُصِّلَتْ آيَاتُهُ}. قال: بُيِّنَت آياتُه]
(3)
.
وقولُه: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} . يقولُ تعالى ذكرُه: فُصِّلت آياتُه هكذا.
وقد اختَلف أهلُ العربيةِ في وجهِ نصبِ "القرآنِ"؛ فقال بعضُ نحويِّي البصرةِ: قولُه: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ} : الكتابُ خبرٌ
(4)
لمبتدإ، أخبَر أن التنزيلَ
(1)
في الأصل، ت 1، ت 2:"حم السجدة". وفي ص، ت 3:"السجدة".
(2)
تقدم في 1/ 206، وفى ص 274 - 276 من هذا الجزء.
(3)
سقط من: ت 1.
(4)
في الأصل، ص، ت 1، ت 2، ت 3:"خبرا".
كتابٌ، ثم قال:{فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} شغَل الفعلَ بالآياتِ حتى صارَت بمنزلةِ الفاعلِ، فنصَب "القرآنَ". وقال:{بَشِيرًا وَنَذِيرًا} . على أنه صفةٌ
(1)
، وإن شئتَ جعلتَ نصبَه على المدحِ، كأنه حينَ ذكَره أقبَل في مدحِه
(2)
، فقال: ذكَرنا قرآنًا عربيًّا بشيرًا ونذيرًا، وذكَرناه قرآنًا عربيًّا. وكان فيما مضَى مِن ذكرِه، دليلٌ على ما أضمرَ.
وقال بعضُ نحويِّى الكوفةِ: نصَب {قُرْآنًا} على الفعلِ، أي: فُصِّلت آياتُه كذلك. قال: وقد يكونُ النصبُ فيه على القطعِ؛ لأن الكلامَ تامٌّ عندَ قولِه: {آيَاتُهُ} . قال: ولو كان رفعًا على أنه مِن نعتِ "الكتابِ" كان صوابًا، كما قال في موضعٍ آخرَ:{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ} [ص: 29].
قال
(3)
: وكذلك قولُه: {بَشِيرًا وَنَذِيرًا} فيه ما في {قُرْآنًا عَرَبِيًّا}
(4)
.
وقولُه: {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} . يقولُ: فُصِّلت آياتُ هذا الكتابِ قرآنًا عربيًّا لقومٍ يعلَمون اللسانَ العربيَّ، {بَشِيرًا} لهم يُبَشِّرُهم إن هم آمَنوا به، وعمِلوا بما أُنزل فيه مِن حدودِ اللهِ وفرائضِه - بالجنةِ، {وَنَذِيرًا}. يقولُ: ومُنْذِرًا مَن كذَّب به ولم يعملْ بما فيه، بأسَ
(5)
اللهِ في عاجلِ الدنيا، وخلودَ الأبدِ في نارِ جهنمَ في آجلِ الآخرةِ.
وقولُه: {فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ} . يقولُ تعالى ذكرُه: فاستكبَر عن الإصْغاءِ له، وتَدبُّرِ ما فيه مِن حُجَجِ اللهِ، وأعرَض عنه، أكثرُ هؤلاء القومِ الذين أَنزل [اللهُ إليهم]
(6)
هذا القرآنَ بشيرًا لهم ونذيرًا، وهم قومُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، {فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ}. يقولُ: فهم لا يُصْغُون له فيسْمَعوه؛ إعراضًا عنه واستكبارًا.
(1)
في ت 1: "صفته".
(2)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"مدحته".
(3)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"وقال".
(4)
ينظر معاني القرآن للفراء 3/ 12.
(5)
في ص، م، ت 2:"بأمر".
(6)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وقال هؤلاء
(1)
المُعرضون عن آياتِ اللهِ مِن مُشْركي قريشٍ إذ دَعاهم محمدٌ نبيُّ اللهِ إلى الإقرارِ بتوحيدِ اللهِ، و [التصديقِ بما]
(2)
في هذا القرآنِ مِن أمرِ اللهِ ونهيِه، وسائرِ ما أُنزل فيه:{قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ} . يعني: في أَغْطيةٍ مما تَدْعُونا يا محمدُ إليه مِن توحيدِ اللهِ، وتَصْديقِك فيما جِئْتَنا به، لا نفقَهُ ما تقولُ، {وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ} ، وهو الثِّقْلُ، لا نسمعُ ما تَدْعُونا إليه. استثقالًا لِما يَدْعو إليه وكراهةً له.
وقد مضَى البيانُ قبلُ عن معاني هذه الأحرفِ بشواهدِه، وذكرُ ما قال أهلُ التأويلِ فيه، فكَرِهنا إعادةَ ذلك في هذا الموضعِ
(3)
.
وقد حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ} . قال
(4)
: كالجَعْبةِ للنَّبْلِ
(5)
.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ قولَه:{وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ} . قال: عليها أَغْطِيةٌ، {وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ}. قال: صَمَمٌ
(6)
.
وقولُه: {وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} . يقولون: ومِن بينِنا وبينِك يا محمدُ
(1)
بعده في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"المشركون".
(2)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"تصديق ما".
(3)
ينظر ما تقدم في 9/ 197، 198، 14/ 609.
(4)
بعده في م: "عليها أغطية".
(5)
تفسير مجاهد ص 585، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 360 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(6)
تقدم في 9/ 198.
ساترٌ، لا نجتمعُ مِن أجلِه نحن وأنت فيَرى بعضُنا
(1)
بعضًا، وذلك الحجابُ هو اختلافُهم في الدينِ؛ لأن دينَهم كان عبادةَ الأوثانِ، ودينَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم عبادةُ اللهِ وحدَه لا شريكَ له، فذلك هو الحجابُ الذي زعَموا أنه بينَهم وبينَ نبيِّ اللهِ، وذلك هو خِلافُ بعضِهم بعضًا في الدينِ.
وقولُه: {فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} . يقولُ: قالوا له صلى الله عليه وسلم: فاعمَلْ يا محمدُ بدينِك وما تقولُ إنه الحقُّ، إننا عامِلون بدينِنا وما نقولُ إنه الحقُّ، ودَعْ دعاءَنا إلى ما تَدْعونا إليه مِن دينِك، فإنا نَدَعُ دعاءَك إلى دينِنا. وأُدخلت "من" في قولِه:{وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} . والمعنى: وبينَنا وبينَك حجابٌ، توكيدًا للكلامِ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: قلْ يا محمدُ لهؤلاء المُعرِضين عن آياتِ اللهِ مِن قومِك: أَيُّها القومُ، ما أنا إلا بشرٌ مِن بنى آدمَ مثلُكم في الجنسِ والصورةِ والهيئةِ
(2)
، لستُ بمَلَكٍ، {يُوحَى إِلَيَّ}. يقولُ: يوحِى اللهُ إليَّ ألَّا معبودَ لكم تصلُحُ عبادتُه إلا معبودٌ واحدٌ، {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ}. يقولُ: فاستقيموا إليه بالطاعةِ، ووَجِّهوا إليه وجوهَكم بالرغبةِ والعبادةِ، دونَ الآلهةِ والأوثانِ، {وَاسْتَغْفِرُوهُ}. يقولُ: وسَلُوه العفوَ لكم عن ذنوبِكم التي سلَفت منكم بالتوبةِ
(3)
مِن شركِكم، يَتُبْ عليكم، ويغفرْ لكم.
(1)
في ص، ت 2 ت 3:"بعضها".
(2)
في ت 1: "الصفة".
(3)
بعده في الأصل: "منكم".
وقولُه: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: وصديدُ أهلُ النارِ، وما يسيلُ منهم للمُدَّعِين للهِ شريكًا، العابدين الأوثانَ دونَه، الذين لا يُؤتون الزكاةَ.
فاختَلف أهلُ التأويلِ في ذلك؛ فقال بعضُهم: معناه: الذين لا يُعْطُون الله الطاعةَ التي تُطَهِّرُهم وتزكِّى، أبدانَهم، ولا يوحِّدونه، وذلك قولٌ يُذْكَرُ عن ابن عباسٍ.
ذكرُ الروايةِ بذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} . قال: هم الذين لا يَشْهَدون ألّا إلهَ إلا اللهُ
(1)
.
حدَّثني سعدُ
(2)
بنُ عبدِ اللهِ بن عبدِ الحَكَمِ، قال: ثنا حفصُ بنُ عمرَ، قال: ثنا الحَكَمُ بنُ أبانٍ، عن عكرمةَ قولَه:{وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} : الذين لا يقولون: لا إله إلا اللهُ
(3)
.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: الذين لا يُقِرُّون بزكاةِ أموالِهم التي فرَض
(4)
اللهُ فيها، ولا يعطُونها أهلَها. وقد ذكَرنا أيضًا قائلى ذلك قبلُ
(5)
.
(1)
أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات (205) من طريق عكرمة عن ابن عباس، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 360 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
في ص، ت 1، ت 2:"سعيد". وينظر الجرح والتعديل 4/ 92.
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 153، والطوسى في التبيان 9/ 105، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 360 إلى المصنف وعبد بن حميد والحكيم الترمذي وابن المنذر.
(4)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"فرضها".
(5)
بعده في ت 3: "الذين لا يقولون لا إله إلا الله".
وقد حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} . قال: لا يقرُّون بها ولا يؤمِنون بها، وكان يقالُ: إن الزكاةَ قَنْطرةُ الإسلامِ، فمَن قطَعها نجا، ومَن تخَلَّف عنها هلَك. وقد كان أهلُ الرِّدَّةِ بعد نبيِّ اللهِ قالوا: أما الصلاةُ فنصلِّي، وأما الزكاةُ فواللهِ لا نُغْصَبُ
(1)
أموالَنا. قال: فقال أبو بكرٍ: واللهِ لا أفرِّقُ بَينَ شَيءٍ جمَع اللهُ بينَه، واللهِ لو منَعونا
(2)
عِقالًا مما فرَض اللهُ ورسولُه، لقاتَلْناهم عليه
(3)
.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} . قال: لو زكَّوا وهم مشرِكون لم ينفَعْهم.
قال أبو جعفرٍ: والصوابُ مِن القولِ في ذلك ما قاله الذين قالوا: معناه: لا يؤدُّون زكاة أموالِهم. وذلك أن ذلك هو الأشهرُ من معنى الزكاةِ، وإن في قولِه:{وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} . دليلًا على أن ذلك كذلك؛ لأن الكفارَ الذين عُنُوا بهذه الآية كانوا لا يشهَدون ألّا إله إلا اللهُ، فلو كان قولُه:{الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} . مرادًا به الذين لا يشهَدون ألّا إله إلا اللهُ، لم يكُنْ لقولِه:{وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} . معنًى؛ لأنه معلومٌ أَنَّ مَن لا يشهدُ ألّا إِلهَ إِلَّا اللهُ لا يؤْمِنُ بالآخرة، وفي إتْباعِ اللهِ قولَه:{وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} . قولَه: {الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} . ما يُنبِئُ عن أن الزكاةَ في هذا الموضعِ معنيٌّ بها زكاةُ الأموالِ.
وقولُه: {وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} . يقولُ: وهم بقيامِ الساعةِ وبعْثِ اللهِ خلْقَه أحياءً من قبورِهم مِن بعدِ بلائِهم وفنائِهم
(4)
- منكِرُون.
(1)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"تغصب".
(2)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"منعونى".
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 184 عن معمر عن قتادة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 360 إلى عبد بن حميد.
(4)
في ت 2، ت 3:"قيامهم".
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8) قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: إن الذين صدَّقوا الله ورسولَه، وعمِلوا بما أمرَهم اللهُ به ورسولُه، وانتهَوا عما نهَيَاهم
(1)
عنه، وذلك هو الصالحاتُ من الأعمالِ - {لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ}. يقولُ: لَمَن فعَل ذلك أجرٌ غيرُ منقوصٍ عما وعَدهم أن يأجُرَهم عليه.
وقد اختلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِ ذلك، وقد بيَّناه فيما مضَى، بما أغنَى عن إعادتِه
(2)
.
وقد حدَّثنا محمد بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بن المفضلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} : قال بعضُهم: غير منقوصٍ. وقال بعضُهم: غيرُ ممنونٍ عليهم
(3)
.
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} . يقولُ: غيرُ منقوصٍ
(4)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ
(1)
في ص، ت 1، ت 3:"نهياه".
(2)
ينظر ما تقدم في 6/ 208، 12/ 588 - 592.
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 153.
(4)
ذكرُه الحافظ في الفتح 8/ 559، عن المصنف، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 360 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
قولَه: {لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} . قال: محسوبٍ
(1)
.
وقولُه: {قُلْ
(2)
أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ [وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ}. يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ: قلْ يا محمدُ لهؤلاء المعرِضين عن آياتِنا من قومِك: إنكم أيُّها القوم لتكفرون بالذي خلَق الأرضَ في يومين]
(3)
. وذلك يومُ الأحدِ ويومُ الاثنينِ، وبذلك جاءت الأخبارُ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وقالَته العلماءُ، وقد ذكَرنا كثيرًا من ذلك فيما مضَى قبلُ
(4)
، ونذكرُ بعضَ ما لم نذكُرْه قبلُ إن شاء اللهُ.
ذكرُ بعضِ ما لم نذكُرْ فيما مضَى من الأخبارِ بذلك
حدَّثنا هَنَّادُ بنُ السريِّ، قال: ثنا أبو بكرِ بن عيَّاشٍ، عن أبي سعدٍ
(5)
البقالِ، عن عكرمةَ، عن ابن عباسٍ - قال هنادٌ: قرأتُ سائرَ الحديثِ على
(6)
أبي بكرٍ - أن اليهودَ أتَتِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فسأَلته عن خلقِ السماواتِ والأرضِ، قال:"خلَق اللهُ الأرضَ يومَ الأحَدِ والاثنينِ، وخلَق الجبالَ يومَ الثلاثاءِ وما فيهنَّ من منافِعَ، وخلَق يومَ الأربعاءِ الشجرَ والماءَ والمَدائِنَ والعُمْرانَ والخرابَ، فهذه أربعَةٌ". ثم قال: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} . لِمَن سأل". قال: "وخلَق يومَ الخميسِ السماءَ، وخلَق يومَ الجُمُعةِ النجومَ والشمسَ والقمرَ والملائكةَ إلى ثلاثِ ساعاتٍ بقيَتْ منه، [فخلَق في أولِ ساعةٍ من هذه الثلاثةِ الآجالَ؛ حينَ يموتُ مَنْ ماتَ]
(7)
، وفى الثانيةِ ألْقَى
(1)
تفسير مجاهد ص 585، ومن طريقه الفريابي - كما في تغليق التعليق 4/ 302.
(2)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(3)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(4)
ينظر ما تقدم في 1/ 462 - 465، 10/ 245، 246، 12/ 328 - 330.
(5)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"سعيد"، وينظر تهذيب الكمال 11/ 52.
(6)
في ت 1، ت 2، ت 3:"عن".
(7)
سقط من: الأصل، ص، ت 1، ت 2.
الآفةَ
(1)
على كلِّ شيءٍ مما يَنتفِعُ به الناسُ، وفى الثالثة آدمَ وأسْكَنه الجنةَ، وأمَر إبليسَ بالسجودِ له، وأخرَجه منها في آخرِ ساعةٍ". ثم قالت اليهودُ: ثم ماذا يا محمدُ؟ قال: "ثم اسْتَوَى على العرشِ". قالوا: قد أصَبتَ لو أتْمَمتَ. قالوا: ثم استراحَ. فغضِب النبيُّ صلى الله عليه وسلم غضبًا شديدًا، فنزَل:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ}
(2)
.
حدَّثنا تميمُ بنُ المنتصرِ، قال: أخبَرنا إسحاقُ، عن شريكٍ، عن غالبِ بن غيلانَ
(3)
، عن عطاءِ بن أبي رباحٍ، عن ابن عباسٍ، قال: إن الله خلَق يومًا واحدًا فسمَّاه الأحدَ، ثم خلَق ثانيًا فسمَّاه الاثنينِ، ثم خلَق ثالثًا فسمَّاه الثلاثاءَ، ثم خلَق رابعًا فسمَّاه الأربعاء، ثم خلَق خامسًا فسمَّاه الخميسَ. قال: فخَلَق الأرضَ في يومين؛ الأحد والاثنين، وخلَق الجبالَ يومَ الثلاثاءِ، فذلك قولُ الناسِ: هو يومٌ ثقيلٌ. وخلَق مواضعَ الأنهارِ والشجرَ
(4)
يومَ الأربعاءِ، وخلَق الطيرَ والوحوشَ والهوامَّ والسباعَ يومَ الخميسِ، وخلَق الإنسانَ يومَ الجُمعةِ، [ففرَغ من خلقِ كلِّ شيءٍ يومَ الجمعةِ]
(5)
.
حدَّثنا موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} : في الأحدِ والاثنينِ.
وقد قيل غيرُ ذلك، وذلك ما حدَّثنى القاسمُ بنُ بشرِ بن معروفٍ والحسينُ بنُ عليٍّ، قالا: ثنا حجاجٌ، قال ابن جريج: أخبَرني إسماعيلُ بنُ أميةَ، عن أيوبَ بن خالدٍ، عن عبدِ اللهِ بن رافعٍ مولى أمِّ سلمة، عن أبي هريرةَ، قال: أخَذ
(1)
في الأصل: "الأمر".
(2)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 22، وأخرجه أبو الشيخ في العظمة (880)، والحاكم 2/ 543 من طريق هناد به، وتصحف هناد إلى حماد عند الحاكم، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 360 إلى النحاس في ناسخه وابن مردويه.
(3)
في النسخ: "غلاب"، والمثبت من مصدر التخريج. وينظر الجرح والتعديل 7/ 47.
(4)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"الأشجار".
(5)
سقط من: ت 2، ت 3. والأثر أخرجه أبو الشيخ في العظمة (883) من طريق شريك به.
رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بيدى، فقال: "خلَق اللهُ التربةَ
(1)
يومَ السبتِ، وخلَق فيها الجبالَ يومَ الأحدِ، وخلَق الشجرَ يومَ الاثنينِ، وخلَق المكروهَ يومَ الثلاثاءِ، وخلَق النورَ يومَ الأربعاءِ، وبثَّ فيها الدوابَّ يومَ الخميسِ، وخلَق آدمَ بعدَ العصرِ مِن يوم الجُمُعةِ آخِرَ خلْقٍ، في آخرِ ساعةٍ من ساعاتِ الجُمُعةِ، فيما بينَ العصرِ إلى الليلِ"
(2)
وقولُه: {وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا} . يقولُ: وتجعَلون لمَن خلَق ذلك كذلك أندادًا. وهم الأكْفَاءُ مِن الرجالِ، [كما حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، عن أسباطَ، عن السديِّ: {وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا}. قال: أكفاءً من الرجالِ]
(3)
، تطيعُونهم في معاصى اللهِ
(4)
.
وقد بيَّنا معنى النِّدِّ بشواهدِهِ فيما مضَى قبلُ
(5)
.
وقولُه: {ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ} . يقولُ: الذي فعل هذا الفعلَ، وخلَق الأرضَ في يومين، مالكُ جميعِ الجنِّ والإنسِ، وسائرِ أجناسِ الخلقِ، وكلُّ ما دونَه مملوكٌ له، فكيف يجوزُ أن يكونَ له نِدٌّ، وهل يكونُ المملوكُ العاجزُ الذي لا يقدرُ على شيءٍ نِدًّا لمالكِه القادرِ عليه؟!
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وجعَل في الأرضِ التي خلَق في يومين جبالًا رواسيَ، وهى الثوابتُ في الأرضِ، {مِنْ فَوْقِهَا}. يعني: من فوقِ الأرضِ على ظهرِها.
(1)
في ص: البرية، وفى ت 2، ت 3:"الربة".
(2)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 23، وأخرجه أحمد 14/ 82 (8341)، ومسلم (2789) والنسائي (11010)، وابن حبان (6161) من طريق حجاج.
(3)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(4)
ينظر ما تقدم في 1/ 391.
(5)
تقدم في 1/ 390 - 393.
وقولُه: {وَبَارَكَ فِيهَا} . يقولُ: وبارَك في الأرضِ، فجعَلها دائمةَ الخيرِ لأهلِها.
وقد ذُكِر عن السديِّ في ذلك ما حدَّثنا موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{وَبَارَكَ فِيهَا} . قال: أنبَت شجرَها.
{وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} . اختلَف أهلُ التأويلِ في معنى ذلك؛ فقال بعضُهم: وقدَّر فيها أقواتَ أهلِها، يعنى أرزاقَهم ومعايشَهم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن الحسنِ:{وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} . قال: أرزاقَها
(1)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِ اللهِ: {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} . قال: قدَّر فيها أرزاقَ العبادِ؛ تلك الأقواتُ
(2)
.
حدَّثنا موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} . يقولُ: [أقواتَ أهلِها]
(3)
.
وقال آخرون: بل معناه: وقدَّر فيها ما يُصلِحُها.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليُّ بنُ سهلٍ، قال: ثنا الوليدُ بنُ مسلمٍ، عن خُلَيدِ بن دَعْلَجٍ، عن قتَادةَ قولَه:{وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} . قال: صلاحَها
(4)
.
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 184 عن معمر به.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 155 بنحوه، والطوسى في التبيان 9/ 306.
(3)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"أقواتها لأهلها".
والأثر ذكره القرطبي في تفسيره 15/ 342.
(4)
ذكره الطوسي في التبيان 9/ 106.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وقدَّر فيها جبالَها وأنهارَها وأشجارَها.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} : خلَق فيها جبالَها وأنهارَها وبحارَها وشجرَها، وسكانَها من الدوابِّ كلِّها.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} . قال: جبالَها ودوابَّها وأنهارَها وبحارَها
(1)
.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وقدَّر فيها أقواتَها من المطرِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} . قال: من المطرِ
(2)
.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وقدَّر في كلِّ بلدةٍ منها ما
(3)
لم يجعَلْه في الآخرِ منها؛ ليعيشَ
(4)
بعضُهم من بعضٍ بالتجارةِ من بلدةٍ إلى بلدةٍ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني الحسينُ بنُ محمدٍ الذارعُ، قال: ثنا أبو محصنٍ، قال: ثنا حصينٌ
(5)
،
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 184 عن معمرٍ به.
(2)
تفسير مجاهد ص 585 ومن طريقه الفريابي - كما في تغليق التعليق 4/ 302.
(3)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(4)
في ص، م، ت 1:"لمعاش"، وفى ت 2 ت 3:"يعيش".
(5)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"حصن"، وفى م:"حسين"، وسيأتي على الصواب في الإسناد التالي.
عن عكرمةَ في قولِه: {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} . قال: اليمانيُّ باليمنِ، والسابِريُّ بسابورَ
(1)
. حدَّثني محمدُ بنُ عبدِ اللهِ بن بَزِيعٍ، قال: ثنا أبو محصنٍ، عن حصينٍ، قال: قال عكرمةُ: {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} : اليمانيةُ باليمنِ، والسابريةُ بسابورَ، وأشباهُ هذا.
حدَّثنا أبو كُرَيبٍ، قال: ثنا ابن إدريسَ، قال: سمِعتُ حصينًا، عن عكرمةَ في قولِه:{وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} . قال: في كلِّ أرضٍ قوتٌ لا يصلُحُ في غيرِها؛ اليمانيُّ باليمنِ، والسابريُّ بسابورَ
(2)
.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هشيمٌ، قال: أخبَرنا حصينٌ، عن عكرمةَ في قولِه:{وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} . قال: البلدُ يكونُ فيه القوتُ أو الشيءُ لا يكونُ لغيرِه، ألَا ترى أن السابريَّ إنما يكونُ بسابورَ، وأن العَصْب
(3)
إنما يكونُ باليمنِ، ونحوُ ذلك.
حدَّثني إسماعيلُ بنُ سيفٍ، قال: ثنا عبدُ الواحدِ
(4)
بنُ زيادٍ، عن خُصَيفٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} . قال: السابريُّ بسابورَ، والطيالِسةُ
(5)
من
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 184 من طريق حصين به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 360 إلى سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر. والسابرى: نسبة إلى نوع من الثياب يقال لها: السابرية. وقد ضبطه السمعانى بفتح الموحدة وتعقبه الرضى الشاطبي فقال: الصواب بالكسر. ينظر الأنساب 3/ 194، والتاج (س ب ر).
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 155، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 360 إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم.
(3)
العصب: ضرب من البرود اليمنية يعصب غزله، أي يدرج، ثم يحاك. التاج (ع ص ب).
(4)
في ص، م:"ابن عبد الواحد"، ينظر تهذيب الكمال 18/ 450.
(5)
الطيالسة هي التي تكون فوق العمامة، وهو ما يعرف في العامية المصرية بـ "الشال" وهو فارسي معرب. ينظر الأنساب 4/ 91، والوسيط (ط ل س).
الرَّيِّ
(1)
.
حدَّثني إسماعيلُ، قال: ثنا أبو النضرِ
(2)
صاحبُ البصريِّ، قال: ثنا أبو عَوانة، عن مُطَرِّفٍ، عن الضحاكِ في قولِه:{وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} . قال: السابريُّ بسابورَ، والطِيالسةُ من الرَّيِّ، والحِبَرُ من اليمنِ
(3)
.
قال أبو جعفرٍ: والصوابُ من القولِ في ذلك أن يقالَ: إن الله تعالى ذكرُه أخبرَ أنه قدَّر في الأرضِ أقواتَ أهلِها، وذلك ما يَقوتُهم من الغذاءِ، ويُصلحُهم من المعاشِ، ولم يخصُصْ جلَّ ثناؤُه بقولِه:{وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} . أنه قدَّر فيها قوتًا دونَ قوتٍ، بل عمَّ الخبرَ عن تقديرِه فيها جميعَ الأقواتِ، ومما يقوتُ أهلَها ما لا يُصلحُهم غيرُه من الغذاءِ، وذلك لا يكونُ إلا بالمطرِ والتصرفِ في البلادِ؛ لما خصَّ به بعضًا دونَ بعضٍ، ومما أخرَج من الجبالِ من الجواهرِ، ومن البحرِ من المآكلِ والحليِّ، ولا قولَ في ذلك أصحُّ مما قال جلَّ ثناؤه:{وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} قدَّر في الأرضِ أقواتَ أهلِها. لما وصَفنا من العلةِ.
وقال جلَّ ثناؤُه: {فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} ؛ لما ذكَرنا قبلُ من الخبرِ الذي رُوِّينا عن ابن عباسٍ، عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وأن الله فرَغ من خلقِ الأرضِ وجميعِ أسبابِها ومنافِعها؛ من الأشجارِ والماءِ والمدائنِ والعمرانِ والخرابِ في أربعةِ أيامٍ، أولُهن يومُ الأحدِ، وآخرُهن يومُ الأربِعاءِ
(4)
.
حدَّثني موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ، قال: خلَق الجبالَ فيها وأقواتَ أهلِها وشجرَها وما ينبغِى لها في يومين؛ في الثلاثاءِ والأربِعاءِ
(5)
.
(1)
ذكرُه القرطبي في تفسيره 15/ 343، وابن كثير 7/ 155.
(2)
في ت 2: "النصر".
(3)
ذكره القرطبي في تفسيره 15/ 343. والحبر: نوع من الثياب. ينظر الأنساب 2/ 167.
(4)
تقدم في 382، 383.
(5)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 47 بسنده المعروف.
وقال بعضُ نحويِّى البصرةِ: قال: {خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} . ثم قال: {فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} . لأنه يعنى أن هذا مع الأوّلِ أربعةُ أيامٍ، كما تقولُ: تزوَّجتُ أمسِ امرأةً، واليومَ ثِنتَينِ. وإحداهما التي تزوَّجتَها أمسِ.
وقولُه: {سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} . اختلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِه؛ فقال بعضُهم: تأويلُه: سواءٌ لمَن سأَل عن مبلغِ الأجلِ الذي خلَق اللهُ فيه الأرضَ، وجعَل فيها الرواسيَ من فوقِها والبرَكةَ، وقدَّر فيها الأقواتَ لأهلِها
(1)
، وجَده كما أخبَر اللهُ أربعةَ أيامٍ، لا يزِدْنَ على ذلك ولا يَنقُصْنَ منه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} : مَن سأَل عن ذلك وجَده كما قال اللهُ تعالى.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} . قال: مَن سأَل فهو كما قال اللهُ
(2)
.
حدَّثنا موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} . يقولُ: مَن سأَل فهكذا الأمرُ
(3)
.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: سواءٌ لَمَن سأَل ربَّه شيئًا مما به الحاجةُ إليه من الرزقِ، فإن الله قد قدَّرَ له من الأقواتِ في الأرضِ، على قدرِ مسألةِ كلِّ سائلٍ منهم لو سأَله؛ [لما نفَذ]
(4)
من عليه فيهم قبلَ أن يخلُقَهم.
(1)
في م، ت 3:"بأهلها".
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 184 عن معمرٍ، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 361 إلى عبد بن حميد.
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 155، والبغوى في تفسيره 7/ 165.
(4)
في ص، ت 2:"المناقذ".
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} . قال: قدَّر ذلك على قدرِ مسائلِهم؛ يعلمُ ذلك أنه لا يكونُ من مسائِلهم شيءٌ، إلا شيءٌ قد علِمه قبلَ أن يكونَ.
واختلَفت القرأةُ في قراءةِ ذلك؛ فقرأتْه عامَّةُ قرأةِ الأمصارِ، غيرَ أبي جعفرٍ والحسنِ البصريِّ:{سَوَاءً} بالنصبِ. وقرَأه أبو جعفرٍ القارئُ: (سَوَاءٌ) بالرفعِ. وقرأ الحسنُ (سَوَاءٍ) بالخفضِ
(1)
.
والصوابُ من القراءةِ في ذلك ما عليه قرأةُ الأمصارِ، وذلك قراءتُه بالنصبِ؛ لإجماعِ الحجةِ من القرأةِ عليه، ولصحةِ معناه، وذلك أن معنى الكلامِ: وقدَّر فيها أقواتَها سواءً لسائلِيها، على ما بهم إليه الحاجةُ، وعلى ما يُصلحُهم.
وقد ذُكِر عن ابن مسعودٍ أنه كان يقرَأُ ذلك: (وَقَسَّم فيها أَقْوَاتَها)
(2)
.
وقد اختلَف أهلُ العربيةِ في وجهِ نصبِ {سَوَاءً} ؛ فقال بعضُ نحويِّي البصرةِ: من نصَبه جعَله مصدرًا، كأنه قال: استواءً. قال: وقد قُرِئ بالجرِّ، وجُعِل اسمًا للمستوياتِ، أي: في أربعةِ أيامٍ تامَّةٍ. وقال بعضُ نحويِّى الكوفةِ: مَن خفَض {سَوَاءً} جعَلها من نعتِ الأيامِ، وإن شئتَ من نعتِ الأربعةِ، ومَن نصَبها جعَلها متصلةً بالأقواتِ. قال: وقد تُرفعُ كأنه ابتداءٌ، كأنه قال: ذلك سَوَاءٌ للسائلينَ. يقولُ: لمن أراد علمَه.
والصوابُ من القولِ في ذلك أن يكون نصبُه إذا نُصِب حالًا من الأقواتِ، إذ كانت {سَوَاءً} قد شُبِّهت بالأسماءِ النكرةِ، فقيل: مرَرتُ بقومٍ سواءٍ. فصارت
(1)
قرأ نافع وابن كثير وحمزة والكسائي وأبو عمرو وعاصم وابن عامر وخلف "سواءً". بالنصب، وقرأ أبو جعفر "سواء". بالرفع، وقرأ يعقوب والحسن بالخفض. النشر 2/ 274، والإتحاف ص 235.
(2)
ينظر معاني القرآن للفراء 3/ 12.
تتبعُ النكراتِ، وإذا تبِعت النكراتِ انقطَعت من المعارفِ، فنُصِبت، فقيل: مرَرتُ بإخوتِك سواءً. وقد يجوزُ أن يكونَ إذا لم يدخُلْها تثنيةٌ ولا جمعٌ أن تُشبَّهَ بالمصادرِ. وأما إذا رُفِعت، فإنما تُرفعُ ابتداءً بضميرِ ذلك ونحوِه. وإذا جُرَّت فعلى الإتباعِ للأيامِ، أو للأربعةِ.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11)} .
يعنى تعالى ذكرُه بقولِه: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} : ثم ارتفَع إلى السماءِ. وقد بيَّنا ذلك فيما مضَى قبلُ
(1)
.
[{وَهِيَ دُخَانٌ}. قيل إن ذلك الدخانَ من تنفس الماءِ حين تنفَّس. وقد بينَّا أقوالَ أهلِ العلمِ في ذلك فيما مضى قبلُ]
(2)
.
وقولُه: {فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} . يقولُ جلَّ ثناؤُه: فقال اللهُ للسماءِ والأرضِ: جيئا بما خَلَقْتُ فيكما؛ أمَّا أنتِ يا سماءُ فَأَطْلِعي ما خلَقتُ فيكِ من الشمسِ والقمرِ والنجومِ، وأمَّا أنتِ يا أرضُ فأخرِجى ما خلَقتُ فيكِ من الأشجارِ والثمارِ والنباتِ، وتشقَّقى عن الأنهارِ، {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}: جئنا بما أحْدَثَتَ فينا من خلقِكَ، مستجِيبينَ لأمرِكَ، لا نعصِى أمرَكَ.
كما
(3)
حدَّثنا أبو هشامٍ، قال: ثنا ابن يمانٍ، قال: ثنا سفيانُ، عن ابن جريجٍ، عن سليمانَ بن موسى، عن مجاهدٍ، عن ابن عباسٍ:{فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} . قال: قال اللهُ للسماواتِ: أطلعِي شمسي وقمرى، وأطلعِي نجومي. وقال للأرضِ: شقِّقى أنهارَك، وأخرِجي ثمارَك. فقالتا: أعْطَيْنا
(4)
(1)
ينظر ما تقدم في 1/ 454 - 465.
(2)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3. ينظر ما تقدم في 1/ 462، 463.
(3)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويلِ ذكر من قال ذلك".
(4)
في ت 3: "أتينا".
طائِعين
(1)
.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا ابن عليَّةَ، عن ابن جُرَيجٍ، عن سليمانَ الأحولِ، عن طاوسٍ، عن ابن عباسٍ في قولِه:{ائْتِيَا} : أعطِيَا، وفي قولِه:{قَالَتَا أَتَيْنَا} : قالتا: أعطَينا
(2)
.
وقيل: {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} . ولم يُقَلْ: طائِعتَين. والسماءُ والأرضُ مؤنَّثتان
(3)
؛ لأن النونَ والألفَ اللتين هما كنايةُ أسمائِهما في قولِه: {أَتَيْنَا} . نظيرةُ كنايةِ أسماءِ المخبِرين من الرجالِ عن أنفسِهم، فأُجْرِىَ قولُه:{طَائِعِينَ} على ما جرَى به الخبرُ عن الرجالِ كذلك.
وقد كان بعضُ أهلُ العربيةِ يقولُ: ذهَب به إلى السماواتِ والأرضِ ومَن فيهن.
وقال آخرون منهم: قيل ذلك كذلك؛ لأنهما لما تكلَّمتا أشبَهتا الذكورَ من بني آدمَ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: ففرَغ من خلقِهن سبعَ سماواتٍ في يومين، وذلك يومُ الخميسِ ويومُ الجُمعةِ.
(1)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 26، وأخرجه الحاكم 1/ 27، والبيهقي في الأسماء والصفات (814) من طريق ابن يمان به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 361 إلى ابن المنذر.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم - كما في تغليق التعليق 4/ 300 - من طريق ابن جريج به.
(3)
في ص، ت 1، ت 2:"مؤنثتين".
كما حدَّثني موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ، قال: استوَى إلى السماءِ وهى دخانٌ، من تنفُّسِ
(1)
الماءِ حينَ تنفَّس، فجعَلها سماءً واحدةً، [ثم فتَقَها]
(2)
فجعَلها سبعَ سماواتٍ في يومين؛ في الخميسِ والجمعةِ، وإنما سُمِّيَ يومَ الجُمعةِ؛ لأنه جُمِع فيه خلقُ السماواتِ والأرضِ
(3)
.
وقولُه: {وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا} . يقولُ: وألقَى في كلِّ سماءٍ من السماواتِ السبعِ ما أراد من الخلقِ.
[وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك]
(4)
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا} . قال: ما أمَر به وأرادَه
(5)
.
حدَّثنا موسى، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا} . قال: خلَق في كلِّ سماءً خلْقَها من الملائكةِ والخلقِ الذي فيها؛ من البحارِ وجبالِ البَرَدِ، وما لا يُعلمُ
(6)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه: {وَأَوْحَى فِي كُلِّ
(1)
في ت 1: "متنفس".
(2)
في ص، ت:"ففقها"، وفى م، ت 1، ت 3:"ففتقها".
(3)
ذكره الطوسي في التبيان 9/ 110.
(4)
في الأصل: "كما".
(5)
تفسير مجاهد ص 585، ومن طريقه الفريابي - كما في تغليق التعليق 4/ 302، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 361 إلى عبد بن حميد.
(6)
ذكره القرطبي في تفسيره 15/ 345.
سَمَاءٍ أَمْرَهَا}. قال: خلَق فيها شمسَها وقمرَها ونجومَها وصلاحَها
(1)
.
وقولُه: {وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: وزيَّنا السماءَ الدنيا إليكم أيُّها الناسُ بالكواكبِ، وهى المصابيحُ.
كما
(2)
حدَّثنا، قال: ثنا عمرٌو، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ {وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} قال: ثم زيَّن السماءَ الدنيا
(3)
بالكواكبِ، فجعَلها زينةً، {وَحِفْظًا} من الشياطينِ.
واختلَف أهلُ العربيةِ في وجهِ نصبِ قولِه: {وَحِفْظًا} ؛ فقال بعضُ نحويِّى البصرةِ: نُصِب بمعنى: وحفِظناها حِفْظًا، كأنه قال: ونحفظُها حفظًا. لأنه حينَ قال: زيَّنَّاها بمصابيحَ. قد أخبرَ أنه قد نظَر في أمرِها وتعهَّدها، فهذا يدلُّ على الحفظِ، كأنه قال: وحفظِناها حفظًا. وكان بعضُ نحويِّى الكوفةِ
(4)
يقولُ: نُصِب ذلك على معنى: وحفظًا زيَّنَّاها؛ لأن الواوَ لو سقَطَت لكان: إنا زيَّنَّا السماءَ الدنيا حفظًا. وهذا القولُ الثاني أقربُ عندَنا إلى الصحةِ من الأولِ.
وقد بيَّنا العلةَ في نظيرِ ذلك في غيرِ موضعٍ من هذا الكتابِ، فأغنَى ذلك عن إعادتِه.
وقولُه: {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} . يقولُ تعالى ذكرُه: هذا الذي وصَفتُ لكم من خَلْقىَ السماءَ والأرضَ وما فيهما، وتزيينيَ السماءَ الدنيا بزينةِ الكواكبِ، على ما بيَّنتُ
(5)
- تقديرُ العزيزِ في نقمتِه من أعدائِه، العليمِ بسرائرِ عبادِه وعلانيتِهم، وتدبيرِهم على ما فيه صلاحُهم.
(1)
أخرجه المصنف في تاريخه 1/ 26، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 361 إلى عبد بن حميد.
(2)
بعده في ت 2، ت 3:"حدَّثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال ثنا سعيد، عن قتادة".
(3)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(4)
في ت 1: "البصرة".
(5)
ينظر ما تقدم في 19/ 497، 498.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: فإن أعرَض هؤلاء المشركون عن هذه الحُججِ
(1)
التي بيَّنتَها لهم يا محمدُ، ونبَّهتَهم عليها، فلم يؤمِنوا بها، ولم يقِرُّوا أن فاعلَ ذلك هو اللهُ الذي لا إلهَ غيرُه، فقل لهم: أنْذَرتُكم أيُّها الناسُ صاعقةً تهلكُكم، مثلَ صاعقةِ عادٍ وثمودَ.
وقد بيَّنا فيما مضَى أن معنى الصاعقةِ
(2)
كلُّ ما أفسَد الشيءَ وغيَّرَه عن هيئتِه.
وقيل: في هذا الموضع غنى بها وقيعةٌ
(3)
من اللهِ وعذابٌ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ في قولِه:{صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} . قال: يقولُ: أَنذَرْتُكم وقيعةٌ مثلَ وقيعةِ عادٍ وثمودَ
(4)
.
[حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ: {صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ}]
(5)
. قال: عذابٌ مثلُ عذابِ عادٍ وثمودَ
(6)
.
وقولُه: {إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ} . يقولُ: فقل: أنذَرْتُكم صاعقةً مثلَ صاعقةِ عادٍ وثمودَ التي أهلكَتهم، إذ جاءت عادًا وثمودَ الرسلُ مِن بين أيديهم. فقولُه:{إِذْ} من صلةِ: {صَاعِقَةِ} ، وعُنِى بقولِه:{مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ}
(1)
في م: "الحجة".
(2)
ينظر ما تقدم في 1/ 690، 691.
(3)
في الأصل، ص، ت 1، ت 2، ت 3:"وقعة".
(4)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 184 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 362 إلى عبد بن حميد.
(5)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:
(6)
ذكره الطوسى في التبيان 9/ 111.
الرسلُ التي أَتَتْ إلى
(1)
الذين هلَكوا بالصاعقةِ من هاتين الأمَّتين، وعُنِى بقولِه:{وَمِنْ خَلْفِهِمْ} : من خلفِ الرسلِ الذين بُعِثوا إلى آبائِهم رسلًا إليهم، وذلك أن اللَّهَ بعث إلى عادٍ هودًا، فكذَّبوه من بعدِ رسلٍ [كانت قد جاءت آباءَهم فأهلكهم اللهُ ثم بعث صالحًا إلى ثمودَ من بعد رسلٍ]
(2)
قد كانت تقدَّمَتْه إلى آبائِهم أيضًا، فكذبوهم
(3)
فأُهلِكوا.
[وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك]
(4)
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:{فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ} قال: الرسلُ التي كانت قبلَ هودٍ، والرسلُ الذين كانوا بعدَه، بعَث اللَّهُ قبلَه رسلًا، وبعَث من بعدِه رسلًا.
وقولُه: هو {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} . يقولُ تعالى ذكره: جاءتهم الرسلُ بألَّا تعبُدوا إلا اللَّهَ وحدَه لا شريكَ له، {قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لأَنْزَلَ مَلَائِكَةً}. يقولُ جلَّ ثناؤُه: فقالوا لرسلِهم إذ دعَوهم إلى الإقرارِ بتوحيدِ اللَّهِ: لو شاء ربُّنا أن نوحِّدَه، ولا نعبُدَ من دونِه شيئًا غيرَه
(5)
، لأنزَل إلينا ملائكةً من السماءِ، رسلًا بما تدعوننا أنتم إليه، ولم يرسِلْكم وأنتم بشرٌ مثلُنا، ولكنه رضِى عبادتَنا ما نعبُدُ؛ فلذلك لم يرسِلْ إلينا بالنهى عن ذلك ملائكةً.
(1)
في ص، م، ت 2 "آباء"، وفي ت 3:"أما".
(2)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(3)
في ص، ت 1، ت 2:"فكذبوه".
(4)
في الأصل: "كما".
(5)
ليس في: الأصل.
وقوله: {فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} . يقول: قالوا لرسلهم: فإنا بالذي أرسَلَكم به ربُّكم إلينا جاحدون غير مصدِّقين به.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15)} .
يقولُ تعالى ذكره: {فَأَمَّا عَادٌ} قومُ هودٍ، {فَاسْتَكْبَرُوا} على ربِّهم، وتجبَّروا {فِي الْأَرْضِ} تكبُّرًا وعُتُوًّا بغيرِ ما أذِن اللَّهُ لهم به، وقالوا: مَنْ أشدُّ منَّا [بطشًا وأقوى أجسامًا. يقولُ اللهُ جلَّ ثناؤه]
(1)
: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ} ، وأعطاهم ما أعطاهم من عظَمِ الخلق وشدَّةِ البطشِ، {هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} به فيحذَروا عقابَه، ويتَّقُوا سطوتَه بهم
(2)
، لكفرِهم به، وتكذيبهم رسلَه، {وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ}. يقولُ: وكانوا بأدلتنا وحججِنا عليهم يجحَدون.
القولُ في تأويلِ قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: فأرسَلنا على عادٍ ريحًا صرصرًا.
واختلَف أهلُ التأويلِ في معنى الصرصرِ؛ فقال بعضُهم: عُنِى بذلك أنها ريحٌ شديدةٌ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى
(3)
، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{رِيحًا صَرْصَرًا} . قال: شديدةً.
(1)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"قوة".
(2)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(3)
بعده في ت:1: "وحدثني الحارث".
حدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{رِيحًا صَرْصَرًا} : شديدةَ السمومِ عليهم
(1)
.
وقال آخرون: بل عُنِى بها أنها باردةٌ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا} . قال: الصرصر: الباردةُ.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ في قولِه:{رِيحًا صَرْصَرًا} . قال: باردةً
(2)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسين، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{رِيحًا صَرْصَرًا} . قال: باردةً ذاتَ الصوت
(3)
.
حُدِّثتُ عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: ثنا عبيدٌ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {رِيحًا صَرْصَرًا} . يقولُ: ريحٌ فيها بردٌ شديدٌ.
قال أبو جعفرٍ: وأولى القولين في ذلك بالصوابِ قولُ مجاهدٍ؛ وذلك أن قولَه: {صَرْصَرًا} . إنما هو صوتُ الريحِ إذا هبَّت بشدةٍ، فسُمِع لها
(4)
، كقولِ قائلٍ:"صرَّر"
(5)
. ثم جُعِل ذلك من أجلِ التضعيفِ الذي في الراءِ، فقال: ثم أُبدِلت إحدى الراءاتِ صادًا لكثرةِ الراءاتِ، كما قيل في ردَّده: ردْرَده. وفي نهَّهه
(6)
:
(1)
تفسير مجاهد ص 585 وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 362 إلى عبد بن حميد.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 184 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 362 إلى عبد بن حميد.
(3)
ذكره الطوسى في التبيان 9/ 113، والقرطبي في تفسيره 15/ 347 بنحوه.
(4)
بعده في ت 1: "صوت".
(5)
في الأصل: "صر"، وفى ص، ت 1، ت 2:"صريم"، ينظر التاج (ص ر ر).
(6)
في ت:1 "نهنهه". والنهنهة: الكفُّ والمنع. اللسان (نهنه).
نهنهه. كما قال رؤبة
(1)
:
فَالْيَوْمَ قَدْ نَهْنَهَنِي تَنَهْنُهى
وأَوْلُ حِلْمٍ لَيْسَ بالمُسَفَّهِ
وكما قيل في كفَّفَه: كفْكَفه. كما قال النابغةُ
(2)
:
أُكَفْكِفُ عَبْرَةً غَلَبَتْ عَزَائي
(3)
…
إِذا نَهْنَهْتُها عادَتْ ذُباحا
(4)
وقد قيل: إن النهَرَ الذي يُسمَّى صَرْصرًا، إنما سُمِّي بذلك لصوتِ الماءِ الجارِى فيه، وإنه "فعلل" مِن "صرَّر"[نظيرُ الريحِ الصرصرِ]
(5)
.
وقولُه: {فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ} . اختلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِ النَّجِسات؛ فقال بعضُهم: غُنِى بها: المتتابِعاتُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ} . قال: أيامٍ متتابِعاتٍ، أَنزَلَ اللَّهُ فيهنَّ
(6)
العذابَ.
وقال آخرون: عُنِى بذلك: المشائيمُ
(7)
.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني
(1)
تقدم في 6/ 177، 178.
(2)
ديوانه ص 250.
(3)
في ص، م:"عُداتى".
(4)
الذُّباج: القتل. وأخذوهم بالذباح، أي ذبحوهم. اللسان (ذ ب ح).
(5)
سقط من: ت 2 ت 3.
(6)
في ص، ت،2 ت:"فيه"، وفى ت 1:"فيها".
(7)
في ص، ت،2، ت 3:"المشائم".
الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ} . قال: مشائيمَ
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدُ، عن قتادةَ:{فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ} : أيامٍ واللَّهِ كانت مشئوماتٍ على القومِ.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ، قال: النحِساتُ: المشئوماتُ النَّكِداتُ
(2)
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المفضلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ} . قال: أيام مشئوماتٍ عليهم
(3)
.
وقال آخرون: معنى ذلك: أيامٍ ذاتِ شرٍّ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ} . قال: النَّحْسُ: الشرُّ، أرسل عليهم ريحَ شرٍّ، ليسَ فيها من الخيرِ شيءٌ.
وقال آخرون: النَّحِساتُ: الشِّدادُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حُدِّثتُ عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذٍ يقولُ: ثنا عبيدٌ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ} . قال: شِدادٍ
(4)
.
(1)
تفسير مجاهد ص 585، ومن طريقه الفريابي - كما في تغليق التعليق 4/ 302.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 184 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 362 إلى عبد بن حميد.
(3)
ذكره الطوسي في التبيان 9/ 113.
(4)
ذكره القرطبي في تفسيره 15/ 348.
وأولى الأقوالِ في ذلك بالصوابِ قولُ مَن قال: عُنِى بها أنها
(1)
مشائيمُ ذاتُ نحوسٍ؛ لأن ذلك هو المعروفُ من معنى النحسِ في كلامِ العربِ.
وقد اختلَفت القرأةُ في قراءةِ ذلك؛ فقرأته عامَّة قرأةِ الأمصارِ، غيرَ نافعٍ وأبى عمرٍو:{فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ} بكسرِ الحاءِ. وقرَأه نافعٌ وأبو عمرٍو: (نَحْساتٍ) بسكونِ الحاء. وكان أبو عمرٍو، فيما ذُكر لنا عنه، يحتجُّ لتسكينهِ الحاءَ بقولِه:{يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ} [القمر: 19]. وأن الحاءَ فيه ساكنةٌ
(2)
.
والصوابُ من القولِ في ذلك أن يقالَ: إنهما قراءتان مشهورتان، قد قرَأ بكلِّ واحدةٍ منهما علماءُ من القرأةِ مع اتفاقِ معنيَيهما، وذلك أن تحريكَ الحاءِ وتسكينَها في ذلك لغتانِ معروفَتانِ، يقالُ: هذا يوم نحِسٌ، ويومٌ نَحْسٌ. بكسرِ الحاءِ وسكونِها، قال الفرَّاءُ: أنشَدني بعضُ العربِ:
أبْلِغْ جُذَامًا وَلَخْمًا أنَّ إخْوَتَهُمْ
…
طَيًّا وبَهْرَاءَ قَوْمٌ نَصْرُهُمْ نَحِسُ
(3)
وأما من السكون فقولُ اللَّهِ: {يَوْمِ نَحْسٍ} ، ومنه قولُ الراجزِ:
يَوْمَيْنِ غَيْمَيْنِ وَيَوْمًا شَمْسًا
نَجْمَيْنِ بالسَّعْدِ ونَجْمًا نَحْسا
فمن كان من
(4)
لغتِه: يوْمُ نَحْسٌ. قال: (فِي أيامٍ نَحْساتٍ). ومن كان من
(4)
لغتِهِ: يَوْمٌ نَحِسٌ قال: {فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ} . وقد قال بعضُهم: النحِسَ بسكونِ الحاءِ: هو الشؤمُ نفسه، وإن إضافةَ اليومِ إلى النحْسِ، إنما هو إضافةٌ إلى الشؤمِ، وأن النحِسَ بكسرِ الحاءِ نعتٌ لليومِ بأنه مشئومٌ؛ ولذلك قيل:{فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ} ؛ لأنها أيامٌ مشائيمُ.
(1)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"أيام".
(2)
ينظر حجة القراءات ص 635.
(3)
معاني القرآن للفراء 3/ 14.
(4)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"في".
وقوله تعالى ذكرُه: {لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} . [يقولُ تعالى ذكرُه لننالَهم بهوانٍ في حياتِهم الدنيا بما نزَل بهم من العذابِ، {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى}]
(1)
. يقولُ جلَّ ثناؤُه: ولَعذابُنا إياهم في الآخرةِ أخزَى لهم وأشدُّ إهانةً وإذلالًا، {وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ}. يقولُ: وهم، يعنى عادًا، لا ينصرُهم من اللَّهِ يومَ القيامةِ إذا عذَّبهم ناصرٌ، فينقِذَهم منه، أو ينتصرَ لهم.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: [وأمَّا ثمود]
(1)
فبينا لهم سبيلَ الحقِّ وطريقَ الرشدِ.
كما حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} . يقولُ: بيَّنا لهم
(2)
.
[حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ}. أي: بيَّنا لهم سبيلَ الخيرِ والشرِّ]
(3)
.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} : بيَّنا لهم
(4)
.
حدَّثني يونس، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه:
(1)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(2)
بعده في ت 2 ت 3: "سبيل الخير والشر". والأثر أخرجه ابن أبي حاتم - كما في الإتقان 2/ 42 من طريق أبي صالح به - وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 362 إلى ابن المنذر.
(3)
سقط من ت 2، ت 3. والأثر ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 158، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 362 إلى عبد بن حميد.
(4)
ذكره الطوسي في التبيان 9/ 114، وابن كثير في تفسيره 7/ 158.
{وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} . قال: أعلَمْناهم الهدى والضلالة، ونهيناهم أن يتَّبعوا الضلالةَ، وأمرناهم أن يتَّبِعوا الهدى.
وقد اختلَفت القرأةُ في قراءةِ قوله: {ثَمُودُ} ؛ فقرَأته عامةُ قرأةِ الأمصارِ غيرَ الأعمشِ وعبد اللَّهِ بن أبي إسحاقَ برفعِ "ثمودُ"، وتركِ إجرائِها، على أنها اسمٌ للأمةِ التي تُعرَفُ بذلك. وأما الأعمشُ فإنه ذُكِر عنه أنه كان يُجرِى ذلك في القرآنِ كلِّه إلا في قولِه:{وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً} [الإسراء: 59]. فإنه كان لا يُجريه في هذا الموضعِ خاصةً من أجلِ أنه في خطِّ المصحفِ في هذا الموضعِ بغيرِ ألفٍ، وكان يوجهُ "ثمودَ" إلى أنه اسمُ رجلٍ بعينِه معروفٍ، أو اسمُ جبلٍ
(1)
معروفٍ. وأما ابن إسحاقَ فإنه كان يقرؤُه: (وأما ثمود) نصبًا بغيرِ إجراءٍ
(2)
.
وذلك وإن كان له في العربية وجهٌ
(3)
، فإن أفصحَ منه وأصحَّ في الإعرابِ عندَ أهلِ العربيةِ الرفعُ؛ لطلبِ "أمّا" الأسماءَ، وأن الأفعالَ لا تليها، وإنما تُعمِلُ العربُ الأفعالَ التي بعدَ الأسماءِ فيها إذا حسُن تقديمُها قبلَها، والفعلُ في "أمَّا" لا يحسُنُ تقديمهُ قبلَ الاسمِ، ألا ترَى أنه لا يقالُ: وأما هدَينا فثمودَ. كما يقالُ: (وأمَّا ثَمُودَ فَهَديْناهُمْ).
والصوابُ من القراءةِ في ذلك عندنا الرفعُ وتركُ الإجراءِ، أما الرفعُ فلِما وصَفتُ، وأما تركُ الإجراءِ فلأنه اسمُ الأمةِ
(4)
.
وقولُه: {فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} . يقولُ: فاختاروا العمَى على البيانِ الذي بيَّنتُ لهم، والهدى الذي عرَّفتُهم، بأخذِهم طريقَ الضلالِ {عَلَى الْهُدَى} .
يعنى: على البيانِ الذي بيَّنْتُه
(5)
لهم، من توحيدِ اللَّهِ.
(1)
في ص، م، ت 2، ت 3:"جيل".
(2)
ينظر مختصر الشواذ ص 134، والإتحاف ص 235.
(3)
بعده في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"معروف".
(4)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3 "للأمة".
(5)
في الأصل: "بينه".
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} . قال: اختارُوا الضلالةَ والعمَى على الهدى.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} .
قال: أرسَل اللَّهُ إليهم الرسلَ بالهدى، فاستحَبُّوا العمَى على الهدى.
حَّدثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمر، عن قتادةَ:{فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى} . يقولُ: بيَّنا لهم، فاستحبُّوا العمَى على الهدى
(1)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} . قال: استحبُّوا الضلالةَ على الهدى. وقرَأ: {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} . إلى آخر الآية [الأنعام: 108]. قال: فزُيِّن لثمودَ عملُها القبيحُ. وقرَأ: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ} إلى آخرِ الآيةِ [فاطر: 8].
وقولُه: {فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} . يقولُ: فأهَلَكتهم من العذابِ المذلِّ المهينِ لهم مُهْلكةٌ أَذلَّتْهم وأَخْزَتْهم. والهُونُ: هو الهوانُ.
كما حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 184، 185 عن معمر به.
{الْعَذَابِ الْهُونِ} . قال: الهوانُ
(1)
.
وقولُه: {بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} : من الآثامِ بكفرِهم باللَّهِ قبلَ ذلك، وخلافِهم إياه، وتكذيبِهم رسلَه.
وقولُه: {وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا} . يقولُ: ونجَّينا
(2)
من العذابِ الذي أخَذهم بكفرِهم باللَّهِ الذين وحَّدوا اللَّهَ، وصدَّقوا رسلَه {وَكَانُوا يَتَّقُونَ} يقولُ: وكانوا يخافون اللَّهَ أن يُحِلُّ بهم من العقوبةِ على كفرِهم لو كفَروا، ما حلَّ بالذين هلَكوا منهم، فآمَنوا اتِّقاءَ اللَّهِ وخوفَ وعيدِه، وصدَّقوا رسلَه، وخلَعوا الآلهةَ والأندادَ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: ويومَ يُجْمَعُ هؤلاء المشرِكون، {أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ}: إلى نارِ جهنمَ، فهم يُحْبَسُ أَوَّلُهم على آخرِهم.
كما حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{فَهُمْ يُوزَعُونَ} . قال: يُحبسُ أوَّلُهم على آخرِهم
(3)
.
حدثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{فَهُمْ يُوزَعُونَ} . قال: عليهم وَزَعَةٌ تردُّ أُولاهم على أُخراهم
(4)
.
(1)
ذكره الطوسى في التبيان 9/ 114.
(2)
بعده في م، ت 1:"الذين آمنوا".
(3)
ذكره القرطبي في تفسيره 15/ 350، وابن حجر في الفتح 8/ 560، والبغوي في تفسيره 7/ 169.
(4)
تقدم تخريجه في 18/ 130.
وقولُه: {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ} . يقولُ: حتى إذا ما جاءوا النارَ، شهِد عليهم سمعُهم بما كانوا يُصغُون به في الدنيا إليه ويستمِعون له، وأبصارُهم بما كانوا يُبصِرون به، وينظُرون إليه في الدنيا، {وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .
وقد قيل: عُنِى بالجلودِ في هذا الموضعِ الفروجُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا يعقوبُ القُمِّيُّ، عن الحَكَمِ الثقفيِّ، عن
(1)
رجلٍ من آلِ أبى عَقِيلٍ رَفَع الحديثَ: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا} : إنما عَنَى فروجَهم، ولكن كنَّى عنها.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: ثنا حرملةُ، أنه سمِع عبيدَ اللَّهِ بنَ أبى جعفرٍ يقولُ:{حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ} . قال: جلودُهم: الفروجُ
(2)
.
وهذا القولُ الذي ذكَرنا عمن ذكَرنا عنه في معنى الجلودِ، وإن كان معنًى يحتمِلُه التأويلُ، فليس بالأغلبِ على معنى الجلودِ، ولا بالأشهَرِ، وغيرُ جائزٍ نقلُ معنى ذلك المعروفِ على [ألسنِ العربِ]
(3)
إلى غيرِه، إلا بحجةٍ يجبُ التسليمُ لها.
(1)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(2)
ذكره القرطبي في تفسيره 15/ 350.
(3)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"الشيء الأقرب".
يقولُ تعالى ذكرُه: وقال هؤلاء الذين يُحشَرون إلى النارِ من أعداءِ اللَّهِ سبحانه وتعالى لجلودِهم، إذ شهِدت عليهم بما كانوا في الدنيا يعمَلون من معاصى اللهِ
(1)
: {لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا} بما كنا نعملُ في الدنيا؟ فأجابتهم جلودُهم: {أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} فنطَقنا. وذُكِر أن هذه الجوارحَ تشهدُ على أهلِها عندَ استشهادِ اللَّهِ إيَّاها
(2)
عليهم، إذا هم أنكَروا الأفعالَ التي كانوا فعَلوها في الدنيا مما
(3)
يُسخط اللَّهَ، وبذلك جاء الخبرُ عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
ذكرُ الأخبارِ التي رُوِيت بذلك عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
-
حدَّثنا أحمدُ بنُ حازمٍ الغفاريُّ، قال: أخبَرنا عليُّ بنُ قادمٍ الخُزاعيُّ
(4)
، قال: أخبَرنا شريكٌ، عن عبيدٍ المُكْتِبِ، عن الشعبيِّ، عن أنسٍ، قال: ضحِك رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذاتَ يومٍ حتى بدَتْ نواجذُه، ثم قال:"ألا تسألُونى مِمَّ ضحِكتُ؟ ". قالوا: ممَّ ضحِكتَ يا رسولَ اللَّهِ؟ قال: "عجِبتُ من مجادلةِ العبد ربَّه تعالى ذكره يومَ القيامةِ". قال: "يقولُ: يا ربِّ، أليسَ وعَدْتَنى أن لا تظلِمَني؟ ". قال: فإِنَّ لك ذلك. قال: فإنى لا أقبلُ عَلى شاهدًا إلا من نفسى. قال: أوَ ليس كفَى بى شهيدًا، وبالملائكةِ الكرامِ الكاتِبين؟ ". قال:"فيُختَمُ على فِيهِ، وتتكلَّمُ أركانُه بما كان يعملُ". قال: "فيقولُ لهن: بُعْدًا لَكُنَّ وسُحْقًا، عنكُنَّ كنتُ أجادِلُ"
(5)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا مهرانُ، عن سفيانَ، عن عبيدٍ المُكْتِبِ، عن
(1)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(2)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"إياهم".
(3)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"بما".
(4)
في النسخ: "الفزارى"، والمثبت من مصادر ترجمته وينظر تهذيب الكمال 21/ 106، وتاريخ الإسلام (حوادث) ووفيات 211 - 220) ص 313.
(5)
أخرجه أبو يعلى (3975)، والحاكم 4/ 601 من طريق على بن قادم به.
فضيلِ
(1)
بن عمرٍو، عن الشعبيِّ، عن أنسٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم بنحوِه
(2)
.
حدَّثني عباسُ بنُ أبى طالبٍ، قال: ثنا يحيى بنُ أبى بكيرٍ
(3)
، عن شبلٍ، قال: سمِعت أبا قَزَعةَ يحدِّثُ عمرَو بنَ دينارٍ، عن حكيمٍ بن معاويةَ، عن أبيه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال، وأشار بيدِه إلى الشامِ، قال: "هاهُنا إلى هاهُنا تُحْشَرون رُكبانًا ومشاةً على وجوهِكم يومَ القيامةِ، على أفواهِكم الفِدامُ
(4)
، تُوَفُّون سبعين
(5)
أُمةً أنتم آخِرُها وأكرمُها على اللَّهِ، وإن أولَ ما يُعْرِبُ من أحدِكم فَخِذُه"
(6)
.
حدَّثنا مجاهدُ بنُ موسى، قال: ثنا يزيدُ، قال: أخبرَنا الجُرَيريُّ، عن حكيمِ بن معاويةَ، عن أبيه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: "تجيئون يومَ القيامةِ على أفواهِكم الفِدامُ، وإنَّ أولَ ما يتكلَّمُ من الآدميِّ
(7)
فَخِذه وكَفُّه"
(8)
.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا ابن عُليَّةَ، عن بَهْزِ بن حكيمٍ، عن أبيه، عن جدِّه، قال: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "ما لي أُمسِكُ بحُجَزِكم من النارِ؟ ألا إن ربى
(1)
في ت 2، ت 3:"فضل".
(2)
أخرجه مسلم (2969)، والنسائى (11653 - كبرى)، وأبو يعلى (3977)، وابن أبي حاتم في تفسيره 8/ 2559، والبيهقى في الأسماء والصفات (467) من طريق سفيان.
(3)
في ص، م، ت:1 "بكر"، وينظر تهذيب الكمال 31/ 245، والجرح والتعديل 6/ 215.
(4)
في ت 1: "القدام"، والفدام: ما يشد على فم الإبريق والكوز من خرقة لتصفية الشراب الذي فيه: أي أنهم يمنعون من الكلام بأفواههم حتى تتكلم جوارحهم، فشبه ذلك بالفدام. النهاية 3/ 421.
(5)
في ت 2: "سبعون".
(6)
أخرجه أحمد 4/ 446، 447 (الميمنية)، والنسائى (11431 - (كبرى) والطبراني (1038) من طريق يحيى بن أبى بكير به مطولا، وهو جزء من حديث طويل. وأخرجه الحاكم 2/ 440، 4/ 565 من طريق أبى قزعة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 362 إلى ابن المنذر.
(7)
في الأصل، ص، ت 2، ت 3:"الآدميين".
(8)
أخرجه أحمد 5/ 3 (الميمنية)، والطبراني (1031)، والحاكم 2/ 439، 440 من طريق يزيد به.
داعيَّ، وإنه سائلى: هل بَلَّغتُ عبادَه؟ وإنى قائلٌ: رَبِّ قد بَلْغتُهم، فَيُبَلِّغُ شَاهِدُكم غائِبَكم، ثم إنكم مَدْعوُّون
(1)
مُفَدَّمةً أفواهُكم بالفِدامِ، ثم إن أولَ ما يُبِينُ عن أحدِكم لَفَخِذه وكَفُّه"
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ خلفٍ، قال: ثنا الهيثمُ بنُ خارجةَ، عن إسماعيلَ بن عياشٍ، عن ضمضمِ بن زُرْعةَ، عن شريحِ بن عبيدٍ، عن عقبةَ، سمِع النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقولُ:"إن أولَ عَظْمٍ يتكلَّمُ من الإنسانِ يومَ يُختمُ على الأفواهِ، فَخِذُه من الرِّجُلِ الشِّمالِ"
(3)
.
وقولُه: {وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} . يقولُ تعالى ذكرُه: واللَّهُ خلَقكم الخلقَ الأوَّلَ ولم تكونوا شيئًا، {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}. يقولُ: وإليه مصيرُكم من بعدِ مماتِكم.
{وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ} في الدنيا {أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ} يومَ القيامةِ {سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ} .
واخْتلَف أهلُ التأويلِ في معنى قولِه: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ} ؛ فقال بعضُهم: معناه: وما كنتم تَسْتَخْفُون.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المفضَّلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّديِّ:{وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ} . أي: تَسْتَخْفُون منها
(4)
.
(1)
في ص، م، ت 2، ت 3:"مدعون".
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 185 من طريق بهز بن حكيم به.
(3)
ينظر ما تقدم في 19/ 474.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 322 إلى المصنف، وذكره الطوسى في التبيان 9/ 116.
وقال آخرون: معناه: وما كنتم تتَّقون.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ} . قال: تتَّقون
(1)
.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وما كنتم تظنُّون.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ} . يقولُ: وما كنتم تظنُّون {أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُ} حتى بلَغ: {كَثِيرًا مِمَّا
(2)
تَعْمَلُونَ}. واللَّهِ إن عليك يا بنَ آدمَ لشهودًا
(3)
غير مُتَّهمةٍ من بدنِك، فراقِبْهم، واتقِ اللَّهِ في سرِّ أمرِك وعلانيتِك، فإنه لا يخفَى عليه خافيةٌ، الظلمةُ عنده ضوءٌ، والسرُّ عندَه علانيةٌ، فمن استطاع أن يموتَ وهو باللَّهِ حسَنُ الظنِّ فليفعَلْ، ولا قوةَ إلا باللَّهِ
(4)
.
قال أبو جعفرٍ: وأولى الأقوالِ في ذلك بالصوابِ قولُ من قال: معنى ذلك: وما كنتم تَسْتَخفُون، فتترُكوا ركوبَ محارمِ اللَّهِ في الدنيا، حَذارَ
(5)
أن يشهَدَ عليكم
(1)
تفسير مجاهد ص 585.
(2)
بعده في الأصل: "كنتم".
(3)
في ص، ت 1، ت،2، ت 3:"لشهود".
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 8/ 2558، 2559 من طريق يزيد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 362 إلى عبد بن حميد.
(5)
في م: "حذرا".
سمعُكم وأبصارُكم اليومَ.
وإنما قلنا ذلك أولى الأقوالِ في تأويلِ ذلك بالصوابِ؛ لأن المعروفَ من معاني الاستتارِ
(1)
الاستخفاءُ.
فإن قال قائلٌ: وكيف يستخفِى الإنسانُ عن نفسِه بما
(2)
يأتى؟ قيل: قد بيَّنا أن معنى ذلك إنما هو ألَّا يأتى الذنبَ
(3)
، وفى تركِه إتيانَه إخفاؤُه عن نفسِه.
وقولُه: {وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22)} . يقولُ جلَّ ثناؤُه: ولكن حسِبتم حينَ ركِبتم في الدنيا ما ركِبتم من معاصى اللَّهِ، أَن اللَّهَ لا يعلَمُ كثيرًا مما تعمَلون من أعمالِكم الخبيثةِ؛ فلذلك لم تَسْتَتِروا أن يشهَدَ عليكم سمعُكم وأبصارُكم وجلودُكم، فتتركوا ركوبَ ما حرَّم اللَّهُ عليكم.
وذُكِر أن هذه الآيةَ نزَلت من أجلِ نفرٍ تَدَارءُوا بينَهم في علمِ اللَّهِ، بما يقولونه ويتكلَّمون به سرًّا.
ذكرُ الخبرِ بذلك
حدَّثني محمدُ بن يحيى القُطَعيُّ، قال: ثنا أبو داودَ، قال: ثنا قيسٌ، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ، عن أبي معمرٍ الأزديِّ، عن عبدِ اللَّهِ بن مسعودٍ، قال: كنتُ مستتِرًا بأستارِ الكعبةِ، فدخَل ثلاثةُ نفرٍ، ثَقَفِيَّان وقُرشيٌّ، أو قُرَشِيَّان وثَقَفيٌّ، كثيرٌ شحومُ بطونِهما، قليلٌ فقهُ قلوبِهما، فتكلَّموا بكلامٍ لم أفهَمْه، فقال أحدُهم: أتُرَون أن اللَّهَ يسمعُ ما نقولُ؟ فقال الرجلانِ: إذا رفَعنا أصواتَنا سمِع، وإذا لم نرفَعْ أصواتَنا
(4)
لم يسمَعْ. فأتَيْتُ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فذكَرْتُ له ذلك، فنزَلت هذه الآيةُ:
(1)
في ت:2 "الاستار" وفي ت 3: "الاستغفار".
(2)
في ص، ت 1، ت 2، 3:"مما".
(3)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"الأمانى".
(4)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
{وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ} الآية
(1)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا يحيى بنُ سعيدٍ، قال: ثنا سفيانُ، قال: ثنى الأعمشُ، عن عُمارةَ بن عميرٍ، عن وهبِ بن ربيعةَ، عن عبدِ اللَّهِ بن مسعودٍ، قال: إنى لمستتِرٌ بأستارِ الكعبةِ، إذ دخَل ثلاثةُ نفرٍ؛ ثقفيٌّ وخِتناه قُرَشِيَّان، قليلٌ فقهُ قلوبِهما، كثيرةٌ شحومُ بطونِهما، فتحدَّثوا بينَهم بحديثٍ، فقال أحدُهم: أتَرى اللَّهَ يسمعُ ما قلنا؟ فقال الآخرُ: إنه يسمعُ إذا رفَعنا، ولا يسمعُ إذا خفَضنا. وقال الآخرُ إن كان يسمعُ منه شيئًا فإنه يسمعه كلَّه، قال: فأتَيتُ رسولَ اللَّهَ صلى الله عليه وسلم، فذكَرتُ ذلك له، فنزَلت هذه الآيةُ:{وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ} ، فقرأ حتى بلَغ:{وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ}
(2)
.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا يحيى، قال: ثنا سفيانُ، قال: ثنى منصورٌ، عن مجاهدٍ، عن أبي معمرٍ، عن عبدِ اللَّهِ بنحوِه
(3)
.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)} .
يقولُ تعالى ذكره: وهذا الذي كان منكم في الدنيا، من ظنِّكم أن اللَّهَ لا يعلمُ كثيرًا مما تعمَلون من قبائحٍ أعمالِكم ومساوئِها - هو ظنُّكم الذي ظَننتم بربِّكم في
(1)
أخرجه الطيالسي (361)، والطبراني (10139) من طريق قيس به.
(2)
أخرجه مسلم (2775)، وأبو يعلى (5245) من طريق يحيى بن سعيد به، وتفسير سفيان ص 265، ومن طريقه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 185، وأحمد 7/ 265، 272 (4221، 4238)، والترمذي عقب (3249)، والطحاوى في المشكل (129)، والطبراني في الكبير (10132).
(3)
أخرجه النسائي (11468 - كبرى عن محمد بن بشار به، وأخرجه أحمد 7/ 272، 273 (4238)، والبخارى (4817)، ومسلم (2775) / 5، وأبو يعلى (5246)، والطحاوى في المشكل (130) من طريق يحيي به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 362 إلى سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه.
الدنيا، {أَرْدَاكُمْ}. يعنى: أهلَككم. يقالُ منه: أردَى فلانًا كذا وكذا. إذا أهلَكه، ورَدِيَ هو: إذا هلَك
(1)
فهو يردَى رَدًى، ومنه قولُ الأعشى
(2)
:
أفى الطَّوفِ خِفتِ عليَّ الرَّدَى
…
وكم من ردٍ أهلَه لم يَرِمْ
يعني: وكم من هالكٍ أهله لم يَرِمْ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ قولَه:{أَرْدَاكُمْ} . قال: أهلَككم.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بن ثورٍ، عن معمر، قال: تلَا الحسنُ: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ} . فقال: [قال الله جل ثناؤه: "عبدي أنا عند ظنِّه بي، وأنا معه إذا دعانى". ثم نطق الحسنُ فقال]
(3)
: إنما عملُ [ابن آدمَ]
(4)
على قدرِ [ظنَّه بربِّه]
(5)
، فأما المؤمنُ فأحسَن باللَّهِ الظنَّ، فأحسَن العملَ، وأما الكافرُ والمنافقُ، فأساء الظنَّ، فأساء العملَ، قال ربُّكم:{وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ} حتى بلَغ: {الْخَاسِرِينَ}
(6)
.
قال معمر: وحدَّثني رجلٌ: إنه يؤمَرُ برجلٍ إلى النارِ، فيلتفتُ فيقولُ: يا ربِّ ما كان هذا ظني بك. قال: "وما كان ظنُّك بى"؟ قال: كان ظني أن تغفرَ لي ولا تعذِّبَنى. قال: "فإني عندَ ظنِّك بي"
(7)
.
(1)
في الأصل: "أهلك".
(2)
تقدم تخريجه في 19/ 549.
(3)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(4)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"الناس".
(5)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"ظنونهم بربهم".
(6)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 185 عن معمر به.
(7)
المصدر السابق 2/ 186.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، قال: الظنُّ ظنَّان؛ فظنٌّ منجٍ، وظنٌّ مُرْدٍ؛ قال:{الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ} [البقرة: 46]. قال: {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة: 20]. وهذا الظنُّ المنجى، ظنَّ
(1)
ظنًّا يقينًا، وقال هاهنا:{وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ} . هذا ظنٌّ مُرْدٍ
(2)
.
وقوله: وَقالَ الكافِرُونَ: {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية: 32]. وذُكِر لنا أن نبيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كان يقولُ ويروِى ذلك عن ربِّه: "عبدى عندَ ظنِّه بي، وأنا معه إذا دعاني"
(3)
. وموضعُ قولِه: {وَذَلِكُمْ} . رفعٌ بقولِه: {ظَنُّكُمُ} . وإذا كان ذلك كذلك، كان قولُه:{وَذَلِكُمْ} . في موضعِ نصبٍ، بمعنى: مُردِيًا لكم. وقد يحتمِلُ أن يكون في موضعِ رفع بالاستئنافِ، بمعنى: مُردٍ لكم، كما قال:(تلكَ آيَاتُ الكِتابِ الحَكيمِ هُدًى وَرَحْمَةٌ)[لقمان: 2، 3]. في قراءةِ من قرَأه بالرفعِ
(4)
. فمعنى الكلام: وهذا الظنُّ الذي ظنَنتم بربِّكم من أنه لا يعلمُ كثيرًا مما تعمَلون، هو الذي أهلَككم؛ لأنكم من أجلِ هذا الظنِّ اجترَأتم على محارمِ اللَّهِ، فتقدَّمْتم
(5)
عليها، وركِبتم ما نهاكم اللَّهُ عنه، فأهلَككم ذلك وأرداكم، {فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ}. يقولُ: فأصبَحتم اليومَ من الهالِكين؛ قد غُبِنتم ببيعِكم منازلَكم من الجنةِ بمنازلِ أهلِ الجنةِ، من النارِ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24)} .
(1)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(2)
ذكره القرطبي في تفسيره 15/ 353 بنحوه.
(3)
أخرجه أحمد 16/ 564 (10961)، والبخارى في الأدب المفرد (616)، ومسلم (2675)، والترمذى (2388) من حديث أبي هريرة.
(4)
أي برفع (رحمة). وهى قراءة حمزة وحده والباقون على نصبها. السبعة لابن مجاهد ص 512.
(5)
في ص، م:"فقدمتم"، وفي ت 2:"فتقدمهم".
يقولُ تعالى ذكرُه: فإن يصبِرْ هؤلاء الذين يُحْشَرُون إلى النارِ [على النارِ]
(1)
، فالنارُ مسكنٌ لهم ومنزلٌ، {وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا}. يقولُ: وإن يسأَلوا العُتْبَى، وهى الرجْعةُ، لهم إلى الذي يُحِبُّون بتخفيف العذاب عنهم. {فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ}. يقولُ: فليسوا بالقومِ الذين يُرجَعُ بهم إلى الجنة، فيُخَفَّفُ عنهم ما هم فيه من العذابِ، وذلك كقوله جلَّ ثناؤُه مخبرًا عنهم:{قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} . إلى قوله: {وَلَا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 106 - 108]. وكقولِهم الخَزَنَةِ جهنمَ: {ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ} إلى قوله: {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} [غافر: 49، 50].
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25)} .
يعني تعالى ذكرهُ بقوله: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ} : وبعَثنا لهم نُظراءَ من الشياطيِن، فجعَلْناهم لهم قرناءَ قرناهم بهم، يُزَيِّنون لهم قبائحَ أعمالهم، فزيَّنوا لهم ذلك.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ} . قال: الشياطيَن
(2)
.
(1)
سقط من: ت 1، ت 2، ت 3.
(2)
في م: "الشيطان".
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى. وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ} . قال: شياطينَ
(1)
.
وقولُه: {فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} . يقولُ: فزيَّن لهؤلاء الكفارِ قرناؤُهم من الشياطينِ ما بينَ أيديهم من أمرِ الدنيا، فحسَّنوا ذلك لهم، وحبَّبوه إليهم، حتى آثَروه على أمرِ الآخرةِ. {وَمَا خَلْفَهُمْ}. يقولُ: وحسَّنوا لهم أيضًا ما بعدَ مماتِهم؛ بأن دعَوهم إلى التكذيبِ بالمعادِ، وأن من هلَك منهم فلن يُبْعَثَ، وألَّا ثوابَ ولا عقابَ حتى صدَّقوهم على ذلك، وسهُل عليهم فعلُ كلِّ ما يَشْتَهونه، وركوبٌ كلَّ ما يَلْتَذُّونه من الفواحشِ، باستحسانِهم ذلك لأنفسِهم.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} من أمرِ الدنيا، {وَمَا خَلْفَهُمْ} من أمرِ الآخرةِ
(2)
.
وقولُه: {وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} . يقولُ تعالى ذكرُه: ووجَب لهم
(3)
العذابُ بركوبِهم ما ركِبوا مما زيَّن لهم قرناؤُهم، وهم من الشياطينِ.
كما حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ: {وَحَقَّ
(1)
تفسير مجاهد ص 586، ومن طريقه الفريابى - كما في تغليق التعليق 4/ 302 - وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 362 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
ذكره الطوسى في التبيان 9/ 118.
(3)
في ت 2، ت 3:"عليهم".
عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ}. قال: العذابُ، {فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ}. يقولُ تعالى ذكرُه: وحقَّ على هؤلاء الذين قيَّضنا لهم قُرَناءَ من الشياطينِ، فزيَّنوا لهم ما بيَن أيديهم وما خلفَهم - العذابُ في أممٍ قد مضَت قبلَهم من ضُرَبائِهم، حقٌّ عليهم من عذابِنا مثلُ الذي حقَّ على هؤلاء، بعضِهم من الجنِّ وبعضِهم من الإِنسِ. {إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ}. يقولُ: إن تلك الأممَ الذين حقَّ عليهم عذابُنا من الجنِّ والإنسِ - كانوا مغبونين ببيعِهم رضا اللَّهِ [بسخطِه ورحمتَه بعذابِه]
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وقال الذين كفَروا باللَّهِ ورسولِه من مشرِكي قريشٍ: {لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ} . يقولُ: قالوا للذين يُطِيعونَهم من أوليائِهم من المشرِكين: لا تَسْمَعوا لقارِئُ هذا القرآنِ إذا قرَأه، ولا تُصْغُوا له، ولا تَتَّبِعوا ما فيه، فتَعْمَلوا به.
كما حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبى، قال: ثنى عمى، قال: ثنى أبى، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26)} . قال: هذا قولُ المشرِكين، قالوا: لا تَتَّبعوا هذا القرآنَ والغَوْا
(2)
عنه
(3)
.
وقولُه: {وَالْغَوْا فِيهِ} . يقولُ: الغَطُوا بالباطلِ من القولِ إذا سمِعتُم قارِئَه يَقْرَؤُه؛ كَيْما لا يَسْمَعوه
(4)
ولا يَفْهَموا
(5)
ما فيه.
(1)
في ص، م، ت 1، ت 2:"برحمته وسخطه بعذابه".
(2)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"الهوا".
(3)
في ت:2: "فيه". والأثر عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 362 إلى ابن أبي حاتم مطولا بنحوه.
(4)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"تسمعوه".
(5)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"تفهموا".
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا حكَّامٌ، عن عَنْبَسةَ، عن محمدِ بن عبدِ الرحمنِ، عن القاسمِ بن أبى بزَّةَ، عن مجاهدٍ في قولِ اللَّهِ:{لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} . قال: المُكاءُ والتصفيرُ وتخليطٌ من القولِ على رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، إذا قرَأ، قريشٌ تَفْعَلُه.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى. وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{وَالْغَوْا فِيهِ} . قال: بالمُكاءِ والتصفيرِ والتخليطِ في المنطقِ على رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، إذا قرَأ القرآنَ، قريشٌ تَفْعَلُه
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} . أي: اجحَدوا به وأَنْكِروه وعادُوه، قال: هذا قولُ مشرِكى العربِ
(2)
.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن مَعْمَرٍ، قال: قال بعضُهم في قولِه: {وَالْغَوْا فِيهِ} . قال: تَحَدَّثوا وضِجُّوا
(3)
كَيْما لا يَسْمَعوه
(4)
.
(1)
تفسير مجاهد ص 586، وذكره البغوي في تفسيره 7/ 171، والقرطبى في تفسيره 15/ 356، وابن كثير في تفسيره 7/ 163.
(2)
في 2: "قريش". والأثر ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 163، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 363 إلى عبد بن حميد.
(3)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"صيحوا".
(4)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"تسمعوه"، والأثر أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 186 عن معمر عن الكلبي.
وقولُه: {لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} . يقولُ: لعلكم بفعِلكم ذلك تَصُدُّون من أراد استماعَه عن استماعِه، فلا يَسْمَعُه، وإذا لم يَسْمَعْه ولم يَفْهَمْه لم يَتَّبِعْه، فتَغْلبون بذلك من فعلِكم محمدًا صلى الله عليه وسلم.
قال اللَّهُ جلَّ ثناؤه: {فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} باللَّهِ من مشرِكى قريشٍ الذين قالوا هذا القولَ - عذابًا شديدًا في الآخرةِ، {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ}. يقولُ: ولنُثِيبَنَّهم على فعِلهم ذلك وغيرِه من أفعالِهم بأقبحِ جزاءِ أعمالِهم التي عمِلوها في الدنيا.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: هذا الجزاءُ الذي نَجْزِى به هؤلاء الذين كَفروا بآياتِنا
(1)
من مشرِكى قريشٍ - جزاءُ أعداءِ اللَّهِ.
ثم ابتَدَأ جل ثناؤه الخبرَ عن صفةِ ذلك الجزاءِ، وما هو؟ فقال: هو النارُ. فالنارُ بيانٌ عن الجزاءِ، وترجمةٌ عنه، وهى مرفوعةٌ بالردِّ عليه، ثم قال:{لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ} . يعني: لهؤلاء المشرِكين باللَّهِ في النارِ {دَارُ الْخُلْدِ} . يعني: دارُ المَكْثِ واللُّبثِ إلى غيرِ نهايةٍ ولا أمدٍ. والدارُ التي أخبَر اللَّهُ جلَّ ثناؤُه أنها لهم في النارِ، هي النارُ، وحسُن ذلك لاختلافِ اللفظين، كما يُقالُ: لك من بلدتِك دارٌ صالحةٌ، ومن الكوفةِ دارٌ كريمةٌ. والدارُ: هي الكوفةُ والبلدةُ، فيَحْسُنُ ذلك لاختلافِ الألفاظِ. وقد ذُكِرَ
(2)
أنها في قراءةِ ابن مسعودٍ: (ذَلكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ دَارُ الخُلْدِ). ففى ذلك تصْحيحُ ما قلْنا من التأويلِ في ذلك، وذلك أنه تَرْجَمَ بالدارِ عن النارِ.
وقولُه: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} . يقولُ: فِعْلُنا هذا الذي فعَلْنا
(1)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(2)
في ص، ت 2، ت 3:"ذكرنا"، وفى م، ت 1:"ذكر لنا".
بهؤلاء، من مُجازاتِنا إيَّاهم النارَ على فعلِهم - جزاءٌ منا لهم بجحودِهم في الدنيا بآياتِنا التي احتَجَجْنا بها عليهم.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وقال الذين كفَروا باللَّهِ ورسولِه يومَ القيامةِ بعدَ ما أُدْخِلُوا جهنمَ: يا ربَّنا أَرِنا اللذَيْنِ أَضَلَّانا من خلقِك؛ من جنِّهم وإنسِهم. وقيل: إن الذي هو من الجنِّ إبليسُ، والذي هو من الإنسِ ابن آدمَ الذي قتَل أخاه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن بشَّارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن ثابتٍ الحدادِ، عن حَبَّةَ العُرَنيِّ
(1)
، عن عليّ بن أبى طالبٍ رضي الله عنه في قولِه:{أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} . قال: إبليسَ الأبالسةِ وابنَ آدمَ الذي قتَل أخاه
(2)
.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ عن سلمةَ، عن مالكِ بن حصينٍ، عن أبيه، عن عليٍّ رضي الله عنه في قولِه:{رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} . قال: إبليسَ، وابنَ آدمَ الذي قتَل أخاه
(3)
.
حدَّثنا ابن المثنى، قال: ثنى وهبُ بنُ جريرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن سَلَمةَ بن
(1)
في ص، ت 1، 2، ت 3 "العوفى". ينظر تهذيب الكمال 5/ 351.
(2)
تفسير سفيان ص 266، وأخرجه ابن أبي شيبة 9/ 363 من طريق سفيان به، وأخرجه ابن عساكر في تاريخه 49/ 47، 48 من طريق حبة العرني به.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 186، والحاكم 2/ 440، وابن عساكر في تاريخ دمشق 49/ 47 من طريق سفيان به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 363 إلى الفريابى وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.
كُهَيلٍ، عن أبي مالكٍ أو
(1)
ابن مالكٍ، عن أبيه، عن عليٍّ رضي الله عنه:{رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} . قال: ابنَ آدمَ الذي قتَل أخاه، وإبليسَ الأبالسةِ.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ، عن عليّ بن أبى طالبٍ رضي الله عنه في قولِه:{رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} الآية، فإنهما ابن آدمَ القاتلُ، وإبليسُ الأبالسِ
(2)
. فأما ابن آدمَ، فيَدْعو به كلُّ صاحبِ كبيرةِ دخَل النارَ من أهلِ
(3)
الدعوةِ، وأما إبليسُ فيَدْعو به كلُّ صاحبِ شركٍ، [يدعو بهما]
(4)
في النارِ
(5)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، قال: ثنا معمرٌ، عن قتادةَ:{أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} هو الشيطانُ، وابنُ آدمَ الذي قتَل أخاه
(6)
.
وقولُه: {نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29)} . يقولون: نَجْعَلْ هَذَيْنِ اللذَيْنِ أضلَّانا تحتَ أقدامنا؛ لأن أبوابَ جهنمَ بعضُها أسفلَ من بعضٍ، وكلٌّ ما سفَل منها فهو أشدُّ على أهلِه، وعذابُ أهلِه أغلظُ، ولذلك سأَل هؤلاء الكفارُ ربَّهم أن يُرِيَهم اللذَيْنِ أضلَّاهم، ليَجْعَلُوهما أسفلَ منهم؛ ليَكونا في أشدِّ العذابِ في الدركِ الأسفلِ من النارِ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30)} .
(1)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"و".
(2)
في ص، م:"الأبالسة"، وفي ت 1:"الأباليس".
(3)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"أجل".
(4)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"يدعوانهما".
(5)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 163 بنحوه.
(6)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 186.
يقولُ تعالى ذكرُه: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ} وحدَه لا شريكَ له، وتبرءوا من الآلهةِ والأندادِ، {ثُمَّ اسْتَقَامُوا} على توحيدِ اللَّهِ، ولم يَخْلِطوا توحيدَ اللَّهِ بشركِ غيرِه به، وانتَهوا إلى طاعتِه فيما أمَر ونهَى.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك جاء الخبرُ عن رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وقاله أهلُ التأويلِ على اختلافِ منهم في معنى قولِه:{ثُمَّ اسْتَقَامُوا} .
ذكرُ الخبرِ بذلك عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
-
حدَّثنا عمرُو بنُ عليٍّ، قال: ثنا سَلْمُ
(1)
بنُ قتيبةَ [أبو قتيبةَ]
(2)
، قال: ثنا سُهَيْلُ
(3)
ابن أبى حزمٍ القُطَعِيُّ، عن ثابتٍ البنانيِّ، عن أنسِ بن مالكٍ، أن رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ما قرَأ:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} . قال: قد قالها الناسُ، ثم كفَر أكثرُهم، فمن مات عليها فهو ممن استَقامَ
(4)
.
[واختلف أهلُ التأويلِ في معنى قولِه: {ثُمَّ اسْتَقَامُوا}]
(5)
؛ فقال بعضُهم: معناه: ثم
(6)
لم يُشْرِكوا به شيئًا، ولكن بَقُوا
(7)
على التوحيدِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن بشَّارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن أبي إسحاقَ،
(1)
في ص، م، ت 1:"سالم"، ينظر تهذيب الكمال 11/ 232.
(2)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(3)
في 2 ت 3 "سهل"، ينظر تهذيب الكمال 12/ 217.
(4)
أخرجه الترمذى (3250) والنسائى في الكبرى (11470)، وابن أبي عاصم في السنة (20) عن عمرو بن علي، وأخرجه أبو يعلى (3495)، وعنه ابن عدى 3/ 1288 من طريق سلم بن قتيبة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 363 إلى ابن أبي حاتم وابن مردويه.
(5)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(6)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"و".
(7)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"تموا".
عن عامرِ بن سعدٍ، عن سعيدِ بن نِمْرانَ
(1)
، قال: قرَأَتُ عندَ أبى بكرٍ الصدِّيقِ رضي الله عنه هذه الآيةَ: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} . قال: هم الذين لم يُشْرِكوا باللَّهِ شيئًا
(2)
.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبى، عن سفيانَ بإسنادِه، عن أبي بكرٍ الصدِّيقِ رضي الله عنه مثلَه.
قال: ثنا جريرُ بنُ عبدِ الحميدِ، وعبدُ اللَّهِ بنُ إدريسَ، عن الشيبانيِّ، عن أبي بكرِ بن أبى موسى، عن الأسودِ بن هلالٍ، عن أبي بكرٍ رضي الله عنه أنه قال لأصحابِه:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} . قال: قالوا: ربُّنا اللَّهُ ثم عمِلوا بها، قال: لقد حمَلْتُمُوها على غيرِ المَحْمَلِ: {الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} الذين لم يَعْدِلُوها بشركٍ ولا غيرِه
(3)
.
حدَّثنا أبو كريبٍ وأبو السائبِ قالا: ثنا ابن إدريسَ، قال: أخبَرنا الشيبانيُّ، عن أبى بكرِ بن أبى موسى، عن الأسودِ بن هلالٍ المحاربيِّ، قال: قال أبو بكرٍ رضي الله عنه: ما تَقولون في هذه الآيةِ: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} قال: فقالوا: ربُّنا اللَّهُ ثم استَقاموا من ذنبٍ، قال: فقال أبو بكرٍ: لقد حمَلتُم على غيرِ المحمَلِ، قالوا ربُّنا اللَّهُ ثم استقاموا، فلم يَلْتَفِتوا إلى إلهٍ غيرِه.
(1)
في الأصل: "نهران"، وفى ص، م، ت 1:"عمران"، وفى ت 2، ت 3:"نمير"، ووقع في تفسير "عبد الرزاق:"نجران"، والمثبت من مصادر التخريج الأخرى. وينظر ميزان الاعتدال 3/ 46، وأسد الغابة 2/ 399.
(2)
تفسير سفيان ص 266، وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 187، ومسدد - كما في الدر المنثور 5/ 363 ومن طريقه ابن مردويه كما في الدر أيضًا ومن طريقهما ابن عساكر 21/ 313، وابن سعد في الطبقات 6/ 84 من طريق سفيان به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 363 إلى الفريابى وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
أخرجه الحاكم 2/ 440، وأبو نعيم في الحلية 1/ 30 من طريق عبد الله بن إدريس به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 363 إلى إسحاق بن راهويه وعبد بن حميد والحكيم الترمذي في نوادر الأصول.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا حكَّامٌ، عن عَنْبَسةَ، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} قال: أي على لا إلهَ إلا اللَّهُ
(1)
.
قال: ثنا حكَّامٌ عن عمرٍو، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ:{الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} . قال: أسلَموا ثم لم يُشْرِكوا به حتى لحِقوا به
(2)
.
قال: ثنا جريرٌ، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} . قال: هم الذين قالوا ربُّنا اللَّهُ ثم لم يُشْرِكوا به حتى لقُوه.
قال: ثنا حكَّامٌ، قال: ثنا عمرٌو، عن منصورٍ، عن جامعِ بن شدادٍ، عن الأسودِ بن هلالٍ مثلَ ذلك.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} . قال: تَمُّوا على ذلك.
حدَّثني سعدُ بنُ عبدِ اللَّهِ
(3)
بن عبدِ الحكمِ، قال: ثنا حفصُ بنُ عمرَ، قال: ثنا الحكمُ بنُ أبانٍ، عن عكرمةَ قولَه:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} . قال: استَقاموا على شهادةِ أن لا إلهَ إلا اللَّهُ
(4)
.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ثم استَقاموا للهِ على طاعتِه.
(1)
ذكره البغوي في تفسيره 7/ 172، والقرطبى في تفسيره 15/ 358، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 363 إلى عبد بن حميد.
(2)
أخرجه أبو نعيم في الحلية 3/ 300 من طريق ليث عن مجاهد، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 363 إلى عبد بن حميد.
(3)
في ت 2: "عبد الرحمن"، ينظر الجرح والتعديل 4/ 92.
(4)
أخرجه أبو نعيم في الحلية 3/ 333، 334 من طريق الحكم بن أبان به، ووقع عنده:"الحسن بن أبان". وذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 165، وعزاه إلى ابن أبي حاتم من طريق حفص عن الحكم عن عكرمة عن ابن عباس قوله.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أحمدُ بنُ مَنِيعٍ، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ بنُ المباركِ، قال: ثنا يونسُ بنُ يزيدَ، عن الزهريِّ، قال: تلا عمرُ رضي الله عنه على المِنبَرِ: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} . قال: استَقاموا واللَّهِ للهِ
(1)
بطاعتِه، ولم يَرُوغوا روغانَ الثعالبِ
(2)
.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن مَعْمَرٍ، عن قتادةَ:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} . قال: استَقاموا على طاعةِ اللَّهِ. وكان الحسنُ إذا تَلاها قال: اللَّهُمَّ أنت ربُّنا فارزُقْنا الاستقامةَ
(3)
.
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} . يقولُ: على أداءِ فرائضِه
(4)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} . قال: استقاموا على عبادةِ اللَّهِ وطاعتِه
(5)
.
وقولُه: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ} . يقولُ: تتهبَّطُ عليهم الملائكةُ [من عندِ اللهِ]
(6)
عندَ نزولِ الموتِ بهم.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
(1)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(2)
الزهد لابن المبارك (325)، وأخرجه أحمد في الزهد ص 115 من طريق يونس به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 363 إلى سعيد بن منصور وابن المنذر.
(3)
أخرجه ابن المبارك في الزهد (1446)، وعبد الرزاق في تفسيره 2/ 186 عن معمر به.
(4)
ذكره البغوي في تفسيره 7/ 172، وابن كثير في تفسيره 7/ 165 عن علي بن أبى طلحة به وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 363 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(5)
ذكره الطوسى في التبيان 9/ 121، والقرطبى في تفسيره 15/ 358.
(6)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا حكَّامٌ، عن عَنْبَسةَ، عن محمدِ بن عبدِ الرحمنِ، عن القاسمِ بن أبى بزَّةَ، عن مجاهدٍ في قولِ اللَّهِ:{تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا} . قال: عندَ الموتِ.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى. وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه
(1)
.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ} . قال: عندَ الموتِ
(2)
.
وقولُه: {أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا} . يقولُ: تَتَنَزَّلُ عليهم الملائكةُ بألَّا تَخافوا ولا تَحْزَنوا، فـ "أن" في موضعِ نصبٍ إذ
(3)
كان ذلك معناه.
وقد ذُكِر عن عبدِ اللَّهِ أنه كان يَقْرَأُ ذلك: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ لا
(4)
تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا} بمعنى: تَتَنَزَّلُ عليهم قائلةً: لا تَخافوا ولا تَحْزَنوا. وعَنَى بقولِه: [{أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا}]
(5)
. ما تَقْدَمون عليه من بعدِ مماتِكم، ولا تحزنوا على ما تُخَلِّفونه وراءَكم.
(1)
تفسير مجاهد ص 586، ومن طريقه الفريابى - كما في تغليق التعليق 4/ 302 - وذكره البيهقى في الشعب 1/ 354، والقرطبى في تفسيره 15/ 358، وابن كثير في تفسيره 7/ 165.
(2)
ذكره ابن حجر في الفتح 8/ 560، وعزاه إلى المصنف، وذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 165.
(3)
في م، ت 2، ت 3:"إذا".
(4)
في ص، م:"ألا".
(5)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا} . قال: لا تَخافوا ما أمامَكم، ولا تَحْزَنوا على ما بعدَكم.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا يحيى بنُ حسانَ، عن مسلمِ بن خالدٍ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا} . قال: لا تَخافوا ما تَقْدَمون عليه من أمرِ الآخرةِ، ولا تَحْزَنوا على ما خَلَّفتم من دنياكم من أهلٍ [أو ولدٍ أو دينٍ]
(1)
، فإنا نَخْلُقُكم في ذلك كلِّه
(2)
.
وقيل: إن ذلك في الآخرةِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ} فذلك في الآخرةِ
(3)
.
وقولُه: {وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} . يقولُ: وسُرُّوا بأن لكم في الآخرةِ الجنةَ التي كنتم تُوعَدُونَها في الدنيا، على إيمانِكم باللَّهِ واستقامتِكم على طاعتِه.
(1)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"وولد".
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 165، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 363 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
ذكره ابن حجر في الفتح 8/ 560، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 363 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبى حاتم.
كما حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} في الدنيا.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)} .
يقولُ تعالى ذكرُه مُخْبِرًا عن قيلِ ملائكتِه التي تتنَزَّلُ على هؤلاء المؤمنين به الذين استَقاموا على طاعتِه عندَ موتِهم: نحن أولياؤُكم * أيُّها القومُ، في الحياةِ الدنيا كنا نتولَّاكم فيها.
وذُكر أنهم الحفَظَةُ الذين كانوا يَكْتُبون أعمالَهم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} : نحن الحَفَظةُ الذين كنَّا معَكم في الدنيا، ونحن أولياؤُكم في الآخرةِ
(1)
.
وقولُه: {وَفِي الْآخِرَةِ} . يقولُ: وفي الآخرةِ أيضًا نحن أولياؤُكم كما كنا لكم في الدنيا أولياءَ. {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ} . يقولُ: ولكم في الآخرةِ عندَ اللَّهِ ما تَشْتَهى أنفسُكم من اللذّاتِ والشهواتِ. وقولُه: {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} ?. يقولُ: ولكم في الآخرةِ ما تدَّعون.
وقولُه: {نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)} . يقولُ: أعطاكم ذلك ربُّكم، نزلًا لكم من ربِّ غفورٍ لذنوبِكم، رحيمٍ
* من هنا خرم في مخطوطة جامعة القرويين المشار إليها بالأصل وسينتهي في ص 483.
(1)
ذكره البغوي في تفسيره 7/ 173، والقرطبى في تفسيره 15/ 359.
بكم أن يُعَاقِبَكم بعدَ توبِتكم. ونصَب "نُزُلًا" على المصدرِ من معنى قولِه: {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} . لأن في ذلك تأويلَ أنزَلكم ربُّكم بما تَشْتَهون من النعيمِ "نُزُلًا".
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: ومن أحسنُ أيُّها الناسُ قولًا ممن قال: ربُّنا اللَّهُ، ثم استَقام على الإيمانِ به، والانتهاءِ إلى أمرِه ونهيِه، ودعا عبادَ اللَّهِ إلى ما قال وعمِل به من ذلك.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن مَعْمَرٍ، قال: تلا الحسنُ: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33)} . قال: هذا حبيبُ اللَّهِ، هذا وليُّ اللَّهِ، هذا صفوةُ اللَّهِ، هذا خِيرةُ اللَّهِ، هذا أحبُّ الخلقِ إلى اللَّهِ، أَجابَ اللَّهَ في دعوتِه، ودعا الناسَ إلى ما أجاب اللَّهَ فيه من دعوتِه، وعمِل صالحًا في إجابتِه، وقال: إنني من المسلمين، فهذا خليفةُ اللَّهِ
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ
(1)
أخرجه ابن المبارك في الزهد (1446)، وعبد الرزاق في تفسيره 2/ 187 عن معمر به، وذكره القرطبي في تفسيره 15/ 360، وابن كثير في تفسيره 7/ 169.
قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ}. الآية، قال: هذا عبدٌ صدَّق قولَه عملُه، ومولجَه مخرجُه، وسرَّه علانيتُه، وشاهدَه مغيبُه، وإن المنافقَ عبدٌ خالَف قولَه عملُه، ومولجَه مخرجُه، وسرَّه علانيتُه وشاهدَه مغيبُه
(1)
.
واختلَف أهلُ العلمِ في الذي أُريد بهذه الصفةِ من الناسِ، فقال بعضُهم: عُنِى بها نبيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} . قال: محمدٌ صلى الله عليه وسلم حينَ دعا إلى الإسلامِ
(2)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زِيدٍ في قولِه: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} . قال: هذا رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
(3)
.
وقال آخرون: عُنِى به المؤذِّنُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني داودُ بنُ سليمانَ بن يزيدَ المُكْتِبُ البصريُّ، قال: ثنا عمرُو بنُ جريرٍ البَجَليُّ، عن إسماعيلَ بن أبى خالدٍ، عن قيسِ بن أبى حازمٍ في قولِ اللَّهِ:{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} . قال: المؤذنُ. {وَعَمِلَ صَالِحًا} . قال:
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 364 إلى عبد بن حميد.
(2)
ذكره البغوي في تفسيره 7/ 173، والقرطبى في تفسيره 15/ 360، وابن كثير في تفسيره 7/ 168.
(3)
ذكره القرطبي في تفسيره 15/ 360، وابن كثير في تفسيره 7/ 168.
الصلاة ما بيَن الأذانِ إلى الإقامةِ
(1)
.
وقولُه: {وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33)} . يقولُ: وقال: إننى ممن خضَع للَّهِ بالطاعةِ، وذلَّ له بالعبودةِ، وخشَع له بالإيمانِ بوحدانيتِه.
وقوله: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ} . يقولُ تعالى ذكرُه: ولا تَسْتَوِى حسنةُ الذين قالوا: {رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} ، فأحسَنوا في قولِهم، وإجابتِهم ربَّهم إلى ما دعاهم إليه من طاعتِه، ودعَوا عبادَ اللَّهِ إلى مثلِ الذي أجابوا ربَّهم إليه، وسَيِّئةُ الذين قالوا:{لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26)} [فصلت: 26]. فكذلك لا تَسْتَوِى عندَ اللَّهِ أحوالُهم ومنازلُهم، ولكنها تَخْتَلِفُ كما وصَف جل ثناؤُه أنه خالَف بينَهما، وقال جل ثناؤُه:{وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ} . فكرَّر "لا"، والمعنى: لا تَسْتَوى الحسنةُ والسيئةُ؛ لأن كلَّ ما كان غيرَ مساوٍ شيئًا، فالشيءُ الذي هو له غيرُ مُساوٍ؛ غيرُ مُساوِيه، كما أن كلَّ [ما كان غيرَ مساويًا لشيءٍ]
(2)
فالآخرُ الذي هو له مساوٍ له، فيقالُ: فلانٌ مساوٍ فلانًا، وفلانٌ له مساوٍ، فكذلك فلانٌ ليس مساويًا لفلانٍ، ولا فلانٌ مساويًا له، فلذلك كُرِّرت "لا" مع السيئةِ، ولو لم تَكُنْ مكررةً معها كان الكلامُ صحيحًا. وقد كان بعضُ نحويِّى البصرةِ يَقُولُ: يجوزُ أن يُقالَ: الثانيةُ زائدةٌ؛ يُريدُ: لا يَسْتَوِى عبدُ اللَّهِ وزيدٌ، فزِيدَت "لا" توكيدًا، كما قال: لِئَلَّا {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ} [الحديد: 29]. أي: لأن يَعْلَمَ، وكما قال:{لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2)} [القيامة: 1، 2]. وقد كان بعضُهم يُنكِرُ قولَه هذا {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} ، وفى قولِه:{لَا أُقْسِمُ} ، فيقول:"لا" الثانيةُ في قولِه:
(1)
أخرجه الخطيب في تاريخه 8/ 471، 472 من طريق داود بن سليمان به.
(2)
في ت 1: "مساوٍ بالشيء".
{لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ} رُدَّت إلى موضعِها؛ لأن النفىَ إنما لحِق "يَقْدِرون" لا العلمَ، كما يُقالُ: لا أظنُّ زيدًا لا يقومُ، بمعنى: أظنُّ زيدًا لا يقومُ؛ قال: وربما استوثَقوا فجاءوا به أوَّلًا وآخرًا، وربما اكتَفَوا بالأولِ من الثاني. وحُكِى سماعًا من العربِ: ما كأنى
(1)
أَعْرِفُها: أي كأني لا أُعْرِفُها. قال: وأما "لا" في قولِه: {لَا أُقْسِمُ} . فإنما هي
(2)
جوابٌ، والقسمُ بعدَها مُسْتَأْنَفٌ، ولا يَكونُ حرفُ الجحدِ مُبْتَدأ صلةٍ.
وإنما عَنَى بقولِه: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ} : ولا يَسْتَوِى الإيمانُ باللَّهِ والعملُ بطاعتِه، والشركُ به والعملُ بمعصيتِه.
وقولُه: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} . يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: ادفَعْ يا محمدُ بحلمِك جهلَ مَن جهِلَ عليك، وبعفوِك عمَّن أساءَ إليك إساءةَ المسئِ، وبصبِرك عليهم مكروهَ ما تَجِدُ منهم ويَلْقاك من قِبَلِهم.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ على اختلافٍ منهم في تأويلِه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} . قال: أمَر اللَّهُ المؤمنين بالصبرِ عندَ الغضبِ، والحلمِ والعفوِ عند الإساءةِ، فإذا فعَلوا ذلك عصَمهم اللَّهُ من الشيطانِ، وخضَع لهم عدوُّهم، كأنه وليٌّ حميمٌ
(3)
.
(1)
في ص، ت 2 ت 3:"كان".
(2)
في ص، م، ت 1:"هو".
(3)
أخرجه البيهقى في سننه 7/ 45، وابن حجر في التغليق 4/ 303 من طريق عبد الله بن صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 365 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
وقال آخرون: معنى ذلك: ادفَعْ بالسلامِ على مَن أساءَ إليك إساءتَه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا أبو عامرٍ، قال: ثنا سفيانُ، عن طلحةَ بن
(1)
عمرٍو، عن عطاءٍ:{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} . قال: بالسلامِ
(2)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن مَعْمَرٍ، عن عبدِ الكريمِ الجَزَريِّ، عن مجاهدٍ:{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} . قال: السلامُ عليك
(3)
إذا لقيتَه
(4)
.
وقولُه: {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34)} . يقولُ تعالى ذكرُه: افعَلْ هذا الذي أمَرتُك به يا محمدُ، من دفعِ سيئةِ المسئِ إليك بإحسانِك الذي أمَرْتُك به إليه، فيصيرَ المسئُ إليك الذي بينَك وبينَه عداوةٌ كأنه من ملاطفتِه إيَّاك وبرِّه لك وليٌّ لك من بنى أعمامِك، قريبُ النسبِ بك. والحميمُ هو القريبُ.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدُ، عن قتادةَ:{كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} : أي كأنه وليٌّ قريبٌ
(5)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو
(1)
في ت 2، ت 3:"عن".
(2)
تفسير سفيان ص 267 بلفظ: "الإسلام".
(3)
في ص، ت 2، ت 3:"عليكم".
(4)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 187، وفي مصنفه (20225) ومن طريقه البيهقى في شعب الإيمان (6623) عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 365 إلى سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر.
(5)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 187 عن معمر عن قتادة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 365 إلى عبد بن حميد.
حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)}.
يقولُ تعالى ذكرُه: وما يُعْطَى دفعَ السيئةِ بالحسنةِ إلا الذين صبَروا للَّهِ على المكارِه والأمورِ الشاقةِ وقال: {وَمَا يُلَقَّاهَا} . ولم يَقُلْ: وما يُلَقَّاه؛ لأن معنى الكلامِ: وما يُلَقَّى هذه الفعلةَ من دفعِ السيئةِ بالتي هي أحسنُ.
وقولُه: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)} . يقولُ: وما يُلَقَّى هذه إلا ذو نصيبٍ وجَدٍّ، له سابقٌ في المَبَرَّاتِ
(1)
عظيمٌ.
كما حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ في قولِه:{وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} : ذو جَدٍّ
(2)
.
وقيل: إن ذلك الحظَّ الذي أخبَر اللَّهُ جل ثناؤُه في هذه الآيةِ أنه لهؤلاء القومِ، هو الجنةُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا} . والحظُّ العظيمُ: الجنةُ
(3)
.
ذُكِر لنا أن أبا بكرٍ رضي الله عنه شتَمه رجلٌ، ونبيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شاهدٌ، فعفا عنه ساعةً، ثم إن أبا بكرٍ جاش به الغضبُ فردَّ عليه، فقام النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فاتَّبعه أبو بكرٍ،
(1)
في ص، ت 1، ت،2، ت 3:"الميراث".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 138 إلى ابن أبي حاتم.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 188 عن معمر عن قتادة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 365 إلى عبد بن حميد.
فقال: يا رسولَ اللَّهِ شتَمنى الرجلُ، فعفَوتُ وصفَحتُ وأنت قاعدٌ، فلما أخَذتُ أَنْتَصِرُ قُمْتَ يا نبيَّ اللَّهِ. فقال نبيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"إنه كان يَرُدُّ عنك مَلَكٌ من الملائكةِ، فلما قرِبتَ تَنْتَصِرُ ذهَب المَلكُ وجاء الشيطانُ، فواللَّهِ ما كُنتُ لأُجالِسَ الشيطانَ يا أبا بكرٍ"
(1)
.
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} . يقولُ: الذين أعدَّ اللَّهُ لهم الجنةَ.
وقوله: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} الآية، يقولُ تعالى ذكرُه: وإما يُلْقِيَنَّ الشيطانُ يا محمدُ في نفسِك وسوسةً من حديثِ النفسِ، إرادةَ حملِك على مجازاةِ المسيءِ بالإساءةِ، ودعائِك إلى مساعتِه، فاستَجِرْ باللَّهِ، واعتَصِمْ من خُطُواتِه، إن اللَّهَ هو السميعُ لاستعاذتِك منه واستجارتِك به من نزغاتِه، ولغيرِ ذلك من كلامِك وكلامِ غيرِك، العليمُ بما أَلقي في نفسِك من نزغاتِه، وحدَّثَتْك به نفسُك، وبما
(2)
يُذْهِبُ ذلك من قلبِك، وغيرِ ذلك من أمورِك وأمورِ خلقِه.
كما حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ} . قال: وسوسةٌ وحديثُ النفسِ، {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} من الشيطان الرجيم.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرَنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَإِمَّا
(1)
أخرجه أحمد 15/ 390 (9624)، وأبو داود (4897)، والطبرانى في الأوسط (7235)، والبيهقي في السنن 10/ 236 وغيرهم من حديث أبي هريرة.
(2)
في م، ت 1:"مما".
يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ}. قال: هذا الغضبُ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: ومن حُجَجِ اللَّهِ تعالى على خلقِه، ودَلالتِه على وحدانيَّتِه وعظيمِ سلطانِه - اختلافُ الليلِ والنهارِ، ومعاقبةُ كلِّ واحدٍ منهما صاحبَه، والشمسُ والقمرُ، لا الشمسُ تُدْرِكُ القمرَ ولا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ. {لَا تَسْجُدُوا} أَيُّها الناسُ {لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ} ، فإنهما وإن جرَيا في الفلَكِ بمنافعِكم، فإنما يَجْرِيان بها لكم بإجراءِ اللَّهِ إياهما لكم، طائعَين له في جَرْيِهما ومسيرِهما، لا بأنهما يَقْدِران بأنفسِهما على سَيْرٍ وجَرْىٍ، دونَ إجراءِ اللَّهِ إياهما وتسييرِهما، أو يَسْتَطيعان لكم نفعًا أو ضَرًّا، وإنما اللَّهُ مُسَخِّرُهما لكم لمنافعِكم ومصالحِكم، فله فاسجُدوا، وإياه فاعبُدوا دونَهما، فإنه إن شاء طمَس ضوءَهما، فترَككم حيارَى في ظلمةٍ لا تَهْتَدون سبيلًا، ولا تُبْصِرُون شيئًا.
وقيل: {وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ} . فجُمِع بالهاءِ والنونِ؛ لأن المرادَ من الكلام: واسجُدوا للَّهِ الذي خلَق الليلَ والنهارَ والشمسَ والقمرَ. وذلك جمعٌ وأنَّث كنايتَهنَّ، وإن كان من شأنِ العربِ إذا جمَعوا الذكرَ إلى الأنثى أن يُخْرِجوا كنايتَهما بلفظِ كنايةِ المذكرِ، فيَقُولوا: أخَواك وأُخْتاك كلَّمونى، ولا يَقُولوا: كلَّمْتَنى؛ لأن من شأنِهم أن يُؤَنِّثوا أخبارَ الذكورِ من غيرِ بني آدمَ في الجمعِ، فيَقولوا: رأَيتُ مع عمرٍو أثوابًا فَأَخَذْتُهنَّ منه، وأعجَبني خواتيمُ لزيدٍ فقبَضتُهن منه.
وقولُه: {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} . يقول: إن كنتم تَعْبُدون اللَّهَ
وتَذِلُّون له بالطاعةِ، وإنَّ من طاعتِه أَن تُخْلِصوا
(1)
له العبادةَ، ولا تُشْرِكوا في طاعتِكم إياه وعبادتِكموه شيئًا سِوَاه، فإن العبادةَ لا تَصْلُحُ لغيرِه، ولا تَنْبَغى لشيءٍ سِواه.
القولُ في تأويل قوله تعالى: {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38)} .
يقولُ تعالى ذكره: فإن استكبَر يا محمدُ هؤلاء الذين أنت بينَ أَظْهُرِهم من مشرِكي قريشٍ، وتَعَظَّموا عن أن يَسْجُدوا للَّه الذي خلَقهم وخلقَ الشمسَ والقمرَ، فإن الملائكةَ الذين عندَ ربِّك لا يَسْتَكْبِرون عن ذلك، ولا يَتَعَظَّمون عنه، بل يسبحون له، ويُصَلُّون ليلًا ونهارًا، {وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ}. يقولُ: وهم لا يَفْتُرون عن عبادتِهما، ولا يَمَلُّون الصلاةَ له.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} . قال: يعنى محمدًا، يقولُ: عبادي ملائكةٌ صافُّون، يُسَبِّحون ولا يَسْتَكْبِرون
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: ومن حُجَجِ اللَّهِ أيضًا وأدلتِه على قدرتِه على نشرِ الموتى من
(1)
في ت 2: "تتخلصوا"، وفى ت 3:"يخلصوا".
(2)
تقدم بنحوه في 19/ 654.
بعدِ بِلَاها، وإعادتِها لهيئتِها كما كانت من بعدِ فَنائِها - أنك يا محمدُ ترى الأرضَ دارِسةً غبراءَ، لا نباتَ فيها
(1)
ولا زرعَ.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً} : أي غبراءَ مُتهشِّمةً
(2)
.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً} . قال: يابسةً مُهَشِّمةٌ
(3)
.
{فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ} . يقولُ تعالى ذكرُه: فإذا أنزَلْنا من السماءِ غيثًا على هذه الأرضِ الخاشعةِ، اهتزَّت بالنباتِ. يقولُ: تحرَّكت به.
كما حدَّثنا محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{اهْتَزَّتْ} . قال: بالنباتِ
(4)
.
{وَرَبَتْ} . يقولُ: انتفَخت.
كما حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{وَرَبَتْ} : انتفَخت
(5)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ: {فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا
(1)
في ص، م، ت 1:"بها".
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 188 عن معمر عن قتادة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 366 إلى عبد بن حميد.
(3)
ذكره الطوسي في التبيان 9/ 127.
(4)
تفسير مجاهد ص 586، ومن طريقه الفريابي - كما في تغليق التعليق 4/ 302، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 366 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(5)
ذكره الطوسي في التبيان 9/ 127.
الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ}: يُعْرَفُ الغيثُ في سَحْتِها ورَبوها
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، [قال: ثنا الحسنُ]
(2)
، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهد:{وَرَبَتْ} : للنباتِ، قال: ارتفَعت قبلَ أن تَنْبُتَ
(3)
.
وقولُه: {إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى} . يقولُ تعالى ذكرُه: إن الذي أحيا هذه الأرضَ الدارِسةَ فأخرَج منها النباتَ، وجعلَها تهتزُّ بالزرعِ من بعدِ يَبَسِها ودُثورِها بالمطرِ الذي أُنْزِل عليها - القادرُ أن يُحْيِيَ أَمواتَ بني آدمُ من بعدِ مماتِهم، بالماءِ الذي يَنزِلُ من السماءِ لإحيائِهم.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ، قال: كما يُحْيى الأرضَ بالمطرِ كذلك يُحْيي
(4)
الموتى بالماءِ يومَ القيامةِ بينَ النفختين. يعنى بذلك تأويلَ قولِه: {إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى} .
وقولُه: {إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . يقولُ تعالى ذكرُه: إن ربَّك يا محمدُ على إحياءِ خلقه بعدَ مماتِهم، وعلى كلِّ ما يَشاءُ ذو قدرةٍ، لا يُعجِزُه شيءٌ أراده، ولا
(1)
سحتَ الشيءَ سحتا: قشره. وربو الأرض: ما ارتفع منها. اللسان (س ح ت)، والوسيط (ر ب و). والأثر تقدم في 16/ 466 بنحوه.
(2)
سقط من: ص، ت 2، ت 3.
(3)
تفسير مجاهد ص،586، ومن طريقه الفريابي - كما في تغليق التعليق 4/ 2، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 366 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(4)
في ص، ت 2، ت 3:"يخرج".
يَتَعَذَّرُ عليه فعلُ شيءٍ شَاءَه.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40)} .
يعنى جل ثناؤُه بقولِه: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا} : إن الذين يمَيلون عن الحقِّ في حُجَجِنا وأدلَّتِنا، ويَعْدِلون عنها؛ تكذيبًا بها وجحودًا لها.
وقد بيَّنتُ فيما مضَى معنى اللَّحْدِ بشواهدِه المغنيةِ عن إعادتِها في هذا الموضع
(1)
. وسنَذْكُرُ بعضَ اختلافِ المختلفِين في المرادِ به من معناه في هذا الموضعِ.
اختلَف أهلُ التأويلِ في المرادِ من معنى الإلحادِ في هذا الموضعِ؛ فقال بعضُهم: أُريدَ به معارضةُ المشركين القرآنَ باللُّغَطِ والصفيرِ استهزاءً به.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا} . قال: المُكَا، وما ذُكر معه
(2)
.
وقال آخرون: أُريد به الخبرُ عن كذبِهم في آياتِ اللَّهِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ
(1)
ينظر ما تقدم في 10/ 598.
(2)
تفسير مجاهد ص 586، وعزاه السيوطي في الدر المنثور - ص 371 كما في المخطوطة المحمودية - إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
فِي آيَاتِنَا}. قال: يُكَذِّبون في آياتِنا
(1)
.
وقال آخرون: أُريدَ به يُعانِدون.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا} . قال: يُشَاقُّون، يُعانِدون
(2)
.
وقال آخرون: أُريد به الكفرُ والشركُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زِيدٍ في قولِه: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} . قال: هؤلاء أهلُ الشركِ. وقال: الإلحادُ الكفرُ والشركُ
(3)
.
وقال آخرون: أُريد به الخبرُ عن تبديِلهم معانىَ كتابِ اللَّهِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبى، قال: ثنى عمى، قال: ثنى أبى، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} . قال: هو أن يُوضَعَ الكلامُ على غيرِ موضعِه
(4)
.
وكلُّ هذه الأقوالِ التي ذكَرْناها في تأويلِ ذلك قريباتُ المعانى، وذلك أن
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 188 عن معمر عن قتادة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 366 إلى عبد بن حميد.
(2)
ذكره البغوي في تفسيره 7/ 175، والقرطبى في تفسيره 15/ 366.
(3)
ذكره القرطبي في تفسيره 15/ 366 بنحوه.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 366 إلى ابن أبي حاتم.
اللَّحْدَ والإلحادَ هو الميلُ، وقد يكونُ مَيْلًا عن آياتِ اللَّهِ وعُدولًا عنها بالتكذيبِ بها، ويَكونُ بالاستهزاءِ مُكَاءً وتَصْدِيَةً، ويكونُ مفارَقةً لها وعِنادًا، ويَكونُ تحريفًا لها وتغييرًا لمعانيها، ولا قولَ أولى بالصحةِ في ذلك مما قلْنا، وأن يُعَمَّ الخبرُ عنهم بأنهم ألحَدوا في آياتِ اللَّهِ، كما عمَّ ذلك ربُّنا تبارك وتعالى.
وقوله: {لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} . يقولُ تعالى ذكرُه: نحن بهم عالمون لا يَخْفَون علينا، ونحن لهم بالمِرصادِ إذا ورَدوا علينا، وذلك تهديدٌ من اللَّهِ جل ثناؤُه لهم بقولِه: سيَعْلَمون عندَ ورودِهم علينا ماذا يَلْقَون من أليمِ عذابِنا.
ثم أخبَر جلَّ ثناؤُه عما هو فاعلٌ بهم عندَ ورودِهم عليه، فقال:{أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} . يقولُ تعالى ذكرُه: لهؤلاء الذين يُلحِدون في آياتِنا اليومَ في الدنيا يومَ القيامةِ عذابُ النارِ. ثم قال اللَّهُ: أفهذا الذي يُلْقَى في النارِ خيرٌ أم من يأتى آمنا يومَ القيامة من عذابِ اللَّهِ، لإيمانه بالله جل جلاله؟ هذا الكافرُ، إنه إن آمَن بآياتِ اللَّهِ، واتَّبَع أمرَ اللَّهِ ونهيَه، أمَّنه يومَ القيامةِ مما حذَّره منه من عقابِه، إن ورَد عليه يومئذٍ به كافرًا.
وقولُه: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} . وهذا أيضًا وعيدٌ من اللَّهِ لهم خرَج مَخْرَجَ الأمرِ، وكذلك كان مجاهدٌ يقولُ.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} . قال: هذا وعيدٌ
(1)
.
وقولُه: {إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير} . يقولُ جل ثناؤُه: إن اللَّهَ أَيُّها الناسُ
(1)
أخرجه عبد بن حميد - كما في التغليق 4/ 303 - عن سفيان به، وعبد الرزاق في تفسيره 2/ 189 عن معمر عن رجل عن مجاهد، وعزاه السيوطي في الدر المنثور إلى سعيد بن منصور وابن المنذر.
بأعمالِكم التي تَعْمَلونها ذو خبرةٍ وعلمٍ لا يَخْفَى عليه منها ولا من غيرِها شيءٌ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: إن الذين جحَدوا هذا القرآنَ وكذَّبوا به لما جاءهم، وعَنَى بالذكرِ القرآنَ.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ} : كفَروا بالقرآنِ
(1)
.
وقولُه: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيز} . يقولُ تعالى ذكرُه: وإن هذا الذكرَ لكتابٌ عزيزٌ بإعزازِ اللَّهِ إيَّاه، وحفظِه من كلِّ من أراد له تبديلًا أو تحريفًا أو تغييرًا، من إنسيٍّ وجنيٍّ وشيطانٍ ماردٍ.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيز} : أعزَّه اللَّهُ لأنه كلامُه، وحفِظه من الباطلِ
(2)
.
حدَّثنا محمدُ بن الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المفضَّلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيز} . قال: عزيزٌ من الشيطانِ
(3)
.
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 188 عن معمر به، وذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 171.
(2)
أخرجه ابن الضريس في فضائل القرآن (122) من طريق يزيد به بنحوه، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 367 إلى عبد بن حميد.
(3)
ذكره القرطبي في تفسيره 15/ 367.
وقولُه: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} . اختلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِه؛ فقال بعضُهم: معناه: لا يَأْتيه النكيرُ
(1)
من بين يدَيْه ولا من خلفِه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا ابن يمانٍ، عن أشعثَ، عن جعفرٍ، عن سعيدٍ:{لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} . قال: النكيرُ
(2)
من بين يدَيْهِ ولا من خلفِه.
وقال آخرون: معنى ذلك: لا يَسْتَطيعُ الشيطانُ أن يَنْقُصَ
(3)
منه حقًّا، ولا يَزيدَ فيه باطلًا. قالوا: والباطلُ هو الشيطانُ.
وقولُه: {مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ} . من قِبَلِ الحقِّ، {وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} . من قِبَلِ الباطلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} : الباطلُ إبليسُ، لا يَسْتَطِيعُ أن يَنتقِصَ منه حقًّا، ولا يَزِيدَ فيه باطلًا
(4)
.
وقال آخرون: معناه: أن الباطل لا يَطيقُ أن يَزِيدَ فيه شيئًا من الحروفِ ولا يَنْقُصَ منه شيئًا منها.
(1)
في ت 1: "التكبر".
(2)
في ص: "الكبر"، وفى ت 1:"التكبر".
(3)
في ت 1، ت 3:"ينقض".
(4)
أخرجه ابن الضريس في فضائل القرآن (122) من طريق يزيد به، وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 188 عن معمر عن قتادة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 367 إلى عبد بن حميد.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المفضَّلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} . قال: الباطلُ هو الشيطانُ، لا يَسْتطيعُ أن يَزِيدَ فيه حرفًا ولا يَنْقُصَ
(1)
.
وأولى الأقوالِ في ذلك عندَنا بالصوابِ أن يُقال: معناه: لا يَسْتطيعُ ذو باطلٍ بكَيْدِه تغييرَه
(2)
وتبديلَ شيءٍ من معانيه عما هو به، وذلك هو الإتيانُ من بين يدَيْه، ولا إلحاقَ ما ليس منه فيه، وذلك إتيانُه من خلفِه.
وقولُه: {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} . يقولُ تعالى ذكرُه: هو تنزيلٌ من عندِ ذى حكمةٍ بتدبيرِ عبادِه، وصرفِهم فيما فيه مصالِحُهم. {حَمِيدٍ}. يقولُ: محمودٍ على نعمِه عليهم بأياديه عندَهم.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43)} .
يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: ما
(3)
يقولُ لك هؤلاء المشرِكون المكذِّبون ما جِئتهم به من عندِ ربِّك، إلا ما قد قاله من قبلَهم من الأممِ لرسلِهم الذين كانوا من قبلِك. يقولُ له: فاصبِر على ما نالك من أذًى منهم، كما صبَر أولو العزمِ من الرسلِ {وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} [القلم: 48].
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
(1)
ذكره الطوسى في التبيان 9/ 129، والبغوى في تفسيره 7/ 176، والقرطبى في تفسيره 15/ 367.
(2)
بعده في م، ص، ت 1، ت 2:"بكيده".
(3)
سقط من: ص، ت 1، ت 3.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} : يُعزِّى نبيَّه صلى الله عليه وسلم كما تَسْمَعون، يقولُ:{كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52)}
(1)
[الذاريات: 52].
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ في قولِه:{مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} . قال: ما يَقُولون إلا ما قد قال المشرِكون للرسلِ من قبلِك
(2)
.
وقولُه: {إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ} . يقولُ: إن ربَّك لذو مغفرةٍ لذنوبِ التائبين إليه من ذنوبِهم، بالصفحِ عنهم، {وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ}. يقولُ: وهو ذو عقابٍ مؤلمٍ لمن أصرَّ على كفرِه وذنوبِه، فمات على الإصرارِ على ذلك قبلَ التوبةِ منه.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: ولو جعَلْنا هذا القرآنَ الذي أنزَلْناه يا محمدُ أعجميًّا، لقال قومُك من قريشٍ:{لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} . يعني: هلَّا بُيِّنتْ أدلتُه وما فيه من آيةٍ، فنَفْقَهَه ونعلمَ ما هو وما فيه. {أَأَعْجَمِيٌّ}؟ يعنى أنهم كانوا يَقُولون إنكارًا له: أأعجميٌّ هذا القرآنُ ولسانُ الذي أُنزِل عليه عربيٌّ؟!
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 188 عن معمر عن قتادة بنحوه، وعزاه السيوطي في الدر المنثور إلى عبد بن حميد مختصرا.
(2)
ذكره الطوسى في التبيان 9/ 130، وابن كثير في تفسيره 7/ 171.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن أبي بشرٍ، عن سعيدِ بن جبيرٍ، أنه قال في هذه الآيةِ:{لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} . قال: لو كان هذا القرآنُ أعجميًّا لقالوا: القرآنُ أعجميٌّ ومحمدٌ عربيٌّ
(1)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ المثنى، قال: ثنى محمدُ بنُ أبى عديٍّ، عن داودَ بن أبى هندٍ، عن جعفرِ بن أبى وحشيةَ، عن سعيدِ بن جبيرٍ في هذه الآيةِ:{لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} . قال: الرسولُ عربيٌّ واللسانُ أعجميٌّ؟!
(2)
.
حدَّثنا ابن المثنى، قال: ثنى عبدُ الأعلى، قال: ثنا داودُ، عن سعيدِ بن جبيرٍ في قولِه:{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} : قرآنٌ أعجميٌّ ولسانٌ عربيٌّ؟!
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبدُ الأعلى، قال: ثنا داودُ، عن محمدِ بن أبى موسى، عن عبدِ اللَّهِ بن مطيعٍ بنحوِه.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} : فَجُعِلَ عربيًّا، أعجميُّ الكلامِ وعربيُّ الرجلِ؟!
(3)
(1)
أخرجه أبو الشيخ في طبقات المحدثين بأصفهان 3/ 162، وأبو نعيم في أخبار أصبهان 1/ 106، 107 من طريق شعبة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 367 إلى عبد بن حميد.
(2)
تفسير مجاهد ص 587 من طريق أبى بشر به.
(3)
تفسير مجاهد ص 586، 587.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ في قولِه:{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} . يقولُ: بُيِّنت آياتُه، أأعجميٌّ وعربيٌّ، نحن قومٌ عربٌ ما لنا وللعُجْمةِ؟
وقد خالف هذا القولَ الذي ذكَرْناه عن هؤلاء آخرون، فقالوا: معنى ذلك: {لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} ؛ بعضُها عربيٌّ، وبعضُها عجميٌّ. وهذا التأويلُ على تأويلِ مَن قرَأ:(أَعْجَمِيٌّ). بتركِ الاستفهامِ فيه
(1)
، وجعَله خبرًا من اللَّهِ تعالى عن قيلِ المشرِكين ذلك، يَعْنى: هلَّا فصِّلت آياتُه؛ منها عجميٌّ تَعْرِفُه العجمُ، ومنها عربيٌّ تَفْقَهُه العربُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا يعقوبُ، عن جعفرٍ، عن سعيدٍ، قال: قالت قريشٌ: لولا أُنزِل هذا القرآنُ أعجميًّا وعربيًّا. فأنزَل اللَّهُ: (وقَالوا لولا فُصِّلَتْ آيَاتُه أعْجَميٌّ وعربيٌّ قل هو للذين آمَنُوا هُدًى وشِفاءٌ). فأنزَل اللَّهُ بعدَ هذه الآيةِ كُلَّ لسانٍ، فيه: هو {حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} [هود: 82]. قال: فارسيةٌ أُعرِبت: سنكَك وكَل
(2)
.
وقرَأت قرأةُ الأمصارِ: {أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} . على وجهِ الاستفهامِ، وذُكِر عن الحسنِ البصريِّ أنه قرَأ ذلك:(أَعْجَميٌّ). بهمزةٍ واحدةٍ
(3)
، على غيرِ مذهبِ
(1)
سيأتي قريبًا بيان من قرأ بهذه القراءة.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 367 إلى المصنف وعبد بن حميد، وتقدم في 12/ 526 وينظر ما تقدم من كلام المصنف عن وجود أحرف غير عربية في القرآن في 1/ 14 - 20.
(3)
هي قراءة الحسن وأبى الأسود والجحدرى وسلام والضحاك، ورواية قنبل وهشام ورويس باختلاف عنهم. ينظر المحتسب 2/ 247، والنشر 1/ 285.
الاستفهامِ، على المعنى الذي ذكَرْناه عن جعفرِ بن أبى المغيرةِ، عن سعيدِ بن جبيرٍ.
والصوابُ من القراءةِ في ذلك عندَنا القراءةُ التي عليها قرأَةُ الأمصارِ؛ لإجماعِ
(1)
الحجةِ عليها، على مذهبِ الاستفهامِ.
وقولُه: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} . يقولُ تعالى ذكرُه: قُلْ يا محمدُ لهم: {هُوَ} ، ويَعْنى بقولِه:{وَهُوَ} . القرآنَ، {لِلَّذِينَ آمَنُوا} باللَّهِ ورسولِه، وصدَّقوا بما جاءهم به من عندِ اللَّهِ
(2)
، {هُدًى}. يَعْنى: بيانٌ للحقِّ، {وَشِفَاءٌ} . يَعْنى أنه شفاءٌ من الجهلِ.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} . قال: جعَله اللَّهُ نورًا وبركة وشفاءً للمؤمنين.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} . قال: القرآنُ.
وقولُه: {وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} . يقولُ تعالى ذكرُه: والذين لا يُؤْمِنون باللَّهِ ورسولِه، وما جاءهم به من عندِ اللَّهِ، في آذانِهم ثِقَلٌ عن استماعِ هذا القرآنِ وصَمَمٌ، لا يَسْتَمِعُونه، ولكنهم يُعْرِضون عنه، {وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى}. يقولُ: وهذا القرآنُ على قلوبِ هؤلاء المكذبين به عمًى عنه، فلا
(1)
في ص، ت 1:"ولإجماع"، وفى ت 2، ت:"والإجماع".
(2)
في م: "ربهم".
يُبْصرون حُججَه عليهم، وما فيه من مواعظِه.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} : عَمُوا وصمُّوا عن القرآنِ، فلا يَنْتَفِعون به، ولا يَرْغَبون فيه
(1)
.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ} . قال: صَمَمٌ، {وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى}. قال: عَمِيَت قلوبُهم عنه.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} . قال: العمَى الكفرُ.
وقرَأت قرأَةُ الأمصارِ: {وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} . بفتحِ الميمِ، وذُكر عن ابن عباسٍ أنه قرَأ:(وهو عليهم عمٍ) بكسرِ الميمِ
(2)
، على وجهِ النعتِ للقرآنِ.
والصوابُ من القراءةِ في ذلك عندَنا ما عليه قرأةُ الأمصارِ.
وقولُه: {أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} . اختلَف أهلُ التأويلِ في معناه؛ فقال بعضُهم: معناه
(3)
: ذلك تشبيهٌ من اللَّهِ جلَّ ثناؤُه لعمَى قلوبِهم عن فهمِ ما أَنزَل في القرآنِ من حُجَجِه ومواعظِه ببعيدٍ، فهم سامعُ صوتٍ من بعيدٍ نُودِى فلم
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 189 عن معمر عن قتادة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور - ص 371 كما في المخطوطة المحمودية - إلى عبد بن حميد.
(2)
مختصر الشواذ لابن خالويه ص 134.
(3)
في م: "معنى".
يَفْهَمْ
(1)
ما نُودِى، كقولِ العربِ للرجلِ القليلِ الفَهْمِ: إنك لتُنادَى من بعيدٍ، وكقولِهم للفَهِمِ: إنك لتَأْخُذُ الأمورَ من قريبٍ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن ابن جريجٍ، عن بعضِ أصحابِه، عن مجاهدٍ:{أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} . قال: بعيدٍ من قلوبِهم
(2)
.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا سفيانُ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ بنحوِه.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} . قال: ضيَّعوا أن يَقْبَلُوا الأمرَ من قريبٍ؛ يَتوبون ويُؤْمِنون فيُقْبَلُ منهم، فأَبَوا.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: إنهم يُنَادَون يومَ القيامةِ من مكانٍ بعيدٍ منهم بأشنعِ أسمائِهم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا سفيانُ، عن أجلحَ، عن الضحاكِ بن مزاحمٍ:{أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} . قال: يُنادى الرجلُ
(1)
بعده في ص، ت 1، ت:"عن فهم".
(2)
ذكره القرطبي في تفسيره 15/ 370، وابن كثير في تفسيره 7/ 172، وعزاه السيوطي في الدر المنثور - ص 371 كما في المخطوطة المحمودية - إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
بأشنعِ اسمِه
(1)
.
واختلَف أهلُ العربية في موضعِ تمامِ قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ} ؛ فقال بعضُهم: تمامُه: {أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} . وجعل قائلو هذا القولِ خبرَ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ} ، {أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ}. وقال بعضُ نحويِّى البصرةِ: يَجوزُ ذلك، ويَجوزُ أن يكونَ على الأخبارِ التي في القرآنِ يُستَغْنى بها، كما استَغنَت أشياءُ عن الخبرِ إذا طال الكلامُ، وعُرِف المعنى، نحوَ قوله:{وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ} [الرعد: 31]. وما أَشْبَهُه
(2)
.
قال: وحدَّثنى شيخٌ من أهلِ العلمِ، قال: سمِعتُ عيسى بنَ عمرَ يَسْأَلُ عمرَو بنَ عبيدٍ: هو {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ} ، أين خبرُه؟ فقال عمرٌو: معناه في التفسيرِ: إن الذين كفَروا بالذكرِ لما جاءهم كفَروا به، وإنه لكتابٌ عزيزٌ. فقال عيسى: أجَدتَ يا أبا عثمانَ.
وكان بعضُ نحويِّى الكوفةِ يَقولُ: إن شِئْت جعِلت جوابَ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ} ، {أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} ، وإن شِئْت كان جوابُه في قولِه:{وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} . فيكونُ جوابهُ معلومًا فتُرِك، فيكونُ أعربَ
(3)
الوجهَيْن، وأشبهَه بما جاء في القرآنِ.
وقال آخرون: بل ذلك مما انصرَف عن الخبرِ عما ابتُدِئ به إلى الخبرِ عن الذي
(1)
ذكره القرطبي في تفسيره 15/ 370، وابن كثير في تفسيره 7/ 173، وعزاه السيوطي في الدر المنثور - ص 371 كما في المخطوطة المحمودية - إلى سعيد بن منصور.
(2)
في م: "أشبه ذلك".
(3)
في ص، ت 1، ت 3:"إعراب".
بعدَه من الذكرِ. فعلى هذا القولِ تُرِك الخبرُ عن الذين كفَروا بالذكرِ، وجُعِل الخبرُ عن الذكرِ، فتمامُه على هذا القولِ:{وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} . فكان معنى الكلامِ عندَ قائل هذا القول: إن الذكرَ الذي كفَر به هؤلاء المشرِكون لما جاءهم، وإنه لكتابٌ عزيز. وشبَّهه بقولِه:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} [البقرة: 234].
وأولى الأقوالِ في ذلك عندِى بالصواب أن يُقالَ: هو مما تُرِك خبرُه اكتفاءً بمعرفةِ السامِعين بمعناه، لما تطاولَ الكلامُ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45)} .
يقولُ تعالى ذكره: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} يا محمدُ - يَعْنى التوراةَ - كما آتَيْناك الفُرْقانَ، {فَاخْتُلِفَ فِيهِ}. يقولُ: فاختلف في العمل بما فيه الذين أوتوه من اليهود، {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ}. [يقولُ: ولولا ما سبَق من قضاءِ اللَّهِ وحُكمِه فيهم؛ أنه أخَّر عذابَهم إلى [قيامِ الساعةِ]
(1)
، {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ}. يقولُ: لعجَّل الفصل بينهم]
(2)
فيما اختلَفوا فيه بإهلاكِه المُبِطلين منهم.
كما حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ في قولِه:{وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ} . قال: أُخِّروا إلى يوم القيامةِ.
وقولُه: {وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} . يقولُ: وإن الفريقَ المبطِلَ منهم لفى شكٍّ مما قالوا فيه {مُرِيبٍ} : يقولُ: يُريبُهم قولهم فيه ما قالوا، لأنهم قالوه
(3)
(1)
في م: "يوم القيامة".
(2)
سقط من: ت 1.
(3)
في م: "قالوا".
بغيرِ ثَبَتٍ، وإنما قالوه ظنًّا.
القولُ في تأويلِ قوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)} .
يقولُ تعالى ذكرهُ: من عمِل بطاعةِ اللَّهِ في هذه الدنيا، فأْتمَر لأمرِه، وانتَهى عما نهاه عنه، {فَلِنَفْسِهِ}. يقولُ: فلنفسه عمل ذلك الصالحَ من العملِ؛ لأنه يُجازَى عليه جزاءَه، فيَسْتَوجِبُ في المعادِ من اللَّهِ الجنةَ والنجاةَ من النارِ، {وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا}. يقولُ: ومن عمل بمعاصِى اللَّهِ فيها، فعلى نفسِه جنَى؛ لأنه أكسَبها بذلك سخطَ اللَّهِ والعقابَ الأليمَ، {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}. يقولُ تعالى ذكرُه: وما ربُّك يا محمدُ بحاملِ عقوبةِ ذنبِ مُذْنِبٍ على غيرِ مُكتسِبِه، بل لا يُعاقِبُ أحدًا إلا على جُرْمِه الذي اكتَسَبه في الدنيا، أو على سببٍ استحقَّه به منه. واللَّهُ أعلم.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ
(1)
مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47)}.
يقولُ تعالى ذكرُه: إلى اللَّهِ يَرُدُّ العالمون به علمَ الساعةِ، فإنه لا يَعْلَمُ متى
(2)
قيامُها غيرُه، {وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ (1) مِنْ أَكْمَامِهَا}. يقولُ: وما تَظْهَرُ مِن ثمرةِ شجرةٍ من أكمامِها التي هي مُتَغيِّبةٌ فيها، فتَخْرُجُ منها بارزةً، {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى}. يقولُ: وما تَحْمِلُ من أنثى مِن حَمْلِ حِينَ تَحْمِلُه، ولا تَضَعُ ولدها - إلا بعلمٍ مِن اللَّهِ، لا يَخْفَى عليه شيءٌ من ذلك.
(1)
في ص، ت 1، ت 3:"ثمرة".
(2)
في ص، م، ت:"ما".
وبنحوِ الذي قلنا في معنى قولِه: {وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ
(1)
مِنْ أَكْمَامِهَا}.
قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{مِنْ أَكْمَامِهَا} . قال: حينَ تَطْلُعُ
(2)
.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ (1) مِنْ أَكْمَامِهَا} . قال: من طَلْعِها. والأكمام جمعُ كُمَّةٍ
(3)
، وهو كلُّ ظُرْفٍ لماءٍ أو غيرِه، والعربُ تَدْعُو قشرَ الكُفُرَّاةِ
(4)
كُمًّا.
واخْتَلَفَت القرأةُ في قراءةِ قوله: {مِنْ ثَمَرَاتٍ} ؛ فقَرَأَت ذلك قرأةُ المدينةِ: {مِنْ ثَمَرَاتٍ} على الجِماع، وقرأَته قرأةُ الكوفةِ:(مِنْ ثمَرةٍ)
(5)
، على لفظِ الواحدةِ، وبأيِّ القراءتين قُرِئ ذلك، فهو عندَنا صوابٌ؛ لتَقارُبِ مَعْنَييْهما مع شهرتِهما في القراءةِ.
وقولُه: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي} . يقولُ تعالى ذكرُه: ويومَ
(1)
في ص، ت 1، ت 3:"ثمرة".
(2)
تفسير مجاهد ص 587، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 367 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
في ت 3: "كم".
(4)
كذا في النسخ ومعاني القرآن للفراء 3/ 20. و "الكُفُرَّى" مقصور كما قال في النهاية. و "الكفرَّى" بتثليث الكاف والفاء معًا وتشديد الراء هو وعاء طلع النخل وقشره الأعلى، وقيل: هو الطلع حين ينشق. ينظر النهاية 4/ 189 والتاج (ك ف ر).
(5)
في م: "ثمرات"، وقد قرأ على الجماع نافع وابن عامر وحفص عن عاصم وقرأ الباقون وأبو بكر عن عاصم على الإفراد. السبعة لابن مجاهد ص 577.
يُنادِى اللهُ هؤلاء المشركين به في الدنيا الأوثانَ والأصنامَ: أين شركائى الذين كنتم تُشْرِكونهم في عبادتِكم إياي؟ {قَالُوا آذَنَّاكَ} يقولُ: قالوا: أعْلَمْناك {مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ} يقولُ: قال هؤلاء المشركون لربِّهم يومَئِذٍ: ما منا مِن شهيدٍ يَشْهَدُ أَن لك شريكًا.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولِه:{آذَنَّاكَ} . يقولُ: أَعْلَمْناك
(1)
.
حدَّثني محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ
(2)
، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ في قولِه:{آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ} . قالوا: أطعْناك ما منا مِن شهيدٍ على أن لك شريكًا
(3)
.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48) لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49)} .
يقول تعالى ذكره: وضلَّ عن هؤلاء المشركين يومَ القيامةِ آلهتُهم التي كانوا يعبدونها في الدنيا، فأخَذْتها
(4)
طريقٌ غيرُ طريقِهم، فلم تَنْفَعُهم، ولم تَدْفَعْ عنهم
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 367 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
في م: "أبو صالح".
(3)
ذكره الطوسى في التبيان 9/ 134 مختصرًا.
(4)
في ت 1، م:"فأخذ بها".
شيئًا من عذابِ اللَّهِ الذي حلَّ بهم.
وقوله: {وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} . يقولُ: وأيْقَنوا حينَئذٍ ما لهم مِن مَلْجَأ، أي: ليس لهم ملجأٌ يَلْجَئون إليه مِن عذابِ اللَّهِ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} اسْتَيقَنوا أنه ليس لهم ملجأٌ.
واخْتَلَف أهلُ العربيةِ في المعنى الذي من أجلِه أُبْطِل عملُ الظَّنِّ في هذا الموضعِ؛ فقال بعضُ أهلِ البصرةِ: فُعِل ذلك؛ لأن معنى قولِه: {وَظَنُّوا} . اسْتَيْقَنوا. قال: و {مَا} ههنا حرفٌ وليس باسمٍ، والفعلُ لا يَعْمَلُ في مثلِ هذا، فلذلك جُعِل الفعلُ مُلْغًى. وقال بعضُهم: ليس يُلْغَى الفعلُ وهو عاملٌ في المعنى إلا لعلةٍ. قال: والعلُة أنه حكايةٌ، فإذا وقَع على ما لم يَعْمَلْ فيه، كان حكايةً وتَمَنِّيًا، وإذا عمِل فهو على أصلِه.
وقوله: {لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْر} . يقولُ تعالى ذكرُه: لا يَمَلُّ الكافرُ باللَّهِ {مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ} . يعنى: مِن دعائِه بالخيرِ، ومسألتِه إياه ربَّه، والخيرُ في هذا الموضع المالُ وصحةُ الجسمِ، يقولُ: لا يَمَلُّ من طلبِ ذلك {وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ} . يقولُ: وإن ناله ضرٌّ في نفسِه؛ مِن سُقْمٍ أو جَهْد في معيشَةٍ، أو احتباسٍ مِن رزقٍ، {فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ}. يقولُ: فإنه ذو إياسٍ مِن رَوْحِ اللَّهِ وفرجِه، قَنوطٌ مِن رحمتِه، ومن أن يَكْشِفَ ذلك الشرَّ النازلَ به عنه.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ} . يقولُ: الكافرُ، {وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ} . قانطٌ من الخيرِ.
حدَّثني يونس، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ} . قال: لا يَمَلُّ
(1)
.
وذُكِر أن ذلك في قراءةِ عبدِ اللَّهِ: (لا يَسْأَمُ الإِنسانُ مِن دعاءٍ بالخيرِ)
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: ولئن نحن كشَفْنا عن هذا الكافرِ ما أصابه من سُقْمٍ في نفسه وضُرٍّ، وشدةٍ في معيشتِه وجَهْدٍ؛ رحمةً منا، فوهَبْنا له العافيةَ في نفسِه بعدَ السُّقْمِ، ورزَقْناه مالًا، فوسَّعْنا عليه في معيشتِه مِن بعدِ الجهدِ والضرِّ، {لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي} عندَ اللَّهِ؛ لأن اللَّهَ راضٍ عنى برضاه عملى، وما أنا عليه مقيمٌ.
كما حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:
(1)
ينظر التبيان 9/ 134.
(2)
ينظر مختصر الشواذ ص 134.
{لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي} . أي: بعملي، وأنا محقوقٌ بهذا
(1)
.
{وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} . يقولُ: وما أَحْسَبُ القيامةَ تَقومُ، {وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي}. يقولُ: وإن قامت أيضًا القيامة، ورُدِدْتُ إلى اللَّهِ حيًّا بعدَ مماتي {إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى}. يقولُ: إن لى عندَه غنًى ومالًا.
كما حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ في قولِه:{إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى} . يقولُ: غنًى.
{فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا} . يقولُ تعالى ذكرُه: فَلَنُخْبِرَنَّ هؤلاء الكفارَ باللَّهِ، المتُمَنِّين عليه الأباطيلَ يومَ يَرْجِعون إليه بما عملوا في الدنيا من المعاصي، واجْتَرَحوا من السيئاتِ، ثم لنُجازيَنَّ جميعَهم على ذلك جزاءَهم، {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} ، وذلك العذابُ الغليظُ تخليدُهم في نارِ جهنمَ، لا يَموتون فيها ولا يَحْيَوْن.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وإذا نحن أَنْعَمْنا على الكافرِ، فكشَفْنا ما به من ضُرٍّ، ورزَقْناه غنًى وسَعةً، ووهَبْنا له صحةَ جسمٍ وعافيةً، أعْرَض عما دعَوْناه إليه من طاعتِنا
(2)
، وصدَّ عنه، {وَنَأَى بِجَانِبِهِ}. يقولُ: وبَعد من إجابتِنا إلى ما دعَوْناه إليه. ويعنى بجانبِه: بناحيتِه.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
(1)
تفسير مجاهد ص 587.
(2)
في م، ت 1، ت 2:"طاعته". وفي ت 2: "طاعاته".
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ في قولِه:{أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ} . يقولُ: {أَعْرَضَ} : صدَّ بوجهِه، {وَنَأَى بِجَانِبِهِ}. يقولُ: تَباعَد.
وقوله: {وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} . يعنى بالعريضِ: الكثيرِ
(1)
.
كما حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} . يقولُ: كثيرٍ
(2)
، وذلك نحُو
(3)
قولِ الناسِ: أطال فلانُ الدعاءَ. إذا أكْثَر، وكذلك: أعْرَض دعاءَه.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52)}
يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: {قُلْ} يا محمدُ للمكذِّبين بما جئتَهم به من عندِ ربِّك من هذا القرآنِ: {أَرَأَيْتُمْ} أيُّها القومُ {إِنْ كَانَ} هذا الذي تُكَذِّبون به {مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ} ، ألستُم في فِراقٍ للحقِّ وبُعْدٍ من الصوابِ؟ فجعَل مكان التفريقِ الخبرَ، فقال:{مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} . إذ
(4)
كان مفهومًا معناه.
وقوله: {مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} . يقولُ: قلْ لهم: مَن أَشدُّ
(1)
في ص، ت 1:"الكبير"، وينظر المعجم الوسيط (ع ر ض).
(2)
في ص، ت 1:"كبير".
(3)
سقط من: م.
(4)
في م: "إذا".
ذَهابًا عن قصد السبيل، وأَسْلَكُ لغيرِ طريقِ الصوابِ، ممن هو في فراقٍ لأمرِ اللَّهِ وخلافٍ له، بعيدٍ مِن الرَّشادِ.
القول في تأويلِ قوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: سنُرِى هؤلاء المكذِّبين ما أَنْزَلْنا على محمدٍ عبدِنا مِن الذكرِ، آياتِنا في الآفاقِ.
واخْتَلَف أهلُ التأويلِ في معنى الآياتِ التي وعد اللَّهُ؛ هؤلاء القومَ أن يُرِيَهم؛ فقال بعضُهم: عُنِى بالآياتِ في الآفاقِ وقائعُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بنواحي بلدِ المشركين من أهلِ مكةَ وأطرافِها، وبقولِه:{وَفِي أَنْفُسِهِمْ} فتحُ مكةَ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا ابن يَمانٍ، عن سفيانَ، عن عمرِو بن دينارٍ، عن عمرِو بن قيسٍ
(1)
، عن المِنْهالِ في قولِه:{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ} . قال: ظهورَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم على الناسِ
(2)
.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ} . يقولُ: ما نَفْتَحُ لك يا محمدُ من الآفاقِ. {وَفِي أَنْفُسِهِمْ} : في أهلِ مكةَ، يقولُ: نَفْتَحُ لك مكةَ
(3)
.
وقال آخرون: بل عُنِى بذلك أنه يُرِيهم نجومَ الليلِ وقمرَه، وشمسَ النهارِ،
(1)
في م: "أبى قيس"، ينظر تهذيب الكمال 22/ 200.
(2)
ينظر تفسير القرطبي 15/ 374، والبحر المحيط 7/ 505.
(3)
ينظر تفسير القرطبي 15/ 374، وتفسير البغوي 7/ 179.
وذلك ما وعَدَهم أنه يُرِيهم في الآفاقِ. وقالوا: عُنِى بالآفاق آفاقُ السماءِ، وبقولِه:{وَفِي أَنْفُسِهِمْ} . سبيلُ الغائطِ والبولِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونُسُ، قال: أخبرَنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ} . قال: آفاقِ السماواتِ، نجومِها وشمسِها وقمرِها اللاتى يَجْرِين، وآياتٍ في أنفسهم أيضًا
(1)
.
وأولى القولين في ذلك بالصوابِ القولُ الأولُ، وهو ما قاله السديُّ، وذلك أن اللَّهَ عز وجل وعَد نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يُرِىَ هؤلاء المشركين الذين كانوا به مُكذِّبين - آياتٍ في الآفاقِ، وغيرُ معقولٍ أن يكونَ تَهدَّدهم بأن يُريَهم ما هم رأَوْه، بل الواجبُ أن يكونَ ذلك وعدا منه لهم أن يُريَهم ما لم يكونوا رأَوْه قبل مِن ظهورِ نبيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم على أطرافِ بلدِهم وعلى بلدِهم، فأما النجومُ والشمسَ والقمرُ، فقد كانوا يَرَوْنها كثيرًا قبلُ وبعدُ، ولا وجهَ لتهدُّدِهم بأنه يُريهم ذلك.
وقوله: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} . يقولُ جلَّ ثناؤُه: أَرِى هؤلاء المشركين وقائعَنا بأطرافِهم وبهم، حتى يَعْلَموا حقيقةَ ما أَنْزَلْنَا إلى محمدٍ، وأَوْحَيْنا إليه مِن الوعدِ له بأنا مُظْهِرو ما بعَثْناه به مِن الدينِ على الأديانِ كلِّها، ولو كرِه المشركون.
وقوله: {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} . يقولُ تعالى ذكرُه: أوِ لم يَكْفِ بربِّك يا محمدُ، أنه شاهدٌ على كلِّ شيءٍ مما يَفْعَلُه خلقُه، لا يَعْزُبُ عنه علمُ شيءٍ منه، وهو مُجازِيهم على أعمالِهم؛ المحسنَ بالإحسانِ،
(1)
ينظر تفسير القرطبي 15/ 374، وتفسير البغوي 7/ 179.
والمسيءَ جزاءَه.
وفى قوله: {أَنَّهُ} . وجهان؛ أحدُهما: أن يكونَ في موضعِ خفضٍ، على وجهِ تكريرِ الباءِ، فيكونَ معنى الكلامِ حينَئذٍ: أو لم يَكْفِ بربِّك، بأنه
(1)
على كلِّ شيءٍ شهيدٌ؟ والآخرُ: أن يكونَ في موضعِ رفعٍ، رفعًا بقولِه:{يَكْفِ} . فيكونَ معنى الكلامِ: أولم يَكْفِ بربِّك شهادتُه على كلِّ شيءٍ.
القولُ في تأويلِ قوله تعالى: {أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)}
يقولُ تعالى ذكرُه: ألَا إن هؤلاء المكذِّبين بآياتِ اللَّهِ في شكٍّ {مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ} . يعنى: أنهم في شكٍّ مِن البعث بعدَ المَماتِ، ومَعادِهم إلى ربِّهم.
كما حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ} . يقولُ: في شكٍّ [من لقاء ربِّهم]
(2)
.
وقوله: {أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ} . يقول تعالى ذكرُه: ألَا إن اللَّهَ بكلِّ شيءٍ مما خلَق محيطٌ علْمًا بجميعِه وقُدْرةً عليه، لا يَعْزُبُ عنه علمُ شيءٍ منه أراده فيَفوتَه، ولكنه المقتدرُ عليه، العالمُ بمكانِه.
آخرُ تفسير سورِة "حم السجدة"
والحمدُ للهِ وحدَه
(1)
في ت 2: "شهادته". وفى ت 3: "يا محمد بأنه".
(2)
سقط من: م.
بسم الله الرحمن الرحيم
تفسيرُ سورةِ "حم عسق"
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
(3)}.
قد ذكَرْنا اختلافَ أهلِ التأويلِ في معاني حروفِ الهِجاءِ التي افْتُتِحَت بها أوائلُ ما افْتُتِح بها مِن سورِ القرآنِ، وبيَّنا الصوابَ من قولِهم في ذلك عندَنا، بشواهدِه المغنيةِ عن إعادتها في هذا الموضعِ، إذ كانت هذه الحروفُ نظيرةَ الماضيةَ منها
(1)
.
وقد ذُكِر عن حُذيفةَ في معنى هذه خاصةً قولٌ، وهو ما حدَّثنا به أحمدُ بنُ زُهَيْرٍ، قال: ثنا عبدُ الوَهَّابِ بنُ نَجدةَ الحَوْطيُّ، قال: ثنا أبو المغيرةِ عبدُ القُدُّوسِ بنُ الحجاجِ الحِمْصيُّ، عن أرْطاةَ بن المنذرِ قال: جاء رجلٌ إلى ابن عباسٍ، فقال له، وعندَه حُذيفةُ بنُ اليَمانِ: أَخْبِرْني عن تفسيرِ قولِ اللَّهِ:
{حم (1) عسق} . قال: فأطْرَق، ثم أعْرَض عنه، ثم كرَّر مقالتَه، فأعْرَض، فلم يُجِبْه بشيءٍ، وكرِه مقالتَه، ثم كرَّرها الثالثةَ، فلم يُجِبْه شيئًا، فقال له حذيفةُ: أنا أُنَبِّئُك بها، قد عرَفْتُ لمَ
(2)
كرِهها
(3)
؛ نزَلَت في رجلٍ مِن أهلِ بيتِه يقالُ له: عبدُ الإلهِ. أو: عبدُ اللَّهِ. يَنْزِلُ على نهرٍ مِن أنهارِ المشرقِ، يُبْنَى عليه مدينتان
(4)
، يَشُقُّ النهرَ بينَهما شقًّا، فإذا
(1)
تقدم في 1/ 204 وما بعدها.
(2)
في النسخ: "بم" والمثبت من مصادر التخريج.
(3)
في ت: "كررها".
(4)
كذا في النسخ، وفى كتاب الفتن، وفيما نقله ابن كثير في تفسيره عن ابن جرير، وفى الدر المنثور:"مدينتين". وعندى أنه الصواب.
أذِن اللَّهُ في زَوالِ ملكِهم، وانقطاعِ دولتِهم ومدتِهم، بعَث اللَّهُ على إحداهما نارًا ليلًا، فتُصْبحُ سوداءَ مظلمةً قد احْتَرَقَت، كأنها لم تَكُنْ مكانَها، وتُصْبحُ صاحبتُها مُتَعَجِّبةٌ كيف أفْلَتَت، فما هو إلا بياضُ يومِها ذلك حتى يَجْتَمِعَ
(1)
فيها كلُّ جبارٍ عنيدٍ منهم، ثم يَخْسِفُ اللَّهُ بها وبهم جميعًا، فذلك قولُه:{حم (1) عسق} . يعنى: عزيمةٌ من الله وفتنة وقضاءٌ حُمَّ. "عينٌ" يعنى: عَدْلًا منه. "سينٌ" يعني: سيكونُ. و "قافٌ"
(2)
يعنى: واقعٌ بهما
(3)
؛ بهاتين المدينتين
(4)
.
وذكر عن ابن عباس أنه كان يَقْرَؤُه: (حم * سق) بغير عينٍ، ويقولُ: إن السينَ عُمْرُ كلِّ فرقةٍ كائنةٍ، وإن القافَ كلُّ جماعةٍ كائنةٍ، ويقولُ: إن عليًّا إنما كان يَعْلَمُ العينَ بها. وذُكِر أن ذلك في مصحفِ عبدِ اللَّهِ على مثلِ الذي ذُكر عن ابن عباسٍ، مِن قراءتِه بغيرِ عينٍ
(5)
.
وقوله: {كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} . يقولُ تعالى ذكرُه: هكذا يُوحِى إليك يا محمدُ وإلى الذين مِن قبلِك من أنبيائِه. وقيل: إن (حم عين سين ق) أُوحِيَت إلى كلِّ نبيٍّ بعث، كما أُوحِيَت إلى نبيِّنا صلى الله عليه وسلم، ولذلك قيل:{كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} . في انتقامِه مِن أعدائِه، {الْحَكِيمُ} في تدبيرِه خلقَه.
(1)
في ص، ت، ت:(يجمع).
(2)
سقط من: ص، ت 2 ت 3.
(3)
سقط من: م.
(4)
أخرجه نعيم بن حماد في الفتن (568) - ومن طريقه الخطيب البغدادى في تاريخه 1/ 40 - عن أبي المغيرة به، وفيه: عن أرطاة عمن حدثه. وذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 177 عن المصنف، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 2 إلى ابن أبي حاتم.
(5)
ينظر مختصر الشواذ ص 134.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: للَّهِ ملكُ ما في السماواتِ وما في الأرضِ مِن الأشياءِ كلِّها، {وَهُوَ الْعَلِيُّ}. يقولُ: وهو ذو علوٍّ وارتفاعٍ على كلِّ شيءٍ، والأشياءُ كلُّها دونَه؛ لأنهم في سلطانِه، جاريةٌ عليهم قدرتُه، ماضيةٌ فيهم مشيئتُه، {الْعَظِيمُ} الذي له العظمةُ والكِبْرياءُ والجَبَرِيَّةُ
(1)
.
وقوله: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ} . يقولُ تعالى ذكرُه: تكادُ السماواتُ يَتَشَفَّقْنَ مِن فوقِ الأَرَضِينَ
(2)
، مِن عظمةِ الرحمنِ وجَلالِه.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ} . قال: يعنى: من ثِقَلِ الرحمنِ وعظمتِه تبارك وتعالى
(3)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ} . أي: مِن عظمةِ اللَّهِ وجَلالِه.
(1)
في ت 1، ت 2:"الخيرة"، وغير منقوطة في ت 3. والجبرية: الكبر. اللسان (ج ب ر).
(2)
في ت 2، ت 3:"الأرض".
(3)
أخرجه محمد بن عثمان بن أبى شيبة العبسي في العرش ص 58، وأبو الشيخ في العظمة (237، 238)، والحاكم 2/ 442 من طرق عن ابن عباس، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 3 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ مثلَه
(1)
.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ} . قال: يَتَشَفَّقْنَ. في قوله: {مُنْفَطِرٌ بِهِ} [المزمل: 18]. قال: مُنْشَقٌّ به
(2)
.
حُدِّثْتُ عن الحسينِ، قال: سَمِعْتُ أبا مُعاذٍ يقولُ: أخبرَنا عبيدٌ، قال: سمِعْتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ} . يقولُ: يَتَصَدَّعْنَ من عظمةِ اللَّهِ
(3)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ منصورٍ الطُّوسِيُّ، قال: ثنا حسينُ بنُ محمدٍ، عن أبي مَعْشَرٍ، عن محمدِ بن قيسٍ قال: جاء رجلٌ إلى كعبٍ، فقال: يا كعبُ، أين ربُّنا؟ فقال له الناسُ: اتق اللَّهَ، أفتَسْأَلُ
(4)
عن هذا؟ فقال كعبٌ: دَعُوه، فإِن يَكُ عالمًا ازْدادَ علمًا، وإن يَكُ جاهلًا تعَلَّمَ؛ سأَلْتَ أين ربُّنا، وهو على العرشِ العظيمِ مُتَّكِئٌ، واضعٌ إحدى رجليه على الأخرى، ومسافةُ هذه الأرضِ التي أنت عليها مسيرةُ
(5)
خمسِمائةِ سنةٍ، [ومِن الأرضِ إلى الأرضِ مسيرةُ خمسِمائةِ سنةٍ]
(6)
، وكثافتُها خمسِمائةِ سنةٍ، حتى تمَّ سبعُ أرَضِينَ، ثم مِن الأرضِ إلى السماءِ مسيرةُ خمسِمائةِ
(1)
أخرجه أبو الشيخ في العظمة (196) من طريق محمد بن عبد الأعلى به، وعبد الرزاق في تفسيره 2/ 190 - ومن طريقه محمد بن عثمان بن أبي شيبة في كتاب العرش ص 59 - عن معمر عن قتادة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 3 إلى عبد بن حميد.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 179، والقرطبي في تفسيره 16/ 4.
(3)
في ص، م، ت، ت:"د ق".
(4)
في ص، ت 1، ت:3 "فقال أتسأل".
(5)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2.
(6)
سقط من: ت 1، ت 3.
سنةٍ، وكثافتُها خمسُمائةِ سنةٍ، واللَّهُ عز وجل على العرشِ متكئٌ، ثم تفَطَّرُ السماواتُ. ثم قال كعبٌ: اقْرَءوا إن شِئْتم: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ} الآيةَ
(1)
وقوله: {وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} . يقولُ تعالى ذكرُه: والملائكةُ يُصَلُّون بطاعةِ ربِّهم وشكرِهم له، من هَيْبَةِ جَلالِه وعظمتِه.
كما حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ:{وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} . قال: والملائكةُ يُسَبِّحون له من عظمتِه
(2)
.
وقوله: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} . يقولُ: ويَسْأَلُون ربَّهم المغفرةَ لذنوبِ مَن في الأرضِ مِن أهلِ الإيمانِ به.
كما حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ في قولِه:{وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} . قال: للمؤمنين
(2)
.
يقولُ الله عز وجل: {أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ} لذنوبِ مؤمنى عبادِه، {الرَّحِيمُ} بهم أن يُعاقِبَهم بعدَ توبتِهم منها.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6)} .
يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا} يا محمدُ مِن
(1)
أخرجه أبو الشيخ في العظمة (236) من طريق آخر عن كعب.
(2)
ذكره القرطبي في تفسيره 16/ 4.
مشركي قومِك من دونِ اللَّهِ آلهةً يَتَوَلَّوْنها ويَعْبُدونَها، {اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ} ؛ يُحْصِى عليهم أفعالَهم ويَحْفَظُ أعمالَهم؛ ليُجازِيهم بها يومَ القيامةِ جزاءَهم، {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ}. يقولُ: ولسْتَ أنت يا محمدُ بالوكيلِ عليهم بحفظِ أعمالِهم، وإنما أنت منذرٌ، فبلِّغْهم ما أُرْسِلْتَ به إليهم، فإنما عليك البلاغُ، وعلينا الحسابُ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وهكذا {أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} يا محمدُ {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} بلسانِ العربِ؛ لأن الذين أرْسَلْتُك إليهم قومٌ عربٌ، فأَوْحَيْنا إليك هذا القرآنَ بألسنتِهم؛ ليَفْهَموا ما فيه من حججِ اللَّهِ وذكرِه؛ لأنا لا نُرْسِلُ رسولًا إلا بلسانِ قومِه؛ ليُبَيِّنَ لهم - {لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى} وهى مكةُ، {وَمَنْ حَوْلَهَا}. يقولُ: ومَن حولَ أمِّ القرى مِن سائرِ الناسِ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ في قولِه:{لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى} . قال: مكةَ
(1)
.
وقولُه: {وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ} . يقولُ عز وجل: وتُنْذِرَ عقابَ اللَّهِ في يومِ جمعِ
(2)
عبادِه لموقفِ الحسابِ والعَرْضِ. وقيل: {وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ} . والمعنى:
(1)
تقدم تخريجه في 9/ 403، 404.
(2)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"الجمع".
وتُنْذِرَهم يومَ الجمعِ، كما قيل:{يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} [آل عمران: 175]، والمعنى: يُخَوِّفُكم أولياءَه.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ} . قال: يومَ القيامةِ
(1)
.
وقوله: {لَا رَيْبَ فِيهِ} . يقولُ: لا شكَّ فيه.
وقوله: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} . يقولُ: منهم فريقٌ في الجنةِ، وهم الذين آمنوا باللَّهِ، واتَّبَعوا ما جاءَهم به رسولُه صلى الله عليه وسلم، {وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ}. يقولُ: ومنهم فريقٌ في المُوقَدةِ مِن نارِ اللَّهِ المسعورةِ على أهلِها، وهم الذين كفَروا باللَّهِ، وخالَفوا ما جاءهم به رسولُه.
وقد حدَّثني يونُسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: أخبَرني عمرُو بنُ الحارثِ، عن أبي قَبِيلٍ المَعَافريِّ، عن شُفَيٍّ الأَصْبَحَيِّ، عن رجلٍ مِن أصحابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قال: خرَج علينا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وفي يدِه كتابان، فقال:"هل تدرون ما هذا؟ ". فقلْنا: لا، إلا أن تُخْبِرَنا يا رسولَ اللَّهِ. قال:"هذا كتابٌ مِن ربِّ العالَمين، فيه أسماءُ أهلِ الجنةِ، وأسماءُ آبائِهم وقبائلِهم، ثم أُجْمِل على آخرِهم، فلا يُزادُ فيهم، ولا يُنْقَصُ منهم أبدًا، وهذا كتابُ أهلِ النارِ بأسمائِهم وأسماء آبائِهم، ثم أُجْمِل على آخرِهم، فلا يُزادُ ولا يُنْقَصُ منهم أبدًا". قال أصحابُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: ففيمَ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 3 إلى المصنف.
إذن نَعْمَلُ إن كان هذا أمرًا
(1)
قد فُرِغ منه؟ فقال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "بل سَدِّدوا وقارِبوا، فإن صاحبَ الجنةِ يُخْتَمُ له بعملِ أهلِ الجنةِ، وإن عمِل أيَّ عملٍ، وإن صاحبَ النارِ يُخْتَمُ له بعملِ النارِ، وإن عمل أيَّ عملٍ، فرَغ ربُّكُم مِن العبادِ". ثم قال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بيديه فنبَذَهما: "فرَغ ربُّكم مِن الخلقِ، فريقٌ في الجنةِ، وفريقٌ في السعيرِ". قالوا: سبحانَ اللَّهِ! فلمَ نَعْمَلُ ونَنْصَبُ؟ فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "العملُ إلى خَواتِمه"
(2)
.
حدَّثني يونُسُ، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: أخبَرني عمرُو بنُ الحارثِ وحَيْوَةُ بنُ شُريحٍ، عن [يحيى بن أبى أَسِيدٍ]
(3)
، أن أبا فِراسٍ حدَّثه أنه سمِع عبدَ اللَّهِ بنَ عمرٍو يقولُ: إن الله تعالى ذكْرُه لما خلَق آدمَ نفَضه نفضَ المِزُودِ، فأخْرَج منه كلَّ ذريةٍ، فخرَج أمثالُ النَّغَفِ
(4)
، فقبَضَهم قبضتين، ثم قال: شقيٌّ وسعيدٌ. ثم ألْقاهما، ثم قبَضَهما فقال:{فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ}
(5)
.
قال: أَخْبَرَنى عمرُو بنُ الحارثِ، عن أبي سويدٍ
(6)
، حدَّثه عن ابن حُجَيْرةَ، أنه
(1)
في ص، م، ت 1، وغالب نسخ مسند أحمد:"أمر". قال السندي: هكذا في نسخ المسند، فإما أن يجعل "أمر" بدلًا من "هذا"، ويدل عليه رواية الترمذي:"إن كان أمر" بدون "هذا". وإما أن يجعل منصوبًا خبرًا لكان، بناء على شيوع ترك الألف في المنصوب كتابة في كتب الحديث، صرح به شراح الحديث. مسند أحمد 11/ 121 حاشية (1).
(2)
أخرجه أحمد 11/ 121 (6563)، والترمذي (2141)، والنسائي في الكبرى (11473)، وابن أبي عاصم في السنة (348)، وأبو نعيم في الحلية 5/ 168، والطبراني قطعة من الجزء (13) رقم (17) من طريق أبى قبيل به. وذكروا جميعًا الرجل المبهم في سند الطبرى فقالوا: عبد الله بن عمرو بن العاص. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 3 إلى ابن المنذر وابن مردويه.
(3)
في ت 1: "حيوة بن أسيد"، وفى ص، ت 2، ت 3:"يحيى بن أسد". ينظر تهذيب الكمال 32/ 120.
(4)
في ص: "النعف"، وفى ت:"النفق" والنغف: الدود. ينظر التاج (ن غ ف).
(5)
ذكرُه ابن كثير في تفسيره 7/ 181.
(6)
سقط من: ت 3، وفي ص، م:"شبويه" وفى ت 1: "شوذب"، وفى ت 2:"توته"، وقد جاء على الصواب في تفسير ابن كثير، وينظر تهذيب الكمال 19/ 213.
بلغَه أن موسى قال: يا ربِّ، خلْقُك الذين خَلَقْتَهم، جعَلْتَ منهم فريقًا في الجنةِ، وفريقًا في السَّعيرِ، لو ما أدْخَلْتَهم كلَّهم الجنةَ؟ قال: يا موسى، ارْفَعْ زرعَك. فرفَع، قال: قد رفَعْتُ. قال: ارْفَعْ. فرفَع، فلم يَتْرُكْ شيئًا، قال: يا ربِّ، قد رفَعْتُ. قال: ارْفَعْ. قال: قد رفَعْتُ إلا ما لا خيرَ فيه. قال: كذلك أُدْخِلُ خلقى كلَّهم الجنةَ إلا ما لا خيرَ فيه
(1)
.
وقيل: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} . فرفَع. وقد تقدَّم الكلامُ قبلَ ذلك بقولِه: {لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} بالنصبِ؛ لأنه أُرِيد به الابتداءُ، كما يقالُ: رأَيْتُ العسكرَ؛ مقتولٌ أو منهزمٌ. بمعنى: منهم مقتولٌ، ومنهم منهزمٌ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8)}
يقولُ تعالى ذكرُه: ولو أراد الله أن يَجْمَعَ خلقه على هُدًى، ويَجْعَلَهم على ملةٍ واحدةٍ لَفعَل، ولجعَلَهم {أُمَّةً وَاحِدَةً}. يقولُ: أهلَ ملةٍ واحدةٍ، وجماعةً مجتمعةً على دينٍ واحدٍ، {وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ}. يقولُ: لم يَفْعَلْ ذلك فيَجْعَلَهم أمةً واحدةً، ولكن يُدْخِلُ مَن يَشاءُ مِن عباده في رحمتِه. يعني أنه يُدْخِلُه في رحمته بتوفيقه إياه للدخولِ في دينه الذي ابْتَعَث به نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم {وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ}. يقولُ: والكافرون باللَّهِ ما لهم مِن وليٍّ يَتَوَلَّاهم يومَ القيامةِ، ولا نصيرٍ يَنْصُرُهم من عقابِ اللَّهِ حِينَ يُعاقِبُهم، فيُنْقِذَهِم مِن عذابِه، ويَقْتَصَّ لهم ممن عاقَبَهم. وإنما قيل هذا الرسولِ الله صلى الله عليه وسلم؛ تسليةً له عما كان يَنالُه مِن الهمِّ بتوليةِ قومِه عنه، وأمرًا له بتركِ إدخالِ المكروهِ على نفسِه، من أجلِ إدبارِ مَن أَدْبَر عنه منهم، فلم يَسْتَجِبْ لما دعاه إليه من الحقِّ، وإعلامًا له أن أمورَ عبادِه
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 181 عن المصنف.
بيدِه، وأنه الهادى إلى الحقِّ من شاء، والمُضِلُّ مَن أراد دونَه ودونَ كلِّ أحدٍ سواه.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: أتَّخَذ
(1)
هؤلاء المشركون باللَّهِ من دونِ اللَّهِ أولياءَ يَتَوَلَّوْنهم، {فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ}. يقولُ: فاللَّهُ هو وليُّ أوليائِه، وإياه فلْيَتَّخِذوا وليًّا، لا الآلهةَ والأوثانَ، ولا ما لا يَمْلِكُ لهم ضرًّا ولا نفعًا، {وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتَى}. يقولُ: واللَّهُ يُحْيِي الْمَوتى مِن بعدِ مَماتِهم، فيَحْشُرُهم يومَ القيامةِ، {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير}. يقولُ: واللَّهُ القادرُ على إحياءِ خلقِه مِن بعدِ مماتِهم، وعلى غيرِ ذلك، إنه ذو قدرةٍ على كلِّ شيءٍ
(2)
.
وقوله: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} . يقولُ تعالى ذكرُه: وما اخْتَلَفْتُم أيُّها الناسُ فيه من شيءٍ، فتنازَعْتُم بينَكم، {فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ}. يقولُ: فإن اللَّهَ هو الذي يَقْضِى فيه بينَكم، ويَفْصِلُ فيه الحكمَ.
كما حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} . قال ابن عمرٍو في حديثِه: فهو يَحْكُمُ فيه. وقال الحارثُ: فاللَّهُ يَحْكُمُ فيه
(3)
.
وقوله: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} . يقولُ لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: قلْ
(1)
في م: "أم اتخذ".
(2)
بعده في ت 2: "قدير شاء"، وبعده في ت 3:"شاء".
(3)
تفسير مجاهد ص 588، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 3 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
لهؤلاء المشركين باللَّه: هذا الذي هذه الصفاتُ صفاته ربي، لا [هذه الآلهةُ]
(1)
التي تَدْعُون مِن دونِه، التي لا تَقْدِرُ على شيءٍ، {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} في أمورى، وإليه فوَّضْتُ أسبابي، وبه وثقْتُ، {وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}. يقولُ: وإليه أَرْجِعُ في أمورى، وأتوبُ من ذنوبى.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: {فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ، خالقُ السماواتِ السبعِ والأرضِ.
كما حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ قولَه:{فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} . قال: خالقُ
(2)
.
وقوله: {جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} . يقولُ تعالى ذكرُه: زوَّجكم ربُّكم مِن أنفسِكم أزواجًا. وإنما قال جلَّ ثناؤُه: {مِنْ أَنْفُسِكُمْ} . لأنه خلَق حَوَّاءَ مِن ضِلَعِ آدمَ، فهن
(3)
مِن الرجالِ. {وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا} . يقولُ جلَّ ثناؤُه: وجعَل لكم مِن الأنعامِ أزواجًا؛ من الضأنِ اثنين، ومِن المَعْزِ اثنين، ومِن الإبلِ اثنين، ومِن البقرِ اثنين، ذُكورًا وإناثًا، ومن كلَّ جنسٍ من ذلك، {يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ}. يقولُ: يَخْلُقُكم فيما جعَل لكم من أزواجِكم، ويُعِيشُكم فيما جعَل لكم من الأنعامِ.
(1)
في ص، م، ت 1:"آلهتكم".
(2)
تقدم في 9/ 175، 176.
(3)
في ص، م، ت 1، ت 2:"فهو".
وقد اختَلَف أهلُ التأويلِ في معنى قولِه: {يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} . في هذا الموضعِ؛ فقال بعضُهم: معنى ذلك: يَخْلُقُكم فيه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهدٍ في قولِه:{يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} . قال: نَسْلٌ بعدَ نَسْلٍ مِن الناسِ والأنعامِ
(1)
.
حدَّثنا محمدٌ
(2)
، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ قولَه:{يَذْرَؤُكُمْ} . قال: يَخْلُقُكم
(3)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا حكامٌ، عن عَنْبَسةَ، عن محمدِ بن عبدِ الرحمنِ القاسمِ بن أبي بَزَّةَ، عن مجاهدٍ في قولِه:{يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} . قال: نَسْلٌ
(4)
بعدَ نَسْلٍ من الناسِ والأنعامِ.
حدَّثنا محمدُ بنُ المثنى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن منصورٍ، أنه قال في هذه الآيةِ:{يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} . قال: يَخْلُقُكم.
وقال آخرون: بل معناه: يُعِيشُكم فيه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بن سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن
(1)
تفسير مجاهد ص 588، ومن طريقه الفريابي - كما في تغليق التعليق 4/ 304 - وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 3 إلى عبد بن حميدٍ وابن المنذر.
(2)
بعده في م: "ابن المثنى". وهو محمد بن الحسين، وهو إسناد دائر.
(3)
عزاه الحافظ في الفتح 8/ 563، والسيوطي في الدر المنثور 6/ 3 إلى المصنف.
(4)
في م: "نسلا".
أبيه، عن ابن عباسٍ قولِه:{جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} . يقولُ: يَجْعَلُ لكم فيه معيشةً تَعِيشون بها
(1)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} . قال: يُعِيشُكم فيه
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} . قال: عيش من اللَّهِ يُعِيشُكم فيه.
وهذان القولان وإن اخْتَلَفا في اللفظِ مِن قائلَيْهما، فقد يَحْتَمِلُ توجيهُهما إلى معنًى واحدٍ، وهو أن يكونَ القائلُ في معناه: يُعِيشُكم فيه. أراد بقولِه ذلك: يُحْيِيكم بعيشِكم به كما يُحْيِي مَن لم يَخْلُق بتكوينه إياه، ونفخِه الروحَ فيه حتى يَعِيشَ حيًّا.
وقد بيَّنْتُ معنى: ذرَأ اللَّهُ الخلقَ. فيما مضَى بشواهدِه المغنيةِ عن إعادتِه
(3)
.
وقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} . فيه وجهان؛ أحدُهما: أن يكونَ معناه: ليس [كهو شيءٌ]
(4)
. وأُدْخِل الْمِثلُ في الكلامِ توكيدًا للكلامِ؛ إذِ اخْتَلَف اللفظُ به وبالكافِ، وهما بمعنًى واحدٍ، كما قيل
(5)
:
* ما إن نَدِيتُ بشيءٍ أنت تَكْرَهُهُ
(6)
*
(1)
ينظر البحر المحيط 7/ 510.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 190 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 3 إلى عبد بن حميد.
(3)
ينظر ما تقدم في 10/ 591.
(4)
في م: "هو كشيء".
(5)
الشطر الأول من بيت للنابغة الذيباني، ديوانه ص 20.
(6)
يقال: ما ندينى من فلان بشيء أكرهه. أي: ما بلَّنى ولا أصابني. اللسان (ن د ى).
فأُدْخِل على "ما" وهى حرفُ جَحْدٍ "إن"، وهي أيضًا حرفُ جَحْدٍ؛ لاختلافِ اللفظِ بهما، وإن اتَّفَق معنياهما
(1)
توكيدًا للكلامِ. وكما قال أَوْسُ بنُ حَجَرٍ
(2)
:
وقَتْلَى كَمِثْل جُذوعِ النَّخيلِ
…
تَغَشَّاهُمُ مُسْبِلٌ مُنْهَمِرْ
ومعنى ذلك: كجذوعِ النخيلِ، وكما قال الآخرُ:
سعدُ بنُ زيدٍ إذا أبْصَرْتَ فضلَهُمُ
…
ما إنْ كمثلِهِمُ في الناسِ مِن أحدِ
والآخرُ: أن يكونَ معناه: ليس مثلَه شيءٌ. وتكونَ الكافُ هي المُدْخَلةَ في الكلامِ، كقولِ الراجزِ
(3)
:
وصالياتٍ ككَمَا يُؤَثْفَيْنْ
فأدْخَل على الكافِ كافًا؛ توكيدًا للتشبيهِ، وكما قال الآخرُ
(4)
:
تنْفِي الغَيادِيقَ على الطريقِ
قَلَّصَ عَن كبيضةٍ في نيقِ
(5)
فأَدْخَل الكافَ مع "عن".
وقد بيَّنا هذا في موضعٍ غيرِ هذا المكانِ، بشرحٍ هو أبلغُ من هذا الشرحِ، فلذلك تجَوَّزْنا في البيانِ عنه في هذا الموضعِ
(6)
.
(1)
في م: "معناهما".
(2)
ديوانه ص 30.
(3)
البيت في كتاب سيبويه 1/ 32، 408، ونسبه إلى خطام المجاشعي.
(4)
الرجز في الحيوان للجاحظ 6/ 135 غير منسوب.
(5)
الغياديق: جمع الغيداق، هو ولد الضب فوق المُطَبِّخ، وقيل: هي الحيات، وقلص: ارتفع وصعد. والنيق: أرفع موضع في الجبل. اللسان (غ د ق، ق ل ص، ن ي ق).
(6)
تقدم في 13/ 553، 554.
وقولُه: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} . يقولُ جلَّ ثناؤُه واصفًا نفسَه بما هو به: وهو - يعنى نفسه - السميعُ لما يَنْطِقُ
(1)
به خلقُه مِن قولٍ، البصيرُ لأعمالِهم، لا يَخْفَى عليه من ذلك شيءٌ، ولا يَعْرُبُ عنه علمُ شيءٍ منه، وهو محيطٌ بجميعِه، مُحْصٍ صغيرَه وكبيرَه؛ لتُجْزَى
(2)
كلُّ نفسٍ بما كسَبَتْ مِن خيرٍ أو شرٍّ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12)} .
يعنى تعالى ذكرُه بقوله: {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} : له مفاتيحُ خزائنِ السماواتِ والأرضِ، وبيدِه مَغاليقُ الخيرِ والشرِّ ومفاتيحُها، فما يَفْتَحْ من رحمةٍ فلا مُمْسِكَ لها، وما يُمْسِكْ فلا مُرْسِلَ له من بعدِه.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهدٍ:{لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} . قال: مفاتيحُ، بالفارسيةِ
(3)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} . قال: مفاتيح السماوات والأرض. وعن الحسنِ بمثل ذلك
(4)
.
(1)
في م: (تنطق).
(2)
في ت 1: "ليجزى".
(3)
تفسير مجاهد ص 588.
(4)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 190 عن معمر به. وينظر ما تقدم ص 242.
حدَّثنا محمدُ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} . قال: خزائنُ السماواتِ والأرضِ
(1)
.
وقولُ: {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} . يقولُ: يُوسِّعُ رزقَه وفضلَه على على من يشاءُ مِن خلقه، ويَبْسُطُ له، ويُكْثِرُ مالَه ويُغْنِيه، {وَيَقْدِرُ}. يقولُ: ويُقَتِّرُ على مَن يشاءُ منهم، فيُضيقُه ويُفْقِرُه، {إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}. يقولُ: إِن اللَّهَ تبارك وتعالى بكلِّ ما يَفْعَلُ؛ مِن توسيعه على مَن يُوَسِّعُ، وتَقْتِيرِه على مَن يُقَتِّرُ، ومَن الذي يُصْلِحُه البَسْطُ عليه في الرزق ويُفْسِدُه مِن خلقِه، والذي يُصْلِحُه التقتيرُ عليه ويُفسده، وغير ذلك من الأمورِ، ذو علمٍ، لا يَخْفَى عليه موضعُ البسطِ والتقتيرِ وغيرُه مِن صلاحِ تدبيرِ خلقِه.
يقولُ تعالى ذكرُه: فإلى مَن له مقاليدُ السماواتِ والأرضِ، الذي صفتُه ما وصَفْتُ لكم في هذه الآياتِ أيُّها الناسُ فارْغَبوا، وإياه فاعْبُدوا، مُخْلِصين له الدينَ، لا الأوثانَ والآلهةَ والأصنامَ، التي لا تَمْلِكُ لكم ضرًّا ولا نفعًا.
يقولُ تعالى ذكرُه: {شَرَعَ لَكُمْ} ربُّكم أيُّهَا النَّاسُ، {مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} أن يَعْمَلَهُ، {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ}. يقولُ لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: وشرَع لكم مِن الدينِ الذي أوحينا إليك يا محمدُ [وأمَرْناك]
(2)
به، {وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ
(1)
تقدم تخريجه ص 242.
(2)
في ص، م، ت 1:"فأمرناك".
إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ} يقولُ: شرَع لكم من الدينِ أن أقيموا الدينَ. فـ {أَنْ} إذ كان ذلك معنى الكلام - في موضعِ نصبٍ على الترجمةِ بها عن {مَا} التي في قولِه: {مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} . ويَجوزُ أن تكونَ في موضعِ خفضٍ ردًّا على الهاءِ التي في قولِه: {بِهِ} ، وتفسيرًا عنها، فيكونُ معنى الكلام حينئذٍ: شرَع لكم مِن الدينِ ما وصَّى به نوحًا، بأن
(1)
أقِيموا الدينَ ولا تَتَفَرَّقوا فيه. وجائزٌ أن تكونَ في موضعِ رفعٍ على الاستئنافِ، فيكونَ معنى الكلام حينَئذٍ: شرَع لكم من الدينِ ما وصَّى به، وهو أن أَقِيموا الدينَ. وإذ كان معنى الكلامِ ما وصَفْتُ، فمعلومٌ أن الذي أوْصَى به جميع هؤلاء الأنبياءِ وصيةٌ واحدةٌ، وهى إقامةُ الدينِ الحقِّ، ولا تَتَفَرَّقوا فيه.
وبنحوِ الذي قلنا الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ قولِه:{مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} . قال: ما
(2)
أوْصاك به وأنبياءَه كلَّهم دينٌ واحدٌ
(3)
.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباط، عن السديِّ في قولِه:{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} . قال: هو الدينُ كلُّه.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولِه: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ
(1)
في م، ت 2:"أن".
(2)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ت 3.
(3)
تفسير مجاهد ص 588. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 3 إلى الفريابي وعبد بن حميدٍ وابن المنذر وابن أبي حاتم.
الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا}: بُعث نوحٌ حينَ بُعث
(1)
بالشريعةِ بتحليلِ الحلالِ، وتحريمِ الحرامِ، {وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى}
(2)
.
حدَّثنا محمدٌ، قال
(3)
: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} . قال: الحلالَ والحرامَ
(4)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} إلى آخرِ الآيةِ، قال: حَسْبُك ما قيل لك.
وعُنى بقوله: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ} : اعْمَلوا به على ما شرَع لكم وفرَض. كما قد بيَّنا فيما مضَى قبلُ في قولِه: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ}
(5)
[البقرة: 43].
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ في قولِه:{أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ} . قال: اعْمَلُوا به
(6)
.
وقوله: {وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} . يقولُ: ولا تَخْتلِفوا في الدين الذي أُمِرْتُم بالقيام به كما اخْتَلَف الأحزابُ مِن قبلِكم.
(1)
في ص، ت 1، ت 3:"بعثه".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 4 إلى المصنف وعبد بن حميد.
(3)
بعده في م، ت 1:"ثنا أحمد قال"، وهو خطأ.
(4)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 190 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 4 إلى عبد بن حميد.
(5)
ينظر ما تقدم في 1/ 247، 611.
(6)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 4 إلى المصنف.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} . تَعَلَّموا أن الفُرْقةَ هَلَكَةٌ، وأن الجماعةَ ثقةٌ
(1)
.
وقوله: {كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} . يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: كَبُر على المشركين باللَّهِ مِن قومِك يا محمدُ ما تَدْعُوهم إليه مِن إخلاصِ العبادة للَّهِ، وإفرادِه بالأُلوهَةِ، والبراءةِ مما سواه مِن الآلهةِ والأندادِ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} . قال: أَنْكَرَها المشركون، وكبر عليهم شهادةُ أن لا إله إلا اللَّهُ، فصادَمها إبليسُ وجنودُه، فأبَى اللَّهُ تبارك وتعالى إلا أن يُمْضِيَها، ويَنْصُرَها، ويُفْلِجَها، ويُظْهِرَها على مَن ناوَأَها
(1)
.
وقوله: {اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} . يقولُ: اللَّهُ يَصْطَفِي إِليه مَن يشاءُ مِن خلقه، ويَخْتارُ لنفسه ووَلايتِه مَن أَحَبَّ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا وَرْقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مُجَاهِدٍ قولَه:{اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} . يقولُ: ويُوَفِّقُ للعملِ بطاعتِه، واتباعِ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 4 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر.
ما بعَث به نبيَّه صلى الله عليه وسلم مِن الحقِّ من أقْبَل إلى طاعتِه، وراجَع التوبةَ مِن مَعاصِيه
(1)
.
كما حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسْباطُ، عن السديِّ:{وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} : مَن يُقبلُ إلى طاعة اللَّهِ
(2)
.
[القولُ في تأويلِ قولِه]
(3)
يقولُ تعالى ذكرُه: وما تفَرَّق المشركون باللَّهِ في أديانِهم فصاروا أحزابًا، إلا مِن بعدِ ما جاءهم العلم بأن الذي أمَرَهم اللَّهُ به، وبعَث به نوحًا، هو إقامةُ الدينِ الحقَّ، وأَلّا يَتَفَرَّقوا فيه.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، [قال: تلا]
(4)
قتادةُ: {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ} . فقال: إياكم والفُرْقةَ، فإنها هَلَكَةٌ
(5)
.
{بَغْيًا بَيْنَهُمْ} . يقولُ: بغيًا مِن بعضِهم
(6)
على بعضٍ، وحسدًا وعداوةً على طلبِ الدنيا، {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}. يقولُ جلَّ ثناؤُه: ولولا قولٌ سبَق يا محمدُ مِن ربِّكَ أَلَّا
(7)
يُعاجِلَهم بالعذابِ، ولكنه أخَّر ذلك إلى أجلٍ مُسَمًّى. وذلك الأجلُ المُسَمَّى فيما ذُكِر يومَ القيامةِ.
(1)
تفسير مجاهد ص 588. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 4 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 4 إلى المصنف.
(3)
سقط من: م.
• هنا ينتهى الخرم الذي في الأصل والمشار إليه في ص 428.
(4)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"عن".
(5)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 190 عن معمر به.
(6)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"بعضكم".
(7)
في م: "لا".
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} . قال: يومِ القيامةِ.
وقوله: {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} . يقولُ: لَفرَغ ربُّك من الحُكْمِ بينَ هؤلاء المختلفين في الحقِّ الذي بعَث به نوحًا نبيَّه من بعدِ عليهم به، بإهلاكِه أهلَ الباطلِ منهم، وإظهارِه أهلَ الحقِّ عليهم.
وقوله: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ} . يقولُ: وإن الذين آتاهم اللَّهُ، مِن بعدِ هؤلاء المختلفين في الحقِّ، كتابَه؛ التوراةَ والإنجيلَ، {لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ}. يقولُ: لفى شكٍّ مِن الدين الذي وصَّى اللَّهُ به نوحًا، وأوحاه إليك يا محمدُ، وأمر كُما بإقامته - {مُرِيبٍ} .
وبنحوِ الذي قلنا في معنى قولِه: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ} قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ قولِه:{وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ} . قال: اليهودَ والنصارى
(1)
.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 4 إلى المصنف.
يقولُ تعالى ذكرُه: فإلى ذلك الدين الذي شرع لكم ربُّكم
(1)
، ووصَّى به نوحًا، وأوْحاه إليك يا محمدُ - فادْعُ عباد الله، واسْتَقِمْ على العملِ به، ولا تَزِغْ عنه، واثْبُتْ عليه كما أمَرَك ربُّك بالاستقامةِ. وقيل:{فَلِذَلِكَ فَادْعُ} . والمعنى: فإلى ذلك. فوُضِعَت اللامُ موضع "إلى"، كما قيل:{بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزلزلة: 5]. وقد بيَّنا ذلك في غيرِ موضعٍ مِن كتابِنا هذا
(2)
.
وكان بعضُ أهل العربيةِ يُوَجِّهُ معنى "ذلك" في قولِه: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ} إلى معنى "هذا"، ويقولُ: معنى الكلامِ: فإلى هذا القرآنِ فادْعُ واسْتَقِمْ. والذي قال مِن
(3)
هذا القول قريبُ المعنى مما قلْناه، غيرَ أن الذي قلنا في ذلك أولى بتأويلِ الكلامِ؛ لأنه في سياق خبرِ اللَّهِ جلَّ ثناؤُه عما شرَع
(4)
مِن الدين لنبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم وأمتِه
(5)
، ولم يَأْتِ مِن الكلامِ ما يَدلُّ على انصرافِه عنه إلى غيرِه.
وقولُه: {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} . يقولُ تعالى ذكرُه: ولا تَتَّبِعْ يا محمدُ أهواءَ [هؤلاء الذين]
(6)
الذي شكُّوا في الحقِّ الذي شرَعه اللَّهُ لكم، مِن الذين أُورِثوا الكتابَ مِن بعدِ القرونِ الماضيةِ قبلَهم، فتَشُكَّ فيه كالذى شكُّوا فيه.
وقولُه: {وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ} . يقولُ تعالى ذكرُه: وقل لهم يا محمدُ: صدَّقْتُ بما أَنْزَل اللَّهُ من كتاب كائنًا ما كان ذلك الكتابُ، توراةً كان أو إنجيلًا أو زَبورًا أو صحفَ إبراهيمَ، لا أُكَذَّبُ بشيءٍ من ذلك تكذيبَكم ببعضِه معشرَ الأحزابِ، وتصدِيقَكم ببعضٍ.
(1)
سقط من: م.
(2)
ينظر ما تقدم في 6/ 316، 12/ 375.
(3)
بعده في الأصل: "قال".
(4)
بعده في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"لكم".
(5)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"بإقامته".
(6)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"الذي".
وقولُه: {وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ} . يقولُ تعالى ذكرُه: وقلْ لهم يا محمدُ: وأمرني ربى أن أعْدِلَ بينكم معشرَ الأحزابِ، فأَسِيرَ فيكم جميعًا بالحقِّ الذي أمَرَنى به، وبعَثَنى بالدعاءِ إليه.
كالذي حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} . قال: أُمِر نبيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم أن يَعْدِلَ، فعدل حتى مات صلواتُ اللهِ عليه والعدلُ ميزانُ اللهِ في الأرضِ، به يُأخُذُ
(1)
للمظلومِ مِن الظالم، وللضعيفِ من الشديدِ، وبالعدل يُصَدِّقُ اللهُ الصادقَ، ويُكَذِّبُ الكاذبَ، وبالعدلِ يَرُدُّ المعتدىَ ويُوَبِّخُه
(2)
. ذُكِر لنا أن [نبيَّ اللهِ داودَ ما كان يقولُ]
(3)
: ثلاثٌ مَن كُنَّ فيه أَعْجَبَنى
(4)
جدًّا؛ القصدُ في الفاقةِ والغِنَى، والعدلُ في الرضا والغضبِ، والخشيةُ في السرِّ والعَلانيةِ، وثلاثٌ مَن كُنَّ فيه أَهْلَكْنَه؛ شُحٌ مُطَاعٌ، وهَوَى مُتَّبَعٌ، وإعجابُ المرءِ بنفسِه، وأربعٌ مَن أُعْطِيهن فقد أُعْطِى خيرَ الدنيا والآخرة؛ لسانٌ ذاكرٌ، وقلبٌ شاكرٌ، وبدنٌ صابرٌ، وزوجةٌ مؤمنةٌ
(5)
.
واخْتَلَف أهلُ العربيةِ في معنى اللامِ التي في قولِه: {وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} . فقال بعضُ نحويِّى البصرةِ: معناها: "كى"، وأُمِرْتُ كى أَعْدِلَ. وقال غيرُه: معنى الكلامِ وأُمِرْتُ بالعدلِ. والأمرُ واقعٌ على ما بعدَه، وليست اللامُ التي في {لِأَعْدِلَ} بشرط. قال:{وَأُمِرْتُ} تَقَعُ على "أن"، وعلى "كى" واللام؛ أُمِرْتُ أَن أَعْبُدَ، وكى أَعْبُدَ، ولأَعْبُدَ. قال: وكذلك كلُّ ما طالَب الاستقبالُ ففيه
(6)
هذه الأوجهِ الثلاثة.
(1)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"يؤخذ".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 4 إلى المصنف وعبد بن حميد.
(3)
في الأصل: "رسول الله صلى الله عليه وسلم قال".
(4)
في مصدر التخريج: (أعجنني).
(5)
أخرجه معمر في جامعه 11/ 304 قتادة به.
(6)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"ففي".
والصوابُ مِن القولِ في ذلك عندى أن الأمرَ عاملٌ في معنى {لِأَعْدِلَ} ؛ لأن معنَاه: وأُمِرْتُ بالعدلِ بينكم.
وقولُه: {اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ} . يقولُ: الله مالِكُنا ومالِكُكم معشرَ الأحزابِ مِن أهلِ الكتابين؛ التوراةِ والإنجيلِ، {لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ}. يقولُ: لنا ثوابُ ما اكْتَسَبْناه مِن الأعمالِ، ولكم ثوابُ ما اكْتَسَبْتُم منها.
وقولُه: {لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ} . يقولُ: لا خصومةَ بينَنا وبينَكم. كما حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ} . قال: لا خُصومة
(1)
.
حدَّثني يونُسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زِيدٍ في قولِه: {لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ} . قال: [نهاه الله أن يجادِل، {لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ}]
(2)
: لا خُصومةَ بينَنا وبينَكم. وقرَأ: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} إلى آخرِ الآيةِ
(3)
[العنكبوت: 46].
وقولُه: {اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا} . يقولُ: اللَّهُ يَجْمَعُ بينَنا يومَ القيامةِ، فيَقْضِى بينَنا بالحقِّ فيما اختَلَفْنا فيه، {وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ}. يقولُ: وإليه المَعادُ والمَرْجِعُ بعدَ مَماتِنا.
القولُ في تأويلِ قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16)} .
(1)
تفسير مجاهد ص 589 ومن طريقه الفريابي - كما في تغليق التعليق 4/ 304 وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 4 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(3)
ينظر التبيان 9/ 150.
يقولُ تعالى ذكرُه: والذين يُخاصِمون في دينِ اللهِ الذي ابْتَعَث به نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم مِن بعد ما اسْتَجاب له الناسُ فدخلوا فيه، من الذين أُورثِوا الكتابَ - {حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ}. يقولُ: خصومتُهم التي يُخاصِمون فيه، باطلةٌ ذاهبةٌ عندَ ربِّهم، {وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ}. يقولُ: وعليهم مِن اللهِ غضبٌ، ولهم في الآخرةِ عذابٌ شديدٌ، وهو عذابُ النارِ.
وذُكِر أن هذه الآيةَ نزَلَت في قوِم مِن اليهودِ، خاصَموا أصحابَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم دينِهم، وطمِعوا أن يَصُدُّوهم عنه، ويَرُدُّوهم عن الإسلامِ إلى الكفرِ.
ذكرُ الروايةِ بذلك عمن ذُكِر ذلك عنه
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قوله:{وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} . قال: هم أهلُ الكتابِ، كانوا يُجادِلون المسلمين، ويَصُدُّونهم عن الهدى مِن بعدِ ما اسْتَجابوا للهِ. وقال: هم قومٌ مِن أهل الضلالةِ، كان اسْتُجيب لهم على ضلالتِهم، وهم يَتَرَبَّصون بأن تَأْتِيَهم الجاهليةُ
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ} . قال: طمِع رجالٌ بأن تعودَ الجاهليةُ
(2)
.
حدَّثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن منصورٍ، عن
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 184، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 4 إلى المصنف وابن أبي حاتم وابن مردويه.
(2)
تفسير مجاهد ص 589. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 4 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
مجاهدٍ أنه قال في هذه الآيةِ: {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ} . قال: بعدما دخل الناسُ في الإسلامِ
(1)
.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ في قولِه:{وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ} . قال: هم اليهودُ والنصارى، قالوا: كتابُنا قبلَ كتابِكم، ونبيُّنا قبلَ نبيِّكم، ونحن خيرٌ منكم
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ} الآيةِ، قال: هم اليهودُ والنصارى، حاجُّوا أصحابَ النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: كتابنا قبلَ كتابِكم، ونبيُّنا قبلَ نبيِّكم، ونحن أولى باللهِ منكم.
حدَّثني يونُسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ} إلى آخرِ الآيةِ، قال: نهاه عن الخصومةِ.
يقولُ تعالى ذكرُه: الله الذي أَنزَلَ هذا الكِتابَ. يعني: القرآنَ {بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ} . يقولُ: وأنزل الميزانَ، وهو العدلُ؛ ليَقْضِيَ بينَ الناسِ بالإنصافِ، ويَحْكُم فيهم بحكمِ اللهِ الذي أمَر به في كتابِه.
(1)
ذكره القرطبي في تفسيره 16/ 14.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 191 عن معمر به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 4 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ} . قال: العدَل
(1)
.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ، في قولِه:{الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ} . قال: الميزانُ العدلُ
(2)
.
وقولُه: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} . يقولُ تعالى ذكرُه: وأيُّ شيءٍ يُدْرِيك ويُعْلِمُك، لعلَّ الساعةَ التي تقومُ فيها القيامةُ قريبٌ
{يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا} . يقولُ: يَسْتَعْجِلُك يا محمدُ بمجيئِها الذين لا يُوقنون بمجيئها؛ ظنًّا منهم أنها غيرُ جائيةٍ، {وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا}. يقولُ: والذين صدَّقوا بمجيئِها، ووعْدِ اللَّهِ إياهم الحشرَ فيها، {مُشْفِقُونَ مِنْهَا}. يقولُ: وَجِلون من مجيئِها، خائفون مِن قيامها؛ لأنهم لا يَدْرون ما اللهُ فاعلٌ بهم فيها، {وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ}. يقولُ: ويُوقنون أن مجيقها الحقُّ اليقينُ، لا يَمْتَرون في مجيئِها، {أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ}. يقولُ تعالى ذكرُه: ألا إن الذين يُخاصِمون في قيامِ الساعةِ ويُجادِلون فيه، {لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ}. يقولُ: لَفَي جَوْرٍ عن طريق الهُدَى، وزَيْغٍ عن سبيلِ الحقِّ والرشادِ، بعيدٍ من الصوابِ.
القولُ في تأويلِ قوله تعالى: {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ
(1)
في الأصل: "بالعدل".
والأثر في تفسير مجاهد ص 589 وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 4 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 191 عن معمر به.
الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20)}.
يقولُ تعالى ذكرُه: الله ذو لطفٍ بخلقِه
(1)
، يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ فَيُوَسِّعُ عليه، ويَقتُرُ على مَن يَشَاءُ منهم، {وَهُوَ الْقَوِيُّ} الذي لا يَغْلِبُه ذو [أَيْدٍ لشدتِه]
(2)
، ولا يَمتَنِعُ عليه إذا أراد عقابه بقدرته، {الْعَزِيزُ} في انتقامه إذا انْتَقَم مِن أهلِ معاصِيه.
{مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ} . يقولُ تعالى ذكرُه: من كان يُرِيدُ بعمله الآخرة، {نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ}. يقولُ: نَزِدْ له في عمله الحسنِ، فنَجْعَلْ له بالواحدةِ عَشْرًا، إلى ما شاء ربُّنا من الزيادةِ، {وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا}. يقولُ: ومَن كان يُرِيدُ بعمله الدنيا، ولها يَسْعَى، لا للآخرةِ، نُؤْتِه منها ما قسَمْنا له منها، {وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ}. يقولُ: وليس لمن طلب بعملِه الدنيا، ولم يُرِدِ الله به، في ثوابِ اللهِ لأهلِ الأعمالِ التي أرادوه بأعمالهم في الدنيا - حظٌّ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قوله:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ} إلى: {وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} . قال: يقولُ: مَن كان إنما يَعْمَلُ للدنيا نُؤْتِه منها
(3)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ
(1)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"بعباده".
(2)
في الأصل: "يد بشدته".
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 5 إلى المصنف وعبد بن حميد.
حَرْثَ الْآخِرَةِ
(1)
نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا} الآيةِ، يقولُ: مَن آثَر دنياه على آخرته، لم نَجعَل
(2)
له نصيبًا في الآخرة إلا النارَ، ولم نَزِدْه بذلك مِن الدنيا شيئًا، إلا رزقًا قد فُرِغ منه، وقُسِم له
(3)
.
حدَّثني يونُسُ، قال: أَخْبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ} . قال: مَن كان يُرِيدُ الآخرة وعملها نَزِدْ له في عمله، {وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا} إلى آخرِ الآيةِ، قال: مَن أراد الدنيا وعملَها آتَيْناه منها، ولم نَجْعَل له في الآخرةِ من نصيبٍ. الحرثُ: العملُ، مَن عمِل للآخرةِ أعطاه اللهُ، ومَن عمل للدنيا أعطاه اللهُ.
حدَّثني محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السدِّى قولَه:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ} . قال: مَن كان يُرِيدُ عمل الآخرةِ نَزِدْ له في عملِه، [ومن كان يُريدُ عمل الدنيا نُؤتِه
(4)
منها]
(5)
، {وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ [مِنْ نَصِيبٍ]
(6)
}. قال: للكافرِ عذابٌ أليمٌ.
القول في تأويلِ قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: أم لهؤلاء المشركين باللهِ شركاءُ في شركِهم وضَلالتهم، {شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ}. يقولُ: ابْتَدَعوا لهم من الدينِ ما لم يُبِح اللهُ لهم ابتداعَه، {وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} . يقولُ
(1)
بعده في الأصل: "أي عمل الآخرة".
(2)
في الأصل: "يجعل الله".
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 5 إلى المصنف وعبد بن حميد.
(4)
في ت 1: "يؤته".
(5)
سقط من: ص، ت 2، ت 3، وفى م:"قوله".
(6)
سقط من: الأصل.
تعالى ذكرُه: ولولا السابقُ مِن اللهِ في أنه لا يُعَجِّلُ لهم العذابَ في الدنيا، وأنه مضَى مِن قيلهِ أنهم مُؤَخَّرون بالعقوبة إلى قيامِ الساعةِ، لَفُرِغ من الحكمِ بينَكم وبينَهم، بتعجيلِنا العذابَ لهم في الدنيا، ولكن لهم في الآخرةِ العذابُ الأليمُ، كما قال جلَّ ثناؤُه:{وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . يقولُ: وإن الكافرين باللهِ لهم يومَ القيامةِ عذابٌ مُؤلِمٌ مُوجِعٌ.
القول في تأويلِ قوله تعالى: {تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22)} .
يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: تَرَى يا محمدُ الكافرين باللهِ يوم القيامةِ و {مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا} . يقولُ: وَجِلين خائفين من عقابِ اللهِ على ما كسَبوا في الدنيا مِن أعمالِهم الخبيثةِ، {وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ}. يقولُ: والذي هم مُشْفِقون منه مِن عذابِ اللهِ نازلٌ بهم، وهم ذائِقوه لا محالة.
وقولُه: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ} . يقولُ تعالى ذكرُه: والذين آمنوا باللهِ وأطاعوه فيما أمَر ونهى في الدنيا في رَوْضاتِ البساتينِ في الآخرةِ. ويعنى بالروضاتِ: جمع رَوْضة، وهى المكانُ الذي يَكْثُرُ نَبْتُه، ولا تقولُ العربُ لمواضعِ الأشجارِ: رياضٌ. ومنه قولُ أبى النَّجْمِ
(1)
:
والنِّغْضُ مِثلَ الأَجْرب المُدَجَّل
…
حدائقَ الرَّوْضِ التي لم تُحْلَلِ
(2)
(1)
ديوانه ص 178.
(2)
النِّغض والنَّغض: الظليم، وهو ذكر النعام، والمدجل: البعير المطلى بالقطران ولم تحلل: أي لم توطأ ولم ترعها الحيوانات فيقل نبتها. ينظر اللسان (ن غ ض، د ج ل، ح ل ل).
ويعنى بالروضِ: جمعَ رَوْضةٍ. وإنما عنى جلَّ ثناؤُه بذلك الخبرَ عما هم فيه من السرورِ والنَّعيمِ.
كما حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ} إلى آخرِ الآيةِ. قال: في رياضِ الجنةِ ونعيمِها.
وقولُه: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} يقولُ: للذين آمنوا وعملوا الصالحاتِ عند ربِّهم في الآخرةِ ما تَشْتَهِيه أنفسهم، وتَلَذُّه أعينُهم، {ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ}. يقولُ تعالى ذكرُه: هذا الذي أعطاهم اللهُ مِن هذا النعيمِ وهذه الكرامةِ في الآخرة {هُوَ الْفَضْلُ} مِن اللهِ عليهم، {الْكَبِيرُ} الذي يَفْضُلُ كلَّ نعيمٍ وكرامةٍ في الدنيا، من بعضِ أهلِها على بعضٍ.
القول في تأويلِ قوله تعالى: {ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: هذا الذي أخْبَرْتُكم أيُّها الناسُ أنى أعْدَدْتُه للذين آمنوا وعملوا الصالحات في الآخرةِ من النعيمِ والكرامة - البُشْرَى التي يُبَشِّرُ اللهُ بها عبادَه الذين آمنوا به في الدنيا، وعمِلوا بطاعتِه فيها، {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا}. يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: قلْ يا محمدُ للذين يُمارُونك في الساعةِ من مُشْرِكي قومِك: لا أسْألكم أيُّها القومُ على دِعايتِكم
(1)
إلى ما أدْعُوكم إليه من الحقِّ الذي جئتُكم به، والنصيحةِ التي أنْصَحُكم - ثوابًا وجزاءً وعِوَضًا من أموالِكم تُعْطُونَنِيهِ
(2)
(1)
في ت 2، ت 3:"دعائكم"، وكلاهما بمعنى.
(2)
في الأصل: "تعطونيه".
واخْتَلَف أهلُ التأويلِ في معنى قولَه: {إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} ؛ فقال بعضُهم: معناه: إلا أن تَوَدُّونى في قَرابتى منكم، وتَصِلوا رَحِمى بينى وبينَكم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أبو كريبٍ ويعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قالا: ثنا إسماعيلُ بنُ إبراهيمَ، عن داودَ بن أبى هندٍ، عن الشعبيِّ، عن ابن عباسٍ في قولِه:{قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} قال: لم يَكُنْ بطنٌ مِن بطونِ قريشٍ إلا وبينَ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم وبينَهم قرابةٌ، فقال: قل: لا أسْأَلُكم عليه أجرًا إلا أن تَوَدُّونى في القرابةِ التي بينى وبينَكم
(1)
.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا أبو أسامةَ، عن
(2)
شعبةُ، عن عبد الملك بن مَيْسَرةَ، عن طاوس في قولَه:{قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} . قال: سُئِل عنها ابن عباسٍ، فقال ابن جبيرٍ: هم قُرْبَى آلِ محمدٍ. فقال ابن عباسٍ: عجِلْتَ
(3)
، إن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لم يَكُنْ بطنٌ من بطونِ قريشٍ إلا وله فيهم قَرابةٌ. قال: فنزَلَت: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} قال: إلا القرابةَ التي بيني وبينَكم أن تَصِلوها
(4)
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} . قال: كان لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَرابةٌ في جميعِ قريشٍ، فلما كذَّبوه وأبَوْا أن يُبايعوه، قال:"يا قومِ، إذ أبَيْتُم أن تُبايعونى فاحْفَظوا قَرابتي فيكم، لا يَكُنْ غيرُكم من العربِ أولى بحفظى ونُصْرتى منكم"
(5)
(1)
أخرجه الطبراني (12569)، والحاكم 2/ 444 من طريق داود به.
(2)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"قال ثنا".
(3)
في الأصل: "عجل".
(4)
أخرجه أحمد 3/ 468 (2024)، والبخارى (4818)، والترمذى (3251)، والنسائي (11474)، وابن حبان (6262) من طريق شعبة به.
(5)
أخرجه الطبراني (13026) من طريق أبي صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 6 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} . يعنى: محمدًا صلى الله عليه وسلم، قال لقريشٍ: و لا أسْأَلُكم مِن أموالِكم شيئًا، ولكن أسْأَلكم أن لا تُؤذونى؛ لقرابة ما بينى وبينَكم، فإنكم قومى وأحقُّ من أطاعنى وأجابني"
(1)
.
حدَّثنا ابن حميد، قال: ثنا جريرٌ، عن مغيرةَ، عن عكرمةَ، قال: إن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان واسطًا في قريشٍ، وكان له في كلِّ بطنٍ مِن قريشٍ نسبٌ، فقال: "لا أسْأَلُكم
(2)
على ما أدْعُوكم إليه إلا أن تَحفظُونى في قَرابتي، {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}
(3)
.
حدَّثني يعقوب، قال: ثنا هُشيمٌ، قال: أخبَرنا حُصَينٌ، عن أبي مالكٍ، قال: كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم واسطَ النسبِ من قريشٍ، ليس حيٌّ من أحياءِ قريشٍ إلا وقد ولَدوه. قال: فقال اللهُ عز وجل: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ [عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى]
(4)
}: إلا أن تَوَدُّونى؛ لقَرابتي منكم وتَحْفَظونى
(5)
.
حدَّثني أبو حَصِينٍ عبدُ اللهِ بنُ أحمدَ بن يونُسَ، قال: ثنا عَبْرٌ، قال: ثنا حُصَيْنٌ، عن أبي مالكٍ في هذه الآيةِ:{قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} . قال: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من بنى هاشمٍ، وأمُّه مِن بني زُهْرَةَ، وأمُّ أبيه من بني مَخْزومٍ، فقال:"احْفظُوني في قَرابتي".
حدَّثنا ابن المثنى، قال: ثنا حَرَميٌّ
(6)
، قال: ثنا شعبةُ، قال: أخبرني عُمارة، عن
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 6 إلى عبد بن حميد وابن مردويه.
(2)
بعده في الأصل: "عليه أجرا".
(3)
ذكرُه البغوي في تفسيره 7/ 191، والقرطبي في تفسيره، 16/ 21، وابن كثير في تفسيره 7/ 187.
(4)
في الأصل: "على ما أدعوكم إليه أجرا".
(5)
ذكره القرطبي في تفسيره 21/ 16، وابن كثير في تفسيره 7/ 187.
(6)
في الأصل: "جرمى". وينظر تهذيب الكمال 5/ 556.
عكرمةَ في قولِه: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} . قال: تَعْرِفون قَرابتي، وتُصَدِّقُونى بما جئتُ به، وتَمْنَعونى.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} . وإن الله تبارك وتعالى أمَر محمدًا صلى الله عليه وسلم أن لا يَسْأَل الناسَ على هذا القرآنِ أجرًا إلا أن يَصِلوا ما بينَه وبينَهم من القَرابةِ، وكلُّ بُطُونِ قريشٍ قد ولَدَته، وبينَه وبينَهم قرابةٌ
(1)
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} : قال: أن تَتَّبِعونى، وتُصَدِّقونى، وتصلوا قَرابتي
(2)
.
حدَّثنا محمدٌ، قال:[ثنا أحمدُ، قال]
(3)
: ثنا أسباطُ، عن السديِّ في قولِه:{قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} . قال: لم يَكُنْ بطنٌ مِن بُطُونِ قريشٍ إلا الرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ما فيهم ولادةٌ، فقال: قل لا أسْأَلكم عليه أجرًا إلا أن تَوَدُّوني؛ لقَرابتي منكم
(4)
.
حُدِّثتُ عن الحسينِ، قال: سمِعْتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبَرنا عبيدٌ، قال: سمِعْتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} ، يعنى قريشًا. يقولُ: إنما أنا رجلٌ منكم، فأعِينونى على عدوِّى، واحْفَظوا قَرابتي، وإن الذي جئتُكم به لا أسْألُكم عليه أجرًا إلا المودةَ فى القربي، أن تَوَدُّوني لقَرابتي،
(1)
ذكره الطوسى في التبيان 9/ 156 بمعناه.
(2)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"رحمي".
والأثر في تفسير مجاهد ص 589 وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 6 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(4)
ذكره البغوي في تفسيره 7/ 191، والقرطبي في تفسيره 16/ 21، وابن كثير في تفسيره 7/ 187.
وتُعينوني على عدوِّى
(1)
.
حدَّثني يونُسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} . قال: يقولُ: إلا أن تَوَدُّوني في قَرابتي
(2)
، كما تَوادُّون في قَرابتِكم، وتَواصَلون بها، ليس هذا الذي جئتُ به يَقْطَعُ ذلك عنى، فلسْتُ أبْتَغِى على هذا الذي جئتُ به أجرًا آخُذُه على ذلك منكم
(1)
.
حدَّثني يونُسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ قال: أخبرني سعيدُ بنُ أبي أيوبَ، عن عطاءِ بن دينارٍ في قولَه:{قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} . يقولُ: لا أسْأَلكم على ما جئتُكم به أجرًا، إلا أن تَوَدُّونى في قَرابتى منكم، وتَمْنَعونى من الناسِ
(3)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنَ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ في قولِه:{قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} . قال: كلُّ قريشٍ قد كانت بينَهم
(4)
وبينَ رسول الله صلى الله عليه وسلم قرابةٌ، فقال: قل: لا أسْأَلكم عليه أجرًا إلا أن تَوَدُّونى بالقرابةِ التي بينى وبينَكم
(5)
.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: قلْ لمن اتَّبَعك من المؤمنين: لا أسْأَلكم على ما جئتُكم به أجرًا، إلا أن تَوَدُّوا قَرابتى.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمد بن عُمارةَ، قال: ثنا إسماعيلُ بن أبان، قال: ثنا الصَّبَّاحُ بن يحيى
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 187.
(2)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"لقرابتي".
(3)
ينظر التبيان للطوسى 9/ 157
(4)
في الأصل، ص، ت 1 ت 2:"بينه". والمثبت من مصدر التخريج.
(5)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 191 عن معمر به.
المُزَنِيُّ
(1)
، عن السديِّ، عن أبي الدَّيْلَمِ قال: لمَّا جِئ بعليٍّ بن الحسينِ رضي الله عنهما أسيرًا، فأُقيم على دَرَج دمشقَ، قام رجلٌ من أهلِ الشامِ فقال: الحمدُ للهِ الذي قتَلكم واسْتَأْصَلَكم، وقطَع قَرْنَ
(2)
الفتنةِ. فقال له عليُّ بنُ الحسينِ: أقرَأْتَ القرآنَ؟ قال: نعم. قال: أقرأْتَ "آلَ حم"؟ قال: قرأتُ القرآنَ ولم أقْرَأْ "آل حم؟!. قال: ما قرَأْتَ: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} ؟ قال: وإنكم لأنتم هم؟ قال: نعم
(3)
.
حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: ثنا مالكُ بنُ إسماعيلَ، قال: ثنا عبدُ السلامِ، قال: ثنى يزيدُ بنُ أبي زيادٍ، عن مِقْسَم، عن ابن عباسٍ قال: قالت الأنصارُ: فعَلْنا وفعَلْنا، فكأنهم فخَروا، فقال ابن عباسٍ، أو العباسُ - شكٍّ عبدُ السلامِ -: لنا الفضلُ عليكم. فبلَغ ذلك رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فأتاهم في مجالسِهم فقال:"يا معشرَ الأنصارِ، ألم تكونوا أذِلَّةٌ فأَعَزَّكم الله بي؟ "قالوا: بلى يا رسولَ اللهِ. قال: "ألم تكونوا ضُلَّالًا فهداكم اللهُ بي؟ قالوا: بلى يا رسولَ اللهِ. قال: "أفلا تُجِيبُونى؟ " قالوا: ما نقولُ يا رسولَ اللهِ؟ قال: "ألا تقولون: ألم يُخْرِجُك قومُك فَآوَيْناك، أو لم يُكَذِّبوك فصدَّقْناك، أو لم يَخْذُلوك فنصرناك؟ ". قال: فما زال يقولُ حتى جثوا على الرُّكَب وقالوا: أموالُنا وما في أيدينا للهِ ولرسولِه. قال: فنزَلَت: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}
(4)
.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا مَرْوانُ، عن يَحْيَى بن كثيرٍ، عن أبي العاليةِ، عن سعيدِ بن جبيرٍ في قولِ اللهِ:{قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} . قال: هي قُرْبَى رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم
(5)
.
(1)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"المرى".
(2)
في ص، ت 1، ت 3:"قرني" وفى م: " قربى".
(3)
تقدم تخريجه في 11/ 193، 14/ 563، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 7 إلى المصنف.
(4)
أخرجه الطبراني في الأوسط (3864)، وابن أبي حاتم وابن مردويه - كما في تخريج أحاديث الكشاف للزيلعي 3/ 237 - من طريق عبد السلام به.
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 7/ 6 إلى سعيد بن منصور.
حدَّثني محمدُ بنُ عُمارةَ الأسديُّ ومحمدُ بنُ خلفٍ، قالا: ثنا عُبيدُ اللهِ، قال: أخبَرنا إسرائيلُ، عن أبي إسحاق، قال: سأَلْتُ عمرَو بنَ شعيبٍ عن قول الله عز وجل: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} . قال: قُرْبَى النبيِّ صلى الله عليه وسلم
(1)
.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: قل لا أسْأَلكم أيها الناسُ على ما جئتُكم به أجرًا، إلا أن تَوَدَّدُوا إلى اللهِ، وتَتَقَرَّبوا بالعملِ الصالحِ والطاعةِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليُّ [ومحمدٌ ابنا داودَ]
(2)
قالا: ثنا عاصمُ بنُ عليٍّ، قال: ثنا قَرَعةُ بنُ سُوَيْدٍ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ، عن ابن عباسٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال
(3)
: ولا أَسْأَلُكم على ما أتَيْتُكم به مِن البيناتِ والهدى أجرًا، إلا أن تَودُّدُوا
(4)
للهِ وتَتَقَرَّبوا إليه بطاعتِه
(5)
.
حدَّثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن منصورٍ بن زاذان، عن الحسنِ، أنه قال في هذه الآيةِ:{قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} . قال: القُرْبَى إلى اللهِ.
حدَّثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هُشَيمٌ، قال: أخبَرنا عوفٌ، عن الحسنِ في قولِه:{قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} . قال: إلا التقربَ إلى اللهِ، والتودُّدَ إليه بالعملِ الصالحِ
(6)
.
(1)
ذكره البغوي في تفسيره 7/ 191، والقرطبي في تفسيره 21/ 16، وابن كثير في تفسيره 7/ 189.
(2)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"بن داود أخوه أيضا".
(3)
في النسخ: "قل". والمثبت من مصادر التخريج.
(4)
في الأصل: "تودوا".
(5)
أخرجه أحمد 4/ 38 (2415)، وابن أبي حاتم في تفسيره - كما في تفسير ابن كثير 7/ 188، والطبراني (11144)، والحاكم 2/ 444،443 من طريق قزعة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 6 إلى ابن مردويه.
(6)
ذكره الحافظ في الفتح 8/ 565 وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 7 إلى عبد بن حميد.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، قال: قال الحسنُ في قولِه: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} . قل: لا أَسْأَلُكم على ما جئتُكم به، وعلى هذا الكتاب أجرًا، {إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}: إلا أن تَوَدَّدُوا
(1)
إلى الله بما يُقَرِّبُكم إليه، وعملٍ بطاعتِه.
قال بشرٌ: قال يزيدُ: وحدثنيه يونُسُ، عن الحسن.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثَوْرِ، عن معمرٍ، عن قتادةَ في قولِه:{قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} . [قال: قال الحسنُ: قل لا أسْأَلكم عليه أجرً]
(2)
إلا أن تَوَدَّدُوا إلى اللهِ فيما يُقَرِّبُكم إليه
(3)
.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: إلا أن تَصِلوا قرابتكم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا [ابن بشارٍ]
(4)
، قال ثنا أبو عامرٍ، قال: ثنا قُرَّةُ، عن عبدِ اللهِ بن القاسمِ في قولِه:{إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} . قال: أُمِرتَ أن تصلَ قرابتَك.
وأولى الأقوالِ في ذلك بالصوابِ، وأشبهُها بظاهر التنزيلِ قولُ مَن قال: معناه: قل لا أسْأَلكم عليه أجرًا يا معشرَ قريشٍ، إلا أن تودُّوني في قَرابتي منكم، وتَصِلوا الرحمَ التي بيني وبينَكم.
(1)
في الأصل: "تودوا".
(2)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 191 عن معمر به.
(4)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"بشر". وينظر تهذيب الكمال 18/ 367.
وإنما قلتُ: هذا القولُ
(1)
أولى بتأويلِ هذه الآيةِ؛ لدخولِ "في" في قولِه: {إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} . ولو كان معنى ذلك على ما قاله من قال: إلا أن تَودُّوا قَرابتي. [أو على ما قاله من قال: إلا أن تَودَّدُوا وتَقرّبوا إلى اللهِ]
(2)
. لم يَكُنْ لدخولِ "في" في الكلامِ في هذا الموضعِ وجهٌ معروفٌ، ولَكان التنزيلُ:"إلا مودة القربَى". إن عُنِى به الأمرُ بمودةِ قَرابةِ رسولَ اللهِ، أو:"إلا المودة بالقربى"، أو: "و
(3)
القربَي". إن عُنى به التودُّدُ بالتقرُّبِ
(4)
[إلى اللهِ جلَّ وعزَّ بصالحِ الأعمالِ، أو عُنى به: إلا التودُّد والتقرُّبِ]
(5)
.
وفي دخولِ (في) في الكلامِ أوضحَ الدليلِ على أن معناه: إلا مودَّتي في قَرابتي منكم. وأن الألفَ واللامَ في {الْمَوَدَّةَ} أُدْخِلَتَا بدلًا من الإضافةِ، كما قيل:{فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 41]. {إِلَّا} : إلَّا في هذا الموضع واستثناءٌ منقطعٌ. ومعنى الكلامِ: قل لا أسْأَلُكم عليه أجرًا، لكني أَسْأَلُكم المودةَ في القربى. فالمودةُ منصوبةٌ على المعنى الذي ذكَرْتُ. وقد كان بعضُ نحويِّي البصرة يقولُ: هي منصوبةٌ بمضمرٍ من الفعلِ، بمعنى: إلا أن أَذْكُرَ مودةً قَرابتِي.
وقولُه: {وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا} . يقولُ جلَّ وعزَّ: ومَن يعملْ حسنةً - وذلك أن يَعمَلَ عملا يُطِيعُ الله فيه - من المؤمنين {نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا} . يقولُ جلَّ وعزَّ: نُضاعِفْ عمله ذلك الحسنَ، فَنَجْعَلْ له مكان الواحد عشرًا إلى ما شئْنا من الجزاءِ والثوابِ.
(1)
في ص، ص، م:"التأويل".
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"أو تقربوا إلى الله".
(3)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"ذا".
(4)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 2:"والتقرُّب".
(5)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمد، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسْباطُ، عن السديِّ، في قولِ اللهِ:{وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً} . قال: يَعْمَلْ حَسَنةً.
حدَّثني يونُسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا} . قال: مَن يَعْمَلْ خيرًا نَزِدْ له. الاقترافُ العملُ.
وقولُه: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ} . يقولُ: إن الله غفورٌ لذنوبِ عبادِه، شكورٌ لحسناتِهم وطاعتهم إياه.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} : للذنوبِ، {شَكُورٌ}: للحسناتِ يُضاعِفُها
(1)
.
حدَّثني يونُسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ} . قال: غفر لهم الذنوبَ، وشكر لهم نعمًا هو أعْطاهم إياها وجَعَلها فيهم.
القول في تأويلِ قولِه تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24)} .
يقولُ جلَّ وعزَّ: أم يقولُ هؤلاء المشركون بالله: افْتَرى محمدٌ على الله كذبًا، فجاء بهذا الذي يَتْلُوه علينا اخْتِلاقًا من قِبَلِ نفْسِه.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 7 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر.
وقولُه: {فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ [يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} . يقولُ جل ثناؤه لنبيِّه محمدٍ، عليه السلام فإن يشأ اللهُ]
(1)
يا محمدُ يَطْبَعْ على قلبك، فتنسى هذا القرآن الذي أُنزِل
(2)
إليك.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} ، فيُنْسِيَك القرآنَ
(3)
.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ، في قولِه:{فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} . قال: إن شاء
(4)
أنساك ما قد آتاك
(5)
.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ في قولِه:{فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} . قال: يَطبَعْ.
وقولُه: {وَيَمْحُ اللَّهُ} . يقولُ: ويذهَبُ اللهُ بالباطل فيَمْحَقُه، {وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} ، التي أنزلها إليك يا محمدُ فيُثْبتُه.
وقولُه: {وَيَمْحُ اللَّهُ} . في موضعِ رفعٍ بالابتداءِ، ولكنه حُذِفَت منه الواوُ في المصحفِ، كما حُذِفَت من قولَه:{سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} [العلق: 18]، ومن قولَه:{وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ} [الإسراء: 11]. وليس يُجزم
(6)
على العطفِ
(1)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(2)
في الأصل: "أنزلت".
(3)
ينظر تفسير البغوي 7/ 192.
(4)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"يشأ".
(5)
أخرج جه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 191 عن معمر به
(6)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"بجزم".
على {يَخْتِمْ} .
وقولُه: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} . يقولُ تعالى ذكرُه: إن الله ذو علمٍ بما في صدورِ خَلْقِه، وما تَنْطَوِى عليه ضمائرهم، لا يَخْفَى عليه من أمورهم شيءٌ. يقولُ لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: لو حدَّثْتَ نفسك أن تَفْتَرىَ عليَّ كذبًا، لطَبَعْتُ على قلبك، وأذْهَبْتُ الذي آتيتُك من وحيِى؛ لأنى أَمْحُو الباطل فأُذْهِبُه، وأُحِقُّ الحقَّ. وإنما هذا إخبارٌ مِن اللهِ الكافرين به، الزاعمين أن محمدًا افْتَرَى هذا القرآنَ مِن قِبل نفسه، فأَخْبَرهم أنه لو فعَل ذلك
(1)
لفَعَل به ما أَخْبَر في هذه الآيةِ. القولُ في تأويلِ قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ
(2)
(25)}.
يقولُ تعالى ذكرُه: والله الذي يَقْبَلُ مُراجعةَ العبدِ إذا راجَع
(3)
توحيدَ اللهِ وطاعتَه من بعدِ كفرِه، {وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ}. يقولُ: ويَعْفُو له أن يُعاقبه على سيئاتِه مِن الأعمال؛ وهى معاصيه التي قد تاب منها.
(ويعلَمُ ما يَفْعَلُونَ). اختَلَفت القرأةُ في قراءةِ ذلك؛ فقرَأَته عامةُ قرأةِ المدينةِ والبصرة: (يَفْعَلون) بالياء، بمعنى: ويَعْلَمُ ما يَفْعَلُ عباده. وقَرَأَته عامة قرأةِ الكوفةِ: {تَفْعَلُونَ} بالتاءِ، على وجهِ الخطابِ
(4)
.
والصوابُ مِن القولِ في ذلك عندى أنهما قراءتان مشهورتان في قرأةِ الأمصار،
(1)
سقط من: م.
(2)
هنا وفيما سيأتي في الأصل، ص، ت 1، ت 2 ت 3:"يفعلون". وهى القراءة التي اختارها المصنف، وسنثبتها بالياء فيما يأتى بعد إن شاء الله.
(3)
في م، ت 1، ت 2 ت 3:"رجع".
(4)
قرأ حمزة والكسائى وخلف وحفص عن عاصم بالتاء، والباقون بالياء. النشر 2/ 275.
مُتَقارِبنا المعنى، فبأيِتهما قرَأ القارئُ فَمُصيبٌ، غير أن الياءَ أعجبُ إليَّ؛ لأن الكلامَ من قَبْلِ ذلك جرَى على الخبرِ، وذلك قولُه:{وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} . ويعنى جلَّ ثناؤُه بقولَه: (ويعْلَمُ ما يَفْعَلُونَ): ويَعْلَمُ ربُّكم أيُّها الناسُ مَا تَفْعَلون من خيرٍ وشرٍّ، لا يَخْفَى عليه من ذلك شيءٌ، وهو مُجازيكم على كلِّ ذلك جزاءه، فاتَّقوا الله في أنفسِكم، واحْذَروا أن تَرْكَبوا ما تَسْتَحِقُّون به منه العقوبةَ.
حدَّثنا تميمُ بن المنتصرِ، قال: أخبَرنا إسحاقُ بنُ يوسفَ، عن شَريكٍ، عن إبراهيمَ بن مُهاجِرٍ، عن إبراهيمَ النَّخَعيِّ، عن همامِ بن الحارثُ قال: أتَينا عبدَ اللهِ هذه الآيةِ: (وهو الذي يقبلُ التوبةَ عن عباده ويعفو عن السيئاتِ، ويعْلَمُ ما يفعلونَ). قال: فوجَدْنا عندَه أُناسًا أو رجالًا يَسْأَلونه عن رجلٍ أصاب من امرأةٍ حَرامًا ثم تزَوَّجَها، فتلا هذه الآيةَ: (وهو الذي يقبلُ التوبةَ عن عبادِه ويعفو عن السيئاتِ ويعْلَمُ ما يَفْعَلونَ
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولَه: {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26)}
يقولُ تعالى ذكرُه: ويُجِيبُ اللهُ
(2)
الذين آمنوا باللهِ ورسولهِ، وعمِلوا بما أمرَهم اللهُ به وانْتَهَوْا عما نهاهم عنه، لبعضهم دعاءَ بعضٍ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم - كما في تفسير ابن كثير 7/ 192 - من طريق شريك به، وأخرجه البيهقى 7/ 156 من طريق إبراهيم بن مهاجر بنحوه، وأخرجه عبد الرزاق (12789 - 12800)، وسعيد بن منصور في سننه (902، 903)، وابن أبي شيبة (4/ 249، والطبراني (9670) من طرق عن عبد الله بن مسعود بنحوه، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 8 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن سعد.
(2)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا عَثَّامٌ، قال: ثنا الأعمشُ، عن شَقِيقٍ بن سَلَمَةَ، عن سَلَمةَ بن سَبْرةَ، قال: خطَبَنا معاذٌ فقال: أنتم المؤمنون، وأنتم أهلُ الجنةِ، واللهِ إنى لأَرْجُو أن مَن تُصِيبون مِن فارسَ والرومِ يَدْخُلون الجنةَ؛ ذلك بأن أحدَهم إذا عمِل لأحدِكم العملَ قال: أحسنتَ رحِمك اللهُ، أَحْسَنتَ غَفَر الله لك. ثم قرَأ:{وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ}
(1)
.
وقولُه: {وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} . يقولُ تعالى ذكرُه: ويزيدُ الذين آمنوا وعمِلوا الصالحاتِ - مع إجابتِه إياهم دعاءَهم، وإعطائِه إياهم مسألتَهم - من فضلِه، على مسألِتهم إياه؛ بأن يُعْطِيَهم ما لم يَسْأَلُوه.
وقيل: إن ذلك الفضلَ الذي ضمِن جلَّ ثناؤُه أَن يَزِيدَهموه، هو أن يُشَفِّعَهم في إخوانِ إخوانهم إذا هم شُفِّعوا في إخوانهم، فشَفَعوا فيهم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا عبيدُ اللهِ بنُ محمدٍ الفِرْيابيُّ، قال: ثنا عمرُو بنُ أَبي سَلَمَةَ، عن سعيدِ بَشيرٍ، عن قتادةَ، عن [أبى إبراهيمَ اللخميِّ]
(2)
، في قولِ اللهِ:{وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} . قال: يُشَفَّعون في إخوانِهم، {وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ}. قال: يُشَفَّعون في إخوانِ إخوانهم
(3)
.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم - كما في تفسير ابن كثير 7/ 193، والحاكم 2/ 444 من طريق الأعمش به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 8 إلى ابن المنذر.
(2)
في م: "إبراهيم النخعي"، وفى ت 2 ت 3:"ابن أبي إبراهيم".
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 8 إلى المصنف.
وقولُه: {وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} . يقولُ جلَّ ثناؤُه: والكافرون باللهِ لهم يومَ القيامةِ عذابٌ شديدٌ على كفرِهم به.
واخْتَلَف أهلُ العربيةِ في معنى قولِه: {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} . فقال [بعضُ نحويِّى البصرةِ: ويَستجيبُ الذين آمنوا]
(1)
: أي: استجابوا
(2)
. فجعَلَهم هم الفاعلين، فـ {الَّذِينَ} في قولِه رفعٌ، والفعلُ لهم. وتأويلُ الكلامِ على هذا المذهبِ: واسْتَجاب الذين آمَنوا وعمِلوا الصالحاتِ لربِّهم إلى الإيمانِ به، والعملِ بطاعتهِ إذ دعاهم إلى ذلك.
وقال آخرُ منهم: بل معنى ذلك: ويُجيبُ الذين آمنوا. وهذا القولُ يَحْتَمِلُ وجهين؛ أحدُهما النَّصبُ
(3)
، بمعنى: ويُجِيبُ الله الذين آمنوا. والآخرُ ما قاله صاحبُ القولِ الذي ذكَرناه.
وقال بعضُ نحويِّى الكوفةِ
(4)
: {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا} . يكونُ {الَّذِينَ} في موضعِ نصبٍ بمعنى: ويُجِيبُ الله الذين آمنوا. وقد جاء في التنزيلِ: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ} [آل عمران: 195]، والمعنى، [واللهُ أعلمُ: فأجابهم]
(5)
. ربُّهم، إلا أنك إذا قلتَ: استجاب. أدْخَلْتَ اللامَ في المفعولِ، وإذا قلتَ: أجاب. حذَفْتَ اللامَ، ويكونُ "اسْتَجابهم" بمعنى: اسْتَجاب لهم. كما قال: {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [المطففين: 3]. والمعنى، والله أعلم: وإذا كالوا لهم أو وزَنوا لهم يُخْسِرُون. قال: ويكون {الَّذِينَ} في موضعِ رفعٍ إن يُجْعَلِ الفعلُ لهم، أي:
(1)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"بعضهم".
(2)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"استجاب".
(3)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"الرفع".
(4)
هو الفراء في معاني القرآن 3/ 24.
(5)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"فأجاب لهم"
الذين آمنوا يَسْتَجِيبون لله، ويزيدُهم على إجابِتهم والتصديقِ من فضلِه. وقد بيَّنا أن الصوابَ في ذلك مِن القولِ على ما تأوَّله معاذٌ ومَن ذكَرْنا قولَه فيه.
القولُ في تأويلِ قولَه: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27)} .
ذُكِر أن هذه الآيةِ نزَلَت مِن أجلِ قومٍ مِن أهلِ الفاقَةِ من المسلمين تمَنَّوا سَعَةَ الدنيا والغنى، فقال جلَّ ثناؤُه: ولو بسَط اللهُ الرزقَ لهم
(1)
فوسَّعه وكثَّره عندَهم لبَغَوْا، فتَجاوزَوا الحدَّ الذي حدَّه الله لهم إلى غيرِ الذي حدَّه لهم في بلادِه، بركوِبهم في الأرضِ ما حظره عليهم، ولكنه يُنَزِّلُ رزقهم بقَدَرٍ لكفايتهم الذي يشاء منه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونُسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال أبو هانئ: سمِعْتُ عمرَو بنَ حُرَيْثٍ وغيره يقولون: إنما أُنزِلت هذه الآيةُ في أصحابِ الصَّفّةِ: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ} . ذلك بأنهم قالوا: لو أن لنا! فتمَنَّوُا الدنيا
(2)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ سنان القَزَّازُ، قال: ثنا أبو عبدِ الرحمنِ المُقْرِئُ، قال: ثنا حَيْوَةُ، قال: أخبَرني أبو هانئ، أنه سمِع عمرَو بن حُرَيْثٍ يقولُ: إنما نزَلَت هذه الآيةِ. ثم ذكر مثله
(3)
.
(1)
في م، ت 3:"لعباده".
(2)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3. والأثر أخرجه أبو نعيم في الحلية 1/ 338 من طريق ابن وهب به.
(3)
أخرجه البيهقى في الشعب (103332) من طريق أبي عبد الرحمن المقرئ به. وأخرجه ابن المبارك في الزهد (554)، والواحدى في أسباب النزول ص 281، وأبو نعيم في الحلية 1/ 338 من طريق حيوة به. =
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ} الآيةَ. قال: كان يقالُ: خيرُ الرزقِ ما لا يُطْغيك ولا يُلْهِيك. وذُكِر لنا أن نبيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: "أخوفُ ما أخافُ على أمتى زهرةُ الدنيا وكثرتُها". فقال له قائلٌ: يا نبيَّ اللهِ، هل يأتى الخيرُ بالشرِّ؟ فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"هل يأتى الخيرُ بالشرِّ؟ " فأنْزَل اللهُ عليه عندَ ذلك، وكان إذا نزل عليه كُرِب لذلك وترَبَّد وجهُه، حتى إذا سُرَّى عن نبيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال:"هل يأتى الخيرُ بالشرِّ؟ ". يقولُها ثلاثًا، وإن الخيرَ لا يأتى إلا بالخير". يقولُها ثلاثًا، وكان صلى الله عليه وسلم وَتِرَ الكلامِ - "ولكنه والله ما كان رَبيعٌ قطُّ إلا أحْبَط أو أَلَمَّ
(1)
؛ فأما عبدٌ أعْطاه اللهُ مالًا، فوضَعَه في سبيلِ اللهِ التي افْتَرَض وارْتَضَى، فذلك عبدٌ أريد به خيرٌ، وعُزِم له على الخيرِ؛ وأما عبدٌ أعْطاه اللهُ مالًا فوضعه في شَهَواتِه ولَذَّاتِه، وعدله
(2)
عن حقِّ اللهِ عليه، فذلك عبدٌ أُرِيد به شرٌّ، وعُزم له على شرٍّ"
(3)
.
وقولُه: {إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} . يقولُ تعالى ذكرُه: إن الله بما يُصْلِحُ عبادَه ويُفْسِدُهم؛ مِن غنًى وفقرٍ، وسَعَة وإقتارٍ، وغيرِ ذلك مِن مصالحِهم ومضارِّهم، ذو خبرةٍ وعلمٍ، بصيرٌ بتدبيرِهم وصرفِهم فيما فيه صلاحُهم.
= وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 8 إلى سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر والطبراني وابن مردويه.
(1)
الربيع: الجدول، وهو النهر الصغير. وأحبط: من حبطت الدابة حَبَطًا، إذا أصابت مرعى طيبا فأمعنت في الأكل حتى تنتفخ فتموت. وألم: قارب الهلاك. فتح البارى 11/ 247 بتصرف.
(2)
في م: "عدل".
(3)
عزاه الزيلعي في تخريج أحاديث الكشاف 3/ 240، والسيوطى في الدر المنثور 6/ 8 إلى المصنف.
والحديث المرفوع أخرجه أحمد (17/ 83، 85، 248، 249، 18/ 371، 372 (11035، 11157، 11865، 11866)، والبخارى (1465، 2842، 6427)، ومسلم (1052) وغيرهم من حديث أبي سعيد الخدرى بنحوه.
القولُ في تأويلِ قولَه: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: والله الذي يُنَزَّلُ المطر من السماءِ فيُغِيثُكم به أيُّها الناسُ، {مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا}. يقولُ: مِن بعدِ ما يَئِس الناسُ من نزولِه ومجيئِه، {وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ}. يقولُ: ويَنْشُرُ في خلقِه رحمتَه. ويعنى بالرحمةِ الغيثَ الذي يُنزِّلُه من السماءِ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثَورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ أنه قيل لعمرَ بن الخطابِ رضي الله عنه: أجْدَبَت الأرضُ وقنَطَ الناسُ. قال: مُطِروا إذن
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا} . قال: يئسوا
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قال: ذُكر لنا أن رجلًا أتَى عمرَ بنَ الخطابِ، فقال: يا أميرَ المؤمنين، قحط المطرُ وقنط الناسُ. قال: مُطِرْتُم، {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ} .
وقولُه: {وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} . يقولُ: وهو الذي يَلِيكم أيها الناسُ
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 191 عن معمر به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 9 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
تفسير مجاهد ص 590، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 9 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
بإحسانِه وفضلِه، الحميدُ بأياديه عندَكم، ونعمِه عليكم في خلقِه.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: ومِن حُجَجه عليكم أيُّها الناسُ بأنه القادرُ على إحيائِكم بعدَ فَنائِكم، وبعثِكم من قبورِكم من بعدِ بِلائِكم - خلقُه السماواتِ والأرضَ، {وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ}. يعنى: وما فرَّق في السماواتِ والأرضِ من دابةٍ.
كما حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ} . قال: الناسُ والملائكةُ
(1)
{وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ} . يقولُ: وهو على جمْعِ ما بثَّ فيهما مِن دابة إذا يشاءُ جمعَه ذو قدرةٍ، لا يَتَعذَّرُ عليه، كما لم يَتَعذَّر عليه خلقُه وتفريقُه. يقولُ: فكذلك هو القادرُ على جمعِ خلقِه الحشرِ
(2)
يوم القيامةِ بعد تفرُّقِ أوصالِهم في القبورِ.
القول في تأويلِ قولَه: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وما يُصِيبُكم أيُّها الناسُ من مصيبةٍ في الدنيا في أنفسِكم أو أهليكم أو أموالِكم، {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ}. يقولُ: فإنما يُصِيبُكم
(1)
تفسير مجاهد ص 590، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 9/ 6 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
في ص، م، ت 2:"بحشر"، وفى ت 1:"يحشرهم".
ذلك عقوبةً من اللهِ لكم بما اجْتَرَمْتُم مِن الآثامِ فيما بينَكم وبينَ ربِّكم، ويَعْفُو لكم ربُّكم عن كثيرٍ من إجرامِكم، ولا يُعاقبكم بها.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يعقوب بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا ابن عليةَ، قال: ثنا أيوبُ، قال: قرأتُ في كتابِ أبي قلابة قال: نزَلَت: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7، 8]، وأبو بكرٍ يَأْكُلُ، فأمْسَك فقال: يا رسولَ اللهِ، إنى لَراءٍ ما عمِلتُ مِن خيرٍ أو شرٍّ؟ فقال: "أرأيتَ ما رأيْتَ مما تَكْرَهُ، فهو من مَثاقيلِ ذرِّ
(1)
الشرِّ، وتُدَّخَرُ مثاقيلُ الخيرِ حتى تُعْطاه
(2)
يوم القيامةِ" قال: قال أبو إدريسَ: فأَرَى مِصْداقها في كتابِ اللهِ. قال: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}
(3)
.
قال أبو جعفر: وحدَّث بهذا الحديثِ الهيثمُ بنُ الربيعِ؛ فقال فيه: أيوبُ، عن أبي قِلابةَ، عن أنسِ، أن أبا بكرٍ كان جالسًا عند النبيِّ صلى الله عليه وسلم. فذكَر الحديثَ، وهو غلطٌ، والصوابُ عن أبي إدريسَ
(4)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} الآيةِ، ذُكِر لنا أن نبيّ اللهِ صلى الله عليه وسلم ما كان يقولُ: "لا
(1)
في ت 2: "ذل"، في ت 3:"ذاك".
(2)
في ت 1، ت 2، ت 3:"يعطاه"
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 195 عن المصنف، وذكر بعضه الدارقطني في علله 1/ 227.
(4)
أخرجه العقيلي 4/ 353، والطبراني في الأوسط (8407)، والبيهقى في الشعب (9808) من طريق الهيثم عن سماك بن عطية عن أيوب به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 380 إلى الحاكم وابن مردويه. وسيأتي في تفسير سورة الزلزلة.
يُصِيبُ ابنَ آدَمَ خَدْشُ عُودٍ، ولا عَثْرةُ قدَمٍ، ولا اخْتِلاجُ عِرْقٍ، إلا بذنْبٍ، وما يَعْفُو عنه أكثرُ"
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} . قال: تُعَجَّلُ للمؤمنين عقوبتُهم بذنوبِهم [في الدنيا]
(2)
، ولا يُؤاخذون بها في الآخرةِ.
وقال آخرون: بل عُنِى بذلك: وما عُوقِبْتُم به في الدنيا من عقوبةٍ، بحدٍّ حُدِدْتُموه على ذنبٍ اسْتَوْجَبْتُموه عليه، {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ}. يقولُ: فيما عمِلْتُم مِن معصية اللهِ، {وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} ، فلا يُوجِبُ عليكم فيها حدًّا.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثَوْرٍ، عن معمرٍ، عن عن الحسنِ {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}. قال: هذا في الحدودِ. وقال قتادةُ: بلَغَنا أنه ما مِن رجلٍ تُصيبه عَثْرةُ قدم، ولا خَدْشُ عودٍ أو كذا أو كذا، إلا بذنبٍ، أو يَعْفُو، وما يَعْفُو أَكثرُ
(3)
.
وقولُه: {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ} . يقولُ: وما أنتم أيُّها الناسُ
(1)
أخرجه البيهقى في الشعب (9815) من طريق آخر عن قتادة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 10 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
سقط من: ص، م.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 192 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 10 إلى عبد بن حميد وابن المنذر
بمُفيتي
(1)
ربِّكم بأنفسكم إذا أراد عقوبتَكم على ذنوبِكم التي أذْنَبْتُموها، ومعصيتِكم إياه التي ركِبْتُموها؛ هربًا في الأرضِ، فمُعْجِزِيه حتى لا يَقْدِرَ عليكم، ولكنكم حيث كنتم في سلطانِه وقبضته، جاريةٌ فيكم مشيئتُه، {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ}: يليكم بالدفاعِ عنكم إذا أراد عقوبتَكم على معصيتِكم إياه، {وَلَا نَصِيرٍ}. يقولُ: ولا لكم من دونه نصيرٌ يَنْصُرُكم إذا هو عاقَبَكم، فيَنْتَصِرَ لكم منه. يقولُ
(2)
: فاحْذَروا أيُّها الناسُ معاصيَه، واتقوه أن تُخالفوه فيما أمَرَكم أو نهاكم، فإنه لا دافعَ لعقوبتِه عمن أحَلَّها به.
القول في تأويلِ قولَه: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ
(3)
فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33)}.
يقولُ تعالى ذكرُه: ومِن حُجَج الله أيُّها الناسُ عليكم بأنه القادرُ على كلِّ ما يَشاءُ، وأنه لا يَتعَذَّرُ عليه فعلُ شيءٍ أراده - السفنُ الجاريةُ في البحرِ. والجَوارى جمعُ جاريةٍ، وهى السائرةُ في البحرِ.
كما حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه: {الْجَوَارِ
(4)
فِي الْبَحْرِ}. قال: السفن
(5)
.
(1)
في ت 2: " بمعيبي"، وفى ت 3:"بمعيين".
(2)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(3)
في الأصل: "الرياح"، وهى قراءة نافع وأبي جعفر، والمثبت قراءة الباقين. ينظر النشر 2/ 275، والإتحاف ص 237.
(4)
في الأصل: "الجوارى"، وهى من ياءات الزوائد. وأثبت الياء فيها وصلا نافع وأبو عمرو وأبو جعفر، وفي الحالين ابن كثير ويعقوب، والباقون بالحذف في الحالين ينظر النشر 2/ 137، والإتحاف ص 237.
(5)
تفسير مجاهد ص 590، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 10 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْر} . قال: الجوارى: السفنُ
(1)
.
وقوله: {كَالْأَعْلَامِ} : يعنى: كالجبال. واحدُها عَلَمٌ، ومنه قولُ الشاعرِ
(2)
:
[وإنَّ صخرًا لتأتمُّ الهُداةُ به]
(3)
…
كأنه عَلَمٌ في رأسِه نارُ
يعني: جبلٌ. وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{كَالْأَعْلَامِ} . قال: كالجبالِ
(4)
.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ، قال: الأعلامُ: الجبالُ
(5)
.
وقولُه: {إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ} . يقولُ تعالى ذكرُه: إن يَشَأ اللهُ الذي جرَت
(6)
هذه السفنُ في البحرِ بقدرتِه
(7)
أن لا تَجْرِيَ فيه، أسْكَن الريحَ التي تَجْرِى بها فيه، فثبَتْنَ
(8)
في موضعٍ واحدٍ ووقَفْنَ على
(1)
ينظر التبيان 9/ 164.
(2)
هي الخنساء. وينظر أنيس الجلساء في ملخص ديوان الخنساء ص 42.
(3)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3. وفى مصدر التخريج:"* أغر أبلج تأتم الهداة به *".
(4)
تفسير مجاهد ص 590. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 10 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(5)
ينظر التبيان 9/ 164.
(6)
في ص، م:"قد أجرى".
(7)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(8)
في ت 2 ت 3: "فيسكن".
ظهرِ الماءِ، لا تَجْرِى فتتقَدَّمَ ولا تَتَأَخَّرَ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ} : سفنُ هذا البحرِ تَجْرِى بالريحِ، فإذا أُمْسِكَت عنها الريحُ رَكَدَت، قال اللهُ:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}
(1)
.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ} : لا تَجْرِى.
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قوله:{فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ}
(2)
. يقولُ: وقوفًا
(3)
.
وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} . يقولُ: إن في جَرْي هذه الجَوارِي في البحر بقُدرةِ اللهِ، لَعظةً وعبرةً وحجةً بينةً على قُدرةِ اللهِ على ما يَشاءُ، لكلِّ ذى صبرٍ على طاعتِه، شكورٍ لنعمه وأيادِيه عندَه.
القولُ في تأويلِ قولِه: {أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35) فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 10 إلى عبد بن حميد والمصنف.
(2)
بعده في ت: "لا تجرى".
(3)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"ركودا". والأثر أخرجه ابن أبي حاتم - كما في الإتقان 2/ 42 - من طريق أبي صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 10 إلى ابن المنذر.
خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36)}.
يقولُ تعالى ذكرُه: أو يُوبِقْ هذه الجوارىَ في البحرِ؛ بما كسَبَتْ رُكْبانُها مِن الذنوبِ، واجْتَرَموا من الآثامِ. وجزَم {يُوبِقْهُنَّ} ، عطفًا على {يُسْكِنِ الرِّيحَ}. ومعنى الكلامِ: إن يَشَأْ يُسْكِنِ الريحَ فيظْلَلنَ رَواكدَ على ظهرِه، {أَوْ يُوبِقْهُنَّ}. ويعنى بقوله:{أَوْ يُوبِقْهُنَّ} . أو يُهْلِكُهن بالغرقِ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قوله:{أَوْ يُوبِقْهُنَّ} . يقولُ: يُهْلِكُهن
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قوله:{أَوْ يُوبِقْهُنَّ} . أو يُهْلِكُهن
(2)
.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{أَوْ يُوبِقْهُنَّ} . قال: يُغْرقُهن
(3)
بما كسَبوا
(4)
.
وبنحوِ الذي قلنا في قولِه: {بِمَا كَسَبُوا} . قالوا أيضًا.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره - كما في الإتقان 2/ 42 من طريق أبي صالحٍ به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 10 إلى ابن المنذر.
(2)
تفسير مجاهد ص 590، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 10 إلى عبد بن حميد.
(3)
في ت 3: "يعوقهن".
(4)
ذكره الطوسي في التبيان 9/ 164.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا} . أي: بذنوبِ أهلِها.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا} . قال: بذنوب أهلِها
(1)
.
حدَّثني يونُسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا} . قال: يُوبِقْهن بما كسَب أصحابُهن.
وقوله: {وَيَعْفُ
(2)
عَنْ كَثِير}. يقولُ: ويَصْفَحُ تعالى ذكرُه عن كثيرٍ من ذنوبِكم، فلا يُعاقِبْ عليها.
وقوله: {وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا} . يقولُ جلَّ ثناؤُه: ويَعْلَمَ اللَّهُ الذين يُخاصِمون رسولَه محمدًا صلى الله عليه وسلم مِن المشركين في آياتِه وعبرِه وأدلتِه على توحيدِه. واخْتَلَفت القرأةُ في قراءتِه، فقرأَته عامةُ قرأةِ المدينةِ:(ويعْلَمُ الذين). رفعًا على الاستئنافِ، كما قال في سورةِ "براءة":{وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} [التوبة: 15].
وقرأَته عامةُ قرأةِ الكوفةِ والبصرة: {وَيَعْلَمَ الَّذِينَ} . نصبًا، كما قيلَ في سورةِ "آل عمران":{وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 142] على الصرفِ
(3)
، وكما قال
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 192 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 10 إلى عبد بن حميد.
(2)
قال القرطبي في تفسيره 16/ 33: "قال القشيري: والقراءة الفاشية: {وَيَعْفُ} بالجزم، وفيها إشكال؛ لأن المعنى إن يشاء يسكن الريح فتبقى تلك السفن رواكد ويهلكها بذنوب أهلها. فلا يحسن عطف {يعف} على هذا؛ لأنه يصير المعنى: إن يشأ يعف. وليس المعنى ذلك، بل المعنى الإخبار عن العفو من غير شرط المشيئة، فهو إذا عطف على المجزوم من حيث اللفظ لا من حيث المعنى. وقد قرأ قوم (ويعفو) بالرفع وهي جيدة في المعنى. اهـ.
(3)
قرأ نافع وابن عامر: (ويعلمُ الذين) بالرفع على الاستئناف، وقرأ الباقون:{وَيَعْلَمَ الَّذِينَ} بالنصب على الصرف. الكشف 2/ 251، 252.
النابغةُ الذُّبيانيُّ
(1)
:
فإِن يَهْلِكُ أبو
(2)
قابُوسَ يَهْلِكْ
…
رَبيعُ الناسِ والشهرُ الحرامُ
ونُمْسِكُ بعدَه بذِنابٍ عَنْسٍ
(3)
…
أَجَبِّ الظَّهْرِ ليس له سَنامُ
[ويُروَى: "عيش"]
(4)
.
والصوابُ مِن القولِ في ذلك أنهما قراءتان مشهورتان، ولغتان معروفتان مُتَقارِبنا المعنى، فبأيتِهما قرَأ القارئُ فمصيبٌ.
وقوله: {مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} . يقولُ تعالى ذكرُه: ما لهم مِن مَحيدٍ عن
(5)
عقابِ اللهِ، إذا عاقَبَهم على ذنوبِهم وكفرِهم به، ولا لهم منه ملجأٌ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ قولَه:{مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} . قال: ما لهم مِن مَلْجأٍ
(6)
.
وقوله: {فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ} . يقولُ تعالى ذكرُه: فما أُعْطِيتُم أَيُّها الناسُ مِن شيءٍ مِن رِياشِ الدنيا، من المالِ والبنينَ {فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}. يقولُ: فهو متاعٌ
(1)
ديوانه ص 231، 232.
(2)
في ص، ت 1، ت 2:"أبا".
(3)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، والديوان:"عيش". وعَنْس: الناقة القوية شبهت بالصخرة، وهى العَنس؛ لصلابتها. التاج (ع ن س).
(4)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(5)
في م: "من".
(6)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 10 إلى المصنف.
لكم تتمَتعون به في الحياةِ الدنيا، وليس مِن دارِ الآخرةِ، ولا مما يَنْفَعُكم في مَعادِكم.
{وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى} . يقولُ تعالى ذكرُه: والذي عندَ اللهِ لأهلِ طاعتِه والإيمانِ به في الآخرةِ، خيرٌ مما أُوِتيتُموه في الدنيا من متاعِها وأَبْقَى؛ لأن ما أُوتِيتُموه في الدنيا فانٍ نافدٌ، وما عندَ اللهِ مِن النعيمِ في جِنانِه لأهلِ طاعتِه باقٍ غيرُ نافدٍ، {لِلَّذِينَ آمَنُوا}. يقولُ: وما عندَ اللهِ للذين آمنوا به، وعليه يتوكلون في أمورِهم، وإليه يُفَوِّضون
(1)
أسبابَهم، وبه يَثِقون - خيرٌ وأبقى مما أُوتِيتُموه مِن متاعِ الحياةِ الدنيا.
يقولُ تعالى ذكرُه: وما عندَ اللهِ للذين آمَنوا، وللذين
(2)
يجتَنبُونَ كبَائرَ الإثمِ. وكبائرُ
(3)
الإثمِ قد بيَّنا اختلافَ أهلِ التأويلِ فيها، وبيَّنا الصوابَ مِن القولِ عندَنا فيها في سورةِ "النساء"
(4)
، فأغْنَى ذلك عن إعادته ههنا. {وَالْفَوَاحِشَ}. قيل: إنها الزنى.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، السديِّ:
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"يقومون"، وفى م:"يقومون في".
(2)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"الذين".
(3)
بعده في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"فواحش".
(4)
ينظر ما تقدم في 6/ 640 - 660.
{وَالْفَوَاحِشَ} . قال: الفَواحِشُ الزنى
(1)
.
واختلَفَت القرأةُ في قراءةِ قولَه: {كَبَائِرَ الْإِثْمِ} . فقرَأَته عامةُ قرأةِ المدينةِ: {كَبَائِرَ}
(2)
على الجِماعِ، وكذلك التي في "النجمِ"
(3)
، وقرأته عامةُ قرأةِ الكوفةِ:(كبيرَ الإثمِ) على التوحيدِ فيهما جميعًا
(4)
، وكأن مَن قرَأ ذلك كذلك عنَى بكبيرِ الإثمِ الشركَ. و
(5)
كان الفراءُ يقولُ: كأني أَسْتَحِبُّ لمن قرَأ {كَبَائِرَ الْإِثْمِ} أن يَخْفِضَ "الفواحش"؛ لتكونَ الكبائرُ مضافةً إلى مجموعٍ إذ كانت جمعًا. قال: وما سمِعتُ أحدًا من القرأةِ خفَض "الفواحشَ"
(6)
.
والصوابُ مِن القولِ في ذلك عندَى أنهما قراءتان قد قرَأ بكلِّ واحدةٍ منهما علماءُ مِن القرأةِ، على تقارُبِ معنييهما، فبأيتِهما قرَأ القارئُ فمصيبٌ.
وقولُه: {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: وإذا ما غضِبوا على مَن اجْتَرَم إليهم جُرْمًا، هم يَغفِرون لمن اجتَرم إليهم ذنبَه، ويَصْفَحون عنه عقوبةَ ذنبِه.
وقولُه: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: وللذين أجابوا لربِّهم حينَ دعاهم إلى توحيدِه، والإقرارِ بوحدانيتِه، والبراءةِ مِن
(1)
ذكرُه البغوي في تفسيره 7/ 197، والقرطبي في تفسيره 16/ 35.
(2)
سقط من: م.
(3)
يعني قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ} [النجم: 32].
(4)
قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وعاصم وأبو جعفر ويعقوب: {كبائر} ، وقراءة حمزة والكسائي وخلف:(كبير). ينظر النشر 2/ 275، والإتحاف ص 237.
(5)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"كما".
(6)
ينظر معاني الفراء 3/ 25.
عبادةِ كلِّ ما يُعْبَدُ مِن دونِه، وأقامُوا الصلاةَ المفروضةَ بحدودِها في أوقاتِها، {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}. يقولُ: وإذا حزَبهم أمرٌ تَشاوَرُوا بينَهم، {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}. يقولُ: ومِن الأموالِ التي رزَقْناهم يُنْفِقون في سبيلِ اللهِ، ويُؤَدُّون ما فرَض اللَّهُ عليهم فيها
(1)
مِن الحقوقِ لأهلها؛ من زكاةٍ ونفقةٍ على من يَجِبُ عليه نفقتُه. وكان ابن زيدٍ يقولُ: عُنِى بقولِه: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ} الآية: الأنصارُ.
حدَّثني يونُسُ، قال: أخبَرنا ابن وهب، قال: قال ابن زِيدٍ، وقرأَ:{وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} . قال: فبدَأ بهم {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ} : الأنصارُ، {وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ}: وليس فيهم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}: ليس فيهم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أيضًا.
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: والذين إذا بغَى عليهم باغٍ واعْتَدَى * عليهم هم يَنْتَصِرون.
اختَلَف أهلُ التأويلِ في الباغى الذي حِمد تعالى ذكرُه المنتصرَ منه بعدَ بغيِه عليه؛ فقال بعضُهم: هو المشرِكُ إذا بغَى على المسلمِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونُسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ قال: قال ابن زيدٍ: ذكَر المهاجرين
(1)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
* من هنا خرم في مخطوطة الأصل المرموز لها بـ (ق)، ينتهي في ص 529.
صنفين؛ صنفًا عفا، وصنْفًا انْتَصَر. وقرَأ:{وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} . قال: فبدَأ بهم: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ} إلى قولِه: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} : وهم الأنصارُ. ثم ذكَر الصنفَ الثالثَ فقال: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} من المشركين
(1)
.
وقال آخرون: بل هو كلُّ باغٍ بغَى، فحمِد المنتصرَ منه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ في قولِه:{وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} . قال: ينتَصِرون ممن بغَى عليهم مِن غيرِ أن يَعْتَدُوا
(2)
.
وهذا القولُ الثاني أولى في ذلك بالصوابِ؛ لأن الله عز وجل لم يَخْصُصْ مِن ذلك معنًى دون معنًى، بل حمِد كلَّ منتصِرٍ بحقٍّ مَمَن بغَى عليه.
فإن قال قائلٌ: وما في الانتصارِ مِن المدحِ؟ قيل: إن في إقامةِ الظالمِ على سبيلِ الحقِّ وعقوبتِه بما هو له أهلٌ تقويمًا
(3)
له، وفى ذلك أعظمُ المدحِ.
وقوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} . وقد بيَّنَّا فيما مضَى معنى ذلك
(4)
، وأن معناه: وجزاءُ سيئةِ المسئِ عقوبتُه بما أوْجَبه اللهُ عليه، فهي وإن كانت عقوبةً مِن اللهِ أوْجَبها عليه فهى مَساءةٌ له. والسيِّئة إنما هي الفَعْلةُ مِن السُّوءِ، وذلك نظيرُ قولِ اللهِ عز وجل:{وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} [الأنعام: 160].
(1)
ذكرُه البغوي في تفسيره 7/ 197، والقرطبي في تفسيره 16/ 36.
(2)
في ت 2، ت 3:"يبغوا"، والأثر ذكره النحاس في ناسخه ص 659، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 11 إلى المصنف.
(3)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"تقويم".
(4)
ينظر ما تقدم في 1/ 314.
وقد قيل: إن معنى ذلك: أن يُجابَ القائلُ الكلمةَ القَزِعةَ
(1)
بمثلِها.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يعقوبُ، قال: قال لى أبو بشرٍ: سمِعتُ ابن أبي نَجيحٍ يقولُ في قولِه: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} . قال: يقولُ: أخْزاه الله. فيقولُ: أخْزاه اللهُ
(2)
.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ في قولِه:{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} . قال: إذا شتَمَك بشَتِيمةٍ فاشْتُمْه مثلَها، مِن غيرِ أن تَعتَدِيَ
(3)
.
وكان ابن زيدٍ يقولُ في ذلك بما حدَّثني يونُسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} مِن المشركين، {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا} الآية: ليس أمَرَكم أن تَعْفُوا عنهم لأنه أحَبَّهم، {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} ، ثم نسَخ هذا كلَّه، وأمَرَه بالجهادِ
(4)
.
فعلى قولِ ابن زيدٍ هذا تأويلُ الكلامِ: وجزاءُ سيئةٍ مِن المشركين إليكم سيئةٌ مثلُها منكم إليهم، وإن عفَوتُم وأَصْلَحْتُم في العفوِ، فأجرُكم في عفوِكم عنهم إلى
(1)
في ت 2: "القديمة" وأقزع له في المنطق: تعدى في القول. الوسيط (ق ز ع).
(2)
أخرجه النحاس في ناسخه ص 659، 660 من طريق إسماعيل ابن علية أبى بشر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 11 إلى المصنف.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 11 إلى المصنف.
(4)
ينظر الناسخ والمنسوخ للنحاس ص 660، ونواسخ القرآن لابن الجوزي ص 452.
اللهِ، إنه لا يُحِبُّ الظالمين
(1)
. وهذا على قولِه كقولِ اللهِ عز وجل: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ} [البقرة: 194]. وللذى قال مِن ذلك وجهٌ. غيرَ أن الصوابَ عندَنا أن تُحمَل
(2)
الآية على الظاهرِ ما لم يَنْقُلْه إلى الباطنِ ما يَجِبُ التسليمُ له، وأن لا يُحْكَمَ بحكمٍ
(3)
في آيةٍ بالنسخِ إلا بخبرٍ يَقْطَعُ العذرَ، أو حجةٍ يَجِبُ التسليمُ لها، ولم تَثْبُتْ حجةٌ في قولِه:{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} ، يَجِبُ أنه مرادٌ به المشركون دونَ المسلمين، ولا بأنَّ هذه الآية منسوخةٌ، فنُسلِّمَ لها بأنَّ ذلك كذلك.
وقوله: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} . يقولُ جلَّ ثناؤُه: فمَن عفا عمن أساء إليه إساءتَه إليه، فغفرَها له ولم يُعاقِبْه بها، وهو على عقوبتِه عليها قادرٌ، ابتغاءَ وجهِ اللهِ، فأجرُ عفوِه ذلك على اللهِ، واللهُ تعالى مُثِيبُه عليه ثوابَه.
{إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} . يقولُ: إن الله لا يُحِبُّ أهلَ الظلمِ الذين يَتَعدَّوْن على الناسِ، فيُسِيئون إليهم بغيرِ ما أذِن اللهُ لهم فيه.
القولُ في تأويلِ قولَه تعالى: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: ولَمَن انتصَرَ ممَّن ظلمَه مِن بعدِ ظلمِه إياه، {فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ}. يقولُ: فأولئك المُنْتَصِرون منهم، لا سبيلَ للمُنتَصَرِ منهم عليهم بعقوبةٍ ولا أذىً؛ لأنهم انْتَصَروا منهم بحقٍّ، ومَن أخذ حقَّه ممن وجَب ذلك له.
(1)
في ص، م، ت 1:"الكافرين".
(2)
في ص، ت 1، ت 2:"نحكم".
(3)
في م: "لحكم".
عليه، [فلم يَتَعدَّ ولم يَظلِمْ]
(1)
، فيكونَ عليه سبيلٌ.
وقد اخْتَلَف أهلُ التأويلِ في المعنيِّ بذلك؛ فقال بعضُهم: عُنِى به كلُّ مُنْتَصِرٍ ممن أساء إليه، مسلمًا كان المسيءُ أو كافرًا.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عبدِ اللهِ بن بَزِيعٍ، قال: ثنا معاذٌ، قال: ثنا ابن عونٍ، قال: كنتُ أَسألُ عن الانتصارِ، {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ} الآيةَ، فحدَّثني عليُّ بنُ زِيدِ بن جدعانَ، عن أمِّ محمدٍ امرأةِ أبيه
(2)
- قال ابن عونٍ: زعَموا أنها كانت تدْخُلُ على أم المؤمنين - قالت: قالت أمُّ المؤمنين: دخَل علينا
(3)
رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وعندَنا زينبُ بنتُ جَحْشٍ، فجعَل يَصْنَعُ بيدِه شيئًا، ولم يَفْطَنْ لها، فقلتُ بيدِه حتى فطَّنْتُه فأَمْسَك، وأَقْبَلَت زينبُ تَقَحَّمُ
(4)
لعائشةَ، فنهاها فأبَتْ أَن تَنْتَهِيَ، فقال لعائشةَ:"سُبِّيها"، فسبَّتْها فغلَبَتها، وانْطَلَقَتْ زينب فأتَت عليًّا، فقالت: إن عائشةَ تَقَعُ بكم وتَفْعَلُ بكم. فجاءت فاطمةُ، فقال لها:"إنها حِبَّةُ أبيك وربِّ الكعبةِ". فانْصَرَفَت وقالت لعليٍّ: إنى قلتُ له كذا و كذا، فقال كذا وكذا. قال: وجاء عليٌّ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فكلَّمه في ذلك
(5)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ
(1)
في م: "ولم يتعد لم يظلم".
(2)
في ت 1: "ابنه".
(3)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2.
(4)
أي تتعرض لشتمها. ينظر النهاية 4/ 19.
(5)
أخرجه أبو داود (4898) من طريق معاذ به، وذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 199 عن المصنف، وقال: هكذا ورد هذا السياق، وعلى بن زيد بن جدعان يأتى في رواياته بالمنكرات غالبًا، وهذا فيه نكارة، والحديث الصحيح خلاف هذا السياق. ثم أورد حديثًا من طريق خالد بن سلمة الفأفاء، أخرجه أحمد 6/ 93 (ميمنية)، والبخاري في الأدب المفرد (558)، وابن ماجه (1981)، والنسائي في الكبرى (8914، 8915، 11476).
بَعْدَ ظُلْمِهِ}. الآيةَ، قال: هذا في الخَمْشِ
(1)
يكونُ بينَ الناسِ
(2)
.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ في قولِه:{وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} . قال: هذا فيما يكونُ بينَ الناسِ مِن القِصاصِ، فأما لو ظلَمَك رجلٌ لم يَحِلُّ لك أن تَظْلِمه
(2)
.
وقال آخرون (*): بل عُنِى به الانتصارُ مِن أهلِ الشركِ، وقال: هو منسوخٌ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونُسُ، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} . قال: لَمَنِ انْتَصَر بعد ظلمِه؛ من المؤمنين انتَصَر مِن المشركين. قال: وهذا قد نُسِخ، وليس هذا في أهلِ الإسلامِ، ولكن في أهل الإسلامِ الذي قال اللهُ:{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34].
والصوابُ مِن القولِ في ذلك أن يقالَ: إنه معنيٌّ به كلُّ منتِصرٍ مِن ظالمِه.
وإن الآيةَ مُحْكَمةٌ غيرُ مَنْسوخةٍ؛ للعلةِ التي بيَّنْتُ في الآيةِ قبلَها.
وقوله: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: إنما الطريقُ لكم أيُّها الناسُ على الذين يَتَعَدَّون على الناسِ ظلمًا وعُدْوانًا، بأن
(1)
الخمش: الجراحات والجنايات. ينظر النهاية 2/ 80.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 193 عن معمر به، والبيهقى في الشعب (8098) من طريق آخر عن قتادة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 11 إلى عبد بن حميد.
(*) إلى هنا ينتهى السقط من مخطوطة الأصل والمشار إليه في ص 523.
تُعاقبوهم
(1)
بظلمِهم، لا على مَن انتَصَر ممن ظلَمَه وأخَذ منه حقَّه.
وقوله: {وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} . يقولُ: ويتَجاوَزون في أرضِ اللهِ الحدَّ الذي أباح لهم ربُّهم إلى ما لم يَأْذَنْ لهم فيه، فيُفْسِدون فيها بغير الحقِّ، {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}. يقولُ: فهؤلاء الذين يَظْلِمون الناسَ ويَبْغُون في الأرض بغير الحقِّ، لهم عذابٌ مِن اللهِ يومَ القيامةِ في جهنمَ مُؤْلِمٌ مُوجعٌ.
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: ولمن صبَر على إساءةِ مَن أساء إليه، وغفَر للمسيءِ إليه جُرْمَه إليه، فلم يَنْتَصِر منه، وهو على الانتصارِ منه قادرٌ، ابتغاءَ وجهِ اللهِ وجزيلِ ثوابِه، {إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}. يقولُ: إن صبرَه ذلك وغفرانَه ذنبَ المسيءِ إليه {لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} . [يقولُ: لَمن الأمورِ]
(2)
التي ندَب إليها عبادَه، وعزَم عليهم العملَ بها
(3)
.
{وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ} . يقولُ جل ثناؤه: ومَن خذَله اللهُ عن الرَّشادِ، فليس له مِن وليٍّ يَلِيه، فيَهْدِيَه لسبيلِ الصوابِ، ويُسَدِّدَه لها
(4)
من بعدِ إضلالِ اللهِ إياه، {وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ}. يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: وتَرَى الكافرين بالله يا محمدُ يومَ القيامة لمّا عايَنوا عذابَ اللهِ يقولون لربِّهم: هَلْ لنا يا ربُّ إلى مرَدٍّ [إلى الدنيا](2) مِنْ سبيلٍ؟ وذلك كقولِه:
(1)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"يعاقبوهم".
(2)
سقط من: ص، م، ت 2، ت 2، ت 3.
(3)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"به".
(4)
سقط من: ص، م، ت 2، ت 2، ت 3.
{وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة: 12]. اسْتَعتَب المساكينُ في غيرِ حينِ الاستعتابِ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ في قولِه:{هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ} . يقولُ: إلى الدنيا
(1)
.
واخْتَلَف أهلُ العربيةِ في وجهِ دخولِ "إنَّ" في قولِه: {إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} ، مع دخولِ اللامِ في قولِه:{وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ} . فكان بعضُ
(2)
نحويِّ أهلِ البصرةِ يقولُ في ذلك: أما اللامُ التي في: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ} فلامُ الابتداءِ، وأمّا {إِنَّ ذَلِكَ} ، فمعناه واللهُ أعلمُ: إنَّ ذلك منه مِن عزمِ الأمورِ. وقال: قد تقول: مرَرْتُ بالدارِ الذراعُ بدرهمٍ. أي: الذراعُ منها بدرهمٍ، ومرَرْتُ ببُرٍّ قَفيزٌ بدرهمٍ. أي: قفيزٌ منه بدرهمٍ. قال: وأما ابتداءُ "إِنَّ" في هذا الموضعِ فمثلُ: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ} [الجمعة: 8]، يجوزُ ابتداءُ الكلامِ، وهذا إذا طال الكلامُ في هذا الموضعِ.
وكان بعضُهم يَسْتَخْطِئُ هذا القولَ، ويقولُ: إِنَّ العربَ إذا أَدْخَلَت اللامَ في أوائلِ الجزاءِ أجابَته بجواباتِ الأيمانِ؛ بـ "ما"، و "لا"، و "إنَّ"، و "اللامِ"، قال: وهذا مِن ذاك، كما قال: {لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 12 إلى المصنف.
(2)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ} [الحشر: 12]. فجاء بـ "لا"، وبـ "اللام" جوابًا للامِ الأولى. قال: ولو قال: لئن قُمْتَ إني لَقائمٌ. لجاز، ولا حاجةَ به إلى العائدِ؛ لأن الجوابَ في اليمينِ قد يكونُ فيه العائدُ وقد لا يكونُ، ألا ترَى أنك تقولُ: لكن قمتَ لأقُومَنَّ، و لا أقومُ، و: إني لَقائمٌ. فلا تَأْتى بعائدٍ. قال: وأما قولُهم: مررْتُ بدار الذراعُ بدرهمٍ، و: ببُرٍّ قَفِيرٌ بدرهمٍ، فلابد مِن أن يَتَّصِلَ بالأولِ
(1)
بالعائدِ، وإنما يُحْذَفُ
(2)
العائدُ فيه؛ لأن الثانيَ تبعيضٌ للأولِ؛ مرَرْتُ ببُرٍّ بعضٌ
(3)
بدرهمٍ و: بعضُه، بدرهمٍ، فلما كان المعنيُّ التبعيضَ حذَف العائدَ. قال: وأما ابتداءُ "إنّ" في كلِّ موضعٍ إذا طال الكلامُ، فلا يَجوزُ أَن يُبْتَدأَ [إلا لمعنى]
(4)
: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ} ، فإنه جوابٌ للجزاءِ، كأنه قال: ما فرَرْتُم منه من الموتِ فهو مُلاقِيكم.
وهذا القولُ الثاني عندى أولى بالصوابِ في ذلك، للعلل التي قد ذكَرْناها.
يقولُ تعالى ذكرُه: وتَرَى يا محمد الظالمين يُعْرَضون على النارِ، {خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ}. يقولُ: حَاضِعِين مُتَذَلِّلين.
كما حدَّثني يونُسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ: الخشوعُ:
(1)
في ت 2، ت 3:"الأول".
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"يخاف".
(3)
في م: "بعضه".
(4)
في ص، م، ت 1:"إن بمعنى"، وفى ت 2، ت 3:"إلا بمعنى".
الخوفُ والخشيةُ اللهِ. وقرَأ قولَ اللهِ: {لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ} إلى قولَه: {خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ} . قال: قد أذَلَّهم الخوفُ الذي نزَل بهم، وخشَعوا له
(1)
.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ في قولِه:{خَاشِعِينَ} . قال: خاضِعِين من الذلِّ.
وقوله: {يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} . يقولُ: يَنْظُرُ هؤلاء الظالمون إلى النارِ حينَ يُعْرَضون عليها من طَرْفِ خَفِيٍّ.
واخْتَلَف أهلُ التأويلِ في معنى قولِه: {مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} الله؛ فقال بعضُهم: معناه: من طرْفٍ ذَليلٍ. وكأن معنى الكلام: مِن طَرْفٍ قد خَفِى مِن ذُلِّه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بن سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا} إلى قولِه: {مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} . يعني بالخَفيِّ: الذليلَ
(2)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، الحارثُ، وحدَّثني قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} . قال: ذليلٍ
(3)
.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أنهم كانوا يُسارِقون النَّظَرَ.
(1)
تقدم في 1/ 623.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 12 إلى المصنف.
(3)
تفسير مجاهد ص 591، ومن طريقه الفريابي كما في تغليق التعليق 4/ 304، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 12 إلى عبد بن حميد.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} . قال: يُسارِقون النَّظرَ
(1)
.
[حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ: {مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ}. قال: يُسارِقون النظرَ]
(2)
.
واختَلَف أهلُ العربيةِ في ذلك، فقال بعضُ نحويى أهلِ البصرةِ في ذلك: جعَل الطرْفَ العينَ، كأنه قال: ونظرُهم مِن عينٍ ضعيفةٍ. واللهُ أعلمُ. قال: وقال يونُسُ
(3)
: إِنَّ {مِنْ طَرْفٍ} مثلُ "بطرْفٍ"، كما تقولُ العربُ: ضرَبْتُه في السيفِ، و: ضرَبْتُه بالسيفِ.
وقال آخرُ منهم: إنما قيل: {مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} . لأنه لا يَفْتَحُ عينَه، إِنما يَنْظُرُ ببعضِها.
وقال آخرون منهم: إنما قيل: {مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} . لأنهم ينْظُرون إلى النارِ بقلوبهم؛ لأنهم يُحْشَرون عُمْيًا.
والصوابُ مِن القولِ في ذلك القولُ الذي ذكَرْناه عن ابن عباسٍ ومجاهدٍ، وهو أن معناه: أنهم يَنْظُرون إلى النارِ مِن طرْفٍ ذليلٍ، وصَفه اللهُ جلَّ ثناؤُه بالخَفاءِ؛ للذلةِ التي قد ركِبَتهم، حتى كادت أعينُهم أَن تَغور فتَذْهَبَ.
وقولُه: {وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 12 إلى المصنف وعبد بن حميد.
(2)
سقط من: ت 2، ت 3. والأثر ذكره القرطبي في تفسيره 16/ 45.
(3)
في ت 2، ت 3:"أبو نصير".
يَوْمَ الْقِيَامَةِ}. يقولُ تعالى ذكرُه: وقال الذين آمَنوا باللهِ ورسولِه: إن المَغْبُونين الذين عُبِنوا أنفسَهم وأهليهم يومَ القيامةِ
(1)
الجنةَ.
كما حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ قولَه:{الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} . قال: غُبِنوا أنفسَهم وأهليهم في الجنةِ.
وقولُه: {أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ} . يقولُ تعالى ذكرُه: ألا إن الكافرين يومَ القيامِة في عذابٍ لهم من اللهِ مُقيمٍ عليهم ثابتٍ، لا يَزولُ عنهم، ولا يَبِيدُ، ولا يَخِفُّ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: ولم يَكُنْ لهؤلاء الكافرين حينَ يُعَذَّبُهم الله يومَ القيامةِ أولياءُ يَمْنَعونهم من عذابِ اللهِ، ولا يَنْتَصِرون لهم من ربِّهم على ما نالهم به مِن العذابِ، مِن دونِ اللهِ، {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ}. يقولُ: ومَن يَخْذُلْه اللهُ عن
(2)
طريقِ الحقِّ فما له من طريقٍ إلى الوصولِ إليه؛ لأن الهدايةَ والإضلالَ بيدِه دونَ كلِّ أحدٍ سواه.
وقولُه: {اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ} . يقولُ تعالى ذكرُه للكافرين به: أَجِيبوا أيُّها الناسُ داعىَ اللهِ وآمِنوا به، واتَّبِعوه على ما جاءكم به مِن عندِ رَبِّكُم {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ}. يقولُ: لا شيءَ يَرُدُّ مجيئَه إذا جاء اللهُ به، وذلك
(1)
بعده في م: "في".
(2)
في الأصل: "من".
يومَ القيامةِ، {مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ}. يقولُ جلَّ ثناؤُه: ما لكم أيُّها الناسُ مِن مَعقِلٍ تَحْتَرزون فيه وتَلْجَئون إليه، فتَعْتَصِمون به مِن النازلِ بكم مِن عذابِ اللهِ، على كفرِكم به [في الدنيا]
(1)
، {وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ}. يقولُ: ولا أنتم تَقْدِرون لِمَا يَحِلُّ بكم مِن عقابِه يومَئذٍ على تغييرٍ، ولا على انتصارٍ منه، إذا عاقَبَكم بما عاقَبَكم به.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ} . قال: مَحْرَزٍ. وقولَه: {مِنْ نَكِيرٍ} . قال: ناصرٍ يَنْصُرُكم
(2)
.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإ يَوْمَئِذٍ} تَلْجَئون إليه، {وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ}. يقولُ: مِن [غَيْرٍ تُغَيِّرون]
(3)
.
(1)
سقط من: ت 1، وفي ص، م، ت 2، ت 3:"كان في الدنيا".
(2)
تفسير مجاهد ص 591، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 12 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"عز تعتزون".
يقولُ تعالى ذكرُه: فإن أعْرَض هؤلاء المشركون يا محمدُ، عما أتيْتَهم به مِن الحقَّ، ودعَوْتَهم إليه من الرُّشْدِ، فلم يَسْتَجِيبوا لك، وأَبَوْا قَبوله منك - فدَعْهم؛ فإنَّا لم
(1)
نُرْسِلْك إليهم رقيبًا عليهم تحْفَظْ عليهم أعمالَهم وتُحْصِيها، {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ}. يقولُ: ما عليك يا محمدُ إلا أن تُبَلِّغَهم ما أَرْسَلْناك به إليهم من الرسالةِ، فإذا بلَّغْتَهم ذلك فقد قضَيْتَ ما عليك، {وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا}. يقولُ تعالى ذكرُه: وإنا إذا أَغْنَيْنا ابنَ آدَمَ وأَعْطَيْناه من عندنا سَعَةً - وذلك هو الرحمةُ التي ذكَرها جلَّ ثناؤُه - {فَرِحَ بِهَا} . يقولُ: سُرَّ بما أعْطَيْناه من الغِنَى، ورزَقْناه من السَّعةِ وكثرةِ المالِ، {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ}. يقولُ: وإن أصابتهم فاقةٌ وفقرٌ وضيقٌ عيشٍ {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} . يقولُ: بما أسْلَفَ مِن معصيةِ اللهِ عقوبةً له على معصيتِه إياه - جحَد نِعَمَ اللهِ، ويَئِسَ من الخيرِ، {فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ}. يقولُ تعالى ذكرُه: فإن الإنسانَ جحودٌ نعمَ ربِّه، يُعَدِّدُ المصائبَ، ويَجْحَدُ النعَمَ. وإنما قال:{وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} . فأخرَج الهاءَ والميمَ مُخْرَجَ كنايةِ جمعِ الذكورِ، وقد ذكَر الإنسانَ قبلَ ذلك بلفظِ
(2)
الواحدِ؛ لأنه بمعنى الجمعِ.
يقولُ تعالى ذكرُه: للهِ سلطانُ السماواتِ السبعِ والأرضِ
(3)
، يَفعَلُ في سلطانِه ما يَشاءُ، ويَخْلُقُ ما يُحِبُّ خلقَه، يَهَبُ لمن يشاءُ مِن خلقِه من الولدِ الإناثَ
(1)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"لن".
(2)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"بمعنى".
(3)
في م: "الأرضين".
دونَ الذكورِ، بأن يَجْعَلَ كلَّ ما حَمَلتْ زوجتُه من حَمْلٍ منه أنثَى، {وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ}. يقولُ: ويَهَبُ لمن يَشاءُ منهم الذكورَ، بأن يَجْعَلَ كُلَّ حملٍ حَمَلتْه امرأتُه ذكرًا لا أنثَى فيهم. [{أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا}]
(1)
. يقولُ: أو يجعلُ له ذُكرانُا وإناثًا؛ بأن يجعلَ حَمْلَ زوجتِه مرةً ذكرًا ومرةَ أنثى، فذلك هو التزويجُ، {وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا}. يقولُ: ويجعلُ مَن يَشَاءُ منهم لا لقاحَ له ولا ولدَ. وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بن بشارٍ، قال: ثنا صفوانُ بنُ عيسى، قال ثنا عوفٌ، عن محمدِ بن سيرينَ، عن عَبيدةَ في قولِه:{يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} . قال: يَهَب لمن يشاءُ ذكورًا كلَّها لا إناثَ فيهم، ويهبُ لَمن يشاء إناثًا لا ذكورَ فيهم، {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا}. قال: عقيمًا لا يولدُ له.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: حدَّثني أبي، قال: حدَّثني عمي، قال: حدثني أبى، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا} . يقولُ: لا يولدُ له إلا الجوارى، {وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ}. يقولُ: لا يولدُ له إلا الغلمانُ، {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا}: يولدُ له الجوارى والغلمانُ فذلك تزويجُهم
(2)
.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن الحسنِ في قولِه] (1):
(1)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(2)
ذكره الطوسي في التبيان 9/ 172.
[{يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا} . قال: يهبُ لمن يشاءُ إناثًا فلا يكونُ له إلا أنثى، وولدُه كلُّهم إناثٌ، {وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} فلا يكونُ له إلا ذكورٌ، {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا}. يقولُ: يجمعُ لهم الذكرانَ والإناثَ، فيهبُ لمن يشاءُ ذُكرانًا وإناثًا، {وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا} لا يولدُ له
(1)
]
(2)
.
حدَّثني محمدُ بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ قولِه:{أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا} . قال: يَخْلِطُ بينَهم. يقولُ: التزويجُ أَن تَلِدَ المرأةُ غلامًا ثم تَلِدَ جاريةً، ثم تَلِدَ غلامًا ثم تَلِدَ جاريةً
(3)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُور} : قادرٌ واللهِ ربُّنا على ذلك؛ أَن يَهَبَ للرجلِ [ذكورًا ليست معهم أنثى، وأن يَهَب للرجل إناثًا ليس معهنَّ ذكورٌ {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا} فيهَبُ]
(4)
للرجلِ ذُكْرانًا وإناثًا، فيَجْمَعُهم له جميعًا، {وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا} لا يُولَدُ له.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ، في قولِ الله:{يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} : ليس معهم إناثٌ، {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا}. قال: يَهَبُ لهم إناثًا وذكرانًا، {وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 193 عن معمر به، وذكره القرطبي في تفسيره 16/ 48.
(2)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(3)
تفسير مجاهد ص 591.
(4)
في ص، م، ت 2، ت 3:"ذكور ليست معهم أنثى وأن يهب"، وفي ت 1:"إناثًا ليس فيهم ذكرٌ، وذكرانًا ليس فيهم أنثى وأن تهب".
عَقِيمًا} لا يُولَدُ له
(1)
.
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولِه:{وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا} . يقولُ: لا يُلْقِحُ
(2)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه:
{وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا} : لا يلدُ واحدًا ولا اثنين.
حدِّثتُ عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبَرنا عبيدٌ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا} . [يقولُ: ليس فيهنَّ ذكَرٌ]
(3)
، {وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ}: ليست فيهم أنثى، {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا}: تلدُ المرأةُ ذكرًا مرَّةً وأنثى مرَّةً، {وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا}: لا يُولَدُ له
(4)
.
وقال ابن زيدٍ في معنى قولِه: {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ} . ما حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا} . قال: أو يجعَلُ في البطنِ الواحدِ ذكرًا وأنثى توءَمًا، هذا قولُه:{أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا}
(5)
.
وقوله: {إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} . يقولُ تعالى ذكرُه: إن الله ذو علم بما يخلُقُ، وقُدرةٍ على خلقِ ما يشاءُ، لا يعزُبُ عنه علمُ شيءٍ مِن خلقِه، ولا يُعجِرُه خَلْقُ شيءٍ
(1)
ينظر التبيان 9/ 172.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم - كما في التغليق 4/ 304 - من طريق أبي صالح به.
(3)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(4)
ذكره القرطبي في تفسيره 16/ 48 بشطره الأول فقط.
(5)
ذكره الطوسي في التبيان 9/ 172.
أراد خلْقَه.
القولُ في تأويلِ قولِه: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وما ينبَغى لبشرٍ مِن وَلَدِ آدمَ أن يكلمه ربُّه إلا وحيًا يُوحِى إليه كيف شاء؛ إمّا
(1)
إلهامًا، وإما غيرَه، {أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ}. يقولُ: أو يكلِّمه بحيث يسمَعُ كلامَه ولا يراه، كما كلَّم موسى نبيَّه عليه السلام، {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا}. يقولُ: أو يرسِلَ إليه مِن ملائكتِه رسولًا؛ إما جبريلَ، وإما غيرَه، {فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ}. يقولُ: فيوحىَ ذلك الرسولُ
(2)
المُرْسَلُ إليه بإذنِ ربِّه الذي أرسلَه {مَا يَشَاءُ} . يعنى: ما يشاءُ ربُّه أن يوحيَه إليه مِن أمرٍ ونهيٍ، وغيرِ ذلك من الرسالةِ والوحْيِ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ في قَولِ اللهِ:{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا} : يُوحِي إليه، {أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ}: موسى كلَّمه اللهُ مِن وراءِ حجابٍ، {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ}. قال: جبريلُ يأتى بالوحِي.
واختلَفتِ القرأةُ في قراءةِ قولِه: {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ} ؛ فقرأَته عامةُ
(1)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"أو".
(2)
بعده في م: "إلى".
قرأَةِ الأمصارِ: {فَيُوحِيَ} بنصبِ الياءِ، عطفًا على {يُرْسِلَ} ، ونصَبوا {يُرْسِلَ}
(1)
عطفًا بها على موضعِ الوحيِ ومعناه، لأن معناه: وما كان لبشرٍ أن يكلِّمَه اللهُ إلا أن يوحِىَ إليه، أو يرسِلَ إليه رسولًا، فيوحِيَ بإذنِه ما يشاءُ.
وقرَأ ذلك نافعٌ المدنيُّ: (فيُوحِي) بإرسالِ الياءِ، بمعنى الرفعِ، عطفًا به على (يُرْسِل)، وبرفعِ (يُرْسِلُ) على الابتداءِ
(2)
.
قولِه: {إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} . يقولُ تعالى ذكرُه: إنه - يعنى نفسَه جلّ وعزّ -: ذو علوٍّ على كلِّ شيءٍ وارتفاعٍ عليه واقتدارٍ، {حَكِيمٌ}: يقولُ: ذو حكمةٍ في تدبيرِه خلْقَه.
يعني تعالى ذكرُه بقولِه: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} . وكما كنا نوحِي إلى
(3)
سائرِ رسلِنا، كذلك أوحَينا إليك يا محمدُ هذا القرآنَ، {رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا}. يقولُ: وحيًا ورحمةً مِن أمرِنا.
واختلَف أهلُ التأويلِ في معنى الرُّوحِ في هذا الموضعِ؛ فقال بعضُهم: عُنِى به الرحمةُ.
(1)
وهى قراءة ابن كثير وأبي عمرو وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي. ينظر حجة القراءات ص 644.
(2)
ينظر المصدر السابق.
(3)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"في".
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ، عن الحسنِ في قولِه:{رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} . قال: رحمةً مِن أمرِنا
(1)
.
وقال آخرون: معناه: وحيًا مِن أمرِنا.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ في قولِه:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} . قال: وحيًا مِن أمرِنا
(2)
.
وقد بيَّنا معنى "الرُّوحِ" فيما مضى بذكرِ اختلافِ أهلِ التأويلِ فيها بما أغنى عن إعادتِه في هذا الموضعِ
(3)
.
وقولُه: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} . يقولُ جلّ ثناؤُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: ما كنتَ تدرى يا محمدُ أيَّ شيءٍ الكتابُ ولا الإيمانُ اللَّذَين أعطَيناكهما، {وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا}. يقولُ: ولكن جعَلنا هذا القرآنَ، وهو الكتاب {نُورًا} . يعنى ضياءً للناس يستضيئون بضوئِه الذي بيَّن اللَّهُ فيه، وهو بيانُه الذي بيَّن فيه مما لهم، في
(4)
العمل به الرشادُ، ومِن النارِ النجاةُ، {نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا}. يقولُ: نهدى بهذا القرآنِ. والهاءُ في قولِه: {بِهِ} مِن ذكرِ الكتابِ.
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 193 عن معمر عن قتادة به، وينظر تفسير القرطبي 16/ 54.
(2)
ذكرُه البغوي في تفسيره 7/ 201، والقرطبي في تفسيره 16/ 54.
(3)
ينظر ما تقدم في 2/ 221 - 224، 15/ 70 وما بعدها.
(4)
في ت 1: "من".
ويعنى بقولِه: {نَهْدِي} : نُرشِدُ به ونسدِدُ إلى سبيلِ الصوابِ، وذلك الإيمانُ باللَّهِ، {مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا}. يقولُ: نهدِى به مَن نشاءُ هدايتَه إلى الطريقِ المستقيمِ مِن عبادِنا.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} : يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم، {وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا}: يعنى القرآن
(1)
.
وقال جلّ ثناؤُه: {وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ} . فوحَّد الهاءَ، وقد ذكَر قبلُ الكتابَ والإيمانَ؛ لأنه قصَد به الخبرَ عن الكتابِ. وقد قال بعضُهم: عَنى به الإيمانَ والكتابَ، ولكنه وحَّد الهاءَ؛ لأن أسماءَ الأفعالِ يجمعُ جميعَها الفعلُ، كما يقالُ: إقبالُك وإدبارُك يعجبُنى. فيوحَّدُ وهما اثنان.
وقوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: وإنك يا محمدُ لتهدِى إلى طريقٍ مستقيمٍ عبادَنا، بالدعاءِ إلى اللَّهِ، والبيان لهم.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} : قال اللهُ: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد: 7]: داعٍ يدعوهم إلى اللَّهِ تعالى ذِكرُه
(2)
.
(1)
ينظر تفسير البغوي 7/ 201، وتفسير القرطبي 16/ 60.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 13 إلى المصنف وعبد بن حميد.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . قال: لكلِّ قومٍ هادٍ
(1)
.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . يقولُ: تدعو إلى دينٍ مستقيمٍ.
{صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} . يقولُ جلّ ثناؤُه: وإنك لتهدى إلى صراطٍ مستقيمٍ، وهو الإسلامُ؛ طريقُ اللَّهِ الذي دعا إليه عبادَه، الذي له مُلكُ جميع ما في السماواتِ وما في الأرضِ، لا شريكَ له في مُلْكِ ذلك، والصراطُ الثاني ترجمةٌ عن الصراطِ الأوّل.
وقوله: {أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُور} . يقولُ جل جلاله: أَلَا إِلى اللَّهِ أَيُّها الناسُ تصيرُ أمورُكم في الآخرةِ، فيقضِى بينَكم بالعدلِ.
فإن قال قائلٌ: أو ليست أمورُهم في الدنيا إليه؟ قيل: هي وإن كان إليه تدبيرُ جميع ذلك، فإن لهم حُكَّامًا ووُلاةً ينظرون بينَهم، وليس لهم يومَ القيامةِ حاكمٌ ولا سلطانٌ غيرُه؛ فلذلك قيل: إليه تصيرُ الأمورُ هنالك، وإن كانت الأمورُ كلُّها له، وبيدِه قضاؤُها وتدبيرُها في كل حالٍ.
آخر تفسير سورة "حم * عسق * "
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 193 عن معمر به.
تفسير سورة "الزُّخْرُفِ"
بسم الله الرحمن الرحيم
القولُ في تأويل قولِه تعالى: {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
(3)}.
قال أبو جعفرٍ: قد بيَّنا فيما مضى معنى قولِه: {حم} . بما أغنى عن إعادته في هذا الموضعِ
(1)
.
وقوله: {وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} . قسمٌ مِن اللَّهِ تعالى ذكرُه أقسَم بهذا الكتابِ الذي أنزلَه على نبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم، فقال:{وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} لمن تدبَّره وفكَّر في عبرِه وعظاتِه؛ هُداه ورُشْدِه وأدلَّتِه على حقيقتِه
(2)
، وأنه تنزيلٌ مِن حكيمٍ حميدٍ، لا اختلاقٌ من محمدٍ صلى الله عليه وسلم، ولا افتراءٌ مِن أحدٍ.
{إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} . يقولُ: إنا أنزلناه قرآنًا عربيًّا بلسانِ العربِ، إذ كنتم أيُّها المنذَرون به مِن رهطِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم عَرَبًا، {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}. يقولُ: لتعقِلوا
(3)
معانيَه وما فيه من مواعظَ، ولم يُنزِلْه بلسانِ العجمِ فيجعلَه أعجميًّا، فتقولوا
(4)
: نحن عربٌ، وهذا كلامٌ أعجميٌّ لا نفقهُ معانيَه.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
(1)
تقدم في 1/ 206، وفى ص 274 - 276 من هذا الجزء.
(2)
في م، ت 3:"حقيته".
(3)
في ت 3: "لتفقهوا".
(4)
في الأصل: "فيقولون".
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} : [هو هذا الكتابُ المبينُ.
حدَّثنا بشرٌ قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة:{حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} ]
(1)
: مُبينٌ والله بركته وهُداه ورشدَه.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ
(4)}.
يقولُ تعالى ذكرُه: وإن هذا الكتاب في
(2)
أصل الكتاب الذي نُسخ منه هذا الكتابُ عندنا، {لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ}. يقولُ: لذو علوٍّ ورفعةٍ، {حَكِيمٌ}: قد أُحكمت آياتُه ثم فصِّلت، فهو ذو حكمةٍ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابن عليةَ، عن هشام الدَّسْتُوائيِّ، عن القاسم بن أبى بَزَّةَ، قال: ثنا عروةُ بنُ عامرٍ، أنه سمع ابن عباسٍ يقولُ: إِنَّ أول ما خلق الله القلم، فأَمَره أن يكتب ما يريدُ أن يخلُقَ، قال: فالكتاب
(3)
عنده، قال:{وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ}
(4)
.
(1)
سقط من: ت 2.
(2)
سقط من: م.
(3)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"والكتاب".
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 13 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
حدَّثني أبو السائب، قال: ثنا ابن إدريسَ، قال: سمعتُ أبى، عن عطية بن سعد في قول الله تبارك وتعالى:{وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} : يعنى: القرآن في أمِّ الكتاب الذي عند الله منه نُسِخَ.
حدَّثني أبو السائب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: سمعتُ مالكًا يروى عن عمران، عن عكرمة:{وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا} . قال: أمُّ الكتاب القرآنُ.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة في قوله:{وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا} . قال: أم الكتاب: أصل الكتاب وجُملتُه
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة:{وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ} . أي: جملة الكتاب؛ أي: أصل الكتاب.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ} . يقولُ: في الكتاب الذي عند الله في الأصل.
وقوله: {لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} . وقد ذكَرْنا معناه
(2)
.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة:{لَدَيْنَا} : [أي: عندنا]
(3)
، {لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ}: يخبرُ عن منزلته وفضلِه وشرفِه
(4)
.
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 194 عن معمر به.
(2)
تنظر الصفحة السابقة.
(3)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(4)
ذكره البغوي في تفسيره 7/ 205، وابن كثير في تفسيره 7/ 205.
القولُ في تأويل قوله تعالى: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5)} .
اختلف أهلُ التأويل في تأويل ذلك؛ فقال بعضُهم: معناه: أفنُعرضُ
(1)
عنكم ونتركُكم أيُّها المشركون فيما تحسبون، فلا نُذكِّرُكم بعقابنا من أجل أنكم قومٌ مشركون.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمد بن عمرو، قال: قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارث، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قول الله عز وجل:{أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا} . قال: تكذِّبون بالقرآنِ، ثم
(2)
لا تعاقبون عليه
(3)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عُمارةَ، قال: ثنا عبيد الله بنُ موسى، قال: أخبرنا سفيانُ، إسماعيل، عن أبي صالحٍ قوله:{أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا} . قال: بالعذاب
(4)
.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا} . قال: أفنَضْرِبُ عنكم العذاب
(5)
.
(1)
في ص، م، ت 3:"أفنضرب"، وفي ت 1، ت 2:"أفنحرص".
(2)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ت 3.
(3)
تفسير مجاهد ص 592، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 13 إلى الفريابى وعبد بن حميد.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 13 إلى المصنف وعبد بن حميد، وقد سقط قول أبى صالح من مطبوعة الدر، واستدركناه من المخطوطة المصورة بالجامعة الإسلامية برقم 135.
(5)
ذكره القرطبي في تفسيره 16/ 62.
حدَّثني محمد بن سعد، قال: ثنى أبى، قال: ثنى عمى، قال: ثنى أبى، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قوله:{أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ} . يقولُ: أفحَسبتم أن نصفح عنكم ولمَّا تفعلوا ما أُمرتم به
(1)
.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أفنتركُ تذكيرَكم بهذا القرآن، ولا نذكِّركم به، لأن كنتم قومًا مشركين
(2)
.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ} : أي: مشركين، والله لو كان هذا القرآنُ رُفع حين ردّه أوائلُ هذه الأمة لهلكوا، [ولكنَّ الله عاد بعائدته ورحمته، فكرره عليهم]
(3)
فدعاهم إليه عشرين سنةً، أو ما شاء اللَّهُ مِن ذلك
(4)
.
حدَّثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمر، عن قتادة في قوله:{أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا} . قال: لو أن أول
(5)
هذه الأمة لم يؤمنوا، لضرب عنهم الذكرُ صفحًا.
[حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيد في قوله: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا}]
(6)
. قال: الذكرُ ما أُنزِل عليهم مما أمرهم الله
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 13 إلى المصنف، وذكره القرطبي في تفسيره 16/ 62.
(2)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"مسرفين".
(3)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم - كما في تغليق التعليق 4/ 309 - من طريق سعيد به بنحوه.
(5)
سقط من: م، ت 1.
(6)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
به ونهاهم، {صَفْحًا} ، لا نذكرُ لكم منه شيئًا
(1)
.
وأولى التأويلين في ذلك بالصواب تأويلُ من تأوّله: أفنَضْرِبُ عنكم العذاب فنترككم ونُعرِضَ عنكم؛ لأن كنتم قومًا مشركين
(2)
، لا تؤمنون بربِّكم.
وإنما قلنا ذلك أولى التأويلين بالآية؛ لأن الله تبارك وتعالى أتبع ذلك خبره عن الأمم السالفة قبل الأمة
(3)
التي توعَّدها بهذه الآية في تكذيبها رسلها، وما أحلَّ بها من نقمته، ففى ذلك دليل على أن قوله:{أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا} وعيدٌ منه للمخاطبين به من أهل الشرك، إذ سلكوا في التكذيب بما جاءهم عن الله رسولهم مسلك الماضين قبلهم.
واختلفت القرأَةُ في قراءة ذلك؛ فقرأَتْه عامة قرأة المدينة والكوفة: (إِنْ كُنتُمْ قومًا مُسرفين) بكسر الألف من "إن"
(4)
بمعنى: أفنَضْرِبُ عنكم الذكر صفحًا إذ كنتم قومًا مسرفين. وقرأه بعضُ قرأَةِ
(5)
أهل مكة والكوفة، وعامةُ قرأَةِ البصرة:{أَنْ} بفتح الألف من {أَنْ}
(6)
، بمعنى: لأن كنتم.
واختلف أهلُ العربية في وجه فتح الألف من {أَنْ} في هذا الموضع؛ فقال بعضُ نحويِّى البصرة: فُتحت لأن معنى الكلام: لأن كنتم.
وقال بعض نحويى الكوفة
(7)
: مَن فَتحها فكأنه أراد شيئًا ماضيًا. قال: وأنت
(1)
ذكره القرطبي في تفسيره 16/ 62.
(2)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"مسرفين".
(3)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"الأمم".
(4)
هي قراءة نافع وحمزة والكسائى. ينظر حجة القراءات ص 644.
(5)
بعده في الأصل: "الأمصار".
(6)
هي قراءة عاصم وأبى عمرو وابن عامر وحمزة. ينظر الحجة، الموضع السابق.
(7)
الفراء في معاني القرآن 3/ 27، 28.
تقولُ في الكلام: أتيتُك
(1)
أَنْ حَرَمْتَنى. تريدُ: إِذ حَرَّمْتَنى. وتَكْسِرُ إِذا أَردْتَ: أتيتُك إن تَحْرِمْنى. قال: ومثلُه: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ} [المائدة: 2]. و: (إِنْ صَدُّوكُمْ). يُكْسَرُ، ويُفْتحُ، وقوله:{فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا} [الكهف: 6]. [و (أن لم يؤمنوا)]
(2)
. قال: والعربُ تُنْشِدُ قول الفرزدق
(3)
:
أَتَجْزَعُ أَنْ أُذْنَا قُتَيْبَةَ حُزَّتا
…
جهارًا ولَمْ تَجْزَعْ لَقَتْلِ ابن حَازِمِ
قال: ويُنْشَدُ
(4)
:
أتَجْزَعُ أَنْ بانَ الخَلِيطُ المُوَدِّعُ
…
وَحَبْلُ الصَّفا مِنْ عَزَّةَ المُتَقَطِّعُ
قال: وفي كلِّ واحدٍ من البيتين ما في صاحبه، من الكسر والفتح.
والصواب من القول في ذلك عندنا أن الكسر والفتح في الألف في هذا الموضع قراءتان مشهورتان في قرأَةِ الأمصار، صحيحتا المعنى، فبأيَّتِهما قرأ القارئُ فمصيبٌ، وذلك أن العرب إذا تقدَّم "أن" - وهى بمعنى الجزاء - فعلٌ مستقبلٌ كسروا ألِفَها أحيانًا فمحَّضوا لها الجزاء، فقالوا: أقومُ إن قمْتَ. وفتحوها أحيانًا وهم ينوون ذلك المعنى، فقالوا: أقوم أن قمتَ. بتأويل: لأن قمتَ. فإذا كان الذي تقدمها من الفعل ماضيا لم يتكلَّموا إلَّا بفتح الألفِ مِن "أَنْ" فقالوا: قمتُ أَنْ قمتَ. وبذلك جاء التنزيلُ وتتابع شعرُ الشعراء.
(1)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"أتيت"، وفى معاني القرآن:"أسبُّك".
(2)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3. وينظر معاني القرآن 3/ 27.
(3)
ديوانه ص 855.
(4)
معاني القرآن للفراء 2/ 134، 3/ 28.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (7)} .
يقول تعالى ذكرُه: وكم أرسلنا من نبيٍّ يا محمد في القرون الأوّلين، الذين مضوا قبل قرنك الذي بُعثت فيه، كما أرسلناك في قومك من قريش،
{وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} . يقولُ: وما كان يأتى قرنًا من أولئك القرون، وأمةً من تلك
(1)
الأمم الأوّلين لنا، من نبيٍّ يدعوهم إلى الهدى وطريق الحقِّ، إلا كان الذين يأتيهم ذلك النبيُّ
(2)
من تلك الأم يُنِّبئُهم
(3)
الذي أُرسلُه إليهم، يستهزئون سُخرية منهم به
(4)
، كاستهزاء قومك بك يا محمدُ. يقولُ: فلا يَعْظُمَن عليك ما يفعل بك قومُك، ولا يَشُقَّنَّ عليك؛ فإنهم إنما سلكوا في استهزائهم بك مَسْلكَ سُلَّافهم، ومنهاج أئمتهم الماضين من أهل الكفر بالله.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8)} .
يقولُ تعالى ذكره: فأهلكنا أشدَّ من هؤلاء المستهزئين بأنبيائهم بطشًا إذا بطشوا، فلم يعجزونا بقواهم وشدَّة بطشهم، ولم يقدروا على الامتناع من بأسنا إذ أتاهم، فالذين هم أضعفُ منهم قوةً أحرى أن لا يقدروا على الامتناع مِن غِيَرِنا
(5)
إذا حلّت بهم، {وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ}. يقولُ جلّ ثناؤه: ومضى لهؤلاء المشركين.
(1)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"أولئك".
(2)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(3)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"نبيهم".
(4)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"بهم".
(5)
في م: "نقمنا"، وفى ت 1:"بأسنا". وغيرُ الدهر: أحواله وأحداثه المتغيرة. الوسيط (غ ى ر).
المستهزئين بك ولمن قبلهم مِن ضُربائهم - مَثَلُنا الذي مثَّلناه لهم في أمثالهم من مكذبي رسلنا الذين أهلكناهم، يقولُ: فليتوقع هؤلاء الذين يستهزئون بك يا محمدُ من عقوبتنا مِثْلَ الذي أحللناه بأولئك إن
(1)
أقاموا على تكذيبك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة قوله:{وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ} . قال: عقوبة الأولين
(2)
.
حدَّثني محمد بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قوله:{وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ} . قال: سُنَّتُهم
(3)
.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا
(4)
وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10)}.
يقول تعالى ذكره: ولئن سألت يا محمد هؤلاء المشركين من قومك: مَن
(1)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"الذين".
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 194 عن معمر عن قتادة، وعنه عبد بن حميد - كما في تغليق التعليق 4/ 309 - وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 14 إلى ابن أبي حاتم.
(3)
تفسير مجاهد ص 592، ومن طريقه الفريابى - كما في تغليق التعليق 4/ 306 - وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 14 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(4)
في الأصل، ص، ت 1، ت 2، ت 3:"مهادا". وهى قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو وابن عامر. والمثبت قراءة عاصم وحمزة والكسائى، ينظر حجة القراءات ص 645.
خلق السماوات [السبع والأرضين]
(1)
، فأحدثهنّ وأنشأهنَّ؟ ليقولُنَّ: خلَقهنَّ العزيز في سلطانه وانتقامه من أعدائه، العليمُ بهنّ وبما فيهنّ مِن الأشياء، لا يخفى عليه شيءٌ.
{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا}
(2)
. يقول: الذي مهد لكم الأرضَ، فجعلها لكم وطاءً تَطَئُونها بأقدامكم، وتمشون عليها بأرجُلِكم، {وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا}. يقولُ: وسهل لكم فيها طرُقًا تتطرّقونها من بلدة إلى بلدة؛ لمعايشكم ومتاجركم.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة:{وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا} : أي: طرقًا
(3)
.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا} . قال: بِساطًا، {وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا}. قال: الطُّرُق.
{لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} . يقولُ: لكى تهتدوا بتلك السبل إلى حيثُ أردتم من البلدان والقُرى والأمصار، ولولا ذلك لم تُطيقوا براع أفنيتكم ودوركم، ولكنها نعمةٌ أنعم بها عليكم.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12)} .
يقول تعالى ذكره: {وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ} . يعنى: ما نزّل
(1)
في الأصل: "والأرض".
(2)
في الأصل، ص، ت 1، ت 2، ت 3:"مهادا".
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 194 عن معمر عن قتادة.
جلّ ثناؤه من الأمطار من السماء، {بِقَدَرٍ}. يقول: بمقدار حاجتكم إليه، فلم يجعله كالطوفان، فيكون عذابًا مغرقًا
(1)
، كالذى أنزَل على قومِ نوحٍ، ولا جعَله قليلًا لا ينبتُ به النباتُ والزرعُ من قلَّتِه، ولكنه جعَله غينًا مُغِيثًا، وحَيًّا للأرضِ الميتة مُحييًا، {فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً
(2)
مَيْتًا}. يقولُ جلّ ثناؤُه: فأحيينا به بلدةً من بلادِكم ميتًا، يعنى: مُجْدِبةً لا نباتَ بها
(3)
ولا زرْعَ، قد درست من الجُدُوبِ، وتعفَّت من القُحُوطِ، {كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ}. يقول تعالى ذكره: كما أخرجنا بهذا الماء الذي نزّلناه من السماءِ مِن هذه البلدة الميتة بعد جُدُوبها وقُحُوطِها - النبات والزرع، كذلك أيُّها الناسُ تُخْرَجون من بعدِ فنائكم ومصيركم في الأرضِ رفاتًا، بالماء الذي أنزله إليها؛ لإحيائكم من بعد مماتكم - منها أحياءً كهيئتكم التي كنتم بها قبل مماتكم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة:{وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} : كما أحيا الله هذه الأرض الميتة بهذا الماء، فكذلك تُبعثون يوم القيامة.
وقيل: أنشرنا به؛ لأن معناه: أحيينا به. ولو وصفت الأرضَ بأنها حييت، قلتَ: نَشَرَتِ الأرضُ. كما قال الأعشى
(4)
:
(1)
سقط من: م، ت 1.
(2)
بعده في ت 3: "من بلادكم".
(3)
في ت 2 ت 3: "فيها".
(4)
تقدم في 4/ 618.
حتى يَقُولَ النَّاسُ مُمَّا رأَوْا
…
يا عجبا للْمَيِّتِ النَّاشِرِ
وقوله: {وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا} . يقول تعالى ذكره: والذي خلق كلَّ شيءٍ فزوَّجه؛ بأن خلق للذكور
(1)
من الإناث أزواجًا، وللإناث
(2)
من الذكور أزواجًا، {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ} . وهى السفن، {وَالْأَنْعَامِ} . وهى البهائم، {مَا تَرْكَبُونَ}. يقولُ: جعَل لكم من السفن ما تركبونه في البحار، إلى حيث قصدتم واعتمدتم في سيركم فيها لمعايشكم ومطالبكم، ومن الأنعام ما تركبونه في البرِّ، إلى حيث أرَدتم من البُلدانِ؛ كالإبل والخيل والبغال والحمير.
القولُ في تأويل قوله تعالى: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14)} .
يقول جلَّ ثناؤه: كي تستووا على ظهور ما تركبون.
واختلف أهل العربية في وجهِ توحيدِ الهاء في قوله: {عَلَى ظُهُورِهِ} وتذكيرها؛ فقال بعض نحويِّى البصرة: تذكيرُه يجوز
(3)
على {مَا تَرْكَبُونَ} ، وما هو مذكرٌ، كما تقولُ: عندى من النساءِ من يوافقُك ويسرُّك. وقد تُذكَّرُ الأنعام وتؤنَّثُ، وقد قال في موضعٍ آخرَ:{مِمَّا فِي بُطُونِهِ} [النحل: 66]. وقال في موضعٍ آخر: {مِمَّا فِي بُطُونِهَا} [المؤمنون: 21].
وقال بعضُ نحويِّى الكوفة
(4)
: أُضِيفَتِ "الظهورُ" إلى الواحد؛ لأن ذلك
(1)
في ص، م، ت 1:"الذكور"، وفى ت 2، ت 3:"من الذكور".
(2)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"الإناث".
(3)
سقط من: ت 1، ت 3، وفى م:"يعود".
(4)
معاني القرآن للفراء 3/ 28.
الواحد في معنى جمع، بمنزلة الجُندِ والجيش. قال: فإن قيل: فهلَّا قلتَ: لتستووا على ظهره. فجعلت الظهر واحدًا إذا أضفته إلى واحدٍ؟ قلتُ: إن الواحد فيه معنى الجمع، فرُدَّتِ "الظهورُ" إلى المعنى، ولم يقل: ظهره. فيكون كالواحد الذي معناه ولفظه واحدٌ. وكذلك تقولُ: قد كثُر نساءُ الجند. وقلت: ورفع الجندُ أعينه. ولا تَقُل: عينه. قال: وكذلك كلُّ ما أضفت إليه من الأسماء الموصوفة، فأخْرِجُها على الجمع، فإذا أضفت إليه اسمًا في معنى فعلٍ، جاز جمعه وتوحيده، مثل قولك: رفع العسكر صوته، وأصواته أجود، وجاز هذا لأن الفعل لا صورة له في الاثنين إلا كصورته في الواحد.
وقال آخر منهم: قيل: لتستووا على ظهوره؛ لأنه وصفٌ للفُلْكِ، ولكنه وحَّد الهاءَ؛ لأن الفُلكَ بتأويل جمعٍ، فجمع الظهور ووحَّد الهاء، لأن أفعال كلِّ واحدٍ تأويله الجمعُ تُوحَّدُ وتُجمَعُ، مثل: الجند منهزمٌ، ومُنْهزمون. فإذا جاءتِ الأسماء خرج على العددِ
(1)
لا غير، فقلت: الجندُ رجالٌ. فلذلك جمعت "الظهورُ" ووحِّدت الهاء، ولو كان مثل الصوتِ وأشباهه، جاز: الجندُ رافعٌ صوته، وأصواته.
وقوله: {ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ} . يقول تعالى ذكره: ثم تذكروا نعمة ربِّكم التي أنعمها عليكم بتسخيره ذلك لكم مراكب في البرِّ والبحر، {إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} ، فتعظِّموه وتُمجِّدوه، وتقولوا تنزيها للهِ:{سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا} الذي ركبناه من هذه الفُلك والأنعام، مما يصفه به المشركون ويُشرَكُ به معه في العبادة من الأوثان والأصنام، {وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
(1)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"الأسماء".
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أبو كُريب وعبيدُ بن إسماعيلَ الهَبَّاريُّ، قالا: ثنا المحاربيُّ، عن عاصمٍ الأحول، عن أبي هاشم، عن أبي مجلز، قال: ركبتُ دابة فقلتُ: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} . فسمعنى رجلٌ من أهل البيت - قال أبو كُريب
(1)
والهبَّاريُّ: قال المحاربيُّ: فسمعتُ سفيان يقولُ: هو الحسنُ بنُ عليٍّ رضوان الله تعالى عليهما - فقال: أهكذا أُمِرتَ؟ قال: قلتُ: كيف أقولُ؟ [قال: أُمِرْتُم أن تذكروا نعمة ربكم إذا استويتُم عليه. قال: قلتُ: كيف أقولُ]
(2)
؟ قال: تقول: الحمدُ للهِ الذي هدانا للإسلام، الحمد لله الذي مَنَّ علينا بمحمد عليه الصلاة والسلام، الحمد لله الذي جعلنا في خير أُمَّةٍ أُخرجت للناس. فإذا أنت قد ذكرت نعما عظامًا، ثم تقولُ بعد ذلك:{سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ}
(3)
.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن أبي هاشمٍ، عن أبى مجْلَز، أن الحسن بن عليٍّ رضي الله عنهما، رأى رجلًا ركب دابةٌ، فقال: الحمد لله الذي سخَّر لنا هذا. ثم ذكر نحوه
(4)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة:{لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} : يعلمكم كيف تقولون إذا ركبتم؛ في
(1)
في ص، ت 1، ت 2 ت 3:"بكر".
(2)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 14 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر.
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة 10/ 391، والطبرانى في الدعاء (775) من طريق سفيان به، ووقع فيهما:"الحسين بن علي"، وينظر تهذيب الكمال 31/ 176.
الفلك تقولون: {بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [هود: 41].
وإذا ركبتم الإبل قلتم: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} . ويعلِّمكم ما تقولون إذا نزلتم من الفلك والأنعام جميعًا، تقولون: اللهمَّ أَنزِلْنا مُنزلًا مباركًا وأنت خير المُنزلين.
حدَّثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن ابن طاوسٍ، عن أبيه أنه كان إذا ركب قال: اللهم هذا مِن مَنّك وفضلك. ثم يقولُ: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ}
(1)
.
وقوله: {وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} يقولُ: وما كنا له مُطِيقين ولا ضابطين. من قولهم: قد أقرنتَ
(2)
لهذا. إذا صرت له قرنًا وأطقته، وفلانٌ مُقْرِنٌ لفلانٍ، أي: ضابطٌ له مُطيقٌ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنى أبو صالح، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ:{وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} . يقولُ: مُطِيقين
(3)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهدٍ
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 195 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 14 إلى عبد بن حميد.
(2)
في ت 2: "اقترنت"، وفي ت 3:"اقتربت".
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم - كما في الإتقان 2/ 42 - من طريق أبى صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 14 إلى ابن المنذر.
في قولِ اللَّهِ: {مُقْرِنِينَ} . قال: الإبل والخيل والبغال والحميرُ
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة:{وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} : أي مُطِيقين، لا والله، لا في الأيدى، ولا في القوة
(2)
.
حدَّثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادة في قوله:{وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} . قال: في القوة
(3)
.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ:{وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} . قال: مُطِيقين
(4)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيد في قوله: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} . قال: لسنا له بمُطيقين. قال: لا نُطِيقُها إلا بك، لولا أنت ما قوينا عليها ولا أطقناها
(4)
.
وقوله: {وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} . يقولُ جلّ ثناؤُه: ولتقولوا أيضًا: وإنا إلى ربِّنا بعد مماتنا لصائرون، وإليه راجعون.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17)} .
يقول تعالى ذكره: وجعَل هؤلاء المشركون للَّهِ مِن خلقه نصيبًا، وذلك قولهم
(1)
تفسير مجاهد ص 592، ومن طريقه الفريابى - كما في تعليق التعليق 4/ 306 - وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 14 إلى عبد بن حميد.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 4 إلى عبد بن حميد وابن المنذر، دون قوله:"أي مطيقين".
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 194 عن معمر به.
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 207.
للملائكة: هم بناتُ اللهِ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللَّهِ:{وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا} . قال: ولدًا، وبنات من الملائكة
(1)
.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديِّ:{وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا} . قال: البنات.
وقال آخرون: عُنى بالجزء في هذا الموضع: العِدْلُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة:{وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا} . أي: عِدْلًا
(2)
.
حدثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن، ثورٍ، عن معمر، عن قتادة في قوله:{وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا} . أي: عِدْلًا
(3)
.
وإنما اخترنا القول الذي اخترناه في تأويل ذلك؛ لأن اللَّهَ جَلَّ ثناؤُه أَتبع ذلك
(1)
تفسير مجاهد ص 592، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 15 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
أخرجه البخارى في خلق أفعال العباد (124) من طريق يزيد به.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 195 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 15 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
قوله: {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ} . توبيخًا لهم على قولهم ذلك، فكان معلومًا أن توبيخَه إياهم بذلك إنما هو عمَّا أخبر عنهم من قيلهم ما قالوا في إضافةِ البناتِ إِلى اللهِ عز وجل.
وقوله: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ} . يقول تعالى ذكره: إن الإنسان لذو جَحْدٍ لنعَمِ ربِّه التي أنعَمها عليه، {مُبِينٌ}. يقولُ: يَبِينُ كفرانُه نِعمَه عليه لمن تأمَّله بفكرِ قلبِه، وتدبُّرِ حالِه.
وقوله: {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ} . يقولً جلّ ثناؤُه مُوَبِّخًا هؤلاء المشركين الذين وصفوه بأن الملائكةَ بناتُه: أتَّخذ ربُّكم أيُّها الجاهلون مما يخلُقُ بناتٍ، وأنتم لا تَرضَونهن لأنفسِكم؟ {وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ}. يقولُ: وأَخلَصكم بالبنينَ، فجعَلهم لكم؟
{وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا} . يقولُ تعالى ذكرُه: وإذا بُشِّر أحدُ
(1)
هؤلاء الجاعلين لله من عبادِه جُزءًا، {بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا}. يقولُ: بما مثَّل للهِ، فشبَّههُ شَبَهًا، وذلك ما وصَفه به مِن أن له بَناتٍ.
كما حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا} . قال: ولدًا
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا} : بما جعَل للَّهِ.
(1)
بعده في م: "المشركين".
(2)
تفسير مجاهد ص 592 بلفظ: "البنات"، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 15 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
وقولُه: {ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا} . يقولُ تعالى ذكرُه: ظلَّ وجهُ هذا الذي بُشِّر بما ضَرَب للرحمنِ مثلًا من البناتِ، مُسْودًا من سوءِ ما بُشِّر به، {وَهُوَ كَظِيمٌ}. يقولُ: وهو حَزينٌ.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَهُوَ كَظِيمٌ} . يقولُ: وهو حَزينٌ
(1)
.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18)} .
يقول تعالى ذكره: أَوَ مَن يُنَبَّتُ [ويربَّى]
(2)
في الحِلْيَةِ ويُزِيَّنُ بها، {وَهُوَ فِي الْخِصَامِ}. يقولُ: وهو في مخاصمة من خاصمه عند الخصام غيرُ مبين مَن
(3)
خصمه ببرهان وحجة، لعجزه وضعفه، جعلتموه جُزْءًا للَّهِ مِن خَلْقِه، وزعمتم أنه نصيبُه منهم؟! وفى الكلام متروكٌ استُغنى بدلالة ما ذُكر منه، وهو ما ذكرتُ.
واختلف أهل التأويل في المعنيِّ بقوله: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} ؛ فقال بعضُهم: عُنى بذلك الجوارى والنساءُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمد بن سعد، قال: ثنى أبى، قال: ثنى عمى، قال: ثنى أبى، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:{أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} . قال: يعنى المرأة
(4)
.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 15 إلى المصنف وعبد بن حميد.
(2)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(3)
في ص، م:"ومن ".
(4)
ذكره القرطبي في تفسيره 16/ 71 بنحوه.
حدَّثنا محمدُ بن بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمن، قال: ثنا سفيانُ، عن علقمة بن مَرْثَدٍ، عن مجاهدٍ، قال: رُخص للنساء في الحرير والذهب. وقرأ: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ}
(1)
.
حدَّثني محمدُ بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قوله:{أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ} . قال: الجوارى، جعلتموهنَّ للرحمن ولدًا، كيف تحكمون
(2)
؟!
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة قوله:{أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} . قال: الجوارى، يُسفِّهُهُنَّ بذلك، {غَيْرُ مُبِينٍ} . بضعفهنَّ.
حدَّثنا محمدُ بنُ عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادة:{أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ} . يقولُ: جعلوا له البنات، وهم إذا بُشِّر أحدهم بهنَّ [ولى على]
(3)
وجهه مُسودًّا وهو كظيمٌ. قال: وأما قوله: {وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} . يقولُ: قلما تتكلم امرأة فتريد أن تتكلم بحجتها إلا تكلمت بالحجة عليها
(4)
.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديِّ: {أَوَمَنْ
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة 8/ 194 من طريق سفيان به.
(2)
تفسير مجاهد ص 593، ومن طريقه الفريابى - كما في تغليق التعليق 4/ 306 - وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 15 إلى عبد بن حميد.
(3)
في م: "ظل".
(4)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 195 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 15 إلى عبد بن حميد.
يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ}. قال: النساء.
وقال آخرون: عُنى بذلك أوثانُهم التي كانوا يعبدونها مِن دونِ اللَّهِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيد في قوله: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} . قال: هذه تماثيلُهم التي يضربونها من فضةٍ وذهبٍ يعبدونها، هم الذين أنشئوها، ضربوها من تلك الحلية ثم عبدوها، {وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ}. قال: لا يتكلَّم. وقرأ: {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ}
(1)
[يس: 77].
وأولى القولين في ذلك بالصواب قولُ مَن قال: عُنى به الجوارى والنساءُ. لأن ذلك عقيب خبرِ اللَّهِ عن إضافة المشركين إليه ما يكرهونه لأنفسهم من البنات، وقلَّةِ معرفتهم بحقِّه، ونحلتهم
(2)
إياه من الصفاتِ والنِّحَلِ
(3)
، وهو خالقُهم ومالكُهم ورازقُهم، والمنعمُ عليهم النعم التي عدَّدها في أوَّلِ هذه السورة - ما لا يرضونه لأنفسهم؛ فإتباع ذلك من الكلام ما كان نظيرًا له، أشبه وأولى مِن إتباعه ما لم يَجْرِ له ذكرٌ.
واختلفت القرأَةُ في قراءةِ قوله: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ} ؛ فقرأته عامةُ قرأَةِ المدينة والبصرة وبعضُ المكيِّين والكوفيِّين: (أو مَنْ يَنشَأُ). بفتح الياء والتخفيف
(4)
، من: نشَأ ينشَأُ. وقرأته عامة قرأة الكوفة: {يُنَشَّأُ} . بضمِّ الياء
(1)
ذكره الطوسى في التبيان 9/ 187 مختصرًا.
(2)
في م، ت 1:"تحليتهم"، وفى ت 2، ت 3:"تحليهم"، وغير منقوطة في ص.
(3)
في م: "البخل".
(4)
هي قراءة ابن كثير، ونافع، وعاصم في رواية أبي بكر، وأبى عمرو، وابن عامر. السبعة لابن مجاهد ص 584.
وتشديد الشين
(1)
، من: نَشَّأتُه فهو يُنشَّأُ.
والصوابُ مِن القولِ في ذلك عندنا أن يقال: إنهما قراءتان معروفتان في قرأَةِ الأمصار، متقاربتا المعنى؛ لأن المُنَشَّأ من الإنشاء ناشيءٌ، والناشئُ مُنْشَأٌ، فبأيَّتهما قرأ القارئ فمصيبٌ. وقد ذكر أن ذلك في قراءةِ عبدِ اللَّهِ:(أَوْ مَنْ لا يُنَشَّأُ إِلَّا فِي الْحِلْيَةِ)
(2)
.
وفى {مَنْ} وجوه من الإعراب؛ الرفعُ على الاستئناف به، والنصبُ على إضمار "يجعلون"؛ كأنه قيل: أو مَن يُنشَّأُ في الحليةِ يُجعلون بناتِ اللَّهِ؟ وقد يجوزُ النصبُ فيه أيضًا على الردّ على قوله: {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ} . فيُردُّ {مَنْ} على البنات، والخفضُ على الردِّ على "ما" التي في قوله:{وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا} .
القولُ في تأويل قوله تعالى: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا
(3)
خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19)}.
يقول تعالى ذكره: وجعل هؤلاء المشركون بالله ملائكته الذين هم عبادُ الرحمن.
واختلفت القرأة في قراءة ذلك؛ فقرأته عامةُ قرأةِ المدينة: (الَّذِينَ هُمْ عِنْدَ الرَّحْمَنِ)
(4)
بالنون، وكأنهم تأوَّلوا في ذلك قول الله جلَّ ثناؤه:{إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} [الأعراف: 206]. فتأويل الكلام على هذه القراءة: وجعلوا ملائكة الله الذين هم عنده ويسبِّحونه ويقدِّسونه إناثًا، فقالوا: هم بناتُ اللهِ. جهلًا
(1)
هي قراءة حمزة والكسائى وحفص عن عاصم. المصدر السابق.
(2)
ينظر مختصر الشواذ ص 135.
(3)
في الأصل: "أأشهدوا". وهي قراءة كما سيأتي.
(4)
هي قراءة نافع وابن عامر وابن كثير. ينظر الحجة ص 647.
منهم بحقِّ الله، وجُرْأَةً منهم على قيل الكذب والباطل. وقرأ ذلك عامة قرأَةِ الكوفة والبصرة:{وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} . بمعنى: جمعُ عَبْدٍ. فمعنى الكلام على قراءة هؤلاء: وجعلوا ملائكة الله الذين هم خَلْقُه وعبادُه، بناتِ الله، فأنثوهم بوصفهم إياهم بأنهم إناثٌ.
والصوابُ مِن القولِ في ذلك عندى أنهما قراءتان معروفتان في قرأة الأمصار، صحيحتا المعنى، فبأيَّتِهما قرأ القارئُ فمصيبٌ، وذلك أن الملائكة عباد الله وعنده.
واختلفوا أيضًا في قراءة قوله: {أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ} ، فقرأ ذلك بعضُ قرأَةِ المدينة: (أشْهِدُوا
(1)
خَلْقَهُمْ)؟ بضمِّ الألف، على وجه ما لم يسمَّ فاعلُه، بمعنى: أَأَشْهَد الله هؤلاء المشركين الجاعلين ملائكة الله إناثًا خَلْقَ ملائكته الذين هم عندَه، فعلموا ما هم وأنهم إناثٌ، فوصفوهم بذلك لعلمهم بهم، وبرؤيتهم إياهم؟! ثم رُدَّ ذلك إلى ما لم يُسمَّ فاعلُه، [وقرأه بعد عامةُ قرأة الحجاز والكوفة والبصرة:{أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ} ]
(2)
. بفتح الألفِ، بمعنى: أشهدوا هم ذلك فعلموه؟
والصوابُ مِن القولِ في ذلك عندى أنهما قراءتان معروفتان، فبأيتِهما قرأ القارئ فمصيبٌ.
وقوله: {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ} . يقول تعالى ذكرُه: ستُكتبُ شهادة هؤلاء القائلين: الملائكةُ بناتُ اللهِ - في الدنيا، بما شهدوا به عليهم، ويُسْئَلون عن شهادتهم تلك في الآخرة، أن يأتوا ببرهان على حقيقتها، ولن يجدوا إلى
(1)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"أشهدوا". وقرأ نافع وأبو جعفر بهمزتين؛ الأولى مفتوحة والثانية مضمومة مسهلة. ينظر حجة القراءات ص 647، 648، والنشر 2/ 276.
(2)
في ص، ت 2، ت 3:"وقرأه"، وفى م، ت 1:"وقرئ". وهى قراءة ابن كثير وعاصم وابن عامر وأبي عمرو وحمزة والكسائي ويعقوب وخلف. ينظر المصادر السابقة.
ذلك سبيلًا.
القول في تأويل قوله تعالى: {(19) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21)} .
يقول تعالى ذكره: وقال هؤلاء المشركون من قريشٍ: لو شاء الرحمن ما عبدنا أوثاننا التي نعبدها من دونه، وإنما لم تَحِلَّ بنا منه عقوبةٌ على عبادتنا إياها، لرضاه منا بعبادتناها.
كما حدثني محمد بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قوله:{لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} : للأوثان، يقولُ اللَّهُ:{مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ}
(1)
.
[وقوله: {مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ}]
(2)
. يقول: ما لهم من علمٍ بحقيقة ما يقولون من ذلك، وإنما يقولونه تخرُّصًا وتكذُّبًا؛ لأنهم لا خبر عندهم منى بذلك ولا برهان، وإنما يقولونه ظنًّا وحُسْبانًا. {إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ}. يقولُ: ما هم إلا متخرِّصون هذا القول الذي قالوه، وذلك قولُهم:{لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} .
وكان مجاهدٌ يقول في تأويل ذلك، ما حدَّثني به محمدُ بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارث، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاء،
(1)
تفسير مجاهد ص 593، ومن طريقه الفريابي - كما في تغليق التعليق 4/ 306 - ، والبيهقى في الأسماء والصفات (378)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 15 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
سقط من: م.
جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قوله:{إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} : ما يعلمون قدرةَ اللهِ على ذلك
(1)
.
وقوله: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ} . يقول تعالى ذكره: أآتينا
(2)
هؤلاء المتخرِّصين القائلين: لو شاء الرحمنُ ما عبدنا الآلهة - [كتابًا بحقيقة]
(3)
ما يقولون من ذلك، من قبل هذا القرآن الذي أنزلناه إليك يا محمد، {فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ}؟ يقولُ: فهم بذلك الكتاب الذي جاءهم من عندى من قبل هذا القرآن مستمسكون؛ يعملون به، ويدينون بما فيه، ويحتجُّون به عليك؟
القول في تأويل قوله تعالى: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمِّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22)} .
يقول تعالى ذكره: ما آتينا هؤلاء القائلين: لو شاء الرحمنُ ما عبدنا هؤلاء الأوثان، بالأمر بعبادتها - كتابًا من عندنا، ولكنهم قالوا: وجدنا آباءنا الذين كانوا قبلنا يعبدونها، فنحن نعبدُها كما كانوا يعبدونها.
وعَنى جلَّ وعزَّ بقوله: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمِّةٍ} : بل وجدنا آباءنا على دين وملةٍ، وذلك هو عبادتهم الأوثان.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
(1)
تفسير مجاهد ص 593 ومن طريقه الفريابي - كما في تغليق التعليق 4/ 306 - ، والبيهقى في الأسماء والصفات (378)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 5 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
في م: "ما آتينا".
(3)
في ت 2، ت 3:"فإما تحقيقه".
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قوله:{عَلَى أُمِّةٍ} . قال: مِلةٍ
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبى، قال: ثنى عمى، قال: ثنى أبى، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمِّةٍ} . يقولُ: وجَدنا آباءنا على دين
(2)
.
[حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة قوله: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمِّةٍ}. قال: قد قال ذلك مشركو قريشٍ؛ قالوا: إنا وجدنا آباءنا على دين]
(3)
.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ عن السديِّ قوله: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمِّةٍ} . قال: على دين
(4)
.
واختلفت القراةُ في قراءة قوله: {عَلَى أُمِّةٍ} ؛ فقرأته عامةُ قرأَةِ الأمصار {عَلَى أُمِّةٍ} بضمِّ الألف، بالمعنى الذي وصفتُ، من الدين والملة والسنة.
وذكر عن عمر بن عبد العزيز ومجاهدٍ أنهما قرآه (على إمَّةٍ) بكسرِ الألف
(5)
.
(1)
تفسير مجاهد ص 593.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 15 إلى المصنف.
(3)
سقط من: ت 1. والأثر عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 15 إلى المصنف وعبد بن حميد.
(4)
ذكره الحافظ في الفتح 8/ 566.
(5)
ينظر مختصر الشواذ ص 136.
وقد اختُلف في معناها إذا كُسرت ألفُها؛ فكان بعضُهم
(1)
يوجِّه تأويلها إذا كُسرت، إلى
(2)
أنها الطريقةُ، وأنها مصدرٌ من قول القائل: أممتُ القومَ فأنا أؤمُّهم إمّةً. وذُكر عن العرب سماعًا: ما أحسنَ عِمَّتَه وإمَّتَه وجلسته. إذا كان مصدرًا، ووجَّهه بعضُهم إذا كُسِرتْ ألفُها إلى أنها الإمَّةُ التي بمعنى النعيم والملكِ، كما قال عَدِيُّ بنُ زِيدٍ
(3)
:
ثُمَّ بَعْدَ الفَلَاحِ وَالمُلْكِ والإمَّـ
…
ـــة وَارَتْهُمُ هُناكَ القُبورُ
وقال
(4)
: أراد إمامة الملكِ ونعيمه.
وقال بعضُهم: الأُمَّةُ بالضمِّ والإمَّةُ بالكسْرِ بمعنًى واحدٍ.
والصوابُ من القراءة في ذلك، الذي لا أستجيزُ غيره، الضمُّ في الألفِ؛ لإجماع الحجّة من قرأة الأمصار عليه. وأما الذين كسروها فإني لا أُراهم قصدوا بكسرها إلا معنى الطريقة والمنهاج، على ما ذكرنا قبلُ، لا النعمة والملك؛ لأنه لا وجه لأن يقال: إنا وجدنا آباءنا على نعمةٍ، ونحن لهم مُتَّبعون في ذلك؛ لأن الاتباع إنما يكون في الملل والأديان وما أشبه ذلك، لا في المُلكِ والنعمةِ؛ لأن الاتَّباع في المُلكِ ليس بالأمر الذي يصِلُ إليه كلُّ مَن أراده.
وقوله: {وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} . يقولُ: وإنا على آثارِ آبائنا فيما كانوا عليه من دينهم مهتدون. يعنى: لهم مُتَّبعون على منهاجهم.
(1)
الفراء في معاني القرآن 3/ 30.
(2)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"على".
(3)
البيت في الأغانى 2/ 139، ومعاني القرآن للفراء 3/ 30، ولسان العرب (أ م م).
(4)
هو الفراء. ينظر معاني القرآن الموضع السابق.
كما حدَّثني محمد بن سعدٍ، قال: ثنى أبى، قال: ثنى عمى، قال: ثنى أبى، عن أبيه، عن ابن عباس:{وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} . يقولُ: ونحن على دينهم.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة:{وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} . يقول: وإنا مُتَّبعوهم على ذلك
(1)
.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمِّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23)} .
يقول جلَّ وعزَّ: وهكذا كما فعل هؤلاء المشركون من قريشٍ، فعل من قبلهم من أهل الكفر بالله، وقالوا مثل قولهم، لم نُرسل من قبلك يا محمد {فِي قَرْيَةٍ}. يعني: إلى أهلها - {مِنْ نَذِيرٍ} ]
(2)
ينذرهم عقابنا على كفرهم بنا، فأنذروهم وحذّروهم سُخطنا، وحلول عقوبتنا بهم، {إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا} ، وهم رؤساؤهم وكبراؤهم.
كما حدثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادة في قوله:{إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا} . قال: رؤساؤهم وأشرافُهم
(3)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة قوله:{وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا} : قاداتُهم ورءوسُهم في الشرك
(4)
.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 15 إلى المصنف وعبد بن حميد.
(2)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ت 3، وفى م:"رسلا".
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 195 عن معمر به.
(4)
تقدم في 19/ 293.
وقوله: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمِّةٍ} . يقولُ: قالوا: إنا وجدنا آباءنا على ملَّةٍ ودينٍ، {وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ}. يعنى: وإنا على منهاجهم وطريقتهم مقتدون بفعلهم؛ نفعلُ كالذى فعلوا، ونعبد ما كانوا يعبدون. يقولُ جلَّ وعزَّ لمحمد صلى الله عليه وسلم: فإنما سلك مشركو قومك مِنهاج من قبلهم من إخوانهم من أهل الشرك بالله في إجابتهم إياك بما أجابوك به، وردِّهم ما ردَّوا عليك من النصيحة، واحتجاجهم بما احتجُّوا به لمُقامهم على دينهم الباطل.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهد قوله:{وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} . قال: بفعلهم
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة:{وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} : فاتَّبعوهم على ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ
(2)
أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24)}.
يقول تعالى ذكره لنبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لهؤلاء المشركين من قومك، القائلين:{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمِّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ}
(3)
: أَوَلَوْ
(1)
تفسير مجاهد ص 593، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 15 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
في الأصل، ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"قل". وهى قراءة كما سيأتي.
(3)
في الأصل، ت 2، م:"مقتدون".
جئتُكم أيها القوم من عندِ ربِّكم بأهْدَى لكم إلى طريق الحقِّ، وأدلُّ لكم على سبيل الرشادِ {مِمَّا وَجَدْتُمْ} أنتم عليه آباءَكم من الدين والملةِ. {قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ}. يقولُ: فقال لهم ذلك، فأجابوه بأن قالوا له كما قال الذين من قبلهم من الأمم المكذبة رُسُلَها لأنبيائها:{إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ} أَيُّها القومُ، {كَافِرُونَ} يعني: جاحدون مُنكرون.
وقرأ ذلك قرأةُ الأمصار سوى أبى جعفرٍ القارئ: {قَالَ
(1)
أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ} بالتاء.
وذكر عن أبي جعفر القارئ، أنه قرأه:(قُلْ أَوَلَوْ جِئناكُمْ) بالنونِ والأَلفِ
(2)
.
والقراءة عندنا ما عليه قرأة الأمصار؛ لإجماع الحجة من القرأة عليه
(3)
.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25)} .
يقول جلَّ ثناؤه: فانْتَقَمْنا من هؤلاء المكذِّبةِ رُسُلَها، من الأم الكافرة بربِّها، بإحلالنا العقوبة بهم، فانظر يا محمدُ كيف كان عُقْبَى أمرِهم، إذ كذَّبوا بآياتِ الله. ويعنى بقوله:{عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} : [آخِرُ أمر]
(4)
الذين كذَّبوا رسل الله، إلامَ صارَ! يقولُ: ألم نهلكهم فنجعلهم عبرةً لغيرهم؟!
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة: {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُم
(1)
في الأصل، ص، م، ت 1، ت 2:"قل". والمثبت قراءة ابن عامر وحفص عن عاصم، وقرأ الباقون:"قل". النشر 2/ 276.
(2)
المصدر السابق.
(3)
القراءتان متواترتان.
(4)
في ت 2: "اجترار"، وفى ت 3:"اجتراء".
فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}. قال: شرٌّ واللهِ، أَخَذَهم بخَسْفٍ وغرقٍ، ثم أهلكهم فأدخلهم النار
(1)
.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28)} .
يقول جلَّ ثناؤه: وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه الذين كانوا يعبدون ما يعبده مُشركو قومك يا محمدُ: إنَّنى بَرَاءٌ ممَّا تَعبُدونَ مِن دونِ اللهِ، فكذَّبوه، فانتقمنا منهم كما انتقمنا ممن قبلهم من الأم المكذِّبةِ رُسُلَها.
وقيل: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} . فوضع البراء، وهو مصدرٌ، موضع النعت، والعربُ لا تُثَنَّى البراء ولا تجمع ولا تؤنِّثُ، فتقولُ: نحن البراء والخلاء؛ لما ذكرتُ من أنه مصدرٌ، وإذا قالوا: هو برئٌ منك، ثنَّوا وجمعوا وأنَّثوا، فقالوا: هما بريئان منك، وهم بريئون منك. وذُكر أنها في قراءةِ عبدِ اللَّهِ:(إِنَّنِي بَرِيءٌ) بالياء
(2)
، وقد يُجمعُ بَرِئُ:[بُرَآء أو بُراء]
(3)
.
{إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} . يقولُ: إننى برئ مما تعبدون من شيء إلا من الذي فطرنى، يعنى: الذي خلقنى، {فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ}. يقولُ: فإنه سيقوِّمُنى للدين الحقِّ، ويوفِّقُنى لاتباع سبيل الرشدِ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويل.
(1)
بعده في ت 3: "بتكذيبهم رسل الله والله أعلم"، والأثر عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 16 إلى المصنف وعبد بن حميد.
(2)
ينظر مختصر الشواذ ص 136.
(3)
في م، ت 2، ت 3:"براء وأبراء". وينظر اللسان (ب ر أ).
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} . قال: كايَدهم؛ كانوا يقولون: إن الله ربُّنا {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25]. فلم يَبرأْ مِن ربِّه.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمر، عن قتادةَ قولَه:{إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} . يقولُ: إننى برئٌ مما تعبدون إلَّا الذي خَلَقَنِي
(1)
.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:{إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} . قال: خلَقنى.
وقوله: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} . يقولُ جلَّ ثناؤه: وجعلَ قولَه: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} . وهو قولُ: لا إلهَ إلا اللَّهُ - كلمةً باقيةً في عقبهِ، وهم ذُرِّيتُه، فلم يَزَلْ فِي ذُرِّيتِه مَن يقولُ ذلك مِن بعدِه.
وقد اختلَف أهلُ التأويلِ في معنى الكلمةِ التي جعَلها خليلُ الرحمنِ باقيةً في عقبه؛ فقال بعضُهم بنحوِ الذي قلنا في ذلك.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن ليثٍ، عن مجاهد:{وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} . قال: لا إله إلا اللَّهُ
(2)
.
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 195 عن معمر به.
(2)
تفسير الثوري ص 270، وأخرجه الفريابي - كما في تغليق التعليق 4/ 306 - من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 16 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} . قال: شهادة أنَّ لا إلهَ إلا اللَّهُ، والتوحيدَ، لم يَزَلْ في ذريته مَن يقولُها مِن بعدِه
(1)
.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ في قولِه:{وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} . قال: التوحيدَ والإخلاصَ، ولا يزالُ في ذُرِّيتِه مَن يُوَحِّدُ اللَّهَ ويعبدُه
(2)
.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:{وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} . قال: لا إله إلا اللَّهُ
(3)
.
وقال آخرون: الكلمةُ التي جعَلها باقيةً
(4)
في عقبِه اسمُ الإسلامِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرَنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} . [قال: الإسلامُ]
(5)
وقَرأَ: {أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة: 131]. قال: جعَل هذه كلمةً باقيةً في عَقِبه، وقال: الإسلامُ، وقرَأ:{هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج: 78]. وقرأ: {وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ}
(6)
[البقرة: 128].
(1)
أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات (209) من طريق شيبان عن قتادة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 16 إلى عبد بن حميد.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 196 عن معمر به.
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 22.
(4)
في م: "الله"، وسقط من: ص، ت 1، ت 2، ت 3.
(5)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(6)
ذكره البغوي في تفسيره 7/ 211، والقرطبي في تفسيره 16/ 77، وابن كثير في تفسيره 7/ 212.
وبنحوِ ما قلنا أيضًا في معنى العَقِبِ قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ قوله:{فِي عَقِبِهِ} . قال: في ولده
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} . قال: يعنى مَن خَلَفَه
(2)
.
حدَّثني محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:{فِي عَقِبِهِ} . قال: في عَقِبِ إبراهيمَ، [آلِ محمدٍ محمد صلى الله عليه وسلم]
(3)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عبدِ الله بن عبدِ الحكم، قال: ثنا ابن أبي فُدَيكٍ، قال: ثنا
(4)
.
ابن أبي ذئبٍ، عن ابن شِهابٍ، أنه كان يقولُ: العَقِبُ: الولدُ، وولدُ الولدِ
(4)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرَنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: و {فِي عَقِبِهِ} . قال: عَقِبُه ذُرِّيتُه
(4)
.
وقوله: {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} . يقول: ليرجِعوا إلى طاعةِ ربِّهم، ويُنيبوا
(5)
إلى
(1)
تفسير مجاهد ص 593 وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 16 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
ذكره الطوسي في التبيان 9/ 192.
(3)
سقط من: ت 2 ت 3. والأثر ذكره الطوسي في التبيان الموضع السابق.
(4)
ذكره القرطبي في تفسيره 16/ 80.
(5)
في م: "يثوبوا"، وفى ت 2 ت 3:"يثبتوا"، وفى ت 1:"يتوبوا"، وغير منقوطة في ص.
عبادتِه، ويَتوبوا من كفرِهم وذنوبِهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} : أي: يَتوبون، أو: يذَّكَّرون
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: بل مَتَّعْتُ يا محمدُ هؤلاء المُشركين من قومِك وآبَاءَهُم مِن قبلِهم بالحياةِ، فلم أعاجلْهم
(2)
بالعقوبةِ على كفرِهم، {حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ}. يعني جل وعزَّ بالحقِّ هذا القرآنَ. يقولُ: لم أُهْلِكهم بالعذابِ حتى أَنزَلتُ عليهم الكتابَ، وبعثتُ فيهم رسولًا مُبينًا.
يعني بقوله: {وَرَسُولٌ مُبِينٌ} يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم، وبالمبين: أنه يُبَيِّنُ لهم يُبَيِّنُ بالحُجَجِ التي يحتجُّ بها عليهم، أنه للَّهِ رسولٌ مُحِقٌّ فيما يقولُ، {وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ}. يقولُ جلَّ ثناؤُه: ولمَّا جاء هؤلاء المشركين القرآنُ مِن عندِ اللَّهِ، ورسولٌ مِنْ الله أرسَله إليهم بالدعاءِ إليه {قَالُوا هَذَا سِحْرٌ}. يقول: قالوا
(3)
: هذا الذي جاءَنا به هذا الرسولُ سحرٌ يَسْحَرُنا به، ليس بوحيٍ مِن اللَّهِ، {وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ}. يقولُ: قالوا: وإنا به جاحِدون، ننكر أن يكونَ هذا مِن عندِ
(4)
الله.
(1)
أخرجه البيهقى في الأسماء والصفات (209) من طريق شيبان عن قتادة.
(2)
في الأصل: "أعالجهم".
(3)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(4)
ليس في: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
وبنحو الذي قلنا في معنى الحقِّ قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمد، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ في قوله:{وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ} . قال: هؤلاء قريشٌ، قالوا للقرآنِ الذي جاء به محمدٌ: هذا سحرٌ
(1)
.
يقولُ جلَّ ثناؤه: وقال هؤلاء المُشركون باللَّهِ مِن قريشٍ، لمَّا جاءَهم القرآنُ مِن عند الله: هذا سحرٌ، فإن كان حقًّا، فهَلَّا نزَل على رجلٍ عظيمٍ مِن إحدى هاتَين القريتيَن؛ مكةَ أو الطائفِ.
واختُلف في الرجلِ الذي وصَفوه بأنه عظيمٌ؛ وقالوا: هَلَّا نزَل عليه هذا القرآنُ؛ فقال بعضُهم: قالوا
(2)
: هلَّا نزَل على الوليدِ بن المُغيرةِ المخزوميِّ، مِن أهلِ مكةَ، أو حبيبِ بن عمرِو بن عُمَيرِ الثَّقَفيِّ، مِن أهلِ الطائفِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 16 إلى المصنف.
(2)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:{لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} . قال: يعنى بالعظيمِ: الوليد بن المغيرةِ القُرَشيَّ، وحبيبَ بنَ عمرِو بن عُمَيرٍ الثقفيَّ، وبالقريتَين: مكةَ والطائفَ
(1)
.
وقال آخرون: بل عُنِى به عُتْبةُ بن ربيعةَ مِن أهلِ مكةَ، وابنُ عبدِ يالِيلِ مِن أهلِ الطائفِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} . قال: عتبةُ بن ربيعةَ مِن مكةَ، وابنُ عبدِ يالِيلَ الثقفيُّ مِن الطائفِ
(2)
.
وقال آخرون: بل عُنى به مِن أهلِ مكةَ الوليدُ بنُ المُغيرةِ، ومن أهلِ الطائفِ عروةُ
(3)
بنُ مسعودٍ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ في قولِه:{رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} . قال: الرجلُ: الوليدُ بنُ المغيرةِ، قال
(4)
: لو كان ما يقولُ محمدٌ حقًّا، أُنزِل عليَّ هذا أو على ابن مسعودٍ الثقفيِّ، والقريتان: الطائفُ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 16 إلى المصنف وابن أبي حاتم وابن مردويه.
(2)
تفسير مجاهد ص 593.
(3)
ليس في: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(4)
في الأصل، ت 3:"قالوا".
ومكةُ، وأبو
(1)
مسعودٍ الثقفيُّ من الطائفِ، اسمُه عُرْوةُ بنُ مسعودٍ
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} : والقريتان: مكةُ والطائفُ. قال: قد قال ذلك مُشركو قريشٍ، قال: بلَغنا أنه ليس فخِذٌ من قريشٍ إلا قد ادَّعَته، وقالوا: هو مِنَّا. فكُنَّا نُحدَّثُ أن الرجلين الوليدُ بنُ المُغيرةِ، وعُرُوةُ الثقفيُّ أبو مسعودٍ، يقولون: فهلا كان أُنزل على أحد هذين الرجلين.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرَنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زِيدٍ في قوله: {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} . قال: كان أحدُ العظيمَين عُرُوةَ بنَ مسعودٍ الثقفيُّ، كان عظيمَ أهلِ الطائفِ.
وقال آخرون: بل عُنى به مِن أهلُ مكةَ الوليدُ بنُ المغيرةِ، ومن أهلِ الطائفِ كنانةُ بنُ عبدِ بن عمرٍو.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:{وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} . قال: الوليدُ بنُ المغيرةِ القُرَشيُّ، أو كِنانةُ بنُ عبدِ بن عمرِو بن عُمَيرٍ عظيمُ أهلُ الطائفِ
(3)
.
وأَولى الأقوالِ في ذلك بالصوابِ، أن يقالَ كما قال عز وجل، مخبِرًا عن
(1)
في م: "ابن"، وتنظر ترجمته في الاستيعاب 3/ 1066، والإصابة 4/ 492.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 196 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 16 إلى عبد بن حميد.
(3)
ذكره ابن حجر في الإصابة 4/ 492، وفيه "عبد عمرو" كما في ت 3، وكذلك وقع في تفسير ابن كثير 7/ 213.
هؤلاء المشركين: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} .
إذ كان جائزًا أن يكونَ بعضَ هؤلاء، ولم يَضَعِ اللَّهُ جلَّ وعزَّ لنا الدلالةَ على الذين عُنُوا منهم في كتابِه، ولا على لسانِ رسولِه صلى الله عليه وسلم، والاختلافُ فيه موجودٌ على ما بَيَّنْتُ.
وقوله: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} . يقول جلَّ وعزَّ: أهؤلاء القائلون: {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} . يا محمدُ، يَقْسِمون رحمةَ ربِّك بينَ خلقِه، فيجعَلون كرامتَه لمَن شاءوا، وفضلَه [عند مَن]
(1)
أرادوا، أم الله الذي يَقسِمُ ذلك، فيُعْطِيه مَن أحبَّ، ويحرِمُه مَن شاء؟
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا عثمانُ بن سعيدٍ، قال: ثنا بشرُ بنُ عُمارةَ، عن أبي رَوْقٍ، عن الضحاكِ، عن ابن عباسٍ، قال: لما بَعَث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم رسولًا، أنكَرتِ العربُ ذلك - أو مَن أنكر منهم - فقالوا: اللَّهُ أعظمُ مِن أن يكونَ رسولُه بشرًا مثلَ محمدٍ. قال: فأنزَل اللَّهُ عز وجل: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ} [يونسُ: 2]، وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي
(2)
إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} [النحل: 43]. يعنى: أهلَ الكتبِ الماضيةِ: أبشرًا كانت الرسلُ التي أَتَتْكم أم ملائكةً؟ فإن كانوا ملائكةً أتَتْكم، وإن كانوا بشرًا فلا تُنْكِروا أن يكونَ محمدٌ رسولًا، قال: ثم قال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا
(1)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"لمن".
(2)
في الأصل، ت 1، ت 2، ت 3:"يوحى"، والمثبت قراءة حفص عن عاصم. وينظر ما تقدم في 14/ 226.
رِجَالًا نُوحِي
(1)
إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [يوسف: 109]. أي: ليسوا مِن أهلِ السماءِ كما قلتم. قال: فلما كَرَّر اللَّهُ عليهم الحُجَجَ قالوا: فإذ كان بشرًا فغير محمدٍ كان أحقَّ بالرسالةِ، و {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}. يقولون: أشرفَ مِن محمدٍ صلى الله عليه وسلم، يَعْنون الوليدَ بنَ المغيرةِ المخزوميَّ، وكان يُسَمَّى ريحانةَ قريشٍ، هذا مِن مكةَ، ومسعودَ بن عمرِو بن عبيدِ اللَّهِ الثقفيَّ، مِن أهلِ الطائفِ، قال: يقولُ اللَّهُ عز وجل ردًّا عليهم: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} ؟ أنا أفعلُ ما شئتُ
(2)
.
وقولُه: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} . يقولُ جلَّ وعزَّ: بل نحن نقسِمُ رحمتَنا وكرامتَنا بينَ مَن شِئْنا مِن خلقِنا، فنجعَلُ مَن شِئْنا رسولًا، ومَن أرَدْنا صِدِّيقًا، ونتَّخِذُ مَن أرَدْنا خليلا، كما قسمنا بينهم معيشتهم التي يعيشون بها في حياتِهم الدنيا مِن الأرزاقِ والأقواتِ، فجعَلنا بعضَهم فيها أرفعَ مِن بعضٍ درجةً، بأن جعَلنا هذا غَنِيًّا وهذا فقيرًا، وهذا مَلِكًا وهذا مملوكًا؛ {لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} .
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، قال: قال اللَّهُ: {يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ؛ فتَلْقَاه ضعيفَ الحيلةِ، عَيِيَّ اللسانِ وهو مبسوطٌ له في الرزقِ، وتَلْقَاه شديدَ الحيلةِ، بسيطَ
(3)
اللسانِ
(1)
في الأصل، ص، ت 1، ت 2، ت 3:"يوحى"، والمثبت قراءة حفص عن عاصم. وينظر ما تقدم 13/ 380.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 299 إلى المصنف وابن أبي حاتم وأبى الشيخ وابن مردويه.
(3)
في م: "سليط".
وهو مقتورٌ عليه، قال الله جل ثناؤُه:{نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} .
كما قَسَم بينَهم صورَهم وخلقَهم
(1)
، تبارَك ربُّنا وتعالى
(2)
.
وقوله: {لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} . يقولُ: ليَسْتسخِرَ هذا هذا في خدمتِه إيَّاه، وفى عَوْدِ هذا على هذا بما في يدِه من فضلٍ، يقولُ: جعل تعالى ذكرُه بعضًا لبعضٍ سببًا للمعاشِ في الدنيا.
وقد اختلَف أهلُ التأويلِ فيما عُنِى بقولِه: {لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} ؛ فقال بعضُهم: معناه: ما قلنا فيه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباط، السُّدِّيِّ:{لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} . قال: يستخدِمُ بعضُهم بعضًا في السُّخْرةِ
(3)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} . قال: هم بنو آدمَ جميعًا، قال: وهذا عبدُ هذا، ورفع اللَّهُ هذا على هذا درجةً؛ فهو يُسَخِّرُه بالعملِ، يستعمِلُه به، كما يقالُ: سخَّر فلانٌ فلانًا
(4)
.
وقال آخرون: بل عُنِى بذلك: ليملكَ بعضُهم بعضًا.
(1)
في ص: "حجلهم"، وفى م:"أخلاقهم"، وفى ت 1:"حبلهم"، وفي ت 2:"جعلهم".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 16، 17 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
ذكره القرطبي في تفسيره 16/ 83، وابن كثير في تفسيره 7/ 213.
(4)
ذكره القرطبي في تفسيره 16/ 83 بنحوه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن حُمَيدٍ، قال: ثنا يحيى بنُ واضحٍ، قال: ثنا عُبَيدُ بنُ سليمانَ، عن الضحاكِ في قوله:{لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} . يعنى بذلك: العبيدَ والخَدَمَ سخَّرهم لهم
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} : مَلَكَةٌ
(2)
.
وقوله: {وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} . يقول جلَّ وعزَّ: ورحمةُ رَبِّك يا محمدُ، بإدخالِهم الجنةَ خيرٌ لهم مما يَجْمَعون مِن الأموالِ في الدنيا.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} : يعنى الجنةَ
(2)
.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:{وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ} . يقولُ: الجنةُ {خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} . يقولُ: خيرٌ مما يجمَعون في الدنيا.
القولُ في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33)} .
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 213.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 16، 17 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر.
يقولُ تعالى ذكرُه: ولولا أن يكون الناس جماعةً واحدةً.
ثم اختلَف أهلُ التأويلِ في المعنى الذي لم يُؤْمَنْ اجتماعُهم عليه، لو فعَل ما قال جلَّ ثناؤه أنه
(1)
لم يفعلْه من أجلِه؛ فقال بعضُهم: ذلك اجتماعُهم على الكفرِ. وقالوا: معنى الكلامِ: ولولا أن يكونَ الناسُ أمةً واحدةً على الكفرِ، فيصيرَ جميعُهم كفارًا، لجعَلنا لمَن يكفرُ بالرحمنِ لبُيُوتِهم سُقْفًا مِن فضةٍ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قوله:{وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} . يقولُ الله سبحانَه: لولا أن أجعَلَ الناسَ كلَّهم كفارًا، لجعَلتُ للكفارِ لبيوتِهم سُقُفًا مِن فضةٍ
(2)
.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا هَوذةُ بن خليفةَ، قال: ثنا عوفٌ، عن الحسنِ في قولِه:{وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} . قال: لولا أن يكونَ الناسُ كفارًا أجمَعون، يمَيلون إلى الدنيا
(3)
، لجعل اللَّهُ تبارك وتعالى الذي قال. ثم قال: واللَّهِ لقد مالَت الدنيا بأكثرِ أهلِها، وما فعَل ذلك، فكيف لو فعَله
(4)
؟!
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} : أي: كفارًا كلَّهم.
(1)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"وما به".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 17 إلى المصنف وابن أبي حاتم وابن المنذر.
(3)
في ص، ت 1، ت 3:"الناس".
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 17 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر.
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ في قولِه:{وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} . قال: لولا أن يكونَ الناسُ كفارًا
(1)
.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:{وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} . يقولُ: كفارًا على دينٍ واحدٍ
(2)
.
وقال آخرون: ذلك اجتماعُهم على طلبِ الدنيا وتركِ طلبِ الآخرةِ. وقال: معنى الكلامِ: ولولا أن يكونَ الناسُ أمةً واحدةً على طلبِ الدنيا ورفْضِ الآخرةِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا يونسُ، قال: أخبرَنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} . قال: لولا أن يختارَ الناسُ دُنياهم على دينهم، لجعَلنا هذا لأهل الكفرِ
(3)
.
وقولُه: {لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ} . يقولُ تعالى ذكرُه: لجعلنا لبيوتِ مَن يكفرُ بالرحمنِ في الدنيا سُقُفًا، يعنى أعالىَ بُيُوتِهم، وهو السطوحُ مِن فضةٍ.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قوله:{لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ} : السُّقُفُ أعالى البيوتِ
(4)
.
واختلف أهلُ العربيةِ في تَكْريرِ اللامِ التي في قولِه: {لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ} ،
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 196 عن معمر به.
(2)
ذكره القرطبي في تفسيره 16/ 84، والطوسي في التبيان 9/ 95.
(3)
ذكره القرطبي في تفسيره 16/ 84.
(4)
تقدم 14/ 205.
وفى قوله: {لِبُيُوتِهِمْ} . فكان بعضُ نحويِّى البصرةِ يزعُمُ أنها أُدخِلت في البيوتِ على البدلِ.
وكان بعضُ نحويِّى الكوفةِ يقولُ
(1)
: إن شئتَ جعلتَها في: {لِبُيُوتِهِمْ} مُكَرَّرةً، كما قال:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} [البقرة: 217]. وإن شئتَ جعلتَ اللامَين مختلفتَين، كأن الثانيةَ في معنى "على"، كأنه قال: جعَلنا لهم على بيوتِهم سُقُفًا. قال: وتقولُ العربُ للرجلِ في وجهِه: جعَلتُ لك لقومِك الأُعطيةَ. أي جعَلتُه مِن أجلِك لهم.
واختلفَت القرأةُ في قراءةِ قولِه: {سُقُفًا} ، فقرَأته عامةُ قرأةٍ أهلُ مكةَ وبعضُ المدنيِّين وعامةُ البصريِّين:(سَقْفًا). بفتح السين وسكون القافِ
(2)
، اعتبارًا منهم ذلك بقولِه:{فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 26]. وتَوْجِيهًا منهم ذلك إلى أنه بلفظ واحدٍ معناه الجمعُ.
وقرَأه بعضُ قرأةِ المدينةِ وعامةُ قرأةِ الكوفةِ: {سُقُفًا} ، بضَمِّ السينِ والقافِ
(3)
، ووجَّهوها إلى أنها جمْعُ سَقِيفةٍ أو سُقُوفٍ. وإذا وُجِّهتْ إلى أنها جمعُ سُقُوف كانت جمعَ الجمعِ؛ لأن السُّقُوفَ جمعُ سَقْفٍ، ثم تُجمَعُ السُّقُوفُ سُقْفًا، فيكونُ ذلك نظيرَ قراءةِ مَن قرأه:(فرُهُنٌ مَقْبُوضَةٌ)[البقرة:283] بضمِّ الراءِ والهاءِ
(4)
، وهى جمعُ
(5)
الجمعِ، واحدُها رِهانٌ ورُهُونٌ، وواحدُ الرُّهونِ والرِّهانِ:
(1)
هو الفراء. ينظر معاني القرآن 3/ 31.
(2)
هي قراءة ابن كثير وأبى عمرو. ينظر السبعة ص 585.
(3)
هي قراءة نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي. ينظر السبعة ص 585.
(4)
هي قراءة ابن كثير وأبي عمرو. ينظر المصدر السابق ص 194.
(5)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
رَهْنٌ وكذلك قراءةُ مَن قَرأ: (كُلُوا مِنْ ثُمُرِهِ)[الأنعام: 141]. بضمِّ الثاءِ والميمِ
(1)
، ونظيرُ قولِ الراجزِ
(2)
:
حتى إذا بُلَّتْ حَلاقِيمُ الحُلُقْ
وقد زعَم بعضُهم أن السُّقُفَ بضمِّ السينِ والقافِ، جمعُ سَقْفٍ، والرُّهُنَ بضمِّ الراءِ والهاءِ، جمعُ رَهْنٍ، فأغفَل وجهَ الصوابِ في ذلك، وذلك أنه غيرُ موجودٍ في كلامِ العربِ اسمٌ على تقدير (فَعْلِ) بفتح الفاء وسكونِ العينِ مجموعًا على (فُعُلٍ)، فيُجعلَ السُّقُفُ والرَّهُنُ منه.
والصوابُ مِن القولِ في ذلك عندى أنهما قراءتان مُتقاربتا المعنى، معروفتان في قَرَأةِ الأمصار، فبأيَّتِهما قَرأ القارئُ فمُصِيبٌ.
وقوله: {وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} . يقولُ: ومَرَاقىَ ودَرَجًا عليها يَصْعَدون، فيَظْهَرون على السُّقُفِ. والمعارجُ: هي الدَّرَجُ نفسها، كما قال المُثَنَّى بن جَنْدَلٍ
(3)
:
يا ربِّ ربَّ البيتِ ذى المعارجِ
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن
(1)
ينظر ما تقدم في 9/ 449، 450 في تفسير قوله:{انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ} [الأنعام: 99].
(2)
معاني القرآن للفراء 3/ 32، واللسان (ح ل ق).
(3)
صوابه: جندل بن المثنى كما نسب في مجاز القرآن 2/ 204، وينظر سمط اللآلئ 2/ 644.
عباسٍ: {وَمَعَارِجَ} . قال: معارجُ مِن فضةٍ، وهى دَرَجٌ
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} . أي: ودَرَجًا
(2)
عليها يَصْعَدون.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:{وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} . قال: المعارجُ المَراقى
(3)
.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن مَعْمَرٍ، عن قتادةَ في قوله:{وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} . قال: دَرَجٌ عليها يَرْتقون
(4)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ:{وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} . قال: دَرَجٌ عليها يَصْعَدون إلى الغُرَفِ
(5)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرَنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قوله: {وَمَعَارِجَ} . قال: المعارجُ: دَرَجٌ مِن فضةٍ
(6)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)} .
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره - كما في الإتقان 2/ 42 - من طريق أبي صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 17 إلى ابن المنذر.
(2)
في ت 2، ت 3:"درجات".
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 213 بنحوه.
(4)
في م، ت 1:"يرفعون". والأثر أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 196 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 17 إلى عبد بن حميد.
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 17 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(6)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 213.
يقول تعالى ذكرُه: وجعَلنا لبيوتِهم أبوابًا مِن فضةٍ، وسُرُرًا مِن فضةٍ.
كما حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ:{وَسُرُرًا} . قال: سُرُرٌ من فضةٍ.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرَنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ} . قال: الأبوابُ مِن فضةٍ، والسُّرُرُ مِن فضةٍ {عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ}. يقولُ: على السُّرُرِ يَتَّكِئون
(1)
.
وقوله: {وَزُخْرُفًا} . يقول جلَّ وعزَّ وجعَلْنا لهم مع ذلك زُخْرُفًا، وهو الذهبُ.
وبنحوِ ما قلنا قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ:{وَزُخْرُفًا} : وهو الذهبُ
(2)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ في قولِه:{وَزُخْرُفًا} . قال: الذهبُ. وقال الحسنُ: بيتٌ مِن زُخرفٍ، قال: من ذهبٍ
(3)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَزُخْرُفًا} . قال: والزخرفُ الذهبُ. قال: قد واللَّهِ كانت تُكْرَهُ ثيابُ الشُّهْرةِ. وذُكر لنا أن
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 213.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 17 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 196 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 17 إلى عبد بن حميد.
نبيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كان يقولُ: "إيَّاكم والحُمْرَةَ، فإنها مِن أحبِّ الزينةِ إلى الشيطانِ"
(1)
.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:{وَزُخْرُفًا} . قال: الذهبُ
(2)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرَنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَزُخْرُفًا} : لجعَلنا هذا لأهلِ الكفرِ، يعنى لبُيُوتِهم سُقُفًا مِن فضةٍ وما ذُكر معها.
قال: والزخرفُ: سوى
(3)
هذا الذي سَمَّى؛ السُّقُفَ، والمعارجَ، والأبوابَ، والسرُرَ، مِن الأثاثِ والفُرُشِ والمتاعِ
(4)
.
حُدِّثْتُ عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبَرنا عُبَيدٌ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {وَزُخْرُفًا} . يقولُ: ذَهَبًا
(5)
.
والزخرفُ على قول ابن زيد هذا: هو ما يتخذُه الناسُ في منازِلهم مِن الفُرُشِ والأمتعةِ والأَثاثِ
(6)
.
وفي نصبِ الزخرفِ وجهان؛ أحدُهما، أن يكونَ معناه: لجعَلنا لَمن يكفرُ بالرحمنِ لبُيُوتِهم سُقفًا مِن فضةٍ ومِن زخرفٍ، فلما لم يُكَرِّرْ عليه "مِن" نُصِب على إعمالِ الفعلِ فيه ذلك، والمعنى فيه فكأنه قيل: وزُخْرُفًا يُجعلُ ذلك لهم منه. والوجهُ
(1)
المرفوع أخرجه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثانى (2789)، والحسن بن سفيان في مسنده - كما في الإصابة 4/ 367 - من حديث عبد الرحمن بن يزيد، والطبرانى في الكبير 18/ 148 (317) من حديث عمران بن حصين.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 213.
(3)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"سمي".
(4)
ذكره الطوسى في التبيان 9/ 195، والقرطبي في تفسيره 16/ 87.
(5)
ذكره الطوسي في التبيان 9/ 195.
(6)
في ص: "لات"، وفى م، ت 2:"الآلات"، وفى ت 1، ت 3:"آلات".
الآخرُ: أن يكونَ معطوفًا على السُّرُرِ، فيكونَ معناه: لجعَلنا لهم هذه الأشياءَ مِن فضةٍ، وجعَلنا لهم مع ذلك ذَهَبًا يكونُ لهم غِنًى يَسْتَغْنون
(1)
بها، ولو كان التنزيلُ جاء بخفضِ الزخرفِ [كان صحيحًا على معنى]
(2)
؛ لجعَلنا لَمن يكفرُ بالرحمنِ لبيوتهم سُقُفًا مِن فضةٍ ومِن زخرفٍ. فكان الزخرفُ يكونُ معطوفًا على الفضةِ
(3)
.
وأما المعارجُ فإنها جُمعت على مفاعلَ، وواحدُها مِعْراجٌ، على جمعِ مِعْرَجٍ، كما يُجمعُ المِفْتاحُ مفاتحَ، على جمعِ مِفْتَحٍ؛ لأنهما لغتان: مِعْرَجٌ، ومِفْتَحٌ، ولو جُمع مَعاريجَ كان صوابًا، كما يجمعُ المفتاحُ مفاتيحَ، إذ كان واحدَه مِعْراجٌ.
وقولُه: {وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} . يقولُ جلَّ وعزَّ: وما كلُّ هذه الأشياء التي ذكر؛ مِن السُّقُفِ مِن الفضةِ، والمعارجِ، والأبوابِ، والسُّرُرِ مِن الفضةِ والزخرفِ - إلا متاعٌ يَسْتمتعُ به أهلُ الدنيا في الدنيا، {وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ}. يقول جلَّ وعزَّ: وزَيْنُ الدارِ الآخرةِ وبهاؤُها عندَ ربِّك للمتقين؛ الذين اتَّقَوْا اللَّهَ فخافوا عقوبتَه
(4)
، فجَدُّوا في طاعتِه، وحَذِروا معاصيَه - خاصةً دونَ غيرهم من خلقِ اللَّهِ.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} : خُصوصًا
(5)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا
(1)
في ت 2، ت 3:"يستعينون".
(2)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ت 3، وفي م:"لكان".
(3)
ينظر معاني القرآن 3/ 32.
(4)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"عقابه".
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 17 إلى المصنف وعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر.
فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37)}.
يقولُ جلَّ وعزَّ: ومَن يُعْرِضْ عن ذكرِ اللَّهِ، فلم يَخَفْ سَطُوتَه، ولم يخشَ عقابَه، {نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا}. يقولُ: نجعلْ له شيطانًا يُغْوِيه، {فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ}. يقولُ: فهو للشيطانِ قرينٌ، أي يصيرُ كذلك. وأصلُ العَشْوِ: النظرُ بغيرِ ثَبَتٍ لعلةٍ في العينِ، يقالُ منه: عَشا فلانٌ يَعْشُو عُشُوا وعَشْوًا. إذا ضَعُف بصرُه، وأظلمَت عينُه كأن عليها غشاوةً، كما قال الشاعرُ
(1)
:
متي تَأْتِهِ تَعْشُو إلى ضَوْءِ نارِه
…
تَجِدْ حَطَبًا جَزْلًا ونارًا تَأجَّجا
يقولُ: متى تفتقرْ فتَأْتِه يغنِك
(2)
.
وأما إذا ذهَب البصرُ فلم يُبْصِرُ، فإنه يقالُ منه
(3)
: قد عَشِيَ فلانٌ يَعْشَى عَشًى. منقوصٌ، ومنه قولُ الأعشَى
(4)
:
رَأَتْ رَجُلًا غائبَ الوافدَيـ
…
ـن مُخْتَلِفَ الخَلْقِ أَعْشَى ضَرِيرًا
يقالُ منه: رجلٌ أعشَى، وامرأَةٌ عَشْواءُ.
وإنما معنى الكلامِ: ومَن لا ينظر في حُجَجِ اللَّهِ بالإعراضِ منه عنه إلا نظرًا ضعيفًا، كنَظَرِ مَن قد عَشِيَ بصرُه، {نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا} .
(1)
كذا أورد سيبويه هذا الشاهد غير منسوب. والشطر الأول للحطيئة في ديوانه ص 161 وعجزه:
* تجد خير نار عندها خير موقد *
والشطر الثاني لعبد بن الحر كما في الخزانة 9/ 90، وصدره:
* متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا *
(2)
في ص، ت 1:"يغثك"، وفى م، ت 2، ت 3:"يعنك".
(3)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"فيه".
(4)
ديوانه ص 95.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا} . يقولُ: إذا أعرَض عن ذكرِ الله نقيضُ له شيطانًا {فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ}
(1)
.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّي في قولِه:{وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ} . قال: يُعْرِضُ.
وقد تأوَّله بعضُهم بمعنى: ومَن يَعْمَ، ومَن تأوَّل ذلك كذلك، فيجبُ أن تكونَ قراءتُه:(ومَنْ يَعْشَ) بفتحِ الشينِ
(2)
، على ما بَيْتُ قبلُ.
ذكرُ مَن تأوَّله كذلك
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرَنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ} . قال: مَن يَعْمَ عن ذكرِ الرحمنِ.
وقولُه: {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} . يقولُ جلَّ وعزَّ: وإن الشياطينَ ليصُدُّون هؤلاء الذين يَعْشُون عن ذكرِ اللَّهِ، عن سبيل الحقِّ، فيُزَيِّنون لهم الضلالةَ، ويُكَرِّهون إليهم الإيمانَ باللَّهِ، والعملَ بطاعتِه، {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ}. يقولُ: ويظنُّ المشركون باللَّهِ، بتَحْسينِ الشياطينِ لهم ما هم عليه مِن الضلالةِ، أنهم على الحقِّ والصوابِ، يخبرُ عز وجل عنهم، أنهم مِن الذي
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 17 إلى المصنف وعبد بن حميد.
(2)
وهى قراءة يحيى بن سلام البصري. البحر المحيط 8/ 15 - 16.
هم عليه من الشرك على شكٍّ، وعلى غير بصيرةٍ. وقال جلَّ وعزَّ:{وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ} . فأخرَج ذكرَهم مُخرجَ ذكرِ الجميعِ، وإنما ذكَر قبلُ واحدًا فقال:{نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا} ؛ لأنَّ الشيطانَ وإن كان لفظُه واحدًا، ففى معنى جمعٍ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَالَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39)} .
اختلَفت القرأةُ في قراءةِ قولِه: {حَتَّى إِذَا جَاءَنَا} ؛ فقرَأته عامةُ قرأةِ الحجازِ سِوى ابن مُحَيْصِنٍ، وبعضُ الكوفيِّين وبعضُ الشاميِّين:(حتى إذَا جاءانا)
(1)
على التثنيةِ، بمعنى: حتى إذا جاءانا هذا الذي عَشِيَ عن ذكر الرحمنِ، وقرينُه الذي قُيِّضَ له من الشياطينِ. وقرَأ ذلك عامةُ قرأةِ الكوفةِ والبصرةِ وابنُ مُحيْصِنٍ:{حَتَّى إِذَا جَاءَنَا}
(2)
على التوحيدِ، بمعنى: حتى إذا جاءنا هذا العاشِي مِن بنى آدمَ عن ذكرِ الرحمنِ.
والصوابُ مِن القولِ في ذلك عندَنا أنهما قراءتان مُتقاربتا المعنى، وذلك أن في خبرِ اللَّهِ تبارك وتعالى عن حالِ أحدِ الفريقَين عندَ مَقْدَمِه عليه، فيما اقترنا
(3)
فيه في الدنيا، الكفايةَ للسامعِ عن خبرِ الآخرِ، إذ كان الخبرُ عن حالِ أحدهما معلومًا به خبرُ حالِ الآخرِ، وهما مع ذلك قراءتان مُسْتفيضتان في قرأةِ الأمصارِ، فبأيَّتِهما قرَأ القارئُ فمصيبٌ.
(1)
هي قراءة نافع وابن كثير وابن عامر وأبي بكر عن عاصم وأبي جعفر. ينظر السبعة ص 586.
(2)
هي قراءة أبي عمرو وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم. ينظر السبعة ص 586. وقراءة ابن محيصن كما في البحر المحيط 8/ 16. وفى الإتحاف ص 238 أن ابن محيصن قرأ: (جاءانا). بخلاف ما ههنا.
(3)
في ص، م، ت 1:"أقرنا".
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكر من قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:(حتى إذا جاءانا). قال: هو وقرينُه جميعًا
(1)
.
وقولُه: {قَالَ يَالَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ} . يقولُ تعالى ذكرُه: قال أحدُ هذَين القريتَين لصاحبهِ الآخرِ: وَدِدتُ أنَّ بينى وبينَك بُعْدَ المشرقَين. أي: بُعْدَ ما بينَ المشرقِ والمغربِ، فغَلَّب اسمَ أحدِهما على الآخرِ، كما قيل:[سُنَّةُ العُمَرَين]
(2)
. وكما قال الشاعرُ
(3)
:
أَخَذْنا بآفاقِ السماءِ عليكُمُ
…
لنا قَمَراها والنجومُ الطوالعُ
وكما قال الآخرُ
(4)
:
فَبَصْرَةُ
(5)
الأَزْدِ مِنَّا والعراقُ لنا
…
والمَوْصِلانِ ومِنَّا مِصْرُ فالحَرَمُ
يعني: الموصلَ والجزيرةَ، فقال: المَوْصِلان. فغَلَّب الموصِلَ.
وقد قيل: عُنِى بقولِه: {بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ} : مشرقُ الشتاءِ، ومشرقُ الصيفِ؛ وذلك أن الشمسَ تطلعُ في الشتاءِ مِن مشرقٍ، وفى الصيفِ مِن مشرقٍ غيرِه، وكذلك المغربُ، تغربُ في مغربَين مختلفَين، كما قال جلَّ وعزَّ: {رَبُّ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 17 إلى المصنف وعبد بن حميد.
(2)
في م: "شبه القمرين"، وفى ت 2:"شبه العمرين"، وفى ت 3:"شبه العميرين". ويعنى بالعمرين أبا بكر وعمر، فغلب عمر.
(3)
هو الفرزدق. والبيت في ديوانه ص 519، وينظر معاني القرآن للفراء 3/ 33.
(4)
البيت في معاني القرآن للفراء 3/ 34 غير منسوب.
(5)
في الأصل، ص، ت 1، ت 2:"وبصرة".
الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} [الرحمن: 17].
وذُكِر أن هذا قولُ أحدِهما لصاحبِه، عندَ لُزُوم كلِّ واحدٍ منهما صاحبَه، حتى يُورِدَه جهنمَ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمر، عن سعيدٍ الجُرَيرِيِّ. قال: بلَغنى أن الكافرَ إذا بُعِث يومَ القيامةِ مِن قبرِه، سَفَع
(1)
بيدِه شيطانٌ، فلم يُفارِقْه حتى يُصيِّرَهما اللَّهُ إلى النارِ، فذلك حينَ يقولُ:{يَالَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ} . وأما المؤمنُ فيُوَكَّلُ به مَلَكٌ، فهو معه، حتى قال: إما يفصلُ بين الناس، أو يصيرُ إلى ما شاء اللَّهُ.
وقوله: {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ [إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} . يقولُ جلَّ وعزَّ: ولن ينفعَكم اليومَ]
(2)
أيُّها العاشُون عن ذكرِ اللَّهِ في الدنيا، {إِذْ ظَلَمْتُمْ}. [يقولُ: إذ أشركتم فيها بربّكم]
(3)
، {أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} يقولُ: لن يخفِّفَ عنكم مِن عذابِ الله اليومَ اشتراكُكم فيه؛ لأنَّ لكلِّ أحدٍ منكم نصيبَه الأوفرَ منه. و "أنَّ" مِن قولِه: {أَنَّكُمْ} . في موضعِ رفعٍ؛ لِما ذكَرتُ من أن معناه: لن ينفعَكم اليومَ اشتراكُكم.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42)} .
(1)
في مصدر التخريج: "يشفع"، وسفع بيده أي: أخذ بيده. النهاية 2/ 375.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 196 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 17 إلى ابن المنذر.
(3)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: أفأنت تُسْمِعُ مَن قد سَلَبَه اللَّهُ استماعَ حُجَجه التي احتجَّ بها في هذا الكتابِ، وأصَمَّه عنه، أو تَهْدِى إلى طريقِ الهُدى مَن أعمَى الله قلبَه عن إبصاره، واستحوَذ عليه الشيطانُ فزَيَّن له الرَّدَى، {وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}. يقولُ: أو تَهْدِى مَن كان في جَوْرٍ عن قَصْدِ السبيلِ، سالِكَ غيرِ سبيلِ الحقِّ، قد أبانَ ضلالُه أنه عن الحقِّ زائلٌ، وعن قصدِ السبيلِ جائزٌ. يقولُ جلَّ ثناؤُه: ليس ذلك إليك، إنما ذلك إلى اللَّهِ الذي بيدِه صرفُ قلوبِ خلقِه كيف شاء، وإنما أنت مُنذِرٌ، فبَلِّغْهم النِّذارةَ.
وقوله: {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ} . اختلَف أهلُ التأويلِ في المعنيِّين بهذا الوعيدِ؛ فقال بعضُهم: عُنِى به أهلُ الإسلامِ من أُمة نبيِّنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا سَوَّارُ بنُ عبدِ اللَّهِ العَنْبَرِيُّ، قال: ثنى أبي، عن أبي الأشْهَبِ، عن الحسنِ في قولِه:{فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ} . قال: لقد كانت بعدَ نبيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نِقْمةٌ شديدةٌ، فأكرَم اللَّهَ نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يُرِيَه في أمتِه ما كان مِن النقمة بعدَهُ
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ} : فذهَب الله بنَبِيِّه صلى الله عليه وسلم، ولم يُره في أمتِه إلا الذي تَقَرُّ به عينُه، وأبقَى اللَّهُ النقمةَ بعدَه، وليس مِن نبيٍّ إلا وقد رأى في أمتِه العقوبةَ - أو قال: ما لا يَشْتَهِي - ذُكِر لنا أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أُرِىَ الذي لَقِيتُ أُمتُه من بعدِه، فما زال لا منقبضًا، ما استبسَط ضاحكًا حتى لَقِى اللَّهَ تبارك وتعالى.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، قال: تَلا قتادةَ: {فَإِمَّا
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 18 إلى المصنف وابن المنذر.
نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ}. فقال: ذهَب النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وبقيت النِّقْمةُ، ولم يُرِ اللَّهُ نَبِيَّه صلى الله عليه وسلم في أمتِه شيئًا يَكْرَهُه حتى مضَى، ولم يَكُنْ نبيٌّ قَطُّ إلا رأى العقوبةَ في أمتِه، إلا نبيَّكم صلى الله عليه وسلم. قال: وذُكِر لنا أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أُرِىَ ما يُصِيبُ أمتَه بعده، فما رُئِى ضاحكًا مستبسِطًا حتى قبَضه اللَّهُ
(1)
.
وقال آخرون: بل عُنى به أهلُ الشركِ مِن قريشٍ. وقالوا: قد أَرَى اللَّهُ نبيَّه ذلك
(2)
فيهم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّي في قولِه:{فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ} : كما انتقَمنا مِن الأممِ الماضيةِ، {أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ}: فقد أَراه اللَّهُ ذلك وأظهَره عليه
(3)
.
وهذا القولُ الذي قاله السديُّ أولى التأويلَين في ذلك بالصوابِ؛ وذلك أن ذلك في سياقِ خبرِ اللَّهِ عن المشركين، فلأن يكونَ ذلك تهديدًا لهم، أَولى مِن أن يكونَ وعيدًا لمن لم يَجْرِ له ذكرٌ. فمعنى الكلامِ إذ كان ذلك كذلك: فإن نذهَبْ بك يا محمدُ مِن بين أظهُرِ هؤلاءِ المشركين، فنُخْرِجْكَ مِن بينِهم، {فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ} ، كما فعَلنا ذلك بغيرِهم من الأممِ المُكَذِّبِةِ رُسُلَها، {أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ} ، يا محمدُ من الظُّفَرِ بهم، وإعلائِك عليهم، {فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ} ، أن نُظْهِرَك عليهم، ونخزيَهم بيدِك وأيدى المؤمنين بك.
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 197 عن معمر به، وأخرجه الحاكم 2/ 447 من طريق ابن ثور عن معمر عن قتادة عن أنس قوله، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 18 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(3)
في الأصل: "عليهم".
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44)} .
يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: فتَمَسَّكْ يا محمدُ بما يأمُرُك به هذا القرآنُ الذي أوحاه إليك ربُّك، {إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} ، [يقول: إنك في تمسُّكِك به على طريقٍ مستقيمٍ]
(1)
ومنهاجٍ سَديدٍ؛ وذلك هو دينُ اللَّهِ الذي أمَر به، وهو الإسلامُ.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . أي: الإسلامُ
(2)
.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:{فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ} : بالقرآنِ؛ {إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . [قال: على دينٍ مستقيمٍ](1).
وقوله: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} . يقولُ جلَّ ثناؤُه: وإن هذا القرآنَ الذي أُوحِيَ إليك يا محمدُ، الذي أمَرناك أن تستمسكَ به، لشَرَفٌ لك ولقومِك مِن قريشٍ، {وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ}. يقولُ: وسوف يسألُك ربُّك وإيَّاهم: عما عمِلتُم فيه، وهل عمِلتُم بما أمَرَكم ربُّكم فيه، وانتَهَيتُم عما نَهاكم عنه فيه؟
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
(1)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 18 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنا معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} . يقولُ: إن القرآنَ شَرَفٌ لك
(1)
.
حدَّثنا عمرُو بنُ مالكٍ، قال: ثنا سفيانُ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} . قال: يُقالُ للرجلِ: مِمَّن
(2)
أنت؟ فيقولُ: مِن العربِ. فيقالُ: مِن أيِّ العربِ؟ فيقولُ: مِن قريشٍ
(3)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} : وهو هذا القرآنُ
(4)
.
حدَّثنا محمدُ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:{وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} . قال: شَرَفٌ لك ولقومِك، يعنى القرآنَ.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرَنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زِيدٍ في قولِه: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} . قال: أو لم تَكُنِ النبوةُ والقرآنُ الذي أنزَل على نبيِّه صلى الله عليه وسلم ذكرًا له ولقومِه.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم - كما في الإتقان 2/ 42 - والطبراني (13030) من طريق أبي صالح به، وأخرجه البيهقي في الشعب (1394) من طريق سليمان بن قتة عن ابن عباس بنحوه، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 18 إلى ابن مردويه.
(2)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"من".
(3)
أخرجه الشافعي في الرسالة 1/ 13، وعبد الرزاق في تفسيره 2/ 199، وابن أبي شيبة في مصنفه 11/ 456، وأبو نعيم في الحلية 9/ 65. والبيهقي في الشعب (1395) من طريق سفيان بن عيينة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 18 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 18 إلى المصنف وعبد بن حميد.
دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)}.
اختلَف أهلُ التأويلِ في معنى قوله: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا} . ومَن الذين أُمِر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بمسألتِهم ذلك؟ فقال بعضُهم: الذين أُمِر بمسألتهم ذلك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، مُؤمنو أهلِ الكتابين؛ التوراةِ والإنجيلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عبدُ الأعلى بنُ واصلٍ، قال: ثنا يحيى بنُ آدمَ، عن ابن عُيَينةَ، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ قال: في قراءة عبدِ اللَّهِ بن مسعودٍ: (وسَلِ الَّذِينَ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ رُسُلَنَا)
(1)
.
حدَّثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:{وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا} . إنها في قراءةِ عبدِ اللَّهِ: (وسَلِ الَّذِينَ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ رُسُلَنا)
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا} . يقولُ: سَلْ أهلُ التوراةِ والإنجيلِ: هل جاءتْهم الرسلُ إلا بالتوحيدِ أن يوحِّدوا اللَّهَ وحدَه؟ قال: وفى بعضِ القراءةِ: (وَاسْأَلِ الَّذِينَ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلَنا قَبْلَك أَجعلَنا مِن دونِ الرحمن آلهَةً يُعْبَدُون).
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن مَعْمَرٍ، عن قتادةَ في بعضِ الحروفِ:(وسَلِ الَّذِينَ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا). يقولُ: سَلْ أهلُ الكتاب؛
(1)
هي قراءة شاذة. والأثر عزاه السيوطي في الدر المنثور - كما في مخطوط مكتبة المحمودية لوحة 375 - إلى المصنف وسعيد بن منصور. وذكر القرطبي في تفسيره أنها قراءة مفسرة.
(2)
ينظر تفسير البغوي 7/ 216، وتفسير القرطبي 16/ 95.
أمَا كانت الرسلُ تأتيهم بالتوحيد؟ أمَا كانت تأتى بالإخلاصِ
(1)
؟
حُدِّثْتُ عن الحسينِ، قال: سمعتَ أبا معاذٍ يقولُ: ثنا عُبَيدٌ، قال: سمعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا} : في قراءةِ ابن مسعودٍ: (وسَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُون الكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ)، يعنى: مؤمنى أهلِ الكتابِ
(2)
.
وقال آخرون: بل الذين أُمِر بمسئلتِهم ذلك الأنبياءُ، الذين جُمِعوا له ليلةَ أُسْرِى به ببيتِ المقدسِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرَنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا} الآية. قال: جُمِعوا له ليلةَ أُسْرِى به ببيتِ المقدسِ، فأمَّهم وصلَّى بهم. فقال اللَّهُ له: سَلْهُمْ. قال: فكان أشدَّ إيمانًا ويقينًا باللَّهِ وبما جاءه مِن اللَّهِ مِن أن يسألَهم. وقرأ: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} [يونس: 94]. قال: فلم يَكُنْ فِي شَكٍّ، ولم يسألِ الأنبياءَ، ولا الذين يقرءُون الكتابَ. قال:"ونادَى جبريلُ عليه السلام. فقلتُ في نفسى: الآنَ يَؤُمُّنا أبونا إبراهيمُ". قال: "فدفَع جبريلُ في ظَهْرِى، وقال: تقدَّمْ يا محمدُ فصَلِّ"، وقرَأ:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} ، حتى بلغ:{لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا}
(3)
[الإسراء: 1].
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 197، وفى مصنفه (10210) عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 19 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور - كما في مخطوطة مكتبة المحمودية لوحة 375 - إلى المصنف.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 19 إلى المصنف.
وأولى القولين بالصواب في تأويل ذلك قولُ مَن قال: عُنى به: سَلْ مؤمنى أَهلِ الكتابين.
فإن قال قائل: وكيف يجوز أن يقال: سَل الرسل، فيكون معناه: سَل المؤمنين بهم وبكتابهم؟ قيل: جاز ذلك من أجل أن المؤمنين بهم وبكتبهم أهل بلاغ عنهم ما أَتَوهم به عن ربهم، فالخبرُ عنهم وعما جاءوا به من ربهم، إذا صح، بمعنى خبرهم، والمسألة عما جاءوا به بمعنى مسألتهم، إذا كان المسئولُ مِن أهل العلم بهم، والصدقِ عليهم، وذلك نظيرُ أمرِ اللهِ إيَّانا بِرَدِّ ما تَنَازَعْنا فيه إلى الله والرسول، يقولُ:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]. ومعلوم أن معنى ذلك: فرُدُّوه إلى كتاب اللهِ وسُنَّةِ الرسولِ؛ لأن الردَّ إلى ذلك رَدٌّ إلى الله والرسول. وكذلك قولُه: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا} . إنما معناه: فاسأل كتب الذين أرسلنا من قبلك من الرسل، فإنك تعلم صحة ذلك من قبلها
(1)
، فاسْتُغْنى بذكرِ الرسلِ مِن ذكرِ الكتب، إذ كان ذلك معلومًا معناه.
وقوله: {أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} . يقولُ: أمرناهم بعبادة الآلهة من دونِ اللهِ، فيما جاءوهم به، أو أتوهم بالأمر بذلك من عندنا؟
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السُّدِّيِّ:{أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} : أَتتهم الرسلُ يأمرونهم بعبادة أحدٍ
(2)
مِن دونِ اللَّهِ؟
(1)
في م: "قبلنا".
(2)
في ص: "آلهة"، وفى م، ت 1، ت 2، ت 3:"الآلهة".
وقيل: {آلِهَةً يُعْبَدُونَ} ، فأخرج الخبر عن الآلهة مُخرج الخبر عن ذكور بنى آدم، ولم يَقُلْ: تُعْبَدُ. ولا: يُعْبَدْنَ. فتؤنث وهى حجارةٌ، أو بعض الجماد، كما تفْعَلُ بالخبر
(1)
عن بعض الجمادِ، وإنما فُعِل ذلك كذلك، إذ كانت تُعبدُ وتُعَظَّمُ تعظيمَ الناسِ ملوكهم وسَرَاتَهم، فأُجْرِى الخبرُ عنها مُجْرَى الخبر عن الملوك والأشراف من بنى آدم
(2)
.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47)} .
يقولُ جلَّ ثناؤه: ولقد أرسلنا موسى يا محمد بحججنا إلى فرعون وأشراف قومه، كما أرسلناك إلى هؤلاء المشركين من قومك، فقال لهم موسى: إني رسولُ رب العالمين. كما قلت أنت لقومك من قريش: إنى رسول الله إليكم.
{فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ} . يقولُ: فلما جاء موسى فرعون وملأه بحججنا وأدلتنا على [حقيقة ما دعاهم إليه كما جئتَ أنتَ قومك بحججنا على]
(3)
صدق [قولك فيما تدعوهم]
(4)
إليه من توحيدِ اللهِ، والبراءةِ من عبادة الآلهة - إذا فرعون وقومه مما جاءهم به موسى من الآياتِ والعِبَرِ يضحكون، كما أن قومك مما جئتهم به مِن الآيات والعبر يَسْخَرون. وهذا تَسْليةٌ من الله، عز وجل، نبيه صلى الله عليه وسلم عما كان يَلْقَى من مشركي قومه، وإعلامٌ منه له أن قومه من أهل الشرك لن يَعْدُوا أن يكونوا كسائر الأمم الذين كانوا على منهاجهم في الكفر بالله وتكذيب رُسُلِه، ونَدْبٌ منه نبيَّه صلى الله عليه وسلم
(1)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"في الخبر".
(2)
ينظر معاني القراء 3/ 43.
(3)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(4)
في م: "قوله فيما يدعوهم".
إلى الاستنانِ في الصبر عليهم بسُنَنِ ذوى
(1)
العزم من الرسل، وإخبارٌ منه له أن عُقْبَى مَرَدَتِهم إلى البَوارِ والهلاكِ، كسُنَّتِه في المتمرِّدين عليه قبلهم، وإظفارِه بهم، وإعلائِه أمره، كالذى فعل بموسى عليه السلام، وقومه الذين آمنوا به؛ مِن إظهارهم على فرعون وملئه.
القولُ في تأويل قوله عز وجل: {وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48)} .
يقولُ عز وجل: وما نُرِى فرعون وملاه آيةً، يعني: حُجَّةٌ لنا عليه بحقيقة ما يدعوه إليه رسولنا موسى، {إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا}. يقولُ: إلا التي نُرِيهِ مِن ذلك أعظم في الحجَّةِ عليهم، وأَؤكدُ مِن التي مَضَت قبلَها مِن الآياتِ، وأدلُّ على صحة ما يأمُرُه به موسى مِن توحيدِ اللهِ.
وقوله: {وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ} . يقولُ: وأنزلنا بهم العذابَ. وذلك كأخذه تعالى ذكره إياهم بالسنين، ونقص من الثمرات، وبالجراد، والقُمَّل، والضفادع، والدمِ؛ {آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ} [الأعراف: 133].
وقوله: {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} . يقولُ: ليرجعوا عن كفرهم بالله، إلى توحيده وطاعته، والتوبة مما هم عليه مُقيمون من معاصيهم.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله:{وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} : أي: يتوبون، أو: يَذَّكَّرون
(2)
.
القولُ في تأويل قوله تعالى: {وَقَالُوا يَاأَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ
(1)
في م: "أولى".
(2)
تقدم تخريجه في ص 579، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 119 إلى عبد بن حميد.
إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50)}.
يقول تعالى ذكره: قال فرعون ومَلَؤُه لموسى: {يَاأَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ} . وعَنَوا بقولهم: {بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ} : بعهده الذي عهد إليك، أنَّا إنْ آمَنَّا بك واتَّبَعْناك، كشف عنا الرِّجُزُ.
كما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قولِ اللهِ عز وجل:{بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ} . قال: لئن آمَنَّا ليكشفنَّ عنا العذابُ
(1)
.
إن قال لنا قائل: وما وجه قيلهم: {يَاأَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ} ؟ وكيفَ سَمَّوه ساحرًا وهم يَسْألونه أن يَدْعُو لهم ربَّه؛ ليكشف عنهم العذابَ؟ قيل: إن الساحر عندهم كان معناه: العالم، ولم يَكُن السحرُ عندَهم ذَمًّا، وإنما دَعوه بهذا الاسم؛ لأن معناه عندهم كان: يا أيها العالم.
وقوله: {إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ} . يقولُ: قالوا: إننا لمتَّبِعوك فمُصَدِّقوك فيما جئتنا به، ومُوَحِّدو الله، فمُبْصِرو سبيل الرشادِ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله:{يَاأَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ} . قال: قالوا: يا موسى ادع لنا ربك
(1)
تفسير مجاهد ص 594، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 19 إلى عبد بن حميد.
لئن كشفتَ عَنَّا الرجزَ لنُؤمِنَنَّ لك.
وقوله: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ} . يقول تعالى ذكرُه: فلما رفعنا عنهم العذابَ الذي أنزَلْنا بهم، الذي وعدوا أنهم إن كُشف عنهم اهْتَدَوا لسبيل الحقِّ، إذا هم بعد كشفنا ذلك عنهم يَنْكُثون العهد الذي عاهَدونا. يقولُ: يغدرون ويُصِرُّون على ضلالهم، ويَتمادون في غَيِّهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة:{إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ} . إذا هم: يَغْدِرون
(1)
.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَاقَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51)} .
يقول تعالى ذكرُه: {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ} : مِن القِبْطِ، فقال:{يَاقَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} يعنى بقوله: {مِنْ تَحْتِي} : مِن بين يَدَيَّ في الجنانِ.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} . قال: كانت لهم جنانٌ وأنهارُ ماءٍ
(2)
.
وقوله: {أَفَلَا تُبْصِرُونَ} . يقولُ: أفلا تبصرون أيها القومُ ما أنا فيه من
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 19 إلى المصنف.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 19 إلى المصنف وعبد الرزاق وعبد بن حميد.
النعيم والخير، وما فيه موسى من الفقر وعيِّ اللسان؟ افتخر بملكه مصر عدو الله، وما قد مُكِّنَ له في الدنيا، استدراجًا مِن الله له، وحَسِب أن الذي هو فيه من ذلك ناله بأيده
(1)
وحَوْلِه
(2)
، وأن موسى إنما لم يَصِل إلى الذي [هو فيه لضعفه]
(3)
، فنسبه من أجل ذلك إلى المهانة، مُحْتَجا على جَهَلة قومِه بأن موسى عليه السلام لو كان مُحِقًّا فيما يأتى به من الآيات والعبر، ولم يَكُنْ ذلك سِحْرًا، لأكسَبَ نفسَه مِن الملكِ والنعمة، مثل الذي هو فيه من ذلك، جهلا بالله، واغترارًا منه بإملائه إياه.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ
(4)
مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53)}.
يقول تعالى ذكره، مخبرًا عن قيل فرعون لقومه، بعد احتجاجه عليهم بملكه وسُلْطانِه، وبيان لسانه، وتمام خلقه، وفضل ما بينه وبين موسى؛ بالصفات التي وصف بها نفسَه وموسى: أنا خيرٌ أيُّها القوم، وصفتى هذه الصفة التي وصفت لكم، أم هذا الذي هُو مَهينٌ لا شيء له مِن المُلْكِ والأموال، مع العلة التي به في جسده، والآفة التي به بلسانه، فلا يكادُ مِن أجلها يُبينُ كلامه؟
وقد اختلف في معنى قوله: {أم} في هذا الموضع؛ فقال بعضهم: معناها: بل أنا خيرٌ، وقالوا: ذلك خبرٌ، لا استفهامٌ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السدى قوله: {أَمْ أَنَا
(1)
في م: "بيده"، وأيده: قوته. الوسيط (أ ى د).
(2)
في الأصل: "قوته".
(3)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"يصفه".
(4)
في الأصل، ص، ت 1، ت 3:"أساورة". وهما قراءتان متواترتان كما سيأتي في ص 614.
خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ}. قال: بل أنا خيرٌ من هذا.
وبنحو ذلك كان يقولُ بعضُ أهل العلم بكلام العرب من أهل البصرة.
وقال بعض نحويّي الكوفة: هو من الاستفهام الذي جعل بـ "أم"؛ لاتصاله بكلامٍ قبله. قال: وإن شئتَ رَدَدْتَه على قوله: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ} ؟ وإذا وُجِّه الكلام إلى أنه استفهام، وجب أن يكون في الكلام محذوف استغنى بذكر ما ذكر مما تُرك ذكره، ويكون معنى الكلام حينئذ: أنا خيرٌ أيُّها القومُ من هذا الذي هو مَهِينٌ، أم هو؟
وذكر عن بعض القرأة أنه كان يقرأُ ذلك: (أَمَا
(1)
أنا خَيْرٌ)؟
حُدِّثْتُ بذلك عن الفراءِ، قال: أخبرني بعضُ المشيخة، أنه بلغه أن بعض القرأة قرأه كذلك
(2)
.
ولو كانت هذه القراءةُ قراءةً مُسْتفيضةً في قَرَأةِ الأمصار، لكانت صحيحة، وكان معناها حَسَنًا، غير أنها خلافُ ما عليه قرأة الأمصار، فلا أستجيز القراءة بها، وعلى هذه القراءة، لو صحت، لا كُلْفةَ له في معناها ولا مُؤْنةَ.
والصوابُ مِن القراءة في ذلك ما عليه قرأة الأمصار.
فأولى التأويلات بالكلام، إذ كان ذلك كذلك، تأويلُ مَن جَعَل:{أَمْ أَنَا خَيْرٌ} من الاستفهام الذي جعل بـ {أم} ؛ لاتصاله بما قبله من الكلام، ووَجهَه إلى أنه بمعنى: أأنا خيرٌ من هذا الذي هو مهين أم هو؟ ثم ترك ذكره "أم هو"؛ لما في الكلام من الدليل عليه.
(1)
في ص، ت 1، ت 3:"أم" وقراءة (أما) شاذة. ينظر معاني القرآن للفراء 3/ 35.
(2)
معاني القرآن للفراء 3/ 35.
وعنى بقوله: {مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ} : من هذا الذي هو ضعيف لقِلَّةِ ماله، وأنه ليس له
(1)
من الملك والسلطان ما له.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة:{أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ} . قال: ضعيفٌ
(2)
.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السدى:{مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ} . قال: المهينُ: الضعيف.
وقوله: {وَلَا يَكَادُ يُبِينُ} . يقولُ: ولا يكادُ يُبينُ الكلامَ مِن عِي لسانه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة:{وَلَا يَكَادُ يُبِينُ} .
أي: عَييُّ اللسان
(3)
.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمدُ، قال: ثنا أسباط،، عن السدى:{وَلَا يَكَادُ يُبِينُ} : الكلام.
(1)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ت 3.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 19 إلى المصنف وعبد الرزاق وعبد بن حميد.
(3)
في ت 2: "عن لسانه". والأثر عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 19 إلى المصنف وعبد الرزاق وعبد بن حميد.
وقوله: (فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسَاوِرَةٌ
(1)
مِنْ ذَهَبٍ). يقولُ: فهَلا أُلْقِيَ على موسى إن كان صادقًا أنه رسولُ ربِّ العالمين، أسورَةٌ مِن ذَهَبٍ، وهو جمعُ سوار، وهو [القَلْبُ الذي يُجْعَلُ]
(2)
في اليدِ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثني محمد بن سعد، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:{أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ} . يقولُ: أَقْلِبَةٌ مِن ذهب.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادةَ:{أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ} . أي: أَقْلِبَةٌ مِن ذهب
(3)
.
واختلفت القرأةُ في قراءة ذلك؛ فقرأته عامة قرأة المدينة والبصرة والكوفة: (فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَساوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ)
(4)
.
وذكر عن الحسن البصرى أنه كان يقرؤُه: {أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ}
(5)
.
وأولى القراءتين في ذلك بالصواب عندى ما عليه قَرَأَةُ الأمصار، وإن كانت الأخرى صحيحة المعنى.
(1)
في م: "أسورة".
(2)
في ت 2، ت 3:"العليا الذي تجعل".
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 19 إلى المصنف وعبد الرزاق.
(4)
هي قراءة الجميع إلا يعقوب وعاصمًا في رواية حفص. ينظر السبعة لابن مجاهد ص 587، والنشر 2/ 276.
(5)
وهى قراءة حفص عن عاصم، ويعقوب ووافقهما الحسن. ينظر النشر 2/ 276، وإتحاف فضلاء البشر ص 238.
واختلف أهل العربية في واحدِ الأساورة، والأسورةِ؛ فقال بعضُ نحويِّى البصرة: الأسورة جمعُ إسْوارٍ، قال: والأساورة جمع الأسْورةِ، وقال: ومَن قرأ ذلك: (أساورةٌ)، فإنه أراد أساوير، والله أعلم، فجعل "الهاء" عوضًا من الياء، مثل الزنادقة، صارت "الهاءُ" فيها عوضًا مِن الياء التي في زناديق.
وقال بعضُ نحويى الكوفة
(1)
: مَن قَرأ: (أساورةٌ) جعَل واحدها: إسوارٌ، ومن قرأ:{أَسْوِرَةٌ} جعل واحدها: سوارٌ. وقال: قد تكونُ الأَساورةُ جمع أَسْورة، كما يقالُ في جمعِ الأسْقية: الأساقي. وفى جمعِ الأَكْرُعِ: الأَكَارِعُ. وقال آخر منهم: قد قيل في سوار اليد: يجوز فيه أُسْوارٌ وإسْوارٌ، قال: فيجوز على هذه اللغة أن يكونَ "أساورةٌ" جمعه. وحُكى عن أبي عمرو بن العلاء أنه كان يقولُ: واحد الأساورة إسوارٌ. قال: وتصديقه في قراءةِ أُبَى بن كعبٍ: (فَلَولا أُلْقِيَ عليه أساورة من ذهب) فإن كان ما حكى من الرواية، مِن أنه يجوز أن يقال في سِوارِ اليد: إسوارٌ، فلا مُؤنةَ في جمعِه أَسَاوِرَةٌ، ولستُ أعلم ذلك صحيحًا عن العرب برواية عنها، وذلك أن المعروف في كلامهم من معنى الإسْوار: الرجلُ الرامي؛ الحاذق بالرَّمْي، من رجالِ العَجَمِ. وأما الذي يُلْبَسُ في اليدِ، فإن المعروف مِن أسمائه عندهم سوار.
فإذا كان ذلك كذلك، فالذى هو أولى بالأساورة أن يكون جمع أَسْورةٍ على ما قاله الذي ذكرنا قوله في ذلك.
وقوله: {أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} . يقولُ: أَو هَلَّا إن كان صادقًا جاء معه الملائكةُ مقترنين، قد اقترن بعضُهم ببعض، فَتَتابعوا يشهدون له بأنه للَّهِ رسول إليهم؟
(1)
هو الفراء في معاني القرآن 3/ 35.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل على اختلاف منهم في العبارة على تأويله؛ فقال بعضُهم: يمشون معًا.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثنى الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهد في قوله:{الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} قال: يمشون معا
(1)
.
وقال آخرون: متتابعين.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة:{أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} . أي: مُتتابعين.
حدثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة مثله
(2)
.
وقال آخرون: يُقارِنُ بعضُهم بعضًا.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السدى:{أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} . قال: يُقارِنُ بعضُهم بعضًا.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا
(1)
تفسير مجاهد ص 594، ومن طريقه الفريابي - كما في تغليق التعليق 4/ 307 - وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 19 إلى عبد بن حميد.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 197 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 19 إلى عبد بن حميد.
فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55)}.
يقول تعالى ذكره: فاستَخَفَّ فرعون حلوم
(1)
قومِه مِن القِبْطِ، بقوله الذي أخبر الله تبارك وتعالى عنه أنه قاله لهم، فقبلوا ذلك منه، فأطاعوه وكذَّبوا موسى. قال الله: وإنما أطاعوا فاسْتَجابوا لما دعاهم إليه عدو اللَّهِ مِن تَصْدِيقِه، وتَكذيب موسى؛ لأنهم كانوا قومًا عن طاعة الله خارِجين؛ بخذلانِه إيَّاهم، وطَبْعِه على قلوبهم. يقولُ الله تبارك وتعالى:{فَلَمَّا آسَفُونَا} . يعنى بقوله: آسَفُونا: أغضبونا
(2)
.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثنى معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قوله:{فَلَمَّا آسَفُونَا} . يقولُ: أسخطونا
(3)
.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:{فَلَمَّا آسَفُونَا} . يقولُ: لما أغضَبونا
(4)
.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثنى الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"خلق"، وفى م:"خلق من "، والحلوم: جمع حلم، وهو العقل. اللسان (ح ل م).
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"عصونا".
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره - كما في تغليق التعليق 4/ 306 - من طريق أبي صالح به.
(4)
في ت 2، ت 3:"عصونا".
قوله: {فَلَمَّا آسَفُونَا} . قال: أغضَبونا
(1)
.
حدثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله:{فَلَمَّا آسَفُونَا} . قال: أغضَبوا ربهم.
حدثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة:{فَلَمَّا آسَفُونَا} .
قال: أغضَبونا
(2)
.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السدى:{فَلَمَّا آسَفُونَا} . قال: أغضبونا
(3)
، وهو على قول يعقوب:{يَاأَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} [يوسف: 84]. قال: يا حَزَنى على يوسفَ.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} . قال: أغضَبونا
(4)
.
وقوله: {انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} . يقولُ: انتقمنا منهم بعاجل العذاب الذي عجلناه لهم، فأغرقناهم أجمعين في البحرِ.
القولُ في تأويل قوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (56) وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57)} .
اختلفت القرأة في قراءةِ ذلك؛ فقرأته عامة قرأة الكوفة غير عاصمٍ: (فجعلناهم سُلُفا) بضم السين واللام
(5)
؛ توجيهًا ذلك منهم إلى جمع سليفٍ من
(1)
تفسير مجاهد ص 594، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 19 إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 197 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 19 إلى عبد بن حميد.
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 219.
(4)
ذكره الطوسي في التبيان 9/ 306.
(5)
هي قراءة حمزة والكسائى. ينظر حجة القراءات ص 651.
الناس، وهو المتقدم أمام القوم، وحكى الفراء أنه سمع القاسم بنَ مَعْنٍ يَذكُرُ أنه سمع العرب تقولُ: مضَى سَلِيفٌ مِن الناسِ
(1)
.
وقرأته عامة قرأة المدينة والبصرة وعاصم: {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا} بفتح السين واللام
(2)
. وإذا قُرِئ ذلك كذلك احتمل أن يكونَ مُرادًا به الجماعةُ والواحد، والذكر والأنثى؛ لأنه يقال للقوم: أنتم لنا سَلَفٌ. وقد يُجمعُ الخبر الذي روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يذهب الصالحون أسلافًا"
(3)
.
وكان حميدٌ الأعرج يقرأُ ذلك: (فَجَعَلْناهُمْ سُلَفا)
(4)
بضم السين، وفتح اللام؛ توجيهًا منه ذلك إلى سلفةٍ من الناس، مثل
(5)
أمةٍ منهم، وقطعةٍ.
وأولى القراءاتِ في ذلك بالصواب قراءة من قرأه بفتح السين واللام
(6)
؛ لأنها اللغة الجودى، والكلام المعروف عند العرب. وأحقُّ اللغاتِ أن يُقرأ بها كتابُ اللهِ من لغاتِ العرب أفصحُها وأشهرُها فيهم. فتأويل الكلام إذن: فجعلنا هؤلاء الذين أغرقناهم من قوم فرعونَ في البحرِ، مُقَدَّمَةً يَتَقَدَّمون إلى النارِ كفار قومك يا محمد من قريش، وكفارُ قومك لهم بالأَثَرِ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
(1)
ينظر معاني القرآن 3/ 36.
(2)
ينظر حجة القراءات ص 652.
(3)
أخرجه الدارمي في سننه 2/ 301، والبخارى في التاريخ الكبير 7/ 434، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثانى (2368، 2369)، والحاكم 4/ 401، وغيرهم من حديث مرداس الأسلمى.
(4)
هي قراءة مجاهد وحميد. مختصر الشواذ ص 136.
(5)
سقط من: م. وينظر معاني القرآن للفراء 3/ 36.
(6)
القراءتان الأولى والثانية متواترتان.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله:{فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ} . قال: قوم فرعون كفارهم سلفٌ
(1)
لكفار أمة محمد صلى الله عليه وسلم
(2)
.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادةَ:{فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا} : في النار.
حدثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن مَعْمَرٍ، [عن قتادة]
(3)
: {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا} . قال: سَلَفًا إلى النار
(4)
.
وقوله: {وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ} . يقولُ: وعِبْرةً وعِظَةً يتعظ بهم من بعدهم من الأمم، فينتهوا عن الكفر بالله.
وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:
(1)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"سلفا".
(2)
تفسير مجاهد ص 594، ومن طريقه الفريابي - كما في تغليق التعليق 4/ 307 - وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 19 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(4)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 197 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 19 إلى عبد بن حميد.
{وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ}
(1)
. قال: عبرةً لَمَن بعدهم
(2)
.
حدثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن مَعْمَرٍ، عن قتادةَ:{وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ} . أي: عِظَةً للآخرين
(3)
.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ} . أي: عِظَةً لَمَن بعدهم.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السدى:{فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا} . قال: عبرةً.
وقوله: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} . يقولُ تعالى ذكره: ولما شَبَّه الله عيسى - في إحداثه وإنشائه إياه من غيرِ فَحْلٍ - بآدم، فمثَّله به بأنه خلقه من تراب من غيرِ فَحْلٍ، إذا قومك يا محمد من ذلك يَضِجُّون
(4)
ويقولون: ما يريدُ محمدٌ مِنَّا إلا أن نتخِذَه إلها نعبده، كما عبدت النصارى المسيح.
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛ فقال بعضُهم الذي قلنا فيه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثنى
(1)
بعده في ت 2: "هي عظة للآخرين"، وفى ت 3:"أي أي عظة للآخرين".
(2)
تفسير مجاهد ص 594، ومن طريقه الفريابي - كما في تغليق التعليق 4/ 307 - وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 19 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 197 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 19 إلى عبد بن حميد.
(4)
في ت 1: "يصدون".
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، في قولِ اللَّهِ عز وجل:{إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} . قال: يَضِجُّون. قال: قالت قريش: إنما يريد محمدٌ أن نعبده كما عبدَ قومُ عيسى عيسى
(1)
.
حدثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن مَعْمَرٍ، عن قتادة قال: لما ذُكر عيسى ابن مريم جزعت قريشٌ من ذلك، وقالوا: يا محمد ما ذكرك
(2)
عيسى ابن مريم؟ وقالوا: ما يريدُ محمد إلا أن نصنع به كما صنعت النصارى بعيسى ابن مريم. فقال الله عز وجل: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا}
(3)
.
حدثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قال: لما ذكر عيسى في القرآن قال مُشركو قريش: يا محمد ما أردتَ إلى ذكر عيسى؟ قال: وقالوا: إنما يريد أن نُحبّه كما أحَبَّت النصارى عيسى.
وقال آخرون: بل عُنى بذلك قول الله عز وجل: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98)} [الأنبياء: 98]. [وقيل المشركين]
(4)
عند نزولها: قد رَضِينا بأن تكون آلهتنا مع عيسى وعُزير والملائكة؛ لأن كلَّ هؤلاء مما يُعبدُ مِن دونِ اللهِ. فقال الله عز وجل: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ} .
(1)
تفسير مجاهد ص 594، ومن طريقه الفريابي - كما في تغليق التعليق 4/ 307 - بنحوه مختصرًا، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 20 إلى عبد بن حميد.
(2)
في النسخ: "ذكرت"، والمثبت من مصدر التخريج.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 198 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 20 إلى عبد بن حميد.
(4)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"وقال المشركون".
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثني محمد بن سعد، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:{وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57)} . قال: يعنى قريشًا لما قيل لهم: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98)} [الأنبياء: 98]. فقالت له قريشٌ: فما ابن مريم؟ قال: ذاك عبد الله ورسوله. فقالوا: والله ما يريدُ هذا إلا أن نتخذه ربًّا، كما اتَّخَذَت النصارى عيسى ابن مريمَ رَبًّا. فقال الله عز وجل:{وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58)}
(1)
.
واختلفت القرأةُ في قراءة قوله: {يَصِدُّونَ} ؛ فقرأته عامة قرأة المدينة، وجماعةٌ مِن قرأةِ الكوفة:(يَصِدُّونَ) بضمِّ الصادِ
(2)
.
وقرأ ذلك بعضُ قرأة الكوفة والبصرة {يَصِدُّونَ} الله بكسر الصادِ
(3)
.
واختلف أهل العلم بكلام العرب في فرقِ ما بين ذلك، إذا قُرِئَ بضم الصادِ، وإذا قُرِئ بكسرها؛ فقال بعض نحويى البصرة، ووافقه عليه بعضُ الكوفيين: هما لغتان بمعنى واحدٍ، مثلَ يَشِدُّ ويَشُدُّ، ويَنمُ ويَنُمُ مِن النميمة.
وقال آخرُ منهم: مَن كسر الصادَ فمجازها: يَضِجُّون، ومَن ضَمَّها فَمَجازُها: يَعْدِلون
(4)
. وقال بعضُهم: مَن كسرها فإنه أرادَ يَضِجُّون، ومَن ضَمَّها فإنه أراد الصدودَ عن الحقِّ.
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 221 عن العوفى به، وعزاه إلى المصنف.
(2)
هي قراءة نافع وابن عامر والكسائي. ينظر حجة القراءات ص 652.
(3)
وهى قراءة ابن كثير وعاصم وأبي عمرو وحمزة. ينظر حجة القراءات الموضع السابق.
(4)
ينظر مجاز القرآن 2/ 205.
وحدثت عن الفرَّاءِ، قال: ثني أبو بكر بن عياشٍ، أن عاصمًا ترك (يَصُدُّون) من قراءة أبي عبد الرحمن، وقرأ:{يَصِدُّونَ} . قال: وقال أبو بكر: حدثني عاصم، عن أبي رزين، عن أبي يحيى، أن ابن عباس قرأ:{يَصِدُّونَ} . أي: يَضِجُّون
(1)
.
قال: وفي حديث آخر أن ابن عباس لَقِى ابن أخي عُبَيدِ بن عُمَيرٍ، فقال: إن عمَّك
(2)
لعربيٌّ، فماله يَلحَنُ في قوله:(إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصُدُّون) إنما هي {يَصِدُّونَ}
(3)
؟
والصوابُ مِن القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان، ولغتان مشهورتان بمعنى واحدٍ، ولم نجد أهل التأويل فرَّقوا بين معنى ذلك إذا قُرئ بالضمِّ والكسر، ولو كان مختلفًا معناه، لقد كان الاختلافُ في تأويله بين أهله موجودًا وجودَ اختلافِ القراءة فيه باختلاف اللغتين، ولكن لما لم يكن مختلف المعنى لم يختلفوا في أن تأويله: يَضِجُّون ويجزعون، فبأى القراءتين قرأ القارئ فمصيبٌ.
ذكر [من قال]
(4)
ما قلنا في تأويل ذلك
حدثني على، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عباس قوله:{إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} . قال: يضجُّون.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 197، 198 من طريق عاصم به بدون ذكر أبي يحيى، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 20 إلى الفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه.
(2)
في معاني القرآن: "ابن عمك".
(3)
معاني القرآن للفراء 3/ 36، 37، والأثر عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 20 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(4)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
أبيه، عن ابن عباس
(1)
: {إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} . قال: يَضِجُّون.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا أبو حمزة، عن المغيرة الضبي، عن الصعب بن عثمان قال: كان ابن عباس يقرأُ: {إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} . وكان يفسرها، يقولُ: يَضِجُّون.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن
(2)
، قال: ثنا سفيان، عن عاصم، عن أبى رزين، عن ابن عباس:{إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} . قال: يَضِجُّون
(3)
.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا ابن أبي عدى، عن شعبة، عن عاصم، عن أبي رزين، عن ابن عباس بمثله.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثنى الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قولِ الله عز وجل:{إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} . قال: يضجُّون
(4)
.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله:{إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} . قال: يجزعون ويضجُّون
(5)
.
(1)
في ت 2: "مسعود".
(2)
في ت 2 ت 3: "ابن عبد الرحمن".
(3)
تفسير الثورى ص 273 بلفظ "يضحكون"، وأخرجه الطبراني (12740) من طريق سفيان به مطولا، وأخرجه أحمد 5/ 85 (2918)، والحارث بن أبي أسامة (719 - بغية) من طريق عاصم به مطولا، وزادا في الإسناد أبا يحيى بين أبى رزين وابن عباس، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 19، 20 إلى ابن أبي حاتم وابن مردويه.
(4)
تفسير مجاهد ص 594، ومن طريقه الفريابي - كما في تغليق التعليق 4/ 307 - وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 20 إلى عبد بن حميد.
(5)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 220، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 20 إلى عبد بن حميد.
حدثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر
(1)
، عن عاصم بن أبى النَّجودِ، عن أبي صالح عن ابن عباس أنه قرأها:{يَصِدُّونَ} . أي: يضجُّون
(2)
. وقرأ على رضي الله عنه: {يَصِدُّونَ}
(3)
.
حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذٍ يقولُ: ثنا عبيد، قال: سمعتُ الضحاك يقولُ في قوله: {إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} . قال: يضجُّون
(4)
.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السدى:{إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} . قال: يضجُّون
(5)
.
يقول تعالى ذكره: وقال مُشركو قومك: يا محمد آلهتنا التي نعبُدُها خيرٌ أم محمد، فنعبد محمدا ونترك آلهتنا؟
وذُكر أن ذلك في قراءةِ أُبَيِّ بن كعبٍ: (أآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هَذَا).
(1)
بعده في ت 1: "عن قتادة".
(2)
في ت 2: "يضجرون".
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 197، 198 عن معمر به، وفيه أبو رزين بدل أبي صالح. وليس فيه قراءة عليّ. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 10 إلى الفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه.
(4)
في ت 2: "يهجرون". والأثر ذكره البغوي في تفسيره 7/ 218، والقرطبي في تفسيره 16/ 103، وابن كثير في تفسيره 7/ 220 بلفظ:"يضحكون".
(5)
في ت 2: "يضجرون". والأثر ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 220. بلفظ "يضحكون".
ذكرُ الرواية بذلك
حدثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن مَعْمَرٍ، عن قتادة أن في حرفِ أُبَيٍّ بن كعب:(وَقَالُوا أَآلهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هَذَا). يَعْنون محمدًا صلى الله عليه وسلم.
وقال آخرون: بل عُنى بذلك: آلهتنا خيرٌ أم عيسى؟
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السديِّ في قوله: {وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا
(1)
جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ}. قال: خاصَمُوه. فقالوا: تزعُمُ أن كلَّ مَن عُبِد مِن دونِ اللَّهِ في النارِ، فنحن نرضى أن تكون آلهتُنا مع عيسى وعُزيرٍ والملائكة، هؤلاء قد عُبدوا مِن دونِ اللهِ. قال: فأنزل الله عز وجل براءةَ عيسى
(2)
.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ} . قال: عبد هؤلاء عيسى، ونحن نعبد الملائكة. وقرأ
(3)
: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} إِلى: {فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ} .
وقوله تعالى ذكره: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا} . يقول تعالى ذكره: ما مَثَّلُوا لك هذا المثل يا محمد، ولا قالوا لك هذا القول إلا جدلًا وخصومةً يُخاصمونك به، {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ}. يقول جل ثناؤه: ما بقومك يا محمد هؤلاء
(1)
بعده في الأصل: "مثلا".
(2)
ذكره البغوي في تفسيره 7/ 218.
(3)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"قوله".
المشركين، في محاجَّتهم إياك بما يُحاجُّونك به طلب الحقِّ:{بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} : يَلْتَمِسون الخصومة بالباطل.
وذُكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما ضَلَّ قوم عن الحقِّ إلا أُوتوا الجدل".
ذكرُ الرواية بذلك
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا يعْلى، قال: ثنا الحجاج بن دينار، عن أبي غالب، عن أبي أمامة قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "ما ضَلَّ قوم بعدَ هُدًى كانوا عليه إلا أُوتوا الجدل". ثم قرأ: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ}
(1)
.
حدثني موسى بنُ عبدِ الرحمنِ الكِنْدِى وأبو كريب، قالا: ثنا محمد بن بشرٍ، قال: ثنا حجاج بن دينارٍ، عن أبي غالب، عن أبي أمامة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه
(2)
.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا أحمدُ بنُ عبدِ الرحمنِ، عن عبَّادِ بن عبَّادٍ، عن جعفر، عن
(3)
القاسم، عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، خرج على الناس وهم يتنازعون في القرآن، فغضب غضبًا شديدًا، حتى كأنما صُبَّ على وجهه الخلّ ثم قال صلى الله عليه وسلم: "ولا تَضْرِبوا كتابَ اللهِ بعضه ببعضٍ، فإنه ما ضَلَّ قومٌ قط إلا أُوتوا
(1)
أخرجه الترمذى (3253)، وابن أبي عاصم في السنة (101)، والطبراني (8068) من طريق يعلى به، وأخرجه أحمد 5/ 252، 256 (الميمنية)، وابن أبي الدنيا في الصمت (136)، والعقيلي في الضعفاء 1/ 286، والحاكم 2/ 447، 448، والبيهقى في الشعب (8438)، والبغوي في تفسيره 7/ 219 من طريق الحجاج بن دينار به.
(2)
أخرجه عبد بن حميد - كما في الدر المنثور 6/ 20 وعنه الترمذى (3253)، وابن ماجه (48) من طريق محمد بن بشر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 20 إلى سعيد بن منصور وابن المنذر وابن مردويه.
(3)
في النسخ: "بن"، والمثبت من مصدرى التخريج، وينظر تهذيب الكمال 5/ 32، 23/ 383.
الجدل". ثم تلا: "{مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} "
(1)
.
وقوله: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} . يقول تعالى ذكره: فما عيسى إلا عبدٌ من عبادنا، أنعَمنا عليه بالتوفيق والإيمانِ، {وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ}. يقولُ: وجعلناه آيةً لبنى إسرائيل، وحُجَّةً لنا عليهم، بإرسالناه إليهم بالدعاء إلينا، وليس هو كما تقولُ فيه النصارى من أنه ابن اللهِ، [تَعالى الله عن ذلك]
(2)
.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} : يعنى بذلك عيسى ابن مريم، ما عدا ذلك عيسى ابن مري [أن كان]
(3)
عبدا أنعم الله عليه، {وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ}. أي: آيةً.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، [عن معمرٍ]
(4)
، عن قتادة:{مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} . أحسبه قال: آية لبنى إسرائيل
(5)
.
وقوله: {وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ} . يقول تعالى ذكره: ولو نشاء معشرَ بني آدم أهلكناكم، فأفْنَينا جميعكم، وجعلنا بَدَلًا منكم في
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 222 عن المصنف، وأخرجه ابن أبي حاتم - كما في تفسير ابن كثير 7/ 222 - من طريق القاسم به بنحوه.
(2)
في الأصل: "عز وجل"، وفى ص، ت 1 ت 2:"تعالى الله"، وفي ت 3:"تعالى ذكره".
(3)
في م: "إن كان إلا"، وفى ت 1، ت 2، ت 3:"إذ كان".
(4)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(5)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 198 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 20 إلى عبد حميد.
الأرضِ ملائكة يخلُفُونكم فيها يعبدوننى. وذلك نحو قوله تعالى ذكره: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133)} [النساء: 133].
وكما قال: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ} [الأنعام: 133].
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، غير أن منهم من قال: معناه: يخلُفُ بعضُهم بعضًا.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثنى معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عباس قوله:{وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60)} . يقولُ: يخلُفُ بعضُهم بعضًا
(1)
.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثنى الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله:{لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ} . قال: يَعْمُرُون الأرضَ بدلا منكم
(2)
.
حدثنا ابن عبدِ الأعلى قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة في قوله:{مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ} . قال: يخلُفُ بعضُهم بعضًا، مكانَ بنى آدم
(3)
.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: {وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 222.
(2)
تفسير مجاهد ص 594، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 20 إلى عبد بن حميد.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 198 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 20 إلى عبد بن حميد.
مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ}: لو شاء الله لجعل في الأرض ملائكة يخلُفُ بعضُهم بعضًا.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السدى:{وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ} . قال: خلفًا منكم
(1)
.
القولُ في تأويل قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62)} .
اختلف أهل التأويل في "الهاءِ" التي في قوله: {وَإِنَّهُ} ، وما المعنى بها، ومِن ذِكْرِ ما هي؛ فقال بعضُهم: هي من ذكر عيسى، وهى عائدة عليه. وقالوا: معنى الكلام: وإن عيسى ظهوره عَلَمٌ يُعلَمُ به مجئ الساعة؛ لأن ظهوره من أشراطها، ونزوله إلى الأرض دليل على فناء الدنيا، وإقبال الآخرة.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن عاصم، عن أبي رزِينٍ، عن أبي
(2)
يحيى، عن ابن عباس:(وإنه لَعَلَمٌ للساعة). قال: خروج عيسى ابن مريم
(3)
.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا ابن أبي عدى، عن شعبة، عن عاصم، عن أبي
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 222.
(2)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(3)
تفسير الثوري ص 273 - وعنده الحسن بدلًا من عاصم، وأخرجه الطبراني (12740) من سفيان به، وأحمد 5/ 85 (2918)، والحارث بن أسامة (719 - بغية) من طريق عاصم به، ولم يذكر "أبا رزين".
رزين، عن ابن عباس بمثله، إلا أنه قال: نزول عيسى ابن مريم
(1)
.
حدثني محمدُ بنُ إسماعيلَ الأَحْمَسِيُّ، قال: ثنا غالب بن فائد
(2)
، قال: ثنا قيس، عن عاصم، عن أبي رزين، عن ابن عباس، أنه كان يقرأ:(وإنه لَعَلَمٌ للساعة)
(3)
. قال: نزول عيسى ابن مريم.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن عطية، عن فُضَيل بن مرزوق، عن جابر، قال: كان ابن عباس يقولُ: ما أَدْرِى أعلم الناسُ تفسير هذه الآية، أم لم يفطنوا لها؟ (وإنه لعلمٌ للساعةِ). قال: نزول عيسى ابن مريم.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ:(وإنه لَعَلَمٌ للساعة). قال: يعنى
(4)
: عيسى ابن مريم.
حدثني يعقوب، قال: ثنا هُشَيمٌ، قال: أخبرنا حصين، عن أبي مالكٍ، وعوفٌ، عن الحسن أنهما قالا في قوله:{وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} . قالا: نزول عيسى ابن مريم. وقرأها أحدهما: (وإنه لَعَلَمٌ للساعة)
(5)
.
حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ
(1)
أخرجه مسدد - كما في المطالب العالية (4094) من طريق شعبة به، وأخرجه الحاكم 2/ 448 من طريق عكرمة عن ابن عباس، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 20 إلى الفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن أبي حاتم.
(2)
في م: "قائد"، وقد تقدم في 16/ 592. وينظر الجرح والتعديل 7/ 49.
(3)
ينظر مختصر الشواذ ص 136.
(4)
في ص، م، ت 2، ت 3:"نزول".
(5)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 223، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 20 إلى المصنف وعبد بن حميد من قول الحسن وحده.
قوله: (وإنه لَعَلَمٌ للساعة). قال: آية للساعة؛ خروج عيسى ابن مريم قبل يوم القيامة
(1)
.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة:(وإنه لَعَلَمٌ للساعة).
قال: نزول عيسى ابن مريمَ عَلَمٌ للساعة؛ القيامةِ
(2)
.
حدثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عَن مَعْمَرٍ، عن قتادة في قوله:(وإنه لَعَلَمٌ للساعة). قال: نزول عيسى ابن مريمَ عَلَمٌ للساعةِ
(3)
.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السدى:(وإنه لَعَلَمٌ للساعة). قال: خروج عيسى ابن مريمَ قبل يوم القيامةِ
(4)
.
حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقولُ: أخبرنا عُبَيد، قال: سمعتُ الضحاك يقولُ في قوله: (وإنه لَعَلَمٌ للساعة). يعنى خروج عيسى ابن مريم ونزوله من السماء قبل يوم القيامة
(5)
.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيد في قوله: (وإنه لَعَلَمٌ للساعة). قال: نزول عيسى ابن مريمَ عَلَمٌ للساعة حينَ يَنزِلُ
(6)
.
وقال آخرون: "الهاءُ" التي في قوله: {وَإِنَّهُ} مِن ذكرِ القرآن. وقالوا: معنى الكلام: وإن هذا القرآنَ لعَلَمٌ للساعةِ يُعْلِمُكم بقيامها، ويخبركم عنها وعن أهوالها.
(1)
تفسير مجاهد ص 595، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 20 إلى عبد بن حميد.
(2)
أخرجه أبو عمرو الدانى في السنة الواردة في الفتن (692) من طريق سعيد به.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 198 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 20 إلى عبد بن حميد.
(4)
ذكره القرطبي في تفسيره 16/ 105.
(5)
ذكره القرطبي في تفسيره 16/ 105، وابن كثير في تفسيره 7/ 223.
(6)
ينظر البحر المحيط 8/ 25.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: كان الحسن يقولُ: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} : هذا القرآنُ
(1)
.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال: كان ناس يقولون: القرآنُ عَلَمٌ للساعة
(2)
.
واجتمعت قرأةُ الأمصار في قراءةِ قوله: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} . على كسرِ العين من العلم.
وروى عن ابن عباس ما ذكرتُ عنه من فتحها، وعن قتادة والضحاكِ.
والصواب من القراءة في ذلك الكسر في العين؛ لإجماع الحجة من القرأة عليه. وقد ذُكر أن ذلك في قراءةِ أُبيٍّ: (وإنه لذكر للساعة)، فذلك مُصحح قراءةَ الذين قرءوا بكسر العين من قوله:{لَعِلْمٌ} .
وقوله: {فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا} . يقول: فلا تَشُكُّنَّ فيها وفى مجيئها أيُّها الناس.
كما حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديِّ:{فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا} . قال: تَشُكون فيها
(3)
.
وقوله: {وَاتَّبِعُونِ} . يقول تعالى ذكره: وأطيعون فاعملوا بما أمرتكم به،
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 20 إلى عبد بن حميد.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 198 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 20 إلى عبد بن حميد.
(3)
ذكره القرطبي في تفسيره 16/ 107 بلفظ: "فلا تكذبون بها".
وانتهوا عما نهيتكم عنه، {هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ}. يقولُ: اتباعكم إِيَّاى أَيُّهَا النّاسُ في أمرى ونَهْيِي، {صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ}. يقولُ: طريق لا اعوجاج فيه، بل هو قويمٌ.
وقوله: {وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ} . يقول جل ثناؤه: ولا يَعْدِلَنَّكم الشيطان عن طاعتي فيما آمركم وأنهاكم، فتخالفوه إلى غيره، وتجوروا عن الصراط المستقيم فتَضِلُّوا، {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}. يقولُ: إن الشيطان لكم عدوٌّ يدعُوكم إلى ما فيه هلاككم، ويَصُدُّكم عن قصد السبيل؛ ليُوردَكم المهالك، {مُبِينٌ}: قد أبانَ لكم عداوته، بامتناعه من السجودِ لأبيكم آدم عليه السلام، وإدلائه إياه بالغرور حتى أخرجه من الجنة حسدًا وبغيًا.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (64)} .
يقول تعالى ذكره: ولما جاء عيسى بني إسرائيل، {بِالْبَيِّنَاتِ}. يعنى: بالواضحات من الأدلة. وقيل: عُنى بالبيِّنات الإنجيل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة:{وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ} . أي: بالإنجيل
(1)
.
وقوله: {قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ} . قيل: عُنى بالحكمة في هذا الموضع النبوة.
(1)
ذكره القرطبي في تفسيره 16/ 107، 108.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثني محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السدى:{قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ} . قال: النبوة
(1)
.
وقد بينت معنى الحكمة فيما مضى من كتابنا هذا بشواهده، وذكرتُ اختلاف المختلفين في تأويله، فأغنَى ذلك عن إعادته في هذا الموضع
(2)
.
وقوله: {وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فيه} . يقولُ: ولأبين لكم معشر بني إسرائيل بعضَ الذي تختلفون فيه من أحكام التوراة.
كما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله:{وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} . قال: من تبديل التوراة
(3)
.
وقد قيل: إن معنى "البعض" في هذا الموضع بمعنى الكُلِّ، وجعلوا ذلك نظير قول لبيد
(4)
:
تراك أمكنة إذا لم أرْضَها
…
أو يَعْتَلِق بعض النُّفُوسِ حِمامُها
قالوا: الموتُ لا يعتلقُ بعض النفوس، وإنما المعنى: أو يعتلق
(5)
النفوس حمامها. وليس لما قال هذا القائلُ كبيرُ معنى؛ لأن عيسى إنما قال لهم: {وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} ؛ لأنه قد كان بينهم اختلاف كثير في أسباب
(1)
ذكره القرطبي في تفسيره 16/ 108.
(2)
ينظر ما تقدم في 2/ 575 - 577.
(3)
تفسير مجاهد ص 595.
(4)
شرح ديوانه ص 313.
(5)
في ت 2 ت 3: "تعالق".
دينهم ودنياهم، فقال لهم: أُبيِّنُ لكم بعض ذلك. وهو أمر دينهم دون ما هم فيه مختلفون من أمر دنياهم؛ فلذلك خَصَّ ما أخبرهم أنه يُبَيِّنُه لهم.
وأما قولُ لبيد: أو يَعْتَلِق بعض النفوس. فإنه إنما قال ذلك أيضا كذلك؛ لأنه أراد: أو يعتلق نفسه حِمامُها، فنفسه من بين النفوسِ لا شك أنها بعض لا كلٌّ.
وقوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} . يقولُ: فاتَّقُوا رَبَّكم أيها الناسُ بطاعته، وخافوه باجتناب معاصيه، وأطيعون فيما أمرتكم به مِن اتِّقاءِ اللَّهِ واتباع أمرِه، وقبولِ نَصيحتي لكم.
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ} . يقول: إن الله الذي يستوجب علينا إفراده بالألوهة، وإخلاص الطاعة له، ربِّي وربُّكم جميعا، فاعبدوه وحده، لا تُشْرِكوا معه في عبادته شيئًا، فإنه لا يصلح، ولا ينبغى أن يُعبد شيءٌ سواه.
وقوله: {هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} . يقولُ: هذا الذي أمرتكم به؛ مِن اتقاء الله وطاعتى وإفرادِ اللَّهِ بالألوهةِ، هو الطريق المستقيم، وهو دينُ اللَّهِ الذي لا يقبلُ مِن أحدٍ مِن عبادِه غيره.
القولُ في تأويل قوله تعالى: {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66)} .
اختلف أهل التأويل في المعنيِّين بالأحزاب، الذين ذكرهم الله في هذا الموضعِ؛ فقال بعضُهم: عُنى بذلك الجماعةُ التي تناظرت في أمر عيسى فاختلفت فيه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة في قوله:{فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ} . قال: هم الأربعةُ الذين أخرجهم بنو إسرائيل، يقولون في عيسى
(1)
.
وقال آخرون: بل هم اليهود والنصارى.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السدي في قوله:{فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ} . قال: اليهود والنصارى
(2)
.
والصوابُ مِن القولِ في ذلك أن يقال: معنى ذلك: فاختلف الفِرَقُ المختلفون في عيسى ابن مريمَ مِن بين مَن دَعاهم عيسى إلى ما دَعاهم إليه؛ مِن اتقاء الله والعمل بطاعته، وهم اليهود والنصارى، ومَن اختلف فيه من النصارى؛ لأن جميعهم كانوا أحزابا متشتتين
(3)
، مُختلفى القول
(4)
، مع بيانه لهم أمر نفسه، وقوله لهم:{إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} .
وقوله: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ} . يقول تعالى ذكره: فالوادى السائلُ مِن القَيْحِ والصَّديدِ في جهنم للذين كفروا بالله، الذين قالوا في عيسى ابن مريم بخلاف ما وصف عيسى به نفسه في هذه الآية، {مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 198 عن معمر به.
(2)
ذكره القرطبي في تفسيره 16/ 108.
(3)
في ص، م:"مبتسلين"، وفى ت 1:"منسلبين"، وفى ت 2، ت 3:"متسلين".
(4)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"الأهواء".
أَلِيمٍ}. يقول: من عذاب يوم [أليم عذابه]
(1)
عذابه، ووصف اليوم بالإيلام، إذ
(2)
كان العذاب الذي يؤلمهم فيه، وذلك يوم القيامة.
كما حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السدى:{مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ} . قال: من عذاب يوم القيامة.
وقوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً} . يقولُ: هل ينظرُ هؤلاء الأحزاب المختلفون في عيسى ابن مريم، القائلون فيه الباطل من القول، إلا الساعةَ التي فيها تقوم
(3)
القيامة [أن تأتيهم]
(4)
فجأةً، {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}. يقولُ: وهم لا يعلمون بمجيئها؟
القول في تأويل قوله تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) يَاعِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68)} .
يقول تعالى ذكره: المُتَخالُّون يومَ تقومُ الساعةُ على معاصى الله في الدنيا، بعضهم لبعض عدو، يتبرأ بعضُهم من بعض، إلا الذين كانوا تَخالُّوا فيها على تقوى الله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني
(1)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"أليم"، وفى م:"مؤلم".
(2)
في ص، ت 1:"فإذ"، وفى ت 2، ت 3:"فإذا".
(3)
في ت 2، ت 3:"يوم".
(4)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:{الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} . قال
(1)
: على معصية الله في الدنيا مُتَعادُون
(2)
.
حدثني علي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:{الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} ؛ فكلُّ خُلَّةٍ في عداوةٌ إلا خُلَّةَ المتقين.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن أبي إسحاق، أن عليًّا رضي الله عنه قال: خليلان مؤمنان، وخَليلان كافران، فمات أحد المؤمنين فقال: يا رب إن فلانًا كان يأمرنى بطاعتك وطاعة رسولك، ويأمرنى بالخيرِ، ويَنْهاني عن الشَّرِّ، ويخبرُنى أنى مُلاقيك، يا ربِّ، فلا تُضِلَّه بعدى، واهْدِه كما هَديتنى، وأكرمه كما أكرمتنى. فإذا مات خليله المؤمن مجمع بينهما فيقول: ليُثْنِ أحدكما على صاحبه. فيقولُ: يا ربِّ، إنه كان يأمرني بطاعتك وطاعة رسولك، ويأمرنى بالخير، ويَنْهانى عن الشَّرِّ، ويخبرني أنى مُلاقيك. فيقولُ: نعم الخليل، ونعم الأخ، ونعم الصاحب. قال: ويموتُ أحد الكافرين فيقولُ: يا ربِّ، إن فلانا كان ينهاني عن طاعتك وطاعة رسولك، ويأمُرُنى بالشَّرِّ، ويَنْهاني عن الخير، ويخبرني أنى غيرُ مُلاقيك. فيقولُ: بئس الأخُ، وبئسَ الخليل، وبئسَ الصاحبُ
(3)
.
(1)
في م: "فكل خلة".
(2)
في الأصل، ت 1، ت 2، ت 2:"متعادين". والأثر في تفسير مجاهد ص 595، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 21 إلى عبد بن حميد.
(3)
أخرجه البغوي في تفسيره 7/ 221 من طريق المصنف، وزاد في الإسناد بين معمر وأبي إسحاق:"قتادة"، وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 199، والبيهقى في الشعب (9443) من طريق أبي إسحاق عن الحارث عن علي. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 21 إلى عبد بن حميد وحميد بن زنجويه وابن أبي حاتم وابن مردويه.
وقوله: {يَاعِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68)} . وفى هذا الكلام محذوفٌ استغنى بدلالة ما ذكر عليه. ومعنى الكلام: الأخلاء يومئذٍ بعضُهم لبعضٍ عدوٌّ إلا المُتَّقِين؛ فإنهم يقال لهم: يا عبادي، لا خوفٌ عليكم اليوم مِن عِقابي، فإني قد أمَّنْتُكم منه برِضَاى عنكم، ولا أنتم تحزنون على فراق الدنيا، فإن الذي قَدِمتُم عليه خيرٌ لكم مما فارَقتُموه منها.
وذُكِر أن الناسَ يُنادون هذا النداء يوم القيامة، فيطمع فيها من ليس من أهلها، حتى يسمع قوله:{الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ} . فَيَيْئَسُ منها عندَ ذلك.
[ذكرُ من قال ذلك]
(1)
حدثنا ابن عبدِ الأعلى، قال
(2)
: ثنا المعتمرُ، عن أبيه، قال: سمعتُ أن الناس حينَ يُبعثون ليس منهم أحدٌ إلا فزع، فيُنادى منادٍ: يا عبادي
(3)
، لا خوفٌ عليكم اليومَ ولا أنتم تحزنون، فيرجوها الناسُ كلهم. قال: فيُتبَعُها: {الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ} . قال: فييئسُ الناسُ منها غير المسلمين
(4)
.
القول في تأويل قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70)} .
وقوله: {الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا} . يقول تعالى ذكره: يا عباد الذين آمنوا.
(1)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(2)
بعده في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"حدثنا ابن ثور عن معمر عن قتادة قال". وينظر تهذيب الكمال 28/ 250.
(3)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"عباد الله".
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 22 إلى المصنف.
وهم الذين صدقوا بكتب الله ورُسُلِه، وعملوا بما جاءتهم به أنبياؤُهم، {وَكَانُوا مُسْلِمِينَ}. يقول: وكانوا أهلَ خُضُوع لله بقلوبهم، وقبول منهم لما جاءتهم به رُسُلُهم عن ربِّهم على دين إبراهيم خليل الرحمن صلى الله عليه وسلم، حُنَفَاءَ لا يهود ولا نصارى، ولا أهل أوثان.
وقوله: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70)} . يقول جل ثناؤه: ادخلوا الجنةَ أنتم أيها المؤمنون وأزواجُكم مَغبوطين بكرامة الله، مسْرورين بما أعطاكم اليوم ربُّكم.
وقد اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: {تُحْبَرُونَ} . وقد ذكرنا ما قد قيل في ذلك فيما مضى، وبينا الصحيح من القول فيه عندنا، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضعِ
(1)
، غير أنا نذكُرُ بعضَ ما لم نَذْكُرْ هنالك مِن أقوال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة:{ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} : أي تنعمون.
حدثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن مَعْمَرٍ، عن قتادة في قوله:{تُحْبَرُونَ} . قال: تنعمون
(2)
.
حدثنا محمدٌ، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السدي في قوله:{تُحْبَرُونَ} . قال: تُكرمون
(3)
.
(1)
ينظر ما تقدم في 18/ 471 - 473.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 202 عن معمر به.
(3)
ذكره الطوسي في تفسيره 9/ 212.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} . قال: تَنْعَمون.
القول في تأويل قوله تعالى: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ
(1)
الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71)}.
يقول تعالى ذكره: يُطافُ على هؤلاء الذين آمنوا بآياته في الدنيا إذا دخلوا الجنةَ في الآخرة بصحافٍ من ذهب. وهي جمع للكثير من الصحفة، والصحفة: القصعةُ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباطُ، عن السُّدِّيِّ:{يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ} . قال: القِصَاعُ
(2)
.
حدثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا ابن يَمانٍ، عن أشْعَثَ بن إسحاق، عن جعفر، عن سعيدٍ
(3)
، قال: إن أدنى أهل الجنة منزلةً [مَن له]
(4)
قصرٌ فيه سبعون ألف خادمٍ، في يدِ كلِّ خادمٍ منهم صحفةٌ سوى ما في يد صاحبها
(5)
، لو فتح بابه فَضَافَه أهل الدنيا لأوسعهم
(6)
.
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"تشتهى"، وهما قراءتان كما سيأتي. وينظر الحجة 654.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 22 إلى المصنف.
(3)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"شعبة". ينظر تهذيب الكمال 10/ 358.
(4)
في ت 2: "منزله".
(5)
في الأصل: "صاحبتها"، وفى السنة لعبد الله:"صاحبه".
(6)
أخرجه ابن أبي شيبة 13/ 104، وعبد الله بن أحمد في السنة (1201) من طريق ابن يمان به.
حدَّثنا ابن حُمَيدٍ، قال: ثنا يعقوب القُمِّيُّ، عن جعفر، عن سعيد، قال: إن أخسَّ
(1)
أهل الجنة منزلا من له سبعون ألفَ خادمٍ، مع كلِّ خادمٍ صحْفةٌ من ذهب، لو نزل به جميعُ أهل الأرض لأوسعهم، لا يستعين عليهم بشيءٍ مِن غيره، وذلك في قول الله تبارك وتعالى: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا
(2)
} [ق: 35]. ولهم فيها ما تَشْتَهى
(3)
الأنفس.
حدثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادةَ، عن أبي أيوبَ الأَزْدِيّ، عن عبدِ اللهِ بن عمرٍو، قال: ما من أحدٍ من أهل الجنة إلا يَسعى عليه ألفُ غلامٍ، كلُّ غلام على عمل ما
(4)
عليه صاحبه.
وقوله: {وَأَكْوَابٍ} . وهي جمع كوب، والكوب الإبريق المستدير الرأس، الذي لا أُذُنَ له ولا خُرطوم، وإياه عنى الأَعْشَى بقوله
(5)
:
صريفيَّةً
(6)
طَيِّبًا
(7)
طَعْمُها
…
لها زَبَدٌ بينَ كُوبٍ ودَنْ
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السُّدِّيِّ:{وَأَكْوَابٍ} .
(1)
في الأصل، ت 3:"أحسن".
(2)
بعده في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"ولدينا مزيد".
(3)
في م: "تشتهيه".
(4)
بعده في ت 2، ت 3:"عمل".
(5)
ديوانه ص 17.
(6)
في الديوان: "صليفية".
(7)
في م: "طيب".
قال: الأكواب التي ليست لها آذان
(1)
.
ومعنى الكلامِ: يُطافُ عليهم فيها بالطعام في صحاف
(2)
مِن ذَهَبٍ، وبالشراب في أكواب من ذهب. فاستُغنى بذكرِ الصِّحافِ والأكواب من ذكر الطعام والشرابِ، الذي يكون فيها لمعرفة السامعين بمعناه.
(وَفِيها ما تَشْتَهِي الأَنْفُسُ وتَلَذُّ الْأَعْيُنُ): يقول تعالى ذكره: لهم
(3)
في الجنة ما تَشْتَهِي نفوسكم أيها المؤمنون، وتَلَذُّ أعينكم.
{وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} . يقولُ: وأنتم فيها ماكثون، لا تخرجون منها أبدًا.
كما حدثنا [ابن بشار]
(4)
، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن علقمة بن مَرْثَدٍ، عن [ابن سابط]
(5)
، أن رجلا قال: يا رسول الله، إنى أُحِبُّ الخيل، فهل في الجنة خَيْلٌ؟ فقال:"إن يُدْخِلْك الله الجنة إن شاء، فلا تشاء أن تَرْكَبَ فَرَسًا مِن ياقوتة حمراءَ تَطِيرُ بك في أي الجنة شئتَ، إِلا فَعَلْتَ". فقال أعرابي: يا رسولَ اللَّهِ، إنى أحبُّ الإبل، فهل في الجنة إبل؟ فقال:"يا أعرابي إن يُدْخِلْك اللَّهُ الجنةَ إن شاء اللَّهُ، ففيها ما اشْتَهَت نفسُك، ولَذَّتْ عَيناك"
(6)
.
حدثنا الحسن بن عرفة، قال: ثنا عمرُ بنُ عبدِ الرحمنِ الأَبَارُ، عن محمدِ بن
(1)
ذكره القرطبي في تفسيره 16/ 114.
(2)
في ت 2، ت 3:"صحائف".
(3)
في م، ت 2:"لكم".
(4)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"بشر". ينظر ما تقدم في 3/ 197، 461.
(5)
في ص، ت 1، ت 3:"أسباط". ينظر تهذيب الكمال 17/ 123.
(6)
أخرجه ابن المبارك في الزهد (271 - زوائد نعيم بن حماد)، والترمذى عقب ح (2543)، والبيهقي في البعث والنشور (438)، والبغوى في شرح السنة (4385)، وفى تفسيره 7/ 222 من طريق سفيان به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 23 إلى عبد بن حميد.
سعد الأنصارى، عن [أبي ظَبْيَةَ السُّلَفى]
(1)
، قال: إن الشَّرْبَ
(2)
مِن أهل الجنةِ لَتُظِلُّهم السحابة. قال: فتقول: ما أُمْطِرُكم؟ قال: فما يَدْعُو داعٍ من القومِ بشيءٍ إلا أمْطَرَتهم، حتى إن القائل منهم ليقولُ: أمْطِرِينا كواعب أترابًا
(3)
.
حدثنا ابن عرفة، قال: ثنا مروان بن معاويةَ، عن علي بن [أبي الوليد]
(4)
، قال: قيل لمجاهد: في الجنة سماعٌ؟ قال: فقال مجاهدٌ: إن فيها لشَجَرًا يقال له: العيص
(5)
. له سَماعٌ لم يسمع السامعون إلى مثله
(6)
.
حدثني موسى بن عبد الرحمن، قال: ثنا زيدُ بنُ حُبَابٍ، قال: أخبرنا معاويةُ بنُ صالح، قال: ثني سليم
(7)
بن عامرٍ، قال: سمعت أبا أمامةَ يقولُ: إن الرجل من أهل الجنةِ لَيَشْتَهى الطائر وهو يطيرُ، فيقعُ مُتَفَلِّقًا
(8)
نضيجًا في كفِّه، فيأكل منه حتى تنتهى نفسُه، ثم يطيرُ، ويَشْتَهى الشرابَ، فيقعُ الإبريق في يَدِه، ويشرب منه ما يريد، ثم يرجع إلى مكانه
(9)
.
(1)
في الأصل، ت 1:"أبى طيبة السلمي"، وفى ص، ت 2:"أبي ظبية السلمي"، وهو أبو ظبية السلفى يقال عنه: أبو طيبة السلفى. ينظر تهذيب الكمال 33/ 447.
(2)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"السرب"، والشَّرْب: القوم يشربون، ويجتمعون على الشراب. اللسان (ش ر ب).
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 23 إلى المصنف.
(4)
وقع في ابن أبي شيبة: "الوليد". ينظر تهذيب الكمال 21/ 55.
(5)
سقط من ص، وفى ت 1:"الغيض"، وفى ت 2، ت 3:"القبض"، والعيص: أصول الشجر. النهاية 3/ 329.
(6)
أخرجه ابن أبي شيبة 13/ 103، وهناد في الزهد (7) عن مروان به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 153 إلى البيهقي.
(7)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"سليمان". ينظر تهذيب الكمال 11/ 344.
(8)
في ص، ت 2، ت 3:"متعلقا"، ومتفلق: متشقق. ينظر الوسيط (ف ل ق).
(9)
أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنة (112) من طريق زيد بن الحباب به.
واختلفت القرأة في قراءة قوله: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ} ؛ فقرأته عامةُ قرأة المدينة والشام: {مَا تَشْتَهِيهِ} بزيادة "هاءٍ"، وكذلك ذلك في مصاحفهم
(1)
. وقرأ ذلك عامةُ قرأةِ العراقِ: (تَشْتَهِي) بغير "هاء"، وكذلك هو في مصاحفهم
(2)
.
والصوابُ مِن القولِ في ذلك أنهما قراءتان مشهورتان بمعنى واحد، فبأيتهما قرأ القارئ فمُصِيبٌ.
القولُ في تأويل قوله تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73)} .
يقول تعالى ذكره: يقال لهم: وهذه الجنةُ التي أورثكموها الله عن أهل النارِ الذين أدخلهم جهنم، بما كنتُم في الدنيا تعملون من الخيرات.
{لَكُمْ فِيهَا} . يقولُ: لكم في الجنةِ، {فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ} مِن كُلِّ نوعٍ، {مِنْهَا تَأْكُلُونَ}. يقولُ: من الفاكهة تأكلون ما اشتهيتم.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76)} .
يقول تعالى ذكره: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ} . وهم الذين اجترموا في الدنيا الكفر باللَّهِ، فأُجْرِموا
(3)
به في الآخرةِ {فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} . يقولُ: هم فيه ماكثون.
{لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ} . يقولُ: لا يُخفَّفُ عنهم العذاب. وأصلُ الفُتُورِ:
(1)
هي قراءة نافع وأبى جعفر وابن عامر وحفص. النشر 2/ 276.
(2)
هي قراءة ابن كثير وحمزة والكسائي وأبى عمرو ويعقوب وخلف وأبى بكر عن عاصم. المصدر السابق.
(3)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"فاجترموا".
الضعفُ، {وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ}. يقولُ: وهم في عذاب جهنم مُبْلسون، والهاء في {فيه} من ذكر العذاب. ويُذكَرُ أن ذلك في قراءة عبدِ اللَّهِ:(وهُمْ فيها مُبْلِسون)
(1)
. بمعنى: وهم في جهنم مُبْلسون، والمُبْلس في هذا الموضع: هو: هو الآيس من النجاة، الذي قد قنط فاستسلم للعذاب والبلاء.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله:{وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} . أي: مستسلمون.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن مَعْمَرٍ، عن قتادة قوله:{وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} قال: آيسون
(2)
.
وقال آخرون بما حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السُّدِّى:{وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} : متغير حالهم
(3)
.
وقد بينا فيما مضى قبلُ معنى الإبلاس بشواهده، وذكر اختلاف المختلفين فيه، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
وقوله: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} . يقول تعالى ذكرُه: وما ظلَمْنا هؤلاء المجرمين بفعلنا بهم ما أخبرناكم أيها الناسُ أنا فعلنا بهم، من التعذيب بعذاب جهنم، {وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} ؛ بعبادتهم في الدنيا غيرَ مَن كان
(1)
ينظر البحر المحيط 8/ 27.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 202 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 23 إلى عبد بن حميد.
(3)
تقدم في 9/ 248.
عليهم عبادته، وكفرهم باللَّهِ وجُحُودِهم توحيده.
القولُ في تأويل قوله تعالى: {وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78)} .
يقول تعالى ذكره: ونادى هؤلاء المجرمون بعد ما أدخلهم الله جهنم، فنالهم فيها من البلاء ما نالهم، مالكًا خازن جهنم:{يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} . قالوا
(1)
: ليمتنا ربُّك، فيَفْرُغ من إماتتنا. فذكر أن مالكًا لا يجيبهم وقت قيلهم له ذلك، ويَدَعُهم ألف عام بعد ذلك، ثم يجيبهم فيقول لهم:{إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} .
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن عطاء بن السائب، عن أبي الحسن، عن ابن عباس:{وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} ، فأجابهم بعد ألف سنة:{إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ}
(2)
.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جريرٌ، عن عطاء بن السائب، عن رجل من جيرانه يقال له: الحسنُ، عن نَوْفٍ في قوله:{وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} . قال: يتركهم مائة سنة مما تعدون، ثم يناديهم فيقولُ: يا أهل النار، إنكم ماكثون
(3)
.
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا ابن أبي عدى، عن سعيد، عن قتادة،
(1)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"قال".
(2)
تفسير الثورى ص 274، 275، وأخرجه عبد الرزاق 2/ 202، وابن أبي الدنيا في صفة النار (85) من طريق الثوري به، وأخرجه الحاكم 2/ 448، والبيهقى في البعث والنشور (45) من طريق سفيان عن عطاء عن عكرمة عن ابن عباس، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 23 إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
ذكره القرطبي في تفسيره 16/ 117.
عن [أبي أيوب، عن]
(1)
عبدِ الله بن عمرٍو، قال:{وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} . قال: فخلَّى عنهم أربعين عامًا لا يجيبهم، ثم أجابهم:{إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} . قالُوا: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107)} [المؤمنون: 107].
فخلَّى عنهم مثلي الدنيا، ثم أجابهم:{اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108]. قال: فوالله ما نَبَس القومُ [بعدها بكلمة]
(2)
، إن كان إلا الزفير والشهيق.
حدثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن أبي أيوبَ الأَزْدى، عن عبد الله بن عمرو، قال: إن أهل جهنم يدعون مالكًا أربعين عاما فلا يجيبهم، ثم يقولُ:{إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} ، ثم ينادون ربهم:{رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107)} . فيدَعُهم أو يخلّى عنهم مثل الدنيا، ثم يَردُّ عليهم:{اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} . قال: فما نَبَس القومُ بعد ذلك بكلمة، إن كان إلا الزفير والشهيق في نار جهنم
(3)
.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حَكّام، عن عمرو، عن عطاء، عن الحسن، عن نَوْفٍ:{وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} . قال: يتركهم مائة سنة مما تعدون، ثم ناداهم، فاستجابوا له، فقال:{إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ}
(4)
.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السدي في قوله:
(1)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3. وهو أبو أيوب المراغى الأزدي، واسمه يحيى - ويقال: حبيب - بن مالك. تنظر ترجمته في تهذيب الكمال 33/ 60.
(2)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"بعد الكلمة".
(3)
أخرجه البيهقى في البعث والنشور (649) من طريق يزيد به، وأخرجه ابن أبي شيبة 13/ 152، 153، وابن أبي الدنيا في صفة النار (168) من طريق سعيد به.
(4)
ذكره الطوسي في التبيان 9/ 215.
{وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} . قال: مالكٌ
(1)
خازن النار. قال: فمكثوا ألف سنة مما تعدُّون. قال: فأجابهم بعد ألف عام: {إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} .
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} . قال: يُميتنا - القضاء ههنا: الموتُ - فأجابهم: {إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} .
وقوله: {لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ} . يقولُ: لقد أرسلنا إليكم يا معشر قريش رسولنا محمدًا بالحق.
كما حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السدي:{لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ} . قال: الذي جاء به محمدٌ صلى الله عليه وسلم.
{وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} . يقول تعالى ذكره: ولكن أكثركم لما جاءكم به محمد صلى الله عليه وسلم من الحق [والهُدَى]
(2)
كارهون.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80)}
يقول تعالى ذكره: أم أبرم هؤلاء المشركون من قريش أمرًا فأحكموه، يكيدون به الحق الذي جئناهم به، فإنا مُحكمون لهم ما يُخْزِيهم ويُذِلُّهم من النكال.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
(1)
في الأصل: "ملك".
(2)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثني محمدُ بنُ عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله:{أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ} . قال: مُجْمِعون، إن كادوا شرًّا كدنا مثله
(1)
.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة في قوله:{أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ} . قال: أم أَجمعوا أمرًا فإنا مُجْمِعون
(2)
.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ} . قال: أم أحكموا أمرًا فإنا مُحكمون لأمرنا
(3)
.
وقوله: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} . يقولُ: أم يظنُّ هؤلاء المشركون بالله أنا لا نسمعُ ما أَخْفَوا عن الناسِ مِن مَنطقهم، وتَسَارُّوه
(4)
بينهم، وتناجوا به دون غيرهم، فلا نعاقبهم عليه لخفائه علينا؟
وقوله: {بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} . يقول تعالى ذكره: بلى
(5)
، نحن نعلم ما تناجوا به بينهم، وأخفوه عن الناس من سرّ كلامهم، وحَفَظَتُنا {لَدَيْهِمْ}. يعني: عندهم، يكتبون ما نطقوا به من منطق، وتكلموا به من كلام
(6)
.
(1)
تفسير مجاهد ص 595، ومن طريقه الفريابي - كما في تغليق التعليق 4/ 307 - وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 23 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 202 عن معمر به.
(3)
ذكره القرطبي في تفسيره 16/ 118 بنحوه.
(4)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"تشاوروا".
(5)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"بل".
(6)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"كلامهم".
وذكر أن هذه الآية نزلت في نفر ثلاثة، تدارءوا في سماع الله تبارك وتعالى كلام عبادِه، جل الله وعزَّ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثني عمرو بن سعيد بن يسار القرشي، قال: ثنا أبو قتيبة، قال: ثنا عاصم بن محمد العُمَرى، عن محمد بن كعب القُرَظى، قال: بينا ثلاثة بين الكعبة وأستارها؛ قُرَشيانِ وثَقَفى، أو ثَقَفِيان وقُرَشى، فقال واحدٌ مِن الثلاثة: ترون اللَّهَ يسمع كلامنا؟ فقال الأول: إذا جهرتم سمع، وإذا أسرَرْتم لم يسمع. قال الثاني: إن كان يسمعُ إذا أعلنتم، فإنه يسمعُ إذا أسررتم. قال فنزلت:{أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ}
(1)
.
وبمثل الذي قلنا في معنى قوله: {بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} . قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثني محمدٌ، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السدى:{بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} . قال: الحفَظَة
(2)
.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادةَ:{بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} . أي: عندهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81) سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82)} .
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 23 إلى المصنف.
(2)
ذكره الطوسي في التبيان 9/ 216.
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} ؛ فقال بعضُهم: معنى ذلك: قل يا محمد: إن كان للرحمن ولد، في قولكم وزعمكم أيها المشركون، فأنا أول المؤمنين بالله في تكذيبكم، والجاحدين ما قلتم من أن له ولدا.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:{قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ} : كما تقولون، {فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ}: المؤمنين بالله، فقولوا ما شئتم
(1)
.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:{قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} . قال: قل: إن كان لله ولد في قولكم، فأنا أوَّلُ مَن عبد الله ووحده وكذَّبكم
(2)
.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: قل: ما كان للرحمن ولد، فأنا أول العابدين له بذلك.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثني علي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:{قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} . يقول: لم يكن للرحمن ولد،
(1)
تفسير مجاهد ص 595، ومن طريقه الفريابي - كما في تغليق التعليق 4/ 307، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 24 إلى عبد بن حميد.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 203 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 24 إلى عبد بن حميد.
فأنا أولُ الشاهدين
(1)
.
وقال آخرون: بل معنى ذلك نفى، ومعنى "إن" الجَحْدُ، وتأويل ذلك: ما كان ذلك، ولا ينبغى أن يكونَ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله:{قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} . قال قتادة: هذه كلمة من كلام العرب، {إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ}؛ أي: إنَّ ذلك لم يكن، ولا ينبغى
(2)
.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} . قال: هذا الإنكافُ
(3)
، ما كان للرحمن ولدٌ، نكف الله أن يكون له ولد. و "إن" مثل "ما" إنما هي: ما كان للرحمن ولد؛ ليس للرحمن ولد. مثل قوله: {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} [إبراهيم: 46]. إنما هي: ما كان مكرهم لتزول منه الجبال، فالذي أنزل الله من كتابه وقضَى مِن قضائه أثبتُ مِن الجبالِ. و "إن" هي "ما"، إن كان ما كان. تقولُ العرب: إن كان وما كان الذي تقول. وفي قوله: {فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} : أوّلُ مَن تَعَبَّدَ
(4)
الله بالإيمان والتصديق أنه ليس للرحمنِ ولد، على هذا أعبد الله.
حدثنا ابن عبدِ الرحيم البرقى، قال: ثنا عمرو بن أبي سلمة، قال: سألتُ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 23 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 24 إلى المصنف.
(3)
في ت 2: "الإيكاف"، والإنكاف: التنزيه. ينظر الوسيط (ن ك ف).
(4)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"يعبد".
زهير
(1)
بن محمد عن قول الله: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ} . قال: ما كان.
حدثنا ابن عبد الرحيم البرقى، قال: ثنا عمرو، قال: سألتُ
(2)
ابن زيد بن أسلم عن قول الله: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ} . قال: هذا من
(2)
قول العربِ معروفٌ، إن كان ما كان، إن كان هذا الأمرُ قَطُّ، ثم قال: وقوله: وإن كان: ما كان
(3)
.
وقال آخرون: معنى "إنْ" في هذا الموضع معنى المجازاة. قالوا: وتأويل الكلام: لو كان للرحمن ولد، كنتُ أول من عبده بذلك.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السدي:{قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} . قال: لو كان له ولدٌ، كنتُ أَوّلَ مَن عَبَده بأنَّ له ولدا، ولكن لا ولد له
(4)
.
وقال آخرون: معنى ذلك: قل: إن كان للرحمن ولد، فأنا أوّلُ الآنفين من
(5)
ذلك. ووجهوا معنى "العابدين" إلى: المنكرين الآبين، من قول العرب: قد عبد فلانٌ من هذا الأمر. إذا أَنف منه وغَضب وأباه، فهو يَعْبَدُ عَبَدًا، كما قال الشاعرُ:
أَلَّا هَزِئَتْ
(6)
أَمُّ الوَلِيدِ وأَصْبَحَتْ
…
لما أَبْصَرَتْ في الرأس مِنِّي تَعَبَّدُ
(1)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3. ينظر تهذيب الكمال 9/ 414.
(2)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 24 إلى المصنف.
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 229.
(5)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(6)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"هويت". وهزأ بالأمر ومنه وهَزِئ: سخر به ومنه. ينظر الوسيط (هـ ز أ).
وكما قال الآخرُ
(1)
:
متى ما يَشَأْ ذُو الوُدِّ يَصْرِمْ خَلِيلَهُ
…
ويَعْبَدُ عليهِ لا مَحَالَةَ ظَالِمًا
وقد حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثنى ابن أبي ذئبٍ، عن ابن
(2)
قُسَيْط، عن بَعْجةَ بن زيد
(3)
الجهني، أنّ امرأةً منهم دخلت على زوجها، وهو رجلٌ منهم أيضًا، فولدت له في ستة أشهر، فذكر ذلك زوجها
(4)
لعثمان بن عفان، فأمر بها أن تُرْجَمَ، فدخل عليه عليُّ بن أبى طالب، فقال: إن الله يقولُ في كتابه: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15]. وقال: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14]. قال: فواللهِ ما عَبد عثمانُ أَن بعث إليها تُرَدُّ. قال يونس: قال ابن وهبٍ: عَبِدَ: اسْتَنكَف
(5)
.
وأولى الأقوال في ذلك عندى بالصواب قول من قال: معنى "إن" الشرط الذي يقتضى الجزاء، على ما ذكرناه عن السديِّ، وذلك أنّ "إِنْ" لا تَعْدو في هذا الموضع أحد معنييْنِ؛ إما أن يكونَ الحرفُ الذي هو بمعنى الشرط، الذي يَطلُبُ الجزاء، أو تكونَ بمعنى الجَحْدِ، وهى إذا وُجِّهت إلى الجَحْدِ، لم يكن للكلام كبيرُ معنًى؛ لأنه يَصيرُ بمعنى: قل: ما كان للرحمن ولد. وإذا صار بذلك المعنى، أوهم
(1)
البيت للمرقش الأصغر، ينظر المفضليات ص 246 والشعر والشعراء 1/ 215.
(2)
في ص، م، ت 3، وتفسير ابن كثير:"أبى". وهو خطأ. وهو يزيد بن عبد الله بن مسيط. ينظر تهذيب الكمال 32/ 177.
(3)
كذا ورد اسمه في النسخ وفى تفسير ابن كثير. وهو بعجة بن عبد الله بن بدر. ولعله خلط بينه وبين بعجة بن زيد الجذامى، وقد ورد اسمه في الدر المنثور على الصواب. وينظر تهذيب الكمال 4/ 190، والإصابة 1/ 320، 363.
(4)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(5)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 228 عن المصنف، وقال: هذا القول فيه نظر. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 40 إلى ابن أبي حاتم وابن المنذر.
أهل الجهلِ مِن أهل الشرك باللَّهِ أنه إنما نفى بذلك عن الله عز وجل أن يكونَ كان
(1)
له ولدٌ قبل بعض الأوقاتِ، ثم حدث
(2)
له الولد بعد أن لم يكن. مع أنه لو كان ذلك معناه، لقدر الذين
(3)
أمر الله نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم: ما كان للرحمن ولد، فأنا أوّلُ العابدين. أن يقولوا له: صَدَقْتَ، وهو كما قُلْتَ، ونحن لم نَزْعُمُ أَنه لم يَزَلْ له ولدٌ. وإنما قلنا: لم يكن له ولدٌ، ثم خلق الجن فصاهَرهم، فحدث له منهم ولد. كما أخبر الله عز وجل عنهم أنهم كانوا يقولونه، ولم يكن الله تعالى ذكره ليحتج لنبيه صلى الله عليه وسلم على
(4)
مكذبيه من الحجَّةِ بما يَقْدِرون على الطعن فيه، وإذ كان في توجيهنا "إِنْ" إلى معنى الجَحْدِ ما ذكرنا، فالذى هو أشبه المعنيين بها الشرط. وإذ كان ذلك كذلك، فبيِّنةٌ صحة ما نقولُ من أنّ معنى الكلام: قل يا محمد لمشركي قومك الزاعمين أنّ الملائكة بناتُ اللهِ: إن كان للرحمن ولد فأنا أوَّلُ عابدِيه بذلك منكم، ولكنه لا ولدَ له، فأنا أعبده بأنه لا ولد له، ولا ينبغى أن يكون له
(5)
.
وإذا وجِّه الكلام إلى ما قلنا من هذا الوجه، لم يكن على وجه الشك، ولكن على وجه الإلطاف في الكلام، وحُسنِ الخطاب، كما قال الله جل ثناؤه:{قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24]. وقد علم أن الحق معه، وأن مخالفيه في الضلالِ المبين.
وقوله: {سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} : يقول تعالى ذكره: تَبْرِئةٌ وتنزيها لمالك السماوات والأرض، ومالك العرش، المحيط بذلك كله، وما في ذلك من
(1)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 3.
(2)
في م، ت 3:"أحدث".
(3)
في ص، ت 2:"الذي".
(4)
في ص، م، ت 3:"وعلى".
(5)
بعده في ت 1، ت 2، ت 3:"ولد".
خلق، مما يصفه به هؤلاء المشركون من الكَذِبِ، ويُضيفون إليه من الولد، وغير ذلك من الأشياء التي لا ينبغى أن تُضاف إليه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله:{رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} . أي: يَكْذِبون
(1)
.
القولُ في تأويل قوله تعالى: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84)} .
يقول تعالى ذكره: فَذَرْ يا محمد هؤلاء المفترين على ربهم، الواصفيه بأن له ولدًا، يخوضوا في باطلهم، ويلعبوا في دنياهم، {حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} . وذلك يومَ يُضليهم الله - بفريتهم عليه - جهنم، وهو يومُ القيامة.
كما حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السدى:{حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} . قال: يوم القيامةِ.
وقوله: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} . يقول تعالى ذكرُه: وهو الذي له الألوهةُ؛ في السماء معبود، وفى الأرض
(2)
كما هو في السماء معبودٌ، لا شيء سواه تصلح عبادته. يقول تعالى ذكره: فأَفردوا لمن هذه صفته العبادة، ولا تشركوا به شيئًا غيره.
(1)
تقدم في 9/ 455.
(2)
بعده في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"معبود".
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمر، عن قتادة في قوله:{وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} . قال: يُعبد في السماءِ، ويُعبد في الأرض
(1)
.
حدثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة في قوله:{وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} . أي: يُعبد في السماءِ وفى الأرضِ
(2)
.
وقوله: {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} . يقولُ: وهو الحكيم في تدبيره خَلْقَه، [وتسخيرهم لما يشاء]
(3)
، العليم بمصالحهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85)} .
يقول تعالى ذكره: وتبارك الذي له سلطان السماوات السبع والأرض، وما بينهما من الأشياء كلِّها، جارٍ على جميع ذلك حكمه، ماضٍ فيهم قضاؤُه. يقولُ: فكيف يكون له شريكًا مَن كان في سلطانه، وحكمه فيه نافذ؟! {وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ}. يقولُ: وعنده علم الساعة التي تقوم فيها القيامة، ويُحشَرُ فيها الخَلْقُ من قبورهم لموقف الحساب.
وقوله: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} . يقولُ: وإليه أيُّها الناسُ تُرَدُّون من بعدِ
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 203 عن معمر به.
(2)
أخرجه البيهقى في الأسماء والصفات (911) من طريق سعيد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 24 إلى عبد بن حميد.
(3)
في الأصل: "ويستنجزهم لما شاء".
مماتكم، فتصيرون إليه، فيُجازِى المحسن منكم بإحسانه، والمسيء بإساءته.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86)} .
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛ فقال بعضهم: معنى ذلك: ولا يملك عيسى وعُزَيرٌ والملائكةُ الذين يَعْبُدوهم هؤلاء المشركون بالله
(1)
- الشفاعة عند الله لأحدٍ، {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ} [يعني به عندَهم: إلا لمن شَهِد بالحقِّ]
(2)
، فوحد اللَّهَ جل وعز وأطاعه، [على علمٍ منه ويقين بتوحيد الله، وصحة ما]
(3)
جاءت به رسله.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثنى الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله:{وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ} . قال: عيسى وعُزيرٌ والملائكةُ
(4)
، {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ}. قال: كلمة الإخلاص، {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أن الله حقٌّ؛ [عيسى]
(5)
وعُزير والملائكة. يقول: لا يشفع عيسى وعُزيرٌ والملائكة إلا لمن
(6)
شهد بالحقِّ، وهو يعلم الحق
(7)
.
(1)
في ص، م، ت، ت 1، ت 3:"بالساعة".
(2)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(3)
في ص، ت 2، ت 3:"علم علم منه بتوحيد وصحة بما"، وفى م:"بتوحيد علم منه وصحة بما"، وفى ت 1:"علم منه بتوحيد وصحة بما".
(4)
بعده في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"قوله".
(5)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ت 3.
(6)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"من".
(7)
تفسير مجاهد ص 596، ومن طريقه البيهقى في البعث (3). وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 24 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
وقال آخرون: عُنى بذلك: ولا تملك الآلهة التي يدعوها المشركون، ويعبدونها من دونِ الله - الشفاعة، إلا عيسى وعُزيرٌ وذووهما والملائكة الذين شهدوا بالحقِّ، فأقروا به، وهم يعلمون حقيقة ما شهدوا به.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة:{وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ} : الآلهة
(1)
، {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}: الملائكة وعيسى وعزيز، قد عُبدوا مِن دونِ اللهِ، ولهم شفاعةٌ عند الله تعالى ومنزلةٌ.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة قوله: هو {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ} . قال: الملائكة وعيسى ابن مريم وعُزيرٌ، فإن لهم عند الله شهادة
(2)
.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر أنه لا يملك الذين يعبدهم المشركون مِن دونِ اللَّهِ الشفاعة عنده لأحدٍ، إِلَّا مَن شهد بالحقِّ، وشهادته بالحق هو إقراره بتوحيدِ اللَّهِ، وإنما يعنى بذلك: إلا من آمن بالله، وهم يعلمون حقيقة توحيده. ولم يَخصُصْ بأن الذي لا يملك تلك
(3)
الشفاعة منهم بعض مَن كان يُعْبدُ مِن دونِ اللهِ [دونَ بعضٍ]
(4)
، فذلك على جميع من كان تعبُدُ قريشٌ مِن دون الله يوم نزلت هذه الآية، وغيرهم، وقد كان منهم
(5)
من يعبدُ مِن دونِ اللهِ الآلهة، وكان منهم
(6)
من يعبد من دونِه الملائكة وغيرهم، فجميع أولئك داخلون
(1)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 203 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 24 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"ملك".
(4)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(5)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"فيهم".
(6)
في م، ت 1، ت 3:"فيهم".
في قوله: ولا يملك الذين تدعو قريش وسائر العرب مِن دونِ اللَّهِ الشفاعة عندَ اللَّهِ. ثم استثنى جلّ ثناؤه بقوله: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} : وهم الذين يشهدون شهادة الحقِّ، فيوحدون الله، ويُخلصون له الوحدانية، على علمٍ منهم ويقينٍ بذلك أنهم يملكون الشفاعة عنده بإذنه لهم بها، كما قال جل ثناؤه:{وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28]. فأَثْبت تعالى ذكره للملائكة وعيسى وعُزيرٍ
(1)
ملكهم من الشفاعة ما نفاه عن الآلهة والأوثان، باستثنائه الذي استثناه.
القول في تأويل قوله جل وعز: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88)} .
يقول تعالى ذكره: ولئن سألت يا محمد هؤلاء المشركين بالله من قومك: من خلقهم؟ ليقولُن: خلقنا الله. {فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} يقولُ: فَأَيَّ وجهٍ يُصْرَفون عن عبادة الذي خلقهم، ويُحرمون
(2)
إصابة الحقِّ في عبادتِه.
وقوله: {وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ} . اختلفتِ القرأة في قراءة قوله: {وَقِيلِهِ} ؛ فقرأته عامه قرأَةِ المدينة ومكة والبصرة: (وَقيله) بالنصب
(3)
. وإذا قُرى ذلك كذلك، كان له وجهان في
(4)
التأويل؛ أحدهما: العطف على قوله: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} [الزخرف: 80]، ونسمعُ قيلَه: يا ربِّ؟ والثانى: أن يُضْمَر له ناصبٌ، فيكون معناه حينئذ: وقال قوله: يا ربِّ إنّ هؤلاء قوم لا يؤمنون. وشكا محمد شكواه إلى ربِّه. وقرأته عامةُ
(1)
بعده في الأصل: "من".
(2)
في الأصل: "يحربون".
(3)
هي قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو وابن عامر والكسائي. حجة القراءات ص 655.
(4)
في الأصل: "مع".
قرأَةِ الكوفة: {وَقِيلِهِ} بالخفض على معنى: وعنده علم الساعة، وعلم قيله
(1)
.
والصوابُ مِن القولِ في ذلك أنهما قراءتان مشهورتان في قرأة الأمصار، صحيحتا المعنى، فبأيَّتهما قرأ القارئ فمصيبٌ. فتأويل الكلام إذن: وقال محمدٌ قيله شاكيًا إلى ربِّه قومه الذين كذَّبَوه، وما يَلْقى منهم: يا رب إن هؤلاء الذين أمرتني بإنذارهم، وأرسلتنى إليهم لدعائهم إليك - قومٌ لا يؤمنون.
كما حدثني محمد بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:{وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ} . قال: فأبَّر الله قول محمدٍ صلى الله عليه وسلم
(2)
.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله:{وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ} . قال: هذا قول نبيكم يشكو قومه إلى ربِّه
(3)
.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة:{وَقِيلِهِ يَا رَبِّ} . قال: هو قول النبي صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ}
(4)
.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)} .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، جوابًا له عن دعائه إياه إذ قال:{يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ} : {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ} يا محمد، وأَعرِضْ عن أذاهم لك،
(1)
هي قراءة عاصم وحمزة. حجة القراءات ص 655.
(2)
تفسير مجاهد ص 596.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور - كما في المخطوطة المحمودية 376 - إلى المصنف وعبد بن حميد.
(4)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 203 عن معمر به.
وقل لهم: سلام عليكم. ورُفع "سلامٌ" بضمير: عليكم، أو: لكم.
واختلفت القرأةُ في قراءة قوله: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} ؛ فقرأ ذلك عامة قرأة المدينة: (فَسَوْفَ تَعْلَمونَ) بالتاءِ
(1)
، على وجه الخطاب، بمعنى أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول ذلك للمشركين، مع قوله:{سَلَامٌ} . وقرأَ ذلك عامة قرأَةِ الكوفة وبعضُ قرأَةِ مكةَ: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} بالياء
(2)
على وجه الخبر، وأنه وعيدٌ من الله للمشركين. فتأويله على هذه القراءةِ: فاصفَحْ عنهم يا محمد، وقُل: سلامٌ. ثم ابتدأ تعالى ذكره الوعيد لهم، فقال: فسوف يعلمون ما يَلْقَون مِن البلاء والنَّكال والعذاب على كفرهم. ثم نسخ الله جل ثناؤُه هذه الآيةَ، وأَمر نبيَّه صلى الله عليه وسلم بقتالهم.
كما حدثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمر، عن قتادة:{فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ} : قال: اصفح عنهم. ثم أمره بقتالهم
(3)
.
حدثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة: قال اللَّهُ يُعزِّى نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} .
آخرُ تفسير سورة الزُّخْرُفِ
(1)
هي قراءة نافع وابن عامر. حجة القراءات ص 656.
(2)
هي قراءة ابن كثير وأبي عمرو وعاصم وحمزة والكسائي. المصدر السابق.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 203 عن معمر به.