الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وُجُوبَ. قَالَ عِكْرِمَةُ: بَعَثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ بِدِرْهَمَيْنِ أَشْتَرِي بِهِمَا لَحْمًا وَقَالَ: مَنْ لَقِيتَ فَقُلْ لَهُ: هَذِهِ ضَحِيَّةُ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَرُوِيَ عَنْ بِلَالٍ أَنَّهُ ضَحَّى بِدِيكٍ، وَكُلُّ حَدِيثٍ لَيْسَ بِوَارِدٍ فِي الْغَرَضِ الَّذِي يُحْتَجُّ فِيهِ بِهِ فَالِاحْتِجَاجُ بِهِ ضَعِيفٌ.
وَاخْتَلَفُوا هَلْ يَلْزَمُ الَّذِي يُرِيدُ التَّضْحِيَةَ أَنْ لَا يَأْخُذَ مِنَ الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ شَعْرِهِ وَأَظْفَارِهِ، وَالْحَدِيثُ بِذَلِكَ ثَابِتٌ.
[الْبَابُ الثَّانِي فِي أَنْوَاعِ الضَّحَايَا وَصِفَاتِهَا وَأَسْنَانِهَا وَعَدَدِهَا]
وَفِي هَذَا الْبَابِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ مَشْهُورَةٌ:
إِحْدَاهَا: فِي تَمْيِيزِ الْجِنْسِ.
وَالثَّانِيَةُ: فِي تَمْيِيزِ الصِّفَاتِ.
وَالثَّالِثَةُ: فِي مَعْرِفَةِ السِّنِّ.
وَالرَّابِعَةُ: فِي الْعَدَدِ.
الْمَسْأَلَةُ الأُولَى: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ الضَّحَايَا مِنْ جَمِيعِ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْأَفْضَلِ مِنْ ذَلِكَ، فَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى أَنَّ الْأَفْضَلَ فِي الضَّحَايَا الْكِبَاشُ، ثُمَّ الْبَقَرُ، ثُمَّ الْإِبِلُ، بِعَكْسِ الْأَمْرِ عِنْدَهُ فِي الْهَدَايَا. وَقَدْ قِيلَ عَنْهُ: الْإِبِلُ، ثُمَّ الْبَقَرُ، ثُمَّ الْكِبَاشُ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى عَكْسِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَالِكٌ فِي الضَّحَايَا: الْإِبِلُ، ثُمَّ الْبَقَرُ، ثُمَّ الْكِبَاشُ، وَبِهِ قَالَ أَشْهَبُ، وَابْنُ شَعْبَانَ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: مُعَارَضَةُ الْقِيَاسِ لِدَلِيلِ الْفِعْلِ، وَذَلِكَ «أَنَّهُ لَمْ يُرْوَ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ ضَحَّى إِلَّا بِكَبْشٍ» ، فَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْكِبَاشَ فِي الضَّحَايَا أَفْضَلُ، وَذَلِكَ فِيمَا ذَكَرَ بَعْضُ النَّاسِ. وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ:«كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَذْبَحُ وَيَنْحَرُ بِالْمُصَلَّى» .
وَأَمَّا الْقِيَاسُ: فَلِأَنَّ الضَّحَايَا قُرْبَةٌ بِحَيَوَانٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْأَفْضَلُ فِيهَا الْأَفْضَلَ فِي الْهَدَايَا، وَقَدِ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ لِمَذْهَبِهِ بِعُمُومِ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: «مَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْأُولَى فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ
فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا» الْحَدِيثَ، فَكَانَ الْوَاجِبُ حَمْلَ هَذَا عَلَى جَمِيعِ الْقُرَبِ بِالْحَيَوَانِ.
وَأَمَّا مَالِكٌ فَحَمَلَهُ عَلَى الْهَدَايَا فَقَطْ، لِئَلَّا يُعَارِضَ الْفِعْلُ الْقَوْلَ وَهُوَ الْأَوْلَى، وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِاخْتِلَافِهِمْ سَبَبٌ آخَرُ وَهُوَ هَلِ الذِّبْحُ الْعَظِيمُ الَّذِي فَدَى بِهِ إِبْرَاهِيمُ سُنَّةٌ بَاقِيَةٌ إِلَى الْيَوْمِ، وَإِنَّهَا الْأُضْحِيَّةُ، وَإِنَّ ذَلِكَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى:{وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ} [الصافات: 108] . فَمَنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا قَالَ: الْكِبَاشُ أَفْضَلُ، وَمَنْ رَأَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَتْ سُنَّةً بَاقِيَةً لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْكِبَاشَ أَفْضَلُ. مَعَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ضَحَّى بِالْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا» ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَالْوَاجِبُ الْمَصِيرُ إِلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ.
وَكُلُّهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الضَّحِيَّةُ بِغَيْرِ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا حُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ أَنَّهُ قَالَ: تَجُوزُ التَّضْحِيَةُ بِبَقَرَةِ الْوَحْشِ عَنْ سَبْعَةٍ، وَالظَّبْيِ عَنْ وَاحِدٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى اجْتِنَابِ الْعَرْجَاءِ الْبَيِّنِ عَرَجُهَا فِي الضَّحَايَا، وَالْمَرِيضَةِ الْبَيِّنِ مَرَضُهَا، وَالْعَجْفَاءِ الَّتِي لَا تَنْقَى، مَصِيرًا لِحَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ:«أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ مَاذَا يُتَّقَى مِنَ الضَّحَايَا؟ فَأَشَارَ بِيَدِهِ، وَقَالَ: أَرْبَعٌ. وَكَانَ الْبَرَاءُ يُشِيرُ بِيَدِهِ وَيَقُولُ: يَدِي أَقْصَرُ مِنْ يَدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: الْعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ عَرَجُهَا، وَالْعَوْرَاءُ الْبَيِّنُ عَوَرُهَا، وَالْمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَا، وَالْعَجْفَاءُ الَّتِي لَا تُنَقَّى» .
وَكَذَلِكَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَا كَانَ مِنْ هَذِهِ الْأَرْبَعِ خَفِيفًا فَلَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي مَنْعِ الْإِجْزَاءِ. وَاخْتَلَفُوا فِي مَوْضِعَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: فِيمَا كَانَ مِنَ الْعُيُوبِ أَشَدَّ مِنْ هَذِهِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا مِثْلَ الْعَمَى وَكَسْرِ السَّاقِ.
وَالثَّانِي: فِيمَا كَانَ مُسَاوِيًا لَهَا فِي إِفَادَةِ النَّقْصِ وَشَيْنِهَا أَعْنِي مَا كَانَ مِنَ الْعُيُوبِ فِي الْأُذُنِ وَالْعَيْنِ وَالذَّنَبِ وَالضِّرْسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْضَاءِ وَلَمْ يَكُنْ يَسِيرًا.
فَأَمَّا الْمَوْضِعُ الْأَوَّلُ: فَإِنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى أَنَّ مَا كَانَ أَشَدَّ مِنْ هَذِهِ الْعُيُوبِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا فَهِيَ أَحْرَى أَنْ تَمْنَعَ الْإِجْزَاءَ. وَذَهَبَ أَهْلُ الظَّاهِرِ إِلَى أَنَّهُ لَا تَمْنَعُ الْإِجْزَاءَ، وَلَا يُتَجَنَّبُ بِالْجُمْلَةِ أَكْثَرُ مِنْ هَذِهِ الْعُيُوبِ الَّتِي وَقَعَ النَّصُّ عَلَيْهَا.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هَلْ هَذَا اللَّفْظُ الْوَارِدُ هُوَ خَاصٌّ أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ، أَوْ خَاصٌّ أُرِيدَ بِهِ الْعُمُومُ؟ فَمَنْ قَالَ: أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ وَلِذَلِكَ أَخْبَرَ بِالْعَدَدِ، قَالَ: لَا يَمْنَعُ الْإِجْزَاءَ إِلَّا هَذِهِ الْأَرْبَعَةُ فَقَطْ. وَمَنْ قَالَ: هُوَ خَاصٌّ أُرِيدَ بِهِ الْعُمُومُ ; وَذَلِكَ مِنَ النَّوْعِ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ التَّنْبِيهُ بِالْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى، قَالَ: مَا هُوَ أَشَدُّ مِنَ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا فَهُوَ أَحْرَى أَنْ لَا يُجْزِئَ.
وَأَمَّا الْمَوْضِعُ الثَّانِي أَعْنِي مَا كَانَ مِنَ الْعُيُوبِ فِي سَائِرِ الْأَعْضَاءِ مُفِيدًا لِلنَّقْصِ عَلَى نَحْوِ إِفَادَةِ هَذِهِ الْعُيُوبِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا لَهُ فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهَا تَمْنَعُ الْإِجْزَاءَ كَمَنْعِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ فِي الْكُتُبِ الْمَشْهُورَةِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا لَا تَمْنَعُ الْإِجْزَاءَ وَإِنْ كَانَ يُسْتَحَبُّ اجْتِنَابُهَا، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْقَصَّارِ، وَابْنُ الْجَلَّابِ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْبَغْدَادِيِّينَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهَا لَا تَمْنَعُ الْإِجْزَاءَ وَلَا يُسْتَحَبُّ تَجَنُّبُهَا، وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الظَّاهِرِ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ شَيْئَانِ:
أَحَدُهُمَا: اخْتِلَافُهُمْ فِي مَفْهُومِ الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ.
وَالثَّانِي: تَعَارُضُ الْآثَارِ فِي هَذَا الْبَابِ.
أَمَّا الْحَدِيثُ الْمُتَقَدِّمُ: فَمَنْ رَآهُ مِنْ بَابِ الْخَاصِّ أُرِيدَ بِهِ الْخَاصُّ قَالَ: لَا يَمْنَعُ مَا سِوَى الْأَرْبَعِ مِمَّا هُوَ مُسَاوٍ لَهَا أَوْ أَكْثَرُ مِنْهَا. وَأَمَّا مَنْ رَآهُ مِنْ بَابِ الْخَاصِّ أُرِيدَ بِهِ الْعَامُّ - وَهُمُ الْفُقَهَاءُ - فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ أَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّنْبِيهِ بِالْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى فَقَطْ ; لَا مِنْ بَابِ التَّنْبِيهِ بِالْمُسَاوِي عَلَى الْمُسَاوِي، قَالَ: يَلْحَقُ بِهَذِهِ الْأَرْبَعِ مَا كَانَ أَشَدَّ مِنْهَا، وَلَا يَلْحَقُ بِهَا مَا كَانَ مُسَاوِيًا لَهَا فِي مَنْعِ الْإِجْزَاءِ إِلَّا عَلَى وَجْهِ الِاسْتِحْبَابِ. وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ أَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّنْبِيهِ عَلَى الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا أَعْنِي عَلَى مَا هُوَ أَشَدُّ مِنَ الْمَنْطُوقِ بِهِ، أَوْ مُسَاوِيًا لَهُ قَالَ: تَمْنَعُ الْعُيُوبُ الشَّبِيهَةُ بِالْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا الْإِجْزَاءَ، كَمَا يَمْنَعُهُ الْعُيُوبُ الَّتِي هِيَ أَكْبَرُ مِنْهَا.
فَهَذَا هُوَ أَحَدُ أَسْبَابِ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ مِنْ قِبَلِ تَرَدُّدِ اللَّفْظِ بَيْنَ أَنْ يُفْهَمَ مِنْهُ الْمَعْنَى الْخَاصُّ، أَوِ الْمَعْنَى الْعَامُّ، ثُمَّ إِنَّ مَنْ فَهِمَ مِنْهُ الْعَامَّ ; فَأَيُّ عَامٍّ هُوَ؟ هَلِ الَّذِي هُوَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ؟ أَوِ الَّذِي هُوَ أَكْثَرُ وَالْمُسَاوِي مَعًا عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ؟
وَأَمَّا السَّبَبُ الثَّانِي: فَإِنَّهُ وَرَدَ فِي هَذَا الْبَابِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْحِسَانِ حَدِيثَانِ مُتَعَارِضَانِ:
فَذَكَرَ النَّسَائِيُّ «عَنْ أَبِي بُرْدَةَ أَنَّهُ قَالَ: " يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكْرَهُ النَّقْصَ يَكُونُ فِي الْقَرْنِ وَالْأُذُنِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَا كَرِهْتَهُ فَدَعْهُ وَلَا تُحَرِّمْهُ عَلَى غَيْرِكَ» .
«وَذَكَرَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: " أَمَرَنَا
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَسْتَشْرِفَ الْعَيْنَ وَالْأُذُنَ، وَلَا يُضَحَّى بِشَرْقَاءَ وَلَا خَرْقَاءَ وَلَا مُدَابَرَةٍ وَلَا بَتْرَاءَ " وَالشَّرْقَاءُ: الْمَشْقُوقَةُ الْأُذُنِ. وَالْخَرْقَاءُ: الْمَثْقُوبَةُ الْأُذُنِ، وَالْمُدَابَرَةُ: الَّتِي قُطِعَ مِنْ جَنَبَتَيْ أُذُنِهَا مِنْ خَلْفٍ» .
فَمَنْ رَجَّحَ حَدِيثَ أَبِي بُرْدَةَ قَالَ: لَا يُتَّقَى إِلَّا الْعُيُوبُ الْأَرْبَعُ، أَوْ مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْهَا، وَمَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ بِأَنْ حَمَلَ حَدِيثَ أَبِي بُرْدَةَ عَلَى الْيَسِيرِ الَّذِي هُوَ غَيْرُ بَيِّنٍ، وَحَدِيثَ عَلِيٍّ عَلَى الْكَثِيرِ الَّذِي هُوَ بَيِّنٌ أَلْحَقَ بِحُكْمِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا مَا هُوَ مُسَاوٍ لَهَا، وَلِذَلِكَ جَرَى أَصْحَابُ هَذَا الْمَذْهَبِ إِلَى التَّحْدِيدِ فِيمَا يَمْنَعُ الْإِجْزَاءَ مِمَّا يَذْهَبُ مِنْ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ، فَاعْتَبَرَ بَعْضُهُمْ ذَهَابَ الثُّلُثِ مِنَ الْأُذُنِ وَالذَّنَبِ، وَبَعْضُهُمُ اعْتَبَرَ الْأَكْثَرَ، وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ فِي ذَهَابِ الْأَسْنَانِ، وبَتْرَاءُ الثَّدْيِ.
وَأَمَّا الْقَرْنُ فَإِنَّ مَالِكًا قَالَ: لَيْسَ ذَهَابُ جُزْءٍ مِنْهُ عَيْبًا إِلَّا أَنْ يَكُونَ يَدْمِي فَإِنَّهُ عِنْدَهُ مِنْ بَابِ الْمَرَضِ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْمَرَضَ الْبَيِّنَ يَمْنَعُ الْإِجْزَاءَ. وَخَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ:«أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام نَهَى عَنْ أَعْضَبِ الْأُذُنِ وَالْقَرْنِ» .
وَاخْتَلَفُوا فِي الصَّكَّاءِ (وَهِيَ الَّتِي خُلِقَتْ بِلَا أُذُنَيْنِ) ، فَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّهَا لَا تَجُوزُ. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ خِلْقَةً جَازَ كَالْأَجَمِّ. وَلَمْ يَخْتَلِفِ الْجُمْهُورُ أَنَّ قَطْعَ الْأُذُنِ كُلِّهِ أَوْ أَكْثَرِهِ عَيْبٌ، وَكُلُّ هَذَا الِاخْتِلَافِ رَاجِعٌ إِلَى مَا قَدَّمْنَاهُ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْأَبْتَرِ: فَقَوْمٌ أَجَازُوهُ لِحَدِيثِ جَابِرٍ الجُعْفِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قُرَظَةَ «عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: " اشْتَرَيْتُ كَبْشًا لِأُضَحِّيَ بِهِ، فَأَكَلَ الذِّئْبُ ذَنَبَهُ، فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: ضَحِّ بِهِ» . وَجَابِرٌ عِنْدَ أَكْثَرِ الْمُحَدِّثِينَ لَا يُحْتَجُّ بِهِ وَقَوْمٌ أَيْضًا مَنَعُوهُ لِحَدِيثِ عَلِيٍّ الْمُتَقَدِّمِ.
وأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَهِيَ مَعْرِفَةُ السِّنِّ الْمُشْتَرَطَةِ فِي الضَّحَايَا فَإِنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْجَذَعُ مِنَ الْمَعَزِ، بَلِ الثَّنِيُّ فَمَا فَوْقَهُ، لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام لِأَبِي بُرْدَةَ لَمَّا أَمَرَهُ بِالْإِعَادَةِ:«يُجْزِيكَ، وَلَا يُجْزِي جَذَعٌ عَنْ أَحَدٍ غَيْرِكَ» .
وَاخْتَلَفُوا فِي الْجَذَعِ مِنَ الضَّأْنِ: فَالْجُمْهُورُ عَلَى جَوَازِهِ، وَقَالَ قَوْمٌ: بَلِ الثَّنِيُّ مِنَ الضَّأْنِ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ مُعَارَضَةُ الْعُمُومِ لِلْخُصُوصِ.
فَالْخُصُوصُ هُوَ حَدِيثُ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَذْبَحُوا إِلَّا مُسِنَّةً إِلَّا أَنْ يَعْسُرَ عَلَيْكُمْ
فَتَذْبَحُوا جَذَعَةً مِنَ الضَّأْنِ» خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ.
وَالْعُمُومُ هُوَ: مَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ نِيَارٍ خَرَّجَهُ مِنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: «وَلَا تُجْزِي جَذَعَةٌ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ» .
فَمَنْ رَجَّحَ هَذَا الْعُمُومَ عَلَى الْخُصُوصِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ حَزْمٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، لِأَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ أَبَا الزُّبَيْرِ مُدَلِّسٌ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ، وَالْمُدَلِّسُ عِنْدَهُمْ مَنْ لَيْسَ يُجْرِي الْعَنْعَنَةَ مِنْ قَوْلِهِ مَجْرَى الْمُسْنَدِ لِتَسَامُحِهِ فِي ذَلِكَ، وَحَدِيثُ أَبِي بُرْدَةَ لَا مَطْعَنَ فِيهِ.
وَأَمَّا مَنْ ذَهَبَ إِلَى بِنَاءِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ عَلَى مَا هُوَ الْمَشْهُورُ َعِنْدَ جُمْهُورِ الْأُصُولِيِّينَ فَإِنَّهُ اسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ الْعُمُومِ جَذَعَ الضَّأْنِ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهَا، وَهُوَ الْأَوْلَى، وَقَدْ صَحَّحَ هَذَا الْحَدِيثَ أَبُو بَكْرِ بْنُ صَفُّورَ، وَخَطَّأَ أَبَا مُحَمَّدِ بْنَ حَزْمٍ فِيمَا نَسَبَ إِلَى أَبِي الزُّبَيْرِ فِي غَالِبِ ظَنِّي فِي قَوْلٍ لَهُ رَدَّ فِيهِ عَلَى ابْنِ حَزْمٍ.
وأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: وَهِيَ عَدَدُ مَا يُجْزِي مِنَ الضَّحَايَا عَنِ الْمُضَحِّينَ فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ، فَقَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ أَنْ يَذْبَحَ الرَّجُلُ الْكَبْشَ أَوِ الْبَقَرَةَ أَوِ الْبَدَنَةَ مُضَحِّيًا عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ الَّذِينَ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُمْ بِالشَّرْعِ، وَكَذَلِكَ عِنْدَهُ الْهَدَايَا. وَأَجَازَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَجَمَاعَةٌ أَنْ يَنْحَرَ الرَّجُلُ الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعٍ، وَكَذَلِكَ الْبَقَرَةَ مُضَحِّيًا أَوْ مُهْدِيًّا. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْكَبْشَ لَا يُجْزِي إِلَّا عَنْ وَاحِدٍ، إِلَّا مَا رَوَاهُ مَالِكٌ مِنْ أَنَّهُ يُجْزِي أَنْ يَذْبَحَهُ الرَّجُلُ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ لَا عَلَى جِهَةِ الشَّرِكَةِ بَلْ إِذَا اشْتَرَاهُ مُفْرَدًا، وَذَلِكَ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ:«كُنَّا بِمِنًى فَدُخِلَ عَلَيْنَا بِلَحْمِ بَقَرٍ، فَقُلْنَا مَا هُوَ؟ فَقَالُوا: ضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَزْوَاجِهِ» . وَخَالَفَهُ فِي ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ عَلَى وَجْهِ الْكَرَاهَةِ لَا عَلَى وَجْهِ عَدَمِ الْإِجْزَاءِ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ مُعَارَضَةُ الْأَصْلِ فِي ذَلِكَ لِلْقِيَاسِ الْمَبْنِيِّ عَلَى الْأَثَرِ الْوَارِدِ فِي الْهَدَايَا.
وَذَلِكَ أَنَّ الْأَصْلَ هُوَ أَنْ لَا يُجْزِي إِلَّا وَاحِدٌ عَنْ وَاحِدٍ، وَلِذَلِكَ اتَّفَقُوا عَلَى مَنْعِ الِاشْتِرَاكِ فِي الضَّأْنِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الْأَصْلَ هُوَ أَنْ لَا يُجْزِي إِلَّا وَاحِدٌ عَنْ وَاحِدٍ، لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالتَّضْحِيَةِ لَا يَتَبَعَّضُ إِذْ كَانَ مَنْ كَانَ لَهُ شِرْكٌ فِي ضَحِيَّةٍ لَيْسَ يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ مُضَحٍّ إِلَّا إِنْ قَامَ الدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ عَلَى ذَلِكَ.
وَأَمَّا الْأَثَرُ الَّذِي انْبَنَى عَلَيْهِ الْقِيَاسُ الْمُعَارِضُ لِهَذَا الْأَصْلِ فَمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ قَالَ: «نَحَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ» . وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ
الْحَدِيثِ: «سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ، وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ» .
فَقَاسَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ الضَّحَايَا فِي ذَلِكَ عَلَى الْهَدَايَا. وَأَمَّا مَالِكٌ فَرَجَّحَ الْأَصْلَ عَلَى الْقِيَاسِ الْمَبْنِيِّ عَلَى هَذَا الْأَثَرِ، لِأَنَّهُ اعْتَلَّ لِحَدِيثِ جَابِرٍ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ حِينَ صَدَّ الْمُشْرِكُونَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْبَيْتِ، وَهَدْيُ الْمُحْصَرِ بَعْدُ وَلَيْسَ هُوَ عِنْدَهُ وَاجِبًا وَإِنَّمَا هُوَ تَطَوُّعٌ، وَهَدْيُ التَّطَوُّعِ يَجُوزُ عِنْدَهُ فِيهِ الِاشْتِرَاكُ، وَلَا يَجُوزُ الِاشْتِرَاكُ فِي الْهَدْيِ الْوَاجِبِ، لَكِنْ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الضَّحَايَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ فَقَدْ يُمْكِنُ قِيَامُهَا عَلَى هَذَا الْهَدْيِ ; وَرَوَى عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاشْتِرَاكُ لَا فِي هَدْيِ تَطَوُّعٍ وَلَا فِي هَدْيِ وُجُوبٍ، وَهَذَا كَأَنَّهُ رَدٌّ لِلْحَدِيثِ لِمَكَانِ مُخَالَفَتِهِ لِلْأَصْلِ فِي ذَلِكَ.
وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِكَ فِي النُّسُكِ أَكْثَرُ مِنْ سَبْعَةٍ، وَإِنْ كَانَ قَدْ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ:«الْبَدَنَةُ عَنْ عَشَرَةٍ» .
وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: وَإِجْمَاعُهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِكَ فِي النُّسُكِ أَكْثَرُ مِنْ سَبْعَةٍ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْآثَارَ فِي ذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحَةٍ.
وَإِنَّمَا صَارَ مَالِكٌ لِجَوَازِ تَشْرِيكِ الرَّجُلِ أَهْلَ بَيْتِهِ فِي أُضْحِيَّتِهِ أَوْ هَدْيِهِ لِمَا رَوَاهُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُ قَالَ: «مَا نَحَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ إِلَّا بَدَنَةً وَاحِدَةً أَوْ بَقَرَةً وَاحِدَةً» . وَإِنَّمَا خُولِفَ مَالِكٌ فِي الضَّحَايَا فِي هَذَا الْمَعْنَى (أَعْنِي: فِي التَّشْرِيكِ) لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ انْعَقَدَ عَلَى مَنْعِ التَّشْرِيكِ فِيهِ فِي الْأَجَانِبِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْأَقَارِبُ فِي ذَلِكَ فِي قِيَاسِ الْأَجَانِبِ، وَإِنَّمَا فَرَّقَ مَالِكٌ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْأَجَانِبِ وَالْأَقَارِبِ لِقِيَاسِهِ الضَّحَايَا عَلَى الْهَدَايَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي احْتَجَّ بِهِ أَعْنِي حَدِيثَ ابْنِ شِهَابٍ) . فَاخْتِلَافُهُمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِذَا رَجَعَ إِلَى تَعَارُضِ الْأَقْيِسَةِ فِي هَذَا الْبَابِ أَعْنِي: إِمَّا إِلْحَاقُ الْأَقَارِبِ بِالْأَجَانِبِ، وَإِمَّا قِيَاسُ الضَّحَايَا عَلَى الْهَدَايَا) .