الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التَّوضِيحُ الرَّشِيدُ فِي شَرْحِ كِتَابِ التَّوحِيدِ
المُذَيَّلُ بِالتَّفْنِيدِ لِشُبُهَاتِ العَنِيدِ
قَالَ الإِمَامُ الأَلْبَانِيُّ عَنِ المَتْنِ:
"فَإِنَّهُ رحمه الله قَدْ لَخَّصَ عَقِيدَةَ السَّلَفِ فِي كِتَابِ التَّوحِيدِ المَعْرُوفِ بِهِ"
تَأْلِيفُ
أَبِي عَبْدِ اللهِ؛ خُلْدُونِ بنِ مَحْمُودِ بنِ نَغَوِي آل حَقُوي
مَضْبُوطَةٌ بِالشَّكْلِ وَالتَّخْرِيجِ
مُقَدِّمَةٌ
مُقَدِّمَةُ المُؤَلِّفِ
إِنِّ الحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُور أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي كُنْتُ مُنْذُ زَمَنٍ طَوِيلٍ -وَإِلَى الآنَ- أَتَطَلَّعُ إِلَى خِدْمَةِ دِينِ اللهِ تَعَالَى، وَإِلَى أَنْ يَكُونَ لِي سَبَبٌ إِلَى رِضَاه تَعالى فِي حَيَاتِي وَبَعْدَ مَمَاتِي
(1)
، وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ أَكُونَ أَحَدَ جُنُودِ الإِسْلَامِ المُدَافِعِينَ عَنْهُ بِاليَدِ وَاللِّسَانِ.
وَلَمْ أَرَ أَنْفَعَ لِدِينِ الإِسْلَامِ -عِنْدَ أَزْمِنَةِ انْتِشَارِ الجَهْلِ وَالشِّرْكِ وَالبُعْدِ عَنِ السُّنَّةِ وَفُشُوِّ البِدَعِ- مِنْ جِهَادٍ بِاللِّسَانِ وَفَرْيٍ بِالقَلَمِ
(2)
، وَذَلِكَ بِنَشْرِ العَقِيدَةِ الصَّحِيحَةِ المُسْتَقَاةِ مِنَ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِفَهْمِ السَّلَفِ الصَّالِحِ، وَبَيَانِ أُصُولِ أَهْلِ الإِسْلَامِ، وَقَوَاعِدِ الدِّينِ، وَمَنْهَجِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي فَهْمِ دِينِ الإِسْلَامِ وَالعَمَلِ بِهِ.
وَقَدْ رَأَيتُ الاعْتِنَاءَ بِكِتَابِ (التَّوحِيدِ) لِلشَّيخِ الإِمَامِ المُجَدِّدِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الوَهَّابِ رحمه الله لِمَا فِيهِ مِنْ ذِكْرِ أَصْلِ الدِّينِ وَالتَّوحِيدِ وَبَيَانِ العَقِيدَةِ السَّلِيمَةِ عَلَى وُفْقِ الكِتَابِ
(1)
كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ (1631) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَو عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَو وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ)).
وَأَنَا أَرْجُو اللهَ تَعَالَى الكَرِيمَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْ أَهْلِ العِلْمِ العَامِلِينَ المُنْتَفَعِ بِهِم؛ فَإِنَّ الدَّالَ عَلَى الخَيرِ كَفَاعِلِهِ -كَمَا ثَبَتَ فِي الحَدِيثِ الشَّرِيفِ-.
(2)
كَمَا فِي الحَدِيثِ: ((جَاهِدُوا المُشْرِكِينَ بِأمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَأَلْسِنَتِكُمْ)) صَحِيحٌ، أَبُو دَاوُدَ (2504) عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (3090).
وَالسُّنَّةِ وَعَمَلِ سَلَفِ الأُمَّةِ.
وَنَظَرًا لِسَعَةِ وَتَنَوُّعِ أَدِلَّةِ هَذَا الكِتَابِ، وَلِمَا وَقَعَتْ فِيهِ الأُمَّةُ -إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ- مِنَ الغَفْلَةِ عَنْ أَصْلِ بَعْثَةِ الرُّسُلِ، وَتَرْوِيجِ أَهْلِ الضَّلَالِ وَأَهْلِ الزَّنْدَقَةِ لِبِدَعِهِم فِي عَقَائِدِ المُسْلِمِينَ، والبُعْدِ عَنِ التَّوحِيدِ -وَالَّذِي لَا نَجَاةَ لِلعَبْدِ مُطْلَقًا إِلَّا بِأَنْ يَأْتِيَ بِهِ- وَلِمَا عُلِمَ مِنْ كَلَامِ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ وَإِشَارَتِهِم إِلَى أَهَمِّيَّةِ وَجُودَةِ جَمْعِ هَذَا الكِتَابِ المُبَارَكِ إِنْ شَاءَ اللهُ، وَلِكَثْرَةِ مَنِ اعْتَنَى بِشَرْحِهِ وَلَكِنْ عَلَى وَجْهٍ يَلْزَمُهُ التَّكْمِيلُ -بَينَ تَحْقِيقٍ حَدِيثِيٍّ، أَوْ شَرْحِ ضَرُورِيٍّ، أَوْ شُبْهَةٍ تَرِدُ، أَوْ مَسْأَلَةٍ مُتَعَلِّقَةٍ-؛ فَقَدْ قُمْتُ مُسْتَعِينًا بِاللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، وَمُسْتَنِيرًا بِشُرُوحِ العُلَمَاءِ المَعْرُوفِينَ بِتَصْنِيفِ شَرْحٍ عَلَيهِ؛ عَلَى أَنْ يَكُونَ وَجِيزًا فِي عِبَارَتِهِ، وَاسِعًا فِي فَوَائِدِهِ
(1)
، مَعَ الاعْتِنَاءِ الشَّدِيدِ بِتَحْقِيقِ الآثَارِ المَرْفُوعَةِ وَالمَوقُوفَةِ -مَوضِعِ الاسْتِدْلَالِ
(2)
-؛ وَالعَزْوِ الصَّحِيحِ -مَا أَمْكَنَ- فِي مَوَاطِنِ الاسْتِشْهَادِ وَالاسْتِئْنَاسِ، وَذِكْرِ المُفِيدِ مِمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ العُلَمَاءُ مِمَّا يَمَسُّ مَادَّةَ هَذَا الكِتَابِ، وَبَيَانِ الرَّاجِحِ مِنْهَا قَدْرَ الإِمْكَانِ.
وَلَا أَدَّعِي لِنَفْسِي التَّفرُّدَ فِي شَرْحِ الكِتَابِ، وَإِنَّمَا هُوَ الاعْتِمَادُ عَلَى شُرُوحِ العُلَمَاءِ الأَفَاضِلِ -قَدِيمًا وَحَدِيثًا- المَعْرُوفِينَ بِسَلَامَةِ المَنْهَجِ وَرُسُوخِ العِلْمِ وَبُعْدِ النَّظَرِ
(3)
.
(1)
وَمِنْ هَذِهِ الفَوَائِدِ جُمْلَةٌ وَاسِعَةٌ مِنَ المَسَائِلِ المُتَعَلِّقَةِ، وَهَذِهِ المَسَائِلُ هِيَ غَيرُ مَسَائِلِ المُصَنِّفِ المُخْتَصَرَةِ الَّتِي أتْبَعَهَا المُصَنِّفُ لِمَتْنِ البَابِ، أَمَّا مَسَائِلِي الخَاصَّةُ فِي هَذَا الكِتَابِ؛ فَقَدْ جَعَلْتُهَا قِسْمَينِ:
القِسْمَ الأَوَّلَ: المَسَائِلُ الَّتِي أَجْعَلُهَا فِي أَوَاخِرِ شُرُوحِ الأَبْوَابِ.
القِسْمَ الثَّانِي: المَلَاحِقُ المُسْتَقِلَّةُ عَنِ الأَبْوَابِ، وَهِيَ تَتَضَمَّنُ مُلَخَّصَاتٍ لِبَعْضِ الكُتُبِ، وَمِنْهَا مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ جُزْءًا يَسِيرًا فِي بَابِهِ، وَسَأَذْكُرُ هَذِهِ المَلَاحِقَ قَرِيبًا.
(2)
مُعْظَمُ تَحْقِيقِ الحَدِيثِ فِي هَذَا الشَّرْحِ هُوَ مِنْ مُصَنَّفَاتِ الشَّيخِ الإِمَامِ الأَلْبَانِيِّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
(3)
وَأَخُصُّ بِالذِّكْرِ الشَّيخَ الفَاضِلَ الإِمَامَ العَلَّامَةَ ابْنَ عُثَيمِين رحمه الله، فَقَدْ نَفَعَنِي اللهُ بِهِ كَثِيرًا.
عَلَى أَنَّنِي أَعْتَقِدُ أَنَّنِي -إِنْ شَاءَ اللهُ- قَدْ وُفِّقْتُ مِنَ اللهِ تَعَالَى فِي اسْتِيعَابِ فَوَائِدَ وَمَسَائِلَ تَمَسُّ الحَاجَةُ إِلَيهَا فِي كُلِّ بَابٍ؛ لَعَلَّهَا لَمْ تُجْمَعْ فِي شَرْحٍ وَاحِدٍ مِنْ شُرُوحِ كِتَابِ التَّوحِيدِ.
وَقَدْ أَضَفْتُ إِلَى شَرْحِ الكِتَابِ -فِي مَوَاضِعَ مُنَاسِبَةٍ مُتَفَرِّقَةٍ- بَعْضَ المُلْحَقَاتِ المُفِيدَةِ؛ التَي يَنْدُرُ الوُصُولُ إِلَى مِثْلَ فَائِدَتِهَا -بِفَضْلِ اللهِ- تَتْمِيمًا لِلمَنْفَعَةِ لِمِثْلِ هَذَا الكِتَابِ المُبَارَكِ إِنْ شَاءَ اللهُ، وَهَذِهِ المُلْحَقَاتُ هِيَ:
المُلْحَقُ الأَوَّلُ: مَقَدِّمَةٌ عَلَى كِتَابِ التَّوحِيدِ.
المُلْحَقُ الثَّانِي: قَوَاعِدُ ومَسَائِلُ فِي التَّبَرُّكِ وَالبَرَكَةِ.
المُلْحَقُ الثَّالِثُ: مُخْتَصَرُ الآيَاتِ البَيِّنَاتِ فِي عَدَمِ سَمَاعِ الأَمْوَاتِ.
المُلْحَقُ الرَّابِعُ: مُخْتَصَرُ تَحْذِيرِ السَّاجِدِ مِنِ اتِّخَاذِ القُبُورِ مَسَاجِد.
المُلْحَقُ الخَامِسُ: فَوَائِدُ وَمَسَائِلُ عَلَى بَابِ مَا جَاءَ فِي السِّحْرِ.
المُلْحَقُ السَّادِسُ: مَسَائِلُ عِلْمِ الغَيبِ.
المُلْحَقُ السَّابِعُ: مُخْتَصَرُ القَوَاعِدِ المُثْلَى.
المُلْحَقُ الثَّامِنُ: مُخْتَصَرُ كِتَابِ (التَّوَسُّلُ: أَنْوَاعُهُ، أَحْكَامُهُ).
المُلْحَقُ التَّاسِعُ: مَسَائِلُ الإِيمَانِ بِالقَدَرِ.
المُلْحَقُ العَاشِرُ: لَمْحَةٌ عَنِ الفِرَقِ الضَّالَّةِ فِي العَقِيدَةِ.
المُلْحَقُ الحَادِيَ عَشَرَ: مَسَائِلُ فِي أَحْكَامِ الصُّوَرِ وَالتَّصْوِيرِ.
المُلْحَقُ الثَّانِيَ عَشَرَ: مُخْتَصَرٌ فِي الرَّدِّ عَلَى أَبْيَاتٍ مِنَ البُرْدَةِ لِلبُوصِيرِيِّ.
المُلْحَقُ الثَّالِثَ عَشَرَ: رَدُّ شُبُهَاتِ المُشْرِكِينَ.
وَأَخِيرًا أَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى إِجَابَتِي دَعْوَةً كَدَعْوَةِ أَبِينَا إِبْرَاهِيمَ عليه الصلاة والسلام {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ * رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إِبْرَاهِيم: 40 - 41].
وَكَتَبَهُ: أَبُو عَبْدِ اللهِ خُلْدُونُ بْنُ مَحْمُودَ بْنِ نَغَوِي آل حَقُوي
(1)
.
(1)
أُرَحِّبُ بِتَلَقِّي تَعْلِيقَاتِ القُرَّاءِ الكِرَامِ عَلَى العُنْوَانِ الإِلِكتْرُوني: [email protected]
التَّعْرِيفُ بِمُصَنِّفِ كِتَابِ التَّوحِيدِ
(1)
:
هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الوَهَّابِ بْنِ سُلَيمَانَ التَّمِيمِيُّ النَّجْدِيُّ، زَعِيمُ النَّهْضَةِ الدِّينِيَّةِ الإِصْلَاحِيَّةِ الحَدِيثَةِ فِي جَزِيرَةِ العَرَبِ
(2)
، وُلِدَ عَامَ (1115 هـ)، وَتُوُفِّيَ عَامَ (1206 هـ).
وُلِدَ وَنَشَأَ فِي العُيَينَةِ بِنَجْدٍ، وَرَحَلَ مَرَّتَينِ إِلَى الحِجَازِ، فَمَكَثَ فِي المَدِينَةِ مُدَّةً قَرَأَ بِهَا عَلَى بَعْضِ أَعْلَامِهَا، وَزَارَ الشَّامَ، وَدَخَلَ البَصْرَةَ فَأُوذِيَ فِيهَا، وَعَادَ إِلَى نَجْدٍ؛ فَسَكَنَ حُرَيمِلَاءَ، وَكَانَ أَبُوهُ قَاضِيهَا بَعْدَ العُيَينَةِ.
ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى العُيَينَةِ نَاهِجًا مَنْهَجَ السَّلَفِ الصَّالِحِ، دَاعِيًا إِلَى التَّوحِيدِ الخَالِصِ وَنَبْذِ البِدَعِ وَتَحْطِيمِ مَا عَلَقَ بِالإِسْلَامِ مِنْ أَوهَامٍ
(3)
، وَارْتَاحَ أَمِيرُ العُيَينَةِ: عُثْمَانُ بْنُ
(1)
يُنْظَرُ: كِتَابُ (الأَعْلَامُ) لِلزِّرِكْلِيِّ (6/ 257).
(2)
قَالَ عَنْهُ الشَّيخُ وَهْبَةُ الزُّحَيلِيُّ حَفِظَهُ اللهُ -الأُسْتَاذُ فِي كُلِّيَّةِ الشَّرِيعَةِ فِي جَامِعَةِ دِمَشْقَ-: "كَانَ مِنْ أَجْرَأِ أَصْوَاتِ الحَقِّ، وَأَكْبَرِ دُعَاةِ الإِصْلَاحِ وَالبِنَاءِ وَالجِهَادِ لِإِعَادَةِ تَمَاسُكِ الشَّخْصِيَّةِ الإِسْلَامِيَّةِ وَإِعَادَتِهَا لِمَنْهَجِ السَّلَفِ الصَّالِحِ: دَعْوَةُ الشَّيخِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الوَهَّابِ فِي القَرْنِ الثَّانِي عَشَر الهِجْرِيِّ -الثَّامِنِ عَشَر المِيلَادِي- لِتَجْدِيدِ الحَيَاةِ الإِسْلَامِيَّةِ بَعْدَمَا شَابَهَا فِي أَوْسَاطِ العَامَّةِ مِنْ خُرَافَاتٍ وَأَوْهَامٍ وَبِدَعٍ وَانْحِرَافَاتٍ، فَكَانَ ابْنُ عَبْدِ الوَهَّابِ -بِحَقٍّ- زَعِيمَ النَّهْضَةِ الدِّينِيَّةِ الإِصْلَاحِيَّةِ المُنْتَظَرَ، الَّذِي صَحَّحَ مَوَازِينَ العَقِيدَةِ الإِسْلَامِيَّةِ النَّاصِعَةِ، وَأَبَانَ حَقِيقَةَ الوَحْدَانِيَّةِ وَالوَحْدَةِ وَالتَّوْحِيدَ الخَالِصَ للهِ عز وجل، وَأَنَّ العِبَادَةَ هِيَ التَّوحِيدَ" إِلَى آخِرِ مَا قَالَ حَفِظَهُ اللهُ. يُنْظَرُ كِتَابُهُ (مَدَى تَأَثُّرِ الدَّعَوَاتِ الإِصْلَاحِيَّةِ الإِسْلَامِيَّةِ بِدَعْوَةِ الشَّيخِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الوَهَّابِ)(ص 296) ضِمْنَ كِتَابِ (بُحُوثُ أُسْبُوعِ الشَّيخِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الوَهَّابِ) جَامِعَةُ الإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ سُعُود.
(3)
وَفِي مُعْجَمُ المُؤَلِّفِينَ (10/ 269) لِعُمَر كَحَّالَة: "وَقَامَ بِالدَّعْوَةِ إِلَى العَقِيدَةِ السَّلَفِيَّةِ وَالعَمَلِ بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ".
حَمَدِ بْنِ مَعْمَرِ إِلَى دَعْوَتِهِ فَنَاصَرَهُ، ثُمَّ خَذَلَهُ
(1)
، فَقَصَدَ الدَّرْعِيَّةَ بِنَجْدٍ سَنَةَ (1157 هـ)، فَتَلَقَّاهُ أَمِيرُهَا مُحَمَّدُ بْنُ سُعُودٍ بِالإِكْرَامِ، وَقَبِلَ دَعْوَتَهُ وَآزَرَهُ، كَمَا آزَرَهُ مِنْ بَعْدِهِ ابْنُهُ عَبْدُ العَزِيزِ، ثُمَّ سُعُودُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ، وَقَاتَلُوا مِنْ خَلْفِهِ، وكَانَتْ دَعْوَتُهُ الشُّعْلَةَ الأُولَى لِليَقَظَةِ الحَدِيثَةِ فِي العَالَمِ الإِسْلَامِيِّ كُلِّهِ، تَأَثَّرَ بِهَا رِجَالُ الإِصْلَاحِ فِي الهِنْدِ وَمِصْرَ وَالعِرَاقِ وَالشَّامِ وَغَيرِهَا، وَعُرِفَ مَنْ وَالَاهُ وَشَدَّ أَزْرَهُ فِي قَلْبِ الجَزِيرَةِ بِـ (أَهْلِ التَّوحِيدِ) وَ (إِخْوَانِ مَنْ أَطَاعَ اللهَ)، وَسَمَّاهُم خُصُومُهُم بِالوَهَّابِيِّينَ، وَشَاعَتِ التَّسْمِيَةُ الأَخِيرَةُ عِنْدَ الأَورُبِّيِّينَ فَدَخَلَتْ مَعاجِمَهُمُ الحَدِيثَةَ، وَأَخْطَأَ بَعْضُهُم فَجَعَلَهَا مَذْهَبًا جَدِيدًا فِي الإِسْلَامِ تَبَعًا لِمَا افْتَرَاهُ خُصُومُهُ وَلَا سِيَّمَا دُعَاةُ مَنْ كَانُوا يَتَلَقَّبُونَ بِالخُلَفَاءِ مِنَ التُّرْكِ.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي الدَّرْعِيَّةِ، وَأَحْفَادُهُ اليَومَ يُعْرَفُونَ بِبَيتِ (الشَّيخِ)، وَلَهُمْ مَقَامٌ رَفِيعُ عِنْدَ آلِ سُعُودٍ.
وَلَهُ مُصَنَّفَاتٌ أَكْثَرُهَا رَسَائِلُ مَطْبُوعَةٌ، مِنْهَا (كِتَابُ التَّوحِيدِ)
(2)
، وَرِسَالَةُ (كَشْفُ الشُّبُهَاتِ)، وَ (تَفْسِيرُ الفَاتِحَةِ)، وَ (أُصُولُ الإِيمَانِ)، وَ (تَفْسِيرُ شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ) وَغَيرُهَا
(3)
.
(1)
أَيضًا مِمَّنْ خَذَلَهُ: أَخُوْهُ سُلَيمَانُ بْنُ عَبْدِ الوَهَّابِ، لَكِنَّهُ تَابَ وَرَجَعَ وَأَظْهَرَ النَّدَمَ. يُنْظَرُ: كِتَابُ (الأَعْلَامُ) لِلزِّرِكْلِيِّ (3/ 130).
(2)
وَمِنْ أَبْرَزِ مَنْ شَرَحَهُ: حَفِيدُهُ؛ الشَّيخُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَسَنِ بْنِ مَحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الوَهَّابِ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ المَجِيدُ)(ت 1285 هـ).
(3)
وَانْقُلُ أَيضًا عَنِ المُؤَرِّخِ رَاغِبِ السّرْجَانِيِّ حَفِظَهُ اللهُ جُمْلَةً مِنَ العِبَارَاتِ فِي بَيَانِ حَالِ الشَّيخِ الإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الوَهَّابِ رحمه الله، مِنْهَا:
"دَرَسَ الإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الوَهَّابِ القُرْآنَ وَالحَدِيثَ وَالمَذَاهِبَ الأَرْبَعَةَ مِنْ مَذَاهِبِ أَهْلِ السُّنَّةِ،
=
العُذْرُ بِالجَهْلِ عِنْدَ الإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الوَهَّابِ
رحمه الله، وَمَوقِفُهُ مَعَ مَنْ خَالَفَهُ
وَبَيَانُ هَذِهِ المَسْأَلَةِ إِنَّمَا نَجْعَلُهُ مِنْ خَاصَّةِ كَلَامِهِ رحمه الله:
قَالَ رحمه الله: "وَأَمَّا الكَذِبُ وَالبُهْتَانُ؛ فِمِثْلُ قَولِهِم: إِنَّا نُكَفِّرُ ِبالعُمُومِ! وَنُوجِبُ الهِجْرَةَ إِلَينَا عَلَى مَنْ قَدِرَ عَلَى إِظْهَارِ دِينِهِ! وَإِنَّا نُكَفِّرُ مَنْ لَمْ يَكْفُرْ وَمَنْ لَمْ يُقاتِلْ! وَمِثْلُ
=
كَمَا دَرَسَ مَذَاهِبَ غَيرِهِم كَالشِّيعَةِ، وَلَمْ يَفُتْهُ عِلْمُ الكَلَامِ؛ فَقَدْ دَرَسَهُ وَاتَّخَذَ مَعَهُ سَبِيلَ السَّلَفِ الصَّالِحِ؛ فَاسْتَنْكَرَ مُصْطَلَحَاتِ عُلَمَاءِ الكَلَامِ وَأُسْلُوبَهُم فِي النَّفْي وَالإِثْبَاتِ، وَاسْتَنْكَرَ طَرِيقَةَ الكَلَامِيِّينَ فِي الجَدَلِ وَالمَنْطِقِ؛ لِأَنَّهَا مَزْلَقَةٌ وَمَضَلَّةٌ".
وَقَالَ أَيضًا: "وَمَعْ غَزَارَةِ العِلْمِ، وَإِلْحَاحٍ فِي الطَّلَبِ وَالسَّعْي مِنْ أَجْلِهِ؛ فَإِنَّ الشَّيخَ لَمْ يَكُنْ صَاحِبَ تَرَفٍ فِكْرِيٍّ، أَوْ عِلْمٍ دُونَ عَمَلٍ! فَوَاقِعُ حَيَاةِ الرَّجُلِ وَأَخْبَارِهِ وَمَا حَقَّقَتْهُ دَعْوَتُهُ تُؤَكِّدُ أَنَّهُ كَانَ مِنَ العُلَمَاءِ العَامِلِينَ، بَلْ كَانَ يَحُضُّ أَنْصَارَهُ عَلَى ضَرُورَةِ تَحَلِّيهِم بِالعِلْمِ وَالعَمَلِ.
لَقَدِ افْتَرَى الكَثِيرُونَ عَلَى عِلْمِ الإِمَامِ وَعَقِيدَتِهِ، فَأَوْرَدُوا شُبَهًا خَطِيرَةً تُحَرِّفُ الحَقِيقَةَ، وَتَدَّعِي البَاطِلَ، وَمِنْ ثَمَّ دَفَعَ هَذَا الأَمْرُ الإِمَامَ إِلَى بَيَانِ عَقِيدَتِهِ الَّتِي يَدِينُ بِهَا، وَالَّتِي نَسْتَشِفُّهَا مِنْ رَسَائِلِهِ الكَثِيرَةِ".
وَقَالَ أَيضًا: "أُثِرَ عَنِ الشَّيخِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الوَهَّابِ لِينَهُ فِي خِطَابِهِ مَعَ المُخَالِفِينَ، وَشَفَقَتُهُ فِي مُنَاصَحَةِ الجَاهِلِينَ.
وَدَائِمًا مَا تَقَبَّلَ الشَّيخُ اللَّومَ وَالعِتَابَ، بَلْ وَالهُجُومَ عَلَى شَخْصِهِ وَدَعْوَتِهِ بِنَفْسٍ رَاضِيَةٍ وَادِعَةٍ؛ فَلَا يَرُدُّ الإِسَاءَةَ بِمِثْلِهَا، بَلْ يَرُدُّ الإِسَاءَةَ بِإِحْسَانٍ، وَقَدْ حَوَتْ مُكَاتَبَاتُهُ وَمُرَاسَلَاتُهُ مِنْ هَذَا الأَمْرِ الكَثِيرَ.
كَاتَبَ الشَّيخُ -عِنْدَمَا اسْتَقَرَّ فِي الدَّرْعِيَّةِ- بِدَعْوَتِهِ أَهْلَ البُلْدَانِ وَرُؤَسَاءَهُم وَمُدَّعِي العِلْمِ فِيهِم، فَمِنْهُم مَنْ قَبِلَ الحَقَّ وَاتَّبَعَهُ، وَمِنْهُم مَنِ اتَّخَذَهُ سُخْرِيًا وَاسْتَهْزَءُوا بِهِ، وَنَسَبُوهُ إِلَى الجَهْلِ تَارَةً، وَإِلَى السِّحْرِ تَارَةً أُخْرَى، وَرَمَوهُ بِأَشْيَاءَ هُوَ بَرِيءٌ مِنْهَا جَمِيعًا، وَبَقِيَ يَدْعُو رَبَّهُ بِالحُجَّةِ الوَاضِحَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ، فَلَمْ يُبَادِرْ أَحَدًا بِالتَّكْفِيرِ، وَلَمْ يَبْدَأْ أَحَدًا بِالعُدْوَانِ، بَلْ تَوَقَّفَ عَنْ كُلِّ ذَلِكَ وَرَعًا مِنْهُ وَأَمَلًا فِي أَنْ يَهْدِيَ اللهُ الضَّالِينَ". يُنْظَرُ كِتَابُ (قِصَّةِ الإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الوَهَّابِ) لِلْمُؤَرِّخِ رَاغِبِ السّرْجَانيِّ حَفِظَهُ اللهُ.
هَذَا وَأَضْعَافُ أَضْعَافِهِ؛ فَكُلُّ هَذَا مِنَ الكَذِبِ وَالبُهْتَانِ الَّذِي يَصُدُّونَ بِهِ النَّاسَ عَنْ دِينِ اللهِ وَرَسُولِهِ.
وَإِذَا كُنَّا لَا نُكَفِّرُ مَنْ عَبَدَ الصَّنَمَ الَّذِي عَلَى عَبْدِ القَادِرِ
(1)
؛ وَالصَّنَمَ الَّذِي عَلَى قَبْرِ أَحْمَدِ البَدَوِيِّ وَأَمْثَالِهِمَا لِأَجْلِ جَهْلِهِم وَعَدَمِ مَنْ يُنبِّهُهُم؛ فَكَيفَ نُكَفِّرُ مَنْ لَمْ يُشْرِكْ بِاللهِ إِذَا لَمْ يُهَاجِرْ إِلَينَا، أَوْ لَمْ يَكْفُرْ ويُقاتِلْ؟! سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ"
(2)
.
وَقَالَ أَيضًا رحمه الله: "وَأَمَّا مَا ذَكَرَ الأَعْدَاءُ عَنِّي: أَنِّي أُكَفِّرُ بِالظَّنِّ وَبِالمُوَالَاةِ! أَوْ أُكَفِّرُ الجَاهِلَ الَّذِي لَمْ تَقُمْ عَلَيهِ الحُجَّةُ! فَهَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ يُرِيدُونَ بِهِ تَنْفِيرَ النَّاسِ عَنْ دِينِ اللهِ وَرَسُولِهِ"
(3)
.
وَقَالَ أَيضًا رحمه الله: "وَكَذَلِكَ تَمْوِيهُهُ عَلَى الطُّغَامِ: بِأَنَّ ابْنَ عَبْدِ الوَهَّابِ يَقُولُ: الَّذِي مَا يَدْخُلُ تَحْتَ طَاعَتِي كَافِرٌ!! وَنَقُولُ: سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ! بَلْ نُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا يَعْلَمُهُ مِنْ قُلُوبِنَا؛ بِأَنَّ مَنْ عَمِلَ بِالتَّوحِيدِ، وَتَبَرَّأَ مِنَ الشِّرْكِ وَأَهْلِهِ؛ فَهُوَ المُسْلِمُ فِي أَيِّ زَمَانٍ وَأَيِّ مَكَانٍ.
وَإِنَّمَا نُكَفِّرُ مَنْ أَشْرَكَ بِاللهِ فِي إِلَهِيَّتِهِ بَعْدَمَا نُبَيِّنُ َلُه الحُجَّةَ عَلَى بُطْلَانِ الشِّرْكِ، وَكَذَلِكَ نُكَفِّرُ مَنْ حَسَّنَهُ لِلْنَّاسِ، أَوْ أَقَامَ الشُّبَهَ البَاطِلَةَ عَلَى إِبَاحَتِهِ، وَكَذَلِكَ مَنْ قَامَ بِسَيْفِهِ دُونَ هَذِهِ المَشَاهِدِ الَّتِي يُشْرَكُ بِاللهِ عِنْدَهَا وَقَاتَلَ مَنْ أَنْكَرَهَا وَسَعَى فِي إِزَالَتِهَا"
(4)
.
(1)
يَقْصِدُ القُبَّةَ المَبْنِيَّةَ عَلَى الضَّرِيحِ.
(2)
الدُّرَرُ السَّنِيَّةُ فِي الأَجْوِبَةِ النَّجْدِيَّةِ (1/ 104).
(3)
الدُّرَرُ السَّنِيَّةُ فِي الأَجْوِبَةِ النَّجْدِيَّةِ (10/ 113).
(4)
الدُّرَرُ السَّنِيَّةُ فِي الأَجْوِبَةِ النَّجْدِيَّةِ (10/ 128).
وَقَالَ أَيضًا رحمه الله: "وَأَمَّا التَّكْفِيرُ؛ فَأَنَا أُكَفِّرُ مَنْ عَرَفَ دِيْنَ الرَّسُولِ ثُمَّ بَعْدَمَا عَرَفَه سَبَّهُ وَنَهَى النَّاسَ عَنْهُ؛ وَعَادَى مَنْ فَعَلَهُ؛ فَهَذَا هُوَ الَّذِي أُكَفِّرُ، وَأَكْثَرُ الأُمَّةِ -وَللهِ الحَمْدُ- لَيسُوا كَذَلِكَ.
وَأَمَّا القِتَالُ؛ فَلَمْ نُقَاتِلْ أَحَدًا -إِلَى اليَومِ- إِلَّا دُونَ النَّفْسِ وَالحُرْمَةِ، وَهُمْ الَّذِين أَتَونَا فِي دِيَارِنَا، وَلَا أَبْقَوا مُمْكِنًا! وَلَكِنْ قَدْ نُقَاتِلُ بَعْضَهُم عَلَى سَبِيلِ المُقَابَلَةِ، {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشُّورَى: 40].
وَكَذَلِكَ مَنْ جَاهَرَ بِسَبِّ دِينِ الرَّسُولِ بَعْدَمَا عُرِّفَ؛ فَإِنَّا نُبَيِّنُ لَكُم أَنَّ هَذَا هُوَ الحقُّ الَّذِي لَا رَيبَ فِيهِ؛ وَأَنَّ الوَاجِبَ إِشَاعَتُهُ فِي النَّاسِ وَتَعْلِيمُهُ النِّسَاءَ وَالرِّجَالَ"
(1)
.
ثَنَاءُ العُلَمَاءِ عَلَى كِتَابِ التَّوحِيدِ
قَالَ الشَّيخُ عَبْدُ الرَّحْمَن ِبْنُ حَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الوَهَّابِ رحمه الله: "جَمَعَ عَلَى اخْتِصَارِهِ خَيرًا كثيرًا، وَضَمَّنَهُ مِنْ أَدِلَّةِ التَّوحِيدِ مَا يَكْفِي مَنْ وَفَّقَهُ اللهُ، وَبَيَّنَ فِيهِ الأَدِلَّةَ فِي بَيَانِ الشِّرْكِ الَّذِي لَا يَغْفِرُهُ اللهُ"
(2)
.
وَقَالَ العَلَّامَةُ المُؤَرِّخُ ابْنُ بِشْرٍ رحمه الله فِي "عُنْوَانُ المَجْدِ": "مَا وَضَعَ المُصَنِّفُونَ فِي فَنِّهِ أَحْسَنَ مِنْهُ؛ فَإِنَّهُ أَحْسَنَ فِيهِ وَأَجَادَ، وَبَلَغَ الغَايَةَ وَالمُرَادَ"
(3)
.
وَأَوْصَى الشَّيخُ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ آلُ الشَّيخِ رحمه الله فِي رِسَالَةٍ مِنْهُ إِلَى أَحَدِ القُضَاةِ فَقَالَ: "وَعَلَيكَ بِصِفَتِكَ مَسْئُولًا عَنْ مَا وَلَّاكَ اللهُ عَلَيهِ أَنْ تُعَيِّنَ وَقْتًا مِنْ أَوْقَاتِكَ
(1)
الدُّرَرُ السَّنِيَّةُ فِي الأَجْوِبَةِ النَّجْدِيَّةِ (1/ 73).
(2)
الدُّرَرُ السَّنِيَّةُ فِي الأَجْوِبَةِ النَّجْدِيَّةِ (4/ 339).
(3)
عُنْوَانُ المَجْدِ (1/ 92).
تَجْلِسُ فِيهِ فِي السُّوقِ يُقْرَأُ عَلَيكَ فِي كِتَابِ التَّوحِيدِ وَتَتَكَلَّمُ عَلَيهِ بِمَا تَيَسَّرَ"
(1)
.
وَقَالَ الإِمَامُ المُحَدِّثُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله: "يَأْتِي بَعْدَ ذَلِكَ كُتُبُ إِمَامِ الدَّعْوَةِ وَمُجَدِّدِ دَعْوَةِ التَّوحِيدِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الوَهَّابِ رحمه الله؛ فَكُتُبُهُ أَيضًا فِي هَذَا المَجَالِ بِمَنْزِلَةِ الكُتُبِ الَّتِي لَا مَثِيلَ لَهَا، فَإِنَّهُ رحمه الله قَدْ لَخَّصَ عَقِيدَةَ السَّلَفِ فِي كِتَابِ التَّوحِيدِ المَعْرُوفِ بِهِ، وَالوَاقِعُ أَنَّ هَذَا الكِتَابَ لَهُ أَثَرٌ طَيِّبٌ جِدًّا لَيسَ فِي البِلَادِ السَّعَودِيَّةِ فَقَط! بَلْ وَفِي كَثِيرٍ مِنَ البِلَادِ الإِسْلَامِيَّةِ، فَقَدْ أَخَذَ المُسْلِمُونَ يَتَعَرَّفُونَ عَلَى هَذِهِ الدَّعْوَةِ -دَعْوَةِ التَّوحِيدِ الخَالِصَةِ للهِ عز وجل مِنَ الكُتُبِ الَّتِي يَطْبَعُهَا عُلَمَاءُ هَذِهِ المَمْلَكَةِ سَوَاءً مَا كَانَ مِنْهَا مِنْ كُتُبِ الشَّيخِ نَفْسِهِ أَوْ مِنْ شُرُوحِ كُتُبِهِ الكَثِيرَةِ"
(2)
.
وَقَالَ الشَّيخُ عَبْدُ المُحْسِنِ العَبَّادُ حَفِظَهُ اللهُ: "كِتَابُ التَّوحِيدِ -الَّذِي هُوَ حَقُّ اللهِ عَلَى العَبِيدِ- هُوَ أَهَمُّ وَأَوْسَعُ كُتُبِ الشَّيخِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي العَقِيدَةِ" إِلَى أَنْ قَالَ -حَفِظَهُ اللهُ-: "وَمِنْ مَنْهَجِهِ فِي تَأْلِيفَهِ أَنَّ الكِتَابَ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ يَسُوقُ فِيهِ الشَّيخُ الإِمَامُ آيَاتٍ وَأَحَادِيثَ وَآثَارًا عَنْ سَلَفِ هَذِهِ الأُمَّةِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُم مِمَّنْ سَارَ عَلَى نَهْجِهِم وَطَرِيقَتِهِم"
(3)
.
(1)
مَجْمُوعُ فَتَاوَى وَرَسَائِلِ الشَّيخِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ آلِ الشَّيخِ رحمه الله (رَقَم 4549).
(2)
انْظُرْ أَشْرِطَةَ "فَتَاوَى مُتَفَرِّقَةٌ"(شَرِيط 202) مِنْ فَتَاوَى الشَّيخِ الأَلْبَانِيِّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
(3)
مَنْهَجُ شَيخِ الإِسْلَامِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الوَهَّابِ فِي التَّأْلِيفِ (ص 14).
المُلْحَقُ الأَوَّلُ عَلَى كِتَابِ التَّوحِيدِ: مَقَدِّمَةٌ عَلَى كِتَابِ التَّوحِيدِ
- التَّوحِيدُ: هُوَ جَعْلُ الشَّيءِ وَاحِدًا
(1)
.
- التَّوحِيدُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ، وَهِيَ مَجْمُوعَةٌ فِي قَولِهِ تَعَالَى:{رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَينَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مَرْيَم: 65].
وَهَذِهِ الأَنْوَاعُ هِيَ:
1 -
تَوحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ: وَمَعْنَاهُ تَوحِيدُ اللهِ بِأَفْعَالِهِ، وَأُصُولُهَا: الخَلْقُ وَالمُلْكُ وَالتَّدْبِيرُ.
قَالَ تَعَالَى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} [يُونُس: 31]
(2)
.
(1)
قَالَ الزُّبَيدِيُّ رحمه الله (ت 1205 هـ) فِي كِتَابِهِ تَاجُ العَرُوسِ (9/ 276): "التَّوحِيدُ تَوحِيدَانِ، تَوحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ وَتَوحِيدُ الإِلَهِيَّةِ.
فَصَاحِبُ تَوحِيدِ الرَّبَّانِيَّةِ يَشْهَدُ قَيُّومِيَّةَ الرَّبِ فَوقَ عَرْشِهِ، يُدَبِّرُ أَمْرَ عِبَادِهِ وَحْدَهُ، فَلَا خَالِقَ وَلَا رَازِقَ وَلَا مُعْطِيَ وَلَا مَانِعَ وَلَا مُحْييَ وَلَا مُمِيتَ وَلَا مُدَبِّرَ لِأَمْرِ المَمْلَكَةِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا غَيرُهُ، فَمَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَلَا تَتَحَرَّكُ ذَرَّةٌ إِلَّا بإِذْنِهِ، وَلَا يَجُوزُ حَادِثٌ إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ، وَلَا تَسْقُطُ وَرَقَةٌ إِلَّا بِعِلْمِهِ، وَلَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا وَقَدْ أَحْصَاهَا عِلْمُهُ وَأَحَاطَتْ بِهَا قُدْرَتُهُ وَنَفَذَتْ فِيهَا مَشِيئَتُهُ وَاقْتَضَتْهَا حِكْمَتُهُ.
وَأَمَّا تَوحِيدُ الإِلَهِيَّةِ فَهُوَ أنْ يَجْمَعَ هِمَّتَهُ وَقَلْبَهُ وَعَزْمَهُ وَإِرَادَتَهُ وَحَرَكاتِهِ عَلَى أَدَاءِ حَقِّهِ وَالقِيَامِ بِعُبُودِيَّتِهِ".
(2)
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (4/ 267): " {فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} أَي: أَفَلَا تَخَافُونَ مِنْهُ أَنْ
=
2 -
تَوحِيدُ الأُلُوهِيَّةِ
(1)
أَو تَوحِيدُ العِبَادَةِ
(2)
: وَمَعْنَاهُ جَعْلُ العِبَادَةِ للهِ وَحْدَهُ.
قَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [لُقْمَان: 30].
وَقَالَ تَعَالَى أَيضًا: {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا} [الإِسْرَاء: 22].
وَإِنَّ تَحْقِيقَ الإِيمَانِ بِاللهِ تَعَالَى يَكُونُ بِإِفْرَادِ اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ بِالعِبَادَةِ مِنْ صَلَاةٍ وَدُعَاءٍ وَذَبْحٍ وَنَذْرٍ وَتَوَكُّلٍ وَرَغْبَةٍ وَرَهْبَةٍ وَمَحَبَّةٍ وَ
…
، فَمَنْ صَرَفَ شَيئًا مِنْهَا لِغَيرِ اللهِ تَعَالَى فَهُوَ مُشْرِكٌ بِهِ سُبْحَانَهُ.
وَإِنَّ المُشْرِكِينَ الأَوَائِلَ لَمْ يَكُنْ شِرْكُهُم هُوَ بِاعْتِقَادِ خَالِقٍ أَو رَازِقٍ أَو نَافِعٍ أَو ضَارٍّ مَعَ اللهِ تَعَالَى -كَمَا يَظُنُّ ذَلِكَ بَعْضُ مَنْ لَمْ يَتَفَقَّهْ بِالقُرْآنِ-
(3)
، وَإِنَّمَا كَانَ شِرْكُهُم
=
تَعْبُدُوا مَعَهُ غَيرَهُ بِآرَائِكُم وَجَهْلِكُم؟!
وَقَولُهُ: {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} أَي: فَهَذَا الَّذِي اعْتَرَفْتُم بِأَنَّهُ فَاعِلُ ذَلِكَ كُلِّهِ هُوَ رَبُّكُم وَإِلَهُكُم الحَقُّ الَّذِي يَسْتَحِقُّ أَنْ يُفْرَدَ بِالعِبَادَةِ، {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} أَي: فَكُلُّ مَعْبُودٍ سِوَاهُ بَاطِلٌ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ".
(1)
قَالَ فِي القَامُوسِ المُحِيطِ (ص 1242): "أَلَهَ إِلَاهَةً وَأُلُوهَةً وَأُلُوهِيَّةً: عَبَدَ عِبَادَةً، وَمِنْهُ لَفْظُ الجَلَالَةِ".
وَقَالَ فِي لِسَانِ العَرَبِ (13/ 467): " (ألَهَ) الإلَهُ: اللهُ عز وجل، وكُلُّ مَا اتُخِذَ مِنْ دُونِهِ مَعْبُودًا: إلَهٌ عِنْدَ مُتَّخِذِهِ، وَالجَمْعُ آلِهَةٌ، وَالآلِهَةُ: الأَصْنَامُ، سُمُّوا بِذَلِكَ لِاعْتِقَادِهِم أَنَّ العِبَادَةَ تَحُقُّ لَهَا، وَأَسْمَاؤُهُم تَتْبَعُ اعْتِقَادَاتِهِم لَا مَا عَلَيهِ الشَّيءُ فِي نَفْسِهِ".
(2)
هَذَا النَّوعُ مِنَ التَّوحِيدِ يَكُونُ اسْمُهُ بِاعْتِبَارَينِ:
فَبِاعْتِبَارِ إِضَافَتِهِ إِلَى اللهِ تَعَالَى يُسمَّى: تَوحِيدَ الأُلُوهِيَّةِ، فَلَا إلَهَ حَقٌّ إِلَّا هُوَ، وَبِاعْتِبَارِ إِضَافَتِهِ إِلَى العِبَادِ يُسمَّى: تَوحِيدَ العِبَادَةِ، وَذَلِكَ بِأَنْ لَا تَعْبُدَ غَيرَهُ.
قَالَ الشَّيخُ السَّعْدِيُّ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (ص 503): "فَالأُلُوهِيَّةُ وَصْفُهُ تَعَالَى، وَالعُبُودِيَّةُ وَصْفُ عَبْدِهِ".
(3)
قَالَ تَعَالَى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى
=
هُوَ بِاتِّخَاذِ الوَسَائِطِ وَالشُّفَعَاءِ بَينَهُم وَبَينَ اللهِ تَعَالَى
(1)
؛ حَيثُ تَعَلَّقُوا بِهِم فَدَعَوهُم وَاسْتَغَاثُوا بِهِم، وَهُمْ "لَا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ هَذِهِ الأَصْنَامَ تَنْفَعُهُمْ أَو تَضُرُّهُمْ بِذَاتِهَا! وَلَا أَنَّهَا تَخْلُقُ! وَلَا أَنَّهَا تَرْزُقُ! لَكِنْ يَدَّعُونَ أَنَّهُم اتَّخَذُوهَا وَسِيلَةً"
(2)
.
3 -
تَوحِيدُ الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ: وَمَعْنَاهُ أَنْ يَعْتَقِدَ العَبْدُ أَنَّ اللهَ جل جلاله وَاحِدٌ فِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَلَا مُمَاثِلَ لَهُ فِيهِمَا، قَالَ تَعَالَى:{لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشُّورَى: 11]
(3)
.
=
يُؤْفَكُونَ} [العَنْكَبُوت: 61].
وقَالَ تَعَالَى أَيضًا: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يُونُس: 31 - 32].
(1)
قَالَ تَعَالَى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يُونُس: 18].
(2)
تَفْسِيرُ سُورَةِ الزُّمَرْ لِابْنِ عُثَيمِين (ص 30).
وَقَالَ الفَخْرُ الرَّازِي رحمه الله: "وَحَاصِلُ الكَلَامِ لِعُبَّادِ الأَصْنَامِ أَنْ قَالُوا: إِنَّ الإِلَهَ الأَعْظَمَ أَجَلُّ مِنْ أَنْ يَعْبُدَه البَشَرُ، لَكِنَّ اللَّائِقَ بِالبَشَرِ أَنْ يَشْتَغِلُوا بِعِبَادَةِ الأَكَابِرِ مِن عِبَادِ اللهِ مِثْلِ الكَوَاكِبِ، وَمِثْلِ الأَرْوَاحِ السَّمَاوِيَّةِ؛ ثُمَّ إِنَّها تَشْتَغِلُ بِعِبَادَةِ الإِلَهِ الأَكْبَرِ! فَهَذَا هُوَ المُرَادُ مِنْ قَولِهِم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] ". تَفْسِيرُ الرَّازِي (26/ 421).
(3)
فَائِدَةٌ: اشْتِرَاكُ أسْمَاءِ بَعْضِ الصِّفَاتِ بَينَهُ تَعَالَى وَبَينَ بَعْضِ خَلْقِهِ إِنَّمَا هُوَ اشْتِرَاكٌ فِي أَصْلِ الصِّفَةِ وَلَيسَ فِي حَقِيقَتِهَا، فَالكَمَالُ فِيهَا للهِ وَحْدَهُ دُونَ مَنْ سِوَاهُ، فَمَثَلًا المَخْلُوقُ قَدْ يَكُونُ عَزِيزًا مَعْ أَنَّ اللهُ تَعَالَى هُوَ العَزِيزُ؛ لَكِنَّ لِلْمَخْلُوقِ مِنْ صِفَةِ العِزَّةِ مَا يُنَاسِبُ ذَاتَهُ الحَقِيرَةَ الوَضِيعَةَ الفَقِيرَةَ، وَاللهُ جَلَّ وَعَلَا لَهُ مِنْ كَمَالِ هَذِهِ الصِّفَةِ مُنْتَهَى ذَلِكَ، لَيسَ لَهُ فِيهَا مَثِيلٌ، وَلَيسَ لَهُ فِيهَا مُشَابِهٌ عَلَى الوَجْهِ التَّامِّ. وَسَيَأْتِي مَزِيدُ بَيَانٍ لِذَلِكَ فِي مَوضِعِهِ مِنْ شَرْحِ الكِتَابِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.
وَهَذَا النَّوعُ الأَخِيرُ يَتَضَمَّنُ شَيئَين:
أ- الإِثْبَاتَ، وَذَلِكَ بِأَنْ نُثْبِتَ للهِ تَعَالَى جَمَيعَ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ الَّتِي أَثْبتَهَا لِنَفْسِهِ فِي كِتَابِهِ أَو سُنَّةِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم.
ب- نَفْيَ المُمَاثَلَةِ، وَذَلِكَ بِأَنْ لَا نَجْعَلَ للهِ مَثِيلًا فِي تِلْكَ الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ.
-
وَقَدْ أَنْكَرَ بَعْضُ أَهْلِ البِدَعِ تَقْسِيمَ التَّوحِيدِ إِلَى هَذِهِ الأَقْسَامِ،
وَزَعَمُوا أَنَّ هَذَا خَارِجٌ عَنْ طَرِيقَةِ أَهْلِ الإِسْلَامِ أَصْلًا! وَالرَّدُّ عَلَيهِم هُوَ مِنْ جِهَتَينِ:
1 -
أَنَّهُ لَو غَضَضْنَا الطَّرْفَ عَنِ المُسَمَّيَاتِ وَتَكَلَّمْنَا فِي حَقِيقَةِ المَعْنَى لَوَجَدْنَا الأَمْرَ يَؤُولُ إِلَى هَذِهِ الأَقْسَامِ وَلَابُدَّ -كَمَا سَبَقَ البَيَانُ قَبْلَ قَلِيلٍ-، وَعَلَيهِ فَلَا مُشَاحَّةَ فِي الاصْطِلَاحِ وَالتَّقْسِيمِ طَالَمَا هُوَ حَقٌّ.
2 -
أَنَّ هَذَا مَعْرُوفٌ فِي كُتُبِ عَقَائِدِ أَهْلِ السُّنَّةِ الأَوَّلِينَ أَصْلًا.
قَالَ الإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللهِ؛ ابْنُ بَطَّةَ العُكْبُرِيُّ رحمه الله (ت 387 هـ): "وَذَلِكَ أَنَّ أَصْلَ الإِيمَانِ بِاللَّهِ -الَّذِي يَجِبُ عَلَى الخَلْقِ اعْتِقَادُهُ فِي إِثْبَاتِ الإِيمَانِ بِهِ- ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَعْتَقِدَ العَبْدُ رَبَّانِيَّتَهُ، لِيَكُونَ بِذَلِكَ مُبَايِنًا لِمَذْهَبِ أَهْلِ التَّعْطِيلِ الَّذِينَ لَا يُثْبِتُونَ صَانِعًا.
الثَّانِي: أَنْ يَعْتَقِدَ وَحْدَانِيَّتَهُ، لِيَكُونَ مُبَايِنًا بِذَلِكَ مَذَاهِبَ أَهْلِ الشِّرْكِ الَّذِينَ أَقَرُّوا بِالصَّانِعِ وَأَشْرَكُوا مَعَهُ فِي العِبَادَةِ غَيرَهُ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَعْتَقِدَهُ مَوصُوفًا بِالصِّفَاتِ الَّتِي لَا يَجُوزُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَوصُوفًا بِهَا مِنَ العِلْمِ وَالقُدْرَةِ وَالحِكْمَةِ وَسَائِرِ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ، إِذْ قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ يُقِرِّ بِهِ وَيُوَحِّدُهُ بِالقَولِ المُطْلَقِ قَدْ يُلْحِدُ فِي صِفَاتِهِ، فَيَكُونُ إِلْحَادُهُ فِي صِفَاتِهِ
قَادِحًا فِي تَوحِيدِهِ، وَلِأَنَّا نَجِدُ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ خَاطَبَ عِبَادَهُ بِدُعَائِهِمْ إِلَى اعْتِقَادِ كُلِّ وَاحِدَةٍ فِي هَذِهِ الثَّلَاثِ وَالإِيمَانِ بِهَا"
(1)
.
وَإِنَّ مِن آثَارِ هَذَا الإِنْكَارِ أَنَّ عَامَّةَ هَؤُلَاءِ المُنْكِرِينَ يَقَعُونَ فِي الشِّرْكِ بِسَبَبِ جَهْلِهِم هَذَا؛ فَإِنَّ الإِنْسَانَ عَدُوُّ مَا يَجْهَلُ! وَصَدَقَ الخَلِيفَةُ الرَّاشِدُ عُمَرُ الفَارُوقُ رضي الله عنه حَيثُ قَالَ: (قَدْ عَلِمْتُ -وَرَبِّ الْكَعْبَةِ- مَتَى تَهْلِكُ الْعَرَبُ: إِذَا وَلِيَ أَمْرَهُمْ مَنْ لَمْ يَصْحَبِ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم، وَلَمْ يُعَالِجْ أَمْرَ الْجَاهِلِيَّةِ)
(2)
.
-
لَا بُدَّ فِي شَهَادَةِ (أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ) مِنْ سَبْعَةِ شُرُوطٍ،
وَهِيَ لَا تَنْفَعُ قَائِلَهَا إِلَّا بِاجْتِمَاعِهَا
(3)
:
1 -
العِلْمُ المُنَافِي لِلْجَهْلِ.
2 -
اليَقِينُ المُنَافِي لِلشَّكِّ.
3 -
القَبُولُ المُنَافِي لِلرَّدِّ.
4 -
الانْقِيَادُ المُنَافِي لِلتَّرْكِ.
5 -
الإِخْلَاصُ المُنَافِي لِلشِّرْكِ.
(1)
الإِبَانَةُ الكُبْرَى (6/ 172).
وَيُنْظَرُ أَيضًا: تَفْسِيرُ المَرَاغِي (12/ 102)، التَّفْسِيرُ المُنِيرُ لِلزُّحَيلِيّ (6/ 12).
(2)
رَوَاهُ الحَاكِمُ (8318) وَصَحَّحَهُ، وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيُّ.
وَأَمَّا اللَّفْظُ المَشْهُورُ عَنْهُ: (إِنَّمَا تُنْقَضُ عُرَى الْإِسْلَامِ عُرْوَةً عُرْوَةً؛ إِذَا نَشَأَ فِي الْإِسْلَامِ مَنْ لَا يَعْرِفُ الْجَاهِلِيَّةَ) فَلَمْ أَعْثُرْ عَلَيهِ، وَإِنَّمَا أَوْرَدَهُ شَيخُ الإِسْلَامِ وَابْنُ القَيِّمِ رَحِمَهُمَا اللهُ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ مِن كُتُبِهِم. يُنْظَرُ: مِنْهَاجُ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ (4/ 590)، مَدَارِجُ السَّالِكِينَ (1/ 351).
(3)
يُنْظَرُ: (فَتِحُ المَجِيدِ)(ص 83).
6 -
الصِّدْقُ المُنَافِي لِلكَذِبِ.
7 -
المَحَبَّةُ المُنَافِيَةُ لِضِدِّهَا
(1)
.
-
تُطْلَقُ العِبَادَةُ عَلَى أَحَدِ مَعْنَيَينِ (فِعْلٍ أَوْ وَصْفٍ):
أ- العِبَادَةُ بِمَعْنَى التَّعَبُّدِ: أَي التَّذَلُّلُ للهِ تَعَالَى وَالخُضُوعُ لَهُ؛ بِفِعْلِ أَوَامِرِهِ وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ مَحَبَّةً وَتَعْظِيمًا
(2)
.
ب- العِبَادَةُ بِمَعْنَى مَا يُتعبَّدُ بِهِ: هِيَ "اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا يُحِبُّهُ اللهُ وَيَرْضَاهُ مِنَ الأَقْوَالِ وَالأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ وَالبَاطِنَةِ"
(3)
؛ كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَسَائِرِ أَفْعَالِ الطَّاعَاتِ، فَيَكُونُ بِذَلِكَ دُعَاءُ غَيرِ اللهِ هُوَ كَالصَّلَاةِ لِغَيرِ اللهِ؛ وَذَلِكَ لِكَونِهِمَا عِبَادَةً يُحِبُّهَا اللهُ تَعَالَى.
- إِنَّ نِزَاعَ أَكْثَرِ الطَّوَائِفِ الكَافِرَةِ المُخَالِفَةِ لِلإِسْلَامِ لَمْ يَكُنْ فِي النَّوعِ الأَوَّلِ
(1)
قَالَ الشَّيخُ عَبْدُ اللهِ الغُنَيمَانُ حَفِظَهُ اللهُ فِي شَرْحِ فَتْحِ المَجِيدِ (20/ 22): "وَيُضَافُ شَرْطٌ ثَامِنٌ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَهُوَ الكُفْرُ بِكُلِّ مَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكْفُرَ بِكُلِّ مَا يُخَالِفُهَا، وَلِذَلِكَ يَقُولُ اللهُ جَلَّ وَعَلَا: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ} [البقرة: 256] فَيَبْدَأُ بِالكُفْرِ بِالطَّاغُوتِ أَولًا"، وَكَذَا أَضَافَهُ الشَّيخُ الإِمَامُ ابْنُ بَازٍ رحمه الله كَمَا فِي مَجْمُوعِ فَتَاوَى ابْنِ بَازٍ (7/ 57).
قُلْتُ: إِلَّا أَنَّهُ قَدْ يُقَالُ: إِنَّ هَذَا الشَّرْطَ مُضَمَّنٌ فِيمَا سَبَقَ مِنَ القَبُولِ وَالانْقِيَادِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ هِيَ شُرُوطُ (لَا إِلَهَ إِلَّا الله)، وَلَيسَتْ شُرُوطَ الإِيمَانِ بِأُلُوهِيَّةِ اللهِ فَقَط! فَـ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهَ) مَعْنَاهَا: الإِيمَانُ بِاللهِ وَالكُفْرُ بِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ أَصْلًا! فَالشَّرْطُ الثَّامِنُ مُضَمَّنٌ فِي المَعْنَى أَصْلًا. وَاللهُ أَعْلَمُ.
(2)
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ القُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى (ت 671 هـ) فِي التَّفْسِيرِ (1/ 225): "وَأَصْلُ العِبَادَةِ الخُضُوعُ وَالتَّذَلُّلُ، يُقَالُ: طَرِيقٌ مُعَبَّدَةٌ إِذَا كَانَتْ مَوطُوءَةً بِالأَقْدَامِ".
وَقَالَ أَبُو العَبَّاسِ القُرْطُبِيُّ رحمه الله (ت 656 هـ) فِي كِتَابِهِ المُفْهِمُ عَلَى مُسْلِمٍ (1/ 181): "سُمِّيَتْ وَظَائِفُ الشَّرْعِ عَلَى المُكَلَّفِينَ عِبَادَاتٍ؛ لِأَنَّهُمْ يَلْتَزِمُونَهَا وَيَفْعَلُونَهَا خَاضِعِينَ مُتَذَلِّلِينَ للهِ تَعَالَى".
(3)
مَجْمُوعُ الفَتَاوَى (10/ 149).
مِنَ التَّوحِيدِ -وَهُوَ تَوحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ-، وَلَكِنْ فِي تَوحِيدِ الأُلُوهِيَّةِ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أُرْسِلَتِ الرُّسُلُ وَأُنْزِلَتِ الكُتُبُ، فَأَكْثَرُ الأُمَمِ الكَافِرَةِ كَانَتْ تُقِرُّ للهِ تَعَالَى بِالخَلْقِ وَالمُلْكِ وَالتَّدْبِيرِ، وَلَكِنَّهَا لَمْ تَكُنْ تُخْلِصُ للهِ تَعَالَى فِي العِبَادَةِ لَهُ وَحْدَهُ، لِذَلِكَ فَإِنَّ الأَمْرَ القُرْآنِيَّ لِلمُشْرِكِينَ بِالعِبَادَةِ يُقْصَدُ بِهِ إِفْرَادُ اللهُ بِالعِبَادَةِ
(1)
، لِأَنَّهُم كَانُوا يَعْبُدُونُ اللهَ تَعَالَى وَلَكِنْ يَعْبُدُونَ مَعَهُ غَيرَهُ؛ فَكَانَ اللهُ تَعَالَى يَحْتَجُّ عَلَى المُشْرِكِينَ بِمَا يُقِرُّونَهُ مِنْ رُبُوبِيَّتِهِ وَحْدَهُ عَلَى مَا يُنْكِرُونَهُ مِنْ أُلُوهِيَّتِهِ وَحْدَهُ، كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [العَنْكَبُوت: 61]
(2)
.
-
أَنْوَاعُ الشِّرْكِ:
يُقْسَمُ إِلَى شِرْكٍ أَكْبَرَ، وَشِرْكٍ أَصْغَرَ:
1 -
الشِّرْكُ الأَكْبَرُ: هُوَ أَنْ يَصْرِفَ العَبْدُ نَوعًا أَو فَرْدًا مِنْ أَفْرَادِ العِبَادَةِ لِغَيرِ اللهِ.
فَكُلُّ اعْتِقَادٍ أَو قَولٍ أَو عَمَلٍ ثَبَتَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ مِنَ الشَّارِعِ للهِ؛ فَصَرْفُهُ للهِ وَحْدَهُ تَوحِيدٌ وَإِيمَانٌ وَإِخْلَاصٌ، وَصَرْفُهُ لِغَيرِهِ شِرْكٌ وَكُفْرٌ
(3)
.
2 -
الشِّرْكُ الأَصْغَرُ: هُوَ كُلُّ وَسِيلَةٍ وَذَرِيعَةٍ يُتَوَصَّلُ مِنْهَا إِلَى الشِّرْكِ الأَكْبَرِ مِنَ
(1)
قَالَ الطَّبَرِيُّ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (1/ 362): "وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسَ -فِيمَا رُوِيَ لَنَا عَنْهُ- يَقُولُ فِي ذَلِكَ نَظِيرَ مَا قُلْنَا فِيهِ؛ غَيرَ أنَّهُ ذُكِرَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي مَعْنَى (اعْبُدُوا رَبَّكَم): وَحِّدُوا رَبَّكُم. وَقَدْ دَلَلْنَا فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابِنَا هَذَا عَلَى أَنَّ مَعْنَى العِبَادَةِ: الخُضُوعُ للهِ بِالطَّاعَةِ".
(2)
قَالَ الطَّبَرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي التَّفْسِيرِ (20/ 58): "يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلَئِنْ سَأَلْتَ يَا مُحَمَّدُ هَؤُلَاءِ المُشْرِكِينَ بِاللهِ: مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فَسَوّاهُنَّ، وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ لِعِبَادِهِ يَجْرِيَانِ دَائِبِينِ لِمَصَالِحِ خَلْقِ اللهِ؟ لَيَقُولُنَّ: الَّذِي خَلَقَ ذَلِكَ وَفَعَلَه اللهُ، {فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: فَأَنَّى يُصْرَفُونَ عَمَّنَ صَنَعَ ذَلِكَ فَيَعْدِلُونَ عَنْ إِخْلَاصِ العِبَادَةِ لَهُ؟! ".
(3)
القَوْلُ السَّدِيْدُ (ص 54).
الإِرَادَاتِ وَالأَقْوَالِ وَالأَفْعَالِ الَّتِي لَمْ تَبْلُغْ رُتْبَةَ العِبَادَةِ
(1)
؛ وَجَاءَ وَصْفُهَا بِكَونِهَا شِرْكًا
(2)
.
-
أَنْوَاعُ النِّفَاقِ:
1 -
النِّفَاقُ الاعْتِقَادِيُّ: وَهُوَ النِّفَاقُ الأَكْبَرُ الَّذِي يُظْهِرُ فِيهِ صَاحِبُهُ الإِسْلَامَ وَيُبْطِنُ الكُفْرَ، وَهَذَا النَّوعُ مُخْرِجٌ مِنَ الدِّينِ بِالكُلِّيَّةِ
(3)
.
2 -
النِّفَاقُ العَمَلِيُّ: وَهُوَ عَمَلُ شَيءٍ مِنْ أَعْمَالِ المُنَافِقِينَ مَعَ بَقَاءِ الإِيمَانِ فِي القَلْبِ، وَهَذَا لَا يُخْرِجُ مِنَ المِلَّةِ، لَكِنَّهُ وَسِيلَةٌ إِلَى ذَلِكَ، وَصَاحِبُهُ يَكُونُ فِيهِ إِيمَانٌ وَنِفَاقٌ، وَإِذَا كَثُرَ صَارَ بِسَبَبِهِ مُنَافِقًا خَالِصًا
(4)
، وَالدَّلِيلُ عَلَيهِ قَولُهُ صلى الله عليه وسلم: ((أرْبَعٌ مَنْ كُنَّ
(1)
القَوْلُ السَّدِيْدُ (ص 54).
(2)
يُنْظَرُ: شَرْحُ سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ (سُؤَال رَقَم 28) مِنْ شَرِيْط رَقَم (282) لِلْشَيخِ الفَاضِلِ عَبْدِ المُحْسِنِ العَبَّاد حَفِظَهُ اللهُ.
(3)
قَالَ الشَّيخُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الوَهَّابِ رحمه الله: "وَهَذَا النِّفَاقُ سِتَّةُ أَنْوَاعٍ، وَهِيَ:
تَكْذِيبُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، أَو تَكْذِيبُ بَعْضِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم.
أَو بُغْضُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، أَو بُغْضُ بَعْضِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم.
أَوِ المَسَرَّةُ بِانْخِفَاضِ دِينِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، أَوِ الكَرَاهِيَةُ لِانْتِصَارِ دِينِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم". مَجْمُوعَةُ التَّوحِيدِ النَّجْدِيَّةِ (ص 11).
(4)
قَالَ ابْنُ القَيِّمِ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (الصَّلَاةُ وَحُكْمُ تَارِكِهَا)(ص 60): "وَلَكِنْ إِذَا اسْتَحْكَمَ وكَمُلَ فَقَدْ يَنْسَلِخُ صَاحِبُهُ عَنِ الإِسْلَامِ بِالكُلِّيَّةِ -وَإِنْ صَلَّى وَصَامَ وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ-؛ فَإِنَّ الإِيمَانَ يَنْهَى المُؤْمِنَ عَنْ هَذِهِ الخِلَالِ، فَإِذَا كَمُلَتْ فِي العَبْدِ -وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَا يَنْهَاهُ عَنْ شَيءٍ مِنْهَا-؛ فَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا مُنَافِقًا خَالِصًا".
وَقَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رحمه الله فِي شَرْحِهِ عَلَى صَحِيحِ مُسْلِمٍ (2/ 47): "فَالَّذِي قَالَهُ المُحَقِّقُونَ وَالأَكْثَرُونَ -وَهُوَ الصَّحِيحُ المُخْتَارُ- أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ هَذِهِ الخِصَالَ خِصَالُ نِفَاقٍ، وَصَاحِبُهَا شَبِيهٌ بالمنافقين فِي هَذِهِ الخِصَالِ، وَمُتَخَلِّقٌ بِأَخْلَاقِهِمْ؛ فَإِنَّ النِّفَاقَ هُوَ إِظْهَارُ مَا يُبْطِنُ خِلَافَهُ، وَهَذَا المَعْنَى مَوجُودٌ فِي صَاحِبِ هَذِهِ الخِصَالِ، وَيَكُونُ نِفَاقُهُ فِي حَقِّ مَنْ حَدَّثَهُ وَوَعَدَهُ وَائْتَمَنَهُ وَخَاصَمَهُ وَعَاهَدَهُ مِنَ النَّاسِ؛ لَا أَنَّهُ
=
فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ؛ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا ائْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيهِ
(1)
.
- أَنْوَاعُ الكُفْرِ: قَالَ الشَّيخُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الوَهَّابِ رحمه الله
(2)
:
"أَنْوَاعُ الكُفْرِ:
كُفْرٌ أَكْبَرُ، وَهُوَ خَمْسَةُ أَنْوَاعٍ، وَكُفْرٌ أَصْغَرُ، وَهُوَ الكُفْرُ العَمَلِيُّ.
وَالكُفْرُ الأَكْبَرُ أَنْوَاعُهُ:
1 -
كُفْرُ التَّكْذِيبِ.
قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} [العَنْكَبُوت: 68].
2 -
كُفْرُ الإبَاءِ وَالاسْتِكْبَارِ.
=
مُنَافِقٌ فِي الإِسْلَامِ فَيُظْهِرُهُ وَهُوَ يُبْطِنُ الكُفْرَ! وَلَمْ يُرِدِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا أَنَّهُ مُنَافِقٌ نِفَاقَ الكُفَّارِ المُخَلَّدِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ، وَقَولُهُ صلى الله عليه وسلم:((كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا)) مَعْنَاهُ شَدِيدُ الشَّبَهِ بِالمُنَافِقِينَ بِسَبَبِ هَذِهِ الخِصَالِ، قَالَ بَعْضُ العُلَمَاءِ: وَهَذَا فِيمَنْ كَانَتْ هَذِهِ الخِصَالُ غَالِبَةً عَلَيهِ، فَأَمَّا مَنْ يَنْدُرُ ذَلِكَ مِنْهُ فَلَيسَ دَاخِلًا فِيهِ، فَهَذَا هُوَ المُخْتَارُ فِي مَعْنَى الحَدِيثِ، وَقَدْ نَقَلَ الإِمَامُ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ رضي الله عنه مَعْنَاهُ عَنِ العُلَمَاءِ مُطْلَقًا فَقَالَ: إِنَّمَا مَعْنَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ العِلْمِ نِفَاقُ العَمَلِ".
قُلْتُ: وَعِنْدِي أَنَّهُ لَا تَعَارُضَ بَينَ مَا ذَهَبَ إِلَيهِ ابْنُ القَيِّمِ وَبَينَ مَا نَقَلَهُ النَّوَوِيُّ عَنْ جُمْلَةِ العُلَمَاءِ رحمهم الله، وَذَلِكَ لِأَنَّ ابْنَ القَيِّمِ رحمه الله قَيَّدَهُ بِالكَمَالِ -وَلَيسَ بِالغَلَبَةِ-، وبكونه لَمْ يَكُنْ لَهُ مَا يَنْهَاهُ عَنْ شَيءٍ مِنْهَا؛ فَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ حَالُهُ فَهُوَ لَمْ يَنْقَدْ لِلإسلَامِ أَصْلًا، وَلَا بُدَّ مِنْ تَوجِيهِ ابْنِ القَيِّمِ هَذَا وَلَابُدَّ، وَذَلِكَ لِصَرَاحَةِ الحَدِيثِ فِي قَولِهِ ((مُنَافِقًا خَالِصًا))، وَإِلَّا فَمَا وَجْهُ ذِكْرِ الخُلُوصِ هُنَا؟؟
(1)
البُخَارِيُّ (34)، وَمُسْلِمٌ (58) مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَمْرو مَرْفُوعًا.
(2)
مَجْمُوعَةُ التَّوحِيدِ (ص 10) بِتَصَرُّفٍ يَسِيرٍ.
قَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البَقَرَة: 34].
3 -
كُفْرُ الظَّنِّ (الشَّكِّ).
4 -
كُفْرُ الإِعْرَاضِ.
قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} [الأَحْقَاف: 3].
5 -
كفرُ النِّفاقِ.
قَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ} [المُنَافِقُون: 3].
وَالكُفْرُ الأَصْغَرُ: هُوَ كُفْرٌ لَا يُخْرِجُ عَنِ المِلَّةِ، وَهُوَ الكُفْرُ العَمَلِيُّ، وَهُوَ فِعْلُ الذُّنُوبِ الَّتِي وَرَدَ تَسْمِيَتُهَا فِي الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كُفْرًا وَلَا تَصِلُ إِلَى حَدِّ الكُفْرِ الأَكْبَرِ، مِثْلُ كُفْرِ النِّعْمَةِ المَذْكُورِ فِي قَولِهِ تَعَالَى:{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ} [النَّحْل: 112] "
(1)
.
-
فَائِدَةٌ: إِنَّ مِنْ كَمَالِ الرُّبُوبِيَّةِ نَفْيُ الوَلَدِ عَنْهُ سُبْحَانَهُ، وَاتِّخَاذُ الوَلَدِ هُوَ تَنَقُّصٌ وَعَيبٌ لَهُ، وَمِن أَوجُهِ بَيَانِ كَونِهِ تَنَقُّصًا لَهُ سُبْحَانَهُ:
(1)
كَمَا فِي الحَدِيثِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا: ((سِبَابُ المُسْلِمِ فُسُوقُ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ))، رَوَاهُ البُخَارِيُّ (48)، وَمُسْلِمٌ (64).
1 -
أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى احْتِيَاجِ الوَالِدِ لِلْوَلَدِ! وَاللهُ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ، وَلِهَذَا تَجِدُ الإِنْسَانَ إِذَا لَمْ يَأْتِهِ الوَلَدُ يَرَى أَنَّهُ نَاقِصٌ، وَيَتَمَنَّى كُلَّ الأُمْنِيَةِ أَنْ يَأْتِيَهُ وَلَدٌ يُسَاعِدُهُ عَلَى شُؤُونِ الحَيَاةِ، وَيُبْقِي ذِكْرَهُ بَعْدَ مَوتِهِ؛ فَاتِّخَاذُ الوَلَدِ نَقْصٌ، وَلِهَذَا نَزَّهَ اللهُ نَفْسَه عَنْهُ فَقَالَ:{وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} [مريم: 92].
2 -
أَنَّ الوَلَدَ إِنَّمَا يَأْتِي مِنْ أَجْلِ بَقَاءِ النَّوعِ الَّذِي تَوَلَّدَ مِنْهُ، وَاللهُ سبحانه وتعالى غَيرُ مُحْتَاجٍ لِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الوَاحِدُ البَاقِي عز وجل، وَتَأَمَّلْ قَولَهُ تَعَالَى:{لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الزُّمَر: 4] فَفِيهِ إِشَارَةٌ أَنَّ كَونَهُ تَعَالَى قَهَّارًا يَمْنَعُ مِن ثُبُوتِ الوَلَدِ لَهُ، فَالمُحْتَاجُ إِلَى الوَلَدِ هُوَ الَّذِي يَمُوتُ فَيَحْتَاجُ إِلَى وَلَدٍ يَقُومُ مَقَامَهُ؛ فَالمُحْتَاجُ إِلَى الوَلَدِ هُوَ الَّذِي يَكُونُ مَقْهُورًا بِالمَوتِ، أَمَّا الَّذِي يَكُونُ قَاهِرًا وَلَا يَقْهَرُهُ غَيرُهُ؛ كَانَ الوَلَدُ فِي حَقِّهِ مُحَالًا.
3 -
أَنَّ الوَلَدَ يَكُونُ مُمَاثِلًا لِأَبِيهِ، فَلَو فُرِضَ أَنَّ اللهَ اتَّخَذَ وَلَدًا؛ لَكَانَ الوَلَدُ مِثْلَ اللهِ عز وجل! وَاللهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ أَنْ يُمَاثِلَهُ أَحَدٌ؛ فَإِنَّهُ {لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ} [الشورى: 11].
4 -
أَنَّ اللهَ لَيسَ لَهُ زَوجَةٌ، قَالَ تَعَالَى:{وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ} [الأنعام: 101]، فَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيسَ لَهُ زَوجَةٌ؛ فَكَيفَ يَأْتِي الوَلَدُ؟! وَإِنَّمَا جَاءَ الوَلَدُ مِن مِثْلِ آدَمَ عليه الصلاة والسلام لِأَنَّهُ آيةٌ مُعْجِزَةٌ.
5 -
أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَو كَانَ لَهُ وَلَدٌ لَنُقِضَ التَّوحِيدُ لِتَعَدُّدِ الأَرْبَابِ! فَالوَلَدُ مُتَوَلِّدٌ مِن أَبِيهِ؛ مُمَاثِلٌ لَهُ، وَتَأَمَّلْ قَولَهُ تَعَالَى:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 1 - 4]
(1)
.
(1)
يُنْظَرُ: تَفْسِيرُ الرَّازِي (26/ 422)، بَدَائِعُ الفَوَائِدِ (4/ 153)، تَفْسِيرُ السَّعْدِي (ص 501)، تَفْسِيرُ ابْنِ عُثَيمِين- سُورَةُ الزُّمَر (ص 41).
- الإِسْلَامُ لَهُ ضِدَّانِ:
قَالَ شَيخُ الإِسْلَامِ رحمه الله: "وَلَهُ ضِدَّانِ: الكِبْرُ، وَالشِّرْكُ، وَلِهَذَا رُوِيَ أَنَّ نُوحًا عليه السلام أَمَرَ بَنِيهِ بِـ (لَا إلَهِ إلَّا اللَّهُ) وَ (سُبْحَانَ اللَّهِ)، وَنَهَاهُمْ عَنِ الكِبْرِ وَالشِّرْكِ -فِي حَدِيثٍ قَدْ ذَكَرْته فِي غَيرِ هَذَا المَوْضِعِ
(1)
-؛ فَإِنَّ المُسْتَكْبِرَ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ؛ لَا يَعْبُدُهُ؛ فَلَا يَكُونُ مُسْتَسْلِمًا لَهُ! وَاَلَّذِي يَعْبُدُهُ وَيَعْبُدُ غَيرَهُ؛ يَكُونُ مُشْرِكًا بِهِ؛ فَلَا يَكُونُ سَالِمًا لَهُ! بَلْ يَكُونُ لَهُ فِيهِ شِرْكٌ. وَلَفْظُ (الإِسْلَامِ) يَتَضَمَّنُ الِاسْتِسْلَامَ، وَالسَّلَامَةَ -الَّتِي هِيَ الإِخْلَاصُ-، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الرُّسُلَ جَمِيعَهُمْ بُعِثُوا بِالإِسْلَامِ العَامِّ المُتَضَمِّنِ لِذَلِكَ"
(2)
.
-
طَرِيقَةُ اسْتِدْلَالِ المُصَنِّفِ رحمه الله فِي كِتَابِ التَّوحِيدِ تَجْرِي وَفْقَ ثَلَاثَةِ أَشْكَالٍ:
1 -
الاسْتِدْلَالُ بِالنَّصِّ العَامِّ عَلَى مَنْعِ الشِّرْك فِي عِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى، ثُمَّ إِيرَادُ الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ الخَاصِّ عَلَى أَنَّ عَمَلًا مَا هُوَ عِبَادَةٌ للهِ تَعَالَى.
كَمِثْلِ بَابِ (مِنَ الشِّرْكِ النَّذْرُ لِغَيرِ اللهِ) فَقَدْ أَورَدَ فِيهِ قَولَهُ تَعَالَى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإِنْسَان: 7]، ثُمَّ قَالَ فِي مَسَائِلِ البَابِ:"إِذَا ثَبَتَ كَونُهُ عِبَادَةً للَّهِ؛ فَصَرْفُهُ إِلَى غَيرِهِ شِرْكٌ"، فَالاسْتِدْلَالُ حَصَلَ بِبَيَانِ أَنَّ النَّذْرَ عِبَادَةٌ للهِ تَعَالَى، وَقَدْ أَسْلَفَ فِي البَابِ الأَوَّلِ مَجْمُوعَةً مِنَ الأَدِلَّةِ عَلَى وُجُوبِ إِفْرَادِ اللهِ تَعَالَى بِالعِبَادَةِ وَمَنْعِ الشِّرْكِ فِيهَا، كَقَولِهِ تَعَالَى:{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيئًا} [النِّسَاء: 36]؛
(1)
يُرِيدُ حَدِيثَ: ((إِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ نُوحًا صلى الله عليه وسلم لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قَالَ لِابْنِهِ: إِنِّي قَاصٌّ عَلَيكَ الْوَصِيَّةَ: آمُرُكَ بِاثْنَتَينِ، وَأَنْهَاكَ عَنِ اثْنَتَينِ. آمُرُكَ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ
…
وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ
…
)). صَحِيحٌ. مُسْنَدُ أَحْمَدَ (6583). صَحِيحُ الأَدَبِ المُفْرَدِ (548).
(2)
مَجْمُوعُ الفَتَاوَى (7/ 623).
فَيَكُونُ الدَّلِيلُ مُرَكَّبًا مِنْ دَلِيلَينِ.
2 -
الاسْتِدْلَالُ بِالنَّصِّ الخَاصِّ عَلَى أَنَّ الأَمْرَ الفُلَانِيَّ شِرْكٌ أَو مِنَ الكَبَائِرِ، كَمَا فِي بَابِ (مِنَ الشِّرْكِ لُبْسُ الحَلْقَةِ وَالخَيطِ وَنَحْوِهِمَا لِرَفْعِ البَلَاءِ أَو دَفْعِهِ)، وَقَدْ أَورَدَ فِيهِ حَدِيثَ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:((مَنْ تَعَلَّقَ تَمِيمَةً فَقَدْ أَشْرَكَ))
(1)
.
3 -
الاسْتِدْلَالُ بِأَنَّ العَمَلَ المَذْكُورَ هُوَ مِنْ أَعْمَالِ المُشْرِكِينَ؛ فَصَارَ اجْتِنَابُهُ مِنَ التَّوحِيدِ، كَمَا فِي بَابِ (مِنَ الشِّرْكِ الاسْتِعَاذَةُ بِغَيرِ اللهِ) فَقَدْ أَورَدَ فِيهِ قَولَهُ تَعَالَى:{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجِنّ: 6]، وَمَوضِعُ الاسْتِدْلَالِ هُوَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الرِّجَالِ مِنَ الإِنْسِ كَانُوا يَعُوذُونَ بِالجِنِّ؛ وَأَنَّ الجِنَّ المُسْلِمَ ذَكَرَ مَا كَانَ يَحْصُلُ عِنْدَهُم فِي الجَاهِلِيَّةِ قَبْلَ أَنَّ يَسْمَعُوا القُرْآنَ.
- قُلْتُ: إِنَّ أَبْوَابَ كِتَابِ التَّوحِيدِ لِلشَّيخِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الوَهَّابِ رحمه الله تَنْقَسِمُ إِلَى سَبْعَةِ أَقْسَامٍ عَلَى سَبِيلِ الإِجْمَالِ
(2)
، وَذَلِكَ تَسْهِيلًا لِلتَّعْلِيمِ. وَهِيَ:
القِسْمُ الأَوَّلُ: مِنَ البَابِ (رَقَم 1) إِلَى البَابِ (رَقَم 6): مُقَدِمَةٌ فِي التَّوحِيدِ عَلَى التَّرْتِيبِ التَّالِي:
البَابُ (رَقَم 1) فِيهِ بَيَانُ أَنَّ للهِ تَعَالَى حَقًّا عَلَيكَ.
البَابُ (رَقَم 2) فِيهِ التَّرْغِيبُ فِي التَّوحِيدِ بِكَونِ هَذَا الحَقِّ المَذْكُورِ فِيهِ لَيسَ حَقًّا مُجَرَّدًا! بَلْ فِيهِ فَضْلٌ يَعُودُ عَلَيكَ.
(1)
صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (17422). الصَّحِيحَةُ (492).
(2)
وُفْقَ مَا ظَهَرَ لِي، وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَهَذَا عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّ مُقَدِّمَةَ المَتْنِ هِيَ بَابٌ مُسْتَقِلٌّ.
البَابُ (رَقَم 3) فِيهِ تَمَامُ التَّرْغِيبِ فِي التَّوحِيدِ؛ بِأَنَّ مِنْ جَاءَ بِهِ كَامِلًا نَجَا مِنَ الحِسَابِ وَالعَذَابِ.
البَابُ (رَقَم 4) فِيهِ التَّرْهِيبُ مِنْ تَرْكِ التَّوحِيدِ؛ بِأَنَّ الشِّرْكَ لَا يُغْفَرُ.
البَابُ (رَقَم 5) أَنَّكَ إِذَا عَلِمْتَ هَذَا الخَيرَ فَلَا تَقْتَصِرْ فِيهِ عَلَى نَفْسِكَ؛ بَلِ ادْعُ النَّاسَ إِلَيهِ.
البَابُ (رَقَم 6) أَنَّكَ إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَدْعُوَ إِلَيهِ فَكُنْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ، وَقَالَ المُصَنِّفُ رحمه الله فِي آخِرِ هَذَا البَابِ:"وَشَرْحُ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ مَا بَعْدَهَا مِنَ الأَبْوَابِ".
القِسْمُ الثَّانِي: مِنَ البَابِ (رَقَم 7) إِلَى البَابِ (رَقَم 18): أَبْوَابُ الشِّرْكِ الجَلِيِّ.
القِسْمُ الثَّالِثُ: مِنَ البَابِ (رَقَم 19) إِلَى (رَقَم 23): أَبْوَابُ شِرْكِ القُبُورِ وَذَرَائِعِهِ.
القِسْمُ الرَّابِعُ: مِنَ البَابِ (رَقَم 24) إِلَى بَابِ (رَقَم 30): أَبْوَابُ السَّحْرِ.
القِسْمُ الخَامِسُ: مِنَ البَابِ (رَقَم 31) إِلَى (رَقَم 39): أَبْوَابُ أَعْمَالِ القُلُوبِ.
القِسْمُ السَّادِسُ: البَابِ (رَقَم 40) وَ (رَقَم 51) وَ (رَقَم 67): فِي الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ.
القِسْمُ السَّابِعُ: الأَبْوَابُ البَاقِيَةُ مِنَ البَابِ (رَقَم 41) إِلَى بَابِ (رَقَم 66) عَدَا بَابِ (رَقَم 51): فِي بَيَانِ مُكَمِّلَاتِ التَّوحِيدِ.
بَابُ حَقِّ اللهِ عَلَى العَبِيدِ
كِتَابُ التَّوحِيدِ، وَقَولُ اللهِ تَعَالَى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذَّارِيَات: 56].
وَقَولُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النَّحْل: 36] الآيَة.
وَقَولُهُ تَعَالَى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَينِ إِحْسَانًا} [الإِسْرَاء: 23] الآيَة.
وَقَولُهُ تَعَالَى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيئًا} [النِّسَاء: 36] الآيَات.
وَقَولُهُ تَعَالَى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيئًا وَبِالْوَالِدَينِ إِحْسَانًا} [الأَنْعَام: 151] الآيَات.
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: (مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى وَصِيَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم الَّتِي عَلَيهَا خَاتَمُهُ؛ فَلْيَقْرَأْ قَولَهُ تَعَالَى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيئًا} إِلَى قَولِهِ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا} [الأَنْعَام: 153 - الآيَة]
(1)
.
وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه؛ قَالَ: كُنْتُ رَدِيفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى حِمَارٍ؛ فَقَالَ لِي: ((يَا مُعَاذُ! أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللهِ عَلَى العِبَادِ، وَمَا حَقُّ العِبَادِ عَلَى اللهِ؟)) قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: ((حَقُّ اللهِ عَلَى العِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيئًا، وَحَقُّ العِبَادِ عَلَى اللهِ أَنْ لَا يُعَذّبَ مَنْ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيئًا)). قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ أَفَلَا أُبَشِّرُ النَّاسَ؟ قَالَ: ((لَا تُبَشِّرْهُمْ فَيَتَّكِلُوا)). أَخْرَجَاهُ
(2)
.
(1)
ضَعِيفٌ. التِّرْمِذِيُّ (3070). ضَعِيفُ التِّرْمِذِيِّ (3070).
(2)
البُخَارِيُّ (2856)، وَمُسْلِمٌ (30).
فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: الحِكْمَةُ فِي خَلْقِ الجِنِّ وَالإِنْسِ.
الثَّانِيَةُ: أَنَّ العِبَادَةَ هِيَ التَّوحِيدُ؛ لِأَنَّ الخُصُومَةَ فِيهِ.
الثَّالِثَةُ: أَنَّ مَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِ لَمْ يَعْبُدِ اللهَ، فَفِيهِ مَعْنَى قَولِهِ:{وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكَافِرُون: 3].
الرَّابِعَةُ: الحِكْمَةُ فِي إِرْسَالِ الرُّسُلِ.
الخَامِسَةُ: أَنَّ الرِّسَالَةَ عَمَّتْ كُلَّ أُمَّةٍ.
السَّادِسَةُ: أَنَّ دِينَ الأَنْبِيَاءِ وَاحِدٌ.
السَّابِعَةُ: المَسْأَلَةُ الكَبِيرَةُ؛ أَنَّ عِبَادَةَ اللهِ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِالكُفْرِ بِالطَّاغُوتِ، فَفِيهِ مَعْنَى قَولِهِ تَعَالَى:{فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ} [البَقَرَة: 256].
الثَّامِنَةُ: أَنَّ الطَّاغُوتَ عَامٌّ فِي كُلِّ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللهِ.
التَّاسِعَةُ: عِظَمُ شَأْنِ الثَّلَاثِ آيَاتٍ المُحْكَمَاتِ فِي سُورَةِ الأَنْعَامِ عِنْدَ السَّلَفِ، وَفِيهَا عَشْرُ مَسَائِلَ أَوَّلُهَا النَّهْيُ عَنِ الشِّرْكِ.
العَاشِرَةُ: الآيَاتُ المُحْكَمَاتُ فِي سُورَةِ الإِسْرَاءِ، وَفِيهَا ثَمَانِي عَشْرَةَ مَسْأَلَةً، بَدَأَهَا اللهُ بِقَولِهِ:{لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا} [الإِسْرَاء: 22] وَخَتَمَهَا بِقَولِهِ: {وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا} [الإِسْرَاء: 39]، وَنَبَّهَنَا اللهُ سُبْحَانَهُ عَلَى عِظَمِ شَأْنِ هَذِهِ المَسَائِلِ بِقَولِهِ:{ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ} [الإِسْرَاء: 39].
الحَادِيَةَ عَشْرَةَ: آيَةُ سُورَةِ النِّسَاءِ الَّتِي تُسَمَّى آيَةَ الحُقُوقِ العَشْرَةِ، بَدَأَهَا اللهُ تَعَالَى بِقَولِهِ:{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيئًا} [النِّسَاء: 36].
الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: التَّنْبِيهُ عَلَى وَصِيَّةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ مَوتِهِ.
الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: مَعْرِفَةُ حَقِّ اللهِ عَلَينَا.
الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: مَعْرِفَةُ حَقِّ العِبَادِ عَلَيهِ إِذَا أَدَّوا حَقَّهُ.
الخَامِسَةَ عَشْرَةَ: أَنَّ هَذِهِ المَسْأَلَةَ لَا يَعْرِفُهَا أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ.
السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: جَوَازُ كِتْمَانِ العِلْمِ لِلْمَصْلَحَةِ.
السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: اسْتِحْبَابُ بِشَارَةِ المُسْلِمِ بِمَا يَسُرُّهُ.
الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: الخَوفُ مِنَ الِاتِّكَالِ عَلَى سَعَةِ رَحْمَةِ اللهِ.
التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: قَولُ المَسْئُولِ عَمَّا لَا يَعْلَمُ: "اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ".
العِشْرُونَ: جَوَازُ تَخْصِيصِ بَعْضِ النَّاسِ بِالعِلْمِ دُونَ بَعْضٍ.
الحَادِيَةُ وَالعِشْرُونَ: تَوَاضُعُهُ صلى الله عليه وسلم لِرُكُوبِ الحِمَارِ مَعَ الإِرْدَافِ عَلَيهِ.
الثَّانِيَةُ وَالعِشْرُونَ: جَوَازُ الإِرْدَافِ عَلَى الدَّابَّةِ.
الثَّالِثَةُ وَالعِشْرُونَ: عِظَمُ شَأْنِ هَذِهِ المَسْأَلَةِ.
الرَّابِعَةُ وَالعِشْرُونَ: فَضِيلَةُ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ.
الشَّرْحُ
- قَولُهُ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} اللَّامُ هُنَا لِلتَّعْلِيلِ، فَفِيهَا بَيَانُ سَبَبِ خَلْقِ اللهِ تَعَالَى لِلجِنِّ وَالإِنْسِ.
- مَعْنَى (يَعْبُدُونَ) هُنَا أَي: يُوَحِّدُوَن
(1)
، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ المُشْرِكِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَ اللهَ تَعَالَى وَكَانُوا يَعْبُدُونَ مَعَهُ غَيرَهُ؛ فَلَمَّا أُمِروا بِالعِبَادَةِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُم لَمْ يَكُونُوا عَلَى عِبَادَةٍ مَرْضِيَّةٍ مِنَ اللهِ تَعَالَى، فَكُلُّ عِبَادَةٍ فِيهَا شِرْكٌ لَا تَكُونُ مَقْبُولَةً عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا ((قَالَ اللهُ تبارك وتعالى: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ؛ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ))
(2)
.
- قَولُهُ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} فِيهِ أُسْلُوبُ الحَصْرِ، فَإِنَّ الاسْتِثْنَاءَ بَعْدَ النَّفْي يُفِيدُ الحَصْرَ، وَالمَعْنَى: خُلِقَتِ الجِنُّ وَالإِنْسُ لِغَايَةٍ وَاحِدَةٍ هِيَ العِبَادَةُ للهِ وَحْدَهُ دُونَ مَا سِوَاهُ.
- قَولُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا
(1)
وَقَدْ سَلَفَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي التَّفْسِيرِ: "وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسَ -فِيمَا رُوِيَ لَنَا عَنْهُ- يَقُوْلُ فِي ذَلِكَ نَظِيرَ مَا قُلْنَا فِيهِ، غَيرَ أنَّهُ ذُكِرَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُوْلُ فِي مَعْنَى (اعْبُدُوا رَبَّكَم): وَحِّدُوا رَبَّكُم. وَقَدْ دَلَلْنَا فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابِنَا هَذَا عَلَى أَنَّ مَعْنَى العِبَادَةِ: الخُضُوْعُ للهِ بِالطَّاعَةِ". تَفْسِيرُ الطَّبَرِيِّ (1/ 362).
وَقَالَ الكَلْبِيُّ: "إِلَّا لِيُوَحِّدُونِ، فَالمُؤْمِنُ يُوَحِّدُهُ فِي الشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ، وَالكَافِرُ فِي الشِّدَّةِ". (البَحْرُ المُحِيطُ) لِأَبِي حَيَّانَ (9/ 562).
وَفِي البُخَارِيِّ (6/ 139) -كِتَابُ التَّفْسِيرِ، سُورَةُ الذَّارِيَاتِ- {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}:"مَا خَلَقْتُ أَهْلَ السَّعَادَةِ مِنْ أَهْلِ الفَرِيقَينِ إِلَّا لِيُوَحِّدُونِ. وَالفَرِيقَانِ هُمُ الجِنُّ وَالإِنْسُ".
(2)
مُسْلِمٌ (2985).
الطَّاغُوتَ} أَورَدَ المُصَنِّفُ رحمه الله هَذِهِ الآيَةَ لِبَيَانِ مَعْنَى العِبَادَةِ فِي الآيَةِ السَّابِقَةِ؛ وَأَنَّ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ الرُّسُلُ هُوَ التَّوحِيدُ، وَهُوَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَمَعْنَاهَا نَفْيُ الأُلُوهِيَّةِ الحَقِّ عَنْ غَيرِ اللهِ تَعَالَى؛ وَإِثْبَاتُهَا للهِ وَحْدَهُ، وَالنَّفْيُ فِي هَذِهِ الآيَةِ مُضمَّنٌ فِي الأَمْرِ بِاجْتِنَابِ الطَّاغُوتِ، وَالإِثْبَاتُ مُضمَّنٌ فِي الأَمْرِ بِعِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى.
- الطَّاغُوتُ مَأْخُوذٌ مِنَ الطُّغْيَانِ، وَهُوَ كُلُّ مَا تَجَاوَزَ بِهِ العَبْدُ حَدَّهُ مِنْ مَعْبُودٍ أَو مَتْبُوعٍ أَو مُطَاعٍ
(1)
.
- الطَّوَاغِيتُ كَثِيرَةٌ وَرُؤُوسُهَا خَمْسَةٌ
(2)
:
1 -
الشَّيطَانُ الدَّاعِي إِلَى عِبَادَةِ غَيرِ اللهِ.
وَالدَّلِيلُ قَولُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يَس: 60]، وَالشَّيطَانُ هُوَ الَّذِي زَيَّنَ مَعْصِيَةَ اللهِ تَعَالَى، وَزَيَّنَ طَاعَةَ غَيرِ اللهِ تَعَالَى
(3)
.
2 -
الحَاكِمُ الجَائِرُ المُغيِّرُ لِأَحْكَامِ اللهِ.
وَالدَّلِيلُ قَولُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيكَ وَمَا
(1)
إِعْلَامُ المُوَقِّعِينَ (1/ 40) لِابْنِ القَيِّمِ.
(2)
قَالَهُ الشَّيخُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الوَهَّابِ رحمه الله. اُنْظُرْ: مَجْمُوعَةَ التَّوحِيدِ النَّجْدِيَّةِ (ص 160).
(3)
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ الحَنْبَلِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ: جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (1/ 509): "وَلَعَلَّ مَنْ قَالَ: إِنَّ المُرَادَ الِاسْتِقَامَةُ عَلَى التَّوحِيدِ؛ إِنَّمَا أَرَادَ التَّوحِيدَ الكَامِلَ الَّذِي يُحَرِّمُ صَاحِبَهُ عَلَى النَّارِ، وَهُوَ تَحْقِيقُ مَعْنَى (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)، فَإِنَّ الإِلَهَ هُوَ المَعْبُودُ الَّذِي يُطَاعُ؛ فَلَا يُعْصَى خَشْيَةً وَإِجْلَالًا وَمَهَابَةً وَمَحَبَّةً وَرَجَاءً وَتَوَكُّلًا وَدُعَاءً، وَالمَعَاصِي كُلُّهَا قَادِحَةٌ فِي هَذَا التَّوحِيدِ لِأَنَّهَا إِجَابَةٌ لِدَاعِي الهَوَى وَهُوَ الشَّيطَانُ، قَالَ اللهُ عز وجل: {أَفَرَأَيتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجَاثِيَة: 23] قَالَ الحَسَنُ وَغَيرُهُ: هُوَ الَّذِي لَا يَهْوَى شَيئًا إِلَّا رَكِبَهُ، فَهَذَا يُنَافِي الِاسْتِقَامَةَ عَلَى التَّوحِيدِ".
أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النِّسَاء: 60].
3 -
الَّذِي يَحْكُمُ بِغَيرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ.
وَالدَّلِيلُ قَولُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المَائِدَة: 44]
(1)
.
4 -
الَّذِي يَدَّعِي عِلْمَ الغَيبِ مِنْ دُونِ اللهِ.
وَالدَّلِيلُ قَولُهُ تَعَالَى: {عَالِمُ الْغَيبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَينِ يَدَيهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} [الجِنّ: 26 - 27]
(2)
.
5 -
الَّذِي يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ وَهُوَ رَاضٍ بِهَذِهِ العِبَادَةِ.
وَالدَّلِيلُ قَولُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأَنْبِيَاء: 29].
- قَولُهُ تَعَالَى: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} هَذَا مَعْنَى (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ) بِالمُطَابَقَةِ؛ يَعْنِي احْصُرُوا العِبَادَةَ فِيهِ وَحْدَهُ دُونَ مَا سِوَاهُ.
- قَولُهُ تَعَالَى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيئًا} هَذِهِ أَيضًا فِيهَا إِثْبَاتٌ
(1)
وَهُوَ بِقَيدِ الاسْتِحْلَالِ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما:(مَنْ جَحَدَ مَا أَنْزَلَ اللهُ فَقَدْ كَفَرَ، وَمَنْ أَقَرَّ بِهِ وَلَمْ يَحْكُمْ؛ فَهُوَ ظَالِمٌ فَاسِقٌ). تَفْسِيرُ الطَّبَرِيِّ (10/ 357)، وَقَالَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله فِي الصَّحِيحَةِ (2552):"جَيِّدٌ فِي الشَّوَاهِدِ".
(2)
قَالَ جَابِرٌ: (كَانَتِ الطَّوَاغِيتُ الَّتِي يَتَحَاكَمُونَ إِلَيهَا؛ فِي جُهَينَةَ وَاحِدٌ، وَفِي أَسْلَمَ وَاحِدٌ، وَفِي كُلِّ حَيٍّ وَاحِدٌ: كُهَّانٌ يَنْزِلُ عَلَيهِمُ الشَّيطَانُ). رَوَاهُ البُخَارِيُّ (6/ 45) تَعْلِيقًا، وَوَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِم مِنْ طَرِيقِ وَهَبِ بْنِ مُنَبِّه. انْظُرْ (فَتْحُ البَارِي)(8/ 252).
وَنَفْيٌ، فَالأَمْرُ هُوَ أَنْ يُعْبَدَ اللهُ تَعَالَى وَحْدَهُ دُونَ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ شَيءٌ، وَإِنَّ مِمَّا تَقَرَّرَ فِي قَوَاعِدِ اللُّغَةِ أَنَّ النَّكِرَةَ فِي سِيَاقِ النَّفْي تُفِيدُ العُمُومَ، أَي أَنَّ كَلِمَةَ (شَيئًا) جَاءَتْ نَكِرَةً فِي سِيَاقِ النَّفْي (لَا تُشْرِكُوا) فَصَارَ المَعْنَى: النَّهْيُ عَنْ أَيِّ شِرْكٍ مَهْمَا كَانَ صَغِيرًا أَو كَبِيرًا.
- قَولُهُ تَعَالَى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيئًا} فِيهِ بَيَانُ أَوَّلِ المُحَرَّمَاتِ، وَهُوَ الشِّرْكُ بِاللهِ تَعَالَى، ثُمَّ اخْتَتَمَ الآيَةَ بِقَولِهِ تَعَالَى:{ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} فَصَارَ فِيهِ بَيَانُ أَنَّ هَذِهِ هِيَ وَصِيَّةُ اللهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الوَصِيَّةَ بِأَمْرٍ مَا تَدُلُّ عَلَى أَهَمِّيَّتِهِ.
- فِي قَولِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: (مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى وَصِيَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم إِرْشَادٌ إِلَى أَنَّ آخِرَ مَا كَانَتْ عَلَيهِ حَيَاةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ وَصَّى بِهَذِهِ الأُمُورِ، وَأَوَّلُهَا وَأَهَمُّهَا التَّوحِيدُ
(1)
.
وَقَدْ سَبَقَ فِي أَوَّلِ البَابِ بَيَانُ أَنَّ أَوَّلَ دَعْوَةِ الرُّسُلِ الإِرْشَادُ إِلَى التَّوحِيدِ؛ فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ التَّوحِيدَ هُوَ أَصْلُ الشَّرَائِعِ وَأَعْظَمُهَا
(2)
.
(1)
وَكَمَا فِي وَصِيَّةِ يَعْقُوبَ عليه الصلاة والسلام: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البَقَرَة: 133].
(2)
وَيَزِيدُ ذَلِكَ بَيَانًا قَولُهُ تَعَالَى عَنْ دَعْوَةِ الرُّسُلِ لِأَقْوَامِهِم:
{لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيرُهُ} [الأَعْرَاف: 59].
{وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيرُهُ} [الأَعْرَاف: 65].
{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيرُهُ} [الأَعْرَاف: 73].
{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيرُهُ} [الأَعْرَاف: 85].
- فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ بَيَانُ أَنَّ للهِ تَعَالَى حَقًّا عَلَى العِبَادِ وَهُوَ التَّوحِيدُ، مِمَّا يَسْتَدْعِي الوَفَاءَ بِهِ للهِ تَعَالَى؛ وَأَنْ يُنْشَرَ بَينَ النَّاسِ وَيُرْشَدُوا إِلَيهِ.
- فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ بَيَانُ أَنَّ لِلعِبَادِ حَقًّا عَلَى اللهِ تَعَالَى، وَهُوَ أَنْ يُدْخِلَهُم الجَنَّةَ وَلَا يُعَذِّبَهُم إِذَا لَمْ يُشْرِكُوا بِهِ شَيئًا، وَلَكِنَّهُ مَقْرُونٌ بِعَدَمِ الشِّرْكِ لَا الأَكْبَرِ وَلَا الأَصْغَرِ، وَإِنَّ الإِصْرَارَ عَلَى المَعَاصِي قَادِحٌ فِي كَمَالِ التَّوحِيدِ وَتَمَامِ النَّجَاةِ؛ فَلَا بُدَّ مِنَ التَّوبَةِ بَعْدَ كُلِّ صَغِيرَةٍ وَكَبِيرَةٍ.
- قَولُهُ: ((فَيَتَّكِلُوا)) أَي: يَتَّكِلُونَ عَلَى مُجَرَّدِ التَّوحِيدِ؛ فَلَا يَتَنَافَسُونَ فِي الأَعْمَالِ؛ فَيَخْسَرُونَ بِذَلِكَ الدَّرَجَاتِ الرَّفِيعَةَ فِي الجَنَّةِ -جَعَلَنَا اللهُ مِنْ أَهْلِهَا-.
مَسَائِلُ عَلَى البَابِ
-
المَسْأَلَةُ الأُولَى: كَيفَ يَكُونُ لِلْعِبَادِ حَقٌّ عَلَى اللهِ تَعَالَى؛ وَهُوَ الَّذِي أَوجَدَهُم؟
الجَوَابُ مِنْ جِهَتَينِ:
1 -
أَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي جَعَلَ عَلَى نَفْسِهِ الحَقَّ وَلَمْ يُوجِبْهُ عَلَيهِ أَحَدٌ، وَاللهُ تَعَالَى يَجْعَلُ عَلَى نَفْسِهِ مَا يَشَاءُ مِمَّا اقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ وَرَحْمَتُهُ، وَكَذَا يَكْتُبُ عَلَى نَفْسِهِ
(1)
، وَكَذَا يُحَرِّمُ عَلَى نَفْسِهِ
(2)
.
2 -
أَنَّ هَذَا الحَقَّ هُوَ حَقُّ تَفَضُّلٍ وَلَيسَ حَقَّ مُقَابَلَةٍ
(3)
! كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى عَنْ جَزَاءِ أَهْلِ الجَنَّةِ: {جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا} [النَّبَأ: 36] فَجَزَاهُمُ اللهُ تَعَالَى الأَجْرَ الكَثِيرَ عَلَى العَمَلِ القَلِيلِ
(4)
.
(1)
كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأَنْعَام: 12].
وَكَمَا فِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ (7404) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قَالَ: ((لَمَّا خَلَقَ اللهُ الخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابِهِ -وَهُوَ يَكْتُبُ عَلَى نَفْسِهِ، وَهُوَ وَضْعٌ عِنْدَهُ عَلَى العَرْشِ- إِنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي)).
(2)
كَمَا فِي حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ المَرْفُوعُ القُدُسِيُّ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: ((يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي)). مُسْلِمٌ (2577).
(3)
وَاسْتِحْقَاقُ المُقَابَلَةِ هُوَ كَإِعْطَاءِ أُجْرَةِ الأَجِيرِ المُسَاوِيَةِ لِقِيمَةِ عَمَلِهِ، أَمَّا لَو جُعِلَ لِلأَجِيرِ أَلْفُ ضِعْفٍ -مَثَلًا- لِقَاءَ عَمَلِ يَومٍ وَاحِدٍ؛ فَهُوَ اسْتِحْقَاقُ تَفَضُّلٍ.
(4)
وَفِي البُخَارِيِّ (6463)، وَمُسْلِمٍ (2816) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا ((لَنْ يُنْجِيَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ))، قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: ((وَلَا أَنَا؛ إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللهُ بِرَحْمَةٍ)).
-
المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَا التَّوفِيقُ بَينَ أَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِمُعَاذٍ رضي الله عنه بِأَنْ لَا يُبَشِّرَ النَّاسَ
بِذَلِكَ الحَقِّ؛ مَعَ الأَمْرِ الرَّبَّانِيِّ بِتَبْلِيغِ الشَّرِيعَةِ عُمُومًا وَعَدَمِ كِتْمَانِهَا
(1)
؟
الجَوَابُ:
يَحْتَمِلُ التَّوفِيقُ عِدَّةَ أَوْجُهٍ؛ مِنْهَا:
1 -
أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكْتُمْ هَذَا الأَمْرَ؛ بِدَلِيلِ أَنَّهُ أَخْبَرَ بِهِ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ رضي الله عنه، غَايَةُ الأَمْرِ أَنَّهُ مَنَعَ نَشْرَهُ عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ خَوفًا عَلَى مَنْ لَمْ يُدْرِكْ مَرَامِيَ الحَدِيثِ فَيَقَعُ فِي المُحْظُورِ فَيَدَعُ بَعْضَ العَمَلِ، أَوْ يُفَرِّطُ فِيمَا أُمِرَ بِهِ.
قَالَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِ العِلْمِ: "بَابُ مَنْ خَصَّ بِالعِلْمِ قَوْمًا دُونَ قَوْمٍ؛ كَرَاهِيَةَ أَنْ لَا يَفْهَمُوا"
(2)
.
2 -
أَنَّ أَمْرَهُ صلى الله عليه وسلم بِالكِتْمَانِ لَيسَ المَقْصُودُ بِهِ الكِتْمَانَ المُطْلَقَ المُؤَبَّدَ! بَلْ هُوَ كِتْمَانٌ فِي زَمَنٍ مُعَيَّنٍ؛ وَهَذَا الَّذِي فَهِمَهُ مُعَاذٌ نَفْسَهُ رضي الله عنه؛ وَلِذَلِكَ فَقَدْ (أَخْبَرَ بِهَا مُعَاذٌ عِنْدَ مَوْتِهِ تَأَثُّمًا)
(3)
.
قَالَ الشَّيخُ مُلَّا عَلِي القَارِيِّ رحمه الله: "وَإِنَّمَا رَوَاهُ مُعَاذٌ -مَعَ كَوْنِهِ مَنْهِيًّا عَنْهُ- لِأَنَّهُ عَلِمَ مِنْهُ أَنَّ هَذَا الْإِخْبَارَ يَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِ الزَّمَانِ وَالْأَحْوَالِ، وَالْقَوْمِ يَوْمَئِذٍ كَانُوا حَدِيثِي الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ لَمْ يَعْتَادُوا تَكَالِيفَهُ، فَلَمَّا تَثَبَّتُوا وَاسْتَقَامُوا أَخْبَرَهُمْ"
(4)
.
(1)
يَعْنِي فِي قَولِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [المَائِدَة: 67].
(2)
عِنْدَ أَثَرِ عَلِيٍّ رضي الله عنه (حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ؛ أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؟!). صَحِيحُ البُخَارِيِّ (127).
(3)
صَحِيحُ البُخَارِيِّ (128).
(4)
مِرْقَاةُ المَفَاتِيحِ (1/ 98).
بَابُ فَضْلِ التَّوحِيدِ وَمَا يُكَفَّرُ مِنَ الذُّنُوبِ
وَقَولُ اللهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأَنْعَام: 82].
عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه؛ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؛ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ؛ وَالجَنَّةَ حَقٌّ؛ وَالنَّارَ حَقٌّ؛ أَدْخَلَهُ اللهُ الجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنَ العَمَلِ)) أَخْرَجَاهُ
(1)
.
وَلَهُمَا فِي حَدِيثِ عِتْبَان: ((فَإِنَّ اللهَ قَدْ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ -يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللهِ-))
(2)
.
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه؛ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ قَالَ: ((قَالَ مُوسَى: يَا رَبِّ، عَلِّمْنِي شَيئًا أَذْكُرُكَ وَأَدْعُوكَ بِهِ. قَالَ: قُلْ يَا مُوسَى: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، قَالَ: كُلُّ عِبَادِكَ يَقُولُونَ هَذَا! قَالَ: يَا مُوسَى؛ لَو أَنَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ وَعَامِرَهُنَّ غَيرِي؛ وَالأَرَضِينَ السَّبْعَ فِي كِفَّةٍ؛ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ فِي كِفَّةٍ؛ مَالَتْ بِهِنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)). رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالحَاكِمُ وَصَحَّحَه
(3)
.
(1)
البُخَارِيُّ (3435)، وَمُسْلِمٌ (28).
(2)
البُخَارِيُّ (425)، وَمُسْلِمٌ (33).
(3)
ضَعِيفٌ؛ لِأًنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ دَرَّاجٍ عَنْ أَبِي الهَيثَمِ، وَهِيَ رِوَايَةٌ مُتَكَلَّمٌ فِيهَا. ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ (6218)، وَالحَاكِمُ (1936). ضَعِيفُ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ (923).
وَلِلتِّرْمِذِيِّ وَحَسَّنَهُ عَنْ أَنَسٍ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ((قالَ اللهُ تَعَالَى: يَا ابْنَ آدَمَ؛ لَو أَتَيتَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطَايَا؛ ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيئًا؛ لَأَتَيتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً))
(1)
.
(1)
صَحِيحٌ. التِّرْمِذِيُّ (3540). الصَّحِيحَةُ (127).
فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: سَعَةُ فَضْلِ اللهِ.
الثَّانِيَةُ: كَثْرَةُ ثَوَابِ التَّوحِيدِ عِنْدَ اللهِ.
الثَّالِثَةُ: تَكْفِيرُهُ مَعَ ذَلِكَ لِلذُّنُوبِ.
الرَّابِعَةُ: تَفْسِيرُ الآيَةِ الَّتِي فِي سُورَةِ الأَنْعَامِ.
الخَامِسَةُ: تَأَمُّلُ الخَمْسِ اللَّوَاتِي فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ.
السَّادِسَةُ: أَنَّكَ إِذَا جَمَعْتَ بَينَهُ وَبَينَ حَدِيثِ عِتْبَانَ وَمَا بَعْدَهُ تَبَيَّنَ لَكَ مَعْنَى قَولِ: (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)، وَتَبَيَّنَ لَكَ خَطَأَ المَغْرُورِينَ.
السَّابِعَةُ: التَّنْبِيهُ لِلشَّرْطِ الَّذِي فِي حَدِيثِ عِتْبَانَ.
الثَّامِنَةُ: كَونُ الأَنْبِيَاءِ يَحْتَاجُونَ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى فَضْلِ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ).
التَّاسِعَةُ: التَّنْبِيهُ لِرُجْحَانِهَا بِجَمِيعِ المَخْلُوقَاتِ؛ مَعَ أَنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ يَقُولُهَا يَخِفُّ مِيزَانُهُ!
العَاشِرَةُ: النَّصُّ عَلَى أَنَّ الأَرَضِينَ سَبْعٌ كَالسَّمَوَاتِ.
الحَادِيَةَ عَشْرَةَ: أَنَّ لَهُنَّ عُمَّارًا.
الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: إِثْبَاتُ الصَّفَاتِ -خِلَافًا لِلْأَشْعَرِيَّةِ-.
الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: أَنَّكَ إِذَا عَرَفْتَ حَدِيثَ أَنَسٍ؛ عَرَفْتَ أَنَّ قَولَهُ فِي حَدِيثِ عِتْبَانَ: ((فَإِنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ -يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللهِ-)) أَنَّ تَرْكَ الشِّرْكِ لَيسَ قَولًا بِاللِّسَانِ!
الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: تَأَمُّلُ الجَمْعِ بَينَ كَونِ عِيسَى وَمُحَمَّدٍ عَبْدَيِّ اللِه وَرَسُولَيهِ.
الخَامِسَةَ عَشْرَةَ: مَعْرِفَةُ اخْتِصَاصِ عِيسَى بِكَونِهِ كَلِمَةَ اللهِ.
السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: مَعْرِفَةُ كَونِهِ رُوحًا مِنْهُ.
السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: مَعْرِفَةُ فَضْلِ الإِيمَانِ بِالجَنَّةِ وَالنَّارِ.
الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: مَعْرِفَةُ قَولِهِ: ((عَلَى مَا كَانَ مِنَ العَمَلِ)).
التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: مَعْرِفَةُ أَنَّ المِيزَانَ لَهُ كِفَّتَانِ.
العِشْرُونَ: مَعْرِفَةُ ذِكْرِ الوَجْهِ.
الشَّرْحُ
- عَقَدَ المُصَنِّفُ رحمه الله هَذَا البَابَ لِبَيَانِ أَنَّ الحَقَّ الوَارِدَ فِي البَابِ السَّابِقِ لَيسَ حَقًّا مُجَرَّدًا بَلْ فِيهِ فَضْلٌ يَعُودُ عَلَى صَاحِبِهِ، فَهُوَ أَعْظَمُ الحَسَنَاتِ وَأَعْظَمُ الوَاجِبَاتِ، لِذَلِكَ فَهُوَ أَعْظَمُ الأَعْمَالِ تَكْفِيرًا لِلذُّنُوبِ، وَهُوَ رَأْسُ الأَعْمَالِ وَأَهَمُّهَا وَأَوجَبُهَا.
وَفِي الحَدِيثِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَوصِنِي؟ قَالَ:((إِذَا عَمِلْتَ سَيِّئَةً؛ فَأَتْبِعْهَا حَسَنَةً تَمْحُهَا))، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَمِنَ الحَسَنَاتِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؟ قَالَ:((هِيَ أَفْضَلُ الحَسَنَاتِ))
(1)
.
- إِنَّ مِنْ فَضْلِ التَّوحِيدِ عَلَى العَبْدِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَحْفَظُهُ بِهِ مِنْ سُوءِ العَمَلِ، وَيُوَفِّقُهُ بِسَبَبِهِ لِتَرْكِ المَعَاصِي، كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى:{وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يُوسُف: 24].
وَقَدْ عَلِمَ ذَلِكَ إِبْلِيسُ الرَّجِيمُ كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 82 - 83]
(2)
.
(1)
صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (21487). الصَّحِيحَةُ (1373).
(2)
وَفِي قَولِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النِّسَاء: 115] بَيَانُ ذَلِكَ أَيضًا.
قَالَ الشَّيخُ السَّعْدِيُّ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (ص 202): "وَيَدُلُّ مَفْهُومُهَا عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ وَيَتَّبِعْ سَبِيلَ المُؤْمِنِينَ -بِأَنْ كَانَ قَصْدُهُ وَجْهَ اللهِ وَاتِّبَاعَ رَسُولِهِ وَلُزُومَ جَمَاعَةِ المُسْلِمِينَ؛ ثُمَّ صَدَرَ مِنْهُ مِنَ الذُّنُوبِ، أَوِ الهَمِّ بِهَا مَا هُوَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ النُّفُوسِ وَغَلَبَاتِ الطِّبَاعِ- فَإِنَّ اللهَ لَا يُوَلِّيهِ نَفْسَهُ وَشَيطَانَهُ، بَلْ يَتَدَارَكُهُ بِلُطْفِهِ، وَيَمُنُّ عَلَيهِ بِحِفْظِهِ، وَيَعْصِمُهُ مِنَ السُّوءِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ يُوسُفَ عليه السلام:
=
وَهَذَا الحِفْظُ أَيضًا مَشْمُولٌ بِعُمُومِ قَولِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} [النِّسَاء: 66].
- إِنَّ مِنْ فَضْلِ التَّوحِيدِ أَيضًا أَنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ التَّهْلِيلَ وَالتَّكْبِيرَ سِلَاحًا لِلنَّصْرِ، كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم؛ قَالَ:((سَمِعْتُمْ بِمَدِينَةٍ؛ جَانِبٌ مِنْهَا فِي البَرِّ وَجَانِبٌ مِنْهَا فِي البَحْرِ؟)) قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ:((لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَغْزُوَهَا سَبْعُونَ أَلْفًا مِنْ بَنِي إِسْحَاقَ، فَإِذَا جَاءُوهَا نَزَلُوا، فَلَمْ يُقَاتِلُوا بِسِلَاحٍ، وَلَمْ يَرْمُوا بِسَهْمٍ، قَالُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَاللهُ أَكْبَرُ؛ فَيَسْقُطُ أَحَدُ جَانِبَيهَا)) -قَالَ ثَورٌ [بْنُ يَزِيدَ؛ الرَّاوِي]: لَا أَعْلَمُهُ إِلَّا قَالَ- ((الَّذِي فِي البَحْرِ، ثُمَّ يَقُولُوا الثَّانِيَةَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَاللهُ أَكْبَرُ؛ فَيَسْقُطُ جَانِبُهَا الآخَرُ، ثُمَّ يَقُولُوا الثَّالِثَةَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَاللهُ أَكْبَرُ؛ فَيُفَرَّجُ لَهُمْ، فَيَدْخُلُوهَا فَيَغْنَمُوا
(1)
، فَبَينَمَا هُمْ يَقْتَسِمُونَ المَغَانِمَ؛ إِذْ جَاءَهُمُ الصَّرِيخُ، فَقَالَ: إِنَّ الدَّجَّالَ قَدْ خَرَجَ! فَيَتْرُكُونَ كُلَّ شَيءٍ وَيَرْجِعُونَ))
(2)
.
- قَولُهُ: (وَمَا يُكفِّرُ مِنَ الذُّنُوبِ): أَي: وَتَكْفِيرُهُ الذُّنُوبَ.
- قَولُهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} {وَلَمْ يَلْبِسُوا} أَي: لَمْ يَخْلِطُوا، وَالظُّلْمُ هُنَا هُوَ الشِّرْكُ، كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَينِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه؛ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ
=
{كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} أَي: بِسَبَبِ إِخْلَاصِهِ صَرَفْنَا عَنْهُ السُّوءَ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مُخْلِصٍ -كَمَا يَدُلُّ عَلَيهِ عُمُومُ التَّعْلِيلِ-".
(1)
وَرَجَّحَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ أَنَّهَا القُسْطَنْطِينِيَّةُ؛ وَأَنَّ فَتْحَهَا هَذَا لَمْ يَحْصُلْ بَعْدُ، وَإِنَّمَا هُوَ مَعَ قِيَامِ السَّاعَةِ. وَاللهُ أَعْلَمُ.
(2)
مُسْلِمٌ (2920).
يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَقَالُوا: أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ؟! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((لَيسَ كَمَا تَظُنُّونَ! إِنَّمَا هُوَ كَمَا قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ: {يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لُقْمَان: 13]))
(1)
.
وَالظُّلْمُ هُنَا فِي الحَدِيثِ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْي؛ فَتَعُمُّ كُلَّ ظُلْمٍ، وَلَكِنَّ الحَدِيثَ قَيَّدَهَا بِالشِّرْكِ؛ فَيَكُونُ العُمُومُ مَقْصُودًا بِهِ هُنَا عُمُومُ الشِّرْكُ.
وَفِي الحَدِيثِ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: ((الظُّلْمُ ثَلَاثَةٌ: فَظُلْمٌ لَا يَتْرُكُهُ اللهُ، وَظُلْمٌ يُغْفَرُ، وَظُلْمٌ لَا يُغْفَرُ. فَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي لَا يُغْفَرُ؛ فَالشِّرْكُ، لَا يَغْفِرُهُ اللهُ، وَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي يُغْفَرُ؛ فَظُلْمُ العَبْدِ فِيمَا بَينَهُ وَبَينَ رَبِّهِ، وَأَمَّا الَّذِي لَا يُتْرَكُ؛ فَقَصُّ اللهِ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ))
(2)
.
- وَجْهُ كَونِ الشِّرْكِ ظُلْمٌ: أَنَّ "الظُّلْمَ وَضْعُ الشَّيءِ فِي غَيرِ مَوضِعِهِ، وَأَعْظَمُ ذَلِكَ: أَنْ يُوضَعَ المَخْلُوقُ فِي مَقَامِ الخَالِقِ؛ وَيُجْعَلَ شَرِيكًا لَهُ فِي الرُّبُوبِيَّةِ وَفِي الإِلَهِيَّةِ! سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ"
(3)
.
- قَولُهُ: {أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} أَي: أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ فِي الآخِرَةِ، وَهُمْ مُهْتَدُونَ فِي الدُّنْيَا
(4)
.
- قَولُ ((أَشْهَدُ)) أَي: أُقِرُّ نَاطِقًا بِلِسَانِي
(5)
.
(1)
البُخَارِيُّ (6937)، وَمُسْلِمٌ (124).
(2)
حَسَنٌ. البَزَّارُ (13/ 115)، وَالطَّيَالِسِيُّ (2223). الصَّحِيحَةُ (1927).
(3)
(فَتْحُ البَارِي) للحَافِظِ ابْنِ رَجَبٍ الحَنْبَلِيِّ (1/ 144).
(4)
وَأَيضًا هُمْ مُهْتَدُونَ إِلَى الجَنَّةِ فِي الآخِرَةِ.
(5)
قَالَ ابْنُ أَبِي العِزِّ الحَنَفِيُّ رحمه الله فِي شَرْحِ العَقِيدَةِ الطَّحَاوِيَّةِ (ص 90):
"وَعِبَارَاتُ السَّلَفِ فِي (شَهِدَ) تَدُورُ عَلَى الحُكْمِ وَالقَضَاءِ وَالإِعْلَامِ وَالبَيَانِ وَالإِخْبَارِ، وَهَذِهِ الأَقْوَالُ
=
- قَولُهُ: ((عَبْدُ اللهِ)) رَدٌ عَلَى النَّصَارَى؛ حَيثُ عَبَدُوا عِيسَى عليه الصلاة والسلام، وَقَولُهُ:((وَرَسُولُهُ)) رَدٌ عَلَى اليَهُودِ؛ حَيثُ كَذَّبُوا بِنُبُوَّةِ عِيسَى عليه الصلاة والسلام.
- قَولُهُ: ((وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا)) أَي: خُلِقَ بِكَلِمَةِ {كُنْ} ، وَالإِضَافَةُ هُنَا لِلتَّشْرِيفِ.
- قَولُهُ: ((وَرُوحٌ مِنْهُ)) أَي أنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ عِيسَى عليه الصلاة والسلام كَغَيرِهِ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ جَسَدٍ وَرُوحٍ؛ وَلَكِنَّهُ أَضَافَ رُوحَهُ إِلَيهِ تَشْرِيفًا لَهُ وَتَكْرِيمًا، كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى فِي آدَمَ:{فَإِذَا سَوَّيتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [الحِجْر: 29]، فَـ {مِنْ} هُنَا هِيَ لِلابْتِدَاءِ وَلَيسَتْ لِلتَّبْعِيضِ!
وَمَفَادُ الإِضَافَةِ هُنَا التَّشْرِيفُ وَالتَّكْرِيمُ، وَرَدٌّ عَلَى اليَهُودِ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّهُ ابْنُ زِنَى! فَالتَّشْرِيفُ فِي هَذَا المَقَامِ هُوَ تَطْهِيرٌ لَهُ مِنْ زَعْمِهِم ذَلِكَ
(1)
، فَلَيسَ فِيهَا مُتَمَسَّكٌ لِلنَّصَارَى -الضَّالِّينَ- فِي زَعْمِهِم أَنَّهُ جُزْءٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى! وَالعِيَاذُ بِاللهِ، بَلْ نَزِيدُهُم
=
كُلُّهَا حَقٌّ لَا تَنَافِيَ بَينَهَا؛ فَإِنَّ الشَّهَادَةَ تَتَضَمَّنُ كَلَامَ الشَّاهِدِ وَخَبَرَهُ، وَتَتَضَمَّنُ إِعْلَامَهُ وَإِخْبَارَهُ وَبَيَانَهُ.
فَلَهَا أَرْبَعُ مَرَاتِبَ:
فَأَوَّلُ مَرَاتِبِهَا: عِلْمٌ وَمَعْرِفَةٌ وَاعْتِقَادٌ لِصِحَّةِ المَشْهُودِ بِهِ وَثُبُوتِهِ.
وَثَانِيهَا: تَكَلُّمُهُ بِذَلِكَ -وَإِنْ لَمْ يُعْلِمْ بِهِ غَيرَهُ- بَلْ يَتَكَلَّمُ بِهَا مَعَ نَفْسِهِ، وَيَتَذَكَّرُهَا، وَيَنْطِقُ بِهَا أَو يَكْتُبُهَا.
وَثَالِثُهَا: أَنْ يُعْلِمَ غَيرَهُ بِمَا يَشْهَدُ بِهِ، وَيُخْبِرَهُ بِهِ، وَيُبَيِّنَهُ لَهُ.
وَرَابِعُهَا: أَنْ يُلْزِمَهُ بِمَضْمُونِهَا وَيَأْمُرَهُ بِهَا".
(1)
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (2/ 479): "فَقَولُهُ فِي الآيَةِ وَالحَدِيثِ: {وَرُوحٌ مِنْهُ} كَقَولِهِ: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجَاثِيَة: 13]، أَي: مِنْ خَلْقِهِ وَمِنْ عِنْدِهِ، وَلَيسَتْ (مِنْ) لِلتَّبْعِيضِ! كَمَا تَقُولُهُ النَّصَارَى -عَلَيهِمْ لَعَائِنُ اللهِ المُتَتَابِعَةُ-، بَلْ هِيَ لِابْتِدَاءِ الغَايَةِ، كَمَا فِي الآيَةِ الأُخْرَى، وَقَدْ قَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَولِهِ: {وَرُوحٌ مِنْهُ} أَي: وَرَسُولٌ مِنْهُ. وَقَالَ غَيرُهُ: وَمَحَبَّةٌ مِنْهُ. وَالأَظْهَرُ الأَوَّلُ؛ أنَّه مَخْلُوقٌ مِنْ رُوحٍ مَخْلُوقَةٍ؛ وَأُضِيفَتِ الرُّوحُ إِلَى اللهِ عَلَى وَجْهِ التَّشْرِيفِ كَمَا أُضِيفَتِ النَّاقَةُ وَالبَيتُ إِلَى اللهِ فِي قَولِهِ: {هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ} [هُود: 64]، وَفِي قَولِهِ: {وَطَهِّرْ بَيتِيَ لِلطَّائِفِينَ} [الحَجِّ: 26] ".
إِفْحَامًا بِقَولِهِ تَعَالَى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عِمْرَان: 59]
(1)
.
- قَولُهُ: ((أَدْخَلَهُ اللهُ الجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنَ العَمَلِ)) يَعْنِي عَلَى الَّذِي كَانَ عَلَيهِ مِنَ العَمَلِ -وَلَو كَانَ مقصِّرًا فِيهِ وَعِنْدَهُ ذُنُوبٌ وَعِصْيَانٌ-.
وَقَرِيبٌ مِنْهُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا: ((لَقِّنُوا مَوتَاكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؛ فَإِنَّهُ مَنْ كانَ آخِرَ كَلَامِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ -عِنْدَ المَوتِ- دَخَلَ الجَنَّة يَومًا مِنَ الدَّهْرِ؛ وَإِنْ أَصَابَهُ قَبْلَ ذَلِكَ مَا أَصَابَهُ))
(2)
.
- قَولُهُ: ((حَرَّمَ عَلَى النَّارِ)) إِنَّ التَحْرِيمَ عَلَى النَّارِ فِي نُصُوصِ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يَأْتِي عَلَى دَرَجَتَينِ:
1 -
تَحْرِيمٌ مُؤَبَّدٌ (مُطْلَقٌ): فَهُوَ لَا يَدْخُلُهَا أَبَدًا لِأَنَّهُ قَدْ غُفِرَ لَهُ.
2 -
تَحْرِيمٌ بَعْدَ أَمَدٍ: أَي رُبَّمَا يَدْخُلُهَا ثُمَّ يَحْرُمُ عَلَيهِ البَقَاءُ فِيهَا.
وَالحَدِيثُ هُنَا يَحْتَمِلُ الدَّرَجَتِينِ وَلَكِنْ بِتَوجِيهِ كَلِمَةِ التَّوحِيدِ مِنْ جِهَةِ كَمَالِهَا، وَمِنْ جِهَةِ آخَرِ مَا كَانَ عَلَيهِ مِنْ شَأْنِهَا
(3)
.
(1)
وَمِثْلُهُ قَولُهُ تَعَالَى فِي سُورَة مَرْيَمَ عَنْ جِبْرِيلَ عليه السلام: {فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا} [مَرْيَم: 16 - 19]، فَانْظُرْ كَيفَ وَصَفَهُ اللهُ تَعَالَى بِقَولِهِ:{رُوحَنَا} -مُضَافًا إِلَى جَنَابِهِ تَعَالَى- ثُمَّ انْظُرْ كَيفَ قَالَ جِبْرِيلُ عليه السلام: {إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ} .
(2)
صَحِيحُ مُسْلِمِ (916)، وَاللَّفْظُ بِتَمَامِهِ لِابْنِ حِبَّانَ (3004).
وَبِنَحْوِهَا أَحَادِيثُ الشَّفَاعَةِ الَّتِي فِيهَا خُرُوجُ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ التَّوحِيدِ مِنَ النَّارِ بَعْدَ أَنْ دَخَلُوهَا بِذُنُوبِهِم.
(3)
قَالَ البُخَارِيُّ رحمه الله فِي صَحِيحِهِ (7/ 149) عَقِبَ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ الَّذِي فِيهِ: ((وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟)) "هَذَا عِنْدَ المَوتِ، أَو قَبْلَهُ إِذَا تَابَ وَنَدِمَ وَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؛ غُفِرَ لَهُ".
فَمَنْ مَاتَ عَلَيهَا مُخْلِصًا بِهَا مِنْ قَلْبِهِ؛ مُنَزِّهًا قَلْبَهُ عَنِ الإِصْرَارِ عَلَى المَعَاصِي؛ فَهُوَ الَّذِي يَحْرُمُ عَلَى النَّارِ مُطْلَقًا، خِلَافًا لِمَنْ مَاتَ عَلَيهَا وَلَكِنْ لَمْ يَكْمُلْ تَوحِيدُ قَلْبِهِ؛ وَلَمْ يُنَزِّهْهُ عَنْ مَحَبَّةِ المَعَاصِي؛ وَلَمْ يَتُبْ مِنْهَا.
- حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ هُنَا ضَعِيفُ الإِسْنَادِ
(1)
، وَيُغْنِي عَنْهُ حَدِيثُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرو مَرْفُوعًا: أَنَّ نُوحًا أَوصَى ابْنَهُ؛ فَقَالَ: ((آمُرُكَ بلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؛ فَإِنَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ وَالأَرَضِينَ السَّبْعَ لَو وُضِعْنَ فِي كِفَّةٍ، وَوُضِعَتْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ فِي كِفَّةٍ أُخْرَى لَرَجَحَتْ بِهِنَّ))
(2)
.
- إِنَّ هَذَا الفَضْلَ العَظِيمَ لِكَلِمَةِ التَّوحِيدِ إِنَّمَا هُوَ لِمَنْ قَوِيَتْ فِي قَلْبِهِ وَأَتَى بِكَمَالِهَا، وَهَذِهِ القُوَّةُ هِيَ الَّتِي تَحْرِقُ مَا يُقَابِلُهَا مِنَ الذُّنُوبِ، كَمَا فِي الحَدِيثِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ؛ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:((إِنَّ اللَّهَ سَيُخَلِّصُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي عَلَى رُءُوسِ الخَلَائِقِ يَومَ القِيَامَةِ؛ فَيَنْشُرُ عَلَيهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ سِجِلًّا، كُلُّ سِجِلٍّ مِثْلُ مَدِّ البَصَرِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَتُنْكِرُ مِنْ هَذَا شَيئًا؟ أَظَلَمَكَ كَتَبَتِي الحَافِظُونَ؟ فَيَقُولُ: لَا يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: أَفَلَكَ عُذْرٌ؟ فَيَقُولُ: لَا يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: بَلَى إِنَّ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَةً؛ فَإِنَّهُ لَا ظُلْمَ عَلَيكَ اليَومَ، فَتَخْرُجُ بِطَاقَةٌ فِيهَا: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَيَقُولُ: احْضُرْ وَزْنَكَ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ مَا هَذِهِ البِطَاقَةُ مَعَ هَذِهِ السِّجِلاَّتِ؟! فَقَالَ: إِنَّكَ لَا تُظْلَمُ، قَالَ: فَتُوضَعُ السِّجِلاَّتُ فِي كَفَّةٍ وَالبِطَاقَةُ فِي كَفَّةٍ؛ فَطَاشَتِ السِّجِلاَّتُ، وَثَقُلَتِ البِطَاقَةُ؛ فَلَا يَثْقُلُ مَعَ اسْمِ اللهِ شَيءٌ))
(3)
.
(1)
سَبَقَ ذِكْرُ وَجْهِ ضَعْفِهِ.
(2)
صَحِيحٌ. الأَدَبُ المُفْرَدُ (548). صَحِيحُ الأَدَبِ المُفْرَدِ (426).
(3)
صَحِيحٌ. التِّرْمِذِيُّ (2639). الصَّحِيحَةُ (135).
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ الحَنْبَلِيُّ رحمه الله: "مَنْ جَاءَ مَعَ التَّوحِيدِ بِقُرَابِ الأَرْضِ -وَهُوَ مِلْؤُهَا أَو مَا يُقَارِبُ مِلْأَهَا- خَطَايَا، لَقِيَهُ اللهُ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً، لَكِنْ هَذَا مَعَ مَشِيئَةِ اللهِ عز وجل، فَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِذُنُوبِهِ، ثُمَّ كَانَ عَاقِبَتُهُ أَنْ لَا يُخَلَّدَ فِي النَّارِ، بَلْ يَخْرُجُ مِنْهَا، ثُمَّ يَدْخُلُ الجَنَّةَ. قَالَ بَعْضُهُمْ: المُوَحِّدُ لَا يُلْقَى فِي النَّارِ كَمَا يُلْقَى الكُفَّارُ، وَلَا يَلْقَى فِيهَا مَا يَلْقَى الكُفَّارُ، وَلَا يَبْقَى فِيهَا كَمَا يَبْقَى الكُفَّارُ، فَإِنْ كَمُلَ تَوحِيدُ العَبْدِ وَإِخْلَاصُهُ لِلَّهِ فِيهِ، وَقَامَ بِشُرُوطِهِ كُلِّهَا بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ وَجَوَارِحِهِ، أَو بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ عِنْدَ المَوتِ؛ أَوجَبَ ذَلِكَ مَغْفِرَةَ مَا سَلَفَ مِنَ الذُّنُوبِ كُلِّهَا، وَمَنَعَهُ مِنْ دُخُولِ النَّارِ بِالكُلِّيَّةِ، فَمَنْ تَحَقَّقَ بِكَلِمَةِ التَّوحِيدِ قَلْبُهُ؛ أَخْرَجَتْ مِنْهُ كُلَّ مَا سِوَى اللهِ مَحَبَّةً وَتَعْظِيمًا وَإِجْلَالًا وَمَهَابَةً وَخَشْيَةً وَرَجَاءً وَتَوَكُّلًا، وَحِينَئِذٍ تُحْرَقُ ذُنُوبُهُ وَخَطَايَاهُ كُلُّهَا -وَلَو كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ البَحْرِ-، وَرُبَّمَا قَلَبَتْهَا حَسَنَاتٍ -كَمَا سَبَقَ ذِكْرُهُ فِي تَبْدِيلِ السَّيِّئَاتِ حَسَنَاتٍ-، فَإِنَّ هَذَا التَّوحِيدَ هُوَ الإِكْسِيرُ الأَعْظَمُ، فَلَو وُضِعَتْ مِنْهُ ذَرَّةٌ عَلَى جِبَالِ الذُّنُوبِ وَالخَطَايَا لَقَلَبَهَا حَسَنَاتٍ"
(1)
.
- شَهَادَةُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ تَسْتَلْزِمُ أُمُورًا؛ مِنْهَا:
1 -
تَصْدِيقُهُ فِيمَا أَخْبَرَ -إِذَا ثَبَتَتْ نِسْبَتُهُ إِلَيهِ-.
2 -
امْتِثَالُ أَمْرِهِ دُونَ تَرَدُّدٍ.
وَمِنَ التَّرَدُّدِ المَذْمُومِ: التَّوَقُّفُ عَنِ الامْتِثَالِ وَالتَّطْبِيقِ إِلَى أَنْ يَعْلَمَ هَلِ الأَمْرُ لِلوُجُوبِ أَمْ لِلاسْتِحْبَابِ! وَأَيضًا: التَّوَقُّفُ عَنِ الامْتِثَالِ حَتَّى يَعْلَمَ مَا مَوقِفُ المَذْهَبِ الفُلَانِيِّ مِنْهُ!
(1)
جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (2/ 417) عِنْدَ شَرْحِ الحَدِيثِ الثَّانِي وَالأَرْبَعِينَ.
3 -
اجْتِنَابُ نَهْيِهِ دُونَ تَرَدُّدٍ، وَالحَذَرُ مِنْ قَولِ:"هَذَا لَيسَ فِي القُرْآنِ"! لِقَولِهِ عليه الصلاة والسلام: ((لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ؛ يَأْتِيهِ الأَمْرُ مِنْ أَمْرِي -مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ وَنَهَيتُ عَنْهُ- فَيَقُولُ: لَا نَدْرِي، وَمَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللهِ اتَّبَعْنَاهُ))
(1)
.
4 -
أَنْ لَا يُقدِّمَ قَولَ أَحَدٍ مِنَ البَشَرِ عَلَى قَولِهِ صلى الله عليه وسلم، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنه:(مِنْ هَهُنَا تَرِدُونَ، نَجِيئُكُمْ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ وَتَجِيئُونَ بِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ!)
(2)
.
5 -
أَنْ لَا يَبْتَدِعَ فِي شَرْعِهِ صلى الله عليه وسلم.
وَقَدْ نَقَلَ الشَّاطِبِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (الاعْتِصَامُ) عَنْ مَالِكٍ قَولَهُ: "مَنِ ابْتَدَعَ فِي الإِسْلَامِ بِدْعَةً يَرَاهَا حَسَنَةً؛ فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا خَانَ الرِّسَالَةَ! لِأَنَّ اللهَ يَقُولُ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المَائِدَة: 3]، فَمَا لَمْ يَكُنْ يَومَئِذٍ دِينًا؛ فَلَا يَكُونُ اليَومَ دِينًا"
(3)
.
6 -
أَنْ لَا يَغْلَوَ فِيهِ صلى الله عليه وسلم؛ فَيُعْطِيَهُ مِنْ صِفَاتِ الرُّبُوبِيَّة شَيءٌ -كَالنَّفْعِ وَالضُّرِّ مَثَلًا-!
(1)
صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (23876) عَنِ أَبِي رَافِعٍ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (7172).
(2)
صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (3121)، وَلَفْظُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ قَالَ:(تَمَتَّعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيرِ: (نَهَى أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ عَنِ المُتْعَةِ). فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (مَا يَقُولُ عُرَيَّةُ؟) قَالَ: (يَقُولُ نَهَى أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ عَنِ المُتْعَةِ). فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (أُرَاهُمْ سَيَهْلِكُونَ؛ أَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم؛ وَيَقُولُ: نَهَى أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ!). قَالَ الشَّيخُ صَالِحُ آلِ الشَّيخِ حَفِظَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (التَّمْهِيدُ)(ص 417): "بِإِسْنَادٍ صَحَيحٍ".
وَأَورَدَهُ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ العَسْقَلَانِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ المَطَالِبُ العَالِيَةُ (7/ 96) فَقَالَ: قَالَ إِسْحَاقُ: نَا سُلَيمَانُ بْنُ حَرْبٍ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيكَةَ قَالَ: قَالَ عُرْوَةُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: (وَيحَكَ أَضَلَلْتَ! تَأْمُرُنَا بِالعُمْرَةِ فِي العَشْرِ وَلَيسَ فِيهِنَّ عُمْرَةٌ!) فَقَالَ: (يَا عُرَيُّ؛ فَسَلْ أُمَّكَ). قَالَ: (إِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ لَمْ يَقُولَا ذَلِكَ! وَكَانَا أَعْلَمَ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَتْبَعَ لَهُ مِنْكَ). فَقَالَ: (مِنْ هَهُنَا تَرِدُونَ؛ نَجِيئُكُمْ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَتَجِيئُونَ بِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ!). سَنَدُهُ صَحِيحٌ، وَبَعْضُهُ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالعُمْرَةِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ.
(3)
الاعْتِصَامُ (1/ 64).
قَالَ تَعَالَى عَنْهُ: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأَعْرَاف: 188]
(1)
.
- قَولُهُ: (لَا تُشْرِكُ بِي شَيئًا): (شَيئًا) نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْي تُفِيدُ العُمُومَ؛ أَي: لَا شِرْكًا أَصْغَرَ وَلَا شِرْكًا أَكْبَرَ.
- فَائِدَة 1: إنَّ الحَدِيثَ فِيهِ بَيَانُ مَغْفِرَةِ اللهِ تَعَالَى لِلذُّنُوبِ وَلَو كَانَتْ بِمِقْدَارِ الأَرْضِ، ولَكِنَّ هَذَا مُقَيَّدٌ بِأُمُورٍ:
1 -
أَنْ لَا يُشْرِكَ بِاللهِ تَعَالَى شَيئًا
(2)
.
2 -
أَنْ يَمُوتَ عَلَى ذَلِكَ لِقَولِهِ: ((لَقِيتَنِي)).
3 -
أَنَّ ذَلِكَ مُقَيَّدٌ بِالمَشِيئَةِ لِقَولِ اللهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النِّسَاء: 48].
- فَائِدَة 2: اعْلَمْ أَنَّ مَا أَضَافَهُ اللهُ تَعَالَى إِلَى نَفْسِهِ يَنْقَسِمُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ
(3)
:
(1)
لَمْ نَتَعَرَّضْ لِمَا تَسْتَلْزِمُهُ (شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ) بِخُصُوصِهَا؛ لِأَنَّ كِتَابَ التَّوحِيدِ هَذَا -إِجْمَالًا- قَائِمٌ عَلَى بَيَانِهَا وَتَوضِيحِهَا.
(2)
وَأَيضًا؛ فَإِنَّ التَّوحِيدَ هُوَ سَبَبُ الشَّفَاعَاتِ، فَكُلَّمَا قَوِيَ التَّوحِيدُ كُلَّمَا زَادَتِ الشَّفَاعَةُ فِي حَقَّ العَبْدِ بِفَضْلِ اللهِ تَعَالَى، كَمَا فِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ (99) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ:((أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَومَ القِيَامَةِ: مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ أَو نَفْسِهِ)).
(3)
بِتَصَرُّفٍ مِنْ كِتَابِ الجَوَابُ الصَّحِيحُ لِمَنْ بَدَّلَ دِينَ المَسِيحِ (4/ 71) لِشَيخِ الإِسْلَامِ ابْنِ تَيمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
وَسَبَبُ الاشْتِبَاهِ فِي مِثْلِ هَذِهِ المَسَائِلِ هُوَ أَنَّهُ يُمْكِنُ التَّعْبِيرُ لُغَةً عَنِ المَفْعُولِ بِالصِّفَةِ، فَالمَطَرُ مَفْعُولٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى يَرْحَمُ بِهِ عِبَادَهُ، وَيَصِحُّ بِذَلِكَ وَصْفُ المَطَرِ بِأَنَّهُ رَحْمَةُ اللهِ؛ فَهُوَ مَخْلُوقٌ وَلَيسَ بِصِفَةٍ لَهُ سُبْحَانَهُ، وكَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى -عَنْ صِفَةِ الخَلْقِ مَثَلًا-:{هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [لُقْمَان: 11]، وَلَكِنَّهُ فِي مَقَامٍ آخَرَ وَاعْتِبَارٍ آخَرَ يَكُونُ صِفَةً لَهُ
=
1 -
مَا كَانَ عَينًا قَائِمًا بِنَفْسِهِ؛ فَهُوَ مَخْلُوقٌ، وَالإِضَافَةُ فِيهَا لَهَا حَالَتَانِ:
أ- عَامَّةٌ: مِنْ بَابِ إِضَافَةِ المَخْلُوقِ إِلَى خَالِقِهِ، كَقَولِهِ تَعَالَى:{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الجَاثِيَة: 13]، وَكَقَولِهِ تَعَالَى:{يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [العَنْكَبُوت: 56].
ب- خَاصَّةٌ: لِلتَّشْرِيفِ -رُغْمَ كَونِهِ مَشْمُولًا بِعُمُومِ الإِضَافَةِ السَّابِقِ ذِكْرُهَا-؛ كَقَولِهِ تَعَالَى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيئًا وَطَهِّرْ بَيتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحَجّ: 26]، وَكَقَولِهِ تَعَالَى عَنْ عِيسَى عليه السلام:{وَرُوحٌ مِنْهُ} [النِّسَاء: 171]، فَهَذِهِ الإِضَافَةُ أَيضًا لِلتَّشْرِيفِ وَالتَّزْكِيَةِ، وَكَقَولِهِ تَعَالَى:{فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} [الشَّمْس: 13].
2 -
مَا كَانَ وَصْفًا لِعَينٍ مَخْلُوقَةٍ يَقُومُ بِهَا ذَلِكَ المَعْنَى، وَهَذَا القِسْمُ مَخْلُوقٌ أَيضًا
(1)
.
3 -
مَا كَانَ وَصْفًا لَا يَقُومُ بِغَيرِهِ تَعَالَى -كَالمَحَبَّةِ وَالكَلَامِ وَالرِّضَى وَالغَضَبِ-، كَقَولِهِ تَعَالَى: {قَالَ يَامُوسَى إِنِّي اصْطَفَيتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيتُكَ وَكُنْ
=
سُبْحَانَهُ وَلَيسَتْ مَخْلُوقَةً.
وَقَدْ أَشَارَ البُخَارِيُّ رحمه الله إِلَى ذَلِكَ في صَحِيحِهِ (9/ 134) فَقَالَ: "بَابُ مَا جَاءَ فِي تَخْلِيقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَغَيرِهَا مِنَ الخَلَائِقِ، وَهُوَ فِعْلُ الرَّبِّ تبارك وتعالى وَأَمْرُهُ، فَالرَّبُّ بِصِفَاتِهِ وَفِعْلِهِ وَأَمْرِهِ وَكَلَامِهِ -وَهُوَ الخَالِقُ المُكَوِّنُ-: غَيرُ مَخْلُوقٍ، وَمَا كَانَ بِفِعْلِهِ وَأَمْرِهِ وَتَخْلِيقِهِ وَتَكْوِينِهِ فَهُوَ مَفْعُولٌ مَخْلُوقٌ مُكَوَّنٌ".
(1)
قُلْتُ: كَقَولِهِ تَعَالَى لِمُوسَى عليه السلام: {وَأَلْقَيتُ عَلَيكَ مَحَبَّةً مِنِّي} [طَه: 39]، فَهَذِهِ المَحَبَّةُ الَّتِي جَعَلَهَا اللهُ تَعَالَى فِي قُلُوبِ النَّاسِ لِمُوسَى صلى الله عليه وسلم أَضَافَهَا اللهُ تَعَالَى لِنَفْسِهِ، فَهِي لِلتَّشْرِيفِ وَالتَّزْكِيَةِ، وَهِيَ مَعْنىً قَائِمٌ فِي قُلُوبِ النَّاسِ.
مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الأَعْرَاف: 144]، فَالرِّسَالَةُ وَالكَلَامُ أُضِيفَتَا إِلَى اللهِ تَعَالَى مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى المَوصُوفِ، فَهِيَ لَيسَتْ عَينًا، وَلَا صِفَةً قَائِمَةً بِمَخْلُوقٍ؛ فَتَكُونُ هَذِهِ الصِّفَةُ غَيرَ مَخْلُوقَةٍ لِأَنَّهَا صِفَةُ الخَالِقِ تَعَالَى
(1)
.
(1)
وَانْظُرْ كِتَابَ القَولُ المُفِيدُ (1/ 75) للشَّيخِ ابْنِ عُثَيمِين رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى، وَفِيهِ أَيضًا:"فَالأَعْيَانُ القَائِمَةُ بِنَفْسِهَا وَالمتَّصِلُ بِهَا (مِنَ الصِّفَاتِ) مَخْلُوقَةٌ، وَالوَصْفُ الَّذِي لَمْ يُذْكَرْ لَهُ عَينٌ تَقُومُ بِهِ غَيرُ مَخْلُوقٍ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مِنْ صِفَاتِ اللهِ، وَصِفَاتُ اللهِ غَيرُ مَخْلُوقَةٍ".
مَسَائِلُ عَلَى البَابِ
-
مَسْأَلَةٌ: تَوَاتَرَتِ الأَحَادِيثُ بِأَنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ يَقُولُ: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ" يَدْخُلُ النَّارَ ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْهَا؛ فكَيفَ الجَمْعُ
مَعَ حَدِيثِ عِتْبَانَ الَّذِي فِيهِ بأَنَّ اللهَ تَعَالَى حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ"؟
الجَوَابُ:
إِنَّ الَّذِي يَحْرُمُ عَلَى النَّارِ هُوَ صَاحِبُ الإِخْلَاصِ وَاليَقِينِ فِيهَا؛ الَّذِي يَتَبَرَّأُ بِهَا مِنْ جَمِيعِ مَعَاصِيهِ؛ "فِإِنَّهُ إِذَا قَالَهَا بِإِخْلَاصٍ وَيَقِينٍ تَامٍّ لَمْ يَكُنْ فِي هَذِهِ الحَالِ مُصِرًّا عَلَى ذَنْبٍ أَصْلًا، فَإِنَّ كَمَالَ إِخْلَاصِهِ وَيَقِينِهِ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ اللهُ أَحَبَّ إِلَيهِ مِنْ كُلِّ شَيءٍ، فَإِذًا لَا يَبْقَى فِي قَلْبِهِ إِرَادَةٌ لِمَا حَرَّمَ اللهُ، وَلَا كَرَاهَةٌ لِمَا أَمَرَ اللهُ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَحْرُمُ عَلَى النَّارِ -وَإِنْ كَانَتْ لَهُ ذُنُوبٌ قَبْلَ ذَلِكَ-، فَإِنَّ هَذَا الإِيمَانَ وَهَذَا الإِخْلَاصَ وَهَذِهِ التَّوبَةَ وَهَذِهِ المَحَبَّةَ وَهَذَا اليَقِينَ؛ لَا يَتْرُكُ لَهُ ذَنْبًا إِلَّا مُحِيَ عَنْهُ كَمَا يَمْحُو اللَّيلُ النَّهَارَ، فَإِذَا قَالَهَا عَلَى وَجْهِ الكَمَالِ -المَانِعِ مِنَ الشِّرْكِ الأَكْبَرِ وَالأَصْغَرِ-؛ فَهَذَا غَيرُ مُصِرٍّ عَلَى ذَنْبٍ أَصْلًا؛ فَيُغْفَرُ لَهُ وَيَحْرُمُ عَلَى النَّارِ"
(1)
(2)
.
(1)
نَقَلَهُ مُلَخَّصًا الشَّيخُ عَبْدُ الرَّحْمَن بْنُ حَسَن آل الشَّيخ رحمه الله عَنْ شَيخِ الإِسْلَامِ. فَتْحِ المَجِيدِ (ص 47).
(2)
وَقَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ رحمه الله فِي كِتَابِهِ جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (1/ 524) -عِنْدَ شَرْحِ الحَدِيثِ الخَامِسِ وَالعِشْرِينَ-: "فَإِنَّ تَحَقُّقَ القَلْبِ بِمَعْنَى (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ) وَصِدْقَهُ فِيهَا، وَإِخْلَاصَهُ بِهَا يَقْتَضِي أَنْ يَرْسَخَ فِيهِ تَأَلُّهَ اللهِ وَحْدَهُ إِجْلَالًا؛ وَهَيبَةً؛ وَمَخَافَةً؛ وَمَحَبَّةً؛ وَرَجَاءً؛ وَتَعْظِيمًا؛ وَتَوَكُّلًا؛ وَيَمْتَلِئَ بِذَلِكَ، وَيَنْتَفِيَ عَنْهُ تَأْلُّهُ مَا سِوَاهُ مِنَ المَخْلُوقِينَ، وَمَتَى كَانَ كَذَلِكَ؛ لَمْ يَبْقَ فِيهِ مَحَبَّةٌ وَلَا إِرَادَةٌ وَلَا طَلَبٌ لِغَيرِ مَا يُرِيدُ اللهُ وَيُحِبُّهُ وَيَطْلُبُهُ، وَيَنْتَفِي بِذَلِكَ مِنَ القَلْبِ جَمِيعُ أَهْوَاءِ النُّفُوسِ وَإِرَادَاتِهَا وَوَسَاوِسُ الشَّيطَانِ، فَمَنْ أَحَبَّ شَيئًا وَأَطَاعَهُ؛ وَأَحَبَّ عَلَيهِ وَأَبْغَضَ عَلَيهِ؛ فَهُوَ إِلَهُهُ، فَمَنْ كَانَ لَا يُحِبُّ وَلَا يُبْغِضُ إِلَّا لِلَّهِ،
=
_________
=
وَلَا يُوَالِي وَلَا يُعَادِي إِلَّا لَهُ؛ فَاللَّهُ إِلَهُهُ حَقًّا، وَمَنْ أَحَبَّ لِهَوَاهُ، وَأَبْغَضَ لَهُ، وَوَالَى عَلَيهِ، وَعَادَى عَلَيهِ؛ فَإِلَهُهُ هَوَاهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{أَفَرَأَيتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجَاثِيَة: 23]، قَالَ الحَسَنُ: هُوَ الَّذِي لَا يَهْوَى شَيئًا إِلَّا رَكِبَهُ، وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ الَّذِي كُلَّمَا هَوَى شَيئًا رَكِبَهُ، وَكُلَّمَا اشْتَهَى شَيئًا أَتَاهُ، لَا يَحْجِزُهُ عَنْ ذَلِكَ وَرَعٌ وَلَا تَقْوًى!
وَيُرْوَى مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا: ((مَا تَحْتَ ظِلِّ السَّمَاءِ إِلَهٌ يُعْبَدُ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ مِنْ هَوًى مُتَّبَعٍ))، وَكَذَلِكَ مَنْ أَطَاعَ الشَّيطَانَ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ؛ فَقَدْ عَبَدَهُ، كَمَا قَالَ عز وجل:{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يَس: 60].
فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَحْقِيقُ مَعْنَى قَولِ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ) إِلَّا لِمَنْ لَمْ يَكُنْ فِي قَلْبِهِ إِصْرَارٌ عَلَى مَحَبَّةِ مَا يَكْرَهُهُ اللهُ، وَلَا عَلَى إِرَادَةِ مَا لَا يُرِيدُهُ اللهُ، وَمَتَى كَانَ فِي القَلْبِ شَيءٌ مِنْ ذَلِكَ؛ كَانَ ذَلِكَ نَقْصًا فِي التَّوحِيدِ، وَهُوَ نَوعٌ مِنَ الشِّرْكِ الخَفِيِّ، وَلِهَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَولِهِ تَعَالَى:{أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيئًا} [الأَنْعَامِ: 151] قَالَ: لَا تُحِبُّوا غَيرِي.
وَفِي صَحِيحِ الحَاكِمِ عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قَالَ: ((الشِّرْكُ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ الذَّرِّ عَلَى الصَّفَا فِي اللَّيلَةِ الظَّلْمَاءِ، وَأَدْنَاهُ أَنْ تُحِبَّ عَلَى شَيءٍ مِنَ الجَورِ، وَتُبْغِضَ عَلَى شَيءٍ مِنَ العَدْلِ، وَهَلِ الدِّينُ إِلَّا الحُبُّ وَالبُغْضُ؟ قَالَ اللهُ عز وجل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آلِ عِمْرَانَ: 31]))، وَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ مَحَبَّةَ مَا يَكْرَهُهُ اللهُ وَبُغْضَ مَا يُحِبُّهُ؛ مُتَابَعَةٌ لِلْهَوَى، وَالمُوَالَاةُ عَلَى ذَلِكَ وَالمُعَادَاةُ عَلَيهِ مِنَ الشِّرْكِ الخَفِيِّ.
وَخَرَّجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: ((لَا تَزَالُ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ) تَمْنَعُ العِبَادَ مِنْ سُخْطِ اللهِ مَا لَمْ يُؤْثِرُوا دُنْيَاهُمْ عَلَى صَفْقَةِ دِينِهِمْ، فَإِذَا آثَرُوا صَفْقَةَ دُنْيَاهُمْ عَلَى دِينِهِمْ ثُمَّ قَالُوا:(لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ) رُدَّتْ عَلَيهِمْ، وَقَالَ اللهُ: كَذَبْتُمْ))، فَتَبَيَّنَ بِهَذَا مَعْنَى قَولِهِ صلى الله عليه وسلم:((مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ -صَادِقًا مِنْ قَلْبِهِ-؛ حَرَّمَهُ اللهُ عَلَى النَّارِ))؛ وَأَنَّ مَنْ دَخَلَ النَّارَ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الكَلِمَةِ فَلِقِلَّةِ صِدْقِهِ فِي قَولِهَا، فَإِنَّ هَذِهِ الكَلِمَةَ إِذَا صَدَقَتْ طَهَّرَتْ مِنَ القَلْبِ كُلَّ مَا سِوَى اللهِ، فَمَنْ صَدَقَ فِي قَولِهِ:(لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ) لَمْ يُحِبَّ سِوَاهُ، وَلَمْ يَرْجُ إِلَّا إِيَّاهُ، وَلَمْ يَخْشَ أَحَدًا إِلَّا اللهَ، وَلَمْ يَتَوَكَّلْ إِلَّا عَلَى اللهِ، وَلَمْ تَبْقَ لَهُ بَقِيَّةٌ مِنْ إِيثَارِ نَفْسِهِ وَهَوَاهُ، وَمَتَى بَقِيَ فِي القَلْبِ أَثَرٌ لِسِوَى اللهِ، فَمِنْ قِلَّةِ الصِّدْقِ فِي قَولِهَا".
قُلْتُ: وحَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ السَّابِقِ مَوضُوعٌ، رَوَاهُ الطَّبَرَاِنُّي فِي الكَبِيرِ (8/ 103). ضَعِيفُ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ (39)
=
بَابُ مَنْ حَقَّقَ التَّوحِيدَ دَخَلَ الجَنَّةَ بِغَيرِ حِسَابٍ
وَقَولُ اللهِ تَعَالَى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النَّحْل: 120].
وَقَولُهُ: {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ} [المُؤْمِنُون: 59].
وَعَنْ حُصَينِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ؛ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيرٍ رضي الله عنه؛ فَقَالَ: أَيُّكُمْ رَأَى الكَوكَبَ الَّذِي انْقَضَّ البَارِحَةَ؟ قُلْتُ: أَنَا. ثُمَّ قُلْتُ: أَمَا إِنِّي لَمْ أَكُنْ فِي صَلَاةٍ؛ وَلَكِنِّي لُدِغْتُ. قَالَ: فَمَاذَا صَنَعْتَ؟ قُلْتُ: اَرْتقَيتُ. قَالَ: فَمَا حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكَ؟ قُلْتُ: حَدِيثٌ حَدَّثَنَاهُ الشَّعْبِيُّ. قَالَ: وَمَا حَدَّثَكُمُ الشَّعْبِيُّ؟ قُلْتُ: حَدَّثَنَا عَنْ بُرَيدَةَ بْنِ الحُصَيبِ؛ أَنَّهُ قَالَ: لَا رُقْيَةَ إِلَّا مِنْ عَينٍ أَو حُمَةٍ. قَالَ: قَدْ أَحْسَنَ مَنِ انْتَهَى إِلَى مَا سَمِعَ؛ وَلَكِنْ حَدَّثَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قَالَ: ((عُرِضَتْ عَلَيَّ الأُمَمُ، فَرَأَيتُ النَّبِيَّ وَمَعَهُ الرَّهْطُ، وَالنَّبِيَّ وَمَعَهُ الرَّجُلُ وَالرَّجُلَانِ، وَالنَّبِيَّ وَلَيسَ مَعَهُ أَحَدٌ، إِذْ رُفِعَ لِي سَوَادٌ عَظِيمٌ، فَظَنَنْتُ أَنَّهُمْ أُمَّتِي، فَقِيلَ لِي: هَذَا مُوسَىَ وَقَومُهُ، وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الأُفُقِ، فَنَظَرْتُ؛ فَإِذَا سَوَادٌ عَظِيمٌ، فَقِيلَ لِي: هَذِهِ أُمَّتُكَ؛ وَمَعَهُمْ سَبْعُونَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ
=
وَحَدِيثُ ((الشِّرْكُ أَخْفَى
…
)) صَحِيحٌ مِنْهُ الشَّطْرُ الأَوَّلُ فَقَط. الحَاكِمُ (3148) عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا. انْظُرِ التَّعْلِيقَ عَلَى حَدِيثِ الضَّعِيفَةِ (3755).
وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ أَبِي الدُّنْيَا السَّابِقِ فَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ جِدًّا. مُسْنَدُ أَبِي يَعْلَى (4034) بِتَحْقِيقُ الشَّيخِ حُسَينِ أَسَد حَفِظَهُ اللهُ.
الجَنَّةَ بِغَيرِ حِسَابٍ وَلَا عَذَابٍ)). فنَهَضَ فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ، فَخَاضَ النَّاسُ فِي أُولَئِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: فَلَعَلَّهُمُ الَّذِينَ صَحِبُوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: فَلَعَلَّهُمُ الَّذِينَ وُلِدُوا فِي الإِسْلَامِ فَلَمْ يُشْرِكُوا بِاللهِ، وَذَكَرُوا أَشْيَاءَ. فَخَرَجَ عَلَيهِمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرُوهُ. فَقَالَ:((هُمُ الَّذِينَ لَا يَسْتَرْقُونَ وَلَا يَكْتَوُونَ وَلَا يَتَطَيَّرُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ))، فَقَامَ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ. قَالَ: ((أَنْتَ مِنْهُمْ))، ثُمَّ قَامَ رَجُلٌ آخَرُ فَقَالَ: ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ. فَقَالَ: ((سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ))
(1)
.
(1)
رَوَاهُ البُخَارِيُّ (5705)، وَمُسْلِمٌ (220).
وَقَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي التَّفْسِيرِ (7/ 519): "ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّ فِي هَذِهِ الأُمَّةِ سَبْعِينَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ بِغَيرِ حِسَابٍ".
فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: مَعْرِفَةُ مَرَاتِبِ النَّاسِ فِي التَّوحِيدِ.
الثَّانِيَةُ: مَا مَعْنَى تَحْقِيقِهِ.
الثَّالِثَةُ: ثَنَاؤُهُ سُبْحَانَهُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ بِكَونِهِ لَمْ يَكُ مِنَ المُشْرِكِينَ.
الرَّابِعَةُ: ثَنَاؤُهُ عَلَى سَادَاتِ الأَولِيَاءِ بِسَلَامَتِهِمْ مِنَ الشِّرْكِ.
الخَامِسَةُ: كَونُ تَرْكِ الرُّقْيَةِ وَالكَيِّ مِنْ تَحْقِيقِ التَّوحِيدِ.
السَّادِسَةُ: كَونُ الجَامِعِ لِتِلْكَ الخِصَالِ هُوَ التَّوَكُّلَ.
السَّابِعَةُ: عُمْقُ عِلْمِ الصَّحَابَةِ بِمَعْرِفَتِهِمْ أَنَّهُمْ لَمْ يَنَالُوا ذَلِكَ إِلَّا بِعَمَلٍ.
الثَّامِنَةُ: حِرْصُهُمْ عَلَى الخَيرِ.
التَّاسِعَةُ: فَضِيلَةُ هَذِهِ الأُمَّةِ بِالكَمِّيَّةِ وَالكَيفِيَّةِ.
العَاشِرَةُ: فَضِيلَةُ أَصْحَابِ مُوسَى.
الحَادِيَةَ عَشْرَةَ: عَرْضُ الأُمَمِ عَلَيهِ عليه الصلاة والسلام.
الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: أَنَّ كُلَّ أُمَّةٍ تُحْشَرُ وَحْدَهَا مَعَ نَبِيِّهَا.
الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: قِلَّةُ مَنِ اسْتَجَابَ لِلْأَنْبِيَاءِ.
الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: أَنَّ مَنْ لَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ يَأْتِي وَحْدَهُ.
الخَامِسَةَ عَشْرَةَ: ثَمَرَةُ هَذَا العِلْمِ؛ وَهُوَ عَدَمُ الِاغْتِرَارِ بِالكَثْرَةِ، وَعَدَمُ الزُّهْدِ فِي القِلَّةِ.
السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: الرُّخْصَةُ فِي الرُّقْيَةِ مِنَ العَينِ وَالحُمَةِ.
السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: عُمْقُ عِلْمِ السَّلَفِ؛ لِقَولِهِ: "قَدْ أَحْسَنَ مَنِ انْتَهَى إِلَى مَا سَمِعَ؛ وَلَكِنْ كَذَا وَكَذَا"؛ فَعُلِمَ أَنَّ الحَدِيثَ الأَوَّلَ لَا يُخَالِفُ الثَّانِي.
الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: بُعْدُ السَّلَفِ عَنْ مَدْحِ الإِنْسَانِ بِمَا لَيسَ فِيهِ.
التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: قَولُهُ: ((أَنْتَ مِنْهُمْ)) عَلَمٌ مِنْ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ.
العِشْرُونَ: فَضِيلَةُ عُكَّاشَةَ.
الحَادِيَةُ وَالعِشْرُونَ: اسْتِعْمَالُ المَعَارِيضِ.
الثَّانِيَةُ وَالعِشْرُونَ: حُسْنُ خُلُقِهِ صلى الله عليه وسلم.
الشَّرْحُ
- هَذَا البَابُ أَرْفَعُ رُتْبَةً مِنَ البَابِ السَّابِقِ؛ فَإِنَّ فِيهِ: (مَنْ حَقَّقَ التَّوحِيدَ دَخَلَ الجَنَّةَ بِلَا حِسَابٍ وَلَا عَذَابٍ)، وَتَحْقِيقُ التَّوحِيدِ هُوَ تَصْفِيَةُ التَّوحِيدِ وَالشَّهَادَتَينِ مِنْ شَوَائِبِ الشِّرْكِ وَالبِدَعِ وَالمَعَاصِي.
فَلَا يُكْتَفَى فِيهِ بِتَرْكِ شِرْكِ العُبُودِيَّةِ! بَلْ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ لَا يُشْرِكَ هَوَاهُ فِي الطَّاعَةِ، وَإِذَا أَشْرَكَ المَرْءُ هَوَاهُ أَتَى بِالبِدَعِ وَأَتَى بِالمَعْصِيَةِ، فَصَارَ نَفْيُ الشِّرْكِ هُنَا نَفْيًا لِلشِّرْكِ بِأَنْوَاعِهِ، وَنَفْيًا لِلبِدْعَةِ، وَنَفْيًا لِلمَعْصِيَةِ، وَهَذَا هُوَ تَحْقِيقُ التَّوحِيد للهِ تَعَالَى
(1)
.
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ رحمه الله: "فَجَمِيعُ المَعَاصِي تَنْشَأُ مِنْ تَقْدِيمِ هَوَى النُّفُوسِ عَلَى مَحَبَّةِ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَقَدْ وَصَفَ اللهُ المُشْرِكِينَ بِاتِّبَاعِ الهَوَى فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ، وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} [القَصَص: 50]، وَكَذَلِكَ البِدَعُ؛ إِنَّمَا تَنْشَأُ مِنْ تَقْدِيمِ الهَوَى عَلَى الشَّرْعِ، وَلِهَذَا يُسَمَّى أَهْلُهَا أَهْلَ الأَهْوَاءِ، وَكَذَلِكَ المَعَاصِي إِنَّمَا تَقَعُ مِنْ تَقْدِيمِ الهَوَى عَلَى مَحَبَّةِ اللهِ وَمَحَبَّةِ مَا يُحِبُّهُ اللهُ"
(2)
.
- قَولُهُ: ((لَا يَسْتَرْقُونَ)) أَي: لَا يَطْلُبُونَ الرُّقْيَةَ، وَالطَّالِبُ لِلرُّقْيَةِ فِي قَلْبِهِ مَيلٌ وَتَعَلُّقٌ بِالرَّاقِي حَتَّى يُرْفَعَ مَا بِهِ -أَي: مِنْ جِهَةِ السَّبَبِ-، وَهَذَا التَّعَلُّقُ يُنَافِي كَمَالَ التَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ جل جلاله
(3)
.
(1)
بِتَصَرُّفٍ يَسِيرٍ مِنْ كِتَابِ التَّمْهِيدُ (ص 38) لِلشَّيخِ صَالِحِ آلِ الشَّيخِ حَفِظَهُ اللهُ.
(2)
جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (2/ 397) -شَرْحُ حَدِيثِ رَقَم (41) -.
(3)
أَي: الكَمَالَ المُسْتَحَبَّ، وَهَذَا لَا يَأْثَمُ بِهِ صَاحِبُهُ؛ لَكِنَّهُ خِلَافُ الأَكْمَلِ.
وِإِنَّ مَنْ تَرَكَ طَلَبَ الرُّقْيَةِ -الَّتِي هِيَ فِي أَصْلِهَا جَائِزَةٌ- مِنْ رَجُلٍ حَيٍّ حَاضِرٍ قَادِرٍ عَلَيهَا؛ أَفَلَا يَكُونُ أَبْعَدَ عَنْ أَنْ يَطْلُبَ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيهِ إِلَّا اللهُ مِنْ غَيرِ اللهِ؛ مِنْ مَقْبُورٍ أَو غَائِبٍ؟؟ فَظَهَرَ بِذَلِكَ سِرُّ اسْتِحْبَابِ تَرْكِ طَلَبِ الرُّقْيَةِ؛ وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ كَمَالِ التَّوحِيدِ المُسْتَحَبِّ.
- ذَكَرَ المُؤَلِّفُ فِي هَذَا البَابِ آيَتِينِ، وَمُنَاسَبَتُهُمَا لِلبَابِ: الإِشَارَةُ إِلَى تَحْقِيقِ التَّوحِيدِ، وَأَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِانْتِفَاءِ الشِّرْكِ كُلِّهِ.
- فِي ذِكْرِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام -هُنَا- بَيَانُ أَرْبَعِ صِفَاتٍ لَهُ، وَهِيَ:
1 -
أَنَّهُ كَانَ إِمَامًا، فَهُوَ قُدْوَةٌ لِغَيرِهِ فِي التَّوحِيدِ، فَقَدْ أَتَى بِكَمَالِ التَّوحِيدِ، كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى:{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البَقَرَة: 124]، وَقَولِهِ تَعَالَى:{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [المُمْتَحَنَة: 4]
(1)
.
(1)
قَالَ الإِمَامُ ابْنُ القَيِّمِ رحمه الله: "وَالفَرْقُ بَينَ الأُمَّةِ وَالإِمَامِ مِن وَجْهَينِ:
أَحَدِهِمَا: أَنَّ الإِمَامَ كُلُّ مَا يُؤْتَمُّ بِهِ سَوَاءً كَانَ بِقَصْدِهِ وَشُعُورِهِ أَوْ لَا، وَمِنْهُ سُمِّيَ الطَّرِيقُ إِمَامًا كَقَولِهِ تَعَالَى:{وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيكَةِ لَظَالِمِينَ * فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ} [الحِجْر: 78 - 79] أَي: بِطَرِيقٍ وَاضِحٍ لَا يَخْفَى عَلَى السَّالِكِ، وَلَا يُسَمَّى الطَّرِيقُ أُمَّةً!
الثَّانِي: أَنَّ الأُمَّةَ فِيهِ زِيَادَةُ مَعْنًى، وَهُوَ الَّذِي جَمَعَ صِفَاتِ الكَمَالِ مِن العِلْمِ وَالعَمَلِ بِحَيثُ بَقِيَ فِيهَا فَرْدًا وَحْدَهُ، فَهُوَ الجَامِعُ لِخِصَالٍ تَفَرَّقَتْ فِي غَيرِهِ، فَكَأَنَّهُ بَايَنَ غَيرَهُ بِاجْتِمَاعِهِا فِيهِ وَتَفَرُّقِهَا أَوْ عَدَمِهَا فِي غَيرِهِ، وَلَفْظُ (الأُمَّةُ) يُشْعِرُ بِهَذَا المَعْنَى لِمَا فِيهِ مِن المِيمِ المُضَعَّفَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الضَّمِّ بِمَخْرَجِهَا وَتَكْرِيرِهَا، وَكَذَلِكَ ضَمُّ أَوَّلِه؛ فَإِنَّ الضَّمَّةَ مِن الوَاوِ وَمَخْرَجِها يَنْضَمُّ عِنْدَ النُّطْقِ بِهَا، وَأَتَى بِالتَّاءِ الدَّالَّةِ عَلَى الوِحْدَةِ كَالغُرْفَةِ وَاللُّقْمَةِ، وَمِنْهُ الحَدِيثُ:((إِنَّ زَيدَ بنَ عَمرِو بْنِ نُفَيلٍ يُبْعَثُ يَومَ القِيَامَةِ أُمَّةً وَحْدَهُ))، فَالضَّمُّ وَالاجْتِمَاعُ لَازِمٌ لِمَعْنَى الأُمَّةِ، وَمِنْهُ سُمِّيَتِ الأُمَّةُ الَّتِي هِي آحَادُ الأُمَمِ لأَنَّهُم النَّاسُ المُجْتَمِعُونَ عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ أَو فِي عَصْرٍ وَاحِدٍ". مِفْتَاحُ دَارِ السَّعَادَةِ (1/ 174).
قُلْتُ: وَالحَدِيثُ المَذْكُورُ رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى (973)، وَأَوْرَدَهُ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله فِي صَحِيحِ السِّيرَةِ (ص 94).
2 -
أَنَّهُ كَانَ قَانِتًا للهِ، أَي: دَائِمَ الطَّاعَةِ للهِ.
3 -
أَنَّهُ كَانَ حَنِيفًا
(1)
؛ أَي: مَائِلًا عَنْ سَبِيلِ المُشْرِكِينَ؛ وَالَّذِي هُوَ الابْتِدَاعُ وَالقَولُ عَلَى اللهِ بِلَا عِلْمٍ.
4 -
أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنَ المُشْرِكِينَ، فَهُوَ لَمْ يَجْعَلْ مَعَ اللهِ مَعْبُودًا آخَرَ.
فَفِي الآيَةِ التَّنْبِيهُ عَلَى إِمَامَتِهِ، وَذَلِكَ لِكَونِهِ دَائِمَ الطَّاعَةِ للهِ تَعَالَى؛ مُوَافِقًا لِشِرْعَةِ رَبِّهِ؛ غَيرَ مُشْرِكٍ بِهِ، وَإِنَّ التَّنْبِيهَ عَلَى إِمَامَتِهِ هُوَ إِرْشَادٌ إِلَى تَمَامِ الدِّينِ بِذَلِكَ.
- لَا بُدَّ مِنَ العِلْمِ أَنَّ ثَنَاءَ اللهِ تَعَالَى عَلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ لَا يُقْصَدُ مِنْهُ مُجَرَّدُ الثَّنَاءِ عَلَيهِ، وَلَكِنْ يُقْصَدُ بِهِ أَيضًا مَحَبَّتُهُ، وَالاقْتِدَاءُ بِهِ.
- الحُمَةُ -بِضَمِّ الحَاءِ المُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ المِيمِ-: هِيَ سُمُّ العَقْرَبِ وَشَبَهُهَا.
- فِي عَرْضِ الأُمَمِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَيَانُ فَضِيلَتِهِ صلى الله عليه وسلم وَكَثْرَةِ أَتْبَاعِهِ؛ وَأَيضًا تَسْلِيَتُهُ فِي أَنَّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ مَنْ لَمْ يَأْتِ مَعَهُ أَحَدٌ؛ وَأَنَّ اللهَ تَعَالَى أَيضًا نَاصِرُهُ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ وَخَذَلَهُ.
- حَدِيثُ البَابَ جَاءَ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ بِلَفْظِ: ((فَاسْتَزَدْتُ رَبِّي عز وجل؛ فَزادَنِي مَعَ كلِّ واحِدٍ سَبْعِينَ ألْفًا))
(2)
، وَفِي لَفْظٍ أَيضًا ((مَعَ كُلِّ أَلْفٍ سَبْعُونَ أَلْفًا؛ وَثَلَاثَ حَثَيَاتٍ مِن حَثَيَاتِ رَبِّي))
(3)
.
(1)
قَالَ فِي لِسَانِ العَرَبِ (9/ 57): "مَعْنَى الحَنِيفِيَّةِ فِي اللُّغَةِ: المَيلُ، وَالمَعْنَى: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ حَنَفَ إِلَى دِينِ اللَّهِ وَدِينِ الإِسْلَامِ، وَإِنَّمَا أُخِذَ الحَنَفُ مِنْ قَولِهِمْ: رَجُلٌ أَحْنَفُ، وَرِجْلٌ حَنْفاءُ، وَهُوَ الَّذِي تَمِيلُ قَدَمَاهُ كُلُّ وَاحِدَةٍ إِلَى أُخْتِهَا بِأَصَابِعِهَا".
(2)
صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (22). الصَّحِيحَةُ (1484).
(3)
صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (22303). الصَّحِيحَةُ (1909).
- دَرَجَاتُ النَّاسِ عِنْدَ الرُّقْيَةِ:
1 -
مَنْ يَطْلُبُهَا، وَهَذَا قَدْ فَاتَهُ الكَمَالُ.
2 -
أَنْ لَا يَمْنَعْ مَنْ يَرْقِيهِ، وَهَذَا لَمْ يَفُتْهُ الكَمَالُ.
3 -
أَنْ يَمْنَعْ مَنْ يَرْقِيهِ، وَهَذَا خِلَافُ السُّنَّةِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَمْنَعْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنْ تَرْقِيَهُ
(1)
.
- فِي الحَدِيثِ جَوَازُ اسْتِعْمَالِ المَعَارِيضِ
(2)
، وَذَلِكَ لِقَول الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم:((سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ))؛ فَإِنَّ هَذَا فِي الحَقِيقَةِ لَيسَ هُوَ المَانِعَ الحَقِيقِيَّ، بَلِ المَانِعُ هُوَ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ هَذَا الرَّجُلُ مُنَافِقًا فَلَمْ يُرِدِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُجِيبَهُ إِلَيهَا، وَإِمَّا خَوفًا مِنِ فَتْحِ هَذَا البَابِ؛ فَيَسْتَرْسِلُ النَّاسُ بِذَلِكَ؛ فَيَسْأَلُ هَذِهِ المَرْتَبَةَ مَنْ لَيسَ مِنْ أَهْلِهَا!
- (الأُمَّةُ): تُطْلَقُ عَلَى كُلِّ جَمَاعَةٍ يَجْمَعُهُم أَمْرٌ مِنَ الأُمُورِ؛ إِمَّا دِينٌ، أَو زَمَانٌ، أَو مَكَانٌ، وَأَيضًا يُطْلَقُ عَلَى الإِمَامِ القُدْوَةِ، وَأَدِلَّتُهَا كَمَا يَلِي:
1 -
الجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ فِي المَكَانِ الوَاحِدِ، قَالَ تَعَالَى:{وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ} [القَصَص: 23].
2 -
المِلَّةُ وَالدِّينُ، قَالَ تَعَالَى:{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزُّخْرُف: 23].
3 -
الفَتْرَةُ مِنَ الزَّمَنِ، قَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ
(1)
فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ (2192) -بَابُ رُقيَةِ المَرِيضِ بِالمُعَوِّذَاتِ وَالنَّفْثِ- عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: (كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا مَرِضَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهِ نَفَثَ عَلَيهِ بِالمُعوِّذَاتِ، فَلَمَّا مَرِضَ -مَرَضَه الَّذِي مَاتَ فِيهِ- جَعَلْتُ أَنْفُثُ عَلَيهِ وَأَمْسَحُهُ بِيَدِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ أعَظْمَ بَرَكةً مِنْ يَدِي).
(2)
كَمَا فِي الأَثَرِ: (إِنَّ فِي المَعَارِيضِ لَمَنْدُوحَةً عَنِ الكَذِبِ). صَحِيحٌ. البَيهَقِيُّ فِي الكُبْرَى (20842) عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَينٍ مَوقُوفًا. اُنْظُرِ التَّعْلِيقَ عَلَى حَدِيثِ الضَّعِيفَةِ (1094).
بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ} [يُوسُف: 45].
4 -
الإِمَامُ القُدْوَةُ المُتَّبَعُ، قَالَ تَعَالَى:{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا} [النَّحْل: 120]
(1)
.
- قَولُهُ: (عُكَّاشَةُ) - بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ - لُغَتَانِ.
(1)
مُسْتَفَادٌ مِنْ شَرْحِ الشَّيخِ الغُنَيمَانِ حَفِظَهُ اللهُ عَلَى كِتَابِ فَتْحُ المَجِيدِ، شَرِيطُ رَقَم (16) شَرْحُ البَابِ.
جُمْلَةٌ مِنَ الفَوَائِدِ عَلَى البَابِ:
- فَائِدَة 1: فِي البُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ لَفْظُ: ((مُتَمَاسِكِينَ، آخِذٌ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ حَتَّى يَدْخُلَ أَوَّلُهُمْ وَآخِرُهُمُ الجَنَّةَ، وَوُجُوهُهُمْ عَلَى ضَوءِ القَمَرِ لَيلَةَ البَدْرِ))
(1)
.
- فَائِدَة 2: فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ؛ أَنَّهُ (رُخِّصَ فِي الحُمَةِ وَالنَّمْلَةِ وَالعَينِ)
(2)
(3)
، وَفِي هَذَا دِلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ يُلْحَقُ بِالسُّمِّ كُلُّ مَا عَرَضَ لِلبَدَنِ مِنْ قَرْحِ وَنَحْوِهِ مِنَ المَوَادِ السُّمِّيَّةِ
(4)
.
- فَائِدَة 3: إِنَّ طَلَبَ عُكَّاشَةَ الدُّعَاءَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَا يَنْفِي عَنْهُ كَونَهُ مِنَ السَّبْعِينَ أَلْفًا! وَذَلِكَ لِأَنَّ دُعَاءَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم لَيسَ كَدُعَاءِ غَيرِهِ، وَلَعَلَّهُ يَنْدَرِجُ تَحْتَ قَاعِدَةِ:"مَا مُنِعَ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ؛ فَإِنَّهُ يُبَاحُ لِلمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ"
(5)
(6)
.
(1)
البُخَارِيُّ (6543).
(2)
مُسْلِمٌ (2196).
(3)
"النَّمْلَةُ: قُرُوحٌ تَخْرُجُ فِي الجَنْبَينِ، وَهُوَ دَاءٌ مَعْرُوفٌ، وَسُمِّيَ نَمْلَةً؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ يُحِسُّ فِي مَكَانِهِ كَأَنَّ نَمْلَةً تَدِبُّ عَلَيهِ وَتَعَضُّهُ". زَادُ المَعَادِ (4/ 169)، وَهُوَ نَوعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الأَكْزِيمَا، وَيُعْرَفُ اليَومَ بِالْتِهَابِ الجِلْدِ الدُّهْنِيِّ.
(4)
مُسْتَفَادٌ مِنْ رِسَالَةِ التَّبَرُّكُ (ص 223) لِلشَّيخِ نَاصِرِ الجديع.
(5)
وَقَدْ ذَكَرَ هَذِهِ القَاعِدَةَ ابْنُ القيَّمِ رحمه الله فِي كِتَابِهِ إِعْلَامُ المُوَقِّعِينَ (2/ 108).
(6)
وَذَلِكَ لِأَنَّ دُعَاءَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَيسَ كَدُعَاءِ غَيرِهِ.
وَمِثْلُهُ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (2542) عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رضي الله عنه؛ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ((إِنَّ خَيرَ التَّابِعِينَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ أُوَيسٌ، وَلَهُ وَالِدَةٌ هُوَ بِهَا بَرٌّ، لَو أقْسَمَ عَلَى اللهِ لأَبرَّهُ، وَكَانَ بِهِ بَيَاضٌ، فُمُرُوهُ فَلْيَسْتَغْفِرْ لَكُمْ))، فَلَمَّا لَقِيَهُ عُمَرُ قَالَ الحَدِيثَ، ثُمَّ قَالَ:(فَاسْتَغْفِرْ لِي)، فَاسْتَغْفَرَ لَهُ.
وَعِنْدِي أَيضًا وَجْهٌ آخَرُ فِي ذَلِكَ: وَهُوَ أَنَّ المَنْعَ هُوَ بِاعْتِبَارِ الدَّيدَنِ وَكَثْرَةِ الطَّلَبِ، فَيَخْرُجُ مِنْهُ مَا كَانَ عَارِضًا كَمَصْلَحَةٍ أَو عَلَى سَبِيلِ النُّدْرَةِ، وَمِنْ هَذَا الضَّرْبِ -فِي جَعْلِهِ دَيدَنًا- مَا اشْتُهِرَ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ بِقَولِهِم:(اُدْعُ لَنَا) كُلَّمَا رَآكَ أَو فَارَقَكَ. وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَنَقَلَ الشَّاطِبِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (الاعْتِصَامُ)
(1)
مِنْ كِتَابِ (التَّهْذِيب) لِلطَّبَرِيِّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى كَثِيرًا مِنَ الآثَارِ أَنَّ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيهِم- كَانُوا يَكْرَهُونَ تَقَصُّدَ النَّاسِ لَهُم لِلدُّعَاءِ، وَيَقُولُونَ لَهُم:(لَسْنَا بِأَنْبِيَاءٍ! أَنَحْنُ أَنْبِيَاءُ؟!).
- فَائِدَة 4: فِي مَسْأَلَةِ التَّدَاوِي قَالَ شَيخُ الإِسْلَامِ رحمه الله فِي مَجْمُوعِ الفَتَاوَى
(2)
: "فَإِنَّ النَّاسَ قَدْ تَنَازَعُوا فِي التَّدَاوِي هَلْ هُوَ مُبَاحٌ، أَو مُسْتَحَبٌّ، أَو وَاجِبٌ؟
وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ مِنْهُ مَا هُوَ مُحَرَّمٌ، وَمِنْهُ مَا هُوَ مَكْرُوهٌ، وَمِنْهُ مَا هُوَ مُبَاحٌ، وَمِنْهُ مَا هُوَ مُسْتَحَبٌّ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْهُ مَا هُوَ وَاجِبٌ، وَهُوَ: مَا يُعْلَمُ أَنَّهُ يَحْصُلُ بِهِ بَقَاءُ النَّفْسِ لَا بِغَيرِهِ؛ كَمَا يَجِبُ أَكْلُ المَيتَةِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ؛ فَإِنَّهُ وَاجِبٌ عِنْد الأَئِمَّةِ الأَرْبَعَةِ وَجُمْهُورِ العُلَمَاءِ، وَقَدْ قَالَ مَسْرُوقٌ: مَنْ اُضْطُرَّ إلَى أَكْلِ المَيتَةِ؛ فَلَمْ يَأْكُلْ حَتَّى مَاتَ! دَخَلَ النَّارَ. فقَدْ يَحْصُلُ أَحْيَانًا لِلْإِنْسَانِ إذَا اسْتَحَرَّ المَرَضُ مَا إنْ لَمْ يَتَعَالَجْ مَعَهُ مَاتَ،
(1)
الاعْتِصَامُ (1/ 501)، وَقَالَ أَيضًا رحمه الله:"وَيَدُلُّكَ عَلَى هَذَا مَا رُوِيَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه؛ أَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ الشَّامَ أَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: اسْتَغْفِرْ لِي؛ فَقَالَ: (غَفَرَ لَكَ)، ثُمَّ أَتَاهُ آخَرُ فَقَالَ: اسْتَغْفِرْ لِي؛ فَقَالَ: (لَا غَفَرَ اللهُ لَكَ وَلَا لِذَاكَ؛ أَنَبِيٌّ أَنَا؟!)، فَهَذَا أَوضَحَ فِي أَنَّهُ فَهِمَ مِنَ السَّائِلِ أَمْرًا زَائِدًا؛ وَهُوَ أَنْ يُعْتَقَدَ فِيهِ أَنَّهُ مِثْلُ النَّبِيِّ! أَو أَنَّهُ وَسِيلَةٌ إِلَى أَنْ يُعْتَقَدَ ذَلِكَ، أَو يُعْتَقَدَ أَنَّهُ سُنَّةٌ تَلْزَمُ! أَو يَجْرِي فِي النَّاسِ مَجْرَى السُّنَنِ المُلْتَزَمَةِ! وَذَلِكَ يُخْرِجُ المَشْرُوعَ عَنْ كَونِهِ مَشْرُوعًا، وَيُؤَدِّي إِلَى التَّشيُّعِ وَاعْتِقَادِ أَكْثَرَ مِمَّا يُحْتَاجُ إِلَيهِ، وَقَدْ تَبيَّنَ هَذَا المَعْنَى بِحَدِيثٍ رَوَاهُ ابْنُ عُلَيَّةَ عَنِ ابْنِ عَونٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى إِبْرَاهِيمَ؛ فَقَالَ: يَا أَبَا عِمْرَانَ! اُدْعُ اللهَ أَنْ يَشْفِيَنِي، فَكَرِهَ ذَلِكَ إِبْرَاهِيمُ وَقَطَبَ، وَقَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى حُذَيفَةَ فَقَالَ: اُدْعُ اللهَ أَنْ يَغْفِرَ لِي فَقَالَ: (لَا غَفَرَ اللهُ لَكَ). فَتَنَحَّى الرَّجُلُ فَجَلَسَ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ قَالَ: (فَأَدْخَلَكَ اللهُ مُدْخَلَ حُذَيفَةَ، أَقَدْ رَضِيتَ؟) .... وَهَذِهِ الآثَارُ مِنْ تَخْرِيجِ الطَّبَرِيِّ فِي تَهْذِيبِهِ".
(2)
مَجْمُوعُ الفَتَاوَى (18/ 12).
وَالعِلَاجُ المُعْتَادُ تَحْصُلُ مَعَهُ الحَيَاةُ كَالتَّغْذِيَةِ لِلضَّعِيفِ وَكَاسْتِخْرَاجِ الدَّمِ أَحْيَانًا"
(1)
.
- فَائِدَة 5: حَدِيثُ دُخُولِ السَّبْعِينَ أَلْفًا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَرْتَبَتَهُم أَعْلَى مِنْ مَرْتَبَةِ غَيرِهِم مُطْلَقًا، وَذَلِكَ لِمَا فِي الحَدِيثِ عَنْ رِفَاعَةَ الجُهَنِيِّ قَالَ: صَدَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: ((وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا مِنْ عَبْدٍ يُؤْمِنُ ثُمَّ يُسَدِّدُ إِلَّا سُلِكَ بِهِ فِي الجَنَّةِ، وَأَرْجُو أَنْ لَا يَدْخُلَهَا أَحَدٌ حَتَّى تَبَوَّؤُوا أَنْتُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ ذُرِّيَاتِكُمْ مَسَاكِنَ فِي الجَنَّةِ، وَلَقَدْ وَعَدَنِي رَبِّي أَنْ يُدْخِلَ الجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعِينَ أَلْفًا بِغَيرِ حِسَابٍ))
(2)
. وَالشَّاهِدُ مِنْهُ هُوَ فِي قَولِهِ: ((أَنْ لَا يَدْخُلَهَا أَحَدٌ حَتَّى تَبَوَّؤُوا أَنْتُمْ)) فَفِيهِ بَيَانُ أَنَّ مَنْزِلَةَ الصَّحَابَةِ فَوقَ مَنْزِلَةِ أُولَئِكَ مُطْلَقًا.
- فَائِدَة 6: مَعْنَى (لَا رُقْيَةَ إِلَّا مِنْ عَينٍ أَو حُمَةٍ): أَي: لَا رُقْيَةَ أَشْفَى وَأَولَى مِنْ رُقْيَةِ العَينِ وَالحُمَةِ. نَقَلَهُ النَّوَوِيُّ عَنِ الخَطَّابِيِّ رَحِمَهُمَا اللهُ تَعَالَى، وَكَذَا قَالَ البَغَوِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (شَرْحُ السُّنَّةِ)
(3)
.
- فَائِدَة 7: قَولِ المُصَنِّفِ رحمه الله فِي المَسْأَلَةِ العَاشِرَةِ فِي قَولِهِ: (فَضِيلَةُ أَصْحَابِ مُوسَى) صَوَابُهُ: (كَثْرَةُ)
(4)
.
(1)
قَالَ الشَّيخُ ابْنُ عُثَيمِين رحمه الله: "التَّدَاوِي عَلَى أَقْسَامٍ:
فَإِذَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ نَفْعُ الدَّوَاءِ -مَعَ احْتِمَالِ الهَلَاكِ بِتَرْكِهِ- فَالتَّدَاوِي وَاجِبٌ.
وَإِنْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ نَفْعُ الدَّوَاءِ -وَلكِنْ لَيسَ هُنَاكَ احْتِمَالٌ لِلْهَلَاكِ بِتَرْكِ الدَّوَاءِ- فَالتَّدَاوِي أَفْضَلُ.
وَإِنْ تَسَاوَى الأَمْرَانِ؛ فَتَرْكُ التَّدَاوِي أَفْضَلُ". اُنْظُرْ مَجْمُوعَ فَتَاوَى الشَّيخِ ابْنِ عُثَيمِين رحمه الله (13/ 17).
(2)
صَحِيحٌ. ابْنُ مَاجَه (4285). الصَّحِيحَة (2405).
وَقَوْلُهُ (صَدَرْنَا)؛ أَي: رَجَعْنَا مِنْ غَزْوٍ أَوْ سَفَرٍ.
(3)
شَرْحُ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ (3/ 93)، شَرْحُ السُّنَّةِ لِلبَغَوِيِّ (12/ 162).
(4)
القَولُ المُفِيدُ (1/ 108).
- فَائِدَة 8: وَقَعَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ
(1)
زِيَادَةُ لَفْظِ: ((لَمَّا أُسْرِيَ)) -فِي حَدِيثِ السَّبْعِينَ أَلْفًا- وَهِيَ زِيَادَةٌ شَاذَّةٌ سَنَدًا، كَمَا ذَهَبَ إِلَيهِ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ، وَكَذَا الإِمَامُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُمَا اللهُ تَعَالَى
(2)
.
- فَائِدَة 9: لَا كَرَاهَةَ مُطْلَقًا فِي طَلَبِ الرُّقْيَةِ لِلغَيرِ -وَلِيسَ للنَّفْسِ- وَذَلِكَ لِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى فِي بَيتِهَا جَارِيَةً فِي وَجْهِهَا سَفْعَةٌ؛ فَقَالَ: ((اسْتَرْقُوا لَهَا؛ فَإِنَّ بِهَا النَّظْرَةَ))
(3)
.
- فَائِدَة 10: الرُّقيةُ هِيَ مِنْ جُمْلَةِ أَسْبَابِ الشِّفَاءِ -وَإِنْ كَانَتْ ظَنِّيَّةً- وَلَكِنَّهَا تَزيدُ عَلَى غَيرِهَا بِأنَّهَا عِبَادَةٌ فِي نَفْسِهَا
(4)
، كَمَا فِي الحَدِيثِ:((الدُّعَاءُ هُوَ العِبَادَةُ))
(5)
(6)
.
- فَائِدَة 11: فِي بَيَانِ سَبَبِ كَرَاهَةِ طَلَبِ الرُّقيَةِ والاكْتِوَاءِ:
قَالَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله عِنْدَ حَدِيثِ ((مَنِ اكْتَوَى أَوِ اسْتَرْقَى فَقَدْ بَرِئَ مِنَ التَّوَكُّلِ))
(7)
: "قُلْتُ: وَفِيهِ كَرَاهَةُ الاكْتِوَاءِ وَالاسْتِرْقَاءِ، أَمَّا الأَوَّلُ؛ فَلِمَا فِيهِ مِنَ التَّعْذِيبِ بِالنَّارِ.
(1)
سُنَنُ التِّرْمِذِيِّ (2446). صَحِيحُ وَضَعِيفُ سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ (2446).
(2)
فَتْحُ البَارِي (11/ 407)، وَالإِسْرَاءُ وَالمِعْرَاجُ لِلأَلْبَانِيُّ (ص 84).
(3)
البُخَارِيُّ (5739) عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ.
وَلِتَمَامِ الفَائِدَةِ انْظُرْ أَشْرِطَةَ فَتَاوَى سِلْسِلَةِ الهُدَى وَالنُّورِ (شَرِيط 628) مِنْ فَتَاوَى الشَّيخِ الأَلْبَانِيِّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
(4)
انْظُرْ أَشْرِطَةَ فَتَاوَى سِلْسِلَةِ الهُدَى وَالنُّورِ (شَرِيط 628) مِنْ فَتَاوَى الشَّيخِ الأَلْبَانِيِّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
(5)
صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (18436) عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (3407).
(6)
أَمَّا قَولُ المُصَنِّفِ رحمه الله فِي المَسَائِلِ "الرُّخْصَةُ فِي الرُّقْيَةِ مِنَ العَينِ وَالحُمَةِ"؛ فَالوَاقِعُ أَنَّ الرُّخْصَةَ مِنَ الرُّقْيَةِ عَامَّةٌ وَلَيسَتْ مِنَ العَينِ وَالحُمَةِ فَقَط. مُسْتَفَادٌ مِنْ شَرْحِ الشَّيخِ الغُنَيمَانِ حَفِظَهُ اللهُ عَلَى كِتَابِ فَتْحُ المَجِيدِ شَرِيطُ رَقَم (18) شَرْحُ البَابِ.
(7)
صَحِيحٌ. التِّرْمِذِيُّ (2055) عَنِ المُغِيرةِ بْنِ شُعْبَةَ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَة (244).
وَأَمَّا الآخَرُ؛ فَلِمَا فِيهِ مِنَ الاحْتِيَاجِ إِلَى الغَيرِ فِيمَا الفَائِدَةُ فِيهِ مَظْنُونَةٌ غَيرُ رَاجِحَةٍ"
(1)
.
- فَائِدَة 12: وَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ زِيَادَةُ لَفْظِ: ((وَلَا يَرْقُونَ))
(2)
، وَهِيَ زِيَادَةٌ شَاذَّةٌ سَنَدًا وَمَتْنًا.
قَالَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله فِي الضَّعِيفَةِ: "وَلَا يَخْدُجُ فِيمَا ذَكَرْتُ مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لِمْسْلِمٍ فِي حَدِيثِ ابْنِ عبَّاسٍ المُشَارِ إِلَيهِ آنِفًا مِنَ الجَمْعِ بَينَ: ((لَا يَرْقُونَ)) وَ ((لَا يَسْتَرْقُونَ))! فَإِنَّهَا رِوَايَةٌ شَاذَّةٌ، أَخْطَأَ فِيهَا أَحَدُ رُوَاتِهِ عِنْدَهُ؛ فَغيَّرَ الحَدِيثَ فَزَادَ وَأَنْقَصَ، زَادَ ((لَا يَرْقُونَ)) وَأَسْقَطَ ((لَا يَكْتَوُونَ))!! خِلَافًا لِرِوَايَةِ الجَمَاعَةِ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِينَ رَوُوهُ بِلَفْظِ:((لَا يَسْتَرْقُونَ، وَلَا يَكْتَوُونَ)).
وَإِنَّ مِمَّا يُؤَكِّدُ الشُّذُوذَ المَذْكُورَ مُخَالَفَتُهُ لِسَائِرِ الأَحَادِيثِ الوَارِدَةِ فِي البَابِ مِثْلَ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَينٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَأَبِي عَوَانَةَ وَغَيرِهِمَا؛ وَحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ البُخَارِيِّ فِي الأَدَبِ المُفْرَدِ وَغَيرِهِ؛ فَلَيسَ فِيهِمَا الجَمْعُ بَينَ اللَّفْظَينِ المَذْكُورَينِ، بَلْ إِنَّهُمَا وُفْقَ حَدِيثِ ابْنِ عبَّاسٍ عِنْدَ الجَمَاعَةِ، فَذَلِكَ كُلُّهُ يُؤَكِّدُ شُذُوذَ لَفْظِ ((لَا يَرْقُونَ)) مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِلسُّنَّةِ العَمَلِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ"
(3)
.
وَقَالَ أَيضًا رحمه الله فِي صَحِيح الجَامِعِ: "قَولُهُ ((لَا يَرْقُونَ)) هُوَ مِمَّا تَفَرَّدَ بِهِ مُسْلِمٌ دُونَ البُخَارِيِّ وَغَيرِهِ، ثُمَّ هُوَ شَاذٌّ سَنَدًا وَمَتْنًا -كَمَا بيَّنْتُهُ فِي مَحَلٍّ آخَرَ- وَحَسْبُكَ دَلِيلًا عَلَى شُذُوذِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ رَقَى غَيرَهُ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ! "
(4)
.
وَقَالَ ابْنُ القَيِّمِ رحمه الله: "وَرُبَّمَا كَانَ يَقُولُ ((كَفَّارَةٌ وَطَهُورٌ))، وَكَانَ يَرْقِي مَنْ بِهِ قُرْحَةٌ
(1)
السِّلْسِلَةُ الصَّحِيحَة (244)، وَسَيَأْتِي مَزِيدُ بَيَانٍ فِي بَابِ الكَلَامِ عَنِ التَّوَكُّلِ -إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى-.
(2)
مُسْلِمٌ (220).
(3)
الضَّعِيفَةُ (3690).
(4)
صَحِيح الجَامِعِ (3999).
أَو جُرْحٌ أَو شَكْوَى؛ فَيَضَعُ سَبَّابَتَهُ بِالأَرْضِ ثُمَّ يَرْفَعُهَا وَيَقُولُ: ((بِسْمِ اللهِ، تُرْبَةُ أَرْضِنَا؛ بِرِيقَةِ بَعْضِنَا؛ يُشْفَى سَقِيمُنَا بِإِذْنِ رَبِّنَا)) هَذَا فِي الصَّحِيحَينِ، وَهُوَ يُبْطِلُ اللَّفْظَةَ الَّتِي جَاءَتْ فِي حَدِيثِ السَّبْعِينَ أَلْفًا الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ بِغَيرِ حِسَابٍ وَأَنَّهُمْ لَا يَرْقُونَ وَلَا يَسْتَرْقُونَ! فَقَولُهُ فِي الحَدِيثِ ((لَا يَرْقَونَ)) غَلَطٌ مِنَ الرَّاوِي، سَمِعْت شَيخَ الإِسْلَامِ ابْنَ تَيمِيَّةَ يَقُولُ ذَلِكَ، قَالَ: وَإِنَّمَا الحَدِيثُ ((هُمُ الَّذِينَ لَا يَسْتَرْقُونَ)). قُلْتُ: وَذَلِكَ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ دَخَلُوا الجَنَّةَ بِغَيرِ حِسَابٍ، قَالَ:((وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)) فَلِكَمَالِ تَوَكُّلِهِمْ عَلَى رَبِّهِمْ وَسُكُونِهِمْ إلَيهِ وَثِقَتِهِمْ بِهِ وَرِضَاهُمْ عَنْهُ وَإِنْزَالِ حَوَائِجِهِمْ بِهِ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ شَيئًا -لَا رُقْيَةً وَلَا غَيرَهَا-، وَلَا يَحْصُلُ لَهُمْ طِيَرَةٌ تَصُدُّهُمْ عَمَّا يَقْصِدُونَهُ، فَإِنَّ الطِّيَرَةَ تُنْقِصُ التَّوحِيدَ وَتُضْعِفُهُ. قَالَ: وَالرَّاقِي مُتَصَدِّقٌ مُحْسِنٌ، وَالمُسْتَرْقِي سَائِلٌ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَقَى وَلَمْ يَسْتَرْقِ، وَقَالَ:((مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ؛ فَلْيَنْفَعْهُ)) "
(1)
.
ثُمَّ إِنَّ زِيَادَةَ ((لَا يَرْقُونَ)) -إِنْ صَحَّتْ- فَيُمْكِنُ حَمْلُهَا عَلَى الرُّقَى الشِّرْكيَّةِ كَمَا وجَّهَ بِذَلِكَ الحَدِيثَ النَّوَوِيُّ وَالعَسْقَلَانِيُّ رَحِمَهُمَا اللهُ تَعَالَى، وَالأَرْجَحُ مَا أَثْبَتْنَاهُ -كَمَا سَيَأْتِي مَعَنَا- وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
- إِيرَادٌ وَجَوَابُهُ:
قَالَ الشَّيخُ سُلَيمَانُ بْنُ عَبدِ اللهِ رحمه الله بَعْدَ ذِكْرِ جُمْلَةِ كَلَامِ ابْنِ القَيِّمِ وَشَيخِ الإِسْلَامِ رحمهم الله جَمِيعًا: "وَلَكِنِ اعْتَرَضَهُ بَعْضُهُم
(2)
بِأَنْ قَالَ: (تَغْلِيطُ الرَّاوِي مَعْ إِمْكَانِ تَصْحِيحِ الزِّيَادَةِ لَا يُصَارُ إِلَيهِ، وَالمَعْنَى الَّذِي حَمَلَهُ عَلَى التَّغْلِيطِ مَوجُودٌ فِي المُسْتَرْقِي! لِأَنَّهُ اِعْتَلَّ بِأَنَّ الَّذِي لَا يَطْلُبُ مِنْ غَيرِهِ أَنْ يَرْقِيَهُ تَامُّ التَّوَكُّلِ؛ فَكَذَا يُقَالُ: وَالَّذِي
(1)
زَادُ المَعَادِ (1/ 476).
قُلْتُ: وَحَدِيثُ ((مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَنْفَعْهُ)) هُوَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ (2199) عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا.
(2)
قُلْتُ: وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله، كَمَا فِي الفَتْحِ (11/ 408).
يَفْعَلُ بِهِ غَيرُهُ ذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُمَكِّنُهُ مِنْهُ لِأَجْلِ تَمَامِ التَّوَكُّلِ، وَلَيسَ فِي وُقُوعِ ذَلِكَ مِنْ جِبْرِيلَ عليه السلام دِلَالَةٌ عَلَى المُدَّعَى، وَلَا فِي فِعْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهُ أَيضًا دِلَالَةٌ لِأَنَّهُ فِي مَقَامِ التَّشْرِيعِ وَتَبْيِينِ الأَحْكَامِ)! كَذَا قَالَ هَذَا القَائِلُ.
وَهُوَ خَطَأٌ مِن وُجُوهٍ:
الأَوَّلُ: أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةُ لَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُهَا إِلَّا بِحَمْلِهَا عَلَى وُجُوهٍ لَا يَصِحُّ حَمْلُهَا عَلَيهَا! كَقَولِ بَعْضِهِم: المُرَادُ ((لَا يَرْقُونَ)) بِمَا كَانَ شِرْكًا أَوِ احْتَمَلَهُ! فَإِنَّهُ لَيسَ فِي الحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا أَصْلًا!
وَأَيضًا؛ فَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ لِلْسَبْعِينَ مَزِيَةٌ عَلَى غَيرِهِم؛ فَإِنَّ جُمْلَةَ المُؤْمِنِينَ لَا يَرْقُونَ بِمَا كَانَ شِرْكًا!
الثَّانِي: قَولُهُ: فَكَذَا يُقَالُ
…
إِلخ. لَا يَصِحُّ هَذَا القِيَاسُ؛ فَإِنَّهُ مِنْ أَفْسَدِ القِيَاسِ، وَكَيفَ يُقَاسُ مَنْ سَأَلَ وَطَلَبَ عَلَى مَنْ لَمْ يَسْأَلْ؟! مَعْ أَنَّهُ قِيَاسٌ مَعَ وُجُودِ الفَارِقِ الشَّرْعِيِّ، فَهُوَ فَاسِدُ الاعْتِبَارِ لِأَنَّهُ تَسْوِيَةٌ بَينَ مَا فَرَّقَ الشَّارِعُ بَينَهُمَا بِقَولِهِ:((مَنِ اكْتَوَى أَوِ اسْتَرْقَى؛ فَقَدْ بَرِئَ مِنَ التَّوَكُّلِ)) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ مَاجَه، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالحَاكِمُ أَيضًا.
وَكَيفَ يُجْعَلُ تَرْكُ الإِحْسَانِ إِلَى الخَلْقِ سَبَبًا لِلْسَبْقِ إِلَى الجِنَانِ؟! وَهَذَا بِخِلَافِ مَنْ رَقَى أَوْ رُقِيَ مِنْ غَيرِ سُؤَالٍ؛ فَقَدْ رَقَى جِبْرِيلُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ عليه السلام لَمْ يَكُنْ مُتَوَكِّلاً فِي تِلْكَ الحَالِ!
الثَّالِثُ: قَولُهُ: (لَيسَ فِي وُقُوعِ ذَلِكَ مِنْ جِبْرِيلَ عليه السلام
…
إِلَخ؛ كَلَامٌ غَيرُ صَحِيحٍ، بَلْ هُمَا سَيِّدَا المُتَوَكِّلِينَ؛ فَإِذَا وَقَعَ ذَلِكَ مِنْهُمَا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُنَافِي التَّوَكُّلَ؛ فَاعْلَمْ ذَلِكَ"
(1)
.
(1)
تَيسِيرُ العَزِيزِ الحَمِيدِ (ص 82).
مَسَائِلُ عَلَى البَابِ
-
مَسْأَلَةٌ: قَولُهُ: ((لا يَسْتَرْقُونَ)) لِمَاذَا لَا يُحْمَلُ عَلَى النَّهْي عَنِ الرُّقَى الشِّرْكِيَّةِ
المَنْهِيِّ عَنْهَا أَصْلًا
(1)
؛ فَتَكُونُ بِذَلِكَ الرُّقَى المَشْرُوعَةُ غَيرَ مَقْصُودَةٍ بِالحَدِيثِ؟ وَعَلَيهِ فَيَجُوزُ طَلَبُ الرُّقْيَةِ مُطْلَقًا مِنَ الغَيرِ إِذَا كَانَتْ غَيرَ شِرْكِيَّةٍ.
الجَوَابُ مِنْ أَوجُهٍ:
1 -
أَنَّ عُمُومَ النَّفْي فِي قَولِهِ: ((لَا يَسْتَرْقُونَ)) شَامِلٌ لِلوَجْهَينِ، فَأَمَّا الشِّرْكيُّ مِنْهُ فَمُحَرَّمٌ لِمَا هُوَ مَعْرُوفٌ مِنَ النُّصُوصِ الكَثِيرَةِ
(2)
، وَأَمَّا الجَائِزُ فَيَكُونُ خِلَافَ الأَولَى لِمَا قَدْ ثَبَتَ مِنْ جَوَازِهِ.
2 -
أَنَّهُ لَو كَانَ المَقْصُودُ النَّهْيَ عَنْهَا لِكَونِهَا شِرْكًا؛ لَقَالَ صلى الله عليه وسلم: (هُمُ الَّذِينَ لَا يُشْرِكُونَ) وَلَمْ يَجْعَلْهُ لَفْظًا مُوهِمًا مُخَالِفًا المَشْهُورَ عِنْدَ النَّاسِ! فَلَفْظُ الحَدِيثِ أَخَصُّ مِنَ الدَّعْوَى لِأَنَّهُ خَاصٌّ بِالطَّلَبِ؛ بِخِلَافِ عُمُومِ الرُّقْيَةِ الشِّرْكِيَّةِ؛ فَيُنْهَى فِيهَا عَنِ الطَّلَبِ وَعَنِ الرُّقْيَةِ نَفْسِهَا أَيضًا.
3 -
أَنَّ الاسْتِرْقَاءَ هُوَ مِنْ جِنْسِ الطَّلَبِ مِنَّ النَّاسِ
(3)
؛ وَهَذَا قَدْ دَلَّتِ الشَّرِيعَةُ عَلَى أَنَّ تَرْكَه أَولَى
(4)
، وَهَذَا وَحْدَهُ يُحَصِّلُ المَقْصُودَ بِغَضِّ النَّظَرِ عَنِ الحَدِيث نَفْسِهِ؛
(1)
وَهُوَ الَّذِي رجَّحَهُ النَّوَوِيُّ في شَرْحِ مُسْلِمٍ (14/ 168)، خِلَافًا لِمَا نَقَلَهُ عَنِ ابْنِ عَبْدِ البَرِّ رَحِمَهُمَا اللهُ تَعَالَى.
(2)
كَمَا فِي الحَدِيثِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا: ((إنَّ الرُّقَى والتَّمَائِمَ والتِّوَلَةَ شِرْكٌ)). رَوَاهُ أَحْمَدُ (3615). صَحِيحٌ. الصَّحِيحَة (331).
(3)
وَلَا يَخْفَى أَنَّ التَّرْكِيبَ اللَّفْظِيَّ فِي (الأَلِفِ وَالسِّينِ وَالتَّاءِ) يَكْثُرُ اسْتِخْدَامُهُ فِي مَعْنَى الطَّلَبِ.
(4)
كَمَا فِي الحَدِيثِ عَنْ عَوفِ بْنِ مَالِكٍ مَرْفُوعًا: ((أَلَا تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللهِ؟)) -وَكُنَّا حَدِيثَ عَهْدٍ بِبَيعَةٍ-
=
فَكَيفَ إِذَا جُمِعَ مَعَهُ.
4 -
أَنَّ فِي آخِرِ الحَدِيثِ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ عَنْهُ: إِنَّهُ العِلَّةُ الَّتِي عَلَيهَا مَدَارُ الحَدِيثِ؛ وَهِيَ حَصْرُ التَّوكُّلِ عَلَى الله تَعَالَى، حَيثُ غَالِبًا مَا تَتَعَلَّقُ النُّفُوسُ بِمَنْ يَرْقِيهَا فَيَغْفَلُونَ عَنِ اللهِ تَعَالَى! وَالتَّعلُّقُ بِهِم أَكْبَرُ مِنَ التَّعَلُّقِ بِالأَطِبَّاءِ المَادِيِّينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُم يُعَالِجُونَ بِدُونِ أَسْبَابٍ مَادِّيَّةٍ ظَاهِرَةٍ، بَلِ الأَمْرُ مُرْتَبِطٌ بِصَلَاحِهِم وَحُسْنِ نِيَّتِهِم وَقُوَّةِ تَوحِيدِهِم مَعَ ذِكْرِهِم وَاسْتِعَانَتِهِم بِرَبِّهِم
(1)
، لِذَلِكَ فَالفِتْنَةُ فِيهِم أَكْبَرُ، فَيَكُونُ الأَمْرُ هُوَ مِنْ بَابِ سَدِّ ذَرَائِعِ الشِّرْكِ. وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
5 -
تَفْسِيرُ رَاوِي الحَدِيثِ -وَالرَّاوِي أَدْرَى بَمَرْوِيِّهِ-؛ فَإِنَّ سَبَبِ إِيرَادِ الحَدِيثِ مِنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَير هُوَ إِشَارَتُهُ رحمه الله إِلَى أَنَّ تَرْكَ طَلَبِ الرُّقْيَةِ مِنَ اللَّدْغَةِ كَانَ أَولَى لِحُصَينٍ رحمه الله؛ وَلَيسَ بِسَبَبِ شِرْكٍ مَا ذُكِرَ! فَتَنَبَّهْ.
=
قُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ! -حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا-، فَبَسَطْنَا أَيدِيَنَا فَبَايَعْنَاهُ، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا قَدْ بَايَعْنَاكَ؛ فَعَلَامَ نُبَايِعُكَ؟ قَالَ:((أَنْ تَعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيئًا، وَتُصَلُّوا الصَّلَوَاتِ الخَمْسَ، وَتَسْمَعُوا وَتُطِيعُوا)) -وَأَسَرَّ كَلِمَةً خُفْيَةً- قَالَ: ((وَلَا تَسْأَلُوا النَّاسَ شَيئًا)). قَالَ: فَلَقَدْ كَانَ بَعْضُ أُولَئِكَ النَّفَرِ يَسْقُطُ سَوطُهُ؛ فَمَا يَسْأَلُ أَحَدًا أَنْ يُنَاوِلَهُ إِيَّاهُ. مُسْلِمٌ (1043).
(1)
فَالرُّقْيَةُ بِالأَذْكَارِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ قِبَلِ العَبْدِ الصَّالِحِ بِمَنْزِلَةِ السَّيفِ الصَّارِمِ فِي اليَدِ القَوِيَّةِ.
بَابُ الخَوفِ مِنَ الشِّرْكِ
وَقَولُ اللهِ عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النِّسَاء: 48].
وَقَالَ الخَلِيلُ عليه السلام: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إِبْرَاهِيم: 35].
وَفِي الحَدِيثِ ((أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَيكُم الشِّرْكُ الأَصْغَرُ))، فَسُئِلَ عَنْهُ؛ فَقَالَ:((الرِّيَاءُ))
(1)
.
وَعَنِ ابْن مَسْعُودٍ رضي الله عنه؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((مَنْ مَاتَ وَهوَ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللهِ نِدًّا؛ دَخَلَ النَّارَ)) رَوَاهُ البُخَارِيُّ
(2)
.
وَلِمُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((مَنْ لَقِيَ اللهَ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيئًا دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَنْ لَقِيَهُ يُشْرِكُ بِهِ شَيئًا دَخَلَ النَّارَ))
(3)
.
(1)
صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (23630) عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَة (951).
وَتَمَامُهُ فِي المُسْنَدِ، وَفِيهِ:((إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيكُمُ الشِّرْكُ الأَصْغَرُ: الرِّياءُ، يَقُولُ اللهُ يَومَ القِيَامَةِ -إِذَا جَزَى النَّاسَ بأَعْمالِهِمْ-: اذْهَبُوا إِلَى الَّذِينَ كُنْتُمْ تُرَاؤُونَ فِي الدُّنْيا؛ فَانْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ عِنْدَهُمْ جَزَاءً؟!)).
(2)
البُخَارِيُّ (4497).
(3)
مُسْلِمٌ (93).
فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: الخَوفُ مِنَ الشِّرْكِ.
الثَّانِيَةُ: أَنَّ الرِّيَاءَ مِنَ الشِّرْكِ.
الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ مِنَ الشِّرْكِ الأَصْغَرِ.
الرَّابِعَةُ: أَنَّهُ أَخْوَفُ مَا يُخَافُ مِنْهُ عَلَى الصَّالِحِينَ.
الخَامِسَةُ: قُرْبُ الجَنَّةِ وَالنَّارِ.
السَّادِسَةُ: الجَمْعُ بَينَ قُرْبِهِمَا فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ.
السَّابِعَةُ: أَنَّهُ مَنْ لَقِيَهُ يُشْرِكُ بِهِ شَيئًا دَخَلَ النَّارَ؛ وَلَو كَانَ مِنْ أَعْبَدِ النَّاسِ.
الثَّامِنَةُ: المَسْأَلَةُ العَظِيمَةُ؛ سُؤَالُ الخَلِيلِ لَهُ وَلِبَنِيِهِ وِقَايَةَ عِبَادَةِ الأَصْنَامِ.
التَّاسِعَةُ: اعْتِبَارُهُ بِحَالِ الأَكْثَرِ لِقَولِهِ: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} [إِبْرَاهِيم: 36].
العَاشِرَةُ: فِيهِ تَفْسِيرُ "لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ" كَمَا ذَكَرَهُ البُخَارِيُّ.
الحَادِيَةَ عَشْرَةَ: فَضِيلَةُ مَنْ سَلِمَ مِنَ الشِّرْكِ.
الشَّرْحُ
- مُنَاسَبَةُ البَابِ لِكِتَابِ التَّوحِيدِ وَلِمَا قَبْلَهُ مِنَ الأَبْوَابِ؛ هُوَ التَّخْوِيفُ مِنْ تَرْكِ التَّوحِيدِ بَعْدَ ذِكْرِ التَّرْغِيبِ فِي التَّوحِيدِ، فَيَكُونُ الأَمْرُ بِالتَّوحِيدِ قَدْ جَاءَ مِنْ جِهَةِ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ.
- أَورَدَ المُصَنِّفُ رحمه الله فِي البَابِ وَجْهَانِ لِلخَوفِ مِنَ الشِّرْكِ؛ هُمَا:
1 -
أَنَّ الشِّرْكَ لَا يُغْفَرُ أَبَدًا.
2 -
أَنَّ الشِّرْكَ مِنْهُ شِرْكٌ أَصْغَرُ يَعْرِضُ لِلمُسْلِمِ فِي عِبَادَتِهِ لِرَبِّهِ؛ وَقَدْ لَا يَشْعُرُ بِهِ.
- قَولُهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} أَي: لَا يَغْفِرُ لِعَبْدٍ لَقِيَهُ وَهُوَ مُشْرِكٌ {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} أَي: مِنَ الذُّنُوبِ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ
(1)
.
وَلَكِنَّ الشِّرْكَ لَا يُغْفَرُ إِلَّا بِالتَّوبَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ} [الأَنْفَال: 38].
- فِي قَولِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} بَيَانُ أَنَّ الشِّرْكَ لَا يُغْفَرُ أَبَدًا، وَيَدْخُلُ فِيهِ الشِّرْكُ الأَكْبَرُ وَالأَصْغَرُ، وَلَكِنَّ الأَكْبَرَ يَتَمَيَّزُ عَنْهُ بِأَنَّ صَاحِبَهُ يَبْقَى يُعذَّبُ بِهِ فِي النَّارِ وَلَا يَخْرُجُ مِنْهَا أَبَدًا، وَذَلِكَ لِقَولِهِ تَعَالَى:{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المَائِدَة: 72].
(1)
أَفَادَهُ الحَافِظُ ابْنُ كَثِير رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (2/ 325).
أَمَّا الشِّرْكُ الأَصْغَرُ فَهُوَ -وَإِنْ كَانَ لَا يُغْفَرُ- فَإِنَّ صَاحِبَهُ يُعَذَّبُ عَلَيهِ بِقَدْرِهِ -لِأَنَّ أَصْلَ التَّوحِيدِ مَعَهُ-؛ فَلَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ -وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ قَرِيبًا-، وَفِي الحَدِيثِ:((مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؛ نَفَعَتْهُ يَومًا مِنْ دَهْرِهِ، يُصِيبُهُ قَبْلَ ذَلِكَ مَا أَصَابَهُ))
(1)
.
- فِي الآيَةِ رَدٌّ عَلَى الخَوَارِجِ -المُكَفِّرِينَ بِالذُّنُوبِ-؛ وَعَلَى المُعْتَزِلَةِ القَائِلِينَ بِأَنَّ أَصْحَابَ الكَبَائِرِ يُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ؛ وَلَيسُوا عِنْدَهُم بِمُؤْمِنِينَ وَلَا كُفَّارَ! وَذَلِكَ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ مَا سِوَى الشِّرْكِ تَحْتَ المَشِيئَةِ؛ فَهُوَ قَابِلٌ لِلمَغْفِرَةِ -خِلَافًا لِمَذْهَبِهِم-.
- الصَّنَمُ: هُوَ مَا كَانَ عَلَى صُورَةِ حَيَوَانٍ -أَي: ذِي رُوحٍ-، أَمَّا مَا عُبِدَ وَهُوَ عَلَى غَيرِ صُورَةِ حَيَوَانٍ كَالشَّجَرِ وَالحَجَرِ وَالقَبْرِ فَهَذَا يُسَمَّى وَثَنًا، فَالوَثَنُ أَعَمُّ مِنَ الصَّنَمِ لِأَنَّ الصَّنَمَ لَا يُطْلَقُ إِلَّا عَلَى التِّمْثَالِ، وَأَمَّا الوَثَنُ فَيُطْلَقُ عَلَى التِّمْثَالِ وَغَيرِهِ، فَالقَبْرُ يَكُونُ وَثَنًا إِذَا عُبِدَ، قَالَ صلى الله عليه وسلم:((اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا، لَعَنَ اللهُ قَومًا اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَاءِهِم مَسَاجِدَ))
(2)
، فَالوَثَنُ كُلُّ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللهِ عَلَى أَيِّ شَكْلٍ كَانَ
(3)
.
- فِي دُعَاءِ الخَلِيلِ رَبَّهُ أَنْ يُجَنِّبَهُ وَبَنِيهِ عِبَادَةَ الأَصْنَامِ؛ بَيَانُ عِظَمِ الشِّرْكِ -وَقَدْ
(1)
صَحِيحٌ. البَزَّارُ (15/ 66) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (6434).
(2)
صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (7358) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا. أَحْكَامُ الجَنَائِزِ (ص 216).
(3)
فَالصَّنَمُ مَا كَانَ مَنْحُوتًا عَلَى صُورَةٍ، وَالوَثَنُ مَا كَانَ مَوضُوعًا عَلَى غَيرِ ذَلِكَ. اُنْظُرْ تَفْسِيرَ الطَّبَرِيِّ (17/ 17).
وَقَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (3/ 530) -فِي سِيَاقِ الكَلَامِ عَنْ آلِهَةِ المُشْرِكِينَ-: "وَقَولُهُ: {وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} إِنَّمَا قَالَ: {يَنْظُرُونَ إِلَيكَ} أَي: يُقَابِلُونَكَ بِعُيُونٍ مُصَوَّرَةٍ كَأَنَّهَا نَاظِرَةٌ -وَهِيَ جَمَادٌ-، وَلِهَذَا عَامَلَهُم مُعَامَلَةَ مَنْ يَعْقِلُ؛ لِأَنَّهَا عَلَى صُوَرٍ مُصَوَّرَةٍ كَالإِنْسَانِ، فَقَالَ: {وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيكَ} فَعبَّرَ عَنْهَا بِضَمِيرِ مَنْ يَعْقِلُ".
عَلِمْتَ أًنَّهُ كَانَ إِمَامًا لِلنَّاسِ عليه السلام، وَكَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ التَّيمِيُّ
(1)
: "مَنْ يَأْمَنُ البَلَاءَ بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ! "،
وَأَيضًا قَولُهُ عليه الصلاة والسلام: ((أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَيكُمُ الشِّرْكُ الأَصْغَرُ))
(2)
وَالكَافُ فِيهِ لِلخِطَابِ؛ فَيَدْخُلُ فِيهِ أَوَّلِيًّا الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللهِ تَعَالَى عَلَيهِم ثُمَّ مَنْ بَعْدَهُم،
وَأَيضًا فِي الحَدِيثِ: ((أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا هُوَ أَخْوَفُ عَلَيكُمْ مِنَ المَسِيحِ عِنْدِي؟)) قُلْنَا: بَلَى، قَالَ:((الشِّرْكُ الخَفِيُّ: أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ يَعْمَلُ لِمَكَانِ رَجُلٍ))
(3)
.
فَفِي هَذِهِ الأَدِلَّةِ الرَّدُّ عَلَى مَنْ هَوَّنَ مِنْ أَمْرِ الشِّرْكِ -فِي هَذَا الزَّمَنِ- وَاسْتَبْعَدَ وُقُوعَهُ مِنَ المُسْلِمِينَ! فَلَا يَأْمَنُ مِنَ الوُقُوعِ فِي الشِّرْكِ إِلَّا مَنْ هُوَ جَاهِلٌ بِهِ، وَقَدْ عَقَدَ المُصَنِّفُ رحمه الله بَابًا خَاصًّا لِدَفْعِ هَذَا التَّوَهُّمِ وَسَمَّاهُ "بَابُ مَا جَاءَ فِي أَنَّ بَعْضَ هَذِهِ الأُمَّةِ يَعْبُدُ الأَوثَانَ".
- الرِّيَاءُ نَوعَانِ: رِيَاءُ المُنَافِقِ، وَرِيَاءُ المُسْلِمِ -أَي الَّذِي قَدْ يَصْدُرُ مِنَ المُسْلِمِ-:
1 -
رِيَاءُ المُنَافِقِ: هُوَ رِيَاءٌ فِي أَصْلِ الدِّينِ، يَعْنِي أَظْهَرَ الإِسْلَامَ وَأَبْطَنَ الكُفْرَ، قَالَ تَعَالَى عَنِ المُنَافِقِينَ:{يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النِّسَاء: 142].
2 -
رِيَاءُ المُسْلِمِ: لَا يَكُونُ فِي أَصْلِ تَدَيُّنِهِ، وَذَلِكَ كَمَا لَو حَسَّنَ الرَّجُلُ صَلَاتَهَ
(1)
مِنَ الطَّبَقَةِ الوُسْطَى مِنَ التَّابِعِينَ، (ت 110 هـ).
(2)
وَعِنْدَ ابْنِ خُزَيمَةَ (937) عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ قَالَ: خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: ((أَيُّهَا النَّاسُ إِيَّاكُمْ وَشِرْكَ السَّرَائِرِ)). قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ مَا شِرْكُ السَّرَائِرِ؟ قَالَ: ((يَقُومُ الرَّجُلُ فَيُصَلِّي؛ فَيُزَيِّنُ صَلَاتَهُ جَاهِدًا لِمَا يَرَى مِنْ نَظَرِ النَّاسِ إِلَيهِ، فَذَلِكَ شِرْكُ السَّرَائِرِ)). حَسَنٌ. صَحِيحُ التَّرْغِيبِ (31).
(3)
حَسَنٌ. أَحْمَدُ (11252) عَنْ أَبِي سَعِيد الخُدْرِيِّ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (2607)، وَسَيَأْتِي الكَلَامُ عَلَيهِ بِتَفْصِيلٍ أَكْثَرَ إِنْ شَاءَ اللهُ فِي "بَابِ مَا جَاءَ فِي الرِّيَاءِ".
أَمَامَ النَّاسِ لِطَلَبِ جَاهٍ أَو ذِكْرٍ حَسَنٍ بَينَ النَّاسِ، وَقَدْ جَعَلَ ابْنُ القَيِّمِ رحمه الله الشِّرْكَ الأَصْغَرَ مِثْلَ يَسِيرِ الرِّيَاءِ، أَمَّا الرِّيَاءُ الكَامِلُ فَهُوَ لَا يَصْدُرُ إِلَّا مِنَ المُنَافِقِ
(1)
.
- الشِّرْكُ الأَصْغَرُ: هُوَ جَمِيعُ الأَقْوَالِ وَالأَفْعَالِ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى الشِّرْكِ، كَالغُلُوِّ فِي المَخْلُوقِ -بِحَيثُ لَا يَصِلُ هَذَا الغُلُوُّ إِلَى رُتْبَةِ العِبَادَةِ
(2)
-، وَكَالحَلِفِ بِغَيرِ اللهِ، وَيَسِيرِ الرِّيَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
قُلْتُ: إِلَّا أَنَّهُ بِقَيدِ أَنْ يَكُونَ الشَّرْعُ قَدْ وَصَفَهُ بِأَنَّهُ شِرْكٌ، فَلَيسَ كُلُّ ذَرِيعَةٍ إِلَى الشَّرْكِ تَكُونُ شِرْكًا؛ وَإِنْ كَانَتْ قَدْ تَكُونُ كَبِيرَةً مِنَ الكَبَائِرِ فِي نَفْسِهَا!
- الرِّيَاءُ فِي الحَدِيثِ جَاءَ مِنْ بَابِ التَّمْثِيلِ لَا الحَصْرِ، لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الغَالِبُ، وَإِلَّا فَلَو كَانَ التَّصَنُّعُ لِيُسْمَعَ عَنْهُ فَهُوَ سُمْعَةٌ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ الرِّيَاءِ أَيضًا، كَمَا فِي حَدِيثِ جُنْدَبٍ مَرْفُوعًا:((مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللهُ بِهِ، وَمَنْ يُرَائِي يُرَائِي اللهُ بِهِ)) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ
(3)
.
- قَولُهُ: (وَهُوَ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللهِ نِدًّا)
(4)
: الدُّعَاءُ نَوعَانِ:
1 -
دُعَاءُ عِبَادَةٍ: كَالصَّومِ وَالصَّلَاةِ وَغَيرِ ذَلِكَ مِنَ العِبَادَاتِ.
وَسُمِّيَ دُعَاءً لِأَنَّهُ دَاعٍ بِلِسَانِ حَالِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الجَنَّةَ وَالبُعْدَ عَنِ النَّارِ؛ فَإِنَّهُ يُحَافِظُ عَلَى أَعْمَالِ الطَّاعَةِ للهِ؛ فَهُوَ دَاعٍ فِي الجُمْلَةِ، كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجِنّ: 18]، وَكَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى:
(1)
مَدَارِجُ السَّالِكِينَ (1/ 352).
(2)
يُنْظَرُ: (القَولُ السَّدِيدُ) لِلسَّعْدِيِّ (ص 54).
(3)
رَوَاهُ البُخَارِيُّ (6499)، وَمُسْلِمٌ (2986).
(4)
رَوَاهُ البُخَارِيُّ (4497)، وَتَمَامُهُ عَنْ عَبْدِ اللهِ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَلِمَةً؛ وَقُلْتُ أُخْرَى، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:((مَنْ مَاتَ وَهْوَ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللهِ نِدًّا دَخَلَ النَّارَ))، وَقُلْتُ أَنَا:(مَنْ مَاتَ وَهْوَ لَا يَدْعُو لِلَّهِ نِدًّا دَخَلَ الجَنَّةَ).
{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غَافِر: 60] فَجَعَلَ سُبْحَانَهُ الدُّعَاءَ عِبَادَةً، وَهَذَا النَّوعُ لَا يَجُوزُ صَرْفُهُ لِغَيرِ اللهِ تَعَالَى، وَهُوَ المَقْصُودُ بِالحَدِيثِ هُنَا.
وَهُنَا مَلْحَظٌ لَطِيفٌ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ "كَنَّى بِالدُّعَاءِ عَنِ الْعِبَادَةِ؛ لِأَنَّ مَنْ عَبَدَ شَيْئًا دَعَاهُ عِنْدَ حَوَائِجِهِ وَمَصَالِحِهِ"
(1)
، "وَمَا أَنْسَبَ التَّعْبِيرَ لِعُبَّادِ الأَوثَانِ عَنِ العِبَادَةِ بِالدُّعَاءِ: إِشَارَةً إِلَى أَنَّ كُلَّ مَعْبُودٍ لَا يُدْعَى فِي الضَرُورَاتِ فَيَسْمَعُ؛ فَعَابِدُهُ أَجْهَلُ الجَهَلَةِ"
(2)
.
وَمِصْدَاقُهُ فِي إِنْكَارِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام عَلَى وَالِدِهِ الشِّرْكَ فِي قَولِهِ تَعَالَى: {لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيئًا} [مَرْيَم: 42].
2 -
دُعَاءُ مَسْأَلَةٍ: أَي: يَدْعُو سَائِلًا بِلِسَانِهِ، وَهَذَا النَّوعُ فِيهِ تَفْصِيلٌ مِنْ حَيثُ كَونِ المُسْتَغَاثِ بِهِ حَيًّا حَاضِرًا قَادِرًا
(3)
، كَمَا فِي قَولِهِ صلى الله عليه وسلم:((مَنْ دَعَاكُمْ فَأَجِيبُوهُ))
(4)
فِي الدَّعْوَةِ إِلَى الطَّعَامِ، وَكَمَا فِي الحَدِيثِ ((يَا قَبِيصَةُ؛ إِنَّ المَسْأَلَةَ لَا تَحِلُّ إِلَّا لِأَحَدِ ثَلَاثَةٍ))
(5)
فِي سُؤَالِ الصَّدَقَةِ؛ فَهَذَا جَائِزٌ، بِخِلَافِ مَنْ دَعَا مَيِّتًا أَوْ غَائِبًا أَوْ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى مَا دُعِيَ بِهِ -مِمَّا يَكُونُ خَارِجًا عَنْ قُدْرَةِ البَشَرِ أَصْلًا-؛ فَإِنَّهُ يَكُونُ شِرْكًا، قال تعالى:{قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ * تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشُّعَرَاء: 96 - 98].
(1)
البَحْرُ المُحِيطُ (4/ 68).
(2)
نَظْمُ الدُّرَرِ (5/ 404).
(3)
قُلْتُ: مَعَ التَّأْكِيدِ عَلَى كَونِ دُعَاءِ المَدْعُوِّ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الأَسْبَابِ؛ وَأَنَّ النَّفْعَ إِنَّمَا هُوَ مِنَ اللهِ تَعَالَى.
(4)
صَحِيحٌ. أَبُو دَاوُدَ (1672) عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَة (254).
(5)
رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1044) مِنْ حَدِيثِ قَبِيصَةَ بْنِ مُخارِقٍ مَرْفُوعًا.
- فَائِدَة 1: قَدْ أَورَدَ بَعْضُهُم هُنَا حَدِيثَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: ((وَإِنِّي -وَاللهِ- مَا أَخَافُ علَيكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا بَعْدِي؛ وَلَكِنِّي أَخَافُ علَيكُمُ الدُّنْيَا أَنْ تَنَافَسُوا فِيهَا))
(1)
فَظَاهِرُهُ عَدَمُ الخَوفِ مِنَ الوُقُوعِ فِي الشِّرْكِ؛ وَإِنَّمَا فَقَط مِنَ التَّنَافُسِ فِي الدُّنْيَا!! وَلَا يَصِحُّ هَذَا التَّوجِيهُ، وَالجَوَابُ عَلَيهِ هُوَ فِي قَولِ الحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي)
(2)
: "قَولُهُ: ((وَإِنِّي وَاللهِ مَا أَخَافُ عَلَيكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا بَعْدِيِ)) أَي: عَلَى مَجْمُوعِكُم؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ وَقَعَ مِنَ البَعْضِ -أَعَاذَنَا اللهُ تَعَالَى-"
(3)
.
- فَائِدَة 2: فِي التَّخلُّصِ مِنَ الشِّرْكِ بِنَوعَيهِ: الأَكْبَرِ وَالأَصْغَرِ:
عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: انْطَلَقْتُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:((يَا أَبَا بَكْرٍ، لَلشِّرْكُ فِيكُمْ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ))، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَلِ الشِّرْكُ إِلَّا مَنْ جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ؟ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَلشِّرْكُ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ، أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى شَيءٍ إِذَا قُلْتَهُ ذَهَبَ عَنْكَ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ؟))، قَالَ:((قُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أُشْرِكَ بِكَ وَأَنَا أَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لَا أَعْلَمُ))
(4)
.
(1)
رَوَاهُ البُخَارِيُّ (1344)، وَمُسْلِمٌ (2296) مِنْ حَدِيثِ عُقْبَة بْنِ عَامِرٍ مَرْفُوعًا.
(2)
فَتْحُ البَارِي (3/ 211).
(3)
قُلْتُ: وَيَدُلُّ أَيضًا لِذَلِكَ حَدِيثُ مُسْلِمٍ (2907) عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ((لَا يَذْهَبُ اللَّيلُ وَالنَّهْارُ حَتَّى تُعْبَدَ اللَّاتُ وَالعُزَّى)). فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنْ كُنْتُ لَأَظنُّ حِينَ أَنْزَلَ اللهُ {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التَّوبَة: 33] أَنَّ ذَلِكَ تَامًّا. قَالَ: ((إنَّهُ سَيَكُونُ مِنْ ذَلِكَ مَا شَاءَ اللهُ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللهُ رِيحًا طَيِّبَةً فَتَوَفَّى كُلَّ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إيمَانٍ؛ فَيَبْقَى مَنْ لَا خَيرَ فيهِ فَيَرْجِعُونَ إِلَى دِينِ آبَائِهِم)). وَسَيَأْتِي مَزِيدُ بَيَانٍ -إِنْ شَاءَ اللهُ- فِي بَابِ مَا جَاءَ أنَّ بَعْضَ هَذِهِ الأُمَّةِ يَعْبُدُ الأَوثَانَ.
(4)
صَحِيحٌ. الأَدَبُ المُفْرَدُ (716). صَحِيحُ الأَدَبِ المُفْرَدِ (554).
- فَائِدَة 3: قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رحمه الله فِي شَرْحِ حَدِيثِ جَابِرٍ-بَابُ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيئًا دَخَلَ الجَنَّةَ-
(1)
: "فَأَمَّا دُخُولُ المُشْرِكِ النَّارَ فَهُوَ عَلَى عُمُومِهِ؛ فَيَدْخُلُهَا وَيَخْلُدُ فِيهَا، وَلَا فَرْقَ فِيهِ بَينَ (الكِتَابِيِّ اليَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ) وَبَينَ (عَبَدَةِ الأَوثَانِ وَسَائِرِ الكَفَرَةِ)، وَلَا فَرْق عِنْدَ أَهْلِ الحَقِّ بَينَ (الكَافِر عِنَادًا وَغَيرهِ) وَلَا بَين (مَنْ خَالَفَ مِلَّة الإِسْلَامِ) وَبَينَ (مَنِ انْتَسَبَ إِلَيهَا؛ ثُمَّ حُكِمَ بِكُفْرِهِ بِجَحْدِهِ مَا يَكْفُر بِجَحْدِهِ وَغَيرِ ذَلِكَ). وَأَمَّا دُخُولُ مَنْ مَاتَ غَيرَ مُشْرِكٍ الجَنَّةَ؛ فَهُوَ مَقْطُوعٌ لَهُ بِهِ، لَكِنْ إِنْ لَمْ يَكُنْ (صَاحِبَ كَبِيرَةٍ مَاتَ مُصِرًّا عَلَيهَا) دَخَلَ الجَنَّةَ أَوَّلًا، وَإِنْ كَانَ (صَاحِبَ كَبِيرَةٍ مَاتَ مُصِرًّا عَلَيهَا) فَهُوَ تَحْتَ المَشِيئَةِ، فَإِنْ عُفِيَ عَنْهُ دَخَلَ أَوَّلًا وَإِلَّا عُذِّبَ ثُمَّ أُخْرِجَ مِنَ النَّارِ وَخُلِّدَ فِي الجَنَّةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ"
(2)
.
- فَائِدَة 4: قَولُ المُصَنِّفِ رحمه الله فِي المَسْأَلَةِ العَاشِرَةِ: "فِيهِ تَفْسِيرُ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ) كَمَا ذَكَرَهُ البُخَارِيُّ" يَقْصُدُ بِهِ أَنَّ البُخَارِيِّ رحمه الله بَوَّبَ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ السَّابِقِ فِي الصَّحِيحِ: "بَابُ قَولِهِ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البَقَرَة: 165] " فَكَانَ هَذَا الحَدِيثُ عِنْدَهُ مُفَسِّرًا لِلتَّرْجَمَةِ فِي مَعْنَى اتِّخَاذِ الأَنْدَادِ، وَأَنَّ المَحَبَّةَ مَعَ اللهِ هِيَ مِنَ الشِّرْكِ.
(1)
شَرْحُ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ (2/ 97).
(2)
هَذِهِ الأَقْوَاسُ الدَّاخِلِيَّةُ وَضَعْتُهَا لِسُهُولَةِ تَمْيِيزِ سِيَاقِ الكَلَامِ، وَلَيسَ فِي النَّصِّ أَيُّ إِدْرَاجٍ خَارِجٍ عَنْهُ.
مَسَائِلُ عَلَى البَابِ
-
مَسْأَلَةٌ: هَلِ الكُفْرُ هُوَ نَفْسُهُ الشِّرْكُ؛ أَمْ أَنَّ هُنَاكَ فَرْقًا بَينَهُمَا؟
الجَوَابُ: الكُفْرُ يَخْتَلِفُ عَنِ الشِّرْكِ مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ، فَالكُفْرُ هُوَ التَّغْطِيَةُ، وَأَمَّا الشِّرْكُ فَهُوَ مِنَ الإِشْرَاكِ فِي الشَّيءِ خِلَافًا لِلتَّوحِيدِ.
أَمَّا مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ؛ فَلَا فَرْقَ بَينَ الكُفْرِ وَالشِّرْكِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ أَشْرَكَ بِاللهِ فَقَدْ كَفَرَ بِتَوحِيدِ اللهِ، وَكُلُّ مَنْ كَفَرَ بِتَوحِيدِهِ سُبْحَانَهُ فَقَدْ أَشْرَكَ مَعَهُ سُبْحَانَهُ شَيئًا -إِمَّا إِلَهًا مَعْبُودًا، وَإِمَّا هَوًى مُتَّبَعًا وَلَابُدَّ-، وَيُمْكُنُ القَولُ أَيضًا بِأَنَّهُ جَعَلَ مَا للهِ لِغَيرِ اللهِ
(1)
.
فَالكُفْرُ وَالشِّرْكُ مُتَرَادِفَانِ فِي الشَّرْعِ، وَالأَكْثَرُ فِي الشِّرْكِ أَنْ يُطْلَقَ عَلَى إِشْرَاكِ شَيءٍ مَعَ اللهِ تَعَالَى فِي الرُّبُوبِيَّةِ أَوِ الأُلَوهِيَّةِ أَوِ الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَالأَكْثَرُ فِي الكُفْرِ أَنْ يَكُونَ فِي الجُحُودِ، وَلَكِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا كَافِرٌ مِنْ وَجْهٍ وَمُشْرِكٌ مِنْ وَجْهٍ، وَهَذِهِ حَقِيقَةٌ شَرْعِيَّةٌ مَرَدُّهَا إِلَى الشَّرْعِ، وَمِنْ أَدِلَّةِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَينَهُمَا:
أ- قَولُهُ تَعَالَى فِي صَاحِبِ الجَنَّةِ: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا * قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا} [الكَهْف: 35 - 37]، فَفِيهِ إِثْبَاتُ كُفْرِهِ وَذَلِكَ بِإِنْكَارِهِ البَعْثَ وَالمَعَادَ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّهِ:{لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا} ، وَأَيضًا قَولُهُ تَعَالَى عَنِ الأَوَّلِ: {وَأُحِيطَ
(1)
قَالَ أَبُو حَيَّانَ الأَنْدَلُسِيُّ رحمه الله فِي تَفْسِيرِهِ البَحْرُ المُحِيطُ (3/ 281): "قَالَ الزَّجَّاجُ: كُلُّ كَافِرٍ مُشْرِكٌ؛ لِأَنَّهُ إِذَا كَفَرَ مَثَلًا بِنَبِيٍّ؛ زَعَمَ أَنَّ هَذِهِ الآيَاتِ الَّتِي أَتَى بِهَا لَيسَتْ مِنْ عِنْدِ اللهِ؛ فَيَجْعَلُ مَا لَا يَكُونُ إِلَّا للهِ لِغَيرِ اللهِ، فَيَصِيرُ مُشْرِكًا بِهَذَا المَعْنَى".
بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَالَيتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا} حَيثُ سَمَّى اللهُ تَعَالَى كُفْرَ ذَلِكَ الرَّجُلِ شِرْكًا.
ب- قَولُهُ تَعَالَى: {أَرَأَيتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيهِ وَكِيلًا} [الفُرْقَان: 43] فَفِيهِ بَيَانُ أَنَّ كُلَّ كَافِرٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَتْبُوعٍ يَكُونُ مُشْرِكًا بِهِ.
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ الحَنْبَلِيُّ رحمه الله: "قَالَ اللهُ عز وجل: {أَفَرَأَيتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجَاثِيَة: 23] قَالَ الحَسَنُ وَغَيرُهُ: هُوَ الَّذِي لَا يَهْوَى شَيئًا إِلَّا رَكِبَهُ، فَهَذَا يُنَافِي الِاسْتِقَامَةَ عَلَى التَّوحِيدِ"
(1)
.
ج- أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَصَفَ تَارِكَ الصَّلَاةِ بِالشِّرْكِ، كَمَا فِي الحَدِيثِ:((لَيسَ بَينَ العَبْدِ وَالشِّرْكِ إِلَّا تَرْكُ الصَّلَاةِ، فَإِذَا تَرَكَهَا فَقَدْ أَشْرَكَ))
(2)
، رُغْمَ أَنَّهُ لَمْ يَتَّخِذَ نِدًّا فِي العِبَادَةِ -ظَاهِرًا- مَعَ اللهِ تَعَالَى!
(3)
.
(1)
جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (1/ 509).
(2)
صَحِيحٌ. ابْنُ مَاجَه (1080) عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (5388).
(3)
انْظُرْ أَشْرِطَةَ فَتَاوَى سِلْسِلَةِ الهُدَى وَالنُّورِ (شَرِيط 341) مِنْ فَتَاوَى الشَّيخِ الأَلْبَانِيِّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
بَابُ الدُّعَاءِ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ
وَقَولُ اللهِ تَعَالَى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يُوسُف: 108].
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى اليَمَنِ؛ قَالَ لَهُ: ((إِنَّكَ تَأْتِي قَومًا أَهْلَ كِتَابٍ، فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيهِ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ -وَفِي رِوَايَةٍ: إِلَى أَنْ يُوَحِّدُوا اللهَ-، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَومٍ وَلَيلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ؛ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيسَ بَينَهَا وَبَينَ اللهِ حِجَابٌ))
(1)
. أَخْرَجَاهُ.
وَلَهُمَا عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ يَومَ خَيبَرَ: ((لَأُعطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ، وَيُحبُّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ؛ يَفْتَحُ اللهُ عَلَى يَدِيهِ)). فَبَاتَ النَّاسُ يَدُوكُونَ لَيلَتَهُم أّيُّهُم يُعْطَاهَا، فَلَمَّا أَصْبَحُوا غَدَوا عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم كُلُّهُم يَرْجُو أَنْ يُعْطَاهَا، فَقَالَ:((أَينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ؟)) فَقِيلَ: هُوَ يَشْتَكِي عَينَيهِ، فَأَرْسَلُوا إِلَيهِ، فَأُتِي بِهِ فبَصَقَ فِي عَينَيهِ، ثُمَّ دَعَا لَهُ فَبَرَأَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ وَجَعٌ، فَأَعْطَاهُ الرَّايَةَ، فَقَالَ:((اُنْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِم، ثُمَّ اُدْعُهُمْ إِلَى الإِسْلَامِ، وَأَخْبِرْهُم بِمَا يَجِبُ عَلَيهِم مِنْ حَقِّ اللهِ فِيهِ؛ فَوَاللهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ))
(2)
.
(يَدُوكُونَ) أَي: يَخُوضُونَ.
(1)
البُخَارِيُّ (1496)، وَمُسْلِمٌ (19).
(2)
البُخَارِيُّ (3701)، وَمُسْلِمٌ (2406).
فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: أَنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى اللهِ طَرِيقُ مَنِ اتَّبَعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
الثَّانِيَةُ: التَّنْبِيهُ عَلَى الإِخْلَاصِ، لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَو دَعَا إِلَى الحَقِّ؛ فَهُوَ يَدْعُو إِلَى نَفْسِهِ.
الثَّالِثَةُ: أَنَّ البَصِيرَةَ مِنَ الفَرَائِضِ.
الرَّابِعَةُ: مِنْ دَلَائِلِ حُسْنِ التَّوحِيدِ كَونُهُ تَنْزِيهًا لِلَّهِ تَعَالَى عَنِ المَسَبَّةِ.
الخَامِسَةُ: أَنَّ مِنْ قُبْحِ الشِّرْكِ كَونَهُ مَسَبَّةً لِلَّهِ.
السَّادِسَةُ: وَهِيَ مِنْ أَهَمِّهَا؛ إِبْعَادُ المُسْلِمِ عَنِ المُشْرِكِينَ لِئَلَّا يَصِيرَ مِنْهُمْ؛ وَلَو لَمْ يُشْرِكْ.
السَّابِعَةُ: كَونُ التَّوحِيدِ أَوَّلَ وَاجِبٍ.
الثَّامِنَةُ: أَنَّهُ يُبْدَأُ بِهِ قَبْلَ كُلِّ شَيءٍ؛ حَتَّى الصَّلَاة.
التَّاسِعَةُ: أَنَّ مَعْنَى: ((أَنْ يُوَحِّدُوا اللهَ)) مَعْنَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ.
اَلعَاشِرَةُ: أَنَّ الإِنْسَانَ قَدْ يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَهُوَ لَا يَعْرِفُهَا؛ أَو يَعْرِفُهَا وَلَا يَعْمَلُ بِهَا.
الحَادِيَةَ عَشْرَةَ: التَّنْبِيهُ عَلَى التَّعْلِيمِ بِالتَّدْرِيجِ.
الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: البدَاءَةُ بِالأَهَمِّ فَالأَهَمِّ.
الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: مَصْرِفُ الزَّكَاةِ.
الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: كَشْفُ العَالِمِ الشُّبْهَةَ عَنِ المُتَعَلِّمِ.
الخَامِسَةَ عَشْرَةَ: النَّهْيُ عَنْ كَرَائِمِ الأَمْوَالِ.
السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: اتِّقَاءُ دَعْوَةِ المَظْلُومِ.
السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: الإِخْبَارُ بِأَنَّهَا لَا تُحْجَبُ.
الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: مِنْ أَدِلَّةِ التَّوحِيدِ مَا جَرَى عَلَى سَيِّدِ المُرْسَلِينَ وِسَادَاتِ الأَولِيَاءِ مِنَ المَشَقَّةِ وَالجُوعِ وَالوَبَاءِ.
التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: قَولُهُ: ((لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ)) إِلَخْ؛ عَلَمٌ مِنْ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ.
العِشْرُونَ: تَفْلُهُ فِي عَينَيهِ؛ عَلَمٌ مِنْ أَعْلَامِهَا أَيضًا.
الحَادِيَةُ وَالعِشْرُونَ: فَضِيلَةُ عَلِيٍّ رضي الله عنه.
الثَّانِيَةُ وَالعِشْرُونَ: فَضْلُ الصَّحَابَةِ فِي دَوكِهِمْ تِلْكَ اللَّيلَةَ وَشُغْلِهِمْ عَنْ بِشَارَةِ الفَتْحِ.
الثَّالِثَةُ وَالعِشْرُونَ: الإِيمَانُ بِالقَدَرِ لِحُصُولِهَا لِمَنْ لَمْ يَسْعَ لَهَا وَمَنْعِهَا عَمَّنْ سَعَى.
الرَّابِعَةُ وَالعِشْرُونَ: الأَدَبُ فِي قَولِهِ ((عَلَى رِسْلِكَ)).
الخَامِسَةُ وَالعِشْرُونَ: الدَّعْوَةُ إِلَى الإِسْلَامِ قَبْلَ القِتَالِ.
السَّادِسَةُ وَالعِشْرُونَ: أَنَّهُ مَشْرُوعٌ لِمَنْ دُعُوا قَبْلَ ذَلِكَ وَقُوتِلُوا.
السَّابِعَةُ وَالعِشْرُونَ: الدَّعْوَةُ بِالحِكْمَةِ لِقَولِهِ: ((أَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيهِمْ)).
الثَّامِنَةُ وَالعِشْرُونَ: المَعْرِفَةُ بِحَقِّ اللهِ فِي الإِسْلَامِ.
التَّاسِعَةُ وَالعِشْرُونَ: ثَوَابُ مَنِ اهْتَدَى عَلَى يَدَيهِ رَجُلٌ وَاحِدٌ.
اَلثَّلَاثُونَ: الحَلِفُ عَلَى الفُتْيَا.
الشَّرْحُ
- فِي الأَبْوَابِ السَّابِقَةِ بَيَانُ أَنَّ المُسْلِمَ إِذَا عَلِمَ أَهَمِيَّةَ التَّوحِيدِ وَفَضْلَهُ وَضَرُورَةَ الخَوفِ مِنْ تَرْكِهِ لَزِمَ أَنَّ يَعْمَلَ بِهِ، وَفِي هَذَا البَابِ أَنَّ مَنْ عَلِمَ ذَلِكَ فَلَا يَقْتَصِرَنَّ فِي الخَيرِ عَلَى نَفْسِهِ؛ بَلْ يَدْعُو النَّاسَ إِلَيهِ.
وَفِي هَذَا البَابِ أَيضًا أَنَّهُ لَا يَتِمُّ إِيمَانُ العَبْدِ إِلَّا إِذَا دَعَا إِلَى التَّوحِيدِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العَصْر: 1 - 3].
- قَولُهُ تَعَالَى: {وَسُبْحَانَ اللَّهِ} تَنْزِيهٌ للهِ تَعَالَى عَنْ كُلِّ مَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُوصَفَ بِهِ
(1)
.
- فِي قَولِهِ تَعَالَى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ} تَنْبِيهٌ عَلَى أَمْرَينِ:
1 -
ضَرُورَةُ الدَّعْوَةُ إِلَى التَّوحِيدِ؛ وَأَنَّهَا سَبِيلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَأَنَّهَا أَصْلُ الإِسْلَامِ؛ حَيثُ جُعِلَ الإِسْلَامُ مُفَسَّرًا بِهَا فِي هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ، وَالتَّعْبِيرُ بِالشَّيءِ عَنِ الشَّيءِ يَدُلُّ عَلَى رُكْنيَّتِهِ وَأَنَّهُ أَصْلُهُ الأَصِيلُ
(2)
.
(1)
وَإِعْرَابُ "سُبْحَانَ": مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ عَامِلُهُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: "أُسَبِّحُ".
(2)
كَمَا فِي قَولِهِ صلى الله عليه وسلم: ((الحَجُّ عَرَفَة)). صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (18774) عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَن بْنِ يَعْمُرَ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (3172).
وَحَدِيثِ ((الدِّينُ النَّصِيحَةُ)). صَحِيحُ مُسْلِمٍ (55) عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ مَرْفُوعًا.
وَحَدِيثِ (الدُّعَاءُ هُوَ العِبَادَةُ). صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (18436) عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (3407).
2 -
التَّنْبِيهُ عَلَى الإِخْلَاصِ؛ وَذَلِكَ فِي أَنَّ الدَّاعِيَ إِلَى اللهِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَمَلُهُ فِي دَعْوَتِهِ هُوَ لِابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ تَعَالَى، وَأَنْ لَا يُخَالِفَ فِعْلُهُ قَولَهُ
(1)
.
- قَولُهُ: {عَلَى بَصِيرَةٍ} البَصِيرَةُ هِيَ العِلْمُ، فَالبَصِيرَةُ لِلقَلْبِ كَالبَصَرِ لِلعَينِ، يُبْصِرُ بِهَا الحَقَائِقَ.
- قَولُهُ: {أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} دَلَّ عَلَى أَنَّ سَبِيلَ أَتْبَاعِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الدَّعْوَةُ إِلَى تَوحِيدِ اللهِ تَعَالَى وَعَلَى بَيِّنَةٍ فِي دِينِهِم، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ أَيضًا عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الدَّاعِيَةِ أَنْ يَكُونَ عَلَى بَصِيرَةٍ؛ أَي: عَلَى عِلْمٍ بِمَا يَدْعُو إِلَيهِ، أَمَّا الجَاهِلُ فَلَا يَصْلُحُ لِلدَّعْوَةِ
(2)
.
- فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما بَيَانُ أَنَّ عَلَى الدَّاعِيَةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى أَنْ يَتَبَيَّنَ ثَلَاثَةَ أُمُورٍ فِي دَعْوَتِهِ:
1 -
حَالَ المَدْعُوِّ: فَالَّذِينَ قُصِدُوا هُمْ أَهْلُ كِتَابٍ، وَمَا عِنْدَهُم لَيسَ كَمَا عِنْدَ الوَثَنَيينَ! فلَزِمَ تَهَيُّؤُ النَّفْسِ لِشُبَهِهِم وَمَقَالَاتِهِم.
2 -
طَرِيقَةَ الدَّعْوَةِ: وَهِيَ التَدَرُّجَ فِي الدَّعْوَةِ بِحَسْبِ الأَهَمِّ فَالأَهَمِّ؛ وَأَنْ لَا يُنْتَقَلَ مِنْ أَمْرٍ إِلَى آخَرَ إِلَّا بَعْدَ الانْتِهَاءِ مِنَ الأَوَّلِ.
3 -
مَادَّةَ الدَّعْوَةِ: وَهِيَ التَّوحِيدُ فِي الأَوَّلِ، ثُمَّ الصَّلَاةُ، ثُمَّ الزَّكَاةُ.
(1)
وَلِهَذَا قَالَ المُصَنِّفُ رحمه الله فِي مَسَائِلِ هَذَا البَابِ: فِي قَولِهِ: (إِلَى اللهِ): تَنْبِيهٌ عَلَى الإِخْلَاصِ؛ لِأَنَّ كَثِيرِينَ -وَإِنْ دَعَوا إِلَى الحَقِّ- فَإِنَّمَا يَدْعُونَ إِلَى أَنْفُسِهِم! أَي مِنْ جِهَةِ الرِّيَاءِ.
(2)
وَلَا يَخْفَى أَنَّ المُتَصَدِّرَ لِلدَّعْوَةِ إِلَى الإِسْلَامِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ شُرُوطٍ أُخَرَ؛ لَيسَ هَذَا مَوضِعُ ذِكْرِهَا.
وَهَذَا لَا يَعْنِي أَنَّ مَنْ عَلِمَ شَيئًا مِنَ الحَقِّ أَنَّهُ لَا يُبَلِّغُهُ لِمَنْ لَا يَعْلَمُهُ! وَكَمَا فِي الحَدِيثِ: ((بَلِّغُوا عَنِّي وَلَو آيَةً)) رَوَاهُ البُخَارِيُّ (3461) عَنِ ابْنِ عَمْرو مَرْفُوعًا، وَلَكِنَّ الكَلَامَ فِي الدُّعَاةِ الَّذِينَ جَعَلُوا الدَّعْوَةَ مَيدَانَهُم وَهَمَّهُم وَتَصَدَّرُوا لَهَا.
- قَولُهُ: (بَاتَ): البَيتُوتَةُ: هِيَ المُكْثُ فِي اللَّيلِ -سَوَاءً كَانَ مَعَهُ نَومٌ أَو لَمْ يَكُنْ مَعَهُ نَومٌ-.
- قَولُهُ: ((اُنْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ)) "الرِّسْلُ" -بِالكَسْرِ- الرِّفْقُ وَالتُّؤَدَةُ
(1)
، وَالمَعْنَى هُنَا: امْشِ هُوَينًا هُوَينًا، لِأَنَّ المَقَامَ خَطِيرٌ وَيُخْشَى مِنْ مَكْرِ العَدُوِ، فَاليَهُودُ خُبَثَاءُ أَهْلُ غَدْرٍ
(2)
.
- قَولُهُ: ((لَأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا)) لَمْ يقل: لَأنْ تَهْدِي! لِأَنَّ الَّذِي يَهْدِي هُوَ اللهُ تبارك وتعالى
(3)
، وَالمُرَادُ بِالهِدَايَةِ هُنَا هِدَايَةُ التَّوفِيقِ وَالقَبُولِ.
- قَولُهُ: ((فَوَاللهِ لأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيرٌ لَكَ مِنٍ حُمْرِ النَّعَمِ)) يُشِيرُ فِيهِ إِلَى عَدَمِ اليَأْسِ مِنْ قِلَّةِ المُسْتَجِيبِينَ، وَكَمَا سَبَقَ فِي الحَدِيثِ ((فَرَأَيتُ النَّبِيَّ وَلَيسَ مَعَهُ أَحَدٌ)).
- قَولُهُ: ((حُمْرِ النَّعَمِ)) -بِتَسْكِينِ المِيمِ-: جَمْعُ أَحْمَرَ، وَبِالضَّمِّ: جَمْعُ حِمَارٍ، وَالمُرَادُ الأَوَّلُ، وَهِيَ الإِبِلُ الحَمْرَاءُ، وَخَصَّهَا بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا أَنْفَسُ أَمْوَالِ العَرَبِ.
- قَولُهُ: ((يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ، وَيُحبُّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ)) فِيهِ إِثْبَاتُ المَحَبَّةِ للهِ مِنَ الجَانِبَينِ، أَي: أَنَّ اللهَ تَعَالَى يُحِبُّ ويُحَبُّ.
(1)
القَامُوسُ المُحِيطِ (ص 1005).
(2)
وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الهُدُوءِ فِي الجِهَادِ، وَتَرْكِ العَجَلَةِ وَرَفْعِ الأَصْوَاتِ، وَيَدُلُّ أَيضًا عَلَى الثَّبَاتِ وَالشَّجَاعَةِ وَالتَّدَبُّرِ فِي الأَمْرِ، بِخِلَافِ الطَّيشِ وَالرَّكْضِ وَرَفْعِ الأَصْوَاتِ! فَإِنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى الجُبْنِ وَعَدَمِ الثَّبَاتِ.
(3)
وَأَمَّا الهِدَايَةُ الَّتِي تَصِحُّ نِسْبَتُها إِلَى البَشَرِ فَهِيَ هِدَايَةُ الدِّلَالَةِ وَالإِرْشَادِ، وَهُنَاكَ أَنْوَاعٌ أُخَرُ مِنَ الهِدَايَةِ سَيَأْتِي الكَلَامُ عَلَيهَا فِي مَوضِعِهَا مِنْ هَذَا الكِتَابِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.
وَقَدْ أنكرَ هَذَا أَهْلُ التَّعْطِيلِ، وَقَالُوا: المُرَادُ بِمَحَبَّةِ اللهِ لِلعَبْدِ إِثَابَتُهُ أَو إِرَادَةُ إِثَابَتِهِ! وَأَنَّ المُرَادَ بِمَحَبَّةِ العَبْدِ للهِ مَحَبَّةُ ثَوَابِهِ! وَهَذَا تَحْرِيفٌ لِلكَلَامِ عَنْ ظَاهِرِهِ، عَدَا عَنْ مُخَالَفَةِ إِجْمَاعِ السَّلَفِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ الهُدَى مِنْ بَعْدِهِم
(1)
، فَمَحَبَّةُ اللهِ تَعَالَى ثَابِتَةٌ لَهُ حَقِيقَةً وَهِيَ مِنْ صِفَاتِهِ الفِعْلِيَّةِ
(2)
.
(1)
قُلْتُ: وَسَبَبُ كَونِهَا مُخَالِفَةً لِلإِجْمَاعِ أَنَّهُ لَمْ يُنقلْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ السَّلفِ أَبَدًا تَأْوِيلُ مَحَبَّةِ اللهِ تَعَالَى بِالثَّوَابِ أَو بِإِرَادَةِ الثَّوَابِ، فَمَنْ قَالَ بِذَلِكَ طَالَبْنَاهُ بِالدَّلِيلِ.
(2)
قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رحمه الله -وَغَفَرَ لَهُ- فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ (6/ 95): "قَولُهُ صلى الله عليه وسلم فِي الَّذِي قَالَ فِي {قُل? هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} : لِأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ؛ فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأَ بِهَا: ((أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللهَ يُحِبُّهُ))، قَالَ المَازِرِيُّ: مَحَبَّةُ اللهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ؛ إِرَادَةُ ثَوَابِهِم وَتَنْعِيمِهِم، وَقِيلَ: مَحَبَّتُهُ لَهُم نَفْسُ الإِثَابَةِ وَالتَّنْعِيمِ لَا الإِرَادَة.
قَالَ القَاضِي: وَأَمَّا مَحَبَّتُهُم لَهُ سُبْحَانَهُ فَلَا يَبْعُدُ فِيهَا المَيلُ مِنْهُم إِلَيهِ سُبْحَانَهُ، وَهُوَ مُتَقَدِّسٌ عَنِ المَيلِ. قَالَ: وَقِيلَ: مَحَبَّتُهُم لَهُ اسْتِقَامَتُهُم عَلَى طَاعَتِهِ، وَقِيلَ: الاسْتِقَامَةُ ثَمَرَةُ المَحَبَّةِ. وَحَقِيقَةُ المَحَبَّةِ لَهُ: مَيلُهُم إِلَيهِ لِاسْتِحْقَاقِهِ سبحانه وتعالى المَحَبَّةَ مِنْ جَمِيعِ وُجُوهِهَا". كَذَا نَقَلَ!! غَفَرَ اللهُ لَهُ.
قُلْتُ: قَالَ ابٍنُ أَبِي العِزِّ الحَنَفِيِّ رحمه الله فِي شَرْحِ العَقِيدَةِ الطَّحَاوِيَّةِ (ص 294): "قَالَ تَعَالَى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النِّسَاء: 125] وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النِّسَاء: 164].
الخِلَّةُ: كَمَالُ المَحَبَّةِ، وَأَنْكَرَتِ الجَهْمِيَّةُ حَقِيقَةَ المَحَبَّةِ مِنَ الجَانِبَينِ زَعْمًا مِنْهُم أَنَّ المَحَبَّةَ لَا تَكُونُ إِلَّا لِمُنَاسَبَةٍ بَينَ المُحِبِّ وَالمَحْبُوبِ؛ وَأَنَّهُ لَا مُنَاسَبَةَ بَينَ القَدِيمِ وَالمُحْدَثِ تُوجِبُ المَحَبَّةَ! وَكَذَلِكَ أَنْكَرُوا حَقِيقَةَ التَّكْلِيمِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَكَانَ أوَّلَ مَنِ ابْتَدَعَ هَذَا فِي الإِسْلَامِ هُوَ الجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ فِي أَوَائِلِ المَائَةِ الثَّانِيَةِ، فَضَحَّى بِهِ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ القَسْرِيُّ -أَمِيرُ العِرَاقِ وَالمَشْرِقِ بِوَاسِطٍ-، خَطَبَ النَّاسَ يَومَ الأَضْحَى فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ ضَحُّوا -تَقَبَّلَ اللهُ ضَحَايَاكُم-؛ فَإِنِّي مُضَحٍّ بِالجَعْدِ بْنِ دِرْهَم، إِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ اللهَ لَمْ يَتَّخِذْ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وَلَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا! ثُمَّ نَزَلَ فَذَبَحَهُ، وَكَانَ ذَلِكَ بِفَتْوَى أَهْلِ زَمَانِهِ مِنْ عُلَمَاءِ التَّابِعِينَ رضي الله عنهم؛ فَجَزَاهُ اللهُ عَنِ الدِّينِ وَأَهْلِهِ خَيرًا.
وَأَخَذَ هَذَا المَذْهَبَ عَنِ الجَعْدِ الجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ، فَأَظْهَرَهُ وَنَاظَرَ عَلَيهِ، وَإِلَيهِ أُضِيفَ قَولُ الجَهْمِيَّةِ، فَقَتَلَهُ سَلَمُ بْنُ أَحْوَز -أَمِيرُ خُرَاسَانَ بِهَا-، ثُمَّ انْتَقَلَ ذَلِكَ إِلَى المُعْتَزِلَةِ -أَتْبَاعِ عَمْرو بْنِ عُبَيدٍ-، وَظَهَرَ قَولُهُم فِي أَثْنَاءِ خِلَافَةِ المَأْمُونِ حَتَّى امْتُحِنَ أَئِمَّةُ الإِسْلَامِ، وَدَعَوهُم إِلَى المُوَافَقَةِ لَهُم عَلَى ذَلِكَ.
=
- فِي حَدِيثِ إِرْسَالِ مُعَاذٍ إِلَى اليَمَنِ بَيَانُ صِحَّةِ العَمَلِ بِخَبَرِ الوَاحِدِ، لِأَنَّ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم أَرْسَلَ مُعَاذًا وَحْدَهُ مُبَلِّغًا لِلإِسْلَامِ؛ بَلْ وَلِأَصْلِ الإِسْلَامِ وَهُوَ عَقِيدَةُ التَّوحِيدِ، ثُمَّ مَا يَأْتِي بَعْدَهَا مِنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُعْتَمَدُ خَبَرُ الوَاحِدِ فِي العَقَائِدِ، وَأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ لَهُ التَّوَاتُرُ كَمَا تَقُولُهُ المُبْتَدِعَةُ
(1)
.
- فِي شَرْحِ المَسْأَلَةِ الرَّابِعَةِ: "أَنَّ مِنْ دَلَائِلِ حُسْنِ التَّوحِيدِ كَونُهُ تَنْزِيهًا للهِ عَنِ المَسَبَّةِ" وَذَلِكَ بِكَونِ اتِّخَاذِ الشُّرَكَاءِ مَعَ اللهِ تَعَالَى هُوَ تَنَقُّصٌ للهِ تَعَالَى فِي رُبُوبِيَّتِهِ وَأُلُوهِيَّتِهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ.
- فِي شَرْحِ المَسْأَلَةِ العَاشِرَةِ: "أَنَّ الإِنْسَانَ قَدْ يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَهُوَ لَا يَعْرِفُها؛ أَو يَعْرِفُهَا وَلَا يَعْمَلُ بِهَا": مُرَادُهُ بِقَولِهِ: "لَا يَعْرِفُها أَو يَعْرِفُها" شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَتُؤْخَذُ مِنْ قَولِهِ:((فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيهِ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))، إِذْ لَو كَانُوا يَعْرِفُونَ "لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ" وَيَعْمَلُونَ بِهَا مَا احْتَاجُوا إِلَى الدَّعْوَةِ إِلَيهَا رُغْمَ أَنَّهُم أَهْلُ كِتَابٍ وَكَانَ عِنْدَهُم إِيَّاهَا فِيمَا جَاءَ عَنْ رُسُلِهِم.
=
وَأَصْلُ هَذَا مَأْخُوذٌ عَنِ المُشْرِكِينَ وَالصَّابِئَةِ، وَهُمْ يُنْكِرُونَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ خَلِيلًا وَمُوسَى كَلِيمًا؛ لِأَنَّ الخِلَّةَ هِيَ كَمَالُ المَحَبَّةِ المُسْتَغْرِقَةِ لِلمُحِبِّ، كَمَا قِيلَ: قَدْ تَخَلَّلْتَ مَسْلَكَ الرُّوحِ مِنِّي .. وَلِذَا سُمِّيَ الخَلِيلُ خَلِيلًا. وَلَكِنَّ مَحَبَّتَهُ وَخِلَّتَهُ كَمَا يَلِيقُ بِهِ تَعَالَى كَسَائِرِ صِفَاتِهِ".
(1)
هُمْ مُبْتدِعَةٌ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُم أَصَّلُوا أَصْلًا فِي عَقِيدَتِهِم لَيسَ عَلَيهِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ، بَلْ وَالعَجَبُ مِنْهُم كَيفَ أَنَّهُم يَشْتَرِطُونَ فِي عَقِيدَتِهِم أَنْ تَكُونَ مَبْنِيَّةً عَلَى القُرْآنِ وَالحَدِيثِ المُتَوَاتِرِ فَقَط؛ وَهُمْ فِي ذَلِكَ قَدْ أَصَّلُوا أَصْلَهُم هَذَا -الَّذِي جَعَلُوهُ قَاعِدَةَ التَّمْيِيزِ بَينَ مَا يُقْبَلُ وَمَا يُرَدُّ- بِمَا لَمْ يَأْتِ أَصْلًا لَا فِي الكِتَابِ، وَلَا فِي السُّنَّةِ المُتَوَاتِرَةِ أَوِ الآحَادِ، وَلَا حَتَّى فِي حَدِيثٍ ضَعِيفٍ!!
وَقَدْ عَقَدَ الإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ الجَلِيلِ (الرِّسَالَةُ)(ص 401) بَابًا هُوَ "حُجِّيَّةُ تَثْبِيتِ خَبَرِ الوَاحِدِ" وَاحْتَجَّ فِيهِ بِحَدِيثِ مُعَاذٍ السَّابِقِ.
- فِي شَرْحِ المَسْأَلَةِ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: "كَشْفُ العَالِمِ الشُّبْهَةَ عَنِ المُتَعَلِّمِ" المُرَادُ بِالشُّبْهَةِ هُنَا: شُبْهَةُ العِلْمِ، وَهِيَ هُنَا الجَهْلُ بِمَصْرِفِ الزَّكَاةِ فِي قَولِهِ:((صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ)) فَبيَّنَ أَنَّ هَذِهِ الصَّدَقَةَ تُؤْخَذُ مِنَ الأَغْنِيَاءِ، وَأَنَّ مَصْرِفَهَا الفُقَرَاءُ.
- فِي شَرْحِ المَسْأَلَةِ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: "مِنْ أَدِلَّةِ التَّوحِيدِ مَا جَرَى عَلَى سَيِّدِ المُرْسَلِينَ وَسَادَةِ الأَولِيَاءِ مِنَ المَشَقَّةِ وَالجُوعِ وَالوَبَاءِ" قَدْ يَكُونَ مُرَادُ المُصَنِّفِ بَيَانُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ -وَهُم سَادَةُ الأَولِيَاءِ- قَدْ أَصَابَهُم مِنَ الشِّدَّةِ مَا أَصَابَهُم فِي قِصَّةِ خَيبَرَ؛ الأَمْرُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى سَفَهِ وَضَلَالِ مَنِ اسْتَغَاثَ بِهِم فِي الشَّدَائِدِ، لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَمْلِكْ أَنْ يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ الضُّرَّ فكَيفَ يَدْفَعُ عَنْ غَيرِهِ
(1)
(2)
؟!
(1)
قَالَ الشَّيخُ ابْنُ عُثَيمِين رحمه الله فِي كِتَابِهِ القَولُ المُفِيدُ (1/ 142): "الظَّاهِرُ أَنَّ المُؤَلِّفَ رحمه الله يُرِيدُ الإِشَارَةَ إِلَى قِصَّةِ خَيبَر، إِذْ وَقَعَ فِيهَا فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم جُوعٌ عَظِيمٌ، حَتَّى أَنَّهُم أَكَلُوا لَحْمَ الحَمِيرِ وَالثُّومِ. وَأَمَّا الوَبَاءُ؛ فَهُوَ مَا وَقَعَ مِنْ رَمَدِ عَينِ عَلِيٍّ رضي الله عنه، وَأَمَّا المَشَقَّةُ، فَظَاهِرَةٌ.
وَوَجْهُ كَونِ ذَلِكَ مِنْ أَدِلَّةِ التَّوحِيدِ: أَنَّ الصَّبْرَ وَالتَّحَمُّلَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الأُمُورِ يَدُلُّ عَلَى إِخْلَاصِ الإِنْسَانِ فِي تَوحِيدِهِ وَأَنَّ قَصْدَه اللهُ تَعَالَى، وَلِذَلِكَ صَبَرَ عَلَى البَلَاءِ".
(2)
وَبِنَحْوِ هَذِهِ الفَائِدَةِ مَا فِي قَولِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا} [الإِسْرَاء: 5]، فَفِيهِ دِلَالَةٌ عَلَى أَنَّ قُبُورَ الصَّالِحِينَ أَوِ الأَنْبِيَاءِ الَّتِي فِي المَدَائِنِ وَالقُرَى لَا تَدْفَعُ البَلاءَ عَن أَهْلِهَا! لِأَنَّهُ مِنَ المَعْلُومِ أَنَّ فِي بَيتِ المَقْدِسِ -وَمَا حولَه مِن قُبُورِ الأَنْبِيَاءِ- مَا هُوَ أَكْثَرُ مِن غَيرِهِ مِن جِهَةِ القُبُورِ؛ وَمَع ذَلِكَ لَمَّا غَلَوا وَأَفْسَدُوا عَاقَبَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِم، وَسَلَّطَ عَلَيهِمُ العَدُوَّ الَّذِي جَاسَ خِلَالَ الدِّيَارِ، وَدَخَلَ المَسْجِدَ وَقَتَّلَ فِيهِم مَن لَا يُحْصِي عَدَدَهُ إلَّا اللهُ، وَلَمْ يَمْنَعْهُم أَحَدٌ مِن قُبُورِ الأَنْبِيَاءِ الَّتِي كَانَتْ هُنَاكَ! فَاللهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يَرْزُقُهُم وَيَنْصُرُهُم؛ لَا رَازِقَ غَيرُه وَلَا نَاصِرَ إِلَّا هُوَ. يُنْظَرُ:(الإِخْنَائِيَّة) لِابْنِ تَيمِيَّةَ (ص 189 - 193).
وَسَيَمُرُّ هَذَا البَيَانُ بِأَطْوَلَ مِنْهُ وَأَوسَعَ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى فِي بَابِ "قَولِ اللهِ تَعَالَى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [الأَعْرَاف: 191] " مِنْ هَذَا الكِتَابِ.
- فِي شَرْحِ المَسْأَلَةِ الثَّلَاثُونَ: "الحَلِفُ عَلَى الفُتْيَا": الفَائِدَةُ مِنَ الحَلِفِ هِيَ تَوكِيدُ الكَلَامِ، وَلَكِنْ لَا يَنْبَغِي الحَلِفُ عَلَى الفُتْيَا إِلَّا لِمَصْلَحَةٍ وَفَائِدَةٍ لِقَولِهِ تَعَالَى:{وَاحْفَظُوا أَيمَانَكُمْ} [المَائِدَة: 89].
مَسَائِلُ عَلَى البَابِ
-
مَسْأَلَةٌ: مَا سَبَبُ تَخْصِيصِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ بِالذِّكْرِ دُونَ ذِكْرِ الصِّيَامِ وَالحَجِّ؟
الجَوَابُ: أَنَّهُ أَحَدُ أُمُورٍ:
1 -
أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِحَسْبِ نُزُولِ الفَرَائِضِ وَالأَمْرِ بِهَا.
2 -
أَنَّ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم اقْتَصَرَ عَلَى الأَرْكَانِ العَظِيمَةِ الأَسَاسِيَّةِ الَّتِي يُقَاتَلُ مَنْ تَرَكَهَا.
3 -
أَنَّ هَذِهِ هِيَ الأَرْكَانُ الظَّاهِرَةُ الَّتِي يَرَاهَا النَّاسُ عُمُومًا، أَمَّا الصِّيَامُ فَهُوَ أَمْرٌ خَفِيٌ بَينَ العَبْدِ وَبَينَ رَبِّهِ.
4 -
أَنَّ هَذِهِ الأًعْمَالَ هِيَ أُصُولُ الأَعْمَالِ الشَّرْعِيَّةِ؛ فَمَنِ التَزَمَ بِهَا كَانَ لِغَيرِهَا أَشَدَّ الْتِزَامًا
(1)
.
(1)
فَالصَّلَاةُ أَصْلُ العِبَادَاتِ البَدَنِيَّةِ وَأَعْظَمُهَا، وَكَذَلِكَ الزَّكَاةُ أَصْلُ العِبَادَاتِ المَالِيَّةِ وَأَعْظَمُهَا.
بَابُ تَفْسِيرِ التَّوحِيدِ وَشَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ
وَقَولُ اللهِ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإِسْرَاء: 57].
وَقَولُهُ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزُّخْرُف: 26 - 28].
وَقَولُهُ تَعَالَى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التَّوبَة: 31].
وَقَولُهُ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البَقَرَة: 165].
وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أَنَّه قَالَ: ((مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَكَفَرَ بِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ؛ حَرُمَ مَالُهُ وَدَمُهُ؛ وَحِسَابُهُ عَلَى اللهِ عز وجل)
(1)
.
وَشَرْحُ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ مَا بَعْدَهَا مِنَ الأَبْوَابِ.
فِيهِ أَكْبَرُ المَسَائِلِ وَأَهَمُّهَا: وَهِيَ تَفْسِيرُ التَّوحِيدِ، وَتَفْسِيرُ الشَّهَادَةِ، وَبيَّنَهَا بِأُمُورٍ وَاضِحَةٍ.
مِنْهَا: آيَةُ الإِسْرَاءِ: بَيَّنَ فِيهَا الرَّدَّ عَلَى المُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَدْعُونَ الصَّالِحِينَ؛ فَفِيهَا بَيَانُ أَنَّ هَذَا هُوَ الشِّرْكُ الأَكْبَرُ.
(1)
الحَدِيث رَوَاهُ مُسْلِمٌ (23) دُونَ البُخَارِيِّ، مِنْ حَدِيثِ طَارِقِ بْنِ أَشْيَمَ الأَشْجَعِيِّ مَرْفُوعًا.
وَمِنْهَا: آيَةُ بَرَاءَة: بَيَّنَ فِيهَا أَنَّ أَهْلَ الكِتَابِ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُم وَرُهْبَانَهُم أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ، وَبَيَّنَ أَنَّهُم لَمْ يُؤْمَرُوا إِلَّا بِأَنْ يَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا، مَعَ أَنَّ تَفْسِيرَهَا الَّذِي لَا إِشْكَالَ فِيهِ: طَاعَةُ العُلَمَاءِ وَالعُبَّادِ فِي المَعْصِيَةِ؛ لَا دُعَاؤهُم إِيَّاهُم!
وَمِنْهَا: قَولُ الخَلِيلِ عليه السلام لِلكُفَّارِ: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} فَاسْتَثْنَى مِنَ المَعْبُودِينَ رَبَّهُ، وَذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ هَذِهِ البَرَاءَةَ وَهَذِهِ المُوَالَاةَ: هِيَ تَفْسِيرُ شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللهُ، فَقَالَ:{وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} .
وَمِنْهَا: آيَةُ البَقَرَةِ فِي الكُفَّارِ الَّذِينَ قَالَ اللهُ فِيهِم: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} : ذَكَرَ أَنَّهُم يُحِبُّونَ أَنْدَادَهُم كَحُبِّ اللهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُم يُحِبُّونَ اللهَ حُبًّا عَظِيمًا وَلَمْ يُدْخِلْهُم فِي الإِسْلَامِ! فَكَيفَ بِمَنْ أَحَبَّ النِّدَّ أَكْبَرَ مِنْ حُبِّ اللهِ؟! فَكَيفَ بِمَنْ لَمْ يُحِبَّ إِلَّا النِّدَّ وَحْدَهُ وَلَمْ يُحِبَّ اللهَ؟!
وَمِنْهَا قَولُهُ صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَكَفَرَ بِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ؛ حَرُمَ مَالُهُ وَدَمُهُ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللهِ عز وجل) وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ مَا يُبَيِّنُ مَعْنَى لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَجْعَلِ التَّلَفُّظَ بِهَا عَاصِمًا لِلدَّمِ وَالمَالِ! بَلْ وَلَا مَعْرِفَةَ مَعْنَاهَا مَعَ لَفْظِهَا! بَلْ وَلَا الإِقْرَارَ بِذَلِكَ! بَلْ وَلَا كَونَهُ لَا يَدْعُو إِلَّا اللهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ! بَلْ لَا يَحْرُمُ مَالُهُ وَدَمُهُ حَتَّى يُضِيفَ إِلَى ذَلِكَ الكُفْرَ بِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ، فَإِنْ شَكَّ أَو تَوَقَّفَ لَمْ يَحْرُمْ مَالُهُ وَدَمُهُ، فَيَالَهَا مِنْ مَسْأَلَةٍ مَا أَعْظَمَهَا وَأَجَلَّهَا! وَيَا لَهُ مِنْ بَيَانٍ مَا أَوضَحَهُ! وَحُجَّةٍ مَا أَقْطَعَهَا لِلمُنَازِعِ!
الشَّرْحُ
- قَولُهُ: (شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ): "أَلَهَ إِلَاهَةً وَأُلُوهَةً وَأُلُوهِيَّةً: عَبَدَ عِبَادَةً، وَمِنْهُ لَفْظُ الجَلَالَةِ"
(1)
.
وَقَالَ فِي (لِسَانِ العَرَبِ): " (أَلَهَ) الإلَهُ: اللهُ عز وجل، وكُلُّ مَا اتُخِذَ مِنْ دُونِهِ مَعْبُودًا إلَهٌ عِنْدَ مُتَّخِذِهِ، وَالجَمْعُ آلِهَةٌ، وَالآلِهَةُ: الأَصْنَامُ، سُمُّوا بِذَلِكَ لِاعْتِقَادِهِم أَنَّ العِبَادَةَ تَحُقُّ لَهَا، وَأَسْمَاؤُهُم تَتْبَعُ اعْتِقَادَاتِهِم لَا مَا عَلَيهِ الشَّيءُ فِي نَفْسِهِ"
(2)
.
- فِي قَولِهِ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 56 - 57] بَيَانُ ثَلَاثَةِ أَرْكَانٍ لِلعُبُودِيَّةِ:
1 -
الحُبُّ، وَهُوَ مِنْ قَولِهِ تَعَالَى:{الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ}
(3)
.
2 -
الرَّجَاءُ، وَهُوَ مِنْ قَولِهِ تَعَالَى:{وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ} .
3 -
الخَوفُ، وَهُوَ مِنْ قَولِهِ تَعَالَى:{وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} .
(1)
قَالَهُ فِي القَامُوسِ المُحِيطِ (ص 1242).
(2)
لِسَانُ العَرَبِ (13/ 467).
(3)
قَالَ فِي لِسَانِ العَرَبِ (11/ 724): "الوَسِيلةُ: المَنْزِلَةُ عِنْدَ المَلِكِ، وَالوَسِيلةُ الدَّرَجَةُ، وَالوَسِيلَةُ القُرْبَةُ، وَوَسَّلَ فُلَانٌ إِلَى اللهِ وَسِيلَةً: إِذَا عَمِلَ عَمَلًا تَقَرَّبَ بِهِ إِلَيهِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [الإِسْرَاء: 57]، وَفِي حَدِيثِ الأَذَانِ: ((اللَّهُمَّ آتِ مُحَمَّدًا الوَسِيلَةَ)) هيَ فِي الأَصْلِ مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى الشَّيءِ وَيُتَقَرَّبُ بِهِ، وَالمُرَادُ بِهِ فِي الحَدِيثِ: القُرْبُ مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَقِيلَ: هِيَ الشَّفَاعَةُ يَومَ القِيَامَةِ، وَقِيلَ: هِيَ مَنْزِلَةٌ مِنْ مَنَازِلِ الجَنَّةِ -كَمَا جَاءَ فِي الحَدِيثِ-".
وَفِي الآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ تِلْكَ العِبَادَاتِ هِيَ مِمَّا تَلَبَّسَ بِهَا المُشْرِكُونَ تُجَاهَ مَعْبُودِيهِم؛ فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهَا للهِ، وَأَنَّ مَعْبُودَاتِهِم أَنْفُسَهُم هُمْ مُتَلَبِّسُونَ بِهَا للهِ تَعَالَى وَحْدَهُ.
وَفِي الآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ تَخْصِيصَ تِلْكَ الأُمُورِ بِالذِّكْرِ يَدُلُّ عَلَى كَونِهَا أَرْكَانًا لِلعُبُودِيَّةِ، وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُ أَنَّ التَّعْبِيرَ بِالشَّيءِ عَنِ الشَّيءِ يَدُلُّ عَلَى كَونِهِ رُكْنًا فِيهِ.
- أَورَدَ البُخَارِيُّ رحمه الله فِي (صَحِيحِهِ)
(1)
فِي كِتَابِ تَفْسِيرِ القُرْآنِ -بَابُ قَولِهِ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} - عَنْ عَبْدِ اللهِ
(2)
رضي الله عنه فِي هَذِهِ الآيَةِ {الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} قَالَ: (كَانَ نَاسٌ مِنَ الجِنِّ يُعْبَدُونَ فَأَسْلَمُوا)
(3)
(4)
- قَولُهُ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ} يَدْعُونَ أَي: يَعْبُدُونَ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الدُّعَاءَ نَوعَانِ: دُعَاءُ مَسْأَلَةٍ، وَدُعَاءُ عِبَادَةٍ
(5)
.
(1)
البُخَارِيُّ (6/ 86).
(2)
هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه.
(3)
وَفِي رِوَايَةٍ لِلبُخَارِيِّ (4714) أَيضًا: (كَانَ نَاسٌ مِنَ الإِنْسِ يَعْبُدُونَ نَاسًا مِنَ الجِنِّ؛ فَأَسْلَمَ الجِنُّ وَتَمَسَّكَ هَؤُلَاءِ بِدِينِهِم).
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله فِي الفَتْحِ (8/ 397): "اسْتَمَرَّ الإِنْسُ الَّذِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَ الجِنَّ عَلَى عِبَادَةِ الجِنِّ -وَالجِنُّ لَا يَرْضَونَ بِذَلِكَ لِكَونِهِمْ أَسْلَمُوا- وَهُم الَّذِينَ صَارُوا يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةَ، وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَزَادَ فِيهِ (وَالإِنْسُ الَّذِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ بِإِسْلَامِهِمْ!)، وَهَذَا هُوَ المُعْتَمَدُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ".
(4)
وَفِي تَفْسِيرِ الطَّبَرِيِّ (17/ 474) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الآيَةِ: أَنَّهَا فِي عِيسَى وَمَرْيَمَ وَالعُزَير وَالمَلَائِكَةِ، وَهَذَا مِنِ ابْن عَبَّاسٍ -وَمَا سَبَقَهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ- هُوَ مِنْ بَابِ تَفْسِيرِ التَّنَوُّعِ.
(5)
هُنَا وَإِنْ كَانَ المَعْنَى العَامُّ أَنَّهُ دُعَاءُ عِبَادَةٍ؛ فَهُوَ أَيضًا مُتَضَمِّنٌ لِدُعَاءِ المَسْأَلَةِ، كَمَا فِي الحَدِيثِ ((الدُّعَاءُ هُوَ العِبَادَةُ)). صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (18436) عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (3407).
- قَولُهُ: {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} ذَكَرَ الفَطْرَ دُونَ غَيرِهِ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ التَّذْكِيرُ بِأَنَّه إِنَّمَا يَسْتَحِقُّ العِبَادَةَ مَنْ فَطَرَ
(1)
، أَمَّا مَنْ لَمْ يَفْطِرْ وَلَمْ يَخْلُقْ شَيئًا؛ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ شَيئًا مِنَ العِبَادَةِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الاسْتِدْلَالِ بِالرُّبُوبِيَّةِ عَلَى تَوحِيدِ الأُلُوهِيَّةِ.
- قَولُهُ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} الرَّبُّ هُنَا هُوَ المَعْبُودُ، وَهَذَا عَلَى قَاعِدَةِ المُتَرَادِفَاتِ فِي اللُّغَةِ وَالَّتِي إِذَا اجْتَمَعَت افْتَرَقَتْ؛ وَإِذَا افْتَرَقَت اجْتَمَعَتْ
(2)
.
وَدَلَّ لِذَلِكَ أَيضًا حَدِيثُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ الطَّائِيِّ عِنْدَمَا قَالَ: (إِنَّا لَسْنَا نَعْبُدُهُم!) وَهَذَا النَّوعُ مِنَ الشِّرْكِ هُنَا هُوَ شِرْكُ الطَّاعَةِ، وَسَيَأْتِي فِيهِ تَفْصِيلٌ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى
(3)
.
وَحَدِيثُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ بِتَمَامِهِ هُوَ: أَتِيتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم -وَفِي عُنُقِي صَلِيبٌ مِنْ ذَهَبٍ-، فَقَالَ:((يَا عَدِيُّ، اطْرَحْ عَنْكَ هَذَا الوَثَنَ))، وَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ إِنَّهُم لَمْ يَعْبُدُوهُم! فَقَالَ: ((بَلَى، إِنَّهُم حَرَّمُوا عَلَيهِمُ الحَلَالَ وَأَحَلُّوا لَهُمُ الحَرَامَ فَاتَّبَعُوهُم؛ فَذَلِكَ عِبَادَتُهُم إِيَّاهُم))
(4)
.
(1)
"فَطَرَ اللهُ الخَلْقَ يَفْطُرُهُم: خَلَقَهُمْ وَبَدَأَهُم". لِسَانُ العَرَبِ (5/ 56).
(2)
كَالإِسْلَامِ وَالإِيمَانِ، وَالفَقِيرِ وَالمِسْكِينِ.
(3)
قَالَ الشَّيخُ ابْنُ عُثَيمِين رحمه الله فِي كِتَابِهِ القَولُ المُفِيدُ (1/ 160): "وَالشَّيخُ رحمه الله جَعَلَ شِرْكَ الطَّاعَةِ مِنَ الأَكْبَرِ، وَهَذَا فِيهِ تَفْصِيلٌ، وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللهُ فِي بَابِ (مَنْ أَطَاعَ الأُمَرَاءَ وَالعُلَمَاءَ فِي تَحْلِيلِ مَا حَرَّمَ اللهُ أَو تَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ اللهُ فَقَد اتَّخَذَهُم أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ) ".
(4)
صَحِيحٌ. الطَّبَرَانِيُّ فِي الكَبِيرِ (1/ 92) وَالتِّرْمِذِيُّ (3095) وَحَسَّنَهُ. الصَّحِيحَة (3293).
- قَالَ شَيخُ الإِسْلَامِ رحمه الله فِي (مَجْموعِ الفَتَاوى)
(1)
: "وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا -حَيثُ أَطَاعُوهُمْ فِي تَحْلِيلِ مَا حَرَّمَ اللهُ وَتَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ اللهُ- يَكُونُونَ عَلَى وَجْهَينِ:
أَحَدِهِمَا: أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّهُمْ بَدَّلُوا دِينَ اللهِ؛ فَيَتْبَعُونَهُمْ عَلَى التَّبْدِيلِ؛ فَيَعْتَقِدُونَ تَحْلِيلَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَتَحْرِيمَ مَا أَحَلَّ اللهُ اتِّبَاعًا لِرُؤَسَائِهِمْ -مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّهُمْ خَالَفُوا دِينَ الرُّسُلِ- فَهَذَا كُفْرٌ، وَقَدْ جَعَلَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ شِرْكًا -وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا يُصَلُّونَ لَهُمْ وَيَسْجُدُونَ لَهُم-، فَكَانَ مَنِ اتَّبَعَ غَيرَهُ فِي خِلَافِ الدِّينِ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ خِلَافُ الدِّينِ، وَاعْتَقَدَ مَا قَالَهُ ذَلِكَ دُونَ مَا قَالَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ: مُشْرِكًا مِثْلَ هَؤُلَاءِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ اعْتِقَادُهُمْ وَإِيمَانُهُمْ [بِتَحْرِيمِ الحَرَامِ وَتَحْلِيلِ الحَلَالِ
(2)
] ثَابِتًا، لَكِنَّهُمْ أَطَاعُوهُمْ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ -كَمَا يَفْعَلُ المُسْلِمُ مَا يَفْعَلُهُ مِنَ المَعَاصِي الَّتِي يَعْتَقِدُ أَنَّهَا مَعَاصٍ-؛ فَهَؤُلَاءِ لَهُمْ حُكْمُ أَمْثَالِهِمْ مِنْ أَهْلِ الذُّنُوبِ؛ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:((إنَّمَا الطَّاعَةُ فِي المَعْرُوفِ))
(3)
".
- قَولُهُ تَعَالَى: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} يَعْنِي: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ" لَا يَزَالُ فِي ذُرِّيَّتِهِ مَنْ يَقُولُهَا
(4)
.
(1)
مَجْموعُ الفَتَاوى (7/ 70).
(2)
مُلَاحَظَةٌ: فِي الأُصُولِ "بِتَحْرِيمِ الحَلَالِ وَتَحْلِيلِ الحَرَامِ"!! وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ خَطَأٌ مِنَ النُّسَّاخِ.
قَالَ الشَّيخُ نَاصِرُ بْنُ حَمَدٍ الفَهْدُ حَفِظَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (صِيَانَةُ مَجْمُوعِ الفَتَاوَى مِنَ السَّقْطِ وَالتَّصْحِيفِ)(ص 59): "وَقَولُهُ هُنَا (بِتَحْرِيمِ الحَلَالِ وَتَحْلِيلِ الحَرَامِ) قَدْ أَشَارَ عَدَدٌ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ إِلَى أَنَّهَا قَدْ تَكُونُ تَصْحِيفًا مِنَ النُّسَّاخِ، وَالأَظْهَرُ أَنَّ العِبَارَةَ هِيَ (بِتَحْرِيمِ الحَرَامِ وَتَحْلِيلِ الحَلَالِ) ".
(3)
رَوَاهُ البُخَارِيُّ (7145)، وَمُسْلِمٌ (1840) مِنْ حَدِيثِ عَليٍّ مَرْفُوعًا.
(4)
تَفْسِيرُ ابْنِ كَثِيرٍ (7/ 225).
- فِي قَولِهِ تَعَالَى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} بَيَانُ ضَلَالِ ثَلَاثِ طَوَائِفَ:
1 -
الطَّائِفَةِ الأُولَى: بَعْضُ المُتَصَوِّفَةِ الَّذِينَ يُطِيعُونَ شُيُوخَهُم -وَلَو أَمَرُوهُم بِمَعْصِيَةٍ ظَاهِرَةٍ- بِحُجَّةِ أَنَّهَا فِي الحَقِيقَةِ لَيسَتْ بِمَعْصِيَةٍ؛ وَأَنَّ الشَّيخَ يَرَى مَا لَا يَرَى المُرِيدُ!
(1)
2 -
الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ: هُمُ المُقَلِّدَةُ الَّذِينَ يُؤْثِرُونَ اتِّبَاعَ كَلَامِ المَذْهَبِ عَلَى كَلَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ مَعَ وُضُوحِ مَا يُؤْخَذُ مِنْهُ!
(2)
3 -
الطَّائِفَةِ الثَّالِثَةِ: هُمُ الَّذِينَ يُطِيعُونَ وُلَاةَ الأُمُورِ فِيمَا يُشَرِّعُونَهُ لِلنَّاسِ مِنْ نُظُمٍ وَقَرَارَاتٍ مُخَالِفَةٍ لِلشَّرْعِ؛ كَالشُّيُوعِيَّةِ وَمَا شَابَهَهَا، وَشَرُّهُم مَنْ يُحَاوِلُ أَنْ يُظْهِرَ أَنَّ ذَلِكَ مُوَافِقٌ لِلشَّرْعِ غَيرُ مُخَالِفٍ لَهُ!
(3)
- فَائِدَةٌ: قَد يُجْمَلُ الخَوفُ مَعَ الرَّجَاءِ فَتَكُونُ الأَرْكَانُ رُكْنَينِ: المَحَبَّةُ وَالرَّجَاءُ، أَوِ المَحَبَّةُ وَالخَوفُ.
(1)
قُلْتُ: هُوَ مَا يُسَمُّونَهُ بِالشَّرِيعَةِ وَالحَقِيقَةِ؛ أَو عِلْمِ الظَّاهِرِ وَعِلْمِ البَاطِنِ.
(2)
قَالَ الفَخْرُ الرَّازِي؛ أَبُو عَبْدِ اللهِ -صَاحِبُ التَّفْسِيرِ الكَبِيرِ- رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (6/ 31) عِنْدَ شَرْحِ قَولِهِ تَعَالَى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} : "قَالَ شَيخُنَا وَمَولَانَا خَاتِمَةُ المُحَقِّقِينَ وَالمُجْتَهِدِينَ رضي الله عنه: قَدْ شَاهَدْتُ جَمَاعَةً مِنْ مُقَلِّدَةِ الفُقَهَاءِ؛ قَرَأْتُ عَلَيهِم آيَاتٍ كَثِيرَةً مِنْ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى فِي بَعْضِ المَسَائِلِ -وَكَانَتْ مَذَاهِبُهُم بِخِلَافِ تِلْكَ الآيَاتِ-؛ فَلَمْ يَقْبَلُوا تِلْكَ الآيَاتِ! وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيهَا! وَبَقَوا يَنْظُرُونَ إِلَيِّ كَالمُتَعَجِّبِ، يَعْنِي كَيفَ يُمْكِنُ العَمَلُ بِظَوَاهِرِ هَذِهِ الآيَاتِ مَعَ أَنَّ الرِّوَايَةَ عَنْ سَلَفِنَا وَرَدَتْ عَلَى خِلَافِهَ!! وَلَو تَأَمَّلْتَ حَقَّ التَّأَمُّلِ وَجَدْتَ هَذَا الدَّاءَ سَارِيًا فِي عُرُوقِ الأَكْثَرِينَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا".
(3)
أَفَادَهُ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله فِي التَّعْلِيقِ عَلَى حَدِيثِ: ((لَا طَاعَةَ لِبَشَرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ؛ إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي المَعْرُوفِ)). الصَّحِيحَة (181).
وَوَجْهُ هَذَا "أَنَّ الْخَوْفَ مُسْتَلْزِمٌ لِلرَّجَاءِ، وَالرَّجَاءُ مُسْتَلْزِمٌ لِلْخَوْفِ؛ فَكُلُّ رَاجٍ خَائِفٌ، وَكُلُّ خَائِفٍ رَاجٍ، وَلِأَجْلِ هَذَا حَسُنَ وُقُوعُ الرَّجَاءِ فِي مَوْضِعٍ يَحْسُنُ فِيهِ وُقُوعُ الْخَوْفِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نُوح: 13]، قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: الْمَعْنَى: مَا لَكَمَ لَا تَخَافُونَ لِلَّهِ عَظَمَةً؟! قَالُوا: وَالرَّجَاءُ بِمَعْنَى الْخَوْفِ.
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ مُلَازِمٌ لَهُ؛ فَكُلُّ رَاجٍ خَائِفٌ مِنْ فَوَاتِ مَرْجُوِّهِ، وَالْخَوْفُ بِلَا رَجَاءٍ: يَأْسٌ وَقُنُوطٌ، وَقَالَ تَعَالَى:{قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} [الجَاثِيَة: 14] قَالُوا فِي تَفْسِيرِهَا: لَا يَخَافُونَ وَقَائِعَ اللَّهِ بِهِمْ؛ كَوَقَائِعِهِ بِمَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ"
(1)
.
(1)
مَدَارِجُ السَّالِكِينَ لِابْنِ القَيِّمِ (2/ 51).
مَسَائِلُ عَلَى البَابِ
-
مَسْأَلَةٌ: هَلْ يُقْبَلُ إِسْلَامُ أَيِّ كَافِرٍ بِمُجَرَّدِ قَولِ الشَّهَادَتَينِ؟
الجَوَابُ:
الأَصْلُ فِي قَبُولِ إِسْلَامِ الكَافِرِ هُوَ قَولُ الشَّهَادَتِينِ؛ إِلَّا إِنْ كَانَ هَذَا الكَافِرُ لَهُ اعْتِقَادٌ خَاصٌّ سَابِقٌ؛ فَلَا يُقْبَلُ إِسْلَامُهُ مُطْلَقًا حَتَّى يُضِيفَ إِلَى الشَّهَادَتِينِ إِبْطَالَ عَقِيدَتِهِ الخَاصَّةِ السَّابِقَةِ، كَمَا فِي لَفْظِ الحَدِيثِ ((مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؛ وَكَفَرَ بِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ؛ حَرُمَ مَالُهُ وَدَمُهُ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللهِ عز وجل)
(1)
.
فَالبَاطِنِيُّ الَّذِي يُؤَلِّهُ عَلِيًّا رضي الله عنه؛ لَا أَقُولُ: إِذَا نَطَقَ الشَّهَادَتَينِ فَقَطْ! بَلْ وَأَيضًا إِذَا صَلَّى؛ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ بِذَلِكَ مُسْلِمًا، لِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يُعْلِنَ بُطْلَانَ مَا كَانَ عَلَيهِ سَابِقًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الشَّهَادَةِ لَيسَتْ مُجَرَّدَ قَولِهَا! بَلْ وَلَا مُجَرَّدَ إِقَامَةِ مَظَاهِرِ تَوحِيدِ اللهِ تَعَالَى! بَلْ لَا بُدَّ مِنَ الكُفْرِ بِغَيرِ اللهِ تَعَالَى مِنَ المَعْبُودَاتِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البَقَرَة: 256]
(2)
.
(1)
رَوَاهُ مُسْلِمٌ (23) مِنْ حَدِيثِ طَارِقِ بْنِ أَشْيَمَ مَرْفُوعًا.
(2)
قَالَ الشَّيخُ ابْنُ عُثَيمِين رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ القَولُ المُفِيدُ (1/ 157): "وَفِي قَولِهِ: ((وكَفَرَ بِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ)) دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكْفِي مُجَرَّدُ التَّلَفُّظِ بِـ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)! بَلْ لَا بُدَّ أَنْ تَكْفُرَ بِعِبَادَةِ مَنْ يُعَبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ، بَلْ وَتَكْفُرَ أَيضًا بِكُلِّ كُفْرٍ، فَمَنْ يَقولُ: (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ) وَيَرَى أَنَّ النَّصَارَى وَاليَهُودَ اليَومَ عَلَى دِينٍ صَحِيحٍ! فَلَيسَ بِمُسْلِمٍ".
وَقَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ رَوضَةُ الطَّالِبِينَ (7/ 301) -كِتَابُ الرِّدَّةِ، فَصْلٌ فِيمَا تَحْصُلُ بِهِ تَوبَةُ المُرْتَدِّ وَفِي مَعْنَاهَا إِسْلَامُ الكُفَّارِ الأَصْلِيِّ-: "وَقَدْ وَصَفَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه تَوبَتَهُ فَقَالَ: أَنْ يَشْهَدَ أنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وأنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ؛ ويَبْرَأَ مِنْ كُلِّ دِينٍ خَالَفَ الإِسْلَامَ. وَقَالَ فِي مَوضِعٍ -أَي:
=
قَالَ شَيخُ الإِسْلَامِ رحمه الله: "هَؤُلَاءِ الدُّرْزِيَّةُ والنُصَيرِيَّة كُفَّارٌ بِاتِّفَاقِ المُسْلِمِينَ، لَا يَحِلُّ أَكْلُ ذَبَائِحِهِم وَلَا نِكَاحُ نِسَائِهِم؛ بَلْ وَلَا يُقَرُّونَ بِالجِزْيَةِ، فَإِنَّهُمْ مُرْتَدُّونَ عَنْ دِينِ الإِسْلَامِ، لَيسُوا مُسْلِمِينَ؛ وَلَا يَهُودَ وَلَا نَصَارَى، لَا يُقِرُّونَ بِوُجُوبِ الصَّلَوَاتِ الخَمْسِ وَلَا وُجُوبِ صَوْمِ رَمَضَانَ وَلَا وُجُوبِ الحَجِّ، وَلَا تَحْرِيمِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنَ المَيتَةِ وَالخَمْرِ وَغَيرِهِمَا وَإِنْ أَظْهَرُوا الشَّهَادَتَينِ -مَعَ هَذِهِ العَقَائِدِ- فَهُمْ كُفَّارٌ بِاتِّفَاقِ المُسْلِمِينَ"
(1)
.
قَالَ الإِمَامُ المُجدِّدُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الوَهَّابِ رحمه الله -فِي مَسَائِلِ البَابِ- مِنْ كِتَابِ التَّوحِيدِ: "وَمِنْهَا قَولُهُ صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؛ وَكَفَرَ بِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ؛ حَرُمَ مَالُهُ وَدَمُهُ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللهِ عز وجل) وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ مَا يُبَيِّنُ مَعْنَى (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)، فَإِنَّهُ لَمْ يَجْعَلِ التَّلَفُّظَ بِهَا عَاصِمًا لِلدَّمِ وَالمَالِ! بَلْ وَلَا مَعْرِفَةَ مَعْنَاهَا مَعَ لَفْظِهَا! بَلْ وَلَا الإِقْرَارَ بِذَلِكَ! بَلْ وَلَا كَونَهُ لَا يَدْعُو إِلَّا اللهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ! بَلْ لَا يَحْرُمُ مَالُهُ وَدَمُهُ حَتَّى يُضِيفَ إِلَى ذَلِكَ الكُفْرَ بِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ؛ فَإِنْ شَكَّ أَو تَوَقَّفَ لَمْ يَحْرُمْ مَالُهُ وَدَمُهُ".
=
الشَّافِعِيُّ-: إِذَا أَتَى بِالشَّهَادَتينِ صَارَ مُسْلِمًا. وَلَيسَ هَذَا بِاخْتِلَافِ قَولٍ عِنْدَ جُمْهُورِ الأَصْحَابِ -كَمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الظِّهَارِ- بَلْ يَخْتَلِفُ الحَالُ بِاخْتِلَافِ الكُفَّارِ وَعَقَائِدِهِم".
وَقَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رحمه الله أَيضًا فِي كِتَابِهِ رَوضَةُ الطَّالِبِينَ (7/ 302): "وَأَنَّ الثَّنَوِيَّ إِذَا قَالَ: (لَا إِلَهَ إلِّا اللهَ) لَمْ يَكُنْ مُؤمِنًا حَتَّى يَتَبَرَّأَ مِنَ القَولِ بِقِدَمِ الظُّلْمَةِ وَالنُّورِ؛ وَأَنْ لَا قَدِيمَ إِلَّا اللهُ؛ كَانَ مُؤمِنًا".
قُلْتُ: وَفِي الحَدِيثِ: ((مَنْ شِهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَالجَنَّةَ حَقٌّ، وَالنَّارَ حَقٌّ؛ أَدْخَلَهُ اللهُ الجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنَ العَمَلِ)). رَوَاهُ البُخَارِيُّ (3435)، وَمُسْلِمٌ (28) عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ مَرْفُوعًا.
وَبِنَحْوِهِ أَيضًا فِي كِتَابِ المُغْنِي (9/ 21) لِابْنِ قُدَامَةَ رحمه الله.
وَانْظُرْ أَيضًا فَتْوَى الشَّيخِ ابْنِ بَازٍ رحمه الله فِي صَدَّام حُسَين فِي كِتَابِهِ مَجْمُوعُ فَتَاوَى ابْنِ بَاز (6/ 121).
(1)
مَجْمُوعُ الفَتَاوَى (35/ 161).
بَابُ مِنَ الشِّرْكِ لُبْسُ الحَلْقَةِ وَالخَيطِ وَنَحْوِهِمَا لِرَفْعِ البَلَاءِ أَو دَفْعِهِ
وَقَولُ اللهِ تَعَالَى: {أَفَرَأَيتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزُّمَر: 38].
وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ الحُصَينِ رضي الله عنه؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَىَ رَجُلًا فِي يَدِهِ حَلْقَةٌ مِنْ صُفْرٍ. فَقَالَ: ((مَا هَذِهِ؟)) قَالَ: مِنَ الوَاهِنَةِ. فَقَالَ: ((انْزِعْهَا؛ فَإِنَّهَا لَا تَزِيدُكَ إِلَّا وَهْنًا، فإنَّكَ لو مِتَّ وَهِيَ عَلَيكَ؛ مَا أَفْلَحَتَ أَبَدًا)). رَوَاهُ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ لَا بَأْسَ بِهِ
(1)
.
وَلَهُ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ مَرْفُوعًا: ((مَنْ تَعَلَّقَ تَمِيمَةً؛ فَلَا أَتَمَّ اللهُ لَهُ، ومَنْ تَعلَّقَ وَدَعَةً؛ فَلَا وَدَعَ اللهُ لَهُ))
(2)
.
وَفِي رِوَايَةٍ: ((مَنْ تَعلَّقَ تَمِيمَةً، فَقَدْ أَشْرَكَ))
(3)
.
وَلِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ حُذَيفَةَ رضي الله عنه؛ أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا فِي يَدِهِ خَيطٌ مِنَ الحُمَّى؛ فَقَطَعَهُ، وَتَلَا قَولَهُ تَعَالَى:{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يُوسُف: 106]
(4)
.
(1)
أَحْمَدُ (20000)، وَالحَدِيثُ ضَعَّفَهُ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله فِي الضَّعِيفَةِ (1029) بِسَبَبِ الانْقِطَاعِ بَينَ الحَسَنِ وَعِمْرَانَ؛ وَأَيضًا بِسَبَبِ عَنْعَنَةِ المُبَارَكِ -وَهُوَ ابْنُ فَضَالَةَ- فَقَدْ كَانَ مُدَلِّسًا.
(2)
ضَعِيفٌ. أَحْمَدُ (17404). ضَعِيفُ الجَامِعِ (5703)، وَيُغْنِي عَنْهُ الحَدِيثُ الَّذِي بَعْدَهُ.
(3)
صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (17422). الصَّحِيحَة (492).
(4)
ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي التَّفْسِيرِ (12040).
فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: التَّغْلِيظُ فِي لُبْسِ الحَلْقَةِ وَالخَيطِ وَنَحْوِهِمَا لِمِثْلِ ذَلِكَ.
الثَّانِيَةُ: أَنَّ الصَّحَابِيَّ لَو مَاتَ -وَهِيَ عَلَيهِ- مَا أَفْلَحَ؛ فِيهِ شَاهِدٌ لِكَلَامِ الصَّحَابَةِ: أَنَّ الشِّرْكَ الأَصْغَرَ أَكْبَرُ مِنَ الكَبَائِرِ.
الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ لَمْ يُعْذَرْ بِالجَهَالَةِ.
الرَّابِعَةُ: أَنَّهَا لَا تَنْفَعُ فِي العَاجِلَةِ؛ بَلْ تَضُرُّ، لِقَولِهِ:((لَا تَزِيدُكَ إِلَّا وَهْنًا)).
الخَامِسَةُ: الإِنْكَارُ بِالتَّغْلِيظِ عَلَى مَنْ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ.
السَّادِسَةُ: التَّصْرِيحُ بِأَنَّ مَنْ تَعَلَّقَ شَيئًا؛ وُكِلَ إِلَيهِ.
السَّابِعَةُ: التَّصْرِيحُ بِأَنَّ مَنْ تَعَلَّقَ تَمِيمَةً؛ فَقَدْ أَشْرَكَ.
الثَّامِنَةُ: أَنَّ تَعْلِيقَ الخَيطِ مِنَ الحُمَّى مِنْ ذَلِكَ.
التَّاسِعَةُ: تِلَاوَةُ حُذَيفَةَ الآيَةَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الصَّحَابَةَ يَسْتَدِلُّونَ بِالآيَاتِ الَّتِي فِي الشِّرْكِ الأَكْبَرِ عَلَى الأَصْغَرِ -كَمَا ذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي آيَةِ البَقَرَةِ-.
العَاشِرَةُ: أَنَّ تَعْلِيقَ الوَدَعَ مِنَ العَينِ مِنْ ذَلِكَ.
الحَادِيَةَ عَشْرَةَ: الدُّعَاءُ عَلَى مَنْ تَعَلَّقَ تَمِيمَةً أَنَّ اللهَ لَا يُتِمُّ لَهُ؛ وَمَنْ تَعَلَّقَ وَدَعَةً فَلَا وَدَعَ اللهُ لَهُ؛ أَي: تَرَكَ اللهُ لَهُ.
الشَّرْحُ
- قَولُهُ: "بَابُ مِنَ الشِّرْكِ لُبْسُ الحَلْقَةِ": اللُّبْسُ بِالضَّمِّ: مِنْ لُبْسِ الثَّوبِ، وَبِالفَتْحِ مِنَ التَّخْلِيطَ، وَبِالكَسْرِ هُوَ مَا يُلْبَسُ.
وَالحَلْقَةُ -بِسُكُونِ اللَّامِ-: مِنَ الاسْتِدَارَةِ -، وَهِيَ المَقْصُودَةُ فِي البَابِ-، وَبِالفَتْحِ: مِنْ حِلَاقَةِ الشَّعْرِ.
- قَولُهُ: "لِدَفْعِ البَلَاءِ" هُوَ قَبْلَ وُقُوعِهِ، "وَرَفْعُ البَلَاءِ" هُوَ بَعْدَ وُقُوعِهِ، وَفِي هَذَا التَّنْوِيعِ تَفْصِيلٌ سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى فِي البَابِ التَّالِي.
- الآيَةُ الكَرِيمَةُ هُنَا سِيَاقُهَا فِيمَنْ تَعَلَّقَ بِغَيرِ اللهِ تَعَالَى؛ حَيثُ قَالَ تَعَالَى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزُّمَر: 38].
- القَاعِدَةُ فِي هَذَا البَابِ: أَنَّ اعْتِقَادَ الأَسْبَابِ المُؤَثِّرَةِ لَا يَجُوزُ إِلَّا مَا ثَبَتَ شَرْعًا أَو قَدَرًا، فَالتَّعَلُّقُ بِشَيءٍ لَمْ يَأْذَنْ بِهِ الشَّرْعُ يَكُون نَوعًا مِنَ الشِّرْكِ إِذَا كَانَ لِدَفْعِ البَلَاءِ أَو لِرَفْعِهِ.
- قَولُهُ تَعَالَى: {إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ} {بِضُرٍّ} هَذِهِ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ؛ وَهَذَا يَعُمُّ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الضُّرِّ.
- قَولُهُ تَعَالَى: {تَدْعُونَ} هَذَا الدُّعَاءُ يَشْمَلُ دُعَاءَ المَسْأَلَةِ وَدُعَاءَ العِبَادَةِ؛ لِأَنَّهُمَا حَالَانِ مِنْ أَحْوَالِ أَهْلِ الإِشْرَاكِ بِاللهِ تَعَالَى.
- فِي الآيَةِ الكَرِيمَةِ بَيَانُ أَنَّهُ كَمَا أَنَّ الخَالِقَ هُوَ اللهُ وَحْدَهُ؛ فَالَّذِي يَرْحَمُ وَيَضُرُّ أَيضًا هُوَ اللهُ وَحْدَهُ، لِذَلِكَ لَا يُدْعَى وَلَا يُتَعَلَّقُ بِسِوَى اللهِ تَعَالَى، فَصَارَ فِيهِ الاسْتِدْلَالُ بِتَوحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ عَلَى تَوحِيدِ الأُلُوهِيَّةِ.
- الوَاهِنَةُ: عِرْقٌ يَأْخُذُ فِي المَنْكِبِ وَاليَدِ كُلِّهَا.
- التَّمَائِمُ: جَمْعُ تَمِيمَةٍ، وَهِيَ خَرَزَاتٌ كَانَتِ العَرَبُ تُعَلِّقُهَا عَلَى أَولَادِهِم يَتَّقُونَ بِهَا العَينَ -فِي زَعْمِهِم-؛ فَأَبْطَلَهَا الإِسْلَامُ
(1)
.
- الوَدْعَةُ -بِسُكُونِ الدَّالِ، وَيُحَرَّكُ-: جَمْعُهَا وَدَعَاتٌ؛ خَرَزٌ بِيضٌ تُخْرَجُ مِنَ البَحْرِ؛ تُعَلَّقُ لِدَفْعِ العَينِ
(2)
.
- الحَدِيثُ الأَوَّلُ فِي البَابِ لَمْ يَصِحَّ بِهَذَا اللَّفْظِ؛ وَإِنَّمَا صَحَّ مَوقُوفًا عَنْ عِمْرَانَ رضي الله عنه بِنَحْوِهِ، فَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا فِي عَضُدِهِ حَلْقَةٌ مِنَ صُفَرٍ؛ فَقَالَ لَهُ: مَا هَذِهِ؟ قَالَ: نُعِتَتْ لِي مِنَ الوَاهِنَةِ، قَالَ: أَمَا إِنْ مِتَّ وَهِيَ عَلَيكَ وُكِلْتَ إِلَيهَا، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:((لَيسَ مِنَّا مَنْ تَطَيَّرَ أَو تُطُيِّرَ لَهُ، وَلَا تَكَهَّنَ أَو تُكُهِّنَ لَهُ، أَو سَحَرَ أَو سُحِرَ لَهُ))
(3)
.
- قَولُهُ: ((فَإِنَّهَا لَا تَزِيدُكَ إِلَّا وَهْنًا)) أَي: ضَعْفًا، وَذَلِكَ عُقُوبَةً لَهُ مِنْ جِنْسِ عَمَلِهِ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ قَلْبَهُ بِغَيرِ اللهِ تَعَالَى رَجَاءَ كَشْفِ الضُّرِّ.
- قَولُهُ: ((ومَنْ تَعلَّقَ وَدَعَةً؛ فَلَا وَدَعَ اللهُ لَهُ)) أَي: لَا تَرَكَ لَهُ مَا يُحِبُّ، أَو لَا جَعَلَهُ فِي دَعَةٍ -أَي رَاحَةٍ- وَسُكُونٍ.
(1)
النِّهَايَةُ فِي غَرِيبِ الحَدِيثِ وَالأَثَرِ (1/ 536).
(2)
القَامُوسُ المُحِيطُ (ص 769).
(3)
صَحِيحٌ. البَزَّارُ (9/ 52). الصَّحِيحَة (2195).
- قَولُهُ: ((مَنْ تَعَلَّقَ تَمِيمَةً فَلَا أَتَمَّ اللهُ لَهُ)) قَدْ تَكُونُ جُمْلَةً خَبَرِيَّةً؛ أَي: مَعْنَاهَا الإِخْبَارُ بِأَنَّ اللهَ لَا يُتِمُّ لَهُ أَمْرَهُ، وَقَدْ يَكُونُ مَعْنَاهَا إِنْشَائِيًّا؛ أَي: مَعْنَاهَا الدُّعَاءُ عَلَيهِ بِأَنْ لَا يُتِمَّ اللهُ لَهُ أمْرَهُ.
- قَولُهُ: ((مَنْ تَعلَّقَ تَميمَةً)) أَي: علَّقَهَا مُتَعَلِّقًا بِهَا قَلْبُهُ.
وَالحَدِيثُ بِتَمَامِهِ فِي المُسْنَدِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الجُهَنِيِّ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَقْبَلَ إِلَيهِ رَهْطٌ، فَبَايَعَ تِسْعَةً وَأَمْسَكَ عَنْ وَاحِدٍ. فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! بَايَعْتَ تِسْعَةً وَتَرَكْتَ هَذَا؟ قَالَ: إنَّ عَلَيهِ تَميمَةً!، فَأَدْخَلَ يَدَهُ فَقَطَعَهَا؛ فبَايَعَهُ. وَقَالَ:((مَنْ عَلَّقَ تَميمَةً فَقد أَشْرَكَ))
(1)
.
- تَعْلِيقُ التَّمَائِمِ فِيهِ خَلَلٌ مِنْ جَانِبِ التَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ تَعَالَى؛ حَيثُ جَعَلَ نَصِيبًا لِغَيرِهِ تَعَالَى مِنَ التَّوَكُّلِ عَلَيهِ، وَفِي الحَدِيثِ عَنْ عِيسَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيلَى؛ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ عُكَيمٍ؛ أَبِي مَعْبَدٍ الجُهَنِيِّ أَعُودُهُ -وَبِهِ حُمْرَةٌ-، فَقُلْنَا: أَلَا تُعَلِّقُ شَيئًا؟ قَالَ: المَوتُ أَقْرَبُ مِنْ ذَلِكَ؛ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ تَعَلَّقَ شَيئًا وُكِلَ إِلَيهِ))
(2)
.
- إِنَّ مَنْ لَبِسَ الحَلْقَةَ وَنَحْوَهَا مِنَ التَّمَائِمَ -لِدَفْعِ العَينِ- لَهُ حَالَانِ:
1 -
إِنِ اعْتَقَدَ لَابِسُهَا أَنَّهَا مُؤَثِّرَةٌ بِنَفْسِهَا دُونَ اللهِ؛ فَهَذَا شِرْكٌ فِي الرُّبُوبِيَّةِ، لِأَنَّهُ جَعَلَ شَرِيكًا مَعَ اللهِ فِي الخَلْقِ وَالتَّدْبِيرِ! وَهُوَ أَيضًا شِرْكٌ فِي العُبُودِيَّةِ حَيثُ عَلَّقَ قَلْبَهُ بِهَا طَمَعًا وَرَجَاءً لِلنَّفْعِ.
(1)
صَحِيحٌ. أَحْمَد (17422). الصَّحِيحَة (492).
(2)
حَسَنٌ لِغَيْرِهِ. التِّرْمِذِيُّ (2072) -بَابُ مَا جَاءَ فِي كَرَاهِيَةِ التَّعْلِيْقِ-. صَحِيْحُ التَّرْغِيْبِ (3456).
2 -
إِنِ اعْتَقَدَ أَنَّهَا سَبَبٌ فَقَط؛ فَهُوَ مُشْرِكٌ شِرْكًا أَصْغَرَ
(1)
-وَعَلَيهِ حَدِيثُ البَابِ-، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ مَا لَيسَ بِسَبَبٍ سَبَبًا وَتَعَلَّقَ بِهِ؛ فَقَدْ شَابَهَ المُشْرِكِينَ مِنْ جِهَةِ الهَيئَةِ
(2)
، وَسَيَأْتِي فِي بَابِ الاسْتِسْقَاءِ بِالأَنْوَاءِ ذِكْرُ القَاعِدَةِ هُنَاكَ
(3)
.
- إِنَّ جَعْلَ أَيَّ شَيءٍ سَبَبًا إِنَّمَا يَكُونُ بِطَرِيقَينِ فَقَط:
1 -
عَنْ طَرِيقِ الشَّرْعِ: بِأَنْ يَثْبُتَ فِي الشَّرْعِ كَونُهُ سَبَبًا لِأَمْرٍ مَا، وَذَلِكَ كَالعَسَلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِيهِ:{فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النَّحْل: 69]، وَكَقِرَاءَةِ القُرْآنِ فَفِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإِسْرَاء: 82]، وَكَالحَبَّةِ السَّودَاءُ وَ .....
2 -
عَنْ طَرِيقِ القَدَرِ: أَي: مَا قَدَّرَهُ اللهُ كَونًا أَنَّهُ سَبَبٌ، وَهُوَ مَا عُلِمَ بِالتَّجْرِبَةِ وَالحِسِّ، كَمَا إِذَا جَرَّبْنَا هَذَا الشَّيءَ فَوَجَدْنَاهُ نَافِعًا فِي هَذَا الأَلَمِ أَوِ المَرَضِ، وَلَكِنْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ أَثَرُهُ ظَاهِرًا مُبَاشِرًا
(4)
.
(1)
كَمَا ذَهَبَ إِلَيهِ المُصَنِّفُ فِي المَسْأَلَةِ التَّاسِعَةِ.
(2)
وَأَيضًا قَدْ شَارَكَ اللهَ تَعَالَى فِي الحُكْمِ لِهَذَا الشَّيءِ بِأَنَّهُ سَبَبٌ؛ وَاللهُ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلْهُ سَبَبًا!
(3)
قَالَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله فِي الصَّحِيحَة (1/ 491): "وَلَمْ يَقِفِ الأَمْرُ بِبَعْضِهِم عِنْدَ مُجَرَّدِ المُخَالَفَةِ؛ بَلْ تَعَدَّاهُ إِلَى التَّقَرُّبِ بِهَا إِلَى اللهِ تَعَالَى! فَهَذَا الشَّيخُ الجَزُولِيُّ -صَاحِبُ (دَلَائِلِ الخَيرَاتِ) - يَقُولُ فِي الحِزْبِ السَّابِعِ فِي يَومِ الأَحَدِ (ص 111 طَبْعُ بُولَاق): "اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ؛ مَا سَجَعَتِ الحَمَائِمُ، وَحَمَتِ الحَوَائِمُ، وَسَرَحَتِ البَهَائِمُ، وَنَفَعَتِ التَّمَائِمُ"! وَتَأْوِيلُ الشَّارِحِ لِـ (الدَّلَائِلِ) بِأَنَّ (التَّمَائِمَ) جَمْعُ تَمِيمَةٍ -وَهِيَ الوَرَقَةُ الَّتِي يُكْتَبُ فِيهَا شَيءٌ مِنَ الأَسْمَاءِ أَوِ الآيَاتِ، وَتُعَلَّقُ عَلَى الرَّأْسِ مَثَلًا لِلتَّبَرُّكِ- فَمِمَّا لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ التَّمَائِمَ عِنْدَ الإِطْلَاقِ إِنَّمَا هِيَ الخَرَزَاتُ كَمَا سَبَقَ عَنِ ابْنِ الأَثِيرِ، عَلَى أَنَّهَ لَو سُلِّمَ بِهَذَا التَّأْوِيلِ فَلَا دَلِيلَ فِي الشَّرْعِ عَلَى أَنَّ التَّمِيمَةَ بِهَذَا المَعْنَى تَنْفَعُ! وَلِذَلِكَ جَاءَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ كَرَاهَةُ ذَلِكَ كَمَّا بَيَّنْتُهُ فِي تَعْلِيقِي عَلَى (الكَلِمِ الطَّيِّبِ) ".
(4)
وَإِنَّمَا قُلْنَا هَذَا لِئَلَّا يَقُولَ قَائِلٌ: أَنَا جَرَّبْتُ هَذَا وَانْتَفَعْتُ بِهِ -وَهُوَ لَمْ يَكُنْ مُبَاشِرًا- كَالحَلْقَةِ؛ فَقَدْ يَلْبَسُهَا إِنْسَانٌ -وَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّهَا نَافِعَةٌ- فَيَنْتَفِعُ! لِأَنَّ الانْفِعَالَ النَّفْسِيَّ لِلشَّيءِ لَهُ أَثَرٌ بَيِّنٌ.
- قَالَ الشَّيخُ السَّعْدِيُّ رحمه الله: "وَهَذَا البَابُ يَتَوَقَّفُ فَهْمُهُ عَلَى مَعْرِفَةِ أَحْكَامِ الأَسْبَابِ، وَهِيَ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ:
1 -
أَنْ لَا يَجْعَلَ مِنْهَا سَبَبًا إِلَّا مَا ثَبَتَ أَنَّه سَبَبٌ شَرْعًا أَو قَدَرًا.
2 -
أَنْ لَا يَعْتَمِدَ العَبْدُ عَلَيهَا؛ بَلْ يَعْتَمِدُ عَلَى مُسَبِبِهَا وَمُقَدِّرِهَا، مَعَ قِيَامِهِ بِالمَشْرُوعِ مِنْهَا، وَحِرْصِهِ عَلَى النَّافِعِ مِنْهَا.
3 -
أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الأَسْبَابَ مُرْتَبِطَةٌ بِقَضَاءِ اللهِ وَقَدَرِهِ، وَاللهُ تَعَالَى يَتَصَرَّفُ فِيهَا كَيفَ يَشَاءُ -إِنْ شَاءَ أَبْقَى سَبَبِيَّتَهَا جَارِيَةً، وَإِنْ شَاءَ غَيَّرَهَا كَيفَ يَشَاءُ-، وَفِي هَذَا فَائِدَةٌ عَظِيمَةٌ لِلعِبَادِ فِي أَنْ لَا يَعْتَمِدوا عَلَيهَا؛ وَلِيَعْلَمُوا كَمَالَ قُدْرَتِهِ سُبْحَانَهُ"
(1)
.
- فِي المَسْأَلَةِ الثَّالِثَةِ: قَولُهُ: "أَنَّهُ لَمْ يُعْذَرْ بِالجَهَالَةِ": هَذَا فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ قَولَهُ صلى الله عليه وسلم:((لَو مِتَّ وَهِيَ عَلَيكَ؛ مَا أَفْلَحْتَ أَبَدًا)) لَيسَ بِصَرِيحٍ أَنَّهُ لَو مَاتَ قَبْلَ العِلْمِ! بَلْ ظَاهِرُهُ: "بَعْدَ أَنْ عَلِمْتَ وَأُمِرْتَ بِنَزْعِهَا"
(2)
.
- يُشْرَعُ عِنْدَ الإِصَابَةِ بِالعَينِ فِعْلُ الرُّقْيَةِ بَدَلًا مِنْ تَعْلِيقِ التَّمَائِمِ، فَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها؛ قَالَتْ:(أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَسْتَرْقِيَ مِنَ العَينِ)
(3)
، وَقَدْ مَرَّ مَعَنَا حَدِيثُ:((لَا رُقْيَةَ إِلَّا مِنْ عَينٍ أَو حُمَةِ))
(4)
.
وَالرُّقيَةُ هِيَ مِنْ جِنْسِ الدُّعَاءِ وَهُوَ مِمَّا جَعَلَهُ اللهُ سَبَبًا لِرَدِّ البَلَاءِ قَبْلَ وُقُوعِهِ
(1)
القَولُ السَّدِيدُ (ص 42).
(2)
القَولُ المُفِيدُ (1/ 173).
(3)
رَوَاهُ البُخَارِيُّ (5738)، وَمُسْلِمٌ (2195).
(4)
رَوَاهُ البُخَارِيُّ (5705)، وَمُسْلِمٌ (220).
أَصْلًا، كَمَا فِي حَدِيثِ ثَوبَان مَرْفُوعًا:((لَا يَرُدُّ القَدَرَ إِلَّا الدُّعَاءُ، وَلَا يَزِيدُ فِي العُمُرِ إِلَّا البِرُّ))
(1)
، فَتأمَّلْ قَولَهُ:((لَا يَرُدُّ القَدَرَ إِلَّا الدُّعَاُء)) حَيثُ أَنَّ الاسْتِثْنَاءَ بَعْدَ النَّفْي يُفِيدُ الحَصْرَ.
وَفِي الحَدِيثِ: ((الدُّعَاءُ يَنْفَعُ مِمَّا نَزَلَ وَمِمَّا لَمْ يَنْزَلْ؛ فَعَلَيكُمْ عِبَادَ اللهِ بِالدُّعَاءِ))
(2)
، فَهُوَ صَرِيحٌ فِي دَفْعِ البَلَاءِ وَرَفْعِهِ.
- فِي قَولِهِ: ((فَإِنَّكَ لَو مِتَّ وَهِيَ عَلَيكَ؛ مَا أَفْلَحْتَ أَبَدًا)) أَي: لَو مَاتَ وَلَمْ يَتُبْ مِنْهَا مَا أَفْلَحَ أَبَدًا، فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الشِّرْكَ لَا يُغْفَرُ حَتَّى وَلَو كَانَ شِرْكًا أَصْغَر، فَهُوَ يُعذَّبُ بِهِ -وَإِنْ كَانَ لَا يعذَّبُ تَعْذِيبَ المُشْرِكِ الشِّرْكَ الأَكْبَرَ- فَهُوَ لَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ، لَكِنْ يُعَذَّبُ بِهِ بِقَدَرِهِ
(3)
، فَفِيهِ شَاهِدٌ لِكَلَامِ الصَّحَابَةِ:"أَنَّ الشِّرْكَ الأَصْغَرَ أَكْبَرُ مِنَ الكَبَائِرِ"
(4)
.
(1)
صَحِيحٌ. ابْنُ مَاجَه (4022). وَالحَدِيثُ بِهَذَا القَدْرِ صَحِيحٌ. الصَّحِيحَة (154).
(2)
حَسَنٌ. الحَاكِمُ (1815) عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (3409).
(3)
يُنْظَرُ: إِعَانَةُ المُسْتَفِيدِ (1/ 191).
قُلْتُ: وَفِي القَولِ بِعَدَمِ مَغْفِرَةِ الشِّرْكِ الأَصْغَرِ -إِلَّا بِالتَّوبَةِ- خِلَافٌ بَينَ أَهْلِ العِلْمِ.
قَالَ شَيخُ الإِسْلَامِ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (تَلْخِيصُ كِتَابِ الاسْتِغَاثَةِ) المَعْرُوفِ بِاسْمِ (الرَّدُ عَلَى البَكْرِيِّ)(ص 301): "وَقَدْ يُقَالُ: الشِّرْكُ لَا يُغْفَرُ مِنْهُ شَيءٌ لَا أَكْبَرَ وَلَا أَصْغَرَ -عَلَى مُقْتَضَى عُمُومِ القُرْآنِ-؛ وَإِنْ كَانَ صَاحِبُ الشِّرْكِ الأَصْغَرِ يَمُوتُ مُسْلِمًا، لَكِنَّ شِرْكَهُ لَا يُغْفَرُ لَهُ، بَلْ يُعَاقَبُ عَلَيهِ، وَإِنْ دَخَلَ بَعْدَ ذَلِكَ الجَنَّةَ".
(4)
وَسَيَأْتِي الكَلَامُ عَلَيهِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى فِي بَابِ قَولِهِ تَعَالَى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البَقَرَة: 22].
مَسَائِلُ عَلَى البَابِ
-
مَسْأَلَةٌ: ظَهَرَ فِي الأَسْوَاقِ -فِي الآوِنَةِ الأَخِيرَةِ- حَلْقَةٌ مِنَ المَعْدِنِ
يَقُولُونَ: إِنَّهَا تَنْفَعُ فِي عِلَاجِ المَرَضِ المُسَمَّى بِـ"الرُّومَاتِيزِمِ"؛ فَمَا حُكْمُ لُبْسِهَا؟
الجَوَابُ:
الأَصْلُ أَنَّهُ لَيسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّهُ لَيسَ عِنْدَنَا دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ وَلَا مَادِيٌّ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَهِيَ لَا تُؤَثِّرُ عَلَى الجِسْمِ! فَلَيسَ فِيهَا مَادَّةٌ ذَوَّابَةٌ حَتَّى نَقُولَ: إِنَّ الجِسْمَ يَشْرَبُ هَذِهِ المَادَّةِ وَيَنْتَفِعُ بِهَا!
فَالأَصْلُ أَنَّهَا مَمْنُوعَةٌ حَتَّى يَثْبُتَ لَنَا بِدَلِيلٍ مَادِّيٍّ صَحِيحٍ صَرِيحٍ ظَاهِرٍ أَنَّ لَهَا اتِّصَالًا مُبَاشِرًا بِهَذَا "الرُّومَاتِيزِم" حَتَّى يُنْتَفَعَ بِهَا، أَو أَنْ يَحْكُمَ بِذَلِكَ أَطِبَّاءٌ مُسْلِمُونَ مُؤْتَمَنُونَ فِي دِينِهِم؛ حَرِيصُونَ عَلَى أَمْرِ شَرِيعَتِهِم؛ حَاذِقُونَ فِي مِهْنَتِهِم، فَيَشْهَدُونَ بِصِحَّةِ ذَلِكَ الأَمْرِ الغَائِبِ عَنِ العِيَانِ. وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
بَابُ مَا جَاءَ فِي الرُّقَى وَالتَّمَائِمِ
فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبي بَشِيرٍ الأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه؛ أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ؛ فَأَرْسَلَ رَسُولًا: ((أَنْ لَا يَبْقَيَنَّ فِي رَقَبَةِ بَعِيرٍ قِلَادَةٌ مِنْ وَتَرٍ، أَو قِلَادَةٌ، إِلَّا قُطعَتْ))
(1)
.
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه؛ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ((إِنَّ الرُّقَى وَالتَّمَائِمَ وَالتِّوَلَةَ شِرْكٌ)). رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد
(2)
.
((التَّمَائِمُ)) شَيءٌ يُعَلَّقُ عَلَى الأَولَادِ مِنَ العَينِ، لَكِنْ إِذَا كَانَ المُعلَّقُ مِنَ القُرْآنِ؛ فَرَخَّصَ فِيهِ بَعْضُ السَّلَفِ، وَبَعْضُهُم لَمْ يُرَخِّصْ فِيهِ وَيَجْعَلُهُ مِنَ المَنْهيِّ عَنْهُ؛ مِنْهُم ابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه.
وَ ((الرُّقَى)) هِيَ الَّتِي تُسَمَّى العَزَائِمَ، وَخَصَّ مِنْهَا الدَّلِيلُ مَا خَلَا مِنَ الشِّرْكِ؛ فَقَدْ رَخَّصَ فِيهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ العَينِ وَالحُمَةِ.
وَ ((التِّوَلَة)) شَيءٌ يَصْنَعُونَهُ، يَزْعُمُونَ أَنَّهُ يُحَبِّبُ المَرْأَةَ إِلَى زَوجِهَا، وَالرَّجُلَ إِلَى امْرَأَتِهِ.
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُكَيمٍ مَرْفُوعًا: ((مَنْ تَعَلَّقَ شَيئًا وُكِلَ إِلَيهِ)). رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ
(3)
.
(1)
البُخَارِيُّ (3005)، وَمُسْلِمٌ (2115).
(2)
صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (3615)، وَأَبُو دَاوُدَ (3883). الصَّحِيحَة (331).
(3)
حَسَنٌ لِغَيرِهِ. أَحْمَدُ (18786)، وَالتِّرْمِذِيُّ (2072). صَحِيحُ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ (3456).
وَرَوَى أَحْمَدُ عَنْ رُوَيفِعٍ؛ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((يَا رُوَيفعُ! لَعَلَّ الحَيَاةَ تَطُولُ بِكَ؛ فَأَخْبِرِ النَّاسَ أَنَّ مَنْ عَقَدَ لِحْيَتَهُ، أَو تَقَلَّدَ وَتَرًا، أَوِ اسْتَنْجَى بِرَجِيعِ دَابَّةٍ أَو عَظْمٍ؛ فَإِنَّ مُحَمَّدًا بَرِيءٌ مِنْهُ))
(1)
.
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيرٍ؛ قَالَ: (مَنْ قَطَعَ تَمِيمَةً مِنْ إِنْسَانٍ؛ كَانَ كَعِدْلِ رَقَبَةٍ). رَوَاهُ وَكِيعٌ
(2)
.
وَلَهُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ؛ قَالَ: (كَانُوا يَكْرَهُونَ التَّمَائِمَ كُلَّهَا مِنَ القُرْآنِ وَغَيرِ القُرْآنِ)
(3)
.
(1)
صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (17000). صَحِيحُ الجَامِعِ (7910).
(2)
مُصَنَّفُ ابْنِ أَبِي شَيبَةَ (23473).
(3)
مُصَنَّفُ ابْنِ أَبِي شَيبَةَ (5/ 36)، ورَوَاهُ القَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ فِي (فَضَائِلِ القُرْآنِ)(704)، وَتَمَامُهُ عِنْدَهُ:"حَدَّثَنَا هُشَيمٌ؛ أَخْبَرَنَا مُغِيرَةُ؛ عَنْ إِبْرَاهِيمَ؛ قَالَ: (كَانُوا يَكْرَهُونَ التَّمَائِمَ كُلَّهَا مِنَ القُرْآنِ وَغَيرِهِ)، قَالَ: وَسَأَلْتُ إِبْرَاهِيمَ فَقُلْتُ: أُعَلِّقُ فِي عَضُدِي هَذِهِ الآيَةَ {قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأَنْبِيَاء: 69] مِنْ حُمًّى كَانَتْ بِي؟ فَكَرِهَ ذَلِكَ". وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ. اُنْظُرْ تَحْقِيقَ كِتَابِ (الكَلِمُ الطَّيِّبُ) لِلشَّيخِ الأَلْبَانِيِّ رحمه الله (ص 85).
فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: تَفْسِيرُ الرُّقَى وَالتَّمَائِمِ.
الثَّانِيَةُ: تَفْسِيرُ التِّوَلَةِ.
الثَّالِثَةُ: أَنَّ هَذِهِ الثَّلِاثَةَ كُلَّهَا مِنَ الشِّرْكِ مِنْ غَيرِ اسْتِثْنَاءٍ.
الرَّابِعَةُ: أَنَّ الرُّقْيَةَ بِالكَلَامِ الحَقِّ مِنَ العَينِ وَالحُمَةُ لَيسَ مِنْ ذَلِكَ.
الخَامِسَةُ: أَنَّ التَّمِيمَةَ إِذَا كَانَتْ مِنَ القُرْآنِ؛ فَقَدِ اخْتَلَفَ العُلَمَاءُ؛ هَلْ هِيَ مِنْ ذَلِكَ أَمْ لَا؟
السَّادِسَةُ: أَنَّ تَعْلِيقَ الأَوتَارِ عَلَى الدَّوَابِ مِنَ العَينِ مِنْ ذَلِكَ.
السَّابِعَةُ: الوَعِيدُ الشَّدِيدُ عَلَى مَنْ تَعَلَّقَ وَتَرًا.
الثَّامِنَةُ: فَضْلُ ثَوَابِ مَنْ قَطَعَ تَمِيمَةً مِنْ إِنْسَانٍ.
التَّاسِعَةُ: أَنَّ كَلَامَ إِبْرَاهِيمَ لَا يُخَالِفُ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الِاخْتِلَافِ؛ لِأَنَّ مُرَادَهُ أَصْحَابُ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ.
الشَّرْحُ
- لَمْ يَجْزِمِ المُصَنِّفُ رحمه الله فِي التَّرْجَمَةِ بِأَنَّ الرُّقَى وَالتَّمَائِمَ شِرْكٌ -كَمَا ذَكَرَ عَنِ التَّمِيمَةِ فِي البَابِ السَّابِقِ- لِأَنَّ الرُّقَى مِنْهَا مَا هُوَ جَائِزٌ مَشْرُوعٌ وَمِنْهَا مَا هُوَ شِرْكٌ، وَالتَّمَائِمَ مِنْهَا مَا هُوَ مُتَّفَقٌ عَلِيهِ أَنَّهُ شِرْكٌ وَمِنْهَا مَا قَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِيهِ هَلْ هُوَ مِنَ الشِّرْكِ أَمْ لَا.
- (الرُّقْيَةُ): بِالضَّمِّ: العُوذَةُ
(1)
.
- قَولُهُ: ((إِنَّ الرُّقَى وَالتَّمَائِمَ وَالتِّوَلَةَ شِرْكٌ)) (أَلُّ) التَّعْرِيفِ هُنَا لِلاسْتِغْرَاقِ فِي جَمِيعِ الأَنْوَاعِ، وَخَصَّ الدَّلِيلُ مِنَ الرُّقَى مَا خَلَا مِنَ الشِّرْكِ كَمَا فِي الحَدِيثِ ((لَا بَأْسَ بِالرُّقَى مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شِرْكٌ))
(2)
.
- شُرُوطُ الرُّقَى:
"أَجْمَعَ أَهْلُ العِلْمِ عَلَى جَوَازِ الرُّقَى بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ:
1 -
أَنْ تَكُونَ بِكَلَامِ اللهِ تَعَالَى أَو بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ.
2 -
أَنْ تَكُونَ بِاللِّسَانِ العَرَبِيِّ أَو بِمَا يُعْرَفُ مَعْنَاهُ.
3 -
أَنْ يُعْتَقَدَ أَنَّ الرُّقْيَةَ لَا تُؤَثِّرُ بِذَاتِهَا بَلْ بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَى"
(3)
.
- كَانَ أَهْلُ الجَاهِلِيَّةِ إِذَا اخْلَولَقَ وَبَليَ وَتَرُ القَوسِ أَبْدَلُوهُ بِغَيرِهِ، وَقَلَّدُوا بِالقَدِيمِ
(1)
القَامُوسِ المُحِيطِ (ص 1289).
(2)
مُسْلِمٌ (2200) عَنْ عَوفِ بْنِ مَالِكٍ مَرْفُوعًا.
(3)
قَالَهُ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله فِي الفَتْحِ (10/ 195).
الدَّوَابَ اعْتِقَادًا مِنْهُم أَنَّهُ يَدْفَعُ عَنِ الدَّابَّةِ العَينَ
(1)
!
- قَولُهُ: ((مَنْ تَعَلَّقَ شَيئًا وُكِلَ إِلَيهِ)) التَّعَلُّقُ: فِعْلُ القَلْبِ، وتَتْبَعُهُ أَعْمَالُ الجَوَارِحِ، وَهَذَا خَبَرٌ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُبَيِّنُ أَنَّ الَّذِي يَتَعَلَّقُ عَلَى شَيءٍ يُوكَلُ إِلَى ذَلِكَ الشَّيءِ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الَّذِي يُوكَلُ إِلَى المَخْلُوقِ يُوكَلُ إِلَى ضَيَاعٍ وَإِلَى ضَعْفٍ، لِأَنَّ المُخْلُوقَ ضَعِيفٌ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَجْلِبَ لِنَفْسِهِ النَّفْعَ، فَمَنْ تَعَلَّقَ بِمَخْلُوقٍ وُكِلَ إِلَى ضَيَاعٍ وَإِلَى عَجْزٍ وَإِلَى ضَلَالٍ فَيَهْلَكُ فِي أَيِّ وَادٍ كَانَ، وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَى العَبْدِ المُؤْمِنِ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِرَبِّهِ جَلَّ وَعَلَا، وَمَنْ تَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِرَبِّهِ وَتَوَكَّلَ عَلَيهِ؛ فَإِنَّهُ يَكْفِيهِ وَيَقِيهِ كُلَّ شَرٍّ
(2)
.
- قَولُهُ: ((فَإِنَّ مُحَمَّدًا بَرِيءٌ مِنْهُ)) هَذَا مِنَ الأَلْفَاظِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الفِعْلَ مِنَ الكَبَائِرِ.
- النَّهْيُ عَنْ عَقْدِ اللِحْيَةِ يُفَسَّرُ عَلَى وَجْهَينِ:
1 -
أَنَّهُ مِنْ زِيِّ العَجَمِ عِنْدَ الحَرْبِ لِلتَّكَبُّرِ.
2 -
أَنَّ مَعْنَاهُ مُعَالَجَةُ الشَّعْرِ لِيَتَعَقَّدَ وَيَتَجَعَّدَ، وَذَلِكَ مِنْ فِعْلِ أَهْلِ التَّأْنِيثِ
(3)
.
- النَّهْيُ عَنِ الاسْتِنْجَاءِ بِالرَّوثِ وَالعِظَامِ سَبَبُهُ:
1 -
أَنَّهُ زَادُ الجِنِّ المُسْلِمِ
(4)
.
(1)
قُلْتُ: فَمَا أَشْبَهَهُ بِتَمِيمَةِ النَّعْلِ البَالِي الَّذِي يُوضَعُ خَلْفَ السَّيَّارَاتِ اليَومَ.
(2)
يُنْظَرُ شَرْحُ الشَّيخِ الغُنَيمَانِ حَفِظَهُ اللهُ عَلَى كِتَابِ فَتْحُ المَجِيدِ، شَرِيطُ رَقَم (76).
(3)
قَالَهُ الخَطَّابِيُّ رحمه الله. اُنْظُرْ (فَتْحُ البَارِي) لِابْنِ حَجَرٍ (10/ 351).
(4)
فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ (450) عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه مَرْفُوعًا: ((لَا تَسْتَنْجُوا بِهِمَا؛ فَإِنَّهُمَا طَعَامُ إِخْوَانِكُمْ)) يَعْنِي: الجِنِّ، كَمَا هُوَ سِيَاقُ الحَدِيثِ.
2 -
أَنَّهُمَا لَا يُطَهِّرَانِ
(1)
.
- قَولُهُ: ((مَنْ قَطَعَ تَمِيمَةً مِنْ إِنْسَانٍ؛ كَانَ كَعِدْلِ رَقَبَةٍ)) هُوَ لِسَبَبِينِ:
1 -
أَنَّهُ أَعْتَقَهُ مِنْ عُبُودِيَّةِ غَيرِ اللهِ.
2 -
أَنَّهُ أَعْتَقَهُ مِنَ النَّارِ، لِكَونِ الشِّرْكِ لَا يُغْفَرُ.
- فِي قَولِ المُصَنِّفِ رحمه الله: "الثَّالِثَةُ: أَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ كُلَّهَا مِنَ الشِّرْكِ ِمِنْ غَيرِ اسْتِثْنَاءٍ! ظَاهِرُ كَلَامِهِ حَتَّى الرُّقَى، وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الرُّقَى ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ يَرْقِي وَيُرْقَى؛ وَلَكِنَّهُ لَا يَسْتَرْقِي، أَيْ: لَا يَطْلُبُ الرُّقْيَةَ، فَإِطْلَاقُهَا بِالنِّسْبَةِ لِلْرُّقَى فِيهِ نَظَرٌ، وَقَدْ سَبَقَ لِلْمُؤَلِّفِ رحمه الله أَنَّ الدَّلِيلِ خَصَّ مِنْهَا مَا خَلَا مِنَ الشِّرْكِ، وَبِالنِّسْبَةِ لِلْتَمَائِمِ؛ فَعَلَى رَأْي الجُمْهُورِ فِيهِ نَظَرٌ أَيضًا، وَأَمَّا عَلَى رَأْي ابْنِ مَسْعُودٍ؛ فَصَحِيحٌ، وَبِالنِّسْبَةِ لِلْتُّوَلِةِ؛ فَهِيَ شِرْكٌ بِدُونِ اسْتِثْنَاءٍ".
وَأَيضًا فَإِنَّ "المُؤَلِّفَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى خَصَّصَ العَينَ أَوِ الحُمَةَ فَقَطْ اسْتِنَادًا لِقَولِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم ((لَا رُقْيَةَ إِلَّا مِنْ عَينٍ أَوْ حُمَةٍ)) وَلَكِنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ يَشْمَلُ غَيْرَهُمَا كَالسِّحْرِ"
(2)
.
(1)
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ (152) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: نَهَى أَنْ يُسْتَنْجَى بِرَوثٍ أَو بِعَظْمٍ وَقَالَ: ((إِنَّهُمَا لَا تُطَهِّرَان)). وَقَالَ: "إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ".
(2)
القَولُ المُفِيدُ (1/ 191).
مَسَائِلُ عَلَى البَابِ
-
المَسْأَلَةُ الأُولَى: هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُلبِسَ المُسْلِمُ أَبْنَاءَهُ مَلَابِسَ رَثَّةً وَبَالِيَةً خَوفًا مِنَ العَينِ؟
الجَوَابُ:
الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ شَيئًا، وَإِنَّمَا تَرَكَ شَيئًا وَهُوَ التَّحْسِينُ وَالتَّجْمِيلُ.
وَفِي الأَثَرِ عَنْ عُثْمَانَ رضي الله عنه أَنَّهُ رَأَى غُلَامًا صَغِيرًا حَسَنَ الصُّورَةِ فَخَافَ عَلِيهِ العَينَ، فَقَالَ لِأَهْلِهِ:(دَسِّمُوا نُونَتَهُ)، وَهِيُ النُّقْرَةُ فِي الذَّقْنِ الَّتِي تَظْهَرُ عِنْدَ الضَّحِكِ
(1)
، فَهُوَ لَيسَ لِأَجْلِ أَنْ تَدْفَعَ تِلْكَ النُّقْطَةُ العَينَ! وَلَكِنْ لِأَجْلِ أَنْ يَظْهَرَ بِمَظْهَرٍ لَيسَ بِحَسَنٍ؛ فَلَا تَتَعَلَّقُ النُّفُوسُ الشِّرِّيرَةُ بِهِ
(2)
.
وَكَمَا فِي أَمْرِ يَعْقُوبَ عليه الصلاة والسلام لِأَبْنَائِهِ بِالدُّخُولَ مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ خَشْيَةُ العَينٍ.
قَالَ الإِمَامُ الطَّبَرِيُّ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ: "القَولُ فِي تَأْوِيلِ قَولِهِ تَعَالَى: {وَقَالَ يَابَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [يُوسُف: 67]: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قَالَ يَعْقُوبُ لِبَنِيهِ لَمَّا أَرَادُوا الخُرُوجَ مِنْ عِنْدِهِ إِلَى مِصْرَ لِيَمْتَارُوا الطَّعَامَ: يَا بَنِيَّ
(1)
أَورَدَهُ البَغَوِيُّ رحمه الله فِي شَرْحِ السُّنَّةِ (12/ 166)، وَابْنُ الأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ (2/ 268) رَحِمَهُمَا اللهُ تَعَالَى.
(2)
أَمَّا إِذَا وَضَعَ هَذِهِ النُّقْطَةَ مُعْتَقِدًا أَنَّهَا تَدْفَعُ العَينَ فَهَذَا مِنِ اتِّخَاذِ الأَسْبابِ الشِّرْكيَّةِ الَّتِي لَا تَجُوزُ.
لَا تَدْخُلُوا مِصْرَ مِنْ طَرِيقٍ وَاحِدٍ، وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ. وَذُكِرَ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ لَهُم؛ لِأَنَّهُم كَانُوا رِجَالًا لَهُم جَمَالٌ وَهَيأَةٌ؛ فَخَافَ عَلَيهِم العَينَ إِذَا دَخَلُوا جَمَاعَةً مِنْ طَرِيقٍ وَاحِدٍ -وَهُم وَلَدُ رَجُلٍ وَاحِدٍ- فَأَمَرَهُم أَنْ يَفْتَرِقُوا فِي الدُّخُولِ إِلَيهَا"
(1)
.
(1)
تَفْسِيرُ الطَّبَرِيِّ (16/ 164).
-
المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: بَعْضُ النَّاسِ يَقُولُ أُعَلِّقُ شَيئًا -كَخَرَزَةٍ أَو عَينٍ أَو كَفٍّ أَو حَدْوَةِ فَرَسٍ- وَلَا أَسْتَحْضِرُ هَذِهِ المَعَانِي الشِّرْكِيَّةِ
؛ فَقَطْ أُعَلِّقُهَا لِلزِّينَةِ -فِي السَّيَّارَةِ أَو فِي البَيتِ- فَهَلْ هُوَ جَائِزٌ؟
الجَوَابُ:
إِنْ عَلَّقَ التَّمَائِمَ لِلدَّفْعِ أَوِ الرَّفْعِ؛ فَإِنَّهُ شِرْكٌ أَصْغَرُ إِنِ اعْتَقَدَ أَنَّهَا سَبَبٌ، وَإِنْ عَلَّقَهَا لِلزِّينَةِ فَهُوَ مُحرَّمٌ لِأَجْلِ مُشَابَهَتِهِ مَنْ يُشْرِكُ الشِّرْكَ الأَصْغَرَ، وَقَدْ قَالَ عليه الصلاة والسلام:((مَنْ تَشَبّهَ بِقَومٍ فَهُوَ مِنْهُمْ))
(1)
.
(1)
صَحِيحٌ. أَبُو دَاوُدَ (4031) مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (2831).
-
المَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَا حُكْمُ مَنْ يَضَعُ وَرَقَةً كُتِبَتْ عَلَيهَا آيَةُ الكُرْسِيِّ فِي السِّيَّارَةِ،
أَو يَضَعُ مُجَسَّمًا فِيهِ أَدْعِيَةٌ كَأَدْعِيَةِ رُكُوبِ السَّيَّارَةِ أَو أَدْعِيَةِ السَّفَرِ وَغَيرِهَا مِنَ الأَدْعِيَةِ؟
الجَوَابُ:
هَذَا فِيهِ تَفْصِيلٌ:
1 -
إِنْ كَانَ وَضَعَ هَذِهِ الأَشْيَاءَ لِيَحْفَظَهَا وَيَتَذَكَّرَ قِرَاءَتَهَا؛ فَهَذَا جَائِزٌ، كَمَنْ يَضَعُ المُصْحَفَ فِي مُقَدِّمِ السَّيَّارَةِ أَو يَضَعُهُ مَعَهُ لِأَجْلِ أَنَّ يَقْرَأَ فِيهِ إِذَا أُتِيحَتْ فُرْصَةٌ لَهُ أَو لِمَنْ مَعَهُ؛ فَهَذَا جَائِزٌ لَا بَأْسَ بِهِ.
2 -
أَمَّا إِذَا وَضَعَهَا تَعَلُّقًا بِهَا لِأَجْلِ أَنْ تَدْفَعَ عَنْهُ الأَذَى! فَهَذَا هُوَ الكَلَامُ فِي مَسْأَلَة تَعْلِيقِ التَّمَائِمِ مِنَ القُرْآنِ؛ فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ عَلَى الصَّحِيحِ وَيَحْرُمُ.
3 -
إِنْ وَضَعَهَا لِأَجْلِ الزِّينَةِ؛ فَلَا يَجُوزُ، لِأَنَّ القُرْآنَ لَمْ يُجْعَلْ لِمِثْلِ هَذَا، وَفِي الحَدِيثِ:((مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيسَ عَلَيهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا
(1)
.
قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (التِّبْيَانُ فِي آدَابِ حَمَلَةِ القُرْآنِ): "فَصْلٌ: لَا تَجُوزُ كِتَابَةُ القُرْآنِ بِشَيءٍ نَجِسٍ، وَتُكْرَهُ كِتَابَتُهُ عَلَى الجُدْرَانِ عِنْدَنَا"
(2)
.
وَقَالَ الإِمَامُ البَغَوِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (شَرْحُ السُّنَّةِ): "وَيُكْرَهُ تَنْقِيشُ الجُدُرِ وَالخَشَبِ وَالثِّيَابِ بِالقُرْآنِ وَبِذِكْرِ اللهِ سبحانه وتعالى"
(3)
.
(1)
مُسْلِمٌ (1718).
(2)
التِّبْيَانُ فِي آدَابِ حَمَلَةِ القُرْآنِ (ص 190).
(3)
شَرْحُ السُّنَّةِ (4/ 529).
-
المَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: بَعْضُ الأَوَانِي الَّتِي تُبَاعُ يُكْتَبُ عَلَيهَا آيَاتٌ مِنَ القُرْآنِ
؛ فَهَلْ يَجُوزُ اسْتِخْدَامُهَا أَو شِرَاؤُهَا؟
الجَوَابُ:
1 -
إِنْ كَانَ يَسْتَخْدِمُهَا لِأَجْلِ أَنْ يَتَبَرَّكَ بِمَا كُتِبَ فِيهَا مِنَ الآيَاتِ فَيَجْعَلَ فِيهَا مَاءً وَيَشْرَبَهُ لِأَجْلِ أَنَّ المَاءَ يُلَامِسُ هَذِهِ الآيَاتِ؛ فَهَذَا مِنَ الرُّقْيَةِ غَيرِ المَشْرُوعَةِ
(1)
.
2 -
أَمَّا إِذَا أَخَذَهَا لِلزِّينَةِ أَو لِجَعْلِهَا فِي البَيتِ أَو لِتَعْلِيقِهَا؛ فَهَذَا كَرِهَهُ كَثِيرٌ مَنْ أَهْلِ العِلْمِ، لِأَنَّ القُرْآنَ مَا نَزَلَ لِتُزَيَّنَ بِهِ الأَوَانِي أَو تُزَيَّنَ بِهِ الحِيطَانُ، وَإِنَّمَا نَزَلَ للهِدَايَةِ، قَالَ تَعَالَى:{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإِسْرَاء: 9].
وَقَدْ سَبَقَ النَّقْلُ عَنِ العُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ فِي المَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ.
(1)
وَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ إِذَا كَانَتِ الآيَاتُ تَنْحَلُ بِالمَاءِ، كَأَنْ تَكُونَ قَدْ كُتِبَتْ بِالزَّعْفَرَانِ عَلَى الإِنَاءِ، وَقَالُوا: لَهَا حُكْمَ النَّفْثِ فِي الرُّقْيَةِ، وَاسْتَدَلُّوا أَيضًا بِحَدِيثِ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَى ثَابِتِ بْنِ قَيسٍ -وَهُوَ مَرِيضٌ- فَقَالَ: ((اكْشِفِ البَاسَ رَبَّ النَّاسِ عَنْ ثَابِتِ بْنِ قَيسٍ)) ثُمَّ أَخَذَ تُرَابًا مِنْ بَطْحَانَ فَجَعَلَهُ فِي قَدَحٍ ثُمَّ نَفَثَ عَلَيهِ بِمَاءٍ وَصَبَّهُ عَلَيهِ. وَلَكِنَّهُ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ (8385). الضَّعِيفَة (1005).
ثُمَّ قُلْتُ: فالاسْتِدْلَالُ لَا يَصِحُّ مِنْ حَيثُ الإِسْنَادِ، وَأَيضًا هُوَ بَعِيدٌ مِنْ حَيثُ الدِّلَالَةِ عَلَى المَطْلُوبِ، خِلَافًا للنَّفْثِ فَلَهُ مَا يَشْهَدُ لَهُ فِي الجُمْلَةِ بِخِلَافِ الكِتَابَةِ.
وَأَمَّا القِرَاءَةُ عَلَى المَاءِ؛ فَلَا بَأْسَ بِهَا، كَمَا فِي الأَثَرِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها:(أَنَّهَا كَانَتْ لَا تَرَى بَأْسًا أَنْ يُعَوَّذَ فِي المَاءِ ثُمَّ يُصَبَّ عَلَى المَرِيضِ). مُصَنَّفُ ابْنِ أَبِي شَيبَةَ (23509). وَصَحَّحَهُ الشَّيخُ عَبْدُ المُحْسِنِ العَبَّادِ حَفِظَهُ اللهُ فِي شَرْحِهِ عَلَى سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ شَرِيط (438).
-
المَسْأَلَةُ الخَامِسَةُ: هَلْ يَجُوزُ تَعْلِيقُ التَّمَائِمِ مِنَ القُرْآنِ؟
الجَوَابُ:
اخْتَلَفَ العُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ بِجَوَازِ ذَلِكَ -وَهُوَ قَولُ الجُمْهُورِ- وَهُوَ مَرْوُيٌّ عَنْ عَبْد اللهِ بْن عَمْرو بْنِ العَاصِ
(1)
، وَهُوَ ظَاهِرُ مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ
(2)
(3)
،
(1)
فِي التِّرْمِذِيِّ (3528) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرو بْنِ العَاصِ رضي الله عنه؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((إِذَا فَزِعَ أحَدُكُم فِي النَّومِ فَلْيَقُلْ: أعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّةِ مِنْ غَضَبِهِ وَعِقَابِهِ وَشَرِّ عِبَادِهِ وَمِنْ هَمَزَاتِ الشَّياطِينِ وَأَنْ يَحْضُرُونِ؛ فَإِنَّهَا لَنْ تَضُرَّهُ)). وَكَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرو يُلَقِّنُهَا مَنْ بَلَغَ مِنْ وَلَدِهِ، وَمَنْ لَمْ يَبْلُغْ مِنْهُم كَتَبَها فِي صَكٍ ثُمَّ عَلَّقَها فِي عُنُقِهِ. حَسَّنَهُ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله دُونَ زِيَادَةِ (فَكَانَ ابْنُ عَمْرو
…
). اُنْظُرِ الصَّحِيحَة (246).
(2)
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها؛ قَالَتْ: (لَيسَ التَّمِيمَةُ مَا تُعُلِّقَ بِهِ بَعْدَ البَلَاءِ، إِنَّمَا التَّمِيمَةُ مَا تُعُلِّقَ بِهِ قَبْلَ البَلَاءِ). رَوَاهُ الحَاكِمُ (7507)، وَقَالَ: صَحِيح الإِسْنَادِ. وَهُوَ صَحِيحٌ مَوقُوفٌ، كَمَا فِي صَحِيحِ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ (3458). وَعِنْدَ البَيهَقِيِّ فِي السُّنَنِ الكُبْرَى (19606) بِلَفْظ:(إِنَّمَا التَّمِيمَةُ مَا يُعَلَّقُ بَعْدَ البَلَاءِ لِيُدْفَعَ بِهِ المَقَادِيرُ).
قُلْتُ: الظَّاهِرُ مِنْ قَولِ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ التَّعْلِيقَ يَجُوزُ بَعْدَ البَلَاءِ مِنْ بَابِ التَّبَرُّكِ، أَمَّا قَبْلَهُ فَهُوَ تَمِيمَةٌ لِرَدِّ العَينِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي النَّهْي لِمَنْ يَسْتَدِلُ بِالأَثَرِ مُطْلَقًا، وَاللهُ أَعْلَمُ.
وَفِي الاسْتِذْكَارِ (8/ 397) لِابْنِ عَبْدِ البَرِّ رحمه الله: "قَالَ مَالِكٌ: لَا بَأْسَ بِتَعْلِيقِ الكُتُبِ الَّتِي فِيهَا أَسْمَاءُ اللهِ عز وجل عَلَى أَعْنَاقِ المَرْضَى عَلَى وَجْهِ التَّبَرُّكِ بِهَا إِذَا لَمْ يُرِدْ مُعَلِّقُها بِتَعْلِيقِهَا مُدَافَعَةَ العَينِ. وَهَذَا مَعْنَاهُ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ بِهِ شَيءٌ مِنَ العَينِ، وَلَو نَزَلَ بِهِ شَيءٌ مِنَ العَينِ جَازَ الرُّقَى عِنْدَ مَالِكٍ وَتَعْلِيقِ الكُتُبِ".
قُلْتُ: وَكَذَا أَيضًا تَعْلِيقُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرو لِلصَّكِّ الذَي فِيهِ ذِكْرُ الفَزَعِ فِي النَّومِ -عَلَى فَرْضِ صِحَّتِهِ- فِي عُنُقِ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ مِنْ وَلَدِهِ -دُونَ مَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَتَلَقَّنَهَا مِنْ وَلَدِهِ-؛ فَهَذَا ظَاهِرٌ أَنَّهُ لِغَايَةِ الحِفْظِ وَلَيسَ بِغَرَضِ التَّعْلِيقِ كَهَيئَةِ التَّمِيمَةِ. وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(3)
فَائِدَةٌ: قَالَ الَحافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله فِي كِتَابِهِ النُّكَتُ عَلَى كِتَابِ ابْنِ الصَّلَاحِ (ص 533): "تَنْبِيهٌ: إِذَا ذَكَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حُكْمًا يَحْتَاجُ إِلَى شَرْحٍ؛ فَشَرَحَهُ الصَّحَابِيُّ رضي الله عنه سَوَاءً كَانَ مِنْ رِوَايَتِهِ أَو مِنْ رِوَايَةِ غَيرِهِ؛ هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ مَرْفُوعًا أَمْ لَا؟ ذَهَبَ الحَاكِمُ إِلَى أَنَّهُ مَرْفُوعٌ، فَقَالَ عَقِبَ حَدِيثٍ أَورَدَهُ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها
=
وَهُوَ قَولُ ابْنِ المُسِيِّبِ رضي الله عنهم
(1)
، وَبِهِ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ البَاقِرُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ، وَحَمَلُوا الحَدِيثَ عَلَى التَّمَائِمِ الَّتِي فِيهَا شِرْكٌ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ
(2)
وَالحَسَنُ
(3)
=
فِي تَفْسِيرِ التَّمِيمَةِ: "هَذَا لَيسَ بِمَوقُوفٍ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ ذَكَرَ التَّمِيمَةَ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ؛ فَإِذَا فَسَّرَتْهَا عَائِشَةُ رضي الله عنها كَانَ ذَلِكَ حَدِيثًا مُسْنَدًا". وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ لَا يُجْزَمُ بِكَونِ جَمِيعِ ذَلِكَ يُحْكَمُ بِرَفْعِهِ، بَلِ الاحْتِمَالُ فِيهِ وَاقِعٌ، فَيُحْكَمُ بِرَفْعِ مَا قَامَتِ القَرَائِنُ الدَّالَّةُ عَلَى رَفْعِهِ وَإِلَّا فَلَا. وَاللهُ أَعْلَمُ".
وَقَالَ مُحَقِّقُ الكِتَابِ الشَّيخُ الفَاضِلُ رَبِيعُ بْنُ هَادِي حَفِظَهُ اللهُ -تَعْلِيقًا عَلَى كَلَامِ الحَاكِمِ-: "وَلَكِنَّ تَفْسِيرَ ابْنِ مَسْعُودٍ يُعَارِضُ تَفْسِيرَ عَائِشَةَ، فَإِنَّ الحَاكِمَ رَوَى مِنْ طَرِيقِ عَمْرو بْنِ قَيسِ بْنِ السَّكَنِ الأَسَدِيِّ قَالَ: دَخَلَ عَبْدُ اللهُ بْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه عَلَى امْرَأَةٍ فَرَأَى عَلَيهَا حِرْزًا مِنَ الحُمْرَةِ؛ فَقَطَعَهُ قَطْعًا عَنِيفًا، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ آلَ عَبْدِ اللهِ عَنِ الشِّرْكِ أَغْنِيَاءٌ، وَقَالَ: كَانَ مِمَّا حَفِظْنَا عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((أَنَّ الرُّقَى وَالتَّمَائِمَ وَالتِّوَلَةَ مِنَ الشِّرْكِ))، ثُمَّ قَالَ الحَاكِمُ: هَذَا صَحِيحٌ وَلَم يُخَرِّجَاهُ، وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيُّ المُسْتَدْرَكُ: (4/ 217). فَنَرَى ابْنَ مَسْعُودٍ يُنْكِرُ التَّعَلُّقَ بَعْدَ نُزُولِ البَلَاءِ لِأَنَّهُ يَرَى شُمُولَ الحَدِيثِ لِلحَالَينِ قَبْلَ البَلَاءِ وَبَعْدَهُ".
قُلْتُ: وَكَذَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عُكَيمٍ رضي الله عنه؛ فَقَدْ أَنْكَرَ التَّعْلِيقَ بَعْدَ البَلَاءِ، وَهُوَ مِمَّنْ رَوَى حَدِيثَ النَّهْي عَنِ التَّعَلُّقِ، كَمَا تَجِدُهُ فِي سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ (2072) - بَابُ مَا جَاءَ فِي كَرَاهِيَةِ التَّعْلِيقِ: عَنْ عِيسَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَن بْنِ أَبِي لَيلَى؛ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ عُكَيمٍ؛ أَبِي مَعْبَدِ الجُهَنِيِّ أَعُودُهُ -وَبِهِ حُمْرَةٌ-، فَقُلْنَا: أَلَا تُعَلِّقُ شَيئًا؟ قَالَ: المَوتُ أَقْرَبُ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:((مَنْ تَعَلَّقَ شَيئًا وُكِلَ إِلَيهِ)). حَسَنٌ لِغَيرِهِ. صَحِيحُ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ (3456).
(1)
قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ المَجْمُوعُ (9/ 67): "وَرَوَى البَيهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ بِتَعْلِيقِ القُرْآنِ، وَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ".
(2)
قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ رحمه الله فِي كِتَابِهِ الآدَابُ الشَّرْعِيَّةِ (3/ 81): "رَوَى وَكِيعٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ قَالَ: اُتْفُلْ بِالمُعَوِّذَتَينِ وَلَا تُعلِّقْ".
(3)
رَوَى أَبُو عُبَيدٍ -القَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ- فِي كِتَابِهِ فَضَائِلُ القُرْآنِ (ص 382): عَنِ الحَسَنِ البَصْرِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يُغْسَلَ القُرْآنُ وَيُسْقَاهُ المَرِيضُ، أَو يُعلَّقَ القُرْآنُ. وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ. اُنْظُرْ تَحْقِيقَ كِتَابِ الكَلِمُ الطَّيِّبُ لِلشَّيخِ الأَلْبَانِيِّ رحمه الله (ص 85).
وَالنَّخَعِيُّ
(1)
؛ وَطَائِفَةٌ مِنَ السَّلَفِ.
وَهُوَ ظَاهِرُ قَولِ حُذَيفَةَ وَعُقْبَةَ بِنْ عَامِرٍ وَابْنِ عُكَيمٍ
(2)
، وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ مِنْهُم أَصْحَابُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ اخْتَارَهَا كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَجَزَمَ بِهَا المُتَأَخِّرُونَ، وَاحْتَجُّوا بِهَذَا الحَدِيثِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ.
وَهُوَ الصَّحِيحُ -إِنْ شَاءَ اللهُ- لِعِدَّةِ أَسْبَابٍ:
1 -
عُمُومُ النَّهْي فِي الحَدِيثِ، وَلَا مُخَصِّصَ لِهَذَا العُمُومِ.
2 -
سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ، فَإِنَّهُ يُفْضِي إِلَى تَعْلِيقِ مَا لَيسَ كَذَلِكَ، وَيَكْفِي فِيهِ ذَمًّا أَنَّهُ يُبْطِلُ النَّهْيَ عَنْ تَعْلِيقِ جُمْلَةِ التَّمَائِمِ الشِّرْكِيَّةِ بِحُجَّةِ أَنَّهَا قَدْ تَكُونُ مِنَ القُرْآنِ!
(3)
3 -
أَنَّهُ لَو كَانَ جَائِزًا لَأَرْشَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَيهِ، وَلَمْ يَخْفَ عَلِيهِ خَيرُهُ، لَا سِيَّمَا وَهُوَ أَيسَرُ وَأَدْوَمُ أَثَرًا مِنَ القِرَاءَةِ عَلَى المَرِيضِ، وَأَهْوَنُ مِنْ تَكْرَارِ قِرَاءَةِ القُرْآنِ وَالأَدْعِيَةِ!
(4)
(1)
مُصَنَّفُ ابْنِ أَبِي شَيبَةَ (5/ 36)، ورَوَاهُ القَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ فِي فَضَائِلِ القُرْآنِ (704)، وَتَمَامُهُ عِنْدَهُ:"حَدَّثَنَا هُشَيمٌ، أَخْبَرَنَا مُغِيرَةُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ؛ قَالَ: كَانُوا يَكْرَهُونَ التَّمَائِمَ كُلَّهَا مِنَ القُرْآنِ وَغَيرِهِ، قَالَ: وَسَأَلْتُ إِبْرَاهِيمَ فَقُلْتُ: أُعَلِّقُ فِي عَضُدِي هَذِهِ الآيَةَ {قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأَنْبِيَاء: 69] مِنْ حُمًّى كَانَتْ بِي؟ فَكَرِهَ ذَلِكَ". وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ. اُنْظُرْ تَحْقِيقَ كِتَابِ (الكَلِمُ الطَّيِّبُ) لِلشَّيخِ الأَلْبَانِيِّ رحمه الله (ص 85).
(2)
سُنَنُ التِّرْمِذِيِّ (2072) -بَابُ مَا جَاءَ فِي كَرَاهِيَةِ التَّعْلِيقِ-: فِي الحَدِيثِ عَنْ عِيسَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَن بْنِ أَبِي لَيلَى؛ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ عُكَيمٍ أَبِي مَعْبَدِ الجُهَنِيِّ أَعُودُهُ -وَبِهِ حُمْرَةٌ-، فَقُلْنَا: أَلَا تُعَلِّقُ شَيئًا؟ قَالَ: المَوتُ أَقْرَبُ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:((مَنْ تَعَلَّقَ شَيئًا وُكِلَ إِلَيهِ)). حَسَنٌ لِغَيرِهِ. صَحِيحُ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ (3456).
(3)
وَهِيَ مُغَلَّفَةٌ غَيرُ مُشَاهَدٍ مَا فِيهَا؛ كَالحِجَابَاتِ المَعْرُوفَةِ اليَومَ.
(4)
قَالَ القَاضِي أَبُو بَكْرٍ ابْنُ العَرَبِيِّ فِي (شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ): "تَعْلِيقُ القُرْآنِ لَيسَ مِنْ طَرِيقِ السُّنَّةِ، وَإِنَّمَا السُّنَّةُ
=
4 -
أَنَّ الاسْتِشْفَاءَ بِالقُرْآنِ وَرَدَ عَلَى صِفَةٍ مُعَيَّنَةٍ -وَهِيَ القِرَاءَةُ بِهِ عَلَى المَرِيضِ- فَلَا تُتَجَاوَزُ إِلَّا بِمَا جَاءَ بِهِ الدَّلِيلُ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا:((مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيسَ عَلَيهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ))
(1)
.
5 -
أنَّهُ يُفْضِي إِلَى امْتِهَانِ المُصْحَفِ وَوُصُولِ النَّجَاسَاتِ إِلَيهِ
(2)
.
6 -
أَنَّ وَاقِعَ التَّمِيمَةِ أَنَّهَا اسْمٌ لِمَا يُدْرِكُهُ البَصَرُ عَلَى شَيءٍ مُغَلَّفٍ مِنْ جُلُودٍ وَرِقَاعٍ وَنَحْوِهِمَا لَا مَا كُتِبَ فِيهَا، وَلَا يَصِحُّ تَسْمِيَتُهَا تَمِيمَةً مِنَ القُرْآنِ لِأَنَّهَا لَيسَتْ بِظَاهِرَةٍ لِلعَيَانِ فِي كَونِهَا قُرْآنًا
(3)
.
=
فِيهِ الذِّكْرُ دُونَ التَّعْلِيقِ". اُنْظُرْ كِتَابَ عَونُ المَعْبُودِ (10/ 250).
وَقَالَ الشَّيخُ ابْنُ عُثَيمِين رحمه الله: "وَمِنْهُم مَن يَقُولُ: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِعُمُومِ النَّهِي عَنِ التَّمَائِمِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الاحْتِيَاطَ أَلَّا يَلْبَسَهُ الإِنْسَانُ، لَكِنْ إِذَا لَبِسَهُ فَتَأْثِيمُهُ شَاقٌّ عَلَى الإِنْسَانِ، يَعْنِي: مَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقُولَ: إِنَّهُ حَرَامٌ". اللِّقَاءُ الشَّهْرِيُّ (24/ 56).
وَقَالَ رحمه الله فِي مَوضِعٍ آخَرَ: "وَمِنْهُم مَن مَنَعَ ذَلِكَ وَقَالَ: إِنَّ تَعْلِيقَهَا لَمْ يَثْبُتْ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ سَبَبٌ شَرْعِيٌّ يُدْفَعُ بِهِ السُّوءُ أَوْ يُرْفَعُ بِهِ، وَالأَصْلُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الأَشْيَاءِ التَّوْقِيفُ، وَهَذَا القَولُ هُوَ الرَّاجِحُ؛ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَعْلِيقُ التَّمَائِمُ وَلَو مِنَ القُرْآنِ الكَرِيمِ، وَلَا يَجُوزُ أَيضًا أَنْ تُجْعَلَ تَحْتَ وِسَادَةِ المَرِيضِ أَوْ تُعَلَّقَ فِي الجِدَارِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يُدْعَى لِلْمَرِيضِ وَيُقْرَأَ عَلَيهِ مُبَاشَرَةً كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُ". مَجْمُوعُ فَتَاوَى وَرَسَائِلِ العُثَيمِين (1/ 107).
(1)
مُسْلِمٌ (1718).
(2)
رَوَى ابْنُ أَبِي شَيبَةَ (23476) عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ المَعَاذَةَ لِلصِّبْيَانِ، وَيَقُولُ: إِنَّهُم يَدْخُلُونَ بِهَا الخَلَاءَ!
(3)
وَبِهَذَا البَيَانِ يَبْطُلُ الاسْتِدْلَالُ بِأَثَرِ عَائِشَة رضي الله عنها عَلَى التَّمَائِمِ المَصْنُوعَةِ اليَومَ الَّتِي يَزْعُمُونَ أَنَّ بِدَاخِلِهَا كُتِبَ شَيءٌ مِنَ القُرْآنِ، عَدَا عَنْ كَونِ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَدَّتْ مَا يُعَلَّقُ -وَلَو كَانَ قُرْآنًا- قَبْلَ البَلَاءِ تَمِيمَةً؛ كَمَا سَبَقَ.
بَابُ مَنْ تَبَرَّكَ بِشَجَرٍ أَو حَجَرٍ وَنَحْوِهِمَا
وَقَولُ اللهِ تَعَالَى: {أَفَرَأَيتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى * أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} [النَّجْم: 19 - 22].
وَعَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيثِيِّ؛ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى حُنَينٍ -وَنَحْنُ حُدَثَاءُ عَهْدٍ بِكُفْرٍ-، وَللِمُشْرِكِينَ سِدْرَةٌ يَعْكُفُونَ عِنْدَهَا وَيَنُوطُونَ بِهَا أَسْلِحَتَهُم؛ يُقَالُ لَهَا: ذَاتُ أَنْوَاطٍ، فَمَرَرْنَا بِسِدْرَةٍ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ؛ اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((اللهُ أَكْبَرُ! إِنَّهَا السُّنَنُ، قُلْتُم -وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ- كَمَا قَالَتْ بَنو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأَعْرَاف: 138]، لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ)). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ
(1)
.
(1)
صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (21900)، وَالتِّرْمِذِيُّ (2180). ظِلَالُ الجَنَّةِ (76).
فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: تَفْسِيرُ آيَةِ النَّجْمِ.
الثَّانِيَةُ: مَعْرِفَةُ صُورَةِ الأَمْرِ الَّذِي طَلَبُوا.
الثَّالِثَةُ: كَونُهُمْ لَمْ يَفْعَلُوا.
الرَّابِعَةُ: كَونُهُمْ قَصَدُوا التَّقَرُّبَ إِلَى اللهِ بِذَلِكَ لِظَنِّهِمْ أَنَّهُ يُحِبُّهُ.
الخَامِسَةُ: أَنَّهُمْ إِذَا جَهِلُوا هَذَا؛ فَغَيرُهُمْ أَولَى بِالجَهْلِ.
السَّادِسَةُ: أَنَّ لَهُمْ مِنَ الحَسَنَاتِ وَالوَعْدِ بِالمَغْفِرَةِ مَا لَيسَ لِغَيرِهِمْ.
السَّابِعَةُ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَعْذِرْهُمْ بَلْ رَدَّ عَلَيهِمْ بِقَولِهِ: ((اَللَّهُ أَكْبَرُ! إِنَّهَا السُّنَنُ، لَتَتَّبِعُنَّ سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ))؛ فَغَلَّظَ الأَمْرَ بِهَذِهِ الثَّلَاثِ.
الثَّامِنَةُ: الأَمْرُ الكَبِيرُ -وَهُوَ المَقْصُودُ- أَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّ طَلَبَهُمْ كَطَلَبِ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمَّا قَالُوا لِمُوسَى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا} .
التَّاسِعَةُ: أَنَّ نَفْيَ هَذَا مِنْ مَعْنَى (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ) مَعَ دِقَّتِهِ وَخَفَائِهِ عَلَى أُولَئِكَ.
العَاشِرَةُ: أَنَّهُ حَلَفَ عَلَى الفُتْيَا، وَهُوَ لَا يَحْلِفُ إِلَّا لِمَصْلَحَةٍ.
الحَادِيَةَ عَشْرَةَ: أَنَّ الشِّرْكَ فِيهِ أَكْبَرُ وَأَصْغَرُ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَرْتَدُّوا بِهَذَا.
الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: قَولُهُمْ: (وَنَحْنُ حُدَثَاءُ عَهْدٍ بِكُفْرٍ)؛ فِيهِ أَنَّ غَيرَهُمْ لَا يَجْهَلُ ذَلِكَ.
الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: التَّكْبِيرُ عِنْدَ التَّعَجُّبِ -خِلَافًا لِمَنْ كَرِهَهُ-.
الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: سَدُّ الذَّرَائِعِ.
الخَامِسَةَ عَشْرَةَ: النَّهْيُ عَنِ التَّشَبُّهِ بِأَهْلِ الجَاهِلِيَّةِ.
السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: الغَضَبُ عِنْدَ التَّعْلِيمِ.
السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: القَاعِدَةُ الكُلِّيَّةُ لِقَولِهِ ((إِنَّهَا السُّنَنُ)).
اَلثَّامِنَةِ عَشْرَةَ: أَنَّ هَذَا عَلَمٌ مِنْ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ لِكَونِهِ وَقَعَ كَمَا أَخْبَرَ.
التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: أَنَّ كُلَّ مَا ذَمَّ اللهُ بِهِ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى فِي القُرْآنِ؛ أَنَّهُ لَنَا.
العِشْرُونَ: أَنَّهُ مُتَقَرَّرٌ عِنْدَهُمْ أَنَّ العِبَادَاتِ مَبْنَاهَا عَلَى الأَمْرِ، فَصَارَ فِيهِ التَّنْبِيهُ عَلَى مَسَائِلِ القَبْرِ، أَمَّا (مَنْ رَبُّكَ؟) فَوَاضِحٌ، وَأَمَّا (مَنْ نَبِيِّكَ؟)؛ فَمِنْ إِخْبَارِهِ بِأَنْبَاءِ الغَيبِ، وَأَمَّا (مَا دِينُكَ) فَمِنْ قَولِهِمْ (اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا
…
) إِلَى آخِرِهِ.
الحَادِيَةُ وَالعِشْرُونَ: أَنَّ سُنَّةَ أَهْلِ الكِتَابِ مَذْمُومَةٌ كَسُنَّةِ المُشْرِكِينَ.
الثَّانِيَةُ وَالعِشْرُونَ: أَنَّ المُنْتَقِلَ مِنَ البَاطِلِ الَّذِي اعْتَادَهُ قَلْبُهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَكُونَ فِي قَلْبِهِ بَقِيَّةٌ مِنْ تِلْكَ العَادَةِ؛ لِقَولِهِ: (وَنَحْنُ حُدَثَاءُ عَهْدٍ بِكُفْرٍ).
الشَّرْحُ
- التَّبَرُّكُ: طَلَبُ البَرَكَةِ، وَأَصْلُ البَرَكَةِ: الزِّيَاَدُةُ وَالنَّمَاءُ
(1)
.
- التَّبَرُّكُ لُغَةً مُشْتَقٌّ مِنْ أَحَدِ مَعْنَيَينِ:
1 -
مِنْ بُرُوكِ البَعِيرِ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مُلَازَمَتِهِ وَثُبُوتِهِ فِي ذَلِكَ المَكَانِ.
2 -
مِنَ البِرْكَةِ (مَجْمَعِ المَاءِ): وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى كَثْرَةِ المَاءِ فِي هَذَا المَوضِعِ، وَعَلَى لُزُومِهِ لَهُ، وَزِيَادَتِهِ.
- حُكْمُ التَّبَرُّكِ غَيرِ المَشْرُوعِ:
1 -
شِرْكٌ أَكْبَرُ: وَيَشْمَلُ حَالَتَينِ:
إِذَا اعْتَقَدَ فِي المُتَبَرَّكِ بِهِ الاسْتِقْلَالَ فِي النَّفْعِ أَوِ الضَّرِّ، وَهَذَا شِرْكٌ مِنْ جِهَةِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَأَمَّا إِذَا اعْتَقَدَ أَنَّهُ وَسِيلَةٌ إِلَى اللهِ مِنِ بَابِ اتِّخَاذِ الأَنْدَادِ وَالشُّفَعَاءِ؛ فَهَذَا شِرْكٌ مِنْ جِهَةِ الأُلُوهِيَّةِ
(2)
.
2 -
شِرْكٌ أَصْغَرُ: إِذَا كَانَ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ جَعَلَهُ سَبَبًا لِحُصُولِ البَرَكَةِ حَيثُ لَمْ يَرِدْ كَونُهُ سَبَبًا، وَأيضًا فِيهِ مُشَابَهَةٌ لِلمُشْرِكِينَ فِي أَفْعَالِهِم، وَهُوَ ذَرِيعَةٌ لِلاعْتِقَادِ فِيهَا مِنْ دُونِ اللهِ تَعَالَى.
(1)
تَهْذِيبُ اللُّغَةِ (10/ 131).
(2)
وَهَذَا هُوَ الَّذِي كَانَ يزعُمُهُ أَهْلُ الجَاهِلِيَّةِ فِي الأَحْجَارِ وَالأَشْجَارِ الَّتِي يَعْبُدُونَهَا، وَأَيضًا بِالقُبُورِ الَّتِي يَتَبَرَّكُونَ بِهَا، وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزُّمَر: 3].
- فِي تَفْسِيرِ قَولِهِ تَعَالَى: {أَفَرَأَيتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى * أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى * إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى * أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى * فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى} [النَّجْم: 19 - 25].
قَالَ الشَّيخُ السَّعْدِيُّ: " {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} مِنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ وَغَيرِ ذَلِكَ مِنَ الأُمُورِ الَّتِي رَآهَا صلى الله عليه وسلم لَيلَةَ أُسْرِيَ بِهِ.
وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم مِنَ الهُدَى وَدِينِ الحَقِّ، وَالأَمْرِ بِعِبَادَةِ اللهِ وَتَوحِيدِهِ؛ ذَكَرَ بُطْلَانَ مَا عَلَيهِ المُشْرِكُونَ مِنْ عِبَادَةِ مَنْ لَيسَ لَهُ مِنْ أَوصَافِ الكَمَالِ شَيءٌ، وَلَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ، وَإِنَّمَا هِيَ أَسْمَاءٌ فَارِغَةٌ عَنِ المَعْنَى، سَمَّاهَا المُشْرِكُونَ هُمْ وَآبَاؤُهُم الجُهَّالُ الضُّلَالُ، ابْتَدَعُوا لَهَا مِنَ الأَسْمَاءِ البَاطِلَةِ الَّتِي لَا تَسْتَحِقُّهَا، فَخَدَعُوا بِهَا أَنْفُسَهُم وَغَيرَهُم مِنَ الضُّلَّالِ، فَالآلِهَةُ الَّتِي بِهَذِهِ الحَالِ؛ لَا تَسْتَحِقُّ مِثْقَالَ ذَرَةٍ مِنَ العِبَادَةِ، وَهَذِهِ الأَنْدَادُ الَّتِي سَمَّوهَا بِهَذِهِ الأَسْمَاءِ؛ زَعَمُوا أَنَّهَا مُشْتَقَّةٌ مِنْ أَوصَافٍ هِيَ مُتَّصِفَةٌ بِهَا، فَسَمَّوا (اللَاتَ) مِنَ (الإِلَهِ) المُسْتَحِقِّ لِلعِبَادَةِ، وَ (العُزَّى) مِنَ (العَزِيزِ)، وَ (مَنَاةَ) مِنَ (المَنَّانِ) إِلْحَادًا فِي أَسْمَاءِ اللهِ وَتَجَرِّيًا عَلَى الشِّرْكِ بِهِ، وَهَذِهِ أَسْمَاءٌ مُتَجَرِّدَةٌ عَنِ المَعَانِي، فَكُلُّ مَنْ لَهُ أَدْنَى مُسْكَةٍ مِنْ عَقْلٍ يَعْلَمُ بُطْلَانَ هَذِهِ الأَوصَافِ فِيهَا.
{أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى} أَي: أَتَجْعَلُونَ للهِ البَنَاتِ بِزَعْمِكُم، وَلَكُمُ البَنُونَ؟ {تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} أَي: ظَالِمَةٌ جَائِرَةٌ
(1)
.
(1)
قَالَ البَغَوِيُّ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (7/ 409): "قَالَ الكَلْبِيُّ -مِنْ أَصْحَابِ الإِمَامِ أَحْمَدَ-: كَانَ المُشْرِكُونَ بِمَكَّةَ يَقُولُونَ: الأَصْنَامُ وَالمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللهِ، وَكَانَ الرَّجُلُ مِنْهُم إِذَا بُشِّرَ بِالأُنْثَى كَرِهَ ذَلِكَ".
وَقَولُهُ: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} أَي: مِنْ حُجَّةٍ وَبُرْهَانٍ عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِكُم
(1)
، وَكُلُّ أَمْرٍ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهِ مِنْ سُلْطَانٍ؛ فَهُوَ بَاطِلٌ فَاسِدٌ، لَا يُتَّخَذُ دِينًا، وَهُمْ -فِي أَنْفُسِهِم- لَيسُوا مُتَّبِعِينَ بُرْهَانًا يَتَيَقَّنُونَ بِهِ مَا ذَهَبُوا إِلَيهِ، وَإِنَّمَا دَلَّهُم عَلَى قَولِهِم الظَّنُّ الفَاسِدُ، وَمَا تَهْوَاهُ أنْفُسُهُم مِنَ الشِّرْكِ وَالبِدَعِ المُوَافِقَةِ لِأَهْوِيَتِهِم
(2)
.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} أَي: الَّذِي يُرْشِدُهُم فِي بَابِ التَّوحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَجَمِيعِ المَطَالِبِ الَّتِي يَحْتَاجُ إِلَيهَا العِبَادُ، فَكُلُّهَا قَدْ بيَّنَهَا اللهُ أَكْمَلَ بَيَانٍ وَأَوضَحَهُ، وَأَقَامَ عَلَيهِ مِنَ الأَدِلَّةِ وَالبَرَاهِينَ مَا يُوجِبُ لَهُم وَلِغَيرِهِم اتِّبَاعَهُ، فَلَمْ يَبْقَ لِأَحَدٍ عُذْرٌ وَلَا حُجَّةٌ مِنْ بَعْدِ البَيَانِ وَالبُرْهَانِ، وَإِذَا كَانَ مَا هُمْ عَلَيهِ غَايَتُهُ اتِّبَاعُ الظَّنِّ، وَنِهَايَتُهُ الشَّقَاءُ الأَبَدِيُّ وَالعَذَابُ السَّرْمَدِيُّ، فَالبَقَاءُ عَلَى هَذِهِ الحَالِ مِنْ أَسْفَهِ السَّفَهِ وأَظْلَمِ الظُّلْمِ، وَمَعْ ذَلِكَ يَتَمَنَّونَ الأَمَانِيَ، وَيَغْتَرُّونَ بِأَنْفُسِهِم، وَلِهَذَا أَنْكَرَ تَعَالَى عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ مَا تَمَنَّى، وَهُوَ كَاذِبٌ فِي ذَلِكَ! فقَالَ تَعَالَى:{أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى * فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى} فَيُعْطِي مِنْهُمَا مَنْ يَشَاءُ، وَيَمْنَعُ مَنْ يَشَاءُ، فَلَيسَ الأَمْرُ تَابِعًا لِأَمَانِيِّهِم، وَلَا مُوَافِقًا لِأَهْوَائِهِم"
(3)
.
(1)
قَالَ فِي لِسَانِ العَرَبِ (13/ 467): "وَالآلِهَةُ الأَصْنَامُ، سُمُّوا بِذَلِكَ لِاعْتِقَادِهِم أَنَّ العِبَادَةَ تَحُقُّ لَهَا، وَأَسْمَاؤُهُم تَتْبَعُ اعْتِقَادَاتِهِم لَا مَا عَلَيهِ الشَّيءُ فِي نَفْسِهِ".
(2)
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (7/ 458) -فِي قَولِهِ تَعَالَى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} -: "أَي: لَيسَ لَهُمْ مُسْتَنَدٌ إِلَّا حُسْنَ ظَنِّهِمْ بِآبَائِهِمُ الَّذِينَ سَلَكُوا هَذَا المَسْلَكَ البَاطِلَ قَبْلَهُمْ، وَإِلَّا حَظَّ نُفُوسِهِمْ فِي رِيَاسَتِهِمْ وَتَعْظِيمِ آبَائِهِمُ الأَقْدَمِينَ".
(3)
تَفْسِيرُ السَّعْدِيِّ (ص 818).
- اللَاتُ
(1)
: كَانَتْ صَخْرَةً بَيضَاءَ مَنْقُوشَةً، عَلَيهَا بَيتٌ وَأَسْتَارٌ وَسَدَنَةٌ وَحَولَهُ فِنَاءٌ مُعظَّمٌ عِنْدَ أَهْلِ الطَّائِفِ، وَهُمْ ثَقِيفٌ وَمَنْ تَبِعَهَا، بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَيهَا المُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ فَهَدَمَهَا وَحَرَّقَها بِالنَّارِ.
وَالعُزَّى
(2)
: كَانَتْ شَجَرَةً عَلَيهَا بِنَاءٌ وَأَسْتَارٌ بِنَخْلَةَ
(3)
، كَانَتْ قُرَيشُ يُعَظِّمُونَها، وَلَمَّا فَتَحَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ بَعَثَ خَالِدَ بْنَ الوَلِيدِ إِلَيهَا فَهَدَمَهَا.
وَأَمَّا مَنَاةُ
(4)
: فَصَنَمٌ بَينَ مَكَّةَ وَالمَدِينَةِ، وَكَانَتْ خُزَاعَةُ وَالأَوسُ وَالخَزْرَجُ يُعَظِّمُونَهَا وَيُهِلُّونَ مِنْهَا لِلحَجِّ، بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلِيًّا فَهَدَمَهَا عَامَ الفَتْحِ
(5)
. وَسُمِّيَتْ بِـ (مَنَاة) لِكَثْرَةِ مَا يُمْنَى (يُرَاقُ) عَلَيهَا مِنَ الدِّمَاءِ.
- وَجْهُ مُنَاسَبَةِ الآيَةِ لِلتَّرْجَمَةِ: أَنَّ اللَاتَ صَخْرَةٌ، وَمَنَاةَ صَخْرَةٌ، وَالعُزَّى شَجَرَةٌ؛ وَمَا كَانَ يَفْعَلُهُ المُشْرِكُونَ عِنْدَ هَذِهِ الثَّلَاثِ هُوَ عَينُ مَا يَفْعَلُهُ المُشْرِكُونَ فِي هَذِهِ الأَزْمِنَةِ المُتَأخِّرَةِ عِنْدَ الأَشْجَارِ وَالأَحْجَارِ وَالغِيرَانِ وَالقُبُورِ.
(1)
هَذِهِ الأَوثَانُ الثَّلَاثَةُ هِيَ أَعْظَمُ أَوثَانِ الجَاهِلِيَّةِ لِأَهْلِ الحِجَازِ، وَلِهَذَا نُصَّ عَلَيهَا بِأَعْيَانِهَا، وَإِلَّا فَفِي الحِجَازِ أَوثَانٌ غَيرُهَا كَثِيرَةٌ، وَلَكِنَّ الفِتْنَةَ بِهَذِهِ أَشَدُّ.
وَهَذِهِ الصَّخْرَةُ تَرْمُزُ لِرَجُلٍ صَالِحٍ كَانَ يَجْلِسُ عِنْدَهَا.
قَالَ القُرْطُبُيُّ رحمه الله في التَّفْسِيرِ (17/ 100): "قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (كَانَ اللَاتُ يَبِيعُ السَّوِيقَ وَالسَّمْنَ عِنْدَ صَخْرَةٍ وَيَصُبُّهُ عَلَيهَا، فَلَمَّا مَاتَ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَبَدَتْ ثَقِيفُ تِلْكَ الصَّخْرَةَ إِعْظَامًا لِصَاحِبِ السَّوِيقِ).
(2)
(العُزَّى): لُغَةً؛ مُؤَنَّثُ أَعَزّ، وَقَدْ جَعَلَ المُشْرِكُونَ الإِنَاثَ للهِ، كَالمَلَائِكَةِ وَاللَاتِ وَالعُزَّى وَمَنَاة.
(3)
مَكَانٌ بَينَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ.
(4)
وَفِي الأَثَرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُم اشْتَقُّوا اللَاتَ مِنَ الإِلَهِ، وَالعُزَّى مِنَ العَزِيزِ، وَمَنَاةَ مِنَ المَنَّانِ. وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللهُ في بَابِ قَولِ اللهِ تَعَالَى:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .
(5)
تَفْسِيرُ ابْنِ كَثِيرٍ (7/ 456).
- فِي حَدِيثِ أَبِي واقدٍ اللَّيثِيِّ
(1)
بَيَانُ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ هِيَ مِنْ أَفْعَالِ المُشْرِكِينَ:
1 -
أَنَّهُم كَانُوا يُعَظِّمُونَ تِلْكَ الشَّجَرَةَ.
2 -
أَنَّهُم كَانُوا يَعْكُفُونَ عِنْدَهَا، وَالعُكُوفُ: هُوَ مُلَازَمَةُ الشَّيءِ.
3 -
أَنَّهُم كَانُوا يَنُوطُونَ بِهَا الأَسْلِحَةَ رَجَاءَ حُلُولِ البَرَكَةِ فِي السِّلَاحِ حَتَّى يَكُونَ أَمْضَى، وَحَتَّى يَكُونَ خَيرُهُ لِحَامِلِهِ أَكْثَرَ
(2)
.
- قَولُهُم: (اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ) إِنَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَتَبَرَّكُوا بِهَذِهِ الشَّجَرَةِ لَا أَنْ يَعْبُدُوها -وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُم تَرَكُوا عِبَادَةَ غَيرِ اللهِ وَأَسْلَمُوا-؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ التَّبَرُّكَ بِمِثْلِ ذَلِكَ مَمْنُوعٌ، وَأَنَّهُ كُفْرٌ، وَتَأَمَّلْ قَولَهُ:(وَنَحْنُ حُدَثَاءُ عَهْدٍ بِكُفْرٍ).
- قَولُهُ: ((اللهُ أَكْبَرُ))
(3)
فِيهِ بَيَانُ أَنَّ مَا سَبَقَ مِنَ الكَلَامِ فِيهِ تَنَقُّصٌ للهِ تَعَالَى، وَهُوَ جَعْلُ نِدٍّ مَعَهُ.
- قَولُهُ: ((كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى)) فِيهِ تَشْبِيهُ القَولِ بِالقَولِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ شِرْكٌ.
- قَولُهُ تَعَالَى: {قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} فِيهِ بَيَانُ أَنَّ الجَهْلَ سَبَبٌ لِلشِّرْكِ،
(1)
هُوَ الحَارِثُ بْنُ عَوفٍ؛ صَحَابِيٌّ مَشْهُورٌ، أَسْلَمَ قَبْلَ الفَتْحِ، وَقِيلَ: هُوَ مِنْ مُسْلِمَةِ الفَتْحِ، (ت 68 هـ).
(2)
وَفِي مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ الكَبِيرِ (3/ 244) بِلَفْظٍ آخَرَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم -وَنَحْنُ حَدِيثُو عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ- وَقَدْ كَانَتْ لِكُفَّارِ قُرَيشٍ وَمَنْ سِوَاهُمْ مِنَ العَرَبِ شَجَرَةٌ عَظِيمَةٌ يُقَالُ لَهَا: ذَاتَ أَنْوَاطٍ، يَأْتُونَهَا كُلَّ عَامٍ، فَيُعَلِّقُونَ بِهَا أَسْلِحَتَهُمْ، وَيُرِيحُونَ تَحْتَهَا، وَيَعْكُفُونَ عَلَيهَا يَومًا، فَرَأَينَا وَنَحْنُ نَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم سِدْرَةً خَضْرَاءَ عَظِيمَةً، فَتَنَادَينَا مِنْ جَنَبَاتِ الطَّرِيقِ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ، فَقَالَ:((اللَّهُ أَكْبَرُ، قُلْتُمْ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ كَمَا قَالَ قَومُ مُوسَى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأَعْرَاف: 138]، لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ)).
(3)
وَهُوَ لَفْظُ أَحْمَدَ (21900) فِي المُسْنَدِ، وَفِي لَفْظِ التِّرْمِذِيِّ (2180):((سُبْحَانَ اللهُ)).
وَفِيهِ أَهَمِيِّةُ تَعَلُّمِ التَّوحِيدِ وَضَرُورَةُ تَعْلِيمِهِ.
وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَفَغَيرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} [الزمر: 64]، وَكَقَولِهِ أَيضًا سُبْحَانَهُ:{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 29].
هَذَا؛ وَقَدْ خَفِيَ ذَلِكَ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ حَدِيثًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ فكَيفَ بِمَنْ لَمْ يَعْرِفِ التَّوحِيدَ إِلَّا مُجَرَّدَ كَلِمَةٍ يَقُولُهَا بِلِسَانِهِ! فَاللهُ المُسْتَعَانُ.
- فِي الحَدِيثِ بَيَانُ أَدَبِ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيهِم أَنَّهُم سَأَلُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَفْعَلُوا؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ العِبَادَاتِ تَوقِيفِيَّةٌ.
- قَولُ المُصَنِّفِ رحمه الله: (بِشَجَرٍ أَو حَجَرٍ): يَدْخُلُ فِيهِ الحَجَرُ الأَسْوَدُ فَلَا يُتَبَرَّكُ بِهِ، وَإِنَّمَا يُتعبَّدُ اللهُ تَعَالَى بِمَسْحِهِ وَتَقْبِيلِهِ -اتِّبَاعًا لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَبِذَلِكَ تَحْصُلُ بَرَكَةُ الثَّوَابِ.
وَفِي (صَحِيحِ البُخَارِيِّ): قَالَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رضي الله عنه لِلرُّكْنِ اليَمَانِيِّ: (أَمَا وَاللهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَولَا أَنِّي رَأَيتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَلَمَكَ مَا اسْتَلَمْتُكَ)، فَاسْتَلَمَهُ. ثُمَّ قَالَ:(فَمَا لَنَا وَللرَّمَلِ؟ إِنَّمَا كُنَّا رَاءَينَا بِهِ المُشْرِكِينَ -وَقَدْ أهلَكَهُمُ اللهُ-، ثُمَّ قَالَ: شَيءٌ صَنَعَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَلَا نُحِبُّ أَنْ نَتْرُكَهُ)
(1)
(2)
.
- إِنَّ سَبَبَ انْتِشَارِ المُخَالَفَاتِ الشِّرْكيَّةِ بِالتَّبَرُّكِ بِالصَّالِحِينَ وَالآثَارِ هُوَ نَتِيجَةُ صُعُوبَةِ التَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى أُولَئِكَ المُتَبَرِّكِينَ؛ فَأَرَادُوا غُفْرَانَ الذُّنُوبِ وَزِيَادَةَ الحَسَنَاتِ بِأَهْوَنَ مِنْ ذَلِكَ؛ فَعَمَدُوا إِلَى التَّبَرُّكِ المُبْتَدَعِ بِالآثَارِ المَكَانِيَّةِ وَآثَارِ الصَّالِحِينَ.
(1)
البُخَارِيُّ (1605).
(2)
قُلْتُ: وَفِي البُخَارِيِّ (1597) أَيضًا قَولُهُ ذَلِكَ عَنِ الحَجَرِ الأَسْوَدِ، وَفِيهِ:(وَلَولَا أَنِّي رَأَيتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ).
مَسَائِلُ عَلَى البَابِ
-
المَسْأَلَةُ الأُولَى: مَا الجَوَابُ عَنْ أَثَرٍ عَلِيٍّ رضي الله عنه -رَدًّا عَلَى قَولِ عُمَرَ السَّابِقِ عَنِ الحَجَرِ الأَسْوَدِ
- وَفِيهِ: قَالَ عُمَرُ: (إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَولَا أَنِّي رَأَيتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَبَّلَكَ مَا قَبَّلْتُكَ) ثُمَّ قَبَّلَهُ، فَقَالَ لَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه:(بَلَى يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِين؛ إِنَّهُ يَضُرُّ وَيَنْفَعُ)! رَوَاهُ الحَاكِمُ فِي المُسْتَدْرَكِ، وَالبَيهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ
(1)
؟
وَالجَوَابُ عَلَيهِ هُوَ مِنْ وَجْهَينِ مُخْتَصَرَينِ:
1 -
أَنَّ الحَدِيثَ ضَعِيفٌ فَلَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ
(2)
.
2 -
أَنَّ مَعْنَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ النَّفْعَ وَالضُّرَّ حَاصِلٌ مِنْ جِهَةِ ثَوَابِ اللهِ تَعَالَى وَعِقَابِهِ، وَأَنَّ الحَجَرَ شَاهِدٌ لِمَنْ تَابَعَ سُنَّةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي اسْتِلَامِهِ؛ كَمَا تَجِدُهُ فِي سِيَاقِ نَفْسِ اللَّفْظِ الضَّعِيفِ، وَيُغْنِي عَنْهُ مَا صَحَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما؛ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الحَجَرِ: ((لَيَأْتِيَنَّ هذَا الحَجَرُ يَومَ القِيَامَةِ لَهُ عَينَانِ يُبْصِرُ بِهِمَا، وَلِسَانٌ يَنْطِقُ بِهِ؛ يَشْهَدُ عَلَى مَنِ اسْتَلَمَهُ بِحَقٍّ))
(3)
.
(1)
الحَاكِمُ (1682)، وَالبَيهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ (3749).
(2)
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله فِي الفَتْحِ (3/ 462): "فِي إِسْنَادِهِ أَبُو هَارُونَ العَبْدِيُّ؛ وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا".
(3)
صَحِيحٌ. التِّرْمِذِيُّ (961). صَحِيحُ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ (1144).
-
المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَا حُكْمُ التَّبَرُّكِ بِالصَّالِحِينَ، وَبِمَاءِ زَمْزَمَ، وَالتَّعَلُّقِ بِأَسْتَارِ الكَعْبَةِ؟
الجَوَابُ:
1 -
أَمَّا التَّبَرُّكُ بِالصَّالِحِينَ فَقِسْمَانِ:
أ- تَبَرُّكٌ بِذَوَاتِهِم؛ بِعَرَقِهِم؛ بِسُؤْرِهِم؛ بِشَعْرِهِم؛ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ فَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَهُوَ مِنَ البِدَعِ المُحْدَثَة، وَلَمْ يَجْرِ عَلَيهِ عَمْلُ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيهِم مَعَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ -وَهُم سَادَةُ أَولِيَاءِ هَذِهِ الأُمَّةِ-
(1)
، فَهَذَا التَّبَرُّكُ بِالذَّوَاتِ خَاصٌّ بِالأَنْبِيَاءِ فَقَط
(2)
.
(1)
قَالَ العَلَّامَةُ الشَّاطِبِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ الاعْتِصَامُ (1/ 482): "إِلَّا أَنَّهُ عَارَضَنَا فِي ذَلِكَ أَصْلٌ مَقْطُوعٌ بِهِ فِي مَتْنِهِ، مُشْكِلٌ فِي تَنْزِيلِهِ، وَهُوَ أَنَّ الصَّحَابةَ رضي الله عنهم لَمْ يَقَعْ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُم شَيءٌ مِنْ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ خَلْفِهِ، إِذْ لَمْ يَتْرُكِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَهُ فِي الأُمَّةِ أَفْضَلَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه فَهُوَ كَانَ خَلِيفَتُهُ، وَلَمْ يُفْعَلْ بِهِ شِيءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا عُمَرُ رضي الله عنه، وَهُوَ كَانَ أَفْضَلَ الأُمَّةِ بَعْدَهُ، ثُمَّ كَذَلِكَ عُثْمَانُ، ثُمَّ عَلِيٌّ، ثُمَّ سَائِرَ الصَّحَابَةِ -الَّذِينَ لَا أَحَدَ أَفْضَلُ مِنْهُم فِي الأُمَّةِ-، ثُمَّ لَمْ يَثْبُتْ لِوَاحِدٍ مِنْهُم مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحٍ مَعْرُوفٍ أَنَّ مُتَبَرِّكًا تَبَرَّكَ بِهِم عَلَى أَحَدِ تِلْكَ الوُجُوهِ أَو نَحْوِهَا، بَلِ اقْتَصَرُوا فِيهِم عَلَى الاقْتِدَاءِ بِالأَفْعَالِ وَالأَقْوَالِ وَالسِّيَرِ الَّتِي اتَّبَعُوا فِيهَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم؛ فَهُوَ إِذًا إِجْمَاعٌ مِنْهُم عَلَى تَرْكِ تِلْكَ الأَشْيَاءِ".
قُلْتُ: وَكَذَا لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ التَّبَرُّكَ مَعَ الحَسَنِ وَالحُسَينِ، وَلَا فَاطِمَةَ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ، فَالبَرَكَةُ الذَّاتيَّةُ لَا تَنْتَقِلُ بِالنُّطْفَةِ! خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ غَيرَ ذَلِكَ مِنَ الرَّافِضَةِ وَمُقَلِّدِيهِم، وَتَأَمَّلْ قَولَهُ تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ وَابْنِهِ عَلَيهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ:{وَبَارَكْنَا عَلَيهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} [الصَّافَّات: 113] فَفِي ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ، رَغُمَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى بَارَكَ عَلَيهِمَا.
قَالَ الشَّيخُ السَّعْدِيُّ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (ص 706): "اقْتَضَى ذَلِكَ البَرَكَةَ فِي ذُرِّيَّتِهِمَا، وَأَنَّ مِنْ تَمَامِ البَرَكةِ أَنْ تَكُونَ الذُّريَّةُ كُلُّهُم مُحْسِنِينَ! فَأَخْبَرَ اللهُ تَعَالَى أَنَّ مِنْهُم مُحْسِنًا وَظَالِمًا. وَاللهُ أَعْلَمُ".
(2)
وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُرْشِدُ إِلَى مَا هُوَ أَولَى مِنْ هَذَا التَّبَرُّكِ، كَمَا فِي حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: نَزَلَ بالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَضْيَافٌ مِنَ البَحْرَينِ، فَدَعَا النَّبِيُّ بِوَضُوئِهِ، فَتَوَضَّأَ، فَبَادَرُوا إِلَى وُضُوئِهِ فَشَرِبُوا مَا أَدْرَكُوهُ مِنْهُ، وَمَا انْصَبَّ مِنْهُ فِي الأَرْضِ فَمَسَحُوا بِهِ وُجُوهَهُم وَرُؤُوسَهُم وَصُدُورَهُم، فَقَالَ لَهُم النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ((مَا دَعَاكُم
=
ب- تَبرُّكٌ بِعِلْمِهِم وَعَمَلِهِم: وَهُوَ الاقْتِدَاءُ بِالصَّالِحِينَ فِي صَلَاحِهِم، وَالاسْتِفَادَةُ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ فِي عِلْمِهِم وَهَدْيهِم وَسِيرَتِهِم.
2 -
أَمَّا التَّبَرُّكُ بِمَاءِ زَمْزَمَ فَهُوَ عَلَى قَاعِدَةِ: (أَنَّ التَّبَرُّكَ يَجْرِي كَمَا وَرَدَ) أَي: أَنَّ التَّبَرُّكَ تَوقِيفِيُّ الكَيفِيَّةِ، فَإِنَّ التَّبَرُّكَ بِمَاءِ زَمْزَمَ جَاءَ بِهَيئَةِ الشُّرْبِ وَالصَّبِّ؛ فَمَنْ تَبَرَّكَ بِهِ بِأَنْ يَغْسِلَ ثِيَابَهُ بِهِ فَقَدْ أَخْطَأَ
(1)
(2)
.
3 -
أَمَّا التَّعَلُّقَ بِأَسْتَارِ الكَعْبَةِ رَجَاءَ البَرَكَة؛ فَلَهُ حَالَانِ:
أ- شِرْكٌ أَصْغَرُ: إِذَا اعْتَقَدَ أَنَّ ذَلِكَ التَّبَرُّكَ سَبَبٌ لِلخَيرِ أَوِ الشِّفَاءِ مِنَ الله تَعَالَى، وَقَدْ عُلِمَ أنَّ الشَّرِيعَةَ لَمْ تُرْشِدْ لِهَذَا النَّوعِ مِنَ الأَسْبَابِ.
ب- شِرْكٌ أَكْبَرُ: إِذَا اعْتَقَدَ أَنَّ الكَعْبَةَ تَرْفَعُ أَمْرَهُ إِلَى اللهِ، أَو أَنَّ الكَعْبَةَ لَهَا شَفَاعَةٌ عِنْدَ اللهِ فَتُقْضَى حَاجَتُهُ بِهَا.
=
إِلَى ذَلِكَ؟)) قَالُوا: حُبًّا لَكَ؛ لَعَلَّ اللهَ يُحِبُّنَا يَا رَسُولَ اللهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((إِنْ كُنْتُم تُحِبُّونَ أَنْ يُحِبَّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ فَحَافِظُوا عَلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ: صِدْقِ الحَدِيثِ، وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ، وَحُسْنِ الجِوَارِ)). رَوَاهُ الخِلَعِيُّ فِي الفَوَائِدِ. الصَّحِيحَة (2998).
(1)
قُلْتُ: وَمِثْلُهُ بَرَكَةُ المَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ هِيَ بِالصَّلَاةِ وَلَيسَتْ بِالتَّمَسُّحِ!
(2)
وَلَا يَصِحُّ الاسْتِدْلَالُ بِفِعْلِ جِبْرِيلَ عليه السلام عِنْدَمَا غَسَلَ قَلْبَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمَاءِ زَمْزَمَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَيسَ شَرْعًا لَنَا! فَلَمْ يُرْشِدْ إِلَيهِ نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم.
قُلْتُ: وَحَدِيثُ جِبْرِيلَ هَذَا رَوَاهُ البُخَارِيُّ (7517)، وَمُسْلِمٌ (164).
المُلْحَقُ الثَّانِي عَلَى كِتَابِ التَّوحِيدِ: قَوَاعِدُ ومَسَائِلُ فِي التَّبَرُّكُ والبَرَكَةُ
الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، أَمَّا بَعْدُ فَهَذِهِ مَسَائِلُ مُوجَزَةٌ فِي مَوضُوعِ التَّبَرُّكِ؛ اقْتَطَفْتُهَا مِنْ كُتُبِ أَهْلِ العِلْمِ رَحِمَهُم اللهُ تَعَالَى، أَسْأَلُهُ سُبْحَانَهُ أَنْ تَكُونَ مُفِيدَةً فِي بَابِهَا
(1)
.
-
قَوَاعِدُ فِي التَّبَرُّكِ:
1 -
الخَيرُ كُلُّهُ فِي يَدِ اللهِ تَعَالَى؛ لَيسَ لِأَحَدٍ مِنْهُ شَيءٌ.
قَالَ تَعَالَى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ} [آل عِمْرَان: 26]
(2)
.
وَفِي البُخَارِيِّ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا: ((البَرَكَة مِنَ اللهِ))
(3)
.
(1)
وَمِنْهَا: كِتَابُ (التَّمْهِيدُ) لِلشَّيخِ صَالِحِ آلِ الشَّيخِ حَفِظَهُ اللهُ، وَكِتَابُ (هَذِهِ مَفَاهِيمُنَا) لَهُ أَيضًا رَدَّ فِيهِ عَلَى كِتَابِ (مَفَاهِيمٌ يَجِبُ أَنْ تُصَحَّحَ) لِمُحَمَّدِ بْنِ عَلَوِي المَالِكِيِّ، وَكِتَابِ (التَّبَرُّكُ) لِلشَّيخِ نَاصِر الجُدَيع، وَغَيرِهَا مِنَ الكُتُبِ المُفِيدَةِ فِي هَذَا البَابِ.
(2)
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَبَرِيُّ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (6/ 299): "يَعْنِي بِذَلِكَ: يَا مَالِكَ المُلْكِ، يَا مَنْ لَهُ مُلْكُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ خَالِصًا دُونَ غَيرِهِ، {بِيَدِكَ الْخَيرُ} أَي: كُلُّ ذَلِكَ بِيَدِكِ وَإِلَيكَ، لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ أَحَدٌ لِأَنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ دُونَ سَائِرِ خَلْقِكَ، وَدُونَ مَنِ اتَّخَذَهُ المُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَالأُمِّيينَ مِنَ العَرَبِ إِلَهًا وَرَبًّا يَعْبُدُونَهُ مِنْ دُونِكَ؛ كَالمَسِيحِ وَالأَنْدَادِ الَّتِي اتَّخَذَهَا الأُمِّيُّونَ رَبًّا".
(3)
البُخَارِيُّ (5639).
2 -
مَعْنَى البَرَكَةِ.
البَرَكَةُ تَدُورُ حَولَ ثَلَاثَةِ مَعَانٍ: الثَّبَاتُ وَاللُّزُومُ، النَّمَاءُ وَالزِّيَادَةُ
(1)
، السَّعَادَةُ
(2)
.
وَالتَّبَرُّك هُوَ طَلَبُ البَرَكَةِ، أَي: طَلَبُ حُصُولِ الخَيرِ بِمُقَارَبَةِ ذَلِكَ الشَّيءِ وَمُلَابَسَتِهِ.
وَيَشْرحُ مَعْنَى البَرَكَةِ مَا جَاءَ فِي الحَدِيثِ: ((إِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مِنْ نَفْسِهِ أَو مالِهِ أَو مِنْ أَخِيهِ مَا يُعْجِبُهُ فَلْيَدْعُ لهُ بِالبَرَكَةِ؛ فَإِنَّ العَينَ حَقٌّ))
(3)
، فَالمَقْصُودُ بِالبَرَكَةِ هُنَا -مَثَلًا- هُوَ عَكْسُ مَا يُخْشَى مِنْهُ مِنَ العَينِ.
وَمِنْ ذَلِكَ قَولُ عَائِشَة رضي الله عنها -لَمَّا تَزَوَّجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم جُوَيرِيَةَ بِنْتَ الحَارِثِ- قَالَتْ: (فَمَا رَأَينَا امْرَأَةً كَانَتْ أَعْظَمَ بَرَكَةً عَلَى قَومِهَا مِنْهَا؛ أُعْتِقَ فِي سَبَبِهَا مِائَةُ أَهْلِ بَيتٍ مِنْ بَنِي المُصْطَلِقِ)
(4)
، فالبَرَكَةُ هُنَا هِيَ حُصُولُ الخَيرِ بِسَبَبِهَا.
وَكَمَا قَالَ أُسَيدُ بْنُ حُضَيرٍ فِي قِصَّةِ شَرْعِيَّةِ التَّيَمُّمِ: (مَا هِيَ بِأَوَّلِ بَرَكَتِكُمْ يَا آلَ أَبِي بَكْرٍ)
(5)
بِمَعْنَى أَنَّهُ لَيسَ ذَلِكَ هُوَ أَوَّلُ خَيرٍ يَحْصُلُ بِسَبَبِكُم.
(1)
قَالَ أَبُو مَنْصُورٍ الأَزْهَرِيُّ فِي تَهْذِيبِ اللُّغَةِ (10/ 131): "وَأَصْلُ البَرَكَةِ: الزِّيَادَةُ وَالنَّمَاءُ".
(2)
قَالَ الفَرَّاءُ فِي كِتَابِهِ مَعَانِي القُرْآنِ (2/ 23) عِنْدَ قَولِهِ تَعَالَى: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيكُمْ أَهْلَ الْبَيتِ} [هُود: 73]: "البَرَكَاتُ: السَّعَادَةُ".
(3)
صَحِيحٌ. الحَاكِمُ (7500) عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَة مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَة (2572).
(4)
حَسَنٌ. أَبُو دَاوُدَ (3931). صَحِيحُ أَبِي دَاوُدَ (3931).
(5)
وَالحَدِيثُ بِتَمَامِهِ -كَمَا فِي البُخَارِيِّ (334) - عَنْ عَائِشَةَ زَوجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قَالَتْ: (خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالبَيدَاءِ أَو بِذَاتِ الجَيشِ انْقَطَعَ عِقْدٌ لِي، فَأَقَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى التِمَاسِهِ وَأَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ وَلَيسُوا عَلَى مَاءٍ، فَأَتَى النَّاسُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ؛ فَقَالُوا: أَلَا تَرَى مَا صَنَعَتْ عَائِشَةُ؛ أَقَامَتْ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَالنَّاسِ؛ وَلَيسُوا عَلَى مَاءٍ وَلَيسَ مَعَهُمْ مَاءٌ! فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ -وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَاضِعٌ رَأْسَهُ عَلَى فَخِذِي قَدْ نَامَ- فَقَالَ: حَبَسْتِ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَالنَّاسَ؛ وَلَيسُوا
=
3 -
أَنَّ اللهَ تَعَالَى اخْتَصَّ بَعْضَ خَلْقِهِ بِمَا شَاءَ مِنَ الفَضْلِ وَالبَرَكَةِ.
فَهَذِهِ الزِّيَادَةُ وَالنَّمَاءُ قَدْ تَكُونُ فِي أَمْكِنَةٍ، وَقَدْ تَكُونُ فِي ذَوَاتٍ، وَقَدْ تَكُونُ فِي أَزْمِنَةٍ، وَقَدْ تَكُونُ فِي صِفَاتٍ.
ومِنَ الأَوَّلِ قَولُهُ تَعَالَى: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا} [فُصِّلَت: 10] عَنِ الأَرْضِ.
ومِنَ الثَّانِي قَولُهُ تَعَالَى: {وَبَارَكْنَا عَلَيهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} [الصَّافَّات: 113]، وَقَولُهُ تَعَالَى:{وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا} [مَرْيَم: 31] عَنِ الأَنْبِيَاءِ.
ومِنَ الثَّالِثِ قَولُهُ تَعَالَى: {لَيلَةُ الْقَدْرِ خَيرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القَدْر: 3]، وَمِثْلُهُ حَدِيثُ:((تَسَحَّرُوا فإنَّ فِي السُّحُورِ بَرَكَةً))
(1)
.
وَمِنَ الرَّابِعِ قَولُهُ تَعَالَى: {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [النُّور: 61]، وَقَولُهُ تَعَالَى:{وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} [الأَنْبِيَاء: 50].
4 -
أَنَّ التَّبَرُّكَ مِنْهُ المَشْرُوعُ وَمِنْهُ المَمْنُوعُ
(2)
.
=
عَلَى مَاءٍ وَلَيسَ مَعَهُمْ مَاءٌ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: فَعَاتَبَنِي أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَقُولَ، وَجَعَلَ يَطْعَنُنِي بِيَدِهِ فِي خَاصِرَتِي فَلَا يَمْنَعُنِي مِنَ التَّحَرُّكِ إِلَّا مَكَانُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى فَخِذِي، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ أَصْبَحَ عَلَى غَيرِ مَاءٍ؛ فَأَنْزَلَ اللهُ آيَةَ التَّيَمُّمِ فَتَيَمَّمُوا، فَقَالَ أُسَيدُ بْنُ الحُضَيرِ: مَا هِيَ بِأَوَّلِ بَرَكَتِكُمْ يَا آلَ أَبِي بَكْرٍ. قَالَتْ: فَبَعَثْنَا البَعِيرَ الَّذِي كُنْتُ عَلَيهِ فَأَصَبْنَا العِقْدَ تَحْتَهُ).
(1)
رَوَاهُ البُخَارِيُّ (1923)، وَمُسْلِمٌ (1095) عَنْ أَنَس مَرْفُوعًا.
وَهَذَا الأَخِيرُ فِيهِ بَرَكَةٌ مَعْنَوِيَّةٌ مِنْ جِهَةِ اتِّبَاعِ السُّنَّةِ، وَمِنْ جِهَةِ مُخَالَفَةِ أَهْلِ الكِتَابِ، وَأَيضًا فِيهِ بَرَكَةٌ مَادِّيَّةٌ مِنْ جِهَةِ التَّقْوِيَةِ عَلَى الصِّيَامِ.
(2)
وَسَيَمُرُّ مَعَنَا قَرِيبًا تَفْصِيلٌ وَاسِعٌ فِي هَذِهِ القَاعِدَةِ.
5 -
أَنَّ التَّبَرُّكَ بِشَيءٍ يَجْرِي عَلَى النَّحْوِ الَّذِي وَرَدَ فِيهِ.
فَالتَّبَرُّكُ بِالمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ يَكُونُ بِالصَّلَاةِ فِيهَا؛ وَلَيسَ بالتَّمَسُّحِ بِجُدْرَانِهَا وَأَرْضِهَا! وَالتَّبَرُّكُ بِالقُرْآنِ يكَونُ بِتِلَاوَتِهِ وَتَدَبُّرِهِ وَالعَمَلِ بِهِ؛ لَا بِجَعْلِهِ تَمِيمَةً! أَو غَسْلِ أَورَاقِ المُصْحَفِ وَشُرْبِهَا! وَهَكَذَا كُلٌّ وُفْقَ مَا وَرَدَ.
- مَعْنَى (تَبَارَكَ): قَالَ فِيهِ أَهْلُ العِلْمِ مَعْنَيَينِ:
الأَوَّلُ: تَعَاظَمَ، فَقَدْ جَاءَتِ اللَّفْظَةُ عَلَى بِنَاءِ السَّعَةِ وَالمُبَالَغَةِ كَـ (تَعَالَى) وَهُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى كَمَال العُلُوِّ، فَكَذَلِكَ (تَبَارَكَ) دَالَّةٌ عَلَى كَمَالِ بَرَكَتِهِ وَعِظَمِهَا وَسِعَتِهَا
(1)
.
الثَّانِي- تَبَارَكَ: أَي: جَاءَ بِكُلِّ برَكَةَ.
ولِمَا سَبَقَ مِنَ المَعْنَى؛ فَهِيَ لَا تُطْلَقُ عَلَى غَيرِ اللهِ تَعَالَى، فَهِيَ مُخْتَصَّةٌ بِهِ تَعَالَى كَمَا أَطْلَقَهَا عَلَى نَفْسِهِ بِقَولِهِ:{تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأَعْرَاف: 54]، أَلَا تَرَاهَا كَيفَ اطَّرَدَتْ فِي القُرْآنِ جَارِيَةً عَلَيهِ مُخْتَصَّةً بِهِ لَا تُطْلَقُ عَلَى غَيرِهِ
(2)
.
(1)
قَالَ الشَّيخُ صَالِحُ آلِ الشَّيخِ حَفِظَهُ اللهُ فِي شَرْحِ العَقِيدَةِ الوَاسِطِيَّةِ -شَرِيط رَقَم (11) -: "ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: (تَبَارَكَ): تَعَاظَمَ. قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنَ المُحَقَّقِينَ: لَا يُرِيدُ ابْنُ عَبَّاسٍ بِقَولِهِ: (تَبَارَكَ: تَعَاظَمَ) أَنَّهُ تَفْسِيرٌ لِلَّفْظِ، وَلَكِنْ يَقُولُ: هِيَ عَلَى وَزْنِها مِنْ جِهِةِ كَونِهَا مَقْصُورَةً، لِأَنَّ الأَصْلَ فِي (تَفَاعَلَ) أَنْ يَكُونَ بَينَ اثْنَينِ فَلَا يَكُونُ لَازِمًا، تَقُولُ: تَقَاتَلَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ، وَتَشَاجَرَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ، وَهَكَذَا، فَـ (تَفَاعَلَ) فِي الأَصْلِ أَنَّهَا تَكُونُ بَينَ اثْنَينِ.
فَابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنه فَسَّرَهَا بِمَعْنَى (تَعَاظَمَ)، يُرِيدُ أَنَّهَا لَازِمةٌ، لَا يُرِيدُ مَعْنَى كَلِمَةَ (تَبَارَكَ)! وَإِلَّا فَإِنَّ البَرَكَةَ مَعْنَاهَا دَوَامُ الخَيرِ وَثَبَاتُهُ وَاسْتِقْرَارُهُ، وَهَذَا مُشْتَقٌّ عِنْدَ العَرَبِ مِنَ البُرُوكِ وَالبِرْكَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَالبُرُوكُ بِهِ يَسْتَقِرُ البَعِيرُ وَيَثْبُتُ فِي مَكَانِهِ، والبِرْكَةُ هِيَ الَّتِي فِيهَا يَدُومُ المَاءُ وَيَسْتَقِرُ وَيَثْبُتُ بَعْدَ المَطَرِ". وَاللهُ أَعْلَمُ.
(2)
وَتَفْسِيرُ السَّلَفِ يَدُورُ عَلَى هَذِينِ المَعْنَيَينِ. يُنْظَرُ: (بَدَائِعُ الفَوَائِدِ) لِابْنِ القَيِّمِ (ص 680).
-
أَسْبَابُ التَّبَرُّكِ المَمْنُوعِ:
1 -
الجَهْلُ بِالدِّينِ.
وَتأمَّلْ قَولَ مُوسَى عليه الصلاة والسلام عَنْ قَومِهِ: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَامُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأَعْرَاف: 138].
وَهَذَا الجَهْلُ -اليَومَ- نَاشِئٌ عَنْ سُكُوتِ أَهْلِ العِلْمِ، وَتَشْجِيعِ أَهْلِ البِدَعِ
(1)
، وَالتَّقْلِيدِ الأَعْمَى.
2 -
الغُلُوُّ فِي الصَّالِحِينَ.
كَمَا فِي البُخَارِيِّ عَنْ عُمَرَ مَرْفُوعًا: ((لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ؛ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ، فَقُولُوا: عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ))
(2)
.
3 -
التَّشَبُّهُ بِالكُفَّارِ.
كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ مَرْفُوعًا: ((لَتَتَّبِعُنَّ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ))
(3)
، وَمِنْ أَمْثِلَةِ هَذَا التَّشَبُّهِ: إِقَامَةُ المَولِدِ النَّبَوِيِّ وَالأَعْيَادِ المُبْتَدَعَةِ، وَبِنَاءُ المَسَاجِدِ عَلَى القُبُورِ.
4 -
تَعْظِيمُ الآثَارِ.
وَهُوَ نَاتِجٌ عَنْ تَسَاهُلِ كَثِيرٍ مِنَ العُلَمَاءِ فِي رِوَايَةِ أَحَادِيثِ فَضَائِلِ الآثَارِ المَكَانِيَّةِ
(1)
وَرُؤُوسُهُم هُم مِنَ الرَّافِضَةِ وَالمُتَصَوِّفَةِ.
(2)
البُخَارِيُّ (3345).
(3)
رَوَاهُ البُخَارِيُّ (7320)، وَمُسْلِمٌ (2669).
الضَّعْيِفَةِ وَالمَوضُوعَةِ.
عَنْ نَافِعٍ؛ أَنَّ عُمَرَ بَلَغَهُ أَنَّ قَومًا يَأْتُونَ الشَّجَرَةَ فَيُصَلُّونَ عِنْدَهَا، فَتَوَعَّدَهُم، ثُمَّ أُمِرَ بِقَطْعِهَا؛ فَقُطِعَتْ
(1)
.
- وَسَائِلُ مُقَاوَمَةِ التَّبَرُّكِ المَمْنُوعِ:
1 -
نَشْرُ التَّوحِيدِ، وَبَيَانُ حَقِيقَتِهِ، وَتَعْلِيمُهُ لِلنَّاسِ، وَكَمَا قِيلَ:"وَبِضِدِّهَا تَتَبَيَّنُ الأَشْيَاءُ"
(2)
.
(1)
أَورَدَهُ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله فِي الفَتْحِ (7/ 448)، وَقَالَ:"وَجَدْتُ عِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ" ثُمَّ ذَكَرَهُ.
وَلَكِنْ قَالَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله بَعْدَ أَنْ أَورَدَ هَذَا الأَثَرَ فِي كِتَابِهِ (تَحْذِيرُ السَّاجِدِ)(ص 116): "ثُمَّ اسْتَدْرَكْتُ فَقُلْتُ: يُبْعِدُ ذَلِكَ كُلَّهُ مَا أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ فِي كِتَابِ الجِهَادِ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ نَافِعٍ؛ قَالَ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما: (رَجَعْنَا مِنَ العَامِ المُقْبِلِ فَمَا اجْتَمَعَ مِنَّا اثْنَانِ عَلَى الشَّجَرَةِ الَّتِي بَايَعْنَا تَحْتَهَا! كَانَتْ رَحْمَةً مِنَ اللهِ). (يَعْنِي: خَفَاءَهَا عَلَيهِم). فَهُوَ نَصٌّ عَلَى أَنَّ الشَّجَرَةَ لَمْ تَبْقَ مَعْرُوفَةَ المَكَانِ يُمْكِنُ قَطْعُهَا مِنْ عُمَرَ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى ضَعْفِ رِوَايَةِ القَطْعِ الدَّالِّ عَلَيهِ الانْقِطَاعُ الظَّاهِرُ فِيهَا نَفْسِهَا، وَمِمَّا يَزِيدُهَا ضَعْفًا مَا رَوَى البُخَارِيُّ فِي المَغَازِي مِنْ صَحِيحِهِ عَنْ سَعِيد بْنِ المُسَيِّبِ عَنْ أَبِيهِ؛ قَالَ: (لَقَدْ رَأَيتُ الشَّجَرَةَ، ثُمَّ أَتَيتُهَا بَعْدُ فَلَمْ أَعْرِفْهَا) ".
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ فِي (الاسْتِذْكَارُ)(2/ 360): "وَقَدْ كَرِهَ مَالِكُ وَغَيرُهُ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ طَلَبَ مَوضِعَ الشَّجَرَةِ الَّتِي بُويِعَ تَحْتَهَا بَيعَةُ الرِّضْوَانِ، وَذَلِكَ -وَاللهُ أَعْلَمُ- مُخَالَفَةً لِمَا سَلَكَهُ اليَهُودُ وَالنَّصَارَى فِي مِثْلِ ذَلِكَ".
(2)
وَيَكُونُ ذَلِكَ بِإِقَامَةِ المُحَاضَرَاتِ وَالنَّدَوَاتِ فِي مَوضُوعِ التَّبَرُّكِ، وَأَيضًا بِغَزْوِ القُبُورِيينَ عِنْدَ أَضْرِحَتِهِم، وَبَيَانِ ضَلَالِهِم بِالحُجَّةِ وَالبُرْهَانِ -وَلَكِنْ بِالحُسْنَى، وَبِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ-، وَبِإِقَامَةِ المُنَاظَرَاتِ مَعَهُم، كَمَا فِي مُحَاجَّةِ إِبْرَاهِيمَ لِقَومِهِ؛ وَهُودٍ مَعَ قَومِهِ عَلَيهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
وَعَلَى كُلِّ حَالٍ؛ يَجِبُ عَلَى الشَّبَابِ المُسْلِمِ أَنْ يَأْخُذَ دَورَهُ فِي ذَلِكَ -وَلَكِنْ مُتَسَلِّحًا بِالعِلْمِ-، وَهَذَا يَحْتَاجُ لِسَعْيٍ وَصَبْرٍ وَمَنْهَجٍ قَوِيمٍ وَرُجُوعٍ لِلعُلَمَاءِ الرَّاسِخِينَ، فَالإِسْلامُ لَا يَقُومُ عَلَى الشَّبَابِ الهَزِيلِ! قَالَ تَعَالَى:{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأَحْزَاب: 23].
2 -
نَشْرُ العِلْمِ الصَّحِيحِ، وَالتَّحَرِّي فِيمَا يُنْقَلُ وَيُذكَرُ مِنَ الأَحَادِيثِ وَالآثَارِ، وَتَوجِيهُ مَا صَحَّ مِنْهَا.
3 -
الدَّعْوَةُ إِلَى المَنْهَجِ الحَقِّ بَالرُّجُوعِ إِلَى الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَعَلَى مَنْهَجِ السَّلَفِ الصَّالِحِ.
4 -
إِزَالَةُ وَسَائِلِ الغُلوِّ وَمَظَاهِرِ التَّبَرُّكِ المَمْنُوعِ -وَكُلٌّ بِحَسْبِ وِلَايَتِهِ وَقُدْرَتِهِ-، كَمَا فِي كَسْرِ النَّبِيِّ مَحَمَّدٍ وَإِبْرَاهِيمَ لِلأَصْنَامِ، وَتَحْرِيقِ مُوسَى لِلعِجْلِ عَلَيهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
(1)
.
-
التَّبَرُّكُ بِالأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ: مِنْهُ المَشْرُوعُ وَمِنْهُ المَمْنُوعُ:
أَوَّلًا: التَّبَرُّكُ المَشْرُوعُ بِالأَنْبِيَاءِ
إِنَّ بَرَكَةَ الأَنْبِيَاءِ جَارِيَّةٌ وُفْقَ نَوعِينِ:
أ- بَرَكَةٍ حِسِّيَّةٍ: وَهِيَ بَرَكَةُ ذَاتٍ وَآثَارٍ وَأَفْعَالٍ، وَهِيَ خَاصَّةٌ بِالأَنْبِيَاءِ عَلَيهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
وَهَاكَ أَمْثِلَةً:
أَمَّا بَرَكَةُ الذَّاتِ: فَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه؛ قَالَ: (كَانَ -أَي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا صَلَّى الغَدَاةَ جَاءَ خَدَمُ أَهْلِ المَدِينَةِ بِآنِيَتِهِمْ فِيهَا المَاءُ، فَمَا يُؤْتَى بِإِنَاءِ إِلَّا غَمَسَ يَدَهَ فِيهِ)
(2)
.
(1)
وَلَا تَخْفَى هُنَا مُرَاعَاةُ المَصَالِحِ وَالمَفَاسِدِ وَمَصْلَحَةُ الدَّعْوَةِ.
(2)
رَوَاهُ مُسْلِمٌ (2324).
وَأَمَّا بَرَكَةُ الآثَارِ -كَالرِّيقِ وَالشَّعْرِ وَالعَرَقِ-: فَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه فِي قِصَّةِ صُلْحِ الحُدَيبِيَة؛ أَنَّهُ قَالَ عَنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: (وَاللَّهِ؛ إِنْ تَنَخَّمَ نُخَامَةً إِلَّا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ)
(1)
.
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ (2069) عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ -تُخْبِرُ عَنْ جُبَّةٍ كَانَتْ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ فَقَالَتْ: (هَذِهِ كَانَتْ عِنْدَ عَائِشَةَ رضي الله عنها حَتَّى قُبِضَتْ، فَلَمَّا قُبِضَتْ قَبَضْتُهَا -وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَلْبَسُهَا- فَنَحْنُ نَغْسِلُهَا لِلْمَرْضَى)
(2)
، وَفِي الحَدِيثِ دِلَالَةٌ أَيضًا عَلَى صِحَّةِ التَّبَرُّكِ بِآثَارِهِ المُنْفَصِلَةِ عَنْ جَسَدِهِ الشَّرِيفِ بَعْدَ وَفَاتِهِ صلى الله عليه وسلم.
وَهَذَا التَّبَرُّكُ بِالذَّاتِ وَبِالآثَارِ قَدِ انْقَطَعَ بَعْدَ مَوتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ آثَارِهِ بَاقِيًا بِيَقِينٍ بَعْدَ مَوتِهِ، وَقَدْ ذَهَبَ ذَلِكَ المُتَيَقَّنُ مَعَ انْقِرَاضِ قَرْنِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم.
وَأَمَّا بَرَكَةُ الأَفْعَالِ: فَهُوَ كَمَا فِي حَدِيثِ تَكْثِيرِ المَاءِ بَينَ يَدِيهِ صلى الله عليه وسلم، وَتَكْثِيرِ الطَّعَامِ فِي قِصَّةِ وَلِيمَةِ جَابِرٍ، وَالأَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ، وَهِيَ فِي الصَّحِيحَينِ وَغَيرِهِمَا.
ب- بَرَكَةٍ مَعْنَوِيَّةٍ: وَهِيَ بَرَكَةُ الإِسْلَامِ وَالخَيرِ الَّذِي جَاءَ بِهِ، وَهَذِهِ يَشْتَرِكُ فِيهَا العُلَمَاءُ وَالصَّالِحُونَ مَعَ الأَنْبِيَاءِ.
وَهَذِهِ البَرَكَةُ الحَاصِلَةُ؛ مِنْ ثَمَرَتِهَا: الهِدَايَةُ وَالنَّصْرُ فِي الدُّنْيَا، وَالجَنَّةُ وَالنَّجَاةُ مِنَ العَذَابِ فِي الآخِرَةِ.
وَكَمَا فِي حَدِيثِ حُذَيفَةَ بْنِ اليَمَانِ رضي الله عنه؛ قَالَ: كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الخَيرِ؛ وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ -مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي-، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّا
(1)
رَوَاهُ البُخَارِيُّ (2731).
(2)
رَوَاهُ مُسْلِمٍ (2069).
كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ فَجَاءَنَا اللهُ بِهَذَا الخَيرِ
…
الخ)
(1)
.
وَفِي البُخَارِيِّ مِنْ حَدِيث عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما؛ قَالَ: بَينَا نَحْنُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم جُلُوسٌ إِذَا أُتِيَ بِجُمَّارِ نَخْلَةٍ
(2)
، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:((إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ لَمَا بَرَكَتُهُ كَبَرَكَةِ المُسْلِمِ))، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يَعْنِي النَّخْلَةَ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَقُولَ: هِيَ النَّخْلَةُ يَا رَسُولَ اللهِ، ثُمَّ التَفَتُّ فَإِذَا أَنَا عَاشِرُ عَشَرَةٍ أَنَا أَحْدَثُهُمْ فَسَكَتُّ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:((هِيَ النَّخْلَةُ))
(3)
.
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله: "وَبَرَكَةُ النَّخْلَةِ فِي جَمِيعِ أَجْزَائِهَا مُسْتَمِرَّةٌ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهَا، فَمِنْ حِينِ تَطْلُعُ إِلَى أَنْ تَيبَسَ تُؤْكَلُ أَنْوَاعًا، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُنْتَفَعُ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا حَتَّى النَّوَى فِي عَلَفِ الدَّوَابِ وَاللِّيفِ فِي الحِبَالِ وَغَيرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَخْفَى، وَكَذَلِكَ بَرَكَةُ المُسْلِمِ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ الأَحْوَالِ وَنَفْعُهُ مُسْتَمِرٌّ لَهُ وَلِغَيِرْهِ حَتَّى بَعْدَ مَوتِهِ"
(4)
.
فَلِكُلِّ مُسْلِمٍ بَرَكَةٌ بِقَدْرِ إِسْلَامِهِ، وَلَيسَتْ هِيَ بَرَكَةُ ذَاتٍ؛ وَإِنَّمَا هِيَ بَرَكَةُ عَمَلٍ بِالشَّرْعِ.
(1)
رَوَاهُ البُخَارِيُّ (3606).
(2)
"وَالجُمَّارُ: -بِضَمِّ الجِيمِ وَتَشْدِيدِ المِيمِ- وَهُوَ الَّذِي يُؤْكَلُ مِنْ قَلْبِ النَّخْلِ، يَكُونُ لَيِّنًا". شَرْحُ مُسْلِمٍ للنَّوَوِيِّ (17/ 155).
(3)
رَوَاهُ البُخَارِيُّ (5444).
(4)
فَتْحُ البَارِي (1/ 146).
ثَانِيًا: التَّبَرُّكُ المَمْنُوعُ بِالأَنْبِيَاءِ
مِنْ صُوَرِهِ
(1)
:
أ- طَلَبُ الدُّعَاءِ أَوِ الشَّفَاعَةِ مِنَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ مَوتِهِ.
وَهَذَا مِنَ الشِّرْكِ بِاللهِ تَعَالَى، قَالَ تَعَالَى:{وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} [يُونُس: 106].
قَالَ الإِمَامُ الطَّبَرِيُّ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ: " {فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ}، يَقُولُ: مِنَ المُشْرِكِينَ بِاللهِ؛ الظَّالِمِي أَنْفُسِهِم"
(2)
.
ب- أَدَاءُ بَعْضِ العِبَادَاتِ عِنْدَ قَبْرِهِ صلى الله عليه وسلم -كالدُّعاءِ والصَّلاةِ-.
كَمَا فِي الحَدِيثِ: ((لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا، وَلَا تَجْعَلُوا قَبْرِي عِيدًا، وَصَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي حَيثُ كُنْتُمْ))
(3)
.
ج- التَّمَسُّحُ بِالقَبْرِ وَتَقْبِيلُهُ وَنَحْو ذَلِكَ.
وَهُوَ مِنَ البِدَعِ المُحْدَثَةِ فِي دِينِ اللهِ تَعَالَى، وَلَمْ يَجْرِ عَلَيهِ عَمَلُ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ الله تَعَالَى عَلَيهِم.
وَقَدْ سَبَقَ مَعَنَا حَدِيثُ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيثِيِّ رضي الله عنه فِي التَّبَرُّكِ بِالشَّجَرَةِ، حَيثُ قَالَ
(1)
وَهِيَ مِنْ بَابِ التَّمْثِيلِ لَا الحَصْرِ، وَلَعَلَّ فِيهَا الكِفَايَةَ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.
(2)
تَفْسِيرُ الطَّبَرِيِّ (15/ 219).
(3)
صَحِيحٌ. أَبُو دَاوُدَ (2042) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (7226).
النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ((قُلْتُم وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأَعْرَاف: 138]، لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ))
(1)
(2)
.
د- التَّبَرُّكُ بِالمَوَاضِعِ الَّتِي جَلَسَ أَو صَلَّى فِيهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.
وَهَذِهِ المَسْأَلَةُ يُبْنَى فَهْمُهَا عَلَى مَعْرِفَةِ حَالَينِ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَعَ هَذِهِ المَوَاضِعِ:
الأَوَّلِ: مَا قَصَدَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ العِبَادَاتِ فِي مَكَانٍ مَا
(3)
؛ فَإِنَّهُ يُشْرَعُ قَصْدُهُ اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم طَلَبًا لِلأَجْرِ
(4)
.
(1)
صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (21900)، وَالتِّرْمِذِيُّ (2180). ظِلَالُ الجَنَّةِ (76).
(2)
قَالَ المُنَاوِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (فَيضُ القَدِيرِ)(5/ 55) -عِنْدَ حَدِيثِ ((فَزُورُوا القُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمُ الآخِرَةَ)) -: "أَي: بِشَرْطِ أَنْ لَا يَقْتَرِنَ بِذَلِكَ تَمَسُّحٌ بِالقَبْرِ أَو تَقْبِيلٌ أَو سُجُودٌ عَلَيهِ أَو نَحْوِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ -كَمَا قَالَ السُّبكْيُّ-: بِدْعَةٌ مُنْكَرَةٌ، إِنَّمَا يَفْعَلُهَا الجُهَّالُ".
(3)
كَالصَّلَاةِ خَلْفَ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام، أَو فِي الصَّفِّ الأَوَّلِ فِي صَلَاةِ الجَمَاعَةِ، أَو فِي مَسْجِدِ قُبَاءَ، أَو ....
(4)
وَهَذَا مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَدُّ رَحِلٍ -أَي: سَفَرٌ-، وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ لِغَيرِ المَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ بِسَبَبِ مَا جَاءَ مِنَ التَّخْصِيصِ بِهَا.
وَفِي الحَدِيثِ الَّذِي فِي سُنَنِ النَّسَائِيِّ (1430) -وَصَحَّحَهُ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله فِي الإِرْوَاءِ (4/ 141) -: أَنَّ أَبَا هُرَيرَةَ قَالَ: لَقِيتُ بَصْرَةَ بْنَ أَبِي بَصْرَةَ الغِفَارِيَّ، فَقَالَ: منْ أَينَ جِئْتَ؟ قُلْتُ: مِنَ الطُّورِ. قَالَ: لَو لَقِيتُكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَهُ لَمْ تَأْتِهِ. قُلْتُ لَهُ: وَلِمَ؟ قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ((لَا تُعْمَلُ المَطِيُّ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: إِلَى المَسْجِدِ الحَرَامِ، وَإِلَى مَسْجِدِي هذَا، وَإِلَى مَسْجِدِ بَيتِ المَقْدِسِ)). وَالحَدِيثُ أَصْلُهُ فِي البُخَارِيِّ (1189) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا.
وَقَالَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ أَحْكَامُ الجَنَائِزِ (ص 226): "عَنْ قَزَعَةَ قَالَ: أَرَدْتُ الخُرُوجَ إِلَى الطُّورِ، فَسَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ، فَقَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إَلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: المَسْجِدِ الحَرَامِ، وَمَسْجِدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَالمَسْجِدِ الأَقْصَى))، وَدَعْ عَنْكَ الطُّورَ فَلَا تَأْتِهِ). أَخْرَجَهُ الأَزْرَقِيُّ
=
الثَّانِي: مَا حَصَلَ اتِّفَاقًا، أَي: لَمْ يَتَقَصَّدْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم؛ فَإِنَّهُ لَا يُشْرَعُ تَقَصُّدُه
(1)
.
قَالَ المَعْرُورُ بْنُ سُوَيدٍ الأَسَدِيُّ؛ خَرَجْتُ مَعَ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى المَدِينَةِ، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا صَلَّى بِنَا الغَدَاةَ، ثُمَّ رَأَى النَّاسَ يَذْهَبُونَ مَذْهَبًا، فَقَالَ: أَينَ يَذْهَبُ هَؤلَاءِ؟ قَيلَ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ! مَسْجِدٌ صَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم هُمْ يَأْتُونَهُ يُصَلُّونَ فِيهِ، فَقَالَ: إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُم بِمِثْلِ هَذَا: يَتَّبِعُونَ آثَارَ أَنْبِيَائِهِم، فَيَتَّخِذُونَهَا كَنَائِسَ وَبِيَعًا! مَنْ أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فِي هَذِهِ المَسَاجِدِ فَلْيُصَلِّ؛ وَمَنْ لَا فَلْيَمْضِ، وَلَا يَتَعَمَّدْهَا
(2)
.
وَلَا شَكَّ أَنَّ قَولَ عُمَرَ السَّالِفَ فِي النَّهْي عَنْ تَتَبُّعِ الآثَارِ هُوَ مِنَ الحَقِّ الَّذِي جَعَلَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ عُمَرَ رضي الله عنه.
قَالَ ابْنُ وَضَّاحٍ القُرْطُبِيُّ رحمه الله
(3)
: "وَكَانَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَغَيرُهُ مِنْ عُلَمَاءِ المَدِينَةِ يَكْرَهُونَ إِتْيَانَ تِلْكَ المَسَاجِدِ وَتِلْكَ الآثَارِ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ مَا عَدَا قُبَاءَ وَحْدَهُ"
(4)
.
=
فِي أَخْبَارِ مَكَّةَ (ص 304) بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ رِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ، وَأَورَدَ المَرْفُوعَ مِنْهُ الهَيثَمِيُّ فِي المَجْمَعِ (4/ 4) وَقَالَ: رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الكَبِيرِ وَالأَوسَطِ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ".
(1)
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي)(3/ 428): "وَقَدْ كَانَ ابْنُ عُمَرَ مَشْهُورًا بِتَتَبُّعِ آثَارِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَمِنْ ذَلِكَ صَلَاتُهُ فِي المَوَاضِعِ الَّتِي كَانَ يُصَلِّي فِيهَا. وَهِيَ عَلَى نَوعَينِ:
أَحَدِهِمَا: مَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْصُدُهُ لِلصَّلَاةِ فِيهِ، كَمَسْجِدِ قُبَاءَ، وَيَأْتِي ذِكْرُهُ فِي مَوضِعِهِ مِنَ الكِتَابِ؛ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.
وَالثَّانِي: مَا صَلَّى فِيهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم اتِّفَاقًا لِإِدْرَاكِ الصَّلَاةِ لَهُ عِنْدَهُ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي اخْتَصَّ ابْنُ عُمَرَ بِإِتِّبَاعِهِ".
قُلْتُ: وَقَولُ الحَافِظِ ابْنِ رَجَبٍ (اخْتَصَّ) فِيهِ بَيَانُ تَفَرُّدِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه دُونَ سَائِرِ الصَّحَابَةِ بِهَذَا الفِعْلِ -خَاصَّةً أَبُوهُ الفَارُوقُ-كَمَا سَبَقَ.
(2)
صَحِيحٌ. ابْنُ أَبِي شَيبَةَ (7550). اُنْظُرْ تَخْرِيجَ أَحَادِيثِ فَضَائِلِ الشَّامِ وَدِمَشْقَ (ص 50) لِلشَّيخِ الأَلْبَانِيِّ رحمه الله.
(3)
هُوَ مُحَدِّثُ الأَنْدَلُسِ مُحَمَّدُ بْنُ وَضَّاٍح القُرْطُبِيُّ (تُوفِّيَ قُرَابَةَ 280 هـ) فِي كِتَابِهِ (البِدَعُ وَالنَّهْيُ عَنْهَا)(ص 41).
(4)
فِي الأَصْلِ (قُبَاءَ وَأُحُدًا)، وَالمَقْصُودُ بِـ (أُحُد) زِيَارَةُ قُبُورِ شُهَدَاءِ أُحُدٍ وَالسَّلَامُ عَلَى أَهْلِهَا، وَالَّذِي أَثْبَتُّهُ هُوَ مِنْ نَقْلِ الِاعْتِصَامِ (1/ 449):"قُبَاءَ وَحْدَهُ".
مَسَائِلُ وَالجَوَابُ عَلَيهَا:
-
المَسْأَلَةُ الأُولَى: إِذَا صَحَّ طَلَبُ الشَّفَاعَةِ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي حَيَاتِهِ؛ فَهَلْ يَصِحُّ طَلَبُهَا مِنْهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ
؛ لِأَنَّهُ حَيٌّ فِي قَبْرِهِ، كَمَا ثَبَتَتِ الحَيَاةُ لِلشُّهَدَاءِ، وَرُتْبَةُ الأَنْبِيَاءِ أَعْلَى مِنْ رُتْبَةِ الشُّهَدَاءِ؟
الجَوَابُ مِنْ أَوجُهٍ:
1 -
أَنَّ كَونَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَيٌّ فِي قَبْرِهِ -كَمَا أَنَّ الشُّهَدَاءَ أَحْيَاءٌ فِي قُبُورِهِم- لَا يَعْنِي ذَلِكَ أَنَّ لَهُم اتِّصَالًا بِالدُّنْيَا! كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ} [البَقَرَة: 154] فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ عَدَمِ شُعُورِنَا بِحَيَاتِهِم أَصْلًا، وَكَمَا قَالَ أَيضًا سُبْحَانَهُ:{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عِمْرَان: 169] فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ صِفَةَ الحَيَاةِ لَهُم هِيَ فِي البَرْزَخِ وَلَيسَتْ فِي الدُّنْيَا.
وَتأَمَّلْ حَدِيثَ: ((أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الحَوضِ، وَلأُنازعَنَّ أقْوَامًا ثمَّ لَأُغْلَبَنَّ عَلَيهِمْ، فأَقُولُ: يَا رَبِّ أَصْحَابِي أَصْحَابِي! فَيَقُولُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ))
(1)
. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
2 -
كَونُهُم أَحْيَاءَ فِي قُبُورِهِم لَا يَعْنِي سَمَاعَهُم لِمَنْ يَسْتَغِيثُ بِهِم! لِقَولِهِ تَعَالَى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النَّمْل: 80]
(2)
.
(1)
رَوَاهُ البُخَارِيُّ (6576)، وَمُسْلِمٌ (2297) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا.
(2)
وَسَيَأْتِي مُلْحَقٌ وَافٍ فِي عَدَمِ سَمَاعِ الأَمْوَاتِ -إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى-، وَهُوَ مُخْتَصَرُ الآيَاتِ البَيِّنَاتِ فِي عَدَمِ سَمَاعِ الأَمْوَاتِ.
3 -
أَنَّ الاسْتِغَاثَةَ وَالتَّعَلُّقَ بِهِم فِي تَفْرِيجِ الكُرُبَاتِ شِرْكٌ، بَلْ أَصْلُ شِرْكِ العَالَمِينَ هُوَ التَّعَلُّقُ بِالصَّالِحِينَ وَجَعْلُهُم وَسَائِطَ بَينَ النَّاسِ وَبَينَ اللهِ تَعَالَى، قَالَ تَعَالَى:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [الأَحْقَاف: 5].
4 -
أَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ، بَلْ وَرَدَ عَنِ السَّلَفِ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ.
عَنْ عَلِيِّ بْنِ الحُسَينِ رضي الله عنه؛ أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا يَجِيءُ إِلَى فُرْجَةٍ كَانَتْ عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ فَيَدْخُلُ فِيهَا فَيَدْعُو، فَنَهَاهُ، فَقَالَ: أَلَا أُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا سَمِعْتُهُ مِنْ أَبِي عَنْ جَدِّي عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ قَالَ: ((لا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا، وَلَا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا؛ فَإِنَّ تَسْلِيمَكُمْ يَبْلُغُنِي أَينَمَا كُنْتُمْ))
(1)
.
(1)
صَحِيحٌ لِغَيرِهِ. الضِّيَاءُ المَقْدِسِيُّ فِي المُخْتَارَةِ (2/ 49). قَالَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (تَخْرِيجُ أَحَادِيثِ فَضَائِلِ الشَّامِ)(ص 52): صَحِيحٌ بِطُرُقِهِ وشَوَاهِدِهِ.
-
المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قِصَّةُ العُتْبِيِّ:
ذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ
(1)
قِصَّةً اغْتَرَّ بِهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، وَهِيَ "أَنَّ العُتْبيَّ
(2)
قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ فقالَ: السَّلَامُ عَلَيكَ يَا رَسُولَ اللهِ، سَمِعْتُ اللهَ يَقُولُ:{وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النِّسَاء: 64]. وَقَدْ جِئْتُكَ مُسْتَغْفِرًا لِذَنْبِي مُسْتَشْفِعًا بِكَ إِلَى رَبِّي، ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
يَا خَيرَ مَنْ دُفنَتْ بِالقَاعِ أَعْظُمُهُ
…
فَطَابَ مِنْ طِيبِهِنَّ القَاعُ وَالأَكَمُ
نَفْسِي الفِدَاءُ لِقَبْرٍ أَنْتَ سَاكِنُهُ
…
فِيهِ العَفَافُ وَفِيهِ الجُودُ وَالكَرَمُ
ثُمَّ انْصَرَفَ الأَعْرَابِيُّ، فَغَلَبَتْنِي عَينِي، فَرَأَيتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي النَّومِ فَقَالَ: يَا عُتْبيُّ، اِلْحَقِ الأَعْرَابِيَّ فَبَشِّرْهُ أَنَّ اللهَ قَدْ غَفَرَ لَهُ".
(1)
أَورَدَهَا الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (2/ 347) عَنِ الشَّيخِ أَبِي نَصْرٍ بْنِ الصَّبَّاغِ فِي كِتَابِهِ (الشَّامِلُ)، وَذَكَرَ هَذِهِ الحِكَايةَ النَّوَوِيُّ رحمه الله فِي المَجْمُوعِ (8/ 274) وَفِي الإِيضَاحِ (ص 498)، وَزَادَ البَيتَينِ التَّالِيَينِ:
أَنْتَ الشَّفِيعُ الَّذِي تُرْجَى شَفَاعَتُهُ
…
عَلَى الصِّرَاطِ إِذَا مَا زَلَّتِ القَدَمُ
وَصَاحِبَاكَ فَلَا أَنْسَاهُمَا أَبَدًا
…
مِنِّي السَّلَامُ عَلَيكُمُ مَا جَرَى القَلَمُ
وَسَاقَهَا النَّوَوِيُّ بِقَولِهِ: "وَمِنْ أَحْسَنِ مَا يَقُولُ: مَا حَكَاهُ أَصْحَابُنَا عَنِ العُتْبِيِّ -مُسْتَحْسِنِينَ لَهُ- ثُمَّ ذَكَرَهَا بِتَمَامِهَا"، وَابْنُ كَثِيرٍ هُنَا إِنَّمَا هُوَ نَاقِلٌ لِلْمُنَاسَبَةِ فَحَسْبُ! وَلَمْ يَسْتَحْسِنْهَا! بَلْ نَقَلَهَا كَمَا نَقَلَ بَعْضَ الإِسْرَائِيلِيَّاتِ فِي تَفْسِيرِهِ.
(2)
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ عَبْدِ الهَادِي رحمه الله فِي كِتَابِهِ الصَّارِمُ المُنْكيُّ (ص 253): "وَهَذِهِ الحِكَايَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا -المُعْتَرِضُ- بَعْضُهُم يَرْوِيهَا عَنِ العُتْبِيِّ بِلَا إِسْنَادٍ، وَبَعْضُهُم يَرْوِيهَا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَرْبٍ الهِلَالِيِّ، وَبَعْضُهُم يَرْوِيهَا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَرْبٍ عَنْ أَبِي الحَسَنِ الزَّعْفَرَانِيِّ عَنِ الأَعْرَابِيِّ، وَقَدْ ذَكَرَهَا البَيهَقِيُّ فِي كِتَابِ (شُعَبِ الإِيمَانِ) بِإِسْنَادٍ مُظْلِمٍ عِنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَوحِ بْنِ يَزِيدَ البَصْرِيِّ، حَدَّثَنِي أَبُو حَرْبٍ الهِلَالِيِّ
…
".
فَاسْتَدَلُّوا بِهَا عَلَى أُمُورٍ؛ أَهَمِّهَا: جَوَازُ شَدِّ الرَّحَالِ إِلَى قُبُورِ الصَّالِحِينَ لِطَلَبِ الاسْتِغْفَارِ وَالشَّفَاعَةِ مِنْهُم!
فَمَا الجَوَابُ عَنْهَا؟
الجَوَابُ مِنْ أَوجُهٍ:
1 -
أَنَّ هَذِهِ القِصَّةَ سَاقِطَةُ الصِّحَّةِ.
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ عَبْدِ الهَادِي رحمه الله
(1)
فِي كِتَابِهِ (الصَّارِمُ المُنْكيُّ): "وَفِي الجُمْلَةِ لَيسَتِ الحِكَايَةُ المَذْكُورَةُ عَنِ الأَعْرَابيِّ مِمَّا تَقُومُ بِهِ الحُجَّةُ، وَإِسْنَادُهَا مُظْلِمٌ، وَلَفْظُهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ أَيضًا، وَلَو كَانَتْ ثَابِتَةً لَمْ يَكُنْ فِيهَا حُجَّةٌ عَلَى مَطْلُوبِ المُعْتَرِضِ، وَلَا يَصْلُحُ الاحْتِجَاجُ بِمِثْلِ هَذِهِ الحِكَايَةِ، وَلَا الاعْتِمَادُ عَلَى مِثْلِهَا عِنْدَ أَهْلِ العِلْمِ، وَبِاللهِ التَّوفِيقُ"
(2)
.
2 -
أَنَّهَا إِنْ صَحَّتْ؛ فَهِيَ صَادِرَةٌ عَنْ أَعْرَابيٍّ مَجْهُولٍ، وَأنَّى يَكُونُ الاسْتِدْلَالُ بِمِثْلِهَا فِي أُمُورِ العَقِيدَةِ
(3)
.
(1)
قَالَ الحَافِظُ السُّيُوطِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ طَبَقَاتُ الحُفَّاظِ (ص 524): "الإِمَامُ الأَوحَدُ المُحَدِّثُ الحَافِظُ الحَاذِقُ الفَقِيهُ البَارِعُ المُقْرِئُ النَّحَوِيُّ اللُّغَوِيُّ ذُو الفُنُونِ؛ شَمْسُ الدِّينِ؛ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الهَادِي المَقْدِسِيُّ الحَنْبَلِيُّ؛ أَحَدُ الأَذْكِيَاءِ، (ت 744 هـ) ".
(2)
الصَّارِمُ المُنْكيُّ (ص 253).
(3)
أَقُولُ: عَجَبًا لِمَنْ يَرُدُّ أَحَادِيثَ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ فِي العَقِيدَةِ مِمَّا أَورَدَهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمُ بِحُجَّةِ أَنَّهَا أَحَادِيثُ آحَادٍ فِي العَقَائِدِ؛ وَيَأْخُذُ بِمَنَامٍ رَآهُ رَجُلٌ مَجْهُولُ الحَالِ عَنْ أَعْرَابيٍّ فِي قِصَّةٍ وَاهِيَةٍ، وَلَكِنْ {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النُّور: 40].
وَيَلْزَمُ عَلَى مِثْلِ هَذَا الاسْتِدْلَالِ بِعَمَلِ الأَعْرَابِيِّ؛ أَنْ يَبُولَ أَحَدُهُم فِي المَسْجِدِ النَّبَوِيِّ الشَّرِيفِ؛
=
3 -
أَنَّهَا إِنْ صَحَّتْ أَيضًا وَذُكِرَ فِيهَا إِقْرَارُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ؛ فَهِيَ مَا تَزَالُ مَنَامًا، وَلَيسَ مِنْ مَصَادِرِ التَّشْرِيعِ الإِسْلَامِيِّ المَنَامَاتُ -اللَّهُمَّ إِلَّا عِنْدَ غُلَاةِ المُتَصَوِّفَةِ-.
وَصَحِيحٌ أَنَّ رُؤْيَةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي المَنَامِ حَقٌّ -كَمَا فِي الحَدِيثِ الصَّحِيحِ
(1)
- وَلَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَرَاهُ عَلَى صُورَتِهِ المَعْرُوفَةِ، وَأَيضًا بِشَرْطِ أَنْ لَا يُحْدِثَ فِي دِينِ اللهِ تَعَالَى مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ، لِقَولِهِ تَعَالَى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المًائِدَة: 3].
قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رحمه الله: "مَعْنَى الحَدِيثِ: أَنَّ رُؤْيَتَهُ صَحِيحَةٌ وَلَيسَتْ مِنْ أَضْغَاثِ الأَحْلَامِ وَتَلْبِيسِ الشَّيطَانِ، وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ إِثْبَاتُ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ بِهِ"
(2)
.
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الفَائِدَةُ مِنْ عُمُومِ الحَدِيثِ؟ يَعْنِي: هَذِهِ الرُّؤْيَةُ مَا دِلَالَتُهَا؟
نَقُولُ: دِلَالَتُهَا -أَيًّا كَانَتْ- فَلَيسَ فِيهَا أَنَّ الرُّؤْيَةَ تُفِيدُ أَمْرًا شَرْعِيًّا -لَا وُجُوبًا وَلَا اسْتِحْبَابًا- حَيثُ لَمْ تَدُلَّ عَلَيهِ الشَّرِيعَةُ أَصْلًا
(3)
.
وَاللهُ تَعَالَى أَخْبَرَنَا أَنَّهُ أَكْمَلَ الشَّرِيعَةَ، قَالَ تَعَالَى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المَائِدَة: 3]، وَقَالَ صلى الله عليه وسلم:((مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيسَ عَلَيهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ))
(4)
.
=
لِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحَيحَينِ أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَالَ فِي المَسْجِدِ!! فَمُجَرَّدُ حُدُوثِ فِعْلٍ لَا يَعني مَشْرُوعِيَّتَهُ؛ وَمِنْ ثُمَّ غَضُّ الطَّرْفِ عَمَّا جَاءَ فِي حَقِّهِ مِنَ السُّنَّةِ!
(1)
هُوَ حَدِيثُ ((مَنْ رَآنِي فَقَدْ رَأَى الْحَقَّ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَكَوَّنُنِي)). صَحِيحُ البُخَارِيِّ (6596) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا.
(2)
شَرْحُ مُسْلِمٍ (1/ 115).
(3)
كَمَا تَزْعُمُ الصُّوفِيَّةُ فِي الأَحَادِيثِ المَنَامِيَّةِ وَأَحَادِيثِ "حَدَّثَنِي قَلْبِي عَنْ رَبِّي"!! وَهِيَ الأَولَى بِهَا أَنْ تَكُونَ "أَوحَى إِلَيَّ شَيطَانِي".
(4)
صَحِيحُ مُسْلِمٍ (1718).
وَلَكِنْ لِتَمَامِ الفَائِدَةِ نَقُولُ: فَائِدَةُ هَذِهِ الرُّؤْيَةِ أَنَّهَا تَكُونُ بُشْرَى لِلِقَاءِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ حَوضِهِ الشَّرِيفِ، فَيَكُونُ صَاحِبُهَا مُبَشَّرًا بِدُخُولِ الجَنَّةِ.
قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رحمه الله: "فِيهِ أَقْوَالٌ:
أَحَدُهَا: المُرَادُ بِهِ أَهْلُ عَصْرِهِ. وَمَعْنَاهُ أَنَّ مَنْ رَآهُ فِي النَّومِ -وَلَمْ يَكُنْ هَاجَرَ- يُوَفِّقُهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْهِجْرَةِ وَرُؤْيَتُهُ صلى الله عليه وسلم فِي اليَقَظَةِ عِيَانًا.
وَالثَّانِي: مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَرَى تَصْدِيقَ تِلْكَ الرُّؤْيَا فِي اليَقَظَةِ فِي الدَّارِ الآخِرَةِ، لِأَنَّهُ يَرَاهُ فِي الآخِرَةِ جَمِيعُ أُمَّتِهِ -مَنْ رَآهُ فِي الدُّنْيَا وَمَنْ لَمْ يَرَهُ-.
وَالثَّالِثُ: يَرَاهُ فِي الآخِرَةِ رُؤْيَةَ خَاصَّتِهِ فِي القُرْبِ مِنْهُ وَحُصُولِ شفاعته وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ"
(1)
.
4 -
مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ؛ قَولُهُ تَعَالَى {إِذْ ظَلَمُوا} ظَرْفٌ لِمَا مَضَى مِنَ الزَّمَانِ؛ فَلَا يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الفِعْلِ دَومًا كَالظَّرْفِ (إِذَا)
(2)
(3)
.
5 -
أَنَّهَا إِنْ صَحَّتْ أَيضًا؛ فَهِيَ مَقْرُونَةٌ بِحَيَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لِأَنَّ فِيهَا {وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ} .
6 -
أَنَّ السَّلَفَ كُلَّهُم لَمْ يَصِحَّ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُم أَبَدًا -وَلَيسَ فِي شَيءٍ مِنْ كُتُبِ
(1)
شَرْحُ مُسْلِمٍ (15/ 26).
(2)
قَالَ السُّيُوطِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ الإِتْقَانُ فِي عُلُومِ القُرْآنِ (2/ 171): "إِذْ: تَرِدُ عَلَى أَوجُهٍ: أَحَدِهِمَا: أَنْ تَكُونَ اسْمًا لِلزَّمَنِ الْمَاضِي -وَهُوَ الْغَالِبُ-".
(3)
وَتُفِيدُ أَيضًا التَّعْلِيلَ -زِيَادَةً عَلَى كَونِهَا تَخْتَصُّ بِالزَّمَنِ المَاضِي-، وَتَأَمَّلْ قَولَهُ تَعَالَى:{وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزُّخْرُف: 39].
السُّنَّةِ المَعْرُوفَةِ- أَنَّهُم فَعَلُوا ذَلِكَ، وَلَمْ يَسْتَدِلَّ بِهِ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ المَذَاهِبِ المَتْبُوعَةِ، فَكَيفَ يُتْرَكُ ((مَا أَنَا عَلَيهِ وَأَصْحَابِي)) وَيُذهَبُ إِلَى أَضْغَاثِ أَحْلَامٍ فِي أَسَاطِيرِ الآخِرِينَ!!
7 -
أَنَّ شَدَّ الرِّحَالِ إِلَى القُبُورِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ مُطْلَقًا لِحَديثِ: ((لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدٍ))، وَلِحَدِيثِ:((لَا تَجْعَلوا قَبْرِي عِيدًا))
(1)
.
8 -
أَنَّ مُسْلِمًا أَخْرَجَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رضي الله عنه؛ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ((إنَّ خَيرَ التَّابِعِينَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ أُوَيسٌ -وَلَهُ وَالِدَةٌ وَكَانَ بِهِ بَيَاضٌ
(2)
-، فَمُرُوهُ فَلْيَسْتَغْفِرْ لَكُم)). وَفِي رِوَايَةٍ:((لَو أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ؛ فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ))، فَلَمَّا لَقيَهُ عُمَرُ قَالَ الحَدِيثَ، ثُمَّ قَالَ:(فَاسْتَغْفِرْ لِي)، فَاسْتَغْفَرَ لَهُ
(3)
.
وَدِلَالَةُ هَذَا الحَدِيثِ هُنَا أَنَّ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم أَرْشَدَ عُمَرَ إِلَى أَنْ يَطْلُبَ الدُّعَاءَ مِنْ أُوَيسٍ -وَإِنَّمَا هُوَ تَابِعِيٌّ! -، وَأَينَ مَنْزِلَتُهُ مِنْ مَنْزِلَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم!! وَمَعْ ذَلِكَ فَقَدْ أَرْشَدَهُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم إِلَى أَنْ يَدْعُوَ لَهُ المَفْضُولُ وَيَتْرُكَ طَلَبَ الدُّعَاءِ مِنْ خَيرِ الخَلْقِ فِي قَبْرِهِ، وَهَذَا دَلِيلٌ وَاضِحٌ فِي أَنَّ الفَرْقَ هُوَ تَغَيُّرُ نَوعِ الحَيَاةِ؛ وَقُدْرَةُ الحَيِّ عَلَى الدُّعَاءِ لِلمُعَيَّنِ، بِخِلَافِ مَنْ حَيَاتُهُ بَرْزَخِيَّةٌ عليه الصلاة والسلام؛ فَتَأَمَّلْ.
(1)
الأَوَّلُ فِي البُخَارِيِّ (1189) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا، وَالتَّالِي لَهُ هُوَ عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ (2042) مَرْفُوعًا أَيضًا. وَقَدْ مَرَّ سَابِقًا.
(2)
هُوَ مَرَضٌ فِي الجِلْدِ يَجْعَلُ الجِلْدَ أَبْيَضًا -كَالبُهَاقِ اليَومَ-.
(3)
صَحِيحُ مُسْلِمٌ (2542).
-
المَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: حَدِيثُ الكُوَّةِ فَوقَ القَبْرِ:
رَوَى الدَّارِمِيُّ عَنْ أَبِي النُّعْمَانِ؛ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ زَيدٍ؛ حَدَّثَنَا عَمْرو بْنُ مَالِكٍ النُّكْرِيُّ؛ حَدَّثَنَا أَبُو الجَوزَاءِ -أَوسُ بْنُ عَبْدِ اللهِ- قَالَ: قَحَطَ أَهْلُ المَدِينَةِ قَحْطًا شَدِيدًا، فَشَكَوا إِلَى عَائِشَةَ، فَقَالَتْ: انْظُرُوا قَبْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَاجْعَلُوا مِنْهُ كُوًّا إِلَى السَّمَاءِ حَتَّى لَا يَكُونَ بَينَهُ وَبَينَ السَّمَاءِ سَقْفٌ، قَالَ: فَفَعَلُوا، فَمُطِرْنَا مَطَرًا حَتَّى نَبَتَ العُشْبُ وَسَمِنَتِ الإِبِلُ حَتَّى تَفَتَّقَتْ مِنَ الشَّحْمِ؛ فَسُمِّيَ عَامَ الفَتْقِ
(1)
.
فَمَا الجَوَابُ عَنْهُ؟
الجَوَابُ من أَوجُهٍ:
1 -
أَنَّ الحَدِيثَ ضَعِيفٌ لَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ مُطْلَقًا بِسَبَبِ أُمُورٍ:
أَوَّلِهَا: أَنَّ سَعِيدَ بْنَ زَيدٍ فِيهِ ضَعْفٌ، قَالَ فِيهِ الحَافِظُ فِي كِتَابِهِ (التَّقرِيبُ):"صَدُوقٌ لَهُ أَوهَامٌ"
(2)
.
وَثَانِيهَا: أَنَّ أبَا النُّعْمَانِ هَذَا هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ الفَضْلِ -يُعْرَفُ بِعَارِمٍ-، وَهوَ -وَإِنْ كَانَ ثِقَةً- فَقَد اخْتَلَطَ فِي آخِرِ عُمُرِهِ
(3)
.
2 -
أَنَّهُ مَوقُوفٌ عَلَى عَائِشَةَ، وَلَيسَ بِمَرْفُوعٍ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلَو صَحَّ؛ لَمْ تَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ، لِأَنَّه يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَبِيلِ الآرَاءِ الاجْتِهَادِيَّةِ لِبَعْضِ الصَّحَابَةِ مِمَّا يُخْطِئُونَ فِيهِ وَيُصِيبُونَ، وَلَسْنَا مُلْزَمِينَ بِالعَمَلِ بِهَا إِذَا لَمْ تُوَافِقِ السُّنَّةَ.
(1)
الدَّارِمِيُّ (93).
(2)
التَّقرِيبُ (ص 236).
(3)
قَالَ ابْنُ حِبَّانَ رحمه الله فِي كِتَابِهِ المَجْرُوحِينَ (1/ 345): "يَرْوِي المَوضُوعَاتِ عَنِ الأَثْبَاتِ".
3 -
مِمَّا يُبَيّنُ كَذِبَ هَذهِ الرِّوَايَةِ أَنَّه فِي مُدَّةِ حَيَاةِ عَائِشَةَ لَمْ يَكُنْ لِلبَيتِ كُوَّةٌ! بَلْ كَانَ بَاقِيًا كَمَا كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم -بَعْضُهُ مَسْقُوفٌ وَبَعْضُهُ مَكْشُوفٌ- وَكَانَتِ الشَّمْسُ تَنْزِلُ فِيهِ
(1)
، وَلَم تَزَلِ الحُجْرَةُ كَذَلِكَ حَتَّى زَادَ الوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ المَلِكِ فِي المَسْجِدِ فِي إِمَارَتِهِ لَمَّا أَدْخَلَ الحُجَرَ فِي مَسْجِدِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، وَمِنْ حِينِئِذٍ دَخَلَتِ الحُجْرَةُ النَّبَوِيَّةُ فِي المَسْجِدِ، ثُمَّ إِنَّه بَنَى حَولَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ الَّتِي فِيهَا القَبْرُ جِدَارًا عَالِيًا، وَبَعْدَ ذَلِكَ جُعِلَتِ الكُوَّةُ لِيَنْزِلَ مِنْهَا مَنْ يَنْزِلُ إِذَا احْتِيجَ إِلَى ذَلِكَ لِأَجْلِ كَنْسٍ أَو تَنْظِيفٍ
(2)
.
(1)
كَمَا ثَبَتَ فِي البُخَارِيِّ (545)، وَمُسْلِمٍ (611) عَنْ عَائِشَةَ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلي العَصْرَ -وَالشَّمْسُ فِي حُجْرَتِهَا- لَمْ يَظْهَرِ الفَيءُ بَعْدُ.
(2)
يُنْظَرُ: (الاسْتِغَاثَةُ) لِابْنِ تَيمِيَّةَ (ص 105)، وَكِتَابَ (التَّوَسُّلُ) لِلْأَلْبَانِيِّ (ص 127).
-
المَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَا الجَوَابُ عَنْ بَعْضِ الآثَارِ الَّتِي فِيهَا شُبْهَةُ التَّبَرُّكِ بِالأَمَاكِنِ؟
كَمِثْلِ:
مَا فِي البُخَارِيِّ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، قَالَ: رَأَيتُ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللهِ يَتَحَرَّى أَمَاكِنَ مِنَ الطَّرِيقِ فَيُصَلِّي فِيهَا، وَيُحَدِّثُ أَنَّ أَبَاهُ كَانَ يُصَلِّي فِيهَا، وَأَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي فِي تِلْكَ الأَمْكِنَةِ
(1)
.
وَمَا فِي المُتَّفَقِ عَلَيهِ: أَنَّ عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ كَانَ يَؤُمُّ قَومَهُ -وَهُوَ أَعْمَى-، وَأَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: يَا رَسُولَ اللهِ؛ إِنَّهَا تَكُونُ الظُّلْمَةُ وَالسَّيلُ، وَأَنَا رَجُلٌ ضَرِيرُ البَصَرِ، فَصَلِّ -يَا رَسُولَ اللهِ- فِي بَيتِي مَكَانًا أَتَّخِذُهُ مُصَلَّى. فَجَاءَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:((أَينَ تُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ؟)) فَأَشَارَ إِلَى مَكَانٍ مِنَ البَيتِ، فَصَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم
(2)
.
الجَوَابُ:
1 -
أَنَّ فِعْلَ ابْنِ عُمَرَ لَيسَ فِيهِ التَّبَرُّكُ بِالمَكَانِ، وَإِنَّمَا فِيهِ دِلَالَةٌ عَلَى شِدَّةِ الاقْتِدَاءِ وَالمُتَابَعَةِ وَالتَّشَبُّهِ، فَهُوَ حَرِيصٌ عَلَى بَرَكَةِ الاقْتِدَاءِ، لَا عَلَى بَرَكَةِ المَكَانِ
(3)
.
فَفَرْقٌ بَينَ النيَّتِينِ، نِيَّةِ التَّبرُّكِ بِالمَكَانِ وَالتِمَاسِ الخَيرِ فِي البُقْعَةِ، وَبَينَ نيَّةِ الاقْتِدَاءِ بِالأَفْعَالِ، فَابْنُ عُمَرَ لَمْ يَنْظُرْ إِلَى المَكَانِ، وَإِنَّمَا نَظَرَ إِلَى الفِعْلِ الَّذِي جَرَى عِنْدَهُ.
(1)
صَحِيحُ البُخَارِيِّ (483).
(2)
رَوَاهُ البُخَارِيُّ (667)، وَمُسْلِمٌ (1/ 455).
(3)
وَفِي سُنَنِ البَيهَقِيِّ الكُبْرَى (10301): عَنْ نَافِعٍ؛ قَالَ: رَأَيتُ ابْنَ عُمَرَ إِذَا ذَهَبَ إِلَى قُبُورِ الشُّهَدَاءِ عَلَى نَاقَتِهِ رَدَّهَا هَكَذَا وَهَكَذَا، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: إنِّي رَأَيتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا الطَّرِيقِ عَلَى نَاقَتِهِ. فَقُلْتُ: لَعَلَّ خُفِّي يَقَعُ عَلَى خُفِّهِ.
وَرَوَى ابْنُ بَطَّةَ العُكْبرِيُّ رحمه الله فِي الإِبَانَةِ الكُبْرَى (1/ 262): عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ؛ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ: إِنَّ اللهَ عز وجل قَدْ أَوسَعَ، وَالبُرُّ أَفْضَلُ مِنَ التَّمْرِ. قَالَ:(إِنَّ أَصْحَابِي سَلَكُوا طَرِيقًا؛ فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَسْلُكَهُ).
وَمَعَ هَذَا فَمَا يُؤْمَنُ مِنَ الفِتْنَةِ عَلَى مِثْلِ ابْنِ عُمَرَ؛ فَإِنَّهُ لَا يُؤْمَنُ عَلَى مِثْلِ مَنْ جَاءَ بَعْدَهُم مِمَّنْ لَا يَعْرِفُونَ الجَاهِلِيَّةَ وَالشِّرْكَ، كَمَا نُقِلَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رضي الله عنه:(إِنَّمَا تُنْقَضُ عُرَى الإِسْلَامِ عُرْوَةً عُرْوَةً؛ إِذَا نَشَأَ فِي الإِسْلَامِ مَنْ لَمْ يَعْرِفِ الجَاهِلِيَّةَ)
(1)
(2)
.
2 -
أَنَّ هَذَا الفِعْلَ هُوَ مِمَّا انْفَرَدَ بِهِ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنه عَنْ بِاقِي الصَّحَابَةِ، بَلْ خَالَفَهُ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ -أَبُوهُ رضي الله عنه كَمَا مرَّ مَعَنَا قَبْلَ قَلِيلٍ- وَقَولُهُ مُقَدَّمٌ عَلَى رَأْي ابْنِهِ عِنْدَ الخِلَافِ بِاتِّفَاقٍ
(3)
، كَمَا فِي حَدِيثِ العِرْبَاضِ: ((فَعَلَيكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ
(1)
أَورَدَهُ ابْنُ القَيِّمِ رحمه الله فِي كِتَابِهِ الفَوَائِدُ (ص 109).
(2)
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ رحمه الله فِي كِتَابِهِ فَتْحُ البَارِي (3/ 427): "وَقَدْ رَخَّصَ أَحْمَدُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا فَعَلَهُ ابْنُ عُمَرَ، وكَرِهَ مَا أَحْدَثَهُ النَّاسُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الغُلُوِّ وَالإِفْرَاطِ وَالأَشْيَاءِ المُحْدَثَةِ الَّتِي لَا أَصْلَ لَهَا فِي الشَّرِيعَةِ".
وَقَالَ أَيضًا رحمه الله: "وَقَدْ نَقَلَ أَحْمَدُ بْنُ القَاسِمِ وَسِنْدِيُّ الخَوَاتِيمِيُّ، عَنِ الإِمَامِ أَحْمَدَ؛ أنَّهُ سُئِلَ عَنْ إِتْيَانِ هَذِهِ المَسَاجِدِ؟ فَقَالَ: أَمَّا عَلَى حَدِيث ابْنِ أُمِّ مَكْتُوم: أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُصَلِّيَ فِي بَيتِهِ فَيَتَّخِذَهُ مُصَلًّى، وَعَلَى مَا كَانَ يَفْعَلُ ابْنُ عُمَرَ -يَتَّبُعُ مَوَاضِعَ النَّبِيِّ وأثَرَهُ؟ - فَلَا بَأْسَ أَنْ يَأْتيَ الرَّجُلُ المَشَاهِدَ، إِلَّا أَنَّ النَّاسَ قَدْ أَفْرَطُوا فِي هَذَا، وَأَكْثَرُوا فِيهِ".
وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ القَاسِمِ: أَنَّ أَحْمَدَ ذَكَرَ قَبْرَ الحُسَينِ وَمَا يَفْعَلُ النَّاسُ عِنْدَهُ -يَعْنِي: مِنَ الأُمُورِ المَكْرُوهَةِ المُحْدَثَةِ-، وَهَذَا فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الإِفْرَاطَ فِي تَتَبُّعِ مِثْلِ هَذِهِ الآثَارِ يُخْشَى مِنْهُ الفِتْنَةُ، كَمَا كُرِهَ اتِّخَاذُ قُبُورِ الأَنْبِيَاءِ مَسَاجِدَ، وَقَدْ زَادَ الأَمْرُ فِي ذَلِكَ عِنْدَ النَّاسِ حَتَّى وَقَفُوا عِنْدَهُ، وَاعْتَقَدُوا أَنَّهُ كَافٍ لَهُم، وَاطَّرَحُوا مَا لَا يُنْجِيهِم غَيرُهُ؛ وَهُوَ طَاعَةُ اللهِ وَرَسُولِهِ".
(3)
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ رحمه الله فِي كِتَابِهِ فَتْحُ البَارِي (3/ 180) نَقْلًا عَنِ ابْنِ عَبْدِ البَرِّ فِي كِتَابِهِ الاسْتِذْكَارُ (2/ 361): "وَقَالَ: ذَكَرَ مَالِكُ بِإِثْرِ هَذَا الحَدِيثِ -أَي: حَدِيثِ المَعْرُورِ عَنْ عُمَرَ فِي النَّهْي عَنْ تتبُّعِ الآثَارِ- حَدِيثَ عِتْبَان بْنِ مَالِكٍ؛ لِيُبَيِّنَ لَكَ أَنَّ مَعْنَى هَذَا الحَدِيثَ مُخَالِفٌ لِلذِي قَبْلَهُ".
الرَّاشِدِينَ المّهْدِيِّينَ))
(1)
(2)
.
3 -
وَأَمَّا حَدِيثُ عِتْبَانَ رضي الله عنه؛ فَالمَقْصُودُ مِنْهُ أَنَّ عِتْبَانَ أَرَادَ بِنَاءَ مَسْجِدٍ لِحَاجَتِهِ إِلَيهِ، فَأَحَبَّ أَنْ يَكُونَ مَوضِعًا -يُصَلِّي لِهُ فِيهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ بَيتِهِ لِيَكُونَ النَّبِيُّ هُوَ الَّذِي رَسَمَ ذَلِكَ المَسْجِدَ، كَمَا أنَّه بَنَى مَسْجِدَ قُبَاء وَمَسْجِدَهُ هُوَ. فَالمَقْصُودُ إِذًا هُوَ أَنْ يَأْخُذَ ذَلِكَ المَكَانُ مَشْرُوعِيَّةَ كَونِهِ مَسْجِدًا
(3)
.
4 -
أَنَّ كُلَّ خِيرٍ فِي اِتِّبَاعِ مَنْ سَلَفَ، وَكُلَّ شَرٍّ فِي ابْتِدَاعِ مَنْ خَلَفَ، فِإِنَّ طُرُقَ مَكَّةَ وَالمَدِينَة كُلَّهَا كَانَتْ مَمْشَى لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ وَمَعْ ذَلِكَ فَلَمْ يَكُنْ مِنْ هَدِي أَصْحَابِ
(1)
صَحِيحٌ. التِّرْمِذِيُّ (2676). صَحِيحُ الجَامِعِ (2549).
(2)
قَالَ البَغَوِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ شَرْحُ السُّنَّةِ (1/ 207) -عِنْدَ شَرْحِ حَدِيث العِرْبَاضِ-: "وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الوَاحِدَ مِنَ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ إِذَا قَالَ قَولًا -وَخالَفَهُ غَيرُهُ مِنَ الصَّحَابَةِ-؛ كَانَ المَصِيرُ إِلَى قَولِهِ أَولَى، وَإِلَيهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي القَدِيمِ".
وَقَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ رحمه الله فِي كِتَابِهِ جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (2/ 125) -فِي شَرْحِ نَفْسِ الحَدِيثِ-: "وَبِكُلِّ حَالٍ، فَمَا جَمَعَ عُمَرُ عَلَيهِ الصَّحَابَةَ -فَاجْتَمَعُوا عَلَيهِ فِي عَصْرِهِ-؛ فَلَا شَكَّ أَنَّه الحَقُّ وَلَو خَالَفَ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ مَنْ خَالَفَ".
(3)
كَمَا فِي قِصَّةِ مَسْجِدِ الضِّرَارِ الَّذِي بَنَاهُ المُنَافِقُونَ، وَأَرَادُوا مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ لِيَكُونَ مَشْرُوعًا لَهُم وَلِغَيرِهِم الاجْتِمَاعُ فِيهِ.
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (4/ 211) -عِنْدَ قَولِهِ تَعَالَى: {لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا} [التَّوبَة: 108]-: "فَشَرَعُوا فِي بِنَاءِ مَسْجِدٍ مُجَاوِرٍ لِمَسْجِدِ قُبَاء، فَبَنَوهُ وَأَحْكَمُوهُ، وَفَرَغُوا مِنْهُ قَبْلَ خُرُوجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى تَبُوكٍ، وَجَاءُوا فَسَأَلُوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَأْتِيَ إِلَيهِم فَيُصَلِّيَ فِي مَسْجِدِهِم -لِيَحْتَجُّوا بِصَلَاتِهِ عليه السلام فِيهِ عَلَى تَقْرِيرِهِ وَإِثْبَاتِهِ-، وَذَكَرُوا أَنَّهُم إِنَّمَا بَنَوهُ لِلضُّعَفَاءِ مِنْهُم وَأَهْلِ العِلَّةِ فِي اللَّيلَةِ الشَّاتِيَةِ، فعَصَمَهُ اللهُ مِنَ الصَّلَاةِ فِيهِ؛ فَقَالَ: ((إنَّا عَلَى سَفَرٍ، وَلَكِنْ إِذَا رَجَعْنَا إِنْ شَاءَ اللهُ)). وَأَمَرَ بِهَدْمِهِ".
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَتَبَرَّكُوا بِالطُّرُقِ وَغَيرِهَا! فَالمَقْصُودُ مِنْ هَذَا أَنَّ السَّلَفَ -سَلَفَ الأُمَّةِ- كَانُوا يُنْكِرُونَ التَّبَرُّكَ بِالآثَارِ المَكَانِيَّةِ، وَيُنْكِرُونَ تَحَرِّيهَا وَالتَّعَلُّقَ بِهَا رَجَاءَ بَرَكَتِهَا، وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ إِلَّا ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما؛ فَقَدْ كَانَ يَتَتَبَّعُ الأَمَاكِنَ الَّتِي صَلَّى فِيهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَيُصَلِّي حَيثُ صَلَّى وَنَحْو ذَلِكَ. وَمَا نُقِلَ نَقْلٌ مُصَدَّقٌ عَنْ غَيرِ ابْنِ عُمَرَ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ مِثْلَ مَا فَعَلَ ابْنُ عُمَرَ فِي الآثَارِ المَكَانِيَّةِ
(1)
.
قَالَ شَيخُ الإِسْلَامِ رحمه الله: "وَلَو كَانَ هَذَا مُسْتَحَبًّا؛ لَكَانَ يُسْتَحَبُّ لِلصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَنْ يُصَلُّوا فِي جَمِيعِ حُجَرِ أَزْوَاجِهِ وَفِي كُلِّ مَكَانٍ نَزَلَ فِيهِ فِي غَزَوَاتِهِ أَوْ أَسْفَارِهِ، وَلَكَانَ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَبْنُوا هُنَاكَ مَسَاجِدَ! وَلَمْ يَفْعَلِ السَّلَفُ شَيئًا مِنْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَشْرَعِ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمُسْلِمِينَ مَكَانًا -يُقْصَدُ لِلصَّلَاةِ- إلَّا الْمَسْجِدَ؛ وَلَا مَكَانًا -يُقْصَدُ لِلعِبَادَةِ- إلَّا المَشَاعِرَ"
(2)
.
(1)
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي)(3/ 428): "وَقَدْ كَانَ ابْنُ عُمَرَ مَشْهُورًا بِتَتَبُّعِ آثَارِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَمِنْ ذَلِكَ صَلَاتُهُ فِي المَوَاضِعِ الَّتِي كَانَ يُصَلِّي فِيهَا. وَهِيَ عَلَى نَوعَينِ:
أَحَدِهِمَا: مَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْصُدُهُ لِلصَّلَاةِ فِيهِ، كَمَسْجِدِ قُبَاءَ، وَيَأْتِي ذِكْرُهُ فِي مَوضِعِهِ مِنَ الكِتَابِ؛ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.
وَالثَّانِي: مَا صَلَّى فِيهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم اتِّفَاقًا لِإِدْرَاكِ الصَّلَاةِ لَهُ عِنْدَهُ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي اخْتَصَّ ابْنُ عُمَرَ بِإِتِّبَاعِهِ".
قُلْتُ: وَقَولُ الحَافِظِ ابْنِ رَجَبٍ (اخْتَصَّ) فِيهِ بَيَانُ تَفَرُّدِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه دُونَ سَائِرِ الصَّحَابَةِ بِهَذَا الفِعْلِ -خَاصَّةً أَبُوهُ الفَارُوقُ-كَمَا سَبَقَ.
(2)
مَجْمُوعُ الفَتَاوَى (27/ 503).
-
المَسْأَلَةُ الخَامِسَةُ: هَلْ يَصِحُّ قِيَاسُ الصَّالِحِينَ عَلَى الأَنْبِيَاءِ فِي التَّبَرُّكِ؟
الجَوَابُ:
إِنَّ بَرَكَةَ الذَّوَاتِ لَا تَكُونُ إِلَّا لِمَنْ نَصَّ اللهُ تَعَالَى عَلَى إِعْطَائِهِ البَرَكَةَ كَالأَنْبِيَاءِ وَالمُرْسَلِينَ، وَأَمَّا غَيرُهُم مِنْ عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ فَبَرَكَتُهُم بَرَكَةُ عَمَلٍ، أَي: نَاشِئَةٌ عَنْ عِلْمِهِم وَعَمَلِهِم وَاِتِّبَاعِهِم، لَا عَنْ ذَوَاتِهِم.
وَمِنْ هَذِهِ البَرَكَاتِ: دُعَاؤُهُم النَّاسَ إِلَى الخَيرِ، وَدُعَاؤُهُم لَهُم، وَنَفْعُهُم الخَلْقَ بِالإِحْسَانِ إِلَيهِم بِنِيَّةٍ صَالِحَةٍ وَنَحْو هَذَا.
وَمِنْ آثَارِ بَرَكَاتِ أَعْمَالِهِم مَا يَجْلِبُ اللهُ مِنَ الخَيرِ عَلَى الأُمَّةِ بِسَبَبِهِم، وَيَدْفَعُ مِنَ النِّقمَةِ وَالعَذَابِ العَامِّ بِبَرَكَةِ إِصْلَاحِهِم
(1)
، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هُود: 117].
وَأَمَّا أَنْ يُعْتَقَدَ أَنَّ ذَوَاتَهُم مُبَارَكَةٌ؛ فَيُتَمَسَّحَ بِهِم، وَيُشْرَبَ سُؤْرُهُم، وَتُقبَّلَ أَيدِيهِم لِلبَرَكَةِ دَائِمًا وَنَحْوَ ذَلِك؛ فَهُوَ مَمْنُوعٌ فِي غَيرِ الأَنْبِيَاءِ لِأَوجُهٍ:
1 -
عَدَمُ مُقَارَبَةِ أَحَدٍ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الفَضْلِ؛ فكَيفَ بِالمُسَاوَاةِ فِي البَرَكَةِ الذَّاتِيَّةِ؟!
2 -
أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ دَلِيلٌ شَرِعِيٌّ عَلَى أَنَّ غَيرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلُهُ فِي التَّبَرُّكِ بِأَجْزَاءِ ذَاتِهِ؛ فَهُوَ خَاصٌّ بِهِ كَغِيرِهِ مِنْ خَصَائِصِهِ.
3 -
إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى تَرْكِ ذَلِكَ.
(1)
وَعَلَيهِ يُحْمَلُ خَبَرُ الأَبْدَالِ إِنْ قِيلَ بِهِ، وَإِلَّا فَلَيسَ فِيهِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ يَصِحُّ، وَسَتَأْتِي مَعَنَا -إِنْ شَاءَ اللهُ- مَسْأَلَةٌ فِي خَبَرِ الأَبْدَالِ.
قَالَ العَلَّامَةُ الشَّاطِبِيُّ رحمه الله: "إِلَّا أَنَّهُ عَارَضَنَا فِي ذَلِكَ أَصْلٌ مَقْطُوعٌ بِهِ فِي مَتْنِهِ، مُشْكِلٌ فِي تَنْزِيلِهِ، وَهُوَ أَنَّ الصَّحَابةَ رضي الله عنهم لَمْ يَقَعْ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُم شَيءٌ مِنْ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ خَلْفِهِ، إِذْ لَمْ يَتْرُكِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَهُ فِي الأُمَّةِ أَفْضَلَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه فَهُوَ كَانَ خَلِيفَتُهُ، وَلَمْ يُفْعَلْ بِهِ شِيءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا عُمَرُ رضي الله عنه، وَهُوَ كَانَ أَفْضَلَ الأُمَّةِ بَعْدَهُ، ثُمَّ كَذَلِكَ عُثْمَانُ، ثُمَّ عَلِيٌّ، ثُمَّ سَائِرَ الصَّحَابَةِ -الَّذِينَ لَا أَحَدَ أَفْضَلُ مِنْهُم فِي الأُمَّةِ-، ثُمَّ لَمْ يَثْبُتْ لِوَاحِدٍ مِنْهُم مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحٍ مَعْرُوفٍ أَنَّ مُتَبَرِّكًا تَبَرَّكَ بِهِم عَلَى أَحَدِ تِلْكَ الوُجُوهِ أَو نَحْوِهَا، بَلِ اقْتَصَرُوا فِيهِم عَلَى الاقْتِدَاءِ بِالأَفْعَالِ وَالأَقْوَالِ وَالسِّيَرِ الَّتِي اتَّبَعُوا فِيهَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم؛ فَهُوَ إِذًا إِجْمَاعٌ مِنْهُم عَلَى تَرْكِ تِلْكَ الأَشْيَاءِ"
(1)
(2)
.
قُلْتُ: وَكَذَا لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ التَّبَرُّكَ مَعَ الحَسَنِ وَالحُسَينِ، وَلَا فَاطِمَةَ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ، فَالبَرَكَةُ الذَّاتيَّةُ لَا تَنْتَقِلُ بِالنُّطْفَةِ! خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ غَيرَ ذَلِكَ مِنَ الرَّافِضَةِ وَمُقَلِّدِيهِم، وَتَأَمَّلْ قَولَهُ تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ وَابْنِهِ عَلَيهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ:{وَبَارَكْنَا عَلَيهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} [الصَّافَّات: 113] فَفِي ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ، رَغُمَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى بَارَكَ عَلَيهِمَا
(3)
.
(1)
الاعْتِصَامُ (1/ 482).
(2)
وَأَمَّا حَدِيثُ الطَّبَرَانِيِّ الَّذِي فِي الأَوسَطِ (794) عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: (كَانَ يَبْعَثُ إِلَى المَطَاهِرِ فَيُؤْتَى بِالمَاءِ فَيَشْرَبُهُ؛ يَرْجُو بَرَكَةَ أَيدِي المُسْلِمِينَ) فَهُوَ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ كَمَا فِي الضَّعِيفَةِ (6479)، وَقَدْ كَانَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله قَدْ حَسَّنَهُ سَابِقًا فِي الصَّحِيحَة (2118) ثُمَّ تَبَيَّنَتْ لَهُ نَكَارَتُهُ.
وَ (المَطَاهِرُ): جَمْعُ (المِطْهَرَةِ): كُلُّ إِنَاءٍ يُتَطَهَّرُ مِنْهُ كَالإِبْرِيقِ وَالسَّطْلِ وَالرَّكْوَةِ وَغَيرِهَا.
(3)
قَالَ الشَّيخُ السَّعْدِيُّ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (ص 706): "اقْتَضَى ذَلِكَ البَرَكَةَ فِي ذُرِّيَّتِهِمَا، وَأَنَّ مِنْ تَمَامِ البَرَكةِ أَنْ تَكُونَ الذُّريَّةُ كُلُّهُم مُحْسِنِينَ! فَأَخْبَرَ اللهُ تَعَالَى أَنَّ مِنْهُم مُحْسِنًا وَظَالِمًا. وَاللهُ أَعْلَمُ".
4 -
أنَّ سَدَّ الذَّرَائِعِ قَاعِدَةٌ مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ العَظِيمَةِ قَدْ دَلَّ عَلَيهَا القُرْآنُ العَظِيمُ فِي مَوَاضِعَ، وَفِي السُّنَّةِ شَيءٌ كَثِيرٌ يُقَارِبُ صَحِيحُهُ المِئَةَ، وَلَعَلَّهُ لِهَذَا لَمْ يُسَلْسَلِ التَّبَرُّكُ بِذَوَاتِ الصَّالِحِينَ، إِنَّمَا اخْتَصَّ بِهِ الأَنْبِيَاءُ، فالتَّبَرُّكُ بِالصَّالِحِينَ يُفْضِي إِلَى الغُلُوِّ.
5 -
أَنَّ فِعْلَ هَذَا النَّوعِ مِنَ التَّبَرُّكِ مَعَ غَيرِهِ صلى الله عليه وسلم لَا يُؤمَنُ أنْ يَفْتِنَهُ وَتُعْجِبَهُ نَفْسُهُ فَيُورِثَهُ ذَلِكَ العُجْبَ وَالكِبْرَ وَالرِّيَاءَ وَتَزْكِيَةَ نَفْسِهِ، وَكُلُّ هَذَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ.
-
المَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: مَا الجَوَابُ عَنْ شُبْهَةُ تَبَرُّكِ الشَّافِعِيِّ بِقَمِيصِ أَحْمَدَ رَحِمَهُمَا اللهُ؟
فَقَدْ أَورَدَ الحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرٍ رحمه الله فِي التَّارِيخِ: "قَالَ الرَّبِيعُ: إِنَّ الشَّافِعِيَ خَرَجَ إِلَى مِصْرَ -وَأَنَا مَعَهُ- فَقَالَ لِي: يَا رَبِيعُ، خُذْ كِتَابِي هَذَا وَامْضِ بِهِ وَسَلِّمْهُ إِلَى أَبِي عَبْدِ اللهِ؛ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَائْتِنِي بِالجَوَابِ. قَالَ الرَّبِيعُ: فَدَخَلْتُ بَغْدَادَ -وَمَعِيَ الكِتَابُ-، فَلَقِيتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلَ صَلَاةَ الصُّبْحِ، فَصَلَّيتُ مَعَهُ الفَجْرَ. فَلَمَّا انْفَتَلَ مِنَ المِحْرَابِ سَلَّمْتُ إِلَيهِ الكِتَابَ، وَقُلْتُ لَهُ: هَذَا كِتَابُ أَخِيكَ الشَّافِعِيِّ مِنْ مِصْرَ، فَقَالَ أَحْمَدُ: نَظَرْتَ فِيهِ؟ قُلْتُ: لَا. فَكَسَرَ أَبْو عَبْدِ اللهِ الخَتْمَ، وَقَرَأَ الكِتَابَ، فَتَغَرْغَرَتْ عَينَاهُ بِالدُّمُوعِ، فَقُلْتُ: إيش فِيهِ يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ؟ قَالَ: يَذْكُرُ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي النَّومِ فَقَالَ لَهُ: اُكْتُبْ إِلَى أَبِي عَبْدِ اللهِ؛ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَاقْرَأْ عَلَيهِ مِنَّي السَّلَامَ، وَقُلْ: إِنَّكَ سَتُمْتَحَنُ وَتُدْعَى إِلَى خَلْقِ القُرْآنِ فَلَا تُجِبْهُم فَسَيَرْفَعُ اللهُ لَكَ عَلَمًا إِلَى يَومِ القِيَامَةِ. قَالَ الرَّبِيعُ: فَقُلْتُ: البِشَارَةَ! فَخَلَعَ أَحَدَ قَمِيصَيهِ الَّذِي يَلِي جِلْدَهُ وَدَفَعَهُ إليَّ فَأَخَذْتُهُ، وَخَرَجْتُ إِلَى مِصْرَ، وَأَخَذْتُ جَوَابَ الكِتَابِ فَسَلَّمْتُهُ إِلَى الشَّافِعِيِّ، فَقَالَ لِيَ الشَّافِعِيُّ: يَا رَبِيعُ، إيش الَّذِي دَفَعَ إِلَيكَ؟ قُلْتُ: القَمِيصَ الَّذِي يَلِي جِلْدَهُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَيسَ نَفْجَعُكَ بِهِ! وَلَكِنْ بُلَّهُ وَادْفَعْ إِلَيَّ المَاءَ لِأَتبَرَّكَ بِهِ -وَفِي رِوَايَةٍ حَتَّى أَشْركَكَ فِيهِ-"
(1)
.
الجَوَابُ:
1 -
إِنَّ القِصَّةَ غَيرُ صَحِيحَةٍ، فَقَدْ قَالَ الحَافِظُ الذَّهَبِيُّ رحمه الله فِي تَرْجَمَةِ -
(1)
تَارِيخُ دِمْشَقَ (5/ 311).
الرَّبِيعِ بْنِ سُلَيمَانِ المُرَادِيِّ-: "وَلَمْ يَكُنْ صَاحِبَ رِحلَةٍ، فَأَمَّا مَا يُرْوَى أَنَّ الشَّافِعِيَّ بَعَثَهُ إِلَى بَغْدَادَ بِكِتَابِهِ إِلَى أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فَغَيرُ صَحِيحٍ"
(1)
.
2 -
أَنَّ الشَّافِعِيَّ رحمه الله لَقِيَ مَنْ هُوَ أَعْلَى رُتْبَةً مِنَ الإِمَامِ أَحْمَدَ رَحِمَهُمَا اللهُ مِثْلَ مَالِكٍ، وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَينَةَ وَغَيرَهُم؛ وَمَعْ ذَلِكَ لَمْ يُنقَلْ عَنْهُ مِثْلُ ذَلِكَ.
3 -
أَنَّ مَنْ هُمْ خَيرٌ مِنْهُ -وَهُمُ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيهِم- لَمْ يَرِدْ عَنْهُم مِثْلُ هَذَا مَعَ مَنْ هُوَ خَيرُ هَذِهِ الأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا وَهُوَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَمِنْ ثُمَّ عُمَرُ وَ
…
، فَلَو كَانَ خَيرًا لَفَعَلُوهُ، وَفِي قَولِهِ تَعَالَى:{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التَّوبَة: 100] بَيَانُ الأَمْرِ بِاتِّبَاعِهِم
(2)
.
(1)
سِيَرُ أَعْلَامِ النُّبَلَاءِ (12/ 587).
قُلْتُ: وَأَيضًا فِي أَحَدِ أَسَانِيدِهَا مُحَمَّدُ بْنُ الحُسَينِ السُّلَمِيُّ. قَالَ عَنْهُ الدَّارَقُطْنِيُّ: "وَكَانَ يَضَعُ لِلصُّوفِيَّةِ الأَحَادِيثَ". انْظُرْ كِتَابَ (طَبَقَاتُ الحُفَّاظِ)(ص 412) لِلسُّيُوطِيِّ، وَأَمَّا الأَسَانِيدُ الأُخْرَى فَفِيهَا انْقِطَاعٌ، وَبَعْضُ رُوَاتِهَا لَا يُعْرَفُ.
(2)
وَلَا يَصِحُّ الاحْتِجَاجُ عَلَى مِثْلِ هَذَا النَّوعِ مِنَ التَّبَرُّكِ بِقِصَّةِ يَعْقُوبَ وَيُوسُفَ عَلَيهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ؛ حَيثُ بَعَثَ يُوسُفُ بِقَمِيصِهِ إِلَى أَبِيهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا بِهِ! وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا النَّوعَ هُوَ مِمَّا أَثْبَتْنَاه سَابِقًا مِنَ التَّبَرُّكِ بِآثَارِ الأَنْبِيَاءِ المُنْفَصِلَةِ عَنْ جَسَدِهِم -مُمَثَّلًا هُنَا بِعَرَقِ الجَسَدِ-، فَلَيسَ فِيهِ دِلَالَةٌ عَلَى المَقْصُودِ، لِأَنَّ المَطْلُوبَ هُنَا -فِي هَذِهِ المَسْأَلَةِ- إِيرَادُ الدَّلِيلِ عَلَى هَذَا النَّوعِ مِنَ التَّبَرُّكِ فِي غَيرِ الأَنْبِيَاءِ.
-
المَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: مَا الجَوَابُ عَنْ شُبْهَةِ تَمْرِيغِ بِلَالٍ وَأَبِي أَيُّوبَ رضي الله عنهما لِوَجْهَيهِمَا عَلَى قَبْرِ النَّبِيِّ
صلى الله عليه وسلم بَعْدَ مَوتِهِ؟
الجَوَابُ:
لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ عَنْهُمَا.
وَلْنَسْتَعْرِضِ الأَثَرَينِ فِي ذَلِكَ مَعَ بَيَانِ سَبَبِ الضَّعْفِ حَدِيثِيًّا.
أَمَّا الأَثَرُ الأَوَّلُ: فَقَدْ رَوَى ابْنُ عَسَاكِر فِي تَارِيخِهِ عَن أَبِي الدَّرْدَاءِ: أَنَّ بِلَالًا رَأَى فِي مَنَامِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَقُولُ لَهُ: ((مَا هَذِهِ الجَّفْوَةُ يَا بِلَالُ؟! أَمَا آنَ لَكَ أَنْ تَزُورَنِي يَا بِلَالُ))؟! فَانْتَبَهَ حَزِينًا وَجِلًا خَائِفًا؛ فَرَكِبَ رَاحِلَتَهُ وَقَصَدَ المَدِينَةَ، فَأَتَى قَبْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَجَعَلَ يَبْكِي عِنْدَهُ وَيُمَرِّغُ وَجْهَهُ عَلَيهِ، وَأَقْبَلَ الحَسَنُ وَالحُسَينُ؛ فَجَعَلَ يَضُمُّهُمَا وَيُقَبِّلُهُمَا، فَقَالَا لَهُ: يَا بِلَالُ؛ نَشْتَهِي نَسْمَعُ أَذَانَكَ الَّذِي كُنْتَ تُؤَذِّنُهُ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي السَّحَرِ! فَفَعَلَ؛ فَعَلَا سَطْحَ المَسْجِدِ، فَوَقَفَ مَوْقِفَهُ الَّذِي كَانَ يَقِفُ فِيهِ، فَلَمَّا أَنْ قَالَ: اللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ؛ ارْتَجَّتِ المَدِينَةُ، فَلَمَّا أَنْ قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؛ زَادَ تَعَاجِيجُهَا، فَلَمَّا أَنْ قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ؛ خَرَجَ العَوَاتِقُ مِن خُدُورِهِنَّ فَقَالُوا: أَبُعِثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟! فَمَا رُئِيَ يَومٌ أَكْثَرُ بَاكِيًا وَلَا بَاكِيَةً بَعْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِن ذَلِكَ اليَومِ
(1)
.
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ عَبْدِ الهَادِي رحمه الله عَنْهُ: "أَثَرٌ غَرِيبٌ مُنْكَرٌ، وَإِسْنَادُهُ مَجْهُولٌ، وَفِيهِ انْقِطَاعٌ، وَقَدِ انْفَرَدَ بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ الفَيضِ الغَسَّانِيِّ، عَن إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيمَانَ بْنِ بِلَالٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ. وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ هَذَا: شَيخٌ لَمْ يُعْرَفْ بِثِقَةٍ
(1)
ضَعِيفٌ. تَارِيخُ دِمَشْقَ (7/ 137). أُسْدُ الغَابَةِ (1/ 415).
وَأَمَانَةٍ وَلَا ضَبْطٍ وَعَدَالَةٍ! بَلْ هُوَ مَجْهُولٌ غَيرُ مَعْرُوفٍ بِالنَّقْلِ، وَلَا مَشْهُورٍ بِالرِّوَايَةِ! وَلَمْ يَرْوِ عَنْهُ غَيرُ مُحَمَّدِ بْنِ الفَيضِ، رَوَى عَنْهُ هَذَا الأَثَرَ المُنْكَرَ"
(1)
.
وَقَالَ ابنُ حَزْمٍ: "قَدْ ذَكَرْنَا مَا لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ اثْنَانِ مِن أَهْلِ النَّقْلِ: أَنَّ بِلَالًا رضي الله عنه لَمْ يُؤَذِّنْ قَطُّ لِأَحَدٍ بَعْدَ مَوتِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً بِالشَّامِ"
(2)
.
وَأَمَّا الأَثَرُ الثَّانِي: فَقَدْ رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَن دَاودَ بْنِ أَبِي صَالِحٍ: أَقْبَلَ مَرْوَانُ يَوْمًا، فَوَجَدَ رَجُلًا وَاضِعًا وَجْهَهُ عَلَى الْقَبْرِ، فَقَالَ: أَتَدْرِي مَا تَصْنَعُ؟ فَأَقْبَلَ عَلَيهِ؛ فَإِذَا هُوَ أَبُو أَيُّوبَ، فَقَالَ: نَعَمْ. جِئْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ آتِ الْحَجَرَ! سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ((لَا تَبْكُوا عَلَى الدِّينِ إِذَا وَلِيَهُ أَهْلُهُ؛ وَلَكِنِ ابْكُوا عَلَيهِ إِذَا وَلِيَهُ غَيرُ أَهْلِهِ))
(3)
.
وَالجَوَابُ عَلَيهِ أَيضًا: أَنَّ إِسْنَادَهُ ضَعِيفٌ.
قَالَ الإِمَامُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله: "قَالَ الحَاكِمُ: صَحِيحُ الإِسْنَادِ، وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيُّ! وَهُوَ مِن أَوْهَامِهِمَا؛ فَقَدْ قَالَ الذَّهَبِيُّ نَفْسُهُ فِي تَرْجَمَةِ دَاودَ هَذَا: حِجَازِيٌّ لَا يُعْرَفُ! وَوَافَقَهُ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ؛ فَأَنَّى لَهُ الصِّحَّةُ؟! "
(4)
.
وَفِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ: شَيخُهُ؛ أَحْمَدُ بْنُ رِشْدِينَ؛ قَالَ عَنْهُ الحَافِظُ: "قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: كَذَّبُوهُ، وَأُنْكِرَتْ عَلَيهِ أَشْيَاء"
(5)
.
(1)
الصَّارِمُ المُنْكِيُّ (ص 237).
(2)
المُحَلَّى (2/ 188).
(3)
ضَعِيفٌ. مُسْنَدُ أَحْمَد (23585)، المُسْتَدْرَكُ (8571)، المُعْجَمُ الأَوْسَطُ لِلطَّبَرَانِيِّ (284). الضَّعِيفَةُ (373).
(4)
السِّلْسِلَةُ الضَّعِيفَةُ (1/ 552).
(5)
لِسَانُ المِيزَانِ (1/ 594).
وَفِيهِ أَيضًا حَاتِمُ ابْنُ إِسْمَاعِيلَ؛ قَالَ عَنْهُ الحَافِظُ: "صَدُوقٌ يَهِمُ"
(1)
، وَقَدْ تَفَرَّدَ بِهِ، قَالَ الطَّبَرَانِيُّ:"لَا يُرْوَى هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَادِ؛ تَفَرَّدَ بِهِ: حَاتِمٌ"
(2)
.
وَمِن جِهَةٍ أُخْرَى؛ فَلَيسَ فِي الأَثَرَينِ أَنَّ التَّمَرُّغَ كَانَ سَبَبُهُ التَّبَرُّكَ! وَإِنَّمَا ظَاهِرُهُ الشَّوقُ وَالحَنِينُ لِصَاحِبِ القَبْرِ عليه الصلاة والسلام، كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي مِثْلِهِ مِنِ اسْتِلَامِ الحَجَرِ الأَسْوَدِ وَالرُّكْنِ اليَمَانِيِّ.
قَالَ الإِمَامُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله: "وَقَدْ شَاعَ عِنْدَ المُتَأَخِّرِينَ الاسْتِدْلَالُ بِهَذَا الحَدِيثِ عَلَى جَوَازِ التَّمَسُّحِ بِالقَبْرِ لِوَضْعِ أَبِي أَيُّوبَ وَجْهَهُ عَلَى القَبْرِ، وَهَذَا مَعَ أَنَّهُ لَيسَ صَرِيحًا فِي الدِّلَالَةِ عَلَى أَنَّ تَمَسُّحَهُ كَانَ لِلْتَبَرُّكِ -كَمَا يَفْعَلُ الجُهَّالُ-! فَالسَّنَدُ إِلَيهِ بِذَلِكَ ضَعِيفٌ -كَمَا عَلِمْتَ- فَلَا حُجَّةَ فِيهِ، وَقَدْ أَنْكَرَ المُحَقِّقُونَ مِن العُلَمَاءِ -كَالنَّوَوِيِّ وَغَيرِهِ- التَّمَسُّحَ بِالقُبُورِ، وَقَالُوا: إِنَّهُ مِن عَمَلِ النَّصَارَى، وَقَدْ ذَكَرْتُ بَعْضَ النُّقُولِ فِي ذَلِكَ فِي (تَحْذِيرِ السَّاجِدِ مِنِ اتِّخَاذِ القُبُورِ مَسَاجِدَ) "
(3)
.
(1)
تَقْرِيبُ التَّهْذِيبِ (ص 144).
(2)
المُعْجَمُ الأَوْسَطُ لِلطَّبَرَانِيِّ (1/ 94).
(3)
السِّلْسِلَةُ الضَّعِيفَةُ (1/ 553).
قَالَ الشَّيْخُ الدُّكْتُورُ وَهْبَةُ الزُّحَيليُّ حَفِظَهُ اللهُ وَرَعَاهُ فِي كِتَابِهِ (الفِقْهُ الإِسْلَامِيُّ وَأَدِلَّتُهُ)(ص 1453) - فِي حَاشِيَةِ أَبْوَابِ صَلَاةِ الاسْتِسْقَاءِ -: "اتَّفَقَ الأَئِمَّةُ عَلَى أَنَّ الدُّعَاءَ عِنْدَ قَبْرٍ رَجَاءَ الإِجَابَةِ بِدْعَةٌ، لَا قُرْبَةٌ".
-
المَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: مَا الجَوَابُ عَنِ الأَثَرِ الَّذِي نُقِلَ عَنِ الإِمَامِ أَحْمَدَ رحمه الله مِنْ أَنَّهُ لَمْ يَرَ بَأْسًا فِي تَقْبِيلِ القَبْرِ النَّبَوِيِّ وَالتَّمَسُّحِ بِهِ؟
الجَوَابُ:
بِدَايَةً؛ الأَثَرُ هَذَا بِلَفْظِهِ هُوَ -كَمَا جَاءَ فِي كِتَابِ (العِلَلُ وَمَعْرِفَةُ الرِّجَالِ) لِعَبْدِ اللهِ ابْنِ الإِمَامِ أَحْمِدَ- أَنَّهُ سَأَلَ أَبَاهُ: "سَأَلْتُهُ عَنِ الرَّجُلِ يَمَسُّ مِنْبَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَيَتَبَرَّكُ بِمَسِّهِ وَيُقَبِّلُهُ وَيفْعَلُ بِالقَبْرِ مِثْلَ ذَلِكَ أَو نَحْوَ هَذَا؛ يُرِيدُ بِذَلِكَ التَّقَرُّبَ إِلَى اللهِ جَلَّ وَعَزَّ؟ فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ"
(1)
.
وَأَمَّا جَوَابُهُ؛ فَهُوَ أَنَّهُ أَثَرٌ شَاذٌّ عَنِ الإِمَامِ أَحْمَدَ، وَلَا تَصِحُّ نِسْبَتُهُ إِلَيهِ رحمه الله.
وَبَيَانُهُ مِنْ أَوْجُهٍ:
- الوَجْهِ الأَوَّلِ: إِنَّ هَذَا الأَثَرَ شَاذٌّ مَتْنًا مِن عِدَّةِ طُرُقٍ مَنْقُولَةٍ بِالأَسَانِيدِ عَنِ الإِمَامِ أَحْمَدَ رحمه الله؛ مِنْهَا:
نَقَلَ أَبُو بَكْرٍ الأَثْرَمُ -وَهُوَ مِنْ أَجَلِّ أَصْحَابِ الإِمَامِ أَحْمَدَ- عَنِ الإِمَامِ أَحْمَدَ؛ أَنَّهُ: "قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللهِ: قَبْرُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُلْمَسُ وَيُتَمَسَّحُ بِهِ؟ قَالَ: مَا أَعْرِفُ هَذَا! قُلْتُ لَهُ: فَالمِنْبَرُ؟ قَالَ: أَمَّا المِنْبَرُ؛ فَنَعَمْ، قَدْ جَاءَ فِيهِ، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: شَيءٌ يَرْوُونَهُ عَنِ ابْنِ أَبِي فُدَيكٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ مَسَحَ عَلَى المِنْبَرِ. قَالَ: وَيَرْوُنَهُ عَنْ سَعِيدٍ بْنِ المُسَيّبِ فِي الرُّمَّانَةِ. قُلْتُ: وَيُرْوَى عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ -يَعْنِي: الأَنْصَارِيَّ؛ شَيخَ مَالِكٍ- وَغَيرِه؛ أَنَّهُ حَيثُ أَرَادَ الخُرُوجَ إِلَى العِرَاقِ جَاءَ إِلَى المِنْبَرِ فَمَسَحَهُ وَدَعَا، فَرَأَيتُهُ اسْتَحْسَنَ ذَلِكَ. ثُمَّ قَالَ: لَعَلَّهُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَالشَّيءِ. قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللهِ: إِنَّهُم
(1)
العِلَلُ وَمَعْرِفَةُ الرِّجَالِ لِأَحْمَدَ -رِوَايَةُ ابْنِهِ عَبْدِ اللهِ- (2/ 492).
يُلْصِقُونَ بُطُونَهُم بِجِدَارِ القَبْرِ! وَقُلْتُ لَهُ: وَرَأَيتُ أَهْلَ العِلْمِ مِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ لَا يَمَسُّونَهُ، وَيَقُومُونَ نَاحِيَتَهُ فَيُسَلِّمُونَ! فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: نَعَمْ، وَهَكَذَا كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُ ذَلِكَ. ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: بِأَبِي وَأُمَّيِ صلى الله عليه وسلم"
(1)
.
وَنَقَلَ صَالِحُ -ابْنُ الإِمَامِ أَحْمَدَ- عَنْهُ: "وَلَا يَمَسَّ الحَائِطَ، وَيَضَعَ يَدَهُ عَلَى الرُّمَّانَةِ وَمَوْضِعَ الَّذِي جَلَسَ فِيهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَلَا يُقَبِّلَ الحَائِطَ"
(2)
.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ الطَّيَالِسِيُّ -وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ-: "مَسَحْتُ يَدِي عَلَى أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلَ ثُمَّ مَسَحْتُ يَدِي عَلَى بَدَنِي وَهُوَ يَنْظُرُ، فَغَضِبَ غَضَبًا شَدِيدًا وَجَعَلَ يَنْفُضُ نَفْسَهُ وَيَقُولُ: عَمَّنْ أَخَذْتُم هَذَا؟! وَأَنْكَرَهُ إِنْكَارًا شَدِيدًا"
(3)
.
وَهَذَا أَثَرٌ وَاضِحٌ بيِّنٌ فِي تَشْنِيعِ الإِمَامِ عَلَى مَنْ يَتَبَرَّكُ بِهِ وَهُوَ حَيٌّ؛ فَكَيفَ يَرْضَى أَنْ يُتَبَرَّكَ بِالقُبُورِ؟!
- الوَجْهِ الثَّانِي: مَا نَقَلَهُ أَئِمَّةُ المَذْهَبِ الحَنْبَلِيِّ -وَالَّذِينَ هُمْ أَدْرَى النَّاسِ بِمَذْهَبِ الإِمَامِ أَحْمَدَ رحمه الله وَمَا هُوَ الثَّابِتُ عَنْهُ- وَغَيرُهُم.
قَالَ الإِمَامُ ابْنُ قُدَامَةَ المَقْدِسِيُّ رحمه الله: "وَلَا يُسْتَحَبُّ التَّمَسُّحُ بِحَائِطِ قَبْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا تَقْبِيلُهُ. قَالَ أَحْمَدُ: مَا أَعْرِفُ هَذَا. قَالَ الأَثْرَمُ: رَأَيتُ أَهْلَ العِلْمِ مِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ لَا يَمَسُّونَ قَبْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم"
(4)
.
وَقَالَ المَرْدَاوِيُّ رحمه الله: "لَا يُسْتَحَبُّ تَمَسُّحُهُ بِقَبْرِهِ -عَلَيهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ
(1)
الصَّارِمُ المُنْكِي (ص 145).
(2)
مَسَائِلُ الإِمَامِ أَحْمَدَ -رِوَايَةُ ابْنِهِ أَبِي الفَضْلِ؛ صَالِحٍ- (3/ 60).
(3)
طَبَقَاتُ الحَنَابِلَةِ لِأَبِي يَعْلَى (1/ 228).
(4)
المُغْنِي (3/ 479).
وَالسَّلَامِ- عَلَى الصَّحِيحِ مِن المَذْهَبِ. قَالَ فَي المُسْتَوعَبِ: بَلْ يُكْرَهُ، قَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ: أَهْلُ العِلْمِ كَانُوا لَا يَمَسُّونَهُ! نَقَلَ أَبُو الحَارِثِ: يَدْنُو مِنْهُ وَلَا يَتَمَسَّحُ بِهِ، بَلْ يَقُومُ حِذَاءَهُ فَيُسَلِّمُ، وَعَنْهُ يُتَمَسَّحُ بِهِ
(1)
"
(2)
.
وَقَالَ الحَجَاوِيُّ رحمه الله: "وَلَا يُتَمَسَّحْ، وَلَا يُمَسَّ قَبْرُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلَا حَائِطُهُ، وَلَا يُلْصِقْ بِهِ صَدْرَهُ، وَلَا يُقَبِّلْهُ"
(3)
.
وَقَالَ السَّمْهُودِيُّ: "وَرُوِيَ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ رَأَى رَجُلًا وَضَعَ يَدَهُ عَلَى قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ تَعَالَى عَلَيهِ وَسَلَّمَ؛ فَنَهَاهُ، وَقَالَ: مَا كُنَّا نَعْرِفُ هَذَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم! وَقَدْ أَنْكَرَهُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ أَشَدَّ الإِنْكَارِ"
(4)
.
وكُلُّ مَنْ دَرَسَ المذْهَبَ الحَنْبَلِيَّ عَرَفَ أَنَّ مَسْأَلَةَ التَّمَسُّحِ بِالقَبْرِ مَسْأَلَةٌ مَرْدُودَةٌ مُنْكَرَةٌ فِي المَذْهَبِ؛ فَكَيفَ يُنْسَبُ بَعْدَ هَذَا جَوَازُ التَّمَسُّحِ بِالقَبْرِ إِلَى الإِمَامِ أَحْمَدَ؟! وَقَاعِدَةُ العِلْمِ مَعْرُوفَةٌ فِي رَدِّ المُتَشَابِهِ إِلَى المُحْكَمِ.
- الوَجْهِ الثَّالِثِ: قَدْ نَقَلَ كَثِيرٌ مِن المُحَقِّقِينَ الإِجْمَاعَ -وَمِن جُمْلَتِهِم الإِمَامُ أَحْمَدُ كَمَا لَا يَخْفَى- عَلَى المَنْعِ مِن التَّمَسُّحِ بِالقَبْرِ الشَّرِيفِ، وَمِنْهُم:
قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رحمه الله: "لَا يَجُوزُ أَنْ يُطَافَ بِقَبْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ويُكْرَهُ إلْصَاقُ البَطْنِ وَالظهْرِ بِجِدَارِ القَبْرِ، قَالَهُ الحَلِيميُّ وَغَيرُهُ.
(1)
وَهَذِهِ لَا تَثْبُتُ عَنْ أَحْمَدَ، كَمَا تَجِدُ نَصَّ المَرْدَاوِيِّ عَنْهُ فِي قَولِهِ السَّابِقِ:"عَلَى الصَّحِيحِ مِن المَذْهَبِ".
(2)
الإِنْصَافُ (4/ 53).
(3)
الإِقْنَاعُ (1/ 396).
(4)
وَفَاءُ الوَفَاءِ (4/ 216).
وَيُكْرَهُ مَسْحُهُ بِاليَدِ وَتَقْبِيلُهُ، بَلِ الأَدَبُ أَنْ يَبْعُدَ مِنْهُ كَمَا يَبْعُدُ مِنْهُ لَوْ حَضَرَ في حَيَاتِهِ صلى الله عليه وسلم، هذَا هُوَ الصَّوَابُ، وَهُوَ الَّذِي قَالَهُ العُلَمَاءُ وَأطْبقُوا عَلَيهِ.
وَيَنْبَغِي أنْ لَا يُغْتَرَّ بِكَثِيرٍ مِنَ العَوَامِّ فِي مُخَالَفَتِهِمْ ذلِكَ؛ فَإِنَّ الاقْتِدَاءَ وَالعَمَلَ إنَّمَا يَكُونُ بِأَقْوَالِ العُلماءِ، وَلَا يُلْتَفَتُ إلى مُحْدَثَاتِ العَوَامِّ وَجَهَالَاتِهِم، وَلَقَدْ أَحْسَنَ السَّيِّدُ الجَلِيلُ أبُو عَلِيٍّ -الفُضَيلُ بنُ عِيَاضِ- رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي قَوْلهِ مَا مَعْنَاهُ: اتَّبْعِ طُرُقَ الهُدَى وَلَا يَضُرُّكَ قِلَّةُ السَّالِكِينَ، وَإِيَّاكَ وَطُرُقَ الضَّلَاَلَةِ وَلَا تَغْتَرَّ بِكَثْرَةِ الهَالِكِينَ! وَمَنْ خَطَرَ بِبَالِهِ أنَّ المَسْحَ بِاليَدِ وَنَحْوَهُ أَبْلَغُ فِي البَرَكَةِ! فَهُوَ مِنْ جَهَالَتِهِ وَغَفْلَتِهِ، لَأَنَّ البَرَكَةَ إِنَّمَا هِيَ فِيمَا وَافَقَ الشَّرْعَ وَأَقْوَالَ العُلَمَاءِ، وَكَيفَ يُبْتَغَى الفَضْلُ فِي مُخَالَفَةِ الصَّوَابِ؟! "
(1)
.
وَقَالَ شَيخُ الإِسْلَامِ رحمه الله: "وَأَمَّا التَّمَسُّحُ بِقَبْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم وَتَقْبِيلُهُ؛ فَكُلُّهُمْ كَرِهَ ذَلِكَ وَنَهَى عَنْهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا مَا قَصَدَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم مِنْ حَسْمِ مَادَّةِ الشِّرْكِ وَتَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ وَإِخْلَاصِ الدِّينِ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ"
(2)
.
- الوَجْهِ الرَّابِعِ: حَمَلَ بَعْضُ أَصْحَابِ الإِمَامِ أَحْمَدَ رحمه الله التَّمَسُّحَ -مُحَاوَلَةً فِي التَّوفِيقِ مَعَ الرِّوَايَةِ المُسْتَنْكَرَةِ تِلْكَ- عَلَى أَنَّ مَسَّ القَبْرِ لَيسَ المَقْصُودُ مِنْهُ التَّبَرُّكَ! وَإِنَّمَا هُوَ بِمَعْنَى مُصَافَحَةِ الحَيِّ.
قَالَ القَاضِي أَبُو يَعْلَى الحَنْبَلِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (المَسَائِلُ الفِقْهِيَّةُ مِن كِتَابِ
(1)
الإِيضَاحُ فِي مَنَاسِكِ الحَجِّ وَالعُمْرَةِ لِلنَّوَوِيِّ (ص 456).
(2)
مَجْمُوعُ الفَتَاوَى (27/ 80).
الرِّوَايَتَينِ وَالوَجْهَينِ): "وَجْهُ الرِّوَايَةِ الأُولَى: أَنَّ الزِّيَارَةَ لِلْمَيِّتِ جَارِيَةٌ مَجْرَى زِيَارَةِ الحَيِّ، وَلِهَذَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يُسَلَّمَ عَلَى المَيِّتِ عِنْدَ قَبْرِهِ كَمَا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُسَلَّمَ عَلَى الحَيِّ وَيُسْتَحَبُّ مُصَافَحَةُ الحَيِّ؛ فَجَازَ أَنْ يُسْتَحَبَّ مَسُّ قَبْرِهِ، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى المُصَافَحَةِ. وَوَجْهُ الثَّانِيَةِ: إِنَّمَا طَرِيقَةُ القُرْبَةِ تَقِفُ عَلَى التَّوْقِيفِ، وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه فِي الحَجَرِ: (لَولَا أَنِّي رَأَيتُ رَسُولَ اللهِ يُقَبِّلُكُ لَمَا قَبَّلْتُكَ!) وَلَيسَ فِي هَذَا تَوقِيفٌ"
(1)
.
- الوَجْهِ الخَامِسِ: أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ الإِمَامِ أَحْمَدَ نفْسَه -الَّذِي رَوَى تِلْكَ الرِّوَايَةَ المُسْتَنْكَرَةَ- نَقَلَ عَنْ أَبِيه أَنَّهُ سَمِعَ سُفْيَانَ بْنَ عُيَينَةَ مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ؛ فَأَقَرَّهُ وَلَمْ يَعْتَرِضِ عَلَيهِ! فَرَوَى أَبُو الحَسَنِ -عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ القُزْوِينِيُّ- فِي أَمَالِيهِ قَالَ: "قَرَأْتُ عَلَى عُبَيدِ اللهِ الزُّهْرِيِّ؛ قُلْتُ لَهُ: حَدَّثَكَ أَبُوكَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا زَيدٍ -حَمَّادَ بْنَ دَلِيلٍ- قَالَ لِسُفْيَانَ -يَعْنِي ابْنَ عُيَينَةَ- قَالَ: يُتَمَسَّحُ بِالقَبْرِ؟ قَالَ: لَا، وَلَا يُلْتَزَمُ القَبْرُ، وَلَكِنْ يَدْنُو. قَالَ أَبِي: يَعْنِي: الإِعْظَامَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم"
(2)
.
- الوَجْهِ السَّادِسِ: أَنَّ عَبْدَ اللهِ هَذَا -ابْنَ الإِمَامِ أَحْمَدَ- قَدْ حَكَتِ الحَنَابِلَةُ عَنْهُ تَغْرِيبَهُ فِي كَثِيرٍ مِمَّا يَروِيهِ عَنْ أَبِيهِ فِي الأَحْكَامِ!
قَالَ أَبُو يَعْلَى الحَنْبَلِيُّ فِي كِتَابِهِ (طَبَقَاتُ الحَنَابِلَةِ): "وَقَعَ لِعَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ مَسَائِلُ جِيَادٌ كَثِيرَةٌ؛ يُغَرِّبُ مِنْهَا بِأَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ فِي الأَحْكَامِ! فَأَمَّا العِلَلُ؛ فَقَدْ جَوَّدَ عَنْهُ،
(1)
المَسَائِلُ الفِقْهِيَّةُ مِن كِتَابِ الرِّوَايَتَينِ وَالوَجْهَينِ (1/ 215).
(2)
الإِخْنَائِيَّةُ لِابْنِ تَيمِيَّةَ (ص 415).
وَجَاءَ عَنْهُ بِمَا لَمْ يَجِئْ بِهِ غَيرُهُ"
(1)
.
وَلِذَلِكَ -فِيمَا يَخُصُّ مَسْأَلَتَنَا هَذِهِ- قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله مُعَلِّقًا عَلَيهَا: "وَاسْتَبْعَدَ بَعْضُ أَتْبَاعِهِ صِحَّةَ ذَلِكَ"
(2)
.
وَكَذَا لَمَّا نَقَلَ ابْنُ حَجَرٍ الهَيتَمِيُّ رحمه الله الرِّوَايَتَينِ قَالَ: "فَتَعَارَضَتِ الرِّوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الأَثْرَمِ -وَهُوَ مِن أَجَلِّ أَصْحَابِهِ- أَنَّ مَيلَ أَحْمَدَ إِلَى المَنْعِ، فَإِنَّهُ قَالَ: رَأَيتُ أَهْلَ العِلْمِ بِالمَدِينَةِ لَا يَمَسُّونَ القَبْرَ، قَالَ أَحْمَدُ: وَهَكَذَا كَانَ يَفْعَلُ ابْنُ عُمَرَ. انْتَهَى"
(3)
.
فَائِدَةٌ فِي التَّفْرَيقِ بَينَ رُمَّانَةِ المِنْبَرِ وَبَينَ القَبْرِ الشَّرِيفِ:
فَرَّقَ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ بَينَ التَّمَسُّحِ بِرُمَّانَةِ مِنْبَر النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَبَينَ التَّمَسُّحِ بِالقَبْرِ، وَلَا يَخْفَى الفَرْقُ بَينَ الأَمْرَينِ مِنْ جِهَةِ مَسِّ أَثَرِ يَدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِهَذِهِ الأَشْيَاءِ؛ خِلَافًا لِلْقَبْرِ.
قَالَ الشَّيخُ أَبُو حَامِدٍ الغَزَالِيُّ رحمه الله فِي حَقِّ جِدَارِ القَبْرِ النَّبَوِيِّ: "وَلَيسَ مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يَمَسَّ الْجِدَارَ وَلَا أَنْ يُقَبِّلَهُ! بَلِ الْوُقُوفُ مِنْ بُعْدٍ أَقْرَبُ لِلْاحْتِرَامِ"
(4)
، بَينَمَا قَالَ فِي حَقِّ رُمَّانَةِ المِنْبَرِ:"وَيَدْعُو عِنْدَ المِنْبَرِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَى الرُّمَّانَةِ السُّفْلَى الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَضَعُ يَدَهُ عَلَيهَا عِنْدَ الخُطْبَةِ"
(5)
.
(1)
طَبَقَاتُ الحَنَابِلَةِ (1/ 183).
(2)
فَتْحُ البَارِي (3/ 475).
(3)
حَاشِيَةُ الإِيضَاحِ (ص 502).
(4)
إِحْيَاءُ عُلُومِ الدِّينِ (1/ 259).
(5)
إِحْيَاءُ عُلُومِ الدِّينِ (1/ 260).
وَقَدْ بَيَّنَ رحمه الله أَنَّ التَّمَسُّحَ بِالقَبْرِ هُوَ مِن عَادَةِ النَّصَارَى أَصْلًا! فَقَالَ رحمه الله: "وَالْمُسْتَحَبُّ فِي زِيَارَةِ الْقُبُورِ أَنْ يَقِفَ مُسْتَدْبِرَ القِبْلَةِ مُسْتَقْبِلًا بِوَجْهِهِ الْمَيِّتَ، وَأَنْ يُسَلِّمَ، وَلَا يَمْسَحِ الْقَبْرَ، وَلَا يَمَسَّهُ، وَلَا يُقَبِّلْهُ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَادَةِ النَّصَارَى!
قَالَ نَافِعٌ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ -رَأَيتُهُ مِائَةَ مَرَّةٍ أَوْ أَكْثَرَ- يَجِيءُ إِلَى الْقَبْرِ فَيَقُولُ: السَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ، السَّلَامُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، السَّلَامُ عَلَى أَبِي، وَيَنْصَرِفُ.
وَعَن أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: رَأَيتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ أَتَى قَبْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَوَقَفَ فَرَفَعَ يَدَيهِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ؛ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ انْصَرَفَ"
(1)
.
وَقَالَ رحمه الله فِي مَوضِعٍ آخَرَ: "فَإِنَّ الْمَسَّ وَالتَّقْبِيلَ لِلْمَشَاهِدِ عَادَةُ النَّصَارَى وَالْيَهُودِ"
(2)
.
وَقَالَ شَيخُ الإِسْلَامِ رحمه الله: "فَقَدْ رَخَّصَ أَحْمَدُ وَغَيرُهُ فِي التَّمَسُّحِ بِالمِنْبَرِ وَالرُّمَّانَةِ -الَّتِي هِيَ مَوْضِعُ مَقْعَدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَيَدِهِ-، وَلَمْ يُرَخِّصُوا فِي التَّمَسُّحِ بِقَبْرِهِ.
وَقَدْ حَكَى بَعْضُ أَصْحَابِنَا رِوَايَةً فِي مَسْحِ قَبْرِهِ؛ لِأَنَّ أَحْمَدَ شَيَّعَ بَعْضَ المَوْتَى؛ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى قَبْرِهِ يَدْعُو لَهُ، وَالفَرْقُ بَينَ المَوضِعَينِ ظَاهِرٌ.
وَكَرِهَ مَالِكٌ التَّمَسُّحَ بِالمِنْبَرِ كَمَا كَرِهُوا التَّمَسُّحَ بِالقَبْرِ، فَأَمَّا اليَومَ فَقَدِ احْتَرَقَ المِنْبَرُ، وَمَا بَقِيَتِ الرُّمَّانَةُ، وَإِنَّمَا بَقِيَ مِن المِنْبَرِ خَشَبَةٌ صَغِيرَةٌ، فَقَدْ زَالَ مَا رُخِّصَ فِيهِ، لِأَنَّ الأَثَرَ المَنْقُولَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَغَيرِهِ إِنَّمَا هُوَ التَّمَسُّحُ بِمَقْعَدِهِ"
(3)
.
(1)
إِحْيَاءُ عُلُومِ الدِّينِ (4/ 491).
(2)
إِحْيَاءُ عُلُومِ الدِّينِ (1/ 271).
(3)
اقْتِضَاءُ الصِّرَاطِ المُسْتَقِيمِ (2/ 244).
بَابُ مَا جَاءَ فِي الذَّبْحِ لِغَيرِ اللهِ
وَقَولِ اللهِ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأَنْعَام: 162 - 163].
وَقَولِهِ: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكَوثَر: 2].
عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه؛ قَالَ: حَدّثَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِأَرْبَعٍ كَلِمَاتٍ: ((لَعَنَ اللهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيرِ اللهِ، لَعَنَ اللهُ مَنْ آوَىَ مُحْدِثًا، لَعَنَ اللهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَيهِ، لَعَنَ اللهُ مَنْ غَيَّرَ المَنَارَ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ
(1)
.
وَعَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((دَخَلَ رَجُلٌ الجَنَّةَ فِي ذُبَابٍ، وَدَخَلَ النَّارَ رَجُلٌ فِي ذُبَابٍ))، قَالُوا: وَكَيفَ ذَلِكَ؟ قَالَ: ((مَرَّ رَجُلَانِ عَلَى قَومٍ لَهُمْ صَنَمٌ لَا يَجُوزُهُ أَحَدٌ حَتَّى يُقَرِّبَ لَهُ شَيئًا، فَقَالُوا لِأَحَدِهِمَا: قَرِّبْ، قَالَ: لَيسَ عِنْدِي شَيءٌ، فَقَالُوا لَهُ: قَرِّبْ وَلَو ذُبَابًا، فَقَرَّبَ ذُبَابًا فَخَلَّوا سَبِيلَهُ؛ قَالَ: فَدَخَلَ النَّارَ. وَقَالُوا لِلْآخَرِ: قَرِّبْ وَلَو ذُبَابًا، قَالَ: مَا كُنْتُ لِأُقَرِّبَ لِأَحَدٍ شَيئًا دُونَ اللهِ عز وجل، قَالَ: فَضَرَبُوا عُنُقَهُ، قَالَ: فَدَخَلَ الجَنَّةَ)). رَوَاهُ أَحْمَدُ
(2)
.
(1)
مُسْلِمٌ (1978).
(2)
صَحِيحٌ مَوقُوفًا عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ عَنْ سَلْمَانَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي كِتَابِ الزُّهْدِ (84). اُنْظُرِ التَّعْلِيقَ عَلَى حَدِيثِ الضَّعِيفَةِ (5829).
قُلْتُ: وَهُوَ خَبَرٌ غَيبِيٌّ لَا يُدْرَكُ بِالعَقْلِ، وَلَكِنْ لَا يُقَالُ: إِنَّ حُكْمَهُ الرَّفْعُ؛ لِأَنَّ سَلْمَانَ كَانَ -قَبْلَ إِسْلَامِهِ- مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ، فَيَحْتَمِلُ الخَبَرُ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَلَقَّاهُ عَنْهُم، لِذَلِكَ يَبْقَى الخَبَرُ مَوقُوفًا عَلَيهِ وَلَا يَأْخُذُ حُكْمَ الرَّفْعِ.
فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: تَفْسِيرُ قَولِهِ: {إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي} .
الثَّانِيَةُ: تَفْسِيرُ قَولِهِ: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} .
الثَّالِثَةُ: البَدَاءَةُ بِلَعْنَةِ مَنْ ذَبَحَ لِغَيرِ اللهِ.
الرَّابِعَةُ: لَعْنُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَيهِ، وَمِنْهُ أَنْ تَلْعَنَ وَالِدَيِ الرَّجُلِ فَيَلْعَنَ وَالِدَيكَ.
الخَامِسَةُ: لَعْنُ مَنْ آوَى مُحْدِثًا، وَهُوَ الرَّجُلُ يُحْدِثُ شَيئًا يَجِبُ فِيهِ حَقُّ اللهِ؛ فَيَلْتَجِئُ إِلَى مَنْ يُجِيرُهُ مِنْ ذَلِكَ.
السَّادِسَةُ: لَعْنُ مَنْ غَيَّرَ مَنَارَ الأَرْضِ، وَهِيَ المَرَاسِيمُ الَّتِي تُفَرِّقُ بَينَ حَقِّكَ وَحَقِّ جَارِكَ مِنَ الأَرْضِ، فَتُغَيِّرُهَا بِتَقْدِيمٍ أَو تَأْخِيرٍ.
السَّابِعَةُ: الفَرَقُ بَينَ لَعْنِ المُعَيَّنِ وَلَعْنِ أَهْلِ المَعَاصِي عَلَى سَبِيلِ العُمُومِ.
الثَّامِنَةُ: هَذِهِ القِصَّةُ العَظِيمَةُ؛ وَهِيَ قِصَّةُ الذُّبَابِ.
التَّاسِعَةُ: كَونُهُ دَخَلَ النَّارَ بِسَبَبِ ذَلِكَ الذُّبَابِ الَّذِي لَمْ يَقْصِدْهُ، بَلْ فَعَلَهُ تَخَلُّصًا مِنْ شَرِّهِمْ.
العَاشِرَةُ: مَعْرِفَةُ قَدْرِ الشِّرْكِ فِي قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ؛ كَيفَ صَبَرَ ذَلِكَ عَلَى القَتْلِ وَلَمْ يُوَافِقْهُم عَلَى طَلَبِهِمْ، مَعَ كَونِهِمْ لَمْ يَطْلُبُوا إِلَّا العَمَلَ الظَّاهِرَ؟!
الحَادِيَةَ عَشْرَةَ: أَنَّ الَّذِي دَخَلَ النَّارَ مُسْلِمٌ، لِأَنَّهُ لَو كَانَ كَافِرًا لَمْ يَقُلْ:((دَخَلَ النَّارَ فِي ذُبَابٍ)).
الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: فِيهِ شَاهِدٌ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: ((الجَنَّةُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ، وَالنَّارُ مِثْلُ ذَلِكَ)).
الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: مَعْرِفَةُ أَنَّ عَمَلَ القَلْبِ هُوَ المَقْصُودُ الأَعْظَمُ؛ حَتَّى عِنْدَ عَبَدَةِ الأَصْنَامِ.
الشَّرْحُ
- قَولُهُ: ((لِغَيرِ اللهِ)) اللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ، أَي: الذَّبْحُ مِنْ أَجْلِ غَيرِ اللهِ.
- يُشْتَرَطُ فِي حِلِّ الذَّبِيحَةِ -مِنْ جِهَةِ التَّسْمِيَةِ وَالقَصْدِ- أُمُورٌ:
1 -
أَنْ يَذْكُرَ اسْمَ اللهِ تَعَالَى عَلَيهَا، فَيَقُولَ عِنْدَ تَذْكِيَتِهَا:(بِسْمِ اللهِ).
قَالَ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ} [الأَنْعَام: 118].
2 -
أنْ لَا يَنْوِي بِهَا غَيرَ اللهِ تَعَالَى، يَعْنِي مِنْ جِهَةِ التَّعْظِيمِ أَوِ التَّقَرُّبِ.
قَالَ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيكُمُ الْمَيتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المَائِدَة: 3]، وَالذَّبْحُ عَلَى النُّصُبِ هُوَ ذَبْحٌ لِغَيرِ اللهِ
(1)
.
3 -
أنْ لَا يُذْكَرَ عَلَيهَا اسْمُ غَيرِ اللهِ تَعَالَى.
قَالَ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيكُمُ الْمَيتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيرِ اللَّهِ بِهِ} [المَائِدَة: 3]، وَالإِهْلَالُ هُوَ رَفْعُ الصَّوتِ، وَهِي هُنَا تَسْمِيَةُ الذَّابِحِ.
- إِنَّ الذَّبْحَ المُحَرَّمَ -مِنْ جِهَةِ التَّسْمِيَةِ وَالقَصْدِ- لَهُ عِدَّةُ صُوَرٍ، أَبْرَزُهَا:
1 -
مَا ذُبِحَ مِنْ أَجْلِ اللَّحْمِ وَلَكِنْ ذُكِرَ عَلَيهِ اسْمُ غَيرِ اللهِ.
2 -
مَا ذُبِحَ لِلأَصْنَامِ تَقَرُّبًا إِلَيهَا.
(1)
النُّصُبُ: حَجَرٌ كَانَ يُنْصَبُ؛ فَيُعْبَدُ وَتُصَبُّ عَلَيهِ دِمَاءُ الذَّبَائِحِ.
3 -
مَا ذُبِحَ تَعْظِيمًا لِمَخْلُوقٍ وَتَحِيَّةً لَهُ عِنْدَ نُزُولِهِ وَوُصُولِهِ إِلَى المَكَانِ الَّذِي يُسْتَقْبَلُ فِيهِ.
4 -
مَا ذُبِحَ عِنْدَ انْحِبَاسِ المَطَرِ فِي مَكَانٍ مُعَيَّنٍ أَو عِنْدَ قَبْرٍ لِأَجْلِ نُزُولِ المَطَرِ.
5 -
مَا ذُبِحَ عِنْدَ نُزُولِ البُيُوتِ خَوفًا مِنَ الجِنِّ أَنْ تُصِيبَهُ
(1)
(2)
.
- النُّسُكُ: لُغَةً العِبَادَةُ، وَيَأْتِي بِمَعْنَى ذَبْحِ القُرْبَانِ.
- اللَّامُ فِي قَولِهِ تَعَالَى {إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ} تُفِيدُ الاسْتِحْقَاقَ فِي الصَّلَاةِ وَالذَّبْحِ لِأَنَّهَا عِبَادَاتٌ، فَهِيَ تَدُلُّ عَلَى تَوحِيدِ الأُلُوهِيَّةِ، وَفِي جُمْلَةِ {وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي} فَهِيَ تُفِيدُ المُلْكَ، وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى تَوحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَعَلَيهِ فَمَا ثَبَتَ كَونُهُ عِبَادَةً للهِ تَعَالَى فَصَرْفُهُ لِغَيرِهِ شِرْكٌ بِهِ.
- قَولُهُ تَعَالَى: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} المُرَادُ بِهِ أَحَدُ مَعْنَيَين:
1 -
أَوَّلِيَّةٌ زَمَنِيَّةٌ: أَي: أَنَا أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ
(3)
.
2 -
أَوَّلِيَّةٌ مَعْنَوِيَّةٌ: وَمَعْنَاهَا أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام هُوَ أَتَمُّ النَّاسِ انْقِيَادًا وَاتِّبَاعًا لِهَذَا الأَمْرِ القُرْآنِيِّ.
- الصَّلَاةُ أَجَلُّ العِبَادَاتِ البَدَنِيَّةِ، وَالنَّحْرُ أَجَلُّ العِبَادَاتِ المَالِيَّةِ الظَّاهِرَةِ.
- الكَوثَرُ: الخَيرُ الكَثِيرُ، وَهُوَ اسْمُ نَهْرٍ فِي الجِنَّةِ.
- قَولُهُ: ((بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ)) الكَلِمَةُ فِي اصْطِلَاحِ النَّحَوِيِّينَ هِيَ اللَّفْظُ المُفْرَدُ، أَمَّا
(1)
أَو عِنْدَ أَوَّلِ تَشْغِيلٍ لِآلَاتِ المَعَامِلِ.
(2)
اُنْظُرْ (إِعَانَةُ المُسْتَفِيدِ) للفَوزَانِ (1/ 233).
(3)
وَكَمَا فِي إِخْبَارِهِ تَعَالَى عَنْ تَوبَةِ سَحَرَةِ فِرْعَونَ: {إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشُّعَرَاء: 51].
فِي أَصْلِ اللُّغَةِ فَهِيَ كُلُّ قَولٍ مُفِيدٍ، كَمَا فِي الصَّحِيحَينِ عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا:((أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَّاعِرُ كَلِمَةُ لَبِيدٍ: أَلَا كُلُّ شَيءٍ مَا خَلَا اللهَ بَاطِلٌ))
(1)
.
وَلَهُمَا عَنْهُ أَيضًا مَرْفُوعًا: ((كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ؛ ثَقِيلَتَانِ فِي المِيزَانِ؛ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمنِ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ؛ سُبْحَانَ اللهِ العَظِيمِ))
(2)
.
- اللَّعْنُ: الطَّرْدُ والإبْعَادُ.
قَالَ أَبُو السَّعَادَاتِ؛ ابْنُ الأَثِيرِ رحمه الله: أَصْلُ اللَّعْنِ: الطَّرْدُ والإبْعَادُ مِنَ اللهِ، وَمِنَ الخَلْقِ السَّبُّ وَالدُّعَاءُ
(3)
.
- قَولُهُ: ((لَعَنَ اللهُ)) يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الأُمُورَ مِنَ الكَبَائِرِ.
وَفِي الحَدِيثِ قَدْ تَكُونُ هَذِهِ الجُمْلَةُ:
1 -
خَبَريَّةً: أَي أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُخْبِرُ عَنْهُم أَنَّهُم مَلْعُونُونَ بِسَبَبِ ذَلِكَ الفِعْلِ.
2 -
إنْشَائِيَّةً: أَي أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو عَليهِم.
- قَولُهُ: ((لَعَنَ اللهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَيهِ)) يَعْنِي أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَإِنْ عَلَيَا.
وَفِي الصَّحِيحَينِ عَنِ ابْنِ عَمْرو مَرْفُوعًا: ((إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الكَبَائِرِ أَنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ وَالِدَيهِ)). قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ وَكَيفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ وَالِدَيهِ؟ قَالَ: ((يَسُبُّ الرَّجُلُ أَبَا الرَّجُلِ وأُمَّهُ؛ فَيَسُبُّ أَبَاهُ وَيَسُبُّ أُمَّهُ))
(4)
.
(1)
البُخَارِيِّ (3842)، وَمُسْلِمٍ (2256).
(2)
البُخَارِيِّ (6682)، وَمُسْلِمٍ (2594).
(3)
النِّهَايَةُ فِي غَرِيبِ الحَدِيثِ (4/ 511).
(4)
البُخَارِيُّ (5973)، وَمُسْلِمٌ (90).
- قَولُهُ: ((لَعَنَ اللهُ مَنْ آوَى مُحْدثًا)) بِالفَتْحِ: أَي: نَفْسَ البِدْعَةِ، وَالمَعْنَى: مَنْ نَصَرَهَا. وَبِالكَسْرِ: أَي: نَفْسَ الجَانِي (المُجْرِمِ) أَي: مَنَعَهُ مِنْ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ الحَقُّ الَّذِي وَجَبَ عَلَيهِ.
وَفِي الحَدِيثِ: ((مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ فَقَدْ ضَادَّ اللهَ))
(1)
.
- قَولُهُ: ((لَعَنَ اللهُ مَنْ غيَّرَ مَنَارَ الأَرْضِ)) أَي: حُدُودَهَا.
وَفِي الحَدِيثِ: ((أَيُّمَا رَجُلٍ ظَلَمَ شِبْرًا مِنَ الأَرْضِ كَلَّفَهُ اللهُ عز وجل أَنْ يَحْفِرَهُ حَتَّى يَبْلُغَ آخِرَ سَبْعِ أَرَضِينَ، ثُمَّ يُطَوَّقَهُ إِلَى يَومِ القِيَامَةِ حَتَّى يُقْضَى بَينَ النَّاسِ))
(2)
.
- قَولُهُ: ((فِي ذُبَابٍ)) فِي: سَبَبِيَّةٌ، أَي: دَخَلَ النَّارَ بِسَبَبِ ذُبَابٍ
(3)
.
- قَالَ الشَّيخُ ابْنُ عُثَيمِينَ رحمه الله مُعَلِّقًا عَلَى قَولِ المُصَنِّفِ رحمه الله: (مَعْرِفَةُ أَنَّ عَمَلَ القَلْبِ هُوَ المَقْصُودُ الأَعْظَمُ حَتَّى عِنْدَ عَبَدَةِ الأَوْثَانِ): "وَالحَقِيقَةُ أَنَّ هَذِهِ المَسْأَلَةَ مَعَ التَّاسِعَةِ فِيهَا شِبْهُ تَنَاقُضٍ! لِأَنَّهُ فِي هَذِهِ المَسْأَلَةِ أَحَالَ الحُكْمَ عَلَى عَمَلِ القَلْبِ، وَفِي التَّاسِعَةِ أَحَالَهُ عَلَى الظَّاهِرِ، فَقَالَ:(بِسَبَبِ ذَلِكَ الذُّبَابِ الَّذِي لَمْ يَقْصِدْهُ بَلْ فَعَلَهُ تَخَلُّصًا مِنْ شَرِّهِم) وَمُقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ بَاطِنَهُ سَلِيمٌ، وَهُنَا يَقُولُ: إِنَّ العِبْرَةَ
(4)
بِعَمَلِ القَلْبِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَا قَالَهُ المُؤَلِّفُ رحمه الله حَقٌّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَنَّ المَدَارَ عَلَى القَلْبِ"
(5)
.
(1)
صَحِيحٌ. أَبُو دَاوُدَ (3597) عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَة (437).
(2)
صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (17571) عَنْ يَعْلَى بْنِ مُرَّة مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَة (240).
(3)
كَمَا فِي البُخَارِيِّ (3318) عَنْ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: ((دَخَلَتِ امْرَأةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ رَبَطَتْها؛ فَلَمْ تُطْعِمْهَا، ولَمْ تَدَعْها تأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ حَتَّى مَاتَتْ)).
(4)
فِي الأَصْلِ: (العَمَل)! وَلَعَلَّهُ تَصْحِيفٌ، وَمَا أَثْبَتْنَاهُ هُوَ الأَلْيَقُ بِالمَطْلُوبِ.
(5)
القَولُ المُفِيدُ (1/ 231).
- فَائِدَةٌ 1: ذَبَائِحُ أَهْلِ الكِتَابِ جَائِزَةٌ لِلمُسْلِمِينَ رُغْمَ كَونِهِم مُشْرِكِينَ
(1)
، لَكِنَّ هَذَا مُقَيَّدٌ بِقَيدَينِ:
1 -
أَنْ يَكُونُوا حَقًّا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ، وَإِلَّا فَإِنَّ مِنْهُمُ الآنَ مَنْ لَا يَدِينُ بِدِيَانَةٍ وَلَا يَعْتَرِفُ بِدِينِهِ أَصْلًا! فَمِثْلُ هَذَا هُوَ وَثَنِيٌّ لَا تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ.
2 -
أَنْ لَا يَذْكُرَ عَلَيهِ اسْمَ غَيرِ اللهِ تَعَالَى.
قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رحمه الله: "وَأَمَّا الذَّبْحُ لِغَيرِ اللَّهِ؛ فَالْمُرَادُ بِهِ أَنْ يَذْبَحَ بِاسْمِ غَيرِ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَنْ ذَبَحَ لِلصَّنَمِ أَوِ الصَّلِيبِ أَو لِمُوسَى أَو لِعِيسَى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِمَا- أَو لِلْكَعْبَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ فَكُلُّ هَذَا حَرَامٌ، ولَا تَحِلُّ هَذِهِ الذَّبِيحَةُ، سَوَاءً كَانَ الذَّابِحُ مُسْلِمًا أَو نَصْرَانِيًّا أَو يَهُودِيًّا، نَصَّ عَلَيهِ الشَّافِعِيُّ وَاتَّفَقَ عَلَيهِ أَصْحَابُنَا، فَإِنْ قَصَدَ مَعَ ذَلِكَ تَعْظِيمَ الْمَذْبُوحِ لَهُ -غَيرِ اللَّهِ تَعَالَى- وَالْعِبَادَةَ لَهُ؛ كَانَ ذَلِكَ كُفْرًا، فَإِنْ كَانَ الذَّابِحُ مُسْلِمًا قَبْلَ ذَلِكَ؛ صَارَ بِالذَّبْحِ مُرْتَدًّا"
(2)
.
- فَائِدَةٌ 2: التَّسْمِيَةُ شَرْطٌ فِي حِلِّ الذّبِيحَةِ إِلَّا لِنِسْيَانٍ.
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما مَوقُوفًا: (المُسْلِمُ يَكْفِيهِ اسْمُهُ، فَإِنْ نَسِيَ أَنْ يُسَمِّيَ حِينَ يَذْبَحُ؛ فَلْيُسَمِّ ثُمَّ لِيَأْكُل)، قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله فِي بُلُوغِ المَرَامِ:"وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ مَوقُوفًا عَلَيهِ"
(3)
(4)
.
(1)
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله فِي تَفْسِيرِهِ (3/ 40): "وَهَذَا أَمْرٌ مُجْمَعٌ عَلَيهِ بَينَ العُلَمَاءِ؛ أَنَّ ذَبَائِحَهُمْ حَلَالٌ لِلْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ تَحْرِيمَ الذَّبْحِ لِغَيرِ اللَّهِ، وَلَا يَذْكُرُونَ عَلَى ذَبَائِحِهِمْ إِلَّا اسْمَ اللَّهِ وَإِنِ اعْتَقَدُوا فِيهِ -تَعَالَى- مَا هُوَ مُنَزَّهٌ عَنْ قَولِهِمْ -تَعَالَى وَتَقَدَّسَ-".
(2)
شَرْحُ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ (13/ 141).
(3)
بُلُوغُ المَرَامِ (ص 412).
(4)
مُلَاحَظَةٌ: لَفْظُ الحَدِيثِ فِي مُصَنَّفِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ (3538): (المُسْلِمُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ؛ فَإِذَا نَسِيَ
=
وَقَالَ البُخَارِيُّ رحمه الله في صَحِيحِهِ: "بَابُ التَّسْمِيَةِ عَلَى الذَّبِيحَةِ وَمَنْ تَرَكَ مُتَعَمِّدًا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْ نَسِيَ فَلَا بَأْسَ، وَقَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأَنْعَام: 121]؛ وَالنَّاسِي لَا يُسَمَّى فَاسِقًا! وَقَولُهُ: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأَنْعَام: 121] "
(1)
.
قُلْتُ: وَوَجْهُ الدِّلَالَةِ مِنَ الآيَةِ الكَرِيمَةِ -فِيمَا يَظْهَرُ- أَنَّ المَقْصُودَ بِهَا هُمُ المُشْرِكُونَ؛ لِأَنَّهُم هُمْ أَولِيَاءُ الشَّيَاطِينِ وَلَيسَ المُسْلِمُونَ -وَإِنْ أَخْطَأوا-.
وأَيضًا لِقَولِهِ تَعَالَى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البَقَرَة: 286]، قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رجب رحمه الله:"وَكَذَا لَو تَرَكَ التَّسْمِيَةَ عَلَى الذَّبِيحَةِ نِسْيَانًا؛ فِيهِ عَنْهُ -عَنْ أَحْمَدَ- رِوَايَتَانِ، وَأَكْثَرُ الفُقَهَاءِ عَلَى أنَّها تُؤْكَلُ"
(2)
.
=
أَحَدُكُمْ أَنْ يُسَمِّيَ عَلَى الذَّبِيحَةَ؛ فَلْيُسَمِّ وَلْيَأْكُلْ). وَلَكِنْ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ (4806)، وَالبَيهَقِيُّ فِي الصَّغِيرِ (3012) بِلَفْظِ:(فَإِنَّ المُسْلِمَ فِيهِ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ).
(1)
البُخَارِيُّ (7/ 90).
(2)
جَامِعِ العُلُومِ وَالحِكَمِ (2/ 367).
مَسَائِلُ عَلَى البَابِ
-
المَسْأَلَةُ الأُولَى: قَولُ المُصَنِّفِ رحمه الله فِي المَسْأَلَةِ التَّاسِعَةِ: "كَونُهُ دَخَلَ النَّارَ بِسَبَبِ ذَلِكَ الذُّبَابِ الَّذِي لَمْ يَقْصِدْهُ؛ بَلْ فَعَلَهُ تَخَلُّصًا مِنْ شَرِّهِم! " فِيهِ إِشْكَالٌ
مِنْ جِهَةِ عَدَمِ العُذْرِ بِالإِكْرَاهِ
(1)
! فَمَا الجَوَابُ؟
الجَوَابُ:
فِيهِ تَوجِيهَاتٌ عِدَّةٌ:
1 -
إِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ كَانَ قَاصِدًا لِهَذَا الذَّبْحِ غَيرَ مُبَالٍ بِحُرْمَتِهِ -فَهُوَ غَيرُ مُكْرَهٍ- كَمَا يَدُلُّ لِذَلِكَ قَولُ الأَوَّلِ: ((لَيسَ عِنْدِي شَيءٌ أُقَرِّبُ)) فَامْتِنَاعُهُ عَنِ الذَّبْحِ أَوَّلًا كَانَ سَبَبُهُ عَدَمَ المُلْكِ وَلَيسَ كَونَهُ شِرْكًا، وَلَكَانَ أَولَى بِهِ أَنْ يَرْجِعَ أَدْرَاجَهُ لِأَنَّهُم إِنَّمَا مَنَعُوا مُجَاوَزَةَ الصَّنَمِ لِمَنْ لَمْ يَذْبَحْ، وَلَمْ يُخيِّرُوهُ بَينَ قَتْلِهِ وَبَينَ ذَبْحِهِ لِلقُرْبَانِ
(2)
.
(1)
قَالَ الشَّيخُ ابْنُ عُثَيمِين رحمه الله فِي كِتَابِهِ القَولُ المُفِيدُ (1/ 271): "هَذِهِ المِسْأَلَةُ غَيرُ مُسَلَّمَةٍ، فَإِنَّ قَولَهُ: ((قرِّبْ وَلَو ذُبَابًا)) يَقْتَضِي أنَّهُ فَعَلَهُ قَاصِدًا التَّقَرُّبَ، وَلَيسَ كَقَولِ المُصَنِّفِ: (لَمْ يَقْصِدْهُ)، أَمَّا لَو فَعَلَهُ تَخَلُّصًا مِنْ شَرِّهِم؛ فَإِنَّهُ لَا يَكْفُرُ لِعَدَمِ قَصْدِ التَّقَرُّبِ".
(2)
قُلْتُ: وَلَا أَظُنُّ أَنَّ الشَّيخَ المُصَنِّفَ رحمه الله قَصَدَ ظَاهِرَ الكَلَامِ -مِنْ جِهَةِ تَكْفِيرِ مَنْ فَعَلَ الكُفْرَ دُونَ قَصْدٍ مُطْلَقًا- وَذَلِكَ مِنْ جِهَتَينِ:
1 -
أَنَّ المُصَنِّفَ رحمه الله قَالَ فِي المَسْأَلِةِ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ مِنْ نَفْسِ البَابِ: "مَعْرِفَةُ أَنَّ عَمَلَ القَلْبِ هُوَ المَقْصُودُ الأَعْظَمُ؛ حَتَّى عِنْدَ عَبَدَةِ الأَصْنَامِ".
2 -
قَولِ شُرَّاحِ الكِتَابِ الأَئِمَّةِ المَعْرُوفِينَ بِمَعْرِفَةِ مَنْهَجِ الشَّيخِ رحمه الله -كَصَاحِبِ فَتْحِ المَجِيدِ، وَابْنِ قَاسِمٍ فِي حَاشِيَتِهِ-:"أَنَّهُ دَخَلَ النَّارَ بِسَبَبٍ لَمْ يَقْصِدْهُ ابْتِدَاءً، وَإِنَّمَا فَعَلَهُ تَخَلُّصًا مِنْ شَرِّ أَهْلِ الصَّنَمِ"، حَيثُ قَيَّدُوا عَدَمَ القَصْدِ فِي الابْتِدَاءِ لِبَيَانِ أَنَّهُ انْتِهَاءً قَد قَصَدَ الكُفْرَ بِنَفْسِهِ؛ وَأَنَّهُ لَمْ يُبَالِ بِهِ. يُنْظَر: فَتْحُ المَجِيدُ (ص 149)، حَاشِيَةُ كِتَابِ التَّوحِيدِ لِابْنِ قَاسِم (ص 101).
وَمِمَّا يُؤَكِّدُ مَا وَجَّهْتُهُ -وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ- قَولُهُ رحمه الله فِي تَفْسِيرِ آيَةِ سُورَةِ النَّحْلِ: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النَّحْل: 106]: "أَنَّ الرُّخْصَةَ لِمَنْ جَمَعَ بَينَهُمَا، خِلَافَ المُكْرَهِ فَقَط"، حَيثُ جَعَلَ رحمه الله مُجَرَّدَ الإِكْرَاهِ لَيسِ بِعُذْرٍ حَتَّى يُضَافَ إِلَيهِ الاطْمِئْنَانُ بِالإيمَانِ. انْظُرْ كِتَابَ (تَفْسِيرِ آيَاتٍ مِنَ القُرآنِ الكَريمِ) -مَطْبُوعٌ ضِمْنَ مُؤَلَّفَاتِ الشَّيخِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الوَهَّابِ- الجُزْءُ الخَامِسُ. وَالحَمْدُ للهِ عَلَى تَوفِيقِهِ.
2 -
وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ كَانَ مُكْرَهًا وَمَعْ ذَلِكَ فَقَدْ دَخَلَ النَّارَ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي شَرِيعَتِهِم قَبُولُ العُذْرِ بِالإِكْرَاهِ.
وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ أُمُورٌ:
أ- قَولُهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأَعْرَاف: 157]، وَمَحَلُّ الشَّاهِدِ قَولُهُ تَعَالَى:{وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيهِمْ} ، وَمِنْهَا التَّجَاوزُ عَنِ الإِكْرَاهِ وَالنِّسْيَانِ وَالخَطَإِ
(1)
.
ب- قَولُهُ صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتِي الخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيهِ))
(2)
، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَوضُوعًا عَنِ الأُمَمِ سَابِقًا.
(1)
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (3/ 489): "وَقَدْ كَانَتِ الأُمَمُ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَنَا؛ فِي شَرَائِعِهِم ضِيقٌ عَلَيهِم، فَوَسَّعَ اللهُ عَلَى هَذِهِ الأُمَّةِ أُمُورَهَا، وَسَهَّلَهَا لَهُمْ".
(2)
صَحِيحٌ. ابْنُ مَاجَه (2043)، وَالبَيهَقِيُّ فِي الكُبْرَى (15094) مِن حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (1731).
مُلَاحَظَةٌ: جَاءَ هَذَا الحَدِيثُ مِن عِدَّةِ طُرُقٍ لَا يَخلُو وَاحِدٌ مِنْهَا مِنْ مَقَالٍ، وَعَلَيه فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي صِحَّةِ
=
قَالَ الشَّيخُ مُحَمَّدُ الأَمِينُ الشَّنْقِيطِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (أَضْوَاءُ البَيَانِ فِي إِيضَاحِ القُرْآنِ بِالقُرْآنِ) -عِنْدَ تَفْسِيرِ سُورَةِ الكَهْفِ-: "أَخَذَ بَعْضُ العُلَمَاءِ مِنْ هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ أَنَّ العُذْرَ بِالإِكْرَاهِ مِنْ خَصَائِصِ هَذِهِ الأُمَّةِ، لِأَنَّ قَولَهُ عَنْ أَصْحَابِ الكَهْفِ:{إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ} ظَاهِرٌ فِي إِكْرَاهِهِم عَلَى ذَلِكَ وَعَدَمِ طَواعيَّتِهِم؛ وَمَعْ هَذَا قَالَ عَنْهُم: {وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} ! فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الإِكْرَاهَ لَيسَ بِعُذْرٍ.
وَيَشْهَدُ لِهَذَا المَعْنَى حَدِيثُ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ فِي الَّذِي دَخَلَ النَّار فِي ذُبَابٍ قَرَّبَهُ مَعَ الإِكْرَاهِ بِالخَوفِ مِنَ القَتْلِ، لِأَنَّ صَاحِبَهُ الَّذِي امتنعَ أنْ يُقَرِّبَ -وَلَو ذُبَابًا- قَتَلُوهُ.
وَيَشْهَدُ لَهُ أَيضًا دَلِيلُ الخِطَابِ، أَي: مَفْهُومُ المُخَالَفَةِ فِي قَولِهِ صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتِي الخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيهِ))؛ فَإِنَّهُ يُفهَمُ مِنْ قَولِهِ: ((تَجَاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتِي)) أَنَّ غَيرَ أُمَّتِهِ مِنَ الأُمَمِ لَمْ يُتَجَاوَزْ لَهُم عَنْ ذَلِكَ"
(1)
.
قُلْتُ: وَكَذَا يُفْهَمُ مِن وُقُوعِ المُؤَاخَذَةِ عَلَى كُفْرِ سَحَرَةِ فِرْعَونَ رُغْمَ الإِكْرَاهِ؛ فَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيهِ مِنَ السِّحْرِ} [طه: 73].
3 -
وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الحَدِيثَ مِنَ الإِسْرَائِيلِيَّاتِ وَلَيسَ بِمَرْفُوعٍ، وَلَا يُؤْخَذُ بِهِ فِي هَذَا الاسْتِدْلَالِ لِمُخَالَفَتِهِ النُّصُوصَ الكَثِيرَةَ المُصَرِّحَةَ بِالعُذْرِ بِالإِكْرَاهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ
=
هَذَا الحَدِيثِ بينَ أَهْلِ العِلْمِ مَا بَينَ مُضَعِّفٍ ومُنْكِرٍ؛ وَمَا بَينَ مُحَسِّنٍ وَمُصَحِّحٍ، وَالخَلَاصَةُ فِيهِ هُوَ الصِّحَّةُ لِكَثْرَةِ طُرُقِه وَشَوَاهِدِهِ.
(1)
أَضْوَاءُ البَيَانِ (3/ 251).
بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النَّحْل: 106]
(1)
.
(1)
قَالَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله فِي الضَّعِيفَةِ (5829): "وَبِالجُمْلَةِ؛ فَالحَدِيثُ صَحِيحٌ مَوقُوفًا عَلَى سَلْمَانَ الفَارِسِيِّ رضي الله عنه، إِلَّا أَنَّهُ يَظْهَرُ لِي أَنَّهُ مِنَ الإِسْرَائِيلِيَّاتِ الَّتِي كَانَ تَلَقَّاهَا عَنْ أَسْيِادِهِ حِينَمَا كَانَ نَصْرَانِيًّا.
هَذَا؛ وَإِنِّي لَأَسْتَنْكِرُ مِنْ هَذَا الحَدِيثِ: دُخُولَ الرَّجُلِ النَّارَ فِي ذُبَابٍ! لِأَنَّ ظَاهِرَ سِيَاقِهِ أَنَّهُ إِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ خَوفًا مِنَ القَتْلِ الَّذِي وَقَعَ لِصَاحِبِهِ، كَمَا أَنَّنِي اسْتَنْكَرْتُ قَولَ الإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الوَهَّابِ فِي المَسْأَلَةِ الحَادِيَةَ عَشَرةَ: أَنَّ الَّذِي دَخَلَ النَّارَ مًسْلِمٌ؛ لِأَنَّهُ لَو كَانَ كَافِرًا؛ لَمْ يَقُلْ: دَخَلَ النَّارَ فِي ذُبَابٍ!
فَأَقُولُ: وَجْهُ الاسْتِنْكَارِ: أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ لَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَمْرَينِ:
الأَوَّلِ: أَنَّهُ لَمَّا قَدَّمَ الذُّبَابَ لِلصَّنَمِ؛ إِنَّمَا قَدَّمَهُ عِبَادَةً لَهُ وَتَعْظِيمًا، فَهُوَ فِي هَذِهِ الحَالَةِ لَا يَكُون مُسْلِمًا؛ بَلْ هُوَ مُشْرِكٌ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّارِحِ الشَّيخِ سُلَيمَان رحمه الله (ص 161):(فِي هَذَا بَيَانُ عَظَمَةِ الشِّرْكِ وَلَو فِي شَيءٍ قَلِيلٍ وَأَنَّهُ يُوجِبُ النَّارَ، أَلَا َتَرى إِلَى َهَذا لَمَّا قَرَّبَ لِهَذَا الصَّنَمِ أَرْذَلَ الحَيَوَانِ وَأَخَسَّهُ وَهُوَ الذُّبَابُ كَانَ جَزَاؤُهُ النَّارَ؛ لِإِشْرَاكِهِ فِي عِبَادَةِ اللهِ؟! إِذِ الذَّبْحُ عَلَى سَبِيلِ القُرْبَةِ وَالتَّعْظِيمِ عِبَادَةٌ، وَهَذَا مُطَابِقٌ لِقَولِهِ تَعَالَى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [المائدة: 72]).
وَالآخَرِ: أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ خَوفًا مِنَ القَتْلِ -كَمَا تَقَدَّمَ مِنِّي-، وَهُوَ فِي هَذِهِ الحَالَةِ لَا تَجِبُ لَهُ النَّارُ! فَالحُكْمُ عَلَيهِ بِأَنَّهُ مُسْلِمٌ دَخَلَ النَّارَ فِي ذُبَابٍ؛ يَأْبَاهُ قَولُهُ تَعَالَى:{مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النَّحْل: 106]، وَقَدْ نَزَلَتْ فِي عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ حِينَ عَذَّبَهُ المُشْرِكُونَ حَتَّى يَكْفُرَ بِهِ صلى الله عليه وسلم، فَوَافَقَهُم عَلَى ذَلِكَ مُكْرَهًا، وَجَاءَ مُعْتَذِرًا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ كَمَا فِي تَفْسِيرِ ابْنِ كَثِيرٍ وَغَيرِهِ".
-
المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَلِ الأَولَى لِلإِنْسَانِ إِذَا أُكْرِهَ عَلَى الكُفْرِ أَنْ يَصْبِرَ وَلَو قُتِلَ! أَو يُوَافِقَ ظَاهِرًا؟
الجَوَابُ عَلَى حَالَاتٍ:
1 -
إِنْ كَانَ كُفْرًا ظَاهِرًا وبَاطِنًا؛ فَهَذِهِ رِدَّةٌ، وَلَا تَجُوزُ مُطْلَقًا.
2 -
إِنْ كَانَ ظَاهِرًا وَلَيسَ بَاطِنًا -لِلتَّخَلُّصِ مِنَ الإِكْرَاهِ-؛ جَازَ.
وَدَلَّ لَهُ حَدِيثُ عَمَّارِ مَرْفُوعًا وَفِيهِ: ((إِنْ عَادُوا فَعُدْ))
(1)
.
وَكَذَا قَولُهُ تَعَالَى: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [آل عِمْرَان: 28].
قَالَ الإِمَامُ الطَّبَرِيُّ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ: "إِلَّا أَنْ تَكُونُوا فِي سُلْطَانِهِم فَتَخَافُوهُم عَلَى أَنْفُسِكُم؛ فَتُظْهِرُوا لَهُم الوَلَايَةَ بِأَلْسِنَتِكُم، وَتُضْمِرُوا لَهُمُ العَدَاوَةَ، وَلَا تُشَايعُوهُم عَلَى مَا هُم عَلَيهِ مِنَ الكُفْرِ، وَلَا تُعِينُوهُم عَلَى مُسْلِمٍ بِفِعْلٍ"
(2)
.
(1)
فِي مُسْتَدْرَكِ الحَاكِمِ (3362): أَخَذَ المُشْرِكُونَ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ، فَلَمْ يَتْرُكُوهُ حَتَّى سَبَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَذَكَرَ آلِهَتَهُمْ بِخَيرٍ، ثُمَّ تَرَكُوهُ، فَلَمَّا أَتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:((مَا وَرَاءَكَ؟)) قَالَ: شَرٌّ يَا رَسُولَ اللهِ، مَا تُرِكْتُ حَتَّى نِلْتُ مِنْكَ وَذَكَرْتُ آلِهَتَهُمْ بِخَيرٍ! قَالَ:((كَيفَ تَجِدُ قَلْبَكَ؟)) قَالَ: مُطْمَئِنًا بِالإِيمَانِ. قَالَ: ((إِنْ عَادُوا فَعُدْ)). قَالَ الذَّهَبِيُّ رحمه الله: "عَلَى شَرْطِ البُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ"، وَقَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله فِي (الدِّرَايَةِ) (2/ 197):"وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ؛ إِنْ كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ عَمَّارٍ سَمِعَهُ مِنْ أَبِيهِ".
وَفِي الإِسْنَادِ كَلَامٌ، وَقَدْ جَزَمَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله بِثُبُوتِ نُزُولِ الآيَةِ فِي عَمَّار لِمَجِيءِ ذَلِكَ مِنْ طُرُقٍ سَاقَهَا ابْنُ جَرِيرٍ؛ إِلَّا أَنَّ سِيَاقَ الحَدِيثِ فِيهِ نَظَرٌ. يُنْظَرُ: فِقْهُ السِّيرَةِ لِلغَزَالِيِّ (ص 111) بِتَحْقِيقِ الشَّيخِ الأَلْبَانِيِّ رحمه الله.
(2)
تَفْسِيرُ الطَّبَرِيِّ (6/ 313).
3 -
لَا ظَاهِرًا وَلَا بَاطِنًا؛ فَهَذَا جَائِزٌ، وَهُوَ مِنَ الصَّبْرِ.
وَالأَولَى مِنْهُمَا بِحَسْبِ حَالِهِ:
أ- فَإِنْ كَانَ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيهِ ضَرَرٌ فِي الدِّينِ لِلعَامَّةِ، أَو أَنَّ بَقَاءَهُ حَيًّا فِيهِ نَفْعٌ وَزِيَادَةُ خَيرٍ لِنَفْسِهِ أَو لِلنَّاسِ؛ فَالتَّقِيَّةُ أَولَى.
ب- وَإِنْ كَانَ فِي مُوَافَقَتِهِ ظَاهِرًا عَلَى الكُفْرِ ضَرَرٌ عَلَى الإِسْلَامِ؛ فَإِنَّهُ يَصْبِرُ، وَقَدْ يَكُونُ وَاجِبًا، لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الصَّبْرِ عَلَى الجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَيسَ مِنْ بَابِ إِلْقَاءِ النَّفْسِ فِي التَّهْلُكَةِ
(1)
!
(1)
اُنْظُرْ كِتَابَ القَولُ المُفِيدُ لِابْنِ عُثَيمِين رحمه الله (1/ 229).
-
المَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَا يُذْبَحُ عِنْدَ قُدُومِ الضَّيفِ
؛ هَلْ هُوَ مِنَ الشِّرْكِ أَمْ هُوَ جَائِزٌ مِنْ بَابِ الفَرَحِ بِقُدُومِهِ وَالاحْتِفَالِ بِذَلِكَ وَالتَّوسِعَةِ فِي المَأْكَلِ بِسَبَبِهِ؟
الجَوَابُ:
إِنْ كَانَ مِنْ بَابِ إِظْهَارِ التَّعْظِيمِ بِذَبْحِ الدِّمَاءِ لَهُ؛ فَهُوَ شِرْكٌ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ بَابِ الاحْتِفَالِ بِقُدُومِهِ بِالتَّوسِعَةِ فِي المَأْكَلِ؛ فَهُوَ مُبَاحٌ، وَقَدْ يَكُونُ مُسْتَحَبًّا مِنْ بَابِ إِكْرَامِ الضَّيفِ.
وَعَلَامَةُ كَونِهِ تَعْظِيمًا لَهُ أَمْرَانِ:
1 -
أَنَّهُ يَذْبَحُ عِنْدَ قُدُومِهِ أَمَامَهُ، فَيَظْهَرُ بِذَلِكَ التَّعْظِيمُ؛ وَأَنَّ مَا أُرِيقَ مِنَ الدَّمِ فَهُوَ لَهُ
(1)
(2)
.
2 -
أَنَّهُ يُذْبَحُ عِنْدَ قُدُومِهِ عَدَدٌ كَبِيرٌ مِنَ المَوَاشِي أَكْثَرَ مِمَّا يَلْزَمُ لِإِطْعَامِهِ وَإِطْعَامِ المَوجُودِينَ وَالضُّيُوفِ مَعَهُ، لِذَلِكَ فَبَعْدَ الذَّبْحِ يُرْمَى أَكْثَرُهَا وَلَا يُؤْكَلُ
(3)
!
(1)
وَلَا يَخْفَى أَنَّ عَاقِلًا لَا يُرِيقُ الدَّمَ أَمَامَ دَارِهِ وَبَينَ النَّاسِ وَيُعَرِّضُ نَفْسَهُ وَمَنْ حَولَهُ لِلتَّلَطُّخِ بِالدِّمَاءِ وَالدَّوسِ عَلَيهَا! وَلَكِنَّ شَأْنِ الذَّبَائِحِ عَادَةً هُوَ فِي المَطَابِخِ المُجَهَّزَةِ لِذَلِكَ أَوِ الأَحْوَاشِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
(2)
قَالَ الشَّيخُ الزُّحَيلِيُّ حَفِظَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ التَّفْسِيرُ المُنِيرُ (8/ 25): "لَكِنْ لَو كَانَ الذَّبْحُ بَينَ رِجْلَي القَادِمِ أَو مَرَّ عَلَيهِ مِنْ فَوقِهِ؛ فَلَا يُؤْكَلُ، لِأَنَّهُ ذَبْحٌ أُهِلَّ لِغَيرِ اللهِ بِهِ، أَي ذُكِرَ اسْمُ غَيرِ اللهِ عَلَيهِ".
(3)
قَالَ الشَّيخُ ابْنُ عُثَيمِين رحمه الله فِي كِتَابِهِ القَولُ المُفِيدُ (1/ 214): "فَلَو قَدِمَ السُّلْطَانُ إِلَى بَلَدٍ؛ فَذَبَحْنَا لَهُ؛ فَإِنْ كَانَ تَقَرُّبًا وَتَعْظِيمًا؛ فَإِنَّهُ شِرْكٌ أَكْبَرُ، وَتَحْرُمُ هَذِهِ الذَّبَائِحُ، وَعَلَامَةُ ذَلِكَ: أَنَّنَا نَذْبَحُهَا فِي وَجْهِهِ ثُمَّ نَدَعُهَا".
بَابُ لَا يُذبَحُ للهِ فِي مَكَانٍ يُذبَحُ فِيهِ لِغَيرِ اللهِ
وَقَولُ اللهِ تَعَالَى: {لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التَّوبَة: 108].
وَعَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ رضي الله عنه؛ قَالَ: نَذَرَ رَجُلٌ أَنْ يَنْحَرَ إبِلًا بِبُوَانَةَ، فَسَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:((هَلْ كَانَ فِيهَا وَثَنٌ مِنْ أوثَانِ الجَاهِلِيّةِ يُعْبَدُ؟))، قَالُوا: لَا، قَالَ:((فَهَلْ كَانَ فِيهَا عِيدٌ مِنْ أعْيَادِهِمْ؟)) قَالُوا: لَا، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:((أَوفِ بِنَذْرِكَ؛ فَإنَّهُ لَا وَفَاءَ لِنِذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ، وَلَا فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ)). رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَإِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِهِمَا
(1)
.
(1)
صَحِيحٌ. أَبُو دَاوُدَ (3313)، وَالحَدِيثُ عِنْدَ النَّسَائِيِّ (3792) بِزِيَادَةِ:((ولَا قَطِيعَةِ رَحِمِ)) عَنِ ابْنِ عَمْرو مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَة (2872).
فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: تَفْسِيرُ قَولِهِ: {لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا} .
الثَّانِيَةُ: أَنَّ المَعْصِيَةَ قَدْ تُؤَثِّرُ فِي الأَرْضِ، وَكَذَلِكَ الطَّاعَةُ.
الثَّالِثَةُ: رَدُّ المَسْأَلَةِ المُشْكِلَةِ إِلَى المَسْأَلَةِ البَيِّنَةِ لِيَزُولَ الإِشْكَالُ.
الرَّابِعَةُ: اسْتِفْصَالُ المُفْتِي إِذَا احْتَاجَ إِلَى ذَلِكَ.
الخَامِسَةُ: أَنَّ تَخْصِيصَ البُقْعَةِ بِالنَّذْرِ لَا بَأْسَ بِهِ إِذَا خَلَا مِنَ المَوَانِعِ.
السَّادِسَةُ: المَنْعُ مِنْهُ إِذَا كَانَ فِيهِ وَثَنٌ مِنْ أَوثَانِ الجَاهِلِيَّةِ وَلَو بَعْدَ زَوَالِهِ.
السَّابِعَةُ: المَنْعُ مِنْهُ إِذَا كَانَ فِيهِ عِيدٌ مِنْ أَعْيَادِهِمْ وَلَو بَعْدَ زَوَالِهِ.
الثَّامِنَةُ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الوَفَاءُ بِمَا نَذَرَ فِي تِلْكَ البُقْعَةِ لِأَنَّهُ نَذْرُ مَعْصِيَةٍ.
التَّاسِعَةُ: الحَذَرُ مِنْ مُشَابَهَةِ المُشْرِكِينَ فِي أَعْيَادِهِمْ وَلَو لَمْ يَقْصِدْهُ.
العَاشِرَةُ: لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ.
الحَادِيَةَ عَشْرَةَ: لَا نَذْرَ لِابْنِ آدَمَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ.
الشَّرْحُ
- مُنَاسَبَةُ البَابِ مَعَ البَابِ المَاضِي؛ أَنَّهُ فِي البَابِ المَاضِي يُنْهَى عَنِ الذَّبْحِ لِغَيرِ اللهِ مِنْ جِهَةِ كَونِهِ شِرْكًا، فَهُوَ نَهْيٌ مِنْ جِهَةِ القَصْدِ، وَفِي هَذَا البَابِ يُنْهَى عَنِ الذَّبْحِ -وَلَو أَنَّهُ للهِ- مِنْ جِهَةِ المُشَابَهَةِ لِأَفْعَالِ المُشْرِكِينَ.
- سِيَاقُ الآيَةِ السَّابِقَةِ هُوَ: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَينَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التّوبة: 107 - 108].
قَالَ العَلَّامَةُ السَّعْدِيُّ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ: "كَانَ أُنَاسٌ مِنَ المُنَافِقِينَ مِنْ أَهْلِ قُبَاء اتَّخَذُوا مَسْجِدًا إِلَى جَنْبِ مَسْجِدِ قُبَاءٍ يُرِيدُونَ بِهِ المُضَارَّةَ وَالمُشَاقَّةَ بَينَ المُؤْمِنِينَ، وَيُعِدُّونَهُ لِمَنْ يَرْجُونَهُ مِنَ المُحَارِبِينَ للهِ وَرَسُولِهِ يَكُون لَهُم حِصْنًا عِنْدَ الاحْتِيَاجِ إِلَيهِ، فَبَيَّنَ تَعَالَى خِزْيَهُم؛ وَأَظْهَرَ سِرَّهُم، فَقَالَ:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا} أَي: مُضَارَّةً لِلمُؤْمِنِين وَلِمَسْجِدِهِم الَّذِي يَجْتَمِعُونَ فِيهِ، {وَكُفْرًا} أَي: قَصْدُهُم فِيهِ الكُفْرُ؛ إِذْ قَصَدَ غَيرُهُم الإِيمَانَ.
{وَتَفْرِيقًا بَينَ الْمُؤْمِنِينَ} أَي: لِيَتَشَعَّبُوا وَيَتَفَرَّقُوا وَيَخْتَلِفُوا، {وَإِرْصَادًا} أَي: إِعْدَادًا {لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ} أَي: إِعَانَةً لِلمُحَارِبِينَ للهِ وَرَسُولِهِ الَّذِينَ تَقَدَّمَ حِرَابُهُم وَاشْتَدَّتْ عَدَاوَتُهُم، وَذَلِكَ كَأَبِي عَامِرٍ الرَّاهِبِ الَّذِي كَانَ مِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ؛ فَلَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهَاجَرَ إِلَى المَدِينَةِ كَفَرَ بِهِ، وَكَانَ مُتَعَبِّدًا فِي الجَاهِلِيَّةِ، فَذَهَبَ إِلَى
المُشْرِكِينَ يَسْتَعِينُ بِهِم عَلَى حَرْبِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
فَلَمَّا لَمْ يُدْرِكْ مَطْلُوبَهُ عِنْدَهُم ذَهَبَ إِلَى قَيصَرَ -بِزَعْمِهِ أَنَّهُ يَنْصُرُهُ-، فَهَلَكَ اللَّعِينُ فِي الطَّرِيقِ، وَكَانَ عَلَى وَعْدٍ وَمُمَالَأَةٍ هُوَ وَالمُنَافِقُونَ، فَكَانَ مِمَّا أَعَدُّوا لَهُ مَسْجِدَ الضِّرَارِ، فَنَزَلَ الوَحْيُ بِذَلِكَ، فَبَعَثَ إِلَيهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَنْ يَهْدِمُهُ وَيَحْرِقُهُ، فَهُدِمَ وحُرِقَ، وَصَارَ بَعْدَ ذَلِكَ مَزْبَلَةً.
قَالَ تَعَالَى -بَعْدَمَا بَيَّنَ مِنْ مَقَاصِدِهِم الفَاسِدَةِ فِي ذَلِكَ المَسْجِدِ-: {وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا} فِي بِنَائِنَا إِيَّاهُ {إِلَّا الْحُسْنَى} أَي: الإِحْسَانَ إِلَى الضَّعِيفِ وَالعَاجِزِ وَالضَّرِيرِ {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} فَشَهَادَةُ اللهِ عَلَيهِم أَصْدَقُ مِنْ حَلِفِهِم.
{لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا} أَي: لَا تُصَلِّ فِي ذَلِكَ المَسْجِدِ الَّذِي بُنِيَ ضِرَارًا أَبَدًا، فَاللهُ يُغْنِيكَ عَنْهُ، وَلَسْتَ بِمُضْطَرٍّ إِلَيهِ، {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} ظَهَرَ فِيهِ الإِسْلَامُ فِيهِ -وَهُوَ مَسْجِدُ قُبَاءٍ- أُسِّسَ عَلَى إِخْلَاصِ الدِّينِ للهِ، وَإِقَامَةِ ذِكْرِهِ وَشَعَائِرِ دِينِهِ، وَكَانَ قَدِيمًا فِي هَذَا عَرِيقًا فِيهِ؛ فَهَذَا المَسْجِدُ الفَاضِلُ {أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} وَتَتَعَبَّدَ وَتَذْكُرَ اللهَ تَعَالَى، فَهُوَ فَاضِلٌ وَأَهْلُهُ فُضَلَاءُ، وَلِهَذَا مَدَحَهُم اللهُ بِقَولِهِ:{فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} مِنَ الذُّنُوبِ وَيَتَطَهَّرُوا مِنَ الأَوسَاخِ وَالنَّجَاسَاتِ وَالأَحْدَاثِ"
(1)
.
- قَولُهُ: ((لَا يُذْبَحُ للهِ)) هَذَا مِنَ النَّفْي المُشْتَمِلِ عَلَى النَّهْي، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ مُجَرَّدِ النَّهْي، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أنْ يَقَعَ أَصْلًا.
(1)
تَفْسِيرُ السَّعْدِيِّ (ص 351).
- الحِكْمَةُ فِي النَّهْي عَنِ الذَّبْحِ فِي مَكَانٍ يُذْبَحُ فِيهِ لِغَيرِ اللهِ هِيَ:
1 -
أَنَّهَا وَسِيلَةٌ مُفْضِيَةٌ إِلَى الشِّرْكِ، فَهِيَ مِنْ بَابِ سَدِّ ذَرَائِعِ الشِّرْكِ.
وَكَمَا أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الصَّلَاةِ فِي أَوقَاتٍ مُعَيَّنَةٍ هِيَ لِعِلَّةِ مَنْعِ التَّشَبِّهِ بِالمُشْرِكِينَ -وَهِيَ مُشَابَهَةٌ زَمَنِيَّةٌ-؛ فَمَوضُوعُ البَابِ فِي المُشَابَهَةِ المَكَانِيَّةِ.
2 -
تَشَبُّهٌ بِالكُفَّارِ الَّذِينَ يَذْبَحُونَ فِيهِ لِغَيرِ اللهِ.
3 -
يُؤَدِّي لِلاغْتِرَارِ بِالفِعْلِ، فَمَنْ رَآه يَظُنُّ أَنَّ فِعْلَ المُشْرِكِينَ جَائِزٌ!
4 -
تَكْثِيرٌ لِسَوَادِهِم، فَالمُشْرِكُونَ يَقْوَونَ عَلَى فِعْلِهِم إِذَا رَأَوا مَنْ يَفْعَلُ مِثْلَهُم.
- النَّهْيُ عَنِ الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِ الضِّرَارِ عُمُومًا لَهُ عِدَّةُ أَسْبَابٍ:
1 -
مُضَارَّةُ مَسْجِدِ قُبَاءٍ، وَلِهَذَا سُمِّيَ بِمَسْجِدِ الضِّرَارِ
(1)
.
2 -
الكُفْرُ بِاللهِ حَيثُ اتَّخَذَهُ المُنَافِقُونَ لِأَغْرَاضِهِم الخَبِيثَةِ.
3 -
التَّفْرِيقُ بَينَ المُؤْمِنِينَ؛ فَبَدَلًا مِنْ أَنْ يُصَلِّيَ فِي مَسْجِدِ قُبَاء صَفٌّ أَو صَفَّانِ؛ يُصَلِّي فِيهِ نِصْفُ صَفٍّ وَالبَاقِي فِي المَسْجِدِ الآخَرِ! وَالشَّرْعُ لَهُ نَظَرٌ فِي اجْتِمَاعِ المُصَلِّينَ.
4 -
الإِرْصَادُ وَالإِعْدَادُ لِمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ.
- التَّقْوَى أَصْلُهَا مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ (وَقْوَى) فَالتَّاءُ فِيهَا مُنْقَلِبَةٌ عَنْ وَاوٍ، وَهِيَ مِنَ الوِقَايَةِ، وَقَاهُ يَقِيهِ وِقَايَةً.
- المُتَّقِي لُغَةً: هُوَ مَنْ جَعَلَ بَينَهُ وَبَينَ مَا يَكْرَهُ وِقَايَةً، وَشَرْعًا: مَنْ جَعَلَ بَينَهُ وَبَينَ
(1)
رُغْمَ أَنَّهُم عَلَّلُوا سَبَبَ بِنَائِهِ أَنَّهُ يَكُونُ لِلمَرِيضِ أَو مِنْ أَجْلِ الليلَةِ المَطِيرَةِ أَوِ البَارِدَةِ لِئَلَّا يَشِقَّ عَلَيهِم الذَّهَابُ إِلَى مَسْجِدِ قُبَاءٍ.
سَخَطِ اللهِ وَعَذَابِهِ وِقَايَةً.
- التَّقْوَى لَا تَكُونُ إِلَّا عَنْ بَصِيرَةٍ مِنَ اللهِ تَعَالَى، قَالَ تَعَالَى:{كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [البَقَرَة: 187]
(1)
، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه:(كَمْ مِنْ مُرِيدٍ لِلْخَيرِ لَنْ يُصِيبَهُ)
(2)
.
- التَّقْوَى فِي القُرْآنِ تَكُونُ عَلَى ثَلَاثِ مَرَاتِبَ:
1 -
تَقْوَى بِمَعْنَى التَّوحِيدِ، وَقَدْ أُمرَ بِهَا النَّاسُ جَمِيعًا.
قَالَ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيكُمْ رَقِيبًا} [النِّسَاء: 1].
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله في التَّفْسِيرِ: "يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا خَلْقَهُ بِتَقْوَاهُ -وَهِيَ عِبَادَتُهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ- وَمُنَبِّهًا لَهُم عَلَى قُدْرَتِهِ الَّتِي خَلَقَهُم بِهَا مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ آدَمَ عليه السلام"
(3)
.
2 -
تَقْوَى أُمِرَ بِهَا المُؤْمِنُونَ.
قَالَ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البَقَرَة: 278] فَهِيَ لِلمُؤْمِنِ بَعْدَ تَحْصِيلِهِ التَّوحِيدَ، وَمَعْنَاهَا: أَنْ يَعْمَلَ العَبْدُ بِطَاعَةِ اللهِ عَلَى نُورٍ مِنَ اللهِ، وَأَنْ يَتْرُكَ مَعْصِيَةَ اللهِ عَلَى نُورٍ مِنَ اللهِ تَعَالَى.
(1)
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (1/ 520): "أَي: كَمَا بَيَّنَ اللهُ الصِّيَامَ وَأَحْكَامَهُ وَشَرَائِعَهُ وَتَفَاصِيلَهُ؛ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ سَائِرَ الأَحْكَامِ عَلَى لِسَانِ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم {لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} أَي: يَعْرِفُونَ كَيفَ يَهْتَدُونَ، وكَيفَ يُطِيعُونَ".
(2)
صَحِيحٌ. الدَّارِمِيُّ (210) عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَوقُوفًا. الصَّحِيحَة (2005).
(3)
تَفْسِيرُ ابْنِ كَثِيرٍ (2/ 206).
3 -
تَقْوَى بِمَعْنَى الثَّبَاتِ عَلَيهَا وَعَلَى الطَّاعَةِ، فَهِيَ مُوَجَّهَةٌ لِمَنْ هُوَ آتٍ بِهَا.
قَالَ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الأَحْزَاب: 1].
- قَولُهُ تَعَالَى: {أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} هَذَا فِيهِ اسْتِعْمَالُ أَفْعُلِ التَّفْضِيلِ عَلَى غَيرِ بَابِهَا، فَلَيسَ لِمَسْجِدِ الضِّرَارِ حَقٌّ أَصْلًا لِلصَّلَاةِ فِيهِ؛ وَقَدْ أُسِّسَ عَلَى مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ مِنَ المَعْصِيَةِ!
- وَجْهُ المُنَاسَبَةِ مِنَ الآيَةِ: أَنَّ هَذَا المَسْجِدَ لَمَّا أُعِدَّ لِمَعْصِيَةِ اللهِ صَارَ مَحَلَّ غَضَبٍ لِأَجْلِ ذَلِكَ، فَلَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهِ وَلَو للهِ، وَعَلَاقَةُ هَذَا مَعَ البَابِ أَنَّهُ مِنْ بَابِ القِيَاسِ، حَيثُ صَارَ فِيهِ النَّهْيُ عَنْ مُشَابَهَةِ المُشْرِكِينَ فِي مَكَانِ العِبَادَةِ وَلَو كَانَتْ للهِ، أَمَّا الحَدِيثُ الآتِي فِي البَابِ فَهُوَ مِنْ بَابِ التَّنْصِيصِ عَلَى النَّهْي.
- المَسْجِدُ المَذْكُورُ فِي الآيَةِ هُوَ مَسْجِدُ قُبَاءٍ، وَقَدْ وَرَدَتِ الفَضِيلَةُ فِيهِ وَفِي أَهْلِهِ، وَهِيَ:
1 -
أَنَّ الصَّلَاةَ فِيهِ تَعْدِلُ عُمْرَةً.
كَمَا فِي الحَدِيثِ: ((مَنْ خَرَجَ حَتَّى يَأْتِيَ هذَا المَسْجِدَ -مَسْجِدَ قُبَاءٍ- فَيُصَلِّي فِيهِ؛ كانَ لَهُ عَدْلَ عُمْرَةٍ))
(1)
.
2 -
فَضِيلَةُ أَهْلِهِ مِنْ جِهَةِ الطَّهَارَةِ -البَدَنِيَّةِ وَالمَعْنَوِيَّةِ-.
لِقَولِهِ تَعَالَى: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التَّوبَة: 108].
وَفِي الحَدِيثِ: ((يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ؛ إِنَّ اللهَ قَدْ أَثْنَى عَلَيكُمْ فِي الطُّهُورِ، فَمَا
(1)
صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (15981) عَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيفٍ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَة (3446).
طُهُورُكُمْ؟)) قَالُوا: نَتَوَضَّأُ لِلصَّلَاةِ، وَنَغْتَسِلُ مِنَ الجَنَابَةِ، وَنَسْتَنْجِي بِالمَاءِ. قَالَ:((فَهُوَ ذَاكَ، فَعَلَيكُمُوهُ))
(1)
.
- قَولُهُ: (بُوَانَة): "هَضَبَةٌ وَرَاءَ يَنْبُع، قَرِيبَةٌ مِنْ سَاحِلِ البَحْرِ"
(2)
.
- النَّذْرُ لُغَةً: الإِلْزَامُ وَالعَهْدُ، وَاصْطِلَاحًا: إِلْزَامُ المُكَلَّفِ نَفْسَهُ للهِ شَيئًا غَيرَ وَاجِبٍ، وَالنَّذْرُ مِنْهُ المَكْرُوهُ
(3)
وَمِنْهُ المُسْتَحَبُّ.
- قَولُهُ: ((هَلْ كَانَ فِيهَا وَثَنٌ مِنْ أوثَانِ الجَاهِلِيّةِ يُعْبَدُ؟)) ((يُعْبَدُ)) صِفَةٌ مُوَضِّحَةٌ -كَاشِفَةٌ- ولَيسَتْ مُقَيِّدَةٌ، وَالمَعْنَى هَلْ كَانَ فِيهَا شَيءٌ يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ؟ وَلَيسَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ هُنَاكَ وَثَنٌ -وَلَكِنَّهُ لَا يُعْبَدُ- فَجَائِزٌ
(4)
.
(1)
صَحِيحٌ. ابْنُ مَاجَه (355) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ مَرْفُوعًا. اُنْظُرْ تَحْقِيقَ مِشْكَاةِ المَصَابِيحِ (369).
(2)
مُعْجَمُ البُلْدَانِ (1/ 505).
(3)
بَلْ إِنَّ بَعْضَ أَهْلِ العِلْمِ يَمِيلُ لِحُرْمَتِهِ؛ وَفِي البُخَارِيِّ (6693) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ النَّذْرِ؛ وَقَالَ: ((إِنَّهُ لَا يَرُدُّ شَيئًا! وَلَكِنَّهُ يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ البَخِيلِ)).
(4)
وَالصِّفَةُ المُوَضِّحَةُ يُفِيدُ وَضْعُهَا بَيَانَ العِلَّةِ فِي النَّهْي، كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى:{وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المُؤْمِنُون: 117] فَلَيسَ مَعْنَى {لَا بُرْهَانَ لَهُ} أَنَّهُ إِنْ كَانَ لَهُ بُرْهَانٌ بِهِ فَجَائِزٌ! وَلَكِنِ المَعْنَى: أَنَّ أيَّ شَيءٍ غَيرَ اللهِ لَيسَ لَهُ بُرْهَانٌ لِلعِبَادَةِ، فَهِيَ عِلَّةُ التَّوحِيدِ لِرَبِّ العَالَمِينَ سبحانه وتعالى.
وَمِثْلُهُ أَيضًا قَولُهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البَقَرَة: 21] فَلَيسَ المَعْنَى أَنَّهُ هُنَاكَ رَبٌّ خَالِقٌ وَهُنَاكَ رَبٌّ لَمْ يَخْلُقْ! وَلَكِنَّهُ لِبَيَانِ أَنَّ الرَّبَّ هُوَ الخَالِقُ وَحْدَهُ.
وَمِثْلُهُ أَيضًا حَدِيثُ التِّرْمِذِيِّ (2677) مَرْفُوعًا عَنْ عَمْرو بْنِ عَوفٍ -وَالحَدِيثُ ضَعِيفٌ؛ كَمَا فِي ضَعِيفِ الجَامِعِ (965) -: "مَنِ ابْتَدَعَ بِدْعَةَ ضلالَةٍ لَا تُرْضِي اللهَ وَرَسُولَهُ؛ كانَ علَيهِ مِثْلُ آثامِ مَنْ عَمِلَ بِهَا لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أوزَارِ النَّاسِ شَيئًا)). فَقَولُهُ ((لَا يَرْضَاهَا)) صِفَةٌ شَارِحَةٌ لِلضَّلَالَةِ، وَلَا يَعْنِي أَنَّ هُنَاكَ مِنَ البِدَعِ الضَّلَالَاتِ مَا تُرْضِي اللهَ وَرَسُولَهُ!
- فِي الحَدِيثِ نَهْيٌ عَنِ الشِّرْكِ فِي قَولِهِ: ((هَلْ كَانَ فِيهَا وَثَنٌ؟))، وَنَهْيٌ عَنْ وَسَائِلِهِ فِي قَولِهِ:((عِيدٌ مِنْ أعْيَادِهِمْ؟)).
- العِيدُ: لُغَةً مِنَ العَودِ، أَي: مَا يَقَعُ عَلَى وَجْهٍ مُعْتَادٍ عَائِدٍ.
وَيُطْلَقُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ:
1 -
عِيدٍ زَمَنِيٌّ: كَيَومِ الفِطْرِ وَالأَضْحَى وَيَومِ الجُمُعَةِ.
2 -
عِيدٌ مَكَانِيٌّ: أَي: مَا تُعَادُ زِيَارَتُهُ
(1)
-كَالحَدِيثِ هُنَا- وَمِثْلِ عَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَمِنَى، هَذِهِ أَعْيَادٌ لِلمُسْلِمِينَ مَكَانِيَّةٌ.
3 -
الاجْتِمَاعُ وَالأَعْمَالُ المُعَيَّنَةِ: كَقَولِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه: (شَهِدْتُ العِيدَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. رَوَاهُ البُخَارِيُّ
(2)
(3)
.
- فِي الحَدِيثِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ لِعَدَمِ اشْتِرَاطِ قَصْدِ وَنيَّةِ التَّشَبُّهِ كَي يَكُونَ ذَلِكَ الأَمْرُ لِلتَّحْرِيمِ، حَيثُ لَمْ يَسْتَفْصِلِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَصْدِهِ -لَا سِيَّمَا وَأَنَّ السَّائِلَ مُسْلِمٌ-.
وَكَمَا فِي الحَدِيثِ: ((إَنَّ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى لَا يَصْبِغُونَ؛ فَخَالِفُوهُمْ))
(4)
،
(1)
وَكَمَا فِي الحَدِيثِ عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا: ((لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا، وَلَا تَجْعَلُوا قَبْرِي عِيدًا)). صَحِيحٌ. أَبُو دَاوُدَ (2042). صَحِيحُ أَبِي دَاوُدَ (2042). وَسَيَأْتِي قَرِيبًا إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.
(2)
البُخَارِيُّ (962).
(3)
وَأَعْيَادُ المُشْرِكِينَ مِنْ نَاحِيَةِ الأَمْكِنَةِ أَوِ الأَزْمِنَةِ مَعْلُومٌ أَنَّهَا رَاجِعَةٌ فِي نَشْأَتِهَا إِلَى عَقَائِدِهِم وَدِيَانَاتِهِم الشِّرْكيَّةِ، فَإِذًا يَكُونُ المَعْنَى أَنَّهُم يَتَعَبَّدُونَ فِي تِلْكَ الأَعْيَادِ عِبَادَاتِهِم الشِّرْكِيَّةَ، وَأَعْظَمُ مَا يُفْعَلُ عِنْدَهَا هُنَاكَ التَّقَرُّبُ بِالذَّبْحِ وَإِرَاقَةِ الدِّمَاءِ.
(4)
وَكَمَا فِي الحَدِيثِ: ((إَنَّ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى لَا يَصْبِغُونَ؛ فَخَالِفُوهُمْ)). رَوَاهُ البُخَارِيُّ (3462)، وَمُسْلِمٌ (2103) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا.
وَالشَّاهِدُ مِنْهُ أَنَّ الشَّيبَ لَا يَحْصُلُ بِالقَصْدِ -حَيثُ يَشْتَرِكُ فِيهِ المُسْلِمُ وَالكَافِرُ- وَمَعْ ذَلِكَ أُمِرَ المُسْلِمُ بِتَغْيِيرِهِ مُخَالَفَةً لِلنَّصَارَى.
وَالشَّاهِدُ مِنْهُ أَنَّ الشَّيبَ لَا يَحْصُلُ بِالقَصْدِ -حَيثُ يَشْتَرِكُ فِيهِ المُسْلِمُ وَالكَافِرُ-؛ وَمَعْ ذَلِكَ أُمِرَ المُسْلِمُ بِتَغْيِيرِهِ مُخَالَفَةً لِلنَّصَارَى.
- قَالَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله فِي الصَّحِيحَة -عِنْدَ حَدِيثِ البَابِ-: "وَفِيهِ مِنَ الفِقْهِ تَحْرِيمُ الوَفَاءِ بِنَذْرِ المَعْصِيَةِ، وَأَنَّ مِنْ ذَلِكَ الوَفَاءُ بِنَذْرِ الطَّاعَةِ فِي مَكَانٍ كَانَ يُشْرَكُ فِيهِ بِاللهِ، أَو كَانَ عِيدًا لِلكُفَّارِ، فَضْلًا عَنْ مَكَانٍ يَتَعَاطَى النَّاسُ الشِّرْكَ فِيهِ، أَو مَعَاصِيَ"
(1)
.
- فَائِدَةٌ: لَا يَجُوزُ المُكْثِ فِي مَكَانٍ يُعْصَى فِيهِ اللهُ تَعَالَى إِلَّا عَلَى جِهَةِ الإِنْكَارِ.
قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَيتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأَنْعَام: 68].
وَكَمَا فِي الحَدِيثِ: ((إِذَا عُمِلَتِ الخَطِيئَةُ فِي الأَرْضِ كَانَ مَنْ شَهِدَهَا فَكَرِهَهَا أَو أَنْكَرَهَا كَمَنْ غَابَ عَنْهَا، وَمَنْ غَابَ عَنْهَا فَرَضِيَهَا كَانَ كَمَنْ شَهِدَهَا))
(2)
.
(1)
الصَّحِيحَةُ (2872).
(2)
حَسَنٌ. أَبُو دَاوُدَ (4345) عَنِ العُرْسِ بْنِ عَمِيرَةَ الكِنْدِيِّ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (689).
مَسَائِلُ عَلَى البَابِ
-
المَسْأَلَةُ الأُولَى: ثَبَتَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الصَّلَاةُ فِي كَنِيسَةٍ!
كَمَا فِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ "وَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: إِنَّا لَا نَدْخُلُ كَنَائِسَكُمْ مِنْ أَجْلِ التَّمَاثِيلِ الَّتِي فِيهَا الصُّوَرُ، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُصَلِّي فِي البِيعَةِ إِلَّا بِيعَةً فِيهَا تَمَاثِيلُ"
(1)
.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ رحمه الله: "وَكَذَلِكَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ صَلَّى فِي كَنِيسَةٍ أَو بِيعَةٍ فِي مَوضِعٍ طَاهِرٍ أَنَّ صَلَاتَهُ مَاضِيَةٌ جَائِزَةٌ"
(2)
.
فَمَا الجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ؟
الجَوَابُ هُوَ مِنْ وَجْهَينِ:
1 -
أَنَّ صِفَةَ صَلَاةِ المُسْلِمِ فِي الكَنِيسَةِ تُخَالِفُ صِفَةَ صَلَاةِ النَّصَارَى فِي كَنَائِسِهِم، فَلَا يَكُونُ المُسْلِمُ مُتَشَبِّهًا بِهَذَا العَمَلِ، بِخِلَافِ الذَّبْحِ فِي مَكَانٍ يُذْبَحُ فِيهِ لِغَيرِ اللهِ؛ فَإِنَّ الفِعْلَ وَاحِدٌ؛ أَي: مِنْ حَيثُ كَونِهِ عِبَادَةً، وَكَونِهِ ذَبْحًا
(3)
.
2 -
أَنَّ الكَنَائِسَ بُنِيَتْ أَصْلًا لِعِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ، ثُمَّ طَرَأَ عَلَيهَا الشِّرْكُ، فَهِيَ تُخَالِفُ الأَمَاكِنَ الَّتِي اتُّخِذَتْ لِلشِّرْكِ المَحْضِ فِي الأَصْلِ، لِذَلِكَ إِذَا كَانَ الشِّرْكُ فِيهَا ظَاهِرًا -كَمَا هُوَ الآنَ- فَلَا يُصَلَّى فِيهَا
(4)
، كَمَا سَبَقَ فِي البُخَارِيِّ "وَقَالَ عُمَرُ: إِنَّا لَا
(1)
البُخَارِيِّ (1/ 94) -بَابُ الصَّلَاةِ فِي البِيعَةِ-.
(2)
التَّمْهِيدُ (5/ 229)
(3)
وَالصَّلَاةُ فِي مَسْجِدِ الضِّرَارِ هَيئَتُهَا وَاحِدَةٌ بَينَ المُؤْمِنِ وَالمُنَافِقِ؛ فَلِذَلِكَ لَمْ تَجُزْ هُنَاكَ، عَدَا عَمَّا فِيهِ مِنْ سَائِرِ المُخَالَفَاتِ الَّتِي سَبَقَ ذِكْرُهَا.
(4)
مُسْتَفَادٌ مِنْ شَرْحِ الشَّيخِ الغُنَيمَانِ حَفِظَهُ اللهُ عَلَى كِتَابِ فَتْحُ المَجِيدِ، شَرِيطُ رَقَم (42)، شَرْحُ البَابِ. بِتَصَرُّفٍ يِسِيرٍ.
قُلْتُ: وَمَفْهُومُ كَلَامِهِ -هُنَاكَ- أَنَّ هَذَا خَاصٌّ بِمِثْلِ الكَنَائِسِ وَالبِيَعِ، وَدُونَ وُجُودِ الصُّوَرِ فِيهَا.
نَدْخُلُ كَنَائِسَكُم مِنْ أَجْلِ التَّمَاثِيلِ الَّتِي فِيهَا الصُّوَرُ، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُصَلِّي فِي البِيعَةِ إِلَّا بِيعَةً فِيهَا تَمَاثِيلٌ"
(1)
.
قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ رحمه الله فِي شَرْحِ البُخَارِيِّ: "اخْتَلَفَ العُلَمَاءُ فِي الصَّلَاةِ فِي البِيَعِ وَالكَنَائِسِ؛ فَكَرِهَ عُمَرُ وَابْنُ عَبَّاسٍ الصَّلَاةَ فِيهَا مِنْ أَجْلِ الصُّوَرِ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ قَالَ: انْضَحُوهَا بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَصَلُّوا، وَهُوَ قَولُ مَالِكٍ.
ذَكَرَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ مَالِكٍ؛ قَالَ: أَكْرَهُ الصَّلَاةَ فِي الكَنَائِسِ لِمَا يُصِيبُ فِيهَا أَهْلُهَا مِنْ لَحْمِ الخَنَازِيرِ وَالخُمُورِ وَقِلَّةِ احْتِيَاطِهِم مِنَ النَّجَسِ؛ إِلَّا أَنْ يَضْطَرَّ إِلَى ذَلِكَ مِنْ شِدَّةِ طِينٍ أَو مَطَرٍ، إِلَّا أَنْ يَتَيَقَّنَ أنَّهُ لَمْ يُصِبْهَا نَجَسٌ"
(2)
.
قَالَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (الثَّمَرُ المُسْتَطَابُ): "ثُمَّ حَكَى النَّوَوِيُّ عَنْ بَعْضِ العُلَمَاءِ التَّرْخِيصَ فِي الصَّلَاةِ فِي الكَنِيسَةِ وَالبِيعَةِ. وَلَعَلَّ ذَلِكَ فِيمَا إِذَا كَانَتْ خَالِيَةً عَنِ الصُّوَرِ وَالتَّمَاثِيلِ كَمَا يُفِيدُهُ أَثَرُ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ وَإِلَّا فَهُوَ عَلَى إِطْلَاقِهِ بَعِيدٌ عَنِ الصَّوَابِ، لِأَنَّ المَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيتًا فِيهِ صُورَةٌ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَدْخُلِ الكَعْبَةَ حَتَّى مَحَا مَا فِيهَا مِنَ الصُّوَرِ، ثُمَّ هِيَ بِمَنْزِلَةِ المَسْجِدِ المَبْنِيِّ عَلَى القَبْرِ، كَمَا قَالَ شَيخُ الإِسْلَامِ فِي مَجْمُوعِ الفَتَاوَى
(3)
: ((أُولَئِكَ إِذَا مَاتَ فِيهِمُ
(1)
وَأَثَرُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَصَلَهُ البَغَوِيُّ رحمه الله فِي الجَعْدِيَّاتِ بِزِيَادَةِ: "إِنْ كَانَ فِيهَا تَمَاثِيلُ؛ خَرَجَ فَصَلَّى فِي المَطَرِ". وَأَمَّا أَثَرُ عُمَرَ فَوَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ (1611). اُنْظُرْ فَتْح البَارِي (1/ 532).
(2)
شَرْحُ البُخَارِيِّ لِابْنِ بَطَّالٍ (2/ 89).
(3)
مَجْمُوعُ الفَتَاوَى (17/ 462).
الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ التَّصَاوِيرَ، أُولَئِكَ شِرَارُ الخَلْقِ عِنْدَ اللهِ يَومَ القِيَامَةِ)) وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا صُوَرٌ فَقَدْ صَلَّى الصَّحَابَةُ فِي الكَنِيسَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ فِي (الاخْتِيَارَاتِ): وَالمَذْهَبُ الَّذِي عَلَيهِ عَامَّةُ الأَصْحَابِ كَرَاهَةُ دُخُولِ الكَنِيسَةِ المُصَوَّرَةِ؛ فَالصَّلَاةُ فِيهَا وَفِي كُلِّ مَكَانٍ فِيهِ تَصَاوِيرُ أَشَدُّ كَرَاهَةً. وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي لَا رَيبَ فِيهِ وَلَا شَكَّ"
(1)
.
قُلْتُ: وَعَلَى كُلِّ حَالٍ؛ فَإِذَا خَلَا المَكَانُ مِنَ المَوَانِعِ جَازَتِ الصَّلَاةُ، وَمِنْ هَذِهِ المَوَانِعِ: حُدُوثُ المُشَابَهَةِ، وُوُجُودُ التَّصَاوِيرِ وَمَظَاهِرِ الشِّرْكِ
(2)
.
(1)
الثَّمَرُ المُسْتَطَابُ (1/ 395).
(2)
وَمِمَّا تَجْدُرُ الإِشَارَةُ إِلَيهِ أَنَّ صَلَاةَ المُسْلِمِ فِي كَنِيسَةٍ -وَلَو خَلَتْ مِنَ الصُّوَرِ- فِي ذَلِكَ الزَّمَنِ؛ تَخْتَلِفُ عَنْ صَلَاةِ المُسْلِمِ فِي هَذَا الزَّمَنِ؛ وَذَلِكَ لِقُوَّةِ الإِسْلَامِ وَظُهُورِهِ فِي ذَلِكَ الزَّمَنِ، بِخِلَافِ هَذَا الزَّمَنِ الَّذِي ظَهَرَتْ فِيهِ العِلْمَانِيَّةُ وَدَعْوَى (وَحْدَةِ الأَدْيَانِ) وَغَيرِهَا مِنَ الدَّعَاوَى المُمَيِّعَةِ لِلإِسْلَامِ؛ مِمَّا تَكُونُ فِيهِ صَلَاةُ المُسْلِمِ اليَومَ فِي كَنِيسَةٍ -وَلَو خَلَتْ مِنَ الصُّوَرِ؛ وَهَيهَاتَ هَيهَاتَ- أَشَدَّ حَظْرًا لِدِلَالَتِهَا عَلَى وَحْدَةِ المَضْمُونِ بَينَ المُسْلِمِ وَالنَّصْرَانِيِّ! بِخِلَافِ قَولِ عُمَرَ رضي الله عنه:(إِنَّا لَا نَدْخُلُ كَنَائِسَكُمْ مِنْ أَجْلِ التَّمَاثِيلِ الَّتِي فِيهَا الصُّوَرُ) فَهُوَ صَرِيحٌ فِي ظُهُورِ عِزَّةِ المُسْلِمِ، وَمُبَايَنَتِهِ لِلكُفَّارِ فِي طُقُوسِهِم وَمَظَاهِرِهِم، وَإِنْكَارِهِ لِشِرْكِهِم المُتَمَثِّلِ فِي الصُّوَرِ. وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
-
المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَا حُكْمُ مَا يَحْصُلُ -وَخَاصَّةً فِي بِلَادِ الغَرْبِ- مِنْ شِرَاءِ كَثِيرٍ مِنَ المُسْلِمِينَ لِكَنَائِسَ قَدِيمَةٍ ثُمَّ تَعْدِيلِهَا لِتَكُونَ مَسَاجِدَ،
أَو هَدْمِ الكَنِيسَةِ وَبِنَاءِ مَسْجِدٍ مَكَانَهَا؟
الجَوَابُ:
هُوَ جَائِزٌ، وَلَا يَدْخُلُ فِي النَّهْي؛ لِأُمُورٍ:
1 -
أَنَّ تَغَيُّرَ الوَصْفِ مِنْ كَنِيسَةٍ إِلَى مَسْجِدٍ لِلمُسْلِمِينَ؛ هُوَ تَغَيُّرٌ فِي أَصْلِ الاعْتِقَادِ فِي المَكَانِ، فَتَنْتَفِي عِلَّةُ النَّهْي فِي المُشَابَهَةِ المَكَانِيَّةِ.
2 -
أَنَّ هَيئَةَ صَلَاةِ المُسْلِمِينَ مُغَايِرَةٌ بِشَكْلٍ تَامٍّ لِهَيئَةِ صَلَاةِ النَّصَارَى وَاليَهُودِ، فَتَنْتَفِي عِلَّةُ النَّهْي أَيضًا مِنْ جِهَةِ المُشَابَهَةِ فِي هَيئَةِ العِبَادَةِ.
3 -
أَنَّ الكَعْبَةَ وَالمَسْجِدَ الحَرَامَ كَانَا مَلِيئَينِ بِالأَصْنَامِ، وَلَكِنْ بَعْدَمَا أُزِيلَتْ وَظَهَرَ الإِسْلَامُ عَلَى المَكَانِ لَمْ يَعُدْ لَهَا الطَّابَعُ الشِّرْكيُّ القَدِيمُ.
وَمِثْلُهُ أَيضًا المَسْجِدُ النَّبَوِيُّ؛ فَقَدْ أُقِيمَ عَلَى قُبُورِ المُشْرِكِينَ بَعْدَمَا نُبِشَتْ
(1)
.
(1)
وَمِثْلُهُ مَا قَالَهُ الحَافِظُ ابْنُ كَثِير رحمه الله في التَّفْسِيرِ (7/ 457) -عَنِ اللَاتِ-: "وَقَدْ بَعَثَ إِلَيهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم المُغِيرَةَ بْنِ شُعْبَةَ وَأَبَا سُفْيَان صَخْرَ بْنَ حَرْبٍ، فَهَدَمَاهَا وَجَعَلَا مَكَانَهَا مَسْجِدَ الطَّائِفِ".
قُلْتُ: وَهُوَ المَعْرُوفُ بِمَسْجِدِ ابْنِ عَبَّاس، وَمَحَلُّ الوَثَنِ هُوَ فِي مَوضِعِ المَنَارَةِ. مُسْتَفَادٌ مِنْ شَرْحِ الشَّيخِ الغُنَيمَانِ حَفِظَهُ اللهُ عَلَى كِتَابِ فَتْحُ المَجِيدِ، شَرِيطُ رَقَم (42) شَرْحُ البَابِ.
-
المَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيّ رضي الله عنه؛ أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ المَسْجِدَينِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى؟
قَالَ: ((فَأَخَذَ كَفًّا مِنْ حَصْبَاءَ، فَضَرَبَ بِهِ الأَرْضَ، ثُمَّ قَالَ: هُوَ مَسْجِدُكُمْ هَذَا)) لِمَسْجِدِ المَدِينَةِ
(1)
. فَمَا الجَوَابُ مَعَ مَا ذُكرَ أَنَّ آيَةَ البَابِ قَصَدَتْ مَسْجِدَ قُبَاءٍ؟
الجَوَابُ:
لَا مُنَافَاةَ بَينَ الآيَةِ وَالحَدِيثِ، لِأَنَّ الآيَةَ ذَكَرَتْ أَنَّ المَسْجِدَ المُؤَسَّسَ مِنْ أوَّلِ يَومٍ هُوَ مَسْجِدُ قُبَاءٍ -بِاعْتِبَارِ مُقَارَنَتِهِ مَعَ مَسْجِدِ الضِّرَارِ-، أَمَّا الحَدِيثُ فَهُوَ عَامٌّ بَينَ كُلِّ المَسَاجِدِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَتِ المُقَارَنَةُ بَينَ المَسْجِدِ النَّبَوِيِّ وَبَينَ مَسْجِدِ قُبَاءٍ.
(1)
مُسْلِمٌ (1398).
بَابُ مِنَ الشِّرْكِ النَّذْرُ لِغَيرِ اللهِ
وَقَولُ اللهِ تَعَالَى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإِنْسَان: 7].
وَقَولُهُ: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [البَقَرَة: 270].
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللهَ فَلَا يَعْصِهِ))
(1)
.
(1)
البُخَارِيُّ (6696).
فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: وُجُوبُ الوَفَاءِ بِالنَّذْرِ.
الثَّانِيَةُ: إِذَا ثَبَتَ كَونُهُ عِبَادَةً للَّهِ؛ فَصَرْفُهُ إِلَى غَيرِهِ شِرْكٌ.
الثَّالِثَةُ: أَنَّ نَذْرَ المَعْصِيَةِ لَا يَجُوزُ الوَفَاءُ بِهِ.
الشَّرْحُ
- النَّذْرُ لُغَةً: الإِلْزَامُ وَالعَهْدُ. وَاصْطِلَاحًا: إِلْزَامُ المُكَلَّفِ نَفْسَهُ للهِ شَيئًا غَيرَ وَاجِبٍ
(1)
.
- قَولُهُ تَعَالَى: {فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} يَدُلُّ عَلَى كَونِهِ عِبَادَةً، وَوَجْهُ الاسْتِدْلَالِ مِنْ جِهَتِينِ:
1 -
أَنَّ اللهَ تَعَالَى عَلَّقَ النَّذْرَ بِعِلْمِهِ تَعَالَى بهِ؛ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَحَلُّ جَزَاءٍ.
2 -
أَنَّ سِيَاقَهُ سِيَاقُ مَدْحٍ؛ لِأَنَّهُ عَطَفَهُ عَلَى النَّفَقَةِ.
- وَجْهُ اسْتِدْلَالِ المُصَنِّفِ رحمه الله بِالآيَةِ هُنَا: هُوَ بَيَانُ أَنَّ النَّذْرَ عِبَادَةٌ للهِ؛ فَيَكُونُ جَعْلُهُ لِغَيرِ اللهِ شِرْكًا، وَهُوَ اتِّخَاذُ الأَنْدَادِ مَعَ اللهِ تَعَالَى، وَهَذَا أَصْلٌ ذَكَرَ أَدِلَّتَهُ المُصَنِّفُ رحمه الله فِي البابِ الأَوَّلِ، كَقَولِهِ تَعَالَى:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإِسْرَاء: 23]، وَكَقَولِهِ تَعَالَى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذَّارِيَات: 56]، وَكَقَولِهِ تَعَالَى:{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيئًا} [النِّسَاء: 36]، وَكَقَولِهِ تَعَالَى أَيضًا {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيئًا} [الأنْعَام: 151].
- الفَرْقُ بَينَ النَّذْرِ لِغَيرِ اللهِ وَبَينَ نَذْرِ مَعْصِيَةِ اللهِ
(2)
:
1 -
النَّذْرُ لِغَيرِ اللهِ: هُوَ شِرْكٌ، وَلَا يَنْعَقِدُ إِطْلَاقًا، وَلَا تَجِبُ فِيهِ كَفَّارَةٌ؛ وإنّما تَجِبُ فِيهِ التَّوبَةُ، وَمِنَ التَّوبَةِ قَولُ:(لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)
(3)
.
(1)
القَولُ المُفِيدُ (1/ 235).
(2)
وَكِلَاهُمَا مَعْصِيَةٌ أَصْلًا.
(3)
قَالَ الخَطَّابِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ مَعَالِمُ السُّنَنِ (4/ 45) -تَعْلِيقًا عَلَى حَدِيثِ الحَلِفِ بِاللَّاتِ وَالعُزَّى-: "فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الحَلِفَ بِاللَّاتِ لَا يَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ اليَمِينِ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ الإِنَابَةُ وَالاسْتِغْفَارُ".
2 -
نَذْرُ المَعْصِيَةِ: لَيسَ مِنَ الشِّرْكِ بَلْ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ المَعَاصِي، وَهُوَ مُنْعَقِدٌ، وَلَا يَجُوزُ الوَفَاءُ بِهِ، وَفِيهِ الكَفَّارَةُ.
قَالَ صَاحِبُ فَتْحِ المَجِيدِ: "قَالَ شَيخُ الإِسْلَامِ رحمه الله: وَأَمَّا مَا نُذِرَ لِغَيرِ اللهِ كَالنَّذْرِ لِلأَصْنَامِ وَالشَّمْسِ وَالقَمَرِ وَالقُبُورِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَحْلِفَ بِغَيرِ اللهِ مِنَ المَخْلُوقَاتِ، وَالحَالِفُ بِالمَخْلُوقَاتِ لَا وَفَاءَ عَلَيهِ وَلَا كَفَّارَةٌ
(1)
، وَكَذَلِكَ النَّاذِرُ لِلمَخْلُوقَاتِ؛ فَإِنَّ كِلَاهُمَا شِرْكٌ، وَالشِّرْكُ لَيسَ لَهُ حُرْمَةٌ، بَلْ عَلَيهِ أَنْ يَسْتَغْفِرَ اللهَ مِنْ هَذَا وَيَقُولَ مَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:((مَنْ حَلَفَ وَقَالَ فِي حَلِفِهِ: وَاللَّاتِ وَالعُزَّى؛ فَلْيَقُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) "
(2)
.
- كَفَّارَةُ النَّذْرِ هِيَ كَفَّارَةُ اليَمِينِ.
عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ مَرْفُوعًا: ((كَفَّارَةُ النَّذْرِ كَفَّارَةُ اليَمِينِ))
(3)
.
وَكَفَّارَةُ اليَمِينِ بيَّنَهَا قَولُهُ تَعَالَى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المَائِدَة: 89].
(1)
قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: "مَنْ حَلَفَ بِالكَعْبَةِ وَبِالصَّفَا وَالمَرْوَةِ؛ فَلَيسَ عَلَيهِ كَفَّارَةٌ؛ لِأَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ". اُنْظُرْ كِتَابَ العُلُوُّ لِلعَلِيِّ الغَفَّارِ لِلحَافِظِ الذَّهَبِيِّ رحمه الله (ص 116).
(2)
فَتْحُ المَجِيدِ (ص 158).
(3)
صَحِيحُ مُسْلِم (1645).
- أَنْوَاعُ النَّذْرِ -مِنْ جِهَةِ الابْتِدَاءِ-:
1 -
نَذْرُ الشَّرْطِ
(1)
.
وَيَكُونُ بِاشْتِرَاطِ فِعْلِ أَمْرٍ للهِ تَعَالَى فِي مُقَابِلِ قَضَاءِ اللهِ تَعَالَى لِأَمْرٍ مَا، وَهَذَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ
(2)
، وَهُوَ كَقَولِ القَائِلِ:"يَا رَبِّ؛ إِنْ فَعَلْتَ كَذَا؛ فَعَلْتُ أَنَا كَذَا"!!
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: (أَنَّهُ نَهَى عَنِ النَّذْرِ، وَقَالَ: إِنَّهُ لَا يَأْتِي بِخَيرٍ! وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ البَخِيلِ))
(3)
.
وَلَكِنَّ الوَفَاءَ بِهِ وَاجِبٌ إِنْ كَانَ طَاعَةً للهِ تَعَالَى
(4)
.
2 -
نَذْرٌ مُطْلَقٌ.
وَيَكُونُ ابْتِدَاءً مِنْ بَابِ التَّقَرُّبِ إِلَى اللهِ تَعَالَى، أَوِ الشُّكْرِ لَهُ تَعَالَى عَلَى نِعَمِهِ، وَلَيسَتْ هِيَ فِي مُقَابَلَةِ أَمْرٍ مَا عَلَى سَبِيلِ أَدَاءِ الشَّرْطِ كَمَا سَبَقَ، كَمَا لَوْ قَالَ قَائِلٌ مِنْ بَابِ الشُّكْرِ عَلَى نِعْمَةٍ اسْتَجَدَّتْ عَلَيهِ:"لِلَّهِ عَلَيَّ شَاةٌ".
وَهَذَا النَّذْرُ المُطْلَقُ هُوَ قُرْبَةٌ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَولُهُ تَعَالَى:{وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [البَقَرَة: 270].
(1)
أَو نَذْرُ المُجَازَاةِ.
(2)
وَحُكْمُ أَهْلِ العِلْمِ فِيهِ بَينَ الكَرَاهَةِ وَالتَّحْرِيمِ.
(3)
مُسْلِمٌ (1639).
وَفِي الحَدِيثِ أَيضًا: ((لَا تَنْذِرُوا؛ فَإِنَّ النَّذْرَ لَا يُغْنِي مِنَ القَدَرِ شَيئًا! وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ البَخِيلِ)). صَحِيحِ مُسْلِمٍ (1640) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا.
(4)
قَالَ التِّرْمِذِيُّ رحمه الله في (الجَامِعِ)(3/ 164) عَقِبَ الحَدِيثِ: "وَالعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ العِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَغَيرِهِمْ، كَرِهُوا النَّذْرَ، وقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ المُبَارَكِ: مَعْنَى الكَرَاهِيَةِ فِي النَّذْرِ فِي الطَّاعَةِ وَالمَعْصِيَةِ، وَإِنْ نَذَرَ الرَّجُلُ بِالطَّاعَةِ فَوَفَّى بِهِ؛ فَلَهُ فِيهِ أَجْرٌ وَيُكْرَهُ لَهُ النَّذْرُ".
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله: "وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَولِهِ تَعَالَى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} قَالَ: كَانُوا يَنْذِرُونَ طَاعَةَ اللهِ مِنَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالزَّكَاةِ وَالحَجِّ وَالعُمْرَةِ وَمِمَّا افْتُرِضَ عَلَيهِم؛ فَسَمَّاهُمُ اللهُ أَبْرَارًا. وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ الثَّنَاءَ وَقَعَ فِي غَيرِ نَذْرِ المُجَازَاةِ"
(1)
.
- وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الوَفَاءِ بِهِ:
1 -
مَا يَجِبُ الوَفَاءُ بِهِ.
وَهُوَ نَذْرُ الطَّاعَةِ، وَفِي البُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا:((مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلَا يَعْصِهِ))
(2)
.
وَفِي الحَدِيثِ: ((إِنَّ النّذْرَ نَذْرَانِ، فَمَا كَانَ للهِ؛ فَكَفَّارَتُهُ الوَفَاءُ بِهِ، وما كَانَ لِلشَّيطانِ؛ فَلَا وَفَاءَ لَهُ، وَعَلَيهِ كَفَّارَةَ يَمِينٍ))
(3)
.
2 -
مَا يَحْرُمُ.
وَهُوَ نَذْرُ المَعْصِيَةِ لِمَا سَلَفَ، وَلِقَولِهِ فِي حَدِيثِ البَابِ السَّابِقِ:((فَإنَّهُ لَا وَفَاءَ لِنِذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ))، وَفِيهِ الكفَّارةُ.
3 -
مَا يُكْرَهُ.
وَهُوَ نَذْرُ المَكْرُوهِ، كَأَنْ يَكُونَ المَنْذُورُ مِمَّا ثَبَتَتْ كَرَاهَتُهُ شَرْعًا، كَأَكْلِ الثَّومِ وَالبَصَلِ؛ فَهَذَا يُكْرَهُ الوَفَاءُ بِهِ، وَيُسْتَحَبُّ لَهُ الكَفَّارَةُ.
(1)
فَتْحُ البَارِي (11/ 579).
(2)
البُخَارِيُّ (6696).
(3)
صَحِيحٌ. البَيِهَقِيُّ فِي الكُبْرَى (20078) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَة (479).
4 -
مَا يُبَاحُ.
وَهُوَ نَذْرُ المُبَاحِ، كَنَذْرِ الأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالرُّكُوبِ وَالسَّفَرِ، وَغَيرِ ذَلِكَ مِنَ المُبَاحَاتِ، فَيَقُولُ النَّاذِرُ فِيهِ:"لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَلْبِسَ ثَوبِي، أَوْ أَرْكَبَ دَابَّتِي"، وَهَذَا مُخَيَّرٌ بَينَ فِعْلِهِ وَكَفَّارَةِ اليَمِينِ.
5) نَذْرُ اللَّجَاجِ وَالغَضَبِ.
وَهَذَا المَقْصُودُ مِنْهُ الحَثُّ أَوِ المَنْعُ أَوِ التَّصْدِيقُ أَوِ التَّكْذِيبُ، كَقَولِ القَائِلِ:"للهِ عَلَيَّ نَذْرٌ إِنْ كَانَ هَذَا صَحِيحًا"، فَهُوَ كَالسَّابِقِ مُخَيَّرٌ فِيهِ
(1)
.
(1)
وَأَضَافَ إِلَيهَا بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ قِسْمًا سَادِسًا وَهُوَ النَّذْرُ المُطْلَقُ، وَهُوَ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ نَذْرُهُ، كَقَولِ القَائِلِ:"للهِ عَلَيَّ نَذْرٌ"؛ فَهَذَا كَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ لِحَدِيثِ: ((كَفَّارَةُ النَّذْرِ إِذَا لَمْ يُسَمِّ كَفَّارَةُ يَمِينِ)). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ (1528) عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ مَرْفُوعًا. وَالحَدِيثُ صَحَّحَهُ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله دُونَ زِيَادَةِ (وَلَمْ يُسَمِّ) وَهِيَ مَوضِعُ الشَّاهِدِ. اُنْظُرْ ضَعِيفَ الجَامِعِ (5862).
بَابُ مِنَ الشِّرْكِ الِاسْتِعَاذَةُ بِغَيرِ اللهِ
وَقَولُ اللهِ تَعَالَى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجِنّ: 6].
وَعَنْ خَولَةَ بِنْتِ حَكِيمٍ رضي الله عنها؛ قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ((مَنْ نَزَلَ مَنْزِلًا فقَالَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ؛ لَمْ يَضُرَّهُ شَيءٌ حَتّىَ يَرْحَلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ
(1)
.
(1)
مُسْلِمٌ (2708).
فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: تَفْسِيرُ آيَةِ الجِنِّ.
الثَّانِيَةُ: كَونُهُ مِنَ الشِّرْكِ.
الثَّالِثَةُ: الِاسْتِدْلالُ عَلَى ذَلِكَ بِالحَدِيثِ، لِأَنَّ العُلَمَاءَ يَسْتَدِلُّونَ بِهِ عَلَى أَنَّ كَلِمَاتِ اللهِ غَيرُ مَخْلُوقَةٍ لِأَنَّ الِاسْتِعَاذَةَ بِالمَخْلُوقِ شِرْكٌ.
الرَّابِعَةُ: فَضِيلَةُ هَذَا الدُّعَاءِ مَعَ اخْتِصَارِهِ.
الخَامِسَةُ: أَنَّ كَونَ الشَّيءِ يَحْصُلُ بِهِ مَنْفَعَةٌ دُنْيَوِيَةٌ مِنْ كَفِّ شَرٍّ أَو جَلْبِ نَفْعٍ؛ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيسَ مِنَ الشِّرْكِ!
الشَّرْحُ
- قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ
(1)
: "وَقَولُهُ: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} أَي: كُنَّا نَرَى أَنَّ لَنَا فَضْلًا عَلَى الإِنْسِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعُوذُونَ بِنَا إِذَا نَزَلُوا وَادِيًا أَو مَكَانًا مُوحِشًا مِنَ البَرَارِي وَغَيرهَا -كَمَا كَانَتْ عَادَةُ العَرَبِ فِي جَاهِلِيَّتهَا- يَعُوذُونَ بِعَظِيمِ ذَلِكَ المَكَانِ مِنَ الجَانِّ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِشَيءٍ يَسُوءُهُم؛ كَمَا كَانَ أَحَدُهُمْ يَدْخُلُ بِلَادَ أَعْدَائِهِ فِي جِوَارِ رَجُل كَبِيرٍ وَذِمَامِهِ وَخِفَارَتِهِ، فَلَمَّا رَأَتِ الجِنُّ أَنَّ الإِنْسَ يَعُوذُونَ بِهِمْ مِنْ خَوفهمْ مِنْهُمْ زَادُوهُمْ رَهَقًا -أَي: خَوفًا وَإِرْهَابًا وَذُعْرًا- حَتَّى بَقُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ مَخَافَةً، وَأَكْثَرَ تَعَوُّذًا بِهِمْ، كَمَا قَالَ قَتَادَةُ: {فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} أَي: إِثْمًا، وَازْدَادَتِ الجِنُّ عَلَيهِمْ بِذَلِكَ جَرَاءَةً".
- قَولُهُ: (اسْتَعَاذَ) هُوَ عَلَى وَزْنِ (اسْتَفْعَلَ)، وَهَذَا البِنَاءُ (الأَلِفُ وَالسِّينُ وَالتَّاءُ) يَدُلُّ عَلَى أَحَدِ مَعْنَيَينِ لُغَةً:
1 -
الطَّلَبِ.
كَحَدِيثِ مُسْلِمٍ القُدْسِيِّ: ((يَا ابْنَ آدَمَ اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي))
(2)
، وَأَيضًا حَدِيثِ مُسْلِمٍ القُدْسِيِّ الآخَرِ:((يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيتُهُ؛ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ))
(3)
.
(1)
تَفْسِيرُ ابْنِ كَثِيرٍ (8/ 239).
(2)
مُسْلِمٌ (2569) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا.
(3)
مُسْلِمٌ (2577) عَنْ أَبِي ذَرٍّ مَرْفُوعًا.
2 -
كَثْرَةِ الوَصْفِ فِي الفِعْلِ.
كَقَولِهِ تَعَالَى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البَقَرَة: 34]. وَالمَعْنَى أَنَّ إِبْلِيسَ زَادَ فِي كِبْرِهِ وَتَعَاظَمَ، وَمِثْلِ قَولِهِ تَعَالَى أَيضًا {وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [التَّغَابُن: 6].
- الاسْتِعَاذَةُ: طَلَبُ العَوذِ.
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله: "وَالِاسْتِعَاذَةُ: هِيَ الِالْتِجَاءُ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَالِالْتِصَاقُ بِجَنَابِهِ مِنْ شَرِّ كُلِّ ذِي شَرٍّ، وَالعِيَاذَةُ تَكُونُ لِدَفْعِ الشَّرِّ، وَاللِّيَاذُ يَكُونُ لِطَلَبِ جَلْبِ الخَيرِ.
كَمَا قَالَ المُتَنَبِّي -مَادِحًا لِرَجُلٍ؛ وَلَا يَصْلُحُ مَا قَالَ إِلَّا للهِ تَعَالَى-:
يَا مَنْ أَلُوذ بِهِ فِيمَا أُؤَمِّلهُ
…
وَمَنْ أَعُوذ بِهِ مِمَّنْ أُحَاذِرهُ
لَا يَجْبُرُ النَّاسُ عَظْمًا أَنْتَ كَاسِره
…
وَلَا يَهِيضُونَ عَظْمًا أَنْتَ جَابِرُهُ"
(1)
.
- الاسْتِعَاذَةُ تَتَضَمَّنُ عَمَلَينِ:
1 -
عَمَلًا بَاطِنًا.
وَهُوَ تَوَجُّهُ القَلْبِ وَسَكَنُهُ وَاضْطِرَارُهُ وَحَاجَتُهُ إِلَى هَذَا المُسْتَعَاذِ بِهِ، وَاعْتِصَامُهُ بِهِ، وَتَفْوِيضُ أَمْرِ نَجَاتِهِ إِلَيهِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ لِغَيرِ اللهِ وَحْدَهُ سَوَاءً كَانَ المَطْلُوبُ فِي طَاقَةِ المَخْلُوقِ أَمْ لَا.
2 -
عَمَلًا ظَاهِرًا.
وَهُوَ الطَّلَبُ، وَهَذَا القَدْرُ وَحْدَهُ يَجُوزُ مِنَ المَخْلُوقِ إِذَا اجْتَمَعَتْ فِيهِ ثَلَاثُ
(1)
تَفْسِيرُ ابْنِ كَثِيرٍ (1/ 114).
خِصَالٍ: حَيٌّ، حَاضِرٌ، قَادِرٌ، وَخُلَاصَتُهُ: أَنَّ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيهِ إِلَّا اللهُ؛ فَإِنَّ طَلَبَهُ مِنْ غَيرِ اللهِ شِرْكٌ.
وَفِي الحَدِيثِ ((سَتَكُونُ فِتَنٌ؛ القَاعِدُ فِيهَا خَيرٌ مِنَ القَائِمِ، وَالقَائِمُ خَيرٌ مِنَ المَاشِي، وَالمَاشِي فِيهَا خَيرٌ مِنَ السَّاعِي، مَنْ تَشَرَّفَ لَهَا تَسْتَشْرِفْهُ، فَمَنْ وَجَدَ مَلْجَأً أَو مَعَاذًا فَلْيَعُذْ بِهِ))
(1)
.
- الجِنُّ: جَمْعُ جِنِّي، وَسُمُّوا بِالجِنِّ لِاجْتِنَانِهِم، أَي: اسْتِتَارِهِم عَنِ الأنْظارِ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الجَنِينُ جَنِينًا لِأَنَّهُ لَا يُرَى فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَمِنْهُ المِجَنُّ الَّذِي يُتَّخَذُ فِي الحَرْبِ يَتَوَقَّى بِهِ المُقَاتِلُ سِهَامَ العَدُوِّ؛ فَهُوَ يُجِنُّهُ مِنَ السِّهَامِ، وَمِنْهُ ((الصَّومُ جُنَّةٌ))
(2)
أَي: سَاتِرٌ بَينَ العَبْدِ وَبَينَ المَعَاصِي وَالنَّارِ
(3)
.
- الاسْتِعَاذَةُ بِغَيرِ اللهِ تَعَالَى مَنْهِيٌّ عَنْهَا مِنْ أَوجُهٍ
(4)
:
1 -
أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالاسْتِعَاذَةِ بِهِ.
قَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفَلَقْ: 1] وَهَذَا أَمْرٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ عِبَادَةٌ، فَجَعْلُهَا لِغَيرِهِ شِرْكٌ.
وَكَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ
(1)
البُخَارِيُّ (3601)، وَمُسْلِمٌ (2886) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا.
(2)
صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (8058) عَنْ مُعَاذٍ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (1122).
(3)
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله فِي الفَتْحِ (6/ 460): "قَالَ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ: الجِنُّ عَلَى مَرَاتِبَ، فَالأَصْلُ جِنِّيٌّ؛ فَإِنْ خَالَطَ الإِنْسَ قِيلَ: عَامِرٌ. وَمَنْ تَعَرَّضَ مِنْهُمْ لِلصِّبْيَانِ قِيلَ: أَرْوَاحٌ. وَمَنْ زَادَ فِي الخُبْثِ قِيلَ: شَيطَانٌ. فَإِنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ قِيلَ: مَارِدٌ. فَإِنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ قِيلَ: عِفْرِيتٌ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: العِفْرِيتُ مِنَ الجِنِّ هُوَ العَارِمُ الخَبِيثُ. وَإِذَا بُولِغَ فِيهِ قِيلَ: عِفْرِيتٌ نِفْرِيتٌ".
(4)
إِعَانَةُ المُسْتَفِيدِ (1/ 257) بِتَصَرُّفٍ وَزِيَادَةٍ.
رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [المُؤْمِنُون: 97 - 98].
2 -
أَنَّ الاسْتِعَاذَةَ بِغَيرِ اللهِ هِيَ مِنْ أَعْمَالِ المُشْرِكِينَ، لِأَنَّ الجِنَّ ذَكَرُوهَا عَنِ الجَاهِلِيَّةِ قَبْلَ سَمَاعِهِم لِلقُرْآنِ.
3 -
أَنَّ غَيرَ اللهِ تَعَالَى لَا يَمْلِكُ كَشْفَ الضُّرِّ، وَلَا جَلْبَ النَّفْعِ.
قَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَفَرَأَيتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزُّمَر: 38] فَصَارَ ذَلِكَ مِنَ اتِّخَاذِ الأَنْدَادِ مَعَ اللهِ تَعَالَى.
4 -
أَنَّ الاسْتِعَاذَةَ هِيَ مِنَ الدُّعَاءِ، وَدُعَاءُ غَيرِ اللهِ تَعَالَى شِرْكٌ.
قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} [يُونُس: 106].
قَالَ الإِمَامُ الطَّبَرِيُّ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ: " {فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} يَقُولُ: مِنَ المُشْرِكِينَ بِاللهِ، الظَّالِمِي أَنْفُسِهِم"
(1)
.
وَكَمَا فِي نَفْسِ سُورَةِ الجِنِّ: {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا} [الجِنّ: 20].
- فِي الآيَةِ الكَرِيمَةِ تَحْرِيمُ الاسْتِعَاذَةِ بِغَيرِ اللهِ تَعَالَى، وَأَنَّ مَنِ التَجَأَ إِلَى غَيرِ اللهِ خَذَلَهُ اللهُ، وَفِيهَا إِثْبَاتُ وُجُودِ الجِنِّ؛ وَأَنَّ فِيهِم رِجَالًا وَنِسَاءً.
- قَولُهُ تَعَالَى: {فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} يَعْنِي خَوفًا وَاضْطِرَابًا فِي القَلْبِ؛ أَوجَبَ لَهُم الإِرْهَاقَ، وَ (الرَّهَقُ) يَكُونُ فِي الأَبْدَانِ وَالأَرْوَاحِ، فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ تَعَاظَمَتِ الجِنُّ وَزَادَ شَرُّهَا.
(1)
تَفْسِيرُ الطَّبَرِيِّ (15/ 219).
- قَولُهُ: ((بِكَلِمَاتِ اللهِ)) المُرَادُ بِالكَلِمَاتِ هُنَا: الكَلِمَاتُ الشَّرْعِيَّةُ وَالكَونِيَّةُ.
فَكَلِمَاتُهُ الدِّينِيَّةُ الشَّرْعِيَّةُ؛ هِيَ شَرْعُهُ تَعَالَى الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى عِبَادِهِ.
وَأَمَّا كَلِمَاتُهُ الكَونِيَّةُ (القَدَرِيَّةُ): فَهِيَ الَّتِي يُكَوِّنُ اللهُ بِهَا الأَشْيَاءَ وَيُقَدِّرُهَا، فَهِيَ الَّتِي لَا يُجَاوِزُهَا بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ، فَقَضَاءُ اللهِ تَعَالَى وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ لَا يَتَجَاوَزُهُ لَا البَرُّ وَلَا الفَاجِرُ.
وَفِي الحَدِيثِ: ((أَتَانِي جِبْرِيٍلُ، فَقَالَ: يَا مُحمَّدُ قُلْ، قُلْتُ: وَمَا أَقُولُ؟ قَالَ: قُلْ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ الَّتِي لَا يُجاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وذَرَأ وَبَرَأَ، وَمِنْ شَرِّ مَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمِنْ شَرِّ مَا يَعْرُجُ فِيهَا، وَمِنْ شَرِّ مَا ذَرَأ فِي الأَرْضِ وَبَرَأَ، وَمِنْ شَرِّ ما يَخْرُجُ مِنْها، وَمِنْ شَرِّ فِتَنِ اللَّيلِ وَالنَّهارِ، وَمِنْ شَرِّ كُلِّ طَارِقٍ يَطْرُقُ إِلَّا طَارِقًا يَطْرُقُ بِخَيرٍ يَا رَحْمنُ))
(1)
.
- قَولُهُ: ((التَّامَّات)) أَي: الَّتِي لَيسَ فِيهَا نَقْصٌ وَلَا عَيبٌ.
وَتَمَامُ الكَلَامِ هُوَ بِأَمْرِينِ:
1 -
الصِّدْقُ فِي الأَخْبَارِ.
2 -
العَدْلُ فِي الأَحْكَامِ.
قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأَنْعَام: 115].
- قَولُهُ: ((مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ)) أَي: مِنْ شَرِّ كُلِّ خَلْقٍ فِيهِ شَرٌّ، لِأَنَّ هُنَاكَ خَلْقًا لَيسَ
(1)
صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (15460) عَنْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنِ خُنْبُش مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَة (840).
فِيهِم شَرٌّ؛ كَالأَنْبِيَاءِ وَالمَلَائِكَةِ وَ ....
- مِنْ فِقْهِ المُصَنِّفِ رحمه الله فِي إِيرَادِ الحَدِيثِ بَعْدَ الآيَةِ هُوَ الدِّلَالَةُ عَلَى أُمُورٍ؛ مِنْهَا:
1 -
أَنَّ الاسْتِعَاذَةَ تَجُوزُ بِصِفَاتِهِ تَعَالَى أَيضًا.
وَكَمَا فِي الحَدِيثِ: ((أَعُوذُ بِاللهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ وَأُحَاذِرُ)). مُسْلِمٌ
(1)
.
2 -
الإِرْشَادُ إِلَى الأُسْلُوبِ النَّبَوِيِّ فِي الدَّعْوَةِ: أَنَّكَ إِذَا أَغْلَقْتَ بَابًا مِنَ الشَّرِّ فَافْتَحْ عِوَضًا عَنْهُ بَابًا مِنَ الخَيرِ.
مِثَالُهُ: قَولُهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البَقَرَة: 104].
- فَائِدَةٌ: كَلَامُ اللهِ تَعَالَى صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ وَلَيسَ بِمَخْلُوقٍ، وَدَلَّ لِذَلِكَ الحَدِيثُ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الاسْتِعَاذَةَ لَا تَجُوزُ إِلَّا بِاللهِ تَعَالَى أَو بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ.
قَالَ أَبُو دَاوُد صَاحِبُ السُّنَنِ رحمه الله عَقِبَ حَدِيثِ ((أُعِيذُكُمَا بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّةِ مِنْ كُلِّ شَيطَانٍ وَهَامَّةٍ وَمِنْ كُلِّ عَينٍ لَامَّةٍ))
(2)
: "هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ القُرْآنَ لَيسَ بِمَخْلُوقٍ"
(3)
.
(1)
مُسْلِمٌ (2202).
وَكَمَا فِي الحَدِيثِ: ((اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ (486) عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا، وبَوَّبَ البُخَارِيُّ رحمه الله (8/ 134) فِي كِتَابِ الأَيمَانِ وَالنُّذُورِ:(بَابُ الحَلِفِ بِعِزَّةِ اللهِ وَصِفَاتِهِ وَكَلِمَاتِهِ).
(2)
صَحِيحُ أَبِي دَاوُدَ (4737) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا.
(3)
سنن أبي داود (7/ 117).
مَسَائِلُ عَلَى البَابِ
-
المَسْأَلَةُ الأُولَى: قَولُ القَائِلِ: "أَعُوذُ بِاللهِ وَبِكَ"، مَا حُكْمُهُ؟
الجَوَابُ:
حُكْمُهُ عَلَى دَرَجَتَينِ:
1 -
شِرْكٍ أَكْبَرَ: إِنْ كَانَ مَا يَعُوذُ مِنْهُ لَا يَقْدِرُ عَلَيهِ إِلَّا اللهُ تَعَالَى.
2 -
شِرْكٍ أَصْغَرَ: إِنْ كَانَ مَا يَعُوذُ مِنْهُ هُوَ مِمَّا يَقْدِرُ العَبْدُ عَلَيهِ أَيضًا. وَلَكِنَّهُ شِرْكٌ لِأَنَّهُ عَطْفٌ بِالوَاوِ، وَهُوَ مِنِ اتِّخَاذِ الأَنْدَادِ لَفْظًا، وَلَيسَ بِأَكْبَرَ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ مَا كَانَ للهِ لِغَيرِهِ تَعَالَى.
وَعَلَيهِ يَجُوزُ قَولُ: (أَعُوذُ بِاللهِ ثُمَّ بِكَ) فِيمَا يَقْدِرُ عَلَيهِ العَبْدُ.
وَجَاءَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ: "أَنَّهُ يَكْرَهُ: أَعُوذُ بِاللَّهِ وَبِكَ، وَيُجَوِّزُ أَنْ يَقُولَ: بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ. قَالَ: وَيَقُولُ: لَولَا اللهُ ثُمَّ فُلَانٌ، وَلَا تَقُولُوا: لَولَا اللهُ وَفُلَانٌ"
(1)
.
(1)
مُصَنَّفُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ (19811).
-
المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَا حُكْمُ التَّعَامُلِ مَعَ الجِنِّ؟
الجَوَابُ:
التَّعَامُلُ مَعَ الجنِّ لَا يَجُوزُ وَلَو كَانَ مُسْلِمًا
(1)
، وَدَلَّ لِذَلِكَ أُمُورٌ:
1 -
أَنَّ اسْتِمْتَاعَ الجِنِّيِّ بِالإِنْسِيِّ؛ وَالإِنْسِيِّ بِالجِنِّيِّ مُحَرَّمٌ فِي ظَاهِرِ نُصُوصِ الشَّرِيعَةِ.
قَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأَنْعَام: 128]، وَلَمْ يَأْتِ مَا يُخَصِّصُ هَذِهِ الآيَةَ، وَالاسْتِعَاذَةُ بِهِم هِيَ مِنْ جِنْسِ الاسْتِمْتَاعِ بِهِم.
2 -
أَنَّ تَسْخِيرَ الجِنِّ هُوَ مِمَّا خُصَّ بِهِ سُلَيمَانُ عليه السلام، وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ بَعْدَهُ.
(1)
وَلَو كَانَ المَقْصُودُ هُوَ اسْتِخْدَامَ الجِنِّ المُسْلِمِ بِغَرَضِ العِلَاجِ مِنَ المَسِّ، أَو فِي قَضَاءِ حَاجَاتِ المُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ لِكَونِهِ مُخَالِفًا لِلسُّنَّةِ العَمَلِيَّةِ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلِأَصْحَابِهِ الكِرَامِ. اُنْظُرْ أَشْرِطَةَ فَتَاوَى سِلْسِلَةِ الهُدَى وَالنُّورِ (ش 455) لِلشَّيخِ الأَلْبَانِيِّ رحمه الله، وَاُنْظُرْ أَيضًا أَشْرِطَةَ شَرْحِ العَقِيدَةِ الوَاسِطِيَّة (ش 28) لِلشَّيخِ صَالِحِ الفَوزَانِ حَفِظَهُ اللهُ، وَاُنْظُرْ أَيضًا أَشْرِطَةَ شَرْحِ العَقِيدَةِ الوَاسِطِيَّةِ (ش 4) لِلشَّيخِ عَبْدِ العَزِيزِ بْنِ بَازٍ رحمه الله، خِلَافًا لِمَا نُقِلَ عَنْ شَيخِ الإِسْلَامِ رحمه الله فِي جَوَازِ ذَلِكَ -أَو مَا قَدْ يُفْهَمُ فِي جَوَازِ ذَلِكَ- كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي مَجْمُوعِ الفَتَاوَى (13/ 87) حَيثُ قَالَ رحمه الله:"النَّوعُ الثَّالِثُ: أَنْ يَسْتَعْمِلَهُمْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَمَا يُسْتَعْمَلُ الْإِنْسُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ فَيَأْمُرَهُمْ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ، وَيَنْهَاهُمْ عَمَّا نَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ كَمَا يَأْمُرُ الْإِنْسَ وَيَنْهَاهُمْ، وَهَذِهِ حَالُ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم وَحَالُ مَنْ اتَّبَعَهُ وَاقْتَدَى بِهِ مِنْ أُمَّتِهِ وَهُمْ أَفْضَلُ الْخَلْقِ، فَإِنَّهُمْ يَأْمُرُونَ الْإِنْسَ وَالْجِنَّ بِمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ". وَرَاجِعْ لِزَامًا كَلَامَ الشَّيخِ صَالِحِ آلِ الشَّيخِ حَفِظَهُ اللهُ فِي أَشْرِطَةِ شَرْحِ العَقِيدَةِ الطَّحَاوِيَّةِ (ش 49) فِي بَيَانِ تَوجِيهِ كَلَامِ شَيخِ الإِسْلَامِ رحمه الله.
كَمَا ورَدَ فِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أَنَّهُ قَالَ: ((إِنَّ عِفْرِيتًا مِنَ الجِنِّ تَفَلَّتَ البَارِحَةَ لِيَقْطَعَ عَلَيَّ صَلَاتِي؛ فَأَمْكَنَنِي اللهُ مِنْهُ، فَأَخَذْتُهُ فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْبُطَهُ عَلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي المَسْجِدِ حَتَّى تَنْظُرُوا إِلَيهِ كُلُّكُمْ؛ فَذَكَرْتُ دَعْوَةَ أَخِي سُلَيمَانَ: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [ص: 35] فَرَدَدْتُهُ خَاسِئًا))
(1)
.
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله: "وَفِي هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ تَرَكَهُ رِعَايَةً لِسُلَيمَانَ عليه السلام"
(2)
.
3 -
أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حِينَ دَعَا الجِنَّ إِلَى الإِسْلَامِ نَهَى ابْنَ مَسْعُودٍ عَنْ تَكْلِيمِهِم، وَنَهَاهُ أَنْ يَبْرَحَ مَكَانَهُ؛ فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى مَنْعِ التَّعَامُلِ مَعَهُم، كَمَا فِي الحَدِيثِ: صَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم العِشَاءَ ثُمَّ انْصَرَفَ، فَأَخَذَ بِيَدِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ حَتَّى خَرَجَ بِهِ إِلَى بَطْحَاءِ مَكّةَ، فَأَجْلَسَهُ، ثُمَّ خَطَّ عَلَيهِ خَطًّا، ثُمَّ قَالَ:((لَا تَبْرَحَنَّ خَطَّكَ؛ فَإِنَّهُ سَيَنْتَهِي إِلَيكَ رِجَالٌ، فَلَا تُكَلّمْهُمْ؛ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَلّمُوكَ))
(3)
(4)
.
(1)
البُخَارِيُّ (3423).
(2)
فَتْحُ البَارِي (6/ 459).
(3)
صَحِيحٌ. التِّرْمِذِيُّ (2861). صَحِيحُ التِّرْمِذِيِّ (2861).
(4)
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ (389) عَنْ سُهَيلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ قَالَ: أَرْسَلَنِي أَبِي إلَى بَنِي حَارِثَةَ وَمَعِي غُلَامٌ لَنَا أَو صَاحِبٌ لَنَا، فَنَادَاهُ مُنَادٍ مِنْ حَائِطٍ بِاسْمِهِ، قَالَ: وَأَشْرَفَ الَّذِي مَعِي عَلَى الحَائِطِ فَلَمْ يَرَ شَيئًا، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِأَبِي فَقَالَ: لَو شَعَرْتُ أَنَّك تَلْقَى هَذَا لَمْ أُرْسِلْكَ، وَلَكِنْ إذَا سَمِعْتَ صَوتًا فَنَادِ بِالصَّلَاةِ، فَإِنِّي سَمِعْتُ أَبَا هُرَيرَةَ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:((إِنَّ الشَّيطَانَ إِذَا نُودِيَ بِالصَّلَاةِ وَلَّى وَلَهُ حِصَاصٌ)). وَالحِصَاصُ هُوَ الضُّرَاطُ.
وَأَبُو صَالِحٍ السَّمَّانُ هُوَ ذَكْوَانُ: تَابِعِيٌّ مِنَ الوُسْطَى، وَهُوَ ثِقَةٌ ثَبْتٌ. وَالشَّاهِدُ هُنَا قَولُ ذَكْوَان:"لَو شَعَرْتُ أَنَّك تَلْقَى هَذَا لَمْ أُرْسِلْكَ".
وَفِي الأَثَرِ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه كَانَ يَقُولُ عَلَى المِنْبَرِ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ! أَصْلِحُوا عَلَيكُمْ مَثَاوِيكُمْ، وَأَخِيفُوا هَذِهِ الجِنَّانَ قَبْلَ أَنْ تُخِيفَكُمْ، فَإِنَّهُ لَنْ يَبْدُوَ لَكُمْ مُسْلِمُوهَا، وَإِنَّا وَاللَّهِ مَا سَالَمْنَاهُنَّ مُنْذُ عَادَينَاهُنَّ)
(1)
، وَالشَّاهِدُ مِنْهُ:(فَإِنَّهُ لَنْ يَبْدُوَ لَكُمْ مُسْلِمُوهَا).
إِلَّا أَنَّهُ مِمَّا يَنْبَغِي التَّفَطُّنُ لَهُ أَنَّ الجِنَّ المُسْلِمَ -وَالصَّالِحَ جَدَلًا- إِنْ حَصَلَ مِنْهُ تَعَامُلٌ مَعَ بَعْضِ المُسْلِمِينَ؛ فَلَيسَ ذَلِكَ بِحُجَّةٍ فِي شَيءٍ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُم لَيسُوا بِمَعْصُومِينَ! فَلَو حَصَلَ شَيءٌ مِنْ هَذَا التَّعَامُلِ -وَإِنْ كَانَ فِي خَيرٍ- فَهُمْ مُخْطِئُونَ فِي ذَلِكَ كَحَالِ مُسْلِمِي الإِنْسِ الصَّالِحِينَ الَّذِينَ يُعَامِلُونَهُم
(2)
.
4 -
أَنَّ الجِنِّ فِي زَمَنِ النُّبُوَّةِ كَانَ مِنْهُم مَنْ لَقِيَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَاسْتَمَعَ إِلَيهِ، وَأَسْلَمَ مَعَهُ
(3)
، وَمَعْلُومٌ أَنَّ عِنْدَهُم مِنَ القُدُرَاتِ وَالإِمْكَانَاتِ الَّتِي أَعْطَاهُم إِيَّاهَا اللهُ تَعَالَى مَا لَيسَ لِغَيرِهِم؛ وَقَدْ مَضَى زَمَنُ النُّبُوَّةِ وَزَمَنُ الصَّحَابَةِ
(4)
وَلَمْ يَجْرِ فِيهِ الاسْتِعَانَةُ بِالجِنِّ
(1)
حَسَنٌ. صَحِيحُ الأَدَبِ المُفْرَدِ (347).
(2)
أَفَادَهُ الشَّيخُ الأَلْبَانِيِّ رحمه الله فِي أَشْرِطَةِ فَتَاوَى سِلْسِلَةِ الهُدَى وَالنُّورِ (ش 952).
(3)
كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى عَنْهُم فِي سُورَةِ الجِنِّ: {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا} [الجِنّ: 13].
(4)
رَوَى أَحْمَدُ رحمه الله فِي كِتَابِ (فَضَائِلُ الصَّحَابَةِ)(ص 304): عَنْ أَبِي مُوسَى الأشعريِّ؛ أَنَّهُ أبطأَ عَلَيهِ خَبَرُ عُمَرَ؛ وَكَانَ هُنَاكَ امْرَأَةٌ لَهَا قَرِينٌ مِنَ الجِنِّ، فَسَأَلَهُ عَنْهُ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ تَرَكَ عُمَرَ يَسِمُ إِبِلَ الصَّدَقَةِ. وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ.
وَفِي خَبَرٍ آخَرَ أَنَّ عُمَرَ أَرْسَلَ جَيشًا، فَقَدِمَ شَخْصٌ إِلَى المَدِينَةِ فَأَخْبرَ أَنَّهُم انْتَصَرُوا عَلَى عَدُوِّهِم وَشَاعَ الخَبَرُ، فَسَأَلَ عُمَرُ عَنْ ذَلِكَ فذُكِرَ لَهُ، فَقَالَ:(هَذَا أَبُو الهَيثَمِ بَرِيدُ المُسْلِمِينَ مِنَ الجِنِّ، وَسَيَأْتِي بَرِيدُ الإِنْسِ بَعْدَ ذَلِكَ)، فَجَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ بِعِدَّةِ أَيَّامٍ. أَورَدَهُ بَدْرُ الدِّينِ الشُّبليُّ فِي كِتَابِ (آكَامُ المَرْجَان فِي أَحْكَامِ الجَانِّ)(ص 139) بِدُونِ سَنَدٍ. اُنْظُرْ كِتَابَ (المُنْتَخَبُ مِنْ كُتُبِ شَيخِ الإِسْلَامِ ابْنِ تَيمِيَّة)(ص 99) لِلشَّيخِ عَلَوِيّ السَّقَّافِ.
-حَتَّى المُسْلِمَ مِنْهَا-، فَكَانَ هَذَا الأَمْرُ بِمَثَابَةِ إِجْمَاعٍ مِنْهُم عَلَى عَدَمِ مَشْرُوعيَّتِهِ. وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي كِتَابِهِ (الآدَابُ الشَّرْعِيَّةُ): "قَالَ أَحْمدُ رحمه الله فِي الرَّجُلِ يَزْعُمُ أَنَّهُ يُعَالِجُ المَجْنُونَ مِنَ الصَّرَعِ بِالرُّقَى وَالعَزَائِمِ، أَو يَزْعُمُ أَنَّهُ يُخَاطِبُ الجِنَّ وَيُكَلِّمُهُم، وَمْنُهم مَنْ يَخْدُمُهُ؛ قَالَ: مَا أُحِبُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَفْعَلَهُ، تَرْكُهُ أَحَبُّ إليَّ. وَهَذَا يُرَادُ بِهِ التَّحْرِيمُ، كَمَا هُوَ المَعْلُومُ مِنْ نُصُوصِ الإِمَامِ أَحْمَدَ وَأَلْفَاظِهِ"
(1)
.
5 -
سَدًّا لِذَرِيعَةِ الافْتِتَانِ بِهِم.
وَالفِتْنَةُ بِهِم حَاصِلَةٌ مِنْ وُجُوهٍ:
أ- أَنَّ الشَّيَاطِينَ الأَصْلُ فِيهِمُ الكَذِبُ؛ فَلَا يُؤْمَنُ كَذِبُ مَنْ يَزْعُمُ مِنْهُم أَنَّهُ مُسْلِمٌ أَو صَالِحٌ، فَهُم يُوقِعُونَ العَدَاوَةَ بَينَ النَّاسِ فِي كَذِبِهِم.
ب- أَنَّ الشَّيَاطِينَ لَهُم اسْتِدْرَاجٌ، فَيَتَدَرَّجُونَ مِنْ مُبَاحٍ إِلَى مَكْرُوهٍ إِلَى مُحَرَّمٍ إِلَى شِرْكٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البَقَرَة: 168].
ج- أَنَّ الاسْتِعَانَةَ بِهِم -وَهُمْ غَيرُ مُشَاهَدُونَ لَنَا- يَعْنِي الاسْتِغَاثَةَ بِهِم فِي جَمِيعِ الأَحْوَالِ، وَهَذَا يُمَاثِلُ فِعْلَ المُشْرِكِينَ مَعَ آلِهَتِهِم وَمَعَ الجِنِّ، فَقَولُ أَحَدِهِم:"أَغِثْنِي يَا فُلَانُ -بِاسْمِ الجِنِّيِّ-" أَو "أُعُوذُ بِفُلَانٍ وَفُلَانٍ -مِنَ الجِنِّ-" وَبِزَعْمِ أَنَّهُ حَيٌّ حَاضِرٌ قَادِرٌ! هَذَا ذَرِيعَةٌ لِلشِّرْكِ؛ إِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ الشِّرْكُ.
(1)
الآدَابُ الشَّرْعِيَّةُ (1/ 198).
فَاللهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي سُورَةِ الجِنِّ ضَلَالَ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَانُوا يَسْتَعِيذُونَ بِمَرَدَةِ الجِنِّ مِنْ سَائِرِ الجِنِّ، وَالاسْتِعَاذَةُ طَلَبٌ وَاسْتِعَانَةٌ، وَلَمْ يَكُونُوا يَقُولُون هَذَا إِلَّا إِذَا نَزَلُوا فِي الأَودِيَةِ! فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ كَبِيرُ الجِنِّ يَسْمَعَ كَلَامَهُم؛ وَهُمْ لَمْ يَطْلُبُوا مِنْهُ مَا لَا يَسْتَطِيعُهُ؛ وَمَعَ ذَلِكَ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى ضَلَالَهُم
(1)
(2)
.
(1)
وَإِذَا كَانَتِ الاسْتِعَانَةُ بِالجِنِّ هِيَ فِيمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيهِ إِلَّا اللهُ تَعَالَى؛ كَانَتْ حَينَئِذٍ مِنَ الشِّرْكِ الأَكْبَرِ، قَالَ تَعَالَى:{قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ * تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشُّعَرَاء: 96 - 98].
(2)
فَائِدَةٌ: وَأَمَّا زَعْمُ بَعْضِهِم -عِنْدَمَا يَصْطَدِمُ بِنُصُوصِ المَنْعِ السَّابِقَةِ الَّتِي تَمْنَعُ مِنَ التَّعَامُلِ مَعَ الجِنِّ إِطْلَاقًا- أَنَّهُ يَتَعَامَلُ مَعَ المَلَائِكَةِ؛ وَأَنَّهُ يَسْتَعِينُ بِهِم عَلَى قَضَاءِ حَاجَاتِ النَّاسِ؛ فَهُوَ زَعْمٌ بَاطِلٌ لَمْ يَدُلَّ عَلَيهِ الشَّرْعُ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَ اللهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ أَنَّ المَلَائِكَةَ خَلْقٌ مُطِيعٌ لَهُ، يَعْمَلُونَ بِأَمْرِهِ سبحانه وتعالى، فَقَالَ تَعَالَى:{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 26 - 27]، وَلَا يَخْفَى أَنَّ تَقْدِيمَ مَا حَقُّهُ التَّأْخِيرُ يُفِيدُ الحَصْرَ، فَالمَلَائِكَةُ لَا تَعْمَلُ شَيئًا مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهَا أَصْلًا إِلَّا أَنْ يَأْمُرَهَا اللهُ تَعَالَى بِهِ.
-
المَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِذَا كَانَتِ الاسْتِعَاذَةُ بِغَيرِ اللهِ شِرْكٌ؛ فَمَا الجَوَابُ عَنِ الأَحَادِيثِ الَّتِي فِيهَا الاسْتِعَاذَةُ بِرَسُولِ اللهِ
صلى الله عليه وسلم -وَبِحُضُورِهِ أَيضًا- دُونَ إِنْكَارٍ مِنْهُ عَلَى المُسْتَعِيذِ بِهِ؟
وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ البَدْرِيِّ رضي الله عنه؛ أَنَّهُ كَانَ يَضْرِبُ غُلَامَهُ، فَجَعَلَ يَقُولُ: أَعُوذُ بِاللهِ، قَالَ: فَجَعَلَ يَضْرِبُهُ، فَقَالَ: أَعُوذُ بِرَسُولِ اللهِ، فَتَرَكَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:((وَاللهِ؛ لَلَّهُ أَقْدَرُ عَلَيكَ مِنْكَ عَلَيهِ))، قَالَ: فَأَعْتَقَهُ
(1)
.
الجَوَابُ:
قَدْ سَبَقَ بَيَانُ أَنَّ الاسْتِعَاذَةَ تَجُوزُ إِذَا تَحَقَّقَتْ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ، وَهِيَ: كَونُ المَدْعُوِّ أَوِ المُسْتَعَاذِ بِهِ حَيًّا، حَاضِرًا، قَادِرًا عَلَى مَا أُعِيذَ بِهِ مِنْهُ، وَعَلَيهِ فَلَا مَحْذُورَ فِي ذَلِكَ، وَيَكُونُ الأَخْذُ بِهَا هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الأَسْبَابِ الدُّنْيَوِيَّةِ المَأْذُونِ بِهَا
(2)
، وَكُلُّ هَذَا كَانَ مُحَقَّقًا فِي هَذَا الحَدِيثِ
(3)
.
(1)
مُسْلِمٌ (1659).
(2)
وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ أَنَّ الاسْتِعَاذَةَ تَتَضَمَّنُ عَمَلَينِ:
أ- عَمَلًا بَاطِنًا؛ وَهُوَ تَوَجُّهُ القَلْبِ وَسَكَنُهُ وَاضْطِرَارُهُ وَحَاجَتُهُ إِلَى هَذَا المُسْتَعَاذِ بِهِ وَاعْتِصَامُهُ بِهِ، وَتَفْوِيضُ أَمْرِ نَجَاتِهِ إِلَيهِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ لِغَيرِ اللهِ وَحْدَهُ سَوَاءً كَانَ المَطْلُوبُ فِي طَاقَةِ المَخْلُوقِ أَمْ لَا.
ب- عَمَلًا ظَاهِرًا؛ وَهُوَ الطَّلَبُ، وَهَذَا القَدْرُ وَحْدَهُ يَجُوزُ مِنَ المَخْلُوقِ إِذَا اجْتَمَعَتْ فِيهِ ثَلَاثُ خِصَالٍ: حَيٌّ، حَاضِرٌ، قَادِرٌ.
وَخُلَاصَتُهُ أَنَّ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيهِ إِلَّا اللهُ؛ فَإِنَّ طَلَبَهُ مِنْ غَيرِ اللهِ شِرْكٌ.
كَمَا فِي البُخَارِيِّ (3601)، وَمُسْلِمٌ (2887) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا:((سَتَكُونُ فِتَنٌ القَاعِدُ فِيهَا خَيرٌ مِنَ القَائِمِ، وَالقَائِمُ خَيرٌ مِنَ المَاشِي، وَالمَاشِي فِيهَا خَيرٌ مِنَ السَّاعِي، مَنْ تَشَرَّفَ لَهَا تَسْتَشْرِفْهُ، فَمَنْ وَجَدَ مَلْجَأً أَو مَعَاذًا فَلْيَعُذْ بِهِ)).
(3)
وَمِثْلُهُ أَيضًا الحَدِيثُ الَّذِي فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ (15954) أَنَّ الحَارِثَ بْنَ يَزِيدَ البَكْرِيَّ قَالَ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:=
_________
= (أَعُوذُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ أَنْ أَكُونَ كَوَافِدِ عَادٍ) عَلَى القَولِ بِعَدَمِ شُذُوذِ == هَذِهِ اللَّفْظَةِ كَمَا ذَهَبَ إِلَيهِ الشَّيخُ الفَاضِلُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الدِّمَشْقِيَّةُ حَفِظَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (مَوسُوعَةُ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي نَقْدِ أُصُولِ فِرْقَةِ الأَحْبَاشِ وَمَنْ وَافَقَهُم فِي أُصُولِهِم)(1/ 74) حَيثُ حَسَّنَهُ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله. اُنْظُرِ التَّعْلِيقَ عَلَى حَدِيثِ الضَّعِيفَةِ (1228).
وَأَمَّا قَولُهُ فِي الحَدِيثِ: (كَوَافِدِ عَادٍ) فَهُوَ مَثَلٌ مَعْنَاهُ -كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ الأَصْفَهَانِيُّ فِي كِتَابِهِ مُحَاضَرَاتُ الأُدَبَاءِ (1/ 388) -: "وَوَافِدُ عَادٍ: هُوَ الَّذِي بَعَثُوهُ إِلَى الحَرَمِ لِيَسْتَسْقِي لَهُم؛ فَمَرَّ بِمُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرٍ؛ فَأَقَامَ عِنْدَهُ شَهْرًا يَشْرَبُ الخَمْرَ وَتُغَنِّي لَهُ الجَرَادَتَانِ، ثُمَّ أَتَى جِبَالَ مَهْرَةَ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي لَمْ أَجِئْ لِفَائِتٍ فَأُودِيهِ، وَلَا لِأَسِيرٍ فَأَفْادِيهِ، وَلَا لِمَرِيضٍ فَأُدَاوِيهِ، اللُّهُمَّ اسْقِ عَادًا مَا كُنْتَ تَسْقِيهِ! فَعَرَضَتْ لَهُم سَحَابَةٌ أَهْلَكَتْهُم". وَ (الجَرَادَتَانِ): مُغَنِّيَتَانِ مَعْرُوفَتَانِ عِنْدَ العَرَبِ.
وَلَكِنْ هُنَا يَبْقَى إِشْكَالٌ مِنْ جِهَةِ جَوَازِ العَطْفِ فِي قَولِهِ: (أَعُوذُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) حَيثُ قَدْ ثَبَتَ فِي الحَدِيثِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: مَا شَاءَ اللهُ وَشِئْتَ، فَقَالَ:((أَجَعَلْتَنِي لِلَّهِ نِدًّا؟! بَلْ مَا شَاءَ اللهُ وَحْدَهُ)). صَحِيحٌ. النَّسَائِيُّ فِي الكُبْرَى (10759). صَحِيحُ الأَدَبِ المُفْرَدِ (783).
وَالجَوَابُ عَلَيهِ -عِنْدِي- هُوَ مِنْ وَجْهَينِ:
أ- أَنْ يَكُونَ هَذَا قَبْلَ النَّهْي، وَذَلِكَ لِأَنَّ الشِّرْكَ فِي الأَلْفَاظِ لَمْ يَكُنْ قَدْ نُهِيَ عَنْهُ أَولًا، كَمَا فِي الحَدِيثِ:((إِنَّ طُفَيلًا رَأَى رُؤْيَا؛ فَأَخْبَرَ بِهَا مَنْ أَخْبَرَ مِنْكُمْ، وَإِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَقُولُونَ كَلِمَةً كَانَ يَمْنُعُنِي الحَيَاءُ مِنْكُمْ أَنْ أَنْهَاكُمْ عَنْهَا، قَالَ: لَا تَقُولُوا مَا شَاءَ اللهُ وَمَا شَاءَ مُحَمَّدٌ)). صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (20694) عَنْ طُفَيلِ بْنِ سَخْبَرَةَ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَة (138).
ب- أَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةِ: (وَرَسُولِهِ) قَدْ تَكُونُ وَهْمًا وَتَصَرُّفًا مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ -وَاللهُ أَعْلَمُ-، وَوَجْهُ ذَلِكَ يَظْهَرُ مِنْ نَاحِيَتَينِ:
الأُولَى: أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي الحَدِيثِ النَّهْيُ عَنِ العَطْفِ بِالوَاوِ بَينَ اللهِ تَعَالَى وَالرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم -كَمَا سَبَقَ فِي الحَدِيثِ-، لَا سِيَّمَا وَأَنَّ إِعَاذَةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُبَايِنَةٌ لِإِعَاذَةِ اللهِ تَعَالَى.
الثَّانِيَةُ: أَنَّ أَكْثَرَ أَلْفَاظِ الحَدِيثِ مُقْتَصِرَةٌ عَلَى قَولِهِ (أَعُوذُ بِاللهِ) فَقَط، دُونَ زِيَادَةِ (وَرَسُولِهِ)، كَمَا تَجِدُ ذَلِكَ فِي:
- تَفْسِيرُ الطَّبَرِيِّ (14/ 512).
- سُنَنُ التِّرْمِذِيِّ (3273).=
وَلِذَلِكَ لَا تَجِدُ فِي شَيءٍ مِنَ الأَحَادِيثِ أَنَّ أَحَدًا:
أ- اسْتَعَاذَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ غَائِبٌ عَنْهُ.
ب- اسْتَعَاذَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ مَوتِهِ.
ج- اسْتَعَاذَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيهِ البَشَرُ.
وَأَمَّا بِخُصُوصِ نَفْسِ الحَدِيثِ؛ فَالغُلَامُ اسْتَعَاذَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم -عِنْدَمَا رَآهُ- لِيَنْجُوَ مِنَ العَذَابِ؛ وَلَيسَ حَالَ غِيَابِهِ -لِاعْتِقَادِهِ قُوةً ذَاتِيَّةً فِي النَّفْعِ أَوِ كَشْفِ الضُّرِّ فِيهِ! -، وَدَلَّ لِذَلِكَ لَفْظُ الحَدِيثِ فِي مُصَنَّفِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ؛ وَفِيهِ:(بَينَا رَجُلٌ يَضْرِبُ غُلَامًا لَهُ -وَهُوَ يَقُولُ: أَعُوذُ بِاللَّهُ-؛ إِذْ بَصُرَ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَعُوذُ بِرَسُولِ اللهِ)
(1)
.
- فَائِدَةٌ: أَمَّا وَجْهُ تَرْكِ أَبِي مَسْعُودٍ لِضَرْبِ الغُلَامِ عِنْدَ الاسْتِعَاذَةِ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم -وَلَمْ يَكُنْ قَدْ تَرَكَهُ عِنْدَ الاسْتِعَاذَةِ بِاللهِ تَعَالَى- هُوَ لِكَونِهِ لَمْ يَعْقِلْ مَا حَولَهُ مِنَ الكَلَامِ لِشِدَّةِ الغَضَبِ؛ فَلَمَّا رَأى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَقَطَ السَّوطُ مِنْ هَيبَتِهِ -كَمَا فِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ-؛ وَفِيهِ قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ البَدْرِيُّ: كُنْتُ أَضْرِبُ غُلَامًا لِي بِالسَّوطِ؛ فَسَمِعْتُ صَوتًا مِنْ خَلْفِي: ((اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ))! فَلَمْ أَفْهَمِ الصَّوتَ مِنَ الغَضَبِ، فَلَمَّا دَنَا مِنِّي إِذَا هُوَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِذَا هُوَ يَقُولُ:((اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ؛ اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ))! قَالَ: فَأَلْقَيتُ
=
- الاسْتِيعَابُ لِابْنِ عَبْدِ البَرِّ (1/ 286).
- العَظَمَةُ لِأَبِي الشَّيخِ الأَصْبَهَانِيِّ (4/ 1320)، وَهِيَ عِنْدَهُ بِلَفْظِ:(فَأَعُوذُ بِاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ؛ أَنْ أَكُونَ كَوَافِدِ عَادٍ)، وَهَذَا أَقْرَبُ لِكَونِ لَفْظَةِ (وَرَسُولِهِ) بِالعَطْفِ وَهْمٌ أَو تَصْحِيفٌ. وَاللهُ أَعْلَمُ.
- الأحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ الكُبْرَى لِلإِشْبِيلِيِّ (4/ 212).
(1)
مُصَنَّفُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ (17957).
السَّوطَ مِنْ يَدِي. وَفِي لَفْظٍ آخَرَ لِمُسْلِمٍ أَيضًا: فَسَقَطَ مِنْ يَدِي السَّوطُ مِنْ هَيبَتِهِ، فَقَالَ:((اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ! أَنَّ اللهَ أَقْدَرُ عَلَيكَ مِنْكَ عَلَى هَذَا الغُلَامِ)). فَقُلْتُ: لَا أَضْرِبُ مَمْلُوكًا بَعْدَهُ أَبَدًا.
قَالَ القَاضِي عِيَاضُ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (إِكْمَالُ المُعْلِمِ شَرْحُ مُسْلِمٍ): "فَلَعَلَّهُ لَمْ يَسْمَعِ اسْتِعَاذَتَهُ الأُولَى لِشِدَّةِ غَضَبِهِ؛ كَمَا لَمْ يَسْمَعْ نِدَاءَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهُ -كَمَا جَاءَ فِي الحَدِيثِ-، أَو يَكُونُ لَمَّا اسْتَعَاذَ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَنَبَّهَ لِمَكَانِهِ"
(1)
.
(1)
إِكْمَالُ المُعْلِمِ (5/ 223).
بَابُ مِنَ الشِّرْكِ أَنَّ يَسْتَغِيثَ بِغَيرِ اللهِ أَو يَدْعُوَ غَيرَهُ
وَقَولُ اللهِ تَعَالَى: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ * وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يُونُس: 106 - 107].
وَقَولُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيهِ تُرْجَعُونَ} [العَنْكَبُوت: 17].
وَقَولُهُ: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأَحْقَاف: 5 - 6].
وَقَولُهُ: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النَّمْل: 62].
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادِهِ؛ أَنَّهُ كَانَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُنَافِقٌ يُؤْذِي المُؤْمِنِينَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: قُومُوا بِنَا نَسْتَغِيثُ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ هَذَا المُنَافِقِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:((إِنَّهُ لَا يُسْتَغَاثُ بِي، وَإِنَّمَا يُسْتَغَاثُ بِاَللَّهِ))
(1)
.
(1)
ضَعِيفٌ. أَحْمَدُ (22706) عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، وَابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ (1/ 387)، وَلَمْ أَعْثُرْ عَلَيهِ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ -رُغْمَ أَنَّ الهَيثَمِيَّ عَزَاهُ إِلَيهِ فِي (المَجْمَعِ)، وَلَعَلَّهُ يَكُونُ فِي القِسْمِ المَفْقُودِ مِنْ مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ-، وَلَمْ يَعْزُهُ السُّيُوطِيُّ رحمه الله -عَلَى سَعَةِ اطِّلَاعِهِ- لِغيرِهِمَا. وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ الشَّيخُ رَبِيعُ بْنُ هَادِي المَدْخَلِيُّ حَفِظَهُ اللهُ تَعَالَى فِي تَحْقِيقِهِ لِكِتَابِ (قَاعِدَةٌ جَلِيلَةٌ فِي التَّوَسُّلِ وَالوَسِيلَةِ، تَأْلِيفُ شَيخِ الإِسْلَامِ ابْنِ تَيمِيَّة رحمه الله: "اُنْظُرْ مَجْمَعَ الزَّوَائِدِ (10/ 159)، قَالَ الهيثميُّ
=
فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: أَنَّ عَطْفَ الدُّعَاءِ عَلَى الِاسْتِغَاثَةِ مِنْ عَطْفِ العَامِّ عَلَى الخَاصِّ.
الثَّانِيَةُ: تَفْسِيرُ قَولِهِ: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ} .
الثَّالِثَةُ: أَنَّ هَذَا هُوَ الشِّرْكُ الأَكْبَرُ.
الرَّابِعَةُ: أَنَّ أَصْلَحَ النَّاسِ لَو فَعَلَهُ إِرْضَاءً لِغَيرِهِ؛ صَارَ مِنَ الظَّالِمِينَ.
الخَامِسَةُ: تَفْسِيرُ الآيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا.
السَّادِسَةُ: كَونُ ذَلِكَ لَا يَنْفَعُ فِي الدُّنْيَا مَعَ كَونِهِ كُفْرًا.
السَّابِعَةُ: تَفْسِيرُ الآيَةِ الثَّالِثَةِ.
الثَّامِنَةُ: أَنَّ طَلَبَ الرِّزْقِ لَا يَنْبَغِي إِلَّا مِنَ اللهِ؛ كَمَا أَنَّ الجَنَّةَ لَا تُطْلَبُ إِلَّا مِنْهُ.
التَّاسِعَةُ: تَفْسِيرُ الآيَةِ الرَّابِعَةِ.
العَاشِرَةُ: أَنَّهُ لَا أَضَلُّ مِمَّنْ دَعَا غَيرَ اللهِ.
الحَادِيَةَ عَشْرَةَ: أَنَّهُ غَافِلٌ عَنْ دُعَاءِ الدَّاعِي لَا يَدْرِي عَنْهُ.
=
عَقِبَهُ: وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ غَيرُ ابْنِ لَهِيعَة، وَهُوَ حَسَنُ الحَدِيثِ. وَرَوَاهُ أَحْمَدُ (5/ 317): ثَنَا مُوسَى بْنُ دَاوُد، ثَنَا ابْنُ لَهِيعَة، عَنِ الحَارِثِ بْنِ يَزِيدٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبَاحٍ؛ أَنَّ رَجُلًا سَمِعَ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ يَقُولُ: خَرَجَ عَلَينَا رَسُولُ اللهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه: قُومُوا نَسْتَغِيثُ برَسُولِ اللهِ مِنْ هَذَا المُنَافِقِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ: ((لَا يُقامُ لِي، إِنَّمَا يُقَامُ للهِ تبارك وتعالى). وَرَوَاهُ ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ (1/ 387) بِهَذَا الإِسْنَادِ وَبِهَذَا اللَّفْظِ. وَمُوسَى بْنُ دَاوُد؛ هُوَ الضَّبِيُّ؛ أَبْوُ عَبْدِ اللهِ الطَرْطُوسِيُّ، صَدُوقٌ فَقِيهٌ زَاهِدٌ لَهُ أَوهَامٌ، مِنْ صِغَارِ التَّاسِعَةِ، فَيَبْدُو أَنَّه مِمَّنْ رَوَى عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ بَعْدَ اخْتِلَاطِهِ، وَفِيهِ الرَّجُلُ المَجْهُولُ الرَّاوِي عَنْ عُبَادَةَ؛ فَالحَدِيثُ عَلَى هَذَا ضَعِيفٌ".
الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: أَنَّ تِلْكَ الدَّعْوَةَ سَبَبٌ لِبُغْضِ المَدْعُوِّ لِلدَّاعِي وَعَدَاوَتِهِ لَهُ.
الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: تَسْمِيَةُ تِلْكَ الدَّعْوَةِ عِبَادَةً لِلْمَدْعُوِّ.
الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: كُفْرُ المَدْعُوِّ بِتِلْكَ العِبَادَةِ.
الخَامِسَةَ عَشْرَةَ: أَنَّ هَذِهِ الأُمُورَ هِيَ سَبَبُ كَونِهِ أَضَلَّ النَّاسِ.
السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: تَفْسِيرُ الآيَةِ الخَامِسَةِ.
السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: الأَمْرُ العَجِيبُ؛ وَهُوَ إِقْرَارُ عَبْدَةِ الأَوثَانِ أَنَّهُ لَا يُجِيبُ المُضْطَرَّ إِلَّا اللهُ، وَلِأَجْلِ هَذَا يَدَعُونَهُ فِي الشَّدَائِدِ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ.
الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: حِمَايَةُ المُصْطَفَى صلى الله عليه وسلم حِمَى التَّوحِيدِ، وَالتَّأَدُّبُ مَعَ اللهِ.
الشَّرْحُ
- كَلَامُ المُصَنِّفِ لَيسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ، بَلْ يُقيَّدُ بِمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيهِ المُسْتَغَاثُ بِهِ مِمَّا يَخْتَصُّ اللهُ تَعَالَى بِهِ، فَمَا كَانَ للهِ تَعَالَى لَا يُطْلَبُ مِنْ غَيرِهِ.
وَتَأَمَّلْ قَولَهُ تَعَالَى: {قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ * تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشُّعَرَاء: 96 - 98]. فَتَسْوِيَتُهُم بَينَ مَعْبُودَاتِهِم وَبَينَ اللهِ تَعَالَى هُوَ سَبَبُ دُخُولِهِم النَّارَ، عِلْمًا أَنَّهُم لَمْ يَعْتَقِدُوا فِيهِم الرُّبوبيّةَ! فَصَارَ فِي ذَلِكَ التَّدْلِيلُ عَلَى أَنَّ دُعَاءَ غَيرِ اللهِ فِيمَا كَانَ للهِ هُوَ الكُفْرُ الأَكْبَرُ الَّذِي لَا يُغْفَرُ.
وَتَأَمَّلْ قَولَهُ تَعَالَى أَيضًا: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأَعْرَاف: 194].
- الدُّعَاءُ هُوَ العِبَادَةُ: وَدَلَّ لِذَلِكَ الكِتَابُ وَالسُّنَّةُ.
فَفِي الحَدِيثِ: ((الدُّعَاءُ هُوَ العِبَادَةُ)) ثُمَّ قَرَأَ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غَافِر: 60]
(1)
.
- الدُّعَاءُ نَوعَانِ:
1 -
دُعَاءُ عِبَادَةٍ: كَالصَّومِ وَالصَّلَاةِ وَغَيرِ ذَلِكَ مِنَ العِبَادَاتِ.
وَسُمِّيَ دُعَاءً؛ لِأَنَّهُ دَاعٍ بِلِسَانِ حَالِهِ، فَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ يُرِيدُ الجَنَّةَ وَالبُعْدَ عَنِ النَّارِ؛ فَإِنَّهُ يُحَافِظُ عَلَى أَعْمَالِ الطَّاعَةِ للهِ، فَهُوَ دَاعٍ فِي الجُمْلَةِ، وَكَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ
(1)
صَحِيحٌ. التِّرْمِذِيُّ (2969) عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (3407).
جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غَافِر: 60]، فَجَعَلَ سُبْحَانَهُ الدُّعَاءَ عِبَادَةً، وَكَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجِنّ: 18]، وَهَذَا النَّوعُ لَا يَجُوزُ صَرْفُهُ لِغَيرِ اللهِ تَعَالَى، وَهُوَ المَقْصُودُ بِالحَدِيثِ هُنَا.
2 -
دُعَاءُ مَسْأَلَةٍ: أَي: يَدْعُو سَائِلًا بِلِسَانِهِ.
وَهَذَا النَّوعُ فِيهِ تَفْصِيلٌ مِنْ حَيثُ كَونِ المُسْتَغَاثِ بِهِ حَيًّا حَاضِرًا قَادِرًا
(1)
، كَمَا فِي قَولِهِ صلى الله عليه وسلم:((مَنْ دَعَاكُمْ فَأَجِيبُوهُ))
(2)
.
وَالنَّوعَانِ مَجْمُوعَانِ فِي قَولِهِ تَعَالَى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأَعْرَاف: 55 - 56].
- يَدُلُّ لِهَذَا التَّفْصِيلِ (الحَيِّ الحَاضِرِ القَادِرِ) نُصُوصٌ عَدِيدَةٌ، مِنْهَا: قَولُهُ تَعَالَى: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ} [الأَعْرَاف: 195]
(3)
.
(1)
قُلْتُ: مَعَ التَّأْكِيدِ عَلَى كَونِ دُعَاءِ المَدْعُوِّ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الأَسْبَابِ؛ وَأَنَّ النَّفْعَ إِنَّمَا هُوَ مِنَ اللهِ تَعَالَى.
(2)
صَحِيحٌ. أَبُو دَاود (1672) عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَة (254).
(3)
وَقَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (3/ 530) -فِي سِيَاقِ الكَلَامِ عَنْ آلِهَةِ المُشْرِكِينَ-: "وَقَولُهُ: {وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} إِنَّمَا قَالَ: {يَنْظُرُونَ إِلَيكَ} أَي: يُقَابِلُونَكَ بِعُيُونٍ مُصَوَّرَةٍ كَأَنَّهَا نَاظِرَةٌ -وَهِيَ جَمَادٌ- وَلِهَذَا عَامَلَهُم مُعَامَلَةَ مَنْ يَعْقِلُ، لِأَنَّهَا عَلَى صُوَرٍ مُصَوَّرَةٍ كَالإِنْسَانِ، فَقَالَ: {وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيكَ} فَعبَّرَ عَنْهَا بِضَمِيرِ مَنْ يَعْقِلُ".
قُلْتُ: إِنَّ ذِكْرَ الاسْتِفْهَامِ فِي هَذِهِ الأَوجُهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَدَمَهَا هُوَ سَبَبُ النَّهْيِّ
(1)
، وَأَوجُهُ الدِّلَالَةِ هِيَ:
أ - إِنَّ ذِكْرَ صِفَاتِ المَشْي وَالبَطْشِ يَدُلُّ عَلَى القُدْرَةِ.
ب- إِنَّ ذِكْرَ صِفَاتِ السَّمْعِ وَالبَصَرِ يَدُلُّ عَلَى الحُضُورِ
(2)
.
ج- إِنَّ مَجْمُوعَ هَذِهِ الصِّفَاتِ يَدُلُّ عَلَى الحَيَاةِ.
قُلْتُ: وَتَأَمَّلْ قَولَهُ تَعَالَى فِي مَعْرِضِ ذِكْرِ الأُلُوهيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ فِي أَعْظَمِ آيَةٍ فِي القُرْآنِ: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَينَ أَيدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البَقَرَة: 255]، فَاللهُ حَيٌّ سُبْحَانَهُ لَا يَمُوتُ، وَهُوَ قَيُّومٌ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ شَيءٍ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى القُدْرَةِ التَّامَّةِ، وَلَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَومٌ -وَالسِّنَةُ هِيَ: أَوَّلُ النَّومِ وَمُقَدِّمَاتُهُ- وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ المَعِيَّةِ وَالحُضُورِ وَالإِحَاطَةِ.
وَكَمَا قَالَ تَعَالَى لِمُوسَى يُطَمْئِنُهُ مِنْ بَطْشِ فِرْعَونَ: {قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا
(1)
قُلْتُ: وَالسِّيَاقُ هُوَ فِي دُعَاءِ المَسْأَلَةِ.
(2)
وفِي قَولِهِ تَعَالَى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الزُّمَر: 42] بَيَانُ أَنَّ أَرْوَاحَ الأَمْوَاتِ مُمْسَكَةٌ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى؛ بِخِلَافِ مَنْ زَعَمَ مِمَّنْ يَتَعَلَّقُ بِالأَمْوَاتِ -مِنْ ضُلَّالِ الأَحْيَاءِ- فَيَقُولُونَ: إِنَّ الأَرْوَاحَ مُطْلَقَةٌ مُتَصَرِّفَةٌ! {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} [البَقَرَة: 140].
أَسْمَعُ وَأَرَى} [طَه: 46]
(1)
.
- قَولُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ} هَذَا لِبَيَانِ الوَاقِعِ، فَإِنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللهِ لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ
(2)
، فَصَارَ فِيهِ التَّنْبِيهُ عَلَى العِلَّةِ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا مُنِعَ دُعَاءُ غَيرِ اللهِ تَعَالَى، وَأَمَّا مَا جَعَلَهُ اللهُ سَبَبًا؛ فَإِنَّمَا هُوَ مِمَّا أَذِنَ بِهِ اللهُ -قَدَرًا أَوْ شَرْعًا-، وَلَيسَ مِمَّا أَذِنَ اللهُ بِهِ أَنْ يُسْتَغَاثَ بِالأَمْوَاتِ وَالغَائِبِينَ، وَلَمْ يَجْعَلِ اللهُ تَعَالَى ذَلِكَ سَبَبًا فِي حُصُولِ المَطْلُوبِ.
- فِي الآيَةِ الاسْتِدْلَالُ بِالرُّبُوبِيَّةِ عَلَى تَوحِيدِ الأُلُوهِيَّةِ، حَيثُ جَعَلَ اللهُ عَدَمَ النَّفْعِ وَالضُّرِّ هُوَ عِلَّةَ التَّوحِيدِ فِي دُعَائِهِ وَحْدَهُ سُبْحَانَهُ.
- فِي بَيَانِ وَجْهِ النَّهْي عَنْ دُعَاءِ غَيرِ اللهِ؛ سَبَبَانِ:
1 -
أَنَّهَا لَا تَمْلِكُ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا.
2 -
أَنَّهَا لَا تَنْفَعُكَ إِذَا عَبَدْتَهَا، وَلَا تَضُرُّكَ إِذَا تَرَكْتَهَا.
- قَولُهُ تَعَالَى: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} فِيهِ تَقْدِيمُ مَا حَقُّهُ التَّأْخِيرُ لِإِفَادَةِ الحَصْرِ
(3)
، وَخَصَّ الرِّزْقَ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ أَسْبَابِ الحَيَاةِ.
(1)
وَقَدْ صَارَ عِنْدَ المُشْرِكِينَ فِي هَذِهِ الأّيَّامِ: "لَا تَخَافَا إِنَّ الوَلِيَّ مَعَكُمَا يَسْمَعُ وَيَرَى"!! فَإِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيهِ رَاجِعُونَ.
(2)
وَقَدْ سَبَقَ مَعَنَا أَنَّ القَيدَ قَدْ يَكُونُ شَرْطًا وَقَدْ لَا يَكُونُ، فَقَدْ يَأْتِي كَاشِفًا مُوَضِّحًا لِبَيَانِ العِلَّةِ.
(3)
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي التَّفْسِيرِ (6/ 251): " {فَابْتَغُوا} أَي: فَاطْلُبُوا {عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} أَي: لَا عِنْد غَيره، فَإِنَّ غَيرَهُ لَا يَمْلِكُ شَيئًا، {وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ} أَي: كُلُوا مِنْ رِزْقه وَاعْبُدُوهُ وَحْدَهُ وَاشْكُرُوا لَهُ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيكُمْ، {إِلَيهِ تُرْجَعُونَ} أَي: يَوم القِيَامَة؛ فَيُجَازِي كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ".
- قَولُهُ تَعَالَى: {وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيهِ تُرْجَعُونَ} إِشَارَةٌ إِلَى الإِخْلَاصِ فِي هَذَا الشُّكْرِ، وَأَنْ يَكُونَ للهِ وَحْدَهُ؛ كَمَا أَنَّ الحِسَابَ وَالجَزَاءَ إِلَيهِ وَحْدَهُ.
- مِمَّا يُسْتَفَادُ مِنْ هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ أَيضًا: أَنَّ الرِزْقَ الَّذِي يُنْعِمُ اللهُ جَلَّ وَعَلَا بِهِ عَلَى عِبَادِهِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَونًا عَلَى الطَّاعَةِ، فَإِنْ لَمْ يُسْتَعْمَلْ لِذَلِكَ؛ فَإِنَّ الإِنْسَانَ مُسْتَحِقٌ لِعَذَابِ اللهِ جَلَّ وَعَلَا.
- فِي الآيَةِ الكَرِيمَةِ أُسْلُوبُ التَّضْمينِ، وَالمَعْنَى:"وَاشْكُرُوا مُخْلِصِينَ لَهُ".
- فِي قَولِهِ تَعَالَى: {وَمَن? أَضَلُّ} اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى النَّفْي، أَي: لَا أَضَلَّ مِمَّنْ يَدْعُو غَيرَ اللهِ تَعَالَى.
- سَبَبُ كَونِهِ أَكْثَرَ النَّاسِ ضَلَالًا أُمُورٌ:
1 -
أَنَّهُ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ.
2 -
أَنَّ المَدْعُوِّينَ غَافِلُونَ عَنْ دُعَائِهِم.
3 -
أَنَّهُ إِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُ أَعْدَاءً.
4 -
أَنَّهُم كَافِرُونَ بِعِبَادَتِهِم.
- فِي قَولِهِ تَعَالَى: {مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} هَذِهِ فِي الأَمْوَاتِ مِنَ الصَّالِحِينَ، لِأَنَّ المَيِّتَ إِذَا كَانَ يَومَ القِيَامَةِ نُشِرَ وَصَارَ يَسْمَعُ وَرُبَّمَا أَجَابَ مَنْ طَلَبَ مِنْهُ؛ إذْ هُوَ فِي ذَلِكَ المَقَامِ حَيٌّ
(1)
، فَفِيهِ دِلَالَةٌ عَلَى أَنَّ شِرْكَ
(1)
وَمِثْلُهَا سُؤَالُ النَّاسِ لِلأَنْبِيَاءِ يَومَ القِيَامَةِ فِي مَوقِفِ الشَّفَاعَةِ الكُبْرَى، لِأَنَّهُم أَحْيَاءٌ حِينَهَا وَقَادِرُونَ عَلَى الإِجَابَةِ، أَمَّا الآنَ فِي الدُّنْيَا فَهُم أَمْوَاتٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزُّمَر: 30].
قَالَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله فِي الصَّحِيحَة (5/ 459) فِي سِيَاقِ الكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ الكُبْرَى: "وَلَيسَ فِيهِ جَوَازُ الاسْتِغَاثَةِ بِالأَمْوَاتِ -كَمَا يَتَوَهَّمُ كَثِيرٌ مِنَ المُبْتَدِعَةِ الأَمْوَاتِ-! بَلْ هُوَ مِنْ بَابِ
=
المُشْرِكِينَ كَانَ أَيضًا فِي البَشْرِ، بِخِلَافِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ شِرْكَهُم كَانَ فِي الأَحْجَارِ الصُمِّ فَقَط! كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى:{وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْوَاتٌ غَيرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النَّحْل: 20 - 21].
- قَولُهُ تَعَالَى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} فِيهِ بَيَانُ أَنَّ المُشْرِكَ يُخْلِصُ للهِ تَعَالَى فِي الشِّدَّةِ، وَأَنَّ اللهَ تَعَالَى يُجِيبُهُ -رُغْمَ أَنَّهُ مُشْرِكٌ فِي الأَصْلِ-! وَفِيهِ بَيَانُ سِرِّ قَولِهِ صلى الله عليه وسلم:((وَأَنَّ الفَرَجَ مَعَ الكَرْبِ))
(1)
.
وَهَذِهِ الإِجَابَةُ -أَي: الإِجَابَةَ عِنْدَ الكَرْبِ- سَبَبُهَا أَمْرَانِ:
1 -
أَنَّ الكَرْبَ إِذَا اشْتَدَّ وَعَظُمَ وَتَنَاهَى؛ حَصَلَ لِلْعَبْدِ الإِيَاسُ مِنْ كَشْفِهِ مِنْ جِهَةِ المَخْلُوقِينَ، وَتَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِاللَّهِ وَحْدَهُ، فَإِنَّ هَذَا هُوَ حَقِيقَةُ التَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ، وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الأَسْبَابِ الَّتِي تُطْلَبُ بِهَا الحَوَائِجُ، فَإِنَّ اللهَ يَكْفِي مَنْ تَوَكَّلَ عَلَيهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطَّلَاق: 3]
(2)
.
=
الاسْتِغَاثَةِ بِالحَيِّ فِيمَا يَقْدِرُ عَلَيهِ".
وَفِي مَجْمُوعِ الفَتَاوَى (1/ 202) ذَكَرَ شَيخُ الإِسْلَامِ رحمه الله أَنْوَاعَ التَّوَسُّلِ وَذَكَرَ فِي النَّوعِ الثَّانِي مَا نَصُّهُ: "التَّوَسُّلُ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ، وَهَذَا كَانَ فِي حَيَاتِهِ، وَيَكُونُ يَومَ القِيَامَةِ؛ يَتَوَسَّلُونَ بِشَفَاعَتِهِ".
وَفِي الحَدِيثِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ؛ قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَشْفَعَ لِي يَومَ القِيَامَةِ، فَقَالَ:((أَنَا فَاعِلٌ))، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ فَأَينَ أَطْلُبُكَ؟ قَالَ: ((اُطْلُبْنِي -أَوَّلَ مَا تَطْلُبُنِي- عَلَى الصِّرَاطِ))، قَالَ: قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَلْقَكَ عَلَى الصِّرَاطِ؟ قَالَ: ((فَاطْلُبْنِي عِنْدَ المِيزَانِ))، قَالَ: قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَلْقَكَ عِنْد المِيزَانِ؟ قَالَ: ((فَاطْلُبْنِي عِنْدَ الحَوضِ، فَإِنِّي لَا أُخْطِئُ هَذِهِ الثَّلَاثَ المَوَاطِنَ)). صَحِيحٌ. التِّرْمِذِيِّ (2433). الصَّحِيحَة (2630).
(1)
صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (2803) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَة (2382).
(2)
وَأَيضًا هُمْ يُخْلِصُونَ للهِ تَعَالَى فِي الشِّدَّةِ لِزَوَالِ مَا يُنَازِعُ الفِطْرَةَ مِنَ الهَوَى وَالتَّقْلِيدِ بِمَا دَهَاهُم مِنَ الخَوفِ الشَّدِيدِ. قَالَهُ البَيضَاوِيُّ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (4/ 352).
2 -
أَنَّ المُؤْمِنَ إِذَا اسْتَبْطَأَ الفَرَجَ وَأَيِسَ مِنْهُ بَعْدَ كَثْرَةِ دُعَائِهِ وَتَضَرُّعِهِ -وَلَمْ تَظْهَرْ لَهُ اسْتِجَابَةٌ- رَجَعَ إِلَى نَفْسِهِ بِاللَّومِ، وَهَذَا اللَّومُ أَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الطَّاعَاتِ، فَإِنَّهُ يُوجِبُ انْكِسَارَ العَبْدِ لِمَولَاهُ، وَاعْتِرَافَهَ لَهُ بِأَنَّه أَهْلٌ لِمَا نَزَلَ بِهِ مِنَ البَلَاءِ، وَأَنَّهُ لَيسَ أَهْلًا لِإِجَابَةِ الدُّعَاءِ، فَلِذَلِكَ تَسْرعُ إِلَيهِ حِينَئِذٍ إِجَابَةُ الدُّعَاءِ وَتَفْرِيجُ الكُرَبِ؛ فَإِنَّهُ تَعَالَى عِنْدَ المُنْكَسِرَةِ قُلُوبُهُم مِنْ أَجْلِهِ
(1)
.
- قَولُهُ تَعَالَى: {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ} أَي: يَخْلُفُ بَعْضُكُم بَعْضًا فِي الأَرْضِ.
- حَدِيثُ البَابِ -وَإِنْ كَانَ ضَعِيفَ السَّنَدِ- فَيَصِحُّ إِيرَادُهُ عَلَى سَبِيلِ التَّأْيِيدِ لِمَا كَانَ ثَابِتًا مِنَ الأُصُولِ.
قَالَ شَيخُ الإِسْلَامِ رحمه الله: "وَأَهْلُ الحَدِيثِ لَا يَسْتَدِلُّونَ بِحَدِيثٍ ضَعِيفٍ فِي نَقْضِ أَصْلٍ عَظِيمٍ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ! بَلْ إمَّا فِي تَأْيِيدِهِ، وَإِمَّا فِي فَرْعٍ مِنَ الفُرُوعِ"
(2)
.
- قَولُهُ: ((إِنَّهُ لَا يُسْتَغَاثُ بِي)): هُوَ مِنْ بَابِ التَّأَدُّبِ فِي الأَلْفَاظِ وَالبُعْدِ عَنِ التَّعَلُّقِ بِغَيرِ اللهِ تَعَالَى، وَأَنْ يَكُونَ تَعَلُّقَ الإِنْسَانِ دَائِمًا بِاللهِ وَحْدَهُ.
وَفِي الحَدِيثِ الصَّحِيحِ مَا يَشْهَدُ لِعُمُومِهِ، كَمَا فِي الحَدِيثِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا:((إِذَاَ سَأَلْتَ؛ فَاسْأَلِ اللهَ، وَإِذَاَ اسْتَعَنتَ؛ فَاسْتَعِن بِاللهِ))
(3)
، وَهُوَ أَيضًا مُنْتَزَعٌ مِنْ قَولِهِ تَعَالَى:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفَاتِحَة: 5]، فَفِيهِ بَيَانُ إِفْرَادِ اللهِ تَعَالَى
(1)
بِتَصَرُّفٍ يَسِيرٍ مِنْ (جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ)(1/ 494).
(2)
مَجْمُوعُ الفَتَاوَى (4/ 25).
(3)
صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (2803)، وَالتِّرْمِذِيُّ (2516). صَحِيحُ التِّرْمِذِيُّ (2516).
بِالسُّؤَالِ وَالاسْتِعَانَةِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ؛ أَنَّ تَقْدِيمَ مَا حَقُّهُ التَّأْخِيرُ يُفِيدُ الحَصْرَ
(1)
.
وَهُنَاكَ وَجْهٌ آخَرُ؛ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ بِأَنَّ المُنَافِقَ -بِسَبَبِ كَونِ كُفْرِهِ غَيرَ ظَاهِرٍ- فَإِنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُعَاقِبَهُ بِشَيءٍ لِكَونِهِ يَسْتَتِرُ بِكُفْرِهِ ولا يُظْهِرُهُ، فَصَارَ فِيهِ الدِّلَالَةُ إِلَى مَنْ بِيَدِهِ مَقَالِيدُ الأُمُورِ وَالإِطِّلَاعُ عَلَى مَا فِي الصُّدُورِ.
- إِنَّ إِفْرَادَ اللهِ تَعَالَى بِالسُّؤَالِ وَالاسْتِعَانَةِ -فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ السَّابِقِ مَثَلًا- يَكُونُ عَلَى مَرْتَبَتِينِ:
1 -
مَرْتَبَةٍ وَاجِبَةٍ: وَهِيَ التَّوحِيدُ، بِأَنْ يَسْتَعِينَ بِاللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ دُونَ مَا سِوَاهُ فِيمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيهِ إِلَّا اللهُ تَعَالَى، وَإِنَّ صَرْفَ ذَلِكَ لِغَيرِهِ تَعَالَى شِرْكٌ بِهِ.
2 -
مَرْتَبَةٍ مُسْتَحَبَّةٍ: وَهِيَ أَنَّهُ إِذَا أَمْكَنَهُ أنْ يَقُومَ بِالمَطْلُوبِ وَحْدَهُ؛ فَإِنَّهُ لَا يَسْأَلُ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ شَيئًا
(2)
.
وَهَذِهِ المَرْتَبَةُ قَدْ أَخَذَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم البَيعَةَ عَلَيهَا مِنْ عَدَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَأَمرَهُم أَلَّا يَسْأَلُوا النَّاسَ شَيئًا، كَمَا فِي الحَدِيثِ عَنْ عَوفِ بْنِ مَالِكٍ الأَشْجَعِيِّ؛ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم -تِسْعَةً، أَو ثَمَانِيَةً، أَو سَبْعَةً- فَقَالَ:((أَلَا تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللهِ؟)) -وَكُنَّا حَدِيثَ عَهْدٍ بِبَيعَةٍ- قُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ! -حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا-، فَبَسَطْنَا أَيدِيَنَا فَبَايَعْنَاهُ، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا قَدْ بَايَعْنَاكَ؛ فَعَلَامَ نُبَايِعُكَ؟ قَالَ:((أَنْ تَعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيئًا، وَتُصَلُّوا الصَّلَوَاتِ الخَمْسَ، وَتَسْمَعُوا وَتُطِيعُوا)) -وَأَسَرَّ كَلِمَةً خُفْيَةً- قَالَ: ((وَلَا تَسْأَلُوا النَّاسَ شَيئًا)). قَالَ: فَلَقَدْ كَانَ بَعْضُ أُولَئِكَ النَّفَرِ يَسْقُطُ سَوطُهُ؛ فَمَا يَسْأَلُ أَحَدًا
(1)
الكُلِّيَّاتُ لِأَبِي البَقَاءِ الكَفَوِيّ (ص 1065).
(2)
يَعْنِي: بِلَا كُلْفَةٍ وَلَا مَشَقَّةٍ وَلَا مِنَّةٍ، فَيَخْرُجُ مِنْهُ أَمْرُكَ لِزَوجِكَ وَعَامِلِكَ وَغَيرِهِمَا مِمَّا هُوَ فِي مَعْنَاهُ.
أَنْ يُنَاوِلَهُ إِيَّاهُ! رَوَاهُ مُسْلِمٌ
(1)
.
- فَائِدَةٌ 1:
قَالَ الشَّيخُ ابْنُ عُثَيمِين رحمه الله فِي كِتَابِهِ (القَولُ المُفِيدُ): "وَالعَجَبُ أَنَّهُم فِي العِرَاقِ يَقُولُونَ: عِنْدَنَا الحُسَينُ؛ فَيَطُوفُونَ قَبْرَهُ وَيَسْأَلُونَهُ! وَفِي مِصْرَ كَذَلِكَ! وَفِي سُورِيَّا كَذَلِكَ! وَهَذَا سَفَهٌ فِي العُقُولِ، وَضَلَالٌ فِي الدِّينِ.
وَالعَامَّةُ لَا يُلَامُونَ فِي الوَاقِعِ، لَكِنِ الَّذِي يُلَامُ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ العُلَمَاءِ وَمِنْ غَيرِ العُلَمَاءِ"
(2)
.
- فَائِدَةٌ 2:
قَالَ أَيضًا الشَّيخُ ابْنُ عُثَيمِين رحمه الله فِي كِتَابِهِ (القَولُ المُفِيدُ): "فَالذِي يَأْتِي لِلبَدَوِيِّ أَو لِلدُّسُوقِيِّ فِي مِصْرَ؛ فَيَقُولُ: المَدَدَ المَدَدَ! أَو: أَغِثْنِي؛ لَا يُغْنِي عَنْهُ شَيئًا، وَلَكِنْ قَدْ يُبْتَلى فَيِأْتِيهِ المَدَدُ عِنْدَ حُصُولِ هَذَا الشَّيءِ لَا بِهَذَا الشَّيءِ، وَفَرْقٌ بَينَ مَا يَأْتِي بِالشَّيءِ وَمَا يَأْتِي عِنْدَ الشَّيءِ.
مِثَالُ ذَلِكَ: امْرَأَةٌ دَعَتِ البَدَوِيَّ أَنْ تَحْمِلَ، فلمَّا جَامَعَهَا زُوجُهَا حَمَلَتْ -وَكَانَتْ سَابِقًا لَا تَحْمِلُ-، فَنَقُولُ هُنَا: إِنَّ الحَمْلَ لَمْ يَحْصُلْ بِدُعَاءِ البَدَوِيِّ، وَإنِّمَا حَصَلَ عِنْدَهُ لِقَولِهِ تَعَالَى:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} "
(3)
.
(1)
مُسْلِمٌ (1043).
(2)
القَولُ المُفِيدُ (1/ 273).
(3)
القَولُ المُفِيدُ (1/ 272).
- فَائِدَةٌ 3:
أَمَّا وَجْهُ التَّفْرِيقِ بَينَ طَلَبِ الدُّعَاءِ مِنَ الحَيِّ وَطَلَبِهِ مِن المَيِّتِ -زِيَادَةً عَلَى مَا سَبَقَ مِن كَونِهِ حَيًّا حَاضِرًا قَادِرًا-؛ هُوَ:
"أَنَّهُ فِي حَيَاتِهِ لَا يَعْبُدُهُ أَحَدٌ بِحُضُورِهِ! فَإِذَا كَانَ الْأَنْبِيَاءُ -رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيهِمْ أَجْمَعِينَ- وَالصَّالِحُونَ أَحْيَاءٌ لَا يَتْرُكُونَ أَحَدًا يُشْرِكُ بِهِمْ بِحُضُورِهِمْ! بَلْ يَنْهَوْنَهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَيُعَاقِبُونَهُمْ عَلَيهِ.
وَلِهَذَا قَالَ الْمَسِيحُ عليه السلام: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ شَهِيدٌ} [المائدة: 117]،
وَقَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم: مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْت؛ فَقَالَ: ((أَجَعَلْتَنِي لِلَّهِ نِدًّا؟! مَا شَاءَ اللَّهُ وَحْدَهُ))
(1)
،
وَقَالَ: ((لَا تَقُولُوا: مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ مُحَمَّدٌ! وَلَكِنْ قُولُوا: مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ شَاءَ مُحَمَّدٌ))
(2)
،
وَلَمَّا قَالَتِ الجُوَيرِيَةُ: وَفِينَا رَسُولُ اللَّهِ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ! قَالَ: ((دَعِي هَذَا، قُولِي بِاَلَّذِي كُنْت تَقُولِينَ))
(3)
،
(1)
صَحِيحٌ. النَّسَائِيُّ فِي الكُبْرَى (10759) مِن حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الأَدَبِ المُفْرَدِ (783).
(2)
صَحِيحٌ. مسند أحمد (23339) مِن حَدِيثِ حُذَيفَةَ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (4378).
(3)
صَحِيحُ البُخَارِيِّ (4001) مِن حَدِيثِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ مَرْفُوعًا.
وَقَالَ: ((لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ! إنَّمَا أَنَا عَبْدٌ؛ فَقُولُوا: عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ))
(1)
،
وَلَمَّا صَفُّوا خَلْفَهُ قِيَامًا قَالَ: ((لَا تُعَظِّمُونِي كَمَا تُعَظِّمُ الْأَعَاجِمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا!))
(2)
،
وَقَالَ أَنَسٌ: لَمْ يَكُنْ شَخْصٌ أَحَبَّ إلَيهِمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم؛ وَكَانُوا إذَا رَأَوْهُ لَمْ يَقُومُوا لَهُ؛ لِمَا يَعْلَمُونَ مِنْ كَرَاهَتِهِ لِذَلِكَ
(3)
،
وَلَمَّا سَجَدَ لَهُ مُعَاذٌ؛ نَهَاهُ، وَقَالَ:((إنَّهُ لَا يَصْلُحُ السُّجُودُ إلَّا لِلَّهِ، وَلَوْ كُنْت آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدِ لَأَمَرْت الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا مَنْ عِظَمِ حَقِّهِ عَلَيهَا))
(4)
،
وَلَمَّا أُتِيَ عَلِيٌّ بِالزَّنَادِقَةِ -الَّذِينَ غَلَوْا فِيهِ، وَاعْتَقَدُوا فِيهِ الْإِلَهِيَّةَ- أَمَرَ بِتَحْرِيقِهِمْ بِالنَّارِ
(5)
.
فَهَذَا شَأْنُ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَأَوْلِيَائِهِ، وَإِنَّمَا يُقِرُّ عَلَى الْغُلُوِّ فِيهِ وَتَعْظِيمِهِ بِغَيرِ حَقٍّ مَنْ يُرِيدُ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَفَسَادًا! كَفِرْعَوْنَ وَنَحْوِهِ، وَمَشَايِخِ الضَّلَالِ الَّذِينَ غَرَضُهُمُ الْعُلُوُّ فِي الْأَرْضِ وَالْفَسَادُ وَالْفِتْنَةُ بِالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَاِتِّخَاذُهُمْ أَرْبَابًا وَالْإِشْرَاكُ بِهِمْ مِمَّا يَحْصُلُ فِي مَغِيبِهِم وَفِي مَمَاتِهِمْ -كَمَا أُشْرِكُ بِالْمَسِيحِ وَعُزَيرٍ-.
(1)
صَحِيحُ البُخَارِيِّ (3345). مِن حَدِيثِ عُمَرَ مَرْفُوعًا.
(2)
صَحِيحٌ. ابْنُ مَاجَه (3836) بِنَحْوِهِ مِن حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (7380).
(3)
صَحِيحٌ. التِّرْمِذِيُّ (2754) مِن حَدِيثِ أَنَسٍ. الصَّحِيحَة (358).
(4)
صَحِيحٌ. النَّسَائِيُّ فِي الكُبْرَى (9102) مِن حَدِيثِ أَنَسٍ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (7725).
(5)
رَوَى البُخَارِيُّ (3017): أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه حَرَّقَ قَوْمًا، فَبَلَغَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمْ أُحَرِّقْهُمْ! لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((لَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللهِ))، وَلَقَتَلْتُهُمْ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:((مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ)).
فَهَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ الْفَرْقَ بَينَ سُؤَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم وَالصَّالِحِ فِي حَيَاتِهِ وَحُضُورِهِ وَبَينَ سُؤَالِهِ فِي مَمَاتِهِ وَمَغِيبِهِ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ وَلَا التَّابِعِينَ وَلَا تَابِعِي التَّابِعِينَ يَتَحَرَّوْنَ الصَّلَاةَ وَالدُّعَاءَ عِنْدَ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَيَسْأَلُونَهُمْ! وَلَا يَسْتَغِيثُونَ بِهِمْ -لَا فِي مَغِيبِهِمْ وَلَا عِنْدَ قُبُورِهِمْ-، وَكَذَلِكَ الْعُكُوفُ"
(1)
.
(1)
مَجْمُوعُ الفَتَاوَى (27/ 80).
مَسَائِلُ عَلَى البَابِ
-
المَسْأَلَةُ الأُولَى: زَعَمَ بَعْضُ المُبْتَدِعَةِ أَنَّ دُعَاءَ الأَولِيَاءِ الأَمْوَاتِ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ سُؤَالِ العَبْدِ مَا يَقْدِرُ عَلَيهِ،
وَأَنَّ اللهَ تَعَالَى أَكْرَمَهُم بِذَلِكَ -وَأَهْلُ السُّنَّةِ يُثْبِتُونَ الكَرَامَاتِ-!!
فَمَا الجَوَابُ؟
الجَوَابُ مِنْ أَوجُهٍ:
1 -
أَنَّ دُعَاءَ الأَمْوَاتِ عَلَى كُلِّ حَالٍ هُوَ مِنْ أَعْمَالِ المُشْرِكِينَ، قَالَ تَعَالَى عَنْهُم:{وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْوَاتٌ غَيرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النَّحْل: 20 - 21].
2 -
أَنَّ أَصْلَ شِرْكِ المُشْرِكِينَ هُوَ التَّعَلُّقُ بِالصَّالِحِينَ وَجَعْلُهُم وَسَائِطَ بَينَ النَّاسِ وَبَينَ اللهِ تَعَالَى، وَأَنَّ أَصْنَامَ قَومِ نُوحٍ -وَدَّ وَسُوَاعَ وَيَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرَ- هُمْ رِجَالٌ صَالِحُونَ أَصْلًا.
كَمَا فِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوقُوفًا -يُخْبِرُ عَنْهَا- قَالَ: أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ قَومِ نُوحٍ، فَلَمَّا هَلَكُوا أَوحَى الشَّيطَانُ إِلَى قَومِهِمْ أَنْ انْصِبُوا إِلَى مَجَالِسِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَجْلِسُونَ أَنْصَابًا وَسَمُّوهَا بِأَسْمَائِهِمْ، فَفَعَلُوا فَلَمْ تُعْبَدْ، حَتَّى إِذَا هَلَكَ أُولَئِكَ وَتَنَسَّخَ العِلْمُ عُبِدَتْ
(1)
(2)
.
(1)
البُخَارِيُّ (4920).
(2)
قَالَ الإِمَامُ العِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي رِسَالَةِ (الوَاسِطَةُ)(ص 5): "وَمَنْ أَثْبَتَ الأَنْبِيَاءَ وَسِوَاهُم -مِنَ مَشَايخِ العِلْمِ وَالدِّينِ- وَسَائِطَ بَينَ اللهِ وَبَينَ خَلْقِهِ كَالحُجَّابِ الَّذِينَ بَينَ المَلِكِ وَرَعِيَّتِهِ؛ بِحَيثُ يَكُونُونُ هُم يَرْفَعُونَ إِلَى اللهِ تَعَالَى حَوَائِجَ خَلْقِهِ؛ وَأَنَّ اللهَ تَعَالَى إِنَّمَا يَهْدِي عِبَادَهُ وَيَرْزُقَهُم وَيَنْصُرَهُم بِتَوَسُّطِهِم؛ بِمَعْنَى أَنَّ الخَلْقَ يَسْأَلُونَهُم؛ وَهُم يَسْأَلُونَ اللهَ؛ كَمَا أَنَّ الوَسَائِطَ عِنْدَ المُلُوكِ يَسْأَلونَ المَلِكَ حَوَائِجَ النَّاسِ لِقُرْبِهِم مِنْهُم؛ وَالنَّاسَ يَسْأَلونَهُم أَدَبًا مِنْهُم أَنْ يُبَاشِرُوا سُؤَالَ المَلِكِ؛ وَلِأَنَّ طَلَبَهُم مِنَ الوَسَائِطِ أَنْفَعُ لَهُم مِنْ طَلَبِهِم مِنَ المَلِكِ لِكَونِهِم أَقْرَبَ إِلَى المَلِكِ مِنَ الطَّلَبِ! فَمَنْ أَثْبَتَهُم وَسَائِطَ عَلَى هَذِهِ الوُجُوهِ؛ فَهُوَ كَافِرٌ مُشْرِكٌ يَجِبُ أَنْ يُسْتَتَابَ؛ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ، وَهَؤُلَاءِ مُشَبِّهُونَ للهِ، شَبَّهُوا الخَالِقَ بِالمَخْلُوقِ، وَجَعَلُوا للهِ أَنْدَادًا". مُسْتَفَادٌ مِنْ كِتَابِ (التَّوَسُّلُ)(ص 133) لِلشَّيخِ الأَلْبَانِيِّ رحمه الله.
3 -
دَعُوَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَقْدَرَهُم عَلَى إِجَابَةِ الدُّعَاءِ: كَذِبٌ عَلَى الشَّرِيعَةِ، وَحُمْقٌ فِي العَقْلِ، فَاللهُ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلْ قَضَاءَ الحَاجَاتِ لَهُم، بَلْ أَخْبَرَ أَنَّهُم أَمْوَاتٌ لَا يَسْمَعُونَ، وَأَنَّهُم لَو سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا، كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأَحْقَاف: 5 - 6].
وَهُوَ حُمْقٌ فِي العَقْلِ، أَرَأَيتَ لَو أَنَّ مُغَسِّلًا -يُغَسِّلُ مَيِّتًا- ذَهَبَ يَسْتَأْذِنُهُ فِي أَنْ يُغَسِّلَهُ بِمَاءٍ بَارِدٍ أَو حَارٍّ! أَلَا يَكُونُ عِنْدَ جَمِيعِ النَّاسِ أَحْمَقًا؟! فَكَيفَ إِذَا طَلَبَ مِنْهُ أَنْ يَقْضِيَ حَاجَتَهُ؛ وَهُوَ فِي هَذِهِ الحَالِ مَيِّتٌ بَينَ يَدِي مُغَسِّلٍ!!
4 -
الاحْتِجَاجُ بِأَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ يُثْبِتُونَ الكَرَامَاتِ: لَا دِلَالَةَ لَهُ هُنَا، لِأَنَّ مَا يَزْعُمُونَهُ هُوَ تَكْذِيبٌ لِلشَّرِيعَةِ، وَلَيسَ إِثْبَاتًا لِلكَرَامَةِ! وَفِي الحَدِيثِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا:((إِنَّ اللهَ لَا يُنَالُ فَضْلُهُ بِمَعْصِيَةٍ))
(1)
(2)
.
(1)
صَحِيحٌ. الحَاكِمُ (2136). صَحِيحُ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ (1700).
(2)
وَمِنَ المُفَارَقَاتِ العَجِيبَةِ فِي هَذَا السِّيَاقِ مَا يَلِي:
أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَمَنْ أَضَلُّ} وَهُمْ يَقُولُونَ: "وَمَنْ أَفْضَلُ"!
وَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ: {أَمْوَاتٌ غَيرُ أَحْيَاءٍ} [النَّحْل: 21] وَهُمْ يَقُولُونَ: "أَحْيَاءٌ غَيرُ أَمْوَاتٍ"!
وَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ: {لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزُّمَرْ: 44] وَهُمْ يَقُولُونَ: "يَمْلِكُونَ شَفَاعَةً"!
=
-
المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَا سِرُّ اقْتِرَانِ كَثِيرٍ مِنَ نُصُوصِ القُرْآنِ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ الشَّفَاعَةِ،
أَو ذِكْرُ الآيَاتِ الَّتِي أَتَتْ بِهَا الرُّسُلُ، أَو ذِكْرُ النَّفْعِ وَالضُّرِّ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَى وَمَشِيئَتِهِ
(1)
؟
=
وَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ عَنْ دُعَائِهِم: {وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأَحْقَاف: 6] وَهُمْ يَقُولُونَ: "الدُّعَاءُ لَيسَ بِعِبَادَةٍ"!
وَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ} [الأَنْفَال: 9] وَهُمْ يَقُولُونَ: "مَدَدٌ؛ يَا رَسُولَ اللهِ"!
وَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ: {لَيسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيءٌ} [آل عِمْرَان: 128] وَهُمْ يَقُولُونَ: "إنْ لَمْ تكنْ فِي مَعَادِي آخِذًا بِيَدِي فَضْلًا وإلاّ فَقُلْ يَا زلَّةَ القَدَمِ"!
وَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ عَنْ نَبِيِّهِ: {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيرِ} [الأَعْرَاف: 188] وَهُمْ يَقُولُونَ: "ومِنْ عُلومِكَ عِلْمُ اللوحِ وَالقَلَمِ"!
وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ لِابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه: ((إِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ)) وَهُمْ يَقُولُونَ: "بِالوَلِيِّ؛ وَهُوَ تَوَسُّلٌ مُسْتَحَبٌّ"!
وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ لِابْنَتِهِ عليها السلام: ((لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيئًا)) وَهُمْ يَقُولُونَ: "فَإِنَّ مِنْ جُودِكَ الدُّنْيَا وَضَرَّتُهَا - يَعْنِي: الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ -"!
وَلَكِنْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النُّور: 40].
(1)
وَتَأَمَّلْ هَذِهِ الآيَاتِ؛ تَجِدُ بُرْهَانَ ذَلِكَ:
- {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البَقَرَة: 102].
- {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البَقَرَة: 249].
- {فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عِمْرَان: 49].
- {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عِمْرَان: 145].
- {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأَعْرَاف: 188].
- {وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَينِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [الأَنْفَال: 66].
- {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [الرَّعْد: 38]، [غَافِر: 79].
- {وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [إِبْرَاهِيم: 11].
- {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النَّجْم: 26].
- {وَلَيسَ بِضَارِّهِمْ شَيئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [المُجَادِلَة: 10].
- {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [التَّغَابُن: 11].
الجَوَابُ:
إِنَّ هَذَا فِيهِ إِرْشَادٌ مُهِمٌ إِلَى أَمْرَينِ:
1 -
أَنَّ هَذِهِ الأَشْيَاءَ لَا يَمْلِكُهَا مَنْ أُجْرِيَتْ عَلَى يَدَيهِ اسْتِقْلَالًا.
كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [غَافِر: 78] فَيَظْهَرُ بِهَذَا تَوحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ
(1)
.
2 -
بَيَانُ ضَرُورَةِ جَعْلِ الدُّعَاءِ وَالاسْتِغَاثَةِ وَسَائِرِ أَشْكَالِ التَّعَلُّقِ بِاللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ؛ دُونَ مَنْ أُجْرِيَتْ عَلَى يَدَيهِ، لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى لَو شَاءَ لَأَبْطَلَهَا، فَيَظْهَرُ بِهَذَا تَوحِيدُ الأُلُوهِيَّةِ؛ فَلَا يُدْعَى مَعَ اللهِ أَحَدٌ؛ لَا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ وَلَا وَلِيٌّ صَالِحٌ.
(1)
وَتَأَمَّلْ كَونَ ((لَا حَولَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ)) مِنْ كَنْزِ تَحْتِ العَرْشِ، كَمَا ثَبَتَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ مَرْفُوعًا. صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (21415). الصَّحِيحَة (2166).
المُلْحَقُ الثَّالِثُ عَلَى كِتَابِ التَّوحِيدِ: مُخْتَصَرُ الآيَاتِ البَيِّنَاتِ فِي عَدَمِ سَمَاعِ الأَمْوَاتِ
الحَمْدُ للهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ،
أَمَّا بَعْدُ؛ فَهَذَا مُخْتَصَرٌ مُفِيدٌ لِكِتَابِ (الآيَاتُ البَيِّنَاتُ فِي عَدَمِ سَمَاعِ الأَمْوَاتِ عِنْدَ الحَنَفِيَّةِ السَّادَاتِ)، لِلعَلاَّمَةِ الآلُوسِيِّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى
(1)
، وَقَدْ أَضَفْتُ إِلَيهِ بَعْضَ النُّقُولِ المُفِيدَةِ إِلَى مَتْنِهِ وَإِلى حَاشِيَتِهِ تَتْمِيمًا لِلفَائِدَةِ.
-
مُقَدِّمَةٌ:
اعْلَمْ أَنَّ كَونَ المَوتَى يَسْمَعُونَ أَو لَا يَسْمَعُونَ إِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ غَيبِيٌّ مَحْضٌ مِنْ أُمُورِ البَرْزَخِ الَّتِي لَا تُعْلَمُ إِلَّا مِنْ جِهَةِ الشَّرِيعَةِ حَصْرًا، فَلَا يَجُوزُ الخَوضُ فِيهِ بِالأَقْيِسَةِ وَالآرَاءِ، وَإِنَّمَا يُوقَفُ فِيهِ مَعَ النَّصِّ إِثْبَاتًا وَنَفْيًا
(2)
.
(1)
وَهِيَ بِتَحْقِيقِ وَتَعْلِيقِ المُحَدِّثِ الأَلْبَانِيِّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى، وَمُعْظَمُ مَادَّةِ هَذَا المُخْتَصَرِ مُسْتَفَادٌ مِنْ مُقدِّمَةِ الشَّيخِ الأَلْبَانِيِّ رحمه الله عَلَى الكِتَابِ.
(2)
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ الحَنْبَلِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (2/ 172) عِنْدَ شَرْحِ حَدِيثِ: ((وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً لَكُمْ غَيرَ نِسْيَانٍ فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا)) مِنَ الأَرْبَعِين النَّوَوِيَّةِ: "وَمِمَّا يَدْخُلُ فِي النَّهْيِ عَنِ التَّعَمُّقِ وَالبَحْثِ عَنْهُ: أُمُورُ الغَيبِ الخَبَرِيَّةِ الَّتِي أُمِرَ بِالإِيمَانِ بِهَا، وَلَمْ يُبَيِّنْ كَيفِيَّتَهَا، وَبَعْضُهَا قَدْ لَا يَكُونُ لَهُ شَاهِدٌ فِي هَذَا العَالَمِ المَحْسُوسِ، فَالبَحْثُ عَنْ كَيفِيَّةِ ذَلِكَ هُوَ مِمَّا لَا يَعْنِي، وَهُوَ مِمَّا يُنْهَى عَنْهُ، وَقَدْ يُوجِبُ الحَيرَةَ وَالشَّكَّ، وَيَرْتَقِي إِلَى التَّكْذِيبِ".
قُلْتُ: وَالحَدِيثُ السَّابِقُ ضَعِيفٌ. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ (4196)، اُنْظُرْ تَحْقِيقَ رِيَاضِ الصَّالِحِينَ لِلأَلْبَانِيِّ (1841).
وَأَهَمِّيَّةُ هَذَا البَحْثِ هُوَ صِلَتُهُ الوَطِيدَةُ بِمَسْأَلَةِ الاسْتِغَاثَةِ بِغَيرِ اللهِ تَعَالَى، فَإِنَّ الَّذِينَ يَدْعُونَ غَيرَ اللهِ تَعَالَى مِنَ الأَمْوَاتِ مِنَ الصَّالِحِينَ أَوِ الأَنْبِيَاءِ أَوِ الشُّيُوخِ العَارِفِينَ يُجَوِّزُونَ ذَلِكَ اعْتِمَادًا عَلَى عِدَّةِ مُقَدِّمَاتٍ؛ مِنْ أَهَمِّهَا أنَّ المَيِّتَ يَسْمَعُ الدُّعَاءَ، لِذَلِكَ إِذَا قَامَ الدَّلِيلُ الوَاضِحُ عَلَى عَدَمِ السَّمَاعِ؛ فَإِنَّ أَصْلَ الاسْتِغَاثَةِ بِغَيرِ اللهِ يُهْدَمُ
(1)
.
-
الأَدِلَّةُ التَّفْصِيلِيَّةُ:
الدَّلِيلُ الأَوَّلُ: قَولُهُ تَعَالَى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فَاطِر: 22].
وَقَولُهُ تَعَالَى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} [النَّمْل: 80].
وَوَجْهُ الدِّلَالَةِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى نَصَّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَا يَسْتَطِيعُ إِسْمَاعَ مَنْ فِي القُبُورِ، وَفِي الآيَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ إِسْمَاعَ المَوتَى؛ فَغَيرُهُ مِنْ بَابِ أَولَى.
وَلَا بُدَّ مِنَ العِلْمِ أَنَّ الأَصْلَ هُوَ عُمُومُ النُّصُوصِ، وَأَنَّ مَا جَاءَ فِي المَسْأَلَةِ مِنَ الحَدِيثِ -مِمَّا ظَاهِرُهُ التَّعَارُضُ
(2)
- إِنَّمَا هُوَ مُخَصِّصٌ لَهَا؛ وَلَيسَ مُعَارِضًا لَهَا!!
قَالَ الشَّيخُ ابْنُ عُثَيمِين رحمه الله: "الوَاجِبُ عَلَى المُؤْمِنِ نَحْوَ هَذِهِ الأُمُورِ الغَيبِيَّةِ أَنْ يُؤْمِنَ بِمَا جَاءَ بِهِ النَّصُّ فَقَط، بَلْ يجِبُ عَلَيهِ أَنْ يَقُولَ: العِلْمُ عِنْدَ اللهِ؛ فَلَا يَجْزِمُ بِالنَّفْي وَلَا يَجْزِمُ بِالإِثْبَاتِ. نَعَمْ؛ لَهُ أَنْ يَجْزِمَ بِالنَّفْي وَيَجْعَلَ مَا ثَبَتَ بِهِ الحَدِيثُ مِن السَّمَاعِ مُخَصِّصًا؛ لِأَنّه قَالَ: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر: 22] وَفِي الآيَةِ الأُخْرَى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} [النمل: 80] "
(3)
.
(1)
هَذَا وَلَا بُدَّ مِنَ العِلْمِ أَنَّ مَنْ أَثْبَتَ سَمَاعَ الأَمْوَاتِ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ لَا يَعْنِي أَنَّهُ يُجِيزُ الاسْتِغَاثَةَ بِهِم!
(2)
وَسَيَأْتِي مَعَنَا قَرِيبًا.
(3)
تَفْسِيرُ سُورَةِ فَاطِر لِابْنِ عُثَيمِين (ص 170).
شُبْهَةٌ وجَوَابُهَا:
اعْتَرَضَ المُثْبِتُونَ لِلسَّمَاعِ بِأَنَّ الآيَتَينِ مَجَازٌ، وَأَنَّهُ لَيسَ المَقْصُودُ -في الآيَتَيِنْ- بِـ {الْمَوْتَى} وَبِـ {مَنْ فِي الْقُبُورِ} المَوتَى حَقِيقَةً الَّذِينَ فِي قُبُورِهِم، وَإِنَّمَا المُرَادُ بِهِم الكُفَّارُ الأَحْيَاءُ حَيثَ شُبِّهُوا بِالمَوتَى.
وَالجَوَابُ:
أَنَّهُ لَا شَكَّ عِنْدَ كُلِّ مَنْ تَدَبَّرَ الآيَتَينِ وَسِياقَهُمَا أَنَّ المَقْصُودَ بِالأَمْوَاتِ هُنَا هُمُ الكُفَّارُ فِعْلًا، وَعَلَى ذَلِكَ جَرَى عُلَمَاءُ التَّفْسِيرِ لَا خِلافَ بَينَهُم فِي ذَلِكَ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنَ الاسْتِدْلَالِ بِالآيَتَينِ عَلَى مَا سَبَقَ، لِأَنَّ المَوتَى لَمَّا كَانُوا لَا يَسْمَعُونَ حَقِيقَةً -وَكَانَ ذَلِكَ مَعْرُوفًا عِنْدَ المُخَاطَبِينَ- شَبَّهَ اللهُ تَعَالَى بِهِمُ الكُفَّارَ الأَحْيَاءَ فِي عَدَمِ السَّمَاعِ، فَدَلَّ هَذَا التَّشْبِيهُ عَلَى أَنَّ المُشَبَّهَ بِهِم -وَهُمُ المَوتَى فِي قُبُورِهِم- لَا يَسْمَعُونَ.
كَمَا يَدُلُّ -مَثَلًا- تَشْبِيهُ زَيدٍ فِي الشَّجَاعَةِ بِالأَسَدِ عَلَى أَنَّ الأَسَدَ شُجَاعٌ، بَلْ هُوَ فِي ذَلِكَ أَشْجَعُ مِنْ زَيدٍ نَفْسِهِ، وَلِذَلِكَ شُبِّهَ بِهِ -وَإِنْ كَانَ الكَلَامُ لَمْ يُسَقْ لِلتَّحَدُّثِ عَنْ شَجَاعَةِ الأَسَدِ نَفْسِهِ وَإِنَّمَا عَنْ زَيدٍ-، وَكَذَلِكَ الآيَتَانِ السَّابِقَتَانِ -وَإِنْ كَانَتَا تَحَدَّثَتَا عَنِ الكُفَّارِ الأَحْيَاءِ، وشُبِّهُوا بِمَوتَى القُبُورِ-؛ فَذَلِكَ لَا يَنْفِي أَنَّ مَوتَى القُبُورِ لَا يَسْمَعُونَ، بَلْ إِنَّ كُلَّ عَرَبِيٍّ -سَلِيمَ السَّلِيقَةِ- لَا يَفْهَمُ مِنْ تَشْبِيهِ مَوتَى الأَحْيَاءِ بَهَؤُلَاءِ إِلَّا أَنَّ هَؤُلَاءَ أَشَدُّ فِي عَدَمِ السَّمَاعِ مِنْهُم كَمَا فِي المِثَالِ السَّابِقِ
(1)
.
(1)
أَقُولُ: لَا بُدَّ مِنْ لَفْتِ النَّظَرِ إِلَى أَنَّ الأَمْرَ كُلَّمَا زَادَ وُضُوحُهُ صَعُبَ إِيجَادُ مَنْ يَنُصُّ عَلَيهِ بِلَفْظِهِ، فَمَثَلًا يَصْعُبُ أَنْ تَجِدَ مَنْ يَنُصُّ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ عَلَى أَنَّ الشَّمْسَ وَاضِحَةٌ، وَعَلَى أَنَّ البَشَرَ يَنْطِقُونَ، وَعَلَى أَنَّ
=
قَالَ الإِمَامُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ لِهَذِهِ الآيَةِ
(1)
: "هَذَا مَثَلٌ مَعْنَاهُ: فَإِنَّكَ لَا تَقْدِرُ أَنْ تُفْهِمَ هَؤُلَاءِ المُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَدْ خَتَمَ اللهُ عَلَى أَسْمَاعِهِم فَسَلَبَهُم فَهْمَ مَا يُتْلَى عَلَيهِم مِنْ مَوَاعِظِ تَنْزِيلِهِ؛ كَمَا لَا تَقْدِرُ أَنْ تُفْهِمَ المَوتَى الَّذِينَ سَلَبَهُمُ اللهُ أَسْمَاعَهُم بِأَنْ تَجْعَلَ لَهُم أَسْمَاعًا.
وَقَولُهُ: {وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} يَقُولُ: كَمَا لَا تَقْدِرُ أَنْ تُسْمِعَ الصُّمَّ الَّذِينَ قَدْ سُلِبُوا السَّمْعَ إِذَا وَلَّوا عَنْكَ مُدْبِرِينَ
(2)
؛ كَذَلِكَ لَا تَقْدِرُ أَنْ تُوَفِّقَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَدْ سَلَبَهُم اللهُ فَهْمَ آيَاتِ كِتَابِهِ لِسَمَاعِ ذَلِكَ وَفَهْمِهِ".
ثُمَّ رَوَى بِإِسْنَادِهِ الصَّحِيحِ عَنْ قَتَادَةَ؛ قَالَ: "هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللهُ لِلكَافِرِ، فَكَمَا لَا يَسْمَعُ المَيِّتُ الدُّعَاءَ؛ كَذَلِكَ لَا يَسْمَعُ الكَافِرُ، {وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} يَقُولُ: لَو أَنَّ أَصَمًّا وَلَّى مُدْبِرًا ثُمَّ نَادَيتَهُ لَمْ يَسْمَعْ؛ كَذَلِكَ الكَافِرُ لَا يَسْمَعُ وَلَا يَنْتَفِعُ بِمَا سَمِعَ"
(3)
.
=
الأَنْعَامَ بَهَائِمٌ لَا تَعْقِلُ، وَعَلَى أَنَّ اللبَنَ أَبْيَضُ؛ رُغْمَ أَنَّ كُلًّا مِنْهَا تَجِدُ لَهُ نَصٌّ شَرْعيٌّ فِي التَّشْبِيهِ بِهِ، فَكَذَا الأَمْرُ هُنَا.
فَمِنَ العَجَبِ أَنْ يُذكَرَ أَنَّ المَيِّتَ يَسْمَعُ، وَقَدْ عُلِمَ بِالحِسِّ التَّامِ أَنَّ المَيِّتَ عِنْدَ جَمِيعِ النَّاسِ لَا يَسْتَجِيبُ! فَهُم لِذَلِكَ يُسَفِّهُونَ مَنْ يُخَاطِبُ المَيِّتَ فِي بَعْضِ شُؤُونِهِ، كَمِثْلِ مُغَسِّلٍ يَعْتَذِرُ مِنَ المَيِّتِ إِذَا اسْتَخْدَمَ لَهُ مَاءً حَارًّا أَو بَارِدًا! وَاللهُ المُسْتَعَانُ.
(1)
تَفْسِيرُ الطَّبَرِيِّ (20/ 117).
(2)
قَولُهُ تَعَالَى: {إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} قُيِّدَ عَدَمُ الإِسْمَاعِ بِهِ لِيَكُونَ أَشَدَّ اسْتِحَالَةٍ، فَإِنَّ الأَصَمَّ المُقْبِلَ -وَإِنْ لَمْ يَسْمَعِ الكَلَامَ- فَإِنَّهُ يَفْطَنُ مِنْهُ بِوَاسِطَةِ الحَرَكَاتِ شَيئًا. اُنْظُرْ تَفْسِيرَ البَيضَاوِيِّ (4/ 341).
(3)
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (6/ 324) الآيَةُ (52) مِنْ سُورَةِ الرُّومِ: "يَقُولُ تَعَالَى: كَمَا أَنَّكَ لَيسَ فِي قُدْرَتِكَ أَنْ تُسْمِعَ الأَمْوَاتَ فِي أَجْدَاثِهَا، وَلَا تُبْلِغَ كَلَامَكَ الصُمَّ الَّذِينَ لَا يَسْمَعُونَ -وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ مُدْبِرُونَ عَنْكَ- كَذَلِكَ لَا تَقْدِرُ عَلَى هِدَايَةِ العُمْيَانِ عَنِ الحَقِّ، وَرَدِّهِم عَنْ ضَلَالَتِهِم، بَلْ ذَلِكَ إِلَى
=
وَمِنْ نَفْسِ البَابِ؛ يُقَالُ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى شَبَّهَ الكُفَّارَ بِالصُمِّ فِي عَدَمِ السَّمَاعِ فِي نَفْسِ الآيَاتِ السَّابِقَةِ؛ فَهَلْ يُمْكِنُ القَولُ أَيضًا بِأَنَّ الآيَةَ قَصَدَتِ الكُفَّارَ وَلَيسَ فِيهَا دِلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الصُمَّ لَا يَسْمَعُونَ! وَالحَمْدُ للهِ عَلَى تَوفِيقِهِ.
- فَائِدَةٌ: إِذَا تَأَمَّلْتَ قَولَهُ تَعَالَى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ} [فَاطِر: 22] وَهُوَ سياقُ الآيَةِ الَّتِي فِي سُورَةِ فَاطِرٍ؛ فَإِنَّكَ سَتَجِدُ أَدِلَّةً أُخْرَى عَلَى عَدَمِ السَّمَاعِ، مِنْهَا:
أ- أَنَّ الحَيَّ وَالمَيِّتَ لَا يَسْتَوِيَانِ، وَهُوَ مَثَلٌ ضُرِبَ لِلكَافِرِ وَالمُؤْمِنِ مِنْ جِهَةِ عَدَمِ السَّمَاعِ؛ حَيثُ جُعِل مَنْ لَمْ يَنْتَفِعْ بِالسَّمَاعِ كَمَنْ لَا سَمْعَ لَهُ؛ لِعَدَمِ حُصُولِ الغَايَةِ مِنْهُ.
ب- أَنَّ اللهَ تَعَالَى سَلَبَ المَيِّتَ سَمْعَهُ، وَهُوَ ظَاهِرٌ مِنْ كَونِهِ مِثَالًا لِمَنْ لَمْ يَنْتَفِعْ بِالسَّمَاعِ، حَيثُ أَخْبَرَ أَنَّهُ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السَّمَاعَ خِلَافُ الأَصْلِ.
ج- أَخِيرًا -وَهِيَ قَاصِمَةُ ظُهُورِ القُبُورِيينَ-؛ نَقُولُ: هَبْ أَنَّ المَيِّتَ هُوَ كَالكَافِرِ فِي كَونِهِ -فَقَط- لَا يَسْمَعُ سَمَاعَ انْتِفَاعٍ وَاسْتِجَابَةٍ؛ وَإِنَّمَا يَسْمَعُ سَمَاعَ
=
اللهِ تَعَالَى، فَإِنَّهُ بِقُدْرَتِهِ يُسْمِعُ الأَمْوَاتَ أَصْوَاتَ الأَحْيَاءِ إِذَا شَاءَ، وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ، وَلَيسَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ سِوَاهُ".
وَعِنْدَ تَفْسِيرِهِ لِآيَةِ سُورَةِ فَاطِرٍ قَالَ رحمه الله: " {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي القُبُورِ} أَي: كَمَا لَا يَسْمَعُ وَيَنْتَفِعُ الأَمْوَاتُ بَعْدَ مَوتِهِم وَصَيرُورَتِهِم إِلَى قُبُورِهِم -وَهُمْ كُفَّارٌ- بِالهِدَايَةِ وَالدَّعْوَةِ إِلَيهَا، كَذَلِكَ هَؤُلَاءِ المُشْرِكُونَ الَّذِينَ كُتِبَتْ عَلَيهِم الشَّقَاوةُ لَا حِيلَةَ لَكَ فِيهِم، وَلَا تَسْتَطِيعُ هِدَايَتَهُم".
قُلْتُ: وَالمَعْنَى فِي ذَلِكَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى طَمَسَ عَلَى قُلُوبِهِم، فَهُمْ يَسْمَعُونَ وَلَا يَنْتَفِعُونَ بِمَا سَمِعُوا، فَصَارُوا كَأَنَّهُم لَا يَسْمَعُونَ؛ لِعَدَمِ انْتِفَاعِهِم بِسَمْعِهِم.
إِدْرَاكٍ، فَنَقُولُ: هَذَا القَدْرُ يَكْفِينَا فِي أَنَّ المَيِّتَ يَسْمَعُكَ وَلَكِنَّهُ لَا يَسْتَجِيبُ لَكَ؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَنْفَعَكَ!
بَلْ لَو فُرِضَ سَمَاعُهُ، وَأَنَّهُ يَدْعُو وَيَتَوَسَّطُ بِالخَيرِ لِمَنِ اسْتَغَاثَ بِهِ عِنْدَ اللهِ؛ لَكَانَ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ عَمَلِهِ الصَّالِحِ بَعْدَ مَوتِهِ، وَكَيفَ يَصِحُّ هَذَا وَقَدِ انْقَطَعَ عَمَلُهُ مِنَ الدُّنْيِا كَمَا جَاءَ فِي الحَدِيثِ:((إِلَّا مِن ثَلَاث)) وَهَذِهِ لَيسَتْ مِنَ الثَّلَاثِ!! فَبَطَلَتْ بِذَلِكَ غَايَتُهُم مِنْ إِثْبَاتِ سَمَاعِ الأَمْوَاتِ. وَالحَمْدُ للهِ الَّذِي بِنِعْمَتِهِ تَتِمُّ الصَّالِحَاتُ.
الدَّلِيلُ الثَّانِي: قَولُهُ تَعَالَى: {يُولِجُ اللَّيلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فَاطِر: 13 - 14]
(1)
.
فَهَذِهِ الآيَةُ صَرِيحَةٌ فِي نَفْي السَّمْعِ عَنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَانَ المُشْرِكونَ يَدْعُونَهُم مِنْ دُونِ اللهِ تَعَالَى، وَهُمْ مَوتَى الأَولِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ الَّذِينَ كَانَ المُشْرِكُونَ يُمَثِّلُونَهُم فِي التَّمَاثِيلِ وَالأَصْنَامِ
(2)
.
(1)
وَكَقَولِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [الأَحْقَاف: 5].
(2)
وَهُمْ يَعْبُدُونَهَا لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَصْحَابِهَا، وَلَيسَ لِذَاتِهَا! كَمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ آيَةُ سُورَةِ نُوحٍ، قَالَ تَعَالَى:{وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نُوح: 23]، فَفِي التَّفْسِيرِ المَأْثُورِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيرِهِ مِنَ السَّلَفِ:"أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ قَومِ نُوحٍ، فَلَمَّا هَلَكُوا أَوحَى الشَّيطَانُ إِلَى قَومِهِمْ أَنْ انْصِبُوا إِلَى مَجَالِسِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَجْلِسُونَ أَنْصَابًا وَسَمُّوهَا بِأَسْمَائِهِمْ، فَفَعَلُوا فَلَمْ تُعْبَدْ، حَتَّى إِذَا هَلَكَ أُولَئِكَ وَتَنَسَّخَ العِلْمُ عُبِدَتْ". رَوَاهُ البُخَارِيُّ (4920) وَغَيرُهُ.
وَمَعْنَى (وَتَنَسَّخَ العِلْمُ): "أَي: عِلْمُ تِلْكَ الصُّوَرِ بِخُصُوصِهَا". فَتْحُ البَارِي (8/ 669).
الدَّلِيلُ الثَّالِثُ: حَدِيثُ قَلِيبِ بَدْرٍ؛ وَأَقْتَصِرُ عَلَى رِوَايَتَينِ فِيهِ:
- حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي البُخَارِيِّ، قَالَ: وَقَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى قَلِيبِ بَدْرٍ؛ فَقَالَ: ((هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟)) ثُمَّ قَالَ: ((إِنَّهُمُ الآنَ يَسْمَعُونَ مَا أَقُولُ))، فَذُكِرَ لِعَائِشَةَ؛ فَقَالَتْ: إِنَّمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّهُمُ الآنَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّ الَّذِي كُنْتُ أَقُولُ لَهُمْ هُوَ الحَقُّ)) ثُمَّ قَرَأَتْ: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} حَتَّى قَرَأَتِ الآيَةَ
(1)
(2)
.
- حَدِيثُ أَبِي طَلْحَةَ فِي الصَّحِيحَينِ أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ يَومَ بَدْرٍ بِأَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ رَجُلًا مِنْ صَنَادِيدِ قُرَيشٍ فَقُذِفُوا فِي طَوِيٍّ مِنْ أَطْوَاءِ بَدْرٍ خَبِيثٍ مُخْبِثٍ، وَكَانَ إِذَا ظَهَرَ عَلَى قَومٍ أَقَامَ بِالعَرْصَةِ ثَلَاثَ لَيَالٍ، فَلَمَّا كَانَ بِبَدْرٍ اليَومَ الثَّالِثَ أَمَرَ بِرَاحِلَتِهِ فَشُدَّ عَلَيهَا رَحْلُهَا ثُمَّ مَشَى وَاتَّبَعَهُ أَصْحَابُهُ، وَقَالُوا: مَا نُرَى يَنْطَلِقُ إِلَّا لِبَعْضِ حَاجَتِهِ، حَتَّى قَامَ عَلَى شَفَةِ الرَّكِيِّ، فَجَعَلَ يُنَادِيهِمْ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ:
(1)
البُخَارِيُّ (3980).
(2)
تَوجِيهٌ: هُنَا لَا يُقْبَلُ تَقْدِيمُ كَلَامِ ابْنِ عُمَرَ عَلَى كَلَامِ عَائِشَة رضي الله عنهما بِدَعْوَى أَنَّ عَائِشَةَ لَمْ تَشْهَدْ ذَلِكَ! وَهَذَا بِسَبَبِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنه لَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا أَيضًا، حَيثُ جَاءَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ (1868) أَنَّهُ عُرِضَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَومَ بَدْرٍ -وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةٍ- فَلَمْ يُجِزْهُ لِلقِتَالِ، وَلَكِنْ يُقَدَّمُ حَدِيثُهُ مِنْ جِهَةِ كَثْرَةِ مَا رُويَ عَنِ الصَّحَابَةِ فِي تَأْيِيدِ مَا رَوَاهُ رضي الله عنه.
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله فِي كِتَابِ السِّيرَةُ النَّبَوِيَّةُ (2/ 450): "الصَّوَابُ: قَولُ الجُمْهُورِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُم، لِلأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ نَصًّا عَلَى خِلَافِ مَا ذَهَبَتْ إِلَيهِ رضي الله عنها وَأَرْضَاهَا".
قُلْتُ: وَلَعَلَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها رَجَعَتْ عَنْ هَذَا إِلَى إِثْبَاتِ لَفْظِ الحَدِيثِ.
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله: "وَمِنَ الْغَرِيبِ أَنَّ فِي الْمَغَازِي لِابْنِ إِسْحَاقَ رِوَايَةَ يُونُسَ بْنِ بُكَيرٍ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْ عَائِشَةَ مِثْلَ حَدِيثِ أَبِي طَلْحَةَ وَفِيهِ: ((مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ))، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ. فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا؛ فَكَأَنَّهَا رَجَعَتْ عَنِ الْإِنْكَارِ لِمَا ثَبَتَ عِنْدَهَا مِنْ رِوَايَةِ هَؤُلَاءِ الصَّحَابَةِ لِكَوْنِهَا لَمْ تَشْهَدِ الْقِصَّةَ". فَتْحُ البَارِي (7/ 303).
((يَا فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ وَيَا فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ؛ أَيَسُرُّكُمْ أَنَّكُمْ أَطَعْتُمُ اللهَ وَرَسُولَهُ؛ فَإِنَّا قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا، فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟))
(1)
، قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ مَا تُكَلِّمُ مِنْ أَجْسَادٍ لَا أَرْوَاحَ لَهَا! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ؛ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ)). قَالَ قَتَادَةُ: أَحْيَاهُمُ اللهُ حَتَّى أَسْمَعَهُمْ قَولَهُ تَوبِيخًا وَتَصْغِيرًا وَنَقمَةً وَحَسْرَةً وَنَدَمًا
(2)
.
وَوَجْهُ الدِّلَالَةِ أُمُورٌ:
أ- مَا فِي الرِّوَايَةِ الأُولَى مِنْ تَقْيِيدِهِ صلى الله عليه وسلم سَمَاعَ مَوتَى القَلِيبِ بِقَولِهِ: ((الآنَ))، فَإِنَّ مَفْهومَهُ أَنَّهُم لَا يَسْمَعُونَ فِي غَيرِ هَذَا الوَقْتِ، وَهُوَ المَطْلُوبُ.
فَفِيهَا تَنْبِيهٌ قَوِيٌّ عَلَى أَنَّ الأَصْلَ فِي المَوتَى أَنَّهُم لَا يَسْمَعُونَ؛ وَلَكِنَّ أَهْلَ القَلِيبِ فِي ذَلِكَ الوَقْتِ قَدْ سَمِعُوا نِدَاءَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَذَلِكَ بِإِسْمَاعِ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهُم خَرْقًا لِلعَادَةِ وَمُعْجِزَةً لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلِذَلِكَ أَورَدَهُ الخَطِيبُ التَّبْرِيزِيُّ فِي بَابِ المُعْجِزَاتِ مِنْ مِشْكَاةِ المَصَابِيحِ.
قَالَ الإِمَامُ القُرْطُبِيُّ رحمه الله: "وَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: ((مَا أَنْتُم بِأَسْمَعَ مِنْهُم))، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فيُشْبِهُ أَنَّ قِصَّةَ بَدْرٍ خَرْقُ عَادَةٍ لِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فِي أَنْ رَدَّ اللهُ إِلَيهِم إِدْرَاكًا سَمِعُوا بِهِ مَقَالَهُ، وَلَولَا إِخْبَارُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِسَمَاعِهِم لَحَمَلْنَا نِدَاءَهُ إِيَّاهُم عَلَى
(1)
"أَيْ هَلْ تَتَمَنَّوْنَ أَنْ تَكُونُوا مُسْلِمِينَ بَعْدَمَا وَصَلْتُمْ إِلَى عَذَابِ اللَّهِ؟ قُلْتُ: فَالْهَمْزَةُ لِلتَّقْرِيرِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ أَتَحْزَنُونَ وَتَتَحَسَّرُونَ عَلَى مَا فَاتَكُمْ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَمْ لَا؟ وَتَذْكُرُونَ قَوْلَنَا لَكُمْ: إِنَّ اللَّهَ سَيُظْهِرُ دِينَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَيَنْصُرُ أَوْلِيَاءَهُ وَيَخْذُلُ أَعْدَاءَهُ؟ فَإِنَّا قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا". مِرْقَاةُ المَفَاتِيحِ (6/ 2553).
(2)
البُخَارِيُّ (3976)، وَمُسْلِمٌ (2875).
مَعْنَى التَّوبِيخِ لِمَنْ بَقيَ مِنَ الكَفَرةِ، وَعَلَى مَعْنَى شِفَاءِ صُدُورٍ المُؤْمِنِينَ"
(1)
.
ب- أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَقَرَّ عُمَرَ وَغَيرَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلَى مَا كَانَ مُسْتَقِرًّا فِي نُفُوسِهِم وَاعْتِقَادِهِم أَنَّ المَوتَى لَا يَسْمَعُونَ
(2)
، حَيثُ بَادَرَ الصَّحَابَةُ
(3)
لَمَّا سَمِعُوا نِدَاءَهُ صلى الله عليه وسلم لِمَوتَى القَلِيبِ بِقَولِهِم: "مَا تُكَلِّمُ مِنْ أَجْسَادٍ؛ لَا أَرْوَاحَ فِيهَا! " فَهَذَا يَدُلُّ أَنَّهُم كَانُوا عَلَى عِلْمٍ بِذَلِكَ سَابِقٍ تَلَقَّوهُ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم، وَإِلَّا لَمْ يُبَادِرُوا لِذَلِكَ الإِنْكَارِ.
فَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُخَطِّئ فَهْمَهُم وَإِنَّمَا أَرْشَدَ إِلَى تَخْصِيصِ هَذَا السَّمَاعِ بِأَمْرَينِ وَهُمَا: ((الآنَ)) بِاعْتِبَارِ الزَّمَنِ، وَ ((إنَّهُم)) أَي: أَهْلَ القَليبِ؛ وَهُوَ بِاعْتِبَارِ جَمْيِعِ المَوتَى.
قُلْتُ: وَهَذَا العِلْمُ السَّابِقُ مِنْهُم هُوَ إِمَّا مِنْ جِهَةِ البَرَاءَةِ الأَصْلِيَّةِ فِي أَعْرَافِ النَّاسِ وَمَا اسْتَقَرَّ فِي نُفُوسِهِم، وَإِمَّا مِنْ جِهَةِ الشَّرِيعَةِ.
وَيُؤَيِّدُ هَذَا الأَخِيرَ مَا فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ عَنْ أَنَسٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَرَكَ قَتْلَى بَدْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ حَتَّى جَيَّفُوا، ثُمَّ أَتَاهُمْ فَقَامَ عَلَيهِمْ؛ فَقَالَ:((يَا أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ، يَا أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ، يَا عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، يَا شَيبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ فَإِنِّي قَدْ وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا))، قَالَ: فَسَمِعَ عُمَرُ صَوتَهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَتُنَادِيهِمْ بَعْدَ ثَلَاثٍ؟! وَهَلْ يَسْمَعُونَ؟ يَقُولُ اللهُ عز وجل: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} ، فَقَالَ:((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ مِنْهُمْ وَلَكِنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يُجِيبُوا))
(4)
.
ج- قَولُ رَاوِي الحَدِيثِ قَتَادَةَ؛ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَحْيَاهُم لِيَسْمَعُوا التَّوبِيخَ وَلِيَزْدَادُوا
(1)
تَفْسِيرُ القُرْطُبِيِّ (13/ 232).
(2)
وَكَذَا كَانَ فَهْمُ عَائِشَة رضي الله عنها حِينَ أنْكَرَتْ قَولَ: ((يَسْمَعُونَ)) وَقَالَتْ: إِنَّمَا قَالَ: "يَعْلَمُونَ".
(3)
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ حُمَيدٍ عَنْ أَنَسٍ نَحْوَه بِلَفْظِ: (قَالُوا) بَدَلَ: (قَالَ عُمَرُ). مُسْنَدُ أَحْمَد (12012).
(4)
صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ. مُسْنَدُ أَحْمَدَ (14064). مُخْتَصَرُ صَحِيحِ البُخَارِيِّ لِلْأَلْبَانِيِّ (3/ 13).
حَسْرَةً وَنَدَمًا
(1)
، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الأَمْوَاتَ لَا يَسْمَعُونَ أَصْلًا.
قَالَ العَلَّامَةُ القَصَّابُ فِي فَوَائِدَ مِن قَولِهِ تَعَالَى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} أَنَّ فِيهَا: "تَكْذِيبًا لِلأَخْبَارِ الوَاهِيَةِ فِي أَنَّ المَوتَى يَعْلَمُونَ وَيَشْعُرُونَ! وَمَا كَانَ مِنْهَا صَحِيحَةً فَلَهَا مَعَانٍ وَاضِحَةٌ، مِثْلُ وُقُوفِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى قَلِيبِ بَدْرٍ وَنِدَاءِ مَنْ فِيهِ مِنْ قَتْلَى قُرَيشٍ وَقَولِهِ: ((مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ مِنْهُم؛ غَير أَنَّهُم لَا يُطِيقُونَ الجَوَابَ))، فَهَذِهِ الآيَةُ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي وَقْتِهَا خَاصَّةٌ فِيهِم لِيُقِرَّ اللهُ عَينَ رَسُولِهِ عَاجِلًا بِإِسْمَاعِهِم قَولَهُ وَتَحْقِيقِ مَا كَانُوا يُكَذِّبُونَ فِيهِ حَتَّى يُقْبَروا، فَإِذَا قُبِرُوا لَمْ يُسْمِعْهُم. وَمِثْلُ مَا رُوِيَ فِي الشُّهَدَاءِ، فَإِنَّهُم -وَإِنْ قُتِلُوا- فَهُمْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِم يُرْزَقُونَ، فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ"
(2)
.
- فَائِدَةٌ: يَظْهَرُ أَنَّ مُنَادَاةَ الكُفَّارِ بَعْدَ هَلَاكِهِم سُنَّةٌ قَدِيمَةٌ مِنْ سُنَنِ الأَنْبِيَاءِ؛ فَقَد قَالَ تَعَالَى فِي قَومِ صَالِحٍ عليه السلام: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ * فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} [الأَعْرَاف: 79].
قَالَ ابْنُ كَثِير رحمه الله: "هَذَا تَقْرِيعٌ مِنْ صَالِح عليه السلام لِقَومِهِ لَمَّا أَهْلَكَهُمُ اللهُ بِمُخَالَفَتِهِمْ إِيَّاهُ وَتَمَرُّدِهِمْ عَلَى اللهِ وَإِبَائِهِمْ عَنْ قَبُولِ الحَقِّ وَإِعْرَاضِهِمْ عَنِ الهُدَى إِلَى
(1)
قَالَ ابْنُ القَيِّمِ رحمه الله فِي كِتَابِهِ الرُّوح (ص 45): "وَقَدْ يُقَالُ: نَفْيُ إِسْمَاعِ الصُّمِّ مع نَفْي إِسْمَاعِ المَوتَى يَدُلُّ عَلَى أَنّ المُرَادَ عَدَمُ أَهْلِيَّةِ كُلٍّ مِنْهُمَا لِلسَّمَاعِ؛ وَأَنَّ قُلُوبَ هَؤُلَاءِ لَمّا كَانَتْ مَيِّتَةً صَمَّاءَ كَانَ إِسْمَاعُهَا مُمْتَنِعًا بِمَنْزِلَةِ خِطَابَ المَيِّتِ وَالأَصَمِّ، وَهَذَا حَقٌّ؛ وَلَكِنْ لَا يَنْفِي إِسْمَاعَ الأَرْوَاحِ بَعْدَ المَوتِ إِسْمَاعَ تَوبِيخٍ وَتَقْرِيعٍ بَوَاسِطَةِ تَعَلُّقِهَا بِالأَبْدَانِ فِي وَقْتٍ مَا، فَهَذَا غَيرُ الإِسْمَاعِ المَنْفِيَّ، وَاللهُ أَعْلَمُ".
(2)
النُّكَتُ الدَّالَّةُ عَلَى البَيَانِ (1/ 186).
العَمَى، قَالَ لَهُمْ صَالِحُ ذَلِكَ بَعْدَ هَلَاكِهِمْ تَقْرِيعًا وَتَوبِيخًا -وَهُمْ يَسْمَعُونَ ذَلِكَ- كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَينِ
…
"
(1)
وَذَكَرَ حَدِيثَ القَلِيبِ.
الدَّلِيلُ الرَّابِعُ: حَدِيثُ النَّسَائِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا: ((إِنَّ للهِ تَعَالَى مَلَائِكَةً سَيَّاحِينَ فِي الأَرْضِ يُبَلِّغُونِي مِنْ أُمَّتِي السَّلَامَ))
(2)
.
وَوَجْهُ الدِّلَالَةِ أَنَّهُ صَرِيحٌ فِي أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَا يَسْمَعُ سَلَامَ مَنْ يُسلِّمُ عَلَيهِ؛ إِذْ لَو كَانَ يَسْمَعُهُ بِنَفْسِهِ لَمَا كَانَ بِحَاجَةٍ إِلَى مَنْ يُبَلِّغُهُ إِيَّاهُ، فَالاسْتِدْلَالُ هُنَا هُوَ مِنْ بَابِ قِيَاسِ الأَولَى بِالنِّسْبَةِ لِعُمُومِ الأَمْوَاتِ؛ وَلِعُمُومِ الكَلَامِ، أَي أَنَّهُ إِذَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم -وَهُوَ سَيِّدُ البَشَرِ- لَا يَسْمَعُ سَلَامَ المُسَلِّمِ عَلَيهِ وَإِنَّمَا يَصِلُهُ بَلَاغًا؛ فَعَامَّةُ الأَمْوَاتِ مِنْ بَابِ أَوْلَى أَنَّهُم لَا يَسْمَعُونَ السَّلَامَ؛ بَلْ وَسَائِرَ الكَلَامِ
(3)
.
(1)
تَفْسِيرُ ابْنِ كَثِيرٍ (3/ 443).
لَكِنَّ قَولَهُ: (وَهُمْ يَسْمَعُونَ ذَلِكَ) لَيسَ فِي الآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَيهِ، كَمَا أَرْشَدَ إِلَيهِ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
(2)
صَحِيحٌ. النَّسَائِيُّ (1282). صَحِيحُ الجَامِعِ (2174).
(3)
قُلْتُ: وَيُمْكِنُ إِيرَادُ أَدِلَّةٍ أُخَرَ فِي مَسْأَلَةِ عَدَمِ السَّمَاعِ.
كَقَولِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا} [الرَّعْد: 31]، حَيثُ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ تَكْلِيمَ المَوتَى بِحَيثُ يَسْمَعُونَ وَيُجِيبُونَ وَيَهْتَدُونَ هُوَ أَمْرٌ خَارِجٌ عَنِ الأَصْلِ، بَلْ إِنْ كَانَ فَهُوَ لَا يَكُونُ لِغَيرِ القُرْآنِ الكَرِيمِ.
قَالَ البَيضَاوِيُّ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (3/ 330): " {أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} فَتَسْمَعُ فَتَقْرَؤُهُ، أَو فَتَسْمَعُ وَتُجِيبُ عِنْدَ قِرَاءَتِهِ؛ لَكَانَ هَذَا القُرْآنُ، لِأَنَّهُ الغَايَةُ فِي الإِعْجَازِ وَالنِّهَايَةُ فِي التَّذْكِيرِ وَالإِنْذَارِ".
وَكَقَولِهِ تَعَالَى أَيضًا: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا} [الإِسْرَاءُ: 52].
قَالَ الإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ القَصَّابُ رحمه الله: "فَأَخْبَرَ عَمَّن قَدْ أَمَاتَهُ تِلْكَ المَوْتَةَ بِمَا تَرَى؛ فَلَو كَانُوا يَشْعُرُونَ لَعَلِمُوا أَنَّهُم أَقَامُوا طَوِيلًا لَيسَ قَلِيلًا، وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي القُرْآنِ". النُّكَتُ الدَّالَّةُ عَلَى البَيَانِ (1/ 186).
أَدِلَّةُ المُخَالِفِينَ:
إِنَّ أَقْوَى مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ هُوَ:
الدَّلِيلُ الأَوَّلُ: حَدِيثُ قَلِيبِ بَدْرٍ المُتَقَدِّمِ؛ وَقَدْ عَرَفْتَ مِمَّا سَبَقَ بَيَانُهُ أَنَّهُ خَاصٌّ بِأَهْلِ القَلِيبِ مِنْ جِهَةٍ، وَأَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الأَصْلَ فِي المَوتَى أَنَّهُم لَا يَسْمَعُونَ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، وَأَنَّ سَمَاعَهُم كَانَ خَرْقًا لِلعَادَةِ فَلَا دَاعِيَ لِلإِعَادَةِ.
الدَّلِيلُ الثَّانِي: حَدِيثُ خَفْقِ النِّعَالِ.
فِي الصَّحِيحَينِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ مَرْفُوعًا: ((إِنَّ المَيِّتَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ؛ إِنَّهُ لَيَسْمَعُ خَفْقَ نِعَالِهِمْ إِذَا انْصَرَفُوا، يَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُقْعِدَانِهِ فَيَقُولَان:
…
))
(1)
.
وَالجَوَابُ: أَنَّ هَذَا خَاصٌّ بِوَقْتِ وَضْعِهِ فِي قَبْرِهِ وَمَجِيءِ المَلَكَينِ إِلَيهِ لِسُؤَالِهِ؛ فَلَا عُمُومَ فيهِ، وَلِذَلِكَ فَقَدِ اقْتَصَرَ عَلَى ذَلِكَ البُخَارِيُّ رحمه الله فِي تَبْوِيبِهِ عَلَى الحَدِيثِ حَيثُ قَالَ:"بَابُ المَيِّتُ يَسْمَعُ خَفْقَ النِّعَالِ"
(2)
.
قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ رحمه الله فِي شَرْحِ البُخَارِيِّ (3/ 320): "قَولُهُ صلى الله عليه وسلم فِي المَيِّتِ: ((إِنَّهُ يَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِم)) وَكَلَامُهُ مَعَ المَلَكَينِ يُبَيِّنُ قَولَهُ: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فَاطِر: 22] أَنَّهُ عَلَى غَيرِ العُمُومِ.
قَالَ المُهَلَّبُ: وَلَا مُعَارَضَةَ بَينَ الآيَةِ وَالحَدِيثِ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَا نُسِبَ إِلَى المَوتَى مِنْ اسْتِمَاعِ النِّدَاءِ وَالنَّوحِ فَهِيَ فِي هَذَا الوَقْتِ عِنْدَ الفِتْنَةِ أَوَّلَ مَا يُوضَعُ المَيِّتُ فِي قَبْرِهِ، أَو مَتَى شَاءَ اللهُ أَنْ يَرُدَّ أَرْوَاحَ المَوتَى رَدَّهَا إِلَيهِم {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ
(1)
البُخَارِيُّ (1338)، وَمُسْلِمٌ (2870).
(2)
البُخَارِيُّ (2/ 90).
وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأَنْبِيَاء: 23] "
(1)
.
قُلْتُ: وَتَأْيِيدُ كَلَامِهِ هُوَ فِي نَفْسِ سِيَاقِ الآيَةِ {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فَاطِر: 22].
وَمِثْلُهُ أَيضًا حَدِيثُ عَمْرو بْنُ العَاصِ رضي الله عنه؛ قَالَ: "إِذَا دَفَنْتُمُونِي؛ فَأقِيمُوا حَولَ قَبْرِي قَدْرَ مَا تُنْحَرُ جَزُورٌ وَيُقَسَّمُ لَحْمُهَا حَتَّى أَسْتَأنِسَ بِكُمْ، وَأعْلَمَ مَاذَا أُرَاجِعُ بِهِ رُسُلَ رَبِّي". رَوَاهُ مُسْلِمٌ
(2)
. فَهُوَ مِنْ نفْسِ البَابِ أَيضًا.
قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رحمه الله: "وَفِيهِ أَنَّ المَيِّتَ يَسْمَعُ حِينَئِذٍ مَنْ حَولَ القَبْرِ"
(3)
.
وَقَالَ ابْنُ الجَوزِيِّ رحمه الله"وَقَولُهُ (حَتَّى أَسْتَأنِسَ بِكُم) وَقَدْ سَبَقَ فِي مُسْنَدِ أَنَسٍ وَغَيرِهِ أَنَّ المَيِّتَ يَسْمَعُ خَفْقَ النِّعَالِ إِذَا وَلَّوا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ حَسُنَ أَنْ يَقُولَ: (حَتَّى أَسْتَأنِسَ بِكُم)، وَالمُرَادُ بِالرُّسُلِ هُنَا مُنْكَرٌ وَنَكِيرٌ"
(4)
.
الدَّلِيلُ الثَّالِثُ: مَا وَرَدَ عِنْدَ زِيَارَةِ القُبُورِ مِنَ الدُّعَاءِ لِلأَمْوَاتِ بِصِيغَةِ الخِطَابِ: "السَّلَامُ عَلَيكُم"، وَأَيضًا تَسْمِيَتُهَا بِـ (زِيَارةِ القُبُورِ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُم يَعْلَمُونَ مَنْ يَزورُهُم
(5)
.
(1)
شَرْحُ البُخَارِيِّ لِابْنِ بَطَّال (3/ 320).
(2)
مُسْلِمٌ (121).
(3)
شَرْحُ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ (2/ 139): "وَفِيهِ أَنَّ المَيِّتَ يَسْمَعُ حِينَئِذٍ مَنْ حَولَ القَبْرِ".
(4)
كَشْفُ المُشْكِلِ مِنْ حَدِيثِ الصَّحِيحَين (4/ 111).
(5)
وَهَذِهِ الشُّبْهَةُ مَنْقُولَةٌ عَنِ ابْنِ القَيِّمِ رحمه الله فِي كِتَابِهِ الرُّوح (ص 8).
تَنْبِيهٌ: قَالَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله فِي التَّعْلِيقِ عَلَى (الآيَاتُ البَيِّنَاتُ)(ص 39): "إِنِّي فِي شَكٍّ كَبِيرٍ مِنْ صِحَّةِ نِسْبَةِ (الرُّوحِ) إِلَيهِ، أَو لَعَلَّهُ ألَّفَهُ فِي أَوَّلِ طَلَبِهِ لِلعِلْمِ. وَاللهُ أَعْلَمُ".
وَالجَوَابُ:
أ- إِنَّ لَفْظَ الخِطَابِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَبَدًا أَنْ يَكُونَ المُخَاطَبُ سَامِعًا لِلنِّدَاءِ
(1)
! كَمَا فِي مُخَاطَبَةِ عُمَرَ رضي الله عنه لِلحَجَرِ الأَسْوَدِ فِي قَولِهِ: "إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ"
(2)
(3)
.
وَمِثْلُهُ قَولُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَمَا هَاجَرَ؛ فَخَاطَبَ مَكَّةَ قَائِلًا: ((وَاللهِ؛ إِنَّكِ لَخَيرُ أَرْضِ اللهِ وَأَحَبُّ أَرْضِ اللهِ إِلَيَّ، وَلَولَا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ))
(4)
.
(1)
وَعَلَى فُرِضَ سَمَاعُهُم؛ فَهُوَ مُقَيَّدٌ بِالزِّيَارَةِ وَبِلَفْظِ السَّلَامِ فَقَط. مُسْتَفَادٌ مِنْ تَفْسِيرِ رُوحِ المَعَانِي (11/ 57) لِلشَّيخِ مَحْمُود الآلُوسِيِّ -وَالِدِ مُؤَلِّفِ الكِتَابِ الأَصْلِ رَحِمَهُمَا اللهُ تَعَالَى-.
وَإِلى هَذَا ذَهَبَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (6/ 327)، فَقَدْ أَثْبَتَ سَمَاعَ الأَمْوَاتِ عِنْدَ قُبُورِهِم، وَاسْتَدَلَّ لَهُ بِالآثَارِ النَّبَوِيَّةِ وَالسَّلَفِيَّةِ -وَسَيَأْتِي التَّعْلِيقُ عَلَى بَعْضِهَا-، فَقَالَ رحمه الله:"وَقَدْ شُرِعَ السَّلَامُ عَلَى المَوتَى، وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَمْ يَشْعُرْ وَلَا يَعْلَمُ بِالمُسَلِّمِ مُحَالٌ! وَقَدْ عَلَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أُمَّتَهُ إِذَا رَأَوا القُبُورَ أَنْ يَقُولُوا: السَّلَامُ عَلَيكُم أَهْلَ الدِّيَارِ".
وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَولُ شَيخِ الإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي مَجْمُوِعِ الفَتَاوَى (24/ 364): "فَهَذِهِ النُّصُوصُ وَأَمْثَالُهَا تُبَيِّنُ أَنَّ المَيِّتَ يَسْمَعُ فِي الجُمْلَةِ كَلَامَ الحَيِّ، وَلَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ السَّمْعُ لَهُ دائِمًا، بَلْ قَدْ يَسْمَعُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ".
(2)
البُخَارِيُّ (1597).
(3)
قُلْتُ: وَلَا يَرِدُ عَلَيهِ مَا فِي التِّرْمِذِيِّ (961) -وَهُوَ صَحِيحٌ، كَمَا فِي صَحِيحِ الجَامِعِ (5346) - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا فِي الحَجَرِ الأَسْوَدِ:((وَاللهِ لَيَبْعَثَنَّهُ اللهُ يَومَ القِيَامَةِ لَهُ عَينَانِ يُبْصِرُ بِهِمَا، وَلِسَانٌ يَنْطِقُ بِهِ؛ يَشْهَدُ عَلَى مَنِ اسْتَلَمَهُ بِحَقٍّ)) وَذَلِكَ لِأَمْرَينِ:
الأَوَّلِ: أَنَّهُ جَمَادٌ؛ وَإِذَا شَاءَ اللهُ أَنْطَقَهُ، وَذَلِكَ كَائِنٌ يَومَ القِيَامَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فُصِّلَت: 21].
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمْ تَأْتِ فِي صِفَتِهِ السَّمَاعُ! بَلِ البَصَرُ وَالنُّطْقُ. وَالحَمْدُ للهِ.
(4)
صَحِيحٌ. التِّرْمِذِيُّ (3925) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الحَمْرَاءِ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (7089).
وَكَمُخَاطَبَةِ الصَّحَابَةِ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي حَيَاتِهِ فِي تَشَهُّدِ الصَّلَاةِ بِقَولِهِم: "السَّلَامُ عَلَيكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ" -وَهُم فِي جَمِيعِ المَسَاجِدِ- وَلَمْ يَكُنْ يَسْمَعُهُم وَيَرُدُّ عليهم السلام
(1)
! وَلَكِنَّهَا عِبَادَةٌ يُتعَبَّدُ اللهُ تَعَالَى بِهَا -أَي: دُعَاءَ دُخُولِ المَقَابِرِ، وَالتَّشَهُّدُ-.
وِمِثْلُهُ حَدِيثُ: ((مَنْ رَأَى مُبْتَلى؛ فَقَالَ: الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَافَانِي مِمَّا ابْتَلَاكَ بِهِ، وَفَضَّلَنِي عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقَ تَفْضِيلًا؛ لَمْ يُصِبْهُ ذَلِكَ البَلَاءُ))
(2)
.
قَالَ المُنَاوِيُّ رحمه الله: "قَالَ العُلَمَاءُ: يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ هَذَا الذِّكْرَ سِرًّا بِحَيثُ يُسْمِعُ نَفْسَهُ وَلَا يُسْمِعْهُ المُبْتَلَى، إِلَّا أَنْ تَكُونَ بَلِيَّتُهُ مَعْصِيَةً فَيُسْمِعُهُ -إِنْ لَمْ يَخَفْ مَفْسَدَةً-"
(3)
.
ب- وَأَمَّا الاسْتِدْلَالُ بِتَسْمِيَةِ (زِيَارَةِ القُبُورِ) وَأَنَّ مَفَادَهَا عِلْمُ أَهْلِ القُبُورِ بِمَنْ زَارَهُم كَمَا يُزَارُ الأَحْيَاءُ! فَهُوَ قِيَاسٌ غَيرُ صَحِيحٍ مُطْلَقًا، فَكَيفَ يُقَاسُ المَيِّتُ عَلَى الحَيِّ، وَهَلْ هَذَا إِلَّا أَبْعَدُ القِيَاسِ، بَلْ إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَصْلًا قَدْ سَمَّاهَا (زِيَارَةَ القُبُورِ وَلَيسَ زِيَارَةَ المَوتَى) لِأَنَّ المَزُورَ هُنَا هُوَ القَبْرُ وَلَيسَ المَيِّتَ.
وَنَقُولُ أَيضًا: إِنَّ الجَمَادَ أَيضًا تَصِحُّ تَسْمِيَةُ إِتْيَانِهِ زِيَارَةً، كَمَا وَرَدَ فِي الحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَزُورُ البَيتَ فِي الحَجِّ
(4)
، وَمِنَ المَعْلُومِ تَسْمِيَةُ طَوَافِ الإِفَاضَةِ بِطَوَافِ الزِّيَارَةِ، وَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ وَهُوَ فِي المَدِينَةِ يَزُورُ قُبَاءَ رَاكِبًا وَمَاشِيًا
(5)
؛ فَهَلْ مِنْ أَحَدٍ يَقُولُ:
(1)
وَرَدُّ السَّلَامِ وَاجِبٌ كَمَا لَا يَخْفَى.
وَمِنْ نَفْسِ البَابِ يُجَابُ عَنْ حَدِيثِ الضَّرِيرِ الَّذِي فِي سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ (3578) -وَهُوَ صَحِيحٌ- وَسَيَأْتِي إِنْ شاءَ اللهُ فِي المُلْحَقِ الثَّامِنِ عَلَى كِتَابِ التَّوحِيدِ وهو (مُخْتَصَرُ كِتَابِ: التَّوَسُّلُ؛ أَنْوَاعُهُ؛ أَحْكَامُهُ).
(2)
صَحِيحٌ. التِّرْمِذِيُّ (3432) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (602).
(3)
فَيضُ القَدِيرِ (6/ 130).
(4)
البُخَارِيُّ (2/ 174) عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما.
(5)
مُسْلِمٌ (1399) عَنِ ابْنِ عُمَرَ.
بِأَنَّ البَيتَ وَقُبَاءَ هُمَا مِنَ الأَحْيَاءِ وَلَيسَتْ جَمَادَاتٍ، وَيَشْعُرُ كُلٌّ مِنْهُا بِزِيَارَةِ الزَّائِرِ أَو أَنَّهُ يَعْلَمُ بِزِيَارَتِهِ؟!
الدَّلِيلُ الرَّابِعُ: بَعْضُ الأَحَادِيثِ الَّتِي يُسْتَدَلُّ بِهَا، وَالحُكْمُ عَلَيهَا:
1 -
((مَنْ صَلَّى عَلَيَّ عِنْدَ قَبْرِي سَمِعْتُهُ، وَمَنْ صَلَّى عَلَيَّ نَائِيًا أُبْلِغْتُهُ)). مَوضُوعٌ
(1)
.
2 -
((لَقِّنُوا مَوتَاكُمْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))
(2)
.
وَلَكِنَّ مَعْنَاهُ: مَنْ حَضَرَتْهُ الوَفَاةُ، لِذَلِكَ بَوَّبَ عَلَيهِ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ:"بَابُ مَا جَاءَ فِي تَلْقِينِ المَرِيضِ عِنْدَ المَوتِ وَالدُّعَاءِ لَهُ"، ثُمَّ قَالَ رحمه الله:"مَعْنَاهُ: مَنْ حَضَرَهُ المَوتُ؛ ذَكِّرُوهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ لِيَكُونَ آخِرَ كَلَامِهِ، كَمَا فِي الحَدِيثِ: ((مَنْ كانَ آخِرَ كَلَامِهِ "لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ" دَخَلَ الجَنَّةَ))
(3)
.
وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ بِتَمَامِهِ مَرْفُوعًا: ((لَقِّنُوا مَوتَاكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؛ فَإِنَّهُ مَنْ كَانَ آخِرَ كَلَامِهِ: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ" عِنْدَ المَوتِ؛ دَخَلَ الجَنَّةَ يَومًا مِنَ الدَّهْرِ -وَإِنْ أَصَابَهُ قَبْلَ ذَلِكَ مَا أَصَابَهُ-))
(4)
".
(1)
المَوضُوعَاتُ لِابْنِ الجَوزِيِّ (1/ 303).
قُلْتُ: وَبَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ بَنَى عَلَيهِ جَوَازَ سَمَاعِ المَيِّتِ، وَلَكِنَّهُ بَقِيَ مُقَيَّدًا عِنْدَهُ بِأَمْرَينِ:
الأَوَّلِ: أَنَّ الأَصْلَ أَنَّهُم لَا يَسْمَعُونَ -لِعُمُومِ الآيَاتِ مَوضُوعِ البَحْثِ-، وَهَذَا السَّمَاعُ هُوَ مِمَّا جُعِلَ تَحْتَ المَشِيئَةِ مِنْ قَولِهِ تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ} .
الثَّانِي: السَّمَاعُ لِمَنْ كَانَ عِنْدَ القَبْرِ، وَلَيسَ مُطلقًا نَائِيًا عَنْهُ كَمَا فِي الأَثَرِ، وَقَدْ عَلِمْتَ كَونَهُ مَوضُوعًا.
(2)
رَوَاهُ مُسْلِمٌ (916) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا.
(3)
شَرْحُ مُسْلِمٍ (6/ 219).
(4)
صَحِيحٌ. ابْنُ حِبَّانَ (3004). صَحِيحُ الجَامِعِ (5150).
3 -
حَدِيثُ: ((مَا مِنْ عَبْدٍ يَمُرُّ بِقَبْرِ رَجُلٍ كَانَ يَعْرِفُهُ فِي الدُّنْيَا فَيُسَلِّمُ عَلَيهِ؛ إِلَّا عَرَفَهُ، وَرَدَّ عليه السلام) ضَعِيفٌ
(1)
.
4 -
حَدِيثُ: كَانَتِ امْرَأَةٌ بِالمَدِينَةِ تَقُمُّ المَسْجِدَ فَمَاتَتْ، فَلَمْ يَعْلَمْ بِهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَمَرَّ عَلَى قَبْرِهَا فَقَالَ:((مَا هَذَا القَبْرُ؟)) فَقَالُوا: أُمُّ مِحْجَنٍ، قَالَ:((الَّتِي كَانَتْ تَقُمُّ المَسْجِدَ؟)) قَالُوا: نَعَمْ، فَصَفَّ النَّاسَ فَصَلَّى عَلَيهَا، ثُمَّ قَالَ:((أَيَّ العَمَلِ وَجَدْتِ أَفْضَلَ؟)) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَتَسْمَعُ؟ قَالَ:((مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ مِنْهَا))، فَذَكَرَ أَنَّهَا أَجَابَتْهُ: قَمَّ المَسْجِدِ. ضَعِيفٌ مَعْضَلٌ
(2)
.
5 -
حَدِيثُ: مَرَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى مُصْعَبِ بْنِ عُمَيرٍ حِينَ رَجَعَ مِنْ أُحُدٍ؛ فَوَقَفَ عَلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ:((أَشْهَدُ أنَّكُم أَحْيَاءُ عِنْدَ اللهِ. فَزُورُوهُم وَسَلِّمُوا عَلَيهِم، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا يُسَلِّمُ عَلَيهِم أَحَدٌ إِلَّا رَدَّوا عَلَيهِ إِلَى يَومِ القِيَامَةِ))
(3)
.
(1)
العِلَلُ المُتَنَاهِيَةُ (2/ 229) لِابْنِ الجَوزِيِّ رحمه الله، وَقَالَ:"هَذَا حَدِيثٌ لَا يَصِحُّ، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى تَضْعِيفِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ -وَهُوَ ابْنِ زَيدِ بْنِ أَسْلَمَ-".
(2)
أَورَدَهُ الحَافِظُ المُنْذِريُّ فِي التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ (1/ 122) عَنْ أَبِي الشَّيخِ الأَصْبَهَانِيُّ عَنْ عُبَيدِ اللهِ بْنِ مَرْزُوقٍ، وَقَالَ:"هَذَا مُرْسَلٌ". ضَعِيفُ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ (182).
(3)
رَوَاهُ الحَاكِمُ (2977)، وَقَالَ:"حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيخَينِ"! وَرَدَّهُ الذَّهَبِيُّ رحمه الله بِقَولِهِ: "كَذَا قَالَ! وَأَنَا أَحْسِبُهُ مَوضُوعًا".
وَقَالَ الهَيثَمِيُّ فِي المَجْمَعِ (6/ 123): "رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الأَوْسَطِ، وَفِيهِ عَبْدُ الأَعْلَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي فَرْوَةَ، وَهُوَ مَتْرُوكٌ".
بَابُ قَولِ اللهِ تَعَالَى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} [الأَعْرَاف: 192].
وَقَولِهِ: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فَاطِر: 12 - 13].
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه؛ قَالَ: شُجَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَومَ أُحُدٍ، وكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ، فَقَالَ:((كَيفَ يُفْلِحُ قَومٌ شَجُّوا نَبِيَّهُمْ؟))، فَنَزَلَتْ {لَيسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيءٌ} [آل عِمْرَان: 128]
(1)
.
وَفِيهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما؛ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ -إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرّكُوعِ مِنَ الرّكْعَةِ الآخِرَةِ مِنَ الفَجْرِ- يَقُولُ: ((اللَّهُمَّ الْعَنْ فُلَانًا وَفُلانًا وَفُلَانًا -بَعدَمَا يَقُولُ سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ؛ رَبَّنَا وَلَكَ الحَمْدُ-)). فَأَنْزَلَ اللهُ: {لَيسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيءٌ} [آل عِمْرَان: 128]
(2)
.
وَفِي رِوَايَةٍ يَدْعُو عَلَى صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ وَسُهَيلِ بْنِ عَمْرٍو وَالحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، فَنَزَلَتْ:{لَيسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيءٌ} [آل عِمْرَان: 128]
(3)
.
وَفِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه؛ قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم -حِينَ أُنْزِلَ عَلَيهِ {وَأَنْذِرْ
(1)
عَلَّقَهُ البُخَارِيُّ (5/ 99)، وَهُوَ فِي مُسْلِمٍ (1791).
(2)
البُخَارِيُّ (4559).
(3)
البُخَارِيُّ (4070).
عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشُّعَرَاء: 214]-، فَقَالَ:((يَا مَعْشَرَ قُرَيشٍ -أَو كَلِمَةً نَحْوَهَا- اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ؛ لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ شَيئًا. يَا بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ شَيئًا. يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ المُطَّلِبِ؛ لَا أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيئًا. يَا صَفِيَّةُ عَمّةَ رَسُولِ اللهِ لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيئًا. يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ رَسُولِ اللهِ سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي؛ لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيئًا))
(1)
.
(1)
رَوَاهُ البُخَارِيُّ (4771)، وَمُسْلِمٌ (206).
فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: تَفْسِيرُ الآيَتَينِ.
الثَّانِيَةُ: قِصَّةُ أُحُدٍ.
الثَّالِثَةُ: قُنُوتُ سَيِّدُ المُرْسَلِينَ، وَخَلْفَهُ سَادَاتُ الأَولِيَاءِ يُؤَمِّنُونَ فِي الصَّلَاةِ.
الرَّابِعَةُ: أَنَّ المَدْعُوَّ عَلَيهِمْ كُفَّارٌ.
الخَامِسَةُ: أَنَّهُمْ فَعَلُوا أَشْيَاءَ مَا فَعَلَهَا غَالِبُ الكُفَّارِ، مِنْهَا شَجُّهُمْ نَبِيَّهُمْ، وَحِرْصُهُمْ عَلَى قَتْلِهِ، وَمِنْهَا التَّمْثِيلُ بِالقَتْلَى -مَعَ أَنَّهُمْ بَنُو عَمِّهِمْ-.
السَّادِسَةُ: أَنْزَلَ اللهُ عَلَيهِ فِي ذَلِكَ {لَيسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيءٌ} .
السَّابِعَةُ: قَولُهُ: {أَوْ يَتُوبَ عَلَيهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} فَتَابَ عَلَيهِمْ فَآمَنُوا.
الثَّامِنَةُ: القُنُوتُ فِي النَّوَازِلِ.
التَّاسِعَةُ: تَسْمِيَةُ المَدْعُوِّ عَلَيهِمْ فِي الصَّلَاةِ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ.
العَاشِرَةُ: لَعْنُ المُعَيَّنِ فِي القُنُوتِ.
الحَادِيَةَ عَشْرَةَ: قِصَّتُهُ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أُنْزِلَ عَلَيهِ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} .
الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: جِدُّهُ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا الأَمْرِ؛ بِحَيثُ فَعَلَ مَا نُسِبَ بِسَبَبِهِ إِلَى الجُنُونِ، وَكَذَلِكَ لَو يَفْعَلُهُ مُسْلِمٌ الآنَ.
الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: قَولُهُ لِلْأَبْعَدِ وَالأَقْرَبِ: ((لَا أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيئًا)) حَتَّى قَالَ: ((يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ! لَا أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيئًا)) فَإِذَا صَرَّحَ -وَهُوَ سَيِّدُ المُرْسَلِينَ- بِأَنَّهُ لَا يُغْنِي شَيئًا عَنْ سَيِّدَةِ نِسَاءِ العَالَمِينَ، وَآمَنَ الإِنْسَانُ بِأَنَّهُ لَا يَقُولُ إِلَّا الحَقَّ، ثُمَّ نَظَرَ فِيمَا وَقَعَ فِي قُلُوبِ خَوَاصِّ النَّاسِ اليَومَ؛ تَبَيَّنَ لَهُ تَرْكُ التَّوحِيدِ وَغُرْبَةُ الدِّينِ.
الشَّرْحُ
- هَذَا البَابُ يَصْلُحُ أَنْ يُسَمَّى بِـ (بَابِ مَنْ تَعَلَّقَ بِالصَّالِحِينَ)، وَأَدِلَّتُهُ مِنْ بَابِ قِيَاسِ الأَولَى، وَقَدْ جَعَلَهُ المُصَنِّفُ رحمه الله بَعْدَ البَابَينِ السَّابِقَينِ لِبَيَانِ العِلَّةِ فِي النَّهْي عَنْ دُعَاءِ غَيرِ اللهِ تَعَالَى، فَهُوَ مِنْ بَابِ الاسْتِدْلَالِ بِتَوحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ عَلَى تَوحِيدِ الأُلُوهِيَّةِ.
- وَجْهُ اسْتِدْلَالِ المُصَنِّفِ رحمه الله فِي هَذَا البَابِ هُوَ مِنْ جِهَتَينِ:
1 -
جِهَةٍ عَامَّةٍ: وَهِيَ مِنَ الآيَتَينِ، وَفِيهَا أَنَّ الخَالِقَ الَّذِي بِيَدِهِ كُلُّ شَيءٍ هُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ وَيُدْعَى وَحْدَهُ
(1)
.
2 -
جِهَةٍ خَاصَّةٍ: وَهِيَ مِنَ الأَحَادِيثِ، وَفِيهَا الاسْتِدْلَالُ بِقِيَاسِ الأَولَى، حَيثُ أَورَدَ النُّصُوصَ فِي حَقِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالتِي تُبَيِّنُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَا يَمْلِكُ مِنَ الأَمْرِ شَيئًا وَلَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ؛ فَصَارَ غَيرُهُ مِنْ بَابِ أَولَى.
- قَولُهُ: {أَيُشْرِكُونَ} الاسْتِفْهَامُ هُنَا لِلإِنْكَارِ وَالتَّوبِيخِ. وَالمَقْصُودُ هُنَا بِـ {أَيُشْرِكُونَ} أَي: فِي العِبَادَةِ.
- الاسْتِدْلَالُ فِي قَولِهِ تَعَالَى: {أَيُشْرِكُونَ} هُوَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوجُهٍ؛ هِيَ:
1 -
أَنَّ آلِهَةَ المُشْرِكِينَ لَا تَخْلُقُ؛ وَمَنْ لَا يَخْلُقُ لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ
(2)
.
(1)
وَهَذِهِ مِنَ الأَدِلَّةِ العَقْلِيَّةِ الَّتِي دَلَّ الشَّرْعُ إِلَى الاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى وَحْدَانيَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي أُلُوهِيَّتِهِ.
(2)
وَكَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [النَّحْل: 17]،
وَكَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يُونُس: 31 - 32]، يَعْنِي: أَتُقِرُّونَ بِذَلِكَ فَلَا تَتَّقُونَ الشِّرْكَ بِهِ!.
2 -
أَنَّهُم مَخْلُوقُونَ مِنَ العَدَمِ فَهُم مُفْتَقِرُونَ إِلَى غَيرِهِم ابْتِدَاءً.
3 -
أَنَّهُم لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ مَنْ دَعَاهُم.
4 -
أَنَّهُم لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسَهُم
(1)
.
- قَولُهُ: (شُجَّ): الشُّجَّةُ: الجُرْحُ فِي الرَّأْسِ خَاصَّةً.
- قَولُهُ: (وكُسِرَتْ رَبَاعِيَّتُهُ): الرَّبَاعِيَّةُ مَا بَينَ الثّنيَّةِ وَالنَّابِ.
- قَولُهُ: (شُجَّ النَّبِيُّ): إِذَا كَانَ هَذَا أَفْضَلُ الخَلْقِ وَأَقْرَبُ النَّاسِ مَنْزِلَةً إِلَى اللهِ تَعَالَى وَأَفْضَلُ الأَنْبِيَاءِ؛ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ الضُّرَّ وَلَا عَنْ أَصْحَابِهِ -وَهُمْ خَيرُ القُرُونِ- فَصَارَ فِي الحَدِيثِ الدَّلَالةُ عَلَى أَنَّهُ -وَمَنْ هُوَ دُونَهُ مِنْ سَادَةِ الأَولِيَاءِ مِنْ بَابِ أَولَى- لَا يَسْتَحِقُّونَ أَنْ يُعْبَدُوا، وَيُتَعَلَّقَ بِهِم فِي كَشْفِ الضُّرِّ.
قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رحمه الله: "وَفِي هَذَا وُقُوعُ الأَسْقَامِ وَالابْتِلَاءِ بِالأَنْبِيَاءِ -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيهِم- لِيَنَالُوا بِذَلِكَ جَزِيلَ الأَجْرِ وَالثَّوَابِ، وَلِتَعْرِفَ الأُمَمُ مَا أَصَابَهُم وَيأْتَسُوا بِهِم.
وَقَالَ القَاضِي رحمه الله: وَلِيُعْلَمَ أَنَّهُم مِنَ البَشَرِ تُصِيبُهُم مِحَنُ الدُّنْيَا، وَيَطْرَأُ عَلَى أَجْسَامِهِم مَا يَطْرَأُ عَلَى البَشَرِ"
(2)
.
(1)
قُلْتُ: وَتَأَمَّلْ صَنِيعَ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام تَجِدُهُ مِنْ هَذَا القَبِيلِ، قَالَ تَعَالَى:{فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيهِ يَرْجِعُونَ} [الأَنْبِيَاء: 58].
(2)
شَرْحُ مُسْلِمٍ لِلْنَّوَوِيِّ (12/ 148).
- قَولُهُ تَعَالَى: {لَيسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيءٌ} نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْي فَتَعُمُّ كُلَّ شَيءٍ، فَصَارَ فِيهَا الدِّلَالَةُ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَا يَمْلِكُ النَّفْعَ -وَمَنْ هُوَ دُونَهُ مِنْ سَادَةِ الأَولِيَاءِ مِنْ بَابِ أَولَى- فَبَطَلَ بِذَلِكَ التَّعَلُّقُ بِهِ صلى الله عليه وسلم فِي جَلْبِ النَّفْعِ، وَهُوَ مِصْدَاقُ قَولِهِ تَعَالَى:{قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأَعْرَاف: 188].
وَأَيضًا فِي قَولِهِ صلى الله عليه وسلم: ((سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي؛ لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيئًا)) أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ النَّفْعَ لِغَيرِهِ، وَهِيَ رضي الله عنها مِنْ أَقْرَبِ النَّاسِ إِلَيهِ، فكَيفَ بِغَيرِهَا؟!
- قَولُهُ: ((اللَّهُمَّ العَنْ فُلَانًا وَفُلانًا وَفُلَانًا)) فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: {لَيسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيءٌ}
(1)
: فِيهِ دِلَالَةٌ عَلَى أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَا يَمْلِكُ الضُّرَّ لِأَحَدٍ، حَيثُ نُهِيَ عَنِ الدُّعَاءِ عَلَيهِم وَعَنْ لَعْنِهِم، فَصَارَ مِنْ بَابِ أَولَى أَنَّ غَيرَهُ لَا يَمْلِكُ الضُّرَّ، فَبَطَلَ بِذَلِكَ التَّعَلُّقُ بِهِ -وَمَنْ هُوَ دُونَهُ مِنْ سَادَةِ الأَولِيَاءِ مِنْ بَابِ أَولَى- فِي الضُّرِّ وَالنَّفْعِ.
- قَولُهُ: ((لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيئًا))
(2)
:
فِيهِ بَيَانُ أَنَّ المَرْءَ لَا يَنْفَعُهُ إِلَّا عَمَلُهُ الصَّالِحُ.
وَفِيهِ: جَوَازُ سُؤَالِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم مَا يَقْدِرُ عَلَيهِ فِي حَيَاتِهِ.
وَفِيهِ: بُطْلَانُ الاعْتِمَادِ عَلَى النَّسَبِ فِي دَفْعِ العَذَابِ دُونَ العَمَلِ الصَّالِحِ، كَمَا أَنَّ
(1)
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (7/ 195): "وَذُكِرَ أَنَّ اللهَ عز وجل إِنَّمَا أَنْزَلَ هَذِهِ الآيَةَ عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّهُ لَمَّا أَصَابَهُ بِأُحُدٍ مَا أَصَابَهُ مِنَ المُشْرِكِينَ، قَالَ -كَالآيِسِ لَهُم مِنَ الهُدَى أَو مِنَ الإِنَابَةِ إِلَى الحَقِّ-:((كَيفَ يُفْلِحُ قَومٌ فَعَلُوا هَذَا بِنَبِيِّهِم!!)).
(2)
وَفِي لَفْظِ مُسْلِمٍ (204): ((أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ)).
نُوحًا عليه السلام لَمْ يَنْفَعْ وَلَدَهُ، وَلَا إِبْرَاهِيمَ عليه السلام أَبَاهُ، وَلَا نُوحًا وَلُوطًا عليهما السلام أَزْوَاجَهُمَا.
وَتَأَمَّلْ قَولَهُ تَعَالَى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَينِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَينِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} [التَّحْرِيم: 10]، فَقَدْ جَعَلَهُ اللهُ مَثَلًا لِلاعْتِبَارِ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ أَخْذِ الحِكْمَةِ مِنْهُ.
- فِي قَولِهِ: ((سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي؛ لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيئًا)) بَيَانُ القَاعِدَةِ الكُلِّيَّةِ فِي التَّوحِيدِ، وَهِيَ: أَنَّ مَا كَانَ للهِ لَا يُطْلَبُ مِنْ غَيرِ اللهِ، فَلَا يَخْفَى الفَرْقُ بَينَ قَولِهِ:((مِنْ مَالِي)) وَبَينَ ((مِنَ اللهِ شَيئًا)).
وَعِنْدَ التِّرْمِذِيِّ بِلَفْظِ: ((أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ؛ فَإِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ ضَرًّا أَو نَفْعًا))
(1)
.
- فَائِدَة 1: فِي قَولِهِ تَعَالَى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} إِرْشَادٌ إِلَى أَنَّ الدَّاعِيَةَ وَالآمِرَ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّاهِيَ عَنِ المُنْكَرِ يَبْدَأُ بِأَهْلِ بَيتِهِ وَخَاصَّتِهِ أَوَّلًا، ثُمَّ بِجِيرَانِهِ وَأَهْلِ بَلَدِهِ، ثُمَّ يَتَوَسَّعُ بِالخَيرِ إِلَى مَنْ حَولَهُ مِنَ البِلَادِ، أَمَّا العَكْسُ؛ فَهَذَا خِلَافُ مَنْهَجِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم.
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله: "وَالسِّرُّ فِي الأَمْرِ بِإِنْذَارِ الأَقْرَبِينَ أَوَّلًا؛ أَنَّ الحُجَّةَ إِذَا قَامَتْ عَلَيهِم تَعدَّتْ إِلَى غَيرِهِم؛ وَإِلَّا فَكَانُوا عِلَّةٍ لِلأَبْعَدِينَ فِي الامْتِنَاعِ"
(2)
.
قُلْتُ: وَأَيضًا مِنْ جِهَةِ حَقِّ الرَّحِمِ؛ فَإِنّ الأَقْرَبَ هُوَ الأَولَى بِالنَّفْعِ.
(1)
صَحِيحٌ. التِّرْمِذِيِّ (3185). صَحِيحُ الجَامِعِ (7983).
(2)
فَتْحُ البَارِي (8/ 503).
- فَائِدَة 2: الفَرْقُ بَينَ الحَمْدِ وَالمَدْحِ: أَنَّ الحَمْدَ إِخْبَارٌ عَنْ مَحَاسِنِ المَحْمودِ مَعَ حُبِّهِ وَإِجْلَالِهِ وَتَعْظِيمِهِ، أَمَّا المَدْحُ فَإِنَّهُ خَبَرٌ مُجَرَّدٌ.
- فَائِدَة 3: قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله: "وَالثَّلَاثَةُ الَّذِينَ سَمَّاهُمْ قَدْ أَسْلَمُوا يَومَ الفَتْحِ، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السِّرُّ فِي نُزُولِ قَولِهِ تَعَالَى: {لَيسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيهِمْ} "
(1)
.
قُلْتُ: فَفِيهِ فَائِدَةٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّكَ إِذَا رَأَيتِ إِنْسَانًا غَارِقًا بِالمَعَاصِي؛ فَلَا تَسْتَبْعِدْ رَحْمَةَ اللهِ لَهُ! فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ يَتُوبُ عَلَيهِ، لِذَلِكَ فَإِنَّ مِنْ مَنْهَجِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ أَنَّ لَا يَشْهَدُوا لِأَحَدٍ بِجَنَّةٍ وَلَا بِنَارٍ إِلَّا مَنْ شَهِدَ لَهُ النَّصُّ، كَمَا فِي (العَقِيدَةِ الطَّحَاوِيَّةِ):"وَلَا نُنَزِّلُ أَحَدًا مِنْهُم جَنَّةً ولَا نَارًا"
(2)
.
- فَائِدَة 4: إِذَا كَانَ القُرْبُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَا يُغْنِي عَنِ القَرِيبِ شَيئًا! دَلَّ ذَلِكَ عَلَى مَنْعِ التَّوَسُّلِ بِجَاهِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، لِأَنَّ جَاهَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَا يَنْتَفِعُ بِهِ إِلَّا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَلِهَذَا كَانَ أَصَحَّ قَولَي أَهْلِ العِلْمِ تَحْرِيمُ التَّوَسُّلِ بِجَاهِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
(3)
.
- فَائِدَة 5: فِي الحَدِيثِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ الإِمَامَ -فِي الصَّلَاةِ- يَجْمَعُ بَينَ التَّسْمِيعِ وَالتَّحْمِيدِ.
(1)
فَتْحُ البَارِي (7/ 366).
(2)
العَقِيدَةُ الطَّحَاوِيَّةُ (ص 67).
(3)
القَولُ المُفِيدُ (1/ 297).
مَسَائِلُ عَلَى البَابِ
-
المَسْأَلَةُ الأُولَى: قَولُهُ تَعَالَى: {مِنْ قِطْمِيرٍ} {مِنْ} هُنَا جَاءَ فِي إِعْرَابِهَا أَنَّهَا حَرْفُ جَرٍّ زَائِدٍ،
فكَيفَ يَسْتَقِيمُ هَذَا القَولُ مَعَ مَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي الشَّرِيعَةِ مِنْ أَنَّ كَلَامَ اللهِ تَعَالَى مُحْكَمٌ وَكَامِلٌ لَيسَ فِيهِ زِيَادَةٌ وَلَا نَقْصٌ؟!
الجَوَابُ:
إِنَّهَا زِيَادَةٌ مِنْ جِهَةِ الإِعْرَابِ؛ لَا أَنَّهَا زَائِدَةٌ مِنْ حَيثُ المَعْنَى! فَإِنَّ مَعْنَاهَا التَّوكيدَ
(1)
.
(1)
ذَكَرَهُ بِمَعْنَاهُ الزَّرْكَشيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (البُرْهَانُ)(3/ 72).
-
المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَا فَائِدَةُ التَّخْصِيصِ بِالحَمْدِ فِي قَولِ المُصَلِّي: (سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ)
وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى سَمِيعٌ لِكُلِّ شَيءٍ؟!
الجَوَابُ:
إِنَّ السَّمَاعَ هُنَا بِمَعْنَى الاسْتِجَابَةِ، وَلَيسَ مُطْلَقَ السَّمَاعِ! وَهَذَا الأُسْلُوبُ يُسَمَّى عِنْدَ العَرَبِ بِالتَّضْمِينِ، لِذَلِكَ يُلْحَقُ بِالفِعْلِ الأَوَّلِ مَا يَدُلُّ عَلَى المَعْنَى المُضَمَّنِ فِي الفِعْلِ الثَّانِي، وَهُوَ اللَّامُ هُنَا.
وَقَالَ العَلَّامَةُ الصَّنْعَانِيُّ رحمه الله: "سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ: أَي: أَجَابَ اللهُ مَنْ حَمِدَهُ؛ فَإِنَّ مَنْ حَمِدَ اللهَ تَعَالَى مُتَعَرِّضًا لِثَوَابِهِ؛ اسْتَجَابَ اللهُ لَهُ، وَأَعْطَاهُ مَا تَعَرَّضَ لَهُ؛ فَنَاسَبَ بَعْدَهُ أَنْ يَقُولَ: رَبَّنَا وَلَك الحَمْدُ"
(1)
.
(1)
سُبُلُ السَّلَامِ (1/ 267).
-
المَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَا صِحَّةُ زَعْمِ بَعْضِهِم فِي أَنَّ مَا جَاءَ فِي الحَدِيثِ مِنْ كَونِهِ صلى الله عليه وسلم لَا يَمْلِكُ لِأَهْلِهِ وَلِلنَّاسِ شَيئًا؛ أَنَّهُ لَا يَعْنِي عَدَمَ نَفْعِهِ لَهُم فِي الآخِرَةِ!
لِأَنَّ مَنْ نُفِيَ عَنْهُم النَّفْعُ هُمُ الَّذِينَ لَمْ يُؤمِنُوا بِهِ أَصْلًا، فَالمَقْصُودُ بِالحَدِيثِ هُوَ:"لَا أُغْنِي عَنْكُم مِنَ اللهِ شَيئًا إِذَا لَمْ تُؤمِنُوا، أَمَّا إِذَا آمَنْتُم فَإِنِّي أُغْنِي عَنْكُم"؟
الجَوَابُ:
هَذَا الزَّعْمُ لَيسَ بِصَحِيحٍ، فَهُنَا نَفِيٌ مُطْلَقٌ؛ وَلَا يَخْتَصُّ بِالكُفَّارِ فَقَطْ -كَمَا يَزْعُمُهُ أَرْبَابُ التَّعَلُّقِ بِالصَّالِحِينَ-! بَلْ يَتَعَلَّقُ أَيضًا بِأَهْلِ الإِيمَانِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَا يُغْنِي عَنْهُم شَيئًا.
وَبَيَانُ ذَلِكَ مِنْ أَوجُهٍ:
أ- أَنَّ هَذَا نَفْيٌ مُطْلَقٌ؛ فَيَشْمَلُ الجَمِيعَ، وَلَا دَلِيلَ هُنَا عَلَى التَّخْصِيصِ.
ب- أَنَّهُ مُؤَيَّدٌ بِعُمُومَاتِ الشَّرِيعَةِ.
كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَيسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عِمْرَان: 128].
وقَالَ تَعَالَى أَيضًا: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عِمْرَان: 129].
وقَالَ تَعَالَى أَيضًا: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأَعْرَاف: 188].
جـ- أَنَّ قَولَهُ صلى الله عليه وسلم: ((لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيئًا)) يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ صَرَاحَةً؛ فَإِنَّ
فَاطِمَةَ رضي الله عنها مُؤْمِنَةٌ
(1)
؛ وَمَعْ ذَلِكَ خُوطِبَتْ بِهَذَا الخِطَابِ.
د- أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ أَنَّ يَومَ القِيَامَةِ لَا يَمْلِكُ أَحَدٌ لِأَحَدٍ شَيئًا، قَالَ تَعَالَى:{يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانْفِطَار: 19]، وَتَأَمَّلْ كَونَ النَّفْسِ فِي الآيَةِ جَاءَتْ نَكِرَةً فِي حَقِّ الشَّافِعِ والمَشْفُوعِ وَجِهَةِ الشَّفَاعَةِ؛ الأَمْرَ الَّذِي يَعْنِي أَنَّهُ أَيًّا كَانَ الشَّافِعُ، وَأَيًّا كَانَ المَشْفُوعُ فِيهِ، وَأَيًّا كَانَ وَجْهُ الشَّفَاعَةِ؛ فَلَا يَمْلِكُ أَحَدٌ لِأَحَدٍ شَيئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَى.
هـ- أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ بيَّنَ فِي بَعْضِ أَحَادِيثِهِ الشَّرِيفَةِ أَنَّهُ لَا يُغْنِي عَنْ أُمَّتِهِ نَفْسِهَا شَيئًا إِذَا جَاءُوهُ بِالمَعَاصِي -وَلَيسَ بِالكُفْرِ فَقَط-، كَمَا فِي الحَدِيثِ:((إِنَّ أَولِيَائِي يَومَ القِيَامَةِ المُتَّقُونَ -وَإِنْ كَانَ نَسَبٌ أَقْرَبَ مِنْ نَسَبٍ-؛ فَلَا يَأْتِينِي النَّاسُ بِالأَعْمَالِ وَتَأْتُونَ بِالدُّنْيَا تَحْمِلُونَهَا عَلَى رِقَابِكُمْ، فَتَقُولُونَ: يَا مُحَمَّدُ! فَأَقُولُ: هَكَذَا وَهَكَذَا؛ لَا)) وَأَعْرَضَ فِي كِلَا عِطْفَيهِ
(2)
.
وَأَمَّا الشَّفَاعَةُ الَّتِي أُعْطِيَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم؛ فَهِيَ لَيسَتْ مِلْكًا لَهُ، وَلَكِنَّهَا مِلْكٌ للهِ تَعَالَى، لِذَلِكَ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يَأْذَنُ لِمَنْ شَاءَ وَفِيمَنْ شَاءَ أَنْ يُشْفَعَ فِيهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النَّجْم: 26]. وَسَيَأْتِي قَرِيبًا -إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى- الكَلَامُ بِتَوَسُّعٍ فِي بَابِ الشَّفَاعَةِ.
(1)
وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْهَا بِأَنَّهَا: ((سَيِّدَةُ نِسَاءِ المُؤْمِنِينَ)). رَوَاهُ البُخَارِيُّ (6285)، وَمُسْلِمٌ (2450) عِنْ فَاطِمَةَ رضي الله عنها.
(2)
حَسَنٌ. الأَدَبُ المُفْرَدُ (897) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ. الصَّحِيحَةُ (765).
-
المَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إِذَا كَانَ اللهُ تَعَالَى قَدْ أَعْطَى لِعِيسَى عليه الصلاة والسلام آيَاتٍ عَلَى صِدْقِهِ مِنْ إِحْيَاءِ المَوتَى،
وَمِنْ عِلْمِ الغَيبِ، وَمِنْ إِبْرَاءِ المَرْضَى؛ فَهَلْ يَجُوزُ دُعَاؤُهُ لِتَحْصِيلِ ذَلِكَ الخَيرِ؟
الجَوَابُ:
لَا يَجُوزُ أَنْ يُدْعَى عِيسَى عليه الصلاة والسلام، وَذَلِكَ لِأَسْبَابٍ؛ مِنْهَا:
1 -
أَنَّ هَذِهِ الأَشْيَاءَ الَّتِي جَاءَ بِهَا عِيسَى عليه السلام هِي مَقْرُونَةٌ بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَى كَمَا فِي نَفْسِ سِيَاقِ الآيَاتِ الكَرِيمَاتِ مِنْ قَولِهِ تَعَالَى: {وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيئَةِ الطَّيرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آلِ عِمْرَان: 49]، فَهُوَ لَا يَمْلِكُهَا اسْتِقْلَالًا، لِأَنَّهَا مِنْ بَابِ إِظْهَارِ الآيَاتِ عَلَى صِدْقِهِ وَعَلَى تَأْيِيدِ رَبِّهِ لَهُ.
وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [الرَّعد: 38]، وَعَلَى ذَلِكَ لَا يَصِحُّ أَنْ يَدْعُوهُ أَحَدٌ مِنْ دُونِ اللهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا يَدْعُو اللهَ تَعَالَى وَحْدَهُ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَأْذَنُ بِحُصُولِ الخَيرِ وَدَفْعِ الضُّرِّ.
وَكَذَلِكَ الأَولِيَاءُ الصَّالِحُونَ -إِنْ أُعْطِيَ أَحَدٌ مِنْهُم مَا يُسَمَّى بِالكَرَامَةِ- فَلَا يَعْنِي ذَلِكَ جَوَازَ دُعَائِهِ! لِكَونِهِ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهَا كَمَا يَشَاءُ.
2 -
أَنَّ الاسْتِغَاثَةَ وَالتَّعَلُّقَ بِهِم فِي تَفْرِيجِ الكُرُبَاتِ شِرْكٌ، بَلْ أَصْلُ شِرْكِ العَالَمِينَ هُوَ التَّعَلُّقُ بِالصَّالِحِينَ وَجَعْلُهُم وَسَائِطَ بَينَ اللهِ تَعَالَى وَبَينَ النَّاسِ.
قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [الأَحْقَاف: 5].
وَتَأَمَّلْ كَيفَ أَنَّ عِيسَى عليه الصلاة والسلام قَدْ قَالَ لِقَومِهِ - فِي سِيَاقِ ذِكْرِ الآيَاتِ التِي أَتَى بِهَا - {إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [آلِ عِمْرَان: 51] الأَمْرَ الَّذِي يُفِيدُ أَنَّهُ وَإِيَّاهُم سَوَاءٌ فِي العُبُودِيَّةِ للهِ وَالخُضُوعِ لَهُ تَعَالَى، وَقَدْ عُلْمَ قَولُهُ عليه الصلاة والسلام:((الدُّعَاءُ هُوَ العِبَادَةُ))
(1)
.
3 -
أَنَّ كَونَ عِيسَى عليه الصلاة والسلام حَيًّا -قَدْ رَفَعَهُ اللهُ تَعَالَى- لَا يَعْنِي أَنَّهُ عَالِمٌ بِمَا هُوَ حَالُ النَّاسِ فِي الأَرْضِ وَأَنَّهُ يَسْمَعُهُم!
وَدَلِيلُ ذَلِكَ قَولُهُ تَعَالَى: {وَكُنْتُ عَلَيهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ شَهِيدٌ} [المَائِدَة: 117]، فَهُوَ غَائِبٌ وَلَيسَ بِحَاضِرٍ.
وَتأَمَّلْ حَدِيثَ: ((أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الحَوضِ، وَلأُنازعَنَّ أقْوَامًا ثمَّ لَأُغْلَبَنَّ عَلَيهِمْ فأَقُولُ: يَا رَبِّ؛ أَصْحَابِي أَصْحَابِي! فَيَقُولُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ))
(2)
.
4 -
أَنَّ عِيسَى عليه الصلاة والسلام لَمْ يَمْلِكْ لِنَفْسِهِ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا عِنْدَمَا أَرَادَ قَومُهُ قَتْلَهُ؛ فَكَيفَ يَمْلِكُ لِغَيرِهِ نَفْعًا أَو ضَرًّا؟!
بَلْ حَتَّى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ تَعَالَى عَنْهُ: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأَعْرَاف: 188].
وَقَدْ نَهَى اللهُ تَعَالَى عَنْ دُعَاءِ غَيرِهِ فَقَالَ: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ * وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ
(1)
صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (18436) عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (3407).
(2)
رَوَاهُ البُخَارِيُّ (6576)، وَمُسْلِمٌ (2297) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا.
وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يُونُس: 106 - 107].
5 -
أَنَّ الكُفَّارَ كَانُوا يَعْبُدُونَ المَسِيحَ؛ وَوَصَفَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِأَنَّهُم كُفَّارٌ -رُغْمَ مَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنَ الآيَاتِ الَّتِي أَتَى بِهَا-.
بَابُ قَولِ اللهِ تَعَالَى {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سَبَأ: 23].
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قَالَ: ((إِذَا قَضَى اللهُ الأَمْرَ فِي السَّمَاءِ ضَرَبَتِ المَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَولِهِ كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانٍ يَنْفُذُهُم ذَلِكَ {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سَبَأ: 23]، فَيَسْمَعُهَا مُسْتَرِقُ السَّمْعِ، وَمُسْتَرِقُ السَّمْعِ هَكَذَا بَعْضُهُ فَوقَ بَعْضٍ -وَوَصَفَ سُفْيَانُ بِكَفِّهِ فَحَرَفَهَا وَبَدَّدَ بَينَ أَصَابِعِهِ- فَيَسْمَعُ الكَلِمَةَ، فَيُلْقِيهَا إِلَى مَنْ تَحْتَهُ، ثُمَّ يُلْقِيهَا الآخَرُ إِلَى مَنْ تَحْتَهُ، حَتَّى يُلْقِيَهَا عَلَى لِسَانِ السَّاحِرِ أَوِ الكَاهِنِ. فَرُبَّمَا أَدْرَكَ الشِّهَابُ قَبْلَ أَنْ يُلْقِيَهَا وَرُبَّمَا أَلْقَاهَا قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُ، فَيَكْذِبُ مَعَهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ، فَيُقَالُ: أَلَيسَ قَدْ قَالَ لَنَا يَومَ كَذَا وَكَذَا: كَذَا وَكَذَا؟ فَيُصَدَّقُ بِتِلْكَ الكَلِمَةِ الَّتِي سُمِعَتْ مِنَ السَّمَاءِ))
(1)
.
وَعَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سِمْعَانَ رضي الله عنه؛ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((إِذَا أَرَادَ اللهُ تَعَالَى أَنْ يُوحِيَ بِالأَمْرِ؛ تَكَلَّمَ بِالوَحْيِ؛ أَخَذَتِ السَّمَوَاتِ مِنْهُ رَجْفَةٌ -أَو قَالَ رِعْدَةٌ شَدِيدَةٌ- خَوفًا مِنَ اللهِ عز وجل. فَإِذَا سَمِعَ ذَلِكَ أَهْلُ السَّمَوَاتِ؛ صَعِقُوا وَخَرُّوا لِلَّهِ سُجَّدًا، فَيَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَرْفَعُ رَأْسَهُ جِبْرِيلُ، فَيُكَلِّمُهُ اللهُ مِنْ وَحَيِّهِ بِمَا أَرَادَ، ثُمَّ يَمُرُّ جِبْرِيلُ عَلَى المَلَائِكَةِ، كُلَّمَا مَرَّ بِسَمَاءٍ؛ سَأَلَهُ مَلَائِكَتُهَا مَاذَا قَالَ رَبُّنَا يَا جِبْرِيلُ؟ فَيَقُولُ: قالَ: الْحَقَّ، وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ، فَيَقُولُونَ كُلُّهُمْ مِثْلَ مَا قَالَ جِبْرِيلُ، فَيَنْتَهِي جِبْرِيلُ بِالوَحْيِ إِلَى حَيثُ أَمَرَهُ اللهُ عز وجل)
(2)
.
(1)
البُخَارِيُّ (4800).
(2)
لَهُ شَوَاهِدُ.
قَالَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ ظِلَالُ الجَنَّةِ: ضَعِيفٌ، بِرَقَم (515).
وَقَالَ أَيضًا رحمه الله فِي تَحْقِيقِ كِتَابِ (التَّنْكِيلُ)(2/ 735) لِلشَّيخِ المُعَلِّميِّ اليَمَانِيِّ (ت 1386 هـ) رَحِمَهُمَا اللهُ:
"المَتْنُ
غَيرُ مُنْكَرٍ؛ فلَهُ شَوَاهِدُ؛ .. فَالنَّكَارَةُ فِي السَّنَدِ فَقَط".
وَقَالَ السُّيُوطِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ الدُّرُّ المَنْثُورُ (6/ 698): "وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ خُزَيمَةَ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو الشَّيخِ فِي العَظَمَةِ وَابْنُ مَرْدَوِيه وَالبَيهَقِيُّ فِي الأَسْمَاءِ وَالصِّفاتِ عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سِمْعَانَ
…
".
فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: تَفْسِيرُ الآيَةِ.
الثَّانِيَةُ: مَا فِيهَا مِنَ الحُجَّةِ عَلَى إِبْطَالِ الشِّرْكِ، خُصُوصًا مَنْ تَعَلَّقَ بِالصَّالِحِينَ، وَهِيَ الآيَةُ الَّتِي قِيلَ: إِنَّهَا تَقْطَعُ عُرُوقَ شَجَرَةِ الشِّرْكِ مِنَ القَلْبِ.
الثَّالِثَةُ: تَفْسِيرُ قَولِهِ: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} .
الرَّابِعَةُ: سَبَبُ سُؤَالِهِمْ عَنْ ذَلِكَ.
الخَامِسَةُ: أَنَّ جِبْرِيلَ يُجِيبُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ بِقَولِهِ: (قَالَ: كَذَا وَكَذَا).
السَّادِسَةُ: ذِكْرُ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ يَرْفَعُ رَأْسَهُ جِبْرِيلُ.
السَّابِعَةُ: أَنَّهُ يَقُولُ لِأَهْلِ السَّمَوَاتِ كُلِّهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ يَسْأَلُونَهُ.
الثَّامِنَةُ: أَنَّ الغَشْيَ يَعُمُّ أَهْلَ السَّمَوَاتِ كُلَّهُمْ.
التَّاسِعَةُ: ارْتِجَافُ السَّمَوَاتِ لِكَلَامِ اللهِ.
العَاشِرَةُ: أَنَّ جِبْرِيلَ هُوَ الَّذِي يَنْتَهِي بِالوَحْيِ إِلَى حَيثُ أَمَرَهُ اللهُ.
الحَادِيَةَ عَشْرَةَ: ذِكْرُ اسْتِرَاقِ الشَّيَاطِينِ.
الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: صِفَةُ رُكُوبِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا.
الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: إِرْسَالُ الشِّهَابِ.
الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: أَنَّهُ تَارَةً يُدْرِكُهُ الشِّهَابُ قَبْلِ أَنْ يُلْقِيَهَا، وَتَارَةً يُلْقِيهَا فِي أُذُنِ وَلِيِّهِ مِنَ الإِنْسِ قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُ.
الخَامِسَةَ عَشْرَةَ: كَونُ الكَاهِنِ يَصْدُقُ بَعْضَ الأَحْيَانِ.
السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: كَونُهُ يَكْذِبُ مَعَهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ.
السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: أَنَّهُ لَمْ يُصَدَّقْ كَذِبَهُ إِلَّا بِتِلْكَ الكَلِمَةِ الَّتِي سُمِعَتْ مِنَ السَّمَاءِ.
الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: قَبُولُ النُّفُوسُ لِلْبَاطِلِ؛ كَيفَ يَتَعَلَّقُونَ بِوَاحِدَةٍ وَلَا يُعْتَبَرُونَ بِمِائَةٍ!
التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: كَونُهُمْ يَتَلَقَّى بَعْضُهُمُ مِنْ بَعْضِ تِلْكَ الكَلِمَةَ وَيَحْفَظُونَهَا وَيَسْتَدِلُّونَ بِهَا.
العِشْرُونَ: إِثْبَاتُ الصِّفَاتِ خِلَافًا لِلْأَشْعَرِيَّةِ المُعَطِّلَةِ.
الحَادِيَةُ وَالعِشْرُونَ: التَّصْرِيحُ بِأَنَّ تِلْكَ الرَّجْفَةَ وَالغَشْيَ خَوفًا مِنَ اللهِ عز وجل.
الثَّانِيَةُ وَالعِشْرُونَ: أَنَّهُمْ يَخِرُّونَ لِلَّهِ سُجَّدًا.
الشَّرْحُ
- هَذَا البَابُ يَصْلُحُ أَنْ يُسَمَّى (بَابَ مَنْ تَعَلَّقَ بِالمَلَائِكَةِ) حَيثُ تَعَلَّقَ المُشْرِكُونَ بِهِم لِحُصُولِ الشَّفَاعَةِ.
- مُنَاسَبَةُ الآيَةِ لِلتَّوحِيدِ: أَنَّهُ إِذَا كَانَ تَعَالَى مُنْفَرِدًا فِي العَظَمَةِ وَالكِبْرِيَاءِ؛ فَيَجِبُ أَنْ يُفْرَدَ بِالعِبَادَةِ، فَلَا يُجْعَلَ وَسَائِطَ بَينَهُ وَبَينَ خَلْقِهِ؛ لَا مَلَكًا مُقَرَّبًا وَلَا نَبِيًّا مُرْسَلًا.
- قَولُهُ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} فِي قِرَاءَةٍ (فُرِّغَ عَنْ)
(1)
، وَمَعْنَاهُ ذَهَبَ عَنْ قُلُوبِ المَلَائِكَةِ مَا حَلَّ فِيهَا مِنَ الفَزَعِ
(2)
، وَالفَزَعُ هُوَ الخَوفُ المُفَاجِئُ.
- سِيَاقُ الآيَةِ الكَرِيمَةِ هُوَ {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سَبَأ: 22 - 23].
- فِي البَابِ بَيَانُ حَالِ المَلَائِكَةِ عِنْدَ رَبِّهَا وَإشْفَاقِهَا مِنْ خَشيَتِهِ، وَعَلَيهِ فَلَا يَصِحُّ التَّعَلُّقُ بِهِم دُونَ اللهِ تَعَالَى بِحُجَّةِ الشَّفَاعَةِ!
كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُم: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَينَ أَيدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ * وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ
(1)
البُخَارِيُّ (4/ 1737).
(2)
قَالَ الجَوهَرِيُّ رحمه الله فِي الصِّحَاحِ (3/ 1258): "الإِفْزَاعُ: الإِخَافَةُ، وَفُزِّعَ عَنْهُ: أَي: كُشِفَ عَنْهُ الخَوفُ، وَمِنْهُ قَولُهُ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} أَي: كُشِفَ عَنْهَا الفَزَعُ".
مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأَنْبِيَاء: 26 - 29].
قُلْتُ: وَتَأَمَّلِ الاقْتِرَانَ بَينَ الشَّفَاعَةِ وَالخَشْيَةِ تَرَى المُطَابقَةَ مَعَ الآيَةِ وَالحَدِيثِ اللَّذَينِ فِي البَابِ، وَتَعْلَم بِذَلِكَ مَقْصُودَ المُصَنِّفِ مِنْ إِيرَادِهِمَا.
- السِّيَاقُ فِي الآيَةِ السَّابِقَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا شَفَاعَةَ إلّا بإِذْنِ اللهِ تَعَالَى، وَلَمَّا كَانَتِ المَلَائِكَةُ عِنْدَ المُشْرِكِينَ هُم بَنَاتُ اللهِ -تَعَالَى اللهُ عَنْ ذَلِكَ- وَكَانُوا يَطْلُبُونَ مِنْهَا الشَّفَاعَةَ؛ حَسُنَ إِيرَادُ حَالِ المَلَائِكَةِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، فَصَارَ فِي ذَلِكَ بَيَانُ حَالِ مَنْ لَا يَخْلُقُ مَعَ مَنْ يَخْلُقُ.
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله -عِنْدَ تَفْسِيرِ سُورَةِ النَّجْمِ-: "وَقَولُهُ: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النَّجْم: 26] كَقَولِهِ: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البَقَرَة: 255]، {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سَبَأ: 23]، فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي حَقِّ المَلَائِكَةِ المُقَرَّبِينَ، فكَيفَ تَرْجُونَ أَيُّهَا الجَاهِلُونَ شَفَاعَةَ هَذِهِ الأَصْنَامِ وَالأنْدَادِ عِنْدَ اللهِ؛ وَهُوَ لَمْ يَشْرَعْ عِبَادَتَهَا وَلَا أَذِنَ فِيهَا؟! بَلْ قَدْ نَهَى عَنْهَا عَلَى أَلْسِنَةِ جَمِيعِ رُسُلِهِ، وَأنْزَلَ بِالنَّهْي عَنْ ذَلِكَ جَمِيعَ كُتُبِهِ"
(1)
.
- إِنَّ الصَّعْقَ الحَاصِلَ عَلَى المَلَائِكَةِ عِنْدَمَا يُوحِي اللهُ تَعَالَى بِالأَمْرِ يَدُلُّ عَلَى مَعْرِفَتِهِم بِاللهِ تَعَالَى، وَمَنْ كَانَ بِاللهِ أَعْرَفَ؛ كَانَ مِنْهُ أَخْوَفَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فَاطِر: 28].
- قَولُهُ تَعَالَى: {قَالُوا الْحَقَّ} الحَقُّ هُنَا: هُوَ صِفَةُ كَلَامِ اللهِ تَعَالَى، وَهُوَ قِسْمَينِ
(1)
تَفْسِيرُ ابْنِ كَثِيرٍ (7/ 457).
كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأَنْعَام: 115].
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي التَّفْسِيرِ: "أَي: صِدْقًا فِي الأخْبَارِ، وَعَدْلًا فِي الأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي"
(1)
.
وَلَكِنَّ قَولَ المَلَائِكَةِ: {قَالُوا الْحَقَّ} لَا يَعْنِي أَنَّهُم لَا يَسْتَفْهِمُونَ بَعْضًا عَمَّا جَرَى! كَمَا فِي رِوَايَةٍ: ((ثُمَّ قَالَ الَّذِينَ يَلُونَ حَمَلَةَ الْعَرْشِ لِحَمَلَةِ الْعَرْشِ: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ فَيُخْبِرُونَهُمْ مَاذَا قَالَ. قَالَ: فَيَسْتَخْبِرُ بَعْضُ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ بَعْضًا؛ حَتَّى يَبْلُغَ الْخَبَرُ هَذِهِ السَّمَاءَ الدُّنْيَا))
(2)
.
- قَولُهُ: ((كَسِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانٍ)) (الصَّفْوَانُ): هُوَ الحَجَرُ الأَمْلَسُ الصُّلْبُ، وَالسِّلْسِلَةُ عَلَيهِ يَكُونُ لَهَا صَوتٌ عَظِيمٌ، وَالمُرَادُ تَشْبِيهُ مَا يَحْصُلُ مِنَ الفَزَعِ فِي القُلُوبِ، وَلَيسَ المُرَادُ تَشْبِيهَ الصَّوتِ بَالصَّوتِ، وَذَلِكَ لِقَولِهِ تَعَالَى:{لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشُّورَى: 11]، وَلِذَلِكَ قَالَ:((يَنْفُذُهُم ذَلِكَ))، فَالنُّفُوذُ هُوَ الدُّخُولُ فِي الشَّيءِ، وَمِنْهُ نَفَذَ السَّهْمُ فِي الرَّمِيَّةِ أَي: دَخَلَ فِيهَا، وَالمَعْنَى أنَّ هَذَا الصَّوتَ يَبْلُغُ مِنْهُم كُلَّ مَبْلَغٍ.
قُلْتُ: وَمِنْ أَهْلِ العِلْمِ مَنْ جَعَلَ الصَّوتَ هُنَا هُوَ صَوتَ رِعْدَةِ السَّمَاءِ، وَالأَوَّلُ أَولَى.
قَالَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (خَلْقُ أَفْعَالِ العِبَادِ): "وَأَنَّ اللهَ عز وجل يُنَادِي بِصَوتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ، فَلَيسَ هَذَا لِغَيرِ اللهِ عز وجل ذِكْرُهُ.
(1)
تَفْسِيرُ ابْنِ كَثِيرٍ (8/ 27).
(2)
صَحِيحُ مُسْلِمٍ (2229).
وَفِي هَذَا دَلِيلٌ أَنَّ صَوتَ اللهِ لَا يُشْبِهُ أَصْوَاتَ الخَلْقِ، لِأَنَّ صَوتَ اللهِ جَلَّ ذِكْرُهُ يُسْمَعُ مِنْ بُعْدٍ كَمَا يُسْمَعُ مِنْ قُرْبِ، وَأَنَّ المَلائِكَةَ يُصْعَقُونَ مِنْ صَوتِهِ"
(1)
.
وَبَوَّبَ رحمه الله عَلَى الحَدِيثِ فِي صَحِيحِهِ: "بَابُ قَولِ اللهِ تَعَالَى {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} وَلَمْ يَقُلْ: مَاذَا خَلَقَ رَبُّكُمْ؟ وَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ}، وَقَالَ مَسْرُوقٌ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ: إِذَا تَكَلَّمَ اللهُ بِالوَحْيِ؛ سَمِعَ أَهْلُ السَّمَوَاتِ شَيئًا، فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ وَسَكَنَ الصَّوتُ عَرَفُوا أَنَّهُ الحَقُّ وَنَادَوا: {مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ}. وَيُذْكَرُ عَنْ جَابِرٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُنَيسٍ؛ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ((يَحْشُرُ اللهُ العِبَادَ؛ فَيُنَادِيهِمْ بِصَوتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ: أَنَا المَلِكُ، أَنَا الدَّيَّانُ)) "
(2)
.
- الكَاهِنُ: هُوَ الَّذِي يَدَّعِي مَعْرِفَةَ المُغَيَّبَاتِ فِي المُسْتَقْبَلِ وَمَا فِي الضَّمِيرِ
(3)
.
- قَولُهُ: (وَصَفَ سُفْيَانُ بِكَفِّهِ): أَي: وَصَفَ رُكُوبَ بَعْضِهِم فَوقَ بَعْضٍ.
وَسُفْيَانُ هُوَ ابْنُ عُيَينَةَ؛ أَبُو مُحَمَّدٍ الهِلَالِيُّ الكُوفِيُّ (ت 198 هـ).
(1)
خَلْقُ أَفْعَالِ العِبَادِ (ص 98).
(2)
البُخَارِيُّ (9/ 141).
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله فِي الفَتْحِ (13/ 456) -عَنْ أَثَرُ ابْنِ مَسْعُودٍ السَّابِقِ-: "وَقَدْ وَصَلَهُ البَيهَقِيُّ فِي الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُعَاوِيَةَ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ صُبَيحٍ -وَهُوَ أَبُو الضُّحَى- عَنْ مَسْرُوقٍ".
وَالحَدِيثُ رَوَاهُ أَيضًا ابْنُ مَاجَه رحمه الله فِي المُقَدِّمَةِ مِنَ السُّنَنِ (1/ 62)؛ وَقَالَ: "بَابٌ فِي مَا أَنْكَرَتِ الجَهْمِيَّةُ"، قُلْتُ: وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّ المُرَادَ مِنْهُ إِثْبَاتُ صِفَةِ الكَلَامِ للهِ تَعَالَى حَقِيقَةً خِلَافًا لِلْمُعَطِّلَةِ.
(3)
وَسَيَأْتِي الكَلَامُ عَلَيهِ فِي بَابٍ مُسْتَقِلٍ إِنْ شَاءَ اللهُ.
- فِي الحَدِيثِ إِثْبَاتُ صِفَةِ الإِرَادَةِ للهِ تَعَالَى.
وَهِيَ قِسْمَانِ: شَرعيَّةٌ وكَونيَّةٌ، وَالفَرْقُ بَينَهُمَا:
أ- مِنْ حَيثُ المَحَبَّةِ؛ فَالشَّرْعِيَّةُ تَتَعَلَّقُ بِمَا يُحِبُّهُ اللهُ، وَأَمَّا الكَونيَّةُ فَقَدْ يُحِبُّهَا اللهُ وَقَدْ لَا يُحِبُّهَا.
ب- مِنْ حَيثُ الوُقُوعِ؛ الشَّرْعِيَّةُ قَدْ تَقَعُ وَقَدْ لَا تَقَعُ، بِخِلَافِ الكَونِيَّةِ فَهِيَ وَاقِعَةٌ لَا مَحَالَةَ.
وَكِلَا النَّوعِينِ مَقْرُونٌ بِالحِكْمَةِ.
وَمِثَالُ الكَونِيَّةِ قَولُهُ تَعَالَى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البُرُوج: 16]، وَالإِرَادَةُ الكَونِيَّةُ هِيَ نَفْسُهَا المَشِيئَةُ، فَمَا شَاءَ اللهُ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشأْ لَمْ يَكُنْ.
وَمِثَالُ الشَّرْعِيَّةِ {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيكُمْ} [النِّسَاء: 27].
- النُّجُومُ رُجُومٌ لِلشَّيَاطِينِ، وَعِنْدَ البَعْثَةِ زَادَ الرَّجْمُ.
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسًا فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَرُمِيَ بِنَجْمٍ عَظِيمٍ فَاسْتَنَارَ، قَالَ:((مَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ إِذَا كَانَ مِثْلُ هَذَا فِي الجَاهِلِيَّةِ؟)) قَالَ: كُنَّا نَقُولُ: يُولَدُ عَظِيمٌ أَو يَمُوتُ عَظِيمٌ. قُلْتُ
(1)
لِلزُّهْرِيِّ: أَكَانَ يُرْمَى بِهَا فِي الجَاهِلِيَّةِ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَلَكِنْ غُلِّظَتْ حِينَ بُعِثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((فَإِنَّهُ لَا يُرْمَى بِهَا لِمَوتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، وَلَكِنَّ رَبَّنَا تَبَارَكَ اسْمُهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا
…
)) الحَدِيث
(2)
.
- الوَحْيُ: هُوَ الإِعْلَامُ بِسُرْعَةٍ وَخَفَاءٍ.
(1)
القَائِلُ هُوَ مَعْمَرٌ بْنُ رَاشِدٍ الأَزْدِيُّ؛ أَحَدُ رُوَاةِ الحَدِيثِ.
(2)
صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (1882). صَحِيحُ السِّيرَةِ لِلأَلْبَانِيِّ (ص 103).
وَهُوَ نَوعَانِ: وَحِيُ إِلْهَامٍ، وَوَحْيُ إِرْسَالٍ.
فَوَحْيُ الإِلْهَامِ: كَقَولِهِ تَعَالَى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} [النَّحْل: 68]، وَكَقَولِهِ تَعَالَى:{وَأَوْحَينَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} [القَصَص: 7].
وَأَمَّا وَحْيُ الإِرْسَالِ: فَهُوَ الَّذِي يَنْزِلُ بِهِ جِبْرِيلُ إِلَى الرُّسُلِ.
- فِي الآيَةِ وَالحَدِيثِ بَيَانُ عِدَّةِ فَوَائِدَ؛ مِنْهَا:
1 -
أَنَّ المَلَائِكَةَ يَخَافُونَ اللهَ تَعَالَى.
وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النَّحْل: 50].
2 -
إِثْبَاتُ القُلُوبِ لِلمَلَائِكَةِ، وَبِهَا تَعْقِلُ
(1)
.
3 -
إِثْبَاتُ أَنَّهَا أَجْسَامٌ
(2)
.
4 -
إِثْبَاتُ صِفَةِ الكَلَامِ للهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُ يَتَكَلَّمُ مَتَى شَاءَ
(3)
.
5 -
أَنَّ قَضَاءَ اللهِ تَعَالَى يَكُونُ بِالقَولِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عِمْرَان: 47].
6 -
أَنَّ اللهَ سُبْحَانَه يُمَكِّنُ هَؤُلَاءِ الجِنَّ مِنَ الوُصُولِ إِلَى السَّمَاءِ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَابْتِلَاءً لَهُم، وَهِيَ مَا يُلقونَهُ عَلَى الكُهَّانِ، وَقَدْ أَعْلَمَ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ بِذَلِكَ كَي لَا
(1)
وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ المَعْنِيَّ بِالكَلَامِ فِي الآيَةِ الكَرِيمَةِ هُمُ الكفَّارُ وَلَيسَ المَلَائِكَةَ! وَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَيهِم لِمُخَالَفَتِهِم الحَدِيثَ الصَّحيحَ السَّابِقَ ذِكْرُهُ. اُنْظُرِ الفَتْحَ (13/ 459) لِلحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ رحمه الله.
(2)
بِخِلَافِ مَنْ زَعَمَ -مِنْ غَيرِ المُسْلِمِينَ- أَنَّ المَلَائِكَةَ هِيَ قِوَى الخَيرِ فِي النُّفُوسِ، أَو هِيَ أَرْوَاحٌ فَقَط!
(3)
بِخِلَافِ المُعَطِّلَةِ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ كَلَامَ اللهِ كَلَامًا نَفْسِيًّا، أَوْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَخْلُقُ كَلَامًا وَلَكِنَّهُ لَيسَ صِفَةً مِنْ صِفَاتِهِ!
يَحْصُلَ عِنْدَهُم الاشْتِبَاهُ بِذَلِكَ، وَللهِ الحِكْمَةُ البَالِغَةُ
(1)
، كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى:{وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ * وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيطَانٍ رَجِيمٍ * إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ} [الحِجْر: 16 - 18]، وَبَيَّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَحَادِيثِ، وَكَمَا فِي حَدِيثِ البَابِ:((فَيُصَدَّقُ بِتِلْكَ الكَلِمَةِ الَّتِي سُمِعَتْ مِنَ السَّمَاءِ)).
7 -
إِثْبَاتُ صِفَةِ العُلُوِّ للهِ تَعَالَى؛ لِقَولِهِ: ((إِذَا قَضَى اللهُ الأَمْرَ فِي السَّمَاءِ)).
8 -
بَيَانُ تَحَمُّلِ الشَّيَاطِينِ لِلمَخَاطِرِ مِنْ أَجْلِ إِضْلَالِ النَّاسِ.
(1)
قَالَ الآلُوسِيُّ رحمه الله فِي تَفْسِيرِهِ رُوحُ المَعَانِي (12/ 73): "وَمِنْهَا أَنَّهُ يُغْنِي عَنِ الحِفْظِ مِنِ اسْتِرَاقِ الشَّيَاطِينِ عَدَمُ تَمْكِينِهِم مِنَ الصُّعُودِ إِلَى حَيثُ يُسْتَرَقُ السَّمْعُ، أَو أَمْرُ المَلَائِكَةِ عليهم السلام بِإِخْفَاءِ كَلَامِهِم بِحَيثُ لَا يَسْمَعُونَهُ، أَو جَعْلُ لُغَتِهِم مُخَالِفَةً لِلُغَتِهِم بِحَيثُ لَا يَفْهَمُونَ كَلَامَهُم؛ وَأُجِيبَ بِأَنَّ وُقُوعَ الأَمْرِ عَلَى مَا وَقَعَ مِنْ بَابِ الابْتِلَاءِ".
مَسَائِلُ عَلَى البَابِ
-
مَسْأَلَةٌ: قَالَتِ المُعَطِّلَةُ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يَتَكَلَّمُ بِكَلَامٍ يُسْمَعُ، وِإِنَّمَا هُوَ يَخْلُقُ كَلَامًا!
وَمِنْهُم مَنْ قَالَ: إِنَّ كَلَامَ اللهِ تَعَالَى هُوَ مَا فِي نَفْسِهِ سُبْحَانَهُ، وَأَمَّا أَلْفَاظُهُ وَحُرُوفُهُ فَهِيَ مَخْلُوقَةٌ!
فَمَا الجَوَابُ عَنْه حَيثُ دَارَتْ شُبَهُهُم حَولَ أُمُورٍ هِيَ:
- الشُّبْهَةُ الأُولَى: إِنَّ القُرآنَ وَصَفَهُ اللهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ قَولُ جِبْرِيلَ وَلَيسَ بِقَولِهِ تَعَالَى!
كَقَولِهِ جَلَّ وَعَلَا: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [التَّكْوِير: 19 - 20]، أَو أَنَّهُ قَولُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، كَقَولِهِ تَعَالَى:{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [الحَاقَّة: 40 - 42]؟
وَالجَوَابُ هُوَ مِنْ أَوجُهٍ:
1 -
مَا نُسِبَ فِي الآيَةِ مِنْ أَنَّهُ قَولُ جِبْرِيلَ عليه السلام؛ فَمَفَادُهُ أَنَّ جِبْرِيلَ يُبلِّغُهُ، فَنِسْبَةُ القَولِ إِلَى جِبْرِيلَ هِيَ نِسْبَةُ تَبْلِيغٍ، وَأَنَّهُ أَدَّاهَا بِأَمَانَةٍ دُونَ تَحْرِيفٍ، وَلِذَلِكَ جَاءَ وَصْفُهُ بِالرِّسَالَةِ وَلَمْ يَرِدْ بِاسْمِهِ المُجَرَّدِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الرَّسُولَ يُؤَدِّي رِسَالَةَ مَنْ أَرْسَلَهُ بِهَا؛ وَلَا يَكُونُ القَولُ قَولَهُ.
وَأَيضًا فِي الآيَةِ الثَّانِيَةِ تَجِدُ الأَمْرَ نَفْسَهُ حَيثُ جَاءَ وَصْفُهُ بِالرَّسُولِ -أَيِّ النَّبِيَّ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَإِنَّمَا نُسِبَ إِلَيهِ القَولُ عَلَى جِهَةِ أَنَّهُ أَدَّى الرِّسَالَةَ بِأَمَانَةٍ دُونَ زِيَادَةٍ أَو نَقْصٍ أَو تَحْرِيفٍ، وَلِذَلِكَ أَيضًا جَاءَ وَصْفُهُ بِالرِّسَالَةِ وَلَمْ يَرِدْ أَيضًا بِاسْمِهِ المُجَرَّدِ.
وَتَأَمَّلْ تَمَامَ الآيَاتِ لِتَجِدَ بُرْهَانَ ذَلِكَ، حَيثُ قَالَ تَعَالَى: {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ
الْعَالَمِينَ * وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَينَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} [الحَاقَّة: 43 - 45]؛ مِمَّا يَدُلُّ صَرَاحَةً أَنَّهُ مُبَلِّغٌ قَولَ رَبِّهِ بِدُونِ زِيَادَةٍ أَو نَقْصٍ أَو تَحْرِيفٍ
(1)
.
"فَالقُرْآنُ قَولُ اللهِ حَقِيقَةً، وَقَولُ جِبْرِيلَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ بَلَّغَهُ لِمُحَمَّدٍ، وَقَولُ مُحَمَّدٍ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ بَلَّغَهُ إِلَى الأُمَّةِ"
(2)
.
2 -
أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُ كَلَامُهُ وَلَيسَ كَلَامَ البَشَرِ! وَهَذَا فِي مَعْرِضِ بَيَانِ مَنِ القَائِلِ بِهِ.
قَالَ تَعَالَى عَنْ قولِ المُشْرِكِينَ: {فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المُدّثّر: 24 - 25] فَعُلِمَ إِذًا أَنَّ هَذَا القُرْآنَ لَيسَ كَلَامَ البَشَرِ.
3 -
أَنَّهُ لَو كَانَ القُرْآنُ كَلَامَ البَشَرِ لَمْ يَحْسُنِ التَّحَدِّي بِهِ، بِخِلَافِ كَلَامِ البَشَرِ.
قَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإِسْرَاء: 88].
4 -
أَنَّ الكَلَامَ لَا تَصِحُّ نِسْبَتُهُ إِلَّا لِمَنْ قَالَهُ ابْتِدَاءً.
5 -
أَنَّ اللهَ تَعَالَى فَرَّقَ فِي كِتَابِهِ العَزِيزِ بَينَ القُرْآنِ وَالخَلْقِ.
قَالَ تَعَالَى: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ} [الرَّحْمَن: 1 - 3] فَخَصَّ القُرْآنَ بِالتَّعْلِيمِ لِأَنَّهُ كَلَامُهُ وَصِفَتُهُ، وَخَصَّ الإِنْسَانِ بِالتَّخْلِيقِ لِأَنَّهُ خَلْقُهُ ومَصْنُوعُهُ، وَلَولَا ذَلِكَ لَقَالَ: خَلَقَ القُرْآنَ وَالإِنْسَانَ.
(1)
يُنْظَرُ: (التِّبْيَانُ فِي أَقْسَامِ القُرْآن) لِابْنِ القَيِّمِ (ص 120).
(2)
تَفْسِيرُ جُزْءِ عَمَّ لِلعُثَيمِين (ص 80).
- الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّ العَرَبَ فِي كَلَامِهَا تَسْتَخْدِمُ لَفْظَ القَولِ لِغَيرِ الكَلَامِ، كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ بِيَدِهِ هَكَذَا (أَي: إِشَارَةً عَلَى صِفَةِ مَا)، وَكَمَا يُقَالُ: قَالَتِ السَّمَاءُ هَكَذَا (لِوَصْفِ نُزُولِ المَطَرِ)، أَو قَولُهُم: قُلْتُ فِي نَفْسِي. وَكُلُّ ذَلِكَ لَيسَ فِيهِ حَقِيقَةُ الكَلَامِ؟!
وَالجَوَابُ: إِنَّ هَذَا مَعْرُوفٌ فِي لُغَةِ العَرَبِ، وَلَكِنْ لَا يَأْتِي عَلَى سَبِيلِ الإِطْلَاقِ! وَإِنَّمَا يَكُونُ مُقَيَّدًا بِمَا يَدُلُّ عَلَيهِ، كَقَولِ (هَكَذَا)، أَو قَولِ الصَّخْرةِ (طِق) مَثَلًا، فَلَا يَجُوزُ صَرْفُ النَّصِّ عَنْ ظَاهِرِهِ دُونَ قَرِينَةٍ.
بَلْ إِنَّهُ قَدْ دَلَّتْ بَعْضُ النُّصُوصِ عَلَى حَقِيقَةِ الكَلَامِ للهِ تَعَالَى بِلَفْظِ المَفْعُولِ المُطْلَقِ الَّذِي يَنْفِي المَجَازَ.
قَالَ تَعَالَى: {وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النِّسَاء: 164].
قَالَ البَغَوِيُّ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ: "قَالَ الفَرَّاءُ: العَرَبُ تُسَمِّي مَا يُوصَلُ إِلَى الإِنْسَانِ كَلَامًا بِأَيِّ طَرِيقٍ وَصَلَ، وَلَكِنْ لَا تُحقِّقُهُ بِالمَصْدَرِ، فَإِذَا حُقِّقَ بِالمَصْدَرِ لَمْ يَكُنْ إِلَّا حَقِيقَةَ الكَلَامِ"
(1)
.
وَأَمَّا حَدِيثُ النَّفْسِ فَلَا يُسَمَّى كَلَامًا إِلَّا بِقَيدِ النَّفْسِ، أَمَّا إِذَا أُطْلِقَ فَلَا يَدُلُّ إِلَّا عَلَى الكَلَامِ المَسْمُوعِ
(2)
.
(1)
تَفْسِيرُ البَغَوِيِّ (2/ 311).
(2)
قَالَ الشَّيخُ الغُنَيمَانُ حَفِظَهُ اللهُ فِي شَرْحِهِ عَلَى كِتَابِ التَّوحِيدِ مِنْ صَحِيحِ البُخَارِيِّ (2/ 233): "القَولُ إِذَا أُسْنِدَ إِلَى مَا لَا يَعْقِلُ فَلَا بُدَّ أَنْ يُقيَّدَ بِالفِعْلِ الَّذِي يَصْدُرُ مِنْ ذَلِكَ المُسْنَدِ إِلَيهِ، لِأَنَّ القَولَ عِبَارَةٌ عَنْ ذَلِكَ الفِعْلِ".
وَقَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله فِي الفَتْحِ (2/ 267): "وَالْقَولُ إِذَا وَقَعَ بِهِ الخِطَابُ مُطْلَقًا؛ حُمِلَ عَلَى الجَهْرِ، وَمَتَى أُرِيدَ بِهِ الإِسْرَارُ أَو حَدِيثُ النَّفس قُيِّدَ بِذَلِكَ".
قَالَ الإِمَامُ أَبُو نَصْرٍ السِّجْزِيُّ رحمه الله
(1)
فِي رسالَتِهِ (الرَّدُّ عَلَى مَنْ أنْكَرَ الحَرْفَ وَالصَّوتَ)
(2)
: "لَمَّا وَجَدْنَا أَحْكَامَ الشَّرِيعَةِ المُتَعَلِّقَةَ بِالكَلَامِ مَنُوطَةً بِالنُّطْقِ الَّذِي هُوَ حَرْفٌ وَصَوتٌ دُونَ مَا فِي النَّفْسِ؛ عَلِمْنَا أَنَّ حَقِيقَةَ الكَلَامِ هُوَ الحَرْفُ وَالصَّوتُ، فَلَو حَلَفَ امْرُؤٌ أَنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ؛ فَأَقَامَ فِي تِلْكَ السَّاعةِ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ بِأَشْيَاءَ وَلَا يَنْطِقُ بِهَا؛ كَانَ بَارًّا غَيرَ حَانِثٍ".
(1)
قَالَ الحَافِظُ الذَّهبيُّ رحمه الله فِي السِّيَرِ (17/ 654): "أَبُو نَصْرٍ السِّجْزِيُّ؛ عُبَيدُ اللهِ بنُ سَعِيدِ بْنِ حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيُّ، الإِمَامُ، العَالِمُ، الحَافِظُ، المُجَوِّدُ، شَيخُ السُّنَّةِ، شَيخُ الحَرَمِ، وَمُصَنِّفُ (الإِبَانَةِ الكُبْرَى فِي أَنَّ القُرْآنَ غَيرُ مَخْلُوقٍ)، وَهُوَ مُجَلَّدٌ كَبِيرٌ، دَالٌّ عَلَى سَعَةِ عِلْمِ الرَّجُلِ بِفَنِّ الأَثَرِ. (ت 444 هـ) ". بِتَصَرُّفٍ يَسِيرٍ.
(2)
الرَّدُّ عَلَى مَنْ أنْكَرَ الحَرْفَ وَالصَّوتَ (ص 219).
- الشُّبْهَةُ الثَّالِثَةُ: إِنَّ إِثْبَاتَ الكَلَامِ للهِ تَعَالَى هُوَ تَشْبِيهٌ لَهُ تَعَالَى بِخَلْقِهِ؛ لِأَنَّ الكَلَامَ يَحْتَاجُ لِآلَاتٍ وَاللهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْهَا!
وَالجَوَابُ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى أَثْبَتَ الكَلَامَ لِنَفْسِهِ، وَنَفَى عَنْ نَفْسِهِ المُمَاثَلَةَ سُبْحَانَهُ، فَقَالَ:{لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشُّورَى: 11].
وَمِنْ نَفْسِ البَابِ يُقَالُ: السَّمْعُ وَالبَصَرُ لِلمَخْلُوقِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِآلَةٍ؛ فَهَلْ نَنْفِي عَنِ اللهِ تَعَالَى صِفَاتِهِ لِمُجَرَّدِ اشْتِرَاكِ الوَصْفِ؟!
وَأَمَّا دَعُوَى أَنَّ هَذَا يَلْزَمُهُ آلَالَاتٌ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ فَهَذِهِ مَقَالَاتُ الفَلَاسِفَةِ وَلَيسَتْ مِنْ مَقَالَاتِ أَهْلِ الإِسْلَامِ، وَلَمْ يَرِدْ عَنِ السَّلَفِ شَيءٌ مِنْ هَذَا القَبِيلِ.
وَعَنْ نُوحٍ الجَامِع، قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله: مَا تَقُولُ فِيمَا أَحْدَثَ النَّاسُ مِنَ الكَلَامِ فِي الأَعْرَاضِ وَالأَجْسَامِ؟ فَقَالَ: "مَقَالَاتُ الفَلَاسِفَةِ، عَلَيكَ بِالأَثَرِ وَطَرِيقَةِ السَّلَفِ، وَإِيَّاكَ وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ؛ فَإِنَّهَا بِدْعَةٌ"
(1)
.
(1)
اُنْظُرْ كِتَابَ الحُجَّةُ فِي بَيَانِ المَحَجَّةِ لِلأَصْبَهَانِيِّ (1/ 105).
بَابُ الشَّفَاعَةِ
وَقَولُ اللهِ عز وجل: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأَنْعَام: 51].
وَقَولُهُ: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزُّمَر: 44].
وَقَولُهُ: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البَقَرَة: 255].
وَقَولُهُ: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النَّجْم: 26].
قَالَ أَبُو العَبَّاسِ: "نَفَى اللهُ عَمَّا سِوَاهُ كُلَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ المُشْرِكُونَ، فَنَفَى أَنْ يَكُونَ لِغَيرِهِ مِلْكٌ أَو قِسْطٌ مِنْهُ، أَو يَكُونَ عَونًا لِلَّهِ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الشَّفَاعَةُ، فَبَيَّنَ أَنَّهَا لَا تَنْفَعُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّبُّ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأَنْبِيَاء: 28]، فَهَذِهِ الشَّفَاعَةُ الَّتِي يَظُنُّهَا المُشْرِكُونَ هِيَ مُنْتَفِيَةٌ يَومَ القِيَامَةِ، كَمَا نَفَاهَا القُرْآنُ، وَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَنَّهُ يَأْتِي فَيَسْجُدُ لِرَبِّهِ وَيَحْمَدُهُ، لَا يَبْدَأُ بِالشَّفَاعَةِ أَوَّلًا! ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: ارْفَعْ رَأْسَكَ،
وَقُلْ يُسْمَعْ، وَسَلْ تُعْطَ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ
(1)
.
وَقَالَ لَهُ أَبُو هُرَيرَةَ رضي الله عنه: مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ؟ قَالَ: ((مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ))
(2)
، فَتِلْكَ الشَّفَاعَةُ لِأَهْلِ الإِخْلَاصِ بِإِذْنِ اللهِ، وَلَا تَكُونُ لِمَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ.
وَحَقِيقَتُهُ أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي يَتَفَضَّلُ عَلَى أَهْلِ الإِخْلَاصِ؛ فَيَغْفِرُ لَهُمْ بِوَاسِطَةِ دُعَاءِ مَنْ أَذِنَ لَهُ أَنْ يَشْفَعَ؛ لِيُكْرِمَهُ وَيَنَالَ المَقَامَ المَحْمُودَ.
فَالشَّفَاعَةُ الَّتِي نَفَاهَا القُرْآنُ مَا كَانَ فِيهَا شِرْكٌ، وَلِهَذَا أَثْبَتَ الشَّفَاعَةَ بِإِذْنِهِ فِي مَوَاضِعَ، وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا لَا تَكُونُ إِلَّا لِأَهْلِ الإِخْلَاصِ وَالتَّوحِيدِ". انْتَهَى كَلَامُهُ
(3)
.
(1)
جُزْءٌ مِنْ حَدِيثٍ رَوَاهُ البُخَارِيُّ (4476)، وَمُسْلِمٌ (193) عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا.
(2)
رَوَاهُ البُخَارِيُّ (99).
(3)
مَجْمُوعُ الفَتَاوَى (7/ 77)، وَفِيهِ اخْتِصَارٌ يَسِيرٌ.
فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: تَفْسِيرُ الآيَاتِ.
الثَّانِيَةُ: صِفَةُ الشَّفَاعَةِ المَنْفِيَّةِ.
الثَّالِثَةُ: صِفَةُ الشَّفَاعَةِ المُثْبَتَةِ.
الرَّابِعَةُ: ذِكْرُ الشَّفَاعَةِ الكُبْرَى وَهِيَ المَقَامُ المَحْمُودُ.
الخَامِسَةُ: صِفَةُ مَا يَفْعَلُهُ صلى الله عليه وسلم؛ أَنَّهُ لَا يَبْدَأُ بِالشَّفَاعَةِ، بَلْ يَسْجُدُ؛ فَإِذَا أُذِنَ لَهُ شَفَعَ.
السَّادِسَةُ: مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِهَا؟
السَّابِعَةُ: أَنَّهَا لَا تَكُونُ لِمَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ.
الثَّامِنَةُ: بَيَانُ حَقِيقَتِهَا.
الشَّرْحُ
- الشَّفَاعَةُ لُغَةً مِنَ الشَّفْعِ وَهُوَ الزَّوجُ، أَي: خِلَافَ الوَتْرِ
(1)
، وَاصْطِلَاحًا: التَّوَسُّطُ لِلغَيرِ بِجَلْبِ مَنْفَعَةٍ أَو دَفْعِ مَضَرَّةٍ.
- قَولُهُ تَعَالَى: {وَأَنْذِرْ بِهِ} الإنْذارُ: هُوَ الإِعْلَامُ المُتَضَمِّنُ لِلتَّخْوِيفِ.
- قَولُهُ تَعَالَى: {لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ} مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، وَقُدِّمَ الخَبَرُ لِلحَصْرِ، وَالمَعْنَى: للهِ وَحْدَهُ الشَّفَاعَةُ كُلُّهَا، وَلَا يُوجَدُ شِيءٌ مِنْهَا خَارِجٌ عَنْ إِذْنِ اللهِ تَعَالَى وَإِرَادَتِهِ، وَأَفَادَتِ الآيَةُ فِي قَولِهِ:{جَمِيعًا} أَنَّ هُنَاكَ أَنْوَاعًا لِلشَّفَاعَةِ
(2)
.
- قَولُهُ تَعَالَى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ} كَمْ هُنَا لِلتَّكْثِيرِ وَلَيسَ مَعْنَاهَا الاسْتِفْهَامُ، وَذَلِكَ لِبَيَانِ أنَّهُ حَتَّى المَلَائِكَةَ المُقَرَّبُونَ حَمَلَةَ العَرْشِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُم شَيئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى.
- سِيَاقُ الآيَةِ هُوَ قَولُهُ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سَبَأ: 23 - 24].
- إِنَّ مَسْأَلةَ الشَّفَاعَةِ هِيَ الشُّبْهَةُ الَّتِي فُتنَ بِهَا المُشْرِكُونَ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، حَيثُ
(1)
قَالَ فِي لِسَانِ العَرَبِ (8/ 184): "وَالشَّفَاعَةُ: كَلَامُ الشَّفِيعِ لِلْمَلِكِ فِي حَاجَةٍ يَسْأَلُهَا لِغَيرِهِ، وَشَفَعَ إِلَيهِ: فِي مَعْنَى طَلَبَ إِلَيهِ، وَالشَّافِعُ: الطَّالِبُ لِغَيرِهِ يَتَشَفَّعُ بِهِ إِلَى المَطْلُوبِ".
(2)
أَي: لِلشَّفَاعَةِ المُثْبَتَةِ.
ظَنَّوا أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَهُ شُفَعَاءُ يُقرِّبُونَهُم إِلَيهِ إِذَا تَعَلَّقُوا بِهِم، فَأَحَبُّوهُم
(1)
، وَنَذَرُوا لَهُم، وَدَعَوهُم، وَذَبَحُوا لَهُم، وَطَافُوا بِقُبُورِهِم، وَعَكَفُوا عِنْدَهَا، فَقَطَعَ اللهُ تَعَالَى حِبَالَهُم وَأَبْطَلَ أَمَانِيَّهُم، حَيثُ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الشَّفَاعَةَ لَهَا شُرُوطٌ؛ وَأَنَّ المُشْرِكِينَ مَحْرُومُونَ مِنْهَا، فَقَالَ سُبْحَانَهُ:{فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المُدَّثِّر: 48]، وَقَالَ تَعَالَى أَيضًا:{مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غَافِر: 18].
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي تَفْسِيرِ قَولِهِ تَعَالَى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيهِ اللَّيلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} [الأَنْعَام: 76]: "وَالحَقُّ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عليه الصلاة والسلام كَانَ فِي هَذَا المَقَام مُنَاظِرًا لِقَومِهِ مُبَيِّنًا لَهُمْ بُطْلَانَ مَا كَانُوا عَلَيهِ مِنْ عِبَادَة الهَيَاكِلِ وَالأَصْنَامِ، فَبَيَّنَ فِي المَقَامِ الأَوَّلِ مَعَ أَبِيهِ خَطَأَهُمْ فِي عِبَادَةِ الأَصْنَامِ الأَرْضِيَّةِ الَّتِي هِيَ عَلَى صُوَرِ المَلَائِكَةِ السَّمَاوِيَّةِ لِيَشْفَعُوا لَهُمْ إِلَى الخَالِقِ العَظِيمِ -الَّذِينَ هُمْ عِنْد أَنْفُسِهِمْ أَحْقَرُ مِنْ أَنْ يَعْبُدُوهُ-! وَإِنَّمَا يَتَوَسَّلُونَ إِلَيهِ بِعِبَادَةِ مَلَائِكَتِهِ لِيَشْفَعُوا لَهُمْ عِنْدَه فِي الرِّزْقِ وَالنَّصْرِ وَغَيرِ ذَلِكَ مِمَّا يَحْتَاجُونَ إِلَيهِ"
(2)
.
- أَنْوَاعُ الشَّفَاعَةِ (مِنْ حَيثُ الإِثْبَاتِ وَالنَّفِي):
1 -
شَفَاعَةٌ مَنْفِيَّةٌ: وَهِيَ عَينُ مَا ظَنَّهُ المُشْرِكُونَ، وَهِيَ شَفَاعَةُ آلِهَتِهِم عِنْدَ اللهِ ابْتِدَاءً، وَشَفَاعَتُهَا فِي مَنْ شَاءَتْ.
2 -
شَفَاعَةٌ مُثْبَتَةٌ: وَهِيَ مَا قَيَّدَهَا اللهُ تَعَالَى بِشَرْطَينِ، وَهُمَا: الإِذْنُ لِلشَّافِعِ بِأنْ يَشْفَعَ، وَالرِّضَى عَنِ المَشْفُوعِ.
(1)
مَحَبَّةَ العُبُودِيَّةِ.
(2)
تَفْسِيرُ ابْنِ كَثِير (3/ 292).
وَفِي آيَةِ الكُرْسِيِّ وَمَا قَبْلَهَا بَيَانُ نَوعَيِّ الشَّفَاعَةِ -المَنْفِيَّةِ، وَالمُثْبَتَةِ-، فَالمَنْفِيَّةِ هِيَ فِي قَولِهِ تَعَالَى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} ، وَالمُثْبَتَةِ هِيَ فِي قَولِهِ تَعَالَى:{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البَقَرَة: 255].
- شُرُوطُ الشَّفَاعَةِ:
1 -
إِذْنُ اللهِ تَعَالَى لِلشَّافِعِ بِأَنْ يَشْفَعَ.
قَالَ تَعَالَى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البَقَرَة: 255].
وكَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيئًا وَلَا يُنْقِذُونِ} [يَس: 23].
وَفِي قَولِهِ تَعَالَى: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} قَالَ مُجَاهِدُ: "لَا يَشْفعُ عِنْدَهُ أَحَدٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ"
(1)
.
2 -
رِضَاهُ عَنِ المَشْفُوعِ.
قَالَ تَعَالَى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَينَ أَيدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأَنْبِيَاء: 26 - 28]، وَاللهُ تَعَالَى لَا يَرْضَى مِنَ العَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ خَالِصًا لَهُ؛ مُوَافِقًا لِشَرْعِهِ.
وَالنَّوعَانِ مَجْمُوعَانِ فِي قَولِهِ تَعَالَى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النَّجْم: 26].
(1)
تَفْسِيرُ الطَّبَرِيِّ (21/ 300).
- فِي عِبَارَةِ شَيخِ الإِسْلَامِ رحمه الله بَيَانُ شَرْطَيِّ الشَّفَاعَةِ، فَالأَوَّلُ: أَنَّ المَلَائِكَةَ لَا تشفعُ إلّا لِمَنْ رضي الله عنه. وَالثَّانِي: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم -وَهُوَ صَاحِبُ المَقَامِ المَحْمُودِ الَّذِي ثَبَتَتِ الشَّفَاعَةُ فِي حَقِّهِ- هُوَ نَفْسُهُ لَا يَشْفَعُ حَتَّى يُؤْذَنَ لَهُ؛ فَيُقَالُ: ((يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ، سَلْ تُعْطَ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ)).
فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَا يُدْخِلُ مَنْ شَاءَ إِلَى الجَنَّةِ! بَلِ اللهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يَحُدُّهُمُ لَهُ، كَمَا فِي المُتَّفَقِ عَلَيهِ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ الطَّوِيلِ؛ وَفِيهِ:((فَأَنْطَلِقُ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ عَلَى رَبِّي؛ فَيُؤْذَنَ لِي، فَإِذَا رَأَيتُ رَبِّي وَقَعْتُ سَاجِدًا فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللهُ، ثُمَّ يُقَالُ: ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَسَلْ تُعْطَهْ، وَقُلْ يُسْمَعْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأَحْمَدُهُ بِتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِيهِ ثُمَّ أَشْفَعُ، فَيَحُدُّ لِي حَدًّا؛ فَأُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ))
(1)
.
- إِنَّ طَلَبَ الشَّفَاعَةِ مِنَ الأَمْوَاتِ شِرْكٌ أَكْبَرُ لِأَنَّهُ دُعَاءٌ لِغَيرِ اللهِ تَعَالَى، وَأَمَّا طَلَبُ الشَّفَاعَةِ مِنَ الحَيِّ فَهُوَ جَائِزٌ، لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ سُؤَالِ الحَيِّ الحَاضِرِ القَادِرِ
(2)
، كَسُؤَالِ النَّاسِ لِلأَنْبِيَاءِ يَومَ القِيَامَةِ فِي مَوقِفِ الشَّفَاعَةِ الكُبْرَى، فَهُمْ أَحْيَاءٌ قَادِرُونَ عَلَى
(1)
رَوَاهُ البُخَارِيُّ (4476)، وَمُسْلِمٌ (193).
(2)
وَقَدْ تقرَّرَ فِي الشَّرِيعَةِ أَنَّ الكُفَّارَ كَانُوا يَدْعُونَ آلهَتَهُم مِنْ بَابِ الشَّفَاعَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يُونُس: 18].
وَأَمَّا سُؤَالُ الحَيِّ الحَاضِرِ القَادِرِ أَنَّ يَشْفَعَ لَهُ (يَطْلُبَ لَهُ) فَهُوَ ثَابِتٌ شَرْعًا فِي أَحَادِيثَ كَثِيرْةٍ، مِثْلَ حَدِيثِ الضَّرِيرِ فِي طَلَبِ دُعَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لُهُ، وَفِيهِ:((اللَّهُمَّ شَفِّعْهُ فِيَّ)) صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (17240). صَحِيحُ الجَامِعِ (1279). وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللهُ فِي الحَدِيثِ عَنِ التَّوَسُّلِ.
وَكَمَا فِي حَدِيثِ حُصَينِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: (فَقَامَ عُكَاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ ادْعُ اللهَ لِي). رَوَاهُ البُخَارِيُّ (6541)، وَمُسْلِمٌ (220). فَالأَوَّلُ بِصَرِيحِ لَفْظِ الشَّفَاعَةِ، وَالثَّانِي بِمَعْنَاهُ.
الإِجَابَةِ، أَمَّا الآنَ فِي الدُّنْيَا فَهُمُ أَمْوَاتٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزُّمَر: 30].
قَالَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله فِي سِيَاقِ الكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ الكُبْرَى: "وَلَيسَ فِيهِ جَوَازُ الاسْتِغَاثَةِ بِالأَمْوَاتِ -كَمَا يَتَوَهَّمُ كَثِيرٌ مِنَ المٌبْتَدِعَةِ الأَمْوَاتِ! - بَلْ هُوَ مِنْ بَابِ الاسْتِغَاثَةِ بِالحَيِّ فِيمَا يَقْدِرُ عَلَيهِ"
(1)
.
وَفِي مَجْمُوعِ الفَتَاوَى ذَكَرَ شَيخُ الإِسْلَامِ رحمه الله أَنْوَاعَ التَّوَسُّلِ، وَذَكَرَ فِي النَّوعِ الثَّانِي مَا نَصُّهُ:"التَّوَسُّلُ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ، وَهَذَا كَانَ فِي حَيَاتِهِ، وَيَكُونُ يَومَ القِيَامَةِ؛ يَتَوَسَّلُونَ بِشَفَاعَتِهِ"
(2)
.
- المُشْرِكونَ جَعَلُوا وَسِيلَةَ شَفَاعَتِهِم عِنْدَ اللهِ تَعَالَى عَينَ مَا يَحْرِمُهُم مِنْهَا، لِذَلِكَ كَانُوا مِمَّنْ قَالَ تَعَالَى فِيهِم:{الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكَهْف: 104]، فَشِرْكُهُم فِي الدُّعَاءِ وَالذَّبْحِ وَالتَّعَلُّقِ هُوَ سَبَبُ حِرْمَانِهِم مِنَ الشَّفَاعَةِ.
وَكَمَا فِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ؛ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يَومَ القِيَامَةِ؟ فَقَالَ: ((لَقَدْ ظَنَنْتُ يَا أَبَا هُرَيرَةَ أَنْ لَا يَسْأَلَنِي عَنْ هَذَا الحَدِيثِ أَحَدٌ أَوَّلُ مِنْكَ لِمَا رَأَيتُ مِنْ حِرْصِكَ عَلَى الحَدِيثِ. أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَومَ القِيَامَةِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ -خَالِصًا مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ-))
(3)
.
(1)
الصَّحِيحَةُ (5/ 459).
(2)
مَجْمُوعُ الفَتَاوَى (1/ 202).
(3)
البُخَارِيُّ (99).
- السِّرُّ فِي أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يَشْفَعُ عِنْدَهُ أَحَدٌ إِلَّا بإذْنِهِ هُوَ: كَمَالُ مُلْكِهِ، وَكَمَالُ عِلْمِهِ
(1)
.
1 -
فَمَنْ كَانَ مُلْكُهُ نَاقِصًا لَزِمَتْهُ الاسْتِعَانَةُ بِغَيرِهِ كَي يَقْضِيَ حَوَائِجَهُ، لِذَا فَهُوَ لَا يَرْفُضُ طَلَبَهُ بِسَبَبِ حَاجَتِهِ إِلَيهِ، فَهُوَ يَشْفَعُ عِنْدَهُ ابْتِدَاءً لِمَا لَهُ مِنْ مِنَّةٍ عَلَيهِ.
لَكِنَّ اللهَ تَعَالَى لِكَمَالِ مُلْكِهِ هُوَ غَنِيٌّ عَنْهُم؛ فَلَا يَحْتَاجُ أَحَدًا مِنْهُم سُبْحَانَهُ، كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى:{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيئًا وَلَا يَعْقِلُونَ * قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيهِ تُرْجَعُونَ} [الزُّمَر: 43 - 44]
(2)
.
2 -
وَمَنْ كَانَ عِلْمُهُ قَاصِرًا أَيضًا لَزِمَهُ مَنْ يُطْلِعُهُ عَلَى مَا فَاتَ عَنْهُ، كَحَالِ الوُزَرَاءِ وَالحُجَّابِ مَعَ المُلُوكِ، لِذَا فَهُوَ لَا يَرُدُّ طَلَبَهُ لِحَاجَتِهِ إِلَيهِ، كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى عَنِ
(1)
إِعَانَةُ المُسْتَفِيدِ (1/ 327) لِلشَّيخِ الفَوزَانِ حَفِظَهُ اللهُ تَعَالَى، بِتَصَرُّفٍ يَسِيرٍ.
(2)
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ الرَّازِيُّ رحمه الله: "وَاعْلَمْ أَنَّ الْكُفَّارَ أَورَدُوا عَلَى هَذَا الْكَلَامِ سُؤَالًا؛ فَقَالُوا: نَحْنُ لَا نَعْبُدُ هَذِهِ الْأَصْنَامَ لِاعْتِقَادِ أَنَّهَا آلِهَةٌ تَضُرُّ وَتَنْفَعُ! وَإِنَّمَا نَعْبُدُهَا لِأَجْلِ أَنَّهَا تَمَاثِيلُ لِأَشْخَاصٍ كَانُوا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ؛ فَنَحْنُ نَعْبُدُهَا لِأَجْلِ أَنْ يَصِيرَ أُولَئِكَ الْأَكَابِرُ شُفَعَاءَ لَنَا عِنْدَ اللَّهِ. فَأَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنْ قَالَ: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيئًا وَلَا يَعْقِلُونَ} [الزمر: 43] وَتَقْرِيرُ الْجَوَابِ: أَنَّ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ؛ إِمَّا أَنْ يَطْمَعُوا بِتِلْكَ الشَّفَاعَةِ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَامِ أَو مِنْ أُولَئِكَ الْعُلَمَاءِ وَالزُّهَّادِ الَّذِينَ جُعِلَتْ هَذِهِ الْأَصْنَامُ تَمَاثِيلَ لَهَا، وَالْأَوَّلُ: بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْجَمَادَاتِ -وَهِيَ الْأَصْنَامُ- لَا تَمْلِكُ شَيئًا وَلَا تَعْقِلُ شَيئًا، فَكَيفَ يُعْقَلُ صُدُورُ الشَّفَاعَةِ عَنْهَا؟! وَالثَّانِي: بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ فِي يَومِ الْقِيَامَةِ لَا يَمْلِكُ أَحَدٌ شَيئًا، وَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى الشَّفَاعَةِ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، فَيَكُونُ الشَّفِيعُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّهَ الَّذِي يَأْذَنُ فِي تِلْكَ الشَّفَاعَةِ، فَكَانَ الِاشْتِغَالُ بِعِبَادَتِهِ أَولَى مِنَ الِاشْتِغَالِ بِعِبَادَةِ غَيرِهِ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَولِهِ تَعَالَى: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزمر: 44] ". تَفْسِيرُ الرَّازِي (26/ 456).
المَلَائِكَةِ: {يَعْلَمُ مَا بَينَ أَيدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأَنْبِيَاء: 28].
وَتَأَمَّلْ أَحْوَالَ الشَّافِعِينَ مَعَ المَشْفُوعِ عِنْدَهُم تَجِدُهَا مِنْ هَذَا القَبِيلِ.
وَبِمَعْرِفَةِ مَا سَبَقَ يُفْتَحُ لَكَ بَابٌ فِي مَعْرِفَةِ سَبَبِ كَونِ آيَةِ الكُرسيِّ أَعْظَمَ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى
(1)
، حَيثُ ذُكِرَ فِيهَا كَمَالُ مُلْكِ وَعِلْمِ اللهِ تَعَالَى مَعًا، وَذُكِرَ فِيهَا أَنَّهُ لَا يَشْفَعُ عِنْدَهُ أَحَدٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ. قَالَ تَعَالَى:{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَينَ أَيدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البَقَرَة: 255].
قُلْتُ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُضَافَ أَيضًا سَبَبٌ آخَرُ ثَالِثٌ، وَهُوَ كَمَالُ رَحْمَتِهِ سُبْحَانَهُ؛ فَهُوَ لَا يَحْتَاجُ لِمَنْ يَشْفَعُ عِنْدَهُ كَي يُوَدِّدَ إِلَيهِ فُلَانًا مِنَ النَّاسِ لِقَضَاءِ حَاجَتِهِ -وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِ-، فَاللهُ تَعَالَى هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى -كَمَا سَيَأْتِي فِي كَلَامِ شَيخِ الإِسْلَامِ- هُوَ الَّذِي يَجْعَلُ شَفَاعَةَ الشَّافِعِ سَبَبًا لِحُصُولِ رَحْمَتِهِ تَعَالَى بِالمَشْفُوعِ فِيهِ.
- فَائِدَةٌ: "وَالمُشْرِكُ يَقْصِدُ فِيمَا يُشْرِكُ بِهِ أَنْ يَشْفَعَ لَهُ، أَو يَتَقَرَّبَ بِعِبَادَتِهِ إِلَى اللهِ، أَو يَكُونَ قَدْ أَحَبَّهُ كَمَا يُحِبُّ اللهَ.
وَالمُشْرِكُونَ بِالقُبُورِ تُوجَدُ فِيهِمُ الأَنْوَاعُ الثَّلَاثَةُ.
(1)
عَنْ أُبَيّ بْنِ كَعْبٍ؛ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((يَا أَبَا المُنْذِرِ، أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ مَعَكَ أَعْظَمُ؟)). قَالَ: قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: ((يَا أَبَا المُنْذِرِ أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ مَعَكَ أَعْظَمُ؟)). قَالَ: قُلْتُ: اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الحيُّ القَيُّومُ. قَالَ: فَضَرَبَ فِي صَدْرِي، وَقَالَ:((وَاللَّهِ؛ لِيَهْنِكَ العِلْمُ أَبَا المُنْذِرِ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ (810).
قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18] الآية.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3].
وَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165] "
(1)
.
(1)
الإِخْنَائِيَّة لِابْنِ تَيمِيَّة (ص 166).
مَسَائِلُ عَلَى البَابِ
-
المَسْأَلَةُ الأُولَى: قَدْ شَفَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ وَهُوَ مُشْرِكٌ، فَمَا الجَوَابُ؟
الجَوَابُ هُوَ مِنْ وَجْهَينِ:
1 -
إِنَّ هَذِهِ الشَّفَاعَةَ خَاصَّةٌ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ جِهَةٍ، وَبِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى
(1)
.
فَحَتَّى إِبْرَاهِيمَ عليه السلام لَمْ تَنْفَعْ شَفَاعَتُهُ لِأَبِيهِ، كَمَا فِي البُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه مَرْفُوعًا:((يَلْقَى إِبْرَاهِيمُ أَبَاهُ آزَرَ يَومَ القِيَامَةِ -وَعَلَى وَجْهِ آزَرَ قَتَرَةٌ وَغَبَرَةٌ-، فَيَقُولُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ لَا تَعْصِنِي؟! فَيَقُولُ أَبُوهُ: فَاليَومَ لَا أَعْصِيكَ. فَيَقُولُ إِبْرَاهِيمُ: يَا رَبِّ إِنَّكَ وَعَدْتَنِي أَنْ لَا تُخْزِيَنِيَ يَومَ يُبْعَثُونَ، فَأَيُّ خِزْيٍ أَخْزَى مِنْ أَبِي الأَبْعَدِ؟! فَيَقُولُ اللهُ تَعَالَى: إِنِّي حَرَّمْتُ الجَنَّةَ عَلَى الكَافِرِينَ. ثُمَّ يُقَالُ: يَا إِبْرَاهِيمُ؛ مَا تَحْتَ رِجْلَيكَ؟ فَيَنْظُرُ فَإِذَا هُوَ بِذِيخٍ مُلْتَطِخٍ، فَيُؤْخَذُ بِقَوَائِمِهِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ))
(2)
.
(1)
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ: (2/ 305): "وَقَدْ يَكُونُ هَذَا خَاصًّا بِأَبِي طَالِبٍ مِنْ دُونِ الْكَفَّارِ، بِدَلِيلِ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيالسِيّ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا عِمْرَانُ، حَدَّثَنَا قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:((إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ الْمُؤْمِنَ حَسَنَةً، يُثَابُ عَلَيهَا الرِّزْقَ فِي الدُّنْيَا ويُجْزَى بِهَا فِي الْآخِرَةِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُطْعَمُ بِهَا فِي الدُّنْيَا، فَإِذَا كَانَ يَومُ الْقِيَامَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ)).
قُلْتُ: وَالحَدِيثُ هَذَا رَوَاهُ الطَّيَالِسِيُّ (2123)، وَهُوَ بِنَحْوِهِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ (2808).
(2)
البُخَارِيُّ (3350).
وَالذّيخُ: ذَكَرُ الضَّبْعِ الكَثِيرُ الشَّعْرِ؛ حَيثُ أُرِيَ إِبْرَاهِيمُ أَبَاهُ عَلَى غَيرِ هَيئَتِهِ وَمَنْظَرِهِ لِيَسْرُعْ إِلَى التَّبَرُّءِ مِنْهُ.
وَقَولُهُ: (مُلْتَطِخٌ) أَي: مُتَلَوّثٌ بِالدَّمِ وَنَحْوِهِ.
2 -
إِنَّ هَذِهِ الشَّفَاعَةَ لَيسَتْ هِيَ المَقْصُودَةُ فِي عَامَّةِ النُّصُوصِ فِي كَونِ المَشْفُوعِ فِيهِ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ وَيَدْخُلُ الجَنَّةَ -كَمَا سَبَقَ فِي طَلَبِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام الشَّفَاعَةَ لِأَبِيهِ-، بَلْ هِيَ فِي تَخْفِيفِ العَذَابِ عَنْهُ فَقَط، كَمَا فِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ عَنِ العَبَّاسِ رضي الله عنه؛ أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: مَا أَغْنَيتَ عَنْ عَمِّكَ؛ فَإِنَّهُ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَغْضَبُ لَكَ؟ قَالَ: ((هُوَ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ، وَلَولَا أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرَكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ))
(1)
.
(1)
البُخَارِيُّ (3883).
-
المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَلِ الاسْتِشْفَاعُ إِلَى اللهِ بِالمَخْلُوقِ هُوَ نَفْسُهُ التَّوَسُّلُ بِالمَخْلُوقِ عِنْدَ اللهِ؟
الجَوَابُ:
لَا، فَالأوَّلُ هُوَ سُؤَالٌ لِغَيرِ اللهِ تَعَالَى وَهُوَ شِرْكٌ أَكْبَرُ؛ وَعَلَيهِ نُصُوصُ البَابِ.
أَمَّا الثَّانِي؛ فَهُوَ سُؤَالٌ للهِ تَعَالَى بِطَرِيقَةٍ بِدْعِيَّةٍ، وَهُوَ مِنَ الاعْتِدَاءِ فِي الدُّعَاءِ، وَهُوَ مِنِ الوَسَائِلِ وَالذَرَائِعِ الَّتِي تُفْضِي إِلَى الشِّرْكِ، وَالدُّعَاءُ بِهَيئَةٍ لَمْ تَرِدْ فِي الشَّرِيعَةِ يَكُونُ اعْتِدَاءً، كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى:{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأَعْرَاف: 55]
(1)
.
وَفِي الحَدِيثِ عَنِ ابْنٍ لِسَعْدٍ؛ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعَنِي أَبِي وَأَنَا أَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الجَنَّةَ وَنَعِيمَهَا وَبَهْجَتَهَا وَكَذَا وكَذَا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ وَسَلَاسِلِهَا وَأَغْلَالِهَا وَكَذَا وَكَذَا. فَقَالَ: يَا بُنيَّ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ((سَيَكُونُ قَومٌ يَعْتَدُونَ فِي الدُّعَاءِ))، فَإِيَّاكَ أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ. إِنْ أُعْطِيتَ الجَنَّةَ؛ أُعْطِيتَهَا وَمَا فِيهَا مِنَ الخَيرِ، وَإِنْ أُعِذْتَ مِنَ النَّارِ؛ أُعِذْتَ مِنْهَا وَمَا فِيهَا مِنَ الشَّرِّ
(2)
.
(1)
قَالَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ التَّوَسُّلُ (ص 133): "إِنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي يَحْمِلُ بَعْضَ العُلَمَاءِ وَالمُحَقِّقِينَ عَلَى المُبَالَغَةِ فِي إِنْكَارِ التَّوَسُّل بِذَوَاتِ الأَنْبِيَاءِ وَاعْتِبَارِهِ شِرْكًا، وَإِنْ كَانَ هُوَ نَفْسُهُ لَيسَ شِرْكًا عِنْدَنَا؛ بَلْ يُخْشَى أَنْ يُؤَديَ إِلَى الشِّرْكِ".
قَالَ الشَّيخُ عَبْدُ اللهِ الغُنَيمَانُ حَفِظَهُ اللهُ فِي شَرْحِ بَابِ (مَا جَاءَ فِي المُصَوِّرِين) مِنْ شَرْحِهِ عَلَى كِتَابِ فَتْحُ المَجِيدِ شَرِيطُ رَقَم (128): "أَمَّا دَعْوَةُ اللهِ بِهِمْ كَأَنْ يَقُولَ: يَا رَبِّ! أَسْأَلُكَ بِوَلِيِّكَ الفُلَانِيِّ، أَو أَسْأَلُكَ بِنَبِيِّكَ، أَو أَسْأَلُكَ بِجِبْرِيلَ، أَو أَسْأَلُكَ بِفُلَانٍ وَفُلَانٍ؛ فَهَذَا -وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شِرْكًا- إِلَّا أَنَّهُ مِنَ البِدَعِ الَّتِي تَكُونُ طَرِيقًا إِلَى الشِّرْكِ". وَيُنْظَرُ أَيضًا مَجْمُوعِ فَتَاوَى الشَّيخِ ابْنِ بَازٍ رحمه الله (7/ 129).
(2)
صَحِيحٌ. أَبُو دَاوُدَ (1480). صَحِيحُ الجَامِعِ (2397).
-
المَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِذَا كَانَتِ الشَّفَاعَةُ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِإِذْنِهِ سُبْحَانَهُ، فكَيفَ صَحَّ تَشَفُّعُ الإِنْسَانِ لِأَخِيهِ إِلَى رَبَّهِ -فِي صَلَاةِ الجَنَازَةِ وَغَيرِهَا
- وَهُوَ لَمْ يَسْتَأْذِنْ مِنْ رَبِّهِ فِي ذَلِكَ؟
الجَوَابُ:
إِنَّ اللهَ تَعَالَى أذْنَ لِلمُسْلِمِ بِأَنْ يَدْعُوَ لِأَخِيهِ الحَيِّ وَالمَيِّتِ فِي كَثِيرٍ مِنَ النُّصُوصِ، وَمِنْهَا الأَحَادِيثُ الَّتِي فِيهَا الحَضُّ عَلَى صَلَاةِ الجَنَازَةِ، وَغَيرُهَا كَثِيرٌ.
وَلَكِنْ يُقَالُ أَيضًا: إِنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يَأْذَنْ فِي الشَّفَاعَةِ مِنَ المُسْلِمِ لِلمُشْرِكِ بَعْدَ مَوتِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التَّوبَة: 113].
بَابُ قَولِ اللهِ تَعَالَى {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القَصَص: 56]
وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ المُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ؛ قَالَ: لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الوَفَاةُ؛ جَاءَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم -وَعِنْدَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي أُمِّيَّةَ وَأَبُو جَهْلٍ-، فَقَالَ لَهُ:((يَا عَمِّ؛ قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ. كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللهِ))، فَقَالَا لَهُ: أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ المُطَّلِبِ؟ فَأَعَادَ عَلَيهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَأَعَادَا، فَكَانَ آخَرَ مَا قَالَ: هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ المُطَّلِبِ؛ وَأَبَى أَنْ يَقُولَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:((لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ)). فَأَنْزَلَ اللهُ {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} [التَّوبَة: 113]، وَأَنْزَلَ اللهُ فِي أَبِي طَالِبٍ {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القَصَص: 56]
(1)
.
(1)
رَوَاهُ البُخَارِيُّ (4772)، وَمُسْلِمٌ (24).
فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: تَفْسِيرُ قَولِهِ: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} الآيَةَ.
الثَّانِيَةُ: تَفْسِيرُ قَولِهِ: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} الآيَةَ.
الثَّالِثَةُ: وَهِيَ المَسْأَلَةُ الكَبِيرَةُ؛ تَفْسِيرُ قَولِهِ: ((قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) بِخِلَافِ مَا عَلَيهِ مَنْ يَدَّعِي العِلْمَ.
الرَّابِعَةُ: أَنَّ أَبَا جَهْلٍ وَمَنْ مَعَهُ يَعْرِفُونَ مُرَادَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذَ قَالَ لِلرَّجُلِ قُلْ: ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))، فَقَبَّحَ اللهُ مَنْ أَبُو جَهْلٍ أَعْلَمُ مِنْهُ بِأَصْلِ الإِسْلَامِ.
الخَامِسَةُ: جِدُّهُ صلى الله عليه وسلم وَمُبَالَغَتُهُ فِي إِسْلَامِ عَمِّهِ.
السَّادِسَةُ: الرَّدُّ عَلَى مَنْ زَعَمَ إِسْلَامَ عَبْدِ المُطَّلِبِ وَأَسْلَافِهِ.
السَّابِعَةُ: كَونُهُ صلى الله عليه وسلم اسْتَغْفَرَ لَهُ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ؛ بَلْ نُهِيَ عَنْ ذَلِكَ.
الثَّامِنَةُ: مَضَرَّةُ أَصْحَابِ السُّوءِ عَلَى الإِنْسَانِ.
التَّاسِعَةُ: مَضَرَّةُ تَعْظِيمِ الأَسْلَافِ وَالأَكَابِرِ.
العَاشِرَةُ: الشُّبْهَةُ لِلْمُبْطِلِينَ فِي ذَلِكَ؛ لِاسْتِدْلَالِ أَبِي جَهْلٍ بِذَلِكَ.
الحَادِيَةَ عَشْرَةَ: الشَّاهِدُ لِكَونِ الأَعْمَالِ بِالخَوَاتِيمِ؛ لِأَنَّهُ لَو قَالَهَا لَنَفَعَتْهُ.
الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: التَّأَمُّلُ فِي كِبَرِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ فِي قُلُوبِ الضَّالِّينَ؛ لِأَنَّ فِي القِصَّةِ أَنَّهُمْ لَمْ يُجَادِلُوهُ إِلَّا بِهَا -مَعَ مُبَالَغَتِهِ صلى الله عليه وسلم وَتَكْرِيرِهِ-، فَلِأَجْلِ عَظَمَتِهَا وَوُضُوحِهَا عِنْدَهُمْ اقْتَصَرُوا عَلَيهَا.
الشَّرْحُ
- مُنَاسَبَةُ البَابِ لِكِتَابِ التَّوحِيدِ تَظْهَرُ مِنْ وَجْهَين:
1 -
أَنَّ الهِدَايَةَ -وَهِيَ أشْرَفُ المَطَالِبِ الدُّنْيَوِيَّةِ- قَدْ دَلَّ الشَّرْعُ عَلَى أَنَّ أَشْرَفَ الرُّسُلِ لَا يَمْلِكُهَا، وَأَنَّهَا إِلَى اللهِ وَحْدَهُ
(1)
؛ فَبَطَلَ بِذَلِكَ التَّعَلُّقُ بِالأَنْبِيَاءِ دُونَ اللهِ عز وجل، كَمَا أنَّ مَسْأَلَةَ الشَّفَاعَةِ هِيَ سَبَبُ تَعَلُّقِ المُشْرِكِينَ بِغَيرِ اللهِ تَعَالَى لِتَحْصِيلِ خَيرَي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.
2 -
أَنَّ هَذَا البَابَ هُوَ كَالمِثَالِ لِلبَابِ المَاضِي فِي أَنَّ الشَّفَاعَةَ لَا تَنَالُ المُشْرِكَ.
- قَولُهُ: ((مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ)) فِيهِ تَلْمِيحٌ إِلَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي نَفْسِهِ شَيءٌ مِنَ القَلَقِ حِيَالَ الاسْتِغْفَارِ لِعَمِّهِ المُشْرِكِ.
- قَولُهُ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ} مَا هُنَا نَافِيَةٌ، وَمَعْنَاهَا النَّهْيُ؛ وَالمُرَادُ أَنَّ ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ غَايَةَ الامْتِنَاعِ.
- المُسَيِّبُ
(2)
وَابْنُ أَبِي أُمَيَّة أَسْلَمَا، وَأَبُو جَهْلٍ قُتِلَ يَومَ بَدْرٍ.
(1)
وَتَأَمَّلْ قَولَ الخَلِيلِ عليه السلام عَنْ رَبِّهِ: {قَالَ أَفَرَأَيتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشُّعَرَاء: 75 - 78]، فَجَعَلَ الهِدَايَةَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الخَلْقِ الَّتِي يَتَفرَّدَ بِهَا الرَّبُّ الخَالِقُ.
وَتَأَمَّلْ أَيضًا قَولَهَ تَعَالَى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يُوسُف: 103].
وَتَأَمَّلْ أَيضًا قَولَهَ تَعَالَى: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا} [الجِنّ: 21].
وَتَأَمَّلْ أَيضًا قَولَهَ تَعَالَى {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} [يُونُس: 100].
(2)
(المُسَيَّب): بِالفَتْحِ وَالكَسْرِ.
وَسَعِيدُ بْنُ المُسَيَّب بْنِ حَزْنٍ: تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ تُوُفِّيَ بَعْدَ التَّسْعِين، وَأَبُوه وَجَدُّهُ صَحَابِيَّانِ.
- فِي الحَدِيثِ دِلَالَةٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ عِيَادَةِ المَرِيضِ المُشْرِكِ مِنْ أَجْلِ دَعْوَتِهِ إِلَى الإِسْلَامِ.
- فِي لَفْظٍ لِلْحَدِيثِ عِنْدَ مُسْلِمٍ بَيَانُ أَنَّ أَبَا طَالِبٍ لَمْ يَكُنْ مُكَذِّبًا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
(1)
، وَلَكِنْ مَنَعَهُ عَنِ الإِيمَانِ تَعَصُّبُه لِمِلَّةِ الآبَاءِ، وَخْوفُهُ مِنْ مَسَبَّةِ النَّاسِ لَهُ وَتَعْيِيرُهُ.
وَاللَّفُظُ هُوَ: ((قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؛ أَشْهَدُ لَكَ بِهَا يَومَ القِيَامَةِ))، قَالَ أَبُو طَالِبٍ: لَولَا أَنْ تُعَيِّرَنِي قُرَيشٌ؛ يَقُولُونَ: إِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ الجَزَعُ! لأَقْرَرْتُ بِهَا عَينَكَ، فَأَنْزَلَ اللهُ {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}
(2)
.
وَفِي سِيرَةِ ابْنِ إِسْحَاق أنَّ أَبَا طَالِبٍ كَانَ يُنْشِدُ:
وَاللهِ لَنْ يَصِلُوا إلَيك بِجَمْعِهِمْ
…
حَتَّى أُوَسَّدَ فِي التُّرَابِ دَفِينًا
فَاصْدَعْ بِأَمْرِك مَا عَلَيكَ غَضَاضَةٌ
…
وَأَبْشِرْ وَقَرّ بِذَاكَ مِنْك عُيُونًا
وَدَعَوتنِي؛ وَعَرَفْتُ أَنّك نَاصِحِي
…
وَلَقَدْ صَدَقْتَ؛ وَكُنْتَ ثَمَّ أَمِينًا
وَعَرَضْتَ دِينًا قَدْ عَرَفْتُ بِأَنَّهُ
…
مِنْ خَيرِ أَدْيَانِ البَرِيَّةِ دِينًا
لَولَا المَلَامَةُ أَو حذَارُ مَسَبَّةٍ
…
لَوَجَدْتَنِي سَمْحًا بِذَاكَ مُبَيِّنًا
(3)
.
- قَولُهُ تَعَالَى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} هَذِهِ المَحَبَّةُ لَهَا مَحْمَلَانِ:
1 -
إِنَّكَ يَا مُحَمَّدُ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ هِدَايَتَهُ {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} أَنْ يَهْدِيَهُ مِنْ خَلْقِهِ؛ بِتَوفِيقِهِ لِلإِيمَانِ بِهِ وَبِرَسُولِهِ.
(1)
كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأَنْعَام: 33].
(2)
مُسْلِمٌ (25).
(3)
سِيرَةُ ابْنِ إِسْحَاق (ص 155).
2 -
إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أحبَبْتَهُ -أَي: الشَّخْصَ- لِقَرَابَتِهِ مِنْكَ، وَهِيَ مَحَبَّةٌ طَبِيعِيَّةٌ، وَلَيسَتْ دِينِيَّةً
(1)
.
- فِي الحَدِيثِ بَيَانُ عَدَمِ جَوَازِ الاسْتِغْفَارِ لِمَنْ مَاتَ مُشْرِكًا.
وَفِي (أَحْكَامِ الجَنَائِزِ) لِلْأَلْبَانِيِّ: "وَتَحْرُمُ الصَّلَاةُ وَالاسْتِغْفَارُ وَالتَّرَحُّمُ عَلَى الكُفَّارِ وَالمُنَافِقِينَ لِقَولِ اللهِ تبارك وتعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التَّوبَة: 84]،
…
قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي المَجْمُوعِ: الصَّلَاةُ عَلَى الكَافِرِ وَالدُّعَاءُ لَهُ بِالمَغْفِرَةِ حَرَامٌ بِنَصِّ القُرْآنِ وَالإِجْمَاعِ"
(2)
.
وَبِنَحْوِهِ مَا رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ عَنْ عِصْمَةَ بْنِ زَامِلٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "سَمِعْتُ أَبَا هُرَيرَةَ يَقُولُ: رَحِمَ اللهُ رَجُلًا اسْتَغْفَرَ لِأَبِي هُرَيرَةَ وَلِأُمِّهِ، قُلْتُ: وَلِأَبِيهِ؟ قَالَ: لَا؛ إِنَّ أَبِي مَاتَ وَهُوَ مُشْرِكٌ"
(3)
.
- فِي الحَدِيثِ بَيَانُ أَنَّ عَبْدَ المُطَّلِبِ مَاتَ عَلَى الكُفْرِ، وَأَنَّ مَا يُنْقَلُ عَنْهُ فِي السِّيرَةِ مِنْ قَولِهِ لِأَبْرَهَةَ -حِينَ جَاءَ لِهَدْمِ الكَعْبَةِ-:"أَنَا رَبُّ الإِبِلِ؛ وَلِلبَيتِ رَبٌّ سَيَحْمِيهِ"
(4)
لَا يَدُلُّ عَلَى إِسْلَامِهِ! فَإِنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى إِقْرَارِهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ فَقَط، وَيَدُلُّ عَلَى عَدَمِ تَوحِيدِ العِبَادَةِ (الأُلُوهِيَّةِ) قَولُ ابْنِهِ عَنْهُ:"هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ المُطَّلِبِ" أَي: غَيرِ مِلَّةِ -لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ- فَتَنَبَّهْ.
(1)
يُنْظَرُ: تَفْسِيرُ الطَّبَرِيِّ (19/ 598).
(2)
أَحْكَامُ الجَنَائِزِ (ص 93).
(3)
تَفْسِيرُ الطَّبَرِيِّ (14/ 517).
(4)
السِّيرَةُ لِابْنِ كَثِيرٍ (1/ 34).
- قَولُهُ: (هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ المُطَّلِبِ): الظَّاهِرُ أَنَّ أَبَا طَالِبٍ قَالَ: (أَنَا) فَغيَّرَهُ الرَّاوِيُ اسْتِقْبَاحًا لِلَّفَظِ المَذْكُورِ، وَهُوَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الحَسَنَةِ. أَفَادَهُ الحَافِظُ رحمه الله فِي الفَتْحِ
(1)
.
- فَائِدَة 1: قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ
(2)
: "وَأَغْرَبُ مِنْهُ وَأَشَدُّ نَكَارَةً مَا رَوَاهُ الخَطِيبُ البَغْدَادِيُّ فِي كِتَابِ (السَّابِقُ وَاللَّاحِقُ) بِسَنَدٍ مَجْهُولٍ؛ عَنْ عَائِشَةَ فِي حَدِيثٍ فِيهِ قِصَّةُ أَنَّ اللهَ أَحْيَا أُمَّهُ فَآمَنَتْ ثُمَّ عَادَتْ. وَكَذَلِكَ
(3)
مَا رَوَاهُ السُّهَيلِيُّ فِي (الرَّوضِ) بِسَنَدٍ فِيهِ جَمَاعَةٌ مَجْهُولُونَ: أَنَّ اللهَ أَحْيَا لَهُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ فَآمَنَا بِهِ
(4)
.
وَقَدْ قَالَ الحَافِظُ ابْنُ دِحْيَةَ
(5)
: [هَذَا الحَدِيثُ مَوضُوعٌ يَرُدُّهُ القُرْآنُ وَالإِجْمَاعُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} [النِّسَاءِ: 18]. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ
(1)
فَتْحُ البَارِي (8/ 507).
(2)
تَفْسِيرُ ابْنِ كَثِيرٍ (4/ 223).
(3)
أَي: وَكَذَلِكَ فِي الغَرَابَةِ وَالنَّكَارَةِ.
(4)
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ -فِي مَوضِعٍ آخَرَ- (1/ 401): "قَالَ القُرْطُبِيُّ: وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي التَّذْكِرَةِ أَنَّ اللهَ أَحْيَا لَهُ أَبَوَيهِ حَتَّى آمَنَا بِهِ، وَأَجَبْنَا عَنْ قَولِهِ: ((إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ)). قُلْتُ -ابْنُ كَثِيرٍ-: وَالحَدِيثُ المَرْوِيُّ فِي حَيَاةِ أَبَوَيهِ عليه السلام لَيسَ فِي شَيءٍ مِنَ الكُتُبِ السِّتَّةِ وَلَا غَيرِهَا؛ وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ".
قُلْتُ: وَحَدِيثُ ((إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ)) رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ (203).
(5)
قَالَ الحَافِظُ الذَّهَبِيُّ رحمه الله فِي السِّيَرِ (22/ 389): "هُو أَبُو الخَطَّابِ عُمَرُ بْنُ حَسَنٍ الكَلْبِيُّ؛ الشَّيخُ العَلاَّمَةُ المُحَدِّثُ
…
، قَالَ ابْنُ النَّجَّارِ: وَكَانَ حَافِظًا مَاهِرًا، تَامَّ المَعْرِفَةِ بِالنَّحْوِ وَاللُّغَة، ظَاهِرِيَّ المَذْهَبِ، كَثِيرَ الوَقِيعَةِ فِي السَّلَفِ، أَحْمَقَ، شَدِيدَ الكِبْر، خَبِيثَ اللِّسَانِ، مُتَهَاوِنًا فِي دِينِهِ، وَكَانَ يَخْضِبُ بِالسَّوَادِ، (ت 633 هـ) ".
القُرْطُبِيُّ: "إِنَّ مُقْتَضَى هَذَا الحَدِيثِ .... وردَّ عَلَى ابْنِ دِحْيَةَ]
(1)
فِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ بِمَا حَاصِلُهُ أَنَّ هَذِهِ حَيَاةٌ جَدِيدَةٌ؛ كَمَا رَجَعَتِ الشَّمْسُ بَعْدَ غَيبُوبَتِهَا فَصَلَّى عَلِيٌّ العَصْرَ. قَالَ الطَّحَاوِيُّ: وَهُوَ حَدِيثٌ ثَابِتٌ -يَعْنِي: حَدِيثَ الشَّمْسِ-
(2)
.
قَالَ القُرْطُبِيُّ: فَلَيسَ إِحْيَاؤُهُمَا يَمْتَنِعُ عَقْلًا وَلَا شَرْعًا، قَالَ: وَقَدْ سَمِعْتُ أَنَّ اللهَ أَحْيَا عَمَّهُ أَبَا طَالِبٍ؛ فَآمَنْ بِهِ. قُلْتُ: وَهَذَا كُلّه مُتَوَقِّف عَلَى صِحَّةِ الحَدِيثِ، فَإِذَا صَحَّ فَلَا مَانِعَ مِنْهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ".
قُلْتُ: وَقَدْ عَلِمْتَ فِيمَا سَبَقَ مِنْ كَلَامِ الحَافِظِ ابْنِ كَثِيرٍ رحمه الله أَنَّهُ لَا يَصِحُّ.
وَنَزِيدُ عَلَى مَا سَبَقَ:
أ- أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ؛ قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ عَمَّكَ الشَّيخَ الضَّالَّ قَدْ مَاتَ. قَالَ: ((اذْهَبْ فَوَارِ أَبَاكَ ثُمَّ لَا تُحْدِثَنَّ شَيئًا حَتَّى تَأْتِيَنِي))، فَذَهَبْتُ فَوَارَيتُهُ، وَجِئْتُهُ؛ فَأَمَرَنِي فَاغْتَسَلْتُ وَدَعَا لِي
(3)
.
(1)
وَمَا بَينَ المُعْتَرِضَتَينِ زِيَادَةٌ مِنْ أَحَدِ نُسَخِ تَفْسِيرِ ابْنِ كَثِيرٍ (دَارُ طَيبَةَ، تَحْقِيقُ سَامِي بْنِ مُحَمَّد سَلَامَة) خِلَافًا لِغَيرِهَا مِنَ النُّسَخِ وَالتِي فِيهَا أَنَّ الحَافِظَ ابْنَ دِحْيَةَ مُؤَيِّدٌ لِمَسْأَلَةِ الإِحْيَاءِ، وَالَّذِي أَثْبَتْنَاهُ هُوَ الصَّوَابُ -إِنْ شَاءَ اللهُ- كَمَا تَجِدُهُ فِي كِتَابِ التَّذْكِرَةِ (ص 140) لِلقُرْطُبِيِّ رحمه الله.
(2)
بل هُوَ مَوضُوعٌ.
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ البِدَايَةُ وَالنِّهَايَةُ (8/ 582) -بَعْدَمَا اسْتَعْرَضَ رِوَايَاتِ الحَدِيثِ-: "وَالَّذِي يَظْهَرُ -وَاللهُ أَعْلَمُ- أَنَّهُ مُرَكَّبٌ مَصْنُوعٌ مِمَّا عَمِلَتْهُ أَيدِي الرَّوَافِضِ قَبَّحَهُمُ اللهُ، وَلَعَنَ مَنْ كَذَبَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وعَجَّلَ لهُ مَا تَوَعَّدَهُ الشَّارِعُ مِنَ العَذَابِ وَالنَّكَالِ حَيثُ قَالَ -وَهُوَ الصَّادِقُ فِي المَقَالِ-:((مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ))، .. وَقَدِ اغْتَرَّ بِذَلِكَ أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ رحمه الله وَمَالَ إِلَى صِحَّتِهِ،
…
وَهَكَذَا مَالَ إِلَيهِ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ أَيضًا فِيمَا قِيلَ".
(3)
صَحِيحٌ. أَبُو دَاوُدَ (3214). الصَّحِيحَةُ (161).
ب- عَنِ العَبَّاسِ رضي الله عنه؛ أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: مَا أَغْنَيتَ عَنْ عَمِّكَ؛ فَإِنَّهُ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَغْضَبُ لَكَ؟ قَالَ: ((هُوَ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ، وَلَولَا أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرَكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ))
(1)
.
ج- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: ((أَهْوَنُ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا أَبُو طَالِبٍ، وَهُوَ مُنْتَعِلٌ بِنَعْلَينِ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ))
(2)
.
د- قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله فِي الفَتْحِ: "وَوَقَفْتُ عَلَى جُزْءٍ جَمَعَهُ بَعْضُ أَهْلِ الرَّفْضِ؛ أَكْثَرَ فِيهِ مِنَ الأَحَادِيثِ الوَاهِيَةِ الدَّالَّةِ عَلَى إِسْلَامِ أَبِي طَالِبٍ، وَلَا يَثْبُتُ مِنْ ذَلِكَ شَيءٌ. وَبِاللَّهِ التَّوفِيقِ"
(3)
.
وَكَذَا قَالَ فِي كِتَابِهِ (الإِصَابَةُ)
(4)
بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ بَعْضَ رِوَايَاتِهِم
(5)
.
(1)
رَوَاهُ البُخَارِيُّ (6208).
(2)
رَوَاهُ مُسْلِمٌ (212).
(3)
فَتْحُ البَارِي (7/ 195).
(4)
(الإِصَابَةُ)(7/ 196).
(5)
قَالَ الشَّيخُ مُلَّا عَلِي القَارِيِّ رحمه الله:
"نَصْبُ مَيدَانٍ جَدَلِيٍّ مَعَ السُّيُوطِيِّ رَحمَهُ اللهُ تَعَالَى:
ثُمَّ أَقُولُ لَهُ بِطَرِيقِ المُجَادَلَةِ عَلَى أُسْلُوبِ الجَدَلِ: هَلْ يُعَارَضُ حَدِيثُ مُسْلِمٍ -المُجْمَعُ عَلَى صِحَّتِهِ، الدَّالُّ عَلَى كُفْرِ أَبَوَيهِ صلى الله عليه وسلم بِحَدِيثِ إِحْيَائِهِمَا وَإِيمَانِهِمَا بِهِ بَعْدَ بَعْثِهِمَا وَالحَالُ أَنَّهُ ضَعِيفٌ بِاتِّفَاقِ المُحَدِّثِينَ؛ بَلْ مَوضُوعٌ بَاطِلٌ لَا َأَصْلَ لَهُ عِنْدَ المُحَقِّقِينَ؟! مَعَ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلآيَاتِ السَّابِقَةِ وَالأَحَادِيثِ اللَّاحِقَةِ وَلِكَلَامِ الأَئِمَّةِ الأَرْبَعَةِ وَغَيرِهِم مِنْ أَكَابِرِ هَذِهِ الأُمَّةِ وَعُلَمَاءِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى الأُصُولِ البَاطِلَةِ لِلْطَّائِفَةِ الرَّافِضَةِ؟!
أَوْ نَقُولُ: إِذَا صَحَّ الحَدِيثُ عَنِ الرَّسُولِ، وَتَلَقَّتْهُ الأُمَّةُ بِالقَبُولِ؛ فَهَلْ يَحِلُّ لِأَحَدٍ مِنْ أَرْبَابِ الفُضُولِ أَنْ يَرُدَّ عَلَيهِ وَيَقُولَ: إِنَّهُمَا مَاتَا فِي الفَتْرَةِ قَبْلَ البَعْثَةِ أَوْ يُمْتَحَنَانِ يَومَ القِيَامَةِ؟!
=
- فَائِدَة 2: قَولُ المُصَنِّفِ رحمه الله فِي المَسَائِلِ: (فِيهِ مَضَرَّةُ تَعْظِيمِ الأَسْلَافِ وَالأَكَابِرِ)، وَأَنَّ اتِّبَاعَهُم مَذْمُومٌ! هَذَا الاتِّبَاعُ فِيهِ تَفْصِيلٌ؛ فَإِنْ كَانَ عَلَى غَيرِ الهُدَى وَالحَقِّ فَهُوَ مَذْمُومٌ، أَمَّا إِذَا كَانَ عَلَى هُدًى وَحَقٍّ فَهُوَ مَمْدُوحٌ، وَدَلِيلُ الذَّمِّ قَولُهُ تَعَالَى:
=
أَفَلَيسَ هَذَا مُعَارَضَةً بِالتَّعْلِيلِ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ مِن الدَّلِيلِ وَمَا ذَكَرَ أَرْبَابُ الأُصُولِ فِي الحَدِيثِ وَالفِقْهِ الجَامِعُونَ بَينَ المَنْقُولِ وَالمَعْقُولِ أَنَّ الحَدِيثَ إِذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَينِ أَوْ أَحَدِهِمَا فَلَا يُعَارِضُهُ حَدِيثُ غَيرِهِما وَلَو صَحَّ مِنْ طَرِيقِهِمَا وَإِنْ كَانَ مِنْ بَقِيَّةِ صِحَاحِ السِّتِّ؟! فَكَيفَ إِذَا أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ الكُتُبِ غَيرِ المُعْتَبَرَةِ مِنَ الطُّرُقِ غَيرِ المَشْهُورَةِ، وَصَرَّحَ الحُفَّاظُ بِضَعْفِ طُرُقِهِ كُلِّهَا؛ بَلْ بِوَضْعِهَا؟! وَالحَالُ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ إِلَّا جَمْعٌ مِن المُقَلِّدِينَ لَمْ يَصِلُوا إِلَى مَرْتَبَةِ المُجْتَهِدِينَ، كَابْنِ شَاهِينَ وَالخَطِيبِ البَغْدَادِيِّ وَالسُّهَيلِيِّ وَالقُرْطُبِيِّ وَالمُحِبِّ الطَّبَرِيِّ وَابْنِ المُنَيِّرِ وَأَمْثَالِهِم؟!
وَهَلْ يَحِلُّ لِأَحَدٍ مِنَ الحَنَفِيَّةِ وَغَيرِهِم أَنْ يُقَلِّدُوا هَؤُلَاءِ المَذْكُورِينَ وَيَتْرُكُوا الاقْتِدَاءَ بِأَئِمَّتِهِم المُعْتَبَرِينَ مَعَ ظُهُورِ أَدِلَّةِ الجُمْهُورِ مِنْ عُلَمَاءِ الأُمَّةِ لَا سِيَّمَا وَالمَسْأَلَةُ مِن الاعْتِقَادِيَّاتِ الَّتِي لَا بُدَّ لَهَا مِنَ الأَدِلَّةِ اليَقِينِيَّةِ لَا مِنَ الفُرُوعِ الفِقْهِيَّةِ الَّتِي تَغْلِبُ مَدَارُهَا عَلَى القَوَاعِدِ الظَّنِّيَّةِ؟!
انْتَهَى مَا تَعَلَّقَ بِزُبْدَةِ كَلَامِهِ وَخُلَاصَةِ مَرَامِهِ، وَعَدَلْنَا عَنِ التَّعَرُّضِ لِمَا ذَكَرَهُ مِنَ التَّطْوِيلِ الَّذِي لَا يُفِيدُ التَّعْلِيلَ فِي مَقَامِ التَّحْصِيلِ، وَإِنَّمَا هُوَ بَيَانُ قَالَ وَقِيلَ! وَاللهُ هُوَ الهَادِي إِلَى سَوَاءِ السَّبِيلِ.
وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ كَحَاطِبِ لَيلٍ وَخَاطِبِ وَيلٍ، فَتَارَةً يَقُولُ: إِنَّهُمَا مُؤْمِنَانِ مِنْ أَصْلِهِمَا؛ فَإِنَّهُمَا مِنْ أَهْلِ الفَتْرَةِ! أَوْ لِكَونِهِمَا مِنْ آبَاءِ أَرْبَابِ النُّبُوَّةِ! وَأُخْرَى يَقُولُ: إِنَّهُمَا كَانَا كَافِرَينِ لَكِنَّهُمَا أَحْيَاهُمَا اللهُ وَآمَنَا! وَمَرَّةً يَقُولُ: مَا كَانَا مُؤْمِنَينِ وَمَا كَانَا كَافِرَينِ؛ بَلْ كَانَا فِي مَرْتَبَةِ المَجَانِينِ جَاهِلَينِ فَيُمْتَحَنَانِ يَومَ القِيَامَةِ! وَبِالظَّنِّ يُحْكَمُ أَنَّهُمَا نَاجِيَانِ!
فَانْظُرْ إِلَى هَذِهِ المُعَارَضَاتِ الوَاضِحَةِ وَالمُنَاقَضَاتِ اللَّائِحَةِ؛ فَهَلْ تَثْبُتُ المَسَائِلُ الاعْتِقَادِيَّةُ بِأَمْثَالِ هَذِهِ الاحْتِمَالَاتِ العَقْلِيَّةِ؟!
فَدَلَّتْ تَصَانِيفُهُ فِي هَذِهِ القَضِيَّةِ بِأَنَّهُ أَقَلُّ العَطَّارِينَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى إِمَامِ الحُكَمَاءِ المُعْتَبَرِينَ؛ فَإِنَّهُ رحمه الله أَعْلَمُ عُلَمَاءِ الشَّافِعِيَّةِ فِي زَمَانِهِ، وَتَفَوَّقَ عَلَى جَمِيعِ أَقْرَانِهِ، وَأَنَا الفَقِيُر الحَقِيرُ مِنْ أَقَلِّ عُلَمَاءِ الحَنَفِيَّةِ بَيَّنْتُ خَطَأَهُ بِمَا أَخَذْتُهُ غَالِبًا مِنَ الكُتُبُ التَّفْسِيرِيَّةِ وَالحَدِيثِيَّةِ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ الفَضْلَ مِنَ اللهِ، وَلَا حَولَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ". (أَدِلَّةُ مُعْتَقَدِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي أَبَوَي الرَّسُولِ عليه الصلاة والسلام (ص 132).
وَأَمَّا دَلِيلُ المَدْحِ فَهُوَ قَولُهُ تَعَالَى عَنْ يُوسُفَ عليه السلام: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَينَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} [يُوسُف: 38].
- فَائِدَة 3: أَنْوَاعُ الهِدَايَةِ -المَعْنَوِيَّةِ- فِي الشَّرِيعَةِ أَرْبَعَةٌ:
1 -
هِدَايَةُ الفِطْرَةِ (الغَرِيزَةِ): وَهِيَ هِدَايَةُ المَخْلُوقِ إِلَى مَا فِيهِ بَقَاءُ حَيَاتِهِ وَحُسْنُ مَعَاشِهِ.
كَمَا فِي قَولِ مُوسَى عليه السلام: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طَه: 50]، يَعْنِي هَدَاهُ إِلَى مَا فِيهِ مَصْلَحَتُهُ فِي دُنْيَاهُ، كَهِدَايَةِ الطَّيرِ إِلَى صُنْعِ العُشِّ، وَهِدَايَةِ الرَّضِيعِ إِلَى الثَّدْي وَما أَشْبَهَ.
2 -
هِدَايَةُ الدِّلَالَةِ وَالإِرْشَادِ: وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِكُلِّ مَنْ دَلَّ إِلَى الخَيرِ، وَهِيَ الأَكْثَرُ فِي القُرْآنِ.
كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرَّعْد: 7].
3 -
هِدَايَةُ التَّوفِيقِ لِلإِيمَانِ: وَهِيَ خَاصَّةٌ بِاللهِ عز وجل، فَهُوَ الَّذِي يُوَفِّقْ وَيُلْهِم.
كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ} [هُود: 88]،
وَكَمَا قَالَ تَعَالَى أَيضًا: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القَصَص: 56].
4 -
هِدَايَةُ دُخُولِ الجَنَّةِ أَوِ النَّارِ: وَهِيَ مُرَتَّبَةٌ عَلَى مَا سَبَقَ مِنَ الإِيمَانِ وَالكُفْرِ.
كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [يُونُس: 9]،
وَكَقَولِهِ تَعَالَى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأَعْرَاف: 43].
وِهِدَايَةُ أَهْلِ النَّارِ إِلَى دُخُولِ النَّارِ هِيَ فِي قَولِهِ تَعَالَى: {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ * وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصَّافَّات: 23 - 24]
(1)
.
وَيُتَنَبَّهُ أَيضًا إِلَى نَوْعٍ آخَرَ مِنَ الهِدَايَةِ وَهُوَ الهِدَايَةُ المَادِّيَّةُ، كَمَا فِي قَوْلِه تَعَالَى:{كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62]؛ "فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللهَ سبحانه وتعالى كَمَا يَهْدِي إِلَى الطَّرِيقِ المَعْنَوِيِّ يَهْدِي أَيضًا إِلَى الطَّرِيقِ الحِسِّيِّ؛ لِقَولِهِ: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ}، وَلَيسَ المُرَادُ هُنَا هِدَايَةُ العِلْمِ وَالتَّوْفِيقِ لِلْعَمَلِ الصَّالِحِ! وَإِنَّمَا المُرَادُ بِالهِدَايَةِ لِطَرِيقِ النَّجَاةِ الَّتِي يَنْجُو بِهَا؛ فَهَدَاهُ اللهُ سبحانه وتعالى"
(2)
.
(1)
يُنْظَرُ: بَصَائِرُ ذَوِي التَّمْيِيزِ لِلفَيرُوزآبَادِي (5/ 313)، وفَتْحُ البَارِي لِابْنِ حَجَرٍ (11/ 515).
(2)
تَفْسِيرُ سُورَةِ الشُّعَرَاءِ لابْنِ عُثَيمِين (ص 134).
مَسَائِلُ عَلَى البَابِ
-
المَسْأَلَةُ الأُولَى: كَيفَ عَرَضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الشَّهَادَةَ عَلَى عَمِّهِ فِي حَالِ الاحْتِضَارِ
-وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ التَّوبَةَ حَينَهَا لَا تَنْفَعُ صَاحِبَهَا- كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى: {وَلَيسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النِّسَاء: 18]؟!
الجَوَابُ:
قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رحمه الله: " (لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الوَفَاةُ
…
) المُرَادُ قَرُبتْ وَفَاتُهُ وَحَضُرَتْ دَلَائِلُهَا، وَذَلِكَ قَبْلَ المُعَايَنَةِ وَالنَّزْعِ، وَلَو كَانَتْ حَالَ المُعَايَنَةِ وَالنَّزْعِ لَمْ تَنْفَعْهُ لِقَولِهِ تَعَالَى:{وَلَيسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النِّسَاء: 18]، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَبْلَ المُعَايَنَةِ مُحَاوَرَتُهُ لِلنَّبِيِّ وَكُفَّارِ قُرَيشٍ؛ وَجَوَابُهُ عَنْ نَفْسِهِ"
(1)
.
(1)
شَرْحُ مُسْلِمٍ (1/ 214)، وَبوَّبَ عَلَيهِ:"بَابُ الدَّلِيلِ عَلَى صِحَّةِ إِسْلَامِ مَنْ حَضَرَهُ المَوتُ مَا لَمْ يَشْرَعْ فِي النَّزْعِ".
-
المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي عَدَمِ جَوَازِ الاسْتِغْفَارِ لِمَنْ مَاتَ مُشْرِكًا
؛ جَاءَ فِي البُخَارِيِّ
(1)
: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى عَلَى رَأْسِ المُنَافِقِينَ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ؛ وَقَالَ: ((إِنِّي خُيِّرْتُ فَاخْتَرْتُ، لَو أَعْلَمُ أَنِّي إِنْ زِدْتُ عَلَى السَّبْعِينَ فَغُفِرَ لَهُ لَزِدْتُ عَلَيهَا))؟!
فَمَا الجَوَابُ عَنْ هَذَا؟
الجَوَابُ:
إِنَّ هَذَا كَانَ فِي أَوَّلِ الأَمْرِ ثُمَّ نُهِيَ عَنْهُ، وَدَلَّ لِذَلِكَ الحَدِيثُ بِتَمَامِهِ فِي البُخَارِيِّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رضي الله عنه؛ قَالَ: لمَّا مَاتَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبيِّ بْنِ سَلُولٍ وَدُعِيَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِيُصَلِّيَ عَلَيهِ، فَلَمَّا قَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَثَبْتُ إِلَيهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَتُصلِّي عَلَى ابْنِ أُبَيٍّ وَقَدْ قَالَ كَذَا وكَذَا يَومَ كَذَا وَكَذَا؟! أُعَدِّدُ عَلَيهِ قَولَهُ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ:((أَخِّرْ عَنِّي يَا عُمَرُ))، فَلَمَّا أَكْثَرْتُ عَلَيهِ قَالَ:((أَمَا إِنِّي خُيِّرْتُ فَاخْتَرْتُ، لَو أَعْلَمُ أَنِّي إِنْ زِدْتُ عَلَى السَّبْعِينَ يُغْفَرُ لَهُ؛ لَزِدْتُ عَلَيهَا))، قَالَ: فَصَلَّى عَلَيهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَلَمْ يَمكُثْ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى نَزَلَتِ الآيَتَانِ مِنْ بَرَاءَةَ:{وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التَّوبَة: 84] قَالَ: فَعَجِبْتُ بَعْدُ مِنْ جُرْأَتِي عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَومَئِذٍ! وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ). وَزَادَ التِّرْمِذِيُّ: فَمَا صَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَهُ عَلَى مُنَافِقٍ، وَلَا قَامَ عَلَى قَبْرِهِ حَتَّى قَبَضَهُ اللهُ
(2)
.
قُلْتُ: فَيَكُونُ الاسْتِغْفَارُ -اليَومَ- لِمَنْ مَاتَ مُشْرِكًا هُوَ مِنَ الاعْتِدَاءِ فِي الدُّعَاءِ،
(1)
البُخَارِيُّ (1366).
(2)
صَحِيحٌ. التِّرْمِذِيُّ (3097). صَحِيحُ التِّرْمِذِيِّ (3097).
وَفِي الحَدِيثِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُغَفَّلٍ مَرْفُوعًا: ((إِنَّهُ سَيَكُونُ فِي هَذِهِ الأُمَّةِ قَومٌ يَعْتَدُونَ فِي الطُّهُورِ وَالدُّعَاءِ))
(1)
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما؛ فِي قَولِهِ عز وجل: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَينِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإِسْرَاء: 23 - 24]، فَنَسَخَتْهَا الآيَةُ فِي بَرَاءَة:{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التَّوبَة: 113]
(2)
.
(1)
صَحِيحٌ. أَبُو دَاوُدَ (96). صَحِيحُ الجَامِعِ (2396).
(2)
صَحِيحٌ. الأَدَبُ المُفْرَدُ (23). صَحِيحُ الأَدَبِ المُفْرَدِ (17).
-
المَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي قَولِهِ تَعَالَى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القَصَص: 56] بَيَانُ أَنَّ الهِدَايَةَ لَيسَتْ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم!
فَمَا الجَوَابُ عَنْ قَولِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشُّورَى: 52]؟!
الجَوَابُ:
إِنَّ الهِدَايَةَ المَنْفِيَّةَ هِيَ هِدَايَةُ التَّوفِيقِ لِدُخُولِ الإِسْلَامِ، وَهَذِهِ لَا يَمْلِكُهَا إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ، فَهِيَ تُطْلَبُ مِنْهُ، وَيُمَثَّلُ لَهَا بِقَولِهِ تَعَالَى فِي الحَدِيثِ القُدُسِيِّ:((يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُم))
(1)
، وَأَمَّا الهِدَايَةُ المُثْبَتَةُ فَهِيَ غَيرُهَا، وَمَعْنَاهَا هُنَا هِدَايَةُ البَيَانِ وَالإِرْشَادِ وَالدِّلَالَةِ، وَيُمَثَّلُ لَهَا أَيضًا بِقَولِهِ تَعَالَى:{وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَينَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [فُصِّلَت: 17].
قَالَ الإِمَامُ الرَّازِي رحمه الله: "قَالَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الآيَةِ: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وَلَا تَنَافِيَ بَينَهُمَا؛ فَإِنَّ الَّذِي أَثْبَتَهُ وَأَضَافَهُ إِلَيهِ: الدَّعْوَةُ وَالبَيَانُ، وَالَّذِي نَفَى عَنْهُ: هِدَايَةُ التَّوفِيقِ، وَشَرْحُ الصَّدْرِ، وَهُوَ نُورٌ يُقْذَفُ فِي القَلْبِ فَيَحْيَا بِهِ القَلْبُ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: {أَوَمَنْ كَانَ مَيتًا فَأَحْيَينَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا} [الأَنْعَام: 122] الآيَةُ"
(2)
.
(1)
رَوَاهُ أَبُو ذَرٍّ مَرْفُوعًا، وَهُوَ قُدُسِيٌّ. صَحِيحِ مُسْلِمٍ (2577).
(2)
تَفْسِيرُ الرَّازِي (5/ 25).
-
المَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: كَيفَ يَسْتَقِيمُ أَنْ تَكُونَ آيَةُ: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ!
وَرَدَتْ فِي قِصَّةِ أَبِي طَالِبٍ وَقِصَّتُهُ مَكِّيَّةٌ؟!
الجَوَابُ:
قَالَ أَهْلُ العِلْمِ: إَنَّ القِصَّةَ مَكِّيَّةٌ؛ وَلَكِنْ لَمْ يَأْتِ النَّهْيُ عَنِ الاسْتِغْفَارِ لِلْمُشْرِكِينَ إِلَّا فِي المَدِينَةِ، وَيُعْلَمُ بِهَذَا أَيضًا أنَّ اسْتِئْذَانَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَبَّهُ فِي الاسْتِغْفَارِ لِأُمِّهِ بَعْدَ الهِجْرَةِ لَمْ يَكُنْ مَنهيًّا عَنْهُ ابْتِدَاءً
(1)
! وَلَكِنْ عِنْدَهَا نَزَلَتْ آيَةُ سُورَةِ التَّوبَةِ.
وَفِي مُسْتَدْرَكِ الحَاكِمِ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه؛ قَالَ: لَمَّا مَاتَ أَبُو طَالِبٍ؛ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((رَحِمَكَ اللهُ وغَفَرَ لَكَ يَا عَمِّ؛ وَلَا أَزَالُ اسْتَغْفِرُ لَكَ حَتَّى يَنْهَانِي اللهُ عز وجل). فَأَخَذَ المُسْلِمُونَ يَسْتَغْفِرُونَ لِمَوتَاهُم -الَّذِينَ مَاتُوا وَهُمْ مُشْرِكُونَ- فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التَّوبَة: 113]
(2)
.
(1)
وَالحَدِيثُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ (976) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ؛ قَالَ: زَارَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَبْرَ أُمِّهِ؛ فَبَكَى وَأَبْكَى مَنْ حَولَهُ، وَقَالَ:((اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي عز وجل فِي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَهَا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي، وَاسْتَأْذَنْتُ فِي أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأَذِنَ لِي، فَزُورُوا القُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمُ المَوتَ)).
(2)
مُسْتَدْرَكِ الحَاكِمِ (3290)، قَالَ الحَافِظُ الذَّهَبِيُّ رحمه الله:"صَحِيحٌ".
-
المَسْأَلَةُ الخَامِسَةُ: كَيفَ يَسْتَقِيمُ النَّهْيُّ عَنِ الاسْتِغْفَارِ لِلمُشْرِكِينَ مَعَ كَونِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَسْتَغْفِرُ لِقَومِهِ المُشْرِكِينَ؟
كَمَا فِي الصَّحِيحَينِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَحْكِي نَبِيًّا مِنَ الأَنْبِيَاءِ -ضَرَبَهُ قَومُهُ فَأَدْمَوهُ- وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ: ((اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَومِي؛ فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ))
(1)
!
الجَوَابُ مِن وَجْهَينِ:
1 -
أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الاسْتِغْفَارِ لِلمُشْرِكِينَ وَالتَّرَحُّمِ عَلَيهِم لَيسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ، بَلْ هُوَ مَخْصُوصٌ بِالمَوتِ عَلَى ذَلِكَ.
وَالدَّلِيلُ تَقْيِيدُ النَّهْي بِقَولِهِ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} ، وَهَذَا التَّبَيُّنُ يَكُونُ إِذَا مَاتَ عَلَى الكُفْرِ
(2)
، أَفَادَهُ الإِمَامُ الطَّبريُّ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ
(3)
(4)
،
(1)
البُخَارِيِّ (3477)، وَمُسْلِمٍ (1792).
(2)
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (4/ 211) فِي قَولِهِ تَعَالَى: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ} : "لَمَّا مَاتَ. هَذَا ثَابِتٌ عَنْ مُجَاهِدٍ".
(3)
تَفْسِيرُ الطَّبَرِيِّ (14/ 509).
(4)
قُلْتُ: وَتَأَمَّلِ القَيدَ فِي قَولِ اللهِ تبارك وتعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التَّوبَة: 84]، وَالشَّاهِدُ قَولُهُ تَعَالَى:{وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} .
وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ الجَوَابَ عَنْ اسْتِغْفَارِ إِبْرَاهِيمَ عليه الصلاة والسلام لِأَبِيهِ: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ * رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إِبْرَاهِيم: 40 - 41]، وَأَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِقَولِهِ تَعَالَى فِي الآيَةِ الثَّانِيَةِ:{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ * وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التَّوبَة: 113 - 114]. وَالحَمْدُ للهِ عَلَى تَوفِيقِهِ.
وَأَجَابَ بِهِ الإِمْامُ الطَّحَاوِيُّ رحمه الله أَيضًا فِي كِتَابِهِ (مُشْكِلُ الآثَارِ)
(1)
.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ
(2)
بِسَنَدٍ صَحِيحٍ -كَمَا قَالَ السُّيُوطِيُّ رحمه الله فِي الفَتَاوَى
(3)
- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: (مَا زَالَ إِبْرَاهِيمُ يَسْتَغْفِرُ لِأَبِيهِ حَتَّى مَاتَ، فَلَمَّا مَاتَ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للهِ؛ فَلَمْ يَسْتَغْفِرْ لَهُ)
(4)
.
2 -
أَنَّ المَقْصُودَ بِالاسْتِغْفَارِ هُنَا هُوَ بِأَنْ يُوَفِّقَهُ اللهُ تَعَالَى لِلرُّجُوعِ مِنَ الشِّرْكِ إِلَى التَّوحِيدِ، وَمِنَ المَعْصِيَةِ إِلَى الطَّاعَةِ
(5)
(6)
.
(1)
مُشْكِلُ الآثَارِ (6/ 280).
(2)
تَفْسِيرُ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ (10050).
(3)
الحَاوِي (2/ 259).
(4)
أَحْكَامُ الجَنَائِزِ (ص 96) لِلشَّيخِ الأَلْبَانِيِّ رحمه الله.
(5)
اُنْظُرْ: (مَدَارِجُ السَّالِكِين) لِابْنِ القَيِّمِ رحمه الله (1/ 60).
(6)
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ بِجَوَابٍ آخَرَ؛ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ وَقَعَ قَبْلَ النَّهْي، وَلَكِنَّ الأَوَّلَ أَولَى. وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
-
المَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: مَا وَجْهُ الجَمْعِ بَينَ حَدِيثِ: أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَينَ أَبِي؟ قَالَ: ((فِي النَّارِ)). فَلَمَّا قَفَّى دَعَاهُ فَقَالَ: ((إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ))
(1)
وَبَينَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ} [يس: 6] فِي كَوْنِ وَالِدَيِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَيسا مِنْ أَهْلِ الفَتْرَةِ؟
الجَوَابُ مِن وَجْهَينِ:
1 -
أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى خُصُوصِ بُلُوغِ قُرَيشٍ دَعْوَةَ إِبْرَاهِيمَ عليه الصلاة والسلام مِن جُمْلَةِ النَّاسِ، وَسَبَبُ ذَلِكَ النُّصُوصُ الكَثِيرةُ فِي أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يُعَذِّبُ إِلَّا بَعْدَ إِقَامَةِ الحُجَّةِ عَلَى خَلْقِهِ، وَلَكِنَّ قُرَيشًا بِذَاتِهَا كَانَتْ قَدْ بَلَغَتْهَا الدَّعْوَةُ.
قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رحمه الله: "قَوْلُه: أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ أَينَ أَبِي؟ قَالَ: ((فِي النَّارِ)). فَلَمَّا قَفَّى؛ دعاه فقال: ((إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ))، فِيهِ: أَنَّ مَن مَاتَ عَلَى الكُفْرِ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَلَا تَنْفَعُهُ قَرَابَةُ المُقَرَّبِينَ، وَفِيهِ: أَنَّ مَن مَاتَ فِي الفَتْرَةِ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيهِ العَرَبُ مِن عِبَادَةِ الأَوثَانِ فَهُوَ مِن أَهْلِ النَّارِ، وَلَيسَ هَذَا مُؤَاخَذَةً قَبْلَ بُلُوغِ الدَّعْوَةِ! فَإِنَّ هَؤُلَاءِ كَانَتْ قَدْ بَلَغَتْهُم دَعْوَةُ إِبْرَاهِيمَ وَغَيرِه مِن الأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللهِ تَعَالَى وَسَلَامُهُ عَلَيهِم"
(2)
.
وَقَالَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله -تَعْلِيقًا عَلَى قَولِه تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]-: "الإِنْذَارُ المَذْكُورُ فِيهَا لَا يَعْنِي الإِنْذَارَ المُبَاشِرَ مِنَ النَّذِيرِ فَقَط! وَإِنَّما يَعْنِي: وُصُولَ النِّذَارَةِ، فَسَوَاءً كَانَ بِالوَاسِطَةِ أَوْ بِدُونِ وَاسِطَةٍ،
(1)
فِي صَحِيحُ مُسْلِمٍ (203) عَنْ أَنَسٍ.
(2)
شَرْحُ النَّوَوِيِّ عَلَى مُسْلِمٍ (3/ 79).
وَحِينَئِذٍ تَسْلَمُ لَنَا الأَحَادِيثُ الكَثِيرَةُ الَّتِي يُمْكِنُ أَنْ نَقُولَ عَنْهَا بِأَنَّها مُتَوَاتِرةُ المَعْنَى؛ حَيثُ أَنَّها كُلَّهَا تَجْتَمِعُ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ مَاتُوا قَبْلَ بَعْثَةِ الرَّسُولِ عليه السلام وَأَخْبَرَ الرَّسُولُ عليه السلام أَنَّهُم يُعَذَّبُون: أَنَّهُم يُعَذَّبُون، وَقَدْ بَلغتْهُمُ الدَّعْوَةُ، وَلَيسَتِ الدَّعْوَةُ الَّتِي بَلَغَتْهم إِلَّا هِيَ دَعْوَةُ أَبِينَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ الَّذَينِ قَامُوا بِبِنَاءِ الكَعْبَةِ، وَتَوَارَثُوا الطَّوَافَ أَوِ الحَجَّ إِلَى بَيتِ اللهِ الحَرَامِ مِن نَبِيِّهِم إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ عليهما السلام، فَحِينَمَا يَأْتِي حَدِيثٌ كَحَدِيثِ:((إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ))، أَوِ الحَدِيثُ الثَّانِي الَّذِي ذَكَرْته:((اسْتَأْذَنْتُ رَبّي))
(1)
(2)
، وَالحَدِيثُ الثَّالِثُ:((كُلَّمَا مَرَرْتَ بِقَبْرِ مُشْرِكٍ فَبَشِّرْهُ بِالنَّارِ))
(3)
، وَالحَدِيثُ الرَّابِعُ الَّذِي فِيهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم مَرَّ بِقَبْرَينِ فَشَمَسَتْ بِهِ الدَّابَّةُ، وَإِذَا بِهِ يَرَى قَبْرَين فَسَأَلَ عَنْهُما، قَالُوا: مَاتَا فِي الجَاهِلِيَّةِ. فَقَالَ: ((لَولَا أَنْ تَدَافَنوا لَأَسْمَعْتُكُم عَذَابَ القَبْرِ))
(4)
يُشِيرُ بِهَذَا الحَدِيثِ إِلَى أَنَّ الدَّابَّةَ حِينَمَا شَمَسَتْ سَمِعَتْ عَذَابَ المُعَذَّبِين بِالقَبْرِ.
(1)
الحَدِيثُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ (976) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ؛ قَالَ: زَارَ رَسُولُ اللهِ قَبْرَ أُمِّهِ، فَبَكَى وَأَبْكَى مَنْ حَولَهُ، وَقَالَ:((اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي عز وجل فِي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَهَا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي، وَاسْتَأْذَنْتُ فِي أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأَذِنَ لِي، فَزُورُوا القُبُورَ؛ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمُ المَوتَ)).
(2)
وَسَبَقَ قَولُ الحَافِظِ ابْنِ كَثِيرٍ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (1/ 401): "وَالحَدِيثُ المَرْوِيُّ فِي حَيَاةِ أَبَوَيهِ عليه السلام لَيسَ فِي شَيءٍ مِنَ الكُتُبِ السِّتَّةِ وَلَا غَيرِهَا؛ وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ".
(3)
صَحِيحٌ. ابْنُ مَاجَه (1573) مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما. وَصَحَّحَهُ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله فِي تَحْقِيقِ السُّنَنِ.
وَقَالَ الشَّيخُ ابْنُ عُثَيمِين رحمه الله تَوجِيهًا لِحَدِيثِ ((إِذَا مَرَرْتَ بِقَبْرِ الكَافِرِ فَبَشِّرْهُ بِالنَّارِ)): "مُرَادُ الرَّسُولِ عليه الصلاة والسلام: الَّذِينَ دُفِنوا فِي حَيَاتِهِ؛ لِأَنَّ غَالِبَهُم قَامَتْ عَلَيهِمُ الحُجَّةُ". لِقَاءُ البَابِ المَفْتُوحِ لِابْنِ عُثَيمِين (31/ 139).
(4)
صَحِيحُ مُسْلِمٍ (2867) مِنْ حَدِيثِ زَيدِ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه مَرْفُوعًا.
فَإِذًا: هَؤُلَاءِ مَاتُوا فِي الجَاهِلِيَّةِ وَمَعَ ذَلِكَ يُعَذَّبونَ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ تُفَسَّرَ هَذِهِ الأَحَادِيثُ -وَهِيَ كَمَا قُلْتُ آنِفًا: تُعْطِينَا مَعْنًى مُتَوَاتِرًا- وَهِيَ أَنَّ الَّذِينَ مَاتُوا فِي الجَاهِلِيَّةِ أَخْبَرَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وآله وسلم بِأَنَّهُم يُعَذَّبُونَ، وَنَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُم مَا جَاءَهُم مِن نَذِيرٍ بِالمَعْنَى الضَّيِّقِ الأَوَّلِ، لَكِنْ نَعْلَمُ أَنَّهُم جَاءَهُم النَّذِيرُ بِالمَعْنَى الوَاسِعِ، أَي: جَاءَتْهمُ الدَّعْوَةُ -دَعْوَةُ التَّوحِيدِ؛ دَعْوَةُ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام وَإِسْمَاعِيلَ- فَأُقِيمَتِ الحُجَّةُ عَلَيهِم، وَلِذَلِكَ فَهُم يُعَذَّبُونَ.
إِذًا: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] هِيَ عَلَى عُمُومِهَا، وَمُؤَيَّدَةٌ بِالنَّصِّ الصَّرِيحِ:((مَا مِنْ رَجُلٍ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ مِن يَهُودِيٍّ أَو نَصْرَانِيٍّ يَسْمَعُ بِي ثُمَّ لَا يُؤْمِنُ بِي إِلَّا دَخَلَ النَّارَ))
(1)
، وَالأَحَادِيثُ الأُخْرَى الَّتِي ذَكَرْنَاهَا كُلُّهَا تَلْتَئِمُ وَتَضْطَرُّنَا اضْطِرَارًا عِلْمِيًّا أَنْ نَقُولَ بِأَنَّ الآيَةَ عَلَى عُمُومِهَا؛ وَأَنَّهُ لَيسَ المَقْصُودُ -كَمَا هُوَ المُتَبَادِرُ مِن لَفْظِ الآيَةِ:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} - دُونَ التَّوحِيدِ!! هَذَا لَا يَتَبَادَرُ، مَع ذَلِكَ؛ الحَدِيثُ يُؤَيِّدُ عُمُومَ وَشُمُولَ الآيَةِ وَالأَحَادِيثَ الأُخْرَى، وَلِذَلِكَ فَهُنَا -مِمَّا أَعْتَقِدُ مِن كُتُبِ التَّوحِيدِ- لَا أَحَدَ يَقُولُ بِتَخْصِيصِ الآيَةِ فِيمَا أَعْلَمُ مِن أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} أَنَّ هَذَا خَاصٌّ بِالأَحْكَامِ دُونَ التَّوحِيدِ! "
(2)
(3)
.
وَقَالَ الشَّيخُ ابْنُ عُثَيمِين رحمه الله: "لَا شَكَّ أَنَّ العُذْرَ بِالجَهْلِ ثَابِتٌ، وَمَا عِنْدَنَا فِي هَذَا إِشْكَالٌ -لَا فِي مَسْأَلَةِ الكُفْرِ؛ وَلَا فِيمَا دُونَها- مَتَى كَانَ الإِنْسَانُ يَقُولُ: إِنَّه مُسْلِمٌ،
(1)
صَحِيحُ مُسْلِمٍ (149) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه مَرْفُوعًا.
(2)
مَوسُوعَةُ الأَلْبَانِيِّ فِي العَقِيدَةِ (5/ 931).
(3)
وَيُنْظَرُ: تَفْسِيرُ الرَّازِي (26/ 253).
لَكْنْ إِذَا قَالَ الرَّسُولُ لَنَا: (إِنَّ اللهَ أَبَى أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُ) نعْتَرِضُ عَلَى اللهِ؟! مَا نَدْرِي، قَد يَكُونُ قَامَتْ عَلَيهِ الحُجَّةُ، لِأَنَّ فِيهِ بَقَايَا مِن دِينِ إِسْمَاعِيلَ فِي العَرَبِ، وَفِيهِ وَرَقَةُ بْنُ نَوفَلٍ؛ تَنَصَّرَ"
(1)
.
قُلْتُ: وَعَلَى سَبِيلِ التأكيد؛ فَإِنَّ فِي صَحِيحِ البُخَاريِّ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَقِيَ زَيدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيلٍ بِأَسْفَلِ بَلْدَحٍ
(2)
-قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الوَحْيُ-؛ فَقُدِّمَتْ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سُفْرَةٌ؛ فَأَبَى أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا، ثُمَّ قَالَ زَيدٌ: إِنِّي لَسْتُ آكُلُ مِمَّا تَذْبَحُونَ عَلَى أَنْصَابِكُمْ، وَلا آكُلُ إِلَّا مَا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيهِ، وَأَنَّ زَيدَ بْنَ عَمْرٍو كَانَ يَعِيبُ عَلَى قُرَيشٍ ذَبَائِحَهُمْ؛ وَيَقُولُ: الشَّاةُ خَلَقَهَا اللَّهُ؛ وَأَنْزَلَ لَهَا مِنَ السَّمَاءِ المَاءَ؛ وَأَنْبَتَ لَهَا مِنَ الأَرْضِ؛ ثُمَّ تَذْبَحُونَهَا عَلَى غَيرِ اسْمِ اللَّهِ!! إِنْكَارًا لِذَلِكَ وَإِعْظَامًا لَهُ
(3)
.
وَأَيضًا فِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ؛ أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنها قَالَتْ: "رَأَيتُ زَيدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيلٍ قَائِمًا مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى الكَعْبَةِ؛ يَقُولُ: يَا مَعَاشِرَ قُرَيشٍ؛ وَاللَّهِ مَا مِنْكُمْ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ غَيرِي"
(4)
.
2 -
الجَمْعُ بَينَ الأَدِلَّةِ كُلِّهَا؛ بِأَنْ يُحْمَلَ الخَاصُّ -الَّذِي أَثْبَتَ العَذَابَ لِلْمَذْكُورِينَ- عَلَى الإِخْبَارِ عَنْ حَالِهِم عِنْدَ الامْتِحَانِ يَومَ القِيَامَةِ.
قَالَ العَلَّامَةُ مُحَمَّدٌ الأَمِينُ الشِّنْقِيطِيُّ رحمه الله -فِي تَفْسِيرِ قَولِهِ تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} -: "الظَّاهِرُ أَنَّ التَّحْقِيقَ فِي هَذِهِ المَسْأَلَةِ الَّتِي هِيَ: هَلْ
(1)
تَفْسِيرُ سُورَةِ غَافِرٍ لِابْنِ عُثَيمِين -الأَصْلُ الصَّوتِيُّ- شَرِيطُ (أ/12).
(2)
"هُوَ مَكَانٌ فِي طَرِيقِ التَّنْعِيمِ". فَتْحُ البَارِي (7/ 143).
(3)
صَحِيحُ البُخَارِيِّ (3826) مِن حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما مَرْفُوعًا.
(4)
صَحِيحُ البُخَارِيِّ (3828).
يَعْذُرُ المُشْرِكُونَ بِالفَتْرَةِ أَو لَا؟ هُوَ أَنَّهُمْ مَعْذُورُونَ بِالفَتْرَةِ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَّ اللَّهَ يَومَ القِيَامَةِ يَمْتَحِنُهُمْ بِنَارٍ يَأْمُرُهُمْ بِاقْتِحَامِهَا؛ فَمَنِ اقْتَحَمَهَا دَخْلَ الجَنَّةَ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ يُصَدِّقُ الرُّسُلَ لَو جَاءَتْهُ فِي الدُّنْيَا، وَمَنِ امْتَنَعَ دَخَلَ النَّارَ وَعُذِّبَ فِيهَا، وَهُوَ الَّذِي كَانَ يُكَذِّبُ الرُّسُلَ لَو جَاءَتْهُ فِي الدُّنْيَا؛ لَأَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا كَانُوا عَامِلِينَ لَو جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ" إِلَى أَنْ قَالَ: "وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى أَيضًا قَبْلَ هَذَا الكَلَامِ بِقَلِيلٍ مَا نَصُّهٌ: وَمِنْهُم مَن ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُم يُمْتَحَنُون يَومَ القِيَامَةِ فِي عَرَصَاتِ المَحْشَرِ؛ فَمَنْ أَطَاعَ دَخَلَ الجَنَّةَ وَانْكَشَفَ عِلْمُ اللهِ فِيهِ بِسَابِقِ السَّعَادَةِ، وَمَن عَصَى دَخَلَ النَّارَ دَاخِرًا، وَانْكَشَفَ عِلْمُ اللهِ فِيهِ بِسَابِقِ الشّقَاوَةِ.
وَهَذَا القَولُ يَجْمَعُ بَينَ الأَدِلَّةِ كُلِّهَا، وَقَدْ صَرَّحَتْ بِهِ الأَحَادِيثُ المُتَقَدِّمَةُ المُتَعَاضِدةُ؛ الشَّاهِدُ بَعْضُها لِبَعْضٍ، وَهَذَا القَولُ هُوَ الَّذِي حَكَاهُ الشَّيخُ أَبُو الحَسَنِ؛ عَلِيُّ بنُ إِسْمَاعِيلَ الأَشْعَرِيُّ عَن أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ، وَهُوَ الَّذِي نَصَرَه الحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ البَيهَقِيُّ فِي كِتَابِ (الاعْتِقَادِ)، وَكَذَلِكَ غَيرُهُ مِن مُحَقِّقِي العُلَمَاءِ وَالحُفَّاظِ وَالنُّقَّادِ
(1)
. انْتَهَى مَحَلُّ الغَرَضِ مِن كَلَامِ ابنِ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى، وَهُوَ وَاضِحٌ جِدًّا فِيمَا ذَكَرْنَا"
(2)
.
(1)
تَفْسِيرُ ابْنِ كَثِيرٍ (5/ 57).
مَلَاحَظَةٌ: مَا سَبَقَ مِن كَلَامِ الحَافِظِ ابْنِ كَثِيرٍ رحمه الله إِنَّمَا هُوَ فِي الكَلَامِ عَلَى حُكْمِ أَوْلَادِ المُشْرِكِين، إِلَّا أَنَّهُ -كَمَا يَظْهَرُ مِن صَنِيعِ الشَّيخِ مُحَمَّدٍ الأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رحمه الله أَنَّهُ يَصِحُّ حَمْلُهُ عَلَى عُمُومِ أَهْلِ الفَتْرَةِ لِأَنَّ العِلَّةَ وَاحِدةٌ. وَاللهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(2)
أَضْوَاءُ البَيَانِ (3/ 74).
بَابُ مَا جَاءَ أَنَّ سَبَبَ كُفْرِ بَنِي آدَمَ وَتَرْكِهِمْ دِينَهُمْ هُوَ الغُلُوُّ فِي الصَّالِحِينَ
وَقُولُ اللهِ عز وجل: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [النِّسَاء: 171].
وفي الصَّحيحِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فِي قَولِ اللهِ تَعَالَى: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا * وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا} [نُوح: 23 - 24]. قَالَ: (هَذِهِ أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ قَومٍ نُوحٍ، فَلَمَّا هَلَكُوا أَوحَى الشَّيطَانُ إِلَى قَومِهِمْ أَنِ انْصِبُوا إِلَى مَجَالِسِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَجْلِسُونَ فِيهَا أَنْصَابًا وَسَمُّوهَا بِأَسْمَائِهِمْ، فَفَعَلُوا وَلَمْ تُعْبَدْ، حَتَّى إِذَا هَلَكَ أُولَئِكَ، وَنُسِيَ العِلْمُ عُبِدَتْ)
(1)
.
قَالَ ابْنُ القَيِّمِ: "قَالَ غَيرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ: لَمَّا مَاتُوا؛ عَكَفُوا عَلَى قُبُورِهِمْ، ثُمَّ صَوَّرُوا تَمَاثِيلَهُمْ، ثُمَّ طَالَ عَلَيهِمُ الأَمَدُ فَعَبَدُوهُمْ"
(2)
.
(1)
صَحِيحٌ. رَوَاهُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ (4920).
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله فِي الفَتْحِ (8/ 667): "قِيلَ: هَذَا مُنْقَطِعٌ؛ لِأَنَّ عَطَاءَ المَذْكُورَ؛ هُوَ الخُرَاسَانِيُّ وَلَمْ يَلْقَ ابْنَ عَبَّاسٍ! وَهَذَا مِمَّا اسْتُعْظِمَ عَلَى البُخَارِيِّ أَنْ يَخْفَى عَلَيهِ، لَكِنِ الَّذِي قَوِيَ عِنْدِي أَنَّ هَذَا الحَدِيثَ بِخُصُوصِهِ عِنْدَ ابْنِ جُرَيجٍ عَنْ عَطَاءٍ الخُرَاسَانِيِّ وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاح جَمِيعًا".
(2)
إِغَاثَةُ اللَّهْفَانِ مِنْ مَصَايِدِ الشَّيطَانِ (1/ 184).
وَعَنْ عُمَرَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ، إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ؛ فَقُولُوا: عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ)) أَخْرِجَاهُ
(1)
.
وَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((إِيَّاكُمْ وَالغُلُوَّ؛ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الغُلُوُّ))
(2)
.
وَلِمُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((هَلَكَ المُتَنَطِّعُونَ)) قَالَهَا ثَلَاثًا
(3)
.
(1)
البُخَارِيُّ (3445) فَقَط دُونَ مُسْلِمٍ.
(2)
صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (1851) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ النَّسَائِيِّ (3057). وَهُوَ عِنْدَ البَيهَقِيِّ فِي الصُّغْرَى (1681) عَنْهُ عَنِ الفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم مَرْفُوعًا. وَقَدْ ذَكَرَهُ المُصَنِّفُ رحمه الله بِدُونِ ذِكْرِ رَاوِيه هَكَذَا.
(3)
مُسْلِمٌ (2670).
فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: أَنَّ مَنْ فَهِمَ هَذَا البَابَ وَبَابَينِ بَعْدَهُ، تَبَيَّنَ لَهُ غُرْبَةُ الإِسْلَامِ، وَرَأَى مِنْ قُدْرَةِ اللهِ وَتَقْلِيبِهِ لِلْقُلُوبِ العَجَبَ.
الثَّانِيَةُ: مَعْرِفَةُ أَوَّلِ شِرْكٍ حَدَثَ فِي الأَرْضِ؛ كَانَ بِشُبْهَةِ الصَّالِحِينَ.
الثَّالِثَةُ: مَعْرِفَةُ أَوَّلِ شَيءٍ غُيِّرَ بِهِ دِينُ الأَنْبِيَاءِ، وَمَا سَبَبُ ذَلِكَ، مَعَ مَعْرِفَةِ أَنَّ اللهَ أَرْسَلَهُمْ!
الرَّابِعَةُ: قَبُولُ البِدَعِ مَعَ كَونِ الشَّرَائِعِ وَالفِطَرِ تَرُدُّهَا!
الخَامِسَةُ: أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ كُلِّهُ مَزْجُ الحَقِّ بِالبَاطِلِ.
فَالأَوَّلُ: مَحَبَّةُ الصَّالِحِينَ، وَالثَّانِي: فِعْلُ أُنَاسٍ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ وَالدِّينِ شَيئًا أَرَادُوا بِهِ خَيرًا؛ فَظَنَّ مَنْ بَعْدَهُمْ أَنَّهُمْ أَرَادُوا بِهِ غَيرَهُ!
السَّادِسَةُ: تَفْسِيرُ الآيَةِ الَّتِي فِي سُورَةِ نُوحٍ.
السَّابِعَةُ: جِبِلَّةُ الآدَمِيِّ فِي كَونِ الحَقِّ يَنْقُصُ فِي قَلْبِهِ؛ وَالبَاطِلِ يَزِيدُ.
الثَّامِنَةُ: فِيهِ شَاهِدٌ لِمَا نُقِلَ عَنِ السَّلَفِ أَنَّ البِدَعَ سَبَبُ الكُفْرِ.
التَّاسِعَةُ: مَعْرِفَةُ الشَّيطَانِ بِمَا تَؤُولُ إِلَيهِ البِدْعَةُ؛ وَلَو حَسُنَ قَصْدُ الفَاعِلِ.
العَاشِرَةُ: مَعْرِفَةُ القَاعِدَةِ الكُلِّيَّةِ: وَهِيَ النَّهْيُ عَنِ الغُلُوُّ، وَمَعْرِفَةُ مَا يَؤُولُ إِلَيهِ.
الحَادِيَةَ عَشْرَةَ: مَضَرَّةُ العُكُوفِ عَلَى القَبْرِ لِأَجْلِ عَمَلٍ صَالِحٍ.
الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: مَعْرِفَةُ النَّهْيِ عَنِ التَّمَاثِيلِ، وَالحِكْمَةُ فِي إِزَالَتِهَا.
الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: عِظَمُ شَأْنِ هَذِهِ القِصَّةِ، وَشِدَّةُ الحَاجَةِ إِلَيهَا مَعَ الغَفْلَةِ عَنْهَا.
الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: وَهِيَ أَعْجَبُ العَجَبِ؛ قِرَاءَتُهُمْ إِيَّاهَا فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَالحَدِيثِ، وَمَعْرِفَتُهُمْ بِمَعْنَى الكَلَامِ، وَكَونُ اللهِ حَالَ بَينَهُمْ وَبَينَ قُلُوبِهِمْ حَتَّى اعْتَقَدُوا أَنَّ فِعْلَ قَومِ نُوحٍ هُوَ أَفْضَلُ العِبَادَاتِ! وَاعْتَقَدُوا أَنَّ مَا نَهَى اللهُ وَرَسُولُهُ عَنْهُ؛ فَهُوَ الكُفْرُ المُبِيحُ لِلدَّمِ وَالمَالِ.
الخَامِسَةَ عَشْرَةَ: التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُمْ لَمْ يُرِيدُوا إِلَّا الشَّفَاعَةَ.
السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: ظَنُّهُمْ أَنَّ العُلَمَاءَ الَّذِينَ صَوَّرُوا الصُّوَرَ أَرَادُوا ذَلِكَ.
السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: البَيَانُ العَظِيمُ فِي قَولِهِ: ((لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ))، فَصَلَوَاتُ اللهُ وَسَلَامُهُ عَلَيهِ، بَلَّغَ البَلَاغَ المُبِينِ.
الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: نَصِيحَتُهُ إِيَّانَا بِهَلَاكِ المُتَنَطِّعِينَ.
التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: التَّصْرِيحُ بِأَنَّهَا لَمْ تُعْبَدْ حَتَّى نُسِيَ العِلْمُ، فَفِيهَا بَيَانُ مَعْرِفَةِ قَدْرِ وُجُودِهِ، وَمَضَرَّةُ فَقْدِهِ.
العِشْرُونَ: أَنَّ سَبَبَ فَقْدِ العِلْمِ مَوتُ العُلَمَاءِ.
الشَّرْحُ
- أَورَدَ المُصَنِّفُ رحمه الله هَذَا البَابَ لِبَيَانِ أَسْبَابِ وَذَرَائِعِ الشِّرْكِ بَعْدَمَا ذَكَرَ الأُصُولَ وَالعَقَائِدَ.
- قَولُهُ تَعَالَى: {لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} أَي: لَا تَتَجَاوَزُوا الحَدَّ مَدْحًا أَو قَدْحًا.
حَيثُ قَالَتِ النَّصَارَى: إِنَّهُ ابْنُ اللهِ، وَجَعَلُوهُ ثَالِثَ ثَلَاثَةٍ، وَأَمَّا اليَهُودُ؛ فَقَدْ غَلَوا فِيهِ فقَدَحُوا فِيهِ، وَقَالُوا: إِنَّ أُمَّهُ زَانِيَةٌ، وَإِنَّهُ وَلَدُ زِنَى! وَكُلُّ ذَلِكَ -مِنَ الإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ- هُوَ خِلَافُ المَنْهَجِ الوَسَطِ؛ مَنْهَجِ أَهْلِ الإِسْلَامِ: مِنِ اعْتِقَادِهِم فِي عِيسَى عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ عَبْدٌ رَسُولٌ.
- قَولُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} أَي: لَا تَصِفُوهُ إِلَّا بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ أَو وَصَفَهُ بِهِ رُسُلُهُ.
وَفِيهِ بَيَانُ تَحْرِيمِ القَولِ بِالرَّأْي فِي الدِّينِ مِمَّا لَا يَسْتَنِدُ إِلَى دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ.
- قَولُهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ} هَذِهِ صيغَةُ حَصْرٍ، وَفَائِدَتُهَا الإِعْلَامُ بِأَنَّه صلى الله عليه وسلم لَيسَ لَهُ مِنَ الأُلوهيَّةِ شَيءٌ.
وَفِيَها بَيَانُ أُمُورٍ:
فِي قَولِهِ: {ابْنُ مَرْيَمَ} أَضَافَهُ إِلَى أُمِّهِ لِيَقْطَعَ قَولَ النَّصَارَى الَّذِينَ يُضِيفُونَهُ إِلَى اللهِ.
فِي قَولِهِ: {رَسُولُ اللَّهِ} تَكْذِيبٌ لِقَولِ اليَهُودِ: إِنَّهُ كَذَّابٌ، وَلِقَولِ النَّصَارَى: إِنَّهُ إِلَهٌ.
فِي قَولِهِ: {وَكَلِمَتُهُ} إِبْطَالٌ لِقَولِ اليَهُودِ: إِنَّهُ ابْنُ زِنَى.
- قَولُهُ تَعَالَى: {وَرُوحٌ مِنْهُ} أَي أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ عِيسَى عليه الصلاة والسلام كَغِيرِهِ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ جَسَدٍ وَرُوحٍ، وَإِضَافَةُ الرُّوحِ إِلَيهِ سُبْحَانَهُ هِيَ مِنْ بَابِ التَّشْرِيفِ وَالتِّكْرِيمِ، وَكَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى فِي حَقِّ آدَمَ:{فَإِذَا سَوَّيتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [ص: 72] فَهَذِهِ أَيضًا لِلتَّشْرِيفِ وَالتَّكْرِيمِ
(1)
.
- الأَنْصَابُ: جَمْعُ نُصُبٍ، وَهُوَ كُلُّ مَا يُنْصَبُ مِنْ عَصَا أَو حَجَرٍ أَو غَيرِهِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدُ وَعَطَاءُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيرٍ وَالحَسَنُ وَغَيرُ وَاحِدٍ: هِيَ حِجَارَة كَانُوا يَذْبَحُونَ قَرَابِينَهُمْ عِنْدهَا
(2)
.
(1)
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (2/ 479): "فَقَولُهُ فِي الآيَةِ وَالحَدِيثِ: {وَرُوحٌ مِنْهُ} كَقَولِهِ: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجَاثِيَة: 13] أَي: مِنْ خَلْقِهِ وَمِنْ عِنْدِهِ، وَلَيسَتْ (مِنْ) لِلتَّبْعِيضِ -كَمَا تَقُولُهُ النَّصَارَى- عَلَيهِمْ لَعَائِنُ اللهِ المُتَتَابِعَةُ، بَلْ هِيَ لِابْتِدَاءِ الغَايَةِ، كَمَا فِي الآيَةِ الأُخْرَى. وَقَدْ قَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَولِهِ:{وَرُوحٌ مِنْهُ} أَي: وَرَسُولٌ مِنْهُ، وَقَالَ غَيرُهُ: وَمَحَبَّةٌ مِنْهُ.
وَالأَظْهَرُ الأَوَّلُ؛ أنَّه مَخْلُوقٌ مِنْ رُوحٍ مَخْلُوقَةٍ، وَأُضِيفَتِ الرُّوحُ إِلَى اللهِ عَلَى وَجْهِ التَّشْرِيفِ؛ كَمَا أُضِيفَتِ النَّاقَةُ وَالبَيتُ إِلَى اللهِ فِي قَولِهِ:{هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ} [هُود: 64]، وَفِي قَولِهِ:{وَطَهِّرْ بَيتِيَ لِلطَّائِفِينَ} [الحَجِّ: 26] ".
وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُ تَأْصِيلِ هَذِهِ المَسْأَلَةِ فِي شَرْحِ بَابِ (فَضْلُ التَّوحِيدِ).
(2)
تَفْسِيرُ ابْنِ كَثِيرٍ (3/ 179).
وَفِي الصَّحِيحَينِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ يَومَ الفَتْحِ -وَحَولَ البَيتِ سِتُّونَ وَثَلَاثُ مِائَةِ نُصُبٍ- فَجَعَلَ يَطْعُنُهَا بِعُودٍ فِي يَدِهِ وَيَقُولُ: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} [الإِسْرَاء: 81]، {جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} [سَبَأ: 49]
(1)
.
- العُكُوفُ لُغَةً: "عَكَفَهُ يَعْكُفُهُ ويَعْكِفُهُ عَكْفًا: حَبَسَهُ؛ وَعَلَيهِ عُكُوفًا: أقْبَلَ عَلَيهِ مُوَاظِبًا؛ وَالقَومُ حَولَهُ: اسْتَدَارُوا، وَكَذَا الطَّيرُ حَولَ القَتِيلِ"
(2)
.
- حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي فِيهِ ذِكْرُ قِصَّةِ الأَصْنَامِ؛ حُكْمُهُ الرَّفْعُ لِأَنَّ مِثْلَهُ لَا يُقَالُ بِالرَّأْي؛ فَهُوَ غَيبِيٌّ.
وَالحَدِيثُ اخْتَصَرَهُ المُصَنِّفُ رحمه الله، وَهُوَ بِتَمَامِهِ كَمَا فِي البُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: (صَارَتِ الأَوثَانُ الَّتِي كَانَتْ فِي قَومِ نُوحٍ فِي العَرَبِ بَعْدُ
(3)
، أَمَّا وَدٌّ كَانَتْ لِكَلْبٍ بِدَومَةِ الجَنْدَلِ
(4)
، وَأَمَّا سُوَاعٌ كَانَتْ لِهُذَيلٍ، وَأَمَّا يَغُوثُ فَكَانَتْ لِمُرَادٍ ثُمَّ لِبَنِي غُطَيفٍ بِالجَوفِ عِنْدَ سَبَأ، وَأَمَّا يَعُوقُ فَكَانَتْ لِهَمْدَانَ، وَأَمَّا نَسْرٌ فَكَانَتْ لِحِمْيَرَ لِآلِ ذِي الكَلَاعِ: أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ قَومِ نُوحٍ، فَلَمَّا هَلَكُوا أَوحَى الشَّيطَانُ إِلَى قَومِهِمْ أَنِ انْصِبُوا إِلَى مَجَالِسِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَجْلِسُونَ أَنْصَابًا وَسَمُّوهَا
(1)
البُخَارِيُّ (4720)، وَمُسْلِمٌ (1781).
(2)
القَامُوسُ المُحِيطُ (ص 839).
(3)
أَي: انْتَقَلَتْ إِلَى العَرَبِ فِيمَا بَعْدُ، وَقَدْ أَدْخَلَهَا إِلَى العَرَبِ رَجُلٌ يُدْعَى عَمْرُو بْنُ لُحِيٍّ الخُزَاعِيُّ؛ كَمَا فِي الحَدِيثِ:((إِنَّ أَوَّلَ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ، وَعَبَدَ الأَصْنَامَ: أَبُو خُزَاعَةَ؛ عَمْرُو بْنُ عَامِرٍ، وَإِنِّي رَأَيتُهُ يَجُرُّ أَمْعَاءَهُ فِي النَّارِ)). صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (4258) عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (1677).
(4)
اسْمُ مَوضِعٍ فَاصِلٍ بَينَ الشَّامِ وَالعِرَاقِ. أَفَادَهُ فِي عُمْدَةِ القَارِي (4/ 97).
بِأَسْمَائِهِمْ، فَفَعَلُوا فَلَمْ تُعْبَدْ، حَتَّى إِذَا هَلَكَ أُولَئِكَ وَتَنَسَّخَ (وَنُسِيَ)
(1)
العِلْمُ عُبِدَتْ)
(2)
.
- فِي أَثَرِ ابْنِ عَبَّاسٍ بَيَانُ أَنَّ أَوَّلَ شِرْكٍ وَقَعَ فِي الأَرْضِ كَانَ بِسَبَبِ الغُلُوِّ فِي الصَّالِحِينَ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنه:(كَانَ بَينَ نُوحٍ وَآدَمَ عَشْرَةُ قُرُونٍ كُلُّهُمْ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الحَقِّ، فَاخْتَلَفُوا؛ فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ وَالمُرْسَلِينَ وَأَنْزَلَ كِتَابَهُ، فَكَانُوا أُمَّةً وَاحِدَةً)
(3)
.
- الإِطْرَاءُ: هُوَ مُجَاوَزَةُ الحَدِّ فِي المَدْحِ، وَالكَذِبُ فِيهِ
(4)
.
- النَّصَارَى: المُرَادُ بِهِم أَتْبَاعُ عِيسَى، قِيلَ: سُمُّوا نَصَارَى نِسْبَةً إِلَى بَلَدٍ وَهِيَ (النَّاصِرَةُ) فِي فِلَسْطِين، أَو مِنْ قَولِهِ تَعَالَى:{قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} [الصَّف: 14].
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: "وَالنَّصَارَى -عَلَيهِمْ لَعَائِنُ اللهِ- مِنْ جَهْلِهِمْ؛ لَيسَ لَهُمْ ضَابِطٌ وَلَا لِكُفْرِهِمْ حَدٌّ، بَلْ أَقْوَالُهُمْ وَضَلَالُهُمْ مُنْتَشِرٌ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَقِدُهُ إِلَهًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَقِدُهُ شَرِيكًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَقِدُهُ وَلَدًا، وَهُمْ طَوَائِفُ كَثِيرَةٌ لَهُمْ آرَاءٌ مُخْتَلِفَةٌ وَأَقْوَالٌ غَيرُ مُؤْتَلِفَةٍ.
وَلَقَدْ أَحْسَنَ بَعْض المُتَكَلِّمِينَ حَيثُ قَالَ: لَو اجْتَمَعَ عَشَرَةٌ مِنَ النَّصَارَى
(1)
أَي: عِلْمُ تِلْكَ الصُّوَرِ بِخُصُوصِهَا.
(2)
البُخَارِيُّ (4920).
(3)
صَحِيحٌ. الحَاكِمُ (3654)، وَقَالَ الحَافِظُ الذَّهَبِيُّ رحمه الله:"صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ البُخَارِيِّ". وَانْظُرْ كِتَابَ (تَحْذِيرُ السَّاجِدِ)(ص 90).
(4)
لِسَانُ العَرَبِ (6/ 15).
لَافْتَرَقُوا عَنْ أَحَدَ عَشَرَ قَولًا!
وَلَقَدْ ذَكَرَ بَعْض عُلَمَائِهِمُ المَشَاهِيرُ عِنْدَهُمْ -وَهُوَ سَعِيدُ بْنُ بِطْرِيق؛ بَتْركُ الإِسْكَنْدَرِيَّةِ- فِي حُدُودِ سَنَةِ أَرْبَعمِائَةٍ مِنَ الهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ؛ أَنَّهُمْ اجْتَمَعُوا المَجْمَعَ الكَبِيرَ الَّذِي عَقَدُوا فِيهِ الأَمَانَةَ الكَبِيرَةَ الَّتِي لَهُمْ -وَإِنَّمَا هِيَ الخِيَانَةُ الحَقِيرَةُ الصَّغِيرَةُ-، وَذَلِكَ فِي أَيَّام قُسْطَنْطِين -بَانِي المَدِينَةِ المَشْهُورَةِ- وَأَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا عَلَيهِ اخْتِلَافًا لَا يَنْضَبِطُ وَلَا يَنْحَصِرُ، فَكَانُوا أَزْيَدَ مِنْ أَلْفَينِ أُسْقُفًا، فَكَانُوا أَحْزَابًا كَثِيرَةً، كُلُّ خَمْسِينَ مِنْهُمْ عَلَى مَقَالَةٍ، وَعِشْرُونَ عَلَى مَقَالَةٍ، وَمِائَةٍ عَلَى مَقَالَةٍ، وَسَبْعُونَ عَلَى مَقَالَةٍ، وَأَزْيَدَ مِنْ ذَلِكَ وَأَنْقَصَ، فَلَمَّا رَأَى مِنْهُمْ عِصَابَةً قَدْ زَادُوا عَلَى الثَّلَاثِمَائَةِ بِثِمَانِيَةَ عَشَرَ نَفَرًا -وَقَدْ تَوَافَقُوا عَلَى مَقَالَةٍ- فَأَخَذَهَا المَلِكُ وَنَصَرَهَا وَأَيَّدَهَا -وَكَانَ فَيلَسُوفًا دَاهِيَةً- وَمَحَقَ مَا عَدَاهَا مِنَ الأَقْوَال"
(1)
.
- حَدِيثُ: ((إِيَّاكُمْ وَالغُلُوّ)) تَمَامُهُ هُوَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ -غَدَاةَ العَقَبَةِ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ-: ((هَاتِ اُلْقُطْ لِي)). فَلَقَطْتُ لَهُ حَصَيَاتٍ -هُنَّ حَصَى الخَذْفِ-، فَلَمَّا وَضَعْتُهُنَّ فِي يَدِهِ قَالَ:((بِأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ، وَإِيَّاكُمْ وَالغُلُوَّ فِي الدِّينِ؛ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الغُلُوُّ فِي الدِّينِ)).
وَفِيهِ بَيَانُ أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى المَشْرُوعِ وَمُجَاوَزَةَ الحَدِّ يَكُونُ غُلُوًّا، وَأَنَّ الأَصْلَ هُوَ الْتِزَامُ مَا جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [هُود: 112]، فَأَمَرَ بِلُزُومِ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ رَبِّهِ وَالمُؤْمِنُونَ دُونَ أَنْ يَتَجَاوَزُوا ذَلِكَ
(2)
.
(1)
تَفْسِيرُ ابْنِ كَثِيرٍ (2/ 479).
(2)
قَالَ البَغَوِيُّ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (4/ 203): " {وَلَا تَطْغَوْا} لَا تَجَاوَزُوا أَمْرِي وَلَا تَعْصُونِي، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: وَلَا تَغْلُوا فَتَزِيدُوا عَلَى مَا أَمَرْتُ وَنَهَيتُ".
- قَولُهُ: ((هَلَكَ المُتَنَطِّعُونَ)) أَي: المُتَعَمِّقُونَ الغَالُونَ المُجَاوِزُونَ الحُدُودَ فِي أَقْوَالِهِم وَأَفْعَالِهِم
(1)
.
- قَولُ المُصَنِّفِ رحمه الله فِي المَسَائِلِ: "وَاعْتَقَدُوا أَنَّ مَا نَهَى اللهُ وَرَسُولُهُ عَنْهُ فَهُوَ الكُفْرُ المُبِيحُ لِلدَّمِ وَالمَالِ" يَعْنِي أَنَّ الَّذِينَ لَمْ يَفَقَهُوا التَّوحِيدَ وَلَمْ يَفْهَمُوا القُرْآنَ وَلَمْ يَعْرِفُوا وَجْهَ كُفْرِ مَنْ سَبَقَ مِنَ الأُمَمِ؛ ظَنُّوا أَنَّ الكُفْرَ وَالشِّرْكَ هُوَ الرِّدَّةُ عَنِ الدِّينِ فَقَط؛ وَهُوَ الَّذِي يُوجِبُ إِبَاحَةَ الدَّمِ وَالمَالِ! وَلَمْ يَفْطَنُوا إِلَى أَنَّ الشِّرْكَ يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ حَتَّى مِنَ الصَّالِحِينَ القَاصِدِينَ لِلقُرْبِ مِنَ اللهِ، كَمَا أَشَارَ إِلَيهِ المُصَنِّفُ رحمه الله فِي التَّرْجَمَةِ بِقَولِهِ:"هُوَ الغُلُوُّ في الصَالِحِينَ".
- فِي البَابِ عِدَّةُ فَوَائِدَ؛ مِنْهَا:
1 -
أنَّ حُسْنَ النِّيَّةِ لَا يُسَوِّغُ العَمَلَ غَيرَ المَشْرُوعِ، لِأَنَّ قَومَ نُوحٍ أَرَادُوا بِاتِّخَاذِ الأَنْصَابِ النَّشَاطَ عَلَى العِبَادَةِ وتَذَكُّرَ أَحْوَالِ هَؤُلَاءِ الصَّالِحِينَ، وَلَمْ يَقْصِدُوا الكُفْرَ بِهِ تَعَالَى!
قَالَ الإِمَامُ الطَّبريُّ رحمه الله: "عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيسٍ {وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} قَالَ: كَانُوا قَومًا صَالِحِينَ بَينَ آدَمَ وَنُوحٍ؛ وَكَانَ لَهُمْ أَتْبَاع يَقْتَدُونَ بِهِمْ، فَلَمَّا مَاتُوا قَالَ أَصْحَابهمُ الَّذِينَ كَانُوا يَقْتَدُونَ بِهِمْ: لَو صَوَّرْنَاهُمْ كَانَ أَشْوَقَ لَنَا إِلَى العِبَادَة إِذَا ذَكَرْنَاهُمْ، فَصَوَّرُوهُمْ فَلَمَّا مَاتُوا وَجَاءَ آخَرُونَ دَبَّ إِلَيهِمْ إِبْلِيسُ؛ فَقَالَ: إِنَّمَا كَانُوا
(1)
قَالَهُ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ (16/ 220)، وَقَدْ جَعَلَ التَّنَطُّعَ مُتَنَاوِلًا لِلأَفْعَالِ؛ وَلَيسَ كَمَا قَالَ الخَطَّابيُّ رحمه الله حَيثُ خَصَّهُ بِالكَلَامِ فَقَط.
يَعْبُدُونَهُمْ، وَبِهِمْ يُسْقَونَ المَطَرَ فَعَبَدُوهُمْ"
(1)
.
2 -
أَنَّ النِّيَّةَ الصَّالِحَةَ لَا تُصَحِّحُ العَمَلَ! إِذْ لَا بُدَّ مَعَ النِّيَّةِ الحَسَنَةِ مِنْ مُوَافَقَةِ الشَّرْعِ.
كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَة مَرْفُوعًا: ((مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيسَ عَلَيهِ أَمْرُنَا؛ فَهُوَ رَدٌّ))
(2)
.
3 -
بَيَانُ أَهَمِّيَّةِ وُجُودِ العُلَمَاءِ فِي النَّاسِ، لِأَنَّ الشَّيطَانَ مَا نَشَطَ إِلَى الدَّعْوَةِ إِلَى الشِّرْكِ إِلَّا عِنْدَمَا فُقِدَ العِلْمُ وَمَاتَ العُلَمَاءُ.
4 -
فِيهِ أَنَّ مَكْرَ الشَّيطَانِ -فِي هَذَا البَابِ- يَكُونُ مِنْ جِهَتَينِ:
أ- تَزْيِينِ البَاطِلِ، وَالتَّرْوِيجِ لَهُ بِالدَّعَاوَى الحَسَنَةِ.
ب- التَّدَرُّجِ فِيهِ.
5 -
فِيهِ كَرَاهَةُ التَّقَعُّرِ فِي الكَلَامِ بِالتَّشَدُّقِ وَتَكَلُّفِ الفَصَاحَةِ وَاسْتِعْمَالِ وَحْشِيِّ اللُّغَةِ وَدَقَائِقِ الإِعْرَابِ فِي مُخَاطَبَةِ العَوَامِ وَنَحْوِهِم؛ حَيثُ هَلَكَ المُتَنَطِّعُونَ!
وَفِي الحَدِيثِ: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ! قُولُوا قَولَكُمْ؛ فَإِنَّمَا تَشْقِيقُ الكَلَامِ مِنَ الشَّيطَانِ))، ثُمَّ قَالَ:((إِنَّ مِنَ البَيَانِ سِحْرًا))
(3)
.
(1)
تَفْسِيرُ الطَّبَرِيِّ (23/ 639).
(2)
مُسْلِمٌ (1718).
(3)
صَحِيحٌ. الأَدَبُ المُفْرَدُ (875) عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الأَدَبِ المُفْرَدِ (675).
مَسَائِلُ عَلَى البَابِ
-
مَسْأَلَةٌ: ظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ النَّهْيَ فِي قَولِهِ: ((لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ)) أَنَّهُ نَهْيٌ عَنْ مِثْلِ إِطْرَاءِ النَّصَارى
لِعِيسَى عليه السلام فَقَط، يَعْنِي: لَا تُطْرُونِي بِمِثْلِ مَا أَطْرَتِ النَّصَارى ابْنَ مَرْيَم، فَيَكُونُ المَنْهيُّ عَنْهُ هُوَ -فَقَط- أَنْ يُدَّعَى أنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم ابْنٌ للهِ تَعَالَى
(1)
، فَالنَّهْيُ عَنِ الإِطْرَاءِ لَيسَ عَلَى عُمُومِهِ!
الجَوَابُ مِنْ أَوجُهٍ:
1 -
أَنَّ الكَافَ هُنَا فِي قَولِهِ ((كَمَا)) هِيَ كَافُ التَّشْبِيهِ (القِيَاسِ)، وَالفَرْقُ بَينَ التَّمْثِيلِ وَالتَّشْبيهِ: أنَّ التَّمْثِيلَ يَعْنِي المُطَابَقَةَ، بَينَمَا التَّشْبِيهُ يَعْنِي الاشْتِرَاكَ فِي أَصْلِ الشَّيءِ -كَالعِلَّةِ فِي الحُكْمِ-، فَيَكُونُ المَنْهيُّ عَنْهُ هُوَ أَصْلُ الإِطْرَاءِ.
وَيَدُلُّ لِذَلِكَ سِيَاقُ الحَدِيثِ؛ فَقَد أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَقُولُوا: ((عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ))، وَهَذَا هُوَ المَآلُ مِنَ النَّهْيِّ عَنِ الإِطْرَاءِ، بِخِلَافِ مَا لَو كَانَ النَّهْيُ هُوَ عَنْ ادِّعَاءِ أَنَّهُ ابْنٌ للهِ تَعَالَى فَقَط -وَالَّذِي يَنْبَنِي عَلِيهِ جَوَازُ ادِّعَاءِ صِفَاتِ اللهِ تَعَالَى عَلَى عَبْدِهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم! وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا هُوَ مِنْ شِرْكِ الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [النَّحْل: 60]
(2)
(3)
.
(1)
كَمَا قَالَ قَائِلُهُم البُوصِيرِيُّ فِي قَصِيدَةِ البُرْدَةِ: "دَعْ مَا ادَّعَتْهُ النَّصَارى فِي نَبِيِّهِم
…
وَاحْكُمْ بِمَا شِئْتَ مَدْحًا فِيهِ وَاحْتَكِم".
(2)
وَتَقْدِيمُ الجَارِّ وَالمَجْرُورِ فِي قَولِهِ: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} يُفِيدُ الحَصَرَ.
(3)
كَمَا قَالَ البُوصِيرِيُّ فِي البُرْدَةِ:
"يَا أَكْرَمَ الخَلْقِ مَا لِي مَنْ أَلُوذُ بِهِ
…
سِوَاكَ عِنْدَ حُلُولِ الحَادِثِ العَمَمِ
=
وَلَا يَخْفَى إِنْ شَاءَ اللهُ أنَّ أَنْوَاعَ الشِّرْكِ كَثِيرْةٌ وَلَيسَتْ مَحْصُورَةً فَقَط بِشِرْكِ النَّصَارى بِاتِّخَاذِ الوَلَدِ! بَلْ إِنَّ أَصْلَ شِرْكِ المُشْرِكِينَ هُوَ ادِّعَاءُ أَنَّ للهِ تَعَالَى شُفَعَاءَ مِنَ الصَّالِحِينَ يَشْفَعُونَ عِنْدَهُ بِغَيرِ إِذْنِهِ لَهُم وَبِغَيرِ رِضَاهُ عَنِ المَشْفُوعِ فِيهِم.
قَالَ القُرْطُبِيُّ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ: "وَأَمَّا قَولُهُ صلى الله عليه وسلم فِي صَحِيحِ الحَدِيثِ: ((لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى عَيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، وَقُولُوا: عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ)) فَمَعْنَاهُ: لَا تَصِفُونِي بِمَا لَيسَ فِيَّ مِنَ الصِّفَاتِ تَلْتَمِسُونَ بِذَلِكَ مَدْحِي، كَمَا وَصَفَتِ النَّصَارَى عِيسَى بِمَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ، فَنَسَبُوهُ إِلَى أَنَّهُ ابْنُ اللهِ فَكَفَرُوا بِذَلِكَ وَضَلُّوا.
وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ مَنْ رَفَعَ امْرَأً فَوقَ حَدِّهِ، وَتَجَاوَزَ مِقْدَارَهُ بِمَا لَيسَ فِيهِ؛ فَمُعْتَدٍ آثِمٌ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَو جَازَ فِي أَحَدٍ لَكَانَ أَولَى الخَلْقِ بِذَلِكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم"
(1)
.
2 -
أنَّ قَولَهُ صلى الله عليه وسلم: ((فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ)) هُوَ مِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ فِي الحَصْرِ، أَي: مَا هُوَ إِلَّا عَبْدٌ رَسُولٌ، وَجَاءَ هَذَا الحَصْرُ بَعْدَ فَاءِ التَّعْلِيلِ لِبَيَانِ أَنَّ العِلَّةَ فِي عَدَمِ الإطْرَاءِ هُوَ لِكَونِهِ فَقَط عَبْدٌ رَسُولٌ، فَهُوَ عَبْدٌ لَا يُعبْدُ، وَرَسُولٌ لَا يُكَذَّبُ.
3 -
قَدْ دَلَّتِ النُّصُوصُ الكَثِيرَةُ مِنَ السُّنَّةِ عَلَى النَّهْي عَنِ الغُلوِّ مُطْلَقًا وَعَنْ أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ جَاءَتْ فِي سِيَاقِ المَدْحِ، وَلَكِنْ نُهِيَ عَنْهَا خَوفًا مِمَّا تَكُونُ ذَرِيعَةً إِلَيهِ.
=
إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي مَعَادِي آخِذًا بِيَدِي
…
فَضْلًا وَإِلَّا فَقُلْ يَا زَلَّةَ القَدَمِ
فَإِنَّ مِنْ جُودِكَ الدُّنْيَا وَضَرَّتَهَا
…
وَمِنْ عُلُومِكَ عِلْمُ اللوحِ وَالقَلَمِ".
(1)
تَفْسِيرُ القُرْطُبِيِّ (5/ 247).
وَتَأَمَّلِ الأَحَادِيثَ الآتِيَةَ عَلَى سَبِيلِ المِثَالِ:
أ- عَنْ أَنَسٍ؛ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: يَا سَيِّدَنَا وَابْنَ سَيِّدِنَا، وَيَا خَيرَنَا وَابْنَ خَيرِنَا. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:((يَا أَيُّهَا النَّاسُ قُولُوا بِقَولِكُمْ وَلَا يَسْتَهْوِيَنَّكُمُ الشَّيطَانُ! أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، وَرَسُولُ اللهِ. وَاللَّهِ مَا أُحِبُّ أَنْ تَرْفَعُونِي فَوقَ مَا رَفَعَنِي اللهُ عز وجل)
(1)
.
ب- عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ الشِّخِّيرِ؛ قَالَ: انْطَلَقْتُ فِي وَفْدِ بَنِي عَامِرٍ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْنَا: أَنْتَ سَيِّدُنَا. فَقَالَ: ((السَّيِّدُ اللهُ تبارك وتعالى). قُلْنَا: وَأَفْضَلُنَا فَضْلًا، وَأَعْظَمُنَا طَولًا. فَقَالَ:((قُولُوا بِقَولِكُمْ أَو بَعْضِ قَولِكُمْ؛ وَلَا يَسْتَجْرِيَنَّكُمُ الشَّيطَانُ))
(2)
(3)
.
ج- عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه؛ قَالَ: جاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا خَيرَ البَرِيَّةِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((ذَاكَ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام). رَوَاهُ مُسْلِمٌ
(4)
(5)
.
(1)
صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (13529)، وَالنَّسَائِيُّ فِي الكُبْرَى (10007). غَايَةُ المَرَامِ (127).
(2)
أَي: لَا يَتَّخِذَنَّكُم الشَّيطَانُ جَرِيًّا لَهُ.
وَقَالَ ابْنُ الأثير رحمه الله فِي كِتَابِهِ النِّهَايَةُ فِي غَرِيبِ الحَدِيثِ وَالأَثَرِ (1/ 739): "يُرِيدُ: تَكَلَّمُوا بِمَا يَحْضُرُكُم مِنَ القَولِ، وَلَا تَتَكَلَّفُوهُ كَأَنَّكُم وُكَلَاءُ الشَّيطَانِ وَرُسُلُهُ تَنْطقُونَ عَنْ لِسَانِهِ".
(3)
صَحِيحٌ. أَبُو دَاوُدَ (4806). صَحِيحُ أَبِي دَاوُدَ (4806).
(4)
مُسْلِمٌ (2369).
(5)
وَقَدْ حَكَمَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله بِالشُّذُوذِ لِجُمْلَةِ (قَولِ خَيرِ البَرِيَّةِ) الَّتِي فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ -فِي غَيرِ هَذَا السِّيَاقِ- وَجَرَى عَلَيهَا بَعْضُ الشُّرَّاحِ! وَبَيَّنَ رحمه الله أَنَّ صَوَابَهَا (مِنْ خَيرِ قَولِ البَرِيَّةِ) -وَلَا يَخْفَى الفَرْقُ بَينَهُمَا- وَأَنَّ الصَّوَابَ المَحْفُوظَ هُوَ كَمَا فِي أَلْفَاظِ الصَّحِيحَينِ.
وَالحَدِيثُ بِتَمَامِهِ فِي البُخَارِيِّ (3611) عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه مَرْفُوعًا: ((يَأْتِي فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَومٌ، حُدَثَاءُ الأَسْنَانِ، سُفَهَاءُ الأَحْلامِ، يَقُولُونَ مِنْ خَيرِ قَولِ البَرِيَّةِ، يَمْرُقُونَ مِنَ الإِسْلامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، لا يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ، فَأَينَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ، فَإِنَّ قَتْلَهُمْ أَجْرٌ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَومَ القِيَامَةِ)).
- فَائِدَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ: إِنَّ تَعْظِيمَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم غَيرَ المَشْرُوعِ نَوعَان:
الأَوَّلُ: كُفْرٌ؛ وَهُوَ مَا كَانَ مُخْتَصًّا بِاللهِ تَعَالَى، كَدُعَائِهِ صلى الله عليه وسلم وَالاسْتِغَاثَةِ بِهِ فِي الشَّدَائِدِ، وَوَصْفِهِ بِمَا لَا يَتَّصِفُ بِهِ إِلَّا اللهُ.
الثَّانِي: مَعْصِيَةٌ وَذَرِيعَةٌ إِلَى الشِّرْكِ؛ كَالكَذِبِ عَلَيهِ فِي صِفَاتِهِ، وَاخْتِرَاعِ الآيَاتِ وَالمُعْجِزَاتِ غَيرِ المَرْويَّةِ بِالأَسَانِيدِ الصَّحِيحَةِ.
بَابُ مَا جَاءَ مِنَ التَّغْلِيظِ فِيمَنْ عَبَدَ اللهَ عِنْدَ قَبْرِ رَجُلٍ صَالِحٍ؛ فَكَيفَ إِذَا عَبَدَهُ؟!
فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ؛ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ ذَكَرَتْ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَنِيسَةً رَأَتْهَا بِأَرْضِ الحَبَشَةِ؛ وَمَا فِيهَا مِنَ الصُّوَرِ، فَقَالَ:((أُولَئِكَ إِذَا مَاتَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ أَوِ العَبْدُ الصَّالِحُ، بَنَوا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ، أُولَئِكَ شِرَارُ الخَلْقِ عِنْدَ اللهِ))
(1)
، فَهَؤُلَاءِ جَمَعُوا بَينَ الفِتْنَتَينِ: فِتْنَةَ القُبُورِ، وَفِتْنَةَ التَّمَاثِيلِ.
وَلَهُمَا عَنْهَا؛ قَالَتْ: لَمَّا نُزِلَ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم طَفِقَ يَطْرَحُ خَمِيصَةً لَهُ عَلَى وَجْهِهِ؛ فَإِذَا اغْتَمَّ بِهَا كَشَفَهَا، فَقَالَ -وَهُوَ كَذَلِكَ-:((لَعْنَةُ اللهِ عَلَى اليَهُودِ وَالنَّصَارَى؛ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ -يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا-، وَلَولَا ذَلِكَ؛ أُبْرِزَ قَبْرُهُ؛ غَيرَ أَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا)). أَخْرَجَاهُ
(2)
.
وَلِمُسْلِمٍ عَنْ جُنْدَبِ بْنِ عَبْدِ اللهِ؛ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم -قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسٍ- وَهُوَ يَقُولُ: ((إِنِّي أَبْرَأُ إِلَى اللهِ أَنْ يَكُونَ لِي مِنْكُمْ خَلِيلٌ؛ فَإِنَّ اللهَ قَدْ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وَلَو كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتِي خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا، أَلَا وَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ، أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا القُبُورَ مَسَاجِدَ؛ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ))
(3)
.
(1)
البُخَارِيُّ (434)، وَمُسْلِمٌ (528).
(2)
البُخَارِيُّ (4441)، وَمُسْلِمٌ (529).
(3)
مُسْلِمٌ (532).
فَقَدْ نَهَى عَنْهُ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ لَعَنَ -وَهُوَ فِي السِّيَاقِ- مَنْ فَعَلَهُ، وَالصَّلَاةُ عِنْدَهَا مِنْ ذَلِكَ -وَإِنْ لَمْ يُبْنَ مَسْجِدٌ-، وَهُوَ مَعْنَى قَولِهِ:((خَشِيَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا))، فَإِنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يَكُونُوا لِيَبْنُوا حَولَ قَبْرِهِ مَسْجِدًا! وَكُلُّ مَوضِعٍ قُصِدَتِ الصَّلَاةُ فِيهِ فَقَدِ اتُّخِذَ مَسْجِدًا، بَلْ كُلُّ مَوضِعٍ يُصَلَّى فِيهِ يُسَمَّى مَسْجِدًا، كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم:((جُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا))
(1)
.
وَلِأَحْمَدَ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه مَرْفُوعًا: ((إِنَّ مِنْ شِرَارِ النَّاسِ مَنْ تُدْرِكُهُمُ السَّاعَةُ وَهُمْ أَحْيَاءٌ، وَالَّذِينَ يَتَّخِذُونَ القُبُورَ مَسَاجِدَ)). وَرَوَاهُ أَبُو حَاتِمٍ فِي صَحِيحِهِ
(2)
.
(1)
البُخَارِيُّ (438)، وَمُسْلِمٌ (521) عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا.
(2)
صَحِيحٌ. رَوَاهُ أَحْمَدَ (4342) بِتَمَامِهِ فِي المُسْنَدِ. وَالشَّطْرُ الأَوَّلُ مِنْهُ رَوَاهُ البُخَارِيُّ (7067) تَعْلِيقًا، وَهُوَ فِي مُسْلِمٍ (2949) مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِلَفْظِ:((لَا تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا عَلَى شِرَارِ النَّاسِ))، وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ (6847). وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ تَحْذِيرُ السَّاجِدِ (ص 23).
فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: مَا ذَكَرَ الرَّسُولُ فِيمَنْ بَنَى مَسْجِدًا يُعْبَدُ اللهُ فِيهِ عِنْدَ قَبْرِ رَجُلٍ صَالِحٍ -وَلَو صَحَّتْ نِيَّةُ الفَاعِلِ-.
الثَّانِيَةُ: النَّهْيُ عَنِ التَّمَاثِيلِ، وَغِلَظُ الأَمْرِ فِي ذَلِكَ.
الثَّالِثَةُ: العِبْرَةُ فِي مُبَالَغَتِهِ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ كَيفَ بَيَّنَ لَهُمْ هَذَا أَوَّلًا، ثُمَّ قَبْلَ مَوتِهِ بِخَمْسٍ قَالَ مَا قَالَ، ثُمَّ لَمَّا كَانَ فِي السِّيَاقِ لَمْ يَكْتَفِ بِمَا تَقَدَّمَ.
الرَّابِعَةُ: نَهْيُهُ عَنْ فِعْلِهِ عِنْدَ قَبْرِهِ قَبْلَ أَنْ يُوجَدَ القَبْرُ.
الخَامِسَةُ: أَنَّهُ مِنْ سُنَنِ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي قُبُورِ أَنْبِيَائِهِمْ.
السَّادِسَةُ: لَعْنُهُ إِيَّاهُمْ عَلَى ذَلِكَ.
السَّابِعَةُ: أَنَّ مُرَادَهُ صلى الله عليه وسلم تَحْذِيرُهُ إِيَّانَا عَنْ قَبْرِهِ.
الثَّامِنَةُ: العِلَّةُ فِي عَدَمِ إِبْرَازِ قَبْرِهِ.
التَّاسِعَةُ: فِي مَعْنَى اتِّخَاذِهَا مَسْجِدًا.
العَاشِرَةُ: أَنَّهُ قَرَنَ بَينَ مَنْ اتَّخَذَهَا وَبَينَ مَنْ تَقُومُ عَلَيهِمُ السَّاعَةُ، فَذَكَرَ الذَّرِيعَةَ إِلَى الشِّرْكِ قَبْلَ وُقُوعِهِ مَعَ خَاتِمَتِهِ.
الحَادِيَةَ عَشْرَةَ: ذِكْرُهُ فِي خُطْبَتِهِ قَبْلَ مَوتِهِ بِخَمْسٍ: الرَّدُّ عَلَى الطَّائِفَتَينِ اللَّتَينِ هُمَا أَشَرُّ أَهْلِ البِدَعِ، بَلْ أَخْرَجَهُمْ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ مِنَ الثِّنْتَينِ وَالسَّبْعِينَ فِرْقَةً، وَهُمُ الرَّافِضَةُ وَالجَهْمِيَّةُ، وَبِسَبَبِ الرَّافِضَةِ حَدَثَ الشِّرْكُ وَعِبَادَةُ القُبُورِ، وَهُمْ أَوَّلُ مَنْ بَنَى عَلَيهَا المَسَاجِدَ.
الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: مَا بُلِيَ بِهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ شِدَّةِ النَّزْعِ.
الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: مَا أُكْرِمَ بِهِ مِنَ الخِلَّةِ.
الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: التَّصْرِيحُ بِأَنَّهَا أَعْلَى مِنَ المَحَبَّةِ.
الخَامِسَةَ عَشْرَةَ: التَّصْرِيحُ بِأَنَّ الصِّدِّيقَ أَفْضَلُ الصَّحَابَةِ.
السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: الإِشَارَةُ إِلَى خِلَافَتِهِ.
الشَّرْحُ
- مَقْصُودُ المُصَنِّفِ رحمه الله مِنَ البَابِ بَيَانُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ مَنْ فَعَلَ وَسَائِلَ الشَّرْكِ مَلْعُونًا وَمَوصُوفًا بِأَنَّهُ مِنْ شِرارِ الخَلْقِ؛ فكَيفَ بِمَنْ فَعَلَ الشِّرْكَ الأَكْبَرَ؟!
- إِنَّ الأَدِلَّةَ الَّتِي أَورَدَهَا المُصَنِّفُ هِيَ فِي الصَّلَاةِ، وَلَكنَّهُ عَمَّ بِقَولِهِ:(فِيمَنْ عَبَدَ اللهَ) وَذَلِكَ بِجَامِعِ أَنَّ السَّبَبَ هُوَ التَّعْظِيمُ؛ وَأَنَّ النَّتِيجَةَ هِيَ الشِّرْكُ، فَهِيَ مِنْ بَابِ القِيَاسِ لَا مِنْ بَابِ التَّنْصِيصِ، وَقَدْ مَرَّ مَعَنَا حَدِيثُ النَّهْي عَنِ الذَّبْحِ عِنْدَ الأَوثَانِ، وَهُوَ حَدِيثُ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ فِي بَابِ (لَا يُذْبَحُ للهِ بِمَكَانٍ يُذْبَحُ فِيهِ لِغَيرِ اللهِ) فَلَمْ تُعْتَبَرْ فِيهِ النِّيَّةُ إِذَا كَانَ المَكَانُ يُعْبَدُ فِيهِ غَيرُ اللهِ.
- اللَّعْنَةُ: هِيَ الطَّرْدُ وَالإِبْعَادُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُم فَعَلُوا كَبِيرَةً مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ.
- قَولُهَا: (طَفِقَ) مِنْ أَفْعَالِ الشُّرُوعِ، أَي: جَعَلَ وَبَدَأَ.
- قَولُهُا: (خَمِيصَةً) هُوَ الكِسَاءُ الغَليظُ الَّذِي لَهُ أَعْلَامٌ (خُطُوطٌ).
- قَولُهُ: (لَعَنَ اللهُ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى) يَحْتَمِلُ أنَّها خَبَرِيَّةٌ، وَيَحْتَمِلُ أنَّهُ أَرَادَ بِهَا الدُّعَاءَ؛ فَتَكُونُ خَبَرِيَّةً لَفْظًا؛ إِنْشَائِيَّةً مَعْنى.
- قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله: "وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَينِ حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ الكَنِيسَةِ الَّتِي كَانَتْ بِأَرْضِ الحَبَشَةِ وَمَا فِيهَا مِنَ التَّصَاوِيرِ؛ وَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((كَانُوا إِذَا مَاتَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ؛ أُولَئِكَ شِرَارُ الخَلْقِ عِنْدَ اللهِ))، فَإِنَّ ذَلِكَ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ لَو كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا فِي ذَلِكَ الشَّرْعِ مَا أَطْلَقَ
عَلَيهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ الَّذِي فَعَلَهُ شَرُّ الخَلْقِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ فِعْلَ صُوَرِ الحَيَوَانِ فِعْلٌ مُحْدَثٌ أَحْدَثَهُ عُبَّادُ الصُّوَرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ"
(1)
.
- قَولُهُ: ((اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ)) إنَّ اتِّخَاذَ القُبُورِ مَسَاجِدَ يَكُونُ عَلَى أَحَدِ ثَلَاثِ صُوَرٍ
(2)
:
1 -
أَنْ يَسْجُدَ عَلَى القَبْرِ، يَعْنِي: يَجْعَلُ القَبْرَ مَكَانَ سُجُودِهِ.
وَهَذِهِ الصُّورَةُ فِي الوَاقِعِ لَمْ تَحْصُلْ بِانْتِشَارٍ، لِأَنَّ قُبُورَ الأَنْبِيَاءِ فِي اليَهُودِ وَالنَّصَارَى لَمْ تَكُنْ مُبَاشِرةً لِلنَّاسِ بِحَيثُ يُمْكِنُ أَنْ يَصِلُوا إِلَى القَبْرِ وَأنْ يَسْجُدوا فَوقَهُ! بَلْ كَانُوا يُعَظِّمُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِم؛ فَلَا يُصَلُّون عَلَيهَا مُبَاشَرَةً.
2 -
أَنْ يُصَلِّيَ إِلَى القَبْرِ، فَيَكُونَ القَبْرُ أَمَامَهُ يُصَلِّي إِلَيهِ
(3)
.
3 -
أَنْ يَتَّخِذَ القَبْرَ مَسْجِدًا، بِأَنْ يَجْعَلَ القَبْرَ فِي دَاخِلِ بِنَاءِ المَسْجِدِ؛ فَيَتَّخِذَ ذَلِكَ المَكَانَ لِلتَّعَبُّدِ وَالصَّلَاةِ فِيهِ، وَهِيَ الصُّورَةُ الأَعَمُّ، وَعَلَيهَا صُورَةُ النَّهْي فِي حَدِيثِ:((أُولَئِكَ إِذَا مَاتَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ أَوِ العَبْدُ الصَّالِحُ؛ بَنَوا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا)).
قَالَ الإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ الأُمُّ (1/ 317): "وَأَكْرَهُ أَنْ يُبْنَى عَلَى القَبْرِ مَسْجِدٌ؛ وَأَنْ يُسَوَّى، أَو يُصَلَّى عَلَيهِ وَهُوَ غَيرُ مُسَوَّى -يَعْنِي أَنَّهُ ظَاهِرٌ مَعْرُوفٌ- أَو يُصَلَّى إِلَيهِ.
قَالَ: وَإِنْ صَلَّى إِلَيهِ أَجْزَأَهُ؛ وَقَدْ أَسَاءَ. أَخْبَرَنَا مَالِكٌ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
(1)
فَتْحُ البَارِي (10/ 382).
(2)
وَكُلُّهَا مَشْمُولَةٌ بِعُمُومِ قَولِهِ: ((اتَّخَذُوا))، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الاتِّخَاذَ أَعَمُّ مِنَ البِنَاءِ.
(3)
هَذَا وَقَدْ دَلَّتِ الشَّرِيعَةُ عَلَى النَّهْي عَنْ هَذَا النَّوعِ وَمَا قَبْلَهُ، كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا عِنْدَ الطَّبرانِيِّ فِي الكَبِيرِ (11/ 376):((لَا تُصَلُّوا إِلَى قَبْرٍ، ولَا تُصَلُّوا عَلَى قَبْرٍ)). صَحِيحُ الجَامِعِ (7348).
((قَاتَلَ اللهُ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى؛ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِم مَسَاجِدَ))، قَالَ: وَأَكْرَهُ هَذَا لِلسُّنَّةِ وَالآثَارِ، وَأنَّهُ كَرِهَ -وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ- أَنْ يُعَظَّمَ أَحَدٌ مِنَ المُسْلِمِينَ -يَعْنِي: يُتَّخَذَ قَبْرُهُ مَسْجِدًا-؛ وَلَمْ تُؤْمَنْ فِي ذَلِكَ الفِتْنَةُ وَالضَّلَالُ"
(1)
.
- قَولُهَا: (لأُبْرِزَ): أَي: لَأُخْرِجَ مِنْ بيتِهِ وَدُفِنَ مَعَ الصَّحَابَةِ الكِرَامِ فِي البَقِيعِ
(2)
.
- قَولُهَا: (غَيرَ أَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا) فِيهَا رِوَايَتَانِ -كَمَا فِي البُخَارِيِّ-: (خُشِيَ) بِالضَّمِّ، أَي: مِنْ جِهَةِ الصَّحَابَةِ، وَبِالفَتْحِ، أَي: مِنْ جِهَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَبِهَذَا الأَخِيرِ يُعْلَمُ أَنَّ الدَّفْنَ فِي البَيتِ تَمَّ بِتَوقِيفٍ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم.
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله: "وَكَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم عَلِمَ أَنَّهُ مُرْتَحِلٌ مِنْ ذَلِكَ المَرَضِ؛ فَخَافَ أَنْ يُعَظَّم قَبْرُهُ كَمَا فَعَلَ مَنْ مَضَى؛ فَلَعَنَ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى إِشَارَةً إِلَى ذَمِّ مَنْ يَفْعَلُ فِعْلهمْ"
(3)
.
- إِنَّ سَبَبَ دَفْنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي بَيتِهِ أَمْرَان:
1 -
حَدِيثُ البَابِ، وَفِيهِ:(ولَولَا ذَلِكَ لَأُبْرِزَ قَبْرُهُ).
2 -
حَدِيثُ: ((مَا قَبَضَ اللهُ نَبِيًّا إِلَّا فِي المَوضِعِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُدْفَنَ فِيهِ))
(4)
.
قُلْتُ: وَهَذَا الدَّفْنُ فِي البَيتِ هُوَ مِنْ خُصُوصِيَّاتِ الأَنْبِياءِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِم وَسَلَّمَ، وَإلَّا فَالأَصْلُ الدَّفْنُ فِي المَقَابِرِ وَعَدَمُ الدَّفْنِ فِي البُيُوتِ، كَمَا فِي صَحِيحِ
(1)
الأُمُّ (1/ 317).
(2)
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله فِي الفَتْحِ (3/ 200): "أَي: لَكُشِفَ قَبْرُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يُتَّخَذ عَلَيهِ الحَائِلُ، وَالمُرَادُ الدَّفْنُ خَارِجَ بَيتِهِ".
(3)
فَتْحُ البَارِي (1/ 532).
(4)
صَحِيحٌ. التِّرْمِذِيُّ (1018) عَنْ أَبِي بَكْرٍ مَرْفُوعًا، صَحِيحُ التِّرْمِذِيِّ (1018).
مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا: ((لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُم مَقَابِرَ))
(1)
.
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله: "فَإِنَّ ظَاهِرَهُ يَقْتَضِي النَّهْيَ عَنِ الدَّفْنِ فِي البُيُوتِ مُطْلَقًا"
(2)
.
- قَولُهُ: ((خَلِيلًا)) الخُلَّةُ -بِالضَّمِّ-: الصَّدَاقَةُ وَالمَحَبَّةُ الَّتِي تَخَلَّلَتِ القَلْبَ فَصَارَتْ خِلَالَهُ: أَي: فِي بَاطِنِهِ
(3)
.
- فَائِدَةٌ 1: الخُلَّةُ أَعْلَى دَرَجَةً مِنَ المَحَبَّةِ، وَبِذَلِكَ يَظْهَرُ خَطَأُ مَنْ فَرَّقَ وَجَعَلَ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام خَلِيلَ اللهِ؛ وَمُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم حَبِيبَ اللهِ! فَإِنَّ الخُلَّةَ أَعْلَى مِنَ المَحَبَّةِ.
وَلِذَلِكَ فَفِي رِوَايَةٍ لِلبُخَارِيِّ
(4)
: ((لَو كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتِي خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ؛ وَلَكِنْ أَخِي وَصَاحِبِي))، والنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَ أَنَّهُ يُحِبُّ أَبَا بَكْرٍ وَمُعَاذًا وَغَيرَهُم؛ وَمَعْ ذَلِكَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُمُ الخُلَّةَ! لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى اتَّخَذَهُ خَلِيلًا، فمَنْ نَفَاهَا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَجَعَلَ لَهُ صِفَةَ الحَبيبِ فَقَط فَقَدْ هَضَمَهُ مَنْزِلَتَهُ
(5)
.
(1)
مُسْلِمٌ (780).
(2)
فَتْحُ البَارِي (1/ 530).
(3)
النِّهَايَةُ فِي غَرِيبِ الحَدِيثِ وَالأَثَرِ (2/ 145).
(4)
البُخَارِيُّ (3656).
(5)
وَفِي التِّرْمِذِيِّ (3616) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: ((إِنَّ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلُ اللهِ -وَهُوَ كَذلِكَ-، وَمُوسَى نَجِيُّ اللهِ اللهِ -وَهُوَ كَذلِكَ-، وَعِيسَى رُوحُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ اللهِ -وَهُوَ كَذلِكَ-، وَآدَمُ اصْطَفَاهُ اللهُ -وَهُوَ كَذلِكَ-، أَلَا وَأَنَا حَبِيبُ اللهِ -وَلَا فَخْرَ-)) قَالَ التِّرْمِذِيُّ: (هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ). ضَعِيفٌ. ضَعِيفُ التِّرْمِذِيِّ (3616). قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (2/ 423): "وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الوَجْهِ، وَلِبَعْضِهِ شَوَاهِدُ فِي الصِّحَاحِ".
قَالَ الشَّيخُ مُقْبِلُ الوَادِعِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ الشَّفَاعَةُ (ص 43): "الحَدِيثُ فِي سَنَدِهِ زَمْعَةُ بْنُ صَالِحٍ؛ وَهُوَ
=
- فَائِدَةٌ 2: البِنَاءُ عَلَى القُبُورِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ.
كَمَا فِي الحَدِيثِ عَنْ جابرٍ مَرْفُوعًا: "سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يُقْعَدَ عَلَى القَبْرِ وَأَنْ يُقَصَّصَ [يُجَصَّصَ] وَيُبْنَى عَلَيهِ"
(1)
.
وَلِذَلِكَ كَانَ قَبْرُ أَفْضَلِ البَشَرِ غَيرَ مَبْنِيٍّ، كَمَا فِي البُخَارِيِّ: بَابُ مَا جَاءَ فِي قَبْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَبي بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما، عَنْ سُفْيَانَ التَّمَّارِ:"أَنَّهُ رَأَى قَبْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُسَنَّمًا"
(2)
.
وَكَمَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ رضي الله عنه: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُلْحِدَ لَهُ لَحْدٌ، وَنُصِبَ اللَّبِنُ نَصْبًا، وَرُفِعَ قَبْرُهُ مِنَ الأَرْضِ نَحْوًا مِنْ شِبْرٍ"
(3)
.
وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَقِبَ حَدِيثِ عَلِيٍّ رضي الله عنه: ((ولَا قَبْرًا مُشْرِفًا إِلَّا سَوَّيتَهُ)) قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: "أَكْرَهُ أَنْ يُرْفَعَ القَبْرُ إِلَّا بِقَدْرِ مَا نَعْرِفُ أَنَّه قَبْرٌ لِكَي لَا يُوطَأَ وَلَا يُجْلَسَ عَلَيهِ"
(4)
.
=
ضَعِيفٌ كَمَا فِي التَّقْرِيبِ، وَسَلَمَةُ بْنُ وَهْرَام، وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ: رَوَى أَحَادِيثَ مَنَاكِيرَ أَخْشَى أَنْ يَكُونَ ضَعِيفًا .... ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِ هَذَا الحَدِيثِ أنَّ فِي الصَّحِيحِ:((إِنَّ اللهَ قَدِ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا كَمَا اتَّخذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا)) ".
(1)
صَحِيحٌ. أَبُو دَاوُد. صَحِيحُ أَبِي دَاوُدَ (2762).
(2)
البُخَارِيِّ (2/ 102).
وَسُفْيَانُ هَذَا هُوَ مِنْ كِبَارِ أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ. فَتْحُ البَارِي (3/ 257).
(3)
رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ (6635)، وَالبَيهَقِيُّ فِي الكُبْرَى (6736). وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ؛ كَمَا قَالَهُ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ أَحْكَامُ الجَنَائِزِ (ص 153).
(4)
التِّرْمِذِيُّ (2/ 358).
مَسَائِلُ عَلَى البَابِ
-
المَسْأَلَةُ الأُولَى: إِذَا كَانَتِ الصَّلَاةُ فِي مَسْجِدٍ فِيهِ قَبْرٌ مَمْنُوعَةٌ!
فَمَا الجَوَابُ عَنْ كَونِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم دُفِنَ فِي بَيتِهِ؛ رُغْمَ أَنَّ فِي البَيتِ عَائِشَةَ رضي الله عنها، وَلَمْ يُنقلْ أَنَّهَا كَانَتْ تَتَحَرَّجُ مِنَ الصَّلَاةِ هُنَاكَ؟!
الجَوَابُ مِنْ عِدَّةِ جِهَاتٍ:
1 -
أَنَّ هَذَا لَيسَ صَرِيحًا فِي الجَوَازِ، فَلَيسَ هُنَاكَ نَصٌّ صَرِيحٌ فِي إِثْبَاتِ كَونِ عَائِشَةَ رضي الله عنها كَانَتْ تَصَلِّي عِنْدَ القَبْرِ! فَيَبْقَى الأَمْرُ عَلَى أَصْلِ النَّهْي.
2 -
أنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَتَحَرَّجُونَ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ، كَمَا ثَبَتَ أَنَّ أَنَسًا رضي الله عنه؛ قَالَ:(قُمْتُ يَومًا أُصَلِّي -وَبَينَ يَدِيَّ قَبْرٌ لَا أَشْعُرُ بِهِ-، فَنَادَانِي عُمَرُ: القَبْرَ! القَبْرَ! فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يَعْنِي القَمَرَ، فَقَالَ لِي بَعْضُ مَنْ يِلِينِي: إِنَّمَا يَعْنِي القَبْرَ، فَتَنَحَّيتُ عَنْهُ)
(1)
.
3 -
أَنَّهُ وَرَدَ مَا يُشِيرُ إِلَى المَنْعِ مِنْ ذَلِكَ، حَيثُ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها جَعَلَتْ جِدَارًا فِي بَيتِهَا يِفْصِلُ بَينَهَا وَبَينَ القَبْرِ، كَمَا فِي طَبَقَاتِ ابْنِ سَعْدٍ عَنِ الإِمَامِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ؛ يَقُولُ:"قُسِمَ بَيتُ عَائِشَةَ بِاثْنَينِ: قِسْمٍ كَانَ فِيهِ القَبْرُ، وَقِسْمٍ تَكُونُ فِيهِ عَائِشَةُ، وَبَينَهُمَا حَائِطٌ"
(2)
.
(1)
رَوَاهُ البُخَارِيُّ (1/ 93) مُعَلَّقًا، وَوَصَلَهُ الحَافِظُ، وَهُوَ عِنْدَ البَيهَقِيِّ فِي الكُبْرَى (4277)، وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ (1581) وَغَيرُهُ، وَصَحَّحَهُ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ تَحْذِيرُ السَّاجِدِ (ص 35).
(2)
طَبَقَاتُ ابْنِ سَعْدٍ (2/ 294).
قُلْتُ: فَإِذَا كَانَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها صَنَعَتْ ذَلِكَ الحَاجِزَ بينَهَا وَبَينَ قَبْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ فَكَيفَ بِمَنْ يَجْعَلُ القَبْرَ فِي المَسْجِدِ، وَيَتَحَرَّى الصَّلَاةَ إِلَيهِ!!
-
المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا كَانَتِ الصَّلَاةُ لَا تَجُوزُ فِي المَقَابِرِ؛ فَمَا الجَوَابُ عَنْ أَحَادِيثِ صَلَاةِ الجَنَازَةِ فِي المَقْبَرَةِ؟!
وَمِنْهَا: صَلَاةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ، وَعَلَى المَرْأَةِ الَّتِي كَانَتْ تَقُمُّ المَسْجِدَ.
الجَوَابُ:
1 -
إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ مُسْتَثْنَاةٌ مِنَ النَّهْي، لِثُبُوتِهَا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
2 -
إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ -وَإِنْ كَانَتْ تُسَمَّى صَلَاةً شَرْعًا-؛ فَهِيَ لَيسَ فِيهَا رُكُوعٌ وَلَا سُجُودٌ! وَإِنَّمَا هِيَ الدُّعَاءُ لِلمَيِّتِ، فَاخْتَلَفَتْ عَنِ الصَّلَاةِ الَّتِي نُهيَ عَنْهَا أَصْلًا مِنْ جِهَةِ الهَيئَةِ.
وَعَلَى ذَلِكَ لَمْ يَعُدْ هُنَاكَ وَجْهٌ لِلنَّهْي، وَهُوَ المُشَابَهَةُ الَّتِي تَكُونُ ذَرِيعَةً إِلَى الشِّرْكِ
(1)
.
3 -
يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ أَيضًا: إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَمَّا كَانَتْ خَالِيَةً مِنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ؛ فَإِنَّهُ لَيسَ فِيهَا مَا يُشْعِرُ بِتَعْظِيمِ المَيِّتِ، وإنَّمَا بِعَكْسِ ذَلِكَ، فَهِيَ تُشْعِرُ بِأَنَّ هَذَا المَيِّتَ بِحَاجَةٍ إِلَى مَنْ يَنْفَعُهُ، فَاخْتَلَفَتْ عَنِ الصَّلَاةِ الَّتِي نُهيَ عَنْهَا أَصْلًا مِنْ جِهَةِ العِلَّةِ أَيضًا؛ حَيثُ لَمْ تُوجَدْ هُنَا عِلَّةُ النَّهْي وَهِيَ ذَرِيعَةُ الشِّرْكِ.
فَاخْتَلَفَتِ الصَّلَاتَانِ مِنْ حَيثُ الوَصْفِ وَالعِلَّةِ. وَالحَمْدُ للهِ عَلَى تَوفِيقِهِ.
(1)
وَقَدْ مَرَّ مَعَنَا فِي بَابِ (لَا يُذْبَحُ للهِ بِمَكَانٍ يُذْبَحُ فِيهِ لِغَيرِ اللهِ) أنَّ اخْتِلَافَ هَيئَةِ العِبَادَةِ مُؤَثِّرٌ فِي جَوَازِهَا فِي بَعْضِ أَمَاكِنِ النَّهْي.
-
المَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَولُهُ: ((إِنَّ مِنْ شِرَارِ النَّاسِ مَنْ تُدْرِكُهُمُ السَّاعَةُ وَهُمْ أَحْيَاءٌ)) فِيهِ أَنَّهُم مِنْ شِرَارِ النَّاسِ! وَهَذَا مُشْكِلٌ
مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ جَاءَ وَصْفُ الطَّائِفَةِ المَنْصُورَةِ بِأَنَّهُ: ((لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الحَقِّ مَنْصُورَةٌ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ))!
فَمَا التَّوفِيقُ بَينَ الحَدِيثَينِ؟
الجَوَابُ:
إِنَّ المُرَادَ بِقَولِهِ: ((حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ)) أَي: إِلَى قُرْبِ قِيَامِ السَّاعَةِ، وَلَيسَ إِلَى قِيَامِهَا بِالفِعْلِ، لِأنَّهَا لَا تَقُومُ إِلَّا عَلَى شِرَارِ الخَلْقِ، فَاللهُ تَعَالَى يُرْسِلُ رِيحًا تَقْبِضُ نَفْسَ كُلِّ مُؤْمِنٍ، وَلَا يَبْقَى إِلَّا شِرَارُ الخَلْقِ
(1)
، وَعَلَيهِم تَقُومُ السَّاعَةُ، وَكَمَا فِي لَفْظٍ لِلبُخَارِيِّ:((حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ))
(2)
.
وَيُمْكِنُ القَولُ أَيضًا بِأَنَّ المَقْصُودَ بِقِيَامِ السَّاعَةِ عَلَى الطَّائِفَةِ هُوَ مَوتُهُم، وَكَمَا رُوِيَ أَنَّ:((مَنْ مَاتَ فَقَدْ قَامَتْ قِيَامَتُهُ)) وَلَكِنَّهُ ضَعِيفٌ، وَالأَوَّلُ أَولَى
(3)
.
(1)
كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ (2907) عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها مَرْفُوعًا: ((لَا يَذْهَبُ اللَّيلُ وَالنَّهْارُ حَتَّى تُعْبَدَ اللَّاتُ وَالعُزَّى)). فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنْ كُنْتُ لَأَظنُّ حِينَ أَنْزَلَ اللهُ:{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التَّوبَة: 33] أَنَّ ذَلِكَ تَامًّا. قَالَ: ((إنَّهُ سَيَكُونُ مِنْ ذَلِكَ مَا شَاءَ اللهُ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللهُ رِيحًا طَيِّبَةً فَتَوَفَّى كُلَّ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إيمَانٍ؛ فَيَبْقَى مَنْ لَا خَيرَ فيهِ فَيَرْجِعُونَ إِلَى دِينِ آبَائِهِم)).
(2)
البُخَارِيُّ (7311) عَنِ المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ مَرْفُوعًا.
(3)
ضَعِيفٌ. حِلْيَةُ الأَولِيَاءِ (6/ 267) عَنْ أَنَسٍ. الضَّعِيفَةُ (1166).
-
المَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: زَعَمَ بَعْضُهُم أَنَّ النَّهْيَ عَنِ اتِّخَاذِ القُبُورِ مَسَاجِدَ هُوَ مِنْ أَجْلِ أَنَّ القُبُورَ تَتَنَجَّسُ بِسَبَبِ مَا فِيهَا
؛ وَعَلَيهِ يُحْمَلُ سَبَبُ تَحْرِيمِ الصَّلَاةِ فِيهَا، لِذَلِكَ إِذَا كَانَتِ القُبُورُ قَدِيمَةً مُنْدَرِسَةً؛ فَلَا بَأْسَ مِنَ الصَّلَاةِ فِيهَا لِزَوَالِ العِلَّةِ! فَمَا الجَوَابُ؟
الجَوَابُ:
دَعْوَى أَنَّ العِلَّةَ هِيَ النَّجَاسَةُ مَرْدُودٌ مِنْ أَوجُهٍ، وَبِرَدِّهَا يَبْقَى النَّهْيُ قَائِمًا
(1)
.
وَالأَوجُهُ هِيَ:
1 -
أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي النُّصُوصِ أَبَدًا مَا يَدُلُّ عَلَى النَّجَاسَةِ أَو يُومِئُ إِلَيهَا.
2 -
أَنَّهُ إِنْ كَانَ المَيِّتُ مُسْلِمًا فَهُوَ لَيسَ بِنَجِسٍ أَبَدًا، كَمَا فِي الحَدِيثِ:((إِنَّ المُؤْمِنَ لَا يَنْجُسُ))
(2)
(3)
.
وَإِنْ قِيلَ بِنَجَاسَتِهِ مَيِّتًا فَقَط فَلَا يُقَالُ ذَلِكَ فِي حَقِّ الأَنْبِيَاءِ
(4)
، وَقَدْ وَرَدَتِ النُّصُوصُ بِذَمِّ أَهْلِ الكِتَابِ لِاتِّخَاذِهِم المَسَاجِدَ عَلَى قُبُورِ أَنْبِيَائِهِم.
(1)
وَعَلَى فَرْضِ كَونِ النَّجَاسَةِ هِيَ عِلَّةٌ فِي النَّهْي؛ فَهَذَا لَا يَعْنِي أَنَّهَا وَحْدَهَا العِلَّةُ! لِذَلِكَ فَإِنَّ انْتِفَاءَهَا لَا يَعْنِي زَوَالَ النَّهْي.
(2)
رَوَاهُ البُخَارِيُّ (285)، وَمُسْلِمٌ (371) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا.
(3)
وَقَدْ رَدَّ بَعْضُهُم عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّهُ يَنْجُسُ بِدَلِيلِ الأَمْرِ بِغَسْلِهِ قَبْلَ الدَّفْنِ!
قُلْتُ: وَهُوَ رَدٌّ عَلَيهِم، لِأَنَّهُ يُقَالُ بِأَنَّ هَذَا الغَسْلَ لَهُ قَدْ أَذْهَبَ نَجَاسَتَهُ -عَلَى فَرْضِ النَّجَاسَةِ-، عَدَا عَنْ كَونِ الأَمْرِ بِالغَسْلِ لَا يَدُلُّ عَلَى النَّجَاسَةِ!
فَعِنْدَ الحَاكِمِ (1426) مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: ((لَيسَ عَلَيكُمْ فِي غَسْلِ مَيِّتِكُمْ غُسْلٌ إِذَا غَسَّلْتُمُوهُ؛ فَإِنَّ مَيِّتَكُمْ لَيسَ بِنَجَسٍ! فَحَسْبُكُمْ أَنْ تَغْسِلُوا أَيدِيَكُمْ)). صَحِيحٌ. صَحِيحُ الجَامِعِ (5408).
(4)
عَنْ أَوسِ بْنِ أَوسٍ مَرْفُوعًا: ((إِنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَى الأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ أَجْسَادَ الأَنْبِيَاءِ)). صَحِيحٌ. أَبُو دَاوُدَ (1531). صَحِيحُ الجَامِعِ (2212).
3 -
أَنَّهُ لَو كَانَتِ العِلَّةُ النَّجَاسَةَ لَمَا جَازَتْ صَلَاةُ الجَنَازَةِ فِي المَقَابِرِ أَيضًا
(1)
.
4 -
أنَّ النُّصُوصَ النَّبَوِيَّةَ دَلَّتْ عَلَى أنَّ العِلَّةَ فِي النَّهْي هِيَ تَعْظِيمُ الصَّالِحِينَ
(2)
، حَيثُ قَرَنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِهِ عَنِ النَّصَارى بَينَ أُمُورٍ هِيَ:(كَنِيسةُ النَّصَارَى، العَبْدُ الصَّالِحُ، بَنَوا عَلَى قَبْرِهِ، صَوَّرُوا) فَالجَمْعُ بَينَ البِنَاءِ وَالتَّصْوِيرِ وَالصَّلَاحِ هُوَ لِدِلَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ التَّعْظِيمُ، وَقَدْ عُلِمَ قَولُهُ تَعَالَى عَنْهُم:{يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ} [النِّسَاء: 171].
وَفِي الحَدِيثِ الصَّحِيحِ: ((اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا؛ لَعَنَ اللهُ قَومًا اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ))
(3)
.
قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: "وَأَكْرَهُ أَنْ يُعَظَّمَ مَخْلُوقٌ حَتَّى يُجْعَلَ قَبْرُهُ مَسْجِدًا: مَخَافَةَ الفِتْنَةِ عَلَيهِ وَعَلَى مَنْ بَعْدِهُ مِنَ النَّاسِ"
(4)
.
(1)
وَصَلَاةُ الجَنَازَةِ تَجُوزُ فِي المَسَاجِدِ، فَإِذَا كَانَ المَيِّتُ نَجِسًا فَلَا يَصِحُّ أَنْ تُدْخَلَ الجَنَازَةُ إِلَى المَسْجِدِ!
وَأَيضًا لَا يَخْفَى حَدِيثُ صَلَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ قَبْرِ المَرْأَةِ السَّودَاءِ الَّتِي كَانَتْ تَقُمُّ المَسْجِدَ. رَوَاهُ البُخَارِيُّ (460)، وَمُسْلِمٌ (956).
(2)
كَمَا أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُضَافُ لِذَلِكَ عِلَّةٌ أُخْرَى وَهِيَ التَّشَبُّهُ بِالنَّصَارَى.
(3)
صَحِيحٌ. مُسْنَدُ أَحْمَدَ (7358) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا. تَحْذِيرُ السَّاجِدِ (ص 22).
(4)
أَورَدَهُ النَّوَوِيُّ رحمه الله فِي المَجْمُوعِ (5/ 314).
وَقَالَ رحمه الله فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ (5/ 13): "قَالَ العُلَمَاء: إِنَّمَا نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ اتِّخَاذِ قَبْرِهِ وَقَبْرِ غَيرِهِ مَسْجِدًا خَوفًا مِنَ المُبَالَغَة فِي تَعْظِيمِهِ وَالِافْتِتَانِ بِهِ، فَرُبَّمَا أَدَّى ذَلِكَ إِلَى الكُفْرِ كَمَا جَرَى لِكَثِيرٍ مِنَ الأُمَمِ الخَالِيَةِ. وَلَمَّا احْتَاجَتِ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيهِمْ أَجْمَعِينَ وَالتَّابِعُونَ إِلَى الزِّيَادَة فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ كَثُرَ المُسْلِمُونَ، وَامْتَدَّتِ الزِّيَادَةُ إِلَى أَنْ دَخَلَتْ بُيُوتُ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِينَ فِيهِ -وَمِنْهَا حُجْرَةُ عَائِشَةَ رضي الله عنها؛ مَدْفِنُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَصَاحِبَيهِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما؛ بَنَوا عَلَى القَبْرِ حِيطَانًا مُرْتَفِعَةً مُسْتَدِيرَةً حَولَهُ لِئَلَّا يَظْهَر فِي المَسْجِدِ فَيُصَلِّي إِلَيهِ العَوَامُّ وَيُؤَدِّي المَحْذُورِ، ثُمَّ بَنَوا جِدَارَينِ مِنْ
=
قُلْتُ: وَلَا يَخْفَى مَا قَالَهُ أَهْلُ العِلْمِ فِي التَّفْسِيرِ عَنْ قِصَّةِ أَوثَانِ قَومِ نُوحٍ أنَّهُم عَكَفُوا عَلَى قُبُورِهِم، ثُمَّ عَبَدُوهُم.
5 -
إِذَا كَانَتِ العِلَّةُ نَجَاسَةُ المَيِّتِ؛ فَلَا يَصِحُّ النَّهْيُ لِوُجُودِ القَدْرِ الكَبِيرِ مِنَ التُّرَابِ بَينَ سَطْحِ الأَرْضِ وَبَينَ المَيِّتِ
(1)
.
وَأَخِيرًا؛ فَيُمْكِنُ القَولُ بِأَنَّ العِلَّةَ هِيَ النَّجَاسَةُ الحَاصِلَةُ بالشِّرْكِ، وَهِيَ نَجَاسَةٌ مَعْنَوِيَّةٌ بَاقِيَةٌ لَا تَتَغَيَّرُ بِالاسْتِحَالَةِ كَسَائِرِ النَّجَاسَاتِ، قَالَ تَعَالَى:{إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التَّوبَة: 28]
(2)
.
=
رُكْنَي القَبْرِ الشَّمَالِيَّينِ، وَحَرَّفُوهُمَا حَتَّى التَقَيَا حَتَّى لَا يَتَمَكَّنَ أَحَدٌ مِنِ اسْتِقْبَالِ القَبْرِ، وَلِهَذَا قَالَ فِي الحَدِيثِ:((لَولَا ذَلِكَ لَأُبْرِزَ قَبْرُهُ، غَيرَ أَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يُتَّخَذ مَسْجِدًا)). وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَم بِالصَّوَابِ".
تَنْبِيهٌ: عَزُو إِدْخَالِ الحُجْرَةِ فِي المَسْجِدِ إِلَى الصَّحَابةِ لَا يَثْبُتُ؛ كَمَا أَوضَحَهُ الحَافِظُ ابْنُ عَبْدِ الهَادِي رحمه الله فِي كِتَابِهِ الصَّارِمُ المُنْكِي (ص 151).
قُلْتُ: وَفِي (إِكْمَالُ المُعْلِمِ)(2/ 252) شَرْحُ مُسْلِمٍ لِلقَاضِي عِيَاض: "وَلِهَذَا لَمَّا احْتَاجَ المُسْلِمُونَ إِلَى الزِّيَادَةِ فِي مَسْجِدِهِ صلى الله عليه وسلم لِتَكَاثُرِهِم بِالمَدِينَةِ، وَامْتَدَّتِ الزِّيَادَةُ إِلَى أَنْ أُدْخِلَ فِيهَا بُيُوتَ أَزْوَاجِهِ" فَلَمْ يَذْكُرِ الصَّحَابَةَ؛ فَتَنَبَّهْ.
(1)
وَفِي البُخَارِيِّ (1868) قِصَّةُ نَبْشِ قُبُورِ المُشْرِكِينَ لِبِنَاءِ المَسْجِدِ النَّبَوِيِّ، فَلَمْ يَأْمُرِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بإزَالَةِ التُّرَابِ الَّذِي يُفْتَرَضُ أَنْ يَكُونَ هُوَ مَظِنَّةَ التَّنَجُّسِ!
(2)
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله فِي الفَتْحِ (3/ 208): "وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ المَنْعَ مِنْ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ حَالَ خَشْيَةِ أَنْ يُصْنَعَ بِالقَبْرِ كَمَا صَنَعَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لُعِنُوا، وَأَمَّا إِذَا أُمِنَ ذَلِكَ فَلَا امْتِنَاعَ، وَقَدْ يَقُولُ بِالمَنْعِ مُطْلَقًا مَنْ يَرَى سَدَّ الذَّرِيعَةِ -وَهُوَ هُنَا مُتَّجِهٌ قَوِيٌّ-".
قَالَ الشَّيخُ ابْنُ بَازٍ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى الفَتْحِ: "بَلْ هَذَا هُوَ الحَقُّ، لِعُمُومِ الأَحَادِيثِ الوَارِدَةِ بِالنَّهْي عَنِ اتِّخَاذِ القُبُورِ مَسَاجِدَ، ولَعْنِ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ بِنَاءَ المَسَاجِدِ عَلَى القُبُورِ مِنْ أَعْظَمِ وَسَائِلِ الشِّرْكِ بِالمَقْبُورِينَ فِيهَا. وَاللهُ أَعْلَمُ".
قُلْتُ: وَالشِّرْكُ لَمْ يُؤْمَنْ عَلَى أَصْحَابِهِ صلى الله عليه وسلم فَكَيفَ بِغَيرِهِم! وَفِي الحَدِيثِ: ((أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَيكُم
=
-
المَسْأَلَةُ الخَامِسَةُ: إِنَّ النُّصُوصَ السَّابِقَةَ دَلَّتْ عَلَى التَّحْرِيمِ، وَلَكِنْ حَمَلَهَا بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ عَلَى الكَرَاهَةِ
؛ كَالشَّافِعِيِّ رحمه الله حَيثُ قَالَ: "وَأَكْرَهُ أَنْ يُعَظَّمَ مَخْلُوقٌ حَتَّى يُجْعَلَ قَبْرُهُ مَسْجِدًا: مَخَافَةَ الفِتْنَةِ عَلَيهِ وَالضَّلَالِ وَعَلَى مَنْ بَعْدِهُ مِنَ النَّاسِ! "
(1)
، فَمَا الجَوَابُ؟
الجَوَابُ مِنْ أَوجُهٍ:
1 -
إِنَّ القَولَ بِكَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ عَلَى المَعْنَى الاصْطِلَاحِيِّ لِلكَرَاهَةِ -أَي: الَّذِي لَا يَأْثَمُ فَاعِلُهُ، وَيُثَابُ تَارِكُهُ للهِ- غَيرُ مُسْتَقِيمٍ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى التَّحْرِيمِ، بَلْ وَأَشَدِّ التَّحْرِيمِ، وَدَلَّتْ لِذَلِكَ أَلْفَاظُ الحَدِيثِ وَفِيهِ:(اللَّعْنُ، شِرَارُ النَّاسِ) فَهِيَ مِنْ أَلْفَاظِ الكَبَائِرِ كَمَا لَا يَخْفَى.
2 -
إِنَّ العُلَمَاءَ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا بِالكَرَاهَةِ إنَّمَا قَصَدُوا التَّحْرِيمَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَلْفَاظَ السَّلَفِ هِيَ أَلْفَاظُ القُرْآنِ وَالسُّنَّةِ -اللَّهُمَّ إِلَّا لِقَرِينَةٍ يَدُلُّ عَلَيهَا السِّيَاقُ-، وَأَمَّا الكَرَاهَةُ عِنْدَنَا -اليَومَ- فَهَذِهِ كَرَاهَةٌ اصْطَلَحَ عَلَيهَا المُتَأَخِّرُونَ لِلتَّفْرِيقِ فِي النَّهْي بَينَ مَا يَأْثَمُ فَاعِلُهُ وَمَا لَا يَأْثَمُ، وَلَو رُحْتَ تَسْتَعْرِضُ نُصُوصَ القُرْآنِ فِي الكَرَاهَةِ لَتَبَيَّنَ لَكَ ذَلِكَ، وَتَأَمَّلْ قَولَهُ تَعَالَى:{وَكَرَّهَ إِلَيكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [الحُجُرَات: 7]
(2)
.
=
الشِّرْكُ الأَصْغَرُ)) صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (23630) عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (951).
بَلْ إِبْرَاهِيمُ نَفْسُهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ تَعَالَى عَنْهُ: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إِبْرَاهِيم: 35] فَهَلْ يُؤْمَنُ عَلَى غَيرِهِ؟! بَلْ أَقُولُ: لَا يَأْمَنُ الفِتْنَةَ عَلَى نَفْسِهِ إِلَّا مَفْتُونٌ. وَاللهُ تَعَالَى هُوَ المُوَفِّقُ، وَهُوَ الهَادِي لِلصَّوَابِ.
(1)
الأُمِّ (1/ 317) لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله، بِتَصَرُّفٍ يَسِيرٍ.
(2)
قَالَ ابْنُ بَدْرَانَ -فَقِيهٌ أُصُولِيٌّ حَنْبَلِيٌّ (ت 1346 هـ) -: "فَالسَّلَفُ كَانُوا يَسْتَعْمِلُونَ الكَرَاهَةَ فِي مَعْنَاهَا الَّذِي اسْتُعْمِلَتْ فِيهِ فِي كَلَامِ اللهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ، وَلَكِنَّ المُتَأَخِّرُونَ اصْطَلحُوا عَلَى تَخْصِيصِ الكَرَاهَةِ بِمَا لَيسَ بمُحَرَّمٍ وتَرْكُهُ أَرْجَحُ مِنْ فِعْلِهِ". المَدْخَلُ إِلَى مَذْهَبِ الإِمَامِ أَحْمَدَ (ص 130).
قَالَ الإِمَامُ ابْنُ القَيِّمِ رحمه الله: "وَقَدْ غَلَطَ كَثِيرٌ مِنَ المُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَتْبَاعِ الأَئِمَّةِ عَلَى أَئِمَّتِهِم بِسَبَبِ ذَلِكَ، حَيثُ تَورَّعَ الأَئِمَّةُ عَنْ إِطْلَاقِ لَفْظِ التَّحْرِيمِ وَأَطْلَقُوا لَفْظَ الكَرَاهَةِ، فَنَفَى المُتَأَخِّرُونَ التَّحْرِيمَ عَمَّا أَطْلَقَ عَلَيهِ الأَئِمَّةُ، ثُمَّ سَهُلَ عَلَيهِم لَفْظُ الكَرَاهَةِ وَخَفَّتْ مُؤْنَتُهُ عَلَيهِم، فَحَمَلَهُ بَعْضُهُم عَلَى التَّنْزِيهِ فَحَصَلَ بِسَبَبِهِ غَلَطٌ عَظِيمٌ عَلَى الشَّرِيعَةِ وَعَلَى الأَئِمَّةِ"
(1)
.
وَعَلَيهِ؛ فَإِنَّ قَولَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله هُنَا يُقْصَدُ بِهِ التَّحْرِيمُ.
قُلْتُ: وَبِنَحْوِهِ قَولُهُ فِي (الأُمِّ) أَيضًا: "وَأَكْرَهُ النِّيَاحَةَ عَلَى المَيِّتِ بَعْدَ مَوتِهِ؛ وَأَنْ تَنْدُبَهُ النَّائِحَةُ عَلَى الانْفِرَادِ. لَكِن يُعزَّى بِمَا أَمَرَ اللهُ عز وجل مِنَ الصَّبْرِ وَالاسْتِرْجَاعِ، وَأَكْرَهُ المَأْتَمَ -وَهِيَ الجَمَاعَةُ- وَإِنْ لَمْ يَكْنْ لَهُم بُكَاءٌ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يُجَدِّدُ الحُزْنَ وَيُكَلِّفُ المُؤْنَةَ"
(2)
.
وَالشَّاهِدُ مِنْهُ قَولُهُ بِالكَرَاهَةِ لِلنِّيَاحَةِ؛ رُغْمَ مَا عُلِمَ مِنَ الحَدِيثُ -الَّذِي فِي مُسْلِمٍ- ((اثْنَتَانِ فِي النَّاسِ هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ: الطَّعْنُ فِي الأنْسَابِ وَالنِّيَاحَةُ عَلَى المَيِّتِ))
(3)
.
قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رحمه الله -فِي سِيَاقِ الحَدِيثِ عَنِ النِّيَاحَةِ-: "وَكَذَا وَقَعَ لَفْظُ الكَرَاهَةِ فِي نَصِّ الشَّافِعِيِّ فِي (الأُمِّ) وَحَمَلَهَا الأَصْحَابُ عَلَى كَرَاهَةِ التَّحْرِيمِ، وَقَدْ نَقَلَ جَمَاعَةٌ الإِجْمَاعَ فِي ذَلِكَ"
(4)
.
(1)
إِعْلَامُ المُوَقِّعِينَ (1/ 32).
(2)
الأُمُّ (1/ 318).
(3)
صَحِيحُ مُسْلِمٍ (67) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا.
(4)
المَجْمُوعُ (5/ 307).
-
المَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: هَلْ يُفَرَّقُ -مِنْ جِهَةِ النَّهْي عَنِ الصَّلَاةِ فِي المَسْجِدِ- بَينَ كَونِ القَبْرِ فِي قِبْلَةِ المُصَلِّي أَمْ لَا؟
الجَوَابُ: أَنَّهُ لَا فَرْقَ، بَلْ تَزْدَادُ الكَرَاهَةُ
(1)
.
خِلَافًا لِمَا ذَهَبَ إِلَيهِ بَعْضُ الأَفَاضِلِ
(2)
؛ حَيثُ أَجَازَ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدٍ فِيهِ قَبْرٌ -إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي جِهَةِ القِبْلَةِ- بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ القَبْرُ طَارِئًا عَلَى المَسْجِدِ دُونَ العَكْسِ، وَوَجْهُ التَّفْرِيقِ دِلَالَةُ الحَدِيثِ:((لَا تُصَلُّوا إِلَى قَبْرٍ، وَلَا تُصَلُّوا عَلَى قَبْرٍ))
(3)
، بِمَعْنَى أَنَّ النَّهْيَ هُوَ عَنِ الاسْتِقْبَالِ فَقَط، وَأَمَّا النَّهْيُ فِي حَالَةِ أَنْ يَكُونَ المَسْجِدُ طَارِئًا عَلَى القَبْرِ؛ هُوَ لِكَونِهِ صَارَ كَمَسْجِدِ الضِّرَارِ، حَيثُ قَالَ تَعَالَى فِيهِ:{لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا} [التَّوبَة: 108]!
وَالجَوَابُ عَلَى مَا سَبَقَ: أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَينَ كَونِ القَبْرِ فِي جِهَةِ القِبْلَةِ أَوْ لَا، وَذَلِكَ بِسَبَبِ:
(1)
قَالَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (الثَّمَرُ المُسْتَطَابُ)(1/ 380): "وَقَالَ الشَّيخُ مُحَمَّدُ يَحْيَى الكَانْدَهْلَوِيُّ الهِنْدِيُّ الحَنَفِيُّ فِي كِتَابِهِ (الكَوكَبُ الدُّريُّ عَلَى جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ) مَا نَصُّهُ: وَأَمَّا اتِّخَاذُ المَسَاجِدِ عَلَيهَا؛ فَإِنَّمَا فِيهِ مِنَ الشَّبَهِ بِاليَهُودِ فِي اتِّخَاذِهِم مَسَاجِدَ عَلَى قُبُورِ أَنْبِيَائِهِمِ وَكُبَرَائِهِم، وَلِمَا فِيهِ مِنْ تَعْظِيمِ المَيِّتِ وَشَبَهٍ بِعَبَدَةِ الأَصْنَامِ لَو كَانَ القَبْرُ فِي جَانِبِ القِبْلَةِ. وَكَرَاهَةُ كَونِهِ فِي جَانِبِ القِبْلَةِ أَكْثَرُ مِنْ كَرَاهَةِ كَونِهِ يَمِينًا أَو يَسَارًا، وَإِنْ كَانَ خَلْفَ المُصَلِّي فَهُوَ أَخَفُّ كَرَاهَةٍ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ، لَكِنْ لَا يَخْلُو عَنْ كَرَاهَةٍ.
وَقَدْ ذَكَرَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ وَالعَينِيُّ فِي العُمْدَةِ: أَنَّ القَبْرَ فِي المَسْجِدِ إِذَا كَانَ فِي جِهَةِ القِبْلَةِ فَإِنَّهُ تَزْدَادُ الكَرَاهَةُ. أ. هـ وَهَذَا هُوَ الحَقُّ فِي المَسْأَلَةِ حَسْبَ التَّفْصِيلِ الَّذِي ذَكَرَهُ الهِنْدِيُّ".
(2)
كَالشَّيخِ ابْنِ عُثَيمِينَ رحمه الله. اُنْظُرْ أَشْرِطَةَ شَرْحِ صَحِيحِ البُخَارِيِّ لِلشَّيخِ ابْنِ عُثَيمِين رحمه الله -كِتَابُ الجَنَائِزِ- شَرِيطُ (رَقَم 6/أ)، سُؤَالُ:"إِذَا كَانَ القَبْرُ عَنْ يَمِينِ الإِنْسَانِ أَو يَسَارِهِ؟ ".
(3)
صَحِيحٌ. الطَّبرانيُّ في الكَبِيرِ (11/ 376) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (7348).
أ- عُمُومِ النَّهْي دُونَ مُخَصِّصٍ، كَمَا سَبَقَ فِي الحَدِيثِ:((أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا القُبُورَ مَسَاجِدَ))
(1)
، وَعَلَيهِ فَلَا فَرْقَ أَيضًا فِي حُكْمِ الصَّلَاةِ بَينَ كَونِ المَسْجِدِ هُوَ الطَّارِئُ عَلَى القَبْرِ أَوِ العَكْسُ.
ب- أَنَّ النَّهْي عَنِ الصَّلَاةِ إِلَى القَبْرِ أَخَصُّ مِنَ عُمُومِ النَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ فِي المَسَاجِدِ الَّتِي فِيهَا القُبُورُ، بَلْ كُلٌّ مِنْهُمَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ لِوَحْدِهِ، فَحَدِيثُ النَّهْي عَنِ اسْتِقْبَالِ القَبْرِ فِي الصَّلَاةِ عَامٌّ فِي كُلِّ مَوضِعٍ -سَوَاءً فِي المَسْجِدِ الَّذِي فِيهِ قَبْرٌ أَوْ خَارِجَهُ-، وَأَمَّا المَسْجِدُ؛ فَإِنَّ النَّهْيَ فِيهِ غَيرُ مُقَيَّدٍ بِالاسْتِقْبَالِ، بَلْ هُوَ عَامٌّ لِعُمُومِ حَدِيثِ:((لَا تَتَّخِذُوا القُبُورَ مَسَاجِدَ)).
وَيَشْهَدُ لِلتَّفْرِيقِ -بَينَ المَسْجِدِ المُتَّخَذِ لِلصَّلَاةِ؛ وَبَينَ عُمُومِ أَمَاكِنِ الصَّلَاةِ- مَا ثَبَتَ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه؛ أَنَّهُ قَالَ: (قُمْتُ يَومًا أُصَلِّي -وَبَينَ يَدِيَّ قَبْرٌ لَا أَشْعُرُ بِهِ-، فَنَادَانِي عُمَرُ: القَبْرَ! القَبْرَ! فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يَعْنِي القَمَرَ، فَقَالَ لِي بَعْضُ مَنْ يِلِينِي: إِنَّمَا يَعْنِي القَبْرَ، فَتَنَحَّيتُ عَنْهُ)
(2)
.
فَقَولُهُ: (فَتَنَحَّيتُ) يُفِيدُ أَنَّ النَّهْيَ هُوَ عَنِ الاسْتِقْبَالِ فَقَط -فِي غَيرِ المَسْجِدِ المُتَّخَذِ لِلصَّلَاةِ-، وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: أَنَّهُ (جَازَ القَبْرَ وَصَلَّى).
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله: "وَالأَثَرُ المَذْكُورُ عَنْ عُمَرَ رَوَينَاهُ مَوصُولًا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ لِأَبِي نُعَيمٍ -شَيخِ البُخَارِيِّ- وَلَفْظُهُ: (بَينَمَا أَنَسٌ يُصَلِّي إِلَى قَبْرٍ؛ نَادَاهُ عُمَرُ: القَبْرَ! القَبْرَ! فَظَنَّ أَنَّهُ يَعْنِي القَمَرَ، فَلَمَّا رَأَى أَنَّهُ يَعْنِي القَبْرَ؛ جَازَ القَبْرَ وَصَلَّى)،
(1)
مُسْلِمٌ (532) عَنْ جُنْدَبٍ مَرْفُوعًا.
(2)
رَوَاهُ البُخَارِيُّ (1/ 93) مُعَلَّقًا، وَوَصَلَهُ الحَافِظُ، وَهُوَ عِنْدَ البَيهَقِيِّ فِي الكُبْرَى (4277) وَعَبْدِ الرَّزَّاقِ (1581) وَغَيرِهِ، وَصَحَّحَهُ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ تَحْذِيرُ السَّاجِدِ (ص 35).
وَلَهُ طُرُقٌ أُخْرَى بَيَّنْتُهَا فِي تَغْلِيقِ التَّعْلِيقِ، مِنْهَا مِنْ طَرِيقِ حُمَيدٍ عَنْ أَنَسٍ نَحْوَهُ وَزَادَ فِيهِ:(فَقَالَ بَعْضُ مَنْ يَلِينِي: إِنَّمَا يَعْنِي القَبْرَ، فَتَنَحَّيتُ عَنْهُ)، وَقَولُهُ:(القَبْرَ! القَبْرَ!) بِالنَّصْبِ فِيهِمَا عَلَى التَّحْذِيرِ، وَقَولُهُ:(وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالإِعَادَةِ)[وَهُوَ مِنْ تَعْلِيقِ البُخَارِيِّ عَلَى الأَثَرِ. خُلْدُون] اسْتَنْبَطَهُ مِنْ تَمَادِي أَنَسٍ عَلَى الصَّلَاةِ، وَلَو كَانَ ذَلِكَ يَقْتَضِي فَسَادَهَا لَقَطَعَهَا وَاسْتَأْنَفَ"
(1)
(2)
.
ج- أَنَّ عِلَّةَ النَّهْي وَاحِدَةٌ فِي الحَالَتَينِ؛ وَهِيَ أَنَّهَا ذَرِيعَةٌ إِلَى الشِّرْكِ.
د- أَنَّ الامْتِنَاعَ عَنِ الصَّلَاةِ فِي المَسْجِدِ الذِي بُنِيَ عَلَى قَبْرٍ -دُونَ العَكْسِ-؛ غَيرُ مُنْضَبِطٍ مِنْ جِهَةِ الوَاقِعِ وَالتَّطْبِيقِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَمْيِيزُ أَيِّهِمَا طَرَأَ عَلَى الآخَرِ مِنْ قِبَلِ عَامَّةِ النَّاسِ -اللَّهُمَّ إِلَّا مَنْ شَهِدَ ذَلِكَ، أَو أُخْبِرَ بِهِ جَزْمًا-، وَلَا يَخْفَى أَنَّ عَدَمَ انْضِبَاطِ القَيدِ هَذَا وَحْدَهُ كَافٍ فِي رَدِّ ذَلِكَ التَّفْرِيقِ. وَالحَمْدُ للهِ عَلَى تَوفِيقِهِ.
وَأَمَّا جَعْلُ حُجْرَةِ عَائِشَةَ رضي الله عنها -لَمَّا وُسِّعَ المَسْجِدُ- مُثَلَّثَةَ الشَّكْلِ مُحَدَّدَةً؛ فَصَحِيحٌ أَنَّهُ كَي لَا يَتَأَتَّى لِأَحَدٍ أَنْ يُصَلِّيَ إِلَى جِهَةِ القَبْرِ مَعَ اسْتِقْبَالِ القِبْلَةِ؛ لَكِنَّ هَذَا لَا يَعْنِي أَنَّ النَّهْيَ مُنْصَبٌّ فَقَط عَلَى اسْتِقْبَالِ القَبْرِ بِالصَّلَاةِ فَقَط! لِأَنَّ حَقِيقَةَ الأَمْرِ هِيَ زِيَادَةُ الاحْتِيَاطِ -حَتَّى لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ القَبْرَ نَفْسَهُ فِي الصَّلَاةِ-، وَتَثْلِيثِ الجِدَارِ هُوَ كَي لَا تَظْهَرَ صُورَةُ التَّقَصُّدِ لِلحُجْرَةِ الَّتِي فِيهَا القَبْرُ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِلجُدْرَانِ الَّتِي أُقِيمَتْ حَولَهُ مَعْنَى أَصْلًا؛ إِذَا كَانَ عَدَمُ الاسْتِقْبَالِ كَافِيًا فِي ذَلِكَ. وَالحَمْدُ للهِ عَلَى تَوفِيقِهِ
(3)
.
(1)
الفَتْحُ (1/ 524).
(2)
وَاُنْظُرْ أَشْرِطَةَ فَتَاوَى سِلْسِلَةِ الهُدَى وَالنُّورِ (ش 647) لِلشَّيخِ الأَلْبَانِيِّ رحمه الله، وَكَذَا شَرْحَ كِتَابِ (قُرَّةُ عُيُونِ المُوَحِّدِينَ)(ش 24) لِلشَّيخِ صَالِحِ الفَوزَان حَفِظَهُ اللهُ.
(3)
قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رحمه الله فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ (5/ 14): "وَلَمَّا احْتَاجَتِ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيهِمْ أَجْمَعِينَ وَالتَّابِعُونَ إِلَى الزِّيَادَة فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ كَثُرَ المُسْلِمُونَ، وَامْتَدَّتِ الزِّيَادَةُ إِلَى أَنْ دَخَلَتْ بُيُوتُ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِينَ فِيهِ -وَمِنْهَا حُجْرَةُ عَائِشَةَ رضي الله عنها؛ مَدْفِنُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَصَاحِبَيهِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما؛ بَنَوا عَلَى القَبْرِ حِيطَانًا مُرْتَفِعَةً مُسْتَدِيرَةً حَولَهُ لِئَلَّا يَظْهَر فِي المَسْجِدِ فَيُصَلِّي إِلَيهِ العَوَامُّ وَيُؤَدِّي المَحْذُورِ، ثُمَّ بَنَوا جِدَارَينِ مِنْ رُكْنَي القَبْرِ الشَّمَالِيَّينِ، وَحَرَّفُوهُمَا حَتَّى التَقَيَا حَتَّى لَا يَتَمَكَّنَ أَحَدٌ مِنِ اسْتِقْبَالِ القَبْرِ، وَلِهَذَا قَالَ فِي الحَدِيثِ: ((لَولَا ذَلِكَ لَأُبْرِزَ قَبْرُهُ، غَيرَ أَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يُتَّخَذ مَسْجِدًا)). وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَم بِالصَّوَابِ".
تَنْبِيهٌ: عَزُو إِدْخَالِ الحُجْرَةِ فِي المَسْجِدِ إِلَى الصَّحَابةِ لَا يَثْبُتُ؛ كَمَا أَوضَحَهُ الحَافِظُ ابْنُ عَبْدِ الهَادِي رحمه الله فِي كِتَابِهِ الصَّارِمُ المُنْكِي (ص 151).
قُلْتُ: وَفِي (إِكْمَالُ المُعْلِمِ)(2/ 252) شَرْحُ مُسْلِمٍ لِلقَاضِي عِيَاض: "وَلِهَذَا لَمَّا احْتَاجَ المُسْلِمُونَ إِلَى الزِّيَادَةِ فِي مَسْجِدِهِ صلى الله عليه وسلم لِتَكَاثُرِهِم بِالمَدِينَةِ، وَامْتَدَّتِ الزِّيَادَةُ إِلَى أَنْ أُدْخِلَ فِيهَا بُيُوتَ أَزْوَاجِهِ" فَلَمْ يَذْكُرِ الصَّحَابَةَ؛ فَتَنَبَّهْ.
المُلْحَقُ الرَّابِعُ عَلَى كِتَابِ التَّوحِيدِ: مُخْتَصَرُ "تَحْذِيرُ السَّاجِدِ مِنِ اتِّخَاذِ القُبُورِ مَسَاجِدَ"
وَالكِتَابُ الأَصْلُ هُوَ لِلعَلَّامَةِ الأَلْبَانِيِّ رحمه الله، وَقَدْ أَورَدْتُهُ عَلَى أَبْوَابِهِ مُخْتَصَرًا، وَأَضَفْتُ إِلَيهِ فَوَائِدَ أُخَرَ مِنْ كُتُبِ أَهْلِ العِلْمِ تَتْمِيمًا لِلفَائِدَةِ.
-
الفَصْلُ الأَوَّلُ: فِي أَحَادِيثِ النَّهْي عَنِ اتِّخَاذِ القُبُورِ مَسَاجِدَ:
قَالَ ابْنُ حَزْمٍ رحمه الله: "هِيَ مُتَوَاتِرَةٌ"
(1)
(2)
.
(1)
وَتَعَقَّبَهُ الحَافِظُ العِرَاقِيُّ رحمه الله بِأَنَّهَا مُتَوَاتِرَةٌ مَشْهُورَةٌ مِنْ حَيثُ المَعْنَى. نَيلُ الأَوطَارِ (2/ 155).
وَقَالَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ تَحْذِيرُ السَّاجِدِ (ص 57): "مُتَوَاتِرَةٌ".
(2)
قُلْتُ: وَاكْتَفَينَا بِمَا فِي كِتَابِ التَّوحِيدِ مِنَ الأَحَادِيثِ النَّاهِيَةِ عَنِ الإِعَادَةِ هُنَا.
-
الفَصْلُ الثَّانِي: مَعْنَى اتِّخَاذِ القُبْورِ مَسَاجِدَ.
هُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ مَعَانٍ:
1 -
الصَّلَاةِ عَلَى القُبُورِ بِمَعْنَى السُّجُودِ عَلَيهَا.
كَمَا فِي الحَدِيثِ: (نَهَى نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُبْنَى عَلَى القُبُورِ، أَو يُقْعَدَ عَلَيهَا، أَو يُصَلَّى عَلَيهَا)
(1)
.
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ الهَيتَمِيُّ
(2)
فِي (الزَّوَاجِرِ): "وَاتِّخَاذُ القَبْرِ مَسْجِدًا مَعْنَاهُ: الصَّلَاةُ عَلَيهِ أَو إِلَيهِ"
(3)
.
2 -
السُّجُودِ إِلَيهَا وَاسْتِقْبَالِهَا بِالصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ.
كَمَا فِي الحَدِيثِ: ((لَا تُصَلُّوا إِلَى قَبْرٍ، وَلَا تُصَلُّوا عَلَى قَبْر))
(4)
.
3 -
بِنَاءِ المَسَاجِدِ عَلَيهَا وَقَصْدِ الصَّلَاةِ فِيهَا.
كَمَا فِي الصَّحِيحَينِ: ((أُولَئِكَ إِذَا كَانَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَمَاتَ؛ بَنَوا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ، فَأُولَئِكَ شِرَارُ الخَلْقِ عِنْدَ اللهِ يَومَ القِيَامَةِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيهِ
(5)
.
(1)
صَحِيحٌ. أَبُو يَعْلَى (1020) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ. تَحْذِيرُ السَّاجِدِ (ص 29).
(2)
هُوَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ حَجَرٍ؛ الهِيتَمِيُّ السَّعْدِيُّ الأَنْصَارِيُّ، شِهَابُ الدِّينِ، شَيخُ الإِسْلَامِ، أَبُو العَبَّاسِ، فَقِيهٌ بِاحِثٌ مَصْرِيٌّ، مَولِدُهُ فِي مَحِلَّةِ أَبِي الهَيتَم -مِنْ إِقْلِيمِ الغَرْبِيَّةِ بِمِصْرَ- وَإلَيهَا نِسْبَتهُ، (ت 974 هـ). الأَعْلَامُ لِلزِّرِكْلِيِّ (1/ 234).
(3)
الزَّوَاجِرُ (1/ 246).
(4)
صَحِيحٌ. الطَّبرانيُّ في الكَبِيرِ (11/ 376) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (7348).
(5)
رَوَاهُ البُخَارِيُّ (434)، وَمُسْلِمٌ (528) عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا.
وَكَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ؛ قَالَ: (نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُجَصَّصَ القَبْرُ وَأَنْ يُقْعَدَ عَلَيهِ وَأَنْ يُبْنَى عَلَيهِ)
(1)
(2)
.
قَالَ الإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (الأُمُّ)
(3)
: "وَأَكْرَهُ أَنْ يُبْنَى عَلَى القَبْرِ مَسْجِدٌ؛ وَأَنْ يُسَوَّى، أَو يُصَلَّى عَلَيهِ وَهُوَ غَيرُ مُسَوَّى -يَعْنِي أَنَّهُ ظَاهِرٌ مَعْرُوفٌ- أَو يُصَلَّى إِلَيهِ.
قَالَ: وَإِنْ صَلَّى إِلَيهِ أَجْزَأَهُ؛ وَقَدْ أَسَاءَ. أَخْبَرَنَا مَالِكٌ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((قَاتَلَ اللهُ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى؛ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِم مَسَاجِدَ))، قَالَ: وَأَكْرَهُ هَذَا لِلسُّنَّةِ وَالآثَارِ، وَأنَّهُ كَرِهَ -وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ- أَنْ يُعَظَّمَ أَحَدٌ مِنَ المُسْلِمِينَ -يَعْنِي: يُتَّخَذَ قَبْرُهُ مَسْجِدًا-؛ وَلَمْ تُؤْمَنْ فِي ذَلِكَ الفِتْنَةُ وَالضَّلَالُ"
(4)
.
وَلَا فَرْقَ بَينَ بِنَاءِ المَسْجِدِ عَلَى القَبْرِ، أَو إِدْخَالِ المَسْجِدِ عَلَى القَبْرِ؛ لِأَنَّ المَحْذُورَ وَاحِدٌ.
قَالَ الحَافِظُ العِرَاقِيُّ رحمه الله
(5)
: "وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ، وَأَنَّهُ إذَا بُنِيَ المَسْجِدُ
(1)
مُسْلِمٌ (970).
(2)
وَترْجَمَ البُخَارِيُّ (2/ 88) رحمه الله لِحَدِيثِ: ((لَعَنَ اللهُ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى: اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسْجِدًا)) بِقَولِهِ: "بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنْ اتِّخَاذِ المَسَاجِدِ عَلَى القُبُورِ" فَجَعَلَ مِنْ مَعْنَى الاتِّخَاذِ البِنَاءَ عَلَى القُبُورِ المَسَاجِدَ.
وَقَالَ الجَصَّاصُ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (مُخْتَصَرُ اخْتِلَافِ الفُقَهَاءِ)(1/ 407): "قَالَ اللَّيثُ بْنُ سَعْدٍ رحمه الله: بُنْيَانُ القُبُورِ لَيسَ مِنْ حَالِ المُسْلِمِينَ! وَإنَّمَا هُوَ مِنْ حَالِ النَّصَارَى".
(3)
الأُمُّ (1/ 317).
(4)
قَالَ التِّرْمِذِيُّ رحمه الله (2/ 358) عَقِبِ حَدِيثِ عَلِيٍّ رضي الله عنه: ((لَا تَدَعْ قَبْرًا مُشْرِفًا إِلَّا سَوَّيتَه)) "قَالَ الشَّافِعِيُّ: أَكْرَهُ أَنْ يُرْفَعَ القَبْرُ إِلَّا بِقَدْرِ مَا يُعْرَفُ أَنَّهُ قَبْرٌ لِكَيلَا يُوطَأَ وَلَا يُجْلَسَ عَلَيهِ".
(5)
هُوَ عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنِ الحُسَينِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ؛ أَبْو الفَضْلِ؛ زَينُ الدِّينِ، المَعْرُوفُ بِالحَافِظِ العِرَاقِيِّ: بَحَّاثَةٌ مِنْ كِبَارِ حُفَّاظِ الحَدِيثِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، صَاحِبُ (المُغْنِي) عَلَى الإِحْيَاءِ، (ت 806 هـ). الأَعْلَامُ لِلزِّرِكْلِيِّ (3/ 344).
لِقَصْدِ أَنْ يُدْفَنَ فِي بَعْضِهِ أَحَدٌ؛ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي اللَّعْنَةِ، بَلْ يَحْرُمُ الدَّفْنُ فِي المَسْجِدِ، وَإِنْ شَرَطَ أَنْ يُدْفَنَ فِيهِ لَمْ يَصِحَّ الشَّرْطُ لِمُخَالَفَتِهِ لِمُقْتَضَى وَقْفِهُ مَسْجِدًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ"
(1)
(2)
.
(1)
فَيضُ القَدِيرِ (5/ 274).
(2)
وَقَدْ سَبَقَ فِي مَسَائِلِ البَابِ المَاضِي بَيَانُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ -مِنْ جِهَةِ النَّهْي عَنِ الصَّلَاةِ- بَينَ كَونِ المَسْجِدِ طَارِئًا عَلَى القَبْرِ أَوِ العَكْسُ.
-
الفَصْلُ الثَّالِثُ: فِي أَنَّ اتِّخَاذَ القُبُورِ مَسَاجِدَ مِنَ الكَبَائِرِ:
وَذَلِكَ لِاسْتِحْقَاقِ اللَّعْنِ؛ وَلِوَصْفِهِم بِشِرَارِ الخَلْقِ.
وَالعُلَمَاءُ فِي اتِّخَاذِ القُبُورِ مَسَاجِدَ مُتَّفِقُونَ عَلَى المَنْعِ
(1)
:
1 -
مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ كَبِيرَةٌ.
قَالَ الحَافِظُ الهَيتَمِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (الزَّوَاجِرُ عَنِ اقْتِرَافِ الكَبَائِرِ): "الكَبِيرَةُ الثَّالِثَةُ وَالرَّابِعَةُ وَالخَامِسَةُ وَالسَّادِسَةُ وَالسَّابِعَةُ وَالثَّامِنَةُ وَالتِّسْعُونَ: اتِّخَاذُ القُبُورِ مَسَاجِدَ، وَإِيقَادُ السُّرُجِ عَلَيهَا، وَاتِّخَاذُهَا أَوثَانًا، وَالطَّوَافُ بِهَا، وَاسْتِلَامُهَا، وَالصَّلَاةُ إلَيهَا"
(2)
.
(1)
قَالَ الجزيريُّ فِي كِتَابِهِ الفِقْهُ عَلَى المَذَاهَبِ الأَرْبَعَةِ (1/ 487): "يُكْرَهُ أَنْ يُبْنَى عَلَى القَبْرِ بَيتٌ أَو قُبَّةٌ أَو مَدْرَسَةٌ أَو مَسْجِدٌ أَو حِيطَانٌ تُحْدِقُ بهِ كَالحِيشَانِ إِذَا لَمْ يُقْصَدْ بِهَا الزِّينَةُ وَالتَّفَاخُرُ؛ وَإلَّا كَانَ ذَلِكَ حَرَامًا".
"وَالحَوشُ: شِبْهُ الحَظِيرَةِ
…
، ويُطْلِقُه أَهْلُ مِصْرَ عَلَى فِنَاءِ الدَّارِ". تَاجُ العَرُوسِ (17/ 163).
(2)
الزَّوَاجِرُ (1/ 244).
وَقَالَ أَيضًا رحمه الله: "وَأَمَّا اتِّخَاذُهَا أَوثَانًا فَجَاءَ النَّهْيُ عَنْهُ بِقَولِهِ صلى الله عليه وسلم: ((لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ بَعْدِي)) أَي: لَا تُعَظِّمُوهُ تَعْظِيمَ غَيرِكُمْ لِأَوثَانِهِمْ بِالسُّجُودِ لَهُ أَو نَحْوَهُ؛ فَإِنْ أَرَادَ ذَلِكَ الإِمَامُ [يُرِيدُ أَحَدَ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ الَّذِينَ نَقَلَ قَولَهُم] بِقَولِهِ: (وَاتِّخَاذُهَا أَوثَانًا) هَذَا المَعْنَى؛ اتَّجَهَ مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ ذَلِكَ كَبِيرَةٌ؛ بَلْ كُفْرٌ بِشَرْطِهِ [يُرِيدُ أنَّ سَبَبَ الصَّلَاةِ عِنْدَ ذَلِكَ الإمَامِ كَانَ التَّبَرُّكَ وَالتَّعْظِيمَ]، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ مُطْلَقَ التَّعْظِيمِ الَّذِي لَمْ يُؤْذَنْ فِيهِ كَبِيرَةٌ؛ فَفِيهِ بُعْدٌ! نَعَمْ. قَالَ بَعْضُ الحَنَابِلَةِ: قَصْدُ الرَّجُلِ الصَّلَاةَ عِنْدَ القَبْرِ مُتَبَرِّكًا بِهَا عَينُ المُحَادَّةِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِبْدَاعُ دِينٍ لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ لِلنَّهْيِ عَنْهَا ثُمَّ إجْمَاعًا؛ فَإِنَّ أَعْظَمَ المُحَرَّمَاتِ وَأَسْبَابِ الشِّرْكِ الصَّلَاةُ عِنْدَهَا وَاتِّخَاذُهَا مَسَاجِدَ أَو بِنَاؤُهَا عَلَيهَا، وَالقَولُ بِالكَرَاهَةِ مَحْمُولٌ عَلَى غَيرِ ذَلِكَ، إذْ لَا يُظَنُّ بِالعُلَمَاءِ تَجْوِيزُ فِعْلٍ تَوَاتَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَعْنُ فَاعِلِهِ! وَتَجِبُ المُبَادَرَةُ لِهَدْمِهَا وَهَدْمِ القِبَابِ الَّتِي عَلَى القُبُورِ إذْ هِيَ أَضَرُّ مِنْ مَسْجِدِ الضِّرَارِ لِأَنَّهَا أُسِّسَتْ عَلَى مَعْصِيَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، لِأَنَّهُ نَهَى عَنْ ذَلِكَ، وَأَمَرَ صلى الله عليه وسلم بِهَدْمِ القُبُورِ المُشْرِفَةِ، وَتَجِبُ إزَالَةُ كُلِّ قِنْدِيلٍ أَو سِرَاجٍ عَلَى قَبْرٍ وَلَا يَصِحُّ وَقْفُهُ وَنَذْرُهُ. انْتَهَى".
قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رحمه الله فِي (المَجْمُوعِ): "وَاتَّفَقَتْ نُصُوصُ الشَّافِعِيِّ وَالأَصْحَابِ عَلى كَرَاهَةِ بِنَاءِ مَسْجِدٍ عَلى القَبْرِ، سَوَاءً كَانَ المَيِّتُ مَشْهُورًا بِالصَّلَاحِ أَو غَيرِهِ لِعُمُومِ الأَحَادِيثِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالأَصْحَابُ: وَتُكْرَهُ الصَّلاةُ إِلَى القُبُورِ -سَوَاءً كَانَ المَيِّتُ صَالِحًا أَو غَيرَهُ-.
قَال الحَافِظُ أَبُو مُوسَى
(1)
: قَالَ الإِمَامُ أَبُو الحَسَنِ الزَّعْفَرَانِيُّ رحمه الله
(2)
: وَلا يُصَلَّى إِلَى قَبْرِهِ وَلَا عِنْدَهُ تَبَرُّكًا بِهِ وَإِعْظَامًا لَهُ؛ لِلأَحَادِيثِ، وَاللهُ أَعْلمُ"
(3)
.
2 -
مَذْهَبُ الحَنَفِيَّةِ: الكَرَاهَةُ التَّحْرِيمِيَّةُ.
قَالَ الإِمَامُ مُحَمَّدُ -تَلِمِيذُ أَبِي حَنِيفَة- فِي كِتَابِهِ (الآثَارُ): "لَا نَرَى أَنْ يُزادَ عَلَى مَا خَرَجَ مِنَ القَبْرِ، وَنَكْرَهُ أَنْ يُجَصَّصَ أَو يُطَيَّنَ أَو يُجْعَلَ عِنْدَهُ مَسْجِدًا"
(4)
.
3 -
مَذْهَبُ المَالِكِيَّةِ: التَّحْرِيمُ.
قَالَ القُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ -بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الحَدِيثَ الخَامِسَ
(5)
-: "قَالَ عُلَمَاؤُنَا:
(1)
هُوَ أَبُو مُوسَى المَدِينِيِّ؛ الحَافِظُ الكَبِيرُ شَيخُ الإِسْلَامِ؛ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الأَصْبَهَانِيُّ؛ صَاحِبُ التَّصَانِيفِ (ت 581 هـ). تَذْكِرَةُ الحُفَّاظِ لِلْذَّهَبِيِّ (4/ 86).
(2)
هُوَ الشَّيخُ الإِمَامُ أَبُو الحَسَنِ؛ مُحَمَّدُ بْنُ مَرْزُوقِ بْنِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بْنِ مُحَمَّدٍ؛ البَغْدَادِيُّ الزَّعْفَرَانِيُّ الشَّافِعِيُّ، الفَقِيهُ العَلَّامَةُ المُحَدِّثُ الثَّبْتُ، (ت 517 هـ). السِّيَرُ لِلْذَّهَبِيِّ (19/ 471).
(3)
المَجْمُوعُ (5/ 316).
(4)
الآثَارُ (2/ 190)، وَقَالَ فِي آخِرِهِ:"وَهُوَ قَولُ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه"، وَالكَرَاهَةُ عِنْدَ الحَنَفِيَّةِ إِذَا أُطْلِقَتْ فَهِيَ لِلتَّحْرِيمِ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ لَدَيهِم، وَقَدْ صَرَّحَ بِالتَّحْرِيمِ فِي هَذِهِ المَسْأَلَةِ ابْنُ المَلِكِ مِنْهُم.
(5)
وَهُوَ حَدِيثُ البُخَارِيِّ (434)، وَمُسْلِمٍ (528) وَفِيهِ:((أُولَئِكَ إِذَا كَانَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَمَاتَ؛ بَنَوا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا)).
وَهَذَا يُحرِّمُ عَلَى المُسْلِمِينَ أَنْ يَتَّخِذُوا قُبُورَ الأَنْبِيَاءِ وَالعُلَمَاءِ مَسَاجِدَ"
(1)
.
4 -
مَذْهَبُ الحَنَابِلَةِ: التَّحْرِيمُ أَيضًا.
قَالَ ابْنُ تيميَّةَ فِي (الفَتَاوَى الكُبْرَى): "يَحْرُمُ الإِسْرَاجُ عَلَى القُبُورِ وَاتِّخَاذُ القُبُورِ المَسَاجِدَ عَلَيهَا وبَينَهَا، وَيَتَعَيَّنُ إِزَالَتُهَا، وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا بَينَ العُلَمَاءِ المَعْرُوفِينَ"
(2)
(3)
.
(1)
تَفْسِيرُ القُرْطُبِيِّ (10/ 380).
(2)
الفَتَاوَى الكُبْرَى (5/ 361).
(3)
وَقَالَ ابْنُ القيِّمِ رحمه الله فِي كِتَابِهِ زَادُ المَعَادِ (3/ 501): "وَمِنْهَا: أَنَّ الوَقْفَ لَا يَصِحُّ عَلَى غَيرِ بِرٍّ وَلَا قُرْبَةٍ، كَمَا لَمْ يَصِحَّ وَقْفُ هَذَا المَسْجِدِ -المَبْنِيِّ عَلَى قَبْرٍ-، وَعَلَى هَذَا؛ فَيُهْدَمُ المَسْجِدُ إذَا بُنِيَ عَلَى قَبْرٍ، كَمَا يُنْبَشُ المَيِّتُ إذَا دُفِنَ فِي المَسْجِدِ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيرُهُ، فَلَا يَجْتَمِعُ فِي دِينِ الإِسْلَامِ مَسْجِدٌ وَقَبْرٌ، بَلْ أَيُّهُمَا طَرَأَ عَلَى الآخَرِ مُنِعَ مِنْهُ وَكَانَ الحُكْمُ لِلسَّابِقِ، فَلَو وُضِعَا مَعًا لَمْ يَجُزْ وَلَا يَصِحُّ هَذَا الوَقْفُ، وَلَا يَجُوزُ، وَلَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ فِي هَذَا المَسْجِدِ لِنَهْي رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ، وَلَعْنِهِ مَنْ اتَّخَذَ القَبْرَ مَسْجِدًا أَو أَوقَدَ عَلَيهِ سِرَاجًا، فَهَذَا دِينُ الإِسْلَامِ الَّذِي بَعَثَ اللهُ بِهِ رَسُولَهُ وَنَبِيَّهُ، وَغُرْبَتُهُ بَينَ النَّاسِ كَمَا تَرَى".
-
الفَصْلُ الرَّابِعُ: شُبُهَاتٌ تَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَجَوَابُهَا:
- الشُّبْهَةُ الأُولَى: قَولُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الكَهْفِ: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيهِمْ مَسْجِدًا} [الكَهْف: 21] فِيهِ أنَّ المُؤْمِنِينَ هُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا ذَلِكَ، وَأَقَرَّهُم اللهُ تَعَالَى عَلَى قَولِهِم ذَلِكَ! فَمَا الجَوَابُ؟
الجَوَابُ مِنْ أَوجُهٍ
(1)
:
1 -
إِذَا كَانَتِ الدَّعْوَى صَحِيحَةً؛ فَإِنَّه يُقَالُ لَهُم: اخْتَلَفَ أَهْلُ العِلْمِ فِي العَمَلِ بِشَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا إِذَا لَمْ يُخَالِفْ شَرْعَنَا؛ فَكَيفَ إِذَا كَانَ فِي شَرْعِنَا مَا يُخَالِفُهُ!
وَعَلَى فَرْضِ كَونِهِ جَازَ فِي شَرْعِهِم، فَيُقَالُ: شَرْعُنَا أَتَمُّ، وَقَدْ جَاءَ بِسَدِّ الذَّرَائِعِ، كَمَا كَانَ فِي قَومِ يُوسُفَ السُّجُودُ لِلبَشَرِ جَائِزٌ مِنْ بَابِ التَّحِيَّةِ؛ فَنُهِيَ عَنْهُ عِنْدَنَا، وَكَمَا فِي صِنْعَةِ الجِنِّ لِسُلَيمَانَ صلى الله عليه وسلم التَّمَاثِيلِ -عَلَى القَولِ بِأنَّهَا كَانَتْ صُوَرًا لِذَوَاتِ أَرْوَاحٍ- أَمَّا فِي شَرْعِنَا فَنُهيَ عَنْ تَصْوِيرِ ذَوَاتِ الأَرْوَاحِ.
2 -
لَيسَ فِي الآيَةِ الكَرِيمَةِ أنَّ ذَلِكَ كَانَ مَشْرُوعًا عِنْدَهُم، فَلَيسَ فِي الآيَةِ -صَرَاحَةً- أَنَّهُم كَانُوا مُسْلِمِينَ؛ عَدَا عَنْ أَنْ يَكُونُوا مُسْلِمِينَ صَالِحِينَ، بَلِ الظَّاهِرُ هُوَ العَكْسُ.
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ رحمه الله -عِنْدَ شَرْحِ حَدِيثِ: ((لَعَنَ اللهُ اليَهُودَ؛ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِم مَسَاجِدَ)) -: "وَقَدْ دَلَّ القُرْآنُ عَلَى مِثْلِ مَا دَلَّ عَلَيهِ هَذَا الحَدِيثُ؛ وَهُوَ قَولُ اللهِ عز وجل فِي قِصَّةِ أَصْحَابِ الكَهْفِ: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيهِمْ مَسْجِدًا} [الكَهْف: 21]، فَجَعَلَ اتِّخَاذَ القُبُورِ عَلَى المَسَاجِدِ مِنْ فِعْلِ أَهْلِ الغَلَبَةِ عَلَى الأُمُورِ،
(1)
مُعْظَمُ أَوجُهِ الرَّدِّ مُسْتَفَادَةٌ مِنْ كِتَابِ (البِنَاءُ عَلَى القُبُورِ) لِلشَّيخِ المُحَدِّثِ المُعَلِّمِيِّ اليَمَانِيِّ رحمه الله.
وَذَلِكَ يُشْعِرُ بِأَنَّ مُسْتَنَدَهُ القَهْرُ وَالغَلَبَةُ وَاتِّبَاعُ الهَوَى، وَأَنَّهُ لَيسَ مِنْ فِعْلِ أَهْلِ العِلْمِ وَالفَضْلِ المُنْتَصِرِ لِمَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى رُسُلِهِ مِنَ الهُدَى"
(1)
.
قُلْتُ: وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُم: {ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَينِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا} [الكَهْف: 12]، فَقَدْ جَعَلَ تَعَالَى مِنْهُم حِزْبَينِ مُخْتَلِفَينِ فَيهِم، فَلَيسَ بمُسَلَّمٍ أَنَّهُم كَانُوا فِئَةً وَاحِدَةً مُسْلِمَةً عَلَى كُلِّ حَالٍ.
قَالَ الإِمَامُ الطَّبَرِيُّ رحمه الله فِي تَفْسِيرِهِ: "وَذُكِرَ أَنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ مِنْ أُمُورِهِم قَومٌ مِنْ قَومُ الفِتْيَةِ، فَقَالَ بَعْضُهُم: كَانَ الحِزْبَانِ جَمِيعًا كَافِرِينِ. وَقَالَ بَعْضُهُم: بَلْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُسْلِمًا، وَالآخَرُ كَافِرًا". قُلْتُ: وَيَدُلُّ لَهُ مَا أَثْبَتْنَاهُ"
(2)
.
3 -
دَعْوَى أَنَّهُم مُسْلِمُونَ؛ لَيسَتْ ثَابِتَةٌ، بَلْ مُخْتَلَفٌ فِيهَا عِنْدَ المُفَسِّرِينَ.
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله: "حَكَى ابْنُ جَرِيرٍ فِي القَائِلِينَ ذَلِكَ قَولَينِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُم المُسْلِمُونَ مِنْهُم. الثَّانِي: أَنَّهُم أَهْلُ الشِّرْكِ مِنْهُم. فَاللهُ أَعْلَمُ
(3)
.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الَّذِينَ قَالوُا ذَلِكَ هُمْ أَصْحَابُ الكَلِمَةِ وَالنُّفُوذِ، وَلَكِنْ هُمْ مَحْمُودُونَ أَمْ لَا؟ فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((لَعَنَ اللهُ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ
(1)
فَتْحُ البَارِي لِابْنِ رَجَب (3/ 193).
(2)
تَفْسِيرُ الطَّبَرِيِّ (17/ 613).
(3)
وَقَالَ القُرْطُبِيُّ رحمه الله فِي تَفْسِيرِهِ (10/ 351): " {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ} -أَهْلُ السُّلْطَانِ وَالمُلْكِ مِنْهُم-: لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيهِم مَسْجِدًا".
وَقَالَ شَيخُ الإِسْلَامِ رحمه الله: "فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا عَلَى أَهْلِ الكَهْفِ مَسْجِدًا كَانُوا مِن النَّصَارَى الَّذِينَ لَعَنَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَيثُ قَالَ: ((لَعَنَ اللهُ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِم مَسَاجِدَ)) وَفِي رِوَايَةٍ ((وَالصَّالِحِينَ)) ". الاسْتِغَاثَةُ فِي الرَّدِّ عَلَى البَكْرِيِّ (ص 310).
أَنْبِيَائِهِم مَسَاجِدَ؛ يُحَذِّرُ مَا فَعَلُوا))، وَقَدْ رُوِّينَا عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ أَنَّه لَمَّا وَجَدَ قَبْرَ دَانْيَال -فِي زَمَانِهِ بِالعِرَاق- أَمَرَ أَنْ يُخْفَى عَنِ النَّاسِ"
(1)
(2)
.
قُلْتُ: فَإِذَا كَانَ المُفَسِّرُونَ قَدْ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ هَلْ هُمُ المُسْلِمُونَ أَمِ المُشْرِكونَ! فَمَا القَولُ بِهَذَا الفِعْلِ الَّذِي اسْتَوَى فِيهِ الظَّنُّ بَينَ مُسْلِمٍ وَكَافِرٍ؟ فَهَلْ هَذَا إِلَّا دَلِيلٌ عَلَى الذَّمِّ
(3)
، وَاللهُ أَعْلَمُ.
4 -
أَنَّ الآيَةَ الكَرِيمَةَ لَمْ تُسَقْ لِبَيَانِ حُكْمِ هَذَا الفِعْلِ أَصْلًا! وَلَكِنَّهَا كَانَتِ اخْتِبَارًا لِلمُشْرِكِينَ فِي تَصْدِيقِهِم بِالآيَاتِ.
قَالَ الطَّبَرِيُّ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ
(4)
: "وَإنَّمَا قُلنَا إِنَّ القَولَ الأَوَّلَ أَولَى بِتَأْوِيلِ الآيَةِ؛ لِأَنَّ اللهَ عز وجل أَنْزَلَ قِصَّةَ أَصْحَابِ الكَهْفِ عَلَى نَبِيِّهِ احْتِجَاجًا بِهَا عَلَى المُشْرِكِينَ مِنْ قَومِهِ -عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الرِّوَايَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- إِذْ سَأَلُوهُ عَنْهَا اخْتِبَارًا مِنْهُم لَهُ بِالجَوَابِ عَنْهَا لِصِدْقِهِ"
(5)
.
5 -
لِمَاذَا احْتُجَّ بِقَولِ الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ الَّتِي عَلَامَتُهَا الغَلَبَةُ، وَلَمْ يُحْتَجَّ بِالأُولَى
(1)
تَفْسِيرُ ابْنِ كَثِيرٍ (5/ 147).
(2)
وَهُوَ أَثَرٌ صَحِيحٌ. أَورَدَهُ الرَّبَعِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِ (فَضَائِلِ الشَّامِ)، اُنْظُرْ تَخْرِيجَ كِتَابِ فَضَائِلِ الشَّامِ (ص 51)، وَصَحَّحَهُ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله فِي أَشْرِطَةَ فَتَاوَى سِلْسِلَةِ الهُدَى وَالنُّورِ (ش 304).
(3)
فَإِنْ كَانُوا كُفَّارًا فَقَدْ تَمَّتِ الحُجَّةُ، وَإِنْ كَانُوا مُسْلِمِينَ فَهُم جُهَّالُهُم؛ وَلَيسَ فِعْلُهُم بِحُجَّةٍ، كَحَالِ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ هَذَا الزَّمَانِ.
(4)
تَفْسِيرُ الطَّبَرِيِّ (17/ 601).
(5)
عَلَى أَنَّه يُمْكِنُ إِضَافَةُ فَائِدَةٍ ثَانيَةٍ فِي سَبَبِ إِيرَادِ هَذِهِ القِصَّةِ؛ وَهِيَ تَنْبِيهُ الأُمَّةِ إِلَى سَدِّ القُبُورِ؛ وَأَنَّ أَهْلَ الإِيمَانِ مِنْهُم كَانُوا يُنَازِعُونَ أَهْلَ الغَلَبَةِ عَلَى المَنْعِ مِنْ بِنَاءِ المَسَاجِدِ عَلَى القُبُورِ.
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (5/ 147): " {فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيهِمْ بُنْيَانًا}: أَي: سُدُّوا عَلَيهِم بَابَ كَهْفِهِم، وَذَرُوهُم عَلَى حَالِهِم".
وَهِيَ المُنَازِعَةُ للثَّانِيَةِ {إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَينَهُمْ} وَقَدْ جَاءَ مِنْ صِفَتِهَا تَسْلِيمُ العِلْمِ بِحَالِ أَهْلِ الكَهْفِ إِلَى اللهِ تَعَالَى {رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ} ؟! وَهَذَا أَولَى بِالاقْتِدَاءِ مِنَ الَّذِينَ وُصِفُوا بِالغَلَبَةِ فَقَط
(1)
.
6 -
أنَّهُ إِذَا قِيلَ بِبِنَاءِ المَسْجِدِ؛ فَيُقَالُ: إِنَّ بِنَاءَ المَسْجِدِ عَلَيهِم فِي الكَهْفِ لَهُ حَالَانِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ البِنَاءُ تَمَّ عَلَى ظَهْرِ الجَبَلِ الَّذِي فِيهِ الكَهْفُ
(2)
، أَو أَنْ يُبْنَى عِنْدَ بَابِ الكَهْفِ
(3)
، وَفِي الحَالَتِينِ لَيسَ فِيهَا صُورَةُ قَبْرٍ فِي مَسْجِدٍ
(4)
! فَبَطَلَ الاسْتِدْلَالُ مِنْ أَصْلِهِ. وَالحَمْدُ للهِ عَلَى تَوفِيقِهِ
(5)
.
(1)
عَلَى أنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُضَافَ أَيضًا بِأنَّهُ لَيسَ فِي القُرْآنِ أَنَّهُم عَمِلُوا بِذَلِكَ، بَلْ مُجَرَّدُ حُصُولِ التَّنَازُعِ.
(2)
قَالَ الآلُوسِيُّ رحمه الله فِي تَفْسِيرِهِ رُوحُ المَعَانِي (8/ 227): "وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ: إِنَّ ذَلِكَ الاتِّخَاذَ كَانَ عَلى الكَهْفِ فَوقَ الجَبَلِ الَّذِي هُوَ فِيهِ، وَفِي خَبَرِ مُجَاهِدٍ أَنَّ المَلِكَ تَرَكَهُم فِي كَهْفِهِم وَبَنَى عَلَى كَهْفِهِم مَسْجِدًا -وَهَذَا أَقْرَبُ لِظَاهِرِ اللَّفْظِ كَمَا لَا يَخْفَى-، وَهَذَا كُلُّهُ إِنَّمَا يُحْتَاجُ إِلَيهِ عَلَى القَولِ بِأَنَّ أَصْحَابَ الكَهْفِ مَاتُوا بَعْدَ الإِعْثَارِ عَلَيهِم، وَأَمَّا عَلَى القَولِ بِأَنَّهُم نَامُوا كَمَا نَامُوا أَوَّلًا فَلَا يُحْتَاجُ إِلَيهِ عَلَى مَا قِيلَ.
وَبِالجُمْلَةِ لَا يَنْبَغِي لِمَنْ لَهُ أَدْنَى رَشَدٍ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى خِلَافِ مَا نَطَقَتْ بِهِ الأَخْبَارُ الصَّحِيحَةُ وَالآثَارُ الصَّرِيحَةُ مُعَوِّلًا عَلَى الاسْتِدْلَالِ بِهَذِه الآيَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ فِي الغِوَايةِ غَايَةٌ، وَفِي قِلَّةِ النُّهَى نِهَايَةٌ، وَقَدْ رَأَيتُ مَنْ يُبِيحُ مَا يَفْعَلُهُ الجَهَلَةُ فِي قُبُورِ الصَّالِحِينَ مِنْ إِشْرَافِهَا وَبِنَائِهَا بِالجِصِّ وَالآجُرِّ وَتَعْلِيقِ القَنَادِيلِ عَلَيهَا وَالصَّلَاةِ إِلَيهَا وَالطَّوَافِ بِهَا وَاسْتِلَامِهَا وَالاجْتِمَاعِ عِنْدَهَا فِي أَوقَاتٍ مَخْصُوصَةٍ إِلَى غَيرِ ذَلِكَ مُحْتَجًّا بِهَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ؛ وَبِمَا جَاءَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ القِصَّةِ مِنْ جَعْلِ المَلِكِ لَهُم فِي كُلِّ سَنَةٍ عِيدًا".
(3)
قَالَ السُّيُوطِيُّ رحمه الله فِي الدُرِّ المَنْثُورِ (5/ 375): "وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ .... فَقَالَ المَلِكُ: لَأَتَّخِذَنَّ عِنْدَ هَؤُلْاءِ القَومِ الصَّالِحِينَ مَسْجِدًا".
(4)
عَلَى أَنَّهُ يُقَالُ أَيضًا: لَيسَ فِي الآيَةِ بَيَانُ مَوتِهِم حَتَّى يُجْعَلَ لَهُم قَبْرٌ ثُمَّ يُقَالُ بِبِنَاءِ المَسْجِدِ عَلَى القَبْرِ! بَلْ يُجْزَمُ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُم قَبْرٌ، بَلْ مَاتُوا فِي صَحْنِ الكَهْفِ، وَلِذَلِكَ قَالُوا:{رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ} [الكَهْف: 21]، فَلَو عَلِمُوا عَنْهُم شَيئًا لَمْ يَصِحَّ مِنْهُم ذَلِكَ القَولُ.
(5)
وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ بِبِنَاءِ المَسْجِدِ دَاخِلَ الكَهْفِ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ مِثْلَ ذَلِكَ الكَهْفِ -الَّذِي أُعِدَّ لِلاخْتِبَاءِ- لَا يُفْتَرَضُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مِنَ السَّعَةِ مَا يُمَكِّنُ مِنَ البِنَاءِ بِدَاخِلِهِ، عَدَا عَنْ كَونِهِ بِحُكْمِ المَبْنِيِّ أَصْلًا.
- الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ: كَونُ قَبْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي مَسْجِدِهِ الشَّرِيفِ، وَلَو كَانَ غَيرَ جَائِزٍ لَمَا دَفَنَهُ أَصْحَابُهُ رِضْوُانُ اللهِ عَلَيهِم فِي مَسْجِدِهِ! فَمَا الجَوَابُ؟
الجَوَابُ مِنْ وَجْهَينِ:
1 -
أَنَّ هَذَا وَإِنْ كَانَ هُوَ المُشَاهَدُ اليَومَ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فِي عَهْدِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم، فَإِنَّهُم لَمَّا مَاتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم دَفَنُوهُ فِي حُجْرَتِهِ الَّتِي كَانَتْ بِجَانِبِ مَسْجِدِهِ، وَكَانَ يَفْصِلُ بَينَهُمَا جِدَارٌ فِيهِ بَابٌ -كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْرُجُ مِنْهُ إِلَى المَسْجِدِ-، وَهَذَا أَمْرٌ مَعْرُوفٌ مَقْطُوعٌ بِهِ عِنْدَ العُلَمَاءِ، وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ بَينَهُم، وَالصَّحَابَةُ رضي الله عنهم حِينَمَا دَفَنُوهُ صلى الله عليه وسلم فِي الحُجْرَةِ؛ إِنَّمَا فَعَلُوا ذَلِكَ كَي لَا يَتَمَكَّنَ أَحَدٌ بَعْدَهُم مِنِ اتِّخَاذِ قَبْرِهِ مَسْجِدًا كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ فِي حَدِيثِ عَائِشَة وَغَيرِهِ، وَلَكِنْ وَقَعَ بَعْدَهُم مَا لَمْ يَكُنْ فِي حُسْبَانِهِم، ذَلِكَ أنَّ الوَلِيدَ بْنَ عَبْدِ المَلِكِ أَمَرَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ بِهَدْمِ المَسْجِدِ النَّبَويِّ وَإِضَافَةِ حُجَرِ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَيهِ، فَأُدْخِلَتْ فِيهِ الحُجْرَةُ النَّبَويَّةُ -حُجْرَةُ عَائِشَةَ- فَصَارَ القَبْرُ بِذَلِكَ فِي المَسْجِدِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي المَدِينَةِ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ حِينَذَاكَ، خِلَافًا لِمَا تَوَهَّمَ بَعْضُهُم
(1)
.
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ عَبْدِ الهَادِي رحمه الله: "وَإنَّمَا أُدْخْلَتِ الحُجْرَةُ فِي المَسْجِدِ فِي خِلَافَةِ الوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ المَلِكِ بَعْدَ مَوتِ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ كَانُوا بِالمَدِينَةِ، وَكَانَ
(1)
بَلْ إِنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها جَعَلَتْ جِدَارًا فِي بيتِهَا يَفْصِلُ بَينَهَا وَبَينَ القَبْرِ، كَمَا فِي طَبَقَاتِ ابْنِ سَعْدٍ (2/ 294) عَنِ الإِمَامِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ يَقُولُ:"قُسِمَ بَيتُ عَائِشَة بِاثْنَين: قِسْمٍ كَانَ فِيهِ القَبْرُ، وَقِسْمٍ تَكُونُ فِيهِ عَائِشَةُ، وَبَينَهُمَا حَائِطٌ".
آخِرَهُم مَوتًا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، وَتُوفِّيَ فِي خِلَافَةِ عَبْدِ المَلِكِ، فَإِنَّه تُوفيَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ، وَالوَلِيدُ تَوَلَّى سَنَةَ سِتِّ وَثَمَانِينَ، وَتُوفِّيَ سَنَةَ سِتٍّ وَتِسْعِينَ، فَكَانَ بِنَاءُ المَسْجِدِ وَإدْخَالُ الحُجْرَةِ فِيهِ فِيمَا بَينَ ذَلِكَ"
(1)
.
وَعَلَيهِ فَلَا يُحْتَجُّ بِفِعْلِ الوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ المَلِكِ عَلَى أَحَادِيثِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم النَّاهِيَةِ! مَعَ مَا عَلِمْتَ مِنْ سَعْي الصَّحَابَةِ إِلَى عَزْلِ القَبْرِ عَنِ المَسْجِدِ
(2)
.
(1)
الصَّارِمُ المُنْكي (ص 151).
(2)
هَذَا وَقَدْ جَاءَتْ آثَارٌ كَثِيرْةٌ فِي بَيَانِ إِنْكَارِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ رضي الله عنهم عضلَى ذَلِكَ البِنَاءِ وَالاتِّخَاذِ، وَهَذِهِ أَمْثِلَةٌ ثَلَاثَةٌ:
أ- أَورَدَ السُّيُوطِيُّ رحمه الله فِي الجَامِعِ الكَبِيرِ -وَالأَثَرُ أَخْرَجَهُ ابْنُ زَنْجَوِيه- عَنْ عُمَرَ مَولَى غُفْرَة؛ قَالَ: لَمَّا ائْتَمَرُوا فِي دَفْنِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ قَائِلٌ: نَدْفِنُهُ حَيثُ كَانَ يُصَلِّي فِي مَقَامِهِ! قَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَعَاذَ اللهِ أَنْ نَجْعَلَهُ وَثَنًا يُعْبَدُ! وَقَالَ آخَرُونَ: نَدْفِنُهُ فِي البَقِيعِ حَيثُ دُفِنَ إِخْوَانُهُ مِنَ المَهَاجِرِينَ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّا نَكْرَهُ أَنْ نُخْرِجَ قَبْرَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى البَقِيعِ فَيَعُوذُ بهِ عَائِذٌ مِنَ النَّاسِ -للهِ عَلَيهِ حَقٌّ- وَحَقُّ اللهِ فَهُوَ حَقُّ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ فَإِنْ أَخَذْنَا بِهِ ضَيَّعْنَا حَقَّ اللهِ، وَإِنْ أَخْفَرْنَاهُ أَخْفَرْنَا قَبْرَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم! قَالُوا: فَمَا تَرَى أَنْتَ يَا أَبَا بَكْرٍ؟ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ((مَا قَبَضَ اللهُ نَبِيًّا قَطُّ إِلَّا دُفِنَ حَيثُ قَبَضَ رُوحَهُ)). قَالُوا: فَأَنْتَ -وَاللهِ- رَضِيُّ مُقْنِعٌ، ثُمَّ خَطُّوا حَولَ الفِرَاشِ خَطًّا، ثُمَّ احْتَمَلَهُ عَلِيٌّ وَالعبَّاسُ وَالفَضْلُ وَأَهْلُهُ، وَوَقَعَ القَومُ فِي الحَفْرِ يَحْفِرُونَ حَيثُ كَانَ الفِرَاشُ. ذَكَرَهُ فِي فِضَائِلِ الصِّدِّيقِ.
قَالَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ تَحْذِيرُ السَّاجِدِ (ص 13): قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَهُوَ مُنْقَطِعٌ مِنْ هَذَا الوَجْهِ، فَإِنَّ عُمَرَ مَولَى غُفْرَةَ -مَعَ ضَعْفِهِ- لَمْ يُدْرِكْ أيَّامَ الصِّدِّيقِ. كَذَا فِي (الجَامِعِ الكَبِيرِ) لِلسُّيُوطِيِّ (3/ 147/12).
ب- رَوَى ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ (4/ 21): "عَنْ سَالِمِ أَبِي النَّضْرِ؛ قَالَ: لَمَّا كَثُرَ المُسْلِمُونَ فِي عَهْدِ عُمَرَ ضَاقَ بِهُمُ المَسْجِدُ؛ فَاشْتَرَى عُمَرُ مَا حَولَ المَسْجِدِ مِنَ الدُّورِ إِلَّا دَارَ العَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلبِ وَحُجَرِ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِينَ، فَقَالَ عُمَرُ لِلْعَبَّاسِ: يَا أَبَا الفَضْلِ إِنَّ مَسْجِدَ المُسْلِمِينَ قَدْ ضَاقَ بِهِم، وَقَدْ ابْتَعْتُ مَا حَولَهُ منَ المَنَازِلِ نُوَسِّعُ بهِ عَلَى المُسْلِمِينَ فِي مَسْجِدِهِم إِلَّا دَارَكَ وَحُجَرَ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِينَ، فَأَمَّا حُجُرَ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِين فَلَا سَبِيلَ إِلَيهَا، وَأَمَّا دَارُكَ فَبِعْنِيهَا بِمَا شِئْتَ مِنْ بَيتِ مَالِ المُسْلِمِينَ أُوَسِّعُ بِهَا فِي مَسْجِدِهِم".
جـ- أَنْكَرَ سَعِيدُ بْنُ المَسَيِّبِ رحمه الله -وَقَدْ تُوُفِّيَ بَعْدَ التِّسْعِين- ذَلِكَ الِإدْخَالَ، فَقَدْ قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله
=
قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رحمه الله فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: "وَلَمَّا احْتَاجَتِ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيهِمْ أَجْمَعِينَ وَالتَّابِعُونَ إِلَى الزِّيَادَة فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ كَثُرَ المُسْلِمُونَ، وَامْتَدَّتِ الزِّيَادَةُ إِلَى أَنْ دَخَلَتْ بُيُوتُ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِينَ فِيهِ -وَمِنْهَا حُجْرَةُ عَائِشَةَ رضي الله عنها؛ مَدْفِنُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَصَاحِبَيهِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما؛ بَنَوا عَلَى القَبْرِ حِيطَانًا مُرْتَفِعَةً مُسْتَدِيرَةً حَولَهُ لِئَلَّا يَظْهَر فِي المَسْجِدِ فَيُصَلِّي إِلَيهِ العَوَامُّ وَيُؤَدِّي المَحْذُورِ، ثُمَّ بَنَوا جِدَارَينِ مِنْ رُكْنَي القَبْرِ الشَّمَالِيَّينِ، وَحَرَّفُوهُمَا حَتَّى التَقَيَا حَتَّى لَا يَتَمَكَّنَ أَحَدٌ مِنِ اسْتِقْبَالِ القَبْرِ، وَلِهَذَا قَالَ فِي الحَدِيثِ: ((لَولَا ذَلِكَ لَأُبْرِزَ قَبْرُهُ، غَيرَ أَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يُتَّخَذ مَسْجِدًا)). وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَم بِالصَّوَابِ"
(1)
.
2 -
أَنَّ القَبْرَ مَعْزُولٌ عَنِ المَسْجِدِ لَا سِيَّمَا وَأَنَّهُ قَدْ أُحِيطَ بِجُدْرَانٍ عِدَّةٍ تَعْزِلُهُ عَنِ المَسْجِدِ
(2)
، لِذَلِكَ لَو تَقَصَّدَ رَجُلٌ أَنْ يُصَلِّيَ عِنْدَ القَبْرِ وَيَرْتَكِبَ المَحْذُورَ؛ فَإِنَّهُ لَنْ
=
فِي تَارِيخِهِ (12/ 415) بَعْدَ أَنْ سَاقَ قِصَّةَ إِدْخَالِ الحُجْرَةِ فِي المَسْجِدِ: "وَيُحْكَى أَنَّ سَعِيدَ بْنَ المُسَيِّبِ أَنْكَرَ إِدْخَالَ حُجْرَةِ عَائِشَة فِي المَسْجِدِ؛ كَأَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يُتَّخَذَ القَبْرُ مَسْجِدًا".
(1)
شَرْحُ مُسْلِمٍ (5/ 14).
تَنْبِيهٌ: عَزُو إِدْخَالِ الحُجْرَةِ فِي المَسْجِدِ إِلَى الصَّحَابةِ لَا يَثْبُتُ؛ كَمَا أَوضَحَهُ الحَافِظُ ابْنُ عَبْدِ الهَادِي رحمه الله فِي كِتَابِهِ الصَّارِمُ المُنْكِي (ص 151).
قُلْتُ: وَفِي إِكْمَالِ المُعْلِمِ (2/ 252) شَرْحُ مُسْلِمٍ لِلقَاضِي عِيَاض: "وَلِهَذَا لَمَّا احْتَاجَ المُسْلِمُونَ إِلَى الزِّيَادَةِ فِي مَسْجِدِهِ صلى الله عليه وسلم لِتَكَاثُرِهِم بِالمَدِينَةِ، وَامْتَدَّتِ الزِّيَادَةُ إِلَى أَنْ أُدْخِلَ فِيهَا بُيُوتَ أَزْوَاجِهِ"، فَلَمْ يَذْكُرِ الصَّحَابَةَ؛ فَتَنَبَّهْ.
(2)
وَالمَوجُودُ عَلَيهِ الآنَ مِنَ الجُدْرَانِ أَرْبَعَةُ جُدُرٍ:
فَالجِدَارُ الأَوَّلُ -وَهُوَ مُغْلَقٌ تَمَامًا- هُوَ جِدَارُ حُجْرَةِ عَائِشَةَ، وَهُوَ الَّذِي سَقَطَ فأُعِيدَ وَسُدَّ بَابُهُ.
وَالجِدَارُ الثَّانِي هُوَ الَّذِي عُمِلَ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ فِي إِمَارَةِ الوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ المَلِكِ، جَعَلُوا جِهَةَ الشَّمَالِ -وَهِيَ عَكْسُ جِهَةِ القِبْلَةِ- جَعَلُوهَا مُثَلَّثَةً.
ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَزْمَان جَاءَ جِدَارٌ ثَالِثٌ أَيضًا وَبُنيَ حَولَ هَذَينِ الجِدَارَينِ، وَهُوَ الَّذِي قَالَ فِيهِ ابْنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي القَصِيدَةِ النُّونِيَّةِ يَذْكُرُ دُعَاءَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ((اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ)) -وَهُوَ صَحِيحٌ؛ وَسَيَأْتِي- قَالَ: "فَأَجَابَ رَبُّ العَالَمِينَ دُعَاءَهُ
…
وَأَحَاطَهُ بِثَلَاثَةِ الجُدْرَانِ،
حَتَّى غَدَتْ أَرْجَاؤُهُ بِدُعَائِهِ
…
فِي عِزَّةٍ وحِمَايَةٍ وَصِيَانِ"، وَهَذَا الجِدَارُ كَبِيرٌ مُرْتَفِعٌ إِلَى فَوقٍ، وُضِعَتْ عَلَيهِ القُبَّةُ فِيمَا بَعْدُ -وَهَذِهِ القُبَّةُ بُنِيَتْ سَنَةَ (778 هـ) فِي دَولَةِ السُّلْطَانِ المَلِكِ المَنْصُورِ قَلَاوون-، وَكُلُّ هَذِهِ الجُدْرَانِ لَيسَ لَهَا بَابٌ.
ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ وُضِعَ السُّورُ الحَدِيدِيُّ هَذَا وَهُوَ الرَّابِعُ، وَهَذَا السُّورُ الحَدِيدِيُّ بَينَهُ وَبَينَ الجِدَارِ الثَّالِثِ نَحْوَ مِتْرٍ وَنِصْفٍ فِي بَعْضِ المَنَاطِقِ وَنَحْوَ مِتْرٍ فِي بَعْضِهَا، وَبَعْضُهَا نَحْوَ مِتْرٍ وَثَمَانِينَ (سَنْتِيمِتْر) إِلَى مِتْرَينِ فِي بَعْضِهَا، يَضِيقُ وَيَزْدَادُ. اُنْظُرْ كِتَابَ (التَّمْهِيدُ)(ص 261) لِلشَّيخِ صَالِحِ آلِ الشَّيخِ حَفِظَهُ اللهُ.
يَسْتَطِيعَ، لِأَنَّ القَبْرَ مَعْزُولٌ عَنِ المَسْجِدِ قَدْ أُغْلِقَتْ كُلُّ المَنَافِذِ إِلَيهِ، فَبِذَلِكَ خَرَجَ عَنْ كَونِ صُورَتِهِ صُورَةَ قَبْرٍ فِي مَسْجِدٍ
(1)
.
3 -
وَبَعْدَ ذَلِكَ لَا بُدَّ مِنَ القَولِ بِأَنَّ المَسْجِدَ النَّبَويَّ، عَلَى فَرْضِ أَنَّ الآنَ صُوَرتُهُ صُورَةُ قَبْرٍ فِي مَسْجِدٍ؛ فَلَا يَنْسَحِبُ عَلَيهِ حُكْمُ النَّهْي لِمَا لَهُ مِنْ فَضِيلَةٍ عُظْمَى فِي مُضَاعَفَةِ أَجْرِ الصَّلَاةِ، وَهَذَا مَعْرُوفٌ عِنْدَ أَهْلِ العِلْمِ بِقَاعِدَةِ (مَا حُرِّمَ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ؛ فَإِنَّهُ يُبَاحُ لِلمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ)
(2)
.
(1)
وَأَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ -مِمَّا يَدُلُّ عَلَى عَظَمَةِ هَذَا الأَمْرِ عِنْدَ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُم- أَنَّهُم أَخَذُوا مِنَ الرَّوضَةِ الشَّرِيفَةِ الَّتِي هِيَ رَوضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الجَنَّةِ؛ كَمَا قَالَ عليه الصلاة والسلام: ((مَا بَينَ بَيتِي وَمِنْبَرِي رَوضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الجَنَّةِ)) رَوَاهُ البُخَارِيُّ (1196)، وَمُسْلِمٌ (1391) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا، فَأَخَذُوا مِنْهَا أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَمْتَارٍ كَي يَقُومَ الجِدَارُ الثَّانِي ثُمَّ يَقُومَ الجِدَارُ الثَّالِثُ ثُمَّ يَقُومَ السُّورُ الحَدِيدِيُّ، وَمَا هَذَا إِلَّا لِمَا هُوَ أَهَمُّ مِنْ شَأْنِ الرَّوضَةِ؛ أَلَا وَهُوَ الخَوفُ مِنَ الافْتِتَانِ بِالقَبْرِ وَاتِّخَاذِهِ مَسْجِدًا.
(2)
وَقَدْ ذَكَرَ هَذِهِ القَاعِدَةَ ابْنُ القيَّمِ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (إِعْلَامُ المُوَقِّعِينَ)(2/ 108).
قَالَ شَيخُ الإِسْلَامِ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (الجَوَابُ البَاهِرُ فِي حُكْمِ زِيَارَةِ المَقَابِرِ): "وَالصَّلَاةُ فِي المَسَاجِدِ المَبْنِيَّةِ عَلَى القُبُورِ مَنْهِيٌّ عَنْهَا مُطْلَقًا، بِخِلَافِ مَسْجِدِهِ؛ فَإِنَّ الصَّلَاةَ فِيهِ بِأَلْفِ صَلَاةٍ فَإِنَّهُ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى، وَكَانَتْ حُرْمَتُهُ فِي حَيَاتِهِ صلى الله عليه وسلم وَحَيَاةِ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ قَبْلَ دُخُولِ الحُجْرَةِ فِيهِ حِينَ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي فِيهِ وَالمُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ، وَالعِبَادَةُ فِيهِ إذْ ذَاكَ أَفْضَلُ وَأَعْظَمُ مِمَّا بَقِيَ بَعْدَ إدْخَالِ الحُجْرَةِ فِيهِ؛ فَإِنَّهَا إنَّمَا أُدْخِلَتْ بَعْدَ انْقِرَاضِ عَصْرِ الصَّحَابَةِ فِي إمَارَةِ الوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ المَلِكِ"
(1)
.
(1)
وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الأَفَاضِلِ إِلَى أَنَّ اسْتِثْنَاءَ المَسْجِدِ النَّبَوِيِّ جَاءَ مِنْ كَونِ القَبْرِ طَارِئًا عَلَى المَسْجِدِ، وَأَنَّه ُلَيسَ فِي جِهَةِ القِبْلَةِ. وَهُوَ جَوَابٌ ضَعِيفٌ سَبَقَ رَدَّهُ فِي مَسَائِلِ البَابِ المَاضِي، وَالحَمْدُ للهِ.
- الشُّبْهَةُ الثَّالِثَةُ: صَلَاةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي مَسْجِدِ الخَيفِ
(1)
مَعَ أنَّ فِيهِ قَبْرَ سَبْعِينَ نَبِيًّا
(2)
! فَمَا الجَوَابُ؟
الجَوَابُ:
إِنَّنَا لَا نَشُكُّ فِي صَلَاتِهِ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا المَسْجِدِ؛ وَلَكِنَّنَا نَقُولُ: إِنَّ مَا ذُكِرَ فِي الشُّبْهَةِ مِنْ أَنَّهُ دُفِنَ فِيهِ سَبْعُونَ نَبِيًّا!! لَا حُجَّةَ فِيهِ مِنْ أَوْجُهٍ:
1 -
مِنْ جِهَةِ السَّنَدِ: لَا يَصِحُّ، فَإِنَّ فِيهِ عِيسَى بْنَ شَاذَان؛ قَالَ فِيهِ ابْنُ حِبَّانَ فِي كِتَابِهِ (الثِّقَاتُ):"يُغَرِّبُ"
(3)
، وَفِيهِ أَيضًا إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ؛ قَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ:"ثِقَةٌ يُغَرِّبُ"
(4)
.
قَالَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله: "وَأَنَا أَخْشَى أَنْ يَكُونَ الحَدِيثُ تَحَرَّفَ عَلَى أَحَدِهِمَا فَقَالَ: (قَبْرُ) بَدَلَ (صَلَّى) لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ الثَّانِيَ هُوَ المَشْهُورُ فِي الحَدِيثِ، فَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي (الكَبِيرِ)
(5)
بِإِسْنَادٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: ((صَلَّى فِي مَسْجِدِ الخَيفِ سَبْعُونَ نَبِيًّا))، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي
(1)
قَالَ الجَوهَرِيُّ فِي كِتَابِهِ الصِّحَاحُ (4/ 1359): "الخَيفُ: مَا انْحَدَرَ عَنْ غِلَظِ الجَبَلِ وَارْتَفَعَ عَنْ مَسِيلِ المَاءِ، وَمِنْهُ سُمِّيَ مَسْجِدُ الخَيفِ بِمِنَى".
(2)
رَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الكَبِيرِ (12/ 414) عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: ((فِي مَسْجِدِ الخَيفِ قَبْرُ سَبْعِينَ نَبِيًّا)). وَسَيَأْتِي بَيَانُ كَونِهِ ضَعِيفًا.
(3)
الثِّقَاتُ (8/ 494).
وَمَعْنَى (يُغَرِّبُ): أَي: يَأْتِي بِالغَرَائِبِ عَلَى أقْرَانِهِ فِي الحَدِيثِ. انْظُرْ كِتَابَ (تَوضِيحُ الأَفْكَارِ)(2/ 167) لِلصَّنْعَانيِّ رحمه الله.
(4)
تَقْرِيبُ التَّهْذِيبِ (ص 90).
(5)
المُعْجَمُ الكَبِيرُ (11/ 452).
الأَوسَطِ
(1)
، وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ.
2 -
مِنْ جِهَةِ المَعْنَى: لَيسَ فِي الحَدِيثِ دِلَالَةٌ عَلَى أَنَّ القُبُورَ ظَاهِرْةٌ فِي المَسْجِدِ، وَقَدْ عَقَدَ الأَزْرَقِيُّ
(2)
فِي (تَارِيخِ مَكَّةَ) عِدَّةَ فُصُولٍ فِي مَسْجِدِ الخَيفِ؛ فَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّ فِيهِ قُبُورًا بَارِزَةً!
3 -
مِنَ جِهَةٍ ظَاهِرِ الحَالِ: فمن المَعْلُومِ أَنَّ الشَّرِيعَةَ إِنَّمَا تُبْنَى أَحْكَامُهَا عَلَى الظَّاهِرِ، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ فِي المَسْجِدِ المَذْكُورِ قُبُورٌ ظَاهِرَةٌ فَلَا مَحْظُورَ فِي الصَّلَاةِ فِيهِ البَتَّةَ، لِأَنَّ القُبُورَ مُنْدَرِسَةٌ وَلَا يَعْرِفُهَا أَحَدٌ، بَلْ لَولَا هَذَا الخَبَرُ -الَّذِي عَرَفْتَ ضَعْفَهُ- لَمْ يَخْطرْ فِي بَالِ أَحَدٍ أَنَّ فِي أَرْضِهِ سَبْعِينَ قَبْرًا، وَلِذَلِكَ لَا تَقَعُ فِيهِ تِلْكَ المَفْسَدَةُ الَّتِي تَقَعُ عَادَةً فِي المَسَاجِدِ المَبْنِيَّةِ عَلَى القُبُورِ الظَّاهِرَةِ وَالمُشْرِفَةِ
(3)
.
(1)
المُعْجَمُ الأَوسَطُ (5407).
(2)
هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ بْنِ الأَزْرَقِ؛ أَبُو الوَلِيدِ الأَزْرَقِيُّ: مُؤرِّخٌ يَمَانِيُّ الأَصْلِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ. الأَعْلَامُ (6/ 222).
(3)
وَمِثْلُهَا فِي الشُّبْهَةِ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ إِسْمَاعِيلَ عليه السلام مَدْفُونٌ فِي الحِجْرِ مِنَ البَيتِ، وَعُلِمَ أَنَّ الصَّلَاةَ فِي الحِجْرِ مُسْتَحَبَّةٌ!!
وَالجَوَابُ عَنْهَا هُوَ كَمَا سَبَقَ آنِفًا: أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ هَذَا الكَلَامُ مِنْ جِهَةِ الإِسْنَادِ، وَعَلَى فَرْضِ صِحَّتِه؛ فَإِنَّ هَذَا القَبْرَ غَيرُ ظَاهِرٍ؛ فَزَالَتِ العِلَّةُ. وَالحَمْدُ للهِ عَلَى تَوفِيقِهِ.
- الشُّبْهَةُ الرَّابِعَةُ: بِنَاءُ أَبِي جَنْدَلٍ مَسْجِدًا عَلَى قَبْرِ أَبِي بَصِيرٍ رضي الله عنهما فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم -كَمَا فِي الاسْتِيعَابِ لِابْنِ عَبْدِ البَرِّ-! فَمَا الجَوَابُ؟
الجَوَابُ:
1 -
إِنَّ هَذَا الأَثَرَ لَيسَ لَهُ إِسْنَادٌ تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ، وَلَيسَ فِي شَيءٍ مِنْ كُتُبِ الحَدِيثِ المَعْرُوفَةِ المَشْهُورَةِ، وَإنَّمَا أَورَدَهُ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ رحمه الله فِي تَرْجَمَةِ أَبِي بَصِيرٍ مِنْ كِتَابِهِ (الاسْتِيعَابُ) مُرْسَلًا فَقَالَ:"وَلَهُ قِصَّةٌ فِي المَغَازِي عَجِيبَةٌ ذَكَرَهَا ابْنُ إِسْحَاقَ؛ وَفِيهَا: فَدَفَنَهُ أَبُو جَنْدَل مَكَانَهُ، وَصَلَّى عَلَيهِ، وَبَنَى عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا"
(1)
.
قَالَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله فِي الكِتَابِ: "وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ (بَنَى عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا) مُعْضَلَةٌ مُنْكَرَةٌ مُخَالِفَةٌ لِرِوَايَةِ الثِّقَاتِ".
2 -
لَيسَ فِي القِصَّةِ أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اطَّلَعَ عَلَى ذَلِكَ وَأَقرَّهُ! فَلَا حُجَّةَ فِيهَا.
3 -
أَنَّهُ لَو فَرَضْنَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلِمَ بِذَلِكَ وَأَقَرَّهُ؛ فَيَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ قَبْلَ التَّحْرِيمِ، لِأَنَّ الأَحَادِيثَ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَرَّمَ ذَلِكَ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ -كَمَا سَبَقَ-، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُتْرَكَ النَّصُّ المُتَأَخِّرُ مِنْ أَجْلِ النَّصِّ المُتَقَدِّمِ -عَلَى فَرَضِ صِحَّتِهِ-
(2)
.
(1)
الاسْتِيعَابُ (4/ 1612).
(2)
وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عَسَاكِرَ (25/ 300) عَنِ ابْنِ شِهَابٍ بِلَفْظِ: (وَجَعَلَ عِنْدَ قَبْرِهِ مَسْجِدًا) بَدَلَ: (عَلَى قَبْرِهِ). وَهُوَ مُرْسَلٌ أَو مُعْضَلٌ أَيضًا، فَلَمْ يَعُدْ فِيهِ حُجَّةٌ عَلَى المَقْصُودِ.
وَفِي الفَتْحِ (5/ 351) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله: "وَفِي رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ: (فكَتَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى أَبِي بَصِيرٍ، فَقَدِمَ كِتَابُهُ -وَأَبُو بَصِيرٍ يَمُوتُ-، فَمَاتَ -وَكِتَابُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي يَدِهِ- فَدَفَنَهُ أَبُو جَنْدَلٍ مَكَانَهُ، وَجَعَلَ عِنْدَ قَبْرِهِ مَسْجِدًا) ".
قَالَ الشَّيخُ عَبْدُ اللهِ الدُّوَيش رحمه الله -فِي التَّعْلِيقِ عَلَى فَتْحِ البَارِي لِابْنِ حَجَرٍ-: "هَذَا لَا يَثْبُتُ، لِأَنَّهُ إِمَّا مُرْسَلٌ أَو مُعْضَلٌ، خُصُوصًا مَرَاسِيلُ الزُّهْرِيِّ؛ فَإِنَّهَا مِنْ أَضْعَفِ المَرَاسِيلِ؛ كَمَا روى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي
=
- الشُّبْهَةُ الخَامِسَةُ: زَعَمَ بَعْضُهُم أَنَّ المَنْعَ مِنِ اتِّخَاذِ القُبُورِ مَسَاجِدَ؛ إِنَّمَا كَانَ لِعِلَّةِ خَشْيَةِ الافْتِتَانِ بِالمَقْبُورِ، وَقَدْ زَالَتِ العِلَّةُ اليَومَ بِرُسُوخِ الإِيمَانِ وَالتَّوحِيدِ فِي قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ؛ فَزَالَ المَنْعُ! فَمَا الجَوَابُ؟
الجَوَابُ:
1 -
إِنَّ الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم إِنَّمَا دَفَنُوهُ صلى الله عليه وسلم فِي بَيتِهِ خَشْيَةَ أَنْ يُتَّخَذَ قَبْرُهُ مَسْجِدًا؛ فَغَيرُهُمْ أَولَى مِنْهُم -أَي: مِنْ جِهَةِ الافْتِتَانِ-، وَأَيضًا التَّابِعُونَ وَمَنْ بَعْدَهُم أَمَرُوا بِذَلِكَ وَعَمِلُوا بِهِ، كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي الهَيَّاجِ الأَسَدِيِّ؛ قَالَ: قَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: أَلَا أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((لَا تَدَعَنَّ قَبْرًا مُشْرِفًا إِلَّا سَوَّيتَهُ، وَلَا صُورَةً إِلَّا طَمَسْتَهَا))
(1)
.
وَفِي الأَثَرِ (قَالَ المَعْرُورُ بْنُ سُوَيدٍ الأَسَدِيُّ: خَرَجْتُ مَعَ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى المَدِينَةِ، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا صَلَّى بِنَا الغَدَاةَ، ثُمَّ رَأَى النَّاسَ يَذْهَبُونَ مَذْهَبًا، فَقَالَ: أَينَ يَذْهَبُ هَؤلَاءِ؟ قَيلَ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ؛ مَسْجِدٌ صَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم هُمْ يَأْتُونَهُ يُصَلُّونَ فِيهِ، فَقَالَ: إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُم بِمِثْلِ هَذَا: يَتَّبِعُونَ آثَارَ أَنْبِيَائِهِم فَيَتَّخِذُونَهَا كَنَائِسَ وَبِيَعًا! مَنْ أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فِي هَذِهِ المَسَاجِدِ فَلْيُصَلِّ؛ وَمَنْ
=
كِتَابِهِ الجَرْحُ وَالتَّعْدِيلُ (1/ 246) عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ القَطَّانِ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى إِرْسَالَ الزُّهْرِيِّ وَقَتَادَةَ شَيئًا، وَيَقُولُ: هُوَ بِمَنْزِلَةِ الرِّيحِ، وَيَقُولُ: هَؤُلَاءِ قَومٌ حُفَّاظٌ كَانُوا إِذَا سَمِعُوا شَيئًا عَقلُوهُ، وَأَيضًا يُعَارِضُهُ مَا تَقَدَّمُ مِنَ الأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الدَّالَّةِ عَلَى تَحْرِيمِ اتِّخَاذِ المَسَاجِدِ عَلَى القُبُورِ".
قُلْتُ: فَالأَثَرُ الَّذِي فِي الفَتْحِ مُنْقَطِعٌ، وَلَيسَ فِيهِ البِنَاءُ عَلَى القَبْرِ نَفْسِهِ. وَالحَمْدُ للهِ.
(1)
مُسْلِمٌ (969).
لَا فَلْيَمْضِ، وَلَا يَتَعَمَّدْهَا)
(1)
.
2 -
دَلَّتِ السُّنَّةُ الشَّرِيفَةُ عَلَى أَنَّ الشِّرْكَ سَيَقَعُ فِي هَذِهِ الأُمَّةِ -وَهُوَ وَاقِعٌ الآنَ-، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الغُلُوَّ فِي قُبُورِ الصَّالِحِينِ هُوَ أَهَمُّ أَسْبَابِهَا، وَعَلَيهِ فَلَمْ تُؤْمَنْ فِتْنَةُ الشِّرْكِ بَعْدُ.
وَانْظُرْ مَا جَاءَ فِي إِثْبَاتِ أَنَّ الشِّرْكَ وَاقعٌ فِي هَذِهِ الأُمَّةِ:
- ((لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَضْطَرِبَ أَلَيَاتُ نِسَاءِ دَوسٍ عَلَى ذِي الخَلَصَةِ، وَذُو الخَلَصَةِ طَاغِيَةُ دَوسٍ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَ فِي الجَاهِلِيَّةِ))
(2)
(3)
.
- ((لَا يَذْهَبُ اللَّيلُ وَالنَّهْارُ حَتَّى تُعْبَدَ اللَّاتُ وَالعُزَّى)) فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنْ كُنْتُ لَأَظنُّ حِينَ أَنْزَلَ اللهُ {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التَّوبَة: 33] أَنَّ ذَلِكَ تَامًّا! قَالَ: ((إنَّهُ سَيَكُونُ مِنْ ذَلِكَ مَا شَاءَ اللهُ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللهُ رِيحًا طَيِّبَةً فَتَوَفَّى كُلَّ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إيمَانٍ؛ فَيَبْقَى مَنْ لَا خَيرَ فيهِ فَيَرْجِعُونَ إِلَى دِينِ آبَائِهِم)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا
(4)
.
- ((لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَلْحَقَ قَبَائِلُ منْ أُمَّتِي بِالمُشْرِكِينَ، وَحَتَّى تَعْبُدَ
(1)
صَحِيحٌ. أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيبَةَ فِي المُصَنِّفِ (7550). اُنْظُرْ تَخْرِيجَ أَحَادِيثِ فَضَائِل الشَّامِ وَدِمَشْقَ (ص 50) لِلشَّيخِ الأَلْبَانِيِّ رحمه الله.
(2)
البُخَارِيُّ (7116) بَابُ تَغْيِيرِ الزَّمَانِ حَتَّى تُعْبَدَ الأَوثَانُ، وَمُسْلِمٌ (2906) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا.
(3)
وَقَدْ بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَيهَا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ البَجَليُّ فَكَسَرَهَا، كَمَا فِي البُخَارِيِّ (3020)، وَفِيهِ قَولُهُ صلى الله عليه وسلم:((أَلَا تُرِيحُنِي مِنْ ذِي الخَلَصَةِ؟))، فَقَالَ جَرِيرٌ: فَنَفَرْتُ فِي مَائَةٍ وَخَمْسِينَ رَاكِبًا، فَكَسَرْنَاهُ، وقَتَلْنَا مَنْ وَجَدْنَا عِنْدَهُ -وَفِي لَفْظٍ لَهُ (4357) -:(كَانَ ذُو الخَلَصَةِ بَيتًا بِاليَمَنِ لِخَثْعَمَ وبَجِيلةَ؛ فِيهِ نُصُبٌ تُعْبَدُ، يُقَالُ لَهَا: الكَعْبَةُ! قَالَ: فَأَتَاهَا فَحَرَّقَهَا بِالنَّارِ وَكَسَرَهَا).
(4)
مُسْلِمٌ (2907).
قَبَائِلُ مِنْ أُمَّتِي الأوثانَ))
(1)
.
- ((لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لَا يُقَالَ فِي الأَرْضِ: اللهُ اللهُ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ
(2)
، وَفِي رِوَايَةٍ أَحْمَدَ:((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))
(3)
.
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله فِي الفَتْحِ: "وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ المَنْعَ مِنْ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ حَالَ خَشْيَةِ أَنْ يُصْنَعَ بِالقَبْرِ كَمَا صَنَعَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لُعِنُوا، وَأَمَّا إِذَا أُمِنَ ذَلِكَ فَلَا امْتِنَاعَ وَقَدْ يَقُولُ بِالمَنْعِ مُطْلَقًا مَنْ يَرَى سَدَّ الذَّرِيعَةِ -وَهُوَ هُنَا مُتَّجِهٌ قَوِيٌّ-"
(4)
.
قَالَ الشَّيخُ ابْنُ بَازٍ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى الفَتْحِ: "بَلْ هَذَا هُوَ الحَقُّ، لِعُمُومِ الأَحَادِيثِ الوَارِدَةِ بِالنَّهْي عَنِ اتِّخَاذِ القُبُورِ مَسَاجِدَ، ولَعْنِ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ بِنَاءَ المَسَاجِدِ عَلَى القُبُورِ مِنْ أَعْظَمِ وَسَائِلِ الشِّرْكِ بِالمَقْبُورِينَ فِيهَا. وَاللهُ أَعْلَمُ".
قُلْتُ: فَإِذَا كَانَ الشِّرْكُ لَمْ يُؤْمَنْ عَلَى أَصْحَابِهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا فِي حَدِيثِ: ((أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَيكُم الشِّرْكُ الأَصْغَرُ))
(5)
! بَلْ إِبْرَاهِيمُ نَفْسُهُ صلى الله عليه وسلم كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُ {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إِبْرَاهِيم: 35] فَهَلْ يُؤْمَنُ عَلَى غَيرِهِ؟! بَلْ أَقُولُ: لَا يَأْمَنُ الفِتْنَةَ عَلَى نَفْسِهِ إِلَّا مَفْتُونٌ.
وَاللهُ تَعَالَى هُوَ المُوَفِّقُ وَهُوَ الهَادِي لِلصَّوَابِ.
(1)
صَحِيحٌ. أَبُو دَاوُدَ (4252) عَنْ ثَوبَانَ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (2654).
(2)
قَالَ القُرْطُبِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ التَّذْكِرَةُ (ص 1351): "قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللهِ عَلَيهِم: قُيِّدَ (الله) بِرَفْعِ الهَاءِ وَنَصْبِهَا، فَمَنْ رَفَعَهَا؛ فَمَعْنَاهُ ذَهَابُ التَّوحِيدِ، وَمَنْ نَصَبَهَا؛ فَمَعْنَاهُ انْقِطَاعُ الأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنِ المُنْكَرِ. أَي: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ عَلَى أَحَدٍ يَقُولُ: اتَّقِ اللهَ".
(3)
مُسْلِمٌ (148)، وَأَحْمَدُ (13833) عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا.
(4)
فَتْحُ البَارِي (3/ 208).
(5)
صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (23630) عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (951).
- الشُّبْهَةُ السَّادِسَةُ: أَنَّ مَسْجِدَ بَنِي أُمَيَّةَ (المَسْجِدَ الأُمَوِيَّ) مُنْذَ دَخَلَ إِلَيهِ الصَّحَابَةُ وَغَيرُهُم لَمْ يُنْكِرُوا وُجُودَ قَبْرِ يَحْيَى عليه السلام! فَمَا الجَوَابُ؟
الجَوَابُ مِنْ وَجْهَينِ:
1 -
أَنَّ المَسْجِدَ الأُمَويَّ إِنَّمَا أَنْشَأَهُ الوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ المَلِكِ رحمه الله، وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّهُ كَانَ جُزْءًا مِنْ مَعْبَدٍ رُومَانِيٍّ أَو كَنِيسَةٍ؛ وَاسْتَغَلَّ بِنَاءَهُ وَهَيئَتَهُ لِيَكُونُ مَسْجِدًا، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِمَّنْ صَلَّى فِيهِ مِنَ الصَّحَابَةِ الكِرَامِ
(1)
أَنَّهُ رَأَى قَبْرًا فِيهِ أَو ذَكَرَ شَيئًا مِنْ شَأْنِهِ، وَعَلَيهِ فَلَا حُجَّةَ فِي هَذَا الاسْتِدْلَالِ لِعَدَمِ صِحَّتِهِ أَصْلًا.
2 -
دَعْوَى أَنَّ فِيهَا قَبْرَ يَحْيَى عليه السلام! إِنَّمَا هُوَ مَحْضُ اخْتِلَاقٍ، وَذَلِكَ لِأَسْبَابٍ:
أ- عَدَمُ وُجُودِ الدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ، بَلْ غَايَةُ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ أَنَّهُم أَثْنَاءَ العَمَلِيَّاتِ فِيهِ -عَمَلِيَّاتِ الإِصْلَاحِ لِجَعْلِهِ مَسْجِدًا- وَجَدُوا فِيهِ مَغَارَةً فِيهَا صُنْدُوقٌ فِيهِ رَأْسٌ وَكُتِبَ عَلَى الصُّنْدُوقِ: هَذَا رَأْسُ يَحْيَى، فَأَمَرَ الوَلِيدُ بِإِبْقَائِهِ فِي مَكَانِهِ، وَجَعَلَ العَمُودَ الَّذِي فَوقَهُ مُغَيَّرًا مِنَ الأَعْمِدَةِ، فَلَمْ يُبْنَ عَلَيهِ قَبْرٌ! بَلْ أَبْقَاهُ فِي مَغَارَتِهِ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ؛ فَهَذَا الأَثَرُ إِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ جِدًّا أَيضًا، رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ
(2)
، وَفِي الإِسْنَادِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ هِشَامٍ الغَسَّانِيُّ، وَهُوَ كَذَّابٌ
(3)
.
ب- أَنَّ جُمْهُورَ المُؤَرِّخِينَ ذَكَرُوا أَنَّ رَأْسَ يَحْيَى عليه السلام هُوَ فِي مَسْجِدٍ فِي حَلَبَ، وَلَيسَ فِي المَسْجِدِ الأُمَوِيِّ
(4)
!
(1)
وَقَدْ ثَبَتَ أنَّه قَدْ صَلَّى فِيهِ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم كَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَثَوبَانَ.
(2)
تَارِيخُ دِمَشْقَ (2/ 241).
(3)
اُنْظُرْ (مِيزَانُ الاعْتِدَالِ)(1/ 73).
(4)
وَفِي كِتَابِ (تَارِيخُ حَلَب) لابْنِ العَظِيمِيِّ التَّنُوخِيِّ (ص 336): "سَنَة (435 هـ): فِيهَا ظَهَرَ بِبَعْلَبَك فِي
=
وَبَعْدَ هَذَا البَيَانِ لَا بُدَّ مِنَ العِلْمِ أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدٍ فِيهِ قَبْرٌ؛ العِبْرَةُ فِيهِ بِالظَّاهِرِ وَلَيسَ بِالحَقِيقَةِ، فَوُجُودُ بِنَاءٍ أَو مَقَامٍ أَو قُبَّةٍ عَلَى قَبْرٍ هُوَ كَافٍ فِي النَّهْي خَشْيَةَ الافْتِتَانِ وَلَو لَمْ يُوجَدْ فِيهِ مَقْبُورٌ أَصْلًا، وَالعَكْسُ بِالعَكْسِ، وَذَلِكَ لِوُجُودِ عِلَّةِ النَّهْي فِي الحَالَتَينِ، وَلِأَنَّ تَمْيِيزَ حَقِيقَةِ المَقْبُورِ فِي القَبْرِ لَيسَ بِمُسْتَطَاعٍ لِعَامَّةِ النَّاسِ وَخَاصَّةً بَعْدَ مُرُورِ أَزْمِنَةٍ مِنْ وُجُودِ القَبْرِ فِي المَسْجِدِ
(1)
.
=
حَجَرٍ مَنْقُورٍ رَأْسُ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا عليهما السلام، فَنُقِلَ إِلَى حِمْصَ، ثُمَّ مِنْهَا إِلَى مَدِينةِ حَلَبٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ بِهَذَا المَقَامِ المَذْكُورِ فِي جُرْنٍ مِنَ الخَامِ الأَبْيَضِ، وَوُضِعَ فِي خِزَانَةٍ إِلَى جَانِبِ المِحْرَابِ، وَأُغْلِقَتْ وَوُضِعَ عَلَيهَا سِتْرٌ يَصُونُهَا".
(1)
كَمَا فِي رَدِّ العَلَّامَةِ مُلَّا عَلِي القَارِيِّ رحمه الله عَلَى شُبْهَةِ كَونِ قَبْرِ إِسْمَاعِيلَ عليه السلام فِي الحَطِيمِ (الحِجْرِ) عِنْدَ المِيزَابِ فَقَالَ: "وَفِيهِ أَنَّ صُورَةَ قَبْرِ إِسْمَاعِيلَ عليه السلام وَغَيرُهُ مُنْدَرِسَةٌ؛ فَلَا يَصْلُحُ الاسْتِدْلَالُ بِهِ". مِرْقَاةُ المَفَاتِيحِ (2/ 601).
-
الفَصْلُ الخَامِسُ: فِي حِكْمَةِ تَحْرِيمِ بِنَاءِ المَسَاجِدِ عَلَى القُبُورِ:
اقْتَضَتْ حِكْمَةُ اللهِ تبارك وتعالى -وَقَدْ أَرْسَلَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم خَاتَمَ الرُّسُلِ وَجَعَلَ شَرِيعَتَهُ خَاتِمَةَ الشَّرَائِعِ- أَنْ يَنْهَى عَنْ كُلِّ الوَسَائِلِ الَّتِي يُخْشَى أَنْ تَكُونَ ذَرِيعَةً -وَلَو بَعْدَ حِينٍ- لِوقُوعِ النَّاسِ فِي الشِّركِ؛ الَّذِي هُوَ أَكْبَرُ الكَبَائِرِ، فَلِذَلِكَ نَهَى عَنْ بِنَاءِ المَسَاجِدِ عَلَى القُبُورِ كَمَا نَهَى عَنْ شَدِّ الرِّحَالِ إِلَيهَا وَاتِّخَاذِهَا أَعْيَادًا.
-
الفَصْلُ السَّادِسُ: فِي حُكْمِ الصَّلَاةِ فِي المَسَاجِدِ المَبْنِيَّةِ عَلَى القُبُورِ:
اعْلَمْ أَنَّ كَرَاهَةَ الصَّلَاةِ فِي هَذِهِ المَسَاجِدِ هُوَ أَمْرٌ مُتَّفَقٌ عَلَيهِ بَينَ العُلَمَاءِ، وَإنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي بُطْلَانِهَا. وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الحَنَابِلَةِ أَنَّهَا لَا تَصِحُّ.
وَالحُكْمُ هُوَ عَلَى دَرَجَاتٍ:
1 -
مَنْ تَقَصَّدَ المَسْجِدَ لِأَجْلِ القَبْرِ؛ فَالصَّلَاةُ مُحَرَّمَةٌ، بَلْ وَبَاطِلَةٌ
(1)
.
2 -
مَنْ لَمْ يَتَقَصَّدِ المَسْجِدَ لِأَجْلِ القَبْرِ؛ فَيُقَالُ: إِنَّ الصَّلَاةَ مَنْهيٌّ عَنْهَا، وَلَكِنْ لَا يَظْهَرُ البُطْلَانُ
(2)
.
3 -
مَنْ لَمْ يَتَقَصَّدِ المَسْجِدَ لِأَجْلِ القَبْرِ، وَإنَّمَا صَلَّى اتِّفَاقًا -أَي صَادَفَ القَبْرَ-؛ فَهَذَا إِنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يُدْرِكَ الجَمَاعَةَ فِي غَيرِهِ مِنَ المَسَاجِدِ كَانَ هَذَا هُوَ الوَاجِبَ فِي حَقِّهِ، وَإلَّا صَلَّى فِيهِ لِإِدْرَاكِ مَصْلَحَةِ صَلَاةِ الجَمَاعَةِ الوَاجِبَةِ فِي حَقِّهِ
(3)
.
(1)
خَاصَّةً أَنَّ عِلَّةَ النَّهْي عَنِ اتِّخَاذِ القَبْرِ مَسْجِدًا هِيَ نَفْسُ تِلْكَ المَوجُودَةِ فِي هَذَا التَّقَصُّدِ، وَهِيَ الافْتِتَانُ بِالميِّتِ وَالتَّعَلُّقُ بِهِ دُونَ اللهِ تَعَالَى؛ سَوَاءً كَانَ المُسَمَّى بِذَلِكَ القَصْدِ شَفَاعَةً أَو تَوَسُّلًا إِلَى اللهِ تَعَالَى.
(2)
قُلْتُ: وَلَعلَّهُ أَيضًا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله، حَيثُ قَالَ فِي كِتَابِهِ الأُمُّ (1/ 317):"وَأَكْرَهُ أَنْ يُبْنَى عَلَى القَبْرِ مَسْجِدٌ؛ وَأَنْ يُسَوَّى، أَو يُصَلَّى عَلَيهِ وَهُوَ غَيرُ مُسَوَّى -يَعْنِي أَنَّهُ ظَاهِرٌ مَعْرُوفٌ- أَو يُصَلَّى إِلَيهِ. قَالَ: وَإِنْ صَلَّى إِلَيهِ أَجْزَأَهُ؛ وَقَدْ أَسَاءَ ".
وَقَالَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله فِي الكِتَابِ: "إِنَّ المَسْأَلَةَ بِحَاجَةٍ لِتَوسِيعٍ أَكْثَرَ فِي البَحْثِ، عِلْمًا أَنَّ ظَاهِرَ مَذْهَبِ الحَنَابِلَةِ -كَمَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ القيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- هُوَ البُطْلَانُ".
(3)
أَفَادَهُ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله فِي أَشْرِطَةَ فَتَاوَى سِلْسِلَةِ الهُدَى وَالنُّورِ (ش 543)، وَهُوَ عَلَى قَاعِدَةِ:(مَا حُرِّمَ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ؛ فَإِنَّهُ يُبَاحُ لِلمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ).
- فَائِدَةٌ: لَا يُصَلَّى فِي المَقْبَرَةِ إِلَّا الجَنَازَةُ:
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ الحَنْبَلِيُّ رحمه الله: "قَالَ ابْنُ المُنْذِرِ: وَقَدْ قَالَ نَافِعٌ -مَولَى ابْنِ عُمَرَ-: صَلَّينَا عَلَى عَائِشَة وَأُمِّ سَلَمَةَ وَسْطَ البَقِيعِ، وَالإِمَامُ يَومَئِذٍ أَبُو هُرَيرَةَ، وَحَضَرَ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ"
(1)
.
قُلْتُ: وَصَلَاةُ الجَنَازَةِ مُسْتَثْنَاةٌ مِنَ النَّهْي عِنْدَ الإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيرِهِ، وَقَدْ سَبَقَ قَولُ أَحْمَدَ فِي ذَلِكَ.
وَقَالَ أَيضًا: "لَا يُصَلَّى فِي مَسْجِدٍ بَينَ المَقَابِرِ إِلَّا الجَنَائِزُ، لِأَنَّ الجَنَائِزَ هَذِهِ سُنَّتُهَا" يُشِيرُ إِلَى فِعْلِ الصَّحَابَةِ.
قَالَ ابْنُ المُنْذِرِ: "وَرُوِّينَا أَنَّ وَاثِلَةَ بْنَ الأَسْقَعِ كَانَ يُصَلِّي فِي المَقْبَرَةِ؛ غَيرَ أَنَّهُ لَا يَسْتَتِرُ بِقَبْرٍ"
(2)
.
قُلْتُ: فَتُصَلَّى الجَنَازةُ فِي المُصَلَّى الخَاصِّ بِهَا عِنْدَ المَقْبَرَةِ، وَلَيسَ بَينَ القُبُورِ! وَذَلِكَ لِحَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه:((أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهى أَنْ يُصَلَّى عَلَى الجَنَائِزِ بَينَ القُبُورِ))
(3)
.
وَأَمَّا حَدِيثُ صَلَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى المَرْأَةِ السَّودَاءِ الَّتِي كَانَتْ تَقُمُّ المَسْجِدَ
(4)
(1)
قَالَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله فِي الكِتَابِ (ص 124): "أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي المُصَنَّفِ (1594/ 407/1) بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ نَافِعٍ".
(2)
رَوَاهُ ابْنُ المُنْذِرِ فِي الأَوسَطِ (2/ 183)(1/ 185)، وَفِيهِ خَالِدُ بنُ يَزِيدَ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ أَبِي مَالِكٍ الهَمْدَانِيُّ؛ ضَعَّفُوهُ. اُنْظُرْ (مِيزَانُ الاعْتِدَالِ)(1/ 645).
(3)
صَحِيحٌ. الطَّبَرَانِيُّ فِي الأَوسَطِ (5631). أَحْكَامُ الجَنَائِزِ (ص 108) لِلشَّيخِ الأَلْبَانِيِّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
(4)
البُخَارِيُّ (460)، وَمُسْلِمٌ (956).
فَجَائِزَةٌ كَمَا هُوَ ثَابِتٌ، وَلَكِنَّ التَّفْرِيقَ بَينَ الحَالَتِينِ هُوَ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ صَلَاةِ الجَنَازَةِ بَينَ القُبُورِ هُوَ قَبْلَ دَفْنِ المَيِّتِ، أَمَّا صُورَةُ الحَالَةِ الثَّانيةِ عِنْدَ القَبْرِ فَهِيَ بَعْدَ الدَّفْنِ لِمَنْ لَمْ يُصَلِّ عَلَيهَا
(1)
، وَبِهَذَا تَجْتَمِعُ الأَدِلَّةُ. وَاللهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ
(2)
.
(1)
أَفَادَهُ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله فِي أَشْرِطَةَ فَتَاوَى سِلْسِلَةِ الهُدَى وَالنُّورِ (ش 231).
(2)
وَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ -كَالمُنَاوِيِّ رحمه الله فِي (فَيضُ القَدِيرِ)(6/ 341) - إِلَى أَنَّ النَّهيَ هُوَ لِلكَرَاهَةِ التَّنْزِيهيَّةِ.
وَذَهَبَ غَيرُهُ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ خَاصٌّ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ مَا فِي حَدِيثِ المَرْأَةِ السَّودَاءِ الَّتِي كَانَتْ تَقُمُّ المَسْجِدَ حَيثُ قَالَ صلى الله عليه وسلم:((إِنَّ هَذِهِ القُبُورَ مَمْلُوءَةٌ ظُلْمَةً عَلَى أَهْلِهَا، وَإِنَّ اللهَ يُنَوِّرُهَا عَلَيهِمْ بِصَلَاتِي)) رَوَاهُ َمُسْلِمٌ (956) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [التَّوبَة: 103]. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي التَّفْسِيرِ (14/ 454): "إِنَّ دُعَاءَكَ وَاسْتِغْفَارَكَ طَمَأْنِينَةٌ لَهُمْ".
قُلْتُ: وَلَكِنْ سَبَقَ مَعَنَا قَولُ نَافِعٍ: (صَلَّينَا عَلَى عَائِشَة وَأُمِّ سَلَمَةَ وَسْطَ البَقِيعِ). وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
-
الفَصْلُ السَّابِعُ: فِي أَنَّ الحُكْمَ السَّابِقَ يَشْمَلُ جَمِيعَ المَسَاجِدِ إِلَّا المَسْجِدَ النَّبَوِيَّ،
وَذَلِكَ لِفَضِيلَةِ الصَّلَاةِ فِيهِ بِأَلْفٍ مِمَّا سِوَاهُ، وَأَيضًا لِوُجُودِ الرَّوضَةِ الشَّرِيفَةِ، كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم:((مَا بَينَ بَيتِي وَمِنْبَرِي رَوضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الجَنَّةِ)) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ
(1)
، وَلِغَيرِ ذَلِكَ مِنَ الفَضَائِلِ، وَلَو قِيلَ بِكَرَاهَةِ الصَّلَاةِ فِيهِ كَانَ مَعْنَى ذَلِكَ تَسْوِيَتُهُ مَعَ غَيرِهِ مِنَ المَسَاجِدِ وَرَفْعُ هَذِهِ الفَضَائِلِ عَنْهُ! وَهَذَا لَا يَجُوزُ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ.
قَالَ شَيخُ الإِسْلَامِ رحمه الله: "وَالصَّلَاةُ فِي المَسَاجِدِ المَبْنِيَّةِ عَلَى القُبُورِ مَنْهِيٌّ عَنْهَا مُطْلَقًا، بِخِلَافِ مَسْجِدِهِ؛ فَإِنَّ الصَّلَاةَ فِيهِ بِأَلْفِ صَلَاةٍ، فَإِنَّهُ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى، وَكَانَتْ حُرْمَتُهُ فِي حَيَاتِهِ صلى الله عليه وسلم وَحَيَاةِ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ قَبْلَ دُخُولِ الحُجْرَةِ فِيهِ حِينَ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي فِيهِ وَالمُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ، وَالعِبَادَةُ فِيهِ إذْ ذَاكَ أَفْضَلُ وَأَعْظَمُ مِمَّا بَقِيَ بَعْدَ إدْخَالِ الحُجْرَةِ فِيهِ؛ فَإِنَّهَا إنَّمَا أُدْخِلَتْ بَعْدَ انْقِرَاضِ عَصْرِ الصَّحَابَةِ فِي إمَارَةِ الوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ المَلِكِ"
(2)
.
(1)
رَوَاهُ البُخَارِيُّ (1196)، وَمُسْلِمٌ (1391) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا.
(2)
مَجْمُوعُ الفَتَاوَى (27/ 348).
بَابُ مَا جَاءَ أَنَّ الغُلُوُّ فِي قُبُورِ الصَّالِحِينَ يُصَيِّرُهَا أَوثَانًا تُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ
رَوَى مَالِكُ فِي المُوَطَّأِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ؛ اشْتَدَّ غَضَبُ اللهِ عَلَىَ قَومٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ))
(1)
.
وَلِابْنِ جَرِيرٍ بِسَنَدِهِ عَنْ سُفْيَانَ؛ عَنْ مَنْصُورٍ؛ عَنْ مُجَاهِدٍ: {أَفَرَأَيتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} [النَّجْم: 19] قَالَ: كَانَ يَلُتُّ لَهُمُ السَّوِيقَ؛ فَمَاتَ فَعَكَفُوا عَلَى قَبْرِهِ
(2)
.
وَكَذَا قَالَ أَبُو الجَوزَاءِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: (كَانَ يَلُتُّ السَّوِيقَ لِلْحَاجِّ)
(3)
.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما؛ قَالَ: (لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم زَائِرَاتِ القُبُورِ وَالمُتّخِذِينَ عَلَيهَا المَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ). رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ
(4)
.
(1)
صَحِيحٌ. المُوَطَّأ (1/ 172) وَلَكِنَّهُ عِنْدَهُ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ، لِأَنَّهُ عَنْ عَطَاءٍ بْنِ يَسَارٍ، وَهُوَ مُرْسَلٌ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ (7358) بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا بِلَفْظ:((اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا؛ لَعَنَ اللهُ قَومًا اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ)). يُنْظَرُ: (أَحْكَامُ الجَنَائِزِ)(ص 216) لِلشَّيخِ الأَلْبَانِيِّ رحمه الله.
(2)
تَفْسِيرُ الطَّبَرِيِّ (22/ 523).
(3)
تَفْسِيرُ الطَّبَرِيِّ (22/ 523).
(4)
صَحِيحٌ بِلَفْظِ ((زَوَّارَاتِ))، وَبِدُونِ لَفْظِ ((السُّرُجِ)). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ (1056) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيرَةَ وَحَسَّان مَرْفُوعًا.
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي)(3/ 200) -فِي شَرْحِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا-: "وَقَالَ مُسْلِمٌ فِي (كِتَابِ التَّفْصِيلِ): هَذَا الحَدِيثُ لَيسَ بِثَابِتٍ، وَأَبُو صَالِحٍ بَاذَام قَدْ اتَّقَى النَّاسُ حَدِيثَهُ، وَلَا يَثْبُتُ لَهُ سَمَاعٌ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ".
وَقَالَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (تَمَامُ المِنَّةِ)(ص 257): "هَذَا الحَدِيثُ -عَلَى شُهرتِهِ- ضَعِيفُ
=
فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: تَفْسِيرُ الأَوثَانِ.
الثَّانِيَةُ: تَفْسِيرُ العِبَادَةِ.
الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَسْتَعِذْ إِلَّا مِمَّا يَخَافُ وُقُوعَهُ.
الرَّابِعَةُ: قَرْنُهُ بِهَذَا اتِّخَاذَ قُبُورِ الأَنْبِيَاءِ مَسَاجِدَ.
الخَامِسَةُ: ذِكْرُ شِدَّةِ الغَضَبِ مِنَ اللهِ.
السَّادِسَةُ: وَهِيَ مِنْ أَهَمِّهَا؛ مَعْرِفَةُ صِفَةِ عِبَادَةِ اللَّاتِ -الَّتِي هِيَ مِنْ أَكْبَرِ الأَوثَانِ-.
السَّابِعَةُ: مَعْرِفَةُ أَنَّهُ قَبْرُ رَجُلٍ صَالِحٍ.
الثَّامِنَةُ: أَنَّهُ اسْمُ صَاحِبِ القَبْرِ، وَذِكْرُ مَعْنَى التَّسْمِيَةِ.
التَّاسِعَةُ: لَعْنُهُ زَوَّارَاتِ القُبُورِ.
العَاشِرَةُ: لَعْنُهُ مَنْ أَسْرَجَهَا.
=
الإِسْنَادِ، فَإِنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ بَاذَام عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَبَاذَامُ ضَعَّفَهُ الجُمْهُورُ؛ بَلِ اتَّهَمَهُ بَعْضُهُم بِالكَذِبِ كَمَا ذَكَرْتُهُ فِي أَحْكَامِ الجَنَائِزِ. نَعَمْ؛ الحَدِيثُ صَحِيحٌ لِغَيرِهِ بِلَفْظِ:((زَوَّارَات)) لِأَنَّ لَهُ شَوَاهِدَ؛ غَير ((السُّرُجِ)) فَلَمْ أَجِدْ لَهُ شَاهِدًا فَيَبْقَى عَلَى ضَعْفِهِ".
وَقَالَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله أَيضًا فِي كِتَابِهِ (أَحْكَامُ الجَنَائِزِ)(ص 232): "وَأَمَّا الجُمْلَةُ الأُولَى مِنَ الحَدِيثِ فَصَحِيحَةٌ، لَهَا شَاهِدَان مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ وَحَسَّانِ بْنِ ثَابِتٍ، [قُلْتُ: عِنْدَ ابْنِ مَاجَه، وَبِلَفْظِ ((زَوَّارَات)). أَبُو عَبْدِ اللهِ] أَورَدْتُهُمَا فِي المَسْأَلَةِ (119) (ص 186،185). وَأَمَّا الجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ فَهِيَ صَحِيحَةٌ أَيضًا مُتَوَاتِرَةُ المَعْنَى". قُلْتُ: أَي بُدُونِ لَفْظِ السُّرُجِ.
الشِّرْحُ
- قَولُهُ: ((اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ)): ((يُعْبَدُ)) صِفَةٌ لِلوَثَنِ، وَهِيَ صِفَةٌ كَاشِفَةٌ، أَي: إَنَّ القُبُورَ تَصِيرُ أَوثَانًا إِذَا عُبِدَتْ مِنْ دُونِ اللهِ تَعَالَى
(1)
.
- قَولُهُ: (لِابْنِ جَرِيرٍ): هُوَ الإِمَامُ الحَافِظُ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ بْنِ يَزِيدَ الطَّبَرِيُّ
(2)
، صَاحِبُ التَّفْسِيرِ وَالتَّارِيخِ وَالأَحْكَامِ وَغَيرِهَا.
قَالَ ابْنُ خُزَيمَةَ رحمه الله: "لَا أَعْلَمُ عَلَى الأَرْضِ أَعْلَمَ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ"
(3)
، وَكَانَ مِنَ المُجْتَهِدِينَ لَا يُقَلِّدُ أَحَدًا، (ت 310 هـ).
وَمِمَّا تَجْدُرُ الإِشَارَةُ إِلَيهِ أَنَّهُ غَيرُ (مُحَمَّدِ بنِ جَرِيرِ بْنِ رُسْتُمٍ؛ أَبِي جَعْفَرٍ الطَّبَرِيِّ) فَهَذَا الأَخِيرُ رَافِضِيٌ
(4)
.
(1)
قَالَ الشَّيخُ ابْنُ عُثَيمِين رحمه الله فِي كِتَابِهِ (القَولُ المُفِيدُ)(1/ 423): "صَحِيحٌ أَنَّهُ يُوجَدُ أُنَاسٌ يَغْلُونَ فِيهِ، وَلَكِنْ لَمْ يَصِلُوا إِلَى جَعْلِ قَبْرِهِ وَثَنًا، وَلَكِنْ قَدْ يَعْبُدُونَ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم وَلَو فِي مَكَانٍ بَعِيدٍ، فَإِنْ وُجِدَ مَنْ يَتَوَجَّهُ لَهُ صلى الله عليه وسلم بِدُعَائِهِ عِنْدَ قَبْرِه؛، فَيَكُونُ قَدْ اتَّخَذَهُ وَثَنًا، لَكِنَّ القَبْرَ نَفْسَهُ لَمْ يُجْعَلْ وَثَنًا".
قُلْتُ: وَقَدْ حَمَى اللهُ تَعَالَى القَبْرَ بِأَنْ جَعَلَ حَولَهُ مِنَ الجُدْرَانِ مَا لَا يَقْدِرُونَ مَعَهُ عَلَى مُبَاشَرَتِهِ وَاسْتِلَامِهِ أَصْلًا.
(2)
وَهُوَ غَيرُ الشَّيخِ مُحِبِّ الدِّينِ الطَّبَرِيِّ؛ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللهِ؛ شَيخِ الحَرَمِ؛ وَهُوَ فَقِيهٌ مُحَدِّثٌ شَافِعِيٌّ (ت 694 هـ)، لَهُ كِتَابُ (الأَحْكَامِ فِي الحَدِيثِ) وَ (الرِّيَاضُ النَّضِرَةُ فِي مَنَاقِبِ العَشَرَةِ) وَغَيرُهَا.
وَهُمَا أَيضًا غَيرُ الشَّيخِ الكَيَا الطَّبَرِيِّ؛ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الهَراسيِّ، أَبِي الحَسَنِ؛ عِمَادِ الدِّينِ، وَهُوَ فَقِيهٌ شَافِعِيٌّ (ت 504 هـ)، لَهُ كِتَابُ (شِفَاءِ المُسْتَرْشِدِينَ)، وَ (نَقْضُ مُفْرَدَاتِ أَحْمَدَ)، وَكُتُبٌ فِي أُصُولِ الفِقْهِ.
(3)
تَارِيخُ الإِسْلَامِ لِلذَّهَبِيِّ (23/ 282).
(4)
اُنْظُرْ (سِيَرُ أَعْلَامِ النُّبَلَاءِ)(14/ 282)، (14/ 267) لِلْحَافِظِ الذَّهَبِيِّ رحمه الله.
- قَولُهُ: (عَنْ سُفْيَانَ) الظَّاهِرُ أَنَّهُ سُفْيَانُ بْنُ سَعِيدٍ بْنِ مَسْرُوقٍ الثَّوَرِيُّ
(1)
؛ أَبُو عَبْدِ اللهِ الكُوفِيُّ، ثِقَةٌ حَافِظٌ فَقِيهٌ إِمَامٌ عَابِدٌ، كَانَ مُجْتَهِدًا؛ وَلَهُ أَتْبَاعٌ يَتَفَقَّهُونَ عَلَى مَذْهَبِهِ، (ت 161 هـ)، مِنْ طَبَقَةِ كِبَارِ الأَتْبَاعِ الَّذِينَ لَمْ يَلْقَوا الصَّحَابَةَ
(2)
.
- قَولُهُ: (عَنْ مَنْصُورٍ): هُوَ ابْنُ المُعْتَمِرِ؛ أَبُو عَتَّابٍ السُّلَمِيُّ، ثِقَةٌ ثَبْتٌ فَقِيهٌ، (ت 132 هـ)، مِنَ الطَّبَقةِ الصُغْرَى مِنَ التَّابِعِينَ
(3)
.
- قَولُهُ: (عَنْ مُجَاهِدٍ): هُوَ مُجَاهِدُ بْنُ جَبْرٍ؛ أَبُو الحَجَّاجِ المَخْزُومِيُّ المَكِّيُّ، ثِقَةٌ إِمَامٌ فِي التَّفْسِيرِ، أَخَذَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيرِهِ، وُلِدَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ رضي الله عنه، (ت 104 هـ)، مِنَ الطَّبَقَةِ الوسْطَى مِنَ التَّابِعِينَ
(4)
.
- قَولُهُ: (أَبُو الجُوزَاءِ): هُوَ أَوسُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الرَّبَعِيُّ، (ت 83 هـ)، مِنَ الطَّبَقةِ الوسْطَى مِنَ التَّابِعِينَ
(5)
.
- السَّوِيقُ: هُوَ الحَبُّ (مِنْ قَمْحٍ أَو شَعِيرٍ) يُحْمَصُ عَلَى النَّارِ، ثُمَّ يُطْحَنُ، ثُمَّ يُوضَعُ مَعَهُ سَمْنٌ أَو زَيتٌ وَيُخْلَطُ وَيُؤْكَلُ، وَقَدْ يَكُونُ مَعَهُ غَيرُ ذَلِكَ.
- (اللَّاتُ): بِالتَّخْفِيفِ، وَأَيضًا بِالتَّشْدِيدِ. فَعَلَى الأَوَّلِ: اللَّاتُ: اشْتِقَاقٌ مِنَ اللهِ،
(1)
فَتْحُ المَجِيدِ (ص 249).
قُلْتُ: وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ سُفْيَانُ الثَّورِيُّ؛ لِأَنَّ إِسْنَادَ الطَّبَرِيِّ هُوَ مِنْ رِوَايَةِ مَهْرَانَ عَنْهُ، وَمَهْرَانُ هَذَا هُوَ ابْنُ أَبِي عُمَرَ العَطَّار، وُهُوَ يَرْوِي عَنِ الثَّورِيِّ وَلَيسَ عَنِ ابْنِ عُيَينَةَ. اُنْظُرْ كِتَابَ (الجَرْحُ وَالتَّعْدِيلُ) لِابْنِ أَبِي حَاتِم (8/ 301).
(2)
وَأَمَّا سُفْيَانُ بْنُ عُيَينَةَ الهِلَالِيُّ؛ فَإِنَّ وَفَاتَهُ سَنَةَ (198 هـ). اُنْظُرْ سِيَرَ أَعْلَامِ النًّبَلَاءِ (7/ 229) لِلْحَافِظِ الذَّهَبِيِّ رحمه الله.
(3)
اُنْظُرْ (سِيَرُ أَعْلَامِ النُّبَلَاءِ)(5/ 402) لِلْحَافِظِ الذَّهَبِيِّ رحمه الله.
(4)
اُنْظُرْ (سِيَرُ أَعْلَامِ النُّبَلَاءِ)(4/ 449) لِلْحَافِظِ الذَّهَبِيِّ رحمه الله
(5)
اُنْظُرْ (الثِقَاتُ) لِابْنِ حِبَّانَ (4/ 42).
وَهُوَ تَأْنِيثٌ مِنَ اللهِ -تَعَالَى اللهُ عَمَّا يَقُولُونَ-.
وَعَلَى الثَّانِي: اللَّاتُّ: مِنَ اللَّتِّ، حَيثُ كَانَ يَلُتُّ السَّوِيقَ لِلحَاجِّ
(1)
.
- اللَّاتُ
(2)
: كَانَتْ صَخْرَةً بَيضَاءَ مَنْقُوشَةً، عَلَيهَا بَيتٌ وَأَسْتَارٌ
(3)
وَسَدَنَةٌ وَحَولَهُ فِنَاءٌ مُعظَّمٌ عِنْدَ أَهْلِ الطَّائِفِ، وَهُمْ ثَقِيفٌ وَمَنْ تَبِعَهَا، بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَيهَا المُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ فَهَدَمَهَا وَحَرَّقَها بِالنَّارِ.
وَالعُزَّى
(4)
: كَانَتْ شَجَرَةً عَلَيهَا بِنَاءٌ وَأَسْتَارٌ بِنَخْلَة -مَكَانٌ بَينَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ- كَانَتْ قُرَيشٌ يُعَظِّمُونَها، وَلَمَّا فَتَحَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ بَعَثَ خَالِدَ بْنَ الوَلِيدِ إِلَيهَا فَهَدَمَهَا.
وَأَمَّا مَنَاةُ
(5)
: فَصَنَمٌ بَينَ مَكَّةَ وَالمَدِينَةِ، وَكَانَتْ خُزَاعَةُ وَالأَوسُ وَالخَزْرَجُ يُعَظِّمُونَهَا وَيُهِلُّونَ مِنْهَا لِلحَجِّ، بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلِيًّا فَهَدَمَهَا عَامَ الفَتْحِ
(6)
.
(1)
"اللَّتُّ: الدَّقُّ وَالشَّدُّ وَالإِيثَاقُ وَالفَتُّ وَالسَّحْقُ". القَامُوسُ المُحِيطُ (ص 159).
(2)
هَذِهِ الأَوثَانُ الثَّلَاثَةُ هِيَ أَعْظَمُ أَوثَانِ الجَاهِلِيَّةِ لِأَهْلِ الحِجَازِ، وَلِهَذَا نُصَّ عَلَيهَا بِأَعْيَانِهَا، وَإِلَّا فَفِي الحِجَازِ أَوثَانٌ غَيرُهَا كَثِيرَةٌ، وَلَكِنَّ الفِتْنَةَ بِهَا أَشَدُّ.
وَهَذِهِ الصَّخْرَةُ تَرْمُزُ لِرَجُلٍ صَالِحٍ كَانَ يَجْلِسُ عِنْدَهَا.
قَالَ القُرْطُبُيُّ رحمه الله في التَّفْسِيرِ (17/ 100): "قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ (اللَاتُّ) يَبِيعُ السَّوِيقَ وَالسَّمْنَ عِنْدَ صَخْرَةٍ وَيَصُبُّهُ عَلَيهَا، فَلَمَّا مَاتَ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَبَدَتْ ثَقِيفُ تِلْكَ الصَّخْرَةَ إِعْظَامًا لِصَاحِبِ السَّوِيقِ".
(3)
إِنَّ وُجُودَ البَيتِ وَالأَسْتَارِ عَلَى الصَّنَمِ هُوَ لِتُضَاهَى بِهِ الكَعْبَةُ؛ فَيُعْتَكَفُ عِنْدَهَا وَيُطَافُ بِهَا، كَالكَعْبَةِ اليَمَانِيَّةِ عَلَى صَنَمِ دَوسٍ (ذِي الخَلَصَةِ).
(4)
(العُزَّى): لُغَةً: مُؤَنَّثُ أَعَزّ، وَقَدْ جَعَلَ المُشْرِكُونَ الإِنَاثَ للهِ كَالمَلَائِكَةِ وَاللَاتِ وَالعُزَّى وَمَنَاة.
(5)
وَفِي الأَثَرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُم اشْتَقُّوا اللَاتَ مِنَ الإِلَهِ، وَالعُزَّى مِنَ العَزِيزِ، وَمَنَاةَ مِنَ المَنَّانِ. وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللهُ مَزِيدٌ في بَابِ قَولِ اللهِ تَعَالَى:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 180].
(6)
يُنْظَرُ تَفْسِيرُ ابْنِ كَثِيرٍ (7/ 456).
وَسُمِّيَتْ بِـ (مَنَاةَ) لِكَثْرَةِ مَا يُمْنَى (يُرَاقُ) عَلَيهَا مِنَ الدِّمَاءِ.
- حُكْمُ زِيَارَةِ القُبُورِ:
هُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ -بِحَسْبِ القَصْدِ وَالفِعْلِ-:
1 -
سُنَّةٌ: وَهِيَ الزِّيَارَةُ لِلاتِّعَاظِ وَالدُّعَاءِ لِلمَوتَى.
2 -
بِدْعَةٌ: وَهِيَ الزِّيَارَةُ لِقِرَاءَةِ القُرْآنِ وَالدُّعَاءِ عِنْدَهَا.
3 -
شِرْكٌ: وَهِيَ الزِّيَارَةُ لِدُعَاءِ الأَمْوَاتِ وَالاسْتِنْجَادِ بِهِم وَالاسْتِغَاثَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
- قَولُهُ: ((وَالمُتَّخِذِينَ عَلَيهَا المَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ)) عَطْفُ إِسْرَاجِ القُبُورِ عَلَى البِنَاءِ عَلَيهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ ذَرَائِعِ الشِّرْكِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ غُلُوٌّ فِي المَقْبُورِ يُؤَدِّي لِلافْتِتَانِ بِهِ.
- إِيقَادُ السُّرُجِ عَلَى القُبُورِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لِأَوجُهٍ:
1 -
وَسِيلَةٌ لِلافْتِتَانِ بِالمَقْبُورِ؛ فَهُوَ مِنْ ذَرَائِعِ الشِّرْكِ.
2 -
بِدْعَةٌ مُحْدَثَةٌ لَا يَعْرِفُهَا السَّلَفُ الصَّالِحُ.
3 -
إِضَاعَةٌ لِلمَالِ.
4 -
تَشَبُّهٌ بِالمَجُوسِ عُبَّادِ النَّارِ.
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ الهَيتَمِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ الزَّوَاجِرُ (1/ 273): "صَرَّحُ أَصْحَابُنَا بِحُرْمَةِ السِّرَاجِ عَلَى القَبْرِ -وَإِنْ قَلَّ- حَيثُ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ مُقِيمٌ وَلَا زَائِرٌ، وَعَلَّلُوهُ بِالإِسْرَافِ وَإِضَاعَةِ المَالِ وَالتَّشَبُّهِ بِالمَجُوسِ، فَلَا يَبْعُدُ فِي هَذَا أَنْ يَكُونَ كَبِيرَةً"
(1)
.
(1)
الزَّوَاجِرُ (1/ 273).
مَسَائِلُ عَلَى البَابِ
-
المَسْأَلَةُ الأُولَى: فِي الَحِديثِ -وَكَذَا فِي القُرْآنِ-: (غَضِبَ اللهُ): الغَضَبُ للهِ تَعَالَى هَلْ هُوَ صِفَةٌ حَقِيقيَّةٌ ثَابِتَةٌ للهِ تَعَالَى؟
أَمْ كَمَا قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ (التَّعْطِيلِ): غَضَبُ اللهِ هُوَ الانْتِقَامُ مِمَّنْ عَصَاهُ! وَبَعْضُهُم يَقُولُ: إِرَادَةُ الانْتِقَامِ مِمَّنْ عَصَاهُ! وَالحُجَّةُ عِنْدَهُم أَنَّ إِثْبَاتَ الغَضَبِ للهِ هُوَ تَشْبِيهٌ لِلخَالِقِ بِالمَخْلُوقِ! وَوَصْفٌ لَهُ بِمَا لَا يَلِيقُ!
الجَوَابُ:
إِنَّ صِفَةَ الغَضَبِ صِفَةٌ حَقِيقيَّةٌ ثَابِتَةٌ للهِ تَعَالَى، وَالدَّلِيلُ مِنْ جِهَتَينِ:
الجِهَةِ الأُولَى: إِنَّ غَضَبَ اللهِ تَعَالَى لَا يُمَاثِلُ غَضَبَ المَخْلُوقِينَ؛ لَا فِي الحَقِيقَةِ وَلَا فِي الأَثَرِ:
1 -
فَمِنْ حَيثُ الحَقِيقَةِ: غَضَبُ المَخْلُوقِ هُوَ غَلَيَانُ دَمِ القَلْبِ طَلَبًا لِلانْتِقَامِ، وَهُوَ جَمْرَةٌ يُلْقِيهَا الشَّيطَانُ فِي قَلْبِ ابْنِ آدَمَ حَتَّى يَفُورَ، أَمَّا غَضَبُ الخَالِقِ؛ فَإِنَّهُ صِفَةٌ لَا تُمَاثِلُ هَذَا، قَالَ تَعَالَى:{لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشُّورَى: 11].
2 -
مِنْ حَيثُ الأَثَرِ: غَضَبُ الآدَمِيِّ قَدْ يُؤَثِّرُ آثَارًا غَيرَ مَحْمُودَةٍ، فَقَدْ يَقْتُلُ المَغْضُوبَ عَلَيهِ، وَرُبَّمَا يُطَلِّقُ زَوجَتَهُ، أَو يِكْسِرُ الإِنَاءَ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا لَيسَ لَهُ أَدْنَى ارْتِبَاطٍ بِمَوضُوعِ الغَضَبِ نَفْسِهِ! وَأَمَّا غَضَبُ اللهِ تَعَالَى فَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيهِ إِلَّا آثَارٌ حَمِيدَةٌ؛ فَاللهُ تَعَالَى عَزِيزٌ حَكِيمٌ.
وَتَأَمَّلِ الاقْتِرَانَ بَينَ بَعْضِ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى كَالعَزِيزِ وَالحَكِيمِ؛ حَيثُ يَتَبَيَّنُ لَكَ
أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا تُخْرِجُهُ عِزَّتُهُ سُبْحَانَهُ عَنْ حِكْمَتِهِ؛ بِخِلَافِ العَزِيزِ مِنَ البَشَرِ
(1)
.
الجِهَةِ الثَّانِيةِ: يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ تَأْوِيلِ صِفَةِ الغَضَبِ بِالانْتِقَامِ
(2)
قَولُهُ تَعَالَى: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} [الزُّخْرُف: 55]، فَإِنَّ مَعْنَى {آسَفُونَا} أَغْضَبُونَا
(3)
، فَجَعَلَ الانْتِقَامَ غَيرَ الغَضَبِ؛ بَلْ أَثَرًا مُتَرَتِّبًا عَلَيهِ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى بُطْلَانِ تَفْسِيرِ الغَضَبِ بِالانْتِقَامِ.
قُلْتُ: وَأَيضًا؛ فَالغَضَبُ صِفَةٌ تَدُلُّ عَلَى القُدْرَةِ؛ فَلَيسَتْ مَذْمُومَةً مُطْلَقًا!
قَالَ شَيخُ الإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: "وَالمُؤْلِمُ إِنْ كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ دَفْعُهُ أَثَارَ الغَضَبَ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ أَثَارَ الحُزْنَ، وَلِهَذَا يَحْمَرُّ الوَجْهُ عِنْدَ الغَضَبِ لِثَوَرَانِ الدَّمِ عِنْدَ اسْتِشْعَارِ القُدْرَةِ، وَيَصْفَرُّ عِنْدَ الحُزْنِ لِغَورِ الدَّمِ عِنْدَ اسْتِشْعَارِ العَجْزِ"
(4)
.
(1)
اُنْظُرْ كِتَابَ (القَولُ المُفِيدُ)(1/ 422).
(2)
وَإِنْ كَانَ الانْتِقَامُ قَدْ يَكُونُ مِنْ آثَارِ الغَضَبِ أَحْيَانًا، فَاللهُ تَعَالَى يُوصَفُ بِالانْتِقَامِ مِنَ المُجْرِمِينَ، كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى:{إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} [السَّجْدَة: 22].
(3)
تَفْسِيرُ الطَّبَرِيِّ (13/ 121).
(4)
مَجْمُوعُ الفَتَاوَى (28/ 159).
-
المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَا حُكْمُ زِيَارَةِ النِّسَاءِ لِلمَقَابِرِ؟
الجَوَابُ:
فِيهَا خِلَافٌ بَينَ أَهْلِ العِلْمِ، وَقَدْ ذَهَبَ الأَكْثَرُ إِلَى الجَوَازِ مَعَ الكَرَاهَةِ
(1)
(2)
-وَهُوَ الأَرْجَحُ- وَتَدُلُّ لَهُ أُمُورٌ، مِنْهَا
(3)
:
1 -
عُمُومُ قَولِهِ صلى الله عليه وسلم: ((إِنِّي كُنْتُ نَهَيتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ القُبُورِ؛ فَزُورُوهَا
(4)
فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُم الآخِرَةَ))
(5)
(6)
.
(1)
وَتَوَسَّعَ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ فِي عُمُومِ النَّهْي حَتَّى لِزِيَارَةِ حُجْرَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي المَسْجِدِ النَّبَوِيِّ.
(2)
قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رحمه الله فِي المَجْمُوعِ (5/ 310): "وَالَّذِي قَطَعَ بِهِ الجُمْهُورُ أَنَّهَا مَكْرُوهَةٌ لَهُنَّ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ".
وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي النَّيلِ (4/ 134): "وذَهَبَ الأَكْثَرُ إِلَى الجَوَازِ إِذَا أُمْنَتِ الفِتْنَةُ. قَالَ القُرْطُبِيُّ: اللَّعْنُ المَذْكُورُ فِي الحَدِيثِ إِنَّمَا هُوَ لِلمُكْثِرَاتِ مِنَ الزِّيَارَةِ لِمَا تَقْتَضِيهِ الصِّيغَةُ مِنَ المُبَالَغَةِ، وَلَعَلَّ السَّبَبَ مَا يُفْضِي إِلَيهِ ذَلِكَ مِنْ تَضْيِيعِ حَقِّ الزَّوجِ وَالتَّبَرُّجِ وَمَا يَنْشَأُ مِنَ الصِّيَاحِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَقَدْ يُقَالُ: إِذَا أُمِنَ جَمِيعُ ذَلِكَ فَلَا مَانِعَ مِنَ الإِذْنِ لَهُنَّ؛ لِأَنَّ تَذَكُّرَ المَوتِ يَحْتَاجُ إِلَيهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ. انْتَهَى. وَهَذَا الكَلَامُ هُوَ الَّذِي يَنْبَغِي اعْتِمَادُهُ فِي الجَمْعِ بَينَ أَحَادِيثِ البَابِ المُتَعَارِضَةِ فِي الظَّاهِرِ".
(3)
وَالأَدِلَّةُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ كِتَابِ (أَحْكَامُ الجَنَائِزِ)(ص 180) لِلشَّيخِ الأَلْبَانِيِّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى، وَقَالَ فِيهِ رحمه الله أَيضًا:"وَالنِّسَاءُ كَالرِّجَالِ فِي اسْتِحْبَابِ زِيَارَةِ القُبُورِ، وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ لَهُنَّ الإِكْثَارُ مِنْ زِيَارَةِ القُبُورِ وَالتَّرَدُّدِ عَلَيهَا، لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يُفْضِي بِهِنَّ إِلَى مُخَالَفَةِ الشَّرِيعَةِ مِنْ مِثْلِ الصِّيَاحِ وَالتَّبَرُّجِ وَاتِّخَاذِ القُبُورِ مَجَالِسَ لِلنُّزْهَةِ، وَتَضْيِيعِ الوَقْتِ فِي الكَلَامِ الفَارَغِ كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ اليَومَ فِي بَعْضِ البِلَادِ الإِسْلَامِيَّةِ، وَهَذَا هُوَ المُرَادُ -إِنْ شَاءَ اللهُ- بِالحَدِيثِ المَشْهُورِ: ((لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم -وَفِي لَفْظٍ: لَعَنَ اللهُ- زَوَّارَاتِ القُبُورِ)) ".
(4)
وَالأَمْرُ هُنَا لَيسَ لِلوُجُوبِ، وَلَكِنَّهُ عَلَى قَاعِدَةِ:(الأَمْرُ بَعْدَ النَّهْي يُفِيدُ مُطْلَقَ الإِبَاحَةِ).
(5)
مُسْلِمٌ (1977)، وَالتِّرْمِذِيُّ (1054) عَنْ بُرَيدَةَ مَرْفُوعًا.
(6)
وَقَدْ أَجَابَ عَنْهُ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ بِحَدِيثِ ((لَعَنَ اللهُ زَائِرَاتِ القُبُورِ)) وَذَلِكَ بِأَنَّ هَذَا الحَدِيثَ مُخَصِّصٌ لِلحَدِيثِ السَّابِقِ، وَلَكِنْ أَيضًا يُجَابُ عَلَى جَوَابِهِم بِأُمُورٍ؛ مِنْهَا:
أ- أَنَّ حَدِيثَ الإِبَاحَةِ هُوَ نَاسِخٌ لِحَدِيثِ نَهْي النِّسَاءِ الَّذِي فِيهِ اللَّعْنُ.
=
2 -
مُشَارَكَةُ النِّسَاءِ لِلرِّجَالِ فِي العِلَّةِ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا شُرِعَتْ زِيَارَةُ القُبُورِ: ((فَإِنَّهَا تُرِقُّ القَلْبَ، وَتُدْمِعُ العَينَ، وَتُذَكِّرُ الآخِرَةَ))
(1)
.
3 -
أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ رَخَّصَ لِلنِّسَاءِ فِي زِيَارَةِ القُبُورِ، وَفِيهَا أَحَادِيثُ:
أ- عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي مُلَيكَةَ (أَنَّ عَائِشَةَ أَقْبَلَتْ ذَاتَ يَومٍ مِنَ المَقَابِرِ، فَقَالَ لَهَا: يَا أُمَّ المُؤْمِنِينَ؛ مِنْ أَينَ أَقْبَلْتِ؟ قَالَتْ: مِنْ قَبْرِ أَخِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، فَقُلْتُ لَهَا: أَلَيسَ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ زِيَارَةِ القُبُورِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، كَانَ نَهَى؛ ثُمَّ أَمَرَنَا بِزِيَارَتِهَا). وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهَا: (أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ فِي زِيَارَةِ القُبُورِ)
(2)
(3)
.
ب- فِي قِصَّةِ إِتْيَانِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم البَقِيعَ لَيلًا لِيَسْتَغْفِر لِأَهْلِهِ، حَيثُ قَالَتْ عَائِشَةُ
=
قُلْتُ: وَلَا يُقَالُ هُنَا بِالتَّخْصِيصِ -بِأَنْ يَكُونَ العَامُّ الَّذِي يَشْمَلُ الرِّجالَ وَالنِّسَاءَ هُنَا مَخْصُوصٌ بِحَدِيثِ النَّهْي الَّذِي فِيهِ اللَّعْنُ لِلنِّسَاءِ-! وَذَلِكَ لِكَونِ العِلَّةِ مُشْتَرِكَةً فِي الحَالَتَينِ جَمِيعًا، فَمَا كَانَ سَبَبًا لِلمَنْعِ مِنَ الزِّيَارةِ أَوَّلًا هُوَ مَشْتَرَكٌ بَينَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، ثُمَّ لَمَّا أُبِيحَ أُبِيحَ لِعِلَّةٍ أَيضًا مُشْتَرَكَةٍ بَينَ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ؛ وَهِيَ التَّذْكِيرُ بِالآخِرَةِ.
قَالَ التِّرْمِذِيُّ رحمه الله فِي السُّنَنِ (2/ 363) -عَقِبَ حَدِيثِ لَعْنِ الزَّوَّارَاتِ-: "وَقَدْ رَأَى بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ أَنَّ هَذَا كَانَ قَبْلَ أَنْ يُرَخِّصَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي زِيَارَةِ القُبُورِ، فَلَمَّا رَخَّصَ دَخَلَ فِي رُخْصَتِهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ).
ب- أَنَّ حَدِيثَ نَهْي النِّسَاءِ -فِقْهًا- بَاقٍ عَلَى عُمُومِ النَّهْي مِنْ جِهَةِ الإِكْثَارِ مِنَ الزِّيَارَةِ، وَمَنْسُوخٌ مِنْ جِهَةِ مَنْعِ مُطْلَقِ الزِّيَارَةِ. وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(1)
صَحِيحٌ. الحَاكِمُ (1393) عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (4584).
(2)
صَحِيحٌ. الحَاكِمُ (1392)، وَالبَيهَقِيُّ فِي الكُبْرَى (7207). أَحْكَامُ الجَنَائِزِ (ص 181).
(3)
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُم عَلَى المَنْعِ بِمَفْهُومِ حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ (1055) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي مُلَيكَةَ؛ قَالَ: تُوفِّيَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ بِـ (الحَبَشِيِّ) -مَكَانٌ بَينَهُ وَبَينَ مَكَّةَ اثْنَا عَشَرَ مِيلًا- فَحُمِلَ إِلَى مَكَّةَ فَدُفِنَ فِيهَا، فَلَمَّا قَدِمَتْ عَائِشَةُ أَتَتْ قَبْرَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ فَقَالَتْ -فِي جُمْلَةِ مَا قَالَتْ رضي الله عنها:(وَلَو شَهِدْتُكَ مَا زُرْتُكَ). فَفِيهِ ابْنُ جُرَيحٍ مُدَلِّسٌ؛ وَقَدْ عَنْعَنَهُ. ضَعِيفُ التِّرْمِذِيِّ (1055).
رضي الله عنها: قُلْتُ: كَيفَ أَقُولُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: ((قُولِي: السَّلَامُ عَلَى أَهْلِ الدِّيَارِ مِنَ المُؤْمِنِينَ وَالمُسْلِمِينَ، وَيَرْحَمُ اللهُ المُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَالمُسْتَأْخِرِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ
(1)
(2)
.
(1)
رَوَاهُ مُسْلِمٌ (974).
وَالحَدِيثُ بِتَمَامِهِ: قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: أَلَا أُحَدِّثُكُمْ عَنِّي وَعَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قُلْنَا: بَلَى، قَالَتْ: لَمَّا كَانَتْ لَيلَتِي الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِيهَا عِنْدِي؛ انْقَلَبَ فَوَضَعَ رِدَاءَهُ، وَخَلَعَ نَعْلَيهِ، فَوَضَعَهُمَا عِنْدَ رِجْلَيهِ، وَبَسَطَ طَرَفَ إِزَارِهِ عَلَى فِرَاشِهِ، فَاضْطَجَعَ، فَلَمْ يَلْبَثْ إِلَّا رَيثَمَا ظَنَّ أَنْ قَدْ رَقَدْتُ؛ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ رُوَيدًا، وَانْتَعَلَ رُوَيدًا، وَفَتَحَ البَابَ فَخَرَجَ، ثُمَّ أَجَافَهُ رُوَيدًا، فَجَعَلْتُ دِرْعِي فِي رَأْسِي، وَاخْتَمَرْتُ، وَتَقَنَّعْتُ إِزَارِي، ثُمَّ انْطَلَقْتُ عَلَى إِثْرِهِ، حَتَّى جَاءَ البَقِيعَ فَقَامَ، فَأَطَالَ القِيَامَ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ انْحَرَفَ فَانْحَرَفْتُ، فَأَسْرَعَ فَأَسْرَعْتُ، فَهَرْوَلَ فَهَرْوَلْتُ، فَأَحْضَرَ فَأَحْضَرْتُ، فَسَبَقْتُهُ فَدَخَلْتُ، فَلَيسَ إِلَّا أَنِ اضْطَجَعْتُ فَدَخَلَ، فَقَالَ:((مَا لَكِ يَا عَائِشُ حَشْيَا رَابِيَةً؟)) قَالَتْ: قُلْتُ: لَا شَيءَ، قَالَ:((لَتُخْبِرِينِي أَو لَيُخْبِرَنِّي اللَّطِيفُ الخَبِيرُ))، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، فَأَخْبَرْتُهُ، قَالَ:((فَأَنْتِ السَّوَادُ الَّذِي رَأَيتُ أَمَامِي؟)) قُلْتُ: نَعَمْ، فَلَهَدَنِي فِي صَدْرِي لَهْدَةً أَوجَعَتْنِي، ثُمَّ قَالَ:((أَظَنَنْتِ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيكِ وَرَسُولُهُ؟)) قَالَتْ: مَهْمَا يَكْتُمِ النَّاسُ يَعْلَمْهُ اللهُ، نَعَمْ، قَالَ:((فَإِنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي حِينَ رَأَيتِ، فَنَادَانِي، فَأَخْفَاهُ مِنْكِ، فَأَجَبْتُهُ، فَأَخْفَيتُهُ مِنْكِ، وَلَمْ يَكُنْ يَدْخُلُ عَلَيكِ وَقَدْ وَضَعْتِ ثِيَابَكِ، وَظَنَنْتُ أَنْ قَدْ رَقَدْتِ، فَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَكِ، وَخَشِيتُ أَنْ تَسْتَوحِشِي، فَقَالَ: إِنَّ رَبَّكَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَأْتِيَ أَهْلَ البَقِيعِ فَتَسْتَغْفِرَ لَهُمْ))، قُلْتُ: كَيفَ أَقُولُ لَهُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: ((قُولِي: السَّلَامُ عَلَى أَهْلِ الدِّيَارِ مِنَ المُؤْمِنِينَ وَالمُسْلِمِينَ، وَيَرْحَمُ اللهُ المُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَالمُسْتَأْخِرِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لَلَاحِقُونَ)).
وَ (الإحْضَارُ): الجَرْيُ، وَهُوَ أَشَدُّ مِنَ الهَرْوَلَةِ.
وَ (حَشْيَا): بِفَتْحِ المُهْمَلَةِ وَإسْكَانِ المُعْجَمَةِ مَعْنَاهُ: وَقَعَ عَلَيكِ الحَشَا؛ وَهُوَ الرَّبُو وَالتَّهَيُّجُ الَّذِي يَعْرِضُ لِلمُسْرِعِ فِي مَشْيِهِ مِنِ ارتِفَاعِ النَّفَسِ وَتَوَاتُرِهِ.
وَ (رَابِيَة): أَي: مُرْتَفِعَةُ البَطْنِ.
وَ (لَهَدَنِي): دَفَعَنِي.
(2)
وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ الإِتْيَانَ هُنَا مَعْنَاهُ المُرُورُ بِجَانِبِ المَقْبَرَةِ وَلَيسَ الدُّخُولَ! وَهُوَ بِعِيدٌ خِلَافُ الظَّاهِرِ.
4 -
إِقْرَارُهُ صلى الله عليه وسلم لِذَلِكَ.
كَمَا فِي حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِامْرَأَةٍ تَبْكِي عِنْدَ قَبْرٍ، فَقَالَ:((اتَّقِي اللهَ وَاصْبِرِي)). قَالَتْ: إِلَيكَ عَنِّي؛ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَبْ بِمُصِيبَتِي! وَلَمْ تَعْرِفْهُ، فَقِيلَ لَهَا: إِنَّهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. فَأَتَتْ بَابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ فَلَمْ تَجِدْ عِنْدَهُ بَوَّابِينَ، فَقَالَتْ: لَمْ أَعْرِفْكَ، فَقَالَ:((إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى)). مُتَّفَقٌ عَلَيهِ
(1)
(2)
.
(1)
رَوَاهُ البُخَارِيُّ (1283)، وَمُسْلِمٌ (926).
(2)
وَفِي الحَدِيثِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو؛ قَالَ: بَينَمَا نَحْنُ نَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللهِ؛ إِذْ بَصُرَ بِامْرَأَةٍ -لَا تَظُنُّ أَنَّهُ عَرَفَهَا- فَلَمَّا تَوَسَّطَ الطَّرِيقَ؛ وَقَفَ حَتَّى انْتَهَتْ إِلَيهِ، فَإِذَا فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللهِ، قَالَ لَهَا:((مَا أَخْرَجَكِ مِنْ بَيتِكِ يَا فَاطِمَةُ؟)) قَالَتْ: أَتَيتُ أَهْلَ هَذَا المَيِّتِ؛ فَتَرَحَّمْتُ إِلَيهِمْ، وَعَزَّيتُهُمْ بِمَيِّتِهِمْ. قَالَ:((لَعَلَّكِ بَلَغْتِ مَعَهُمُ الكُدَى)). قَالَتْ: مَعَاذَ اللهِ أَنْ أَكُونَ بَلَغْتُهَا -وَقَدْ سَمِعْتُكَ تَذْكُرُ فِي ذَلِكَ مَا تَذْكُرُ-. فَقَالَ لَهَا: ((لَو بَلَغْتِهَا مَعَهُمْ؛ مَا رَأَيتِ الجَنَّةَ حَتَّى يَرَاهَا جَدُّ أَبِيكِ)). ضَعِيفٌ. النَّسَائِيٌّ (1880). ضَعِيفُ النَّسَائِيِّ (1880). وَ (الكُدَى): القُبُورُ.
وَوَرَدَ أَيضًا مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ رضي الله عنه وَغَيرِهِ مَرْفُوعًا فِي رُؤْيَتِهِ صلى الله عليه وسلم نِسْوَةً خَرَجْنَ لِجِنَازَةٍ -لِغَيرِ حَاجَةِ غَسْلٍ أَو نَحْوِهِ- قَالَ: ((ارْجِعْنَ مَأْزُورَاتٍ؛ غَيرَ مَأْجُورَاتٍ)). ضَعِيفٌ. ابْنُ مَاجَه (1578) عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا. الضَّعِيفَةُ (2742).
قُلْتُ: وَفِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ (1278) -بَابُ اتِّبَاعِ النِّسَاءِ الجَنَائِزَ- عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رضي الله عنها؛ قَالَتْ: (نُهِينَا عَنِ اتِّبَاعِ الجَنَائِزِ؛ وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَينَا).
بَابُ مَا جَاءَ فِي حِمَايَةِ المُصْطَفَى جَنَابَ التَّوحِيدِ وَسَّدِّهِ كُلَّ طَرِيقٍ يُوَصِّلُ إِلَى الشِّرْكِ
وَقَولُ اللهِ تَعَالَى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة: 128 - 129].
عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه؛ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا، وَلَا تَجْعَلُوا قَبْرِي عِيدًا، وَصَلُّوا عَلَيَّ؛ فَإِنَّ تَسْلِيمَكُمْ يَبْلُغُنِي حَيثُ كُنْتُمْ)). رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ
(1)
.
وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ الحُسَينِ رضي الله عنه؛ أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا يَجِيءُ إِلَى فُرْجَةً كَانَتْ عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَيَدْخُلُ فِيهَا فَيَدْعُو، فَنَهَاهُ، وَقَالَ: أَلَا أُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا سَمِعْتُهُ مِنْ أَبِي عَنْ جَدِّي عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: ((لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا، وَلَا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا، وَصَلُّوا عَلَيَّ؛ فَإِنَّ تَسْلِيمَكُمْ لَيَبْلُغُنِي أَينَ كُنْتُمْ)). رَوَاهُ فِي المُخْتَارَةِ
(2)
.
(1)
صَحِيحٌ. أَبُو دَاوُدَ (2042). صَحِيحُ الجَامِعِ (7226)، وَهُوَ بِلَفْظِ:((فَإِنَّ صَلَاتَكُم))، وَالَّذِي فِي
المَتْنِ
هُوَ مِنْ لَفْظِ مُسْنَدِ أَبِي يَعْلَى (6761) عَنِ الحَسَنِ مَرْفُوعًا.
(2)
صَحِيحٌ لِغَيرِهِ. الضِّيَاءُ المَقْدِسِيُّ فِي المُخْتَارَةِ (2/ 49)، وَقَالَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ تَخْرِيجُ أَحَادِيثِ فَضَائِلِ الشَّامِ (ص 52):"صَحِيحٌ بِطُرُقِهِ وشَوَاهِدِهِ".
فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: تَفْسِيرُ آيَةِ (بَرَاءَة).
الثَّانِيَةُ: إِبْعَادُهُ أُمَّتَهُ عَنْ هَذَا الحِمَى غَايَةَ البُعْدِ.
الثَّالِثَةُ: ذِكْرُ حِرْصِهِ عَلَينَا وَرَأْفَتِهِ وَرَحْمَتِهِ.
الرَّابِعَةُ: نَهْيُهُ عَنْ زِيَارَةِ قَبْرِهِ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ؛ مَعَ أَنَّ زِيَارَتَهُ مِنْ أَفْضَلِ الأَعْمَالِ.
الخَامِسَةُ: نَهْيُهُ عَنِ الإِكْثَارِ مِنَ الزِّيَارَةِ.
السَّادِسَةُ: حَثُّهُ عَلَى النَّافِلَةِ فِي البَيتِ.
السَّابِعَةُ: أَنَّهُ مُتَقَرَّرٌ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَا يُصَلَّى فِي المَقْبَرَةِ.
الثَّامِنَةُ: تَعْلِيلُ ذَلِكَ بِأَنَّ صَلَاةَ الرَّجُلِ وَسَلَامَهُ عَلَيهِ يَبْلُغُهُ وَإِنْ بَعُدَ؛ فَلَا حَاجَةَ إِلَى مَا يَتَوَهَّمُهُ مَنْ أَرَادَ القُرْبَ.
التَّاسِعَةُ: كَونُهُ صلى الله عليه وسلم فِي البَرْزَخِ تُعْرَضُ أَعْمَالُ أُمَّتِهِ فِي الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيهِ.
الشَّرْحُ
- قَولُهُ: (المُصْطَفَى): أَصْلُهَا المُصْتَفَى، مِنَ الصَّفْوَةِ: وَهُوَ خِيَارُ الشَّيءِ، وَهُمُ الأَنْبِيَاءُ، وَهُوَ صلى الله عليه وسلم خِيرَةُ الأَنْبِيَاءِ.
- قَولُهُ: (جَنَابَ): أَي: جَوَانِبَ التَّوحِيدِ.
- قَولُهُ تَعَالَى: {عَزِيزٌ عَلَيهِ مَا عَنِتُّمْ} مَا: مَصْدَرِيَّةٌ، أَي: عَزِيزٌ عَلَيهِ عَنَتُكُم، أَي: مَشَقَّتُكُم.
- قَولُهُ تَعَالَى: {عَزِيزٌ عَلَيهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيكُمْ} جَمَعَ فِيهِ بَينَ دَفْعِ المَكْرُوبِ وَحُصُولِ المَحْبُوبِ.
- قَولُهُ تَعَالَى: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} بِالمُؤْمِنِينَ: جَارٌّ وَمَجْرُورٌ، وَهُوَ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ يُفِيدُ الحَصْرَ، كَقَولِهِ تَعَالَى:{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَينَهُمْ} [الفَتْحِ: 29].
- قَولُهُ تَعَالَى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ} وَجْهُ الأَمْرِ بِالاحْتِسَابِ عِنْدَ التَّوَلِّي هُوَ أَنَّ التَّوليَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم يُشْعِرُ بِالضَّعْفِ لِقِلَّةِ المَتْبُوعِينَ؛ فَلِذَلِكَ كَانَ الإِرْشَادُ إِلَى التَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ تَعَالَى وَجَعْلِهِ حَسِيبَهُ وَكَافِيَهُ.
- قَولُ: (حَسْبِيَ اللهُ ونِعْمَ الوَكيلِ): تُقَالُ فِي الشَّدَائِدِ، فَهِيَ لِلاسْتِعَانَةِ
(1)
، كَقَولِهِ
(1)
وَلَيسَتْ لِلتَّحَسُّرِ عَلَى فَوَاتِ المَطْلُوبِ! أَو لِلتَّأَفُّفِ مِنْ حُصُولِ مَكْرُوهٍ! أَو لِلسَّبِّ وَالشَّتْمِ! بَلْ مَعْنَاهَا تَوحِيدُ الأُلُوهِيَّةِ، وَذَلِكَ بِحَصْرِ الاسْتِعَانَةِ بهِ سُبْحَانَهُ؛ لِمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ تَوحِيدِ الرُّبُوبِيَّة، فَالحَسْبُ هُوَ الكَافِي، وَلَا يَكْفِي فِي كُلِّ شَيءٍ إِلَّا الرَّبُّ سبحانه وتعالى.
تَعَالَى فِي يَومِ أُحُدٍ {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} فَكَانَتِ العَاقِبَةُ {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عِمْرَان: 173 - 174]، وَقَولِ إِبْرَاهِيمَ عليه الصلاة والسلام حِينَ أُلقِيَ فِي النَّارِ
(1)
.
- قَولُهُ تَعَالَى: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيهِ تَوَكَّلْتُ} جَمَعَ فِيهَا تَوحِيدَيِّ الرُّبُوبِيَّةِ وَالأُلُوهِيَّةِ.
- قَولُهُ تَعَالَى: {عَلَيهِ تَوَكَّلْتُ} فِيهِ تَقْدِيمُ الجَارِّ وَالمَجْرُورِ لِإِفَادَةِ الحَصْرِ.
- التَّوكُّلُ عَلَى اللهِ: هُوَ الاعْتِمَادُ عَلَيهِ فِي جَلْبِ المَنَافِعِ وَدَفْعِ المَضَارِّ، مَعَ الثِّقَةِ بِهِ، وَفِعْلِ الأَسْبَابِ النَّافِعَةِ.
- قَولُهُ تَعَالَى: {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} العَظِيمُ صِفَةٌ لِلعَرْشِ، وَعَظَمَتُهُ تَدُلُّ عَلَى عَظَمَةِ خَالِقِهِ سُبْحَانَهُ، وَهِيَ كَقَولِهِ تَعَالَى:{ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} [البُرُوج: 15] عَلَى قِرَاءَةِ الكَسْرِ
(2)
، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اسْمَ (العَظِيمِ) يُوصَفُ بِهَا المَخْلُوقُ، وَمِثْلُهُ (الرَّحِيمُ) وَ (الرَّؤُوفُ) وَ (الحَكِيمُ)، وَلَكِنَّ عَظَمَتَهُ وَرَحْمَتَهُ وَرَأْفَتَهُ وَحِكْمَتَهُ سُبْحَانَهُ لَيسَتْ كَعَظَمَةِ وَرَحْمَةِ وَرَأْفَةِ وَحِكْمَةِ غَيرِهِ.
- قَولُهُ: ((لا تَجْعَلُوا قَبْرِي عِيدًا)) العِيدُ يَكُونُ عِيدًا مَكَانِيًّا أَو زَمَنِيًّا، وَهُنَا هُوَ عِيدٌ
(1)
فِي البُخَارِيِّ (4564) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: (كَانَ آخِرَ قَولِ إِبْرَاهِيمَ حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ: حَسْبِيَ اللهُ ونِعْمَ الوَكيلُ).
(2)
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (8/ 372): " {الْمَجِيدُ} فِيهِ قِرَاءَتَانِ: الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِلرَّبِّ عز وجل، وَبِالجَرِّ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِلعَرْشِ، وَكِلَاهُمَا مَعْنَاهُ صَحِيحٌ".
مَكَانِيٌ
(1)
، فَيَكُونُ النَّهْيُ هُوَ عَنْ كَثْرَةِ العَودِ إِلَيهِ، وَهُوَ مِنْ بَابِ سَدِّ الذَّرَائِعِ لِأَنَّهُ مُفْضٍ إِلَى الغُلوِّ.
- قَدْ عَمِلَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا الإِرْشَادِ النَّبَوِيِّ فَلَم يَكُونُوا يَعْتَادُونَ زِيَارَةَ قَبْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كُلَّمَا دَخَلُوا المَسْجِدَ النَّبَوِيَّ، وَإِنَّمَا فَقَطْ إِذَا قَدِمُوا مِنْ سَفَرٍ؛ فَيَكُونُ اتِّخَاذُهُ عِيدًا هُوَ مِنْ بَابِ {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115]، فَلَمْ يَكُنِ السَّلَفُ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا كَانُوا يَأْتُونَ إِلَى مَسْجِدِهِ فَيُصَلُّونَ، فَإِذَا قَضَوا الصَّلَاةَ قَعَدُوا أَو خَرَجُوا، وَلَمْ يَكُونُوا يَأْتُونَ القَبْرَ لِلسَّلَامِ لِعِلْمِهِم أَنَّ الصَّلَاةَ وَالسَّلَامَ عَلَيهِ صلى الله عليه وسلم فِي الصَّلَاةِ أَفْضَلُ وَأكْمَلُ.
قَالَ القَاضِي عِيَاضُ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (الشِّفَا بِتَعْرِيفِ حُقُوقِ المُصْطَفَى): "وَقَالَ مَالِكٌ فِي المَبْسُوطِ: وَلَيسَ يَلْزَمُ مَنْ دَخَلَ المَسْجِدَ وَخَرَجَ مِنْهُ -مِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ- الوُقُوفَ بِالقَبْرِ! وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِلْغُرَبَاءِ. وَقَالَ فِيهِ أَيضًا: لَا بَأْسَ لِمَنْ قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ أَنْ يَقِفَ عَلَى قَبْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَيُصَلِّيَ عَلَيهِ وَيَدْعُوَ لَهُ وَلِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ. قِيلَ لَهُ: فَإِنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ لَا يَقْدِمُونَ مِنْ سَفَرٍ وَلَا يُرِيدُونَهُ؛ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِي اليَومِ مَرَّةً أَو أَكْثَرَ! وَرُبَّمَا وَقَفُوا فِي الجُمُعَةِ أَو فِي الأَيَّامِ المَرَّةَ وَالمَرَّتَينِ أَو أَكْثَرَ عِنْدَ القَبْرِ فَيُسَلِّمُونَ وَيَدْعُونَ سَاعَةً! فَقَالَ: لَمْ يَبْلُغْنِي هَذَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الفِقْهِ بِبَلَدِنَا، وَتَرْكُهُ وَاسِعٌ، وَلَا يُصْلِحُ آخِرَ هَذِهِ الأُمَّةِ إِلَّا مَا أَصْلَحَ أَوَّلَهَا، وَلَمْ يَبْلُغْنِي عَنْ أَوَّلِ هَذِهِ الأُمَّةِ وَصَدْرِهَا أَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، وَيُكْرَهُ إِلَّا
(1)
وَمِثْلُهُ حَدِيثُ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ مَرْفُوعًا: ((هَلْ كَانَ فِيهَا عِيدٌ مِنْ أَعْيَادِهِم)) صَحِيحٌ. أَبُو دَاوُدَ (3313).
لِمَنْ جَاءَ مِنْ سَفَرٍ أَو أَرَادَهُ"
(1)
.
وَزَادَ الأَمْرَ بَيَانًا فِعْلُ آلِ بَيتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، كَمَا فِي الأَثَرِ هُنَا عَنْ عَلِيِّ بْنِ الحُسَينِ رحمه الله
(2)
، حَيثُ اسْتَدَلَ بِالحَدِيثِ عَلَى المَنْعِ.
وَأَيضًا فِي الأَثَرِ عَنْ سُهَيلِ بْنِ أَبِي سُهَيلٍ؛ قَالَ: رَآنِي الحَسَنُ بْنُ الحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عِنْدَ القَبْرِ فَنَادَانِي -وَهُوَ فِي بَيتِ فَاطِمَةَ يَتَعَشَّى-، فَقَالَ: هَلُمَّ إِلَى العَشَاءِ، فَقُلْتُ: لَا أُرِيدُهُ، فَقَالَ: مَا لِي رَأَيتُكَ عِنْدَ القَبْر؟! فَقُلْتُ: سَلَّمْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِذَا دَخَلْتَ المَسْجِد فَسَلِّمْ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا، وَلَا تَتَّخِذُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ، وَصَلُّوا عَلَيَّ؛ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي حَيثُمَا كُنْتُمْ، لَعَنَ اللهُ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ، مَا أَنْتُمْ وَمَنْ بِالأَنْدَلُسِ إِلَّا سَوَاءٌ))
(3)
.
- قَولُهُ: ((لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا)) هُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ مَعَانٍ:
1 -
أَي: لَا تَدْفِنُوا فِيهَا؛ فَتَكُونَ مَقْبَرَةً
(4)
.
(1)
الشِّفَا بِتَعْرِيفِ حُقُوقِ المُصْطَفَى (2/ 204).
وَكَذَا أَورَدَهُ النَّوَوِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ الإِيضَاحُ فِي مَنَاسِكِ الحَجِّ وَالعُمْرَةِ (ص 459).
وَكَذَا أَورَدَهُ الشَّيخُ وَهْبَةُ الزُّحَيلِيُّ حَفِظَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ الفِقْهُ الإِسْلَامِيُّ وَأَدِلَّتُهُ (ص 2404) فِي فَقَرَةِ (زِيَارَةِ المَسْجِدِ النَّبَوِيِّ وَقَبْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الفَقَرَةِ العَاشِرَةِ.
(2)
وَهُوَ المُسَمَّى بِزَينِ العَابِدِين (ت 94 هـ)، وَيُسمَّى عَليًّا الأَصْغَرَ تَمْيِيزًا لَهُ عَنْ أَخِيهِ: عَلِيٍّ الأَكْبَرِ الَّذِي تُوُفِّيَ مَعَ أَبِيه رحمهم الله. الأَعْلَام (4/ 277).
(3)
رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ، وَهُوَ مُرْسَلٌ قَوِيٌّ كَمَا فِي أَحْكَامِ الجَنَائِزِ (ص 220) لِلشَّيخِ الأَلْبَانِيِّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
(4)
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله فِي الفَتْحِ (1/ 530): "فَإِنَّ ظَاهِرَهُ يَقْتَضِي النَّهْيَ عَنِ الدَّفْنِ فِي البُيُوتِ مُطْلَقًا. وَاللهُ أَعْلَمُ".
=
2 -
أَي: لَا تُعَطِّلُوهَا عَنِ العِبَادَةِ؛ فَتَجْعَلُوهَا كَالمَقَابِرِ لَا يُصَلَّى فِيهَا! لِأَنَّ المَقْبَرَةَ لَا يُصَلَّى فِيهَا، لِذَلِكَ قَالَ:((صَلُّوا فِي بُيُوتِكُم))
(1)
.
3 -
أَي: لَا تَجْعَلُوهَا كَالمَقَابِرِ مِنْ جِهَةِ عَدَمِ قِرَاءَةِ القُرْآنِ فِيهَا، لِأَنَّ المَقْبَرَةَ لَا يُقْرَأُ فِيهَا القُرْآنُ.
وَفِي الحَدِيثِ ((لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ؛ إِنَّ الشَّيطَانَ يَنْفِرُ مِنَ البَيتِ الَّذِي يُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ البَقَرَةِ))
(2)
.
- قَولُهُ: ((وَصَلُّوا عَلَيَّ)) أَي: قُولُوا: "اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ"، وَصَلَاةُ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ: هِيَ ثَنَاؤُهُ عَلَيهِم عِنْدَ المَلَائِكَةِ
(3)
.
وَأَمَّا صَلَاةُ المَلَائِكَةِ عَلَى المُسْلِمِينَ: فَهِيَ الاسْتِغْفَارُ
(4)
وَالتَّبْرِيكُ.
=
قُلْتُ: وَعَلَيهِ فَلَا يَجُوزُ أَيضًا السَّكَنُ بَينَ القُبُورِ، وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى كُونُهَا وَقْفًا.
قَالَ الشَّيخُ ابْنُ بَازٍ رحمه الله فِي الفَتَاوَى (13/ 356) فِي جَوَابِ سُؤَالٍ حَولَ السُّكْنَى فِي المَقْبَرَةِ: "وَهَذَا مُنْكَرٌ وَإِهَانَةٌ لِلقُبُورِ، وَإِذَا صَلَّوا عِنْدَهَا فَصَلَاتُهُم بَاطِلَةٌ، وَالجُلُوسُ عِنْدَ القُبُورِ بِالصُّورَةِ المَذْكُورَةِ وَالصَّلَاةُ عِنْدَهَا مِنَ المُنْكَرَاتِ".
(1)
مُسْلِمٌ (777) عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا.
قُلْتُ: وَلَا يَصِحُّ القَولُ بِأَنَّ المَعْنَى: لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُم كَالقُبُورِ: أَي: بِأَنْ تَكُونُوا كَالأَمْوَاتِ في القُبُورِ؛ فَإِنَّهُم لَا يُصَلُّونَ! وَذَلِكَ لِأَنَّ الصَّلَاةَ فِي البَرْزَخِ ثَابِتَةٌ، كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللهُ.
(2)
مُسْلِمٌ (780) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا.
(3)
صَلَاةُ اللهِ عَلَى عَبْدِهِ لَيسَتْ هِيَ الرَّحمةُ! وَذَلِكَ لِأَثَرِ أَبِي العَالِيَةِ الآتِي، وَلِقَولِهِ تَعَالَى:{أُولَئِكَ عَلَيهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البَقَرَة: 157] فَالعَطْفُ يَقْتَضِي المُغَايَرَةَ.
(4)
كَمَا فِي البُخَارِيِّ (445)، وَمُسْلِمٍ (649) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا:((المَلَائِكَةُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ الَّذِي صَلَّى فِيهِ -مَا لَمْ يُحْدِثْ- تَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ)).
قَالَ البُخَارِيُّ رحمه الله فِي صَحِيحِهِ: "قَالَ أَبُو العَالِيَةِ: صَلَاةُ اللهِ: ثَنَاؤُهُ عَلَيهِ عِنْدَ المَلَائِكَةِ، وَصَلَاةُ المَلَائِكَةِ: الدُّعَاءُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {يُصَلُّونَ} يُبَرِّكُونَ"
(1)
.
وَأَمَّا صَلَاةُ المُسْلِمِينَ عَلَى بَعْضِهِم فَهِيَ الدُّعَاءُ، كَمَا فِي الحَدِيثِ:((إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى طَعَامٍ فَلْيُجِبْ؛ فَإِنْ كَانَ مُفْطِرًا فَلْيَأكُلْ، وَإِنْ كَانَ صَائِمًا فَلْيُصَلِّ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا
(2)
.
- قَولُهُ: ((وَصَلُّوا عَلَيَّ؛ فإنَّ تَسْلِيمَكُمْ)) هَذَا يُسَمَّى الطَيَّ والنَّشْرَ، أَي: صَلُّوا عَلَيَّ وسَلِّمُوا؛ فَإِنَّ صَلَاتَكُم وَتَسْلِيمَكُم تَبْلُغُنِي.
وَالمُرَادُ: صَلُّوا عَلَيَّ فِي أَيِّ مَكَانٍ كُنْتُم فَلَا حَاجَةَ إِلَى أَنْ تَأْتُوا إِلَى القَبْرِ وَتُسَلِّمُوا عَلَيَّ وَتُصَلُّوا عَلَيَّ عِنْدَهُ.
- إِنَّ الدَّفْنَ فِي البُيُوتِ مَنْهيٌّ عَنْهُ، وَمِنْ مَضَارِّهِ:
1 -
ذَرِيعَةٌ إِلَى الشِّرْكِ.
لِأَنَّ البَيتَ تُقَامُ فِيهِ بَعْضُ الصَّلَاةِ؛ فيُخْشَى مِنَ الغُلوِّ فِيهِ واتِّخَاذِهِ مَسْجِدًا، عَدَا عَنْ كَونِ تَخْصِيصِهِ بِهَذَا الدَّفْنِ يُعْطِيهِ مَزِيَّةً عَنْ غَيرِهِ مِنَ القُبُورِ؛ فَلَا تُؤْمَنُ مَعَهُ الفِتْنَةُ، وَإِذَا كَانَ اللهُ تَعَالَى لَعَنَ زَوَّارَاتِ القُبُور، فَكَيفَ بِمَنْ أقَامَ عِنْدَهَا؟!
2 -
حِرمَانُ الميِّتِ مِنْ دَعَوَاتِ المُسْلِمِينَ.
وَهُوَ دُعَاءُ الزَّائِرِ لِلْمَقْبَرَةِ، وَلَاسِيَّمَا مَعْ كَثْرَةِ مَنْ يَزُورُ المَقَابِرَ مُقَارَنَةً مَعَ مَنْ يَزُورُ ذَلِكَ البَيتَ.
(1)
البُخَارِيُّ (6/ 12).
(2)
مُسْلِمٌ (1430)، وَفِي لَفْظِ الطَّبَرَانِيِّ فِي الكَبِيرِ (10/ 231) عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا:((فَلْيَدْعُ بِالبَرَكَةِ)). صَحِيحٌ. صَحِيحُ الجَامِعِ (538).
3 -
يُضَيِّقُ عَلَى الوَرَثَةِ مَسْكَنَهُم، وَيَمْنَعُ مِيرَاثَهُم مِنَ البَيتِ لِحُرْمَةِ المَدْفُونِ فِيهِ مِنْ نَبْشِ قَبْرِهِ أَوِ امْتِهَانِهِ، فَلَا يَتَمَكَّنُونَ مِنْ أَغْلَبِ وُجُوهِ الانْتِفَاعِ بِهِ.
4 -
لَا يُذَكِّرُ الآخِرَةَ، لِأَنَّ أَهْلَ البَيتِ اعْتَادُوا ذَلِكَ.
- التَّرَدُّدُ عَلَى القَبْرِ مَمْنُوعٌ نَصًّا وَمَفْهُومًا.
فَالنَّصُّ هُوَ فِي قَولِهِ: ((لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا، وَلَا تَجْعَلُوا قَبْرِي عِيدًا))، وَالمَفْهُومُ هُوَ فِي قَولِهِ:((فَإِنَّ تَسْلِيمَكُمْ يَبْلُغُنِي حَيثُ كُنْتُمْ))، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا دَاعِيَ لِلذَّهَابِ إِلَى السَّلَامِ عَلَيهِ عِنْدَ قَبْرِهِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيهِ طَالَمَا أَمْكَنَ ذَلِكَ بِدُونِهِ
(1)
.
- كِتَابُ (المُخْتَارَةُ): هُوَ كِتَابٌ جَمَعَ فِيهِ مُؤَلِّفُهُ الأَحَادِيثَ الجِيَادَ الزَّائِدَةَ عَلَى الصَّحِيحَين، وَصَاحِبُهُ: هُوَ الحَافِظُ أَبُو عَبْدِ اللهِ؛ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الوَاحِدِ المَقْدِسِيُّ؛
(1)
قَالَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله فِي تَحْقِيقِ كِتَابِ الآيَاتُ البَيِّنَاتُ (ص 80): "وَأَمَّا حَدِيثُ: ((مَنْ صَلَّى عَلَيَّ عِنْدَ قَبْرِي سَمِعْتُهُ، وَمَنْ صَلَّى عَلَيَّ نَائِيًا أُبْلِغْتُهُ)) فَهُوَ مَوضُوعٌ، كَمَا قَالَ شَيخُ الإِسْلَامِ ابْنُ تَيمِيَّة رحمه الله فِي مَجْمُوعِ الفَتَاوَى، وَقَدْ خَرَّجْتُهُ فِي الضَّعِيفَةِ (203)، وَلَمْ أَجِدْ دَلِيلًا عَلَى سَمَاعِهِ صلى الله عليه وسلم سَلَامَ مَنْ سَلَّمَ عِنْدَ قَبْرِهِ، وَحَدِيثُ أَبِي دَاوُدَ لَيسَ صَرِيحًا فِي ذَلِكَ، فَلَا أَدْرِي مِنْ أَينَ أَخَذَ ابْنُ تَيمِيَّةَ قَولَهُ: أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم يَسْمَعُ السَّلَامَ مِنَ القَرِيبِ! وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ المُتَقَدِّمُ مُطْلَقٌ. وَاللهُ أَعْلَمُ".
قُلْتُ: وَالحَدِيثُ هَذَا إِنَّمَا يَرْوِيه مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانِ السُّدِّيُّ عَنِ الأَعْمَشِ -وَهُوَ كَذَّابٌ بِالاتِّفَاقِ-، وَهَذَا الحَدِيثُ مَوضُوعٌ عَلَى الأَعْمَشِ بِإِجْمَاعِهِم. وَانْظُرِ التَّعْلِيقَ عَلَى حَدِيثِ الضَّعِيفَةِ (204).
وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ الَّذِي أشارَ إِلَيهِ الشَّيخُ رحمه الله فَهُوَ: ((إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً سَيَّاحِينَ فِي الأَرْضِ يُبَلِّغُونِي مِنْ أُمَّتِي السَّلَامَ)). صَحِيحٌ. النَّسَائِيُّ (1281). صَحِيحُ النَّسَائِيِّ (1281).
ضِيَاءُ الدِّينِ الحَنْبَلِيُّ، (ت 643 هـ)
(1)
.
- قَالَ الشَّيخُ ابْنُ عُثَيمِينَ رحمه الله مُعَلِّقًا عَلَى قَولِ المُصَنِّفِ رحمه الله: (نَهْيُهُ عَنِ الإِكْثَارِ مِنَ الزِّيَارَةِ): "تُؤْخَذُ مِنْ قَولِهِ: ((لَا تَجْعَلُوا قَبْرِي عِيدًا)) لَكِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ الإِكْثَارُ! لِأَنَّهُ قَدْ لَا يَأْتِي إِلَّا بَعْدَ سَنَةٍ وَيَكُونُ قَدِ اتَّخَذَهُ عِيدًا! فَإِنَّ فِيهِ نَوعًا مِنَ الإِكْثَارِ"
(2)
.
- قَولُ المُصَنِّفِ رحمه الله فِي المَسْأَلَةِ التَّاسِعَةِ: "كَونُهُ صلى الله عليه وسلم فِي البَرْزَخِ تُعْرَضُ أَعْمَالُ أُمَّتِهِ فِي الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيهِ": أَي: فَقَطْ عَرْضُ الصَّلَاةِ وَالتَّسْلِيمِ، وَيُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنْ قَولِهِ:((إِنَّ تَسْلِيمَكُمْ لَيَبْلُغُنِي أَينَ كُنْتُمْ)).
وَفِي الحَدِيثِ: ((إنَّ مِنْ أفْضَلِ أَيَّامِكُمْ يَومَ الجُمعَةِ؛ فِيهِ خُلِقَ آدَمُ، وَفِيهِ قُبِضَ، وَفِيهِ النَّفْخَةُ، وَفِيهِ الصَّعْقَةُ، فَأَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنَ الصَّلَاةِ فِيهِ؛ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ))، قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ؛ وَكَيفَ تُعْرَضُ صَلَاتُنَا عَلَيكَ وَقَدْ أَرِمْتَ -يَقُولُونَ: بَلِيتَ-؟ فَقَالَ: ((إِنَّ اللهَ عز وجل حَرَّمَ عَلَى الأَرْضِ أَجْسَادَ الأَنْبِيَاءِ))
(3)
.
(1)
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله فِي اخْتِصَارِ عُلُومِ الحَدِيثِ (ص 29): "فَصْلٌ: الزِّيَادَاتُ عَلَى الصَّحِيحَينِ: وَقَدْ جَمَعَ الشَّيخُ ضِيَاءُ الدِّينِ؛ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الوَاحِدِ المَقْدِسِيُّ فِي ذَلِكَ كِتَابًا سَمَّاهُ (المُخْتَارَةُ) وَلَمْ يَتِمَّ، كَانَ بَعْضُ الحُفَّاظِ مِنْ مَشَايِخِنَا يُرَجِّحُهُ عَلَى مُسْتَدْرَكِ الحَاكِمِ. وَاللهُ أَعْلَمُ".
وَقَالَ شَيخُ الإِسْلَامِ رحمه الله فِي مَجْمُوعِ الفَتَاوَى (22/ 426): "تَصْحِيحُ الحَافِظِ أَبِي عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الوَاحِدِ المَقْدِسِيِّ فِي مُخْتَارِهِ خَيرٌ مِنْ تَصْحِيحِ الحَاكِمِ".
(2)
القَولُ المُفِيدُ (1/ 452).
(3)
صَحِيحٌ. أَبُو دَاوُدَ (1047) عَنْ أَوسِ بْنِ أَوسٍ. صَحِيحُ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ (696).
وَأَمَّا حَدِيثُ: ((حَيَاتِي خَيرٌ لَكُمْ؛ تُحَدِّثُونَ ويُحْدَثُ لَكُمْ، فَإِذَا أَنَا مُتُّ كَانَتْ وَفَاتِي خَيرًا لَكُمْ؛ تُعْرَضُ عَلَيَّ أَعْمالَكُمْ؛ فَمَا رَأيتُ خَيرًا حَمِدْتُ اللهَ عَلَيهِ، وَمَا رَأيتُ مِنْ شَرٍّ اسْتَغْفَرْتُ اللهَ لَكُمْ)) فَهُوَ عِنْدَ
=
- فَائِدَةٌ: فِي حَدِيثِ: ((اجْعَلُوا فِي بُيُوتِكُمْ مِنْ صَلَاتِكُمْ؛ وَلَا تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا))
(1)
: دِلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الأَفْضَلَ أَنْ يَجْعَلَ المَرْءُ صَلَاتَهُ فِي بيتِهِ لِجَمِيعِ النَّوَافِلِ، وَلِقَولِهِ صلى الله عليه وسلم:((أَفْضَلَ صَلَاةِ المَرْءِ فِي بَيتِهِ إِلَّا الصَّلَاةَ المَكْتُوبَةَ))
(2)
(3)
.
وَهَذَا الحُكْمُ عَامٌّ حَتَّى فِي المَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ ذَلِكَ وَهُوَ فِي المَدِينَةِ، وَتَكُونُ المُضَاعَفَةُ إِذًا بِالنِّسْبَةِ لِلفَرَائِضِ -أَوِ النَّوَافِلِ الَّتِي تُسَنُّ لَهَا الجَمَاعَةُ-، وَتَكُونُ الفَضِيلَةُ بِاعْتِبَارِ المَسَاجدِ مَعَ بَعْضِهَا.
=
البَزَّارِ (5/ 308) مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، وَهُوَ ضَعِيفٌ. الضَّعِيفَةُ (975).
وَقَالَ الحَافِظُ العِرَاقِيُّ رحمه الله فِي تَخْرِيجِ الإحْيَاءِ (3810): "أَخْرَجَهُ البزَّارُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ، إِلَّا أَنَّ عَبْدَ المَجِيدِ بْنَ عَبْدِ العَزِيزِ بْنِ أَبِي رَوَّاد وَإِنْ أَخْرَجَ لَهُ مُسْلِمٌ وَوَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَالنَّسَائِيُّ؛ فَقَدْ ضَعَّفَهُ كَثِيرُونَ، وَرَوَاهُ الحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ بِنَحْوِهِ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ".
(1)
رَوَاهُ البُخَارِيُّ (432)، وَمُسْلِمٌ (777) ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا.
(2)
رَوَاهُ البُخَارِيُّ (7290)، وَمُسْلِمٌ (781) عَنْ زَيدِ بْنِ ثَابِتٍ مَرْفُوعًا.
(3)
قُلْتُ: وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ ضِمْنًا مَا كَانَ مِنْ شَأْنِهِ الجَمَاعَةُ كَصَلَاةِ الكُسُوفِ، وَقِيَامِ اللَّيلِ فِي رَمَضَانَ.
مَسَائِلُ عَلَى البَابِ
-
المَسْأَلَةُ الأُولَى: مَا الجَوَابُ عَنِ التَّعَارُضِ حَولَ مَا نُقِلَ عَنِ الإِمَامِ مَالِكٍ رحمه الله فِي مَسْأَلَةِ اسْتِقْبَالِ القَبْرِ أَوِ القِبْلَةِ فِي الدُّعَاءِ؟
فَقَدْ قَالَ الإِمَامُ البَاجِيُّ رحمه الله
(1)
فِي كِتَابِهِ (المُنْتَقَى شَرْحُ المُوَطَّإِ)
(2)
: "مَسْأَلَةٌ: وَأَمَّا الدُّعَاءُ عِنْدَ القَبْرِ؛ فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي المَبْسُوطِ: (لَا أَرَى أَنْ يَقِفَ الرَّجُلُ عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو، وَلَكِنْ يُسَلِّمُ ثُمَّ يَمْضِي)، وَلَكِنْ رَوَى عَنْهُ ابْنُ وَهْبٍ -فِي غَيرِ المَبْسُوطِ- أَنَّهُ يَدْعُو مُسْتَقْبِلَ القَبْرِ؛ وَلَا يَدْعُو وَهُوَ مُسْتَقْبِلَ القِبْلَةِ وَظَهْرَهُ إِلَى القَبْرِ"!
الجَوَابُ:
إِنَّ هَذِهِ القِصَّةَ الأَخِيرَةَ -مِمَّا لَهَجَ بِهَا كَثِيرٌ مِنَ المُتَصَوِّفَةِ- وَهِيَ أَنَّ الخَلِيفَةَ المَنْصُورَ العَبَّاسِيَّ سَأَلَ مَالِكًا عَنِ اسْتِقْبَالِ الحُجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ فِي الدُّعَاءِ، فَأَمَرَهُ بِذَلِكَ، وَقَالَ:"هُوَ وَسِيلَتُكَ وَوَسِيلَةُ أَبِيكَ آدَمَ"! هِيَ حِكَايَةٌ بَاطِلَةٌ مَكْذُوبَةٌ عَلَى مَالِكٍ؛ مُخَالِفَةٌ لِلثَّابِتِ المَنْقُولِ عَنْهُ بِأَسَانِيدِ الثِّقَاتِ فِي كُتُبِ أَصْحَابِهِ، وَرَاوِيهَا عَنْ مَالِكٍ
(1)
هُوَ الإِمَامُ الحَافِظُ أَبُو الوَلِيدِ البَاجِيُّ؛ سُلَيمَانُ بنُ خَلَفٍ بنِ سَعْدٍ الأَنْدَلُسِيُّ؛ القُرْطُبِيُّ؛ البَاجِيُّ؛ صَاحِبُ التَّصَانِيفِ، (ت 474 هـ). اُنْظُرِ السِّيَر لِلذَّهَبِيِّ (18/ 535).
(2)
المُنْتَقَى (1/ 296).
وَقَدْ رَوَاهَا القَاضِي عِيَاضُ رحمه الله بِإِسْنَادِهِ فِي كِتَابِهِ الشِّفَا (2/ 92)، وَفِيهَا أَنَّ الخَلِيفَةَ المَنْصُورَ العَبَّاسِيَّ سَأَلَ مَالِكًا "وَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ؛ أَسْتَقْبِلُ القِبْلَةَ وَأَدْعُو؛ أَمْ أَسْتَقْبِلُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ: وَلِمَ تَصْرِفُ وَجْهَكَ عَنْهُ؛ وَهُوَ وَسِيلَتُكَ وَوَسِيلَةُ أَبِيكَ آدَمَ عليه السلام إِلَى اللهِ تَعَالَى يَومَ القِيَامَةِ؟! بَلِ اسْتَقْبِلْهُ، وَاسْتَشْفِعْ بِهِ؛ فَيُشَفِّعْهُ اللهُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى:{وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النِّسَاء: 64] ".
رحمه الله هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيدٍ؛ وَقَدْ كَذَّبَهُ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ
(1)
، عَدَا عَنِ الانْقِطَاعِ فِي السَّنَدِ؛ فَإِنَّه لَمْ يُدْرِكْ أَبَا جَعْفَرٍ المنْصُورَ أَصْلًا
(2)
(3)
.
(1)
رُغْمَ كَونِهِ حَافِظًا، وَقَدْ أَحْسَنَ الظَّنَّ بِهِ بَعْضُهُم.
وَفِي السِّيَرِ (11/ 504) لِلحَافِظِ الذَّهَبِيِّ رحمه الله: "قَالَ أَبُو عَلِيٍّ النَّيسَابُورِيُّ: قُلْتُ لابْنِ خُزَيمَةَ: لَو حَدَّثَ الأُسْتَاذُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حُمَيدٍ؛ فَإِنَّ أَحْمَدَ بنَ حَنْبَلٍ قَدْ أَحسَنَ الثَّنَاءَ عَلَيهِ! قَالَ: إِنَّهُ لَمْ يَعْرِفْهُ، وَلَو عَرَفَه كَمَا عَرَفْنَاهُ، لَمَا أَثْنَى عَلَيهِ أَصْلًا".
قُلْتُ: وَقَدْ عُلِمَ فِي مُصْطَلَحِ الحَدِيثِ أَنَّ الجَرْحَ مُقَدَّمٌ عَلَى التَّعْدِيلِ، وَلَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ مُفَسَّرًا.
(2)
أَبُو جَعْفَرٍ المَنْصُورُ وفاتُهُ (158 هـ) كَمَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (تَهْذِيبُ الأَسْمَاءِ وَاللُّغَاتِ)(2/ 203)، وَأَمَّا مُحَمَّدِ بْنُ حُمَيدٍ الرَّازِيُّ فَقَد قَالَ الحَافِظُ الذَّهَبَيُّ رحمه الله عَنْهُ فِي السِّيَرِ (11/ 503):"مَولِدُهُ فِي حُدُودِ السِّتِّينَ وَمائَةٍ".
(3)
قَالَ الشَّيخُ الدُّكْتُورُ وَهْبَةُ الزُّحَيليُّ حَفِظَهُ اللهُ وَرَعَاهُ فِي كِتَابِهِ (الفِقْهُ الإِسْلَامِيُّ وَأَدِلَّتُهُ)(ص 1453) فِي حَاشِيَةِ أَبْوَابِ صَلَاةِ الاسْتِسْقَاءِ: "اتَّفَقَ الأَئِمَّةُ عَلَى أَنَّ الدُّعَاءَ عِنْدَ قَبْرٍ رَجَاءَ الإِجَابَةِ بِدْعَةٌ لَا قُرْبَةٌ".
-
المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي قَولِهِ صلى الله عليه وسلم: ((لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا)) مُعَارَضَةٌ لِمَا ثَبَتَ مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دُفِنَ فِي بَيتِهِ!
فَمَا الجَوَابُ؟
الجَوَابُ:
1 -
إِنَّ هَذَا خَاصٌّ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَذَلِكَ مِنْ جِهَتَينِ:
أ- مِنْ جِهَةِ الحَدِيثِ: ((مَا قَبَضَ اللهُ نَبِيًّا إِلَّا فِي المَوضِعِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُدْفَنَ فِيهِ))
(1)
.
ب- مِنْ جِهَةِ خَشْيَةِ الافْتِتَانِ بِقَبْرِهِ صلى الله عليه وسلم، كَمَا فِي الحَدِيثِ:((لَعَنَ اللهُ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ، لَولَا ذَلِكَ أُبْرِزَ قَبْرُهُ))
(2)
.
2 -
أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها جَعَلَتْ جِدَارًا فِي بَيتِهَا يَفْصِلُ بَينَهَا وَبَينَ القَبْرِ، فَخَرَجَ بِذَلِكَ القَبْرُ عَنِ البَيتِ وَصَارَ ذَلِكَ الشَّطْرُ مِنْهُ مَدْفَنًا، وَلِذَلِكَ أَمْكَنَ دَفْنُ صَاحِبَيهِ مَعَهُ أَيضًا فِيمَا بَعْدُ رضي الله عنهما، فَلَيسَ فِيهِ إِذًا ارْتِكَابُ مَحْظُورٍ، وَالحَمْدُ للهِ.
كَمَا فِي طَبَقَاتِ ابٍنِ سَعْدٍ عَنِ الإِمَامِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ: "قُسِمَ بَيتُ عَائِشَةَ بِاثْنَينِ: قِسْمٍ كَانَ فِيهِ القَبْرُ، وَقِسْمٍ تَكُونُ فِيهِ عَائِشَةُ، وَبَينَهُمَا حَائِطٌ"
(3)
.
(1)
صَحِيحٌ. التِّرْمِذِيُّ (1018) عَنْ أَبِي بَكْرٍ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (5649).
(2)
رَوَاهُ البُخَارِيُّ (4441)، وَمُسْلِمٌ (529) عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا.
(3)
طَبَقَاتُ ابْنِ سَعْدٍ (2/ 294).
-
المَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ بَعْضُهُم: إِنَّ المَنْهِيَّ فِي الحَدِيثِ هُوَ عَنِ الصَّلَاةِ فِي القَبْرِ نَفْسِهِ؛ وَلَيسَ فِي المَقْبَرَةِ
(1)
! فَمَا الجَوَابُ؟
الجَوَابُ مِنْ أَوجُهٍ:
1 -
إِنَّ السُّنَّةَ دَلَّتْ فِي أَحَادِيثَ أُخَرَ عَلَى المَنْعِ مِنَ الصَّلَاةِ فِي المَقْبَرَةِ نَفْسِهَا، مِنْهَا:((الأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدٌ إِلَّا الحَمَّامَ وَالمَقْبُرَةَ))
(2)
.
2 -
إِنَّ الحَدِيثَ نَفْسَهُ وَرَدَ بِلَفْظِ: ((المَقَابِرِ)) كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ من حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ بِلَفْظِ: ((لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ؛ إِنَّ الشَّيطَانَ يَنْفِرُ مِنَ البَيتِ الَّذِي تُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ البَقَرَةِ))
(3)
.
3 -
جَعْلُ عِلَّةِ الحَدِيثِ أَنَّ المَيِّتَ لَا يُصَلِي! مَرْدُودٌ مِنْ جِهَتَينِ:
أ- أَنَّ الصَّلَاةَ فِي القَبْرِ غَيرُ مَعْهُودَةٍ أَبَدًا، بَلْ وَلَيسَتْ بِمُسْتَطَاعَةٍ أَصْلًا، فَكَيفَ يُؤْتَى بِالنَّهْي عَنْهَا! فَهُوَ مِنَ النَّهْي عَنِ المُحَالِ.
ب- قَدْ ثَبَتَ بِأَحَادِيثَ أَنَّ المَوُتَى يُصَلُّونَ فِي قُبُورِهِم.
مِنْهَا: ((الأَنْبِيَاءُ أَحْياءٌ فِي قُبُورِهِمْ يُصَلُّونَ))
(4)
.
(1)
وَيَكُونُ عِنْدَهُم مَعْنَى الحَدِيثِ بِتَمَامِهِ: "لَا تَجْعَلُوا بُيوتَكُم كَالقَبْرِ لَا تُصَلُّونَ فِيهِ، بَلْ صَلُّوا فِي بُيُوتِكُم لِأَنَّ المَوتَى لَا يُصَلُّونَ"!
(2)
صَحِيحٌ. أَبُو دَاوُدَ (492) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (2767).
(3)
مُسْلِمٌ (780).
وَفِي البُخَارِيِّ (432) بِلَفْظِ: ((اجْعَلُوا فِي بُيُوتِكُمْ مِنْ صَلَاتِكُمْ وَلَا تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا))؛ وَتَرْجَمَ لَهُ البُخَارِيُّ بِقَولِهِ: "بَابُ كَرَاهِيَةِ الصَّلَاةِ فِي المَقَابِر".
(4)
صَحِيحٌ. أَبُو يَعْلَى (6888) عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (621).
وَمِنْهَا حَدِيثُ صَلَاةِ مُوسَى صلى الله عليه وسلم فِي قَبْرِهِ عِنْدَمَا رَآهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَيلَةَ أُسْرِيَ بِهِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ
(1)
.
وَمِثْلُهُ حَدِيثُ سُؤَالِ المَلَكَينِ لِلمَيِّتِ فِي قَبْرِهِ: ((فيُقَالُ لَهُ: أَرَأَيتَكَ هَذَا الَّذِي كَانَ قَبْلَكُم؛ مَا تَقُولُ فِيهِ؟ وَمَاذَا تَشْهَدُ عَلَيهِ؟ فَيَقُولُ: دَعُونِي حَتَّى أُصَلِّيَ، فَيَقُولُونَ: إِنَّكَ سَتَفْعَلُ)) الحَدِيثُ
(2)
.
(1)
مُسْلِمٌ (2375) عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا.
(2)
حَسَنٌ. ابْنُ حبَّان (3113) فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ (3561).
بَابُ مَا جَاءَ أَنَّ بَعْضَ هَذِهِ الأُمَّةِ يَعْبُدُ الأَوثَانَ
وَقَولُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} [النِّسَاء: 51].
وَقَولُهُ تَعَالَى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} [المَائِدَة: 60].
وَقَولُهُ تَعَالَى: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيهِمْ مَسْجِدًا} [الكَهْف: 21].
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُم حَذْوَ القُذَّةِ بِالقُذَّةِ، حَتَّى لَو دَخَلوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ)). قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، اليَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ:((فَمَنْ؟)). أَخْرَجَاهُ
(1)
.
وَلِمُسْلِمٍ عَنْ ثَوبَانَ رضي الله عنه؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((إِنَّ اللهَ زَوَى لِيَ الأَرْضَ؛ فَرَأَيتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا، وَأُعْطِيتُ الكَنْزَين الأَحْمَرَ وَالأَبْيَضَ، وَإِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي لِأُمَّتِي أَنْ لَا يُهْلِكَهَا بِسَنَةٍ بِعَامَّةٍ، وَأَنْ لَا يُسَلِّطَ عَلَيهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ؛ فَيَسْتَبِيحَ بَيضَتَهُمْ. وَإِنّ رَبِّي قَالَ: يَا مُحَمَّدُ؛ إِنِّي إِذَا قَضَيتُ قَضَاءً فَإِنَّهُ لَا يُرَدُّ، وَإِنِّي أَعْطَيتُكَ لِأُمَّتِكَ أَنْ لَا أُهْلِكَهُمْ بِسَنَةٍ بعَامَّةٍ، وَأَنْ لَا أُسَلِّطَ عَلَيهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ فيَسْتَبِيحُ بَيضَتَهُمْ -وَلَوِ اجْتَمَعَ عَلَيهِمْ مَنْ
(1)
البُخَارِيُّ (3456)، وَمُسْلِمٌ (2669).
بِأَقْطَارِهَا- حَتَّىَ يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضًا وَيَسْبِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا))
(1)
.
وَرَوَاهُ البَرْقَانِيُّ فِي صَحِيحِهِ، وَزَادَ:((وَإِنَّمَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الأَئِمَّةَ المُضِلِّينَ، وَإِذَا وَقَعَ عَلَيهِمُ السَّيفُ؛ لَمْ يُرْفَعْ إِلَى يَومِ القِيَامَةِ، وَلَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَلْحَقَ حَيٌّ مِنْ أُمَّتِي بِالمُشْرِكِينَ، وَحَتَّى تَعْبُدَ فِئَامٌ مِنْ أُمَّتِي الأَوثَانَ، وَإِنَّهُ سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي كَذَّابُونَ ثَلَاثُونَ كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ؛ وَأَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، لَا نَبِيَّ بَعْدِي، وَلَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الحَقِّ مَنْصُورَةٌ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلَا مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ تبارك وتعالى)
(2)
.
(1)
مُسْلِمٌ (2889).
(2)
صَحِيحٌ. وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ رَوَاهَا أيضًا أَبُو دَاوُدَ (4252). صَحِيحُ الجَامِعِ (785).
فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: تَفْسِيرُ آيَةِ النِّسَاءِ.
الثَّانِيَةُ: تَفْسِيرُ آيَةِ المَائِدَةِ.
الثَّالِثَةُ: تَفْسِيرُ آيَةِ الكَهْفِ.
الرَّابِعَةُ: وَهِيَ أَهَمُّهَا؛ مَا مَعْنَى الإِيمَانِ بِالجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ فِي هَذَا المَوضِعِ؛ هَلْ هُوَ اعْتِقَادُ قَلْبٍ؟ أَو هُوَ مُوَافَقَةُ أَصْحَابِهَا مَعَ بُغْضِهَا وَمَعْرِفَةِ بُطْلَانِهَا.
الخَامِسَةُ: قَولُهُمْ: إِنَّ الكُفَّارِ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ كُفْرَهُمْ؛ أَهْدَى سَبِيلًا مِنَ المُؤْمِنِينَ!
السَّادِسَةُ: وَهِيَ المَقْصُودَةُ بِالتَّرْجَمَةِ؛ أَنَّ هَذَا لَا بُدَّ أَنْ يُوجَدَ فِي هَذِهِ الأُمَّةِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ.
السَّابِعَةُ: تَصْرِيحُهُ بِوُقُوعِهَا -أَعْنِي عِبَادَةَ الأَوثَانِ- فِي هَذِهِ الأُمَّةِ فِي جُمُوعٍ كَثِيرَةٍ.
الثَّامِنَةُ: العَجَبُ العُجَابُ؛ خُرُوجُ مَنْ يَدَّعِي النُّبُوَّةَ، مِثْلُ المُخْتَارِ -مَعَ تَكَلُّمِهِ بِالشَّهَادَتَينِ وَتَصْرِيحِهِ بِأَنَّهُ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ، وَأَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَأَنَّ القُرْآنَ حَقٌّ، وَفِيهِ أَنَّ مُحَمَّدًا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ- وَمَعَ هَذَا يُصَدَّقُ فِي هَذَا كُلِّهِ مَعَ التَّضَادِّ الوَاضِحِ! وَقَدْ خَرَجَ المُخْتَارُ فِي آخِرِ عَصْرِ الصَّحَابَةِ، وَتَبِعَهُ فِئَامٌ كَثِيرَةٌ.
التَّاسِعَةُ: البِشَارَةُ بِأَنَّ الحَقَّ لَا يَزُولُ بِالكُلِّيَّةِ كَمَا زَالَ فِيمَا مَضَى، بَلْ لَا تَزَالُ عَلَيهِ طَائِفَةٌ.
العَاشِرَةُ: الآيَةُ العُظْمَى؛ أَنَّهُمْ مَعَ قِلَّتِهِمْ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلَا مَنْ خَالَفَهُمْ.
الحَادِيَةَ عَشْرَةَ: أَنَّ ذَلِكَ الشَّرْطَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ.
الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: مَا فِيهِ مِنَ الآيَاتِ العَظِيمَةِ؛ مِنْهَا إِخْبَارُهُ بِأَنَّ اللهَ زَوَى لَهُ المَشَارِقَ وَالمَغَارِبَ، وَأَخْبَرَ بِمَعْنَى ذَلِكَ، فَوَقَعَ كَمَا أَخْبَرَ، بِخِلَافِ الجَنُوبِ وَالشَّمَالِ، وَإِخْبَارُهُ بِأَنَّهُ أُعْطِيَ الكَنْزَينِ، وَإِخْبَارُهُ بِإِجَابَةِ دَعْوَتِهِ لِأُمَّتِهِ فِي الِاثْنَتَينِ، وَإِخْبَارُهُ بِأَنَّهُ مُنِعَ الثَّالِثَةِ، وَإِخْبَارُهُ بِوُقُوعِ السَّيفِ، وَأَنَّهُ لَا يُرْفَعُ إِذْا وَقَعَ، وَإِخْبَارُهُ بِإِهْلَاكِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَسَبْيِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَخَوفُهُ عَلَى أُمَّتِهِ مِنَ الأَئِمَّةِ المُضِلِّينَ، وَإِخْبَارُهُ بِظُهُورِ المُتَنَبِّئِينَ فِي هَذِهِ الأُمَّةِ، وَإِخْبَارُهُ بِبَقَاءِ الطَّائِفَةِ المَنْصُورَةِ، وَكُلُّ هَذَا وَقْعِ كَمَا أَخْبَرَ، مَعَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا مِنْ أَبْعَدِ مَا يَكُونُ فِي العُقُولِ!
الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: حَصْرُ الخَوفِ عَلَى أُمَّتِهِ مِنَ الأَئِمَّةِ المُضِلِّينَ.
الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: التَّنْبِيهُ عَلَى مَعْنَى عِبَادَةِ الأَوثَانِ.
الشَّرْحُ
- الأَوثَانُ: جَمْعُ وَثَنٍ. قِيلَ: سُمِّيَ وَثَنًا لِانْتِصَابِهِ وَثَبَاتِهِ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، مِنْ وَثَنَ بِالمَكَانِ أَي: أقَامَ بِهِ؛ فَهُوَ وَاثِنٌ
(1)
.
- قَولُ المُصَنِّفِ: "بَعْضَ هَذِهِ الأُمَّةِ" وَلَيسَ كُلَّهَا، وَذَلِكَ لِوُجُودِ الطَّائفَةِ المْنَصُورَةِ فِيهَا الَّتِي تَكُونُ بَاقِيَةً عَلَى الحَقِّ، فَفِيهِ بُشْرَى بِأَنَّ الحَقَّ لَا يَزُولُ بِالكُلِّيَّةِ، وَفِيهِ أَيضًا حُجِّيَّةُ الإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا اتَّفَقَتِ الأُمَّةُ عَلَى شَيءٍ دَخَلَتْ فِيهَا الطَّائفةُ المَنْصُورَةُ.
- سَبَبُ نُزُولِ آيَةِ سُورَةِ النِّسَاءِ هُوَ كَمَا فِي تَفْسِيرِ ابْنِ كَثِيرٍ رحمه الله: "وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ يَزِيدٍ المُقْرِي، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرو، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: جَاءَ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبٍ وَكَعْبُ بْنُ الأَشْرَفِ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ فَقَالُوا لَهُمْ: أَنْتُمْ أَهْلُ الكِتَابِ وَأَهْلُ العِلْمِ؛ فَأَخْبِرُونَا عَنَّا وَعَنْ مُحَمَّدٍ. فَقَالُوا: مَا أَنْتُمْ وَمَا مُحَمَّدٌ؟ فَقَالُوا: نَحْنُ نَصِلُ الأَرْحَامَ، وَنَنْحَرُ الكَومَاءَ
(2)
، وَنَسْقِي المَاءَ عَلَى اللَّبَنِ، وَنَفُكُّ العَانِي، وَنَسْقِي الحَجِيجَ، وَمُحَمَّد صُنْبُورٌ
(3)
، قَطَعَ أَرْحَامَنَا! وَاتَّبَعَهُ سُرَّاقُ الحَجِيجَ مِنْ غِفَارٍ، فَنَحْنُ خَيرٌ أَمْ هُوَ؟ فَقَالُوا: أَنْتُمْ خَيرٌ وَأَهْدَى سَبِيلًا. فَأَنْزَلَ اللهُ {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا} الآيَة. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا مِنْ غَير وَجْهٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ"
(4)
.
- قَولُهُ تَعَالَى: {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} فِيهَا قِرَاءَاتٌ؛ أَشْهَرُهَا: (وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ)،
(1)
تَاجُ العَرُوسِ (36/ 239).
(2)
هِيَ النَّاقَةُ، وَسُمِّيَتْ (كَومَاءَ) لِأَنَّ عَلَى سَنَامِهَا شَحْمٌ مُتَكَوِّمٌ مُتَكَدِّسٌ.
(3)
"الصُّنْبُورُ: الرَّجَلُ الفَرْدُ الضَّعِيفُ الذَّلِيلُ بِلَا أَهْلٍ وَلَا عَقِبٍ وَلَا نَاصِرٍ". تَاجُ العَرُوسِ (12/ 353).
(4)
تَفْسِيرُ ابْنِ كَثِير (2/ 334).
فَـ (عَبَدَ) فِعْلٌ مَاضٍ، وَ (الطَّاغُوتَ): مِفْعُولٌ بِهِ.
وَالقِرَاءَةُ الأُخْرَى (وعَبُدَ الطَّاغُوتِ) بِفَتْحِ عَينِ (عَبُدَ) وَضَمِّ بَائِهَا وَخَفْضِ (الطَّاغُوتِ) بِإِضَافَةِ (عَبُدَ) إِلَيهِ. وَعَنَوا بِذَلِكَ: وَخَدَمَ الطَّاغوتِ
(1)
.
- فِي الآيَةِ فَائِدَةُ أَنَّ العِلمَ وَحْدَهُ لَيسَ بِعَاصِمٍ مِنَ المَعْصِيَةِ، لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يُؤْمِنَ مَنْ أُوتِيَ نَصِيبًا مِنَ الكِتَابِ بِعِبَادَةِ الأَوثَانِ، لِذَلِكَ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (أَكْثَرُ دُعائِهِ: يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ؛ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ)
(2)
.
- وَجْهُ المُنَاسَبَةِ مِنَ الآيَاتِ مَعَ البَابِ لَا يَتَبَيَّنُ إِلَّا بِالحَدِيثِ؛ وَهُوَ: ((لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُم))، فَإِذَا كَانَ الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ! وَإِذَا عُلِمَ أَنَّ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ مَنْ يَرْكَبُ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا؛ لَزِمَ مِنْ هَذَا أنَّ فِي هَذِهِ الأُمَّةِ مَنْ سَيُؤْمِنُ بِالجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ، فَتَكُونُ الآيَةُ مُوَافِقَةً لِلتَّرجَمَةِ بِذَلِكَ.
- قَولُهُ: {بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} الجِبْتُ: يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ لَا خَيرَ فِيهِ، وَالطَّاغُوتُ: يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ يَدْعُو إِلَى البَاطِلِ
(3)
.
- قَولُهُ تَعَالَى: {أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} هَذَا مِنِ اسْتِعْمَالِ أَفَعَلِ التَّفْضِيلِ فِيمَا لَيسَ فِي الطَّرَفِ الآخَرِ لَهُ مُشَارَكَةٌ
(4)
.
(1)
وَفِيهَا أَيضًا قِرَاءَاتٌ أُخْرُ أَورَدَهَا ابْنُ جَرِيرٍ رحمه الله فِي تَفْسِيرِهِ (10/ 414) وَقَالَ: "وأمَّا قِرَاءَةُ القَرَأَةِ؛ فِبِأَحَدِ الوَجْهَينِ اللَّذَينِ بَدَأْتُ بِذِكْرِهِمَا".
(2)
صَحِيحٌ. التِّرْمِذِيُّ (3522) عَنْ أمِّ سَلَمَةَ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (4801).
(3)
"الجِبْتُ -بِالكَسْرِ-: الصَّنَمُ، وَالكَاهِنُ، وَالسَّاحِرُ، وَالسِّحْرُ، وَالَّذِي لَا خَيرَ فِيهِ، وكُلُّ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللهِ تَعَالَى". القَامُوسُ المُحِيطِ (ص 149).
(4)
تَفْسِيرُ ابْنِ كَثِير (3/ 144).
وَمِثْلُهُ قَولُهُ تَعَالَى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المُؤْمِنُون: 14]، وَقَولُهُ تَعَالَى:{آللَّهُ خَيرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [النَّمْل: 59].
- فِي الآيَةِ الأُولَى وَالثَّانِيَةِ فَائِدَةُ أنَّ الإِنْسَانَ يَرِثُ آبَاءَهُ وَأَجْدَادَهُ إِذَا كَانَ عَلَى نَهْجِهِم وَعَلَى طَرِيقِهِم؛ فَيُخَاطَبُ خِطَابَهُم، حَيثُ أَنَّ مَنْ جُعِلُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ قَدْ هَلَكُوا، وَهَؤُلْاءِ عَلَى دِينِهِم وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ نَسْلِهِم أَصْلًا؛ وَمَعْ ذَلِكَ خُوطِبُوا نِيَابَةً عَنْهُم لِكَونِهِم عَلَى نَهْجِهِم وَمُقِرُّونَ بِصِحَّةِ مَا كَانُوا عَلَيهِ.
- قَولُهُ: ((لَتَتَّبِعُنَّ)) خَبْرٌ بِمَعْنَى النَّهْي، أَي: لَا تَتَشَبَّهُوا بِهِم وَلَا تُقَلِّدُوهُم، كَمَا فِي الحَدِيثِ:((وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَومٍ فَهُوَ مِنْهُمْ))
(1)
.
وَ "القُذَذُ: رِيشُ السَّهْمِ، وَاحِدَتُهَا: قُذَّةٌ. وَمِنْهُ الحَدِيثُ: ((لتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قبلَكُم حَذْوَ القُذَّةِ بِالقُذَّةِ))، أَي: كَمَا تُقَدَّرُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى قَدْرِ صَاحِبَتِهَا وَتُقْطَعُ؛ يُضْرَبُ مَثَلًا لِلشَّيئَينِ يَسْتَوِيَانِ وَلَا يَتَفَاوَتَانِ"
(2)
.
وَهَذَا الاتِّبَاعُ المُرَادُ بِهِ تَقْلِيدُ الأُمَمِ المَاضِيَةِ كَاليَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي عَادَاتِهِم مِمَّا لَا نَفْعَ فِيهِ وَلَا خَيرَ؛ كَمَا فِي الحَدِيثِ هُنَا، وَالحَدِيثُ يَشْمَلُ أَيضًا فَارِسَ وَالرُّومَ كَمَا فِي البُخَارِيِّ
(3)
.
- فِي لَفْظٍ لِلْحَدِيثِ: ((لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُم شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ وبَاعًا بِبَاعٍ، حَتَّى لَو أَنَّ أَحَدَهُم دَخَلَ جُحْرَ ضَبٍّ دَخَلْتُم، وَحَتَّى لَو أَنَّ أَحَدَهُم ضَاجَعَ
(1)
صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (5114) عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (2831).
(2)
النِّهَايَةُ فِي غَرِيبِ الحَدِيثِ وَالأَثَرِ (4/ 28).
(3)
البُخَارِيُّ (7319).
أُمَّهُ بِالطَّرِيقِ لَفَعَلْتُم))
(1)
.
- قَولُهُ: ((زَوَى لِيَ الأَرْضَ)) أَي جَمَعَ لِيَ الأَرْضَ وَضَمَّهَا لِي.
- قَولُهُ: ((فَرَأَيتُ)) أَي: بِعَينِي؛ فَتَكُونُ تَقْوِيَةَ بَصَرٍ لَهُ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَمْكَنَهُ رُؤْيَةُ مَا بَعُد مِنَ الأَرْضِ، وَقَدْ تَكُونُ مَنَامًا.
- قَولُهُ: ((أُعْطِيتُ)) هُوَ بَعْدَ مَوتِهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ ذَلِكَ لِأُمَّتِهِ؛ كَانَ ذَلِكَ لَهُ.
- قَولُهُ: ((الكَنْزَينِ)) أَي: مالُ الرُّومِ الَّذِي غَالِبُهُ الذَّهَبُ، وَمَالُ الفُرْسِ الَّذِي غَالِبُهُ الفِضَّةُ وَالجَوهَرُ.
وَفِي الصَّحِيحَينِ عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا: ((إِذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلَا كِسْرَى بَعْدَهُ، وَإِذَا هَلَكَ قَيصَرُ فَلَا قَيصَرَ بَعْدَهُ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُنْفَقَنَّ كُنُوزُهُمَا فِي سَبِيلِ اللهِ))
(2)
(3)
.
- قَولُهُ: ((بِسَنَةٍ بِعَامَّةٍ)) السَّنَةُ: القَحْطُ وَالجَدْبُ، كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى:{وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ} [الأَعْرَاف: 130]: أَي الجَدْبِ المُتَوَالِي. أَو بِسَنَةٍ: أَي: عَامٍ زَمَنِيٍّ، وَالمَعْنَى هَلَاكُهُم كُلُّهُم فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ.
- قَولُهُ تَعَالَى: ((قَضَيتُ قَضَاءً))، القَضَاءُ نَوعَانِ:
أ- شَرْعِيٌّ.
(1)
صَحِيحٌ. الحَاكِمُ (8404) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (1348).
(2)
البُخَارِيُّ (3120)، وَمُسْلِمٌ (2918).
(3)
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله فِي الفَتْحِ (6/ 625): "وَقَدْ اسْتُشْكِلَ هَذَا مَعَ بَقَاءِ مَمْلَكَةِ الفُرْسِ؛ لِأَنَّ آخِرَهُم قُتِلَ فِي زَمَنِ عُثْمَان! وَاسْتُشْكِلَ أَيضًا مَعَ بَقَاءِ مَمْلَكَةِ الرُّومِ! وَأُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ المُرَادَ لَا يَبْقَى كِسْرَى بِالعِرَاقِ وَلَا قَيصرُ بِالشَّامِ. وَهَذَا مَنْقُولٌ عَنِ الشَّافِعِيِّ".
كَقَولِهِ تَعَالَى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَينِ إِحْسَانًا} [الإِسْرَاء: 23]، وَكَقَولِهِ تَعَالَى:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأَحْزَاب: 36].
ب- كَونِيٌّ.
كَالحَدِيثِ هُنَا، وكَقَولِهِ تَعَالَى:{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [البَقَرَة: 117].
وَكِلَاهُمَا حَقٌّ، وَقَدْ جَمَعَهُمَا قَولُهُ تَعَالَى:{وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ} [غَافِر: 20].
وَأمَّا التَّفْرِيقُ بَينَهُمَا؛ فَيَكُونُ مِنْ جِهَتَينِ:
أ- الكَونِيُّ: وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ، وَقَدْ يُحِبُّهُ اللهُ تَعَالَى وَقَدْ لَا يُحِبُّهُ.
ب- الشَّرْعِيُّ: قَدْ يَقَعُ وَقَدْ لَا يَقَعُ، وَهُوَ مَحْبُوبٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى.
- قَولُهُ: ((وَأَنْ لَا أُسَلِّطَ عَلَيهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ)) هَذِهِ الإِجَابَةُ بِعَدَمِ التَّسْلِيطِ قُيِّدَتْ بِقَولِهِ: ((حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُم يُهْلِكُ بَعْضًا ويَسْبِي بَعْضُهُم بَعْضًا))، فَإِذَا وَقَعَ ذَلِكَ مِنْهُم؛ فَقَدْ يُسَلِّطُ اللهُ عَلَيهِم عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِم؛ فَيَسْتَبِيحَ بَيضَتَهُم.
فَفِيهِ الإِرْشَادُ إِلَى أَنَّ تَفَرُّقَ الأُمَّةِ وَتَنَاحُرَهَا فِيمَا بَينَهَا هُوَ سَبَبٌ لِتَسَلُّطِ العَدُوِّ عَلَيهَا، وَأَنَّ اجْتِمَاعَهَا وَتَوَحُّدَهَا عَلَى الحَقِّ سَبَبٌ لِمَنْعِ الكُفَّارِ مِنَ الاسْتِيلَاءِ عَلَى شَيءٍ مِنْ بِلَادِهَا.
- قَولُهُ: ((بَيضَتَهُمْ)) أَي: حَوزَتَهُم وَسَاحَتَهُم، وَالمَعْنَى: لَا يَسْتَبِيحَ بِلَادَهُم وجَمَاعَتَهُم.
- قَولُهُ: ((الأَئِمَّةَ المُضِلِّينَ)) فِيهِ أَنَّ الضَّلَالَ كَالحَقِّ -فِيهِ أَئِمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَيهِ-، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ آلِ فِرْعَونَ: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا
يُنْصَرُونَ} [القَصَص: 41]، وَهَذَا يَشْمَلُ الحُكَّامَ الفَاسِدِينَ والعُلَمَاءَ المُضِلِّينَ.
وَفِي الأَثَرِ عَنْ زِيَادِ بْنِ حُدَيرٍ؛ قَالَ: قَالَ لِي عُمَرُ: (هَلْ تَعْرِفُ مَا يَهْدِمُ الإِسْلَامَ؟ قَالَ: قُلْتُ: لَا. قَالَ: يَهْدِمُهُ زَلَّةُ العَالِمِ، وَجِدَالُ المُنَافِقِ بِالكِتَابِ، وَحُكْمُ الأَئِمَّةِ المُضِلِّينَ)
(1)
.
- قَولُهُ: ((فِئَامٌ)): الفِئَامُ: الجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ
(2)
.
- قَولُهُ: ((وَلَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَلْحَقَ حَيٌّ مِنْ أُمَّتِي بِالمُشْرِكِينَ)) الحَيُّ: المُرَادُ بِهِ: القَبِيلَةُ، وَمَعْنَى ((يَلْحَقَ)) يَتَّبِعَ، وَذَلِكَ إِمَّا بِأَنْ يَذْهَبُوا إِلَى بِلَادِهِم وَيَسْكُنُوا مَعَهُم وَيَكُونوا مِنْ دَولَتِهِم، وَإِمَّا بِأَنْ يَبْقُوا فِي بِلَادِ المُسْلِمِينَ؛ وَلَكِنَّهُم عَلَى مَنْهَجِ الكُفَّارِ، وَيَرْتَدُّونَ عَنِ الإِسْلَامِ.
- قَدْ دَلَّتْ نُصُوصٌ كَثِيرَةٌ مِنَ السُّنَّةِ الشَّرِيفَةِ عَلَى أَنَّ الشِّرْكَ سَيَقَعُ فِي الأُمَّةِ -وَهُوَ وَاقِعٌ الآنَ فِي كَثِيرٍ مِنْهَا- مِنْهَا:
أ- ((لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَضْطَرِبَ أَلَيَاتُ نِسَاءِ دَوسٍ عَلَى ذِي الخَلَصَةِ، وَذُو الخَلَصَةِ طَاغِيَةُ دَوسٍ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَ فِي الجَاهِلِيَّةِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيهِ
(3)
(4)
.
(1)
صَحِيحٌ. سُنَنَ الدَّارِمِيِّ (220). تَحْقِيقُ المِشْكَاةِ (72).
(2)
لِسَانُ العَرَبِ (12/ 447).
(3)
البُخَارِيُّ (7116)، وَمُسْلِمٌ (2906) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا.
وَ "الأَلْيَةُ: العَجِيزَةُ، أَو مَا رَكِبَ العَجُزَ مِنْ شَحْمٍ وَلَحْمٍ". القَامُوسُ المُحِيطُ (ص 1260).
قَالَ العَلَّامَةُ القَنوجِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (حُسْنُ الأُسْوَةِ)(ص 454): "وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهم يَرْتَدُّونَ وَيَرْجِعُونَ إِلَى جَاهِلِيَّتِهِم فِي عِبَادَةِ الأَوثَانِ؛ فَتَرْمُلُ حَولَهُ نِسَاءُ دَوسٍ طَائِفَاتٍ بِهِ؛ فَتَرْتَجُّ أَرْدَافُهُنَّ"!
(4)
وَقَدْ بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى ذِي الخَلَصَةِ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ البَجَليَّ كَمَا فِي البُخَارِيِّ (3020)، وَفِيهِ قَولُهُ صلى الله عليه وسلم:((أَلَا تُرِيحُنِي مِنْ ذِي الخَلَصَةِ؟)) فَقَالَ جَرِيرٌ: فَنَفَرْتُ فِي مَائَةٍ وَخَمْسِينَ رَاكِبًا، فَكَسَرْنَاهُ، وقَتَلْنَا مَنْ وَجَدْنَا عِنْدَهُ -وَفِي لَفْظٍ لَهُ (4357) -:(كَانَ ذُو الخَلَصَةِ بَيتًا بِاليَمَنِ لِخَثْعَمَ وبَجِيلةَ؛ فِيهِ نُصُبٌ تُعْبَدُ، يُقَالُ لَهَا: الكَعْبَةُ، قَالَ: فَأَتَاهَا فَحَرَّقَهَا بِالنَّارِ وَكَسَرَهَا).
ب- ((لَا يَذْهَبُ اللَّيلُ وَالنَّهْارُ حَتَّى تُعْبَدَ اللَّاتُ وَالعُزَّى))، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ إِنْ كُنْتُ لَأَظنُّ حِينَ أَنْزَلَ اللهُ {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التَّوبَة: 33] أَنَّ ذَلِكَ تَامًّا! قَالَ: ((إنَّهُ سَيَكُونُ مِنْ ذَلِكَ مَا شَاءَ اللهُ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللهُ رِيحًا طَيِّبَةً فَتَوَفَّى كُلَّ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إيمَانٍ؛ فَيَبْقَى مَنْ لَا خَيرَ فيهِ فَيَرْجِعُونَ إِلَى دِينِ آبَائِهِم)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا
(1)
.
ج- ((لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَلْحَقَ قَبَائِلُ منْ أُمَّتِي بِالمُشْرِكِينَ، وَحَتَّى تَعْبُدَ قَبَائِلُ مِنْ أُمَّتِي الأوثانَ)). رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ ثَوبَان مَرْفُوعًا
(2)
.
د- ((لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لَا يُقَالَ فِي الأَرْضِ: اللهُ اللهُ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ
(3)
، وَفِي رِوَايَةٍ أَحْمَدَ:((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))
(4)
.
هـ- قَولُهُ: ((طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي))
(5)
: قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رحمه الله فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: "أَمَّا هَذِهِ الطَّائِفَةُ فَقَالَ البُخَارِيُّ
(6)
: هُمْ أَهْلُ العِلْمِ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: إِنْ لَمْ يَكُونُوا
(1)
مُسْلِمٌ (2907).
(2)
صَحِيحٌ. أَبُو دَاوُدَ (4252)، وَهُوَ فِي مَتْنِ البَابِ.
(3)
قَالَ القُرْطُبِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ التَّذْكِرَةُ (ص 1351): "قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللهِ عَلَيهِم: قُيِّدَ (الله) بِرَفْعِ الهَاءِ وَنَصْبِهَا، فَمَنْ رَفَعَهَا؛ فَمَعْنَاهُ ذَهَابُ التَّوحِيدِ، وَمَنْ نَصَبَهَا؛ فَمَعْنَاهُ انْقِطَاعُ الأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنِ المُنْكَرِ. أَي: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ عَلَى أَحَدٍ يَقُولُ: اتَّقِ اللهَ".
(4)
مُسْلِمٌ (148)، وَأَحْمَدُ (13833) عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا.
(5)
وَحَدِيثُ الطَّائِفَةِ المْنَصُورَةِ مُتَوَاتِرٌ، أَفَادَهُ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله تَحْتَ حَدِيثِ الضَّعِيفَةِ (5849).
(6)
البُخَارِيُّ (9/ 101).
أَهْلَ الحَدِيثِ فَلَا أَدْرِي مَنْ هُم
(1)
!
قَالَ القَاضِي عِيَاضُ: إنَّمَا أَرَادَ أَحْمَدُ أَهْلَ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ وَمَنْ يَعْتَقِدُ مَذْهَبَ أَهْلِ الحَدِيثِ.
قُلْتُ [النَّوَوِيُّ]: وَيَحْتَمِلُ أَنْ هَذِهِ الطَّائفةَ مُفَرَّقَةٌ بَينَ أَنْوَاعِ المُؤْمِنِينَ، مِنْهُم شُجْعَانٌ مُقَاتِلُونَ، وَمِنْهُم فُقَهَاءُ، وَمِنْهُم مُحَدِّثُونَ، وَمِنْهُم زُهَّادٌ وَآمِرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَنَاهُونَ عَنِ المُنْكَرِ، وَمِنْهُم أَهْلُ أَنْوَاعٍ أُخْرَى مِنَ الخَيرِ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونُوا مُجْتَمِعِينَ؛ بَلْ قَدْ يَكُونُونَ مُتَفَرِّقينَ فِي أَقْطَارِ الأَرْضِ"
(2)
.
- قَولُهُ: ((لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلَا مَنْ خَالَفَهُمْ)) خَذَلَهُم؛ أَي: لَمْ يَنْصُرْهُم وَيُوَافِقْهُم عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيهِ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ سَيُوجَدُ مَنْ يَخْذُلُهُم، لَكِنَّهُ لَا يَضُرُّهُم، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البَقَرَة: 249].
- قَولُهُ: ((حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ)) أَي الكَونِيُّ، وَذَلِكَ عِنْدَ قِيَامِ السَّاعَةِ، عِنْدَمَا يَأْتِي أَمْرُهُ سبحانه وتعالى بِأَنْ تَقْبِضَ الرِّيحُ الطَّيّبَةُ نَفْسَ كُلِّ مُؤْمِنٍ فَلَا يَبْقَى إِلَّا شِرَارُ الخَلْقِ، وَعَلَيهِم تَقُومُ السَّاعَةُ
(3)
.
- قَولُهُ: ((سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي كَذَّابُونَ ثَلَاثُونَ)) وَهُم مَنْ كَانَ لَهُ شَأْنٌ وَشَوكَةٌ وَقُوَّةٌ وَاتَّبَعَهُم أُنَاسٌ كَثِيرٌ، وَإلَّا فَالكَذَّابُونَ المُدَّعُونَ لِلنُّبُوَّةِ كَثِيرونَ.
(1)
أورَدَهُ الحَاكِمُ فِي مَعْرِفَةِ عُلُومِ الحَدِيثِ (ص 2).
(2)
شَرْحُ مُسْلِمٍ (13/ 66).
(3)
قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رحمه الله فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ (13/ 66): " ((حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ)) أَي: تَقْرُبَ السَّاعَةُ، وَهُوَ خُرُوجُ الرِّيحِ".
- قَولُهُ: ((تَبَارَكَ)) الصَّوَابُ أَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِاللهِ عز وجل، وَأَمَّا العَبْدُ فَهُوَ مُبَارَكٌ
(1)
.
- المُخْتَارُ هُوَ ابْنُ أَبِي عُبَيدٍ الثَّقَفيُّ، خَرَجَ وَغَلَبَ عَلَى الكُوفَةِ فِي أَوَّلِ خِلَافَةِ ابْنِ الزُّبَيرِ رضي الله عنه، وَأَظْهَرَ مَحَبَّةَ آلِ البَيتِ، وَدَعَا النَّاسَ إِلَى الثَّأْرِ مِنْ قَتَلَةِ الحُسَينِ، فَتَتَبَّعَهُم وَقَتَلَ كَثِيرًا مِمَّنْ بَاشَرَ ذَلِكَ أَو أَعَانَ عَلَيهِ، فَانْخَدَعَتْ بِهِ العَامَّةُ، ثُمَّ ادَّعَى النُّبُوَّةَ وَزَعَمَ أَنَّ جِبْرِيلَ يَأْتِيهِ!
- قَولُ المُصَنِّفِ رحمه الله فِي المَسْأَلَةِ الرَّابِعَةِ: "مَا مَعْنَى الإِيمَانِ بِالجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ فِي هَذَا المَوضِعِ؛ هَلْ هُوَ اعْتِقَادُ قَلْبٍ؟ أَو هُوَ مُوَافَقَةُ أَصْحَابِهَا مَعَ بُغْضِهَا وَمَعْرِفَةِ بُطْلَانِهَا".
قَالَ الشَّيخُ ابْنُ عُثَيمِين رحمه الله -تَعْلِيقًا-: "أمَّا إِيمَانُ القَلْبِ وَاعْتِقَادُهُ؛ فَهَذَا لَا شَكَّ فِي دُخُولِهِ فِي الآيَةِ، وَأَمَّا مُوَافَقَةُ أَصْحَابِهَا فِي العَمَلِ مَعَ بُغْضِهَا وَمَعْرِفَةِ بُطْلَانِهَا؛ فَهَذَا يَحْتَاجُ إِلَى تَفْصِيلٍ، فَإِنْ كَانَ وَافَقَ أَصْحَابَهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا صَحِيحَةٌ فَهَذَا كُفْرٌ. وَإِنْ كَانَ وَافَقَ أَصْحَابَهَا وَلَا يَعْتَقِدُ أَنَّهَا صَحِيحَةٌ؛ فَإِنَّهُ لَا يَكْفُرُ، لَكِنَّهُ لَا شَكَّ عَلَى خَطَرٍ عَظِيمٍ يُخْشَى أَنْ يُؤَدِّي بِهِ الحَالُ إِلَى الكُفْرِ وَالعِيَاذُ بِاللهِ"
(2)
(3)
.
قُلْتُ: وَعِنْدِي وَجْهٌ آخَرُ فِي تَوجِيهِ كَلَامِ المُصَنِّفِ رحمه الله وَتَصْحِيحِهِ؛ وَذَلِكَ بِكَونِ المُوَافَقَةِ ظَاهِرًا تَكُونُ كُفْرًا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي القَلْبِ اطْمِئْنَانٌ بِالتَّوحِيدِ أَصْلًا
(1)
وَالبَرَكَةُ فِي حَقِّهِ تَعَالَى هِيَ مِنْ جهتين: فِعْلُهُ: أَنَّهُ تَعَالَى جَاءَ بِكُلِّ بَرَكَةٍ، وَوَصْفُهُ: تَبَارَكَ: تَعَاظَمَ.
(2)
القَولُ المُفِيدُ (1/ 483).
(3)
قُلْتُ: وَالمُوَافَقَةُ فِي الظَّاهِرِ لَا تَكُونُ كُفْرًا إنْ كَانَتْ أَيضًا مِنْ بَابِ المُنَاظَرَةِ وَالمُحَاجَّةِ.
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي تَفْسِيرِ قَولِهِ تَعَالَى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيهِ اللَّيلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} [الأَنْعَام: 76]: "وَالحَقُّ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عليه الصلاة والسلام كَانَ فِي هَذَا المَقَامِ مُنَاظِرًا لِقَومِهِ مُبَيِّنًا لَهُمْ بُطْلَانَ مَا كَانُوا عَلَيهِ مِنْ عِبَادَةِ الهَيَاكِلِ وَالأَصْنَامِ". تَفْسِيرُ ابْنِ كَثِير (3/ 292).
وَانْقِيَادٌ لَهُ -كَحَالِ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالعِلْمَانِيِّينَ وَأَشْبَاهِهِم-
(1)
(2)
.
- فَائِدَةٌ: جَرَى فِي هَذِهِ الأُمَّةِ كَثِيرٌ مِنِ اتِّبَاعِ الأُمَمِ المَاضِيَةِ وَالتَّشَبُّهِ بِهَا، وَمِنْهَا عَلَى سَبِيلِ المِثَالِ:
بِنَاءُ المَسَاجِدِ عَلَى القُبُورِ.
(1)
وَرَاجِعْ لُزُومًا المَسْأَلَةَ الأُولَى مِنْ (بَابِ مَا جَاءَ فِي الذَّبْحِ لِغَيرِ اللهِ) فَإِنَّ فِيهَا تَحْقِيقًا مُفِيدًا لِمِثْلِ هَذِهِ المَسْأَلَةِ.
(2)
قَالَ الشَّيخُ صَالِحُ الفَوزَان حَفِظَهُ اللهُ: "المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ المُوَافَقَةَ لَهُم فِي الظَّاهِرِ تُسَمَّى إِيمَانًا وَلَو لَمْ يُوَافِقْهُم فِي البَاطِنِ؛ لِأَنَّ اليَهُودَ لَمَّا قَالُوا لِكُفَّارِ قُرَيشٍ: أَنْتُم أَهْدَى مِن الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا! هُم فِي البَاطِنِ يَعْتَقِدُونَ بُطْلَانَ هَذَا الكَلَامِ؛ لَكِنَّهُم وَافَقُوهُم فِي الظَّاهِرِ لِيَحْصُلوا عَلَى مُنَاصَرَتِهِم لَهُم؛ وَمَع هَذَا سَمَّى اللهُ هَذَا إِيمَانًا بِالجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ.
فَالَّذِي يَمْدَحُ الكُفْرَ وَالكُفَّارَ وَلَو بِلِسَانِهِ، وَيُفَضِّلُ الكُفْرَ وَالكُفَّارَ عَلَى المُؤمِنِينَ؛ يُعْتَبَرُ مُؤمِنًا بِالجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ -وَلَو كَانَ قَلْبُهُ لَا يُوَافِقُ عَلَى هَذَا- مَا لَمْ يَكُنْ مُكْرَهًا، فَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مُرْجِئَةِ هَذَا العَصْرِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ مَن تَكَلَّمَ بِكَلَامِ الكُفْرِ لَا يَكْفُرُ حَتَّى يَعْتَقِدَ بِقَلْبِهِ صِحَّةَ مَا يَقُولُ! وَهَذِهِ دَقِيقَةٌ عَظِيمَةٌ ذَكَرَهَا الشَّيخُ فِي المَسَائِلِ، وَهِيَ عَظِيمَةٌ جِدًّا". إِعَانَةُ المُسْتَفِيدِ (1/ 329).
قُلْتُ: وَالأَقْرَبُ هُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيهِ شَيخُنَا ابْنُ عُثَيمِين رحمه الله، لِأَنَّ الآيَةَ الكَرِيمَةَ إِنَّمَا ذَكَرَتْ وَصْفَينِ لِلْيَهُودِ فِي الآيَةِ الكَرِيمَةِ، فَقَدْ جَمَعَتْ بَينَ الإِيمَانِ -وَهَذَا أَمْرٌ قَلْبِيٌّ هُنَا بِدِلَالَةِ الوَصْفِ الثَّانِي- وَبَينَ القَولِ؛ فَقَالَ سُبْحَانَه:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} وَهَذَا إِقْرَارٌ بِصِحَّةِ عِبَادَةِ الأَوْثَانِ، وَفِي قَوْلِهِ:{وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} هَذَا إِقْرَارٌ مِنْهُم بِاللِّسَانِ زِيَادَةً عَلَى القَلْبِ، لِذَلِكَ لَا يَصِحُّ حَمْلُ الآيَةِ بِمُطْلَقِ حُكْمِهَا عَلَى مَن لَمْ يَكُنْ عَلَى نَفْسِ وَصْفِهَا! لَا سِيَّمَا وَأَنَّ هُنَاكَ فَرْقًا وَاضِحًا بَينَ مَدْحِ حَالِ الكُفَّارِ مِن جِهَةِ الدُّنيَا وَبَينَ مَدْحِهِم مِن جِهَةِ الدِّينِ.
وَعَلَى كُلِّ حَالٍ؛ فَإِنَّ مَدْحَ وَاسْتِحْسَانَ مَا عَلَيهِ الكُفَّارُ عُمُومًا -وَلَو لِدُنْيَاهُم فَقَط- يَجْعَلُ صَاحِبَهُ عَلَى خَطَرٍ عَظِيمٍ. نَسْأَلُ اللهَ العَافِيَةَ وَالسَّلَامَةَ.
عِبَادَةُ القُبُورِ؛ مَعَ قَولِهِ تَعَالَى عَنِ المُشْرِكِينَ {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نُوح: 23].
نَفْيُ الصِّفَاتِ؛ مَعَ قَولِهِ تَعَالَى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرَّعْد: 30].
أَكْلُ الرِّبَا؛ مَعَ آكِلِي السُّحْتِ.
إِقَامَةُ الحُدُودِ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَتَرْكُ الشُّرَفَاءِ.
تَحْرِيفُهُم (اسْتَوَى) إِلَى (اسْتَولَى)؛ مَعَ {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [النِّسَاء: 46].
التَّعَصُّبُ لِلمَشَايِخِ عَلَى حِسَابِ الحَقِّ؛ مَعَ قَولِهِ تَعَالَى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [التَّوبَة: 31].
قَولُهُم عَنِ المُتَمَسِّكِينَ بِالسُّنَّةِ أَنَّهُم رَجْعِيُّونَ؛ مَعَ قَولِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ} [المُطَفِّفِين: 32].
مَسَائِلُ عَلَى البَابِ
-
المَسْأَلَةُ الأُولَى: احْتَجَّ الزَّاهِدُونَ فِي تَعَلُّمِ التَّوحِيدِ اليَومَ بِالحَدِيثِ الَّذِي فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ
عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا: ((إِنَّ الشَّيطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبدَهُ المُصَلُّونَ؛ وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَينَهُمْ))
(1)
رَوَاهُ مُسْلِمٌ
(2)
. فَمَا الجَوَابُ عَنْهُ؟
الجَوَابُ مِنْ أَوجُهٍ:
1 -
إِنَّ هَذَا اليَأْسَ هُوَ بِحَسْبِ ظَنِّ الشَّيطَانِ نَفْسِهِ؛ فَهُوَ لَا يَعْلمُ الغَيبَ! وَلَيسَ فِي الحَدِيثِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَيَّسَهُ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ مِنَ الشَّيطَانِ لِكَثْرَةِ مَا رَأَى مِنِ انْتِشَارِ الإِسْلَامِ
(3)
.
2 -
إِنَّ الحَدِيثَ ذَكَرَ وَصْفَ هَؤُلَاءِ بِأَنَّهُم -المُصَلُّونَ- وَهُوَ وَصْفٌ أَخَصُّ مِنْ عُمُومِ المُسْلِمِينَ، فَتَكُونُ لِلعَهْدِ. وَالعَهْدُ هُنَا هُوَ عَلَى أَحَدِ مَعْنَيَينِ:
(1)
وَقَرِيبٌ مِنْهُ فِي الاسْتِدْلَالِ مَنْ يَحْتَجُّ بِقَولِهِ صلى الله عليه وسلم: ((وَإِنِّي لَسْتُ أَخْشَى عَلَيكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا؛ وَلَكِنِّي أَخْشَى عَلَيكُمُ الدُّنْيَا أَنْ تَنَافَسُوهَا)). البُخَارِيُّ (3158)، وَمُسْلِمٌ (2961) عَنْ عَمْرو بْنِ عَوفٍ مَرْفُوعًا.
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله فِي الفَتْحِ (3/ 211): "أي: عَلَى مَجْمُوعِكُم، لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ وَقَعَ مِنَ البَعْضِ -أَعَاذَنَا اللهُ تَعَالَى-".
(2)
مُسْلِمٌ (2812).
(3)
وَأَمَّا حَدِيثُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ؛ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ -وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ- إِنَّهُ لَيَعْتَرِضُ فِي صَدْرِي الشَّيءُ؛ وَوَدِدْتُ أَنْ أَكُونَ حُمَمًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:((الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي قَدْ يَئَّسَ الشَّيطَانَ أَنْ يُعْبَدَ بِأَرْضِكُمْ هَذِهِ مَرَّةً أُخْرَى، وَلَكِنَّهُ قَدْ رَضِيَ بِالمُحَقَّرَاتِ مِنْ أَعْمَالِكُمْ)). فَهُوَ مُنْقَطِعٌ. أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الكَبِيرِ (20/ 172). انْظُرِ كِتَابَ (المَطَالِبُ العَالِيَةُ)(12/ 553) لِلحَافِظِ العَسْقَلَانِيِّ رحمه الله.
أ- أَنَّهُم الصَّحَابَةُ الَّذِينَ هُمْ أَوَّلُ مَقْصُودٍ عِنْدَ ذِكْرِ الحَدِيثِ، وَعَلَيهِ فَمَا يُؤْمَنُ عَلَيهِم مِنَ الفِتْنَةِ لَا يُؤْمَنُ عَلَى غَيرِهِم مِمَّنْ بَعُدَ عَهْدُهُ عَنِ الوَحْي وَالرِّسَالَةِ وَأُصُولِ الإِسْلَامِ.
ب- أَنَّهُم المُصَلُّونَ الصَّلَاةَ التَّامَّةَ؛ العَالِمُونَ بِحَقِيقَتِهَا وَمَعَانِيهَا، فَهُمُ المُوَحِّدُونَ حَقِيقَةً، وَانْظُرِ اسْتِثْنَاءَ اللهِ تَعَالَى لَهُم بِقَولِهِ:{إِلَّا الْمُصَلِّينَ} مِنْ سِيَاقِ {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} [المَعَارِج: 19 - 21]
(1)
.
3 -
أَنَّهُ يَئِسَ مِنْ جِهَةِ إِطْبَاقِ أَهْلِ الأَرْضِ عَلَى الشِّرْكِ، لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى امْتَنَّ عَلَى المُسْلِمِينَ بِوُجُودِ الطَّائِفَةِ المَنْصُورَةِ البَاقِيَةِ عَلَى الحَقِّ
(2)
.
4 -
بَقِيَ أَنْ يُقَالَ -وَهِيَ قَاصِمَةُ ظَهْرِ الزَّاهِدِينَ فِي تَعَلُّمِ التَّوحِيدِ- بِأَنَّ الحَدِيثَ إِنْ حُمِلَ عَلَى ظَاهِرِهِ مُطْلَقًا! فَنَقُولُ: إِنَّهُ يَئِسَ مِنْ وُقُوعِ الشِّرْكِ فِي جَزِيرَةِ العَرَبِ فَقَط؛ فَهُوَ دَلِيلُ قُوَّةِ الإِسْلَامِ هُنَاكَ وَانْتِشَارِهِ فِيهِ وَرُسُوخِ قَدَمِ عُلَمَائِهِ، بِخِلَافِ غَيرِهَا مِنَ البُلْدَانِ
(3)
.
(1)
وَتَأَمَّلْ قَولَهُ تَعَالَى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العَنْكَبُوت: 45].
وَفِي الحَدِيثِ: ((مِنْكُمْ مَنْ يُصَلِّي الصَّلَاةَ كَامِلَةً، وَمِنْكُمْ مَنْ يُصَلِّي النِّصْفَ وَالثُّلُثَ وَالرُّبُعَ وَالخُمُسَ -حَتَّى بَلَغَ- العُشُرَ)). حَسَنٌ. النَّسَائِيُّ فِي الكُبْرَى (616) عَنْ أَبِي اليَسَرِ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ (538).
(2)
كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: ((لَمَّا افتَتَحَ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ؛ رَنَّ إِبْلِيسُ رَنَّةً اجْتَمَعَتْ إِلَيهِ جُنُودُهُ، فَقَالَ: ايأَسُوا أَنْ نَرَى أَمَّةَ مُحَمَّدٍ عَلَى الشِّرْكِ بَعْدَ يَومِكُم هَذَا! وَلَكِنِ افْتِنُوهُم فِي دِينِهِم، وَأَفْشُوا فِيهِمُ النَّوحَ). صَحِيحٌ. الطَّبَرَانِيُّ فِي الكَبِيرِ (12/ 11). الصَّحِيحَةُ (3467). فَالكَلَامُ إِذًا هُوَ بِاعْتِبَارِ الأُمَّةِ كُلِّهَا.
(3)
وَقَدْ يَشْهَدُ لِهَذَا مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ (8810) فِي مُسْنَدِهِ عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا: ((إِنَّ الشَّيطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ
=
-
المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: يُشْكِلُ قَولُهُ صلى الله عليه وسلم: ((عَلَى الحَقِّ مَنْصُورَةً)) مَعَ مَا عُلِمَ
مِنْ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى الحَقِّ قُتِلُوا بِيَدِ أَعْدَائِهِم! فَمَا الجَوَابُ عَنْهُ؟
الجَوَابُ:
إِنَّ نَصْرَهَا هُوَ مِنْ جِهَتَينِ:
1 -
أَنَّهُ بِالحُجَّةِ وَالبُرْهَانِ، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ فِي قَولِهِ صلى الله عليه وسلم:((ظَاهِرِينَ عَلَى الحَقِّ))، فَعُلُوُّهُم هُوَ بِالحَقِّ الَّذِي مَعَهُم.
2 -
أَنَّهُ فِي الآخِرَةِ بِالحُكْمِ لَهُم وَلِأَتْبَاعِهِم بِالثَّوَابِ، وَلِمَنْ حَاربَهُم بِشِدَّةِ العِقَابِ
(1)
.
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ
(2)
: "قَدْ أَورَدَ أَبُو جَعْفَرٍ؛ ابْنُ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى عِنْدَ قَولِهِ تَعَالَى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [غَافِر: 51] سُؤَالًا، فَقَالَ: قَدْ عُلِمَ أَنَّ بَعْضَ الأَنْبِيَاءِ عَلَيهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَتَلَهُ قَومُه بِالكُلِّيَّةِ كَيَحْيَى وَزَكَرِيَّا وَشَعْيَا
(3)
، وَمِنْهُمْ مَنْ خَرَجَ مِنْ بَينِ أَظْهُرِهِمْ؛ إِمَّا مُهَاجِرًا كَإِبْرَاهِيمَ، وَإِمَّا إِلَى السَّمَاءِ كَعِيسَى؛ فَأَينَ النُّصْرَةُ فِي الدُّنْيَا؟ ثُمَّ أَجَابَ عَنْ ذَلِكَ بِجَوَابَينِ:
=
يُعْبَدَ بِأَرْضِكُمْ هَذِهِ؛ وَلَكِنَّهُ قَدْ رَضِيَ مِنْكُمْ بِمَا تَحْقِرُونَ)). صَحِيحٌ. الصَّحِيحَةُ (2635). وَهَذَا الوَجْهُ الأَخِيرُ -عِنْدِي- هُوَ مِنْ بَابِ إِلْزَامِ الخَصْمِ بِلَازِمِ بَاطِلِهِ، وَإِلَّا فَالأَولَى هُوَ مَا ذُكِرَ سَابِقًا. وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(1)
أَفَادَهُمَا الشَّيخُ السَّعْدِيُّ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (ص 739).
(2)
تَفْسِيرُ ابْنِ كَثِيرٍ (7/ 150).
(3)
وَهُوَ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ.
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الخَبَرُ خَرَجَ عَامًّا وَالمُرَادُ بِهِ البَعْضُ، قَالَ: وَهَذَا سَائِغٌ فِي اللُّغَةِ.
الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ المُرَادُ بِالنَّصْرِ الِانْتِصَارَ لَهُمْ مِمَّنْ آذَاهُمْ؛ وَسَوَاءً كَانَ ذَلِكَ بِحَضْرَتِهِمْ أَو فِي غَيبَتِهِمْ أَو بَعْدَ مَوتِهِمْ، كَمَا فُعِلَ بِقَتَلَةِ يَحْيَى وَزَكَرِيَّا، وَشَعْيَا سُلِّطَ عَلَيهِمْ مِنْ أَعْدَائِهِمْ مَنْ أَهَانَهُمْ وَسَفَكَ دِمَاءَهُمْ"
(1)
.
(1)
وَقَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله -أَيضًا- فِي التَّفْسِيرِ (7/ 150): "وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ النُّمْرُودَ أَخَذَهُ اللهُ تَعَالَى أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ، وَأَمَّا الَّذِينَ رَامُوا صَلْبَ المَسِيحِ عليه السلام مِنَ اليَهُودِ؛ فَسَلَّطَ اللهُ تَعَالَى عَلَيهِمُ الرُّومَ فَأَهَانُوهُمْ وَأَذَلُّوهُمْ، وَأَظْهَرَهُمُ اللهُ تَعَالَى عَلَيهِمْ، ثُمَّ قَبْلَ يَومِ القِيَامَة سَيَنْزِلُ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ عليه الصلاة والسلام إِمَامًا عَادِلًا وَحَكَمًا مُقْسِطًا؛ فَيَقْتُلُ المَسِيحَ الدَّجَّالَ وَجُنُودَهُ مِنَ اليَهُودِ، وَيَقْتُلَ الخِنْزِيرَ، وَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ، وَيَضَعَ الجِزْيَةَ؛ فَلَا يَقْبَلُ إِلَّا الإِسْلَامَ، وَهَذِهِ نُصْرَةٌ عَظِيمَةٌ، وَهَذِهِ سُنَّةُ اللهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ فِي قَدِيمِ الدَّهْرِ وَحَدِيثِهِ؛ أَنَّهُ يَنْصُرُ عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا وَيُقِرُّ أَعْيُنَهُمْ مِمَّنْ آذَاهُمْ".
-
المَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَلِ المُرَادُ بِالقِرَدَةِ وَالخَنَازِيرِ فِي الآيَةِ الكَرِيمَةِ هَذِهِ المَوجُودَةُ؟
الجَوَابُ: لَا، لِمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا:((إِنَّ اللهَ لَمْ يَجْعَلْ لِمَسْخٍ نَسْلًا وَلَا عَقِبًا، وَقَدْ كَانَتِ القِرَدَةُ وَالخَنَازِيرُ قَبْلَ ذَلِكَ))
(1)
.
(1)
مُسْلِمٌ (2663).
-
المَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَولُهُ: ((وَأَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ)) يُشْكِلُ مَعَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَينِ مِنْ نُزُولِ عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ،
وَأَنَّهُ يَأْتِي بِتَشْرِيعٍ جَدِيدٍ؛ كَوَضْعِ الجِزْيَةِ وَأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ إِلَّا الإِسْلَامَ
(1)
! فَمَا الجَوَابُ عَنْهُ؟
الجَوَابُ: إِنَّ نُبُوَّتَهُ سَابِقَةٌ لِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَلَكِنَّهُ يَأْتِي عَامِلًا بِشَرِيعَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ وَلَيسَ بِالإِنْجِيلِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ هُوَ كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا:((كَيفَ أَنْتُمْ إِذَا نَزَلَ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ فَأَمَّكُمْ مِنْكُمْ؟))، فَقُلْتُ لِابْنِ أَبِي ذِئْبٍ
(2)
: إِنَّ الْأَوزَاعِيَّ حَدَّثَنَا عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ نَافِعٍ عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ: ((وَإِمَامُكُمْ مِنْكُمْ))! قَالَ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ: تَدْرِي مَا أَمَّكُمْ مِنْكُمْ؟ قُلْتُ: تُخْبِرُنِي، قَالَ: فَأَمَّكُمْ بِكِتَابِ رَبِّكُمْ تبارك وتعالى، وَسُنَّةِ نَبِيِّكُمْ صلى الله عليه وسلم
(3)
.
وَأَمَّا كَونُهُ يَضَعُ الجِزْيَةَ
(4)
وَلَا يَقْبَلُ إِلَّا الإِسْلَامَ؛ فَلَيسَ تَشْرِيعًا جَدِيدًا مِنْهُ، بَلْ هُوَ تَشْرِيعٌ مِنْ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم؛ لِأَنَّه أَخْبَرَ بِهِ مُقَرِّرًا لَهُ، وَلِذَلِكَ لَا يُسَمَّى أَتْبَاعُهُ حِينَهَا بِالنَّصَارَى.
(1)
البُخَارِيُّ (2222)، وَمُسْلِمٌ (155).
(2)
الرَّاوي عَنْهُ هُوَ الوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ.
(3)
صَحِيحُ مُسْلِمٍ (155).
(4)
قَولُهُ: ((وَيَضَعُ الجِزْيَةَ)) الصَّوَابُ فِي مَعْنَاهُ: أَنَّهُ لَا يَقْبَلُهَا، وَلَا يَقْبَلُ مِنَ الكُفَّارِ إِلَّا الإِسْلَامَ، وَمَنْ بَذَلَ مِنْهُمُ الجِزْيَةَ لَمْ يَكُفَّ عَنْهُ بِهَا؛ بَلْ لَا يَقْبَلُ إِلَّا الإِسْلَامَ أَوِ القَتْلَ. هَكَذَا قَالَهُ الإِمَامُ أَبُو سُلَيمَانَ الخَطَّابِيُّ وَغَيرُهُ مِنَ العُلَمَاءِ رَحِمَهُمُ اللهُ تَعَالَى. يُنْظَرُ: شَرْحُ مُسْلِمٍ لِلْنَوَوِيِّ (2/ 190).
-
المَسْأَلَةُ الخَامِسَةُ: قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: إِنَّ الطَّائِفَةَ المَنْصُورَةَ هُمْ أَهْلُ الحَدِيثِ، فمَا مَدَى صِحَّةِ هَذَا القَولِ؟
الجَوَابُ: فِيهِ تَفْصِيلٌ؛ إِنْ أُرِيدَ بِذَلِكَ أَهْلُ الحَدِيثِ المُصْطَلَحِ عَلَيهِ -الَّذِينَ يَنْظُرُونَ فِي الأَسَانِيدِ وَالرِّجَالِ وَالمُتُونِ- وَأُخْرِجَ مِنْهُمُ الفُقَهَاءُ وَعُلَمَاءُ التَّفْسِيرِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ فَهَذَا لَيسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّ عُلَمَاءَ التَّفْسِيرِ وَالفُقَهَاءَ الَّذِينَ يَتَحَرَّونَ البِنَاءَ عَلَى الدَّلِيلِ هُمْ فِي الحَقِيقَةِ مِنْ أَهْلِ الحَدِيثِ بِالمَعْنَى العَامِّ؛ فَلَا يَخْتَصُّ بِأَهْلِ الحَدِيثِ صِنَاعَةً، لِأَنَّ العُلُومَ الشَّرْعيَّةَ هِيَ تَفْسِيرٌ، وَحَدِيثٌ، وَفِقْهٌ
…
إِلَخ.
فَالمَقْصُودُ إِذًا كُلُّ مَنْ تَحَاكَمَ إِلَى الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَهُمْ أَهْلُ الحَدِيثِ بِالمَعْنَى العَامِّ، فَيَشْمَلُ الفُقَهَاءَ الَّذِينَ يَتَحَرَّونَ العَمَلَ بِالسُّنَّةِ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الحَدِيثِ اصْطِلَاحًا.
قَالَ شَيخُ الإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: "وَنَحْنُ لَا نَعْنِي بِأَهْلِ الحَدِيثِ: المُقْتَصِرِينَ عَلَى سَمَاعِهِ أَو كِتَابَتِهِ أَو رِوَايَتِهِ! بَلْ نَعْنِي بِهِمْ: كُلَّ مَنْ كَانَ أَحَقَّ بِحِفْظِهِ وَمَعْرِفَتِهِ وَفَهْمِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَاتِّبَاعِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا، وَكَذَلِكَ أَهْلُ القُرْآنِ، وَأَدْنَى خَصْلَةٍ فِي هَؤُلَاءِ: مَحَبَّةُ القُرْآنِ وَالحَدِيثِ، وَالبَحْثُ عَنْهُمَا وَعَنْ مَعَانِيهِمَا، وَالعَمَلُ بِمَا عَلِمُوهُ مِنْ مُوجِبِهِمَا"
(1)
.
(1)
مَجْمُوعُ الفَتَاوَى (4/ 95).
بَابُ مَا جَاءَ فِي السِّحْرِ
وَقَولُ اللهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} [البَقَرَة: 102].
وَقَولُهُ تَعَالَى: {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [النِّسَاء: 51]. قَالَ عُمَرُ: الجِبْتُ: السِّحْرُ، والطَّاغُوتُ: الشَّيطَانُ
(1)
. وَقَالَ جَابِرٌ: الطَّوَاغِيتُ: كُهَّانٌ كَانَ يَنْزِلُ عَلَيهِمُ الشَّيطَانُ؛ فِي كُلِّ حَيٍّ وَاحِدٌ
(2)
.
وَعَنْ أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقَاتِ))، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: ((الشِّرْكُ بِاللهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَاّ بِالحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ اليَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَومَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ المُحْصَنَاتِ الغَافِلَاتِ المُؤْمِنَاتِ))
(3)
.
وَعَنْ جُنْدُبٍ مَرْفُوعًا: ((حَدُّ السَّاحِرِ ضَرْبُهُ بِالسَّيفِ)). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ مَوقُوفٌ
(4)
.
(1)
رَوَاهُ البُخَارِيُّ (6/ 45) تَعْلِيقًا، وَوَصَلَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيدٍ فِي تَفْسِيرهِ وَمُسَدَّدٌ فِي مُسْنَدِهِ. وَإِسْنَادُهُ قَوِيٌّ. اُنْظُرِ الفَتْحَ (8/ 252) لِابْنِ حَجَرٍ رحمه الله.
(2)
رَوَاهُ البُخَارِيُّ (6/ 45) تَعْلِيقًا، وَوَصَلَهٌ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّه. اُنْظُرِ الفَتْحَ (8/ 252) لِابْنِ حَجَرٍ رحمه الله.
(3)
البُخَارِيُّ (2766)، وَمُسْلِمٌ (89).
(4)
ضَعِيفٌ مَرْفُوعًا، صَحِيحٌ مَوقُوفًا. التِّرْمِذِيُّ (1460). الضَّعِيفَةُ (1446).
وَفِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ عَنْ بَجَالَةَ بْنِ عَبَدَةَ؛ قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رضي الله عنه: أَنِ اُقْتُلُوا كُلَّ سَاحِرٍ وَسَاحِرَةٍ. قَالَ: فَقَتَلْنَا ثَلَاثَ سَوَاحِرَ
(1)
.
وَصَحَّ عَنْ حَفْصَةَ رضي الله عنها: أَنَّهَا أَمَرَتْ بِقَتْلِ جَارِيَةٍ لَهَا سَحَرَتْهَا؛ فَقُتِلَتْ
(2)
. وَكَذَلِكَ صَحَّ عَنْ جُنْدَبٍ
(3)
.
قَالَ أَحْمَدُ: عَنْ ثَلَاثَةٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
(4)
(1)
صَحِيحٌ. أَصْلُهُ فِي البُخَارِيِّ (3156)، وَاللَّفْظُ لِأَبِي دَاوُدَ (3043) وَأَحْمَدَ (1657). صَحِيحُ أَبِي دَاوُدَ (3043).
(2)
صَحِيحٌ. الأَثَرُ فِي المُوَطَّإِ (2/ 871) وَهُوَ ضَعِيفُ الإِسْنَادِ، وَلَكِنْ صَحَّ فِي مُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيبَةَ (27912) عَنِ ابْنِ عُمَرَ:(أَنَّ جَارِيَةً لِحَفْصَةَ سَحَرَتْهَا، وَوَجَدُوا سِحْرَهَا، وَاعْتَرَفَتْ، فَأَمَرَتْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ زَيدٍ فَقَتَلَهَا، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُثْمَانَ فَأَنْكَرَهُ وَاشْتَدَّ عَلَيهِ، فَأَتَاهُ ابْنُ عُمَرَ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهَا سَحَرَتْهَا، وَوَجَدُوا سِحْرَهَا، وَاعْتَرَفَتْ بِهِ، فَكَأَنَّ عُثْمَانُ إِنَّمَا أَنْكَرَ ذَلِكَ لأَنَّهَا قُتِلَتْ بِغَيرِ إِذْنِهِ). أَفَادَهُ حَامِدُ مُحَمَّد طَاهِر فِي تَحْقِيقِ كِتَابِ المُوَطَّأ (ص 580) طَبْعَةُ دَارِ الفَجْرِ لِلتُّرَاثِ، القَاهِرَة.
(3)
صَحِيحٌ. الحَاكِمُ (8975)، وَالدَّارَقُطْنِيُّ (3205)، وَالبَيهَقِيُّ فِي الكُبْرَى (16501). اُنْظُرِ التَّعْلِيقَ عَلَى حَدِيثَ الضَّعِيفَةِ (1446).
(4)
تَفْسِيرُ ابْنِ كَثِيرٍ (1/ 365).
فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: تَفْسِيرُ آيَةِ البَقَرَةِ.
الثَّانِيَةُ: تَفْسِيرُ آيَةِ النِّسَاءِ.
الثَّالِثَةُ: تَفْسِيرُ الجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ، وَالفَرَقُ بَينَهُمَا.
الرَّابِعَةُ: أَنَّ الطَّاغُوتَ قَدْ يَكُونُ مِنَ الجِنِّ وَقَدْ يَكُونُ مِنَ الإِنْسِ.
الخَامِسَةُ: مَعْرِفَةُ السَّبْعِ المُوبِقَاتِ المَخْصُوصَاتِ بِالنَّهْيِ.
السَّادِسَةُ: أَنَّ السَّاحِرَ يَكْفُرُ.
السَّابِعَةُ: أَنَّهُ يُقْتَلُ وَلَا يُسْتَتَابُ.
الثَّامِنَةُ: وُجُودُ هَذَا فِي المُسْلِمِينَ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ؛ فَكَيفَ بَعْدَهُ؟!
الشَّرْحُ
- السِّحْرُ لُغَةً: كُلُّ مَا لَطُفَ مَأْخَذُه وَدَقَّ
(1)
.
وَشَرْعًا: "عَزَائِمُ
(2)
وَرُقَى وَعُقَدُ تُؤَثِّرُ فِي الأَبْدَانِ وَالقُلُوبِ، فَيُمْرِضُ وَيَقْتُلُ وَيُفَرِّقُ بَينَ المَرْءِ وَزَوجِهِ، وَيَأخُذُ أَحَدَ الزَّوجَينِ عَنْ صَاحِبِهِ"
(3)
.
وَفِي هَذَا البَابِ لَنْ نَتَعَرَّضَ لِلمَعْنَى اللُّغَوِيِّ؛ وَإِنَّمَا لِلشَّرْعِيِّ الَّذِي يَكُونُ مِنْ جِنْسِ الشِّرْكِ وَالاسْتِعَانَةِ بِالشَّيَاطِينِ.
- مُنَاسَبَةُ ذِكْرِ السِّحْرِ لِكِتَابِ التَّوحِيدِ أَنَّ السِّحْرَ نَوعٌ مِنَ الشِّرْكِ.
- السِّحْرُ لَا خَيرَ فِيهِ بَلْ كُلُّهُ فَسَادٌ، وَتَأَمَّلْ كَونَ عُمَرَ سَمَّى الجِبْتَ سِحْرًا، وَكَقَولِهِ تَعَالَى:{وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ} [البَقَرَة: 102]،
وَقَالَ أَيضًا سُبْحَانَهُ عَنْ سَحَرَةِ فِرْعَونَ: {فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يُونُس: 81].
- قَولُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ} أَي: أَخَذَ السِّحْرَ وَبَذَلَ تَوحِيدَهُ عِوَضًا، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ أَيضًا تَمَامُ الآيَاتِ فِي قَولِهِ تَعَالَى:{وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 103] حَيثُ جَعَلَ سُبْحَانَهُ الإِيمَانَ آخِرًا فِي مُقَابِلِ الشِّرَاءِ أَوَّلًا.
(1)
لِسَانُ العَرَبِ (4/ 348).
(2)
العَزَائِمُ: هِيَ القِرَاءَةُ وَالرُّقَى.
(3)
أَفَادَهُ المُوَفَّقُ ابْنُ قُدَامَةَ المَقْدِسِيُّ رحمه الله (ت 620 هـ) فِي كِتَابِهِ (الكَافِي فِي فِقْهِ الإِمَامِ أَحْمَدَ)(4/ 64).
- قَولُهُ تَعَالَى: {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} قَالَ عُمَرُ: (الجِبْتُ: السِّحْرُ) هَذَا فِي ذَمِّ أَهْلِ الكِتَابِ، لِأَنَّ السِّحْرَ يَكْثُرُ فِي اليَهُودِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُم:{وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيمَانَ} ، وَجَعْلُهُ إِيمَانًا هُوَ دَلِيلُ كُفْرِ مَنْ تَعَاطَاهُ.
- تَفْسِيرُ عُمَرَ الجِبْتَ بِالسِّحْرِ؛ وَالطَّاغُوتَ بِالشَّيطَانِ هُوَ مِنْ بَابِ التَّفْسِيرِ بِالمِثَالِ، وَكَذَا تَفْسِيرُ جَابِرٍ رضي الله عنهم.
- قَولُهُ: ((المُوبِقَات)) أَي المُهْلِكَات، وَالهَلَاكُ فِي الدُّنْيَا بِالعِقَابِ وَالحَدِّ، وَفِي الآخِرَةِ لِمَا لَهُ مِنَ الوَعِيدِ بِالعَذَابِ.
- قَولُهُ: ((وَأَكْلُ الرِّبَا)) خَصُّهُ بِالأَكْلِ؛ لَيسَ حَصْرًا لِوَجْهِ النَّهْي، وَلَكِنَّهُ خَرَجَ عَلَى الغَالِبِ، لِأَنَّ أَوَّلَ وُجُوهِ الانْتِفَاعِ هُوَ الأَكْلُ، وَكَذَا أَكْلُ مَالِ اليَتِيمِ.
- الرِّبَا
(1)
: الزِّيَادَةُ، وَحُكْمُهُ شَرْعًا أَنَّهُ كَبِيرَةٌ مِنَ الكَبَائِرِ، قَالَ تَعَالَى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البَقَرَة: 278 - 279].
- أَنْوَاعُ الرِّبَا:
1 -
رِبَا النَّسِيئَةِ: وَهُوَ الزِّيَادَةُ المَشْرُوطَةُ الَّتِي يَأْخُذُهَا الدَّائِنُ مِنَ المَدِينِ نَظِيرَ التَّأْجِيلِ
(2)
.
(1)
وَمَادَّةُ مَوضُوعِ الرِّبَا مُسْتَفَادَةٌ مِنْ كِتَابِ الوَجِيزُ (ص 346) لِلشَّيخِ عَبْدِ العَظِيمِ بْنِ بَدَوِيِّ حَفِظَهُ اللهُ، وَمِنْ كِتَابِ الدَّرَاريُّ المَضِيَّةُ (2/ 259) لِلشَّوكَانِيِّ رحمه الله.
(2)
وَلَا بُدَّ مِنْ كَونِهَا مَشْرُوطَةً كَي يَخْرُجَ مِنْهَا مَا كَانَ مِنْ بَابِ المُكَافَأَةِ عَلَى المَعْرُوفِ، لِذَا فَلَا يَصِحُّ القَولُ بِحَرْفِيَّةِ القَاعِدَةِ المَشْهُورَةِ (كُلُّ قَرْضٍ جَرَّ نَفْعًا فَهُوَ رِبَا)، وَهُوَ أَثَرٌ مَوقُوفٌ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه؛ وَلَا يَصِحُّ. ضَعِيفُ الجَامِعِ (4244).
2 -
رِبَا الفَضْلِ: وَهُوَ بَيعُ النُّقُودِ بِالنُّقُودِ، أَوِ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ مَعَ الزِّيَادَةِ، وَهُوَ ذَرِيعَةٌ إِلَى الرِّبَا الأَوَّلِ.
وَرِبَا الفَضْلِ لَا يَجْرِي إِلَّا فِي الأَصْنَافِ السِّتَّةِ المَنْصُوصِ عَلَيهَا فِي هَذَا الحَدِيثِ، وَهُوَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ مَرْفُوعًا:((الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالفِضَّةُ بِالفِضَّةِ، وَالبُرُّ بِالبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالمِلْحُ بِالمِلْحِ؛ مِثْلًا بِمِثْلٍ؛ سَوَاءً بِسَوَاءٍ؛ يَدًا بِيَدٍ، فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيفَ شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ
(1)
(2)
.
فَإِذَا بِيعَ جِنْسٌ مِنْ هَذِهِ السِّتَّةِ بِجِنْسِهِ كَذَهَبٍ بِذَهَبٍ، أَو تَمْرٍ بِتَمْرٍ حَرُمَ التَّفَاضُلُ وَالنَّسِيئَةُ -بِغَضِّ النَّظَرِ عَنِ الجُودَةِ والرَّدَاءَةِ- وَلَا بُدَّ مِنَ التَّقَابُضِ فِي المَجْلِسِ.
وَإِذَا بِيعَ جِنْسٌ مِنْ هَذِهِ السِّتَّةِ بِغَيرِ جِنْسِهِ كَذَهَبٍ بِفِضَّةٍ، أَو بُرٍّ بِشَعِيرٍ؛ جَازَ التَّفَاضُلُ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ التَّقَابُضُ فِي المَجْلِسِ، لِقَولِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الحَدِيثِ:((وَلَا بَأْسَ بِبَيعِ الذَّهَبِ بِالفِضَّةِ -وَالفِضَّةُ أَكْثَرُهُمَا- يَدًا بِيَدٍ؛ وَأَمَّا نَسِيئَةً فَلَا، وَلَا بَأْسَ بِبَيعِ البُرِّ بِالشَّعِيرِ -وَالشَّعِيرُ أَكْثَرُهُمَا- يَدًا بِيَدٍ؛ وَأَمَّا نَسِيئَةً فَلَا))
(3)
.
(1)
مُسْلِمٌ (1587).
(2)
وَهَذِهِ تُسَمَّى الأَصْنَافَ الرَّبَويَّةَ -أَي الَّتِي يَجْرِي فِيهَا الرِّبَا- وَأَيَّدَهُ الشَّوكَانِيُّ رحمه الله وَاسْتَدَلَّ لَهُ، وَالجُمْهُورُ عَلَى عَدَمِ الحَصْرِ فِي هَذِهِ السِّتَّةِ، وَخَصَّ الدَّلِيلُ بَعْضَ الحَالَاتِ مِنَ الرِّبَا؛ وَلَيسَ هَذَا مَوضِعُ ذِكْرِهَا.
(3)
صَحِيحٌ. أَبُو دَاوُدَ (3349) عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (3443).
وَإِذَا بِيعَ جِنْسٌ مِنْ هَذِهِ السِّتَّةِ بِمَا يُخَالِفُهُ فِي الجِنْسِ وَالعِلَّةِ كَذَهَبٍ بِبُرٍّ، وَفِضَّةٍ بِمِلْحٍ؛ جَازَ التَّفَاضُلُ وَالنَّسِيئَةُ، كَمَا فِي البُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها:((أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اشْتَرَى طَعَامًا مِنْ يَهُودِيٍّ إِلَى أَجَلٍ، وَرَهَنَهُ دِرْعًا مِنْ حَدِيدٍ))
(1)
.
وَلَا يَصِحُّ بَيعٌ رَبَويٌّ بِجِنْسِهِ وَمَعَهُمَا أَو مَعَ أَحَدِهِمَا مِنْ غَيرِ جِنْسِهِمَا.
- قَولُهُ: ((وَأَكْلُ مَالِ اليَتِيمِ)) اليَتِيمُ: هُوَ مَنْ مَاتَ أَبُوهُ قَبْلَ بُلُوغِهِ، أَمَّا مَنْ مَاتَتْ أُمُّهُ قَبْلَ بُلُوغِهِ فَلَيسَ يَتِيمًا لَا شَرْعًا وَلَا لُغَةً
(2)
.
وَاليَتِيمُ مَأْخُوذٌ مِنَ اليُتْمِ؛ وَهُوَ الانْفِرَادُ، أَي انْفَرَدَ عَنِ الكَاسِبِ لَهُ، لِأَنَّ أَبَاهُ هُوَ الَّذِي يَكْسِبُ لَهُ
(3)
.
وَخَصَّ اليَتِيمَ لِأَنَّهُ لَا أَحَدَ يُدَافِعُ عَنْهُ، وَلِأَنَّهُ أَولَى أَنْ يُرْحَمَ، وَقَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُ حَقًّا فِي الفَيءِ.
- قَولُهُ: ((وَالتَّوَلِّي يَومَ الزّحْفِ)) التَّوَلِّي: الإِدْبَارُ وَالإعْرَاضُ، وَيَومُ الزَّحْفِ: هُوَ يَومُ تَلَاحُمِ الصَّفَّينِ فِي القِتَالِ مَعَ الكُفَّارِ
(4)
.
(1)
البُخَارِيُّ (2068).
(2)
وَكَذَلِكَ إِذَا بَلَغَ خَرَجَ عَنْ كَونِهِ يَتِيمًا، كَمَا فِي الحَدِيثِ:((لَا يُتْمَ بَعْدَ احْتِلَامٍ)). صَحِيحٌ. أَبُو دَاوُدَ (2873) عَنْ عليٍّ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (7609).
(3)
قَالَ الأَزْهَرِيُّ فِي تَهْذِيبُ اللُّغَةِ (14/ 242): "وَقَالَ الأَصْمَعيُّ: اليُتْمُ فِي البَهَائِمِ مِنْ قِبَلِ الأُمِّ، وَفِي النَّاسِ مِنْ قِبَلِ الأَبِ".
(4)
وَسُمِّيَ يَومَ الزَّحْفِ؛ لِأَنَّ الجُمُوعَ إِذَا تَقَابَلَتْ تَجِدُ أَنَّ بَعْضَهَا يَزْحَفُ إِلَى بَعْضٍ، كَالَّذِي يَمْشِي زَحْفًا -كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُم يَهَابُ الآخَرَ- فَيَمْشِي رُوَيدًا رُوَيدًا.
وَالحَدِيثُ خَصَّهُ القُرْآنُ بِثَلَاثَةِ اسْتِثْنَاءَاتٍ:
1 -
أَنْ يَكُونَ مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ.
أَي: مُتَهَيِّئًا لَهُ، كمَنْ يَنْصَرِفُ لِيُصْلِحَ مِنْ شَأْنِهِ أَو يُهَيِّئ الأَسْلِحَةَ وَيُعِدَّهَا، وَمِنْهُ الانْحِرَافُ إِلَى مَكَانٍ آخَرَ يَأْتِي العَدُوُّ مِنْ جهَتِهِ؛ فَهَذَا لَا يُعَدُّ مُتَوَلِّيًا وَإِنَّمَا يُعَدُّ مُتَهَيِّئًا.
2 -
أَنْ يَتَحَيَّزَ إِلَى فِئَةٍ.
كَمَا إِذَا حُصِرَتْ سَرِيَّةٌ لِلمُسْلِمِينَ يُمْكِنُ أَنْ يَقْضِيَ عَلَيهَا العَدُوُّ؛ فَانْصَرَفَ مِنْ هَؤُلَاءِ لِيُنْقِذَهَا.
وَدَلِيلُ هَذِينِ الأَمْرَينِ قَولُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأَنْفَال: 16].
3 -
إِذَا كَانَ الكفَّارُ أَكْثَرَ مِنْ مِثْلَي المُسْلِمِينَ.
فَيَجُوزُ الفِرَارُ حِينَئِذٍ، لِقَولِهِ تَعَالَى:{الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَينِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَينِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأَنْفَال: 66].
قَالَ الشَّيخُ ابْنُ عُثَيمِين رحمه الله: "أَو كَانَ عِنْدَهُم عُدَّةٌ لَا يُمْكِنُ لِلمُسْلِمِينَ مُقَاوَمَتُهَا، كَالطَّائِرَاتِ إِذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَ المُسْلِمِينَ مِنَ الصَّوَارِيخِ مَا يَدْفَعُهَا، فَإِذَا عُلِمَ أَنَّ الصُّمُودَ يَسْتَلْزِمُ الهَلَاكَ وَالقَضَاءَ عَلَى المُسْلِمِينَ؛ فَلَا يَجوزُ لَهُم أَنْ يَبْقَوا"
(1)
.
وَقَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رحمه الله: "وَقَالَ الإِمَامُ [الجُوَينِيُّ]: إِنْ كَانَ فِي الثَّبَاتِ الهَلَاكُ
(1)
القَولُ المُفِيدُ (1/ 505).
المَحْضُ مِنْ غَيرِ نِكَايَةٍ؛ وَجَبَ الفِرَارُ قَطْعًا، وَإِنْ كَانَ فِيهِ نِكَايةٌ فَوَجْهَانِ. قُلْتُ [النَّوَوِيُّ]: هَذَا الَّذِي قَالَهُ الإِمَامُ هُوَ الحَقُّ، وَأَصَحُّ الوَجْهَينِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ؛ لَكِنْ يُسْتَحَبُّ، وَاللهُ أَعْلَمُ"
(1)
.
- قَولُهُ: ((وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ الله إِلَاّ بِالحَقِّ)) المُرَادُ بِالنَّفْسِ هُنَا: بَدَنُ الآدَمِيِّ الَّذِي فِيهِ الرُّوحُ.
وَقَولُهُ: ((إلَّا بِالحَقِّ)) أَي: مِمَّا يُوجِبُ القَتْلَ، كَالثَّيِّبِ الزَّانِي، وَالنَّفْسِ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكِ لِدِينِهِ المُفَارِقِ لِلجَمَاعَةِ. كَمَا فِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا
(2)
.
- قَولُهُ: ((حَدُّ السَّاحِرِ ضَرْبُهُ بِالسَّيفِ)) صَحِيحٌ مَوقُوفٌ، وَالرَّاوِي هُوَ جُنْدُبُ (الخَيرِ) بْنُ كَعْبٍ الأزْدِيُّ؛ المُلَقَّبُ بِقَاتِلِ السَّاحِرِ، وَلَيسَ جُنْدَبَ بْنَ عَبْدِ اللهِ الأَنْصَارِيَّ
(3)
.
وَلُقِّبَ بِقَاتِلِ السَّاحِرِ لِمَا جَاءَ مِنْ أَنَّ: أَمِيرًا مِنْ أُمَرَاءِ الكُوفَةِ (الوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ) دَعَا سَاحِرًا يَلْعَبُ بَينَ يَدِي النَّاسِ، فَكَانَ يَأْخُذُ سَيفَهُ فَيَذْبَحُ نَفْسَهُ؛ وَلَا يَضُرُّهُ! وَكَانَ يَضْرِبُ رَأْسَ الرَّجُلِ ثُمَّ يَصِيحُ بهِ فَيَقُومُ خَارِجًا فَيَرْتَدُّ إِلَيهِ رَأْسُهُ، فَقَالَ النَّاسُ: سُبْحَانَ اللهِ! يُحْيي المَوتَى! فَبَلَغَ جُنْدُبَ، فَأَقْبَلَ بِسَيفِهِ -وَاشْتَمَلَ عَلَيهِ- فَلَمَّا رَآهُ ضَرَبَهُ بِسَيفِهِ، فَقَالَ: إنْ كَانَ صَادِقًا فَلْيُحيي نَفْسَهُ! ثُمَّ قَرَأَ {أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} [الأَنْبِيَاء: 3]
(1)
رَوضَةُ الطَّالِبِينَ (7/ 449).
(2)
البُخَارِيُّ (6878).
(3)
وَالرَّاجِحُ أَنَّهُ صَحَابِيٌّ أَيضًا. انْظُرِ السِّيَرَ لِلذَّهَبِيِّ رحمه الله (3/ 175)، تَهْذِيبُ التَّهْذِيبِ (2/ 118)، وَالإِصَابَةُ فِي تَمْيِيزِ الصَّحَابَةِ لِلْحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ (1/ 616).
فَتَفَرَّقَ النَّاسُ عَنْهُ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ لَنْ تُرَاعُوا، إنَّمَا أَرَدْتُ السَّاحِرَ. فَأَخَذَهُ الأَمِيرُ فَحَبَسَهُ، وَأَمَرَ بِهِ الوَلِيدُ دِينَارًا -صَاحِبَ السِّجْنِ، وَكَانَ رَجُلًا صَالِحًا- فَسَجَنَهُ، فَأَعْجَبَهُ نَحْوُ الرَّجُلِ، فَقَالَ: أَتَسْتَطِيعُ أَنْ تَهْرُبَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَاخْرُجْ؛ لَا يَسْأَلْنِي اللهُ عَنْكَ أَبَدًا! فَبَلَغَ ذَلِكَ سَلْمَانَ، فَقَالَ: بِئْسَمَا صَنَعَا! لَمْ يَكُنْ يَنْبَغي لِهَذَا -وَهُوَ إِمَامٌ يُؤْتَمُّ بِهِ- يَدْعُو سَاحِرًا يَلْعَبُ بينَ يَدِيهِ! وَلَا يَنْبَغِي لِهَذَا أَنْ يُعَاتِبَ أَمِيرَهُ بِالسَّيفِ
(1)
.
قَالَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: "وَمِثْلُ هَذَا السَّاحِرِ المَقْتُولِ؛ هَؤُلَاءِ الطُّرُقِيَّةُ الَّذِينَ يَتَظَاهَرُونَ بِأَنَّهُم مِنْ أَولِيَاءِ اللهِ؛ فَيَضْرِبُونَ أنْفُسَهُم بِالسَّيفِ وَالشِّيشِ، وَبَعْضُهُ سِحْرٌ وَتَخْيِيلٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ، وَبَعْضُهُ تَجَارِبٌ وَتَمَارِينٌ يَسْتَطِيعُهُ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْ مُؤْمِنٍ أَو كَافِرٍ إِذَا تَمَرَّسَ عَلَيهِ؛ وَكَانَ قَوِيَّ القَلْبِ، وَمِنْ ذَلِكَ مَسُّهُم النَّارَ بِأَفْوَاهِهِم وَأَيدِيهِم، وَدُخُولُهُم التَّنُّورَ"
(2)
.
- قَولُهُ: ((وَقَذْفُ المُحْصَنَاتِ)) القَذْفُ: بِمَعْنَى الرَّمِيُ، وَالمُرَادُ بِهِ هُنَا الرَّمْيُ بِالزِّنَا، وَالمُحْصَنَاتُ هُنَا الحَرَائِرُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ.
- قَولُهُ: ((الغَافِلَاتُ)) هُنَّ العَفِيفَاتُ عَنِ الزِّنَا؛ البَعِيدَاتُ عَنْهُ؛ اللَّاتِي لَا يَخْطُرُ عَلَى بَالِهِنَّ هَذَا الأَمْرُ، وَ ((المُؤْمِنَاتُ)) احْتِرَازًا مِنَ الكَافِرَاتِ
(3)
.
(1)
صَحِيحٌ. الحَاكِمُ (8076)، وَالدَّارَقُطْنِيُّ (3205)، وَالبَيهَقِيُّ فِي الكُبْرَى (16501)، وَالأَصْلُ لِلحَاكِمِ، وبَعْضُ الجُمَلِ مُضَافَةٌ مِنْ بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الَّتِي أَورَدَهَا الأَلْبَانِيُّ رحمه الله بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ. اُنْظُرِ التَّعْلِيقَ عَلَى حَدِيثِ الضَّعِيفَةِ (1446).
(2)
الضَّعِيفَةُ (1446).
(3)
قَالَ العَينِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (عُمْدَةُ القَارِي)(14/ 62): "احْتَرَزَ بِهِ عَنْ قَذْفِ الكَافِرَاتِ؛ فَإِنَّ قَذْفَهُنَّ لَيسَ مِنَ الكَبَائِرِ، وَإِنْ كَانَتْ ذِمّيَّةً فَقَذْفُهَا مِنَ الصَّغَائِرِ لَا يُوجِبُ الحَدَّ، وَفِي قَذْفِهِ الأَمَةَ المُسْلِمَةَ التَّعْزيرُ دُونَ الحَدِّ".
وَقَدْ جَعَلَ اللهُ عَلَى القَاذِفِ ثَلَاثَةَ أُمُورٍ، قَالَ تَعَالَى:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النُّور: 4].
وَقَذْفُ المُحْصَنِينَ الغَافِلِينَ المُؤْمِنِينَ كَقَذْفِ المُحْصَنَاتِ هُوَ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ، وَإنَّمَا خَصَّ بِذَلِكَ المَرْأَةَ؛ لِأَنَّ الغَالِبَ أَنَّ القَذْفَ يَكُونُ لِلنِّسَاءِ أَكْثَرُ؛ إِذِ البَغَايَا كَثِيرَاتٌ قَبْلَ الإِسْلَامِ، وَقَذْفُ المَرْأَةِ أَشَدُّ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ الشَّكَ فِي نَسَبِ أَولَادِهَا مِنْ زَوجِهَا؛ فَيُلْحِقُ بِهَنَّ القَذْفُ ضَرَرًا أَكْبَرَ، فَهُوَ مِنْ بَابِ الغَالِبِ.
- حَدِيثُ بَجَالَةَ
(1)
بْنِ عَبَدَةَ أَنَّهُ: كَتَبَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رضي الله عنه؛ أَنَّ اُقْتُلُوا كُلَّ سَاحِرٍ وَسَاحِرَةٍ. قَالَ: فَقَتَلْنَا ثَلَاثَ سَوَاحِرَ. هُوَ صَحِيحٌ، وَلَفْظُهُ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَأَحْمَدَ، وَأَصْلُهُ فِي البُخَارِيِّ.
وَفِيهِ مِنَ الفِقْهِ أَمْرُ الخَلِيفَةِ الرَّاشِدِ عُمَرَ رضي الله عنه -وَأَمْرُهُ النَّاسَ- بِقَتْلِ السَّوَاحِرِ، وَلَمْ يَرِدْ عَنْهُ الاسْتِفْصَالُ.
- قَولُهُ: ((حَدُّ السَّاحِرِ)) بِمَعْنَى: عُقُوبَةُ السَّاحِرِ
(2)
، وَذَلِكَ لِأَنَّ السَّاحِرَ مُرْتَدٌّ بِسِحْرِهِ، وَالرِدَّةُ لَيسَ لَهَا حَدٌّ وَإِنَّمَا يُعَاقَبُ عَلَيهَا بِالقَتْلِ
(3)
، وَالفَرْقُ بَينَ الحَدِّ وَعُقُوَبَةِ
(1)
(بَجَالَة): بِفَتْحَتَينِ، وَ (عَبَدَة): بِفَتْحَتَينِ، العَنْبَريُّ؛ التَّمِيمِيُّ، أَدْرَكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَرَهُ، وَكَانَ كَاتِبًا لِجُزْءِ بْنِ مُعَاوِيَةَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ. اُنْظُرِ الإِصَابَةَ (1/ 465).
(2)
أَي: أَنَّهُ لَيسَ عَلَى مَعْنَى تَطْهِيرِ المُسْلِمِ مِنْ ذَنْبِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كُلُّهُ كُفْرٌ، وَأَمَّا عَلَى قَولِ الشَّافِعِيِّ رحمه الله فَيَصِحُّ عَلَى مَحْمَلٍ عِنْدَهُ؛ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ سِحْرًا لَا كُفْرَ فِيهِ؛ فَيَصْدُقُ عَلَيهِ اسْمُ الحَدِّ اصْطِلَاحًا.
(3)
وَفِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ (3017) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: ((مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ)).
الرِّدَّةِ يَظْهَرُ مِن جَانِبَينِ:
أ- أَنَّ الحَدَّ إِذَا بَلَغَ الإِمَامَ لَا يُسْتَتَابُ صَاحِبُهُ؛ بَلْ يُقْتَلُ بِكُلِّ حَالٍ، أَمَّا الكُفْرُ؛ فَإِنَّه يُسْتَتَابُ صَاحِبُهُ
(1)
.
ب- أَنَّ الحُدُودَ كَفَّارَاتٌ لِأَصْحَابِهَا، وَتَنْفَعُ صَاحِبَهَا
(2)
، وَأَمَّا الرِّدَّةُ؛ فَيُعَاقَبُ عَلَيهَا بِالقَتْلِ، وَلَا تَنْفَعُهُ بِشَيءٍ.
- قَالَ التِّرْمِذِيُّ رحمه الله عَقِبَ حَدِيثِ جُنْدُبٍ -الَّذِي فِيهِ قَتْلُ السَّاحِرِ-: "وَالعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ العِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ وَغَيرِهِمْ، وَهُوَ قَولُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ
(3)
، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنَّمَا يُقْتَلُ السَّاحِرُ إذَا كَانَ يَعْمَلُ فِي سِحْرِهِ مَا يَبْلُغُ الكُفْرَ، فَإِذَا
(1)
وَأَمَّا اسْتِتَابَةُ السَّاحِرِ؛ فَفِيهَا تَفْصِيلٌ، قَالَ العَينِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (عُمْدَةُ القَارِي) (14/ 64):"قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ -فِي المَشْهُورِ عَنْهُ-: لَا تُقْبَلُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فِي الرِّوَايَةِ الأُخْرَى: تُقْبَلُ. وَعَنْ مَالِكٍ: إِذَا ظُهِرَ عَلَيهِ لَمْ تُقْبَلْ تَوبَتُهُ كَالزِّنْدِيقِ، فَإِنْ تَابَ قَبْلَ أَنْ يُظْهَرَ عَلَيهِ وَجَاءَ تَائِبًا قَبِلْنَاهُ وَلَمْ نُقْتُلْهُ، فَإِنْ قَتَلَ بِسِحْرِهِ قُتِلَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُ: فَإِنْ قَالَ: لَمْ أَتَعَمَّدِ القَتْلَ؛ فَهُوَ مُخْطِئٌ تَجِبُ عَلَيهِ الدِّيَةُ".
(2)
فِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ (3892) بَابُ: الحُدُودُ كَفَّارَةٌ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه؛ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي مَجْلِسٍ فَقَالَ: ((بَايِعُونِي عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيئًا وَلَا تَسْرِقُوا وَلَا تَزْنُوا)) وَقَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ كُلَّهَا، ((فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيئًا فَعُوقِبَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَتُهُ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيئًا فَسَتَرَهُ اللهُ عَلَيهِ؛ إِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ)).
قَالَ العَينِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ عُمْدَةُ القَارِي (23/ 273): "قَالَ الكِرْمَانِيُّ: وَهَذِهِ الآيَةُ هِيَ: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَينَ أَيدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المُمْتَحِنَةُ: 12] ".
(3)
قَالَ رحمه الله فِي المُوَطَّأ (2/ 871): "السَّاحِرُ: الَّذِي يَعْمَلُ السِّحْرَ وَلَمْ يَعْمَلْ ذَلِكَ لَهُ غَيرُهُ؛ هُوَ مِثْلُ الَّذِي قَالَ اللهُ تبارك وتعالى فِي كِتَابِهِ: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} فَأَرَى أَنْ يُقْتَلَ ذَلِكَ إِذَا عَمِلَ ذَلِكَ هُوَ نَفْسُهُ".
عَمِلَ عَمَلًا دُونَ الكُفْرِ؛ فَلَمْ نَرَ عَلَيهِ قَتْلًا"
(1)
(2)
.
- إِذَا تَابَ السَّاحِرُ قُبِلَتْ تَوبَتُهُ بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَى، لِأَنَّ سِحْرَهُ لَا يَزِيدُ عَنِ الشِّرْكِ، وَالشِّرْكُ لَهُ تَوبَةٌ، وَقَدْ صَحَّتْ تَوبَةُ سَحَرَةِ فِرْعَونَ، وَلَكِنْ كَونُهُ لَهُ تَوبَةٌ؛ لَا يَعْنِي أَنَّهُ إِذَا أُحْضِرَ إِلَى الإِمَامِ أَنَّهُ يُرْفَعُ عَنْهُ القَتْلُ! وَلَكِنَّهَا تَنْفَعُهُ بَينَهُ وَبَينَ رَبِّهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ عِلْمَ السِّحْرِ لَا يَزُولُ بِالتَّوبَةِ! فَهُوَ بِمَثَابَةِ الزِّنْدِيقِ الَّذِي يُظْهِرُ الإِسْلَامَ وَيَدَّعِي التَّوبَةَ مِنَ الكُفْرِ؛ فَأَمْرُهُ إِلَى الحَاكِمِ. وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
- حَدِيثُ السَّبْعِ المُوبِقَاتِ وَرَدَ فِيهِ عِدَّةُ أَلْفَاظٍ، وَقَدْ جَمَعَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله مَا صَحَّ مِنْ هَذِهِ الأَلْفَاظِ؛ فَقَالَ رحمه الله:"وَالمُعْتَمَدُ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ مَا وَرَدَ مَرْفُوعًا -بِغَيرِ تَدَاخُلٍ مِنْ وَجْهٍ صَحِيحٍ- وَهِيَ السَّبْعَةُ المَذْكُورَةُ فِي حَدِيثِ البَابِ، وَالانْتِقَالُ عَنِ الهِجْرَةِ، وَالزِّنَا، وَالسَّرِقَةُ، وَالعُقُوقُ، وَاليَمِينُ الغَمُوسُ، وَالإِلْحَادُ فِي الحَرَمِ، وَشُرْبُ الخَمْرِ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ، وَالنَّمِيمَةُ، وَتَرْكُ التَّنَزُّهِ مِنَ البَولِ، وَالغُلُولُ، وَنَكْثُ الصَّفْقَةِ، وَفِرَاقُ الجَمَاعَةِ، فَتِلْكَ عِشْرُونَ خَصْلَةً"
(3)
.
(1)
التِّرْمِذِيُّ (3/ 112).
(2)
وَفِي الأَدَبِ المُفْرَدِ لِلبُخَارِيِّ (162) أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها سَحَرَتْهَا جَارِيَةٌ لَهَا، فَأَمَرَتْ بِهَا فَبَاعُوهَا. صَحِيحٌ. صَحِيحُ الأَدَبِ المُفْرَدِ (120).
وَبَوَّبَ عَلَيهِ البَيهَقِيُّ فِي السُّنَنِ الكُبْرَى (8/ 236): بَابُ مَنْ لَا يَكُونُ سِحْرُهُ كُفْرًا وَلَمْ يَقْتُلْ بِهِ أَحَدًا؛ لَمْ يُقْتَلْ.
وَفِي الأُمِّ (1/ 293) لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله: "وَأَمَّا بَيعُ عَائِشَةَ الجَارِيَةَ -وَلَمْ تَأْمُرْ بِقَتْلِهَا- فَيُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ لَمْ تَعْرِفْ مَا السِّحْرُ؛ فَبَاعَتْهَا، لِأَنَّ لَهَا بَيعَهَا عِنْدَنَا وَإِنْ لَمْ تَسْحَرْهَا، وَلَو أَقَرَّتْ عِنْدَ عَائِشَةَ أَنَّ السِّحْرَ شِرْكٌ مَا تَرَكَتْ قَتْلَهَا إِنْ لَمْ تَتُبْ، أَو دَفَعَتْهَا إِلَى الإِمَامِ لِيَقْتُلْهَا".
(3)
فَتْحُ البَارِي (12/ 183).
- فَائِدَةٌ: وَصْفُ السِّحْرِ يَخْتَلِفُ عَنْ تَعَلُّمِ السِّحْرِ، فَالوَصْفُ يُبَيِّنُ حُكْمَهُ، أَمَّا تَعَلُّمُهُ فَقَدْ يُفْتَتَنُ بِهِ المَرْءُ فَيَعْمَلُهُ، وَتَجِدُ فِي كَلَامِ الشَّافِعِيِّ رحمه الله لِلسَّاحِرِ:"صِفْ لَنَا سِحْرَكَ"
(1)
.
(1)
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (1/ 371): "قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: إِذَا تَعَلَّمَ السِّحْر؛ قُلْنَا لَهُ: صِفْ لَنَا سِحْرَكَ، فَإِنْ وَصَفَ مَا يُوجِبُ الكُفْرَ مِثْلَ مَا اعْتَقَدَهُ أَهْلُ بَابِلٍ مِنَ التَّقَرُّبِ إِلَى الكَوَاكِبِ السَّبْعَةِ؛ وَأَنَّهَا تَفْعَل مَا يُلْتَمَسُ مِنْهَا! فَهُوَ كَافِرٌ، وَإِنْ كَانَ لَا يُوجِبُ الكُفْرَ؛ فَإِنْ اعْتَقَدَ إِبَاحَتَهُ فَهُوَ كَافِرٌ".
المُلْحَقُ الخَامِسُ عَلَى كِتَابِ التَّوحِيدِ: فَوَائِدُ وَمَسَائِلُ بَابِ مَا جَاءَ فِي السِّحْرِ
-
الفَائِدَةُ الأُولَى:
تَفْسِيرُ آيَاتِ سُورَةِ البَقَرَةِ مِنْ تَفْسِيرِ الشَّيخِ السَّعْدِيِّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
قَالَ الشَّيخُ السَّعْدِيُّ رحمه الله: "هُمْ كَذَبَةٌ فِي ذَلِكَ، فَلْم يَسْتَعْمِلْهُ سُلَيمَانُ! بَلْ نَزَّهَهُ الصَّادِقُ فِي قِيلِهِ
(1)
، {وَمَا كَفَرَ سُلَيمَانُ} أَي: بِتَعَلُّمِ السِّحْرِ، فَلَمْ يَتَعَلَّمْهُ،
{وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} بِذَلِكَ، {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} مِنْ إِضْلَالِهِم وَحِرْصِهِم عَلَى إِغْوَاءِ بَني آدَمَ، وَكَذَلِكَ اتَّبَعَ اليَهُودُ السِّحْرَ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى المَلَكِينِ الكَائِنَينِ بِأَرْضِ بَابِلَ مِنْ أَرْضِ العِرَاقِ، أُنْزِلَ عَلَيهِمَا السِّحْرُ امْتِحَانًا وَابْتِلَاءً
(1)
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ: "وَعَدَّاهُ بِـ (عَلَى) لِأَنَّهُ تَضَمَّنَ (تَتْلُو): تَكْذِبُ". تَفْسِيرُ ابْنِ كَثِيرٍ (1/ 350).
مِنَ اللهِ لِعِبَادِهِ فَيُعَلِّمَانِهِمُ السِّحْرَ
(1)
،
{وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى} يَنْصَحَاهُ،
وَ {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} أَي: لَا تَتَعَلَّمِ السِّحْرَ؛ فَإِنَّهُ كُفْرٌ، فَيَنْهَيَانِهِ عَنِ السِّحْرِ، وَيُخْبِرَانِهِ عَنْ مَرْتَبَتِهِ، فَتَعْلِيمُ الشَّيَاطِينِ لِلسِّحْرِ عَلَى وَجْهِ التَّدْلِيسِ وَالإِضْلَالِ، وَنِسْبَتُهُ وَتَرْويجُهُ إِلَى مَنْ بَرَّأَهُ اللهُ مِنْهُ -وَهُوَ سُلَيمَانُ عليه السلام[هُوَ أَيضًا
(1)
وَقَدْ اسْتَعْرَضَ الطَّبَرِيُّ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (2/ 419) قَولَينِ فِيهَا، فَقَالَ رحمه الله: "قَولُهُ: {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَينِ} قَالَ بَعْضُهُم: مَعْنَاهُ الجَحْدُ، وَهِيَ بمَعْنَى (لَمْ) فَتَأْوِيلُ الآيَةِ عَلَى هَذَا المَعْنَى: وَلَمْ يَنْزِلْ عَلَى المَلَكَينِ، وَاتَّبَعُوا الَّذِي تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيمَانَ مِنَ السِّحْرِ، وَمَا كَفَرَ سُلَيمَانُ، وَلَا أَنْزَلَ اللهُ السِّحْرَ عَلَى المَلَكَيٍنِ، وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ. فَيَكُونُ حِينَئِذٍ قَولُهُ:{بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} مِنَ المُؤَخَّرِ الَّذِي مَعْنَاهُ التَّقدِيمُ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ تَأْوِيلُ (مَا) الَّتِي فِي قَولِهِ: {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَينِ} : (الذِي)
…
" وَسَاقَ بِنَحْوِ مَا قَالَهُ الشَّيخُ السَّعْدِيُّ وَرَجَّحَهُ.
وَالأَوَّلُ رَجَّحَهُ القُرْطُبِيُّ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (2/ 50)، وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
وَعَلَى الوَجْهِ الأَوَّلِ (مَا: النَافِيَة): يَكُونُ عِنْدَهُمُ المَلَكَانِ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ هُمَا الَّذَينِ ادَّعَى فِيهِمُ اليَهُودُ النُّزُولَ بِالسِّحْرِ، وَهَارُوتُ وَمَارُوتُ هُمَا الَّذَينِ تَعَلَّمُوا السِّحْرَ مِنَ الشَّيَاطِينِ.
قَالَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله: "لَا شَكَّ أَنَّ الآيَةَ فِيهَا خِلَافٌ عِنْدَ عُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ، لَكِنِ الَّذِي تَرَجَّحَ لَدَيَّ أَنَا شَخْصِيًّا بِأَنَّ (مَا) فِي قَولِهِ: {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَينِ} لَيسَتْ نَافِيَةً، بَلْ هِيَ مَوصُولَة، أَي: أَنَّ اللهَ عز وجل أَنْزَلَ المَلَكَينِ لِيُعَلِّمُوا النَّاسَ السِّحْرَ، حَيثُ كَانَ السِّحْرُ انْتَشَرَ فِي ذَلِكَ الزَّمانِ؛ وَاخْتَلَطَ أَمْرُهُ بِبَعْضِ المُعْجِزَاتِ الَّتِي كَانَ يَأْتِي بِهَا بَعْضُ الأَنْبِيَاءِ، كَمِثْلِ قِصَّةِ السَّحَرَةِ مَعَ مُوسَى عليه الصلاة والسلام، حَيثُ أَرَادَ فِرْعَونُ عَلَى يَدِي السَّحَرَةِ أَنْ يُضَلِّلَ الشَّعْبَ عَنْ دَعْوَةِ مُوسَى إِلَى الحَقِّ؛ لِأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ إنَّمَا هُوَ السِّحْرُ، ثُمَّ كَمَا نَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عز وجل قَضَى عَلَى عَمَلِ السَّحَرَةِ وَأَسْلَمُوا وَآمَنُوا بِاللهِ رَبِّ العَالَمِينَ، فَكَانَ عِلْمُهُم بِالسِّحْرِ سَبَبًا لَهُم لِيُمَيِّزُوا بَينَ مَا كَانَ خَيَالًا وَسِحْرًا وَبَينَ مَا كَانَ حَقِيقَةً، {فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} [الشُّعَرَاء: 45] ". أَشْرِطَةُ سِلْسِلَةِ الهُدَى وَالنُّورِ (ش 189).
عَلَى وَجْهِ الإِضْلَالِ]
(1)
، وَتَعْلِيمُ المَلَكَينِ امْتِحَانًا مَعَ نُصْحِهِمَا لِئَلَّا يَكُونَ لَهُم حُجَّةٌ
(2)
.
فَهَؤُلْاءِ اليَهُودُ يَتَّبِعُونَ السِّحْرَ الَّذِي تُعَلِّمُهُ الشَّيَاطِينُ وَالسِّحْرَ الَّذِي يُعَلِّمُهُ المَلَكَانِ، فَتَرَكُوا عِلْمَ الأَنْبِيَاءِ وَالمُرْسَلِينَ وَأَقْبَلُوا عَلَى عِلْمِ الشَّيَاطِينِ، وَكُلٌّ يَصْبُو إِلَى مَا يُنَاسِبُهُ.
ثُمَّ ذَكَرَ مَفَاسِدَ السِّحْرِ فَقَالَ: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَينَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} مَعَ أَنَّ مَحَبَّةَ الزَّوجَينِ لَا تُقَاسُ بِمَحَبَّةِ غَيرِهِمَا؛ لِأَنَّ اللهَ قَالَ فِي حَقِّهِمَا: {وَجَعَلَ بَينَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الرُّوم: 21] وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ السِّحْرَ لَهُ حَقِيقَةٌ، وَأَنَّهُ يَضُرُّ بِإِذْنِ اللهِ، أَي: بِإِرَادَةِ اللهِ،
وَالإِذْنُ نَوعَانِ: إِذْنٌ قَدَرِيٌّ؛ وَهُوَ المُتَعَلِّقُ بَمَشِيئَةِ اللهِ -كَمَا فِي هَذِهِ الآيَةِ-،
(1)
زِيَادَةٌ مِنِّي -لَيسَتْ فِي الأَصْلِ- كَي يَسْتَقِيمَ الكَلَامُ.
(2)
كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشَّمْس: 8). قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (24/ 454): "فَبَيَّنَ لَهَا مَا يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تَأْتِيَ أَو تَذَرَ مِنْ خَيرٍ أَو شَرٍّ أَو طَاعَةٍ أَو مَعْصِيَةٍ".
قَالَ شَيخُ الإِسْلَامِ رحمه الله فِي مَجْمُوعِ الفَتَاوَى (15/ 99): "كَذَلِكَ قَدْ قِيلَ فِي قَولِهِ: {وَهَدَينَاهُ النَّجْدَينِ} [البَلَد: 10]: أَي: بَيَّنَا لَهُ طَرِيقَ الخَيرِ وَالشَّرِّ؛ وَهُوَ هُدَى البَيَانِ العَامِّ المُشْتَرَكِ. وَقِيلَ: هَدَينَا المُؤْمِنَ لِطَرِيقِ الخَيرِ وَالكَافِرَ لِطَرِيقِ الشَّرِّ؛ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَدْ جَعَلَ الفُجُورَ هُدَى كَمَا جَعَلَ أُولَئِكَ البَيَانَ إلْهَامًا. وَكَذَلِكَ قَولُهُ {إِنَّا هَدَينَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإِنْسَان: 3] قِيلَ: هُوَ الهُدَى المُشْتَرَكُ؛ وَهُوَ أَنَّهُ بَيَّنَ لَهُ الطَّرِيقَ الَّتِي يَجِبُ سُلُوكُهَا وَالطَّرِيقَ الَّتِي لَا يَجِبُ سُلُوكُهَا. وَقِيلَ: بَلْ هَدَى كُلًّا مِنَ الطَّائِفَتَينِ إلَى مَا سَلَكَهُ مِنَ السَّبِيلِ {إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} ".
وَإِذْنٌ شَرْعِيٌّ كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى فِي الآيَةِ السَّابِقَةِ: {فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 97]
(1)
.
وَفِي هَذِهِ الآيَةِ وَمَا أَشْبَهَهَا؛ أَنَّ الأَسْبَابَ مَهْمَا بَلَغَتْ فِي قُوَّةِ التَّأْثِيرِ؛ فَإِنَّهَا تَابِعَةٌ لِلقَضَاءِ وَالقَدَرِ لَيسَتْ مُسْتَقِلَّةً فِي التَّأْثِيرِ
(2)
.
ثُمَّ ذَكرَ أَنَّ عِلْمَ السِّحْرِ مَضَرَّةٌ مَحْضَةٌ، لَيسَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لَا دِينِيَّةٌ وَلَا دُنْيَوِيَّةٌ كَمَا يُوجَدُ بَعْضُ المَنَافِعِ الدُّنْيَوِيَّةِ فِي بَعْضِ المَعَاصِي، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الخَمْرِ والمَيسِرِ:{قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البَقَرَة: 219]، فَهَذَا السِّحْرُ مَضَرَّةٌ مَحْضَةٌ، فَلَيسَ لَهُ دَاعٍ أَصْلًا، فَالمَنْهِيَّاتُ كُلُّهَا إِمَّا مَضَرَّةٌ مَحْضَةٌ أَو شَرُّهَا أَكْبَرُ مِنْ خَيرِهَا، كَمَا أَنَّ المَأْمُورَاتِ إِمَّا مَصْلَحَةٌ مَحْضَةٌ أَو خَيرُهَا أَكْثَرُ مِنْ شَرِّهَا.
{وَلَقَدْ عَلِمُوا} أَي اليَهُودُ {لَمَنِ اشْتَرَاهُ} أَي: رَغِبَ فِي السِّحْرِ رَغْبَةَ المُشْتَرِي فِي السِّلْعَةِ {مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} أَي: نَصِيبٍ، بَلْ هُوَ مُوجِبٌ لِلعُقُوبَةِ، فَلَمْ يَكُنْ فِعْلُهُم إِيَّاهُ جَهْلًا، وَلَكِنَّهُم اسْتَحَبُّوا الحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ.
{وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} عِلْمًا يُثْمِرُ العَمَلَ مَا فَعَلُوهُ"
(3)
.
(1)
قُلْتُ: وَهِيَ غَيرُ ظَاهِرَةٍ عِنْدِي فِي كَونِهَا مِنَ الإِذْنِ الشَّرْعِيِّ -الَّذِي قَدْ يَقَعُ وَقَدْ يَتَخَلَّفُ-، وَيُغْنِي عَنْهَا قَولُهُ تَعَالَى:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَينَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الشُّورَى: 21]. فَالإِذْنُ هُنَا هُوَ الأَمْرُ بِالشَّرْعِ؛ فَمِنَ النَّاسِ مُطِيعٌ وَمِنْهُ عَاصٍّ.
(2)
حَيثُ جُعِلَتْ مُقَيَّدَةً بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَى.
(3)
تَفْسِيرُ السَّعْدِيِّ (ص 61).
-
الفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي التَّفَاسِيرِ كَثِيرٌ مِنَ الرِّوَايَاتِ حَولَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا جَرَى مَعَهُمَا مِنْ إِنْزَالِهِمَا وَافْتِتَانِهِمَا بِالمَرْأَةِ وَتَوبَتِهِمَا،
وَلَا يَصِحُّ مِنْهَا شَيءٌ مَرْفُوعًا، بَلْ أَقْصَى مَا قَدْ يَصِحُّ مِنْهَا هُوَ مَوقُوفٌ مَنْقُولٌ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ.
وَمِمَّا اشْتُهِرَ هُنَا الحَدِيثُ المَوضُوعُ: (لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الزُّهْرَةَ؛ فَإِنَّهَا فَتَنَتِ المَلَكَينِ)
(1)
.
وَقَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله: "وَحَاصِلُهَا رَاجِعٌ فِي تَفْصِيلهَا إِلَى أَخْبَار بَنِي إِسْرَائِيل؛ إِذْ لَيسَ فِيهَا حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ صَحِيحٌ مُتَّصِلُ الإِسْنَادِ إِلَى الصَّادِقِ المَصْدُوقِ المَعْصُومِ الَّذِي لَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى، وَظَاهِرُ سِيَاقِ القُرْآنِ إِجْمَالُ القِصَّةِ مِنْ غَيرِ بَسْطٍ وَلَا إِطْنَابٍ فِيهَا، فَنَحْنُ نُؤْمِنُ بِمَا وَرَدَ فِي القُرْآنِ عَلَى مَا أَرَادَهُ اللهُ تَعَالَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الحَالِ"
(2)
.
وَقَالَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: "قُلْتُ: وَقَدْ زَعَمَتِ امْرَأَةٌ مِنْ أَهْلِ دَومَةِ الجَنْدَلِ أَنَّهَا رَأَتْهُمَا مُعَلَّقَينِ بِأَرْجُلِهِمَا بِبَابِلٍ
(3)
، وَأَنَّهَا تَعَلَّمَتْ مِنْهُم السِّحْرَ-وَهُمَا فِي هَذِهِ الحَالِةِ- فِي قِصَّةٍ طَوِيلَةٍ حَكَتْهَا لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهَا؛ رَوَاهَا ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ عَائِشَةَ، وَلَكِنَّ المَرْأَةَ مَجْهُولَةٌ فَلَا يُوثَقُ بِخَبَرِهَا، وَقَدْ قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: إِنَّهُ أَثَرٌ غَرِيبٌ وَسِيَاقٌ عَجِيبٌ"
(4)
.
(1)
مَوضُوعٌ. ابْنُ السُّنِّيِّ (ص 604) عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه. الضَّعِيفَةُ (913).
(2)
تَفْسِيرُ ابْنِ كَثِيرٍ (1/ 32).
(3)
يَعْنِي: هَارُوتَ وَمَارُوتَ.
(4)
الضَّعِيفَةُ (913).
وَ (دَومَةُ الجَنْدَلِ): اسْمُ مَوضِعٍ فَاصِلٍ بَينَ الشَّامِ وَالعِرَاقِ. عُمْدَةُ القَارِي (4/ 97).
-
الفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْوَاعُ السِّحْرِ
(1)
:
قَالَ العَينِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (عُمْدَةُ القَارِي): "وذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللهِ الرَّازي أَنْوَاعَ السِّحْرِ ثَمَانِيَةً:
1 -
سِحْرُ الكَلْدَانِيِّينَ الَّذِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَ الكَوَاكِبَ السَّبْعَةَ المُتَحَيِّرَةَ -وَهِيَ السَّيَّارَةُ-، وَكَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا مُدَبِّرَةٌ لِلعَالَمِ، وَأَنَّهَا تَأْتِي بِالخَيرِ وَالشَّرِّ! وَهُمُ الَّذِينَ بَعَثَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ الخَلِيلَ مُبْطِلًا لِمَقَالَتِهِم وَرَدًّا لِمَذَاهِبِهِم.
(1)
أَشْهَرُهَا أَرْبَعٌ -تَسْهِيلًا لِلتَّدَبُّرِ وَالتَّمْيِيزِ-:
أ- عُقَدٌ وَرُقَى: وَهِيَ قِرَاءَاتٌ وَطَلَاسِمُ يَتَوَصَّلُ بِهَا السَّاحِرُ إِلَى اسْتِخْدَامِ الشَّيَاطِينِ فِيمَا يُرِيدُ بِهِ ضَرَرَ المَسْحُورِ. لَكِنْ قَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البَقَرَة: 102].
ب- خِفَّةُ اليَدِّ: وَهَذِهِ يُحْسِنُونَهَا بِالتَّدَرُّبِ عَلَى المُسَارَعَةِ بِفِعْلِ الأَشْيَاءِ، كَإِخْرَاجِ المُخْبُوءِ مِنْ حَيثُ لَا يُشْعَرُ بِهِ، أَوِ اكْتِسَابِ المَهَارَةِ فِي أَدَاءِ أَعْمَالٍ يَعْسُرُ عَلَى أَغْلَبِ النَّاسِ فِعْلُهَا أَوْ فَهْمُ كَيفِيَّةِ حُصُولِهَا.
جـ- سِحْرُ العُيُونِ: وَهَذَا كَثِيرٌ عِنْدَ الدَّجَّاليَنَ، فَهُوَ لَا يُدْخِلُ السَّيفَ -مَثَلًا- فِي جَسَدِهِ، لَكِنَّهُ يَسْحَرُ عُيُونَ المُشَاهِدِينَ وَيُمَرِّرُ السَّيفَ عَلَى جَانِبِهِ، وَيَراهُ النَّاسُ المَسْحُورُونَ مَرَّ فِي وَسَطِهِ، وَبَعْضُهُ يَكُونُ مِنَ القِسْمِ السَّابِقِ.
د- اسْتِعْمَالُ المَوَادِّ الكِيمَاوِيَّةِ: وَهَذِهِ يُحْسِنُهَا مَنْ يُجِيدُ تَرْكِيبَ المَوَادِّ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ؛ فَتَنْتُجُ مَادَّةٌ تَمْنَعُ تَأْثِيرَ بَعْضِ المَوَادِّ، مِثْلُ مَا كَانَتْ تَصْنَعُ الطَّائِفَةُ الصُّوفِيَّةٌ الرِّفَاعِيَّةُ مِنْ إِيهَامِ النَّاسِ أَنَّهَا لَا يُؤَثِّرُ بِهِمُ النَّارُ! وَالحَقِيقَةُ أَنَّهُم يَدْهَنُونَ جُلُودَهُم بِبَعْضِ المَوَادِّ الَّتِي تَمْنَعُ تَأْثِيرَ النَّارِ فِيهِم، وَقَدْ تَحَدَّاهُم شَيخُ الإِسْلَامِ ابْنُ تَيِمِيَّةَ رحمه الله فِي أَنْ يَغْتَسِلُوا بِالمَاءِ السَّاخِنِ وَالخَلِّ قَبْلَ دُخُولِهِمُ النَّارَ؛ فَرَفَضُوا ذَلِكَ لِأَنَّهُ كَشَفَ حِيلَتَهُم.
وَمِنْهَا أَنْ يَأْتِيَ السَّاحِرُ بِحَمَامَةٍ فَيَخْنِقَهَا أَمَامَ المُشَاهِدِينَ ثُمَّ يَضْرِبَهَا بِيَدِهِ فَتَقُومَ وَتَطِيرَ! وَالحَقِيقَةُ: أَنَّهُ كَانَ فِي يَدِهِ بِنْجٌ! فَأَشَمَّهَا إِيَّاهُ وأَوهَمَهُم أَنَّهُ خَنَقَهَا فَمَاتَتْ! ثُمَّ لَمَّا ضَرَبَهَا أَفَاقَتْ مِنَ البِنْجِ، وَغَيرُ ذَلِكَ كَثِيرٌ مِمَّا يَفْعَلُهُ السَّحَرَةُ وَالمُشَعْوِذُونَ.
2 -
سِحْرُ أَصْحَابِ الأَوهَامِ وَالنُّفُوسِ القَوِيَّةِ.
3 -
الاسْتِعَانَةُ بِالأَرْوَاحِ الأَرْضِيَّةِ -وَهُمُ الجِنُّ- خِلَافًا لِلفَلَاسِفَةِ وَالمُعْتَزِلَةِ، وَهُم عَلَى قِسْمَينِ: مُؤْمِنُونَ، وَكُفَّارٌ -وَهُمُ الشَّيَاطِينُ-، وَهَذَا النَّوعُ يَحْصُلُ بِأَعْمَالٍ مِنَ الرُّقَى وَالدَّخَنِ، وَهَذَا النَّوعُ المُسَمَّى بِالعَزَائِمِ وَعَمَلِ تَسْخِيرٍ.
4 -
التَّخَيُّلَاتُ وَالأَخْذُ بِالعُيُونِ وَالشَّعْبَذَةُ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ أَنَّ سِحْرَ السَّحَرَةِ بَينَ يَدِي فِرْعَونَ إِنَّمَا كَانَ مِنْ بَابِ الشَّعْبَذَةِ
(1)
.
5 -
الأَعْمَالُ العَجِيبَةُ الَّتِي تَظْهَرُ مِنْ تَرْكِيبِ الآلَاتِ المُرَكَّبَةِ.
6 -
الاسْتِعَانَةُ بِخَوَاصِ الأَدْوِيَةِ؛ يَعْنِي فِي الأَطْعِمَةِ وَالدِّهَانَاتِ.
7 -
تَعَلُّقُ القَلْبِ، وَهُوَ أَنْ يدَّعِي السَّاحِرُ أَنَّهُ عَرَفَ الاسْمَ الأعْظَمَ، وَأَنَّ الجِنَّ يُطِيعُونَهُ وَيَنْقَادُونَ لَهُ فِي أَكْثَرِ الأُمُورِ.
8 -
السَّعيُ بِالنَّميمَةِ بِالتَّصْريفِ مِنْ وُجُوهٍ خَفِيَّةٍ لَطِيفَةٍ، وَذَلِكَ شَائِعٌ فِي النَّاسِ.
وَإنَّمَا أُدْخِلَ كَثِيرٌ مِنْ هَذِهِ الأَنْوَاعِ المَذْكُورَةِ فِي فَنِّ السِّحْرِ لِلَطَافَةِ مَدَارِكِهَا، لِأَنَّ السِّحْرَ فِي اللُّغَةِ: عِبَارَةٌ عَمَّا لَطُفَ وَخَفِيَ سَبَبُهُ، ولِهَذَا جَاءَ فِي الحَدِيثِ:((إنَّ مِنَ البيَانِ لَسِحْرًا))
(2)
، وَسُمِّيَ السُّحُورَ لِكَونِهِ يَقَعُ خَفِيًّا آخِرَ اللَّيلِ"
(3)
.
(1)
قَالَ فِي تَاجِ العَرُوسِ (9/ 426): "الشَّعْوَذَةُ: السُّرْعَةُ. وَقِيلَ: هِيَ الخِفَّةُ فِي كُلِّ أَمْرٍ".
وَقَالَ القُرْطُبِيُّ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (2/ 44): "وَالشَّعْوَذِيُّ: البَرِيد؛ لِخِفَّةِ سَيرِهِ".
قُلْتُ: وَسَيَأْتِي مَعَنَا رَدُّ قَولِ مَنْ قَالَ إِنَّ سِحْرَ قَومِ فِرْعَونَ كَانَ مِنْ بَابِ الشَّعْبَذَةِ لَا الحَقِيقَةِ! إِنْ شَاءَ اللهُ.
(2)
صَحِيحٌ. البُخَارِيُّ (5767) مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا.
(3)
عُمْدَةُ القَارِي (14/ 61)، وَقَدْ اخْتَصَرَهَا رحمه الله مِنَ الأَصْلِ، ونَقَلْتُهَا عَنْهُ لِكَونِهَا مُخْتَصَرَةً دَرْءًا لِلإِطَالَةِ.
-
الفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: حُكْمُ السِّحْرِ؛ أَنَّهُ كُفْرٌ (تَعَلُّمُه، وَالعَمَلُ بِهِ):
1 -
مِنْ جِهَةِ التَّعَلُّمِ
(1)
: قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَفَرَ سُلَيمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البَقَرَة: 102].
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ
(2)
: "وَقَدْ اسْتَدَلَّ بَعْضُهُم بِهَذِهِ الآيَةِ عَلَى تَكْفِيرِ مَنْ تَعَلَّمَ السِّحْرَ، وَيُسْتَشْهَدُ لَهُ بِالحَدِيثِ: ((مَنْ أَتَى كَاهِنًا أَو سَاحِرًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ)). وَهُوَ صَحِيحٌ مَوقُوفٌ"
(3)
.
وَقَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله فِي الفَتْحِ: "وَكَذَا قَولُهُ فِي الآيَةِ عَلَى لِسَانِ المَلَكَينِ: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُر} فَإِنَّ فِيهِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ تَعَلُّمَ السِّحْرِ كُفْرٌ؛ فَيَكُونُ العَمَلُ بِهِ كُفْرًا"
(4)
.
2 -
مِنْ جِهَةِ العَمَلِ: قَالَ تَعَالَى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} ، وَقَولُهُ تَعَالَى:{وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} فَالسِّحْرُ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالكُفْرِ بِاللهِ تَعَالَى، وَقَالَ تَعَالَى:{وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} .
(1)
أَي: تَعَلُّمُهُ لَيَعْمَلَ بِهِ، وَلَيسَ لِلاطِّلَاعِ عَلَيهِ! وَهَذَا لَا يَعْنِي طَبْعًا أَنَّ الأَخِيرَ جَائِزٌ، وَلَكِنَّهُ أَدْنَى مَنْزِلَةً مِنَ الأَوَّلِ.
(2)
(1/ 363)
(3)
صَحِيحٌ. البزَّارُ (5/ 256) عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَوقُوفًا، صَحِيحُ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ (3048).
قُلْتُ: وَلَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ كَمَا قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله فِي الفَتْحِ (10/ 217): "إِسْنَادُهُ جَيِّدٌ، وَمِثْلُهُ لَا يُقَالُ بِالرَّأَي".
(4)
فَتْحُ البَارِي (10/ 225).
وَقَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رحمه الله فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ (14/ 176): "وَأَمَّا تَعَلُّمُهُ وَتَعْلِيمُهُ فَحَرَامٌ؛ فَإِنْ تَضَمَّنَ مَا يَقْتَضِي الكُفرَ كَفَرَ وَإِلَّا فَلَا".
قُلْتُ: وَقَولُهُ رحمه الله جَارٍ عَلَى قَولِ الشَّافِعِيِّ رحمه الله فِي حُكْمِ السَّاحِرِ أَنَّ فِيهِ تَفْصِيلاً مِنْ جِهَةِ الكُفْرِ. وَسَيَأْتِي البَحْثُ فِيهِ إِنْ شَاءَ اللهُ.
-
الفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: السِّحْرُ لَا يَضُرُّ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَى.
إِنَّ تَعْلِيقَ أَثَرِ السِّحْرِ بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَى يُفِيدُ كَمَالَ التَّوَكُّلِ عَلِيهِ سُبْحَانَهُ، لِذَلِكَ فَالاسْتِعَاذَةُ بِاللهِ تَعَالَى وَالرُّقَى الشَّرْعِيَّةُ هِيَ سَبِيلُ التَّحَصُّنِ مِنَ الشَّيطَانِ وَأثَرِ السِّحْرِ، كَمَا فِي الحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَمَرَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا عليه الصلاة والسلام أَنْ يَأْمُرَ قَومَهُ بِخَمْسٍ، مِنْهَا:((وَآمُرُكُمْ أَنْ تَذْكُرُوا اللهَ؛ فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ خَرَجَ العَدُوُّ فِي أَثَرِهِ سِرَاعًا حَتَّى إِذَا أَتَى عَلَى حِصْنٍ حَصِينٍ فَأَحْرَزَ نَفْسَهُ مِنْهُمْ، كَذَلِكَ العَبْدُ لَا يُحْرِزُ نَفْسَهُ مِنَ الشَّيطَانِ إِلَّا بِذِكْرِ اللهِ))
(1)
.
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله: "أَنْفَعُ مَا يُسْتَعْمَلُ لِإِذْهَابِ السِّحْرِ؛ مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ فِي إِذْهَابِ ذَلِكَ؛ وَهُمَا المُعَوِّذَتَانِ، وَفِي الحَدِيثِ:((لَمْ يَتَعَوَّذِ المُتَعَوِّذُ بِمِثْلِهِمَا))
(2)
، وَكَذَلِكَ قِرَاءَةُ الكُرْسِيِّ فَإِنَّهَا مَطْرِدَةٌ لِلشَّيطَانِ"
(3)
.
(1)
صَحِيحٌ. التِّرْمِذِيُّ (2863) عَنِ الحَارِثِ الأَشْعَرِيِّ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (2604).
(2)
صَحِيحٌ. النَّسائِيُّ (5431) عَنْ عَقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الجُهنيِّ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ النَّسَائِيِّ (5431).
(3)
تَفْسِيرُ ابْنِ كَثِيرٍ (1/ 372).
-
الفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: ذِكْرُ شَيءٍ مِنْ أَعْرَاضِ السِّحْرِ وَالمَسِّ، وَعِلَاجُ ذَلِكَ
(1)
:
ذَكَرَ أَهْلُ الخِبْرَةِ بِالرُّقَى أَعْرَاضًا لِلمَسِّ وَالسِّحْرِ.
فَمِنْ عَلَامَاتِ المَسِّ مَا يَلِي:
1 -
الإِعْرَاضُ وَالنُّفورُ الشَّدِيدُ مِنْ سَمَاعِ الأَذَانِ أَوِ القُرْآنِ.
2 -
الإغْمَاءُ أَوِ التَّشَنُّجُ أَوِ الصَّرَعُ وَالسُّقُوطُ حَالَ القِرَاءَةِ عَلَيهِ.
3 -
كَثْرَةُ الرُّؤَى المُفْزِعَةِ.
4 -
الوِحْدَةُ وَالعُزْلَةُ وَالتَّصَرُّفَاتُ الغَرِيبَةِ.
5 -
قَدْ يَنْطِقُ الشَّيطَانُ الَّذِي تَلَبَّسَ بِهِ عِنْدَ القِرَاءَةِ.
6 -
التَّخَبُّطُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البَقَرَة: 275].
وَأَمَّا السِّحْرُ فَمِنْ أَعْرَاضِهِ:
1 -
كُرْهُ المَسْحُورِ لِزَوجَتِهِ أَوِ المَسْحُورَةِ لِزَوجِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَينَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البَقَرَة: 102].
2 -
اخْتِلَافُ حَالَتِهِ خَارِجَ البَيتِ عَنْ حَالَتِهِ دَاخِلَهُ اخْتِلَافًا كُلِّيًّا، فَيَشْتَاقُ إِلَى أَهْلِهِ وَبَيتِهِ فِي الخَارِجِ؛ فَإِذَا دَخَلَ كَرِهَهُم أَشَدَّ الكُرْهِ!
3 -
عَدَمُ القُدْرَةِ عَلَى وِقَاعِ الزَّوجَةِ.
4 -
تَوَالِي إِسْقَاطِ المَرْأَةِ الحَامِلِ بِاسْتِمْرَارٍ.
(1)
مُسْتَفَادٌ مِنْ مَوقِعِ (الإِسْلَامُ سُؤَالٌ وَجَوَابٌ) عَلَى الشَّبَكَةِ العَنْكَبُوتِيَّةِ، فَتْوَى رَقَم (240).
5 -
التَّغَيُّرُ المُفَاجِئُ فِي التَّصَرُّفَاتِ دُونَ أَيِّ سَبَبٍ وَاضِحٍ.
6 -
عَدَمُ اشْتِهَاءِ الطَّعَامِ بِالكُلِّيَّةِ.
7 -
أَنْ يُخَيَّلَ إِلَيهِ أَنَّهُ فَعَلَ الشَّيءَ وَهُوَ لَمْ يَفْعَلْهُ.
8 -
الطَّاعَةُ العَمْيَاءُ وَالمَحَبَّةُ المُفَاجِئَةُ وَالمُفْرِطَةُ لِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ.
هَذَا وَيَجِبُ الانْتِبَاهُ إِلَى أَنَّ الأَعْرَاضَ المَذْكُورَةَ آنِفًا لَا يُشْتَرَطُ -عِنْدَ تَوَفِّرِ بَعْضِهَا- أَنْ يَكُونَ الشَّخْصُ مُصَابًا بِالسِّحْرِ أَوِ المَسِّ! فَقَدْ يَكُونُ بَعْضُهَا لِأَسْبَابٍ عُضْوِيَّةٍ أَو نَفْسِيَّةٍ أُخْرَى.
أما عِلَاجُ السِّحْرِ وَالمَسِّ، فَيَكُونُ بِـ:
1 -
التَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ، وَصِدْقِ اللُّجُوءِ إِلَيهِ.
2 -
الرُّقَى وَالتَّعْوِيذَاتِ الشَّرْعيَّةِ.
وَأَهَمُّهَا المُعَوِّذَتَانِ، وَهُمَا اللَّتَانِ شَفَى اللهُ بِهَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَمَا تَعَوَّذَ مُتَعَوِّذٌ بِمِثْلِهِمَا قَطُّ، يُضَافُ إِلَيهِمَا قِرَاءَةُ سُورَةِ الإِخْلَاصِ، وَسُورَةِ الفَاتِحَةِ؛ فَإِنَّهَا رُقْيَةٌ نَاجِحَةٌ كَمَا ثَبَتَ.
3 -
اسْتِخْرَاجِ السِّحْرِ -إنْ أَمْكَنَ- وَإتْلَافُهُ، كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا سَحَرَهُ لَبِيدُ بْنُ الأَعْصَمِ اليَهُودِيُّ.
4 -
اسْتِعْمَالِ الأَدْوِيَةِ المُبَاحَةِ كَأَكْلِ سَبْعِ تَمَرَاتٍ مِنْ تَمْرِ العَاليَةِ (البَرْنِيِّ؛ مِنْ تُمُورِ المَدِينةِ النَّبَوِيَّةِ) عَلَى الرِّيقِ، وَإِذَا لَمْ يَجِدْ يَأْكُلُ مِنْ أَيِّ تَمْرٍ وَجَدَهُ؛ يَكُونُ نَافِعًا بِإِذْنِ اللهِ
(1)
.
(1)
فِي الحَدِيثِ: ((مَنْ تَصَبَّحَ سَبْعَ تَمَرَاتٍ عَجْوَةً؛ لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ اليَومَ سُمٌّ وَلَا سِحْرٌ)). البُخَارِيُّ (5769) عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ مَرْفُوعًا.
5 -
الحِجَامَةِ.
6 -
الدُّعَاءِ.
-
الفَائِدَةُ السَّابِعَةُ: وَسَائِلُ الاعْتِصَامِ مِن شَرِّ الشَّيطَانِ
(1)
:
1 -
الاسْتِعَاذَةُ بِاللهِ مِن الشَّيطَانِ.
2 -
قِراءَةُ المُعَوِّذَتَينِ
(2)
.
3 -
قِرَاءَةُ آيَةِ الكُرْسِيِّ.
4 -
قِرَاءَةُ سُورَةِ البَقَرَةِ.
5 -
قِرَاءَةُ خَاتِمَةِ سُورَةِ البَقَرَةِ؛ فَفِي الحَدِيثِ: ((مَنْ قَرَأَ بِالْآيَتَينِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ البَقَرَةِ فِي لَيلَةٍ كَفَتَاهُ))
(3)
.
6 -
قِرَاءَةُ "لَا إِلَه َإِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ، وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ" مِئَةَ مَرَّةٍ؛ فَقَد جَاءَ فِي وَصْفِهَا: ((وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنَ الشَّيطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ))
(4)
.
7 -
كَثْرَةُ ذِكْرِ اللهِ؛ فَفِي الحَدِيثِ -فِي وَصِيَّةِ يَحيَى عليه السلام: ((وَآمُرُكُمْ أَنْ تَذْكُرُوا
(1)
بِاخْتِصَارٍ مِن بَدَائِعِ الفَوَائِدِ لِابْنِ القَيِّمِ رحمه الله (2/ 267).
(2)
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَابِسٍ الْجُهَنِيَّ رضي الله عنه؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: ((يَا ابْنَ عَابِسٍ؛ أَلَا أَدُلُّكَ -أَوْ قَالَ: أَلَا أُخْبِرُكَ- بِأَفْضَلِ مَا يَتَعَوَّذُ بِهِ الْمُتَعَوِّذُونَ؟)) قَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: (({قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} وَ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} هَاتَينِ السُّورَتَينِ)). صَحِيحٌ. النَّسَائِيُّ (5432). صَحِيحُ الجَامِعِ (7839).
(3)
صَحِيحُ البُخَارِيِّ (5009) مِن حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا.
(4)
صَحِيحُ البُخَارِيِّ (3293) مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا.
اللهَ؛ فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ خَرَجَ العَدُوُّ فِي أَثَرِهِ سِرَاعًا، حَتَّى إِذَا أَتَى عَلَى حِصْنٍ حَصِينٍ فَأَحْرَزَ نَفْسَهُ مِنْهُمْ، كَذَلِكَ العَبْدُ لَا يُحْرِزُ نَفْسَهُ مِنَ الشَّيطَانِ إِلَّا بِذِكْرِ اللهِ))
(1)
.
8 -
إِمْسَاكُ فُضُولِ النَّظَرِ وَالكَلَامِ وَالطَّعَامِ وَمُخَالَطَةِ النَّاسِ؛ فَإِنَّ الشَّيطَانَ إِنَّمَا يَتَسَلَّطُ عَلَى ابْنِ آدَمَ وَيَنَالُ مِنْهُ غَرَضَهُ مِن هَذِهِ الأَبْوَابِ الأَرْبَعَةِ.
(1)
صَحِيحٌ. التِّرْمِذِيُّ (2863) عَنِ الحَارِثِ الأَشْعَرِيِّ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (2604).
-
الفَائِدَةُ الثَّامِنَةُ: وَسَائِلُ دَفْعِ شَرِّ الحَاسِدِ
(1)
:
1 -
التَّعَوُّذُ بِاللهِ تَعَالَى مِن شَرِّهِ، وَاللُّجُوءُ وَالتَّحَصُّنُ بِهِ، وَاللُّجُوءُ إِلَيهِ.
2 -
تَقْوَى اللهِ وَحِفْظُهُ عِنْدَ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، فَمَنِ اتَّقَى اللهَ تَوَلَّى اللهُ حِفْظَهُ وَلَمْ يَكِلْهُ إِلَى غَيرِهِ، قَالَ تَعَالَى:{وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيدُهُمْ شَيئًا} [آل عِمْرَان: 120]، وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِعَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ:((احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللهَ تَجِدُهُ تُجَاهَكَ))
(2)
.
3 -
الصَّبْرُ عَلَى عَدُوِّهِ، وَأَنْ لَا يُقَاتِلَهُ وَلَا يَشْكُوهُ وَلَا يُحَدِّثُ نَفْسَهُ بِأَذَاهُ أَصْلًا؛ فَمَا نُصِرَ عَلَى حَاسِدِهِ وَعَدُوِّهِ بِمِثْلِ الصَّبْرِ عَلَيهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ.
4 -
التَّوَكُّلُ عَلَى اللهِ، قَالَ تَعَالَى:{وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطَّلَاقُ: 3].
5 -
فَرَاغُ القَلْبِ مِنَ الاشْتِغَالِ بِهِ وَالفِكْرِ فِيهِ، وَأَنْ يَقْصِدَ أَنْ يَمْحُوهُ مِن بَالِهِ كُلَّمَا خَطَرَ لَهُ فَلَا يَلْتَفِتُ إِلَيهِ وَلَا يَخَافُهُ وَلَا يَمْلَأُ قَلْبَهُ بِالفِكْرِ فِيهِ.
6 -
الإِقْبَالُ عَلَى اللهِ، وَالإِخْلَاصُ لَهُ، قَالَ تَعَالَى -حِكَايَةً عَن عَدُوِّهِ إِبْلِيسَ- أَنَّهُ قَالَ:{قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 82 - 83].
7 -
تَجْرِيدُ التَّوبَةِ إِلَى اللهِ مِن الذُّنُوبِ الَّتِي سَلَّطَتْ عَلَيهِ أَعْدَاءَهُ؛ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيدِيكُمْ} [الشُّورَى: 30].
8 -
الصَّدَقَةُ وَالإِحْسَانُ مَا أَمْكَنَهُ.
(1)
بِاخْتِصَارٍ مِن بَدَائِعِ الفَوَائِدِ لِابْنِ القَيِّمِ رحمه الله (2/ 238).
(2)
صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (2803)، وَالتِّرْمِذِيُّ (2516). صَحِيحُ التِّرْمِذِيِّ (2516).
9 -
إِطْفَاءُ نَارِ الحَاسِدِ وَالبَاغِي وَالمُؤْذِي بِالإِحْسَانِ إِلَيهِ. قَالَ تَعَالَى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَينَكَ وَبَينَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فُصِّلَت: 34].
10 -
تَجْرِيدُ التَّوحِيدِ، وَالتَّرَحُّلُ بِالفِكْرِ فِي الأَسْبَابِ إِلَى المُسَبِّبِ العَزِيزِ الحَكِيمِ، وَالعِلْمُ بِأَنَّ هَذِهِ آلَاتٌ بِمَنْزِلَةِ حَرَكَاتِ الرِّيَاحِ وَهِيَ بِيَدِ مُحَرِّكِهَا وَفَاطِرِهَا وَبَارِئِهَا، وَلَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ إِلَّا بِإِذْنِهِ.
-
الفَائِدَةُ التَّاسِعَةُ: السِّحْرُ لَا يُغَيِّرُ الأَعْيَانَ.
مِمَّا تَجْدُرُ الإِشَارَةُ إِلَيهِ أَنَّ "السِّحْرَ لَهُ تَأثِيرٌ فِي التَّقْلِيبِ مِنَ الصِّحَّةِ إِلَى المَرَضِ، وَبِالعَكْسِ. أَمَّا فِي قَلْبِ المَاهِيَّةِ؛ فَلَا، وَمَا يُتَرَاءَى فِيهِ مِنْ قَلْبِ المَاهِيَّةِ لَا يَكُونُ فِيهِ إِلَّا التَّخْيِيلُ الصِّرْفُ، قَالَ تَعَالَى: {يُخَيَّلُ إِلَيهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه: 66]، فَلَمْ تَنْقَلِبِ الحِبَالُ إِلَى حَيَّاتٍ! وَلَكِنْ خُيِّلَ إِلَيهِ أَنَّهَا انْقَلَبَتْ"
(1)
.
وَتَأَمَّلْ قَولَهُ تَعَالَى: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الأَنْعَام: 7]، وَوَجْهُ الدِّلَالَةِ: أَنَّهُ "عَلَّقَهُ بِاللَّمْسِ بِاليَدِ إِبْعَادًا لَهُ عَنِ السِّحْرِ، لِأَنَّ السِّحْرَ يَتَخَيَّلُ فِي المَرْئِيَّاتِ دُونَ المَلْمُوسَاتِ. وَمَعْنَى الآيَةِ أَنَّهُم يَدْفَعُونَ الصَّحِيحَ"
(2)
يَعْنِي: يَرُدُّونَ مَا هُوَ حَقِيقِيٌّ لَيسَ بِوَهْمٍ وَلَا تَخْييلٍ!
(1)
فَيضُ البَارِي عَلَى صَحِيحِ البُخَارِيّ لِلْكَشْمِيري (4/ 293).
(2)
زَادُ المَسِيرِ لِابْنِ الجَوزِيِّ (2/ 11).
-
المَسْأَلَةُ الأُولَى: هَلْ يُقْتَلُ السَّاحِرُ؟
الجَوَابُ: فِيهَا عِدَّةُ أَقْوَالٍ:
1 -
يُقْتَلُ مُطْلَقًا رِدَّةً؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالشِّرْكِ.
2 -
يُقْتَلُ رِدَّةً إِذَا كَانَ بِشِرْكٍ، وَحَدًّا إِذَا قَتَلَ غَيرَهُ بِدُونِ شِرْكٍ، كَاسْتِعْمَالِ المَوَادِّ المُمْرِضَةِ.
3 -
قَولُ شَيخِ الإِسْلَامِ؛ بِأَنَّهُ كَالزِّنْدِيقِ؛ يُتْرَكُ أَمْرُهُ إِلَى الإِمَامِ بِحَسْبِ مَا يَرَاهُ، إِنْ رَأَى المَصْلَحَةَ الشَّرْعِيَّةَ فِي قَتْلِهِ؛ قَتَلَهُ.
وَالأَرْجَحُ أَنَّ مَنْ خَرَجَ بِهِ السِّحْرُ إِلَى الكُفْرِ فَقَتْلُهُ قَتْلُ رِدَّةٍ، ومَنْ لَمْ يَخْرُجْ بِهِ السِّحْرُ إِلَى الكُفْرِ فَقَتْلُهُ هُوَ مِنْ بَابِ دَفْعِ الصَّائِلِ؛ وَحَيثُ رَأَى الإِمَامُ المَصْلَحَةَ فِي ذَلِكَ.
وَيَدُلُّ عَلَى عَدَمِ التَّفْرِيقِ عُمُومُ أَمْرِ عُمَرَ لِلأُمَرَاءِ بِالقَتْلِ
(1)
، وَقَولُ جُنْدُبٍ وفِعْلُهُ، وَإِقْرَارُ سَلْمَانَ
(2)
، وَكَذَا فِعْلُ حَفْصَةَ رضي الله عنهم. وَقَدْ سَبَقَ فِي البَابِ المَاضِي بَيَانُ ذَلِكَ.
قَالَ الشَّيخُ ابْنُ عُثَيمِين رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: "وَالحَاصِلُ: أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ تُقْتَلَ السَّحَرَةُ -سَوَاءً قُلْنَا بِكُفْرِهِم أَمْ لَمْ نَقُلْ-، لِأَنَّهُم يُمْرِضُونَ وَيَقْتُلُونَ ويُفَرِّقُونَ بَينَ المَرْءِ وَزَوجِهِ، وَكَذَلِكَ بِالعَكْسِ، فَقَدْ يَعْطِفُونَ فَيُؤَلِّفُونَ بَينَ الأَعْدَاءِ، وَيَتَوَصَّلُونَ إِلَى أَغْرَاضِهِم، فَإِنَّ
(1)
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ رحمه الله فِي كِتَابِهِ جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (2/ 125) -عِنْدَ شَرْحِ حَدِيثِ اِتِّبَاعِ سُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنَ الأَرْبَعِينَ النَّوَوِيَّةِ (رَقَم 28) -: "وَبِكُلِّ حَالٍ، فَمَا جَمَعَ عُمَرُ عَلَيهِ الصَّحَابَةَ؛ فَاجْتَمَعُوا عَلَيهِ فِي عَصْرِهِ؛ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ الحَقُّ، وَلَو خَالَفَ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ مَنْ خَالَفَ".
(2)
قُلْتُ: وَقَدْ كَانَ مَوضِعُ إِنْكَارِهِ عَلَى جُنْدُبٍ هُوَ الافْتِئَاتُ عَلَى الأَمِيرِ وَمُبَاشَرَةُ الحَدِّ بِيَدِهِ. وَاللهُ أَعْلَمُ.
بَعْضَهُم قَدْ يَسْحَرُ أَحَدًا لِيَعْطِفَهُ إِلَيهِ وَيَنَالَ مآرِبَهُ مِنْهُ، كَمَا لَو سَحَرَ امْرَأَةً لِيَبْغِي بِهَا! وَلِأَنَّهُم كَانُوا يَسْعَونَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا؛ فَكَانَ وَاجِبًا عَلَى وَلِيِّ الأَمْرِ قَتْلُهُم بِدُونِ اسْتِتَابَةٍ مَادَامَ أَنَّهُ لِدَفْعِ ضَرَرِهِم وَفَظَاعَةِ أَمْرِهِم، فَإِنَّ الحَدَّ لَا يُسْتَتَابُ صَاحِبُهُ؛ مَتَى قُبِضَ عَلَيهِ وَجَبَ أَنْ يُنْفِذَ فِيهِ الحَدَّ، وَالقَولُ بِقَتْلِهِم مُوَافِقٌ لِلقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ لِأَنَّهُم يَسْعَونَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا، وَفَسَادُهُم مِنْ أَعْظَمِ الفَسَادِ، فَقَتْلُهُم وَاجِبٌ عَلَى الإِمَامِ، وَلَا يَجُوزُ لِلإمَامِ أَنْ يَتَخَلَّفَ عَنْ قَتْلِهِم، لِأَنَّ مِثْلَ هَؤُلَاءِ إِذَا تُرِكُوا وَشَأْنَهُم انْتَشَرَ فَسَادُهُم فِي أَرْضِهِم وَفِي أَرْضِ غَيرِهِم، وَإِذَا قُتِلُوا سَلِمَ النَّاسُ مِنْ شَرِّهِم، وَارْتَدَعَ النَّاسُ عَنْ تَعَاطِي السِّحْرِ"
(1)
.
(1)
القَولُ المُفِيدُ (1/ 509).
-
المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ بَعْضُهُم عَلَى عَدَمِ قَتْلِ السَّاحِرِ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَقْتُلْ مَنْ سَحَرَهُ!
فَمَا الجَوَابُ؟
الجَوَابُ:
قَدْ تَقَدَّمَ عَمَلُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي قَتْلِ السَّاحِرِ، وَلَكِنَّ سَبَبَ عَدَمِ القَتْلِ هُنَا -أَي مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِمَنْ سَحَرَهُ- هُوَ مِنْ أَوجُهٍ:
أ- أَنَّ سَاحِرَ أَهْلِ الكِتَابِ مُسْتَثْنًى مِنَ القَتْلِ، لِأَنَّ الأَصْلَ أَنَّهُ كَافِرٌ، وَأَمَّا السَّاحِرُ الَّذِي أَصْلُهُ مُسْلِمٌ؛ فَهُوَ مُرْتَدٌّ مُبَدِّلٌ لِدِينِهِ.
وَفِي الحَدِيثِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا: ((لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ الله إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: الثَّيِّبِ الزَّانِي، وَالنَّفْسِ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكِ لِدِينِهِ المُفَارِقِ لِلْجَمَاعَةِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيهِ
(1)
(2)
.
ب- أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُرِدْ قَتْلَهُ دَرْءًا لِلفِتْنَةِ، كَمَا فِي نَفْسِ الحَدِيثِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، وَفِيهِ: فَقُلْتُ: يَا رَسُول اللهِ؛ أَفَلَا أَحْرَقْتَهُ! قَالَ: ((لَا، أَمَّا أَنَا فَقَدْ عَافَانِي اللهُ وَكَرِهْتُ أَنْ أُثِيرَ عَلَى النَّاسِ شَرًّا))، فَأَمَرْتُ بِهَا فَدُفِنَتْ
(3)
(4)
.
(1)
البُخَارِيُّ (6867)، وَمُسْلِمٌ (1676).
(2)
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله فِي الفَتْحِ (6/ 277) -تَعْلِيقًا عَلَى تَبْوِيبِ البُخَارِيِّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: بَابُ هَلْ يُعْفَى عَنِ الذِّمِيِّ إِذَا سَحَرَ-: "قَالَ ابْنُ بَطَّال: لَا يُقْتَلُ سَاحِرُ أَهْلِ العَهْدِ لَكِنْ يُعَاقَبُ، إِلَّا إِنْ قَتَلَ بِسِحْرِهِ فَيُقْتَلُ، أَو أَحْدَثَ حَدَثًا فَيُؤْخَذُ بِهِ، وَهُوَ قَولُ الجُمْهُورِ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ أَدْخَلَ بِسِحْرِهِ ضَرَرًا عَلَى مُسْلِمٍ؛ نُقِضَ عَهْدُهُ بِذَلِكَ".
وَقَالَ العَينِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ عُمْدَةُ القَارِي (14/ 63): "وَأَمَّا سَاحِرُ أَهْلِ الكِتَابِ؛ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ كَمَا يُقْتَلُ السَّاحِرُ المُسْلِمُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكُ وَأَحْمَدُ: لَا يُقْتَلُ لِقِصَّةِ لَبِيدِ بْنِ أَعْصَمٍ".
(3)
وَهُوَ لَفْظٌ لِمُسْلِمٍ (2189).
(4)
اعْلَمْ أَنَّ أَلْفَاظَ هَذَا الحَدِيثِ فِي شَأْنِ اسْتِخْرَاجِ السِّحْرِ وَقَتْلِ السَّاحِرِ مُتَنَوِّعَةٌ مُتَبَايِنَةٌ، وَلَمْ أَجِدْ مَا يَرْوِي
=
جـ- أَنَّ هَذَا حَقٌّ لِلنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ وَقَدْ عَفَا عَمَّن سَحَرَهُ.
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله: "وَإنَّمَا لَمْ يَقْتُلِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَبِيدَ بْنَ الأَعْصَمِ لِأَنَّهُ كَانَ لَا يَنْتَقِمُ لِنَفْسِهِ، وَلِأَنَّهُ خَشِيَ إِذَا قَتَلَهُ أَنْ تَثُورَ بِذَلِكَ فِتْنَةٌ بَينَ المُسْلِمِينَ وَبَينَ حُلَفَائِهِ مِنَ الأَنْصَارِ، وَهُوَ مِنْ نَمَطِ مَا رَاعَاهُ مِنْ تَرْكِ قَتْلِ المُنَافِقِينَ سَوَاءً كَانَ لَبِيدُ يَهُودِيًّا أَو مُنًافِقًا عَلَى مَا مَضَى مِنَ الاخْتِلَافِ فِيهِ"
(1)
.
=
الغَلِيلَ إِلَّا مَا وَجَّهَهُ ابْنُ الجَوزِيِّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (كَشْفُ المُشْكِلِ مِنْ حَدِيثِ الصَّحِيحَين)(4/ 341)، فَقَالَ رحمه الله:"وَقَولُهَا: أَفَأَخْرَجْتَهُ؟ وَفِي لَفْظٍ: فَهَلَّا أَحْرَقْتَهُ؟ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الَّذِي سُحِرَ فِيهِ، إِلَّا أَنَّا قَدْ رَوَينَاهُ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ وَفِيهِ: قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَفَلَا تَأْخُذُ الخَبِيثَ فَتَقْتُلُهُ؟ فَقَالَ: ((أَمَّا أَنَا فَقَدْ شَفَانيَ اللهُ؛ وَأَكْرَهُ أَنْ أُثِيرَ عَلَى النَّاسِ شَرًّا))، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الإِشَارَةَ إِلَى اليَهُودِيِّ السَّاحِرِ! وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا لِلسَّاحِرِ وَذَلِكَ لِلسِّحْرِ".
قُلْتُ: وَلَا سِيَّمَا أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ اسْتَخْرَجَ السِّحَرَ أَصْلًا وَحَلَّهُ، كَمَا فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ (19267)، وَالنَّسائيِّ فِي الكُبْرَى (3529) عَنْ زَيدِ بْنِ أَرْقَمٍ بِلَفْظِ:(فَاسْتَخْرَجَهَا، فَجَاءَ بِهَا فَحَلَّلَهَا). وَأَورَدَهُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله فِي الصَّحِيحَةِ (2761) بِلَفْظِ: (فَأَمَرَهُ أَنْ يَحُلَّ العُقَدَ -أَي: لِعَليٍّ-).
(1)
فَتْحُ البَارِي (10/ 236).
-
المَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَورَدَ بَعْضُهُم شُبْهَةً فِي شَأْنِ قَاتِلِ النَّفْسِ المُؤْمِنَةِ
(1)
؛ فَقَالُوا: إِنَّهُ خَالِدٌ فِي النَّارِ -وَهُوَ كَافِرٌ تَبَعًا لِذَلِكَ
-! قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النِّسَاء: 93]
(2)
، فَهَلْ يَصِحُّ هَذَا؟
الجَوَابُ: لَا يَصِحُّ، وَذَلِكَ مِنْ أَوجُهٍ
(3)
:
أ- أَنَّ المُرَادَ بِالخُلُودِ هُوَ لِمُسْتَحِلِّ ذَلِكَ، وَالمُسْتَحِلُّ كَافِرٌ إِجْمَاعًا، وَتَبَعًا لِذَلِكَ هُوَ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي مَعْنَى قَولِهِ:{مُتَعَمِّدًا} (أَي: مُسْتَحِلًّا لِقَتْلِهِ)
(4)
(5)
.
(1)
وَلِتَمَامِ الفَائِدَةِ انْظُرْ شَرْحَ (بَابِ مَا جَاءَ فِي التَّنْجِيمِ) مِنْ كِتَابِنَا هَذَا وَمَا فِيهِ مِنَ الكَلَامِ عَلَى نُصُوصِ الوَعِيدِ، وَفِي ظَاهِرِ هَذِهِ النُّصُوصِ إِشْكَالٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ يُفهَمُ مِنْهَا الكُفْرُ المُخْرِجُ مِنَ المِلَّةِ؛ وَأَنَّ صَاحِبَهَا خَالِدٌ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ!
(2)
وَبِمَعْنَاهَا عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوعًا: ((كُلُّ ذَنْبٍ عَسَى اللهُ أَنْ يَغْفِرَهُ إِلَاّ مَنْ مَاتَ مُشْرِكَا أَو قَتَلَ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا)) صَحِيحٌ. أَبُو دَاوُدَ (4270). صَحِيحُ الجَامِعِ (4524).
(3)
وَهِيَ أَوجَهُهَا. وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(4)
أَورَدَهُ القُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي التَّفْسِيرِ (5/ 334).
(5)
قُلْتُ: وَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ (4270) عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ مَرْفُوعًا: ((مَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا فَاعْتَبَطَ بِقَتْلِهِ؛ لَمْ يَقْبَلِ اللهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا)). صَحِيحٌ. صَحِيحُ الجَامِعِ (6454).
قَالَ فِي لِسَانِ العَرَبِ (7/ 348): "وفِي الحَدِيثِ: ((مَن قَتَلَ مُؤْمِنًا فَاعْتَبَطَ بقتْلِه؛ لَمْ يَقْبَلِ اللهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا))؛ هَكَذَا جَاءَ الحَدِيثُ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِ الحَدِيثِ: قَالَ خَالِدُ بْنُ دَهْقَان -وَهُوَ رَاوِي الحَدِيثِ-: سَأَلْتُ يَحْيَى بْنَ يَحْيَى الغَسَّانِيِّ عَنْ قَولِهِ: ((اِعْتبَطَ بِقَتْلِهِ))، قَالَ: الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي الفِتْنَةِ؛ فَيَرَى أَنَّهُ عَلَى هُدَى؛ لَا يَسْتَغْفِرُ اللهَ مِنْهُ.
قَالَ ابْنُ الأَثِيرِ: وَهَذَا التَّفْسِيرُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الغِبْطةِ -بِالغَينِ المُعْجَمَةِ- وَهِيَ الفَرَحُ وَالسُّرُورُ وَحُسْنُ الحَالِ، لِأَنَّ القَاتِلَ يَفْرَحُ بِقَتْل خَصْمِهِ، فَإِذَا كَانَ المَقْتُولُ مُؤْمِنًا وَفَرِحَ بِقَتْلِهِ دَخَلَ فِي هَذَا الوَعِيدِ.
وَقَالَ الخَطَّابِيُّ فِي مَعَالِمِ السُّنَنِ -وَشَرَحَ هَذَا الحَدِيثَ- فَقَالَ: اعْتَبَطَ قَتْلَهُ، أَي: قَتَله ظُلْمًا لَا عَنْ قِصَاصٍ".
ب- أَنَّ الجَزاءَ فِي الآيَاتِ لَيسَ المَقْصُودُ وُقُوعَهُ؛ وَإنَّمَا الإِخْبَارُ عَنِ اسْتِحْقَاقِهِ لَهُ، فَهُوَ وَعِيدٌ وَلَيسَ بِوَعْدٍ
(1)
.
قَالَ صَاحِبُ كِتَابِ (عَونُ المَعْبُودِ)
(2)
: "جُمْهُورُ السَّلَفِ وَجَمِيعُ أَهْلِ السُّنَّةِ حَمَلُوا مَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى التَّغْلِيظِ، وَصَحَّحُوا تَوبَةَ القَاتِلِ كَغَيرِهِ، وَقَالُوا مَعْنَى قَولِهِ: {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} أَي: إِنْ شَاءَ أَنْ يُجَازِيَهُ تَمَسُّكًا بِقَولِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} "
(3)
.
وَقَالَ أَبُو مِجْلَز: (هِيَ جَزَاؤُهُ؛ فَإِنْ شَاءَ اللهُ أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنْهُ فَعَلَ)
(4)
.
ج- أَنَّ هَذِهِ النُّصُوصَ مَخَصُوصَةٌ بِالنُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى العَفْوِ بِمَشِيئَةِ اللهِ وَبِالتَّوبَةِ وَبِأَحَادِيثِ الشَّفَاعَةِ الدَّالَّةِ عَلَى إِخْرَاجِ المُوَحِّدَينَ مِنَ النَّارِ، كَمَا قَالَ
(1)
كَمَا فِي الحَدِيثِ: ((مَنْ وَعَدَهُ اللهُ عز وجل عَلَى عَمَلٍ ثَوَابًا؛ فَهُوَ مُنْجِزُهُ لَهُ، وَمَنْ وَعَدَهُ عَلَى عَمَلٍ عِقَابًا؛ فَهُوَ فِيهِ بِالخِيَارِ)). صَحِيحٌ. أَبُو يَعْلَى (3316) عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (2463).
(2)
هُوَ مُحَمَّدُ؛ شَمْسُ الحَقِّ؛ العَظِيمُ آبَادِي؛ أَبُو الطَّيِّبِ، (ت 1329 هـ).
(3)
عَونُ المَعْبُودِ (11/ 236).
وَقَالَ أَيضًا رحمه الله: "وَمِنَ الحُجَّةِ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ الإِسْرَائِيلِيِّ الَّذِي قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا؛ ثُمَّ أَتَى تَمَامَ المِائَةِ إِلَى الرَّاهِبِ، فَقَالَ: لَا تَوبَة لَكَ؛ فَقَتَلَهُ فَأَكْمَلَ بِهِ مِائَةَ، ثُمَّ جَاءَ آخَرَ فَقَالَ لَهُ: وَمَنْ يَحُول بَينك وَبَين التَّوبَةِ. الحَدِيث. وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ لِمَنْ قَبْلَ هَذِهِ الأُمَّةِ؛ فَمِثْلُهُ لَهُمْ أَولَى لِمَا خَفَّفَ الله عَنْهُمْ مِنَ الأَثْقَالِ الَّتِي كَانَتْ عَلَى مَنْ قَبْلَهُم".
(4)
حَسَنٌ مَقْطُوعٌ. سُنَنُ أَبِي دَاوُدَ (4276). صَحِيحُ أَبِي دَاوُدَ (4276).
وَأَبُو مِجْلَزٍ: هُوَ لَاحِقُ بْنُ حُمَيدٍ السَّدُوسِيُّ، تَابِعِيٌّ ثِقَةٌ، (ت 110 هـ). اُنْظُرْ (تَقْرِيبُ التَّهْذِيبِ)(1/ 586).
تَعَالَى: {اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النِّسَاء: 48].
وَعَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا: ((يَضْحَكُ اللهُ إِلَى رَجُلَينِ؛ يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ يَدْخُلَانِ الجنَّةَ! يُقَاتِلُ هَذَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلُ، ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ عَلَى القَاتِلِ فَيُسْتَشْهَدُ)). مُتَّفَقٌ عَلَيهِ
(1)
.
وَالشَّاهِدُ مِنَ الحَدِيثِ كَونُهُ نَفَعَهُ عَمَلُهُ الصَّالِحُ؛ فَتَجَاوَزَ اللهُ بِهِ عَنْ ذَلِكَ القَتْلِ.
د- أَنَّ الخُلُودَ هُنَا لَيسَ عَلَى بَابِهِ، وَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ طُولُ البَقَاءِ.
قَالَ الإِمَامُ القُرْطُبِيُّ رحمه الله: "وَالخُلُودُ: البَقَاءُ، وَمِنْهُ جَنَّةُ الخُلْدِ، وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ مَجَازًا فِيمَا يَطُولُ، وَمِنْهُ قَولُهُمْ فِي الدُّعَاءِ: خَلَّدَ اللهُ مُلْكَهُ، أَي: طَوَّلَهُ.
قَالَ زُهَيرٌ: أَلَا لَا أَرَى عَلَى الحَوَادِثِ بَاقِيًا
…
وَلَا خَالِدًا إِلَّا الجِبَالَ الرَّوَاسِيَا"
(2)
.
قُلْتُ: وَقَدْ عُلِمَ يَقِينًا زَوَالُ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا عِنْدَ قِيَامِ السَّاعَةِ؛ وَأَنَّ اللهَ تَعَالَى يَنْسِفُ الجِبَالَ فَلَا تَبْقَى.
هـ- وَيُمْكِنُ أَيضًا الجَوَابُ بِمِثْلِ مَا قالَه السِّنْدِيُّ رحمه الله فِي شَرْحِ النَّسَائِيِّ: "وَكَأَنَّ المُرَادَ: كُلُّ ذَنْبٍ تُرْجَى مَغْفِرَتُهُ ابْتِدَاءً إِلَّا قَتْلَ المُؤْمِنِ؛ فَإِنَّهُ لَا يُغْفَرُ بِلَا سَبْقِ عُقُوبَةٍ، وَإلَّا الكُفْرَ؛ فَإِنَّه لَا يُغْفَرُ أَصْلًا"
(3)
.
(1)
أَورَدَهُ البُخَارِيُّ رحمه الله فِي صَحِيحِهِ (2826) -بَابُ: الكَافِرُ يَقْتُلُ المُسْلِمَ ثُمَّ يُسْلِمُ فَيُسَدِّدُ أَو يُقْتَلُ-، وَمُسْلِمٌ (1890).
(2)
تَفْسِيرُ القُرْطُبِيِّ (1/ 241).
(3)
شَرْحُ النَّسَائِيِّ لِلْسِنْدِيِّ (7/ 81).
- مُنَاقَشَةٌ أُوْلَى: فِي تَحْقِيقِ مَسْأَلَةِ أَلْفَاظِ الخُلُودِ لِغَيرِ أَصْحَابِ الكُفْرِ الأَكْبَرِ.
قَالَ الشَّيخُ صَالِحُ آلِ الشَّيخِ حَفِظَهُ اللهُ: "الخُلُودُ فِي القُرْآنِ نَوعَانِ: خُلُودٌ أَبَدِيٌّ، وَخُلُودٌ أَمَدِيٌّ.
الخُلُودُ فِي اللُّغَةِ -وَاسْتِعْمَالُ القُرْآنِ عَلَى ذَلِكَ-: أَنَّ الخُلُودَ مَعْنَاهُ المُكْثُ الطَّوِيلُ، إِذَا مَكَثَ طَوِيلًا قِيلَ لَهُ: خَالِدٌ، وَلِذَلِكَ العَرَبُ تُسَمِّي أَولَادَهَا خَالِدًا تَفَاؤُلًا بِطُولِ المُكْثِ؛ بِطُولِ العُمُرِ، سَمَّوهُ خَالِدًا، يَعْنِي أَنَّهُ سَيُعَمِّرُ عُمْرًا طَوِيلًا، وَلَيسَ مَعْنَى الخُلُودِ يَعْنِي أَنَّهُ خُلُودٌ لَيسَ مَعَهُ اِنْقِطَاع!، وَإِنَّمَا هَذَا يُمَيَّزُ بِالأَبَدِيَّةِ، لِهَذَا فِي الآيَاتِ ثَمَّ آيَاتٌ فِيهَا {أَبَدًا} وَثَمَّ آيَاتٌ لَيسَ فِيهَا الأَبَدِيَّةُ، فَلَمَّا جَاءَ فِي القَتْلِ قَالَ:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النِّسَاء: 93] أَجْمَعَ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ الخُلُودَ فِي هَذِهِ الآيَةِ لَيسَ أَبَدِيًّا لِأَنَّ مُرْتَكِبَ الكَبِيرَةِ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ بِتَوحِيدِهِ"
(1)
.
وَقَالَ الإِمَامُ ابْنُ القَيِّمِ رحمه الله -فِي ذِكْرِ إِشْكَالٍ وَجَوَابِهِ-: "فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ آدَمُ عليه السلام قَدْ عَلِمَ أَنَّ لَهُ عُمُرًا مُقَدَّرًا وَأَجَلًا يَنْتَهِي إِلَيهِ وَأَنَّهُ لَيسَ مِنَ الخَالِدِينَ؛ فَكَيفَ لَمْ يَعْلَمْ كَذِبَ إِبْلِيسَ فِي قَولِهِ: {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ} [طه: 120] وقوله: {أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} [الأعراف: 20]؟
فَالجَوَابُ مِنْ وَجْهَينِ:
أَحَدِهِمَا: أَنَّ الخُلْدَ لَا يَسْتَلْزِمُ الدَّوَامَ وَالبَقَاءَ؛ بَلْ هُوَ المُكْثُ الطَّوِيلُ -كَمَا سَيَأْتِي-.
(1)
شَرْحُ العَقِيدَةِ الطَّحَاوِيَّةِ، شَرِيط رَقَم (28).
الثَّانِي: أَنَّ إِبْلِيسَ لَمَّا حَلَفَ لَهُ وَغَرَّهُ وَأَطْمَعَهُ فِي الخُلُودِ؛ نَسِيَ مَا قُدِّرَ لَهُ مِنْ عُمُرِهِ"
(1)
.
قُلْتُ: إلَّا أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ (5778) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا: ((مَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ؛ فَهُوَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ يَتَرَدَّى فِيهِ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا)) فَفِيهِ ذِكْرُ الأَبَدِيَّةِ عَلَى الانْتِحَارِ!!
وَلَكِنْ يُجَابُ عَنْهُ -زِيَادَةً عَلَى كَونِ الخُلُودِ هُنَا يُقْصَدُ بِهِ المُكْثُ الطَّوِيلُ- بِأَحَدِ أُمُورٍ:
1 -
أَنَّهُ يُقْصَدُ بِهِ المُسْتَحِلُّ، وَذَلِكَ جَمْعًا بَينَ صَرَاحَةِ هَذَا اللَّفْظِ وَبَينَ النُّصُوصِ الَّتِي تَجْعَلُ عَامَّةَ الذُّنُوبِ الَّتِي دُونَ الشِّرْكِ هِي تَحْتَ المَشِيئَةِ.
وَذَهَبَ إِلَى هَذَا التَّفْصِيلِ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ، مِنْهُمُ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رحمه الله فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَغَيرُهُ
(2)
، وَحَكَاهُ الإِمَامُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله وَجْهًا وَاحِدًا فِي الجَوَابِ عَنِ الإِشْكَالِ فِي الحَدِيثِ
(3)
.
2 -
أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ غَيرُ مَحْفُوظٍ؛ وَأَنَّ المَحْفُوظَ هُوَ بِدُونِ ذِكْرِ الخُلُودِ وَالتَّأْبِيدِ.
وَذَهَبَ إِلَى هَذَا التِّرْمِذِيُّ رحمه الله فِي سُنَنِهِ، وَقَالَ:"وَهَذَا أَصَحُّ، لأَنَّ الرِّوَايَاتِ إِنَّمَا تَجِيءُ بِأَنَّ أَهْلَ التَّوحِيدِ يُعَذَّبُونَ فِي النَّارِ ثُمَّ يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَمْ يُذْكَرْ أَنَّهُمْ يُخَلَّدُونَ فِيهَا"!
(4)
(1)
حَادِي الأَرْوَاحِ (1/ 36).
(2)
شَرْحُ مُسْلِمٍ لِلْنَّوَوِيِّ (2/ 125).
(3)
أَشْرِطَةُ فَتَاوَى سِلْسِلَةِ الهُدَى وَالنُّورِ (شَرِيط رَقَم 300).
(4)
سُنَنُ التِّرْمِذِيِّ (3/ 455)، وَبِمِثْلِهِ أَيضًا ابْنُ الجَوزِيِّ رحمه الله فِي كَشْفِ المُشْكِلِ (3/ 453)، وَنَقَلَهُ
=
3 -
أَنَّ مُرَادَ الحَدِيثِ أَنَّ فِعْلَهُ هَذَا أَبَدِيٌّ مَا دَامَ فِي جَهَنَّمَ؛ لَا أَنَّ قِيَامَهُ فِي جَهَنَّمَ أَبَدِيٌّ! وَهَذَا الوَجْهُ أَولَى الأَوجُهِ عِنْدِي
(1)
.
وَيَشْهَدُ لِهَذَا الوَجْهِ قَولُهُ تَعَالَى عَنِ الكُفَّارِ فِي عَدَمِ تَمَنِّي المَوتِ: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا} [البَقَرَة: 95] مَعَ قَولِهِ سُبْحَانَهُ: {وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَينَا رَبُّكَ} [الزُّخْرُف: 77]
(2)
.
- مُنَاقَشَةٌ ثَانِيَةٌ: فِي التَّعْلِيقِ عَلَى جَوَازِ إِخْلَافِ الوَعِيدِ دُونَ الوَعْدِ.
قَالَ الشَّيخُ ابْنُ عُثَيمِينَ رحمه الله عِنْدَ تَفْسِيرِ قَولِهِ تَعَالَى: {أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ} [الزخرف: 42]: "أَنَّ الوَعْدَ يَأْتِي فِي الشَّرِّ وَالعُقُوبَةِ؛ خِلَافًا لِمَن قَالَ: الوَعْدُ فِي الخَيرِ؛ وَالإِيعَادُ فِي الشَّرِّ! وَأَنْشَدُوا عَلَى ذَلِكَ قَولَ الشَّاعِرِ: وَإِنِّي؛ وَإِنْ أَوْعَدْتُهُ أَوْ وَعَدْتُهُ لَمُخْلِفٌ إِيعَادِي وَمُنْجِزٌ مَوعِدِي
(3)
، فَالصَّوَابُ أَنَّ مَعْنَاهَا أَنَّهَا تُطْلَقُ عَلَى هَذَا وَعَلَى هَذَا، فَهُنَا قَالَ:{الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ} وَعَلَى قِيَاسِ قَولِ البَيتِ يَكُونُ التَّعْبِيرُ: (الَّذِي أَوْعَدْنَاهُم)! وَلَكِنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهَا جَائِزَةٌ لِهَذَا وَهَذَا"
(4)
.
وَقَدْ عَقَّبَ شَيخُنَا الالبَانِيُّ رحمه الله عَلَى ابْنِ القَيِّمِ فِي مَسْأَلَةِ فَنَاءِ النَّارِ فِي أَنَّ اللهَ تَعَالَى "لَمْ يَقُلْ فِي مَوضِعٍ وَاحِدٍ: لَا يُخْلِفُ وَعِيدَهُ"! فَقَالَ شَيخُنَا رحمه الله: "قَدْ فَاتَهُ -
=
الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (3/ 227).
وَلَكِنْ قَالَ المُبَارَكْفُورِيُّ رحمه الله فِي تُحْفَةِ الأَحْوَذِيِّ (6/ 166): "مَقْصُودُ التِّرْمِذِيِّ أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ وَهْمٌ؛ فَإِنَّهَا تُخَالِفُ الرِّوَايَاتِ الَّتِي تَجِيءُ بِأَنَّ أَهْلَ التَّوحِيدِ يُعَذَّبُونَ فِي النَّارِ ثُمَّ يَخْرُجُونَ مِنْهَا، قُلْتُ: هَذِهِ الزِّيَادَةُ زَادَهَا الْأَعْمَشُ وَهُوَ ثِقَةٌ حَافِظٌ، وَزِيَادَةُ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ، فَتَأْوِيلُ هَذِهِ الزِّيَادَةِ أَولَى مِنْ تَوهِيمِهَا".
(1)
وَهَذَا أَجَابَ بِهِ الكَشْمِيرِيُّ رحمه الله فِي فَيضِ البَارِي (3/ 75)، وَكَذَا فِي العُرْفِ الشَّذِيِّ (3/ 350) لَهُ أَيضًا.
(2)
يُنْظَرُ: (حَادِي الأَرْوَاح) لِابْنِ القَيِّمِ (2/ 608).
(3)
البَيتُ لِعَامِرِ بنِ الطُّفَيلِ. يُنْظَرُ: (لِسَانُ العَرَبِ)(14/ 223).
(4)
تَفْسِيرُ ابْنِ عُثَيمِينَ لِسُورَةِ الزُّخْرُفِ (ص 163).
عَفَا اللهُ عَنَّا وَعَنْهُ- قَولُهُ تَعَالَى في (ق: 27 - 29){قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ * قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيكُمْ بِالوَعِيدِ * مَا يُبَدَّلُ القَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} ! وَلِهَذَا قَالَ شَيخُ الإِسْلَامِ ابْنُ تَيمِيَّةَ رحمه الله عَقِبَهُ
(1)
: (وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ صَادِقٌ فِي وَعِيدِهِ أَيضًا، وَأَنَّ وَعِيدَهُ لَا يُبَدَّلُ، وَهَذَا مِمَّا احْتَجَّ بِهِ القَائِلُونَ بِأَنَّ فُسَّاقَ المِلَّةِ لَا يَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ! وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيهِمْ فِي غَيرِ هَذَا المَوْضِع. لَكِنَّ هَذِهِ الآيَةَ تُضْعِفُ جَوَابَ مَنْ يَقُولُ: إنَّ إخْلَافَ الوَعِيدِ جَائِزٌ! فَإِنَّ قَوْلَهُ: {مَا يُبَدَّلُ القَوْلُ لَدَيَّ} بَعْدَ قَوْلِهِ: {وَقَدْ قَدَّمْتُ إلَيكُمْ بِالوَعِيدِ} دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ وَعِيدَهُ لَا يُبَدَّلُ كَمَا لَا يُبَدَّلُ وَعْدُهُ) "
(2)
.
وَعَلَى العُمُومِ؛ فَإِنَّ الأَمْرَ فِي نُصُوصِ الوَعِيدِ هُوَ كَمَا قَالَ أَهْلُ العِلْمِ: "هَذَا مِنْ نُصُوصِ الوَعِيْدِ الَّتِي كَرِهَ السَّلَفُ تَأْوِيْلَهَا، وَقَالُوا: أَمِرُّوهَا كَمَا جَاءَتْ، وَمَنْ تَأَوَّلَهَا فَهُوَ عَلَى خَطَرٍ مِنَ القَولِ عَلَى اللهِ بِلَا عِلْمٍ.
وَأَحْسَنُ مَا يُقَالُ: إنَّ كُلَّ عَمَلٍ دُونَ الشِّرْكِ وَالكُفْرِ -المُخْرِجِ عَنْ مِلَّةِ الإِسْلَامِ-؛ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى مَشِيْئَةِ اللهِ، فَإِنْ عَذَّبَهُ فَقَدِ اسْتَوجَبَ العَذَابَ، وَإِنْ غَفَرَ لَهُ فَبِفَضْلِهِ وَعَفْوِهِ وَرَحْمَتِهِ"
(3)
.
(1)
مَجْمُوعُ الفَتَاوَى (14/ 498).
(2)
انْظُرْ كِتَابَ (رَفْعُ الأَسْتَارِ لِإِبْطَالِ أَدِلَّةِ القَائِلِينَ بِفَنَاءِ النَّارِ) لِلْصَنْعَانِيِّ (ص 44) بِتَعْلِيقِ شَيخِنَا الالبَانِيِّ رحمه الله.
قُلْتُ: وَلِتَمَامِ الفَائِدَةِ؛ فَقَدْ تَابَعَ شَيخُ الإِسْلَامِ ذَلِكَ بِقَولِهِ: "لَكِنَّ التَّحْقِيقَ: الجَمْعُ بَينَ نُصُوصِ الوَعْدِ وَالوَعِيدِ، وَتَفْسِيرُ بَعْضِهَا بِبَعْضِ مِنْ غَيرِ تَبْدِيلِ شَيءٍ مِنْهَا؛ كَمَا يُجْمَعُ بَينَ نُصُوصِ الأَمْرِ وَالنَّهْيِ مِنْ غَيرِ تَبْدِيلِ شَيءٍ مِنْهَا".
(3)
فَتْحُ المَجِيْدِ (ص 320).
-
المَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: أَورَدَ بَعْضُهُم شُبْهَةً فِي شَأْنِ قَاتِلِ النَّفْسِ المُؤْمِنَةِ أَيضًا؛ فَقَالُوا: لَيسَ لِلقَاتِلِ تَوبَةٌ!
اسْتِدْلَالًا بِقَولِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه، فَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيرٍ؛ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنْ قَولِهِ تَعَالَى: {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} [النساء: 93] قَالَ: (لَا تَوبَةَ لَهُ)؛ وَعَنْ قَولِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ: {لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [الفُرْقَان: 70]
(1)
، قَالَ:(كَانَتْ هَذِهِ فِي الجَاهِلِيَّةِ) البُخَارِيُّ
(2)
، فَمَا الجَوَابُ؟
الجَوَابُ هُوَ مِنْ أَوْجُهٍ:
أ- إِنَّهُ لَا تَعَارُضَ بَينَ الآيَتِينِ أَصْلًا، لِأَنَّ الأُولَى أَثْبَتَتْ لَهُ الجَزَاءَ، وَالثَّانِيَةَ أَثْبَتَتْ لَهُ قَبُولَ التَّوبَةِ إِنْ تَابَ.
قَالَ المُنَاوِيُّ رحمه الله: "وَمَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّهُ لَا يَمُوتُ أَحَدٌ إِلَّا بِأَجَلِهِ، وَأَنَّ القَاتِلَ لَا يَكْفُرُ وَلَا يَخْلُدُ فِي النَّارِ وَإِنْ مَاتَ مُصِرًّا، وَأَنَّ لَهُ تَوبَةً"
(3)
.
ب- أَنَّهُ لَيسَ لَهُ تَوبَةٌ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ اسْتِدْرَاكَ مَا فَاتَهُ، فَهُوَ لَا يَمْلِكُ إِرْجَاعَ الحَيَاةِ لِلمَيِّتِ كَمَا يَمْلِكُ إِرْجَاعَ الحَقُوقِ المَالِيَّةِ.
(1)
(2)
البُخَارِيُّ (4764).
وَفِي نَفْسِ البَابِ قَالَ ابْنُ عُبَّاسٍ رضي الله عنه: (هَذِهِ مَكِّيَّةٌ نَسَخَتْهَا آيَةٌ مَدَنِيَّةٌ الَّتِي فِي سُورَةِ النِّسَاءِ).
وَأَيضًا فِي الحَدِيثِ: ((أَبَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ لِقَاتِلِ المُؤمِنِ تَوبَةً)). صَحِيحٌ. المَقْدِسِيُّ فِي المُخْتَارَةِ (6/ 163) عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (689).
(3)
فَيضُ القَدِيرِ (1/ 71).
وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ حَدِيثُ النَّسَائِيِّ؛ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سُئِلَ عَمَّنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا ثُمَّ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَىَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَأَنَّى لَهُ التَّوبَةُ؟ سَمِعْتُ نَبِيَّكُمْ يَقُولُ: ((يَجِيءُ مُتَعَلِّقًا بِالقَاتِلِ تَشْخُبُ أَودَاجُهُ دَمًا، فَيَقُولُ: أَي: رَبِّ سَلْ هَذَا فِيمَ قَتَلَنِي؟)). ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ؛ لَقَدْ أَنْزَلَهَا اللهُ ثُمَّ مَا نَسَخَهَا.
فَهُوَ ظَاهِرٌ أَنَّ عَدَمَ القَبُولِ هُوَ بِاعْتِبَارِ حَقِّ المَقْتُولِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ إِرْجَاعُهُ كَمَا فِي قَولِهِ: (وَأَنَّى لَهُ التَّوبَةُ؟)
(1)
، وَلَيسَ أَنَّهُ إِنْ تَابَ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يَقْبَلُ تَوبَتَهُ.
قَالَ الشَّيخُ الغُنَيمَانُ حَفِظَهُ اللهُ: "وَالتَّحْقِيقُ فِي هَذَا: أَنَّ قَتْلَ النَّفْسِ تَتَعَلَّقُ فِيهِ ثَلَاثَةُ حُقُوقٍ: حَقٌّ لِأَولِيَاءِ المَقْتُولِ، وَحَقٌّ للهِ جَلَّ وَعَلَا، وَحَقٌّ لِلمَقْتُولِ نَفْسِهِ.
فَأَمَّا حَقُّ أَولِيَاءِ المَقتولِ؛ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ بِالقِصَاصِ أَو بِدَفْعِ الدِّيَةِ، وَأَمَّا حَقُّ اللهِ جَلَّ وعَلَا فَإِنَّه يَسْقُطُ بِالتَّوبَةِ [كَمَا فِي آيَةِ سُورَةِ الفُرْقَانِ]، وَيَبْقَى حَقُّ المَقْتُولِ لَا بُدَّ مِنْ أَدَائِهِ، وَلَا بُدَّ أَنْ تُؤَدَّى الحُقُوقُ إِلَى أَصْحَابِهَا، لِأَنَّهُ يَأْتِي يَومَ القِيَامَةِ مُمْسِكًا قَاتِلَهُ فَيَقُولُ:((يَا رَبِّ! اسْأَلْ هَذَا فِيمَ قَتَلَنِي؟)) فَهَلْ يَضِيعُ حَقُّهُ؟ لَا؛ لَنْ يَضِيعَ حَقُّهُ.
وَهَذَا وَجْهٌ اسْتَدَلَّ بِهِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّهُ لَا تَوبَةَ لَهُ.
وَيَجُوزُ أَنَّ اللهَ جَلَّ وَعَلَا يُرْضِي المَقْتُولَ عَنِ القَاتِلِ فِي ذَلِكَ المَوقِفِ إِذَا شَاءَ"
(2)
.
قُلْتُ: وَقَدْ يُسْتَدَلُّ لِلأَخِيرِ بحَدِيثِ: ((إِنَّ اللهَ عز وجل غَفَرَ لِأَهْلِ عَرفَات وَأَهْلِ المَشْعَرِ؛ وَضَمِنَ عَنْهُم التَّبِعَاتَ))
(3)
.
(1)
صَحِيحٌ. النَّسَائِيُّ (3999). صَحِيحُ النَّسائيِّ (3999).
(2)
مُسْتَفَادٌ مِنْ شَرْحِ الشَّيخِ الغُنَيمَانِ حَفِظَهُ اللهُ عَلَى كِتَابِ (فَتْحُ المَجِيدِ)، شَرِيطُ رَقَم (75)، شَرْحُ البَابِ.
(3)
صَحِيحٌ. أَورَدَهُ الحَافِظُ المُنْذِرِيُّ رحمه الله فِي التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ (1796) عَنِ ابْنِ المُبَارَكِ عَنْ سُفْيَانَ الثَّورِيِّ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ (1151).
ج- وَأَمَّا قَولُ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه فَقَدْ رَجَعَ عَنْهُ -عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّهُ لَا تَوبَةَ لَهُ مُطْلَقًا-.
قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رحمه الله فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: "هَذَا هُوَ المَشْهُورُ عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّ لَهُ تَوبَةً، وَجَوَازُ المَغْفِرَةِ لَهُ، لِقَولِهِ تَعَالَى:{وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ هِيَ مَذْهَبُ جَمِيعِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ.
وَمَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ مِمَّا يُخَالِفُ هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى التَّغْلِيظِ وَالتَّحْذِيرِ مِنَ القَتْل؛ وَالتَّورِيَةِ فِي المَنْعِ مِنْهُ
(1)
، وَلَيسَ فِي هَذِهِ الآيَةِ الَّتِي احْتَجَّ بِهَا اِبْنُ عَبَّاسٍ تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ يُخَلَّدُ! وَإِنَّمَا فِيهَا أَنَّهُ جَزَاؤُهُ، وَلَا يَلْزَم مِنْهُ أَنَّهُ يُجَازَى"
(2)
.
قَالَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله فِي الصَّحِيحَةِ -فِي مَعْرِضِ ذِكْرِ الرِّوَايَاتِ عَنِ ابْنِ عبَّاسٍ فِي ذَلِكَ-:
"الأُولَى: مَا رَوَاهُ عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ عَنْهُ: أَنَّهُ أَتَاهُ رَجَلٌ؛ فَقَالَ: إنِّي خَطَبْتُ امْرَأَةً فَأَبَتْ أَنْ تَنْكِحَنِي؛ وخَطَبَهَا غَيرِي فَأَحَبَّتْ أَنْ تَنْكِحَهُ، فَغِرْتُ عَلَيهَا فَقَتَلْتُهَا! فَهَلْ لِي مِنْ تَوبَةٍ؟ قَالَ:(أُمُّكَ حَيَّةٌ؟) قَالَ: لَا. قَالَ: (تُبْ إِلَى اللهِ عز وجل، وَتَقَرَّبْ إِلَيهِ مَا اسْتَطَعْتَ). فَذَهَبْتُ فَسَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ: لِمَ سَأَلْتَهُ عَنْ حَيَاةِ أُمِّهِ؟ فَقَالَ: (إنِّي لَا أَعْلَمُ عَمَلًا أَقْرَبَ إِلَى اللهِ عز وجل مِنْ بِرِّ الوَالِدَةِ). أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ فِي الأَدَبِ المُفْرَدِ بِسَنَدٍ
(1)
"وَقَدْ كَانَ ابْنُ شِهَابٍ إِذَا سُئِلَ: هَلْ لِلْقَاتِلِ تَوبَةٌ؟ يَتَعَرَّفُ مِنَ السَّائِلِ: هَلْ قَتَلَ أَمْ لَا؟ وَيُطَاوِلُهُ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ تَبَيَّنَ لَهُ مِنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَقْتُلْ؛ قَالَ لَهُ: لَا تَوبَةَ لَهُ، وَإِنْ تَبَيَّنَ لَهُ مِن أَنَّهُ قَدْ قَتَلَ: قَالَ: لَهُ تَوْبَةٌ. وَإِنَّ هَذَا لَحَسَنٌ مِن الفَتْوَى". البَيَانُ وَالتَّحْصِيلُ لِابْنِ رُشْدٍ (15/ 481).
(2)
شَرْحُ مُسْلِمٍ (18/ 159).
صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحَينِ.
الثَّانِيَةُ: مَا رَوَاهُ سَعِيدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَولِهِ: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} قَالَ: (لَيسَ لِقَاتِلٍ تَوبَةٌ؛ إِلَّا أَنْ يَسْتَغْفِرِ اللهَ). أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ، وَلَعَلَّهُ يَعْنِي أَنَّهُ لَا يُغْفَرُ لَهُ -عَلَى قَولِهِ الأَوَّلِ- ثُمَّ اسْتَدْرَكَ عَلَى نَفْسِهِ فَقَالَ:(إِلَّا أَنْ يَسْتَغْفِرَ اللهَ). وَاللهُ أَعْلَمُ"
(1)
.
(1)
التَّعْلِيقُ عَلَى حَدِيثِ الصَّحِيحَةِ (2799).
-
المَسْأَلَةُ الخَامِسَةُ: اسْتَدَلَّ بَعْضُهُم عَلَى جَوَازِ تَعَلُّمِ السِّحْرِ بِقَولِ الرَّازِي
(1)
رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ
(2)
: "إِنَّ العِلْمَ بِالسِّحْرِ لَيسَ بِقَبِيحٍ وَلَا مَحْظُورٍ! اتَّفَقَ المُحَقِّقُونَ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ العِلْمَ لِذَاتِهِ شَرِيفٌ، وَأَيضًا لِعُمُومِ قَولِهِ تَعَالَى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزُّمَر: 9]، وَلِأَنَّ السِّحْرَ لَو لَمْ يَكُنْ يُعلَمُ لَمَا أَمْكَنَ الفَرْقُ بَينَهُ وَبَينَ المُعْجِزَةِ، وَالعِلْمُ بِكَونِ المُعْجِزِ مُعْجِزًا وَاجِبٌ"! فَمَا الجَوَابُ؟
الجَوَابُ هُوَ مِنْ أَوجُهٍ
(3)
:
1 -
قَولُهُ: العِلْمُ بِالسِّحْرِ لَيسَ بِقَبِيحٍ! إِنْ كَانَ عَقْلًا؛ فَجُمْهُورُ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى المَنْعِ.
2 -
قَولُهُ: وَلَا مَحْظُورَ فِيهِ! فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ قَولُهُ عليه الصلاة والسلام: ((مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيءٍ؛ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ لَيلَةً))
(4)
.
3 -
قَولُهُ: اتَّفَقَ المُحَقِّقُونَ عَلَى ذَلِكَ! لَيسَ بِصَوَابٍ، فَأَينَ كَلَامُ الأَئِمَّةِ العُلَمَاءِ
(1)
هُوَ أَبُو عَبْدِ اللهِ؛ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ؛ صَاحِبُ التَّفْسِيرِ المُسَمَّى (مَفَاتِيحُ الغَيبِ)، (ت 606 هـ).
قَالَ الحَافِظُ الذَّهَبِيُّ رحمه الله فِي المِيزَانِ (3/ 340): "وَلَهُ كِتَابُ (السِّرُّ المُكْتُومُ) فِي مُخَاطَبَةِ النُّجُومِ؛ سِحْرٌ صَرِيحٌ! فَلَعَلَّهُ تَابَ مِنْ تَأْلِيفِهِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى".
وَقَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (1/ 367): "وَيُقَالُ: إِنَّهُ تَابَ مِنْهُ، وَقِيلَ: بَلْ صَنَّفَهُ عَلَى وَجْهِ إِظْهَارِ الفَضِيلَةِ لَا عَلَى سَبِيلِ الِاعْتِقَادِ، وَهَذَا هُوَ المَظْنُونُ بِهِ، إِلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ فِيهِ طَرِيقَهُمْ فِي مُخَاطَبَةِ كُلٍّ مِنْ هَذِهِ الكَوَاكِبِ السَّبْعَةِ وَكَيفِيَّةِ مَا يَفْعَلُونَ وَمَا يَلْبَسُونَهُ وَمَا يَتَمَسَّكُونَ بِهِ".
(2)
تَفْسِيرُ الرَّازِي (3/ 626) وَبِحَذْفٍ يَسِيرٍ مِنْ قِبَلِ الحَافِظِ ابْنِ كَثِيرٍ رحمه الله فِي تَفْسِيرِهِ (1/ 366).
(3)
مُعْظَمُ مَادَّةِ هَذَا الجَوَابِ هُوَ مِنْ رَدِّ الحَافِظِ ابْنِ كَثِيرٍ عَلَيهِ فِي التَّفْسِيرِ (1/ 366) رَحِمَهُمَا اللهُ تَعَالَى.
(4)
مُسْلِمٌ (2230) عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
وَفِي الأَثَرِ أَيضًا: (مَنْ أَتَى كَاهِنًا أَو سَاحِرًا؛ فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ). صَحِيحٌ. البزَّارُ (5/ 256) عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَوقُوفًا. صَحِيحُ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ (3048).
أَو أَكْثَرِهِم عَلَى تَحْسِينِ تَعَلُّمِ السِّحْرِ
(1)
؟!
4 -
قَولُهُ: لِعُمُومِ قَولِهِ تَعَالَى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} ! فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ هَذِهِ الآيَةَ إِنَّمَا دَلَّتْ عَلَى مَدْحِ العَالِمِينَ العِلْمَ الشَّرْعِيَّ
(2)
.
5 -
قَولُهُ: إِنَّهُ لَا يَحْصُلُ العِلْمُ بِالمُعْجِزِ إِلَّا بِالعِلْمِ بِالسِّحْرِ! هُوَ قَولٌ فَاسِدٌ، لِأَنَّ أَعْظَمَ مُعْجِزَاتِ رَسُولِنَا صلى الله عليه وسلم هُوَ القُرْآنُ العَظِيمُ؛ وَالعِلْمُ بِأَنَّهُ مُعْجِزٌ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى عِلْمِ السِّحْرِ أَصْلًا!
ثُمَّ مِنَ المَعْلومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةَ المُسْلِمِينَ وَعامَّتَهُم كَانُوا يَعْلَمُونَ المُعْجِزَ وَيُفَرِّقُونَ بَينَهُ وَبَينَ غَيرِهِ، وَلَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ السِّحْرَ وَلَا تَعَلَّمُوهُ وَلَا عَلَّمُوهُ! وَاللهُ أَعْلَمُ.
(1)
وَقَدْ سَبَقَ النَّقْلُ عَنِ النَّوَوِيِّ وَالحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ رَحِمَهُمَا اللهُ فِي تَحْرِيمِ تَعَلُّمِهِ.
(2)
وَإِلَّا فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى ذَمَّ الكُفَّارَ عَلَى مُجَرَّدِ عِلْمِهِم العِلْمَ الدُّنْيَوِيَّ، قَالَ تَعَالَى:{يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الرُّوم: 7].
-
المَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: أنْكَرَ بَعْضُهُم تَلَبُّسَ الجِنِّيِّ بِالإِنْسِيِّ، وَقَالُوا: لَا يَصِحُّ لِأَنَّ طَبِيعَتَهُمَا مُخْتَلِفَةٌ، فَمَا الجَوَابُ؟
الجَوَابُ:
قَدْ دَلَّتِ الشَّرِيعَةُ عَلَى وُقُوعِ هَذَا التَّلَبُّسِ فِي عِدَّةِ نُصُوصٍ مِنْهَا
(1)
:
1 -
قَولُ اللهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البَقَرَة: 275].
قَالَ القُرْطُبِيُّ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ
(2)
: "فِي هَذِهِ الآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِ إنْكَارِ مَنْ أَنْكَرَ الصَّرَعَ مِنْ جِهَةِ الجِنِّ، وَزَعَمَ أَنَّهُ مِنْ فِعْلِ الطَّبَائِعِ
(3)
، وَأَنَّ الشَّيطَانَ لَا يَسْلُكُ فِي الإِنْسَانِ وَلَا يَكُونُ مِنْهُ مَسُّ"
(4)
.
(1)
وَهِيَ عَلَى سَبِيلِ تَنْوِيعِ أَوجُهِ الدِّلَالَةِ لَا الجَمْعِ وَالاسْتِقْصَاءِ.
(2)
(3/ 335).
(3)
كَجُمْلَةِ الأَمْرَاضِ العَصَبِيَّةِ وَالنَّفْسِيَّةِ.
(4)
قُلْتُ: وَانْظُرْ وَتَعَجَّبْ مِنْ كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ -صَاحِبِ الكَشَّافِ- رحمه الله وغَفَرَ لَهُ فِي تَفْسِيرِهِ (1/ 320) حَيثُ قَالَ: " {لَا يَقُومُونَ} إِذَا بُعِثُوا مِنْ قُبُورِهِم {إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيطَانُ} أَي المَصْرُوعُ. وَتَخَبُّطُ الشَّيطَانِ مِنْ زَعَمَاتِ العَرَبِ، يَزْعُمُونَ أَنَّ الشَّيطَانَ يَخْبِطُ الإِنْسَانَ فَيُصْرَعُ. وَالخَبْطَ: الضَّرْبُ عَلَى غَيرِ اسْتِوَاءٍ كَخَبْطِ العَشْوَاءِ، فَوَرَدَ عَلَى مَا كَانُوا يَعْتَقِدُونَ. وَالمَسُّ: الجُنُونُ، وَرَجُلٌ مَمْسُوسٌ، وَهَذَا أَيضًا مِنْ زَعَمَاتِهِم؛ وَأَنَّ الجنِّيَّ يَمَسُّهُ فَيَخْتَلِطُ عَقْلُهُ، وَكَذَلِكَ جُنَّ الرَّجُلُ: مَعْنَاهُ ضَرَبَتْهُ الجِنُّ. وَرَأَيتُهُم لَهُم فِي الجِنِّ قِصَصٌ وَأَخْبَارٌ وَعَجَائِبُ، وَإِنْكَارُ ذَلِكَ عِنْدَهُم كَإِنْكَارِ المُشَاهَدَاتِ".
قُلْتُ: العَجِيبُ مِنْهُ كَيفَ أَنَّهُ يَصِفُ ذَلِكَ أَنَّهُ مِنْ زَعَمَاتِ العَرَبِ؛ رُغْمَ أَنَّ اللهَ تبارك وتعالى شَبَّهَ قِيَامَ آكِلِ الرِّبَا بِقِيَامِ مَنْ بهِ مَسٌّ مِنَ الشَّيطَانِ، فَهَلْ يُشَبِّهُ رَبُّنَا تَعَالَى شَيئًا -وَاقِعًا حَتْمًا- بِشَيءٍ لَا حَقِيقَةَ لَهُ، بَلْ وَيُؤَكِّدُهُ بِالاسْتِثْنَاءِ بَعْدَ النَّفْي.
وَلِلْعِلْمِ أَيضًا؛ فَهَذَا الاعْتِقَادُ بِالمَسِّ لَيسَ مِنْ فَرَائِدِ العَرَبِ! بَلْ عَامَّةُ الأُمَمِ تَعْتَقِدُ بِهِ، وَلَمْ يُنْكِرُهُ سِوَى العَقْلَانِيُّونَ -زَعَمُوا- وَمَنْ سَارَ سَيرَهُم.
وَفِي الحَدِيثِ: ((مَنْ أَكَلَ الرِّبَا بُعِثَ يَومَ القِيَامَةِ مَجْنُونًا يَتَخَبَّطَ. ثُمَّ قَرَأَ {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيطَانُ مِنَ الْمَسِّ}))
(1)
.
وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا فِي الدِّلَالَةِ حَدِيثُ سُلَيمَانَ بْنِ صُرَدٍ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم -وَرَجُلَانِ يَسْتَبَّانِ-، فَأَحَدُهُمَا احْمَرَّ وَجْهُهُ وَانْتَفَخَتْ أَودَاجُهُ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:((إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَو قَالَهَا ذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ، لَو قَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيطَانِ ذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ)). فَقَالُوا لَهُ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((تَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيطَانِ)). فَقَالَ: وَهَلْ بِي جُنُونٌ!!
(2)
قُلْتُ: وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الشَّيطَانَ لَهُ أَثَرٌ فِي جُنُونِ النَّاسِ.
2 -
عَنْ عُثْمَان بْنِ أَبِي العَاصِ؛ أَنَّهُ شَكَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَفَلُّتَ القُرْآنِ مِنْ صَدْرِهِ، قَالَ: فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى صَدْرِي وَقَالَ: ((يَا شَيطَانُ! أُخْرُجْ مِنْ صَدْرِ عُثْمَان))، فَمَا نَسِيتُ شَيئًا أُرِيدُ حِفْظَهُ
(3)
.
وَقَالَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله مُعَلِّقًا عَلَيهِ فِي الصَّحِيحَةِ: "وَفِي الحَدِيثِ دِلَالَةٌ صَرِيحَةٌ عَلَى أَنَّ الشَّيطَانَ قَدْ يَتَلَبَّسُ الإِنْسَانَ وَيَدْخُلُ فِيهِ -وَلَو كَانَ مُؤْمِنًا صَالِحًا- وَفِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ كَثِيرْةٌ،
…
وَمِثْلُهُ عَنْ يَعْلَى بْنِ مُرَّة؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: أَتَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: إِنَّ ابْنِي هَذَا بِهِ لَمَمٌ (جُنُونٌ) مُنْذُ سَبْعِ سِنِينَ؛ يَأْخُذُهُ كُلَّ يَومٍ مَرَّتَينِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ
(1)
صَحِيحٌ. الطَّبَرَانِيُّ فِي الكَبِيرِ (18/ 60) عَنْ عَوفِ بْنِ مَالِكٍ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ (1862).
(2)
البُخَارِيُّ (6048).
(3)
صَحِيحٌ. الطَّبَرَانِيُّ (9/ 47)، وَالبَيهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبوَّةِ (5/ 307). الصَّحِيحَةُ (2918).
صلى الله عليه وسلم: ((أَدْنِيهِ))، فَأَدْنَتْهُ مِنْهُ، فَتَفَلَ فِي فِيهِ، وَقَالَ:((اخْرُجْ عَدُوَّ اللهِ! أَنَا رَسُولُ اللهِ)). رَوَاهُ الحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ .... ، وَبِالجُمْلَةِ فَالحَدِيثُ بِهَذِهِ المُتَابَعَاتِ جَيِّدٌ".
3 -
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ مَرْفُوعًا: ((إِذَا تَثاءَبَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَكْظِمْ مَا اسْتَطاعَ؛ فَإِنَّ الشَّيطَانَ يَدْخُلُ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ
(1)
.
قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رحمه الله فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ
(2)
: "قَالَ العُلَمَاءُ: أُمِرَ بِكَظْمِ التَّثَاؤبِ وَرَدِّهِ وَوَضْعِ اليَدِ عَلَى الفَمِ لِئَلَّا يَبْلُغَ الشَّيطَانُ مُرَادَهُ مِنْ تَشْوِيهِ صُورَتِهِ، وَدُخُولِهِ فَمَهَ، وَضَحِكِهِ مِنْهُ. وَاللهُ أَعْلَمُ".
4 -
يُضَافُ لِمَا سَبَقَ مَا هُوَ مُشَاهَدٌ مَحْسُوسٌ مِنْ أَحْوَالِ المَمْسُوسِينَ مِنْ أَنَّ الجِنَّ يَنْطِقُ عَلَى لِسَانِهِ.
"قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلَ: قُلْتُ لِأَبِي: إِنَّ قَومًا يَقُولُونَ: إِنَّ الجِنَّ لَا تَدْخُلُ فِي بَدَنِ الإِنْسِ! فَقَالَ: يَا بُنَيَّ يَكْذِبُونَ، هُوَ ذَا يَتَكَلَّمُ عَلَى لِسَانِهِ"
(3)
.
"وَقَدِ اشْتُهِرَ بَينَ النَّاسِ وُجُودُ عَقْدِ الرَّجُلِ عَنْ امْرَأَتِهِ حِينَ يَتَزَوَّجُهَا؛ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى إتْيَانِهَا وَحَلِّ عَقْدِهِ، فَيَقْدِرُ عَلَيهَا بَعْدَ عَجْزِهِ عَنْهَا! حَتَّى صَارَ مُتَوَاتِرًا لَا يُمْكِنُ جَحْدُهُ. وَرُوِيَ مِنْ أَخْبَارِ السَّحَرَةِ مَا لَا يَكَادُ يُمْكِنُ التَّوَاطُؤُ عَلَى الْكَذِبِ فِيهِ"
(4)
.
(1)
مُسْلِمٌ (2995).
وَبِمَعْنَاهُ: ((إِنَّ الشَّيطَانَ يَجْرِي مِنِ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ)). رَوَاهُ البُخَارِيُّ (2039)، وَمُسْلِمٌ (2175) عَنْ صَفِيَّةَ مَرْفُوعًا.
(2)
شَرْحُ مُسْلِمٍ (18/ 123).
(3)
عُمْدَةُ القَارِي (21/ 214).
(4)
المُغْنِي لِابْنِ قُدَامَةَ (9/ 29).
أَخِيرًا؛ نَقُولُ: لَا يِلْزَمُ أَبَدًا مِنْ كَونِ الرَّجُلِ يُصْرَعُ أَنَّهُ لَا يُؤَاخَذُ بِمَا بَدَرَ مِنْهُ فِي حَالِ صَرَعِهِ مُطْلَقًا! بَلْ مَرْجِعُ ذَلِكَ إِلَى كَونِهِ مَغْلُوبًا عَلَى عَقْلِهِ أَمْ غَيرَ مَغْلُوبٍ، لِقَولِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:((رُفِعَ القَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنِ المَجْنُونِ المَغْلُوبِ عَلَى عَقْلِهِ حَتَّى يَبْرَأَ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيقِظَ، وعَنِ الصَّبِيِّ حتَّى يَحْتَلِمَ))
(1)
.
قَالَ الشَّيخُ عَبْدُ المُحْسِنِ العَبَّادِ حَفِظَهُ اللهُ تَعَالَى جَوَابًا عَلَى سُؤَالٍ: هَلِ المَسْحُورُ أَوِ الَّذِي بهِ صَرَعٌ لَهُ حُكْمُ المَعْذُورِينَ؟ وَهَلْ إِذَا فَعَلَ إِثْمًا ثُمَّ عُلِمَ أَنَّهُ مَسْحُورٌ -وَفَعَلَ هَذَا بِغَيرِ إِرَادَتِهِ- لَا يُقَامُ عَلَيهِ الحَدُّ؟
الجَوَابُ: "إِذَا كَانَ فَاقِدَ العَقْلِ؛ فَإِنَّهُ لَا يُقامُ عَلَيهِ الحَدُّ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ فَاقِدَ العَقْلِ وَإِنَّمَا يَحْصُلُ لَهُ شَيءٌ مِنْ تِلْكَ العَوَارِضِ -وَعَقْلُهُ مَوجُودٌ مَعَهُ- فَإِنَّهَ يُقَامُ عَلَيهِ الحَدُّ، حَتَّى لَو كَانَ عِنْدَهُ أَلَمٌ أَوِ اكْتِئَابٌ وَعَدَمُ ارْتِيَاحٍ، لَكِنَّ الشَّيءَ الَّذِي يُعْذَرُ فِيهِ هُوَ فُقْدَانُ العَقْلِ"
(2)
.
- مُنَاقَشَةُ شُبْهَةٍ مُتَعَلِّقَةٍ فِي نَفْي المَسِّ
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُ بَعْضِهِم -كَالْمُعْتَزِلَةِ- عَلَى نَفْي المَسِّ بِمِثْلِ قَولِهِ تَعَالَى عَنِ الشَّيطَانِ: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} [إِبْرَاهِيم: 22]، يَعْنَي: أَنَّ سُلْطَانَهُ هُوَ الدَّعْوَةُ فَقَط! وَلَيسَ عِنْدَهُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ!! فَمَرْدُودٌ.
وَذَلِكَ لِأَنَّ السُّلْطَانَ هُنَا مَعْنَاهُ: الحُجَّةُ وَالبُرْهَانُ، وَهَذَا حَقٌّ، يَعْنِي أَنَّ الشَّيطَانَ لَيسَ لَهُ حُجَّةٌ وَلَا بُرْهَانٌ فِيمَا دَعَا النَّاسَ إِلَيهِ مِنَ الكُفْرِ بِاللهِ تَعَالَى، وَتَزْيِينِ المَعَاصِي.
(1)
صَحِيحٌ. أَبُو دَاوُدَ (4399) عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (3512).
(2)
شَرْحُ سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، شَرِيط رَقَم (496).
وَبِهَذَا المَعْنَى فِعْلًا لَيسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى ابْنِ آدَمَ، أَمَّا لَو حُمِلَ السُّلْطَانُ عَلَى مَعْنَى التَّسَلُّطِ وَالتَّلَبُّسِ؛ فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ -قُرْآنًا وَسُنَّةً- قَدْ دَلَّتْ عَلَى حُصُولِ ذَلِكَ، فَلَا تَعَارُضَ بِحَمْدِ اللهِ.
وَتَأَمَّلْ قَولَهُ تَعَالَى: {وَقَالَ الشَّيطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} يَظْهَرْ لَكَ أَنَّ السُّلْطَانَ هُنَا هُوَ الحَقُّ وَالحُجَّةُ، وَعَلَيهِ فَلَا سُلْطَانَ لِلشَّيطَانِ عَلَى ابْنِ آدَمَ
(1)
.
وَكَذَا القَولُ فِي قَولِهِ تَعَالَى: {إِنَّ عِبَادِي لَيسَ لَكَ عَلَيهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحِجْر: 42] أَنَّهُ فِي الحُجَّةِ
(2)
.
وَكَذَا القَولُ فِي قَولِهِ تَعَالَى: {قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ * قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ} [الصَّافَّات: 28 - 30] أَنَّهُ فِي الحُجَّةِ أَيضًا
(3)
.
(1)
قَالَ الطَّبَرِيُّ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (16/ 560): "يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَقَالَ إِبْلِيسُ {لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ} يَعْنِي لَمَّا أُدْخِلَ أَهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ؛ وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ؛ وَاسْتَقَرَّ بِكُلِّ فَرِيقٍ مِنْهُم قَرَارُهُم {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ} أَيُّهَا الأَتْبَاعُ النَّارَ، وَوَعَدْتُكُم النُّصْرَةَ، فَأَخْلَفْتُكُم وَعْدِي، وَوَفَّى اللهُ لَكُم بِوَعْدِهِ {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} يَقُولُ: وَمَا كَانَ لِي عَلَيكُم فِيمَا وَعَدْتُكُم مِنَ النُّصْرَةِ مِنْ حُجَّةٍ تَثْبُتُ لِي عَلَيكُم بِصِدْقِ قَولِي".
(2)
قَالَ الطَّبَرِيُّ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (17/ 105): "يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّ عِبَادِي لَيسَ لَكَ عَلَيهِم حُجَّةٌ؛ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ عَلَى مَا دَعُوتَهُ إِلَيهِ مِنَ الضَّلَالَةِ مِمَّنْ غَوَى وَهَلَكَ".
(3)
قَالَ الطَّبَرِيُّ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (21/ 32): "يَقُولُ: قَالُوا: وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيكُم مِنْ حُجَّةٍ؛ فَنَصُدَّكُم بِهَا عَنِ الإِيمَانِ وَنَحُولَ بَينَكُم مِنْ أَجْلِهَا وَبَينَ اتِّبَاعِ الحَقِّ".
وَأَمَّا القَولُ فِي قَولِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ * إِنَّهُ لَيسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النَّحْل: 98 - 100] فَمَعْنَى السُّلْطَانِ هُنَا: الوَسْوَسَةُ وَالخَوَاطِرُ الرَّدِيَّةُ
(1)
.
(1)
قَالَ الطَّبَرِيُّ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (17/ 295): "وَأَولَى الأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ؛ قَولُ مَنْ قَالَ: مَعْنَاهُ: {إِنَّهُ لَيسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا} فَاسْتَعَاذُوا بِاللهِ مِنْهُ بِمَا نَدَبَ اللهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ مِنَ الاسْتِعَاذَةِ {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} عَلَى مَا عَرَضَ لَهُم مِنْ خَطَرَاتِهِ وَوَسَاوِسِهِ.
وَإِنَّمَا قُلْنَا: ذَلِكَ أَولَى التَّأوِيلَاتِ بِالآيَةِ؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَتْبَعَ هَذَا القَولَ {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ} وَقَالَ فِي مَوضِعٍ آخَر: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} فَكَانَ بَيِّنًا بِذَلِكَ أَنَّهُ إِنَّمَا نَدَبَ عِبَادَهُ إِلَى الاسْتِعَاذَةِ مِنْهُ فِي هَذِهِ الأَحْوَالِ لِيُعِيذَهُم مِنْ سُلْطَانِهِ".
-
المَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: أَنْكرَتِ المُعْتَزِلَةُ حَقِيقَةَ السِّحْرِ!
وَقَالُوا إِنَّمَا هِيَ أَوهَامٌ وَخِفَّةٌ فِي اليَدِ فَقَط! وَاسْتَدَلُّوا بِقَولِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طَه: 66]، فَهُوَ خَيَالٌ فِي العَينِ فَقَط! وَأَيضًا أَنَّ هَذِهِ الحِبَالَ كَانَتْ مَمْلُوءَةً زِئْبَقًا
(1)
! فَمَا الجَوَابُ؟
الجَوَابُ:
إِنَّهُ يُقَالُ ابْتِدَاءً:
قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رحمه الله: "قَالَ الإِمَامُ المَازِرِيُّ رحمه الله: مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَجُمْهُورِ عُلَمَاءِ الأُمَّةِ عَلَى إِثْبَاتِ السِّحْرِ؛ وَأَنَّ لَهُ حَقِيقَةً كَحَقِيقَةِ غَيرِهِ مِنَ الأَشْيَاءِ الثَّابِتَةِ، خِلَافًا لِمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ وَنَفَى حَقَيقَتَهُ وَأَضَافَ مَا يَقَعُ مِنْهُ إِلَى خَيَالَاتٍ بَاطِلَةٍ لَا حَقَائِقَ لَهَا"
(2)
.
ثُمَّ إِنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ العِلْمِ أَنَّ السِّحْرَ مِنْهُ مَا هُوَ حَقِيقِيٌّ لَهُ تَأْثِيرٌ، وَمِنْهُ مَا هُوَ جَارٍ عَلَى مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ مِنَ الخِفَّةِ وَالاسْتِتَارِ وَالسُّرْعَةِ وَالخِدَاعِ، فَإِذَا أُثْبِتَ نَوعٌ مَا بِدَلِيلٍ فَهَذَا لَا يَعْنِي نَفْيَ الآخَرِ
(3)
!
(1)
وَهِيَ مُجَرَّدُ دَعْوَى تُخَالِفُ ظَاهِرَ مَا وَرَدَ فِي النُّصُوصِ القُرْآنيَّةِ مِنْ كَونِهِم جَاءُوا بِالسِّحْرِ؛ وَسَحَرُوا أَعيُنَ النَّاسِ؛ وَأَنَّهُ سِحْرٌ عَظِيمٌ.
(2)
شَرْحُ مُسْلِمٍ (14/ 174) بَابُ السِّحْرِ.
(3)
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله فِي الفَتْحِ (10/ 225): "وَقَولُهُ: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طَه: 66]: الآيَةُ عُمْدَةُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ السِّحْرَ إِنَّمَا هُوَ تَخْيِيلٌ! وَلَا حُجَّةَ لَهُ بِهَا؛ لِأَنَّ هَذِهِ وَرَدَتْ فِي قِصَّةِ سَحَرَةِ فِرْعَونَ، وَكَانَ سِحْرُهُم كَذَلِكَ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ جَمِيعَ أَنْوَاعِ السِّحْرِ تَخْيِيلٌ".
=
وَبَعْدَ ذَلِكَ نَقُولُ: إِنَّ مِنَ أَدِلَّة حَقِيقَةِ وَأَثَرِ السِّحْرِ:
1 -
قَولُهُ تَعَالَى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفَلَق: 1 - 4] وَالنَّفَّاثَاتُ فِي العُقَدِ: هُنَّ السَّوَاحِرُ
(1)
مِنَ النِّسَاءِ، وَلَمَّا أُمِرَ بِالاسْتِعَاذَةِ مِنْ شَرِّهِنَّ عُلِمَ أَنَّ لَهُنَّ تَأْثِيرًا وَضَرَرًا حَقِيقَةً.
وَفِي الحَدِيثِ: ((مَنْ تَصَبَّحَ سَبْعَ تَمَرَاتٍ عَجْوَةً؛ لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ اليَومَ سُمٌّ وَلَا سِحْرٌ))
(2)
، فعَطْفُ السِّحْرِ عَلَى السُّمِّ؛ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ التَّأْثِيرِ الحَقِيقِيِّ؛ بَلْ وَعَلَى عِظَمِ أَثَرِهِ حَيثُ عُطِفَ عَلَى السُّمِّ المُمِيتِ.
2 -
قَولُهُ تَعَالَى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَينَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البَقَرَة: 102] ظَاهِرٌ فِيهِ أَثَرُ السِّحْرِ فِي التَّفْرِيقِ وَالضَّرَرِ، "وَغَيرُ مُسْتَنْكَرٍ فِي العَقْلِ أَنْ يَكُونَ البَارِي سُبْحَانَهُ يَخْرِقُ العَادَاتِ عِنْدَ النُّطْقِ بِكَلَامٍ مُلَفَّقٍ أَو تَرْكِيبِ أَجْسَامٍ، أَوِ المَزْجِ بَينَ قِوىً عَلَى تَرتَيبٍ مَا لَا يَعْرِفُهُ إِلَّا السَّاحِرُ"
(3)
.
وَالإِيمَانُ بِحَقِيقَةِ السِّحْرِ وَأَثَرِهِ لَيسَ بِأَعْجَبَ مِنَ الإِيمَانِ بِحَقِيقَةِ الحَسَدِ وَالعَينِ،
=
قُلْتُ: أَمَّا كَونُ سِحْرِهِم تَخْيِيلًا فَصَحِيحٌ، أَمَّا كَونُهُ لَيسَ لَهُ حَقِيقَةٌ! فَخَطَأٌ، وَلَيسَ فِي قِصَّةِ مُوسَى مَا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ، بَلْ يَدُلُّ عَلَى حَقِيقَتِهِ أَنَّهُ أثَّرَ فِي الأَعْيُنِ حَتَّى تَخَيَّلوا، فَتَحَوُّلُ الحِبَالِ وَالعِصِيِّ إِلَى أَفَاعِي لَيسَ لَهُ حَقِيقَةٌ، وَأَمَّا تَأَثُّرُ الأَعْيُنِ فَحَقِيقَةٌ. وَاللهُ تَعَالَى المُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ.
(1)
قَالَهُ البُخَارِيُّ رحمه الله فِي الصَّحِيحِ (7/ 136).
(2)
البُخَارِيُّ (5769) عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ مَرْفُوعًا.
(3)
إِكْمَالُ المُعْلِمِ (7/ 86).
فَمَنْ آمَنَ بِالثَّانِي وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالأَوَّلِ فَقَدْ تَنَاقَضَ وَخَالَفَ المَحْسُوسَ وَالمُتَوَاتِرَ.
3 -
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها؛ قَالَتْ سَحَرَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ مِنْ بَنِي زُرَيقٍ يُقَالُ لَهُ: لَبِيدُ بْنُ الأَعْصَمِ، حَتَّى كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُخَيَّلُ إِلَيهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ الشَّيءَ وَمَا فَعَلَهُ! حَتَّى إِذَا كَانَ ذَاتَ يَومٍ أَو ذَاتَ لَيلَةٍ -وَهْوَ عِنْدِي- لَكِنَّهُ دَعَا وَدَعَا ثُمَّ قَالَ: ((يَا عَائِشَةُ، أَشَعَرْتِ أَنَّ اللهَ أَفْتَانِي فِيمَا اسْتَفْتَيتُهُ فِيهِ؟ أَتَانِي رَجُلَانِ؛ فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي، وَالآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: مَا وَجَعُ الرَّجُلِ؟ فَقَالَ: مَطْبُوبٌ. قَالَ: مَنْ طَبَّهُ؟ قَالَ: لَبِيدُ بْنُ الأَعْصَمِ. قَالَ: فِي أَيِّ شَيءٍ؟ قَالَ: فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ وَجُفِّ طَلْعِ
(1)
نَخْلَةٍ ذَكَرٍ، قَالَ: وَأَينَ هُوَ؟ قَالَ: فِي بِئْرِ ذَرْوَانَ)). فَأَتَاهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَجَاءَ فَقَالَ:((يَا عَائِشَةُ كَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الحِنَّاءِ، أَو كَأَنَّ رُءُوسَ نَخْلِهَا رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ)). قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ أَفَلَا اسْتَخْرَجْتَهُ؟ قَالَ: ((قَدْ عَافَانِي اللهُ؛ فَكَرِهْتُ أَنْ أُثَوِّرَ عَلَى النَّاسِ فِيهِ شَرًّا)) فَأَمَرَ بِهَا فَدُفِنَتْ
(2)
.
وَالشَّاهِدُ فِيهِ مِنْ جِهَتَينِ: (التَّخْيِيلُ، قَدْ عَافَانِي).
وَأَمَّا فِي خُصُوصِ قَولِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طَه: 66] أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى التَّخييلِ دُونَ الحَقِيقَةِ! فَالرَّدُّ عَلَيهِم مِنْ جِهَتَينِ:
أ- أَنَّ هَذَا التَّخْيِيلَ -وَإِنْ كَانَ لَا حَقِيقَةَ لَهُ فِي تَغْيِيرِ أَعْيَانِ الأَشْيَاءِ- وَلَكِنَّهُ كَانَ مُؤَثِّرًا حَقِيقَةً عَلَى العَينَ حَتَّى جَعَلَهَا تَتَخَيَّلُ، فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى حَقيقَتِهِ وَأَثَرِهِ.
ب- لَا يَصِحُّ حَمْلُ ذَلِكَ السِّحْرِ عَلَى التَّخْيِيلِ بِكَونِ الحِبَالِ وَالعِصِيِّ كَانَتْ
(1)
(جُفِّ طَلْعٍ): الجُفُّ: وِعَاءُ الطَّلعِ وَغِشَاؤُهُ الَّذِي يُكِنُّهُ.
(2)
البُخَارِيُّ (5763)، وَمُسْلِمٌ (2189).
مَمْلُوءَةً زِئْبَقًا، لِأَنَّهُ لَو كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ سَعْيُ الحيَّاتِ هَذَا خَيَالًا بَلْ حَرَكَةً حَقِيقِيَّةً! وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ سِحْرًا لِأَعْيُنِ النَّاسِ أَصْلًا! وَلَا يُسَمَّى -أَصْلًا- سِحْرًا؛ بَلْ صِنَاعَةً مِنَ الصِّنَاعَاتِ المُشْتَرَكةِ.
وَأَيضًا لَو كَانَ ذَلِكَ حِيلَةً مِنْهُم كَمَا قَالَ هَؤُلَاءِ؛ لَكَانَ طَرِيقَ إِبْطَالِهَا إِخْرَاجُ مَا فِيهَا مِنَ الزِّئْبَقِ؛ وَبَيَانُ ذَلِكَ المُحَالِ، وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى إِلْقَاءِ العَصَا لِابْتِلَاعِهَا! وَأَيضًا فَمِثْلُ هَذِهِ الحِيَلَةِ لَا يُحْتَاجُ فِيهَا إِلَى الاسْتِعَانَةِ بِالسَّحَرَةِ؛ بَلْ يَكْفِي فِيهَا حُذَّاقُ الصُّنَّاعِ، وَلَا يُحْتَاجُ فِي ذَلِكَ إِلَى تَعْظِيمِ فِرْعَونَ لِلسَّحَرَةِ وَخُضُوعِهِ لَهُم وَوَعْدِهِم بِالتَّقْرِيبِ وَالجَزَاءِ
(1)
.
(1)
انْظُرْ (بَدَائِعُ الفَوَائِدِ)(ص 748) لِابْنِ القَّيِّمِ.
-
المَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: مَا صِحَّةُ مَا نُسِبَ إِلَى الإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ النُّعْمَان رحمه الله فِي أَنَّهُ أَنْكَرَ حَقِيقَةَ السِّحْرِ؟
الجَوَابُ:
لَو ثَبَتَ المَطْلُوبُ؛ لَمْ تَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ شَرْعًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رحمه الله وَأَحْسَنَ مَثْوَاهُ-؛ يُسْتَدَلُّ لَهُ وَلَا يُسْتَدَلُّ بِهِ، فَالحَقُّ لَا يُعْرَفُ بِالرِّجَالِ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ الرِّجَالُ بِالحَقِّ.
وَلَكِنْ أَقُولُ -مُسْتَعِينًا بِالله تَعَالَى وَحْدَهُ-:
إِنَّ مَا عُزِيَ إِلَى أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله مِنْ أَنَّهُ لَا يُثْبِتُ حَقِيقَةَ السِّحْرِ؛ عَلَيهِ مُلَاحَظَاتٌ:
1 -
إِنَّ الَّذِينَ نَقَلُوا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ النَّفْيَ؛ إِنَّمَا ذَكَرُوا أَنَّ الإِجْمَاعَ وَقَعَ عَلَى خِلَافِ مَا ذَهَبَ إِلَيهِ رحمه الله! فَيَكُونُ قَولُهُ مُخَالِفًا لِلْإِجْمَاعِ! وَعَلَيهِ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ.
قَالَ الوَزِيرُ أَبُو المُظَفَّرِ ابْنُ هُبَيرَةَ فِي كِتَابِهِ (الإِشْرَافُ عَلَى مَذَاهِبِ الأَشْرَافِ): "بَابٌ فِي السِّحْرِ، فَقَالَ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ السِّحْرَ لَهُ حَقِيقَةٌ إِلَّا أَبَا حَنِيفَةَ؛ فَإِنَّهُ قَالَ لَا حَقِيقَةَ لَهُ عِنْدَهُ"
(1)
.
2 -
إِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ نُقِلَ عَنْهُ القَولَانِ مَعًا -مِنْ جِهَةِ الإِثْبَاتِ وَالنَّفْي-.
قَالَ أَبُو الحَسَنِ المَاوَرْدِيُّ رحمه الله: "فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي حَقِيقَةِ السِّحْرِ، فَقَدِ
(1)
تَفْسِيرُ ابْنِ كَثِيرٍ (1/ 255).
اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهَا، فَالَّذِي عَلَيهِ الفُقَهَاءُ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَكَثِيرٌ مِنَ المُتَكَلِّمِينَ أَنَّهُ لَهُ حَقِيقَةً وَتَأثِيرًا"
(1)
.
عِلْمًا أَنَّ أَبَا الحَسَنِ المَاوَرْدِيَّ هَذَا رحمه الله كَانَ مُعْتَزِلِيًّا
(2)
-وَالمُعْتَزِلَةُ تُنْكِرُ حَقِيقَةَ السِّحْرِ-؛ وَمَعْ ذَلِكَ فَقَدْ نَسَبَ لِأَبِي حَنِيفَةَ إِثْبَاتَ حَقِيقَةِ السِّحْرِ!
وَقَالَ الإِمَامُ ابْنُ المُلَقِّنِ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: "ثُمَّ السِّحْرُ لَهُ حَقِيقَةٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَقَدْ يُمْرِضُ مَنْ يُفْعَلُ بِهِ وَيَمُوتُ خِلَافًا لِمَنْ نَفَاهُ وَقَال إِنَّهُ تَخْيِيلٌ وَشَعْوَذَةٌ"
(3)
.
وَأَيضًا عُلَمَاءُ المَذْهَبِ الحَنَفِيِّ؛ مِنْهُم مَنْ أَثْبَتَ حَقِيقَتَهُ وَأَثَرَهُ، وَهُمْ أَعْلَمُ بِقَولِ إِمَامِهِم
(4)
.
قَالَ ابْنُ نُجَيمٍ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (النَّهْرُ الفَائِقُ شَرْحُ كَنْزِ الدَّقَائِقِ) -مِنْ كُتُبِ الحَنَفِيَّةِ-: "وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا: إِنَّ لَهُ حَقِيقَةً وَتَأثِيرًا فِي إِيلَامِ الأَجْسَامِ، خِلَافًا لِمَنْ مَنَعَ وَقَالَ: إِنَّهُ تَخْيِيلٌ. كَذَا فِي (الفتح) "
(5)
.
وَجَاءَ أَيضًا فِي كِتَابِ (الدُّرُّ المُخْتَارُ مَعَ حَاشِيَةِ رَدِّ المُحْتَارِ) -مِنْ كُتُبِ
(1)
الحَاوِي الكَبِير لِلْمَاوَرْدِيّ (13/ 93).
(2)
قَالَ الإِمَامُ الذَّهَبِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ مِيزَانُ الاعْتِدَالِ (3/ 155) -فِي تَرْجَمَةِ أَبِي الحَسَنِ المَاوَرْدِيِّ هَذَا-: "عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّد، أَقْضَى القُضَاةِ، أَبُو الحَسَنِ المَاوَرْدِي، صَدُوقٌ فِي نَفْسِهِ؛ لَكِنَّهُ مُعْتَزِلِيٌّ".
(3)
التَّوضِيحُ لِشَرْحِ الجَامِعِ الصَّحِيحِ (27/ 536).
(4)
وَمِنْهُم أَيضًا مَنْ جَعَلَ أَثَرَهُ مُتَعَلِّقًا بِمَا كَانَ كَالدُّخَانِ الَّذِي يَصِلُ إِلَى بَدَنِ المَسْحُورِ.
(5)
النَّهْرُ الفَائِقُ شَرْحُ كَنْزِ الدَّقَائِقِ (3/ 254).
الحَنَفِيَّةِ-: "قَولُهُ: (وَالسِّحْرِ): هُوَ عِلْمٌ يُسْتَفَادُ مِنْهُ حُصُولُ مَلَكَةٍ نَفْسَانِيَّةٍ يُقْتَدَرُ بِهَا عَلَى أَفْعَالٍ غَرِيبَةٍ لِأَسْبَابٍ خَفِيَّةٍ"
(1)
.
وَانْظُرْ كِتَابَ (مِرْقَاةِ المَفَاتِيحِ) أَيضًا لِلعَلَّامَةِ مُلَّا عَلِي القَاري الحَنَفِيِّ رحمه الله
(2)
.
3 -
مِمَّا يُؤَكِّدُ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رحمه الله يَقُولُ بِحَقِيقَةِ السِّحْرِ أَنَّه يَقُولُ بِحَدِّ السَّاحِرِ وَرِدَّتِهِ، فَلَو كَانَ السِّحْرُ لَيسَ لَهُ حَقِيقَةٌ عِنْدَهُ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ أَعْمَالِ خِفَّةِ اليَدِ وَمَا يُسَمَّى بِسَاحِرِ (السِّيرك)! فَعَلَى أَيِّ شَيءٍ يَكْفُرُ وَيُقْتَلُ السَّاحِرُ عِنْدَهُ؟!
جَاءَ فِي كِتَابِ (الدُّرُّ المُخْتَارُ مَعَ حَاشِيَةِ رَدِّ المُحْتَارِ) -مِنْ كُتُبِ الحَنَفِيَّةِ-: "قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: السَّاحِرُ إذَا أَقَرَّ بِسِحْرِهِ أَو ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ؛ يُقْتَلُ وَلَا يُسْتَتَابُ مِنْهُ"
(3)
.
4 -
إِنَّ الرَّاجِحَ فِي مَوقِفِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّهُ يَقْصِدُ أَنَّ السِّحْرَ لَهُ حَقِيقَةٌ مِنْ جِهَةِ وُجُودِهِ وَتَأثِيرِهِ عَلَى النَّاسِ بِالمَرَضِ وَالتَّخْيِيلِ وَنَحْوِهِ؛ وَلَيسَ لَهُ حَقِيقَةٌ مِنْ جِهَةِ تَغْيِيرِهِ لِلْأَعْيَانِ، يَعْنِي أَنْ يُحَوِّلَ العِصِيَّ إِلَى أَفَاعِيَ حَقِيقِيَّةٍ مِثَلًا!!
وَهَذَا بَيَّنَهُ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ.
وَهَذَا الجَمْعُ أَولَى مِنْ تَرْجِيحِ وَجْهٍ عَلَى وَجْهٍ، لَا سِيَّمَا وَأَنَّ الجَمْعَ هَذَا لَا يُخْرِجُ رَأْيَهُ رحمه الله عَنِ الأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ الصَّرِيحَةِ فِي هَذَا البَابِ، وَأَيضًا يَبْقَى مُوَافِقًا لِسَائِرِ كَلَامِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ، كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ هُبَيرَةَ فِيمَا سَبَقَ عن إِجْمَاعِهِم.
(1)
الدُّرُّ المُخْتَارُ مَعَ حَاشِيَةِ رَدِّ المُحْتَارِ (1/ 44).
(2)
مِرْقَاةُ المَفَاتِيحِ (1/ 123).
(3)
الدُّرُّ المُخْتَارُ مَعَ حَاشِيَةِ رَدِّ المُحْتَارِ (4/ 240).
قَالَ الكَشْمِيرِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (فَيضُ البَارِي): "ثُمَّ إِنَّ السِّحْرَ لَهُ تَأثِيرٌ فِي التَّقْلِيبِ مِنَ الصِّحَّةِ إِلَى المَرَضِ، وَبِالعَكْسِ، أَمَّا فِي قَلْبِ المَاهِيَّةِ؛ فَلَا، وَمَا يَتَرَاءَى فِيهِ مِنْ قَلْبِ المَاهِيَّةِ لَا يَكُونُ فِيهِ إِلَّا التَّخْيِيلُ الصَّرْفُ، قَالَ تَعَالَى:{يُخَيَّلُ إِلَيهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه: 66]، فَلَمْ تَنْقَلِبِ الحِبَالُ إِلَى حَيَّاتٍ! وَلَكِنْ خُيِّلَ إِلَيهِ أَنَّهَا انْقَلَبَتْ.
وَهَذَا مَا نُسِبَ إِلَى أَبِي حَنِيفَةِ أَنَّ فِي السِّحْرِ تَخْيِيلًا فَقَط، وَلَا يُرِيدُ بِهِ نَفْيَ التَّأثِيرِ مُطْلَقًا؛ فَإِنَّهُ مَعْلُومٌ مَشْهُودٌ، بَلْ يُرِيدُ بِهِ نَفِيَ التَّأثِيرِ فِي حَقِّ قَلْبِ المَاهِيَّاتِ"
(1)
.
(1)
فَيضُ البَارِي عَلَى صَحِيحِ البُخَارِيّ (4/ 293).
-
المَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: أَنْكَرَتِ المُعْتَزِلَةُ كَونَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سُحِرَ،
مِنْ أَوجُهٍ:
الشُّبْهَةِ الأُولَى: قَالُوا: هَذَا يُدْخِلُ طَعْنًا عَلَى تَبْلِيغِ الدِّينِ!
وَالجَوَابُ:
نَقُولُ: قَدْ ثَبَتَ كُلٌّ مِنَ الأَمْرَينِ، فنُثْبِتُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ سُحِرَ
(1)
، وَنَنْفِي عَنْهُ الخَطَأَ فِي التَّشْرِيعِ.
قَالَ ابْنُ القَيِّمِ رحمه الله: "وَكَانَ غَايَةُ هَذَا السِّحْرِ فِيهِ؛ إِنَّمَا هُوَ فِي جَسَدِهِ وَظَاهِرِ جَوَارِحِهِ، لَا عَلَى عَقْلِه وَقَلْبِه، وَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ يَعْتَقِدُ صِحَّةَ مَا يُخَيَّلُ إِلَيهِ مِنْ إِتْيَانِ النِّسَاءِ، بَلْ يَعْلَمُ أَنَّهُ خَيَالٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ، وَمِثْلُ هَذَا قَدْ يَحْدُثُ مِنْ بَعْضِ الأَمْرَاضِ. وَاللهُ أَعْلَمُ"
(2)
.
(1)
قَالَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله: "إنَّ هَذَا السِّحْرَ هُوَ مَا يُسَمَّى الآنَ بِالرَّبْطِ، فَلَا يَسْتَطِيعُ الرَّجُلُ أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَهُ، وَمَعْ هَذَا فَلَا يَضُرُّ ذَلِكَ فِي عَقْلِهِ، وَلَا يَمْنَعُهُ مِنْ سَائِرِ شُؤُونِهِ" أ. هـ بِتَصَرُّفٍ يَسِيرٍ مِنْ أَشْرِطَةِ فَتَاوَى جِدَّة (ش 11).
وَنَقَلَ النَّوَوِيُّ رحمه الله فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ (14/ 175) عَنِ القَاضِي عِيَاضٍ رَحِمَهُمَا اللهُ: "وَيُرْوَى: (يُخَيَّلُ إِلَيهِ): أَي: يَظْهَرُ لَهُ مِنْ نَشَاطِهِ وَمُتَقَدِّمِ عَادَتِهِ القُدْرَةُ عَلَيهِنَّ؛ فَإِذَا دَنَى مِنْهُنَّ أَخَذَتْهُ أَخْذَةُ السِّحْرِ فَلَم يَأْتِهِنَّ وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ ذَلِكَ كَمَا يَعْتَرِي المَسْحُورَ. وكُلُّ مَا جَاءَ فِي الرِّوَايَاتِ مِنْ أَنَّهُ يُخيَّلُ إِلَيهِ فِعْلُ شَيءٍ لَمْ يَفْعَلْهُ وَنَحْوُهُ فمَحْمُولٌ عَلَى التَّخيُّلِ بِالبَصَرِ لَا لِخَلَلٍ تَطَرَّقَ إِلَى العَقْلِ، وَلَيسَ فِي ذَلِكَ مَا يُدْخِلُ لَبْسًا عَلَى الرِّسَالَةِ".
(2)
زَادُ المَعَادِ (4/ 116).
الشُّبْهَةِ الثَّانِيَةِ: أَنَّ المُشْرِكِينَ هُمُ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَسْحُورٌ! قَالَ تَعَالَى: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا * انْظُرْ كَيفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} [الإِسْرَاء: 47 - 48].
وَالجَوَابُ: إِنَّ اتِّهَامَهُم لَهُ صلى الله عليه وسلم هُوَ مِنْ بَابِ الإيذَاءِ، وَيَقْصِدُونَ أَنَّ كَلَامَهُ كَلَامُ المَجَانِين -وَحَاشَاهُ صلى الله عليه وسلم، وَأَنَّهُ أَتَى بِمَا لَا يُعْقَلُ وَلَا يَصِحُّ، وَلَيسَ مِنْ بَابِ أَنَّهُ مُصَابٌ بِسِحْرٍ فِي بَدَنِهِ قَدْ أَمْرَضَهُ! كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى:{كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} [الذَّارِيَات: 5].
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي التَّفْسِيرِ: "فَتَارَةً مِنْ إِفْكِهِمْ يَقُولُونَ: سَاحِرٌ، وَتَارَةً يَقُولُونَ: شَاعِرٌ، وَتَارَةً يَقُولُونَ: مَجْنُونٌ، وَتَارَةً يَقُولُونَ: كَذَّابٌ. وَقَالَ الله تَعَالَى: {انْظُرْ كَيفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} [الإِسْرَاء: 48] "
(1)
.
وَيَتَأَكَّدُ الجَوَابُ بِبَيَانِ أَنَّ هَذَا هُوَ نَظِيرُ مَا جَرَى مَعَ مُوسَى صلى الله عليه وسلم، حَيثُ قَالَ فِرْعَونُ لِمُوسَى:{فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَامُوسَى مَسْحُورًا} [الإِسْرَاء: 101] مَعَ مَا قَد عُلِمَ مِنْ قَولِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طَه: 66].
(1)
تَفْسِيرُ ابْنِ كَثِيرٍ (6/ 94).
-
المَسْأَلَةُ العَاشِرَةُ: إِذَا كَانَ حَدِيثُ البَابِ ذَكَرَ سَبْعًا مِنَ المُوبِقَاتِ، فَكَيفَ الجَمْعُ مَعَ مَا وَرَدَ فِي أَلْفَاظٍ كَثِيرْةٍ لِلحَدِيثِ عَنْ غَيرِ هَذِهِ السَّبْعَةِ؟
الجَوَابُ هُوَ مِنْ أَوجُهٍ
(1)
:
1 -
أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَعْلَمَ أَوَّلًا بِالمَذْكُورَاتِ، ثُمَّ أَعْلَمَ بِمَا زَادَ، فَيَجِبُ الأَخْذُ بِالزَّائِدِ.
2 -
أَنَّ الاقْتِصَارَ وَقَعَ بِحَسْبِ المَقَامِ بِالنِّسبَةِ لِلسَّائِلِ أَو مَنْ وَقَعَتْ لَهُ وَاقِعَةٌ.
3 -
أَنَّ مَفْهُومَ العَدَدِ لَيسَ بِحُجَّةٍ -وَهُوَ جَوَابٌ ضَعِيفٌ-.
(1)
ذَكَرَهَا الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله فِي الفَتْحِ (12/ 183).
-
المَسْأَلَةُ الحَادِيَةُ عَشْرَةَ: مَا سَبَبُ عَطْفِ السِّحْرِ عَلَى الشِّرْكِ فِي الحَدِيثِ رُغْمَ أَنَّ السِّحْرَ هُوَ مِنَ الشِّرْكِ؟
الجَوَابُ هُوَ مِنْ وَجْهَينِ:
1 -
أَنَّ السِّحْرَ نَوعٌ مِنَ الشِّرْكِ، فَهُوَ مِنْ بَابِ عَطْفِ الخَاصِّ عَلَى العَامِّ لِلدَّلَالَةِ عَلَى خُطُورَتِهِ.
2 -
أَنَّ السِّحْرَ لَيسَ مُطَابِقًا تَمَامًا لِلشِّرْكِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مِنْهُ مَا هُوَ لَيسَ بِشِرْكٍ، كَمَا هُوَ فِي اسْتِخْدَامِ العَقَاقِيرِ وَالتَّدْخِينِ وَخِفَّةِ اليَدِ.
بَابُ بَيَانِ شَيءٍ مِنْ أَنْوَاعِ السِّحْرِ
قَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ؛ حَدَّثَنَا عَوفٌ؛ عَنْ حَيَّانَ بْنِ العَلَاءِ؛ حَدَّثَنَا قَطَنُ بْنُ قَبِيصَةَ عَنْ أَبِيهِ؛ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((إِنَّ العِيَافَةَ وَالطَّرْقَ وَالطِّيَرَةَ مِنَ الجِبْتِ)).
قَالَ عَوفٌ: العِيَافَةُ زَجْرُ الطَّيرِ، وَالطَّرْقُ: الخَطُّ يُخَطُّ بِالأَرْضِ، وَالجِبْتُ؛ قَالَ الحَسَنُ: رَنَّةُ الشَّيطَانِ. إِسْنَادُهُ جَيِّدٌ. وَلِأَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ وَابْنِ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ المُسْنَدِ مِنْهُ
(1)
.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما؛ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((مَنِ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنَ النُّجُومِ؛ فَقَدِ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنَ السِّحْرِ؛ زَادَ مَا زَادَ)). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ
(2)
.
وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ: ((مَنْ عَقَدَ عُقْدَةً ثُمَّ نَفَثَ فِيهَا؛ فَقَدْ سَحَرَ، وَمَنْ سَحَرَ؛ فَقَدْ أَشْرَكَ، وَمَنْ تَعَلَّقَ شَيئًا؛ وُكِلَ إِلَيهِ))
(3)
.
(1)
ضَعِيفٌ. أَبُو دَاوُدَ (3907)، وَالنَّسَائِيُّ فِي الكُبْرَى (11043)، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ (6131)، وَأَحْمَدُ (20604)، وَفِيهِ حيَّانُ بْنُ العَلَاءِ؛ وَهُوَ مَجْهُولٌ. تَحْقِيقُ رِيَاضِ الصَّالِحِينَ لِلشَّيخِ الأَلْبَانِيِّ رحمه الله (1678).
قُلْتُ: لَكِنَّ أَثَرَ عَوفٍ صَحِيحٌ مَقْطُوعًا. صَحِيحُ سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ (3908).
(2)
صَحِيحٌ. أَبُو دَاوُدَ (3905). صَحِيحُ الجَامِعِ (6074).
(3)
ضَعِيفٌ. النَّسَائِيُّ (4079). ضَعِيفُ الجَامِعِ (5702)، وَالشَّطْرُ الأَخِيرُ مِنْهُ حَسَنٌ لِغَيرِهِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُكَيمٍ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ (2072). صَحِيحُ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ (3456).
=
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((أَلَا هَلْ أُنَبِّئُكُمْ مَا العَضْهُ؟ هِيَ النَّمِيمَةُ؛ القَالَةُ بَينَ النَّاسِ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ
(1)
.
وَلَهُمَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((إِنَّ مِنَ البَيَانِ لَسِحْرًا))
(2)
.
=
قُلْتُ: لَكِنَّ الحَدِيثَ مَعْنَاهُ صَحِيحٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ عَقْدَ العُقَدِ وَالنَّفْثَ فِيهَا هُوَ عَمَلُ السَّوَاحِرِ كَمَا قَالَهُ البُخَارِيُّ رحمه الله فِي صَحِيحِهِ (7/ 136) فِي بَابِ السِّحْرِ، وَلَا رَيبَ أَنَّ فِعْلَ هَذَا السِّحْرِ شِرْكٌ.
وَعِنْدَ البَزَّارِ (9/ 52) مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ مَرْفُوعًا: ((لَيسَ مِنَّا مَنْ تَطَيَّرَ أَو تُطُيِّرَ لَهُ، أَو تَكَهَّنَ أَو تُكُهِّنَ لَهُ، أَو سَحَرَ أَو سُحِرَ لَهُ)). صَحِيحٌ. الصَّحِيحَةُ (2195).
(1)
مُسْلِمٌ (2606).
(2)
البُخَارِيُّ (5146) عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا، وَمُسْلِمٌ (869) عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ مَرْفُوعًا.
فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: أَنَّ العِيَافَةَ وَالطَّرْقَ وَالطِّيَرَةَ مِنَ الجِبْتِ.
الثَّانِيَةُ: تَفْسِيرُ العِيَافَةِ وَالطَّرْقِ.
الثَّالِثَةُ: أَنَّ عِلْمَ النُّجُومِ نَوعٌ مِنَ السِّحْرِ.
الرَّابِعَةُ: العُقَدُ مَعَ النَّفْثِ مِنْ ذَلِكَ.
الخَامِسَةُ: أَنَّ النَّمِيمَةَ مِنْ ذَلِكَ.
السَّادِسَةُ: أَنَّ مِنْ ذَلِكَ بَعْضُ الفَصَاحَةِ.
الشَّرْحُ
- أَرَادَ المُصَنِّفُ رحمه الله بِهَذَا البَابِ بَيَانَ أَنَّ السِّحْرَ أَنْوَاعٌ -أَي مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ، وَالعُرْفِ، وَالشَّرْعِ- وَمِنْهُ الكُفْرُ، وَمِنْهُ مَا دُونَ ذَلِكَ.
فَقَدْ يُسَمَّى الشَّيءُ سِحْرًا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ يَفْعَلُ فِعْلَ السِّحْرِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي حَقِيقَتِهِ سِحْرًا مِنْ جِهَةِ المَعْنَى الَّذِي هُوَ الكُفْرُ وَالشِّرْكُ وَعِبَادَةُ الشَّيَاطِين وَالاسْتِعَانَةُ بِهِم، وَقَدْ يُسَمَّى أَيضًا سِحْرًا مِنْ حِيثُ خَفَاءِ أَسْبَابِهِ المَزْعُومَةِ.
- قَولُهُ: ((العِيَافَةَ)) عَافَ الشَّيءَ يَعَافُهُ: إِذَا تَرَكَهُ فَلَم تبْغِهِ نَفْسُهُ، وعَافَ الطَّيرُ يَعِيفُ عَيَفَانًا وَعَيفًا وَعِيَافَةً: إِذَا حَامَ فِي السَّمَاءِ
(1)
.
- قَولُهُ: ((زَجْرُ الطّيرِ)) هُوَ أَنْ يُحرِّكَ طَيرًا حَتَّى يَنْظُرَ إِلَى أَينَ يَتَحَرَّكُ، ثُمَّ يَفْهَمَ مِنْ ذَلِكَ الزَّجْرِ هَلْ هَذَا الأَمْرُ الَّذِي سَيُقْدِمُ عَلَيهِ أَمْرٌ مَحْمُودٌ أَمْ أَمْرٌ مَذْمُومٌ، وَهُوَ أَخَصُّ مِنْ عُمُومِ الطِّيَرَةِ الَّتِي هِيَ التَّشَاؤُمُ وَالتَّفَاؤُلُ، وَسَيَأْتِي الكَلَامُ عَلَيهَا إِنْ شَاءَ اللهُ بَعْدَ أَبْوَابٍ.
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله فِي الفَتْحِ (10/ 213): "وَكَانُوا يَتَيَمَّنُونَ بِالسَّانِحِ وَيَتَشَاءَمُونَ بِالبَارِحِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِن رَمْيُهُ إِلَّا بِأَنْ يَنْحَرِف إِلَيهِ، وَقَدْ كَانَ بَعْضُ عُقَلَاءِ الجَاهِلِيَّةِ يُنْكِرُ التَّطَيُّرَ وَيَتَمَدَّحُ بِتَرْكِهِ.
قَالَ شَاعِر مِنْهُمْ: لَعُمْرُكَ مَا تَدْرِي الطَّوَارِق بِالحَصَى
…
وَلَا زَاجِرَتُ الطَّيرِ مَا اللهُ صَانِعُ"
(2)
.
(1)
جَمْهَرَةُ اللُّغَةِ (2/ 938) لِابْنِ دُرَيدٍ.
(2)
فَتْحُ البَارِي (10/ 213).
- العِيَافَةُ مِنَ السِّحْرِ، فَحرَكَةُ الطَّيرِ يَمْنَةً أَو يَسْرَةً لَهَا أَثَرٌ خَفَيٌّ دَخَلَ فِي النَّفْسِ فَأَثَّرَ عَلَيهَا مِنْ جِهَةِ الإِقْدَامِ أَوِ الكَفِّ
(1)
.
- قَولُهُ: ((الطَّرْقُ)) مَأْخُوذٌ مِنْ وَضْعِ طُرُقٍ وَخُطُوطٍ فِي الأَرْضِ، وَفَاعِلُهُ يُسَمَّى الرَّمَّالَ.
- قَولُ الحَسَنِ: (رَنَّةُ الشَّيطَانِ): أَي: مِنْ وَحْي الشَّيطَانِ، وَالرَّنِينُ هُوَ صَوتُهُ الَّذِي يَسْتَفِزُ بِهِ
(2)
.
- قَولُهُ: ((اقْتَبَسَ)) تَعَلَّمَ، وَ ((شُعْبَةً)) طائِفَةً.
- عِلْمُ التَّنْجِيمِ: هُوَ عِلْمُ النُّجومِ، وَالتَّنْجِيمُ هُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَشْكَالٍ
(3)
:
1 -
الاعْتِقَادُ بِأَنَّ النُّجُومَ هِيَ الَّتِي تُدبِّرُ الكَونَ وَتُصَرِّفُهُ، وَأَنَّهَا تُخَاطَبُ وَتُعْبَدُ وَتُدْعَى وَيُسَبَّحُ لَهَا! فَهَذَا النَّوعُ سِحْرٌ وَشِرْكٌ.
كَمَا هُوَ حَالُ الكَنْعَانِيِّين الَّذِينَ بُعِثَ فِيهِم إِبْرَاهِيمُ عليه السلام؛ فَإِنَّهُم كَانُوا يَبْنُونَ هَيَاكِلَ عَلَى صُوَرِ الكَوَاكِبِ الَّتِي يَرَونَهَا، وَيَجْعَلُونَ بُيُوتًا لَهَا، وَيَضَعُونَ فِيهَا الصُّوَرَ، ثُمَّ يَتَقَرَّبُونَ إِلَيهَا بِالدُّعَاءِ، وَيَلْبَسُونَ لِبَاسًا مُعَيَّنًا، وَيُبَخِّرُونَ عِنْدَهَا، وَيَتَقرَّبُونَ إِلَيهَا بِالقُرَبِ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُم إِذَا صَنَعُوا ذَلِكَ نَزَلَتْ رُوحَانِيَّاتُهَا! وَهَذِهِ الرُّوحَانِيَّاتُ الَّتِي يَزْعُمُونَ أَنَّهَا رُوحَانِيَّاتُ الكَوَاكِبِ إِنَّمَا هِيَ لِلشَّيَاطِينِ الَّتِي تَنْزِلُ عَلَيهِم، وَقَدْ
(1)
وَيُمْكِنُ القَولُ بِأَنَّهَا مِنَ السِّحْرِ بِحَسْبِ مَا يُدَّعَى مِنْ أَثَرِهَا فِي عِلْمِ الغَيبِ.
(2)
وَصَوتُ الشَّيطَانِ يَشْمَلُ أَشْيَاءَ كَثِيرْةً؛ مِنْهَا: الأَغَانِي وَالمَزَامِيرُ، قَالَ تَعَالَى:{وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} [الإِسْرَاء: 64]. وَصَوتُ الشَّيطَانِ هُوَ كُلُّ كَلَامٍ بَاطِلٍ، وكُلُّ كَلَامٍ كُفْرٍ أَو شِرْكٍ.
(3)
وَأَكْثَرُ مَا يَرِدُ اسْتِعْمَالُ لَفْظِهِ هُوَ عَلَى النَّوعِ الثَّانِي، وَهُوَ مَعْرِفَةُ المُغَيَّبَاتِ عَنْ طَرِيقِ النُّجُومِ.
تُخَاطِبُهُم، وَقَدْ تَقْضِي حَوَائِجَهُم وَتَفْعَلُ لَهُم بَعْضَ الشَّيءِ الَّذِي يُرِيدُونَهُ؛ لِأَنَّهُم فَعَلُوا مَا تَرْضَاهُ الشَّيَاطِينُ، فَخَدَمُوهَا وَعَبَدُوهَا، فَيَأْتُونَ إِلَيهِم بِبَعْضِ النَّفْعِ
(1)
.
2 -
عِلْمُ التَّأْثِيرِ: وَهُوَ الاسْتِدْلَالُ بِالأَحْوَالِ الفَلَكِيَّةِ عَلَى الحَوَادِثِ الأَرْضِيَّةِ، كَالاسْتِدْلَالِ بِمَوَاضِعِ النُّجُومِ مِنَ الاقْتِرْانِ وَالطُّلُوعِ عَلَى الأُمُورِ الَّتِي تَحْدُثُ فِي الأَرْضِ، وَهَذَا أَيضًا كُفْرٌ بِاللهِ تَعَالَى
(2)
.
وَلَكِنَّهُ عَلَى دَرَجَتَينِ:
أ- أَنْ يَجْعَلَهَا سَبَبًا يَدَّعِي بِهِ عِلْمَ الغَيبِ، فَيَسْتَدِلَّ بِحَرَكَاتِهَا وَتَنَقُّلَاتِهَا وَتَغَيُّرَاتِهَا عَلَى أَنَّهُ سَيَكُونُ كَذَا وَكَذَا
(3)
، فَهَذَا اتَّخَذَ تَعَلُّمَ النُّجومِ وَسِيلَةً لِادِّعَاءِ عِلْمِ الغَيبِ، وَدَعْوَى عِلْمِ الغَيبِ كُفْرٌ مُخْرِجٌ عَنِ المِلَّةِ، لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ:{قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النَّمْل: 65]، وَهَذَا الأُسْلُوبُ اللُّغَوِيُّ فِي الحَصْرِ هُوَ مِنْ أَقْوَى أَنْوَاعِ الحَصْرِ، لِأَنَّهُ بِالنَّفِي وَالإِثْبَاتِ، فَإِذَا ادَّعَى أَحَدٌ عِلْمَ الغَيبِ؛ فَقَدْ كَذَّبَ القُرْآنَ.
ب- أَنْ يَجْعَلَهَا سَبَبًا لِحُدُوثِ الخَيرِ وَالشَّرِّ، أَي: أَنَّهُ إِذَا وَقَعَ شَيءٌ نَسَبَهُ إِلَى النُّجُومِ، وَلَا يَنْسُبُ إِلَى النُّجُومِ شَيئًا إِلَّا بَعْدَ وُقُوعِهِ، فَهَذَا شِرْكٌ أَصْغَرُ؛
(1)
مُسْتَفَادٌ مِنْ شَرْحِ الشَّيخِ الغُنَيمَانِ حَفِظَهُ اللهُ عَلَى كِتَابِ (فَتْحُ المَجِيدِ)، شَرِيطُ رَقَم (76)، شَرْحُ البَابِ.
(2)
وَقَدْ تَغَيَّرَتِ الطُّرُقُ الآنَ عِنْدَ نَاسٍ مِنَ المُثَقَّفِينَ -زَعَمُوا-، فَيَكْتُبُونَ جَدَاوِلَ وَيَذْكُرُونَ الحَوَادِثَ الَّتِي تَحْدُثُ فِي هَذَا البُرْجِ، فَيَقُولُونَ: يَومُ كَذَا يَكُونُ كَذَا وَكَذَا، ومَنْ كَانَ مَولِدُهُ فِي اليَومِ الفُلَانِيِّ يَحْدُثُ لَهُ كَذَا وَكَذَا، وَهَذِهِ كُلُّهَا مِنَ الكُفْرِ وَالضَّلَالِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُنْظَرَ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا رَجْمٌ بِالغَيبِ.
(3)
مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: هَذَا الإِنْسَانُ سَتَكُونُ حَيَاتُهُ شَقَاءً لِأَنَّهُ وُلِدَ فِي وَقْتِ النَّجْمِ الفُلَانِيِّ، وَهَذَا حَيَاتُهُ سَتَكُونُ سَعِيدَةً لِأَنَّهُ وُلِدَ فِي النَّجْمِ الفُلَانِيِّ.
حَيثُ جَعَلَ مَا لَيسَ بِسَبَبٍ سَبَبًا.
3 -
عِلْمُ التَّسْيِيرِ: وَهُوَ الاسْتِدْلَالُ بِالنُّجُومِ عَلَى الجِهَاتِ وَالأَوقَاتِ؛ فَهَذَا جَائِزٌ، وَقَدْ يَجِبُ إِذَا تَرَتَّبَ عَلَيهِ أَمْرٌ وَاجِبٌ شَرْعًا
(1)
.
وَهَذَا الاسْتِدْلَالُ أَيضًا يَكُونُ مِنْ جِهَتَينِ:
أ- الاسْتِدْلَالُ عَلَى الزَّمَانِ: كَالفُصُولِ وَدُخُولِ رَمَضَانَ وَالأَعْيَادِ وَمَوَاعِيدِ الزِّرَاعَةِ وَالحَصَادِ و
…
ب- الاسْتِدْلَالُ عَلَى المَكَانِ: كَجِهَةِ القِبْلَةِ وَالجِهَاتِ الأَرْبَعَةِ
(2)
.
- قَولُهُ: ((زَادَ مَا زَادَ)) هُوَ عَلَى وَجْهَينِ مُتَلازِمَينِ:
1 -
كُلَّمَا ازْدَادَ مِنْ عِلْمِ النُّجُومِ؛ ازْدَادَ مِنَ السِّحْرِ حَتَّى يَصِلَ إِلَى حَقِيقَتِهِ، وَهُوَ عِلْمُ التَّأْثِيرِ؛ فَيُصْبِحُ سِحْرًا وَكِهَانَةً حَقِيقَةً.
2 -
كُلَّمَا ازْدَادَ مِنْ تَعَلُّمِ عِلْمِ النُّجُومِ؛ ازْدَادَ فِي الإِثْمِ الحَاصِلِ.
- النَّفْثُ: هُوَ النَّفْخُ بِرِيقٍ خَفِيفٍ، وَهُوَ دُونَ التَّفْلِ.
- قَولُهُ: ((وَمَنْ تَعَلَّقَ شَيئًا؛ وُكِلَ إِلَيهِ)) مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الجُمْلَةِ لِلَّتِي قَبْلَهَا هُوَ مِنْ جِهَتَينِ:
1 -
أَنَّ النَّافِخَ فِي العُقَدِ يُرِيدُ أَنْ يَتَوَصَّلَ بِهَذَا الشَّيءِ إِلَى حَاجَتِهِ وَمَآرِبِهِ، فَيُوكَلُ إِلَى هَذَا الشَّيءِ المُحَرَّمِ وَهُوَ السِّحْرُ.
(1)
كَحَالِ المُسَافِرِ خَارِجَ البُنْيَانِ؛ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيهِ مَعْرِفَةُ جِهَةِ القِبْلَةِ مِنْ أَجْلِ الصَّلَاةِ.
(2)
وَمِنْهُ نَأْخُذُ خَطَأَ العَوَامِّ الَّذِينَ يَقُولُونَ -إِذَا هَبَّتِ الرِّيحُ-: طَلَعَ النَّجْمُ الفُلَانِيُّ! وَذَلِكَ لِأَنَّ النُّجُومَ لَا تَأْثِيرَ لَهَا بِالرِّيَاحِ، صَحِيحٌ أَنَّ بَعْضَ الأَوقَاتِ وَالفُصُولِ يَكُونُ فِيهَا رِيحٌ وَمَطَرٌ؛ وَلَكِنَّهَا ظَرْفٌ لَهُمَا، وَلَيسَتْ سَبَبًا لَهُمَا.
2 -
أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ إِذَا سُحِرَ عَنْ طَرِيقِ النَّفْثِ بِالعُقَدِ ذَهَبَ إِلَى السَّحْرةِ وتَعَلَّقَ بِهِم لِيَكْشِفُوا مَا بهِم! وَتَعَلَّقُوا أَيضًا التَّمَائِمَ! فَكَانَ فِيهِ إِذًا الإِرْشَادُ إِلَى التَّوكلِ عَلَى اللهِ تَعَالَى الَّذِي بِيَدِهِ سُبْحَانَهُ الأَسْبَابُ كُلُّهُا، وَمِنْ ثُمَّ يَتَعَاطَى مَا جَازَ فِي الشَّرِيعَةِ فِعْلُهُ مِنَ الأَسْبَابِ
(1)
.
- (العِضَةُ): الكَذِبُ وَالبُهْتَانُ، وَ (العَضْهُ): التَّفْرِيقُ
(2)
.
قَالَ فِي القَامُوسِ المُحِيطِ
(3)
: "وَالعِضَةُ: السِّحْرُ وَالكِهَانَةُ، وَالعَاضِهُ: السَّاحِرُ"
(4)
.
- النَّمِيمَةُ كَبِيرَةٌ مِنَ الكَبَائِرِ، وَهِيَ نَقْلُ الكَلَامِ عَلَى وَجْهِ الوِشَايَةِ وَالإِفْسَادِ
(5)
.
(1)
وَقَدْ يَشْمَلُ الحَدِيثُ مَنْ تَوَكَّلَ وَاعْتَمَدَ عَلَى نَفْسِهِ وَصَارَ مُعْجَبًا بِمَا يَقُولُ وَيَفْعَلُ؛ فَإِنَّهُ يُوكَلُ إِلَى نَفْسِهِ، ويُوكَلُ إِلَى ضَعْفٍ وَعَجْزٍ وَعَورَةٍ، وَلِهَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ العَبْدُ دَائِمًا مُتَعَلِّقًا بِاللهِ فِي كُلِّ أَفْعَالِهِ وَأَحْوَالِهِ حَتَّى فِي أَهْوَنِ الأُمُورِ، وَكَذَلِكَ مَنْ تَعَلَّقَ بِصَنْعَةٍ مِنْ صَنْعَتِهِ أَو عَمَلٍ مِنْ عَمَلِهِ فَيُوكَلُ إِلَيهِ.
(2)
العَضْهُ -بِفَتْحِ المُهْمَلَةِ وَسُكُونِ المُعجَمَةِ- قَالَ ابْنُ الأثير رحمه الله فِي كِتَابِهِ النِّهَايَةُ فِي غَرِيبِ الحَدِيثِ وَالأَثَرِ (3/ 496): "هَكَذَا يُرْوَى فِي كُتُبِ الحَدِيثِ، وَالَّذِي فِي كُتُبِ الغَرِيبِ: ((ألَا أُنَبِّئُكُم مَا العِضَةُ)) بِكَسْرِ العَينِ وَفَتْحَ الضَّادِ".
(3)
القَامُوسُ المُحِيطُ (ص 1249) بِحَذْفٍ يَسِيرٍ.
(4)
وَقَالَ فِي تَاجِ العَرُوسِ (39/ 61): " {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} [الحِجْر: 91] قَالَ الرَّاغِبُ: جَعَلوا القُرْآنَ عِضِينَ؛ أَي: مُفَرَّقًا، فَقَالُوا: كِهَانَةٌ، وَقَالُوا: أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ، إِلَى غَيرِ ذَلِكَ مِمَّا وَصَفُوهُ بِهِ.
وَقِيلَ: مَعْنَى (عِضِين) مَا قَالَ تَعَالَى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البَقَرَة: 85] خِلَافَ مَنْ قَالَ فِيهِ: {هَاأَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ} [البَقَرَة: 118] ".
قُلْتُ: وَهُوَ صَحِيحٌ مِنَ الوَجْهَينِ هُنَا، لِأَنَّ مَنْ آمَنَ بِبَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ فَقَدْ فَرَّقَ فِيهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَينَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَينَ ذَلِكَ سَبِيلًا * أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} [النِّسَاء: 150 - 151].
وَأَيضًا فَإِنَّهُم كَذَّبُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنَ القُرْآنِ؛ فَهُوَ عَلَى المَعْنَى الثَّانِي أَيضًا صَحِيحٌ؛ أَي: مِنَ الكَذِبِ وَالبُهْتَانِ.
(5)
وَفِي لَفْظٍ لِلحَدِيثِ: ((أَتَدْرُونَ مَا العَضْهُ؟ قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: نَقْلُ الحَدِيثِ مِنْ بَعْضِ النَّاسِ إِلَى بَعْضٍ لِيُفْسِدُوا بَينَهُمْ)). صَحِيحٌ. الأَدَبُ المُفْرَدُ (425) عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (845).
وَوَجْهُ تَسْمِيَتِهَا سِحْرًا أَنَّهَا تَعْمَلُ عَمَلَ السِّحْرِ فِي التَّفرِيقِ بَينَ النَّاسِ، بَلْ قَدْ تَكُونُ أَشَدَّ مِنْ حَيثُ الضَّرَرِ، كَمَا قَالَ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ
(1)
: "يُفْسِدُ النَّمَّامُ وَالكذَّابُ فِي سَاعَةٍ مَا لَا يُفْسِدُ السَّاحِرُ فِي سَنَةٍ".
وَفِي الحَدِيثِ: ((لَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ قَتَّاتٌ))
(2)
وَهُوَ النَّمَّامُ.
- قَولُهُ: ((إنَّ مِنَ البَيَانِ لَسِحْرًا))
(3)
: (مِنْ) هُنَا للتَّبْعِيضِ، وَالبَيَانُ عُمُومًا هُوَ عَلَى مَعْنَيِينِ:
1 -
الإِفْهَامِ: وَهَذَا يَشْتَرِكُ فِيهِ جَمِيعُ النَّاسِ؛ خِلَافًا لِلبَهَائِمِ، قَالَ تَعَالَى:{الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرَّحْمَن: 1 - 4]
(4)
.
(1)
وَهُوَ تَابِعِيٌّ ثِقَةٌ حَافِظٌ، (ت 129 هـ)، وَالأَثَرُ أَورَدَهُ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي الفُرُوعِ (10/ 211) عَنِ ابْنِ عَبْدِ البَرِّ رَحِمَهُمَا اللهُ.
(2)
البُخَارِيُّ (6056)، وَمُسْلِمٌ (105) عَنْ حُذَيفَةَ مَرْفُوعًا.
(3)
وَالحَدِيثُ بِتَمَامِهِ عَنِ ابْنِ عبَّاسٍ؛ قَالَ: جَلَسَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَيسُ بْنُ عَاصِمٍ وَالزِّبْرِقَانُ بْنُ بَدْرٍ وَعَمْرُو بْنُ الأَهْتَمِ التَّمِيمِيُّونَ، فَفَخَرَ الزِّبْرِقَانُ؛ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ أَنَا سَيِّدُ تَمِيمٍ، وَالمُطَاعُ فِيهِمْ، وَالمُجَابُ فِيهِمْ، أَمْنَعُهُمْ مِنَ الظُّلْمِ فَآخُذُ لَهُمْ بِحُقُوقِهِمْ، وَهَذَا يَعْلَمُ ذَاكَ -يَعْنِي عَمْرَو بْنَ الأَهْتَمِ-، فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الأَهْتَمِ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهُ لَشَدِيدُ العَارِضَةِ، مَانِعٌ لِجَانِبِهِ، مُطَاعٌ فِي نَادِيهِ. قَالَ الزِّبْرِقَانُ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللهِ؛ لَقَدْ عَلِمَ مِنِّي غَيرَ مَا قَالَ، وَمَا مَنَعَهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ إِلَّا الحَسَدُ، قَالَ عَمْرٌو: أَنَا أَحْسُدُكَ! فَوَاللَّهِ إِنَّكَ لَئِيمُ الخَالِ، حَدِيثُ المَالِ، أَحْمَقُ الوَالِدِ، مُضَيِّعٌ فِي العَشِيرَةِ. وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللهِ؛ لَقَدْ صَدَقْتُ فِيمَا قُلْتُ أَوَّلًا، وَمَا كَذَبْتُ فِيمَا قُلْتُ آخِرًا، لَكِنِّي رَجُلٌ رَضِيتُ فَقُلْتُ أَحْسَنَ مَا عَلِمْتَ، وَغَضِبْتُ فَقُلْتُ أَقْبَحَ مَا وَجَدْتَ، وَوَاللَّهِ لَقَدْ صَدَقْتُ فِي الأَمْرِينِ جَمِيعًا. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:((إِنَّ مِنَ البَيَانِ لَسِحْرًا؛ إِنَّ مِنَ البَيَانِ لَسِحْرًا)). مُسْتَدْرَكُ الحَاكِمِ (6568). وَفِي لَفْظٍ لِلحَدِيثِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَجُلًا أَو أَعْرَابِيًّا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَتَكَلَّمَ بِكَلَامٍ بَيِّنٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:((إِنَّ مِنَ البَيَانِ سِحْرًا، وَإِنَّ مِنَ الشِّعْرِ حِكْمَةً)). صَحِيحٌ. الأَدَبُ المُفْرَدُ (872). الصَّحِيحَةُ (1731).
(4)
وَمِنْهُ سُمِّيَتِ البَهِيمَةُ بَهِيمَةً؛ لِأَنَّهَا مُبْهِمَةٌ عَمَّا تُرِيدُ.
2 -
الفَصَاحَةِ التَّامَّةِ: وَهِيَ الَّتِي تَسْبِي العُقُولَ وَتُغَيِّرُ الأَفْكَارَ، وَتُؤَثِّرُ فِي القُلُوبِ، وَعَلَيهَا يُحْمَلُ الحَدِيثُ هُنَا.
وَوَجْهُ كَونِهِ مِنَ السِّحْرِ هُوَ أَنَّ صَاحِبَهُ يُؤَثِّرُ فِي النَّاسِ بِاسْتِمَالَةِ قُلُوبِهِم عَلَى وَجْهٍ خَفِيٍّ؛ فَيَعْمَلُ عَمَلَ السِّحْرِ فَيَجْعَلُ الحَقَّ فِي قَالِبِ البَاطِلِ؛ وَالبَاطِلَ فِي قَالِبِ الحَقِّ!
- قَولُهُ: ((مِنَ البَيَانِ)) اخْتَلَفَ أَهْلُ العِلْمِ فِي كَونِهِ سِيقَ لِلمَدْحِ أَمْ لِلذَمِّ، فجَعَلَهُ بَعْضُهُم لِلذَّمِّ لِكَونِهِ سَمَّاهُ سِحْرًا، وَجَعَلَهُ بَعْضُهُم مَدْحًا لِكَونِهِ عَنِ البَيَانِ -وَالبَيَانُ نِعْمَةٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى-.
وَالأَرْجَحُ -وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ- هُوَ أَنَّهُ يُمْدَحُ أَو يُذَمُّ بِحَسْبِ مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ مِنْ حَقٍّ أَو بَاطِلٍ -إِذَا خَلَا مِنَ التَّكلُّفِ-.
وَفِي الأَدَبِ المُفْرَدِ لِلْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما: قَدِمَ رَجُلَانِ مِنَ المَشْرِقِ -خَطِيبَانِ- عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَامَا فَتَكَلَّمَا ثُمَّ قَعَدَا، وَقَامَ ثَابِتُ بْنُ قَيسٍ -خَطِيبُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَتَكَلَّمَ، فَعَجِبَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِهِمَا، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ فَقَالَ:((يَا أَيُّهَا النَّاسُ، قُولُوا قَولَكُمْ؛ فَإِنَّمَا تَشْقِيقُ الكَلَامِ مِنَ الشَّيطَانِ))، ثُمَّ قَالَ:((إِنَّ مِنَ البَيَانِ سِحْرًا))
(1)
، وَتَشْقِيقُ الكَلَامِ: هُوَ المُبَالَغَةُ فِيهِ وَتَزْيِينُهُ
(2)
.
- فَائِدَةٌ: يَدْخُلُ فِي إتْيَانِ الكُهَّانِ قِرَاءَةُ المَجَلَّاتِ الَّتِي فِيهَا بُرُوجُ الحَظِّ، فَالإِنْسَانُ يَقْرَؤُهَا وَقَدْ يَفْتَتَنُ بِهَا، فَهِيَ مِنْ جِنْسِ إِتْيَانِ الكُهَّانِ.
(1)
صَحِيحٌ. صَحِيحُ الأَدَبِ المُفْرَدِ (675).
(2)
قَالَ ابْنُ الرُّومِيِّ فِي دِيوَانِهِ (2/ 169):
"في زُخْرُفِ القَولِ تَرْجِيحٌ لِقَائِلِهِ
…
وَالحَقُّ قَدْ يَعْتَرِيهِ بَعْضُ تَغْيِيرِ
تَقُولُ هَذَا مُجَاجُ النَّحْلِ تَمْدَحُهُ
…
وَإِنْ تَعِبْ قُلْتَ ذَا قَيءُ الزَّنَابِيرِ
مَدْحًا وَذَمًّا ومَا جَاوَزْتَ وَصْفَهُمَا
…
سِحْرُ البَيَانِ يُرِي الظَلْمَاءَ كَالنَّورِ".
مَسَائِلُ عَلَى البَابِ
-
مَسْأَلَةٌ: إِذَا كَانَ الطَّرْقُ مِنَ السِّحْرِ؛ فَمَا الجَوَابَ عَنْ خَبَرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي النَّبِيِّ الَّذِي كَانَ يَخُطُّ،
وَالَّذِي قَالَ فِيهِ: ((فَمَنْ وَافَقَ خَطُّهُ خَطَّهُ فَذَاكَ))
(1)
؟
الجَوَابُ هُوَ مِنْ وَجْهَينِ:
1 -
أَنَّ هَذَا هُوَ مِنَ التَّعْلِيقِ بِالمُحَالِ، وَالمَعْنَى: مَنْ كَانَ مِنْكُم نَبِيًّا فَلَهُ ذَاكَ، وَالمَقْصُودُ أَنَّهُ حَرَامٌ.
2 -
أَنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَهُ سَبِيلًا لِنَبيِّهِ ذَاكَ؛ أَنَّهُ يَخُطُّ فِي الأَرْضِ فَيُعَلِّمُهُ مِنْ وَحْيهِ بِمَا شَاءَ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَنْ يَدَّعِي ذَلِكَ وَهُوَ كَاذِبٌ يَقِينًا! لِانْقِضَاءِ زَمَنِ الوَحْي وَالنُّبُوَّةِ، فَيَكُونُ مِنِ ادِّعَاءِ الغَيبِ وَمِنَ التَّعَامُلِ مَعَ الشَّيَاطِينِ، فَالأًوَّلُ وَحْيٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَالثَّانِي وَحْيٌ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ.
(1)
وَالحَدِيثُ هُوَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ (537) عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الحَكَمِ السُّلَمِيِّ، وَفِيهِ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ: إِنِّي حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ وَقَدْ جَاءَ اللهُ بِالإِسْلَامِ، وَإِنَّ مِنَّا رِجَالًا يَأْتُونَ الكُهَّانَ! قَالَ:((فَلَا تَأْتِهِمْ)). قَالَ: وَمِنَّا رِجَالٌ يَتَطَيَّرُونَ! قَالَ: ((ذَاكَ شَيءٌ يَجِدُونَهُ فِي صُدُورِهِمْ فَلَا يَصُدَّنَّهُمْ)). قَالَ: قُلْتُ: وَمِنَّا رِجَالٌ يَخُطُّونَ! قَالَ: ((كَانَ نَبِيٌ مِنَ الأَنْبِيَاءِ يَخُطُّ؛ فَمَنْ وَافَقَ خَطَّهُ فَذَاكَ)).
بَابُ مَا جَاءَ فِي الكُهَّانِ وَنَحْوِهِمْ
رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قَالَ: ((مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيءٍ فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ؛ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةُ أَرْبَعِينَ يَومًا))
(1)
.
وَعَنْ أَبِي هُريرةَ رضي الله عنه؛ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قَالَ: ((مَنْ أَتَىَ كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ؛ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم). رَوَاهُ أَبُو دَاوُد
(2)
.
وَلِلْأَرْبَعَةِ وَالحَاكِمِ -وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا-؛ عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ: ((مَنْ أَتَى عَرَّافًا أَو كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ؛ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ))
(3)
.
وَلِأَبِي يَعَلَى بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِثْلُهُ مَوقُوفًا
(4)
.
(1)
صَحِيحٌ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ (2230) دُونَ زِيَادَةِ ((فَصَدَّقَهُ))، وَهُوَ عِنْدَ أَحْمَدَ (16638) فِي المُسْنَدِ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ دُونَ زِيَادَةِ ((فَسَأَلَهُ)). الضَّعِيفَةُ (6523).
قُلْتُ: وَأَمَّا حَدِيثُ: ((مَنْ أَتَى كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ؛ فَقَدْ بَرِءَ مِمَّا أُنِزَلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم. ومَنْ أَتَاهُ غَيرَ مُصَدِّقٍ لَهُ؛ لَمْ تُقْبلْ لَهُ صَلَاةُ أَرْبَعِينَ يَومًا))! فَقَدْ قَالَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله فِي الضَّعِيفَةِ بِنَفْسِ الرَّقَمِ السَّابِقِ (6523): "مُنْكَرٌ لِلفَقَرَةِ الثَّانِيَةِ. أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي المُعْجَمِ الأَوسَطِ، فَإِنَّ الفَقَرَةَ الثَّانِيَةَ إنَّمَا صَحَّتْ فِي المُصَدِّقِ بِلَفْظِ: ((مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ؛ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاة أَرْبَعِينَ يَومًا)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الشَّيخَينِ، ورَوَاهُ مُسْلِم وَغَيرُهُ".
(2)
صَحِيحٌ. أَبُو دَاوُدَ (3904). الصَّحِيحَةُ (3387).
(3)
صَحِيحٌ. الحَاكِمُ (15)، وَقَالَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله:"رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائيُّ وَابْنُ مَاجَه، وَفِي أَسَانِيدِهِم كَلَامٌ ذَكَرْتُهُ فِي مُخْتَصَرِ السُّنَنِ". صَحِيحُ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ (3047).
(4)
صَحِيحٌ مَوقُوفًا. أَبُو يَعْلَى (5408)، وَالبزَّارُ (5/ 315)؛ وَبِزِيَادَةِ ((أَو سَاحِرًا)). صَحِيحُ التَّرْغِيبِ
=
وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَينٍ مَرْفُوعًا: ((لَيسَ مِنَّا مَنْ تَطَيَّرَ أَو تُطِيِّرَ لَهُ، أَو تَكَهَّنَ أَو تُكُهِّنَ لَهُ، أَو سَحَرَ أَو سُحِّرَ لَهُ، ومَنْ أَتَى كَاهِنًا؛ فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ؛ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ)). رَوَاهُ البَزَّارُ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ
(1)
.
وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الأَوسَطِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ دُونَ قَولِهِ ((وَمَنْ أَتَى)) إِلَى آخِرِهِ
(2)
.
قَالَ البَغَوِيُّ: "العَرَّافُ: الَّذِي يَدَّعِي مَعْرِفَةَ الأُمُورِ بِمُقَدِّمَاتٍ يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى المَسْرُوقِ وَمَكَانِ الضَّالَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَقِيلَ هُوَ الكَاهِنُ. وَالكَاهِنُ: هُوَ الَّذِي يُخْبِرُ عَنِ المُغَيَّبَاتِ فِي المُسْتَقْبَلِ، وَقِيلَ: الَّذِي يُخْبِرُ عَمَّا فِي الضَّمِيرِ"
(3)
.
وَقَالَ أَبُو العَبَّاسِ ابْنُ تَيمِيَّةَ: "العَرَّافُ اسْمٌ لِلْكَاهِنِ وَالمُنَجِّمِ وَالرَّمَّالِ وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ يَتَكَلَّمُ فِي مَعْرِفَةِ الأُمُورِ بِهَذِهِ الطُّرُقِ"
(4)
.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَومٍ يَكْتُبُونَ (أَبَا جَادٍ) وَيَنْظُرُونَ فِي النُّجُومِ: (مَا أَرَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَهُ عِنْدَ اللهِ مِنْ خَلَاقٍ)
(5)
.
=
وَالتَّرْهِيبِ (3048).
قُلْتُ: وَلَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ كَمَا قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله فِي الفَتْحِ (10/ 217): "إِسْنَادُهُ جَيِّدٌ، وَمِثْلُهُ لَا يُقَالُ بِالرَّأْي".
(1)
صَحِيحٌ لِغَيرِهِ. البزَّارُ (9/ 52)، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الكَبِيرِ (18/ 162). الصَّحِيحَةُ (2195).
(2)
الطَّبَرَانِيُّ فِي الأَوسَطِ (4262).
(3)
شَرْحُ السُّنَّةِ لِلبَغَوِيِّ (12/ 182).
(4)
مَجْمُوعُ الفَتَاوَى (35/ 173).
(5)
صَحِيحٌ مَوقُوفًا. أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي المُصَنِّفِ بِرَقَم (19805)، وَقَالَ:(عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ ابْنِ طَاوُوس عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ). وَكَذَا رَوَاهُ البَيهَقِيُّ عَنْهُ فِي الشُّعَبِ (4831). تَحْقِيقُ فَتْحِ المَجِيدِ (ص 307) لِلشَّيخِ حَامِدِ الفَقِي.
وَالمَرْفُوعُ مِنْهُ مَوضُوعٌ وَهُوَ بِلَفْظِ: ((رُبَّ مُعَلِّمِ حُرُوفِ أَبَي جَادَ، دَارِسٍ فِي النُّجُومِ، لَيسَ لَهُ عِنْدَ اللهِ خَلَاقٌ يَومَ القِيَامَةِ))، فَإِنَّ فِيهِ خَالِدَ بْنَ يَزِيدَ العُمَرِيَّ، وَهُوَ كذَّابٌ. الطَّبَرَانِيُّ فِي الكَبِيرِ (11/ 41). الضَّعِيفَةُ (417).
فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: أَنَّهُ لَا يَجْتَمِعُ تَصْدِيقُ الكَاهِنِ مَعَ الإِيمَانِ بِالقُرْآنِ.
الثَّانِيَةُ: التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ كُفْرٌ.
الثَّالِثَةُ: ذِكْرُ مَنْ تُكُهِّنَ لَهُ.
الرَّابِعَةُ: ذِكْرُ مَنْ تُطُيَّرَ لَهُ.
الخَامِسَةُ: ذِكْرُ مَنْ سُحِرَ لَهُ.
السَّادِسَةُ: ذِكْرُ مَنْ تَعَلَّمَ أَبَا جَادٍ.
السَّابِعَةُ: ذِكْرُ الفَرْقِ بَينَ الكَاهِنِ وَالعَرَّافِ.
الشَّرْحُ
- قَالَ فِي المُعْجَمِ الوَسِيطِ: " (كَهَنَ) لَهُ كِهَانَةً: أَخْبَرَهُ بِالغَيبِ؛ فَهُوَ كَاهِنٌ"
(1)
.
وَفِي القَامُوسِ المُحِيطِ: "تَكَهَّنَ: قَضَى لَهُ بِالغَيبِ"
(2)
.
- الكَاهِنُ يَجْتَمِعُ مَعَ السَّاحِرِ فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَسْتَخْدِمُ الجِنَّ لِغَرَضِهِ وَيَسْتَمْتِعُ بِهِ.
- مُنَاسَبَةُ البَابِ لِكِتَابِ التَّوحِيدِ وَلِمَا قَبْلَهُ؛ هُوَ أَنَّ الكَاهِنَ كَافرٌ، وَأَنَّ الكِهَانَةَ شِرْكٌ، وَذَلِكَ مِنْ جِهَتَينٍ:
1 -
مِنْ جِهَةِ دَعْوَى مُشَارَكَةِ اللهِ تَعَالَى فِي عِلْمِهِ بِالغَيبِ؛ وَهَذَا اخْتَصَّ بِهِ سُبْحَانَهُ.
2 -
مِنْ جِهَةِ التَّقَرُّبِ إِلَى غَيرِ اللهِ تَعَالَى مِنَ الجِنِّ؛ وَدُعَائِهِم وَعِبَادَتِهِم.
وَقَدْ جَعَلَهُم جَابِرٌ رضي الله عنه مِنَ الطَّوَاغِيتِ -كَمَا سَبَقَ فِي الأَبْوَابِ-، فَهُم طَوَاغِيتُ لِأَنَّهُم تَجَاوَزُوا حَدَّهُم فَنَازَعُوا اللهَ تَعَالَى فِي صِفَاتِهِ مِنْ عِلْمِ الغَيبِ وعِلْمِ مَا فِي الصُّدُورِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النَّمْل: 65].
(1)
المُعْجَمُ الوَسِيطُ (2/ 803).
(2)
القَامُوسُ المُحِيطُ (ص 1228).
وَقَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي الفَتْحِ (10/ 216): "وَالكَهَانَةُ -بِفَتْحِ الكَافِ وَيَجُوزُ كَسْرُهَا-: ادِّعَاءُ عِلْمِ الغَيبِ، كَالإِخْبَارِ بِمَا سَيَقَعُ فِي الأَرْضِ مَعَ الاسْتِنَادِ إِلَى سَبَبٍ، وَالأَصْلُ فِيهَا اسْتِرَاقُ السَّمْعِ مِنْ كَلَامِ المَلَائِكَةِ فَيُلْقِيهِ فِي أُذُنِ الكَاهِنِ.
وَالكَاهِنُ لَفْظٌ يُطْلَقُ عَلَى العَرَّافِ وَالَّذِي يَضْرِبُ بِالحَصَى وَالمُنَجِّمِ، وَيُطْلَقُ عَلَى مَنْ يَقُومُ بِأَمْرٍ آخَرَ وَيَسْعَى فِي قَضَاءِ حَوَائِجِهِ.
وَقَالَ فِي المُحْكَمِ: الكَاهِنُ: القَاضِي بِالغَيبِ، وَقَالَ فِي الجَامِعِ: العَرَبُ تُسَمِّي كُلَّ مَنْ أَذِنَ بِشَيءٍ قَبْلَ وُقُوعِهِ كَاهِنًا".
وَتَأَمَّلْ قَولَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ رضي الله عنها فِي حَقِّ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم: (وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يُخْبِرُ بِمَا يَكُونُ فِي غَدٍ؛ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللهِ الفِرْيَةَ، وَاللَّهُ يَقُولُ: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيبَ إِلَّا اللَّهُ})
(1)
، حَيثُ جَعَلَتْ ادِّعَاءَ ذَلِكَ فِي حَقِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم افْتِرَاءً عَظِيمًا عَلَى اللهِ تَعَالَى؛ وَلَيسَ فَقَطْ عَلَى الرَّسُولِ! وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِأَنَّ الشِّرْكَ مَعَ اللهِ تَعَالَى فِي صِفَاتِهِ هُوَ تَنَقُّصٌ لِلرَّبِّ سبحانه وتعالى.
- قَولُهُ: (فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ): أَي: بِالقُرْآنِ، لِقَولِهِ تَعَالَى:{قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النَّمْل: 65].
- أَثَرُ ابْنِ مَسْعُودٍ المَوقُوفُ هُوَ بِلَفْظِ: (مَنْ أَتَى عَرَّافًا أَو سَاحِرًا أَو كَاهِنًا فَسَأَلَهُ فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ؛ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ)، وَلَهُ حُكْمُ الرَّفعِ، كَمَا قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله فِي الفَتْحِ:"إِسْنَادُهُ جَيِّدٌ، ومِثْلُهُ لَا يُقَالُ بِالرَّأْي"
(2)
.
- قَولُهُ: (لَيسَ مِنَّا): إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ مِنَ الكَبَائِرِ، وَالكَبَائِرُ مِنْهَا مَا قَدْ يَكُونُ كُفْرًا مُخْرِجًا مِنَ المِلَّةِ، وَمِنْهُ مَا قَدْ يَكُونُ مَعْصِيَةً كَبِيرَةً.
- أَبُو يَعْلَى: هُوَ الإِمَامُ الحَافِظُ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ التَّمِيمِيُّ؛ المَوصِلِيُّ -نِسْبَةً إِلَى المَوصِل- صَاحِبُ التَّصَانِيفِ كَالمُسْنَدِ وَغَيرِهِ، (ت 307 هـ).
- الكَاهِنُ لَا يَجُوزُ إِتْيَانُهُ وَلَو لِمُجَرَّدِ الاطِّلَاعِ عَلَى مَا عِنْدَهُ.
فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ فِي حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ الحَكَمِ السُّلَميِّ عِنْدَمَا سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَمَّنْ يَأْتُونَ الكُهَّانَ فَقَالَ لَهُ: ((لَا تَأْتِهِم))
(3)
.
(1)
البُخَارِيُّ (4855)، وَمُسْلِمٌ (177).
(2)
فَتْحُ البَارِي (10/ 217).
(3)
مُسْلِمٌ (537).
قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رحمه الله: "قَالَ العُلَمَاءُ: إِنَّمَا نُهِيَ عَنْ إِتْيَانِ الكَاهِنِ لِأَنَّهُمْ يَتَكَلَّمُونَ فِي مُغَيَّبَاتٍ قَدْ يُصَادِفُ بَعْضُهَا الإِصَابَةَ؛ فَتُخَافُ الفِتْنَةُ عَلَى الإِنْسَانِ بِسَبَبِ ذَلِكَ، لِأَنَّهُمْ يُلَبِّسُونَ عَلَى النَّاسِ كَثِيرًا مِنْ أَمْرِ الشَّرَائِعِ، وَقَدْ تَظَاهَرَتِ الأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ بِالنَّهْيِ عَنْ إِتْيَانِ الكُهَّانِ وَتَصْدِيقِهِمْ فِيمَا يَقُولُونَ، وَتَحْرِيمِ مَا يُعْطَونَ مِنَ الحُلْوَانِ، وَهُوَ حَرَامٌ بِإِجْمَاعِ المُسْلِمِينَ"
(1)
.
- قَولُ ابْنِ عَبَّاسٍ: (لَيسَ لَهُ عِنْدَ اللهِ خَلَاقٌ): أَي: لَيسَ لَهُ نَصِيبٌ مِنَ الجَنَّةِ عِنْدَ اللهِ عز وجل، وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ كَافِرٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي السَّحَرةِ:{وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} [البَقَرَة: 102].
- البَغَوِيُّ: هُوَ مُحْيي السُّنَّةِ؛ أَبُو مُحَمَّدٍ؛ الحُسَينُ بْنُ مَسْعُودٍ الفَرَّاءُ؛ البَغَوِيُّ (نِسْبَةً إِلَى -بَغ- وَهِيَ مَدِينَةٌ بَينَ هَرَاةَ وَمَرْو فِي خُرِاسَانَ) الشَّافِعِيُّ؛ عَالِمُ خُرَاسَان وَصَاحِبُ التَّصَانِيفِ كَالتَّهْذِيبِ وَشَرْحِ السُّنَّةِ وَالتَّفْسِيرِ (ت 516 هـ).
- (أَبُو العَبَّاسِ): هُوَ شَيخُ الإِسْلَامِ؛ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الحَلِيمِ بْنُ تَيمِيَّةَ الحَرَّانِيُّ، (ت 728 هـ).
- قَولُهُ: (يُخْبِرُ عَمَّا فِي الضَّمِيٍرِ): يَعْنِي عَمَّا فِي القَلْبِ، وَلَا يَعْلَمُ مَا فِي القُلُوبِ إِلَّا اللهُ تَعَالَى، قَالَ تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [فَاطِر: 38]، لَكِنَّ الشَّيطَانَ قَدْ يَعْرِفُ شَيئًا مِنْ هَوَاجِسِ الإِنْسَانِ
(1)
شَرْحُ مُسْلِمٍ (5/ 22).
وَقَالَ المُنَاوِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ فَيضُ القَدِيرِ (6/ 23): "وَاعْلَمْ أَنَّ إِتْيَانَ الكَاهِنِ شَدِيدُ التَّحْرِيمِ حَتَّى فِي المِلَلِ السَّابِقَةِ، قَالَ فِي السِّفْرِ الثَّانِي مِنَ التَّورَاةِ: (لَا تَتَّبِعُوا العَرَّافِينَ وَالقَافَةَ وَلَا تَنْطَلِقُوا إِلَيهِم، وَلَا تَسْأَلُوهُم عَنْ شَيءٍ لِئَلَّا تَتَنَجَّسُوا بِهِم) ".
لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُوَسْوِسُ لَهُ.
- الكَاهِنُ يَسْتَخْدِمُ وَسِيلَةً ظَاهِرَةً لِلنَّاسِ فِي إِجَابَاتِهِ لِيُقْنِعَ السَّائِلَ بِأَنَّهُ وَصَلَ إِلَيهِ العِلْمُ عَنْ طَرِيقِهَا، كَالنُّجُومِ أَوِ الخَطِّ أَوِ الكَفِّ، وَهِيَ وَسَائِلُ لَا تُحَصِّلُ ذَلِكَ العِلْمَ! وَلَكِنَّ العِلْمَ جَاءَهُ عَنْ طَرِيقِ الجِنِّ، وَهَذِهِ الوَسِيلَةُ إنَّمَا هِيَ لِخِدَاعِ النَّاسِ كَي يَظُنَّ الظَّانُّ أَنَّهَا تُؤدِي إِلَى ذَلِكَ العِلْمِ؛ فَيَظُنَّ بِهِ الكَرَامَةَ وَالخُصُوصِيَّةَ لَا الدَّجَلَ وَالشَّعْوَذَةَ.
- الكَاهِنُ وَالمُنَجِّمُ يَجِبُ قَتْلُهُمُ لِدَفعِ مَفْسَدَتِهِم وَمَضَرَّتِهِم -حَتَّى وَإِنْ قُلْنَا بِعَدَمِ كُفْرِهِم- لِأَنَّ أَسْبَابَ القَتْلِ لَيسَتْ مُخْتَصَّةً بِالكُفْرِ فَقَط! بَلْ لِلقَتْلِ أَسْبَابٌ مُتَعَدِّدَةٌ وَمُتَنَوِّعَةٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المَائِدَة: 33].
فَكُلُّ مَنْ أفسدَ عَلَى النَّاسِ أُمُورَ دِينِهِم أَو دُنْيَاهُم؛ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَتْ هَذِهِ الأُمُورُ تَصِلُ إِلَى الخُرُوجِ مِنَ الإِسْلَامِ
(1)
.
- قَولُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَومٍ يَكْتُبُونَ (أَبَا جَادٍ) وَيَنْظُرُونَ فِي النُّجُومِ: المَقْصُودُ بِـ (أَبَا جَادٍ) أَي حُرُوفُ الهِجَاءِ، وَهَذِهِ يَنْقَسِمُ تَعَلُّمُهَا إِلَى قِسْمَينِ:
1 -
تَعَلُّمٍ مُبَاحٍ: كَأَنْ يَتَعَلَّمَهَا المَرْءُ لِحِسَابِ الجُمَلِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ كَمَا
(1)
يُنْظَرُ: (القَولُ المُفِيدُ)(1/ 550).
قُلْتُ: إنَّمَا قِيلَ بِالاسْتِتَابَةِ هُنَا خِلَافًا لِلسَّاحِرِ أَنَّهُ يُقْتَلُ دُونَ اسْتِتَابَةٍ! لِأَنَّ السِّحْرَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالكُفْرِ الأَكْبَرِ، أَمَّا الكَاهِنُ فَقَدْ يَكُونُ مِثْلَهُ؛ وَقَدْ لَا يَكُونُ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَاطِيًا لِلكَذِبِ وَالشَّعْوَذَةِ وَالتَّلْبِيسِ دُونَ حَقِيقَةِ السِّحْرِ وَادِّعَاءِ الغَيبِ.
هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ العَرَبِ مِنْ أَنَّهُم مَثَلًا يُؤَرِّخُونَ عَنْ طَرِيقِ حِسَابِ الجُمَلِ الَّتِي يَكْتُبُونَهَا؛ فَهَذَا لَا بَأْسَ بِهِ.
2 -
تَعَلُّمٍ مُحَرَّمٍ: وَهُوَ كِتَابَتُهَا بِكِتَابَةٍ مُرْتَبِطَةٍ بِسَيرِ النُّجُومِ -كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ عَمَلِ المُنَجِّمِينَ وَالكُهَّانِ- حَيثُ أَنَّهُم يَزْعُمُونَ أَنَّهُم يَسْتَدِلُّونَ بِهَا عَلَى الحَوَادِثِ الأَرْضِيَّةِ
(1)
.
- اخْتَلَفَ أَهْلُ العِلْمِ فِي حُكْمِ مَنْ أَتَى الكَاهِنَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:
1 -
مَنْ أَتَاهُ لِيَسْأَلُهُ فَقَطْ وَلَمْ يُصَدِّقْهُ؛ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةُ أَرْبَعِينَ يَومًا، لِحَدِيثِ مُسْلِمٍ:((مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيءٍ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةُ أَرْبَعِينَ لَيلَةً))، ومَنْ صَدَّقَهُ فَقَدْ كَفَرَ كُفْرًا أَكْبَرَ لِلحَدِيثِ الثَّانِي:((مَنْ أَتَىَ كَاهِنًا؛ فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ، فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ))
(2)
(3)
.
وَفِي الحَدِيثِ أَيضًا: ((مَنْ أَتَى كَاهِنًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيءٍ حُجِبَتْ عَنْهُ التَّوبَةُ أَرْبَعِينَ لَيلَةً؛ فَإِنْ صَدَّقَهُ بِمَا قَالَ كَفَرَ))
(4)
.
(1)
القَولُ المُفِيدُ (1/ 519) بِتَصَرُّفٍ يَسِيرٍ.
(2)
مُسْلِمٌ (2230).
(3)
وَهَذَا التَّوجِيهُ مُتَعَقَّبٌ بِكَونِ لَفْظِ الحَدِيثِ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ (16638) جَمَعَ بَينَ التَّصْدِيقِ وَبَينَ عَدَمِ قَبُولِ الصَّلَاةِ أَرْبَعِينَ يَومًا.
وَمِنْ جِهَةٍ ثَانِيَةٍ: إِنَّ العِلَّةُ الَّتِي جُعِلَتْ هُنَا فِي عَدَمِ كُفْرِ السَّائِلِ -فَقَط- هِيَ عَدَمُ التَّصْدِيقِ؛ مَعَ أَنَّ ظَاهِرَ الحَالِ أَنَّهُ جَاءَ لِيَسْتَفِيدَ مِمَّا عِنْدَهُ، فَلَو وَافَقَ قَولُ الكَاهِنِ هَوَى السَّائِلِ لَصَدَّقَهُ! فَعِلَّةُ الكُفْرِ مَوجُودَةٌ بِمُجَرَّدِ الإِتْيَانِ. وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(4)
رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الكَبِيرِ (22/ 69) عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الأَسْقَعِ مَرْفُوعًا، وَلَكِنَّ إِسْنَادَهُ ضَعِيفٌ جِدًا مُسَلْسَلٌ بِالعِلَلِ. انْظُرِ الضَّعِيفَةَ (6674).
=
2 -
مَنْ أَتَى الكَاهِنَ مُطْلَقًا فَقَدْ كَفَرَ كُفْرًا أَصْغَرَ
(1)
، وَذَلِكَ جَمْعًا بَينَ النُّصُوصِ، فَيَكُونُ حُكْمُ الفِعْلِ أَنَّهُ كُفْرٌ وَيُعَاقَبُ عَلَيهِ بِعَدَمِ قَبُولِ الصَّلَاةِ أَرْبَعِينَ يَومًا، وَلَمْ نَقُلْ بِكَونِهِ كُفْرًا أَكْبَرَ لِكَونِهِ خَصَّ عَدَمَ القَبُولِ بِأَرْبَعِينَ يَومًا، وَلَو كَانَ كَافِرًا لَمْ تُقْبَلْ صَلَاتُهُ وَسَائِرُ عَمَلِهِ مُطْلَقًا
(2)
!
وَيَكُونُ كُفْرًا أَكْبَرَ إِذَا اسْتَحَلَّ إِتْيَانَهُم
(3)
.
3 -
إِمْرَارُ هَذِهِ النُّصُوصِ كَمَا جَاءَتْ دُونَ الخَوضِ فِي تَفْصِيلِهَا، فَيُطْلَقُ عَلَى مَنْ أَتَى الكَاهِنَ أَنَّهُ كَفَرَ وَلَا تُقْبَلُ لَهُ صَلَاةُ أَرْبَعِينَ يَومًا، وَلَا نَخُوضُ فِي بَيَانِ حَقيقَتِهَا لِيَكُونَ أَوقَعَ فِي النُّفُوسِ وَأَشَدَّ فِي الزَّجْرِ، "وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ كَانَ يَتَوَقَّى الكَلَامَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ النُّصُوصِ تَوَرُّعًا، وَيَمُرُّهَا كَمَا جَاءَتْ مِنْ غَيرِ تَفْسِيرٍ؛ مَعَ اعْتِقَادِهِمْ أَنَّ المَعَاصِيَ لَا تُخْرِجُ عَنِ المِلَّةِ"
(4)
(5)
.
=
وَمِثْلُهُ أَيضًا مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الأَوسَطِ (6670) عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: ((مَنْ أَتَى كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ؛ فَقَدْ بَرِءَ مِمَّا أُنِزَلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، ومَنْ أَتَاهُ غَيرَ مُصَدِّقٍ لَهُ؛ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةُ أَرْبَعِينَ يَومًا)). ضَعِيفٌ. الضَّعِيفَةُ (5281).
(1)
وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنِ الإِمَامِ أَحْمَد، كَمَا فِي (الفُرُوعُ) لِابْنِ مُفْلِحٍ (10/ 211).
(2)
قَالَ صَاحِبُ فَتِحِ المَجِيدِ (ص 296) رحمه الله: "هَذَا عَلَى قَولِ مَنْ يَقُولُ: هُوَ كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ. أَمَّا عَلَى قَولِ مَنْ يَقُولُ بِظَاهِرِ الحَدِيثِ؛ فَيُسْأَلُ عَنْ وَجْهِ الجَمْعِ بَينَ الحَدِيثَينِ".
(3)
قَالَ صَاحِبُ عَونُ المَعْبُودِ بِشَرْحِ سُنَنِ أَبِي دَاوُد (10/ 284): "وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الاسْتِحْلَالِ أَو عَلَى التَّهْدِيدِ وَالوَعِيدِ".
(4)
الفُرُوعُ (10/ 213).
(5)
قُلْتُ: وَالأَرْجَحُ عِنْدِي هُوَ القَولُ الثَّانِي لِتَضَافُرِ الأَدِلَّةِ وَجَمْعِهَا، أَمَّا عَلَى قَولِ إِمْرَارِهَا كَمَا جَاءَتْ فَهُوَ صَحِيحٌ فِي مَوضِعِهِ مِنَ الزَّجْرِ، وَلَكِنَّهُ لَا يُنَافِي مَعْرِفَةَ حُكْمِهِ، وَذَلِكَ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيهِ مِنَ الآثَارِ، وَكَي لَا تَبْقَى الأَدِلَّةُ دُونَ تَوجِيهٍ. وَاللهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
- فَائِدَةٌ:
لَا يَدْخُلُ فِي مَا سَبَقَ مِنَ النَّهْي مَنْ أَتَى الكَاهِنَ بِقَصْدِ الإِفْحَامِ وَالمُنَاظَرَةِ وَإِبْطَالِ حُجَّتِهِ، وَهَذَا جَائِزٌ لِلْمُتَمَكِّنِ مِنْ دِينِهِ.
فَفِي البُخَارِيِّ: أَنَّ عُمَرَ انْطَلَقَ فِي رَهْطٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قِبَلَ ابْنِ صَيَّادٍ، حَتَّى وَجَدُوهُ يَلْعَبُ مَعَ الغِلْمَانِ عِنْدَ أُطُمِ بَنِي مَغَالَةَ -وَقَدْ قَارَبَ يَومَئِذٍ ابْنُ صَيَّادٍ يَحْتَلِمُ-، فَلَمْ يَشْعُرْ بِشَيءٍ حَتَّى ضَرَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ظَهْرَهُ بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:((أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللهِ؟)) فَنَظَرَ إِلَيهِ ابْنُ صَيَّادٍ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ الأُمِّيِّينَ، فَقَالَ ابْنُ صَيَّادٍ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللهِ! قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: آمَنْتُ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:((مَاذَا تَرَى؟)) قَالَ ابْنُ صَيَّادٍ: يَأْتِينِي صَادِقٌ وَكَاذِبٌ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:((خُلِطَ عَلَيكَ الأَمْرُ))، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:((إِنِّي قَدْ خَبَأْتُ لَكَ خَبِيئًا))، قَالَ ابْنُ صَيَّادٍ: هُوَ الدُّخُّ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:((اخْسَأْ؛ فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ))، قَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ ائْذَنْ لِي فِيهِ أَضْرِبْ عُنُقَهُ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:((إِنْ يَكُنْهُ فَلَنْ تُسَلَّطَ عَلَيهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْهُ فَلَا خَيرَ لَكَ فِي قَتْلِهِ))
(1)
.
(1)
البُخَارِيُّ (3055).
وَ (الأُطُمُ) بِضَمَّتِينِ: كُلُّ حِصْنٍ مَبْنِيٍّ بِحِجَارَةٍ.
وَقَولُهُ: (إِنْ يَكُنْهُ) أَي: إِنْ يَكُنْ هُوَ المَسِيحَ الدَّجَّالَ.
مَسَائِلُ عَلَى البَابِ
-
مَسْأَلَةٌ: هَلْ مِنَ الكِهَانَةِ مَا يُخْبَرُ بِهِ الآنَ مِنْ أَحْوَالِ الطَّقْسِ فِي خِلَالِ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ سَاعَةً قَادِمَةً، أَو مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؟
الجَوَابُ:
"لَا، لِأَنَّه يَسْتَنِدُ إِلَى أُمُورٍ حِسِّيَّةٍ، وَهِيَ تَكَيُّفُ الجَوِّ، لِأَنَّ الجَوَّ يَتَكَيَّفُ عَلَى صِفَةٍ مُعيَّنَةٍ تُعْرَفُ بِالمَوَازِينِ الدَّقِيقَةِ عِنْدَ أَهْلِ الخِبْرَةِ، فَيَكُونُ الجَوُّ مَثَلًا صَالِحًا لِأَنْ يُمْطِرَ أَو لَا يُمْطِرَ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ فِي العِلْمِ البَدِيهِيِّ أَنَّنَا إِذَا رَأَينَا تَجَمُّعَ الغُيومِ وَالرَّعَدَ وَالبَرْقَ وَثِقَلَ السَّحَابِ؛ نَقُولُ: يُوشِكُ أَنْ يَنْزِلَ المَطَرُ، فَمَا اسْتَنَدَ إِلَى شَيءٍ مَحْسُوسٍ؛ فَلَيسَ مِنْ عِلْمِ الغَيبِ"
(1)
.
وَنَقُولُ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي أَطْلَعَهُم عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ جَعَلَ لَهُم وَسِيلَةً حَقِيقيَّةً مُبَاحَةً إِلَى ذَلِكَ، بِخِلَافِ الكَهَنَةِ الَّذِينَ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ تَعَالَى لَهُم وَسِيلَةً إِلَى تِلْكَ المَعْرِفَةِ؛ فَيَكُونُونَ كَذَبَةً فِي دَعْوَاهُم تِلْكَ.
لَكِنَّ هَذَا وَإِنْ كَانَ سَبَبًا حَقِيقِيًّا؛ فَإِنَّهُ لَا يُتَعَلَّقُ بِهِ فِي نِسْبَةِ المَطَرِ إِلَيهِ! بَلْ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ أَنَّهُ رَحْمَةٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَأَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي أَجْرَاهُ، وَإِنْ شَاءَ مَنَعَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَينَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} [النُّور: 43]
(2)
.
(1)
القَولُ المُفِيدُ (1/ 532).
(2)
قُلْتُ: وَالتَّعَلُّقُ بِهَذِهِ الأَسْبَابِ، وَنِسْبَةُ نُزُولِ المَطَرِ إِلَيهَا، مَعَ الغَفْلَةِ عَنِ الرَّزَّاقِ سبحانه وتعالى وَعَنْ رَحْمَتِهِ وحِكْمَتِهِ؛ لَا شَكَّ أَنَّهُ مِنَ الكُفْرِ -وَإِنْ لَمْ يَكْنْ كُفْرًا أَكْبَرَ- فَهُوَ مِنْ كُفْرِ النِّعْمَةِ، فَاليَومَ ذَهَبَتْ أَنْوَاءُ الجَاهِلِيَّةِ وَجَاءَتِ المُنْخَفَضَاتُ الجَويَّةُ!
المُلْحَقُ السَّادِسُ عَلَى كِتَابِ التَّوحِيدِ: مَسَائِلُ في العِلْمِ بِالغَيبِ
(1)
-
المَسْأَلَةُ الأُولَى: هَلْ عِلْمُ الغَيبِ مُخْتَصٌّ بِاللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ؟
الجَوَابُ: نَعَمْ.
إِنَّ عِلْمَ الغَيبِ مُخْتَصٌّ بِاللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، وَالدَّلِيلُ قَولُهُ تَعَالَى:{وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} [يُونُس: 20].
فَالغَيبُ هُوَ مَا غَابَ عَنِ العُيونِ -وَإِنْ كَانَ مُحَصَّلًا فِي القُلُوبِ-
(2)
.
وَالمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِالجَنَّةِ وَالنَّارِ رُغْمَ عَدِمِ رُؤيَتِهِمَا؛ لِكَونِ الخَبَرِ الصَّادِقِ قَدْ أَتَى بِهِمَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنِ المُتَّقِينَ:{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيبِ} [البَقَرَة: 3].
وَالغَيبُ الَّذِي اخْتَصَّ بهِ اللهُ تَعَالَى هُوَ الغَيبُ الذَّاتيُّ؛ أَي: الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ
(1)
وَسَيَأْتِي -إِنْ شَاءَ اللهُ- ذِكْرُ جُمْلَةٍ مِنَ شُبُهَاتٍ أُخَرَ وَجَوَابِهَا فِي مُلْحَقِ (ردُّ شُبُهَاتِ المُشْرِكِينَ).
(2)
قَالَهُ ابْنُ الأَعْرَابِيِّ؛ كَمَا فِي لِسَانِ العَرَبِ (1/ 654).
وَقَالَ الطَّبَرِيُّ رحمه الله فِي تَفْسِيرِ قَولِهِ تَعَالَى: {قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [البَقَرَة: 33]: "وَالغَيبُ: هُوَ مَا غَابَ عَنْ أبْصَارِهِم فَلَمْ يُعَايِنُوهُ". تَفْسِيرُ الطَّبَرِيِّ (1/ 497).
بِذَاتِهِ دُونَ وَاسِطَةٍ
(1)
، فَهُوَ سُبْحَانَهُ الَّذِي يُهَيِّئُ مِنَ الأَسْبَابِ القَدَرِيَّةِ أَوِ الشَّرْعِيَّةِ مَا يُمَكِّنُ المَخْلُوقَ مِنَ الاطِّلَاعِ عَلَى شَيءٍ مِنَ الغَيبِ، وَلَهُ سُبْحَانَهُ فِي ذَلِكَ الحِكْمَةُ البَالِغَةُ
(2)
.
قَالَ شَيخُ الإِسْلَامِ رحمه الله: "وَالجِنُّ غَايَتُهَا أَنْ تُخْبِرَ بِبَعْضِ الأُمُورِ المُسْتَقْبَلَةِ، كَالَّذِي يَسْتَرِقُهُ الجِنُّ مِن السَّمَاءِ -مَع مَا فِي الجِنِّ مِن الكَذِبِ؛ فَلَا بُدَّ لَهُم مِن الكَذِبِ-، وَالَّذِي يُخْبِرُون بِهِ هُوَ مِمَّا يُعْلَمُ بِالمَنَامَاتِ وَغَيرِ المَنَامَاتِ؛ فَهُوَ مِن جِنْسِ المُعْتَادِ لِلنَّاسِ.
وَأَمَّا مَا يُخْبِرُ الرُّسُلُ مِن الأُمُورِ البَعِيدَةِ الكَبِيرَةِ مُفَصَّلًا؛ مِثْلِ إِخْبَارِه: ((إِنَّكُم تُقَاتِلُون التُّرْكَ، صِغَارُ الأَعْيُنِ، ذُلْفُ الآنُفِ، يَنْتَعِلُونَ الشَّعْرَ، كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ المَجَانُّ
(1)
أَفَادَهُ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله فِي أَشْرِطَةَ فَتَاوَى سِلْسِلَةِ الهُدَى وَالنُّورِ (ش 426).
وَقَالَ المُنَاوِيُّ رحمه الله: "الغَيبُ: مَا غَابَ عَنِ الحِسِّ؛ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيهِ عِلْمٌ يَهْتَدِي بِهِ الفِعْلُ فَيَحْصُلُ بِهِ العِلْمُ". التَّوقِيفُ عَلَى مُهِمَّاتِ التَّعَارِيفِ (ص 254).
(2)
فَالقَدَرِيَّةُ مِنْهَا: هُوَ مَا جَرَتْ بِهِ العَادَةُ؛ كَبَعْضِ المُخْتَرَعَاتِ الحَدِيثَةِ الَّتِي قَدَّرَ اللهُ المَخْلُوقَ عَلَى صُنْعِهَا: كَالهَاتِفِ (لِعِلْمِ الحَاضِرِ)، وَالتَّصْوِيرِ الشُّعَاعِيِّ (لِعِلْمِ المُسْتَقْبَلِ مِنْ وُقُوعِ الحَمْلِ)، وَالتَّحْلِيلِ المَخْبَرِيِّ لِلمُستَحَاثَّاتِ وَغَيرِهَا (لِعِلْمِ المَاضِي)، وَكتَمْكِينِهِ تَعَالَى لِلجِنِّ مِنِ اسْتِرَاقِ السَّمْعِ وَإِخْبَارِهِم أَولِيَاءَهُم مِنَ الكُهَّانِ.
وَأَيضًا الرُّؤْيَا فِي المَنَامِ -وَهِيَ مِنَ اللهِ تَعَالَى-، وَقَدْ جَاءَ فِي الحَدِيثِ الوَعِيدُ عَلَى مَنْ أَرَى نَفْسَهُ مَا لَمْ يَرَ، كَمَا فِي الحَدِيثِ:((مَنْ تَحَلَّمَ بِحُلْمٍ لَمْ يَرَهُ؛ كُلِّفَ أَنْ يَعْقِدَ بَينَ شَعِيرَتَينِ وَلَنْ يَفْعَلَ)). البُخَارِيُّ (7042) مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا.
وَأَمَّا الشَّرْعِيَّةُ مِنْهَا: فَتَكُونُ وُفْقَ مَا دَلَّتْ عَلَيهِ النُّصُوصُ، فَعُلِمَ بِهَا أَنَّ الجَنَّةَ وَالنَّارَ مَوجُودَتَانِ (لِعِلْمِ الحَاضِرِ)، وَمَرَاحِلُ تَكوُّنِ الجَنِينِ (لِعِلْمِ الحَاضِرِ أَيضًا)، وَيَومُ القِيَامَةِ وَمَا سَيَكُونُ فِيهِ (لِعِلْمِ المُسْتَقْبَلِ)، وَقِصَّةُ مَرْيَمَ عليها السلام فِيمَا مَضَى مِنَ الزَّمَانِ (لِعِلْمِ المَاضِي).
المُطْرَقَةُ))
(1)
، وَقَولِهِ:((لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَخْرُجَ نَارٌ مِنْ أَرْضِ الحِجَازِ تُضِيءُ لها أَعْنَاقُ الإِبِلِ بِبُصْرَى))
(2)
، وَنَحو ذَلِكَ؛ فَهَذَا لَا يَقْدِرُ عَلَيهِ جِنِّيٌّ وَلَا إِنْسِيٌّ.
وَالمَقْصُودُ؛ أَنَّ مَا يُخْبِرُ بِهِ غَيرُ النَّبِيِّ مِن الغَيبِ مُعْتَادٌ، مَعْرُوفٌ نَظِيرُهُ مِن الجِنِّ وَالإِنْسِ؛ فَهُوَ مِن غَيبِ اللهِ الَّذِي قَالَ فِيهِ:{فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن: 26 - 27] "
(3)
.
وَنَقَلَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ رحمه الله عَنِ القُرْطُبِيِّ رحمه الله: "أَنَّ هَذِهِ الخَمْسَ لَا سَبِيلَ لِمَخْلُوقٍ عَلَى عِلْمٍ بِهَا قَاطِعٍ، وَأَمَّا الظَّنُّ بِشَيءٍ مِنْهَا بِأَمَارَةٍ قَدْ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ؛ فَلَيسَ ذَلِكَ بِمُمْتَنِعٍ، وَلَا نَفْيُهُ مُرَادٌ مِنْ هَذِهِ النُّصُوصِ"
(4)
.
وَهَذِهِ الخَمْسُ هِيَ الَّتِي فِي قَولِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لُقْمَان: 34].
(1)
صَحِيحُ البُخَارِيِّ (2770) عَن أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا.
(2)
صَحِيحُ البُخَارِيِّ (7118) عَن أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا.
(3)
النُّبُوَّاتُ لِابْنِ تَيمِيَّةِ (1/ 148).
(4)
فَتْحُ البَارِي لِابْنِ رَجَبٍ (1/ 216).
-
المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَا أَشْكَالُ عِلْمِ الغَيبِ
(1)
؟
الجَوَابُ:
1 -
عِلْمُ المُسْتَقْبَلِ.
قَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأَعْرَاف: 188]
(2)
.
(1)
كَمَا يُمْكِنُ تَقْسِيمُ هَذِهِ الأَشْكَالِ -مِنْ جِهَةِ العُمُومِ- إِلى: غَيبٍ مُطْلَقٍ: وَهُوَ الَّذِي لَمْ يُطْلِعْهُ اللهُ تَعَالَى عَلَى أَحَدٍ. وَإِلى غَيبٍ نِسْبِيٍّ: وَهُوَ الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يُطْلِعَهُ اللهُ تَعَالَى لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ.
(2)
قَالَ الشَّيخُ ابْنُ عُثَيمِين رحمه الله فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الكَهْفِ (ص 51): "وَالمُرَادُ بِالغَيبِ: المُسْتَقْبَلُ، أَمَّا المَوجُودُ أَوِ المَاضِي؛ فَمَنِ ادَّعَى عِلْمَهُمَا فَلَيسَ بِكَافِرٍ؛ لِأَنَّ هَذَا الشَّيءَ قَدْ حَصَلَ وَعَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ مِنَ النَّاسِ، لَكِنَّ غَيبَ المُسْتَقْبَلِ لَا يَكُونُ إِلَّا للهِ وَحْدَهُ".
قُلْتُ: لَعَلَّ الصَّوَابَ أَنَّهُ أَوسَعُ مِنْ ذَلِكَ كَمَا تَجِدُهُ فِي بَيَانِ أَنْوَاعِ الغَيبِ الَّتِي أَثْبَتْنَاهَا، وَأَمَّا كَونُ المَوجُودِ وَالمَاضِي مَعْلُومًا لِبَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ فَهَذَا كُلُّهُ بِقَيدِ أَنَّهُم اطَّلَعُوا عَلَيهِ بِوَاسِطَةٍ، كَمُشَاهَدَةٍ أَو خَبَرٍ أَو
…
، وَلَكِنَّ الغَيبَ -الَّذِي هُوَ مَوضُوعُ البَحْثِ- هُوَ مَا كَانَ بِغَيرِ وَاسِطَةٍ.
وَأَيضًا كُونُهُ جُعِلَ لَيسَ مِنَ الغَيبِ لِأَنَّهُ اطَّلَعَ عَلَيهِ بَعْضُهُم وَقَدْ مَضَى زَمَنُهُ! فَأَيضًا عِلْمُ مَا سَيَكُونُ قَدْ اطَّلَعَ عَلَيهِ بَعْضُهُ،؛ كَمَا فِي إخْبَارِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَعْضِ أَحْوَالِ يَومِ القِيَامَةِ وَأَشْرَاطِ السَّاعَةِ، وَهَذَا كُلُّهُ دَاخِلٌ فِي مُسَمَّى الغَيبِ.
قَالَ الشَّيخُ الآلُوسِيُّ رحمه الله فِي تَفْسِيرِهِ (رُوحُ المَعَانِي)(11/ 229) فِي قَولِهِ تَعَالَى: {فَلَمَّا قَضَينَا عَلَيهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} [سَبَأ: 14]: "وَفِي الآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الغَيبَ لَا يَخْتَصُّ بِالأُمُورِ المُسْتَقْبَلَةِ، بَلْ يَشْمَلُ الأُمُورَ الوَاقِعَةَ الَّتِي هِيَ غَائِبَةٌ عَنِ الشَّخْصِ أَيضًا".
2 -
عِلْمُ المَاضِي.
قَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عِمْرَان: 44].
3 -
عِلْمُ الحَاضِرِ فِيمَا غَابَ عَنْكَ حِسُّهُ.
قَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا قَضَينَا عَلَيهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} [سَبَأ: 14].
4 -
عِلْمُ البَاطِنِ وَمَا فِي الضَّمِيرِ.
قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [فَاطِر: 38]
(1)
.
(1)
وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيرَةَ المَرْفُوعُ فِي كِتَابَةِ المَلَكِ لِلحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ الَّذِي رَوَاهُ البُخَارِيُّ (6491)، وَمُسْلِمٌ (128) وَالَّذِي فِيهِ:((إِذَا هَمَّ عَبْدِي بِسَيِّئَةٍ فَلَا تَكْتُبُوهَا عَلَيهِ، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا سَيِّئَةً. وَإِذَا هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا فَاكْتُبُوهَا حَسَنَةً، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا عَشْرًا)) فَهُوَ يُفِيدُ عِلْمَ المَلَكِ بِمَا يَهُمُّ بِهِ العَبْدُ، وَلَكِنَّهُ مِمَّا عَلَّمَهُ اللهُ إِيَّاهُ لِيَكْتُبَهُ، أَو مِمَّا مَكَّنَهُ مِنْ مَعْرِفَتِهِ. أَفَادَهُ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله فِي الفَتْحِ (11/ 325).
فَلَيسَ بِغَرِيبٍ أَنْ يُمَكِّنَ اللهُ تَعَالَى المَلَكَ مِنْ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا إِخْبَارُهُ تَعَالَى عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ لَيسَ بِمَلَكٍ:{قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ} [الأَنْعَامُ: 50].
قَالَ البَغَوِيُّ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (3/ 145): " {لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ} أَي: خَزَائِنُ رِزْقِهِ فَأُعْطِيكُم مَا تُرِيدُونَ، {وَلَا أَعْلَمُ الْغَيبَ} فَأُخْبِرُكُم بِمَا غَابَ مِمَّا مَضَى وَمِمَّا سَيَكُونُ، {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّ المَلَكَ يَقْدِرُ عَلَى مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيهِ الآدَمِيُّ وَيُشَاهِدُ مَا لَا يُشَاهِدُهُ الآدَمِيُّ".
وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ الأَنْدَلُسِيُّ رحمه الله فِي تَفْسِيرِهِ (3/ 132): "فَاطِّلَاعُ الرَّسُولِ عَلَى الغَيبِ هُوَ بِإِطْلَاعِ اللهِ تَعَالَى بِوَحْيٍ إِلَيهِ، فَيُخْبَرُ بِأَنَّ فِي الغَيبِ كَذَا مِنْ نِفَاقِ هَذَا وَإِخْلَاصِ هَذَا، فَهُوَ عَالِمٌ بِذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الوَحِي لَا مِنْ جِهَةِ اطِّلَاعِهِ نَفْسِهِ مِنْ غَيرِ وَاسِطَةِ وَحْيٍ عَلَى المُغَيَّبَاتِ".
-
المَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لو قَالَ قَائِلٌ إِنَّ أَحَدَ الأَولِيَاءِ يَعْلَمُ الغَيبَ، فَمَاذَا يُقَالُ لَهُ؟
الجَوَابُ:
نَقُولُ لَهُ: كَذَبْتَ؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النَّمْل: 65]،
وَيَقُولُ تَعَالَى أَيضًا: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأَنْعَام: 59].
فَإِنْ قَالَ: إنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي أَطْلَعَهُ عَلَى ذَلِكَ! قُلْنَا لَهُ: أَيضًا كَذَبْتَ؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى حَصَرَ ذلِكَ الاطْلَاعَ فِي الرُّسُلِ فَقَط، قَالَ تَعَالَى:{عَالِمُ الْغَيبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَينِ يَدَيهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} [الجِنّ: 26 - 27] فَيَكُونُ ذَلِكَ إِمَّا كَذِبًا، أَو كِهَانَةً وَتَعَامُلًا مَعَ الجِنِّ.
بَلْ إِنْ حَقِيقَةَ هَذِهِ الدَّعْوَى إِبْطَالُ النُّبُوَّاتِ وَدَعَوَاتِ الأَنْبِيَاءِ، فَاللهُ تَعَالَى جَعَلَ اطِّلَاعَ عِيسَى عليه الصلاة والسلام عَلَى شَيءٍ مِنَ الغَيبِ آيَةً عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ، وَقَدْ احْتَجَّ بِهَا عِيسَى عليه الصلاة والسلام، كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى عَنْهُ {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عِمْرَان: 49].
مُلَاحَظَاتٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَسْأَلَةِ اطْلَاعِ اللهِ تَعَالَى الرُّسلَ عَلَى الغَيبِ:
- المُلَاحَظَةُ الأُوْلَى:
صَحِيحٌ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يُظْهِرُ رُسَلَهُ عَلَى الغَيبِ؛ وَلَكِنَّ الإِظْهَارَ هُوَ اطْلَاعٌ عَلَى شَيءٍ مِنْهُ فَقَط، وَلَيسَ عِلْمًا تَامًّا
(1)
.
(1)
وكَقَولِهِ تَعَالَى أَيضًا: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ} [آل عِمْرَان: 179].
=
أَمَّا دَعْوَى عِلْمِهِم بِالغَيبِ مُطْلَقًا فَهُوَ كَذِبٌ، قَالَ تَعَالَى عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:{قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيبَ} [الأَنْعَام: 50]
(1)
.
- المُلَاحَظَةُ الثَّانِيَةُ:
هَذِهِ الأَشْيَاءُ الَّتِي أُطْلِعَ عَلَيهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هِيَ مِنْ بَابِ إِظْهَارِ الآيَاتِ عَلَى صِدْقِهِ وَعَلَى تَأْيِيدِ رَبِّهِ لَهُ، وَلَكنَّهُ لَا يَمْلِكُ أَنْ يَأْتِيَ بِهَا اسْتِقْلَالًا
(2)
، بَلْ هِيَ مَقْرُونَةٌ بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَى، وَلَهُ الحِكْمَةُ البَالِغَةُ فِي اطْلَاعِهِ عَلَيهَا مَتَى شَاءَ سُبْحَانَهُ، قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ
=
قَالَ أَبُو حَيَّانَ الأَنْدَلُسِيُّ رحمه الله فِي تَفْسِيرِهِ البَحْرُ المُحِيطُ (3/ 132): "فَاطِّلَاعُ الرَّسُولِ عَلَى الغَيبِ هُوَ بِإِطْلَاعِ اللهِ تَعَالَى بِوَحْيٍ إِلَيهِ، فَيُخْبَرُ بِأَنَّ فِي الغَيبِ كَذَا مِنْ نِفَاقِ هَذَا وَإِخْلَاصِ هَذَا، فَهُوَ عَالِمٌ بِذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الوَحِي، لَا مِنْ جِهَةِ اطِّلَاعِهِ نَفْسِهِ مِنْ غَيرِ وَاسِطَةِ وَحْيٍ عَلَى المُغَيَّبَاتِ".
(1)
قَالَ تَعَالَى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} [التَّوبَة: 101].
وَقَالَ أَيضًا سُبْحَانَهُ: {وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأَنْفَال: 60].
وَفِي الحَدِيثِ: ((إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ؛ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ؛ فَمَنْ قَضَيتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ شَيئًا بِقَولِهِ؛ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ؛ فَلَا يَأْخُذْهَا)). رَوَاهُ البُخَارِيُّ (2680) عَنْ أمِّ سَلَمَةَ مَرْفُوعًا.
وَفِي الحَدِيثِ: ((أَلَا إِنَّهُ يُجَاءُ بِرِجَالٍ مِنْ أُمَّتِي فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أَصْحَابِي! فَيُقَالُ: لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ)). رَوَاهُ البُخَارِيُّ (4740) عَنِ ابْنِ عبَّاسٍ مَرْفُوعًا.
وَكَمَا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها فِي رَدِّهَا عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ؛ حَيثُ قَالَتْ رضي الله عنها: (وَمَنْ حَدَّثَكَ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ؛ فَقَدْ كَذَبَ، ثُمَّ قَرَأَتْ: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا}، وَمَنْ حَدَّثَكَ أَنَّهُ كَتَمَ؛ فَقَدْ كَذَبَ ثُمَّ قَرَأَتْ: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيكَ مِنْ رَبِّكَ}) البُخَارِيُّ (4855)، وَمُسْلِمٌ (177).
(2)
أَي أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ أَنْ يَأْتِيَ بِهَا مَتَى شَاءَ بِاخْتِيَارِهِ وَقَصْدِهِ؛ وَإِلَّا فَكُلُّ شَيءٍ مَقْرُونٌ بِحَولِ اللهِ تَعَالَى وَمَشِيئَتِهِ؛ فَلَا حَولَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ.
لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [الرَّعْد: 38]
(1)
.
فَمَا يُخْبِرُ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أُمُورِ المُغَيَّبَاتِ إِنَّمَا هُوَ بِإِطْلَاعِ اللهِ تَعَالَى لَهُ عَلَيهِ وَلَيسَ اسْتِقْلَالًا، لِذَلِكَ أَثْبَتَ اللهُ تَعَالَى الإِظْهَارَ مِنْهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَنَفَى عَنْهُ العِلْمَ بِالغَيبِ، فَقَالَ تَعَالَى:{عَالِمُ الْغَيبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَينِ يَدَيهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} [الجِنّ: 26 - 27]، وَقَالَ أَيضًا سُبْحَانَهُ فِي النَّفْي:{قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيبَ} [الأَنْعَام: 50].
وَتَأَمَّلْ قَولَهُ تَعَالَى فِي حِوَارِ الهُدْهُدِ مَعَ سُلَيمَانَ عليه السلام: {فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} [النَّمْل: 22]! فِي "أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ مِنَ الأَنْبِيَاءِ عليهم السلام شَيئًا مِمَّا غَابَ عَنْهُ إلّا بِإِعْلَامِ اللهِ، فَلَيسَ لَهُم كَشْفٌ عَامٌّ عَنْ جَمِيعِ مَا فِي الكَونِ! وَإِنَّمَا يَعْلَمُونَ مِنْهُ مَا أَطْلَعَهُمُ اللهُ عَلَيهِ، وَمِنْ مَدَارِكِ ذَلِكَ هَذِهِ القِصَّةُ؛ فَإِنَّ سُلَيمَانَ عليه السلام لَم يَكُنْ يَعْلَمُ مِنْ مَمْلَكَةِ سَبَأٍ شَيئًا حَتَّى أَطْلَعَهُ اللهُ عَلَيهِ بِوَاسِطَةِ الهُدْهُدِ! وَإِذَا كَانَ هَذَا حَالُ الأَنْبِيَاءِ عَلَيهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ؛ فَغَيرُهُم مِنْ عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ مِنْ بَابِ أَحْرَى وَأَوْلَى"
(2)
.
- المُلَاحَظَةُ الثَّالِثَةُ:
أَنَّ الغَايَةَ مِنْ إِظْهَارِهِم عَلَى شَيءٍ مِنَ الغَيبِ هُوَ تَأْيِيدُهُم عَلَى صِحَّةِ دَعوَاهُم، وَإظْهَارُ نُصْرَتِهِم عَلَى عَدُوِّهِم، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ عِيسَى عليه الصلاة والسلام:{وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عِمْرَان: 49]؛ بِخِلَافِ
(1)
وقَالَ تَعَالَى أَيضًا: {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [إِبْرَاهِيم: 11].
(2)
تَفْسِيرُ ابْنِ بَادِيسَ (ص 271).
غَايَةِ مَنْ يَنْسِبُ عِلْمَ الغَيبِ إِلَى المَشَايخِ وَالأَولِيَاءِ -مِنَ المُتَصَوِّفَةِ وَغَيرِهِم- فَهُمْ يُرِيدُونَ بِذَلِكَ فَتْحَ بَابِ الاسْتِغَاثَةِ بِهِم وَالتَّعَلُّقِ بِهِم وَالتَّوَكُّلِ عَلَيهِم! وَشَتَّانَ بَينَ الوَجْهَينِ
(1)
.
- المُلَاحَظَةُ الرَّابِعَةُ:
أَمَّا مَا يُنْسَبُ لِبَعْضِ الشُّيُوخِ أَوِ الصَّالِحِينَ مِنْ أُمُورٍ تَشْتَبِهُ عَلَى سَامِعِهَا، أَو تَحْصُلُ مَعَ أَفْرَادٍ مِنَّا نَحنُ؛ فيُمْكِنُ تَصْدِيقُهَا -مَا لَمْ تُخَالِفْ نَصًّا- عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّهَا لَيسَتْ بِغَيبٍ؛ وَلَا بِإِطْلَاعٍ مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَلَكِنَّه قَدْ يَكُونُ إِلْهَامًا وَمَعُونَةً مِنْهُ تَعَالَى وَتَوفِيقًا، وَلَكِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ لَا يَسْتَطيعُ صَاحِبُهُ أَنْ يَجْزِمَ بِكَونِهِ تَلَقَّاهُ مِنَ اللهِ تَعَالَى؛ وَأَنَّهُ تَعَالَى أَطْلَعَهُ عَلَى الغَيبِ! وَلَكِنَّهُ حَدْسٌ وَحُسْنُ ظَنٍّ بِهِ تَعَالَى أنَّهُ سَيُوَفِّقُهُ فِي أَمْرِهِ.
كَمَا فِي الحَدِيثِ عَنْ أَنَسٍ؛ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ، وَيُعْجِبُنِي الفَأْلُ)). قَالُوا: وَمَا الفَأْلُ؟ قَالَ: ((الكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ))
(2)
.
(1)
وَيَلْزَمُ عَلَى مَذْهَبِ هَؤُلَاءِ أَنْ يُصَحِّحُوا دُعَاءَ النَّصَارَى لِعِيسَى عليه الصلاة والسلام؛ وَهُوَ أَولَى مِنْ تَصْحِيحِ دُعَائِهِم لِأَولِيَائِهِم؛ وَذَلِكَ لِكَونِ النَّصِّ القُرْآنِيِّ قَدْ شَهِدَ لِعِيسَى عليه الصلاة والسلام بِأَمْرَينِ زَائِدَينِ عَلَى دَعْوَى أَولَئِكَ، وُهُمَا:
أ- أَنَّ اللهَ تَعَالَى مَكَّنَهُ مِنَ العِلْمِ بِالغَيبِ؛ بَلْ وَمِنْ شِفَاءِ المَرْضَى وَإِحْيَاءِ المَوتَى -بِإِذْنِهِ؛ وَكَمَا يَقُولُونَ عَنْ أَولِيَائِهِم! -.
ب) حَيَاتُهُ الحَقِيقِيَّةُ -وَلَيسَتِ البَرْزَخِيَّةَ كَحَالِ أَولِيَائِهِم- الآنَ، حَيثُ أَنَّهُ لَمْ يَمُتْ وَإِنَّمَا رُفِعَ عليه الصلاة والسلام.
وَحَقِيقَةُ حَالِ هَؤُلَاءِ أَنَّهُم غَافِلُونَ عَنْ أَنَّ أَصْلَ شِرْكِ المُشْرِكِينَ كَانَ فِي التَّعَلُّقِ بِالصَّالِحِينَ، كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِصَّةِ اللَّاتِ، وَقِصَّةِ قَومِ نُوحٍ عليه الصلاة والسلام مَعَ صَالِحِيهِم.
وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُ ذَلِكَ فِي مَوضِعِهِ، وَالحَمْدُ للهِ عَلَى تَوفِيقِهِ.
(2)
البُخَارِيُّ (5776)، ومُسْلِمٌ (2224). وَسَيَأْتِي مَزِيدُ بَيَانٍ -إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى- فِي بَابِ (مَا جَاءَ فِي التَّطَيُّرِ).
وَكَمَا فِي الحَدِيثِ: ((لَقَدْ كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُم مِنَ الأُمَمِ نَاسٌ مُحَدَّثونَ مِنْ غَيرِ أَنْ يَكُونُوا أَنْبِيَاءَ، فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ؛ فَإِنَّهُ عُمَرُ))
(1)
(2)
.
وَهَذَا عَلَى القَولِ بِأَنَّهُ لَيسَ خَاصًّا بِعُمَرَ رضي الله عنه، وَسَيَأْتِي مَزِيدُ بَيَانٍ فِي ذَلِكَ.
(1)
رَوَاهُ البُخَارِيُّ (3689) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا، وَمُسْلِمٌ (2398) عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا.
(2)
رَاجِعْ شَرِيطَ (688) مِنْ أَشْرِطَةَ فَتَاوَى سِلْسِلَةِ الهُدَى وَالنُّورِ لِلشَّيخِ الأَلْبَانِيِّ رحمه الله عِنْدَ جَوَابِ سُؤَالٍ (هَلِ الرُّؤيا الصَّالِحَةُ مِنَ الغَيبِ؟).
-
المَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَا الوَحْيُ وَمَا الإِلْهَامِ؟
الجَوَابُ:
الوَحْيُ لُغَةً: هُوَ الإِعْلَامُ بِسُرْعَةٍ وخَفَاءٍ، وَهُوَ نَوعَانِ: وَحْيُ إِلْهَامٍ، وَوَحْيُ إِرْسَالٍ.
فَوَحْيُ الإِلْهَامِ: هُوَ كَقَولِهِ تَعَالَى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} [النَّحل: 68]، وكَقَولِهِ تَعَالَى:{وَأَوْحَينَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} [القَصَص: 7].
وَأَمَّا وَحْيُ الإِرْسَالِ: فَهُوَ الَّذِي يَنْزِلُ بِهِ جِبْرِيلُ إِلَى الرُّسُلِ، وَهَذَا الوَحْيُ قَدْ يَكُونَ مَا يُخَاطَبُ بِهِ النَّبِيُّ مُشَافَهَةً وَيَرَاهُ بِعَينِهِ
(1)
، وَقَدْ يَكُونُ مَا يُبَثُّ فِي نَفْسِهِ
(2)
.
وَإِذَا أُطْلِقَ لَفْظُ الوَحْيِّ فَالأَصْلُ أَنَّهُ يُقْصَدُ بِهِ مَا كَانَ مِنَ اللهِ تَعَالَى جَزْمًا
(3)
، رُغْمَ أَنَّهُ قَدْ يٌقْصَدُ بِهِ أَحْيَانًا الإِلْهَامُ، أَو تَزْيِينُ الشَّيَاطِينِ
(4)
.
(1)
كَمَا فِي الحَدِيثِ: (كَانَ جَبْرَائِيلُ يَأْتِي النَّبِيَّ فِي صُورَةِ دِحْيَةَ الكَلْبِيِّ). صَحِيحٌ. ابْنُ سَعْدٍ (4/ 250) عَنِ ابْنِ عُمَرَ. اُنْظُرِ التَّعْلِيقَ عَلَى حَدِيثَ الصَّحِيحَةِ (1111).
قُلْتُ: وَالمَعْنَى أَنَّ جِبْرَائِيلَ عليه السلام كَانَ أَشْبَهَ بِدِحْيَةَ الكَلْبِيِّ؛ لَا أَنَّهُ هُوَ دِحْيَةُ الكَلْبِيُّ! كَمَا فِي لَفْظِ ابْنِ سَعْدٍ (4/ 250) عَنِ ابْنِ شِهَابٍ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (1111).
(2)
كَمَا فِي الحَدِيثِ: ((إنَّ رُوحَ القُدْسِ نَفَثَ فِي رُوعِي؛ أَنَّهُ لَنْ تَمُوتَ نَفْسٌ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا وأَجَلَهَا)). صَحِيحٌ. الحَاكِمُ (2136) عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (2866).
(3)
كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الشُّورَى: 51].
(4)
كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأَنْعَام: 112].
وَأَمَّا الإِلْهَامُ فَالأَصْلُ أَنَّهُ يُقْصَدُ بِهِ مَا يَقَعُ فِي النَّفْسِ مِنْ غَيرِ أَنْ يَجْزِمَ المَرْءُ بِأَنَّهُ مِنَ اللهِ تَعَالَى، فَتُحَدِّثُهُ نَفْسُهُ بِهِ، كَمَا جَرَى معَ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رضي الله عنه
(1)
.
فَالفَرْقُ بَينَهُمَا -كَمَا أَثْبَتْنَا آخِرًا- أَنَّ الوَحْيَ يَكُونُ حَقًّا ومِنَ اللهِ تَعَالَى
(2)
.
وَهَذَا الوَحْيُ اليَومَ إِنْ كَانَ فِي الشَّرِيعَةِ فَهُوَ مُحَالٌ، وَذَلِكَ لِكَمَالِ الشَّريعَةِ بِوَفَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، لِقَولِهِ تَعَالَى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المَائِدَة: 3]، وَإِنْ كَانَ فِي غَيرِهَا؛ فَمَرْدُودٌ أَيضًا، وَذَلِكَ لِانْقِطَاعِ الوَحْي بِعْدَهُ أَيضًا صلى الله عليه وسلم.
وَفِي الأَثَرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: (مَا نَزَلَ وَحْيٌ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم
(3)
.
وَأَمَّا الإِلْهَامُ فَلَا يَسْتَطِيعُ صَاحِبُهُ أَنْ يَجْزِمَ بِصَوَابِهِ أَصْلًا؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ ضَلَالًا فِي نَفْسِهِ؛ أَو مُفْضِيًا إِلَى ضَلَالٍ.
قَالَ شَيخُ الإِسْلَامِ رحمه الله: "وَلَيسَ كُلُّ مَن رَأَى رُؤْيَا كَانَتْ وَحْيًا! فَكَذَلِكَ لَيسَ كُلُّ مَن أُلْقِيَ فِي قَلْبِهِ شَيءٌ يَكُونُ وَحْيًا، وَالإِنْسَانُ قَدْ تَكُونُ نَفْسُهُ فِي يَقَظَتِهِ أَكْمَلَ مِنْهَا فِي نَومِهِ، كَالْمُصَلِّي الَّذِي يُنَاجِي رَبَّهُ، فَإِذَا جَازَ أَنْ يُوحَى إِلَيهِ فِي حَالِ النَّومِ
(1)
كَمَا سَبَقَ فِي الحَدِيثِ: ((لَقَدْ كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُم مِنَ الأُمَمِ نَاسٌ مُحَدَّثُونَ مِنْ غَيرِ أَنْ يَكُونُوا أَنْبِيَاءَ، فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ؛ فإِنَّهُ عُمَرُ)). قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: تَفْسِيرُ (مُحَدَّثُونَ): مُلْهَمُون. رَوَاهُ البُخَارِيُّ (3689) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا، وَمُسْلِمٌ (2398) عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا.
وَعَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ هَذَا هُوَ فَقِيهٌ مِنَ الأَئِمَّةِ؛ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، (ت 197 هـ).
(2)
لِذَلِكَ فَقَدْ جَعَلَ اللهُ تَعَالَى لِهَذَا الوَحْي حَرَسًا لِئَلَّا يُسْتَرَقَ وَلِئَلَّا يُخْلَطَ بِهِ غَيرُهُ، بِخِلَافِ الإِلْهَامِ.
قَالَ تَعَالَى: {عَالِمُ الْغَيبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَينِ يَدَيهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} [الجِنّ: 26 - 27].
(3)
صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (2142). صَحَّحَهُ الشَّيخُ شُعَيبٌ الأَرْنَؤُوطُ.
فَلِمَاذَا لَا يُوحَى إِلَيهِ فِي حَالِ اليَقَظَةِ؟! كَمَا أَوحَى إِلَى أُمِّ مُوسَى وَالحَوَارِيِّين وَإِلَى النَّحْلِ، لَكِنْ لَيسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُطْلِقَ القَولَ عَلَى مَا يَقَعُ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ وَحْيٌ لَا فِي يَقَظَةٍ وَلَا فِي المَنَامِ إِلَّا بِدَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ؛ فَإِنَّ الوَسْوَاسَ غَالِبٌ عَلَى النَّاسِ. وَاللهُ أَعْلَمُ"
(1)
.
وَهَذَا الإِلْهَامُ إِنْ كَانَ خَيرًا كَانَ تَوفِيقًا مِنَ اللهِ تَعَالَى وَمَعُونَةً، وَإِنْ كَانَ شَرًّا فَإِضْلَالٌ مِنَ الشَّيطَانِ.
قُلْتُ: فَضَابِطُهُ أَمْرَانِ: عَدَمُ مُخَالَفَةِ الشَّرْعِ، ثُمَّ حُصُولُ الخَيرِ بِهِ. وَاللهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
وَفِي الحَدِيثِ: ((إِنَّ لِلشَّيطانِ لَمَّةً بِابْنِ آدَمَ وَلِلْمَلَكِ لَمَّةً، فَأَمَّا لَمَّةُ الشَّيطَانِ: فَإِيعَادٌ بِالشَّرِّ وَتَكْذِيبٌ بِالحَقِّ، وَأَمَّا لَمَّةُ المَلَكِ: فَإِيعَادٌ بِالخَيرِ وَتَصْدِيقٌ بِالحَقِّ. فَمَنْ وَجَدَ ذَلِكَ فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ مِنَ اللهِ تَعَالَى؛ فَلْيَحْمَدِ اللهِ، وَمَنْ وَجَدَ الأُخْرَى؛ فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ))
(2)
.
قَالَ الإِمَامُ ابْنُ القَيِّمِ رحمه الله عِنْدَ شَرْحِ حَدِيثِ الصِّرَاطِ وَالسُّورَانِ
(3)
-: "فَهَذَا
(1)
مَجْمُوعُ الفَتَاوَى (17/ 532).
(2)
صَحِيحٌ. التِّرْمِذِيُّ (2988) عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ مَوَارِدِ الظَمْآنِ (38)، وَكَانَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ قَدْ ضَعَّفَهُ أَوَّلًا، ثُمَّ صَحَّحَه بَعْدُ؛ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
(3)
وَالحَدِيثُ هُوَ: ((ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا، وَعَلَى جَنْبَتَي الصِّرَاطِ سُورَانِ، فِيهِمَا أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ، وَعَلَى الأَبْوَابِ سُتُورٌ مُرْخَاةٌ، وَعَلَى بَابِ الصِّرَاطِ دَاعٍ يَقُولُ: أَيُّهَا النَّاسُ؛ ادْخُلُوا الصِّرَاطَ جَمِيعًا وَلَا تَتَعَرَّجُوا [وَفِي نُسَخٍ: وَلَا تَتَفَرَّجُوا، وَلَا تَعْوَجُّوا]، وَدَاعٍ يَدْعُو مِنْ فَوقِ الصِّرَاطِ؛ فَإِذَا أَرَادَ يَفْتَحُ شَيئًا مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ قَالَ: وَيحَكَ! لَا تَفْتَحْهُ، فَإِنَّكَ إِنْ تَفْتَحْهُ تَلِجْهُ. وَالصِّرَاطُ الإِسْلَامُ، وَالسُّورَانِ: حُدُودُ اللهِ،
=
الوَاعِظُ فِي قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ هُوَ الإِلْهَامُ الإِلَهِيُّ بِوَاسِطَةِ المَلَائِكَةِ"
(1)
.
وَمِنَ الجَدِيرِ بِالذِّكْرِ هُنَا التَّفْرِيقُ بَينَ الفِرَاسَةِ وَالإِلْهَامِ؛ وَحَقِيقَتُهُ "أَنَّ الْفِرَاسَةَ قَدْ تَتَعَلَّقُ بِنَوْعِ كَسْبٍ وَتَحْصِيلٍ، وَأَمَّا الْإِلْهَامُ فَمَوْهِبَةٌ مُجَرَّدَةٌ لَا تُنَالُ بِكَسْبٍ الْبَتَّةَ"
(2)
.
=
وَالأَبْوَابُ المُفَتَّحَةُ: مَحَارِمُ اللهِ، وَذَلِكَ الدَّاعِي عَلَى رَأْسِ الصِّرَاطِ: كِتَابُ اللهِ، وَالدَّاعِي مِنِ فَوقَ الصِّرَاطِ: وَاعِظُ اللهِ فِي قَلْبِ كُلِّ مُسْلِمٍ)). صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (17634) عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (3887).
(1)
مَدَارِجُ السَّالِكِينَ (1/ 70).
(2)
مَدَارِجُ السَّالِكِين (1/ 69).
-
المَسْأَلَةُ الخَامِسَةُ: مَا الجَوَابُ عَنْ شُبْهِةِ كَونِ عُمَرَ مُحَدَّثًا؛ فَهُوَ إِذًا يَعْلَمُ الغَيبَ؟
بَلْ فِي قِصَّةِ سَارِيَةَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ اطَّلَعَ عَلَى القَومِ وَأَنَّ عَدُوَّهُم يُبَاغِتُهُم وَيَهْزِمُهُم، ثُمَّ أَمَرَ سَارِيَةَ بِأَخْذِ نَاحِيَةِ الجَبَلِ كَي يَسْلَمَ مِنْهُم
(1)
!
وَأَيضًا قَدْ قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنه بِقِرَاءَةٍ فِيهَا: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ وَلَا مُحَدَّثٍ} بِزِيَادَةِ -وَلَا مُحَدَّثٍ- مِنْ سُورَةِ الحَجِّ
(2)
، فَهِيَ تَدُلُّ عَلَى عِلْمِ المُحَدَّثِ بِالغَيبِ أَيضًا!
الجَوَابُ مِنْ أَوجُهٍ:
1 -
أَنَّ الحَدِيثَ لَمْ يَجْزِمُ بِذَلِكَ، بَلْ جَاءَ عَلَى جِهَةِ الفَرْضِ لَا الجَزْمِ.
وَلَفْظُ الحَدِيثِ هُوَ: ((لَقَدْ كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُم مِنَ الأُمَمِ نَاسٌ مُحَدَّثُونَ مِنْ غَيرِ أَنْ يَكُونُوا أَنْبِيَاءَ، فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ؛ فَإِنَّهُ عُمَرُ))
(3)
.
2 -
أَنَّ الحَدِيثَ نَفْسَهُ يُبيِّنُ أَنَّ الاطِّلَاعَ عَلَى الغَيبِ لَا يَكُونُ إِلَّا لِلأَنْبِيَاءِ، وَأَمَّا التَّحَدِيثُ فَهُوَ مُشَابِهٌ لَهُ وَلَكِنَّه لَيسَ مِنْهُ، فَصَاحِبُهُ يُحَدَّثُ إِمَّا صَرَاحَةً أَو فِي نَفْسِهِ بِأَشْيَاءَ؛ لَكِنَّه لَا يَسْتَطِيعُ الجَزْمَ بَصَحَّتِهَا.
وَبُرْهَانُ ذَلِكَ هُوَ مِنْ وَجْهَينِ:
أ- أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه نَفْسَهُ قَدْ جَاءَ عَنْهُ قَولُهُ: (وَافَقْتُ رَبِّي فِي ثَلَاثٍ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَو اتَّخَذْنَا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى فَنَزَلَتْ:{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} .
(1)
وَسَيَأْتِي فِي الجَوَابِ ذِكْرُ تَفَاصِيلِ القِصَّةِ.
(2)
قَالَ القُرْطُبِيُّ رحمه الله فِي تَفْسِيرِهِ (12/ 79): "قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَجَاءَ عَنِ ابْنِ عبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ وَلَا مُحَدَّثٍ} ".
(3)
رَوَاهُ البُخَارِيُّ (3689) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا، وَمُسْلِمٌ (2398) عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا.
وَآيَةُ الحِجَابِ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ لَو أَمَرْتَ نِسَاءَكَ أَنْ يَحْتَجِبْنَ؛ فَإِنَّهُ يُكَلِّمُهُنَّ البَرُّ وَالفَاجِرُ! فَنَزَلَتْ آيَةُ الحِجَابِ.
وَاجْتَمَعَ نِسَاءُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الغَيرَةِ عَلَيهِ، فَقُلْتُ لَهُنَّ:{عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبَدِّلَهُ أَزْوَاجًا خَيرًا مِنْكُنَّ} ! فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ). مُتَّفَقٌ عَلَيهِ
(1)
.
فَظَهَرَ صَرَاحَةً أَنَّهُ وَافَقَ الحَقَّ فِي هَذِهِ الثَّلَاثِ دُونَ جَزْمٍ مِنْهُ أَنَّهُ كَانَ عَلَى الحَقِّ، بَلْ لَو كَانَ وَاثِقًا مِنْ ذَلِكَ لَمَا قَالَ:(وَافَقْتُ)، بَلْ قَالَ:(أَطَعْتُ رَبِّي فِي قَولِ ثَلَاثٍ)، بَلْ وَلَمَا كَانَ بِحَاجَةٍ إِلَى أَنْ يَنْتَظِرَ إِقْرَارَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِذَلِكَ. وَالحَمْدُ للهِ عَلَى تَوفِيقِهِ.
ب- أَنَّ عُمَرَ نَفْسَهُ رضي الله عنه قَدْ نُقِلَ عَنْهُ مَا كَانَ خِلَافَ الحَقِّ ثُمَّ رَجَعَ إِلَيهِ لَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ ذَلِكَ، كَمَا فِي رَأْيهِ فِي صُلْحِ الحُدَيبِيَةِ
(2)
، وَأَيضًا فِي حِوَارِهِ معَ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما فِي حَرْبِ الرِّدَّةِ
(3)
، فَلَو كَانَ يَعْلَمُ الغَيبَ أَو يَجْزِمُ بِأَنَّهُ عَلَى الحَقِّ لَمَا صَدَرَ عَنْهُ كُلُّ ذَلِكَ،
(1)
رَوَاهُ البُخَارِيُّ (402)، وَمُسْلِمٌ (2399) عَنْ عُمَرَ مَرْفُوعًا.
(2)
وَالحَدِيثُ بِتَمَامِهِ: قَامَ سَهْلُ بْنُ حُنَيفٍ؛ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ اتَّهِمُوا أَنْفُسَكُمْ؛ فَإِنَّا كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَومَ الحُدَيبِيَةِ؛ وَلَو نَرَى قِتَالًا لَقَاتَلْنَا -وَذَلِكَ فِي الصُّلْحِ الَّذِي كَانَ بَينَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَبَينَ المُشْرِكِينَ-، فَجَاءَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ؛ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ أَلَسْنَا عَلَى الحَقِّ وَهُمْ عَلَى البَاطِلِ؟! فَقَالَ: ((بَلَى))، فَقَالَ: أَلَيسَ قَتْلَانَا فِي الجَنَّةِ وَقَتْلَاهُمْ فِي النَّارِ؟! قَالَ: ((بَلَى))، قَالَ: فَعَلَامَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا؟! أَنَرْجِعُ وَلَمَّا يَحْكُمِ اللهُ بَينَنَا وَبَينَهُمْ؟! فَقَالَ: ((يَا ابْنَ الخَطَّابِ! إِنِّي رَسُولُ اللهِ وَلَنْ يُضَيِّعَنِي اللهُ أَبَدًا))، فَانْطَلَقَ عُمَرُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِنَّهُ رَسُولُ اللهِ وَلَنْ يُضَيِّعَهُ اللهُ أَبَدًا؛ فَنَزَلَتْ سُورَةُ الفَتْحِ، فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى عُمَرَ إِلَى آخِرِهَا، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ أَوَ فَتْحٌ هُوَ؟ قَالَ: ((نَعَمْ)). رَوَاهُ البُخَارِيُّ (3182)، وَمُسْلِمٌ (1785).
(3)
وَالحَدِيثُ بِتَمَامِهِ عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَاسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ -وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنَ العَرَبِ-، قَالَ عُمَرُ: يَا أَبَا بَكْرٍ؛ كَيفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَمَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؛ فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلَّا بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُ عَلَى اللهِ)؟!
=
وَلَكِنَّهُ رضي الله عنه كَانَ مُوَفَّقًا لِقَولِ الصَّوَابِ كَمَا فِي الحَدِيثِ: ((إنَّ اللهَ جَعَلَ الحَقَّ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ يَقُولُ بِهِ))
(1)
.
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله: "فَقَد كَانَ عُمَرُ رضي الله عنه رَأْسَ الْمُلْهَمِينَ؛ وَمَعَ ذَلِكَ فَكَانَ رُبَّمَا رَأَى الرَّأْيَ فَيُخْبِرُهُ بَعْضُ الصَّحَابَةِ بِخِلَافِهِ فَيَرْجِعُ إِلَيهِ وَيَتْرُكُ رَأْيَهُ، فَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ يَكْتَفِي بِمَا يَقَعُ فِي خَاطِرِهِ عَمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ عليه الصلاة والسلام! فَقَدِ ارْتَكَبَ أَعْظَمَ الْخَطَأ، وَأَمَّا مَنْ بَالَغَ مِنْهُمْ فَقَالَ: حَدَّثَنِي قَلْبِي عَنْ رَبِّي! فَإِنَّهُ أَشَدُّ خَطَأً؛ فَإِنَّهُ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ قَلْبُهُ إِنَّمَا حَدَّثَهُ عَنِ الشَّيطَانِ! وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ"
(2)
.
قَالَ شَيخُ الإِسْلَامِ رحمه الله: "وَالْقِرَاءَةُ الْعَامَّةُ لَيسَ فِيهَا (المُحَدَّثُ)، إذْ يَجُوزُ أَنْ يُقَرَّ عَلَى بَعْضِ الْخَطَأِ وَيُدْخِلَ الشَّيطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ بَعْضَ مَا يُلْقِيهِ فَلَا يُنْسَخُ، بِخِلَافِ الرَّسُولِ وَالنَّبِيِّ؛ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ نَسْخِ مَا يُلْقِي الشَّيطَانُ وَأَنْ يُحْكِمَ اللَّهُ آيَاتِهِ لِأَنَّهُ حَقٌّ، وَالْمُحَدَّثُ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَعْرِضَ مَا يُحَدَّثُهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ. وَلِهَذَا أَلْقَى الشَّيطَانُ لِعُمَرِ -وَهُوَ مُحَدَّثٌ- فِي قِصَّةِ الْحُدَيبِيَةِ، وَقِصَّةِ مَوْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَقِصَّةِ اخْتِلَافِهِ وَهِشَامَ بْنِ حَكِيمِ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ؛ فَأَزَالَهُ عَنْهُ نُورُ النُّبُوَّةِ"
(3)
.
3 -
أَنَّ مَا جَرَى لِعُمَرَ رضي الله عنه -فِي قِصَّةِ سَارِيَةَ- لَيسَ فِيهِ عِلْمٌ بِالغَيبِ مُطْلَقًا،
=
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاللَّهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَينَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ؛ فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ المَالِ، وَاللَّهِ لَو مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا. قَالَ عُمَرُ: فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ رَأَيتُ أَنْ قَدْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ؛ فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الحَقُّ. رَوَاهُ البُخَارِيُّ (6925)، وَمُسْلِمٌ (20).
(1)
صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (5145) عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (1736).
(2)
فَتْحُ البَارِي (11/ 345).
(3)
مَجْمُوعُ الفَتَاوَى (2/ 52).
وَلَكنَّهُ مِنْ بَابَ الكَرَامَاتِ الَّتِي أَكْرَمَهُ اللهُ تَعَالَى بِهَا -لَهُ وَلِغَيرِهِ- وَنَفَعَ اللهُ بِهَا النَّاسَ، وَلَمْ يَقُلْ عُمَرُ رضي الله عنه يَومًا إِنَّهُ يَعْلَمُ الغَيبَ؛ وَلَا قَالَهُ أَحَدٌ عَنْهُ، بَلْ ولَا أَنَّهُ اطَّلَعَ عَلَى الغَيبِ أَصْلًا!
وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الرِّوَايَةَ الَّتِي صَحَّتْ فِي ذَلِكَ هِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما؛ قَالَ: (وَجَّهَ عُمَرُ جَيشًا، وَرَأَّسَ عَلَيهِمْ رَجُلًا يُدْعَى سَارِيَةَ، فَبَينَا عُمَرُ رضي الله عنه يَخْطُبُ جَعَل يُنَادِي: يَا سَارِيَةُ، الجَبَلَ! -ثَلَاثَ مَرَّاتٍ-، ثُمَّ قَدِمَ رَسُولُ الجَيشِ فَسَأَلَهُ عُمَرُ، فَقَال: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ هُزِمْنَا، فَبَينَا نَحْنُ كَذَلِكَ إِذْ سَمِعْنَا صَوتًا يُنَادِي: يَا سَارِيَةُ إِلَى الجَبَلِ! -ثَلَاثَ مَرَّاتٍ-، فَأَسْنَدْنَا ظُهُورَنَا إِلَى الجَبَلِ؛ فَهَزَمَهُمُ اللهُ تَعَالَى -وَكَانَتِ المَسَافَةُ بَينَ المَدِينَةِ حَيثُ كَانَ يَخْطُبُ عُمَرُ وَبَينَ مَكَانِ الجَيشِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ- فَقيلَ لِعُمَرَ: إِنَّكَ كُنْتَ تَصِيحُ بِذَلِكَ)
(1)
. فَلَيسَ فِيهَا عِلْمُهُ بِمَا وَقَعَ لَهُم؛ وَإِنَّمَا جَرَى مِنْهُ كَلَامٌ أَثْنَاءَ خُطْبَتِهِ دُونَ قَصْدٍ مِنْهُ أَصْلًا وَلَا عِلْمٍ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ سُؤَالُهُ رَسُولَ الجَيشِ مَا جَرَى مَعَهُ، وَأَيضًا قَولُ النَّاسِ لَهُ:(إِنَّكَ كُنْتَ تَصِيحُ بِذَلِكَ!)
(2)
.
عَلَى أَنَّهُ حَتَّى لَو كَانَ عُمَرُ قَدْ رَأَى ذَلِكَ فَيَبْقَى مِنْ بَابِ الكَرَامَاتِ، وَلَيسَ مِنْ بَابِ أَنَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَى الغَيبِ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الاطْلَاعَ عَلَى الغَيبِ لَا يَكُونُ إِلَّا لِلرُّسُلِ، وَإلَّا فَهَّلا اطَّلَعَ رضي الله عنه عَلَى مَنْ هُوَ أَقْرَبُ مِنْ سَارِيَةَ وَأَشَدُّ خَطَرًا مِنْهُ عَلَيهِ ألَا وَهُوَ أَبُو لُؤْلُؤَةَ المَجُوسِيُّ الَّذِي طَعَنَهُ فِي الصَّلَاةِ -وَهُوَ خَلْفهُ فِي الصُّفُوفِ- وَلَا يَحْتَاجُ لِكَثِيرِ
(1)
صَحِيحٌ. الاعِتْقَادُ لِلبَيهَقِيِّ (1/ 314) عَنِ ابْنِ عُمَرَ. الصَّحِيحَةُ (1110).
وَأَمَّا بَقِيَّةُ الطُّرُقِ الَّتِي فِيهَا أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه اطَّلَعَ عَلَى أَحْوَالِهِم فَقَالَ ذَلِكَ! فَضَعِيفَةٌ وَاهِيَةٌ، وَأَمَّا مَا أَثْبَتْنَاهُ فَهُوَ صَحِيحٌ، وَقَالَ عَنْهُ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله فِي كِتَابِهِ البِدَايَةُ وَالنِّهَايَةُ (10/ 175):"هَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ حَسَنٌ".
(2)
قالَ الذَّهَبيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ تَارِيخُ الإِسْلَامِ (3/ 249): "وَيُرْوَى أَنَّ عُمَرَ سُئِلَ فِيمَا بَعْدُ عَنْ كَلَامِهِ (يَا سَارِيَةُ؛ الجَبَلَ) فَلَمْ يَذْكُرْهُ".
عَنَاءٍ لِرُؤْيَتِهِ وَرُؤْيَةِ سِكِّينِهِ؟!
(1)
وَلَا يَصِحُّ أَيضًا الاسْتِدْلَالُ بِهَذِهِ القِصَّةِ عَلَى حُصُولِ المُكَاشَفَاتِ مِنَ المَشَايخِ وَالأَولِيَاءِ لِمَا يَحْصُلُ حَولَنَا؛ أَو لِمَا فِي الصُّدُورِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَا فِي الصُّدُورِ هُوَ مِمَّا اخْتَصَّ اللهُ تَعَالَى بِهِ -كَمَا سَبَقَ-، وَأَمَّا المُكَاشَفَاتُ لِمَا يَحْصُلُ حَولَهُم فَقَد يَكُونُ تَعَامُلًا مَعَ الجِنِّ، أَو اخْتِلَاقًا، أَو تَهْوِيلًا لِلقَصَصَ، أَو فِرَاسَةً وَفِطْنَةً.
وَعَلَى كُلِّ؛ فَلَا تُقَاسُ عَلَى قِصَّةِ عُمَرَ، لِأَنَّ عُمَرَ لَهُ مَزِيَّةٌ مَنْصُوصَةٌ فِيهِ لَيسَتْ لِغَيرِهِ، كَمَا سَبَقَ فِي الحَديثِ:((فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ؛ فَإِنَّهُ عُمَرُ)).
4 -
أَنَّ مَعْنَى (مُحَدَّثٍ) أَصْلًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ بِنَفْسِهِ، وَلَكِنَّ هُنَاكَ مَنْ يُحَدِّثُه، كَمَا فِي رِوَايَةٍ لِلحَدِيثِ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ؛ كَيفَ مُحَدَّثٌ؟ قَالَ: ((تَتَكَلَّمُ
(1)
قَالَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله فِي الصَّحِيحَةِ (1110): "وَمِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ، أَنَّ النِّدَاءَ المَذْكُورَ إِنَّمَا كَانَ إِلْهَامًا مِنَ اللهِ تَعَالَى لِعُمَرَ، وَلَيسَ ذَلِكَ غَرِيبًا عَنْهُ، فَإِنَّهُ (مُحَدَّثٌ) كَمَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلَكِنْ لَيسَ فِيهِ أَنَّ عُمَرَ كُشِفَ لَهُ حَالُ الجَيشِ؛ وَأَنَّهُ رَآهُم رَأْيَ العَينِ! فَاسْتِدْلَالُ بَعْضِ المُتَصَوِّفَةِ بِذَلكَ عَلَى مَا يَزْعُمُونَهُ مِنَ الكَشْفِ لِلأَولِيَاءِ؛ وَعَلَى إِمْكَانِ اطِّلَاعِهِم عَلَى مَا فِي القُلُوبِ؛ مِنْ أَبْطَلِ البَاطِلِ، كَيفَ لَا وَذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ رَبِّ العَالَمِينَ المُنْفَرَدِ بِعِلْمِ الغَيبِ وَالإطِّلَاعِ عَلَى مَا فِي الصُّدُورِ.
وَلَيتَ شِعْرِي كَيفَ يَزْعُمُ هَؤُلْاءِ ذَلِكَ الزَّعْمَ البَاطِلَ وَاللهُ عز وجل يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: {عَالِمُ الْغَيبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَينِ يَدَيهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} [الجِنّ: 26 - 27]، فَهَلْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ أولَئْكَ الأَولِيَاءَ رُسُلٌ مِنْ رُسُلِ اللهِ حَتَّى يَصِحَّ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُم يَطَّلِعُونَ عَلَى الغَيبِ بِإِطْلَاعِ اللهِ إِيَّاهُم!! سُبْحَانَك هَذا بُهْتَانٌ عَظيمٌ.
عَلَى أَنَّهُ لَو صَحَّ تَسْمِيَةُ مَا وَقَعَ لِعُمَرَ رضي الله عنه كَشْفًا؛ فَهُوَ مِنَ الأُمُورِ الخَارِقَةِ لِلعَادَةِ الَّتِي قَدْ تَقَعُ مِنَ الكَافِرِ أَيضًا، فَلَيسَ مُجَرَّدُ صُدُورِ مِثْلِهِ بِالذِي يَدُلُّ عَلَى إِيمَانِ الَّذِي صَدَرَ مِنْهُ فَضْلًا عَنْ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى وَلَايَتِهِ! وَلِذَلِكَ يَقُولُ العُلَمَاءُ: إِنَّ الخَارِقَ لِلعَادَةِ إنْ صَدَرَ مِنْ مُسْلِمٍ فَهُوَ كَرَامَةٌ، وَإِلَّا فَهُوَ اسْتِدْرَاجٌ، وَيَضْرِبُونَ عَلَى هَذَا مَثَلًا الخَوَارِقَ الَّتِي تَقَعُ عَلَى يَدِ الدَّجَّالِ الأَكْبَرِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ كَقَولِهِ لِلسَّمَاءِ: أَمْطِري؛ فَتُمْطِرُ! وَلِلأَرْضِ: أَنْبِتِي نَبَاتَكِ؛ فَتُنْبِتُ! وَغَيرَ ذَلِكَ مِمَّا جَاءَتْ بِهِ الأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ".
المَلَائِكَةُ عَلَى لِسَانِهِ))
(1)
.
5 -
أَمَّا عَنْ قِرَاءَةِ ابْنِ عبَّاسٍ رضي الله عنه نَفْسِهَا؛ فَالجَوَابُ عَلَيهَا هُوَ مِنْ أوجُهٍ:
أ- أَنَّ هَذِهِ القِرَاءَةَ لَيسَتْ مُتَوَاتِرَةً وَلَا مَعْلُومَةَ الصِّحَّةِ، وَلَا يَجُوزُ الاحْتِجَاجُ بِهَا فِي أُصُولِ الدِّينِ
(2)
.
ب- إِنْ كَانَتْ صَحِيحَةً؛ فَالمَعْنَى أَنَّ المُحَدَّثَ كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَنَا، وَكَانُوا يَحْتَاجُونَ إِلَيهِ، وَكَانَ يُنْسَخُ مَا يُلْقِيهِ الشَّيطَانُ إِلَيهِ كَذَلِكَ، وَأُمَّةُ مُحَمَّدٍ لَا تَحْتَاجُ إِلَى غَيرِهِ صلى الله عليه وسلم، وَلِهَذَا كَانَتِ الأُمَمُ قَبْلَنَا لَا يَكفِيهِم نَبيٌّ وَاحِدٌ؛ بَلْ يُحِيلُهُم هَذَا النَّبِيُّ فِي بَعْضِ الأُمُورِ عَلَى النَّبِيِّ الآخَرِ، وَكَانُوا يَحْتَاجُونَ إِلَى عَدَدٍ مِنَ الأَنْبِيَاءِ وَيَحْتَاجُونَ إِلَى المُحَدَّثِ، وَأُمَّةُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أغْنَاهُم اللهُ بِهِ عَنْ غَيرِهِ مِنَ الأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ؛ فَكَيفَ لَا يُغْنِيهِم عَنِ المُحَدَّثِ! وَلِهَذَا قَالَ صلى الله عليه وسلم:((لَقَدْ كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُم مِنَ الأُمَمِ نَاسٌ مُحَدَّثونَ مِنْ غَيرِ أَنْ يَكُونُوا أَنْبِيَاءَ، فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ؛ فَإِنَّهُ عُمَرُ))
(3)
، فَعَلَّقَ ذَلِكَ بِـ ((إِنْ)) وَلَمْ يَجْزِمْ بِهِ، لِأَنَّهُ عَلِمَ اسْتِغْنَاءَ أُمَّتِهِ عَنْ مُحَدَّثٍ كَمَا اسْتَغْنَتْ عَنْ غَيرِهِ مِنَ الأَنْبِيَاءِ سَوَاءً كَانَ فِيهَا مُحَدَّثٌ أَو لَا، أَو كَانَ ذَلِكَ لِكَمَالِهَا بِرَسُولِهَا الَّذِي هُوَ أَكْمَلُ الرُّسُلِ وَأَجْمَلُهُم
(4)
.
ج- أَنَّ المُحَدَّثَ هُوَ المُلْهَمُ، وَالإِلْهَامَ لَا يَعْنِي العِلْمَ بِالغَيبِ الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللهُ
(1)
قَالَ الهَيثَمِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ مَجْمَعُ الزَّوَائِدِ (14439): "رَوَاهُ الطَّبَرَانيُّ فِي الأَوسَطِ، وَفِيهِ أَبُو سَعْدٍ -خَادِمُ الحَسَنِ البَصْرِيِّ- وَلَمْ أَعْرِفْهُ، وَبَقِيَّةُ رِجَالِهِ ثِقَاتٌ".
(2)
اُنْظُرْ شَرْحَ العَقِيدَةِ الأَصْفَهَانِيَّةِ (ص 16) لِشَيخِ الإِسْلَامِ رحمه الله.
(3)
رَوَاهُ البُخَارِيُّ (3689) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا، وَمُسْلِمٌ (2398) عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا.
(4)
اُنْظُرْ شَرْحَ العَقِيدَةِ الأَصْفَهَانِيَّةِ (ص 16) لِشَيخِ الإِسْلَامِ رحمه الله.
تَعَالَى بِهِ، وَإنَّمَا هُوَ ظَنٌّ، وَالظَّنُّ لَيسَ بِعِلْمٍ يَقِينِيٍّ
(1)
.
وَأَخِيرًا لِتَمَامِ الفَائِدَةِ؛ فَإِنَّ مَعْنَى كَونِهِ مُرْسَلًا هُوَ عَلَى تَقْدِيرِ مَا يُعْرَفُ بِالطَّيِّ وَالنَّشْرِ فِي لِسَانِ العَرَبِ، فَيَكُونُ المَعْنَى:"وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ، وَلَا أَلْهَمْنَا مِنْ مُحَدَّثٍ؛ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ"، كَمَا فِي قَولِ الشَّاعِرِ: "يَا لَيتَ زَوجَكِ قَدْ غَدَا
…
مُتَقَلِّدًا سَيفًا وَرُمْحًا" فَهُوَ كَمَا لَو قَالَ: مُتَقَلِّدًا سَيفًا وَحَامِلًا رُمْحًا
(2)
.
(1)
وَقَدْ ذَهَبَ ابْنُ القَيِّمِ رحمه الله إِلَى أَنَّ التَّحْدِيثَ أَخَصُّ مِنَ الإِلْهَامِ، فَقَالَ رحمه الله:"التَّحْدِيثُ أَخَصُّ مِنَ الإِلْهَامِ؛ فَإِنَّ الإِلْهَامَ عَامٌّ لِلمُؤْمِنِينَ بِحَسْبِ إِيمَانِهِم، فّكُلُّ مُؤْمِنٍ فَقَدَ أَلْهَمَهُ اللهُ رُشْدَهُ الَّذِي حَصَلَ لَهُ بِهِ الإِيمَانُ، فَأَمَّا التَّحْدِيثُ؛ فَالنَّبِيُّ قَالَ فِيهِ: ((إنْ يِكُنْ فِي هَذِهِ الأُمَّةِ أَحَدٌ؛ فَعُمَرُ)) يَعْنِي مِنَ المُحَدَّثِينَ، فَالتَّحْدِيثُ إِلْهَامٌ خَاصٌّ وَهُوَ الوَحْيُ إِلَى غَيرِ الأَنْبِيَاءِ". مَدَارِجُ السَّالِكِينَ (1/ 68).
قُلْتُ: وَعَلَى كُلٍّ؛ فَإِنَّ الإِلْهَامِ وَالتَّحْدِيثَ لَيسَ بِعِلْمٍ يَقينيٍّ.
(2)
أَفَادَهُ الإِمَامُ الطَّحَاوِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ شَرْحُ مُشْكِلِ الآثَارِ (4/ 342).
-
المَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: هَلِ رُؤْيَا المَنَامِ تُعْتَبَرُ مِنَ العِلْمِ بِالغَيبِ؟
الجَوَابُ:
لَا، لَيسَ مِنَ العِلْمِ بالغَيبِ، إِلَّا إِنْ كَانَتْ لِلأَنْبِيَاءِ فَهِي مِنْ جُمْلَةِ شُؤُونِ النُّبُوَّةِ، بِخِلَافِ المَنَامِ الَّذِي يَراهُ الرَّجُلُ مِنَّا؛ فَمِنْهُ الحَقُّ ومِنْهُ البَاطِلُ.
وَلَيسَ مَعْنَى الحَقِّ هُنَا أَنَّهُ يَجْزِمُ بِكَونِهِ غَيبًا! وَلَكِنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِيهِ نَوعُ إطْلَاعٍ مِنَ اللهِ تَعَالَى لَهُ عَلَى شَيءٍ مِنَ الغَيبِ، وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ مِنَ الكَرَامَاتِ الَّتِي يُعْطِيهَا اللهُ تَعَالَى لِلعَبْدِ
(1)
أَوْ مَا يُجْرِيهَا تَعَالَى لِحِكْمَةٍ يَعْلَمُهَا، خَاصَّةً وَأَنَّ هَذِهِ المَنَامَاتِ هِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ جَاءَتْ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ المَرْفُوعِ وَهُوَ:((رُؤْيَا المُؤْمِنِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ، وَالرُّؤْيَا ثَلَاثٌ: حَدِيثُ النَّفْسِ، وَتَخْوِيفُ الشَّيطَانِ، وَبُشْرَى مِنَ اللهِ. فَمَنْ رَأَى شَيئًا يَكْرَهُهُ فَلَا يَقُصَّهُ عَلَى أَحَدٍ، وَلْيَقُمْ فَلْيُصَلِّ)). مُتَّفَقٌ عَلَيهِ
(2)
.
وَأَمَّا قَولُهُ: ((رُؤْيَا المُؤْمِنِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ)) فَمَعْنَاهُ: "إِنْ وَقَعَتِ الرُّؤيَا مِنَ النَّبِيِّ فَهِيَ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ حَقِيقَةً، وَإِنْ وَقَعَتْ مِنْ غَيرِ النَّبِيِّ فَهِي جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ النُّبوَّةِ عَلَى سَبِيلِ المَجَازِ.
وَقَالَ الخَطَّابيُّ: قِيلَ: مَعْنَاهُ إِنَّ الرُّؤيَا تَجِيءُ عَلَى مُوافَقَةِ النُّبوَّةِ؛ لِأَنَّهَا جُزْءٌ بَاقٍ مِنَ النُّبُوَّةِ.
وَقِيلَ: المَعْنَى أَنَّهَا جُزْءٌ مِنْ عِلْمِ النُّبُوَّةِ؛ لِأَنَّ النُّبُوَّةَ -وَإِنِ انْقَطَعَتْ- فَعِلْمُهَا بَاقٍ"
(3)
(4)
.
(1)
وَإِنْ كَانَتْ أَيضًا لَا تَخْتَصُّ مُطْلَقًا بِالصَّالِحِينَ؛ كَمَا فِي رُؤْيَةِ مَلِكِ مِصْرَ فِي قِصَّةِ يُوسُفَ عليه الصلاة والسلام.
(2)
رَوَاهُ البُخَارِيُّ (7017)، وَمُسْلِمٌ (2263).
(3)
أَفَادَهُ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله فِي الفَتْحِ (12/ 363).
(4)
قَالَ الحَافِظ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله فِي الفَتْحِ (12/ 363): "وَتُعقّبَ بِقَولِ مَالِكٍ فِيمَا حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ رحمه الله
=
-
المَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: مَا الجَوَابُ عَنِ الأَثَرِ الَّذِي فِيهِ مَعْرِفَةُ أَبِي بَكرٍ بِمَا سَيَأْتِيهِ مِنَ الوَلَدِ، وَعَنْ أَثَرِ عُثْمَانَ فِي مُكَاشَفَةِ أَنَسٍ
(1)
رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ؟
الجَوَابُ:
الأَثَرُ الأَوَّلُ بِتَمَامِهِ فِي المُوطَّأ أَنَّهُ عِنْدَمَا حَضَرَتِ الوَفَاةُ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه فَأَخْبَرَ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنْ وَرَثَتِهِ مِنَ البَنِينَ؛ فَقَالَ: "وَإِنَّمَا هُوَ مَالُ الوَارِثِ، وَإِنَّمَا هُوَ أَخَوَاكِ وَأُخْتَاك،؛ فَاقْتَسِمُوهُ عَلَى كِتَابِ اللهِ. فَقَالَتْ: يَا أَبَتِ؛ وَاللَّهِ لَو كَانَ كَذَا وَكَذَا لَتَرَكْتُهُ، إِنَّمَا هُوَ أَسْمَاءُ؛ فَمَنِ الأُخْرَى؟ قَالَ: ذُو بَطْنِ بِنْتِ خَارِجَةَ؛ أُرَاهَا جَارِيَةً
(2)
"
(3)
.
=
أَنَّهُ سُئِلَ: أَيُعبِّرُ الرُّؤْيَا كُلُّ أَحَدٍ؟ فَقَالَ: أَبِالنُّبُوَّةِ يُلْعَبُ؟! ثُمَّ قَالَ: الرُّؤْيَا جُزْءٌ مِنَ النُّبُوَّةِ؛ فَلَا يُلْعَبُ بِالنُّبُوَّةِ.
وَالجَوَابُ: أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ أَنَّهَا نُبُوَّةٌ بَاقيَةٌ! وَإنَّمَا أَرَادَ أَنَّهَا لَمَّا أَشْبَهَتِ النُّبُوَّةَ مِنْ جِهَةِ الاطِّلَاعِ عَلَى بَعْضِ الغَيبِ؛ فَإِنَّه لَا يَنْبَغِي أَنْ يُتَكَلَّمَ فِيهَا بِغَيرِ عِلْمٍ".
قُلْتُ: وَيُمْكِنُ القَولُ أَيضًا أَنَّ جِهَةَ النُّبُوَّةِ فِيهَا هُوَ مِنْ جِهَةِ كَونِ تَأْوِيلِهَا يَرْجِعُ إِلَى الشَّرْعِ، وَيَشْهَدُ لِهَذَا التَّوجِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ أَنْ لَا تُقَصَّ إِلَّا عَلَى عَالِمٍ أَو نَاصِحٍ، وَوَجْهُ كَونِهِ عَالِمًا هُوَ بِسَبَبِ أَنَّ الشَّرِيعَةَ جَاءَ فِيهَا كَثِيرٌ مِنْ تَأْوِيلِ المَنَامَاتِ، كَمَا جَعَلَ البُخَارِيُّ رحمه الله فِي صَحِيحِهِ كِتَابًا سَمَّاهُ كِتَابَ التَّعْبِيرِ (9/ 29).
(1)
الرِّسَالَةُ القُشَيرِيَّةُ (2/ 393).
وَلَفْظُهُ: "وَيُرْوَى عَن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه؛ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عُثْمَانَ رضي الله عنه -وَكُنْتُ رَأَيتُ فِي الطَّرِيقِ امْرَأَةً تَأَمَّلْتُ مَحَاسِنَهَا-، فَقَالَ عُثْمَانُ رضي الله عنه: يَدْخُلُ عَلَيَّ أَحَدُكُم وَآثَارُ الزِّنَى ظَاهِرَةٌ عَلَى عَينِهِ؟! فَقُلْتُ: أَوَحْيٌ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟! فَقَالَ: لَا؛ وَلَكِنْ تَبْصِرَةٌ وَبُرْهَانٌ وَفِرَاسَةٌ صَادِقَةٌ".
(2)
وَاسْمُهَا أُمُّ كُلْثُومٍ.
(3)
صَحِيحٌ. المُوَطَّأُ (2/ 752). إِرْوَاءُ الغَلِيلِ (1619).
وَالتَّعْلِيقُ عَلَيهِ هُوَ مِنْ أَوجُهٍ:
1 -
أَنَّهُ مُجَرَّدُ ظَنٍّ وَتَخْمِينٍ مِنْ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه، وَذَلِكَ لِقَولِهِ:(أُرَاهَا) أَي: أَظُنُّهَا، فَلَيسَ هُوَ مِنَ العِلْمِ بِالغَيبِ بِحَالٍ.
2 -
أَنَّ سَبَبَهَا قَدْ يَكُونُ رُؤْيًا رَآهَا رضي الله عنه، كَمَا نَقَلَهُ الزَّرْقَانِيُّ رحمه الله فِي شَرْحِ المُوَطَّأِ عَنِ ابْنِ مُزَينٍ
(1)
: "قَالَ بَعْضُ فُقَهَائِنَا: وَذَلِكَ لِرُؤْيَا رَآهَا أَبُو بَكْرٍ"
(2)
.
3 -
أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى كَونِهِ مِنْ جُمْلَةِ الكَرَامَاتِ الَّتِي أُكْرِمَ بِهَا رضي الله عنه -كَمَا سَبَقَ فِي الأَثَرِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ لَمَّةِ المَلَكِ-.
- وَأَمَّا الأَثَرُ أَنَّ أَنَسًا رضي الله عنه دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ رضي الله عنه؛ فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ: "يَدْخُلُ عَلَيَّ أَحَدُكُم وَأَثَارُ الزِّنَى ظَاهِرةٌ عَلَى عَينهِ! " فَهُوَ أَثَرٌ لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الحَدِيثِ المَشْهُورِينَ؛ بَلْ رَوَاهُ القُشَيرِيُّ فِي رِسَالَتِهِ بِصِيغَةِ التَّمْرِيضِ
(3)
.
وَإِنْ صَحَّ؛ فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الظَّنِّ وَالحَدْسِ الَّذِي يَقَعُ فِي خَاطِرِ المُؤْمِنِ وَقَلَّمَا يُخْطِئ، وَلَيسَ لَهُ دِلَالَةٌ عَلَى عِلْمِ الغَيبِ أَصْلًا، وَبَيَانُ ذَلِكَ هُوَ مِنْ وَجْهَينِ:
أ- أَنَّ أَنَسًا رضي الله عنه قَالَ -جَوَابًا عَلَى قَولِ عُثمان رضي الله عنهما: "أَوَحْيٌ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ؟! " فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى تَأْكِيدِ عَدَمِ العِلْمِ بِالغَيبِ بَعْدَ وَفَاتِهِ صلى الله عليه وسلم؛ وَأَنَّ ذَلِكَ الجَزْمَ لَا يَكُونُ إِلَّا وَحْيًا.
(1)
هُوَ يَحْيَى بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُزَينٍ؛ أَبُو زَكَرِيَّا: عَالِمٌ بِلُغَةِ الحَدِيثِ وَرِجَالِهِ، مِنْ أَهْلِ قُرْطُبَةَ، (ت 259) هـ. الأَعْلَام لِلزِّرِكْلِيِّ (8/ 134).
(2)
شَرْحُ الزَّرْقَانِيِّ (4/ 86).
وَالزَّرْقَانِيُّ: هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ البَاقِي بِنِ يُوسُفَ الأَزْهَرِيُّ؛ المَالِكيُّ، (ت 1122) هـ.
(3)
أَفَادَهُ الشَّيخُ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الغُنَيمَانُ فِي كِتَابِهِ (عِلْمُ الغَيبِ فِي الشَّرِيعَةِ الإِسْلَاميَّةِ)(ص 462).
ب- أَنَّ عُثْمَانَ رضي الله عنه أَجَابَ عَلَى جَوابِ أَنَسٍ بِمَا يُؤَكِّدُ قَولَهُ السَّابِقَ؛ فَقَالَ: "لَا؛ وَلَكِنْ تَبْصِرَةٌ وَبُرْهَانٌ وَفِرَاسَةٌ صَادِقَةٌ"
(1)
.
وَيَشْهَدُ لِمَعْنَاهُ حَدِيثُ: ((إنَّ للهِ تَعَالَى عِبَادًا يَعْرِفُونَ النَّاسَ بِالتَّوَسُّمِ))
(2)
.
(1)
قَالَ فِي القَامُوسِ المُحِيطِ (ص 563): "وَالفِراسَةُ بِالكَسْرِ: اسْمٌ مِنَ التَّفَرُّسِ، وَبِالفَتْحِ: الحِذْقُ بِرُكُوبِ الخَيلِ وَأَمْرِهَا".
(2)
صَحِيحٌ. الطَّبَرَانِيُّ فِي الأَوسَطِ (2935) عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (1693).
وَأَمَّا حَدِيثُ: ((اتَّقُوا فِرَاسَةَ المُؤمِنِ؛ فَإنَّه يَنْظُرُ بِنُورِ اللهِ عز وجل) فَهُوَ ضَعِيفٌ. التِّرْمِذِيُّ (3127) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا. المَوضُوعَاتُ لِلصَّغَانِيِّ (ص 51).
-
المَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: مِنْ أَينَ يَأْتِي الكَاهِنُ بِأَخْبَارِهِ؟
الجَوَابُ:
يِأْتِي مِنْ عِدَّةِ أَشْكَالٍ؛ هِيَ:
1 -
مَا يَتَلَقَّونَهُ مِنَ الجِنِّ؛ فَإِنَّ الجِنَّ كَانُوا يَصْعَدُونَ إِلَى جِهَةِ السَّمَاءِ فَيَرْكَبُ بَعْضُهُم بَعْضًا إِلَى أَنْ يَدْنُوَ الأَعْلَى بِحَيثُ يَسْمَعُ الكَلَامَ فَيُلْقِيهِ إِلَى الَّذِي يَلِيهِ، إِلَى أَنْ يَتَلَقَّاهُ مَنْ يُلْقِيهِ فِي أُذُنِ الكَاهِنِ فَيَزِيدَ فِيهِ
(1)
.
2 -
مَا يُخْبِرُ الجِنِّيُّ بِهِ مَنْ يُوَالِيهِ بِمَا غَابَ عَنْ غَيرِهِ مِمَّا لَا يَطَّلِعُ عَلَيهِ الإِنْسَانُ غَالِبًا، أَو يَطَّلِعُ عَلَيهِ مَنْ قَرُبَ مِنْهُ لَا مَنْ بَعُدَ.
3 -
مَا يَسْتَنِدُ إِلَى ظَنٍّ وَتَخْمِينٍ وَحَدْسٍ، وَهَذَا قَدْ يَجْعَلُ اللهُ فِيهِ لِبَعْضِ النَّاسِ قُوَّةً، مَعَ كَثْرَةِ الكَذِبِ فِيهِ.
4 -
مَا يَسْتَنِدُ إِلَى التَّجْرُبَةِ وَالعَادَةِ، فَيَسْتَدِلُ عَلَى الحَادِثِ بِمَا وَقَعَ قَبْلَ ذَلِكَ.
5 -
مَا يَعْرِفُهُ الشَّيطَانُ مِنْ هَوَاجِسِ الإِنْسَانِ الَّتِي يُوَسْوِسُهَا لِابْنِ آدَمَ؛ فيُخْبِرُ بِهَا وَلِيَّهُ
(2)
.
(1)
وَفِي البُخَارِيِّ (6213)، وَمُسْلِمٍ (2228) عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: سَأَلَ أُنَاسٌ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الكُهَّانِ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:((لَيسُوا بِشَيءٍ)). قَالُوا يَا رَسُولَ اللهِ: فَإِنَّهُمْ يُحَدِّثُونَ أَحْيَانًا بِالشَّيءِ يَكُونُ حَقًّا! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((تِلْكَ الكَلِمَةُ مِنَ الحَقِّ يَخْطَفُهَا الجِنِّيُّ فَيَقُرُّهَا فِي أُذُنِ وَلِيِّهِ قَرَّ الدَّجَاجَةِ؛ فَيَخْلِطُونَ فِيهَا أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ كَذْبَةٍ)). وَفِي لَفْظٍ: ((فَيُقَرْقِرُهَا فِي أُذُنِ وَلِيِّهِ كَقَرْقَرَةِ الدَّجَاجَةِ)).
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حجرٍ رحمه الله فِي الفَتْحِ (10/ 219): "قَولُهُ لَهُم: ((لَيسُوا بِشَيءٍ)) أَي: لَيسَ قَولُهُم بِشَيءٍ يُعْتَمَدُ عَلَيهِ" ثُمَّ نَقَلَ عَنِ الخَطَّابِيِّ رحمه الله: "أَنَّ إِصَابَةَ الكَاهِنِ أَحْيَانًا إِنَّمَا هِيَ لِأَنَّ الجِنِّيَّ يُلْقِي إِلَيهِ الكَلِمَةَ الَّتِي يَسْمَعُهَا اسْتِرَاقًا مِنَ المَلَائِكَةِ فَيَزِيدُ عَلَيهَا أَكَاذِيبَ يَقِيسُهَا عَلَى مَا سَمِعَ، فَرُبَّمَا أَصَابَ نَادِرًا؛ وَخَطَؤُهُ الغَالِبُ".
(2)
انْظُرِ الفَتْحَ (10/ 217)، وَ (إِعَانَةُ المُسْتَفِيدِ)(1/ 513).
بَابُ مَا جَاءَ فِي النُّشْرَةِ
عَنْ جَابِرٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنِ النُّشْرَةِ، فَقَالَ:((هِيَ مِنْ عَمَلِ الشَّيطَانِ)). رَوَاهُ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ، وَأَبُو دَاوُدَ
(1)
.
وَقَالَ: سُئِلَ أَحْمَدُ عَنْهَا؛ فَقَالَ: ابْنُ مَسْعُودٍ يَكْرَهُ هَذَا كُلَّهُ
(2)
.
وَفِي البُخَارِيِّ عَنْ قَتَادَةَ؛ قُلْتُ لِابْنِ المُسَيِّبِ: رَجُلٌ بِهِ طِبٌّ أَو يُؤْخَذُ عَنِ امْرَأَتِهِ؛ أَيُحَلُّ عَنْهُ أَو يُنْشَرُ؟ قَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ، إِنَّمَا يُرِيدُونَ بِهِ الإِصْلَاحَ، فَأَمَّا مَا يَنْفَعُ فَلَمْ يُنْهَ عَنْهُ
(3)
.
وَرُوِيَ عَنِ الحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَحُلُّ السِّحَرَ إِلَّا سَاحِرٌ
(4)
.
(1)
صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (14135)، وَعَنْهُ أَبُو دَاوُدَ (3868). الصَّحِيحَةُ (2760).
(2)
الآدَابُ الشَّرْعِيَّةُ (3/ 77) لِابْنِ مُفْلِحٍ الحَنْبَلِيِّ.
وَقَالَ أَيضًا رحمه الله: "وَقَالَ ابْنُ الجَوزِيِّ فِي جَامِعِ المَسَانِيدِ: النُّشْرَةُ: حَلُّ السِّحْرِ عَنِ المَسْحُورِ، وَلَا يَكَادُ يَقْدِرُ عَلَيهِ إِلَّا مَنْ يَعْرِفُ السِّحْرَ.
وَقَدْ قَالَ الحَسَنُ: لَا يُطْلِقُ السِّحْرَ إِلَّا سَاحِرٌ؛ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ.
وَسُئِلَ سَعِيدُ بْنُ المُسَيِّبِ عَنْ حَلِّ العُقَدِ وَالنُّشُرِ؛ فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ.
وَسُئِلَ أَحْمَدُ عَمَّنْ يُطْلِقُ السِّحْرَ عَنِ المَسْحُورِ؛ فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ. انْتَهَى كَلَامُهُ".
(3)
صَحِيحٌ. رَوَاهُ البُخَارِيُّ (7/ 137) تَعْلِيقًا، وَوَصَلَهُ الحَافِظُ فِي تَغْلِيقِ التَّعلِيقِ (5/ 49) عَنِ الطَّبَرِيِّ فِي تَهْذِيبِ الآثَارِ، وَقَالَ:"إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ".
وَقَالَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله فِي الصَّحِيحَةِ (2760): "وَرِوَايَةُ قَتَادَةَ أَخْرَجَهَا ابْنُ أَبِي شِيبَةَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْهُ مُخْتَصَرًا".
(4)
حَسَنٌ مَقْطُوعٌ. الصَّحِيحَةُ (2760).
قَالَ ابْنُ القَيِّمِ: النُّشْرَةُ: حَلُّ السِّحَرِ عَنِ المَسْحُورِ، وَهِيَ نَوعَانِ:
أَحَدُهُمَا: حَلٌّ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ، وَهُوَ الَّذِي مِنْ عَمَلِ الشَّيطَانِ، وَعَلَيهِ يُحْمَلُ قَولُ الحَسَنِ، فَيَتَقَرَّبُ النَّاشِرُ وَالمُنْتَشَرُ إِلَى الشَّيطَانِ بِمَا يُحِبُّ؛ فَيُبْطِلُ عَمَلَهُ عَنِ المَسْحُورِ.
وَالثَّانِي: النُّشْرَةُ بِالرُّقْيَةِ وَالتَّعَوُّذَاتِ وَالأَدْوِيَةِ وَالدَّعَوَاتِ المُبَاحَةِ؛ فَهَذَا جَائِزٌ
(1)
.
فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: النَّهْيُ عَنِ النُّشْرَةِ.
الثَّانِيَةُ: الفَرَقُ بَينَ المَنْهِيِّ عَنْهُ وَالمُرَخَّصِ فِيهِ؛ مِمَّا يُزِيلُ الإِشْكَالَ.
(1)
إِعْلَامُ المُوَقِّعِينَ (4/ 301).
الشَّرْحُ
- النَّشْرُ لُغَةً: خِلَافُ الطَّيِّ، وَالنَّشْرُ: التَّفرِيقُ، وَالنُّشْرَةُ بِالضَّمِّ: رُقْيَةٌ يُعالَجُ بِهَا المَجْنُونُ وَالمَرِيضُ وَمَنْ كَانَ يُظَنُّ أَنَّ بِهِ مَسًّا مِنَ الجِنِّ، وَقَدْ نَشَرَ عنه؛ إِذَا رَقَاهُ
(1)
.
- مُنَاسَبَةُ البَابِ لِمَا قَبْلَهُ هُوَ مِنْ جِهَتَينِ:
1 -
الرَّدُّ عَلَى شُبْهَةِ إِتْيَانِ النَّاسِ إِلَى السَّحَرَةِ وَالكُهَّانِ بِقَصْدِ حَلِّ السِّحْرِ عَنِ المَسْحُورِ.
2 -
بَيَانُ المَشْرُوعِ فِي ذَلِكَ عِوَضًا عَنِ المَذْمُومِ، كَمَا تَجِدُهُ فِي كَلَامِ ابْنِ القيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
- قَولُ المُصَنِّفِ رحمه الله: بَابُ مَا جَاءَ فِي النُّشْرَة: يَعْنِي مِنَ التَّفْصِيلِ؛ وَأَنَّ مِنْهَا المَذْمُومُ وَمِنْهَا المَأْذُونُ.
- قَولُهُ: (سُئِل عَنِ النُّشْرَة): (أَلْ) هُنَا لِلْعَهْدِ، أَي: النُّشْرَةُ المَعْرُوفَةُ فِي الجَاهِلِيَّةِ الَّتِي كَانُوا يَسْتَعْمِلُونَهَا فِي حَلِّ السِّحْرِ، وَهِيَ حَلُّ السِّحْرِ بِاسْتِخْدَامِ الشَّيَاطِينِ وَبِالسِّحْرِ، كَالعُقَدِ وَالنَّفْثِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَلَيسَتْ (أَلْ) هُنَا لِلاسْتِغْرَاقِ! وَذَلِكَ لِمَا ثَبَتَ مِنْ جَوَازِ الرُّقيَةِ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَقَى ورُقِيَ.
- قَولُهُ: ((مِنْ عَمَلِ الشَّيطَانِ)) أَي: مِنَ العَمَلِ الَّذِي يَأْمُرُ بِهِ الشَّيطَانُ وَيُوحِي بِهِ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى التَّحْرِيمِ.
- قَولُ أَحْمَدَ رحمه الله: (ابْنُ مَسْعُودٍ يَكْرَهُ هَذَا كُلَّهُ): مَرَّ مَعَنَا فِيمَا سَبَقَ أَنَّ ابْنَ
(1)
تَاجُ العَرُوسِ (14/ 217) بِتَصَرُّفٍ يَسِيرٍ.
مَسْعُودٍ كَانَ يَكْرَهُ جَمِيعَ أَنْوَاعِ التَّمَائِمِ -حَتَّى مِنَ القُرْآنِ-.
- (الطِّبُّ) هُنَا: مَعْنَاهُ السِّحْرُ، وَمَطْبُوبٌ أَي: مَسْحُورٌ، وَهَذَا عِنْدَ العَرَبِ هُوَ مِنْ بَابِ التَّفَاؤُلِ بِالشِّفَاءِ، لِأَنَّ الطِبَّ مَعْنَاهُ العِلَاجُ، وَذَلِكَ كَمَا يُقَالُ لِلَّدَيغِ: سَلِيمٌ، وَلِلكَسِيرِ: جَبِي؛ ٌ، مِنْ بَابِ التَّفَاؤلِ بِالشِّفَاءِ، وَلِلَّرَكْبِ: قَافِلَةٌ، مِنْ بَابِ التَّفَاؤلِ بِالعَودَةِ وَالسَّلَامَةِ.
- قَولُ ابْنِ المُسَيَّبِ رحمه الله: (لَا بَأْسَ بِهِ، إنَّمَا يُرِيدُونَ بِهِ الإِصْلَاحَ، فَأَمَّا مَا يَنْفَعُ، فَلَم يُنْهَ عَنْهُ) يُرِيدُ بِذَلِكَ: مَا يَنْفَعُ مِنَ النُّشْرَةِ بِالتَّعَوُّذَاتِ وَالأَدْعِيَةِ وَالقُرْآنِ وَالدَّوَاءِ المُبَاحِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ دُونَ مَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ السِّحْرِ، كَمَا يُمْكِنُ حَمْلُ قَولِهِ عَلَى نَوعٍ مِنَ التَّدَاوِي لَا يُعْلَمُ أَنَّهُ سِحْرٌ.
- الحَسَنُ: هُوَ ابْنُ أَبِي الحَسَنِ؛ أَبُو سَعِيدٍ البَصْرِيُّ الأَنْصَارِيُّ، ثِقَةٌ فَقِيهٌ، إِمَامٌ مِنْ خِيَارِ التَّابِعِينَ، (ت 110 هـ).
- قَتَادَةُ: هُوَ ابْنَ دِعَامَةَ السَّدُوسِيُّ، نِسْبَةً إِلَى جَدِّهِ سَدُوس، وَكَانَ مِنْ أَكْبَرِ عُلَماءِ التَّابِعِينَ، وَيُقَالُ: إِنَّه وُلِدَ أَكْمَهًا، (ت 117 هـ).
- النُّشْرَةُ الجَائِزَةُ أَنْوَاعٌ -كَمَا فِي كَلَامِ ابْنِ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- وَهِيَ:
1 -
الرُّقيَةُ الشَّرْعِيَّةُ بِالقُرْآنِ: بِأَنْ يُقْرَأَ عَلَى المَسْحُورِ مِنْ كِتَابِ اللهِ عز وجل، كَالفَاتِحَةِ وَآيَةِ الكُرْسِيِّ وَسُورَةِ البَقَرَةِ وَالقَوَاقِلِ.
2 -
الرُّقيَةُ الشَّرْعِيَّةُ بِالتَّعَوًّذَاتِ: وَهِيَ الأَدْعِيَةُ، وَخَاصَّةً الَّتِي وَرَدَتْ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
(1)
.
(1)
وَمِنْهَا: ((مَنْ نَزَلَ مَنْزِلًا؛ ثُمَّ قَالَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، لَمْ يَضُرَّهُ شَيءٌ حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ (2708) عَنْ خَولَةَ بِنْتِ حَكِيمٍ مَرْفُوعًا.
=
3 -
الأَدْوِيَةُ المُبَاحَةُ: وَهَذِهِ يَعْرِفُهَا الحُذَّاقُ وَأَهْلُ التَّجْرِبَةِ وَأَهْلُ العَقِيدَةِ السَّلِيمَةِ
(1)
.
فَإِذَا اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الأُمُورُ المُبَاحَةُ نَفَعَ اللهُ بِهَا؛ لَا سِيَّمَا مَعَ حُسْنِ الظَّنِّ بِاللهِ عز وجل وَاعْتِقَادِ أَنَّ الشِّفَاءَ مِنَ اللهِ تَعَالَى، قَالَ تَعَالَى:{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإِسْرَاء: 82].
وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَتَوَلَّاهَا مَنْ يُوثَقُ بِعِلْمِهِ وَدِينِهِ دُونَ أَصْحَابِ المَطَامِعِ الدُّنيَويَّةِ؛ فَضْلًا عَنِ المُشَعْوِذِينَ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ عَقَائِدَ النَّاسِ، وَيُرَهِبُونَهُم بِالكَذِبِ وَالتَّدْجِيلِ.
=
وَمِنْهَا: ((أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّةِ مِنْ كُلِّ شَيطَانٍ وَهَامَّةٍ وَمِنْ كُلِّ عَينٍ لَامَّةٍ)). رَوَاهُ البُخَارِيُّ (3371) عَنِ ابْنِ عبَّاسٍ مَرْفُوعًا.
وَمِنْهَا: ((أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ الَّتِي لَا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَذَرَأَ وَبَرَأَ، وَمِنْ شَرِّ مَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ، وَمِنْ شَرِّ مَا يَعْرُجُ فِيهَا، وَمِنْ شَرِّ مَا ذَرَأ فِي الأَرْضِ وَبَرَأ، وَمِنْ شَرِّ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا، وَمِنْ شَرِّ فِتَنِ اللَّيلِ وَالنَّهَارِ، وَمِنْ شَرِّ كُلِّ طَارِقٍ يَطْرُقُ إِلَّا طَارِقًا يَطْرُقُ بِخَيرٍ يَا رَحْمَنُ)) صَحِيحٌ. الطَّبَرَانِيُّ فِي الَأوسَطِ (43) عَنْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ خُنْبُشٍ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (840).
وَمِنْهَا: ((بِسْمِ اللهِ أَرْقيكَ، مِنْ كُلِّ شَيءٍ يُؤذِيكَ، مِنْ شَرِّ كُلِّ نَفْسٍ وَعَينِ حَاسِدٍ، بِسْمِ اللهِ أَرْقِيكَ، وَاللهُ يَشْفِيكَ)). مُسْلِمٌ (2186) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا.
وَمِنْهَا: ((اللَّهُمَّ رَبَّ النَّاسِ، أَذْهِبِ البَاسَ، اشْفِهِ وَأَنْتَ الشَّافِي، لَا شِفَاءَ إِلَّا شِفَاؤُكَ؛ شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا)). رَوَاهُ البُخَارِيُّ (5743)، وَمُسْلِمٌ (2191).
(1)
قَالَ الإِمَامُ مَالِكٌ رحمه الله: "وَبَلَغَنِي أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها سُحِرَتْ، فَقِيلَ لَهَا فِي مَنَامِهَا: خُذِي مَاءً مِنْ ثَلَاثَةِ آبَارٍ تَجْرِي بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ فَاغْتَسِلِي بِهِ، فَفَعَلَتْ فَذَهَبَ عَنْهَا". المَنْتَقَى شَرْحُ المُوَطَّأِ (7/ 255) لِلبَاجِي.
وَقَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله فِي تَفْسِيرِهِ (1/ 372): "وَحَكَى القُرْطُبِيُّ عَنْ وَهْبٍ؛ أَنَّهُ قَالَ: يُؤْخَذُ سَبْعُ وَرَقَاتٍ مِنْ سِدْرٍ، فَتُدَقُّ بَينَ حَجَرَينِ، ثُمَّ تُضْرَبُ بِالمَاءِ، وَيُقْرَأُ عَلَيهَا آيَةُ الكُرْسِيِّ، وَيَشْرَبُ مِنْهَا المَسْحُورُ ثَلَاثَ حَسَوَاتٍ، ثُمَّ يَغْتَسِلُ بِبَاقِيهِ؛ فَإِنَّهُ يَذْهَبُ مَا بِهِ، وَهُوَ جَيِّدٌ لِلرَّجُلِ الَّذِي يُؤْخَذُ عَنِ امْرَأَتِهِ".
- فَائِدَة 1: قَالَ القُرْطُبِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ: (المُفْهِمُ شَرْحُ مُسْلِمٍ)
(1)
-بَابُ الرُّقيَةِ بِأَسْمَاءِ اللهِ عز وجل: "قَولُهُ: ((ضَعْ يَدَكَ عَلَى الَّذِي تَأَلَّمَ مِنْ جَسَدِكَ))
(2)
: هَذَا الأَمْرُ عَلَى جِهَةِ التَّعْلِيمِ وَالإرْشَادِ إِلَى مَا يَنْفَعُ مِنْ وَضْعِ يَدِ الرَّاقي عَلَى المَرِيضِ وَمَسْحِهِ بِهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مَخْصُوصًا بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ كُلُّ رَاقٍ .... ، وَمِمَّا يَنْبَغِي لِلرَّاقِي أَنْ يَفْعَلَهُ النَّفْثُ وَالتَّفْلُ، وَقَدْ قُلنَا: إنَّهُمَا نَفْخٌ مَعَ رِيقٍ"
(3)
.
- فَائِدَة 2: قَالَ شَيخُ الإِسْلَامِ رحمه الله: "وَهَؤُلَاءِ
(4)
إذَا قَالُوا لِلْإِنْسَانِ: تُعْطِينَا؛ وَإِلَّا فَإِنِّي أَنَالُك فِي نَفْسِك! فَإِنَّهُ قَدْ تُعِينُهُمْ شَيَاطِينٌ عَلَى إضْرَارِ بَعْضِ النَّاسِ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ، لَكِنَّ هَذَا يَكُونُ لِمَنْ هُوَ خَارِجٌ عَنْ شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، مِثْلِ أَهْلِ الْفُجُورِ وَالْبِدَعِ الَّذِينَ لَا يُصَلُّونَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؛ فَهَؤُلَاءِ قَدْ تَسَلَّطَ عَلَيهِم بَعْضُ هَؤُلَاءِ بِذُنُوبِهِمْ وَخَطَايَاهُمْ
(1)
المُفْهِمُ شَرْحُ مُسْلِمٍ (5/ 589).
وَقَالَ أَيضًا رحمه الله (5/ 580): "وَأَمَّا النَّفْثُ وَوَضْعُ السَّبَّابَةِ عَلَى الأَرْضِ؛ فَلَا يَتَعَلَّقُ مِنْهَا بِالمَرْقِيِّ شَيءٌ لَهُ بَالٌ وَلَا أَثَرٌ، إِنَّمَا هَذَا مِنْ بَابِ التَّبرُّكِ بِأَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى، وَبِآثَارِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَمَّا الرِّيقُ وَوَضْعُ الإِصْبَعِ -وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ- فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِخَاصِّيَّةٍ فِيهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِحِكْمَةِ إِخْفَاءِ آثَارِ القُدْرَةِ بِمُبَاشَرَةِ الأَسْبَابِ المُعْتَادَةِ. وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ".
قُلْتُ: وَلَيسَ بِمُمْتَنِعٍ شَرْعًا أَنْ يُجْرِيَ اللهُ تَعَالَى بَرَكَةَ الشِّفَاءِ فِي الرِّيقِ وَالتُّرَابِ الَّذِي قَارَنَ القِرَاءَةَ وَالذِّكْرَ الشَّرِيفَ، لَا سِيَّمَا وَأَنَّ المَقَامَ مَقَامُ تَبَرُّكٍ وَاسْتِعَانَةٍ بِاللهِ تَعَالَى الكَرِيمِ.
(2)
هُوَ شَطْرٌ مِنْ حَدِيثِ مُسْلِمٍ (2202)، وَهُوَ بِتَمَامِهِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي العَاصِ الثَّقَفِيِّ؛ أَنَّهُ شَكَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَجَعًا يَجِدُهُ فِي جَسَدِهِ مُنْذُ أَسْلَمَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:((ضَعْ يَدَكَ عَلَى الَّذِي تَأَلَّمَ مِنْ جَسَدِكَ، وَقُلْ: بِسْمِ اللهِ -ثَلَاثًا-، وَقُلْ -سَبْعَ مَرَّاتٍ-: أَعُوذُ بِاللهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ وَأُحَاذِرُ)).
(3)
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ (2192) -بَابُ رُقيَةِ المَرِيضِ بِالمُعَوِّذَاتِ وَالنَّفْثِ-: عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها؛ قَالَتْ: (كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا مَرِضَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهِ نَفَثَ عَلَيهِ بِالمُعوِّذَاتِ، فَلَمَّا مَرِضَ مَرَضَه الَّذِي مَاتَ فِيهِ جَعَلْتُ أَنْفُثُ عَلَيهِ وَأَمْسَحُهُ بِيَدِ نَفْسِهِ لِأَنَّهَا كَانَتْ أعَظْمَ بَرَكةً مِنْ يَدِي).
(4)
يُرِيدُ الدَّجَّالِينَ وَالكُهَّانَ وَأَصْحَابَ الأَحْوَالِ الشَّيطَانِيَّةِ.
وَأَمَّا الَّذِينَ يَفْعَلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ مِنَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَغَيرِهَا، وَيُخْلِصُونَ دِينَهُمْ لِلَّهِ فَلَا يَدْعُونَ إلَّا اللَّهَ وَلَا يَعْبُدُونَ غَيرَهُ وَلَا يُنْذِرُونَ إلَّا لِلَّهِ وَيُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؛ فَهَؤُلَاءِ جُنْدُ اللَّهِ الْغَالِبُونَ، وَحِزْبُ اللَّهِ الْمُفْلِحُونَ؛ فَإِنَّهُ يُؤَيِّدُهُمْ وَيَنْصُرُهُمْ.
وَهَؤُلَاءِ يَهْزِمُونَ شَيَاطِينَ أُولَئِكَ الضَّالِّينَ؛ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ مَعَ شُهُودِ هَؤُلَاءِ وَاسْتِغَاثَتِهِمْ بِاللَّهِ أَنْ يَفْعَلُوا شَيئًا مِنْ تِلْكَ الْأَحْوَالِ الشَّيطَانِيَّةِ! بَلْ تَهْرُبُ مِنْهُمْ تِلْكَ الشَّيَاطِينُ.
وَهَؤُلَاءِ مُعْتَرِفُونَ بِذَلِكَ؛ يَقُولُونَ: أَحْوَالُنَا مَا تَنْفُذُ قُدَّامَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ! وَإِنَّمَا تَنْفُذُ قُدَّامَ مَنْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ مِنَ الْأَعْرَابِ وَالتُّرْكِ وَالْعَامَّةِ وَغَيرِهِمْ"
(1)
.
- فَائِدَة 3: لَا يُشْتَرَطُ فِي إِفَادَةِ الرُّقيَةِ -وَلِكَنَّهُ أَكْمَلُ- أَنْ يَكُونَ المَرْقِيُّ مُؤْمِنًا أَو صَالِحًا.
فَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه؛ أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَتَوا عَلَى حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ العَرَبِ؛ فَلَمْ يَقْرُوهُمْ! فَبَينَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ لُدِغَ سَيِّدُ أُولَئِكَ، فَقَالُوا: هَلْ مَعَكُمْ مِنْ دَوَاءٍ أَو رَاقٍ؟ فَقَالُوا: إِنَّكُمْ لَمْ تَقْرُونَا! وَلَا نَفْعَلُ حَتَّى تَجْعَلُوا لَنَا جُعْلًا، فَجَعَلُوا لَهُمْ قَطِيعًا مِنَ الشَّاءِ. فَجَعَلَ يَقْرَأُ بِأُمِّ القُرْآنِ وَيَجْمَعُ بُزَاقَهُ وَيَتْفِلُ؛ فَبَرَأَ. فَأَتَوا بِالشَّاءِ، فَقَالُوا: لَا نَأْخُذُهُ حَتَّى نَسْأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلُوهُ فَضَحِكَ، وَقَالَ:((وَمَا أَدْرَاكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ؟! خُذُوهَا، وَاضْرِبُوا لِي بِسَهْمٍ))
(2)
.
(1)
مَجْمُوعُ الفَتَاوَى (11/ 668).
(2)
البُخَارِيُّ (5736)، وَهُوَ فِي مُسْلِمٍ (2201) بَابُ جَوَازِ أَخْذِ الأُجْرَةِ عَلَى الرُّقيَةِ بِالقُرْآنِ وَالأَذْكَارِ.
وَ (القِرَى): مَا يُعدُّ لِلضَّيفِ النَّازِلِ مِنَ النُّزْلِ.
مَسَائِلُ عَلَى البَابِ
-
المَسْأَلَةُ الأُولَى: لِمَاذَا لَا يُحْمَلُ قَولُ ابْنِ المَسَيَّبِ رحمه الله عَلَى أَنَّهُ أَجَازَ السِّحْرَ فِي النُّشرَةِ؟
الجَوَابُ مِنْ أَوجُهٍ:
1 -
أَنَّ ابْنَ المُسَيَّبِ رحمه الله أَرْفَعُ مَقَامًا مِنْ أَنْ يُجِيزَ السِّحْرَ مَعْ مَا عُلِمَ مِنَ القُرْآنِ وَالسُّنَّةِ فِي تَحْرِيمِ السِّحْرِ وَذَمِّ مَنْ سَحَرَ أَو سُحِرَ لَهُ!
2 -
أَنَّ كَلَامَهُ عَامٌّ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ؛ فيُحْمَلُ عَلَى وَجْهٍ غَيرِ مُشْكِلٍ مَعَ غَيرِهِ مِنَ المُسَلَّمَاتِ.
3 -
أَنَّهُ قَيَّدَ إِبَاحَتَهُ لِلنُّشْرَةِ بِقَيدِ النَّفْعِ، وَذَلِكَ بِقَولِهِ: (فَأَمَّا مَا يَنْفَعُ، فيُحْمَلُ كَلَامُهُ عَلَى غَيرِ السِّحْرِ قَطْعًا، لِأَنَّ السِّحْرَ لَيسَ فِيهِ نَفْعٌ بِالنَّصِّ، فَإِنَّ نَفْسَ السِّحْرِ ضَرَرٌ لَا نَفْعٌ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ} [البَقَرَة: 102]، وَكَذَا مِنْ جِهَةِ عَاقِبَتِهِ ضَرَرٌ لَا نَفْعٌ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيثُ أَتَى} [طَه: 69]
(1)
.
(1)
قَالَ الشَّيخُ السَّعْدِيُّ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (ص 61): "ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ عِلْمَ السِّحْرِ مَضَرَّةٌ مَحْضَةٌ، لَيسَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لَا دِينِيَّةٌ ولا دُنْيَوِيَّةٌ -كَمَا يُوجَدُ بَعْضُ المَنَافِعِ الدُّنْيَوِيَّةِ فِي بَعْضِ المَعَاصِي-".
-
المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَلَا يُمْكِنُ القَولُ بِأَنَّ حَلَّ السِّحْرِ بِالسِّحْرِ هُوَ مِنْ بَابِ الضَّرُورَاتِ؛ وَالقَاعِدَةُ الأُصُوليَّةُ تَقُولُ: الضَّرُورَاتُ تُبِيحُ المَحْظُورَاتِ
(1)
؟
الجَوَابُ:
لَا يَجُوزُ، وَذَلِكَ مِنْ جِهَاتٍ:
1 -
أَنَّ صُورَةَ النَّهْي فِي الحَدِيثِ عِنْدَمَا سُئِلَ عليه الصلاة والسلام عَنِ النُّشْرَةِ -وَهِيَ لِلمَسْحُورِ قَطْعًا- مُطَابِقَةٌ لِلنَّهْي بِقَولِهِ عليه الصلاة والسلام عَنْهَا: ((هُوَ مِنْ عَمَلِ الشَّيطَانِ))، فَكَيفَ جَازَتِ النُشْرَةُ بِالسِّحْرِ مِنْ بَابِ الشِّفَاءِ؛ مَعَ أَنَّ النَّصَّ عَلَيهَا بِخِلَافِهَا!!
2 -
أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ إِتْيَانِ الكُهَّانِ أَصْلًا، كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ:(وَمِنَّا رِجَالٌ يَأْتُونَ الكُهَّانَ. قَالَ: (فَلَا تَأْتُوهُمْ))
(2)
.
(1)
وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الحَنَابِلَةِ إِلَى ذَلِكَ.
وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَولُ الحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ رحمه الله فِي الفَتْحِ (10/ 233): "قَولُهُ: (النُّشْرَةُ مِنْ عَمَلِ الشَّيطَانِ): إِشَارَةٌ إِلَى أَصْلِهَا، وَيَخْتَلِفُ الحُكْمُ بِالقَصْدِ؛ فَمَنْ قَصَدَ بِهَا خَيرًا كَانَ خَيرًا، وَإِلَّا فَهُوَ شَرٌّ".
وَهُوَ مَرْدُودٌ كَمَا سَيَأْتِي.
قَالَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله وَنَفَعَ بِعِلْمِهِ: "هَذَا وَلَا خِلَافَ عِنْدِي بَينَ الأَثَرَينِ، فَأَثَرُ الحَسَنِ يُحْمَلُ عَلَى الاسْتِعَانَةِ بِالجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ وَالوَسَائِلِ المُرْضِيَةِ لَهُم كَالذَّبْحِ لَهُم وَنَحْوِهِ -وَهُوَ المُرَادُ بِالحَدِيثِ-، وَأَثَرُ سَعِيدٍ عَلَى الاسْتِعَانَةِ بِالرُّقَى وَالتَّعَاوِيذِ المَشْرُوعَةِ بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَإِلى هَذَا مَالَ البَيهَقِيُّ فِي السُّنَنِ، وَهُوَ المُرَادُ بِمَا ذَكَرَهُ الحَافِظُ عَنِ الإِمَامِ أَحْمَدَ؛ أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّن يُطْلِقَ السِّحْرَ عَنِ المَسْحُورِ؟ فَقَالَ:(لَا بَأْسَ بِهِ).
وَأَمَّا قَولُ الحَافِظِ: (وَيَخْتَلِفُ الحُكْمُ بِالقَصْدِ؛ فَمَنْ قَصَدَ بِهَا خَيرًا كَانَ خَيرًا؛ وَإلَّا فَهُوَ شَرٌّ)! قُلْتُ: هَذَا لَا يَكْفِي فِي التَّفْرِيقِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَجْتَمِعُ قَصْدُ الخَيرِ مَعَ كَونِ الوَسِيلَةِ إِلَيهِ شَرٌّ! كَمَا قِيلَ فِي المَرْأَةِ الفَاجِرَةِ:(لَيتَهَا لَمْ تَزْنِ وَلَمْ تَتَصَدَّقِ". الصَّحِيحَةُ (2760).
(2)
مُسْلِمٌ (537).
وَيُضَافُ لِهَذَا أَنَّهُ حَتَّى لَو انْدَفَعَتْ بِهِ الضَّرُورَةُ -جَدَلًا- فَإِنَّه لَا يَصِحُّ أَيضًا؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَ أُمَّتِهِ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيهَا، كَمَا فِي الحَدِيثِ:((إنَّ اللهَ خَلَقَ الدَّاءَ وَالدَّوَاءَ؛ فَتَدَاوُوا، وَلَا تَتَدَاوُوا بِحَرَامٍ))
(1)
.
وَقَدْ حَذَّرَتِ الشَّرِيعَةُ مِنْ إِتْيَانِ الكُهَّانِ وَالعَرَّافِينَ وَالسِّحْرةِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ إِتْيِانَ النَّاسِ إِلِيهِم هُوَ مِنْ بَابِ الالْتِجَاءِ إِليهِم مِمَّا يُلِمُّ بِهِم مِنَ المَصَائِبِ فِي أَمْوَالِهِم وَأَبْدَانِهِم؛ فَجَاءَ التَّحْذِيرُ مِنْهُم عَامًّا وَلَمْ يَكُنْ قَصْدُهُم مُعْتَبَرًا شَرْعًا، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:((لَيسَ مِنَّا مَنْ سَحَرَ أَو سُحِرَ لَهُ))
(2)
.
3 -
مِنْ جِهَةِ القَاعِدَةِ المَذْكُورَةِ؛ فَلَا رَيبَ أَنَّ القَاعِدَةَ صَحِيحَةٌ، وَلَكِنَّ حَمْلَهَا عَلَى هَذِهِ المَسْأَلَةِ غَيرُ صَحِيحٍ، فَالضَّرُورَةُ خَمْسَةُ أَنْوَاعٍ، وَهِيَ حِفْظُ الدِّينِ، وَالنَّفْسِ، وَالنَّسْلِ، وَالمَالِ، وَالعَقْلِ
(3)
، وَلَكِنْ لِلعَمَلِ بِهَذِهِ القَاعِدَةِ هُنَاكَ قُيُودٌ، هِيَ:
أ- أَنْ لَا يَجِدَ سِوَى هَذَا المُحَرَّمِ.
وَهَذَا غَيرُ مُحَقَّقٍ هُنَا، لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى شَرَعَ لِعِبَادِهِ فِي عِلَاجِ السِّحْرِ الكَثِيرَ المُبَاحَ مِنَ القُرْآنِ وَالرُّقَى وَالتَّعْوِيذَاتِ وَالأَدْوِيَةِ المُبَاحَةِ، كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ عَنِ ابْنِ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
ب- أَنْ تَنْدَفِعَ بِهِ الضَّرُورَةُ.
وَهَذَا غَيرُ مُحَقَّقٍ هُنَا، لِأَنَّ السِّحْرَ ضَارٌّ وَلَيسَ بِنَافِعٍ مُطْلَقًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
(1)
حَسَنٌ. الطَّبَرَانِيُّ فِي الكَبِيرِ (24/ 254) عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ مَرْفُوعًا، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الكَبِيرِ أَيضًا (9/ 345) عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَوقُوفًا عَلِيهِ بِلَفْظِ:((إنَّ اللهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُم فِيمَا حَرَّم عَلَيكُم))، وَعَلَّقَهُ البُخَارِيُّ (7/ 110) مَجْزُومًا بِهِ، وَصَحَّحَهُ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله فِي الفَتْحِ. تَمَّ مُخْتَصَرًا مِنَ الصَّحِيحَةِ (1633).
(2)
صَحِيحٌ. البزَّارُ (9/ 52) عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَينٍ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (2195).
(3)
ذَكَرَهَا الإِمَامُ الشَّاطِبِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (المُوَافَقَاتُ)(2/ 20)، وَتَرْتِيبُهَا هُوَ مِنَ الأَعْلَى إِلَى الأَدْنَى.
{وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيثُ أَتَى} [طَه: 69]
(1)
.
ج- أَنَّ الضَّرُورَةَ تُقَدَّرُ بِقَدَرِهَا.
وَهَذَا أَيضًا غَيرُ مُتَحَقِّقٍ هُنَا، فَالضَّرُورَاتُ الخَمْسُ أَوَّلُهَا حِفْظُ الدِّينِ، فَلَا يُبْذَلُ مَا هُوَ أَعْلَى لِتَحْصِيلِ مَا هُوَ أَدْنَى وَهُوَ حِفْظُ النَّفْسِ
(2)
!
فَالأَنْفُسُ لَا يَجُوزُ حِفْظُهَا بِالشِّرْكِ، فَالسِّحْرُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالشِّرْكِ، وَالَّذِي يَأْتِي السَّاحِرَ وَيَطْلُبُ مِنْهُ حَلَّ السِّحْرِ؛ هَذَا فِيهِ الرِّضَى بِقَولِهِ وَعَمَلِهِ، وَبِأَنْ يُشْرِكَ ذَاكَ بِاللهِ تَعَالَى لِأَجْلِ مَنْفَعَتِهِ! وَهَذَا غَيرُ جَائِزٍ
(3)
.
وَفِي الحَدِيثِ: ((لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ شَيئًا؛ وَإِنْ قُطِّعْتَ أَو حُرِّقْتَ))
(4)
.
قُلْتُ: وَلَا يَرِدُ عَلَينَا فِي هَذِهِ النُّقْطَةِ الأَخِيرَةِ الاسْتِدْلَالُ بِحَدِيثِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ رضي الله عنه فِي إِكْرَاهِهِ عَلَى الكُفْرِ! وَذَلِكَ لِأَنَّ حَديثَ عَمَّارٍ فِيهِ الكُفْرُ ظَاهِرًا فَقَطْ لِقَولِهِ صلى الله عليه وسلم: ((كَيفَ تَجِدُ قَلبَكَ؟ فَقَالَ عَمَّاُر: مُطْمَئِنًّا بِالإِيمَانِ))
(5)
، أَمَّا هُنَا فَفِيهِ الكُفْرُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا. وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(1)
هَذَا وَإِنْ كَانَ التَّدَاوِي عُمُومًا مَحْمُولٌ عَلَى الظَّنِّ الغَالِبِ وَلَيسَ عَلَى اليَقِينِ؛ وَلَكِنَّ التَّدَاوِي بِالسِّحْرِ جَاءَ النَّصُّ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَنْفَعُ، كَمَا مَرَّ سَابِقًا فِي الآيَاتِ الكَرِيمَاتِ، وَكَمَا فِي الحَدِيثِ:((مَنْ تَعَلَّقَ شَيئًا وُكِلَ إِلَيهِ)) صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (18781) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُكَيمٍ مَرْفُوعًا.
وَتَأَمَّلْ كَونَ عُمَرَ سَمَّى الجِبْتَ سِحْرًا -كَمَا سبقَ-؛ فَهُوَ لَا خيرَ فِيهِ مُطْلَقًا.
(2)
هَذَا عَلَى فَرْضِ أَنَّ المَسْحُورَ شَارَفَ عَلَى المَوتِ، وَإِلَّا فَالسِّحْرُ غَالِبُهُ يَجْرِي مَجْرَى المَرَضِ الَّذِي يَعْتَري الإِنْسَانَ عَادَةً؛ فَيُحْتَمَلُ وُيُصْبَرُ عَلَيهِ حَتَّى يَأْذَنَ اللهُ تَعَالَى بِالشِّفَاءِ.
(3)
أَفَادَهُ الشَّيخُ صَالِحُ آلِ الشَّيخِ حَفِظَهُ اللهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ التَّمْهِيدُ (ص 331) بِتَصَرُّفٍ يَسِيرٍ.
(4)
حَسَنٌ. الأَدَبُ المُفْرَدُ (18) عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الأَدَبِ المُفْرَدِ (14).
(5)
رَوَاهُ الحَاكِمُ (3362)، وَصَحَّحَهُ الذَّهَبِيُّ، وَسَيَأْتِي بَعْدَ أَبْوَابٍ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.
بَابُ مَا جَاءَ فِي التَّطَيُّرِ
وَقَولُ اللهِ تَعَالَى: {أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الأَعْرَاف: 131].
وَقَولُهُ: {قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} [يَس: 19].
عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((لَا عَدْوَى، وَلَا طِيَرَةَ، وَلَا هَامَةَ، وَلَا صَفَرَ)). أَخْرَجَاهُ
(1)
. زَادَ مُسْلِمٌ: ((وَلَا نَوءَ وَلَا غُولَ)).
وَلَهُمَا عَنْ أَنَسٍ؛ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ، وَيُعْجِبُنِي الفَأْلُ)). قَالُوا: وَمَا الفَأْلُ؟ قَالَ: ((الكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ))
(2)
.
وَلِأَبِي دَاوُدَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: ذُكِرَتِ الطِّيَرَةُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:((أَحْسَنُهَا الفَأْلُ، وَلَا تَرُدُّ مُسْلِمًا. فَإِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مَا يَكْرَهُ؛ فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ لَا يَأْتِي بِالحَسَنَاتِ إِلَّا أَنْتَ، وَلَا يَدْفَعُ السَّيِّئَاتِ إِلَّا أَنْتَ، وَلَا حَولَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ))
(3)
.
(1)
البُخَارِيُّ (5757)، ومُسْلِمٌ (2220).
(2)
البُخَارِيُّ (5776)، ومُسْلِمٌ (2224).
(3)
ضَعِيفٌ. أَبُو دَاوُدَ (3919). الضَّعِيفَةُ (1619).
وَالحَدِيثُ هُوَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ عَامِرٍ وَلَيسَ عَنْ عُقْبَةَ كَمَا تَجِدُهُ فِي مَصْدَرِهِ.
وَأَمَّا قَولُ النَّوَوِيِّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ رِيَاضُ الصَّالِحِينَ (ص 593): "حَدِيثٌ صَحِيحٌ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ"! فَلَيسَ بِصَحِيحٍ.
قَالَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله: "ضَعِيفُ الإِسْنَادِ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ عَامِرٍ؛ قَالَ: ذُكْرَتِ الطِّيَرَةُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: فَذَكَرَهُ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ السُّنِّيِّ (1/ 255) مِنْ طَرِيقِ الأَعْمَشِ عَنْ حَبِيبٍ بِهِ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: (عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الجُهَنِيَّ) بَدَلَ (عُرْوَةَ بْنِ عَامِرٍ)، وَأَظنُّهُ تَصْحِيفًا مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ. وَهَذَا إِسْنَادٌ ضَعِيفٌ -وَإِنْ كَانَ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ-، فَإِنَّ حَبِيبَ بْنَ أَبِي ثَابِتٍ كَثِيرُ التَّدْلِيسِ؛ وَلَمْ يُصَرِّحْ بِالتَّحَدِيثِ، وَعُرْوَةَ بْنَ عَامِرٍ ذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي ثِقَاتِ التَّابِعِينَ؛ فَالحَدِيثُ مُرْسَلٌ، وَقِيلَ: إِنَّ لَهُ صُحْبَةً، وَقَالَ الحَافِظُ فِي (التَّهْذِيبِ): أَثْبَتَ غَيرُ وَاحِدٍ لَهُ صُحْبَةً، وَشَكَّ فِيهِ بَعْضُهُم، وَرِوَايَتُهُ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ لَا تَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ صَحَابيًّا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ رِوَايَةَ حَبِيبٍ عَنْهُ مُنْقَطِعَةٌ. وَقَالَ فِي (الإِصَابَةِ) بَعْدَ أَنْ سَاقَ الحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُدَ وَغَيرِهِ: رِجَالُهُ ثِقَاتٌ، لَكِنَّ حَبِيبَ كَثِيرُ الإِرْسَالِ". الضَّعِيفَةُ (1619).
وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا: ((الطِّيَرَةُ شِرْكٌ، الطِّيَرَةُ شِرْكٌ -ثَلَاثًا-، وَمَا مِنَّا إِلَّا؛ وَلَكِنَّ اللهَ يُذْهِبُهُ بِالتَّوَكُّلِ)) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ
(1)
، وَجُعِلَ آخِرُهُ مِنْ قَولِ ابْنِ مَسْعُودٍ
(2)
.
وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَمْرِوٍ: ((مَنْ رَدَّتْهُ الطِّيَرَةُ عَنْ حَاجَتِهِ؛ فَقَدْ أَشْرَكَ)). قَالُوا: فَمَا كَفَّارَةُ ذَلِكَ؟ قَالَ: ((أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ لَا خَيرَ إِلَّا خَيرُكَ، وَلَا طَيرَ إِلَّا طَيرُكَ، وَلَا إِلَهَ غَيرُكَ))
(3)
.
وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ الفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ: ((إِنَّمَا الطِّيَرَةُ مَا أَمْضَاكَ أَو رَدَّكَ))
(4)
.
(1)
صَحِيحٌ. أَبُو دَاوُدَ (3910)، وَالتِّرْمِذِيُّ (1514). الصَّحِيحَةُ (429).
(2)
قَالَ التِّرْمِذِيُّ رحمه الله (3/ 213): "سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ (البُخَارِيَّ) يَقُولُ: كَانَ سُلَيمَانُ (بْنُ حَرْبٍ) يَقُولُ فِي هَذَا الحَدِيثِ: ((وَمَا مِنَّا إلَّا؛ وَلَكِنَّ اللهَ يُذْهِبُهُ بِالتَّوَكُّلِ)) هَذَا عِنْدِي قَولُ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ".
قَالَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله: "قَالَ الشَّارِحُ المُنَاوِيُّ: لَكِنْ تَعَقَّبَهُ ابْنُ القَطَّانِ بِأَنَّ كُلَّ كَلَامٍ مَسُوقٍ فِي سِيَاقٍ؛ لَا تُقْبَلُ دَعْوَى دَرْجِهِ إِلَّا بِحُجَّةٍ. قُلْتُ: ولَا حُجَّةَ هُنَا فِي الإِدْرَاجِ، فَالحَدِيثُ صَحِيحٌ بِكَامِلِهِ". الصَّحِيحَةُ (429).
(3)
صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (7045). صَحِيحُ الجَامِعِ (6264).
(4)
ضَعِيفٌ. أَحْمَدُ (1824). "وَفِي إِسْنَادِهِ انْقِطَاعٌ بَينَ مَسْلَمَةَ الجُهَنِيِّ -رَاوِيهِ- وَبَينَ الفَضْلِ". كَمَا فِي فَتْحِ المَجِيدِ (ص 315).
وَالحَدِيثُ بِتَمَامِهِ عَنِ الفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ؛ قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَومًا، فَبَرِحَ ظَبْيٌ فَمَالَ فِي شِقِّهِ فَاحْتَضَنْتُهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ تَطَيَّرْتَ؟ قَالَ: ((إِنَّمَا الطِّيَرَةُ مَا أَمْضَاكَ أَو رَدَّكَ)). وضَعَّفَهُ الشَّيخُ شُعَيبٌ الأَرْنَؤُوطُ فِي تَحْقِيقِهِ لِلمُسْنَدِ.
فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: التَّنْبِيهُ عَلَى قَولِهِ: {أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ} مَعَ قَولِهِ: {طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} .
الثَّانِيَةُ: نَفْيُ العَدْوَى.
الثَّالِثَةُ: نَفْيُ الطِّيَرَةِ.
الرَّابِعَةُ: نَفْيُ الهَامَةِ.
الخَامِسَةُ: نَفْيُ الصَّفَرِ.
السَّادِسَةُ: أَنَّ الفَأْلَ لَيسَ مِنْ ذَلِكَ؛ بَلْ مُسْتَحَبٌّ.
السَّابِعَةُ: تَفْسِيرُ الفَأْلِ.
الثَّامِنَةُ: أَنَّ الوَاقِعَ فِي القُلُوبِ مِنْ ذَلِكَ مَعَ كَرَاهَتِهِ؛ لَا يَضُرُّ بَلْ يُذْهِبُهُ اللهُ بِالتَّوَكُّلِ.
التَّاسِعَةُ: ذِكْرُ مَا يَقُولُ مَنْ وَجَدَهُ.
العَاشِرَةُ: التَّصْرِيحُ بِأَنَّ الطِّيَرَةَ شِرْكٌ.
الحَادِيَةَ عَشْرَةَ: تَفْسِيرُ الطِّيَرَةِ المَذْمُومَةِ.
الشَّرْحُ
- مُنَاسَبَةُ البَابِ لِمَا قَبْلَهُ مِنَ الأَبْوَابِ المُتَعَلِّقَةِ بِالسِّحْرِ هُوَ أَنَّ التَّطَيُّرَ نَوعٌ مِنْ أَنْوَاعِهِ بِنَصِّ الحَدِيثِ
(1)
.
- وَحَقِيقَتُهُ: التَّشَاؤُمُ أَوِ التَّفَاؤُلُ بِحَرَكَةِ الطَّيرِ مِنَ السَّوَانِحِ وَالبَوَارِحِ أَوِ النَّطِيحِ أَوِ القَعِيدِ، أَو بِغَيرِ الطَّيرِ مِنَ الحَوَادِثِ.
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله: "وَكَانُوا يَتَيَمَّنُونَ بِالسَّانِحِ وَيَتَشَاءَمُونَ بِالبَارِحِ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِن رَمْيُهُ إِلَّا بِأَنْ يَنْحَرِف إِلَيهِ،
…
، وَقَدْ كَانَ بَعْضُ عُقَلَاء الجَاهِلِيَّة يُنْكِر التَّطَيُّر وَيَتَمَدَّح بِتَرْكِهِ.
قَالَ شَاعِرٌ مِنْهُمْ: لَعُمْرُكَ مَا تَدْرِي الطَّوَارِقُ بِالحَصَى
…
وَلَا زَاجِرَتُ الطَّيرِ مَا اللهُ صَانِعُ"
(2)
.
وَ"السَّانحُ: مَا وَلَاّك ميامِنَه، والبارحُ: مَا وَلَاّك مَيَاسِره"
(3)
.
- التَّطَيُّرُ يُنَافِي كَمَالَ التَّوحِيدِ الوَاجِبِ؛ لِأَنَّه شِرْكٌ أَصْغَرُ.
وَسَبَبُ كَونِهِ شِرْكًا هُوَ مِنْ أَوجُهٍ:
1 -
مُنَافَاتُهُ لِلتَّوَكُّلِ؛ لِتَعَلُّقِ القَلْبِ بِهِ دُونَ اللهِ تَعَالَى، وَسَبَقَ الكَلَامُ فِي بَابِ (مَنْ
(1)
أَي: حَدِيثَ قَبِيصَةَ مَرْفُوعًا: ((إِنَّ العِيَافَةَ وَالطَّرْقَ وَالطِّيَرَةَ مِنَ الجِبْتِ)). ضَعِيفٌ. أَبُو دَاوُدَ (3907). وَقَدْ سَبَقَ الكَلَامُ عَلَيهِ.
(2)
فَتْحُ البَارِي (10/ 213).
(3)
تَهْذِيبُ اللُّغَةِ (4/ 187).
حَقَّقَ التَّوحِيدَ دَخَلَ الجَنَّةَ بِغَيرِ حَسَابٍ) عَنْ عَلَاقَةِ التَّوَكُّلِ بِتَرْكِ الطِّيَرَةِ
(1)
.
2 -
اعْتِقَادُ سَبَبِ النَّفْعِ أَوِ الضُّرِ فِي الطَّائِرِ وَنَحْوِهِ؛ حَيثُ لَمْ يَجْعَلْهُ الشَّرْعُ سَبَبًا
(2)
.
3 -
رَجْمٌ بِالغَيبِ، قَالَ تَعَالَى:{قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النَّمْل: 65].
وَهَذَا عَدَا عَنْ مَا فِيهِ مِنَ التَّشَبُّهِ بِالمُشْرِكِينَ، كَمَا فِي سِيَاقِ الآيَاتِ فِي البَابِ.
- فِي قَولِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الأَعْرَاف: 131]
(3)
، قَالَ ابْنُ عبَّاسٍ رضي الله عنه:({أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ} يَقُولُ: مَصَائِبُهُم عِنْدَ اللهِ وَمِنْ قِبَلِه)
(4)
.
- قَالَ تَعَالَى: {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} [يَس: 18 - 19]، فَقَولُهُ تَعَالَى:{طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} أَي: مَرْدُودٌ عَلَيكُم، وَقَالَ قَتَادَةُ: أَي: أَعْمَالُكُم مَعَكُم.
وَقَولُهُ تَعَالَى: {أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ}
(5)
أَي: "مِنْ أَجْلِ أنَّا
(1)
لَكِنْ لَو اعْتَقَدَ هَذَا المُتَشَائِمُ المُتَطَيِّرُ أَنَّ هَذَا فَاعِلٌ بِنَفْسِهِ دُونَ اللهِ؛ فَهُوَ مُشْرِكٌ الشِّرْكَ الأَكْبَرَ، لِأَنَّهُ جَعَلَ مَعَ اللهِ شَرِيكًا فِي الخَلْقِ وَالإِيجَادِ.
(2)
وَسَيَأْتِي الكَلَامُ عَلَى هَذِهِ القَاعِدَةِ فِي بَابِ الاسْتِسْقاءِ بِالأَنْوَاءِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.
(3)
المُرَادُ بِالحَسَنَةِ هُنَا: الخَصْبُ وَالأَرْزَاقُ وَنُزُولُ الأَمَطْارِ.
(4)
تَفْسِيرُ ابْنِ كَثِيرٍ (3/ 461) بِتَصَرُّفٍ يَسِيرٍ.
(5)
قَالَ الشَّيخُ ابْنُ عُثَيمِين رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ القَولُ المُفِيدُ (1/ 562): "وَقَولُهُ: {أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} يَنْبَغِي أَنْ تَقِفَ عَلَى قَولِهِ: {ذُكِّرْتُمْ} لِأَنَّهَا جُمْلَةٌ شَرْطِيَّةٌ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: أَئِنْ ذُكِّرْتُم تَطَيَّرْتُم! وَعَلَى هَذَا فَلَا تَصِلْهَا بِمَا بَعْدَهَا".
ذَكَّرْنَاكُم وَأَمَرْنَاكُم بِتَوحِيدِ اللهِ وَإِخْلَاصِ العِبَادَةِ لَهُ؛ قَابَلْتُمُونَا بِهَذَا الكَلَامِ وَتَوَعَدْتُمُونَا وتَهَدَّدْتُمُونَا! بَلْ أَنْتُم قَومٌ مُسْرِفُونَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: أَي إِنْ ذَكَّرْنَاكُم بِاللهِ تَطَيَّرْتُم بِنَا! بَلْ أَنْتُم قَومٌ مُسْرِفُونَ"
(1)
.
- وَجْهُ الدِّلَالَةِ مِنَ الآيَةِ الكَرِيمَةِ أَنَّ التَّطَيُّرَ هُوَ مِنْ صِفَاتِ المُشْرِكِينَ أَعْدَاءِ الرُّسُلِ، وَكَمَا قَالَ قَومُ صَالِحٍ لَهُ:{اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ} [النَّمْل: 47].
فَيُسْتَفَادُ مِنَ الآيَتَينِ المَذْكُورَتَينِ فِي البَابِ: أَنَّ التَّطَيُّرَ كَانَ مَعْرُوفًا مِنْ قِبَلِ العَرَبِ وَمِنْ غَيرِ العَرَبَ، لِأَنَّ الأُولَى فِي فِرْعَونَ وَقَومِهِ، وَالثَّانِيَةَ فِي أَصْحَابِ القَرْيَةِ.
- قَولُهُ: ((لَا عَدْوَى)) أَي: لَا عَدْوَى مُؤَثِّرَةٌ بِطَبْعِهَا وَنَفْسِهَا، وَإنَّمَا تَنتَقِلُ العَدْوَى بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَى، وَأَهْلُ الجَاهِليَّةِ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ العَدْوَى تَنْتَقِلُ بِنَفْسِهَا؛ فَأَبْطَلَ اللهُ جَلَّ وَعَلَا صِحَّةَ ذَلِكَ الاعْتِقَادَ
(2)
.
- قَولُهُ: ((وَلَا طِيَرَةَ)) المَنْفِيُّ هُنَا لَيسَ هُوَ وُجُودُ الطِّيَرَةِ؛ لِأَنَّ الطِّيَرَةَ مَوجُودَةٌ مِنْ جِهَةِ اعْتِقَادِ النَّاسِ
(3)
وَمِنْ جِهَةِ اسْتِعْمَالِهَا، وَلَكِنَّهَا مَنْفِيَّةٌ مِنْ جِهَةِ صِحَّتِهَا، وَكَذَلِكَ
(1)
تَفْسِيرُ ابْنِ كَثِيرٍ (6/ 570).
(2)
قَالَ البَيهَقِيُّ رحمه الله فِي السُّنَنِ الكُبْرَى (7/ 351): "بَابُ لَا عَدْوَى عَلَى الوَجْهِ الَّذِي كَانوا فِي الجَاهِلِيَّةِ؛ يَعْتَقِدُونَهُ مِنْ إِضَافَةِ الفِعْلِ إِلَى غَيرِ اللهِ".
وَأَمَّا قَولُ صَاحِبِ فَتْحِ المَجِيدِ رحمه الله (ص 307): "وَالمَنْفِيُّ: نَفْسُ سِرَايَةِ العِلَّةِ أَو إِضَافَتُهَا إِلَى العِلَّةِ. وَالأَوَّلُ هُوَ الظَّاهِرُ".
قُلْتُ: الظَّاهِرُ هُوَ الثَّانِي. وَيُنْظَرُ شَرْحُ الشَّيخِ الغُنَيمَانِ حَفِظَهُ اللهُ عَلَى كِتَابِ (فَتْحُ المَجِيدِ)، شَرِيطُ رَقَم (79)، شَرْحُ البَابِ. وَسَيَأْتِي الكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي المَسَائِلِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.
(3)
وَفِي حَدِيثِ مُعَاوَيِةَ بْنِ الحَكَمِ السُّلَمِيِّ؛ أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام عَنِ الطِّيَرَةِ، فَقَالَ لَهُ:((ذَاكَ شَيءٌ يَجِدُهُ أَحَدُكُم فِي صَدْرِهِ فَلَا يَصُدَّنَّكُم)) رَوَاهُ مُسْلِمٌ (537)، فَأَخْبَرَ أَنَّ تَأثيرَهُ وَتَشَاؤمَهُ بِالطَّيرِ إِنَّمَا هُوَ فِي نَفْسِهِ وَعَقِيدَتِهِ؛ لَا فِي المُتَطَيَّرِ بِهِ! فَوَهْمُهُ وَخَوفُهُ وَإِشْرَاكُهُ هُوَ الَّذِي يُطَيِّرُهُ وَيَصُدُّهُ لِمَا رَآهُ وَسَمِعَهُ.
العَدْوَى مَوجُودَةٌ مِنْ جِهَةِ الوُقوعِ، فَالنَّفيُ إِذًا يَعُودُ عَلَى صِحَّةِ الاعْتِقَادِ بِهَا.
- الهَامَةُ: بِالفَتْحِ؛ فِيهَا قَولَانِ:
1 -
هِيَ طَائِرُ اللَّيلِ المَعْرُوفُ
(1)
، وَقِيلَ: هِيَ البُومَةُ، قَالُوا: كَانَتْ إِذَا سَقَطَتْ عَلَى دَارِ أَحَدِهِم رَآهَا نَاعِيَةً لَهُ نَفْسَهُ أَو بَعْضَ أَهْلِهِ.
2 -
أَنَّ العَرَبَ كَانَتْ تَعْتَقِدُ أَنَّ عِظَامَ المَيِّتِ -وَقِيلَ: رُوحَهُ- تَنْقَلِبُ هَامَةً تَطِيرُ
(2)
.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ المُرَادُ النَّوعِين؛ فَإِنَّهُمَا جَمِيعًا بَاطِلَانِ
(3)
.
- قَولُهُ: ((وَلَا صَفَرَ)) فِيهِ ثَلَاثةُ أَقْوَالٍ:
1 -
أَنَّهُ شَهْرُ صَفَرٍ؛ حَيثُ كَانَتِ العَرَبُ تَتَشَاءَمُ بِهِ؛ فَيَتْرُكُونَ الأَسْفَارَ وَالأَعْمَالَ وَالنِّكَاحَ فِيهِ، وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ عَطْفُهُ عَلَى الطِّيَرَةِ هُوَ مِنْ بَابِ عَطْفِ الخَاصِّ عَلَى العَامِّ.
2 -
أَنَّهُ دَاءٌ فِي البَطْنِ يُصِيبُ الإِبِلَ وَيَنْتَقِلُ مِنْ بَعِيرٍ إِلَى آخَرَ، وَعَلَيهِ يَكُونُ عَطْفُهُ عَلَى العَدْوَى هُوَ مِنْ بَابِ عَطْفِ الخَاصِّ عَلَى العَامِّ أَيضًا.
3 -
أَنَّهُ نَهْيٌ عَنِ النَّسِيئَةِ، فَكَانُوا فِي الجَاهِلِيَّةِ َيَنْسَئُونَ؛ فَإِذَا أَرَادُوا القِتَالَ فِي شَهْرِ
(1)
يُدْعَى (الصَّدَى)، وَهِيَ البُومَةُ أَوْ تُشْبِهُ البُومَةَ.
(2)
وَأَنَّهَا تَبْقَى تَصِيحُ حَتَّى يُؤْخَذَ بِثَأْرِ المَقْتُولِ، وَفِيهَا يَقُولُ قَائِلُهُم: "يَا عَمْرُو إِلَّا تَدَعْ شَتْمِي وَمَنْقَصَتِي
…
أَضْرِبُكَ حَتَّى تَقُولَ الهَامَةُ اسْقُونِي". لِسَانُ العَرَبِ (12/ 624).
(3)
أَفَادَهُ النَّوَوِيُّ رحمه الله فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ (14/ 215).
اللهِ المُحَرَّمِ اسْتَحَلُّوهُ، وَأَخَّرُوا الحُرْمَةَ إِلَى شَهْرِ صَفَرَ، وَهَذِهِ النَّسِيئَةُ هِيَ الَّتِي ذَكَرَهَا اللهُ بِقَولِهِ:{إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ} [التَّوبَة: 37].
- هَذَا النَّفيُ فِي هَذِهِ الأُمُورِ المَذْكُورَةِ فِي الحَدِيثِ لَيسَ نَفيًا لِلوُجُودِ؛ لِأَنَّهَا مَوجُودَةٌ، وَلَكِنَّهُ نَفْيٌ:
1 -
لِلتَّأثِيرِ بِنَفْسِهِ إِنْ كَانَ سَبَبًا صَحِيحًا؛ كَالعَدْوَى.
2 -
أَو نَفْيًا لِكَونِهِ سَبَبًا إِنْ كَانَ بَاطِلًا؛ كَالطِّيَرَةٍ وَالهَامَةِ وَالنَّوءِ.
وَأَمَّا الغُولُ؛ فَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِكِلَيهِمَا، وَسَيَأْتِي.
- قَولُهُ: ((وَلَا نَوءَ)) هُوَ وَاحِدُ الأَنْوَاءِ، وَالأَنْوَاءُ هِيَ: مَنَازِلُ القَمَرِ
(1)
.
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله: "كَانُوا يَقُولُونَ: (مُطِرْنَا بِنَوءِ كَذَا) فَأَبْطَلَ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ؛ بِأَنَّ المَطَر إِنَّمَا يَقَعُ بِإِذْنِ اللهِ لَا بِفِعْلِ الكَوَاكِب -وَإِنْ كَانَتِ العَادَةُ جَرَتْ بِوُقُوعِ المَطَرِ فِي ذَلِكَ الوَقْتِ- لَكِنْ بِإِرَادَةِ اللهِ تَعَالَى وَتَقْدِيرِهِ؛ لَا صُنْعَ لِلْكَوَاكِبِ فِي ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ"
(2)
.
(1)
وَهِيَ ثَمَانٍ وَعِشْرُونَ مَنْزِلَةً، كُلُّ مَنْزِلَةٍ لَهَا نَجْمٌ؛ تَدُورُ بِمَدَارِ السَّنَةِ، وَهَذِهِ النُّجُومُ بَعْضُهَا يُسَمَّى النُّجُومَ الشَّمَالِيَّةَ -وَهِيَ لِأَيَّامِ الصَّيفِ-، وَبَعْضُهَا يُسَمَّى النُّجُومَ الجَنوبِيَّةَ -وَهِيَ لِأَيَّامِ الشِّتَاءِ-، وَأَجْرَى اللهُ العَادَةَ أَنَّ المَطَرَ -مَثَلًا فِي وَسَطِ الجَزِيرَةِ العَرَبيَّةِ- يَكُونُ أَيَّامَ الشِّتَاءِ، أَمَّا أَيَّامَ الصَّيفِ فَلَا مَطَرَ، فَكَانَتِ العَرَبُ تَعْتَقِدُ أَنَّ المَطَرَ يَكُونُ بِالأَنْوَاءِ، وَأَنَّ بَعْضَهَا مَحْمُودٌ وَبَعْضَهَا مَنْحُوسٌ لَا يَأْتِي فِيهَا خَيرٌ، وَلِهَذَا كَانُوا يُسَمُّونَ بَعْضَهَا: سَعْدًا أَو سَعْدَ السُّعُودِ، وَبَعْضُهَا يَتَشَاءَمُونَ بِهَا أَشَدَّ التَّشَاؤُمِ كَسَعْدِ الذَّابِحِ، فَيَقُولُونَ: هَذَا نَوءٌ غَيرُ مَحْمُودٍ، يَعْنِي: أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ فِيهِ المَطَرُ وَلَا يَحْصُلُ فِيهِ الخَيرُ. اُنْظُرْ كِتَابَ (القَولُ المُفِيدُ)(1/ 568).
(2)
فَتْحُ البَارِي (10/ 159).
- قَولُهُ: ((وَلَا غُول)) قَالَ ابْنُ الأَثِيرِ رحمه الله: "الغُولُ: أَحَدُ الغِيلَانِ، وَهِيَ جِنْسٌ مِنَ الجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ
(1)
، كَانَتِ العَرَبُ تَزْعُم أَنَّ الغُولَ فِي الفَلَاةِ تَتَرَاءَى لِلنَّاسِ فَتَتَغَوَّلُ تَغَوُّلًا: أَي: تَتَلَوًّنُ تلَوُّنًا فِي صُوَرٍ شَتَّى، وَتَغُولُهُم أَي: تُضِلُّهُم عَنِ الطَّريقِ وَتُهْلِكهُم؛ فَنَفَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَبْطَلَهُ"
(2)
.
وَالحَاصِلُ أَنَّهَا لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَضِلَّ أَحَدًا مَعَ ذِكْرِ اللهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيهِ، قَالَ تَعَالَى:{إِنَّ كَيدَ الشَّيطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النِّسَاء: 76].
فَالعَرَبُ كَانُوا إِذَا سَافَرُوا أَو ذَهَبُوا يَمِينًا أَو شِمَالًا تَلَوَّنَتْ لَهُمُ الشَّيَاطِينُ بِأَلْوَانٍ مُفْزِعَةٍ مُخِيفَةٍ؛ فَتُدْخِلُ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ وَالخَوفَ، فَتَجِدُهُم يَكْتَئِبُونَ وَيَمْتَنِعُونَ عَنِ الذَّهَابِ إِلَى هَذَا الوَجْهِ الَّذِي أَرَادُوا! وَهَذَا لَا شَكَّ أَنَّهُ يُضْعِفُ التَّوَكُّلَ عَلَى اللهِ، وَالشَّيطَانُ حَرِيصٌ عَلَى إِدْخَالِ القَلَقِ وَالحُزْنِ عَلَى الإِنْسَانِ بِقَدْرِ مَا يَسْتَطِيعُ، كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى:{إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيسَ بِضَارِّهِمْ شَيئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [المُجَادِلَة: 10].
- قَولُهُ: ((وَيُعْجِبُنِي الفَأْلُ))
(3)
: الفَأْلُ هُنَا هُوَ الاسْتِبْشَارُ بِحُصُولِ الخَيرِ عِنْدَ سَمَاعِ مَا يَسُرُّ، لِأَنَّ النَّاسَ إِذَا أَمَّلُوا الخَيرَ مِنَ اللهِ تَعَالَى عِنْدَ كُلِّ سَبَبٍ فَهُم عَلَى خَيرٍ، وَإِذَا قَطَعُوا آمَالَهُم وَرَجَاءَهُم مِنَ اللهِ تَعَالَى كَانَ ذَلِكَ مِنَ الشَّرِّ، كَمَا فِي الحَدِيثِ
(1)
هِيَ سَحَرَتُهُم، وَقَالَ بَعْضُهُم: السَّاحِرُ الذَّكَرُ هُوَ الغُولُ، وَالأُنْثَى هِيَ السِّعْلَاةُ. اُنْظُرْ (لِسَانُ العَرَبِ)(11/ 510).
(2)
النِّهَايَةُ فِي غَرِيبِ الحَدِيثِ وَالأَثَرِ (3/ 746).
(3)
وَفِي رِوَايَةٍ" قَالُوا: وَمَا الفَأْلُ؟ قَالَ: ((الكَلِمَةُ الصَّالِحَةُ يَسْمَعُهَا أَحَدُكُمْ)). رَوَاهُ البُخَارِيُّ (5754)، وَمُسْلِمٌ (2223) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا.
القُدُسِيِّ: ((أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي))
(1)
.
وَمِنْ جُمْلَةِ الأَمْثِلَةِ فِي التَّفَاؤُلِ المَشْرُوعِ هَذِهِ الأَحَادِيثُ:
1 -
عَنْ بُرِيدَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: (كَانَ لَا يَتَطَيَّرُ مِنْ شَيءٍ، وَكَانَ إِذَا بَعَثَ عَامِلًا سَأَلَ عَنِ اسْمِهِ؛ فَإِذَا أَعْجَبَهُ اسْمُهُ فَرِحَ بِهِ وَرُئِيَ بِشْرُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، وَإِنْ كَرِهَ اسْمَهُ رُئِيَ كَرَاهِيَةُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ.
وَإِذَا دَخَلَ قَرْيَةً سَأَلَ عَنِ اسْمِهَا؛ فَإِنْ أَعْجَبَهُ اسْمُهَا فَرِحَ بِهَا وَرُئِيَ بِشْرُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، وَإِنْ كَرِهَ اسْمَهَا رُئِيَ كَرَاهِيَةُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ))
(2)
.
2 -
عَنِ المِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ فِي حَدِيثِ صُلْحِ الحُدَيبِيَةِ حِينَ جَاءَ سُهَيلُ بْنُ عَمْرو، فقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:((لَقَدْ سَهُلَ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ))
(3)
.
3 -
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: (كَانَ يُعْجِبُهُ إِذَا خَرَجَ لِحَاجَتِهِ أَنْ يَسْمَع: َ يَا رَاشِدُ؛ يَا نَجِيحُ)
(4)
.
- قَولُهُ: ((اللَّهُمَّ لَا يَأْتِي بِالحَسَنَاتِ إِلَّا أَنْتَ)) أَي: لَا يُقَدِّرُهَا وَلَا يُوجِدُهَا لِلعَبْدِ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ، وَهَذَا لَا يُنَافِي أَنْ تَكُونُ الحَسَنَاتُ بِأَسْبَابٍ، لِأَنَّ خَالِقَ هَذِهِ الأَسْبَابِ هُوَ اللهُ، فَإِذَا وُجِدَتْ هَذِهِ الحَسَنَاتُ بِأَسْبَابٍ خَلَقَهَا اللهُ؛ صَارَ المُوجِدُ هُوَ اللهُ تَعَالَى.
وَالمُرَادُ بِالحَسَنَاتِ: مَا يَسْتَحْسِنُ المَرْءُ وُقُوعَهُ، وَيَشْمَلُ ذَلِكَ الحَسَنَاتِ
(1)
البُخَارِيُّ (7405) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا.
(2)
صَحِيحٌ. أَبُو دَاوُدَ (3920). الصَّحِيحَةُ (762).
(3)
رَوَاهُ البُخَارِيُّ (2731). وَفِي الأَدَبِ المُفْرَدِ (915) تَحْتَ بَابِ (التَّبَرُّكُ بِالاسْمِ الحَسَنِ).
(4)
صَحِيحٌ. التِّرْمِذِيُّ (1616). صَحِيحُ الجَامِعِ (4978).
الشَّرْعِيَّةَ؛ كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَغَيرِهَا، وَيَشْمَلُ أَيضًا الحَسَنَاتِ الدُّنْيَوِيَّةَ؛ كَالمَالِ وَالوَلَدِ وَنَحْوِهَا.
- قَولُهُ: ((وَلَا حَولَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ)) فِي مَعْنَاهَا وَجْهَانِ:
1 -
البَاءُ بمَعْنَى (فِي): وَالتَّقْدِيرُ: لَا حَولَ إِلَّا فِي اللهِ وَحْدَهُ، وَالمَنفيُّ عَنْ غَيرِهِ هُوَ الحَولُ المُطْلَقُ، وَالحَولُ هُنَا نِسْبِيٌّ، فَالكَامِلُ هُوَ فِي اللهِ وَحْدَهُ.
2 -
البَاءُ لِلاسْتِعَانَةِ أَوِ السَّبَبِيَّةِ: أَي: لَا تَحَوُّلَ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ إِلَّا مُسْتَعِينِينَ بِاللهِ تَعَالَى، وَهَذَا الوَجْهُ أَصَحُّ، فَالأَصْلُ فِي الكَلَامِ عَدَمُ التَّقْدِيرِ
(1)
.
- الفَأْلُ الحَسَنُ
(2)
يَخْتَلِفُ عَنِ الطِّيَرَةِ مِنْ أَوجُهٍ:
1 -
الفَأْلُ الحَسَنُ لَا يُقْصَدُ؛ بِخِلَافِ الطِّيَرَةِ فَقَد تُقْصَدُ. كَمَا فِي الحَدِيثِ: ((أَقِرُّوا الطَّيرَ عَلَى مَكِنَّاتِهَا))
(3)
.
(1)
وَكَذَا القَولُ فِي (القُوَّةِ).
(2)
لَفْظُ ((الفَأْلِ الحَسَنَ)) هُوَ عِنْدَ أَحْمَدَ (24982) عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا، وَتَمَامُهُ:((الطَّيرُ تَجْرِي بِقَدَرٍ، وكَانَ يُعْجِبُهُ الفَألُ الحَسَنُ)). صَحِيحٌ. الصَّحِيحَةُ (860).
وَعِنْدَ البُخَارِيِّ (5756) بِلَفْظِ: ((لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ، وَيُعْجِبُنِي الفَأْلُ الصَّالِحُ: الكَلِمَةُ الحَسَنَةُ)).
(3)
سُنَنُ أَبِي دَاوُدَ (2835) عَنْ أُمِّ كُرْزٍ الكَعْبِيَّةِ مَرْفُوعًا، وَقَدْ صَحَّحَهُ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله، ثُمَّ رَجَعَ عَنْ تَصَحِيحِهِ حَيثُ أَورَدَهُ فِي الضَّعِيفَةِ (5862). وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ المُنَاوِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ فَيضُ القَدِيرِ (2/ 69): " ((أَقرُّوا الطَّيرَ عَلَى مَكِنَّاتِهَا)) بِفَتْحِ المِيمِ وَكَسْرِ الكَافِ وَشَدِّ النُّونِ أَو تُخَفَّفُ جَمْعُ (مَكِنَّة): أَي: أَقِرُّوهَا فِي أَوكَارِهَا فَلَا تُنَفِّرُوهَا عَنْ بَيضِهَا وَلَا تُزْعِجُوهَا عَنْهُ وَلَا تَتَعَرَّضُوا لَهَا، فَالمُرَادُ: أَمَاكِنُهَا؛ مِنْ قَولِهِم: (النَّاسُ عَلَى مَكَانَاتِهِم) أَي: مَنَازِلِهِم وَمَقَامَاتِهِم، أَو جَمْعُ (مُكُنَةٍ) بِضَمِّ المِيمِ وَالكَافِ بِمَعْنَى التَّمَكُّنُ: أَي: أَقِرُّوهَا عَلَى كُلِّ مُكُنةٍ تَرَونَهَا عَلَيهَا وَدَعُوا التَّطَيُّرَ بِهَا، كَانَ أَحَدُهُم إِذَا سَافَرَ نَفَّرَ طَير؛ ا، فَإِنْ طَارَ يَمِينًا تَفَاءَلَ، وَإِنْ طَارَ شِمَالًا تَشَاءَمَ وَرَجَعَ".
2 -
الفَأْلُ الحَسَنُ لَيسَ مُؤَثِّرًا فِي العَمَلِ أَوِ المَنْعِ عَلَى صَاحِبِهِ؛ فَهُوَ مُجَرَّدُ بُشْرَى، بِخِلَافِ الطِّيَرَةِ فَهِي مُؤَثِّرَةٌ فِي عَمَلِ المَتَطَيِّرِ.
3 -
الفَأْلُ الحَسَنُ لَا يُعْتَمَدُ عَلَيهِ فِي القَلبِ، فَيَبْقَى القَلْبُ مُتَعَلِّقًا بِاللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، بِخِلَافِ الطِّيَرَةِ؛ فَإِنَّ المُتطيِّرَ يَعْتَمِدُ وَيَتَوَكَّلُ عَلَيهَا.
4 -
الفَأْلُ الحَسَنُ نَاجِمٌ عَنْ نُطْقٍ وَبَيَانٍ يَدُلَّانِ عَلَى الاسْتِبْشَارِ؛ بِخِلَافِ الطِّيَرَةِ فَلَيسَ لَهَا سَبَبٌ صَحِيحٌ مِنْ نُطْقٍ أَو بَيَانٍ
(1)
.
- عِلَاجُ الطِّيَرَةِ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ
(2)
:
1 -
التَّوَكُّلُ عَلَى اللهِ سبحانه وتعالى، وَاسْتِحْضَارُ أَنَّهُ لَا يَأْتِي بِالخَيرِ وَلَا يَدْفَعُ الشَّرَّ إِلَّا هُوَ سبحانه وتعالى.
2 -
أَنْ يَمْضِيَ المَرْءُ فِي حَاجَتِهِ الَّتِي أَرَادَهَا، وَلَا يَرْجِعَ عَنْهَا بِسَبَبِ الطِّيَرَةِ.
3 -
الدُّعَاءُ، وَمِنْهُ:((اللَّهُمَّ لَا يَأْتِي بِالحَسَنَاتِ إِلَّا أَنْتَ، وَلَا يَدْفَعُ السَّيِّئَاتِ إِلَّا أَنْتَ، وَلَا حَولَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ))
(3)
.
- قَولُهُ: ((وَلَا طَيرَ إِلَّا طَيرُكَ)) يَحْتَمِلُ أَوجُهًا -وَكُلُّهَا صَحِيحَةٌ قَرِيبَةٌ-:
أ- أَنَّهُ لَا يَحْدُثُ إِلَّا قَضَاؤُكَ الَّذِي قَضَيتَهُ، فَعِلْمُ المُغَيَّبَاتِ إِنَّمَا هُوَ للهِ عز وجل، وَهَذَا
(1)
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله فِي الفَتْحِ (10/ 214): "قَالَ الخَطَّابِيُّ: وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِأَنَّ مَصْدَر الفَأْلِ عَنْ نُطْقٍ وَبَيَانٍ، فَكَأَنَّهُ خَبَرٌ جَاءَ عَنْ غَيبٍ، بِخِلَافِ غَيرهِ؛ فَإِنَّهُ مُسْتَنِدٌ إِلَى حَرَكَةِ الطَّائِرِ أَو نُطْقِهِ وَلَيسَ فِيهِ بَيَانٌ أَصْلًا، وَإِنَّمَا هُوَ تَكَلُّفٌ مِمَّنْ يَتَعَاطَاهُ".
(2)
إِعَانَةُ المُسْتَفِيدِ (2/ 17) لِلْفَوزَانِ حَفِظَهُ اللهُ مُخْتَصَرًا.
(3)
قُلْتُ: هَذَا -وَإِنْ كَانَ الحَدِيثُ ضَعِيفًا- فَلَا بَأْسَ بِالدُّعَاءِ بِهِ مِنْ بَابِ عُمُومِ الدُّعَاءِ لِصِحَّةِ مَعْنَاهُ، لَا مِنْ بَابِ كَونِهِ سُنَّةً نَبَوِيَّةً. وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
الدُّعَاءُ كَفَّارَةٌ لِمَنْ وَقَعَ فِي الطِّيَرَةِ.
ب- أَنَّ المُرَادَ بِالطَّيرِ هُنَا مَا يَتَشَاءَمُ بِهِ الإِنْسَانُ، فَكُلُّ مَا يَحْدُثُ لِلإِنْسانِ مِنَ التَّشَاؤمِ وَالحَوَادِثِ المَكْرُوهَةِ؛ فَإِنَّهُ مِنَ اللهِ تَعَالَى كَمَا أَنَّ الخَيرَ مِنْهُ أَيضًا سُبْحَانَه، قَالَ تَعَالَى:{أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ} [الأَعْرَاف: 131].
ج- أَنَّ الطُّيُورَ كُلَّهَا مِلْكُكَ، فَهِي لَا تَفْعَلُ شَيئًا، وَإنَّمَا هِيَ مُسَخَّرَةٌ، قَالَ تَعَالَى:{أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النَّحْل: 79].
فَالطَّيرُ مُسَخَّرَةٌ بِإِذْنِ اللهِ، وَاللهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يُدَبِّرُهَا وَيُصَرِّفُهَا وَيُسَخِّرُهَا تَذْهَبُ يَمِينًا وَشِمَالًا، وَلَا عَلَاقَةَ لَهَا بِالحَوَادِثِ
(1)
.
- قَولُهُ: ((إِنَّمَا الطِّيَرَةُ مَا أَمْضَاكَ أَو رَدَّكَ)) فِيهِ بَيَانُ أَنَّ المَنْهِيَّ عَنْهُ هُوَ مَا أثَّرَ فِي إِتْمَامِ أَمْرِكَ أَوِ الانْصِرَافِ عَنْهُ، وَفِي الحَدِيثِ:((لَنْ يَلِجَ الدَّرَجَاتِ العُلَى مَنْ تَكَهَّنَ أَوِ اسْتَقْسَمَ أَو رَجَعَ مِنْ سَفَرٍ تَطَيُّرًا))
(2)
.
(1)
وَفِي الحَدِيثِ ((الطَّيرُ تَجْرِي بِقَدَرٍ)). صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (24982) عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (860).
(2)
صَحِيحٌ. مُسْنَدُ الشَّامِيِّينَ لِلطَّبَرَانِيِّ (2104) عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (2161).
مَسَائِلُ عَلَى البَابِ
-
المَسْأَلَةُ الأُولَى: قَولُهُ: ((وَمَا مِنَّا إِلَّا؛ وَلَكِنَّ اللهَ يُذْهِبُهُ بِالتّوَكُّلِ)) كَيفَ يَصِحُّ نِسْبَتُهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ صَرِيحٌ فِي الوُقُوعِ فِي الشِّرْكِ؟
الجَوَابُ هُوَ مِنْ وَجْهَينِ:
1 -
أَنَّ الشِّرْكَ وَالإِثْمَ فِي الطِّيَرَةِ حَاصِلٌ بِالتَّأَثُّرِ بِهَا فِي الإِقْدَامِ أَوِ الإِعْرَاضِ، أَمَّا مَا يَقَعُ فِي القَلْبِ مِنْ مُجَرَّدِ رُؤيَتِهَا أَو سَمَاعِهَا فَلَيسَ فِيهِ إِثْمٌ، لِذَلِكَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَمْرو المَرْفُوعِ:((مَنْ رَدَّتْهُ الطِّيَرَةُ عَنْ حَاجَتِهِ؛ فَقَدْ أَشْرَكَ))
(1)
.
وَفِي الحَدِيثِ أَيضًا: ((إِذَا حَسَدْتُمْ فَلَا تَبْغُوا، وَإِذَا ظَنَنْتُمْ فَلَا تُحَقِّقُوا، وَإِذَا تَطَيَّرْتُمْ فَامْضُوا، وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا))
(2)
.
2 -
أَنَّ زِيَادَةَ: ((وَمَا مِنَّا إِلَاّ وَلَكِنَّ اللهَ يُذْهِبُهُ بِالتَّوَكُّلِ)) رَجَّحَ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ كَونَهَا مُدْرَجَةً مِنْ كَلَامِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه
(3)
.
(1)
وَمِثْلُهُ قَولُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِمُعَاوِيَةَ بْنِ الحَكَمِ السُّلَميِّ عِنْدَمَا سَأَلَهُ عَنِ الطِّيَرَةِ: ((ذَاكَ شَيءٌ يَجِدُونَهُ فِي صُدُورِهِمْ؛ فَلَا يَصُدَّنَّهُمْ)). صَحِيحُ مُسْلِمٍ (537).
(2)
صَحِيحٌ. الكَامِلُ لِابْنِ عَدِيٍّ (5/ 509). الصَّحِيحَةُ (3942).
(3)
قَالَ التِّرْمِذِيُّ رحمه الله (3/ 213): "سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ (البُخَارِيَّ) يَقُولُ: كَانَ سُلَيمَانُ (بْنُ حَرْبٍ) يَقُولُ فِي هَذَا الحَدِيثِ: ((وَمَا مِنَّا إلَّا؛ وَلَكِنَّ اللهَ يُذْهِبُهُ بِالتَّوَكُّلِ)) هَذَا عِنْدِي قَولُ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ".
قَالَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله: "قَالَ الشَّارِحُ المُنَاوِيُّ: لَكِنْ تَعَقَّبَهُ ابْنُ القَطَّانِ بِأَنَّ كُلَّ كَلَامٍ مَسُوقٍ فِي سِيَاقٍ؛ لَا تُقْبَلُ دَعْوَى دَرْجِهِ إِلَّا بِحُجَّةٍ. قُلْتُ: ولَا حُجَّةَ هُنَا فِي الإِدْرَاجِ، فَالحَدِيثُ صَحِيحٌ بِكَامِلِهِ". الصَّحِيحَةُ (429).
-
المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَا وَجْهُ الجَمْعِ بَينَ الآيَتِينِ فِي البَابِ مِنْ حَيثُ جِهَةِ تَعَلُّقِ الطِّيَرَةِ،
حَيثُ كَانَتْ فِي الآيَةِ الأُولَى: {أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ} ، وَفِي الثَّانِيَةِ:{قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} ؟
الجَوَابُ:
لَا مُنَافَاةَ بَينَهُمَا، لِأَنَّ الأُولَى تَدُلُّ عَلَى أَنَّ المُقَدِّرَ لِهَذِهِ المَصَائِبِ هُوَ اللهُ تَعَالَى، وَالثَّانِيَةَ تُبَيِّنُ سَبَبَهَا، وَهُوَ أَنَّهَا بِسَبَبِهِم، فَطَائِرُهُم مَعَهُم، أَي: الشُّؤْمُ الحَاصِلُ عَلَيهِم مَعَهُم مُلَازِمٌ لَهُم؛ لِأَنَّ أَعْمَالَهُم تَسْتَلْزِمُهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الرُّوم: 41]
(1)
.
(1)
وَكَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا * مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [النِّسَاء: 78 - 79].
-
المَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ألَا يُمْكِنُ القَولُ بِأَنَّ نَفيَ العَدْوَى هُوَ نَفْيٌ لِوُجُودِهَا مُطْلَقًا؛ وَلَيسَ لِكَونِهَا هِيَ الفَاعِلَةَ نَفْسَهَا؟
الجَوَابُ:
قَالَ بِذَلِكَ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ، وَلَكِنَّ الأَرْجَحَ هُوَ مَا أَثْبَتْنَاهُ سَابِقًا مِنْ أَنَّ النَّفيَ هُوَ لِاعْتِقَادِهِم سَرَيَانَ العَدْوَى بِطَبْعِهَا دُونَ إِذْنِ اللهِ تَعَالَى، وَمِمَّا يُرَجِّحُ هَذَا الوَجْهَ وُجُودُ العَدْوَى أَصْلًا، وَبَيَانُ ذَلِكَ مِنْ جِهَتَينِ:
1 -
أَنَّ الوَاقِعَ يَشْهَدُ لِذَلِكَ، فمُخَالَطَةُ السَّلِيمِ لِلمَرِيضِ هُوَ سَبَبٌ ظَاهِرٌ فِي حُصُولِ مَرَضِ السَّلِيمِ، وَهَذَا أَظْهَرُ مِنْ أَنْ يُرَدَّ.
2 -
الأَحَادِيثُ الكَثِيرَةُ الَّتِي فِيهَا الأَمْرُ بِاجْتِنَابِ مُخَالَطَةِ المَجْذُومِ
(1)
وَغَيرِهِ مِنْ أَصْحَابِ الأَمْرَاضِ المُعْدِيَةِ، وَهَذَا فِيهِ إثْبَاتُ العَدْوَى،
كَقَولِهِ صلى الله عليه وسلم: ((لَا يُورِدُ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ))
(2)
،
وكَقَولِهِ صلى الله عليه وسلم: ((لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ وَلَا هَامَةَ وَلَا صَفَرَ، وَفِرَّ مِنَ المَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأَسَدِ))
(3)
،
(1)
الجُذَامُ: مَرَضٌ خَبِيثٌ مُعْدٍ بِسُرْعَةٍ، ويُسَمَّى أَيضًا مَرَضُ "هَانْسِن" وَهُوَ مَرَضٌ يُؤَثِّرُ أَسَاسًا عَلَى الجِلْدِ وَالأَغْشِيَةِ المُخَاطِيَّةِ.
وَالجَذْمُ: القَطْعُ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِتَجَذُّمِ الأَصَابِعِ وَتَقَطُّعِهَا.
(2)
رَوَاهُ البُخَارِيُّ (5771)، وَالمَعْنَى: لَا يُورِدُ صَاحِبُ الإِبِلِ المَرِيضَةِ عَلَى صَاحِبِ الإِبِلِ الصَّحِيحَةِ؛ لِئَلَّا تَنْتَقِلَ العَدْوَى.
وَبَوَّبَ عَلَيهِ البَيهَقِيُّ رحمه الله فِي السُّنَنِ الكُبْرَى (7/ 352): "بَابُ لَا يُورِدُ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ؛ فَقَدْ يَجْعَلُ اللهُ تَعَالَى -بِمَشِيئَتِهِ- مُخَالَطَتَهُ إِيَّاهُ سَبَبًا لِمَرَضِهِ".
(3)
صَحِيحٌ. رَوَاهُ البُخَارِيُّ تَعْلِيقًا (5707) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ. الصَّحِيحَةُ (783).
وتَأَمَّلْ كَيفَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَمَعَ بينَ النَّفْي وَالإِثْبَاتِ فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ فِي قَولِهِ: ((لَا عَدْوَى، وَفِرَّ مِنَ المَجْذُومِ)).
وَكَالأَمْرِ بِعَدَمِ الدُّخُولِ أَوِ الخُرُوجِ مِنْ أَرْضِ الطَّاعُونِ
(1)
(2)
.
وَقَدْ أَجَابَ أَصْحَابُ القَولِ الآخَرِ بِأَنَّ الأَمْرَ بِاجْتِنَابِ المَجْذُومِ هُوَ لِدَفْعِ وَهْمِ وُجُودِ العَدْوَى أَصْلًا.
قُلْتُ: وَمِنْ جُمْلَةِ مَا يُجَابُ بِهِ عَنْ جَوَابِهِم أُمُورٌ:
أ- هَذَا التَّعْلِيلُ لَا دَلِيلَ صَرِيحَ عَلَيهِ؛ وَإنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ ذِكْرِ وَجْهٍ لِلتَّوفِيقِ فَقَط، وَالنَّفْيُ فِي قَولِهِ:((لَا عَدْوَى)) لَهُ ثَلَاثَةُ أَوجُهٍ: فَالأَوَّلُ نَفْيٌ لِلْوُجُودِ، وَالثَّانِي نَفيٌ
(1)
رَوَاهُ البُخَارِيُّ (5729) عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوفٍ مَرْفُوعًا.
(2)
وَفِي المَسْأَلَةِ أَقْوَالٌ أُخْرَى كَثِيرْةٌ مَرْجُوحَةٌ مِنْهَا:
دَعْوَى النَّسْخِ؛ بِأَنَّ أَحَادِيثَ نَفْي العَدْوَى نَاسِخَةٌ لِأَحَادِيثِ الاجْتِنَابِ (المُثْبِتَةِ للعَدْوَى).
وَبِالعَكْسِ أَيضًا: أَنَّ أَحَادِيثَ إِثْبَاتِ العَدْوَى ثَابِتَةٌ؛ وَغَيرُهَا مُتَكَلَّمٌ فِيهَا. وَكِلَاهُمَا مَرْدُودٌ؛ لِأَنَّ دَعْوَى النَّسْخِ لَا تُقْبَلُ إِلَّا عِنْدَ تَعَذُّرِ الجَمْعِ.
وَأَيضًا دَعْوَى التَّخْصِيصِ؛ بِأَنَّ أَحَادِيثَ (لَا عَدْوَى) وَأَحَادِيثَ مُخَالَطَةِ المَجْذُومِ خَاصَّةٌ بِقَوِيِّ الإِيمَانِ؛ وَأَمَّا أَحَادِيثَ الاجْتِنَابِ فَهيَ لِضَعِيفِهِ.
أَو أَنَّ الأَمْرَ بِالاجْتِنَابِ لَيسَ لِمَسْأَلةِ العَدْوَى؛ وَإِنَّمَا رِعَايَةً لِحَالِ المَرِيضِ وَمَنْعًا لِأَذِيَّتِهِ بِإِدَامَةِ النَّظَرِ إِلَيهِ.
أَو دَعْوَى التَّخْصِيصِ بِالاجْتِنَابِ لِمَرِيضِ الجُذَامِ فَقَط.
قَالَ القَاضِي عِيَاضُ رحمه الله: "وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيهِ الأَكْثَرُ -وَيَتَعَيَّنُ المَصِيرُ إِلَيهِ- أَنْ لَا نَسْخَ، بَلْ يَجِبُ الجَمْعُ بَينَ الحَدِيثَينِ؛ وَحَمْلُ الأَمْرِ بِاجْتِنَابِهِ وَالفِرَارِ مِنْهُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ وَالِاحْتِيَاطِ، وَالأَكْلُ مَعَهُ عَلَى بَيَانِ الجَوَازِ" أ. هـ مُخْتَصَرًا مِنَ الفَتْحِ (10/ 159) لِابْنِ حَجَرٍ رحمه الله.
قُلْتُ: حَدِيثُ أَكْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَعَ المَجْذُومِ ضَعِيفٌ. أَبُو دَاوُدَ (3925) عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا. الضَّعِيفَةُ (1144).
لِلصِّحَّةِ، وَالثَّالِثُ نَفيٌ لِلكَمَالِ. وَهُنَا يُمْكِنُ الجَمْعُ بِالحَمْلِ عَلَى نَفي صِحَّةِ الاعْتِقَادِ الشَّائِعِ عِنْدَهُم، وَهَذَا أَولَى مِنْ إثْبَاتِ حَدِيثٍ وَتَعْطِيلِ مَعْنَى حَدِيثٍ.
ب- فِي حَدِيثِ عَمْرو بْنِ الشَّرِيدِ الثَّقَفِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: (كَانَ فِي وَفْدِ ثَقِيفٍ رَجُلٌ مَجْذُومٌ، فَأَرْسَلَ إِلَيهِ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّا قَدْ بَايَعْنَاك؛ فَارْجِعْ))
(1)
، فَلَمْ يُصَافِحْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي بَيعَتِهِ؛ وَهُوَ عليه الصلاة والسلام سَيِّدُ المُتَوَكِّلِينَ وَهُوَ بَعِيدٌ عَنْ هَذَا الوَهْمِ لَا رَيبَ؛ وَمَعْ ذَلِكَ فَلَمْ يُصَافِحْهُ!
جـ- هَذَا الوَهْمُ الَّذِي جُعِلَ سَبَبَ الفِرَارِ مِنَ المَجْذُومِ يُمْكِنُ دَفْعُهُ بِالبَيَانِ، وَالبَيَانُ لَا يَخْفَى أَنَّهُ أَوضَحُ مِنَ الإِشَارَةِ وَالإِيمَاءِ بِالأَوجُهِ البَعِيدَةِ لَو كَانَ هُوَ سَبَبَ نَفي العَدْوَى فِي الحَدِيثِ.
(1)
رَوَاهُ مُسْلِمٌ (2231).
-
المَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إِذَا كَانَتِ الطِّيَرَةُ مَنْفِيَّةً؛ فَمَا الجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ: ((الشُّؤْمُ فِي المَرْأَةِ وَالدَّارِ وَالفَرَسِ))
(1)
؟
الجَوَابُ مِنْ أَوجُهٍ:
1 -
مِنْ جِهَةِ لَفْظِ الحَدِيثِ؛ فَالصَّوَابُ هُوَ: ((إِنْ كَانَ الشُّؤْمُ فِي شَيءٍ؛ فَفِي الدَّارِ وَالمَرْأَةِ وَالفَرَسِ))، وَأَمَّا الحَدِيثُ مَوضُوعُ السُّؤَالِ فَهُوَ تَصَرُّفٌ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ يَظْهَرُ بِمَا يَلِي:
أ- مُخَالَفَتُهُ لِأَحَادِيثِ البَابِ الصَّرِيحَةِ بِكَونِ الطِّيَرَةِ شِرْكٌ.
ب- أَنَّ الحَدِيثَ التَّالِي لَهُ فِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ هُوَ أَيضًا عَنِ ابْنِ عُمَر وَلَكِنَّهُ بِلَفْظِ: ((إِنْ كَانَ الشُّؤْمُ فِي شَيءٍ؛ فَفِي الدَّارِ وَالمَرْأَةِ وَالفَرَسِ))
(2)
.
ج- دَعْوَى أَنَّ الشُّؤمَ هُوَ فِي المَرْأَةِ وَالدَّارِ وَالمَسْكَنِ هُوَ عَقِيدَةٌ جَاهِلِيَّةٌ، كَمَا فِي الحَدِيثِ: دَخَلَ رَجُلَانِ مِنْ بَنِي عَامِرٍ عَلَى عَائِشَةَ، فَأَخْبَرَاهَا أَنَّ أَبَا هُرَيرَةَ يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:((الطِّيَرَةُ فِي الدَّارِ وَالمَرْأَةِ وَالفَرَسِ))، فَغَضِبَتْ، وَطَارَتْ شِقَّةٌ مِنْهَا فِي السَّمَاءِ وَشِقَّةٌ فِي الأَرْضِ
(3)
، وَقَالَتْ: وَالَّذِي أَنْزَلَ الفُرْقَانَ عَلَى مُحَمَّدٍ؛ مَا قَالَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَطُّ! إِنَّمَا قَالَ: ((كَانَ أَهْلُ الجَاهِلِيَّةِ يَتَطَيَّرُونَ مِنْ ذَلِكَ))
(4)
.
(1)
رَوَاهُ البُخَارِيُّ (5093) عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا.
(2)
البُخَارِيُّ (5094).
(3)
قَالَ فِي لِسَانِ العَرَبِ (4/ 510): "أَي: كَأَنَّهَا تفَرَّقَتْ وَتقَطَّعَتْ قِطَعًا مِنْ شِدَّةِ الغَضَبِ".
وَقَالَ فِي مَوضِعٍ آخَرَ (10/ 182): "فَطَارَتْ شِقَّةٌ مِنْهَا فِي السَّمَاءِ وَشِقَّةٌ فِي الأًرْضِ: هُوَ مُبَالَغَةٌ فِي الغَضَبِ وَالغَيظِ. يُقَالُ: قَدْ انْشَقَّ فُلَانٌ مِنَ الغَضَبِ؛ كَأَنَّهُ امْتَلَأَ بَاطِنُهُ بِهِ حَتَّى انْشَقَّ".
(4)
صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (26034). الصَّحِيحَةُ (993).
وَفِي لَفْظٍ فِي مُسْنَدِ الطَّيَالِسِيِّ (1641) عَنْ مَكْحُولٍ؛ قِيلَ لِعَائِشَة: "إِنَّ أَبَا هُرَيرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:
=
د- أَنَّهُ قَدْ جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَا يُعَارِضُهُ وَهُوَ: ((لَا شُؤْمَ، وَقَدْ يَكُونُ اليُمْنُ فِي الدَّارِ وَالمَرْأَةِ وَالفَرَسِ))
(1)
.
2 -
مِنْ جِهَةِ فِقْهِ الحَدِيثِ -عَلَى فَرْضِ ثُبُوتِهِ-: أَنَّ الشَّؤْمَ هُنَا لَيسَ بمَعْنَى الطِّيَرَةِ الشِّركيَّةِ، وَلَكِنَّهُ بِمَعْنَى السَّبَبِ القَدَريِّ فِي حُصُولِ الخَيرِ أَوِ الشَّرِّ.
وَهَذَا صَحِيحٌ لَا رَيبَ فِيهِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ لِكَثْرَةِ مُلَازَمَةِ المَرْءِ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ؛ فَإِنَّ صَاحِبَهَا قَدْ يَسْعَدُ وَقَدْ يَسُوءُ.
وَذَلِكَ يَتَبَيَّنُ بِالحَدِيثِ الآتِي: ((ثَلَاثَةٌ مِنَ السَّعَادَةِ، وَثَلَاثَةٌ مِنَ الشَّقَاءِ.
فَمِنَ السَّعَادَةِ: المَرْأةُ الصَّالِحَةُ تَرَاهَا فَتُعْجِبُكَ، وَتَغِيبُ عَنْهَا فَتَأْمَنُها عَلَى نَفْسِهَا وَمَالِكَ، وَالدَّابَّةُ تَكُونُ وَطِيئَةً؛ فَتُلْحِقُكَ بِأَصْحَابِكَ، وَالدَّارُ تَكُونُ وَاسِعَةً كَثِيرْةَ المَرَافِقِ.
وَمِنَ الشَّقَاءِ: المَرْأَةُ تَرَاهَا فَتَسُوءُكَ، وَتَحْمِلُ لِسَانَهَا عَلَيكَ، وَإِنْ غِبْتَ عَنْهَا لَمْ
=
((الشُّؤْمُ فِي ثَلَاثَةٍ: فِي الدَّارِ وَالمَرْأَةِ وَالفَرَسِ)). فَقَالَتْ عَائِشَةُ: لَمْ يَحْفَظْ أَبُو هُرَيرَةَ، لِأَنَّهُ دَخَلَ وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:((قَاتَلَ اللهُ اليَهُودَ؛ يَقُولُونَ: الشَّؤْمُ فِي ثَلَاثَةٍ: الدَّارُ وَالمَرْأَةُ وَالفَرَسُ)) فَسَمِعَ آخِرَ الحَدِيثِ وَلَمْ يَسْمَعْ أَوَّلَهُ".
قَالَ الزَّركَشِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (الإِجَابَةُ لِإِيرَادِ مَا اسْتَدْرَكَتْهُ عَائِشَةُ عَلَى الصَّحَابَةِ)(ص 115): "قَالَ بَعْضُ الأَئِمَّة: وَرِوَايَة عَائِشَةَ فِي هَذَا أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ -إِنْ شَاءَ اللهُ- لِمُوَافِقَتِهِ نَهْيَهُ عليه الصلاة والسلام عَنِ الطِّيَرَةِ نَهْيًا عَامًّا، وَكَرَاهَتِهِ لَهَا وَتَرْغِيبِهِ فِي تَرْكِهَا بِقَولِه: ((يَدْخُلُ الجَنَّةَ سَبْعُونَ ألَفًا بِغَيرِ حِسَابٍ، وَهُمُ الَّذِينَ لَا يَكْتَوُونَ وَلَا يَسْتَرْقُونَ وَلَا يَتَطَيَّرُونَ وَعَلَى رَبِّهِم يَتَوَكَّلُونَ)) ".
قَالَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله فِي الصَّحِيحَةِ (993): "وَجُمْلَةُ القَولِ أَنَّ الحَدِيثَ اخْتَلَفَ الرُّوَاةُ فِي لَفْظِهِ، فَمِنْهُم مَنْ رَوَاهُ كَمَا فِي التَّرْجَمَةِ، وَمِنْهُم مَنْ زَادَ عَلَيهِ فِي أَوَّلِهِ؛ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا طِيَرَةَ أَو شُؤْمَ وَهُمَا بِمَعْنَى وَاحِدٍ -كَمَا قَالَ العُلَمَاءُ- وعَلَيهِ الأَكْثَرُونَ، فَرِوَايَتُهُم هِيَ الرَّاجِحَةُ؛ لِأَنَّ مَعَهُم زِيَادَةُ عِلْمٍ، فَيَجِبُ قَبُولُهَا".
(1)
صَحِيحٌ. التِّرْمِذِيُّ (4/ 424) عَنْ حَكِيمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (1930).
تَأْمَنْهَا عَلَى نَفْسِهَا وَمَالِكَ! وَالدَّابَّةُ تَكُونُ قَطُوفًا
(1)
؛ فَإِنْ ضَرَبْتَها أَتْعَبَتْكَ وَإِنْ تَرَكْتَهَا لَمْ تُلْحِقْكَ بِأَصْحَابِكَ! وَالدَّارُ تَكُونُ ضَيِّقَةً قَلِيلَةَ المَرَافِقِ))
(2)
.
فَدَلَّ الحَدِيثُ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ؛ مِنْهَا مَا يُسْعِدُ وَمِنْهَا مَا يُشْقِي، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ الأَسْبَابِ القَدَرِيَّةِ وَلَيسَتْ مِنَ التَّطَيُّرِ أَصْلًا
(3)
.
قَالَ الإِمَامُ ابْنُ القَيِّمِ رحمه الله: "وَبِالجُمْلَةِ فَإِخْبِارُهُ صلى الله عليه وسلم بِالشُّؤْمِ أَنَّهُ يَكُونُ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ لَيسَ فِيهِ إِثْبَاتُ الطِّيَرَةِ الَّتِي نَفَاهَا، وَإنَّمَا غَايَتُهُ أَنَّ اللهَ سُبْحَانَه قَدْ يَخْلِقُ مِنْهَا أَعْيَانًا مَشْؤُمَةً عَلَى مَنْ قَارَبَهَا وَسَاكَنَهَا، وَأَعْيَانًا مُبَارَكَةً لَا يَلْحَقُ مَنْ قَارَبَهَا مِنْهَا شُؤْمٌ وَلَا شَرٌّ.
وَهَذَا كَمَا يُعْطِي سُبْحَانَهُ الوَالِدَينِ وَلَدًا مُبَارَكًا يَرَيَانِ الخَيرَ عَلَى وَجْهِهِ، وَيُعْطِي غَيرَهُمَا وَلَدًا مَشْؤُمًا نَذْلًا يَرَيَانِ الشَّرَّ عَلَى وَجْهِهِ.
وَكَذَلِكَ مَا يُعْطَاهُ العَبْدُ مِنْ وِلايَةٍ أَو غَيرِهَا؛ فَكَذَلِكَ الدَّارُ وَالمَرْأَةُ وَالفَرَسُ، وَاللهُ سُبْحَانَهُ خَالِقُ الخَيرِ وَالشَّرِّ وَالسُّعُودِ وَالنُّحُوسِ، فَيَخْلُقُ بَعْضَ هَذِهِ الأَعْيَانِ
(1)
أَي: بَطِيئَةَ السَّيرِ.
(2)
حَسَنٌ. الحَاكِمُ (2684) عَنْ سَعْدٍ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (5367).
وَعِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ (4032) بِزِيَادَةِ: ((وَالجَارِ الصَّالِحِ)). صَحِيحٌ. الصَّحِيحَةُ (282).
قُلْتُ: وَفِيهِ مَا لَا يَخْفَى مِنْ وَجْهِ الاشْتِرَاكِ مَعَ الثَّلَاثَةِ السَّابِقَةِ فِي كَثْرَةِ مُلَازَمَةِ الرَّجُلِ لِهَذِهِ الأَشْيَاء.
فَالجَارُ الصَّالِحُ مِنَ السَّعَادَةِ؛ لِأَنَّه يُعِينُ عَلَى الطَّاعَاتِ وَالأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنِ المُنْكَرِ، وَيَتَمَثَّلُ قَولَهُ تَعَالَى:{وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العَصْر: 3]، وَلَا يُشْغِلُكَ بِالدُّنْيَا وَمَصَائِبِهَا وَفِتَنِهَا عَنِ الآخِرَةِ.
(3)
وَلَا يَلْزَمُ مِنْ صِحَّةِ هَذَا الحَدِيثِ تَصْحِيحُ الحَدِيثِ مَوضُوعِ هَذِهِ المَسْأَلَةِ! لِأَنَّ مَدَارَ الإِشْكَالِ هُوَ عَلى لَفْظِ الشُّؤْم؛ فَإِنَّهُ غَيرُ مَوجُودٍ فِي هَذَا الحَدِيثِ، وَأَيضًا لِاخْتِلَافِ الرُّوَاةِ عَلَيهِ؛ فَتَنَبَّهْ.
سُعُودًا مُبَارَكَةً وَيَقْضِي بِسَعَادَةِ مَنْ قَارَنَهَا وَحُصُولِ اليُمْنِ لَهُ وَالبَرَكَةِ، وَيَخْلُقُ بَعْضَ ذَلِكَ نُحُوسًا يَتَنَحَّسُ بِهَا مَنْ قَارَنَهَا، وَكُلُّ ذَلِكَ بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، كَمَا خَلَقَ سَائِرَ الأَسْبَابِ وَرَبَطَهَا بِمُسَبَّبَاتِهَا المُتَضَادَّةِ وَالمُخْتَلِفَةِ"
(1)
.
قُلْتُ: وَتَأَمَّلْ تَبْوِيبَ البُخَارِيِّ رحمه الله عَلَى الحَدِيثِ فَقَالَ: "بَابُ مَا يُتَّقَى مِنْ شُؤْمِ المَرْأَةِ، وَقَولُهُ تَعَالَى: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ} [التَّغَابُن: 14] "
(2)
، فَقَولُهُ تَعَالَى:{إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِنَ النِّسَاءِ مَا يَكُونُ فِيهَا شَرٌّ لِزَوجِهَا، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ فِيهَا خَيرٌ. ثُمَّ أَورَدَ البُخَارِيُّ حَدِيثَ أُسَامَةَ بْنِ زَيدٍ رضي الله عنهما مَرْفُوعًا:((مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ))
(3)
، وَهَذَا فِيهِ بَيَانُ سَبَبِ الشُّؤْمِ فِيهَا، وَأَنَّ فِتْنَةَ المَرْأَةِ لِلرَّجُلِ مِنْ أَعْظَمِ الفِتَنِ، فَلِذَلكَ قَالَ:"بَابُ مَا يُتَّقَى مِنْ شُؤْمِ المَرْأَةِ"، فَجَعَلَ تِلْكَ الفِتْنَةَ هِيَ سَبَبَ الشُّؤْمِ، وَهِيَ مِنْ جُمْلَةِ الأَسْبَابِ القَدَرِيَّةِ فِي السَّعَادَةِ وَالشَّقَاءِ. فَرَحِمَ اللهُ البُخَارِيَّ مَا أَدَقَّ نَظَرَهُ.
(1)
مِفْتَاحُ دَارِ السَّعَادَةِ (2/ 257).
(2)
البُخَارِيُّ (7/ 8).
(3)
البُخَارِيُّ (5096).
-
المَسْأَلَةُ الخَامِسَةُ: هَلْ يُشْرَعُ تَغْيِيرُ الأَسْمَاءِ لِدَفْعِ الطِّيَرَةِ؟
الجَوَابُ: نَعَم.
وَلَكِنَّ المَقْصُودَ بِدَفْعِ الطِّيَرَةِ هُنَا هُوَ دَفْعُ تَطَيُّرِ النَّاسِ بِهَا، وَلِمَنْعِ تَوَّهُمِ كَونِ ذَلِكَ الشَّيءِ سَبَبًا لِحُصُولِ الطِّيَرَةِ.
كَمَا فِي الحَدِيثِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: (مَرَّ بِأَرْضٍ تُسَمَّى غَدِرَةً؛ فَسَمَّاهَا خَضِرَةً)
(1)
.
قَالَ الطَّحَاوِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (مُشْكِلُ الآثَارِ) -فِي وَجْهِ كَرَاهِيةِ اسْمِهَا-: "أنْ يَنْزِلَهَا نَازِلٌ -وَاسْمُهَا عِنْدَهُ غَدِرَةٌ- فَيَتَطَيَّرُ بِذَلِكَ! فَحَوَّلَ صلى الله عليه وسلم اسْمَهَا إِلَى خَضِرَة مِمَّا لَا طِيَرَةَ فِيهِ"
(2)
.
قُلْتُ: وَمِمَّا يَشْهَدُ لِهَذَا أَيضًا مَا ثَبَتَ مَوقُوفًا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه (البَلَاءُ مُوَكَّلٌّ بِالقَولِ)
(3)
، وَمِنْ هَذَا يُؤْخَذُ أَدَبُ الأَلْفَاظِ أَيضًا بِذِكْرِ مَا يُسْتَبْشَرُ بِهِ عُمُومًا دُونَ ذِكْرِ مَا
(1)
صَحِيحٌ. ابْنُ حِبَّان (5821)، وَأَبُو يَعْلَى (4556). تَحْقِيقُ مُسْنَدِ أَبِي يَعْلَى لِلأُسْتَاذِ حُسَين أَسَد حَفِظَهُ اللهُ.
وَأَوَرَدَهُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله فِي الصَّحِيحَةِ (208) مِنْ رِوَايَةِ الطَّبَرَانيِّ فِي المُعْجَمِ الصَّغِيرِ (349) بِلَفْظِ: (عَفِرَة) بَدَلَ: (غَدِرَة).
وَ (عَفِرَة) بِفَتْحِ عَينٍ، وَكَسْر فَاءٍ، وَهِيَ مِنَ الأَرْض مَا لَا تُنْبِتُ شَيئًا". قَالَهُ صَاحِبُ عَونِ المَعْبُودِ (9/ 2234).
وَنَقَلَ البَغَوِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ شَرْحُ السُّنَّةِ (12/ 344) عَنِ الخَطَّابيِّ رحمه الله قَولَهُ: "وَأَمَّا عَفِرَة: -يَعْنِي بِفَتْحِ العَينِ وكَسْرِ الفَاءِ- فَهِيَ نَعْتُ الأَرْضِ الَّتِي لَا تُنْبِتُ شَيئًا فَسَمَّاهَا خَضِرَةً عَلَى مَعْنَى التَّفَاؤُلِ حَتَّى تَخْضَرَّ".
(2)
مُشْكِلُ الآثَارِ (5/ 104).
(3)
صَحِيحٌ مَوقُوفًا؛ ضَعِيفٌ مَرْفُوعًا. يُنْظَرُ: الضَّعِيفَةُ (7/ 395).
يَسُوءُ وَلَو عَلَى سَبِيلِ احْتِمَالِ الوقُوعِ.
وَتَأَمَّلْ قَولَهُ تَعَالَى عَنْ يَعْقُوبَ عليه السلام: " {قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ} [يُوسُف: 13] يُؤَكِّدُ أَنَّ البَلَاءَ مُوَكَّلٌ بِالمَنْطِقِ، لِأَنَّهُم لَمْ يَعْتَلُّوا عَلَى أَبِيهِم إِلَّا بِالشَّيءِ نَفْسِهِ الَّذِي سَمِعُوهُ يَنْطِقُ بِهِ لَا غَيرَهُ"
(1)
.
(1)
النُّكَتُ الدَّالَّةُ عَلَى البَيَانِ (1/ 611).
-
المَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: إِذَا كَانَتِ الطِّيَرَةُ مِنَ الشِّرْكِ! فَمَا الجَوَابُ عَنْ قَولِهِ تَعَالَى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا}
[الإِسْرَاء: 13]
(1)
؟
الجَوَابُ:
ذِكْرُ الطَّيرِ فِي الآيَةِ الكَرِيمَةِ لَيسَ لَهُ عَلَاقَةٌ بِالطِّيَرَةِ المَعْرُوفَةِ، وَإنَّمَا المَقْصُودُ بِهِ عَمَلُ المَرْءِ.
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ
(2)
: "وَطَائِرُهُ هُوَ مَا طَارَ عَنْهُ مِنْ عَمَلِهِ -كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدُ وَغَيرُهُمَا- مِنْ خَيرٍ وَشَرٍّ، وَيُلْزَمُ بِهِ وَيُجَازَى عَلَيهِ، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزَّلْزَلَةِ: 7 - 8]، وَقَالَ تَعَالَى: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 17 - 18] وَقَالَ: {وَإِنَّ عَلَيكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانْفِطَار: 10 - 12]، وَقَالَ: {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطُّور: 16]، وَقَالَ: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النِّسَاء: 123] الآيَة، وَالمَقْصُودُ أَنَّ عَمَلَ ابْنِ آدَمَ مَحْفُوظٌ عَلَيهِ قَلِيلَهُ وَكَثِيرَهُ، وَيُكْتَبُ عَلَيهِ لَيلًا وَنَهَارًا، صَبَاحًا وَمَسَاءً"
(3)
.
(1)
وَيُشْبِهُهُ حَدِيثُ أَحْمَدَ (14878) عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا: ((طَائِرُ كُلِّ إِنْسَانٍ فِي عُنُقِهِ)). صَحِيحٌ. الصَّحِيحَةُ (1907).
(2)
تَفْسِيرُ ابْنِ كَثِيرٍ (5/ 50).
(3)
قُلْتُ: وَحَمَلَهُ الطَّبَرِيُّ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (17/ 397) عَلَى الكِتَابَةِ القَدَريَّةِ فَقَالَ: "وكُلَّ إِنْسَانِ أَلْزَمْنَاهُ مَا قُضيَ لَهُ أَنَّهُ عَامِلُهُ، وَهُوَ صَائِرٌ إِلَيهِ مِنْ شَقَاءٍ أَو سَعَادَةٍ بِعَمَلِهِ فِي عُنُقِهِ لَا يُفَارِقُهُ".
-
المَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: هَلْ قَولُهُ: ((وَيُعْجِبُنِي الفَأْلُ)) خَاصٌّ بِكَونِهِ كَلَامًا مُسْتَحْسَنًا، أَمْ يَتَعَدَّاهُ إِلَى المَرْئِيِّ المُسْتَحْسَنِ أَيضًا؟
الجَوَابُ: يَتَعَدَّاهُ، وَذَلِكَ لِسَبَبَينِ:
1 -
أَنَّ العِلَّةَ فِي جَوَازِ الأَوَّلِ هُوَ كَونُهُ مِنْ بَابِ البِشْرِ بِحُصُولِ الخَيرِ مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَعَلَيهِ فَإِذَا وُجِدَ فِي المَرْئِيِّ مَا يُبَشِّرُ بِخَيرٍ؛ فَهُوَ أَيضًا مَشْرُوعٌ، عَدَا عَنْ كَونِهِ لَيسَ فِيهِ عِلَّةُ النَّهْي عَنِ التَّطَيُّر الَّتِي هِيَ سُوءُ الظَّنِّ بِاللهِ تَعَالَى وَضَعْفُ التَّوَكُّلِ، وَرَجْمٌ بِالغَيبِ، واعْتِقَادُ حُصُولِ الضُّرِّ وَالنَّفْعِ مِنْ غَيرِ اللهِ تَعَالَى.
2 -
أَنَّ السُّنَّةَ دَلَّتْ عَلَى هَذَا أَيضًا، كَمَا فِي حَدِيثِ قُدُومِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى خَيبَرَ؛ وَفِيهِ أَنَّهُ عِنْدَمَا رَأَى أَهْلَهَا قَدْ خَرَجوا إِلَى أَعْمَالِهِم وَبِأَيدِيهِم الفُؤُوسُ وَالمَسَاحِيُّ اسْتَبْشَرَ بِذَلِكَ خَرَابَ خَيبَرَ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم:((اللهُ أَكْبَرُ، خَرَبَتْ خَيبَرُ))
(1)
.
قَالَ القَاضِي عِيَاض رحمه الله فِي كِتَابِهِ (إِكْمَالُ المُعْلِمِ شَرْحُ مُسْلِمٍ): "وَقَولُهُ: ((اللهُ أَكْبَرُ، خَرَبَتْ خَيبَرُ)) قَالَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا رَآهُم خَرَجُوا بِآلَةِ الخَرَابِ وَالهَدْمِ؛ لِقَولِهِ: (خَرَجُوا بِفُؤُوسِهِم وَمَكَاتِلِهِم وَمُرُورِهِم)، وَهَذَا مِنَ الفَأْلِ الحَسَنَ فِي حَقِّهِ عليه السلام وحَقِّ المُسْلِمِينَ -الَّذِي كَانَ يَسْتَحِبُّهُ- وَلَيسَ مِنَ الطِّيَرَةِ المَذْمُومَةِ"
(2)
.
(1)
وَالحَدِيثُ بِتَمَامِهِ كَمَا فِي البُخَارِيِّ (371)، وَمُسْلِمٍ (1365) عَنْ أَنَسٍ؛ قَالَ: كُنْتُ رِدْفَ أَبِي طَلْحَةَ يَومَ خَيبَرَ -وَقَدَمِي تَمَسُّ قَدَمَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فَأَتَينَاهُمْ حِينَ بَزَغَتِ الشَّمْسُ وَقَدْ أَخْرَجُوا مَوَاشِيَهُمْ، وَخَرَجُوا بِفُؤُوسِهِمْ وَمَكَاتِلِهِمْ وَمُرُورِهِمْ، فَقَالُوا: مُحَمَّدٌ، وَالخَمِيسُ! قَالَ: وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((خَرِبَتْ خَيبَرُ، إِنَّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَومٍ فَسَاءَ صَبَاحُ المُنْذَرِينَ))، قَالَ: وَهَزَمَهُمُ اللهُ عز وجل.
وَقَولُهُ (بِمَكَاتِلِهِمْ): جَمْعُ مِكْتَلٍ -بِكَسْرِ المِيمِ- وَهُوَ الزِّنْبِيلُ الكَبِيرُ، (وَمَسَاحِيهِم): جَمْعُ مِسْحَاةٍ، وَهِيَ المِجْرَفَةُ مِنَ الحَدِيدِ، (وَالخَمِيسُ): هُوَ الجَيشُ.
(2)
إِكْمَالُ المُعْلِمِ (4/ 304).
-
المَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: إِذَا كَانَتِ الطِّيَرَةُ هِيَ مَا أَمْضَاكَ أَو رَدَّكَ؛ فَمَا الجَوَابُ عَنِ الحَدِيثِ:
قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ إِنَّا كُنَّا فِي دَارٍ كَثِيرٌ فِيهَا عَدَدُنَا وَكَثِيرٌ فِيهَا أَمْوَالُنَا، فَتَحَوَّلْنَا إِلَى دَارٍ أُخْرَى؛ فَقَلَّ فِيهَا عَدَدُنَا وَقَلَّتْ فِيهَا أَمْوَالُنَا! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:((ذَرُوهَا ذَمِيمَةً))
(1)
؟
الجَوَابُ هُوَ مِنْ وَجْهَينِ:
1 -
دَرْءًا لِلمَفْسَدَةِ: فتَرْكُهَا لَيسَ مِنْ بَابِ التَّطَيُّر بِهَا، وَإنَّمَا لِدَرْءِ مَا قَدْ يُعْتَقَدُ مِنْ شُؤْمِهَا؛ فَيَقَعُ المُتَشَائِمُ بِهَا فِي الشِّركِ!
قَالَ صَاحِبُ عَونِ المَعْبُودِ: "قَالَ الخَطَّابِيُّ وَابْنُ الأَثِيرِ: إِنَّمَا أَمَرَهُمْ بِالتَّحَوُّلِ عَنْهَا إِبْطَالًا لِمَا وَقَعَ فِي نُفُوسِهِم مِنْ أَنَّ المَكْرُوهَ إِنَّمَا أَصَابَهُمْ بِسَبَبِ السُّكْنَى، فَإِذَا تَحَوَّلُوا عَنْهَا انْقَطَعَتْ مَادَّةُ ذَلِكَ الوَهْمِ وَزَالَ عَنْهُمْ مَا خَامَرَهُمْ مِنَ الشُّبْهَةِ"
(2)
.
2 -
أَنَّهَا سَبَبٌ قَدَرِيٌّ صَحِيحٌ لَيسَ لَهُ عَلَاقَةٌ بِالطِّيَرَةِ، فَهِيَ مِنْ جُمْلَةِ الأَسْبَابِ الَّتِي إِذَا صَلَحَتْ سَعِدَ سَاكِنُهَا، وَإِذَا سَاءَتْ سَاءَ سَاكِنُهَا، وَقَدْ سَبَقَ مَعْنَى ذَلِكَ فِي شَرْحِ حَدِيثِ:((الشُّؤْمُ فِي المَرْأَةِ وَالدَّارِ وَالفَرَسِ)).
(1)
حَسَنٌ. أَبُو دَاوُدَ (3924) عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (790).
(2)
عَونُ المَعْبُودِ (10/ 300).
-
المَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: هَلْ قَولُ القَائِلِ عِنْدَ سَمَاعِهِ مَا يُتَطَيَّرُ مِنْهُ عَادَةً: (خَيرٌ خَيرٌ)، أَو (خَيرٌ يَا طَيرُ) مَشْرُوعٌ لِرَدِّ التَّشَاؤُمِ؟
الجَوَابُ:
لَا يُشْرَعُ، لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ مُدَاوَاةِ البِدْعَةِ بِالبِدْعَةِ
(1)
.
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله
(2)
: "وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ فَمَرَّ طَائِرٌ فَصَاحَ، فَقَالَ رَجُلٌ: خَيرٌ خَيرٌ! فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (مَا عِنْدَ هَذَا لَا خَيرٌ وَلَا شَرٌّ) "
(3)
.
وَأَمَّا حَدِيثُ قَولِ: (خَيرٍ خَيرٍ) عِنْدَ سَمَاعِ نَعِيقِ الغُرَابِ وَنَحوِهِ؛ فَلَيسَ بِحَدِيثٍ، وَهُوَ نَوعُ طِيَرَةٍ
(4)
.
(1)
قَالَ الشَّيخُ ابْنُ عُثَيمِين رحمه الله فِي كِتَابِهِ القَولُ المُفِيدُ (1/ 567): "وَبَعْضُ النَّاسِ إِذَا انْتَهَى مِنْ شَيءٍ فِي صَفَر أرَّخَ ذَلِكَ وَقَالَ: انْتَهَى فِي صَفَرِ الخَيرِ، وَهَذَا مِنْ بَابِ مُدَاوَاةِ البِدْعَةِ بِبِدْعَةٍ، وَالجَهْلِ بِالجَهْلِ، فَهُوَ لَيسَ شَهْرَ خَيرٍ وَلَا شَهْرَ شَرٍّ".
(2)
فَتْحُ البَارِي (10/ 215).
(3)
وَرَوَى الأَصْبَهَانِيُّ فِي الحِلْيَةِ (4/ 4): "أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَسِيرُ مَعَ طَاوُوسَ فَسَمِعَ غُرَابًا نَعَبَ، فَقَالَ: خَيرٌ. فَقَالَ طَاوُوسُ: أَيُّ خَيرٍ عِنْدَ هَذَا أَو شَرٍّ؟! لَا تَصْحَبْنِي أَو لَا تَسِرْ مَعِيَ".
قَالَ فِي لِسَانِ العَرَبِ (1/ 764): "نَعَبَ الغُرَابُ: صَاحَ وَصَوَّتَ".
(4)
المَقَاصِدُ الحَسَنَةُ (ص 333) لِلْسَّخَاوِيِّ.
-
المَسْأَلَةُ العَاشِرَةُ: هَلِ المَقْصُودُ بِقَولِهِ صلى الله عليه وسلم: ((لَا غُول)) نَفيُ وُجُودِهِ؟
الجَوَابُ: لَا.
وَإنَّمَا المَقْصُودُ نَفيُ الاعْتِقَادِ بِهِ عَلَى تِلْكَ الصُّورَةِ المَزْعُومَةِ عِنْدَ العَرَبِ.
وَيَدُلُّ لِوُجُودِهِ:
1 -
أَنَّ هَذَا شَائِعٌ مَعْرُوفٌ وُجُودُهُ عِنْدَ العَرَبِ.
قَالَ فِي القَامُوسِ المُحِيطِ: "غَالَهُ: أَهْلَكَهُ، كَاغْتَالَهُ وَأَخَذَهُ مِنْ حَيثُ لَمْ يَدْرِ. وَالغُولُ بِالضَّمِّ: الهَلَكَةُ، وَالدَّاهِيَةُ، وَالسِّعْلَاةُ، وَسَاحِرَةُ الجِنِّ، وَالمَنِيَّةُ، وَشَيطَانٌ يَأْكُلُ النَّاسَ"
(1)
.
2 -
مَا ثَبَتَ فِي الأَحَادِيثِ مِنْ لَفْظِ الغُولِ، كَحَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ: (كَانَتْ لِي سَهْوَةٌ
(2)
فِيهَا تَمْرٌ؛ فَكَانَتِ الغُولُ تَجِيءُ فَتَأْكُلُ مِنْهُ)
(3)
.
بَلْ فِي القُرْآنِ مَا يُشِيرُ إِلَى وُجُودِهَا أَيضًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأَنْعَام: 71]
(4)
.
(1)
القَامُوسُ المُحِيطُ (ص 1040) بِتَصَرُّفٍ يَسِيرٍ.
(2)
هُوَ بَيتٌ صَغِيرٌ فِي الجِدَارِ كَالخِزَانَةِ الصَّغِيرةِ.
(3)
صَحِيحٌ. التِّرْمِذِيُّ (2880). صَحِيحُ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ (1469).
(4)
قَالَ الطَّبَرِيُّ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (11/ 452): "عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَولُهُ: {أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا} قَالَ: هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللهُ لِلآلِهَةِ وَمَنْ يَدُعُو إِلَيهَا وَلِلدُّعَاةِ الَّذِينَ يَدْعُونَ إِلَى اللهِ، كَمَثَلِ رَجُلٍ ضَلَّ عَنِ الطَّرِيقِ تَائِهًا ضَالًّا، إِذْ نَادَاهُ مُنَادٍ:(يَا فُلانُ بْنُ فُلَانٍ، هَلُمَّ إِلَى الطَّرِيقِ)،
=
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: (إِنَّ هَذَا الصِّرَاطَ مُحْتَضَرٌ تَحْضُرُهُ الشَّيَاطِينُ، يُنَادُونَ: يَا عَبادَ اللَّهِ؛ هَذَا الطَّرِيقُ! فَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ؛ فَإِنَّ حَبْلَ اللَّهِ الْقُرْآنُ)
(1)
.
وَثَبَتَ أَيضًا أَنَّ الغِيلَانَ ذُكِرَتْ عِنْدَ عُمَرَ فَقَالَ: (إِنَّ أَحَدًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَحَوَّلَ عَنْ صُورَتِهِ الَّتِي خَلَقَهُ اللهُ عَلَيهَا؛ وَلَكِنْ لَهُمْ سَحَرَةٌ كَسَحَرَتِكُمْ؛ فَإِذَا رَأَيتُمْ ذَلِكَ فَأَذِّنُوا)
(2)
.
=
وَلَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ: (يَا فُلَانُ، هَلُمَّ إِلَى الطَّرِيقِ)! فَإِنِ اتَّبَعَ الدَّاعِيَ الأَوَّلَ انْطَلَقَ بِهِ حَتَّى يُلْقِيَهُ فِي الهَلَكَةِ، وَإِنْ أَجَابَ مَنْ يَدْعُوهُ إِلَى الهُدَى اهْتَدَى إِلَى الطَّرِيقِ، وَهَذِهِ الدَّاعِيَةُ الَّتِي تَدْعُو فِي البَرِّيَّةِ مِنَ الغِيلَانِ".
قُلْتُ: وَالغِيلَانُ هُنا هِيَ مِنَ الجِنِّ الَّتِي تَسْعَى فِي إِضْلَالِ النَّاسِ.
وَمِثْلُهُ مَا فِي مُسْلِمٍ (389) عَنْ سُهَيلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ قَالَ: (أَرْسَلَنِي أَبِي إلَى بَنِي حَارِثَةَ -وَمَعِي غُلَامٌ لَنَا أَو صَاحِبٌ لَنَا-، فَنَادَاهُ مُنَادٍ مِنْ حَائِطٍ بِاسْمِهِ، قَالَ: وَأَشْرَفَ الَّذِي مَعِيَ عَلَى الحَائِطِ فَلَمْ يَرَ شَيئًا! فَذَكَرْت ذَلِكَ لِأَبِي فَقَالَ: لَو شَعَرْتُ أَنَّك تَلْقَى هَذَا لَمْ أُرْسِلْك؛ وَلَكِنْ إذَا سَمِعْتَ صَوتًا فَنَادِ بِالصَّلَاةِ فَإِنِّي سَمِعْتُ أَبَا هُرَيرَةَ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: ((إنَّ الشَّيطَانَ إذَا نُودِيَ بِالصَّلَاةِ؛ وَلَّى وَلَهُ حِصَاصٌ)).
وَ (الحِصَاصُ): هُوَ الضُّرَاطُ.
وَ (أَبُو صَالِحٍ السَّمَّانُ) هُوَ ذَكْوانُ: تَابِعِيٌّ مِنَ الوُسْطَى، وَهُوَ ثِقَةٌ ثَبْتٌ (ت 101 هـ).
(1)
سُنَنُ الدَّارِمِيِّ (336)، وَصَحَّحَهُ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ. اُنْظُرْ مَجْمُوعَ رَسَائِلِ ابْنِ رَجَبٍ (1/ 195).
(2)
صَحِيحٌ. ابْنُ أَبِي شَيبَةَ، بَابُ (الغِيلَانُ إِذَا رُئيَتْ مَا يَقُولُ الرَّجُلُ). قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله فِي الفَتْحِ (6/ 344):"إسْنَادُهُ صَحِيحٌ". وَقَالَ أَيضًا رحمه الله: "وَإِذَا ثَبَتَ وُجُودُهُمْ؛ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي أَصْلِهِمْ؛ فَقِيلَ: .... ".
-
المَسْأَلَةُ الحَادِيَةَ عَشَرَةَ: كَيفَ يُدْفَعُ شَرُّ الغِيلَانِ؟
الجَوَابُ:
يُدْفَعُ بِأُمُورٍ مِنْهَا:
1 -
التَّوَكُّلُ عَلَى اللهِ تَعَالَى فِي الأُمُورِ كُلِّهَا، لِأَنَّ عَمَلَ الغُولِ حَقِيقَةً هُوَ التَّخْوِيفُ وَالسَّعْيُ فِي الإِضْلَا.
قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيسَ بِضَارِّهِمْ شَيئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [المُجَادِلَة: 10].
2 -
ذِكْرُ اللهِ تَعَالَى، وَمِنْهُ:
أ- قِرَاءَةُ القُرْآنِ وَخَاصَّةً سُورَةَ البَقَرَةِ، كَمَا فِي الحَدِيثِ:((لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِر؛ إِنَّ الشَّيطَانَ يَنْفِرُ مِنَ البَيتِ الَّذِي تُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ البَقَرَةِ))
(1)
(2)
.
ب- النِّدَاءُ بِالأَذَانِ، كَمَا فِي الحَدِيثِ: ((إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ أَدْبَرَ الشَّيطَانُ وَلَهُ
(1)
مُسْلِمٌ (780) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا.
(2)
وَكَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ؛ أَنَّهُ كَانَتْ لَهُ سَهْوَةٌ فِيهَا تَمْرٌ، فَكَانَتْ تَجِيءُ الغُولُ فَتَأْخُذُ مِنْهُ، قَالَ: فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قَالَ: ((فَاذْهَبْ؛ فَإِذَا رَأَيتَهَا فَقُلْ: بِسْمِ اللهِ؛ أَجِيبِي رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم)، قَالَ: فَأَخَذَهَا، فَحَلَفَتْ أَنْ لَا تَعُودَ، فَأَرْسَلَهَا. فَجَاءَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:((مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ؟)) قَالَ: حَلَفَتْ أَنْ لَا تَعُودَ. فَقَالَ: ((كَذَبَتْ، وَهِيَ مُعَاوِدَةٌ لِلْكَذِبِ))، قَالَ: فَأَخَذَهَا مَرَّةً أُخْرَى؛ فَحَلَفَتْ أَنْ لَا تَعُودَ؛ فَأَرْسَلَهَا. فَجَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: ((مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ؟)) قَالَ: حَلَفَتْ أَنْ لَا تَعُودَ، فَقَالَ:((كَذَبَتْ، وَهِيَ مُعَاوِدَةٌ لِلْكَذِبِ))، فَأَخَذَهَا فَقَالَ: مَا أَنَا بِتَارِكِكِ حَتَّى أَذْهَبَ بِكِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: إِنِّي ذَاكِرَةٌ لَكَ شَيئًا؛ آيَةَ الكُرْسِيِّ؛ اقْرَأْهَا فِي بَيتِكَ فَلَا يَقْرَبُكَ شَيطَانٌ وَلَا غَيرُهُ. قَالَ: فَجَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: ((مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ؟)) قَالَ: فَأَخْبَرَهُ بِمَا قَالَتْ، قَالَ:((صَدَقَتْ وَهِيَ كَذُوبٌ)). صَحِيحٌ. التِّرْمِذِيُّ (2880). صَحِيحُ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ (1469).
ضُرَاطٌ حَتَّى لَا يَسْمَعَ التَّأْذِينَ، فَإِذَا قَضَى النِّدَاءَ أَقْبَلَ، حَتَّى إِذَا ثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ أَدْبَرَ))
(1)
.
وَثَبَتَ أَنَّ الغِيلَانَ ذُكِرَتْ عِنْدَ عُمَرَ فَقَالَ: (إِنَّ أَحَدًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَحَوَّلَ عَنْ صُورَتِهِ الَّتِي خَلَقَهُ اللهُ عَلَيهَا؛ وَلَكِنْ لَهُمْ سَحَرَةٌ كَسَحَرَتِكُمْ؛ فَإِذَا رَأَيتُمْ ذَلِكَ فَأَذِّنُوا)
(2)
.
(1)
رَوَاهُ البُخَارِيُّ (608)، وَمُسْلِمٌ (389) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا.
(2)
صَحِيحٌ. ابْنُ أَبِي شَيبَةَ، بَابُ (الغِيلَانُ إِذَا رُئيَتْ مَا يَقُولُ الرَّجُلُ). قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله فِي الفَتْحِ (6/ 344):"إسْنَادُهُ صَحِيحٌ".
قُلْتُ: وَهَذَا الأَثَرُ يُغْنِي عَنِ المَرْفُوعِ الضَّعِيفِ: ((إذَا تَغَوَّلَتْ لَكُمُ الغِيلَانُ فَنَادُوا بِالأَذَانِ)). ضَعِيفٌ. ابْنُ أَبِي شَيبَةَ (29741). الضَّعِيفَةُ (1140).
وَمِثْلُهُ مَا سَبَقَ فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ (389) عَنْ سُهَيلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ حِينَ أَمَرَهُ أَبُوهُ بِالأَذَانِ إِذَا لَقِيَ شَيئًا مِنْ هَذِهِ الشَّيَاطِين.
-
المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ عَشَرَةَ: إِذَا كَانَتِ الطِّيَرَةُ لَا حَقِيقَةَ لَهَا؛ فَمَا الجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ: ((الطِّيَرَةُ عَلَى مَنْ تَطَيَّرَ))
(1)
؛ فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الطِّيَرَةَ تَقَعُ عَلَى المُتَطَيِّرِ؟!
الجَوَابُ:
إِنَّ مَعْنَى الحَدِيثِ هُوَ إِثْبَاتُ مَا يَقَعُ فِي القَلْبِ لَا مَا يَقَعُ حَقِيقَةً فِي الوَاقِعِ، وَذَلِكَ مُوَافَقَةً لِلنُّصُوصِ المَعْرُوفَةِ فِي البَابِ، وَدَلَّ لِذَلِكَ لَفْظُ الحَدِيثِ نَفْسِهِ:((الطِّيَرَةُ عَلَى مَنْ تَطَيَّرَ))، وَهُوَ بِمَعْنَى حَدِيثِ:((وَلَا تَرُدُّ مُسْلِمًا))، حَيثُ أَنَّ المُسْلِمَ يَدْفَعُ مَا يَقَعُ فِي نَفْسِهِ بِالتَّوَكُّلِ، وَأَمَّا الجَاهِلُ فَيَسْتَجِيبُ لَهَا بِقَلْبِهِ وَيَشْرَبُهَا حَتَّى تُؤْثِّرَ فِي اعْتِقَادِهِ؛ فَيَتَطَيَّرَ بِهَا!
قَالَ الإِمَامُ الطَّحَاوِيُّ رحمه الله: "مَنْ تَطَيَّرَ فَعَلَى نَفْسِهِ، لَا أَنَّهُ يَكُونُ بِذَلِكَ مَا تَطَيَّرَ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ حَقِيقَتُهُ! وَلَكِنْ لَبَّسَهُ عَلَى نَفْسِهِ"
(2)
!
(1)
حَسَنٌ. ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ (6123). التَّعْلِيقَاتُ الحِسَانُ (470/ 8).
وَالحَدِيثُ بِتَمَامِهِ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: ((لَا طِيَرَةَ، والطِّيَرَةُ عَلَى مَنْ تَطَيَّرَ، وَإِنْ تَكُ فِي شَيءٍ؛ فَفِي الدَّارِ وَالفَرَسِ وَالمَرْأَةِ)).
(2)
شَرْحُ مُشْكِلِ الآثَارِ (6/ 99).
-
المَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشَرَةَ: مَا وَجْهُ النَّهْي فِي حَدِيثِ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رضي الله عنه عَنِ التَّسَمِّي بِـ (أَفْلَحَ، وَرَبَاحٍ، وَيَسَارٍ، وَنَافِعٍ)؟
وَمَا الجَمْعُ مَعَ حَدِيثِ جَابِرٍ رضي الله عنه فِي عَدَمِ النَّهْي؟
وَهَلِ النَّهْيُ هُنَا لِلتَّحْرِيمِ؟
الجَوَابُ -مُرَتَّبًا عَلَى تَرْتِيبِ السُّؤَالِ-:
1 -
بِدَايَةً؛ حَدِيثُ سَمُرَةَ هُوَ: (نَهَانَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نُسَمِّيَ رَقِيقَنَا بِأَرْبَعَةِ أَسْمَاءٍ: أَفْلَحَ، وَرَبَاحٍ، وَيَسَارٍ، وَنَافِعٍ)
(1)
.
أَمَّا وَجْهُ النَّهْي؛ فَهُوَ مَا ذُكِرَ صَرَاحَةً فِي حَدِيثٍ آخَرَ لِسَمُرَةَ: ((لَا تُسَمِّيَنَّ غُلَامَكَ يَسَارًا، وَلَا رَبَاحًا، وَلَا نَجِيحًا، وَلَا أَفْلَحَ. فَإِنَّكَ تَقُولُ: أَثَمَّ هُوَ؟ فَلَا يَكُونُ؛ فَيَقُولُ: لَا! إِنَّمَا هُنَّ أَرْبَعٌ فَلَا تَزِيدُنَّ عَلَيَّ))
(2)
.
قَالَ البَغَوِيُّ رحمه الله: "مَعْنَى هَذَا أَنَّ النَّاسَ إِنَّمَا يَقْصُدُونَ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ التَّفَاؤُلَ بِحُسْنِ أَلْفَاظِهَا وَمَعَانِيهَا، وَرُبمَا يَنْقَلِبُ عَلَيهِم مَا قَصَدُوهُ إِلَى الضِّدِّ إِذَا سَأَلُوا وَقَالُوا: أَثَمَّ يَسَارُ أَو نَجِيحُ؟ فَقِيلَ: لَا، فَتَطَيَّروا بِنَفْيِهِ، وَأَضْمَرُوا الإِيَاسَ مِنَ الْيُسْرِ وَالنَّجَاحِ!! فَنَهَاهُم عَنِ السَّبَبِ الَّذِي يَجْلِبُ سُوءَ الظَّنِّ وَالإِيَاسَ مِنَ الْخَيرِ.
قَالَ حُمَيدُ بْنُ زَنْجوَيه
(3)
: "فَإِذا ابْتُلِيَ رَجُلٌ فِي نَفْسِهِ أَو أَهْلِهِ بِبَعْضِ هَذِهِ
(1)
صَحِيحُ مُسْلِم (2136).
(2)
صَحِيحُ مُسْلِم (2137)، وَجُمْلَةُ:(إِنَّمَا هُنَّ أَرْبَعٌ فَلَا تَزِيدُنَّ عَلَيَّ) إِنَّمَا هِيَ مِنْ كَلَامِ جَابِرٍ رضي الله عنه. اُنْظُرْ كِتَابَ (إِكْمَالُ المُعْلِمِ)(7/ 12).
(3)
هُوَ الحَافِظُ حُمَيدُ بْنُ زَنْجَوِيه؛ أَبُو أَحْمَدَ؛ الأَزْدِيُّ النَّسَائِيُّ، ثِقَةٌ حٌجَّةٌ، مِنْ كِبَارِ الأَئِمَّةِ، صَاحِبُ كِتَابِ (الأَمْوَالُ) وَكِتَابِ (التَّرْغِيبُ وَالتَّرْهِيبُ)، (ت 251). تَذْكِرَةُ الحُفَّاظِ (2/ 101) بِاخْتِصَارٍ.
الْأَسْمَاءِ؛ فَلْيُحَوِّلهُ إِلَى غَيرِهِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ؛ فَقِيلَ: أَثَمَّ يَسَارُ؟ أَثَمَّ بَرَكَةُ؟ فَإِنَّ مِنَ الْأَدَبِ أَنْ يُقَالَ: (كُلُّ مَا هَاهُنَا يُسْرٌ وَبَرَكَةٌ وَالْحَمْد للهِ، وَيُوشِكُ أَنْ يَأتِيَ الَّذِي تُرِيدُ)، وَلَا يقَالُ: لَيسَ هَاهُنَا! وَلَا خَرَجَ! "
(1)
.
وَيُشْبِهُ هَذَا حَدِيثَ: (كَانَتْ جُوَيرِيَةُ اسْمُهَا بَرَّةُ، فَحَوَّلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم اسْمَهَا جُوَيرِيَةَ، وَكَانَ يَكْرَهُ أَنْ يُقَالَ: خَرَجَ مِنْ عِنْدَ بَرَّةَ)
(2)
.
2 -
وَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه: (أَرَادَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَنْهَى عَنْ أَنْ يُسَمَّى بِيَعْلَى، وَبِبَرَكَةَ، وَبِأَفْلَحَ، وَبِيَسَارٍ، وَبِنَافِعٍ وَبِنَحْوِ ذَلِكَ، ثُمَّ رَأَيتُهُ سَكَتَ بَعْدُ عَنْهَا فَلَمْ يَقُلْ شَيئًا، ثُمَّ قُبِضَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَنْهَ عَنْ ذَلِكَ، ثُمَّ أَرَادَ عُمَرُ أَنْ يَنْهَى عَنْ ذَلِكَ ثُمَّ تَرَكَهُ)
(3)
، فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ كُلًّا مِنْ سَمُرَةَ وَجَابِر رضي الله عنهما أَخْبَرَ بِمَا عَلِمَ، وَمَعْلُومٌ فِي الأُصُولِ أَنَّ المُثْبِتَ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي، كَمَا أَفَادَهُ الإِمَامُ الطَّبَرِيُّ رحمه الله فِي (تَهْذِيبِ الآثَارِ)
(4)
.
3 -
النَّهْيُ هُنَا هُوَ لِلكَرَاهَةِ دُونَ التَّحْرِيمِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أُمُورٌ:
أ- مَا نَقَلَهُ الإِمَامُ الطَّبَرِيُّ رحمه الله فِي (تَهْذِيبِ الآثَارِ) مِنَ الإِجْمَاعِ عَلَى جَوَازِ
(1)
شَرْحُ السُّنَّةِ (12/ 338).
وَبِمِثْلِهِ أَفَادَ الطَّحَاوِيُّ رحمه الله فِي شَرْحِ مُشْكِلِ الآثَارِ (4/ 443).
(2)
صَحِيحُ مُسْلِم (2130) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه.
(3)
صَحِيحُ مُسْلِم (2138).
(4)
تَهْذِيبُ الآثَارِ -مُسْنَدُ عُمَرَ- (1/ 282)، وَبِنَحْوِهِ أَفَادَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله كَمَا فِي الصَّحِيحَةِ (1/ 682).
التَّسْمِيَةِ بِهَذِهِ الأَسْمَاءِ
(1)
؛ الأَمْرُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ هُنَا هُوَ لِلْكَرَاهَةِ دُونَ التَّحْرِيمِ -كَمَا أَفَادَهُ الطَّبَرِيُّ نَفْسُهُ-
(2)
.
ب- (قَدْ كَانَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم غُلَامٌ اسْمُهُ رَبَاحُ، وَمَولى اسْمُهُ يَسَارُ)
(3)
، وَمَعَ ذَلِكَ تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَتَغَيَّرْ مِنْ ذَلِكَ شَيءٌ! وَاللهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
وَلِتَمَامِ الفَائِدَةِ:
- لَا يَخْتَصُّ النَّهْيُ فِي التَّسْمِيَةِ بِالرَّقِيقِ! وَإِنَّمَا يَشْمَلُ الأَبْنَاءَ أَيضًا
(4)
.
- لَا يَخْتَصُّ النَّهْيُ بِهَذِهِ الأَسْمَاءِ الأَرْبَعِ الَّتِي فِي حَدِيثِ سَمُرَةَ! وَذَلِكَ لِمَا سَبَقَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ مِنْ أَسْمَاءَ أُخَر، وَلِقَولِهِ أَيضًا فِي الحَدِيثِ:(وَبِنَحْوِ ذَلِكَ).
قَالَ الإِمَاُم الطَّبَرِيُّ رحمه الله: "وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يُتَجَنَّبَ مِنْ تَسْمِيَتِهِ مِنَ الْأَسْمَاءِ بِمَا كَانَ نَظِيرًا لِمَا ذَكَرْنَا وَلَهُ شَبِيهًا؛ لِلْعِلَّةِ الَّتِي وَصَفْنَا مِنْ كَرَاهَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَسْمِيَتَهُ بِالْأَسْمَاءِ الَّتِي ذَكَرْنَا فِي الْخَبَرِ الَّذِي رَوَينَا عَنْهُ"
(5)
.
(1)
تَهْذِيبُ الآثَارِ -مُسْنَدُ عُمَرَ- (1/ 281).
(2)
وَتَأَمَّلْ تَبْوِيبَ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ عَلَى الحَدِيثِ:
سُنَنُ ابْنِ مَاجَه (2/ 1229): بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنَ الْأَسْمَاءِ.
سُنَنُ التِّرْمِذِيِّ (5/ 133): بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنَ الأَسْمَاءِ.
سُنَنُ الدَّارِمِيِّ (3/ 1767): بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنَ الأَسْمَاءِ.
مُصَنَّفُ ابْنِ أَبِي شَيبَةَ (5/ 262): مَا يُكْرَهُ مِنَ الْأَسْمَاءِ.
صَحِيحُ مُسْلِم (3/ 1685) -تَبْوِيبُ النَّوَوِيِّ-: بَابُ كَرَاهَةِ التَّسْمِيَةِ بِالْأَسْمَاءِ الْقَبِيحَةِ وَبِنَافِعٍ وَنَحْوِهِ.
(3)
إِكْمَالُ المُعْلِمِ (7/ 13).
(4)
مِرْقَاةُ المَفَاتِيحِ (7/ 2997).
(5)
تَهْذِيبُ الآثَارِ -مُسْنَدُ عُمَرَ- (1/ 285).
وَقَالَ القَاضِي عِيَاضُ رحمه الله: "وَقَولُ سَمُرَةَ: (إِنَّمَا هِيَ أَرْبَعٌ؛ فَلَا تَزِيدُوا عَلَيَّ): يَعْنِي الَّتِي سَمِعَ وَرَوَى هُوَ، وَإِلَّا فَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ مَا ذَكَرْنَاهُ"
(1)
.
- يَظْهَرُ مِنَ عِلَّةِ النَّهْي أَنَّهُ يَخْتَصُّ بِالأَسْمَاءِ الَّتِي يَكُونُ قَصْدُ التَّسْمِيَةِ بِهَا عُمُومًا التَّفَاؤُلُ بِمَضْمُونِهَا؛ دُونَ سَائِرِ الأَسْمَاءِ. وَاللهُ أَعْلَمُ.
(1)
إِكْمَالُ المُعْلِمِ (7/ 12).
بابُ مَا جَاءَ فِي التَنْجِيمِ
قَالَ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: "قَالَ قَتَادَةُ: (خَلَقَ اللهُ هَذِهِ النُّجُومَ لِثَلَاثٍ؛ زِينَةً لِلسَّمَاءِ، وَرُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ، وَعَلَامَاتٍ يُهْتَدَى بِهَا؛ فَمَنْ تَأَوَّلَ فِيهَا غَيرَ ذَلِكَ؛ أَخْطَأَ وَأَضَاعَ نَصِيبَهُ، وَتَكَلَّفَ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ) انْتَهَى"
(1)
.
وَكَرِهَ قَتَادَةُ تَعَلُّمَ مَنَازِلِ القَمَرِ، وَلَمْ يُرَخِّصِ ابْنُ عُيَينَةَ فِيهِ. ذَكَرَهُ حَرْبٌ عَنْهُمَا.
وَرَخَّصَ فِي تَعَلُّمِ المَنَازِلِ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ.
وَعَنْ أَبِي مُوسَى؛ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((ثَلَاثَةٌ لَا يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ: مُدْمِنُ الخَمْرِ، وَقَاطِعُ الرَّحِمِ، وَمُصَدِّقٌ بِالسِّحْرِ)). رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ
(2)
.
(1)
ذَكَرَهُ البُخَارِيُّ (4/ 107) تَعْلِيقًا مَجْزُومًا بِهِ، وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي التَّفْسِيرِ (16536)، وَالطَّبَرِيُّ فِي التَّفْسِيرِ (23/ 508)، وَغَيرُهُم.
(2)
صَحِيحٌ لِغَيرِهِ. أَحْمَدُ (19569)، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ (5346). صَحِيحُ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ (2539).
وَقَدْ ضَعَّفَهُ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله بِزِيَادَةِ: ((ومَنْ مَاتَ وهُوَ مُدْمِنٌ لِلْخَمْرِ سَقَاهُ اللهُ مِنْ نَهْرِ الغُوطَةِ؛ نَهْرٌ يَجْرِي مِنْ فُرُوجِ المُومِسَاتِ، يُؤْذِي أَهْلَ النَّارِ رِيحُ فُرُوجِهِنَّ)). ضَعِيفُ التَّرْغِيبُ وَالتَّرْهِيبُ (1410).
فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: الحِكْمَةُ فِي خَلْقِ النُّجُومِ.
الثَّانِيَةُ: الرَّدُّ عَلَى مَنْ زَعَمَ غَيرَ ذَلِكَ.
الثَّالِثَةُ: ذِكْرُ الخِلَافِ فِي تَعَلُّمِ المَنَازِلَ.
الرَّابِعَةُ: الوَعِيدُ فِيمَنْ صَدَّقَ بِشَيءٍ مِنَ السِّحْرِ؛ وَلَو عَرَفَ أَنَّهُ بَاطِلٌ.
الشَّرْحُ
- عِلْمُ التَّنْجِيمِ: هُوَ عِلْمُ النُّجومِ، وَالتَّنْجِيمُ هُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَشْكَالٍ
(1)
:
1 -
الاعْتِقَادُ بِأَنَّ النُّجُومَ هِيَ الَّتِي تُدبِّرُ الكَونَ وَتُصَرِّفُهُ، وَأَنَّهَا تُخَاطَبُ وَتُعْبَدُ وَتُدْعَى وَيُسَبَّحُ لَهَا! فَهَذَا النَّوعُ سِحْرٌ وَشِرْكٌ
(2)
.
2 -
عِلْمُ التَّأْثِيرِ: وَهُوَ الاسْتِدْلَالُ بِالأَحْوَالِ الفَلَكِيَّةِ عَلَى الحَوَادِثِ الأَرْضِيَّةِ، كَالاسْتِدْلَالُ بِمَوَاضِعِ النُّجُومِ مِنَ الاقْتِرْانِ وَالطُّلُوعِ عَلَى الأُمُورِ الَّتِي تَحْدُثُ فِي الأَرْضِ، وَهَذَا أَيضًا كُفْرٌ بِاللهِ تَعَالَى
(3)
.
وَلَكِنَّهُ عَلَى دَرَجَتَينِ:
أ- أَنْ يَجْعَلَهَا سَبَبًا يَدَّعِي بِهِ عِلْمَ الغَيبِ؛ فَيَسْتَدِلَّ بِحَرَكَاتِهَا وَتَنَقُّلَاتِهَا وَتَغَيُّرَاتِهَا
(1)
وَأَكْثَرُ مَا يَرِدُ اسْتِعْمَالُ لَفْظِهِ هُوَ عَلَى النَّوعِ الثَّانِي، وَهُوَ مَعْرِفَةُ المُغَيَّبَاتِ عَنْ طَرِيقِ النُّجُومِ.
(2)
كَمَا كَانَ يَفْعَلُهُ الكَنْعَانِيُّونَ الَّذِينَ بُعِثَ فِيهِم إِبْرَاهِيمُ عليه السلام؛ فَإِنَّهُم كَانُوا يَبْنُونَ هَيَاكِلَ عَلَى صُوَرِ الكَوَاكِبِ الَّتِي يَرَونَهَا، وَيَجْعَلُونَ بُيُوتًا لَهَا، وَيَضَعُونَ فِيهَا الصُّوَرَ، ثُمَّ يَتَقَرَّبُونَ إِلَيهَا بِالدُّعَاءِ، وَيَلْبَسُونَ لِبَاسًا مُعَيَّنًا، وَيُبَخِّرُونَ عِنْدَهَا، وَيَتَقرَّبُونَ إِلَيهَا بِالقُرَبِ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُم إِذَا صَنَعُوا ذَلِكَ نَزَلَتْ رُوحَانِيَّاتُهَا! وَهَذِهِ الرُّوحَانِيَّاتُ الَّتِي يَزْعُمُونَ أَنَّهَا رُوحَانِيَّاتُ الكَوَاكِبِ؛ إِنَّمَا هِيَ لِلشَّيَاطِينِ الَّتِي تَنْزِلُ عَلَيهِم، وَقَدْ تُخَاطِبُهُم، وَقَدْ تَقْضِي حَوَائِجَهُم وَتَفْعَلُ لَهُم بَعْضَ الشَّيءِ الَّذِي يُرِيدُونَهُ؛ لِأَنَّهُم فَعَلُوا مَا تَرْضَاهُ الشَّيَاطِينُ، فَخَدَمُوهَا وَعَبَدُوهَا، فَيَأْتُونَ إِلَيهِم بِبَعْضِ النَّفْعِ. مُسْتَفَادٌ مِنْ شَرْحِ الشَّيخِ الغُنَيمَانِ حَفِظَهُ اللهُ عَلَى كِتَابِ (فَتْحُ المَجِيدِ)، شَرِيطُ رَقَم (76).
(3)
وَقَدْ تَغَيَّرَتِ الطُّرُقُ الآنَ عِنْدَ نَاسٍ مِنَ المُثَقَّفِينَ -كَمَا يَزْعُمُونَ-، فَيَكْتُبُونَ جَدَاوِلَ وَيَذْكُرُونَ الحَوَادِثَ الَّتِي تَحْدُثُ فِي هَذَا البُرْجِ، فَيَقُولُونَ: يَومُ كَذَا يَكُونُ كَذَا وَكَذَا، ومَنْ كَانَ مَولِدُهُ فِي اليَومِ الفُلَانِيِّ يَحْدُثُ لَهُ كَذَا وَكَذَا، وَهَذِا كُلُّهُ مِنَ الكُفْرِ وَالضَّلَالِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُنْظَرَ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا رَجْمٌ بِالغَيبِ.
عَلَى أَنَّهُ سَيَكُونُ كَذَا وَكَذَا
(1)
! فَهَذَا اتَّخَذَ تَعَلُّمَ النُّجومِ وَسِيلَةً لِادِّعَاءِ عِلْمِ الغَيبِ، وَدَعْوَى عِلْمِ الغَيبِ كُفْرٌ مُخْرِجٌ عَنِ المِلَّةِ، لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ:{قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النَّمْل: 65]، وَهَذَا الأُسْلُوبُ اللُّغَوِيُّ فِي الحَصْرِ هُوَ مِنْ أَقْوَى أَنْوَاعِ الحَصْرِ لِأَنَّهُ بِالنَّفِي وَالإِثْبَاتِ، فَإِذَا ادَّعَى أَحَدٌ عِلْمَ الغَيبِ؛ فَقَدْ كَذَّبَ القُرْآنَ.
ب- أَنْ يَجْعَلَهَا سَبَبًا لِحُدُوثِ الخَيرِ وَالشَّرِّ، أَي: أَنَّهُ إِذَا وَقَعَ شَيءٌ؛ نَسَبَهُ إِلَى النُّجُومِ، وَلَا يَنْسُبُ إِلَى النُّجُومِ شَيئًا إِلَّا بَعْدَ وُقُوعِهِ، فَهَذَا شِرْكٌ أَصْغَرُ
(2)
.
فَالدَّرَجَةُ الأُولَى هِيَ قَبْلَ الوُقُوعِ؛ وَهِيَ ادِّعَاءُ عِلْمِ الغَيبِ، وَالثَّانِيَةُ بَعْدَ الوُقُوعِ مِنْ جِهَةِ بَيَانِ سَبَبِ الحُصُولِ حَيثُ لَمْ يَجْعَلْهُ اللهُ سَبَبًا.
3 -
عِلْمُ التَّسْيِيرِ: وَهُوَ الاسْتِدْلَالُ بِالنُّجُومِ عَلَى الجِهَاتِ وَالأَوقَاتِ، فَهَذَا جَائِزٌ، وَقَدْ يَجِبُ إِذَا تَرَتَّبَ عَلَيهِ أَمْرٌ وَاجِبٌ شَرْعًا
(3)
.
(1)
مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: هَذَا الإِنْسَانُ سَتَكُونُ حَيَاتُهُ شَقَاءً لِأَنَّهُ وُلِدَ فِي وَقْتِ النَّجْمِ الفُلَانِيِّ، وَهَذَا حَيَاتُهُ سَتَكُونُ سَعِيدَةً لِأَنَّهُ وُلِدَ فِي النَّجْمِ الفُلَانِيِّ.
(2)
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله فِي الفَتْحِ (2/ 523): "وَأَعْلَى مَا وَقَفْتُ عَلَيهِ مِنْ ذَلِكَ كَلَامُ الشَّافِعِيِّ، قَالَ فِي الأُمِّ: مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوءِ كَذَا وَكَذَا -عَلَى مَا كَانَ بَعْضُ أَهْلِ الشِّرْكِ يَعْنُونَ مِنْ إِضَافَةِ المَطَرِ إِلَى أَنَّهُ مَطَرُ نَوءِ كَذَا- فَذَلِكَ كُفْرٌ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، لِأَنَّ النَّوءَ وَقْتٌ؛ وَالوَقْتُ مَخْلُوقٌ لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ وَلَا لِغَيرِهِ شَيئًا! وَمَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوءِ كَذَا -عَلَى مَعْنَى مُطِرْنَا فِي وَقْتِ كَذَا- فَلَا يَكُونُ كُفْرًا، وَغَيرُهُ مِنَ الكَلَامِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ. يَعْنِي حَسْمًا لِلْمَادَّةِ، وَعَلَى ذَلِكَ يُحْمَلُ إِطْلَاقُ الحَدِيثِ، أَي: حَدِيثَ زَيدِ بْنِ خَالِدٍ".
(3)
كَحَالَةِ المُسَافِرِ خَارِجَ البُنْيَانِ؛ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيهِ مَعْرِفَةُ جِهَةِ القِبْلَةِ مِنْ أَجْلِ الصَّلَاةِ.
وَهَذَا الاسْتِدْلَالُ أَيضًا يَكُونُ مِنْ جِهَتَينِ:
أ- الاسْتِدْلَالُ عَلَى الزَّمَانِ: كَالفُصُولِ وَدُخُولِ رَمَضَانَ وَالأَعْيَادِ وَمَوَاعِيدِ الزِّرَاعَةِ وَالحَصَادِ وَ
…
ب- الاسْتِدْلَالُ عَلَى المَكَانِ: كَجِهَةِ القِبْلَةِ وَالجِهَاتِ الأَرْبَعَةِ وَ
…
(1)
- قَالَ الإِمَامُ الخَطَّابِيُّ رحمه الله: "عِلْمُ النُّجُومِ المَنْهِيُّ عَنْهُ هُوَ مَا يَدَّعِيهِ أَهْلُ التَّنْجِيمِ مِنْ عِلْمِ الكَوَائِنِ وَالحَوَادِثِ الَّتِي لَمْ تَقَعْ وَسَتَقَعُ فِي مُسْتَقْبَلِ الزَّمَانِ، كَإِخْبَارِهِم بِأَوقَاتِ هُبُوبِ الرِّيَاحِ، وَمَجِيءِ المَطَرِ، وَظُهُورِ الحَرِّ وَالبَرْدِ، وَتَغَيُّرِ الأَسْعَارِ، وَمَا كَانَ فِي مَعَانِيهَا مِنَ الأُمُورِ، يَزْعُمُونَ أَنَّهُم يُدْرِكُونَ مَعْرِفَتَهَا بِسَيرِ الكَوَاكِبِ فِي مَجَارِيهَا وَبِاجْتِمَاعِهَا وَاقْتِرَانِهَا، وَيَدَّعُونَ لَهَا تَأْثِيرًا فِي السُّفْلِيَّاتِ، وَأَنَّهَا تَتَصَرَّفُ عَلَى أَحْكَامِهَا وَتَجْرِي عَلَى قَضَايَا مُوجِبَاتِهَا، وَهَذَا مِنْهُم تَحَكُّمٌ عَلَى الغَيبِ، وَتَعَاطٍ لعِلْمٍ اسْتِأْثَرَ اللهُ سُبْحَانَهُ بِهِ، لَا يَعْلَمُ الغَيبَ أَحَدٌ سِوَاهُ"
(2)
.
- فِي بَيَانِ الدَّلِيلِ عَلَى كُلٍّ مِمَّا ذَكَرَ قَتَادَةُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
الأَوَّلُ وَالثَّانِي: زِينَةً لِلسَّمَاءِ وَرُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ.
قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيطَانٍ مَارِدٍ} [الصَّافَات: 6 - 7].
الثَّالِثُ: عَلَامَاتٍ يُهْتَدَى بِهَا.
(1)
وَمِنْهُ نَأْخُذُ خَطَأَ العَوَامِّ الَّذِينَ يَقُولُونَ إِذَا هَبَّتِ الرِّيحُ: طَلَعَ النَّجْمُ الفُلَانِيُّ! وَذَلِكَ لِأَنَّ النُّجُومَ لَا تَأْثِيرَ لَهَا بِالرِّيَاحِ. صَحِيحٌ أَنَّ بَعْضَ الأَوقَاتِ وَالفُصُولِ يَكُونُ فِيهَا رِيحٌ وَمَطَرٌ؛ وَلَكِنَّهَا ظَرْفٌ لَهُمَا، وَلَيسَتْ سَبَبًا لَهُمَا!
(2)
مَعَالِمُ السُّنَنِ (4/ 229).
قَالَ تَعَالَى: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النَّحْل: 15 - 16].
- قَولُهُ: (وتَكَلَّفَ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ): لِأَنَّ النُّجُومَ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ الَّتِي لَا يَعْلَمُ البَشَرُ شَأْنَ خَفَايَاهَا إِلَّا بِمَا أَخْبَرَ اللهُ تَعَالَى بِهِ عَنْهَا، وَالمُسْلِمُ مَأْمُورٌ بِالكَفِّ عَنْهَا إِلَّا فِي حُدُودِ مَا جَاءَ فِي الشَّرْعِ بَيَانُهُ كَمَا بَيَّنَهُ قَتَادَةُ رحمه الله.
وَفِي الحَدِيثِ: ((إِذَا ذُكِرَ أَصْحَابِي فَأَمْسِكُوا، وَإِذَا ذُكِرَتِ النُّجُومُ فأَمْسِكُوا، وَإذا ذُكِرَ القَدَرُ فَأَمْسِكُوا))
(1)
.
- أَثَرُ قَتَادَةَ رحمه الله بِتَمَامِهِ -كَمَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ-: "وَإِنَّ نَاسًا جَهَلَةً بِأَمْرِ اللهِ؛ قَدْ أَحْدَثُوا مِنْ هَذِهِ النُّجُومِ كِهَانَةً: مَنْ أَعْرَسَ بِنَجْمِ كَذَا وَكَذَا؛ كَانَ كَذَا وَكَذَا! ومَنْ سَافَرَ بِنَجْمِ كَذَا وَكَذَا؛ كَانَ كَذَا وَكَذَا! وَمَنْ وُلِدَ بِنَجْمِ كَذَا وَكَذَا؛ كَانَ كَذَا وَكَذَا!
وَلَعَمْرِي مَا مِنْ نَجْمٍ إِلَّا يُولَدُ بِهِ الأَحْمَرُ وَالأَسْوَدُ، وَالقَصِيرُ وَالطَّوِيلُ، وَالحَسَنُ وَالدَّمِيمُ، وَمَا عِلْمُ هَذَا النَّجْمِ وَهَذِهِ الدَّابَّةِ وَهَذَا الطَّيرِ بِشَيءٍ مِنَ الغَيبِ؟! وَقَضَى اللهُ أَنَّهُ:{لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النَّمْل: 65] "
(2)
.
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله: "وَهُوَ كَلَامٌ جَلِيلٌ مَتِينٌ صَحِيحٌ"
(3)
.
- قَولُ المُصَنِّفِ رحمه الله: (ورَخَّصَ فِيهِ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ) هُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى امْتَنَّ عَلَى عِبَادِهِ بِذَلِكَ العِلْمِ، قَالَ تَعَالَى:{هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} [يُونُس: 5] وَظَاهِرُ الآيَةِ أَنَّ حُصُولَ
(1)
صَحِيحٌ. الطَّبَرَانِيُّ فِي الكَبِيرِ (10/ 198) عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (34).
(2)
ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي التَّفْسِيرِ (16536).
(3)
تَفْسِيرُ ابْنِ كَثِيرٍ (6/ 204).
المِنَّةِ بِهِ هِيَ فِي تَعَلُّمِهِ، وَهُوَ دَلِيلُ الجَوَازِ
(1)
.
- (حَرْبٌ): هُوَ الإِمَامُ الحَافِظُ حَرْبُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ؛ أَبُو مُحَمَّدٍ الكِرْمَانِيُّ؛ الفَقِيهُ مِنْ جِلَّةِ أَصْحَابِ الإِمَامِ أَحْمَدَ، وَلَهُ كِتَابُ (المَسَائِلُ) الَّتِي سُئِلَ عَنْهَا الإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيرُهُ، (ت 280 هـ).
- (إِسْحَاقُ): هُوَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَخْلَدٍ؛ أَبُو يَعْقُوبَ؛ الحَنْظَلِيُّ النَيسَابُورِيُّ؛ الإِمَامُ المَعْرُوفُ بِابْنِ رَاهَوِيه، قَالَ أَحْمَدُ: إِسْحَاقُ عِنْدَنا إِمَامٌ مِنْ أَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ، (ت 239 هـ).
- قَولُهُ: (وَمُصَدِّقٌ بِالسِّحْرِ)
(2)
: قَصَدَ بِهِ المُصَنِّفُ هُنَا التَّصْدِيقَ بِعِلْمِ النُّجُومِ المَذْمُومِ، وَالإِقْرَارَ بِصِحَّتِهِ وَالعَمَلَ بِهِ
(3)
، وَقَدْ مَرَّ مَعَنَا أَنَّ التَّنْجِيمَ نَوعٌ مِنْ أَنْوَاعِ السِّحْرِ كَمَا قَالَ عليه الصلاة والسلام:((مَنِ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنَ النُّجُومِ؛ فَقَدِ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنَ السِّحْرِ، زَادَ مَا زَادَ))
(4)
.
(1)
عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ القَولُ بِأَنَّ مَنْ مَنَعَ -وَخَاصَّةً قَتَادَةَ- فَمَنْعُهُ مَحْمُولٌ عَلَى غَيرِ هَذِهِ الثَّلَاثِ -جَمْعًا بَينَ الرِّوَايَاتِ- أَو مُطْلَقًا بِحَيثُ يَكُونُ سَبَبُ المَنْعِ هُوَ سَدُّ ذَرِيعَةِ الشِّرْكِ، وَهَذَا السَّدُّ هُوَ مِنْ جِهَتَينِ:
أ- أَنَّهُ قَدْ يُفْضِي إِلَى تَعَلُّمِ المَذْمُومِ.
ب- أَنَّهُ يُخْشَى إِذَا قِيلَ: إذا طَلَعَ النَّجُمُ الفُلَانِيُّ فَإِنَّهُ سَيَكُونُ حَرٌّ أَو بَرْدٌ -مِنْ بَابِ الاسْتِدْلَالِ عَلَى الزَّمَنِ- أَنَّ بَعْضَ العَامَّةِ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَأْتِي بِالبَرْدِ أَوِ الحَرِّ أَوِ الرِّيحِ.
(2)
وَكَمَا فِي الحَدِيثِ: ((إنَّ أخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي فِي آخِرِ زَمَانِهَا النُّجُومُ، وَتَكْذِيبٌ بِالقَدَرِ، وَحَيفُ السُّلْطَانِ)). صَحِيحٌ. الطَّبَرَانِيُّ فِي الكَبِيرِ (8/ 289) عَنْ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (1127).
(3)
وَيَشْمَلُ أَيضًا المُصَدِّقُ لِقَولِ الكَاهِنِ بِدَعْوَاهُ عِلْمَ المُغَيَّبَاتِ.
(4)
صَحِيحٌ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ (3905) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (6074).
- قَولُهُ: (ثَلَاثَةٌ لَا يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ): هُوَ مِنْ نُصُوصِ الوَعِيدِ.
وَفِي ظَاهِرِهَا إِشْكَالٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ يُفهَمُ مِنْهَا الكُفْرُ المُخْرِجُ مِنَ المِلَّةِ، وَأَنَّ صَاحِبَهَا خَالِدٌ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ، رُغْمَ أَنَّ مِنْهَا مَا هُوَ لَيسَ بِشِرْكٍ أَصْلًا!
وَفِي الجَوَابِ عَلَيهَا أَقْوَالٌ
(1)
:
1 -
مَذْهَبُ المُعْتَزِلَةِ وَالخَوَارِجِ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ بِظَاهِرِ نُصُوصِ الوَعِيدِ
(2)
، فَيَرَونَ الخُرُوجَ مِنَ الإِيمَانِ بِهَذِهِ المَعْصِيَةِ، لَكِنَّ الخَوَارِجَ يَقُولُونَ: هُوَ كَافِرٌ، وَالمُعْتَزِلَةَ يَقُولُونَ: هُوَ فِي مَنْزِلَةٍ بَينَ المَنْزِلَتَينِ، وَتَتَّفِقُ الطَائِفَتَانِ عَلَى أَنَّهُم مُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ، فَيُجْرُونَ هَذَا الحَدِيثَ وَنَحْوَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الأَحَادِيثِ الأُخْرَى الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ مَنْ فِي قَلْبِهِ إِيمَانُ -وَإِنْ قَلَّ- فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَدْخُلَ الجَنَّةَ مَآلًا.
وَمَذْهَبُ هَؤُلَاءِ مِنَ الخَوَارِجِ وَالمُعْتَزِلَةِ مَرْدُودٌ مُخَالِفٌ لِلإِجْمَاعِ
(3)
.
2 -
أَنَّ هَذَا الوَعِيدَ هُوَ فِيمَنِ اسْتَحَلَّ هَذَا الفِعْلَ
(4)
.
(1)
بِتَصَرُّفٍ يَسِيرٍ وَزِيَادَةٍ مِنَ كِتَابِ (القَولُ المُفِيدُ)(2/ 14) لِلشَّيخِ ابْنِ عُثَيمِين رحمه الله.
وَلِتَمَامِ الفَائِدَةِ اُنْظُرْ شَرْحَ بَابِ (مَا جَاءَ فِي السِّحْرِ) مِنْ كِتَابِنَا هَذَا، وَمَا فِيهِ مِنَ الكَلَامِ عَلَى بَعْضِ نُصُوصِ الوَعِيدِ (مَسْأَلَةِ قَاتِلِ النَّفْسِ).
(2)
أَي: يُسَلِّطُونَهَا عَلَى أُصُولِ الشَّرِيعَةِ وَيَجْعَلُونَهَا قَاضِيَةً عَلَيهَا دُونَ تَوجِيهٍ لَهَا! فَيُبْطِلُونَ بِهَا عُمُومَ قَولِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النِّسَاء: 48]، وَمِنْ مِثْلِ قَولِهِ صلى الله عليه وسلم:((مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ دَخَلَ الجنَّةَ، .... وَإِنْ زَنَى، وَإِنْ سَرَقَ، وَإِنْ شَرِبَ الخَمْرَ)). رَوَاهُ البُخَارِيُّ (6443) عَنْ أَبِي ذَرٍّ.
(3)
قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رحمه الله فِي شَرْحِ مُسْلِمِ (2/ 97): "وَأَمَّا حُكْمُهُ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَنْ مَاتَ يُشْرِكُ بِدُخُولِ النَّارِ؛ وَمَنْ مَاتَ غَيرَ مُشْرِكٍ بِدُخُولِهِ الجَنَّةَ؛ فَقَدْ أَجْمَعَ عَلَيهِ المُسْلِمُونَ".
(4)
وَفِي الحَدِيثِ: ((مُدْمِنُ الخَمْرِ إنْ مَاتَ؛ لَقِيَ اللهَ كَعَابِدِ وَثَنٍ)). صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (2453) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
=
3 -
أَنَّ نُصُوصَ الوَعِيدِ هَذِهِ تُمَرُّ كَمَا جَاءَتْ وَلَا يُتَعَرَّضُ لِمَعْنَاهَا، بَلْ يُقَالُ: هَكَذَا قَالَ اللهُ وَقَالَ رَسُولُهُ وَنَسْكُتْ، وَهَذَا مَذْهَبُ كَثِيرٍ مِنَ السَّلَفِ، كَمَالِكٍ وَغَيرِهِ، وَهَذَا أَبْلَغُ فِي الزَّجْرِ
(1)
.
4 -
أَنَّ هَذَا نَفْيٌ مُطْلَقٌ، وَالنَّفْيُ المُطْلَقُ يُحْمَلُ عَلَى المُقَيَّدِ، فَيُقَالُ: لَا يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ دُخُولًا مُطْلَقًا -يَعْنِي لَا يَسْبِقُهُ عَذَابٌ-، وَلَكِنَّهُم يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ دُخُولًا يَسْبِقُهُ عَذَابٌ بِقَدْرِ ذُنُوبِهِم -إِنْ لَمْ يُغْفَرْ لَهُم أَولًا-، ثُمَّ مَرْجِعُهُم إِلَى الجَنَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ نُصُوصَ الشَّرِيعَةِ يُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَيُلَائِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَهَذَا أَقْرَبُ إِلَى القَوَاعِدِ وَأَبْيَنُ حَتَّى لَا تَبْقَى دِلَالَةُ النُّصُوصِ غَيرَ مَعْلُومَةٍ، فَتُقَيَّدُ النُّصُوصُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ
(2)
.
=
مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (677).
قَالَ ابْنُ حِبَّانَ رحمه الله فِي صَحِيحِهِ (12/ 167): "يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى هَذَا الخَبَرِ: مَنْ لَقِيَ اللهَ مُدْمِنَ خَمْرٍ مُسْتَحِلًّا لِشُرْبِهِ؛ لَقِيَهُ كَعَابِدِ وَثَنٍ، لِاسْتِوَائِهِمَا فِي حَالَةِ الكُفْرِ".
(1)
وَلِأَنَّ تَأْوِيلَهَا يُبْطِلُ مَفَادَهَا مِنْ وُقُوعِ الزَّجْرِ فِي النُّفُوسِ، وَهَذَا القَولُ حَقِيقَتُهُ بَيَانُ كَيفِيَّةِ اسْتِخْدَامِ هَذِهِ النُّصُوصِ؛ لَا أَنَّهَا مَجْهُولَةُ المَعْنَى عِنْدَنَا! وَلَكِنَّ الخَوضَ فِي بَيَانِهَا وَجَمْعِهَا مَعَ سَائِرِ النُّصُوصِ مُضْعِفٌ لِأَثَرِهَا فِي الزَّجْرِ كَمَا ذَكَرْنَا.
قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (الفُرُوعُ)(10/ 213): "وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ كَانَ يَتَوَقَّى الكَلَامَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ النُّصُوصِ تَوَرُّعًا، وَيَمُرُّهَا كَمَا جَاءَتْ مِنْ غَيرِ تَفْسِيرٍ؛ مَعَ اعْتِقَادِهِمْ أَنَّ المَعَاصِيَ لَا تُخْرِجُ عَنِ المِلَّةِ".
وَقَالَ صَاحِبُ فَتْحِ المَجِيدِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى (ص 320): "قَولُهُ: (ثَلَاثةٌ لَا يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ): هَذَا مِنْ نُصُوصِ الوَعِيدِ الَّتِي كَرِهَ السَّلَفُ تَأْوِيلَهَا، وَقَالُوا: أَمِرُّوهَا كَمَا جَاءَتْ، وَمَنْ تَأَوَّلَهَا فَهُوَ عَلَى خَطَرٍ مِنَ القَولِ عَلَى اللهِ بِلَا عِلْمٍ.
وَأَحْسَنُ مَا يُقَالُ: إنَّ كُلَّ عَمَلٍ دُونَ الشِّرْكِ وَالكُفْرِ -المُخْرِجِ عَنْ مِلَّةِ الإِسْلَامِ-؛ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى مَشِيئَةِ اللهِ، فَإِنْ عَذَّبَهُ فَقَدِ اسْتَوجَبَ العَذَابَ، وَإِنْ غَفَرَ لَهُ فَبِفَضْلِهِ وَعَفْوِهِ وَرَحْمَتِهِ".
(2)
قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رحمه الله فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ (16/ 113) عِنْدَ شَرْحِ حَدِيثِ: ((لَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ قَاطِعُ رَحِمٍ)): "هَذَا الحَدِيثُ يُتَأَوَّلُ بِتَأْوِيلَينِ:
أَحَدِهِمَا: حَمْلُهُ عَلَى مَنْ يَسْتَحِلُّ القَطِيعَةَ بِلَا سَبَبٍ وَلَا شُبْهَةٍ مَعَ عِلْمِهِ بِتَحْرِيمِهَا، فَهَذَا كَافِرٌ يُخَلُّدُ فِي النَّارِ وَلَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ أَبَدًا.
وَالثَّانِي: مَعْنَاهُ لَا يَدْخُلُهَا فِي أَوَّلِ الأَمْرِ مَعَ السَّابِقِينَ، بَلْ يُعَاقَبُ بِتَأَخُّرِهِ القَدْرَ الَّذِي يُرِيدُهُ اللهُ تَعَالَى".
5 -
أَنَّ مَنْ كَانَتْ هَذِهِ حَالُهُ حَرِيٌّ أَنْ يُخْتَمَ لَهُ بِسُوءِ الخَاتِمَةِ، فَيَمُوتَ كَافِرًا، فَيَكُونُ هَذَا الوَعِيدُ هُوَ بِاعْتِبَارِ مَا يَؤُولُ حَالُهُ إِلَيهِ
(1)
.
- فَائِدَة 1: مِمَّا يَدْخُلُ فِي هَذَا العَصْرِ بِوُضُوحٍ -مَعَ غَفْلَةِ النَّاسِ عَنْهُ- مَا يَكْثُرُ فِي المَجَلَّاتِ وَيُسَمُّونَه الأَبْرَاجَ، وَيَجْعَلُونَ أَمَامَ كُلِّ بُرْجٍ مَا سَيَحْصُلُ فِيهِ، فَإِذَا كَانَ المَرْءُ مَولُودًا فِي ذَلِكَ البُرْجِ فَإِنَّهُم يَقُولُونَ لَهُ: سَيَحْصُلُ لَكَ فِي هَذَا الشَّهْرِ كَذَا وَكَذَا
(2)
!
وَهَذَا هُوَ التَّنْجِيمِ الَّذِي هُوَ ادِّعَاءُ التَأْثِيرِ. وَالاسْتِدْلَالُ بِالنُّجُومِ وَالبُرُوجِ عَلَى التَّأْثِيرِ فِي الأَرْضِ وَعَلَى مَا سَيَحْصُلُ فِيهَا؛ هُوَ نَوعٌ مِنَ الكِهَانَةِ، وَوُجُودُهُ فِي
(1)
قَالَ ابْنُ حِبَّانَ رحمه الله (4/ 324): "ذِكْرُ خَبَرٍ تَاسِعٍ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا؛ أَنَّ العَرَبَ تُطْلِقُ اسْمَ المُتَوَقَّعِ مِنَ الشَّيءِ فِي النِّهَايَةِ عَلَى البِدَايَةِ: [ثُمَّ أَورَدَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيرَةَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((المِرَاءُ فِي القَرْآنِ كُفْرٌ))] قَالَ أَبُو حَاتِمٍ [ابْنُ حِبَّانَ]: إِذَا مَارَى المَرْءُ فِي القُرْآنِ أَدَّاهُ ذَلِكَ -إِنْ لَمْ يَعْصِمْهُ اللهُ- إِلَى أَنْ يَرْتَابَ فِي الآي المُتَشَابِهِ مِنْهُ، وَإِذَا ارْتَابَ فِي بَعْضِهِ أَدَّاهُ ذَلِكَ إِلَى الجَحْدِ، فَأَطْلَقَ صلى الله عليه وسلم اسْمَ الكُفْرِ الَّذِي هُوَ الجَحْدُ عَلَى بِدَايَةِ سَبَبِهِ الَّذِي هُوَ المِرَاءُ".
قُلْتُ: وَالحَدِيثُ المَذْكُورُ صَحِيحٌ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ (4603) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (6687).
(2)
قَالَ الشَّيخُ مُلَّا عَلِي القَارِيِّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ مِرْقَاةُ المَفَاتِيحِ (7/ 2911): "وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ قَولِهِمْ: أَنْ يُقَالَ لَهُمْ: أَخْبِرُونَا عَنْ مَولُودَينِ وُلِدَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ؛ أَلَيسَ يَجِبُ تَسَاوِيهِمَا فِي كُلِّ وَجْهٍ؛ وَلَا تَمْيِيزَ بَينَهُمَا فِي الصُّورَةِ وَالقَدِّ وَالمَنْظَرِ؛ وَحَتَّى لَا يُصِيبَ أَحَدًا نَكْبَةٌ إِلَّا أَصَابَ الآخَرَ، وَحَتَّى لَا يَفْعَلَ هَذَا شَيئًا إِلَّا وَالآخَرَ يَفْعَلُ مِثْلَهُ؟ وَلَيسَ فِي العَالَمِ اثْنَانِ هَذَا صِفَتُهُمَا".
المَجَلَّاتِ وَالجَرَائِدِ عَلَى ذَلِكَ النَّحْوِ هُوَ وُجُودٌ لِلكُهَّانِ فِيهَا، فَهَذَا يَجِبُ إِنْكَارُهُ إِنْكَارًا لِلشِّرْكِ، وَلِادِّعَاءِ مَعْرِفَةِ الغَيبِ، وَلِأَنَّ التَّنْجِيمَ مِنَ السِّحْرِ كَمَا ذَكَرْنَا، فَيَجِبُ إِنْكَارُهُ عَلَى كُلِّ صَعِيدٍ
(1)
.
- فَائِدَة 2: الَّذِي يُقْبَلُ قَولُهُ فِي الاسْتِدْلَالِ بِالنُّجُومِ عَلَى الزَّمانِ وَالمَكَانِ إِنَّمَا هُوَ مَنْ تَوَفَّرَ فِيهِ شَرْطَانِ:
1 -
أَنْ يَكُونَ صَاحِبَ خِبْرَةٍ فِي ذَلِكَ.
2 -
أَنْ يَكُونَ مُؤْتَمَنًا فِي دِينِهِ، حَرِيصًا عَلَى أَمْرِ شَرِيعَتِهِ.
قَالَ الإِمَامُ الخَطَّابِيُّ رحمه الله: "وَأَمَّا مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ مِنْ جِهَةِ النُّجُومِ عَلَى جِهَةِ القِبْلَةِ؛ فَإِنَّمَا هِيَ كَوَاكِبُ رَصَدَهَا أَهْلُ الخِبْرَةِ بِهَا مِنَ الأَئِمَّةِ الَّذِينَ لَا نَشُكُّ فِي عِنَايَتِهِم بِأَمْرِ الدِّينِ وَمَعْرِفَتِهِم بِهَا وَصِدْقِهِم فِيمَا أَخْبَرُوا بِهِ عَنْهَا، مِثْلَ أَنْ يُشَاهِدُوهَا بِحَضْرَةِ الكَعْبَةِ وَيُشَاهِدُوهَا فِي حَالِ الغَيبَةِ عَنْهَا، فَكَانَ إِدْرَاكُهُم الدِّلَالَةَ عَنْهَا بِالمُعَايَنَةِ، وَإِدْرَاكُنَا لِذَلِكَ [هُوَ] بِقَبُولِنَا لِخَبَرِهِم إِذْ كَانُوا غَيرَ مُتَّهَمِينَ فِي دِينِهِم وَلَا مُقَصِّرِينَ فِي مَعْرِفَتِهِم"
(2)
.
(1)
وَيَجِبُ أَيضًا عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ لَا يُدْخِلَهُ بَيتَهُ، وَأَنْ لَا يَقْرَأَهُ وَلَا يطَّلِعَ عَلَيهِ؛ فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِي النَّهْي مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ أَتَى إِلَى الكَاهِنِ غَيرَ مُنْكِرٍ لَهُ.
وَعَلَيهِ أَيضًا أَنْ لَا يُؤَثِّمَ نَفْسَهُ وَمَنْ فِي بَيتِهِ بِإِدْخَالِ شَيءٍ مِنَ الجَرَائِدِ الَّتِي فِيهَا ذَلِكَ إِلَى البُيُوتِ، لِأَنَّ هَذَا مَعْنَاهُ إِدْخَالٌ لِلْكَهَنَةِ إِلَى البُيُوتِ! وَهَذَا -وَالعِيَاذُ بِاللهِ- مِنَ الكَبَائِرِ.
(2)
مَعَالِمُ السُّنَنِ (4/ 230).
بَابُ مَا جَاءَ فِي الاسْتِسْقَاءِ بِالأَنْوَاءِ
وَقَولُ اللهِ تَعَالَى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الوَاقِعَة: 82].
وَعَنْ أَبِي مَالِكٍ الأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ الجَاهِلِيَّةِ لَا يَتْرُكُونَهُنَّ: الفَخْرُ بِالأَحْسَابِ، وَالطَّعْنُ فِي الأَنْسَابِ، وَالِاسْتِسْقَاءُ بِالنُّجُومِ، وَالنِّيَاحَةُ)). وَقَالَ: ((النَّائِحَةُ إِذَا لَمْ تَتُبْ قَبْلَ مَوتِهَا؛ تُقَامُ يَومَ القِيَامَةِ وَعَلَيهَا سِرْبَالٌ مِنْ قَطِرَانٍ وَدِرْعٌ مِنْ جَرَبٍ)) رَوَاهُ مُسْلِمٌ
(1)
.
وَلَهُمَا عَنْ زَيدِ بْنِ خَالِدٍ رضي الله عنه؛ قَالَ: صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الصُّبْحِ بِالحُدَيبِيَةِ عَلَى إِثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنَ اللَّيلِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَقَبْلَ عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ:((هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟)) قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمَ. قَالَ: ((قَالَ: أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ؛ فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالكَوكَبِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوءِ كَذَا وَكَذَا؛ فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالكَوكَبِ))
(2)
.
وَلَهُمَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَعْنَاهُ، وَفِيهِ:"قَالَ بَعْضُهُمْ: لَقَدْ صَدَقَ نَوءُ كَذَا وَكَذَا؛ فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَاتِ: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ * وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الوَاقِعَة: 75 - 82] "
(3)
.
(1)
مُسْلِمٌ (934).
(2)
البُخَارِيُّ (846)، وَمُسْلِمٌ (71).
(3)
رَوَاهُ مُسْلِمٌ (73) فَقَط دُونَ البُخَارِيِّ.
فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: تَفْسِيرُ آيَةِ الوَاقِعَةِ.
الثَّانِيَةُ: ذِكْرُ الأَرْبَعِ الَّتِي مِنْ أَمْرِ الجَاهِلِيَّةِ.
الثَّالِثَةُ: ذِكْرُ الكُفْرِ فِي بَعْضِهَا.
الرَّابِعَةُ: أَنَّ مِنَ الكُفْرِ مَا لَا يُخْرِجُ مِنَ المِلَّةِ.
الخَامِسَةُ: قَولُهُ: ((أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ)) بِسَبَبِ نُزُولِ النِّعْمَةِ.
السَّادِسَةُ: التَّفَطُّنُ لِلْإِيمَانِ فِي هَذَا المَوضِعِ.
السَّابِعَةُ: التَّفَطُّنُ لِلْكُفْرِ فِي هَذَا المَوضِعِ.
الثَّامِنَةُ: التَّفَطُّنُ لِقَولِهِ: (لَقَدْ صَدَقَ نَوءُ كَذَا وَكَذَا).
التَّاسِعَةُ: إِخْرَاجُ العَالِمِ لِلْمُتَعَلِّمِ المَسْأَلَةَ بِالِاسْتِفْهَامِ عَنْهَا، لِقَولِهِ:((أَتَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟)).
العَاشِرَةُ: وَعِيدُ النَّائِحَةِ.
الشَّرْحُ
- الاسْتِسْقَاءُ بِالأَنْواءِ: هُوَ نِسْبَةُ السُّقْيَا إِلَى الأَنْوَاءِ، وَالأَنْوَاءُ هِيَ النُّجُومُ، يُقَالُ لِلنَّجْمِ نَوءٌ، وَالعَرَبُ فِي الجَاهِلِيَّةِ كَانَتْ تَعْتَقِدُ أَنَّ النُّجُومَ وَالأَنْوَاءَ سَبَبٌ فِي نُزُولِ المَطَرِ
(1)
.
وَنَاءَ لُغَةً: أَي: نَهَضَ وَطَلَعَ، وَقِيلَ: أَرَادَ بِالنَّوءِ الغُرُوبَ، وَهُوَ مِنَ الأَضْدَادِ
(2)
.
وَالنَّوءُ: وَاحِدُ الأَنْوَاءِ، وَهِيَ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ مَنْزِلَةً، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَومًا تَقْرِيبًا، وَكُلُّ نَجْمٍ مِنْهَا إِذَا طَلَعَ فِي المَشْرِقِ وَقَعَ حَالَ طُلُوعِهِ آخَرُ فِي المَغْرِبِ، وَلَا يَزَالُ ذَلِكَ مُسْتَمِرًّا إِلَى أَنْ تَنْتَهِيَ الثَّمَانِيَةُ وَالعِشْرُونَ بِانْتِهَاءِ السَّنَةِ، وَكَانَتِ العَرَبُ تَزْعُمُ أَنَّ مَعَ سُقُوطِ المَنْزِلَةِ وَطُلُوعِ نَظِيرِهَا يَكُونُ مَطَرٌ، فَيَنْسِبُونَهُ إِلَيهَا فَيَقُولُونَ مُطِرْنَا بِنَوءِ كَذَا! وَإِنَّمَا سُمِّيَ نَوءًا لِأَنَّهُ إِذَا سَقَطَ السَّاقطُ مِنْهَا بِالغَرْبِ نَاءَ الطَّالِعُ بِالشَّرْقِ
(3)
.
- مُنَاسَبَةُ هَذَا البَابِ لِمَا قَبْلَهُ مِنَ الأَبْوَابِ هُوَ مِنْ عِدَّةِ أَوجُهٍ:
1 -
أَنَّ الاسْتِسْقَاءَ بِالأَنْوَاءِ نَوعٌ مِنَ التَّنْجِيمِ.
2 -
أَنَّهُ مِنَ السِّحْرِ بِمَعْنَاهُ العَامُّ.
3 -
أَنَّهُ مُنَافٍ لِكَمَالِ التَّوحِيدِ الوَاجِبِ، لِأَنَّهُ مِنْ كُفْرِ النِّعْمَةِ، حَيثُ نَسَبَ نِعْمَةَ اللهِ تَعَالَى إِلَى غَيرِهِ -يَعْنِي: مِنْ جِهَةِ السَّبَبِ- فَهُوَ كُفْرٌ أَصْغَرُ.
(1)
وَمِنْهُم -وَهِيَ طَائِفَةٌ قَلِيلَةٌ- مَنْ يَجْعَلُ النَّوءَ أَوِ النَّجْمَ هُوَ الَّذِي يَأْتِي بِالمَطَرِ.
(2)
النِّهَايَةُ فِي غَرِيبِ الحَدِيثِ وَالأَثَرِ (5/ 260).
(3)
بِتَصَرُّفٍ يَسِيرٍ مِنَ الفَتْحِ (2/ 524) لِابْنِ حَجَرٍ رحمه الله.
- الاسْتِسْقَاءُ بِالأَنْوَاءِ شِرْكٌ، وَهُوَ ثَلَاثُ حَالَاتٍ:
1 -
أَنْ يَدْعُوَ الأَنْوَاءَ بِالسُّقْيَا، فَيَسْتَغِيثَ بِهَا مِنْ دُونِ اللهِ عز وجل! وَهُوَ شِرْكٌ أَكْبَرُ، وَهُوَ مِنْ جَانِبِ الأُلُوهِيَّةِ، قَالَ تَعَالَى:{وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} [يُونُس: 106].
2 -
أَنْ يَنْسِبَ حُصُولَ الأَمْطَارِ إِلَى هَذِهِ الأَنْوَاءِ عَلَى أَنَّهَا هِيَ الفَاعِلَةُ بِنَفْسِهَا دُونَ اللهِ تَعَالَى -وَلَو لَمْ يَدْعُهَا-، فَهَذَا شِرْكٌ أَكْبَرُ فِي الرُّبُوبِيَّةِ.
3 -
أَنْ يَجْعَلَ هَذِهِ الأَنْوَاءَ سَبَبًا لِلمَطَرِ مَعَ اعْتِقَادِهِ أَنَّ اللهَ هُوَ الخَالِقُ الفَاعِلُ؛ وَهُوَ شِرْكٌ أَصْغَرُ
(1)
.
- (أَبُو مَالِكٍ): هُوَ الحَارِثُ بْنُ الحَارِثِ الشَّامِيُّ، صَحَابِيٌّ، وَفِي الصَّحَابَةِ أَبُو مَالِكٍ الأَشْعَرِيُّ اثْنَانُ غَير هَذَا.
- قَولُهُ: ((مِنْ أَمْرِ الجَاهِلِيَّةِ)) فِيهِ الإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ أَمْرَ الجَاهِلِيَّةِ كُلَّهُ مَذْمُومٌ، وَهُوَ أَمْرُ مَا قَبْلَ البَعْثَةِ، كَمَا فِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:((أَبْغَضُ النَّاسِ إِلَى اللهِ ثَلَاثَةٌ: مُلْحِدٌ فِي الحَرَمِ، وَمُبْتَغٍ فِي الإِسْلَامِ سُنَّةَ الجَاهِلِيَّةِ، وَمُطَّلِبُ دَمِ امْرِئٍ بِغَيرِ حَقٍّ لِيُهَرِيقَ دَمَهُ))
(2)
.
- ((الجَاهِلِيَّةُ)) مُشْتَقَّةٌ إِمَّا مِنَ الجَهْلِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ العِلْمِ، أَو مِنَ الجَهَالَةِ الَّتِي هِيَ السَّفَهُ؛ وَهِيَ ضِدُّ الحِكْمَةِ.
(1)
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله فِي الفَتْحِ (2/ 524): "فَإِنِ اعْتَقَدَ قَائِلٌ ذَلِكَ -أَنَّ لِلنَّوْءِ صُنْعًا فِي ذَلِكَ- فَكُفْرُهُ كُفْرُ تَشْرِيكٍ، وَإِنِ اعْتَقَدَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ التَّجْرِبَةِ فَلَيسَ بِشِرْكٍ، لَكِنْ يَجُوْزُ إِطْلَاقُ الكُفْرِ عَلَيهِ وَإِرَادَةُ كُفْرِ النِّعْمَةِ".
(2)
البُخَارِيُّ (6882).
- قَولُهُ: ((الفَخْرُ فِي الأَحْسَابِ)) يَعْنِي عَلَى وَجْهِ التَّكَبُّرِ وَالرِّفْعَةِ.
وَفِي الحَدِيثِ: ((إِنَّ اللهَ قَدْ أذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الجَاهِلِيَّةِ وَفَخْرَها بِالآبَاءِ، مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ، أنْتُمْ بَنُو آدَمَ؛ وآدَمُ مِنْ تُرَابٍ. لَيَدَعَنَّ رِجَالٌ فَخرَهُمْ بِأَقْوَامٍ إِنَّمَا هُمْ فَحْمٌ مِنْ فَحْمِ جَهَنَّمَ أو لَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللهِ مِنَ الجُعْلانِ الَّتِي تَدْفَعُ بِأَنْفِهَا النَّتَنَ))
(1)
.
وَأَيضًا فِي الحَدِيثِ: انْتَسَبَ رَجُلَانِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: أَنَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، فَمَنْ أَنْتَ لَا أُمَّ لَكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:((انْتَسَبَ رَجُلَانِ عَلَى عَهْدِ مُوسَى عليه السلام، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: أَنَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ حَتَّى عَدَّ تِسْعَةً؛ فَمَنْ أَنْتَ لَا أُمَّ لَكَ؟ قَالَ: أَنَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ ابْنُ الإِسْلَامِ. قَالَ: فَأَوحَى اللهُ إِلَى مُوسَى عليه السلام أَنْ قُلْ لهَذَينِ المُنْتَسِبَينِ: أَمَّا أَنْتَ أَيُّهَا المُنْتَمِي -أَوِ المُنْتَسِبُ- إِلَى تِسْعَةٍ فِي النَّارِ؛ فَأَنْتَ عَاشِرُهُمْ! وَأَمَّا أَنْتَ يَا هَذَا المُنْتَسِبُ إِلَى اثْنَينِ فِي الجَنَّةِ؛ فَأَنْتَ ثَالِثُهُمَا فِي الجَنَّةِ))
(2)
.
- قَولُهُ: ((وَالطَّعْنُ فِي الأَنْسَابِ)) هُوَ الطَّعْنُ فِي نَسَبِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ، وَالتَّكْذِيبُ بِنَسَبِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ بِغَيرِ دَلِيلٍ وَمِنْ غَيرِ حَاجَةٍ شَرْعِيَّةٍ.
وَقَدْ ذَكَرَ أَهْلُ العِلْمِ قَاعِدَةً هُنَا، وَهِيَ (أَنَّ النَّاسَ مُؤْتَمَنُونَ عَلَى أَنْسَابِهِم)
(3)
، فَإِذَا كَانَ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذِكْرِ النَّسَبِ وَأَنَّ فُلَانًا يَنْتَسِبُ إِلَى آلِ فُلَانٍ أَو إِلَى القَبِيلَةِ الفُلَانِيَّةِ؛ إِذَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيهِ أَثَرٌ شَرْعِيٌّ أَو مَادِّيٌّ كَإِعْطَاءِ حَقٍّ لِغَيرِ أَهْلِهِ، أَو مِيرَاثٍ
(1)
حَسَنٌ. أَبُو دَاوُدَ (5116) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (1787).
وَالعُبِّيَّةُ: الفَخْرُ وَالكِبْرُ وَالنَّخْوَةُ.
(2)
صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (21178) عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ. الصَّحِيحَةُ (1270).
(3)
قَالَ الحَافِظُ السَّخَاوِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ المَقَاصِدُ الحَسَنَةُ (ص 687): "حَدِيثُ: ((المُؤْمِنُ مُؤْتَمَنٌ عَلى نَسَبِهِ)) بَيَّضَ لَهُ شَيخُنَا فِي بَعْضِ أَجْوِبَتِهِ، وَهُوَ مِنْ قَولِ مَالِكٍ وَغَيرِهِ بِلَفْظِ:((النَّاسُ مُؤْتَمَنُونَ عَلَى أَنْسَابِهِم)).
وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ النَّاسَ مُؤْتَمَنُونَ عَلَى أَنْسَابِهِم
(1)
.
- قَالَ شَيخُ الإِسْلَامِ رحمه الله فِي الحَدِيثِ: "وَفِيهِ أَنَّ الرَّجُلَ مَعَ فَضْلِهِ وَعِلْمِهِ وَدِينِهِ قَدْ يَكُونُ فِيهِ بَعْضُ هَذِهِ الخِصَالِ المُسَمَّاةِ بِجَاهِلِيَّةٍ وَيَهُودِيَّةٍ وَنَصْرَانِيَّةٍ وَلَا يُوجِبُ ذَلِكَ كُفْرَهُ وَلَا فِسْقَهُ"
(2)
.
قُلْتُ: وَالمُرَادُ بِالخِصَالِ الجَاهِلِيَّةِ هُنَا: الخِصَالُ العَمَلِيَّةُ لَا الاعْتِقَادِيَّةُ.
- قَولُهُ: ((وَالاسْتِسْقَاءُ بِالنُّجُومِ)) هُوَ نِسْبَةُ السُّقْيَا إِلَى النُّجُومِ، وَيَشْمَلُ أَيضًا مَا هُوَ أَعْظَمَ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ أَنْ تُطْلَبَ السُّقْيَا مِنَ النُّجُومِ، كَحَالِ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الحَوَادِثَ الأَرْضِيَّةَ تَحْصُلُ بِالنُّجُومِ نَفْسِهَا، وَهَذَا هُوَ مِنْ شِرْكِ الرُّبُوبِيَّةِ.
- قَولُهُ: ((وَالنِّيَاحَةُ)) النِّيَاحَةُ مِنَ الكَبَائِرِ، وَهِيَ رَفْعُ الصَّوتِ عِنْدَ المُصِيبَةِ
(3)
، وَشَقُّ الجَيبِ وَنَحْو ذَلِكَ، وَهِيَ مُنَافِيَةٌ لِلصَّبْرِ الوَاجِبِ
(4)
.
وَإِنَّمَا كَانَتْ جَاهِلِيَّةً لِأُمُورٍ؛ مِنْهَا:
1 -
أَنَّهَا لَا تَزِيدُ النَّائِحَ إِلَّا شِدَةً وَحُزْنًا وَعَذَابًا.
2 -
أَنَّهَا تُهَيِّجُ أَحْزَانَ غَيرِهِ.
3 -
أَنَّهَا تَسَخُّطٌ عَلَى قَدَرِهِ تَعَالَى وَاعْتِرَاضٌ عَلَيهِ.
(1)
أَمَّا إِذَا كَانَ لَهُ أَثَرٌ؛ فَلَا بُدَّ مِنَ الإِثْبَاتِ، خَاصَّةً إِذَا كَانَ مُخَالِفًا لِمَا هُوَ شَائِعٌ مُتَوَاتِرٌ عِنْدَ النَّاسِ.
(2)
اقْتِضَاءُ الصِّرَاطِ المُسْتَقِيمِ (1/ 252).
(3)
قَالَ الشَّيخُ ابْنُ عُثَيمِين رحمه الله فِي كِتَابِهِ القَولُ المُفِيدُ (2/ 24): "وَالنِّيَاحَةُ: رَفْعُ الصَّوتِ بِالبُكَاءِ عَلَى المَيِّتِ قَصْدًا عَلَى سَبِيلِ النَّوحِ كَنَوحِ الحَمَامِ".
(4)
وَسَيَأْتِي الكَلَامُ عَلَيهِ بِأَوْسَعَ مِنْ ذَلِكَ فِي بَابِ (مِنَ الإِيمَانِ بِاللهِ الصَّبْرُ عَلَى أَقْدَارِ اللهِ) إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.
4 -
أَنَّهَا لَا تَرُدُّ القَضَاءَ، وَلَا تَرْفَعُ مَا نَزَلَ.
- قَولُهُ: ((تُقَامُ يَومَ القِيَامَةِ)) أَي: تُقَامُ مِنْ قَبْرِهَا.
- قَولُهُ: ((وَعَلَيهَا سِرْبَالٌ مِنْ قَطِرَانٍ)) السِّرْبَالُ: الثَّوبُ السَّابِغُ كَالدِّرْعِ، وَالقَطِرَانُ مَعْرُوفٌ، وَقِيلَ: إِنَّهُ النُّحَاسُ المُذَابُ.
- قَولُهُ: ((وَدِرْعٌ مِنْ جَرَبٍ)) الجَرَبُ: مَرْضٌ مَعْرُوفٌ يَكُونُ فِي الجِلْدِ، يُؤَرِّقُ الإِنْسَانَ، وَرُبَّمَا يَقْتُلُ الحَيَوَانَ، وَالمَعْنَى أَنَّ كُلَّ جِلْدِهَا يَكُونُ جَرَبًا بِمَنْزِلَةِ الدِّرْعِ، وَإِذَا اجْتَمَعَ قَطِرَانٌ وَجَرَبٌ زَادَ البَلَاءُ.
وَالحِكْمَةُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّها لَمَّا لَمْ تَتَلَبَّسْ بِلِبَاسِ الصَّبْرِ عِنْدَ المُصِيبَةِ؛ فَإِنَّهَا تُعَاقَبُ بِلِبَاسِ العَذَابِ وَهُوَ سِرْبَالٌ مِنْ قَطِرَانٍ وَدِرْعٌ مِنْ جَرَبٍ، فَكَانَتِ العُقُوبَةُ مِنْ جِنْسِ العَمَلِ.
- (الحُدَيبِيَّةُ) فِيهَا لُغَتَانِ: التَّخْفِيفُ -وَهُوَ أَكْثَرُ-، وَالتَّشْدِيدُ، وَهِيَ اسْمُ بِئْرٍ سُمِّيَ بِهَا المَكَانُ، وَهَذَا المَكَانُ قَرِيبٌ مِنْ مَكَّةَ؛ بَعْضُهُ فِي الحِلِّ وَبَعْضُهُ فِي الحَرَمِ، نَزَلَ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم فِي السَّنَةِ السَّادِسَةِ مِنَ الهِجْرَةِ لَمَّا قَدِمَ مُعْتَمِرًا، فَصَدَّهُ المُشْرِكونُ عَنِ البَيتِ، وَيُسَمَّى الآنَ (الشّمِيسِيُ).
- قَولُهُ: ((سَمَاءٍ)) أَي: مَطَرٍ، وَأُطلقَ عَلَيهِ (سَمًا) لِكَونِهِ يَنْزِلُ مِنْ جِهَةِ السَّمَاءِ، وَكُلّ جِهَةِ عُلُوٍ تُسَمَّى سَمَاءً
(1)
.
- قَولُهُ: (كَانَتْ مِنَ اللَّيلِ): (مِنْ) هُنَا لِابْتِدَاءِ الغَايَةِ، يَعْنِي ابْتَدَأَ المَطَرُ مِنَ اللَّيلِ.
- فِي حَدِيثِ زَيدِ بْنِ خَالِدٍ بَيَانٌ لِلقَاعِدَةِ الهَامَّةِ فِي الشِّرْكِ الأَصْغَرِ، وَهِيَ: (أَنَّ
(1)
فَتْحُ البَارِي (2/ 523).
مَنْ نَسَبَ نِعْمَةَ اللهِ تَعَالَى -الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَيهَا إِلَّا هُوَ- إِلَى غَيرِهِ؛ أَنَّهُ يَكُونُ مُشْرِكًا شِرْكًا أَصْغَر)، حَيثُ أَنَّ مَنْ نَسَبَ النِّعْمَةَ إِلَى النَّوءِ قِيلَ فِيهِ:(كَافِرٌ بِي)، وَهُوَ أَصْغَرُ لِأَنَّهُم لَمْ يَرْتَدُّوا بِذَلِكَ.
قَالَ صَاحِبُ فَتْحِ المَجِيدِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: "وَذَلِكَ أَنَّ القَائِلَ لِذَلِكَ نَسَبَ مَا هُوَ مِنْ فِعْلِ اللهِ تَعَالَى -الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَيهِ غَيرُهُ- إِلَى خَلْقٍ مُسَخَّرٍ لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ، وَلَا قُدْرَةَ لهُ عَلَى شَيءٍ؛ فَيَكُونُ ذَلِكَ شِرْكًا أَصْغَرَ. وَاللهُ أَعْلَمُ"
(1)
.
وَقَالَ أَيضًا رحمه الله: "إِذَا اعْتَقَدَ أَنَّ لِلنَّوءِ تَأْثِيرًا فِي إِنْزَالِ المَطَرِ فَهَذَا كُفْرٌ؛ لِأَنَّهُ أَشْرَكَ فِي الرُّبُوبِيَّةِ، وَالمُشْرِكُ كَافِرٌ. وَإِنْ لَمْ يَعْتَقِدْ ذَلِكَ فَهُوَ مِنَ الشِّرْكِ الأَصْغَرِ؛ لِأَنَّهُ نَسَبَ نِعْمَةَ اللهِ إِلَى غَيرِهِ، وَلِأَنَّ اللهَ لَمْ يَجْعَلِ النَّوءَ سَبَبًا لِإِنْزَالِ المَطَرِ فِيهِ، وَإِنِّمَا هُوَ فَضْلٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ يَحْبِسُهُ إِذَا شَاءَ وَيُنْزِلُهُ إِذَا شَاءَ"
(2)
.
- قَولُهُ تَعَالَى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} يَعْنِي: وَتَجْعَلُونَ (رِزْقَكُم) بِمَعْنَى (شُكْرَكُم) أَنَّكُم تُكَذِّبُونَ، أَي: تُكَذِّبُونَ بَدَلَ الشُّكْرِ
(3)
.
وَالتَّكْذِيبُ يَشْمَلُ وَجْهَينِ: تَكْذِيبَ القُرْآنِ، وَهَذَا فِي سِيَاقِ قَولِهِ تَعَالَى:{أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ} ، وَالآخَرَ أَنَّهُم نَسَبُوا المَطَرَ إِلَى الأَنْوَاءِ؛ فَكَانَ تَكْذِيبًا
(1)
فَتْحُ المَجِيدِ (ص 324).
(2)
فَتْحُ المَجِيدِ (ص 326).
(3)
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (23/ 153): "وَقَدْ ذُكِرَ عَنِ الهَيثَمِ بْنِ عَدِيٍّ أَنَّ مِنْ لُغَةِ أَزْدِ شَنْوءَةَ: مَا رَزَقَ فُلَانٌ؛ بِمَعْنَى: مَا شَكَرَ فُلَانٌ".
قُلْتُ: وَالهَيثَمُ بْنُ عَدِيٍّ: مُؤَرِّخٌ، عَالِمٌ بِالأَدَبِ وَالنَّسَبِ، (ت 207 هـ).
بِالدِّينِ، أَي بِنِعْمَةِ اللهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ قَالَ: (مَا مُطِرَ قَومٌ قَطُّ إِلَّا أَصْبَحَ بَعْضُهُم كَافِرًا، يَقُولُونَ: مُطِرْنَا بِنَوءِ كَذا وَكَذا. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ})
(1)
، وَهَذَا الوَجْهُ هُوَ المَقْصُودُ فِي البَابِ.
وَقَالَ الإِمَامُ القُرْطُبِيُّ رحمه الله فِي تَفْسِيرِ قَولِهِ تَعَالَى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} : "بَيَانُ أَنَّ مَا أَصَابَ العِبَادَ مِنْ خَيرٍ؛ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَرَوهُ مِن قِبَلِ الوَسَائِطِ الَّتِي جَرَتِ العَادَةُ بِأَنْ تَكُن أَسْبَابًا! بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَرَوهُ مِنْ قِبَلِ اللهِ تَعَالَى، ثُمَّ يُقَابِلُونَه بِشُكْرٍ -إِنْ كَانَ نِعْمَةٌ-، أَو صَبْرٍ -إِنْ كَانَ مَكْرُوهًا- تَعَبُّدًا لَهُ وَتَذَلُّلًا"
(2)
.
- (القُرْآنُ الكَرِيمُ)؛ الكَرِيمُ فِيهِ مَعْنَيَانِ:
1 -
الحَسَنُ البَهِيُّ: وَهَذَا كَمَالٌ فِي ذَاتِهِ
(3)
.
2 -
الكَثِيرُ العَطَاءِ: وَهَذَا كَمَالٌ فِي العَطَاءِ.
- قَولُهُ: {كِتَابٍ مَكْنُونٍ}
(4)
: اخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ فِي هَذَا الكِتَابِ عَلَى قَولَينِ:
الأَوَّلُ: أَنَّهُ اللَّوحُ المَحْفُوظُ الَّذِي كَتَبَ اللهُ فِيهِ كُلَّ شَيءٍ.
الثَّانِي: أَنَّهُ الصُّحُفُ الَّتِي فِي أَيدِي المَلَائِكَةِ.
(1)
رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي التَّفْسِيرِ (23/ 154)، وَقَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِير رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (7/ 546):"إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ".
(2)
تَفْسِيرُ القُرْطُبِيِّ (17/ 228).
(3)
وَمِنْهُ قَولُهُ فِي حَدِيثِ إِرْسَالِ مُعَاذٍ إِلَى اليَمَنِ: ((إِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِم))، وَقَدْ سَبَقَ.
(4)
المَكْنُونُ: المَحْفُوظُ.
مَسَائِلُ عَلَى البَابِ
-
المَسْأَلَةُ الأُولَى: هَلْ يَصِحُّ قَولُ: مُطِرْنَا بِنَوءِ كَذَا، أَو بِسَعْدِ السُّعُودِ -عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّهُ وَقْتٌ لِذَلِكَ
-؟
الجَوَابُ:
مِنْ جِهَةِ المَعْنَى: يَصِحُّ ذَلِكَ عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّ البَاءَ هِيَ ظَرْفِيَّةٌ؛ وَلَيسَتْ سَبَبيَّةً، فَيَكُونُ المَعْنَى مُطِرْنَا فِي وَقْتِ ظُهُورِ نَوءِ كَذَا، أَو مُطِرْنَا فِي وَقْتِ دُخُولِ سَعْدِ السُّعُودِ.
وَلَكِنْ مِنْ جِهَةِ الاسْتِعْمَالِ: يُخْشَى عِنْدَ اسْتِعْمَالِهَا أَنْ تُفهمَ عَلَى غَيرِ هَذَا المُرَادِ، خَاصَّةً وَقَدْ شَاعَ اسْتِخْدَامُهَا عِنْدَ العَرَبِ فِي الجَاهِلِيَّةِ بِنَفْسِ اللَّفْظِ وَلَكِنْ بِالمَعْنَى الفَاسِدِ، لِذَلِكَ فَالأَولَى تَرْكُهَا مِنْ بَابِ سَدِّ الذّرَائِعِ، وَالاسْتِعَاضَةُ عَنْهَا بِاللَّفْظِ الصَّرِيحِ:(فِي وَقْتِ كَذَا) الدَّالِ عَلَى الظَّرْفيَّةِ بِشَكْلٍ أَصْرَحَ
(1)
.
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله: "وَأَعْلَى مَا وَقَفْتُ عَلَيهِ مِنْ ذَلِكَ كَلَامُ الشَّافِعِيِّ، قَالَ فِي (الأُمِّ)
(2)
: مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِنَوءِ كَذَا وَكَذَا -عَلَى مَا كَانَ بَعْضُ أَهْلِ الشِّرْكِ يَعْنُونَ مِنْ إِضَافَةِ المَطَرِ إِلَى أَنَّهُ مَطَرُ نَوءِ كَذَا- فَذَلِكَ كُفْرٌ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، لِأَنَّ النَّوءَ وَقْتٌ؛ وَالوَقْتَ مَخْلُوقٌ لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ وَلَا لِغَيرِهِ شَيئًا، وَمَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِنَوءِ كَذَا -عَلَى مَعْنَى مُطِرْنَا فِي وَقْتِ كَذَا- فَلَا يَكُونُ كُفْرًا، وَغَيرُهُ مِنَ الكَلَامِ أَحَبُّ إِلَيَّ
(1)
هَذَا وَإِنْ كُنَّا نَنْهَى عَنِ اسْتِخْدَامِ اللَّفْظِ المُشْتَبِهِ؛ فَلَسْنَا نَغْفَلُ عَنِ التَّنْبِيهِ دَومًا إِلَى كَونِ ذَلِكَ تَقْدِيرًا وَنِعْمَةً مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَضَرُورَةِ التَّذْكِيرِ بِذَلِكَ أَمَامَ العَامَّةِ.
(2)
الأُمُّ (1/ 288).
مِنْهُ. يَعْنِي حَسْمًا لِلْمَادَّةِ، وَعَلَى ذَلِكَ يُحْمَلُ إِطْلَاقُ الحَدِيثِ:(أَي حَدِيثُ زَيدِ بْنِ خَالِدٍ) "
(1)
.
وَنَقَلَ البَيهَقِيُّ رحمه الله: "قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ -يَومَ جُمُعَةٍ؛ وَهُوَ عَلَى المِنْبَرِ-: كَمْ بَقِيَ مِنْ نَوءِ الثُّرَيَّا؟ فَقَامَ العَبَّاسُ؛ فَقَالَ: لَمْ يَبْقَ مِنْهُ شَيءٌ إِلَّا العَوَّاء.، فَدَعَا وَدَعَا النَّاسُ حَتَّى نَزَلَ عَنِ المِنْبَرِ، فَمُطِرَ مَطَرًا أُحْيَا النَّاسُ مِنْهُ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَقَولُ عُمَرَ رضي الله عنه هَذَا؛ يُبَيِّنُ مَا وَصَفْتُ، لأَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ: كَمْ بَقِيَ مِنْ وَقْتِ الثُّرَيَّا؟ لِمَعْرِفَتِهِمْ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدَّرَ الأَمْطَارَ فِي أَوقَاتٍ -فِيمَا جَرَّبُوا- كَمَا عَلِمُوا أَنَّهُ قَدَّرَ الحَرَّ وَالبَرْدَ -فِيمَا جَرَّبُوا- فِي أَوقَاتٍ"
(2)
.
(1)
فَتْحُ البَارِي (10/ 215).
(2)
مَعْرِفَةُ السُّنَنِ وَالآثَارِ (7227).
-
المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَلْ يَصِحُّ قَولُ مَنْ يُجِيبُ عَنْ أَمْرٍ مِنَ الأُمُورِ الكَونِيَّةِ (غَيرِ الشَّرْعِيَّةِ) بِقَولِهِ: (اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ)؟
الجَوَابُ: لَا يَصِحُّ، وَذَلِكَ لِأَمْرَينِ:
1 -
وَفَاةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَانْقِطَاعُهُ عَنْ عِلْمِ الدُّنْيَا اليَومَ
(1)
.
2 -
أَنَّ مَا يَخْتَصُّ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم -مِنْ جِهَةِ العِلْمِ- عَنْ سَائِرِ النَّاسِ فِي حَيَاتِهِ أَصْلًا هُوَ عِلْمُ الشَّرِيعَةِ وَلَيسَ أُمُورَ الدُّنْيَا
(2)
.
(1)
وَفِي حَدِيثِ الوُرُودِ عَلَى الحَوضِ؛ أَنَّهُ يُقَالُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: ((إنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثوا بَعْدَكَ)). رَوَاهُ أَبُو هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا، وَأَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ (6586)، وَمُسْلِمٌ (247).
وَمِثْلُهُ قَولُهُ تَعَالَى عَنْ عَيسَى عليه الصلاة والسلام: {وَكُنْتُ عَلَيهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ شَهِيدٌ} [المَائِدَة: 117].
(2)
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ (2363): بَابُ وُجُوبِ امْتِثَالِ مَا قَالَهُ شَرْعًا دُونَ مَا ذَكَرَهُ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَعَايِشِ الدُّنْيَا عَلَى سَبِيلِ الرَّأْي -عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا- وَفِيهِ: ((أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ)).
وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ أَيضًا (2361) عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيدِ اللهِ رضي الله عنه؛ قَالَ: مَرَرْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِقَومٍ عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ، فَقَالَ:((مَا يَصْنَعُ هَؤُلَاءِ؟)) فَقَالُوا: يُلَقِّحُونَهُ، يَجْعَلُونَ الذَّكَرَ فِي الأُنْثَى فَيَلْقَحُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:((مَا أَظُنُّ يُغْنِي ذَلِكَ شَيئًا!))، قَالَ: فَأُخْبِرُوا بِذَلِكَ فَتَرَكُوهُ، فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ فَقَالَ:((إِنْ كَانَ يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ فَلْيَصْنَعُوهُ؛ فَإِنِّي إِنَّمَا ظَنَنْتُ ظَنًّا، فَلَا تُؤَاخِذُونِي بِالظَّنِّ، وَلَكِنْ إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنِ اللهِ شَيئًا فَخُذُوا بِهِ؛ فَإِنِّي لَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللهِ عز وجل).
-
المَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي حَدِيثِ زَيدِ بْنِ خَالِدٍ؛ لِمَاذَا لَمْ يُحْمَلِ الكُفْرُ فِيهِ عَلَى الكُفْرِ الأَكْبَرِ؟
الجَوَابُ: لَمْ يُحْمَلْ عَلَى الأَكْبَرِ لِأُمُورٍ:
1 -
أَنَّهُم لَمْ يَقْصِدُوا بِذَلِكَ أَنَّ النَّوءَ خَالِقٌ لِلمَطَرِ! وَإِنَّمَا أَنَّهُ سَبَبٌ لِنُزُولِهِ، فَهُم لَمْ يُشْرِكُوا فِي الرُّبُوبِيَّةِ، وَأَيضًا هُم لَمْ يَسْتَغِيثُوا بِهِ لِإِنْزَالِ المَطَرِ! فَهُم لَمْ يُشْرِكُوا فِي الأُلُوهِيَّةِ أَيضًا، وَالعَرَبُ فِي جَاهِلِيَّتِهَا لَمْ تَكُنْ تَنْسِبُ المَطَرَ إِلَى النُّجُومِ عَلَى أَنَّهَا خَالِقَةٌ مُنَزِّلَةٌ لَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [العَنْكَبُوت: 63].
2 -
حَدِيثُ البَابِ ((أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي)) قَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّهُم مَا زَالُوا فِي أُمَّتِهِ صلى الله عليه وسلم.
3 -
أَنَّ الكُفْرَ هُنَا هُوَ كُفْرُ النِّعْمَةِ، وَهُوَ كُفْرٌ أَصْغَرُ، وَدَلَّ لِذَلِكَ بَعْضُ أَلْفَاظِ الحَدِيثِ
(1)
.
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله
(2)
: "وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ المُرَادُ بِهِ كُفْرَ النِّعْمَةِ، وَيُرْشِدُ إِلَيهِ قَولُهُ فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ عَنْ صَالِحٍ عَنْ سُفْيَانَ:((فَأَمَّا مَنْ حَمِدَنِي عَلى سُقيَايَ وَأثْنى عَلَيَّ؛ فَذَلِكَ آمَنَ بِي))،
وَفِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ وَالإِسْمَاعِيلِيِّ نَحْوُهُ؛ وَقَالَ فِي آخِرِهِ: ((وَكَفَرَ بِي
(1)
وَمِنْ أَمْثِلَةِ كُفْرِ النِّعْمَةِ مَا فِي البُخَارِيِّ (29) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ((أُرِيتُ النَّارَ؛ فَإِذَا أَكْثَرُ أَهْلِهَا النِّسَاءُ؛ يَكْفُرْنَ))، قِيلَ: أَيَكْفُرْنَ بِاللَّهِ؟ قَالَ: ((يَكْفُرْنَ العَشِيرَ، وَيَكْفُرْنَ الإِحْسَانَ، لَو أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ؛ ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيئًا؛ قَالَتْ: مَا رَأَيتُ مِنْكَ خَيرًا قَطُّ!!))، فَالكُفْرُ فِي هَذَا الحَدِيثِ هُوَ كُفْرُ النِّعْمَةِ أَيضًا مِنْ جِهَةِ المَرْأَةِ مَعَ زَوجِهَا.
(2)
فَتْحُ البَارِي (2/ 523).
أَو قَالَ: كَفَرَ نِعْمَتِيَ))، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي هُرَيرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ:((قَالَ اللهُ: مَا أَنْعَمْتُ عَلَى عِبَادِي مِنْ نِعْمَةٍ إِلَّا أَصْبَحَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ كَافِرِينَ بِهَا))
(1)
،
وَلَهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ((أَصْبَحَ مِنَ النَّاسِ شَاكِرٌ وَمِنْهُمْ كَافِرٌ)) "
(2)
.
قُلْتُ: وَوَجْهُ الدِّلَالَةِ أَنَّ الكُفْرَ كَانَ بِالنِّعْمَةِ وَذَلِكَ فِي قَولِهِ: ((كَافِرِينَ بِهَا)). وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
4 -
أَنَّهُم لَمْ يَرْتَدُّوا بِذَلِكَ، فَلَو كَانُوا مُرْتَدِّينَ لَأَمَرَهُم بِالشَّهَادَتَينِ.
(1)
مُسْلِمٌ (72) مَرْفُوعًا.
(2)
مُسْلِمٌ (73) مَرْفُوعًا.
بَابُ قَولِ اللهِ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البَقَرَة: 165].
وَقَولُهُ تَعَالَى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [التَّوبَة: 24].
عَنْ أَنَسٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)). أَخْرَجَاهُ
(1)
.
وَلَهُمَا عَنْهُ؛ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ؛ وَجَدَ بِهِنَّ حَلَاوَةَ الإِيمَان:؛ أَنْ يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ المَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الكُفْرِ -بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللهُ مِنْهُ- كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ))
(2)
.
وَفِي رِوَايَةٍ: ((لَا يَجِدُ أَحَدٌ حَلَاوَةَ الإِيمَانِ حَتَّى
…
)) إِلَى آخِرِهِ
(3)
.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: (مَنْ أَحَبَّ فِي اللهِ، وَأَبْغَضَ فِي اللهِ، وَوَالَى فِي اللهِ، وَعَادَى
(1)
البُخَارِيُّ (14)، وَمُسْلِمٌ (44).
(2)
البُخَارِيُّ (16)، وَمُسْلِمٌ (43).
(3)
البُخَارِيُّ (6041).
فِي اللهِ؛ فَإِنَّمَا تُنَالُ وَلَايَةُ اللهِ بِذَلِكَ، وَلَنْ يَجِدَ عَبْدٌ طَعْمَ الإِيمَانِ -وَإِنْ كَثُرَتْ صَلَاتُهُ وَصَومُهُ- حَتَّى يَكُونَ كَذَلِكَ، وَقَدْ صَارَتْ عَامَّةُ مُؤَاخَاةِ النَّاسِ عَلَى أَمْرِ الدُّنْيَا، وَذَلِكَ لَا يُجْدِي عَلَى أَهْلِهِ شَيئًا). رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ
(1)
.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فِي قَولِهِ تَعَالَى: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} [البَقَرَة: 166]، قَالَ:(المَوَدَّةُ)
(2)
.
(1)
عَزَاهُ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ الحَنْبَلِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ)(1/ 125) -الحَدِيثُ الثَّانِي- إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ المَرْوَزِيِّ.
وَالحَدِيثُ بِتَمَامِهِ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الكَبْيِرِ (12/ 417) عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَوقُوفًا، قَالَ الهَيثَمِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ مَجْمَعُ الزَّوَائِدِ (10/ 90):"وَفِيهِ لَيثُ بْنُ أَبِي سُلَيمٍ -وَالأَكْثَرُ عَلَى ضَعْفِهِ-".
وَقَرِيبٌ مِنْهُ مَا رَوَاهُ أَيضًا الطَّبَرَانِيُّ فِي الكَبِيرِ (11/ 215) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: ((أَوثَقُ عُرَى الإِيمَانِ؛ المُوَالَاةُ فِي اللهِ، وَالمُعَادَاةُ فِي اللهِ، وَالحُبُّ فِي اللهِ، وَالبُغْضُ فِي اللهِ عز وجل). حَسَنٌ. الصَّحِيحَةُ (1728).
وَكَذَا حَدِيثُ أَبِي دَاوُد (4681) عَنْ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا ((مَنْ أَحَبَّ لِلَّهِ، وَأَبْغَضَ لِلَّهِ، وَأَعْطَى لِلَّهِ، وَمَنَعَ لِلَّهِ؛ فَقَدِ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ)). صَحِيحُ الجَامِعِ (5965).
(2)
رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ (3/ 290).
فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: تَفْسِيرُ آيَةِ (البَقَرَةِ).
الثَّانِيَةُ: تَفْسِيرُ آيَةِ (بَرَاءَةَ).
الثَّالِثَةُ: وُجُوبُ مَحَبَّتِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى النَّفْسِ وَالأَهْلِ وَالمَالِ.
الرَّابِعَةُ: أَنَّ نَفْيَ الإِيمَانِ لَا يَدُلُّ عَلَى الخُرُوجِ مِنَ الإِسْلَامِ.
الخَامِسَةُ: أَنَّ لِلْإِيمَانِ حَلَاوَةٌ قَدْ يَجِدُهَا الإِنْسَانُ وَقَدْ لَا يَجِدُهَا.
السَّادِسَةُ: أَعْمَالُ القَلْبِ الأَرْبَعُ الَّتِي لَا تُنَالُ وَلَايَةُ اللهِ إِلَّا بِهَا، وَلَا يَجِدُ أَحَدٌ طَعْمَ الإِيمَانِ إِلَّا بِهَا.
السَّابِعَةُ: فَهْمُ الصِّحَابِيِّ لِلْوَاقِعِ: أَنَّ عَامَّةَ المُؤَاخَاةِ عَلَى أَمْرِ الدُّنْيَا.
الثَّامِنَةُ: تَفْسِيرُ {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} .
التَّاسِعَةُ: أَنَّ مِنَ المُشْرِكِينَ مَنْ يُحِبُّ اللهَ حُبًّا شَدِيدًا.
العَاشِرَةُ: الوَعِيدُ عَلَى مَنْ كَانَتِ الثَّمَانِيَةُ أَحَبَّ إِلَيهِ مِنْ دِينِهِ.
الحَادِيَةَ عَشْرَةَ: أَنَّ مَنِ اتَّخَذَ نِدًّا تُسَاوِي مَحَبَّتُهُ مَحَبَّةَ اللهِ؛ فَهُوَ الشِّرْكُ الأَكْبَرُ.
الشَّرْحُ
- هَذِهِ الأَبْوَابُ القَادِمَةُ يَصْلُحُ تَسْمِيَتُهَا بِأَبْوَابِ العِبَادَاتِ القَلْبِيَّةِ، وَهَذِهِ العِبَادَاتُ عَلَى دَرَجَاتٍ، وَتَارِكُهَا وَاقِعٌ بَينَ تَرْكٍ لِأَصْلِ التَّوحِيدِ وَبَينَ تَرْكٍ لِكَمَالِ التَّوحِيدِ الوَاجِبِ.
- المَحَبَّةُ تَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَينِ أَسَاسِيَّينِ:
القِسْمُ الأَوَّلُ: مَحَبَّةٌ خَاصَّةٌ: وَهِيَ مَحَبَّةُ العُبُودِيَّةِ.
وَهِيَ الَّتِي تُوجِبُ التَذَلُّلَ وَالتَّعْظِيمَ، وَهَذِهِ خَاصَّةٌ بِاللهِ تَعَالَى، فمَنْ أَحَبَّ مَعَ اللهِ غَيرَهُ مَحَبَّةَ عِبَادَةٍ؛ فَهُوَ مُشْرِكٌ الشِّرْكَ الأَكْبَرَ، وَهَذِهِ المَحَبَّةُ مُنَافِيَةٌ لِأَصْلِ التَّوحِيدِ
(1)
.
القِسْمُ الثَّانِي: مَحَبَّةٌ عَامَّةٌ: وَهِيَ لَيسَتْ بِمَحَبَّةِ عُبُوديَّةٍ.
وَهِيَ أَنْوَاعٌ:
1 -
مَحَبَّةٌ للهِ وَفِي اللهِ، كَمَحَبَّةِ الرُّسُلِ وَالصَّالِحِينَ، أَو أَعْمَالٍ كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَ
…
وَهَذَا النَّوعُ مِنَ المَحَبَّةِ سَبَبُهُ مَحَبَّةُ اللهِ تَعَالَى، وَحَتَّى مَحَبَّةُ الرَّسُولِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم تَابِعَةٌ لِمَحَبَّةِ مُرْسِلِهِ، وَتُبْنَى عَلَى هَذِهِ المَحَبَّةِ الطَّاعَةُ، فمَنْ أَحَبَّ طَاعَةَ غَيرِ اللهِ كَمَحَبَّةِ طَاعَةِ اللهِ أَو أَكْثَرَ؛ فَهُوَ مُنَافٍ لِكَمَالِ التَّوحِيدِ الوَاجِبِ، وَعَلَى صَاحِبِهِ أَنْ يَتُوبَ مِنْ
(1)
وَتَأَمَّلْ إِيرَادَ البُخَارِيِّ رحمه الله لِهَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ مَعَ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ الَّذِي فِي الشِّركِ، فَفِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ مِنْ صَحِيحِ البُخَارِيِّ (4497) -بَابُ قَولِهِ:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البَقَرَة: 165]- عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ؛ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَلِمَةً وَقُلْتُ أُخْرَى. قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ مَاتَ وَهْوَ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللهِ نِدًّا دَخَلَ النَّارَ))، وَقُلْتُ أَنَا:(مَنْ مَاتَ وَهْوَ لَا يَدْعُو لِلَّهِ نِدًّا دَخَلَ الجَنَّةَ).
ذَلِكَ وَيَرْجِعَ إِلَى تَكْمِيلِ المَحَبَّةِ الوَاجِبَةِ، وَإِنَّ جَمِيعَ المَعَاصِي تَنْشَأُ عَنْ تَقْدِيمِ هَوَى النَّفْسِ عَلَى مَحَبَّةِ اللهِ وَرَسُولِهِ
(1)
(2)
.
2 -
مَحَبَّةُ إِشْفَاقٍ وَرَحْمَةٍ، وَذَلِكَ كَمَحَبَّةِ الأَولَادِ وَالصِّغَارِ وَالضُّعَفَاءِ وَالمَسَاكِينَ.
3 -
مَحَبَّةُ إِجْلَالٍ وَتَعْظِيمٍ وَتَوقِيرٍ، كَمَحَبَّةِ الإِنْسَانِ لِوَالِدِهِ وَلِمُعَلِّمِهِ.
4 -
مَحَبَّةٌ طَبِيعِيَّةٌ، كَمَحَبَّةِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالمَلْبَسِ وَالمَرْكَبِ وَالمَسْكَنِ.
(1)
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ رحمه الله فِي كِتَابِهِ جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (2/ 397) -شَرْحُ حَدِيثِ رَقَم (41) -: "فَجَمِيعُ المَعَاصِي تَنْشَأُ مِنْ تَقْدِيمِ هَوَى النُّفُوسِ عَلَى مَحَبَّةِ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَقَدْ وَصَفَ اللهُ المُشْرِكِينَ بِاتِّبَاعِ الهَوَى فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ، وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} [القَصَص: 64]. وَكَذَلِكَ البِدَعُ؛ إِنَّمَا تَنْشَأُ مِنْ تَقْدِيمِ الهَوَى عَلَى الشَّرْعِ، وَلِهَذَا يُسَمَّى أَهْلُهَا أَهْلَ الأَهْوَاءِ، وَكَذَلِكَ المَعَاصِي؛ إِنَّمَا تَقَعُ مِنْ تَقْدِيمِ الهَوَى عَلَى مَحَبَّةِ اللهِ وَمَحَبَّةِ مَا يُحِبُّهُ اللهُ".
(2)
فَائِدَةٌ: قَالَ الشَّيخُ السَّعْدِيُّ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (ص 189) -عِنْدَ قَولِهِ تَعَالَى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيهِمْ حَفِيظًا * وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [النِّسَاء: 80 - 81]-: "أَي: كُلُّ مَنْ أَطَاعَ رَسُولَ اللهِ فِي أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ تَعَالَى لِكَونِهِ لَا يَأْمُرُ وَلَا يَنْهَى إِلَّا بِأَمْرِ اللهِ وَشَرْعِهِ وَوَحْيِهِ وَتَنْزِيلِهِ، وَفِي هَذَا عِصْمَةُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، لِأَنَّ اللهَ أَمَرَ بِطَاعَتِهِ مُطْلَقًا؛ فَلَولَا أَنَّهُ مَعْصُومٌ فِي كُلِّ مَا يُبَلِّغُ عَنِ اللهِ لَمْ يَأْمُرْ بِطَاعَتِهِ مُطْلَقًا وَيَمْدَحْ عَلَى ذَلِكَ! وَهَذَا مِنَ الحُقُوقِ المُشْتَرَكَةِ؛ فَإنَّ الحُقُوقَ ثَلَاثَةٌ:
حَقٌّ للهِ تَعَالَى لَا يَكُونُ لِأَحَدٍ مِنَ الخَلْقِ: وَهُوَ عِبَادَةُ اللهِ وَالرَّغْبَةُ إِلَيهِ، وَتَوَابِعُ ذَلِكَ.
وَقِسْمٌ مُخْتَصٌّ بِالرَّسُولِ: وَهُوَ التَّعْزِيرُ وَالتَّوقِيرُ وَالنُّصْرَةُ.
وَقِسْمٌ مُشْتَرَكٌ: وَهُوَ الإِيمَانُ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَمَحَبَّتُهُمَا وَطَاعَتُهُمَا، كَمَا جَمَعَ اللهُ بَينَ هَذِهِ الحُقُوقِ فِي قَولِهِ:{لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفَتْح: 9] ".
وَأَشْرَفُ هَذِهِ الأَنْوَاعِ النَّوعُ الأَوَّلُ، وَالبَقِيَّةُ هُم مِنْ قِسْمِ المُبَاحِ؛ إِلَّا إِذَا اقْتَرَنَ بِهَا مَا يَقْتَضِي التَّعَبُّدَ فَتَصِيرُ عِبَادَةً، فَالإِنْسَانُ يُحِبُّ وَالِدَهُ مَحَبَّةَ إِجْلَالٍ وَتَعْظِيمٍ؛ فَإِذَا اقْتَرَنَ بِهَا نِيَّةُ بِرِّ الوَالِدَينِ صَارَتْ عِبَادَةً.
وَكَذَلِكَ المَحَبَّةُ الطَّبِيعِيَّةُ -كَالأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالمَلْبَسِ وَالمَسْكَنِ- إِذَا قَصَدَ بِهَا الاسْتِعَانَةَ عَلَى عِبَادَةٍ صَارَتْ عِبَادَةً.
وَلْيُعْلَمْ أَنَّهُ مَتَى مَا نَوَى المُؤْمِنُ بِتَنَاوُلِ شَهَوَاتِهِ المُبَاحَةِ التَّقَوِّي عَلَى الطَّاعَةِ؛ كَانَتْ شَهَوَاتُهُ لَهُ طَاعَةً يُثَابُ عَلَيهَا، كَمَا قَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رضي الله عنه:(أَنَامُ أَوَّلَ اللَّيلِ فَأَقُومُ وَقَدْ قَضَيتُ جُزْئِي مِنَ النَّومِ، فَأَقْرَأُ مَا كَتَبَ اللهُ لِي؛ فَأَحْتَسِبُ نَومَتِي كَمَا أَحْتَسِبُ قَومَتِي)، يَعْنِي أَنَّهُ يَنْوِي بِنَومِهِ التَّقَوِّي عَلَى القِيَامِ فِي آخِرِ اللَّيلِ؛ فَيَحْتَسِبُ ثَوَابَ نَومِهِ كَمَا يَحْتَسِبُ ثَوَابَ قِيَامِهِ
(1)
.
- قَولُهُ تَعَالَى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ} نَزَلَتْ فِيمَنْ رَضِيَ بِالمُكْثِ بِمَكَّةَ وَلَمْ يُهَاجِرْ؛ مَحَبَّةً لِهَذِهِ الأَشْيَاءِ وَإِيثَارًا لَهَا عَلَى طَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ.
- قَولُهُ تَعَالَى: {فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ وَذَمٌّ لِمَنْ قَدَّمَ كُلَّ ذَلِكَ عَلَى طَاعَةِ اللهِ تَعَالَى؛ فَكَيفَ بِمَنْ قَدَّمَ أَحَدَهَا فَقَط!
وَفِيهِ دِلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَنْ قَدَّمَ شَيئًا مِنْ ذَلِكَ عَلَى طَاعَةِ اللهِ تَعَالَى وَطَاعَةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم؛ أَنَّهُ لَا يَكُونُ كَافِرًا خَارِجًا مِنَ المِلَّةِ كَحَالِ أَصْحَابِ القِسْمِ الأَوَّلِ -أَصْحَابِ مَحَبَّةِ العُبودِيَّةِ-، وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ حَدِيثُ البُخَارِيِّ: أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه؛ قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: يَا
(1)
رَوَاهُ البُخَارِيُّ (4341) عَنْ أَبِي بُرْدَةَ.
رَسُولَ اللهِ؛ لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيءٍ إِلَّا مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:((لَا؛ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيكَ مِنْ نَفْسِكَ)). فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: فَإِنَّهُ الآنَ -وَاللَّهِ- لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ((الآنَ يَا عُمَرُ))
(1)
(2)
.
- قَولُهُ: ((لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِ قَدْ فَاتَهُ الكَمَالُ الوَاجِبُ -الَّذِي يَأْثَمُ تَارِكُهُ-.
وَلَا يَصِحُّ حَمْلُهُ عَلَى الكَمَالِ المُسْتَحَبِّ -الَّذِي مَنْ فَاتَهُ؛ فَإِنَّه لَا يَأْثَمُ صَاحِبُهُ-! فَإِنَّ جَمِيعَ المَعَاصِي نَاشِئَةٌ عَنْ تَقْدِيمِ هَوَى النَّفْسِ عَلَى طَاعَةِ اللهِ تَعَالَى وَطَاعَةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم
(3)
.
قَالَ شَيخُ الإِسْلَامِ رحمه الله
(4)
: "فَمَنْ قَالَ: إنَّ المَنْفِيَّ هُوَ الكَمَالُ؛ فَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ نَفْيُ
(1)
البُخَارِيُّ (6632).
(2)
وَلَا يَخْفَى أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه كَانَ قَدْ أَسْلَمَ بِإِسْلَامٍ صَحِيحٍ قَبِلَهُ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم، وَلَكِنَّهُ كَانَ عَلَى حَالٍ فَاتَهُ فِيهِ الكَمَالُ الوَاجِبُ؛ فَلِذَلِكَ قَالَ صلى الله عليه وسلم:((الآنَ يَا عُمَرُ)).
وَتَأَمَّلْ أَيضًا حَدِيثَ أَنَسٍ فِي هَذَا البَابِ حَيثُ جُعِلَ مَنْ أَتَى بِالثَّلَاثِ المَذْكُورَةِ وَاجِدًا لِحَلَاوَةِ الإِيمَانِ؛ وَهُوَ قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى أَصْلِ الإِيمَانِ.
وَقَرِيبٌ مِنْهُ أَيضًا قَولُهُ تَعَالَى عَنْ بَعْضِ المُسْلِمِينَ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَينَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النِّسَاء: 77]، وَالشَّاهِدُ مِنْهُ قَولُهُ تَعَالَى:{إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} وَلَمْ يَكُونُوا فِي تِلْكَ الحَالِ كُفَّارًا بَلْ كَانُوا مُسْلِمِينَ قَدْ فَاتَهُمُ الكَمَالُ الوَاجِبُ. وَسَيَأْتِي الكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي البَابِ التَّالِي إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.
(3)
كَمَا سَبَقَ عَنِ ابْنِ رَجَبٍ رحمه الله فِي (الجَامِعِ).
(4)
مَجْمُوعُ الفَتَاوَى (7/ 15).
الكَمَالِ الوَاجِبِ -الَّذِي يُذَمُّ تَارِكُهُ وَيَتَعَرَّضُ لِلْعُقُوبَةِ-؛ فَقَدْ صَدَقَ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ نَفْيُ الكَمَالِ المُسْتَحَبِّ! فَهَذَا لَمْ يَقَعْ قَطُّ فِي كَلَامِ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ، فَإِنَّ مَنْ فَعَلَ الوَاجِبَ كَمَا وَجَبَ عَلَيهِ وَلَمْ يَنْتَقِصْ مِنْ وَاجِبِهِ شَيئًا؛ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ: مَا فَعَلَهُ! لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا"
(1)
.
- حَدِيثُ أَنَسٍ رضي الله عنه فِيهِ جَوَامِعٌ مِنَ الكَلِمِ، لِأَنَّهُ قَدْ جَمَعَتْ هَذِهِ الأَلْفَاظُ اليَسِيرَةُ مَعَانٍ كَثِيرْةً، فَأَقْسَامُ المَحَبَّةِ الدُّنْيَوِيَّةِ ثَلَاثَةٌ: مَحَبَّةُ إِجْلَالٍ وَعَظَمَةٍ كَمَحَبَّةِ الوَالِدِ، وَمَحَبَّةُ شَفَقَةٍ وَرَحْمَةٍ كَمَحَبَّةِ الوَلَدِ، وَمَحبَّةُ اسْتِحْسَانٍ وَمُشاكَلَةٍ كَمَحَبَّةِ النَّاسِ، فذَكَرَ الحَدِيثُ أَصْنَافَ المَحَبَّةِ جَمِيعِهَا
(2)
.
وَأَيضًا قَولُهُ: ((حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيهِ)) فِيهِ ذِكْرُ المَحَبَّةِ فِي اللهِ، وَهِيَ مَحَبَّةُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم.
- قَولُهُ: ((وَجَدَ بِهِنَّ حَلَاوَةَ الإِيمَانِ)) قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رحمه الله: "قَالَ العُلَمَاءُ رحمهم الله: مَعْنَى حَلَاوَةِ الإِيمَانِ: اسْتِلْذَاذُ الطَّاعَاتِ، وَتَحَمُّلُ المَشَقَّاتِ فِي رِضَى اللهِ عز وجل وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، وَإِيثَارُ ذَلِكَ عَلَى عَرَضِ الدُّنْيَا، وَمَحَبَّةُ العَبْدِ رَبَّهُ سبحانه وتعالى بِفِعْلِ طَاعَتِهِ وَتَرْكِ مُخَالَفَتِهِ، وَكَذَلِكَ مَحَبَّةُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم"
(3)
.
(1)
وَفِي البُخَارِيِّ (13) وَمُسْلِمِ (45) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ مَرْفُوعًا: ((لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ)).
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ)(302) -عِنْدَ شَرْحِ حَدِيثِ رَقَم (13) -: "فَإِنَّ الإِيمَانَ كَثِيرًا مَا يُنْفَى لِانْتِفَاءِ بَعْضِ أَرْكَانِهِ وَوَاجِبَاتِهِ، كَقَولِهِ صلى الله عليه وسلم: ((لَا يَزْنِي الزَّانِي -حِينَ يَزْنِي- وَهُوَ مُؤْمِنٌ)) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ، وَقَولِهِ: ((وَاللهِ لَا يُؤْمِنُ الَّذِي لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بِوَائِقَهُ)) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ".
(2)
قَالَهُ ابْنُ دَقِيقٍ العَيد رحمه الله فِي شَرْحِ الأَرْبَعِينَ النَّوَوِيَّةِ (حَدِيث 41)(ص 136).
(3)
شَرْحُ مُسْلِمٍ (2/ 13).
- قَولُهُ: (فَإِنَّمَا تُنَالُ وَلَايَةُ اللهِ بِذَلِكَ): الولَايَةُ -بِفَتْحِ الوَاو-: المَحَبَّةُ وَالنُّصْرَةُ، وَبِالكَسْرِ: المُلْكُ وَالإِمَارَةُ.
وَوَلَايَةُ اللهِ نَوعَانِ:
1 -
عَامَّةٌ: وَهِيَ الشَّامِلَةُ لِكُلِّ أَحَدٍ، قَالَ اللهُ تَعَالَى:{هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [يُونُس: 30]، فَجَعَلَ لِنَفْسِهِ سُبْحَانَهُ وَلَايَةً عَلَى هَؤُلَاءِ المُفْتَرِينَ؛ فَهَذِهِ وَلَايَةٌ عَامَّةٌ، فَاللهُ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى عِبَادَهُ بِالتَّدْبِيرِ وَالتَّصْرِيفِ وَالسُّلْطَانِ وَغَيرِ ذَلِكَ.
2 -
خَاصَّةٌ: وَهِيَ أَنْ يَتَوَلَّى اللهُ العَبْدَ بِعِنَايَتِهِ وَتَوفِيقِهِ وَهِدَايَتِهِ، وَهَذِهِ لِلمُؤْمِنِينَ، قَالَ تَعَالَى:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} [مُحَمَّد: 11]، وَهَذَا النَّوعُ هُوَ المَقْصُودُ بِقَولِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه.
- قَولُهُ تَعَالَى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} [البَقَرَة: 166]: الأَسْبَابُ: أَي الوَسَائِلُ الَّتِي اتَّخَذَهَا المُشْرِكونَ لِنَيلِ شَفَاعَةِ وَنَصْرِ مَعْبُودِهِم وَآلِهَتِهِم عِنْدَ اللهِ.
وَمِنْ هذهِ الوَسَائِلِ: المَوَدَّةُ وَالذَّبْحُ وَالدُّعَاءُ وَالتَّبَرُّكُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَينِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [العَنْكَبُوت: 25].
مَسَائِلُ عَلَى البَابِ
-
مَسْأَلَةٌ: لِمَاذَا حُمِلَ قَولُهُ: ((لَا يُؤْمِنُ)) عَلَى نَفْي الكَمَالِ، رُغْمَ أَنَّ هُنَاكَ مَحَامِلَ أُخَرَ تَقْبَلُهَا اللُّغَةُ، وَهِيَ نَفْيُ الوُجُودِ وَنَفْيُ الصِّحَّةِ؟
الجَوَابُ:
إِنَّ الأَصْلَ -مِنْ جِهَةِ لِسَانِ العَرَبِ- هُوَ الحَمْلُ عَلَى نَفْي الوُجُودِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَقِمِ المَعْنَى حُمِلَ عَلَى نَفْي الصِّحَّةِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَقِمِ المَعْنَى حُمِلَ عَلَى نَفْي الكَمَالِ.
فَهُنَا الإِيمَانُ -الَّذِي هُوَ التَّصْدِيقُ لُغَةً- مَوجُودٌ، وَهُوَ أَيضًا صَحِيحٌ غَيرُ مَرْدُودٍ -وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ صِحَّتِهِ وَقَبُولِهِ-، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الأَخِيرُ؛ وَهُوَ الحَمْلُ عَلَى نَفْي الكَمَالِ.
قَالَ الشَّيخُ ابْنُ عُثَيمِين رحمه الله فِي كِتَابِهِ (القَوَاعِدُ الفِقْهِيَّةُ)
(1)
: "وَالنَّفْيُ لِلوُجُودِ ثُمَّ الصِّحَّةِ
…
ثُمَّ الكَمَالِ فَارْعَيَنَّ الرُّتْبَةَ"
(2)
.
(1)
القَوَاعِدُ الفِقْهِيَّةُ (ص 11).
(2)
وَقَالَ أَيضًا رحمه الله فِي كِتَابِهِ (الشَّرْحُ المُمْتِعُ عَلَى زَادِ المُسْتَقْنِع)(1/ 158): "النَّفْيُ يَكُونُ أَوَّلًا لِنَفْي الوُجُودِ، ثُمَّ لِنَفْي الصِّحَةِ، ثُمَّ لِنَفْي الكَمَالِ.
فَإِذَا جَاءَ نَصٌّ فِي الكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ فِيهِ نَفْيٌ لِشَيءٍ؛ فَالأَصْلُ أَنَّ هَذَا النَّفيَ هُوَ لِنَفْي وُجُودِ ذَلِكَ الشَيءِ، فَإِنْ كَانَ مَوجُودًا؛ فَهُوَ نَفْيُ الصِّحَّةِ، وَنَفْيُ الصِّحَّةِ نَفْيٌ لِلوُجُودِ الشَّرْعِيِّ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ ذَلِكَ بِأَنْ صَحَّتِ العِبَادَةُ مَعَ وُجُودِ ذَلِكَ الشَّيءِ؛ صَارَ النَّفْيُ لِنَفْي الكَمَالِ لَا لِنَفْي الصِّحَّةِ".
قُلْتُ:
مِثَالُ نَفْي الوُجُودِ: (لَا خَالِقَ لِلكَونِ إِلَّا اللهُ).
مِثَالُ نَفْي الصِّحَةِ: ((لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِأمِّ الكِتَابِ)).
مِثَالُ نَفْي الكَمَالِ: ((لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُم حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ)).
بَابُ قَولِ اللهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عِمْرَان: 175]
وَقَولِهِ: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التَّوبَة: 18].
وَقَولِهِ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العَنْكَبُوت: 10].
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه مَرْفُوعًا: ((إِنَّ مِنْ ضَعْفِ اليَقِينِ أَنْ تُرْضِيَ النَّاسَ بِسَخَطِ اللهِ، وَأَنْ تَحْمَدَهُمْ عَلَى رِزْقِ اللهِ، وَأَنْ تَذُمَّهُمْ عَلَى مَا لَمْ يُؤْتِكَ اللهُ، إِنَّ رِزْقَ اللهِ لَا يَجُرُّهُ حِرْصُ حَرِيصٍ، وَلَا يَرُدُّهُ كَرَاهِيَةُ كَارِهٍ))
(1)
.
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((مَنِ التَمَسَ رِضَى اللهِ بِسَخَطِ النَّاسِ؛ رضي الله عنه وَأَرْضَى عَنْهُ النَّاسَ، وَمَنِ التَمَسَ رِضَى النَّاسِ بِسَخَطِ اللهِ؛ سَخِطَ اللهُ عَلَيهِ وَأَسْخَطَ عَلَيهِ النَّاسَ)). رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ
(2)
.
(1)
مَوضُوعٌ. أَبُو نُعَيمٍ فِي الحِلْيَةِ (5/ 106). الضَّعِيفَةُ (1483).
(2)
صَحِيحٌ. ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ (226). صَحِيحُ الجَامِعِ (6097).
فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: تَفْسِيرُ آيَةِ (آلِ عِمْرَانَ).
الثَّانِيَةُ: تَفْسِيرُ آيَةِ (بَرَاءَةَ).
الثَّالِثَةُ: تَفْسِيرُ آيَةِ (العَنْكَبُوتِ).
الرَّابِعَةُ: أَنَّ اليَقِينَ يَضْعُفُ وَيَقْوَى.
الخَامِسَةُ: عَلَامَةُ ضَعْفِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ هَذِهِ الثَّلَاثُ.
السَّادِسَةُ: أَنَّ إِخْلَاصَ الخَوفِ لِلَّهِ مِنَ الفَرَائِضِ.
السَّابِعَةُ: ذِكْرُ ثَوَابِ مَنْ فَعَلَهُ.
الثَّامِنَةُ: ذِكْرُ عِقَابِ مَنْ تَرَكَهُ.
الشَّرْحُ
- الخَوفُ عِبَادَةٌ لِلقَلْبِ لَا تَصْلُحُ إِلَّا للهِ تَعَالَى، فَهِيَ كَالذُّلِّ وَالمَحَبَّةِ وَالإِنَابَةِ وَالتَّوَكُّلِ وَالرَّجَاءِ وَغَيرِهَا مِنْ عِبَادَةِ القَلْبِ للهِ تَعَالَى، قَالَ تَعَالَى:{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرَّحْمَن: 46].
وَقَدْ جَاءَ بَيَانُ عَظَمَةِ هَذِهِ العِبَادَةِ فِي الحَدِيثِ الَّذِي فِي الصَّحِيحَينِ عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه مَرْفُوعًا ((كَانَ رَجُلٌ يُسْرِفُ عَلَى نَفْسِهِ، فَلَمَّا حَضَرَهُ المَوتُ قَالَ لِبَنِيهِ: إِذَا أَنَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِي ثُمَّ اطْحَنُونِي ثُمَّ ذرُّونِي فِي الرِّيحِ؛ فَوَ اللهِ لَئِنْ قَدَرَ عَلَيَّ رَبِّي
(1)
لَيُعَذِّبَنِّي عَذَابًا مَا عَذَّبَهُ أَحَدًا، فَلَمَّا مَاتَ فُعِلَ بِهِ ذَلِكَ، فَأَمَرَ اللهُ الأَرْضَ فَقَالَ: اجْمَعِي مَا فِيكِ مِنْهُ، فَفَعَلَتْ، فَإِذَا هُوَ قَائِمٌ. فَقَالَ: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ قَالَ: يَا رَبِّ خَشْيَتُكَ، فَغَفَرَ لَهُ))
(2)
(3)
.
(1)
لِلعُلَمَاءِ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ أَقْوَالٌ:
أ- أَنَّهَا مِنَ القُدْرَةِ وَالاسْتِطَاعَةِ، وَهُوَ كَانَ جَاهِلًا بِقُدْرَةِ اللهِ تَعَالَى عَلَى إِعَادَتِهِ.
ب- أَنَّهَا مِنَ التَّقْدِيرِ وَالقَضَاءِ، كَأَنَّ الرَّجُلَ قَالَ: لَئِنْ كَانَ سَبَقَ فِي قَدَرِ اللهِ وَقَضَائِهِ أَنْ يُعَذِّبَ كُلَّ ذِي جُرْمٍ عَلَى جُرْمِهِ؛ لَيُعَذِبنِّيَ اللهُ عَلَى إِجْرَامِي وَذُنُوبِي عَذَابًا لَا يُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ العَالَمِينَ غَيرِي.
جـ- أَنَّهَا مِنَ التَّقْتِيرِ وَالتَّضْيِيقِ: كَأَنَّ الرَّجُلَ قَالَ: لَئِنْ ضَيَّقَ اللهُ عَلَيَّ وَبَالَغَ فِي مُحَاسَبَتِي وَجَزَائِي عَلَى ذُنُوبِي. اُنْظُرِ الصَّحِيحَةَ (3048).
قُلْتُ: وَطَلَبُ الرَّجُلِ لِحَرْقِهِ وَذَرِّهِ فِي الرِّيحِ يُومِئُ إِلَى أَنَّ القَولَ الأَوَّلَ هُوَ المَقْصُودُ، وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(2)
البُخَارِيُّ (3481)، وَمُسْلِمٌ (2756). وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ (3785) بِلَفْظِ: ((إِنَّ رَجُلًا لَمْ يَعْمَلْ مِنَ الخَيرِ شَيئًا قَطُّ إِلَّا التَّوحِيدَ، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الوَفَاةُ قَالَ لِأَهْلِهِ: إِذَا أَنَا مِتُّ فَخُذُونِي
…
)). صَحِيحٌ. عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَوقُوفًا. تَحْقِيقُ الشَّيخِ شُعَيبٍ الأَرْنَؤُوط.
(3)
فَائِدَةٌ فِي حُكْمِ مَنْ هَذِهِ حَالُهُ.
=
- مُنَاسَبَةُ البَابِ لِمَا قَبْلَهُ أَنَّ المُؤَلِّفَ رحمه الله أَعْقَبَ بَابَ المَحَبَّةِ بِبَابِ الخَوفِ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ أَرْكَانِ العِبَادَةِ، فَبِالمَحَبَّةِ يَكُونُ امْتِثَالُ الأَمْرِ، وَبِالخَوفِ يَكُونُ اجْتِنَابُ النَّهْي.
- إِنَّ عِبَادَةَ الخَوفِ نَاشِئَةٌ فِي قَلْبِ المُسْلِمِ مِنْ مَعْرِفَتِهِ بِرُبُوبِيَّةِ اللهِ تَعَالَى وَتَصَرُّفِهِ وَمُلْكِهِ لِكُلِّ شَيءٍ سُبْحَانَه
(1)
.
- الخَوفُ مِنْ غَيرِ اللهِ تَعَالَى يِنْقَسِمُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: إِلَى مَا هُوَ شِرْكٌ؛ وَإِلى مَا هُوَ مُحَرَّمٌ؛ وَإِلى مَا هُوَ مُبَاحٌ.
1 -
الخَوفُ الشِّرْكِيُّ: وَهُوَ خَوفُ السِّرِّ (خَوفُ التَّعْظِيمِ، خَوفُ العُبُودِيَّةِ) يَعْنِي أَنْ يَخَافَ فِي دَاخِلِهِ مِنْ هَذَا المُخَوَّفِ مِنْهُ مِنْ أَنْ يَمَسَّهُ بِسُوءٍ، وَهَذَا النَّوعُ مُنَافٍ لِأَصْلِ التَّوحِيدِ.
=
قَالَ شَيخُ الإِسْلَامِ رحمه الله فِي مَجْمُوعِ الفَتَاوَى (12/ 500): "وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَتَكْفِيرُ المُعَيَّنِ مِنْ هَؤُلَاءِ الجُهَّالِ وَأَمْثَالِهِمْ -بِحَيثُ يُحْكَمُ عَلَيهِ بِأَنَّهُ مِنَ الكُفَّارِ- لَا يَجُوزُ الإِقْدَامُ عَلَيهِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ تَقُومَ عَلَى أَحَدِهِمُ الحُجَّةُ الرِّسَالِيَّةُ الَّتِي يَتَبَيَّنُ بِهَا أَنَّهُمْ مُخَالِفُونَ لِلرُّسُلِ -وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ المَقَالَةُ لَا رَيبَ أَنَّهَا كُفْرٌ-، وَهَكَذَا الكَلَامُ فِي تَكْفِيرِ جَمِيعِ المُعَيَّنِينَ، مَعَ أَنَّ بَعْضَ هَذِهِ البِدْعَةِ أَشَدُّ مِنْ بَعْضٍ، وَبَعْضُ المُبْتَدِعَةِ يَكُونُ فِيهِ مِنَ الإِيمَانِ مَا لَيسَ فِي بَعْضٍ، فَلَيسَ لِأَحَدِ أَنْ يُكَفِّرَ أَحَدًا مِنَ المُسْلِمِينَ -وَإِنْ أَخْطَأَ وَغَلِطَ- حَتَّى تُقَامَ عَلَيهِ الحُجَّةُ وَتُبَيَّنَ لَهُ المَحَجَّةُ، وَمَنْ ثَبَتَ إيمَانُهُ بِيَقِينٍ لَمْ يَزُلْ ذَلِكَ عَنْهُ بِالشَّكِّ! بَلْ لَا يَزُولُ إِلَّا بَعْدَ إقَامَةِ الحُجَّةِ وَإِزَالَةِ الشُّبْهَةِ".
(1)
كَمَا فِي الحَدِيثِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: ((يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللهَ تَجِدُهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللهَ، وَإِذَا اسْتَعَنتَ فَاسْتَعِن بِاللهِ، وَاعْلَم أَنَّ الأُمّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنفَعُوكَ بِشَيءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيءٍ قَد كَتَبَهُ اللهُ لَكَ، وإِنْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيءٍ لَمْ يَضَرُّوكَ إِلَّا بشَيءٍ قَد كَتَبَهُ اللهُ عَلَيكَ، رُفعَتِ الأَقْلامُ، وَجَفَّتِ الصُّحُفُ)). صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (2803)، وَالتِّرْمِذِيُّ (2516). صَحِيحُ الجَامِعِ (7957).
وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ قَولُهُ تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيم وَقَومِهِ: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَينِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأَنْعَام: 80 - 81].
وَأَيضًا قَولُهُ تَعَالَى عَنْ هُودٍ وَقَومِهِ: {قَالُوا يَاهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هُود: 53 - 56].
وَكَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى: {أَلَيسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزُّمَر: 36]
(1)
.
2 -
الخَوفُ المُحَرَّمُ
(2)
: وَهُوَ أَنْ يَخَافَ مِنْ مَخْلُوقٍ فَيُطِيعَهُ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ، أَو يَتْرُكَ مَا أَوجَبَهُ اللهُ عَلَيهِ -خَوفًا مِنْ عِقَابِ ذَلِكَ المَخْلُوقِ-، بِحَيثُ أَنَّهُ إِذَا هَدَّدَهُ إِنْسَانٌ
(1)
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (7/ 100): "وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ، يَعْنِي المُشْرِكِينَ؛ يُخَوِّفُونَ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم وَيَتَوَعَّدُونَهُ بِأَصْنَامِهِم وَآلِهَتِهِم الَّتِي يَدْعُونَهَا مِنْ دونِ اللهِ جَهْلًا مِنْهُم وَضَلَالًا، ولِهَذَا قَالَ عز وجل: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ * وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ} أَي: مَنِيعِ الجَنَابِ، لَا يُضَامُ مَنِ اسْتَنَدَ إِلَى جَنَابِهِ وَلَجَأَ إِلَى بَابِهِ، فَإِنَّهُ العَزِيزُ الَّذِي لَا أَعَزَّ مِنْهُ وَلَا أَشَدَّ انْتِقَامًا مِنْهُ مِمَّنْ كَفَرَ بِهِ وَأَشْرَكَ وَعَانَدَ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم".
(2)
وَالَّذِي قَبْلَهُ أَيضًا مُحَرَّمٌ -لَا رَيبَ فِي ذَلِكَ- وَلَكنَّهُ أَخَصُّ مِنْهُ، كَمَا فِي تَفْرِيقِ أَهْلِ العِلْمِ فِي الذُّنُوبِ بَينَ الشِّرْكِ وَالكَبِيرَةِ وَالمَعْصِيَةِ؛ رُغمَ أَنَّهَا كُلَّهَا هِيَ مِنْ جُمْلَةِ المَعَاصِي، وَلَكِنَّهُم يَعْنُونَ بِالأَخِيرِ عُمُومَ المَعَاصِي مِنَ الصَّغَائِرِ.
وَأَمَرَهُ بِفِعْلِ مُحَرَّمٍ فَخَافَهُ -وَهُوَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنْفِذَ مَا هَدَّدَهُ بِهِ- أَوْ خَوَّفَهُ بِمَا لَهُ بِهِ طَاقَةٌ؛ فَهَذَا خَوفٌ مُحَرَّمٌ، لِأَنَّه يُؤَدِّي إِلَى فِعْلٍ مُحَرَّمٍ بِلَا عُذْرٍ
(1)
، وَهَذَا النَّوعُ مُنَافٍ لِكَمَالِ التَّوحِيدِ الوَاجِبِ
(2)
.
(1)
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله فِي الفَتْحِ (13/ 53): "قَالَ الطَّبَرِيُّ: اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي الأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يَجِبُ مُطْلَقًا وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ رَفَعَهُ: ((أَفْضَلُ الجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ))، وَبِعُمُومِ قَولِهِ:((مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ)) الحَدِيثَ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجِبُ إِنْكَارُ المُنْكَرِ؛ لَكِنَّ شَرْطَهُ أَنْ لَا يَلْحَقَ المُنْكِرَ بَلَاءٌ لَا قِبَلَ لَهُ بِهِ مِنْ قَتْلٍ وَنَحْوِهِ، وَقَالَ آخَرُونَ: يُنْكِرُ بِقَلْبِهِ لِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ مَرْفُوعًا: ((يُسْتَعْمَلُ عَلَيكُمْ أُمَرَاءُ بَعْدِي، فَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ بَرِئَ، وَمَنْ أَنْكَرَ فَقَدْ سَلِمَ، وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ)) الحَدِيث. قَالَ: وَالصَّوَابُ اعْتِبَارُ الشَّرْطِ المَذْكُورِ، وَيَدُلُّ عَلَيهِ حَدِيثُ:((لَا يَنْبَغِي لِمُؤْمِنٍ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ)) ثُمَّ فَسَّرَهُ بِأَنْ: ((يَتَعَرَّضَ مِنَ البَلَاءِ لِمَا لَا يُطِيقُ)). انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَقَالَ غَيرُهُ: يَجِبُ الأَمْرُ بِالمَعْرُوفِ لِمَنْ قَدَرَ عَلَيهِ وَلَمْ يَخَفْ عَلَى نَفْسِهِ مِنْهُ ضَرَرًا".
قُلْتُ: وَحَدِيثُ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ صَحِيحٌ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ (4344). صَحِيحُ أَبِي دَاوُدَ (4344).
وَأَمَّا حَدِيثُ: ((مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ)) فَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ (49) عَنْ أَبي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا.
وَأمَّا حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ فَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1854) أَيضًا.
وَأمَّا حَدِيثُ: ((لَا يَنْبَغِي لِمُؤْمِنٍ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ)) فَهُوَ صَحِيحٌ. التِّرْمِذِيُّ (2254) عَنْ حُذَيفَةَ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (613).
(2)
فَمَنْ خَشِيَ أَحَدًا أَكْثَرَ مِنْ خَشْيَتِهِ مِنَ اللهِ تَعَالَى -لَيسَ خَوفَ العُبُودِيَّةِ- فَهُوَ الخَوفُ المُحَرَّمُ، وَهُوَ كَمَنْ أَحَبَّ غَيرَ اللهِ أَكْثَرَ مِنْ مَحَبَّةِ اللهِ -وَلَكِنْ أَيضًا لَيسَ مَحَبَّةَ العُبُوديَّةِ-.
قَالَ الطَّبَرِيُّ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (8/ 547) عِنْدَ تَأْوِيلِ قَولِهِ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَينَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} [النِّسَاء: 77]: "ذُكِرَ أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِي قَومٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانُوا قَدْ آمَنُوا بِهِ وَصَدَّقُوهُ قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ عَلَيهِمُ الجِهَادُ -وَقَدْ فُرِضَ عَلَيهِم الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ- وَكَانُوا يَسْأَلُونَ اللهَ أَنْ يَفْرِضَ عَلَيهِمُ القِتَالَ، فَلَمَّا فُرِضَ عَلَيهِمُ القِتَالُ شَقَّ عَلَيهِم ذَلِكَ وَقَالُوا مَا أَخْبَرَ اللهُ عَنْهُم فِي كِتَابِهِ".
وَفِي الحَدِيثِ: ((أَلَا لَا يَمْنَعَنَّ أَحَدَكُمْ رَهْبَةُ النَّاسِ أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ إِذَا رَآهُ أَو شَهِدَهُ؛ فَإِنَّهُ لَا يُقَرِّبُ مِنْ أَجَلٍ وَلَا يُبَاعِدُ مِنْ رِزْقٍ؛ أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ أَو يُذَكِّرَ بِعَظِيمٍ))
(1)
، وَكَمَا فِي وصيَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِأَبِي ذَرٍّ:((وَأَنْ لَا أَخَافَ فِي اللهِ لَومَةَ لَائِمٍ))
(2)
.
3 -
الخَوفُ الطَّبِيعِيُّ: وَهَذَا أَمْرٌ طَبِيعِيٌّ، كَالخَوفِ مِنْ عَدُوٍّ، أَو سَبُعٍ، أَو نَارٍ، أَو مُؤْذٍ وَمُهْلِكٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعُوذُ بِاللهِ مِنَ العَجْزِ وَالكَسَلِ وَالجُبْنِ وَالبُخْلِ وَالهَرَمِ
(3)
.
وَهَذَا النَّوعُ مُبَاحٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مَدْحٌ وَلَا ذَمٌّ إِلَّا إِنْ أَدَّى إِلَى مَحْظُورٍ شَرْعيٍّ.
- يُفْهَمُ مِنَ الآيَةِ الأُولَى فِي المَتْنِ أَنَّ الخَوفَ مِنَ الشَّيطَانِ وَأَولِيَائِهِ مُنَافٍ لِلإِيمَانِ، فَإِنْ كَانَ الخَوفُ يُؤَدِّي إِلَى الشِّرْكِ؛ فَهُوَ مُنَافٍ لِأَصْلِهِ، وَإِلَّا فَهُوَ مُنَافٍ لِكَمَالِهِ.
- الخَوفُ مِنَ اللهِ تَعَالَى دَرَجَاتٌ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَغْلُو فِي خَوفِهِ؛ فَيَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ؛ فَلَا يَسْتَغْفِرْهُ وَلَا يَنْتَهِي عَنْ مَعْصِيَتِهِ!
وَمِنْهُم مَنْ يُفَرِّطُ فِيهِ؛ فَلَا يَأْبَهُ بِعَذَابِ رَبِّهِ؛ فَلَا يَنْتَهِي أَيضًا عَنْ مَعْصِيَتِهِ!
(1)
صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (11474) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (168).
(2)
صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (21415). الصَّحِيحَةُ (2166).
وَتَمَامُهُ: (أَمَرَنِي خَلِيلِي صلى الله عليه وسلم بِسَبْعٍ: أَمَرَنِي بِحُبِّ المَسَاكِينَ وَالدُّنُوِّ مِنْهُمْ، وَأَمَرَنِي أَنْ أَنْظُرَ إِلَى مَنْ هُوَ دُونِي وَلَا أَنْظُرَ إِلَى مَنْ هُوَ فَوقِي، وَأَمَرَنِي أَنْ أَصِلَ الرَّحِمَ وَإِنْ أَدْبَرَتْ، وَأَمَرَنِي أَنْ لَا أَسْأَلَ أَحَدًا شَيئًا، وَأَمَرَنِي أَنْ أَقُولَ بِالحَقِّ وَإِنْ كَانَ مُرًّا، وَأَمَرَنِي أَنْ لَا أَخَافَ فِي اللهِ لَومَةَ لَائِمٍ، وَأَمَرَنِي أَنْ أُكْثِرَ مِنْ قَولِ: لَا حَولَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ؛ فَإِنَّهُنَّ مِنْ كَنْزٍ تَحْت العَرْشِ).
(3)
كَمَا فِي البُخَارِيِّ (6367)، وَمُسْلِمٍ (2706) عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا:((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ العَجْزِ وَالكَسَلِ وَالجُبْنِ وَالهَرَمِ وَالبُخْلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ المَحْيَا وَالمَمَات)).
وَمِنْهُم مَنْ يَعْتَدِلُ فِي خَوفِهِ -وَهَذَا هُوَ الخَوفُ العَدْلُ-، وَضَابِطُهُ أَنَّهُ يَرُدَّ العَبْدَ عَنْ مَحَارِمِ اللهِ فَقَطْ وَلَا يُقَنِّطُهُ"
(1)
.
وَتَأَمَّلْ قَولَهُ عليه الصلاة والسلام فِي الحَدِيثِ ((اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا تَحُولُ بِهِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ))
(2)
.
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ رحمه الله: "وَالقَدْرُ الوَاجِبُ مِنَ الخَوفِ؛ مَا حَمَلَ عَلَى أَدَاءِ الفَرَائِضِ وَاجْتِنَابِ المَحَارِمِ، فَإِنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ بِحَيثُ صَارَ بَاعِثًا لِلنُّفُوسِ عَلَى التَّشْمِيرِ فِي نَوَافِلِ الطَّاعَاتِ وَالانْكِفَافِ عَنْ دَقَائِقِ المَكْرُوهَاتِ وَالتَّبَسُّطِ فِي فُضُولِ المُبَاحَاتِ؛ كَانَ ذَلِكَ فَضْلًا مَحْمُودًا، فَإِنْ تَزَايَدَ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ أَورَثَ مَرَضًا أَو مَوتًا أَو هَمًّا لَازِمًا بِحَيثُ يَقْطَعُ عَنِ السَّعْي فِي اكْتِسَابِ الفَضَائِلِ المَطْلُوبَةِ المَحْبُوبَةِ للهِ عز وجل؛ لَمْ يَكُنْ مَحْمُودًا"
(3)
.
- فِي الآيَةِ الثَّانِيَةِ قَرَنَ اللهُ تَعَالَى بَينَ الإِيمَانِ بِهِ وَبَينَ الإِيمَانِ بِاليَومِ الآخِرِ -وَكَثِيرًا مَا يَقْرِنُ اللهُ تَعَالَى بَينَهُمَا-، وَسِرُّ ذَلِكَ أَنَّ الإِيمَانَ بِاليَومِ الآخِرِ يَحْمِلُ الإِنْسَانَ عَلَى الامْتِثَالِ، فَإِنَّهُ إِذَا آمَنَ أَنَّ هُنَاكَ بَعْثًا وَجَزَاءً؛ حَمَلَهُ ذَلِكَ عَلَى العَمَلِ لِذَلِكَ اليَومِ.
(1)
القَولُ المُفِيدُ (2/ 67).
قَالَ الشَّيخُ السَّعْدِيُّ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (ص 157): " {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عِمْرَان: 175]: وَفِي هَذِهِ الآيَةِ وُجُوبُ الخَوفِ مِنَ اللهِ وَحْدَهَ، وَأَنَّهُ مِنْ لَوَازِمِ الإِيمَانِ، فَعَلَى قَدْرِ إِيمَانِ العَبْدِ يَكُونُ خَوفُهُ مِنَ اللهِ، وَالخَوفُ المَحْمُودُ مَا حَجَزَ العَبْدَ عَنْ مَحَارِمِ اللهِ".
(2)
صَحِيحٌ. سُنَنُ التِّرْمِذِيِّ (3502) عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (1268).
(3)
التَّخْوِيفُ مِنَ النَّارِ (ص 28).
- قَولُهُ: (وَأَنْ تَحْمَدَهُمْ عَلَى رِزْقِ اللهِ): هَذَا الذَّمُّ لَا يَعْنِي تَرْكَ شُكْرِ النَّاسِ عَلَى مَا أَسْدَوهُ مِنْ مَعْرُوفٍ! وَذَلِكَ لِحَدِيثِ: ((لَا يَشْكُرُ اللهَ مَنْ لَا يَشْكُرُ النَّاسَ))
(1)
، وَإِنَّمَا المَعْنَى النَّهْيُ عَنِ التَّعَلُّقِ بِهِم فِي ذَلِكَ، وَالغَفْلَةُ عَنِ اللهِ تَعَالَى الَّذِي هُوَ مُسَبِّبُ تِلْكَ النِّعْمَةِ حَقِيقَةً.
- فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ إِثْبَاتُ صِفَتَيِّ الرِّضَى وَالسَّخَطِ للهِ تَعَالَى -خِلَافًا لِلمُعَطِّلَةِ-، وَذَلِكَ لِزَعْمِهِم أَنَّ الغَضَبَ هُوَ غَلَيَانُ دَمِ القَلْبِ لِطَلَبِ الانْتِقَامِ؛ وَأَنَّ هَذَا لَا يَلِيقُ بِاللهِ تَعَالَى! وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّهم شَبَّهُوا -فِي أَذْهَانِهِم- سَخَطَ اللهِ أَو غَضَبَهُ بِغَضَبِ المَخْلُوقِ؛ وَاللهُ تَعَالَى لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ فِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، فَكَذَلِكَ غَضَبُهُ يَلِيقُ بِهِ.
وَالعَجَبُ مِنَ المُعَطِّلَةِ أَنَّهُم أَثْبَتوا بَعْضَ الصِّفَاتِ كَالإِرَادَةِ وَالسَّمْعِ وَالبَصَرِ وَلَمْ يَجْعَلُوهَا دَالَّةً عَلَى التَّمْثِيلِ بِالمَخْلُوقِ؛ مَعَ أَنَّهُ أَيضًا يُقَالُ لَهُم: الإِرَادَةُ -وَهِيَ مَيلُ النَّفْسِ إِلَى جَلْبِ مَنْفَعَةٍ أَو دَفْعِ مَضَرَّةٍ- إِنَّ الرَّبَّ عز وجل لَا يَلِيقُ بِهِ ذَلِكَ!! مُجَارَاةً لَهُم عَلَى قَاعِدَتِهِم، فَإِذَا قَالُوا: هَذِهِ إِرَادَةُ المَخْلُوقِ؛ نَقُولُ: وَالغَضَبُ الَّذِي ذَكَرْتُمُوهُ هُوَ غَضَبُ المَخْلُوقِ أَيضًا.
وَلَا بُدَّ مِنَ العِلْمِ أَنَّ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ جِنَايَةٌ عَلَى الشَّرِيعَةِ لِأَنَّهَا تُبْطِلُ ظَوَاهِرَ نُصُوصِ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِغَيرِ هُدًى مِنَ اللهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، بَلْ هِيَ تَتَضَمَّنُ طَعْنًا فِي الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَخُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ، لِأَنَّنَا نَقُولُ: هَذِهِ المَعَانِي الَّتِي صَرَفْتُم النُّصُوصُ إِلَيهَا؛ هَلِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم وَخُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ يَعْلَمُونَهَا أَمْ لَا؟ فَإِنْ قَالُوا: لَا يَعْلَمُونَ؛ فَقَدْ اتَّهَمُوهُم بِالقُصُورِ فِي الفَهْمِ! وَإِنْ قَالُوا: يَعْلَمُونَهَا وَلَمْ يُبَيِّنُوهَا لَنَا؛ فَقَدِ اتَّهَمُوهُم بِالتَّقْصِيرِ فِي التَّأْدِيَةِ! وَكِلَاهُمَا شَنِيعٌ
(2)
.
(1)
صَحِيحٌ. الأَدَبُ المُفْرَدُ (218) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (416).
(2)
القَولُ المُفِيدُ (2/ 82).
وَقَدْ سَبَقَ فِي بَابِ (مَا جَاءَ فِي أَنَّ الغُلُوَّ فِي قُبُورِ الصَّالِحِينَ يُصَيِّرُهَا أَوثَانًا تُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ) ذِكْرُ مَسْأَلَةٍ فِي إِثْبَاتِ صِفَةِ الغَضَبِ للهِ تَعَالَى.
- قَولُهُ تَعَالَى: {فَعَسَى} (عَسَى) لُغَةً: حَرْفُ تَرَجٍّ، وَلَكِنَّهَا مِنَ اللهِ وَاجِبَةٌ لِأَنَّهَا وَعْدٌ مِنَ اللهِ سبحانه وتعالى؛ وَاللهُ لَا يُخْلِفُ وَعْدَهُ، وَلِهَذَا يَقُولُ العُلَمَاءُ: كُلُّ (عَسَى) مِنَ اللهِ فَهِيَ وَاجِبَةٌ، كَمَا فِي الأَثَرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
(1)
.
- قَولُهُ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} هُوَ قَولٌ مُجَرَّدٌ لَيسَ لَهُ حَقِيقَةٌ فِي قَلْبِهِ، {فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ} أَي: إِذَا جَاءَ الامْتِحَانُ -وَكُلُّ المُؤْمِنِينَ يُمْتَحَنُونَ وَلَا يُتْرَكُونَ عَلَى قَولِ {آمَنَّا بِاللَّهِ} فَقَطْ- ظَهَرَ الصَّادقُ فِي إِيمَانِهِ مِنَ الكَاذِبِ، قَالَ تَعَالَى:{أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} [العَنْكَبُوت: 2] يَعْنِي: يُخْتَبَرُونَ وَيُمْتَحَنُونَ، {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} ، فَإِذَا قَالَ:(آمَنْتُ بِاللهِ) فَإِنَّه يُمْتَحَنُ بِأَنْ يُصَابَ بِالأَذَى مِنَ الكُفَّارِ وَالمُنَافِقِينَ وَالفُسَّاقِ؛ فَإِنْ صَبَرَ وَثَبَتَ عَلَى إِيمَانِهِ وَتَحَمُّلِ الأَذَى فِي سَبِيلِ اللهِ عز وجل؛ فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى صِدْقِ إِيمَانِهِ، أمَّا إِنِ انْحَرَفَ وَذَهَبَ مَعَ الفِتْنَةِ؛ فَإِنَّ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى نِفَاقِهِ.
وَهُوَ أَيضًا كَقَولِهِ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} يَعْنِي عَلَى طَرَفٍ {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحَجّ: 11].
(1)
تَفْسِيرُ الطَّبَرِيِّ (14/ 168) عِنْدَ قَولِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التَّوبَة: 18].
مَسَائِلُ عَلَى البَابِ
-
مَسْأَلَةٌ: مَا صِحَّةُ القَولِ الَّذِي اشْتُهِرَ عَنِ المَرْأَةِ الصَّالِحَةِ -رَابِعَةَ العَدَوِيَّةِ
(1)
- وَهُوَ: "اللَّهُمَّ إِنِّي مَا عَبَدْتُكَ خَوفًا مِنْ نَارِكَ وَلَا طَمَعًا فِي جَنَّتِكَ؛ وَلَكِنْ لِأَنَّكَ رَبٌّ تَسْتَحِقُ العِبَادَةَ"؟
(2)
(1)
"هِيَ رَابِعَةُ العَدَوِيَّةُ؛ أُمُّ عَمْرٍو بِنْتُ إِسْمَاعِيلَ؛ العَتَكِيَّةُ؛ البَصْرِيَّةُ؛ الزَّاهِدَةُ؛ العَابِدَةُ؛ الخَاشعَةُ -ت 180 هـ-. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ ابْنُ الأَعْرَابِيِّ: أَمَّا رَابِعَةُ؛ فَقَدْ حَمَلَ النَّاسُ عَنْهَا حِكْمَةً كَثِيرَةً، وَحَكَى عَنْهَا سُفْيَانُ وَشُعْبَةُ وَغَيرُهُمَا مَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ مَا قِيلَ عَنْهَا، وَقَدْ تَمَثَّلَتْهُ بِهَذَا: (وَلَقَدْ جَعَلْتُكَ فِي الفُؤَادِ مُحَدِّثِي
…
وَأَبَحْتُ جِسْمِيَ مَنْ أَرَادَ جُلُوسِي)، فَنَسَبَهَا بَعْضُهُم إِلَى الحُلُولِ بِنِصْفِ البَيتِ، وَإِلَى الإِبَاحَةِ بِتَمَامِهِ.
قُلْتُ (الذَّهبيُّ): فَهَذَا غُلُوٌّ وَجَهْلٌ، وَلَعَلَّ مَنْ نَسَبَهَا إِلَى ذَلِكَ مُبَاحِيٌّ حُلُولِيٌّ، لِيَحْتَجَّ بِهَا عَلَى كُفْرِهِ". بِاخْتِصَارٍ يَسِيرٍ مِنَ سِيَرِ أَعْلَامِ النُّبَلَاءِ (8/ 241).
وَقَالَ رحمه الله أَيضًا فِي كِتَابِهِ مِيزَانُ الاعْتِدَالِ (2/ 61) -عِنْدَ تَرْجَمَةِ رِيَاحِ بْنِ عَمْرٍو القَيسِيِّ-: "قَالَ أَبُو عُبَيدٍ الآجُرِّيُّ: سَأَلْتُ أَبَا دَاوُد عَنْهُ؛ فَقَالَ: هُوَ وَأَبُو حَبِيبٍ وَحَيَّانُ الجُرَيرِيُّ وَرَابِعَةُ -رَابِعَتُهُم فِي الزَّنْدَقَةِ-".
وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله فِي كِتَابِهِ البِدَايَةُ وَالنِّهَايَةُ (13/ 633): "وَتَكَلَّمَ فِيهَا أَبُو دَاودَ السِّجِسْتَانِيُّ؛ وَاتَّهَمَهَا بِالزَّنْدَقَةِ، فَلَعَلَّهُ بَلَغَهُ عَنْهَا أَمْرٌ".
(2)
وَقَرِيبٌ مِنْهُ مَا نَقَلَهُ الأَصْبَهَانِيُّ فِي الحِلْيَةِ (3/ 134) وَغَيرُهُ فِي تَرْجَمَةِ عَلِيِّ بْنِ الحُسَينِ رحمه الله؛ فَقَالَ عَنْهُ -بَعْدَ ذِكْرِ الإِسْنَادِ وَبَعْضٍ مِنْ مَقَالَاتِهِ-: "إِنَّ قَومًا عَبَدُوا اللهَ رَهْبَةً فَتِلْكَ عِبَادَةُ العَبِيدِ، وَآخَرِينَ عَبَدُوهُ رَغْبَةً فَتِلْكَ عِبَادَةُ التُّجَّارِ، وَقَومًا عَبَدُوا اللهَ شُكْرًا فَتِلْكَ عِبَادَةُ الأَحْرَارِ".
قُلْتُ: وَفِي الإِسْنَادِ أَحْمَدُ بْنُ الصَّلْتِ؛ قَالَ عَنْهُ الحَافِظُ الذَّهَبِيُّ رحمه الله فِي المِيزَانِ (1/ 105): "هَالِكٌ".
وَقَالَ عَنْهُ الزِّرِكْلِيُّ فِي كِتَابِهِ الأَعْلَامُ (1/ 138): "أَحْمَدُ بْنُ الصَّلْتِ الحِمَّانِيُّ؛ مُؤرِّخٌ؛ مِنَ الأَحْنَافِ،
=
الجَوَابُ: هُوَ كَلَامٌ مَرْدُودٌ، مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ، خَارِجٌ عَنِ اعْتِقَادِ أَهْلِ الإِسْلَامِ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ هُوَ مِنْ أَوجُهٍ -وَاللَّبِيبُ تَكْفِيهِ الإِشَارَةُ-:
1 -
أَنَّ اللهَ تَعَالَى بيَّنَ مِنْ صِفَاتِ أَهْلِ الإِيمَانِ المُقَرَّبِينَ أَنَّهُم يَعْبُدُونَ اللهَ تَعَالَى طَمَعًا فِي الجَّنَّةِ وَخَوفًا مِنَ النَّارِ، قَالَ تَعَالَى:{فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأَنْبِيَاء: 90]
(1)
(2)
.
2 -
أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَرْسَلَ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم وَأَعْطَاهُ مِنَ الآيَاتِ وَالصِفَاتِ مَا يَلْزَمُ مَعَهُ إِيمَانُ النَّاسِ، وَيَصِحُّ بِهِ إِيمَانُهُم، فَوَصَفَهُ اللهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ بِصِفَتَينِ، قَالَ تَعَالَى:
=
صَنَّفَ (مَنَاقِبَ الإِمَامِ الأَعْظَمِ أَبِي حَنِيفَة)، وَلِلمُؤَرِّخِينَ كَلَامٌ فِي اتِّهَامِهِ بِالوَضْعِ".
وَأَعْجَبُ مِنْهُ قَولُ الفَخْرِ الرَّازِي -غَفَرَ اللهُ لَهُ-: "وَأَمَّا بَيَانُ الوُجُوهِ المُنَافِيَةِ لِلإِخْلَاصِ؛ فَهِيَ الوُجُوهُ الدَّاعِيَةِ لِلشَّرِيكِ، وَهِيَ أَقْسَامٌ؛ أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ لِلرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ فِيهِ مَدْخَلٌ، وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُهُ مِنَ الإِتْيَانِ بِالطَّاعَةِ الفَوزَ بِالجَنَّةِ وَالخَلَاصَ مِنَ النَّارِ"!! تَفْسِيرُ الرَّازِي (26/ 420).
وَقَدْ رَدَّ عَلَيهِ الإِمَامُ السُّيُوطِيُّ رحمه الله بِمَا نَصُّه -مُسْتَنْبِطًا مِن قَولِهِ تَعَالَى: {يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر: 9]-: "فِيهِ الرَّدُّ عَلَى مَنْ ذَمَّ العِبَادَاتِ خَوفًا مِنَ النَّارِ أَوْ رَجَاءَ الجَنَّةِ -وَهُوَ الإِمَامُ الرَّازِيُّ-، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ((حَوْلَهَا نُدَنْدِنُ)) ". الإِكْلِيلُ فِي اسْتِنْبَاطِ التَّنْزِيلِ (ص 224).
وَالحَدِيثُ الأَخِيرُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد (792)، وَصَحَّحَهُ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ فِي صَحِيحِ الجَامِعِ (3163).
(1)
قَالَ الطَّبَرِيُّ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (18/ 521): "وَقَولُهُ تَعَالَى: {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَكَانُوا يَعْبُدُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا، وَعَنَى بِالدُّعَاءِ فِي هَذَا المَوضِعِ العِبَادَةَ، كَمَا قَالَ: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا} [مَرْيَم: 48]، وَيَعْنِي بِقَولِهِ: {رَغَبًا} أَنَّهُم كَانُوا يَعْبُدُونَهُ رَغْبَةً مِنْهُم فِيمَا يَرْجُونَ مِنْهُ مِنْ رَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ، {وَرَهَبًا} يَعْنِي رَهْبَةً مِنْهُم مِنْ عَذَابِهِ وَعِقَابِهِ؛ بِتَرْكِهِم عِبَادَتَهُ ورُكُوبِهِم مَعْصِيَتَهُ".
(2)
وَيُرَاجَعُ لِلتَّوَسُّعِ (تَفْسِيرُ ابْنِ بَادِيس)(ص 201).
(1)
؛ فَمَنْ عَمِلَ بِمُوجَبِ بِعْثَةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم كَيفَ يُقَالُ بِتَخْطِئَةِ مَنْهَجِهِ؟!
(2)
فَاللهُ تَعَالَى جَعَلَ الرِّضَا فِي الآخِرَةِ لِمَنْ خَافَ مِنَ النَّارِ الَّتِي أَعَدَّهَا اللهُ تَعَالَى لِلكفَّارِ، وَأَرْسَلَ الرَّسُولَ نَذِيرًا مِنْهَا؛ فَمَنْ خَافَ مِنْهَا فَصَدَّقَ بِهِ؛ كَيفَ يَكُونُ غَيرَ مَرْضِي الإِيمَانِ أَو نَاقِصَهُ! قَالَ تَعَالَى:{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرَّحْمَن: 46].
ثُمَّ إِنَّهُ جَعَلَ سبحانه وتعالى عَمَلَ أَهْلِ الإِيمَانِ تِجَارَةً رَابِحَةً مَعَ اللهِ تَعَالَى، فَقَالَ سبحانه وتعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الصَّف: 10 - 11].
3 -
أَنَّ هَذَا يَلْزَمُ مِنْهُ تَنَقُّصُ إِيمَانِ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ تِلْكَ المَرْتَبَةَ، فَلَا شَكَّ أَنَّ مَعْرِفَةَ كَونِ اللهِ تَعَالَى يَسْتَحِقُّ العِبَادَةَ هِيَ مَنْزِلَةٌ عَالِيَةٌ، وَلَكِنَّهَا تَحْتَاجُ لِاعْتِبَارٍ وَتَأَمُّلٍ وَنَظَرٍ فِي الآيَاتِ الكَونيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ، وَإِلى أَنْ يَبْلُغَ العَبْدُ -نَاطِقُ الشَّهَادَةِ- هَذِهِ المَرْتَبَةَ لَا يَكُونُ مَذْمُومًا، بَلْ هُوَ مَمْدُوحٌ حَيثَ تَرَكَ عِبَادَةَ الطَّاغُوتِ وَوَحَّدَ اللهَ تَعَالَى كَمَا أَمَرَهُ، وَيَكُونُ
(1)
قَالَ القُرْطُبِيُّ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (14/ 301): " {بَشِيرًا} أَي: بِالجنَّةِ لِمَنْ أَطَاعَ. {وَنَذِيرًا} مِنَ النَّارِ لِمَنْ كَفَرَ".
(2)
وَفِي الحَدِيثِ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه؛ قَالَ: بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَرِيَّةً؛ فَاسْتَعْمَلَ رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُطِيعُوهُ، فَغَضِبَ فَقَالَ: أَلَيسَ أَمَرَكُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُطِيعُونِي؟! قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَاجْمَعُوا لِي حَطَبًا؛ فَجَمَعُوا، فَقَالَ: أَوقِدُوا نَارًا؛ فَأَوقَدُوهَا، فَقَالَ: اُدْخُلُوهَا، فَهَمُّوا -وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يُمْسِكُ بَعْضًا- وَيَقُولُونَ: فَرَرْنَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنَ النَّارِ! فَمَا زَالُوا حَتَّى خَمَدَتِ النَّارُ؛ فَسَكَنَ غَضَبُهُ، فَبَلَغَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:((لَو دَخَلُوهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا إِلَى يَومِ القِيَامَةِ! الطَّاعَةُ فِي المَعْرُوفِ)). رَوَاهُ البُخَارِيُّ (7145)، وَمُسْلِمٌ (1840) مِنْ حَدِيثِ عَليٍّ مَرْفُوعًا.
سَاعِيًا فِيمَا هُوَ أَعْلَى مِنْ ذَلِكَ
(1)
.
وَفِي الحَدِيثِ عَنِ البَرَاءِ رضي الله عنه: (أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ مُقَنَّعٌ بِالحَدِيدِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أُقَاتِلُ أَو أُسْلِمُ؟ قَالَ: ((أَسْلِمْ ثُمَّ قَاتِلْ)). فَأَسْلَمَ ثُمَّ قَاتَلَ، فَقُتِلَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:((عَمِلَ قَلِيلًا وَأُجِرَ كَثِيرًا))
(2)
.
وَفِي الحَدِيثِ: (كَانَ غُلَامٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَمَرِضَ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعُودُهُ، فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَقَالَ لَهُ: ((أَسْلِمْ)) فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ -وَهُوَ عِنْدَهُ-، فَقَالَ لَهُ: أَطِعْ أَبَا القَاسِمِ صلى الله عليه وسلم، فَأَسْلَمَ. فَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَقُولُ:((الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنَ النَّارِ))
(3)
.
قَالَ ابْنُ القَيِّمِ رحمه الله: "وَفِي قَولِهِ لِخَوَاصِّ أَوْلِيَائِهِ -وَهُمْ أَصْحَابُ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم
(1)
قَالَ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} [الرُّوم: 22]، وَهَؤُلَاءِ العَالِمِينَ -بِكَسْرِ اللَّامِ- لَا شَكَّ أَنَّهُم تَمَتَّعُوا بِعِلْمٍ أَكْثَرَ مِنْ غَيرِهِم -مِمَّنْ لَيسَ لَهُ سَابِقَةُ العِلْمِ الوَاسِعِ وَالنَّظَرِ البَعِيدِ-؛ فَهَلْ يُضَلَّلُ كُلُّ مَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ؟!
قَالَ العَلَّامَةُ ابْنُ دَقِيق العِيد رحمه الله فِي شَرْحِ الأَرْبَعِينَ النَّوَوِيَّةِ (ص 55): "وَفِي قَولِهِ: ((أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَيُؤْمِنُوا بِي وَبِمَا جِئْتُ بِهِ)) دِلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ لِمَذْهَبِ المُحَقِّقِين وَالجَمَاهِيرِ مِنَ السَّلَفِ وَالخَلَفِ أَنَّ الإِنْسَانَ إِذَا اعْتَقَدَ دِينَ الإِسْلَامِ اعْتِقَادًا جَازِمًا لَا تَرَدُّدَ فِيهِ؛ كَفَاهُ ذَلِكَ، وَلَا يَجِبُ عَلَيهِ تَعلُّمُ أَدِلَّةِ المُتَكَلِّمِينَ وَمَعْرِفَةُ اللهِ بِهَا، خِلَافًا لِمَنْ أَوجَبَ ذَلِكَ وَجَعَلَهُ شَرْطًا فِي نَحْوِ أَهْلِ القِبْلَةِ! وَهَذَا خَطَأٌ ظَاهِرٌ؛ فَإِنَّ المُرَادَ التَّصْدِيقُ الجَازِمُ -وَقَدْ حَصَلَ-، لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اكْتَفَى بِالتَّصْدِيقِ بِمَا جَاءَ بِهِ وَلَمْ يَشْتَرِطِ المَعْرِفَةَ بِالدَّلِيلِ".
(2)
رَوَاهُ البُخَارِيُّ (2808)، وَمُسْلِمٌ (1900).
(3)
صَحِيحُ البُخَارِيِّ (1356) عَنْ أَنَسٍ.
وَرَضِيَ عَنْهُمْ- فِي يَوْمِ أُحُدٍ: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [آل عِمْرَان: 152] فَقَسَمَهُمْ إِلَى هَذَينِ الْقِسْمَينِ اللَّذَينِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا. وَقَدْ غَلِطَ مَنْ قَالَ: فَأَينَ مَنْ يُرِيدُ اللَّهَ؟! فَإِنَّ إِرَادَةَ الْآخِرَةِ عِبَارَةٌ عَنْ إِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَثَوَابِه،؛ فَإِرَادَةُ الثَّوَابِ لَا تُنَافِي إِرَادَةَ اللَّهِ"
(1)
.
(1)
مَدَارِجُ السَّالِكِينَ (2/ 81). وَيُنْظَرُ أَيضًا: مَجْمُوعُ الفَتَاوَى (10/ 62).