الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
أولُ
سورةِ الدخانِ
قال أبو جعفرٍ: قد تقدَّم بيانُنا
(1)
معنى قولِه: {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ}
(2)
.
وقولُه: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} . أقسَم ربُّنا جلّ ثناؤُه بهذا الكتابِ أنه أنزَله في ليلةٍ مباركةٍ.
واختُلِف
(3)
في تلك الليلةِ أيُّ ليلةٍ من ليالى السنةِ هي؛ فقال بعضُهم: هي ليلةُ القدرِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} : ليلةِ القدرِ
(4)
. نزَلتْ صحفُ إبراهيمَ في أَوَّلِ ليلةٍ مِن رمضانَ، ونزلتْ التوراةُ لستٍّ ليالٍ مضَيْن
(5)
مِن رمضانَ، ونزَل الزَّبورُ لثنتَىْ
(6)
عشْرةَ مضَتْ مِن رمضانَ، ونزَل الإنجيلُ لثمانِ عَشْرَةَ مضَتْ مِن رمضانَ، ونزَل الفرقانُ لأربعٍ وعشرين
(1)
بعده في ص، ت 1، ت 2:"في".
(2)
ينظر ما تقدم في 20/ 274 - 276، 542.
(3)
بعده في م: "أهل التأويل".
(4)
بعده في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"و".
(5)
في م: "مضت".
(6)
في م: "لست". وينظر تفسير القرطبي 16/ 126.
مضَتْ
(1)
مِن رمضانَ
(2)
.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ في قولِه:{فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} . قال: هي ليلةُ القدرِ
(3)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِ اللَّهِ: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ} . قال: تلك الليلةُ ليلةُ القدرِ، أَنزَلَ اللَّهُ هذا القرآنَ من أُمِّ الكتابِ في ليلةِ القدرِ، ثم أنزَله على نبيِّه
(4)
في الليالي والأيامِ، وفي غيرِ ليلةِ القدرِ
(5)
.
وقال آخرون: بل هي ليلةُ النصفِ من شعبانَ.
والصوابُ من القولُ في ذلك قولُ مَن قال: عُنِى بها ليلةُ القدرِ. لأنّ الله أخبرَ تعالى ذكره أن ذلك كذلك بقوله
(6)
: [{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ الْقَدْرِ} [القدر: 1].
وقولُه: {إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ} يقولُ تعالى ذكرُه]
(7)
: إنا كُنَّا مُنْذِرِين خَلْقَنا بهذا الكتابِ الذي أنزَلناه في الليلةِ المباركةِ عقوبتَنا أن تحُلَّ بمن كفَر منهم، فلم يتبْ
(8)
إلى توحيدِنا وإفرادِ الأُلوهةِ لنا.
وقولُه: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} . اختلَف أهلُ التأويلِ في هذه الليلةِ التي
(1)
في الأصل: "مضين".
(2)
ذكره البيهقى في الأسماء والصفات (494) عن إبراهيم بن طهمان عن قتادة معلقًا، وينظر ما تقدم تخريجه في 3/ 189.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 205 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 25 إلى عبد بن حميد
(4)
في النسخ: "الأنبياء". والمثبت موافق لما في تفسير القرطبي.
(5)
ذكره القرطبي في تفسيره 16/ 126، وأبو حيان في البحر المحيط 8/ 32.
(6)
في م: "لقوله".
(7)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(8)
في م: "ينب".
يُفْرَقُ فيها كلُّ أمرٍ حكيمٍ نحوَ اختلافِهم في الليلةِ المباركةِ، وذلك أن الهاءَ التي في قولِه:{فِيهَا} . عائدةٌ على الليلةِ المباركةِ؛ فقال بعضُهم: هي ليلةُ القدرِ، يُقْضَى فيها أمْرُ السنةِ كلُّها؛ مَن يموتُ، ومَن يولدُ، ومن يُعزُّ، ومن يُذلُّ، وسائرُ أمورِ السنةِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا مجاهدُ بنُ موسى، قال: ثنا يزيدُ، قال: أخبَرنا ربيعةُ بنُ كُلْثومٍ، قال: كنتُ عندَ الحسنِ فقال له رجلٌ: يا أبا سعيدٍ، ليلةُ القدرِ في كلِّ رمضانَ هي؟ قال: إى واللهِ، إنها لفى كلِّ رمضانَ، وإنها لليلةٌ
(1)
يُفْرَقُ فيها كلُّ أمرٍ حكيمٍ، فيها يَقْضِى اللهُ كلَّ أجلٍ وأملٍ ورزقٍ إلى مثلِها
(2)
.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابن عليَّةَ، قال: ثنا ربيعةُ بنُ كُلْثومٍ، قال: قال رجلٌ للحسنِ وأنا أسمَعُ: أرأَيتَ ليلةِ القدرِ، أفى كلِّ رمضان هي؟ قال: نعم واللهِ الذي لا إلهَ إلَّا هو، إنها لفي كلِّ رمضانَ، وإنها لليلةٌ يُفْرَقُ فيها كلُّ أمرٍ حكيمٍ، يَقْضِى اللَّهُ كلَّ أجلٍ [وعملٍ]
(3)
وخَلْقٍ ورزقٍ إلى مثلِها.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال [ابن زيدٍ: حدَّثني]
(3)
عبدُ الحميدِ بنُ سالمٍ، عن [عمر مولى غُفْرة]
(4)
، قال: يقالُ: يُنْسَخُ لملكِ الموتِ مَن يموتُ ليلةِ القدرِ إلى مثلِها، وذلك لأن الله عز وجل يقولُ:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} . وقال: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} . قال: فتجدُ الرجلَ ينكِحُ النساءَ، ويغرِسُ الغرسَ واسمُه في الأمواتِ
(5)
.
(1)
في ص، م، ت 1، 3، ت 3:"الليلة التي".
(2)
ذكره القرطبي في تفسيره 16/ 127، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 25 إلى المصنف وعبد بن حميد ومحمد بن نصر.
(3)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(4)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"عمرو مولى عفرة". وينظر تهذيب الكمال 21/ 420.
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 25 إلى المصنف.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانَ، عن سلمةَ، عن أبي مالكٍ في قولِه:{فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} . قال: أمرُ السنةِ إلى السنةِ، ما كان من خلقٍ أو رزقٍ أو أجلٍ أو مصيبةٍ، أو نحوِ هذا
(1)
.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانَ، عن حبيبٍ، عن هلالِ بن يسَافٍ، قال: كان يقالُ: انْتَظِروا القضاءَ في شهرِ رمضانَ
(2)
.
حدَّثنا الفضلُ بنُ الصَّباحِ، قال: ثنا محمدُ بنُ فُضَيلٍ، عن حُصَينٍ، عن سعدِ
(3)
بن عُبيدةَ، عن أبي عبدِ الرحمنِ في قولِه:{فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} . قال: يُدَبَّرُ أمرُ السنةِ في ليلةِ القدرِ
(4)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} . قال: في ليلةِ القدرِ كلُّ أمرٍ يكونُ في السنةِ إلى السنةِ؛ إِلَّا
(5)
الحياة والموتَ، يُقَدَّرُ فيها المعايشُ والمصائبُ كلُّها
(6)
.
حدَّثنا بشرٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} : ليلةِ القدرِ. {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} : كُنَّا نُحدَّثُ أَنه يُفْرَقُ
(1)
أخرجه البيهقى في الشعب (3662) من طريق سفيان به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 25، 26 إلى عبد بن حميد ومحمد بن نصر وابن المنذر.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 25 إلى المصنف.
(3)
في ص، م، ت 1، ت 2 ت 3:"سعيد". وينظر تهذيب الكمال 10/ 290.
(4)
أخرجه البيهقي في الشعب (3663) من طريق ابن فضيل به، وهو في تفسير مجاهد ص 597 من طريق حصين به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 26 إلى عبد بن حميد ومحمد بن نصر.
(5)
سقط من النسخ. والمثبت من مصدرى التخريج.
(6)
تفسير مجاهد ص 597، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 25 إلى سعيد وعبد بن حميد وابن المنذر.
فيها أمرُ السنةِ إلى السنةِ
(1)
.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ، قال: هي ليلةُ القدرِ، فيها يُقْضَى ما يكونُ مِن السنةِ إلى السنةِ
(2)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن منصورٍ، قال: سألتُ مجاهدًا فقلتُ: أرأَيتَ دعاءَ أحدِنا يقولُ: اللَّهمّ إن كان اسمى في السعداءِ فأَثْبِته فيهم، وإن كان في الأشقياءِ فامْحُه منهم واجعلْه في السعداءِ. فقال: حسَنٌ. ثم لقِيتُه بعدَ ذلك بحولٍ أو أكثرَ من ذلك، فسأَلْتُه عن هذا الدعاءِ، فقال:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (2) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} . قال: يُقضَى في ليلةِ القدرِ ما يكونُ في السنةِ من رزقٍ أو مصيبةٍ، ثم يقدِّمُ ما يشاءُ، ويؤخَّرُ ما يشاءُ، فأما كتابُ السعادةِ والشقاءِ فهو ثابتٌ لا يُغَيَّرُ.
وقال آخرون: بل هي ليلةِ النصفِ مِن شعبانَ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا الفضلُ بنُ الصَّباح والحسنُ بنُ عرفةَ، قالا: ثنا النَّضْرُ
(3)
بنُ إسماعيلَ البَجَليُّ، عن محمدِ بن سُوقةَ، عن عكرمةَ في قولِ اللَّهِ:{فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} . قال: في ليلةِ النصفِ مِن شعبانَ؛ يُرَمُ فيه أمرُ السنةِ، ويُنْسَخُ
(4)
الأحياء مِن الأمواتِ، ويُكتَبُ الحاجُّ فلا يُزادُ فيهم
(5)
، ولا يُنْقَصُ منهم
(1)
أخرجه البيهقى في الشعب (3665) من طريق سعيد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 26 إلى عبد بن حميد ومحمد بن نصر.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 205 عن معمر به.
(3)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"الحسن". ينظر تهذيب الكمال 29/ 372.
(4)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"تنسخ".
(5)
بعده في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"أحد".
أحدٌ
(1)
.
حدَّثني عبيدُ بنُ آدمَ بن أبي إياسٍ، قال: ثنا أبى، قال: ثنا الليثُ، عن عُقَيلِ بن خالدٍ، عن ابن شهابٍ، عن عثمانَ بن محمدِ بن المغيرةِ بن الأَخْنَسِ، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "تُقْطَعُ الآجالُ مِن شعبانَ إلى شعبانَ، حتى إِنَّ الرجلَ ليَنْكِحُ ويُولد له وقد خرج اسمه في المَوْتى"
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ مَعْمَرٍ، قال: ثنا أبو هشامٍ، قال: ثنا عبدُ الواحدِ، قال: ثنا عثمانُ بنُ حكيمٍ، قال: ثنا سعيدٌ بن جبيرٍ، قال: قال ابن عباسٍ: إن الرجلَ ليمشى في الناسِ وقد رُفِع
(3)
في الأمواتِ. قال: ثم قرَأ هذه الآية: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} . قال: ثم قال: فيها يُفْرقُ أمرُ الدنيا من السنةِ إلى السنةِ
(4)
.
وأولى القولينِ في ذلك بالصوابِ قولُ من قال: ذلك ليلةُ القدرِ. لما قد تقدَّم مِن بيانِنا عن أنّ المعنِيَّ بقولِه: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} . ليلةُ القدرِ. والهاءُ في قولِه: {فِيهَا} من ذكرِ الليلةِ المباركةِ.
وعُنِى بقولِه: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} : في هذه الليلةِ المباركةِ يُقْضَى ويُفْصَلُ كُلُّ أمرٍ أَحكمه الله تعالى ذكرُه في تلك السنةِ، إلى مثلِها مِن السنةِ
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 205 من طريق محمد بن سوقة بنحوه، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 26 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
أخرجه البيهقى في الشعب (3839) من طريق الليث به.
(3)
في مصادر التخريج: "وقع".
(4)
أخرجه عبد الله بن أحمد في السنة (887)، والحاكم 2/ 448، 449، والبيهقي في الشعب (3661) من طريق عثمان بن حكيم به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 25 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
الأُخرى.
ووُضِع: {حَكِيمٍ} موضعَ مُحْكَمٍ، كما قال:{الر (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} [لقمان: 2،1]. يعنى: المحكَمِ.
وقولُه: {أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: في هذه الليلةِ المباركةِ يُفْرَقُ كُلُّ أمرٍ حكيمٍ، أمرًا مِن عندِنا.
واختلَف أهلُ العربيةِ في وجهِ نصبِ قولِه: {أَمْرًا} ؛ فقال بعضُ نحويِّي البصرةِ
(1)
: نُصِب على معنى: إنا أنزَلناه أمرًا ورحمةً؛ على الحالِ. وقال بعضُ نحويِّى الكوفةِ
(2)
: نُصِب على معنى: يُفْرقُ كلُّ أمرٍ فَرْقًا وأمرًا.
قال: وكذلك قوله: {رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} . قال: ويجوز أن تُنصبَ الرحمةُ بوقوعِ {مُرْسِلِينَ} عليها، فجعَل الرحمةَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم.
وقولُه: {إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: إنا كنا مُرْسِلى رسولِنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم إلى عبادِنا رحمةً من ربك يا محمدُ، {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} يقولُ إن الله تبارك وتعالى هو السميعُ لما يقولُ هؤلاء المشركون فيما أنزَلنا من كتابِنا، وأرسَلنا من رسُلِنا
(3)
إليهم، وغيرِ ذلك من مَنطقِهم ومنطقِ غيرِهم، العليمُ بما تَنطوى عليه ضمائرهم، وغيرِ ذلك من أمورِهم وأمورِ غيرِهم.
القولُ في تأويلِ قولهِ: {رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) بَلْ
(1)
في الأصل، ص، م، ت 1:"الكوفة" وهو خطأ. والبصرى هو الأخفش. ينظر قوله في تفسير القرطبي 16/ 128.
(2)
في الأصل، ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"البصرة"وهو خطأ. والكوفي هو الفراء. ينظر قوله في معاني القرآن 3/ 39.
(3)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"رسولنا".
هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9)}.
اختلَفت القرأَةُ في قراءةِ قوِله: {رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ؛ فقرأَتْه عامةُ قرأَةِ المدينة والبصرة: (رَبُّ السَّمَاوَاتِ) بالرفع
(1)
على إتْباعِ إعرابِ "الربِّ" إعرابَ {السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} . وقرأَتْه عامةُ قرأَةِ الكوفةِ وبعضُ المكيِّين: {رَبِّ السَّمَاوَاتِ} خفضًا
(2)
، ردًّا على "الربِّ" جل جلاله في قولِه:{رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} .
والصوابُ من القولِ في ذلك أنهما قراءتان معروفتان صحيحتا المعنى، فبأيَّتِهما قرَأ القارئ فمصيبٌ.
ويعنى بقولِه: {رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} . يقولُ تعالى ذكرُه: الذي أنزَل هذا الكتابَ يا محمدُ عليك، وأرسَلك إلى هؤلاء المشركين رحمةً مِن ربِّك - مالكُ السماواتِ السبعِ
(3)
والأرضِ وما بينهما من الأشياء كلِّها.
وقولُه: {إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} . يقولُ: إن كنتم توقنون بحقيقةِ ما أخبَرْتُكم مِن أنَّ ربَّكم ربُّ السماوات والأرضِ، فإن الذي أخبَرْتُكم من
(4)
أن الله
(5)
الذي هذه الصفاتُ صفاتُه، وأن هذا القرآنَ تنزيله، ومحمدًا صلى الله عليه وسلم رسولُه - حقٌّ يقينٌ، فأيقِنوا به، كما أيقَنتم بما توقنون به (4) من حقائقِ الأشياءِ غيرِه.
وقولُه: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} . يقولُ: لا معبود لكم أيُّها الناسُ غير ربِّ السماواتِ والأرضِ وما بينَهما، فلا تعبُدوا غيرَه؛ فإنه لا تصلُحُ العبادةُ لغيرِه، ولا تنبغي لشيءٍ سواه، {يُحْيِي وَيُمِيتُ}. يقولُ: هو الذي يُحْيى ما يشاءُ، ويُميتُ ما
(1)
وهى قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو وابن عامر. السبعة لابن مجاهد ص 592.
(2)
وهى قراءة عاصم وحمزة والكسائي. المصدر السابق.
(3)
سقط من: ت 2، ت 3
(4)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(5)
بعده في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"هو".
يشاءُ مما كان حيًّا.
وقولُه: {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} . يقولُ: هو مالكُكم ومالكُ مَن مضَى قبلكم من آبائِكم الأوّلين. يقولُ: فهذا الذي هذه صفتُه هو الربُّ فاعبُدوه دونَ آلهتكم التي لا تقدِرُ على ضرٍّ ولا نفعٍ.
وقولُه: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: ما هم بموقنين بحقيقةِ ما يقالُ لهم ويُخْبَرون من هذه الأخبارِ، يعنى بذلك مشركي قريشٍ، ولكنهم في شكٍّ منه، فهم يَلْهُون بشكِّهم
(1)
في الذي يُخْبَرون به مِن ذلك.
القولُ في تأويلِ قولهِ: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12)} .
يعني تعالى ذكرُه بقولِه: {فَارْتَقِبْ} : فانْتظِرْ يا محمدُ بهؤلاء المشركين من قومِك الذين هم في شكٍّ يَلْعبون. وإنما هو "افتعَل"، من: رقَبْتُه: إذا انتظَرْتَه وحرَسْتَه.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{فَارْتَقِبْ} . أي: فانْتظِرْ
(2)
.
وقولُه: {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} . اختلَف أهلُ التأويلِ في هذا اليوم
(3)
الذي أمَر اللهُ نبيِّه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يرتقبَه، وأخبرَه أن السماءَ تأتى فيه بدخانٍ
(1)
في الأصل: "لشكهم".
(2)
أخرجه عبد بن حميد - كما في التغليق 4/ 310، 311 من طريق شيبان عن قتادة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 28 إلى المصنف.
(3)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
مبينٍ؛ أيُّ يومٍ هو؟ ومتى هو؟ وفى معنى الدُّخانِ الذي ذكُر في هذا الموضعِ؛ فقال بعضُهم: ذلك حينَ دعا رسولُ اللهِ على قريشٍ ربَّه أن يأخذَهم بسنين كسِنى يوسفَ، فأُخِذوا بالمجاعة. قالوا: وعُنى بالدُّخانِ ما كان يُصيبُهم حينَئذٍ في أبصارِهم من شدَّةِ الجوعِ؛ مِن الظُلمةِ كهيئةِ الدُّخانِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عيسى بن عثمانَ بن عيسى الرَّمْليُّ، قال: ثنا يحيى بنُ عيسى، عن الأعمشِ، عن مسلمٍ، عن مسروقٍ، قال: دخَلْنا المسجدَ، فإذا رجلٌ يقُصُّ على أصحابِه ويقولُ:{يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} . تدرون ما ذلك الدُّخانُ؟ ذلك دُخانٌ يأتى يومَ القيامةِ، فيأخُذُ بأسماعِ المنافقين وأبصارِهم، ويأخُذُ المؤمنين منه شِبهُ الزُّكامِ. قال: فأَتيْنا ابنَ مسعودٍ، فذكَرْنا ذلك له، وكان مُضْطَجِعًا، ففزِع فقعَد، فقال: إن الله قال لنبيِّكم: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86]. إن من العِلم أن يقولَ الرجلُ لما لا يعلَمُ: اللهُ أعلمُ. سأحدِّثُكم عن ذلك؛ إن قريشًا لما أبطأَت عن الإسلامِ، واستعصَتْ على رسولِ اللهِ، دعا عليهم بسنين كسِنى يوسفَ، فأصابهم من الجَهْد والجوع حتى أكَلوا العظامَ والميتةَ، وجعَلوا يرفعون أبصارَهم إلى السماءِ، فلا يَرَوْن إِلا الدُّخَانَ، قال اللهُ تبارك وتعالى:{يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} . فقالوا: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} . قال اللَّهُ: {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ} [الدخان: 15، 16]. قال: فعادوا يومَ بدرٍ، فانتقَم اللهُ منهم
(1)
.
(1)
أخرجه الطيالسي (291، 292)، والحميدى (116)، وأحمد 7/ 179 (4104)، والبخارى (4822 - 4823)، ومسلم (2798/ 40)، والطحاوى في مشكل الآثار (963)، والطبراني في الكبير (9046)، والبيهقى في الدلائل،2/ 324، 325، والبغوى في تفسيره 7/ 229 من طريق الأعمش به.
حدَّثني عبدُ اللهِ بنُ محمدٍ الزهريُّ، قال: ثنا مالكُ بنُ سُعَيرٍ، قال: ثنا الأعمشُ، عن مسلمٍ، عن مسروقٍ، قال: كان في المسجدِ رجلٌ يُذكِّرُ الناسَ. فذكرَ نحوَ حديثِ عيسى، عن يحيى بن عيسى، إلا أنه قال: فانتقَم يومَ بدرٍ، وهى البطشةُ الكبرى.
حدَّثنا ابن حميدٍ وعمرُو بنُ عبدِ الحميدِ، قالا: ثنا جريرٌ، عن منصورٍ، عن أبي الضُّحى مسلمِ بن صُبَيْحٍ، عن مسروقٍ، قال: كنا عندَ عبدِ اللهِ بن مسعودٍ جلوسًا، وهو مُضْطَجَعٌ بينَنا. قال: فأتاه رجلٌ فقال: يا أبا عبدِ الرحمنِ، إن قاصًّا عندَ أبوابِ كِنْدَةَ يقُصُّ، ويزعُم أن آيةَ الدُّخانِ تجئُ، فتأخذُ بأنفاسِ الكفارِ، ويأخذُ المؤمنين منه كهيئةِ الزُّكامِ *. فقام عبدُ اللهِ وجلَس وهو غضبانُ، فقال: يا أَيُّها الناسُ، اتقوا اللَّهَ فمن علِم شيئًا فليَقُلْ بما يعلَمُ، ومَن لا يعلمُ فليقُل: اللهُ أعلمُ. وقال عمرٌو: فإنه أعلمُ لأحدِكم أن يقولُ لما لا يعلمُ: اللهُ أعلمُ. وما على أحدِكم أن يقولُ لما لا يعلمُ: لا أعلمُ. فإنّ الله عز وجل يقولُ لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86]. إن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لما رأى مِن الناسِ إدبارًا، قال:"اللَّهمّ سبعًا كسبع يوسفَ". فأخذَتْهم سَنَةٌ حَصَّتْ
(1)
كل شيءٍ، حتى أكَلوا الجلودَ والمَيتةَ والجِيَفَ، ينظُرُ أحدُهم إلى السماءِ فيرى دُخانًا من الجوعِ، فأتاه أبو سفيانَ بنُ حربٍ، فقال: يا محمدُ، إنك جئتَ تأمُرُنا بالطاعةِ وبصلةِ الرَّحِم، وإنّ قومَك قد هلكوا، فادعُ الله لهم. قال اللهُ عز وجل:{فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} . إلى قوله: {إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} . قال: فكُشِف عنهم، {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ}: فالبَطْشة يومَ بدرٍ، وقد مضَتْ آيةُ الرومِ، وآيةُ الدُّخانِ، والبَطْشة،
* بعده خرم في نسخة خزانة القرويين، وينتهي في ص 70.
(1)
حصَّت: أذهبت. اللسان (ح ص ص).
واللِّزام
(1)
.
حدَّثني أبو السائبِ، قال: ثنا أبو معاويةَ، عن الأعمشِ، عن مسلمٍ، عن مسروقٍ، قال: قال عبدُ اللهِ: خمسٌ قد مَضَين؛ الدُّخانُ، واللِّزامُ، والبطشةُ، والقمرُ، والرومُ
(2)
.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا أبو بكرِ بنُ عياشٍ، عن عاصمٍ، قال: شهِدتُ جِنازةً فيها زيدُ بنُ عليٍّ، فأنشأ يُحدِّثُ يومئذٍ فقال: إن الدُّخانَ يجيءُ قبلَ يومِ القيامةِ، فيأخُذُ بأَنْفِ المؤمنِ الزُّكامُ، ويأخذُ بمسامعِ الكافرِ. قال: قلتُ: رحِمك اللَّهُ، إن صاحبَنا عبدَ اللَّهِ قد قال غيرَ هذا، قال: إن الدُّخان قد مضَى. وقرَأ هذه الآيةَ: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} . قال: أصاب الناسَ جَهْدٌ، حتى جعَل الرجلُ يَرى ما بينَه وبينَ السماءِ دخانًا، فذلك قولُه:{فَارْتَقِبْ} . وكذا قرَأ عبدُ اللَّهِ إلى قولِه: {مُؤْمِنُونَ} . قال: {إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} [الدخان: 15]. قلتُ لزيدٍ: فعادوا، فأعاد اللَّهُ عليهم بدرًا، فذلك قولُه:{وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} [الإسراء: 8]. فذلك يومَ بدرٍ. قال: فقيلَ واللَّهِ، قال عاصمٌ، فقال رجلٌ يردٌّ عليه، فقال زيدٌ رحمة اللَّهِ عليه: أمَا إِنّ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قد قال: "إنكم سَيَجِيئُكم رُواةٌ، فما وافَق القُرآنَ فخُذُوا به، وما كان غير ذلك فَدَعُوه"
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري (1007)، ومسلم (2798/ 39)، وأبو يعلى (5145) من طريق جرير به، وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 205، وأحمد 7/ 257 (4206)، والبخارى (4824)، والترمذي (3254)، وابن حبان (6585)، والطبراني في الكبير (9048)، وأبو نعيم في الدلائل (369)، والبيهقي في الدلائل 2/ 326، والبغوى في تفسيره 7/ 229 من طريق منصور به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 28 إلى سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.
(2)
تقدم تخريجه في 17/ 538.
(3)
آخره المرفوع أخرجه الدارقطني في السنن 4/ 208، 209 من طريق أبي بكر بن عياش، وقال: الصواب =
حدَّثنا ابن المثنى، قال: ثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا داودُ، عن عامرٍ، عن ابن مسعودٍ أنه قال: البَطْشةُ الكبرى يومَ بدرٍ، وقد مضَى الدُّخانُ
(1)
.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا ابن أبى عديٍّ، عن عوفٍ، قال: سمِعتُ أبا العاليةِ يقولُ: إنّ الدُّخان قد مضَى
(2)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن عمرٍو، عن مغيرةَ، عن إبراهيمَ، قال: مضَى الدُّخانُ لسنينَ أصابتهم
(3)
.
حدَّثني يعقوبُ بن إبراهيمَ، قال: ثنا ابن عليةَ، قال: ثنا أيوبُ، عن محمدٍ، قال: نُبِّئتُ أنّ ابنَ مسعودٍ كان يقولُ: قد مضَى الدُّخانُ، كان سنينَ كسِني يوسفَ
(3)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} . قال: الجَدْبُ وإمساكُ المطرِ عن كفارِ قريشٍ. إلى قوله: {إِنَّا مُؤْمِنُونَ}
(4)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} . قال: كان ابن مسعودٍ يقولُ: قد مضَى الدُّخانُ، وكان سنينَ
= عن عاصمٍ عن زيد عن علي بن الحسين مرسلًا عن النبي صلى الله عليه وسلم.
(1)
تقدم مطولًا من طريق آخر عن ابن مسعود ص 14.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 28 إلى المصنف وعبد بن حميد.
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 233.
(4)
تفسير مجاهد 597، وعزاه السيوطي في الدر المنثور - كما في المخطوطة الأحمدية ص 377 - إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
كسِنى يوسفَ، {يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذٍ يقولُ: أخبَرنا عبيدٌ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} : قد مضَى شأنُ الدُّخانِ
(1)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن مغيرةَ، عن إبراهيمَ، عن عبدِ الله:{يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى} . قال: يومَ بدرٍ
(2)
.
وقال آخرون: الدُّخانُ آيةٌ من آياتِ اللَّهِ، مرسَلةٌ على عبادِه قبلَ مجيءِ الساعةِ، فيدخُلُ في أسماعِ أهلِ الكفرِ به، ويعترِى أهلَ الإيمانِ به كهيئةِ الزُّكامِ. قالوا: ولم يأْتِ بعد، وهو آتٍ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني واصلُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن فُضَيلٍ، عن الوليدِ بن جُميعٍ، عن عبدِ الملكِ بن المغيرةِ، عن عبدِ الرحمنِ بن البيلمانيِّ
(3)
، عن ابن عمرَ، قال: يخرُجُ الدُّخانُ، فيأخذُ المؤمنَ كهيئةِ الزَّكْمةِ
(4)
، ويدخُلُ في مسامعِ الكافرِ والمنافقِ حتى يكونَ كالرأْسِ الحَنيذِ
(5)
.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا ابن عليةَ، عن ابن جريجٍ، عن عبدِ اللَّهِ بن
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 233.
(2)
تقدم تخريجه 17/ 540.
(3)
في م: "البيلمان"، وفى ت 1، ت 2، ت 3:"السليماني".
(4)
في ت 2، وتفسير ابن كثير:"الزكام".
(5)
عزاه ابن كثير في تفسيره 7/ 235 إلى المصنف، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 29 إلى المصنف.
ذات أبي مُليكةَ، قال: غدوتُ على ابن عباسٍ يومٍ، فقال: ما نمتُ الليلةَ حتى أصبحتُ. قلتُ: لمَ؟ قال: قالوا: طلَع الكوكبُ ذو الذَّنَبِ، فخشِيتُ أن يكونَ الدُّخانُ قد طَرَق، فما نمتُ حتى أصبحتُ
(1)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ بَزيعٍ، قال: ثنا بشرُ بنُ المُفَضّلِ، عن عوفٍ، قال: قال الحسنُ: إنّ الدُّخان قد بَقى مِن الآياتِ، فإذا جاء الدُّخانُ نَفَخ الكافرَ حتى يَخْرُجَ مِن كلِّ سمعٍ من مسامعِه، ويأخذُ المؤمنَ كزَكْمةٍ
(2)
.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا عثمانُ، يعنى ابنَ الهيثمِ، قال: ثنا عوفٌ، عن الحسنِ بنحوِه.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، عن الحسنِ، عن أبي سعيدٍ، قال: يَهِيجُ الدُّخانُ بالناسِ؛ فأمّا المؤمنُ فيأخذُه منه كهيئةِ الزَّكْمةِ، وأما الكافرُ فيهيجُه حتى يخرُجَ من كلِّ مِسْمَع منه. قال: وكان بعضُ أهلِ العلمِ يقولُ فما مَثَلُ الأرضِ يومَئِذٍ إلا كمَثَلِ بيتٍ أُوقِد فيه ليس فيه خَصاصةٌ
(3)
.
حدَّثني عصامُ بنُ رَوَّادِ بن الجُرَّاحِ، قال: ثنى أبي، قال: ثنا سفيانُ بنُ سعيدٍ الثوريُّ، قال: ثنا منصورُ بنُ المعتمرِ، عن رِبْعيِّ بن حِراشٍ، قال: سمعتُ حُذيفةَ بنَ اليمانِ يقولُ: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أوّلُ الآياتِ الدَّجَّالُ، ونُزُولُ عيسى ابن مريمَ،
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 206، والحاكم 4/ 459 من طريق ابن جريج به، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره - كما في تفسير ابن كثير 7/ 235 - من طريق ابن أبي مليكة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 29 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 29 إلى عبد بن حميد.
(3)
الخصاصة: الفرجة أو الخلل. اللسان (خ ص ص).
والأثر أخرجه ابن أبي حاتم - كما في تفسير ابن كثير 7/ 234 - من طريق الحسن به مرفوعًا، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 29 إلى عبد بن حميد.
ونارٌ تَخْرُجُ مِن قَعْرِ عَدَنِ أَبْيَنَ، تَسُوقُ الناسَ إلى الْمَحشَرِ، تَقِيلُ معهم إذا قالوا، والدُّخانُ". قال حذيفةُ: يا رسولَ اللَّهِ، وما الدُّخانُ؟ فتلا رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الآيةَ:{يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} - يملأُ ما بينَ المشرقِ والمغربِ، يَمكُثُ أربعينَ يومًا وليلةً؛ أما المؤمنُ فيصيبُه منه كهيئةِ الزُّكام، وأما الكافرُ كمنزلةِ السَّكرانِ يخرُجُ مِن مَنْخَرَيْهِ وأُذُنَيْه ودُبُرِه"
(1)
.
حدَّثني محمدُ بن عوفٍ، قال: ثنا محمدُ بن إسماعيلَ بن عياشٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى ضَمْضَمُ بنُ زُرْعَةَ، عن شريح بن عُبيد، عن أبي مالكٍ الأشعريِّ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إنّ ربَّكم أنْذَركم ثلاثًا؛ الدُّخانُ يأخذُ المؤمنَ كالزَّكْمَةِ، ويأخذُ الكافرَ فيَنْتَفِخُ حتى يخرُجَ مِن كُلَّ مِسْمَعٍ منه، والثانيةُ الدَّابَّةُ، والثالثةُ الدَّجَّالُ"
(2)
.
وأولى القولين بالصواب في ذلك ما رُوى عن ابن مسعودٍ، من أنّ الدُّخانَ الذي أمر اللَّهُ نبيِّه صلى الله عليه وسلم أن يرتقبَه، هو ما أصاب قومَه من الجَهْدِ بدعائِه عليهم، على ما وصفه ابن مسعودٍ مِن ذلك، إن لم يكنْ خبرُ حذيفةَ الذي ذكَرْناه عنه عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صحيحًا، وإن كان صحيحًا، فرسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أعلم بما أنزَل الله عليه، وليس لأحدٍ مع قولِه الذي يَصِحُّ عنه قولٌ.
وإنما لم أشهدْ له بالصِّحةِ؛ لأن محمدَ بنَ خلفٍ العسقلانيَّ حدَّثني أنه سأل روّادًا عن هذا الحديثِ، هل سمِعه من سفيانَ؟ فقال له: لا. فقلتُ له: فقرأْتَه
(1)
أخرجه البغوي في تفسيره 7/ 230 من طريق المصنف به، وتقدم أوله 16/ 397، 398.
(2)
أخرجه الطبراني (3440)، وفي مسند الشاميين 2/ 442 من طريق محمد بن إسماعيل به.
عليه؟ فقال: لا. فقلتُ له: فقُرئَ عليه وأنت حاضرٌ فأَقرَّ بِهِ؟ فقال: لا. فقلتُ له: فمن أين جئتَ به؟ قال: جاءني به قومٌ فعرَضوه عليّ، وقالوا لي: اسمعْه منا. فقرءُوه عليَّ، ثم ذهبوا، فحدَّثوا به عنى. أو كما قال، فلِمَا ذكَرْتُ من ذلك لم أشهدْ له بالصِّحةِ.
وإنما قلتُ: القولُ الذي قاله عبد الله بن مسعودٍ هو أولى بتأويلِ الآيةِ؛ لأنَّ اللَّهَ جلّ ثناؤه توعد بالدُّخَانِ مشركي قريشٍ، وأن قوله لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم:{فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} . في سياقِ خطابِ اللَّهِ كفارِ قريشٍ وتقريعه إياهم بشركهم بقولِه: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ} [الدخان: 8، 9]. ثم أَتْبع ذلك قولَه لنبيِّه عليه الصلاة والسلام: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} - أمرًا منه له بالصبر إلى أن يأتيهم بأشه، وتهديدا للمشركين، فهو بأن يكون إذ كان وعيدا لهم قد أحَلَّه بهم، أشبه مِن أنْ يكونَ أَخَرَه عنهم لغيرهم.
وبعد، فإنه غيرُ مُنكَرٍ أن يكونَ أحلَّ بالكفارِ الذين توعَّدهم بهذا الوعيدِ ما توعَّدهم، ويكونَ مُحِلًّا فيما يُستأنف بعد بآخرين دُخَانًا، على ما جاءت به الأخبارُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندَنا كذلك؛ لأن الأخبارَ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قد تَظَاهَرَتْ بأن ذلك كائنٌ، فإنه قد كان ما رَوى عنه عبدُ اللَّهِ بن مسعودٍ، فكلا الخبَرين اللذَين رُويا عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صحيح. وإن كان تأويلُ الآيةِ في هذا الموضعِ ما قلنا.
فإذ كان الذي قلنا في ذلك أولى التأويلينِ، فبيِّنٌ أن معناه: فانتظر يا محمدُ لمشركي قومِك يومَ تأتيهم السماءُ مِن البلاء الذي يحُلُّ بهم على كفرِهم، بمثلِ الدُّخان المُبِيِن لمن تأمَّله أنه دُخانٌ.
{يَغْشَى النَّاسَ} . يقولُ: يغشى أبصارَهم من الجَهْدِ الذي يُصِيبُهم،
{هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} . يعنى أنهم يقولون مما ينالُهم من ذلك الكربِ والجَهْدِ: هذا عذابٌ أليمٌ. وهو الموجعُ، وتُرِك من الكلامِ "يقولون"، اسْتِغْناءً بمعرفةِ السامعين معناه مِن ذكرِها.
وقولُه: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ} . يعنى أن الكافرين الذين يُصيبُهم ذلك الجَهْدُ يَضْرعون إلى ربِّهم، بمسْألتِهم إياه كشفَ ذلك الجَهْدِ عنهم، ويقولون: إنك إنْ كشَفْتَه عنا آمنّا بك وعبَدناك من دونِ كلِّ معبودٍ سواك. كما أخبَر عنهم جلَّ ثناؤُه: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} .
القولُ في تأويلِ قولهِ تعالى: {أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15)}
يقولُ تعالى ذكرُه: مِن أيِّ وجهٍ لهؤلاء المشركين التَّذكُّرُ
(1)
مِن بعدِ نزولِ البلاءِ بهم، وقد تولَّوا عن رسولِنا حينَ جاءهم، مُدبِرين عنه، لا يتذكَّرون بما يُتلى عليهم مِن كتابِنا، ولا يتَّعِظون بما يعظُهم به مِن حُجَجنا، ويقولون: إنما هو مجنونٌ عُلِّم
(2)
هذا الكلامَ.
وبنحوِ الذي قلنا في تأويلِ قولهِ: {أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى} قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"التذكير".
(2)
في ص، ت 1، ت 2 ت 3:"على". والمثبت من: م، وقد أثبته مراجع المطبوعة هكذا ليستقيم السياق، على اعتبار أن لفظة (على) محرفة عن (علم) في نسخته المخطوطة.
في قولِه: {أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى} . يقولُ: كيف لهم
(1)
؟
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى} : بعدَ وقوعِ هذا البلاءِ
(2)
.
وبنحوِ الذي قلنا أيضًا في قولِه: {ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ} قَالَ أَهلُ التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى،، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ} . قال: تولُّوا عن محمدٍ عليه السلام، وقالوا: معلَّمٌ مجنونٌ
(2)
.
وقولُه: {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} . يقولُ تعالى ذكرُه لهؤلاء المشركين الذين أخبَر عنهم أنهم يستغيثون به مِن الدُّخانِ النازلِ، والعذابِ الحالِّ بهم مِن الجَهْدِ، وأخبَر عنهم أنهم يعاهِدونه أنه إن كشف العذابَ عنهم آمنوا:{إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ} . يعنى: الضرِّ النازلِ بهم، بالخِصْبِ الذي نُحدثُه لهم قليلًا، {إِنَّكُمْ عَائِدُونَ}. يقولُ: إنكم أيُّها المشركون إذا كشَفْتُ عنكم ما بكم من ضرٍّ، لم تفُوا بما تعِدون وتعاهِدون عليه ربَّكم من الإيمانِ، ولكنَّكم تعوُدون في ضلالِكم وغيِّكم، كما كنتم قبلَ أن يُكْشَفَ عنكم.
(1)
تقدم تخريجه في 19/ 315.
(2)
تفسير مجاهد ص 597، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 28 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
وكان قتادةَ يقولُ: معناه: إنكم عائدون في عذابِ اللهِ. حدَّثنا بذلك ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عنه
(1)
.
وأما الذين قالوا: عُنِى بقولِه: {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} . الدخانُ نفسُه. فإنهم قالوا في هذا الموضعِ: عُنِى بالعذابِ الذي قال: {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ} . الدخانُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا} . يعنى: الدُّخانِ
(2)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا} . قال: قد فعَل، كشَف الدُّخانَ حينَ كان. قولَه:{إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} . قال: كُشِف عنهم فعادوا.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} : إلى عذاب اللَّهِ (1).
القولُ في تأويلِ قولهِ تعالى: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16) وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18)} .
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 207 من طريق معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 28 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 28 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر.
يقولُ تعالى ذكرُه: إنكم أيُّها المشركون إن كشفْتُ عنكم العذابَ النازلَ بكم، والضرَّ الحالَّ بكم
(1)
، ثم عُدتم في كفركِم، ونقَضْتم عهدَكم الذي عاهَدْتم ربَّكم، انتقمْتُ منكم يومَ أبطشُ بكم بَطْشتى الكبرى في عاجلِ الدنيا، فأُهلِكُكم. وكشَف الله عنهم، فعادوا، فبطَش بهم جلّ ثناؤُه بطشته الكبرى في الدنيا، فأهلكهم قتلًا بالسيفِ.
وقد اختلَف أهلُ التأويلِ في البطشةِ الكبرى؛ فقال بعضُهم: هي بطشةُ الله بمشركي قريشٍ يومَ بدرٍ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن المثنى، قال: ثنى ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا داود، عن عامر، عن ابن مسعود أنه قال: البطشة الكبرى يومَ بدرٍ.
حدَّثني عبد الله بن محمد الزهريُّ، قال: ثنا مالكٍ بنُ سُعيرٍ، قال: ثنا الأعمشُ، عن مسلمٍ، عن مسروقٍ، قال: قال [عبدُ اللهِ]
(2)
: يومَ بدرٍ، يومَ البطشةِ الكبرى
(3)
.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابن عليةَ، قال: ثنا أيوب، عن محمد، قال: نُبِّئتُ أنّ ابن مسعودٍ كان يقولُ: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى} : يومَ بدرٍ.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابن عليةَ، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ:{يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى} . قال: يومَ بدرٍ.
(1)
بعده في ت 1: "في عاجل الدنيا".
(2)
سقط من: م، ت 1.
(3)
تقدم في ص 14، 15.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إ} . قال: يومَ بدرٍ
(1)
.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا ابن أبى عديٍّ، عن عوفٍ، قال: سمِعتُ أبا العاليةِ في هذه الآيةِ: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى} . قال: يومَ بدرٍ
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ} . قال: يعنى يومَ بدرٍ
(3)
.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا عَثَّامُ بنُ عليٍّ، عن الأعمشِ، عن إبراهيمَ، قال: قلتُ: ما
(4)
البطشة الكبرى؟ قال: يومَ القيامةِ. فقلتُ: إنّ عبد الله كان يقولُ: يومَ بدرٍ. قال: فبلَغني أنه سُئِل بعدُ، فقال: يومَ بدرٍ.
حدَّثنا أبو كُرَيبٍ وأبو السائبِ، قالا: ثنا ابن إدريسَ، عن الأعمشِ، عن إبراهيمَ بنحوِه.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، عن أبي الخليلِ، عن مجاهدٍ، عن أبي بن كعبٍ، قال: يومَ بدرٍ
(5)
.
(1)
تفسير مجاهد ص 597، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 29 إلى عبد بن حميد.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة 14/ 387 من طريق ابن عون، عن أبي العالية به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 29 إلى عبد بن حميد.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 29 إلى ابن مردويه.
(4)
سقط من: ص، ت 1، ت 2 ت 3.
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 29 إلى المصنف وعبد بن حميد.
حُدِّثتُ عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبَرنا عبيدٌ، قال: سمعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى} : يومَ بدرٍ
(1)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى} . قال: هذا يومَ بدرٍ
(2)
.
وقال آخرون: بل هي بطشةُ اللهِ بأعدائهِ يومَ القيامةِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يعقوبُ بن إبراهيمَ، قال: ثنا ابن عليةَ، قال: ثنا خالدٌ الحذَّاءُ، عن عكرمةَ، قال: قال ابن عباسٍ: قال ابن مسعودٍ: البطشةُ الكبرى يومَ بدرٍ. وأنا أقولُ: هي يوم القيامةِ
(3)
.
حدَّثنا أبو كريبٍ وأبو السائبِ، قالا: ثنا ابنَ إدريسَ، قال: ثنا الأعمشُ، عن إبراهيمَ، قال: مرَّ بي عكرمةَ، فسأْلتُه عن البطشةِ الكبرى، فقال: يومَ القيامةِ. قال: قلتُ: إن عبد الله بن مسعودٍ كان يقولُ: يومَ بدرٍ. وأخبَرني مَن سأله بعدُ، فقال: يومَ بدرٍ
(4)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ في قولِه:{يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى} . قال قتادةُ عن الحسنِ: إنه يومُ القيامةِ
(5)
.
(1)
ذكره القرطبي في تفسيره 16/ 134.
(2)
ذكره الطوسي في التبيان 9/ 226.
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 237 عن المصنف، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 29 إلى المصنف وعبد بن حميد.
(4)
ذكره الذهبي في السير 5/ 28، والحافظ في هدى السارى ص 426 عن الأعمش، عن إبراهيم.
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 29 إلى عبد بن حميد.
وقد بيَّنا الصواب في ذلك فيما مضَى، والعلةَ التي من أجلها اختَرْنا ما اختَرْنا من القولِ فيه
(1)
.
وقولُه: {وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ} . يعنى تعالى ذكره: ولقد اختبَرْنا وابتلَينْا يا محمدُ قبل مشركي قومِك مثالَ
(2)
هؤلاء؛ قومَ فرعونَ مِن القبطِ، {وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ}. يقولُ: وجاءَهم رسولٌ من عندِنا أرسَلناه إليهم، وهو موسى بنُ عمران صلواتُ اللَّهِ عليه.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ} : يعني موسى.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ في قولِه:{رَسُولٌ كَرِيمٌ} . قال: موسى عليه السلام
(3)
.
ووصَفه جلّ ثناؤُه بالكرمِ لأنه كان كريمًا عليه، رفيعًا عندَه مكانُه. وقد يجوزُ أن يكونَ وصَفه بذلك لأنه كان في قومِه شريفًا وسيطًا.
وقولُه: {أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ} . يقولُ تعالى ذكرُه: وجاء قومَ فرعونَ رسولٌ من الله كريمٌ عليه بأن ادفعوا إليَّ. ومعنى {أَدُّوا} : ادفَعوا إليَّ، فأَرِسلوا معى واتبعونِ. وهو نحوُ قولِه: {أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي
(1)
ينظر ما تقدم في ص 20.
(2)
في ص، ت 2، ت 3:"فقال".
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 207 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 29 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 17]. فـ {أَنْ} في قولِه: {أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ} . نَصْبٌ، {عِبَادَ اللَّهِ} نُصِب بقولِه:{أَدُّوا} . وقد تأوَّله قوم: أن أدّوا إليَّ يا عبادَ اللَّهِ. فعلى هذا التأويلِ {عِبَادَ اللَّهِ} نَصْبٌ على النداءِ.
وبنحوِ الذي قلنا في تأويلِ {أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ} قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قوله:{وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} . قال: يقولُ: اتَّبِعوني إلى ما أدعوكم إليه من الحقِّ
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ} . قال: أَرْسِلوا معى بنى إسرائيل
(2)
.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ} قال: بنى إسرائيلَ
(3)
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ: {أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 29 إلى المصنف وابن أبي حاتم وابن مردويه.
(2)
تفسير مجاهد ص 597.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 207 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 29 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
ـ
اللَّهِ}: يعني به
(1)
بنى إسرائيلَ، قال لفرعونَ: علامَ تَحْبِسُ هؤلاء القوم؟ قومًا أحرارًا اتَّخذتهم عبيدًا، خَلِّ سبيلَهم.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ} . قال: يقولُ: أَرْسِلْ عبادَ اللهِ معى. يعنى بني إسرائيلَ. وقرَأ: {فَأَرْسِلْ
(2)
مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ} [طه: 47]. قال: ذلك قولُه: {أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ} . قال: وَدِّهم إلينا
(3)
.
وقولُه: {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} . يقولُ: إني لكم أيُّها القومُ رسولٌ مِنَ اللَّهِ، أرسلنى إليكم؛ لا يُدركُكم
(4)
بأسه على كفرِكم به، {أَمِينٌ}. يقولُ: أمينٌ على وحيِه ورسالتِه التي أوفَدنيها
(5)
إليكم.
القولُ في تأويلِ قولهِ تعالى: {وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وجاءهم رسولٌ كريمٌ: أن أدّوا إليَّ عبادَ الله، وبأنْ لا تَعْلوا على اللَّهِ.
وعُنِى بقولِه: {وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ} : ألا تَطْغَوا وتَبْغُوا على ربِّكم، فتكفروا به وتعصُوه، فتُخالفوا أمرَه، {إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ}. يقولُ: إني آتيكم بحجةٍ على حقيقةِ ما أدعوكم إليه، وبرهانٍ على صحتِه، مُبينٍ لمن تأمَّلها وتدبَّرها أنها
(1)
سقط من: ت 2 ت 3.
(2)
في ص، ت 2، ت 3:"أن أرسل".
(3)
ينظر البحر المحيط 8/ 35.
(4)
في ت 1: "لأنذركم".
(5)
في النسخ: "أوعدنيها".
حجةٌ لي على صحةِ ما أقولُ لكم.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قوله:{وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ} . أي: لا تَبْغُوا على اللَّهِ، {إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ}. أي: بعذرٍ مُبينٍ
(1)
.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ بنحوِه
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قوله:{وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ} . يقولُ: لا تَفْتَرُوا على الله
(2)
.
وقولُه: {وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ} . يقولُ: وإنى اعتصمتُ بربِّي وربِّكم، واستجَرْتُ به منكم أن ترجمونِ.
واختلَف أهلُ التأويلِ في معنى الرَّجُمِ الذي استعاذه موسى نبيُّ اللَّهِ عليه السلام بربِّه منه؛ فقال بعضُهم: هو الشَّتْمُ باللسان.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قوله:{وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ} . قال: يعنى رَجْمَ
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 207، 208 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 29 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 29 إلى المصنف وابن أبي حاتم وابن مردويه.
القولِ
(1)
.
حدَّثني ابن المثنى، قال: ثنا عثمانُ بن عمرَ بن فارسٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن إسماعيلَ بن أبي خالدٍ، عن أبي صالحٍ في قولِه:{وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ} . قال: الرَّجمُ بالقول
(2)
.
حدَّثنا أبو هشامٍ الرفاعيُّ، قال: ثنا يحيى بنُ يمانٍ، قال: ثنا سفيانُ، عن إسماعيلَ، عن أبي صالحٍ:{وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ} . قال: أن تقولوا: هو ساحرٌ.
وقال آخرون: بل هو الرَّجمُ بالحجارةِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ} . أي: أن ترجُمونِ بالحجارةِ.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{أَنْ تَرْجُمُونِ} . قال: أن ترجُمونى بالحجارة
(3)
.
وقال آخرون: بل عُنى بقولِه: {أَنْ تَرْجُمُونِ} : أن تقتُلوني.
وأولى الأقوالِ في ذلك بالصوابِ ما دلَّ عليه ظاهرُ الكلام، وهو أنَّ موسى
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 29 إلى المصنف وابن أبي حاتم وابن مردويه بلفظ "تشتمون".
(2)
في ص، ت 2، ت، 2، ت 3:"القول".
والأثر ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 238.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 207 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 29 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
عليه السلام استعاذ باللهِ من أن يرجُمَه فرعونُ وقومُه، والرَّجُمُ قد يكونُ قولًا باللسانِ، وفعلًا باليدِ. والصوابُ أن يقالَ: استعاذ موسى بربِّه بربه مِن كلِّ معاني رجْمِهم، الذي يصلُ منه إلى المرجومِ أذًى ومكروهٌ؛ شتمًا كان ذلك باللسانِ، أو رجمًا بالحجارةِ باليدِ.
وقولُه: {وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ} . يقولُ تعالى ذكرُه مخبرًا عن قيل نبيِّه موسى عليه السلام لفرعونَ وقومه: وإنْ أنتم أيُّها القومُ لم تُصدِّقونى على ما جئتُكم به من عندِ ربِّي، {فَاعْتَزِلُونِ}. يقولُ: فخلُّوا سبيلي غيرَ مرْجومٍ باللسانِ ولا باليدِ.
كما حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ} . أي: فخلّوا سبيلى
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولهِ تعالى: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: {فَدَعَا} موسى {رَبَّهُ} إذ كذَّبوه ولم يؤمنوا به، ولم يؤدُّوا إليه عبادَ اللَّهِ، وهمُّوا بقتله، بـ {أَنَّ هَؤُلَاءِ}. يعني: فرعونَ وقومَه، {قَوْمٌ مُجْرِمُونَ}. يعنى: أنهم مشركون باللهِ كافرون.
وقولُه: {فَأَسْرِ بِعِبَادِي} . وفي الكلام محذوفٌ استُغْنِىَ بدلالةِ ما ذُكر عليه منه، وهو: فأجابه ربُّه بأن قال له: {فَأَسْرِ} إذ كان الأمرُ كذلك {بِعِبَادِي} . وهم بنو إسرائيلَ. وإنما معنى الكلامِ: فأَسْرِ بعبادى الذين صدَّقوك وآمَنوا بك
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 208 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 29 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
واتَّبعوك، دونَ الذين كذّبوك منهم وأبَوْا قبولَ ما جئتهم به من النصيحةِ منك، وكان الذين كانوا بهذه الصفةِ يومَئذٍ بني إسرائيلَ، وقال:{فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا} ؛ لأن معني ذلك: سِرْ بهم بليلٍ قبلَ الصباحِ.
وقولُه: {إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} . يقولُ: إن فرعون وقومه من القِبْطِ مُتَّبِعوكم إذا شَخَصْتم
(1)
عن بلدِهم وأرضِهم، في آثارِكم.
وقولُه: {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا} . يقولُ: وإذا قطعتَ البحرَ أنت وأصحابُك، فاترُكْه ساكنًا على حالِه التي كان عليها حينَ دخلْتَه. وقيل: إن اللَّهَ تعالى ذكرُه قال لموسى هذا القولَ بعدَ ما قطَع البحرَ ببني
(2)
إسرائيلَ، فإذ كان ذلك كذلك ففى الكلامِ محذوفٌ، وهو: فسَرَى موسى بعبادى ليلًا، وقطَع بهم البحرَ، فقلنا له بعدَ ما قطَعه وأراد ردَّ البحر إلى هيئتِه التي كان عليها قبلَ انفلاقه: اتركْه رهْوًا.
ذكرُ مَن قال ما ذكَرْنا، مِن أَنَّ اللَّهَ عز وجل قال لموسى هذا القولُ، بعد ما قطَع البحرَ بقومه
(3)
.
حدَّثنا بشرٍ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قوله:{فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُون} حتى بلَغ: {إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ} . قال: لما خرَج آخرُ بنى إسرائيلَ أراد نبيُّ اللَّهِ موسى عليه السلام أن يضربَ البحر بعصاه حتى يعودَ كما كان؛ مخافةَ آلِ فرعونَ أن يُدركوهم، فقيل له:{وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ} .
(1)
شخص: أي: خرج. اللسان (ش خ ص).
(2)
في ص: "بين بني".
(3)
بعده في ت 2 ت 3: "القول في تأويل قوله تعالى: {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ} ".
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ، قال: لما قطَع البحرَ، عطَف ليضربَ البحرَ بعصاه ليلتئِمَ، وخاف أن يتْبِعه فرعونُ وجنودُه، فقيل له:{وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا} كما هو، {إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ}
(1)
.
واختلَف أهلُ التأويلِ في معنى الرهْوِ؛ فقال بعضُهم: معناه: اتركْه على هيئتِه وحالِه التي كان عليها.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا} . يقولُ: سَمْتًا
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ} . قال: الرهْوُ: أن يُتْركَ كما كان، فإنهم لن
(3)
يَخلُصوا مِن ورائِه
(4)
.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا ابن عليةَ، قال: أخبَرنا حميدٌ، عن إسحاقَ [بن عبدِ]
(5)
اللهِ بن الحارثِ، عن أبيه، أن ابنَ عباسٍ سأل كعبًا عن قولِ اللَّهِ:{وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا} . قال: طريقًا
(6)
.
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 208، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 30 إلى عبد بن حميد.
(2)
السمت الطريق. اللسان (س م ت).
والأثر أخرجه ابن أبي حاتم - كما في الإتقان 2/ 42 - وابن عبد الحكم في فتوح مصر ص 24 من طريق أبي صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 29 إلى ابن المنذر.
(3)
في ت 1، ت 2، ت 3:"لم".
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 29 إلى المصنف.
(5)
في ص: "بن عبيد"، وفى م:"عن عبد". وينظر تهذيب الكمال 2/ 442.
(6)
أخرجه الحسين المروزى في زوائده على زهد ابن المبارك (1413) من طريق حميد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 29 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
وقال آخرون: بل معناه: اترُكْه سهلًا.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا حكامٌ، عن أبي جعفرٍ، عن الرَّبيعِ قولَه:{وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا} . قال: سهلًا
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا} . قال: يقالُ: الرهْوُ السهلُ
(2)
.
حدَّثنا ابن المثنى، قال: ثنا حَرَميُّ بنُ عُمارةَ، قال: ثنا شعبةُ، قال: أخبَرني عُمارة، عن الضحاكِ بن مُزاحمٍ في قولِ اللهِ عز وجل:{وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا} . قال: دَمِثًا.
حُدِّثْتُ عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبَرنا عبيدٌ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا} . قال: سهلًا دَمِثًا
(3)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا} . قال: هو السهلُ
(4)
.
وقال آخرون: بل معناه: واتركْه
(5)
يَبَسًا جَدَدًا
(6)
.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 29 إلى المصنف.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 29، 30 إلى المصنف. بلفظ:"دمثا". وكلاهما بمعنًى.
(3)
ذكره القرطبي في تفسيره 16/ 137 وأبو حيان في البحر المحيط 8/ 35.
(4)
ذكره ابن عبد الحكم في فتوح مصر ص 24 معلقًا، وينظر البحر المحيط 8/ 36.
(5)
في ت 2: "وأنزله".
(6)
الجدد: الطريق. اللسان (ج د د).
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ المثنى، قال: ثنى عبيدُ اللَّهِ بنُ معاذٍ، قال: ثنى أبي، عن شعبةَ، عن سماكٍ، عن عكرمةَ في قولِه:{وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا} . قال: جَدَدًا
(1)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ المثنى، قال: ثنى عبيدُ اللَّهِ بنُ معاذٍ، قال: ثنى أبي، عن شعبةَ، عن سماكٍ، عن عكرمةَ في قولِه:{وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا} . قال: يابسًا كهيئتِه بعدَ أن ضربَه، يقولُ: لا تأمرْه يَرْجِعْ، اتركْه حتى يدخُلَ آخرُهم
(2)
.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{رَهْوًا} . قال: طريقًا يَبَسًا
(3)
.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا} . قال: كما هو طريقًا يابسًا
(4)
.
وأولَى الأقوالِ في ذلك بالصوابِ قولُ مَن قال: معناه: اتركْه على هيئتِه كما هو، على الحالِ التي كان عليها حينَ سلَكْتَه. وذلك أَنَّ الرهْوَ في كلامِ العربِ السكونُ، كما قال الشاعرُ
(5)
:
(1)
أخرجه ابن عبد الحكم في فتوح مصر ص 24 من طريق الحكم بن أبان، عن عكرمة بلفظ: طريقًا. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 30 إلى المصنف.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 238.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 208 عن معمر به، وهو في تفسير مجاهد ص 598 - ومن طريقه الفريابي - كما في تغليق التعليق 4/ 310 - وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 30 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(4)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 208 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 30 إلى عبد بن حميد.
(5)
البيتان بدون نسبة في معاني القرآن للفراء 3/ 41، والأول في اللسان (ب د د، ن د د).
كأنَّما أَهلُ حُجْرٍ يَنْظُرون متى
…
يَرَوْنَني خارِجًا طيرٌ ينادِيدُ
(1)
طيرٌ رأَتْ بازيًا نَضْحُ
(2)
الدماءِ بِهِ
…
وأمُّهُ
(3)
خرجَتْ رهْوًا إلى عيدِ
(4)
يعني: على سكونٍ. وإذا كان ذلك معناه، كان لا شكَّ أنه متروكٌ سهلًا دَمِثًا، وطريقًا يَبَسًا؛ لأن بنى إسرائيلَ قطَعوه حينَ قطَعوه وهو كذلك، فإذا تُرِك البحرُ رهْوًا كما كان حينَ قطَعه موسى، ساكنًا لم يُهَج، كان لا شكَّ أنه بالصفةِ التي وصفْتُ.
وقولُه: {إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ} . يقولُ: إِنَّ فرعونَ وقومَه جندٌ اللَّهُ مُغْرِقُهم في البحرِ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: كم ترك فرعونُ وقومُه من القبطِ بعدَ مهلِكِهم وتغريقِ اللَّهِ إياهم من بساتينِ أشجارٍ
(5)
، وهى الجناتُ، {وَعُيُونٍ}. يعنى: ومنابعِ ماءٍ كان ينفجِرُ في جنانِهم.
{وَزُرُوعٍ} قائمةٍ في مزارِعهم، وَ {وَمَقَامٍ كَرِيمٍ}. يقولُ: ومَوضعٍ كانوا يقومونه، شريفٍ كريمٍ.
ثم اختلَف أهلُ التأويلِ في معنى وصفِ اللَّهِ ذلك المقامَ بالكرمِ؛ فقال بعضُهم: وصَفه بذلك لشرفِه، وذلك أنه مَقامُ الملوكِ والأمراءِ، قالوا: وإنما أُريد به المنابرُ.
(1)
طير يناديد وأناديد: متفرقة. اللسان (ن د د).
(2)
في المعاني: "نضخ". والمثبت موافق لنسختين من نسخه.
(3)
في المعانى: "أو أمة". والمثبت موافق لإحدى نسخه.
(4)
في البيتين إقواء، وهو اختلاف حركة الروى في قصيدة واحدة. ينظر الكافي في العروض والقوافي للتبريزي ص 160.
(5)
في م: "وأشجار".
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني جعفرُ بنُ ابنةِ إسحاقَ الأزرقِ، قال: ثنا سعيدُ بنُ محمدٍ الثقفيُّ، قال: ثنا إسماعيلُ بنُ إبراهيمَ بن مهاجرٍ، عن أبيه، عن مجاهدٍ في قولِه:{وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} . قال: المنابرِ
(1)
.
حدَّثني زكريا بنُ يحيى بن أبي زائدةَ، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ بنُ داودَ الواسطيُّ، قال: ثنا شريكٌ، عن سالمٍ الأفطسِ، عن سعيدِ بن جبيرٍ في قولِه:{وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} . قال: المنابرِ
(1)
.
وقال آخرون: وُصِف ذلك المَقامُ بالكرمِ؛ لحسنِه وبهجتِه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} . أي: حسَنٍ
(2)
.
وقولُه: {وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: وأُخْرِجوا مِن نَعْمَةٍ كانوا فيها فاكهين؛ مُتفكِّهين ناعمين.
واختلَفتِ القرأَةُ في قراءةِ قولِه: {فَاكِهِينَ} فقرَأ ذلك عامةُ قرأَةِ الأمصارِ خلا أبي جعفرٍ القارئ: {فَاكِهِينَ} . على المعنى الذي وصَفت. وقرَأه أبو رجاءٍ العُطارديُّ، والحسنُ، وأبو جعفرٍ المدنيُّ:(فَكِهِينَ). بمعنى: أَشِرِين بَطِرِين
(3)
.
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 238.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 30 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
ينظر البحر المحيط 8/ 36، وإتحاف فضلاء البشر ص 225.
والصوابُ مِن القراءةِ في ذلك عندى القراءةُ التي عليها قرأةُ الأمصارِ، وهى {فَاكِهِينَ} بالألفِ، بمعنى: ناعمين.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ} : ناعمين. قال: إىْ واللَّهِ، أخرَجه اللَّهُ مِن جنانِه وعيونِه وزروعِه، حتى ورَّطه في البحرِ
(1)
.
وقولُه: {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: هكذا كما وصَفتُ لكم أيُّها الناسُ، فعلنا بهؤلاءِ الذين ذكَرتُ لكم أمرَهم، الذين كذَّبوا رسولَنا موسى صلى الله عليه وسلم.
وقولُه: {وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: وأورَثْنا جنانَهم وعيونَهم وزروعَهم ومقاماتِهم، وما كانوا فيه من النعمةِ - عنهم قومًا آخرين بعدَ مهلِكِهم. وقيل: عُنِى بالقومِ الآخرين بنو إسرائيلَ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ} : يعنى بني إسرائيلَ
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29) وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 30 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر.
مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31)}.
يقولُ تعالى ذكرُه: فما بكَت على هؤلاء الذين غرَّقهم اللَّهُ في البحرِ، وهم فرعونُ وقومُه، السماءُ والأرضُ. وقيل: إن بكاءَ السماءِ حمرةُ أطرافِها.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ إسماعيلَ الأحمَسيُّ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ بنُ أبي حمادٍ، عن الحكمِ بن ظُهيرٍ، عن السديِّ، قال: لما قُتل الحسينُ بنُ عليٍّ رضوانُ اللَّهِ عليهم بكَتِ السماءُ عليه، وبكاؤُها حمرتُها
(1)
.
حدَّثني عليٌّ بنُ سهلٍ، قال: ثنى حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن عطاءٍ في قولِه:{فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ} . قال: بكاؤُها حمرةُ أطرافِها
(2)
.
وقيل: إنما قيل: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ} ؛ لأن المؤمنَ إذا مات بكَت عليه السماءُ والأرضُ أربعين صباحًا، ولم يبكيا على فرعونَ وقومِه؛ لأنه لم يكنْ لهم عملٌ يصعَدُ إلى اللَّهِ صالحٌ فتبكيَ عليهمُ السماءُ
(3)
، ولا مسجِدٌ في الأرضِ فتبكيَ عليهمُ الأرضُ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ
(4)
.
(1)
ذكره البغوي في تفسيره 7/ 232، وابن كثير في تفسيره 7/ 240.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 31 إلى المصنف وابن المنذر.
(3)
بعده في ص، ت 1، ت 3:"والأرض".
(4)
بعده في ت 3: "السماء تبكى على المؤمن الصالح والأرض تبكى على المؤمن الساجد عليها لله قال أهلُ التأويلِ".
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا طلقُ بْنُ غَنَّامٍ، عن زائدةَ، عن منصورٍ، عن المنهالِ، عن سعيدِ بن جبيرٍ، قال: أتَى ابنَ عباسٍ رجلٌ، فقال: يا أبا عباسٍ، أرأَيتَ قولَ اللَّهِ تبارك وتعالى:{فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} . فهل تبكى السماءُ والأرضُ على أحدٍ؟ قال: نعم، إنه ليس أحدٌ مِن الخلائقِ إلا له بابٌ في السماءِ، منه ينزلُ رزقُه، وفيه يصعَدُ عملُه، فإذا مات المؤمنُ فأُغلِق بابُه مِن السماءِ الذي كان يصعدُ عملُه وينزلُ منه رزقُه، بكَى عليه، وإذا فقَده مُصلَّاهُ مِن الأرضِ التي كان يُصلِّى فيها ويذكرُ اللَّهِ فيها، بكَت عليه، وإنّ قومَ فرعونَ لم يكنْ لهم في الأرضِ آثارٌ صالحةٌ، ولم يكنْ يصعدُ إلى السماءِ منهم خيرٌ، قال: فلم تَبْكِ عليهم السماءُ والأرضُ
(1)
.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ ويحيى، قالا: ثنا سفيانُ، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ، قال: كان يقالُ: تَبْكى الأرضُ على المؤمنِ أربعين صباحًا
(2)
.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن أبي يحيى القَتَّاتِ، عن مجاهدٍ، عن ابن عباسٍ بمثلِه
(3)
.
حدَّثني يحيى بنُ طلحةَ، قال: ثنا فُضيلُ بنُ عياضٍ، عن منصورٍ، عن
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 240 عن المصنف، وأخرجه البيهقى في شعب الإيمان (3288) من طريق زائدة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 30 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
أخرجه البيهقي في الشعب (3289) من طريق سفيان به، وابن أبي شيبة 13/ 570، ومن طريقه أبو نعيم في الحلية 3/ 297 من طريق منصور به.
(3)
أخرجه ابن المبارك في الزهد (338)، وابن أبي شيبة 13/ 373 من طريق سفيان به، وأخرجه أبو الشيخ في العظمة (1183) من طريق إسرائيل به، وأخرجه البيهقى في الشعب (3290) من طريق مجاهد به.
مجاهدٍ، قال: حدَّثتُ أنَّ المؤمنَ إذا مات بكَت عليه الأرضُ أربعينَ صباحًا.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا يعقوبُ بنُ إسحاقَ الحضرميُّ، قال: ثنا بُكَيْرُ بنُ أَبي السَّميطِ، قال: ثنا قتادةُ، عن سعيدِ بن جبيرٍ أنه كان يقولُ: إن بقاعَ الأرضِ التي كان يصعَدُ عملُه منها إلى السماءِ، تَبْكى عليه بعدَ موتِه، يعنى المؤمنَ
(1)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا حكامٌ، عن عمرٍو، عن منصورٍ، عن المنهالِ، عن سعيدِ بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ:{فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ} . قال: إنه ليس أحدٌ إلا له بابٌ في السماءِ ينزلُ فيه رزقُه، ويصعَدُ فيه عملُه، فإذا فُقِد بكَت عليه مواضعُه التي كان يسجُدُ عليها، وإنَّ قومَ فرعونَ لم يكنْ لهم في الأرضِ عملٌ صالحٌ يُقْبَلُ منهم فيصعَدَ إلى اللَّهِ عز وجل. فقال مجاهدٌ: تَبْكى الأرضُ على المؤمنِ أربعين صباحًا.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ، قال: كان يُقالُ: إِنَّ المؤمنَ إذا مات بكَت عليه الأرضُ أربعين صباحًا.
حدَّثنا يحيى بنُ طلحةَ، قال: ثنا عيسى بنُ يونسَ، عن صفوانَ بن عمرٍو، عن شريحِ بن عُبيدٍ الحضرميِّ، قال: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الإسلامَ بدَأ غريبًا، وسيعودُ غريبًا، أَلَا لا غُربة على المؤمنِ، ما مات مؤمنٌ في غُربةٍ غابت عنه فيها بَواكِيه، إلا بكَت عليه السماءُ والأرضُ". ثم قرَأ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ} ". ثم قال: "إنهما لا يَبْكيان على الكافرِ"
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن
(1)
ذكرُه القرطبي في تفسيره 16/ 140.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 239 عن المصنف، وأخرجه البيهقى في الشعب (9888) من طريق صفوان به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 30 إلى ابن أبي الدنيا. وينظر كشف الخفاء 1/ 282.
أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ} الآية. قال: ذلك أنه ليس على الأرضِ مؤمنٌ يموتُ إلا بكَى عليه ما كان يُصلِّى فيه مِن المساجدِ حينَ يفقِدُه، وإلا بكَى عليه من السماءِ الموضعُ الذي كان يُرفَعُ منه كلامُه، فذلك قولُه لأهلِ معصيتِه:{فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} ؛ لأنهما يبكيان على أولياءِ اللَّهِ
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ}
(2)
.
حدَّثتُ عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبَرنا عبيدٌ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ} . يقولُ: لا تَبْكى السماءُ والأرضُ على الكافرِ، وتَبْكى على المؤمنِ الصالحِ معالُمه مِن الأرضِ، ومقرُّ عملِه مِن السماءِ.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ في قولِه:{فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ} . قال: بِقاعُ المؤمنِ التي كان يُصلَّى عليها مِن الأرضِ تَبْكى عليه إذا مات، وبقاعُه من السماءِ التي كان يُرفعُ فيها عملُه
(3)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن منصورٍ، عن المنهالِ، عن سعيدِ بن جبيرٍ، قال: سُئِل ابن عباسٍ: هل تَبْكى السماءُ والأرضُ على أحدٍ؟ فقال: نعم، إنه
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 240 عن العوفي به.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 30 إلى المصنف وعبد بن حميد، ولفظه: هم كانوا أهون على الله من ذلك. قال: وكنا نحدث أن المؤمن تبكى عليه بقاعه التي كان يصلى فيها من الأرض ومصعد عمله السماء.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 208 عن معمر به.
ليس أحدٌ مِن الخَلْقِ إلا له بابٌ في السماءُ يصعَدُ فيه عملُه وينزِلُ منه رزقُه، فإذا مات بكَى عليه مكانُه مِن الأرضِ الذي كان يذكُرُ اللَّهِ فيه ويُصلِّى فيه، وبكَى عليه بابُه الذي كان يصعَدُ فيه عملُه وينزِلُ منه رزقُه، وأما قومُ فرعونَ فلم يكنْ لهم آثارٌ صالحةٌ، ولم يصعَدُ إلى السماءِ منهم خيرٌ، فلم تبْكِ عليهم السماءُ والأرضُ
(1)
.
وقولُه: {وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} . يقولُ: وما كانوا مؤخَّرين بالعقوبةِ التي حلَّت بهم، ولكنهم عُوجِلوا بها إذ أسْخَطوا ربَّهم عز وجل عليهم.
{وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ} . يقولُ تعالى ذكرُه: ولقد نجَّيْنا بني إسرائيلَ مِن العذابِ الذي كان فرعونُ وقومُه يعذِّبونهم به {الْمُهِينِ} .
يعني: المذلِّ لهم.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ} : يُقَتَّلُ أبناءَهم، ويستحيى نساءَهم.
وقولُه: {مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: ولقد نجَّيْنا بني إسرائيلَ من العذابِ مِن فرعونَ.
فقولُه: {مِنْ فِرْعَوْنَ} . مكرَّرةٌ على قولِه: {مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ} .
مُبْدَلَةٌ مِن {مِنَ} الأولى.
ويعنى بقولِه: {إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ} : إنه كان جبَّارًا مستعليًّا
(1)
تقدم تخريجه في ص 42.
مستكبرًا على ربِّه، {مِنَ الْمُسْرِفِينَ}. يعنى: مِن المتجاوِزين ما ليس لهم تجاوزُه. وإنما يعنى جلَّ ثناؤُه أنه كان ذا اعتداءِ في كفرِه، واستكبارٍ
(1)
على ربِّه جلَّ ثناؤُه.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32) وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ (33)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: ولقد اختَرْنا بني إسرائيلَ على علمٍ منَّا بهم، على عالَمى
(2)
أهلِ زمانِهم يومَئذٍ، وذلك زمانَ
(3)
موسى عليه السلام.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} . أي: اختيروا على أهلِ زمانِهم ذلك، ولكلِّ زمانٍ عالَمٌ.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ في قولِه:{وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} . قال: عالَمِ ذلك الزمانِ
(4)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"واستكبارًا".
(2)
في ص، ت 3:"عالي".
(3)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"امام"، ولعل صوابها:"أيام".
(4)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 208 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 31 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
قولَه: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} . قال: على مَن هم بينَ ظَهْرَانَيه
(1)
.
قولُه: {وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ} . يقولُ تعالى ذكرُه: وأعطَيْناهم مِن العِبَرِ والعِظاتِ ما فيه اختبارٌ يَبِينُ لمن تأمَّله أنه اختبارٌ اختبَرهم اللَّهُ تعالى به.
واختلَف أهلُ التأويلِ في ذلك البلاءِ؛ فقال بعضُهم: ابتلاهم بنعَمِه عندَهم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ} : أنجَاهم اللَّهُ من عدوِّهم، ثم أقطَعهم البحرَ، وظلَّل عليهم الغمامَ وأنزَل عليهم المنَّ والسلوى
(2)
.
وقال آخرون: بل ابتلاهم بالرخاءِ والشدَّةِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ} . وقرأ: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35]. وقال: بلاءٌ مُبِينٌ لمن آمن بها وكفَر بها، بَلْوى نبتليهم بها؛ نُمحِّصُهم، بَلْوى اختبارٍ نختبرُهم بالخيرِ والشرِّ، نختبرُهم لننظُرَ
(1)
تفسير مجاهد ص 598، ومن طريقه الفريابي - كما في تغليق التعليق 4/ 310 - وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 31 إلى ابن المنذر.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 31 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر.
فيما أتاهم مَن الآياتِ مَن يؤمنُ بها وينتفِعُ بها ويضيِّعُها
(1)
.
وأولى الأقوالِ في ذلك بالصوابِ أن يقالَ: إنّ اللَّهَ تعالى ذكرُه أخبرَ أنه آتى بنى إسرائيلَ مِن الآيات ما فيه ابتلاؤُهم واختبارُهم، وقد يكونُ الابتلاءُ والاختبارُ بالرخاءِ، ويكونُ بالشدَّةِ، ولم يضَعْ لنا دليلًا مِن خبرٍ ولا عقلٍ أنه عَنى بعضَ ذلك دونَ بعضٍ، وقد كان اللَّهُ اختبرَهم
(2)
بالمعنَيَيْن كليهما جميعًا، وجائزٌ أن يكونَ عَنى اختبارَه
(3)
إياهم بهما. فإذ كان الأمرُ على ما وصفْنا، فالصوابُ مِن القولِ فيه أن نقولَ كما قال جلَّ ثناؤُه: إِنَّه اختبَرهم.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (36)} .
يقولُ تعالى ذكرُه مخبرًا عن قيلِ مشرِكي قريشٍ لنبيِّ
(4)
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ هؤلاء المشرِكين من قومِك يا محمدُ ليقولون:
ما هي إلا مَوْتَتُنا الأُولى التي نموتُها، وهى الموتةُ الأولى، فما نحن بمُنْشرين بعدَ مماتِنا، ولا بمبعوثين. تكذيبًا منهم بالبعثِ والثوابِ والعقابِ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ} . قال: قد قال
(1)
ذكره البغوي في تفسيره 7/ 233، والقرطبي في تفسيره 16/ 143 مختصرًا.
(2)
في ص، ت 2، ت 3:"أخبرهم".
(3)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"اختبارهم".
(4)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"نبي".
مشرِكو
(1)
العربِ: {وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ} . أي: بمبعوثين
(2)
.
وقولُه: {فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: قالوا لمحمدٍ عليه الصلاة والسلام: فأتوا بآبائِنا الذين قد ماتوا، إن كنتم صادقين أنَّ الله باعثُنا من بعدِ بِلانا في قبورِنا، ومُحْيِينا من بعدِ مماتِنا. وخُوطِب صلى الله عليه وسلم هو وحده خطابَ الجميعِ، كما قيل:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق: 1]. وكما قال: {رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون: 99]. وقد بيَّنتُ ذلك في غيرِ موضعٍ من كتابِنا
(3)
.
القولُ في تأويلِ قوله تعالى: {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37)} .
يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: أهؤلاء المشرِكون يا محمدُ من قومِك خيرٌ، {أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ}. يعنى: تُبَّعًا الحِمْيَرِيَّ.
كما حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللَّهِ عز وجل:{أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ} . قال: الحِمْيَرِيِّ.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ} : ذُكِر لنا أن تُبَّعًا كان رجلًا من حِمْيَرَ، سارَ بالجيوشِ حتى حيَّر الحِيرةَ، ثم أتَى سَمَرْقَند فهدَمها. وذُكِر لنا أنه كان إذا كَتَب كتَب: باسمِ الذي تسمَّى، وملَك
(1)
بعده في ت 3: "قريش و".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 31 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
بعده في ت 1: "هذا"، وفى ت 2، ت 3:"هذا بما أغنى عن إعادته". ينظر ما تقدم 2/ 404 وما بعدها.
برًّا وبحرًا، وصَحًا
(1)
وريحًا. وذُكِر لنا أن كعبًا كان يقولُ: نُعِت نَعْتَ الرجلِ الصالحِ، ذمَّ اللَّهِ قومَّه ولم يَذُمَّه. وكانت عائشةُ تقولُ: لا تَسُبُّوا تُبَّعًا، فإنَّه كان رجلًا صالحًا
(2)
.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ، قال: قالت عائشةُ: كان تُبَّعٌ رجلًا صالحًا. وقال كعبٌ: ذم اللَّهِ قومَه ولم يَذُمَّه
(3)
.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن، ثورٍ، عن معمرٍ، عن تميمِ بن عبدِ الرحمنِ، عن سعيدِ بن جبيرٍ، أن تبَّعًا كسا البيتَ. ونهَى سعيدٌ عن سبِّه
(4)
.
وقولُه: {وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} . يقولُ تعالى ذكرُه: أهؤلاء المشرِكون من قُريشٍ [خيرٌ أم]
(5)
قومُ تُبَّعٍ والذين من قبلِهم من الأممِ الكافرةِ بربِّها؟ يقولُ: فليس هؤلاء بخيرٍ من أولئك فنَصْفَحَ عنهم ولا نُهْلِكَهم، وهم باللَّهِ كافرون، كما كان الذين أَهْلَكْنا من الأممِ قبلَهم كفارًا.
وقولُه: {إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} . يقولُ: إن قومَ تُبَّعٍ والذين من قبلِهم من الأممِ الذين أَهْلَكناهم؛ إنما أهلَكْناهم لإجرامِهم، وكفرِهم بربِّهم.
وقيل: {إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} . فكُسِرت أَلفُ "إن" على وَجْهِ الابتداءِ وفيها
(1)
من الصحو وهو ذهاب الغيم. ينظر اللسان (ص ح و).
(2)
ذكره ابن كثير 7/ 244، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 31 إلى المصنف وعبد بن حميد، وليس عندهما قول قتادة.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 208، ومن طريقه ابن عساكر في تاريخه 11/ 6 - عن معمر به، وأخرجه الحاكم 2/ 450 من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 31 إلى عبد بن حميد.
(4)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 208، 209، ومن طريقه ابن عساكر في تاريخه 7/ 11 - عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 31 إلى ابن المنذر.
(5)
في ص، ت 3:"خيرًا من".
معنى الشرطِ، استغناءً بدلالةِ الكلامِ على معناها.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وما خَلَقْنا السماواتِ السبعَ والأرَضِين وما بينَهما من الخلقِ لعِبًا.
وقولُه: {مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} . يقولُ: ما خلَقْنا السماواتِ والأرضَ إلا بالحقِّ الذي لا يَصْلُحُ التدبيرُ إلا به.
وإنما يَعْنى بذلك تعالى ذكرُه التنبيهَ على صحةِ البعثِ والمجازاةِ، يقولُ تعالى ذكرُه: لم نَخْلُقِ الخلقَ عَبَثًا، بأن نُحدِثَهم فنُحْيِيَهم ما أردنا، ثم نُفْنِيَهم من غيرِ الامتحانِ بالطاعةِ والأمرِ والنهيِ، من غيرِ مجازاةِ المطيعِ على طاعتهِ، والعاصى على المعصيةِ، ولكنَّا خَلَقْنا ذلك لنَبْتَلِىَ من أردنا امتحانَه من خلِقنا، بما شِئْنا من امتحانِه من الأمرِ والنهى، ولِنَجْزِيَ الذين أساءوا بما عمِلوا ولنَجْزِىَ الذين أحسَنوا بالحُسْنَى.
{وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: ولكن أكثرَ هؤلاء المشرِكين بالله، لا يَعْلَمون أنَّ اللَّهِ خلَق ذلك لهم، فهم لا يخافون على ما يَأْتون من سخَطِ اللَّهِ، عقوبةً، ولا يَرْجُون على خيرٍ إنْ فعَلوه، ثوابًا؛ لتكذيبِهم بالمعاد.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: إِنَّ يومَ فصلِ اللهِ القضاءَ بينَ خلقِه، بما أسلَفوا في دنياهم
من خيرٍ أو شرٍّ، بجزائهِ المحسنَ بالإحسانِ، والمسيءَ بالإساءةِ، {مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ}. يقولُ: ميقاتُ اجتماعِهم أجمعين.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ} : يومَ يَفْصِلُ فيه بينَ الناسِ بأعمالِهم
(1)
.
وقولُه: {يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا} . يقولُ: لَا يَدْفَعُ ابْنُ عَمٍّ عن ابن عمٍّ ولا صاحبٌ عن صاحبِه شيئًا، من عقوبةِ اللَّهِ التي حلَّت بهم
(2)
من اللَّهِ، {وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ}. يقولُ: ولا يَنصُرُ بعضُهم بعضًا، فيَسْتَعيذوا ممن نالهم بعقوبةٍ، كما كانوا يَفْعَلُون في الدنيا.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يَزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا} الآية: انقَطَعت الأسبابُ يومَئذٍ بابنِ آدمَ، وصار الناسُ إلى أعمالِهم، فمن أصاب يومَئذٍ خيرًا سعِد به آخرَ ما عليه، ومن أصاب يومَئذٍ شرًّا شقِي به آخرَ ما عليه (1).
وقولُه: {إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ} . اختلَف أهلُ العربيةِ في موضعِ {مَنْ} في قولِه: {إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ} ؛ فقال بعضُ نحويِّي البصرةِ: {إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ} . فجعَله بدلًا من الاسمِ المضمرِ في: {يُنْصَرُونَ} . وإن شِئْتَ جعَلتَه مبتدأً، وأضمَرتَ خبرَه، تُريدُ به: إلا من رحِم اللَّهُ فيُغْنى عنه.
وقال بعضُ نحويِّي الكوفةِ
(3)
قولَه: {إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ} . قال: المؤمنون يَشْفَعُ بعضُهم في بعضٍ، فإن شِئْتَ فاجعَلْ {مَنْ} في موضعِ رفعٍ، كأنك قُلْتَ:
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 32 إلى المصنف وعبد بن حميد.
(2)
في ص، ت 2، ت 3:"به".
(3)
هو الفراء في معاني القرآن 3/ 42.
لا يقومُ أحدٌ إلا فلانٌ. وإن شِئْتَ جَعَلتَه نصبًا على الاستثناءِ والانقطاعِ عن أولِ الكلامِ، تُريدُ: اللهمَّ إِلَّا مَن [رحِم اللَّهُ]
(1)
.
وقال آخرُ
(2)
منهم: معناه: لا يُغْنى مولًى عن مولًى شيئًا، إِلَّا من أذِن اللَّهُ له أن يَشْفَعَ. قال: لا يكونُ بدلًا مما في {يُنْصَرُونَ} ؛ لأن {إِلَّا} محقَّقٌ، والأولَ مَنْفيٌّ، والبدلُ لا يكونُ إلا بمعنى الأولِ. قال: وكذلك لا يجوزُ أن يكون مُسْتأنفًا؛ لأنه لا يُسْتأْنفُ بالاستثناءِ.
وأولى الأقوالِ في ذلك بالصوابِ أن يكونَ في موضعِ رفعٍ، بمعنى: يومَ لا يُغْنى مولًى عن مولًى شيئًا إلا من رحِم اللَّهُ منهم، فإنه يُغْنى عنه، بأن يَشْفَعَ له عندَ ربِّه.
وقولُه: {إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} . يقولُ جلَّ ثناؤه واصفًا نفسَه: إِنَّ اللَّهَ هو العزيزُ في انتقامِه من أعدائِه، الرحيمُ بأوليائِه وأهلِ طاعتِه.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: إن شَجَرَةَ الزَّقُّومِ التي أخبَر أنها تَنبُتُ في أصلِ الجحيمِ، التي جعَلها طعامًا لأهلِ الجحيمِ، ثمرُها في الجحيمِ -
طعامُ الآثمِ في الدنيا بربِّه. والأثيمُ ذو الإثمِ، والإثمُ مِن: أَثِم يَأْثَمُ فهو أَثِيمٌ. وعُنِى به في هذا الموضعِ الذي إثمُه الكفرُ بربِّه دونَ غيرِه من الآثامِ.
وقد حدَّثنا محمدُ بنُ بشَّارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن
(1)
في المعاني: "رحِمت".
(2)
في م: "آخرون".
الأعمشِ، عن إبراهيمَ، عن همَّامِ بن الحارثِ، أنَّ أبا الدرداءِ كان يُقْرِئُ رجلًا:{إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ} . فقال: طعامُ اليتيمِ. فقال أبو الدرداءِ: قُلْ: إِنَّ شجرةَ الزقومِ طعامُ الفاجرِ
(1)
.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا يحيى بنُ عيسى، عن الأعمش، عن أبي يحيى، عن مجاهدٍ، عن ابن عباسٍ قال: لو أن قطرةٌ من زَقُومِ جهنمَ أُنزِلت إلى الدنيا لأفسَدت على الناسِ معايشَهم
(2)
.
حدَّثني أبو السائبِ، قال: ثنا أبو معاويةَ، عن الأعمشِ، عن إبراهيمَ، عن همامٍ، قال: كان أبو الدرداءِ يُقْرِئُ رجلًا: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ} . قال: فجعَل الرجلُ يقولُ: إن شجرةَ الزقومِ طعامُ اليتيمِ. قال: فلما أكثَر عليه أبو الدرداءِ، ورآه لا يَفْهَمُ قال: إنَّ شجرةَ الزقومِ طعامُ الفاجرِ.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ} . قال: أبو جهلٍ
(3)
.
وقولُه: {كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ} . يقولُ تعالى ذكرُه: إِنَّ شجرةَ الزقومِ التي جعَل ثمرتَها طعامَ الكافرِ في جهنمَ، كالرَّصاصِ أو الفضةِ أو ما يُذَابُ في النارِ إذا أُذيبَ بها فتناهَتْ حرارتُه وشدَّةُ حِمْيتِه - في شدةِ السوادِ.
(1)
أخرجه عبد الرزاق في مصنفه 3/ 364 عن الثورى به، وأخرجه الحاكم 2/ 451 من طريق الأعمش به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 32 إلى سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة 13/ 161، وابن أبي الدنيا في صفة النار (79)، والبيهقي في البعث (597) من طريق يحيى به، وأخرجه أحمد 5/ 237 (3137) من طريق الأعمش به.
(3)
ينظر البحر المحيط 8/ 39.
وقد بيَّنا معنى "المُهلِ" فيما مضَى، بما أغنَى عن إعادتِه في هذا الموضعِ، من الشَّواهدِ، وذكرِ اختلافِ أهلُ التأويلِ فيه
(1)
، غيرَ أَنَّا نَذْكُرُ من أقوالِ أهلُ العلمِ في هذا الموضعِ ما لم نَذْكُره هناك.
حدَّثنا سليمانُ بنُ عبدِ الجبارِ، قال: ثنا محمدُ بنُ الصلتِ، قال: ثنا أبو كُدَيْنةَ، عن قابوسَ، عن أبيه، قال: سألتُ ابنَ عباسٍ عن قولِ اللَّهِ تعالى: {كَالْمُهْلِ} . قال. كدُرْدِيِّ الزيتِ.
حدَّثني عليُّ بنُ سهلٍ
(2)
، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ} . يقولُ: أسودُ كمُهْلِ الزيتِ
(3)
.
حدَّثنا أبو كريبٍ وأبو السائبِ ويعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قالوا: ثنا ابن إدريسَ، قال: سمِعتُ مطرِّفًا، عن عطيةَ بن سعدٍ، عن ابن عباسٍ في قولِه:{كَالْمُهْلِ} . قال: ماءٌ غليظٌ كدُرْدِيِّ الزيتِ
(4)
.
حدَّثني يحيى بنُ طلحةَ، قال: ثنا شريكٌ، عن مطرِّفٍ، عن رجلٍ، عن ابن عباسٍ في قولِه:{كَالْمُهْلِ} . قال: كدُرْدِيِّ الزيتِ.
حدَّثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبدُ الصمدِ، قال: ثنا شعبةُ، قال: ثنا خليدٌ، عن الحسنِ، عن ابن عباسٍ أنه رأى فضةً قد أُذِيبت، فقال: هذا المُهْلُ
(5)
.
(1)
ينظر ما تقدم في 15/ 248.
(2)
كذا في النسخ، وتقدم مرارًا أنه على بن داود.
(3)
أخرجه البيهقى في البعث (606) من طريق أبي صالح به، وينظر ما تقدم تخريجه 15/ 249.
(4)
أخرجه هناد في الزهد (283)، وابن أبي حاتم - كما في التغليق 4/ 310 - من طريق مطرف به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 221 إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر.
(5)
ينظر التبيان 9/ 237، والبحر المحيط 8/ 39.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا أبو معاويةَ، قال: ثنا عمرُو بنُ ميمونٍ، عن أبيه، عن عبدِ اللَّهِ في قولِه:{كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ} [الكهف: 29]. قال: دخَل عبدُ اللَّهِ بيتَ المالِ، فأخرَج سِقَايةً
(1)
كانت فيه، فأوقَد عليها النارَ حتى تلألأت، قال: أينَ السائلُ عن المهلِ؟ هذا المهلُ.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا ابن أبى عديٍّ، وحدَّثنا محمدُ بنُ المثنَّى، قال: ثنا خالدُ بنُ الحارثِ، عن عوفٍ، عن الحسنِ، قال: بلَغنى أن ابنَ مسعودٍ سُئل عن المهلِ الذي يقولون يومَ القيامةِ: شرابُ أهلُ النار. وهو على بيتِ المالِ، قال: فدعَا بذهبٍ وفضةٍ فأذابَهما، فقال: هذا أشبهُ شيءٍ في الدنيا بالمهلِ الذي هو لونُ السماءُ يومَ القيامةِ، وشرابُ أهلِ النارِ، غيرَ أنَّ ذلك هو أشدُّ حرًّا من هذا. لفظُ الحديثِ لابنِ بشارٍ، وحديثُ ابن المثنى نحوُه.
حدَّثنا أبو كُرَيبٍ وأبو السائبِ، قالا: ثنا ابن إدريسَ، قال: أخبَرنا أشعثُ، عن الحسنِ، قال: كان من كلامِه، أن عبدَ اللَّهِ بن مسعودٍ رجلٌ أكرَمه اللَّهُ بصحبةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، فإن عمرَ استعمَله على بيتِ المالِ، قال: فعمِد إلى فضةٍ كثيرةٍ مُكَسَّرةٍ، فخدَّ لها أُخدودًا، ثم أمَر بحطبٍ جَزْلٍ فأوقَد عليها، حتى إذا امَّاعت وتزبَّدت وعادت ألوانًا، قال: انظُروا مَن بالبابِ. فأُدخِل القومُ، فقال لهم: هذا أشبهُ ما رأينا في الدنيا بالمُهْلِ.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ} الآية: ذُكِر لنا أن ابنَ مسعودٍ أُهديَت له سقايةٌ من ذهبٍ وفضةٍ، فأمَر بأخدودٍ فخُدَّت في الأرضِ، ثم قُذف فيها من جَزْلِ الحطبِ، ثم قُذِفت فيها تلك السقايةُ، حتى إذا أزبَدت وأنْماعت قال لغلامِه: ادعُ مَن بحضرتِنا
(1)
في م: "بقايا"، وفى ت 1:"نفاية"، وفى ت 2، ت 3:"بقاية".
من أهلِ الكوفةِ. فدعا رهطًا، فلما دخَلوا قال: أتَرَون هذا؟ قالوا: نعمْ. قال: ما رأينا في الدنيا شبيهًا للمُهْل أدنى من هذا الذهبِ والفضةِ حينَ أزبَد وأنماع
(1)
.
حدَّثنا أبو هشامٍ الرفاعيُّ، قال: ثنا ابن يمانٍ، قال: ثنا سفيانُ، عن الأعمشِ، عن عبد اللَّهِ بن سفيانَ الأسَديِّ، قال: أذاب عبدُ اللَّهِ بنُ مسعودٍ فضةً، ثم قال: مَن أراد أن يَنْظُرَ إلى المهلِ فليَنْظُرْ إلى هذا
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ
(3)
، عن قابوسَ، عن أبيه، عن ابن عباسٍ في قولِه:{يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ} [المعارج: 8]. قال: كدُرْدِيِّ الزيتِ.
حدَّثني يحيى بنُ طلحةَ، قال: ثنا شريكٌ، عن سالمٍ، عن سعيدٍ:{كَالْمُهْلِ} . قال: كدُرْدِيِّ الزيتِ
(4)
.
حدَّثنا ابن المثنَّى، قال: ثنا يَعْمَرُ بنُ بشرٍ، قال: ثنا ابن المباركِ، قال: ثنا أبو الصبَّاح، قال: سمِعتُ يزيدُ بن أبى سُمية يقولُ: سمِعتُ ابنَ عمرَ يقولُ: هل تَدرون ما المهلُ؟ المهلُ: مُهْلُ الزيتِ. يعنى آخرَه
(5)
.
قال: ثنا إبراهيمُ أبو إسحاق الطالقانيُّ، قال: ثنا ابن المباركِ، قال: أخبَرنا أبو الصبَّاح الأيليُّ، عن يزيدَ بن أبي سميةَ، عن ابن عمرَ بمثلِه.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا رِشدِينُ بنُ سعدٍ، عن عمرِو بن الحارثُ، عن درَّاجٍ أبى السمحِ، عن أبي الهيثمِ، عن أبي سعيدٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في قولِه:{بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ} [الكهف: 29]: "كعكَرِ الزيتِ، فإذا قرَّبه إلى وجهِه سقَطت فروةُ وجهِه
(1)
تقدم تخريجه في 15/ 248.
(2)
أخرجه الطبراني - كما في مجمع الزوائد 7/ 105 من طريق الضحاك، عن ابن مسعود نحوه.
(3)
بعده في ت 1، ت 3:"قال: حدثنا سعيد عن قتادة".
(4)
أخرجه هناد في الزهد (284) من طريق شريك به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 221 إلى عبد بن حميد.
(5)
أخرجه ابن المبارك - زوائد نعيم - (315) عن أبي الصباح به.
فيه"
(1)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ المثنَّى، قال: ثنا يعمرُ بنُ بشرٍ، قال: أخبَرنا ابن المباركِ، قال: أخبَرنا رِشدِينُ بنُ سعدٍ، قال: ثني عمرُو بنُ الحارثِ، عن أبي السمحِ، عن أبي الهيثمِ، عن أبي سعيدٍ الخدريِّ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم مثلَه
(2)
.
وقولُه: {يَغْلِي فِي الْبُطُونِ} . اختلَفت القرَأةُ في قراءةِ ذلك؛ فقرَأته عامةُ قرأةِ المدينةِ والبصرةِ والكوفةِ: (تَغْلِي) بالتاءِ
(3)
، بمعنى أن شجرةَ الزقومِ تَغْلى في بطونِهم، فأنَّثوا "تَغْلى" لتأنيثِ الشجرةِ. وقرَأ ذلك بعضُ قرَأةِ أهلُ مكةَ
(4)
: {يَغْلِي} . بمعنى: طعامُ الأثيمِ يَغْلى. أو: المُهْلُ يَغْلى. فذكَّره بعضُهم لتذكيرِ الطعامِ، ووجَّه معناه إلى أن الطعامَ هو الذي يَغْلى في بطونِهم، وبعضُهم لتذكيرِ المهلِ، ووجَّهه إلى أنَّه صفةٌ للمهلِ الذي يَغْلى.
والصوابُ مِن القولِ في ذلك أنَّهما قراءتان معروفتان صحيحتا المعنى، فبأيَّتِهما قرَأ القارئُ فمصيبٌ.
{كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} . يقولُ: يَغْلى ذلك في بطونِ هؤلاء الأشقياءِ، كَغَلْيِ الماءِ المحمومِ، وهو المسخَّنُ الذي قد أُوقِد عليه حتى تناهت شدَّةُ حرِّه.
(1)
أخرجه الترمذى (2581) عن أبي كريب به، وأخرجه الحاكم 4/ 604 من طريق عبد اللَّهِ بن وهب، عن عمرو به، وأخرجه ابن أبي الدنيا في صفة النار (76)، وابن حبان (7473)، والحاكم 2/ 501، والبيهقي في البعث (604) من طريق عمرو به، وأخرجه أحمد 210/ 18 (11672)، وأبو يعلى (1375) من طريق دراج به. وتقدم في 15/ 250.
(2)
أخرجه ابن المبارك في الزهد (316) - زوائد نعيم - ومن طريقه عبد بن حميد في المنتخب (928).
(3)
وهي قراءة عاصم في رواية أبي بكر وأبي عمرو وابن عامر ونافع وحمزة والكسائي. السبعة لابن مجاهد ص 592.
(4)
في م: "الكوفة"، وهى قراءة ابن كثير، وحفص عن عاصم. المصدر السابق.
وقيل: حميمٌ. وهو محمومٌ؛ لأنه مصروفٌ من "مفعولٍ" إلى "فعيلٍ"، كم يُقالُ: قَتيلٌ. من مقتولٍ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: {خُذُوهُ} . يعنى هذا الأثيمَ بربِّه الذي أخبَر جلَّ ثناؤُه أن له شجرةَ الزقومِ طعامٌ، {فَاعْتِلُوهُ}. يقولُ تعالى ذكرُه: فادفَعوه وسُوقوه. يُقالُ منه: عتَله يَعْتِلُه عَثْلًا، إذا ساقه بالدفعِ والجذبِ، ومنه قولُ الفرزدقِ
(1)
:
ليس الكِرامُ بناحِلِيكَ أباهُمُ
…
حتى تُرَدَّ إِلى عَطِيَّةَ تُعْتَلُ
أي: تُسَاقُ دَفْعًا وسَحْبًا.
وقولُه: {إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ} . يعنى: إلى وَسَطِ الجحيمِ. ومعنى الكلامِ: يُقالُ يومَ القيامةِ: خذُوا هذا الأثيمَ، فسُوقوه دفعًا في ظهرِه، وسحبًا إلى وسَطِ النارِ.
وبنحوِ الذي قلْنا في معنى قولِه: {فَاعْتِلُوهُ} قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ قوله:{خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ} . قال: خُذُوه فادفَعوه
(2)
.
(1)
ديوانه 2/ 722.
(2)
تفسير مجاهد ص 598، ومن طريقه الفريابي - كما في تغليق التعليق 4/ 310، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 33 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
وفى قولِه: {فَاعْتِلُوهُ} لغتان؛ كسرُ التاءِ، [وهى قراءةُ عامةِ أهلِ الكوفةِ والبصرةِ، وبعضِ أهلِ المدينةِ، ورفعُ التاءِ]
(1)
، وهى قراءةُ بعضِ قرَأةِ أهلِ المدينةِ وبعضِ أهلِ مكةَ.
والصوابُ مِن القراءةِ في ذلك عندَنا أنَّهما لغتان معروفتان في العربِ، يُقالُ منه: عتَل يَعْتِلُ ويَعْتُلُ. فبأيَّتِهما قرَأ القارئُ فمصيبٌ.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ} : إلى وَسَطِ النَّارِ
(2)
.
وقولُه: {ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ} . يقولُ تعالى ذكرُه: ثم صبُّوا على رأسِ هذا الأثيمِ {مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ} . يعنى: من الماءِ المُسَخَّنِ الذي وصَفْنا صفتَه، وهو الماءُ الذي قال اللَّهُ:{يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ} [الحج: 20]. وقد بيَّنتُ صفتَه هنالك
(3)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: يُقالُ لهذا الأثيمِ الشقيِّ: ذُقْ هذا العذابَ الذي تُعذَّبُ به اليومَ، {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ} في قومِك، {الْكَرِيمُ} عليهم.
وذُكِر أن هذه الآياتِ نزَلت في أبي جهلِ بن هشامٍ.
(1)
سقط من النسخ، وأثبتناه ليستقيم السياق، وبالكسر قرأ عاصم وأبو عمرو وحمزة والكسائي وأبي جعفر وخلف، وبالضم قرأ نافع وابن كثير وابن عامر ويعقوب. النشر 2/ 277.
(2)
ينظر التبيان للطوسي 9/ 238.
(3)
ينظر ما تقدم في 16/ 495.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ} : نزَلت في عدوِّ اللَّهِ أبي جهلٍ، لقِى النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فأخَذه فهزَّه، ثم قال:"أولى لك يا أبا جهلٍ فأولى، ثم أولى لك فأولى، ذُقْ إنك أنت العزيزُ الكريمُ". وذلك أنه قال: أَيُوعِدُني محمدٌ؟! واللَّهِ لأنا أعزُّ مَن مشَى بينَ جبلَيْها. وفيه نزَلت: {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان: 24]. وفيه نزَلت: {كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19]. وقال قتادةُ: نزَلت في أبي جهلٍ وأصحابِه الذين قتَل اللَّهُ تبارك وتعالى يومَ بدرٍ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ}
(1)
[إبراهيم: 28].
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ، قال: نزَلت في أبى جهلٍ: {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ} . قال قتادةُ: قال أبو جهلٍ: ما بينَ جبلَيْها رجلٌ أعزَّ ولا أكرمَ منى. فقال اللَّهُ عز وجل: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ}
(2)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ} . قال: هذا لأبي جهلٍ.
فإن قال قائلٌ: وكيف قيل وهو يُهانُ بالعذابِ الذي ذكرَه اللَّهُ، ويُذَلُّ بالعَتْلِ إلى سواءِ الجحيمِ:{إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} ؟ قيل: إنَّ قولَه: {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} غيرُ وصفٍ مِن قائلِ ذلك له بالعزّةِ والكرمِ، ولكنه تقريعٌ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 33 إلى المصنف وعبد بن حميد مختصرًا.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 209 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 33 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
منه له بما كان يَصِفُ به نفسَه في الدنيا، وتوبيخٌ له بذلك على وجهِ الحكايةِ؛ لأنه كان في الدنيا يقولُ: إنك أنت العزيزُ الكريمُ. فقيل له في الآخرةِ، إذ عُذِّب بما عُذِّب به في النارِ: ذُقْ هذا الهوانَ اليومَ، فإنَّك كنتَ تَزْعُمُ أنك أنت العزيزُ الكريمُ، وإنَّك أنت الذليلُ المَهِينُ، فأينَ الذي كنتَ تقولُ وتدَّعى من العزِّ والكرمِ، هلَّا تَمْتَنِعُ من العذابِ بعزَّتِك!!
حدَّثنا ابن بشَّارٍ، قال: ثنا صفوانُ بنُ عيسى، قال: ثنا ابن عَجْلانَ، عن سعيدٍ المَقْبُرِيِّ، عن أبي هريرةَ، قال: قال كعبٌ: للَّهِ ثلاثةُ أثوابٍ؛ اتَّزر بالعزِّ، وتسَرْبَل الرحمةَ، وارْتَدَى الكِبرياءَ، تعالَى ذكرُه، فمَن تعزَّز بغيرِ ما أعزَّه اللَّهُ، فذاك الذي يُقالُ له
(1)
: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} ، ومن رحِم الناسَ فذاك الذي سرْبَل اللَّهِ سربالَه الذي يَنْبَغى له، ومن تكبَّر فذاك الذي نازَع اللَّهَ رِداءَه، إن اللَّهِ تعالى ذكرُه يقولُ: لا يَنْبَغى لمن نازَعنى ردائِى أن أُدْخِلَه الجنةَ
(2)
.
وأجمَعت قرأةُ الأمصارِ جميعًا على كسرِ الألفِ مِن قولِه: {ذُقْ إِنَّكَ} . على وجهِ الابتداءِ
(3)
، وحكايةِ قولِ هذا القائلِ: إنى أنا العزيزُ الكريمُ. وقرَأ ذلك بعضُ المتأخِّرين: (ذُقْ أَنَّكَ) بفتحِ الألفِ على إعمالِ قولِه: {ذُقْ} في قولِه: (أَنَّكَ)
(4)
. كأن معنى الكلامِ عندَه: ذُقْ هذا القولَ الذي قُلتَه في الدنيا.
والصوابُ من القراءةِ في ذلك عندَنا
(5)
كسْرُ الألفِ من: {إِنَّكَ} على
(1)
سقط من: ص، م، ت 2، ت 3.
(2)
بعده في ص، م، ت 1، ت 3:"جل وعز".
والأثر أخرجه الحاكم 2/ 451 - ومن طريقه البيهقى في الشعب (8159) - من طريق صفوان، عن ابن عجلان، عن سعيد، عن أبي هريرة رفعه، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 37 إلى ابن مردويه.
(3)
وهي قراءة ابن كثير ونافع وابن عامر وأبى عمرو وعاصم وحمزة. السبعة لابن مجاهد ص 593.
(4)
وهى قراءة الكسائي. السبعة لابن مجاهد ص 593.
(5)
القراءتان كلتاهما صواب، فهما متواترتان، فلا شذوذ في إحداهما.
المعنى الذي ذكَرتُ لقارئِه؛ لإجماعِ الحجةِ من القرأةِ عليه وشذوذِ ما خالَفه، وكفى دليلًا على خطأ قراةٍ خِلافُها ما مضَت عليه الأئمةُ من المتقدِّمين والمتأخِّرين، مع بُعْدِها من الصحةِ في المعنى وفراقِها
(1)
تأويلَ أهلِ التأويلِ.
وقولُه: {إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: يُقالُ له: إن هذا العذابَ الذي يُعذَّبُ به اليومَ هو العذابُ الذي كنتم في الدنيا تَشُكُّون، فتَخْتَصِمون فيه ولا تُوقِنون به، فقد لقِيتُموه فذوقوه.
القولُ في تأويلِ قوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: إن الذين اتَّقَوُا اللَّهَ بأداءِ طاعتِه واجتنابِ معاصِيه، في موضعِ إقامةٍ، آمِنين في ذلك الموضعِ مما كان يُخافُ منه في مقاماتِ الدنيا؛ من الأوصابِ والعللِ، والأنصابِ والأحزانِ.
واختلَفت القرأةُ في قراءةِ قولِه: {فِي مَقَامٍ أَمِينٍ} ؛ فقرَأته عامةُ قرأةِ المدينةِ: (في مُقامٍ أمينٍ) بضمِّ الميمِ
(2)
، بمعنى: في إقامةٍ أمينٍ من الظَّعْنِ. وقرَأتْه عامةُ قرأةِ المِصْرَين؛ الكوفةِ والبصرةِ: {فِي مَقَامٍ} بفتحِ الميمِ
(3)
، على المعنى الذي وصَفْنا، وتوجيهًا إلى أنهم في مكانٍ وموضعٍ أمينٍ.
والصوابُ من القولِ في ذلك أنهما قراءتان مستفيضتان في قرأةِ الأمصارِ، صحيحتا المعنى، فبأيتِهما قرَأ القارئُ فمصيبٌ.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
(1)
في ت 2: "قربها"، وفي ت 3:"قرابها".
(2)
وبها قرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر. النشر 2/ 277.
(3)
وبها قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي ويعقوب وخلف. المصدر السابق.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ} : إىْ واللَّهِ، أمينٍ من الشيطانِ والأنصابِ والأحزانِ
(1)
.
وقولُه: {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} . فـ "الجناتُ والعيونُ" ترجمةٌ عن "المقَامِ الأمينِ"، والمقامُ الأمينُ هو الجناتُ والعيونُ، والجناتُ البساتينُ، والعيونُ عيونُ الماءِ المطردِ في أصولِ أشجارِ الجناتِ.
وقولُه: {يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ} . يقولُ: يَلْبَسُ هؤلاء المتقون في هذه الجناتِ من سندسٍ، وهو ما رقَّ من الديباجِ، {وَإِسْتَبْرَقٍ} . وهو ما غلُظ من الديباجِ.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، عن عكرمةَ في قولِه:{مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ} . قال: الإستبرقُ الديباجُ الغليظُ
(2)
.
وقيل: {يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ} . ولم يقلْ: لباسًا. استغناءً بدلالةِ الكلامِ على معناه.
وقولُه: {مُتَقَابِلِينَ} . يعنى أنهم في الجنةِ يُقابِلُ بعضُهم بعضًا بالوجوهِ، ولا يَنْظُرُ بعضُهم في
(3)
قفا بعضٍ. وقد ذكَرْنا الروايةَ بذلك فيما مضَى، فأغنى ذلك عن إعادتِه
(4)
.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 33 إلى المصنف وعبد بن حميد.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة 13/ 137، والحسين المروزي في زوائده على زهد ابن المبارك (1534) من طريق قتادة به.
(3)
في ت 1: "من"، وفى ت 3:"إلى".
(4)
ينظر ما تقدم في 14/ 80.
القولُ في تأويل قوله تعالى: {كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: كما أعطَيْنا هؤلاء المتقين في الآخرة من الكرامة؛ بإدخالناهم الجنات، وإلباسناهم فيها السندسَ والإستبرقَ، كذلك أكرَمْناهم بأن زوَّجناهم أيضًا فيها حُورًا من النساء. وهن النقيَّاتُ البَياضِ، واحدتُهنَّ
(1)
حَوْراءُ.
وكان مجاهدٌ يقولُ في معنى الحُورِ ما حدَّثني به محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قوله:{وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} . قال أنكَحْناهم حُورًا. قال: والحُورُ اللاتى يحارُ فيهِنَّ الطرْفُ، بادٍ مُخُّ سُوقِهنَّ من وراء ثيابهن، ويرى الناظرُ وجهَه في كبد إحداهنَّ كالمرآة من رقةِ الجلدِ وصفاء اللونِ
(2)
.
وهذا الذي قاله مجاهدٌ من أن الحورَ إنما معناها أنه يَحارُ فيها الطرْفُ، قولٌ لا معنى له في كلام العرب؛ لأن الحُورَ إنما هو جمعُ حَوْراءَ، كما الحُمْرُ جمعُ حمراءَ، والسُّودُ جمعُ سوداءَ، والحَوْراءُ إنما هي فَعْلاءُ من الحَوَرِ، وهو نَقاءُ البياض، كما قيل للنقيِّ البياضِ من الطعام: الحُوَّارَى. وقد بيَّنا معنى ذلك بشواهده فيما مضى قبلُ
(3)
.
(1)
في ص، ت 2، ت 3:"واحدهن".
(2)
تفسير مجاهد ص 598، ومن طريقه الفريابي - كما في التغليق 4/ 310 - والبيهقي في البعث (396)، وأخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنة (305) من طريق آخر عن مجاهد مختصرًا، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 33 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
ينظر ما تقدم في 5/ 443 وما بعدها.
وبنحو الذي قلْنا في معنى ذلك قال سائرُ أهلِ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} . قال: بيضاءُ عيناءُ. قال: وفي قراءة ابن مسعود: (بعيسٍ عينٍ).
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ في قوله:{بِحُورٍ عِينٍ} . قال: بيضٍ عينٍ. قال: وفى حرفِ ابن مسعودٍ: [(بعيسٍ عينٍ)
(1)
.
وقراءةُ
(2)
ابن مسعود هذه [تُنبِئُ عن]
(3)
أن معنى الحورِ غيرُ الذي ذهب إليه مجاهدٌ؛ لأن العيسَ]
(4)
عند العرب جمعُ عَيْساءُ، وهى البيضاءُ من الإبلِ، كما قال الأعشى
(5)
:
ومَهْمَةٍ نازحٍ تَعْوِى الذئابُ به
…
كَلَّفْتُ أَعْيَسَ تَحتَ الرَّحْلِ نَعَّابا
يعنى بالأعْيَسِ جملًا أبيضَ. فأمَّا العِينُ؛ فإنها جمعُ عيناءَ، وهى العظيمةُ العينَيْن من النساء.
وقولُه: {يَدْعُونَ فِيهَا} الآية. يقولُ: يَدْعو هؤلاء المتقون في الجنة بكلِّ
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 210 عن معمر به، وهو في تفسير سفيان ص 283 قال: في قراءة عبد الله. فذكره، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 33 إلى عبد بن حميد.
(2)
في النسخ: "قرأ". والمثبت ما يقتضيه السياق.
(3)
في م: "يعني"، وفى ت 1:"تنبئ على".
(4)
سقط من: ت 2.
(5)
ديوانه ص 361.
نوعٍ من فواكه الجنةِ اشتَهَوْه، {آمِنِينَ} فيها من انقطاع ذلك عنهم ونفادِه وفنائِه، ومن غائلةِ أذاه ومكروهِه. يقولُ: ليست تلك الفاكهةُ هنالك كفاكهة الدنيا التي نَأْكُلُها، وهم يَخافون مكروه عاقبتها وغِبَّ أذاها، مع نفادِها من عندِهم وعدمِها في بعضِ الأزمنةِ والأوقاتِ.
وكان قتادةُ يوجِّهُ تأويل قوله: {آمِنِينَ} . إلى ما حدَّثنا به بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ} : أمنوا
(1)
من الموتِ والأوصابِ والشيطانِ
(2)
.
وقولُه: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} . يقولُ تعالى ذكرُه: لا يَذُوقُ هؤلاء المتقون في الجنة الموتَ بعد الموتِة الأولى التي ذاقوها في الدنيا.
وكان بعضُ أهل العربية
(3)
يُوَجِّهُ {إلَّا} في هذا الموضع إلى أنها في معنى "سوى"، ويقولُ: معنى الكلام: لا يَذُوقون فيها الموت سِوَى الموتةِ الأولى. ويُمَثِّلُه بقولِه تعالى ذكرُه: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22]. بمعنى: سِوَى ما قد فعل آباؤُكم.
وليس للذى قال من
(4)
ذلك عندى وجهٌ مفهومٌ؛ لأن الأغلب من قول القائل: لا أذوقُ اليومَ الطعامَ إلا الطعامَ الذي ذُقْتُه قبل اليوم. أنه يُريدُ الخبرَ عن قائِله أن عندَه طعامًا في ذلك اليوم، ذائقُه وطاعمُه، دون سائر الأطعمة غيره. وإذا كان ذلك
(1)
في ت 2، ت 3:"آمنون".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 33 إلى المصنف وعبد بن حميد.
(3)
هو الفراء في معاني القرآن 2/ 44.
(4)
في ت 1، ت 2، ت 3:"في".
الأغلبَ من معناه، وجَب أن يكونَ قد أثبَت بقولِه:{إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} موتةً من نوع الأولى هم ذائقوها، ومعلومٌ أن ذلك ليس كذلك؛ لأن الله عز وجل قد آمن أهلَ الجنة في الجنة إذا هم دخَلوها من الموتِ، ولكن ذلك كما وصَفتُ من معناه. وإنما جاز أن تُوضَعَ "إلَّا" في موضع "بعد"؛ لتقارُب معنَيْيهما في مثل
(1)
هذا الموضع، وذلك أن القائل إذا قال: لا أكلِّمُ اليوم رجلًا إلا رجلًا عندَ عمرٍو. قد أوجَب على نفسِه ألَّا يُكَلِّمَ ذلك اليوم رجلًا بعد كلام الرجل الذي عند عمرٍو. وكذلك إذا قال: لا أُكَلِّمُ اليوم رجلًا بعد رجلٍ عندَ عمرٍو. قد أوجَب على نفسه ألَّا يُكَلِّمَ ذلك اليومَ رجلًا إلا رجلًا عند عمرٍو، فـ "بعد" و "إلَّا" مُتَقارِبتا المعنى في هذا الموضع. ومن شأن العرب أن تَضَعَ الكلمة مكانَ غيرها إذا تقارب معنياهما، وذلك كوَضْعِهم الرجاء مكانَ الخوفِ، لما في معنى الرجاء من الخوف؛ لأن الرجاءَ ليس بيقين وإنما هو طمعٌ، وقد يَصْدُقُ ويَكْذِبُ، كما الخوفُ يَصْدُقُ أحيانًا ويَكْذِبُ، فقال في ذلك أبو ذُؤَيْبٍ
(2)
:
إذا لَسَعَتهُ الدَّبْرُ لم يَرْجُ لَسْعَها
…
وخالَفَها في بيتِ نُوبٍ عَوَامِلِ
فقال: لم يَرْجُ لَسْعَها. ومعناه في ذلك: لم يَخَفْ لَسْعَها. وكوضعهم الظنَّ موضعَ العلمِ الذي لم يُدْرَكُ من قِبَلِ العِيانِ وإنما أُدرِك استدلالًا أو
(3)
خبرًا، كما قال الشاعرُ
(4)
:
فقلتُ لهم ظُنُّوا بِأَلْفَيْ مُدَجَّجٍ
…
سَرَاتُهُمُ في الفارِسِيِّ المُسَرَّدِ
بمعنى: أَيقنوا بألْفَيْ مُدَجَّجٍ واعلموا. فوضَع الظنَّ موضع اليقين، إذ لم يَكُنِ
(1)
سقط من: م.
(2)
تقدم تخريجه في 7/ 456.
(3)
في ت 2 ت 3: "و".
(4)
هو دريد بن الصمة، وتقدم البيت في 1/ 623، 624.
المقولُ لهم ذلك عاينوا ألفَى
(1)
مُدَجَّجٍ ولا رأوْهم، وإنَّ ما أخبرهم به هذا المخبرُ - فقال لهم: ظُنُّوا - العلمُ بما لم يُعايَنْ، من فعل القلب، فوضَع أحدَهما موضعَ الآخرِ؛ لتقارُب معنَيَيْهما، في نظائرَ لما ذَكَرْتُ يَكْثُرُ إحصاؤُها، كما يَتَقارَبُ معنى الكلمتين في بعض المعانى، وهما مختلفتا المعنى في أشياءَ أُخَرَ، فَتَضَعُ العربُ إحداهما مكانَ صاحبتها في الموضع الذي يَتَقاربُ
(2)
معنياهُما
(3)
فيه، فكذلك قولُه:{لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} . وُضِعت "إِلَّا" في موضع "بعد"؛ لما وُصِفَ من تقارُب معنى "إِلَّا" و "بعد" في هذا الموضع، وكذلك:{وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22]. إنما معناه: بعد الذي سلف منكم في الجاهلية، فأما إذا وُجِّهتْ "إِلَّا" في هذا الموضع إلى معنى "سوى"، فإنما هو ترجمةٌ عن المكان، وبيانٌ عنها بما هو أشدُّ التباسًا على من أراد علم معناها منها.
وقولُه: {وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: ووقى هؤلاء المتقين ربُّهم يومئذٍ عذابَ النارِ؛ تفضُّلًا يا محمدُ من ربِّك عليهم وإحسانًا منه إليهم بذلك ولم يُعاقِبْهم بجُرْمٍ سلف منهم في الدنيا، ولولا تفضُّلُه عليهم بصفحه لهم عن العقوبة لهم على ما سلَف منهم من ذلك، لم يَقِهم عذابَ الجحيم، ولكن كان ينالُهم ويُصيبُهم ألمهُ ومكروهُه.
وقولُه: {ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} . يقولُ تعالى ذكرُه: هذا الذي أعطَيْنا هؤلاء المتقين في الآخرة، من الكرامة التي وصفتُ في هذه الآياتِ، {هُوَ الْفَوْزُ
(1)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ت 3.
(2)
في ت 2، ت 3:"تتفاوت".
(3)
في ت 1: "معناهما"، وفي ت 2:"معنييهما".
الْعَظِيمُ}. يقولُ: هو الظَّفَرُ العظيم (*) بما كانوا يَطْلُبون إدراكَه في الدنيا بأعمالِهم وطاعتِهم ربَّهم واتقائِهم إياه، فيما امتحَنَهم به من الطاعاتِ والفرائضِ، واجتنابِ المحارمِ.
القولُ في تأويل قوله: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)} .
يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: فإنما سهَّلْنا قراءة هذا القرآن الذي أنزَلْناه إليك يا محمدُ بلسانِك؛ ليتذكَّر هؤلاء المشركون الذين أرْسَلْتُك إليهم بعِبَرِه وحُجَجه، ويتَّعظوا بعظاتِه، ويتفكَّروا في آياتِه، إذا أنت تَلَوْتَه عليهم، فيُنِيبوا إلى طاعة ربِّهم، ويُذْعنوا للحقِّ عند تبيُّنِهموه.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ} . أي: هذا القرآنَ؛ {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}
(2)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قوله: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ} . قال: القرآن، {يَسَّرْنَاهُ}: أطلق به لسانَه.
وقولُه: {فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ} . يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: فانتَظِرْ أنت يا محمدُ الفتحَ من ربِّك، والنصرَ على هؤلاء المشركين بالله من قومك من قريشٍ، إنهم مُنتَظِرون عندَ أنفسِهم قهرَك وغلبتَك، بصدِّهم عما أَتَيْتَهم به من الحقِّ، مَن أراد قبوله منك واتباعَك عليه.
وبنحو الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويل.
(*) إلى هنا ينتهى الخرم الموجود في نسخة خزانة القرويين، والمشار إليه في ص 15.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 34 إلى المصنف وعبد بن حميد.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ} . أي: فانتظِرْ إنهم مُنتَظِرون
(1)
.
آخرُ تفسير سورة "الدخان"
(1)
أخرجه عبد بن حميد في تفسيره - كما في تعليق التعليق 4/ 310، 311 - من طريق شيبان، عن قتادة.
وبعده في الأصل: "تم السفر والحمد لله حق حمده، يتلوه إن شاء الله تفسير سورة الجاثية". وبه ينتهى الجزء الرابع والأربعون، وسيجد القارئ أرقام النسخة ت 1 بين معكوفين.
تفسيرُ سورة "الجاثية"
بسم الله الرحمن الرحيم
القولُ في تأويل قوله تعالى: {حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3)} .
قد تقدَّم بيانُنا معنى قوله: {حم}
(1)
.
وأما قولُه: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ} . فإن معناه: هذا تنزيلُ القرآن من عندِ الله، {الْعَزِيزِ} في انتقامه من أعدائه، {الْعَلِيمِ} في تدبيره أمر خلقه.
وقولُه: {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: إن في السماوات السبع اللاتى منهنَّ نزولُ الغيث، والأرض التي منها خروجُ الخلق أيُّها الناسُ، {لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ}. يقولُ: لأدلةً وحُجَجًا للمُصَدِّقين بالحجج، إذا تبيَّنُوها ورأَوْها.
القولُ في تأويل قوله تعالى: {وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ
(4)}.
يقولُ تعالى ذكرُه: وفى خلقِ
(2)
اللهِ إيَّاكم أيُّها الناسُ، وخلقه ما تفرَّق في الأرض من دابة تَدبُّ عليها، من غير جنسِكم، {آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}. يعني: حُجَجًا وأدلةً لقومٍ يُوقنون بحقائق الأشياء، فيُقرُّون بها ويَعْلَمون صحتَها.
واختلَفت القرأةُ في قراءة قوله: {آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} . وفى التي بعد ذلك؛ فقرأ ذلك عامةُ قرأة المدينة والبصرة وبعضُ قرأة الكوفة: {آيَاتٌ} رفعًا
(3)
على
(1)
ينظر ما تقدم في 1/ 205 - 210، 20/ 274 - 276.
(2)
في ص، ت 1:"حبر"، وفى ت 2، ت 3:"خبر".
(3)
وهى قراءة نافع وابن كثير وعاصم وابن عامر وأبي عمرو وأبى جعفر وخلف. ينظر النشر 2/ 278.
الابتداء، وتَرْكَ ردِّها على قوله:{لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ} .
وقرَأته عامةُ قرأة الكوفة: (آياتٍ) خفضًا بتأويل النصب، ردًّا على قوله:{لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ}
(1)
. وزعم قارئو ذلك كذلك من المتأخِّرين، أنهم اختاروا قراءته كذلك؛ لأنه في قراءةِ أُبَيٍّ في الآياتِ الثلاث (لآياتٍ) باللام
(2)
، فجعَلوا دخولَ اللام في ذلك في قراءته دليلًا لهم على صِحة قراءةِ جميعهِ بالخفضِ، وليس الذي اعتمَدوا عليه من الحجة في ذلك بحجةٍ؛ لأنه لا رواية بذلك عن أُبَيٍّ صحيحةٌ، وأُبَيٌّ لو صحَّت به عنه روايةٌ، ثم لم يُعْلَمُ كيف كانت قراءتُه بالخفض أو بالرفع، لم يَكُنِ الحكمُ عليه بأنه كان يَقْرَؤُه خفضًا بأَوْلَى من الحكم عليه بأنه كان يَقْرَؤُه رفعًا، إذ كانت العربُ قد تُدْخِلُ اللام في خبر المعطوفِ على جملة كلامٍ تامٍّ، قد عملت في ابتدائِها "إن"، مع ابتدائِهم إياه، كما قال حُميدُ بنُ ثورٍ الهلاليُّ
(3)
:
إِنَّ الخلافةَ بعدَهم لذميمةٌ
…
وخلائفٌ طُرُفٌ لَمَّا أَحْقِرُ
فأدخل اللامَ في خبر مبتدأ بعد جملة خبرٍ قد عملت فيه "إنَّ"، إذ كان الكلامُ وإن ابتُدِئ، منويًّا فيه "إنَّ".
والصوابُ من القول في ذلك إن كان الأمرُ على ما وصَفْنا، أن يُقال: إن الخفضَ في هذه الأحرف والرفعَ قراءتان مُسْتفيضتان في قرأةِ الأمصارِ قد قرَأ بهما علماءُ من القرأة، صحيحتا المعنى، فبأيتِهما قرَأ القارئُ فمصيبٌ.
القولُ في تأويل قوله تعالى: {وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5)} .
(1)
وهى قراءة حمزة والكسائى ويعقوب. النشر 2/ 278.
(2)
معاني القرآن للفراء 3/ 45، والبحر المحيط 8/ 42.
(3)
البيت في معاني القرآن للفراء 2/ 45 غير منسوب.
يقولُ تبارك وتعالى: وفى اختلافِ الليل والنهار أيُّها الناسُ، وتعاقُبهما عليكم؛ هذا بظلمته وسوادِه، وهذا بنوره وضيائه، {وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ} وهو الغيثُ الذي به تُخْرِجُ الأرضُ أرزاق العبادِ وأقواتهم، [{فَأَحْيَا بِهِ]
(1)
الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا}. [يقولُ: فأنبت ما أنزل من السماء من الغيثِ ميتَ
(2)
الأرضِ، حتى اهتزَّت بالنبات والزرع من بعد موتها. يعنى: من بعدِ جُدوبها وقُحوطِها ومصيرها دائرةً لا نبْتَ فيها ولا زرْعَ.
وقولُه: {وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ} . يقولُ]
(3)
: وفى تصريفه الرياح لكم؛ شمالًا مرَّةً، وجنوبًا أُخرى
(4)
، وصَبًا أحيانًا، ودَبُورًا أُخرى
(5)
، لمنافعكم.
وقد قيل: عُنِى بتصريفِها: بالرحمة مرةً، وبالعذاب أخرى.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ في قوله:{وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ} . قال: تصريفُها؛ إن شاء جعَلها رحمةً، وإن شاء جعَلها عذابًا
(6)
.
وقولُه: {آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: في ذلك أدلةٌ وحججٌ للهِ على خلقِه، لقومٍ يَعْقِلون عن الله حُججَه، ويَفْهَمون عنه ما وعظَهم به من الآياتِ والعِبر.
(1)
في ص، م، ت 1:"وإحيائه".
(2)
في ص، ت 2، ت 3:"من".
(3)
سقط من: ت 1.
(4)
في ت 2 ت 3: "مرة".
(5)
الصبا: ريح مهبُّها من مشرق الشمس إذا استوى الليل والنهار. والدبور: ريح تهب من المغرب، وتقابل القبول وهى ريح الصبا. الوسيط (ص ب ي، د ب ر).
(6)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 212 عن معمر به.
القولُ في تأويل قولِه تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: هذه الآياتُ والحججُ يا محمدُ [من ربِّك]
(1)
على خلقه، {نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ}. يقولُ: نُخْبِرُك عنها بالحقِّ، لا بالباطل كما يُخْبِرُ مشركو قومِك عن آلهتِهم بالباطل أنها تُقَرِّبُهم إلى اللهِ زُلْفَى، (فبأيِّ حديثٍ بعدَ اللَّهِ وَآيَاتِه تُؤْمِنون
(2)
)؟ يقولُ تعالى ذكرُه للمشركين به: فبأيِّ حديثٍ أيُّها القومُ بعدَ حديثِ الله هذا الذي يَتْلوه عليكم، وبعد حُجَجه عليكم، وأدلته التي دلَّكم بها على وحدانيتِه، من أنه لا ربَّ لكم سواه - تُصَدِّقون، إن أنتم كذَّبتم بحديثه وآياته؟
وهذا التأويلُ على مذهب قراءَةِ من قرأ: (تُؤْمِنُونَ) على وجه الخطاب من الله بهذا الكلام للمشركين، وذلك قراءةُ عامة قرأة الكوفيين
(3)
. وأما على قراءة من قرَأه: {يُؤْمِنُونَ} بالياء، فإن معناه: فبأيِّ حديثٍ يا محمدُ بعدَ حديثِ اللَّهِ الذي يَتْلوه عليك، وآياته هذه التي نبَّه هؤلاء المشركين عليها وذكَّرهم بها، يُؤْمِنُ هؤلاء المشركون؟ وهى قراءةُ عامة قرأة أهل المدينة والبصرة
(4)
. ولكلتا القراءتين وجهٌ صحيحٌ وتأويلٌ مفهومٌ، فبأية القراءتين قرأ ذلك القارئ فمصيبٌ عندنا، وإن كنتُ أَمِيلُ إلى قراءتِه، بالياءِ، إذ كانت في سياق آياتٍ قد مَضَين قبلها على وجه الخبر، وذلك قولُه:{لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} ، و:{لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} .
القولُ في تأويل قوله تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8)} .
(1)
في ص، ت 1، ت 2:"ربك"، وفي ت 1:"لله".
(2)
في ص، ت 2، ت 3:"يؤمنون"، وهما قراءتان كما سيأتي.
(3)
هي قراءة ابن عامر وحمزة والكسائي وأبى بكر ورويس وخلف، النشر 2/ 278.
(4)
هي قراءة ابن كثير ونافع وحفص وأبي عمرو وأبي جعفر وروح. المصدر السابق.
يقولُ تعالى ذكرُه
(1)
: الوادى السائلُ من صديد أهل جهنمَ لكلِّ كذابٍ ذى إثم بربِّه، مفترٍ عليه.
{يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ} . يقولُ: يَسْمَعُ آياتِ كتابِ اللَّهِ تُقرأ عليه، {ثُمَّ يُصِرُّ} على كفره وإثمه، فيُقيمُ عليه غير تائبٍ منه، ولا راجِعٍ عنه، {مُسْتَكْبِرًا} على ربِّه أن يُدْعِنَ لأمره ونهيه، {كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا}. يقولُ: كأن لم يَسْمَعْ ما تُلى عليه من آيات الله بإصراره على كفره، {فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}. يقولُ: فَبَشِّرْ يا محمدُ هذا الأفَّاكَ الأثيم الذي هذه صفتُه، بعذابٍ من الله له، {أَلِيمٍ} .
يعني: مُوجعٍ في نارِ جهنمَ يومَ القيامةِ.
القولُ في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وإذا عَلِمَ هذا الأفاكُ الأثيمُ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ شيئًا، {اتَّخَذَهَا هُزُوًا}. [يقولُ: اتخَذَ
(2)
تلك الآيات التي علمها هزُوًا]
(3)
، يَسْخَرُ منها، وذلك كفعل أبي جهلٍ حين نزَلت:{إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ} [الدخان: 43، 44]. إذ دعا بتمرٍ وزُيْدٍ، فقال: تَزَقَّموا من هذا، ما يَعِدُكم محمدٌ إلا شُهْدًا
(4)
. وما أشبه ذلك من أفعالهم.
وقولُه: {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} . يقولُ تعالى ذكرُه: هؤلاء الذين يَفْعَلون هذا الفعلَ، وهم الذين يَسْمَعون آياتِ اللَّهِ تُتْلَى عليهم، ثم يُصرُّون على كفرهم استكبارًا، ويَتَّخِذون آياتِ اللهِ التي علموها هزوًا - لهم يوم القيامةِ من الله عذابٌ
(1)
بعده في ت 1: "ويل".
(2)
في م: "اتخذنا".
(3)
سقط من: ت 2، ت 3.
(4)
في ت 1: "بهذا". وينظر ما تقدم في 14/ 648.
مُهِينٌ يُهينُهم ويُذِلُّهم في نارِ جهنمَ، بما كانوا في الدنيا يَسْتَكْبِرون عن
طاعةِ اللَّهِ واتِّباع آياتِه.
وإنما قال تعالى ذكرُه: {أُولَئِكَ} فجمَع، وقد جرَى الكلامُ قبل ذلك
(2)
، ردًّا للكلام إلى معنى "الكلِّ" في قوله:{وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} .
القولُ في تأويل قوله تعالى: {مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: ومن وراءِ هؤلاء المستهزئين بآياتِ اللهِ. يعنى: من بين أيديهم. وقد بيَّنا العلةَ التي من أجلها قيل لما أمامك: هو وراءَك. فيما مضى، بما أغنى عن إعادته
(3)
. يقولُ: من بين أيديهم نارُ جهنمَ هم وارِدوها، {وَلَا [يُغْنِي عَنْهُمْ]
(4)
مَا كَسَبُوا شَيْئًا، يقولُ: ولا يُغْنى عنهم من عذاب جهنم إذا هم عُذِّبوا به ما كسَبوا في الدنيا من مالٍ وولدٍ - شيئًا.
وقولُه: {وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ} . يقولُ: ولا آلهتهم التي عبدوها من دونِ اللهِ، ورؤساؤُهم، وهم الذين أطاعوهم في
(5)
الكفر بالله واتخذوهم نُصراء في الدنيا - تُغْنى عنهم يومَئذٍ من عذابِ جهنمَ شيئًا، {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}. يقولُ: ولهم من الله يومَئذٍ عذابٌ في جهنمَ عظيمٌ.
القولُ في تأويل قوله تعالى: {هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11)} .
في ت 3: "على".
(2)
أي: على الإفراد.
(3)
ينظر ما تقدم في 15/ 354، 355.
(4)
في م: "يغنيهم".
(5)
في ت 3: "إلى".
(1)
يقولُ تعالى ذكرُه: هذا القرآنُ الذي أنزَلْناه إلى
(1)
محمد {هُدًى} . يقولُ: بيانٌ ودليلٌ على الحقِّ، يَهْدى إلى صراطٍ مستقيمٍ من اتَّبعه، وعمل بما
(2)
فيه، {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ}. يقولُ: والذين جحَدوا ما في القرآن من الآياتِ الدالاتِ على الحقِّ، ولم يُصدِّقوا بها ويَعْمَلوا بها، لهم [عذابٌ يوم القيامة من عذابٍ مُوجِعٍ]
(3)
.
القولُ في تأويل قولِه تعالى: {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: اللَّهُ أَيُّها القومُ الذي لا تَنْبَغى الألوهةُ إِلَّا له، الذي أنعم عليكم هذه النعم التي
(4)
بيَّنها لكم في هذه الآيات، وهو أنه سَخَّرَ لكم البَحْرَ لِتَجْرِى السفنُ فيه بِأمْرِه لمعايِشكم وتصرُّفكم في البلاد، لطلبِ فضلِه فيها، ولتَشْكُروا ربَّكم على تسخيره ذلك لكم، فتَعْبُدوه وتُطِيعوه فيما يَأْمُرُكم به ويَنْهاكم عنه.
القولُ في تأويل قولِه تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وسَخَّرَ لكم ما في السماوات من شمسٍ وقمرٍ ونجومٍ، وما في الأرْضِ من دابةٍ وشجرٍ وجبلٍ وجمادٍ وسُفُنٍ
(5)
لمنافِعكم ومصالِحكم، {جَمِيعًا مِنْهُ}. يقولُ تعالى ذكرُه: جميعُ ما ذكرتُ لكم أيُّها الناسُ من هذه النعم؛ نعمٌ
(1)
في م: "على".
(2)
سقط من: ص، ت 2، ت 3.
(3)
في م: "عذاب أليم يوم القيامة موجع".
(4)
سقط من: ت 2، ت 3.
(5)
بياض في: ص، وسقط من: ت 2، ت 3، وفي ت 1:"غير ذلك".
عليكم من الله أنعم بها عليكم، وفضلٌ منه تفضَّل به عليكم، فإياه فاحمَدوا لا غيرَه؛ لأنه لم يَشْرَكْه في إنعام هذه النعم عليكم شريكٌ، بل تفرَّد بإنعامِها عليكم، وجميعُها منه ومن نعمِه، فلا تَجْعَلوا له في [شكركم له]
(1)
شريكًا، بل أفْرِدوه بالشكر والعبادةِ، وأَخْلصوا له الألوهة، فإنه لا إلهَ لكم سِوَاه.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} . يقولُ: كلُّ شيءٍ هو من الله، وذلك الاسمُ فيه اسمٌ من أسمائه، فذلك جميعًا
(2)
منه، ولا يُنازِعُه
(3)
فيه المنازعون، واسْتَيقِنْ أنه كذلك
(4)
.
وقولُه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: إن في تسخير الله لكم ما أنبأَكم أيُّها الناسُ أنه سخَّره
(5)
لكم في هاتين الآيتين، {لَآيَاتٍ}. يقولُ: لعلاماتٍ ودلالاتٍ على أنه لا إلهَ لكم غيرُه، الذي أنعم عليكم هذه النعمَ، وسخَّر لكم هذه الأشياء التي لا يَقْدِرُ على تسخيرها
(6)
غيرُه، {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} في آياتِ اللهِ وحُجَجه وأدلته، فيَعْتَبرون بها، ويَتَّعِظون إذا تَدَبَّروها وفكَّروا
(7)
فيها.
(1)
في ت 2، ت 3:"شكره".
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"جميع".
(3)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"ينازعنك".
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 251 عن العوفى به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 34 إلى المصنف.
(5)
في ت 3: "سخرها".
(6)
بعده في ت 3: "أحد".
(7)
في ت 3: "تفكروا".
القولُ في تأويل قولِه تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)} .
يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: قُلْ يا محمدُ للذين صدَّقوا اللَّهَ واتَّبعوك، يَغْفِروا للذين لا يَخافون بأسَ اللَّهِ ووقائعَه ونِقمَه، إذا هم نالوهم بالأذى والمكروه، {لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}. يقولُ: ليجزى اللهُ هؤلاء الذين يُؤْذونهم من المشركين في الآخرة، فيثيبَهم
(1)
عذابَه بما كانوا في الدنيا يَكْسبون من الإثم، ثم بأذاهم أهل الإيمان بالله.
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهلُ التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قوله:{قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} . قال: كان نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم يُعْرِضُ عن المشركين إذا آذوه، وكانوا يَسْتَهْزِئُون به ويُكَذِّبونه، فأمَره الله عز وجل أن يُقاتِلَ المشركين كافَّةً، فكان هذا من المنسوخ
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى
(3)
، عن ابن أبي، نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللَّهِ:{لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} . قال: لا يُبالون
(4)
(1)
في م: "فيصبهم"، وفي ت 1:"فيتبعهم".
(2)
أخرجه أبو عبيد في الناسخ والمنسوخ ص 272 من طريق على بن أبي طلحة، عن ابن عباس بمعناه، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 34 إلى المصنف وابن مردويه.
(3)
بعده في ت 1: "وحدثني الحارث قال ثنا الحسن قال ثنا ورقاء جميعًا".
(4)
غير منقوطة في: ص، وفى ت 1، ت 2، ت 3:"ينالون".
نِعمَ اللَّهِ، أو نقمَ اللَّهِ.
[حدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ
(1)
عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} . قال: لا يُبالون
(2)
نِعمَ اللَّهِ]
(3)
.
وهذه الآيةُ منسوخةٌ بأمرِ الله بقتالِ المشركين. وإنما قُلْنا: هي منسوخةٌ؛ لإجماع أهل التأويل على أن ذلك كذلك.
ذكرُ مَن قال ذلك
قد ذكَرْنا الرواية في ذلك عن ابن
(4)
عباسٍ.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ في قوله:{قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} . قال: نسَخَتها ما في "الأنفال": {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ} [الأنفال: 57]. وفى "براءة": {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة: 36]. أمر بقتالهم حتى يَشْهَدوا ألَّا إله إلا الله وأن محمدًا رسولُ الله.
حدَّثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ في قولِه:{قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} . قال: نسختها: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ}
(5)
[التوبة: 5].
(1)
بعده في م: "جميعا".
(2)
غير منقوطة في: ص، وفى ت 1، ت 2:"ينالون".
(3)
سقط من: ت 3.
والأثر في تفسير مجاهد ص 600، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 34 إلى أبي داود في ناسخه وابن المنذر.
(4)
بعده في م: "أبى".
(5)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 212 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 35 إلى ابن الأنباري في المصاحف.
حُدِّثْتُ عن الحسين، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبرنا عبيدٌ، قال: سمعتُ الضحاكَ يقولُ في قوله: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} . قال: هذا منسوخٌ أمر الله بقتالِهم في سورة "براءةَ"
(1)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا حكَّامٌ، قال: ثنا عَنْبَسةُ، عمن ذكَره، عن أبي صالحٍ:{قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} . قال: نسَختها التي في "الحجِّ": {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا}
(1)
[الحج: 39].
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قوله: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} . قال: هؤلاء المشركون. قال: وقد نُسِخ هذا، وفُرِض جهادُهم والغلظةُ عليهم
(1)
.
وجُزِم قولُه: {يَغْفِرُوا} . تشبيهًا له بالجزاء والشرط، وليس به، ولكن لظهوره في الكلام على مثاله، فعُرِّب
(2)
تعريبَه، وقد مضَى البيانُ عنه قبلُ
(3)
.
واختلَفت القرأةُ في قراءة قوله: {لِيَجْزِيَ قَوْمًا} ؛ فقرأه بعضُ قرأة المدينة والبصرةِ والكوفةِ: {لِيَجْزِيَ} بالياء
(4)
على وجهِ الخبرِ عن الله أنه يَجْزِيهم ويُثيبُهم. وقرأ ذلك بعدُ عامةُ قرأة الكوفيين: (لِنَجْزِيَ) بالنون
(5)
على وجه الخبر من الله عن نفسِه. وذُكر عن أبي جعفر القارئ أنه كان يَقْرَؤُه: (لِيُجْزَى قَوْمًا) على مذهب ما لم يُسَمَّ فاعلُه
(6)
، وهو على مذهب كلام العرب لحنٌ، إلا أن يَكونَ أراد: ليُجْزَى
(1)
ينظر التبيان 9/ 250.
(2)
في ص، ت 1، ت،2، ت 3:"فعرف".
(3)
ينظر ما تقدم في 1/ 557، 558.
(4)
هي قراءة ابن كثير ونافع وعاصم وأبي عمرو ويعقوب. النشر 2/ 278.
(5)
هي قراءة ابن عامر وحمزة والكسائى وخلف. المصدر السابق.
(6)
المصدر السابق.
الجزاءُ قومًا. بإضمار الجزاءِ، وجَعْلِه مرفوعًا لِـ (يُجْزَى)، فيكونُ وجهًا من القراءة وإن كان بعيدًا.
والصوابُ من القول في ذلك عندنا أن قراءته بالياء والنون، على ما ذكرتُ من قرأة قراءة الأمصار، جائزةٌ بأيِّ تَيْنك القراءتين قرأ القارئُ. فأما قراءتُه على ما ذكَرتُ عن أبي جعفر، فغيرُ جائزةٍ عندِى لمعنيين؛ أحدُهما، أنها
(1)
خلافٌ لما عليه الحجةُ من القرأة، وغيرُ جائزٍ عندِى خلافُ ما جاءت به مستفيضًا فيهم. والثاني، بُعْدُها من الصحة في العربية إلَّا على استكراه الكلام على غير المعروف من وجهه
(2)
.
القولُ في تأويل قولِه تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: مَن عَمِل من عبادِ اللهِ بطاعته، فانتهى إلى أمره، وانزجر لنهيِه - فلنفسِه عمِل ذلك الصالحَ من العمل، وطلَب خلاصِها من عذابِ الله أطاع
(3)
، لا لغير ذلك؛ لأنه لا يَنْفَعُ ذلك غيره، واللَّهُ عن عملِ كلِّ عاملٍ غنيٌّ، {وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا}. يقولُ: ومن أساء عمله في الدنيا، بمعصيته فيها ربَّه، وخلافِه فيها أمرَه ونهيَه، فعلى نفسه جنَى؛ لأنه أوبَقها بذلك، وأكسبها به سُخْطَه، ولم يضرَّ أحدًا
(4)
سوى نفسه. {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} . يقولُ: ثم أنتم أيُّها الناسُ أجمعون إلى ربِّكم تَصِيرون من بعد مماتكم، فيُجازِى المحسنَ منكم بإحسانِه، والمسيءَ بإساءتِه، فمن ورَد عليه منكم بعمل صالحٍ، جُوزِىَ من
(1)
في م: "أنه".
(2)
قال ابن الجزرى في النشر 2/ 278 عن قراءة أبي جعفر: وكذا قرأ شيبة، وجاءت أيضًا عن عاصم. وهذه القراءة حجة على إقامة الجار والمجرور وهو (بما) مع وجود المفعول به الصريح وهو (قوما) مقام الفاعل كما ذهب إليه الكوفيون وغيرهم.
(3)
بعده في م: "ربه".
(4)
في ت 1، ت 3:"أحد".
الثواب صالحًا، ومن ورد عليه منكم بعمل سيِّئٍ جُوزِى من الثوابِ سَيْئًا.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16)} .
يقول تعالى ذكره: ولقد آتينا يا محمد، {بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ}. يعنى: التوراة والإنجيل، {وَالْحُكْمَ} . يعنى الفهم بالكتاب، والعلم بالسُّنن التي لم تَنْزِل في الكتاب، {والنُّبُوَّةَ}. يقولُ: وجعَلْنا منهم أنبياء ورسلًا إلى الخلق، {وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ}. يقولُ: وأطعَمْناهم من طيبات أرزاقِنا، وذلك ما أطعَمَهم من المنِّ والسلوى، {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ}. يقولُ: وفَضَّلْناهم على عالمى أهل زمانهم في أيام فرعونَ وعهده، في ناحيتهم بمصر والشام.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17)} .
يقول تعالى ذكره: وأعطينا بني إسرائيل واضحاتٍ من أمرنا بتنزيلنا إليهم التوراةَ، فيها تفصيلُ كلِّ شيءٍ، {فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} . طلبًا للرياساتِ، وتركًا منهم لبيانِ الله تبارك وتعالى في تنزيله.
وقوله: {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: إن ربَّك يا محمدُ يَقْضِي بين المختلفين من بني إسرائيل بغيًا بينهم، يوم القيامة، فيما كانوا فيه في الدنيا يختَلِفون بعد العلم الذي أتاهم، والبيان الذي جاءهم منه، فيُفْلِجُ المحِقَّ حينئذٍ على المبطِلِ بفصلِ الحُكمِ بينهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19)} .
يقولُ تعالى ذكره لنبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم: ثم جَعَلْناك يا محمد، من بعدِ أنبياءِ
(1)
بني إسرائيل الذين وصفتُ لك صفتهم {عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ} . يقولُ: على طريقةٍ وسنةٍ ومنهاجٍ من أمرنا الذي أمرنا به من قبلك من رسلنا، {فَاتَّبِعْهَا}. يقولُ: فاتَّبِعْ تلك الشريعة التي جعلناها لك، {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}. يقولُ: ولا تَتَّبع ما دعاك إليه الجاهلون باللهِ الذين لا يعرفون الحقَّ من الباطل فتعمل به فتَهْلِكَ إِن عملت به.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمد بن سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:{ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا} . قال: يقولُ: على هدًى من الأمرِ وبينةٍ
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة قوله:{ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا} : والشريعةُ الفرائضُ والحدود والأمر والنهيُ، {فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}
(2)
.
حدَّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قوله: {ثُمَّ
(1)
غير منقوطة في: ص، وفى م:"الذي آتينا".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 35 إلى المصنف.
جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ}. قال: الشريعةُ الدينُ. وقرأ: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الشورى: 13]. قال: فنوحٌ أَوَّلُهم، وأنت آخرُهم
(1)
.
وقوله: {إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} . يقول تعالى ذكرُه: إن هؤلاء الجاهلين بربِّهم الذين يدعونك يا محمد إلى اتِّباع أهوائهم، لن يُغنوا عنك إن أنت اتَّبعتَ أهواءَهم، وخالفت شريعةَ ربَّك التي شرعها لك - من عقاب الله شيئًا، فيَدْفَعوه عنك إن هو عاقَبك، ويُنقذوك منه.
وقوله: {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} . يقولُ: وإن الظالمين بعضُهم أنصارُ بعض، وأعوانهم على الإيمان باللهِ
(2)
وأهل طاعتِه، {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ}. يقول تعالى ذكرُه: واللهُ يلى مَن اتَّقاه بأداء فرائضه واجتناب معاصِيه، بكفايته ودفاع من أراده بسوءٍ. يقول جلَّ ثناؤه لنبيِّه عليه الصلاة والسلام: فكُنْ من المتقين، يَكْفِك
(3)
اللهُ ما بغاك وكادك به هؤلاء المشركون، فإنه وليُّ مَن اتَّقاه، ولا يَعْظُمُ عليك خلافُ مَن خالف أمرَه وإن كثُر عددُهم؛ لأنهم لن يَضُرُّوك ما كان اللهُ وليِّك وناصرَك.
القولُ في تأويل قوله تعالى: {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)} .
يقول تعالى ذكره: هذا الكتاب الذي أنزَلْناه إليك يا محمد، {بَصَائِرُ
(1)
ينظر تفسير القرطبي 16/ 164، والبحر المحيط 8/ 46.
(2)
سقط من: ت 2، ت 3.
(3)
في ت 3: "يكفيك".
لِلنَّاسِ} يُنصرون به الحقَّ من الباطلِ، ويعرفون به سبيل الرشاد. والبصائرُ جمعُ بصيرةٍ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك [كان ابن زيدٍ يقولُ]
(1)
.
ذكرُ
(2)
ذلك
حدَّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيدٍ في قوله: {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ} . قال: القرآنُ. قال: هذا كلُّه إنما هو في القلب. قال: والسمع والبصرُ
(3)
في القلب. وقرأ: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46]. وليس ببصر الدنيا ولا بسمعها.
وقوله: {وَهُدًى} . يقولُ: ورشادٌ، {وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} بحقيقةِ صحةِ هذا القرآن، وأنه تنزيلٌ من الله العزيز الحكيم. وخصَّ جل ثناؤُه الموقنين
(4)
بأنه لهم بصائرُ وهدًى ورحمةٌ؛ لأنهم الذين انتفعوا به دون من كذَّب به من أهل الكفر، فكان عليه عمًى وله حزنًا.
وقوله: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ} . [يقول تعالى ذكره: أم ظنَّ الذين اجترحوا السيئات]
(5)
من الأعمال في الدنيا، فكذَّبوا رُسلَ اللهِ، وخالفوا أمرَ ربِّهم، وعبدوا غيره - أن نَجعَلَهم في الآخرة كالذين آمنوا بالله وصدَّقوا رسلَه وعملوا الصالحات فأطاعوا الله، وأخلصوا له العبادةَ، دون ما سواه من الأندادِ والآلهة؟!
(1)
في ت 1: "قال أهل التأويل".
(2)
بعده في م، ت 1، ت 2، ت 3:"من قال".
(3)
بعده في ت 1: "في القرآن".
(4)
في ت 2، ت 3:"المؤمنين".
(5)
سقط من: ت 2، ت 3.
كلَّا، ما كان اللهُ لِيَفْعَلَ ذلك، لقد ميَّز بين الفريقين، فجعل حزب الإيمان في الجنة، وحزب الكفر في السعير.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة:{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ} الآية: لعَمْرِي لقد تفرَّق القوم في الدنيا، وتفرَّقوا عندَ الموت، فتباينوا في المصير.
وقوله: {سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ} . اختلفت القرأة في قراءة قوله: {سَوَاءً} ؛ فقرأت ذلك عامة قرأة المدينة والبصرة وبعضُ قرأة الكوفة: (سَوَاءٌ) بالرفع
(1)
، على أن الخبر مُتَناهٍ عندهم عند قوله:{كَالَّذِينَ آمَنُوا} . وجعلوا
(2)
خبر قوله: {أَنْ نَجْعَلَهُمْ} قوله: {كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} . ثم ابتدءوا الخبر عن استواء حال محيا المؤمن ومماته، ومحيا الكافر ومماته، فرفعوا قوله:(سَوَاءٌ) على وجه الابتداء بهذا المعنى. وإلى هذا المعنى وجه تأويل ذلك جماعةٌ من أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمد بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قوله:(سَوَاءٌ مَحْياهُمْ ومَماتُهُمْ). قال: المؤمنُ في الدنيا والآخرة مؤمنٌ، والكافرُ في الدنيا والآخرة كافرٌ
(3)
.
(1)
هي قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر. السبعة لابن مجاهد ص 595.
(2)
في ت 1: "جعل".
(3)
تفسير مجاهد ص 600.
حدَّثنا أبو كُرَيبٍ، قال: ثنا حسينٌ، عن شيبانَ، عن ليثٍ في قوله:(سَوَاءٌ مَحْيَاهُمْ ومَماتُهُمْ). قال: بُعث المؤمنُ مؤمنًا حيًّا وميتًا، والكافرُ كافرًا حيًّا وميتًا.
وقد يَحْتَمِلُ الكلامُ إذا قُرئ: (سواءٌ) رفعا وجهًا آخر غير هذا المعنى الذي ذكَرْناه عن مجاهدٍ وليثٍ، وهو أن يُوجَّهَ إلى: أم حسِب الذين اجترَحوا السيئات أن نجعَلَهم والمؤمنين سواءً في الحياةِ والموتِ، بمعنى: أنهم لا يَسْتوون. ثم يُرْفَعُ (سواءٌ) على هذا المعنى، إذ كان لا يَنْصَرِفُ، كما يُقالُ: مررَتُ برجلٍ خيرٌ منك أبوه، و: حسبُك أخوه. فرفَع "حسبُك"، و "خيرٌ" إذ كان في مذهبِ الأسماء، ولو وقَع موقعَهما فعلٌ في لفظِ اسمٍ لم يَكُنْ إلا نصبًا، فكذلك قولُه:(سواءٌ).
وقرَأ ذلك عامةُ قرأةِ الكوفةِ: {سَوَاءً} به نصبًا
(1)
، بمعنى: أَحَسبوا أن نجعَلَهم والذين آمنوا وعمِلوا الصالحاتِ سواءً.
والصوابُ من القولِ في ذلك عندى أنهما قراءتان معروفتان في قرَأةِ الأمصار، قد قرَأ بكلِّ واحدةٍ منهما أهلُ العلم بالقرآن، صحيحتا المعنى، فبأيتهما قرَأ القارئُ فمصيبٌ.
واختلَف أهلُ العربيةِ في وجهِ نصبِ قوله: {سَوَاءً} ورفعه؛ فقال بعضُ نحويِّى البصرة: (سَوَاءٌ مَحْيَاهُمْ ومَماتُهُمْ) [رفعٌ. وقال بعضُهم: إن المحيا والمماتَ للكفارِ كلَّه. قال: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} . ثم قال: سواءٌ محيا الكفار ومماتُهم. أي: محياهم محيا سَوْءٍ
(2)
، ومماتُهم]
(3)
مماتُ سَوْءٍ
(2)
. فرُفِع "السواءُ" على الابتداء. قال: ومن فسَّر
(1)
هي قراءة حمزة والكسائي وحفص عن عاصم. السبعة لابن مجاهد ص 595.
(2)
في م، ت 1:"سواء".
(3)
سقط من: ت 3.
المحيا والمماتَ للكفارِ والمؤمنين، فقد يَجوزُ في هذا المعنى نصبُ "السواء" ورفعُه؛ لأن من جعل "السواءَ" مستويًا، فيَنْبَغى له في القياس أن يُجْرِيَه على ما قبلَه؛ لأنه صفةٌ. ومن جعَله الاستواء، فيَنْبَغِى له أن يَرْفَعَه لأنه اسمٌ، إلا أن يَنْصِبَ المحيا والمماتَ على البدلِ، ويَنْصِبَ "السواءَ" على الاستواء، وإن شاء رفَع "السواء" إذا كان في معنى "مستوٍ"، كما تقولُ: مرَرتُ برجلٍ خيرٌ منك أبوه. لأنه صفةٌ لا يُصْرَفُ، والرفعُ أجودُ.
وقال بعضُ نحويِّى الكوفِة
(1)
: قولُه: {سَوَاءً مَحْيَاهُمْ} بنصب "سواء" وبرفعِه، والمحيا والمماتُ في موضع رفع بمنزلة قوله: رأيتُ القومَ سواءً صغارُهم وكبارُهم. بنصب "سواء"؛ لأنه يَجْعَلُه فعلًا لما عاد على الناس من ذكرهم. قال: وربما جعَلت العربُ "سواء" في مذهبِ اسمٍ بمنزلة "حسبك"، فيقولون: رأيتُ قومَك سواءً صغارُهم وكبارُهم. فيكونُ كقولِك: مررتُ برجلٍ حسبُك أبوه. قال: ولو جعَلت مكانَ "سواء""مستوٍ" لم يُرْفَعْ، ولكن تَجْعَلُه مُتَّبِعًا لما قبله، مخالفًا لـ "سواءٍ"؛ لأن "مستوٍ"
(2)
من صفةِ القومِ، ولأن "سواءً" كالمصدر، والمصدرُ اسمٌ. قال: ولو نصَبت المحيا والمماتَ كان وجهًا. يُريدُ: أَن نَجْعَلَهم سواءً في محياهم ومماتِهم.
وقال آخرُ
(3)
منهم: المعنى: أنه لا يُساوِى من اجترَح السيئاتِ المؤمنَ في المحيا
(4)
ولا المماتِ. إلا
(5)
أنه وقَع موقعَ الخبر، فكان خبرًا لـ "جَعَلْنا". قال:
(1)
هو الفراء في معاني القرآن 3/ 47.
(2)
في ص، م، ت 1:"مستوى".
(3)
في م: "آخرون".
(4)
في م، ت 3:"الحياة".
(5)
في م، ت 2:"علي".
والنصبُ للأخبار
(1)
، كما تقولُ: جعَلت إخوتَك سواءً؛ صغيرَهم وكبيرَهم. ويجوزُ أن يُرْفَعَ؛ لأن "سواءً" لا يَنْصَرِفُ. وقال: مَن قال: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} فجعَل {كَالَّذِينَ} الخبرَ، استأنَف بـ "سواءٍ" ورفَع ما بعدَها، وإن نصَب "المحيا والمماتَ" نصَب "سواءً" لا غيرَ.
وقد تقدَّم بيانُنا الصوابَ من القولِ في ذلك.
وقولُه: {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: بئْسَ الحكمُ الذي
(2)
حسِبوا
(3)
أَنَّا نَجْعَلُ الذين اجترَحوا السيئاتِ والذين آمنوا وعملوا الصالحات، سواءً محياهم ومماتُهم.
القولُ في تأويل قولِه تعالى: {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} للعدلِ والحقِّ، لا لما حسِب هؤلاء الجاهلون باللهِ؛ من أنه يَجْعَلُ مَن اجترَح السيئاتِ، فعصاه وخالَف أمرَه، كالذين آمنوا وعملوا الصالحاتِ في المحيا والمماتِ، إذ كان ذلك من فعلِ غير أهلِ العدلِ والإنصاف، يقولُ جل ثناؤُه: فلم يَخْلُقِ اللهُ السماواتِ والأَرضَ للظلمِ والجورِ، ولكنا خلَقْناهما للحقِّ والعدلِ، ومن الحقِّ أن نُخالِفَ بينَ حكمِ المسيءِ والمحسنِ في العاجلِ والآجلِ.
وقولُه: {وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} . يقولُ تعالى ذكرُه:
(1)
في ص: "الأخبار".
(2)
في ص، ت 1:"الذين".
(3)
في ت 3: "حكموا".
وليُثيبَ اللهُ كلَّ عاملٍ بما عمِل من عملٍ
(1)
، خَلَقَ السماوات والأرضَ؛ المحسنَ بالإحسانِ، والمسيءَ بما هو أهلُه، لا لِنَبْخَسَ المحسنَ ثوابَ إحسانِه، ونَحْمِلَ عليه جُرْمَ غيره فنُعاقِبَه، أو نَجْعَلَ للمسيءِ ثوابَ إحسانِ غيرِه، فنُكْرِمَه
(2)
، ولكن لنَجْزِيَ كلًّا بما كسَبت يداه، وهم لا يُظْلَمون جزاءَ أعمالِهم.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23)} .
اختلَف أهلُ التأويل في تأويل قوله: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} ؛ فقال بعضُهم: معنى ذلك: أفرأيتَ من اتخَذ دينَه بِهواه، فلا يَهْوَى شيئًا إلا ركبه؛ لأنه لا يُؤْمِنُ باللهِ، ولا يُحرِّمُ ما حرَّم، ولا يُحِلُّ
(3)
ما أحلَّ
(4)
، إنما دينُه ما هوِيتْه
(5)
نفسُه يَعْمَلُ به.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ في قولِه:{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} . قال: ذلك الكافرُ، اتخذ دينَه بغير هدًى من الله ولا برهانٍ
(6)
.
(1)
سقط من: ت 2، ت 3.
(2)
في ت 3: "فيلزمه".
(3)
في م: "يحلل"، وفي ت 2:"يجعل".
(4)
في م: "حلل".
(5)
في ت 1: "عملته".
(6)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 35 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم واللالكائي في السنة والبيهقي في الأسماء والصفات.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ في قوله:{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} . قال: لا يَهْوَى شيئًا إلا ركبه، لا يخافُ الله
(1)
.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أفرأَيْتَ مَن اتخَذ معبودَه ما هوِيتْ عبادتَه نفسُه من شيءٍ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا يعقوبُ، عن جعفرٍ، عن سعيدٍ، قال: كانت قريشٌ تَعْبُدُ العُزَّى - وهو حجرٌ أبيضُ - حينًا من الدهر، فإذا وجدوا ما هو أحسنُ منه، طرَحوا الأوَّلَ وعبَدوا
(2)
الآخرَ، فأنزَل الله:{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ}
(3)
.
وأولى التأويلين في ذلك بالصوابِ قولُ مَن قال: معنى ذلك: أفرأيتَ يا محمدُ من اتخَذ معبودَه هواه، فيَعْبُدُ ما هَوِى من شيءٍ دونَ إله الحقِّ الذي له الألوهةُ من كلِّ شيءٍ؟ لأن ذلك هو الظاهرُ من معناه دونَ غيرِه.
وقولُه: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} . يقولُ تعالى ذكرُه: وخذَله عن مَحَجَّةِ الطريق وسبيل الرشادِ، في سابقِ علمِه، على علمٍ منه بأنه لا يَهْتَدى ولو جاءته كلُّ آيةٍ.
وبنحو الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 212 عن معمر به.
(2)
في ت 2، ت 3:"عبد".
(3)
تفسير سفيان ص 275 عن جعفر به.
عباسٍ: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} . يقولُ: أضلَّه الله في سابقِ علمِه
(1)
.
وقولُه: {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ} . يقولُ تعالى ذكرُه: وطبَع على سمعِه أن يَسْمَعَ مواعظَ الله وآى كتابه، فيَعْتَبِرَ بها ويَتَدَبَّرَها، ويَتَفَكَّرَ فيها، فيَعْقِلَ ما فيها من النور والبيانِ والهُدَى.
وقولُه: {وَقَلْبِهِ} . يقولُ: وطبَع أيضًا على قلبه، فلا يَعْقِلُ به شيئًا، ولا يَعِى به حقًّا.
وقولُه: {وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} ، يقولُ: وجعَل على بصرِه غشاوةً أن يُبْصِرَ به حججَ الله، فيَسْتَدلَّ بها على وحدانيتِه، ويَعْلَمَ بها ألَّا إِلهَ غيرُه.
واختلَفت القرأةُ في قراءةِ قولِه: {وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} ؛ فقرأته عامةُ قرأة المدينةِ والبصرةِ وبعضُ قرأةِ الكوفةِ: {غِشَاوَةً} ، بكسر الغينِ، وإثباتِ ألفٍ فيها
(2)
، على أنها اسمٌ. وقرَأ ذلك عامةُ قرأة الكوفة:(غَشْوَةً) بمعنى أنه غَشاه شيئًا في دفعةٍ واحدةٍ ومرةٍ واحدةٍ؛ بفتحِ الغين بغير ألفٍ
(3)
. وهما عندى قراءتان صحيحتان، فبأيتهما قرَأ القارئُ فمصيبٌ.
وقولُه: {فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} . يقولُ تعالى ذكرُه: فمَن يُوفِّقُه لإصابة الحقِّ، وإبصار محجَّةِ الرشد، بعدَ إضلالِ اللهِ إياه؟ {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} أَيُّهَا النَّاسُ، فتَعْلَموا أن من فعَل اللَّه به ما وصَفْنا فلن يَهْتَدِى أبدًا، ولن يَجِدَ لنفسِه وليًّا مُرْشِدًا.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره - كما في الإتقان 2/ 43 - واللالكائي في السنة 2/ 491 (1003)، والبيهقى في الأسماء والصفات (234) من طريق أبي صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 35 إلى ابن المنذر.
(2)
هي قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو وابن عامر وعاصم. السبعة لابن مجاهد ص 595.
(3)
هي قراءة حمزة والكسائي. المصدر السابق.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وقال هؤلاء المشرِكون الذين تقدَّم خبرُه عنهم: ما حياةٌ
(1)
إلا حياتُنا الدنيا التي نحن فيها، لا حياةَ سِواها. تكذيبًا منهم بالبعثِ بعدَ المماتِ.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} : إِى
(2)
لعَمْرِى، هذا قولُ مشرِكى العربِ
(3)
.
وقولُه: {نَمُوتُ وَنَحْيَا} . نموتُ نحن ويحيا أبناؤُنا بعدَنا. فجعَلوا حياةَ أبنائِهم بعدَهم حياةً لهم؛ لأنهم منهم وبعضُهم، فكأنهم بحياتِهم أحياءٌ، وذلك نظيرُ قولِ الناسِ: ما مات مَن خَلَّف ابنًا مثلَ فلانٍ. لأنه بحياةِ ذكرُه به
(4)
كأنه حيٌّ غيرُ ميِّتٍ.
وقد يَحْتَمِلُ وجهًا آخرَ؛ وهو أن يكونَ معناه: [نحيا ونموتُ]
(5)
. على وجهِ تقديمِ الحياةِ قبلَ المماتِ، كما يُقالُ: قُمْتُ وقعَدتُ. بمعنى: فَعَدتُ وقُمْتُ. والعربُ تَفْعَلُ ذلك في الواوِ خاصةً، إذا أرادوا الخبرَ عن شيئين أنهما كانا أو يكونان، ولم تَقْصِدِ الخبرَ عن كونِ أحدِهما قبلَ الآخرِ، تُقدِّمُ المتأخرَ حدوثًا على المتقدِّمِ حدوثُه منهما أحيانًا، فهذا من ذلك؛ لأنه لم يَقْصِدْ فيه إلى الخبرِ عن كونِ الحياةِ قبلَ المماتِ، فقدَّم ذكرَ المماتِ قبلَ ذكرِ الحياةِ، إذ كان القصدُ إلى
(6)
الخبرِ عن أنهم يكونون مرَّةً أحياءً وأخرى أمواتًا.
(1)
في ت 3: "هي".
(2)
سقط من: ت 2.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 212 عن معمر، عن قتادة نحوه.
(4)
سقط من: ت 2.
(5)
في ت 2: "يحيي ويميت".
(6)
في ت 2: "عن".
وقولُه: {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} . يقولُ تعالى ذكرُه مخبرًا عن هؤلاءِ المشرِكين أنهم قالوا: وما يُهْلِكُنا فيُفْنِينَا إلا مَرُّ الليالي والأيامِ وطولُ العمرِ. إنكارًا منهم أن يكونَ لهم ربٌّ يُفنِيهم ويُهْلِكُهم.
وقد ذُكِر أنها في قراءةِ عبدِ اللهِ: (وَمَا يُهْلِكُنا إِلَّا دَهْرٌ يمُرُّ)
(1)
.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} . قال: الزمانُ
(2)
.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ في قولِه:{وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} : قال ذلك مشرِكو قريشٍ {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} : إلا العمرُ
(3)
.
وذُكِر أن هذه الآيةَ نزَلت من أجلِ أن أهلَ الشركِ كانوا يقولون: الذي يُهْلِكُنا ويُفْنِينا الدهرُ والزمانُ. [ثم يَسُبُّون ما يُفْنِيهم ويُهْلِكُهم، وهم يرَوَن أنهم يَسُبُّون بذلك الدهرَ والزمانَ]
(4)
، فقال اللهُ عز وجل لهم: أنا الذي أُفنِيكم وأُهْلِكُكم، لا الدهرُ والزمانُ، ولا علمَ لكم بذلك.
(1)
وهى قراءة شاذة، قال أبو حيان في البحر المحيط 8/ 49 وقرأ عبد الله "إلا دهر" وتأويله: إلا دهر يمر. وينظر مختصر الشواذ لابن خالويه ص 139.
(2)
تفسير مجاهد ص 600، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 35 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 212 عن معمر به.
(4)
سقط من: ت 2، ت 3.
ذكرُ [الروايةِ بذلك عمن قاله]
(1)
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا ابن عيينةَ، عن الزهريِّ، عن سعيدِ بن المسيَّبِ، عن أبي هريرةَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: "كان أهلُ الجاهليةِ يقولون: إنما يُهْلِكُنا الليلُ والنهارُ
(2)
؛ هو الذي يُهْلِكُنا ويُميتُنا ويُحْيِينا. فقال اللهُ في كتابِه: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} ". قال: فيَسُبُّون الدهرَ، فقال اللهُ تبارك وتعالى: "يُؤذِيني ابن آدمَ؛ يَسُبُّ الدهرَ، وأنا الدهرُ، بِيَدِيَ الأمرُ، أُقَلِّبُ الليلَ والنهارَ"
(3)
.
حدَّثنا عمرانُ بنُ بكارٍ الكَلَاعيُّ، قال: ثنا أبو رَوْحٍ، قال: ثنا سفيانُ بنُ عيينةَ، عن الزهريِّ، عن سعيدِ بن المسيَّبِ، عن أبي هريرةَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم نحوَه.
حدَّثني يونسُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: ثني يونسُ بنُ يزيدَ
(4)
، عن ابن شهابٍ، قال: أخبَرنى أبو سلمةَ بنُ عبدِ الرحمنِ، قال: قال أبو هريرةَ: سمِعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: "قال اللهُ تعالى: يَسُبُّ ابْنُ آدمَ الدهرَ، وأنا الدهر، بيَدِيَ الليلُ والنهارُ"
(5)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقِ، عن العلاءِ بن
(1)
في ت 2، ت 3:"من قال ذلك".
(2)
بعده في م، ت 1:"و".
(3)
أخرجه الدارقطني في العلل 8/ 81 من طريق سفيان به، وقوله: "كان أهل الجاهلية
…
فيسبون الدهر". موقوف على سفيان كما في صحيح ابن حبان (5715)، والمستدرك 2/ 453، وأخرج المرفوع منه الحميدى (1096)، وأحمد 12/ 187 (7245)، والبخارى (4826)، ومسلم (2/ 2246)، وأبو داود (5274)، والنسائي في الكبرى (11487)، وابن أبي حاتم - كما في تفسير ابن كثير 7/ 254 - والبيهقى 3/ 365 من طريق سفيان به.
(4)
في ت 2: "زيد".
(5)
أخرجه مسلم (2246/ 1)، والنسائى في الكبرى (11486)، والبيهقى 365/ 3 من طريق ابن وهب به، وأخرجه البخارى (6181) من طريق يونس بن يزيد به.
عبدِ الرحمنِ، عن أبيه، عن أبي هريرةَ، أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"يقولُ اللهُ: استقرَضتُ عبدى فلم يُعْطِنى، وسبَّنى عبدِى، يقولُ: وادَهْراه. وأنا الدهرُ"
(1)
.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ
(2)
، عن الزهريِّ، عن أبي هريرةَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم "إنَّ الله قال: لا يَقُولَنَّ أحدُكم: يا خيبةَ الدهرِ؛ فإنى أنا الدهرُ. أقلِّبُ ليلَه ونهارَه، وإذا شِئْتُ قبَضتُهما"
(3)
.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابن عُليَّةَ، عن هشامٍ، [عن ابن سيرينَ]
(4)
، عن أبي هريرةَ، قال: لا تَسُبُّوا الدهرَ، فإن الله هو الدهرُ
(5)
.
{وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: وما لهؤلاء المشركين القائلين: ما هي إلا حياتُنا الدنيا نموتُ ونحيا، وما يُهْلِكُنا إلا الدهرُ. بما يقولون من ذلك {مِنْ عِلْمٍ}. يعنى: من يقينِ علمٍ؛ لأنهم يقولون ذلك تخرُّصًا بغيرِ خبرٍ أتاهم من اللهِ، ولا برهانٍ عندَهم بحقيقتِه. {إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ}. يقولُ جل ثناؤُه: ما هم إلا في ظنٍّ من ذلك وشكٍّ. يُخْبِرُ عنهم أنهم في حَيْرةٍ من اعتقادِهم حقيقةَ ما يَنْطِقون من ذلك بألسنِتهم.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25)} .
(1)
أخرجه أحمد 13/ 368 (7988)، والبخارى في خلق أفعال العباد (343)، وابن خزيمة (2479)، والحاكم 1/ 418 من طريق ابن إسحاق به، وأخرجه ابن أبي عاصم في السنة (598) من طريق العلاء به مختصرا.
(2)
بعده في النسخ: "عن قتادة". وينظر مصدر التخريج.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 212 عن معمر به.
(4)
سقط من النسخ، والمثبت كما تقدم في 10/ 596، وهو كذلك في مصدر التخريج.
(5)
أخرجه مسلم (2246/ 5) من طريق جرير، عن هشام، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
يقولُ تعالى ذكرُه: وإذا تُتْلى على هؤلاء المشرِكين المكذِّبين بالبعثِ آياتُنا بأن الله باعثُ خلقِه من بعدِ مماتِهم، فجامِعُهم يومَ القيامةِ عندَه للثوابِ والعقابِ. {بَيِّنَاتٍ}. يعني: واضحاتٍ جلياتٍ، تَنْفى الشكَّ عن قلبِ
(1)
أهلِ التصديقِ باللهِ في ذلك، {مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}. يقولُ جلّ ثناؤُه: لم يَكُنْ لهم حجةٌ على رسولِنا الذي يَتْلُو ذلك عليهم إلا قولهم له
(2)
: ائتِنا
(3)
بآبائِنا
(4)
الذين قد هلكوا، أحياءً، وانْشُرهم لنا إن كنتَ صادقًا فيما تَتْلو علينا وتُخْبِرُنا، حتى نصدِّقَ بحقيقةِ ما تقولُ بأن الله باعثُنا من بعدِ مماتنِا، و
(5)
مُحْيِينا من بعدِ فنائِنا.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26)} .
يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: قُلْ يا محمدُ لهؤلاء المشرِكين المكذِّبين بالبعثِ، القائلين لك: ائتِنا بآبائِنا إن كنتَ
(6)
صادقًا: اللهُ أيُّها المشرِكون يُحْيِيكم ما شاء أن يُحْيِيَكم في الدنيا، ثم يُميتُكم فيها إذا شاء، {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [لَا رَيْبَ فِيهِ}. يقولُ: ثم]
(7)
يَجْمَعُكم جميعًا أَوَّلَكم وآخرَكم، وصغيرَكم وكبيرَكم، {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}. يقولُ: ليوم القيامةِ، يَعْني أَنه يَجْمَعُكم جميعًا أحياءً
(1)
سقط من: ت 1.
(2)
في ت 1: "لهم"، وسقط من: ت 2، ت 3.
(3)
في ت 2، ت 3:"ائتوا".
(4)
بعده في ت 2، ت 3:"إن كنتم صادقين أي".
(5)
في ص، ت 2:"من".
(6)
بعده في ت:2: "من الصادقين إن كنت"، وفى ت 3:"من الصادقين أي كنت".
(7)
في م: "يعني أنه".
ليومِ القيامةِ، {لَا رَيْبَ فِيهِ}. يقولُ: لا شكَّ فيه. يقولُ: فلا تَشُكُّوا في ذلك، فإن الأمرَ كما وصَفتُ لكم، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}. يقولُ: ولكن أكثرَ الناسِ الذين هم أهلُ تكذيبٍ
(1)
بالبعثِ لا يَعْلَمون حقيقةً ذلك، وأن الله مُحْيِيهم من بعد ممَاتِهم.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وللهِ سلطانُ السماواتِ السبعِ والأرضِ دونَ ما
(2)
تدعُونه
(3)
له شريكًا، وتعبُدونه من دونِه، والذي
(4)
تدعُونه
(5)
من دونِه من الآلهةِ والأندادِ في مُلكِه وسلطانِه، جارٍ عليه حكمُه، فكيف يكونُ ما كان كذلك له شريكًا؟ أم كيف تعبُدونه، وتترُكون عبادةَ مالكِكم ومالكِ ما تعبُدونه من دونِه؟ {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ}. يقولُ تعالى ذكرُه: ويوم تجيءُ الساعةُ التي يَنْشُرُ اللهُ فيها الموتى من قبورِهم، ويجمعُهم لموقفِ العرضِ، {يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ}. يقولُ: يُغْبَنُ
(6)
فيها الذين أبطَلوا في الدنيا في أقوالِهم ودعواهم للهِ شريكًا، وعبادتِهم آلهةً دونَه، بأن يفوزَ بمنازلِهم من الجنةِ المحقُّون، ويُبْدلوا بها منازلَ من النارِ كانت للمُحِقِّين، فجُعِلت لهم بمنازِلهم
(7)
من الجنةِ، ذلك هو الخسرانُ المبينُ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ
(1)
في ت 3: "التكذيب".
(2)
في ص، ت 1، ت 2 ت 3:"من".
(3)
في ت 2، ت 3:"يدعون".
(4)
في ص، ت 1، ت 2 ت 3:"الذين".
(5)
في ت 1، ت 2، ت 3:"تدعون".
(6)
في ت 1: "يفتن".
(7)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"منازلهم".
تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28)}.
يقولُ تعالى ذكرُه: وترَى يا محمدُ يومَ تقومُ الساعةُ أهلَ كلِّ ملةٍ ودينٍ {جَاثِيَةً} . يقولُ: مجتمعةً مستوفِزَةً على رُكبِها من هولِ ذلك اليومِ.
كما حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قِوله:{وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} . قال: على الركبِ مستوفِزِين
(1)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زِيدٍ في قولِه: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} . قال: هذا يومَ القيامةِ {جَاثِيَةً} على ركبِهم
(2)
.
حُدِّثْتُ عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: ثنا عبيدٌ، قال: سمِعت الضحاكَ يقولُ في قولِه: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} . يقولُ: على الركبِ عندَ الحسابِ
(3)
.
وقولُه: {كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَانَ} . يقولُ: كلُّ أهلِ ملةٍ ودينٍ تُدعَى إلى كتابِها الذي أمْلَت على حَفَظَتِها.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا} : تعلَمون أنه ستُدعَى أُمةٌ قبلَ أُمةٍ، وقومٌ
(4)
قبلَ قومٍ، ورجلٌ قبلَ رجلٍ؟ ذُكِر لنا أن نبيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم كان يقولُ: "يُمَثَّلُ لكلِّ أُمَّةٍ يومَ القيامةِ ما كانت تعبدُ
(1)
تفسير مجاهد ص 600، ومن طريقه الفريابي - كما في تغليق التعليق 4/ 311، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 36 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
ينظر التبيان 9/ 259.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 36 إلى المصنف.
(4)
في ت 2: "قيل".
من حجَرٍ، أو وثنٍ، أو خشبةٍ، أو دابةٍ، ثم يقالُ: من كان يعبدُ شيئًا فَلْيَتْبَعْه. فتكونُ - أو تُجعلُ - تلك الأوثانُ قادةً إلى النارِ حتى تقذِفَهم فيها، فتبقَى أُمَّةُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم وأهلُ الكتابِ، فيقولُ لليهودِ: ما كنتم تعبُدون؟ فيقولون: كنا نعبدُ الله وعُزَيْرًا. إلا قليلًا منهم، فيقالُ لها: أمَّا عُزَيْرٌ فليس منكم ولَستُم منه، فيؤخذُ بهم ذاتَ الشِّمالِ، فينطَلِقون ولا يستطِيعون مكوثًا، ثم يُدعَى بالنصارى، فيقالُ لهم: ما كنتم تعبُدون؟ فيقولون: كنَّا نعبدُ الله والمسيحَ. إلا قليلًا منهم، فيقالُ: أَمَّا عيسى فليس منكم ولَستُم منه. فيؤخَذُ بهم ذاتَ الشِّمالِ، فينطَلِقون ولا يستطيعون مكوثًا، وتبقَى أمَّةُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، فيقالُ لهم: ما كنتُم تعبُدون؟ فيقولون: كنَّا نعبدُ الله وحدَه، وإنما فارَقْنا هؤلاء في الدنيا مخافةَ يومِنا هذا. فيؤذنُ للمؤمنين
(1)
في السجودِ، فيسجدُ المؤمنون، وبينَ كلِّ مؤمنٍ منافقٌ، فيقسُو ظهرُ المنافقِ عن السجودِ، ويجعلُ اللهُ سجودَ المؤمنين عليه
(2)
توبيخًا وصغارًا وحسرةً وندامةً"
(3)
.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ
(4)
، عن الزهريِّ، عن عطاءِ بن يزيدَ الليثيِّ، عن أبي هريرةَ، قال: قال الناسُ: يا رسولَ اللهِ، هل نرَى ربَّنا يومَ القيامةِ؟ فقال:"هل تُضامُّون في الشمسِ ليس دونَها سحابٌ؟ ". قالوا: لا يا رسولَ اللهِ. قال: "هل تُضارُّون في القمرِ ليلةَ البدرِ ليس دونَه سحابٌ؟ " قالوا: لا يا رسولَ اللهِ. قال: "فإنكم ترَوْنه يومَ القيامةِ كذلك، يجمعُ الله الناسَ، فيقولُ: مَن كان يعبدُ شيئًا فَلْيَتْبَعْه. فيتْبعُ مَن كان يعبدُ القمرَ القمرَ، ومن كان يعبدُ الشمسَ الشمسَ، ويَتَّبَعُ مَن كان يعبدُ الطواغيتَ الطواغيتَ، وتبقَى هذه الأمةُ
(1)
في ت 2، ت 3:"للمؤمن".
(2)
في ت 2 ت 3: "عليها".
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 36 إلى المصنف.
(4)
بعده في النسخ: "عن قتادة"، وينظر مصادر التخريج.
فيها منافِقوها، فيأتيهم ربُّهم في صورةٍ، ويُضرَبُ جسرٌ على جهنمَ". قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "فأكونُ أولَ من يُجِيزُ
(1)
، ودعوةُ الرسلِ يومئذٍ: اللهمَّ سَلِّمْ، اللهمَّ سَلِّمْ. وبها كلاليبُ كشوكِ السَّعْدانِ
(2)
، هل رأَيتم شوكَ السَّعْدانِ؟ ". قالوا: نعم يا رسولَ اللهِ. قال: "فإنها مثلُ شوكِ السَّعْدانِ، غيرَ أنه لا يَعلمٌ
(3)
قدرَ عِظَمِها إلا اللهُ، ويُخْطَفُ
(4)
الناسُ بأعمالِهم؛ فمنهم المُوبَقُ بعملِه، ومنهم المُخَردَلُ
(5)
ثم يَنْجُو". ثم ذكَر الحديثَ بطولِه
(6)
.
وقولُه: {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: كلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إلى كِتابِها، يقالُ لها
(7)
: {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ} . أي: تُثابُون وتُعطَون أجورَ ما كنتم في الدنيا من جزاءِ الأعمالِ تعمَلون؛ بالإحسانِ الإحسانَ، وبالإساءةِ جزاءَها.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: يقالُ
(8)
لكلِّ أمةٍ دُعِيت في القيامةِ إلى كتابِها الذي أمْلَت
(1)
في ت 2: "يخير".
(2)
السعدان: نبت ذو شوك، وهو من جيِّد مراعى الإبل تسمن عليه. النهاية 2/ 367.
(3)
بعده في م: "أحد".
(4)
في ت 2، ت 3:"يحفظ".
(5)
المخردل: المصروع المرميّ، وقيل: المقطع تقطِّعه كلاليب الصراط حتى يهوِى في النار. اللسان (خردل).
(6)
أخرجه النسائي في الكبرى (11637) عن محمد بن عبد الأعلى به، وابن منده في الإيمان (806)، والآجرى في الشريعة (598) من طريق ابن ثور به مختصرًا، وأخرجه معمر في جامعه (20856) ومن طريقه أحمد 13/ 143 - 146 (7717)، والبخارى (6573)، وابن أبي عاصم (455)، وابن حبان (7429).
(7)
في ت 1، ت 3:"لهم".
(8)
سقط من: م.
على حَفَظتِها في الدنيا: {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} ، فلا تَجَزَعوا من ثوابِناكم
(1)
على ذلك، فإنكم ينطقُ عليكم إن أنكَرْتموه بالحقِّ فاقرَءوه، {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}. يقولُ: إنا كنا نستكتِبُ حَفَظَتَنا أعمالَكم، فتثبتُها في الكتبِ وتكتبُها.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أبو كُرَيبٍ، قال: ثنا طلقُ بنُ عَنَّامٍ، عن زائدةَ، عن عطاءٍ، عن
(2)
مِقْسمٍ، عن ابن عباسٍ:{هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ} . قال: هو أمُّ الكتابِ، فيه أعمالُ بني آدمَ، {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}. قال: نَعم، الملائكةُ يستنسِخون أعمالَ بني آدَم
(3)
.
حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا يعقوبُ القُمِّيُّ، قال: ثني أخى عيسى بنُ عبدِ اللهِ، عن
(4)
ثابتٍ الثُّماليِّ
(5)
، عن ابن عباسٍ، قال: إن الله خلَق النونَ وهى الدواةُ، وخلَق القلمَ، فقال: اكتبْ. قال: ما أكتبُ؟ قال: اكتبْ ما هو كائنٌ إلى يوم القيامةِ من عملٍ معمولٍ؛ بِرٍّ
(6)
أو فجورٍ، أو
(7)
رزقٍ مقسومٍ؛ حلالٍ أو حرامٍ. ثم ألزَم
(8)
كلَّ شيءٍ
(1)
في ت 2: "ثوابنا لكم".
(2)
في م: "بن".
(3)
تفسير مجاهد ص 600، 601 من طريق عطاء به.
(4)
في م: "بن". وينظر تهذيب الكمال 4/ 357.
(5)
في ت 1، ت 2، ت 3:"اليماني".
(6)
سقط من: ت 2.
(7)
في ت 3: "من".
(8)
في ت 1: "أكرم"، وفى ت 2:"إلزام".
من ذلك شأنَه
(1)
: دخولَه في الدنيا، ومُقامَه فيها كم؟ وخروجَه منها كيف؟ ثم جعَل على العبادِ حَفَظَةً، وعلى الكتابِ خُزَّانًا، فالحفظةُ ينسَخون كلَّ يومٍ من الخُزَّانِ عملَ ذلك اليومِ، فإذا فَنِى الرزقُ وانقطَع الأثرُ، وانقَضى الأجلُ، أتَتِ الحفظةُ الخزنةَ يطلبون عملَ ذلك اليوم، فتقولُ لهم الخزنةُ: ما نجدُ لصاحبِكم عندَنا شيئًا. فترجعُ الحفظةُ [فيجِدونهم قد ماتوا]
(2)
. قال: فقال ابن عباسٍ: ألستم قومًا عربًا؟ تسمعون الحَفَظةَ يقولون: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} . وهل يكونُ الاستِنساخُ إلا من أصلٍ
(3)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا حكامٌ، عن عمرٍو، عن عطاءٍ، عن الحكمِ، عن مقسمٍ، عن ابن عباسٍ:{هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ} . قال: الكتابُ الذكرُ، {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}. قال: نستنسخُ الأعمالَ.
وقال آخرون في ذلك ما حدَّثنا الحسنُ بنُ عرفةَ، قال: ثنا النضرُ بنُ إسماعيلَ، عن أبي سنانٍ
(4)
الشيبانيِّ، عن عطاءِ بن أبي رباحٍ، عن أبي عبدِ الرحمنِ السلميِّ، عن عليّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه أنه قال: إن للهِ ملائكةً ينزِلون في كلِّ يومٍ بشيءٍ؛ يكتُبون فيه أعمالَ بني آدَمَ
(3)
.
وقولُه: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ} . يقولُ تعالى ذكرُه: فأما الذين آمَنوا باللهِ في الدنيا فوحَّدوه، ولم يشرِكوا به شيئًا، {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}. يقولُ: وعمِلوا بما أمَرهم اللهُ به، وانتهَوا عما نهاهم اللهُ عنه، {فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ}. يعني: في جنتِه برحمتِه.
(1)
في ص: "شامه"، وفى ت 2:"سامة"، وفي ت 3:"سامه".
(2)
في ت 1: "فيجدونه قد مات".
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 36 إلى المصنف.
(4)
في ت 1، ت 2:"شيبان".
وقولُه: {ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ} . يقولُ: دخولُهم في رحمةِ اللهِ يومَئذٍ هو الظفرُ بما كانوا يطلبونه، وإدراكُ ما كانوا يسعَون في الدنيا له، المبينُ غايتَهم فيها أنه هو الفوزُ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ (31)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وأما الذين جحَدوا وحدانيةَ اللهِ، وأبَوا إفرادَه في الدنيا بالألوهةِ، فيقالُ لهم: ألم تكُنْ آياتِي في الدنيا تُتلى عليكم؟
فإن قال قائلٌ: أوَ لَيست "أمَّا" تجابُ بالفاءِ، فأينَ هي؟ فإن الجوابَ أن يقالَ: هي الفاءُ التي في قولِه: {أَفَلَمْ} . وإنما وجْهُ الكلامِ في العربيةِ لو نُطِق به على بيانِه وأصلِه أن يقالَ: وأما الذين كفروا، فألم
(1)
تكن آياتي تُتلَى عليكم. لأن معنى الكلامِ: وأما الذين كفَروا فيقالُ لهم: ألم. فموضعُ الفاءِ في ابتداءِ المحذوفِ الذي هو مطلوبٌ في الكلامِ، فلما حُذِفت "يقالُ"، وجاءت ألِفُ استفهامٍ حكمُها أن تكونَ مبتدَأةً بها، ابتُدِئ بها وجُعِلت الفاءُ بعدَها، وقد تُسقِطُ العربُ الفاءَ التي هي جوابُ "أما" في مثلِ هذا الموضعِ أحيانًا إذا أسقَطوا الفعلَ الذي هو في محلِّ جوابِ "أما"، كما قال جلَّ ثناؤُه:{فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [آل عمران: 106]. فحُذِفتِ الفاءُ
(2)
، إذ كان الفعلُ الذي هو في جوابِ "أمَّا" محذوفًا وهو "فيقال"، وذلك أن معنى الكلامِ: فأما الذين اسودَّت وجوهُهم فيقالُ لهم: أكفَرتم؟ فلما أُسقِطت "يقالُ" الذي به تتصلُ الفاءُ
(1)
في ت 2: "فإن لم"، وفي ت 3:"فلم".
(2)
بعده في ت 2: "جواب".
سقَطت الفاءُ التي هي جوابُ "أما"
وقولُه: {فَاسْتَكْبَرْتُمْ} . يقولُ: فاستكبَرتم عن استماعِها والإيمانِ بها، و {وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ}. يقولُ: وكنتم قومًا تكسِبون
(1)
الآثامَ والكفرَ باللهِ، لا تصدِّقون بمعادٍ، ولا تؤمنون بثوابٍ ولا عقابٍ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: ويقالُ لهم حينَئذٍ: وإذا قيل لكم: إِنَّ وَعْدَ اللهِ الذي وعَد عبادَه أنه مُحيِيهم من بعد مماتِهم، وباعثُهم من قبورِهم، حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ التي أخبَرهم أنه يقيمُها لحشرِهم، وجمِعهم للحسابِ والثوابِ على الطاعةِ، والعقابِ على المعصيةِ، آتيةٌ
(2)
{لَا رَيْبَ فِيهَا} . يقولُ: لا شكَّ فيها. يعني: في الساعةِ، والهاءُ في قولِه:{فِيهَا} . من ذكرِ الساعةِ. ومعنى الكلامِ: والساعةُ لا ريبَ في قيامِها، فاتَّقوا الله وآمِنوا بالله ورسولِه، واعمَلوا لما يُنجِيكم من عقابِ اللهِ فيها، {قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ} . تكذيبًا منكم بوعدِ اللهِ جلَّ ثناؤُه، وردًّا لخبرِه، وإنكارًا لقُدرتِه على إحيائِكم من بعدِ مماتِكم.
وقولُه: {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا} . [يقولُ: وقلتم: ما نظنُّ أن الساعةَ آتيةٌ إلا ظنًّا]
(3)
، {وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} أنها جائيةٌ، ولا أنها كائنةٌ.
واختلَفت القرأةُ في قراءةِ قولِه: {وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا} ؛ فقرَأت ذلك عامةُ
(1)
في ت 3: "تلبسون".
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"لآتية".
(3)
سقط من: ت 1، ت 2، ت 3.
قرأةِ المدينةِ والبصرةِ وبعضُ قرأةِ الكوفةِ، {وَالسَّاعَةُ} رفعًا على الابتداءِ
(1)
. وقرَأته عامةُ قرأةِ الكوفةِ: (والسَّاعَةَ) نصبًا
(2)
، عطفًا بها على قولِه:{إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} .
والصوابُ من القولِ في ذلك عندَنا أنهما قراءتان مستفيضتان في قَرَأةِ الأمصارِ، صحيحتا المخرجِ في العربيةِ، متقارِبتا المعنى، فبأيتِهما قرَأ القارئُ فمصيبٌ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (33)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وبدَا لهؤلاء الذين كانوا في الدنيا يكفُرون بآياتِ اللهِ - سيئاتُ ما عمِلوا في الدنيا من الأعمالِ. يقولُ: ظهر لهم هنالك قبائحُها وشرارُها، لمَّا قرَءوا كتب أعمالِهم التي كانت الحفظةُ تنسخُها في الدنيا، {وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}. يقولُ: وحاق بهم من عذابِ اللهِ حينَئذٍ ما كانوا به يستهزِئون، إذا قيل لهم: إن الله مُحِلُّه بمَن
(3)
كذَّب به، على سيئاتِ ما في الدنيا عمِلوا من الأعمالِ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وقيل لهؤلاء الكفرة الذين وصَف صفتَهم: اليومَ نتركُكم في عذابِ جهنمَ، كما ترَكتم العملَ للقاء ربِّكم يومَكم هذا.
كما حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ} : نتركُكم
(4)
.
(1)
هي قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو وابن عامر وعاصم والكسائي. ينظر السبعة لابن مجاهد ص 595.
(2)
هي قراءة حمزة. المصدر السابق.
(3)
في ص، ت 1، ت 2:"ممن".
(4)
بعده في ت 2: "في عقاب الله".
وقولُه: {وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ} . يقولُ: ومأْواكم [التي تأوون إليها]
(1)
نارُ جهنمَ، {وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}. يقولُ: ومالكم من مستنقذٍ يستنقذُكم
(2)
اليومَ من عذابِ اللهِ، ولا منتصرٍ ينتصرُ لكم ممن يعذِّبُكم، [فيَستنقِذَ لكم]
(3)
منه.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: يقالُ لهم: هذا الذي حلَّ بكم من عذابِ اللهِ اليومَ بأنكم في الدنيا اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللهِ هُزُوًا. وهى حججُه وأدلتُه وآىُ كتابِه التي أنزلها على رسولِه صلى الله عليه وسلم، {هُزُوًا}. يعنى: سخريةً تسخَرون منها، {وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا}. يقولُ: وخدَعتكم زينةُ الحياةِ الدنيا، فآثَرتموها على العملِ بما
(4)
يُنجِيكم اليومَ من عذابِ اللهِ. يقولُ تعالى ذكرُه: {فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا} : من النارِ، {وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ}. يقولُ: ولا هم يُردُّون إلى الدنيا ليتوبوا ويراجِعوا الإنابةَ مما عوقِبوا عليه.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} .
يقولُ تعالى ذكرُه: فللهِ الحمدُ على نعَمِه وأياديه عندَ خلقِه، فإياه فاحمَدوا أيُّها الناسُ، فإن كلَّ ما بكم من نعمةٍ فمنه دونَ ما تعبُدون من دونِه من آلهةٍ
= والأثر عزاه الحافظ في الفتح 8/ 574 إلى ابن المنذر، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 37 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(1)
في ت 1: "الذي تأوون إليه".
(2)
في م: "ينقذكم".
(3)
في ت 3: "فيستنقذكم".
(4)
في ص، م:"لما".
ووثنٍ، ودون ما تتخِذونه
(1)
من دونِه ربًّا، وتشرِكون به معه
(2)
، {رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ}. يقولُ: مالكِ السماواتِ السبعِ، ومالكِ الأرَضينَ السبعِ
(3)
، {رَبِّ الْعَالَمِينَ}. يقولُ: مالكِ جميعِ ما فيهن من أصنافِ الخلقِ.
{وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} . يقولُ: وله العظمةُ والسلطانُ في السماواتِ والأرضِ دونَ ما سواه من الآلهةِ والأندادِ، {وَهُوَ الْعَزِيزُ} في نقمتِه من أعدائِه، القاهرُ كلَّ ما دونَه، ولا يقهرُه شيءٌ، {الْحَكِيمُ} في تدبيرِه خلقَه، وتصريفِه إياهم فيما شاء كيفَ شاء واللهُ أعلمُ.
آخرُ تفسيرِ سورةِ "الجاثيةِ"
(1)
في ت 3: "تتخذون".
(2)
في ت 2: "بعد".
(3)
بعده في ص، م:"و".
تفسيرُ سورةِ الأحقافِ
بسم الله الرحمن الرحيم
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ
(3)}.
قد تقدَّم بيانُنا معنى قولِه: {حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ} بما أغنَى عن إعادتِه في هذا الموضعِ
(1)
.
وقولُه: {مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} . يقولُ تعالى ذكرُه: ما أحدَثْنا السماواتِ والأرضَ، فأوجَدناها
(2)
خلقًا مصنوعًا، {وَمَا بَيْنَهُمَا} من أصنافِ العالمِ، {إِلَّا بِالْحَقِّ}. يعنى: إلا لإقامةِ الحقِّ والعدلِ في الخلقِ.
وقولُه: {وَأَجَلٍ مُسَمًّى} . يقولُ: وإلا بأجلٍ لكلِّ ذلك معلومٍ عندَه، يُفنِيه إذا هو بلَغه، ويُعدِمُه بعدَ أن كان موجودًا بإيجادِه إياه.
وقولُه: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: والذين جحَدوا وحدانيةَ اللهِ عن إنذارِ اللهِ إياهم - مُعرِضون، لا يتَّعِظون به، ولا يتفكَّرون فيعتبِرون.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ
(4)}.
(1)
ينظر ما تقدم في 20/ 274 - 276.
(2)
في م: "فأوجدناهما".
يقولُ تعالى ذكرُه: قل يا محمدُ لهؤلاء المشركين باللهِ من قومِك: أرأَيتم أيُّها القومُ الآلهةَ والأوثانَ التي تعبُدون من دونِ اللهِ، أرُونى أيَّ شيءٍ خلَقوا من الأرضِ؟ فإنَّ ربي خلَق الأرضَ كلَّها، فدعَوتموها من أجلِ خلِقها ما خلَقَتْ من ذلك آلهةً وأربابًا، فيكونَ لكم بذلك في عبادتِكم إياها حجةٌ! فإن من حُجَّتي على عبادتي إلهى وإفرادى له الألوهةَ، أنه خلَق الأرضَ فابتدَعها من غيرِ أصلٍ.
وقولُه: {أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ} . يقولُ تعالى ذكرُه: أم لآلهتِكم التي تعبُدونها أيُّها الناسُ، شركٌ مع اللهِ في السماواتِ السبعِ، فيكونَ لكم أيضًا بذلك حجةٌ في عبادتِكموها، فإن من حجَّتى على إفرادى العبادة لربِّى، أنه لا شريكَ له في خلقِها، وأنه المنفرِدُ بخلقِها دونَ كلِّ ما سواه.
وقولُه: {ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا} . يقولُ تعالى ذكرُه: بكتابٍ جاء من عندِ اللهِ من قبلِ هذا القرآنِ الذي أُنزِل عليَّ، بأن ما تعبُدون من الآلهةِ والأوثانِ خلَقوا من الأرضِ شيئًا، أو أنَّ لهم مع اللهِ شِركًا في السماواتِ، فيكونَ ذلك حجةً لكم على عبادِتكم إياها؛ لأنها إذا صحَّ لها ذلك صحَّت لها الشركةُ في النِّعمِ التي أنتم فيها، ووجَب لها عليكم الشكرُ، واستحقَّت منكم الخدمةَ؛ لأن ذلك لا يقدِرُ أن يخلُقَه إلا إلهٌ.
وقولُه: {أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} . اختلَفتِ القرأةُ في قراءةِ ذلك؛ فقرَأته عامةُ قرأةِ الحجازِ والعراقِ: {أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} بالألفِ، بمعنى: أو ائتونى ببقيةٍ من علم. ورُوِى عن أبي عبدِ الرحمنِ السُّلميِّ أنه كان يقرؤُه: (أَوْ أَثَرَةٍ من علمٍ)
(1)
. بمعنى: أو خاصَّةٍ من علمٍ أوتِيتُموه، وأوثِرْتم به على غيرِكم.
(1)
وبها قرأ عليّ وابن عباس - بخلاف عنه - والحسن وعكرمة وقتادة وعمرو بن ميمون، ورويت عن الأعمش. وهى قراءة شاذة. ينظر مختصر الشواذ لابن خالويه ص 138، والمحتسب 2/ 264.
والقراءةُ التي لا أستجيزُ غيرَها: {أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} بالألفِ؛ لإجماعِ قرأةِ الأمصارِ عليها.
واختلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِها؛ فقال بعضُهم: معناه: أو ائتوني بعلمٍ بأن آلهتكم خَلَقَتْ من الأرضِ شيئًا، وأن لها شركًا في السماواتِ، من قبل الخطِّ الذي تخطُّونه في الأرضِ
(1)
، فإنكم معشرَ العربِ أهلُ عِيافةٍ
(2)
وزجرٍ وكهانةٍ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرُ بنُ آدمَ، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن سفيانَ، عن صفوانَ بن سُليمٍ، عن أبي سلمةَ، عن ابن عباسٍ:{أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} . قال: خطٍّ كان يخطُّه العربُ في الأرضِ
(3)
.
حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: قال أبو بكرٍ، يعنى ابنَ عياشٍ: الخطُّ هو العِيافةُ
(4)
.
(1)
قال ابن الأثير: قال ابن عباس: الخط هو الذي يخطه الحازى، وهو علم قد تركه الناس، يأتى صاحب الحاجة إلى الحازى فيعطيه حُلْوانًا - أجرة - فيقول له: اقعد حتى أخطَّ لك، وبين يدى الحازى غلام له معه ميل ثم يأتى إلى أرض رخوة فيخط فيها خطوطا كثيرة بالعجلة لئلا يلحقها العدد، ثم يرجع فيمحو منها على مَهَل خَطَّين خطين، وغلامه يقول للتفاؤل: ابْنَى عيان أسْرِعا البيان. فإن بقى خطان فهما علامة النُّجح، وإن بقى خط واحد فهو علامة الخيبة. قال ابن الأثير: الخط المشار إليه علم معروف. النهاية 2/ 47.
(2)
العيافة: زجر الطير والتفاؤل بأسمائها وأصواتها وممرِّها. وهو من عادة العرب كثيرًا. النهاية 3/ 330.
(3)
أخرجه ابن المقريء في معجمه (246)، والحاكم 2/ 454، والخطيب في تاريخه 4/ 355 من طريق سفيان به، وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 215 من طريق صفوان به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 37 إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن مردويه، وأخرجه أحمد 3/ 449 (1992) عن سفيان به مرفوعا، وأخرجه الطبراني (10725) من طريق صفوان به مرفوعًا، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 37 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 259.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أو خاصَّةٍ من علمٍ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} . قال: أو خاصةٍ من علمٍ
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} . قال: أي: خاصةٍ من علمٍ.
حدَّثنا عبدُ الوارث بنُ عبدِ الصمدِ بن عبدِ الوارثِ، قال: ثنى أبي، عن الحسينِ، عن قتادةَ:{أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} . قال: خاصةٍ من علمٍ.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أو علمٍ تُثِيرونه فتستخرِجونه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن الحسنِ في قولِه:{أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} . قال: {أَثَارَةٍ} : شيءٍ يستخرِجونه فِطْرةً
(2)
.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أو تأثِرون ذلك علمًا عن أحدٍ ممن قبلَكم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 215 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 38 إلى عبد بن حميد.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 215 عن معمر، عن من سمع الحسن.
{أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} . قال: أحدٌ يأثِرُ علمًا
(1)
.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أو ببيِّنةٍ من الأمرِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ:{أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} . يقولُ: بينةٍ من الأمرِ
(2)
.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ببقيةٍ من علمٍ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: سُئِل أبو بكرٍ، يعنى ابنَ عياشٍ، عن:{أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} . قال: بقيةٍ من علمِ
(3)
.
وأولى الأقوالِ في ذلك بالصوابِ قولُ مَن قال: الأثارةُ البقيةُ من علمٍ؛ لأنَّ ذلك هو المعروفُ من كلامِ العربِ، وهو مصدرٌ من قولِ القائلِ: أثُر الشيءُ أثارةً، مثلَ: سمُج سماجةً، وقبُح قباحةً، كما قال راعى الإبلِ
(4)
:
* وذَاتِ أثارةٍ أكَلَت عَلَيْها *
يعنى: وذاتِ بقيةٍ من شحمٍ.
فأما من قرَأه: (أوْ أَثَرَةٍ) فإنه جعله أثرةً من الأثَرٍ، كما قيل: قَتَرَةٌ وغَبَرَةٌ.
(1)
تفسير مجاهد ص 602، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 38 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 38 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 259.
(4)
ديوان الراعي النميرى (مجموع) ص 149، ومجاز القرآن 2/ 212، ونسبه في اللسان والتاج (أ ث ر) إلى الشماخ، وينظر ديوان الشماخ ص 445 والتعليق عليه فيه.
وقد ذُكر عن بعضِهم أنه قرَأه: (أوْ أثْرَةٍ) بسكونِ الثاءِ
(1)
، مثلَ الرَّجْفَةِ والخَطْفةِ، وإذا وُجِّه ذلك إلى ما قلنا فيه مِن أنه بقيةٌ من علمٍ، جاز أن تكونَ تلك البقيةُ من علمِ الخطِّ، ومن علمٍ اسْتُثِير مِن كُتُبِ الأوَّلين، ومن خاصة علمٍ كانوا أُوثِروا به.
وقد رُوى عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في ذلك خبرٌ بأنه تأوَّله أنه بمعنى الخطِّ، سنذكُرُه إن شاء اللهُ تعالى. فتأويلُ الكلامِ إذن: ائْتُونى أيُّها القومُ بكتابٍ مِن قبلِ هذا الكتابِ، بتحقيقِ ما سألتُكم تحقيقَه مِن الحُجَّةِ على دَعْواكم ما تدَّعون لآلهتِكم، أو ببقيةٍ من علمٍ يُوصَلُ بها إلى علمِ صحةِ ما تقولون مِن ذلك، {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} في دَعْواكم لها ما تَدَّعون، فإن الدَّعْوى إذا لم يَكُنْ معها حُجَّةٌ لم تُغْنِ عن المُدَّعِى شيئًا.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وأيُّ عبدٍ أَضَلُّ مِن عبدٍ يَدْعو مِن دونِ اللهِ آلهةً، {لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}. يقولُ: لا يُجِيبُ دعاءَه أبدًا؛ لأنها حَجَرٌ أَو خَشَبٌ أو نحوُ ذلك.
وقولُه: {وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: وآلهتُهم التي يَدْعونهم عن دُعائِهم إياهم في غفلةٍ؛ لأنها لا تسمعُ ولا تنطقُ، ولا تعقلُ. وإنما عنَى بوصفِها بالغفلةِ، تمثيلَها بالإنسانِ السَّاهِي عما يقالُ له، إذ كانت لا تفهمُ مما يقالُ لها شيئًا، كما لا يفهمُ الغافلُ عن الشيءِ ما غفَل عنه. وإنما هذا توبيخٌ مِن اللهِ لهؤلاء المشركين لسُوءِ رأيِهم، وقُبْحِ اختيارِهم في عبادتِهم من لا يعقلُ شيئًا ولا يفهمُ،
(1)
وبها قرأ عليّ وأبو عبد الرحمن السلمي وقتادة. وهي قراءة شاذة. مختصر الشواذ لابن خالويه ص 140، والمحتسب 2/ 264.
وتَرْكِهم عبادةَ مَن جميعُ ما بهم مِن نعمتِه، ومَن به استغاثتُهم عندَ ما ينزلُ بهم مِن الحوائجِ والمصائبِ.
وقيل: {مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ} . فأخرَج ذكرَ الآلهةِ وهى جمادٌ مُخرجَ ذِكْرِ بنى آدمَ ومَن له الاختيارُ والتمييزُ، إذ كانت قد مَثَّلَتها عبدَتُها بالملوكِ والأمراءِ التي تخدُمُ في خدمتِهم إيَّاها، فأجرَى الكلامَ في ذلك على نحوِ ما كان جاريًا فيه عندَهم.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وإذا جُمع الناسُ يومَ القيامةِ لموقفِ الحسابِ، كانت هذه الآلهةُ التي يَدْعونها في الدنيا لهم أعداءً؛ لأنهم يتَبرَّءُون منهم، {وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ}. يقولُ تعالى ذكرُه: وكانت آلهتُهم التي يعبُدونها في الدنيا بعبادتِهم جاحِدِين؛ لأنهم يقولون يومَ القيامةِ: ما أمَرناهم بعبادتِنا، ولا شَعرنا بعبادتِهم إيَّانا، تبَرَّأنا إليك منهم يا ربَّنا.
وقولُه: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} . يقولُ تعالى ذكرُه: وإذا تُقرأُ على هؤلاء المشركين باللهِ من قومِك {آيَاتُنَا} . يعنى: حُجَجُنا التي احْتَجَجْناها عليهم، فيما أنزَلناه من كتابِنا على محمدٍ صلى الله عليه وسلم. يعني: واضحاتٍ نَيِّراتٍ، {قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ}. يقولُ تعالى ذكرُه: قال الذين جَحَدوا وحدانيةَ اللهِ وكذَّبوا رسولَه للحقِّ لما جاءَهم مِن عندِ اللهِ، فأنزَله على رسولِه صلى الله عليه وسلم:{هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} . يعنون: هذا القرآنُ خداعٌ يخدَعُنا، ويأخذُ بقلوبِ من سمِعه، فعلَ السحرِ، {مُبِينٌ}. يقولُ: يَبِينُ لمن تأمَّله ممن سمِعه أنه سحرٌ مبينٌ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: أمْ يقولُ هؤلاء المُشركون باللهِ مِن قريشٍ: افتَرى محمدٌ هذا القرآنَ، فاختَلَقه وتَخَرَّصه كذِبًا. قُلْ لهم يا محمدُ: إنِ افتَريتُه وتخرَّضْتُه على اللهِ
(1)
، {فَلَا تَمْلِكُونَ لِي}. يقولُ: فلا تُغْنون عنى مِن اللهِ إن عاقَبَني على افْتِرائى إياه وتَخَرُّصِى عليه شيئًا، ولا تقدرون أن تَدْفَعوا عنى سُوءًا إن أصابَنى به.
وقولُه: {هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ} . يقولُ: رَبِّي أَعلَمُ مِن كُلِّ شيءٍ سِواه، بما تقولون بينَكم في هذا القرآنِ.
والهاءُ مِن قولِه: {تُفِيضُونَ فِيهِ} مِن ذكرِ القرآنِ.
وبنحوِ الذي قلنا في معنى قولِه: {تُفِيضُونَ فِيهِمُ} ، قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} [يونس: 61]. قال: تقولون
(2)
.
وقولُه: {كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} . يقولُ: كفى بالله شاهدًا عليَّ وعليكم بما تقولون من تَكْذيبِكم لي فيما جئتُكم به مِن عندِ اللهِ، الغفورِ الرحيمِ لهم، بألا يُعَذِّبَهم عليها بعدَ توبتِهم منها.
(1)
بعده في م: "كذبا".
(2)
تفسير مجاهد ص 602، ومن طريقه الفريابي - كما في التغليق 4/ 311 وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 38 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9)} .
يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: قُلْ يا محمدُ لمُشْركي قومِك مِن قريشٍ: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} . يعنى: ما كنتُ أوَّلَ رسلِ اللهِ التي أرسَلها إلى خَلْقِه، قد كان مِن قَبْلى له رسلٌ كثيرةٌ أُرسلت إلى أممٍ قبلَكم.
يقالُ منه: هو بِدْعٌ في هذا الأمرِ، وبديعٌ فيه. إذا كان فيه أوَّلَ. ومن البِدْعِ قولُ عَدِيِّ بن زيدٍ
(1)
:
فَلا أنا بِدْعٌ مِن حَوادثَ تَعْتَرِى
…
رِجالًا عَرَتْ مِن بَعْدِ بُؤْسَى وأَسْعُدِ
ومن البديعِ قولُ الأحوصِ
(2)
:
فَخَرَتْ فانْتَمَتْ فقلتُ انظُرِينى
…
ليس جَهْلٌ أُتيتِه ببَديعِ
يعنى بأوَّلَ. يقالُ: هو بِدْعٌ مِن قومٍ أبداعٍ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} . يقولُ: لستُ بأوَّلِ الرسلِ
(3)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"يزيد". والبيت في تفسير القرطبي 16/ 185.
(2)
شعر الأحوص الأنصاري ص 157.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره - كما في تغليق التعليق 4/ 311 - من طريق أبي صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 38 إلى ابن المنذر وابن مردويه.
أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} . قال: يقولُ: ما كنتُ أولَ رسولٍ أُرسِل.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} . قال: ما كنتُ أوَّلَهم
(1)
.
حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا عبدُ الوهابِ بنُ معاويةَ، عن أبي هُبَيرةَ، قال: سألتُ قتادةَ: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} . قال: أي: قد كانت قبلي رسلٌ.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} . يقولُ: أي: إن الرسلَ قد كانت قبلى.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن مَعْمَرٍ، عن قتادةَ في قولِه:{بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} . قال: قد كانت قبلَه رُسُلٌ
(2)
.
وقولُه: {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} . اختلف أهلُ التأويلِ في تأويلِه؛ فقال بعضُهم: عَنَى به رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم. وقيل له: قُلْ للمؤمنين بك: ما أدْرِى ما يُفْعَلُ بي ولا بكم يومَ القيامةِ، وإلى ما نصيرُ هنالك. قالوا: ثم بَيَّن اللهُ لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين به حالَهم في الآخرةِ، فقيل له:{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 1، 2]. وقال: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} [الفتح: 5].
(1)
تفسير مجاهد ص 602، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 38 إلى عبد بن حميد.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 215 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 38 إلى عبد بن حميد.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} : فأنزَل اللهُ بعدَ هذا: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ}
(1)
.
حدَّثنا ابن حُمَيدٍ، قال: ثنا يحيى بنُ واضحٍ، عن الحسينِ، عن يزيدَ، عن عكرمةَ والحسنِ البصريِّ، قالا: قال في "حم الأحقاف": {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} . فنسخَتها الآيةُ التي في سورة "الفتح": {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ} الآية [الفتح: 1، 2]. فخرَج نبيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم حينَ نزلت هذه الآيةُ، فبَشَّرهم بأنه غُفِر له ما تقدَّم من ذنبِه وما تأخَّر، فقال له رجالٌ مِن المؤمنين: هَنِيئًا لك يا نبيَّ اللهِ، قد عَلِمنا ما يُفعَلُ بك، فماذا يُفعَلُ بِنا؟ فأنزَل اللهُ عز وجل، في سورةِ "الأحزابِ"، فقال:{وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا} [الأحزاب: 47]. وقال: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ} الآية [الفتح: 5، 6]. فبَيَّن الله ما يَفْعَلُ به وبهم
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} : ثم دَرَى أو علِم مِن اللهِ صلى الله عليه وسلم بعدَ ذلك ما يُفْعَلُ به؛ يقولُ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّر} .
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن مَعْمَرٍ، عن قتادةَ في قولِه: {وَمَا
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 38 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 38 إلى المصنف.
أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ}. قال: قد بُيِّن له أنه قد غُفِر مِن ذنبِه ما تقدَّم وما تأخَّر
(1)
.
وقال آخرون: بل ذلك أمرٌ مِن اللهِ جلَّ ثناؤُه نبيَّه عليه الصلاة والسلام أن يقولَه للمشركين مِن قومِه، ويعلمَ أنه لا يَدْرِى إلامَ يصيرُ أمرُه وأمرُهم في الدنيا؛ أيصيرُ أمرُه معهم أن يقتُلوه أو يُخرِجوه مِن بينِهم، أو يؤمِنوا به فيَتَّبِعوه، وأمرُهم إلى الهلاكِ كما أُهلِكت الأممُ المُكذِّبةُ رُسُلَها من قبلِهم، أو إلى التصديقِ له فيما جاءهم به من عندِ اللهِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن حُمَيدٍ، قال: ثنا يحيى بنُ واضحٍ، قال: ثنا أبو بكرٍ الهُذَليُّ، عن الحسنِ في قولِه:{وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} . فقال: أمَّا في الآخرةِ فمعاذَ اللهِ، قد علِم أنه في الجنةِ حينَ أُخِذ ميثاقُه في الرسلِ، ولكن قال: ما أدْرِى ما يُفعلُ بي ولا بكم في الدنيا؛ أَخْرَجُ كما أُخرِجت الأنبياءُ قَبْلى، أو أُقْتَلُ كما قُتِلت الأنبياءُ مِن قَبْلى، ولا أدْرِى ما يُفْعَلُ بكم؛ أُمَّتى المُكذِّبةُ أم أُمَّتى المُصدِّقَةُ، أم أُمَّتي المَرْمِيَّةُ بالحجارةِ مِن السماءِ قَدْفًا، أم مخسوفٌ بها خَسْفًا، ثم أُوحى إليه:{وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ} [الإسراء: 60]. يقولُ: أحَطْتُ لك بالعربِ ألا يقتُلوك. فعرَف أنه لا يُقْتَلُ، ثم أنزَل اللهُ عز وجل:{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [الفتح: 28]. يقولُ: أشهَد لك على نفسِه أنه سيُظْهِرُ دينَك على الأديانِ، ثم قال له في أمتِه: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 215، 216 عن معمر به.
اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33]. فأخبَره اللهُ ما يصنَعُ به وما يصنَعُ بأمتِه
(1)
.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وما أدْرِى ما يُفْتَرَضُ عليَّ وعليكم، أو ينزِلُ مِن حكمٍ. وليس يعني: ما أَدْرِى ما يُفعل بي ولا بكم غدًا في المعادِ، مِن ثوابِ اللهِ مَن أطاعَه، وعقابِه مَن كَذَّبه.
وقال آخرون: إنما أُمِر أن يقولَ هذا في أمر كان ينتظرُه من قِبَلِ اللهِ عز وجل في غيرِ الثوابِ والعقابِ.
وأولى الأقوال في ذلك بالصحةِ وأشْبَهُها بما دلَّ عليه التنزيلُ، القولُ الذي قاله الحسنُ البصريُّ، الذي رَواه عنه أبو بكرٍ الهُذَليُّ.
وإنما قلنا: ذلك أَوْلاها بالصوابِ؛ لأن الخطابَ من مبتدأِ هذه السورةِ إلى هذه الآيةِ، والخبرَ، خرَج مِن اللهِ عز وجل خطابًا للمشركين، وخبرًا عنهم،، وتوبيخًا لهم، واحْتجاجًا منِ اللهِ تعالى ذكرُه لنبيِّه صلى الله عليه وسلم. فإذ كان ذلك كذلك، فمعلومٌ أن هذه الآيةَ أيضًا سبيلُها سبيلُ ما قبلَها وما بعدَها في أنها احْتِجاجٌ عليهم وتوبيخٌ لهم، أو خبرٌ عنهم. وإذا كان ذلك كذلك، فمحالٌ أن يقالَ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: قُلْ للمشركين: ما أَدْرِى ما يُفْعَلُ بى ولا بكم في الآخرة. وآياتُ كتابِ اللهِ عز وجل في تنزيلِه ووحيِه إليه مُتتابِعةٌ، بأن المشركين في النارِ مُخَلَّدون، والمؤمنون به في الجِنانِ مُنَعَّمون، وبذلك يُرَهِّبُهم مَرَّةً، ويُرَغِّبُهم أخرى، ولو قال لهم ذلك، لقالوا له: فعلامَ نَتَّبِعُك إذن وأنت لا تَدْرِى إلى أي حالٍ تصيرُ غدًا في القيامةِ؛ إلى خَفْضٍ
(1)
أخرجه النحاس في ناسخه ص 665 من طريق أبي بكر الهذلي به مختصرًا، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 38 إلى المصنف بطوله.
ودَعَةٍ، أم إلى شِدَّةٍ وعذابٍ، وإنما اتِّباعُنا إياك إن اتَّبَعْناك، وتصديقُنا بما تَدْعونا إليه، رغبةً في نِعْمةٍ وكرامةٍ نصيبُها، أو رهبةً من عقوبةٍ وعذابٍ نهرُبُ منه. ولكن ذلك كما قال الحسنُ: ثم بَيَّن اللهُ لنبيِّه صلى الله عليه وسلم ما هو فاعلٌ به، وبمَن كذَّب بما جاء به من قومِه وغيرِهم.
وقولُه: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} . يقولُ تعالى ذكره: قُلْ لهم: ما أَتَّبِعُ
(1)
فيما آمُرُكم به وفيما أفعلُه مِن فعلٍ، إلا وحيَ اللهِ الذي يُوحِيه إليَّ، {وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ}. يقولُ: وما أنا لكم إلا نذيرٌ، أنذرُكم عقابَ اللهِ على كفرِكم به، {مُبِينٌ}. يقولُ: قد أبانَ لكم إنذارَه، وأظهرَ لكم دعاءَه إلى ما فيه نصيحتُكم. يقولُ: فكذلك أنا.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: قُلْ يا محمدُ لهؤلاء المُشركين القائِلين لهذا القرآنِ لمَّا جاءهم: هذا سحرٌ مُبينٌ: {أَرَأَيْتُمْ} أيها القومُ، {إِنْ كَانَ} هذا القرآنُ هو {مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} أنزَله عليَّ {وَكَفَرْتُمْ} أنتم {بِهِ}. يقولُ: وكذَّبتم أنتم به.
وقولُه: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ} . اختَلف أهلُ التأويلِ في تأويلِ ذلك؛ فقال بعضُهم: معناه: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ} : وهو له موسى بنُ عمرانَ عليه السلام {عَلَى مِثْلِهِ} . يعني: على مثلِ القرآنِ. قالوا: ومِثْلُ القرآنِ الذي شهِد عليه موسى بالتَّصْديقِ التوراةُ.
(1)
بعده في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"إلا ما يوحى إلى".
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الوهاب، قال: ثنا داود، عن عامر، عن مسروق في هذه الآية:{وَشَهِدَ شَاهِدٌ مَّنْ بَنِي إِسْرَاءِيلَ عَلَى مِثْلِهِ} ، فخاصم به الذين كفروا من أهل مكة، {مِثْلِهِ}
(1)
: التوراة مثلُ القرآنِ، وموسى مثل محمد صلَّى الله عليهما وسلَّم.
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا عبد الأعلى، قال: سُئِل داود عن قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ} الآية، قال داود: قال عامر: قال مسروق: والله ما نزلت في عبدِ اللَّهِ بن سَلَام، ما نزلت إلا بمكةَ، وما أسلم عبد الله إلا بالمدينة، ولكنها خصومة خاصم محمد صلى الله عليه وسلم بها قومه، قال: فنزلت: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ} ، قال: فالتوراة مثل القرآن، وموسى مثل محمد عليهما السلام، فآمنوا بالتوراة وبرسولهم، وكفَرتُم
(2)
.
حدثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا ابن إدريس، قال: سمعتُ داود بن أبي هندٍ، عن الشعبي، قال: أناس يزعمون أن شاهدًا من بنى إسرائيل على مثله، عبدُ اللَّهِ بنُ سَلَامٍ، وإنما أسلم عبد اللهِ بنُ سَلَام بالمدينة، وقد أخبرني مسروق أن "آل حم" إنما نزلت بمكةَ، وإنما كانت مُحاجَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه، فقال:{أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} ، يعنى القرآنَ، {وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ} ، فآمن موسى ومحمد عليهما السلام على الفرقانِ.
حدَّثني أبو السائبِ، قال: ثنا ابن إدريسَ، عن داود، عن الشعبيِّ، قال: إن
(1)
سقط من: م.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 39 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
ناسًا يزعُمون أن الشاهدَ على مثله عبدُ اللهِ بنُ سَلامٍ، وأنا أعلم بذلك، وإنما أسلَم عبد الله بالمدينة، وقد أخبرني مسروقٌ أن "آل حم" إنما نزلت بمكةَ، وإنما كانت مُحاجَّةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقومه، فقال:{أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} ، يعني الفرقان، {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ} . فمثل التوراة الفرقان؛ التوراة شهِد عليها موسى، ومحمدٌ على الفرقان، صلّى الله عليهما وسلّم.
حدثني يعقوبُ، قال: ثنا ابن عُلَيةَ، قال: أخبرنا داودُ، عن الشعبي، عن مَسْروقٍ في قوله:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} الآية، قال: كان إسلامُ ابن سلَام بالمدينةِ، ونزلت هذه السورة بمكة، إنما كانت خصومةً بين محمد عليه السلام وبين قومه، فقال:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ} . قال: التوراة مثل الفرقانِ، وموسى مثل محمد، فآمن به واستكبَرتُم، ثم قال: آمَن هذا الذي من بني إسرائيل بنبيه وكتابه، واستكبرتُم أنتم، فكَذَّبْتُم أنتم نبيكم وكتابكم، {إنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي} إلى قوله:{هَذَا إِفَكٌ قَدِيمٌ}
(1)
. وقال آخرون: عنَى بقوله: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ} عبد اللهِ بنَ سَلَام، قالوا: ومعنى الكلام: وشهد شاهدٌ من بنى إسرائيل على مثل هذا القرآن بالتصديقِ، قالوا: ومثل القرآن التوراة.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثني يونس، قال: ثنا عبد الله بن يوسفَ التِّنِّيسِيُّ، قال: سمِعتُ مالكَ بنَ أنسٍ يحدِّثُ عن أبي النَّضْرِ، عن عامر بن سعد بن أبي وقَّاصٍ، عن أبيه، قال: ما سمِعتُ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 40 إلى المصنف وسعيد بن منصور وابن المنذر مختصرا.
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولُ لأحدٍ يَمشى على الأرض إنه مِن أهل الجنةِ، إلا لعبدِ اللَّهِ بن سَلَامٍ، قال: وفيه نزلت: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ}
(1)
.
حدثنا الحسينُ بنُ عليٍّ الصدائيُّ، قال: ثنا أبو داود الطيالسيُّ، قال: ثنا شعيب بن صَفْوَانَ، قال: ثنا عبد الملكِ بنُ عُمَيرٍ، أن محمد بن يوسفَ بن عبد اللَّهِ بن سلامٍ، قال: قال عبد الله بن سلام: أُنزل فيَّ: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} إلى قوله: {فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ}
(2)
.
حدثني على بن سعيدِ بن مَسْروقٍ الكنديُّ، قال: ثنا أبو المحيَّاةِ
(3)
يحيى بن يَعْلَى، عن عبد الملك بن عُمَيرٍ، عن ابن أخى عبدِ اللَّهِ بن سَلامٍ، قال: قال عبدُ اللَّهِ بنُ سلامٍ: نزلت فيَّ: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}
(4)
.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} الآية، قال: كان
(1)
أخرجه البخارى (3812)، والفسوى في المعرفة والتاريخ 1/ 279 وابن منده في الإيمان (269)، وابن حبان (7163)، والخطيب في المدرج 1/ 378، والبغوى في شرح السنة (3990)، وفي تفسيره 7/ 255، وابن عساكر في تاريخ دمشق 29/ 117، 118، من طريق عبد الله بن يوسف به، وأخرجه أحمد 3/ 59، 115 (1453، 1533)، ومسلم (2483)، والنسائى في الكبرى (8202)، وابن منده في الإيمان (269)، وأبو زرعة في تاريخه (1921)، والبزار (1093، 1094)، وأبو يعلى (767، 776)، وابن حبان (7163)، والخطيب في المدرج 1/ 378، 379، 381 - 383، وابن عساكر في تاريخ دمشق 29/ 115 - 118 من طريق مالك به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 39 إلى ابن المنذر وابن مردويه.
(2)
أخرجه البخارى في التاريخ الصغير 1/ 231 من طريق الطيالسي به عن شعيب بن صفوان عن عبد الملك بن عتبة به.
(3)
في ص: "المحماه"، وفى م:"محمد"، وينظر تهذيب الكمال 32/ 48، 49.
(4)
أخرجه الترمذى (3256، 3803) عن علي بن سعيد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 39 إلى ابن مردويه.
رجلٌ من أهل الكتاب آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، فقال: إنا نجِدُه في التوراةِ، وكان أفضلَ رجل منهم، وأعلمهم بالكتاب، فخاصَمَتِ اليهودُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"أَتَرْضَون أن يَحْكُمَ بينى وبينَكم عبدُ اللهِ بنُ سَلامٍ، أَتُؤْمِنون؟ "، قالوا: نعم. فأرسل إلى عبدِ اللَّهِ بن سَلامٍ، فقال:"أَتَشْهَدُ أَني رسولُ اللَّهِ مَكْتوبًا في التوراة والإنجيل؟ "، قال: نعم، فأعرضت اليهود، وأسلم عبدُ اللَّهِ بنُ سَلامٍ، فهو الذي قال الله جل ثناؤُه:{وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ، فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ} . يقولُ: فَآمَن عبدُ اللَّهِ بنُ سَلامٍ
(1)
.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قوله:{وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَاءِيلَ عَلَى مِثْلِهِ} ، قال: عبدُ الله بن سلامٍ
(2)
.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} الآية: كنا نُحَدَّثُ أنه عبد الله بن سلامٍ، آمن بكتاب الله وبرسوله وبالإسلام، وكان من أحبار اليهود.
حدثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابْنُ ثَوْرِ، عَن مَعْمَرٍ، عن قتادة في قوله:{وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ} . قال: هو عبدُ اللَّهِ بنُ سلام
(3)
.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 39 إلى المصنف وابن أبي حاتم وابن مردويه مختصرا.
(2)
تفسير مجاهد ص 602، وأخرجه ابن سعد 2/ 353، وابن عساكر في تاريخ دمشق 29/ 130، 131 من طرق عن مجاهد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 39 إلى عبد بن حميد.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 215، وابن عساكر في تاريخ دمشق 29/ 130 من طريق معمر به.
حُدِّثْتُ عن الحسينِ، قال: سمعت أبا معاذٍ يقول: أخبرنا عبيدٌ، قال: سمعتُ الضحاك يقولُ في قوله: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ} : الشاهدُ عبد الله بن سلام، وكان من الأحبارِ مِن عُلماء بنى إسرائيل، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليهود فأتوه، فسألهم فقال:"أتعلمون أني رسولُ اللهِ، تَجدوننى مكتوبًا عندكم في التوراة؟ "، قالوا: لا نعلم ما تقولُ، وإنا بما جئتَ به كافرون، فقال:"أيُّ رجلٍ عبدُ اللهِ بنُ سَلام عندكم؟ "، قالوا: عالِمُنا وخَيرُنا، قال:"أَتَرْضَون به بينى وبينكم؟ "، قالوا: نعم، فأرسَل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله بن سلامٍ، فجاءه فقال:"ما شهادتُك يا بنَ سَلام؟ "، قال: أشهد أنك رسولُ اللَّهِ، وأن كتابَك جاء من عندِ اللَّهِ، فَآمَن وكفروا، يقولُ الله تبارك وتعالى:{فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُم}
(1)
.
حدثنا محمد بن بشارٍ، قال: ثنا محمد بن جعفرٍ، قال: ثنا عوفٌ، عن الحسنِ، قال: بلَغَنى أنه لمَّا أرادَ عبدُ اللَّهِ بنُ سَلامِ أَن يُسْلِمَ قال: يا رسولَ اللَّهِ، قد عَلِمَتِ اليهودُ أنى مِن عُلمائِهم، وأن أبى كان من عُلمائهم، وإنى أشهدُ أنك رسولُ اللهِ، وأنهم يجدونك مكتوبًا عندهم في التوراةِ، فأرسل إلى فلان وفلانٍ - ومَن سمَّاه من اليهودِ - وأخبثني
(2)
في بيتِك، وسَلْهم عنِّي وعن أبي، فإنهم سيُحَدِّثونك أني أعلمهم وأن أبى من أعلمهم، وإني سأخرج إليهم، فأشهَدُ أنك رسولُ الله، وأنهم يجدونك مكتوبًا عندهم في التوراةِ، وأنك بُعِثتَ بالهدى ودين الحقِّ، قال: ففعل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فخَبَّأَه في بيته وأرسل إلى اليهودِ فدخلوا عليه، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"ما عبدُ اللَّهِ بنُ سَلامٍ فيكم؟ "، قالوا: أَعْلَمُنا نفسًا، وأَعْلَمُنا أبًا، فقال
(1)
أخرجه الحاكم 3/ 414 من طريق أبي معاذ به مختصرًا، وأخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق 29/ 110، 131 من طريق جويبر، عن الضحاك، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 39 إلى عبد حميد.
(2)
في ت 2: "وأحبارهم"، وفي ت 3:"وأحباهم".
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَرَأَيْتُم إِن أَسْلَمَ تُسْلِمون؟ "، قالوا: لا يُسْلِمُ
(1)
، ثلاث مرارٍ، فدَعاه فخرَج، ثم قال: أشهد أنك رسولُ الله، وأنهم يَجِدونك مكتوبًا عندهم في التوراةِ، وأنك بعثتَ بالهُدى ودين الحقِّ، فقالت اليهودُ: ما كُنَّا نَخْشاك على هذا يا عبد اللهِ بنَ سَلامِ! قال: فخرَجوا كفارًا، فأنزل الله عز وجل في ذلك:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ} الآية
(2)
.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قوله: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ} ، قال: هذا عبدُ اللهِ بنُ سَلامٍ، شهِد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكتابه حَقٌّ، وهو في التوراةِ حَقٌّ، فَآمَن واستكبَرْتُم
(3)
.
حدثني أبو شُرَحبيلَ الحِمْصِيُّ، قال: ثنا أبو المغيرةِ، قال: ثنا صفوان بن عمرو، عن عبدِ الرحمنِ بن جُبَيرِ بن نُفَيرٍ، عن أبيه، عن عوف بن مالك الأشجعيِّ، قال: انطلَق النبي صلى الله عليه وسلم وأنا معه، حتى دخَلنا كنيسةَ اليهود بالمدينة يوم عيدٍ لهم، فكَرِهوا دخولنا عليهم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يا معشرَ اليهودِ، أَرُونِى اثْنَى عشَرَ رجلًا يَشْهَدون أنه لا إله إلا هو وأن محمدًا رسولُ اللهِ، يُحْبِطُ اللَّهُ عَن كُلِّ يَهُودِيٍّ تحتَ أَديمِ السماءِ الغضبَ الذي غَضِبَ عليه". قال: فأُسْكِتوا، فما أجابَه منهم أحدٌ، ثم ثَلَّث فلم يُجبه أحدٌ، فانصرف وأنا معه، حتى إذا كِدنا أن نخرجَ، نادَى رجلٌ مِن خَلْفِنا: كما أنت يا محمد، قال: فأقبَل، فقال ذلك الرجلُ: أَي رجلٍ تَعْلَمُونى
(1)
في ت 2، ت 3:"نسلم".
(2)
أخرجه ابن سعد - كما في الدر المنثور 6/ 39 ومن طريقه ابن عساكر في تاريخ دمشق 29/ 114 - والحارث بن أبي أسامة (1031 - بغية الباحث) من طريق عوف به، وعزاه السيوطي إلى عبد بن حميد.
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 262.
فيكم يا معشرَ اليهود؟ قالوا: والله ما نعلم أنه كان فينا رجلٌ أعلم بكتاب اللهِ ولا أفقهُ منك، ولا من أبيك، ولا مِن جَدِّك قبلَ أبيك، قال: فإني أشهدُ بالله أنه النبيُّ الذي تَجدونه في التوراةِ والإنجيلِ، قالوا: كذبتَ، ثم رَدُّوا عليه قوله وقالوا له شرًّا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:"كَذَبْتُم لن يُقبَلَ قولُكم، أمَّا آنفًا فتُثْنُون عليه من الخيرِ ما أثنيتُم، وأما إذ آمَن كَذَّبْتُموه، وقلتُم ما قلتُم، فلن يُقبل قولكم"، قال: فخَرَجنا ونحن ثلاثةٌ؛ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا، وعبدُ اللَّهِ بنُ سَلامٍ، فأَنزَل الله فيه:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}
(1)
الآية.
والصوابُ مِن القولِ في ذلك عندنا أن الذي قاله مسروقٌ في تأويل ذلك أشبه بظاهرِ التنزيل؛ لأن قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ} ، في سياق توبيخ الله تعالى ذكرُه مُشركي قريشٍ، واحتجاجًا عليهم لنبيِّه صلى الله عليه وسلم.
وهذه الآية نظيرةُ سائرِ الآيات قبلَها، ولم يَجْرِ لأهل الكتاب ولا لليهود قبل ذلك ذكرٌ فتوجَّهَ هذه الآية إلى أنها فيهم نزلَت، ولا دَلَّ على انصراف الكلام عن قَصَصِ الذين تقدَّم الخبرُ عنهم معنًى، غيرَ أن الأخبار قد وَرَدَت عن جماعةٍ مِن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ذلك غنى به عبد الله بن سلامٍ، وعليه أكثر أهل التأويلِ، وهم كانوا أعلم بمعاني القرآن، والسبب الذي فيه نزل، وما أُريدَ به، فتأويل الكلام إذ كان ذلك كذلك: وشهِد عبد اللهِ بنُ سَلامٍ، وهو الشاهد من بني إسرائيل، {عَلَى مِثْلِهِ} ، يعني: على مثل القرآنِ، وهو التوراة، وذلك شهادته أن
(1)
أخرجه أحمد 6/ 25 (الميمنية)، وأبو يعلى في مسنده - كما في الإتحاف بذيل المطالب العالية (5399) - وابن حبان (7162)، والطبرانى 18/ 46 (83)، والحاكم 3/ 415، وابن عساكر في تاريخ دمشق 29/ 112 من طريق أبي المغيرة به.
محمدًا مكتوبٌ في التوراة أنه نبيٌّ، تَجِدُه اليهودُ مكتوبًا عندهم في التوراةِ، كما هو مكتوبٌ في القرآن أنه نبيٌّ.
وقولُه: {فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرتُمْ} ، يقولُ: فَآمَن عبدُ اللَّهِ بنُ سَلَامٍ، وصدَّق بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به من عندِ اللهِ، واسْتَكْبَرتُم أنتم على الإيمان بما آمَن به عبدُ اللَّهِ بن سَلام معشر اليهود، {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} ، يقولُ: إن الله لا يوفِّقُ لإصابة الحقِّ، وهَدْيِ الطريق المستقيم، القوم الكافرين الذين ظلموا أنفسهم بإيجابهم لها سَخَطَ اللَّهِ بكفرهم به.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِنَّكَ قَدِيرٌ} .
يقول تعالى ذكره: وقال الذين جَحَدوا نبوةَ محمد صلى الله عليه وسلم من يهود بني إسرائيل، للذين آمنوا به: لو كان تصديقكم محمدًا على ما جاءكم به خيرا، ما سبَقتُمونا إلى التصديق به، وهذا التأويلُ على مذهب مَن تأوَّل قوله:{وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ} ، أنه معنيٌّ به عبد الله بن سلام، فأما على تأويلِ من تأوَّل أنه عُنى به مُشركو قريشٍ، فإنه ينبغى أن يوجَّهَ تأويلُ قوله:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} ، أنه عُنِى به مشركو قريشٍ، وكذلك كان يتأوَّلُه قتادةُ، وفى تأويلِه إيَّاه كذلك تركٌ منه تأويله قوله:{وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ} ، أنه معنيٌّ به عبدُ اللَّهِ بنُ سَلَامٍ.
ذكرُ الرواية عنه بذلك
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن مَعْمَرٍ، عن قتادةَ:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} ، قال: قال ذاك أناسٌ من
المشركين؛ نحن أعزُّ، ونحن ونحن، فلو كان خيرًا ما سبَقَنا إليه فلانٌ وفلانٌ، فإن الله يختصُّ برحمتِه مَن يشاءُ
(1)
.
حدثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيد، عن قتادة:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} . قال: قد قال ذلك قائلون من الناسِ، كانوا أعزَّ منهم في الجاهليةِ، قالوا: والله لو كان هذا خيرًا ما سبقنا إليه بنو فلان وبنو فلانٍ، ويختص الله برحمته من يشاءُ، ويُكرِمُ الله برحمته من يشاءُ، تبارك وتعالى.
وقوله: {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ} ، يقول تعالى ذكره: وإذ لم يَبْصُروا بمحمدٍ وبما جاء به من عند الله من الهُدَى، فيَرْشُدوا به الطريق المستقيمَ، {فَسَيَقُولُونَ هَذا إفْكٌ قَدِيمٌ} ، يقول: فسيقولون: هذا القرآن الذي جاء به محمدٌ صلى الله عليه وسلم أكاذيب من أخبار الأولين قديمةٌ، كما قال جلَّ ثناؤُه مخبرًا عنهم:{وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفرقان: 5].
القولُ في تأويل قوله تعالى: {وَمِن قَبْلِهِ كَتَبُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ} .
يقولُ تعالى ذكرُه: ومن قبل هذا الكتاب {كِتَابُ مُوسَى} ، وهو التوراة، {إمَامًا} لبنى إسرائيلَ، يأتَمُّون
(2)
به، {وَرَحْمَةً} لهم أنزلناه عليهم، وخَرَج الكلامُ مَخْرجَ الخبرِ عن الكتاب بغير ذكر تمام الخبرِ، اكتفاءً بدلالة الكلام على تمامِه، وتمامُه: ومِنْ قَبلِه كِتابُ مُوسَى إمامًا ورَحْمةً أنزلناه عليه، وهذا كتاب أنزلناه لسانًا عربيًا.
اختلف في تأويلِ ذلك وفى المعنى الناصبِ {لِسَانًا عَرَبِيًّا} أهلُ العربية؛
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 216 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 40 إلى عبد بن حميد.
(2)
في ص، ت 2، ت 3:"يأتمرون".
فقال بعضُ نحويِّى البصرة: نُصب "اللسانُ" و "العربيُّ"؛ لأنَّه من صفة "الكتابِ"، فانتَصَب على الحالِ، أو على فعل مُضْمَرٍ، كأنه قال: أعنى لسانا عربيا، قال: وقال بعضُهم: على: {مُصَدِّقٌ} ، جعَل الكتابَ مُصَدِّقَ اللسان، فعلى قول مَن جعَل اللسان نصبًا على الحالِ، وجعَله من صفة الكتابِ، ينبغى أن يكون تأويل الكلام: وهذا كتاب بلسان عربيٍّ، مُصَدِّقُ التوراة كتاب موسى، بأن محمدًا الله رسولٌ، وأن ما جاء به من عند الله حقٌّ، وأما القولُ الثاني الذي حكيناه عن بعضهم أنه جعل الناصب للسانِ {مُصَدِّقٌ} ، فقول لا معنى له؛ لأن ذلك يصيرُ إِذا يُؤَوَّلُ كذلك، إلى أن الذي يصدِّقُ القرآن نفسُه، ولا معنى لأن يُقالَ: وهذا كتابٌ يُصَدِّقُ نفسه. لأن اللسان العربيَّ هو هذا الكتابُ، إلا أن يُجعل اللسان العربيُّ محمدا عليه السلام، ويُوجَّهَ تأويلُه إلى: وهذا كتابٌ، وهو القرآنُ، يصدقُ محمدًا، وهو اللسان العربيُّ، فيكون ذلك وجها من التأويل.
وقال بعض نحويِّي الكوفة: قوله: {لِسَانًا عَرَبيًّا} ، من نعتِ "الكتاب"، وإنما نُصب لأنَّه أُريدَ به: وهذا كتابٌ يُصدِّقُ التوراة والإنجيل لسانًا عربيًا، فخرج {لِسَانًا عَرَبِيًّا} من "يُصَدِّقُ"؛ لأنَّه فعلٌ، كما تقولُ: مَرَرْتُ برجلٍ يقومُ مُحْسِنًا، ومررتُ برجلٍ قائمٍ مُحْسِنًا، قال: ولو رفع "لسانٌ عربيٌّ"، جاز على النعت لـ "الكتاب".
وقد ذُكر أن ذلك في قراءة ابن مسعود: (وهذا كتابٌ مُصَدِّقٌ لِما بين يديه لسانًا عربيًّا)
(1)
فعلى هذه القراءةِ يتوجّه النصب في قوله: {لِسَانًا عَرَبِيًّا} مِن وجهين؛ أحدهما، على ما بيَّنتُ مِن أن يكون اللسانُ خارجًا مِن قوله:{مُصَدِّقٌ} ، والآخرُ، أن يكون قطعًا من "الهاء" التي في (بينَ يدَيه).
(1)
والقراءة شاذة، ينظر معاني القرآن للفراء 3/ 51.
والصوابُ مِن القولِ في ذلك عندى أن يكونَ منصوبًا على أنه حالٌ مما في {مُصَدِّقُ} من ذكرِ الكتابِ؛ لأن قوله: {مُصَدِّقٌ} فعلٌ، فتأويل الكلام إذ كان ذلك كذلك: وهذا القرآنُ يُصَدِّقُ كتاب موسى بأن محمدًا نبي مرسلٌ، لسانًا عربيًّا.
وقوله: {ليُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا} ، يقولُ: لينذِرَ هذا الكتابُ الذي أنزلناه إلى محمدٍ عليه الصلاة والسلام، الذين ظلموا أنفسهم بكفرِهم بالله، بعبادتهم غيره.
وقوله: {وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ} ، يقولُ: وهو بُشْرَى للذين أطاعُوا اللَّهَ، فأحسَنوا في إيمانهم وطاعتهم إيَّاه في الدنيا، فحسُن الجزاء مِن الله لهم في الآخرة على طاعتهم إياه.
وفى قوله: {وَبُشْرَى} وجهان مِن الإعرابِ؛ الرفع على العطف على الكتاب بمعنى: وهذا كتابٌ مُصَدِّقٌ وبُشْرَى للمُحْسِنين، والنصب على معنى: ليُنْذِرَ الذين ظلموا ويُبَشِّرَ، فإذا جُعِل مكانَ "يُبَشِّرَ""وبُشْرَى" أو "وبشارةً" نُصبَتْ، كما تقولُ: أَتيتُك لأَزُورَك وكرامةً لك وقضاءً لحقِّك، بمعنى: لأَزُورَك وأُكرِمَك وأقضىَ حقَّك، فتُنصَبُ الكرامة والقضاءُ بمعنًى مضمرٍ.
واختلَفت القرأة في قراءة: {ليُنذِرَ} ؛ فقرأ ذلك عامة قرأةِ الحجازِ: (لِتُنْذِرَ) بالتاء، بمعنى: لتنذرَ أنت يا محمد، وقرأته عامة قرأة العراق بالياء؛ بمعنى: ليُنذر الكتابُ
(1)
، وبأى القراءتين قرَأ ذلك القارئُ فمُصيبٌ.
(1)
قراءة التاء قرأ بها نافع وابن كثير - في رواية البزى - وابن عامر، وقراءة الياء قرأ بها ابن كثير - في رواية قنبل - وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي، السبعة لابن مجاهد ص 596، والتيسير ص 161.
القولُ في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أَوْلَئِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ خَلِدِينَ فِيهَا جَزَاءُ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14)} .
يقول تعالى ذكره: إن الذين قالوا: ربُّنا الله الذي لا إله غيرُه، ثم اسْتَقاموا على تصديقهم بذلك، فلم يَخْلِطوه بشركٍ، ولم يخالفوا الله في أمره ونهيِه: فلا خوفٌ عليهم من فزعِ يومِ القيامةِ وأهوالِه، ولا هم يَحْزنون على ما خَلَّفوا وراءهم بعدَ مماتِهم.
وقولُه: {أَوَلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} . يقولُ تعالى ذكره: هؤلاء الذين قالوا هذا القولَ واستقاموا، أهل الجنة وسكَّانها، {خَلِدِينَ فِيهَا} ، يقولُ: ماكِثين فيها أبدًا، {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ، يقولُ: ثوابًا مِنَّا لهم، آتيناهم ذلك على أعمالهم الصالحةِ التي كانوا في الدنيا يعملونها.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا
(1)
حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15)}.
يقول تعالى ذكرُه: ووصَّينا ابنَ آدمَ بوالديه الحُسْنَ في صُحْبته إياهما أيامَ حياتِهما، والبِرَّ بهما في حياتهما، وبعدَ مماتهما.
واختلفت القرأةُ في قراءةِ قوله: (حُسْنًا)؛ فقرأته عامة قرأةِ المدينة والبصرة (حُسْنًا) بضمِّ الحاء
(2)
، على التأويل الذي وصفتُ.
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ت:"حسنًا"، وهما قراءتان.
(2)
وهى قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو وابن عامر، ينظر السبعة لابن مجاهد ص 596.
وقرَأ ذلك عامة قرأة الكوفة: {إِحْسَانًا} بالألفِ
(1)
، بمعنى: ووصَّيناه بالإحسانِ إليهما، وبأيِّ ذلك قرَأ القارئُ فمصيبٌ؛ لتَقاربِ معاني ذلك، واستفاضةِ القراءةِ بكلِّ واحدة منهما في القرأةِ.
وقوله: {حَمَلَتْهُ أُمَّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا} ، يقول تعالى ذكره: ووَصَّينا الإنسانَ بوالدَيه إحْسانًا بِرًّا بهما؛ لما كان منهما إليه حَمْلا ووليدًا وناشِئًا، ثم وصَف جل ثناؤُه ما لديه من نعمةِ أمِّه، وما لاقَت منه في حال حمله ووضعِه، ونَبَّهه على الواجب لها عليه من البرِّ، واستحقاقها عليه من الكرامةِ، وجميلِ الصُّحبةِ، فقال:{حَمَلَتَهُ أُمُّهُ} ، يعنى في بطنها، {كُرْهًا} ، يعنى: مشقةً، {وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا} ، يقولُ: وولَدته كُرْهًا، يعنى: مشقةً.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهَا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا} ، يقولُ: حمَلَته مشقةً، ووضَعَته مشقةً.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن مَعْمَرٍ، عن قتادةَ والحسنِ في قولِه:{حَمَلَتْهُ أَمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا} ، قالا: حمَلَته في مشقةٍ، ووضَعَته في مشقةٍ
(2)
.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا} ، قال: مشقةً عليها
(3)
.
واختلفت القرأةُ في قراءة قوله: {كُرْهًا} ؛ فقرأته عامةُ قرأة المدينة
(1)
وهى قراءة عاصم وحمزة والكسائي، السبعة لابن مجاهد ص 596.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 216 عن معمر به.
(3)
تفسير مجاهد ص 602، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 40 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
والبصرةِ: (كَرْهًا) بفتحِ الكافِ، وقرَأته عامة قرأةِ الكوفةِ:{كُرْهًا} بضَمِّها
(1)
، وقد بيَّنتُ اختلاف المُختلفين في ذلك قبل إذا فُتح وإذا ضُمَّ، في سورةِ "البقرةِ"، بما أغنَى عن إعادته في هذا الموضعِ
(2)
.
والصوابُ مِن القولِ في ذلك عندى أنهما قراءتان معروفتان، متقاربتا المعنى، فبأيَّتِهما قرَأ القارئُ فمُصيبٌ.
وقولُه: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} ، يقول تعالى ذكره: وحَمْلُ أمِّه إيَّاه جَنينًا في بطنِها، وفصالُها إيَّاه من الرَّضاعِ وفَطْمُها إِيَّاه شرب اللبن، ثلاثون شهرًا.
واختلَفت القرأةُ في قراءة قوله: {وَفِصَالُهُ} ؛ فقرَأ ذلك عامة قرأةِ الأمصارِ غيرَ الحسن البصريِّ: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ} ، بمعنى: فاصَلَتْه أمُّه فصالًا ومُفاصلةً.
وذُكر عن الحسن البصريِّ أنه كان يقرؤُه: (وحَمْلُهُ وفَصْلُهُ) بفتح الفاء بغيرِ ألف
(3)
، بمعنى: وفَصْلُ أمِّه إيَّاه.
والصوابُ مِن القولِ في ذلك عندنا ما عليه قرأةُ الأمصارِ؛ لإجماع الحجةِ مِن القرأةِ عليه، وشُذُوذِ ما خالَفه.
وقولُه: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ} ، اختلَف أهل التأويلِ في مبلغ حدِّ ذلك مِن السنينَ؛ فقال بعضُهم: هو ثلاثٌ وثلاثون سنةً.
(1)
قرأ بفتح الكاف كل من ابن كثير ونافع وأبي عمرو، وقرأ بضمها كل من عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي، ينظر السبعة لابن مجاهد ص 596.
(2)
تقدم في 3/ 646.
(3)
هي قراءة يعقوب، وهو من العشرة، ينظر النشر 2/ 279، وإتحاف فضلاء البشر ص 242، وينظر البحر المحيط 8/ 61.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا ابن إدريسَ، قال: سمعتُ عبدَ اللَّهِ بن عثمانَ بن خثَيمٍ، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: أَشُدُّه: ثلاث وثلاثون سنةً، واسْتَواؤُه: أربعون سنةً، والعمرُ الذي أعذَر الله فيه إلى ابن آدمَ: ستون
(1)
.
حدَّثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عَن مَعْمَرٍ، عن قتادةَ:{حَتَّى إذا بَلَغَ أَشُدَّهُ} ، قال: ثلاثًا وثلاثين
(2)
.
وقال آخرون: هو بلوغ الحُلُمِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثني يعقوب بن إبراهيمَ، قال: ثنا هُشَيمٌ، قال: أخبرنا مجالدٌ، عن الشعبيِّ، قال: الأشُدُّ: الحُلُمُ، إذا كُتبتْ له الحسناتُ، وكُتبتْ عليه السيئاتُ
(3)
.
وقد بَيَّنا فيما مضَى الأَشدَّ جمعَ شَدُّ، وأنَّه تناهى قُوَّتِه واستوائه
(4)
، وإذا كان ذلك كذلك، كان الثلاثُ والثلاثون به أشبهَ من الحُلُمِ؛ لأن المرءَ لا يبلغُ في حالِ حُلُمِه كمالَ قُواه ونهايةَ شِدَّتِه، فإن العربَ إذا ذكَرَت مثلَ هذا من الكلامِ، فعطفت ببعض على بعضٍ، جعَلَت كِلا الوقتَين قريبًا أحدهما من صاحبِه، كما قال جلَّ
(1)
تقدم تخريجه في 13/ 67، وأخرجه ابن الأنبارى في الأضداد ص 224، وابن أبي حاتم في تفسيره 9/ 2951 من طريق ابن إدريس به، وأخرجه ابن مردويه في تفسيره - كما في نصب الراية 4/ 166 - من طريق عبد الله بن عثمان به، بلفظ:"تسعا وثلاثين سنة"، وأخرجه الطبراني في الأوسط (6829) من طريق عبد الله بن عثمان عن سعيد بن جبير عن ابن عباس.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 217 عن معمر به.
(3)
تقدم في 9/ 664.
(4)
تقدم في 9/ 663.
ثناؤُه: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنَصْفَهُ} [المزمل: 20]، ولا تكادُ تقولُ: أنا أعلمُ أنك تقوم قريبًا من ساعة من الليل وكُلَّه، ولا: أخذتُ قليلًا من مالٍ أو كُلَّه، ولكن تقولُ: أخَذتُ عامة مالى أو كلَّه، فكذلك ذلك في قوله:{حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} ، لا شكَّ أن نَسَقَ الأربعين على الثلاث والثلاثين أحسنُ وأشبه، إذ كان يُرَادُ بذلك تقريبُ أحدهما من الآخرِ، مِن النَّسَقِ على الخمسَ عشرةَ أو الثمانِ عشرةَ.
وقوله: {وبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} ، ذلك حين تكامَلَت حُجَّةُ اللَّهِ عليه، وسَرَتْ
(1)
عنه جَهالةُ شبابِه، وعَرَف الواجبَ اللَّهِ مِن الحقِّ في بِرِّ والدَيه.
كما حدثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيد، عن قتادةَ:{وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} : وقد مضى من سيئِ عملهِ.
حدَّثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن مَعْمَرٍ، عن قتادةَ:{وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي} حتى بلغ: {مِنَ الْمُسْلِمِينَ} : وقد مضى من سيئِ عملِه ما مضَى
(2)
.
وقوله: {قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ} . يقول تعالى ذكره: قال هذا الإنسانُ الذي هَداه اللهُ لرُشْدِه، وعرَف حقَّ اللهِ عليه فيما ألزَمه مِن بِرِّ والدَيه:{رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ} ، يقولُ: أَغْرِنى بشُكْرِ نعمتِك التي أنعمتَ عليَّ في تعريفك إيَّاى توحيدَك، وهِدايتِك لي للإقرار بذلك، والعملِ بطاعتك - {وَعَلَى وَالِدَيَّ} مِن قَبْلى، وغير ذلك من نِعَمِك علينا، وألهمنى ذلك، وأصله من: وَزَعْتُ الرجل على كذا، إذا دفَعتَه عليه.
(1)
في م: "سير"، وسرت: زالت وانكشفت، اللسان (س ر ي).
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 217 عن معمر به.
وكان ابن زيدٍ يقولُ في ذلك ما حدَّثني به يونسُ، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيد في قوله: {أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ} ، قال: اجعلنى أشكرُ نعمتك.
وهذا الذي قاله ابن زيدٍ في قوله: {رَبِّ أَوْزِعْنِي} ، وإن كان يَقُولُ إليه معنى الكلمةِ، فليس بمعنى الإيزاع على الصحة.
وقوله: {وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ} ، يقول تعالى ذكره: أوزعنى أن أعملَ صالحًا من الأعمال التي ترضاها؛ وذلك العمل بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم. وقوله: {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي} ، يقولُ: وأصلِحْ لي أُمُورى في ذُرِّيتي الذين وُهِبْتُهم بأن تجعلَهم هُدَاةً للإيمانِ بك، واتِّباع مَرْضاتِك، والعمل بطاعتك، فوصَفه جلّ ثناؤُه بالبِرِّ بالآباء والأمهات والبنين والبناتِ، وذكر أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه
(1)
.
وقوله: {إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} ، يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيلِ هذا الإنسانِ:{إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ} ، يقولُ: تُبْتُ مِن ذُنُوبِي التي سَلَفَت مني في سالفِ أيامي، إليك، {وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} ، يقولُ: وإنى من الخاضعين لك بالطاعة، المُسْتَسْلِمين لأمرك ونَهْيك، المُنقادِين لحُكْمِك.
القول في تأويل قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ
(2)
عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ
(3)
عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16)}.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 41 إلى ابن مردويه عن ابن عباس، وذكره الواحدى في أسباب النزول ص 284.
(2)
في ت 1، ت 2، ت:"يتقبل"، هما قراءتان كما سيأتي.
(3)
في ت 1، ت 2، ت:"يتجاوز"، هما قراءتان كما سيأتي.
يقول تعالى ذكرُه: هؤلاء الذين هذه الصفةُ صفتهم، هم الذين نَتقبَّلُ عنهم أحسنَ ما عمِلوا في الدنيا من صالحات الأعمالِ، فنُجازيهم به، ونُثيبهم عليه، {وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِم} ، يقولُ: ونَصفحُ لهم عن سيئات أعمالهم التي عملوها في الدنيا، فلا نُعاقبهم عليها، {فِي أَصْحَابِ الجَنَّةِ} ، يقولُ: نفعل ذلك بهم فعلنا مثل ذلك في أصحابِ الجنةِ وأهلها الذين هم أهلها.
كما حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا المعتمرُ بن سليمان، عن الحكم بن أبانٍ، عن الغِطْريفِ، عن جابرِ بن زيد، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، عن الروح الأمينِ، قال:"يُؤْتَى بحَسَناتِ العبدِ وسيئاتِه، فَيُقتصُّ بعضُها ببعضٍ، فإن بَقِيَتْ حَسَنَةٌ وَسَّع الله له في الجنة". قال: فدخلتُ على يزدادَ، فحدث بمثلِ هذا الحديث، قال: قلتُ: فإن ذهَبَت الحسنةُ؟ قال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِم} الآية
(1)
.
حدثنا ابن حُمَيدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن لَيْثٍ، عن مجاهدٍ، قال: دعا أبو بكرٍ عمرَ رضي الله عنهما، فقال له: إنِّي أُوصِيك بوصيةٍ أن تحفظَها؛ إن لله في الليل حقًّا لا يقبله بالنهارِ، وبالنهارِ حقًّا لا يقبله بالليلِ، إنه ليس لأحدٍ نافلةٌ حتى يؤدي الفريضة، إنه إنما ثَقُلت موازينُ مَن ثَقُلَت مَوازِينُه يومَ القيامة باتباعهم الحقَّ في الدنيا وثقل ذلك عليهم، وحُقَّ لميزانٍ لا يوضعُ فيه إلا الحقُّ أن يَثْقُلَ، وخَفَّت موازين مَن خَفَّت موازينه يومَ القيامةِ، لاتِّباعهم الباطلَ في الدنيا وخفَّتِه عليهم، وحُقَّ لميزانٍ لا يوضع فيه إلا الباطلُ أن يَخِفَّ؛ ألم تَرَ أن الله ذكر أهلَ الجنةِ بأحسنِ أعمالِهم،
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 265 عن المصنف، وأخرجه ابن أبي حاتم - كما في تفسير ابن كثير 7/ 265، 266 - والطبراني (12832)، والحاكم 4/ 252 من طريق المعتمر به، وأخرجه عبد بن حميد (660)، والحاكم 4/ 252 من طريق الحكم به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 41 إلى ابن المنذر.
فيقول قائل: أين يبلغ عملى من عملِ هؤلاء! وذلك أن الله عز وجل تجاوز عن أَسْوَأَ أعمالهم فلم يُبْدِه، ألم تَرَ أن الله ذكر أهل النارِ بأسوأِ أعمالهم، حتى يقول قائلٌ: أنا خيرٌ عملًا من هؤلاء، وذلك بأن الله رَدَّ عليهم أحسن أعمالهم، ألم ترَ أن الله عز وجل أنزل آيةَ الشِّدَّةِ عند آية الرخاءِ، وآية الرخاءِ عند آية الشدة، ليكون المؤمن راغبًا راهبًا؛ لئلا يُلْقِىَ بيدِه إلى التَّهْلُكَةِ، ولا يَتَمَنَّى على اللَّهِ أُمنيةً يَتَمَنَّى على اللَّهِ فيها غيرَ الحقِّ
(1)
.
واختلفت القرأة في قراءة قوله: {نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ} ؛ فقرأ ذلك عامة قرأة المدينة والبصرة وبعضُ قرأة الكوفة: (يُتَقَبَّلُ)، (وَيُتَجاوَزُ) بضَمِّ الياء منهما على ما لم يُسَمَّ فاعله، ورفع:(أَحْسَنُ)
(2)
، وقرأ ذلك عامةُ قرأةِ الكوفةِ:{نَتَقَبَّلُ} ، {وَنَتَجَاوَزُ} بالنون وفتحها، ونصب {أَحْسَنَ}
(3)
. على معنى إخبار الله جل ثناؤُه عن نفسِه أنه يفعل ذلك بهم، وردًّا للكلام على قولِه:{وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ} ، ونحن نتقبل منهم أحسن ما عملوا ونتجاوزُ، وهما قِراءتان مَعروفتان صحيحتا المعنى، فبأيَّتِهما قَرأ القارئُ فمُصيبٌ.
وقوله: {وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِى كَانُوا يُوعَدُونَ} ، يقولُ: وعدهم الله هذا الوعدَ، وَعْدَ الحقَّ، لا شكَّ فيه أنه مُوفٍ لهم به، الذي كانوا إياه في الدنيا يَعِدُهم الله تعالى.
ونُصب قوله: {وَعْدَ الصِّدْقِ} ؛ لأنَّه مصدرٌ خارجٌ مِن قوله: {نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِم} ، وإنما أخرج من هذا الكلام مصدرُ: وَعَد
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 41 إلى المصنف.
(2)
قرأ بها ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم، ينظر السبعة لابن مجاهد ص 597.
(3)
قرأ بها حفص عن عاصم وحمزة والكسائي، المصدر السابق.
وَعْدًا؛ لأن قوله: {نَتَقَبَّلُ عَنهُمْ} ، {وَنَتَجَاوَزُ} وعدٌ من اللهِ لهم، فقال:{وَعْدَ الصِّدْقِ} ، على ذلك المعنى.
القولُ في تأويل قوله تعالى: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17)} .
وهذا نَعْتٌ مِن الله تعالى ذكره، نَعْتُ ضالٍّ؛ به كافرٌ وبوالديه عاقٌّ، وهما مجتهدان في نصيحته ودعائه إلى الله، فلا يَزيدُه دعاؤُهما إياه إلى الحقِّ ونصيحتهما له إلا عُتُوًّا وتَمَرُّدًا على اللهِ، وتَمادِيًا في جهله، يقولُ الله جل ثناؤه:{وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ} ؛ أَنْ دَعَوَاه إلى الإيمان بالله، والإقرار ببَعْثِ اللهِ خلقَه من قُبُورِهم، ومجازاته إيَّاهم بأعمالهم:{أُفٍّ لَكُمَا} ، يقولُ: قَذَرًا لكما ونَتْنًا، {أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ} ، يقولُ: أَتَعِدانِنِي أَن أَخرَجَ مِن قَبْرى مِن بَعدِ فَنائِي وبَلائي فيه، حَيًّا!
كما حدثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة:{أَتَعِدَانِنِي أَنْ أَخْرَجَ} : أن أُبَعَثَ بعدَ الموتِ.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن مَعْمَرٍ، عن قتادة في قولِه:{أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ} ، قال: يعنى البعث بعد الموتِ
(1)
.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:{وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي} إلى آخرِ الآية، قال: الذي قال هذا ابنٌ لأبي بكر رضي الله عنه، قال: {أَتَعِدَانِنِي
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 217 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 42 إلى ابن المنذر.
أَنْ أَخْرَجَ}: أَتَعِدَانِني أن أُبعثَ بعد الموتِ
(1)
.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا هَوْذةُ، قال: ثنا عوفٌ، عن الحسنِ في قوله:{وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ} ، قال: هو الكافرُ الفاجرُ، العاقُّ لوالديه، المكذِّبُ بالبعثِ
(2)
.
حدَّثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادةَ، قال: ثم نعت عبدَ سُوءٍ عاقًّا لوالديه فاجرًا، فقال:{وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا} ، إلى قوله:{أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ}
(2)
.
وقوله: {وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِن قَبلي} ، يقولُ: أَتَعِداننى أن أُبَعَثَ وقد مضَت قرونٌ من الأمم قَبْلى فهَلكوا، فلم يَبْعَثْ منهم أحدًا؟! ولو كنتُ مَبْعوثًا بعدَ وَفاتى كما تقولان، لكان قد بُعِث مَن هلَك قَبْلى مِن القرونِ، {وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ} ، يقول تعالى ذكرُه: وَوَالدَاهِ يَسْتَصْرِخان الله عليه ويَسْتَغِيثانه عليه أن يؤمنَ باللهِ ويُقرَّ بالبعثِ، ويقولان له:{وَيْلَكَ آمِنْ} ، أي: صدِّقْ بوعدِ اللَّهِ، وأقِرَّ أنك مبعوثٌ مِن بعدِ وفاتِك، إنَّ وعد الله الذي وعد خلقه أنه باعثهم مِن قُبُورِهم، ومُخْرِجُهم منها إلى موقف الحسابِ، لمُجازاتهم بأعمالهم، حقٌّ لا شكَّ فيه، فيقولُ عدو اللهِ مُجِيبًا لوالديه ورَدًّا عليهما نصيحتهما، وتكذيبًا بوَعْدِ اللهِ: ما هذا الذي تقولان لي وتَدْعُوانى إليه؛ من التصديق بأنى مبعوثٌ مِن بعدِ وَفَاتى مِن قَبْرى، إلا ما سَطَره الأوَّلون من الناسِ مِن الأباطيل فكتبوه، فأَصَبْتُماه أنتما فصَدَّقتما.
القول في تأويلِ قولِه تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 266 عن العوفى به، وقال: وفى صحة هذا نظر، والله أعلم.
(2)
ينظر تفسير ابن كثير 6/ 267.
مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19)}.
يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين هذه الصفةُ صفتُهم، الذين وجَب عليهم عذابُ اللَّهِ، وحَلَّت بهم عقوبته وسَخَطُه، في من حلَّ به عذابُ اللهِ، على مثلِ الذي حَلَّ بهؤلاء من الأممِ الذين مَضَوا قبلهم مِن الجنِّ والإنسِ، الذين كذَّبوا رُسُلَ الله وعَتَوا عن أمر ربِّهم.
وقوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} ، يقول تعالى ذكره: إنهم كانوا المَغبُونين بَبَيْعِهم الهُدى بالضلالِ والنعيمَ بالعقابِ.
حدَّثنا محمد بن بشارٍ، قال: ثنا معاذ بن هشامٍ، قال: ثنا أبي، عن قتادةَ، عن الحسنِ، قال: الجن لا يَموتون، قال قتادةُ: فقلتُ: {أَولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَرٍ قَدْ خَلَتْ} الآية
(1)
.
وقوله: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} ، يقول تعالى ذكره: ولكلِّ هؤلاء الفريقين؛ فريق الإيمان بالله واليومِ الآخرِ والبر بالوالدين، وفريق الكفرِ بالله واليوم الآخر وعقوق الوالدين، الذين وصف صفتهم ربُّنا عز وجل في هذه الآياتِ - منازل ومراتب عند الله يوم القيامة، {مِمَّا عَمِلُوا} ، يعني: من عملهم الذي عملوه في الدنيا؛ من صالح وحَسَنٍ وسَيِّئِ، يُجازيهم الله به.
وقد حدَّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قوله: {وَلِكُلِّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} ، قال: دَرَجُ أهل النارِ يذهبُ سَفالًا، ودَرَجُ أهل الجنةِ يذهب عُلُوًّا.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 3/ 83 إلى عبد بن حميد، وينظر البحر المحيط 8/ 62.
{وَلِيُوفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ} ، يقولُ جل ثناؤه: وليعطيَ جميعَهم أجور أعمالهم التي عملوها في الدنيا؛ المحسنَ منهم بإحسانِه، ما وعد اللَّهُ مِن الكرامة، والمسيءَ منهم بإساءته، ما أعدَّه مِن الجزاء، {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} ، يقولُ: وجميعهم لا يُظْلَمون؛ لا يُجازَى المسئُ منهم إلا عقوبةً على ذنبه، لا على ما لم يعمل، ولا يُحمَلُ عليه ذنب غيرِه، ولا يُبْخَسُ المحسنُ منهم ثوابَ إحسانِه.
القولُ في تأويل قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)} .
يقول تعالى ذكره: ويومَ يُعْرَضُ الذين كَفَروا بالله على النارِ، يقال لهم: أذهبتم طيباتِكم في حياتكم الدنيا واستَمْتعتم بها فيها؟!
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله:{وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ} ، قَرأ يزيدُ حتى بلغ:{وَمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ} : تعلَمون والله إن أقوامًا يشترطون
(1)
حسناتهم! فاستَبْقَى رجلٌ طيباتِه إن استطاعَ، ولا قوةَ إلا بالله، ذكر أن عمر بن الخطابِ كان يقولُ: لو شئتُ كنتُ أطيبكم طعامًا وألينكم لباسًا، ولكنى أسْتَبْقى طَيَّباتي، وذكر لنا أنه لمَّا قدم الشامَ، صُنع له طعام لم يَرَ قبله مثلَه، قال: هذا لنا! فما لفقراء المسلمين الذين ماتوا وهم لا يشبَعون مِن خبزِ الشعير؟ قال خالد بن الوليدِ: لهم الجنة، فاغْرَوْرَقت عينا عمرَ، وقال: لئن كان حَظُّنا في الحُطامِ، وذهَبوا - قال أبو جعفرٍ: فيما أرَى أنا - بالجنةِ، لقد بايَنونا بَوْنًا بعيدًا
(2)
.
(1)
سَرَطه واسترطه: بَلَعه، التاج (س ر ط).
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 217 عن معمر، عن قتادة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 42 إلى عبد بن حميد.
وذُكر لنا أن نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم دخَل على أهلِ الصُّفَّةِ - مكانا يجتمع فيه فقراءُ المسلمين - وهم يَرْقَعون ثيابَهم بالأَدَمِ ما يجِدون لها رقاعًا، قال:"أنتم اليومَ خيرٌ، أو يومَ يَغْدُو أحدُكم في حلَّةٍ ويروح في أُخرى، ويُغْدَى عليه بجفنةٍ ويُراح عليه بأُخرى، ويُستَرُ بيتُه كما تُسترُ الكعبةُ؟ "، قالوا: نحن يومئذ خير، قال:"بل أنتم اليومَ خيرٌ"
(1)
.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، قال: حدثنا صاحبٌ لنا عن أبي هريرةَ، قال: إنما كان طعامنا مع النبي صلى الله عليه وسلم الأسودين
(2)
؛ الماءَ والتمرَ، واللهِ ما كُنَّا نَرى سمراءَكم
(3)
هذه، ولا نَدْرى ما
(4)
.
قال: ثنا سعيد، عن قتادةَ، عن أبي بُرْدَةَ بن عبدِ اللَّهِ بن قيسٍ الأَشْعَريِّ، عن أبيه، قال: أي بنيَّ لو شهِدْتَنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن مع نبيِّنا، إذا أصابَتنا السماءُ حسِبتَ أن ريحنا ريحُ الضَّأْنِ، إنما كان لباسُنا الصوفَ
(5)
.
(1)
أخرجه أحمد في الزهد ص 25، 26، والبيهقى 2/ 445 من حديث طلحة النصري - وليس هو ابن عبيد الله - مرفوعًا، وأخرجه الترمذى (2476)، وأبو يعلى (502) من حديث على مرفوعًا، وأخرجه البيهقي في الشعب (10334) من حديث جابر مرفوعًا، وأخرجه أبو نعيم في الحلية 1/ 340، والبيهقي في الشعب (10333) عن الحسن مرسلا.
(2)
في ص، ت ذ، ت 2، ت 3:"الأسودان".
(3)
السمراء: الحنطة، النهاية 2/ 399.
(4)
أخرجه أحمد 14/ 293 (8653) من طريق قتادة، عن الحسن، عن أبي هريرة، وأخرجه أحمد أيضا 13/ 342 (7962)، وابن حبان (683، 5805) وغيرهما من طريق داود بن فراهيج، عن أبي هريرة.
(5)
أخرجه ابن سعد 4/ 108، وأحمد 4/ 419 (الميمنية)، والبيهقى 2/ 419 والخطيب 5/ 323 من طريق سعيد به، وأخرجه ابن أبي شيبة 8/ 224، وأحمد 4/ 407، 419 (الميمنية)، وأبو داود (4033)، والترمذى (2479)، وابن ماجه (3562)، والبزار (3135)، وأبو يعلى (7266)، والروياني (455)، وابن حبان (1235)، والطبراني في الأوسط (1946)، وابن علي 6/ 2265، والحاكم 4/ 187، وأبو نعيم في الحلية 1/ 259، والبيهقى في الشعب (6159) من طرق عن قتادة به، وأخرجه البزار (3134) من طريق أبي بردة به.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زِيدٍ في قولِ اللَّهِ عز وجل: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} إلى آخرِ الآيةِ، ثم قرأ:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15)} [هود: 15]. وقرَأ: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا} [الشورى: 20]. وقرَأ: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} إلى آخرِ الآية [الإسراء: 18]، وقال: هؤلاء الذين أذهَبوا طَيَّباتِهم في حياتهم الدنيا.
واختلفت القرأةُ في قراءةِ قوله: {أَذْهَبْتُم طَيِّبَاتِكُمْ} ؛ فقرأته عامة قرأةِ الأمصار: {أَذْهَبْتُمْ} بغير استفهامٍ، سِوى أبى جعفر القارئِ، فإنه قرأه بالاستفهام
(1)
، والعربُ تستفهم بالتوبيخِ، وتتركُ الاستفهام فيه، فتقولُ: أَذَهَبْتَ ففعلتَ كذا وكذا؟ وذهَبتَ ففعلت وفعلت؟ وأعجب القراءتين إلى ترك الاستفهام فيه؛ لإجماع الحجة من القرأة عليه، ولأنه أفصحُ اللغتَين.
وقوله: {فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} ، يقول تعالى ذكرُه: يقال لهم: فاليوم أيُّها الكافرون الذين أذهَبوا طيباتهم في حياتهم الدنيا، {تُجْزَوْنَ} أي: تُتابون {عَذَابَ الْهُونِ} ، يعنى عذابَ الهَوانِ؛ وذلك عذابُ النارِ الذي يُهينُهم.
كما حدثنا محمد بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن
(1)
قرأه بغير استفهام - بهمزة واحدة، على الخبر - نافع وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي وخلف، وقرأه بالاستفهام - بهمزتين - ابن كثير وابن عامر وأبو جعفر ويعقوب، ينظر النشر 1/ 285.
مجاهدٍ: {عَذَابَ الْهُونِ} ، قال: الهَوانُ
(1)
.
{بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} ، يقولُ: بما كنتُم تَتكَبَّرون في الدنيا على ظهر الأرضِ، على ربِّكم، فتَأْبون أن تُخْلصوا له العبادةَ، وأن تُذْعِنوا لأمره ونَهْيِه، {بِغَيْرِ الْحَقِّ}. أي: بغيرِ ما أباحَ لكم ربُّكم، وأَذِن لكم به، {وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ} ، يقولُ: بما كنتُم فيها تُخالفون طاعته فتَعْصُونه.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21)} .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: واذكر يا محمد لقومِك الرَّادِّين عليك ما جئتَهم به من الحقِّ - هودًا أخا عادٍ؛ فإن الله بعَثك إليهم كالذي بعثه إلى عادٍ، فخَوِّفهم أن يَحِلَّ بهم مِن نِقْمَةِ اللَّهِ على كفرهم ما حَلَّ بهم إذ كذَّبوا رسولنا هودًا إليهم، إذ أنذر قومه عادًا بالأحقافِ، والأحقافُ جمعُ حِقْفٍ، وهو من الرمل ما استطالَ ولم يبلُغ أن يكونَ جبلًا، وإياه عنى الأعشى
(2)
.
فَبَاتَ إِلى أَرْطَاةِ حِقْفٍ تَلُفُّه
…
خَرِيقُ شَمالٍ يَتْرُكُ الوَجْهَ أَقْتَما
واختلف أهل التأويل في الموضع الذي به هذه الأحقافُ؛ فقال بعضهم: هي جبل بالشام.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثني محمد بن سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن
(1)
تفسير مجاهد ص 602.
(2)
ديوانه ص 295.
أبيه، عن ابن عباسٍ:{وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ} ، قال: الأحقافُ جبلٌ بالشام
(1)
.
حُدِّثتُ عن الحسينِ، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عُبيدٌ، قال: سمعتُ الضَّحَّاكَ يقولُ في قوله: {إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ} : جبلٌ يُسَمَّى الأحقاف
(2)
.
وقال آخرون: بل هي وادٍ بينَ عُمانَ ومَهَرَةَ
(3)
.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ:{وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ} ، قال: فقال: الأحقافُ الذي أنذَر هودٌ قومه، وادٍ بينَ عُمانَ ومَهَرَةَ
(4)
.
حدثنا ابن حُمَيدٍ، قال: ثنا سَلَمةُ، عن ابن إسحاقَ، قال: كانت منازل عادٍ وجماعتهم حيثُ بعث الله إليهم هودًا، الأحقافَ؛ الرمل فيما بينَ عُمان إلى حَضرَمَوتَ، فاليمنِ كلِّه، وكانوا مع ذلك قد فَشَوا في الأرضِ كلِّها، قهروا أهلها بفضلِ قوَّتِهم التي أتاهم الله
(5)
.
وقال آخرون: هي أرضٌ.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 43 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 42 إلى المصنف.
(3)
يرويه عامة الناس بتسكين الهاء والصواب التحريك، وهي قبيلة، وهي مهرة بن حيدان بن عمرو بن الحاف بن قضاعة، وباليمن لهم مخلاف بينه وبين عمان نحو شهر، وكذلك بينه وبين حضرموت، ينظر معجم البلدان 4/ 700.
(4)
ذكره البغوي في تفسيره 7/ 262.
(5)
تقدم في 10/ 269.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا عبد الرحمنِ، قال: ثنا سفيان، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ، قال: الأحقافُ الأرضُ
(1)
.
حدَّثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ: عن مجاهد: {إِذ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ} ، قال: حِشَافٌ، أو كلمةٌ تُشْبِهُها، قال أبو موسى: يقولون: مُسْتَحْشِفٌ.
حدثني الحارثُ، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ عن مجاهدٍ:{إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ} : حِشَافٌ مِن حِسْمَى
(2)
(3)
.
وقال آخرون: هي رمالٌ مُشْرِفةٌ على البحرِ بالشِّحْرِ
(4)
.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ} : ذُكر لنا أن عادًا كانوا حيًّا باليمنِ أهلَ رملٍ مُشْرِفين على البحرِ، بأرض يقال لها: الشِّحْرُ.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن مَعْمَرٍ، عن قتادةَ في قوله:{وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ} ، قال: بَلَغنا أنهم كانوا على أرضٍ يقالُ
(1)
تفسير سفيان ص 277.
(2)
الحشاف: الحجارة في الموضع السهل. والحسمى: اسم أرض بالبادية فيها جبال شواهق ملس الجوانب لا يكاد القتام - الغبار الأسود - يفارقها، معجم ما استعجم 1/ 119، وينظر تفسير القرطبي 16/ 204.
(3)
تفسير مجاهد ص 603.
(4)
الشحر: ساحل اليمن، وهو ممتد بينها وبين عمان، معجم ما استعجم 4/ 783.
لها: الشِّحْرُ، مُشرِفين على البحرِ، وكانوا أهلَ رملٍ
(1)
.
حدثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: أخبرنا عمرو بن الحارث، عن سعيدِ بن أبي هلالٍ، عن عمرِو بن عبدِ اللَّهِ، عن قتادةَ أنه قال: كان مساكن عادٍ بالشِّحْرِ.
وأولى الأقوال في ذلك بالصوابِ أن يقال: إن الله تبارك وتعالى أخبر أن عادًا أنذَرهم أخوهم هودٌ بالأحقافِ، والأحقافُ ما وصَفتُ مِن الرمالِ المستطيلةِ المشرفةِ، كما قال العَجَّاجُ
(2)
:
باتَ إلى أرْطاةِ حِقْفٍ أَحْقَفا
وكما حدثني يونسُ، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قوله: {وَاذْكُرْ أَنَا عَادٍ إذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ} ، قال: الأحقافُ الرملُ الذي يكونُ كهيئة الجبل، تَدْعُوه العربُ الحِقْفَ، ولا يكونُ أحْقافًا إلا من الرملِ، قال: وأخو عاد هود
(3)
.
وجائزٌ أن يكونَ ذلك جبلًا بالشامِ، وجائزٌ أن يكونَ واديًا بين عُمانَ وحَضْرَموت. وجائزٌ أن يكونَ الشِّحْرَ، وليس في العلمِ به أداء فرْضٍ، ولا في الجهل به تضييعُ واجبٍ، وأين كان فصفتُه ما وصفنا؛ من أنهم كانوا قوما منازلهم الرمالُ المُسْتَعْلِيةُ المستطيلة.
وقوله: {وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} . يقول تعالى ذكرُه: وقد مَضَت الرسلُ بإنذار أُمَمِها، {مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ} ، يعنى: مِن
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 217 عن معمر به.
(2)
ديوانه ص 498.
(3)
ذكره البغوي في تفسيره 7/ 262.
قَبلِ هودٍ، {وَمِنْ خَلْفِهِ} ، يعنى: ومِن بعدِ هود.
وقد ذُكر أن ذلك في قراءةِ عبدِ اللهِ: (وقد خلتِ النُّذُرُ مِن بين يَديْه ومِن بَعْدِه)
(1)
.
{أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} ، يقولُ: لا تُشْرِكوا مع الله شيئًا في عبادتكم إيَّاه، ولكن أخْلِصوا له العبادة، وأفرِدوا له الألوهةَ؛ إنه لا إلهَ غيره، وكانوا، فيما ذُكِرَ، أهلَ أوثان يعبدونها مِن دونِ اللهِ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حُدِّثْتُ عن الحسين، قال: سمعتُ أبا مُعاذ يقولُ: أخبرنا عُبيدٌ، قال: سمعتُ الضحاكَ يقولُ في قوله: {وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} ، قال: لن يَبْعَثَ الله رسولًا إلا بأن يُعبد الله
(2)
.
وقوله: {إنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} ، يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيلِ هودٍ لقومه: إنى أخافُ عليكم أيُّها القومُ بعبادتكم غيرَ اللهِ عذابَ اللهِ في يومٍ عظيمٍ، وذلك يومٌ يَعْظُمُ هَوْلُه، وهو يوم القيامة.
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22)} .
يقول تعالى ذكره: قالت عادٌ لهودٍ إذ قال لهم: لا تعبدوا إلا الله إني أخافُ
(1)
ينظر تفسير القرطبي 16/ 204.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 43 إلى المصنف.
عليكم عذابَ يومٍ عظيمٍ: أجئتَنا يا هودُ لتَصْرِفَنا عن عبادةِ آلهتِنا إلى عبادةِ ما تَدْعُونا إليه، وإلى اتِّباعِك على قولِك؟
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا} . قال: لِتُزِيلَنا. وقرَأ: {إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا} [الفرقان: 42]. قال: يُضِلُّنا ويُزِيلُنا ويَأْفِكُنا
(1)
.
{فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} : مِن العذابِ على عبادتِنا ما نعبدُ من الآلهةِ، إن كنتَ مِن أهلُ الصدقِ في قولِه وعِدَاتِه.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: قال هودٌ لقومِه عادٍ: إِنَّما العِلمُ بوقتِ مجيءِ ما أعِدُكم به من عذابِ اللهِ على كفرِكم به - عندَ اللهِ، لا أَعْلمُ عند الله، لا أعلمُ مِن ذلك إلا ما علَّمنى، {وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ}. يقولُ: وإنما أنا رسولٌ إليكم مِن اللهِ، مُبَلِّغٌ أُبَلِّغُكم عنه ما أرسَلنى به من الرسالةِ، {وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} مواضِعَ حظوظِ أنفسِكم، فلا تعرِفون ما عليها مِن المَضَرَّةِ بعبادتِكم غيرَ اللهِ، وفي استعجالِ عذابِه.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24)} .
(1)
بعده في الدر المنثور: "واحد". والأثر عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 43 إلى المصنف.
يقولُ تعالى ذكرُه: فلمَّا جاءَهم عذابُ اللهِ الذي استعجَلوه، فرأوه سحابًا عارضًا في ناحيةٍ مِن نَواحِى السماءِ مُستَقبِلَ أوديتِهم، والعربُ تُسَمِّي السحابَ الذي يُرَى في بعض أقطارِ السماءِ عَشِيًّا ثم يصبِحُ مِن الغدِ قد استوى وحَبَا
(1)
بعضُه إلى بعضٍ - عارِضًا؛ وذلك لعرضِه في بعضِ أرجاءِ السماءِ حينَ نشَأ، كما قال الأعشى
(2)
:
يا مَنْ يَرَى عارِضًا قد بتُّ أَرْمُقُه
…
كأنما البَرْقُ في حَافَاتِه الشُّعَلُ
{قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} . ظَنًّا منهم برؤيتِهم إيَّاه أَن غَيْثًا قد أتاهم يَحْيَون به، فقالوا: هذا الذي كان هودٌ يَعِدُنا، وهو الغيثُ.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ} الآية: ذُكِر لنا أنه
(3)
حُبِس عنهم المطرُ زمانًا، فلمَّا رَأَوا العذابَ مُقْبِلًا، {قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا}. وذُكر لنا أنهم قالوا: كذَب هودٌ، كذَب هودٌ. فلما خرَج نبيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَشَامَه
(4)
، قال:{بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
حدَّثنا ابن حُمَيدٍ، قال: ثنا سَلَمةُ، عن ابن إسحاقَ، قال: ساقَ اللهُ السحابةَ السوداءَ التي اختارَ قَيْلُ بنُ عنزٍ بما فيها مِن النِّقْمَةِ إلى عادٍ، حتى تخرُجَ عليهم مِن وادٍ لهم يقالُ له: المُغِيثُ، فلما رَأوها استَبْشَروا وقالُوا: هذا عارِضٌ مُمطِرُنا. يقولُ اللهُ عز وجل: {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ}
(5)
.
(1)
حبا السحاب: تراكم. اللسان (ح ب ي).
(2)
ديوانه ص 57.
(3)
في م: "أنهم".
(4)
شام السحابَ والبرقَ شيما: نظر إليه أين يقصد وأين يُمطر. اللسان (ش ى م).
(5)
تقدم في 10/ 269 وما بعدها مطولًا.
وقولُه: {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ} . يقولُ تعالى ذكرُه مخبِرًا عن قيلِ نبيِّه صلى الله عليه وسلم هودٍ لقومِه - لمَّا قالوا له عندَ رؤيتِهم عارضَ العذابِ قد عرَض لهم في السماءِ: هذا عارضٌ مُمْطِرُنا نَحْيا به -: ما هو بعارضِ غيثٍ، ولكنه عارضُ عذابٍ لكم، بل هو ما استَعْجَلْتم به. أي: هو العذابُ الذي استَعْجَلْتم به فقلتُم: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} . {رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} . والريحُ مكررةٌ على {مَا} في قولِه: {هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ} . كأنه قيل: بل هو ريحٌ فيها عذابُ أليمٌ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ المثنى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن أبي إسحاقَ، عن عمرِو بن ميمونٍ، قال: كان هودٌ جلدًا في قومِه، وإنه كان قاعدًا في قومِه فجاء سحابٌ مُكْفَهِرٌ، فقالُوا:{هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} . فقال هودٌ: {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} . قال: فجاءت ريحٌ، فجعَلَتْ تُلْقِى الفسطاطَ، وتجيءُ بالرجلِ الغائبِ فتُلْقِيه
(1)
.
حدَّثني يحيى بنُ إبراهيمَ المسعوديُّ، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن جدِّه، قال: قال سليمانُ: ثنا أبو إسحاقَ، عن عمرِو بن ميمونٍ، قال: لقد كانت الريحُ تحمِلُ الظعينةَ فترفَعُها حتى تُرَى كأنها جَرادةٌ.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ} إلى آخرِ الآيةِ.
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة 11/ 551 عن محمد بن جعفر به، وهو في تفسير سفيان ص 277 عن أبي إسحاق به.
قال: هي الريحُ إذا أثارَت سحابًا. قالُوا: {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} . فقال نبيُّهم: بل ريحٌ فيها عذابٌ أليمٌ
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25)} .
وقولُه: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} . يقولُ تعالى ذكره: تُخَرِّبُ كُلَّ شيءٍ، وتَرْمى بعضَه على بعضٍ فتُهْلِكُه، كما قال جريرٌ
(2)
:
وكان لكم كَبكْرِ ثَمُودَ لمَّا
…
رغا ظُهْرًا فَدَمَّرَهُمْ دَمارا
يعنى بقولِه: دمَّرهم: ألقَى بعضهم على بعضٍ صَرْعَى هَلْكَى.
وإنما عَنَى بقوله: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} ، مما أُرسِلَتْ بهلاكِه؛ لأنها لم تدمِّرْ هودًا ومَن كان آمَن به.
حدَّثنا أبو كُرَيبٍ، قال: ثنا طَلْقٌ، عن زائدةَ، عن الأعمشِ، عن المنهالِ، عن سعيدِ بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ، قال: ما أرسَل اللهُ على عادٍ مِن الريحِ إلا قدْرَ خاتَمى هذا. فنزع خاتمَه
(3)
.
وقولُه: {فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} . يقولُ: فأصبَح قومُ هودٍ وقد هلَكوا وفَنَوْا، فلا يُرَى في بلادِهم شيءٌ إلا مساكنُهم التي كانوا يسكُنونها.
واختلفَت القرأةُ في قراءةِ قولِه: {فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} ؛ فقرَأ ذلك عامةُ قرأةِ المدينةِ والبصرةِ: (لا ترى إلَّا مَساكنَهم) بالتاءِ نصبًا
(4)
. بمعنى: فأصبَحوا
(1)
عزاه الحافظ في الفتح 8/ 578 إلى المصنف.
(2)
البيت للفرزدق، كما تقدم في 14/ 533.
(3)
أخرجه الحاكم 2/ 455 من طريق الأعمش به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 44 إلى عبد بن حميد.
(4)
هي قراءة ابن كثير ونافع وابن عامر وأبي عمرو والكسائي. ينظر السبعة لابن مجاهد ص 598.
لا تَرَى أنت يا محمدُ إلا مساكنَهم.
وقرَأ ذلك عامةُ قرأةِ الكوفةِ: {لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} بالياءِ في: {يُرَى} ، ورفعِ "المساكنِ"
(1)
. بمعنى ما وصَفتُ قبلُ أنه لا يُرَى في بلادِهم شيءٌ إلا مساكنُهم. وروى الحسنُ البصريُّ: (لا تُرَى) بالتاءِ
(2)
. وبأيِّ القراءتَين اللتين ذكَرتُ من قراءةِ أهلِ المدينةِ والكوفةِ قرَأ ذلك القارئُ فمصيبٌ، وهو القراءةُ برفعِ "المساكنِ" إذا قُرئ قولُه:{يُرَى} بالياءِ وضمِّها، وبنصبِ "المساكنِ" إذا قُرئ قولُه:(تَرَى) بالتاءِ وفتحِها. وأما التي حُكيت عن الحسنِ فهي قبيحةٌ في العربيةِ، وإن كانت جائزةً، وإنما قبُحَت لأن العرب تُذَكِّرُ الأفعالَ التي قبلَ "إِلَّا" وإن كانت الأسماءُ التي بعدَها أسماءَ إناثٍ، فتقولُ: ما قامَ إلا أختُك، ما جاءَني إلا جاريتُك. ولا يَكادون يقولون: ما جاءتْني إلا جاريتُك. وذلك أن المحذوفَ قبلَ (إِلَّا): "أحدٌ" أو "شيءٌ"، و "أحدٌ" و "شيء" تُذَكِّرُ فعلهما
(3)
العربُ وإِن عُنِي بهما المؤنثُ، فتقولُ: إن جاءك منهنَّ أحدٌ فأكرِمْه. ولا يقولون: إن جاءتْك. وكان الفرَّاءُ
(4)
يجيزُها على الاستكراهِ، ويذكرُ أن المفضَّلَ أنشَده:
ونارُنا لم تُرَ نارًا مِثْلُها
…
قد عَلِمَت ذَاكَ مَعَدٌّ أَكْرَمَا
فأنَّث فعْل "مِثل"؛ لأنه للنارِ. قال: وأجودُ الكلامِ أن تقولَ: ما رُئِى مثلُها.
وقولُه: {كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: كما جَزَينا عادًا بكفرِهم باللهِ من العقابِ في عاجلِ الدنيا، فأهلَكْناهم بعذابِنا، كذلك نَجْزِى القومَ الكافرين باللهِ مِن خلقِنا، إذا تَمادَوا في غَيِّهم، وطَغَوا على ربِّهم.
(1)
وهى قراءة عاصم وحمزة. السبعة لابن مجاهد ص 598.
(2)
وهى قراءة شاذة، ينظر إتحاف فضلاء البشر ص 242.
(3)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"فعلها".
(4)
معاني القرآن 3/ 55.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26)} .
يقولُ تعالى ذكرُه لكفارِ قريشٍ: ولقد مَكَّنَّا أَيُّها القومُ عادًا الذين أهلَكناهم بكفرِهم، فيما لم تُمكِّنْكم فيه مِن الدنيا، وأعطَيناهم منها الذي لم تُعْطِكم منها؛ من كثرةِ الأموالِ، وبسطةِ الأجسامِ، وشدةِ الأبدانِ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثني أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ} . يقولُ: لم نُمَكِّنْكم
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ} : أنبَأكم أنه أعطَى القومَ ما لم يُعْطِكم.
وقولُه: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا} يسمَعون به مواعظَ ربِّهم، {وَأَبْصَارًا} يُبصِرون بها حُجَجَ اللهِ، {وَأَفْئِدَةً} يَعقِلون بها ما يضرُّهم وينفعُهم، {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ}. يقولُ: فلم ينفعْهم ما أعْطاهم مِن السمعِ والبصرِ والفؤادِ؛ إذ لم يستعمِلوها فيما أُعْطُوها له، ولم يُعْمِلوها فيما يُنَجِّيهم مِن عقابِ اللهِ، ولكنهم استعملوها فيما يُقَرِّبُهم مِن سَخَطِه؛ {إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ}. يقولُ: إذ كانوا يُكذِّبون بحُجَجِ اللهِ، وهم رُسُلُه، ويُنْكِرون نبوَّتَهم، {وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}. يقولُ: وعادَ عليهم ما
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم - كما في الإتقان 2/ 42 - من طريق أبي صالح به.
استَهْزَءوا به، ونزَل بهم ما سَخِروا به فاستَعْجَلوا به من العذاب. وهذا وعيدٌ مِن اللهِ جلَّ ثناؤُه لقريشٍ، يقولُ لهم: فاحْذَروا أن يحِلَّ بكم من العذابِ على كفرِكم باللهِ وتَكْذيبكم رُسُلَه - ما حَلَّ بعادٍ، وبادروا بالتوبة قبلَ النِّقْمَةِ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28)} .
يقولُ تعالى ذكرُه لكفارِ قريشٍ، مُحذِّرَهم بأسَه وسَطْوتَه أن يَحِلَّ بهم على كفرِهم: ولقد أهْلَكْنا أيُّها القومُ مِن القُرَى ما حولَ قريتِكم، كحِجْرِ ثمودَ، وأرضِ سَدُومَ، ومأرِبَ، ونحوِها، فأنذَرْنا أهلَها بالمَثُلاتِ، وخَرَّبنا ديارَها، فجعَلناها خاويةً على عروشِها.
وقولُه: {وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ} . يقولُ: ووَعَظْناهم بأنواعِ العِظاتِ، وذكَّرْناهم بضُرُوبٍ مِن الذِّكْرِ والحَجَجِ، وبَيَّنَّا لهم ذلك.
كما حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ} . قال: بَيَّناها.
{لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} . يقولُ: ليرجعِوا عما كانوا عليه مُقِيمين، مِن الكفرِ باللهِ وآياتِه. وفى الكلامِ متروكٌ، تُرِك ذكرُه استغناءً بدلالةِ الكلامِ عليه، وهو: فأبَوا إلا الإقامةَ على كفرِهم، والتمادىَ في غَيِّهم، فأهلَكْناهم، فلن ينصرَهم مِنَّا ناصرٌ.
يقولُ جلَّ ثناؤُه: فلولا نصَر هؤلاء الذين أهلكناهم من الأممِ الخاليةِ قبلَهم أوثانُهم وآلهتُهم التي اتَّخَذوا عبادتَها قُرْبانًا يتقرَّبون بها، فيما زعَموا، إلى ربِّهم - مِنَّا، إذ جاءهم بأسُنا، فتُنْقِذَهم من عذابِنا إن كانت تشفعُ لهم عندَ ربِّهم كما
يزعُمُون.
وهذا احتجاجٌ مِن اللهِ لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم على مشركي قومِه، يقولُ لهم: لو كانت آلهتُكم التي تعبُدون مِن دونِ اللهِ تُغْنى عنكم شيئًا، أو تنفعُكم عندَ اللهِ، كما تزعمُون أنكم إنما تعبُدونها لتُقَرِّبَكم إلى اللهِ زُلْفَى - لأغْنَت عمن كان قبلكم مِن الأممِ التي أهلكتُها بعبادتِهم إيَّاها، فدَفَعَت عنها العذابَ إذا نزَل، أو لشفَعَت لهم عندَ ربِّهم، فقد كانوا مِن عبادتِها على مثلِ الذي عليه أنتم، ولكنها ضَرَّتْهم ولم تنفعْهم. يقولُ تعالى ذكرُه:{بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ} . يقولُ: بل تركَتهم آلهتُهم التي كانوا يعبُدونها، فأخَذَت غير طريقِهم؛ لأنَّ عَبَدَتَها هلَكت، وكانت هي حجارةً أو نُحاسًا، فلم يُصِبْها ما أصابَهم، ودَعَوها فلم تُجِبْهم، ولم تُغِثْهم، وذلك ضلالُها عنهم، {وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ}. يقولُ عز وجل: هذه الآلهةُ التي ضَلَّت عن هؤلاء الذين كانوا يعبُدونها من دونِ اللهِ، عندَ نُزُولِ بأسِ اللهِ بهم، وفي حالِ طمعِهم فيها أن تُغِيثَهم، فخَذَلَتهم - هو {إِفْكُهُمْ}. يقولُ: هو كذِبُهم الذي كانوا يَكذِبون ويقولون: هؤلاء آلهتُنا. {وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} . يقولُ: وهو الذي كانوا يَفْتَرون فيقولون: هي تُقَرِّبُنا إلى اللهِ زُلْفى، وهى شفعاؤُنا عندَ اللهِ. وأُخرج الكلامُ مُخرجَ الفعلِ، والمَعْنيُّ المفعولُ به، فقيل: وذلك إفْكُهم. والمَعْنيُّ فيه: المأفُوكُ به؛ لأنَّ الإفكَ إنما هو فعْلُ الآفِكِ، والآلهةُ مأفوكٌ بها. وقد مضَى البيانُ عن نظائرِ ذلك قبلُ. قال: وكذلك قولُه: {وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} .
واختلَفتِ القرأةُ في قراءةِ قولِه: {وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ} ؛ فقرَأتْه عامةُ قرأةِ الأمصارِ: {وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ} بكسرِ الألفِ، وسكونِ الفاءِ، وضمِّ الكافِ، بالمعنى الذي بَيَّنَّا.
ورُوِى عن ابن عباسٍ رضي الله عنه في ذلك ما حدَّثني أحمدُ بنُ يوسفَ، قال: ثنا القاسمُ، قال: ثنا هُشَيمٌ، عن عوفٍ، عمَّن حدَّثه، عن ابن عباسٍ، أنه كان يقرؤُها:(وذلك أَفَكَهُمْ). يعنى: بفتحِ الألفِ والكافِ، وقال: أضَلُّهم
(1)
.
فمَن قرَأ القراءةَ الأولى التي عليها قرَأةُ الأمصارِ، فالهاءُ والميمُ في موضعِ خفضٍ. ومَن قرَأ هذه القراءةَ التي ذكَرناها عن ابن عباسٍ، فالهاءُ والميمُ في موضعِ نصبٍ؛ وذلك أن معنى الكلامِ على ذلك: وذلك صَرَفَهم عن الإيمانِ باللهِ.
والصوابُ مِن القراءةِ في ذلك عندَنا القراءةُ التي عليها قرَأةُ الأمصارِ؛ لإجماعِ الحُجَّة عليها.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29)} .
يقولُ تعالى ذكرُه مُقَرِّعًا كفارَ قريشٍ بكفرِهم بما آمَنت به الجنُّ: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ} يا محمدُ {نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} . ذُكِر أنهم صُرِفوا إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بالحادثِ الذي حدَث من رجْمِهم بالشُّهُبِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن حُمَيدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن مُغِيرةً، عن زيادٍ، عن سعيدِ بن جُبَيرٍ، قال: كانت الجنُّ تَسْتَمِعُ، فلما رُجِموا قالوا: إنَّ هذا الذي حدث في السماءِ لشيءٍ حدَثَ في الأرضِ، فذهَبوا يَطْلُبون، حتى رأَوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم خارِجًا من سوقِ عكاظٍ يُصلِّى بأصحابِه الفجرَ، فذهَبوا إلى قومِهم.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 44 إلى المصنف، وينظر مختصر الشواذ لابن خالويه ص 140.
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن مَعْمَرٍ، عن أيوبَ، عن سعيدِ بن جُبَيرٍ، قال: لما بُعث النبيُّ صلى الله عليه وسلم حُرِسَت السماءُ، فقال الشيطانُ: ما حُرِسَت إلا لأمرٍ قد حدَث في الأرضِ، فبعَث سراياه في الأرضِ، فوجَدوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم قائمًا يُصَلِّي صلاة الفجرِ بأصحابه بنَخْلَةً
(1)
وهو يَقْرَأُ، فاستمعوا حتى إذا فرَغ {وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} إلى قولِه:{مُسْتَقِيمٍ}
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} إلى آخرِ الآيةِ. قال: لم تَكُنِ السماءُ تُحْرَسُ في الفترةِ بينَ عيسى ومحمدٍ صلَّى اللهُ عليهما، وكانوا يَقْعُدون مقاعِدَ للسمْعِ، فلمَّا بعَث اللهُ محمدًا صلى الله عليه وسلم حُرِست السماءُ حَرَسًا شديدًا ورُجِمت الشياطينُ، فأنكَروا ذلك، وقالوا:{لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن: 10]. فقال إبليسُ: لقد حدَث في الأرضِ حدَثٌ. واجتمَعت إليه الجنُّ، فقال: تفرَّقوا في الأرضِ، فأَخْبِرُونى ما هذا الخبرُ الذي حدَثٌ في السماءِ. وكان أولَ بعْثٍ ركبٌ من أهلِ نَصِيبينَ
(3)
، وهى أشرافُ الجنِّ وساداتُهم، فبعَثهم اللهُ إلى تِهامةَ فاندفَعوا حتى بلَغوا الوادِيَ؛ وادىَ نخلةَ، فوجَدوا نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم يُصَلِّى صلاةَ الغداةِ ببطنِ نخلةَ، فاستمَعوا، فلما سمِعوه يتلو القرآنَ قالوا:{أَنْصِتُوا} ، ولم يَكُنْ نبيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم علِم أنهم استمَعوا إليه وهو يَقْرَأُ القرآنَ، {فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ}
(4)
.
واختَلف أهلُ التأويلِ في مبلَغِ عددِ النفَرِ الذين قال اللهُ: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ} ؛ فقال بعضُهم: كانوا سبعةَ نفَرٍ.
(1)
نخلة: موضع على ليلة ليلة من مكة. معجم ما استعجم 4/ 1304.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 218 عن معمر به.
(3)
نصيبين: مدينة من بلاد الجزيرة في الطريق من الموصل إلى الشام. معجم البلدان 4/ 787.
(4)
ذكره الحافظ في الفتح 8/ 672.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أبو كُرَيبٍ، قال: ثنا عبدُ الحميدِ، قال: ثنا [النضرُ بنُ عربيٍّ]
(1)
، عن عكرمةَ، عن ابن عباسٍ:{وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} الآية. قال: كانوا سبعةً نَفَرٍ مِن أهلِ نَصِيبين، فجعَلهم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم رُسُلًا إلى قومهم
(2)
.
وقال آخرون: بل كانوا تسعةَ نفَرٍ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا يحيى، عن سفيانَ، عن عاصمٍ، عن زِرٍّ:{وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ} . قال: كانوا تسعةَ نفَرٍ، فيهم زَوْبعةُ
(3)
.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا سفيانُ، عن عاصمٍ، عن زِرِّ بن حُبَيشٍ، قال: أُنزِل على النبيِّ صلى الله عليه وسلم وهو ببطن نخلةَ، {فَلَمَّا حَضَرُوهُ} ، قال: كانوا تسعةً، أحدُهم زَوْبَعَةُ
(4)
.
وقولُه: {فَلَمَّا حَضَرُوهُ} . يقولُ: فلمَّا حضر هؤلاء النفَرُ مِن الجنِّ الذين صرَفهم اللهُ إلى رسولِه نبيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
(1)
كذا في النسخ، وفى مصدرى التخريج:"النضر أبي عمر".
(2)
أخرجه الطبراني (11660)، وابن عدى في الكامل 7/ 2488 من طريق أبى كريب به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 44 إلى ابن مردويه، وعند الطبراني والسيوطى بلفظ:"تسعة" بدلا من: "سبعة".
(3)
أخرجه أبو نعيم في الدلائل (253) من طريق يحيى بن يمان به.
(4)
أخرجه البزار (1846) من طريق أبى أحمد به بلفظ: سبعة. وينظر علل الدارقطني 5/ 54 وأخرجه ابن أبي شيبة - كما في تفسير ابن كثير 7/ 273 - ومن طريقه الحاكم 2/ 456، والبيهقي في الدلائل 2/ 228، وأحمد بن منيع في مسنده - كما في الدر المنثور 6/ 44 ومن طريقه الدارقطني في العلل 5/ 55 من طريق أبي أحمد عن سفيان عن عاصم عن زر بن حبيش عن ابن مسعود، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 44 إلى ابن مردويه وأبي نعيم في الدلائل.
واختَلف أهلُ العلمِ في صفةِ حُضُورِهم كان
(1)
رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ فقال بعضُهم: حضَروا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَتَعرَّفون الأمرَ الذي حدَث مِن قِبَلِه ما حدَث في السماءِ، ورسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لا يَشْعُرُ بمكانِهم، كما قد ذكَرنا عن ابن عباسٍ قبلُ.
وكما حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا هَوْذَةُ، قال: ثنا عوفٌ، عن الحسنِ في قولِه:{وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ} . قال: ما شعَر بهم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حتى جاءوا، فأوحَى اللهُ عز وجل إليه فيهم، وأخبَر عنهم.
وقال آخرون: بل أُمِر نبيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم أن يَقْرَأَ عليهم القرآنَ، وأنما جُمِعوا له بعدَ أن تقدَّمَ اللهُ إليه بإنذارِهم، وأمَره بقراءةِ القرآنِ عليهم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} . قال: ذُكِر لنا أنهم صُرِفوا إليه من نِينَوَى. قال: فإن نبيَّ اللهِ - صلى الله عليه وسل - قال: "إنى أُمِرْتُ أن أقرَأَ القرآنَ على الجنِّ، فأيُّكم يَتْبَعُنى؟ " فأطرَقوا، ثم استتبَعَهم فأطرَقوا، ثم استتَبعهم الثالثةَ فأطرَقوا، فقال رجلٌ: يا رسولَ اللهِ [إنك لذو بَدِيئةٍ]
(2)
. فاتَّبَعَه عبدُ الله بنُ مسعودٍ، فدخَل رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم شِعْبًا يُقالُ له شِعبُ الحَجُونِ. قال: وخَطَّ نبيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم على عبدِ اللهِ خَطًّا ليُثْبِتَه
(3)
به. قال: فجعَلتْ تهوِى بى، وأرى أمثالَ النُّسورِ تَمْشِي في دُفوفِها، وسمِعتُ
(1)
سقط من: م، وفى ت 1، ت 2، ت 3:"مكان".
(2)
في م: "بدئة"، وكذا رسمت في ص، ت 1، ت 2، ت 3، والمثبت موافق لما في مخطوطة ابن كثير ففيه:"إن ذاك لذو بدأة"، وإنك لذو بديئة: أي لك أن تبدأ قبل غيرك. ينظر اللسان (ب د أ).
(3)
أثبت فلانًا: حبسه. اللسان (ث ب ت).
لَغَطًا شديدًا، حتى خِفْتُ على نبيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثم تلا القرآنَ، فلما رجع نبيُّ اللهِ قلتُ: يا يا نبيَّ اللهِ، ما اللغَطُ الذي سمِعتُ؟ قال:"اجتمَعوا إليَّ في قتيلٍ كان بينَهم". فقَضَى بينَهم بالحقِّ
(1)
.
ذُكِر لنا
(2)
أن ابنَ مسعودٍ لما قدِم الكوفةَ رأى شيوخًا شُمْطًا من الزُّطِّ فراعُوه
(3)
، قال: مَن هؤلاء؟ قالوا: هؤلاء نفرٌ مِن الأعاجمِ، قال: ما رأيتُ لِلَّذين قرَأ عليهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم الإسلامَ من الجنِّ شَبَهًا أدنى من هؤلاء.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادة أن نبيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذهَب وابنُ مسعودٍ ليلة دعا الجنَّ، فخطَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم على ابن مسعودٍ خطًّا، ثم قال له:"لا تَخْرُج منه". ثم ذهَب النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى الجنِّ، فقرَأ عليهم القرآنَ، ثم رجَع إلى ابن مسعودٍ فقال:"هل رأَيْتَ شيئًا؟ ". قال: سمِعتُ لَغَطًا شديدًا. قال: "إن الجنَّ تدارَأت في قتيلٍ قُتِل بينَها". فقَضَى بينهم بالحقِّ، وسألوه الزادَ، فقال:"كلُّ عَظمٍ لكم عَرْقٌ، وكلُّ رَوْثٍ لكم خَضِرةٌ". قالوا: يا رسولَ اللهِ تُقذِّرها الناسُ علينا. فنهَى النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يُسْتَنْجَى بأحدِهما. فلما قدِم ابن مسعودٍ الكوفةَ رأى الزُّطِّ، وهم قومٌ طِوالٌ سودٌ، فأفزَعوه، فقال: أظَهَروا؟! فقيل له: إن هؤلاء قومٌ من الزُّطِّ. فقال: ما أشبَههم بالنفرِ الذين صُرِفوا إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم
(4)
.
قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن يحيى بن أبي كثيرٍ، عن عبدِ اللهِ بن عمرِو بن غَيلانَ الثقفيِّ، أنه قال لابنِ مسعودٍ: حُدِّثتُ أنك كنتَ مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ليلةَ وفْدِ
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره - كما في تفسير ابن كثير 7/ 279 من طريق سعيد به.
(2)
القائل هو قتادة. وينظر تفسير البغوي 7/ 268.
(3)
الشمَط: بياضُ شعر الرأس يخالط سواده. والزط: جيل من الناس، من السودان، وقيل: من الهند.
طوال مع نحافة، وراعوه: أفزعوه. وينظر التاج (ش م ط، ز ط ط، ر و ع).
(4)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 218، 219 عن معمر به.
الجنِّ. قال: أجَلْ، قال: فكيفَ كان؟ فذكر الحديثَ كلَّه، وذكَر أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم خطَّ عليه خطًّا وقال:"لا تَبْرَحْ منها". فذكَر أن مثلَ العَجاجةِ
(1)
السوداءِ غشِيَت رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فذُعِر ثلاثَ مرَّاتٍ، حتى إذا كان قريبًا من الصبحِ أتاني النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"أنِمْتَ؟ قلتُ: لا والله، ولقد همَمتُ مِرارًا أن أَسْتَغِيثَ بالناسِ، حتى سمِعتُك تَقْرَعُهم بعصاك، تقولُ: "اجلِسوا". قال: "لو خرَجتَ لم آمَنْ أن يتخطَّفَك
(2)
بعضُهم". ثم قال: "هل رأيْتَ شيئًا؟ ". قال: نعمْ، رأيتُ رجالًا سودًا مُسْتَثْفِرى
(3)
ثِيابٍ بياضٍ. قال: "أولئكِ جنُّ نَصِيبينَ، سألوني المتاعَ - والمتاعُ الزادُ - فمتَّعتُهم بكلِّ عظْمٍ حائلٍ
(4)
أو بعْرةٍ أو رَوْثةٍ". فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، وما يُغنى ذلك عنهم؟ قال: "إنهم لا يجِدون عَظْمًا إِلَّا وجَدوا عليه لحمَه يومَ أُكِل، ولَا رَوْثَةً إلا وجَدوا فيها حَبَّها يومَ أُكِلتْ، فلا يَسْتَنقِيَنَّ أَحدٌ منكم إذا خرَج من الخلاءِ بعظْمٍ ولا بَعْرةٍ ولا رَوْثةٍ"
(5)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عبدِ اللهِ بن عبدِ الحكمِ، قال: أخبَرنا أبو زُرْعةً وهبُ اللهِ بنُ راشدٍ، قال: قال، يونسُ، قال ابن شهابٍ: أخبَرنى أبو عثمانَ بنُ سَنَّةَ
(6)
الخزاعيُّ - كان من أهلِ الشامِ - أنَّ ابنَ مسعودٍ قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لأصحابِه وهو بمكةَ: "من أحبَّ منكم أن يَحْضُرَ أمرَ الجنِّ الليلةَ فليَفْعَلْ". فلم يَحْضُرُ منهم أحدٌ غيرِى. قال: فانطلَقْنا حتى إذا كنَّا بأعلى مكةَ خطَّ لى برجلِه خطًّا، ثم أمَرني أن أجْلِسَ فيه،
(1)
العجاج: الغبار، واحدته عجاجة. التاج (ع ج ج).
(2)
في م: "يختطفك".
(3)
في م: "مستشعرى". والاستثفار: أن يدخل الرجل ثوبه بين رجليه كما يفعل الكلب بذنبه. النهاية 1/ 214.
(4)
الحائل: المتغير اللون من كل شيء من حال لونُه، إذا تغير واسودَّ. التاج (ح و ل).
(5)
ذكرُه ابن كثير في تفسيره 7/ 276 عن المصنف، وأخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده - كما في المطالب العالية 9/ 65 من طريق معمر به.
(6)
في م: "شبة"، وفى ت 1:"شينة". وينظر المشتبه 1/ 389.
ثم انطلَق حتى قامَ، فافتتَح القرآنَ، فغشِيتْه أسْوِدَةٌ كثيرةٌ
(1)
حالت بيني وبينَه حتى ما أسْمَعُ صوتَه. ثم طفِقوا يتَقَطَّعون مثلَ قِطعِ السحابِ ذاهبين، حتى بقِىَ منهم رهطٌ، ففرَغ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مع الفجر، فانطلَق مُتَبرِّزًا، ثم أتاني فقال:"ما فعَل الرَّهْطُ؟ " قلتُ: هم أولئك يا رسولَ اللهِ. فأخَذ عظْمًا أو روْثًا أو حُمَمَةً
(2)
، فأعطاهم إياه زادًا، ثم نهَى أن يَسْتطِيبَ أحدٌ بعظمٍ أو روثٍ
(3)
.
حدَّثني أحمدُ بنُ عبدِ الرحمنِ بن وهبٍ، قال: ثنا عمى عبدُ اللهِ بنُ وهبٍ، قال: أخبَرنى يونسُ، عن ابن شهابٍ، عن أبي عثمانَ بن سَنَّةَ
(4)
الخُزاعيِّ - وكان من أهلِ الشامِ - أن عبدَ اللهِ بنَ مسعودٍ قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم. فذكَر مثلَه سواءً، إلا أنه قال: فأعطاهم رَوْثًا أو عظمًا زادًا. ولم يَذْكُرِ الحَمَمَةَ
(5)
.
حدَّثني أحمدُ بنُ عبدِ الرحمنِ بن وهبٍ، قال: ثنى عمي، قال: أخبَرني يونسُ، عن الزهريِّ، عن عبيد الله بن عبد اللهِ، أن ابن مسعودٍ قال: سمِعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ: "بِتُّ الليلةَ أقرَأُ على الجنِّ رُبُعًا بالحَجُونِ"
(6)
.
واختلَفوا في الموضعِ الذي تَلا عليهم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فيه القرآنَ؛ فقال عبدُ اللهِ
(1)
في م: "كبيرة". وأسودة: جمع سواد، وهو الشخص؛ لأنه يُرى من بعيد أسود. التاج (س و د).
(2)
في م: "جمجمة". والحممة: الفحمة، جمعها حمم. النهاية 1/ 444.
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 275 عن المصنف، وأخرجه الحاكم 2/ 503، والبيهقي في الدلائل 2/ 230 من طريق يونس به، وأخرجه أبو الشيخ في العظمة (1114)، وأبو نعيم في الدلائل (263) من طريق ابن شهاب به.
(4)
في م: "شبة".
(5)
في م: "الجمجمة".
والأثر ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 275 عن المصنف، وأخرجه النسائي (39)، والطحاوي في شرح المعانى 1/ 123 من طريق ابن وهب به مختصرا.
(6)
الحجون: موضع بمكة عند المُحَصَّب. ويقال: مقبرة أهل مكة، تجاه دار أبي موسى الأشعرى. معجم ما استعجم 2/ 428.
والأثر ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 275 عن المصنف، وأخرجه أبو الشيخ في العظمة (1116) من =
ابن مسعودٍ: قرَأ عليهم بالحَجُونِ. وقد ذكَرْنا الروايةَ عنه بذلك.
وقال آخرون: قرَأ عليهم بنَخلةَ. وقد ذكَرْنا بعضَ مَن قال ذلك، ونَذْكُرُ مَن لم نَذْكُرْه.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا خلادٌ، عن زهيرِ بن معاويةَ، عن جابرٍ الجُعْفيِّ، عن عكرمةً، عن ابن عباسٍ، أن النَّفَرَ الذين أتَوا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم من جنِّ نَصِيبينَ أتَوه وهو بنَخلةَ
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ} . قال: لقِيَهم بنَخلةَ ليلتَئذٍ
(2)
.
وقولُه: {فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا} . يقولُ تعالى ذكرُه: فلمَّا حضَروا القرآنَ ورسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ، قال بعضُهم لبعضٍ: أَنصِتوا لنَسْتَمِعَ القرآنَ.
كما حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا يحيى، عن سفيانَ، عن عاصمٍ، عن زِرٍّ:{فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا} . قالوا: صَهٍ
(3)
.
قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا سفيانُ، عن عاصمٍ، عن زرٍّ بن حبُيَشٍ مثلَه
(3)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ في قولِه:{فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا} : قد علِم القومُ أنهم لن يَعْقِلوا حتى يُنْصِتوا.
وقولُه: {فَلَمَّا قُضِيَ} . يقولُ: فلما فرَغ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم من القراءةِ وتلاوةِ القرآنِ.
= طريق ابن شهاب به.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 44 إلى المصنف وابن المنذر وأبي نعيم في الدلائل.
(2)
تفسير مجاهد ص 603.
(3)
تقدم تخريجه في ص 165.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ:{فَلَمَّا قُضِيَ} . يقولُ: فلما فرَغ من الصلاةِ، {وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} .
وقولُه: {وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} . يقولُ: انصرَفوا مُنذِرين عذابَ اللهِ على الكفرِ به.
وذُكِر عن ابن عباسٍ أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم جعلهم رُسُلًا إلى قومِهم.
حدَّثنا بذلك أبو كُرَيبٍ، قال: ثنا عبدُ الحميدِ الحِمَّانيُّ، قال: ثنا النضرُ، عن عكرمةَ، عن ابن عباسٍ
(1)
.
وهذا القولُ خلافُ القولُ الذي رُوِى عنه أنه قال: لم يَكُنْ نبيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم علِم أنهم استمعوا إليه وهو يَقْرَأُ القرآنَ
(2)
. لأنَّه محالٌ أن يُرْسِلَهم إلى آخرِين إلا بعدَ علمِه بمكانِهم. إلا أن يُقالَ: لم يَعْلَمْ بمكانِهم في حالِ استماعِهم للقرآنِ، ثم علِم بعدُ قبلَ انصرافِهم إلى قومِهم، فأرسَلهم رُسُلًا حينَئذٍ إلى قومِهم، وليس ذلك في الخبرِ الذي رُوِى.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {قَالُوا يَاقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30)} .
يقولُ تعالى ذكرُه مُخبِرًا عن قيلِ هؤلاء الذين صُرِفوا إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم من الجنِّ لقومِهم لمَّا انصرَفوا إليهم من عندِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: يا قومَنا من الجنِّ، إِنَّا
(1)
تقدم تخريجه في ص 165.
(2)
ينظر الأثر المتقدم في ص 164.
سمِعْنا كتابًا أُنزِل من بعدِ كتابِ موسى، {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ}. يقولُ: يُصَدِّقُ ما قبلَه من كتبِ اللهِ التي أنزَلها على رُسُلِه.
وقولُه: {يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ} . يقولُ: يُرْشِدُ إلى الصوابِ ويَدُلُّ على ما فيه للهِ رضًا، {وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ}. يقولُ: وإلى طريقٍ لا اعْوجاجَ فيه، وهو الإسلامُ.
وكان قتادةُ يقولُ في ذلك ما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ أنه قرأ:{قَالُوا يَاقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} . فقال: ما أسرَعَ ما عقَل القومُ! ذُكِر لنا أنَّهم صُرِفوا إليه من نِينَوَى
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (32)} .
يقولُ تعالى ذكرُه مُخبِرًا عن قيلِ هؤلاء النَّفَرِ من الجنِّ لقومِهم: يا قومَنا من الجنِّ، {أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ}. قالوا: أجِيبوا رسولَ اللهِ محمدًا إلى ما يَدْعوكم إليه من طاعةِ اللهِ، {وَآمِنُوا بِهِ}. يقولُ: وصَدَّقوه فيما جاءكم به وقومَه من أمرِ اللهِ ونهيِه وغيرِ ذلك مما دعاكم إلى التصديقِ به، {يَغْفِرْ لَكُمْ}. يقولُ: يَتَغَمَّد لكم ربُّكم من ذنوبِكم فيَسْتُرُها عليكم
(2)
ولا يَفْضَحُكم بها في الآخرةِ، بعقوبتِه إيَّاكم عليها، {وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}. يقولُ: ويُعِذْكم
(3)
من عذابٍ موجعٍ إذا أنتم
(1)
تقدم تخريجه في ص 166، 167.
(2)
في م: "لكم".
(3)
في م: "ينقذكم".
تُبْتُم من ذنوبِكم، وأنَبتم من كفرِكم إلى الإيمانِ باللهِ وبداعِيه.
وقولُه: {وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ} . يقولُ تعالى ذكرُه مخبرًا عن قيلِ هؤلاء النَّفَرِ لقومِهم: ومَن لا يُجِبْ أَيُّها القومُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم محمدًا وداعيَه إلى ما بعَثه بالدعاءِ إليه؛ من توحيدِه والعملِ بطاعتِه، {فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ}. يقولُ: فليس بمعجِزٍ ربَّه بهربِه، إذا أراد عقوبتَه على تكذيبِه داعيَه وترْكِه تصديقَه، وإِنْ ذهَب في الأرضِ هاربًا؛ لأنه حيثُ كان فهو في سلطانِه وقبضتِه، {وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ}. يقولُ: وليس لمن لم يُجِبْ داعيَ اللهِ من دونِ ربِّه نُصراءُ يَنْصُرونه من اللهِ، إذا عاقبه ربُّه على كفرِه به وتكذيبِه داعيَه.
وقولُه: {أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} . يقولُ: هؤلاء الذين [لا يُجِيبون]
(1)
داعيَ اللهِ فيُصَدِّقوا به وبما دعاهم إليه من توحيدِ اللهِ والعملِ بطاعتِه - في جَوْرٍ عن قصدِ السبيلِ، وأخذٍ على غيرِ استقامةٍ، {مُبِينٍ}. يقولُ: يَبِينُ لمن تأمَّله أنه ضلالٌ وأخْذٌ على غيرِ قصدٍ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: أو لم يَنْظُر هؤلاء المُنكِرون إحياءَ اللهِ خلقَه مِن بعدِ وفاتِهم، وبعثَه إيَّاهم من قبورِهم بعدَ بِلاهم القائلون لآبائِهم وأمهاتِهم:{أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي} [الأحقاف: 17] فلم يُبْعَثوا - بأبصارِ قلوبِهم، فيَرَوا ويَعْلَموا أنَّ الله الذي خلَق السماواتِ السبعَ والأرضَ، فابتدعهُنَّ من غيرِ شيءٍ، ولم يَعْىَ بإنشائِهن فيَعْجِزَ عن اختراعِهن وإحداثِهن، {بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ
(1)
في م: "لم يجيبوا".
يُحْيِيَ الْمَوْتَى} فيُخْرِجَهم مِن بعدِ بِلاهم في قبورِهم أحياءً كهيئتِهم قبلَ وفاتِهم.
واختلَف أهلُ العربيةِ في وجهِ دخولِ الباءِ في قولِه: {بِقَادِرٍ} ؛ فقال بعضُ نحويِّى البصرةِ: هذه الباءُ كالباءِ في قولِه: {وَكَفَى بِاللَّهِ} [الرعد: 43، الإسراء: 96، العنكبوت: 52]. وهو مِثلُ: {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} [المؤمنون: 20].
وقال بعضُ نحويِّى الكوفةِ
(1)
: دخَلت هذه الباءُ لـ "لَمْ". قال والعربُ تُدْخِلُها مع الجحودِ إذا كانت رافعةً لما قبلَها، وتُدْخِلُها إذا وقَع عليها فعلٌ يَحْتَاجُ إلى اسمين، مثلَ قولِك: ما أظنُّك بقائمٍ، وما أظنُّ أنك بقائمٍ، وما كنتَ بقائمٍ. فإذا خَلَعْت الباءَ نصَبْت الذي كانت تعملُ فيه [بما يعملُ فيه]
(2)
من الفعلِ. قال: ولو أُلْقِيت الباءُ من "قادرٍ" في هذا الموضعِ رفع؛ لأنه خبرٌ لـ "أن". قال: وأنشَدني بعضُهم:
فما رجَعت بخائبةٍ
(3)
ركابٌ
…
حَكِيمُ بنُ المسيَّبِ مُنْتَهاها
فأدخَل الباءَ في فعلٍ لو أُلقيت منه نُصِب
(4)
بالفعلِ لا بالباءِ، يُقاسُ على هذا ما أشبَهه.
وقال بعضُ مَن أنكَر قولَ البصريِّ الذي ذكَرْنا قولَه: هذه الباءُ دخَلت للجحدِ؛ لأنَّ المجحودَ في المعنى - وإن كان قد حال بينَهما بـ "أَنَّ" -: أَوَ لَمْ يَروا أَنَّ الله قادرٌ على أن يُحْيِيَ المَوْتَى. قال: فـ "أن" اسمُ "يَرَوا"، وما بعدَها في صلتِها، ولا تَدْخُلُ فيه الباءُ، ولكنَّ معناه جَحْدٌ، فدخَلت للمعنى.
(1)
هو الفراء في معاني القرآن 3/ 56، 57.
(2)
سقط من ت 1، وفى ص، ت 2، ت 3:"تعمل".
(3)
في ت 1، ت 2، ت 3:"بجانية".
(4)
في ت 1: "نصبته"، وفى ت 2، ص:"نصبت".
وحُكِى عن البصريِّ أنه كان يَأبَى إدخالَ "إلَّا"، وأنَّ النحويين من أهلِ الكوفةِ يُجيزونه، ويَقولون: ما ظننتُ أنَّ زيدًا إلَّا قائمًا، وما ظننتُ أنَّ زيدًا بعالمٍ. ويُنْشِدُ:
ولستُ بحالفٍ لَوَلَدْتُ مِنهم
…
على عمِّيَّةٍ إِلَّا زيادا
قال: فأدخل "إلَّا" بعدَ جوابِ اليمينِ. قال: فأمَّا: {وَكَفَى بِاللَّهِ} . فهذه لم تَدْخُلْ إِلَّا لمعنًى صحيحٍ، وهي للتعجُّبِ، كما تقولُ: لظَرُفَ بزيدٍ. قال: وأمَّا: {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} . فأجمَعوا على أنها صلةٌ.
وأشبهُ الأقوالِ في ذلك بالصوابِ قولُ مَن قال: دخَلت الباءُ في قولِه: بِقَدِرٍ للجَحْدِ؛ لما ذكرنا لقائلي ذلك من العِلل.
واختلَفت القرَأةُ في قراءةِ قولِه: {بِقَادِرٍ} ؛ فقرَأ ذلك عامةُ قرَأةِ الأمصارِ غيرَ أبي إسحاقَ والجَحْدَريِّ والأعرجِ: {بِقَادِرٍ} . وهى الصحيحةُ عندَنا؛ لإجماعِ قرَأةِ الأمصارِ عليها.
وأما الآخرون الذين ذكَرْتُهم فإنهم فيما ذُكِر عنهم كانوا يَقْرَءُون ذلك: (يقدِرُ) بالياءِ
(1)
.
وقد ذُكِر أنه في قراءةِ عبد اللهِ بن مسعودٍ: (أنَّ الله الَّذِي خَلَقَ السَّمَاواتِ والأَرْضَ قادرٌ) بغيرِ باءٍ
(2)
. ففى ذلك حجةٌ لمن قرَأه: {بِقَادِرٍ} بالباءِ والألفِ.
وقولُه: {بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . يقولُ تعالى ذكرُه: بلى، يَقْدِرُ الذي خلَق السماواتِ والأرضَ على إحياءِ الموتى. أي: الذي خلَق ذلك على كلِّ شيءٍ شاء خلْقَه وأراد فعْلَه، ذو قدرةٍ لا يُعْجِزُه شيءٌ أرادَه، ولا يُعْيِيه شيءٌ أراد فِعْلَه
(1)
وهى قراءة يعقوب من العشرة، وهى قراءة متواترة. النشر 2/ 266، وبها قرأ أيضا زيد بن علي وعمرو بن عبيد وعيسى. البحر المحيط 8/ 68.
(2)
ينظر تفسير القرطبي 16/ 219.
فيُعييَه إنشاءُ الخلقِ بعدَ الفناءِ؛ لأن مَن عجَز عن ذلك فضعيفٌ، فلا يَنْبَغى أن يكونَ إلهًا من كان عمَّا أراد ضعيفًا.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: ويومَ يُعْرَضُ هؤلاء المكذِّبون بالبعثِ وثوابِ اللهِ عبادَه على أعمالِهم الصالحةِ، وعقابِه إياهم على أعمالِهم السيئةِ - على النارِ، نارِ جهنمَ، يُقالُ لهم حينَئذٍ: أليس هذا العذابُ الذي تُعذَّبونه اليومَ، وقد كنتم تُكَذِّبون به في الدنيا - بالحقِّ؟ توبيخًا من اللهِ لهم على تكذيبِهم به كان في الدنيا، {قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا}. يقولُ: فيُجِيبُ هؤلاء الكفرةُ من فورِهم بذلك، بأن يَقولوا: بلى، هو الحقُّ واللهِ، {قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ}. يقولُ: فقال لهم المقرِّرُ بذلك: فذوقوا عذابَ النارِ الآنَ؛ بما كنتم تَجْحَدونه في الدنيا وتُنْكِرُونه، وتَأْبون الإقرار إذا دُعيتم إلى التصديقِ به.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)} .
يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم، مُثَبِّتَه على المُضِيِّ لما قلَّده من عِبْءِ الرسالةِ وثقلِ أحمالِ النبوَّةِ صلى الله عليه وسلم، وآمِرَه بالائتساءِ في العزمِ على النفوذِ لذلك بأُولِى العزمِ من قبلِه من رسلِه الذين صبَروا على عظيمِ ما لَقُوا فيه من قومِهم من المكارِه، ونالهم فيه منهم من الأذى والشدائدِ:{فَاصْبِرْ} يا محمدُ على ما أصابك في اللهِ من أذى مكذِّبيك من قومِك الذين أرسَلْناك إليهم بالإنذارِ، {كَمَا صَبَرَ أُولُو
الْعَزْمِ} على القيامِ بأمرِ اللهِ، والانتهاءِ إلى طاعتِه، من رسلِه الذين لم يَنْهَهم عن النفوذِ لأمرِه ما نالهم فيه من شدَّةٍ.
وقيل: إن أُولى العزم منهم كانوا الذين امتُحِنوا في ذاتِ اللهِ في الدنيا بالمحنِ، فلم تَزِدْهم المحنُ إلا جِدًّا في أمرِ اللهِ، كنوحٍ وإبراهيمَ وموسى ومن أشبَهَهم.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: ثنى ثوابةُ بنُ مسعودٍ، عن عطاءٍ الخراسانيِّ أنه قال:{فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} : نوحٌ وإبراهيمُ وموسى وعيسى ومحمدٌ صلَّى اللهُ عليهم وسلَّم.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} : كنا نحدَّثُ أن إبراهيمَ كان منهم
(1)
.
وكان ابن زيدٍ يقولُ في ذلك ما حدَّثني به يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} . قال: كلُّ الرسلِ كانوا أولى عزمٍ، لم يَتَّخِذِ اللهُ رسولًا إلا كان ذا عزمٍ، فاصبِرْ كما صبَروا.
حدَّثنا ابن سنانٍ القزازُ، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ رجاءٍ، قال: ثنا إسرائيلُ، عن سالمٍ، عن سعيدِ بن جبيرٍ في قولِه:{فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} . قال: سمَّاه اللهُ من شدتِه العزمَ.
وقولُه: {وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} . يقولُ: ولا تَسْتَعْجِلُ عليهم العذابَ. يقولُ:
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 219 عن معمر عن قتادةَ بنحوه، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 45 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
لا تَعْجَلْ بمسألتِك ربَّك ذلك لهم، فإن ذلك نازلٌ بهم لا محالةَ، {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ} ، يقولُ: كأنهم يومَ يَرون عذابَ اللهِ الذي يَعِدُهم أنه منزلُه بهم، لم يَلْبَثوا في الدنيا إلا ساعةً من نهارٍ؛ لأنه يُنْسِيهم شَدَّهُ ما يَنْزِلُ بهم من عذابِه قدر ما كانوا في الدنيا لبِثوا، ومبلغَ ما فيها مكَثوا من السنين والشهورِ، كما قال جلَّ ثناؤُه:{قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ} [المؤمنون: 112، 113].
وقولُه: {بَلَاغٌ} . فيه وجهان؛ أحدُهما: أن يكونَ معناه: لم يَلْبَثوا إلا ساعةً من نهارٍ، ذلك لُبْثُ بلاغٍ. بمعنى: ذلك بلاغٌ لهم في الدنيا إلى أجلِهم. ثم حُذِفت: ذلك لُبْثُ. وهى مرادةٌ في الكلامِ؛ اكتفاءً بدلالةِ ما ذُكِر من الكلامِ عليها. والآخرُ: أن يكونَ معناه: هذا القرآنُ والتذكيرُ بلاغٌ لهم وكفايةٌ إن فكَّروا واعتَبروا فتذكَّروا.
وقولُه: {فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: فهل يُهْلِكُ اللهُ بعذابِه إذا أنزَله إلَّا القومَ الذين خالَفوا أمرَه، وخرَجوا عن طاعتِه وكفَروا به؟ ومعنى الكلامِ: وما يُهْلِكُ اللهُ إلا القوم الفاسقين.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ في قولِه:{فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} : تَعلَّموا، ما يَهْلِكُ على اللهِ إلا هالكٌ ولَّى الإسلامَ ظهرَه، أو منافقٌ صدَّق بلسانِه وخالَف بعملِه
(1)
. ذُكِر لنا أن نبيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم كان يقولُ: "أيُّما
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 45 إلى المصنف وعبد بن حميد.
عبدٍ من أمتى همَّ بحسنةٍ كُتِبت له واحدةً، وإن عمِلها كُتِبت له عشرَ أمثالِها، وأيُّما عبدٍ همَّ بسيئةٍ لم تُكْتَبْ عليه، فإن عمِلها كُتِبت سيئةً واحدةً، ثم كان يُتْبِعُها ويَمْحُوها اللهُ، ولا يَهْلِكُ إلا هالكٌ"
(1)
.
آخرُ تفسيرِ سورةِ "الأحقافِ"
(1)
أخرجه أحمد 4/ 315 (2519)، ومسلم (131) من حديث ابن عباس.
تفسيرُ سورةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم
-
بسم الله الرحمن الرحيم
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ
(2)}.
قال أبو جعفرٍ: يقولُ تعالى ذكرُه: الذين جَحَدوا توحيدَ اللهِ وعبَدوا غيرَه، وصدُّوا من أراد عبادتَه والإقرارَ بوحدانيتِه، وتصديقَ نبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم عن الذي أراد من الإسلامِ والإقرارِ والتصديقِ، {أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ}. يقولُ: جعَل اللهُ أعمالَهم ضلالًا على غيرِ هدًى وغيرٍ رشادٍ؛ لأنها عُمِلت في سبيلِ الشيطانِ، وهى على غيرِ استقامةٍ.
{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} . يقولُ تعالى ذكرُه: والذين صدَّقوا الله، وعمِلوا بطاعتِه، واتَّبعوا أمرَه ونهيَه، {وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ}. يقولُ: وصدَّقوا بالكتاب الذي أنزل اللهُ على محمدٍ، {وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ}. يقولُ: محَا اللهُ عنهم بفعلِهم ذلك سيّئَ ما عمِلوا من الأعمالِ، فلم يؤاخِذْهم به، ولم يعاقِبْهم عليه، {وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ}. يقولُ: وأصلَح شأنَهم وحالَهم في الدنيا عندَ أوليائِه، وفى الآخرةِ بأن أورَثهم نعيمَ الأبدِ والخلودَ الدائمَ في جناتِه.
وذُكر أنه عُنِى بقولِه: {الَّذِينَ كَفَرُوا} الآية، أهلُ مكةَ، {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} الآية، أهلُ المدينةِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني إسحاقُ بن وهبٍ الواسطيُّ، قال: ثنا عبيدُ الله بنُ موسى، قال: أخبَرنا
إسرائيلُ، عن أبي القتَّاتِ، عن مجاهدٍ، عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ في قولِه:{الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} . قال: نزَلت في أهلِ مكةَ، {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}. قال: الأنصارُ
(1)
.
وبنحوِ الذي قلنا في معنى قولِه: {وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} . قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني إسحاقُ بنُ وهبٍ الواسطيُّ، قال: ثنا عبيدُ اللهِ بنُ موسى، قال: ثنا إسرائيلُ، عن أبي يحيى القتّاتِ، عن مجاهدٍ، عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ:{وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} . قال: أمْرَهم
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} . قال: شأنَهم
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} .
قال: أصلَح حالَهم.
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} . قال: حالَهم
(3)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَأَصْلَحَ
(1)
أخرجه الحاكم 2/ 457 من طريق عبيد الله بن موسى به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 46 إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.
(2)
تفسير مجاهد 604، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 46 إلى عبد بن حميد.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 220 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 46 إلى عبد بن حميد.
بَالَهُمْ}. قال: حالَهم
(1)
.
والبالُ كالمصدرِ مثلُ الشأنِ، لا يُعرفُ منه فعلٌ، ولا تكادُ العربُ تجمعُه إلا في ضرورةِ شعرٍ، فإذا جمَعُوه قالوا: بالاتٌ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ
(3)
}.
يقولُ تعالى ذكرُه: هذا الذي فعَلنا بهذين الفريقين من إضلالِنا أعمالَ الكافِرين، وتكفيرِنا عن الذين آمَنوا وعمِلوا الصالحاتِ - جزاءٌ منا لكلِّ فريقٍ منهم على فعِله؛ أما الكافِرون فأضلَلْنا أعمالَهم، وجعَلناها على غيرِ استقامةٍ وهدًى؛ بأنهم اتَّبعوا الشيطانَ فأطاعوه، وهو الباطلُ.
كما حدَّثني زكريا بنُ يحيى بن أبي زائدةَ وعباسُ بنُ محمدٍ، قالا: ثنا حجاجُ بنُ محمدٍ، قال: قال ابن جُرَيجٍ: أخبَرنى خالدٌ أنه سمِع مجاهدًا يقولُ: {ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ} . قال: الباطلُ الشيطانُ
(2)
.
وأما المؤمنون فكفَّرنا عنهم سيئاتِهم، وأصلَحنا لهم حالَهم؛ بأنهم اتَّبعوا الحقَّ الذي جاءَهم من ربِّهم، وهو محمدٌ صلى الله عليه وسلم، وما جاءَهم به من عندِ ربِّه من النورِ والبرهانِ
(3)
، {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ}. يقولُ عز وجل: كما بيَّنتُ لكم أيُّها الناسُ فِعلى بفريقِ الكفرِ والإيمانِ، كذلك نمثِّلُ للناسِ الأمثالَ، ونشبِّهُ لهم الأشباهَ، فتُلحِقُ بكلِّ قومٍ من الأمثالِ أشكالًا.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 289.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 46 إلى المصنف وعبد بن حميد.
(3)
بعده في ص، ت 1، ت 3:"وهو".
أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4)}.
يقولُ تعالى ذكرُه لفريقِ الإيمانِ به وبرسولِه: فإذا لقِيتم الذين كَفَروا باللهِ ورسولِه من أهلِ الحربِ، فاضرِبوا رقابَهم.
وقولُه: {حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} . يقولُ: حتى إذا غلَبتموهم وقهَرتم من لم تضربوا رقبته منهم، فصاروا في أيديكم أسرَى، {فَشُدُّوا الْوَثَاقَ}. يقولُ: فشُدُّوهم في الوثاقِ؛ كيلا يقتُلوكم، فيهرُبوا منكم.
وقولُه: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} . يقولُ: فإذا أسَرتموهم بعدَ الإثخانِ؛ فإما أن تَمُنُّوا عليهم بعدَ ذلك بإطلاقِكم إياهم من الأسرِ، وتحرِّروهم بغيرِ عوضٍ ولا فِدْيةٍ، وإما أن يُفادوكم
(1)
فداءً؛ بأن يُعطوكم من أنفسِهم عوضًا حتى تطلِقوهم وتخلُّوا لهم السبيلَ.
واختلَف أهلُ العلمِ في قولِه: {حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} ؛ فقال بعضُهم: هو منسوخٌ نسَخه قولُه: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5]. وقولُه: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ} [الأنفال: 57].
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن حميدٍ وابنُ عيسى الدَّامَغانيُّ، قالا: ثنا ابن المباركِ، عن ابن جُرَيجٍ أنه كان يقولُ في قولِه:{فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} : نسَخها قولُه: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ
(1)
في ت 1: "تفاوهم".
حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}
(1)
.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن السديِّ:{فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} . قال: نسَخها: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}
(2)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} : نسَخها قولُه: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ}
(3)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} إلى قولِه: {وَإِمَّا فِدَاءً} : كان المسلمون إذا لقُوا المشرِكين قاتَلوهم، فإذا أسَروا منهم أسيرًا، فليس لهم إلا أن يُفادُوه، أو يَمُنُّوا عليه ثم يرسِلوه، فنَسَخ ذلك بعدُ قولُه:{فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ} . أي: عِظْ بهم مَن سواهم من الناسِ، {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}
(4)
.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن عبد الكريمِ الجَزَريِّ، قال: كُتِب إلى أبي بكرٍ رضي الله عنه في أسيرٍ أُسِر، فذُكِر أنهم التمَسوه بفداءٍ كذا وكذا، فقال أبو بكرٍ: اقتُلوه، لَقَتْلُ رجلٍ من المشركين أحبُّ إليَّ من كذا وكذا
(5)
.
(1)
أخرجه النحاس في الناسخ والمنسوخ ص 668 من طريق ابن المبارك به.
(2)
أخرجه أبو عبيد في ناسخه ص 300، وفى الأموال (343) عن عبد الرحمن به. وأخرجه ابن الجوزي في نواسخ القرآن ص 267، 468 من طريق سفيان به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 46 إلى عبد بن حميد.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 221 - ومن طريقه النحاس في الناسخ والمنسوخ ص 671 - عن معمر به.
(4)
أخرجه ابن الجوزى في النواسخ ص 467 من طريق سعيد به، وأخرجه أبو داود في ناسخه - كما في الدر المنثور 6/ 46 ومن طريقه ابن الجوزى في النواسخ ص 467 - من طريق الحجاج، عن قتادة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 46 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(5)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف (9391)، وفى تفسيره 2/ 220، وأبو عبيد في الأموال (352) من طريق معمر به.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} إلى آخرِ الآيةِ. قال: الفداءُ منسوخٌ، نسَختها:{فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ} [التوبة: 5] إلى: {كُلَّ مَرْصَدٍ} [التوبة: 5]. قال: فلم يبقَ لأحدٍ من المشركين عهدٌ ولا حرمةٌ بعدَ "براءة"، وانسلاخِ الأشهرِ الحُرمِ
(1)
.
حُدِّثتُ عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا مُعاذٍ يقولُ: أخبرَنا عبيدٌ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} : هذا منسوخٌ، نسَخه قولُه:{فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} . فلم يبقَ لأحدٍ من المشركين عهدٌ ولا ذمَّةٌ بعدَ "براءة"
(2)
.
وقال آخرون: هي محكمةٌ، وليست بمنسوخةٍ. وقالوا: لا يجوزُ قتلُ الأسيرِ، وإنما يجوز المن عليه والفداءُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن المثنى، قال: ثنا أبو عتَابٍ سهلُ بنُ حمادٍ، [قال: ثنا شعبةُ]
(3)
، قال: ثنا خُلَيدُ
(4)
بن جعفرٍ، عن الحسنِ، قال: أُتِىَ الحجاج بأُسارَى، فدفَع إلى ابن عمرَ رجلًا يقتُلُه، فقال ابن عمرَ: ليس بهذا أُمرنا، قال الله عز وجل:{إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} . قال
(5)
: البكاءُ بين يديه. فقال الحسنُ: لو كان
(1)
أخرجه ابن الجوزى في نواسخ القرآن ص 467 عن محمد بن سعد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 46 إلى ابن مردويه، كلاهما إلى قولِه:{فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ} الآية.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (9405) من طريق جويبر عن الضحاك، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 46 إلى عبد بن حميد.
(3)
سقط من: م. وينظر تهذيب الكمال 12/ 479.
(4)
في النسخ: "خالد". وينظر تهذيب الكمال 8/ 304.
(5)
كذا في النسخ، ولعله سقط: فكثر. أو كلمة نحوها.
هذا وأصحابُه لابتدَروا إليهم
(1)
.
حدَّثنا ابن حميد وابن عيسى الدامغانيُّ، قالا: ثنا ابن المباركِ، عن ابن جُرَيجٍ، عن عطاءٍ أنه كان يكره قتل المشركِ صَبْرًا. قال ويتلو هذه الآيةَ:{فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً}
(2)
.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن الحسنِ، قال: لا تُقتَلُ الأُسارى إلا في الحرب؛ يُهيَّبُ بهم العدوُّ
(3)
.
قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمر، قال: كان عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ يَفديهم الرجلَ بالرجلِ
(4)
، وكان الحسنُ يكرَهُ أن يُفادَى بالمالِ
(5)
.
قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن رجل من أهلِ الشامِ ممن كان يحرُسُ عمرَ بنَ عبدِ العزيزِ، وهو من بني أسدٍ، قال: ما رأيتُ عمرَ رحمه الله قتل أسيرًا إلا واحدًا من التُّركِ؛ كان جِيء بأُسارى من التركِ، فأمَر بهم أن يُسترَقُّوا، فقال رجلٌ ممن جاء بهم: يا أمير المؤمنين، لو كنتَ رأيتَ هذا - لأحدِهم - وهو يقتل المسلمين لكثُر بكاؤُك عليهم. فقال عمرُ: فدونَك فاقتُلْه. فقام إليه فقتَله
(6)
.
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة 12/ 422 من طريق شعبة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 46 إلى ابن مردويه.
(2)
أخرجه النحاس في الناسخ والمنسوخ ص 672 من طريق ابن المبارك به، وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه (9389)، وأبو عبيد في ناسخه ص 302، وفى الأموال (323)، وابن أبي شيبة 12/ 421 من طريق ابن جريج به.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 220 عن معمر به وأخرجه في مصنفه (9393) عن معمر، عمن سمع الحسن.
(4)
كذا في النسخ. وفي مصدر التخريج: "بالرجلين".
(5)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 221 عن معمر به.
(6)
أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (9392)، وفى تفسيره 2/ 220 عن معمر به.
والصوابُ مِن القولِ عندَنا في ذلك أن هذه الآيةَ محكمةٌ غيرُ منسوخةٍ، وذلك أن صفة الناسخ والمنسوخ ما قد بينا في غير موضعٍ [مِن كُتُبِنا]
(1)
أنه ما لم يَجْزِ اجتماعُ حكمَيْهما في حالٍ واحدةٍ، أو ما قامت الحجة بأنَّ أحدهما ناسخٌ الآخرَ، وغيرُ مستنكَرٍ أن يكون جَعْلُ الخيارِ في المنِّ والفداءِ والقتلِ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وإلى القائمين بعده بأمر الأمةِ، وإن لم يكنِ القتلُ مذكورًا في هذه الآيةِ؛ لأنه قد أُذِن بقتلِهم في آيةٍ أخرى، وذلك قولُه:{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} الآية. بل ذلك كذلك؛ لأن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كذلك كان يفعَلُ في من صار أسيرًا في يدِه من أهلِ الحربِ، فيقتُلُ بعضًا، ويُفادِى ببعضٍ، ويمُنُّ على بعضٍ، مثلَ يومِ بدرٍ؛ قتَل عقبةَ بنَ أبي مُعَيطٍ وقد أُتِى به أسيرًا، وقتَل بني قُرَيظةَ وقد نزَلوا على حكمِ سعدٍ، وصاروا في يدِه سِلمًا، وهو على فدائِهم والمنِّ عليهم قادرٌ، وفادَى بجماعةٍ أُسارى المشركين الذين أُسروا ببدرٍ، ومنَّ على ثُمامةَ بن أُثَالٍ الحنفىٍ وهو أسيرٌ في يده، ولم يزَلْ ذلك ثابتًا من سِيَرِه في أهل الحربِ، من لَدُنْ أذِن اللهُ له بحربِهم إلى أن قبَضه إليه صلى الله عليه وسلم، دائمًا ذلك فيهم. وإنما ذكر جلَّ ثناؤُه في هذه الآيةِ المنَّ والفداءَ في الأُسارى، فخصَّ ذكرَهما فيها؛ لأن الأمرَ بقتلِهما والإذنَ منه بذلك قد كان تقدَّم في سائرِ آيِ تنزيلِه مكرَّرًا، فأعلَم نبيَّه صلى الله عليه وسلم بما ذكَر في هذه الآيةِ من المنِّ والفداءِ ما له فيهم، مع القتلِ.
وقولُه: {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} . يقولُ تعالى ذكرُه: فإذا لقِيتم الذين كفَروا فاضرِبوا رقابَهم، وافعَلوا بأَسراهم ما بيَّنتُ لكم، حتى تضعَ الحربُ آثَامَها
(2)
وأثقالَ أهلِها المشرِكين بالله، بأن يتوبوا إلى الله من شركِهم فيؤمنوا به وبرسولِه،
(1)
في م: "في كتابنا"، وفي ت 1:"من كتابنا هذا". وينظر ما تقدم في 2/ 458.
(2)
في ت 1: "أثقالها". وفى ت 2، ت 3:"أثاثها".
ويطيعوه في أمرِه ونهيِه، فذلك وضعُ الحربِ أوزارَها. وقيل:{حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} . والمعنى: حتى تُلْقِىَ الحربُ أوزارَ أهلِها. وقيل: معنى ذلك: حتى يضعَ المحاربُ أوزارَه.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} . قال: حتى يخرج عيسى ابن مريمَ، فيُسلمَ كلُّ يهوديٍّ ونصرانيٍّ وصاحبِ ملةٍ، وتأمَنَ الشاةُ من الذئبِ، ولا تَقرِضَ فأرةٌ جرابًا، وتذهبَ العداوةُ من الأشياءِ كلِّها؛ ذلك ظهور الإسلامِ على الدينِ كلِّه، وينعَمَ الرجلُ المسلمُ، حتى تقطُرَ
(1)
رجلُه دمًا إذا وضَعها
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة قولَه:{حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} : حتى لا يكونَ شركٌ.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} . قال: حتى لا يكونَ شركٌ
(3)
.
ذكرُ مَن قال: عُنِى بالحربِ في هذا الموضعِ المحاربون
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ: {حَتَّى تَضَعَ
(1)
في ص: "ينفطر"، وفى ت 1، ت 2، ت 3:"تتقطر".
(2)
تفسير مجاهد ص 604، ومن طريقه البيهقى 9/ 180 وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 47 إلى الفريابي وعبد بن حميد وابنُ المنذر.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 221 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 47 إلى عبد بن حميد.
الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا}. قال: الحربُ: مَن كان يقاتِلُهم، سمَّاهم حربًا
(1)
.
وقولُه: {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ} . يقولُ تعالى ذكرُه: هذا الذي أمَرتُكم به أيُّها المؤمنون من قتلِ المشركين إذا لقيتموهم في حربٍ، وشدِّهم وثاقًا بعدَ
(2)
قهرِهم، وأسرِهم، و
(3)
المنِّ والفداءِ حتى تَضَعَ الحربُ أوزارَها - هو الحقُّ الذي ألزَمكم ربُّكم، ولو يشاءُ ربُّكم ويريدُ لانتَصَر من هؤلاء المشركين الذين بيَّن هذا الحكمَ فيهم بعقوبةٍ منه لهم عاجلةٍ، وكفاكم ذلك كلَّه، ولكنه تعالى ذكرُه كرِه
(4)
الانتصارَ منهم وعقوبتَهم عاجلًا، إلا بأيديكم أيُّها المؤمنون؛ {لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ}. يقولُ: ليختبرَكم بهم فيعلمَ المجاهدين منكم والصابرين، ويبلوَهم بكم فيعاقبَ بأيديكم مَن شاء منهم، [ويَعِظَ
(5)
مَن شَاء منهم]
(6)
بمَن أهلَك بأيديكم
(7)
من شاء منهم حتى يُنيبَ إلى الحقِّ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ} : أي واللهِ، بجنودِه الكثيرةِ، كلُّ خلقِه له جندٌ، ولو سلَّط أضعفَ خلقِه لكان جندًا
(8)
.
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 221 عن معمر به.
(2)
في ت 2 ت 3: "و".
(3)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ت 3.
(4)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"ذكر".
(5)
في م: "يتعظ".
(6)
سقط من: ت 2، ت 3.
(7)
في ت 2، ت 3:"بأيديهم".
(8)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 48 إلى المصنف وعبد بن حميد.
وقولُه: (والذين قاتَلوا في سبيلِ اللهِ). اختلفت القرأةُ في قراءةِ ذلك؛ فقرَأته عامةُ قرأةِ الحجازِ والكوفةِ: (والذين قاتَلوا)
(1)
. بمعنى: حارَبوا المشركين وجاهَدوهم. بالألفِ. وكان الحسنُ البصريُّ فيما ذُكِر عنه يقرؤه: (قُتِّلوا) بضمِّ القافِ وتشديدِ التاءِ
(2)
. بمعنى أنه قتلهم المشركون بعضَهم بعدَ بعضٍ، غيرَ أنه لم يُسمَّ الفاعلون. وذُكِر عن الجحدريِّ عاصمٍ أنه كان يقرَأُ:(قَتَلُوا) بفتحِ القافِ وتخفيف التاءِ
(3)
. بمعنى: والذين قتَلوا المشركين باللهِ. وكان أبو عمرٍو يقرؤُه: وَالَّذِينَ قُتِلُوا بضمِّ القافِ وتخفيفِ التاءِ
(4)
. بمعنى: والذين قتَلهم المشركون. ثم أسقَط الفاعلين، فجعَلهم لم يسمَّ فاعلُ ذلك بهم.
وأولى القراءاتِ بالصوابِ قراءةُ من قرَأه: (وَالَّذِينَ قاتَلُوا)؛ لاتفاقِ الحجةِ من القرأةِ، وإن كان لجميعِها وجوهٌ مفهومةٌ.
وإذ كان ذلك أولى القراءاتِ عندَنا بالصوابِ، فتأويلُ الكلامِ: والذين قاتَلوا منكم أيها المؤمنون أعداءَ اللهِ من الكفارِ في دينِ اللهِ، وفى نُصرةِ ما بُعِث به رسولُه محمدٌ صلى الله عليه وسلم من الهدى، فجاهَدوهم في ذلك، {فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} فلن يجعَلَ اللهُ أعمالَهم التي عمِلوها في الدنيا ضلالًا عليهم، كما أضلَّ أعمالَ الكافرين.
وذُكِر أن هذه الآيةَ عُنِى بها أهلُ أُحدٍ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ
(1)
وهى قراءة نافع وابن كثير وابن عامر وعاصم في رواية أبى بكر وحمزة والكسائي. التيسير ص 162.
(2)
وهى قراءة شاذة، ينظر إتحاف فضلاء البشر ص 243.
(3)
وهى قراءة شاذة. ينظر تفسير القرطبي 16/ 230.
(4)
وبها قرأ عاصم في رواية حفص. التيسير ص 162.
اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ}: ذُكِر لنا أن هذه الآيةَ أُنزِلت يومَ أُحدٍ ورسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في الشِّعبِ، وقد فَشَت فيهم الجراحاتُ والقتلُ، وقد نادَى المشركون يومَئذٍ: اعْلُ هُبَلُ. فنادَى المسلمون: اللهُ أعلى وأجلُّ. فنادَى المشركون: يومٌ بيومٍ، إن الحرب سِجالٌ، إن لنا عُزَّى ولا عُزَّى لكم. قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"اللَّهُ مَوْلانا ولَا مَوْلَى لكم، إن القَتْلَى مختلِفَةٌ؛ أمَّا قتلانا فأحياءٌ يُرزَقون، وأما قتلاكم ففى النارِ يُعذبون"
(1)
.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} . قال: الذين قُتِلوا يومَ أُحدٍ
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: سيوفِّقُ
(3)
اللهُ تعالى ذكرُه للعملِ بما يرضَى ويحبُّ - هؤلاء الذين قاتَلوا في سبيلِه، {وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ}: ويُصلِحُ أمرَهم
(4)
وحالَهم في الدنيا والآخرةِ.
{وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} . يقولُ: ويُدخِلُهم اللهُ جنتَه، {عَرَّفَهَا
(5)
}. يقولُ: عرَّفها لهم وبيَّنها، حتى إن الرجلَ لَيأتى منزلَه منها إذا دخَلها كما كان يأتى منزله في الدنيا، لا يُشكِلُ عليه ذلك.
كما حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ، عن أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ، قال: إذا نجَّى اللهُ المؤمنين من النارِ حُبِسوا على قنطرةٍ بينَ الجنةِ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 48 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن أبي حاتم.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 221 عن معمر به.
(3)
في ت 2، ت 3:"سيوفقهم".
(4)
في ت 3: "بالهم".
(5)
بعده في ت 3: "لهم".
والنارِ، فاقتصَّ بعضُهم من بعضٍ مظالمَ كثيرةً كانت بينَهم في الدنيا، ثم يُؤذَنُ لهم بالدخولِ في الجنةِ. قال: فما كان المؤمنُ بأدلَّ بمنزلِه في الدنيا منه بمنزلِه في الجنةِ حينَ يدخُلُها
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} . قال: أي منازلَهم فيها
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} . قال: يهتدِى أهلُها إلى بيوتِهم ومساكنِهم وحيثُ قسَم اللهُ لهم، لا يُخطِئون، كأنهم
(3)
سكانُها
(4)
منذُ خُلِقوا، لا يستدِلُّون عليها أحدًا
(5)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} . قال: بلَغنا عن غيرِ واحدٍ، قال: يدخُلُ أهلُ الجنةِ الجنةَ، ولهم أَعْرَفُ بمنازلِهم فيها من منازلِهم في الدنيا التي يختلِفون إليها في عُمُرِ الدنيا. قال: فتلك قولُ اللهِ جلَّ ثناؤُه: {وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ}
(6)
.
(1)
أخرجه أحمد 18/ 106 (11548) من طريق معمر عن قتادة في قوله: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} . قال حدَّثنا أبو المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. وتقدم تخريجه مرفوعا في 14/ 79.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 48 إلى المصنف وعبد بن حميد.
(3)
في ت 1: "كأنها".
(4)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"سكانهم".
(5)
تفسير مجاهد ص 604، 605، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 48 إلى عبد بن حميد.
(6)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 292.
وقولُه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} . يقولُ تعالى ذكرُه: يأيُّها الذين صدَّقوا الله ورسولَه، إن تنصُروا الله؛ بنصركم
(1)
رسولَه محمدًا صلى الله عليه وسلم على أعدائِه من أهلِ الكفرِ به، وجهادِكم إياهم معه لتكونَ كلمتُه العُليا - ينصُرْكم عليهم، ويُظفِرْكم بهم، فإنه ناصرٌ دينَه وأولياءَه.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} : إنه
(2)
حقٌّ على اللهِ أن يعطىَ مَن سأَله، وينصُرَ مَن نصَره
(3)
.
وقولُه: {وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} . يقولُ: ويُقوِّكم
(4)
عليهم ويُجرِّئْكم؛ حتى لا تَوَلَّوْا عنهم، وإن كثُر عددُهم وقلَّ عددُكم.
القولُ في تأويل قولِه تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9)} .
يقول تعالى ذكره: والذين كَفَروا باللهِ، فجحدوا توحيدَه، {فَتَعَسًا لَهُمْ}. يقولُ: فخِزيًا لهم وشقاءً وبلاءً.
كما حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ} . قال: شقاءً لهم
(5)
.
وقولُه: {وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} . [يقولُ: وجعَل أعمالَهم]
(6)
معمولةً على غيرِ
(1)
في ص، ت 1، ت 2:"ينصركم"، وفى م:"ينصركم بنصركم".
(2)
في م: "لأنه".
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 48 إلى المصنف وعبد بن حميد.
(4)
في ص، ت 2، ت 3:"يقويكم".
(5)
ذكره البغوي في تفسيره 7/ 281.
(6)
سقط من: ت 2، ت 3.
هدًى ولا استقامةٍ؛ لأنها عُمِلتْ في طاعةِ الشيطانِ لا في طاعةِ الرحمنِ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيد في قولِه: {وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} . قال: الضلالةُ التي أضلَّهم اللهُ؛ لم يهدِهم كما هدَى الآخرين، فإن الضلالةَ التي أخبرك اللهُ:{يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [النحل: 93، فاطر: 8]. قال: وهؤلاء ممن جعَل اللهُ
(1)
عمله ضلالًا.
ورُدَّ قولُه: {وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} . على قولِه: {فَتَعْسًا لَهُمْ} . وهو فعلٌ ماضٍ، و"التعْسُ" اسمٌ؛ لأن "التَعْسَ" وإن كان اسمًا ففى معنى الفعلِ؛ لما فيه من معنى الدعاءِ، فهو بمعنى: أتعَسَهم اللهُ. فلذلك صلَح ردُّ {وَأَضَلَّ} عليه؛ لأن الدعاءَ يَجرِى مَجرَى الأمرِ والنهيِ، وكذلك قولُه:{حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} . مردودةٌ على أمرٍ مضمَرٍ ناصبٍ لـ "ضَرْبَ".
وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} . يقولُ تعالى ذكرُه: هذا الذي فعَلنا بهم من الإتعاسِ وإضلالِ الأعمالِ؛ من أجلِ أنهم كرِهوا كتابَنا الذي أنزَلناه إلى نبيِّنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم وسخِطوه، فكذَّبوا به وقالوا: هو
(2)
سحرٌ مبينٌ.
وقولُه: {فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} . يقولُ: فأبطَل أعمالَهم التي عمِلوها في الدنيا، وذلك عبادتُهم الآلهةَ، لم ينفَعْهم اللهُ بها في الدنيا ولا في الآخرةِ، بل أوبَقَهم بها فأصْلاهم سعيرًا، وهذا حكْمُ اللهِ جل جلاله في جميعِ مَن كفَر به من
(1)
سقط من: م، ت 1.
(2)
في ت 1، ت 2:"هذا".
أجناس الأممِ، كما قال قتادةُ.
حدَّثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ في قولِه:{فَتَعْسًا لَهُمْ} . قال: هي عامةٌ للكفارِ
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: أفلم يَسِرْ هؤلاء المكذَّبون محمدًا صلى الله عليه وسلم، المنكِرو ما أَنزَلْنا عليه من الكتاب، في الأرضِ سَفْرًا؟ وإنما هذا توبيخٌ من الله لهم؛ لأنهم قد كانوا يسافِرون إلى الشامِ فيرَون نقمةَ اللهِ التي أحلَّها بأهلِ حِجْرٍ مِن
(2)
ثمودَ، ويرون في سَفَرِهم إلى اليمنِ ما أحلَّ اللهُ بسَبَأٍ، فقال لنبيِّه عليه الصلاة والسلام وللمؤمنين به: أفلم يَسِرْ هؤلاء المشركون سَفْرًا في البلادِ، فينظُروا كيف كان عاقبةُ تكذيبِ
(3)
الذين من قبلهم من الأمم المكذبة رسلها، الرادَّةِ نصائحها، ألم نُهلكها فندمِّرْ عليها منازلها ونخربها، فيتعظوا بذلك، ويحذروا أن يفعل الله ذلك في تكذيبِهم إياه، فيُنيبوا إلى طاعةِ اللهِ في تصديقِك؟ ثم توعَّدَهم جلَّ ثناؤُه، وأخبَرهم [إن هم]
(4)
أقاموا على تكذيبِهم رسولَه، أنه مُحِلٌّ بهم من العذابِ ما أحلَّ بالذين كانوا من قبلِهم من الأممِ، فقال:{وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} . يقولُ: وللكافرين من قريشٍ المكذِّبي رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم من العذابِ العاجلِ، أمثالُ عاقبةِ تكذيبِ الأممِ الذين كانوا من قبلِهم رسلَهم، على تكذيبِهم رسولَه محمدًا صلى الله عليه وسلم.
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 222 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 48 إلى عبد بن حميد.
(2)
سقط من: م، ت 1.
(3)
سقط من: ت 1.
(4)
في ص، ت 1، ت 2:"أنهم".
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولهِ:{وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} . قال: مِثلُ ما دُمِّرَت به القرونُ الأولى. وعيدٌ من اللهِ لهم
(1)
.
يقولُ تعالى ذكرُه: هذا الفعلُ الذي فعَلنا بهذين الفريقين؛ فريقِ الإيمانِ وفريقِ الكفرِ؛ من نُصرتِنا فريقَ الإيمانِ بالله وتثبيتِنا أقدامَهم، وتدميرِنا على فريقِ الكفرِ، {بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا}. يقولُ: من أجلِ أن اللَّهَ وليُّ مَنْ آمَن به وأطاع رسولَه.
كما حدَّثني محمدُ بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا} . قال: وَلِيُّهم
(2)
.
وقد ذكر لنا أن ذلك في قراءةِ عبدِ اللهِ: (ذلكَ بأنَّ الله وَلِيُّ الَّذِين آمَنُوا)
(3)
.
(1)
تفسير مجاهد ص 605، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 48 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
أخرجه الفريابي - كما في تغليق التعليق 4/ 312 - من طريق ورقاء به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 48 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
ذكره القرطبي في تفسيره 16/ 234، والقراءة شاذة.
وأنَّ التي في "المائدةِ"، التي هي في مصاحفِنا:{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [المائدة: 55]: (إنَّمَا مَوْلاكُمُ اللَّهُ) في قراءتِه.
وقولُه: {وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} . يقولُ: وبأن الكافرين باللهِ لا وليَّ لهم ولا ناصرَ.
وقولُه: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} . يقولُ تعالى ذكرُه: إن الله له الألوهةُ التي لا تنبغِي لغيرِه، يُدخِلُ الذين آمَنوا باللهِ وبرسولِه بساتينَ تجرِى من تحتِ أشجارِها الأنهارُ، يفعَلُ ذلك بهم تكرِمةً على إيمانهم به وبرسولِه.
وقولُه: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ} . يقولُ جلَّ ثناؤُه: والذين جحَدوا توحيدَ اللهِ وكذَّبوا رسولَه صلى الله عليه وسلم، يتمتَّعون في هذه الدنيا بحُطامِها ورِياشِها وزينتِها الفانيةِ الدارسةِ، ويأكُلون فيها غيرَ مفكِّرين في المعادِ، ولا معتبِرين بما وضَع اللهُ لخلقِه من الحججِ المؤدِّيةِ لهم إلى علمِ توحيدِ اللهِ، ومعرفةِ صدْقِ رسلِه، فمَثَلُهم في أكلِهم ما يأكُلون فيها من غيرِ علمٍ منهم بذلك وغيرِ معرفةٍ، مَثَلُ الأنعامِ من البهائمِ المسخَّرةِ التي لا همَّةَ لها إلا في الاعتلافِ دونَ غيرِه، {وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ}. يقولُ جلَّ ثناؤُه: والنارُ نارُ جهنمَ مسكنٌ لهم ومأوًى، إليها يصيرون من بعدِ مماتِهم.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وكَمْ يا محمدُ من قريةٍ {هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ} . يقولُ: أهلُها أشدُّ بأسًا وأكثرُ جمعًا وأعدُّ عديدًا من أهلِ قريتِك، وهى
مكةُ. وأُخرِج الخبرُ عن القريةِ والمرادُ به أهلُها.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ} . قال: هي مكةُ.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ في قولِه:{وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ} . قال: قريَتُه مكةُ
(1)
.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا المعتمرُ بنُ سليمانَ، عن أبيه، عن حَنَشٍ
(2)
، عن عكرمةَ، عن ابن عباسٍ، أن نبيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم لما خرَج من مكةَ إلى الغارِ، أُراه قال: التفَت إلى مكةَ، فقال: "أنتِ أحبُّ بلادِ اللهِ إلى اللهِ، وأنتِ أحبُّ بلادِ اللهِ إليَّ، فلو أنَّ المشركين لم يُخرِجونى لم أَخْرُجُ منكِ، فأعتى الأعداءِ مَن عتا على اللهِ في حرَمِه، أو قتَل غيرَ قاتلِه، أو قتَل بذُّحولِ
(3)
الجاهلِيةِ". فأنزَل اللهُ تبارك وتعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ}
(4)
.
وقال جلَّ ثناؤُه: {أَخْرَجَتْكَ} . فأُخرِج الخبرُ عن القريةِ؛ فلذلك أُنِّث، ثم قال:{أَهْلَكْنَاهُمْ} ؛ لأن المعنى في قولِه: {أَخْرَجَتْكَ} . ما وصَفتُ من أنه أُريدَ
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 222 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 48، 49 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
في م، ت 1:"حبيش". ينظر تهذيب الكمال 6/ 465.
(3)
الذحول: جمع ذحْل؛ وهو الحقد، والثأر. الوسيط (ذ ح ل).
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم - كما في تفسير ابن كثير 7/ 294 - من طريق ابن عبد الأعلى به، وأخرجه أبو يعلى - كما في المطالب العالية (4103) - عن المعتمر بن سليمان به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 48 إلى عبد بن حميد وابن مردويه.
به أهل القرية، فأخرج الخبرُ مرةً على اللفظِ ومرةً على المعنى.
وقوله: هو {فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ} . فيه وجهان من التأويلِ؛ أحدُهما: أن يكونَ معناه، وإن كان قد نُصِب "الناصرُ" بالتبرئةِ: فلم يكُنْ لهم ناصرٌ. وذلك أن العربَ قد تُضمِرُ "كان" أحيانًا في مثلِ هذا. والآخرُ: أن يكونَ معناه: فلا ناصرَ لهم الآنَ من عذابِ اللَّهِ يَنصُرُهم.
القولُ في تأويل قولِه تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: أفمن كان على برهانٍ وحجةٍ وبيانٍ مِن أمرِ ربِّه والعلمِ بوحدانيتِه، فهو يعبُدُه على بصيرةٍ منه، بأن له ربًّا يُجازيه على طاعته إياه الجنةَ، وعلى إساءتِه ومعصيتِه إياه النارَ، {كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ}. يقولُ: كَمَن حسَّن له الشيطانُ قبيحَ عملِه وسيئَه، فأُراه جميلًا، فهو على العملِ به مقيمٌ، {وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ}. يقولُ: واتَّبَعوا ما دعَتْهم
(1)
إليه أنفسُهم من معصيةِ اللهِ وعبادةِ الأوثانِ، من غيرِ أن يكونَ عندَهم بما يعمَلون من ذلك برهانٌ وحجةٌ. وقيل: إن الذي عُنِى بقولِه: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} . نبيُّنا عليه الصلاة والسلام، وإن الذي عُنِي بقولِه:{كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ} . هم المشركون.
(1)
في ت 1: "دعوته".
يقولُ تعالى ذكرُه: صفةُ الجنةِ التي وُعِدَها المتقون، وهم الذين اتَّقَوا في الدنيا عقابَه؛ بأداءِ فرائضِه واجتنابِ معاصيه، {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ}. يقولُ تعالى ذكرُه: في هذه الجنةِ التي ذكَرها أنهارٌ مِن ماءٍ غيرِ متغيِّرِ الريحِ. يقالُ منه: قد أسِن ماءُ هذه البئرِ، إذا تغيَّرت ريحُ مائِها فأنتَنت، فهو يَأْسَنُ أَسَنًا. وكذلك يُقالُ للرجلِ إذا أصابَته ريحٌ منتِنةٌ: قد أَسِنَ، فهو يأْسَنُ. وأما إذا أَجَن الماءُ وتغيَّر، فإنه يقالُ له: أَسَن، فهو يأسِنُ، ويأسُنُ أُسونًا، وماءٌ آسنٌ.
وبنحوِ الذي قلنا في معنى قولِه: {مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ في قولِه:{فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} . يقولُ: غيرِ متغيِّرٍ
(1)
.
حدَّثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمر، عن قتادة في قوله:{أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} . قال: من ماءٍ غيرِ مُنْتَنٍ
(2)
.
حدَّثني عيسى بنُ عمرٍو، قال: أخبرنا إبراهيمُ بنُ محمدٍ، قال: ثنا مصعبُ بنُ سلَّامٍ، عن سعدِ بن طَرِيفٍ، قال: سألتُ أبا إسحاقَ عن: {مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} ، قال: سألتُ عنها الحارثَ، فحدَّثني أن الماءَ الذي غيرُ آسنٍ "تسنيم"، قال: بلَغنى أنه لا تمسُّه يدٌ، وأنه يجئُ الماءُ هكذا حتى يدخُلَ في فيه
(3)
.
وقولُه: {وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} . يقولُ تعالى ذكرُه: وفيها أنهارٌ من
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم - كما في التغليق 4/ 312 والإتقان 2/ 43 - من طريق أبي صالح به.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 222 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 49 إلى عبد بن حميد.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 49 إلى المصنف.
لبنٍ لم يتغيَّرْ طعمُه؛ لأنه لم يُحْلَبُ من حيوانٍ فيتغيَّر طعمُه بالخروجِ من الضُّروعِ، ولكنه خلَقه اللهُ ابتداءً في الأنهارِ، فهو بهيئتِه لم يتغيَّر عما خلَقه عليه.
وقولُه: {وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} . يقولُ: وفيها أنهارٌ من خمرٍ لذةٍ للشاربين يلتذُّون بشربِها.
كما حدَّثني عيسى، قال: ثنا إبراهيمُ بنُ محمدٍ، قال: ثنا مصعبٌ، عن سعدِ بن طريفٍ، قال: سأَلت عنها الحارثَ، فقال: لم تَدُسْه المجوسُ، ولم ينفُخُ فيه الشيطانُ، ولم تؤذِها شمسٌ، ولكنها فَوْحَاءُ. قال: قلتُ لعكرمةَ: ما الفوحاءُ؟ قال: الصفراءُ.
وكما حدثني سعدُ بنُ عبدِ اللهِ بن عبدِ الحكمِ، قال: ثنا حفصُ بنُ عمرَ، قال: ثنا الحكمُ بنُ أبانٍ، عن عكرمةَ في قولِه:{مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} . قال: لم يُحلَبْ
(1)
.
وخُفِضت "اللذةُ" على النعتِ "للخمرِ"، ولو جاءت رفعًا على النعتِ "للأنهار" جاز، أو نصبًا على: يتلذَّذُ بها لذَّةً. كما يقالُ: هذا لك هبةً. كان جائزًا؛ فأما القراءةُ فلا أستجيزُها فيها إلا خفضًا؛ لإجماعِ الحجةِ من القرأةِ عليها.
وقولُه: {وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} . يقولُ: وفيها أنهارٌ من عسلٍ قد صُفِّي من القَذَى وما يكونُ في عسلِ أهل الدنيا قبلَ التصفيةِ. وإنما أعلَم تعالى ذكرُه عبادَه بوصفِه ذلك العسلَ بأنه مُصَفًّى، أنه خُلِق في الأنهارِ ابتداءً سائلًا جاريًا سيلَ الماءِ واللبنِ المخلوقَينِ فيها، فهو من أجلِ ذلك مُصفًّى، قد صفَّاه اللهُ من الأقذاءِ التي تكونُ في عسلِ أهلِ الدنيا، الذي لا يصفو من الأقذاءِ إلا بعدَ التصفيةِ؛ لأنه كان في شمعٍ فصُفِّى منه.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 49 إلى المصنف وعبد بن حميد عن عكرمة، عن ابن عباس.
وقولُه: {وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} . يقولُ تعالى ذكرُه: ولهؤلاء المتقين في هذه الجنةِ من هذه الأنهارِ التي ذكَرنا، من جميعِ الثمراتِ التي تكونُ على الأشجارِ، {وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ}. يقولُ: وعفوٌ مِن اللهِ لهم عن ذنوبِهم التي أذنَبوها في الدنيا ثم تابوا منها، وصَفْحٌ منه لهم عن العقوبةِ عليها.
وقولُه: {كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ} . يقولُ تعالى ذكرُه: أمَن هو في هذه الجنةِ التي صفتُها ما وصَفْنا، كمَن هو خالدٌ في النارِ؟ وابتُدئ الكلامُ بصفةِ الجنةِ، فقيل:{مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} . ولم يُقَل: أمَن هو في الجنةِ. ثم قيل بعدَ انقضاءِ الخبر عن الجنةِ وصفتِها: {كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ} . إنما قيل ذلك كذلك استغناءً بمعرفةِ السامعِ معنى الكلامِ، ولدلالةِ قولِه:{كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ} . على معنى قولِه: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ.
وقوله: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا} . يقولُ تعالى ذكرُه: وسُقِىَ هؤلاء الذين هم خلود في النارِ ماءً قد انتَهَى حرُّه، فقطَّع ذلك الماءُ من شدَّةِ حرِّه أمعاءَهم.
كما حدَّثني محمدُ بنُ خلفٍ العَسْقلانيُّ، قال: ثنا حَيْوَةُ بنُ شُريحٍ الحِمصِيُّ، قال: ثنا بقيَّةُ، عن صفوانَ بن عمرٍو، قال: ثنى عبيدُ اللَّهِ بنُ بُسرٍ
(1)
، عن أبي أُمامةَ الباهليِّ، عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في قولِه:{وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ} [إبراهيم: 16، 17]. قال: "يُقَرَّبُ إليه فيَتَكَرَّهُه
(2)
، فإِذا أُدْنىَ مِنه شَوَى وجْهَه، ووقَعت فروةُ رأسِه، فإذا شَرِب قطَّع أمعاءَه حتى يَخرُجَ من دُبُرِه. يقولُ اللَّهُ {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ}. يقولُ اللهُ عز وجل: {يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ
(1)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"بشر". وقد تقدم على الصواب في 13/ 620.
(2)
في ت 1: "فيكرهه".
الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا}
(1)
[الكهف: 29].
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: ومن هؤلاء الكفار يا محمدُ {مَنْ يَسْتَمِعُ
(2)
إِلَيْكَ}، وهو المنافِقُ، فيسمَعُ
(3)
ما تقولُ فلا يعِيه ولا يفهمُه؛ تهاونًا منه بما تتلو عليه من كتابِ ربَّك، وتغافُلًا عما تقولُه وتدعو إليه من الإيمانِ، حتى إذا خرَجوا من عندِك، قالوا إعلامًا منهم لمن حضَر معهم مجلسَك مِن أهلِ العلمِ بكتابِ اللهِ، وتلاوتِك عليهم ما تلوتَ، وقِيلِك لهم ما قلتَ أنهم لن يُصْغوا أسماعَهم لقولِك وتلاوتِك: ماذا قال لنا محمدٌ آنِفًا؟
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ} : هؤلاء المنافقون، دخَل رجلان؛ رجلٌ ممَّن عقَل عن اللهِ وانتفَع بما سمِع، ورجلٌ لم يعقِلْ عن اللهِ فلم ينتفِعْ بما سمِع. كان يقالُ: الناسُ ثلاثةٌ؛ فسامعٌ عاملٌ، وسامعٌ عاقلٌ
(4)
، وسامعٌ تاركٌ
(5)
.
(1)
تقدم تخريجه في 13/ 620، 621.
(2)
في ص: "يشفع".
(3)
في م، ت 1:"فيستمع".
(4)
في م، ت 1:"غافل".
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 49، 50 إلى المصنف وعبد بن حميد.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} . قال: هم المنافقون. وكان يقالُ: الناسُ ثلاثةٌ؛ سامعٌ فعاملٌ، وسامعٌ فعاقلٌ
(1)
، وسامعٌ فتاركٌ
(2)
.
حدَّثنا أبو كُرِيبٍ، قال: ثنا يحيى بنُ آدمَ، قال: ثنا شريكٌ، عن عثمانَ أبي اليقظانِ، عن يحيى بن الجزَّارِ، أو سعيدِ بن جُبَيرٍ، عن ابن عباسٍ في قولهِ:{حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا} . قال ابن عباسٍ: أنا منهم، وقد سُئلتُ في من سُئل
(3)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ} الآية. قال: هؤلاء المنافقون، والذين أُوتُوا العلم الصحابةُ رضي الله عنهم
(4)
.
وقولُه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} . يقولُ تعالى ذكرُه: هؤلاء الذين هذه صفتُهم هم القومُ الذين ختم اللهُ على قلوبِهم، فهم لا يهتدون للحقِّ الذي بعَث اللهُ به رسولَه عليه الصلاة والسلام، {وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ}. يقولُ: ورفَضوا أمرَ اللَّهِ، واتَّبَعوا ما دعَتْهم إليه أنفسُهم، فهم لا يرجِعون مما هم عليه إلى حقيقةٍ ولا بُرْهانٍ. وسوَّى جلَّ ثناؤُه بينَ صفةِ هؤلاء المنافقين وبينَ المشركين، في أن جميعَهم إنما يتبعون فيما هم عليه من فراقِهم دينَ اللهِ الذي ابتعَث به محمدًا صلى الله عليه وسلم أهواءَهم، فقال في هؤلاء المنافقين: {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا
(1)
في م، ت 1:"فغافل".
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 222 عن معمر به.
(3)
أخرجه الحاكم 2/ 457 من طريق يحيى بن آدم به، ولم يذكر يحيى بن الجزار.
(4)
ذكره القرطبي في تفسيره 16/ 238.
أَهْوَاءَهُمْ}. وقال في أهلِ الكفرِ به من أهلِ الشركِ: {كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} .
القولُ في تأويل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وأما الذين وفَّقهم اللهُ لاتِّباعِ الحقِّ، وشرَح صدورَهم للإيمانِ به وبرسولِه، من الذين استمَعوا إليك يا محمدُ، فإن ما تلَوتَه عليهم وسمِعوه منك، {زَادَهُمْ هُدًى}. يقولُ: زادهم اللهُ بذلك إيمانًا إلى إيمانِهم، وبيانًا لحقيقةِ ما جئتَهم به من عندِ اللَّهِ إلى البيانِ الذي كان عندَهم. وقد ذُكِر أن الذي تلا عليهم رسول الله من القرآن، فقال أهل النفاقِ منهم لأهل الإيمانِ:{مَاذَا قَالَ آنِفًا} . وزاد اللهُ أهلَ الهدى منهم هدًى - كان بعضَ ما أنزَل الله من القرآنِ، ينسَخُ بعضَ ما قد كان الحكمُ مضى به قبلُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمد بن سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قوله:{وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} . قال: لمَّا أنزَل اللهُ القرآنَ آمَنوا به، فكان هدًى، فلمَّا تبيَّن
(1)
الناسخُ والمنسوخُ زادهم هدًى
(2)
.
وقولُه: {وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} . يقولُ تعالى ذكرُه: وأعطى اللهُ هؤلاء المهتدين تقواهم، وذلك استعمالُه إياهم تقواهم إياه.
(1)
في ت 2، ت 3:"بين".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 50 إلى المصنف وابن مردويه.
وقولُه: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} . يقولُ تعالى ذكرُه: فهل ينظُرُ هؤلاء المكذِّبون بآياتِ الله من أهلِ الكفرِ والنفاقِ، إلا الساعة التي وعد الله خلقه بعثهم فيها من قبورهم أحياء، أن تجيئَهم فجأةً لا يشعرون بمجيئها. والمعنى: هل ينظُرون إلا الساعةَ، هل ينظُرون إلا أن تأتيهم بغتةً.
و"أنْ" من قولِه: "إِلَّا أَنْ" في موضعِ نصبٍ بالردِّ على "الساعةِ".
وعلى فتحِ الألفِ من {أَنْ تَأْتِيَهُمْ} . ونصْبِ {تَأْتِيَهُمْ} بها قرأةُ أهلِ الكوفةِ.
وقد حُدِّثتُ عن الفرَّاءِ، قال: حدَّثني أبو جعفرٍ الرُّؤاسيُّ، قال: قلتُ لأبي عمرو بن العلاءِ: ما هذه الفاءُ التي في قولِه: {فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} ؟ قال: جوابُ الجزاءِ. قال: قلتُ: إنها: (إنْ تأتيهم)؟ قال: فقال: معاذَ اللهِ، إنما هي:(إن تَأْتِهِمْ). قال الفرَّاءُ: فظَنَنتُ أنه أخَذها عن أهلِ مكةَ؛ لأنه عليهم
(1)
قرَأ. قال الفرَّاءُ: وهى أيضًا في بعضِ مصاحفِ الكوفيِّين
(2)
بسِينَةٍ
(3)
واحدةٍ: (تَأْتِهِمْ). ولم يقرَأْ بها أحدٌ منهم
(4)
.
وتأويلُ الكلامِ على قراءةِ مَن قرأ ذلك بكسرِ ألفِ "إن" وجزمِ "تأتهم": فهل ينظُرون إلا الساعةَ؟ فيُجعلُ الخبرُ عن انتظارِ هؤلاء الكفارِ الساعةَ متناهيًا عندَ قولِه: {إِلَّا السَّاعَةَ} . ثم يُبْتدأُ الكلامُ فيقالُ: إن تأتِهم الساعةُ بغتةً فقد جاء أشراطُها. فتكونُ الفاءُ من قولِه: {فَقَدْ جَاءَ} بجوابِ الجزاءِ. وقولُه: {فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} . يقولُ: فقد جاء هؤلاء الكافرين باللهِ الساعةُ
(1)
سقط من: م.
(2)
ينظر المصاحف لابن أبي داود ص 40، 41.
(3)
في م، ت 1:"بسنة". وفى ت 2: "نسبته"، وفى ت 3،:"نسبة". والمثبت موافق لما في معاني القرآن.
(4)
معاني القرآن 3/ 61.
وأدلتها ومقدَّماتُها. وواحد الأشراطِ شَرَطٌ، كما قال جريرٌ
(1)
:
ترَى شَرَط المِعْزَى مُهُورَ نسائِهم
…
وفي شَرَطِ
(2)
المِعْزَى لهن مُهورُ
ويُروى: ترى قَزَمَ المِعَزى. يقالُ منه: أشرَط فلانٌ نفسَه، إذا علَّمها بعلامةٍ، كما قال أوسُ بنُ حُجرٍ
(3)
:
فأشْرَط فيها نفسَه وهو مُعْصِمٌ
…
وألْقَى بأسبابٍ له وتَوَكَّلا
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ:{فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} : يعنى: أشراطُ الساعةِ
(4)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً} : قد دنَتِ الساعةُ، ودنا من اللهِ فراغٌ للعباد
(5)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرَنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} . قال: أشراطُها آياتُها.
وقولُه: {فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ} . يقولُ تعالى ذكرُه: فمن أيِّ وجهٍ لهؤلاء المكذِّبين بآياتِ اللهِ ذكرَى ما قد ضيَّعوا وفرَّطوا فيه من طاعةِ اللَّهِ إذا جاءَتهم الساعةُ. يقولُ: ليس ذلك بوقت ينفعُهم التذكُّرُ
(6)
والندمُ؛ لأنه وقتُ مُجازاةٍ، لا
(1)
ديوانه 2/ 876 بالرواية التي سيذكرها المصنف بعد.
(2)
في الديوان: "قزم".
(3)
ديوانه ص 87.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 50 إلى ابن المنذر، بلفظ:"أول الساعات".
(5)
في ص، م، ت: 1 "العباد"، عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 50 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن مردويه.
(6)
في ت 2، ت 3:"التذكير".
وقت استعتابٍ ولا استعمالٍ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ} . يقولُ: إذا جاءَتهم الساعةُ أنَّى لهم أن يتذكَّروا ويعرِفوا ويعقِلوا؟
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ} . قال: أنَّى لهم أن يتذكَّروا أو يتوبوا إذا جاءتهم الساعةُ
(1)
؟
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ} . قال: الساعةُ، لا ينفعُهم عند الساعة ذكراهم.
و"الذِّكْرى" في موضعِ رفعٍ بقولِه: {فَأَنَّى لَهُمْ} . لأن تأويلَ الكلامِ: فأَنَّى لهم ذكراهم إذا جاءتهم الساعةُ؟
القول في تأويل قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19)} .
يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: فاعلَمْ يا محمدُ أنه لا معبودَ تنبغى أو تصلُحُ له الألوهةُ، ويجوز لك وللخلق عبادتُه، إلا اللهُ الذي هو خالقُ الخلقِ، ومالكُ كلِّ شيءٍ، يَدينُ له بالربوبيةِ كلُّ ما دونَه، {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} . وسَلْ رَبَّكَ
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 222 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 62 إلى عبد بن حميد.
غفرانَ سالفِ ذنوبِك وحادثها، وذنوبِ أهلِ الإيمانِ بك من الرجالِ والنساءِ، {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ}. يقولُ: فإن اللَّهَ يعلَمُ متصرَّفكم فيما تتصرَّفون فيه في يقظتكم من الأعمالِ، ومثواكم إذا ثَوَيتم في مضاجعِكم للنومِ ليلًا، لا يخفَى عليه شيءٌ من ذلك، وهو مجازِيكم على جميعِ ذلك.
وقد حدَّثنا أبو كُرَيبٍ، قال: ثنا عثمانُ بنُ سعيدٍ، قال: ثنا إبراهيمُ بنُ سليمانَ، عن عاصمٍ الأحولِ، عن عبدِ اللهِ بن سَرْجِسَ، قال: أَكَلتُ
(1)
مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: غفرَ اللهُ لك يا رسولَ اللهِ
(2)
. فقال رجلٌ من القومِ: أستَغْفَر لك
(3)
رسولُ اللهِ؟ قال: نعم ولك. ثم قرَأ: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}
(4)
.
يقولُ تعالى ذكره: ويقولُ الذين صدَّقوا اللَّهَ ورسولَه: هلَّا نُزِّلت سورةٌ من اللهِ
(5)
تَأْمُرُنا بجهادِ أعداءِ الله من الكفارِ، {فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ}. يعنى: أنها
(1)
في ص، ت 1، ت 3:"دخلت".
(2)
بعده في مصادر التخريج: "قال: ولك".
(3)
بعده في النسخ والدر المنثور: "يا". والمثبت من بقية مصادر التخريج.
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة - كما في الإتحاف بذيل المطالب (5400) -، وأحمد 5/ 82 (الميمنية)، ومسلم (2346)، والترمذى في الشمائل (22)، والنسائى في الكبرى (10127) 10254، 10255، 11496) من طريق عاصم الأحول به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 63 إلى ابن المنذر وابن مردويه.
(5)
في ت 1: "القرآن".
محكَمةٌ بالبيان والفرائضِ. وذُكِر أن ذلك في قراءةِ عبدِ اللَّهِ: (فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْدَثَةٌ)
(1)
.
وقولُه: {وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ} . يقولُ: وذُكِر فيها الأمْرُ بقتالِ المشرِكين.
وكان قتادةَ يقولُ في ذلك ما حدَّثني بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ}
(2)
. قال: كلُّ سورةٍ ذُكِر فيها الجهادُ فهي محكمةٌ، وهى أشدُّ القرآنِ على المنافقين
(3)
.
حدَّثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ} . قال: كلُّ سورةٍ ذُكِر فيها القتالُ فهي محكَمةٌ
(4)
.
وقولُه: {رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} . يقولُ: رأَيتَ الذين في قلوبِهم شكٌّ في دينِ الله وضعفٌ، {يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ} يا محمدُ {نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} ؛ خوفًا أن تُغْزِيَهم وتَأْمُرَهم بالجهادِ مع المسلمين، فهم خوفًا من ذلك، وتجبُّنًا
(5)
عن لقاءِ العدوِّ، يَنْظُرون إليك نظرَ المغشيِّ عليه الذي قد صُرِع.
وإنما عَنَى بقولِه: {مِنَ الْمَوْتِ} : من خوفِ الموتِ. وكان هذا فعلَ أهلِ النفاقِ.
كالذي حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} . قال: هؤلاء المنافقون طبَع
(1)
وهى قراءة شاذة.
(2)
بعده في ت 1: "يقول وذكر فيها الأمر بقتال المشركين".
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 63 إلى المصنف وعبد بن حميد
(4)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 223 عن معمر به.
(5)
في ص، ت 1، ت 3:"تجنبا".
اللهُ على قلوبِهم، فلا يَفْقَهون ما يقولُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم.
وقولُه: {فَأَوْلَى لَهُمْ} . يقولُ تعالى ذكرُه: فأولى لهؤلاء الذين في قلوبِهم مرضٌ.
وقولُه: {فَأَوْلَى لَهُمْ} . وعيدٌ توعَّد اللهُ به هؤلاء المنافقين.
كما حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{فَأَوْلَى لَهُمْ} . قال: هذه وعيدٌ، فأولى لهم، ثم انقطَع الكلامُ، فقال:{طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ}
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{فَأَوْلَى لَهُمْ} . قال: وعيدٌ كما تَسْمَعون.
وقولُه: {طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} . وهذا خبرٌ من اللهِ تعالى ذكرُه عن قيلِ هؤلاء المنافقين من قبلِ أن تَنْزِلَ سورةٌ محكمةٌ ويُذْكَرَ فيها القتالُ، وأنهم إذا قيل لهم: إن الله مفترِضٌ عليكم الجهادَ. قالوا: سمْعٌ وطاعةٌ. فقال اللهُ عز وجل لهم: فإذا أُنزلت سورةٌ، وفُرِض القتالُ فيها عليهم، فشقَّ ذلك عليهم وكرِهوه - {طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} . قبلَ وجوبِ الفرضِ عليكم، فإذا عزَم الأمرُ كرِهتموه وشقَّ عليكم.
وقولُه: {طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} . مرفوعٌ بمضمَرٍ، وهو: قولُكم - قبلَ نزولِ فرضِ القتالِ - طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ.
ورُوِى عن ابن عباسٍ بإسنادٍ غيرِ مُرْتَضًى
(2)
أنه قال: قال اللهُ تعالى: {فَأَوْلَى
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 223 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 64 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
ذكره الطوسى في التبيان 9/ 298، والقرطبي في تفسيره 16/ 244.
لَهُمْ}. ثم قال للذين آمنوا منهم: {طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} .
فعلى هذا القولِ تمامُ الوعيدِ {فَأَوْلَى} ، ثم يَسْتأْنِفُ بعدُ، فيُقالُ:{لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} . فتكونُ "الطاعةُ" مرفوعةً بقولِه {لَهُمْ} .
وكان مجاهدٌ يقولُ في ذلك كما حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} . قال: أمَر اللَّهُ بذلك المنافقين
(1)
.
وقولُه: {فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ} . يقولُ: فإذا وجَب القتالُ وجاء أمرُ اللَّهِ بفرضِ ذلك كرِهتموه.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ} . قال: إذا جاء
(2)
الأمرُ. هكذا قال محمدُ بنُ عمرٍو في حديثِه عن أبي عاصمٍ. وقال الحارثُ في حديثِه عن الحسنِ: يقولُ: جدَّ الأمرُ
(3)
.
وقولُه: {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} . يقولُ تعالى ذكرُه: فلو صدَقوا الله ما وعَدوه، قبلَ نزولِ السورةِ، بالقتالِ، بقولِهم، إذ قيل لهم: إن الله سَيَأْمُرُكم
(1)
تفسير مجاهد ص 605، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 64 إلى الفريابي وعبد بن حميد.
(2)
في ص، م، ت 1، ت 3:"جد".
(3)
تفسير مجاهد ص 605 ومن طريقه الفريابي - كما في التغليق 4/ 312، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 64 إلى عبد بن حميد.
بالقتال. طاعةٌ، فَوَفَّوا له بذلك - لكان خيرًا لهم في عاجلِ دنياهم وآجلِ معادِهم.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدٌ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ} . يقولُ: طواعيةُ اللهِ ورسولِه وقولٌ معروفٌ عندَ حقائقِ الأمورِ، خيرٌ لهم.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ: يقولُ: طاعةُ اللهِ وقولٌ بالمعروفِ عندَ حقائقِ الأمورِ، خيرٌ لهم
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23)} .
يقولُ تعالى ذكرُه لهؤلاء الذين وصَف أنهم إذا أُنزِلت سورةٌ محكَمةٌ وذُكِر فيها القتالُ نظَروا إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم نظرَ المغشيِّ عليه: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ} أَيُّهَا القومُ. يقولُ: فلعلَّكم إن تولَّيتُم عن تنزيلِ اللَّهِ جلَّ ثناؤه، وفارَقتُم أحكامَ كتابِه، وأدبَرتم عن محمدٍ صلى الله عليه وسلم وعما جاء كم به، {أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ}. يقولُ: أن تَعْصُوا الله في الأرضِ فتَكْفُرُوا به وتَسْفكوا فيها الدماءَ، {وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} ، وتَعودوا لما كنتُم عليه في جاهليتِكم من التشتُّتِ والتفرُّقِ، بعدَما قد جمَعكم اللهُ بالإسلامِ وألف به بينَ قلوبِكم.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال [جماعةٌ مِن]
(2)
أهلِ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ} الآية. يقولُ: فهل عسَيْتُم كيفَ رأَيتم القومَ حينَ تولُّوا عن كتابِ اللهِ،
(1)
تتمة الأثر المتقدم تخريجه في ص 211.
(2)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3.
ألم يَسفِكوا الدمَ الحرامَ، وقطَّعوا الأرحام، وعَصَوا الرحمن؟
(1)
حدَّثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمر، عن قتادةَ:{فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} . [قال: فعَلوا]
(2)
.
حدَّثني محمدُ بن عبد الرحيم البرقيُّ، قال: ثنا ابن أبي مريمَ، قال: أخبَرنا محمد بن جعفر وسليمانُ
(3)
بنُ بلالٍ، قالا: ثنا معاويةُ بنُ أبي المُزَرِّدِ المدينيُّ، عن سعيدِ بن يسارٍ، عن أبي هريرةَ، عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"خلَق اللهُ الخلقَ، فلمَّا فرغ منهم تعلَّقت الرحمُ بحَقْوِ الرحمن، فقال: مَهْ. فقالت: هذا مقامُ العائذِ بك من القطيعةِ. قال: فما تَرْضَيْنَ أَن أَقْطَعَ مَن قطَعكِ، وأَصِلَ مَن وصَلكِ؟ قالت: نعمْ. قال: فذلك لك"
(4)
.
قال سليمان في حديثه: قال أبو هريرةَ: اقرَءُوا إن شِئتم: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} .
وقد تأوَّله بعضُهم: فهل عسَيتم إن تولَّيتم أمورَ الناسِ أن تُفْسِدوا في الأرضِ؟ بمعنى الولاية.
وأجمَعت القرأةُ غير نافعٍ على فتحِ السين من: {عَسَيْتُمْ} . وكان نافعٌ يَكْسِرُها: (عَسِيتم)
(5)
.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 64 إلى المصنف وعبد بن حميد.
(2)
سقط من: ت 2، ت 3.
والأثر أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 224 عن معمر به.
(3)
في ت 2، ت 3:"سليم".
(4)
أخرجه البخارى (4830)، وفي الأدب المفرد (50)، والبغوى في السنة (3431) من طريق سليمان بن بلال به، وأخرجه أحمد 14/ 103 (8367)، ومسلم (2554)، والنسائى في الكبرى (11497)، وابن حبان (441)، والحاكم 4/ 162، والبيهقى 7/ 26، وفى الشعب (7934) من طريق معاوية به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 64 إلى عبد بن حميد والحكيم الترمذي وابن مردويه.
(5)
النشر 2/ 173، والقراءتان متواترتان.
والصوابُ عندَنا قراءةُ ذلك بفتحِ السينِ؛ لإجماعِ الحجةِ من القرأةِ عليها، وأنه لم يُسْمَعْ في الكلامِ: عَسِىَ أخوك يَقُومُ. بكسرِ السينِ وفتحِ الياءِ، ولو كان صوابًا كسرُها إذا اتَّصل بها مكنيٌّ، جاءت بالكسرِ مع غيرِ المكنيِّ، وفى إجماعِهم على فتحِها مع الاسمِ الظاهرِ، الدليلُ الواضحُ على أنها كذلك مع المكنِيِّ.
و {إِنَّ} التي تِلى {عَسَيْتُمْ} مكسورةٌ، وهى حرفُ جزاءٍ، و {أَن} التي مع {تُفْسِدُوا} في موضعِ
(1)
نصبٍ بـ {عَسَيْتُمْ} .
وقولُه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ} . يقولُ تعالى ذكرُه: هؤلاء الذين يَفْعَلون
(2)
هذا، يَعْنى الذين يُفْسِدون ويَقْطَعون الأرحامَ، الذين لعَنهم اللَّهُ فأبعَدهم من رحمتِه، {فَأَصَمَّهُمْ}. يقولُ: فسلَبهم فهْمَ ما يَسْمَعون بآذانِهم من مواعظِ اللَّهِ في تنزيلِه، {وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ}. يقولُ: وسلَبهم عقولَهم، فلا يَتَبيَّنون
(3)
حُججَ اللَّهِ، ولا يَتَذَكَّرون ما يَرَون من عِبَرِه وأدلتِه.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: أفلا يَتَدَبَّرُ هؤلاء المنافقون مواعظَ اللَّهِ التي يَعِظُهم بها في آى القرآنِ الذي أنزَله على نبيِّه عليه الصلاة والسلام، ويَتَفَكَّرون في حججِه التي بيَّنها لهم في تنزيلِه، فيَعْلَموا بها خطأَ ما هم عليه مُقيمون؟ {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}. يقولُ: أم أَقْفَل اللَّهُ على قلوبِهم، فلا يَعْقِلون ما أنزَل اللَّهُ في كتابِه من المواعظِ والعِبرِ.
(1)
في ت 3: "الأرض".
(2)
في ت 3: "يعقلون".
(3)
في ت 3: "يتثبتون".
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} . إذنْ واللَّهِ يَجِدُون في القرآنِ زاجرًا عن معصيةِ اللَّهِ، لو تدبَّره القومُ فعقَلوه، ولكنهم أخَذوا بالمتشابهِ فهلَكوا عندَ ذلك
(1)
.
حدَّثنا إسماعيلُ بنُ حفصٍ الأَيليُّ، قال: ثنا الوليدُ بنُ مسلمٍ، عن ثورِ بن يزيدَ، عن خالدِ بن مَعدانَ، قال: ما من آدميٍّ إلا وله أربعُ أعينٍ؛ عينان في رأسِه لدنياه وما يُصْلِحُه من معيشتِه، وعينان في قلبِه لدينِه وما وعَد اللَّهُ من الغيبِ، فإذا أراد اللَّهُ بعبدٍ خيرًا أبصَرت عيناه اللتان في قلبِه، وإذا أراد اللَّهُ به غيرَ ذلك طمَس عليهما، فذلك قولُه:{أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}
(2)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا يحيى بنُ واضحٍ، قال: ثنا ثورُ بنُ يزيدَ، قال: ثنا خالدُ بنُ معدانَ، قال: ما من الناسِ أحدٌ إلا وله أربعُ أعينٍ؛ عينان في وجهِه لمعيشتِه، وعينان في قلبِه. وما من أحدٍ إلا وله شيطانٌ متبطِّنٌ فَقَارَ ظهرِه، عاطفٌ عنقَه على عنقِه، فاغرٌ فاه إلى ثمرةِ قلبِه، فإذا أراد اللَّهُ بعبدٍ خيرًا أبصَرت عيناه اللتان في قلبِه ما وعَد اللَّهُ من الغيبِ فعمِل به، وهما غيبٌ، فعمِل بالغيبِ، وإذا أراد اللَّهُ بعبدٍ شرًّا ترَكه. ثم قرَأ:{أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}
(2)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا الحكمُ، قال: ثنا عمرٌو، عن ثورٍ، عن خالدِ بن مَعْدَانَ بنحوِه، إلا أنه قال: ترَك القلبَ على ما فيه.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور (6/ 66) إلى المصنف وعبد بن حميد.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور (6/ 66) إلى المصنف وابن المنذر.
حدَّثنا بشرٌ
(1)
، قال: ثنا حمادُ بنُ زيدٍ، قال: ثنا هشامُ بنُ عروةَ، عن أبيه، قال: تلا رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يومًا: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} . فقال شابٌّ من أهلِ اليمنِ: بل عليها أقفالُها، حتى يكونَ اللَّهُ عز وجل يَفْتَحُها أو يُفَرِّجُها. فما زال الشابُّ في نفس عمرَ رضي الله عنه حتى ولِى فاستعان به
(2)
.
وقولُه: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى} . يقولُ اللَّهُ عز وجل: إن الذين رجَعوا القَهْقَرَى على أعقابِهم كفارًا باللَّهِ من بعدِ ما تَبَيَّن لهم الحقُّ وقصْدُ السبيلِ، فعرَفوا واضحَ الحجةِ، ثم آثَروا الضلالَ على الهدَى، عنادًا لأمرِ اللَّهِ تعالى ذكرُه من بعدِ العلمِ.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى} : هم أعداءُ اللَّهِ أهلُ الكتابِ، يَعْرِفون [نعتَ النبيِّ]
(3)
صلى الله عليه وسلم وأصحابِه عندَهم، ثم يَكْفُرون به
(4)
.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى} : إنهم يَجِدونه مكتوبًا عندَهم
(5)
.
وقال آخرون: عُنِى بذلك أهلُ النفاقِ.
(1)
بعده في ص، م:"قال: ثنا يزيد، قال ثنا سعيد"، وبعده في ت 1، ت 2، ت 3:"قال ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، قال: ثنا قتادة". وهذه الزيادة أثبتها محققو تفسير ابن كثير بين معكوفين من تفسير الطبرى. والمثبت كما في تفسير البغوي، وينظر تهذيب الكمال 7/ 239.
(2)
أخرجه البغوي في تفسيره 7/ 287 من طريق المصنف. به. وذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 303 عن المصنف به. وأخرجه إسحاق بن راهويه - كما في المطالب العالية (4105) من طريق هشام به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 66 إلى ابن المنذر وابن مردويه.
(3)
في ص، ت 1:"بعث نبى الله محمد"، وفى م:"بعث محمد نبى الله".
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 66 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر.
(5)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 224، وفى مصنفه (10212) عن معمر به.
ذكرُ مَن قال ذلك
حُدِّثتُ عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبَرنا عبيدٌ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ} إلى قولِه: {فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} : هم أهلُ النفاقِ
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبى، قال: ثنى عمى، قال: ثنى أبى، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ} إلى: {إِسْرَارَهُمْ} : هم أهلُ النفاقِ
(2)
.
وهذه الصفةُ بصفةِ
(3)
أهلِ النفاقِ عندَنا، أشبهُ منها بصفةِ أهلِ الكتابِ، وذلك أن اللَّهَ جلَّ ثناؤه أخبَر أن ردَّتَهم كانت بقيلِهم للذين كرِهوا ما نزَّل اللَّهُ:{سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ} . ولو كانت من صفةِ أهلِ الكتابِ لكان في وصفِهم بالتكذيبِ
(4)
محمدٍ صلى الله عليه وسلم الكفايةُ من الخبرِ عنهم بأنهم إنما ارتدُّوا من أجلِ قيلِهم ما قالوا.
وقولُه: {الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ} . يقولُ تعالى ذكرُه: الشيطانُ زيَّن لهم ارتدادَهم على أدبارِهم من بعدِ ما تَبَيَّن لهم الهدَى.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادة: {الشَّيْطَانُ
(1)
ذكره البغوي في تفسيره 7/ 288، والقرطبى في تفسيره 16/ 249.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 66 إلى المصنف.
(3)
في ت 2، ت 3:"صفة".
(4)
في م: "بتكذيب".
سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ}. يقولُ: زيَّن لهم
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{سَوَّلَ لَهُمْ} . يقولُ: زيَّن لهم.
وقولُه: {وَأَمْلَى لَهُمْ} . يقولُ: ومدَّ اللَّهُ لهم في آجالِهم مُلاوةً
(2)
من الدهرِ. ومعنى الكلامِ: الشيطانُ سوَّل لهم، واللَّهُ أَمْلَى لهم.
واختلَفت القرأةُ في قراءةِ ذلك؛ فقرَأته عامةُ قرأةِ الحجازِ والكوفةِ: {وَأَمْلَى لَهُم} بفتحِ الألفِ منها
(3)
، بمعنى: وأَمْلَى اللَّهُ لهم. وقرَأ ذلك بعضُ أهلِ المدينةِ والبصرةِ: (وأُملِىَ لهم) على وجهِ ما لم يُسَمَّ فاعلُه
(4)
. وقرَأ مجاهدٌ فيما ذُكِر عنه: (وأُمْلِى). بضمِّ الألفِ وإرسالِ الياءِ
(5)
، على وجهِ الخبرِ من اللَّهِ - جلَّ ثناؤُه عن نفسِه أنه يَفْعَلُ ذلك بهم.
وأولى هذه القراءاتِ
(6)
بالصوابِ التي عليها عامةُ قرأةِ الحجازِ والكوفةِ، من فتحِ الألفِ في ذلك؛ لأنها القراءةُ المستفيضةُ في قرأةِ الأمصارِ، وإن كان يَجْمَعُها مَذْهَبٌ تَتَقارَبُ معانيها فيه.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26)} .
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 224 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 66 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
المِلاوة والمُلاوة والمَلاوة والمَلا والمَلِى كله: مدة العيش. اللسان (م ل و).
(3)
وهى قراءة نافع وابن كثير وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائى وأبى جعفر وخلف. النشر 2/ 280.
(4)
وهى قراءة أبى عمرو. المصدر السابق.
(5)
هي قراءة يعقوب، وهو من العشرة. المصدر السابق.
(6)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"القراءة"، والقراءات المذكورة كلها صواب.
يقولُ تعالى ذكرُه: أَمْلَى اللَّهُ لهؤلاء المنافقين وترَكهم، والشيطانُ سوَّل لهم، فلم يُوفِّقْهم للهدَى من أجلِ أنهم قالوا للذين كرِهوا ما نزَّل اللَّهُ مِن الأمرِ بقتالِ أهلِ الشركِ به من المنافقين: سنُطِيعُكم في بعضِ الأمرِ الذي هو خلافٌ لأمرِ اللَّهِ تبارك وتعالى وأمرِ رسولِه صلى الله عليه وسلم.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ} : فهؤلاء المنافقون
(1)
.
{وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} . يقولُ تعالى ذكرُه: واللَّهُ يعلَمُ إسرارَ هذين الحزبَين المتظاهِرَين من أهلِ النفاقِ على خلافِ أَمرِ اللَّهِ وأمرِ رسولِه، إذ يَتَسَارُّون فيما بينَهم بالكفرِ باللَّهِ ومعصيةِ الرسولِ، ولا يَخْفَى عليه ذلك ولا غيرُه من الأمورِ كلِّها.
واختلَفتِ القرَأةُ في قراءةِ ذلك؛ فقرَأته عامةُ قرَأةِ المدينةِ والبصرةِ: (أَسْرَارَهُمْ) بفتحِ الألفِ من: (أسْرارَهم)
(2)
على وجهِ جماعِ "سرٍّ". وقرَأ ذلك عامةُ قرَأةِ الكوفةِ: {إِسْرَارَهُمْ} بكسرِ الألفِ
(3)
، على أنه مصدرٌ من: أَسرَرتُ إسرارًا.
والصوابُ مِن القولِ في ذلك عندَنا أنهما قراءتان مَعروفتان صحيحتا المعنى، فبأيتِهما قرَأ القارئُ فمصيبٌ.
القولِ في تأويلِ قولِه تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 224 عن معمر، عن قتادة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 66 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
وهى قراءة عاصم في رواية حفص وحمزة والكسائى. التيسير ص 163.
(3)
وهى قراءة ابن كثير ونافع وأبى عمرو وابن عامر وعاصم في رواية أبى بكر. المصدر السابق.
فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28)}.
[يقولُ تعالى ذكرُه: واللَّهُ يَعْلَمُ إسرارَ هؤلاء المنافقين؛ فكيفَ لا يَعْلَمُ حالَهم إذا توفَّتهم الملائكةُ وهم يَضْرِبون وجوهَهم وأدبارَهم؟ يقولُ: فحالُهم أيضًا لا يَخْفَى عليه في ذلك الوقتِ. ويَعْنى بالأدبارِ الأعجازَ، وقد ذكَرْنا الروايةَ في ذلك فيما مضَى قبلُ
(1)
.
وقولُه: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: تَفْعَلُ الملائكةُ هذا الذي وصَفتُ بهؤلاء المنافقين؛ من أجلِ أنهم اتَّبعوا ما أسخَط اللَّهَ فأغضَبه عليهم من طاعةِ الشيطانِ، {وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ}. يقولُ: وكرِهوا ما يُرْضِيه عنهم من قتالِ الكفارِ به بعدَ ما افترَضه عليهم.
وقولُه: {فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} . يقولُ: فأبطَل اللَّهُ ثوابَ أعمالِهم وأذهَبه؛ لأنها عُمِلت في غيرِ رِضاه ولا محبتِه، فبطَلت ولم تَنْفَعْ عاملَها.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30)} ]
(2)
.
يقولُ تعالى ذكرُه: أحسِب هؤلاء المنافقون الذين في قلوبِهم شكٌّ في دينِهم وضعفٌ في يقينِهم، فهم حيارَى في معرفةِ الحقِّ - أن لن
(3)
يُخْرِجَ اللَّهُ ما في قلوبِهم من الأضغانِ على المؤمنين فيُبْدِيَه لهم ويُظْهِرَه، حتى يَعْرِفُوا نِفاقَهم وحَيرتَهم في دينِهم، {وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ}. يقولُ تعالى ذكرُه: ولو نشاءُ
(1)
سقط من: ت 1.
(2)
ينظر ما تقدم في 11/ 229 - 231.
(3)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ت 3.
يا محمدُ لعرَّفناك هؤلاء المنافقين حتى تَعْرِفَهم. من قولِ القائلِ: سأُريك ما أصنَعُ. بمعنى: سأُعْلِمُك.
وقولُه: {فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ} . يقولُ: فلتَعْرِفَنَّهم بعلاماتِ النفاقِ الظاهرةِ منهم في فحوَى كلامِهم وظاهِر أفعالِهم. ثم إن اللَّهَ تعالى ذكرُه عرَّفه إياهم.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبى، قال: ثنى عمى، قال: ثنى أبى، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ} إلى آخرِ الآيةِ. قال: هم أهلُ النفاقِ، وقد عرَّفه إياهم في "براءة" فقال:{وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة: 84]. وقال: {فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا}
(1)
[التوبة: 83].
حُدِّثت عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبَرنا عبيدٌ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} الآية: هم أهلُ النفاقِ، {فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} . فعرَّفه اللَّهُ إِياهم في سورةِ "براءة"، فقال:{وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} . وقال: قل لهم: لن تَنفِروا معى أبدًا ولن تقاتلوا معى عدوًّا.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {أَمْ
(1)
ذكره القرطبي في تفسيره 16/ 252.
حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ}. قال: هؤلاء المنافقون. قال: والذي أسَرُّوا من النفاقِ هو الكفرُ.
قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ} . قال: هؤلاء المنافقون. قال: وقد أراه اللَّهُ إياهم، وأمَر بهم أن يَخرُجوا من المسجدِ. قال: فأبَوا إلا أن تَمَسَّكوا بلا إلهَ إلا اللَّهُ، فلما أبَوا إلا أن تَمَسَّكوا بلا إلهَ إلا اللَّهُ، حُقِنت دماؤُهم، ونكَحوا ونُوكِحوا بها
(1)
.
وقولُه: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} . يقولُ: ولتَعْرِفَنَّ هؤلاء المنافقين في معنى قولِهم نحوَه.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} . قال: قولِهم.
{وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} : لا يَخْفَى عليه العاملُ منكم بطاعتِه، والمخالفُ ذلك، وهو مُجازِى جميعِكم عليها.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32)} .
يقولُ تعالى ذكرُه لأهلِ الإيمانِ به من أصحابِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ولَنَبْلُوَنَّكم أيُّها المؤمنون بالقتلِ وجهادِ أعداءِ اللَّهِ، {حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ}. يقولُ: حتى يَعْلَمَ حزبِى وأوليائى أهلَ الجهاد في اللَّهِ منكم، وأهلَ الصبرِ على قتالِ أعدائِه، فيَظْهَرَ ذلك لهم، ويُعْرَفَ ذوو البصائرِ منكم في دينِه من ذوى الشكِّ والحَيرةِ فيه،
(1)
ذكره القرطبي في تفسيره 16/ 252.
وأهلُ الإيمانِ من أهلِ النفاقِ، {وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} فنَعْرِفَ الصادقَ منكم من الكاذبِ.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ} . وقولَه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ} [البقرة: 155]. ونحوَ هذا، قال: أخبَر اللَّهُ سبحانه المؤمنين أن الدنيا دارُ بلاءٍ، وأنه مُبْتَلِيهم فيها، وأمَرهم بالصبرِ وبشَّرهم، فقال:{وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} . ثم أخبَرهم أنه هكذا فعَل بأنبيائِه وصفوتِه؛ لتَطِيبَ أنفسُهم، فقال:{مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا} [البقرة: 214]. فالبأساءُ الفقرُ، والضراءُ السَّقَمُ، وزُلزلوا بالفتنِ وأذَى الناسِ إيَّاهم
(1)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه عز وجل: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ} . قال: نَخْتَبِرُكم. البلوى الاختبارُ. وقرَأ: {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2،1]. قال: لا يُختَبرون، {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} الآية [العنكبوت: 3].
واختلَفت القرأَةُ في قراءةِ قولِه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} ؛ فقرَأ ذلك عامةُ قرأةِ الأمصارِ بالنونِ "ونَبْلُو"
(1)
أخرجه البيهقى في الشعب (9687) من طريق أبى صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 156، 243 إلى ابن المنذر. وقد تقدم تخريجه عند ابن أبي حاتم في 2/ 704.
و {نَعْلَمَ} ، و {وَنَبْلُوا} على وجهِ الخبرِ من اللهِ جل جلاله عن نفسِه، سوى عاصمٍ؛ فإنه قرَأ جميعَ ذلك بالياءِ
(1)
. والنونُ هي القراءةُ عندَنا؛ لإجماعِ الحجةِ من القرَأةِ عليها، وإن كان للأخرى وجةٌ صحيحٌ.
وقولُه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} . يقولُ تعالى ذكرُه: إن الذين جحَدوا توحيدَ اللَّهِ، وصدُّوا الناسَ عن دينِه الذي ابتَعث به رسلَه، {وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى}. يقولُ: وخالَفوا رسولَه محمدًا صلى الله عليه وسلم، فحارَبوه وآذَوه من بعدِ ما علِموا أنه نبيٌّ مبعوثٌ، ورسولٌ مرسَلٌ، وعرَفوا الطريقَ الواضحَ بمعرفتِه، وأنه للَّهِ رسولٌ.
وقولهُ: {لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا} . لأن اللَّهَ بالغُ أمرِه، وناصرُ رسولِه ومُظهِرُه على مَن عاداه وخالَفه، {وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ}. يقولُ: وسيُذْهِبُ أعمالَهم التي عمِلوها في الدنيا فلا يَنْفَعُهم بها في الدنيا و
(2)
الآخرةِ، ويُبْطِلُها إلا مما يَضُرُّهم.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {*يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: يأيُّها الذين آمنوا باللَّهِ ورسولِه، أطِيعُوا الله وأطِيعوا الرسولَ في أمرِهما ونهيِهِما، {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ}. يقولُ: ولا تُبْطِلوا بمعصيتِكم إياهما وكفرِكم بربِّكم ثوابَ أعمالِكم؛ فإن الكفرَ باللَّهِ يُحْبِطُ السالفَ من العملِ الصالحِ.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
(1)
في رواية أبى بكر عنه. النشر 2/ 280.
(2)
بعده في م: "لا".
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} الآية: من استطاعَ منكم ألَّا يُبْطِلَ عملًا صالحًا عمِله بعملٍ سيِّئَ فَلْيَفْعَلْ، ولا قوّةَ إلا باللَّهِ، فإن الخيرَ يَنْسَخُ الشرَّ، وإن الشرَّ يَنْسَخُ الخيرَ، وإن مِلاكَ الأعمالِ خواتيمُها
(1)
.
وقولُه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّار} . يقولُ تعالى ذكرُه: إن الذين أنكَروا توحيدَ اللَّهِ، وصدُّوا مَن أراد الإيمانَ باللَّهِ وبرسولِه عن ذلك، ففتَنوهم عنه، وحالوا بينَهم وبينَ ما أرادوا من ذلك، {ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ}. يقولُ: ثم ماتوا وهم على ذلك من كفرِهم، {فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ}. يقولُ: فلن يَعْفُوَ اللَّهُ عما صنَع من ذلك، ولكنه يُعاقِبُه عليه، ويَفْضَحُه به على رءوسِ الأشهادِ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: فلا تَضْعُفوا أيُّها المؤمنون باللَّهِ عن جهادِ المشرِكين وتَجْبُنوا عن قتالِهم.
كما حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{فَلَا تَهِنُوا} . قال: لا تَضْعُفوا
(2)
.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 67 إلى المصنف وعبد بن حميد.
(2)
تفسير مجاهد ص 605، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 79، 6/ 67 إلى عبد بن حميد وابن المنذر، وتقدم تخريجه في 6/ 77.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {فَلَا تَهِنُوا} : لا تَضْعُفْ أَنتَ
(1)
.
وقولُه: {وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} . يقولُ: لا تَضْعُفوا عنهم وتَدْعوهم إلى الصلحِ والمسالمةِ، وأنتم القاهرون لهم والعالون عليهم، {وَاللَّهُ مَعَكُمْ}. يقولُ: واللَّهُ معكم بالنصرِ لكم عليهم.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ، غيرَ أنهم اختلَفوا في معنى قولِه:{وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} ؛ فقال بعضُهم: معناه: وأنتم أولى باللَّهِ منهم. وقال بعضُهم مثلَ الذي قلْنا فيه.
ذكرُ مَن قال ذلك وقال: معنى قولِه: {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} : أنتم أولى باللَّهِ منهم
حدَّثني أحمدُ بنُ المقدامِ، قال: ثنا المعتمرُ، قال: سمِعتُ أبى يُحَدِّثُ عن قتادةَ في قولِه: {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ} . قال: أي: لا تكونوا أُولى الطائفتين تُصْرَعُ.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ} . قال: لا تكونوا أُولى الطائفتين صُرِعت لصاحبتِها ودعَتها إلى الموادعةِ، وأنتم أَولى باللَّهِ منهم، واللَّهُ معكم.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ} . قال: لا تكونوا أُولى الطائفتين صُرِعت إلى صاحبتِها،
(1)
ذكره الطوسى في التبيان 9/ 306.
{وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} . قال: يقولُ: وأنتم أَولى باللَّهِ منهم
(1)
.
ذكرُ مَن قال: معنى قولِه: {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} : أنتم الغالبون الأعزُّ منهم
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} . قال: الغالبون، مثلَ يومِ أحدٍ تكونُ عليهم الدائرةُ
(2)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} . قال: هذا منسوخٌ. قال: نسَخه القتالُ والجهادُ. يقولُ: لا تَضْعُفْ أنت وتَدْعوَهم أنت إلى السلمِ وأنت الأعلى. قال: وهذا حينَ كانت العهودُ والهدنةُ فيما بينَه وبينَ المشرِكين قبلَ أن يكونَ القتالُ، يقولُ: لا تَهُنْ فتَضْعُفَ فيَرى أنك تَدْعوه إلى السلمِ، وأنت فوقَه وأعزُّ منه، {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ}: أنتم أعزُّ منهم، ثم جاء القتالُ بعدُ فنسَخ هذا أجمَعَ، فأمَره بجهادِهم والغلظةِ عليهم.
وقد قيل: عُنِى بقولِه: {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} : وأنتم الغالبون آخرَ الأمرِ، وإن غلَبوكم في بعضِ الأوقاتِ، وقهَروكم في بعضِ الحروبِ.
وقولُه: {فَلَا تَهِنُوا} جُزِم بالنهى.
وفى قولِه: {وَتَدْعُوا} وجهان؛ أحدُهما: الجزمُ على العطفِ على: {تَهِنُوا} . فيكونُ معنى الكلامِ فلا تَهِنوا ولا تَدْعوا إلى السلمِ. والآخرُ:
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 224 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 67 إلى عبد بن حميد.
(2)
تفسير مجاهد ص 605، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 67 إلى عبد بن حميد.
النصبُ على الصرفِ
(1)
.
وقولُه: {وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} . يقولُ: ولن يَظْلِمَكم أجورَ أعمالِكم فيَنقُصَكم ثوابَها. من قولِهم: وتَرتُ الرجلَ. إذا قتَلتَ له قتيلًا، فأخَذتَ له مالًا غصبًا.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبى، قال: ثنى عمى، قال: ثنى أبى، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} . يقولُ: لن يَظْلِمَكم
(2)
أعمالَكم
(3)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} . قال: لن يَنقُصَكم
(4)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} . أي: لن يَظْلِمَكم أعمالَكم.
حدَّثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ مثلَه
(5)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابنِ زيدٍ في قولِه: {وَلَن
(1)
ينظر ما تقدم في 6/ 92.
(2)
بعده في م: "أجور".
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 67 إلى المصنف.
(4)
تفسير مجاهد ص 606، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 67 إلى عبد بن حميد.
(5)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 224 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 67 إلى عبد بن حميد.
يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ}. قال: لن يَظْلِمَكم أعمالَكم، ذلك {يَتِرَكُمْ}
(1)
.
حُدِّثتُ عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبَرنا عبيدٌ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} . قال: لن يَظْلِمَكم أعمالَكم
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37)} .
يقولُ تعالى ذكرُه حاضًّا عبادَه المؤمنين على جهادِ أعدائِه، والنفقةِ في سبيلِه، وبذلِ مُهجهم في قتالِ أهلِ الكفرِ به: قاتِلوا أيُّها المؤمنون أعداءَ اللَّهِ وأعداءَكم من أهلِ الكفرِ، ولا تَدْعُكم الرغبةُ في الحياةِ إلى ترِك قتالِهم، فإنما الحياةُ الدنيا لعبٌ ولهوٌ، إلا ما كان منها للَّهِ؛ من عملٍ في سبيلِه، وطلبِ رضاه، فأما ما عدا ذلك فإنما هو لعبٌ ولهوٌ، يَضْمَحِلُّ فَيَذْهَبُ، ويَنْدَرِسُ فَيَنْمَحى
(3)
، أو إثمٌ يَبْقَى على صاحبِه عارُه وخِزْيُه، {وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ}. يقولُ: وإِن تَعْمَلُوا في هذه الدنيا التي ما كان فيها مما هو لها فلعبٌ ولهوٌ، فتُؤْمِنوا به، وتَتَّقوه بأداءِ فرائضِه واجتنابِ معاصيه، وهو الذي يَبْقَى لكم منها، ولا يَبْطُلُ بُطُولَ اللهوِ واللعبِ، ثَمَّ يُؤْتِكم ربُّكم عليه أجورَكم، فيعوِّضْكم منه ما هو خيرٌ لكم منه يومَ فقرِكم وحاجتِكم
(4)
إلى أعمالِكم، {وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ}. يقولُ: ولا يسألْكم ربُّكم
(1)
ذكره الطوسى في التبيان 9/ 306.
(2)
ذكره البغوي في تفسيره 7/ 290.
(3)
في ص، ت 1:"فينمى"، وفى م:"فيمر".
(4)
بعده في ت 1: "إليه".
أموالَكُم، ولكنه يُكَلِّفُكم توحيدَه، وخلْعَ ما سِواه من الأندادِ، وإفرادَ الألوهةِ والطاعةِ له،
{إِن يَسْئَلْكُمُوهَا} . يقولُ جلَّ ثناؤُه: إن يَسْأَلْكم ربُّكم أموالَكم، {فَيُحْفِكُمْ}. يقولُ: فيُجْهِدْكم بالمسألةِ، ويُلِحَّ عليكم بطلبِها منكم فيُلْحِفْ، {تَبْخَلُوا}. يقولُ: تَبْخَلوا بها، وتَمْنَعوها إياه؛ ضنًّا
(1)
منكم بها، ولكنه علِم ذلك منكم ومن ضِيقِ أنفسِكم، فلم يَسْأَلْكموها.
وقولُه: {وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ} . يقولُ: ويُخْرِجْ جلَّ ثناؤُه لو سأَلكم أموالَكم بمسألتِه ذلك منكم، أضغانَكم. قال: قد علِم اللَّهُ أن في مسألتِه المالَ خروجَ الأضغانَ.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا} . قال: الإحفاءُ أن تَأْخُذَ كلَّ شيءٍ بيدَيْك.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)} .
يقولُ تعالى ذكرُه للمؤمنين: هأنتم أيُّها الناسُ، {هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}. يقولُ: تُدْعَون إلى النفقةِ في جهادِ أعداءِ اللَّهِ ونُصرةِ دينِه، فمنكم من يَبْخَلُ: بالنفقةِ فيه.
وأُدخلت "ها" في موضعين؛ لأن العربَ إذا أرادت التقريبَ جعَلت المكنيَّ بينَ "ها" وبين "ذا"، فقالت: ها أنت ذا قائمًا. لأن التقريبَ جوابُ الكلامِ، فربما أعادت "ها" مع "ذا"، وربما اجتزَأت بالأولى وقد حُذِفت الثانيةُ، ولا يُقدِّمون
(1)
في ص، ت 1:"منا"، وفي ت 2، ت 3:"ما".
"أنتم" قبل "ها"؛ لأن "ها" جوابٌ، فلا تُقرِّبُ بـ "ها" بعدَ الكلمةِ.
وقال بعضُ نحويِّى البصرةِ: جعَل التنبيةَ في موضعين للتوكيدِ.
وقولُه: {وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ} . يقولُ تعالى ذكرُه: ومَن يَبْخَلُ بالنفقةِ في سبيلِ اللَّهِ، فإنما يَبْخَلُ عن بُخلِ نفسِه؛ لأن نفسَه لو كانت جوادًا لم تَبْخَلْ بالنفقةِ في سبيلِ اللَّهِ، ولكن كانت تجودُ بها، {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ}. يقولُ تعالى ذكرُه: ولا حاجةَ للَّهِ أيُّها الناسُ إلى أموالِكم ولا نفقاتِكم، لأنه الغنيُّ عن خلقِه، والخلقُ الفقراءُ إليه، وأنتم من خلقِه، فأنتم الفقراءُ إليه؛ وإنما حضَّكم على النفقةِ في سبيلِه ليُكْسِبَكم بذلك الجزيلَ من ثوابِه.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونُسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} . قال: ليس باللَّهِ تعالى ذكرُه إليكم حاجةٌ، وأنتم أحوجُ إليه.
وقولُه تعالى ذكرُه: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} . يقولُ تعالى ذكرُه: وإن تَتَوَلَّوْا أيُّها الناسُ عن هذا الدين الذي جاءَكم به محمدٌ صلى الله عليه وسلم فتَرْتَدُّوا راجعين عنه {يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} . يقولُ: يُهْلِكْكم ثم يَجِئْ بقومٍ آخرين غيرِكم بدلًا منكم، يُصَدِّقون به ويَعْمَلون بشرائعِه، {ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ}. يقولُ: ثم لا يَبْخَلوا بما أُمِروا به من النفقةِ في سبيلِ اللَّهِ، ولا يُضَيِّعوا شيئًا مِن حدودِ دينِهم، ولكنهم يقومون بذلك كلِّه على ما يُؤْمَرون به.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} . يقولُ: إن توَلَّيْتُم عن كتابى وطاعتى أَسْتَبْدِلْ قومًا غيرَكم. قادرٌ واللَّهِ ربُّنا على ذلك؛ على أن يُهْلِكَ
(1)
ويَأْتىَ مِن بعدِهم مَن هو خيرٌ منهم.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} . قال: إن توَلَّوا عن طاعةِ الله
(2)
.
حدَّثني يونُسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} .
وذُكِر أنه عُنِى بقولِه: {يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} . العَجَمُ مِن عجمِ فارسَ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن بَزِيعٍ البغداديُّ أبو سعيدٍ، قال: ثنا إسحاقَ بنُ منصورٍ، عن مسلمِ بن خالدٍ، عن العلاءِ بن عبدِ الرحمنِ، عن أبيه، عن أبي هريرةَ، قال: لما نزَلَت: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} : كان سلمانُ إلى جنبِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسولَ اللَّهِ، مَن هؤلاء القومُ الذين إن توَلَّيْنا اسْتُبْدِلوا بنا؟ قال: فضرَب النبيُّ صلى الله عليه وسلم على مَنْكِبِ سلمانَ، فقال:"مِن هذا وقومِه، والذي نفسى بيدِه لو أن الدينَ تعَلَّق بالثُّرَيَّا لنالَته رجالٌ مِن أهلِ فارسَ".
(1)
في م: "يهلكهم".
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 224 عن معمر به.
حدَّثني يونُسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: أخبَرنى مسلمُ بنُ خالدٍ، عن العلاءِ بن عبدِ الرحمنِ عن أبيه، عن أبي هريرةَ، أن رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآيةَ:{وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} . قالوا: يا رسولَ اللَّهِ، مَن هؤلاء الذين إن تَوَلَّيْنا اسْتُبْدِلوا بنا ثم لا يَكونوا أمثالَنا؟ فضرَب على فَخِذِ سلمانَ، قال:"هذا وقومُه، ولو كان الدينُ عندَ الثُّرَيَّا لَتَناوَله رجالٌ مِن الفرس")
(1)
.
حدَّثنا أحمدُ بنُ الحسنِ الترمذيُّ، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ بنُ الوليدِ العَدَنيُّ، قال: ثنا مسلمُ بنُ خالدٍ، عن العلاءِ، عن أبيه، عن أبي هريرةَ، قال: نزَلَت هذه الآيةُ وسلمانُ الفارسيُّ إلى جنبِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَحُكُّ ركبتُه ركبتَه: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} . قالوا: يا رسولَ اللَّهِ، ومَن الذين إن توَلَّيْنا اسْتُبْدِلوا بنا ثم لا يكونوا أمثالَنا؟ قال: فضرَب فَخِذَ سلمانَ، ثم قال:"هذا وقومُه".
وقال مجاهدٌ في ذلك ما حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} : مَن شاء
(2)
.
وقال آخرون: هم أهلُ اليمنِ.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم - كما في تفسير ابن كثير 7/ 306 - ، والبغوى في تفسيره 7/ 291، وفى شرح السنة (4000) من طريق يونس به، وأخرجه الطبراني في الأوسط (8838) من طريق مسلم بن خالد به، وأخرجه الترمذى (3260، 3261)، والحاكم 2/ 458، والبيهقى في الدلائل 6/ 334 من طريق العلاء بن عبد الرحمن به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 67 إلى سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه.
(2)
تفسير مجاهد 606، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 67 إلى عبد بن حميد.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عوفٍ الطائيُّ، قال: ثنا أبو المغيرةِ، قال: ثنا صفوانُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا راشدُ بنُ سعدٍ وعبدُ الرحمنِ بنُ جبيرٍ وشريحُ بنُ عبيدٍ في قولِه: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} قال: أهلُ اليمنِ
(1)
.
آخرُ تفسيرِ سورةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم.
(1)
ذكره القرطبي في تفسيره 16/ 258 عن شريح بن عبيد.
تفسيرُ سورةِ "الفتحِ"
بسم الله الرحمن الرحيم
القولُ في تأويل قوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا
(3)}.
يَعْنى بقولِه تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} . يقولُ: إنا حَكَمْنا لك يا محمدُ حُكمًا يَبِينُ
(1)
لمن سَمِعه أو بَلَغه، على مَن خَالَفَك وناصَبَك مِن كفارِ قومِك، وقَضَيْنا لك عليهم بالنصرِ والظَّفَرِ، لتَشْكُرَ ربَّك، وتَحْمَدَه على نعمتِه بقضائِه لك عليهم، وفتحِه ما فتَح لك، ولتُسَبِّحَه وتَسْتَغْفِرَه، فيَغْفِرَ لك بفِعالِك ذلك ربُّك، ما تقَدَّم مِن ذنبِك قبلَ فتحِه لك ما فتَح، وما تأخَّر بعدَ فتحِه لك ذلك، ما شَكَرْتَه واسْتَغْفَرْتَه.
وإنما اخْتَرْنا هذا
(2)
القولَ في تأويلِ هذه الآيةِ؛ لدَلالةِ قولِ اللهِ عز وجل: {ذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)} [النصر:1 - 3]. على صحتِه، إذ أمَرَه تعالى ذكرُه أن يُسَبِّحَ بحمدِ ربِّه إذا جاءه نصرُ اللهِ وفتحُ مكةَ، وأن يَسْتَغْفِرَه
(3)
، وأعْلَمه أنه توابٌ على مَن فعَل ذلك. ففى ذلك بيانٌ واضحٌ أن قولَه تعالى ذكرُه:
(1)
سقط من: م.
(2)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ت 3.
(3)
في م: "يستغفروه".
{لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} . إنما هو خيرٌ من اللهِ جلَّ ثناؤُه نبيَّه عليه الصلاة والسلام عن جزائِه له على شكرِه له على النعمةِ التي أنْعَم بها عليه، من إظهارِه له ما فتَح؛ لأن جزاءَ اللهِ تعالى عبادَه على أعمالِهم دونَ غيرِها.
وبعدُ، ففى صحةِ الخبرِ عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يَقومُ حتى تَرِمَ قدماه، فقيل له: يا رسولَ اللهِ، تَفْعَلُ هذا وقد غُفِر لك ما تقَدَّم مِن ذنبِك وما تأخَّر؟ فقال:"أفلا أكُونُ عبدًا شَكورًا؟ "
(1)
. الدَّلالُة الواضحةُ على أن الذي قلنا من ذلك هو الصحيحُ مِن القولِ، وأن الله تبارك وتعالى إنما وعَد نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم غفرانَ ذنوبِه المتقدمةِ فَتْحَ ما فَتَح عليه، وبعده، على شكرِه له على نِعَمِه التي أَنْعَمَها عليه.
وكذلك كان يقولُ صلى الله عليه وسلم: "إنى لأَسْتَغْفِرُ اللهِ وأتوبُ إليه في كلِّ يومٍ مائةَ مرةٍ"
(2)
. ولو كان القولُ في ذلك أنه مِن خبرِ اللهِ تعالى ذكرُه نبيَّه أنه قد غفَر له ما تقَدَّم من ذنبِه وما تأخَّر، على غيرِ الوجهِ الذي ذكَرْنا، لم يَكُنْ لأمرِه إياه بالاستغفارِ بعدَ هذه الآيةِ، ولا لاستغفارِ نبيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم ربَّه جل جلاله مِن ذنوبِه بعدَها - معنًى يُعْقَلُ؛ إذ الاستغفارُ معناه طلبُ العبدِ مِن ربِّه عز وجل غفرانَ ذنوبِه، فإذا لم يَكُنْ ذنوبٌ تُغْفَرُ، لم يَكُنْ لمسألتِه إياه غفرانَها معنًى؛ لأنه من المُحالِ أن يُقالَ: اللهمَّ اغْفِرْ لى ذنبًا لم أَعْمَلُه.
وقد تأوَّل ذلك بعضُهم بمَعْنى: ليَغْفِرَ لك ما تقدَّم مِن ذنبِك قبلَ الرسالةِ، وما تأخَّر إلى الوقتِ الذي قال: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ الله
(1)
أخرجه الطيالسى (728)، والبخارى (1130، 4836، 6471)، ومسلم (2819)، وغيرهما من حديث المغيرة بن شعبة، وأخرجه مسلم (2820) من حديث عائشة.
(2)
أخرجه أحمد (29/ 390، 391 (17847، 17848)، ومسلم (2702)، من حديث الأغر المزنى.
مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّر}.
وأما الفتحُ الذي وعَد الله جلَّ ثناؤُه نبيَّه صلى الله عليه وسلم هذه العِدَةَ على شكرِه إياه عليه، فإنه - فيما ذُكِر - الهُدْنةُ التي جَرَتْ بينَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم [ومشركى]
(1)
قريشٍ بالحُدَيْبِيَةِ.
وذُكِر أن هذه السورة أُنْزِلَت على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُنْصَرَفَه عن الحُدَيْبِيَةِ، بعدَ الهدنةِ التي جَرَتْ بينَه وبينَ قومِه.
وبنحوِ الذي قلنا في معنى قولِه: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} . قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} . قال: قضَيْنا لك قضاءً مبينًا
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} : والفتحُ القضاءُ.
ذكرُ الروايةِ عمَّن قال: نزَلَت هذه السورةُ على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في الوقتِ الذي ذَكَرْتُ
حدَّثنا حُميدُ بنُ مَسْعَدةَ، قال: ثنا بشرُ بنُ المفضلِ، قال: ثنا داودُ، عن عامرٍ:{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} . قال: الحُدَيْبِيَةَ
(3)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى
(1)
في م: "وبين مشركى".
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 225 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 69 إلى عبد بن حميد.
(3)
أخرجه ابن سعد 2/ 104 من طريق داود به نحوه.
الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللهِ:{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} . قال: نَحْرَه بالحُديبِيَةِ وحَلْقَه
(1)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ اللهِ بن بَزِيعٍ، قال: ثنا أبو بَحْرٍ، قال: ثنا شعبةُ، قال: ثنا جامعُ بنُ شَدَّادٍ، عن عبدِ الرحمنِ بن أبى عَلْقمةَ، قال: سمِعْتُ عبدَ اللهِ بنَ مسعودٍ يقولُ: لمَّا أَقْبَلْنا مِن الحُدَيبيَةِ أَعْرَسْنا فنِمْنا، فلم نَسْتَيْقِظْ إلا بالشمسِ قد طَلَعَتْ، فاسْتَيْقَظْنا ورسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نائمٌ. قال: فقلْنا: أهْضِبُوا
(2)
. فاسْتَيْقَظ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقال: "افْعَلوا كما كنتم تَفْعَلون، فكذلك مَن نام أو نسِى". قال: وفَقَدْنا ناقةَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فوَجَدْناها قد تَعَلَّق خِطامُها بشجرةٍ، فأَتَيْتُه بها، فركِب، فبَيْنا نحن نَسيرُ إذ أتاه الوحيُ. قال: وكان إذا أتاه اشْتَدَّ عليه، فلَمَّا سُرِّي عنه أَخْبَرنا أنه أُنزِل عليه:{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا}
(3)
.
حدَّثنا أحمدُ بنُ المِقْدامِ، قال: ثنا المعتمرُ، قال: سمِعْتُ أبى يُحَدِّثُ، عن قتادةَ، عن أنسِ بن مالكٍ، قال: لما رجَعْنا مِن غزوةِ الحديبيةِ وقد حِيل بينَنا وبينَ
(1)
تفسير مجاهد ص 607، وأخرجه ابن سعد 2/ 104 من طريق ابن جريج، عن مجاهد، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 69 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
في م: "أيقظوه"، وفى ت 2:"اقضوه"، وفى ت 3:"افضوا".
وأهضِبوا: تَكَلَّموا وامْضُوا. يقال: هَضَب في الحديث وأهْضَبَ. إذا انْدَفَع فيه. كرِهوا أن يوقظوه، فأرادوا أن يستيقظ بكلامهم. ينظر النهاية 5/ 265.
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 309 عن المصنف، وأخرجه الطيالسى (375)، وابن أبي شيبة 2/ 64، 14/ 161، 453، 454، وأحمد 6/ 170، 7/ 426، 427 (3657، 4421)، والبخارى في الكبير 5/ 251، وأبو داود (447)، والنسائى في الكبرى (8853)، والطبرانى (10549)، والبيهقى 2/ 218 من طريق شعبة به، وأخرجه الطبراني (10549، 10549)، والبيهقى في الدلائل 4/ 155 من طريق جامع ابن شداد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 68 إلى ابن مردويه.
نُسُكِنا. قال: فنحن بينَ الحزنِ والكآبةِ. قال: فأنْزَل اللهُ عز وجل: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} . أو كما شاء اللهُ، فقال نبيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"لقد أُنْزِلَتْ عليَّ آيةٌ أَحَبُّ إليَّ مِن الدنيا جميعًا"
(1)
.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا ابن أبى عدى، عن سعيدِ بن أبى عَروبةَ، عن قتادةَ، عن أنسِ بن مالكٍ في قولِه:{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} . قال: نزَلَت على النبيِّ صلى الله عليه وسلم مَرْجِعَه من الحديبيةِ، وقد حِيل بينَهم وبينَ نسكِهم، فنَحَر الهَدْىَ بالحديبيةِ، وأصحابُه مُخالِطو الكآبةِ والحزنِ، فقال:"لقد أُنْزِلَت عليَّ آيةٌ أحَبُّ إلىَّ مِن الدنيا جميعًا". فقرَأ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّر} إلى قولِه: {عَزِيزًا} . فقال أصحابُه: هَنيئًا لك يا رسولَ اللهِ، قد بيَّن اللهُ لنا ماذا يَفْعَلُ بك، فماذا يَفْعَلُ بنا؟ فأنْزَل اللهُ هذه الآيةَ بعدَها:{لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} إلى قولِه: {وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا}
(2)
.
حدَّثنا ابن المثنى، قال: ثنا أبو داودَ، قال: ثنا همامٌ، قال: ثنا قتادةُ، عن أنسٍ قال: أُنزِلَت هذه الآيةُ. فذكَر نحوَه
(3)
.
(1)
أخرجه مسلم (1786)، والواحدى في أسباب النزول ص 285 من طريق المعتمر به.
(2)
أخرجه أحمد 20/ 452 (13246)، ومسلم (1786)، وأبو يعلى (3202)، وابن حبان (370)، والبيهقى 9/ 222 من طريق سعيد بن أبى عروبة به.
(3)
أخرجه مسلم (1786) عن ابن المثنى به، وأخرجه البيهقى في الدلائل 4/ 158، والواحدى في أسباب النزول ص 285، 286، والبغوى في تفسيره 7/ 295 من طريق همام به.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، عن أنسٍ بنحوِه، غيرَ أنه قال في حديثِه: فقال رجلٌ مِن القومِ: هَنيئًا لك مريئًا يا رسولَ اللهِ. وقال أيضًا: فبيَّن اللهُ ماذا يَفْعَلُ بنبيِّه عليه الصلاة والسلام، وماذا يَفْعَلُ بهم
(1)
.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ، قال: نزَلَت على النبيِّ صلى الله عليه وسلم: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} . مَرْجِعَه مِن الحديبيةِ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"لقد نزَلَتْ عليَّ آيةٌ أحبُّ إلىَّ مما على الأرضِ". ثم قرَأها عليهم، فقالوا: هَنيئًا مَريئًا يا نبيَّ اللهِ، قد بيَّن اللهُ تعالى ذكرُه لك ماذا يَفْعَلُ بك، فماذا يَفْعَلُ بنا؟ فنزَلَت عليه:{لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} . إلى قولِه: {فَوْزًا عَظِيمًا}
(2)
.
حدَّثنا ابن بشارٍ وابنُ المثنى، قالا: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن قتادةَ، عن عكرمةَ، قال: لما نزَلَت هذه الآيةُ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} . قالوا: هَنيئًا مريئًا لك يا رسولَ اللهِ، فماذا لنا؟ فنزَلَت:{لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ}
(3)
.
(1)
أخرجه أبو يعلى (2932، 3204)، والواحدى في أسباب النزول ص 286، من طريق يزيد به.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 225 - ومن طريقه الترمذى (3263) - عن معمر، عن قتادة، عن أنسٍ.
(3)
أخرجه أحمد 20/ 176،177 (12779)، والبخارى (4172)، وأبو يعلى (3252)، والبيهقى 9/ 222، وفى الدلائل 4/ 157، 158 من طريق شعبة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 71 إلى سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن مردويه.
حدَّثنا محمدُ بنُ المثنى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، قال: سمِعْتُ قتادةَ يُحَدِّثُ عن أنسٍ في هذه الآيةِ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} ، قال: الحديبيةَ
(1)
.
حدَّثنا ابن المثنى، قال: ثنا يحيى بنُ حمادٍ، قال: ثنا أبو عَوانةَ، عن الأعمشِ، عن أبي سفيانَ، عن جابرٍ، قال: ما كنا نَعُدُّ فتحَ مكةَ إلا يومَ الحديبيةِ
(2)
.
حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا يَعْلَى بنُ عُبيدٍ، عن عبدِ العزيزِ بن سِياهٍ، عن حَبيبِ بن أبي ثابتٍ، عن أبي وائلٍ، قال: تكَلَّم سهلُ بنُ حُنَيْفٍ يومَ صِفِّينَ، فقال: أيُّها الناسُ اتَّهِموا أنفسَكم، لقد رَأيْتُنا يومَ الحديبيةِ - يَعْنى الصلحَ الذي كان بينَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وبينَ المشركين - ولو نَرَى قتالًا لَقاتَلْنا، فجاء عمرُ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسولَ اللهِ، ألسْنا على حقٍّ وهم على باطلٍ؟ أليس قَتْلانا في الجنةِ وقَتْلاهم في النارِ؟ قال:"بلى". قال: ففِيمَ نُعْطِى الدَّنِيَّةَ في دينِنا، ونَرْجِعُ ولَمَّا يَحْكُمِ اللهُ بينَنا وبينَهم؟ فقال:"يا بنَ الخطابِ، إنى رسولُ اللهِ، ولن يُضَيِّعَنى أبدًا". قال: فرجَع وهو مُتَغَيِّظٌ، فلم يَصْبِرْ حتى أتَى أبا بكرٍ، فقال: يا أبا بكرٍ، ألَسْنا على حقٍّ وهم على باطلٍ؟ أليس قَتلانا في الجنةِ وقَتلاهم في النارِ؟ قال: بلى. قال: ففيمَ نُعْطِى الدنيةَ في دينِنا، ونَرْجِعُ ولمَّا يَحْكُمِ اللهُ بينَنا وبينَهم؟ فقال: يا بن الخطابِ، إنه رسولُ اللهِ، لن يُضَيِّعَه اللهُ أبدًا. قال: فنزَلَت سورةُ (الفتحِ)،
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة 14/ 429، والبخارى (4834)، والبيهقى في الدلائل 4/ 157، من طريق محمد بن جعفر به، وأخرجه ابن سعد 2/ 104، وأبو يعلى (3253) من طريق شعبة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 68 إلى ابن مردويه.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 307 عن الأعمش به.
فأَرْسَل رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلى عمرَ، فأقْرَأه إياها، فقال: يا رسولَ اللهِ، أو فتحٌ هو؟ قال:"نعم"
(1)
.
حدَّثني يحيى بنُ إبراهيمَ المسعوديُّ، قال: ثنا أبى، عن أبيه، عن جدِّه، عن الأعمشِ، عن أبي سفيانَ، عن جابرٍ، قال: ما كنا نَعُدُّ الفتحَ إلا يومَ الحديبيةِ.
حدَّثنا ابن وكيعٍ، قال: ثنا أبى، عن إسرائيلَ، عن أبي إسحاقَ، عن البراءِ قال: تَعُدُّون أنتم الفتحَ فتْحَ مكةَ، وقد كان فتْحُ مكةَ فتحًا، ونحن نَعُدُّ الفتحَ بيعةَ الرضوانِ يومَ الحديبيةِ، كنا مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم [خمسَ عشرةَ]
(2)
مائةً. والحديبيةُ بئرٌ
(3)
.
حدَّثني موسى بنُ سهلٍ الرَّمْليُّ، ثنا محمدُ بنُ عيسى، قال: ثنا مُجَمِّعُ بنُ يعقوبَ الأنصاريُّ، قال: سَمِعْتُ أبى يُحَدِّثُ، عن عمِّه عبدِ الرحمنِ بن يزيدَ، عن عمِّه مُجَمِّعِ بن جاريةَ الأنصاريِّ، وكان أحدَ القُرَّاء الذين قرَءوا القرآنَ، قال: شَهِدْنا الحديبيةَ مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فلمَّا انْصَرَفْنا عنها، إذا الناسُ يَهُزُّون الأباعِرَ، فقال بعضُ الناسِ لبعضٍ: ما للناس؟ قالوا: أُوحِى إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: {إِنَّا فَتَحْنَا
(1)
أخرجه أحمد 25/ 348،349 (15975) والبخارى (4844)، والنسائى في الكبرى (11504)، والبيهقى 9/ 222، 223 من طريق يعلى بن عبيد به. وأخرجه ابن أبي شيبة 14/ 438، 439، 15/ 317 - 319، ومسلم (1785)، والطبرانى (5604) (6/ 109 من طريق عبد العزيز بن سياه به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 79 إلى ابن مردويه.
(2)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ت 3. وفى مصادر التخريج، عدا طبقات ابن سعد: (أربع عشرة).
(3)
أخرجه أحمد (30/ 532، 533، 613 (18563، 18564، 18671) عن وكيع به، وأخرجه البخارى (4150)، وابن حبان (4801)، والبغوى في شرح السنة (3801)، والبيهقى 9/ 223 من طريق إسرائيل به، وأخرجه ابن سعد في الطبقات 2/ 105 من طريق أبى إسحاق به مختصرًا، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 68 إلى ابن مردويه.
لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ}. فقال رجلٌ: [وفتْحٌ]
(1)
هو يا رسولَ اللهِ؟ قال: (نعم، والذي نفسى بيدِه، إنه لَفتحٌ). قال: فقُسِّمَت خيبرُ على أهلِ الحديبيةِ، لم يَدْخُلْ معهم فيها أحدٌ إلا مَن شَهِد الحديبيةَ، وكان الجيشُ ألفًا وخمسَمائةٍ، فيهم ثلاثُمائةِ فارسٍ، فقسَّمها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم على ثمانيةَ عشَرَ سهمًا، فأعْطَى الفارسَ سهمين، وأعْطَى الراجلَ سهمًا
(2)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا جَريرٌ، عن مغيرةَ، عن الشعبيِّ، قال: نزَلَت: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} . بالحديبيةِ، وأصاب في تلك الغزوةِ ما لم يُصِبْ
(3)
في غَزوةٍ؛ أصاب أن بويِع بَيعةَ الرضوانِ، وغُفِر له ما تقَدَّم من ذنبِه وما تأخَّر، وظهَرَت الرومُ على فارسَ، وبلَغ الهَدْىُ مَحِلَّه، وأُطْعِموا نخلَ خيبرَ، وفرِح المؤمنون بتصديقِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وبظهورِ الرومِ على فارسَ
(4)
.
وقولُه تعالى: {وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} . بإظهارِه إياك على عدوِّك، ورفعِه ذكرَك في الدنيا، وغفرانِه ذنوبَك في الآخرةِ، {وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} .
(1)
في م: (أو فتح). وهو موافق لبعض مصادر التخريج. والمثبت من سائر النسخ موافق لما في مسند أحمد.
(2)
أخرجه أبو داود (2736)، والحاكم 2/ 131، والبيهقى 6/ 325، وفى الدلائل 4/ 239 من طريق محمد بن عيسى به، وأخرجه ابن سعد 2/ 105، وابن أبي شيبة 14/ 437، 438، وأحمد 24/ 212،213 (15470)، والدارقطنى 4/ 105، 106 من طريق مجمع بن يعقوب به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 68 إلى ابن مردويه.
(3)
في م: "يصبه".
(4)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 225، والبيهقى في الدلائل 4/ 162، 163 من طريق مغيرة به، وأخرجه سعيد بن منصور - كما في الفتح 7/ 442 - من طريق الشعبى، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 68 إلى ابن المنذر.
يقولُ: ويُرْشِدَك طريقًا من الدين لا اعْوِجاجَ فيه، يَسْتَقِيمُ بك إلى رضا ربِّك، {وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا}. يقولُ: ويَنْصُرَك الله على سائرِ أعدائِك ومَن ناوَاك، نصرًا لا يَغْلِبُه غالبٌ ولا يَدْفَعُه دافع؛ للبأسِ الذي يُؤَيِّدُك الله به، وبالظَّفَرِ الذي يَمُدُّك به.
القولُ في تأويل قولِه تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا
(4)}.
يعنى جلَّ ذكرُه بقوله: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ} : الله الذي
(1)
أَنْزَل السكون والطُّمأنينةَ في قلوب المؤمنين بالله ورسوله، إلى الإيمان والحقِّ الذي بعَثَك الله به يا محمدُ.
وقد مضَى ذكرُ اختلافِ أهلِ التأويلِ في معنى السكينة قبلُ، والصحيح من القولِ في ذلك، بالشواهد المُغنِيَة عن إعادتها في هذا الموضع
(2)
.
{لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} . يقولُ: ليَزْدادوا بتصديقهم بما جدَّد
(3)
الله من الفرائض التي ألْزَمَهموها، التي لم تَكُنْ لهم لازمةً، إيمانًا
(4)
{مَعَ إِيمَانِهِمْ} . يقولُ: ليَزْدادوا إلى إيمانهم بالفرائض التي كانت لهم لازمةً قبل ذلك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ
(1)
سقط من: م، ت 1.
(2)
ينظر تقدم في 4/ 467 - 472.
(3)
في ص، ت 1، ت،2، ت 3:"حدد".
(4)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ت 3.
في قوله: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ} . قال: السكينةُ الرحمةُ، {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ}. قال: إن الله جلَّ ثناؤُه بعَث نبيَّه صلى الله عليه وسلم بشهادةِ ألا إلهَ إلا اللهُ، فَلَمَّا صدَّقوا بها زادَهم الصلاةَ، فلمَّا صدَّقوا بها زادَهم الصيامَ، فلمَّا صدَّقوا به زادهم الزكاةَ، فلما صدَّقوا بها زادهم الحجَّ، ثم أكْمَل لهم دينَهم فقال:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: 3]. قال ابن عباسٍ: فأَوْثَقُ إيمانِ أهلِ الأرضِ وأهل السماواتِ، وأصْدَقُه وأكملُه، شهادةُ ألا إله إلا الله
(1)
.
وقولُه: {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} . يقولُ تعالى ذكرُه: ولله جنودُ السماواتِ والأرض أنصارٌ، يَنْتَقِمُ بهم ممن يَشاءُ مِن أعدائه، {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا}. يقولُ تعالى ذكرُه: ولم يَزَلِ اللهُ ذا عِلمٍ بما هو كائنٌ قبل كونه، وما خَلْقُه عامِلوه، حكيمًا في تدبيره.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: إنا فتَحْنا لك فتحًا مبينًا؛ لتَشْكُر ربَّك وتَحْمَدَه على ذلك، فيَغْفِرَ لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر، وليَحْمَدَ ربَّهم المؤمنون بالله، ويَشْكُروه على إنعامه عليهم بما أنْعَم به عليهم، من الفتح الذي فتَحَه وقضاه بينَهم وبينَ أعدائهم من المشركين، بإظهاره إياهم عليهم - فيُدْخِلَهم بذلك جناتٍ تَجْرِى مِن تحتها الأنهارُ
(1)
أخرجه الطبراني في الكبير (13028)، والبيهقى في الدلائل 4/ 168، من طريق عبد الله بن صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 71 إلى ابن المنذر وابن مردويه.
ماكثين فيها إلى غير نهايةٍ، ولِيُكَفِّرَ عنهم سيِّئَ أعمالهم، بالحسناتِ التي يَعْمَلونها شكرًا منهم لربِّهم على ما قضَى لهم، وأنْعَم عليهم به، {وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا}. يقولُ تعالى ذكرُه: وكان ما وعدهم الله
(1)
من هذه العِدَةِ؛ وذلك إدخالُهم جناتٍ تَجْرى من تحتها الأنهارُ، وتكفيرُه سيئاتِهم بحسناتِ أعمالِهم التي يَعْمَلونها - عندَ اللهِ، لهم، {فَوْزًا عَظِيمًا}. يقولُ: ظَفَرًا منهم بما كانوا تأمَّلوه ويَسْعَوْن له، ونجاةً مما كانوا يَحْذَرونه
(2)
من عذاب الله، عظيمًا.
وقد تقَدَّم ذكرُ الرواية أن هذه الآية نزَلَت لمَّا قال المؤمنون الرسول الله صلى الله عليه وسلم إذ
(3)
تلا عليهم قولَ الله عز وجل: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} -: هذا لك يا رسول الله، فماذا لنا؟ تَبْيينًا من الله لهم ما هو فاعلٌ بهم.
حدَّثنا عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباس في قوله:{لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} . إلى قوله: {وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} : فأَعْلَم الله سبحانه نبيَّه عليه الصلاة والسلام
(4)
.
قوله: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} . على اللام من قوله: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ} . بتأويل تكرير الكلام: إنَّا فَتَحْنا لك فتحًا مُبِينًا ليَغْفِرَ لك الله، إنا فتَحْنا لك ليُدْخِلَ المؤمنين والمؤمنات جناتٍ تَجْرِى مِن تحتها الأنهارُ. ولذلك لم تَدْخُل الواوُ التي تَدْخُلُ في الكلام للعطف، فلم يَقُلْ: ولِيُدْخِلَ المؤمنين.
(1)
بعده في م: "به".
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"يجدونه".
(3)
في م، ت 2، ت 3:"أو".
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 38 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه، بلفظ: "
…
فأعلم الله سبحانه نبيه ما يفعل به وبالمؤمنين جميعًا".
يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه صلى الله عليه وسلم: إنا فتَحْنا لك فتحًا مبينًا ليَغْفِرَ لك الله، ولِيُدْخِلَ المؤمنين والمؤمنات جناتٍ تَجْرِى مِن تحتها الأنهارُ، ولِيُعَذِّبَ المنافقين والمنافقات، بفتح
(1)
الله لك يا محمدُ ما فتَح لك، من نصرك على مشركي قريش، فيُكْبَتوا
(2)
لذلك ويَحْزَنوا، ويُخَيِّبَ رجاءَهم
(3)
الذي كانوا يَرْجُونَ مِن رؤيتهم في أهلِ الإيمانِ بك مِن الضعفِ والوَهْنِ والتولِّى عنك في عاجل الدنيا، وصليِّ النار والخلودِ فيها في أجل الآخرةِ، {وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ}. يقولُ: ولِيُعَذِّبَ كذلك أيضًا المشركين والمشركاتِ، الظَّانِّينَ باللهِ أنه لن يَنْصُرَك وأهل الإيمان بك على أعدائك، ولن يُظْهِرَ كلمتَه فيَجْعَلَها العليا على كلمة الكافرين به، وذلك كان السَّوءَ مِن ظُنونهم التي ذكَرها الله تعالى ذكرُه في هذا الموضعِ. يقولُ تعالى ذكرُه: على المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الذين ظنُّوا هذا الظَّنَّ، {دَائِرَةُ السَّوْءِ}. يعني: دائرةُ العذابِ تَدُورُ عليهم به.
واختَلَفَت القرأةُ في قراءة ذلك؛ فقرأته عامةُ قرأة الكوفة: {دَائِرَةُ السَّوْءِ} بفتح السين
(4)
. وقرأه بعضُ قرأة البصرة: (دائرةُ السُّوء) بضمِّ السين
(5)
.
(1)
في ت 2، ت 3:"يفتح".
(2)
في ص، ت 1:"فيكتئبون".
(3)
في م: "رجاؤهم"، وفي ت 1:"رجالهم".
(4)
وهى قراءة نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي. ينظر السبعة لأبي مجاهد ص 603.
(5)
وهى قراءة ابن كثير وأبي عمرو. المصدر السابق.
وكان الفَرَّاءُ يقولُ
(1)
: الفتحُ أفْشَى في السين. قال: وقلما تقولُ العربُ: دائرةُ السُّوء. بضَمِّ السين، والفتحُ في السين أعْجَبُ إليَّ مِن الضَّمِّ؛ لأن العرب تقولُ: هو رجلُ سَوْءٍ. بفتح السينِ، ولا تقولُ: هو رجلُ سُوءٍ.
وقولُه: {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} . يقولُ: ونالهم الله بغضب منه، {وَلَعَنَهُمْ}. يقولُ: وأبْعَدهم فأقْصاهم من رحمته، {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ}. يقولُ: وأعَدَّ لهم جهنمَ يَصْلَوْنها يومَ القيامةِ، {وَسَاءَتْ مَصِيرًا}. يقولُ: وساءَت جهنمُ مَنْزِلًا يَصِيرُ إليه هؤلاء المنافقون والمنافقاتُ والمشركون والمشركاتُ.
وقولُه: {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} . يقولُ جلَّ ثناؤُه: ولله جنودُ السماوات والأرض أنصارًا على أعدائه، إن أمرهم بإهلاكهم أهْلكوهم، وسارَعوا إلى ذلك بالطاعة منهم له، {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا}. يقولُ تعالى ذكرُه: ولم يَزَلِ الله ذا عزةٍ، لا يَغْلِبُه غالبٌ، ولا يَمْتَنِعُ عليه مما أراده به مُمتنعٌ؛ لعِظَمِ سلطانِه وقدرتِه، حكيمٌ في تدبيرِه خلقَه.
القولُ في تأويل قولِه تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8)[لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ]
(2)
بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9)}.
يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: إنَّا أَرْسَلْناك يا محمدُ شاهدًا على أُمَّتِك بما أجابوك فيما دَعَوْتَهم إليه، مما أرْسَلْتُك به إليهم من الرسالة، ومُبشِّرًا لهم بالجنة إن أجابوك إلى ما دَعَوْتَهم إليه من الدين القيِّمِ، ونذيرًا لهم عذابَ اللهِ، إن هم تَوَلَّوْا عما
(1)
معاني القرآن 3/ 65.
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"ليؤمنوا بالله ورسوله ويعزروه ويوقروه ويسبحوه". وهما قراءتان، سيأتي تخريجهما في الصفحة التالية.
جئْتَهم به مِن عندِ ربِّك.
ثم اختَلَفت القَرَأَةُ في قراءة قوله: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ} . فقرَأ جميعَ ذلك عامةُ قرأة الأمصار خلا أبي جعفرٍ المَدَنيِّ وأبي عمرو بن العلاء بالتاءِ: {لِتُؤْمِنُوا} ، {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ}
(1)
. بمعنى: لتُؤْمنوا بالله ورسوله أنتم أيُّها الناسُ. وقرأ ذلك أبو جعفرٍ وأبو عمرٍو كلَّه بالياء: (ليُؤمنوا)، (ويُعَزِّرُوه ويُوَقِّرُوه ويُسَبِّحُوه)
(2)
بمعنى: إنا أَرْسَلْناك شاهدًا إلى الخلقِ ليُؤْمِنوا بالله ورسولِه ويُعَزِّروه.
والصوابُ مِن القولِ في ذلك أن يقالَ: إنهما قراءتان معروفتان صحيحتا المعنى، فبأيتِهما قرَأ القارئُ فمصيبٌ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} . يقولُ: شاهدًا على أمته على أنه قد بلَّغهم، ومُبَشِّرًا بالجنةِ لمن أطاع الله، ونذيرًا مِن النارِ
(3)
.
وقولُه: [(ويُعَزِّرُوه ويُوَقِّرُوه)]
(4)
. اخْتَلَف أهلُ التأويل في تأويله؛ فقال
(1)
وهى قراءة نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي ويعقوب وخلف، وبالتاء أيضًا قرأ أبو جعفر خلافا لما ذكر المصنف. ينظر النشر 2/ 280، وتقريب النشر ص 174.
(2)
وبها قرأ ابن كثير. النشر 2/ 280. وقراءة أبي جعفر بالياء، ذكرها عنه أبو حيان في البحر المحيط 8/ 91، وليست متواترة عنه.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 71 إلى المصنف وعبد بن حميد.
(4)
في م: "وتعزروه وتوقروه". وأثبتناه بالياء في هذا الموضع والمواضع بعده، إذ جاءت كلها بالياء في جميع النسخ.
بعضُهم: [يُجِلُّوه ويُعَظِّموه]
(1)
.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:(ويُعَزِّرُوه). يعنى: الإجلالَ. (ويُوَقِّرُوه). يعنى: التعظيمَ
(2)
.
حُدِّثْتُ عن الحسين، قال: سَمِعْتُ أبا مُعاذٍ يقولُ: أخبرنا عُبيدٌ، قال: سَمِعْتُ الضحاكَ يقولُ في قوله: (ويُعَزِّرُوه ويُوَقِّرُوه): كلُّ هذا تعظيمٌ وإجلالٌ
(3)
.
وقال آخرون: معنى قوله: (ويُعَزِّرُوه): ويَنْصُروه، ومعنى:(ويُوَقِّرُوه): ويُفَخِّموه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:(ويُعَزِّرُوه): يَنْصُروه، (ويُوَقِّرُوه): أَمَرَ اللهُ بتَسْوِيدِه وتفخيمه.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ في قولِه:(ويُعَزِّرُوه). قال: يَنْصُروه، (ويُوَقِّروه). أي: ليُعَظِّموه
(4)
.
(1)
في م: "تجلوه وتعظموه".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 71 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
ذكره القرطبي في تفسيره 16/ 267 بنحوه.
(4)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 226 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 71 إلى عبد بن حميد.
حدَّثني أبو هريرةَ الضُّبعيُّ، قال: ثنا حَرَميٌّ، عن شعبةَ، عن أبي بشرٍ جعفر بن أبي وَحْشِيَّةَ، عن عكرمة:(ويُعَزِّزُوه). قال: يُقاتلون معه بالسيف
(1)
.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنى هشيمٌ، عن أبي بشرٍ، عن عكرمةَ، مثلَه.
حدَّثني أحمدُ بنُ الوليدِ، قال: ثنا عثمانُ بنُ عمر، عن سعيدٍ، عن أبي بشرٍ، عن عكرمةَ بنحوِه.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا يحيى ومحمدُ بن جعفرٍ، قالا: ثنا شعبةُ، عن أبي بشرٍ، عن عكرمة مثله.
وقال آخرون: معنى ذلك: ويُعظِّموه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونُسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: (ويُعَزِّرُوه ويُوَقِّرُوه). قال: الطاعةُ لله.
وهذه الأقوالُ متقارباتُ المعانى
(2)
وإن اخْتَلَفت ألفاظُ أهلها بها. ومعنى التَّعْزِيرِ في هذا الموضع التقويةُ بالنُّصرةِ والمعونة، ولا يكونُ ذلك إلا بالطاعة والتعظيم والإجلال.
وقد بَيَّنَّا معنى ذلك بشواهده فيما مضى
(3)
، بما أغْنَى عن إعادته في هذا
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 5/ 1585 (8357) من طريق شعبة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 71 إلى سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
في م: "المعنى".
(3)
ينظر ما تقدم في 8/ 244 - 246.
الموضع.
فأما التوقيرُ فهو التعظيمُ والإجلالُ والتفخيمُ.
وقولُه: (ويُسَبِّحُوه
(1)
بُكرَةً وأصِيلًا). يقولُ: ويُصَلُّوا
(2)
له. يعنى: لله بالغَدَواتِ والعَشِيَّاتِ.
والهاءُ في قوله: (ويُسَبِّحُوه (1)) مِن ذِكْرِ الله وحدَه دونَ الرسولِ. وقد ذُكر أن ذلك في بعض القراءاتِ: (ويُسَبِّحوا الله بُكْرةً وأصِيلًا).
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:(ويُسَبِّحوه بُكْرةً وأصيلًا): في بعض القراءةِ: (ويُسَبِّحوا الله بكرةً وأصيلًا)
(3)
.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ: في بعض الحروفِ: (ويُسَبِّحوا الله بكرةً وأصِيلًا)
(4)
.
حُدِّثْتُ عن الحسين، قال: سمِعْتُ أبا مُعاذٍ يقولُ: أَخْبَرنا عُبيدٌ، قال: سَمِعْتُ الضحاك يقولُ في قولِه: (ويُسَبِّحوه بُكْرة وأصيلًا): يقولُ: يُسبِّحون الله. رجع إلى نفسه
(5)
.
(1)
في م: "تسبحوه".
(2)
في م: "تصلوا"، وفي ت 3:"صلوا".
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 71 إلى المصنف وعبد بن حميد.
(4)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 226 عن معمر به، وعنده "عشيا" بدل "أصيلا".
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 72 إلى المصنف.
القولُ في تأويل قولِه تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)} .
يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: إن الذين يُبايعونَك بالحديبية من أصحابك، على ألا يَفِرُّوا عند لقاءِ العدوِّ، ولا يُوَلُّوهم الأدبارَ، {إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ}. يقولُ: إنما يُبايِعون ببيعتهم إياك الله؛ لأن الله ضمن لهم الجنة بوَفائِهم له بذلك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ قوله:{إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ} . قال: يوم الحديبية
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قوله:{إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} : وهم الذين بايعوا يومَ الحديبية
(2)
.
وفي قوله: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} وجهان من التأويل؛ أحدُهما: يدُ اللهِ فوق أيديهم عند البَيْعة؛ لأنهم كانوا يُبايعون الله ببيعتهم نبيَّه صلى الله عليه وسلم. والآخَرُ: قوةُ الله
(1)
أخرجه سُنيد - كما في التمهيد 16/ 351 - من طريق ابن جريج عن مجاهد، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 72 إلى المصنف والفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 72 إلى المصنف. وعبد بن حميد.
فوقَ قوتِهم في نصرة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم إنما بايَعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على نُصْرَته على العدوِّ
(1)
.
وقولُه: {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} . يقولُ تعالى ذكرُه: فمن نكَث بيعتَه إياك يا محمدُ ونَقَضها، فلم يَنْصُرُك على أعدائك، وخالَف ما وعَد ربَّه، {فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ}. يقولُ: فإنما يَنْقُضُ بيعته؛ لأنه بفعله ذلك يَخْرُجُ ممن وعَدَه الله الجنة بوفائِه بالبيعةِ، فلم يَضُرَّ بنَكْثِه غيرَ نفسِه، ولم يَنْكُثْ إلا عليها، فأما رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فإن الله تبارك وتعالى ناصِرُه على أعدائِه، نكَث الناكثُ منهم أو وفي ببيعتِه.
وقولُه: {وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ} الآية. يقولُ تعالى ذكرُه: ومَن أَوْفَى بما عاهَد الله عليه من الصبر عندَ لقاء العدوِّ في سبيل الله، ونُصرة نبيِّه على أعدائِه، {فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}. يقولُ: فسيُعْطِيه الله ثوابًا عظيمًا، وذلك أن يُدْخِلَه الجنةَ؛ جزاءً له على وفائه بما عاهَد عليه الله، ووَثَّق لرسولِه على الصبرِ معه عند البأس، بالمُؤَكَّدة من الأيمان.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} : وهى الجنةُ.
(1)
قال الحافظ ابن كثير في تفسيره 7/ 312 عند كلامه على هذه الآية: أي هو حاضر معهم يسمع أقوالهم ويرى مكانهم، ويعلم ضمائرهم وظواهرهم، فهو تعالى هو المُبايَع بواسطة رسوله صلى الله عليه وسلم، كقوله:{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ .... } .
يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: سيقولُ لك يا محمدُ الذين خَلَّفَهم الله في أهْلِيهم عن صُحْبَتِك، والخروج معك في سفرك الذي سافَرْتَ، ومسيرك الذي سرْتَ إلى مكة معتمرًا، زائرًا بيتَ الله الحرام - إذا انْصَرَفْتَ إليهم، فعاتَبْتَهم على التخلُّفِ عنك: شغَلَتْنا عن الخروج معك معالجةُ أموالِنا، وإصلاحُ معايشنا، وأهْلونا، فاسْتَغْفِرْ لنا رَبَّك
(1)
لتَخَلُّفِنا عنك. قال الله جلَّ ثناؤُه مُكَذِّبَهم في قيلِهم ذلك: يقولُ هؤلاء الأعرابُ المخلَّفون عنك بألسنتهم ما ليس في قلوبهم. وذلك مسألتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الاستغفارَ لهم. يقولُ: يَسْألونه بغيرِ توبةٍ منهم، ولا ندمٍ على ما سلَف منهم من معصية الله في تخلُّفِهم عن صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسير معه.
{قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} . يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه: قل لهؤلاء الأعراب الذين يَسْألونك أن تَسْتَغْفِرَ لهم لتخلُّفِهم عنك: إن أنا اسْتَغْفَرْتُ لكم أيُّها القومُ، ثم أراد الله هلاكَكم أو هلاكَ أموالِكم وأهليكم، أو أراد بكم نفعًا، بتَثْميره أموالَكم وإصلاحِه لكم أهْلِيكم، فمَن ذا الذي يَقْدِرُ على دفعِ ما أراد الله بكم مِن خيرٍ أو شرٍّ، والله لا يُعازُّه
(2)
أحدٌ، ولا يُغالبُه غالبٌ؟.
وقولُه: {بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} . يقولُ تعالى ذكرُه: ما الأمرُ كما يَظُنُّ هؤلاء المنافقون من الأعراب؛ أن الله لا يَعْلَمُ ما هم [عليه مُنْطَوُون]
(3)
من
(1)
في م: "ربنا".
(2)
يُعَازُّه: يُغالِبه. يقال: عَازَّني فَعَزَزْتُه. أي غالبَنى فغلبتُه. ينظر التاج (ع ز ز).
(3)
في م: "عليها منطوون"، وفى ت 2:"منظرون عليه"، وفى ت 3:"منطوون من غليه".
النفاقِ، بل لم يَزَلِ اللهُ بما يَعْمَلُون مِن خيرٍ وشرٍّ خبيرًا، لا يَخْفَى عليه شيءٌ مِن أعمال خلقه؛ سرِّها وعلانِيَتِها، وهو مُحْصِيها عليهم حتى يُجازِيَهم بها. وكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فيما ذُكِر عنه، حينَ أراد المسيرَ إلى مكة عام الحديبيةِ معتمرًا، اسْتَنْفَر العربَ ومَن حولَ مدينته من أهل البوادى والأعراب، ليَخْرُجوا معه؛ حذرًا من قومه من
(1)
قريشٍ أن يَعْرِضوا له الحربَ أو يَصُدُّوه عن البيت، وأحْرَم هو صلى الله عليه وسلم بالعمرة، وساق معه الهَدْيَ ليَعْلَمَ الناسُ أنه لا يريدُ حربًا، فتَثاقَل عنه كثيرٌ من الأعراب وتخلَّفوا خِلافَه، فهم الذين عَنَى الله تبارك وتعالى بقوله:{سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا} الآية.
وكالذي قلنا في ذلك قال أهلُ العلمِ بسِيَرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم ومَغازيه، منهم ابن إسحاقَ. حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ بذلك
(2)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال ثنا، قال ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قوله:{سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا} . قال: أعراب المدينةِ؛ جُهَينةَ ومُزَيْنةَ، اسْتَتْبَعَهم لخروجه إلى مكةَ، قالوا: نَذْهَبُ معه إلى قومٍ قد جاءوه، فقتَلوا أصحابَه فنُقاتِلُهم
(3)
؟ فاعْتَلُوا بالشُّغْلِ
(4)
.
(1)
سقط من: م.
(2)
سيرة ابن هشام 2/ 308، وأخرجه المصنف في تاريخه 2/ 620.
(3)
في ت 2، ت 3، والدلائل:"فيقاتلهم".
(4)
تفسير مجاهد ص 607، ومن طريقه البيهقى في دلائل النبوة 4/ 164، 165 وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 72 إلى عبد بن حميد، وابن المنذر.
واختَلَفت القرأةُ في قراءةِ قوله: {إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا} . فقرأته قرأةُ المدينة والبصرة وبعضُ قرأةِ الكوفة: {ضَرًّا} بفتح الضادِ
(1)
، بمعنى الضَّرِّ الذي هو خلافُ النفعِ. وقرَأ ذلك عامةُ قرأة الكوفيين:(ضُرًّا) بضمِّ الضادِ
(2)
، بمعنى البُؤْسِ والسُّقْمِ.
وأعْجَبُ القراءتين إليَّ الفتحُ في الضادِ في هذا الموضع؛ لقولِه
(3)
: {أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا} . فمعلومٌ أن خلاف النفعِ الضَّرُ، وإن كانت الأخرى صحيحًا معناها.
القولُ في تأويل قولِه تعالى: {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12)} .
يقولُ تعالى ذكرُه لهؤلاء الأعراب المُعْتَذِرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عندَ مُنْصَرَفه من سفرِه إليهم بقولهم: {شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا} : ما تَخَلَّفْتُم خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم حينَ شخَص عنكم، وقعَدْتُم عن صحبتِه، مِن أجل شغلكم بأموالِكم وأهليكم، بل تخَلَّفْتُم بعدَه في منازلكم، ظنًّا منكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه مِن أصحابه سيَهْلِكون فلا يَرْجِعون إليكم أبدًا، باستئصال العدوِّ إياهم، {وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ}: وحسَّن الشيطانُ ذلك في قلوبكم، وصحَّحه عندكم، حتى حسُن عندكم التخلفُ عنه، فقعَدْتُم عن صحبتِه، {وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ}. يقولُ: وظننتُم أن الله لن ينْصرَ محمدًا وأصحابه المؤمنين على أعدائهم، وأن العدوَّ سيقهَرونهم ويغلبونهم فيقْتلونهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويل.
(1)
وهى قراءة نافع وابن كثير وعاصم وابن عامر وأبي عمرو وأبي جعفر ويعقوب. ينظر النشر 2/ 280.
(2)
وبها قرأ حمزة والكسائي وخلف. المصدر السابق.
(3)
في م، ت 2، ت 3:"بقوله".
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ} إلى قوله: {وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا} . قال: ظنُّوا بنبيِّ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أنهم لن يرجعوا من وجههم ذلك، وأنهم سيَهْلكون، فذلك الذي خلَّفهم عن نبيِّ الله صلى الله عليه وسلم
(1)
.
وقولُه: {وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا} . يقولُ: وكنتم قومًا هَلَكَى لا تَصْلُحون لشيءٍ من الخير.
وقيل: إن البُور في لغةِ [أَزْدِ عُمانَ]
(2)
: الفاسدُ. فأما عند العرب فإنه: لا شيء. ومنه قولُ أبي الدرداءِ: فأَصْبَح ما جمَعوا بُورًا
(3)
. أي: ذاهبًا قد صار باطلًا لا شيءَ منه. ومنه قولُ حسانَ بن ثابتٍ
(4)
:
لا يَنْفَعُ الطُّولُ مِن نُوكِ
(5)
القُلوبِ وقدْ
…
يَهْدِى الإلهُ سبيلَ المَعْشَرِ البُورِ
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا} . قال: فاسدين
(6)
.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 72 إلى المصنف وعبد بن حميد.
(2)
في م: "أذرعات"، وفى ت 2، ت 3:"أردغان". وينظر معاني القرآن للفراء 3/ 66.
(3)
جزء من أثر أخرجه ابن المبارك في الزهد (847)، وابن أبي شيبة 13/ 305، 306، والخطيب في تاريخ بغداد 4/ 96، وأبو نعيم في الحلية 1/ 213، وابن عساكر في تاريخ دمشق 47/ 131 يعظ فيه أبو الدرداء أهل دمشق.
(4)
ديوانه ص 179.
(5)
النُّوك: جمع الأَنْوَك، وهو الأحمق. ينظر اللسان (ن و ك).
(6)
ذكره القرطبي في تفسيره 16/ 269، وابن كثير في تفسيره 7/ 319.
وحدَّثني يونُسُ، قال: أخبرَنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قوله: {وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا} . قال: البُورُ الذي ليس فيه من الخير شيءٌ.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا} . قال: هالِكين
(1)
.
القولُ في تأويل قولِه تعالى: {وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (14)} .
يقولُ تعالى ذكرُه لهؤلاء المنافقين من الأعراب: ومَن لم يُؤْمِنْ أَيُّها الأعرابُ بالله ورسوله منكم ومن غيركم، فيُصَدِّقَه على ما أخْبَر به، ويُقرَّ بما جاء به من الحقِّ من عندِ ربِّه، فإنا أَعْدَدْنا
(2)
لهم جميعًا سعيرًا من النارِ، تَتَسَمَّرُ
(3)
عليهم في جهنمَ إذا ورَدُوها يوم القيامة.
يقالُ من ذلك: سعَرْتُ النارَ، إذا أَوْقَدْتَها، فأنا أَسْعَرُها سَعْرًا. ويقال: سَعَرْتُها أيضًا إذا حرَّكْتَها. وإنما قيل للمسْعَرِ: مسْعَرٌ؛ لأنه يُحَرَّكُ به النارُ، ومنه قولُهم: إنه لمِسْعَرُ حربٍ: يرادُ به مُوقِدُها ومُهَيِّجُها.
وقولُه: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} . يقولُ تعالى ذكرُه: ولله سلطانُ السماواتِ والأرضِ، فلا أحدَ يَقْدِرُ أَيُّها المنافقون على دفعه عما أراد بكم من تعذيبٍ على نفاقِكم إن أصْرَرْتُم عليه، أو منعِه من عفوِه عنكم إن عفا، إن أنتم تُبْتُم من نفاقكم وكفركم.
(1)
تفسير مجاهد ص 608.
(2)
في ت 1، ت 2، ت 3:"أعتدنا".
(3)
في م: "تستعر"، وفى ت 1، ت 3:"يتسعر"، وفى ت 2:"تسعر".
وهذا من الله جلَّ ثناؤُه حثٌّ لهؤلاء الأعراب المتخلِّفين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على التوبة والمراجعة إلى أمر الله، في طاعة رسولِه صلى الله عليه وسلم. يقولُ لهم: بادرُوا بالتوبة من تخلُّفِكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الله يَغْفِرُ للتائبين، {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}. يقولُ: ولم يَزَلِ اللَّه ذا عفوٍ عن عقوبة التائبين إليه من ذنوبِهم ومَعاصِيهم من عباده، وذا رحمةٍ بهم أن يُعاقِبَهم على ذنوبهم بعدَ توبتِهم منها.
يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: سيقولُ يا محمدُ المُخَلَّفون في أهليهم عن صحبتك إذا سِرْتَ معتمرًا تُرِيدُ بيتَ اللَّهِ الحرام، إذا انْطَلَقْتَ أنت ومَن صَحِبك في سفرِك ذلك إلى ما أفاء الله عليك وعليهم من الغَنيمة لتأخُذوها، وذلك ما كان الله وعَد أهلَ الحديبية من غنائمَ خيبرَ: ذرونا نتَّبِعْكم إلى خيبر، فنَشْهَدَ معكم قتال أهلها، {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ} .
يقولُ: يُريدون أن يُغَيِّروا وعدَ اللَّهِ الذي وعَد أهلَ الحديبية، وذلك أن الله جعل غنائمَ خيبرَ لهم، ووعَدَهم ذلك عوضًا من غنائم أهل مكة، إذ
(1)
انْصَرفوا عنهم على صلحٍ، ولم يُصيبوا منهم شيئًا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى
(1)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"إذا".
الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ، قال: رجَع - يعنى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مكةَ، فوعَدَه اللَّهُ مَغانمَ كثيرةً، فعُجِّلت له خيبرُ، فقال المخلَّفون:{ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ} . وهى المغانمُ ليَأْخُذُوها، التي قال الله جلَّ ثناؤُه:{إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا} . وعُرِض عليهم قتالُ قومٍ أُولى بأسٍ شديدٍ
(1)
.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن رجلٍ من أصحابه، عن مِقْسَمٍ، قال: لما وعَدَهم الله أن يَفْتَحَ
(2)
عليهم خيبرَ، وكان الله قد وعَدَها مَن شهد الحديبية، لم يُعْطِ أحدًا غيرَهم منها شيئًا، فلما علم المنافقون أنها الغَنيمةُ قالوا:{ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ} - {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ} . يقولُ: ما وعَدَهم
(3)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة:{سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ} الآية: وهم الذين تخَلَّفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية. ذُكر لنا أن المشركين لما صدُّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية عن المسجد الحرام والهَدْيَ، قال المِقْدادُ: يا نبيَّ الله، إنا واللَّهِ لا نَقولُ كالملا من بنى إسرائيل إذ قالوا لنبيِّهم:{فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24]. ولكن نقولُ: اذْهَبْ أنت وربُّك فقاتلا، إنا معكما مُقاتِلون. فلما سمع ذلك أصحابُ نبيِّ الله صلى الله عليه وسلم تتابَعُوا
(4)
على ما قال، فلمَّا رأى ذلك نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم صالح قريشًا، ورجع من عامه ذلك
(5)
.
(1)
تتمة الأثر المتقدم في ص 257.
(2)
في ت 2، ت 3:"تفتح".
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 226 عن معمر، عن عثمان الجزري، عن مقسم.
(4)
في النسخ: "تبايعوا". والمثبت مما تقدم.
(5)
تقدم تخريجه في 8/ 304.
وقال آخرون: بل عُنى بقوله: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ} . إرادتُهم الخروج مع نبيِّ الله صلى الله عليه وسلم في غزوه، وقد قال الله تبارك وتعالى:{فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا} [التوبة: 83].
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونُسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قوله: {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ} الآية. قال الله له عز وجل حينَ رجَع من غزوه: {فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا} [التوبة: 83] الآية. {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ} . أرادوا أن يُغَيِّروا كلام الله الذي قال لنبيِّه صلى الله عليه وسلم ويَخرُجوا معه، وأبى الله ذلك عليهم ونبيُّه صلى الله عليه وسلم
(1)
.
وهذا الذي قاله ابن زيدٍ قولٌ لا وجه له؛ لأن قولَ اللَّهِ عز وجل: {فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا} [التوبة: 83]. إنما أُنزِل على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُنصَرَفَه مِن تبوك، وعُنى به الذين تخَلَّفوا عنه حينَ توَجَّه إلى تبوكَ لغزو الروم، ولا اختلافَ بينَ أهلِ العلم بمغازى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تبوك كانت بعدَ فتح خيبرَ، وبعدَ فتحِ مكة أيضًا، فكيف يَجوزُ أن يكون الأمرُ على ما وصَفْنا مَعْنيًّا بقولِ اللهِ:{يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ} . وهو خبرٌ عن المتخلِّفين عن المسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ شخَص معتمرًا يُرِيدُ البيتَ، فصدَّه المشركون عن البيت - الذين تخلَّفوا عنه في غزوة تبوكَ، وغزوةُ تبوكَ لم تَكُنْ كانت يومَ نزَلَت هذه الآيةُ، ولا كان أُوحِى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله:{فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا} .
(1)
ذكره البغوي في تفسيره 7/ 302، والقرطبي في تفسيره 16/ 271، وابن كثير في تفسيره 7/ 320.
فإذ كان ذلك كذلك، فالصوابُ مِن القولِ في ذلك ما قاله مجاهدٌ وقتادةُ، على ما قد بيَّنَّا.
واختلفت القرأةُ في قراءة قوله: {يُرِيدُونَ أَن يُبَدَّلُوا كَلَامَ اللهِ} ؛ فقرَأ ذلك عامةُ قرأةِ المدينةِ والبصرةِ، وبعضُ قرأةِ الكوفةِ:{كَلَامَ اللهِ} على وجهِ المصدر بإثباتِ الألفِ
(1)
. وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفة: (كَلِمَ اللهِ) بغير ألفٍ
(2)
، بمعنى جمع كلمةٍ. وهما عندنا قراءتان مستفيضتان في قرأةِ الأمصار، مُتقارِبتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئُ فمصيبٌ، وإن كنتُ إلى قراءته بالألف أَميلَ.
وقوله: {قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ} . يقول تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء المُخَلَّفين عن المسير معك يا محمد: لن تَتَّبعونا إلى خيبرَ إذا أرَدنا السير إليهم لقتالهم، {كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ}. يقولُ: هكذا قال اللهُ لنا مِن قبلِ مَرْجِعِنا إليكم أن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية معنا، ولستُم ممن شهدها، فليس لكم أن تتَّبعونا إلى خيبر؛ لأن غنيمتها لغيركم.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة قوله:{كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ} . أي: إنما جُعِلت الغنيمة لأهل الجهاد، وإنما كانت غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية، ليس لغيرهم فيها نصيبٌ
(3)
.
(1)
وهى قراءة نافع وابن كثير وعاصم وابن عامر وأبي عمرو وأبي جعفر ويعقوب. ينظر النشر 2/ 280.
(2)
وبها قرأ حمزة والكسائى وخلف. المصدر السابق.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 72 إلى المصنف وعبد بن حميد.
وقوله: {فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا} . [يقول تعالى ذكره: فسيقولُ لك ولأصحابك يا محمد هؤلاء المخلَّفون من الأعراب - إذا قلتم لهم: لن تَتَّبعونا إلى الجهاد وقتال العدوِّ بخيبرَ، كذلكم قال اللهُ من قبلُ -: بل تَحْسُدوننا]
(1)
أن نُصيب معكم مغنمًا إن نحن شهدنا معكم؛ فلذلك تمنعوننا من الخروج معكم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونُسُ، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قوله: {فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا} : أن نُصِيبَ معكم غنائم.
وقوله: {بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا} . يقول تعالى ذكره لنبيِّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه: ما الأمر كما يقول هؤلاء المنافقون من الأعراب؛ مِن أنكم إنما تمنَعونهم من اتباعكم حسدًا منكم لهم على أن يُصيبوا
(2)
معكم من العدوِّ مَغْنَمًا، بل كانوا لا يفقَهون عن اللهِ ما لهم وعليهم من أمر الدين، {إِلَّا قَلِيلًا}: يسيرًا، ولو عقَلوا ذلك ما قالوا لرسولِ اللهِ والمؤمنين به وقد أخبروهم عن الله تعالى ذكره أنه حرَمَهم غنائمَ خيبرَ: إنما تمنَعوننا من صحبتكم إليها لأنكم تحسُدُوننا.
القولُ في تأويل قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16)} .
يقول تعالى ذكره لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد للمُخَلَّفين من الأغراب عن
(1)
سقط من: م.
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"نصرا".
المسير معك: ستُدعون إلى قتال قومٍ أُولى بأس في القتال شديدٍ.
واختلف أهل التأويل في هؤلاء الذين أخْبَر اللهُ عز وجل عنهم أن هؤلاء المخلَّفين من الأعراب يُدْعَوْن إلى قتالهم؛ فقال بعضُهم: هم أهل فارس.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عبدِ اللهِ بن أبي نجيح، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس:{أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} : أهل فارسَ
(1)
.
حدَّثنا إسماعيل بن موسى الفَزاريُّ، قال: أخبرنا داودُ بنُ الزِّبْرِقانِ، عن ثابتٍ البنانيِّ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى في قوله:{سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} . قال: فارس والروم
(2)
.
قال: أخبرنا داود، عن سعيدٍ، عن الحسنِ مثلَه.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادة، قال: قال الحسن في قوله: {سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} . قال: هم فارسُ والرومُ
(3)
.
حدثنا محمد بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهدٍ
(1)
سيرة ابن هشام 2/ 320، 321. وأخرجه البيهقى في الدلائل 4/ 166 من طريق على بن أبي طلحة، عن ابن عباس، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 72 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
أخرجه ابن سعد 2/ 115، والبيهقى في الدلائل 4/ 163 من طريق الحكم عن ابن أبي ليلى.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 226 عن معمر به، وهو في تفسير مجاهد ص 608 عن المبارك بن فضالة، عن الحسن، وأخرجه سعيد بن منصور - كما في الدر المنثور 6/ 73 - ومن طريقه البيهقي في الدلائل 4/ 165 عن هشيم، عن منصور، عن الحسن، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 73 إلى ابن المنذر.
قولَه: {أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} . قال: هم فارسُ
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة:{سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} . قال: قال الحسن: دُعُوا إلى فارس والروم.
حدَّثني يونُسُ، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيد في قوله: {سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} . قال: فارس والروم.
وقال آخرون: هم هَوازِنُ بحُنَينٍ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يعقوبُ بن إبراهيمَ، قال: ثنا هشيمٌ، قال: أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن جبيرٍ وعكرمة في قوله:{سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} قال: هَوازِنَ
(2)
.
حدَّثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبيرٍ وعكرمة في هذه الآية:{سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} . قال: هوازنَ وثَقيفٍ.
حدَّثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة:{أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} . قال: هي هَوازِنُ وغَطَفانُ يومَ حُنينٍ
(3)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} : فدُعُوا يومَ حُنينٍ إلى هَوازِنَ وثَقيفٍ،
(1)
تفسير مجاهد ص 608، ومن طريقه البيهقى في الدلائل 4/ 164، 165، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 72 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
أخرجه سعيد بن منصور - كما في الدر المنثور 6/ 73 - ومن طريقه البيهقي في الدلائل 4/ 167 - عن هشيم به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 73 إلى ابن المنذر.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 226 عن معمر به.
فمنهم من أحْسَن الإجابة ورغب في الجهادِ
(1)
.
وقال آخرون: بل هم بنو حنيفة.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ، عن الزهريِّ:{أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} . قال: بنو حَنيفةً مع مُسَيْلِمةَ الكَذَّابِ
(2)
.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا محمد بن جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن هُشَيْم، عن أبي بشرٍ، عن سعيد بن جبيرٍ وعكرمة، أنهما كانا يزيدان فيه هَوازن وبنى حنيفةَ
(3)
.
وقال آخرون: لم تَأْتِ هذه الآية بعد.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الزهري، عن أبي هريرة:{سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} : لم تأتِ هذه الآيةُ
(4)
.
وقال آخرون: هم الرومُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمد بن عوفٍ، قال: ثنا أبو المغيرة، قال: ثنا صَفْوانُ بنُ عمرٍو،
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 72 إلى المصنف وعبد بن حميد.
(2)
سيرة ابن هشام 3/ 321. وأخرجه أحمد في فضائل الصحابة (1517) من طريق سلمة به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 73 إلى ابن المنذر والطبراني.
(3)
أخرجه البيهقى في الدلائل 4/ 167 من طريق محمد بن بشار به.
(4)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 226 عن معمر به.
قال: ثنا الفرج بن محمد الكلاعيُّ، عن كعبٍ، قال:{أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} . قال: الروم
(1)
.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكرُه أخْبَر عن هؤلاء المخلفين من الأعرابِ أنهم سيُدْعَوْن إلى قتال قوم أُولى بأس في القتال، ونجدة في الحروب. ولم يُوضع لنا الدليلُ من خبرٍ ولا عقل على أن المعنى بذلك هَوازن، ولا بنو حنيفةَ، ولا فارسُ، ولا الروم، ولا أعيانٌ بأعيانهم، وجائز أن يكونَ عُنى بذلك بعضُ هذه الأجناس، وجائزٌ أن يكونَ عُنى بهم غيرُهم، ولا قول فيه أصحُّ من أن يقال كما قال الله جلَّ ثناؤه: إنهم سيدعون إلى قوم أُولى بأسٍ شديدٍ.
وقوله: {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} . يقول تعالى ذكره للمخلَّفين من الأعراب: تُقاتِلون هؤلاء الذين تُدْعَوْن إلى قتالهم، أو يُسلمون من غير حرب ولا قتالٍ.
وقد ذكر أن ذلك في بعض القراءاتِ: (تُقاتِلونهم أو يُسْلِموا)
(2)
. وعلى هذه القراءة - وإن كانت على خلافِ مصاحف أهل الأمصار، وخلافًا لما عليه الحجةُ من القرأة، وغير جائزةٍ عندى القراءةُ بها لذلك
(3)
- تأويل ذلك: تُقاتِلونهم أبدًا إلا أن يُسْلِموا، أو: حتى يُسْلِموا.
وقوله: {فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا} . يقول تعالى ذكره: فإن تطيعوا الله في إجابتكم إياه إذا دعاكم إلى قتال هؤلاء القوم الأولى البأس الشديد، فتُجيبوا إلى قتالهم والجهادِ مع المؤمنين، {يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا}. يقولُ:
(1)
ذكره البغوي في تفسيره 7/ 303، والقرطبي في تفسيره 16/ 272، وابن كثير في تفسيره 7/ 320.
(2)
ينظر البحر المحيط 8/ 74.
(3)
في ت 1، ت 2، ت 3:"كذلك".
يُعْطِكم اللهُ على إجابتكم إياه إلى حربهم الجنةَ، وهى الأجرُ الحسنُ، {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ}. يقولُ: وإِن تَعْصُوا ربَّكم؛ فتُدبروا عن طاعته، وتُخالفوا أمره، فتترُكوا قتال الأولى الباسِ الشديد إذا دعيتم إلى قتالهم، {كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ}. يقول: كما عصيتموه في أمره إياكم بالمسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة، من قبل أن تُدْعَوْا إلى قتالِ أُولى البأس الشديد، و {يُعَذَّبَكُمْ} اللهُ {عَذَابًا أَلِيمًا} يعنى: وَجيعًا، وذلك عذابُ النارِ على عِصْيانِكم إياه، وترككم جهادَهم وقتالهم مع المؤمنين.
القول في تأويل قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17)} .
يقول تعالى ذكره: ليس على الأعمى منكم أيُّها الناس ضيقٌ، ولا على الأعرج ضيقٌ، ولا على المريض ضِيقٌ، أن يَتَخَلَّفوا عن الجهاد مع المؤمنين، وشهودِ الحرب معهم إذا هم لقُوا عدوَّهم، للعلل التي بهم، والأسباب التي تمنَعهم من شهودها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ} . قال: هذا كلُّه في الجهاد
(1)
.
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 226 عن معمر به.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، قال: ثم عذَر اللهُ أَهلَ العُذرِ من الناس فقال: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ}
(1)
.
حدَّثني يونُسُ، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قوله: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} . قال: في الجهاد في سبيل الله.
حُدِّثْتُ عن الحسين، قال: سمِعْتُ أبا معاذ يقولُ: أخبرنا عبيدٌ، قال: سمِعْتُ الضحاك يقولُ في قوله: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ} الآية. يعنى: في القتال.
وقوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} . يقولُ تعالى ذكره: ومَن يُطع الله ورسوله فيجيب إلى حرب أعداء الله من أهل الشرك، وإلى القتال مع المؤمنين، ابتغاء وجهِ اللهِ إذا دُعِى إلى ذلك، يُدْخِلْهُ اللهُ يومَ القيامةِ جنَّاتٍ تَجرى من تحتها الأنهارُ، {وَمَنْ يَتَوَلَّ}. يقولُ: ومَن يَعْص الله ورسوله، فيَتَخَلَّفْ عن قتال أهل الشرك باللهِ إذا دُعِى إليه، ولم يَسْتَجِبْ لدعاءِ اللهِ ورسوله، يُعَذِّبه
(2)
عذابًا مُوجِعًا، وذلك عذابُ جهنم يومَ القيامة.
القول في تأويل قوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19)} .
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 72 إلى المصنف وعبد بن حميد.
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"يدخله".
يقول تعالى ذكرُه: لقد رضي الله يا محمد عن المؤمنين بك {إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} . يعنى: بيعةَ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رسول الله بالحديبيةِ حين بايعوه على مُناجزة قريشٍ الحرب، وعلى ألا يَفِرُّوا ولا يُوَلُّوهم الدُّبُرَ {تَحْتَ الشَّجَرَةِ} . وكانت بيعتُهم إياه هنالك فيما ذُكر تحتَ شجرةٍ.
وكان سبب هذه البيعة ما قيل: إن رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم كان أَرْسَل عثمانَ بن عفانَ برسالةٍ إلى الملأِ من قريشٍ، فأبْطَأ عثمان عليه بعض الإبطاءِ، فظنَّ أنه قد قُتِل، فدعا أصحابه إلى تجديد البيعة على حربهم على ما وصفتُ، فبايعوه على ذلك، وهذه البيعةُ التي تُسَمَّى بيعةَ الرِّضوانِ. وكان الذين بايعوه هذه البيعة فيما ذُكر في قول بعضهم ألفًا وأربعمائةٍ. وفى قول بعضهم ألفًا وخمسمائةٍ. وفى قول بعضهم ألفًا وثلاثمائة.
ذكرُ الرواية بما وصفنا مِن سبب هذه البيعة
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن محمد بن إسحاق، قال: ثنى بعضُ أهل العلم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا خراش بن أمية الخُزاعيَّ، فبعثه إلى قريشٍ بمكةَ، وحمله على جملٍ له يقال له: الثعلبُ. ليُبَلِّغَ أشرافهم عنه ما جاء له، وذلك حين نزل الحديبية، فعقروا به جمل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرادوا قتله، فمنَعَتْه الأحابيش، فخلَّوا سبيله، حتى أتى رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم
(1)
.
قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: فحدَّثنى مَن لا أَتَّهِمُ، عن عكرمة مولى ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عمر بن الخطابِ ليَبْعَثَه إلى مكةَ، فيُبَلِّغَ عنه أشرافَ قريشٍ ما جاء له، فقال: يا رسول اللهِ إنى أخافُ قريشًا على نفسى، وليس
(1)
سيرة ابن هشام 2/ 314، وأخرجه المصنف في تاريخه 2/ 631.
بمكةَ من بنى عَدِيٍّ بن كعبٍ أحدٌ يمنعُنى، وقد عرفت قريشٌ عداوتي إياها، وغلظتى عليهم، ولكنى أدلُّك على رجل هو أعزُّ بها مني، عثمان بن عفان. فدعا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عثمان، فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش يُخْبِرُهم أنه لم يَأْتِ لحربٍ، وإنما جاء زائرًا لهذا البيت، مُعَظِّمًا لحرمتِه، فخرج عثمان إلى مكةَ، فلقيه أبانُ بنُ سعيد بن العاص حين دخل مكة أو قبل أن يَدْخُلَها، فنزل عن دابته، فحمله بين يديه، ثم ردفه وأجاره، حتى بلَّغ رسالةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانْطَلَق عثمان حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش، فبلَّغهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أَرْسَله به، فقالوا لعثمان حين فرغ من رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم: إن شئت أن تطوف بالبيتِ فطُفْ به. قال: ما كنتُ لأفعل حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم. فاحْتَبَسَته قريشٌ عندها، فبلغ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم والمسلمين أن عثمان قد قُتِل
(1)
.
قال: ثنا سلمةُ، عن محمد بن إسحاق، قال: فحدَّثني عبدُ اللهِ بنُ أبي بكرٍ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بلغه أن عثمان قد قُتِل، قال:"لا نَبْرَحُ حتى نُناجِزَ القومَ". ودعا الناس إلى البيعةِ، فكانت بيعةُ الرِّضوانِ تحتَ الشجرة، فكان الناس يقولون: بايعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت. فكان جابر بن عبد الله يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبايعنا على الموت، ولكنه بايعنا على ألا نَفِرَّ، فبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم الناسُ، ولم يَتَخَلَّفْ عنه أحدٌ من المسلمين حضرها، إلا الجدُّ بن قيسٍ أخو بني سلمةَ، كان جابرُ بنُ عبدِ اللهِ يقولُ: لَكأنى أَنْظُرُ إليه لاصقًا بإبط ناقتِه، قد اخْتَبَأَ إليها، يَسْتَتِرُ بها من الناسِ، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الذي ذُكِر مِن أمرِ عثمانَ باطلٌ
(2)
.
حدَّثنا محمد بن عُمارة الأسديُّ، قال: ثنا عُبيدُ اللهِ بن موسى، قال: أخبرنا
(1)
سيرة ابن هشام 2/ 315. وأخرجه المصنف في تاريخه 2/ 631.
(2)
سيرة ابن هشام 2/ 315، 316، وأخرجه المصنف في تاريخه 2/ 632، وأخرجه البيهقي في الدلائل 4/ 135 من طريق محمد بن إسحاق به.
موسى بنُ عُبيدةَ، عن إياس بن سلمة، قال: قال سلمةُ: بينما نحن قائلون زمن الحديبية؛ نادى منادى رسول الله صلى الله عليه وسلم أيها الناسُ: البيعةَ البيعةَ، نزل روحُ القدس صلواتُ اللهِ عليه. قال: فتُنا إلى رسول الله الله وهو تحت شجرة سمرة. قال: فبايَعناه، وذلك قولُ اللهِ:{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ}
(1)
.
حدَّثنا عبد الحميد بنُ بَيانِ اليَشْكُريُّ، قال: ثنا محمد بن يزيد، عن إسماعيل، عن عامرٍ، قال: كان أولَ مَن بايع بيعة الرضوانِ رجلٌ مِن بني أسدٍ يقال له: أبو سِنانِ بن وهبٍ
(2)
.
حدَّثنا ابن المثنى، قال: ثنا يحيى بن حمادٍ، قال: ثنا همامٌ، عن قتادةَ، عن سعيد بن المسيب، قال: كان جَدِّى يقال له: حَزْنٌ. وكان ممن بايع تحتَ الشجرةِ
(3)
. قال
(4)
: فأتَيْناها مِن قابلٍ، فعُمِّيَت علينا
(5)
.
(1)
أخرجه المصنف في تاريخه 2/ 632، وأخرجه ابن أبي شيبة 14/ 442، وابن أبي حاتم - كما في تفسير ابن كثير 7/ 322 من طريق عبيد الله بن موسى به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 73 إلى ابن مردويه.
(2)
أخرجه المصنف في تاريخه 2/ 632، وأخرجه ابن سعد في الطبقات 2/ 100 من طريق إسماعيل بن أبي خالد به.
(3)
كذا روي المصنف في هذا الأثر أن جد سعيد كان ممن بايع تحت الشجرة، وهو خطأ، فإن المصادر مجمعة على أن أباه المسيب بن حزن هو الذي بايع تحت الشجرة. ولعل أحد رجال سند هذا الأثر خلط بينه وبين الأثر المروى عن سعيد بن المسيب قال: كان اسم جدى حزنا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"ما اسمك؟) قال: حزن. قال: "لا، بل أنت سهل". قال: لا أغير اسمى .... تنظر ترجمة حزن في الاستيعاب 1/ 401.
وأسد الغابة 2/ 4، والإصابة 2/ 61، 62. وترجمة المسيب بن حزن في الاستيعاب 3/ 1400، وأسد الغابة 5/ 177، والإصابة 6/ 121.
(4)
سقط من النسخ، وأثبتناها ليستقيم السياق.
(5)
بعده في النسخ: "حدَّثنا ابن المثنى قال حدَّثنا يحيى بن حماد قال".
حدَّثني يُونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: أخبَرني عمرُو بنُ الحارثِ، عن بُكيرِ بن الأشَجِّ أنه بلَغه أن الناسَ بايَعوا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم على الموتِ، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"على ما استَطَعتم". والشجرةُ التي بُويع تحتَها بفَجٍّ نحوَ مكةَ، وزعَموا أن عمرَ بنَ الخطابِ رضي الله عنه مرَّ بذلك المكانِ بعدَ أن ذهَبَت الشجرةُ، فقال: أين كانت؟ فجعلَ بعضُهم يقولُ: ههنا. وبعضُهم يقولُ: ههنا. فلما كثُر اختلافُهم قال: سيروا، هذا التكلفُ. فذهَبَت الشجرةُ، وكانت سَمُرةً
(1)
، إما ذهَب بها سَيْلٌ، وإما شيءٌ سوى ذلك
(2)
.
ذكرُ عددِ الذين بايعوا هذه البيعةَ
وقد ذكَرْنا اختلافَ المختلفين في عددِهم، ونَذْكُرُ الرواياتِ عن قائلى المقالاتِ التي ذكَرْناها إن شاء اللهُ تعالى.
ذكرُ مَن قال: عددُهم ألفٌ وأربعُمائةٍ
حدَّثني يحيى بنُ إبراهيمَ المسعوديُّ، قال: ثنا أبي، عن أبيه، عن جدِّه، عن الأعمشِ، عن أبي سفيانَ، عن جابرٍ، قال: كنا يومَ الحديبيةِ ألفًا وأربعمائة، فبايعنا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم على ألَّا نَفِرَّ، ولم نبايعه على الموتِ. قال: فبايَعْناه كلُّنا إلا الجدَّ بن قيسٍ، اخْتَبأ تحتَ إبطِ ناقتِه
(3)
.
حدَّثني يونُسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال
(4)
: أخبَرني القاسمُ بنُ عبدِ اللَّهِ بن
= والأثر أخرجه البخارى (4162)، ومسلم (1859) من طريق قتادة به بنحوه. وأخرجه أحمد 5/ 433 (الميمنية)، والبخارى (4163) - (4165)، وابن سعد 2/ 99، والبيهقى في الدلائل 4/ 142، 143 من طريق آخر عن سعيد بن المسيب بنحوه.
(1)
في م: "سمراء".
(2)
ذكره البغوي في تفسيره 7/ 304/ 305
(3)
أخرجه أبو يعلى (1908، 2301) من طريق الأعمش به.
(4)
بعده في النسخ: "قال ابن زيد". والمثبت من مصدر التخريج
عُمرَ
(1)
، عن محمدِ بن المنكدرِ، عن جابرٍ بن عبدِ اللهِ أنهم كانوا يومَ الحديبيةِ أربعَ عشْرةَ مائةً، فبايَعْنا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وعمرُ آخِذٌ بيدِه تحتَ الشجرةِ، وهي سَمُرَةٌ، فبايَعْناه
(2)
غيرَ الجدِّ بن قيسٍ الأنصاريِّ، اخْتَبأ تحتَ إبطِ بعيرِه. قال جابرٌ: بايَعْنا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم على ألا نَفِرَّ، ولم نُبايِعْه على الموتِ
(3)
.
حدَّثنا يوسفُ بنُ موسى القَطَّانُ، قال: ثنا هشامُ بنُ عبدِ الملكِ وسعيدُ بنُ شُرَحْبِيلَ المصريُّ، قالا: ثنا ليثُ بنُ سعدٍ المصريُّ، قال: ثنا أبو الزبيرِ، عن جابرٍ، قال: كنا يومَ الحديبيةِ ألفًا وأربعمائةٍ، فبايَعْناه وعمرُ آخذٌ بيدِه تحتَ الشجرةِ، وهى سَمُرةٌ، فبايَعْناه على ألا نَفِرَّ، ولم نُبايِعْه على الموتِ
(4)
. يعنى: النبيَّ صلى الله عليه وسلم.
حدَّثنا ابن بشارٍ وابنُ المثنَّى، قالا: ثنا ابن أبى عديٍّ، عن سعيدٍ، عن قتادةَ، عن سعيدِ بن المسيبِ أنه قيل له: إن جابرَ بنَ عبدِ اللَّهِ يقولُ: إن أصحابَ الشجرةِ كانوا ألفًا وخمسَمائةٍ. قال سعيدٌ: نسِى جابرٌ، هو قال لى: كانوا ألفًا وأربعَمائةٍ
(5)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، قال: ثنى محمدُ بنُ إسحاقَ، عن الأعمشِ، عن أبي سفيانَ، عن جابرٍ، قال: كنا أصحابَ الحديبيةِ أربعَ عشْرةَ مائةً
(6)
(1)
في النسخ: "عمرو". والمثبت من مصدر التخريج، وينظر تهذيب الكمال 23/ 375، 376.
(2)
في م، ت 1:"فبايعنا".
(3)
أخرجه المصنف في تاريخه 2/ 632.
(4)
أخرجه المصنف في تاريخه 2/ 621 وأخرجه البيهقى 8/ 146 من طريق أبي الوليد هشام بن عبد الملك به، وأخرجه أحمد 23/ 125 (14823)، والدارمي 2/ 220، ومسلم (67/ 1856)، والنسائي في الكبرى (11509)، وابن حبان (4875)، والبيهقى في الدلائل 4/ 98، 136 من طريق الليث به.
(5)
أخرجه البخاري (4153) من طريق سعيد به بنحوه. وأخرجه الإسماعيلي - كما في تغليق التعليق 4/ 124 - والبيهقي في الدلائل 4/ 97 من طريق قتادةَ به بنحوه. والذي في المصادر أن قتادة ذكر لسعيد بن المسيب أنه بلغه أن جابرا كان يقول: كانوا أربع عشرة مائة. فقال سعيد: يرحمه الله، وهم، هو حدثني أنهم كانوا خمس عشرة مائة.
(6)
أخرجه المصنف في تاريخه 2/ 621.
ذكرُ مَن قال: كانت عِدَّتُهم ألفًا وخمسمائةٍ وخمسةً وعشرين
حدَّثنا محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ:{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} . قال: كان أهلُ البيعةِ تحتَ الشجرةِ ألفًا وخمسمائة وخمسةً وعشرين
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، قال: الذين بايَعوا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم تحتَ الشجرةِ فجُعِلَت لهم مَغانمُ خيبرَ كانوا يومَئِذٍ خمسَ عشرةَ مائةً، وبايَعوا على ألا يَفِرُّوا عنه
(2)
.
ذكرُ مَن قال: كانوا ألفًا وثلاثَمائةٍ
حدَّثنا محمدُ بنُ المثنى، قال: ثنا أبو داودَ، قال: ثنا شعبةُ، عن عمرِو بن مرةَ، قال: سمعْتُ عبدَ اللهِ بنَ أبي أوْفَى يقولُ: كنا
(3)
يومَ الشجرةِ ألفًا وثلاثَمائةٍ، وكانت أسلمُ يومَئِذٍ ثُمُنَ
(4)
المهاجرين
(5)
.
وقولُه: {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} . يقولُ تعالى ذكرُه: فعلم ربُّك يا محمدُ ما في قلوبِ المؤمنين مِن أصحابِك، إذ يُبايعونك تحتَ الشجرةِ، من صدقِ النيةِ، والوفاءِ بما يُبايِعونك عليه، والصبرِ معك، {فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ}. يقولُ: فَأَنْزَل
(1)
أخرجه المصنف في تاريخه 2/ 621. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 74 إلى ابن مردويه.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 74 إلى المصنف وعبد بن حميد. وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 226 عن معمر عن قتادة، وفيه أنهم كانوا أربع عشرة مائة.
(3)
في م، ت 2، ت 3:"كانوا".
(4)
في النسخ: "من". والمثبت من مصادر التخريج.
(5)
أخرجه مسلم (1857)، والمصنف في تاريخه 2/ 621 عن محمدِ بن المثنى به، وأخرجه الطيالسي (858) - ومن طريقه ابن سعد 2/ 98، والإسماعيلى - كما في التغليق 4/ 125 - والبيهقي في الدلائل 4/ 95، وأخرجه البخارى (4155) من طريق شعبة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 73 إلى ابن مردويه.
الطمأنينةَ والثباتَ على ما هم عليه مِن دينِهم، وحسنِ بَصيرتِهم بالحقِّ الذي هداهم اللهُ له.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ} . أي: الصبرَ والوَقارَ
(1)
.
وقولُه: {وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} . يقولُ: وعرَّضهم في العاجلِ مما رجَوُا الظَّفَرَ به مِن غنائمِ أهلِ مكةَ، بقتالهم أهلَها فتحًا قريبًا، وذلك فيما قيل: فتحُ خيبرَ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن الحكمِ، عن ابن أبي ليلى:{وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} . قال: خيبرَ
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} : وهى خيبرُ.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ قولَه:{وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} . قال: بلَغَنى أنها خيبرُ
(3)
.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 74 إلى المصنف وعبد بن حميد.
(2)
أخرجه ابن سعد 2/ 115، والبيهقي في الدلائل 4/ 163 من طريق شعبة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 74 إلى سعيد به منصور وعبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 226 عن معمر به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 74 إلى عبد بن حميد.
وقولُه: {وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا} . يقولُ تعالى ذكرُه: وأثاب اللهُ هؤلاء الذين بايعوا رسولَ اللهِ ما تحتَ الشجرةِ، مع ما أَكْرَمَهم به مِن رضاه عنهم، وإنزالِه السكينةَ عليهم، وإثابتِه إياهم فتحًا قريبًا - معه مغانمَ كثيرةً يَأْخُذونها مِن أموالِ يهودِ خيبرَ، فإن الله جعَل ذلك خاصةً لأهلِ بيعةِ الرضوانِ دونَ غيرِهم.
وقولُه: {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} . يقولُ: وكان اللهُ ذا عزةٍ في انتقامِه ممن انْتَقَم مِن أعدائِه، حكيمًا في تدبيرِه خلقَه، وتصريفه إياهم فيما شاء من قضائِه.
يقولُ تعالى ذكرُه لأهلِ بيعةِ الرضوانِ: وَعَدكم الله أيُّها القومُ مغانِمَ كثيرةً تأخُذونها.
اختلَف أهلُ التأويلِ في هذه المغانمِ التي ذكَر الله أنه وعَدَها هؤلاء القومَ أَيُّ المغانمِ هي؛ فقال بعضُهم: هي كلُّ مَغْنَمٍ غنَّمها الله المؤمنين به مِن أموالِ أهلِ الشرك مِن لَدُن أَنْزَل هذه الآية على لسانِ نبيِّه صلى الله عليه وسلم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا} . قال: المغانمُ الكثيرةُ التي
وُعِدوا، ما [يَأْخُذون حتى]
(1)
اليومِ
(2)
.
وعلى هذا التأويلِ يَحْتَمِلُ الكلامُ أن يكونَ مُرادًا بالمغانم الثانيةِ المغانمُ الأولى، ويكونَ معناه عندَ ذلك: فأثابهم فتحًا قريبًا، ومغانمَ كثيرةً يَأْخُذونها، وعَدَكم اللهُ أيُّها القومُ هذه المغانمَ التي تَأْخُذونها، وأنتم إليها واصِلون عِدَةً، فجعَل لكم الفتحَ القريبَ مِن فتحِ خيبرَ. ويَحْتَمِلُ أن تكونَ الثانيةُ غيرَ الأولى، وتكونَ الأولى من غنائمِ خيبرَ، والغنائمُ الثانيةُ التي وعَدَهموها مِن غنائمِ سائرِ أهلِ الشركِ سِواهم.
وقال آخرون: هذه المغانمُ التي وعَد الله هؤلاء القومَ هي مغانمُ خيبرَ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يُونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا} . قال: يومَ خيبرَ. قال: كان أبي يقولُ ذلك
(3)
.
وقولُه: {فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} . اختلَف أهلُ التأويلِ في التي عُجِّلَت لهم؛ فقال جماعةٌ: غنائمُ خيبرَ، والمؤَخَّرةُ سائرُ فتوحٍ المسلمين بعدَ ذلك الوقتِ إلى قيامِ الساعة.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} . قال: عجَّل لكم خيبرَ (2).
(1)
في م، ت 2، ت 3:"يأخذونها إلى".
(2)
تفسير مجاهد ص 608.
(3)
ذكره القرطبي في تفسيره 16/ 278.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} : وهي خيبرُ
(1)
.
وقال آخرون: بل عُنِى بذلك الصلحُ الذي كان بينَ رسولَ صلى الله عليه وسلم وبينَ قريشٍ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ:{فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} . قال: الصلحَ
(2)
.
وأولى الأقوالِ في تأويلِ ذلك بالصوابِ ما قاله مجاهدٌ، وهو أن الذي أثابَهم اللهُ مِن مسيرِهم ذلك مع الفتحِ القريبِ، المغانمُ الكثيرةُ مِن مغانمِ خيبرَ. وذلك أن المسلمين لم يَغْنَموا بعد الحديبيةِ غَنيمةً، ولم يَفْتَحوا فتحًا أقربَ مِن بيعتهم رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بالحديبيةِ إليها، من فتحِ خيبرَ وغنائمِها.
وأما قولُه: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً} . فهي سائرُ المغانمِ التي غنَّمهموها اللهُ بعد خيبرُ؛ كغنائمِ هَوازنَ، وغَطَفان، وفارسَ والرومِ.
وإنما قُلنا: ذلك كذلك دونَ غنائمِ خيبرَ؛ لأن الله أخْبَر أنه عجَّل لهم هذه التي أثابَهم من مسيرِهم الذي سارُوه مع رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلى مكةَ، ولِمَا عُلِم مِن صحةِ نيتِهم في قتالَ أهلِها، إذ بايَعوا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم على ألا يَفِرُّوا عنه، ولا شكَّ أن التي عُجِّلت لهم غيرُ التي لم تُعَجَّل لهم.
وقولُه: {وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ} . يقولُ تعالى ذكرُه لأهلِ بيعةِ الرضوانِ:
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 75 إلى المصنف وعبد بن حميد.
(2)
ذكره القرطبي في تفسيره 16/ 278، وابن كثير في تفسيره 7/ 322.
وكفَّ اللهُ أيدىَ المشركين عنكم.
ثم اخْتَلَف أهلُ التأويلِ في الذين كُفَّت أيديهم عنهم مَن هم؟ فقال بعضُهم هم اليهودُ، كفَّ اللهُ أيديَهم عن عِبالِ الذين ساروا من المدينةِ مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلى مكةَ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ} : عن بَيْضتهِم
(1)
، وعن عِيالِهم بالمدينةِ، حينَ ساروا إلى الحديبيةِ وإلى خيبرَ، وكانت خيبرُ في ذلك الوجهِ
(2)
.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ في قوله:{وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ} . قال: كفَّ أيدىَ الناسِ عن عِيالهم بِالمدينةِ
(3)
.
وقال آخرون: بل عُنى بذلك أيدى قريشٍ، إذ حبسهم اللهُ عنهم، فلم يَقْدِروا لهم
(4)
على مكروهٍ.
والذي قاله قتادةُ في ذلك عندى أشبهُ بتأويلِ الآية، وذلك أن كفَّ اللَّهِ أيدىَ المشركين مِن أهلِ مكةَ عن أهلِ الحديبيةِ قد ذكَره اللهُ بعد هذه الآيةِ في قولِه:{وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ} [الفتح: 24]. فعُلِم بذلك أن الكفُّ الذي ذكَرَه اللهُ تعالى ذكرُه في قوله: {وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ} غَيرُ الكفُّ الذي ذكَر اللهُ بعدَ هذه الآيةِ في قولِه: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ
(1)
في م: "بيوتهم". وبيضة القوم: حوزتهم وحماهم. الوسيط (ب ي ض).
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 75 إلى المصنف وعبد بن حميد.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 227 عن معمر به.
(4)
في م، ت 3:"له".
وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ}
وقولُه: {وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} . يقولُ: وليَكونَ كفُّه تعالى ذكرُه أيديَهم عن عِيالِهم آيةً وعِبرةً للمؤمنين به، فيَعْلَموا أن الله هو المتولى حِياطتَهم وكِلاءتَهم، في مشهدِهم ومَغِيبهم، ويَتَّقوا الله في أنفسِهم وأموالهم وأهليهم، بالحفظِ وحُسْنِ الوَلايةِ، ما كانوا مُقيمين على طاعتِه، مُنْتَهين إلى أمرِه ونهيِه.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} . يقولُ: وذلك آية للمؤمنين، كفُّ أيدى الناسِ عن عيالهم
(1)
.
{وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} . يقولُ: ويُسَدِّدَكم أيُّها المؤمنون طريقًا واضحًا، لا اعْوِجاجَ فيه، فيُبَيِّنهُ لكم، وهو أن تثقوا في أموركم كلِّها بربِّكم، فتتوكلَّوا عليه في جميعها؛ ليَحوُطَكم حياطته إياكم في مسيرِكم إلى مكةَ مع رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم في أنفسكم وأهلِيكم وأموالِكم، فقد رأيْتُم أثر فعلِ اللهِ بكم، إذ وثِقْتُم به
(2)
في مسيركم هذا.
وقولُه: {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا} . يقولُ تعالى ذكرُه: ووعدكم أيُّها القومُ ربُّكم فتح بَلْدةٍ أُخرى لم تَقْدِروا على فتحِها، قد أحاط اللهُ بها
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 227 عن معمر به.
(2)
سقط من: م، ت 2 ت 3.
لكم حتى يَفْتَحَها لكم.
واخْتَلَف أهلُ التأويلِ في هذه البلدةِ الأُخرى والقريةِ الأُخرى التي وعَدَهم فتحَها، التي أخبرهم أنه مُحيطٌ بها؛ فقال بعضُهم: هي أرضُ فارسَ والرومِ، وما يَفْتَحُه المسلمون من البلاد إلى قيامِ الساعةِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ بنُ مَهْديٍّ، قال: ثنا شعبةُ، عن سِماكٍ الحَنَفيِّ، قال: سَمِعْتُ ابن عباسٍ يقولُ: {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا} : فارسُ والرومُ.
قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن الحكمِ، عن ابن أبي ليلى أنه قال في هذه الآيِة:{وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا} . قال: فارسُ والرومُ
(1)
.
حدَّثني موسى بنُ عبدِ الرحمنِ المَشروقى، قال: ثنا زيدُ بن حُبابٍ، قال: ثنا شعبةُ بنُ الحجاجِ، عن الحكمِ، عن عبد الرحمنِ بن أبي ليلى مثلَه.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قوله:{وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا} . قال: حدَّث عن الحسنِ، قال: هي فارسُ والرومُ
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ
(1)
أخرجه ابن سعد 2/ 115، والبيهقي في الدلائل 4/ 163 من طريق شعبة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 75 إلى سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 323.
قوله: {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا} : ما فتَحوا حتى اليومِ.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن منصورٍ، عن الحكمِ، عن عبدِ الرحمنِ ابن أبي ليلى في قولِه:{وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا} . قال: فارسُ والرومُ.
وقال آخرون: بل هي خيبرُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ:{وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا} الآية. قال: هي خيبرُ
(1)
.
حدثت عن الحسينِ، قال: سمِعْتُ أبا مُعاذٍ يقولُ: أخبَرنا عبيدُ بنُ سليمانَ، قال: سمِعْتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا} : يعنى خيبرُ، يبعثَهم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يومَئذٍ فقال: "لا تُمَثِّلوا، ولا تَغْلُّوا، ولا تَقْتُلوا وَليدًا
(2)
.
حدَّثني يُونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا} . قال: خيبرُ. قال: لم يكونوا يَذْكُرونها، ولا يَرْجُونها، حتى أَخْبَرهم اللهُ بها
(2)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ:{وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا} : يعنى أهلَ خيبرُ
(3)
.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 75 إلى المصنف وابن مردويه.
(2)
ينظر تفسير البغوي 7/ 312، وتفسير القرطبي 16/ 796.
(3)
ذكره القرطبي في تفسيره 16/ 279.
وقال آخرون: بل هي مكةُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا} : كنا نُحَدَّثُ أنها مكة.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا} . قال: بلغنا أنها مكةُ
(1)
.
وهذا القولُ الذي قاله قتادةُ أشبه بما دلَّ عليه ظاهرُ التنزيلِ، وذلك أن اللَّهَ أَخْبَر هؤلاء الذين بايعوا رسولَ اللهِ ما تحتَ الشجرةِ أنه مُحيطٌ بقريةٍ لم يَقْدِروا عليها، ومعقولٌ أنه لا يقالُ لقومٍ: لم يَقْدِروا على هذه المدينةِ. إلا أن يكونوا قد رامُوها فتعَذَّرَت عليهم، فأمَّا وهم لم يَرُوموها فتَتَعذَّرَ عليهم، فلا يقالُ: إنهم لم يَقْدِروا عليها.
فإذ كان ذلك كذلك، وكان معلومًا أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لم يَقْصِد قبلَ نزولِ هذه الآيةِ عليه خيبرَ لحربٍ، ولا وجَّه إليها لقتالِ أهلِها جيشًا ولا سريةً، عُلِم أن المعنيَّ بقوله:{وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا} ، غيرُها، وأنها هي التي قد عالَجها ورامَها فتعَذَّرَت، فكانت مكةُ وأهلُها كذلك، وأخْبَر اللهُ تعالى ذكرُه نبيَّه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أنه قد أحاط بها وبأهلها، وأنه فاتِحُها عليهم، وكان اللهُ على كلِّ ما يشاءُ من الأشياءِ ذا قُدْرةٍ، لا يَتَعَذَّرُ عليه شيءٌ شَاءَه.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 227 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 75 إلى عبد بن حميد.
اللَّهِ تَبْدِيلًا (23)}.
يقولُ تعالى ذكرُه للمؤمنين به من أهلِ بيعةِ الرضوانِ: ولو قاتَلَكم الذين كَفَروا باللهِ أيُّها المؤمنون بمكةَ، {لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ}. يقولُ: لَانْهَزَموا عنكم، فولَّوْكم أعْجازَهم، وكذلك يَفْعَلُ المنهزمُ مِن قِرْنِه في الحرب. {ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا}. يقولُ: ثم لا يَجْدُ هؤلاء الكفارُ المنهزِمون عنكم، المُوَلُّوكم الأدبارَ، وليًّا يُوالِيهم على حربِكم، ولا نصيرًا يَنصُرُهم عليكم؛ لأن الله تعالى ذكرُه معكم، ولن يُغْلَبَ حزبٌ اللهُ ناصرهُ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قوله:{وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ} . يعني: كفارُ قريشٍ، قال اللهُ:{ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} يَنْصُرُهم من اللهِ
(1)
.
وقولُه: {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ} . يقولُ تعالى ذكرُه: لو قاتلكم هؤلاء الكفارُ مِن قريشٍ، خَذَلَهم اللهُ حتى يَهْزِمَهم عنكم، خِذْلانَه أمثالهم مِن أهلِ الكفرِ به الذين قاتَلوا أولياءَه من الأممِ الذين مضَوْا قبلَهم.
وأُخْرِج قولُه: {سُنَّةَ اللَّهِ} . نصبًا من غيرِ لفظهِ؛ وذلك أن في قولِه: {لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} معنى: سَنَنْتُ فيهم الهزيمةَ والخِذْلانَ. فلذلك قيل: {سُنَّةَ اللَّهِ} . مصدرًا من معنى الكلامِ لا مِن لفظِه. وقد يَجوزُ أن تكون تفسيرًا لما قبلَها مِن الكلامِ.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 75 إلى المصنف وعبد بن حميد.
وقولُه: {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} . يقولُ جلَّ ثناؤُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: ولن تَجِدَ يا محمد لسنةِ اللهِ التي سنَّها في خلقه تغييرًا، بل ذلك دائمٌ، للإحسانِ جزاؤُه مِن الإحسانِ، وللإساءةِ والكفرِ العقابُ والنَّكالُ.
القول في تأويلِ قولِه تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24)}
يقولُ تعالى ذكرُه لرسوله صلى الله عليه وسلم والذين بايعوا بيعةَ الرضوانِ: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ} . يعنى: أن الله كفَّ أيدىَ المشركين الذين كانوا خرَجوا على عسكرِ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بالحديبيةِ يَلْتَمِسون غِرَّتَهم؛ ليُصيبوا منهم، فبعَث رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فأُتِى بهم أسْرَى، فخلَّى عنهم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ومنَّ عليهم ولم يَقْتُلُهم، فقال اللهُ للمؤمنين: وهو الذي كفَّ أيدى هؤلاء المشركين عنكم {أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} .
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك جاءت الآثار.
ذكرُ الرواية بذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ عليِّ بن الحسنِ بن شَقيقٍ، قال: سمِعْتُ أبي يقولُ: أَخْبَرنا الحسينُ بنُ واقد، قال: ثنى ثابتٌ البُنانيُّ، عن عبدِ اللَّهِ بن مُغَفَّلٍ، أَن رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كان جالسًا في أصلِ شجرةٍ بالحديبيةِ، وعلى ظهرهِ غصنٌ مِن أغصانِ الشجرةِ، فرفَعْتُها عن ظهرِه، وعليُّ بنُ أبي طالبٍ رضي الله عنه بينَ يديه، وسهيلُ بنُ عمرٍو، وهو صاحبُ المشركين، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لعليٍّ:"اكْتُبْ: بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ". فأمْسَك سهيل بيدِه فقال: ما نَعْرِفُ الرحمنَ، اكْتُبْ في قضيتِنا ما نَعْرِفُ. فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"اكْتُبْ: باسمك اللهمَّ". فكتَب، فقال: "هذا
ما صالَح محمدٌ رسولُ اللهِ أهلَ مكةَ". فأمْسَك سهيلٌ بيدِه فقال: لقد ظلَمْناك إن كنتَ رسولًا، اكْتُبْ في قضيتِنا ما نَعْرِفُ. قال: "اكْتُبْ: هذا ما صالَح عليه محمدُ بنُ عبدِ اللَّهِ عبد المطلبِ. وأنا رسولُ اللَّهِ". فخرَج علينا ثلاثون شابًّا عليهم السلاحُ، فثاروا في وُجوهنا، فدعا عليهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فأَخَذ اللهُ بأبصارِهم، فقمْنا إليهم فأخَذْناهم، فقال لهم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "هل خَرَجْتُم في أمانِ أحدٍ؟ ". [فقالوا: لا]
(1)
. قال: فخلَّى عنهم. قال: فأنْزَل اللهُ: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ}
(2)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا يحيى بن واضحٍ، قال: ثنا الحسينُ بنُ واقدٍ، عن ثابتٍ، عن عبدِ اللهِ بن مُغَفَّلٍ، قال: كنا مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم بالحديبيةِ في أصلِ الشجرةِ التي قال اللهُ في القرآن، و كان غصنٌ مِن أغصانِ تلك الشجرةِ على ظهرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فرفَعْتُه عن ظهرِه. ثم ذكَر نحوَ حديثِ محمدُ بنُ على، عن أبيه.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن محمدِ بن إسحاقَ، قال: ثنى مِن لا أتَّهمُ، عن عكرمةَ مولى ابن عباسٍ، أن قريشًا كانوا بعَثوا أربعين رجلًا منهم أو خمسين، وأمَروهم أن يُطِيفوا بعسكرِ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ ليُصيبوا لهم
(3)
من أصحابه أحدًا، فأُخِذوا أخْذًا، فأُتى رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فعفا عنهم، وخلَّى سبيلهم، وقد كانوا رمَوْا في عسكرِ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم بالحجارة والنَّبْلِ.
قال ابن حميدٍ: قال سلمةُ: قال ابن إسحاقَ: ففى ذلك قال: {وَهُوَ الَّذِي
(1)
سقط مِن النسخ، والمثبت مِن مصادر التخريج.
(2)
أخرجه الحاكم 22/ 460، 461 - وعنه البيهقى 6/ 319 - من طريق على بن الحسن بن شقيق، وأخرجه أحمد 27/ 354 (16800)، والنسائى في الكبرى (11511) مِن طريق الحسين بن واقد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 78 إلى أبي نعيم في الدلائل وابن مردويه.
(3)
سقط من: م.
كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ} الآيةِ
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ، قال: أقَبْل معتمرًا نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ أصحابُه ناسًا مِن أهل الحرمِ غافِلين، فأَرْسَلَهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فذلك الإظفار ببطنِ مكةَ
(2)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ سنانٍ القَزَّازُ، قال: ثنا عبيدُ اللهِ بنُ عائشةَ، قال: ثنا حمادُ بنُ سلمةَ، عن ثابتٍ، عن أنسِ بن مالكٍ، أن ثمانين رجلًا مِن أهلِ مكةَ هبَطوا على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وأصحابه مِن جبلِ التنعيمِ، عندَ صلاةِ الفجرِ ليَقْتُلوهم، فأَخَذَهم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فأَعْتَقَهم، فأَنْزَلَ اللَّهُ:{وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ} إلى آخرِ الآيةِ
(3)
.
وكان قتادةَ يقولُ في ذلك ما حدَّثنا به بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ} الآيةِ. قال: بطنُ مكةَ الحديبيةُ، [ذُكِر لنا أن رجلًا مِن أصحابِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم]
(4)
يقال له: زُنَيْمٌ
(5)
. اطَّلَع الثنية مِن الحديبيةِ، فرماه المشركون بسهمٍ فقتَلوه، فبعَث رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خيلًا، فأتَوْه باثنَيْ عشر فارسًا مِن الكفار، فقال لهم نبيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم له: "هل لكم عليَّ
(1)
أخرجه المصنف في تاريخه 2/ 631 عن ابن حميد به.
(2)
تفسير مجاهد ص 607.
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة 14/ 492، 493، وأحمد 19/ 258 (12227)، وعبد بن حميد (1206 - منتخب)، ومسلم (1808)، وأبو داود (2688)، والترمذى (3264)، والنسائي في الكبرى (11510)، والبيهقى 6/ 318، وفى الدلائل 4/ 141، والبغوى في تفسيره 7/ 313 من طريق حماد بن سلمة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 75 إلى ابن المنذر وابن مردويه.
(4)
سقط مِن النسخ. والمثبت من مصادر التخريج.
(5)
في م: "رهم".
عهدٌ؟ هل لكم عليَّ ذمةٌ؟ " قالوا: لا. فأَرْسَلَهم، فأنْزَل اللهُ في ذلك القرآنَ:{وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ} إلى قولِه: {بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} (1).
وقال آخرون في ذلك ما حدَّثنا به ابن حميد، قال: ثنا يعقوبُ القُمِّيُّ، عن جعفرٍ، عن ابن أَبْزَى، قال: لمَّا خرَج النبي صلى الله عليه وسلم بالهَدْي وانْتَهَى إلى ذي الحُلَيفةِ، قال له عمرُ: يا نبيَّ اللَّهِ، تَدْخُلُ على قومٍ لك حربٌ بغيرِ سلاحٍ ولا كُراعٍ
(2)
؟ قال: فبعَث إلى المدينةِ، فلم يَدَعْ بها كُراعًا ولا سلاحًا إلا حمَله، فلمَّا دنا مِن مكةَ منَعوه أن يَدْخُلَ، فسار حتى أتَى مِنًى، فنزَل بمنًى، فأتاه عَيْنُه أن عكرمةَ بنَ أبي جهلٍ قد خرَج عليك
(3)
في خمسمائةٍ، فقال لخالدِ بن الوليدِ:"يا خالدُ، هذا ابن عمِّك قد أتاك في الخيلِ". فقال خالدٌ: أنا سيفُ اللَّهِ وسيفُ رسولِه - فيومئذٍ سُمِّى سيفَ اللَّهِ - يا رسولَ اللهِ، ارْمِ بي حيث شئتَ. فبعَثه على خيلٍ، فلقِى عكرمَة في الشَّعْبِ، فهزَمه حتى أدْخَله حِيطانَ مكةَ، ثم عاد في الثانيةِ، فهزمه حتى أدْخَله حيطان مكةَ، ثم عاد في الثالثة، فهزمه
(4)
حتى أدْخَله حيطان مكةَ، فأنْزَلَ اللَّهُ:{وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ} إلى قوله: {عَذَابًا أَلِيمًا} . قال: فكفَّ اللَّهُ النبيَّ عنهم مِن بعد أن أظْفَره عليهم؛ لبَقايا مِن المسلمين كانوا بقُوا فيها مِن بعدِ أن أظْفَره عليهم، كراهيةَ أن تَطَأَهم الخيلُ بغيرِ علمٍ
(5)
.
أخرجه المصنف في تاريخه 2/ 630. وأخرجه عبد بن حميد - كما في الإصابة 2/ 570 - من طريق شيبان عن قتادة.
(2)
الكراع: اسم يجمع الخيل والسلاح. الوسيط (ك ر ع).
(3)
في م: "علينا".
(4)
سقط من: ص، م، ت 2، ت 3.
(5)
أخرجه المصنف في تاريخه 2/ 622، 623، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 78 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
وقولُه: {وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} . يقولُ تعالى ذكرُه: وكان اللهُ بأعمالِكم وأعمالِهم بصيرًا، لا يَخْفَى عليه منها شيءٌ.
يقولُ تعالى ذكرُه: هؤلاء المشركون مِن قريشٍ هم الذين جحَدوا توحيدَ اللهُ، وصدُّوكم أيُّها المؤمنون باللهِ عن دخولِ المسجدِ الحرامِ، وصدُّوا الهَدىَ {مَعْكُوفًا}. يقولُ: محبوسًا عن أن يَبْلُغَ مَحِلَّه. فموضعُ "أن" نصبٌ؛ لتعلُّقِه إن شئت بـ "معكوفٍ"، وإن شئتَ بـ "صدوا". وكان بعضُ نحويي البصرةِ يقولُ في ذلك: وصدُّوا الهدىَ معكوفًا، كراهية أن يَبْلُغَ مَحِلَّه.
وعُنِى بقولِه تعالى ذكرُه: {أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} : أَن يَبْلُغَ مَحِلَّ نحرِه. وذلك دخولُ الحرمِ، والموضعُ الذي إذا
(1)
صار إليه حَلَّ نحرُه، وكان رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ساق معه حينَ خرَج إلى مكةَ في سَفْرته تلك سبعين بدنةً.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، قال: ثنى محمدُ بنُ إسحاقَ، عن محمدِ بن مسلمٍ الزهريِّ، عن عروةَ بن الزبيرِ، عن المِسْوَرِ بن مَحْرَمةً ومَرْوانَ بن الحكمِ، أنهما حدَّثاه قالا: خرَج رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عامَ الحديبيةِ يُرِيدُ زيارةَ البيتِ، لا يُرِيدُ قتالًا، وساق
(2)
معه سبعين بَدَنةً، وكان الناسُ سبعمائةِ
(1)
سقط مِن: ص، ت 1، ت 2، ت 3.
(2)
بعده في م: "الهدى".
رجلٍ، فكانت كلُّ بدنة عن عشرةٍ
(1)
.
وبنحوِ الذي قلنا في معنى قوله: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} . قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قوله:{هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا} . أي: محبوسًا {أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} . وأقَبْل نبيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم وأصحابُه معتمرين في ذي القَعْدةِ، الهدىُ، ومعهم حتى إذا كانوا بالحديبيةِ صدَّهم المشركون، فصالَحهم نبيُّ اللهُ صلى الله عليه وسلم على أن يَرْجِعَ مِن عامِه ذلك، ثم يَرْجِعَ مِن العامِ المُقْبِلِ، فيكونَ بمكَّة ثلاثَ ليالٍ، ولا يَدْخُلَها إلا بسلاحِ الراكبِ، ولا يَخْرُج بأحدٍ مِن أهلِها، فنحَروا الهدىَ، وحلَقوا، وقصَّروا، حتى إذا كان مِن العامِ المُقْبِلِ، أَقْبَل نبيُّ اللهُ صلى الله عليه وسلم وأصحابُه، حتى دخَلوا مكةَ معتمرين في ذى القَعْدَةِ، فأقام بها ثلاثَ ليالٍ، وكان المشركون قد فخَروا
(2)
عليه حينَ رَدُّوه، فأقَصَّه اللهُ منهم فأدْخَله مكةَ في ذلك الشهرِ الذي كانوا ردُّوه فيه، فأنْزَل اللهُ:{الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ}
(3)
[البقرة: 194].
حدَّثني محمدُ بنُ عُمارةَ الأسديُّ وأحمدُ بنُ منصورٍ الرَّماديُّ، واللفظُ لابنِ عُمارةَ، قالا: حدَّثنا عبيد اللهُ بن موسى، قال: أَخْبَرنا موسى بن عُبيدةَ، عن إياسِ بن سلمةَ بن الأكوعِ، عن أبيه، قال: بعَثَت قريشٌ سُهَيْل بنَ عمرٍو، وحُوَيْطِبَ بنَ عبدِ العُزَّى، وحفصَ بنَ فلانٍ، إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليُصالحوه، فلما رآهم رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم
(1)
أخرجه المصنف في تاريخه 2/ 620، وتقدم جزء من هذا الحديث في 3/ 362، 363.
(2)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"فجروا"، وغير منقوطة في ص. والمثبت مما تقدم في 3/ 306.
(3)
تقدم تخريجه في 3/ 306.
فيهم سُهَيْلُ بنُ عمرٍو، قال:"قد سهَّل اللهُ لكم مِن أمرِكم، القومُ ماتُّون إليكم بأرحامِهم وسائلوكم الصلحَ، فابعثوا الهَدْىَ، وأظْهرِوا التلبيةَ، لعل ذلك يُليِنُ قلوبَهم". فلبَّوا مِن نَواحى العسكرِ حتى ارْتَجَّت أصواتُهم بالتلبيةِ. قال: فجاءوا فسأَلوه الصلحَ. قال: فبينما الناسُ قد تَوادَعوا، وفي المسلمين ناسٌ مِن المشركين، [وفى المشركين ناسٌ مِن المسلمين]
(1)
. قال: ففتَك
(2)
به أبو سفيانَ. قال: فإذا الوادى يَسِيلُ بالرجالِ. قال: قال إياسٌ: قال سلمةُ: فجئتُ بستةٍ مِن المشركين مُتَسَلِّحين أَسُوقُهم، ما يَمْلِكون لأنفسِهم نفعًا ولا ضرًّا، فأتَيْتُ بهم النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فلم يَسْلُبْ ولم يَقْتُلْ، وعَفا. قال: فشدَدْنا على مَن في أيدى المشركين منا، فما ترَكْنا في أيديهم منا رجلًا إلا اسْتَنْقَذْناه. قال: وعَلَبْنا على مَن في أيدينا منهم، ثم إن قريشًا بعَثُوا سُهَيْلَ بن عمرٍو، وحُوَيْطِبًا، فوَلُوا صلحَهم، وبعَث النبيُّ صلى الله عليه وسلم عليًّا في صلحه، فكتب عليٌّ بينَهم: بسم اللهُ الرحمن الرحيمِ، هذا ما صالَح عليه محمد رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قريشًا، صالَحهم على أنه [لا إغلالَ ولا إسلالَ]
(3)
، وعلى أنه مِن قدم مكة مِن أصحابِ محمد صلى الله عليه وسلم حاجًّا أو معتمرًا أو يَبْتَغِى مِن فضلِ اللَّهِ، فهو آمِنٌ على دمِه ومالِه، ومَن قدِم المدينةَ مِن قريش مُجْتازًا إلى مصرَ أو إلى الشامِ يَبْتَغِي مِن فضلِ اللهِ، فهو آمنٌ على دمِه ومالِه، وعلى أنه مِن جاء محمدًا صلى الله عليه وسلم مِن قريشٍ فهو إليهم رَدُّ، ومَن جَاءَهم مِن أصحابِ محمدٍ فهو لهم، فاشْتَدَّ ذلك على المسلمين، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَن جَاءَهم منا فأَبْعَدَه اللَّهُ،
(1)
سقط من النسخ، والمثبت من تاريخ المصنف
(2)
في م، ت 2:"فقيل".
(3)
في ص، م، ت:"لا إهلال ولا امتلال"، وفى ت 3:"لا إهلاك ولا امتلال". والإغلال: الخيانة أو السرقة الخفية. والإسلال: السرقة الخفية. قيل: الإغلال والإسلال: الغارة الظاهرة. وقيل: الإغلال: لبس الدروع، والإسلال: سل السيوف. ينظر النهاية 2/ 392، 3/ 380 واللسان (س ل ل، غ ل ل).
ومَن جاءَنا منهم فرَدَدْناه إليهم، فعلِم اللهُ الإسلامَ مِن نفسه، جعَل له مخرجًا". فصالَحوه على أنه يَعْتَمِرُ في عامِ قابلٍ في هذا الشهرِ، لا يَدْخُلُ علينا بخيلٍ ولا سلاحٍ إلا ما يَحْمِلُ المسافرُ في قرابه، يَثْوِى فينا ثلاثَ ليالٍ، وعلى أن هذا الهدْىَ حيثما حبسناه مَحِلُّه
(1)
لا يُقْدِمُه علينا. فقال لهم رسولُ اللهُ صلى الله عليه وسلم: "نحن نَسُوقُه، وأنتم تَرُدُّون وُجوهَه". فسار رسولُ اللهُ صلى الله عليه وسلم مع الهلايِ، وسار الناسُ
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عُمارةَ، قال: ثنا عبيد اللهُ بن موسى، قال: أخبَرنا موسى، قال: أخبَرني أبو مُرَّةَ مولى أمِّ هانيء عن ابن عمرَ، قال: كان الهدىُ دونَ الجبالِ التي تَطْلُعُ على وادى الثنية، عرَض له المشركون، فردُّوا وجوهَه. قال: فنحَر النبيُّ صلى الله عليه وسلم الهدىَ حينَ حبَسوه، وهى الحديبيةُ، وحلَق، وتأَسَّى به أُناسٌ حينَ رأَوْه حلَق، وتربَّص آخرون فقالوا: لعلنا نَطوفُ بالبيتِ، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"رحِم اللهُ المُحَلِّقين". قيل: والمُقَصِّرين. قال: "رحم اللهُ المُحَلِّقين". قيل: والمُقَصِّرين. قال: "والمُقَصِّرِين"
(3)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا الحكمُ بنُ بشيرٍ، قال: ثنا عمرُ بنُ ذَرٍّ الهَمْدانيُّ، عن مجاهدٍ، أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم اعْتَمر ثلاثَ عُمَرٍ، كلُّها في ذى القَعْدَةِ، يَرْجِعُ في كلِّها إلى المدينةِ، منها العمرةُ التي صُدَّ فيها الهدىُ، فنحَره في مجلِّه عندَ الشجرةِ، وشارَطوه أن يأْتىَ في العامِ المقبلِ معتمرًا فيَدْخُلَ مكةَ، فيَطوفَ بالبيتِ ثلاثةَ أيامٍ ثم يَخْرُجَ، ولا يَحْبسون عنه أحدًا قَدِم معه، ولا يَخْرُجَ مِن مكةَ بأحدٍ كان فيها قبلَ قدومِه مِن المسلمين، فلما كان مِن العامِ المقبل دخَل مكةَ، فأقام بها ثلاثًا يَطوفُ بالبيتِ، فلما كان اليومُ الثالثُ قريبًا مِن الظهرِ أرْسَلوا إليه: إن قومَك قد
(1)
بعده في ت 1: "لا يكفكفه".
(2)
أخرجه المصنف في تاريخه 2/ 629، 630.
(3)
تقدم تخريجه في 3/ 362.
آذاهم مُقامُك. فنُودِى في الناسِ: لا تَغْرُبُ الشمس وفيها أحدٌ مِن المسلمين قدِم مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم
(1)
.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن الزهريِّ، عن عروةَ بن الزبيرِ، عن المِسْوَرِ بن مَخْرَمةَ، قال: خرَج النبيُّ صلى الله عليه وسلم زمنَ الحديبيةِ في بضعَ عشْرةَ مائةً مِن أصحابِه، حتى إذا كانوا بذى الحُلَيْفَةِ قلَّد الهدىَ وأَشْعَره، وأَحْرَم بالعمرةِ، وبعَث بينَ يديه عينًا له مِن خُزاعةَ يُخْبِرُه عن قريشٍ، وسار النبيُّ صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان بغَديرِ الأشْطاطِ قريبًا مِن عُشفانَ
(2)
أتاه عينه الخُزاعيُّ، فقال: إني ترَكْتُ كعبَ بنَ لُوَّيٍّ وعامرَ بنَ لُؤَيٍّ قد جمَعوا لك الأحابيشَ، وجمَعوا لك جُموعًا، وهم مُقاتِلوك وصادُّوك عن البيتِ. فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَشِيروا عليَّ، أَتَرَوْن أَن تَمِيلَ على ذَراريِّ هؤلاء الذين أعانوهم فنُصِيبَهم، فإن قعَدوا قعَدوا مَوْتُورين مخروبين
(3)
، وإن نجوا
(4)
تَكُنْ عُنُقًا قطَعَها اللَّهُ؟ أم تَرَوْن أنا نَؤُمُّ البيتَ، فَمَن صدَّنا عنه قاتَلْنا؟ " فقام أبو بكرٍ فقال: يا رسولَ اللهِ، إنا لم نَأْتِ لقتال أحدٍ، ولكنْ مِن حال بينَنا وبين البيتِ قاتَلْناه، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"فرُوحوا إذن" - وكان أبو هريرةَ يقولُ: ما رأيتُ أحدًا قطُّ كان أكثرَ مشاورةً لأصحابِه مِن النبيِّ صلى الله عليه وسلم فراحوا حتى إذا كانوا ببعضِ الطريقِ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن خالدَ بنَ الوليدِ بالغَميمِ في خيلٍ لقريشٍ طليعةً، فخُذوا ذاتَ اليمينَ". فوالله ما شعَر بهم خالدٌ حتى إذا هو بَقَتَرةِ الجيشِ، فَانْطَلَقَ يَرْكُضُ نذيرًا لقريشٍ، وسار النبيُّ صلى الله عليه وسلم اللهُ حتى إذا كان بالثَّنِيَّة التي يُهْبَطُ عليهم منها برَكَت به
(1)
أخرجه المصنف في تاريخه 2/ 620. وأخرجه البيهقى 5/ 217 من طريق عمر بن ذر به
(2)
في م: قعيقعان"، وفى ت 1: "عقيعان".
(3)
في ص، ت 1، ت،2 ت 3 "مخزيين"، وفى م:"محزونين". ومحروبين: مسلوبين منهوبين. النهاية 1/ 358.
(4)
في م: "لحوا".
راحلتُه، فقال الناسُ: حَلْ حَلْ
(1)
. فقال: "ما حَلْ؟ ". فقالوا: خَلأتِ
(2)
القَصْواءُ. فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "ما خَلأتُ، وما ذاك لها بخُلُقٍ، ولكنها حبسَها حابسُ الفيل". ثم قال: "والذي نفسي بيده لا يَسْأَلُونى خُطَّةً يُعَظِّمون بها حرماتِ اللَّهِ إلا أعْطَيْتُهم إياها". ثم زُجِرَتْ فوثَبَتْ، فعدل عنهم، حتى نزل بأقصى الحديبيةِ، على ثَمَدٍ
(3)
قليل الماءِ، إنما يَتَبَرَّضُه الناسُ تَبَرُّضًا
(4)
، فلم يُلْبِته
(5)
الناسُ
(6)
أن نزَحوه، فشُكِي إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم العطشُ، فنزَع سهمًا مِن كِنانته، ثم أَمَرَهم أن يَجْعَلوه فيه، فواللهِ ما زال يَجِيشُ لهم بالرِّيِّ حتى صدَروا عنه، فبينا هم كذلك جاء بُدَيْلُ بنُ وَرْقاءَ الخُزاعيُّ في نفرٍ مِن خُزاعةَ. وكانوا عَيْبةً نُصح رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِن أهلِ تِهامةَ - فقال: إنى ترَكْتُ كعبَ بنَ لُوَّيٍّ، وعامر بن لؤيٍّ، قد نزلوا أعداد
(7)
مياهِ الحديبيةِ، معهم العُوذُ المَطافيلُ
(8)
، وهم مُقاتِلوك وصادُّوك عن البيت. فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "إنا لم نأت لقتال أحدٍ، ولكنا جِئْنَا مُعْتَمِرين، وإن قريشًا قد نهِكَتْهم الحربُ وأضَرَّت بهم، فإن شاءوا مادَدْناهم مدةً، ويُخَلُّوا بيني وبين الناس، فإن أَظْهَرْ فإن شاءوا أن يَدْخَلوا فيما دخل فيه الناسُ فعلوا، وإلا فقد جَمُّوا
(9)
، وإن هم
(1)
حل: كلمة تقال للناقة إذا تركت السير. فتح البارى 5/ 335. وينظر اللسان (ح ل و).
(2)
خلأت: وقفت عن السير. اللسان (خ ل أ).
(3)
الثَّمَد والثَّمْد: المكان يجتمع فيه الماء. الوسيط (ث م د).
(4)
تَبَرَّض الماءَ: اغترفه كلما اجتمع منه شيء. الوسيط (ب رض).
(5)
في م: "يلبث"، وفي ت 2، ت 2:"ينتبه".
(6)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ت.3.
(7)
الأعداد بالفتح: جمع عِدِّ بالكسر والتشديد، وهو الماء الكثير الذي لا انقطاع له. فتح البارى 5/ 338.
(8)
العوذ: جمع عائذ، وهى الناقة ذات اللبن، والمطاقيل: الأمهات اللاتى معها أطفالها، يريد أنهم خرجوا معهم بذوات الألبان من الإبل ليتزودوا بألبانها ولا يرجعوا حتى يمنعوه، أو كنى بذلك عن النساء معهن الأطفال. فتح البارى 5/ 338.
(9)
جموا: استراحوا وقووا. فتح البارى 5/ 338.
أبَوْا، فوالذي نفسي بيدِه لأُقاتِلَتَّهم على أمرِى هذا حتى تَنْفَرِدَ سالفَتى
(1)
، أو ليُنْفِذَنَّ اللهُ أمره: فقال بُديلٌ: سنُبَلِّغُهم ما تقولُ. فانْطَلَق حتى أتَى قريشًا، فقال: إنا قد جئْناكم مِن عندِ هذا الرجلِ، وسمِعْناه يقولُ قولًا، فإن شئتُم أَن نَعْرِضَه عليكم فعَلْنا قال سفهاؤُهم: لا حاجةَ لنا في أن تُحَدِّثَنَا عنه بشيءٍ. وقال ذَوُو الرأي منهم: هاتِ ما سمِعْتَه يقولُ. قال: سمِعْتُه يقولُ كذا وكذا. فحدَّثهم بما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فقام عروةُ بن مسعودٍ الثَّقَفيُّ فقال: أي قومِ، ألستم بالوالدِ
(2)
؟ قالوا: بلى. قال: أوَلستُ بالولدِ
(3)
؟ قالوا: بلى. قال: فهل تَتَّهِمونى؟ قالوا: لا. قال: ألستم تَعْلَمون أنى اسْتنْفَرتُ أهلَ عُكاظٍ، فلما بَلَّحوا
(4)
عليَّ جئتُكم بأهلى وولدى ومَن أطاعنى؟ قالوا: بلى. قال: فإن هذا الرجلَ قد عرَض عليكم خُطَّةَ رُشْدٍ فاقْبَلُوها، ودَعُونى آتِه. فقالوا: ائتِه. فأتاه فجعَل يُكَلِّمُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم نحوًا مِن مقالتِه لبُدَيْلٍ، فقال عروةُ عندَ ذلك: أي محمدُ، أرأيْتَ إن استأصَلتَ قومَك، فهل سمِعْتَ بأحدٍ مِن العربِ اجْتاح أصله قبلك؟ وإن تَكُن الأخرى، فوالله إنى لأَرَى وجُوهًا وأَشْوابًا
(5)
مِن الناس خليقًا أن يَفرُوا ويَدَعُوك. فقال أبو بكرٍ: امصصْ بَظْرَ اللَّاتِ
(6)
واللاتُ طاغيةُ ثَقيف التي
(7)
كانوا يَعْبُدون - أنحن نَفِرُّ ونَدَعُه؟
(1)
السالفة: صفحة العنق، وكنى بذلك عن القتل؛ لأن القتيل تنفرد مقدمة عنقه. فتح البارى 5/ 338.
(2)
في م: "بالولد".
(3)
في م: "بالوالد".
(4)
بلحوا: بفتح الباء واللام وتشديدها: امتنعوا. فتح البارى 5/ 339.
(5)
في م: "أوباشا". والأشواب: الأخلاط مِن أنواع شتى. والأوباش: الأخلاط مِن السِّفْلة، فالأوباش أخص مِن الأشواب. فتح البارى 5/ 340. وقال ابن الأثير: الأشواب والأوباش والأوشاب: الأخلاط الناس والرعاع. النهاية 2/ 187.
(6)
البظر: قطعة تبقى بعد الختان في فرج المرأة
…
وكانت عادة العرب الشتم بذلك، لكن بلفظ الأم، فأراد أبو بكر المبالغة في سب عروة بإقامة من كان يعبد مقام أمه. فتح البارى 5/ 340.
(7)
في م: "الذي"، وفى ت 2 ت 3:"الذين".
فقال: مَن هذا؟ فقالوا: أبو بكرٍ. فقال: أما والذي نفسي بيده لولا يدٌ كانت لك
(1)
عندى لم أَجْزِك بها لأجَبتُك
(2)
. وجعل يُكَلِّمُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فكلما كلَّمه أخَذ بلحيتِه، والمغيرةُ بنُ شعبةَ قائمٌ على رأس النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ومعه السيفُ وعليه المغْفَرُ، فكلما أهْوَى عروةُ إلى لحيةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ما ضرب يدَه بنَعْل
(3)
السيفِ وقال: أخِّرْ يدَك عن لحيتِه. فرفَع رأسه فقال: مَن هذا؟ قالوا: المغيرةُ بن شعبةَ. قال: أي غُدَرُ، أوَ لستُ أسْعَى في غَدْرتِك! - وكان المغيرةُ بن شعبةَ صحِب قومًا في الجاهليةِ، فقتَلَهم وأخَذ أموالَهم، ثم جاء فأسْلَم. فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: وأمَّا الإسلامُ فقد قبلناه، وأمَّا المالُ فإنه مالُ غَدْرٍ، لا حاجةَ لنا فيه" - وإن عروةَ جعَل يَرْمُقُ أصحابِ النبي صلى الله عليه وسلم بعينِه، فواللهِ إن تنخَّم النبيُّ صلى الله عليه وسلم نُخامةً إلا وقَعت في كفِّ رجلٍ منهم، فدلَك بها وجهَه وجلدَه، وإذا أمرَهَم ابْتَدَروا أمرَه، وإذا توَضَّأ كادوا يَقْتَتِلون على وَضوئِه، وإذا تكَلَّم خفَضوا أصواتَهم عنده، وما يُحدُّون النظرَ إليه تعظيمًا له، فرجع عروةُ إلى أصحابِه فقال: أي قومِ، والله لقد وفَدْتُ على الملوكِ، ووفَدْتُ على قيصرَ وكِشرى والنجاشيِّ، والله إن رأَيْتُ ملكًا قطُّ يُعَظِّمُه أصحابُه ما يُعَظِّمُ أصحابُ محمدٍ محمدًا، واللَّهِ إِن تَنَخَّم نُخامةً إلا وقَعَت في كفٌ رجلٍ منهم، فدلَك بها وجهَه وجلدَه، وإذا أمَرَهم ابْتَدَروا أمره، وإذا توَضَّأ كادوا يَقْتَتلون على وَضوئِه، وإذا تكَلَّموا عنده خفَضوا أصواتَهم، وما يُحِدُّون النظرَ إليه تعظيمًا له، وإنه قد عرَض عليكم خُطَّةَ رُشد فاقْتِلُوها. فقال رجلٌ مِن كِنانةَ: دَعُونى آيِهِ. فقالوا: ائْتِه. فلما أشْرَف على النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابِه، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "هذا فلانٌ: "هذا فلانٌ، وهو مِن قومٍ يُعَظِّمون البُدْنَ، فابْعَثُوها له". فبُعِثَت له، واسْتَقْبله قومٌ يُلَبُّون فلمَّا رأَى ذلك قال:
(1)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ت 3.
(2)
وذلك أن عروة كان تحمّل بديةٍ فأعانه أبو بكر فيها بعون حسن. فتح البارى 5/ 340.
(3)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"بنصل".
سبحانَ اللَّهِ، ما يَنْبَغِي لهؤلاء أن يُصَدُّوا عن البيت. [فلما رجَع إلى أصحابِه قال: رأيتُ البُدْنَ قد قُلِّدَت وأُشعرت، فما أَرَى أن يُصَدُّوا عن البيت]
(1)
. فقام رجلٌ منهم يقالُ له: مِكْرَزُ بنُ حفصٍ. فقال: دعوُني آته. فقالوا: ائتِه. فلما أَشْرَف على النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابِه قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "هذا مِكْرَزُ بنُ حفصٍ، وهو رجلٌ فاجرٌ". فجاء فجَعل يُكَلِّمُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فبينا هو يُكَلِّمُه إذ جاء سُهَيْلُ بن عمرٍو - قال أيوبُ: قال عكرمةُ: إنه لما جاء سُهَيلٌ قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "قد سَهُل لكم مِن أمرِكم" - قال الزهريُّ: فجاء سهيلُ بنُ عمرٍو فقال: هاتِ نَكْتُبْ بيننا وبينك كتابًا. فدعا الكاتبَ. فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: اكْتُبْ: "بسم اللهُ الرحمن الرحيم". فقال: ما الرحمنُ؟ فواللهِ ما أدْرِى ما هو، ولكن اكتُبِ: باسمِك اللهمَّ، كما كنتَ تَكْتُبُ. فقال المسلمون: واللَّهِ لا نَكْتُبُها إلا بسمِ اللهُ الرحمنِ الرحيمِ. فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم "اكتُبْ: باسمِك اللهمَّ". ثم قال: "اكتُبْ: هذا ما قاضَى عليه محمدٌ رسولُ اللَّهِ". فقال سهيلٌ: واللهِ لو كنا نَعلَمُ أنك رسولُ اللهِ ما صدَدْناك عن البيت ولا قاتَلْناك، ولكن اكتُبْ: محمدُ بنُ عبدِ اللَّهِ. فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "واللهِ إنى لرَسولُ اللَّهِ وإِن كَذَّبْتُموني، ولكن اكتُبْ: محمدُ بنُ عبد اللهِ". قال الزهريُّ: وذلك لقوله: "واللهِ لا يَسْأَلُونى خُطَّةً يُعَظِّمون بها حُرُماتِ اللَّهِ إلا أعْطَيْتُهم إياها". فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "على أن تُخَلُوا بيننا "وبينَ البيتِ، فنطوفَ به". قال سهيلٌ: واللهِ لا تَتَحَدَّثُ العربُ أنا أُخِذْنَا ضُغطةً، ولكن لك مِن العام المُقْبِلِ. فكتَب، فقال سهيلٌ: وعلى أنه لا يَأْتيك منا رجلٌ، وإن كان على دينِك، إلا ردَدْتَه إلينا. فقال المسلمون: سبحانَ اللهِ! وكيف يُرَدُّ إلى المشركين وقد جاءَ مسلما؟! فبينا هم كذلك، إذ جاء أبو جندلِ بنُ سهيلٌ بن عمرٍو يرسُفُ في قُيوده، قد خرَج مِن أسفلِ مكةَ، حتى رمَى بنفسِه بينَ أَظْهُرِ المسلمين، فقال سهيلٌ: هذا يا
(1)
سقط مِن النسخ، والمثبت من مصادر التخريج
محمدُ أولُ مِن أُقاضِيك عليه أن تَردَّه إلينا. فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "فَأَجِزه
(1)
لى". فقال: ما أنا بمُجِيزِه لك. قال: بلى فافعَل". قال: ما أنا بفاعلٍ. قال صاحبُه مِكْرزٌ - وسهيلٌ إلى جنبِه -: قد: قد أَجَزناه لك. فقال أبو جندلٍ: أي معاشرَ المسلمين، أأُرَدُّ إلى المشركين وقد جئتُ مسلمًا؟! ألا تَرَون ما قد لقيتُ؟ وكان قد عُذِّب عذابًا شديدًا في اللَّهِ.
قال عمرُ بنُ الخطابِ: واللهِ ما شكَكْتُ منذ أسلَمتُ إلا يومَئذٍ، فأَتَيْتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقلتُ: ألسْنا على الحقِّ وعدوُّنا على الباطلِ؟ قال: "بلى". قلتُ: فلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ في دينِنا إذن؟ قال: "إنى رسولُ اللَّهِ، ولسْتُ أَعْصِيه، وهو ناصِرِى". قلتُ: أَلسْتَ تُحدِّثنا أنا سنَأْتى البيتَ فتَطوفُ به؟ قال: "بلي". قال: فأَخْبَرْتُك أنك تَأْتيه العام؟ "قلتُ: لا. قال: "فإنك آتِيه ومُتَطَوِّفٌ به". قال: ثم أتَيْتُ أبا بكرٍ فقلت: أليس هذا نبيَّ اللهُ حقًّا؟ قال: بلى. قلتُ: ألسْنا على الحقِّ وعدوُّنا على الباطل؟ قال: بلى. قلتُ: فلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ في دينِنا إذن؟ قال: أيُّها الرجلُ، إنه رسولُ اللَّهِ، وليس يَعْصِى ربَّه، فاسْتَمْسِكْ بِغَرْزِه حتى تموتَ، فواللهِ إنه لعلى الحقِّ قلتُ: أو ليس كان يُحَدِّثُنا أنا ستَأْتى البيتَ ونَطوفُ به؟ قال: بلى، أفَأَخْبَرك أنك تَأْتيه العام؟ قال: لا. قال: فإنك آتِيه ومُطوِّفٌ
(2)
به - قال الزهريُّ: قال عمر: فعمِلْتُ لذلك أعمالًا - فلمَّا فرغ مِن قضيتِه
(3)
قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "قُوموا فانْحَروا ثم احْلِقوا". قال: فواللهِ ما قام منا رجلٌ حتى قال ذلك
(1)
في ص، م، ت 2، ت 3:"فأجره" بالراء، وكذلك فيما يأتى "بمجيره"، "أجرناه". قال الحافظ ابن حجر: من الإجازة، أي أمض لي فعلى فيه فلا أرده إليك، أو استثنيه من القضية. ووقع في الجمع للحميدي:"فأجره"، بالراء، ورجح ابن الجوزى الزاي. فتح البارى 5/ 345.
(2)
في م: "متطوف".
(3)
في ص، م، ت 1، ت 2:"قصته".
ثلاثَ مراتٍ، فلمَّا لم يَقُمْ منهم أحدٌ، قام فدخَل على أمِّ سلمةَ، فذكَر لها ما لقِى مِن الناسِ، فقالت أمُّ سلمةَ: يا نبيَّ اللَّهِ، أَتُحِبُّ ذلك؟ اخْرُجْ، ثم لا تُكَلِّمْ أحدًا منهم كلمةً حتى تَنْحَرَ بُدْنَك، وتَدْعُوَ حالِقَك فيَحْلِقَك. فقام فخرَج، فلم يُكَلِّمْ أحدًا منهم كلمةً حتى نحَر بدنَه، ودعا حالِقَه فحلَقه، فلما رأَوْا ذلك قاموا فنحَروا وجعَل بعضُهم يَحْلِقُ بعضًا، حتى كاد بعضُهم يَقْتُلُ بعضًا غَمَّا، ثم جاءه نِسوةٌ مؤمناتٌ، فأنْزَل اللهُ عز وجل عليه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} حتى بلَغ: {بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10]. قال: فطلَّق عمر يومَئذٍ امرأتين كانتا له في الشركِ. قال: فنهاهم أن يَرُدُّوهن، وأَمَرَهم أن يَرُدُّوا الصداقَ حينَئذٍ - قال رجلٌ للزهريُّ: أمن أجلِ الفروجِ؟ قال: نعم - فتزوَّج إحداهما معاويةُ بن أبي سفيانَ، والأخرى صفوانُ بن أميةَ، ثم رجَع النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى المدينةِ، فجاءه أبو بَصيرٍ - رجلٌ مِن قريشٍ - وهو مسلمٌ، فأُرسِل في طلبِه رجلان، فقالا: العهدَ الذي جعَلْتَ لنا. فدفَعه
(1)
إلى الرجلين، فخرَجا به، حتى إذا بلَغا ذا الحُلَيْفَةِ، فنزَلوا يَأْكُلون مِن تمرٍ لهم، فقال أبو بَصيرٍ لأحدِ الرجلين: واللهِ إني لأَرَى سيفك هذا يا فلانُ جيدًا. فاسْتَلَّه الآخرُ فقال: واللهِ إنه لجيدٌ، لقد جرَّبْتُ به وجرَّبْتُ. فقال أبو بَصِيرٍ: أَرِنِى أَنْظُرْ إليه. فأمْكنه منه، فضربه به حتى برَد
(2)
، وفَرَّ الآخرُ حتى أتَى المدينةَ، فدخَل المسجد يَعْدُو، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"رأى هذا ذُعْرًا". فقال: قُتِل واللهِ صاحبي، وإني واللهِ لمَقتولٌ. فجاء أبو بَصيرٍ فقال: قد وَاللَّهِ أَوْفَى اللَّهُ ذمتك، وردَدْتَني إليهم، ثم أَنجانى
(3)
اللَّهُ فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "وَيْلُ امِّه، مِسْعَرَ حربٍ، لو كان له أحدٌ". فلما سمع عرف أنه سيَرُدُّه إليهم. قال: فخرَج حتى أتَى سيِفَ البحرِ، وتفَلَّت أبو جَنْدَلِ بن سهيلٌ بنُ عمرِو فلحِق بأبي بَصيرٍ، فجعَل لا
(1)
في ص، ت 1، ت،2، ت:"فدفعوه".
(2)
برد: خمدت حواسه، وهى كناية عن الموت. فتح البارى 5/ 349.
(3)
في م، ت 2:"أغاثني"، وفي ت 3:"أعاذني".
يَخْرُجُ مِن قريشٍ رجلٌ قد أسْلَم إلا لحِق بأبي بَصيرٍ، حتى اجتمَعت منهم عصابةٌ، فواللهِ ما يسمَعون بِعِيرٍ خرَجَت لقريشٍ إلى الشامِ إلا اعْتَرَضوا لهم فقتَلُوهم وأخَذوا أموالَهم فأرْسَلَت قريشٌ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم يُناشِدونه الله والرَّحِمَ لَمَا أَرْسَل إليهم، فمَن أتاه فهو آمِنٌ، فأنْزَل اللهُ:{وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ} حتى بلغ: {حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} الفتح: 24 - 26]، وكانت حَمِيَّتُهم أنهم لم يُقرُّوا أنه نبيٌّ، ولم يُقِرُّوا بسمِ اللهُ الرحمنِ الرحيمِ، وحالوا بينَهم وبينَ البيتِ
(1)
.
حدَّثني يعقوب بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا يحيى بنُ سعيدٍ، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ بنُ المباركِ، قال: أخبَرنا معمرٌ، عن الزهريِّ، عن عروةُ، عن المِسْوَرِ بن مَخْرَمةَ ومروانَ بن الحكمِ، قالا: خرَج رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِن الحديبيةِ في بضعَ عشْرةَ. ثم ذكَر نحوَه، إلا أنه قال في حديثهِ: قال الزهريُّ: فحدَّثنى القاسمُ بنُ محمدٍ، أن عمرَ بنَ الخطابِ رضي الله عنه قال: فأَتَيْتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقلتُ: ألست برسولِ اللَّهِ؟ قال: "بلى" قال أيضًا: وخرج أبو بَصيرٍ والذين أسْلَموا مِن الذين ردَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، حتى لحِقوا بالساحل على طريقِ عيرِ قريشٍ، يقتُلون
(2)
مَن كان فيها مِن الكفارِ ويَغْنمونها، فلمَّا رأَى ذلك كفارُ قريشٍ ركِب نفرٌ منهم إلى رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقالوا له: إنها لا تُغْنِى مدتُك شيئًا، ونحن نُقَتَّلُ وتُنْهَبُ أموالُنا، وإِنا نَسْأَلُك أَن تُدْخِلَ هؤلاء الذين أسْلَموا منا في صلحِك وتَمْنَعَهم، وتَحْجِزَ عنا قتالَهم. ففعَل ذلك رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فأنْزَل اللهُ:{وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ} . ثم
(1)
أخرجه المصنف في تاريخه 2/ 621، 625 - 628، 637، 640 مفرقًا، وأخرجه أبو داود (2765، 4655) من طريق محمد بن ثور به ببعضه.
(2)
في م: "فقتلوا".
ساق الحديثَ إلى آخرِه، نحوَ حديثِ ابن عبدِ الأعلى
(1)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةَ، عن ابن إسحاق، عن محمدِ بن مسلم بن شهابٍ الزهريِّ، عن عروةَ بن الزبيرِ، عن المشورِ بن مَخْرَمةَ ومروان بن الحكمِ، أنهما حدَّثاه، قالا: خرج رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم عام الحديبيةِ يُرِيدُ زيارةَ البيتِ، لا يُرِيدُ قتالًا، وساق معه هديَه سبعين بَدَنةً، حتى إذا كان بعُسْفانَ لقِيه بشرُ بن سفيانَ الكعبيُّ، فقال له: يا رسولَ اللهِ، هذه قريشٌ قد سمِعَت بمسيرِك، فخرَجوا معهم العُوذُ المطافيلُ، قد لبِسوا جلودَ النمورِ، ونزَلوا بذِى طُوًى، يُعاهدون اللَّهَ لا تَدْخُلُها عليهم أبدًا، وهذا خالدُ بنُ الوليدَ في خيلِهم، قد قدَّموها إلى كُراعِ الغَميم. قال: فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يا ويحَ قريشٍ، لقد أهلَكتْهم
(2)
الحربُ، ماذا عليهم لو خَلَّوْا بينى وبينَ سائرِ العربِ، فإن هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوا، وإن أظْهَرَنى اللهُ عليهم دخَلوا في الإسلامَ وافِرين
(3)
! ". ثم ذكَر نحوَ حديثِ معمرٍ، بزياداتٍ فيه كثيرة على حديثِ معمرٍ، ترَكتُ ذكرِها
(4)
. حدَّثني يُونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} . قال: كان الهدىُ بذى طُوًى، والحديبية خارجةٌ مِن الحرمِ، نزَلَها رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم حين غَوَّرَت قريشٍ عليه الماءَ.
(1)
أخرجه المصنف في تاريخه 2/ 621، 625 - 628، 637، 640 مفرقا، وأخرجه النسائي في الكبرى (8840) مختصرًا عن يعقوب بن إبراهيم به. وأخرجه أحمد (4/ 331 - الميمنية) من طريق يحيى بن سعيد القطان به. وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه (9720) - ومن طريقه أحمد 4/ 328 (الميمنية) والبخاري (2731، 2732)، وابن حبان (4872)، والطبراني 20/ 9 (13)، والبيهقى 9/ 218 - عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 76 إلى ابن المنذر وعبد بن حميد، وتقدم تخريجه في 3/ 362.
(2)
في تاريخ المصنف ومسند أحمد: "أكلتهم".
(3)
في النسخ: "داخرين". والمثبت مِن مصادر التخريج.
(4)
سيرة ابن هشام 2/ 308 وأخرجه المصنف في تاريخه 2/ 620 - 623 مفرقا عن ابن حميد به، وأخرجه ابن خزيمة (2906) مِن طريق سلمةَ ببعضه. وأخرجه أحمد (4/ 323 - الميمنية)، وأبو داود (2766)، والبيهقى 9/ 221، 227 من طريق محمد بن إسحاق به مطولا ومختصرا.
وقولُه: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ} . يقولُ تعالى ذكرُه: ولولا رجالٌ مِن أهلِ الإيمانِ ونساءٌ منهم، أيُّها المؤمنون باللهِ، أن تَطَئوهم بخَيْلِكم ورجلكم، لم تَعْلَموهم بمكةَ، وقد حبَسهم المشركون بها عنكم، فلا يستطيعون مِن أجلِ ذلك الخروجَ إليكم - فتقتُلوهم.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ} . حتى بلَغ: {بِغَيْرِ عِلْمٍ} : هذا حينَ رُدَّ محمدٌ صلى الله عليه وسلم وأصحابُه أن يدخُلوا مكةَ، فكان بها رجالٌ مؤمنون ونساءٌ مؤمناتٌ، فكرِه الله أن يُؤذوا أو يُوطَئوا بغيرِ علمٍ، {فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ}
(1)
.
واختلَف أهلُ التأويلِ في المعَرَّةِ التي عناها اللهُ في هذا الموضعِ؛ فقال بعضُهم عُنِي بها الإثمُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زِيدٍ في قولِه: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ} . قال: إثمٌ بغيرِ علمٍ
(2)
.
وقال آخرون: عُنِى بها غُرْمُ الدِّيةِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ: {فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 79 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 79 إلى المصنف.
بِغَيْرِ عِلْمٍ}: [والمعرةُ الغُرْمُ. أي: أن تُصِيبُوا منهم معرةً بغير علمٍ]
(1)
فتُخرِجوا دِيَتَه، فأمّا إثمٌ فلم يَخْشَه
(2)
عليهم
(3)
.
والمَعَرَّةُ هي المَفْعَلَة من العُرِّ، وهو الجَرَبُ.
وإنما المعنى: فتُصيبَكم من قِبَلِهم معرَّةٌ تُعَرُّون بها، يَلْزَمُكم من أجلِها كفارةُ قتلِ الخطأ،؛ وذلك عِتْقُ رقبةٍ مؤمنةٍ مَن أطاق ذلك، ومَن لم يُطِق فصيامُ شهرين.
وإنما اختَرْتُ هذا القولَ دونَ القولِ الذي قاله ابن إسحاقَ؛ لأنّ الله إنما أوجَب على قاتلِ المؤمنِ في دارِ الحربِ إذا لم يكنْ هاجَر منها، ولم يكنْ قاتِلُه عَلم إيمانَه - الكفارةَ دونَ الدِّيَةِ، فقال:{فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92]. ولم يُوجِبْ على قاتلِه خطأ دِيَةً
(4)
، فلذلك قلنا: عُنِى بالمعرَّةِ في هذا الموضعِ الكفارةُ.
و {أَنْ} مِن قولِه: {أَنْ تَطَئُوهُمْ} في موضعِ رفعٍ، ردًّا على "الرجال"؛ لأن معنى الكلامِ: ولولا أن تطَئوا رجالًا مؤمنين ونساءً مؤمناتٍ لم تَعْلموهم، فتُصيبَكم منهم مَعَرَّةٌ بغيرِ علمٍ - لأذِن اللهُ لكم أيُّها المؤمنون في دخولِ مكةَ، ولكنه حال بينَكم وبينَ ذلك؛ {لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ}. يقولُ: ليُدْخِلَ اللهُ في الإسلامِ مِن أهلِ مكةَ مَن يشاءُ قبل أن تَدْخُلوها. وحُذِف جوابُ "لولا" استغناءً بدلالةِ الكلامِ عليه.
وقولُه: {لَوْ تَزَيَّلُوا} . يقولُ: لو تَميَّز الذين في مشركي مكةَ مِن الرجالِ المؤمنين والنساءِ المؤمناتِ، الذين لم تَعْلموهم منهم، ففارَقوهم وخرَجوا مِن بين
(1)
سقط من النسخ والمثبت من مصدر التخريج.
(2)
في م: "يحسبه"، وفى ت:2 "يحببه"، وفى ت:"يحبسه".
(3)
سيرة ابن هشام 2/ 321.
(4)
في ص، م، ت 2 ت 3:"ديته".
أظْهُرِهم {لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} . يقولُ: لقتَلْنا مَن بَقِى فيها بالسيفِ، أو: لأهلَكْناهم ببعضِ ما يُؤلِمُهم مِن عذابِنا العاجلِ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{لَوْ تَزَيَّلُوا} الآية: إنّ الله يَدفعُ بالمؤمنين
(1)
عن الكفارِ
(2)
.
حُدِّثتُ عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبَرنا عبيدٌ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ} : يعنى أهلَ مكةَ، كان فيهم مؤمنون مُستضعَفون، يقولُ اللهُ: لولا أولئك المُستَضْعَفون، لو قد تَزَيَّلوا لعذَّبنا الذين كفَروا مِنهم عذابًا أَلِيمًا.
حدَّثنا يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {لَوْ تَزَيَّلُوا} : لو تَفرَّقوا، فَتَفرَّق المؤمنُ مِن الكافرِ، {لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26)} .
يعني تعالى ذكرُه بقولِه: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"المؤمنين".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 79 إلى المصنف.
الْجَاهِلِيَّةِ}: حينَ جعَل سُهَيلُ بنُ عمرٍو في قلبه الحمِيَّةَ، فامتنَع أن يكتُبِ في كتابِ المقاضاةِ الذي كُتِب بينَ يدَىْ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم والمشركين: بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ. وأن يكتُبَ فيه: محمدٌ رسولُ اللهِ، وامتنَع هو وقومُه مِن دخولِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم العامَه ذلك.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن الزُّهريِّ، قال: كانت حميَّتُهم التي ذكَر الله: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} . أنهم لم يُقِرُّوا [بـ "بسم]
(1)
اللهِ الرحمنِ الرحيمِ"، وحالوا بينهم وبينَ البيتِ
(2)
.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا يحيى بنُ سعيدٍ، قال: ثنا عبدُ اللهِ بنُ المباركِ، عن معمرٍ، عن الزهريِّ بنحوِه
(3)
.
حدَّثني عمرُو بنُ محمدٍ العثمانيُّ، قال: ثنا إسماعيلُ بنُ أبي أُوَيْسٍ، قال: ثنى أخى، عن سليمانَ، عن يحيى بن سعيدٍ، عن ابن شهابٍ، عن سعيدِ بن المسيِّبِ أن أبا هريرةَ أخبَره أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال:"أُمِرْتُ أَنْ أُقاتِلَ النَّاسَ حتى يَقولوا: لا إلهَ إلا اللهُ. فمن قال: لا إلهَ إلا اللهُ. فقد عصَم منِّي مالَه ونَفْسَه، إلا بحقِّه، وحسابُه على اللهِ". وأنزَل اللهُ في كتابِه، فذكَر قومًا استكبَروا، فقال: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"أنه بسم"، وفى م:"بسم" والمثبت مما تقدم.
(2)
جزء من الحديث الطويل المتقدم في ص 296 - 303.
(3)
تقدم تخريجه في ص 304.
قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [الصافات: 35]. وقال اللهُ: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} . وهى: لا إلهَ إلا الله، محمدٌ رسولُ اللهِ، استكبَر عنها المشركون يومَ الحديبيةِ؛ يومَ كاتَبهم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم على قضيَّة المُدَّة
(1)
.
و {إِذْ} مِن قولِه: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا} . من صلِة قولِه: {لَعَذَّبْنَا} . وتأويلُ الكلامِ: لعذَّبنا الذين كفروا منهم عذابًا أليمًا، حينَ جعَل الذين كفروا في قلوبِهم الحَميَّةَ.
والحَمِيَّةُ فَعِيلَةٌ، من قولِ القائلٍ: حَمَى فلانٌ أَنْفَه حَمِيَّةٌ ومَحْمِيَّةً، ومنه قولُ المُتَلمِّسِ
(2)
:
أَلَا إِنَّنِي منهم وعِرْضِيَ عِرْضُهُمْ
…
كذا الرأسُ يَحْمِي أَنْفَه أن يُكَشَّما
(3)
يعنى بقولِه: يَحْمِي: يمنعُ.
وقال: {حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} ؛ لأن الذي فعَلوا من ذلك كان جميعُه من أخلاقِ أهلِ الكفرِ، ولم يكنْ شيءٌ منه مما أذِن الله لهم به، ولا أحدٌ رسلِه.
وقولُه: {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: فأنزل اللهُ الصبرَ والطُّمَأنينة والوقارَ على رسولِه وعلى المؤمنين؛ إذْ حَمِي
(1)
أخرجه البيهقى في الأسماء والصفات (196) من طريق إسماعيل بن أبي أويس به، وأخرجه ابن حبان (218) من طريق الزهرى به.
(2)
ديوانه ص 21.
(3)
كشم أنفَه: قطعه باستئصال. الوسيط (ك ش م).
الذين كفروا حمِيَّةَ الجاهليةِ، ومنَعوهم مِن الطوافِ بالبيتِ، وأبَوا أن يَكْتُبوا في الكتابِ بينَه وبينَهم: بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ، ومحمدٌ رسولُ اللهِ. {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى}. يقولُ: ألزَمهم قولَ: لا إلهَ إلا الله، [الذي يتَّقون به]
(1)
النارَ وأليمَ العذابِ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ، على اختلافٍ في ذلك منهم، ورُوِى به الخبر عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
ذكرُ قائلى ذلك بما قلنا فيه، والخبرِ الذي ذكَرْنا عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم
حدَّثنا الحسنُ بنُ قَزَعةَ الباهليُّ، قال: ثنا سفيانُ بنُ حَبيبٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن ثُوَيْرِ
(2)
بن أبى فاختةَ، عن أبيه، عن الطفيلِ، عن أبيه، سمِع رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ:{وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} . قال: لا إلهَ إلا اللهُ"
(3)
.
حدَّثني محمدُ بنُ خالدِ بن خداشٍ العَتَكيُّ، قال: سمِعتُ سَلْمًا
(4)
، سمِع شعبةَ، سمِع سلمةَ بنَ كهيلٍ، سمِع عَبايةَ، سمِع عليًّا رضي الله عنه في قولِه:{وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} . قال: لا إلهَ إلا اللهُ
(5)
.
حدَّثني ابن بشارٍ، قال: ثنا يحيى وعبدُ الرحمنِ، قالا: ثنا سفيانُ، عن سلمةَ، عن عبايةَ بن رِبعيٍّ، عن عليٍّ رضي الله عنه في قولِه: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ
(1)
في م: "التي يتقون بها".
(2)
في م: "ثور". وتنظر ترجمته في تهذيب الكمال 4/ 429.
(3)
أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند 5/ 138، والترمذى (3265) والطبراني (536)، والبيهقى في الأسماء والصفات (200) عن الحسن بن قزعة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 80 إلى الدارقطني في الأفراد وابن مردويه.
(4)
في النسخ: "سالما". وهو سلم بن قتيبة، وقد تقدم على الصواب في 14/ 298، 299، 15/ 451.
(5)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 229، والطبراني في الدعاء (1608) من طريق شعبة به.
التَّقْوَى}. قال: لا إلهَ إلا اللهُ، واللهُ أكبرُ
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عيسى الدامَغَانيُّ، قال: ثنا ابن المباركِ، عن سفيانَ وشعبةَ، عن سلمةَ بن كُهيلٍ، عن رجلٍ، عن عليٍّ رضي الله عنه قال: لا إلهَ إلا اللهُ، واللهُ أكبرُ.
حدَّثنا ابن المثنى، قال: ثنا وهبُ بنُ جريرٍ، عن شعبةَ، عن سلمة، عن عَبايةَ
(2)
- رجل من بني تميمٍ - عن عليٍّ رضي الله عنه: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} . قال: لا إلهَ إلا اللهُ.
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولِه:{وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} . يقولُ: شهادةَ ألا إلهَ إلا اللهُ، فهي كلمةُ التقوى. يقولُ: فهى رأسُ التقوى
(3)
.
حدَّثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، قال: سمِعتُ أبا إسحاقَ يُحَدِّثُ عن عمرُو بنُ ميمونٍ أنه كان يقولُ في هذه الآيةِ: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} . قال: لا إلهَ إلا اللهُ
(4)
.
حدَّثني محمد بنُ عيسى، قال: أخبَرنا ابن المباركِ، قال: أخبَرنا سفيانُ، عن أبي إسحاقَ، عن عمرُو بنُ ميمونٍ مثلَه
(5)
.
(1)
تفسير سفيان ص 278، ومن طريقه الطبراني في الدعاء (1607)، والحاكم 2/ 461، والبيهقي في الأسماء والصفات (197)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 80 إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
بعده في م: "عن".
(3)
أخرجه الطبراني في الدعاء (1611)، والبيهقى في الأسماء والصفات (199) من طريق أبي صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 80 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.
(4)
أخرجه أبو نعيم في الحلية 4/ 149 من طريق محمد بن جعفر به
(5)
تفسير سفيان ص 278، ومن طريقه الطبراني في الدعاء (1614).
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن أبي إسحاقَ، عن عمرِو بن ميمونٍ:{وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} . قال: لا إلهَ إلا اللهُ.
قال: ثنا سفيانُ، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ:{وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} .
قال: لا إلهَ إلا اللهُ
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} : وهى شهادةُ ألا إلهَ إلا اللهُ
(2)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} . قال: هي لا إلهَ إلا اللهُ
(3)
.
حُدِّثتُ عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبَرنا عبيدٌ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} : هي لا إلهَ إلا اللهُ
(4)
.
حدَّثني سعدُ بنُ عبدِ اللهِ بن عبدِ الحكمِ، قال: ثنا حفصُ بنُ عمرَ، قال: ثنا الحكمُ بنُ أبانٍ، عن عكرمةَ في قولِه:{وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} . قال: شهادة ألا إلهَ إلا اللهُ
(5)
.
(1)
تفسير سفيان ص 278، ومن طريقه عبد بن حميد في تفسيره - كما في تغليق التعليق 5/ 202 - وأخرجه الطبراني في الدعاء (1620) من طريق ليث، عن مجاهد.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 229 عن معمر، عن قتادة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 80 إلى عبد بن حميد.
(3)
ذكرُه البغوي في تفسيره 7/ 321.
(4)
أخرجه الطبراني في الدعاء (1616) من طريق جويبر، عن الضحاك به.
(5)
أخرجه الطبراني في الدعاء (1621) من طريق الحكم بن أبان به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 80 إلى عبد بن حميد.
حدَّثني ابن البَرْقيِّ، قال: ثنا عمرُو بنُ أبي سلمةَ، عن سعيدِ بن عبدِ العزيزِ، عن عطاءٍ الخُراسانيِّ:{وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} . قال: لا إلهَ إلا اللهُ، محمدٌ رسولُ اللهِ
(1)
.
حدَّثني الضِّراريُّ
(2)
محمدُ بنُ إسماعيلَ، قال: ثنا محمدُ بنُ سَوارٍ، قال: ثنا سفيانُ بنُ عيينةَ، عن يزيدَ
(3)
أبي خالدٍ المكيِّ، عن عليٍّ الأزْديِّ، قال: كنتُ مع ابن عمرَ بينَ مكةَ ومِنًى بالمَأْزِمَيْن
(4)
، فسمِع الناسَ يقولون: لا إلهَ إلا اللهُ، واللهُ أكبرُ. فقال: هي هي. فقلتُ: ما هي؟ قال: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا}
(5)
.
وقال آخرون: [بل كلمةُ التقوى الإخلاصُ]
(6)
.
ذكر من قال ذلك
حدَّثني عليُّ بنُ الحسينِ الأزْديُّ، قال: ثنا يحيى بنُ يمانٍ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ:{وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} . قال: الإخلاصَ
(7)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى
(1)
أخرجه الطبراني في الدعاء (1618) من طريق سعيد بن عبد العزيز به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 180 إلى عبد بن حميد.
(2)
في ص، م، ت 2، ت 3:"الصوارى". وتقدم على الصواب في 16/ 195.
(3)
بعده في النسخ: "بن"، وهو يزيد أبو خالد المؤذن مولى ابن مشاطة. تنظر ترجمته في التاريخ الكبير 8/ 328.
(4)
المأزمان: موضع بمكة بين المشعر الحرام وعرفة. معجم البلدان 4/ 391، 392.
(5)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره، 2/ 229، والطبراني في الدعاء (1612)، والبيهقي في الأسماء والصفات (198) من طريق سفيان بن عيينة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 80 إلى سعيدِ بن منصور وابن المنذر وابن مردويه.
(6)
في م، ت 2، ت 3:"بل هي كلمة التقوى للإخلاص":
(7)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 80 إلى المصنف.
الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{كَلِمَةَ التَّقْوَى} : كلمةَ الإخلاصِ
(1)
.
وقال آخرون: هي قولُه: بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عيسى، قال: ثنا ابن المبارك، عن معمرٍ، عن الزهريِّ في قولِه:{وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} . قال: بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ
(2)
.
وقال آخرون: هي قولُ: لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، له الملكُ وله الحمدُ، وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا ابن يمانٍ، قال: أخبَرنا ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ وعطاءٍ:{وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} . قال أحدُهما: الإخلاصَ. وقال الآخرُ: كلمةُ التقوى: لا إلهَ إلا اللهُ وحده لا شريكَ له، له الملكُ وله الحمدُ، وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ
(3)
.
وقولُه: {وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} . يقولُ تعالى ذكرُه: وكان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم والمؤمنون أحقَّ بكلمةِ التقوى من المشركين، {وَأَهْلَهَا}. يقولُ: وكان
(1)
تفسير مجاهد ص 608.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 229 عن معمر به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 80 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
أخرجه الطبراني في الدعاء (1622) من طريق ابن يمان، عن ابن جريج، عن عطاء. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 80 إلى المصنف بتمامه.
رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم والمؤمنون أهل كلمة التقوى دونَ المشركين.
وذُكر أنها في قراءة عبدِ اللهِ: (وكانُوا أَهْلَها وَأحَقَّ بِها)
(1)
.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادة:{وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} : وكان المسلمون أحقَّ بها، وكانوا أهلَها - أي: التوحيدِ وشهادةِ ألا إلهَ إلا اللهُ، وأن محمدًا عبدهُ ورسولُه
(2)
.
وقولُه: {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} . يقولُ تعالى ذكرُه: ولم يَزَلِ اللهُ بكلِّ شيءٍ ذا علمٍ، لا يخفى عليه شيءٌ هو كائنٌ، ولِعِلْمِه أَيُّها الناسُ بما يَحْدُثُ مِن دخولِكم مكةَ وبها رجالٌ مؤمنون ونساءٌ مؤمناتٌ لم تَعْلموهم - لم يأذنْ لكم بدخولِ مكةَ في سَفْرتِكم هذه.
القولُ في تأويلِ قوله تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: لقد صدَق اللهُ رسولَه محمدًا رُؤْياه التي أرَاها إيَّاه؛ أنه يدخلُ هو وأصحابُه بيتَ اللهِ الحرامَ آمنين، لا يخافُون أهلَ الشركِ، مقصرًا بعضُهم رأسَه، ومُحلِّقًا بعضُهم.
وبنحوِ ما قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
(1)
قال الفراء في معاني القرآن 3/ 68: ورأيتها في مصحف الحارث بن سويد التيمي من أصحاب عبد الله: (وكانوا أهلها وأحق بها). وهو تقديم وتأخير، وكان مصحفه دفن أيام الحجاج.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 80 إلى المصنف.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعد، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ:{لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} . قال: هو دخولُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم البيتَ، والمؤمنون مُحلِّقين رءوسَهم ومُقصِّرين
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ} قال: أُرِى بالحُديبيةِ أنه يدخلُ مكةَ وأصحابُه محلِّقين، فقال أصحابُه حينَ نَحر بالحُديبيةِ: أين رُؤيا محمدٍ صلى الله عليه وسلم
(2)
؟
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ} . قال: رأى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أنه يطوفُ بالبيتِ وأصحابُه، فصدَّق الله رُؤياه فقال:{لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} . حتى بلَغ: {لَا تَخَافُونَ} .
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ في قولِه:{لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ} . قال: أُرِى في المنامِ أنَّهم يَدْخُلون المسجدَ الحرامَ، وأنهم آمِنون، محلِّقين رءوَسهم ومُقصِّرين
(3)
.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 80، 81 إلى المصنف وابن مردويه.
(2)
تفسير مجاهد ص 608، 609. ومن طريقه البيهقى في الدلائل 4/ 164. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 80 إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 227 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 81 إلى عبد بن حميد.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ} إلى آخرِ الآيةِ، قال: قال لهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "إنِّي قد رأيتُ أنَّكم ستدخُلون المسجدَ الحرامَ محلِّقين رءوسَكم ومقصِّرين". فلمّا نزَل بالحُديبيةِ ولم يَدْخُلْ ذلك العام، طعَن المنافقون في ذلك فقالوا: أين رُؤياه؟ فقال اللهُ: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ} . فقرَأ حتى بلَغ: {وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ} : إِنِّي لم أُرِهْ أنه يدخُلُها هذا العامَ، وليكوننَّ ذلك
(1)
.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ:{لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ} إلى قولِه: {إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} : الرؤيا رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم التي أُرِيها أنه سيدخلُ مكةَ آمِنًا لا يخافُ، يقولُ: مُحلِّقين ومقصِّرين لا تَخافون
(2)
.
وقولُه: {فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا} . يقولُ تعالى ذكرُه: فعَلِم اللهُ جلَّ ثناؤُه ما لم تَعْلَموا. وذلك عِلْمُه تعالى ذكرُه بما بمكةَ من الرجالِ والنساءِ المؤمنين الذين لم يَعْلَمُهم المؤمنون، ولو دخَلوها في ذلك العامِ لوَطِئوهم بالخيلِ والرَّحِل، فأصابتهم منهم مَعَرَّةٌ بغيرِ علمٍ، فردَّهم الله عن مكةَ من أجلِ ذلك.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا} . قال: ردَّه لمكانِ مَن بينَ أَظْهُرِهم من المؤمنين والمؤمناتِ، وأخَّرَه ليُدخلَ اللهُ في رحمتِه مَن يَشَاءُ؛ مَن يريدُ أَن يَهْدِيَه (1).
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 81 إلى المصنف.
(2)
سيرة ابن هشام 2/ 322.
وقولُه: {فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا} . اختَلَف أهلُ التأويلِ في الفتحِ القريبِ الذي جعَله اللهُ للمؤمنين، دون دخولهم المسجدَ الحرامَ محلِّقين رءوسِهم ومُقصِّرين؛ فقال بعضُهم: هو الصلحُ الذي جرَى بينَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وبينَ مُشرِكي قريشٍ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولِه:{مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا} . قال: النحرُ بالحُديبيةِ، ورجَعوا فافتَتَحوا خيبرَ، ثم اعتَمر بعدَ ذلك، فكان تصديقُ رؤياه في السنةِ القابلةِ
(1)
.
حدَّثنا ابن حُميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ، عن الزهريِّ قولَه:{فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا} . يعنى: صلحَ الحُديبيةِ، وما فُتِح في الإسلامِ فتحٌ كان أعظَمَ منه، إنما كان القتالُ حيث التَقَى الناسُ، فلمّا كانت الهدنةُ وُضِعت الحربُ، وأمِن الناسُ كلُّهم بعضُهم بعضًا، فالتقوا، فتفاوَضُوا في الحديثِ والمنازعةِ، فلم يُكَلَّمْ أحدٌ بالإسلام يَعْقِلُ شيئًا إلا دخَل فيه، فلقد دخَل في تَيْنك السَّنتَين في الإسلامِ مثلُ مَن كان في الإسلامِ قبلَ ذلك وأكثرُ
(2)
.
حدَّثنا ابن حُمَيدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ:{فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا} . قال: صلحَ الحُديبيةِ
(3)
.
(1)
تفسير مجاهد ص 609. ومن طريقه البيهقي في الدلائل 4/ 164. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 80 إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
أخرجه المصنف في تاريخه 2/ 638 عن ابن حميد به.
(3)
سيرة ابن هشام 2/ 322.
وقال آخرون: عُنى بالفتحِ القريبِ في هذا الموضعِ فتحُ خيبرِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا} . قال: خيبرَ، حين رجَعوا من الحُديبيةِ، فتَحها اللهُ عليهم، فقسَّمَها على أهلِ الحديبيةِ كلِّهم إلَّا رجلًا واحدًا من الأنصارِ يقالُ له: أبو دُجانة سِماكُ بنُ خَرَشةَ. كان قد شَهِد الحديبيةَ وغاب عن خيبرَ
(1)
.
وأولى الأقوالِ في ذلك بالصواب أن يُقالَ: إن الله أخبر أنَّه جعَل لرسولِه والذين كانوا معه مِن أهلِ بيعة الرضوانِ فتحًا قريبًا من دون دخولهم المسجدَ الحرامَ، ودون تصديقه رُؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان صلحَ الحُديبيةِ وفتحُ خيبرَ دونَ ذلك، ولم يَخْصصِ اللهُ تعالى ذكرُه خبرَه ذلك عن فتحٍ من ذلك دونَ فتحٍ، بل عمَّ ذلك، وذلك كلُّه فتحٌ جعَله اللهُ مِن دونِ ذلك.
والصوابُ أن يَعُمَّه كما عمَّه، فيقالُ: جعَل اللهُ مِن دونِ تصديقهِ رُؤيا رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بدخولِه وأصحابِه المسجدَ الحرامَ مُحلِّقين رءوسَهم ومقصِّرين، لا يخافون المشركِين - صُلح الحُديبية وفَتْحَ خيبر.
القولُ في تأويلِ قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 81 إلى المصنف.
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)}.
يعنى تعالى ذكرُه بقولِه: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى} : اللهُ
(1)
الذي
(2)
أرسَل رسولَه محمدًا صلى الله عليه وسلم بالبيانِ الواضحِ، {وَدِينِ الْحَقِّ} ، وهو الإسلامُ، الذي أرسَله داعيًا خَلْقَه إليه، {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ}. يقولُ: ليُبطِلَ به المِلَلَ كلَّها حتى لا يكونَ دينٌ سِواه، وذلك كان كذلك، حتى ينزلَ عيسى ابن مريمَ، فيقتُلَ الدجالَ، فحينئذٍ تبطُلُ الأديانُ كلُّها، غيرَ دينِ اللَّهِ الذي بعَث به محمدًا صلى الله عليه وسلم، ويظهرُ الإسلامُ على الأديانِ كلِّها.
وقولُه: {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} . يقولُ جلَّ ثناؤُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: أشْهَدَك يا محمدُ ربُّك على نفسِه، أنه سيُظهِرُ الدينَ الذي بعَثكَ به، {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا}. يقولُ: وحَسْبُك به شاهدًا.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن حُمَيدٍ، قال: ثنا يحيى بنُ واضحٍ، قال: ثنا أبو بكرٍ الهُذَليُّ، عن الحسنِ:{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} . يقولُ: أَشْهَدَ لك على نفسه أنَّه سيظهرُ دينَك على الدِّينِ كلِّه.
وهذا إعلامٌ من اللهِ تعالى نبيِّه صلى الله عليه وسلم، والذين كرِهوا الصُّلحَ يومَ الحديبيةِ من أصحابهِ، أن الله فاتحٌ عليهم مكةَ وغيرَها من البلدانِ، مُسَلِّيهم بذلك عمَّا نالَهم من
(1)
في م: "ودين الحق".
(2)
سقط من: ت 2، ت 3.
الكآبةِ والحزنِ، بانْصِرافِهم عن مكةَ قبلَ دُخولِهمُوها، وقبلَ طوافِهم بالبيتِ.
وقولُه: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} . يقولُ تعالى ذكرُه: محمدٌ رسولُ اللَّهِ، وأتباعُه مِن أصحابِه الذين هم معه على دينِه، أشداءُ على الكفارِ، غليظةٌ عليهم قلوبُهم، قليلةٌ بهم رحمتُهم، {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}. يقولُ: رقيقةٌ قلوبُ بعضُهم لبعضٍ، ليِّنةٌ أنفسهم لهم، هيِّنةٌ عليهم لَهم.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} : ألْقَى اللَّهُ في قلوبهم الرحمةَ، بعضُهم لبعضٍ
(1)
.
{تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} . يقولُ: تراهم رُكَّعًا أحيانًا للهِ في صلاتِهم، سُجَّدًا أحيانًا، {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ}. يقولُ: يلتمسون بركوعِهم وسُجودهم وشدَّتِهم على الكفارِ، ورحمةِ بعضُهم بعضًا، {فَضْلًا مِنَ اللَّهِ} ، وذلك رحمتُه إيَّاهم، بأن يتفضَّلَ عليهم فيُدخلَهم جنَّتَه، {وَرِضْوَانًا}. يقولُ: وأن يرضَى عنهم ربُّهم.
وقولُه: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} . يقولُ: علامتُهم في وجوهِهم من أثرِ السُّجودِ في صلاتِهم.
ثم اختَلَف أهلُ التأويلِ في "السِّيما" الذي عَنَاهِ اللَّهُ في هذا الموضعِ؛ فقال بعضُهم: ذلك علامةٌ يجعَلُها اللهُ في وجوهِ المؤمنين يومَ القيامةِ، يُعْرَفون بها؛ لِمَا كان من سجودِهم له في الدُّنيا.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعد، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 83 إلى المصنف وعبد بن حميد
أبيه، عن ابن عباسٍ:{سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} . قال: صلاتُهم تَبْدُو في وجوهِهم يومَ القيامةِ
(1)
.
حدَّثنا ابن حُميد، قال: ثنا يحيى بنُ واضحٍ، قال: ثنا عبيدُ اللَّهِ العَتَكِيُّ، عن خالدٍ الحنفيِّ قولِه:{سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} . قال: يُعرَفُ ذلك يومَ القيامةِ في وجوهِهم، من أثرِ سجودِهم في الدنيا، وهو كقولِه:{تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ}
(2)
[المطففين: 24].
حدَّثني عبيدٌ بن أسباط بن محمد، قال: ثنا أبي، عن فُضَيلِ بن مرزوقٍ، عن عطيةَ في قولِه:{سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} . قال: مواضعُ السجودِ من وجوهِهم يومَ القيامةِ أشدُّ وجوههم بياضًا
(3)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ عمارةَ، قال: ثنا عبيدُ اللَّهِ بن موسى، قال: أخبَرنا ابن فُضَيلٍ، عن فُضَيلٍ، عن عطيةَ بنحوِه.
حدَّثني أبو السائبِ، قال: ثنا ابن فُضَيل، عن فضيلٍ، عن عطيةَ بنحوِه.
حدَّثنا مجاهدُ بنُ موسى، قال: ثنا يزيدُ، قال: أخبَرنا فُضَيلٌ، عن عطيةَ مثلَه.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا المعتمرُ، قال: سمِعتُ شبيبًا يقولُ عن مُقاتلِ بن حيان، قال:{سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} . قال: النورُ يومَ القيامةِ.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 83 إلى المصنف وابن مردويه.
(2)
ذكره أبو حيان في البحر المحيط 8/ 102.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 28 إلى المصنف وسعيد بن منصور وعبد بن حميد ومحمد بن نصر في الصلاة.
حدَّثنا ابن سنان القزَّازُ، قال: ثنا هارونُ بنُ إسماعيل، قال: قال عليُّ بنُ المبارَكِ: سمِعتُ غيرَ واحدٍ عن الحسنِ في قولِه: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} . قال: بياضًا في وجوهِهم يومَ القيامةِ
(1)
.
وقال آخرون: بل ذلك سيما الإسلامِ وسَمْتُه وخشوعُه، وعُنى بذلك أنه يُرَى من ذلك عليهم في الدُّنيا.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ في قولِه:{سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ} . قال: السَّمْتُ الحسَنُ
(2)
.
حدَّثنا
(3)
مجاهدٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا الحسنُ بن عُمارةَ، عن الحكمِ، عن مجاهدٍ، عن ابن عباسٍ في قولِه:{سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} . قال: أما إنه ليس بالذي تَرَوْن، ولكنه سيما الإسلامِ وسَخْنتُه
(4)
وسَمْتُه وخشوعُه
(5)
.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا أبو عامرٍ، قال: ثنا سفيانُ، عن حميدٍ الأعرجِ، عن مجاهدٍ:{سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} . قال: الخشوعُ والتواضعُ
(6)
.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 82 إلى المصنف ومحمد بن نصر في الصلاة وعبد بن حميد.
(2)
أخرجه البيهقى 2/ 286 من طريق عبد الله بن صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 82 إلى محمد بن نصر وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
في م، ت 2، ت 3:"قال ثنا".
(4)
في ص: "سحيته"، وفى ت 2، ت 3:"سجيته".
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 82 إلى المصنف.
(6)
تفسير سفيان ص 278، ومن طريقه ابن المبارك في الزهد (174)، وعبد الرزاق في تفسيره 2/ 228، والفريابي - كما في التغليق 4/ 313 - والحافظ في نفس الموضع، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 82 إلى عبد بن حميد ومحمد بن نصر في الصلاة.
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا مُؤَمَّلٌ، قال: ثنا سفيانُ، عن حميدٍ الأعرجِ، عن مجاهدٍ مثلَه.
قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا سفيانُ، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ:{سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} . قال: الخشوعُ
(1)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ المثنى، قال: ثنا
(2)
محمدُ بنُ جعفرٍ، عن شعبةَ، عن الحكمِ، عن مجاهدٍ في هذه الآية:{سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} . قال: السَّحْنةُ
(3)
.
حدَّثنا ابن حُمَيدٍ، قال: ثنا جريرٌ عن منصورٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} . قال: هو الخشوعُ. فقلتُ: هو أثرُ السجودِ؟ فقال: إنه يكونُ بين عينَيْه مثلَ ركبةِ العَنْزِ، وهو كما شاء اللهُ
(4)
.
وقال آخرون: ذلك أثرٌ يكون في وجوه المُصَلِّين مثلَ أَثَرِ السَّهَرِ الذي يَظْهَرُ في الوجْهِ مثلَ
(5)
الكَلفِ، والتهيُّجِ، والصَّفْرة، وما أشْبَه ذلك مما يُظهِرُه السَّهَرُ والتَّعبُ في الوجه. ووجُّهوا التأويلَ في ذلك إلى أنه سيما في الدنيا.
(1)
تفسير سفيان ص 278، ومن طريقه ابن المبارك في الزهد (173)، وعبد الرزاق في تفسيره 2/ 228 وعبد بن حميد - كما في الفتح 8/ 582 - والحافظ في التغليق 4/ 314، وأخرجه ابن أبي حاتم - كما في تفسير ابن كثير 7/ 342، والفتح 8/ 582 - وأبو نعيم في الحلية 3/ 282، من طريق منصور به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 82 إلى سعيد بن منصور ومحمد بن نصر في الصلاة.
(2)
بعده في ت 2 ت 3: "أبو عاصم".
(3)
في ص: "السحية"، وفي ت 3:"السجية"
والأثر أخرجه ابن أبي حاتم - كما في التغليق 4/ 313 - من طريق شعبة به.
(4)
أخرجه البيهقى (2/ 287، والحافظ في التغليق 4/ 313 من طريق جرير به.
(5)
في ص، ت 1:"من".
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يمانٍ، عن سفيانَ، عن رجل، عن الحسنِ:{سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} . قال: الصُّفرةُ.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا المعتمر، عن أبيه، قال: زعَم الشيخُ الذي كان يقُصُّ في عُسْرٍ، وقرَأ:{سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} . فزعَم أنه السَّهَرُ يُرى في وجوههم.
حدَّثنا ابن حُمَيدٍ، قال: ثنا يعقوبُ القُمِّيُّ، عن حفصِ بن حميدٍ، عن شِمْرِ بن عَطيةَ في قولِه:{سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ} . قال: تهيُّجٌ في الوجْهِ مِن سَهَرِ الليل
(1)
.
وقال آخرون: ذلك آثارٌ تُرَى في الوجْهِ مِن ثَرَى الأَرضِ، أو نَدَى الطَّهُورِ.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا حَوْثَرَةُ بنُ محمدٍ المنْقَرى، قال: ثنا حمادُ بنُ مَسْعَدَةَ، وحدَّثنا ابن حُمَيدٍ، قال: ثنا جريرٌ، جميعًا عن ثعلبةَ بن سُهَيلٍ، عن جعفرِ بن أبي المُغيرة، عن سعيدِ بن جُبيرٍ في قولِه:{سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} . قال: ثَرَى الأرض، ونَدَى الطَّهُورِ
(2)
.
حدَّثنا ابن سنان القزَّازُ، قال: ثنا هارونُ بنُ إسماعيلَ، قال: ثنا عليُّ بنُ المبارَكِ، قال: ثنا مالكُ بنُ دينارٍ، قال: سمِعتُ عكرِمة يقولُ: {سِيمَاهُمْ فِي
(1)
ذكرُه القرطبي في تفسيره 16/ 294.
(2)
أخرجه سعيد بن منصور - كما في الدر المنثور 6/ 82 - ومن طريقه البيهقى 2/ 287 من طريق جرير وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 82 إلى عبد بن حميد وابن المنذر ومحمد بن نصر في الصلاة.
وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ}. قال: هو أثرُ الترابِ
(1)
.
وأولى الأقوالِ في ذلك بالصوابِ أن يُقالَ: إن الله تعالى ذكرُه أخبَرنا أن سيما هؤلاء القومِ الذين وصف صفتَهم في وجوهِهم من أثرِ السُّجودِ، ولم يخُصَّ ذلك على وقتٍ دونَ وقتٍ. وإذ كان ذلك كذلك، فذلك على كلِّ الأوقاتِ، فكان سيماهم الذي كانوا يُعرفون به في الدنيا آثارَ
(2)
الإسلامِ، وذلك خشوعُه وهَدْيُه
(3)
وسَمْتُه، وآثارُ عناءِ
(4)
فرائضِه وتطوُّعِه، وفى الآخرةِ ما أخبَر أنهم يُعرفون به، وذلك الغُرَّةُ في الوجْهِ والتَّحجيل في الأيْدِى والأَرْجُلِ من أثرِ
(5)
الوضوءِ، وبياضُ الوجوهِ من أثرِ
(5)
السُّجودِ.
وبنحوِ الذي قُلنا في معنى السِّيما قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} . يقولُ
(6)
: علامتُهم - أو أعلِمتُهم - الصلاةُ
(7)
.
وقولُه: {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ} . يقولُ: هذه الصفةُ التي وصَفتُ لكم من صفة تُبَّاعِ محمد صلى الله عليه وسلم الذين معه صفِتُهم في التوراةِ.
(1)
ذكره البغوي في تفسيره 7/ 324.
(2)
في م: "أثر".
(3)
بعده في م: "وزهده".
(4)
في م: "أداء".
(5)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"آثار".
(6)
في ص، ت 1:"يقال".
(7)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 228 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 83 إلى عبد بن حميد.
وقولُه: {وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ} . يقولُ: وصفتُهم في إنجيلِ عيسى صفةُ زرعٍ أخرَج شَطْأَه. وهو فِراخُه، يقالُ منه: قد أَشْطَأ الزرعُ. إذا أفرَخ، فهو يُشْطِيُّ إِشْطَاءً. وإنما مَثْلَهم بالزرع المُشْطِيُّ؛ لأنهم ابتَدَءوا في الدخولِ في الإسلامِ وهم عددٌ قليلون، ثم جعَلوا يتزايدون، ويدخلُ فيه الجماعةُ بعدَهم، ثم الجماعةُ بعدَ الجماعةِ، حتى كَثُرَ عددُهم، كما يحدثُ في أصلِ الزرعِ الفرخُ منه، ثم الفرخُ بعدَه، حتى يَكْثُرَ ويَنْمِيَ.
وبنحوِ الذي قُلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنى معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولِه:{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} : أصحابُه، {مَثَلُهُمْ}. يعني: نعتُهم مكتوبٌ
(1)
في التوراةِ والإنجيلِ قبلَ أن يَخلُقَ السماواتِ والأرضَ
(2)
.
حدَّثنا ابن حُمَيدٍ، قال: ثنا يحيى بنُ واضحٍ، قال: ثنا عبيدٌ، عن الضحاكِ:{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} إلى قولِه: {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ} . ثم قال: {وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ} الآية.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ}. أي: هذا المثلُ في التوراة، {وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ}: فهذا مثلُ أصحابِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في الإنجيل
(3)
.
(1)
في م: "مكتوبا".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 83 إلى المصنف وابن مردويه وابن المنذر.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 83 إلى المصنف وعبد بن حميد.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ في قولِه:{سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} . قال: ذلك مَثَلُهم في التَّوارةِ، ومَثَلُهم في الإنجيلِ كَزرعٍ أخرَج شَطأه
(1)
.
حُدِّثْتُ عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا مُعاذٍ يقولُ: أخبَرنا عبيدٌ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ} . يعنى: السِّيما في الوجوهِ مَثَلُهم في التوراةِ، وليس بمَثَلِهِم في الإنجيلِ، ثم قال عز وجل:{وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ} الآية: هذا مَثَلُهم في الإنجيلِ.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} : ذلك مَثَلُهم في التَّوراةِ، ومَثَلُهم في الإنجيلِ كزرعٍ أخرَج شطأه.
حدَّثنا عمرُو بنُ عبدِ الحميد، قال: ثنا مَرْوانُ بنُ معاويةَ، عن جُوَيبرٍ، عن الضحاكِ في قولِ اللهِ:{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} الآية. قال: هذا مَثَلُهم في التوراةِ، ومَثَلٌ آخرُ في الإنجيلِ:{كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ} الآية
(2)
.
وقال آخرون: هذان المَثَلانِ في التوراةِ والإنجيل مَثَلُهم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 228 عن معمر به.
(2)
ينظر زاد المسير 7/ 484.
في قولِه: {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ} والإنجيلِ واحدٌ
(1)
.
وأولى القولين في ذلك بالصوابِ قولُ مَن قال: مَثَلُهم في التوراةِ غيرُ مَثَلِهم في الإنجيلِ، وأن الخبرَ عن مَثَلِهم في التوراةِ مُتَناهٍ عند قولِه:{ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ} . وذلك أن القولُ لو كان كما قال مجاهدٌ مِن أن مَثَلَهم في التوراةِ والإنجيلِ واحدٌ، لكان التنزيلُ: ومَثَلُهم في الإنجيلِ وكزرعٍ أخرَج شَطْأَه. فكان تمثيلُهم بالزرع معطوفًا على قولِه: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} . حتى يكونَ ذلك خبرًا عن أن ذلك مَثَلُهم في التوراةِ والإنجيلِ، وفى مجيءِ الكلامِ بغيرِ واوٍ في قولِه:{كَزَرْعٍ} دليل بَيِّنٌ على صحَّةِ ما قُلنا، وأن قولِه:{وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ} . خبرٌ مبتدأٌ عن صفتِهم التي هي في الإنجيلِ دونَ ما في التوراةِ منها.
وبنحوِ الذي قُلنا في قولِه: {أَخْرَجَ شَطْأَهُ} . قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يحيى بنُ إبراهيمَ المسعوديُّ، قال: ثنا أبي، عن أبيه، عن جدِّه، عن الأعمشِ، عن خَيثمةَ، قال: بَيْنا عبدُ اللَّهِ يُقْرِئُ رجلًا عند غروبِ الشمسِ، إذ مرَّ بهذه الآيةِ:{كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ} . قال: أنتم الزرعُ، وقد دنا حصادُكم
(2)
.
قال: ثنا يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا ابن عُلَيةَ، عن حُميدٍ الطويلِ، قال: قرَأ أنسُ بن مالكٍ: {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ} . قال: أتدرون ما شَطْؤُه؟ قال: نباتُه
(3)
.
(1)
تفسير مجاهد ص 609.
(2)
أخرجه الحاكم 2/ 461، والبيهقى 9/ 5 من طريق الأعمش به، وأخرجه ابن أبي شيبة 15/ 153 من طريق الأعمش، عن طلحة، عن خيثمة به.
(3)
في ص، ت 1، ت 2 ت 3:"تمامه".
والأثر أخرجه عبد بن حميد - كما في التغليق 4/ 314 - من طريق حميد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 83 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولِه:{ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ} . قال: سُنْبلَه حين يتسلعُ نباتُه عن حباتِه
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ} . قال: هذا مَثَلُ أصحاب محمدٍ صلى الله عليه وسلم في الإنجيلِ، قيل لهم: إنه سيخرجُ قومٌ يَنبُتون نباتَ الزرعِ؛ منهم قومٌ يأمرون بالمعروفِ ويَنْهَون عن المنكر
(2)
.
حدَّثنا ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ والزهريِّ:{كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ} . قالا: أخرج نباتُه
(3)
.
حُدِّثتُ عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبَرنا عبيدٌ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ} . يعني: أصحابَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، يكونون قليلًا، ثم يزدادون ويكثُرون ويستَغْلِظون
(4)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابنِ زيدٍ في قولِه: {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ} : أولادَه، ثم كثُرت أولادُه
(5)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثنى
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 83 إلى المصنف وابن مردويه.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 83 إلى المصنف وعبد بن حميد.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 228 عن معمر به.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 83 إلى المصنف وابن المنذر.
(5)
ذكره القرطبي في تفسيره 16/ 294.
الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ} . قال: ما يخرُجُ بجنبِ الحَقْلةَ، فيتمُّ ويَنمِي
(1)
.
وقولُه: {فَآزَرَهُ} . يقولُ: فقَوَّاه. أي: قوَّى الزرع شَطوه وأعانَه، وهو من المؤازَرةِ التي بمعنى المعاونةِ، {فَاسْتَغْلَظَ}. يقولُ: فغَلُظ الزرعُ {فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} . والسوقُ: جمعُ ساقٍ، وساقً الزرعِ والشجرِ: حاملتُه.
وبنحوِ الذي قلُنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعد، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ:{فَآزَرَهُ} . يقولُ: نباتُه مع التفافِه
(2)
حينَ يُسَنبِلُ، {ذَلِكَ مَ ثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ}: فهو مَثَلٌ ضرَبه لأهلِ الكتابِ إذا خرَج قومٌ ينْبُتون كما يَنبُتُ الزرعُ، فيبلغُ فيهم رجالٌ يأمرون بالمعروفِ ويَنْهَون عن المنكرِ، ثم يَغْلُظون، فهم أولئك الذين كانوا معهم. وهو مَثَلٌ ضرَبه اللهُ لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، يقولُ: بعَث اللهُ النبي صلى الله عليه وسلم وحده، ثم اجتَمَع إليه ناسٌ قليلٌ يؤمنون به، ثم يكونُ القليلُ كثيرًا ويَسْتَغلِظون، ويغيظُ اللَّهُ بهم الكفارَ
(3)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ
(1)
تفسير مجاهد ص 609، ومن طريقه عبد بن حميد - كما في تغليق التعليق 4/ 314 - وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 83 إلى ابن المنذر.
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"الساقه".
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 83 إلى المصنف وابن مردويه.
في قولِه: {فَآزَرَهُ} . قال: فشَدَّه وأعانَه. وقولُه: {عَلَى سُوقِهِ} . قال: أصولِه
(1)
.
حدَّثنى ابن عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ والزهريِّ:{فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} . يقولُ: فتلاحقَ
(2)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {فَآزَرَهُ} : اجتمع ذلك فالتفَّ. قال: وكذلك المؤمنون؛ خرَجوا وهم قليلٌ ضعفاءُ، فلم يَزَلِ اللَّهُ يَزيدُ فيهم، ويؤيدُهم بالإسلامِ، كما أيَّدَ هذا الزرعَ بأولادِه فآزَرَه، فكان مَثَلًا للمؤمنين.
حدَّثني عمرُو بنُ عبدِ الحميدِ، قال: ثنا مروانُ بن معاويةَ، عن جُوَيبرٍ، عن الضحاكَ:{كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} . يقولُ: [حبُّ بُرٍّ نُثِر]
(3)
متفرِّقًا، فتُنبِتُ كلُّ حبةٍ واحدةً، ثم أنبَتت كلُّ واحدةٍ منها حتى اسْتَغْلَظ فاستَوى على سُوقِه، قال: يقولُ: كان أصحابُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم قليلًا، ثم كَثُروا، ثم اسْتَغلَظوا، ليَغيِظَ اللهُ بهم الكفارَ
(4)
.
وقولُه: {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: يعجبُ هذا الزرعُ الذي اسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى على سوقه، في تمامه وحُسنِ نباتُه، وبلُوغه وانتهائِه، الذين زَرَعوه؛ {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ}. يقولُ: فكذلك مَثَلُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم وأصحابُه، واجتماعِ عددِهم، حتى كَثُروا ونَمَوا، وغَلُظ أمرُهم، كهذا
(1)
تفسير مجاهد ص 609، ومن طريقه عبد بن حميد - كما في التغليق 4/ 314 - وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 83 إلى ابن المنذر.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 228 عن معمر به.
(3)
في ص، ت 1 ت 2:"حيث يثر يثر"، وفى ت:"حيث ثير ثير".
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 83 إلى المصنف وابن المنذر.
الزرعِ الذي وصف جلَّ ثناؤُه صفته، ثم قال:{لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} . فدلَّ ذلك على متروكٍ من الكلامِ، وهو أن الله تعالى فعل ذلك بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم وأصحابِه ليَغيظَ بهم الكفارَ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعد، قال: ثنى أبي، قال: ثني عمِّي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ:{لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} . يقولُ اللهُ: مَثَلُهم كمثلِ زرعٍ أَخْرَج شَطْأَهُ فَآزَرَه، فاسْتَغلظَ، فاستوى على سوقه، حتى بلَغ أحسنَ النباتِ، يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ من كثرتِه وحُسْنِ نباتِه
(1)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قولِه: {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ} . قال: يعجب الزُّرَّاعَ حُسنُه، {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ}: بالمؤمنين، لكثرتِهم، فهذا مَثَلُهم في الإنجيلِ.
وقولُه: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} . يقولُ تعالى ذكرُه: وعَدَ الله الذين صدَّقوا الله ورسولَه، {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}. يقولُ: وعَمِلوا بما أمرهم اللهُ به من فرائضِه التي أوجَبها عليهم.
وقولُه: {مِنْهُمْ} . يعنى: من الشَّطْءِ الذي أخرَجه الزرعُ؛ وهم الدَّاخلون في الإسلامِ بعد الزرعِ الذي وصَف ربنا تبارك وتعالى صفَتَه.
والهاءُ والميمُ في قولِه: {مِنْهُمْ} عائدةٌ على معنى الشَّطْءِ لا على لفظِه،
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 83 إلى المصنف وابن مردويه.
ولذلك جُمِع فقيل: {مِنْهُمْ} . ولم يُقَلْ: منه. وإنما جُمِع الشَّطءُ لأنه أُريد به مَن يدخلُ في دينِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم إلى يومِ القيامةِ بعدَ الجماعةِ الذين وصَف اللَّهُ صفتَهم بقولِه: {وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} .
وقولُه: {مَغْفِرَةً} . يعني: عفوًا عمَّا مضَى من ذنوبِهم وسيِّئِ أعمالِهم، بحَسَنِها.
وقولُه: {وَأَجْرًا عَظِيمًا} . يعني: وثوابًا جزيلًا، وذلك الجنةُ.
آخرُ تفسير سورةِ "الفتحِ"
بسمِ * اللهِ الرحمنِ الرحيمِ
تفسيرُ سورةِ "الحجراتِ"
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
(1)}.
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يعني تعالى ذكرُه بقولِه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} : يا أيُّها الذين أقَرُّوا بوحدانيةِ اللَّهِ، ونبوَّةِ نبيِّه
(1)
محمدٍ صلى الله عليه وسلم، {لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}. يقولُ: لا تُعجِّلوا بقضاءِ أمرٍ في حروبِكم أو دينِكم، قبلَ أن يقضِيَ اللَّهُ لكم فيه ورسولُه، فتَقضُوا بخلافِ أمرِ اللَّهِ وأمرِ رسولِه. ومَحْكِيٌّ عن العربِ: فلانٌ يقدِّمُ بينَ يدى إمامِه. بمعنى: يعجِّلُ بالأمرِ والنَّهيِ دونَه.
وبنحوِ الذي قُلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ، وإن اختَلَفت ألفاظُهم بالبيانِ
(2)
عن معناه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابنِ عباسٍ، قولَه:{لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} . يقولُ: لا تقولوا خلافَ الكتابِ والسُّنةِ
(3)
.
* من هنا يبدأ الجزء السادس والأربعون من نسخة جامعة القرويين والمشار إليها بالأصل، وسيجد القارئ أرقام صفحاتها بين معكوفين.
(1)
ليس في: الأصل.
(2)
بعده في الأصل: "عنه".
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره - كما في الإتقان 2/ 43 - ، وأبو نعيم في الحلية 10/ 398، من طريق أبي صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 84 إلى ابن المنذر وابن مردويه.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمِّي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ، قولَه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} . قال: نُهُوا أن يتكلَّموا بين يدَى كلامِه
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} . قال: لا تفْتاتوا على رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بشيءٍ، حتى يقضِيَه اللَّهُ على لسانِه
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} : ذُكِر لنا أن أناسًا كانوا يقولون: لو أُنزِل فيَّ كذا، [أو صُنِع]
(3)
كذا وكذا. قال: فكَرِه اللَّهُ عز وجل ذلك، وقَدَّم فيه. وقال الحسنُ: أناسٌ من المسلمين ذَبَحوا قبلَ صلاةِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يومَ النحرِ، فأمرَهم نبيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أن يُعيدوا ذبحًا آخرَ.
حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابنُ ثورٍ، قال: ثنا مَعْمرٌ، عن قتادةَ في قولِه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} . قال: إن أُناسًا كانوا يقولون: لو أُنزِل فيَّ
(4)
كذا، لو أُنزِل فيَّ كذا. وقال الحسنُ: هم قومٌ نحَروا قبلَ أن
(1)
ذكره القرطبي في تفسيره 16/ 301، وابن كثير في تفسيره 7/ 345 عن العوفي به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 84 إلى المصنف وابن أبي حاتم وابن مردويه.
(2)
تفسير مجاهد ص 610، ومن طريقه الفريابي وعبد بن حميد - كما في تغليق التعليق 4/ 315 - والبيهقي في الشعب (1516)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 84 إلى ابن المنذر وابن مردويه.
(3)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"لو صنع"، وفي م:"لوضع".
(4)
في الأصل: "فينا".
يُصلِّيَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فأمَرهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يُعيدوا الذَّبحَ
(1)
.
حُدِّثتُ عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا مُعاذٍ يقولُ: أخبَرنا عبيدٌ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} . يعني بذلك في القتالِ وما
(2)
كان من أمورِهم لا يصلحُ أن يُقضَى إلا بأمرِه؛ ما كان من شرائعِ دينِهم
(3)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زِيدٍ في قولِ اللَّهِ عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} . قال: لا تَقْطَعوا الأمرَ دونَ اللَّهِ ورسولِه.
حدَّثنا ابنُ حُمَيدٍ، قال: ثنا مِهرانُ، عن سفيانَ:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} . قال: لا تَقْضُوا أمرًا دونَ رسولِ اللهِ
(4)
.
وبضم التاءِ مِن قولِه: {لَا تُقَدِّمُوا} . قرَأ قرَأةُ الأمصارِ، وهي القراءةُ التي لا أسْتَجيزُ القراءةَ بخلافِها؛ لإجماعِ الحجةِ من القَرَأةِ عليها، وقد حُكِي عن العربِ: قَدَّمتُ في كذا، وتقدَّمتُ في كذا. فعَلى هذه اللغةِ لو كان قيل:(لا تَقَدَّمُوا). بفتحِ التاءِ
(5)
، كان جائزًا.
وقولُه: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} . يقولُ: وخافوا اللَّهَ أَيُّها المؤمنون
(6)
في
(1)
ذكره الزيلعي في تخريج الكشاف 3/ 325 عن المصنف، وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 230، ومن طريقه الجصاص في أحكام القرآن 5/ 276 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 84 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(3)
ذكره البغوي في تفسيره 7/ 334، وابن كثير في تفسيره 7/ 345.
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 345.
(5)
وهي قراءة ليعقوب الحضرمي، بفتح التاء والدال المشددة. ينظر النشر 2/ 228.
(6)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"الذين آمنوا".
قولِكم، أن تقولوا ما لم يأذنِ اللَّهُ لكم به ولا رسولُه، وفي غيرِ ذلك من أمورِكم، فراقِبوه، إن اللَّهَ سميعٌ لما تقولون، عليمٌ بما تُريدُون بقولكم إذا قُلتُم. لا يَخْفى عليه شيءٌ من ضمائرِ صدورِكم، وغيرِ ذلك من أمورِكم وأمورِ غيرِكم.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ
(2)}.
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه: يا أيُّها الذين صدَّقوا اللَّهَ ورسولَه لا ترفَعوا أصواتَكم فوقَ صوتِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ تَتجَهَّمونه بالكلامِ، وتُغْلِظون له في الخطابِ، {وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ}. يقولُ: ولا تنادُوه كما يُنادِي بعضُكم بعضًا باسمِه
(1)
؛ يا محمدُ، يا محمدُ. [ولكن قولًا ليِّنًا وخطابًا حسنًا، بتعظيمٍ له وتوقيرٍ وإجلالٍ]
(2)
؛ يا نبيَّ اللَّهِ، يا رسولَ اللَّهِ.
وبنحوِ الذي قُلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} . قال: لا تُنادُوه نداءً، ولكِنْ قولًا لَيِّنًا؛ يا رسولَ اللَّهِ
(3)
.
(1)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(2)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(3)
تفسير مجاهد ص 610، ومن طريقه المروزي في تعظيم قدر الصلاة (725)، والبيهقي في شعب الإيمان (1516)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 84 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} . كانوا يَجْهَرون له بالكلامِ ويرفَعون أصواتَهم، فوعَظهم اللَّهُ ونهَاهم عن ذلك.
حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابنُ ثَورٍ، عن معمرٍ، قال: قال قتادةُ: كانوا يرفَعون ويَجْهَرون عندَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فوُعِظوا ونُهوا عن ذلك
(1)
.
حُدِّثتُ عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبَرنا عُبيدٌ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} الآية: هو كقولِه: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63]. نهاهم اللَّهُ أن يُنادُوه كما يُنادِي بعضُهم بعضًا، وأمَرهم أن يُشَرِّفوه ويُعَظِّموه، ويدْعوه إذا دَعوه باسمِ النبوَّةِ
(2)
.
حدَّثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: ثنا زيدُ بنُ حُبابٍ، قال: ثنا أبو ثابتِ بنُ
(3)
ثابتِ بنِ قيسِ بنِ الشَّمَّاسِ، قال: ثنى عمي إسماعيلُ بنُ محمدِ بنِ ثابتِ بنِ قيسِ بنِ الشَّمَّاسِ، عن أبيه، قال: لما نزَلت هذه الآيةُ: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ} . قال: قعَد ثابتُ بنُ قيسٍ في الطريقِ يَبْكي، قال: فمرَّ به عاصمُ بنُ عديٍّ، مِن بني العَجْلانِ، فقال: ما يُبْكِيكَ يا ثابتُ؟ قال: هذه الآيةُ، أَتَخوَّفُ أن تكونَ نزَلت فيَّ، وأنا صيِّتٌ رفيعُ الصوتِ. قال: فمضَى عاصمُ بن عديٍّ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قال: وغلَبه البكاءُ، قال: فأتى امْرأتَه جميلةَ بنتَ عبدِ اللَّهِ بنِ أُبيٍّ ابنِ سَلولَ. فقال لها: إذا دخَلتُ بيتَ فرَسى فشُدِّي عليَّ الضَّبةَ بمِسْمارٍ.
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 231 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 84 إلى عبد بن حميد.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 8/ 2654، 2655 من طريق أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس قوله.
(3)
في ص، ت 2، ت 3:"عن".
فضرَبَتْه بمسمارٍ حتى إذا خرج عطَفه
(1)
، وقال: لا أخرُجُ حتى يتوفَّاني اللَّهُ أَو يَرْضَى عنِّي رسولُه. فأتَى عاصمٌ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فأخبَره خبرَه، فقال:"اذْهَبْ فَادْعُه لي". فجاء عاصمٌ إلى المكانِ فلم يجِدْه، فجاء إلى أهلِه، فوجَده في بيتِ الفَرَسِ، فقال له: إن رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يدْعُوك. فقال: اكْسِرِ الضبَّةَ. قال: فخرَجا فأتَيا رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فقال له رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"ما يُبْكِيكَ يا ثابتُ؟ ". فقال: أنا صَيِّتٌ، وأتخوَّفُ أن تكونَ هذه الآيةُ نزلت فيَّ؛ {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ}. فقال له رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"أما تَرْضَى أَنْ تَعِيشَ حميدًا، وتُقْتَلَ شَهِيدًا، وتَدْخُلَ الجَنَّةَ؟ ". فقال: رضِيتُ ببُشْرَى اللَّهِ ورسولِه، لا أرفَعُ صوتي على رسولِ اللَّهِ أبدًا. فأنزَلَ اللَّهُ:{إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} الآية
(2)
.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا يعقوبُ، عن حفصٍ، عن شِمْرِ بن عطيةَ، قال: جاء ثابتُ بنُ قيسِ بن الشَّمَّاسِ إلى رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وهو محزونٌ، فقال:"يا ثابتُ، ما الذي أرَى بك؟ ". قال: آيةٌ قرأتُها الليلةَ، فأخْشَى أن يكونَ قد حَبِط عمَلي؛ {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} - وكان في أُذنِه صَمَمٌ - فقال: يا نبيَّ اللَّهِ، إني أخْشَى أن أكونَ قد رفَعتُ صوتي وجَهَرتُ لك بالقولِ، وأن أكونَ قد حَبِط عمَلي وأنا لا أشْعُرُ. فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "امْشِ على الأرضِ بِسْطًا
(3)
فإنَّكَ مِن أهلِ الجَنَّةِ"
(4)
.
(1)
عطف الشيء: حناه وأماله. ينظر اللسان (ع ط ف).
(2)
أخرجه ابن بشكوال في غوامض الأسماء المبهمة 2/ 700 من طريق المصنف، وذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 347، 348 عن المصنف، وأخرجه الطبراني (1316) من طريق أبي كريب عن زيد بن الحباب عن أبي ثابت بن ثابت بن قيس بن شماس قال: ثنى أبي ثابت بن قيس عن أبيه، وأخرجه الحاكم 3/ 234، والبيهقي في الدلائل 6/ 355 من طريق إسماعيل به نحوه.
(3)
في م: "نشيطا"، وفي ت 2، ت 3:"نشطا"، وبسطا: منبسطا منطلقا. النهاية 1/ 128.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 85 إلى المصنف.
حدَّثني يعقوبُ بن إبراهيمَ، قال: ثنا ابنُ عُليةَ، قال: أخبَرنا أيوبُ، عن عكرِمةَ، قال: لمَّا نزَلت: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} الآية. قال ثابتُ بنُ قيسٍ: فأنا كُنتُ أرفَعُ صَوتي فوقَ صوتِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأجْهَرُ له بالقولِ، فأنا من أهلِ النارِ. فقعَد في بيتِه، فتفقَّده رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، [وسأل عنه]
(1)
، فقال رجلٌ: إنه لجَارِي، ولئن شِئتَ لأَعْلَمَنَّ لك عِلْمَه. فقال:"نعم". فأتاه فقال: إن رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قد تفقَّدك وسأل عنك. فقال: نزَلَتْ هذه الآيةُ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} الآية. وأنا كُنتُ أرفَعُ صَوْتي فوقَ صوتِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وأجْهَرُ له بالقولِ، فأنا من أهلِ النارِ. فرجَع إلى رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فأخْبَره، فقال:"بلْ هُوَ مِن أهلِ الجَنَّةِ". فلما كان يومُ اليمامةِ انهزَم الناسُ، فقال: أفٍّ لهؤلاء وما يعبُدون، وأفٍّ لهؤلاء وما يصنَعون، يا معشرَ الأنصارِ، خَلُّوا لي بشيءٍ لعَلِّي أصْلَى بحرِّها ساعةً. قال: ورجلٌ قائمٌ على ثُلْمةٍ، فقَتَله
(2)
وقُتِل
(3)
.
حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابنُ ثورٍ، عن مَعمرٍ، عن الزُّهريِّ، أن ثابتَ بنَ قيسِ بن شَمَّاشٍ، قال: لما نزَلت: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} . قال: يا نبيَّ اللَّهِ، لقد خَشِيتُ أن أكونَ قد هَلَكتُ، نهانا اللَّهُ أن نرفَعَ أصواتَنا فوقَ صوتِك، وإنِّي امرؤٌ جَهِيرَ الصوتِ، ونهَى اللَّهُ المرءَ أن يحبَّ أن يُحمَدَ بما لم يفعَلْ فأجِدُني أحِبُّ الحمدَ
(4)
، ونَهَى اللَّهُ عن الخُيَلاءِ وأَجِدُني أُحبُّ الجمالَ. قال: فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "يا ثابِتُ، أما تَرْضَى أن تعيشَ حميدًا، وتُقتَلَ شَهِيدًا،
(1)
سقط من: الأصل، وفي ص:"وسأل عنده".
(2)
في ص، م، ت 1، ت 2:"فقتل".
(3)
ذكره الحافظ في الفتح 6/ 621 وعزاه إلى ابن سعد وصحح إسناده.
(4)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"أحمد"، وفي م:"أن أحمد".
وتَدخُلَ الجَنَّةَ؟ ". فعاش حميدًا، وقُتِل شهيدًا يومَ مُسَيلِمةَ
(1)
.
حدَّثني عليُّ بنُ سهلٍ، قال: ثنا مؤمَّلٌ، قال: ثنا نافعُ بنُ عمرَ بنِ جميلٍ الجُمَحِيُّ، قال: ثنى ابنُ أبي مُلَيْكَةَ، عن ابنِ
(2)
الزبيرِ، قال: قَدِم وفدُ - أُرَاه قال: تميمٍ - على النبيِّ صلى الله عليه وسلم، مِنهم الأقرعُ بنُ حابسٍ، فكَلَّم أبو بكرٍ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أَن يَسْتَعْمِلَه على قومِه، قال: فقال عمرُ: لا تفعَلْ يا رسولَ اللَّهِ. قال: فتَكلَّما حتى ارْتفَعتْ أصواتُهما عندَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم. قال: فقال أبو بكرٍ لعمرَ: ما أردتَ إِلَّا خِلافي. قال: ما أردتُ خلافَك. قال: فنزَل القرآنُ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} إلى قولِه: {وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} . قال: فما حدَّث عمرُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم بعدَ ذلك فسمِع
(3)
النبيُّ [كلامَه يستفهمَه؛ مما يَخفِضُ صوتَه للنبيِّ صلى الله عليه وسلم]
(4)
. قال: وما ذكَر ابنُ الزُّبيرِ جَدَّه. يعني أبا بكرٍ
(5)
.
وقولُه: {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ} . يقولُ: أَلَّا تحبَطَ أعمالُكم فتذهَبَ باطلةً، لا ثوابَ لكم عليها ولا جزاءَ؛ برفعِكم أصواتَكم فوقَ صوتِ نبيِّكم، وجَهْرِكم له بالقولِ كجَهْرِ بعضِكم لبعضٍ.
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 230، وفي المصنف (20425)، ومن طريقه البيهقي في الدلائل 6/ 355 عن معمر به، وأخرجه الطبراني (1314، 1315)، وفي الأوسط (2243)، وابن حبان (7167)، وأبو نعيم في الدلائل (520) وفي المعرفة (1301) من طريق الزهري عن إسماعيل بن محمد به مرسلًا، وأخرجه الطبراني (1312)، وابن عبد البر في الاستيعاب 1/ 201 من طريق إسماعيل بن محمد عن ثابت بن قيس، وأخرجه الطبراني (1313)، وابن مردويه في تفسيره - كما في الفتح 6/ 621 - من طريق الزهري عن محمد بن ثابت به مرسلًا، وأخرجه ابن قانع 1/ 126، والطبراني (1310، 1311) من طريق الزهري عن محمد بن ثابت بن قيس عن ثابت بن قيس.
(2)
سقط من: م.
(3)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"فيسمع".
(4)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(5)
أخرجه الترمذي (3266) من طريق مؤمل به، وأخرجه البخاري (4367، 4847)، والنسائي (11514 - كبرى)، وأبو يعلى (6816)، والواحدي في أسباب النزول ص 287 من طريق ابن أبي مليكة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 83 إلى ابن المنذر وابن مردويه.
وقد اختلَف أهلُ العربيةِ في معنى ذلك؛ فقال بعضُ نحويِّي الكوفةِ
(1)
: معناه: لا تحبَطُ أعمالُكم. قال: وفيه الجزمُ والرفعُ إذا وُضِعت "لا" مكانَ "أنْ". قال: وهي في قراءةِ عبدِ اللَّهِ: (فتَحْبَطَ أعمالُكم). [وهو دليلٌ على جوازِ الجزمِ.
وقال بعضُ نحويِّي البصرةِ
(2)
: قال: {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ} ]
(3)
. أي مخافَةَ أن تحبَطَ أعمالُكم. وقد يقالُ: أَسْنَدَ الحائطَ أن يميلَ.
وقولُه: {وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} . يقولُ: وأنتم لا تعلَمون ولا تَدْرُون.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ
(3)}.
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه: إن الذين يكُفُّون رفْعَ أصواتِهم عنْدَ رسولِ اللَّهِ. وأصلُ الغَضِّ: الكَفُّ في لينٍ. ومنه غَضُّ البصرِ، وهو كَفُّه عن النَّظَرِ، كما قال جريرٌ
(4)
:
فَغُضَّ الطَّرْفَ إِنَّك من نُمَيْرٍ
…
فلا كَعْبًا بَلَغْتَ ولا كِلابا
وقولُه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} . يقولُ تعالى ذكرُه: هؤلاء الذين يغضُّون أصواتَهم عندَ رسولِ اللَّهِ، هم الذين اخْتَبر اللَّهُ قلوبَهم بامتحانِه إيَّاها، فاصْطَفاها وأخْلَصها، {لِلتَّقْوَى} . يعني لاتِّقائِه بأداءِ طاعتِه واجتنابِ معاصيه، كما يُمتَحنُ الذهبُ بالنارِ، فيَخْلُصُ جيِّدُها، ويبطُلُ خَبَثُها.
وبنحوِ الذي قُلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
(1)
الفراء في معاني القرآن 3/ 70.
(2)
ينظر الكتاب 3/ 53، 154.
(3)
سقط من: الأصل.
(4)
ديوانه 2/ 821.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} . قال: أخْلَص
(1)
.
حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ في قولِه:{امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} . قال: أخْلَص اللَّهُ قلوبَهم فيما أحبَّ
(2)
.
وقولُه: {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ} . يقولُ: لهم من اللَّهِ عفوٌ عن ذنوبِهم السَّالفةِ، وصَفْحٌ منه عنها لهم، {وَأَجْرٌ عَظِيمٌ}. يقولُ: وثوابٌ جزيلٌ، وهو الجَنَّةُ.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: إن الذين ينادُونك يا محمدُ من وراءِ حُجُراتِك
(3)
. والحُجُراتُ جمعُ حُجْرةٍ، والثلاثُ: حُجَرٌ، ثم تُجمَعُ الحُجَرُ فيقالُ: حُجُراتٌ وحُجراتٌ. وقد تَجْمَعُ بعضُ العربِ الحُجَرَ حُجَراتٍ؛ بفتحِ الجيمِ، وكذلك كلُّ جمعٍ كان من ثلاثةٍ إلى عشرةٍ على فُعَلٍ، يَجْمَعونه على فُعَلاتٍ بفتحِ ثانيه، والرفعُ أفصَحُ وأجودُ
(4)
، ومنه قولُ الشاعرِ
(5)
:
(1)
تفسير مجاهد ص 610، ومن طريقه الفريابي - كما في التغليق 4/ 315 - ، والمروزي في تعظيم قدر الصلاة (725)، والبيهقي في الشعب (1516)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 86 إلى عبد بن حميد.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 231 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 86 إلى عبد بن حميد.
(3)
في الأصل: "حجرتك".
(4)
ينظر معاني القرآن للفراء 3/ 70.
(5)
البيت في الكامل للمبرد 1/ 64، 2/ 68، وفي مجاز القرآن 2/ 219 غير منسوب فيهما.
أما كان عَبَّادٌ كَفِيئًا لِدَارِمٍ
…
بلى ولأبياتٍ بها الحُجُرَاتُ
يقولُ: بلى، ولِبني هاشمٍ.
وقولُه: {أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} . يقولُ: أكثرُهم جُهَّالٌ بدينِ اللَّهِ، واللازمِ لهم مِن حقِّك وتعظِيمِك.
وذُكِر أن هذه الآيةَ والتي بعدَها نزَلت في قومٍ مِن الأعرابِ جاءوا يُنادُون رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم من وراءِ حجرتِه
(1)
: يا محمدُ، اخْرُجْ إلينا.
ذِكرُ الروايةِ بذلك
حدَّثنا [أبو عَمَّارٍ الحسينُ بنُ الحُريثِ المروزيُّ]
(2)
، قال
(3)
: ثنا الفضلُ بنُ موسى، عن الحسينِ بنِ واقدٍ، عن أبي إسحاقَ، عن البراءِ في قولِه:{إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} . قال: جاء رجلٌ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمدُ، إن حَمدِي زَيْنٌ، وإن ذَمِّي شَيْنٌ. فقال:"ذاكَ اللَّهُ تبارك وتعالى"
(4)
.
حدَّثنا ابنُ حُمَيدٍ، قال: ثنا يحيى بنُ واضحٍ، قال: ثنا الحسينُ، عن أبي إسحاقَ، عن البَراءِ بمثلِه، إلا أنَّه قال:"ذاكُم اللَّهُ عز وجل".
حدَّثنا الحسنُ بنُ عَرَفةَ، قال: ثنا المعتمرُ بنُ سليمانَ التيميُّ، قال: سمِعتُ داودَ الطُّفاويَّ يقولُ: سمِعتُ أبا مسلمٍ البَجَليِّ يحدِّثُ عن زيدِ بنِ أَرْقَمَ، قال: جاء
(5)
(1)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"حجراته".
(2)
في م: "أبو عمار المروزي والحسن بن الحارث". وينظر تهذيب الكمال 6/ 358.
(3)
في م: "قالا".
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 349 عن المصنف، وأخرجه الترمذي (3267) عن أبي عمار به، والنسائي في الكبرى (11515) من طريق الحسين بن واقد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 86 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(5)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"حدثنا".
أُناسٌ من العربِ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال بعضُهم لبعضٍ: انْطَلِقوا بنا إلى هذا الرجلِ؛ فإن يَكُنْ نبيًّا فنحن أسعدُ الناسِ به، وإن يَكُنْ مَلِكًا نَعِشْ فِي جَناحِه. قال: فأَتيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فأَخْبَرتُه بذلك. قال: ثم جاءوا إلى حُجَرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فجَعَلُوا يُنادُونه: يا محمدُ، يا محمدُ. فأنزل اللَّهُ عز وجل على نبيِّه صلى الله عليه وسلم:{إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} . قال: فأخَذ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بأُذُني فمدَّها، فجَعَل يقولُ:"قد صدَّق اللَّهُ قولَك يا زَيدُ، قد صدَّق اللَّهُ قولَك يا زيدُ"
(1)
.
حدَّثنا الحسنُ
(2)
بنُ أبي يحيى المُقَدَّميُّ
(3)
، قال: ثنا عفانُ، قال: ثنا وُهَيبٌ
(4)
، قال: ثنا موسى بنُ عقبةَ، عن أبي سَلَمةَ، قال: ثنى الأقرعُ بنُ حابسٍ التميميُّ، أنه أتَى النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فناداه فقال: يا محمدُ، [اخرُجْ إلينا]
(5)
، [إن مَدْحِي زَيْنٌ، وإن شَتْمِي شَيْنٌ. فخرَج إليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم فقال: "وَيْلَكَ، ذلكَ اللَّهُ]
(6)
". فنزَلتْ: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}
(7)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 349 عن المصنف، وأخرجه إسحاق بن راهويه ومسدد - كما في المطالب (4109)، وابن أبي حاتم - كما في تفسير ابن كثير (7/ 349 - والطبراني (5123)، والواحدي في أسباب النزول ص 288، 289 من طريق المعتمر بن سليمان به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 86 إلى أبي يعلى.
(2)
في الأصل: "الحسين".
(3)
في الأصل: "المقدسي".
(4)
في الأصل: "وهب"، وينظر مصادر التخريج الآتية.
(5)
سقط من: م.
(6)
سقط من: الأصل، ص، ت 1، ت 2، ت 3.
(7)
أخرجه أحمد 25/ 369 (15991)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1178)، والطبراني (878)، وابن الأثير في أسد الغابة 1/ 130 من طريق عفان به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور إلى أبي القاسم البغوي وابن مردويه.
قولَه: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} . قال: أعرابُ بني تميمٍ
(1)
.
حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ، أن رجلًا جاء إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فناداه من وراءِ الحُجَرِ فقال: يا محمدُ، إِن مَدْحِي زَينٌ، وإن شتمِي شَيْنٌ. فخرج إليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"ويلَك، ذلك اللَّهُ". فأنزَل اللَّهُ: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} : ذُكِر لنا أن رجلًا جعَل يُنادِي: يا نبيَّ اللَّهِ، يا محمدُ. فخرَج إليه نبيُّ اللَّهِ، فقال:"ما شأنُكَ؟ ". فقال: واللَّهِ إن حَمدَه لزَيْنٌ، وإن ذَمَّه لشَيْنٌ. فقال نبيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"ذَاكُمُ اللَّهُ، ذاكُمُ اللَّهُ". فأدبَر الرجلُ، وذُكِر لنا أن الرجلَ كان شاعرًا.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا مِهرانُ، عن سفيانَ، عن حبيبِ بنُ أبي عَمْرةَ، قال: كان بشرُ بنُ غالبٍ، ولَبيدُ بنُ عُطاردٍ، أو بشرُ بنُ عُطاردٍ، ولَبيدُ بنُ غالبٍ، وهما عندَ الحجَّاجِ جالسان، يقولُ بشرُ بنُ غالبٍ للَبيدِ بنِ عُطاردٍ: نزَلتْ في قومِك بني تميمٍ: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} . فذُكِر ذلك لسعيدِ بنِ جُبَيْرٍ، فقال: أمَا إِنَّه لو عَلِم بآخرِ الآيةِ أجابَه {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا} . قالوا: أسْلَمنا ولم نُقاتِلْك. بنو أسدٍ
(3)
.
حدَّثنا ابنُ حُمَيدٍ، قال: ثنا مِهرانُ، عن المبارِك بنِ فَضالةَ، عن الحسنِ، قال:
(1)
تفسير مجاهد ص 610، ومن طريقه البيهقي في الشعب (1516)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 87 إلى عبد بن حميد.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 231 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 86 إلى عبد بن حميد.
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 349 عن سفيان به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 87 إلى المصنف وابن المنذر.
أتَى أعرابيٌّ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم من وراءِ حُجراتِه. فقال: يا محمدُ، يا محمدُ. فخرَج إليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"ما لك ما لك"؟ فقال: تعلَّمْ، إن مَدْحي لزَينٌ، وإِن ذَمِّي لشَيْنٌ. فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"ذَاكُمُ اللَّهُ". فنزَلت: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ}
(1)
.
واختَلَفتِ القَرَأةُ في قراءةِ قولِه: {مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} ؛ فقرَأته قرَأةُ الأمصارِ بضمِّ الحاءِ والجيمِ من {الْحُجُرَاتِ} ، سوى أبي جعفرٍ القارئِ، فإنه قرَأ بضمِّ الحاءِ وفتحِ الجيمِ
(2)
، على ما وصَفتُ من جمعِ الحُجْرةِ حُجَرٍ ثم جمعِ الحُجَرِ حُجَراتٍ.
والصوابُ من القراءةِ عندَنا الضمُّ في الحرفين كلَيهما؛ لما وصَفتُ قبلُ
(3)
.
وقولُه: {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . يقولُ تعالى ذكرُه: ولو أن هؤلاء الذين يُنادُونك يا محمدُ من وراءِ الحجراتِ صبَروا، فلم يُنادُوك حتى تخرُجَ إليهم إذا خرَجْت، لكان خيرًا لهم عندَ اللَّهِ؛ لأن اللَّهَ قد أمَرهم بتوقيرِك وتعظيمِك، فهم بتركِهم نداءَك تارِكُون لما قد نَهاهُم اللَّهُ عنه، {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. يقولُ تعالى ذكرُه: واللَّهُ ذو عَفْوٍ عمَّن ناداك من وراءِ الحجابِ، إن هو تاب من معصيةِ اللَّهِ بندائِك كذلك، ورَاجَعَ أمْرَ اللَّهِ في ذلك وفى غيرِه، رحيمٌ به أن يعاقبَه على ذنبِه ذلك، من بعدِ تَوبتِه منه.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه: يا أيُّها الذين صدَّقوا اللَّهَ ورسولَه
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 249.
(2)
ينظر النشر 2/ 281.
(3)
القراءتان كلتاهما صواب.
إنْ جاءكم فاسِقٌ بخبرٍ
(1)
عن قومٍ، {فَتَبَيَّنُوا} .
واختَلَفتِ القرَأةُ في قراءةِ قولِه: {فَتَبَيَّنُوا} ؛ فقرَأ ذلك عامَّةُ قرأةِ الكوفةِ
(2)
: (فتثبتوا) بالثاءِ
(3)
، وذُكِر أنها في مصحفِ عبدِ اللَّهِ منقوطةٌ بالثاءِ
(4)
. وقرَأ ذلك [القرأةُ بعدُ]
(5)
: {فَتَبَيَّنُوا} . بالياءِ
(6)
، بمعنى: أمْهِلُوا حتى تَعرِفوا صحَّتَه، لا تعَجَلوا بقبولِه. وكذلك معنى:(فَتَثَبَّتُوا).
والصوابُ من القولِ في ذلك أنهما قراءتانِ معروفتانِ، متقارِبَتا المعنى، فبأيَّتِهما قرأ القارئُ فمصيبٌ.
وذُكِر لنا
(7)
أن هذه الآيةَ نزَلت في الوليدِ بنِ عُقْبَةَ بنِ أبي مُعَيطٍ.
ذكرُ مَن قال ذلك وذكرُ السببِ الذي من أجْلِه قيل ذلك
حدَّثنا أبو كُرَيبٍ، قال: ثنا جعفرُ بنُ عونٍ، عن موسى بنِ عبيدةَ، عن ثابتٍ مولى أمِّ سَلَمةَ، عن أمِّ سَلَمةَ، قالت: بعثَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رجلًا في صَدَقَاتِ بني المُصْطَلِقِ بعدَ الوقيعةِ
(8)
، فسَمِع بذلك القومُ فتَلقَّوه يُعظِّمون أَمْرَ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قال: فحدَّثه الشيطانُ أنهم يُريدُونَ قتلَه. قالت: فرجَع إلى رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فقال:
(1)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"بنبأ".
(2)
في ص، م، ت 2، ت 3:"أهل المدينة"، وفي ت 1:"المدينة".
(3)
هي قراءة حمزة والكسائي. ينظر التيسير ص 80، والسبعة لابن مجاهد ص 236.
(4)
ينظر معاني القرآن للفراء 3/ 71.
(5)
في م: "بعض القرأة".
(6)
في م: "بالباء". وهي قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو وابن عامر وعاصم. ينظر السبعة لابن مجاهد ص 236.
(7)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(8)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"الوقعة".
إن بني المُصْطلِقِ قد منَعوا صَدَقاتِهم. فغَضِب رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم والمسلمون، قال: فبلَغ القومَ رجوعُه، قال: فأتَوا رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فصفُّوا له حينَ صلَّى الظُّهرَ، فقالوا: نعوذُ باللَّهِ من سَخَطِ اللَّهِ وسَخَطِ رسولِه، بعَثتَ إلينا رجلًا مُصَدِّقًا
(1)
، فسُرِرْنا بذلك وقرَّت به أعيُنُنا، ثم إنه رجَع من بعضِ الطريقِ، فخَشِينا أن يكونَ ذلك غضَبًا من اللَّهِ ومِن رسولِه، فلم يزالوا يُكلِّمونه حتى جاء بلالٌ وأذَّن بصلاةِ العصرِ. قال: ونزَلت: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} إلى آخرِ الآيةِ. قال: وكان رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بعَث الوليدَ بنُ عُقْبَةَ بنِ أبي مُعَيطٍ، ثم أحدَ بني عمرِو بنِ أميةَ، ثم أحدَ بني أبي مُعَيطٍ إلى بني المُصْطَلِقِ، ليأخُذَ منهمُ الصَّدقاتِ، وإنهم
(3)
لما أتاهم الخبرُ فَرِحوا، وخَرَجوا لِيَتَلقَّوا رسولَ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وإنه لمّا حُدِّث الوليدُ أنهم خرَجوا يتلَقَّونه رجَع إلى رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسولَ اللَّهِ، إن بني المُصطَلِقِ قد منَعوا الصَّدقةَ. فغَضِب رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم [من ذلك]
(4)
غضَبًا شديدًا، فبَينا هو يُحدِّثُ نفسَه أن يغزُوَهم، إذ أتاه الوفدُ، فقالوا: يا رسولَ اللَّهِ، إنا حُدِّثنا أن رسولَك رجَع مِن نصفِ الطريقِ، وإنَّا خَشِينا أن يكونَ إِنما رَدَّه كتابٌ جاء منك. لِغَضَبٍ غَضِبتَه علَيْنا، وإنا نعوذُ باللَّهِ من غضبِه وغضَبِ
(1)
المُصَدِّق: هو عامل الزكاة الذي يستوفيها من أربابها. النهاية 3/ 18.
(2)
أخرجه إسحاق بن راهويه - كما في المطالب (4111) - والطبراني 23/ 401 (960) من طريق موسى بن عبيدة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 88 إلى ابن مردويه.
(3)
في م، ت 2 ت 3:"وإنه".
(4)
سقط من: م، ت 2، ت 3.
رسولِه. [وإن رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم استغَشَّهم وهَمَّ بهم]
(1)
، فأنزَلَ اللَّهُ عُذرَهم في الكتابِ فقال:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} إلى آخرِ الآيةِ
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللَّهِ:{إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ} . قال: الوليدُ بنُ عُقبَةَ بنِ أبي مُعَيطٍ، [أرسَله رسولُ]
(3)
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلى بني المُصطَلِقِ لِيُصَدِّقَهم، فتَلَقَّوه بالهَدِيَّةِ، فرجَع إلى محمدٍ صلى الله عليه وسلم فقال: إن بني المُصطَلِقِ قد
(4)
جمَعَت لك
(4)
لتُقاتِلَك
(5)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} : هو ابنُ أبي مُعَيطٍ الوليدُ بنُ عُقْبَةَ، بعَثه نبيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُصَدِّقًا إلى بني المصطَلِقِ، فلمَّا أبصَروه أقْبَلوا نحوَه، فهَابَهم، فرجَع إلى رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فأخْبَره أنَّهم قد ارتَدُّوا عن الإسلامِ، فبعَث نبيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خالدَ بنَ الوليدِ، وأمرَه أن يَتَثَبَّتَ ولا يعْجَلَ، فانطلَق حتى أتاهم ليلًا، فبعث عيونَه، فلمَّا جاءوا أخبَروا خالدًا أنهم مُستَمسِكون بالإسلامِ، وسمِعوا أذانَهم وصلاتَهم، فلمَّا أصبَحوا أتاهم خالدٌ، فرأى الذي يُعْجِبُه، فرجع إلى رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فأخبرَه الخبرَ، فأنزَلَ اللَّهُ عز وجل ما
(1)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(2)
أخرجه البيهقي 9/ 54، وابن عساكر في تاريخ دمشق 63/ 229، 230 من طريق محمد بن سعد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 88 إلى ابن مردويه.
(3)
في م: "بعثه نبي".
(4)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(5)
تفسير مجاهد ص 610، ومن طريقه الطبراني 22/ 150 (404)، والبيهقي 9/ 55، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 88 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
تسمَعون، فكان نبيُّ اللَّهِ يقولُ:"التَّبَيُّنُ من اللَّهِ، والعَجَلةُ من الشَّيطانِ"
(1)
.
حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ} ، فذكَر نحوَه
(2)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن هلالٍ الوزَّانِ، عن ابنِ أبي ليلى في قولِه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} . قال: نزَلت في الوليدِ بنِ عُقْبَةَ بنِ أبي مُعَيطٍ.
حدَّثنا ابنُ حُمَيدٍ، قال: ثنا مِهرانُ، عن سفيانَ، عن حُمَيدٍ، عن هلالٍ الأنصاريِّ، عن عبدِ الرحمنِ بن أبي ليلى:{إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ} . قال: نزَلت في الوليدِ بنِ عُقْبَةَ. قال: حينَ أُرسِل إلى بني المُصطَلِقِ
(3)
.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، قال: ثنا محمدُ بنُ إسحاقَ، عن يزيدَ بنِ رُومانَ، أن رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعث إلى بني المُصطَلِقِ بعدَ إسلامِهم الوليدَ بنَ عقبةَ بنِ أبي مُعَيطٍ، فلمَّا سمِعوا به ركِبوا إليه، فلمَّا سمِع بهم خافَهم، فرجَع إلى رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فأخبَره أن القومَ قد همُّوا بقتلِه، ومنَعوا ما قِبَلَهم من صَدَقاتِهم، فأكثرَ المسلمون في ذكرِ غَزْوتِهم
(4)
، حتى همَّ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أن
(5)
يَغْزُوَهم، فبيَنا هم في ذلك قَدِم وفْدُهم على رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسولَ اللَّهِ، سَمِعنا برسولِك حين بَعثتَه إلينا، فخرَجنا إليه لِنُكْرِمَه ولِنؤدِّيَ إليه ما قِبَلَنا من الصَّدقةِ، فانشمَر
(6)
راجعًا،
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 89 إلى المصنف وعبد بن حميد، وذكره القرطبي في تفسيره 16/ 311، وابن كثير في تفسيره 7/ 352.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 231 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 89 إلى عبد بن حميد.
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 352.
(4)
في م: "غزوهم".
(5)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"بأن".
(6)
انشمر: مرَّ جادًّا. اللسان (ش م ر).
فبلَغَنا أنَّه يزعمُ لرسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أنَّا خرَجنا إليه لنُقاتِلَه، واللَّهِ ما جئنا
(1)
لذلك. فأنزَل اللَّهُ في الوليدِ بنِ عقبةَ وفيهم: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} إلى آخر الآيةِ
(2)
.
[حُدِّثتُ عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ، أخبَرنا عبيدٌ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ} إلى آخرِ الآيةِ]
(3)
، قال: بعَث رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رجلًا من أصحابِه إلى قومٍ يُصَدِّقُهم، فأتاهم الرجلُ، وكان بينَهم وبينَه حِنَةٌ
(4)
في الجاهليةِ؛ فلمَّا أتاهم رحَّبوا به، وأقرُّوا بالزكاةِ وأعْطَوْا ما عليهم من الحقِّ، فرجَع الرجلُ إلى رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسولَ اللَّهِ، منَع بنو فلانٍ الزَّكاةَ
(5)
ورجَعوا عن الإسلامِ. فغَضِب رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وبَعث إليهم، فأَتَوْه، فقال:"أَمَنَعتُم الزَّكاةَ، وَطَرَدْتُم رَسُولي؟ ". فقالوا: واللَّهِ ما فعَلْنا، وإنا لنَعْلَمُ إنك لرسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليك، ولا بَدَّلْنا، ولا مَنَعْنا حقَّ اللَّهِ في أموالِنا. فلم يُصَدِّقْهم رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فأنزَل اللَّهُ هذه الآيةَ، فعَذَرَهم
(6)
.
وقولُه: {أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} . يقولُ تعالى ذكرُه: فتبيَّنوا كيلا تُصيبوا قومًا برآءَ مما قُرِفوا
(7)
به، بخيانةٍ
(8)
، بجهالةٍ منكم بحالِهم
(9)
، {فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا
(1)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"خرجنا".
(2)
سيرة ابن هشام 2/ 296، وذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 352.
(3)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(4)
بياض في الأصل، وفي م:"إحنة"، والحنة: العداوة، وهي لغة في الإحنة. ينظر النهاية 1/ 453.
(5)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"الصدقة".
(6)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 352.
(7)
في م: "قذفوا"، وقرفتُ الرجلَ، أي عبتُه، ويقال: هو يُقرف بكذا. أي: يُرمى به ويُتهم. اللسان (ق ر ف).
(8)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"بجناية".
(9)
سقط من: م، ت 1، ت 2، ت 3، وفي ص:"بجهالة".
فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}. يقولُ: فتَندموا على إصابتِكم إيَّاهم، بالخيانةِ
(1)
التي تُصيبونَهم بها.
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه لأصحابِ نبيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: {وَاعْلَمُوا} أيُّها المؤمنون باللَّهِ ورسولِه، {أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ} ، فاتَّقُوا اللَّهَ أَن تقولوا الباطلَ، وتفتَروا الكذِبَ، فإن اللَّهَ يخبِرُه أخبارَكم، ويعرِّفُه أنباءَكم، ويقوِّمُه على الصوابِ في أمورِه.
وقولُه: {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} . يقولُ تعالى ذكرُه: لو كان رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يعملُ في الأمورِ بآرائِكم، ويَقْبَلُ منكم ما تقولون له فيطيعُكم، {لَعَنِتُّمْ}. يقولُ: لنالَكم عنَتٌ. يعني: الشدَّةَ والمشقةَ في كثيرٍ من الأمورِ، بطاعتِه إياكم لو أطاعَكم؛ لأنه كان يخطئُ في أفعالِه، كما لو قَبِل من الوليدِ بنِ عقبةَ قولَه في بني المُصطَلِقِ: إنهم قد ارتَدُّوا، ومنَعوا الصَّدَقةَ، وجمَعوا الجموعَ لغَزوِ المسلمين. فغزاهم فقتَل منهم، وأصاب من دمائِهم وأموالِهم - كان قد قَتَل وقتَلْتُم من لا يحلُّ له ولكم
(2)
قَتْلُه، وأَخَذَ وأخَذتُم من المالِ ما لا يحلُّ له ولكم أخْذُه من أموالِ قومٍ مسلمين، فنالَكم بذلك من اللَّهِ عَنَتٌ، {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ
(1)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"بالجناية".
(2)
في م: "ولا لكم".
الْإِيمَانَ} باللَّهِ ورسولِه، فأنتم تُطيعُون [اللَّهَ ورسولَه]
(1)
، وتأتمون به، فيَقيكُم اللَّهُ بذلك من العَنَتِ ما لو لم تُطِيعوه وتتَّبِعوه و
(2)
كان يُطيعُكم لَنَالَكُم وأصابَكُم.
وقولُه: {وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} . يقولُ: وحسَّن الإيمانَ في قلوبِكم فآمَنتم، {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ} باللَّهِ، {وَالْفُسُوقَ} . يعني الكذبَ، {وَالْعِصْيَانَ}. يعني: ركوبَ ما نهَى
(3)
اللَّهُ عنه في خلافِ أمرِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وتضييعِ ما أمَر اللَّهُ به، {أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ}. يقولُ: هؤلاء الذين حبَّب اللَّهُ إليهم الإيمانَ، وزيَّنه في قلوبِهم، وكرَّه إليهم الكفرَ والفسوقَ والعصيانَ
(4)
، هم الرَّاشِدون، السَّالِكون طريقَ الحقِّ.
وقولُه: {فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً} . يقولُ: ولكِنَّ اللَّهَ حبَّب إليكم الإيمانَ، وأنعَم عليكم هذه النعمَ
(5)
التي عدَّها؛ فضلًا منه وإحسانًا، ونعمةً منه أنعَمَها عليكم، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}. يقولُ: واللَّهُ ذو علمٍ بالمُحسنِ مِنكم من المُسيءِ، ومَنْ هو لنِعَمِ اللَّهِ وفَضْلِه أهلٌ، ومَن هو لذلك غيرُ أهلٍ، وحكمةٍ في تدبيرِه خَلْقَه، وصَرْفِه إيَّاهم فيما شاءَ مِن قضائِه.
وبنحوِ الذي قُلنا في تأويلِ قولِه: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} قال قتادةُ
(6)
.
(1)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"رسول الله".
(2)
في الأصل: "ولكنه".
(3)
في الأصل: "نهانا".
(4)
بعده في م، ت 2، ت 3:"أولئك".
(5)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"النعمة".
(6)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"أهل التأويل"، وبعده:"ذكر من قال ذلك".
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ} . حتى بلَغ: {لَعَنِتُّمْ} : [هؤلاء أصحابُ نبيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لو أطاعهم نبيُّ اللَّهِ في كثيرٍ من الأمرِ لعنِتوا
(1)
]
(2)
، فأنتم واللَّهِ أسخفُ رأيًا، وأطيشُ عقولًا، فاتَّهم
(3)
رجلٌ رأيَه، وانْتَصح كتابَ اللَّهِ، فإن كتابَ اللَّهِ ثقةٌ لمن أخَذ به، وانتهَى إليه، وإن ما سوى كتابِ اللَّهِ تغريرٌ
(4)
.
حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابنُ ثورٍ، قال: قال معمرٌ: تلا قتادةُ: {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} . قال: فأنتم أسخفُ رأيًا، وأطيشُ أحلامًا، فاتَّهم رجلٌ رأيَه، وانتصَح كتابَ اللَّهِ
(5)
.
[وكالذي]
(6)
قُلنا أيضًا في تأويلِ قولِه: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ [وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} . قال ابنُ زيدٍ]
(7)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} . قال: حبَّبه إليهم، وزَيَّنه: وحسَّنه في قلوبِهم، {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ}. قال: الكذبَ والعصْيانَ؛ قال: عصيانُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، {أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ}. مِن أين كان هذا؟ قال: فضلٌ مِن اللَّهِ ونعمةٌ. قال: والمنافقون سمَّاهم اللَّهُ أجمعين في القرآنِ الكَاذِبين. والفاسقُ: الكاذبُ في كتابِ اللَّهِ كلِّه.
(1)
في النسخ: "لعنتم". والمثبت من الدر المنثور 6/ 89.
(2)
سقط من: الأصل.
(3)
في الأصل: "ما اتهم"، وفي ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"اتهم".
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 89 إلى عبد بن حميد.
(5)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 232 عن معمر به، وذكره الجصاص في أحكام القرآن 5/ 278.
(6)
في ص، م، ت 1:"وكذلك كما"، وفي ت 2، ت 3:"وكذلك".
(7)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"قالوا"، وبعده:"ذكر من قال ذلك".
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9)} [الحجرات: 9].
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه: وإن طائفتان من أهلِ الإيمانِ اقْتَتلوا، فأصْلِحوا أيُّها المؤمنون بينَهما، بالدعاءِ إلى حكمِ كتابِ اللَّهِ، والرِّضا بما فيه لهما وعليهما، وذلك هو الإصلاحُ بينَهما بالعدلِ. {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى}. يقول: فإن أبَت إحدَى هاتين الطائفتين الإجابةَ إلى حكمِ كتابِ اللَّهِ [لها وعليها]
(1)
، وتعدَّت ما جعَل اللَّهُ عدلًا بينَ خَلْقِه، وأجابت الأُخْرى منهما، {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي}. يقولُ: فقاتِلوا التي تتعدَّى
(2)
، وتأبَى الإجابةَ إلى حكمِ كتابِ
(3)
اللَّهِ، [{حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ}. يقولُ: حتى ترجِعَ إلى حكمِ اللَّهِ]
(4)
الذي حكَم في كتابِه بينَ خلقِه، {فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ}. يقولُ: فإن رجَعت الباغيةُ بعدَ قتالِكم إيَّاهم إلى الرِّضا بحكمِ اللَّهِ في كتابِه، فأصْلِحوا بينَها وبينَ الطائفةِ الأخرى التي قاتَلَتْها {بِالْعَدْلِ}: يعني بالإنصافِ بينَهما، وذلك حكمُ اللَّهِ في كتابِه الذي جعَله عدلًا بينَ خَلْقِه.
وبنحوِ الذي قُلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابنِ عباسٍ
(1)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"له وعليه".
(2)
في ص، ت 1، ت 3:"تعدى"، وفي م:"تعتدى"، وفي ت 2:"تفدى".
(3)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(4)
سقط من: الأصل، ت 1.
قولَه: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} : فإن اللَّهَ سبحانه أمَر النبيَّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين إذا اقْتَتَلَت طائفتانِ من المؤمنين أن يَدْعُوَهم إلى حكمِ اللَّهِ، ويُنصِفَ بعضَهم مِن بعضٍ، فإن أجابوا حكَم فيهم بكتابِ اللَّهِ، حتى يُنصِفَ المظلومَ من الظالمِ، فمَن أبى مِنهم أن يجيبَ فهو باغٍ، وحَقٌّ على إمامِ المؤمنين أن يجاهدَهم ويقاتِلَهم حتى يَفيئوا إلى أمرِ اللَّهِ، ويُقرُّوا بحكمِ اللَّهِ
(1)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} إلى آخرِ الآيةِ. قال: هذا أمْرٌ [أمَر اللَّهُ]
(2)
به الوُلاةَ كهيئةِ ما تكونُ العصبيةُ
(3)
بينَ الناسِ، وأمَرهم أن يُصْلِحوا بينَهما، فإِن أَبَوْا قَاتَلَ الفئةَ الباغيةَ حتى ترجعَ إلى أمرِ اللَّهِ، فإذا رجَعوا
(4)
أصْلَحوا بينَهما، وأخبَروهم أن المؤمنين إخوةٌ؛ {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}. قال: ولا يقاتلُ الفئةَ الباغيةَ إِلَّا الولاةُ
(5)
.
وذُكِر أن هذه الآية نزلَت في طائفتين من الأوسِ والخزرجِ اقْتَتلا
(6)
في بعضِ ما تَنازَعا
(7)
فيه، مما سأذكُرُه إِن شاءَ اللَّهُ تعالى.
ذكرُ مَن قال ذلك والروايةِ به
حدَّثني محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا مُعتمرُ بنُ سليمانَ، عن أبيه، عن
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 90 إلى المصنف وابن المنذر وابن مردويه.
(2)
في م: "من الله أمر".
(3)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"العصبة".
(4)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"رجعت".
(5)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"الإمام".
(6)
في ص، م، ت 2، ت 3:"اقتتلنا".
(7)
في ص، م، ت 2، ت 3:"تنازعتا".
أنسٍ، قال: قيل للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: لو أتَيتَ عبدَ اللَّهِ بنَ أُبيٍّ ابنَ سلولَ. قال: فانطلَق إليه وركِب حمارًا، وانطلَق المسلمون، وهي أرضٌ سَبِخةٌ، فلما أتاه رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: إليك عنِّي، فواللَّهِ لقد آذاني نَتْنُ حِمارِكَ. فقال رجلٌ من الأنصارِ: واللَّهِ لحمارُ
(1)
رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أطيبُ ريحًا مِنك. قال: فغَضِب لعبدِ اللَّهِ بنِ أُبيٍّ رجلٌ مِن قومِه. قال: فغَضِب لكلِّ واحدٍ منهما أصحابُه، قال: فكان بينَهم ضَرْبٌ بالجَريدِ والأيدي والنِّعالِ، فبلَغَنا أنه نزَلت فيهم:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا}
(2)
.
حدَّثني أبو حَصِينٍ عبدُ اللَّهِ بنُ أحمدَ بنِ يونسَ، قال: ثنا عَبْثرٌ، قال: ثنا حُصَينٌ، عن أبي مالكٍ في قولِه:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} . قال: رجلانِ اقْتَتلا، فغَضِب لذا قومُه، ولذا قومُه، فاجْتَمَعوا حتى اضَّرَبوا بالنِّعالِ، حتى كاد يكونُ بينَهم قتالٌ، فأنزَل اللَّهُ هذه الآيةَ
(3)
.
حدَّثنا أبو كُرَيبٍ، قال: ثنا هشيمٌ، عن حُصَينٍ، عن أبي مالكٍ في قولِه:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} . قال: كان بينَهم قتالٌ بغيرِ سلاحٍ.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا هشيمٌ، قال: أخبَرنا حُصَينٌ، عن أبي مالكٍ في قولِه:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} . قال: كانا حيَّيْن من أحياءِ الأنصارِ، كان بينَهما تنازعٌ بغيرِ سلاحٍ.
(1)
في م، ت 2، ت 3:"لنتن حمار".
(2)
أخرجه مسلم (1799) عن محمد بن عبد الأعلى به، وأحمد 20/ 56 (12607)، والبخاري (2691)، وأبو يعلى (4083)، والبيهقي 8/ 172، والواحدي في أسباب النزول ص 293، 294 من طريق معتمر بن سليمان به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 90 إلى ابن المنذر وابن مردويه.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 90 إلى المصنف وسعيد بن منصور وابن المنذر.
حدَّثنا ابنُ حُمَيدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن منصورٍ، عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ في قولِه:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} . قال: كان قتالُهم بالنِّعالِ والعِصِيِّ، فأمرَهم أن يُصْلِحوا بينَهم
(1)
.
حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا مِهرانُ، قال: ثنا المُباركُ بنُ فَضَالةَ، عن الحسنِ:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} . قال: كانت تكونُ الخصومةُ بينَ الحَيَّين، فيَدعُونهم إلى الحُكمِ، فيأبَوْن أن يُجِيبوا، فأنزَل اللَّهُ:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} . يقولُ: ادْفَعوهم إلى الحُكمِ. فكان قتالُهم الدَّفعَ
(2)
.
حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا مِهرانُ، عن سفيانَ، عن السديِّ:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} . قال: كانت امرأةٌ من الأنصارِ يُقال لها: أمُّ زيدٍ. تحتَ رجلٍ، فكان بينَها وبينَ زوجِها شيءٌ، فرَقَّاها إلى عِلِّيَّةٍ
(3)
، فقال لهم
(4)
: احْفَظوا. فبلَغ ذلك قومَها فجاءوا، وجاء قومُه، فاقْتَتلوا بالأيدي والنِّعال، فبلَغ ذلك النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فجاء ليُصلِحَ بينَهم، فنزل القرآنُ:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى} . قال: تَبْغِي: لا تَرْضَى بصلحِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أو بقضاءِ رسولِ اللَّهِ
(5)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 90 إلى المصنف وابن مردويه.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 90 إلى المصنف.
(3)
العِلِّيَّة والعُلِّيَّة: الغرفة. اللسان (ع ل و).
(4)
أي لأهله: لا يدخل عليها أحد من أهلها. كما في الدر المنثور.
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 90. إلى المصنف وابن أبي حاتم.
قولَه: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} . قال: الأوسُ والخزرجُ اقْتَتلوا بالعِصِيِّ بينَهم
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} . الآية، ذُكِر لنا أنها أنزِلت في رجلين من الأنصارِ كانت بينَهما مُدَارأَةٌ
(2)
في حقٍّ بينَهما، فقال أحدُهما للآخرِ: لآخذَنَّ
(3)
عَنْوَةً، لكثرةِ عشيرتِه، وأن الآخرَ دعاه ليُحاكِمَه إلى نبيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فأبى أن يتَّبِعَه، فلم يَزَلِ الأمرُ حتى تَدافَعوا، وحتى تناولَ بعضُهم بعضًا بالأيدي والنِّعالِ، ولم يكُنْ قتالٌ بالسيوفِ، فأمرَ اللَّهُ أن تُقاتَلَ حتى تَفِيءَ إلى
(4)
كتابِ
(5)
اللَّهِ وإلى حكمِ نبيِّه صلى الله عليه وسلم، وليست كما تأوَّلها أهلُ الشُّبهات، وأهلُ البدعِ، وأهلُ الفِرَى
(6)
على اللَّهِ وعلى كتابِه، أنه المؤمنُ يحِلُّ لك قتلُه، فواللَّهِ لقد عظَّم اللَّهُ حُرْمَةَ المؤمنِ حتى نهاك أن تظُنَّ بأخيك إلَّا خيرًا، فقال:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} الآية
(7)
.
حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن الحسنِ، أن قومًا من المسلمين كان بينَهم تنازعٌ، حتى اضْطَرَبوا بالنِّعالِ والأيدي، فأنزَل اللَّهُ فيهم:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} . قال قتادةُ: كان رجلان
(1)
تفسير مجاهد ص 611، وعزاه السيوطي في الدر المنثور إلى عبد بن حميد.
(2)
المدارأة: المخالفة والمدافعة. اللسان (د ر أ).
(3)
في م: "لآخذنَّه".
(4)
بعده في م: "أمر الله".
(5)
في ت 1: "أمر".
(6)
في م: "الفراء"، والفرى: جمع فرية وهي الكذبة. اللسان (ف ر ى).
(7)
ذكره البغوي في تفسيره 7/ 340، والجصاص في أحكام القرآن 5/ 279، والقرطبي في تفسيره 16/ 316، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 90 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر.
بينَهما حقٌّ، فتَدَارَءا
(1)
فيه، فقال أحدُهما: لآخذَنَّه عَنْوَةً. لكثرةِ عشيرتِه، وقال الآخرُ: بيني وبينَك رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فتنازَعا حتى كان بينَهما ضَرْبٌ بالنِّعالِ والأيدي
(2)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال:[وأخبَرني عبدُ اللَّهِ بنُ عيَّاشٍ، قال]
(3)
: قال زيدٌ في قولِ اللَّهِ تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} ، وذلك الرجلان يَقتتلان من أهلِ الإسلام، أو النَّفَرُ والنَّفَرُ، أو القبيلُ والقبيلةُ، فأمَر اللَّهُ أئمةَ المسلمين أن يَقضُوا بينهم بالحقِّ الذي أنزَله في كتابِه؛ إما القِصاصُ والقَوَدُ، وإمَّا العقْلُ والعِيرُ، وإمَّا العَفْوُ، {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى} بعدَ ذلك، كان المسلمون مع المظلومِ على الظالمِ حتى يفيءَ إلى حكمِ
(4)
اللَّهِ، ويرضَى به.
حدَّثنا ابنُ البرقيِّ، قال: ثنا ابنُ أبي مريمَ، قال: أخبَرنا نافعُ بنُ يزيدَ، قال: أخبَرنا ابنُ جريجٍ، قال: ثنى ابنُ شهابٍ وغيرُه - يَزِيدُ في الحديثِ بعضُهم على بعضٍ، قال: جلَس رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في مجلسٍ فيه عبدُ اللَّهِ بنُ رواحةَ وعبدُ اللَّهِ بنُ أُبيٍّ ابنُ سَلُولَ، فلمَّا ذهَب رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قال عبدُ اللَّهِ بنُ أُبيٍّ ابنُ سَلُولَ: لقد آذانا بولُ حمارِه، وسدَّ عنا
(5)
الرَّوْحَ. وكان بينَه وبين ابنِ رواحةَ شيءٌ، حتى خرَجوا بالسلاحِ، فأتَى رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
(6)
فحجزَ بينَهم، فلذلك يقولُ عبدُ اللَّهِ بنُ
(1)
في الأصل، ص، ت 1، ت 2، ت 3:"تداريا"، وفي م:"تدارأ"، وتدارءا: تدافعا. ينظر اللسان (د ر أ).
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 232 عن معمر به.
(3)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3: قال ابن زيد قال ثنى عبد الله قال". وينظر ترجمة عبد الله بن عياش في تهذيب الكمال 15/ 410.
(4)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"أمر".
(5)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"علينا".
(6)
بعده في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"فأتاهم".
أُبيٍّ
(1)
:
مَتى ما يَكُنْ مولاك خَصمُك جاهدًا
…
تُظَلَّمْ ويَصْرَعْك الذين تُصارِعُ
قال: فأُنزِلت فيهم هذه الآيةُ: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} .
وقولُه: {وَأَقْسِطُوا} . يقولُ تعالى ذكرُه: واعْدِلوا أيُّها المؤمنون في حُكمِكم بينَ مَن حَكَمْتُم بينَهم، بأن لا تَجاوَزوا في أحكامِكم حُكمَ اللَّهِ وحُكمَ رسولِه صلى الله عليه وسلم، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [من خلقِه]
(2)
. يقولُ: إِن اللَّهَ يُحِبُّ العادلين في أحكامِهم، القائمين
(3)
بينَ خلقِه بالقِسْطِ.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه لأهلِ الإيمانِ به: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} في الدينِ، {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} إذا اقتَتلا، بأن تَحْمِلوهما على حُكمِ اللَّهِ وحُكمِ رسولِه.
ومعنى الأخَوين في هذا الموضعِ: كلُّ مُقْتَتِلين من أهلِ الإيمانِ. وبالتثنيةِ قرَأ ذلك قرَأةُ الأمصارِ، وذُكِر عن ابن سيرينَ أنه قرأَه:(بينَ إخوانِكم) بالنونِ
(4)
، على مذهبِ الجمعِ، وذلك من جهةِ العربيةِ صحيحٌ
(5)
، غير أنه خلافٌ لِمَا عليه قرَأةُ
(1)
البيت في الدر الفريد 5/ 97، وسيرة ابن هشام 1/ 587.
(2)
ليس في: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(3)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"القاضين".
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 91 إلى عبد بن حميد وابن المنذر، وهي قراءة زيد بن ثابت وابن مسعود، وهي قراءة شاذة. ينظر مختصر الشواذ لابن خالويه ص 144.
(5)
ينظر معاني القرآن للفراء 3/ 71.
الأمصارِ، فلا أُحبُّ القراءةَ بها.
{وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: وخافوا اللَّهَ أَيُّها الناسُ بأداءِ فرائضِه عليكم، في الإصلاحِ بين المُقْتَتِلين من أهلِ الإيمانِ بالعدلِ، وفي غيرِ ذلك من فرائضِه، واجتنابِ معاصِيه؛ ليرحَمَكم ربُّكم، فيصفَحَ لكم عن سالفِ إجرامِكم إذا أنتم أطَعْتُموه، واتَّبعتم أمرَه ونهيَه، واتَّقَيتموه بطاعتِه.
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه: يا أيُّها الذين صدَّقوا اللَّهَ ورسولَه، لا يهزَأْ قومٌ مؤمنون من قومٍ مؤمنين، {عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ}. يقولُ: لعلَّ
(1)
المهزوءَ منهم خيرٌ من الهازئين، {وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ}. يقولُ: ولا يهزَأْ نساءٌ مؤمناتٌ من نساءٍ مؤمناتٍ، عسى المهزوءُ مِنهنَّ أن يكُنَّ خيرًا من الهازئاتِ.
واختَلَف أهلُ التأويلِ في السُّخريةِ التي نهَى اللَّهُ المؤمنين عنها في هذه الآية؛ فقال بعضُهم: هي سُخريةُ الغنيِّ مِن الفقيرِ، نُهِيَ أن يُسخرَ من الفقيرِ لِفَقْرِه.
(1)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
ذكرُ مَن قال ذلك
[حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسي، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ} . قال: لا يستهزئُ
(1)
قومٌ بقومٍ؛ أَن يَسأَلَ رجلٌ فقيرٌ غنيًّا أو فقيرًا، وإن تَفضَّلَ رجلٌ عليه بشيءٍ فلا يستهزئْ به
(2)
.
وقال آخرون: بل ذلك نَهيٌ مِن اللَّهِ مَن سَتَر عليه من أهلِ الإيمانِ، أن يسخَرَ ممن كُشِف في الدنيا سِترُه منهم.
ذكرُ مَن قال ذلك]
(3)
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ} : قال: ربما عُثِر على المرءِ عندَ خَطيئَتِه، {عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ} . فإن كان ظُهِر على عَثْرَتِه هذه، وسُتِرْتَ أنت على عَثْرَتِك، لعلَّ هذه التي ظَهَرت خيرٌ له في الآخرةِ عندَ اللَّهِ، وهذه التي سُتِرْتَ أنتَ عليها شرٌّ لك، ما يُدرِيكَ لَعلَّه [لا تُغفرُ]
(4)
لك. قال: فنَهى [اللَّهُ الرجالَ]
(5)
عن ذلك فقال: {لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ} . وقال في النساءِ مثلَ ذلك
(6)
.
(1)
في م: "يهزأ".
(2)
تفسير مجاهد ص 611، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 91 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
سقط من: الأصل.
(4)
في م: "ما يغفر"، وفي ت 1:"يغفر".
(5)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"الرجل".
(6)
ذكره القرطبي في تفسيره 16/ 325.
والصوابُ من القولِ في ذلك عندنا أن يُقالَ: إِن اللَّهَ عَمَّ بنَهيِه المؤمنينَ
(1)
أن يسخَرَ بعضُهم من بعضٍ جميعَ معاني السُّخريةِ، فلا يحِلُّ لمؤمنٍ أن يسْخَرَ من مؤمنٍ لا لفقرِه، ولا لذنبٍ ركِبَه، ولا لغيرِ ذلك.
وقولُه: {وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} . يقولُ تعالى ذكرُه: ولا يَعِبْ
(2)
بعضُكم بعضًا أَيُّها المؤمنون، ولا يطعَنْ بعضُكم على بعضٍ وقال:{وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} فجعَل اللَّامزَ أخاه لامزَ
(3)
نفسِه؛ لأن المؤمنين كرجلٍ واحدٍ، فيما يَلزمُ بعضُهم لبعضٍ؛ من تحسينِ أمرهِ، وطلَبِ صلاحِه، ومحبةِ
(4)
الخيرِ.
وكذلك
(5)
رُوِي الخبرُ عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنما
(6)
المؤمنون كالجسدِ الواحدِ، إذا اشتكى منه عُضوٌ تَداعى له سائرُ جسدِه بالحُمَّى والسَّهرِ"
(7)
. وهذا نظيرُ قولِه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} . [النساء: 29]. بمعنى: ولا يقتلْ بعضُكم بعضًا.
وبنحوِ الذي قُلنا في معنى ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني
(1)
بعده في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"عن".
(2)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"يغتب".
(3)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"لامزًا".
(4)
في م: "محبته".
(5)
في م: "لذلك".
(6)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(7)
أخرجه الطيالسي (827)، وأحمد 30/ 303 (18355)، والبخاري (6011)، ومسلم (2586)، وغيرهم من حديث النعمان بن بشير.
الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قوِله:{وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} . قال: لا
(1)
تَطْعُنُوا
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} . يقولُ: ولا يَطْعُنْ بعضُكم على بعضٍ.
حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ مثلَه
(3)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} . يقولُ: لا يطعُنْ بعضُكم على بعضٍ
(4)
.
وقولُه: {وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} . يقولُ: ولا تَداعَوا بالألقابِ. والنَّبزُ واللَّقَبُ معنًى
(5)
واحدٌ، يُجمَعُ النَّبزُ أَنبازًا، واللَّقَبُ ألقابًا.
واختَلَف أهلُ التأويلِ في الألقابِ التي نَهى اللَّهُ عن التَّنابزِ بها في هذه الآيةِ؛ فقال بعضُهم: عُني بها الألقابُ التي يَكْرَهُ النبزَ بها الملقَّبُ. وقالوا: إنما نزَلَت هذه الآيةُ في قومٍ كانت لهم أسماءٌ في الجاهليةِ، فلمَّا أسلَموا نُهُوا أن يدعوَ بعضُهم بعضًا بما يكرَهُ من أسمائِه التي كان يُدعَى بها في الجاهليةِ.
(1)
ليس في الأصل.
(2)
تفسير مجاهد 611، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 91 إلى عبد بن حميد.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 232 عن معمر به، وذكره القرطبي في تفسيره 16/ 327، وابن كثير في تفسيره 7/ 356.
(4)
أخرجه البخاري في الأدب المفرد (329)، والحاكم 2/ 463، والبيهقي في الشعب (6751) من طريق عكرمة عن ابن عباس به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 91 إلى عبد بن حميد وابن أبي الدنيا في ذم الغيبة وابن المنذر.
(5)
في م: "بمعنى".
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا حميدُ بنُ مَسْعَدةَ، قال: ثنا بشرُ بنُ المُفضَّلِ، قال: ثنا داودُ، عن عامرٍ، قال: قال أبو جَبِيرةَ بنُ الضحاكِ: فينا نزَلت هذه الآيةُ؛ في بني سَلِمةَ، قدِم رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم المدينةَ
(1)
وما مِنَّا
(2)
رجلٌ إلَّا وله اسمان أو ثلاثةٌ، فكان إذا دعا الرجلَ بالاسمِ، قُلنا: يا رسولَ اللَّهِ، إنه يغضَبُ من هذا. فنزَلت هذه الآيةُ:{وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} ، الآيةُ كلُّها
(3)
.
حدَّثني محمدُ بنُ المثنى، قال: ثنا عبدُ الوهابِ، قال
(4)
: ثنا داودُ، عن عامرٍ، عن أبي جَبِيرةَ بنِ
(5)
الضحاكِ، قال: كان أهلُ الجاهليةِ يُسمُّون الرجلَ بالأسماءِ، فدعا النبيُّ صلى الله عليه وسلم رجلًا باسمٍ من تلك الأسماءِ، فقالوا: يا رسولَ اللَّهِ، إنه يغضَبُ من هذا. فأنزَل اللَّهُ:{وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ} .
حدَّثنا ابنُ المثنى، قال: ثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا داودُ، عن عامرٍ، قال: ثنى أبو جَبِيرةَ بنُ الضحاكِ. فذكَر عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم نحوَه.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابنُ عُلَيَّةَ، قال: ثنا داودُ، عن الشَّعبيِّ، قال: ثنى أبو جَبيرةَ بنُ الضحاكِ، قال: نزَلت في بني سَلِمةَ: {وَلَا تَنَابَزُوا
(1)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(2)
في الأصل: "فينا".
(3)
أخرجه النسائي في الكبرى (11516) عن حميد بن مسعدة به، وأخرجه الترمذي عقب الأثر (3268)، والطبراني 22/ 389، 390 (968)، من طريق بشر به، وأخرجه البخاري في الأدب المفرد (330)، وأبو داود (4962)، وابن ماجه (3741)، وابن حبان (5709)، والطبراني 22/ 390 (969)، والبيهقي في الشعب (6747)، والواحدي في أسباب النزول ص 295 من طريق داود به.
(4)
في الأصل: "و".
(5)
في الأصل: "عن".
بِالْأَلْقَابِ}. قال: قَدِم رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وليس مِنَّا رجلٌ إِلَّا وله اسمان أو ثلاثةٌ، فكان يدعو الرجلَ، [فتقولُ أُمَّةٌ]
(1)
: إنه يغضَبُ من هذا. قال: فنزَلت: {وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} . وقال مرَّةً: كان
(2)
إذا دعا باسمٍ من هذا، قيل: يا رسولَ اللَّهِ، إنه يغضَبُ من هذا. فنزَلت الآيةُ.
وقال آخرون: بل ذلك قولُ الرجلِ المسلمِ للرجلِ المسلمِ: يا فاسقُ، يا زاني.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا هنادُ بنُ السَّرِيِّ، قال: ثنا أبو الأحوصِ، عن حُصَينٍ، قال: سألتُ عِكرِمةَ عن قولِ اللَّهِ عز وجل: {وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} . قال: هو قولُ الرجلِ للرجلِ: يا منافقُ، يا كافرُ
(3)
.
حدَّثنا يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هشيمٌ، قال: أخبَرنا حُصَينٌ، عن عكرِمةَ في قولِه:{وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} . قال: هو قولُ الرجلِ للرجلِ: يا فاسقُ، يا منافقُ.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا مِهرانُ، عن سفيانَ، عن حُصَينٍ، عن عكرِمةَ:{وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} . قال: يا فاسقُ، يا كافرُ.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا مِهْرانُ، عن سفيانَ، عن خُصَيفٍ، عن مجاهدٍ
(1)
في الأصل: "فيقول أمه"، وفى ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"فتقول أمه"، وفي سنن أبي داود (4962):"فيقولون: مه"، وعند الحاكم 4/ 281:"فيقولون: مه مه مه". وما في النسخ تحريف واضح.
(2)
في الأصل: "ثانية".
(3)
أخرجه البيهقي في الشعب (6748) من طريق أبى الأحوص به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 91 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
و
(1)
عكرِمةَ: {وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} . قال: يقولُ الرجلُ للرجلِ: يا فاسقُ، يا كافرُ.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} . قال: [يُدْعَى الرجلُ]
(2)
بالكفرِ وهو مسلمٌ
(3)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} . يقولُ
(4)
: لا تقلْ لأخيكَ المسلمِ: ذاك فاسقٌ، ذاك منافقٌ. نهَى اللَّهُ المسلمين
(5)
عن ذلك، وقدَّم فيه.
حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} . يقولُ: [لا تقلْ لأخيك]
(6)
المسلمِ: يا فاسقُ، يا منافقُ
(7)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} . قال: تسميتُه بالأعمالِ السيئة بعدَ الإسلامِ؛ زانٍ، فاسقٍ
(8)
.
وقال آخرون: بل ذلك تسميةُ الرجلِ الرجلَ بالكفرِ بعدَ الإسلامِ، وبالفسوقِ
(1)
في ص، م، ت 1:"أو".
(2)
في م: "دعى رجل".
(3)
تفسير مجاهد ص 611، ومن طريقه الفريابي - كما في تغليق التعليق 4/ 315 - وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 92 إلى عبد بن حميد.
(4)
بعده في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"الرجل"، وفي م:"للرجل".
(5)
في م: "المسلم"، وسقط من: ت 3.
(6)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"يقولن لأخيه".
(7)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 232 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 91 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(8)
ذكره القرطبي في تفسيره 16/ 328.
و
(1)
الأعمالِ القبيحةِ بعدَ التوبةِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ:{وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ} الآية. قال: التنابزُ بالألقابِ: أن يكونَ الرجلُ عمِل السيئاتِ ثم تاب منها، وراجَعَ الحقَّ، فنَهى اللَّهُ أن يُعَيَّرَ بما سلَف من عمَلِه
(2)
.
حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابنُ ثورٍ، عن معمرٍ، قال: قال الحسنُ: كان اليهوديُّ والنصرانيُّ يُسلِمُ، فيلقَّبُ؛ فيُقالُ له: يا يهوديُّ، يا نصرانيُّ. فنُهُوا عن ذلك
(3)
.
والذي هو أولى الأقوالِ في تأويلِ ذلك عندي بالصوابِ أن يُقالَ: إن اللَّهَ تعالى ذكرُه نَهَى المؤمنين أن يتَنابزوا بالألقابِ. والتنابزُ بالألقابِ: هو دعاءُ المرءِ صاحبَه بما يَكْرهُه من اسمٍ أو صفةٍ، وعمَّ اللَّهُ بنهيِه ذلك، ولم يَخْصُصْ به بعضَ الألقابِ دونَ بعضٍ، فغيرُ جائزٍ لأحدٍ من المسلمين أن يَنْبِزَ أخاه باسمٍ يَكْرهُه، أو صِفةٍ يَكْرهُها، وإذا كان ذلك كذلك، صحَّت الأقوالُ التي قالها أهلُ التأويلِ في ذلك، التي ذكَرْناها كلَّها، ولم يكنْ بعضُ ذلك أولى بالصوابِ من بعضٍ؛ لأن كلَّ ذلك مما قد
(4)
نهَى اللَّهُ المسلمين أن ينبِزَ بعضُهم بعضًا به
(4)
.
(1)
في الأصل: "في"، وسقط من: ت 3.
(2)
ذكره البغوي في تفسيره 7/ 344، والقرطبي في تفسيره 16/ 329، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 91 إلى المصنف.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 232 عن معمر به، وذكره الجصاص في أحكام القرآن 5/ 286، والبغوي في تفسيره 7/ 343، والقرطبي في تفسيره 16/ 328.
(4)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
وقولُه: {بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ} . يقولُ تعالى ذكرُه: ومن فعَل ما نَهَيْنا عنه، وتقدَّم على مَعْصيتِنا بعدَ إيمانِه، فسَخِرَ من المؤمنين، ولَمز أخاه المؤمنَ، ونَبَزه بالألقابِ - فهو فاسقٌ، {بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ}. يقولُ: فلا تفعَلوا ذلك
(1)
فتَستحِقُوا إن فعلتُموه أن تُسَمَّوا فُسَّاقًا، بئسَ الاسمُ الفسوقُ. وترَك ذِكْرَ ما وصَفْنا من الكلامِ؛ اكتفاءً بدلالةِ قولِه:{بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ} . عليه.
وكان ابنُ زيدٍ يقولُ في ذلك، ما حدَّثنا به يونسُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ، وقرَأ:{بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ} . قال: بئس الاسمُ الفسوقُ حينَ تُسَمِّيه بالفسقِ بعدَ الإسلامِ، وهو على الإسلامِ. قال: وأهلُ هذا الرأيِ هم المعتزلةُ، قالوا: لا نُكَفِّرُه كما كَفَّرَه أهلُ الأهواءِ، ولا نقولُ له: مؤمنٌ، كما قالت الجماعةُ، ولكِنَّا نُسمِّيه باسمِه، إن كان سارقًا فهو سارقٌ، وإن كان خائنًا سَمَّوْه خائنًا، وإن كان زانيًا سَمَّوْه زانيًا. قال: فاعْتَزلوا الفريقين؛ أهل الأهواءِ وأهلَ الجماعةِ، فلا بقولِ هؤلاءِ قالوا، ولا بقولِ هؤلاءِ، فسُمُّوا بذلك المعتزلةَ.
فوجَّه ابنُ زيدٍ تأويلَ قولِه: {بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ} . إلى من دُعِي فاسِقًا، وهو تائبٌ من فِسْقِه، فبئسَ الاسمُ ذلك له مِن أسمائِه. وغيرٌ ذلك من التأويلِ أولى بالكلامِ، وذلك أن اللَّهَ تقدَّم بالنَّهْيِ عما تقدَّم بالنَّهْيِ عنه في أوَّلِ هذه الآيةِ، فالذي هو أولى أن يختمَها بالوعيدِ لمَن تقدَّم على نَهْيِه
(2)
، أو بقبيحِ ركوبِه ما رَكِب مما
(3)
نهَى عنه، لا بالخبرِ
(4)
عن قُبحِ ما كان التائبُ أتاه قبلَ توبتِه، إذ كانت الآيةُ لم تُفْتَتَحْ
(1)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(2)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"بغيه".
(3)
في الأصل: "ما".
(4)
في م: "أن يخبر".
بالخبرِ عن ركوبِه ما كان ركِب قبلَ التوبةِ من القبيحِ، فيُختمَ آخرُها بالوعيدِ عليه أو بالقبيحِ.
وقولُه: {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} . يقولُ تعالى ذِكرُه: ومن لم يتُبْ من نَبْزِه أخاه بما نَهَى اللَّهُ [عنه؛ من]
(1)
نَبْزِه بالألقابِ، أو لمزِه إيَّاه، أو بسخريتِه منه - فأولئك هم الذين ظلَموا أنفسَهم، [بما كسَّبوها]
(2)
عقابَ اللَّهِ، بركوبِهم ما نَهاهم عنه.
وكان ابنُ زيدٍ يقولُ في ذلك، ما حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} . قال: ومن لم يتبْ من ذلك الفسوقِ، فأولئك هم الظَّالمون.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه: يا أيُّها الذين صدَّقوا اللَّهَ ورسولَه، لا تقرَبوا كثيرًا من الظنِّ بالمؤمنين، وذلك أن تظُنُّوا بهم سوءًا، فإن الظانَّ غيرُ مُحِقٍّ. وقال جلَّ ثناؤُه:{اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ} . ولم يقُلْ: اجتنِبوا
(3)
الظَّنَّ كلَّه. إذ كان قد أذِن للمؤمنين أن يظنَّ بعضُهم ببعضٍ الخيرَ، فقال:{لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} [النور: 12]. فأذِن اللَّهُ جلَّ ثناؤُه للمؤمنين أن يظنَّ بعضُهم ببعضٍ الخيرَ، وأن يقولوه، وإن لم
(1)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"عن".
(2)
في ص، م، ت 1، ت، ت 3:"فأكسبوها".
(3)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
يكونوا مِن قيلِه فيهم على يقينٍ.
وبنحوِ الذي قُلنا في معنى ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ} . يقولُ: نهَى اللَّهُ المؤمنَ أن يظُنَّ بالمؤمنِ شرًّا
(1)
.
وقولُه: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} . يقولُ: إِنَّ ظنَّ المؤمنِ بالمؤمنِ الشرَّ لا الخيرَ إثمٌ؛ لأن اللَّهَ قد نَهاه عنه، ففعْلُ ما نَهَى اللَّهُ عنه إثمٌ.
وقولُه: {وَلَا تَجَسَّسُوا} . يقولُ: ولا يَتَتَبَّعْ بعضُكم عَوْرَةَ أخيه
(2)
، ولا يبحثْ عن سرائرِه، يبتغي بذلك الظُّهورَ على عيوبِه، ولكن اقْنَعوا بما
(3)
ظهَر لكم من أمرِه، وبه فاحْمَدوا أو ذُمُّوا، [لا على ما لا تَعْلَمونه]
(4)
من سرائرِه.
وبنحوِ الذي قُلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{وَلَا تَجَسَّسُوا} . يقولُ: نَهَى اللَّهُ المؤمنَ أَن يَتَتبَّعَ عَوْرَاتِ
(1)
أخرجه البيهقي في الشعب (6754) من طريق أبي صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 92 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"بعض".
(3)
في الأصل: "ما".
(4)
في الأصل: "على ما تعلمونه"، وفي ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"لا على ما تعلمونه".
المؤمنِ
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{وَلَا تَجَسَّسُوا} . قال: خُذُوا ما ظهرَ لكم ودَعُوا ما سَتَر اللَّهُ
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا} : هل تدرون ما التجسُّسُ أو التجسيسُ؟ هو أن تتبعَ، أو تبتغيَ غيبَ
(3)
أخيك، لتطَّلعَ على سرِّهِ
(4)
.
حدَّثنا ابنُ حُمَيدٍ، قال: ثنا مِهرانُ، عن سفيانَ:{وَلَا تَجَسَّسُوا} . قال: البحثُ.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قوِله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا} . قال: حتى أنْظُرَ في ذلك وأسألَ عنه، حتى أعرِفَ حقٌّ هو أو
(5)
باطلٌ؟ قال: فسمَّاه اللَّهُ تجسُّسًا
(6)
. قال: يتجَسَّسُ كما يتجسَّسُ الكلابُ. وقرأ قولَ اللَّهِ: {وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} .
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره - كما في الإتقان 2/ 43 - ، والبيهقي في الشعب (6754) من طريق أبي صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 92 إلى ابن المنذر.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 92 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"عيب".
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 92 إلى المصنف وعبد بن حميد.
(5)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"أم". ينظر مغني اللبيب 1/ 42.
(6)
في الأصل: "تجسيسا".
وقولُه: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} . يقولُ: ولا يقُلْ بعضُكم في بعضٍ بظَهْرِ الغيبِ، ما يكرَهُ المقولُ
(1)
فيه
(2)
ذلك أن [يقالَ له]
(3)
في وَجْهِه.
وبنحوِ الذي قُلنا في ذلك جاء الأثرُ عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وقال أهلُ التأويلِ.
ذِكرُ مَن قال ذلك وذكرُ
(4)
الأثرِ عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
حدَّثني يزيدُ بنُ مَخْلدٍ الواسطيُّ، قال: ثنا خالدُ بنُ عبدِ اللَّهِ الطحَّانُ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ إسحاقَ، عن العلاءِ بنِ عبدِ الرحمنِ، عن أبيه، عن أبي هريرةَ، قال: سُئل رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عن الغِيبةِ، فقال:"هو أن تقولَ لأخيك ما فيه، فإن كنتَ صادقًا فقد اغتَبتَه، وإن كنتَ كاذبًا فقد بَهَتَّه".
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ اللَّهِ بنِ بَزيعٍ، قال: ثنا بشرُ بنُ المفَضَّلِ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ بنُ إسحاقَ، عن العلاءِ بن عبدِ الرحمنِ، عن أبيه، عن أبي هريرةَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم بنحوِه.
حدَّثنا ابنُ المثنى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، قال: سمِعتُ العلاءَ يحدِّثُ، عن أبيه، عن أبي هريرةَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"هل تدرون ما "الغِيابَةُ؟ "
(5)
. قال: قالوا: اللَّهُ ورسولُه أعلمُ. قال: "ذكرُك أخاكَ بما ليس فيه"
(6)
.
(1)
في الأصل: "القول".
(2)
بعده في الأصل: "و".
(3)
في الأصل: "يقاله"
(4)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(5)
في م، ت 1:"الغيبة". والمثبت كما في مسند أحمد، وقال محققا المسند: قال السندي: المشهور في هذا المعنى: الغيبة، وهو الواقع في رواية أبي داود وغيره.
(6)
كذا في النسخ، وهي كذلك في مسند أحمد، وهذا لا يوافق ما بعده، وفي صحيح ابن حبان:"بما فيه" بإسقاط: "ليس"، وعند غير أحمد وابن حبان:"ذكرك أخاك بما يكره".
قال: أرأيتَ إن كان في أخي ما أقولُ له؟ قال: "إن كان فيه ما تقولُ
(1)
فقدِ اغْتَبتَه، وإن لم يكُنْ فيه ما تقولُ فقد بَهَتَّه"
(2)
.
حدَّثنا ابنُ المثنى، قال: ثنا سعيدُ بنُ الربيعِ، قال: ثنا شعبةُ، عن العباسِ، عن رجلٍ سمع ابنَ عمرَ يقولُ: إذا ذكَرتَ الرجلَ بما فيه فقد اغْتَبْتَه، وإذا ذكَرتَه بما ليس فيه فقد بَهَتَّه. وقال شعبةُ مَرَّةً أُخْرَى: وإذا ذكَرتَه بما ليس فيه، فهي فِرْيةٌ
(3)
. قال أبو موسى: هو عباسٌ الجُرَيريُّ.
حدَّثنا ابنُ المثنى، قال: ثنا ابنُ أبي عديٍّ، عن شعبةَ، عن سليمانَ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ مُرَّةَ، عن مسروقٍ، قال: إذا ذكَرتَ الرجلَ بأسْوإِ ما فيه فقد اغْتَبْتَه، وإذا ذكَرتَه بما ليس فيه فقد بَهَتَّه
(4)
.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن الأعمشِ، عن أبي الضُّحَى، عن مسروقٍ، قال: إذا قلتَ في الرجلِ أسوأَ ما فيه فقد اغتَبْتَه، وإذا قلتَ ما ليس فيه فقد بَهَتَّه.
حدَّثنا أبو كُرَيبٍ، قال: ثنا عمرُ بنُ عبيدٍ، عن الأعمشِ، عن أبي الضُّحَى، عن مسروقٍ، قال: الغِيبةُ أن تقولَ للرجلِ أسوأَ ما تعلَمُ فيه، والبهتانُ أن تقولَ ما ليس فيه.
(1)
بعده في الأصل: "له".
(2)
أخرجه ابن عبد البر في التمهيد 23/ 20 من طريق ابن المثنى به، وأخرجه أحمد 12/ 56 (7146)، 16/ 6 (9901)، وابن حبان (5758) من طريق محمد بن جعفر به، وأخرجه مسلم (2589)، وأبو داود (4874)، والترمذي (1934)، والنسائي (11518)، والبيهقي 10/ 247 من طريق العلاء بن عبد الرحمن به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 94 إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
أخرجه الخرائطي في مساوئ الأخلاق ص 104 من طريق شعبة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 96 إلى ابن مردويه.
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 259.
حدَّثنا يونسُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: أخبَرني معاويةُ بنُ صالحٍ، عن كثيرِ بن الحارثِ، عن القاسمِ مولى معاويةَ، قال: سمِعتُ ابنَ أمِّ عبدٍ يقولُ: ما الْتَقَم أحدٌ لُقمَةً شرًّا
(1)
مِن اغتيابِ مؤمنٍ
(2)
؛ إن قال فيه ما يعلَمُ
(3)
فقد اغْتابَه، وإن قال فيه ما لا يعلمُ فقد بَهَتَه
(4)
.
حدَّثنا أبو السائبِ، قال: ثنا أبو معاويةَ، عن الأعمشِ، عن مسلمٍ، عن مسروقٍ، قال: إذا ذكَرتَ الرجلَ بما فيه فقد اغتَبْتَه، وإذا ذكَرتَه بما ليس فيه فذلك البُهتانُ.
حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا المعتمرُ، قال: سمِعتُ يونسَ، عن الحسنِ، أنَّه قال في الغِيبةِ: أن تذكُرَ من أخِيكَ ما تعلَمُ فيه من مساوئِ أعمالِه، فإذا ذكَرْتَه بما ليس فيه فذلك البُهتانُ
(5)
.
حدَّثنا ابنُ أبي الشواربِ، قال: ثنا عبدُ الواحدِ بنُ زيادٍ، قال: ثنا سليمانُ الشيبانيُّ، قال: ثنا حسانُ بنُ المخارقِ، أن امرأةً دخَلت على عائشةَ، فلمَّا قامَت لتَخرُجَ أَشارَت عائشةُ بيدِها إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم
(6)
؛ إنها قصيرةٌ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"اغْتَبْتِها"
(7)
.
(1)
في الأصل: "شر"، وفي م:"أشر".
(2)
في ص، ت 3:"لمؤمن"، وفي م، ت 1:"المؤمن".
(3)
في الأصل: "فعل".
(4)
أخرجه البخاري في الأدب المفرد (734) من طريق معاوية بن صالح به.
(5)
أخرجه البيهقي في الشعب (6770 - مكرر) من طريق معمر عن الحسن.
(6)
بعده في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"أي".
(7)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"اغتبتيها". والأثر أخرجه ابن أبي الدنيا في الصمت (207)، والخرائطي في مساوئ الأخلاق (205)، والبيهقي في الشعب (6730) من طريق أبي إسحاق سليمان الشيباني به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 96 إلى ابن مردويه.
حدَّثنا ابنُ المثنى، قال: ثنا أبو داودَ، قال: ثنا شعبةُ، عن أبي إسحاقَ، قال: لو مرَّ بك أقطَعُ فقلتَ: ذاك الأقطَعُ. كانت منك غِيبَةً. قال: وسمِعتُ معاويةَ بنَ قُرَّةَ يقولُ ذلك.
حدَّثنا ابنُ المثنى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، قال: سمِعتُ معاويةَ بنَ قُرَّةَ يقولُ: لو مَرَّ بك
(1)
رجلٌ أقطعُ، فقلتَ
(2)
: إنه أقطعُ. كنتَ قد اغْتَبْتَه. قال: فذكَرتُ ذلك لأبي إسحاقَ الهَمْدانيِّ فقال: صدَق
(3)
.
حدَّثني جابرُ بنُ الكُردِيِّ، قال: ثنا ابنُ أبي أُوَيسٍ، قال: ثنى أخي أبو بكرٍ، عن حمادِ بن أبي حميدٍ، عن موسى بن وَرْدانَ، عن أبي هريرةَ، أن رجلًا قام مِن
(4)
عندِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فرَأوا في قيامِه عَجْزًا، فقالوا: يا رسولَ اللَّهِ، ما أعْجزَ فلانًا؟! فقال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"أَكَلْتُم أخاكُم واغْتَبتُمُوه"
(5)
.
[حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا أبو موسى بنُ داودَ، قال: ثنا ابنُ لهيعةَ، عن عمرِو بنِ شعيبٍ، عن أبيه، عن جدِّه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم نحوَه]
(6)
.
(1)
في الأصل: "عليك".
(2)
بعده في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"له".
(3)
ذكره القرطبي في تفسيره 16/ 335، وابن كثير في تفسيره 7/ 359، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 94، 95 إلى عبد بن حميد.
(4)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(5)
أخرجه الطبراني في الأوسط (458) من طريق إسماعيل بن أبي أويس به، وأخرجه ابن أبي الدنيا في الصمت (208)، وأبو يعلى (6151)، والبيهقي في الشعب (6733) من طريق حماد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 96 إلى ابن مردويه.
(6)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3. والحديث أخرجه ابن أبي الدنيا في الصمت (205) من طريق عمرو بن شعيب به.
حدَّثنا أبو كُرَيبٍ، قال: ثنا عثمانُ بنُ سعيدٍ، قال: ثنا [حِبانُ بنُ عليٍّ العَنَزِيُّ]
(1)
، عن مُثَنَّى بنِ صبَّاحٍ، عن عمرِو بنِ شُعيبٍ، عن معاذِ بنِ جبلٍ، قال: كنا مع رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فذكَر القومُ رجلًا، فقالوا: ما يأكلُ إلا ما أُطعِم، وما يَرْحلُ إلا ما رُحِّل له، وما أَضْعَفَه! فقال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"اغْتَبتُم أخاكُم". قالوا: يا رسولَ اللَّهِ، وغِيبةٌ
(2)
أن تُحدِّثَ بما فيه؟ قال: "بِحَسْبِكُم أن تُحدِّثوا عن أخِيكُم بما
(3)
فيه"
(4)
.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا خالدُ بنُ مخلدٍ
(5)
، عن محمدِ بنِ جعفرٍ، عن العلاءِ، عن أبيه، عن أبي هريرةَ، قال: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إذا ذكَرتَ أخاكَ بما يَكرَهُ، فإن كان فيه ما تقولُ فقد اغْتَبْتَه. وإن لم يَكُنْ فيه ما تقولُ فقد بَهَتَّه"
(6)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، قال: كنا نُحدِّثُ أن الغِيبةَ أن تَذكُرَ أخاكَ بما يَشِينُه، وتعيبَه بما فيه، وإن كذَبتَ عليه فذلك البُهْتانُ
(7)
.
وقولُه: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} . يقولُ تعالى ذكرُه للمؤمنين به
(8)
: أيُحِبُّ أحدُكم أيُّها القومُ أن يأكلَ لحمَ أخيه بعدَ مماتِه مَيْتًا، فإن لم تُحبُّوا ذلك وكَرِهْتُموه لأنَّ اللَّهَ حرَّم ذلك عليكم، فكذلك لا تُحبُّوا أن تَغْتابوه في حياتِه، فاكْرَهوا غِيبتَه حَيًّا كما كَرِهْتُم أكلَ
(8)
لحمِه مَيْتًا؛ فإِنَّ اللَّهَ حَرَّم
(1)
في الأصل: "حسان بن علي الغنوي"، وينظر تهذيب الكمال 5/ 339.
(2)
في م: "غيبته".
(3)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"ما".
(4)
أخرجه الطبراني 20/ 39 (57)، والبيهقي في الشعب (6734) من طريق المثنى بن صباح عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن معاذ.
(5)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"محمد". وينظر تهذيب الكمال 8/ 163.
(6)
تقدم تخريجه في الصفحة السابقة.
(7)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 94 إلى المصنف وعبد بن حميد.
(8)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
غِيبَتَه حيًّا كما حرَّم أكلَ لحمِه مَيْتًا.
وبنحوِ الذي قُلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا} . قال: حرَّم اللَّهُ على المؤمنِ أن يغتابَ المؤمنَ بشيءٍ، كما حرَّم المَيْتةَ
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا} . قالوا: نكْرَهُ ذلك. قال: فكذلك فاتَّقوا اللَّهَ
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} . يقولُ: كما أنت كارهٌ لو وجَدتَ جِيفةً مُدَوَّدَةً أن تأكلَ منها، فكذلك فاكْرَه غِيبتَه وهو حيٌّ
(3)
.
وقولُه: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} . يقولُ تعالى ذكرُه: واتَّقوا اللَّهَ أيُّها الناسُ، فخَافوا عقوبتَه، بانتهائِكم عمَّا نهاكُم عنه؛ من ظنِّ أحدِكم بأخيهِ المؤمنِ
(1)
أخرجه البيهقي في الشعب (6754) من طريق أبي صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 94 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
تفسير مجاهد ص 612، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 94 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 94 إلى المصنف وعبد بن حميد.
ظنَّ السُّوْءِ، وتَتَبُّعِ عَوْراتِه، والتَّجسُّسِ عما استتَر
(1)
عنه من أمورِه
(2)
، واغْتيابِه بما يكْرهُه، تُريدُون
(3)
شَينَه وعَيبَه
(4)
، وغيرِ ذلك من الأمورِ التي نَهاكم عنها ربُّكم، {إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ}. يقولُ: إِن اللَّهَ راجعٌ لعبده إلى ما يحبُّه، إذا [راجَع العبدُ ربَّه]
(5)
إلى ما يحبُّه منه، رحيمٌ به أن
(6)
يعاقِبَه على ذنبٍ أذْنَبَه بعدَ توبتِه منه.
واختَلَفت القرَأةُ في قراءةِ قولِه: {لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا} ؛ فقرَأتْه عامَّةُ قرَأةِ المدينةِ بالتَّثقيلِ: (مَيِّتًا). وقرَأتْه عامَّةُ قرَأةِ أهلِ الكوفةِ والبصرةِ: {مَيْتًا} بالتَّخفيفِ
(7)
. وهما قراءتان عندنا معروفَتان متقارِبَتا المعنى، فبأيَّتِهما قرَأ القارئُ فمصيبٌ.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه: يأيُّها الناسُ إنا أنشأنا خَلْقَكُم من ماءِ ذَكَرٍ من الرجالِ، وماءِ أنثى من النساءِ.
وبنحوِ الذي قُلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
(1)
في ص: "انستر"، وفي م:"ستر".
(2)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"أمره".
(3)
بعده في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"به".
(4)
في الأصل: "غيبته".
(5)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"رجع العبد لربه".
(6)
في م: "بأن".
(7)
قرأ نافع: (ميِّتًا). بالتشديد، وقرأ الباقون؛ وهم ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي:{مَيْتًا} . ساكنة الياء. السبعة لابن مجاهد ص 606.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أبو
(1)
هشامٍ، قال: ثنا عبيدُ اللَّهِ بنُ موسى، قال: أخبَرنا عثمانُ بنُ الأسودِ، عن مجاهدٍ، قال: خلَق اللَّهُ الولدَ من ماءِ الرجلِ وماءِ المرأةِ، وقد قال تبارك وتعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} .
حدَّثنا ابنُ حُمَيدٍ، قال: ثنا مِهرانُ، قال: ثنا عثمانُ بنُ الأسودِ، عن مجاهدٍ قولَه:{إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} . قال: ما خَلَقَ اللَّهُ الولدَ إِلَّا مِن نطفةِ الرجلِ والمرأةِ جميعًا؛ لأنَّ اللَّهَ يقولُ: {خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى}
(2)
.
وقولُه: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} . يقولُ: وجَعَلْناكم مُتناسبِين؛ فبعضُكم يناسِبُ بعضًا نسبًا بعيدًا، وبعضُكم يناسِبُ بعضًا نسبًا قريبًا، فالمتناسِبُ
(3)
النَّسَبَ البعيدَ مَن نَاسَبَه
(4)
أهلُ الشُّعوبِ، وذلك أنه
(5)
إذا قيل للرَّجُلِ من العربِ: مِن أيِّ شَعْبٍ أنتَ؟ قال: أنا من مُضَرَ. أو
(6)
: ربيعةَ. وأما أهلُ المناسبةِ القريبةِ فأهلُ القبائلِ؛ وهم كتميمٍ مِن مُضرَ، وبكرٍ من ربيعةَ، وأقربُ من (5) القبائلِ الأفْخَاذُ؛ وهما كشيبانَ من بكرٍ، ودارمَ من تميمٍ، ونحوِ ذلك، ومن الشَّعْبِ قولُ ابنِ أَحمرَ الباهليِّ
(7)
:
مِن شَعْبِ همدانَ أو سعدِ العَشِيرَةِ أو
…
خَوْلانَ أو مَذْحِجٍ هاجُوا له طَرَبا
(1)
في الأصل: "ابن".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 98 إلى المصنف وعبد بن حميد.
(3)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"فالمناسب".
(4)
في م: "لم ينسبه".
(5)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(6)
بعده في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"من".
(7)
البيت في مجاز القرآن 2/ 220 منسوبًا إلى ابن أحمر.
وبنحوِ الذي قُلنا في معنى قولِه: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ} . قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أبو كُرَيبٍ، قال: ثنا أبو بكرِ بنُ عيَّاشٍ، قال: ثنا أبو حُصَينٍ، عن سعيدِ بنِ جبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ:{وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ} . قال: الشُّعوبُ الجُمَّاعُ، والقبائلُ البطونُ.
حدَّثنا خلادُ بنُ أَسْلَمَ، قال: ثنا أبو بكرِ بنُ عيّاشٍ، عن أبي حُصَينٍ، عن سعيدِ بن جُبَيرٍ، عن ابنِ عباسٍ في قولِه:{وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} . قال: الشُّعوبُ الجُمَّاعُ - قال خلادٌ: قال أبو بكرٍ: القبائلُ العظامُ، مثلُ بني تميمٍ - والقبائلُ الأفخاذُ
(1)
.
حدَّثنا أبو كُرَيبٍ، قال: ثنا ابنُ عطيةَ، قال: ثنا إسرائيلُ، عن أبي حُصَينٍ، عن سعيدِ بن جُبَيرٍ:{وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ} . قال: الشُّعوبُ الجمهورُ، والقبائلُ الأفخاذُ
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{شُعُوبًا} . قال: النَّسَبُ البعيدُ، {وَقَبَائِلَ}: دونَ ذلك
(3)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا
(1)
أخرجه البخاري (3489) من طريق أبي بكر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 98 إلى الفريابي وابن أبي حاتم.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 98 إلى عبد بن حميد وابن مردويه.
(3)
تفسير مجاهد ص 612، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 98 إلى عبد بن حميد.
وَقَبَائِلَ}. قال: الشُّعوبُ النسبُ البعيدُ، والقبائلُ كقولِه: فلانٌ من بني فلانٍ. و: فلانٌ من بني فلانٍ.
حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا} . قال: هو النَّسَبُ البعيدُ، {وَقَبَائِلَ}: كما تسمَعُه، يقال: فلانٌ مِن بني فلانٍ
(1)
.
حُدِّثتُ عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبَرنا عبيدٌ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا} . قال: أمَّا الشعوبُ: فالنَّسَبُ البعيدُ.
وقال بعضُهم: الشعوبُ الأفخاذُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن أبي حُصَينٍ، عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ:{وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ} . قال: الشعوبُ الأفخاذُ، والقبائلُ القبائلُ
(2)
.
وقال آخرون: الشعوبُ البطونُ، والقبائلُ الأفخاذُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يحيى بنُ طلحةَ اليربوعيُّ، قال: ثنا أبو بكرِ بنُ عياشٍ، عن أبي حُصَينٍ، عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ:{وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ} . قال:
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 232 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 98 إلى عبد بن حميد.
(2)
تفسير سفيان ص 279.
الشعوبُ البطونُ، والقبائلُ الأفخاذُ الكبارُ.
وقال آخرون: الشُّعوبُ الأنسابُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ:{وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ} . قال: الشعوبُ الأنسابُ.
وقولُه: {لِتَعَارَفُوا} . يقولُ: ليعرفَ بعضُكم بعضًا في النَّسَبِ. يقولُ تعالى ذكرُه: إنما جعَلْنا هذه الشعوبَ والقبائلَ لكم أيُّها الناسُ؛ ليعرفَ بعضُكم بعضًا في قربِ القرابةِ منه وبعدِه، لا لِفَضيلةٍ لكم في ذلك، وقُربةٍ تقرِّبُكم إلى اللَّهِ، بل أكرمُكم عندَ اللَّهِ أتقاكم.
وبنحوِ الذي قُلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} . قال: جعَلْنا هذا لِتَعارَفوا؛ فلانُ بنُ فلانٍ من كذا وكذا
(1)
.
وقولُه: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} . يقولُ تعالى ذكرُه: إن أكرمَكم أيُّها الناسُ عندَ رَبِّكم، أشدُّكُم اتِّقاءً له بأداءِ فرائضِه واجتنابِ معاصيهِ، لا أعظمُكم بيتًا، ولا أكثرُكم عَشِيرةً.
(1)
تمام الأثر المتقدم في 384.
كما حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: ثنى ابنُ لَهِيعَةَ، عن الحارثِ بن يزيدَ، عن عُلَيِّ بنِ رَبَاحٍ، عن عُقْبَةَ بن عامرٍ، أن رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال:"النَّاسُ لآدمَ وحوَّاءَ كطَفِّ الصَّاعِ لم يَملَئوهُ، إِنَّ اللَّهَ لا يسألُكم عن أحسابِكم ولا عن أنسابِكم يومَ القيامةِ، أكرمُكم عندَ اللَّهِ أتقاكم"
(1)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: ثنى ابنُ لَهيعةَ، عن الحارثِ بنِ يزيدَ، عن عُلَيِّ بنِ رَباحٍ، عن عقبةَ بنِ عامرٍ، أن رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ مسابَّكم
(2)
هذه ليستْ بمَسابٍّ على أحدٍ، وإنما أنتم ولَدُ آدمَ، طَفُّ الصَّاعِ
(3)
لم تَملَئوه، ليس لأحدٍ على أحدٍ فضلٌ إلَّا بِدِينٍ أو عملٍ صالحٍ، حَسْبُ الرجلِ أن يكونَ فاحِشًا بَذِيًّا بخيلًا جَبانًا"
(4)
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا ابنُ عُلَيَّةَ، عن ابنِ جُرَيجٍ، قال: سمِعتُ عطاءً يقولُ: قال ابنُ عباسٍ: ثلاثُ آياتٍ جَحَدَهُنَّ الناسُ؛ الإذْنُ كلُّه، وقال:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} . وقال الناسُ: أكرمُكم أعظمُكم بيتًا. وقال عطاءٌ: ونَسِيتُ الثالثةَ
(5)
.
وقولُه: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} . يقولُ تعالى ذكرُه: إن اللَّهَ أيُّها الناسُ ذو علمٍ
(1)
أخرجه ابن سعد في الطبقات 1/ 34، والروياني في مسنده (207) من طريق ابن وهب به.
(2)
في م: "أنسابكم".
(3)
أي: قريب بعضكم من بعض، والمعنى: كلكم في الانتساب إلى أب واحد بمنزلة واحدة في النقص والتقاصر عن غاية التمام، وشبههم في نقصانهم بالمَكِيل الذي لم يبلغ أن يملأ المكيال، ثم أعلمهم أن التفاضل ليس بالنسب ولكن بالتقوى. النهاية 3/ 129.
(4)
أخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار (3459) عن يونس به، وأخرجه الروياني في مسنده (208) من طريق ابن وهب به، وأخرجه أحمد 28/ 548 (17313)، والطبراني 17/ 295 (814)، والبيهقي في الشعب (5146، 6677) من طريق ابن لهيعة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 98 إلى ابن مردويه.
(5)
تقدم تخريجه في 17/ 244، 354.
بأَتقَاكُم عندَ اللَّهِ، وأكْرمِكم عندَه، ذو خبرةٍ بكم وبمصالِحكم، وغيرِ ذلك من أمورِكم [وأمورِ
(1)
غيركم من خلقِه، فاتَّقوه، فإنه]
(2)
لا تَخْفَى عليه خافيةٌ.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: قَالَتِ {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ
(3)
مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)}.
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه: قالت الأعرابُ: صدَّقنا باللَّهِ ورسولِه، فنحنُ مؤمنون. قال اللَّهُ لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: قلْ يا محمدُ لهم: لم تُؤمنوا، ولَسْتم مؤمنين، ولكن قولوا: أسلمنا.
وذُكر أن هذه الآيةَ نزَلت في أعرابِ
(4)
بني أسدٍ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قوِله:{قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا} . قال: أعرابُ بني أسدِ بنِ خُزَيمةَ
(5)
.
واختلَف أهلُ التأويلِ في السببِ الذي من أجلِه قيل للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: قلْ لهؤلاء الأعرابِ: [قولوا: أسلَمْنا]
(6)
، ولا تقولوا: آمَنَّا. فقال بعضُهم: إنما أُمِر
(1)
في الأصل: "لأمور".
(2)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(3)
في ت 3: في هذا الموضع وما سيأتي من مواضع: "يألتكم"، وسيأتي بيان أنها قراءة في ص 393.
(4)
بعده في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"من".
(5)
تفسير مجاهد ص 612، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 99 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(6)
في الأصل: "آمنا"، وفي ص، ت 1، ت 2، ت 3:"أسلمنا".
النبيُّ صلى الله عليه وسلم بذلك؛ لأنّ القومَ كانوا صدَّقوا بألسنتِهم، ولم يصدِّقوا قولَهم بفعْلِهم، فقيل لهم: قولوا: أسْلَمنا؛ لأن الإسلامَ قولٌ، والإيمانَ قولٌ وعملٌ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن الزهريِّ:{قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} . قال: إن الإسلامَ الكلمةُ، والإيمانَ العملُ
(1)
.
حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابنُ ثورٍ، عن معمرٍ، وأخبَرني الزهريُّ، عن عامرِ بن سعدِ بن أبي وقاصٍ، عن أبيه، قال: أعطَى النبيُّ صلى الله عليه وسلم رجالًا، ولم يُعْطِ رجلًا منهم شيئًا، فقال سعدٌ: يا رسولَ اللَّهِ، أعطَيت فلانًا وفلانًا، ولم تُعْطِ فلانًا شيئًا، وهو مؤمنٌ. فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"أَوْ مُسلِمٌ". حتَّى أعادَها سعدٌ ثلاثًا، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم يقولُ:"أوْ مُسلِمٌ". ثم قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي أُعطِي رجالًا، وأدَعُ مَن هو أحَبُّ إليَّ منهم لا أُعْطيه شيئًا؛ مخافَةَ أَنْ يُكَبُّوا في النَّارِ على وُجُوهِهِم"
(2)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا} . قال: لم يُصدِّقوا إيمانَهم بأعمالِهم، فردَّ اللَّهُ ذلك عليهم، {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} ، وأخبَرهم أن المؤمنين
(1)
أخرجه أبو داود (4684) من طريق ابن ثور به، وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 233، وعنه عبد بن حميد - كما في تغليق التعليق 2/ 33 - عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 100 إلى ابن المنذر.
(2)
أخرجه النسائي (5007) عن ابن عبد الأعلى به، وأخرجه أبو داود (4683) من طريق ابن ثور به، وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 234، والحميدي (68)، وأحمد 3/ 107 (1522)، وأبو يعلى (778)، وابن حبان (163)، وأبو نعيم في الحلية 6/ 191 من طريق معمر به، وأخرجه البخاري (27)، ومسلم (150/ 237)، وأبو يعلى (714) من طريق الزهري به.
{الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} : صدَّقوا إيمانَهم بأعمالِهم، فمن قال منهم: أنا مؤمنٌ. فقد صدَق. قال: وأمَّا مَن انْتَحل الإيمانَ بالكلامِ ولم يعمَلْ فقد كذَب، وليس بصادقٍ.
حدَّثنا ابنُ حُمَيدٍ، قال: ثنا مِهرانُ، عن سفيان، عن مُغيرةَ، عن إبراهيمَ:{وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} . قال: هو الإسلامُ
(1)
.
وقال آخرون: إنما أمَر اللَّهُ عز وجل النبيَّ صلى الله عليه وسلم بقيلِ ذلك لهم؛ لأنهم أرادوا أن يتَسمَّوا بأسماءِ المهاجرين قبلَ أن يهاجِروا، فأعْلَمَهم اللَّهُ أن لهم أسماءَ الأعرابِ، لا أسماءَ المهاجرين.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا} الآية. وذلك أنهم أرادوا أن يتسَمَّوا باسم الهجرةِ، وألا يتسَمَّوا بأسمائِهم التي سمَّاهم اللَّهُ، وكان هذا
(2)
في أوَّلِ الهجرةِ قبلَ أن تنزلَ المواريثُ لهم
(3)
.
وقال آخرون: قيل ذلك لهم؛ لأنهم مَنُّوا على رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بإسلامِهم، فقال اللَّهُ لنبيِّه صلى الله عليه وسلم: قلْ لهم: لم تُؤمِنوا، ولكن اسْتَسلَمتم خوفَ السِّباءِ والقَتْلِ.
(1)
ينظر تفسير ابن كثير 7/ 368.
(2)
في م: "ذلك".
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 100 إلى المصنف وابن مردويه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا} : ولَعَمْرِي ما عمَّت هذه الآيةُ الأعرابَ، إن من الأعرابِ مَن يؤمنُ باللَّهِ واليومِ الآخرِ، ولكن إنما أُنزِلت في حيٍّ من أحياءِ الأعرابِ
(1)
امْتَنُّوا بإسلامِهم على نبيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فقالوا: أسْلَمنا، ولم نُقاتِلك كما قاتَلك بنو فلانٍ وبنو فلانٍ. فقال اللَّهُ: لا تقولوا: آمنَّا، {وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} حتى بلَغ:{فِي قُلُوبِكُمْ}
(2)
.
حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} . قال: لم تعمَّ هذه الآيةُ الأعرابَ، إن من الأعرابِ مَن يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخرِ ويَتَّخِذُ ما ينفقُ قُرُباتٍ عندَ اللَّهِ، ولكنها
(3)
طوائفُ من الأعرابِ
(4)
.
حدَّثنا ابنُ حُمَيدٍ، قال: ثنا مهرانُ، عن سفيانَ، عن رَباحِ بنِ
(5)
أبي معروفٍ، عن سعيدِ بنِ جُبَيرٍ:{قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} . قال: اسْتَسْلَمْنا لخوفِ السِّباءِ والقتلِ
(6)
.
حدَّثنا ابنُ حُمَيدٍ، قال: ثنا مِهرانُ، عن سفيانَ، عن رجلٍ، عن مجاهدٍ:
(1)
في الأصل، ت 1:"من العرب".
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 368، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 100 إلى المصنف وعبد بن حميد.
(3)
بعده في م: "في".
(4)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 233 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 100 إلى ابن المنذر.
(5)
في م: "عن". وينظر تهذيب الكمال 9/ 47.
(6)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 368.
{قُولُوا أَسْلَمْنَا} . قال: اسْتَسْلَمْنا
(1)
.
حدَّثنا يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ، وقرَأ قولَ اللَّهِ:{قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} : اسْتَسْلَمْنا؛ دخَلْنَا فِي السِّلْمِ، وترَكْنا المحاربةَ والقتالَ بقولِهم: لا إلهَ إِلَّا اللَّهُ. وقال: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أُمِرتُ أَن أُقاتِلَ النَّاسَ حتى يقولوا لا إلهَ إِلَّا اللَّهُ، فإذا قالوا لا إلهَ إِلَّا اللَّهُ، عصَموا مني دماءَهم وأموالَهم إلَّا بحقِّها، وحسابُهم على اللَّهِ"
(2)
.
وأولى الأقوالِ بالصوابِ في تأويلِ ذلك القولُ الذي ذكَرْناه عن الزهريِّ، وهو أن اللَّهَ تقدَّم إلى هؤلاء الأعرابِ الذين دخَلوا في الملَّةِ إقرارًا منهم بالقولِ، ولم يُحقِّقوا قولَهم بعمَلِهم أن يقولوا بالإطلاقِ: آمنَّا. دونَ تقييدِ قولِهم ذلك بأن يقولوا: آمنَّا باللَّهِ ورسولِه. ولكن أمَرهم أن يقولوا القولَ الذي لا يُشْكِلُ على سامِعيهِ، والذي قائلُه
(3)
فيه مُحِقٌّ، وهو أن يقولوا: أسْلَمنا. بمعنى: دخَلْنا في الملةِ، [وحقَنَّا الدماءَ]
(4)
والأموالَ، بشهادةِ
(5)
الحقِّ.
وقولُه: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} . يقولُ تعالى ذكرُه: ولمَّا يدخلِ العلمُ بشرائعِ الإيمانِ وحقائقِ معانِيه في قلوبِكم.
وقولُه: {وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا} . يقولُ تعالى
(1)
تفسير سفيان ص 279.
(2)
الحديث المرفوع أخرجه ابن أبي شيبة 10/ 122، والبخاري (1399)، ومسلم (21/ 35)، وأبو داود (2640)، والترمذي (2606)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (5851 - 5861)، والبيهقي 3/ 92 وغيرهم من حديث أبي هريرة.
(3)
في ص، ت 1، ت 3:"قائلهم".
(4)
سقط من ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(5)
في ص، ت 3:"الشهادة"، وفي م، ت 1:"والشهادة".
ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: قلْ لهؤلاء الأعرابِ القائلين: آمنَّا. ولمَّا يدخلِ الإيمانُ في قلوبِهم
(1)
: إن تُطِيعوا اللَّهَ ورسولَه أيُّها القومُ، فتأتَمِروا لأمْرِه وأمرِ رسولِه، وتعمَلوا بما فرَض عليكم، وتنتَهوا عمَّا نهاكم عنه {لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا}. يقولُ: لا يَظْلِمْكم من أجورِ أعمالِكم شيئًا، ولا يَنْقُصْكم من ثوابِها شيئًا
وبنحوِ الذي قُلنا في تأويلِ
(2)
ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{لَا يَلِتْكُمْ} : لا يَنقُصْكم
(3)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا} . يقولُ: لن يظلِمَكم من أعمالِكم شيئًا
(4)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ: {وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} . قال: إن تُصَدِّقوا إيمانَكم بأعمالِكم يَقْبَلْ ذلك منكم.
وقرَأت قرَأةُ الأمصارِ: {لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا} . بغيرِ همزٍ ولا ألفٍ، سِوَى أبي عمرٍو، فإنَّه قرَأ ذلك:(لا يأْلِتْكُمْ). بألفٍ
(5)
، اعتبارًا منه في ذلك بقولِه:{وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور: 21]. فمن قال: ألَت. قال: يَأْلَتُ.
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"قلوبكم".
(2)
سقط من: م.
(3)
تفسير مجاهد ص 612، ومن طريقه الفريابي - كما في تغليق التعليق 4/ 315 - وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 100 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 100 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(5)
السبعة لابن مجاهد ص 606.
وأمّا الآخرون فإنهم جعَلوا ذلك من لاتَ يَلِيتُ، كما قال رُؤْبةُ بنُ العجَّاجِ
(1)
:
وَلَيْلَةٍ ذَاتِ نَدًى سَرَيْتُ
ولَمْ يَلِتْنِي عَنْ سُرَاها لَيْتُ
والصوابُ من القراءةِ عندَنا في ذلك ما عليه قرَأةُ المدينةِ والكوفةِ: {لَا يَلِتْكُمْ} . بغيرِ ألفٍ ولا همزٍ
(2)
، على لغةِ مَن قال: لاتَ يَلِيتُ. لعِلَّتَين: إحْدَاهما: إجماعُ الحُجَّةِ من القرَأةِ عليها. والثانيةُ: أنها في المصحفِ بغيرِ ألفٍ، ولا تسقطُ الهمزةُ في مثلِ هذا الموضعِ؛ لأنها ساكنةٌ، والهمزةُ إذا سكَنت ثَبَتت، كما يقالُ: تأمُرون وتأكُلون. وإنما تسقطُ إذا سكَن ما قَبْلَها، ولا يُحْمَلُ حرفٌ في القرآنِ أتَى بلغةٍ على آخَرَ جاء بلغةٍ خلافِها إذا كانت اللغتان
(3)
معروفتين من
(4)
كلام العرب. وقد ذكَرنا أن ألَتَ ولاتَ لغتانِ معروفتان مِن كلامِهم.
وقولُه: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . يقولُ تعالى ذكرُه: إن اللَّهَ ذو عَفْوٍ أَيُّها الأعرابُ لمن
(5)
أطاعَه وتاب إليه مِن سالفِ ذنوبِه، فأطِيعوه وانْتَهُوا إلى أمرِه ونَهْيِه يَغْفرْ لكم ذنوبَكم، رحيمٌ بخَلقِه التائبين إليه أن يعاقِبَهم بعدَ توبتهم مِن ذنوبِهم على ما قد
(6)
تابوا منه، فتُوبوا إليه يَرْحَمْكُم.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} : غفورٌ للذنوبِ الكثيرةِ، أو الكبيرةِ - شكَّ يزيدُ - رحيمٌ بعبادِه
(7)
.
(1)
تقدم تخريجه في 14/ 413، 15/ 479.
(2)
بل القراءتان كلتاهما صواب.
(3)
في الأصل: "اللغتين"، وهو خطأ بين.
(4)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"في".
(5)
في الأصل: "من".
(6)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(7)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 100 إلى عبد بن حميد وابن المنذر
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه للأعرابِ الذين قالوا: آمنَّا. ولم يدخُلِ الإيمانُ في قلوبِهم: إنما المؤمنون، أيُّها القومُ، الذين صدَّقوا اللَّهَ ورسولَه، {ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا}. يقولُ: ثم لم يشكُّوا في وحدانيةِ اللَّهِ، ولا
(1)
نبوَّةِ نبيِّه صلى الله عليه وسلم، وألزَم نفسَه طاعةَ اللَّهِ وطاعةَ رسولِه، والعملَ بما وجَب عليه من فرائضِ اللَّهِ، بغيرِ شكٍّ منه في وجوبِ ذلك عليه، {وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}. يقولُ: وجاهَدوا المشركين بإنْفاقِ أموالِهم وبذْلِ مُهَجِهم في جهادِهم، على ما أمَرَه
(2)
اللَّهُ به من جهادِهم، وذلك سبيلُه، لتكونَ كلمةُ اللَّهِ العُلْيا وكلمةُ الذين كفَروا السُّفْلَى.
وقولُه: {أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: هؤلاء الذين يفعَلون ذلك هم الصادقون في قولِهم: إنا مؤمنون. لا مَن دخَل في الملةِ خوفَ السَّيفِ، ليَحْقِنُ دَمَه ومالَه.
وبنحوِ الذي قُلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} . قال: صدَّقوا إيمانَهم بأعمالِهم.
(1)
بعده في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"في".
(2)
في م: "أمرهم".
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: {قُلْ} يا محمدُ لهؤلاءِ الأعرابِ القائلين: آمنَّا. ولمَّا يدخلِ الإيمانُ في قلوبِهم: {أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ} أيُّها القومُ، {بِدِينِكُمْ}. يعني: بطاعتِكم ربَّكم، {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}. يقولُ: واللَّهُ الذي تُعَلِّمونه أنكم مؤمنون، عَلَّامُ جمِيعِ ما في السماواتِ السبعِ والأرَضِينَ السبعِ، لا يَخْفى عليه شيءٌ منه فكيف تُعلِّمونه بدينِكم والذي أنتم عليه من الإيمانِ، وهو لا تخفَى عليه خافيةٌ في سماءٍ ولا أرضٍ، فيخفى عليه ما أنتم عليه من الدينِ؟ {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}. يقولُ: واللَّهُ بكلِّ ما كان، وما هو كائنٌ، وما
(1)
يكونُ - ذو علمٍ. وإنما هذا تقدُّمٌ من اللَّهِ إلى هؤلاء الأعرابِ بالنَّهْيِ عن أن يكذِّبوا ويقولوا غيرَ الذي هم عليه في دينِهم. يقولُ: اللَّهُ محيطٌ بكلِّ شيءٍ، عالمٌ به، فاحْذَروا أن تقولوا خلافَ ما يعلمُ مِن ضمائرِ صدورِكم، فَتَنالَكم عقوبتُه، فإنَّه لا يَخْفَى عليه شيءٌ.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: يَمُنُّ عليك هؤلاء الأعرابُ يا محمدُ أنْ أسلَموا، قلْ لهم
(2)
: {لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ} . يقولُ: بل اللَّهُ يَمُنُّ عليكم أيُّها القومُ أَنْ وفَّقَكم للإيمانِ به وبرسولِه، {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}. يقولُ: إن كنتم صادقين في قولِكم: آمنَّا.
(1)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"بما".
(2)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
فإن اللَّهَ هو الذي يَمُنُّ عليكم بأن هدَاكم له، فلا تَمُنُّوا عليَّ بإسلامِكم.
وذُكِر أن هؤلاء الأعرابَ مِن بني أسدٍ، امْتَنُّوا على رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فقالوا: آمنَّا من غيرِ قتالٍ، ولم نقاتِلْك كما قاتَلك غيرُنا. فأَنزَلَ اللَّهُ فيهم هذه الآياتِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن أبي بشرٍ، عن سعيدِ بنِ جُبَيرٍ في هذه الآيةِ:{يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا} : أهم بنو أسدٍ؟ قال: قد قيل ذلك.
حدَّثنا ابنُ المثنى، قال: ثنا سهلُ بنُ يوسفَ، قال: ثنا شعبةُ، عن أبي بشرٍ، قال: قلتُ لسعيدِ بنِ جبيرٍ: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا} : أهم بنو أسدٍ؟ قال: يزعُمون ذلك.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا مِهرانُ، عن سفيانَ، عن حبيبِ بنِ أبي عَمْرةَ، قال: كان بشرُ بنُ غالبٍ ولَبيدُ بنُ عُطارَدٍ، [أو بشرُ بنُ عُطَارِدٍ، ولَبيدُ بنُ غالبٍ]
(1)
، عندَ الحَجاجِ جالسَين، فقال بشرُ بنُ غالبٍ للبيدِ بن عُطَاردٍ: نزَلت في قومِك من
(2)
بني تميمٍ: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} . فذكَرتُ ذلك لسعيدِ بنِ جُبيرٍ، فقال [له: أمَا]
(3)
إنه لو عَلِم بآخرِ الآيةِ أجابَه؛ {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا} ، قالوا: أسْلَمْنا ولم نُقاتِلْك. بنو أسدٍ
(4)
.
حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ: {لَا تَمُنُّوا
(1)
سقط من: الأصل.
(2)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(3)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(4)
تقدم تخريجه في ص 347.
[عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ}. قال: مَنُّوا على النبي صلى الله عليه وسلم، حيث جاءوه فقالوا]
(1)
: إِنَّا أَسْلَمْنَا بِغَيْرِ قتالٍ، لم نُقاتِلْك كما قاتَلك بنو فلانٍ وبنو فلانٍ. فقال اللَّهُ لنبيِّه صلى الله عليه وسلم:{قُلْ} لهم: {لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ}
(2)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ} . قال: فهذه الآياتُ نزلت في الأعرابِ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: إن اللَّهَ أيُّها الأعرابُ لا يَخْفَى عليه الصادقُ منكم من الكاذبِ، ومَن الداخلُ منكم في ملةِ الإسلامِ رغبةً فيه، ومَن الداخلُ فيه رَهْبَةً مِن رسولِنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم وجُندِه، فلا تعلِّمونا دينَكم وضمائرَ صدورِكم، فإن اللَّهَ يعلمُ ما تُكِنُّه ضمائرُ صدورِكم وتحدِّثون به أنفسَكُم، ويعلمُ ما غاب عنكم، فاسْتَسَرَّ في خبايا السماواتِ والأرضِ، لا يَخْفى عليه شيءٌ مِن ذلك، {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}. يقولُ: واللَّهُ ذو بَصَرٍ بأعمالِكم التي تَعملونها؛ أجَهْرًا تعمَلون أم سِرًّا، طاعةً تعمَلون أو معصيةً، وهو مجازيكم على جميعِ ذلك، إنْ خيرًا فخيرٌ، وإن شرًّا فشرٌّ وكُفُؤُه.
و {أَنْ} في قولِه: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا} في موضعِ نصبٍ، بوقوعِ {يَمُنُّونَ} عليها. وذُكِر أن ذلك في قراءةِ عبدِ اللَّهِ:(يَمُنُّونَ عَلَيْكَ إسْلامَهُمْ)، وذلك دليلٌ على صحَّةِ ما قُلنا. ولو قيل: هي نصبٌ بمعنى: يَمُنُّون عليك لأن
(1)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 233 عن معمر به.
أسْلَموا. لكان وجْهًا يتَّجِهُ. وقال بعضُ أهلِ العربيةِ: هي في موضعِ خفضٍ، بمعنى: لأن أسْلموا.
وأما {أَنْ} التي في قولِه: {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ} ؛ فإنها في موضعِ نصبٍ بسقوطِ الصِّلةِ. لأن معنى الكلامِ: بل اللَّهُ يَمُنُّ عليكم بأن هَدَاكم للإيمانِ.
آخرُ تفسيرِ سورةِ "الحجراتِ"
بسم الله الرحمن الرحيم
تفسيرُ سورةِ "ق"
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ
(2)}.
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: اختلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِ قوله: {ق} ؛ فقال بعضُهم: هو اسمٌ من أسماءِ اللَّهِ تعالى أقْسَم به.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليُّ بنُ داودَ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابنِ عباسٍ في قولِه:{ق} ، و {ن} وأشباهِ هذا: فإنه قَسَمٌ [أقسَم اللَّهُ به]
(1)
، وهو اسمٌ من أسماءِ اللَّهِ
(2)
.
وقال آخرون: هو اسمٌ من أسماءِ القرآنِ.
[ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ في قولِه:{ق} . قال: اسمٌ من أسماءِ القرآنِ]
(3)
(4)
.
[وقال آخرون: معنَى ذلك: قُضِي واللَّهِ. كما قيل في {حم}: حُمَّ واللَّهِ]
(5)
.
(1)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"أقسمه اللَّه".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 101 إلى المصنف وابن المنذر.
(3)
سقط من: الأصل.
(4)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 236 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 102 إلى عبد بن حميد.
(5)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
وقال آخرون: {ق} . اسمُ الجبلِ المحيطِ بالأرضِ.
وقد تقدَّم بيانُنا
(1)
تأويلَ حروفِ المعجمِ التي في أوائلِ سورِ القرآنِ، بما فيه الكفايةُ عن إعادتِه في هذا الموضعِ
(2)
.
وقولُه: {وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} . يقولُ: والقرآنِ الكريمِ.
كما حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا يحيى بنُ يمانٍ، عن أشعثَ بنِ إسحاقَ، عن جعفرِ بنِ أبي المغيرةِ، عن سعيدِ بنِ جُبَيرٍ:{ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} . قال: الكريمِ.
واختلَف أهلُ العربيةِ في موضعِ جوابِ هذا القَسَمِ؛ فقال بعضُ نحويِّي البصرةِ: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} . قَسَمٌ على قولِه: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ} .
وقال بعضُ نحويِّي الكوفةِ
(3)
: {ق} فيها المعنى الذي أقْسَم به. وقال: ذُكِر أنها: قُضِيَ واللَّهِ. وقال: يقالُ: إن "قاف" جبلٌ محيطٌ بالأرضِ. فإن يكنْ كذلك فكأنَّه في موضعِ رفعٍ، أي: هو قافٌ واللَّهِ، قال: وكان يَنْبَغي لرفعِه أن يَظْهَرَ؛ لأنه اسمٌ وليس بهجاءٍ. قال: ولعلَّ القافَ وحْدَها ذُكِرت من اسْمِه، كما قال الشاعرُ
(4)
:
* قلتُ لها قِفِي فقالت
(5)
قافْ *
ذَكَرت القافَ إرادةَ القافِ من الوقفِ، أي: إنِّي واقفةٌ.
وهذا القولُ الثاني عندنا أولى القولين بالصوابِ؛ لأنه لا يُعرفُ في أجوبةِ
(1)
بعده في م: "في".
(2)
ينظر ما تقدم في 1/ 204 - 228.
(3)
هو الفراء في معاني القرآن 3/ 75.
(4)
تقدم في 1/ 216.
(5)
في م، واللسان:"لنا قالت".
الأَيْمانِ "قد"، وإنما تجابُ الأيمانُ إذا أُجِيبت بأحدِ الحروفِ الأربعةِ:"اللامُ"، و"إن"، و"ما"، و"لا"، أو يُتْرَكُ
(1)
جوابُها، فيكونُ ساقطًا.
وقولُه: {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ} . يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: ما كذَّبك يا محمدُ مشرِكو قومِك ألَّا يكونوا عالِمين بأنَّك صادقٌ محقٌّ، ولكِنَّهم كذَّبوك تعجُّبًا مِن أن جاءهم منذرٌ يُنْذِرُهم عقابَ اللَّهِ منهم؛ يعني بشرًا منهم من بني آدمَ، ولم يأْتِهم مَلَكٌ برسالةٍ من عندِ اللَّهِ.
وقولُه: {فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ} . يقولُ تعالى ذكرُه: فقال المكذِّبون باللَّهِ ورسولِه من قريشٍ إذ جاءهم منذرٌ مِنهم: {هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ} . أي: مجيءُ رجلٍ منَّا من بني آدمَ برسالةِ اللَّهِ إلينا
(2)
[شيءٌ عجيبٌ]
(3)
، هَلَّا أُنزِل إليه مَلَكٌ فيكونَ معه نذيرًا!
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ
(4)}.
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ القائلُ: لم يَجْرِ للبعثِ ذكرٌ فيُخْبِرَ عن هؤلاء القومِ بكفرِهم ما دُعُوا إليه مِن ذلك، [فما وجهُ]
(4)
الخبرِ عنهم بإنكارِهم ما لم يُدعَوا إليه، وجوابِهم
(5)
عما لم يُسألوا عنه؟ قيل: قد اختَلَف أهلُ العربيةِ في ذلك، فنذكُرُ ما قالوا في ذلك، ثم نُتْبِعُه البيانَ إن شاءَ اللَّهُ تعالى؛ فقال في ذلك بعضُ نحويِّي
(1)
في م: "بترك"، وفي ت 2، ت 3:"ترك".
(2)
سقط من: الأصل.
(3)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(4)
في الأصل: "فيما وجهوا".
(5)
في الأصل: "جاوبهم".
البصرةِ: قال: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} . ولم يَذْكُرْ أنّه راجعٌ، وذلك - واللَّهُ أعلمُ - لأنه كان على جوابٍ؛ كأنه قيل لهم: إنَّكم ترجِعون. فقالوا: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} .
وقال بعضُ نحويِّي الكوفةِ
(1)
: قولُه: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا} . كلامٌ لم يَظْهَرْ قبلَه ما يكونُ هذا جوابًا له، ولكن معناه مضمَرٌ، إنما كان - واللَّهُ أعلمُ -:{ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} ، لَتُبْعَثُنَّ بعدَ الموتِ. فقالوا: أإذا كنا ترابًا بُعِثنا؟ جحَدوا البعثَ، ثم قالوا:{ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} . جحَدوه أصلًا، قولُه:{بَعِيدٌ} . كما تقولُ للرجلِ يُخَطِئُ في المسألةِ: لقد ذهَبتَ مذهبًا بعيدًا من الصوابِ. أي: أخطَأتَ.
والصوابُ من القولِ في ذلك عندَنا أن في هذا الكلامِ متروكًا، اسْتُغنِيَ بدلالةِ ما ذُكِر عليه من ذِكْرِه؛ وذلك أن اللَّهَ دلَّ بخبرِه عن تكذيبِ هؤلاء المشركين، الذين ابتَدَأ هذه السورةَ بالخبرِ عن تكذيبِهم رسولَه محمدًا صلى الله عليه وسلم، بقولِه:{بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ} ؛ على وعيدِه إيَّاهم على تكذيبِهم محمدًا صلى الله عليه وسلم، فكأنَّه قال لهم - إذ قالوا مُنكِرين رسالةَ اللَّهِ رسولَه محمدًا صلى الله عليه وسلم:{هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ} -: ستَعْلَمون أيها القومُ إذا أنتم بُعِثتُم يومَ القيامةِ، ما يكونُ حالُكم في تكذيبِكم محمدًا صلى الله عليه وسلم وإنكارِ كم نبوَّتَه. فقالوا مُجِيبين رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أإذا مِتْنا وكنا ترابًا نَعْلَمُ ذلك، ونَرَى ما تَعِدُنا على تكذيبِك؟ {ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ}! أي: إن ذلك غيرُ كائنٍ، ولَسْنا راجِعين أحياءً بعدَ مماتِنا. فاسْتُغنى بدلالةِ قولِه:{بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ} مِن ذِكْرِ ما ذكَرتُ من الخبرِ عن وعيدِهم.
وفيما حُدِّثتُ عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبَرنا عبيدٌ، قال:
(1)
هو الفراء في معاني القرآن 3/ 75، 76.
سمِعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} : قالوا: كيف يُحيينا اللَّهُ وقد صِرْنا عظامًا ورُفاتًا وضلَلْنا في الأرضِ؟ - دلالةٌ على صحةِ ما قلنا مِن أنهم أنكَروا البعثَ إذ تُوعِّدوا به.
وقولُه: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ} . يقولُ تعالى ذكرُه: قد علِمنا ما تأكُلُ الأرضُ من أجسامِهم بعدَ مماتِهم، وعندَنا كتابٌ بما تأكلُ الأرضُ وتُفْنِي من أجسامِهم، ولهم كتابٌ مكتوبٌ، مع عِلْمِنا بذلك، حافظٌ لذلك كلِّه. وسمَّاه تعالى ذكرُه حفيظًا؛ لأنه لا يَدْرُسُ ما كُتِب فيه ولا يتغيَّرُ ولا يَتبدَّلُ.
وبنحوِ الذي قُلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ} . يقولُ: ما تأكُلُ الأرضُ من لحومِهم وأبشارِهم وعظامِهم وأشعارِهم
(1)
.
وحدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ} . قال: من عظامِهم
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ في قولِه:{قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ} . يقولُ: ما تأكُلُ الأرضُ منهم.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 102 إلى المصنف.
(2)
تفسير مجاهد ص 613.
حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ} . قال: يعني الموتَ. يقولُ: مَن يموتُ منهم، أو قال: ما تأكُلُ الأرضُ منهم إذا ماتوا
(1)
.
حُدِّثْتُ عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبَرنا عبيدٌ. قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِ اللَّهِ: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ} . يقولُ: ما أَكَلَتِ الأرضُ منهم ونحن به عالِمون، وهم عندي، مع عِلْمي فيهم، في كتابٍ حفيظٍ.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6)} .
قال أبو جعفرٍ: يقولُ تعالى ذكرُه: ما أصابَ هؤلاء المشركون القائلون: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} . في قِيلِهم هذا، {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ} ، وهو القرآنُ {لَمَّا جَاءَهُمْ} من اللَّهِ.
كالذي حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ} . أي: كذَّبوا بالقرآنِ.
{فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} . يقولُ: فهم في أمرٍ مختلِطٍ عليهم ملتبِسٍ، لا يعرِفون حقَّه من باطلِه. [من قولِهم]
(2)
: قد مَرِج أمرُ الناسِ. إذا اخْتَلَط وأُهْمِلَ.
وقد اختلَفت عباراتُ أهلِ التأويلِ في تأويلِها، وإن كانت متقارباتِ المعاني؛ فقال بعضُهم: معناها: فهم في أمرٍ مُنكَرٍ. وقال: المَرِيجُ هو الشيءُ المنكَرُ.
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 236 عن معمر به.
(2)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ت 3، وفي م:"يقال".
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ خالدِ بنِ خِدَاشٍ، قال: ثنى سَلْمُ بنُ قُتيبةَ، عن وهَبِ بنِ حبيبٍ الأَسَدِيِّ
(1)
، عن [أبي جَمْرةَ]
(2)
، عن ابنِ عباسٍ، أنه سُئل عن قولِه:{أَمْرٍ مَرِيجٍ} . قال: المريجُ: الشيءُ المُنكَرُ، أما سمِعتَ قولَ الشاعرِ
(3)
:
فجالَتْ والْتَمَسْتُ به حَشاها
…
فخَرَّ
(4)
كأنه خُوطٌ
(5)
مَرِيجُ
(6)
وقال آخرون: بل معنى ذلك: في أمرٍ مختلِفٍ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} . يقولُ: مختلِفٍ
(7)
.
وقال آخرون: بل معناه: في أمرٍ ضلالةٍ.
(1)
في ص، م، ت 2، ت 3:"الآمدي". وقد تقدم على الصواب في 14/ 298. وينظر ثقات ابن حبان 7/ 558.
(2)
في م: "أبي حمزة".
(3)
البيت في ديوان الهذليين 3/ 103 في شعر عمرو بن الداخل. ونسبه الأزهري في تهذيب اللغة 11/ 72 إلى الهذلي ولم يسمه. ونسبه أبو عبيدة في مجاز القرآن 2/ 223 إلى أبي ذؤيب الهذلي، وليس في ديوانه.
(4)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"فحط".
(5)
الخوط: الغصن. والخوط المريج: أي غصن له شعب قصار قد التبست. تهذيب اللغة 11/ 72.
(6)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 102 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر.
(7)
في الأصل: "مختلط". والأثر أخرجه ابن أبي حاتم - كما في الإتقان 2/ 43 - من طريق أبي صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 102 إلى ابن المنذر.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ:{فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} . قال: هم في أمرٍ ضلالةٍ
(1)
.
وقال آخرون: بل معناه: في أمرٍ مُلْتَبِسٍ.
ذكرُ مَن قال ذلك.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا يحيى بنُ يمانٍ، عن أشعثَ بنِ إسحاقَ، عن جعفرِ بنِ أبي المغيرةِ، عن سعيدِ بنِ جبيرٍ في قولِه:{فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} . قال: مُلْتَبِسٍ
(2)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ. قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{أَمْرٍ مَرِيجٍ} . قال: مُلْتَبِسٍ
(3)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} مُلْتَبِسٍ عليهم أمرُه.
حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابنُ ثورٍ، عن معمرٍ، قال:[تَلا قتادةُ هذه الآيةَ: {فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ}. قال: مَن ترَك الحقَّ مرَج عليه رأيُه]
(4)
، والْتَبَس عليه دينُه
(5)
.
وقال آخرون: بل هو المختلِطُ.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 102 إلى المصنف.
(2)
ذكره البغوي في تفسيره 7/ 356.
(3)
تفسير مجاهد ص 613. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 102 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(4)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(5)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 236 عن معمر به.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} . قال: المَرِيجُ المختلِطُ
(1)
.
وإنما قلتُ: هذه العباراتُ وإن اختَلَفت ألفاظُها
(2)
فهي في المعنى متقارباتٌ؛ لأن الشيءَ المختلِفَ
(3)
ملتبِسٌ معناه مُشْكِلٌ، وإذ كان كذلك كان منكَرًا؛ لأن المعروفَ واضحٌ بَيِّنٌ، وإذ كان غيرَ معروفٍ، كان لا شكَّ ضلالةً؛ لأن الهُدَى بَيِّنٌ لا لَبْسَ فيه.
وقولُه: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا} . يقولُ تعالى ذكرُه: أفلم يَنْظُرُ هؤلاء المكذبون بالبعثِ بعدَ الموتِ، المنكِرون قدرتَنا على إحيائِهم بعدَ بِلاهم، {إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا} فسَوَّيناها سقفًا محفوظًا، {وَزَيَّنَّاهَا} بالنجومِ، {وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ}. يعني: وما لها من صُدوعٍ وفُتُوقٍ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{مِنْ فُرُوجٍ} . قال: شَقٍّ
(4)
.
(1)
ذكره القرطبي في تفسيره 17/ 5.
(2)
في الأصل: "الألفاظ بها".
(3)
في م: "مختلف".
(4)
تفسير مجاهد ص 613، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 102 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ
(1)
في قولِه: {وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} . قلتُ له - يعني لابنِ زيدٍ -: الفروجُ: الشيءُ المُتَبرِّئُ بعضُه من بعضٍ؟ قال: نعم.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكره: والأرضَ بسَطناها، {وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ}. يقولُ: وجعَلنا فيها جبالًا ثوابتَ رسَتْ في الأرضِ، {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}. يقولُ تعالى ذكرُه: وأَنْبَتْنا في الأرضِ من كلِّ نوعٍ من نباتٍ حسنٍ. وهو البهيجُ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{بَهِيجٍ} . يقولُ: حسنٍ.
حدَّثنا بِشْرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ} : الرواسي الجبالُ، {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}. أي: من كلِّ زوجٍ حسنٍ
(2)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قلتُ لابنِ زيدٍ: البَهيجُ هو
(1)
بعده في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"قال: قال ابن زيد".
(2)
أخرج ابن أبي حاتم في تفسيره 7/ 2219 شطره الأول من طريق سعيد به، وتقدم أيضًا في 16/ 261، وأخرج شطره الثاني عبد الرزاق في تفسيره 2/ 233 عن معمر عن قتادة. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 102 إلى عبد بن حميد.
الحسنُ المنظرِ؟ قال: نعَمْ
(1)
.
وقولُه: {تَبْصِرَةً} . يقولُ: فعَلْنا ذلك تبصرةً لكم أيُّها الناسُ نُبَصِّرُكم
(2)
بها قدرةَ ربِّكم على ما يَشاءُ، {وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ}. يقولُ: وتذكيرًا من اللَّهِ عظمتَه وسلطانَه، وتنبيهًا على وحدانيتِه، {لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ}. يقولُ: لكلِّ عبدٍ رجَع إلى الإيمان باللَّهِ والعملِ بطاعتِه.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{تَبْصِرَةً} : نعمةً من اللَّهِ يُبَصِّرُها العبادَ، {وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} . أي مُقْبِلٍ بقلبِه إلى اللَّهِ.
حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ في قولِه:{تَبْصِرَةً وَذِكْرَى} . قال: تبصرةً من اللَّهِ
(3)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{تَبْصِرَةً} . قال: بصيرةً
(4)
.
حدَّثنا ابنُ حُمَيدٍ، قال: ثنا، مِهرانُ، عن سفيانَ، عن جابرٍ، عن عطاءٍ
(1)
ذكره الطوسي في التبيان 9/ 357.
(2)
في الأصل: "يبصركم"، وفي ت 2، ت 3:"تبصركم".
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 236 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 102 إلى عبد بن حميد.
(4)
تفسير مجاهد ص 613، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 102 إلى الفريابي وعبد بن حميد.
ومجاهدٍ: {لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} . قالا: مخْبِتٍ
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه: ونزَّلنا من السماءِ مطرًا مباركًا، فأنبَتنا به بساتينَ أشجارٍ، وحبَّ الزرعِ المحصودِ من البُرِّ والشعيرِ وسائرِ أنواعِ الحبوبِ.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَحَبَّ الْحَصِيدِ} : هذا البُرُّ والشعيرُ.
حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{وَحَبَّ الْحَصِيدِ} . قال: هو البُرُّ والشعيرُ
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَحَبَّ الْحَصِيدِ} . قال: الحِنْطةُ
(3)
.
وكان بعضُ أهلِ العربيةِ يقولُ في قولِه: {وَحَبَّ الْحَصِيدِ} : الحبُّ وهو الحصيدُ، وهو مما أُضِيفَ إلى نفسِه، مثلَ قولِه:{إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ} [الواقعة: 95].
(1)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"مجيب".
والأثر عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 102 إلى المصنف وعبد بن حميد.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 236، 237 عن معمر به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 102 إلى عبد بن حميد.
(3)
تفسير مجاهد ص 613. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 102 إلى الفريابي وعبد بن حميد.
وقولُه: {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ} . يقولُ: وأنبَتْنا بالماءِ الذي أنزَلنا من السماءِ النخلَ طوالًا. والباسقُ هو الطويلُ، يُقالُ للنخلِ
(1)
الطويلِ: نخيلٌ
(2)
باسقٌ. كما قال أبو نوفلٍ لابنِ هُبَيرةَ
(3)
:
يا بنَ الذين بفَضلِهمْ
…
بَسْقَتْ على قَيْسٍ فَزارَهُ
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{بَاسِقَاتٍ} . يقولُ: طِوَالًا
(4)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ} . قال: النخلَ الطِّوَالَ.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هشيمٌ، عن إسماعيلَ بنِ أبي خالدٍ، عن عبدِ اللَّهِ بن شدَّادِ في قولِه:{وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ} . قال: بُسوقُها: طُولُها في إقامةٍ
(5)
.
حدَّثنا هنادٌ، قال: ثنا أبو الأحوصِ، عن سماكٍ، عن عكرِمةَ في قولِه:
(1)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"للجبل".
(2)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"جبل".
(3)
البيت في اللسان (ب س ق).
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم - كما في الإتقان 2/ 44 - من طريق أبي صالح به. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 102 إلى ابن المنذر.
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 102 إلى المصنف وابن المنذر.
{وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ} . قال: الباسقاتُ: الطِّوَالُ
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{بَاسِقَاتٍ} . قال: الطِّوَالَ
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ} . قال: بُسوقُها: طولُها.
حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ} . قال: يعني طولَها
(3)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ} . قال: البُسوقُ: الطولُ.
وقولُه: {لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} . يقولُ: لهذا النخلِ الباسقاتِ طَلْعٌ، وهو الكُفُرَّى
(4)
، {نَضِيدٌ}. يقولُ: منضودٌ بعضُه على بعضٍ متراكبٌ.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ:{لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} . قال: يقولُ: بعضُه على
(1)
أخرجه مسدد - كما في المطالب (4113) - عن أبي الأحوص به.
(2)
تفسير مجاهد ص 613.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 236، 237 عن معمر به.
(4)
الكُفُرَّى والكَفَرَّى والكِفِرَّى والكُفَرَّى: وعاء طلع النخل. اللسان (ك ف ر).
بعضٍ
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{نَضِيدٌ} . قال: المنضَّدُ.
حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} . يقولُ: بعضُه على بعضٍ
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} : نُضِّدَ
(3)
بعضُه على بعضٍ.
وقولُه: {رِزْقًا لِلْعِبَادِ} . يقولُ: أنبَتْنا بهذا الماءِ الذي أنزَلْناه من السماءِ هذه الجناتِ والحبَّ والنخلَ قوتًا للعبادِ بعضُها وغذاءً، وبعضُها فاكهةً ومتاعًا.
وقولُه: {وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا} . يقولُ تعالى ذكرُه: وأحيَيْنا بهذا الماءِ الذي أنزَلْناه من السماءِ بلدةً ميتًا قد أجدَبت وقحَطت، فلا زرعَ فيها ولا نبتَ.
وقولُه: {كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} . يقولُ تعالى ذكرُه: كما أنبَتْنا بهذا الماءِ هذه الأرضَ الميتةَ، فأحيَيْناها به فأخرَجْنا نباتَها وزرعَها، كذلك نُخرِجُكم يومَ القيامةِ أحياءً من قبورِكم من بعدِ بِلاكم فيها، بما نُنَزِّلُ عليها من الماءِ.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 103 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 236، 237 عن معمر به.
(3)
في م: "ينضد".
وَعِيدِ (14)}.
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه: كذَّبت قبلَ هؤلاء المشرِكين الذين كذَّبوا محمدًا من قومِه - قومُ نوحٍ وأصحابُ الرَّسِّ [وثمودُ وعادٌ وفرعونُ وإخوانُ لوطٍ وأصحابُ الأيكةِ. وهم قومُ شعيبٍ]
(1)
.
وقد مضى ذكرُنا قبلُ أمرَ أصحابِ الرسِّ، وأنهم قومٌ رسُّوا
(2)
نبيَّهم في بئرٍ
(3)
.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا مهرانُ، عن سفيانَ، عن أبي بُكَيْرٍ
(4)
، عن عكرِمةَ بذلك
(5)
.
حُدِّثْتُ عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبَرنا عبيدٌ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {وَأَصْحَابُ الرَّسِّ} : والرسُّ بئرٌ قُتِل فيها صاحبُ يس
(6)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{وَأَصْحَابُ الرَّسِّ} . قال: بئرٌ
(7)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: أخبَرنا عمرُو بنُ الحارثِ، عن سعيدِ بن أبي هلالٍ، عن عمرِو بنِ عبدِ اللَّهِ، عن قتادةَ أنه قال: إن أصحابَ الأيكةِ - والأيكةُ: الشجرُ الملتَفُّ - وأصحابَ الرسِّ كانتا أمَّتين، فبعَث اللَّهِ إليهما
(8)
نبيًّا
(1)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(2)
رسُّوا: دفنوا. اللسان (ر س س).
(3)
ينظر ما تقدم في 17/ 451 - 455.
(4)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"أبو بكر". وهو أبو بكير مرزوق التيمي الكوفي. تهذيب الكمال 27/ 375.
(5)
تقدم تخريجه في 17/ 452.
(6)
ذكره الطوسي في التبيان 9/ 353.
(7)
تقدم في 17/ 452.
(8)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"إليهم".
واحدًا؛ شعيبًا، وعذَّبهما اللَّهُ بعذابين
(1)
(2)
.
{وَقَوْمُ تُبَّعٍ} : وكان قومُ تُبَّعٍ أهلَ أوثانٍ يَعْبُدونها، فيما حدَّثنا به ابنُ حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابنِ إسحاقَ
(3)
.
وكان من خبرِه وخبرِ قومِه، ما حدَّثنا به مجاهدُ بنُ موسى، قال: ثنا يزيدُ، قال: أخبَرنا عمرانُ بنُ حُدَيرٍ، عن أبي مِجْلَزٍ، عن ابنِ عباسٍ، أنه سأَل عبدَ اللَّهِ بنَ سلامٍ عن تُبَّعٍ ما كان؟ فقال: إن تُبَّعًا كان رجلًا من العربِ، وإنه ظهَر على الناسِ، فاختار فِتيةً من الأحبارِ
(4)
فاستبطَنهم واستدخَلهم، حتى أخَذ منهم وتابَعهم
(5)
، وإن قومَه استَنكَروا
(6)
ذلك وقالوا: قد ترَك دينَكم وتابَع
(7)
الفِتيةَ. فلما فشا ذلك قال للفتيةِ، [فقال الفتيةُ]
(8)
: بينَنا وبينَهم النارُ؛ تَحرِقُ الكاذبَ، ويَنْجو منها الصادقُ. ففعَلوا، فعلَّق الفتيةُ مصاحفَهم في أعناقِهم ثم غدَوا إلى النارِ، فلما ذهَبوا أن يَدْخُلوها سفَعت النارُ
(9)
وجوهَهم، فنكَصوا عنها، فقال لهم: لتَدْخُلُنَّها. فلما دخَلوها أفرَجت عنهم حتى قطَعوها، وأنه قال لقومِه: ادخُلوها. فلما ذهَبوا يَدْخُلونها سفَعت النارُ وجوهَهم، فنكَصوا عنها، فقال لهم تُبَّعٌ: لتَدْخُلُنَّها. فلما
(1)
تقدم في 17/ 637، 638 بنحوه، وفيه:"أهل مدين". بدل: "أصحاب الرس".
(2)
بعده في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"وثمود وعاد وفرعون وإخوان لوط وأصحاب الأيكة وهم قوم شعيب وقد مضى خبرهم قبل". وينظر في خبر هؤلاء جميعًا 10/ 310 - 327، 12/ 537 - 561، 17/ 632 - 641.
(3)
سيرة ابن هشام 1/ 23.
(4)
في م، ت 1:"الأخيار".
(5)
في م، ت 1:"بايعهم".
(6)
في م، ت 2، ت 3:"استكبروا".
(7)
في م، ت 2، ت 3:"بايع".
(8)
سقط من: ت 1. وفي الأصل: "فقال للفتية".
(9)
بعده في م: "في".
دخَلوها أفرَجت عنهم، حتى إذا توسَّطوها أحاطت بهم فأحرَقتهم، فأسلَم تُبَّعٌ، وكان رجلًا صالحًا
(1)
.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ، عن أبي مالكِ بنِ ثعلبةَ بنِ أبي مالكٍ القُرَظيِّ، قال: سمِعتُ إبراهيمَ بنَ محمدِ
(2)
بنِ طلحةَ بنِ عبيدِ
(3)
اللَّهِ يُحدِّثُ أن تُبَّعًا لما دنا من اليمنِ ليَدْخُلَها، حالت حِمْيَرُ دينِه وبينَ ذلك، وقالوا: لا تَدْخُلْها علينا وقد فارَقتَ دينَنا. فدعاهم إلى دينِه وقال: إنه
(4)
خيرٌ من دينِكم. قالوا: فحاكِمْنا إلى النارِ. قال: نعَمْ. قال: وكانت باليمنِ - فيما يَزْعُمُ أهلُ اليمنِ - نارٌ تَحْكُمُ فيما بينَهم فيما يَخْتَلِفون فيه؛ تَأْكُلُ الظالمَ ولا تَضُرُّ المظلومَ، فلما قالوا ذلك لتُبَّعٍ، قال: أنصَفتُم. فخرَج قومُه بأوثانِهم وما يتقرَّبون به في دينِهم. قال: وخرَج الحَبْران بمصاحفِهما في أعناقِهما مُتَقلِّدَيها، حتى قعَدوا للنارِ عندَ مخرجِها التي تَخْرُجُ منه، فخرَجت النارُ إليهم، فلما أقبَلت نحوَهم حادُوا عنها وهابوها، فذَمَرهم
(5)
مَن حضَرهم من الناسِ، وأمَروهم بالصبرِ لها، فصبَروا حتى غشِيتْهم، فأكَلت الأوثانَ وما قرَّبوا معها ومن حمَل ذلك من رجالِ حِميَرَ، وخرَج الحبرانِ بمصاحفِهما في أعناقِهما، تَعْرَقُ جباهُهما، لم تضرَّهما، فأَصْفَقَت
(6)
حِمْيَرُ عندَ ذلك على دينِه. فمن هنالك وعن
(7)
ذلك كان أصلُ اليهوديةِ باليمنِ
(8)
.
(1)
أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق 11/ 7 من طريق يزيد بن زريع به بنحوه. وأخرجه ابن أبي شيبة 11/ 566 من طريق عمران بن حدير بنحوه.
(2)
بعده في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"القرظي قال سمعت إبراهيم بن محمد"، وهو تكرار.
(3)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"عبد". وتنظر ترجمته في تهذيب الكمال 2/ 172.
(4)
بعده في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3، وتاريخ المصنف:"دين".
(5)
في م، ت 2، ت 3:"فرموهم"، وفي ص، ت 1:"فزبرهم". والذَّمْر: الحث مع لوم واستبطاء. اللسان (ذ م ر)
(6)
في م: "فأطبقت"، وأصفقوا على الأمر وأطبقوا عليه: اجتمعوا عليه. اللسان (ص ف ق، ط ب ق).
(7)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"غير".
(8)
سيرة ابن هشام 1/ 27. وأخرجه المصنف في التاريخ 2/ 108.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابنِ إسحاقَ عن بعضِ أصحابِه: إن الحَبْرَيْنِ ومَن خرَج معهما من حِمْيَرَ إنما اتَّبعوا النارَ لِيَرُدُّوها، وقالوا: من ردَّها فهو أولى بالحقِّ. فدنا منهم رجالٌ من حِمْيَرِ بأوثانِهم لِيَرُدُّوها، فدنَت منهم لتَأْكُلَهم، فحادوا فلم يَسْتَطيعوا ردَّها، ودنا منها الحَبرانِ بعدَ ذلك، وجعَلا يَتْلُوَانِ التوراةَ وتَنْكِصُ، حتى ردَّاها إلى مخرجِها الذي خرَجت منه، فأَصْفَقَت
(1)
عندَ ذلك حِمْيَرُ
(2)
على دينِهما، وكان رئامُ بيتًا لهم يُعَظِّمونه، ويَنْحَرون عندَه، ويُكَلَّمون منه، إذ كانوا على شركِهم، فقال الحبرانِ لتُبَّعٍ: إنما هو شيطانٌ يَفْتِنُهم
(3)
ويَلْعَبُ بهم، فخَلِّ بينَنا وبينَه. قال: فشأنَكما به. فاستخرَجا منه - فيما يَزْعُمُ أهلُ اليمنِ - كلبًا أسودَ، فذبحاه، ثم هدَما ذلك البيتَ، فبقاياه اليومَ باليمنِ كما ذُكِر لي
(4)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ لَهِيعةَ، عن عمرِو بنِ جابرٍ الحضرميِّ، حدَّثه قال: سمِعتُ سهلَ بنَ سعدٍ الساعديَّ، يُحدِّثُ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لا تَلْعَنوا تُبَّعًا، فإنه قد كان أَسْلَمَ"
(5)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: أخبَرني ابنُ لَهِيعَةَ، عن الحارثِ بنِ يزيدُ، أن شعيبَ بنَ زرعةَ المَعافِرِيَّ حدَّثه، قال: سمِعتُ عبدَ اللَّهِ بنَ عمرِو بنِ العاصِ وقال له رجلٌ: إِن حِمْيَرَ تَزْعُمُ أَن تُبَّعًا منهم. فقال: نعَمْ والذي نفسي بيدِه، وإنه في العربِ كالأنفِ بينَ العينينِ، وقد كان منهم سبعون مَلِكًا.
(1)
في م: "فأطبقت".
(2)
زيادة لَازمة من مصدرى التخريج.
(3)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"يعينهم".
(4)
سيرة ابن هشام 1/ 27، 28. وأخرجه المصنف في تاريخه 2/ 109.
(5)
أخرجه ابن شاهين في ناسخ الحديث ومنسوخه (659) من طريق ابن وهب به. وأخرجه أحمد 5/ 340 (الميمنية)، ومن طريقه ابن عساكر في تاريخه 11/ 5، والطبراني في الأوسط (3290)، وابن عساكر في تاريخه 1/ 5، 6 من طريق ابن لهيعة به.
وقولُه: {كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ} . يقولُ تعالى ذكرُه: كلُّ هؤلاء الذين ذكَرْناهم كذَّبوا رسلَ اللَّهِ الذين أرسَلهم، {فَحَقَّ وَعِيدِ}. يقولُ: فوجَب لهم الوعيدُ الذي أوْعَدْناهم على كفرِهم باللَّهِ، وحلَّ بهم العذابُ والنِّقمةُ. وإنما وصَف ربُّنا جلَّ ثناؤُه ما وصَف في هذه الآيةِ من إحلالِه عقوبتَه بهؤلاء المكذِّبين الرسلَ؛ ترهيبًا منه بذلك مشرِكي قريشٍ، وإعلامًا منه لهم أنهم إن لم يُنِيبوا من تكذيبِهم رسولَه محمدًا صلى الله عليه وسلم، أنه مُحِلٌّ بهم من العذابِ مثلَ الذي أحلَّ بهم.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{فَحَقَّ وَعِيدِ} . قال: ما أُهْلِكوا به، تخويفًا لهؤلاء
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: وهذا تقريعٌ من اللَّهِ جلَّ ثناؤُه مشرِكي قريشٍ الذين قالوا: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} [ق: 3]. يقولُ لهم جلَّ ثناؤُه: أفعَيِينا بابتداعِ الخلقِ الأولِ الذي خلَقْناه ولم يَكُنْ شيئًا، فنَعْيَى بإعادتِهم خلقًا جديدًا بعدَ بِلاهم في الترابِ، وبعدَ فنائِهم؟ يقولُ: ليس يُعْيِينا ذلك، بل نحن عليه
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 103 إلى المصنف وابن المنذر.
قادِرون.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ} . يقولُ: لم يُعْيِنا الخلقُ الأولُ
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ} . يقولُ: أَفَعَيِيَ علينا حينَ أَنشَأْناكم خلقًا جديدًا، فتَمْتَروا بالبعثِ
(2)
؟
حدَّثنا ابنُ حُمَيدٍ، قال: ثنا مِهرانُ، عن سفيانَ، عن عطاءِ بنِ السائبِ، عن أبي ميسرةَ:{أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ} . قال: إنا خلَقْناكم.
وقولُه: {بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} . يقولُ تعالى ذكرُه: ما يَشُكُّ هؤلاء المشرِكون المكذِّبون بالبعثِ أنَّا لم نَعْيَ بالخلقِ الأولِ، ولكنهم في شكٍّ من قدرتِنا على أن نَخْلُقَهم خلقًا جديدًا بعدَ فنائِهم وبِلاهم في قبورِهم.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابنِ عباسٍ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 103 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(2)
تفسير مجاهد ص 614، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 103 إلى ابن المنذر.
قولَه: {بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} . يقولُ: في شكٍّ من البعثِ
(1)
.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا مهرانُ، عن سفيانَ، عن عطاءِ بنِ السائبِ، عن أبي ميسرةَ:{بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ} . قال: الكفارُ، {مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ}. قال: أن يُخلَقوا من بعدِ الموتِ.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} : أي: شكٍّ، والخلقُ الجديدُ البعثُ بعدَ الموتِ، فصار الناسُ بينَ
(2)
رجلين؛ مُصدِّقٍ ومُكذِّبٍ.
حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ في قولِه:{فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} . قال: البعثُ من بعدِ الموتِ
(3)
.
وقولُه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} . يقولُ تعالى ذكرُه: ولقد خلَقْنا الإنسانَ ونعلمُ ما تُحدِّثُ به نفسُه، فلا تَخْفَى
(4)
علينا سرائرُه وضمائرُ قلبِه، {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}. يقولُ: ونحنُ أقربُ إلى الإنسانِ من حبلِ العاتقِ، والوريدُ: عِرْقٌ بينَ [الحُلْقُومِ والعِلْباوَيْنِ]
(5)
. والحبلُ: هو الوريدُ، فأُضِيفَ إلى نفسِه؛ لاختلافِ لفظِ اسمَيْهِ.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم - كما في الإتقان 2/ 44 - من طريق أبي صالح به.
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"فيه".
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 237 عن معمر به.
(4)
في ت 1، ت 2، ت 3:"يخفى".
(5)
في الأصل: "الحلق والعلبان". والعلباوان: مثنى العِلْباء، وهما عصبا العنق عن يمينه وشماله، بينهما منبت العنق. ينظر اللسان (ع ل ب).
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{حَبْلِ الْوَرِيدِ} . قال: الذي يَكونُ في الحلْقِ
(1)
.
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} . يقولُ: عِرْقِ العُنُقِ
(2)
.
وقد اختلَف أهلُ العربيةِ في معنى قولِه: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} ؛ فقال بعضُهم: معناه: نحن أَمْلَكُ به وأَقْرَبُ إليه في المقدرةِ عليه.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} بالعلمِ بما تُوَسْوِسُ به نفسُه.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه: ونحن أقربُ إلى الإنسانِ مِن وريدِ حلْقِه، حينَ يَتَلَقَّى المَلَكانِ - وهما المُتَلَقِّيانِ - عن اليَمِينِ، وعن الشِّمالِ قَعِيدٌ.
وقيل: عَنَى بالقعيدِ الرَّصَدَ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني
(1)
تفسير مجاهد ص 614، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 103 إلى ابن المنذر.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم - كما في الإتقان 2/ 44 - من طريق أبي صالح به.
الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{قَعِيدٌ} . قال: رَصَدٌ
(1)
.
واختلَف أهلُ العربيةِ في وجهِ توحيدِ {قَعِيدٌ} . وقد ذُكر مِن قبلُ المتلقِّيانِ؛ فقال بعضُ نحويِّي البصرةِ: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} . ولم يَقُلْ: عن اليمينِ قعيدٌ، وعن الشمالِ قعيدٌ. أي أحدُهما، ثم استَغْنى، كما قال:{يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} [غافر: 67]، و
(2)
استغنى بالواحدِ عن الجميعِ، كما قال:{فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا} [النساء: 4].
وقال بعضُ نحويِّي الكوفةِ
(3)
: {قَعِيدٌ} . يريدُ: قعودٌ عن اليمينِ وعن الشِّمالِ. فجعَل {قَعِيدٌ}
(4)
جمعًا، كما يُجْعَلُ الرسولُ للقومِ وللاثنينِ؛ قال اللَّهُ عز وجل:{إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 16]. لموسى وأخيه. وقال الشاعرُ
(5)
:
أَلِكْنِي إليها وخَيرُ الرسو
…
لِ أَعلَمُهُمْ بِنواحِي الخبَرْ
(6)
فجعَل "الرسولَ" للجمعِ، فهذا وجهٌ، وإن شئْتَ جَعَلتَ "القعيدَ" واحدًا، اكتفاءً به مِن صاحبِه، كما قال الشاعرُ
(7)
:
(1)
تفسير مجاهد ص 614. ومن طريقه الفريابي، كما في تغليق التعليق 4/ 317.
(2)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"ثم".
(3)
هو الفراء في معاني القرآن 3/ 77.
(4)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"فعيل".
(5)
البيت لأبي ذؤيب الهذلي. شرح ديوان الهذليين 1/ 113.
(6)
ألكني: أبلغ عني أَلُوكي، والألوك: الرسالة. ونواحى الخبر: أي حروف الكلام وجوانبه وما أشكل منه. شرح ديوان الهذليين 1/ 113.
(7)
تقدم في 11/ 435.
نحنُ بما عندَنا وأنتَ بما
…
عندَك راضٍ والرَّأْيُ مُخْتَلِفُ
ومثلُه قولُ الفَرَزْدَقِ
(1)
:
إِنِّي ضَمِنتُ لمَنْ أَتَانِيَ مَا جَنَى
…
وأبَى فكان وكنتُ غيرَ غَدُورِ
ولم يَقُلْ: غَدُورَينِ.
وقولُه: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} . يقولُ تعالى ذكرُه: ما يَلْفِظُ الإنسانُ من قولٍ، فيَتَكَلَّمُ به، إلا عندَ ما يَلْفِظُ به من قولٍ
(2)
، {رَقِيبٌ عَتِيدٌ}. يعني: حافظٌ يَحْفَظُه، عَتِيدٌ مُعَدٌّ.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ:{عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} . قال: عن اليمينِ الذي يَكْتُبُ الحسناتِ، وعن الشمالِ الذي يَكْتُبُ السيئاتِ
(3)
.
حدَّثنا ابنُ بَشَّارٍ، قال: ثنا مُؤَمَّلٌ
(4)
، قال: ثنا سفيانُ، عن الأعمشِ، عن إبراهيمَ التَّيْمِيِّ في قولِه:{إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} . قال: إن صاحبَ اليمينِ أميرٌ أو أمينٌ على صاحبِ الشِّمالِ، فإذا عمِل العبدُ سيئةً قال صاحبُ اليمينِ لصاحبِ الشمالِ: أَمْسِكْ؛ لعلَّه يَتُوبُ.
(1)
البيت في كتاب سيبويه 1/ 76، وغير موجود في ديوان الفرزدق.
(2)
بعده في الأصل: "إلا لديه".
(3)
أخرجه سنيد في تفسيره - كما في التمهيد لابن عبد البر 21/ 38 - من طريق سفيان به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 103 إلى ابن المنذر.
(4)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"عبد الرحمن". ومؤمل هو ابن إسماعيل. ينظر تهذيب الكمال 29/ 176.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا حكَّامٌ، قال: ثنا عمرٌو، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ}. قال: مَلَكٌ عن يمينِه، وآخرُ عن شمالِه
(1)
، فأما الذي عن يمينِه فيَكْتُبُ الخيَر، وأما الذي عن شمالِه فيَكْتُبُ الشرَّ.
حدَّثنا ابنُ حُميدٍ قال: ثنا جريرٌ، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ قال: مع كلِّ إنسانٍ ملكان؛ ملَكٌ عن يمينِه، وآخرُ
(2)
عن يسارهِ
(3)
؛ فأما الذي عن يمينِه فيَكْتُبُ الخيرَ، وأما الذي عن يسارِه فيَكْتُبُ الشرَّ
(4)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} إِلَى {عَتِيدٌ} . قال: جعَل اللَّهُ على ابنِ آدمَ حافِظَين في الليلِ وحافِظَين في النهارِ، يَحْفَظان عليه عمله ويَكْتُبان أثرَه.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} حتى بلَغ: {عَتِيدٌ} . قال الحسنُ وقتادةُ: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ} . أي: ما يَتَكَلَّمُ به من شيءٍ إلا كُتِبَ عليه. وكان عكرِمةُ يقولُ: إنما ذلك في الخيرِ والشرِّ يُكْتَبان عليه.
حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابنُ ثورٍ، عن معمرٍ
(5)
، قال: تلا الحسنُ: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} . قال: فقال: يا بنَ آدمَ، بُسِطت لك صحيفةٌ، ووُكِّل بك ملَكان كرِيمان؛ أحدُهما عن يمينِك، والآخَرُ عن شمالِك؛ فأما الذي عن يمينِك
(1)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"يساره".
(2)
في م، ت 2، ت 3:"ملك".
(3)
في الأصل: "شماله"، وبعده في ص، م، ت 1:"قال".
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 103 إلى المصنف.
(5)
بعده في م، ت 2، ت 3:"عن قتادة".
فيَحْفَظُ حسناتِك، وأما الذي عن شمالِك فيَحْفَظُ سيئاتِك، فاعْمَلْ ما شِئْتَ، أَقَلِلْ أو أَكْثِرْ، حتى إذا مِتَّ طُوِيتْ صحيفتُك، فجُعِلت في عُنقِك معك في قبرِك، حتى تَخْرُجَ يومَ القيامةِ. فعندَ ذلك يقولُ:{وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} حتى بلَغ: {حَسِيبًا} [الإسراء: 13، 14]، عدَلَ واللَّهِ عليك
(1)
مَن جعَلك حسيبَ نفسِك
(2)
.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا مهرانُ، عن سفيانَ، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ:{عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} . قال: كاتبُ الحسناتِ عن يمينِه، وكاتبُ السيئاتِ عن شمالِه
(3)
.
قال: ثنا مهرانُ، عن سفيانَ، قال: بلَغَني أن كاتبَ الحسناتِ أميرٌ على كاتبِ السيئاتِ، فإذا أذنَب قال له: لا تَعْجَلْ؛ لعله يَسْتَغْفِرُ
(4)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} . قال: جعَل معه مَن يَكْتُبُ كلَّ ما لفَظ به، وهو معه رقيبٌ.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: أخبَرني عمرُو بنُ الحارثِ، عن هشامٍ الحِمْصِيِّ، أنه بلَغه أن الرجلَ إذا عمِل سيئةً قال كاتبُ اليمينِ لصاحبِ الشمالِ: اكتُبْ. فيقولُ: لا، بل أنت اكتُبْ. [ويَمْتَنِعان]
(5)
، فينادِي منادٍ: يا صاحبَ الشمالِ، اكتُبْ ما ترَك صاحبُ اليمينِ.
(1)
في تفسير عبد الرزاق: "لك".
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 237 عن معمر به.
(3)
تقدم تخريجه في ص 424.
(4)
ذكره القرطبي في تفسيره 17/ 9، 10.
(5)
في م، ت 2، ت 3:"فيمتنعان".
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: وفي قولِه: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ}
(1)
وجهان من التأويلِ؛ أحدُهما: وجاءت سكرةُ الموتِ - وهي شدَّتُه وغلبتُه على فهمِ الإنسانِ، كالسكرةِ من النومِ أو الشرابِ - بالحقِّ من أمرِ الآخرةِ، [فتَبيَّنه الإنسانُ حتى تَثَبَّته]
(2)
وعرَفه. والثاني: وجاءت سكرةُ الموتِ بحقيقةِ الموتِ.
وقد ذُكِر عن أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه أنه كان يَقْرَأُ: (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْحَقِّ بالْمَوْتِ)
(3)
.
ذكرُ الروايةِ بذلك
حدَّثنا محمدُ بنُ المثنى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن واصلٍ، عن أبي وائلٍ، قال: لما كان أبو بكرٍ رضي الله عنه يَقْضِي، قالت عائشةُ رضي الله عنها: هذا كما قال الشاعرُ
(4)
:
* إذا حشرَجَت يومًا وضاقَ بها الصدرُ *
فقال أبو بكرٍ: [يا بُنَيَّةُ]
(5)
، لا تَقُولي ذلك، ولكنه كما قال اللَّهُ عز وجل:
(1)
بعده في الأصل: "ذلك ما كنت منه تحيد".
(2)
في الأصل: "فنسه الإنسان حين ينتبه"
(3)
مختصر الشواذ ص 145. وقال القرطبي في تفسيره 17/ 12: رُويت عنه - أبي بكر - روايتان؛ إحداهما موافقة للمصحف فعليها العمل، والأخرى مرفوضة؛ تجري مجرى النسيان منه إن كان قالها، أو الغلط من بعض مَن نقل الحديث.
(4)
تقدم تخريجه في 13/ 275.
(5)
سقط من: م.
(وَجَاءَتْ سَكْرَةُ [الْحَقِّ بِالْمَوْتِ]
(1)
ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ).
وقد ذُكِر أن ذلك كذلك في قراءةِ ابنِ مسعودٍ
(2)
، ولقراءةِ مَن قرَأ ذلك كذلك وجهان من التأويلِ؛ أحدُهما: وجاءت سكرةُ اللَّهِ بالموتِ، فيَكونُ الحقُّ هو اللَّهَ تعالى ذكرُه. والثاني: أن تكونَ السكرةُ هي الموتُ، أُضِيفت إلى نفسِها، كما قيل:{إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ} [الواقعة: 95]. ويكونُ تأويلُ الكلامِ: وجاءت السكرةُ الحقُّ بالموتِ.
وقولُه: {ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} . يقولُ: هذه السكرةُ التي جاءتك أيُّها الإنسانُ بالحقِّ هو الشيءُ الذي كنتَ منه تَهْرُبُ، وعنه تَرُوغُ.
وقولُه: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ} . قد تقدَّم بيانُنا عن معنى "الصُّورِ"، وكيفَ النَّفْخُ فيه، بذكرِ اختلافِ المختلفين، والذي هو أولى الأقوالِ عندَنا فيه بالصوابِ، بما أغنَى عن إعادتِه في هذا الموضعِ
(3)
.
وقولُه: {ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ} . يقولُ: هذا اليومُ الذي يُنْفَخُ فيه
(4)
[في الصورِ]
(5)
هو يومُ الوعيدِ الذي وعَده اللَّهُ عز وجل الكفارَ أن يُعَذِّبَهم فيه.
(1)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"الموت بالحق".
والأثر أخرجه ابن الأنباري - كما في تفسير القرطبي 17/ 12 - من طريق منصور بن المعتمر عن أبي وائل عن مسروق قوله، وأخرجه ابن سعد 3/ 195، 196 من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن عبد الله البهي عن عائشة، وأخرجه أحمد في الزهد ص 109، وابن أبي الدنيا في كتاب المحتضرين (36) من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن عبد الله البهي قوله. وينظر فضائل القرآن لأبي عبيد ص 184، 185، وذكره السيوطي في الدر المنثور 6/ 105 عن عبد الله بن البهي، وعزاه إلى المصنف وأحمد. وجميعهم ساق الآية كما هي في المصحف.
(2)
ذكره القرطبي في تفسيره 17/ 12.
(3)
ينظر ما تقدم في 9/ 339 - 341.
(4)
سقط من: ص، ت 1.
(5)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه: وجاءت يومَ يُنْفَخُ في الصُّورِ كلُّ نفسٍ ربَّها، معها سائقٌ يَسُوقُها إلى اللَّهِ، وشهيدٌ يَشْهَدُ عليها بما عمِلت في الدنيا من خيرٍ أو شرٍّ.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا مهرانُ، عن إسماعيلَ بنِ أبي خالدٍ، عن يحيى بنِ رافعٍ مولًى لثقيفٍ، قال: سمِعتُ عثمانَ بنَ عفانَ رضي الله عنه يَخْطُبُ، فقرَأ هذه الآيةَ:{سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} . قال: سائقٌ يَسُوقُها إلى اللَّهِ، وشاهدٌ يَشْهَدُ عليها بما عمِلت
(1)
.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا حكامٌ، عن إسماعيلَ، عن أبي عيسى، قال: سمِعتُ عثمانَ بنَ عفانَ يخطُبُ، فقرَأ هذه الآيةَ:{وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} . قال: السائقُ يَسوقُها إلى أمرِ اللَّهِ، والشهيدُ
(2)
يَشْهَدُ عليها بما عمِلت.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن
(1)
أخرجه ابن المبارك في الزهد (365 - زوائد نعيم)، وعبد الرزاق في تفسيره 2/ 237، وابن أبي شيبة 13/ 558، وابن عساكر في تاريخه 46/ 241 (مجمع اللغة العربية بدمشق) من طريق إسماعيل بن أبي خالد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 105 إلى سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم في الكنى والبيهقي في البعث والنشور.
(2)
في ص، ت 1:"الشاهد".
أبيه، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} . قال: السائقُ من الملائكةِ، والشهيدُ شاهدٌ عليه من نفسِه
(1)
.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا [مِهرانُ، عن سفيانَ]
(2)
، عن خُصَيْفٍ، عن مجاهدٍ:{سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} : سائقٌ يسوقُها إلى أمرِ اللَّهِ، وشاهدٌ يَشْهَدُ عليها بما عمِلت
(3)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ عن مجاهدٍ في قولِ اللَّهِ:{سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} . قال: الملكان؛ كاتبٌ وشهيدٌ
(4)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} : سائقٌ يَسُوقُها إلى ربِّها، وشاهدٌ يَشْهَدُ عليها بعملِها
(5)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا سليمانُ بنُ حربٍ، قال: أخبَرنا أبو هلالٍ، قال: ثنا قتادةَ في قولِه: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} . قال: سائقٌ يسوقُها إلى حسابِها، وشهيدٌ
(6)
يشهدُ عليها بما عمِلت.
حدَّثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن الحسنِ: {مَعَهَا سَائِقٌ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 106 إلى المصنف.
(2)
في ص، م، ت 2، ت 3:"سفيان عن مهران".
(3)
بعده في ص، م، ت 1، ت 2:"حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد {سَائِقٌ وَشَهِيدٌ}: سائق يسوقها إلى أمر الله، وشاهد يشهد عليها بما عملت".
والأثر ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 379.
(4)
تفسير مجاهد ص 614. ومن طريقه الفريابي - كما في تغليق التعليق 4/ 317 - وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 106 إلى ابن المنذر.
(5)
ذكره القرطبي في تفسيره 17/ 14، وابن كثير في تفسيره 7/ 379.
(6)
في م، ت 1، ت 2، ت 3:"شاهد".
وَشَهِيدٌ}. قال: سائقٌ يَسُوقُها، وشاهدٌ يَشْهَدُ عليها بعملِها
(1)
.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا مهرانُ، عن أبي جعفرٍ، عن الربيعِ بنِ أنسٍ:{سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} . قال: سائقٌ يَسُوقُها، وشاهدٌ يَشْهَدُ عليها بعملِها.
حُدِّثتُ عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبَرنا عبيدٌ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} . السائقُ من الملائكةِ، والشاهدُ من أنفسِهم؛ الأيدي والأرجلُ، والملائكةُ أيضًا شهداءُ عليهم
(2)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} . قال: مَلَكٌ وُكِّل به يُحْصِي
(3)
عليه عملَه، ومَلَكٌ يَسُوقُه إلى محشرِه حتى يُوَافِيَ مَحْشَرَه يومَ القيامةِ
(4)
.
واختلَف أهلُ التأويلِ في المعنيِّ بهذه الآياتِ؛ فقال بعضُهم: عُنِي بها النبيُّ صلى الله عليه وسلم. وقال بعضُهم: عُنِي أهلُ الشركِ. وقال بعضُهم: عُنِي بها كلُّ أحدٍ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: ثنى يعقوبُ بنُ عبدِ الرحمنِ الزهريُّ، قال: سألتُ زيدَ بنَ أسلمَ عن قولِ اللَّهِ: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ
(5)
} [ق: 19] الآية، إلى قولِه:{مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} . فقلتُ له: من يُرَادُ بهذا؟ فقال:
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 237 عن معمر به.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 106 إلى المصنف.
(3)
في ت: "يحصر".
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 379 بمعناه.
(5)
بعده في الأصل: "ذلك ما كنت منه تحيد".
رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فقلتُ له: رسولُ اللَّهِ؟ فقال: وما تُنْكِرُ؟ قال اللَّهُ عز وجل: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى: 6، 7]. قال: ثم سألتُ صالحَ بنَ كيسانَ عنها، فقال لي: هل
(1)
سأَلتَ عنها أحدًا؟ فقلت: نعَمْ، قد سألتُ زيدَ بنَ أسلمَ. فقال: ما قال لك؟ فقلتُ: بل تُخْبِرُني ما تقولُ. فقال: [لأُخْبِرَنَّك برأيي الذي]
(2)
عليه رأيي، فأخبِرْني ما قال لك. قلتُ: قال: يُرَادُ بهذا رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فقال: وما علمُ زيدٍ؟! واللَّهِ ما سنٌّ عاليةٌ، ولا لسانٌ فصيحٌ، ولا معرفةٌ بكلامِ العربِ، إنما يُرَادُ بهذا الكافرُ. ثم قال: اقرَأْ ما بعدَها يَدُلُّك على ذلك. قال: ثم سأَلتُ حسينَ بنَ عبدِ اللَّهِ بنِ عُبَيدِ اللَّهِ بنِ عباسٍ، فقال لي مثلَ ما قال صالحٌ؛ هل سأَلت أحدًا؟ فأخبِرْني به. قلتُ: إني قد سأَلتُ زيدَ بنَ أسلمَ، وصالحَ بنَ كيسانَ. فقال: ما قالا لك؟ قلتُ: بل تُخْبِرُني بقولِك. قال لأُخْبِرَنَّك بقولي. فأَخبرتُه بالذي قالا
(3)
لي، فقال: أُخالِفُهما جميعًا؛ يريدُ بهذا
(4)
البرَّ والفاجرَ، قال اللَّهُ عز وجل:{وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} ، {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ}. قال: فانكشَف الغطاءُ عن البرِّ والفاجرِ، فرأَى
(5)
كلٌّ ما يَصِيرُ إليه
(6)
.
حُدِّثتُ عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبرَنا عبيدٌ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} : يعني
(1)
سقط من: الأصل.
(2)
في ت 1: "لا أخبرنك بالذي". وفي ت 2، ت 3:"لا أخبرك برأيي الذي".
(3)
في ت 3: "قال".
(4)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"بها".
(5)
في الأصل: "فذلك". وينظر ما سيأتي في ص 435.
(6)
ينظر تفسير ابن كثير 7/ 379.
المشرِكين
(1)
.
وأولى الأقوالِ عندي في ذلك بالصوابِ قولُ مَن قال: عُنِي بذلك البَرُّ والفاجرُ. لأن اللَّهَ عز وجل أَتْبَع هذه الآياتِ قولَه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} . والإنسانُ في هذا الموضعِ بمعنى الناسِ كلِّهم، غيرَ مخصوصٍ منهم بعضٌ دونَ بعضٍ. فمعلومٌ إن كان ذلك كذلك أن معنى قولِه:{وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} : وجاءتك أيُّها الإنسانُ سكرةُ الموتِ بالحقِّ، {ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} . وإذا كان ذلك كذلك، كانت بينةً صحةُ ما قلنا.
وقولُه: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} . يقولُ تعالى ذكرُه: يُقالُ له
(2)
: لقد كنتَ في غفلةٍ [في الدنيا]
(3)
من هذا الذي عايَنت اليومَ أَيُّها الإنسانُ من الأهوالِ والشدائدِ، {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ}. يقولُ: فجلَّينا ذلك لك، وأظهَرْناه لعينَيْك حتى رأَيتَه وعايَنتَه، فزالَت الغفلةُ عنك.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ وإن اختلَفوا في المقولِ ذلك له؛ فقال بعضُهم: المقولُ ذلك له الكافرُ.
وقال آخرون: هو نبيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وقال آخرون: هو جميعُ الخلقِ من الجنِّ والإنسِ.
(1)
ذكره القرطبي في تفسيره 17/ 14، بلفظ:"الكافر".
(2)
في الأصل، ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"لها".
(3)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
ذكرُ مَن قال: هو الكافرُ
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ} : فذلك الكافرُ
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى؛ وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ} . قال: للكافرِ، يومَ القيامةِ
(2)
.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا مهرانُ، عن سفيانَ:{فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ} . قال: في الكافرِ.
ذكرُ مَن قال: هو نبيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} . قال: هذا رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قال: لقد كنتَ في غفلة من هذا الأمرِ يا محمدُ، كنتَ مع القومِ في جاهليَّتِهم، {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ}
(3)
.
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: وعلى هذا التأويلِ الذي قاله ابنُ زِيدٍ، يجبُ أن يكونَ هذا الكلامُ خطابًا من اللَّهِ ولرسولِه صلى الله عليه وسلم؛ أنه كان في غفلةٍ في الجاهليةِ من هذا الدينِ الذي بعَثه به، فكشَف عنه غطاءَه الذي كان عليه في الجاهليةِ، فنفَذ بصرُه بالإيمانِ وتبيَّنه، حتى تقرَّر ذلك عندَه، فصار حادَّ البصرِ به.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 106 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
تفسير مجاهد ص 614.
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 379.
ذكرُ مَن قال: هو جميعُ الخلقِ من الجنِّ والإنسِ
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: ثنى يعقوبُ بنُ عبدِ الرحمنِ الزهريُّ، قال: سأَلتُ عن ذلك الحسينَ بنَ عبدِ اللَّهِ بنِ عبيدِ اللَّهِ بنِ عباسٍ، فقال: يُريدُ به البرَّ والفاجرَ. {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} . قال: انكشَف الغطاءُ عن البرِّ والفاجرِ، فرأَى كلٌّ ما يَصِيرُ إليه
(1)
وبنحوِ الذي قلْنا في معنى قولِه: {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ} . قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ} . قال: الحياةُ بعدَ الموتِ
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ} . قال: عايَن الآخرةَ
(3)
.
وقولُه: {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} . يقولُ: فأنت اليومَ نافذُ البصرِ، عالمٌ بما كنتَ عنه في الدنيا في غفلةٍ. وهو من قولِهم: فلانٌ بصيرٌ بهذا الأمرِ. إذا كان ذا علمٍ به، و: له بهذا الأمرِ بصرٌ. أي علمٌ.
وقد رُوِي عن الضحاكِ أنه قال: معنى ذلك: {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} : كلسانِ
(4)
الميزانِ.
(1)
تقدم في ص 432.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 106 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 106 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر.
(4)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"لسان".
وأحسَبُه أراد بذلك أن معرِفَته وعلمَه بما أسلَف في الدنيا شاهدُ عدلٍ عليه، فشبَّه بصرَه بذلك بلسانِ الميزانِ، الذي يُعدلُ به الحقُّ في الوزنِ، ويُعرَفُ مبلغُه الواجبُ لأهلِه، عما زاد على ذلك أو نقَص، فكذلك علمُ مَن وافى القيامةَ بما اكتسَب في الدنيا، شاهدُ عدلٍ
(1)
عليه كلسانِ الميزانِ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه: وقال قرينُ هذا الإنسانِ الذي جاء ربَّه
(2)
يومَ القيامةِ معه سائقٌ وشهيدٌ.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} : الملَكُ
(3)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} إلى آخرِ الآيةِ. قال: هذا سائقُه الذي وكِّل به، وقرَأ:{وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} .
وقولُه: {هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} . يقولُ تعالى ذكرُه مُخبِرًا عن قيلِ قَرينِ هذا الإنسانِ عندَ موافاتِه ربَّه به: ربِّ هذا ما لديَّ عتيدٌ. يقولُ: هذا الذي هو عندِي مُعَدٌّ محفوظٌ.
(1)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(2)
في م: "به".
(3)
ذكره القرطبي في تفسيره 17/ 16.
كما حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} . قال: والعتيدُ الذي قد أخَذه، وجاء به السائقُ والحافظُ معه جميعًا.
وقولُه: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} . فيه متروكٌ استُغنِي بدلالةِ الظاهرِ عليه منه، وهو: يُقالُ: ألقِيا في جهنمَ. و
(1)
قال تعالى ذكرُه: أَلْقِيا. فأخرَج الأمرَ للقرينِ - وهو بلفظِ واحدٍ - مُخرَجَ خطابِ الاثنين. وفي ذلك وجهان من التأويلِ؛ أحدُهما: أن يَكونَ القرينُ بمعنى الاثنين، كالرسولِ والاسمِ الذي يكونُ بلفظِ الواحدِ في الواحد والتثنيةِ والجمعِ، فردَّ قولَه:{أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ} . إلى المعنى.
والثاني: أن يكونَ كما كان بعضُ أهلِ العربيةِ يقولُ
(2)
؛ وهو أن العربَ تَأْمُرُ الواحدَ والجماعةَ بما تَأْمُرُ به الاثنين، فتَقولُ للرجلِ: ويلَك ارحَلَاها وازْجُراها. وذكَر أنه سمِعها من العربِ، قال: وأنشَدني بعضُهم
(3)
:
فقلتُ لصاحِبي لا تَحْبِسانا
…
بِنَزْعِ أُصولِهِ واجتزَّ شِيحا
قال: وأَنشَدني أبو ثَرْوانَ:
فإن تَزْجُرَاني يابنَ عفانَ أَنْزَجِرْ
…
وَإِنْ تَدَعَاني أَحْمِ عِرْضًا مُمَنَّعا
قال: ونرى
(4)
أن ذلك منهم أن الرجلَ أدنى أعوانِه في إبلِه وغنمِه اثنان،
(1)
في م: "أو".
(2)
هو الفراء في معاني القرآن 3/ 78.
(3)
تقدم تخريجه في 12/ 271.
(4)
في الأصل، م، ت 1، ت 2، ت 3:"يروى".
وكذلك الرُّفْقةُ أدنى ما تكونُ ثلاثةً، فجرى كلامُ الواحدِ على صاحِبَيْه
(1)
. وقال: ألا ترَى الشعراءَ أكثرَ شيءٍ قِيلًا: يا صاحِبَيَّ، يا خَليلَيَّ. وقال امرُؤ القيسِ
(2)
:
خَلِيلَيَّ مُرَّا بي على أمِّ جُنْدَبِ
…
نُقَضِّ لُباناتِ الفؤادِ المعذَّبِ
ثم قال:
ألم [تَرَ أني]
(3)
كُلَّما جئتُ طارِقًا
…
وجَدتُ بها طِيبًا وإن لم تَطَيَّبِ
فرجَع إلى الواحدِ، وأوّلُ الكلامِ اثنان. قال: وأنشَدني بعضُهم
(4)
:
خَلِيلَيَّ قُومَا في عَطالةَ فانظُرَا
…
أنارًا
(5)
ترَى مِن [نحوِ بابَيْنِ]
(6)
أَمْ بَرْقا
وبعضُهم يَرْوِي: أنارًا نَرَى؟
{كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} . يعني: كلَّ جاحدٍ وحدانيةَ اللَّهِ، {عَنِيدٍ}: وهو العاندُ
(7)
عن الحقِّ وسبيلِ الهدى.
وقولُه: {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ} . كان قتادةَ يقولُ في "الخيرِ" في هذا الموضعِ: هو الزكاةُ المفروضةُ.
(1)
في ت 2، ت 3:"صاحبه".
(2)
ديوانه ص 41.
(3)
في الأصل، والديوان:"ترياني". والمثبت هو موضع الاستشهاد وهو موافق لما في معاني القرآن للفراء.
(4)
البيت لسويد بن كراع العكلي، وهو في معاني القرآن للفراء 3/ 79، واللسان (ع ط ل)
(5)
في النسخ: "أنار". والمثبت موافق لمصادر التخريج.
(6)
في م واللسان: "ذي أبانين".
(7)
في الأصل: "المعاند".
حدَّثنا بذلك بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ
(1)
.
والصوابُ من القولِ في ذلك عندِي أنه كلُّ حقٍّ وجَب للَّهِ، أو لآدميٍّ في مالِه. و"الخيرُ" هو المالُ في هذا الموضِع.
وإنما قلْنا ذلك هو الصوابُ من القولِ؛ لأن اللَّهَ تعالى ذِكْرُه عمَّ بقولِه: {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ} . الخبرَ
(2)
عنه، أنه يَمْنَعُ الخَيْرَ، ولم يَخْصُصْ منه شيئًا دونَ شيءٍ، فذلك على كلِّ خيرٍ يُمْكِنُ منعُه طالبَه.
وقولُه: {مُعْتَدٍ} . يقولُ: مُعْتَدٍ على الناسِ بلسانِه بالبَذاءِ والفحْشِ في المنطقِ، وبيدِه بالسطوةِ والبطشِ ظلمًا.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ: مُعتدٍ في منطقِه وسيرتِه وأمرِه
(3)
.
وقولُه: {مُرِيبٍ} يعني: شاكٍّ في وحدانيةِ اللَّهِ وقُدرتِه على ما يَشَاءُ.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{مُرِيبٍ} : أي شاكٍّ
(4)
.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه: الذي أشرَك باللَّهِ فعبَد معه معبودًا آخرَ من خلقِه، {فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ}. يقولُ: فألقياه في عذابِ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 106 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
سقط من: م، ت 2، ت 3.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 106 إلى عبد بن حميد وابن المنذر
(4)
ذكره القرطبي في تفسيره 17/ 17.
جهنمَ الشديدِ.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه: قال قرينُ هذا الإنسانِ الكَفَّارِ المنَّاعِ للخيرِ، وهو شيطانُه الذي كان مُوكَّلًا به في الدنيا.
كما حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ} . قال: قرينُه شيطانُه
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{قَالَ قَرِينُهُ} . قال: الشيطانُ قُيِّض له
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَر} : هو المشركُ، {قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ}. قال: قرينُه الشيطانُ
(3)
.
حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ} . قال: وهو الشيطانُ
(4)
.
حُدِّثتُ عن الحسين، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبَرنا عبيدٌ، قال: سمِعتُ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 106 إلى المصنف
(2)
تفسير مجاهد ص 615، ومن طريقه الفريابي كما في تغليق التعليق 4/ 317.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 106 إلى عبد بن حميد وابن المنذر، إلى قوله: هو المشرك.
(4)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 238 عن معمر به.
الضحَّاكَ يقولُ في قولِه: {قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ} . قال: قرينُه شيطانُه
(1)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ} . قال قرينُه من الجنِّ: ربَّنا ما أطغيتُه. تبرَّأَ منه.
وقولُه: {رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ} . يقولُ: ما أنا جعَلتُه طاغيًا مُتَعدِّيًا إلى ما ليس له.
وإنما يَعْني بذلك الكفرَ باللَّهِ، {وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ}. يقولُ: ولكن كان في طريقٍ جائرٍ عن سبيلِ الهدى جَوْرًا بعيدًا.
وإنما أخبر تعالى ذكرُه هذا الخبرَ عن قولِ قرينِ الكافرِ له يومَ القيامةِ؛ إعلامًا منه عبادَه تَبرُّؤَ بعضِهم من بعضٍ يومَ القيامةِ.
كما حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ} . قال: تبرَّأَ منه
(2)
.
وقولُه: {لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ} . يقولُ تعالى ذكرُه: قال اللَّهُ لهؤلاء المشرِكين الذين وصَف صفتَهم وصفةَ قرنائِهم من الشياطينِ: {لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ} اليومَ {وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ} في الدنيا قبلَ اختصامِكم هذا، {بِالْوَعِيدِ} لمن كفَر بي وعصَاني، وخالَف أمْري ونَهيي في كتبي وعلى ألسنِ رُسُلي.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عبدُ اللَّهِ بنُ أبي زيادٍ، قال: ثنا عبدُ اللَّهِ بنُ أبي بكرٍ، قال: ثنا جعفرٌ،
(1)
ذكره الطوسي في التبيان 9/ 366.
(2)
بعده في م: "وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك. حدثني عبد الله بن أبي زياد، قال: ثنا عبد الله بن أبي بكر، قال: ثنا جعفر، قال: سمعت أبا عمران يقول في قوله: {رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ} تبرأ منه".
قال: سمِعتُ أبا عمران يقولُ في قولِ اللَّهِ: {وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ} . قال: بالقرآنِ.
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابنِ عباسٍ في قولِه:{لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ} . قال: إنهم اعتَذروا بغيرِ عذرٍ، فأبطَل اللَّهُ حجتَهم، وردَّ عليهم قولَهم
(1)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ} . قال: يقولُ: قد أمرتُكم ونهَيتُكم. قال: هذا ابنُ آدمَ وقرينُه من الجنِّ.
حدَّثنا ابنُ حُمَيدٍ، قال: ثنا مهرانُ، عن أبي جعفرٍ، عن الربيعِ، قال: قلتُ لأبي العاليةِ: {لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ} . [أحسَبُه أنا]
(2)
قال: هم أهلُ الشركِ. وقال في آيةٍ أخرى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزمر: 31]. قال: هم أهلُ القبلةِ
(3)
.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه مُخبِرًا عن قيلِه للمشرِكين وقُرَنائِهم من الجنِّ يومَ القيامةِ، إذ
(4)
تبرَّأَ بعضُهم من بعضٍ: ما يُغَيَّرُ القولُ الذي
(5)
قلتُه لكم في
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 106 إلى المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
في ص، م، ت 1 ت 2، ت 3:"قال أبو جعفر الطبري أحسبه".
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 106 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر. وتقدم شطره الثاني في 20/ 202.
(4)
في الأصل: "إذا".
(5)
في الأصل: "لدى".
الدنيا، وهو قولُه:{لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة: 13]، ولا قضائي الذي قضَيتُه فيهم فيها.
كما حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} : قد قضَيْتُ ما أنا قاضٍ
(1)
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا حكَّامٌ، عن عنبسةَ، عن محمدِ بنِ عبدِ الرحمنِ، عن القاسمِ بنِ أبي بَزَّةَ، عن مجاهدٍ في قولِه:{مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} . قال: قد قضَيْتُ ما أنا قاضٍ.
[وقولُه]
(2)
: {وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} . يقولُ: ولا أنا بمعاقبٍ أحدًا من خَلْقي بجرمِ غيرهِ، ولا حاملٍ على أحدٍ منهم ذنبَ غيرِه، فمُعَذِّبِه به.
وقولُه: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ} . يقولُ: وما أنا بظلَّامٍ للعبيدِ في يومِ نقولُ لِجهنَّمَ: هل امتلأتِ؟ وذلك يوم القيامةِ، "ويومَ نقولُ" من صلةِ "ظلَّامٍ". وقال تعالى ذكرُه لجهنم يومَ القيامةِ:{هَلِ امْتَلَأْتِ} ؟ لما سبَق من وعدِه إيَّاها أنه يَمْلَؤُها من الجِنَّةِ والناسِ أجمعين.
وأما قولُه: {هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} . فإن أهلَ التأويلِ
(3)
اختلَفوا في تأويلِه؛ فقال بعضُهم: معناه: ما من مزيدٍ. قالوا: وإنما يقولُ اللَّهُ لها جلَّ ثناؤه: هل امتلأتِ بعدَ أن يَضَعَ قدمَه فيها، فيَنْزَوِيَ بعضُها إلى بعضٍ، وتقولُ: قَطْ، قَطْ. من تَضَايُقِها، فإذا قال لها وقد صارت كذلك: هل امتلأتِ؟ قالت حينَئذٍ: هل من
(1)
تفسير مجاهد ص 615. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 106 إلى ابن المنذر.
(2)
سقط من: الأصل.
(3)
في الأصل: "التوراة".
مزيدٍ؟ أي: ما من مزيدٍ. لشدَّةِ امتلائِها، وتضايُقِ بعضِها إلى بعضٍ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} . قال ابنُ عباسٍ: إنَّ اللَّهَ الملكَ تبارك وتعالى قد سبَقت كلمتُه: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة: 13]. فلما بُعِث الناسُ وأُحْضِروا، وسِيقَ أعداءُ اللَّهِ إلى النارِ زُمَرًا، جعَلوا يَقْتَحِمون في جهنمَ فوجًا فوجًا، لا يُلْقَى في جهنمَ شيءٌ إلا ذهَب فيها، ولا يَمْلَؤُها شيءٌ. قالت: ألستَ قد أقْسَمتَ لتَملأنِّي من الجِنَّةِ والناسِ أجمعين؟ فوضَع قدمَه عليها
(1)
، فقالت حينَ وضَع قدمَه عليها
(2)
: قَدْ، قَدْ، فإني قد امتلأتُ، فليس فيَّ
(3)
مزيدٌ. ولم يَكُنْ يَمْلَؤُها شيءٌ، حتى وجَدت مسَّ ما وُضِع عليها، فتضايَقت حينَ
(4)
جعَل عليها ما جعَل فامتلأت، فما فيها موضعُ إبرةٍ
(5)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} . قال: وعَدها اللَّهُ ليَملأنَّها، فقال:[هل أَوفَيْتُكِ]
(6)
؟ قالت: وهل من مَسْلَكٍ
(7)
؟
(1)
سقط من: م، وفي ص، ت 1، ت 2، ت 3:"فيها".
(2)
في م: "فيها"
(3)
في م، ت 3:"لي".
(4)
في الأصل: "حتى".
(5)
ذكر ابن كثير في تفسيره 7/ 383 الجملة الأخيرة منه عن العوفي به.
(6)
في م: "هلا وفيتك". وفي ت 3: "هل لا وفيتك".
(7)
تفسير مجاهد ص 615، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 107 إلى ابن المنذر.
حُدِّثتُ عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ، يقولُ: أخبَرنا عبيدٌ، قال: سمِعتُ الضحَّاكَ يقولُ في قولِه: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} . كان ابنُ عباسٍ يقولُ: إِن اللَّهَ الملِكَ قد سبَقت منه كلمةٌ: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ} . لا يُلْقَى فيها شيءٌ إلا ذهَب فيها، لا يَمْلَؤُها شيءٌ، حتى إذا لم يَبْقَ من أهلِها أحدٌ إلا دخَلها، وهي لا يَمْلَؤُها شيءٌ، أتاها الربُّ فوضَع قدمَه عليها، ثم قال لها: هل امتلأتِ يا جهنمُ؟ فتقولُ: قَطْ، قَطْ، قد امتلأتُ، ملأتَني من الجنِّ والإنسِ فليس فيَّ
(1)
مزيدٌ. قال ابنُ عباسٍ: ولم يَكُنْ يَمْلَؤُها شيءٌ، حتى وجَدت مسَّ قدمِ اللَّهِ تعالى ذكرُه، فتضايَقت، فما فيها موضِعُ إبرةٍ.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: زِدْني، إنما هو:{هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} . بمعنى الاستزادةِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابنُ حُمَيدٍ، قال: ثنا يحيى بنُ واضحٍ، قال: ثنا الحسينُ، عن
(2)
ثابتٍ، عن أنسٍ، قال: يُلْقَى في جهنمَ، [وتقولُ: هل من مزيدٍ؟ ثلاثًا، حتى يَضَعَ قدمَه فيها، فينزَوِيَ بعضُها إلى بعضٍ]
(3)
، فتقولُ: قَطْ، قَطْ. ثلاثًا.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} . لأنها قد امتَلأَتْ، وهل من مزيدٍ: هل بَقِي أحدٌ؟ قال: هذان الوجهان في هذا، واللَّهُ أعلمُ. قال: قالوا هذا وهذا.
(1)
في الأصل: "من"
(2)
في م: "بن". ينظر تهذيب الكمال 4/ 342.
(3)
سقط من: الأصل.
وأولى القولينِ في ذلك عندِي بالصوابِ قولُ مَن قال: هو بمعنى الاستزادةِ، هل من شيءٍ أُزادُه؟
وإنما قلْنا ذلك أولى القولينِ بالصوابِ؛ لصحةِ الخبرِ عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بما حدَّثني أحمدُ بنُ المِقَدامِ العِجْليُّ، قال: ثنا محمدُ بنُ عبدِ الرحمنِ الطَّفَاوِيُّ، قال: ثنا أيوبُ، عن محمدٍ، عن أبي هريرةَ أن رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال:"إذا كان يومُ القيامةِ، لم يَظْلِمِ اللَّهُ أحدًا من خلقِه شيئًا، ويُلْقَى في النارِ، تقولُ: هل من مَزِيدٍ. حتى يَضَعَ عليها قدمَه، فهنالك يَمْلَؤُها، ويُزْوَى بعضُها إلى بعضٍ، وتقولُ: قَطْ، قَطْ"
(1)
.
حدَّثنا أحمدُ بنُ المقدامِ، قال: ثنا المعتمرُ بنُ سليمانَ، قال: سمِعت أبي يُحدِّثُ عن قتادةَ، عن أنسٍ، قال: ما تزالُ جهنمُ تقولُ: هل من مزيدٍ؟ حتى يَضَعَ اللَّهُ عليها قدمَه، فتقولُ: قَدْ، قَدْ. وما يزالُ في الجنةِ فضلٌ حتى يُنْشِئَ اللَّهُ خلقًا، فيُسْكِنَه فضولَ الجنةِ
(2)
.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا ابنُ عُلَيَّةَ، قال: أخبَرنا أيوبُ وهشامُ بنُ حسانَ، عن محمدِ بنُ سِيرِينَ، عن أبي هريرةَ، قال: اختصَمت الجنةُ والنارُ، فقالت الجنةُ: ما لي إنما يَدْخُلُني فقراءُ الناسِ وسَقَطُهم؟ وقالت النارُ: ما لي إنما يَدْخُلُني الجبارون والمتكبِّرون؟ فقال: أنتِ رحمتي أُصِيبُ بكِ من أشاءُ، وأنتِ عذابي أُصِيبُ بك من أشاءُ، ولكلِّ واحدةٍ منكما مِلْؤُها. فأما الجنةُ فإن اللَّهَ يُنْشِئُ لها من خلقِه ما شاء. وأما النارُ فيُلْقَون فيها، وتقولُ: هل من مَزيدٍ؟ ويُلْقَون فيها، وتقولُ: هل من مزيدٍ؟ حتى يضَعَ فيها قدمَه، فهنالك
(3)
تُملَأُ، ويُزْوَى
(1)
أخرجه ابن حبان (7476)، واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (720) من طريق أحمد بن المقدام به.
(2)
أخرجه ابن أبي عاصم في السنة (533)، وابن خزيمة في التوحيد ص 64 من طريق المعتمر به
(3)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"فهناك".
بعضُها إلى بعضٍ، وتقول: قَطْ، قَطْ
(1)
.
حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن [أيوبَ، عن]
(2)
ابنِ سيرينَ، عن أبي هريرةَ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "احتجَّتِ الجنةُ والنارُ، فقالت الجنةُ:[يا ربِّ]
(3)
، ما لي لا يَدْخُلُني إِلَّا فقراءُ الناسِ؟ وقالت النارُ:[يا ربِّ]
(3)
ما لي لا يَدْخُلُني إلا الجبَّارون والمتكَبِّرون؟ فقال للنارِ: أنتِ عذابي أُصِيبُ بِكِ مَن أشاءُ، وقال للجنةِ: أنتِ رحمتي أُصِيبُ بكِ مَن أشاءُ، ولكل واحدةٍ منكما مِلؤُها
(4)
؛ فأما الجنةُ فإن اللَّه عز وجل يُنشِئُ لها ما شاءَ، وأما النارُ فيُلْقَونَ فِيها، وتقولُ: هل من مزيدٍ؟ حتى يضعَ قدمَه فيها، [هنالك تَمْتَلئُ]
(5)
، ويَنْزَوِي بعضُها إلى بعضٍ، وتقولُ: قَطْ، قَطْ، قَطْ
(6)
".
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، عن أنسٍ، قال: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لا يزالُ جهنمُ يُلْقَى فيها، وتقولُ: هل من مزيدٍ؟ حتى يَضَعَ ربُّ العالمين قدمَه، فيَنْزَوِيَ بعضُها إلى بعضٍ، وتقولُ: قَدْ، قَدْ، بعزتِك
(1)
أخرجه موقوفًا ابن خزيمة في التوحيد ص 62، والعقيلي 1/ 111، 112 من طريق محمد بن سيرين به، وأخرجه مرفوعا أحمد 16/ 346 (10588)، وابن خزيمة في التوحيد ص 61 من طريق هشام به.
(2)
في ص، م:"ثور، عن محمد"، وفي ت 2، ت 3:"ابن ثور، عن محمد".
(3)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3. وينظر مسند أحمد وسنن النسائي.
(4)
في الأصل: "أهلها".
(5)
في الأصل: "فتمتلئ".
(6)
سقط من: م. والحديث في جامع معمر (20894) - ومن طريقه مسلم (2846/ 34) - وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 238 - وعنه أحمد 13/ 150 (7718) - عن معمر به. وأخرجه ابن أبي عاصم في السنة (526)، والنسائي في الكبرى (11522) عن ابن عبد الأعلى به، وأخرجه البخاري (4849)، والدارمي في الرد على بشر المريسي ص 70، وابن خزيمة في التوحيد ص 61، 62، والطبراني في الأوسط (6837) من طريق محمد بن سيرين به وأخرجه ابن أبي شيبة 13/ 159، 160، والبخاري (4850، 7449)، وأبو يعلى (6290)، وابن حبان (7447)، والبيهقي في الأسماء والصفات (331)، وغيرهم من طرق عن أبي هريرة، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 107 إلى ابن المنذر وابن مردويه.
وكرمِك. ولا يزالُ في الجنةِ فضلٌ حتى يُنشِئَ اللَّهُ لها خَلْقًا، فيُسْكِنَهم فضلَ الجنَّةِ"
(1)
.
حدَّثنا ابنُ المثنى، قال: ثنا عبدُ الصمدِ، قال: ثنا أبانٌ العطارُ، قال: ثنا قتادةُ، عن أنسٍ، أن رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قال: "لا تزالُ جهنمُ تقولُ: هل من مزيدٍ؟ [فيقولُ لها ربُّ العالمين، فيضعُ]
(2)
فيها قدمَه، فيَنْزَوِيَ بعضُها إلى بعضٍ، فتقولَ: بِعزَّتِكَ قَطْ، قَطْ. وما يزالُ في الجنةِ فضلٌ حتى يُنْشِئَ اللَّهُ خَلْقًا فيُسْكِنَه في فُضولِ
(3)
الجنةِ"
(4)
.
حدَّثنا ابنُ المثنى، قال: ثنا عمرُو بنُ عاصمٍ الكلابيُّ، قال: ثنا المعتمرُ، عن أبيه، قال: ثنا قتادةُ، عن أنسٍ، قال: ما تزالُ جهنمُ تقولُ: هل من مزيدٍ؟ فذكَر نحوَه، غيرَ أنه قال: أو كما قال
(5)
.
حدَّثنا زيادُ بنُ أيوبَ، قال: ثنا عبدُ الوهابِ بنُ عطاءٍ الخفَّافُ، عن سعيدٍ، عن قتادةَ، عن أنسٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "احتجَّتِ الجنةُ والنارُ،
(1)
أخرجه البخاري (7384)، وابن أبي عاصم في السنة (531)، والنسائي في الكبرى (7725) من طريق يزيد به، وأخرجه أحمد 21/ 124 (13457)، ومسلم (2848/ 38)، وابن خزيمة في التوحيد ص 65، والخطيب في تاريخ بغداد 5/ 127 من طريق سعيد به.
(2)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"حتى يضع رب العالمين". وينظر مسند أحمد 19/ 428 (12440)
(3)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"فضل".
(4)
أخرجه ابن أبي عاصم في السنة (534)، وابن خزيمة في التوحيد ص 64 عن محمد بن المثنى به، وأخرجه أحمد 19/ 428، 429 (12440)، ومسلم (2848) من طريق عبد الصمد به، وأخرجه أحمد 19/ 373 (12380)، والدارمي في الرد على بشر المريسي ص 69، وابن خزيمة في التوحيد ص 64، 65 من طريق أبان العطار به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 107 إلى النسائي وابن مردويه.
(5)
أخرجه ابن خزيمة في التوحيد ص 64 عن محمد بن المثنى عن عقبة عن عمرو بن عاصم به، وأخرجه البخاري (7384) من طريق المعتمر به.
فقالت النارُ: يَدْخُلُني الجبَّارون والمتكبِّرون. وقالت الجنةُ: يَدْخُلُني الفقراءُ والمساكينُ. فأوحَى اللَّهُ إلى الجنةِ: أنتِ رحمتي، أُصِيبُ بِكِ مَن أشَاءُ، وأوحَى إلى النارِ: أنتِ عذابي، [أَنْتَقِمُ بك ممن شِئتُ]
(1)
، ولكلِّ واحدةٍ منكما مِلْؤُها. فأما النارُ فتقولُ: هل من مزيدٍ؟ حتى يَضَعَ قدمَه فيها، فتقولُ: قَطْ، قَطْ"
(2)
.
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: ففي قولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: "لا تزالُ جهنمُ تقولُ: هل من مزيدٍ". دليلٌ واضحٌ على أن ذلك بمعنى الاستزادةِ لا بمعنى النفيِ؛ لأن قولَه "لا تزالُ" دليلٌ على اتصالِ قولٍ بعدَ قولٍ.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤه: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يعني تعالى ذكرُه بقولِه: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ [غَيْرَ بَعِيدٍ]
(3)
}. وأدنِيَتِ الجنةُ وقرِّبت للذين اتَّقَوا ربَّهم، فخافوا عقوبتَه بأداء فرائضِه واجتنابِ معاصِيه.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ} . يقولُ: وأُدنِيَت، غيرَ بعيدٍ
(4)
.
وقولُه: {هَذَا مَا تُوعَدُونَ} . يقولُ: يُقالُ لهم: هذا الذي تُوعَدون أيُّها
(1)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"أصيب بك من أشاء".
(2)
أخرجه ابن خزيمة في التوحيد ص 65، والضياء في المختارة (2486) من طريق زياد به.
(3)
سقط من: الأصل.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 107 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر.
المتقون، أن تَدْخُلُوها وتَسْكُنوها. وقولُه:{لِكُلِّ أَوَّابٍ} . يَعْني: لكلِّ رجّاعٍ
(1)
من معصيةِ اللَّهِ إلى طاعتِه، تائبٍ من ذنوبِه.
وقد اختلَف أهلُ التأويلِ في معنى ذلك؛ فقال بعضُهم: هو المسبِّحُ
(2)
. وقال بعضُهم: هو التائبُ. وقد ذكَرْنا اختلافَهم في ذلك فيما مضَى بما أغنَى عن إعادتِه، غيرَ أنا نذكُرُ في هذا الموضعِ ما لم نَذْكُرْه هنالك
(3)
.
حدَّثني سليمانُ بنُ عبد الجبارِ، قال: ثنا محمدُ بنُ الصلتِ، قال: ثنا أبو كُدَينةَ، عن عطاءٍ، عن سعيدِ بنِ جُبَيرٍ، عن ابنِ عباسٍ:{لِكُلِّ أَوَّابٍ} . قال: لكلِّ مُسَبِّحٍ
(4)
.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا مِهرانُ، عن سفيانَ، عن مسلمٍ الأعورِ، عن مجاهدٍ، قال: الأوّابُ المسبِّحُ (2).
حدَّثنا الحسنُ بنُ عرفةَ، قال: ثنى يحيى بنُ عبد الملكِ بنِ أبي غَنِيَّةَ
(5)
، قال: ثنى أبي، عن الحكمِ بنِ عُتَيبةَ
(6)
في قولِ اللَّهِ: {لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ} . قال: هو الذاكرُ [اللَّهَ في الخلاءِ]
(7)
(8)
.
(1)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"راجع".
(2)
في الأصل، ت 2:"المسيح".
(3)
ينظر ما تقدم في 14/ 556 - 562.
(4)
في الأصل، ت 2:"مسيح". والأثر تقدم في 14/ 556، 557.
(5)
في ت 1، ت 2، ت 3:"عيينة".
(6)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"عيينة".
(7)
سقط من: ت 3.
(8)
ذكره القرطبي في تفسيره 17/ 20.
[حدَّثنا ابنُ حُمَيدٍ، قال: ثنا مهرانُ، عن سفيانَ، عن يونسَ بنِ خبابٍ
(1)
، عن مجاهدٍ:{لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ} . قال: الذي]
(2)
يَذْكُرُ ذنوبَه فيَسْتَغْفِرُ منها
(3)
.
[حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا مهرانُ، عن خارجةَ، عن عيسى الخياطِ
(4)
، عن الشعبيِّ، قال: هو الذي يَذْكُرُ ذنوبَه في خلاءٍ فيَسْتَغْفِرُ منها]
(5)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ} . أي
(6)
مُطِيعٍ للَّهِ كثيرِ الصلاةِ
(7)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ} . قال: الأوَّابُ: التوَّابُ، الذي يَئُوبُ إلى طاعةِ اللَّهِ، ويَرْجِعُ إليها
(8)
.
حدَّثنا ابنُ حُمَيدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن منصورٍ، عن يونسَ بنِ خبابٍ
(9)
في قولِه: {لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ} . قال: الرجلُ يَذْكُرُ ذنوبَه، فيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لها.
(1)
في الأصل، ص، ت 3:"حباب". ينظر تهذيب الكمال 32/ 503.
(2)
سقط من: ت 2.
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة 14/ 26، 27 من طريق يونس بن خباب به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 107 إلى ابن المنذر.
(4)
في ص، م:"الحناط" وكلاهما صواب، ينظر الطبقات الكبرى القسم المتمم ص 424.
(5)
سقط من: ت 3.
(6)
بعده في الأصل: "كل".
(7)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 108 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر. وينظر ما تقدم في 20/ 42.
(8)
تقدم في 20/ 43.
(9)
في ت 2: "حيان"، وفي ت 3:"حبان".
وقولُه: {حَفِيظٍ} . اختلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِه؛ فقال بعضُهم: حفِظ ذنوبَه حتى تاب منها.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابنُ حُمَيدٍ، قال: ثنا مهرانُ، عن أبي سنانٍ، عن أبي إسحاقَ، عن التميميِّ، قال: سألت ابنَ عباسٍ عن الأوابِ الحفيظِ، فقال: حفِظ ذنوبَه حتى رجَع عنها
(1)
.
وقال آخرون: معناه: أنه حفيظٌ على فرائضِ اللَّهِ وما ائتَمَنه عليه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{حَفِيظٍ} . قال: حفيظٍ لما استودَعه اللَّهُ من حقِّه ونعمتِه
(2)
.
وأولى الأقوالِ في ذلك بالصوابِ أن يُقالَ: إن اللَّهَ تعالى ذكرُه وصَف هذا التائبَ الأوّابَ بأنه حفيظٌ، ولم يُحصَرْ
(3)
به على
(4)
نوعٍ من أنواعِ الطاعاتِ دونَ نوعٍ، فالواجبُ أن يُعَمَّ كما
(5)
عمَّ جلَّ ثناؤُه، فيُقالَ: هو حفيظٌ لكلِّ ما قرَّبَه إلى ربِّه من الفَرائضِ والطاعاتِ، والذنوبِ التي سلَفَت منه للتوبةِ منها والاستغفارِ.
(1)
أخرجه البيهقي في الشعب (7193) من طريق مهران عن أبي سنان، عن أبي إسحاق، عن يحيى بن وثاب، عن ابن عباس، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 107 عن التميمي إلى المصنف والبيهقي في شعب الإيمان.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 108 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"يخص".
(4)
بعده في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"حفظ".
(5)
في الأصل: "كل".
وقولُه: {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} . يقولُ: مَن خاف اللَّهَ في الدنيا من قبلِ أن يَلْقاه، فأطاعَه واتَّبَع أمرَه.
وفي "مَن" التي
(1)
في قولِه: {مَنْ خَشِيَ} . وجهان من الإعرابِ؛ الخفضُ على إتْباعِه "كلّ" في قولِه: {لِكُلِّ أَوَّابٍ} . والرفعُ على الاستئنافِ، وهو مرادٌ به الجزاءُ:"مَن خشِي الرحمنَ بالغيبِ، قيل له ادخُلِ الجنةَ"؛ فيكونُ حينئَذٍ قولُه: {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ} . جوابًا للجزاءِ، أُضْمِر قبلَه القولُ، وجُعِل فعلًا للجميع؛ لأن "مَن" قد تكونُ في مذهبِ الجميعِ.
وقولُه: {وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} . يقولُ: وجاء اللَّهَ بقلبٍ تائبٍ من ذنوبِه، راجعٍ مما يَكْرَهُه اللَّهُ إلى ما يُرْضِيه.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} . أي مُنيبٍ إلى ربِّه مُقبِلٍ
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36)} .
يعني تعالى ذكرُه بقولِه: {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ} . ادخُلوا هذه الجنةَ بأمانٍ من الهمِّ والنصَبِ
(3)
والعذابِ وما كنتم تَلقَونه في الدنيا من المكارِه.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه: {ادْخُلُوهَا
(1)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(2)
تقدم تخريجه في 19/ 219.
(3)
في ص: "العضب"، وفي م، ت 1، ت 2، ت 3:"الغضب".
بِسَلَامٍ}. قال: سلِموا من عذابِ اللَّهِ، وسُلِّم عليهم
(1)
.
وقولُه: {ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ} . يقولُ: هذا الذي وصَفتُ لكم أيُّها الناسُ صفتَه من إدخالي الجنةَ مَن أُدخِلُه، هو يومُ دخولِ الناسِ الجنةَ، ماكِثين فيها إلى غيرِ نهايةٍ.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ} . خلَدوا واللَّهِ فلا يَموتُون، وأقاموا فلا يَظْعَنون، ونعِموا فلا يَبْأَسون
(2)
.
وقولُه: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا} . يقولُ: لهؤلاء المتقين ما يُرِيدون في هذه الجنةِ التي أُزْلِفت لهم - من كلِّ ما تَشْتَهيه نفوسُهم وتَلَذُّه
(3)
عيونُهم.
وقولُه: {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} . يقولُ: وعندَنا لهم على
(4)
ما أعطَيْناهم من هذه الكرامةِ التي وصَف جلَّ ثناؤُه صفتَها - مزيدٌ يزيدُهم إياه
(5)
. وقيل: إن ذلك المزيدَ النظرُ إلى وجهِ
(6)
اللَّهِ جل جلاله.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني أحمدُ بنُ سهيلٍ الواسطيُّ، قال: ثنا قرةُ بنُ عيسى، قال: ثنا النضرُ [بنُ عرَبيٍّ، حدَّثه]
(7)
عن أنسٍ: إن اللَّهَ إذا أسكَن أهلَ الجنةِ الجنةَ، وأهلَ النارِ
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 239 عن معمر، عن قتادة. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 108 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
ذكره السيوطي في الدر المنثور 6/ 108 إلى قوله: فلا يموتون. وعزاه إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
في الأصل: "تلذ".
(4)
سقط من: الأصل، ت 1.
(5)
في الأصل: "إياها".
(6)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(7)
في الأصل: "عن عدي حدثه"، وفي ص، م:"بن عربي جده"، وفي ت 1:"بن عربي عن جده"، وفي ت 2، ت 3:"بن عربي". ولعلها "عمن حدثه، عن أنس" فهو يروي عن أنس بواسطة. ينظر شعب الإيمان (649)
النارَ، هبَط إلى مَرْجٍ من الجنةِ أَفْيَحَ، فمدَّ بينَه وبينَ خلقِه حُجُبًا مِن لؤلؤٍ، وحُجُبًا من نورٍ، ثم وُضِعت منابرُ النورِ وسُرُرُ النورِ، وكراسيُّ النورِ، ثم أُذِن لرجلٍ على اللَّهِ، بينَ يديه أمثالُ الجبالِ من النورِ، يُسْمَعُ دوِيُّ تسبيحِ الملائكةِ معه، وصفقُ أجنحتِهم، فمدَّ أهلُ الجنةِ أعناقَهم، فقيل: مَن هذا الذي قد أُذِن له على اللَّهِ؟ فقيل: هذا المجبولُ
(1)
بيدِه، والمُعَلَّمُ الأسماءَ، والذي أُمِرت الملائكةُ فسجَدت له، والذي أُبيحت له الجنةُ؛ آدمُ
(2)
، قد أُذِن له على اللَّهِ تعالى. قال: ثم يُؤْذَنُ لرجلٍ آخرَ، بينَ يديه أمثالُ الجبالِ مِن النورِ، يُسْمَعُ دَوِيُّ تسبيحِ الملائكةِ معه، وصَفْقُ أجنحتِهم، فمدَّ أهلُ الجنةِ أعناقَهم، فقيل: مَن هذا الذي قد أُذِن له على اللَّهِ؟ فقيل: هذا الذي اتَّخذه اللَّهُ خليلًا، وجعَل عليه النارَ بردًا وسلامًا؛ إبراهيمُ، قد أُذِن له على اللَّهِ. قال: ثم أُذِن لرجلٍ آخرَ على اللَّهِ، بينَ يدَيْهِ أمثالُ الجبالِ من النورِ، يُسْمَعُ دوِيُّ تسبيحِ الملائكةِ معه، وصفقُ أجنحتِهم؛ فمدَّ أهلُ الجنةِ أعناقَهم، فقيل: مَن هذا الذي قد أُذِن له على اللَّهِ؟ فقيل: هذا الذي اصطَفاه اللَّهُ برسالتِه
(3)
، وقرَّبه نجِيًّا، وكلَّمه تكليمًا
(4)
؛ موسى، قد أُذِن له على اللَّهِ. قال: ثم يُؤْذَنُ لرجلٍ آخرَ، معه مثلُ جميعِ مواكبِ
(5)
النبيين قبلَه، بينَ يدَيْهِ أَمثالُ الجبالِ، من النورِ، يُسْمَعُ دويُّ تسبيحِ الملائكةِ معه
(6)
، وصَفْقُ أجنحتِهم؛ فمدَّ أهلُ الجنةِ أعناقَهم، فقيل: مَن هذا الذي قد أُذِن له على اللَّهِ؟ فقيل: هذا أوّلُ شافعٍ، وأوّلُ مُشَفَّعٍ، وأكثرُ الناسِ واردةً، وسيدُ ولدِ آدمَ، وأوّلُ مَن تَنْشَقُّ عن ذُؤابتِه الأرضُ، وصاحبُ لواءِ الحمدِ؛ أحمدُ صلى الله عليه وسلم، قد قد أُذِن له
(1)
في م: "المجعول"، وفي ت 1، ت 2، ت 3:"المحبول". والمجبول: المجتمع الخلق. النهاية 1/ 236.
(2)
بعده في الأصل: "و".
(3)
في الأصل: "لرسالته"، وفي ص، ت 1:"برسالاته".
(4)
في ص، ت 2، ت 3:"كلام"، وفي م، والدر المنثور:"كلاما".
(5)
في الأصل، ت 2، ت 3:"مراكب".
(6)
في الأصل: "معهم".
على اللَّهِ. قال: فجلَس النبيون على منابرِ النورِ، [والصدِّيقون على سُرُرِ النورِ، والشهداءُ على كراسيِّ النور]
(1)
، وجلس سائرُ الناسِ على كُثْبانِ المسكِ الأذْفَرِ الأبيضِ، ثم ناداهم الربُّ تعالى من وراءِ الحجُبِ: مرحبًا بعبادِي وزَوْرِي
(2)
وجيرَاني ووفدِي. يا
(3)
ملائكتي انهَضوا إلى عبادِي، فأطعِموهم. قال: فقُرِّبت إليهم من لحومِ طيرٍ، كأنها البختُ لا ريشَ
(4)
ولا عظمَ، فأكَلوا. قال: ثم ناداهم الربُّ من وراءِ الحُجُبِ: مرحبًا بعبادِي وزَوْرِي
(2)
وجيراني ووفدي، أكَلوا؟ اسقُوهم. قال: فنهَض إليهم غلمانٌ كأنهم اللؤلؤُ المكنونُ بأباريقِ الذهبِ والفضةِ، بأشربةٍ مختلفةٍ لذيذةٍ، لذةُ آخرِها كلذةِ أولِها، لا يُصَدَّعون عنها ولا يُنزِفون، ثم ناداهم الربُّ من وراءِ الحُجُبِ: مرحبًا بعبادِي وزَوْرِي
(2)
وجِيراني ووفدي، أَكَلوا وشرِبوا؟ فَكِّهوهم. قال: فقُرِّب إليهم على أطباقٍ مكللةٍ بالياقوتِ والمرجانِ، من الرطبِ الذي سمى اللَّه، أشدُّ بياضًا من اللبنِ، وأطيبُ عذوبةً من العسلِ. قال: فأكَلوا، ثم ناداهم الربُّ من وراءِ الحجبِ: مرحبًا بعبادِي وزَورِي
(5)
وجيراني، ووفدِي، أكَلوا وشرِبوا، وفَكِهوا؟ اكسُوهم. قال: فتفتحت لهم ثمارُ الجنةِ بحُللٍ مصقولةٍ بنورِ الرحمنِ فأُلْبِسُوها. قال: ثم ناداهم الربُّ تبارك وتعالى من وراءِ الحجبِ: مرحبًا بعبادِي وزَوْرِي
(5)
وجِيراني ووفدِي، أكَلوا وشرِبوا، وفكهوا، وكُسوا؟ طيِّبوهم. قال: فهاجَت عليهم ريحٌ، يُقالُ لها: المثيرةُ. بأنابيرِ
(6)
المسكِ الأبيضِ
(7)
الأذْفَرِ، فنفَحت
(1)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ت 3.
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"زواري". والزور: الزائر، وهو مصدر وضع موضع الاسم، وقد يكون "الزور" جمع "زائر". ينظر النهاية 2/ 318.
(3)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ت 3.
(4)
بعده في م: "لها".
(5)
في ت 1، ت 2، ت 3:"زواري".
(6)
في م، والدر:"بأباريق". والأنابير: جمع الجمع لـ "نِبْر"، وهي الأكداس. ينظر التاج (ن ب ر).
(7)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ت 3.
على وجوههم من غيرِ غبارٍ ولا قَتامٍ. قال: ثم ناداهم الربُّ عز وجل من وراءِ الحُجُبِ: مرحبًا بعبادِي وزَوري وجِيراني ووفدي، أكَلوا وشرِبوا، وفكِهوا، وكسُوا، وطُيِّبوا، وعزَّتي لأتَجَلَّين لهم حتى يَنْظُروا إليَّ. قال: فذلك انتهاءُ العطاءِ وفضلُ المزيدِ، قال: فتجَلَّى
(1)
لهم الربُّ، ثم قال: السلامُ عليكم عبادي، انظُروا إليَّ فقد
(2)
رَضِيتُ عنكم. قال: فتدَاعت قصورُ الجنةِ وشجرُها: "سبحانَك". أربعَ مراتٍ، وخرَّ القومُ سُجَّدًا؛ قال: فناداهم الربُّ تبارك وتعالى: عبادِي ارفَعوا رءوسَكم، فإنها ليست بدارِ عملٍ، ولا دارِ نصَبٍ، إنما هي دارُ جزاءٍ وثوابٍ، وعِزَّتي
(3)
ما خلَقتُها إلَّا من أجلِكم، وما من ساعةٍ ذكَرتُموني فيها في دارِ الدنيا، إلا ذكَرتُكم فوقَ عرشِي"
(4)
.
حدَّثنا عليُّ بنُ الحسينِ [بنِ الحُرِّ]
(5)
، قال: ثنا عمرُ بنُ يونسَ اليماميُّ، قال: ثنا جَهْضَمُ بنُ عبدِ اللَّهِ بنِ أبي الطُّفَيلِ، قال: ثنى أبو طَيْبةَ، عن معاويةَ العَبْسيِّ، عن عثمانَ بنِ عميرٍ، عن أنسِ بنِ مالكٍ، قال: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أتاني جبريلُ عليه السلام وفي كفِّه مِرْآةٌ بيضاءٌ، فيها نكتةٌ سوداءُ، فقلتُ: يا جبريلُ ما هذه؟ قال: هذه الجمعةُ. قلتُ: فما هذه النكتةُ السوداءُ فيها؟ قال: هي الساعةُ، تقومُ يومَ الجمعةِ، وهو سيدُ الأيامِ عندَنا، ونحنُ ندْعُوه في الآخرةِ يومَ المزيدِ. قلت: ولِمَ تَدْعُونَهُ
(6)
يومَ المزيدِ؟ قال: إن ربَّك تبارك وتعالى اتَّخَذ في الجنةِ وادِيًا أفيحَ من مسكٍ أبيضَ، فإذا كان يومُ الجمعةِ نزَل من علِيِّين على كُرْسِيِّه، ثم
(1)
في الأصل: "فيتجلى".
(2)
في الأصل: "فإني قد".
(3)
بعده في الأصل: "وجلالي".
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 108 إلى المصنف. قال ابن كثير في تفسيره 7/ 385: فيه غرائب كثيرة.
(5)
سقط من: ت 1، وفي م:"بن أبجر"، وفي ت 2:"بن أبحر"، وفي ت 3:"بن الحرث". ينظر تهذيب الكمال 20/ 379.
(6)
في م: "تدعون"، وفي ت 2، ت 3:"تدعوه".
حُفَّ الكُرْسِيُّ بمنابرَ من نورٍ، ثم جاء النبيون حتى يَجْلِسوا عليها، [ثم حُفَّ المنابرُ بكراسيَّ مِن ذهبٍ، ثم جاء الصدِّيقون والشهداءُ حتى يَجْلِسوا عليها]
(1)
ثم يَجِيءُ أهلُ الجنةِ حتى يَجْلِسوا على الكَثيبِ، فيتَجَلَّى لهم ربُّهم عز وجل، حتى يَنْظُروا إلى وجْهِهِ وهو يقولُ: أنا الذي صدَقتُكم عِدَتي، وأتممتُ عليكم نِعْمَتي، فهذا محلُّ كرامَتي، فسَلوني. فيَسْأَلونه الرِّضا، فيقولُ: رِضاي أَحَلَّكم داري، وأنالَكم كرامَتي، سَلوني. فيَسأَلونه حتى تَنْتَهِيَ رغبَتُهم، فيُفْتَحُ لهم عندَ ذلك ما لا عينٌ رأَت، ولا أذنٌ سمِعت، ولا خطَر على قلبِ بشرٍ - إلى مِقدَارِ مُنصَرَفِ الناسِ من الجمُعةِ، ثم
(2)
يَصْعَدُ على كرسِيِّهِ، فيَصْعَدُ معه الصدِّيقون والشهداءُ، ويَرْجِعُ أهلُ الجنةِ إلى غُرَفِهم درةً بيضاءَ، لا قَصْمَ
(3)
فيها ولا فَصْمَ، أو ياقوتةً حمراءَ، أو زبرجدةً خضراءَ منها غرفُها وأبوابُها، [مطردةً فيها أنهارُها، متدليةً فيها ثمارُها، فيها أزواجُها](1)، فليسوا إلى شيءٍ أحوج منهم إلى يومِ الجمعةِ، ليزدادوا منه كرامةً، وليَزْدادوا نظرًا إلى وجْهِهِ، ولِذلك دُعِيَ يومَ المزيدِ"
(4)
.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا [جريرٌ، عن ليثِ بنِ أبي سليمٍ، عن عثمانَ بنِ عميرٍ، عن أنسِ بنِ مالكٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، نحوَ حديثِ عليِّ بنِ الحسينِ]
(5)
(6)
.
(1)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(2)
في م: "حتى".
(3)
في ص، م، ت 2، ت 3:"نظم"، وفي ت 1:"خمر".
(4)
ذكره الزيلعي في تخريج الكشاف 4/ 16 عن المصنف، وأخرجه عبد الله بن أحمد في السنة (460)، والبزار (3519 - كشف)، والآجري (612)، والخطيب في الموضح 2/ 295 من طريق عمر بن يونس، عن جهضم، عن أبي طيبة، عثمان بن عمير به، ونص الخطيب على أن رواية جهضم بدون واسطة بين أبي طيبة وعثمان بن عمير، وأخرجه أيضًا في الموضح 2/ 296 من طريق أبي طيبة عن عاصم عن عثمان بن عمير عن أنس.
(5)
في ت 2، ت 3:"يزيد، قال: حدثنا سعيد عن قتادة بنحوه".
(6)
أخرجه الخطيب في الموضح 2/ 294 من طريق جرير به، وأخرجه ابن أبي شيبة 2/ 150، والدارمي في الرد على الجهمية ص 38، وابن أبي الدنيا في صفة الجنة (91)، والعقيلي 1/ 292، وابن منده في الرد على الجهمية (92)، وأبو نعيم في الحلية 7/ 263، والخطيب في الموضح 2/ 294 من طريق ليث به، وأخرجه =
حدَّثنا الربيعُ بنُ سليمانَ، قال: ثنا أسدُ بنُ موسى، قال: ثنا يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، [عن صالحِ بنِ حيَّانَ، عن ابنِ
(1)
بريدةَ، عن أنسِ بن مالكٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم بنحوه.
حدثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ]
(2)
، قال: ثنا ابنُ عليةَ، قال: أخبَرنا ابنُ عونٍ، عن محمدٍ، قال: حُدِّثنا - أو قال: قالوا - أن أدنى أهلِ الجنةِ منزلةً، الذي يُقالُ له تمَنَّ، ويُذَكِّرُه أصحابُه فيتَمَنَّى، ويُذَكِّرُه أصحابُه، فيُقالُ له: ذلك لك ومثلُه معه. قال ابنُ عمرَ: ذلك لك وعشرةُ أمثالِه، وعند اللَّهِ مزيدٌ.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: أخبَرنا عمرُو بنُ الحارثِ، أن درَّاجًا أبا السمحِ حدَّثه عن أبي الهيْثَمِ، عن أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ، أنه قال عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إن الرجلَ في الجنةِ ليتَّكِئُ سبعين سَنَةً قبلَ أن يَتَحَوَّلَ، ثم تَأْتِيهِ امرأةٌ
(3)
فتَضْرِبُ على مَنْكِبَيْهِ
(4)
، فيَنْظُرُ وجهَه في خَدِّها أصفى من المرآةِ، وإن أدنى لؤلؤةٍ عليها لَتُضِيءُ ما بينَ المشرِقِ والمغربِ - فَتُسَلِّمُ عليه، فيَرُدُّ السلامَ، ويَسْأَلُها: مَن أنتِ؟ فتَقُولُ: أنا من المزيدِ. وإنه ليَكُونُ عليها سبعون ثوبًا أدناها مثلُ النعمانِ من طُوبى فيَنْفُذُها بصرَه، حتى يَرَى مخَّ ساقِها من وراءِ ذلك، وإن عليهم
(5)
التِّيجانُ، وإن أدنى لؤلؤةٍ فيها
(6)
لتُضِيءُ ما بينَ المشرِقِ والمغرِبِ"
(7)
.
= الشافعي في مسنده (374)، وأبو يعلى (4228)، والطبراني في الأوسط (6717)، والخطيب في الموضح 2/ 295 من طرق أخرى عن أنس، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 108 إلى ابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في الرؤية وأبي نصر السجزي في الإبانة.
(1)
في م، ت 2، ت 3:"أبي". ينظر تهذيب الكمال 14/ 328.
(2)
سقط من: الأصل.
(3)
في ص، م، ت 1، ومسند أحمد:"امرأته".
(4)
في الأصل، ت 1، ص:"منكبه".
(5)
في م، ومسند أحمد:"عليها من"، وفي مسند أبي يعلى:"عليهن".
(6)
في الأصل: "منها". وفيها، أي: في التيجان.
(7)
أخرجه ابن حبان (7397) من طريق عبد الله بن وهب به، وأخرجه أحمد 18/ 243 (11715)، =
وقولُه: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مَن قَرْنٍ} . يقولُ تعالى ذكرُه: وكثيرًا أهلَكْنا قبلَ هؤلاء المشرِكين من قريشٍ من القرونِ، هُم أَشَدُّ من قريشٍ الذين كذَّبوا محمدًا بَطشَا {فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ}. يقولُ: فخرَقوا
(1)
في البلادِ فساروا فيها، وطافوا وتوغَّلوا إلى الأقاصِي منها؛ قال امرُؤُ القَيسِ
(2)
:
[لقد نقَّبتُ]
(3)
في الآفاقِ حتى
…
رَضِيتُ من الغنيمةِ بالإيابِ
وبنحو الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابنِ عباسٍ:{فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ} . قال: أثَّروا
(4)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ
(5)
، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ} . [قال: ضرَبوا في البلادِ
(6)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ} ]
(7)
. قال: يقولُ: عمِلوا في البلادِ، ذاك النقبُ
(8)
.
= وأبو يعلى (1386) من طريق دراج به.
(1)
في ت 1، ت 3:"فخربوا"، وفي ت 2:"تحزبوا".
(2)
ديوانه ص 99.
(3)
في الديوان: "وقد طوفت".
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 109 إلى المصنف وابن المنذر.
(5)
في الأصل: "صالح".
(6)
تفسير مجاهد ص 615، ومن طريقه الفريابي - كما في تغليق التعليق 4/ 317.
(7)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(8)
بعده في م: "ذكر من قال ذلك".
وقولُه: {هَلْ مِن مَحِيصٍ} . يقولُ جلَّ ثناؤُه: فهل كان لهم بتنقيبهم
(1)
في البلادِ من مَعْدِلٍ عن الموتِ، ومَنْجًى من الهلاكِ إذ جاءهم أمرُنا؟ وأُضمِرت "كان" في هذا الموضعِ، كما أُضْمِرت في قولِه:{وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ} [محمد: 13]. بمعنى: فلم يَكُنْ لهم ناصرٌ عندَ إهلاكِناهم. وقرَأت القرأةُ قولَه: {فَنَقَّبُوا} . بالتشديدِ وفتحِ القافِ، على وجهِ الخبرِ عنهم. وذُكِر عن يحيى بنِ يَعْمَرَ أنه كان يَقْرَأُ ذلك:(فَنَقِّبُوا) بكسرِ القافِ
(2)
على وجهِ [الأمرِ، بمعنى]
(3)
التهديدِ والوعيدِ. أي: طُوفوا في البلادِ وتردَّدوا فيها، فإنكم لن تَفُوتُونا بأنفسِكم.
وبنحوِ الذي قلْنا في تأويلِ قولِه: {مِنْ مَحِيصٍ} . قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ} ، حتى بلَغ:{هَلْ مِنْ مَحِيصٍ} . قد حايَص
(4)
الفجَرةُ، فوجَدوا أمرَ اللَّهِ منيعًا
(5)
.
حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ في قولِه:{فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ} . قال: حاص أعداءُ اللَّهِ، فوجَدوا أمرَ اللَّهِ لهم مُدْرِكًا
(6)
.
(1)
في م: "بتنقبهم".
(2)
وهي قراءة شاذة، ينظر البحر المحيط 8/ 129.
(3)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(4)
في م: "حاص".
(5)
في م: "متبعا"، وفي ت 1:"ننعا"، وفي ت 3:"نسا".
(6)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 239 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 109 إلى ابن المنذر.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {هَلْ مِنْ مَحِيصٍ} . قال: هل من مَنجًى.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه: إن في إهلاكِنا القرونَ التي أهلَكْناها مِن قبلِ قريشٍ، {لَذِكْرَى} يُتَذَكَّرُ بها، {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ}. يعني: لمن كان له عقلٌ من هذه الأمة، فيَنْتَهِي عن الفعلِ الذي كانوا يَفْعَلونه، من كفرِهم بربِّهم، خوفًا من أن يَحُلَّ بهم مثلُ الذي حلَّ بهم من العذابِ.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} . أي من هذه الأمةِ، يعني بذلك القلبِ القلبَ الحيَّ.
حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادة:{لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} . قال: مَن كان له قلبٌ من هذه الأمةِ
(1)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} . قال: قلبٌ يَعْقِلُ ما قد سمِع من الأحاديثِ التي عذَّب
(2)
اللَّهُ بها مَن عصاه من الأممِ.
والقلبُ في هذا الموضعِ العقلُ، وهو من قولِهم: ما لفلانٍ قلبٌ. و: ما قلبُه
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 239 عن معمر به.
(2)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"ضرب".
معه. أي: ما عقلُه معه. و: أين ذهَب قلبُك؟ يعني: أين ذهَب عقلُك؟
وقولُه: {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} . يقولُ: أو أَصْغَى لإخبارِنا إيَّاه عن هذه القرونِ التي أهلَكْناها بسمعِه، فيَسْمَعُ الخبرَ عنهم، كيفَ فَعَلْنا بهم، حينَ كفَروا بربِّهم، وعصَوْا رسلَه، {وَهُوَ شَهِيدٌ}. يقولُ: وهو مُتَفهِّمٌ لما يُخْبَرُ به عنهم، شاهدٌ له بقلبِه، غيرُ غافلٍ عنه ولا ساهٍ.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ، وإن اختلَفت ألفاظُهم فيه.
ذكرُ [ما قالوا في]
(1)
ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ
(2)
قولَه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} . يقولُ: إن استمَع الذكرَ وشهِد أمرَه، فإن
(3)
في ذلك [تجربةً لمن]
(4)
عقِله.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه: {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ [وَهُوَ شَهِيدٌ]
(5)
}. قال: وهو لا يُحَدِّثُ نفسَه، شاهدُ القلبِ
(6)
.
حدِّثتُ عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ، يقولُ: أخبَرنا عبيدٌ، قال:
(1)
في ص، م، ت 1، ت 3:"من قال".
(2)
في الأصل: "مسعود".
(3)
في ص، م، ت 2، ت 3:"قال".
(4)
في م، ت 3:"يجزيه إن"، وفي ت 2:"يحزمه إن".
(5)
سقط من: ص، م، ت 2.
(6)
تفسير مجاهد ص 615، ومن طريقه الفريابي - كما في تغليق التعليق 4/ 317.
سمِعتُ الضحاكَ يقولُ في قوله: {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} . قال: العربُ تقولُ: ألقَى فلانٌ سمعَه، أي: استمع بأذنَيْهِ، وهو شاهدٌ، يقول: غيرُ غائبٍ
(1)
.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا مهرانُ، عن سفيانَ:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} . قال: يَسْمَعُ ما يقولُ، وقلبُه في غيرِ ما يَسْمَعُ.
وقال آخرون: عَنَى بالشهيدِ في هذا الموضعِ الشهادةَ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} . يعني بذلك أهلَ الكتابِ، وهو شهيدٌ على ما يَقْرَأُ في كتابِ اللَّهِ من بَعْثِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم.
حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ} . [قال: هو رجلٌ مِن أهلِ الكتابِ استمَع إلى القرآنِ]
(2)
، {وَهُوَ شَهِيدٌ} على ما في يده من كتابِ اللَّهِ، أنه يَجِدُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم مكتوبًا
(3)
.
حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، قال: قال معمرٌ: وقال الحسنُ: هو منافقٌ استمَع
(4)
ولم يَنْتَفِعْ
(3)
.
حدَّثنا أحمدُ بنُ هشامٍ، قال: ثنا عبيدُ اللَّهِ بنُ موسى، قال: أخبَرنا إسرائيلُ، عن السديِّ، عن أبي صالحٍ في قولِه:{أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} .
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 386.
(2)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 239 عن معمر به.
(4)
بعده في م، ت 2، ت 3:"القول".
قال: المؤمنُ يَسْمَعُ القرآنَ، وهو شهيدٌ على ذلك
(1)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} . قال: ألقَى السمعَ فسمِع ما قد كان مما لم يُعَايِنْ من الأحاديثِ عن الأممِ التي قد مضَت، كيفَ عذَّبهم اللَّهُ وصنَع بهم حينَ عصَوا رسلَه.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه: ولقد خلَقْنا السماواتِ السبعَ والأرضَ وما بينهما من الخلائقِ في ستةِ أيامٍ، وما مسَّنا
(2)
من إعياءٍ.
كما حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا مهرانُ، عن أبي سنانٍ، عن أبي بكرٍ قال: جاء اليهودُ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا محمدُ أَخْبِرْنا ما خلَق اللَّهُ من الخلقِ في هذه الأيامِ الستةِ؟ فقال: "خلَق اللَّهُ الأرضَ يومَ الأحدِ والاثنين، وخلَق الجبالَ يومَ الثلاثاءِ، وخلَق المدائنَ والأقواتَ والأنهارَ وعمرانَها وخرابَها يومَ الأربِعاءِ، وخلَق السماواتِ والملائكةَ يومَ الخميسِ، إلى ثلاثِ ساعاتٍ؛ يَعْني من يومِ الجمعةِ، وخلَق في أولِ الثلاثِ الساعاتِ الآجالَ، وفي الثانيةِ الآفةَ، وفي الثالثةِ آدمَ". قالوا: صدَقتَ إن أتممتَ. فعرَف النبيُّ صلى الله عليه وسلم ما يُرِيدون، فغضِبَ، فأنزَل اللَّهُ:{وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} .
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا مهرانُ، عن سفيانَ:{وَمَا مَسَّنَا مِن لُغُوبٍ} .
(1)
ذكره القرطبي في تفسيره 17/ 23 بمعناه.
(2)
بعده في الأصل: "من لغوب".
قال: من سآمةٍ.
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} . يقولُ: من إزحافٍ
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} . يقولُ: وما مسَّنا من نَصَبٍ
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} . قال: نَصَبٍ
(3)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ [وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} ]
(4)
. أكذَب اللَّهُ اليهودَ والنصارى وأهلَ الفِرَى على اللَّهِ؛ وذلك أنهم قالوا: إن اللَّهَ خلَق السماواتِ والأرضَ في ستةِ أيامٍ ثم استراح يومَ السابعِ، وذلك عندَهم يومُ السبتِ، وهم يُسَمُّونه يومَ الراحةِ.
حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ في قولِه:{مِنْ لُغُوبٍ} . قالت اليهودُ: إن اللَّهَ خلَق السماواتِ والأرضَ
(1)
أزحف البعير: أعيا. والإزحاف: الإعياء. التاج (ز ح ف).
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 110 إلى المصنف.
(3)
تفسير مجاهد ص 615، ومن طريقه الفريابي - كما في تغليق التعليق 4/ 317 - والبيهقي في الأسماء والصفات (766).
(4)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"الآية".
في ستةِ أيامٍ، ففرَغ من الخلقِ يومَ الجمعةِ واستراح يومَ السبتِ. فأكذَبهم اللَّهُ، وقال:{وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ}
(1)
.
حدِّثت عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبَرنا عبيدٌ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} . كان مقدارُ كلِّ يومٍ ألفَ سنةٍ مما تَعُدُّون.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} . قال: لم يَمَسَّنا في ذلك عناءٌ؛ ذلك اللغوبُ.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: فاصبِرْ يا محمدُ على ما يقولُ
(2)
هؤلاء اليهودُ
(3)
، وما يَفْتَرون على اللَّهِ، وما يَكْذِبون عليه، فإن اللَّهَ لهم بالمِرْصادِ، {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ}. يقولُ: وصلِّ بحمدِ ربِّك صلاةَ الصبحِ قبلَ طلوعِ الشمسِ، وصلاةَ العصرِ قبلَ الغروبِ.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ} لصلاةِ الفجرِ، {وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [طه: 130]: العصرُ
(4)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} قبلَ طلوعِ الشمسِ: الصبحُ، وقبلَ
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 239 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 110 إلى ابن المنذر.
(2)
في ت 2، ت 3:"يقولون".
(3)
بعده في الأصل: "ذلك".
(4)
ذكره الطوسي في التبيان 9/ 373 أبو حيان في البحر المحيط 8/ 129.
الغروبِ: العصرُ
(1)
.
وقولُه: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ} . اختلَف أهلُ التأويلِ في التسبيحِ الذي أُمِر به من الليلِ؛ فقال بعضُهم: عُنِي به صلاةُ العَتَمةِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَمِنَ اللَّيْلِ} . قال: العَتَمةِ
(2)
.
وقال آخرون: هي الصلاةُ بالليلِ في أيِّ وقتٍ صلَّى.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمارةَ الأسديُّ، قال: ثنا عبيدُ اللَّهِ بنُ موسى، قال: أخبَرنا إسرائيلُ، عن أبي يحيى، عن مجاهدٍ:{وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ} . قال: من الليلِ كلِّه
(3)
.
والقولُ الذي قاله مجاهدٌ في ذلك أقربُ إلى الصوابِ، وذلك أن اللَّهَ تعالى قال:{وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ} . فلم يَحُدَّ وقتًا من الليلِ دونَ وقتٍ. وإذا كان ذلك كذلك، كان على جميعِ ساعاتِ الليلِ. وإذا كان الأمرُ في ذلك على ما وصَفْنا، فهو بأن يكونَ أمرًا بصلاةِ المغربِ والعشاءِ، أشبهُ منه بأن يكونَ أمرًا بصلاةِ العَتَمةِ؛ لأنهما يُصَلَّيان ليلًا.
وقولُه: {وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} . يقولُ: وسَبِّحْ بحمدِ ربِّك أدبارَ السجودِ
(1)
ذكره الطوسي في التبيان 9/ 373، وأبو حيان في البحر المحيط 8/ 129.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 110 إلى المصنف، وذكره الطوسي في التبيان 9/ 373.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 110 إلى المصنف.
مِن صلاتِك.
واختلَف أهلُ التأويلِ في معنى التسبيحِ الذي أمَر اللَّهُ نبيَّه أن يُسَبِّحَه أدبارَ السجودِ؛ فقال بعضُهم: عُنِي به الصلاةُ، قالوا: وهما الركعتانِ اللتانِ يُصَلَّيان بعدَ صلاةِ المغربِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا حكَّامٌ، قال: ثنا عنبسةُ، عن أبي إسحاقَ، عن الحارثِ، قال: سألتُ عليًّا عن أدبارِ السجودِ فقال: الركعتانِ بعدَ المغربِ
(1)
.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابنُ عليةَ، قال: ثنا ابنُ [أبي نجيحٍ]
(2)
، عن مجاهدٍ، قال: قال عليٌّ: {وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} : الركعتانِ بعدَ المغربِ.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا مصعبُ بنُ سلامٍ، عن الأجلحِ
(3)
، عن أبي إسحاقَ، عن الحارثِ، قال: سمِعتُ عليًّا يقولُ: {وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} : الركعتان بعدَ المغربِ.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا سفيانُ، عن أبي إسحاقَ، عن الحارثِ، عن عليٍّ في قولِه:{وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} . قال: الركعتان بعدَ المغربِ.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا يحيى، قال: ثنا سفيانُ، عن أبي إسحاقَ
(4)
، عن
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة 2/ 523، وتفسير مجاهد ص 616 من طريق أبي إسحاق به.
(2)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"جريج". وينظر ما سيأتي في ص 473.
(3)
في ت 1: "الأشج". ينظر تهذيب الكمال 28/ 28.
(4)
بعده في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"عن الحارث". وينظر مصدرا التخريج.
عاصمِ بنِ ضمرةَ، عن الحسنِ بنِ عليٍّ رضي الله عنهما، قال:{وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} : الركعتان بعدَ المغربِ
(1)
.
حدَّثني عليُّ بنُ سهلٍ الرمليُّ، قال: ثنا مُؤَمَّلٌ، قال: ثنا حمادٌ، قال: ثنا عليُّ بن زيد، عن أوسِ بنِ خالدٍ، عن أبي هُريرةَ قال:{وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} : ركعتان بعدَ صلاةِ المغربِ
(2)
.
[حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا]
(3)
سفيانُ، عن علوانَ بنِ أبي مالكٍ، عن الشعبيِّ قال:{وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} : الركعتان بعدَ المغربِ
(4)
.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا مهرانُ، عن سفيانَ، عن جابرٍ، عن عكرمةَ، عن ابنِ عباسٍ وإبراهيمَ بنِ مهاجرٍ، عن مجاهدٍ:{وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} : الركعتان بعدَ المغربِ.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن إبراهيمَ بنِ مهاجرٍ، عن إبراهيمَ، مثلَه
(4)
.
حدَّثنا ابنُ المثنى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن إبراهيمَ بن مهاجرٍ، عن إبراهيمَ في هذه الآيةِ:{وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} {وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} [الطور: 49]، قال: الركعتان قبلَ الصبحِ، والركعتان بعدَ المغربِ، قال شعبةُ: لا أدري أيَّتُهما أدبارُ السجودِ، ولا أدري أيَّتُهما إدبارُ النجومِ.
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة 2/ 523 عن يحيى به، وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 240 من طريق أبي إسحاق به.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة 2/ 523 من طريق حماد به.
(3)
في الأصل: "حدثنا ابن حميد، قال حدثنا مهران، عن".
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة 2/ 523 عن عبد الرحمن به.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} . قال: كان مجاهدٌ يقول: ركعتان بعدَ المغربِ
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ في قولِه:{وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} . قال: هما السجدتانِ بعدَ صلاةِ المغربِ
(2)
.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا ابنُ
(3)
فضيلٍ، عن رِشْدِينَ بنِ كريبٍ، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ قال: قال لي رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يا ابنَ عباسٍ، ركعتانِ بعدَ المغرب: أدبارُ السجودِ"
(4)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عبدِ اللَّهِ بنِ عبدِ الحكمِ، قال: أخبَرنا أبو زُرْعةَ وهبُ
(5)
اللَّهِ بنُ راشدٍ، قال: أخبَرنا حيوةُ بنُ شريحٍ، قال: أخبَرنا أبو صخرٍ، أنه سمِع أبا معاويةَ البجليَّ من أهلِ الكوفةِ يقولُ: سمعتُ أبا الصهباءِ البكريَّ يقولُ: سألتُ عليَّ بنَ أبي طالبٍ رضي الله عنه عن: {وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} . قال: هما ركعتان بعدَ المغربِ.
حدَّثني سعيدُ بنُ عمرٍو
(6)
السَّكونيُّ، قال: ثنا بقيةُ، قال: ثنا جريرٌ
(7)
، قال:
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 110 إلى المصنف.
(2)
ذكره القرطبي في تفسيره 17/ 25 عن العوفي به.
(3)
في م، ت 2، ت 3:"أبو". ينظر تهذيب الكمال 26/ 293.
(4)
أخرجه الترمذي (3275)، وابن أبي حاتم - كما في تفسير ابن كثير 7/ 387 - والطبراني في الأوسط (7458)، والحاكم 1/ 320 من طريق ابن فضيل به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 110 إلى ابن مردويه.
(5)
في م: "وهبة". وفي ت 2، ت 3:"وعبد". وينظر ما تقدم في 5/ 131.
(6)
في الأصل: "عوف". ينظر تهذيب الكمال 11/ 17.
(7)
في ت 2: "جويبر".
[ثنى يزيدُ بنُ خُمَيرٍ]
(1)
الرَّحْبيُّ، عن كُرَيبِ بنِ يزيدَ الرَّحْبيِّ - قال: وكان جُبَيرُ بنُ نفيرٍ يَمْشِي إليه - قال: كان إذا صلَّى الركعتين قبلَ الفجرِ، والركعتين بعدَ المغربِ أخفَّ، وفسَّر إدبارَ النجومِ، وأدبارَ السجودِ
(2)
.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا مهرانُ، عن عيسى بنِ يزيدَ، عن أبي إسحاقَ الهَمْدانيِّ، عن الحسنِ {وَأَدْبَارَ السُّجُودِ}: الركعتان بعدَ المغربِ
(3)
.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا حكَّامٌ، قال: ثنا عنبسةُ، عن المُغيرةِ، [عن إبراهيمَ]
(4)
، قال: كان يُقالُ: أدبارُ السجودِ الركعتان بعدَ المغربِ.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا حكامٌ، عن عنبسةَ، عن إبراهيمَ بنِ مهاجرٍ، عن مجاهدٍ:{وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} : الركعتان بعدَ المغربِ.
[قال: ثنا جريرٌ، عن عطاءٍ، قال: قال عليٌّ: {وَأَدْبَارَ السُّجُودِ}: الركعتان بعدَ المغربِ]
(4)
.
حدَّثنا ابنُ البرقيِّ، قال: ثنا عمرُو بنُ أبي سلمةَ، قال: سُئل الأوْزاعيُّ عن الركعتين بعدَ المغربِ، قال: هما في كتابِ اللَّهِ: {فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ}
(3)
.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا ابنُ أبي عديٍّ، عن حميدٍ، عن الحسنِ، عن عليٍّ رضي الله عنه في قولِه:{وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} . قال: الركعتان بعدَ المغربِ.
حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ: {وَأَدْبَارَ
(1)
في ص، م، ت 1:"حمير بن يزيد". وفي ت 2، ت 3:"عمر بن يزيد". ينظر تهذيب الكمال 22/ 116.
(2)
عزاه الحافظ في الفتح 8/ 598 إلى المصنف.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 110 إلى المصنف.
(4)
سقط من: الأصل.
السُّجُودِ}. قال: ركعتان بعدَ المغربِ
(1)
.
وقال آخرون: عُنِي بقولِه: {وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} : التسبيحُ في أدبارِ الصلواتِ المكتوباتِ، دونَ الصلاةِ بعدَها.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا ابنُ عليةَ، قال: ثنا ابنُ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، قال: قال ابنُ عباسٍ في: {فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} . قال: هو التسبيحُ بعدَ الصلاةِ
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ جميعًا، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} . قال: كان ابنُ عباسٍ يقولُ: التسبيحُ. قال ابنُ عمرٍو
(3)
في حديثِه: في إثرِ الصلواتِ كلِّها. وقال الحارثُ في حديثِه: في دُبرِ الصلاةِ كلِّها
(4)
.
وقال آخرون: هي النوافلُ في أدبارِ المكتوباتِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني
(5)
يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} : النوافلَ
(6)
.
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 240 عن معمر به.
(2)
ذكره الحافظ في الفتح 8/ 598 عن ابن علية به، وعزاه إلى المصنف.
(3)
في الأصل: "عمر".
(4)
تفسير مجاهد ص 616، ومن طريقه البخاري (4852)، وهو في مختصر قيام الليل لابن نصر ص 86، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 110 إلى ابن أبي حاتم وابن نصر وابن مردويه.
(5)
في ص، م، ت 2، ت 3:"حدثنا بشر، قال: ثنا"، وفي ت 1:"حدثنا بشر، قال ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: ثنا".
(6)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 110 إلى المصنف.
وأولى الأقوالِ في ذلك بالصحةِ قولُ مَن قال: هما الركعتانِ بعدَ المغربِ؛ لإجماعِ الحجةِ من أهلِ التأويلِ على ذلك، ولولا ما ذكَرتُ من إجماعِها عليه، لرأَيتُ أن القولَ في ذلك ما قاله ابنُ زيدٍ؛ لأن اللَّهَ جلَّ ثناؤُه لم يَخْصُصْ بذلك صلاةً دونَ صلاةٍ، بل عمَّ أدبارَ الصلواتِ كلِّها، فقال:{وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} . ولم تَقُمْ
(1)
بأنه معنِيٌّ به دُبُرُ صلاةٍ دونَ صلاةٍ - حجةٌ يَجِبُ التسليمُ لها من خبرٍ ولا عقلٍ.
واختلَفت القرَأةُ في قراءةِ قولِه: {وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} . فقرَأته عامةُ قرَأةِ الحجازِ والكوفةِ، سوى عاصمٍ والكسائيِّ:(وإدْبارَ السُّجُودِ) بكسر الألفِ، على أنه مصدرٌ من أدبَر يُدْبِرُ إدبارًا. وقرَأه عاصمٌ والكسائيُّ وأبو عمرٍو (وأدْبارَ) بفتحِ الألفِ، بمعنى
(2)
جمعِ دُبُرٍ وأدبارٍ
(3)
.
والصوابُ عندى الفتحُ، على جمعِ دُبُرٍ
(4)
.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42)} .
قال أبو جعفر رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: واسْتَمِع يا محمدُ صيحةَ يومِ القيامةِ، يومَ ينادِي بها مُناديها
(5)
من موضعٍ قريبٍ.
وذُكِر أنه يُنادِي بها من صخرةِ بيتِ المقدسِ.
(1)
في الأصل: "يعم".
(2)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"على مذهب".
(3)
قرأ المدنيان وابن كثير وحمزة وخلف بكسر الهمزة، والباقون بفتحها. النشر 2/ 281.
(4)
القراءتان كلتاهما صواب، قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرأة. وينظر النشر 2/ 281.
(5)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"منادينا".
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليُّ بنُ سهلٍ، قال: ثنا الوليدُ بنُ مسلمٍ، عن سعيدِ بنِ بشيرٍ
(1)
، عن قتادةَ، عن كعبٍ، قال:{وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} . قال: مَلكٌ قائمٌ على صخرةِ بيتِ المقدسِ ينادِي: أيتها العظامُ الباليةُ والأوصالُ المتقطعةُ، إن اللَّهَ يأمرُكُنَّ أن تجتَمِعن لفصْلِ القضاءِ
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} . قال: كنَّا نُحدَّثُ أنَّه ينادِي من بيتِ المقدسِ من الصخرةِ، وهي أوسطُ الأرضِ، وحُدِّثنا أن كعبًا قال: هي أقربُ الأرضِ إلى السماءِ بثمانيةَ عشرَ مِيلًا
(3)
.
حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} . قال: بلَغني أنَّه ينادِي من الصخرةِ التي في بيتِ المقدِس
(4)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} . قال: هي الصيحةُ (2).
حدَّثني عليُّ بنُ سهلٍ، قال: ثنا الوليدُ بنُ مسلمٍ، قال: ثنى بعضُ أصحابِنا،
(1)
في م، ت 2، ت 3:"بشر". ينظر تهذيب الكمال 10/ 348.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 110 إلى المصنف.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 111 إلى المصنف وابن أبي حاتم والواسطي.
(4)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 240 عن معمر به.
عن الأغرِّ، عن مسلمِ
(1)
بنِ حيانَ، عن ابن يُرَيدةَ، عن أبيه بُرَيدةَ، قال: ملَكٌ قائمٌ على صخرةِ بيتِ المقدسِ، واضعٌ أُصْبُعَيْه في أُذنَيهِ ينادِي. قال: قلتُ: بماذا ينادِي؟ قال: يقولُ: يا أيها الناسُ هلُمُّوا إلى الحسابِ. قال: فيُقبِلُون كما قال اللَّهُ: {كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ}
(2)
[القمر: 7].
وقولُه: {يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ} . يقولُ تعالى ذكرُه: يومَ يسمعُ الخلائقُ صيحةَ البعثِ من القبورِ بالحقِّ، يعني بالأمرِ بالإجابةِ للَّهِ إلى موقفِ الحسابِ.
وقولُه: {ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} . يقولُ: ذلك يومُ خروجِ أهلِ القبورِ من قبورِهم.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه: إنّا نحن نُحيي الموتَى ونميتُ الأحياءَ، وإلينا مصيرُ جميعِهم يومَ القيامةِ،
{يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا} . يقولُ جلّ ثناؤُه: وإلينا مصيرُهم يومَ تَشَقَّقُ الأرضُ، فـ "اليومَ" من صلةِ "مصير".
[وقولُه: {تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا}. يقولُ: تصَدَّعُ الأرضُ عنهم]
(3)
. وقوله: {سِرَاعًا} . ونصَب {سِرَاعًا} على الحالِ مِن الهاءِ والميمِ في قولِه: {عَنْهُمْ} . والمعنى: يومَ تَشَقَّقُ الأرضُ عنهم، فيخرجون منها سِراعًا
(4)
،
(1)
في الأصل: "سليمان".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 111 إلى المصنف.
(3)
سقط من: الأصل.
(4)
سقط من: الأصل.
فاكتفى بدلالة قولِه: {يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ} . على ذلك من ذكرِه.
وقولُه: {ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ} . يقولُ: جَمعُهم ذلك [جمعٌ في موقفِ الحسابِ]
(1)
، علينا سهلٌ يسيرٌ.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه: نحن، يا محمدُ، أعلمُ بما يقولُ هؤلاءِ المشركون باللَّهِ من فِريتِهم على اللَّهِ، وتكذيبِهم بآياتِه، وإنكارِهم قُدرةَ اللَّهِ على البعثِ بعدَ الموتِ، {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ}. يقولُ: وما أنت عليهم بمسلَّطٍ.
كما حدَّثني محمدُ بن عمرٍو*، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} . قال: لا تتجَبَّرْ عليهم
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} : فإن اللَّهَ عز وجل كَرِه الجَبريَّةَ، ونهَى عنها، وقدَّم فيها
(3)
.
وقال الفرّاءُ
(4)
: وضَع الجبارَ في موضعِ السلطانِ من الجَبريةِ. وقال: أنشَدني المفضّلُ:
ويَوْمَ الحَزْنِ إِذْ حَشَدَتْ مَعَدٌّ
…
وكان النّاسُ إلا نحن دِينا
(1)
في ت 1: "في يوم الحساب وموقفه".
* من هنا خرم في مخطوط جامعة القرويين المشار إليه بالأصل وينتهي في ص 500.
(2)
تفسير مجاهد ص 616، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 111 إلى ابن المنذر.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 111 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر.
(4)
معاني القرآن 3/ 81.
عصَيْنَا عَزْمَةَ الجَبَّارِ حتَّى
…
صَبَحْنا الجَوْفَ أَلْفًا مُعْلمِينا
ويُرْوَى: "الخوف". وقال: أراد بالجبارِ المنذرَ لولايتِه.
قال: وقيل: إن معنى قولِه: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} : لم تُبعَثْ لتُجْبِرَهم على الإسلام، إنما بُعِثتَ مذكِّرًا، فذكِّرْ. وقال: العربُ لا تقولُ: فعَّالٌ من أَفْعَلت؛ لا يقولون: هذا خَرَّاجٌ. يريدون: مُخْرِجٌ، ولا يقولون: دَخَّالٌ. يريدون: مُدْخِلٌ، إنما يقولون: فعَّالٌ. من فعَلتَ؛ ويقولون: خرَّاجٌ. من خرَجتَ، و: دخَّالٌ. من دخَلتَ؛ و: قَتَّالٌ. من قتَلْتَ. قال: وقد قالت العربُ في حرفٍ واحدٍ: دَرّاكُ. من أدرَكْتَ، وهو شاذٌّ. قال: فإن قلتَ: الجبارُ على هذا المعنى، فهو وَجْهٌ. قال: وقد سمِعت بعضَ العربِ يقولُ: جَبَره على الأمرِ. يريدُ: أجْبَره، فالجَبّارُ من هذه اللغةِ صحيحٌ، يرادُ به: يَقهَرُهم ويُجبرُهم.
وقولُه: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} . يقولُ تعالى ذكرُه: فذكِّرْ يا محمدُ بهذا القرآنِ الذي أنزلتُه إليك مَن يخافُ الوعيدَ الذي أوْعَدتُه مَن عصَاني، وخالَف أمرِي.
حدَّثني نصرُ بنُ عبدِ الرحمنِ الأَوْديُّ، قال: ثنا حكامٌ الرازيُّ، عن أيوبَ، عن عمرٍو المُلائيِّ، عن ابنِ عباسٍ، قال: قالوا: يا رسولَ اللَّهِ لو خوَّفتَنا. فنزَلت: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ}
(1)
.
حدَّثنا ابنُ حُمَيدٍ، قال: ثنا حكامٌ، عن أيوبَ بنِ سيَّارٍ أبي عبدِ الرحمنِ، عن عمرِو بنِ قيسٍ، قال: قالوا: يا رسولَ اللَّهِ، لو ذكَّرتنا. فذكَر مثلَه.
آخرُ تفسيرِ سورةِ "ق"
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 111 إلى المصنف، وذكره القرطبي في تفسيره 17/ 28.
تفسيرُ سورةِ الذارياتِ
بسم الله الرحمن الرحيم
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا} . يقولُ: والرياحُ التي تَذْروا الترابَ ذَرْوًا. يقالُ: ذَرَتِ الريحُ الترابَ وأذْرَت.
وبنحوِ الذي قُلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا هنادُ بنُ السريِّ، قال: ثنا أبو الأحوصِ، عن سماكٍ، عن خالدِ بنِ عُرْعُرةَ، قال: قام رجلٌ إلى عليٍّ رضي الله عنه، فقال: ما {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا} ؟ فقال: هي الريحُ
(1)
.
حدَّثنا ابنُ المثنى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن سِماكٍ، قال: سمِعتُ خالدَ بنَ عرعرةَ، قال: سمِعتُ عليًّا رضي الله عنه وخرَج إلى الرَّحْبةِ
(2)
، وعلَيه بُرْدانِ، فقال
(3)
: لو أنَّ رجلًا سأل، وسمِع القومُ. قال: فقام ابنُ الكَوَّاءِ، فقال: ما {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا} ؟ فقال: هي الرِّياحُ
(4)
.
(1)
أخرجه البيهقي في الشعب (3991) من طريق أبي الأحوص به، وأخرجه إسحاق بن راهوية - كما في المطالب (4118) - والحارث بن أبي أسامة (385 - بغية) من طريق سماك به، مطولًا.
(2)
الرحبة: رحبة خنيس محلة بالكوفة، تنسب إلى خنيس بن سعد. معجم البلدان 2/ 793.
(3)
في م: "فقالوا".
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 390 عن شعبة به.
حدَّثني محمدُ بنُ عبدِ
(1)
اللَّهِ بنِ عبيدٍ الهلاليُّ ومحمدُ بنُ بشَّارٍ، قالا: ثنا محمدُ بنُ خالدٍ ابنُ عَثْمةَ، قال: ثنا موسى بنُ يعقوبَ الزَّمَعِيُّ قال: ثنا أبو الحُوَيْرثِ، عن محمدِ بنِ جُبيرِ بنِ مُطعِمٍ، أَخْبَره، قال: سمِعتُ عليًّا رضي الله عنه يخطُبُ الناسَ، فقام عبدُ اللَّهِ بنُ الكَوَّاءِ، فقال: يا أميرَ المؤمنين، أَخْبِرْني عن قولِ اللَّهِ تبارك وتعالى:{وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا} ؟ فقال: هي الرياحُ.
حدَّثنا ابنُ بشَّارٍ، قال: ثنا يحيى، عن سفيانَ، عن حبيبِ بن أبي ثابتٍ، عن أبي الطُّفَيلِ، قال: سُئل عليُّ بنُ أبي طالبٍ رضي الله عنه عن {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا} . فقال: الريحُ.
حدَّثنا ابنُ حُمَيدٍ، قال: ثنا مهرانُ، عن سفيانَ، عن حبيبِ بنِ أبي ثابتٍ، عن أبي الطُّفَيلِ، عن عليٍّ:{وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا} . قال: الريحُ
(2)
.
قال مهرانُ: حُدِّثنا عن سِماكٍ، عن خالدِ بنِ عرعرةَ، قال: سألتُ عليًّا رضي الله عنه عن: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا} . فقال: الريحُ.
حدَّثنا ابنُ المثنى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن القاسمِ بنِ أبي بَزَّةَ، قال: سمِعتُ أبا الطُّفيلِ، قال: سمِعتُ عليًّا رضي الله عنه يقولُ: لا تسألوني عن كتابٍ ناطقٍ، ولا سُنَّةٍ ماضيةٍ، إلا حدَّثتُكم. فسأله ابنُ الكَوَّاءِ عن {وَالذَّارِيَاتِ} ، فقال: هي الريحُ
(3)
.
حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا طَلْقٌ، عن زائدةَ، عن عاصمٍ، عن عليِّ بنِ ربيعةَ، قال: سأل ابنُ الكَوَّاءِ عليًّا رضي الله عنه، فقال:{وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا} .
(1)
في ت 1: "عبيد".
(2)
أخرجه الفريابي - كما في تغليق التعليق 4/ 318 - عن سفيان به.
(3)
أخرجه الشاشي في مسنده (620)، والحاكم 2/ 466 من طريق أبي الطفيل به مطولًا، وذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 390 عن شعبة به.
قال: هي الريحُ
(1)
.
حدَّثنا ابنُ حُمَيدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ رُفَيعٍ، عن أبي الطُّفَيلِ، قال: قال ابنُ الكَوَّاءِ لعليٍّ رضي الله عنه: ما {وَالذَّارِياتِ ذَرْوًا} ؟ قال: الريحُ.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: ثنى
(2)
يحيى بنُ أيوبَ، عن أبي صخرٍ، عن أبي معاويةَ البَجَليِّ، عن أبي الصهباءِ البكريِّ، عن عليِّ بنِ أبي طالبٍ رضي الله عنه، قال وهو على المنبرِ: لا يسألُني أحدٌ عن آيةٍ من كتابِ اللَّهِ إلا أخبَرتُه. فقام ابنُ الكَوَّاءِ، وأراد أن يسألَه عمَّا سأل عنه صُبَيغٌ عمرَ بنَ الخطابِ رضي الله عنه، فقال: ما {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا} ؟ قال عليٌّ: الرياحُ.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، أن رجلًا سأل عليًّا عن {وَالذَّارِياتِ}. فقال: هي الرياحُ.
حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن وهبِ بنِ عبدِ اللَّهِ، عن أبي الطُّفَيلِ، قال سأل ابنُ الكَوَّاءِ عليًّا، فقال: ما {وَالذَّارِياتِ ذَرْوًا} ؟ قال: الرياحُ
(3)
.
حدَّثنا يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا} . قال: كان ابنُ عباسٍ يقولُ: هي الرياحُ.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره - كما في تغليق التعليق 4/ 318، والضياء المقدسي في المختارة (678) من طريق علي بن ربيعة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 111 إلى سعيد بن منصور وابن المنذر وابن الأنباري في المصاحف.
(2)
بعده في ص، ت 1، ت 2:"قال ابن زيد قال".
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 241 عن معمر به مطولًا.
الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا} . قال: الرياحُ
(1)
.
وقولُه: {فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا} . يقولُ: فالسَّحابُ التي تحملُ وِقْرَها
(2)
مِن الماءِ.
وقولُه: {فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا} . يقولُ: فالسفنُ التي تجري في البحارِ سهلًا يسيرًا.
{فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا} . يقولُ: فالملائكةُ التي تُقَسِّمُ أمرَ اللَّهِ في خلقِه.
وبنحو الذي قُلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا هنادٌ، قال: ثنا أبو الأحوصِ، عن سِماكٍ، عن خالدِ بنِ عرعرةَ، قال: قام رجلٌ إلى عليٍّ رضي الله عنه، فقال: ما {فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا} ؟ قال: هي السفنُ. قال: فما {فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا} ؟ قال: هي السحابُ. قال: فما {فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا} ؟ قال: هي الملائكةُ
(3)
.
حدَّثنا ابنُ المثنى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن سماكٍ، قال: سمِعتُ خالدَ بنَ عرعرةَ، قال: سمعتُ عليًّا رضي الله عنه وقيل له: ما {فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا} ؟ قال: هي السحابُ. قال: فما {فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا} ؟ قال: هي السُّفنُ. قال: فما {فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا} ؟ قال: هي الملائكةُ
(3)
.
(1)
تفسير مجاهد ص 617 مطولًا، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 112 إلى أبي الشيخ في العظمة.
(2)
الوقر: الحمل الثقيل. اللسان (و ق ر).
(3)
تقدم ص 479.
حدَّثنا ابنُ حُمَيدٍ، قال: ثنا مِهرانُ، عن سفيانَ، عن سِماكٍ، عن خالدِ بنِ عرعرةَ، عن عليٍّ بنحوِه.
حدَّثني محمدُ بنُ عبدِ اللَّهِ [بنِ عبيدٍ]
(1)
الهلاليُّ ومحمدُ بنُ بشارٍ، قالا: ثنا محمدُ بنُ خالدٍ ابنُ عَثْمةَ، قال: ثنا موسى الزَّمَعِيُّ، قال: ثنى أبو الحُوَيرثِ، عن محمدِ بنِ جُبَيرِ بنِ مُطعِمٍ أخبَره، قال: سمِعتُ عليًّا يخطبُ الناسَ، فقام عبدُ اللَّهِ بنُ الكَوَّاءِ فقال: يا أميرَ المؤمنين، أخْبِرْني عن قولِ اللَّهِ تبارك وتعالى:{فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا} . قال: هي السَّحابُ. {فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا} . قال: هي السفنُ، {فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا}. قال: الملائكةُ.
حدَّثنا ابنُ المثنى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن القاسمِ بنِ أبي بَزَّةَ، قال: سمِعتُ أبا الطُّفَيلِ، قال: سمِعتُ عليًّا رضي الله عنه. فذكَر نحوَه.
حدَّثنا ابنُ حُمَيدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن عبدِ العزيزِ بنِ رُفَيعٍ، عن أبي الطُّفيلِ، قال: قال
(2)
ابنُ الكَوَّاءِ لعليٍّ. فذكَر نحوَه.
حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن وهبِ بنِ عبدِ اللَّهِ، عن أبي الطُّفَيلِ، قال شَهِدتُ عليًّا رضي الله عنه، وقام إليه ابنُ الكَوَّاءِ. فذكَر نحوَه
(3)
.
حدَّثنا أبو كُرَيبٍ، قال: ثنا طَلْقُ بنُ غَنَّامٍ، عن زائدةَ، عن عاصمٍ، عن عليِّ بنِ ربيعةَ، قال: سأل ابنُ الكَوَّاءِ عليًّا. فذكَر نحوَه.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: ثنى يحيى بنُ أيوبَ، عن
(1)
في م: "بن عبيد الله"، وسقط من: ت 2، ت 3. وينظر تهذيب الكمال 25/ 506.
(2)
بعده في ت 2: "شهدت عليا رضي الله عنه وقام إليه".
(3)
تقدم في ص 481.
أبي صَخْرٍ، عن أبي معاويةَ البَجَليِّ، عن أبي الصهباءِ البكريِّ، عن عليِّ بنِ أبي طالبٍ رضي الله عنه. نحوَه.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ؛ أن رجلًا سأل عليًّا، فذكَر نحوَه
(1)
.
حدَّثنا ابنُ حُمَيدٍ، قال: ثنا مِهرانُ، عن سفيانَ، عن حبيبِ بنِ أبي ثابتٍ، عن أبي الطُّفيلِ، عن عليٍّ مثلَه.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا يحيى، عن سفيانَ، عن حبيبِ بنِ أبي ثابتٍ، عن أبي الطُّفيلِ، قال: سُئل عليُّ. فذكر مثلَه.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا} . قال: السحابُ. قولُه: {فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا} قال: الملائكةُ
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ جميعًا، عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا} . قال: السحابُ تحملُ المطرَ، {فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا}. قال: السفنُ، {فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا}. قال: الملائكةُ يُنَزِّلُها بأمرِه على مَن يشاءُ
(3)
.
قولُه: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ} . يقولُ تعالى ذكرُه: إنَّ الذي توعدون أيُّها الناسُ من قيامِ الساعةِ، وبَعْثِ الموتى من قبورِهم، {لَصَادِقٌ}. يقولُ: لكائنٌ حقٌّ يقينٌ.
(1)
أخرجه أبو الشيخ في العظمة (715) من طريق سعيد به.
(2)
ذكره الزيلعي في تخريج الكشاف 3/ 366 عن المصنف وزاد في أوله (والذاريات ذروًا) قال: هي الرياح، وليست هذه الزيادة عندنا.
(3)
تفسير مجاهد ص 617، وأخرجه أبو الشيخ في العظمة (716) من طريق ابن أبي نجيح مختصرًا.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى،، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ}
(1)
.
والمعنى: لصدقٌ، فوضَع الاسمَ مكانَ المصدرِ.
{وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} . يقولُ: وإن الحسابَ والثوابَ والعقابَ لواجبٌ، واللَّهُ مجازٍ عبادَه بأعمالِهم.
وبنحوِ الذي قُلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} . قال: الحسابُ
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} وذلك يومَ القيامةِ، يومَ يُدانُ الناسُ فيه بأعمالِهم.
حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} . قال: يومَ يُدِينُ اللَّهُ العبادَ بأعمالِهم
(3)
.
(1)
لعل هنا سقطًا، والأثر في تفسير مجاهد ص 617 وفيه:{إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ} . يقول: إن يوم القيامة لكائن.
(2)
تفسير مجاهد ص 617، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 112 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 341 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 112 إلى ابن المنذر.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} . قال: لكائنٌ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: والسماءِ ذاتِ الخَلْقِ الحَسَنِ، وعنَى بقولِه:{ذَاتِ الْحُبُكِ} . ذاتِ الطرائقِ. وتكسُّرُ كلِّ شيءٍ حُبُكُه، وهو جمعُ حِباكٍ وحَبِيكَةٍ؛ يُقالُ لتكسيرِ الشعرةِ الجعدةِ: حُبُكٌ. وللرملةِ إذا مرَّت بها الريحُ الساكنةُ، والماءِ القائمِ، والدرعُ من الحديدِ لها حُبُكٌ
(1)
، ومنه قولُ الراجزِ
(2)
:
كأنَّما جلَّلها الحُوَّاكُ
طِنْفِسَةً في وَشْيِها حِباكُ
أَذْهَبَها الخفُوقُ والدِّراكُ
(3)
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ، وإن اختلَفت ألفاظُ قائلِيه فيه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني أبو حصينٍ عبدُ اللَّهِ بنُ أحمدَ بنِ يونسَ، قال: ثنا عَبْثَرٌ، قال: ثنا حصينٌ، عن عكرِمةَ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ} . قال: ذاتِ الخَلْقِ الحسنِ
(4)
.
(1)
ينظر معاني القرآن للفراء 3/ 82.
(2)
البيتان الأول والثاني في القرطبي 17/ 32، وفتح القدير 5/ 83 بدون نسبة.
(3)
في ص: "الذاك"، وفي ت 1:"الدين الذاكى"، وفي ت 2، ت 3:"الذين الذاك".
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره - كما في الدر المنثور 6/ 112 - وعنه أبو الشيخ في العظمة (547) من طريق عكرمة به بنحوه، وعزاه السيوطي في الدر المنثور إلى ابن المنذر.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن عطاءِ بنِ السائبِ، عن سعيدِ بنِ جبيرٍ عن ابنِ عباسٍ:{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ} . قال: حُسنُها واستواؤُها
(1)
.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا حكَّامٌ، عن عمرٍو، عن عطاءٍ، عن سعيدِ بنِ جبيرٍ:{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ} . قال: حُبُكُها حسنُها واستواؤُها.
قال: ثنا حكَّامٌ، قال: ثنا عمرٌو، عن عمرَ بنِ سعيدِ بنِ مسروقٍ أخى سفيانَ، عن خُصيفٍ، عن سعيدِ بنِ جُبَيرٍ:{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ} . قال: ذاتِ الزينةِ
(2)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ اللَّهِ بنِ بَزِيعٍ، قال: ثنا بشرُ بنُ المفضَّلِ، عن عوفٍ، عن الحسنِ قولَه:{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ} . قال: حُبِكت بالخَلْقِ الحَسَنِ؛ حُبِكت بالنجومِ
(3)
.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا هوذةُ، قال: ثنا عوفٌ، عن الحسنِ في قولِه:{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ} . قال: حُبِكت بالخَلْقِ الحسنِ؛ حُبِكت بالنُّجومِ.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عثمانُ بنُ الهيثمِ، قال: ثنا عوفٌ، عن الحسنِ في قولِه:{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ} . قال: ذاتِ الخَلْقِ الحَسَنِ؛ حُبِكَت بالنجومِ.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابنُ عليةَ، قال: ثنا عمرانُ بنُ حُديرٍ، قال: سُئل
(1)
أخرجه الفريابي وابن أبي حاتم في تفسيره - كما في تغليق التعليق 4/ 319، وأبو الشيخ في العظمة (556)، ومجاهد في تفسيره ص 617 من طريق عطاء به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 112 إلى سعيد بن منصور وابن المنذر.
(2)
ذكره البغوي في تفسيره 7/ 371، والقرطبي في تفسيره 17/ 31، وابن كثير في تفسيره 7/ 391.
(3)
أخرجه أبو الشيخ في العظمة (548) من طريق عوف به.
عكرمةُ عن قولِه: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ} . قال: ذاتِ الخَلْقِ الحسَنِ، ألم ترَ إلى النسَّاجِ إذا نسَج الثوبَ قال: ما أحسنَ ما حبَكه
(1)
.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا ابنُ عليةَ، قال: ثنا أيوبُ، عن أبي قِلابةَ، عن رجلٍ من أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ من ورائِكم الكذَّابَ
(2)
المُضِلَّ، وإنَّ رأسَه من ورائِه حُبُكٌ حُبُكٌ". يعني بالحُبُكِ الجُعُودةَ
(3)
.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا مهرانُ، عن سفيانَ، عن عطاءِ بنِ السائبِ، عن سعيدِ بنِ جُبَيرٍ، عن ابنِ عباسٍ:{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ} . قال: استواؤُها وحسنُها
(4)
.
قال: ثنا مهرانُ، عن عليِّ بنِ جعفرٍ، عن الربيعِ بنِ أنسٍ:{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ} . قال: ذاتِ الخَلْقِ الحسنِ
(5)
.
قال: ثنا مهرانُ، عن سعيدٍ، عن قتادةَ قال: حُبُكُها نجومُها، وكان ابنُ عباسٍ يقولُ:{الْحُبُكِ} : ذاتُ الخَلْقِ الحَسَنِ.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ} : أي ذاتِ الخلقِ الحسنِ، وكان الحسنُ يقولُ: حبكُها نجومُها.
حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ: {ذَاتِ
(1)
أخرجه أبو الشيخ في العظمة (555) من طريق عمران به.
(2)
في ص، ت 2، ت 3:"الكتاب".
(3)
أخرجه أحمد 5/ 410 (الميمنية) من طريق إسماعيل به، وذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 391 عن المصنف.
(4)
تقدم تخريجه في الصفحة السابقة.
(5)
ذكره القرطبي في تفسيره 17/ 31، وأبو حيان في البحر المحيط 8/ 134، وابن كثير في تفسيره 7/ 391.
الْحُبُكِ}. قال: ذاتِ الخَلْقِ الحَسَنِ
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ} . قال: المتقَنِ البُنيانِ
(2)
.
حُدِّثتُ عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبَرنا عبيدٌ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ} . يقولُ: ذاتِ الزينةِ، ويُقالُ أيضًا: حُبُكُها مثلَ حُبُكِ الرملِ، ومثلَ حُبُكِ الدرعِ، ومثلَ حُبُكِ الماءِ إذا ضرَبته الريحُ، فنسَجته طرائقَ
(3)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {ذَاتِ الْحُبُكِ} قال: الشدةِ؛ حُبِكت: شُدَّت، وقرَأ قولَ اللَّهِ تبارك وتعالى:{وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا}
(4)
[النبأ: 12].
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ} . قال: ذاتِ الخَلْقِ الحسَنِ؛ ويقالُ: ذاتِ الزينةِ
(5)
.
وقيل: عُنِيَ بذلك السماءُ السابعةُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ بنُ مهديٍّ وأبو داودَ، قالا: ثنا عمرانُ
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 241 عن معمر به.
(2)
تفسير مجاهد ص 617، وذكره البغوي في تفسيره 7/ 371، والقرطبي في تفسيره 17/ 31.
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 391.
(4)
ذكره أبو حيان في البحر المحيط 8/ 134.
(5)
تقدم ص 486.
القَطَّانُ، عن قتادةَ، عن سالمِ بنِ أبي الجعدِ، عن معدانَ بنِ أبي طلحةَ، عن عمرٍو البَكاليِّ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو:{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ} . قال: السماءِ السابعةِ
(1)
.
حدَّثني القاسمُ بنُ بشرِ
(2)
بنِ معروفٍ، قال: ثنا أبو داودَ، قال: ثنا عمرانُ القطانُ، عن قتادةَ، عن سالمِ بن أبي الجعدِ، عن مَعدانَ، عن عمرٍو البَكاليِّ - هكذا قال القاسمُ - عن عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو نحوَه
وقولُه: {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ} . يقولُ: إنكم أيُّها الناسُ لفي قولٍ مختلفٍ في هذا القرآنِ، فمن مُصدِّقٍ به ومُكذِّبٍ.
كما حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ} . قال: مصدقٌ بهذا القرآنِ ومكذبٌ
(3)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ} . قال: يَتَخَرَّصون؛ يقولون
(4)
: هذا سحرٌ. ويقولون
(4)
: هذا أساطيرُ
(5)
. فبأيِّ قولِهم يُؤْخَذُ؟! قُتِل الخرَّاصون، هذا الرجلُ لا بدَّ له من أن يكونَ فيه أحدُ هؤلاءِ، فما لكم لا تَأْخُذون أحدَ هؤلاء، وقد رَمَيتُموه بأقاويلَ شتَّى، فبأيِّ هذا القولِ تَأْخُذون [هذا الرجل الآنَ]
(6)
، فهو قولٌ مختلفٌ. قال: فذكَر أنه تخرُّصٌ منهم،
(1)
أخرجه أبو الشيخ في العظمة (565) من طريق أبي داود به، وذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 391 عن قتادة به.
(2)
في م: "بشير". وتقدم مرارًا.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 242 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 112 إلى ابن المنذر.
(4)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"يقول".
(5)
في ص: "سماء ويقول هذا شيئا"، وفي ت 1:"شيئا ويقول هذا شيئا"، وفي ت 2، ت 3:"شيئا".
(6)
سقط من: م.
ليس لهم بذلك علمٌ. قالوا: فما منَع هذا القرآنَ أن يَنْزِلَ باللسانِ الذي نزَلت به الكتبُ من قبلِك. فقال اللَّهُ: {أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} ؟ لو جعَلنا هذا القرآنَ أعجميًّا لقلتم: نحن عربٌ. وهذا القرآنُ أعجميٌّ، فكيفَ يَجْتَمِعانِ
(1)
.
وقولُه: {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} . يقولُ: يُصْرَفُ عن الإيمانِ بهذا القرآنِ مَن صُرِف، ويُدْفَعُ عنه مَن يُدْفَعُ، فيُحْرَمُه.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} . قال ابنُ عمرٍو في حديثِه: يُوفَّى
(2)
، أو يُؤفَنُ. أو كلمةً تُشْبِهُها. وقال الحارثُ: يُؤفَنُ. بغيرِ شكٍّ
(3)
.
حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ، عن الحسنِ:{يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} . قال: يُصْرَفُ عنه مَن صُرِف
(4)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ}
(5)
. فالمأفوكُ عنه اليومَ، يعني كتابَ اللَّهِ (1).
(1)
ينظر البحر المحيط 8/ 134.
(2)
في ت 1: "أوفى"، وفي ت 3:"يوقى".
(3)
تفسير مجاهد ص 617، وذكره القرطبي في تفسيره 17/ 33، وابن كثير في تفسيره 7/ 393.
(4)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 243 عن معمر عن الحسن، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 112 إلى ابن المنذر.
(5)
بعده في ت 2، ت 3:"قال: يصرف عنه من صرف".
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} . قال: يُؤْفَكُ عنه المشرِكون.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: لُعِن المتكهِّنون الذين يَتَخَرَّصون الكذِبَ والباطِلَ فيتطيَّبونه
(1)
.
واختلَف أهلُ التأويلِ في الذين عُنوا بقولِه: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} ؛ فقال بعضُهم: عُنِي به المُرتابون.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} . يقولُ: لُعِن المُرتابون
(2)
.
وقال آخرون في ذلك بالذي قلْنا فيه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} . قال: الكَهنةُ
(3)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني
(1)
في م: "فيتظننونه"، وفي ت 1:"فيطيبونه".
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره - كما في الإتقان 2/ 44 - من طريق أبي صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 112 إلى ابن المنذر.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 112 إلى المصنف وابن أبي حاتم مطولًا.
الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} . قال: الذين يَخَرَّصون
(1)
الكذبَ؛ كقولِه في "عبس": {قُتِلَ الْإِنْسَانُ} [عبس: 17].
وقد حدَّثني كلُّ واحدٍ منهما بالإسنادِ الذي ذكَرتُ عنه، عن مجاهدٍ قولَه:{قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} . قال: الذين يقولون: لا نُبعَثُ، ولا يُوقِنون
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} : أهلُ الظنونِ
(3)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} . قال: القومُ الذين كانوا يَتَخَرَّصون الكذِبَ
(4)
على رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قالت طائفةٌ: إنما هو ساحرٌ، والذي جاء به سحرٌ. وقالت طائفةٌ: إنما هو شاعرٌ، والذي جاء به شعرٌ. وقالت طائفةٌ: إنما هو كاهنٌ، والذي جاء به كَهانةٌ. وقالت طائفةٌ:[{أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ]
(5)
اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفرقان: 5]. يتخرَّصون على رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وقولُه: {الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: الذين هم في غمرةِ الضلالةِ وغلَبتِها عليهم مُتَمادون، وعن الحقِّ الذي بعَث اللَّهُ به محمدًا صلى الله عليه وسلم ساهون، قد لَهُوا عنه.
(1)
في م، ت 2:"يتخرصون". والمثبت موافق لتفسير مجاهد.
(2)
تفسير مجاهد ص 618.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 112 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر مطولًا.
(4)
سقط من: ص، ت، ت 2، ت 3.
(5)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ت 3.
وبنحوِ الذي قلْنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ وإن اختلَفت ألفاظُهم في البيانِ عنه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ} . يقولُ: في ضلالتِهم يَتمادَون
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قولَه:{الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ} . قال: في غفلةٍ لاهون
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ} . يقولُ: في غمرةٍ وشُبهةٍ.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا مِهرانُ، عن سفيانَ:{فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ} . قال: في غفلةٍ.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ} . قال: ساهون عما أتاهم، وعما نزَل عليهم، وعما أمَرهم اللَّهُ تبارك وتعالى. وقرَأ قولَ اللَّهِ جلَّ ثناؤُه:{بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا} الآية [المؤمنون: 63]. وقال: ألا ترَى الشيءَ إِذا أخَذْتَه ثم غمَرتَه في الماءِ؟
حدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ،
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم - كما في تغليق التعليق 4/ 320، والإتقان 2/ 44 - وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 112 إلى ابن المنذر.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 393، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 112 إلى المصنف وابن أبي حاتم مطولًا.
عن مجاهدٍ: {فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ} . قال: قلبُه في كِنانةٍ
(1)
.
وقولُه: {يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ} . يقولُ تعالى ذكرُه: يسألُ هؤلاء الخرَّاصون الذين وصَف صفتَهم: متى يومُ المجازاةِ والحسابِ، ويومُ يُدِينُ اللَّهُ العبادَ بأعمالِهم؟
كما حدَّثنا يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ} . قال: الذين كانوا يَجْحَدون أنهم يُدَانون، أو يُبْعَثون.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسي، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ} . قال: يَقولون: متى يومُ الدين، أَوَ يكونُ يومُ الدينِ؟
(2)
.
وقولُه: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: يومَ هم على نارِ جهنمَ يُفْتَنون.
واختلَف أهلُ التأويلِ في معنى قولِه: {يُفْتَنُونَ} في هذا الموضعِ؛ فقال بعضُهم: عنَى به أنهم يُعذَّبون بالإحراقِ بالنارِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابنِ عباسٍ في قولِه:{يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} . يقولُ: يُعذَّبون
(3)
.
(1)
تفسير مجاهد ص 618، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 112 إلى عبد بن حميد وابن المنذر بلفظ:"كآبة".
(2)
تفسير مجاهد ص 618 بزيادة: "متى الحساب"، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 112 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره - كما في الإتقان 2/ 44 - من طريق أبي صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 112 إلى ابن المنذر.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمِّي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} . قال: فِتنتُهم أنهم سألوا عن يومِ الدينِ، وهم مَوْقُوفون على النارِ، {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ}. فقالوا حينَ وُقِفوا:{يَاوَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ} ، قال اللَّهُ تبارك وتعالى:{هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [الصافات: 20، 21].
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ عن مجاهدٍ قولَه:{يُفْتَنُونَ} . قال: كما يُفتَنُ الذهبُ في النارِ
(1)
.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنى هشيمٌ، قال: أخبَرنا حصينٌ، عن عكرمةَ في قولِه:{يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} . قال: يُعَذَّبون في النارِ، يُحْرَقون فيها، ألم ترَ أن الذهبَ إذا أُلْقِي في النارِ، قِيل: فُتِن.
حدَّثني سليمانُ بنُ عبدِ الجبارِ، قال: ثنا محمدُ بنُ الصلتِ، قال: ثنا أبو كُدَينةَ، عن حصينٍ، عن عكرِمةَ:{يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} . قال: يُعَذَّبون.
حدَّثنا يحيى بنُ طلحةَ اليَرْبُوعيُّ، قال: ثنا فضيلُ بنُ عياضٍ، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ:{يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} . يقولُ: يُنْضَجون بالنارِ
(2)
.
حدَّثنا ابنُ حُمَيدٍ، قال: ثنا مهرانُ، عن سفيانَ، عن الحصينِ، عن عكرِمةَ:
(1)
تفسير مجاهد ص 618، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 112 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
تفسير مجاهد ص 618، وأخرجه الذهبي في السير 5/ 410 من طريق فضيل به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 112 إلى عبد بن حميد وابن المنذر مطولًا.
{يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} . قال: يُحْرَقون
(1)
.
حدَّثنا ابنُ حُمَيدٍ، قال: ثنا مهرانُ، عن سفيانَ:{يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} . يقولُ: يُحْرَقون
(2)
.
حُدِّثْتُ عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبَرنا عبيدٌ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} . قال: يُطْبَخون، كما يُفْتَنُ الذهبُ بالنارِ
(3)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} . قال: يُحْرَقون بالنارِ.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ:{يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} . قال: يُحْرَقون
(4)
.
وقال آخرون: بل عُنِي بذلك أَنَّهم يُكَذَّبون.
ذكرُ مَن قال ذلك
حُدِّثت عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبَرنا عبيدٌ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} . يقولُ: يُطْبَخون. ويقالُ أيضًا: {يُفْتَنُونَ} : يُكَذَّبون، كلُّ هذا يُقالُ.
واختلَف أهلُ العربيةِ في وجهِ نصبِ "اليوم" في قولِه: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ} ؛
(1)
تفسير سفيان ص 281.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 393.
(3)
ذكره الطوسي في التبيان 9/ 380.
(4)
تفسير مجاهد ص 618، وأخرجه الذهبي في السير 5/ 410 من طريق فضيل به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 112 إلى عبد بن حميد وابن المنذر مطولًا.
فقال بعضُ نحويِّي البصرةِ: نُصِبت على الوقتِ. والمعنَى في: {أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ} . أي: متى يومُ الدينِ؟ فقِيل لهم: في {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} ؛ لأن ذلك اليومَ يومٌ طويلٌ، فيه الحسابُ، وفيه فِتنتُهم على النارِ.
وقال بعضُ نَحويِّي الكوفةِ
(1)
: إنما نُصِبت: {يَوْمَ هُمْ} ؛ لأنك أضَفتَه إلى شَيْئَينِ، وإذا أُضِيف "اليوم" و"الليلة" إلى اسمٍ له فعلٌ، وارتفَعا، نُصِب "اليوم"، وإن كان في موضعِ خفضٍ أو رَفعٍ، و
(2)
إذا أُضِيفَ إلى "فعَل" أو "يفعَل"، [أو إذا كان كذلك]
(3)
، ورفَعه في موضعِ الرفعِ، وخفَضَه في موضعِ الخفضِ [يجوز، فلو]
(4)
قيل: (يَوْمُ هُم عَلَى النَّارِ يُفْتَنُون): فرُفِع "يومُ"، لكان وجهًا، ولم يَقْرَأْ به أحدٌ من القراءِ.
وقال آخرُ منهم: إنَّما نصَب {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} ؛ لأنه إضافةٌ غيرُ محضةٍ؛ فنُصب والتأويلُ رفعٌ، ولو رفَع لجاز؛ لأنك تقولُ: متى يومُك؟ فتقولُ: يومُ الخميسِ، ويومُ الجمعةِ. والرفعُ الوجهُ؛ لأنه اسمٌ قابَل اسمًا، فهذا الوجهُ.
وأولى القولَيْن بالصوابِ في تأويلِ قولِه: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} . قولُ مَن قال: يُعَذَّبون بالإحراقِ. لأن الفتنةَ أصلُها الاختبارُ، وإنما يُقالُ: فتنتُ الذهبَ بالنارِ. إذا طبَختَها بها لتعرفَ جودتَها فكذلك قولُه: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} يُحْرَقون بها كما يُحْرَقُ الذهبُ بها، وأما النصبُ في اليومِ فلأنها إضافةٌ غيرُ محضةٍ، على ما وصَفنا من قولِ قائلِ ذلك.
(1)
هو قول الفراء في معاني القرآن 3/ 83.
(2)
سقط من: ص، ت 1، ت 2، ت 3.
(3)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"وإذا قال".
(4)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"يقول لو".
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16)} .
يعني تعالى ذكرُه بقولِه: {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} . يقالُ لهم: ذُوقوا فِتنتَكم، وترَك:"يُقالُ لهم"؛ لدلالةِ الكلامِ عليها، ويعني بقولِه:{فِتْنَتَكُمْ} : عذابَكم وحريقَكم.
واختلَف أهلُ التأويلِ في ذلك، فقال بعضُهم بالذي قلْنا فيه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{فِتْنَتَكُمْ} . قال: حريقَكم
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} : ذوقوا عذابَكم هذا الذي كنتُم به تَسْتَعْجِلون.
حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ في قولِه:{ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} . يقولُ: يومَ يُعَذَّبون، فيقولوا: ذُوقوا عذابَكم
(2)
.
حُدِّثتُ عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبَرنا عبيدٌ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} . يقولُ: حريقَكم.
حدَّثنا ابنُ حمَيدٍ، قال: ثنا مهرانُ، عن سفيانَ:{ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} . يقولُ:
(1)
ذكره القرطبي في تفسيره 17/ 35، وابن كثير في تفسيره 7/ 393.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 242 عن معمر به.
احتراقَكم.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} . قال: ذوقوا عذابَكم
(1)
.
وقال آخرون: عنَى بذلك: ذُوقوا تَعذِيبَكم أو كَذِبَكم.
ذكرُ مَن قال ذلك (*)
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ رحمهما اللَّهُ قولَه:{ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} . يقولُ: تكذيبَكم
(2)
.
حُدِّثتُ عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبَرنا عبيدٌ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} . يقولُ: حريقَكم. ويُقالُ: كذِبَكم.
وقولُه: {هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: يُقالُ لهم: هذا العذابُ الذي تُوَفَّونه اليومَ، هو العذابُ الذي كنتُم به تَسْتَعْجِلون في الدنيا.
وقولُه: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} . يقولُ تعالى ذكرُه: إن الذين اتَّقوا اللَّهَ عز وجل بطاعتِه، واجتنابِ معاصِيه في الدنيا، في بساتينَ وعيونِ ماءٍ في الآخرةِ.
وقولُه: {آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ} . يقولُ تعالى ذكرُه: عاملِين ما أمَرهم به ربُّهم مؤدِّين فرائضَه.
(1)
ذكره القرطبي في تفسيره 17/ 35.
(*) هنا ينتهي الخرم في مخطوط جامعة القرويين والمرموز له بـ "الأصل" المشار إليه في ص 477.
(2)
ذكره القرطبي في تفسيره 17/ 35.
كما
(1)
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا مِهْرانُ، عن سفيانَ، عن أبي عمرَ، عن مسلمٍ البطينِ، عن ابن عباسٍ في قولِه:{آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ} . قال: الفرائضَ.
وقولُه: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} . يقولُ: إنهم كانوا قبلَ أن يَفْرِضَ عليهم الفرائضَ، {مُحْسِنِينَ}. يقولُ: كانوا للَّهِ قبلَ ذلك مُطِيعِين.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا مِهْرانُ، عن سفيانَ، عن أبي عمرَ، عن مسلمٍ البطينِ، عن ابنِ عباسٍ:{إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} . قال: قبَل الفرائضِ محسِنين يَعْملون
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: اختلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِ قولِه: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} ؛ فقال بعضُهم: معناه: كانوا قليلًا مِن الليلِ لا يَهْجَعون. وقالوا: {مَا} كان بمعنى الجَحْدِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابنُ بشارٍ وابنُ المثنى، قالا: ثنا يحيى بنُ سعيدٍ وابنُ أبي عديٍّ، عن سعيدِ
(1)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك".
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 393 عن المصنف وضعفه، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 112 إلى المصنف والفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم مطولًا.
ابن أبي عَروبةَ، عن قتادةَ، عن أنسِ بنِ مالكٍ:{كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} . قال: يَتَيَقَّظون يُصلُّون ما بينَ هاتين الصلاتين، ما بينَ المغربِ والعشاءِ
(1)
.
حدَّثني زُرَيقُ بنُ السَّخْتِ، قال: ثنا عبدُ الوهابِ بنُ عطاءٍ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، عن أنسٍ، بنحوِه.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ وابنُ المثنى، قالا: ثنا أبو داودَ، قال: ثنا بُكيرُ بنُ أبي السَّميطِ، عن قتادةَ، عن محمدِ بنِ عليٍّ في قولِه:{كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} . قال: كانوا لا يَنامون حتى يُصلُّوا العَتَمَةَ
(2)
.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ وابنُ المثنى، قالا: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن قتادةَ، عن مُطَرِّفٍ في قولِه:{كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} . قال: قَلَّ ليلةٌ أَتَتْ عليهم إلا صلَّوا فيها
(3)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، قال: قال مُطَرِّفُ بنُ عبدِ اللَّهِ في قولِه: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} : قَلَّ ليلةٌ تأتي عليهم لا يُصلُّون فيها للَّهِ؛ إما مِن أوَّلِها، وإما من وَسَطِها.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا يحيى بنُ يمانٍ، قال: ثنا ابنُ أبي ليلى، عن المنهالِ، عن سعيدِ بنِ جبيرٍ، عن ابن عباسٍ رحِمهما اللَّهُ: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا
(1)
أخرجه أبو داود (1323)، ومن طريقه البيهقي 3/ 19 عن ابن المثنى به، وأخرجه ابن أبي الدنيا في التهجد (306)، والحاكم 2/ 467، والبيهقي 3/ 19، وفي الشعب (3110) من طريق سعيد به، وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 243 من طريق قتادة به بلفظ:"يتنفلون"، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 113 إلى ابن نصر وابن أبي حاتم وابن مردويه.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة 2/ 238 من طريق بكير به.
(3)
أخرجه ابن أبي الدنيا في التهجد (305) من طريق محمد بن جعفر به
يَهْجَعُونَ}. قال: لم يكنْ يَمْضِي عليهم ليلةٌ إلا يأْخُذون منها ولو شيئًا
(1)
.
حدَّثنا عليُّ بنُ سعيدٍ قال: ثنا حفصٌ، عن عاصمٍ، عن أبي العاليةِ في قولِه:{كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} . قال: لا يَنامون بينَ المغربِ والعشاءِ
(2)
.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا حكامٌ ومِهْرانُ، عن أبي جعفرٍ، عن الربيعِ:{كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} . قال: كانوا يُصِيبون من الليلِ حظًّا
(3)
.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا ابنُ يمانٍ، عن أبي جعفرٍ الرازيِّ، عن الربيعِ بنِ أنسٍ، عن أبي العاليةِ، قال: كانوا يُصِيبون فيها حظًّا
(4)
.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابنُ عُلَيةَ، عن سعيدِ بنِ أبي عَروبةَ، [عن قتادةَ]
(5)
، عن مُطَرِّفٍ في قولِه:{كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} . قال: قلَّ ليلةٌ أَتَتْ عليهم هجَعوها كلَّها
(6)
.
حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} . قال: كان لهم قليلٌ من الليلِ ما يَهْجَعون، كانوا يُصلُّونه
(7)
.
(1)
أخرجه ابن أبي الدنيا في التهجد (303)، والبيهقي في الشعب (3109) من طريق ابن أبي ليلى به، وأخرجه ابن أبي شيبة 2/ 239 من طريق ابن أبي ليلى عن الحكم عن سعيد به، وأخرجه الحاكم 2/ 467 من طريق سعيد به بنحوه، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 112، 113 إلى ابن نصر وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة 2/ 238، وابن أبي الدنيا في التهجد (491) من طريق حفص به، وذكره المروزي في قيام الليل ص 10.
(3)
ينظر البحر المحيط 8/ 135.
(4)
أخرجه ابن أبي الدنيا في التهجد (304) من طريق أبي جعفرٍ به.
(5)
سقط من: م، ص، ت 1، ت 2، ت 3.
(6)
أخرجه ابن أبي شيبة 2/ 238، 13/ 479 عن ابن علية به.
(7)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 243 عن معمر به.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابنُ عُلَيةَ، قال: سمِعتُ ابنَ أبي نجيحٍ، يقولُ في قولِه:{كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} . قال: كانوا قليلًا ما يَنامون ليلةً حتى الصباحِ
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} . قال: قليلٌ ما يَرْقُدون ليلةً حتى الصباحِ لا يَتهجَّدون
(2)
.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: كانوا قليلًا من الليلِ
(3)
يَهْجَعون، ووجَّهوا {مَا} التي في قولِه:{مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} إلى أنها صِلَةٌ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابنُ المثنى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن قتادةَ في قولِه:{كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} . قال: قال الحسنُ: كَابَدوا قيامَ الليلِ
(4)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، قال: كان الحسنُ يقولُ: لا يَنامون منه إلا قليلًا
(5)
.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا ابنُ عليةَ، عن بعضِ أصحابِنا، عن الحسنِ في قولِه:{كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} . قال: لا يَنامون من الليلِ إلا أقلَّه.
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة 2/ 239 عن ابن علية به.
(2)
تفسير مجاهد ص 618.
(3)
بعده في ت 2، ت 3:"ما".
(4)
أخرجه ابن أبي الدنيا في التهجد (305) من طريق محمد بن جعفر به.
(5)
أخرجه ابن أبي شيبة 2/ 238 من طريق قتادة به.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الوهابِ، قال: ثنا عوفٌ، عن سعيدِ بنِ أبي الحسنِ في قولِه:{كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} . قال: قلَّ ليلةٌ أَتَتْ عليهم هَجَعوها
(1)
.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، قال: قال الأَحْنَفُ بنُ قَيسٍ في قولِه: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} . قال: كانوا لا يَنامون إلا قليلًا
(2)
.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا أبو داودَ، قال: ثنا الحكمُ بنُ عطيةَ، عن قتادةَ، قال: قال الأَحْنَفُ بنُ قَيسٍ، وقرأ هذه الآيةَ:{كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} . قال: لستُ مِن أهلِ هذه الآيةِ
(3)
.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا ابنُ أبي عديٍّ، عن سعيدٍ، عن قتادةَ، عن الحسنِ في قولِه:{كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} . قال: قيامُ الليلِ
(4)
.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا ابنُ يمانٍ، عن سفيانَ، عن يونسَ، عن الحسنِ، قال: نَشِطوا فمدُّوا إلى السَّحَرِ
(5)
.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا مِهْرانُ، عن سفيانَ، عن يونسَ بنِ عُبيدٍ، عن الحسنِ، قال: مدُّوا في الصلاةِ ونَشِطوا، حتى كان الاستغفارُ بسَحَرٍ
(6)
.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا مِهْرانُ، عن سعيدِ بن أبي عَروبةَ، عن قتادةَ، عن
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة 2/ 238، وابن أبي الدنيا في التهجد (301) من طريق عوف به.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 394.
(3)
ذكره القرطبي في تفسيره 17/ 38 بمعناه.
(4)
أخرجه ابن أبي الدنيا في التهجد (305) من طريق قتادة به.
(5)
أخرجه ابن أبي شيبة 2/ 238 من طريق رجل عن الحسن.
(6)
أخرجه ابن أبي الدنيا (299) من طريق هشام عن الحسن.
الحسنِ، قال: كانوا لا يَنامون مِن الليلِ إلا قليلًا.
حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابنُ ثورٍ، عن معمرٍ في قولِه:{كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} . قال: كان الحسنُ والزهريُّ يقولان: كانوا كثيرًا مِن الليلِ ما يُصلُّون
(1)
.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن منصورٍ، عن إبراهيمَ:{كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} . قال: ما يَنامون
(2)
.
وقد يجوزُ أن يكون {مَا} على هذا التأويلِ في موضعِ رفعٍ، ويكونُ تأويلُ الكلامِ: كانوا قليلًا من الليل هجُوعُهم، وأما مَن جعَل {مَا} صلةً، فإنه لا مَوْضِعَ لها، ويكونُ تأويلُ الكلامِ على مذهبِه: كانوا يَهْجَعون قليلَ الليلِ، وإذا كانت {مَا} صلةً كان القليلُ منصوبًا بـ {يَهْجَعُونَ}
(3)
.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أنهم كانوا يصلُّون العَتَمَةَ. وعلى هذا التأويلِ {مَا} في معنى الجَحْدِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابنُ بشارٍ وابنُ المثنى، قالا: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن قتادةَ في قولِه:{كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} . قال: قال رجلٌ مِن أهلِ مكةَ سمَّاه قتادةُ، قال: صلاةُ العَتَمَةِ
(4)
.
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 243 عن معمر به.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة 2/ 239 من طريق منصور به بلفظ: "ينامون".
(3)
في الأصل: "ما يتهجعون"، وفي ت 2:"يهجعون"، وفي ت 3:"يتهجعون"، والمثبت من: م. وهذا القول هو قول الفراء في معاني القرآن 3/ 84.
(4)
أخرجه ابن أبي الدنيا في التهجد (305) من طريق محمد بن جعفر به.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: كان هؤلاء المحسنون قبلَ أنْ تُفْرضَ عليهم الفرائضُ قليلًا مِن الناسِ. وقالوا: الكلامُ بعدَ قولِه: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} ، {كَانُوا قَلِيلًا}: مُستَأْنَفٌ بقولِه: {مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} . فالواجبُ أن تكونَ {مَا} على هذا التأويلِ بمعنى الجَحْدِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا يحيى بنُ واضحٍ، قال: ثنا عبيدٌ، عن الضحاكِ في قولِه:{كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} . يقولُ: إن المحسنينَ كانوا قليلًا، ثم ابتُدِئ فقيل:{مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} . كما قال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} . ثم قال: {وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} [الحديد: 19].
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن الزبيرِ، يعني ابنَ عديٍّ، عن الضحاكِ بنِ مزاحمٍ في قولِه:{كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} . قال: كانوا مِن الناسِ قليلًا
(1)
.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا ابنُ يمانٍ، عن سفيانَ، عن الزبيرِ بنِ عديٍّ، عن الضحاكِ بنِ مزاحمٍ في قولِه:{كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} . قال: كانوا قليلًا من الناسِ مَن يفعلُ ذلك.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا مِهْرانُ، عن سفيانَ، عن الزبيرِ بنِ عديٍّ، عن الضحاكِ بنِ مزاحمٍ:{كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} . قال: كانوا قليلًا مِن
(1)
أخرجه ابن أبي الدنيا في التهجد (308) من طريق عبد الرحمن به. وهو في تفسير سفيان ص 281، ومن طريقه ابن أبي شيبة 2/ 239، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 113 إلى ابن المنذر.
الناسِ [إذ ذاك]
(1)
.
حُدِّثتُ عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبَرنا عبيدٌ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} . قال اللَّهُ: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} إلى: {كَانُوا قَلِيلًا} . يقولُ: المحسنون كانوا قليلًا، هذه مفصولةٌ، ثم اسْتَأْنَف فقال:{مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ}
(2)
.
وأما قولُه: {يَهْجَعُونَ} . فإنَّه يعني: يَنامون. والهُجُوعُ النومُ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنا معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابنِ عباسٍ، رحمهما اللَّهُ:{كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} . يقولُ: يَنامون
(3)
.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا [عبدُ الرحمنِ]
(4)
، قال: ثنا سفيانُ، عن منصورٍ، عن إبراهيمَ:{كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} . قال: يَنامون
(5)
.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا مِهْرانُ، عن سفيانَ، عن منصورٍ، عن إبراهيمَ،، مثلَه.
حُدِّثتُ عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ، يقولُ: ثنا عبيدٌ، قال: سمِعتُ
(1)
في الأصل: "ذلك".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 113 إلى المصنف وابن نصر.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 113 إلى المصنف وابن نصر وابن المنذر.
(4)
في الأصل: "يحيى".
(5)
تفسير سفيان ص 281، ومن طريقه ابن أبي شيبة 2/ 239، وابن أبي الدنيا في التهجد (302)، وذكره المروزي في قيام الليل ص 10.
الضحاكَ يقولُ في قولِه: {مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} . قال: الهُجُوعُ النومُ
(1)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} . قال: كانوا قليلًا ما يَنامون مِن الليلِ، قال: ذلك الهَجْعُ. قال: والعربُ تقولُ إذا سافَرَتْ: اهْجَعْ بنا قليلًا. قال: وقال رجلٌ مِن بني تميمٍ لأبي: يا أبا أُسامةَ، صفةٌ لا أجدُها فينا، ذكَر اللَّهُ عز وجل قومًا فقال:{كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} . ونحنُ واللَّهِ قليلًا مِن الليلِ ما نقومُ. قال: فقال أبي: طُوْبَى لمن رقَد إذا نَعَس، واتقى
(2)
اللَّهَ إذا اسْتَيْقَظ
(3)
.
وأولى الأقوالِ بالصحةِ في تأويلِ قولِه: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} . قولُ مَن قال: كانوا قليلًا مِن الليلِ هُجُوعُهم. لأنَّ اللَّهَ عز وجل وصَفهم بذلك مدحًا لهم، وثناءً عليهم
(4)
به؛ فوصْفُهم بكثرةِ العملِ، وسَهَرِ الليلِ: ومُكَابَدَتِه فيما يقرِّبُهم منه، ويُرضيه عنهم، أولى وأشبهُ من وصْفِهم بقلَّةِ العملِ، وكثرةِ النومِ، مع أن الذي اختَرْنا في ذلك هو أغلبُ المعاني على ظاهرِ التنزيلِ.
وقولُه: {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} . اختلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِه؛ فقال بعضُهم: معناه: وبالأسحارِ هم يُصلُّون.
ذكرُ مَن قال ذلك
حُدِّثتُ عن الحسينِ، قال: سمعِتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبَرنا عبيدٌ، قال: سمِعتُ الضَّحاكَ يقولُ في قولِه: {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} . يقولُ: يَقومون فيُصلُّون.
(1)
تتمة الأثر المتقدم تخريجه في الصفحة السابقة.
(2)
في م: "القى".
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 394.
(4)
بعده في الأصل: "وما علمهم".
يقولُ: كانوا يَقومون ويَنامون، كما قال اللَّهُ عز وجل لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم:{إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ} : فهذا نومٌ، وهذا قيامٌ، {وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ}: كذلك يَقومون ثُلُثًا ونِصْفًا وثُلثَيْن. يقولُ: يَنامون ويَقومون
(1)
.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا مِهْرانُ
(2)
، عن سفيانَ، عن جَبَلَةَ بنِ سُحَيمٍ، عن ابنِ عمرَ رحمهما اللَّهُ قولَه:{وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} . قال: يُصلُّون
(3)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} . قال: يُصلُّون
(4)
.
وقال آخرون: بل عُنِي بذلك أنهم أَخَّروا الاستغفارَ من ذنوبِهم إلى السَّحَرِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا مِهْرانُ، عن سفيانَ، عن يونسَ بنِ عُبيدٍ، عن الحسنِ، قال: مَدُّوا في الصلاةِ ونَشِطوا، حتى كان الاستغفارُ بسَحَرٍ
(5)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} . قال: هُم المؤمنون. قال: وبلَغَنا أنّ يعقوبَ نبيَّ اللَّهِ
(1)
ذكره أبو حيان في البحر المحيط 8/ 136.
(2)
في الأصل: "معمر". ينظر تهذيب الكمال 25/ 96.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 245، وابن أبي شيبة 13/ 327 من طريق سفيان به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 113 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.
(4)
تفسير مجاهد ص 619.
(5)
تقدم في ص 505 بسنده ومتنه.
عليه السلام حينَ سأَلوه أن يستغفِرَ لهم: {قَالُوا يَاأَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} ، {قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} [يوسف: 97، 98]. قال: قال بعضُ أهلِ العلمِ: إنه أخَّر الاستغفارَ لهم إلى السَّحَرِ. قال: وذكَر بعضُ أهلِ العلمِ أنَّ الساعةَ التي تُفْتَحُ فيها أبوابُ الجنةِ السَّحَرُ.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: سمِعتُ ابنَ زيدٍ يقولُ: السَّحَرُ هو السُّدُسُ الآخرُ
(1)
مِن الليلِ.
وقولُه: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} . يقولُ تعالى ذكرُه: وفي أموالِ هؤلاء المحسنين الذين وصَف صفتَهم، حقٌّ لسائلِهم المحتاجِ إلى ما في أيديهِم والمحرومِ.
وبنحوِ الذي قلنا في معنى السائلِ قال أهلُ التأويلِ، وهم في معنى المَحْرُومِ مختلِفون؛ فَمِن قائلٍ: هو المُحارَفُ
(2)
الذي ليس له في الإسلامِ سهمٌ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا مِهْرانُ، عن سفيانَ، عن أبي إسحاقَ، عن قيسِ بنِ كُركُمٍ، عن ابنِ عباسٍ سأَلْتُه عن "السَّائِلِ والمَحْرُومِ". قال: السائلُ الذي يسألُ الناسَ بكفّه
(3)
، والمحرومُ الذي ليس له في الإسلامِ سَهْمٌ، وهو المحارَفُ.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ في قولِه عز وجل:{وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} . قال:
(1)
في م، ت 1، ت 3:"الأخير".
(2)
المحارَف: الذي لا يصيب خيرًا من وجهٍ توجّه له. ينظر اللسان (ح ر ف)
(3)
سقط من: م، ص، ت 1، ت 2، ت 3.
المحرومُ المُحارَفُ
(1)
.
حدَّثنا سهلُ بنُ موسى الرازيُّ، قال: ثنا وكيعٌ، عن إسرائيلَ، عن أبي إسحاقَ، عن قيسِ بنُ كُركُمٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: السائلُ السائلُ، والمحرومُ المُحارَفُ الذي ليس له في الإسلامِ سَهْمٌ.
حدَّثنا سهلُ بنُ موسى، قال: ثنا وكيعٌ، عن سفيانَ، عن أبي إسحاقَ، عن قيسِ بنِ كُركُمٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: المحرومُ المحارَفُ الذي ليس له في الإسلامِ سَهْمٌ
(2)
.
حدَّثنا حميدُ بنُ مَسْعَدةَ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زُريعٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن أبي إسحاقَ، عن قيسِ بنِ كُركُمٍ، عن ابنِ عباسٍ في هذه الآيةِ:{لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} . قال: السائلُ الذي يسألُ، والمحرومُ المحارَفُ
(3)
.
حدَّثنا ابنُ المثنى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، قال: سمِعتُ أبا إسحاقَ يُحدِّثُ، عن قيسِ بنِ كُركُمٍ، عن ابنِ عباسٍ بنحوِه.
حدَّثنا محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللَّهِ عز وجل:{وَالْمَحْرُومِ} . قال: المحارَفِ
(4)
.
وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ مثلَه
(4)
.
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 395.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة 12/ 412، 413 عن وكيع به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 113 إلى سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة 12/ 412 من طريق أبي إسحاق به.
(4)
تفسير مجاهد ص 619، وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 244 من طريق ابن أبي نجيح به.
حُدِّثتُ عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبَرنا عبيدٌ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {وَالْمَحْرُومِ} : هو الرَّجُلُ المُحارَفُ الذي لا يكونُ له مالٌ إلا ذَهَب، قَضَى اللَّهُ، عز وجل، له ذلك
(1)
.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن أبي إسحاقَ، عن قيسِ بنِ كُركُمٍ، قال: سألتُ ابنَ عباسٍ رحمه الله عن قولِه: {لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} . قال: السائلُ الذي يسألُ، والمحرومُ المُحارَفُ الذي ليس له في الإسلام سَهْمٌ
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرَ المُقَدَّميُّ، قال: ثنا قريشُ بنُ أنسٍ، عن سليمانَ، عن قتادةَ، عن سعيدِ بنِ المسيَّبِ: المحرومُ المُحارَفُ
(3)
.
حدَّثنا ابنُ المثنى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن منصورٍ، عن إبراهيمَ، قال في {وَالْمَحْرُومِ}: هو المحارَفُ الذي ليس له أَحدٌ يَعْطِفُ عليه، أو يُعطِيه شيئًا
(4)
.
حدَّثنا ابنُ المثنى، قال: ثنى [وهبُ بنُ جريرٍ]
(5)
، قال: ثنا شعبةُ، عن عاصمٍ، عن أبي قلابةَ، قال: جاء سَيْلٌ باليمامةِ، فذهَب بمالِ رجلٍ، فقال رجلٌ مِن أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: هذا المحرومُ
(6)
.
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 395.
(2)
أخرجه أبو عبيدة في الأموال (1757) عن عبد الرحمن به
(3)
ذكره القرطبي في تفسيره 17/ 38، والجصاص في أحكام القرآن 5/ 295، والبغوي في تفسيره 7/ 374.
(4)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 244 بنحوه، وابن أبي شيبة 12/ 413 من طريق منصور به.
(5)
في الأصل: "ابن وهب بن جريج".
(6)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 113 إلى ابن المنذر.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا ابنُ عليةَ، قال: أخبَرنا أيوبُ، عن نافعٍ، قال: المحرومُ المُحارَفُ
(1)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: ثنى مسلمُ بنُ خالدٍ، عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: المحرومُ المُحارَفُ
(1)
.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هشيمٌ، قال: أخبَرنا حجَّاجٌ، عن الوليدِ بنُ العَيْزارِ، عن سعيدِ بنِ جبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ أنَّه قال: المحرومُ هو المُحارَفُ
(2)
.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هشيمٌ، عن أبي بشرٍ، قال: سأَلْتُ سعيدَ بنَ جبيرٍ عن {وَالْمَحْرُومِ} ، فلم يَقُلْ فيه شيئًا. قال: وقال عطاءٌ: هو المحدودُ
(3)
المُحارَفُ
(4)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: أخبَرنا نافعُ بنُ يزيدَ، عن عمرِو بنِ الحارثِ، عن بُكَيرِ بنِ الأَشَجِّ، عن سعيدِ بنِ المسيَّبِ، أنه سُئِل عن {وَالْمَحْرُومِ} ، فقال: المُحارَفُ
(1)
.
ومن قائلٍ: هو المُتعَفِّفُ الذي لا يسأَلُ الناسَ شيئًا.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني بشرٌ، قال: ثنى يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 395.
(2)
أخرجه أبو عبيدة في الأموال (1756) عن هشيم به.
(3)
في الأصل: "المجهود".
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 114 إلى المصنف وعبد بن حميد.
حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}. هذان فقيرا أهلِ الإسلامِ، سائلٌ يسألُك في كفِّه، وفقيرٌ مُتَعفِّفٌ، ولكليهما عليك حقٌّ يا بنَ آدمَ.
حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بن ثورٍ، عن معمرٍ، عن الزهريِّ:{لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} . قال: السائلُ الذي يسألُك، والمحرومُ المُتَعفِّفُ الذي لا يسألُك
(1)
.
حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابنُ ثورٍ، قال: قال معمرٌ، وحدَّثني الزهريُّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"ليس المسكينُ الذي تَرُدُّهُ التَّمرةُ والتَّمْرَتان والأكْلَةُ والأَكْلَتان". قالوا: فمَن المسكينُ يا رسولَ اللَّهِ؟ قال: "الذي لا يَجِدُ غِنًى، ولا يُعْلمُ بحاجَتِه، فيُتَصَدَّقَ عليه، فذلك المحرومُ"
(1)
.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ في قولِه:{لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} . قال: السائلُ الذي يسألُ بكفِّه، والمحرومُ المُتَعفِّفُ، ولكليهما عليك حقٌّ يا بنَ آدمَ
(2)
.
وقائلٍ: هو الذي لا سَهْمَ له في الغنيمةِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن قيسِ بنِ مسلمٍ، عن الحسنِ بنِ محمدٍ أنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَث سَرِيَّةً، فَغَنِموا، فجاء قومٌ لم
(3)
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 243 عن معمر به.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 113 إلى المصنف وابن المنذر.
(3)
سقط من: م، ص، ت 1، ت 2، ت 3.
يَشهدوا
(1)
الغنيمةَ، فنزَلت هذه الآيةُ: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ
(2)
لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}
(3)
.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا يحيى بن أبي زائدةَ، عن سفيانَ، عن قيسِ بنِ مسلمٍ الجَدَليِّ، عن الحسنِ بن محمدٍ، قال: بُعِثَتْ سَرِيَّةٌ فَغنِموا، ثم جاء قومٌ مِن بعدِهم، قال: فنزَلت: {لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} .
حدَّثنا ابنُ المثنى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن الحكمِ، عن إبراهيمَ أنَّ أُناسًا قَدِموا على عليٍّ، رحمه الله، الكوفةَ بعدَ وَقْعَةِ الجَمَلِ، فقال: اقْسِموا لهم. وقال: هذا المحرومُ
(4)
.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا أبو نعيمٍ، عن سفيانَ، عن قيسِ بن مسلمٍ، عن الحسنِ بنِ محمدٍ أنَّ قومًا في زمانِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أصابوا غنيمةً، فجاء قومٌ بعدُ، فنزَلت:{وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} .
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا حكَّامٌ، قال: ثنا عمرٌو، عن منصورٍ، عن إبراهيمَ: قال: {وَالْمَحْرُومِ} . الذي لا فَيْءَ له في الإسلامِ، وهو مُحارَفٌ مِن الناسِ
(5)
.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن منصورٍ، عن إبراهيمَ قولَه:{لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} . قال: المحرومُ: الذي لا يجرِي عليه شيءٌ مِن الفَيءِ، وهو مُحارَفٌ مِن الناسِ
(5)
.
وقائلٍ: هو الذي لا يَنْمِي له مالٌ.
(1)
في م: "يشهدون".
(2)
بعده في الأصل، ص:"معلوم".
(3)
أخرجه أبو عبيد في الأموال (1758) عن عبد الرحمن به، وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 244، وابن أبي شيبة 12/ 412 من طريق سفيان به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 113 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة 12/ 412 من طريق شعبة به.
(5)
تقدم تخريجه في ص 513.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أبو السائبِ، قال: ثنا ابنُ إدريسَ، عن حُصينٍ، قال: سألتُ عكرمةَ، عن السائلِ والمحرومِ؟ قال: السائلُ الذي يسألُك، والمحرومُ الذي لا يَنْمِي له مالٌ
(1)
.
وقائلٍ: هو الذي قد ذهبَ ثمرُه وزرعُه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونسُ قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ، في قولِه:[{وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}]
(2)
. قال: المحرومُ المصابُ ثمرُه وزرعُه، وقرَأ:{أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ} . حتى بلَغ: {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} [الواقعة: 63 - 67]. وقال أصحابُ الجنةِ: {إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} [القلم: 26، 27].
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: أخبَرني عبدُ اللَّهِ بنُ عياشٍ
(3)
، قال: قال زيدُ بنُ أسلمَ في قولِ اللَّهِ: [{وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}](2). قال: ليس ذلك بالزكاةِ، ولكن ذلك مما يُنْفِقون من أموالِهم بعدَ إخراجِ الزكاةِ. والمحرومُ الذي يُصابُ زرعُه أو ثمرُه أو نسلُ ماشيتِه، فيكونُ له حقٌّ على من لم يُصِبْه ذلك من المسلمين، كما قال لأصحابِ الجنةِ حينَ أهلَك جنتَهم، قالوا:{بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} . وقال أيضًا: {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ}
(4)
[الواقعة: 65 - 67].
(1)
ذكره الجصاص في أحكام القرآن 5/ 295، والقرطبي في تفسيره 17/ 38.
(2)
في الأصل، ص، ت 1، ت 2، ت 3:"والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم".
(3)
في الأصل، ص، ت 1، ت 2، ت 3:"عباس". ينظر تهذيب الكمال 15/ 410.
(4)
ذكره البغوي في تفسيره 7/ 375.
وكان الشعبيُّ يقولُ في ذلك ما حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا ابنُ عليةَ، عن ابنِ عونٍ، قال: قال الشعبيُّ: أعياني أنْ أعْلمَ ما المحرومُ
(1)
؟
والصوابُ مِن القولِ في ذلك عندي أنه الذي قد حُرِم الرزقَ فاحتاجَ؛ وقد يكونُ ذلك بذَهابِ مالِه وثمرِه، فصار ممن حرَمه اللَّهُ ذلك، وقد يكونُ بسببِ تعفُّفِه وتَرْكِه المسألةَ، ويكونُ بأنه لا سَهْمَ له في الغنيمةِ، لغَيْبَتِه عن الوقعةِ، فلا قولَ في ذلك أولى بالصوابِ مِن أن يُعَمَّ، كما قال جلَّ ثناؤُه:{وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} .
القولُ (*) في تأويلِ قولِه تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: وفي الأرضِ عِبَرٌ وعِظاتٌ لأهلِ اليقينِ بحقيقةِ ما عايَنوا ورأَوْا إذا ساروا فيها.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ في قولِه:{وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ} . قال: يقولُ: مُعْتَبَرٌ لمن اعْتَبَر
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 114 إلى عبد بن حميد.
(*) من هنا خرم في مخطوطة جامعة القرويين التي يرمز لها بـ "الأصل" وينتهي في الصفحة القادمة.
(2)
أخرجه أبو الشيخ في العظمة (17)، من طريق ابن عبدِ الأعلى به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 114 إلى ابن المنذر.
لِلْمُوقِنِينَ}: إذا سار في أرضِ اللَّهِ رأى عِبَرًا وآياتٍ عظامًا
(1)
.
وقولُه: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} . اختلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِ ذلك؛ فقال بعضُهم: معنى ذلك: وفي سبيلِ الخلاءِ والبولِ في أنفسِكم عِبْرَةٌ لكم، ودليلٌ لكم على ربِّكم، أفلا تُبْصِرون إلى ذلك منكم.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا أحمدُ بنُ عبدِ الصمدِ الأنصاريُّ، قال: ثنا أبو أُسامةَ، عن ابنِ جريجٍ، عن ابنِ المرتفعِ، قال: سمعتُ ابنَ الزبيرِ يقولُ: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} . قال: سبيلُ الغائطِ والبولِ.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا مِهْرانُ، عن سفيانَ، عن ابنِ جريجٍ، عن محمدِ بنِ المرتفعِ، عن عبدِ اللَّهِ بن الزبيرِ:{وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} . قال: سبيلُ الخلاءِ والبولِ
(2)
.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وفي تسويةِ اللَّهِ تبارك وتعالى مَفَاصِلَ أبدانِكم وجوارحِكم، دَلالةٌ لكم على أنْ خُلِقْتُم لعبادتِه.
ذكرُ مَن قال ذلك (*)
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} . وقرَأ قولَ اللَّهِ عز وجل: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ
(1)
ذكره القرطبي في تفسيره 17/ 40.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 244، والبيهقي في الشعب (8208) من طريق ابن جريج به، وعزاه ابن حجر في الفتح 8/ 599 إلى المصنف، والسيوطي في الدر المنثور 6/ 114 إلى الفريابي وسعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(*) هنا ينتهي الخرم في مخطوطة جامعة القرويين التي يرمز لها بـ "الأصل" المشار إليه في الصفحة السابقة.
مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ} [الروم: 20]. قال: وفينا آياتٌ كثيرةٌ، هذا السمعُ والبصرُ واللسانُ والقلبُ، [لا يَدْري أحدٌ ما هو أسودُ أو أحمرُ، وهذا الكلامُ الذي يَتَلَجْلَجُ به، وهذا القلبُ]
(1)
أيُّ شيءٍ هو، إنما هو بِضْعَةٌ
(2)
في جوفِه، يجعلُ اللَّهُ فيه العقلَ، أفيَدْري أحدٌ ما ذاك العقلُ، وما صفتُه، وكيف هو
(3)
؟!
والصوابُ من القولِ في ذلك أن يقالَ: معنى ذلك: وفي أنفسِكم أيُّها الناسُ أيضًا آياتٌ وعِبَرٌ، تدُلُّكم على وحدانيةِ صانِعكم، وأنه لا إلهَ لكم سواه، إذ كان لا شيءَ يَقْدِرُ أن يخلقَ مثلَ خَلْقِه إيَّاكم. {أَفَلَا تُبْصِرُونَ}. يقولُ: أفلا تَنْظُرون في ذلك، فتَتَفَكروا فيه، فتعلَموا حقيقةَ وحدانيةِ خالقِكم.
وقولُه: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ} . يقولُ تعالى ذكرُه: وفي السماءِ المطرُ والثَّلْجُ اللذان بهما تُخرِجُ الأرضُ رزقَكم، وقوتَكم من الطعامِ والثمارِ وغيرِ ذلك.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال بعضُ أهلِ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عبدِ اللَّهِ بنِ بزيعٍ، قال: ثنا النَّضْرُ
(4)
، قال: ثنا جوَيبرٌ، عن الضحاكِ في قولِه:{وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ} . قال: المطرُ
(5)
.
حدَّثنا أبو كريبٍ، قال: ثنا ابنُ يمانٍ، عن أشعثَ، عن جعفرٍ، عن سعيدِ بنِ جبيرٍ في قولِه عز وجل:{وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} . قال: الثَّلْجُ،
(1)
سقط من: الأصل.
(2)
في م، ص، ت 1، ت 2، ت 3:"مضغة". والبضعة القطعة من اللحم. اللسان (ب ض ع).
(3)
ذكره القرطبي في تفسيره 17/ 40.
(4)
بعده في الأصل: "بن خلد". ينظر تهذيب الكمال 25/ 453.
(5)
أخرجه أبو الشيخ في العظمة (746) من طريق جويبر به
وكلُّ عينٍ ذائبةٍ من الثلجِ لا تَنْقُصُ
(1)
.
حدَّثني يونسُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا سفيانُ، عن عبدِ الكريمِ، عن الحسنِ، قال: في السحابِ، فيه واللَّهِ رزقُكم، ولكنكم تُحْرَمُونه بخطاياكم وأعمالِكم
(1)
.
حدَّثنا يونسُ، قال: أخبَرني سفيانُ، عن إسماعيلَ بنِ أميةَ، قال: أحسَبُه قال: أو غيرَه، أنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سمِع رجلًا ومُطِروا، يقولُ: مُطِرْنا ببعضِ عثانينِ
(2)
الأسدِ. فقال: "كَذَبْتَ بل هو رزْقُ اللَّهِ"
(3)
.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا مِهْرَانُ، عن سفيانَ، عن مجاهدٍ:{وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} . قال: رزقُكم المطرُ
(4)
.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا مِهْرانُ، عن سفيانَ:{وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ} . قال: رزقُكم المطرُ.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ومِن عندِ اللَّهِ الذي في السماءِ رزقُكم، وممن تأوَّله كذلك واصلٌ الأحدبُ.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا هارونُ بنُ المغيرةِ من أهلِ الرَّيِّ
(5)
، عن سفيانَ الثوريِّ، قال: قرَأ واصلٌ الأحدبُ هذه الآيةَ: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} . فقال: ألا إنَّ رزقي في السماءِ وأنا أطلبُه في الأرضِ، فدخَل خَرِبةً فمكَث ثلاثًا لا
(1)
ذكره القرطبي في تفسيره 17/ 41.
(2)
قال سفيان: عثانين الأسد الذراع والجبهة. التمهيد 16/ 284، والقرطبي في تفسيره 17/ 230.
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 8/ 24 عن المصنف، وذكره ابن عبدِ البر في التمهيد 16/ 284، والقرطبي في تفسيره 17/ 230 عن سفيان به.
(4)
ذكره البغوي في تفسيره 7/ 375، وابن كثير في تفسيره 7/ 396.
(5)
في م، ص:"الرأي".
يُصيبُ شيئًا، فلما كان اليومُ الثالثُ إذا هو بدَوْخَلَّةٍ
(1)
من رُطَبٍ، وكان له أخٌ أحسنُ نِيَّةً منه، فدخل معه، فصارتا دَوْخَلَّتَيْن، فلم يَزَلْ ذلك دأْبَهما، حتى فرَّق الموتُ بينَهما
(2)
.
واختلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِ قولِه: {وَمَا تُوعَدُونَ} . فقال بعضُهم: معنى ذلك: وما توعدون من خيرٍ، أو شرٍّ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا مِهْرانُ، عن سفيانَ، عن مجاهدٍ:{وَمَا تُوعَدُونَ} . قال: وما توعدون من خيرٍ أو شرٍّ.
حدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} . يقولُ: الجنةُ في السماءِ، وما توعدون من خيرٍ أو شرٍّ
(3)
.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وما توعدون من الجنةِ والنارِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عبدِ اللَّهِ بنِ بزيعٍ، قال: ثنا النَّضْرُ، قال: أخبَرنا جويبرٌ، عن الضحاكِ في قولِه:{وَمَا تُوعَدُونَ} . قال: الجنةُ والنارُ
(4)
.
(1)
الدَّوْخلَّة: سفيفة تنسج من خوص يوضع فيها التمر. التاج (د و خ ل).
(2)
ذكره القرطبي في تفسيره 17/ 41، وابن كثير في تفسيره 7/ 396.
(3)
تفسير مجاهد ص 619، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 114 إلى ابن المنذر.
(4)
أخرجه أبو الشيخ في العظمة (746) من طريق جويبر به.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا مِهْرانُ، عن سفيانَ:{وَمَا تُوعَدُونَ} : الجنةُ.
وأولى القولين بالصوابِ في ذلك عندي القولُ الذي قاله مجاهدٌ؛ لأنَّ اللَّهَ عمَّ الخبرَ بقولِه: {وَمَا تُوعَدُونَ} عن كلِّ ما وعَدَنا مِن خيرٍ أو شرٍّ، ولم يَخْصُصْ بذلك بعضًا دونَ بعضٍ، فهو على عمومِه كما عمَّه اللَّهُ جلَّ ثناؤُه.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه وجلَّ اسمُه مُقْسِمًا لخَلْقِه بنفسِه: فوربِّ السماءِ والأرضِ، إنَّ الذي قلتُ لكم أيُّها الناسُ: إنَّ في السماءِ رزقَكم وما توعدون - لحقٌّ، كما حقٌّ أنكم تَنْطِقون.
وقد حدَّثنا محمدُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا ابنُ أبي عديٍّ، عن عوفٍ، عن الحسنِ في قولِه:{فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} . قال: بلَغَني أنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "قاتَل اللَّهُ أقوامًا أَقْسَم لهم ربُّهم بنفسِه فلم يُصدِّقوه"
(1)
.
وقال الفرَّاءُ
(2)
: للجمعِ بينَ "ما" و"أنَّ" في هذا الموضعِ وجهان: أحدُهما: أن يكونَ ذلك نظيرَ جمعِ العربِ بينَ الشَّيْئَين مِن الأسماءِ والأدواتِ [إذا اختَلَفَ لفظُهما]
(3)
، كقولِ الشاعرِ في الأسماءِ
(4)
:
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 396 وعزاه لمسدد عن ابن أبي عدي به، والقرطبي في تفسيره 17/ 42، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 114 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(2)
معاني القرآن للفراء 3/ 84، 85.
(3)
سقط من: النسخ. والمثبت من معاني القرآن.
(4)
لم ينسبه الفراء، ونسبه البغدادي في خزانة الأدب 6/ 77 إلى أبي الرُّبيس المازني.
مِن النَّفَرِ اللَّائي الَّذين إذا همُ
…
يَهابُ اللِّئامُ حَلْقَةَ البابِ قَعْقَعُوا
فجمَع بينَ "اللَّائي""والَّذين"، وأحدُهما مُجْزِئٌ مِن الآخرِ، وكقولِ الآخرِ في الأدواتِ
(1)
:
ما إِنْ رأَيْتُ ولا سمِعتُ بِهِ
…
كاليومِ
(2)
طَالِيَ أَيْنُقٍ جُرْبِ
فجمَع بينَ "ما" وبينَ "إن"، وهما جَحْدان يُجْزِئُ أَحدُهما مِن الآخرِ. وأما الآخرُ: فهو لو أن ذلك أَفْرد بـ "ما"، لكان خبرًا عن أنه حقٌّ لا كَذِبٌ، وليس ذلك المعنيَّ به. وإنما أُريدَ به: إنه لحقٌّ كما حقٌّ أَنَّ الآدميَّ ناطقٌ. ألا ترى أنَّ قولَك: أَحَقٌّ مَنْطِقُك. معناه: أحقٌّ هو أم كَذِبٌ، وأن قولَك: أحقٌّ أَنَّكَ تَنْطِقُ. معناه [أللإنسانِ
(3)
النطقُ]
(4)
لا لغيرِه، فأُدْخِلَت "أَنَّ" ليُفَرَّقَ بها بينَ المَعْنَيَيْن. قال: فهذا أعجبُ الوجْهينِ إليَّ.
واختلَفت القرأَةُ في قراءةِ قولِه: {مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} ؛ فقرَأ ذلك عامةُ قرَأَةِ المدينةِ والبصرةِ: {مِثْلَ مَا} . نصبًا
(5)
. بمعنى: إنه لحقٌّ حقًّا يقينًا؛ كأنَّهم وجَّهوها إلى مذهبِ المصدرِ. وقد يجوزُ أن يكونَ نصبُها من أجْلِ أن العربَ تَنْصِبُها إذا رفعَتْ بها الاسمَ، فتقولُ: مثلَ مَن عبدُ اللَّهِ؟ وعبدُ اللَّهِ مثلَك، وأنت مثلُه، ومثلَه أنت رفعًا ونصبًا. وقد يجوزُ أن يكونَ نصبُها على مذهبِ المصدرِ، إنه لحقٌّ كنُطْقِكم. وقرَأ ذلك عامةُ قرَأَةِ الكوفةِ وبعضُ أهلِ البصرةِ رفعًا:(مِثْلُ ما أَنَّكُمْ)
(6)
.
(1)
هو دريد بن الصمة كما في شرح العيون 367، ومعاني القرآن للفراء 3/ 85.
(2)
بعده في الأصل: "هانئ".
(3)
في الأصل: "الإنسان". والمثبت من معاني القرآن.
(4)
في م: "للاستثبات"، وفي ص، ت 1، ت 2، ت 3:"للإنسان".
(5)
هي قراءة نافع وابن كثير وأبي جعفرٍ وأبي عمرو بن العلاء ويعقوب الحضرمي وعاصم في رواية حفص، وابن عامر. ينظر النشر 2/ 282.
(6)
هي قراءة حمزة والكسائي وخلف وأبي بكر. المصدر السابق.
على وجهِ النعتِ للحقِّ.
والصوابُ مِن القولِ في ذلك عندي أنهما قراءتان مستفيضتان في قرَأةِ الأمصارِ، متقاربتا المعنى، فبأيَّتِهما قرَأ القارئُ فمصيبٌ.
القولُ في تأويلِ قولِه جلَّ ثناؤُه: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26)} .
يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم، يُخبرُه أنه مُحِلٌّ بمن تمادى في غَيِّه، وأَصرَّ على كفرِه فلم يَتُبْ منه مِن كفارِ قومِه، ما أحَلَّ بمَن قبلَهم مِن الأممِ الخاليةِ، ومُذكِّرًا قومَه مِن قريشٍ بإخبارِه إيَّاهم أخبارَهم وقصصَهم، وما فعَل بهم: هل أتاك يا محمدُ حديثُ ضيفِ إبراهيمَ خليلِ الرحمنِ المُكْرَمِين.
يعني بقولِه: {الْمُكْرَمِينَ} : أنَّ إبراهيمَ عليه السلام وسارةَ خَدَماهم بأنفسِهما.
وقيل: إنما قيل: {الْمُكْرَمِينَ} . ما حدَّثني محمدُ بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} . قال: أكرَمهم إبراهيمُ، وأمَر أهلَه لهم بالعِجْلِ؛ حَسيلٍ
(1)
(2)
.
وقولُه: {إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ} . يقولُ: حينَ دخَل ضيفُ إبراهيمَ عليه،
(1)
في م: "حينئذٍ"، وفي ت 1:"الحنيذ"، وفي ت 3:"حنيذ". والحسيل: ولد البقرة الأهلية، وعم به بعضهم فقال: هو ولد البقرة. اللسان (ح س ل).
(2)
تفسير مجاهد ص 619، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 114 إلى عبد بن حميد وابن المنذر مختصرًا.
{فَقَالُوا} له: {سَلَامًا} . أي سَلَّموا سَلَامًا، {قَالَ سَلَامٌ} .
واختلَفتِ القرأةُ في قراءةِ ذلك؛ فقرأَتْه عامةُ قرَأَةِ المدينةِ والبصرةِ
(1)
: {قَالَ سَلَامٌ} بالألفِ، بمعنى: قال إبراهيمُ لهم: سلامٌ عليكم. وقرَأ ذلك عامةُ قرأةِ الكوفةِ
(2)
: (قال سِلْمٌ) بغيرِ ألفٍ، بمعنى: قال: أنتم سِلْمٌ.
وقولُه: {قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} . يقولُ: قومٌ لا نعرِفُكم، ورُفِع {قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} بإضمارِ أنتم.
وقولُه: {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ} . يقولُ: عدَل إلى أهلِه ورجَع. وكان الفرَّاءُ يقولُ
(3)
: الرَّوْغُ وإن كان على هذا المعنى فإنه لا يُنْطَقُ به حتى يكونَ صاحِبُه مُخْفِيًا لذهابِه أو مجيئِه، وقال: ألا تَرى أنك لا
(4)
تقولُ: قد راغ أهلُ مكةَ. وأنتَ تريدُ رجَعوا أو صدَروا، فلو أَخْفَى راجِعٌ رجُوعَه حسُنَت فيه: راغ ويروغُ.
وقولُه: {فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} . يقولُ: فجاء ضيفَه بعِجْلٍ سمينٍ قد أَنْضَجَه شيًّا.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} . قال: كان عامةُ مالِ نبيِّ اللَّهِ خليلِ الرحمنِ إبراهيمَ عليه السلام البَقَرَ
(5)
.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ
(1)
هي قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو بن العلاء وعاصم وابن عامر. ينظر حجة القراءات 679.
(2)
هي قراءة حمزة والكسائي. المصدر السابق.
(3)
معاني القرآن للفراء 3/ 86.
(4)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 114 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر.
وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29)}.
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: وقولُه: {فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ} . وفي الكلامِ متروكٌ اكْتُفِي بدَلالةِ الظاهرِ عليه منه، وهو: فقَرَّبه إليهم، فأمسَكوا عن أكلِه، فقال:{أَلَا تَأْكُلُونَ} .
{فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} [يقولُ: فأوجَس في نفسِه إبراهيمُ مِن ضَيْفِه خِيْفَةً]
(1)
وأضمَرها، {قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ}. يعني: بإسحاقَ، وقال:{عَلِيمٍ} . بمعنى عالمٍ إذا كَبِر.
وذكَر الفرَّاءُ
(2)
أنَّ بعضَ المشيخةِ كان يقولُ: إذا كان العلمُ
(3)
منتظَرًا قيل
(4)
: إنه لَعالِمٌ عن قليلٍ وفاقِهٌ
(5)
، وفي السيدِ: سائِدٌ، والكريمِ: كارِمٌ. قال: والذي قال حسَنٌ. قال: وهذا أيضًا كلامٌ عربيٌّ حسَنٌ قد قاله اللَّهُ في: عليمٍ وحليمٍ
(6)
وميِّتٍ
(7)
.
ورُوِي عن مجاهدٍ في قولِه: {بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} ما حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} . قال: إسماعيلَ
(8)
.
وإنما قلتُ: عُنِي به إسحاقُ؛ لأن البشارةَ كانت بالولدِ مِن سارةَ، وإسماعيلُ لهاجَرَ لا لسارةَ.
(1)
سقط من: الأصل.
(2)
معاني القرآن للفراء 3/ 86، 87.
(3)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"للعلم".
(4)
في معاني القرآن: "لمن يوصف به قلت في العليم إذا لم يعلم".
(5)
في م، ت 2:"غاية".
(6)
في م: "حكيم".
(7)
في الأصل: "منيب".
(8)
تفسير مجاهد ص 619، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 114 إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
وقولُه: {فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ} . يعني: سارةُ، وليس ذلك إقبالَ نُقْلَةٍ مِن موضعٍ إلى موضعٍ، ولا تَحوُّلٍ مِن مكانٍ إلى مكانٍ، وإنما هو كقولِ القائلِ: أَقبَل يَشْتُمُني. بمعنى: أَخَذ في شتْمِي. وقولُه: {فِي صَرَّةٍ} . يعني: في صَيْحَةٍ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{فِي صَرَّةٍ} . يقولُ: في صَيْحَةٍ
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا} . يعني بالصَّرَّةِ الصَّيْحَةَ.
وحدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{فِي صَرَّةٍ} . قال: صَيْحَةٍ
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ} . أي: أقبَلَت في رَنَّةٍ
(3)
.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره - كما في الإتقان 2/ 44 - من طريق أبي صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 114 إلى ابن المنذر.
(2)
تفسير مجاهد ص 620، ومن طريقه الفريابي - كما في تغليق التعليق 4/ 319، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 114 إلى سعيد بن منصور وابن المنذر مطولًا.
(3)
الرنة: الصيحة الحزينة. اللسان (ر ن ن).
حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ في قولِه:{فِي صَرَّةٍ} . قال: أَقْبَلَت تَرِنُّ
(1)
.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا مِهْرانُ، قال: ثنا سفيانُ، عن العلاءِ بنِ عبدِ الكريمِ الإياميِّ، عن ابنِ سابطٍ قولَه:{فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ} . قال: في صَيْحَةٍ.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ} . قال: الصَّرَّةُ الصيحةُ.
حُدِّثتُ عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبَرنا عبيدٌ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {فِي صَرَّةٍ} . يعني: في صيحةٍ
(2)
.
وقد قال بعضُهم: إنَّ تلك الصيحةَ "أوْهِ" مقصورةَ الألفِ.
وقولُه: {فَصَكَّتْ وَجْهَهَا} . اختلف أهلُ التأويلِ في معنى صَكِّها، والموضعِ الذي ضَرَبَتْه من وجْهِها؛ فقال بعضُهم: معنى صَكِّها وجْهَها لطمُها إيَّاه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{فَصَكَّتْ وَجْهَهَا} . يقولُ: لَطَمَت
(3)
.
وقال آخرون: بل ضَرَبَتْ بيدِها جَبْهَتَها تعجُّبًا.
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 244 عن معمرٍ به.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 398.
(3)
تقدم تخريجه في الصفحة السابقة.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني موسى بنُ هارونَ، قال: ثنا عمرُو بنُ حمادٍ، قال: ثنا أسباطُ، عن السديِّ، قال: لما بَشَّر جبريلُ سارةَ بإسحاقَ، ومن وراءِ إسحاقَ يعقوبَ، ضَرَبَت جَبْهَتَها عجَبًا، فذلك قولُه:{فَصَكَّتْ وَجْهَهَا}
(1)
.
حدَّثني محمدُ بن عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{فَصَكَّتْ وَجْهَهَا} . قال: جَبْهَتَها
(2)
.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا مِهْرانُ، عن سفيانَ، عن العلاءِ بن عبدِ الكريمِ الإياميِّ، عن ابنِ سابطٍ قولَه:{فَصَكَّتْ وَجْهَهَا} . قال: قالت هكذا، وضَرَب سفيانُ بيدِه على جَبْهتِه
(3)
.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا مِهْرانُ، عن سفيانَ:{فَصَكَّتْ وَجْهَهَا} . قال: وضَعَت يدَها على جَبْهَتِها تعجُّبًا
(4)
.
والصَّكُّ عند العربِ هو الضَّرْبُ. وقد قِيل
(5)
: إن صَكَّها وجْهَها كان أَنْ جَمَعَت أصابعَها، فَضَرَبَت بها جَبْهَتَها، {وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ}. يقولُ: وقالت: أتَلِدُ عجوزٌ عقيمٌ؟!، وحُذِفت "أتَلِدُ" لدلالةِ الكلامِ عليه، وبضميرِ "أَتَلِدُ" رُفِعَت، {عَجُوزٌ عَقِيمٌ} . وعُنِي بالعقيمِ التي لا تَلِدُ.
(1)
عزاه الحافظ في الفتح 8/ 599 إلى المصنف، وذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 398 بمعناه.
(2)
تفسير مجاهد ص 620، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 114 إلى سعيد بن منصور وابن المنذر.
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 398.
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 398، والقرطبي في تفسيره 17/ 47، وعزاه الحافظ في الفتح 8/ 599 إلى المصنف.
(5)
معاني القرآن للفراء 3/ 87.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابنُ المثنى، قال: ثنا سليمانُ أبو داودَ، قال: ثنا شعبةُ، عن مُشَاشٍ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {عَجُوزٌ عَقِيمٌ} . قال: لا تَلِدُ.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنى هشيمٌ، قال: أخبَرنا شيخٌ
(1)
مِن أهلِ خُراسانَ مِن الأَزدِ، يُكْنَى أبا ساسانَ، قال: سألتُ الضحاكَ عن: {عَجُوزٌ عَقِيمٌ} . قال: التي ليس لها ولدٌ
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه مخبرًا عن قيلِ ضيفِ إبراهيمَ صلواتُ اللَّهِ عليهم، لزوجتِه إذ قالت لهم، وقد بشَّروها بغلامٍ عليمٍ: أتلدُ عجوزٌ عقيمٌ؟! {قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ} . يقولُ: هكذا قال ربُّك. أي: كما أخبَرْناكِ وقُلنا لكِ: {إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} . فالهاءُ في قولِه: {إِنَّهُ} . من ذكرِ الربِّ، هو الحكيمُ في تدبيرِه خَلْقَه، العليمُ بمصالحِهم، وبما كان، وبما هو كائنٌ.
وقولُه: {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ} . يقولُ: قال إبراهيمُ لضَيفِه: فما شأنُكم أيُّها المُرسلون.
{قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ} . قد أجرَموا بالكفرِ
(3)
باللَّهِ عز وجل.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ
(1)
في م، ت 2، ت 3:"رجلٌ".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 114 إلى سعيد بن منصورٍ وابن المنذر مطولًا.
(3)
في ص: "الكفر"، وفي م:"لكفرهم".
لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35)}.
قال أبو جعفرٍ: يقولُ عز وجل: {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ} . يقولُ: لنُمطِرَ عليهم من السماءِ حجارةً من طينٍ، {مُسَوَّمَةً}. يعني: مُعْلَمةً.
كما حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمِّي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ} . قال: المسوَّمَةُ: الحجارةُ المختومةُ
(1)
؛ يكونُ الحجرُ أبيضَ فيه نقطةٌ سوداءُ، أو
(2)
يكونُ الحجرُ أسودَ فيه نقطةٌ بيضاءُ، فذلك تسويمُها، {عِنْدَ رَبِّكَ} يا إبراهيمُ {لِلْمُسْرِفِينَ}. يعني: للمتَعَدِّين حدودَ اللَّهِ، الكافرين به من قومِ لوطٍ، {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} .
يقولُ تعالى ذكرُه: فأخرَجنا مَن كان في قريةِ سَدومَ - قريةِ قومِ لوطٍ - مِن أهلِ الإيمانِ باللَّهِ، وهم لوطٌ وابْنَتاه، وكَنَّى عن القريةِ بقولِه:{مَنْ كَانَ فِيهَا} . ولم يَجْرِ لها ذِكْرٌ قبلَ ذلك.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذِكرُه: فما وجَدْنا في تلك القريةِ التي أخرَجْنا منها مَن كان فيها من المؤمنين، غيرَ بيتٍ من المسلمين، وهو بيتُ لوطٍ.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} . قال: لو كان فيها أكثرُ مِن ذلك لأنْجاهمُ اللَّهُ؛ لتَعلَموا
(3)
أن
(1)
سقط من: الأصل.
(2)
في الأصل، ت 1:"و".
(3)
في ص، م، ت 2، ت 3:"ليعلموا".
الإيمانَ عندَ اللَّهِ محفوظٌ لا ضيعةَ على أهلِه
(1)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زِيدٍ في قولِه: {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} . قال: هؤلاء قومُ لوطٍ، لم يَجِدوا فيها غيرَ لوطٍ.
حدَّثني ابنُ عوفٍ، قال: ثنا [أبو المغيرةِ]
(2)
، قال: ثنا صفوانُ، قال: ثنا أبو المثنى ومسلمٌ أبو حِسْبَةَ
(3)
الأشجعيُّ: قال اللَّهُ: {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} : لوطًا وابنَتَيْه. قال: فحلَّ بهمُ العذابُ. قال اللَّهُ: {وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} .
وقولُه: {وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: وترَكنا في هذه القريةِ التي أخْرَجنا من كان فيها من المؤمنين آيةً، وقال جلَّ ثناؤُه:{وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً} . والمعنى: وترَكْناها آيةً؛ لأنها هي التي ائتفَكَت بأهلِها، فهي الآيةُ، وذلك كقولِ القائلِ يرى الشيءَ
(4)
: في هذا الشيءِ عبرةٌ وآيةٌ. ومعناه: هذا الشيءُ عبرةٌ وآيةٌ، كما قال جلَّ ثناؤُه:{لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ} [يوسف: 7]. وهم كانوا الآياتِ وفعلُهم، ويعني بالآيةِ العظةَ والعبرةَ، للذين يخافون عذابَ اللَّهِ الأليمَ في الآخرةِ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 115 إلى المصنف وابن المنذر.
(2)
في م: "المعتمر"، وفي ت 1، ت 3:"أبو المعر"، وفي ت 2:"أبو العز".
(3)
في الأصل: "الحنبل"، وفي ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"الحيل". والمثبت من التاريخ الكبير 7/ 254، وتاريخ دمشق 24/ 148، 25/ 478، وتهذيب الكمال 13/ 203، وهو مسلم بن أكيس أبو حسبة، وذكره ابن حبان في الثقات 5/ 394 فقال: مسلم أبو أكيس.
(4)
سقط من: م.
بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39)}.
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذِكرُه: وفي موسى بن عمرانَ إذ أَرْسَلْناه إلى فرعونِ مصرَ بحجَّةٍ تَبِينُ لمَن رآها أنها حجةٌ لموسى على حقيقةِ ما يقولُ ويَدْعُو إليه.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} . يقولُ: بعذرٍ مبينٍ.
وقولُه: {فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ} . يقولُ: فَأَدبَر فرعونُ عما
(1)
أَرْسَلْنا به
(2)
إليه موسى بقومِه من جندِه وأصحابِه.
وبنحوِ الذي قُلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ، وإن اختلَفت ألفاظُ قائليه فيه.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ} . يقولُ: بقوتِه
(3)
أو بقومِه
(4)
. [أبو جعفرٍ يشكُّ]
(5)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ} . قال: بعضُدِه وأصحابِه
(6)
.
(1)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"كما".
(2)
سقط من: م، ت 2، ت 3.
(3)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"لقومه".
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 115 إلى المصنف وابن المنذر، بلفظ:"بقومه".
(5)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"أنا أشك".
(6)
تفسير مجاهد 620.
حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ في قولِه:{فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ} [قال: بقومِه.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ} ]
(1)
: غلَب عدوُّ اللَّهِ على قومِه.
حدَّثنا يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زِيدٍ في قولِ اللَّهِ تبارك وتعالى: {فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ} . قال: بجُموعِه التي معه. وقَرأ: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود: 80]. قال: إلى قوَّةٍ من الناسِ؛ إلى رُكنٍ أجاهدُكم به. قال: وفرعونُ وجنودُه ومَن معه
(2)
ركْنُه. قال: وما كان مع لوطٍ مؤمنٌ واحدٌ. قال: وعرَض عليهم أن يُنكحَهم بناتِه؛ رجاءَ أن يكونَ له منهم عَضُدٌ يعينُه، أو يَدْفعُ عنه. وقرَأ:{هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} [هود: 78]. قال: يريدُ النكاح، فأبَوْا عليه. وقرَأ قولَ اللَّهِ تبارك وتعالى:{قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} [هود: 79]. وأصلُ الرُّكنِ الجانبُ والناحيةُ التي يعتمِدُ عليها ويَقْوَى بها.
وقولُه: {وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} . يقولُ: وقال: موسى
(3)
هو ساحرٌ يَسْحَرُ عيونَ الناسِ، أو مجنونٌ به جِنَّةٌ. وكان معمرُ بنُ المثنَّى يقولُ
(4)
: "أو" في هذا الموضعِ بمعنى "الواوِ" التي للمُوَالاةِ؛ لأنهم قد قالوهما جميعًا له، وأنشَد في ذلك
(1)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
والأثر أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 244 عن معمر به.
(2)
بعده في الأصل: "وهم".
(3)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"لموسى".
(4)
مجاز القرآن 2/ 227.
بيتَ جريرٍ الخَطَفَى
(1)
:
أَثَعلَبَةَ الفَوارسَ [أو رِياحا]
(2)
…
عَدَلْتَ بهِم طُهَيَّةَ والخِشابا
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذِكرُه: فأَخَذْنا فرعونَ وجنودَه بالغضبِ مِنَّا
(3)
والأسَفِ، {فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ}. يقولُ: فألْقَيناهم في البحرِ، فغَرَّقناهم فيه، {وَهُوَ مُلِيمٌ}. يقولُ: وفرعونُ مُليمٌ. والمُليمُ هو الذي قد أتى ما يُلامُ عليه من الفِعلِ.
وكان قتادةُ يقولُ في ذلك ما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَهُوَ مُلِيمٌ} . أي: مُليمٌ في نِقْمَةِ
(4)
اللَّهِ.
حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ في قولِه:{وَهُوَ مُلِيمٌ} . قال: مُليمٌ في عبادِ اللَّهِ
(5)
وذُكِر أن ذلك في قراءةِ عبدِ اللَّهِ: (فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُ
(6)
).
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42)} .
(1)
ديوانه 2/ 814.
(2)
في الأصل: "أم رباحا".
(3)
في الأصل: "بنا".
(4)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"نعمة".
(5)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 245 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 115 إلى ابن المنذر.
(6)
في الأصل: "فنبذناهم".
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذِكْرُه: وفِي عادٍ أيضًا وما فعَلْنا بهم آيةٌ لهم وعبرةٌ: {إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} . يعني بالريحِ العقيمِ: التي لا تُلْقِحُ الشجرَ.
وبنحوِ الذي قُلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابنُ حُمَيدٍ، قال: ثنا مِهْرانُ، عن سفيانَ، عن خَصِيفٍ، عن عكرِمةَ، عن ابنِ عباسٍ، قال: الريحُ العقيمُ الريحُ الشديدةُ التي لا تُلْقِحُ شيئًا
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمِّي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{الرِّيحَ الْعَقِيمَ} . قال: لا تُلْقِحُ الشجرَ، ولا تُثيرُ السَّحابَ
(2)
.
حدَّثنا محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ
(3)
: {الرِّيحَ الْعَقِيمَ} . قال: ليس فيها رحمةٌ ولا نباتٌ، ولا تُلْقِحُ نباتًا
(4)
.
حدَّثنا ابنُ المثنَّى، قال: ثنا سليمانُ أبو داودَ، قال: أخبَرنا شعبةُ، عن مُشَاشٍ
(5)
، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {الرِّيحَ الْعَقِيمَ} . قال: لا
(1)
أخرجه الحاكم 2/ 467 من طريق سفيان به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 115 إلى الفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 115 إلى المصنف.
(3)
بعده في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"هذا".
(4)
تفسير مجاهد ص 620، ومن طريقه الفريابي - كما في تغليق التعليق 4/ 319 - ، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 115 إلى ابن المنذر.
(5)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"مساس"، وفي م:"شاس". ينظر تهذيب الكمال 28/ 5.
تُلْقِحُ
(1)
.
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا هشيمٌ، قال: أخبَرنا شيخٌ مِن أهلِ خُراسانَ من الأزدِ
(2)
، يُكنى أبا ساسانَ، قال: سألتُ الضحاكَ بنَ مزاحمٍ عن قولِه: {الرِّيحَ الْعَقِيمَ} . قال: الريحَ التي ليس فيها
(3)
بركةٌ، ولا تُلْقِحُ الشجرَ.
حدَّثنا محمدُ بنُ عبدِ اللَّهِ الهلاليُّ، قال: ثنا أبو عليٍّ الحنفيُّ، قال: ثنا ابنُ أبي ذئبٍ، عن الحارثِ [بنِ عبدِ الرحمنِ]
(4)
، عن سعيدِ بنِ المسيَّبِ، أنه كان يقولُ: الرّيحُ العَقِيمُ الجنوبُ.
[حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: حدَّثني ابنُ أبي ذئبٍ
(5)
، عن الحارثِ بنِ عبدِ الرحمنِ، عن سعيدِ بنِ المسيَّبِ أنه كان يقولُ: الريحُ العقيمُ الجنوبُ]
(6)
.
حدَّثنا أحمدُ بنُ الفرجِ، قال: ثنا ابنُ أبي فُدَيكٍ، قال: ثنا ابنُ أبي ذئبٍ، عن خالِه الحارثِ بنِ عبدِ الرحمنِ، [أنه سَمِع سعيدَ بنَ المسيَّبِ]
(7)
، يقولُ: العَقِيمُ
(8)
الجنوبُ.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 114، 115 إلى سعيد بن منصور وابن المنذر.
(2)
بعده في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"و".
(3)
في ت 2، ت 3:"بها".
(4)
سقط من: الأصل، ت 2، وفي ت 1:"بن أبي عبد الرحمن"، وفي ت 3:"عن عبد الرحمن".
(5)
في الأصل: "زيد". ينظر تهذيب الكمال 5/ 255.
(6)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
والأثر أخرجه أبو الشيخ في العظمة (850) من طريق ابن وهب به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 115 إلى ابن المنذر.
(7)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(8)
بعده في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"يعني".
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} : إن من الريحِ عقيمًا وعذابًا حينَ تُرسَلُ، لا تُلْقِحُ شيئًا، ومن الريحِ رحمةً يثيرُ اللَّهُ تبارك وتعالى بها السَّحابَ، ويُنزِلُ بها الغَيْثَ. وذُكِر لنا أن رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كان يقولُ:"نُصِرتُ بالصَّبا، وأُهلِكت عادٌ بالدَّبورِ"
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا [شعبةُ، عن الحكمِ، عن مجاهدٍ]
(2)
، عن ابنِ عباسٍ مثلَه
(3)
.
حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ في قولِه:{الرِّيحَ الْعَقِيمَ} . قال: الريحَ التي لا تُنبِتُ
(4)
.
حُدِّثتُ عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبَرنا عبيدٌ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {الرِّيحَ الْعَقِيمَ} : التي لا تُلْقِحُ شيئًا.
حدَّثني ابنُ حميدٍ، قال: ثنا مِهْرانُ، عن سفيانَ، قال:{الرِّيحَ الْعَقِيمَ} : التي لا تُلْقِحُ
(5)
شيئًا.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} . قال: إن اللَّهَ تبارك وتعالى يُرسِلُ [الرياحَ نَشْرًا]
(6)
(1)
أخرجه أبو الشيخ في العظمة (832) من طريق سعيد به، والمرفوع أخرجه الطبراني في الأوسط (7841)، وفي الصغير (1069)، والخطيب في تاريخه 6/ 5، 207 وغيرهما من طريق قتادة عن أنس.
(2)
في م: "سعيد عن قتادة".
(3)
أخرجه الطيالسي (2763)، وأحمد 3/ 461 (2013)، والبخاري (1035)، ومسلم (900)، وابن حبان (6421)، والطبراني (11044)، والبيهقي 3/ 364 من طريق شعبة به.
(4)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 245 عن معمر به
(5)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"تنبت".
(6)
في م: "الريح بشرا". وينظر ما تقدم في 10/ 251 - 253.
بينَ يَدَى رحمتِه، فيُحيى بها
(1)
الأصلَ والشَّجرَ، وهذه لا تُحيى ولا تُلقِحُ، هي عقيمٌ ليس فيها مِن الخيرِ شيءٌ، إنما هي عذابٌ، لا تُلْقِحُ شيئًا، وهذه تُلْقِحُ. وقرَأ:{وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} [الحجر: 22].
وقولُه: {مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} . [يقولُ تعالى ذكرُه: ما تدَعُ هذه الريحُ شيئًا أتتْ عليه إلا جعَلتْه كالرميمِ]
(2)
. والرَّميمُ في كلامِ العربِ: ما يَبِس من نباتِ الأرضِ ودِيسَ.
وبنحوِ الذي قُلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ، وإن اختلَفت ألفاظُهم بالعبارةِ عنه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمِّي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} . قال: كالشيءِ الهالِكِ
(3)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{كَالرَّمِيمِ} . قال: الشيءِ
(4)
الهالِكِ
(5)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{كَالرَّمِيمِ} : رميمِ
(1)
في ص، م، ت 2، ت 3:"به".
(2)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 115 إلى المصنف.
(4)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"كالشيء".
(5)
تفسير مجاهد ص 620، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 115 إلى ابن المنذر.
الشجرِ.
حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ في قولِه:{إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} . قال: كرميمِ الشجرِ
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذِكرُه: وفي ثمودَ أيضًا لهم عبرةٌ ومُتَّعَظٌ، إذ قال لهم ربُّهم:[{تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ}. يعني: إلى [وقتِ فناءِ آجالِكم]
(2)
.
وقولُه: {فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ} ]
(3)
. يقولُ: فتكَبَّروا عن أمرِ ربِّهم، وعَلَوا استكبارًا عن طاعةِ اللَّهِ.
كما حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ} . قال: عَلَوْا
(4)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ} . قال العاتي العاصي التاركُ لأمْرِ اللَّهِ عز وجل.
وقولُه: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ} . يقولُ تعالى ذكرُه: فأخذَتهم صاعقةُ
(5)
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 245 عن معمر به.
(2)
غير واضحة في الأصل، والمثبت من تفسير ابن كثير من قول المصنف. ينظر تفسير ابن كثير 7/ 400.
(3)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(4)
تفسير مجاهد ص 620، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 115 إلى عبدِ بن حميد وابن المنذر.
(5)
في الأصل: "الصاعقة".
العذابِ
(1)
فجأةً.
وبنحوِ الذي قُلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ}
(2)
: وهم ينتَظِرون، وذلك أن ثمودَ وُعِدَتِ العذابَ قبلَ نزولِه بهم بثلاثةِ أيامٍ، وجُعِل لِنُزولِه عليهم علاماتٌ في تلك الثلاثةِ، فظهَرتِ العلاماتُ التي جُعِلت لهم، الدالةُ على نُزولِها في تلك الأيامِ، فأصبَحوا في اليومِ الرابعِ مُوقنين بأنَّ العذابَ بهم نازلٌ، يَنْتَظِرون حلولَه بهم
(3)
.
وقرَأت قرَأةُ الأمصارِ خلا الكسائيِّ: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ} بالألفِ
(4)
. ورُوِي عن عمرَ بنِ الخطابِ رضي الله عنه أنَّه قرَأ ذلك: (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّعْقَةُ). بغيرِ ألفٍ.
حدَّثنا ابنُ حُمَيدٍ، قال: ثنا مِهْرانُ، عن سفيانَ، عن السديِّ، عن عمرِو بنِ ميمونٍ الأودِيِّ، أن عمرَ بنَ الخطابِ رضي الله عنه قرَأ:(فَأَخَذَتْهُمُ الصَّعْقَةُ)
(5)
.
(1)
بعده في ت 3: "فماتوا".
(2)
بعده في الأصل كلام غير واضح بمقدار خمس كلمات، وبعده في ت 3:"قال".
(3)
البحر المحيط 8/ 141.
(4)
ينظر حجة القراءات ص 680.
(5)
ذكره القرطبي في تفسيره 17/ 51، وأبو حيان في البحر المحيط 8/ 141.
وكذلك قرَأ الكسائيُّ. وبالألفِ نقرَأُ: {الصَّاعِقَةُ} . لإجماعِ الحجَّةِ من القرَأةِ عليها
(1)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (46)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذِكرُه: فما استَطاعوا من دفاعٍ لما نزَل بهم من عذابِ اللَّهِ، ولا قَدَروا على نَهوضٍ به.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ} . يقولُ: فما استَطاع القومُ نهوضًا لعقوبةِ
(2)
اللَّهِ تبارك وتعالى
(3)
.
حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ} . [قال: من نُهوضٍ
(4)
.
وكان بعضُ أهلِ العربيةِ يقولُ
(5)
: معنى قولِه: {فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ} ]
(6)
: فما قاموا بها. قال: ولو كانت فما استطاعوا من إقامةٍ. لكان صوابًا، وطَرْحُ الألفِ منها كقولِه:{أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا} [نوح: 17].
وقولُه: {وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ} . يقولُ: وما كانوا قادِرين على أن
(1)
وقراءة الكسائي متواترة.
(2)
في الأصل، ت 3:"بعقوبة".
(3)
ذكره البغوي في تفسيره 7/ 379 بمعناه.
(4)
أخرجه عبدِ الرزاق في تفسيره 2/ 245 عن معمر به.
(5)
هو الفراء، ينظر معاني القرآن 3/ 88.
(6)
سقط من: الأصل.
يستَقِيدوا
(1)
ممَّن أَحلَّ بهم العقوبةَ التي حلَّت بهم.
وكان قتادةُ يقولُ في تأويلِ ذلك ما حدَّثنا به بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ} . قال: ما كانت عندَهم من قُوَّةٍ يمتَنِعون بها من
(2)
اللَّهِ عز وجل
(3)
.
وقولُه: {وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} . اختَلَفَتِ القرَأةُ في قراءةِ قولِه: {وَقَوْمَ نُوحٍ} ؛ [فقرَأ ذلك عامَّةُ قرأةِ المدينةِ وبعضُ قرأةِ الكوفةِ: {وَقَوْمَ نُوحٍ}]
(4)
نصبًا
(5)
. ولنَصْبِ ذلك وجوهٌ؛ أحدُها: أن يكونَ "القومُ" عطفًا على الهاءِ والميمِ في قولِه: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ} . إذ كان كلُّ عذابٍ مُهلكٍ تُسَمِّيه العربُ صاعقةً، فيكونَ معنى الكلامِ حينَئذٍ: فأخذَتهم الصاعقةُ، وأخذَت قومَ نوحٍ من قبلُ. والثاني: أن يكونَ منصوبًا بمعنى الكلامِ، إذ كان فيما مضَى من أخبار الأممِ قبلُ دلالةٌ على المرادِ من الكلامِ، وأن
(6)
معناه: أهْلَكنا هذه الأممَ، وأهْلَكنا قومَ نوحٍ من قبلُ. والثالثُ أن يُضْمِرَ
(7)
له فعلًا ناصبًا، فيكونَ معنى الكلامِ: واذكُر لهم
(8)
قومَ نوحٍ، كما قال:{وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} [العنكبوت: 16]. ونحوِ ذلك، بمعنى: أخْبِرْهم واذْكُر لهم. وقرَأ ذلك عامَّةُ
(1)
في الأصل: "يستقيلوا"، وفي ص:"يستعيدوا" غير منقوطة، وفي ت 1:"يستعيذوا"، وفي ت 2:"يستفيدوا"، وفي ت 3:"يستعيدوا".
(2)
بعده في ت 3: "عذاب".
(3)
ذكره البغوي في تفسيره 7/ 379.
(4)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(5)
هي قراءة ابن كثير ونافع وابن عامر وعاصم. السبعة لابن مجاهد ص 609.
(6)
بعده في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"كان".
(7)
في الأصل: "يصير".
(8)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"له".
قرَأةِ الكوفةِ والبصرةِ (وقَوْمِ نُوحٍ) بخفضِ "القومِ" على معنى: وفي قومِ نوحٍ. عطفًا بالقومِ على موسى في قولِه: {وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ}
(1)
[الذاريات: 38].
والصوابُ من القولِ في ذلك أنهما قراءتان معروفتان في قرأةِ الأمصارِ، فبأيَّتِهما قرَأ القارئُ فمصيبٌ. وتأويلُ ذلك في قراءةِ من قَرأه خفضًا: وفي قومِ نوحٍ لهم أيضًا عبرةٌ، إذ أهْلَكناهم من قبلِ ثمودَ لمَّا كذَّبوا رسولَنا نوحًا.
{إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} . يقولُ: إنهم كانوا قومًا
(2)
مُخالِفين أمرَ اللَّهِ، خارِجين عن طاعتِه.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذِكرُه: والسماءَ رفَعناها سقفًا بقُوَّةٍ.
وبنحوِ الذي قُلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} . يقولُ: بقُوَّةٍ
(3)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ
(1)
هي قراءة أبي عمرو وحمزة والكسائي. المصدر السابق.
(2)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره - كما في الإتقان 2/ 44 - ، والبيهقي في الأسماء والصفات (252) من طريق أبي صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 115 إلى ابن المنذر.
قولَه: {بِأَيْدٍ} . قال: بقُوَّةٍ
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} . أي: بقُوَّةٍ
(2)
.
حدَّثنا ابنُ المثنى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن منصورٍ أنه قال في هذه الآيةِ:{وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} . قال: بِقُوَّةٍ.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} . قال: بِقُوَّةٍ، بشدَّةٍ
(3)
.
حدَّثنا ابنُ حُمَيدٍ، قال: ثنا مِهرانُ، عن سفيانَ:{وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} . قال: بقُوَّةٍ
(4)
.
وقولُه: {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} . يقولُ: [وإنا]
(5)
لذو سَعةٍ، بخَلْقِها وخَلْقِ مَا شِئْنا أن نخلُقَه، وقدرةٍ عليه. ومنه قولُه:{عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236]. يريدُ
(6)
به القويَّ.
وقال ابنُ زيدٍ في ذلك ما حدَّثني به يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} . قال: أوسَعَها
(1)
تفسير مجاهد ص 621، ومن طريقه البيهقي في الأسماء والصفات (253).
(2)
ينظر تفسير ابن كثير 7/ 400.
(3)
سقط من: م. والأثر ذكره الطوسي في التبيان 9/ 393.
(4)
بعده في ت 2، ت 3:"بشدة".
(5)
سقط من: م، ت 2، ت 3.
(6)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"يراد".
جل جلاله
(1)
.
وقولُه: {وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا} . يقولُ تعالى ذِكرُه: والأرضَ جَعَلْناها فِراشًا للخَلْقِ، {فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ}. يقولُ: فنِعمَ الماهِدُون لهم نحنُ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه: وخلَقنا
(2)
مِن كلِّ شيءٍ خلَقنا زوجين، وترَك "خلَقنا" الأولَ
(3)
استغناءً بدلالةِ الكلامِ عليه
(4)
.
واختُلِف في معنى قولِه: {خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} ؛ فقال بعضُهم: عُنِي به: ومن كلِّ شيءٍ خَلَقْنا نوعين مُختلِفين؛ كالشقاءِ والسعادةِ، والهُدَى والضلالةِ، ونحوِ ذلك.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا ابنُ عليةَ، قال: ثنا ابنُ جريجٍ، قال: قال مجاهدٌ في قولِه: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} . قال: الكفرَ والإيمانَ، والشقاءَ والسعادةَ، والهُدَى، والضلالةَ والليلَ والنَّهارَ، والسماءَ والأرضَ، والجنَّ والإنسَ، [والشمسَ والقمرَ]
(5)
.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا إبراهيمُ بنُ أبي الوزيرِ، قال: ثنا مَرْوانُ بنُ معاويةَ
(1)
ينظر البحر المحيط 8/ 142.
(2)
سقط من: الأصل، ص، ت 1، ت 2، ت 3.
(3)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"الأولى".
(4)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"عليها".
(5)
سقط من: الأصل، ص، م، ت 1.
والأثر عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 115، 116 إلى المصنف وابن المنذر، وينظر التبيان 9/ 393، وتفسير القرطبي 17/ 53.
الفزاريُّ، قال: ثنا عوفٌ، عن الحسنِ في قولِه:{وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} . قال: الشمسَ والقمرَ
(1)
.
وقال آخرون: بل
(2)
عُنِي بالزوجين الذَّكرُ والأنثى.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} . قال: ذكرًا
(3)
وأنثى، ذاك الزوجان. وقرَأ:{وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} [الأنبياء: 90]. قال: امرأتَه
(4)
.
وأولى القولين في ذلك بالصوابِ قولُ مجاهدٍ، وهو أن اللَّهَ تبارك وتعالى خلَق لكلِّ ما خلَق مِن خَلْقِه ثانيًا له
(5)
مخالِفًا في معناه، فكلُّ واحدٍ منهما زوجٌ للآخرِ، ولذلك قيل:{خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} . وإنما نبَّه جلَّ ثناؤُه بذلك مَن
(6)
خلَقه على قُدرتِه على خَلْقِ ما يشاءُ خَلْقَه من شيءٍ، وأنه ليس كالأشياءِ التي شأنُها فعلُ نوعٍ واحدٍ دونَ خلافِه، إذ كلُّ ما صفتُه فعلُ نوعٍ واحدٍ دونَ ما عداه، كالنارِ التي شأنُها التَّسخينُ ولا تصلحُ للتبريدِ، وكالثلجِ الذي شأنُه التبريدُ ولا يصلحُ للتسخينِ - فلا
(1)
ينظر التبيان 9/ 393.
(2)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(3)
في الأصل، ت 1، ت 2:"ذكر".
(4)
ذكره الطوسي في التبيان 9/ 393، والقرطبي في تفسيره 17/ 53، وأبو حيان في البحر المحيط 8/ 142.
(5)
ليس في: الأصل.
(6)
بعده في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"قوله".
يجوزُ أن يوصفَ بالكمالِ، وإنما كمالُ المدحِ للقادرِ
(1)
على فعلِ كلِّ ما يشاءُ فِعْلَه من الأشياءِ المتفقةِ والمختلفةِ.
وقولُه - جلَّ وعزَّ -: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} . يقولُ: لِتَذَكَّروا وتَعتَبروا بذلك، فتَعلَموا، أيها المشرِكون باللَّهِ، أن ربَّكم الذي يستوجبُ عليكم العبادةَ، هو الذي يقدرُ على خلقِ الشيءِ وخلافِه، وابتداعِ زوجين من كلِّ شيءٍ، لا ما لا يقدرُ على ذلك.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه: فاهْربُوا أيُّها الناسُ من عقابِ اللَّهِ إلى رحمتِه بالإيمانِ به، واتِّباعِ أمْرِه، والعملِ بطاعتِه:{إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ} . يقولُ: إني لكم من اللَّهِ نذيرٌ
(2)
أُنذرُكم عقابَه، وأُخوِّفُكم عذابَه الذي أحَلَّه بهؤلاء الأممِ الذين قصَّ عليكم قَصَصَهم
(3)
، والذي هو مُذيقُهم في الآخرةِ.
وقولُه: {مُبِينٌ} . يقولُ: تَبينُ لكم نذارتُه.
وقولُه: {وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} . يقولُ جلَّ ثناؤُه: ولا تجعلوا أيها الناسُ، مع مَعْبودِكم الذي خلقَكم معبودًا آخر سِواه؛ فإنه لا معبودَ تصلحُ له العبادةُ
(4)
غيرُه. {إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} . يقولُ: إني لكم أيُّها الناسُ نذيرٌ من عقابِه على عبادتِكم إلهًا غيرَه، مبينٌ
(5)
قد أبان لكم النَّذَارةَ.
(1)
في الأصل: "فعل القادر".
(2)
بعده في ت 2: "مبين".
(3)
في ت 2، ت 3:"قصصه".
(4)
في ت: "العبودة".
(5)
ليس في: الأصل.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53)} .
قال أبو جعفرٍ: يقولُ تعالى ذِكرُه: كما كذَّبتْ قريشٌ نبيَّها محمدًا صلى الله عليه وسلم، وقالت: هو شاعرٌ أو ساحرٌ أو مجنونٌ. كذلك فعَلتِ الأممُ المُكذِّبةُ رُسُلَها
(1)
، الذين أحلَّ اللَّهُ بهم نِقْمَتَه؛ كقومِ نوحٍ وعادٍ وثمودَ وفرعونَ وقومِه، ما أتَى هؤلاء
(2)
الذين ذكَرناهم {مِنْ قَبْلِهِمْ} . يعني: من قبلِ قريشٍ قومِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، {مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} كما قالت قريشٌ لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم.
وقولُه: {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: أأوصَى هؤلاء المكذِّبين مِن قريشٍ محمدًا صلى الله عليه وسلم على ما جاءَهم به من الحقِّ - أوائلُهم وآباؤهم الماضون
(3)
من قبلِهم، بتكذيبِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، فقَبِلوا ذلك عنهم؟
وبنحوِ الذي قُلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{أَتَوَاصَوْا بِهِ} . قال: أوصَى أُولاهم أُخْراهم بالتكذيبِ؟
(4)
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{أَتَوَاصَوْا بِهِ} . أي: كأَنَّ الأوّلَ قد أوصَى الآخِرَ بالتكذيبِ.
(1)
في الأصل: "لرسلها".
(2)
بعده في م، ت 2:"القوم".
(3)
في ت 1: "الماضين".
(4)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 245 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 116 إلى ابن المنذر.
وقولُه: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} . يقولُ تعالى ذِكرُه: ما أوصَى أولُ
(1)
هؤلاء المشركين
(2)
آخرَهم بذلك، ولكنهم قومٌ طغاةٌ متعَدُّون عن أمْرِ ربِّهم، لا يأتَمِرون لأمْرِه، ولا ينتَهون عما نَهاهم عنه.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم، فتولَّ يا محمدُ عن هؤلاء المشرِكين باللَّهِ من قريشٍ. يقولُ: فأَعْرِض عنهم حتى يأتيَك فيهم أمرُ اللَّهِ. يقالُ: وَلَّى فلانٌ عن فلانٍ: إذا أعْرَض عنه وترَكه، كما قال حصينُ بنُ ضَمْضَمٍ
(3)
:
أما بَنو عبسٍ فإِنَّ هَجِينَهم
…
وَلَّى فَوارِسُه وأَفْلَتَ أعْوَرا
والأعورُ في هذا الموضعِ الذي عَوِر فلم يقْضِ حاجتَه، ولم يُصِبْ ما طلَب.
وبنحوِ الذي قُلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابنُ حُمَيدٍ، قال: ثنا مِهرانُ، عن سفيانَ، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ:{فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} . قال: فأَعْرِض عنهم
(4)
.
وقولُه: {فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ} . يقولُ جلَّ ثناؤُه: فما أنت يا محمدُ بملومٍ،
(1)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(2)
في م، ت 2، ت 3:"المشركون".
(3)
البيت في مجاز القرآن 2/ 228.
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 116 إلى ابن المنذر.
لا يلومُك ربُّك على تفريطٍ كان مِنكَ في الإنذارِ، فقد أنذَرتَ قومَك
(1)
، وبلَّغتَ ما أُرسِلتَ به.
وبنحوِ الذي قُلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ} . قال: محمدٌ صلى الله عليه وسلم
(2)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ} . قال: قد بلَّغْتَ ما أرْسَلْناك به، فلستَ بملومٍ. قال: وكيف يَلومُه وقد أدَّى ما أُمِر به.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ} . ذُكِر لنا أنها لما نزَلَت هذه الآيةُ اشْتَدَّ على أصحابِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ورأَوْا أن الوحيَ قد انْقَطَع، وأن العذابَ قد حضَر
(3)
، فأنْزَل اللَّهُ تبارك وتعالى بعدَ ذلك:{وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}
(4)
.
حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: أخبَرنا ابنُ عُليةَ، قال: أخبَرنا أيوبُ، عن مجاهدٍ قال: خرَج عليٌّ مُعْتَجِرًا بِبُرْدٍ، مُشْتَمِلًا بخَميصةٍ، فقال: لما نزَلَت: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ} أحْزَننا ذلك وقلنا: أُمِر رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أن
(1)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(2)
تفسير مجاهد ص 621.
(3)
في ت 2: "حصل".
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 116 إلى المصنف.
يَتَوَلَّى عنا. حتى نزَل: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}
(1)
.
وقولُه: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} . يقولُ: وعِظْ يا محمدُ مَن أُرْسِلْتَ إليه، فإن العِظةَ تَنْفَعُ أَهلَ الإيمانِ باللَّهِ.
كما حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا مِهْرانُ، عن سفيانَ، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ:{وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} . قال: وعِظْهم
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: اخْتَلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِ قولِه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} . فقال بعضُهم: معنى ذلك: وما خَلَقْتُ السُّعداءَ مِن الجنِّ والإنسِ إلَّا لعبادتي، والأشقياءَ منهم إلَّا
(3)
لمعصيتي.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا مِهْرانُ، عن سفيانَ، عن ابنِ جريجٍ، عن زيدِ بنِ أسلمَ:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} . قال: ما جُبِلوا عليه مِن الشقاءِ والسعادةِ
(4)
.
(1)
أخرجه أحمد بن منيع - كما في المطالب العالية (4117) -، والبيهقي في الشعب (1750) من طريق ابن علية به، وأخرجه إسحاق بن راهويه - كما في المطالب العالية (4116) - والضياء المقدسي في المختارة (714) من طريق أيوب به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 116 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.
(2)
جزء من أثر عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 116 إلى المصنف وابن المنذر.
(3)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(4)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 245 عن سفيان به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 116 إلى ابن المنذر.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا مُؤَمَّلٌ، قال: ثنا سفيانُ، عن ابنِ جريجٍ، عن زيدِ بنِ أسلمَ بنحوهِ.
حدَّثني عبدُ الأعلى [بنُ واصلٍ]
(1)
، قال: ثنا عبيدُ اللَّهِ بنُ موسى، قال: أخبَرنا سفيانُ، عن ابنِ جريجٍ، عن زيدِ بن أسلمَ بمثلِه.
حدَّثنا حميدُ بنُ الربيعِ الخَزَّازُ
(2)
، قال: ثنا ابنُ يَمانٍ، قال: ثنا ابنُ جريجٍ، عن زيدِ بنِ أسلمَ في قولِه:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} . قال: جَبَلهم على الشقاءِ والسعادةِ.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا مِهْرانُ، عن سفيانَ:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} . قال: مَن خُلِق للعبادةِ
(3)
.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وما خلَقْتُ الجنَّ والإنسَ إلا ليُذْعِنوا لي
(4)
بالعُبوديةِ
(5)
، [ويعترِفوا بها]
(6)
.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} : إلا ليُقِرُّوا بالعُبوديةِ طَوْعًا وكَرْهًا
(7)
.
(1)
في الأصل: "قال حدثنا واصل"، وينظر تهذيب الكمال 16/ 379.
(2)
في م: "الخراز"، وغير منقوطة في ص، ت 1، ت 2، ت 3. ينظر الجرح والتعديل 3/ 222.
(3)
ينظر تفسير البغوي 7/ 380، والبحر المحيط 8/ 143.
(4)
سقط من: الأصل.
(5)
في ص، م، ت 1، ت 2:"بالعبودة".
(6)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(7)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 116 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
وأولى القولين في ذلك بالصوابِ القولُ الذي ذكَرْنا عن ابنِ عباسٍ، وهو: ما خَلَقْتُ الجنَّ والإنسَ إلا
(1)
لعبادتِنا والتذللِ لأمرِنا.
فإن قال قائلٌ: فكيف كفَروا، وقد خَلَقَهم للتذللِ لأمرِه؟
قيل: لأنهم
(2)
قد تذَلَّلوا لقضائِه الذي قَضاه عليهم؛ لأن قضاءَه جارٍ عليهم، لا يَقْدِرون مِن الامتناعِ منه إذا نزَل بهم، وإنما خالَفه مَن كفَر به [في العملِ]
(3)
بما أمَرَه به، فأما التذللُ لقضائِه، فإنه غيرُ ممتنعٍ منه.
وقولُه: {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ} . يقولُ تعالى ذكرُه: ما أُرِيدُ ممن خلَقْتُ مِن الجنِّ والإنسِ من رزقٍ يَرْزُقونه خَلْقى، {وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ}. يقولُ: وما أُرِيدُ منهم مِن قُوتٍ أن يَقُوتوهم، ومِن طعامٍ أن يُطْعِموهم.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا معاذُ بنُ هشامٍ، قال: ثنا أبي، عن عمرِو بنِ مالكٍ، عن أبي الجَوْزاءِ، عن ابنِ عباسٍ:{مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} . قال: يُطْعِمون أنفسَهم
(4)
.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59)} .
(1)
سقط من: ت 2.
(2)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"إنهم".
(3)
في الأصل: "بالعمل".
(4)
ذكره القرطبي في تفسيره 17/ 56.
يقولُ تعالى ذكرُه: إن اللَّهَ هو الرزاقُ خلقَه، المُتَكَفِّلُ بأقواتِهم {ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} .
اختَلَفَت القرأةُ في قراءةِ قولِه: {الْمَتِينُ} ؛ فقرأَته عامةُ قرأةِ الأمصارِ خلا يحيى بنِ وثابٍ والأعمشِ: {ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} رفعًا، بمعنى: ذو القوةِ الشديدُ، فجعَلوا "المتين" مِن نعتِ "ذى"، ووجَّهوه إلى وصفِ
(1)
اللَّهِ به. وقرَأه يحيى والأعمشُ: (المَتِين) خفضًا
(2)
، فجعَلاه مِن نعتِ «القوةِ» ، وإنما اسْتَجاز خفضَ ذلك مَن قرَأَه بالخفضِ، ويُصَيِّرُه مِن نعتِ القوةِ، والقوةُ مؤنثةٌ، والمتينُ في لفظٍ مذكرٍ؛ لأنه ذهَب بالقوةِ [إلى القوةِ]
(3)
مِن قُوَى الحبلِ والشيءِ المفتولِ
(4)
المُبْرَمِ الفَتْلِ، فكأنه قال على هذا المذهبِ: ذو الحبلِ القويِّ. وذكَر الفرَّاءُ أن بعضَ العربِ أَنْشَدَه
(5)
:
لكلِّ دهرٍ قد لبِسْتُ أَثْؤُبا
من رَيْطةٍ واليُمْنَةَ المُعَصَّبا
فجعَل "المُعَصَّبَ" نعتَ "اليُمْنةِ"، وهي مؤنثةٌ في اللفظِ؛ لأن "اليمنةَ" ضربٌ وصنفٌ مِن الثيابِ، فذهَب بها إليه.
والصوابُ مِن القراءةِ في ذلك عندَنا: {ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} رفعًا على أنه من صفةِ اللَّهِ جلَّ ثناؤُه؛ لإجماعِ الحجةِ من القرأةِ عليها، وأنه لو كان من نعتِ القوةِ،
(1)
في الأصل: "وجه".
(2)
وهي قراءة شاذة، ينظر البحر المحيط 8/ 143، وإتحاف فضلاء البشر 247.
(3)
سقط من: م
(4)
سقط من: ص، م، ت 2، ت 3، وفي ت 1:"المتبرم".
(5)
البيتان في معاني القرآن للفراء 3/ 90.
لكان التأنيثُ به أولى، وإن كان للتذكيرِ وجهٌ.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} . يقولُ: الشديدُ
(1)
.
وقولُه: {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ} . يقولُ تعالى ذكرُه: فإن للذين أشْرَكوا باللَّهِ مِن قريشٍ وغيرِهم {ذَنُوبًا} . وهي الدَّلْوُ العظيمةُ، وهو السَّجْلُ أيضًا إذا مُلِئَت أو قارَبَت المِلْءَ، وإنما أُرِيد بالذَّنوبِ في هذا الموضعِ الحظُّ والنصيبُ، ومنه قولُ علقمةَ بنِ عَبَدَةَ
(2)
:
وفي كلِّ قومٍ قد خَبَطْتَ بنعمةٍ
…
فحُقَّ لشأسٍ مِن نَداك ذَنوبُ
أي: نصيبٌ، وأصلُه ما ذكَرْتُ، ومنه قولُ الراجزِ
(3)
:
لنا ذَنوبٌ ولكم ذَنوبُ
فإن أبَيْتُمْ فلنا القَلِيبُ
ومعنى الكلامِ: فإن للذين ظلَموا نصيبًا من عذابِ اللَّهِ وحظًّا نازلًا بهم، مثلَ نصيبِ أصحابِهم الذين مضَوْا مِن قبلِهم مِن الأممِ، على مِنهاجِهم مِن العذابِ، فلا يَسْتَعْجِلون به.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم - كما في الإتقان 2/ 44 - ، والبيهقي في الأسماء والصفات (68) من طريق أبي صالح به.
(2)
ديوانه ص 48.
(3)
البيتان في معاني القرآن للفراء 3/ 90.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا} . يقولُ: دلوًا
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ} . قال: يقولُ: للذين ظَلَموا عذابًا مثلَ عذابِ أصحابِهم فلا يَسْتَعْجِلون.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن أبي بشرٍ، عن سعيدِ بنِ جبيرٍ:{ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ} . قال: سَجْلًا مِن العذابِ.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عفانُ بنُ مسلمٍ، قال: ثنا شهابُ بنُ شُرْنُفَة
(2)
، عن الحسنِ في قولِه {ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ}. قال: دلوًا مثلَ دلوِ أصحابِهم.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{ذَنُوبًا} . قال: سَجْلًا
(3)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه: {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم - كما في الإتقان 2/ 44 - من طريق أبي صالح به.
(2)
في الأصل: "شرنقة"، وفي ص:"سرنفة"، وفي م، ت 1، ت 2، ت 3:"سريعة". والمثبت من الجرح والتعديل 4/ 362، وتبصير المنتبه ص 781.
(3)
تفسير مجاهد ص 621، بلفظ:"سبيلا"، ومن طريقه الفريابي - كما في تغليق التعليق 4/ 319 - بلفظ:"سجلًا".
ذَنُوبًا}. أي: سَجْلًا مِن عذابِ اللَّهِ
(1)
.
حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنى محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ قولَه:{فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ} . قال: عذابًا مثلَ عذابِ أصحابِهم
(2)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ} . قال: يقولُ: ذَنُوبًا مِن العذابِ
(3)
. يقولُ: لهم سَجْلٌ مِن عذابِ اللَّهِ، وقد فُعِل هذا بأصحابِهم مِن قبلِهم، [فلهم عذابٌ]
(4)
مثلُ عذابِ أصحابِهم فلا يَسْتَعْجِلون.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا مِهْرانُ، عن سفيانَ، عن منصورٍ، عن إبراهيمَ:{ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ} . قال: طَرَفًا مِن العذابِ.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)} .
يقولُ تعالى ذكرُه: فالوادي السائلُ في جهنمَ مِن قَيْحٍ وصَديدٍ للذين كفَروا باللَّهِ، وجحَدوا وَحْدانيتَه مِن يومِهم الذي يُوعَدون فيه نزولَ عذابِ اللَّهِ بهم
(5)
، إذا نزَل ذلك
(5)
بهم ماذا يَلْقَون فيه مِن البلاءِ والجَهْدِ.
آخرُ تفسيرِ سورةِ «الذارياتِ»
(1)
البحر المحيط 8/ 143.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 245 عن معمر به.
(3)
بعده في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"قال".
(4)
في الأصل: "عذابا".
(5)
سقط من: م.
تفسيرُ سورة «الطُّور»
بسم الله الرحمن الرحيم
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يعني تعالى ذكرُه بقولِه: {وَالطُّورِ} : والجبلِ الذي يُدْعَى الطورَ.
وقد بيَّنْتُ معنى الطورِ بشواهدِه، وذكَرْنا اختلافَ المختَلِفين فيه فيما مضَى، بما أغْنَى عن إعادتِه في هذا الموضعِ
(1)
.
وقد حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِ اللَّهِ - جلَّ وعزَّ -:{وَالطُّورِ} . قال: الجبلُ بالسُّرْيانيةِ
(2)
.
وقولُه: {وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} . يقولُ: وكتابٍ مكتوبٍ. ومنه قولُ رُؤْبَةَ بنِ العجّاجِ
(3)
:
إني وآياتٍ سُطِرْنَ سَطْرَا
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
(1)
ينظر ما تقدم في 2/ 48 - 51.
(2)
تفسير مجاهد ص 622، ومن طريقه الفريابي - كما في تغليق التعليق 4/ 320 - وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 117 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
ملحقات ديوانه ص 174.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{وَكِتَابٍ} . قال: صحفٍ
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} : والمسطورُ المكتوبُ
(2)
.
حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ في قولِه:{مَسْطُورٍ} . قال: مكتوبٍ
(3)
.
حُدِّثْتُ عن الحسينِ، قال: سمِعْتُ أبا مُعاذٍ يقولُ: أخبَرنا عبيدٌ، قال: سَمِعْتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {مَسْطُورٍ} . قال: مكتوبٍ
(4)
.
وقولُه: {فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ} . يقولُ: في وَرَقٍ
(5)
مَنْشورٍ.
وقولُه: {فِي} مِن صلةِ {مَسْطُورٍ} . ومعنى الكلامِ: وكتابٍ سُطِر وكُتِب في ورقٍ
(6)
منشورٍ.
(1)
تفسير مجاهد ص 622، ومن طريقه الفريابي - كما في تغليق التعليق 4/ 320 - والبخاري في خلق أفعال العباد (99)، والبيهقي في الأسماء والصفات (570)، (573)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 117 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
أخرجه البخاري في خلق أفعال العباد (98)، والبيهقي في الأسماء والصفات (570) من طريق يزيد به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 117 إلى ابن المنذر.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 246 عن معمر به.
(4)
ينظر التبيان للطوسي 9/ 400.
(5)
في ص، ت 2، ت 3:«رق» .
(6)
في ت 2، ت 3:"رق".
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ} : وهو الكتابُ
(1)
.
حدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{فِي رَقٍّ} . قال: الرقُّ صحيفةٌ
(1)
.
وقولُه: {وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ} . يقولُ: والبيتِ الذي يَعْمُرُ بكثرةِ غاشيتِه، وهو بيتٌ فيما ذُكِر في السماءِ، بحِيالِ الكعبةِ من الأرضِ، يَدْخُلُه كلَّ يومٍ سبعون ألفًا مِن الملائكةِ، ثم لا يَعودون إليه
(2)
أبدًا.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابنُ المثنى، قال: ثنا ابنُ أبي عَدِيٍّ، عن سعيدٍ، عن قتادةَ، عن أنسِ بنِ مالكٍ، عن مالكِ بنِ صَعْصَعةَ؛ رجلٍ من قومِه، قال: قال نبيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "رُفِع لي
(3)
البيتُ المعمورُ، فقلتُ: يا جبريلُ، ما هذا؟ قال: هذا
(4)
البيتُ المعمورُ، يَدْخُلُه كلَّ يومٍ سبعون ألفَ مَلَكٍ، إذا خرَجوا منه لم يَعُودوا آخرَ ما عليهم"
(5)
.
حدَّثنا ابنُ المثنى، قال: ثنا خالدُ بنُ الحارثِ، قال: ثنا سعيدٌ
(6)
، عن قتادةَ، عن
(1)
تمام الأثر المتقدم في الصفحة السابقة.
(2)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"فيه".
(3)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"إلى".
(4)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(5)
تقدم تخريجه في 14/ 415.
(6)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"شعبة". وينظر ما تقدم في 14/ 415.
أنسِ بنِ مالكٍ، عن مالكِ بنِ صَعْصَعةَ، رجلٍ مِن قومِه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم بنحوِه
(1)
.
حدَّثنا هَنَّادُ بنُ السَّرِيِّ، قال: ثنا أبو الأحوصِ، عن سماكِ بنِ حربٍ، عن خالدِ بنِ عرعرَةَ، أن رجلًا قال لعليٍّ رضي الله عنه: ما البيتُ المعمورُ؟ قال: بيتٌ في السماءِ يقالُ له: الضُّرَاحُ. وهو بحِيالِ الكعبةِ من* فوقِها، حُرْمتُه في السماءِ كحرمةِ البيتِ في الأرضِ، يُصَلِّي فيه كلَّ يومٍ سبعون ألفًا مِن الملائكةِ، ولا يعودون فيه أبدًا
(2)
.
حدَّثنا ابنُ المثنى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن سِماكِ بنِ حربٍ، قال: سمِعْتُ خالدَ بنَ عرعرةَ، قال: سَمِعْتُ عليًّا رضي الله عنه، وخرَج إلى الرَّحْبةِ، فقال له ابنُ الكَوَّاءِ أو غيرُه: ما البيتُ المعمورُ؟ قال: بيتٌ في السماءِ السادسةِ، يقالُ له: الضُّراحُ. يَدْخلُه كلَّ يومٍ سبعون ألفَ ملَكٍ، لا يعودون فيه أبدًا.
حدَّثنا أبو كُريبٍ، قال: ثنا طَلْقُ بنُ غَنَّامٍ، عن زائدةَ، عن عاصمٍ، عن عليِّ بنِ ربيعةَ، قال: سأَل ابنُ الكَوَّاءِ عليًّا رضي الله عنه عن البيتِ المعمورِ، قال: مسجدٌ في السماءِ يقالُ له: الضُّراحُ. يَدْخُلُه كلَّ يومٍ سبعون ألفًا مِن الملائكةِ، ثم لا يَرْجِعون فيه أبدًا
(3)
.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا حَكَّامٌ، عن عَنْبَسَةَ، عَن عُبَيدٍ المُكْتِبِ، عن أبي الطُّفَيْلِ، قال: سأَل ابنُ الكَوَّاءِ عليًّا عن البيتِ المعمورِ، قال: بيتٌ بحِيالِ البيتِ
(1)
تقدم في 14/ 415.
* من هنا خرم في مخطوط جامعة القرويين ينتهي في ص 570.
(2)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 404 عن المصنف، وأخرجه البيهقي في شعب الإيمان (3991) من طريق أبي الأحوص به مطولا، وأخرجه إسحاق بن راهويه - كما في المطالب (4122)، والحارث بن أبي أسامة (385 - بغية)، والضياء في المختارة (438) من طريق سماك به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 117 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 404 عن المصنف.
العَتيقِ في السماءِ، يَدْخُلُه كلَّ يومٍ سبعون ألفَ مَلَكٍ [على راياتِهم]
(1)
، [يقالُ له: الضُّراحُ. يَدْخُلُه كلَّ يومٍ سبعون ألفًا من الملائكةِ]
(2)
، ثم لا يَرْجِعون فيه أبدًا
(3)
.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا مِهْرانُ
(4)
، قال: ثنا سفيانُ، عن سماكِ بنِ حربٍ، عن خالدِ بنِ عرعرةَ، عن عليٍّ رضي الله عنه، قال: سأَله رجلٌ عن البيتِ المعمورِ، قال: بيتٌ في السماءِ يقالُ له: الضَّريحُ. قَصْدَ البيتِ، يَدْخُلُه كلَّ يومٍ سبعون ألفَ مَلَكٍ، ثم لا يعودون فيه.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبى، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ} . قال: هو بيتٌ حِذاءَ العرشِ تَعْمُرُه الملائكةُ، يُصَلِّي فيه كلَّ ليلةٍ
(5)
سبعون ألفًا من الملائكةِ، ثم لا يعودون إليه
(6)
.
حدَّثنا عبدُ اللَّهِ بنُ أحمدَ بنِ شَبُّويَه، قال: ثنا عليُّ بنُ الحسنِ، قال: ثنا حسينٌ، قال: سُئِل عكرمةُ وأنا جالسٌ عندَه عن البيتِ المعمورِ، قال: بيتٌ في السماءِ بحِيالِ الكعبةِ
(7)
.
[حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا يحيى بنُ واضحٍ، قال: ثنا الحسينُ، عن عكرمةَ: {وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ}. قال: بيتٌ في السماءِ]
(8)
.
(1)
في م: "على رسم راياتهم". ولم ترد هذه العبارة في مصادر التخريج.
(2)
سقط من: ت 1.
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 404 عن المصنف، وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه (8875)، والضياء المقدسي (557) من طريق أبي الطفيل به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 117 إلى ابن المنذر وابن الأنباري في المصاحف.
(4)
في م: "بهرام"، ينظر تهذيب الكمال 11/ 154.
(5)
في ص، م:"يوم".
(6)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 404 عن عطية العوفي به.
(7)
ينظر البحر المحيط 8/ 146.
(8)
سقط من: م، ت 1.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ} . قال: بيتٌ في السماءِ يقالُ له: الضُّراحُ.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ} : ذُكِر لنا أن نبيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال يومًا لأصحابِه: "هل تَدْرُون ما البيتُ المعمورُ؟ ". قالوا: اللَّهُ ورسولُه أعلمُ. قال: "فإنه مسجدٌ في السماءِ بحيالِ
(1)
الكعبةِ، لو خَرَّ لخَرَّ عليها، أو عليه، يُصَلِّي فيه كلَّ يومٍ سبعون ألفَ ملكٍ، إذا خرَجوا منه لم يَعُودوا آخرَ ما عليهم"
(2)
.
حُدِّثْتُ عن الحسينِ، قال: سمِعْتُ أبا مُعاذٍ يقولُ: أخبَرنا عبيدٌ، قال: سَمِعْتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ} : يَزْعُمون أنه يَرُوحُ إليه كلَّ يومٍ سبعون ألفَ ملكٍ مِن قبيلةِ إبليسَ، يقالُ لهم: الجنُّ
(3)
.
حدَّثني يونُسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ} . قال: بيتُ اللَّهِ الذي في السماءِ. وقال: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إن بيتَ اللَّهِ في السماءِ لَيَدْخُلُه كلَّ يومٍ طَلَعَت شمسُه سبعون ألفَ ملكٍ، ثم لا يَعُودون فيه أبدًا بعد ذلك".
حدَّثنا محمدُ بن مرزوقٍ، قال: ثنا حجاجٌ، قال: ثنا حمادٌ، عن ثابتٍ، عن أنسٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"البيتُ المعمورُ في السماءِ السابعةِ، يَدْخُلُه كلَّ يومٍ سبعون ألفَ ملكٍ، ثم لا يَعُودون إليه حتى تقومَ الساعةُ"
(4)
.
(1)
في ص، ت 2، ت 3:"تحت"، وفي م:"تحته".
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 246 عن معمر به، وهو في تفسير مجاهد ص 622، 623، وأخرجه البيهقي في الشعب (3994) من طريق قتادة، عن مسلم بن أبي الجعد، عن سعدان بن أبي طلحة، عن عبد الله بن عمرو قوله.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 117 إلى المصنف وابن المنذر.
(4)
أخرجه أحمد 20/ 27، 28 (12558)، وعبد بن حميد (1208)، والنسائي في الكبرى (11530)، =
حدَّثنا محمدُ بنُ سِنانٍ القَزَّازُ، قال: ثنا موسى بنُ إسماعيلَ، قال: ثنا سليمانُ، عن ثابتٍ، عن أنسٍ، قال: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لما عرَج بيَ الملكُ إلى السماءِ السابعةِ انْتَهَيْتُ إلى بناءٍ، فقلتُ للملكِ: ما هذا؟ قال: هذا بناءٌ بناه اللَّهُ للملائكةِ. يَدْخُلُه كلَّ يومٍ سبعون ألفَ ملكٍ، يُقَدِّسون اللَّهَ ويُسَبِّحونه، لا يَعُودون فيه"
(1)
.
وقولُه: {وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ} . يعني بالسقفِ في هذا الموضعِ السماءَ، وجعَلها سقفًا؛ لأنها سماءٌ للأرضِ، كسماءِ البيتِ الذي هو سقفُه.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا هَنَّادُ بنُ السَّرِيِّ، قال: ثنا أبو الأحوصِ، عن سِماكٍ، عن خالدِ بنِ عرعرةَ، أن رجلًا قال لعليٍّ رضي الله عنه: ما السقفُ المرفوعُ؟ قال: السماءُ
(2)
.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن سِماكٍ، عن خالدِ بنِ عرعرةَ، عن عليٍّ رضي الله عنه، قال: السقفُ المرفوعُ السماءُ
(3)
.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا مِهْرانُ، قال: ثنا سفيانُ، عن سماكِ بنِ حربٍ، عن خالدِ بنِ عرعرةَ، عن عليٍّ رضي الله عنه، قال: سأَله رجلٌ عن السقفِ المرفوعِ،
= والحاكم 2/ 468، وتفسير مجاهد ص 622، والبيهقي في الشعب (3993) من طريق حماد به.
(1)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 118 إلى المصنف.
(2)
أخرجه البيهقي في الشعب (3991) عن أبي الأحوص به، وأخرجه إسحاق بن راهويه - كما في المطالب (4122) - من طريق سماك به مطولا، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 118 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
أخرجه أبو الشيخ في العظمة (550)، والحاكم 2/ 468 من طريق سفيان به، وهو في تفسير مجاهد ص 623 من طريق سماك به.
فقال: السماءُ.
حدَّثنا ابنُ المثنى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن سماكِ بنِ حربٍ، قال: سمِعْتُ خالدَ بن عرعرةَ، قال: سمِعْتُ عليًّا يقولُ: {وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ} : هو السماءُ، قال:{وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ}
(1)
[الأنبياء: 32].
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ} . قال: السماءُ
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ} : سقفٌ، السماءُ
(3)
.
حدَّثني يونُسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ} : سقفٌ والسماءُ
(4)
.
وقولُه: {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} . اختَلَف أهلُ التأويلِ في معنى البحرِ المسجورِ؛ فقال بعضُهم: المُوقَدُ. وتأَوَّل ذلك: والبحرِ المُوقَدِ المَحْمِيِّ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يعقوبُ، قال: ثنا ابنُ عُليةَ، عن داودَ، عن سعيدِ بن المسيبِ، قال:
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 405 عن شعبة به.
(2)
أخرجه الفريابي - كما في تغليق التعليق 4/ 320 - من طريق ورقاء به، وأخرجه أبو الشيخ في العظمة (549) من طريق ابن أبي نجيح به.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 246 عن معمر، عن قتادة.
(4)
ينظر التبيان 9/ 400، وتفسير ابن كثير 7/ 405.
قال عليٌّ رضي الله عنه لرجلٍ مِن اليهودِ: أين جهنمُ؟ فقال: البحرُ. فقال: ما أُراه إلا صادقًا، {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} ، (وَإِذَا البِحارُ سُجِرَتْ) [التكوير: 6] مخففةً
(1)
.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا يعقوبُ، عن حفصِ بنِ حميدٍ، عن شِمْرِ بنِ عطيةَ في قولِه:{وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} . قال: بمنزلةِ التَّنُّورِ المسجورِ
(2)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} . قال: المُوقَدِ
(3)
.
حدَّثني يونُسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} . قال: المُوقَدِ. وقرَأ قولَ اللَّهِ تعالى: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} [التكوير: 6]. قال: أُوقِدَت
(4)
.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وإذا البحارُ مُلِئَت. وقال: المسجورُ المملوءُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} : الممتلئِ
(5)
.
(1)
تفسير مجاهد ص 623، ومن طريقه البيهقي في البعث والنشور (495) من طريق داود به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 118 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2)
ذكره ابن حجر في الفتح 8/ 602 وعزاه إلى المصنف، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 319 إلى عبد بن حميد وابن المنذر، وسيأتي في تفسير الآية (6) من سورة "التكوير".
(3)
تفسير مجاهد ص 623، ومن طريقه الفريابي - كما في تغليق التعليق 4/ 321.
(4)
ينظر التبيان للطوسي 9/ 401.
(5)
ذكره ابن حجر في الفتح 8/ 602 وعزاه إلى المصنف، وينظر تفسير القرطبي 17/ 61، وتفسير ابن كثير 7/ 405.
وقال آخرون: بل المسجورُ الذي قد ذهَب ماؤُه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ في قولِه:{وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} . قال: سَجْرُه حِينَ يَذْهَبُ مَاؤُه ويُفْجَرُ
(1)
.
وقال آخرون: المسجورُ المحبوسُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابنِ عباسٍ في قولِه:{وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} . يقولُ: المحبوسِ
(2)
.
وأولى الأقوالِ في ذلك عندي بالصوابِ قولُ مَن قال: معناه: والبحرِ المملوءِ المجموعِ ماؤُه بعضُه في بعضٍ، وذلك أن الأغلبَ مِن معاني السجرِ الإيقادُ، كما يقالُ: سَجَرْتُ التَّنُّورَ. بمعنى: أَوْقَدْتُ، أو الامتلاءُ على ما وصَفْتُ، كما قال لَبيدٌ
(3)
:
فتوسَّطا عُرْضَ السَّرِيِّ وصَدَّعا
…
مَسْجُورةً مُتَجاورًا قُلَّامُها
وكما قال النَّمِرُ بنُ تَوْلَبٍ العُكْليُّ
(4)
:
(1)
ذكره القرطبي في تفسيره 17/ 61، وأبو حيان في البحر المحيط 8/ 146.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم - كما في الإتقان 2/ 45 - من طريق عبد الله بن صالح به.
(3)
تقدم تخريجه في 15/ 510.
(4)
البيتان في مجاز القرآن 2/ 230، 231، والبيت الثاني في الكتاب 1/ 267، وخزانة الأدب 11/ 93 - 95، وينظر تخريجه في حواشيهما.
إذا شاء طالَعَ مَسْجورةً
…
تَرَى حولَها النَّبعَ والسَّاسَما
سقَتها رواعدُ مِن صيِّفٍ
…
وإنْ من خريفٍ فلن يَعْدَما
فإذا كان ذلك الأغلبَ مِن معاني السَّجْرِ، وكان البحرُ غيرَ مُوقَدٍ اليومَ، وكان اللَّهُ تعالى ذكرُه قد وصَفَه بأنه مسجورٌ، فبطَل عنه
(1)
إحدى الصفتين، وهو الإيقادُ، صحَّت الصفةُ الأخرى التي هي له اليومَ، وهو الامتلاءُ؛ لأنه كلَّ وقتٍ مُمْتلئٌ.
وقيل: إن هذا البحرَ المسجورَ الذي أقْسَم به ربُّنا تبارك وتعالى، بحرٌ في السماءِ تحتَ العرشِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا مِهْرانُ، عن سفيانَ، عن إسماعيلَ بنِ أبي خالدٍ، عن أبي صالحٍ، عن عليٍّ:{وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} . قال: بحرٌ في السماءِ تحتَ العرشِ
(2)
.
قال: ثنا مِهْرانُ، قال: وسمِعْتُه أنا مِن إسماعيلَ.
قال: ثنا مِهْرانُ، عن سفيانَ، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو*:{وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} . قال: بحرٍ تحتَ العرشِ
(3)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عُمارةَ، قال: ثنا عُبيدُ اللَّهِ بنُ موسى، قال: أخبَرنا إسماعيلُ بنُ أبي خالدٍ، عن أبي صالحٍ في قولِه {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ}. قال: بحرٌ
(1)
في ت 1: "عنده".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 118 إلى المصنف وسعيد بن منصور وابن أبي حاتم.
* هنا ينتهي الخرم الموجود في مخطوط جامعة القرويين المشار إليه في ص 563.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 118 إلى المصنف.
تحتَ العرشِ
(1)
.
وقولُه: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} . يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: إنَّ عذابَ ربِّك يا محمدُ لكائنٌ حالٌّ بالكافرين به يومَ القيامةِ.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} : وقَع
(2)
القسمُ ههنا، {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} وذلك يومَ القيامةِ
(3)
.
وقولُه: {مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ} . يقولُ: ما لذلك العذابِ الواقعِ بالكافرين مِن دافعٍ يَدْفَعُه عنهم فيُنْقِذَهم منه إذا وقَع.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه: إن عذابَ رَبِّكَ لَواقعٌ يومَ تمورُ السماءُ مورًا. فـ {يَوْمَ} مِن صلةِ {لَوَاقِعٌ} .
ويعني بقولِه: {تَمُورُ} : تَدورُ وتُكْفَأُ. وكان معمرُ بنُ المُثَنَّى
(4)
يُنْشِدُ بيتَ الأعْشَى:
كأن مِشْيَتَها مِن بيتِ جارتِها
…
مَوْرُ السَّحابةِ
(5)
لا رَيْثٌ ولا عَجَلُ
فالمورُ على روايتِه: التَّكَفُّؤُ والتَّرَهْيُؤُ
(6)
في المِشْيةِ. وأما غيرُه فإنه
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 246 من طريق إسماعيل به.
(2)
في الأصل: "ويعني به".
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 118 إلى المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر.
(4)
في مجاز القرآن 2/ 231.
(5)
في الأصل، ت 2، ت 3:"السحائب".
(6)
في ص، م:"الترهبل"، وفي ت 2، ت 3:"الترهيل". وقال أبو عبيدة في الموضع السابق: وهو أن ترهيأ في مشيتها، أي: تكفّأ كما ترهيأ النخلة العيدانة. وينظر اللسان (رهيأ).
كان يَرْوِيه
(1)
: مَرُّ
(2)
السَّحابةِ.
واخْتَلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِ ذلك؛ فقال بعضُهم فيه نحوَ الذي قلنا فيه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا} . قال: يقولُ: تحريكًا
(3)
.
حدَّثنا ابنُ المثنى
(4)
وعمرُو بنُ مالكٍ، قالا
(5)
: حدَّثنا أبو معاويةَ الضَّريرُ، عن سفيانَ بنِ عُيَيْنةَ، عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا} . قال: تَدورُ السماءُ دَوْرًا.
حدَّثنا الحسينُ
(6)
بنُ عليٍّ الصُّدائيُّ، قال: ثنا إبراهيمُ بنُ بشارٍ، قال: ثنا سفيانُ بنُ عيينةَ، قال: أخْبَروني عن أبي
(7)
معاويةَ الضَّريرِ، عنى، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا} قال: تَدُورُ دَوْرًا
(8)
.
حدَّثنا هارونُ بنُ حاتمٍ المُقْرِي، قال: ثنا سفيانُ بنُ عيينةَ، [قال: ثنى أبو معاويةَ، عنى]
(9)
، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ:{يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا} . قال:
(1)
وهي رواية الديوان ص 55.
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"من".
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم - كما في الإتقان 2/ 45 - من طريق عبد الله بن صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 118 إلى ابن المنذر.
(4)
بعده في ت 1: "قال حدثنا".
(5)
في ت 3: "قال".
(6)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"الحسن".
(7)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(8)
ذكره الحافظ في الفتح 8/ 602 عن المصنف، وأخرجه الخليلي في الإرشاد 1/ 175، 176 من طريق إبراهيم بن بشار به، وأخرجه ابن عدي 1/ 138 من طريق ابن عيينة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 118 إلى ابن المنذر.
(9)
في ت 1: "عن معاوية".
تَدُورُ دَوْرًا.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا} : مَوْرُها تحريكُها.
[حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: حدَّثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ في قولِه: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا}. قال: مورُها تحرُّكُها]
(1)
.
حُدِّثْتُ عن الحسينِ، قال: سَمِعْتُ أبا مُعاذٍ يقولُ: ثنا عبيدٌ، قال: سمِعْتُ الضحاكَ يقولُ: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا} : يعني اسْتِدارتَها وتحريكَها لأمرِ اللَّهِ، وموجَ بعضِها في بعضٍ
(2)
.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا مِهْرانُ، عن سفيانَ، قال: قال الضحاكُ: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا}
(3)
. قال: يموجُ بعضُها في بعضٍ، وتحرُّكُها لأمرِ اللَّهِ
حدَّثني يونُسُ، قال: أخبَرنا ابُن وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا} . قال: هذا يومَ القيامةِ، وأما المَوْرُ فلا علمَ لنا به.
وقال آخرون: مورُها تشققُها
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن
(1)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
والأثر أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 247 عن معمر به.
(2)
ذكره القرطبي في تفسيره 17/ 63، وابن كثير في تفسيره 7/ 406.
(3)
بعده في الأصل: "قال يقول حدثنا عبيد قال سمعت الضحاك يقول في قوله {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا} ".
أبيه، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا} . قال: يومَ تَشَقَّقُ السماءُ
(1)
.
وقولُه: {وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا} . يقولُ: وتسيرُ الجبالُ عن أماكنِها مِن الأرضِ
(2)
فتَصِيرُ هباءً مُنْبَثًّا.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه: فالوادي الذي يَسِيلُ مِن قَيْحٍ ومن صَديدٍ في جهنمَ، يومَ تَمورُ السماءُ مورًا، وذلك يومَ القيامةِ للمُكَذِّبين
(3)
بوقوعِ عذابِ اللَّهِ للكافرينِ، يومَ تمورُ السماءُ مورًا.
وكان بعضُ نحويِّي البصرةِ يقولُ: أُدْخِلَت الفاءُ في قولِه: {فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ} . لأنه في معنى: إذا كان كذا وكذا. فأشْبَه المُجازاةَ؛ لأن المجازاةَ يكونُ خبرُها بالفاءِ.
وقال بعضُ نحويي
(4)
الكوفةِ: الأوقاتُ كلُّها تكونُ جزاءً مع الاستقبالِ، فهذا مِن ذاك؛ لأنهم قد شبَّهوا «إن»
(5)
وهي أصلُ الجزاءِ بـ «حين» . وقال: إن مع «يوم» إضمارَ فعلٍ، وإن كان التأويلُ جزاءً؛ لأن الإعرابَ يأخُذُ ظاهرَ الكلامِ، وإن كان المعنى جزاءً.
وقولُه: {الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ} . يقولُ: الذين هم في فتنةٍ واختلاطٍ في الدنيا يَلْعَبون، غافلين عما هم صائرون إليه من عذابِ اللَّهِ في الآخرةِ.
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 406، وأبو حيان في البحر المحيط 8/ 147.
(2)
بعده في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:«سيرا»
(3)
سقط من: الأصل.
(4)
بعده في ت 2، ت 3:«البصرة و»
(5)
في ت 3: «إذ» .
وقولُه: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} . يقولُ تعالى ذكرُه: فويلٌ يومَئذٍ للمكذِّبين يومَ يُدَعُّون.
وقولُه: {يَوْمَ يُدَعُّونَ} . ترجمةٌ عن قولِه: {يَوْمَئِذٍ} . وإبدالٌ منه.
وعُنِي بقولِه: {يُدَعُّونَ} : يُدْفَعون بإرهاقٍ وإزعاجٍ، يقالُ منه: دعَعْتُ في قَفاه. إذا دفَعْتَ فيه.
وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني سليمانُ بنُ عبدِ الجبارِ، [قال: حدَّثنا محمدُ بنُ الصلتِ]
(1)
، قال: ثنا أبو كُدَيْنةَ، عن قابوسَ، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ:{يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} . قال: يُدْفَعُ في أعناقِهم حتى يَرِدوا النارَ
(2)
.
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} . يقولُ: يُدْفَعون
(3)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} . قال: يُدفَعون فيها دفعًا.
حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا يحيى بنُ واضحٍ، قال: ثنا الحسينُ، عن يزيدَ، عن عكرمةَ:{يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} . يقولُ: يُدْفَعون إلى نارِ جهنمَ
(1)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 118 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم - كما في الإتقان 2/ 45 - والحافظ في التغليق 3/ 509 من طريق أبي صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 118 إلى ابن المنذر.
دفعًا.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قولِه:{يَوْمَ يُدَعُّونَ} . قال: يُدْفَعون
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} : يُزْعَجون إليها إزْعاجًا.
حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ بنحوِه
(2)
.
حُدِّثْتُ عن الحسينِ، قال: سمِعْتُ أبا مُعاذٍ يقولُ: أخبَرنا عبيدٌ، قال: سمِعْتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} : الدَّعُّ الدفعُ والإرهاقُ.
حدَّثني يونُسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زِيدٍ في قولِ اللَّهِ عز وجل: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} . قال: يُدْفَعون دفعًا. وقرَأ قولَ اللَّهِ عز وجل: {فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ} . قال: يَدْفَعُه ويُغْلِظُ عليه.
وقولُه: {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} . [يقولُ تعالى ذكرُه: يقالُ لهم: هذه النارُ التي كنتم بها]
(3)
في الدنيا تكذِّبون، فتَجحَدون أن تَرِدُوها، وتُصلَوْها، أو يعاقبَكم بها ربُّكم. وترَك ذِكْرَ "يُقالُ لهم"، اجتزاءً بدلالةِ الكلامِ عليه.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16)} .
(1)
تفسير مجاهد ص 623.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 247 عن معمر به.
(3)
سقط من: ت 2، ت 3.
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه مخبرًا عما يقالُ لهؤلاء المكذِّبين الذين وصَف صفتَهم إذا ورَدوا جَهَنَّمَ يومَ القيامةِ: أفسحرٌ أيُّها القومُ هذا الذي ورَدتُموه الآنَ، أم أنتم لا تُعاينونه ولا تُبصِرونه؟ وقيل هذا لهم توبيخًا لا استفهامًا.
وقولُه: {اصْلَوْهَا} . يقولُ: ذوقوا حرَّ هذه النارِ التي كُنتم بها تكَذِّبون، وَرِدُوها، فاصْبِروا على ألمِها وشدَّتِها، أو لا تَصْبِروا على ذلك، سواءٌ عليكم صبرتُم أو لم تَصْبِروا، {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}. يقولُ: ما تُجْزَوْن إلا أعمالَكم: أي لا تعاقَبون إلَّا على معصيتِكم في الدنيا ربَّكم وكفرِكم به.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكْرُه: إن الذين اتقَوا اللَّهَ بأداءِ فرائضِه، واجتنابِ معاصيه {فِي جَنَّاتٍ}. يقولُ: في بساتينَ ونعيمٍ فيها، وذلك في الآخرةِ.
وقولُه: {فَاكِهِينَ} . يقولُ: عندَهم فاكهةٌ كثيرةٌ. وذلك نظيرُ قولِ العربِ للرجلِ يكونُ عندَه تمرٌ كثيرٌ: رجلٌ تامِرٌ. أو يكونُ عندَه لبنٌ كثيرٌ، فيقالُ: هو لابنٌ. كما قال الحُطَيئةُ
(1)
:
أغَرَرْتَني وزعَمْتَ أَنَّـ
…
ــك لابِنٌ في الصيفِ تامِرْ
وقولُه: {بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ} . يقولُ: عندَهم فاكهةٌ كثيرةٌ بإعطاءِ اللَّهِ إِيَّاهم ذلك: {وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} . يقولُ: ورفَع عنهم ربُّهم عقابَه الذي عذَّب به أهلَ الجحيمِ.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19)
(1)
تقدم تخريجه في 19/ 463، 464.
مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20)}.
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يعني تعالى ذكرُه بقولِه: {كُلُوا وَاشْرَبُوا} : يقالُ لهؤلاء المتَّقين في الجناتِ: كُلوا أيُّها القومُ مما
(1)
آتاكم ربُّكم، واشرَبوا من شرابِها هنيئًا، لا تخافون مما تأكُلون أو تشرَبون فيها أذًى ولا غائلةً، بما كنتم تعمَلون في الدنيا للَّهِ من الأعمالِ.
وقولُه: {مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ} . [يقولُ: مُتَّكِئين على نَمارِقَ على سُررٍ مصفوفةٍ]
(2)
، قد جُعِلت صفوفًا. وترَك قولَه: على نمارقَ. اكتفاءً بدلالةِ]
(3)
الكلامِ عليه.
وقولُه: {وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} . يقولُ تعالى ذكرُه: وجعَلنا
(4)
الذكورَ من هؤلاء المتقين أزواجًا بحورٍ عينٍ من النساءِ. يقولُ الرجلُ: زوِّجْ هذا الخُفَّ الفردَ أو النعلَ الفردَ بهذا الفردِ. بمعنى: اجْعَلْهما زوجًا. وقد بيَّنا معنى الزوجِ* فيما مضَى بما أغنَى عن إعادتِه ههنا
(5)
.
والحُورُ جمعُ حَوْراءَ، وهي الشديدةُ بياضِ مُقلةِ العينِ في شدَّةِ سوادِ الحَدَقةِ. وقد ذكَرتُ اختلافَ أهلِ التأويلِ في ذلك، وبيَّنتُ الصوابَ فيه عندَنا، بشواهدِه المغنيةِ عن إعادتِها في هذا الموضعِ
(6)
.
والعِينُ جمعُ عَيْناءَ، وهي العظيمةُ العَيْنِ في حُسْنٍ وسَعةٍ.
(1)
في الأصل: "ما"، وفي ت 3:"بما".
(2)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(3)
بعده في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"ما ذكر من".
(4)
في م، ت 2، ت 3:"زوجنا".
* بعده خرم في المخطوط الأصل ينتهي في أثناء ص 584.
(5)
ينظر ما تقدم في 1/ 419، 549.
(6)
ينظر ما تقدم في ص 65، 66.
القولُ في تأويلِ قولِه تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ
(1)
ذُرِّيَّتُهُمْ
(2)
بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21)}.
اختلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِ ذلك؛ فقال بعضُهم: معناه: والذين آمنوا وأتبعناهم ذرِّيَّاتِهم بإيمانٍ، ألْحقْنا بهم ذرِّيَّاتِهم المؤمنين في الجنة، وإن كانوا لم يبلغوا بأعمالِهم درجاتِ آبائِهم، تَكْرِمةً لآبائِهم المؤمنين، وما ألَتْنا آباءَهم المؤمنين من أجورِ أعمالِهم من شيءٍ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا شعبةُ، عن عمرِو بنِ مُرَّةَ
(3)
، عن سعيدِ بنُ جبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ في هذه الآيةِ:(وَالَّذِينَ آمَنُوا وأَتْبَعْناهُمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ بإيمانٍ). فقال: إن اللَّهَ تبارك وتعالى يرفعُ للمؤمنِ ذرِّيتَه، وإن كانوا دونَه في العملِ، ليُقِرَّ اللَّهُ بهم عينَه
(4)
.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا مؤمَّلٌ، قال: ثنا سفيانُ، عن عمرِو بنُ مرَّةَ، عن سعيدِ بنِ جُبَيرٍ، عن ابنِ عباسٍ قال: إن اللَّهَ تبارك وتعالى لَيَرفعُ ذرِّيةَ المؤمنِ في درجتِه، وإن كانوا دونَه في العملِ، ليُقرَّ بهم عينه. ثم قرَأ:(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بإيمَانٍ ألْحَقْنا بِهِمْ ذُرّياتِهِم ومَا ألَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ)
(5)
.
(1)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"وأتبعناهم". وهما قراءتان كما سيأتي.
(2)
في ص، ت 1، ت 2، ت 3:"ذرياتهم". وهما قراءتان كما سيأتي في ص 583، 584.
(3)
في ت 2: "عروة". وينظر تهذيب الكمال 22/ 232.
(4)
أخرجه هناد في الزهد (179)، والطحاوي في مشكل الآثار 3/ 105، والبيهقي في 10/ 268 من طريق شعبة به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 119 إلى سعيد بن منصور وابن المنذر.
(5)
تفسير الثوري ص 283، ومن طريقه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 247، وابن أبي حاتم في تفسيره - كما في تفسير ابن كثير 7/ 408 - ، والنحاس في ناسخه ص 690، والحاكم 2/ 468، والبيهقي 10/ 268، وأخرجه الطحاوي في المشكل 3/ 107 من طريق عمرو بن مرة به.
حدَّثنا ابن حُمَيدٍ، قال: ثنا مِهرانُ، عن سفيانَ، عن عمرِو بنِ مرَّةَ الجَمَليِّ، عن سعيدِ بنِ جُبَيرٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: إن اللَّهَ تبارك وتعالى لَيَرفعُ ذرِّيَّةَ المؤمنِ معه في درجتِه. ثم ذكَر نحوَه، غيرَ أنه قرَأ:(وأَتْبَعْناهُمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ بِإِيمَانٍ ألْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ).
حدَّثني موسى بنُ عبدِ الرحمنِ المسروقيُّ، قال: ثنا محمدُ بنُ بشرٍ، قال: ثنا سفيانُ بنُ سعيدٍ، عن سماعةَ، عن عمرِو بنُ مرَّةَ، عن سعيدِ بنِ جُبَيرٍ، عن ابنِ عباسٍ نحوَه
(1)
.
حدَّثنا ابنُ المثنَّى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن عمرِو بنِ مرَّةَ، عن سعيدِ بنِ جُبَيرٍ، عن ابنِ عباسٍ أنه قال في هذه الآيةِ:(وَالَّذِينَ آمَنُوا وأَتْبَعْناهُمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ بإيمَانٍ) قال: المؤمنُ تُرفَعُ له ذرِّيتُه، فيَلحَقون به، وإن كانوا دونَه في العملِ.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: والذين آمنوا وأتْبَعناهم ذُرِّيَّاتِهم التي بلَغت الإيمانَ بإيمانٍ، ألْحَقْنا بهم ذُرِّيَّاتِهم الصغارَ التي لم تبلُغِ الإيمانَ، وما ألَتْنا الآباءَ من عملِهم من شيءٍ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمِّي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ قولَه:(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَأَتْبَعْنَاهُمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ بِإِيمَانٍ ألْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّاتِهمْ). يقولُ: الذين أدرَك ذريَّتُهم الإيمانَ، فعَمِلوا بطاعتِي، ألحقتُهم بإيمانِهم
(1)
أخرجه الطحاوي في مشكل الآثار (1075)، والنحاس في ناسخه ص 690 من طريق محمد بن بشر به مرفوعًا، وأخرجه الطحاوي في 3/ 107 من طريق سفيان به موقوفًا.
إلى الجنةِ، وأولادُهم الصِّغارُ نلحِقُهم بهم
(1)
.
حُدِّثتُ عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبَرنا عبيدٌ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وأَتْبَعْناهُمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ بِإِيمَانٍ ألْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ). يقولُ: من أدرَك ذريَّتُه الإيمانَ، فعَمِلوا بطاعتِي، ألْحقتُهم بآبائِهم في الجنةِ، وأولادُهم الصِّغارُ أيضًا على ذلك
(2)
.
وقال آخرون نحوَ هذا القولِ، غيرَ أنهم جعَلوا الهاءَ والميمَ في قولِه:{أَلْحَقْنَا بِهِمْ} مِن ذِكرِ الذرِّيةِ، والهاءَ والميمَ في قولِه:{ذُرِّيَّتَهُمْ} الثانيةِ من ذِكرِ "الذين". وقالوا: معنى الكلامِ: والذين آمنوا واتَّبعَتهم ذُرِّيَّتُهُمْ الصغارُ، وما ألَتْنا الكبارَ من عمَلِهم من شيءٍ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونسُ، قال: أخبرَنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وأَتْبَعْنَاهم ذُرِّيَّاتِهِمْ بِإِيمَانٍ ألْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ). قال: أدرَك أبناؤهم الأعمالَ التي عَمِلوا، فاتَّبَعوهم عليها، واتَّبَعتْهم ذرِّيَّاتُهم التي لم يُدرِكوا الأعمالَ، فقال اللَّهُ جلَّ ثناؤُه:{وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} . قال: يقولُ: لم نَظلِمْهم من عَمَلِهم من شيءٍ فنُنقِصَهم، فنُعْطيَه ذرِّيَّاتِهم الذين ألْحَقناهم بهم، الذين لم يبلُغوا الأعمالَ، ألحقتُهم بالذين قد بلَغوا الأعمالَ
(3)
.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: والذين آمنوا واتَّبعَتْهم ذرِّيتُهم بإيمانٍ أَلْحَقْنا بهم
(1)
ذكره البغوي في تفسيره 7/ 388، والقرطبي في تفسيره 17/ 67، وابن كثير في تفسيره 7/ 408.
(2)
ذكره البغوي في تفسيره 7/ 388، وأبو حيان في تفسيره 8/ 148، وابن كثير في تفسيره 7/ 408.
(3)
ذكره القرطبي في تفسيره 17/ 67، وابن كثير في تفسيره 7/ 408.
ذريتَهم، فأدخَلْناهم الجنةَ بعملِ آبائهم، وما ألَتْنا الآباءَ من عمَلِهم من شيءٍ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا المعتمرُ بنُ سليمانَ، قال: سمِعتُ داودَ يُحدِّثُ عن عامرٍ أنه قال في هذه الآيةِ: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَأَتْبَعْنَاهُم ذُرِّيَّاتِهِمْ بِإِيمَانٍ ألحَقنا بهم ذرِّيَّاتِهم ومَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِن شَيْءٍ) فأدخَلَ اللَّهُ الذرِّيةَ بعملِ الآباءِ الجنةَ، ولم يَنْقُصِ اللَّهُ الآباءَ من عمَلِهم شيئًا. قال: هو قولُه: {وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} .
حدَّثنا ابنُ المثنى، قال: ثنا ابنُ أبي عديٍّ، عن داودَ، عن سعيدِ بنُ جُبَيرٍ أنه قال في قولِ اللَّهِ:(أَلحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِم مِن شيءٍ). قال: ألْحَق اللَّهُ ذريَّاتِهم بآبائِهم، ولم يَنقُصِ الآباءَ من أعمالِهم فيردَّه على أبنائِهم
(1)
.
وقال آخرون: إنما عنَى بقولِه: {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} : أَعطَيْناهم من الثوابِ ما أعْطَينا الآباءَ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن قيسِ بنِ مسلمٍ، قال: سمِعتُ إبراهيمَ في قولِه: (وَأَتْبَعْنَاهُمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ بِإِيمَانٍ ألْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ). قال: أُعْطوا مثلَ أجورِ آبائِهم، ولم يَنْقُصْ مِن أجورِهم شيئًا
(2)
.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا مِهرانُ، عن سفيانَ، عن قيسِ بنِ مسلمٍ، عن إبراهيمَ:(وَأَتْبَعْنَاهُمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ بِإِيمَانٍ ألْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ) قال: أُعْطوا مثلَ أجورِهم،
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 408.
(2)
أخرجه هناد في الزهد (180) من طريق سفيان به وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 119 إلى ابن المنذر.
ولم يَنْقُصْ مِن أجورِهم.
قال: ثنا حكامٌ، عن أبي جعفرٍ، عن الربيعِ:(وَأَتْبَعْنَاهُمْ ذُريَّاتِهِمْ بِإِيمَانٍ). يقولُ: أعْطَيناهم من الثوابِ ما أعْطَيناهم، {وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ}. يقولُ: ما نقَصْنا آباءَهم شيئًا
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:(وَالَّذِينَ آمَنُوا وأَتْبَعْناهُمْ ذُرِّيَاتِهِمْ) كذلك قالها يزيدُ: (ذُرِّياتِهِمْ بإيمَانٍ ألْحَقْنَا بِهِمْ ذرّيَّاتِهِمْ). قال: عمِلوا بطاعةِ اللَّهِ، فألْحَقهم اللَّهُ بآبائِهم
(1)
.
وأولى هذه الأقوالِ بالصوابِ وأشْبَهُها بما دلَّ عليه ظاهرُ التنزيلِ، القولُ الذي ذكَرنا عن سعيدِ بنُ جُبَيرٍ، عن ابنِ عباسٍ، وهو: والذين آمَنوا باللَّهِ ورسولِه، وأتْبَعْناهم ذرِّيَّاتِهم الذين أدرَكوا الإيمانَ بإيمانٍ، وآمنوا باللَّهِ ورسولِه، ألْحَقنا بالذين آمنوا ذرِّيَّتهم الذين أدرَكوا الإيمانَ فآمَنوا، في الجنةِ، فجَعَلْناهم معهم في درجاتِهم، وإن قَصَرت أعمالُهم عن أعمالِهم، تَكْرِمةً مِنَّا لآبائِهم، وما ألَتْناهم من أجورِ عَمَلِهم شيئًا.
وإنما قلتُ: ذلك أولى التأويلاتِ به؛ لأن ذلك الأغلبُ من معانيه، وإن كان للأقوالِ الأُخَرِ وجوهٌ.
واختَلَفَتِ القرَأةُ في قراءةِ قولِه: (وأتْبَعْناهم ذرِّيَّاتِهم بإيمانٍ ألْحَقْنا بهم ذُرِّيَّاتِهم)؛ فقرَأ ذلك عامَّةُ قرَأةِ المدينةِ: (واتبعَتْهم ذريتُهم) على التوحيد (بإيمانٍ ألْحَقْنا بهم ذُرِّيَّاتِهم) على الجمعِ
(2)
. وقرَأته قرَأةُ الكوفةِ: {وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} كلتَيْهما بإفرادٍ
(3)
. وقرَأ بعضُ قرَأةِ البصرةِ وهو أبو عمرٍو:
(1)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 408.
(2)
وهي قراءة نافع. حجة القراءات ص 682.
(3)
وهي قراءة عاصم وحمزة والكسائي وابن كثير المكي. المصدر السابق.
(وأتْبَعْناهم ذُرِّيَّاتِهم بإِيمانٍ ألْحَقْنا بهم ذُرِّيَّاتِهم)
(1)
.
والصوابُ من القولِ في ذلك أن جميعَ ذلك قراءاتٌ معروفاتٌ مستفيضاتٌ في قَرَأةِ الأمصارِ، متقارباتُ المعاني، فبأيَّتِها قرَأ القارئُ فمصيبٌ.
وقولُه: {وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} . يقولُ تعالى ذِكرُه: وما ألَتْنا الآباءَ. يعني بقولِه: {وَمَا أَلَتْنَاهُمْ} : وما نقَصْناهم من أجورِ أعمالِهم شيئًا، فنأخذَه منهم، فنجعلَه لأبنائِهم الذين ألْحَقناهم بهم، ولكِنَّا وفَّيْناهم أجورَ أعمالِهم، وألْحَقنا أبناءَهم بدرجاتِهم، تفَضُّلًا مِنا عليهم.
والأَلْتُ في كلامِ العربِ: النَّقصُ والبَخْسُ، وفيه لغةٌ أخرى:[(ومَا لِتْنَاهم)]
(2)
. ولم يقرَأْ بها أحدٌ نعلمُه. ومن الأَلْتِ قولُ الشاعرِ
(3)
:
أبلِغْ بني ثُعَلٍ عنِّي مُغَلغَلَةً
(4)
…
جَهدَ الرسالةِ لا ألْتًا ولا كَذِبا
يعني: لا نُقصانَ ولا زيادةَ.
وبنحوِ الذي قُلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابن بشارٍ، قال: ثنا مؤمَّلٌ، قال: ثنا سفيانُ، عن عمرِو بنِ مرَّةَ، عن
(1)
حجة القراءات ص 681، وقرأ ابن عامر:(واتبعتهم ذرياتُهم ألحقنا بهم ذرياتِهم).
* إلى هنا ينتهي السقط المشار إليه في ص 578 من مخطوط جامعة القرويين والمسماة بالأصل.
(2)
سقط من: م، وفي الأصل، ت 3:"ألِتْناهم". وهذه قراءة ابن كثير، واختلف عن قنبل في حذف الهمزة، فروى ابن شنبوذ عنه إسقاط الهمزة واللفظ بلام مكسورة، وهي قراءة أُبي والحسن وطلحة بن مصرف، وجاءت عن الأعمش، وروى ابن مجاهد إثبات الهمزة. ينظر النشر 2/ 282، وإتحاف فضلاء البشر ص 247.
(3)
هو الحطيئة، والبيت في ديوانه ص 135، ورواية الشطر الأول فيه:"أبلغ سراة بني سعد مغلغلة". ورواية المصنف هي رواية الفراء في معاني القرآن 3/ 92.
(4)
المغَلغَلة بفتح الغينين: الرسالة المحمولة من بلد إلى بلد، وبكسر الغين الثانية: المسرعة، من الغلغلة؛ سرعةِ السير. اللسان (غ ل ل).
سعيدِ بنِ جُبَيرٍ، عن ابنِ عباسٍ:{وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} . قال: وما نَقَصْناهم [من عملهم من شيءٍ]
(1)
.
حدَّثنا عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ، [عن عليٍّ]
(2)
، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{وَمَا أَلَتْنَاهُمْ} . يقولُ: ما نَقَصْناهم
(3)
.
وحدَّثني موسى بنُ عبدِ الرحمنِ، قال: ثنا محمدُ
(4)
بنُ بشرٍ، قال: ثنا سفيانُ بنُ سعيدٍ، عن سماعةَ، عن عمرِو بنُ مرَّةَ، عن سعيدِ بنُ جُبَيرٍ، عن ابنِ عباسٍ:{وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} . قال: وما نَقَصْناهم
(5)
.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:{وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} . قال: ما نَقَصْنا الآباءَ للأبناءِ.
حدَّثنا ابنُ حُميدٍ، قال: ثنا مِهرانُ، عن سفيانَ، عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، قال: ما نَقَصْنا الآباءَ للأبناءِ، {وَمَا أَلَتْنَاهُمْ}. قال: وما نَقَصْناهم.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ
(1)
سقط من: م.
والأثر أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 247، والحاكم 2/ 468 من طريق سفيان الثوري به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 119 إلى ابن المنذر.
(2)
سقط من: الأصل، ص، م، ت 3.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره - كما في الإتقان 2/ 45 - من طريق عبد الله بن صالح به.
(4)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"موسى". وينظر تهذيب الكمال 24/ 520، 521.
(5)
ذكره الطوسي في التبيان 9/ 406.
قولَه: {وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} قال: نَقَصْناهم
(1)
.
حدَّثنا ابنُ حُمَيدٍ، قال: ثنا حكامٌ، عن أبي جعفرٍ، عن الربيعِ بنِ أنسٍ:{وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} . يقولُ: ما نَقَصْنا آباءَهم شيئًا
(2)
.
[حدَّثنا ابنُ حميدٍ]
(3)
، قال: ثنا مِهرانُ، عن أبي جعفرٍ، عن الربيعِ بنِ أنسٍ مثلَه.
حدَّثنا ابنُ المثنى، قال: ثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، قال: ثنا شعبةُ، عن أبي المعلَّى
(4)
، عن سعيدِ بنِ جُبَيرٍ:{وَمَا أَلَتْنَاهُمْ} . قال: وما ظَلَمْناهم.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} . يقولُ: وما ظَلَمناهم من عملِهم من شيءٍ.
حدَّثني محمدُ بنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{وَمَا أَلَتْنَاهُمْ} . يقولُ: وما ظَلَمْناهم
(5)
.
وحُدِّثتُ عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: حدَّثنا عبيدٌ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {وَمَا أَلَتْنَاهُمْ} . يقولُ: وما ظَلَمْنَاهم.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} . قال: يقولُ: لم نَظْلِمُهم مِن عملِهم من شيءٍ
(1)
تفسير مجاهد ص 624، ومن طريقه الفريابي - كما في تغليق التعليق 40/ 315، 316 - .
(2)
ذكره الطوسي في التبيان 9/ 406.
(3)
ليس في: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(4)
في الأصل، ت 2:"العلى". وينظر تهذيب الكمال 10/ 361.
(5)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 248 عن معمر به.
فنَنْتَقِصَهم
(1)
فنعطيَه ذرِّيَّاتِهم الذين ألْحَقناهم بهم، الذين
(2)
لم يبلُغوا الأعمالَ ألْحَقهم بالذين قد بَلَغوا الأعمالَ: {وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} . قال: لم نأخذْ عملَ الكبارِ فَنَجْزِيَه الصِّغارَ، أدخَلَهم برحمتِه، والكبارَ عَمِلوا، فدخَلوا بأعمالِهم.
وقولُه: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} . يقولُ: كلُّ نفسٍ بما كسَبت وعَمِلت من خيرٍ وشرٍّ مُرْتَهَنةٌ لا يؤاخَذُ أحدٌ منهم بذنبِ غيرِه، وإنما يُعاقَبُ بذنبِ نفسِه.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه: {وَأَمْدَدْنَاهُمْ} وأمدَدنا الذين آمنوا باللَّهِ ورسولِه، واتَّبعَتْهم ذرِّيتُهم بإيمانٍ في الجنةِ، بفاكهةٍ ولحمٍ مما يشتَهون من اللُّحْمانِ.
وقولُه: {يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا} . يقولُ: يتعاطَون فيها كأسَ الشرابِ، ويَتَداولونها بينَهم، كما قال الأخطلُ
(3)
:
نازَعْتُه طَيِّبَ الراحِ الشَّمولِ وقدْ
…
صاحَ الدجاجُ وحانَت وَقْعَةُ السَّارِي
وقولُه: {لَا لَغْوٌ فِيهَا} . يقولُ: لا باطلَ في الجنةِ.
والهاءُ في قولِه: {فِيهَا} . من ذِكْرِ الكأسِ، ويكونُ المعنى: لما فيها من الشرابِ. بمعنى: أن أهلَها لا لغوٌ عندَهم فيها ولا تأثيمٌ. واللغوُ الباطلُ.
وقولُه: {وَلَا تَأْثِيمٌ} . يقولُ: ولا فعلٌ فيها يُؤْثِمُ
(4)
صاحبَه. وقيل: عنَى
(1)
في م: "لم تنتقصهم".
(2)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(3)
شرح ديوانه ص 80.
(4)
في الأصل، ت 2:"يأثم".
بالتَّأثيمِ الكذبَ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنا معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قولَه:{لَا لَغْوٌ فِيهَا} . يقولُ: لا باطلٌ فيها. وقولَه: {وَلَا تَأْثِيمٌ} . يقولُ: كذبٌ
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{لَا لَغْوٌ فِيهَا} . قال: لا يَسْتَبُّون، {وَلَا تَأْثِيمٌ}. يقولُ: ولا يُؤَثَّمون
(2)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ} . أي: لا لغوٌ فيها ولا باطلٌ، إنما كان الباطلُ في الدنيا مع الشيطانِ.
حدَّثنا
(3)
ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا محمدُ بنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ في قولِه:{لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ} . قال: ليس فيها لغوٌ ولا باطلٌ، إنما
(4)
اللغوُ والباطلُ في الدنيا
(5)
.
واختَلَفتِ القرَأةُ في قراءةِ قولِه: {لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ} ؛ فقرَأ ذلك عامَّةُ
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره - كما في الإتقان 2/ 45 - من طريق أبي صالح به مقتصرًا على آخره.
(2)
تفسير مجاهد ص 624، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 119 إلى ابن المنذر.
(3)
في ص، م، ت 2، ت 3:"وحدثنا".
(4)
بعده في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"كان".
(5)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 248 عن معمر به.
قرَأةِ المدينةِ والكوفةِ: {لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ}
(1)
بالرفعِ والتنوينِ على وَجْهِ الخبرِ على أنه ليس في الكأسِ لغوٌ ولا تأْثيمٌ. وقرَأه بعضُ قرَأةِ البصرةِ: (لا لَغْوَ فيها ولا تَأْثيمَ)
(2)
نصبًا غيرَ منوَّنٍ، على وَجْهِ التَّبرئةِ.
والقولُ في ذلك عندي أنهما قراءتانِ معروفتانِ، فبأيَّتِهِما قرَأ القارئُ فمصيبٌ، وإن كان الرفعُ والتنوينُ أعجبَ القراءتين إليَّ؛ لكثرةِ القَرَأةِ بها، وأنها أصحُّ المَعْنَيَيْن.
القولُ في تأويلِ قوله عز وجل: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه: ويطوفُ على هؤلاء القومِ الذين وصَف صفتَهم في الجنةِ غِلْمانٌ لهم، كأنهم لؤلؤٌ في بياضِه وصفائِه، {مَكْنُونٌ}. يعني: مَصُونٌ في كِنٍّ، فهو أنْقَى له، وأصْفَى لبياضِه. وإنما عنَى بذلك أن هؤلاء الغلمانَ يطوفون على هؤلاء المؤمنين في الجنةِ بكُئُوسِ الشرابِ التي وصَف جلَّ ثناؤُه صفتَها.
وقد حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ} : ذُكِر لنا أن رجلًا قال: يا نبيَّ اللَّهِ، هذا الخادمُ، فكيف المخدومُ؟ قال:"والذي نفسُ محمدٍ بيدِه، إن فضلَ المخدومِ على الخادمِ، كفَضْلِ القمرِ ليلةَ البدرِ على سائرِ الكواكبِ".
وحدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ في قولِه:{كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ} . قال: بلَغني أنَّه قيل: يا رسولَ اللَّهِ، هذا الخادِمُ مثلُ
(1)
وهي قراءة نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي. ينظر حجة القراءات ص 683.
(2)
وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو. المصدر السابق
اللؤلؤِ، فكيف المخدومُ؟ قال:"والَّذي نَفْسِي بيدِه، إن فضْلَ ما بينَهما كفضلِ القمرِ لَيلةَ البدرِ على النُّجومِ"
(1)
.
وقولُه: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} الآية. يقولُ تعالى ذِكرُه: وأقبلَ بعضُ هؤلاء المؤمنين في الجنةِ على بعضٍ، يسألُ بعضُهم بعضًا. وقد قيل: إن ذلك يكونُ منهم عندَ البعثِ من قبورِهم.
ذِكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابنِ عباسٍ في قولِه:{وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} . قال: إذا بُعِثوا في النفخةِ الثانيةِ
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)} .
قال أبو جعفرٍ: يقولُ تعالى ذكرُه: قال بعضُهم لبعضٍ: إنا أيُّها القومُ كُنا في أهْلِنا، في الدنيا، {مُشْفِقِينَ} خائفين من عذابِ اللَّه، وَجِلين أن يعذِّبَنا ربُّنا اليومَ،
{فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا} بفضلِه، {وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ}. يعني: عذابَ النارِ. يعني: فنَجَّانا مِن النارِ وأَدْخَلَنا الجنةَ.
كما
(3)
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {عَذَابَ السَّمُومِ} . قال: عذابَ النارِ.
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 248 عن معمر به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 119 إلى ابن المنذر.
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 5/ 273 إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك".
وقولُه: {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ} . يقولُ: إنا كُنَّا في الدنيا من قبلِ يومِنا هذا، {نَدْعُوهُ}. يقولُ: نعبُدُه مُخْلَصًا له الدينُ، لا نُشرِكُ به شيئًا، {إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ}. يعني: اللطيفُ
(1)
بعبادِه.
كما حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ} . يقولُ: اللطيفُ
(2)
.
وقولُه: {الرَّحِيمُ} . يقولُ: الرحيمُ بخَلْقِه أن يعذِّبَهم بعدَ توبتِهم.
واختَلَفتِ القرَأةُ في قراءةِ قولِه: {إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ} ؛ فقرَأته عامَّةُ قرأةِ المدينةِ: (أنَّهُ). بفتحِ الألفِ
(3)
، بمعنى: إنا كُنَّا من قبلُ نَدْعوه لأنَّه هو البرُّ. أو: بأنَّه. وقرَأ ذلك عامَّةُ قرَأةِ الكوفةِ والبصرةِ: {إِنَّهُ} على الابتداءِ
(4)
.
والصوابُ من القولِ في ذلك عندي أنهما قراءتان معروفتان، فبأيَّتِهما قرَأ القارئُ فمصيبٌ.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: فذكِّرْ يا محمدُ مَن أُرسِلتَ إليه مِن قومِك وغيرِهم، وعِظْهم بنعمِ اللَّهِ عندَهم، {فَمَا أَنْتَ
(1)
بعده في ت 3: "الخبير".
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم - كما في تغليق التعليق 4/ 321 - من طريق عبد الله بن صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 120 إلى ابن المنذر.
(3)
هي قراءة نافع وأبي جعفر والكسائي. النشر 2/ 282.
(4)
هي قراءة ابن كثير وعاصم وابن عامر وأبي عمرو وحمزة ويعقوب وخلف. المصدر السابق.
بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ}. يقولُ: فَلَسْتَ بنعمةِ اللَّهِ عليك بكاهنٍ تتكهَّنُ عليه
(1)
، ولا مجنونٍ له رَئِيٌّ
(2)
يخبرُ عنه قومَه ما أخبَره به، ولكِنَّك رسولُ اللَّهِ، واللَّهُ لا يخذُلُك، ولكِنَّه ينصرُك.
وقولُه: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} . يقولُ جلَّ ثناؤُه: بل يقولُ المُشرِكون لك يا محمدُ: هو شاعرٌ نتربَّصُ به حوادثَ الدَّهرِ تَكْفِيناه بموتٍ أو حادثةٍ مُتْلِفةٍ.
وبنحوِ الذي قُلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ، وإن اخْتَلَفت عباراتُهم عنه؛ فقال بعضُهم فيه كالذي قُلنا، وقال بعضُهم: هو الموتُ.
ذكرُ مَن قال: عنَى بقولِه: {رَيْبَ الْمَنُونِ} . حوادثَ الدَّهرِ
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{رَيْبَ الْمَنُونِ} . قال: حوادثَ الدهرِ
(3)
.
حدَّثنا ابنُ حُمَيدٍ، قال: ثنا مِهرانُ، عن سفيانَ، قال: قال مجاهدٌ: {رَيْبَ الْمَنُونِ} : حوادثَ الدهرِ.
ذكرُ مَن قال: عنَى به الموتَ
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنا معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابنِ عباسٍ
(1)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(2)
في الأصل: "دين". والرّئيُّ بفتح الراء وكسرها: الجنى يراه الإنسان. وقيل: جنى يتعرض للرجل يريه كهانة وطبًّا. ينظر اللسان (ر أ ى).
(3)
تفسير مجاهد ص 624، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 120 إلى ابن المنذر.
قولَه: {رَيْبَ الْمَنُونِ} . يقولُ: الموتَ
(1)
.
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} . يقولُ: يتربَّصون به الموتَ.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} . قال: قال ذلك
(2)
قائلون مِن الناسِ: تربَّصوا بمحمدٍ
(3)
الموتَ، يَكفيكُموه، كما كَفاكم شاعرَ بني فلانٍ
(4)
.
حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ في قولِه:{رَيْبَ الْمَنُونِ} . قال: هو الموتُ، نتربصُ به الموتَ، كما مات شاعرُ بني فلانٍ، وشاعرُ بني فلانٍ
(5)
.
حدَّثنا سعيدُ بنُ يحيى الأُمويُّ، قال: ثنى أبي، قال: ثنا محمدُ بنُ إسحاقَ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، عن ابن عباسٍ أن قريشًا لما اجتمَعوا في دارِ الندوةِ في أمرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال قائلٌ منهم: احبِسُوه في وَثاقٍ، ثم تربَّصوا به ريبَ
(6)
المنونِ حتى يَهلِكَ كما هَلَك مَن قبلَه من الشُّعراءِ؛ زهيرٌ والنابغةُ، إنما هو كأحدِهم. فأنزَل اللَّهُ في ذلك من قولِهم:{أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ}
(7)
.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره - كما في الإتقان 2/ 45 - من طريق عبد الله بن صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 120 إلى ابن المنذر.
(2)
سقط من: ت 2، ت 3.
(3)
في الأصل: "لمحمد".
(4)
بعده في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"وشاعر بني فلان".
(5)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 248 عن معمر به.
(6)
سقط من: م، ص، ت 1، ت 2، ت 3.
(7)
ذكره ابن كثير في تفسيره 7/ 411، وابن حجر في الفتح 8/ 602 عن ابن إسحاق به، وهو في سيرة ابن هشام 1/ 480، 481. قال ابن إسحاق: فحدثني من لا أتهم من أصحابنا، عن عبد الله بن أبي نجيح. به فذكره.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} . قال: المنونُ الموتُ، وقال الشاعرُ
(1)
:
تربَّصْ بها ريبَ المَنونِ لعلَّها
…
سيُهلِكُ عنها بَعلُها [أو سيَجنَحُ]
(2)
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ريبَ الدنيا. وقالوا: المنونُ الموتُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا مِهرانُ، عن أبي سنانٍ:{رَيْبَ الْمَنُونِ} . قال: ريبَ الدُّنيا، والمنونُ الموتُ.
وقولُه: {قُلْ تَرَبَّصُوا} . يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: قلْ يا محمدُ لهؤلاء المُشرِكين الذين يقولون لك: إِنَّكَ شاعرٌ نتربَّصُ بك ريبَ المنونِ -: تربَّصوا. أي: انْتظِروا وتمهَّلوا بي
(3)
ريبَ المنونِ، فإني معكم من المتربِّصين بكم حتى يأتيَ أمرُ اللَّهِ فيكم.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه: أتأمرُ هؤلاء المشركين
(1)
اللسان (ر ب ص)، وتفسير القرطبي 17/ 72، والبحر المحيط 8/ 151. ورواية الشطر الثاني فيها جميعًا: تُطلَّق يومًا أو يموت حليلُها. على أن رواية البيت في التبيان 9/ 410 كرواية المصنف في بعض النسخ حال تحريفها كما سيتضح بعد.
(2)
في الأصل، ص:"أو سيحيح". وفي م: "أو تُسرَّحُ" - استبدلوا بها لفظة الأصل الذي معهم "وشحيح"؛ لمناسبة رواية المصادر السابقة وعلقوا ذلك في حاشية - وفي ت 1: "أو سيحيح". وفي ت 2، ت 3:"وسحيح". وفي التبيان: "وشحيح". وقوله: "سيجنح". أي عنها، يريد: يميل عنها ويتركها.
(3)
في م: "في".
أحلامُهم بأن يقولوا لمحمدٍ: هو شاعرٌ وأنَّ ما جاء به شعرٌ، {أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ}. يقولُ جلَّ ثناؤُه: ما تأمرُهم أحلامُهم بذلك وعقولُهم، بل هم قومٌ طاغون قد طَغَوا على ربِّهم، فتجاوزوا ما أذِن اللَّهُ لهم وأمَرهم به من الإيمانِ إلى الكفرِ.
كما
(1)
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا} . قال: كانوا يُعَدُّون في الجاهليةِ أهلَ الأحلامِ، فقال اللَّهُ: أم تأمرُهم أحلامُهم بهذا؛ أن يعبُدوا أصنامًا بُكمًا صُمًّا، ويَترُكوا عبادةَ اللَّهِ؟ فلم تَنفَعْهم أحلامُهم حين كانت لدُنْياهم، ولم تكنْ عقولُهم في دينِهم، لم تَنْفَعْهم أحلامُهم
(2)
.
وكان بعضُ أهلِ المعرفةِ بكلامِ العربِ من أهلِ البصرةِ
(3)
، يتأوَّلُ قولَه:{أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ} : بل تأمرُهم.
وبنحوِ الذي قُلنا في تأويلِ قولِه: {أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [قال مجاهدٌ]
(4)
.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ قال: ثنا عبدُ الرحمنِ، قال: ثنا سفيانُ، عن عثمانَ بنُ الأسودِ، عن مجاهدٍ في قولِه:{أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} . قال: بل هم قومٌ طاغون
(5)
.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا يحيى، عن عثمانَ بنِ الأسودِ، عن مجاهدٍ:{أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} . قال: بل هم قومٌ طاغون.
(1)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"به وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك".
(2)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 120 إلى المصنف بلفظ: العقول.
(3)
هو أبو عبيدة في مجاز القرآن 2/ 233.
(4)
في ص، م، ت 1:"أيضًا قال أهلُ التأويل. ذكر من قال ذلك"، وفي ت 2، ت 3:"ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك".
(5)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 120 إلى المصنف وابن المنذر.
وقولُه: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ} . يقولُ تعالى ذكرُه: أم يقولُ هؤلاء المُشرِكون: تقوَّل محمدٌ هذا القرآنَ وتَخلَّقَه.
وقولُه: {بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ} . يقولُ جلَّ ثناؤُه: كذَبُوا فيما قالوا من ذلك، بل لا يُؤمنون فيصدِّقوا بالحقِّ الذي جاءهم مِن عندِ ربِّهم.
وقولُه: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ} . يقولُ: جلَّ ثناؤُه: فليأتِ قائلو ذلك له مِنَ المُشرِكين بقرآنٍ مثلِه، فإنَّهم من أهلِ لسانِ محمدٍ، ولن يتعذَّرَ عليهم أن يأتوا من ذلك بمثلِ الذي أتَى به محمدٌ، إن كانوا صادقين في أن محمدًا تقوَّلَه وتَخلَّقَه.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه: أَخُلِق هؤلاء المُشرِكون مِن غيرِ
(1)
آباءٍ ولا أمَّهاتٍ، فهم كالجمادِ لا يَعقِلُون ولا يَفقَهون
(2)
للَّهِ حجةً، ولا يعتَبِرون له بعبرةٍ، ولا يتَّعِظون بموعظةٍ؟
وقد قيل: إن معنى ذلك: أم خُلِقوا لغيرِ شيءٍ؟ كقولِ القائلِ: فعَلتُ كذا وكذا من غيرِ شيءٍ. بمعنى: لغيرِ شيءٍ.
وقولُه: {أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} يقولُ: أم هم الخالِقون هذا الخَلْقَ، فهم لذلك لا يأتمِرون لأمرِ اللَّهِ، ولا ينتَهون عمَّا نهاهم عنه؛ لأنَّ للخالقِ الأمرَ والنَّهيَ؟ {أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}. يقولُ: أَخَلقوا السماواتِ والأرضَ، فيكونوا هم الخالقين؟ وإنما معنَى ذلك: لم يَخلُقوا السماواتِ والأَرضَ. {بَلْ لَا يُوقِنُونَ} . يقولُ: لم يترُكوا أن يأتَمِروا لأمرِ ربِّهم، وينتَهوا إلى طاعتِه فيما أمَر
(1)
بعده في ص، م، ت 2، ت 3:"شيء أي من غير".
(2)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"يفهمون".
ونهَى لأنَّهم خَلَقوا السماواتِ والأرضَ فكانوا لذلك أربابًا، ولكِنَّهم فعَلوا ذلك
(1)
لأنَّهم لا يُوقِنون بوعيدِ اللَّهِ وما أعدَّ لأهلِ الكفرِ به من العذابِ في الآخرةِ.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه: أعندَ هؤلاء المكذِّبين بآياتِ اللَّهِ خزائنُ ربِّك يا محمدُ، فهم لاسْتِغْنائِهم بذلك عن آياتِ ربِّهم مُعرِضون؟
{أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ} . اختَلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِ ذلك؛ فقال بعضُهم: معناه: أم هم المُسَلَّطون؟!
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ} . يقولُ: المُسَلَّطون
(2)
.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أم هم المُنْزِلون؟!
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ} . قال: يقولُ: أم هم المُنزِلون؟
(3)
.
(1)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره - كما في الإتقان 2/ 45 - من طريق عبد الله بن صالح به، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 120 إلى ابن المنذر.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 120 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أم هم الأربابُ؟ وممن قال ذلك معمرُ بنُ المثنى
(1)
، و
(2)
يقالُ: تَسيطَرْتَ
(3)
عليَّ. أي: اتَّخذْتَني خَوَلًا لك.
وأولى الأقوالِ في ذلك بالصوابِ قولُ مَن قال: معنى ذلك: أم هم الجبَّارون المُتَسلِّطون المُستَكبرون على اللَّهِ؟ وذلك أن المسيطرَ في كلامِ العربِ الجبارُ المتسلِّطُ، ومنه قولُ اللَّهِ عز وجل:{لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية: 22]. يقولُ: لستَ عليهم بجبَّارٍ مُتسلِّطٍ
(4)
.
وقولُه: {أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ} . يقولُ: أم لهم سُلَّمٌ يَرتَقون فيه إلى السماءِ، يستَمِعون عليه الوحيَ، فيدَّعون أنهم سَمِعوا هنالك من اللَّهِ أن الذي هم عليه حقٌّ، فهم لذلك مُتمسِّكون بما هم عليه؟
وقولُه: {فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} . يقولُ: فإن كانوا يدَّعون ذلك، فليأتِ مَن يزعُمُ أنَّه استمَع ذلك فسمِعَه {بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} ، يعني الحجةَ
(5)
يَبِينُ أنها حقٌّ، كما أتى محمدٌ بها على حقيقةِ قولِه، وصِدْقِه فيما جاءهم به من عندِ اللَّهِ.
والسُّلَّمُ في كلامِ العربِ: السَّببُ والمَرْقاةُ، ومنه قولُ ابنِ مقبلٍ
(6)
:
لا تُحرِزُ المرءَ أحجاءُ البلادِ ولا
…
تُبنَى له في السماواتِ السَّلالِيمُ
ومنه قولُهم: جعَلتُ فلانًا سُلَّمًا لحاجتي. إذا جعَلْتَه سببًا لها
(1)
مجاز القرآن 2/ 233.
(2)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(3)
في الأصل، ص، ت 1، ت 2:"تسطرت"، وفي م:"سيطرت"، وفي ت 3:"سطرت". وينظر مجاز القرآن 2/ 233، وتفسير القرطبي 17/ 75.
(4)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"مسلط".
(5)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"بحجة".
(6)
تقدم في 9/ 226.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه للمشركين به من قريشٍ: ألربِّكم أيُّها القومُ البناتُ ولكم البنونَ؟ ذلك إذن قسمةٌ ضِيزَى.
وقولُه: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ} . يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: أتسألُ هؤلاء المشركين الذين أرسَلْناك إليهم يا محمدُ، على ما تَدْعوهم إليه من توحيدِ اللَّهِ وطاعتِه، ثوابًا وعِوَضًا من أموالِهم، فهم من ثِقَلِ ما حمَّلْتَهم مِن الغُرمِ لا يقدرون على إجابتِك إلى ما تَدْعوهم إليه؟
كما
(1)
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ} . يقولُ: هل سألتَ هؤلاء القومَ أجرًا جهِدهم
(2)
، فلا يستطيعون الإسلامَ؟
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وَهبٍ، قال: قال ابنُ زيدِ في قولِه: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ} . قال: يقولُ: أسأَلهم على هذا أجرًا، فأثقَلهم الذي [يَبْتَغِي أَجْرَه]
(3)
منهم؟
وقولُه: {أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ} . يقولُ تعالى ذكرُه: أم عندَهم علمُ الغيبِ، فهم يكتُبون ذلك للناسِ، [فيُثبِتون ما]
(4)
شاءوا، ويُخبِرونهم بما أرادوا؟
(1)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك".
(2)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"يجهدهم".
(3)
في ص: "يبتغي بأخذه"، وفي م:"يُبتغى أخذه"، وفي ت 1:"ينبغي أخذه"، وفي ت 2:"ينبغي تأخذ"، وفي ت 3:"ينبغي نأخذه".
(4)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"فينبئونهم بما".
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه: بل يريدُ هؤلاء المشرِكون يا محمدُ بكَ وبدينِ اللَّهِ كيدًا، فالذين كَفَروا هم
(1)
المَكيدون الممكورُ بهم دونَك، فثِقْ باللَّهِ، وامْضِ لما أَرْسَلَكَ
(2)
به.
وقولُه: {أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ} . يقولُ جلَّ ثناؤه: أَلَهُم
(3)
معبودٌ يستحِقُّ عليهم العبادةَ غيرُ اللَّهِ فيجوزَ لهم عبادتُه؟ يقولُ: ليس لهم إلهٌ غيرُ اللَّهِ الذي له العبادةُ مِن جميعِ خَلْقِه، {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ}. يقولُ: تنزيهًا للهِ عن شِركِهم وعبادتِهم معه غيرَه.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه: وإن يرَ هؤلاء المُشرِكون قِطْعًا من السماءِ ساقطًا. والكِسْفُ جمْع كِسْفةٍ، مثلُ: التَّمرُ جَمْعُ تَمْرةٍ، والسِّدرُ جَمعُ سِدْرةٍ.
وبنحوِ الذي قُلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابنِ عباسٍ
(1)
بعده في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"المكيدون. يقول: هم".
(2)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"أمرك".
(3)
في م: "أم لهم".
قولَه: {كِسْفًا} . يقولُ: قِطْعًا
(1)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا} . يقولُ: وإن يَرَوا قِطْعًا من السماءِ ساقطًا
(2)
.
{يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ} . يقولُ جلَّ ثناؤه: يقولوا لذلك الكِسْفِ من السماءِ الساقطِ: هذا سحابٌ مركومٌ. يعني بقولِه: {مَرْكُومٌ} : بعضُه على بعضٍ.
وإنَّما عنَى بذلك جلَّ ثناؤه المُشرِكين من قريشٍ الذين سألوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم الآياتِ، فقالوا له:{لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا} [سورة الإسراء: 90 - 92]. فقال اللَّهُ لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: وإن يَرَ هؤلاء المشركون ما سألوا من الآياتِ، فعايَنوا كِسْفًا من السماءِ ساقِطًا، لم ينتَقلوا عمَّا هم عليه من التكذيبِ، ولقالوا: إنَّما هذا سحابٌ بعضُه فوقَ بعضٍ؛ لأنَّ اللَّهَ قد حتَم عليهم أنهم لا يؤمنون.
كما حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ:{يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ} . يقولُ: لا يُصَدِّقوا
(3)
بحديثٍ، ولا يؤمِنوا
(4)
بآيةٍ.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ} . قال: حين سألوا الكِسْفَ قالوا: أسْقِطْ علينا كِسْفًا مِن السماءِ إن كنتَ من الصادقين. قال: يقولُ: لو أنَّا فعَلْنا لقالوا:
(1)
ذكره الحافظ في الفتح 8/ 602 عن علي بن أبي طلحة به، وعزاه إلى المصنف، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4/ 203 إلى المصنف
(2)
عزاه الحافظ في الفتح 8/ 602 إلى ابن أبي حاتم.
(3)
في الأصل: "يعذبون".
(4)
في الأصل: "يؤمنون".
سحابٌ مركومٌ.
وقولُه: {فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ} . يقولُ - جلَّ وعزَّ - لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: فدَعْ يا محمدُ هؤلاء المشركين حتى يُلاقوا يومَهم الذي فيه يَهْلِكون. وذلك عندَ النَّفخةِ الأولى.
واختَلَفت القرَأةُ في قراءةِ قولِه: {يُصْعَقُونَ} ؛ فقرَأته عامَّةُ قرَأةِ الأمصارِ سوى عاصمٍ بفتحِ الباءِ من (يَصْعَقُونَ). وقرَأه عاصمٌ: {يُصْعَقُونَ} بضمِّ الياءِ
(1)
. والفتحُ أعجبُ القراءتين إلينا؛ لأنه أفصَحُ اللغتين وأشهرُهما، وإن كانت الأخرى جائزةً، وذلك أن العربَ تقولُ: صَعِق الرجلُ وصُعِق، وسَعِد وسُعِد.
وقد بيَّنا معنى الصَّعْقِ بشواهدِه وما قال فيه أهلُ التأويلِ فيما مضَى، بما أغنَى عن إعادتِه
(2)
.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يعني جل جلاله: يومَ لا يُغنى عنهم كيدُهم شيئًا
(3)
يومَ القيامةِ حتى يُلاقوا يومَهم الذي فيه يُصْعقون. ثم بَيَّن عن ذلك اليومِ، أيُّ يومٍ هو، فقال:{يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} . يعني: مكرُهم أنه لا يدفَعُ عنهم مِن عذابِ اللَّهِ شيئًا. فاليومُ الثاني ترجمةٌ عن اليومِ الأوَّلِ.
وقولُه: {وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} . يقولُ: ولا هم ينصُرُهم ناصرٌ، فيَستَقيدَ لهم ممَّن عذَّبهم وعاقَبهم.
(1)
قرأ ابنُ عامر وعاصم بضم الياء والباقون بفتحها. النشر 2/ 283.
(2)
ينظر ما تقدم في 1/ 690، 691.
(3)
بعده في ت 1: "يغنى مكرهم".
وقولُه: {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ} . اختَلَف أهلُ التأويلِ في العذابِ الذي توعَّد اللَّهُ به هؤلاء الظلمةَ من دونِ يومِ الصَّعْقةِ؛ فقال بعضُهم: هو عذابُ القبرِ
(1)
.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا إسماعيلُ بنُ موسى الفزاريُّ، قال: أخبَرنا شريكٌ، عن أبي إسحاقَ، عن البراءِ:{عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ} . قال: عذابَ القبرِ
(1)
(2)
.
حدَّثني عليٌّ، قال: ثنا أبو صالحٍ، قال: ثنى معاويةُ، عن عليٍّ، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ} . يقولُ: عذابَ القبرِ قبلَ عذابِ يومِ القيامةِ.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، أن ابنَ عباسٍ كان يقولُ: إنَّكم لَتجِدون عذابَ القبرِ في كتابِ اللَّه: {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ} .
حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابنُ ثورٍ، عن مَعمرٍ، عن قتادةَ، أن ابنَ عباسٍ قال
(3)
: عذابُ القبرِ في القرآنِ. ثم تلا: {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ}
(4)
.
وقال آخرون: عُنِي بذلك الجوعُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، وحدَّثني
(1)
في الأصل: "القبور".
(2)
ذكره الطوسي في التبيان 9/ 417، والبغوي في تفسيره 7/ 394، والقرطبي في تفسيره 17/ 78.
(3)
في م: "كان يقول إن".
(4)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 248 عن معمر به.
الحارثُ، قال: ثنا الحسنُ، قال: ثنا ورقاءُ، جميعًا عن ابنِ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قولَه:{عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ} . قال: الجوعُ
(1)
.
وقال آخرون: بل عُنِي به المصائبُ التي تصيبُهم في الدُّنيا؛ من ذهابِ الأموالِ والأولادِ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ} . قال: دونَ الآخرةِ، في هذه الدنيا؛ ما يُعذِّبُهم به من ذهابِ الأموالِ والأولادِ. قال: فهي للمؤمنين أجرٌ وثوابٌ عندَ اللَّهِ غدًا
(2)
بمصائبِهم
(3)
ومصائبُ هؤلاء عجَّلَهم
(4)
اللَّهُ إيَّاها في الدنيا. وقرَأ: {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ} إلى آخرِ الآيةِ
(5)
[التوبة: 55].
والصوابُ من القولِ في ذلك عندي أن يُقالَ: إن اللَّه تعالى ذِكرُه أخبرَ أن للذين ظلَموا أنفسهم بكفرِهم به، عذابًا دونَ يومِهم الذي فيه يُصْعَقون، وذلك يومُ القيامةِ، فعذابُ القبرِ دونَ يومِ القيامةِ؛ لأنه في البرزَخِ، والجوعُ الذي أصاب كفارَ قريشٍ، والمصائبُ التي تصيبُهم في أنفسِهم وأموالِهم وأولادِهم - دونَ يومِ القيامةِ، ولم يخصُصِ اللَّهُ نوعًا من ذلك أنه لهم دونَ يومِ القيامةِ دونَ نوعٍ، بل عمَّ فقال:{وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ} . فكلُّ ذلك لهم عذابٌ، وذلك لهم دونَ يومِ
(1)
تفسير مجاهد ص 624، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 120 إلى ابن المنذر.
(2)
في ص، م، ت 1:"عدا".
(3)
في ص، م، ت 1، ت 2، ت 3:"مصائبهم".
(4)
في الأصل: "عجلها".
(5)
ذكرُه القرطبي في تفسيره 17/ 78، وأبو حيان في البحر المحيط 8/ 153 عن ابن زيد مختصرًا.
القيامةِ. فتأويلُ الكلامِ: وإن للذين كَفروا باللهِ عذابًا من اللهِ دونَ يومِ القيامةِ، ولكنَّ أكْثَرَهم لا يَعْلَمون بأنَّهم ذائقُو ذلك العذَابِ.
القولُ في تأويلِ قولِه عز وجل: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)} .
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: واصْبِرْ لحُكْم ربِّك يا محمدُ الذي حكَم به عليكَ، وامْضِ لأمْرِه ونهيه، وبلِّغْ رسالاتِه، {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا}. يقولُ جلَّ ثناؤه: فإنك بمرأًى مِنَّا، نرَاك
(1)
ونرَى عملَك، ونحن نَحوطُك ونحفظُك، فلا يصلُ إليك مَن أرادك بسوءٍ من المشركين.
وقولُه: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} . اختَلَف أهلُ التأويلِ في تأويلِ ذلك؛ فقال بعضُهم: معنى ذلك: إذا قُمْتَ من نومِك فقُلْ: سبحانَ اللهِ وبحمدِه.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا أبو أحمدَ، قال: ثنا سفيانُ، عن أبي إسحاقَ، عن أبى الأحوص في قولِه:{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} . قال: من كلِّ منامِه
(2)
، يقولُ حين يريدُ أن يقومَ: سبحانَك وبحمدِك
(3)
.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا مِهرانُ، عن سفيانَ، عن أبي إسحاقَ، عن أبي
(1)
ليس في: الأصل.
(2)
في م: "منامة".
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 249، وابن أبي شيبة 10/ 257 من طريق سفيان به، وأخرجه النحاس في ناسخه ص 687 من طريق سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود. وليس عند أحد منهم تخصيص ذلك بالقيام من النوم. وذكره الطوسي في التبيان 9/ 417 مقيدًا بالقيام من النوم.
الأحوصِ
(1)
عوفِ بنِ مالكٍ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} . قال: سبحانَ اللَّهِ وبحمدِه.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قوله: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} . قال: إذا قام لصلاةٍ من ليلٍ أو نهارٍ. وقرَأ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} [المائدة: 6]. قال: من نومٍ. ذكَره عن أبيه
(2)
.
وقال بعضُهم: بل معنى ذلك: إذا قُمْتَ إلى الصلاةِ المفروضةِ فقُلْ: سبحانَك اللهمَّ وبحمدِك.
ذكرُ مَن قال ذلك
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا ابنُ المباركِ، عن جُوَيبرٍ، عن الضحاكِ:{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} . قال: إذا قام إلى الصلاةِ قال: سبحانَك اللهمَّ وبحمدِك، وتبارَك اسْمُك، [وتعالَى جَدُّكَ]
(3)
، ولا إلهَ غيرُك
(4)
.
وحُدِّثتُ عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبرنا عبيدٌ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} : إلى الصلاةِ المفروضةِ.
وأولى القولين في ذلك بالصوابِ قولُ مَن قال: معنى ذلك: وصلِّ بحمدِ ربِّك حين تقومُ مِن مَنامِك، وذلك نومُ القائلةِ، وإنما عُنِي بذلك
(5)
صلاةُ الظُّهرِ.
(1)
بعده في الأصل، ت 1:"عن".
(2)
ذكره الطوسي في التبيان 9/ 417، وابن كثير في تفسيره 7/ 414.
(3)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة 1/ 232 من طريق جويبر به، وأخرجه النحاس في ناسخه ص 685، 686 من طريق أبي مصلح، عن الضحاك، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 120، 121 إلى سعيد بن منصور وابن المنذر.
(5)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
وإنما قلتُ: هذا القولُ أولى القولين بالصوابِ؛ لأن الجميعَ مُجمِعون على أنه غيرُ واجبٍ أن يُقالَ في الصلاةِ: سُبحانَك اللهمَّ
(1)
وبحمدِك، وما رُوِي عن الضحاكِ عندَ القيامِ إلى الصلاةِ، فلو كان القولُ كما قاله الضحاكُ لكان فرضًا أن يُقالَ ذلك
(2)
؛ لأن قولَه: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} أمرٌ من اللهِ بالتَّسبيحِ، وفي إجماعِ الجميعِ على أن ذلك غيرُ واجبٍ الدليلُ الواضحُ على أن القولَ في ذلك غيرُ الذي قاله الضحاكُ.
فإن قال قائلٌ: لعله أُرِيد به
(3)
الندبُ والإرشادُ
(4)
. قيل: لا دلالةَ في الآيةِ على ذلك، ولم تَقُمْ حجةٌ بأن ذلك معنيٌّ به ما قاله الضحاكُ، فيُجْعلَ إجماعُ الجميعِ على أن التسبيحَ عندَ القيامِ إلى الصلاةِ مما خُيِّر المسلمون فيه، دليلًا لنا على أنَّه أُرِيد به الندبُ والإرشادُ.
وإنما قُلنا: عُنِي به القيامُ من نومِ القائلةِ؛ لأنه لا صلاةَ تجبُ فرضًا بعد وقتٍ من أوقاتِ نومِ الناسِ المعروفِ، إلَّا بعدَ نومِ الليلِ، وذلك صلاةُ الفجرِ، أو بعدَ نومِ القائلةِ، وذلك صلاةُ الظُّهرِ؛ فلما أمَر بعدَ قولِه:{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} . بالتَّسبيحِ بعدَ إدبارِ النجومِ، وذلك ركْعَتا الفجرِ، بعدَ قيامِ الناسِ من نومِهم ليلًا - عُلِم أن الأمرَ بالتسبيحِ بعدَ القيامِ من النومِ هو أمرٌ بالصلاةِ التي تجِبُ بعدَ قيامٍ من نومِ القائلةِ، على ما ذكَرْنا، دونَ
(5)
القيامِ من نومِ الليلِ.
وقولُه: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ} . يقولُ: ومن الليلِ فعَظِّم ربَّك يا محمدُ
(1)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(2)
سقط من: م.
(3)
في ت 3: "منه".
(4)
في الأصل: "الرشاد".
(5)
في الأصل: "من". وفي ت 2: "بعد".
بالصلاةِ له
(1)
والعبادةِ، وذلك صلاةُ المغربِ والعشاءِ.
وكان ابنُ زيدٍ يقولُ في ذلك ما حدَّثني به يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ} . قال: {وَمِنَ اللَّيْلِ} : صلاةُ العشاءِ، {وَإِدْبَارَ النُّجُومِ}. يعني: حينَ تُدبِرُ النجومُ للأُفُولِ، عندَ إقبالِ النَّهارِ.
[وقيل]
(2)
: عُنِي بذلك ركعتا الفجر.
ذكرُ
(3)
مَن قال ذلك
حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ قولَه:{وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} . قال: هما السجدتان قبلَ صلاةِ الغَداةِ
(4)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه:{وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} : كنَّا نُحدَّثُ أنَّهما الرَّكعتان عندَ طلوعِ الفجرِ. قال: وذُكر لنا أن عمرَ بنَ الخطابِ رضي الله عنه كان يقولُ: لَهُمَا أَحبُّ إليَّ من حُمْرِ النَّعَمِ
(5)
.
حدَّثنا بشرٌ، قال: ثنا يزيدُ، قال: ثنا سعيدٌ، عن قتادةَ، عن زُرَارَةَ بنِ أَوْفَى، عن سعيدِ بنِ هشامٍ، عن عائشةَ أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال في ركعَتَي الفجرِ:"هما خَيرٌ مِنَ الدُّنيا جمِيعًا"
(6)
.
(1)
سقط من: ص، م، ت 1، ت 2، ت 3.
(2)
في الأصل: "يقال".
(3)
بعده في ص، م، ت 1:"بعض".
(4)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 121 إلى المصنف وابن أبي حاتم.
(5)
أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (4779) عن عبد الله بن محرر عن قتادة عن أنس، وأخرجه ابن أبي شيبة 2/ 241 من طريق سعيد بن جبير عن عمر.
(6)
أخرجه أحمد 6/ 50، 51، 149، 265 (الميمنية)، والنسائي في الكبرى (1452)، وابن خزيمة =
حدَّثنا ابنُ عبدِ الأعلى، قال: ثنا ابنُ ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادةَ:{وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} . قال: ركعتان قبلَ صلاةِ الصُّبحِ
(1)
.
حدَّثنا ابنُ بشارٍ، قال: ثنا ابنُ أبي عديٍّ وحمادُ بنُ مَسْعدةَ، قالا: ثنا حميدٌ، عن الحسنِ، عن عليٍّ في قولِه:{وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} . قال: الرَّكعتان قبلَ صلاةِ الصُّبحِ
(2)
.
حدَّثنا ابنُ حميدٍ، قال: ثنا جريرٌ، عن عطاءٍ، قال: قال عليٌّ رضي الله عنه: {وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} : الرَّكعتان قبلَ الفجر.
وقال آخرون: عُنِي بالتَّسبيحِ إدبارَ النجوم صلاةُ الصُّبحِ الفريضةُ.
ذكرُ مَن قال ذلك
حُدِّثتُ عن الحسينِ، قال: سمِعتُ أبا معاذٍ يقولُ: أخبَرنا عبيدٌ، قال: سمِعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِه: {وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} . قال: صلاةُ الغَداةِ
(3)
.
حدَّثني يونسُ، قال: أخبَرنا ابنُ وهبٍ، قال: قال ابنُ زيدٍ في قولِه: {وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} . قال: صلاةُ الصُّبحِ
(4)
.
قال أبو جعفرٍ رحمه الله: وأولى القولَين في ذلك بالصوابِ عندي قولُ مَن قال: عُنِي بها الصلاةُ المكتوبةُ، صلاةُ الفجرِ. وذلك أن اللهَ أمَر فقال:{وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} . والركعتان قبلَ الفريضةِ غيرُ واجبتين، ولم تَقُمْ حُجَّةٌ
= (1107) من طريق سعيد به، وأخرجه مسلم (725)، والترمذي (416) من طريق قتادة به.
(1)
في الأصل: "الفجر".
والأثر أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 249 عن معمر به.
(2)
أخرجه النحاس في ناسخه ص 688 من طريق الحارث عن علي. وينظر علل الدارقطني 3/ 176، 177.
(3)
عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/ 121 إلى المصنف.
(4)
ذكره النحاس في ناسخه ص 688، والقرطبي في تفسيره 17/ 80.
يحبُ التَّسليمُ لها أن قولَه: {فَسَبِّحْهُ} على النَّدبِ، وقد دلَّلنا في غيرِ موضعٍ من كتابِنا
(1)
على أن أمرَ اللهِ على الفرضِ، حتى تقومَ حجةٌ بأنَّه مرادٌ به الندبُ أو غيرُ الفرضِ، بما أغنَى عن إعادتِه في هذا الموضعِ
(2)
.
آخرُ تفسيرِ سورةِ "الطورِ"
(1)
في ص، م، ت 2، ت 3:"كتبنا".
(2)
ينظر ما تقدم في 5/ 78 - 80.