الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْمُحْرِمَ لَا يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ حَتَّى يَرْمِيَ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ؛ لِمَا ثَبَتَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ» .
إِلَّا أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا مَتَى يَقْطَعُهَا، فَقَالَ قَوْمٌ: إِذَا رَمَاهَا بِأَسْرِهَا؛ لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ الْفَضْلَ بْنَ عَبَّاسٍ كَانَ رَدِيفَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَنَّهُ لَبَّى حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، وَقَطَعَ التَّلْبِيَةَ فِي آخِرِ حَصَاةٍ» . وَقَالَ قَوْمٌ: بَلْ يَقْطَعُهَا فِي أَوَّلِ جَمْرَةٍ يُلْقِيهَا، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَرُوِيَ فِي وَقْتِ قِطْعِ التَّلْبِيَةِ أَقَاوِيلُ غَيْرُ هَذِهِ، إِلَّا أَنَّ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ هُمَا الْمَشْهُورَانِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي وَقْتِ قِطْعِ التَّلْبِيَةِ بِالْعُمْرَةِ فَقَالَ مَالِكٌ: يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ إِذَا انْتَهَى إِلَى الْحَرَمِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِذَا افْتَتَحَ الطَّوَافَ. وَسَلَفُ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ وَعُرْوَةُ، وَعُمْدَةُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ التَّلْبِيَةَ مَعْنَاهَا إِجَابَةٌ إِلَى الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ، فَلَا تَنْقَطِعُ حَتَّى يَشْرَعَ فِي الْعَمَلِ.
وَسَبَبُ الْخِلَافِ مُعَارَضَةُ الْقِيَاسِ لِفِعْلِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ، وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ - كَمَا قُلْنَا - مُتَّفِقُونَ عَلَى إِدْخَالِ الْمُحْرِمِ الْحَجَّ عَلَى الْعُمْرَةِ، وَيَخْتَلِفُونَ فِي إِدْخَالِ الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: لَا يَدْخُلُ حَجٌّ عَلَى عُمْرَةٍ، وَلَا عُمْرَةٌ عَلَى حَجٍّ، كَمَا لَا تَدْخُلُ صَلَاةٌ عَلَى صَلَاةٍ.
فَهَذِهِ هِيَ أَفْعَالُ الْمُحْرِمِ بِمَا هُوَ مُحْرِمٌ، وَهُوَ أَوَّلُ أَفْعَالِ الْحَجِّ. وَأَمَّا الْفِعْلُ الَّذِي بَعْدَ هَذَا فَهُوَ الطَّوَافُ عِنْدَ دُخُولِ مَكَّةَ، فَلْنَقُلْ فِي الطَّوَافِ.
[الْقَوْلُ فِي الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ]
ِ، وَالْكَلَامُ فِي الطَّوَافِ، فِي صِفَتِهِ، وَشُرُوطِهِ، وَحُكْمِهِ فِي الْوُجُوبِ أَوِ النَّدْبِ، وَفِي أَعْدَادِهِ.
الْقَوْلُ فِي الصِّفَةِ وَالْجُمْهُورُ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ صِفَةَ كُلِّ طَوَافٍ وَاجِبًا كَانَ أَوْ غَيْرَ وَاجِبٍ أَنْ يَبْتَدِئَ مِنَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ؛ فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يُقَبِّلَهُ قَبَّلَهُ، أَوْ يَلْمِسَهُ بِيَدِهِ وَيُقَبِّلَهَا إِنْ أَمْكَنَهُ. ثُمَّ يَجْعَلَ الْبَيْتَ عَلَى يَسَارِهِ، وَيَمْضِيَ عَلَى يَمِينِهِ، فَيَطُوفَ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ. يَرْمُلُ فِي ثَلَاثَةِ الْأَشْوَاطِ الْأُوَلِ، ثُمَّ يَمْشِيَ فِي الْأَرْبَعَةِ، وَذَلِكَ فِي طَوَافِ الْقُدُومِ عَلَى مَكَّةَ، وَذَلِكَ لِلْحَاجِّ وَالْمُعْتَمِرِ دُونَ الْمُتَمَتِّعِ.
وَأَنَّهُ لَا رَمَلَ عَلَى النِّسَاءِ، وَيَسْتَلِمُ الرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ، وَهُوَ الَّذِي عَلَى قُطْرِ الرُّكْنِ الْأَسْوَدِ؛ لِثُبُوتِ هَذِهِ الصِّفَةِ مِنْ فِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم.
وَاخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ الرَّمَلِ فِي ثَلَاثَةِ الْأَشْوَاطِ الْأُوَلِ لِلْقَادِمِ هَلْ هُوَ سُنَّةٌ أَوْ فَضِيلَةٌ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ سُنَّةٌ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَإِسْحَاقُ وَأَحْمَدُ وَأَبُو ثَوْرٍ. وَاخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ وَأَصْحَابِهِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ أَنَّ مَنْ جَعَلَهُ سُنَّةً أَوْجَبَ فِي تَرْكِهِ الدَّمَ، وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْهُ سُنَّةً لَمْ يُوجِبْ فِي تَرْكِهِ شَيْئًا. وَاحْتَجَّ مَنْ لَمْ يَرَ الرَّمَلَ سُنَّةً بِحَدِيثِ ابْنِ الطُّفَيْلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:«قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: زَعَمَ قَوْمُكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ طَافَ بِالْبَيْتِ رَمَلَ، وَأَنَّ ذَلِكَ سُنَّةٌ، فَقَالَ: صَدَقُوا وَكَذَبُوا. قَالَ: قُلْتُ: مَا صَدَقُوا، وَمَا كَذَبُوا؟ قَالَ: صَدَقُوا، رَمَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ طَافَ بِالْبَيْتِ. وَكَذَبُوا، لَيْسَ بِسُنَّةٍ. إِنَّ قُرَيْشًا زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ قَالُوا: إِنَّ بِهِ وَبِأَصْحَابِهِ هَزْلًا، وَقَعَدُوا عَلَى قُعَيْقِعَانَ يَنْظُرُونَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ. فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: ارْمُلُوا، أَرَوهُمْ أَنَّ بِكُمْ قُوَّةً! فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَرْمُلُ مِنَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ إِلَى الْيَمَانِيِّ، فَإِذَا تَوَارَى عَنْهُمْ مَشَى» .
وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ حَدِيثُ جَابِرٍ " أَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَمَلَ فِي الْأَشْوَاطِ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ وَمَشَى أَرْبَعًا» . وَهُوَ حَدِيثٌ ثَابِتٌ مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ. قَالُوا: وَقَدِ اخْتُلِفَ عَلَى أَبِي الطُّفَيْلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَرُوِيَ عَنْهُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَمَلَ مِنَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ إِلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ» ، وَذَلِكَ بِخِلَافِ الرِّوَايَةِ الْأُولَى.
وَعَلَى أُصُولِ الظَّاهِرِيَّةِ يَجِبُ الرَّمَلُ؛ لِقَوْلِهِ: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» . وَهُوَ قَوْلُهُمْ، أَوْ قَوْلُ بَعْضِهِمُ الْآنَ فِيمَا أَظُنُّ.
وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا رَمَلَ عَلَى مَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا، وَهُمُ الْمُتَمَتِّعُونَ؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ رَمَلُوا فِي حِينِ دُخُولِهِمْ حِينَ طَافُوا لِلْقُدُومِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي أَهْلِ مَكَّةَ هَلْ عَلَيْهِمْ إِذَا حَجُّوا رَمَلٌ؟ أَمْ لَا؟ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: كُلُّ طَوَافٍ قَبْلَ عَرَفَةَ مِمَّا يُوصَلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّعْيِ فَإِنَّهُ يُرْمَلُ فِيهِ، وَكَانَ مَالِكٌ يَسْتَحِبُّ ذَلِكَ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ لَا يَرَى عَلَيْهِمْ رَمَلًا إِذَا طَافُوا بِالْبَيْتِ عَلَى مَا رَوَى عَنْهُ مَالِكٌ.
وَسَبَبُ الْخِلَافِ: هَلِ الرَّمَلُ كَانَ لِعِلَّةٍ؟ أَوْ لِغَيْرِ عِلَّةٍ؟ وَهَلْ هُوَ مُخْتَصٌّ بِالْمُسَافِرِ؟ أَمْ لَا؟ وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ عليه الصلاة والسلام حِينَ رَمَلَ وَارِدًا عَلَى مَكَّةَ.
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مِنْ سُنَّةِ الطَّوَافِ اسْتِلَامَ الرُّكْنَيْنِ الْأَسْوَدِ وَالْيَمَانِيِّ لِلرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ. وَاخْتَلَفُوا هَلْ تُسْتَلَمُ الْأَرْكَانُ كُلُّهَا؟ أَمْ لَا؟ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ إِنَّمَا يُسْتَلَمُ الرُّكْنَانِ فَقَطْ؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ يَسْتَلِمُ إِلَّا الرُّكْنَيْنِ فَقَطْ» .
وَاحْتَجَّ مَنْ رَأَى اسْتِلَامَ جَمِيعِهَا بِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: «كُنَّا نَرَى إِذَا طُفْنَا أَنْ نَسْتَلِمَ الْأَرْكَانَ كُلَّهَا. وَكَانَ بَعْضُ السَّلَفِ لَا يُحِبُّ أَنْ يَسْتَلِمَ الرُّكْنَيْنِ إِلَّا فِي الْوِتْرِ مِنَ الْأَشْوَاطِ» .
وَكَذَلِكَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ تَقْبِيلَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ خَاصَّةً مِنْ سُنَنِ الطَّوَافِ إِنْ قَدَرَ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الدُّخُولِ إِلَيْهِ قَبَّلَ يَدَهُ. وَذَلِكَ؛ لِحَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ الَّذِي رَوَاهُ مَالِكٌ أَنَّهُ قَالَ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ حِينَ بَلَغَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ:" إِنَّمَا أَنْتَ حَجَرٌ، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ قَبَّلَكَ مَا قَبَّلْتُكَ، ثُمَّ قَبَّلَهُ ".
وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مِنْ سُنَّةِ الطَّوَافِ رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الطَّوَافِ، وَجُمْهُورُهُمْ عَلَى أَنَّهُ يَأْتِي بِهَا الطَّائِفُ عِنْدَ انْقِضَاءِ كُلِّ أُسْبُوعٍ إِنْ طَافَ أَكْثَرَ مِنْ أُسْبُوعٍ وَاحِدٍ. وَأَجَازَ بَعْضُ السَّلَفِ أَلَّا يُفَرِّقَ بَيْنَ الْأَسَابِيعِ، وَأَلَّا يَفْصِلَ بَيْنَهُمَا بِرُكُوعٍ. ثُمَّ يَرْكَعُ لِكُلِّ أُسْبُوعٍ رَكْعَتَيْنِ. وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا كَانَتْ لَا تُفَرِّقُ بَيْنَ ثَلَاثَةِ الْأَسَابِيعِ، ثُمَّ تَرْكَعُ سِتَّ رَكَعَاتٍ.
وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا، وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ، وَقَالَ: خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» . وَحُجَّةُ مَنْ أَجَازَ الْجَمْعَ أَنَّهُ قَالَ: الْمَقْصُودُ إِنَّمَا هُوَ رَكْعَتَانِ لِكُلِّ أُسْبُوعٍ، وَالطَّوَافُ لَيْسَ لَهُ وَقْتٌ مَعْلُومٌ، وَلَا الرَّكْعَتَانِ الْمَسْنُونَتَانِ مِنْ بَعْدِهِ، فَجَازَ الْجَمْعُ بَيْنَ أَكْثَرَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ لِأَكْثَرَ مِنْ أُسْبُوعَيْنِ. وَإِنَّمَا اسْتَحَبَّ مَنْ يَرَى أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَسَابِيعَ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم انْصَرَفَ إِلَى الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ وِتْرٍ مِنْ طَوَافِهِ. وَمَنْ طَافَ أَسَابِيعَ غَيْرَ وِتْرٍ، ثُمَّ عَادَ إِلَيْهَا - لَمْ يَنْصَرِفْ عَنْ وِتْرٍ مِنْ طَوَافِهِ.
الْقَوْلُ فِي شُرُوطِهِ وَأَمَّا شُرُوطُهُ فَإِنَّ مِنْهَا حَدَّ مَوْضِعِهِ، وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْحِجْرَ مِنَ الْبَيْتِ، وَأَنَّ مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ لَزِمَهُ إِدْخَالُ الْحِجْرَ فِيهِ، وَأَنَّهُ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: هُوَ سُنَّةٌ.
وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ مَا رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَوْلَا حَدَثَانِ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ لَهَدَمْتُ الْكَعْبَةَ، وَلَصَيَّرْتُهَا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ؛ فَإِنَّهُمْ تَرَكُوا مِنْهَا سَبْعَةَ أَذْرُعٍ مِنَ الْحِجْرِ، ضَاقَتْ بِهِمُ النَّفَقَةُ وَالْخَشَبُ.» وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَكَانَ يَحْتَجُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29]، ثُمَّ يَقُولُ:«طَافَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ وَرَاءِ الْحِجْرِ» .
وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ ظَاهِرُ الْآيَةِ.
وَأَمَّا وَقْتُ جَوَازِهِ فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: إِجَازَةُ الطَّوَافِ بَعْدَ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ، وَمَنْعُهُ وَقْتَ الطُّلُوعِ وَالْغُرُوبِ، وَهُوَ مَذْهَبُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ وَجَمَاعَةٌ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: كَرَاهِيَتُهُ بَعْدَ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ، وَمَنْعُهُ عِنْدَ الطُّلُوعِ وَالْغُرُوبِ، وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ وَجَمَاعَةٌ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: إِبَاحَةُ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ كُلِّهَا، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَجَمَاعَةٌ.
وَأُصُولُ أَدِلَّتِهِمْ رَاجِعَةٌ إِلَى مَنْعِ الصَّلَاةِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ أَوْ إِبَاحَتِهَا؛ أَمَّا وَقْتُ الطُّلُوعِ وَالْغُرُوبِ فَالْآثَّارُ مُتَّفِقَةٌ عَلَى مَنْعِ الصَّلَاةِ فِيهَا. وَالطَّوَافُ هَلْ هُوَ مُلْحَقٌ بِالصَّلَاةِ؟ فِي ذَلِكَ الْخِلَافِ.
وَمِمَّا احْتَجَّتْ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ حَدِيثُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام قَالَ: «يَا بَنِي عَبْدِ مُنَافٍ، أَوْ يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، إِنْ وَلِيتُمْ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ شَيْئًا فَلَا تَمْنَعُوا أَحَدًا طَافَ بِهَذَا الْبَيْتِ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ أَيَّ سَاعَةٍ شَاءَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ» . رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ بِسَنَدِهِ إِلَى جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ.
وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ الطَّوَافِ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ مَعَ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ مِنْ سُنَّتِهِ الطَّهَارَةَ، فَقَالَ
مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يُجْزِئُ طَوَافٌ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ لَا عَمْدًا وَلَا سَهْوًا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُجْزِئُ وَيُسْتَحَبُّ لَهُ الْإِعَادَةُ، وَعَلَيْهِ دَمٌ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: إِذَا طَافَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ أَجْزَأَهُ طَوَافُهُ إِنْ كَانَ لَا يَعْلَمُ، وَلَا يُجْزِئُهُ إِنْ كَانَ يُعْلَمُ.
وَالشَّافِعِيُّ يَشْتَرِطُ طَهَارَةَ ثَوْبِ الطَّائِفِ كَاشْتِرَاطِ ذَلِكَ لِلْمُصَلِّي. وَعُمْدَةُ مَنْ شَرَطَ الطَّهَارَةَ فِي الطَّوَافِ «قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لِلْحَائِضِ، وَهِيَ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ: " اصْنَعِي مَا يَصْنَعُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَلَّا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ» . وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَقَدْ يَحْتَجُّونَ أَيْضًا بِمَا رُوِيَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ، إِلَّا أَنَّ اللَّهَ أَحَلَّ فِيهِ النُّطْقَ، فَلَا يُنْطَقُ إِلَّا بِخَيْرٍ» .
وَعُمْدَةُ مَنْ أَجَازَ الطَّوَافَ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ إِجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ عَلَى جَوَازِ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ مِنْ غَيْرِ طَهَارَةٍ، وَأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ عِبَادَةٍ يُشْتَرَطُ فِيهَا الطُّهْرُ مِنَ الْحَيْضِ مِنْ شَرْطِهَا الطُّهْرُ مِنَ الْحَدَثِ. أَصْلُهُ الصَّوْمُ.
الْقَوْلُ فِي أَعْدَادِهِ وَأَحْكَامِهِ وَأَمَّا أَعْدَادُهُ فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الطَّوَافَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: طَوَافُ الْقُدُومِ عَلَى مَكَّةَ، وَطَوَافُ الْإِفَاضَةِ بَعْدَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ، وَطَوَافُ الْوَدَاعِ.
وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ مِنْهَا الَّذِي يَفُوتُ الْحَجُّ بِفَوَاتِهِ هُوَ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ، وَأَنَّهُ الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] ، وَأَنَّهُ لَا يُجْزِئُ عَنْهُ دَمٌ.
وَجُمْهُورُهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ طَوَافُ الْقُدُومِ عَلَى مَكَّةَ عَنْ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ إِذَا نَسِيَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ؛ لِكَوْنِهِ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ: إِنَّ طَوَافَ الْقُدُومِ يُجْزِئُ عَنْ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ، كَأَنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّ الْوَاجِبَ إِنَّمَا هُوَ طَوَافٌ وَاحِدٌ.
وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ طَوَافَ الْوَدَاعِ يُجْزِئُ عَنْ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ إِنْ لَمْ يَكُنْ طَافَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ ; لِأَنَّهُ طَوَافٌ بِالْبَيْتِ مَعْمُولٌ فِي وَقْتِ طَوَافِ الْوُجُوبِ الَّذِي هُوَ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ، بِخِلَافِ طَوَافِ الْقُدُومِ الَّذِي هُوَ قَبْلَ وَقْتِ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ.
وَأَجْمَعُوا فِيمَا حَكَاهُ أَبُو عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ طَوَافَ الْقُدُومِ وَالْوَدَاعِ مِنْ سُنَّةِ الْحَاجِّ إِلَّا لِخَائِفٍ فَوَاتَ الْحَجِّ، فَإِنَّهُ يُجْزِئُ عَنْهُ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ. وَاسْتَحَبَّ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ لِمَنْ عَرَضَ لَهُ هَذَا أَنْ يَرْمُلَ فِي الْأَشْوَاطِ الثَّلَاثَةِ مِنْ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ، عَلَى سُنَّةِ طَوَافِ الْقُدُومِ مِنَ الرَّمَلِ.
وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمَكِّيَّ لَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا طَوَافُ الْإِفَاضَةِ، كَمَا أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْمُعْتَمِرِ إِلَّا طَوَافُ الْقُدُومِ. وَأَجْمَعُوا أَنَّ مَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ أَنَّ عَلَيْهِ طَوَافَيْنِ: طَوَافًا لِلْعُمْرَةِ لِحِلِّهِ مِنْهَا، وَطَوَافًا لِلْحَجِّ يَوْمَ النَّحْرِ عَلَى مَا فِي حَدِيثِ