المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بَابُ قَولِ اللهِ تَعَالَى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} - التوضيح الرشيد في شرح كتاب التوحيد - جـ ٢

[خلدون نغوي]

فهرس الكتاب

بَابُ قَولِ اللهِ تَعَالَى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المَائِدَة: 23].

وَقَولِهِ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأَنْفَال: 2].

وَقَولِهِ: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأَنْفَال: 64].

وَقَولِهِ: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطَّلاق: 3].

وِعِنْ ابْنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما؛ قَالَ: (حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ: قالَهَا إِبْرَاهِيمُ صلى الله عليه وسلم حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وقالَهَا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم حِينَ قَالُوا لَهُ: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عِمْرَان: 173]). رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَالنَّسَائيُّ

(1)

.

(1)

البُخَارِيُّ (4563)، وَالنَّسَائيُّ فِي الكُبْرَى (11015).

ص: 5

فِيهِ مَسَائِلُ:

الأُولَى: أَنَّ التَّوَكُّلَ مِنَ الفَرَائِضِ.

الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ مِنْ شُرُوطِ الإِيمَانِ.

الثَّالِثَةُ: تَفْسِيرُ آيَةِ الْأَنْفَالِ.

الرَّابِعَةُ: تَفْسِيرُ الآيَةِ فِي آخِرِهَا.

الخَامِسَةُ: تَفْسِيرُ آيَةِ الطَّلَاقِ.

السَّادِسَةُ: عِظَمُ شَأْنِ هَذِهِ الكَلِمَةِ، وَأَنَّهَا قَولُ إِبْرَاهِيمَ عليه الصلاة والسلام وَمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فِي الشَّدَائِدِ.

ص: 6

‌الشَّرْحُ

- التَّوكُّلُ عَلَى اللهِ: هُوَ الاعْتِمَادُ عَلَيهِ فِي جَلْبِ المَنَافِعِ وَدَفْعِ المَضَارِّ، مَعَ الثِّقَةِ بِهِ، وَفِعْلِ الأَسْبَابِ النَّافِعَةِ. يُقَالُ وَكَلْتُ أَمْرِي إِلَى فُلَانٍ: إِذَا اعْتَمَدتُ عَلَيهِ.

وَحَقِيقَةُ التَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ: أَنْ يَعْلَمَ العَبْدُ أَنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ بِيَدِ اللهِ تَعَالى؛ وَأنَّهُ مَا شَاءَ اللهُ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وأَنَّهُ هُوَ النَّافعُ الضَّارُّ المُعْطِي المَانِعُ، وَأَنَّهُ لَا حَولَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ، فَبَعْدَ هَذَا العِلْمِ يَعْتَمِدُ بقلبِهِ عَلَى رَبِّهِ فِي جَلْبِ مَصَالِحِ دِينِهِ وَدُنْيَاه، وَفِي دَفْعِ المَضَارِّ، وَيَثِقُ غَايَةَ الوُثُوقِ بِرَبِّهِ فِي حُصُولِ مَطْلُوبِهِ، وَهُوَ مَعَ هَذَا بَاذِلٌ جُهْدَهُ فِي فِعْلِ الأَسْبَابِ النَّافِعَةِ

(1)

.

- فِي قَولِهِ تَعَالَى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} بَيَانُ أُمُورٍ -وَبِهِ تَظْهَرُ مُنَاسَبَةُ البَابِ لِكِتَابِ التَّوحِيدِ-:

1 -

فَرَضِيَّةُ التَّوَكُّلِ، وَالأَمْرُ بِهَا، وَأَنَّهَا عِبَادَةٌ مِنَ العِبَادَاتِ العَظِيمَةِ.

2 -

وُجُوبُ إِخْلَاصِ التَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ تَعَالَى، وَدَلَّ لِذَلِكَ أُسْلُوبُ الحَصْرِ فِي تَقْدِيمِ الجَارِّ وَالمَجْرُورِ {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا} .

3 -

أَنَّ التَّوَكُّلَ مِنَ الإِيمَانِ

(2)

.

4 -

أَنَّ إِخْلَاصَهُ شَرْطٌ فِي الإِيمَانِ، كَمَا فِي آيَةِ سُورَةِ يُونُس {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} [يُونُس: 84].

(1)

فَالتَّوَكُّلُ يَتَضَمَّنُ إِذًا: عِلْمًا ثٌمَّ عَمَلًا قَلْبِيًّا ثُمَّ عَمَلًا بَدَنِيًّا.

(2)

فَزِيَادَتُهُ دَلِيلُ زِيَادَةِ الإِيمَانِ؛ وَالعَكْسُ بِالعَكْسِ.

ص: 7

- التَّوَكُّلُ عَلَى غَيرِ اللهِ تَعَالَى يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَينِ:

1 -

التَّوَكُّلُ فِي الأُمُورِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَيهَا إِلَّا اللهُ -كَالَّذِينَ يَتَوَكَّلُونَ عَلَى الأَمْوَاتِ وَالطَّوَاغِيتِ فِي تَحْصِيلِ مَطَالِبِهِم مِنْ نَصْرٍ أَو حِفْظٍ أَو رِزْقٍ أَو شَفَاعَةٍ- فَهَذَا شِرْكٌ أَكْبَرُ.

2 -

التَّوَكُّلُ فِي الأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ، كَمَنْ يَتَوَكَّلُ عَلَى أَمِيرٍ أَو سُلْطَانٍ فِيمَا أَقْدَرَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَيهِ مِنْ رِزْقٍ أَو دَفْعِ أَذًى وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ فَهُوَ نَوعُ شِرْكٍ أَصْغَرَ، مِثْلُ اعْتِمَادِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ عَلَى وَظِيفَتِهِم فِي حُصُولِ رِزْقِهِم، ولِهَذَا تَجِدُ الإِنْسَانَ مِنْهُم يَشْعُرُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ مُعْتَمِدٌ عَلَى هَذَا اعْتِمَادَ افْتِقَارٍ.

- الفَرْقُ بَينَ التَّوَكُّلِ وَالوَكَالَةِ: التَّوَكُّلُ هُوَ عَمَلٌ قَلْبِيٌّ، بَينَمَا الوَكَالَةُ -وَهِيَ جَائِزَةٌ- فَهِيَ إِقَامَةُ الشَّخْصِ غَيرَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ مُطْلَقًا أَو مُقَيَّدًا

(1)

، لَكِنْ لَيسَ لَهُ أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَيهِ فِي حُصُولِ مَا وَكَلَهُ بِهِ اعْتِمَادًا قَلبِيًّا! بَلْ يَتَوَكَّلُ عَلَى اللهِ فِي تَيسِيرِ أَمْرِهِ الَّذِي يَطْلُبُهُ بِنَفْسِهِ أَو بِنَائِبِهِ، وَيَعُدُّ ذَلِكَ الشَّخْصَ مِنْ جُمْلَةِ الأَسْبَابِ الَّتِي يَجُوزُ فِعْلُهَا، فَيَكُونُ رَجَاؤُهُ وَدُعَاؤُهُ وَتَعَلُّقُهُ مَحْصُورًا فِي اللهِ تَعَالَى؛ بِخِلَافِ النَّوعَينِ السَّابِقَينِ.

- فِي قَولِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} فِيهَا وَصْفُ المُؤْمِنِينَ حقًّا بِخَمْسَةِ مَقَامَاتٍ مِنْ مَقَامَاتِ الإِيمَانِ، وَهِيَ الوَجَلُ عِنْدَ الذِّكْرِ، وَزِيَادَةُ الإِيمَانِ عِنْدَ سَمَاعِ القُرْآنِ، وَالتَّوَكُّلُ عَلَى اللهِ وَحْدَهَ، وَإِقَامَةُ الصَّلَاةِ، وَالإِنْفَاقُ لِوَجْهِ اللهِ تَعَالَى.

(1)

أَفَادَهُ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله فِي الفَتْحِ (4/ 479) فِي شَرْحِ كِتَابِ الوَكَالَةِ مِنْ صَحِيحِ البُخَارِيِّ.

ص: 8

- المُرَادُ بِالإِيمَانِ هُنَا -فِي الآيَةِ السَّابِقَةِ- الإِيمَانُ الكَامِلُ؛ وَإِلَّا فَإِنَّ المَرْءَ يَكُونُ مُؤْمِنًا وَإِنْ لَمْ يَتَّصِفْ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ، فَهُوَ مَعَهُ مُطْلَقُ الإِيمَانِ وَلَيسَ كَمَالُهُ.

- التَّوَكُّلُ الصَّحِيحُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ أَمْرَينِ:

الأوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الاعْتِمَادُ عَلَى اللهِ اعْتِمَادًا صَادِقًا حَقِيقِيًّا.

الثَّانِي: فِعْلُ الأَسْبَابِ المَأْذُونِ فِيهَا.

فَلَا يَصِحُّ مِنْهُ أَنْ يَجْعَلَ تَوَكُّلَهُ عَجْزًا فَيَتْرُكَ الأَسْبَابَ! وَأَيضًا أَنْ لَا يَجْعَلَ عَجْزَهُ تَوَكُّلًا -أَي صَارَ مُدَّعِيًا لِلتَّوَكُّلِ عِنْدَمَا فَقَدَ الأَسْبَابَ-!

ومَنْ جَعَلَ أَكْثَرَ اعْتِمَادِهِ عَلَى الأَسْبَابِ؛ نَقَصَ بِذَلِكَ تَوَكُّلُهُ عَلَى اللهِ تَعَالَى، وَيَكُونُ ذَلِكَ قَدْحًا فِي كِفَايَةِ اللهِ تَعَالَى لَهُ، فَكَأَنَّهُ جَعَلَ السَّبَبَ وَحْدَهُ هُوَ العُمْدَةَ فِيمَا يَرْجُوهُ مِنْ حُصُولِ المَطْلُوبِ.

وَأَيضًا مَنْ جَعَلَ اعْتِمَادَهُ عَلَى اللهِ مُلْغِيًا لِلأَسْبَابِ؛ فَقَدْ طَعَنَ فِي حِكْمَةِ اللهِ تَعَالَى، لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ لِكُلِّ شَيءٍ سَبَبًا، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَكْمَلُ المُتَوكِّلَينَ؛ وَمَع ذَلِكَ كَانَ يَأْخُذُ بِالأَسْبَابِ، فَكَانَ يَأْخُذُ الزَّادَ فِي السَّفَرِ، وَلَمَّا خَرَجَ إِلَى غَزْوَةِ أُحُدٍ ظَاهَرَ بَينَ دِرْعَينِ، وَلَمَّا خَرَجَ مُهَاجِرًا أَخَذَ مَنْ يَدُلُّهُ عَلَى الطَّرِيقِ.

- فِي قَولِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} بَيَانُ فَضِيلَةِ التَّوَكُّلِ، حَيثُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَكْفِي عَبْدَهُ إِذَا تَوَكَّلَ عَلَيهِ، كَمَا فِي الحَدِيثِ:((لَو أَنَّكُمْ تَوَكَّلُونَ عَلَى اللهِ تَعَالَى حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيرَ؛ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا))

(1)

.

(1)

صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (370)، وَالتِّرْمِذِيُّ (2344) عَنْ عُمَرَ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (310).

ص: 9

- فَائِدَة 1: التَّوَكُّلُ هُوَ الاعْتِمَادُ، وَلَكِنَّهُ أَخَصُّ؛ فَهُوَ عِبَادَةٌ

(1)

.

- فَائِدَة 2: فِي شَرْحِ حَدِيثِ: ((مَنِ اكْتَوَى أَوِ اسْتَرْقَى؛ فَقَدْ بَرِئَ مِنَ التَّوَكُّلِ))

(2)

.

قَالَ المُنَاوِيُّ رحمه الله: " ((مَنِ اكْتَوَى أَوِ اسْتَرْقَى؛ فَقَدْ بَرِئَ مِنَ التَّوَكُّلِ)) لِفِعْلِهِ مَا يُسَنُّ التَّنَزُّهُ عَنْهُ مِنَ الاكْتِوَاءِ لِخَطَرِهِ، والاسْتِرْقَاءُ بِمَا لَا يُعْرَفُ مِنْ كِتَابِ اللهِ؛ لِاحْتِمَالِ كَونِهِ شِرْكًا.

أَو هَذَا فِيمَنْ فَعَلَ مُعْتَمِدًا عَلَيهَا لَا عَلَى اللهِ؛ فَصَارَ بِذَلِكَ بَرِيئًا مِنَ التَّوَكُّلِ، فَإِنْ فُقِدَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ بَرِيئًا مِنْهُ، وَقَد سَبَقَ أَنَّ الكَيَّ لَا يُتْرَكُ مُطْلَقًا وَلَا يُسْتَعْمَلُ مُطْلَقًا، بَلْ عِنْدَ تَعَيُّنِهِ طَرِيقًا لِلشِّفَاءِ وَعَدَمِ قِيَامِ غَيرِهِ مَقَامَهُ -مَعَ مُصَاحَبَةِ اعْتِقَادِ أَنَّ الشِّفَاءَ بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَى وَالتَّوَكُّلِ عَلَيهِ-

(3)

.

(1)

أَفَادَهُ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي أَشْرِطَةَ فَتَاوَى سِلْسِلَةِ الهُدَى وَالنُّورِ (ش 326).

(2)

صَحِيحٌ. التِّرْمِذِيُّ (2055) عَنِ المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (244).

(3)

وَبِنَحوِهِ قَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ رحمه الله كَمَا نَقَلَهُ البَيهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ (2/ 396) عَنْهُ: "قَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ رحمه الله: وَذَلِكَ لِأَنَّهُ رَكِبَ مَا يُسْتَحَبُّ التَّنْزِيهُ عَنْهُ مِنَ الِاكْتِوَاءِ [وَالِاسْتِرْقَاءِ: كَذَا فِي المَطْبُوعِ، وَلَعَلَّهَا مُكَرَّرَةٌ كَمَا يَظْهَرُ لِلْمُتَأَمِّلِ] لِمَا فِيهِ مِنَ الخَطَرِ، وَمِنَ الِاسْتِرْقَاءِ بِمَا لَا يُعْرَفُ مِنْ كِتَابِ اللهِ عز وجل أَو ذِكْرِهِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ شِرْكًا، أَوِ اسْتَعْمَلَهَا مُعْتَمِدًا عَلَيهَا لَا عَلَى اللهِ تَعَالَى فِيمَا وَضَعَ فِيهِمَا مِنَ الشِّفَاءِ، فَصَارَ بِهَذَا أَو بِارْتِكَابِهِ المَكْرُوهَ بَرِيئًا مِنَ التَّوَكُّلِ.

فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ وَاحِدٌ مِنْ هَذَينِ وَغَيرِهِمَا مِنَ الأَسْبَابِ المُبَاحَةِ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهَا بَرِيئًا مِنَ التَّوَكُّلِ، وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ".

قُلْتُ: وَقَد سَبَقَ فِي بَابِ (مَنْ حَقَّقَ التَّوحِيدَ دَخَلَ الجَنَّةَ بِغَيرِ حِسَابٍ وَلَا عَذَابٍ) بَيَانُ أَنَّ مَعْنَى ((يَسْتَرْقُونَ)) لَيسَ يَخْتَصُّ بِالرُّقْيَةِ الشِّرْكِيَّةِ، وَإِنَّمَا بِالجَائِزَةِ، وَالنَّفْيُ هُوَ لِمُنَافَاةِ كَمَالِ التَّوحِيدِ المُسْتَحَبِّ، إِلَّا أَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ حَمْلِ قَولِهِ:((فَقَدْ بَرِئَ مِنَ التَّوَكُّلِ)) عَلَى نَفْي أَصْلِ الإِيمَانِ بِكَونِ الاسْتِرْقَاءِ مُخْتَصًّا بِالرُّقْيَةِ الشِّرْكِيَّةِ -كَمَا ذَهَبُوا إِلَيهِ-، وَلَكِنَّ قَولَ المُنَاوِيِّ رحمه الله السَّابِقَ:"لِفِعْلِهِ مَا يُسَنُّ التَّنَزُّهُ عَنْهُ" يَقْصِدُ بِهِ مَا لَيسَ بِمَعْلُومٍ مِنَ الشِّرْكِ وَلَكِنَّهُ قَدْ يَحْتَمِلُ، فَهَذَا لَا رَيبَ أَنَّهُ يُسَنُّ التَّنَزُّهُ عَنْهُ (لِاحْتِمَالِ كَونِهِ شِرْكًا). وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

ص: 10

وَقَالَ ابْنُ قُتَيبَةَ

(1)

: "الكَيُّ نَوعَان:

1 -

كَيُّ الصَّحِيحِ لِئَلَّا يَعْتَلَّ، فَهَذَا الَّذِي قِيلَ فِيهِ:(مَنْ اكْتَوَى؛ لَمْ يَتَوَكَّلْ) لِأَنَّه يُرِيدُ أَنْ يَدْفَعَ القَدَرَ، وَالقَدَرُ لَا يُدَافَعُ!

2 -

وَالثَّانِي: كَيُّ الجُرْحِ إِذَا فَسَدَ؛ وَالعُضْوِ إِذَا قُطِعَ؛ فَهُوَ الَّذِي شُرِعَ التَّدَاوِي فِيهِ، فَإِنْ كَانَ لِأَمْرٍ مُحْتَمَلٍ؛ َخِلَافُ الأَولَى لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْجِيلِ التَّعْذِيبِ بِالنَّارِ لِأَمْرٍ غَيرِ مُحَقَّقٍ"

(2)

.

وَقَالَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله فِي الصَّحِيحَةِ عِنْدَ حَدِيثِ ((مَنِ اكْتَوَى أَوِ اسْتَرْقَى؛ فَقَدْ بَرِئَ مِنَ التَّوَكُّلِ)): "قُلْتُ: وَفِيهِ كَرَاهَةُ الاكْتِوَاءِ وَالاسْتِرْقَاءِ.

أَمَّا الأَوَّلُ؛ فِلِمَا فِيهِ مِنَ التَّعْذِيبِ بِالنَّارِ، وَأَمَّا الآخَرُ؛ فَلِمَا فِيهِ مِنَ الاحْتِيَاجِ إِلَى الغَيرِ فِيمَا الفَائِدَةُ فِيهِ مَظْنُونَةٌ غَيرُ رَاجِحَةٍ"

(3)

.

- فَائِدَة 3: قَالَ الإِمَامُ ابْنُ القَيِّمِ رحمه الله: "وَالتَّوَكُّلُ مِن أَقْوَى الأَسْبَابِ الَّتِي يَدْفَعُ بِهَا العَبْدُ مَا لَا يُطِيقُ مِن أَذَى الخَلْقِ وَظُلْمِهِم وَعُدْوَانِهِم، وَهُوَ مِن أَقْوَى الأَسْبَابِ فِي ذَلِكَ؛ فَإِنَّ اللهَ حَسْبُهُ أَي: كَافِيهِ، وَمَن كَانَ اللهُ كَافِيهِ وَوَاقِيهِ؛ فَلَا مَطْمَعَ فِيهِ لِعَدُوِّهِ، وَلَا يَضُرُّهُ إِلَّا أَذًى لَا بُدَّ مِنْهُ كَالحَرِّ، وَالبَرْدِ، وَالجُوعِ، وَالعَطَشِ، وَأَمَّا أَنْ يَضُرَّهُ بِمَا يَبْلُغُ مِنْهُ مُرَادَهُ! فَلَا يَكُونُ أَبَدًا، وَفَرْقٌ بَينَ الأَذَى الَّذِي هُوَ فِي الظَّاهِرِ إِيذَاءٌ لَهُ -وَهُوَ فِي الحَقِيقَةِ إِحْسَانٌ وَإِضْرَارٌ بِنَفْسِهِ- وَبَينَ الضَّرَرِ الَّذِي يُتَشَفَّى بِهِ مِنْهُ"

(4)

.

(1)

هُوَ أَبُو مُحَمَّدٍ؛ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمٍ بْنُ قُتَيبَةَ الدِّينَوَرِيُّ، قَاضِي دِينَورَ، النَّحَوِيُّ؛ اللُّغَوِيُّ؛ صَاحِبُ التَّصَانِيفِ البَدِيعَةِ المَشْهُورَةِ، (ت 276 هـ).

(2)

فَيضُ القَدِيرِ (6/ 82)، تَأْوِيلُ مُخْتَلَفِ الحَدِيثِ (ص 463).

(3)

الصَّحِيحَةُ (244).

(4)

بَدَائِعُ الفَوَائِدِ (2/ 239).

ص: 11

بَابُ قَولِ اللهِ تَعَالَى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأَعْرَاف: 99].

وَقَولِهِ: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحِجْر: 56].

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنِ الكَبَائِرِ؟ فَقَالَ: ((الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَاليَأْسُ مِنْ رَوحِ اللهِ، وَالأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللهُ))

(1)

.

وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ؛ قَالَ: (أَكْبَرُ الكَبَائِرِ: الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَالأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللهِ، وَالقُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ، وَاليَأْسُ مِنْ رَوحِ اللهِ). رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ

(2)

.

(1)

فِي إِسْنَادِهِ نَظَرٌ. الحَدِيثُ أَورَدَهُ الحَافِظُ الهَيثَمِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (كَشْفُ الأَسْتَارِ عَنْ زَوَائِدِ البَزَّارِ)(1/ 71).

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (2/ 278): "وَقَدْ رَوَاهُ البَزَّارُ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ إِسْحَاقَ العَطَّارِ، عَنْ أَبِي عَاصِمٍ النَّبِيلِ، عَنْ شَبِيبِ بْنِ بِشْرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُول الله مَا الكَبَائِر؟ قَالَ: ((الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَاليَأْسُ مِنْ رَوحِ اللهِ، وَالقُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ عز وجل)، وَفِي إِسْنَادِهِ نَظَرٌ، وَالأَشْبَه أَنْ يَكُونَ مَوقُوفًا، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْن مَسْعُودٍ نَحْوَ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْن جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا هُشَيمٌ، أَخْبَرَنَا مُطَرِّفٌ، عَنْ وَبَرَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي الطُّفَيلِ، قَالَ: قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: (أَكْبَرُ الكَبَائِرِ: الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَاليَأْسُ مِنْ رَوحِ اللهِ، وَالقُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ، وَالأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللهِ). وَكَذَا رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ الأَعْمَشِ وَأَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ وَبَرَةَ، عَنْ أَبِي الطُّفَيلِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بِهِ، ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ طُرُقٍ عِدَّةٍ عَنْ أَبِي الطُّفَيلِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَهُوَ صَحِيحٌ إِلَيهِ بِلَا شَكٍّ".

(2)

صَحِيحٌ. تَفْسِيرُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ (1/ 155)، وَتَفْسِيرُ الطَّبَرِيِّ (8/ 242). صَحَّحَهُ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (2/ 278). انْظُرِ الحَاشِيَةَ السَّابِقَةَ.

ص: 12

فِيهِ مَسَائِلُ:

الأُولَى: تَفْسِيرُ آيَةِ الأَعْرَافِ.

الثَّانِيَةُ: تَفْسِيرُ آيَةِ الحِجْرِ.

الثَّالِثَةُ: شِدَّةُ الوَعِيدِ فِيمَنْ أَمِنَ مَكَرَ اللهِ.

الرَّابِعَةُ: شِدَّةُ الوَعِيدِ فِي القُنُوطِ.

ص: 13

‌الشَّرْحُ

- قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ * ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأَعْرَاف: 94 - 99].

- مُنَاسَبَةُ هَذَا البَابِ لِكِتَابِ التَّوحِيدِ أَنَّ الأَمْنَ مِنْ مَكْرِ اللهِ، وَالقُنُوطَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ مُنَافِيَانِ لِكَمَالِ التَّوحِيدِ الوَاجِبِ، وَقَدْ يُنَافِيَانِ أَصْلَهُ إِذَا اسْتَحْكَمَا.

- الأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللهِ سَبَبُهُ ضَعْفُ عِبَادَةِ الخَوفِ مِنَ اللهِ تَعَالَى، أَمَّا القُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى فَسَبَبُهُ ضَعْفُ عِبَادَةِ الرَّجَاءِ بِاللهِ تَعَالَى.

وَكِلَاهُمَا مُنَافِيَانِ لِكَمَالِ التَّوحِيدِ، وَقَدْ يُنَافِيَانَ أصْلَهُ إِنْ صَحِبَهُمَا اعْتِقَادٌ، كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى:{إِنَّهُ لَا يَيأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يُوسُف: 87].

- أَورَدَ المُصَنِّفُ رحمه الله هَاتَينِ العِبَادَتَينِ فِي بَابٍ وَاحِدٍ لِأَنَّهُمَا مُتَقَابِلَتَان، فَلَا يَصِحُّ الإِفْرَاطُ فِي رَجَاءِ المَغْفِرَةِ بِحَيثُ يَأْمَنُ عَذَابَ اللهِ! وَأَيضًا لَا يَصِحُّ الإِفْرَاطُ فِي الخَوفِ بِحَيثُ يَقْنَطُ مِنْ مَغْفِرَةِ اللهِ!

لِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ: إِنَّهُمَا كَجَنَاحَي الطَّائِرِ؛ إِذَا اخْتَلَّ أَحَدُهُمَا عَنِ

ص: 14

الآخَرِ سَقَطَ الطَّائِرُ!

وَانْظُرْ قَولَهَ تَعَالَى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزُّمَر: 9].

وكَقَولِهِ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإِسْرَاء: 57].

- الأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللهِ: هُوَ إِقَامَةُ العَبْدِ عَلَى الذَّنْبِ يَتَمَنَّى عَلَى اللهِ المَغْفِرَةَ، وَفِي الحَدِيثِ:((إِذَا رَأَيتَ اللهَ يُعْطِي العَبْدَ مِنَ الدُّنْيَا عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ؛ فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ، ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأَنْعَام: 44]))

(1)

.

- مَكْرُ اللهِ تَعَالَى يَتَضَمَّنُ أَمْرَينِ:

1 -

اسْتِدْرَاجَ العَاصِي بِالنِّعَمِ.

2 -

أَنْ يَكُونَ العَاصِي آمِنًا مِنْ كُلِّ جِهَةٍ.

- القُنُوطُ: اسْتِبْعَادُ الفَرَجِ وَاليَأْسُ مِنْهُ، وَهُوَ مُقَابِلٌ لِلأَمْنِ مِنْ مَكْرِ اللهِ -مِنْ ِجِهَةِ المُخَالَفَةِ-.

- قَولُهُ: ((وَاليَأْسُ مِنْ رَوحِ اللهِ))، هَذَا اليَأْسُ فِيهِ مَحْذُورَانِ:

1 -

إِسَاءَةُ الظَّنِّ بِاللهِ تَعَالَى مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَيسَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ!

2 -

الجَهْلُ بِهِ سُبْحَانَهُ مِنْ جِهَةِ سَعَةِ رَحْمَتِهِ وَجُودِهِ وَمَغْفِرَتِهِ، أَوْ مِنْ جِهَةِ

(1)

صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (17311) عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (413).

ص: 15

حِكْمَتِهِ، أَوَ مِنْ جِهَةِ سُنَّتِهِ سُبْحَانَهُ فِي خَلْقِهِ مِنَ الابْتِلَاءِ وَتَكْفِيرِ السَّيِّئَاتِ.

- قَولُهُ: ((وَالأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللهِ))، هَذَا الأَمْنُ فِيهِ أَيضًا مَحْذُورَانِ:

1 -

الجَهْلُ بِقُدْرَةِ اللهِ تَعَالَى، وَبِإِحَاطَتِهِ سُبْحَانَهُ لِكُلِّ شَيءٍ عِلْمًا وَقُدْرَةً.

2 -

العُجْبُ بِالنَّفْسِ؛ حَيثُ اعْتَقَدَ صَاحِبُ الأَمْنِ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ عَذَابًا؛ بَلْ هُوَ أَهْلٌ لِكُلِّ خَيرٍ رُغْمَ مَعَاصِيهِ!

- قَولُهُ: ((مِنَ الكَبَائِرِ)) فِيهِ بَيَانُ أَنَّ المَعَاصِي مِنْهَا الصَّغَائِرُ وَمِنْهَا الكَبَائِرُ وَبَعْضُهَا أَكْبَرُ مِنْ بَعْضٍ، وَالرَّاجِحُ أَنَّهَا لَيسَتْ مَعْدُودَةً بِعَدَدٍ مُعَيَّنٍ، وَإنَّمَا هِيَ مَحْدُودَةٌ بِحَدٍّ مُعَيَّنٍ.

وَضَابِطُهَا مَا قَالَهُ المُحَقِّقُونَ مِنَ العُلَمَاءِ، وَهِيَ أنَّهَا: "كُلُّ ذَنْبٍ تُوُعِّدَ عَلَيهِ بِنَارٍ أَو لَعْنَةٍ أَو غَضَبٍ أَو عَذَابٍ أَو نَفْي إِيمَانٍ أَو نَفْيٍ مِنَ المِلَّةِ، أَو لَهُ حَدٌّ فِي الدُّنْيَا، أَو وَعِيدٍ مَخْصُوصٌ

(1)

فِي الآخِرَةِ".

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله: "وَمِنْ أَحْسَنِ التَّعَارِيفِ قَولُ القُرْطُبِيِّ فِي المُفْهِمِ: كُلُّ ذَنْبٍ أُطْلِقَ عَلَيهِ بِنَصِّ كِتَابٍ أَو سُنَّةٍ أَو إِجْمَاعٍ أَنَّهُ كَبِيرَةٌ أَو عَظِيمٌ، أَو أُخْبِرَ فِيهِ بِشِدَّةِ العِقَابِ، أَو عُلِّقَ عَلَيهِ الحَدُّ، أَو شُدِّدَ النَّكِيرُ عَلَيهِ: فَهُوَ كَبِيرَةٌ.

(1)

قَالَ الحَافِظُ الهَيتَمِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ الزَّوَاجِرُ عَنِ اقْتِرَافِ الكَبَائِرِ (1/ 8): "وَخَرَجَ بِالْخُصُوصِ مَا انْدَرَجَ تَحْتَ عُمُومٍ؛ فَلَا يَكْفِي ذَلِكَ فِي كَونِهِ كَبِيرَةً بِخُصُوصِهِ".

وَقَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (2/ 284): "وَقَدِ اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ فِي حَدِّ الْكَبِيرَةِ، فَمِنْ قَائِلٍ: هِيَ مَا عَلَيهِ حدٌّ في الشرع، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هِيَ مَا عَلَيهِ وَعِيدٌ لِخُصُوصِهِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَقِيلَ غَيرَ ذَلِكَ".

ص: 16

وَعَلَى هَذَا فَيَنْبَغِي تَتَبُّعُ مَا وَرَدَ فِيهِ الوَعِيدُ أَوِ اللَّعْنُ أَوِ الفِسْقُ مِنَ القُرْآنِ أَوِ الأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَالحَسَنَةِ، وَيُضَمُّ إِلَى مَا وَرَدَ فِيهِ التَّنْصِيصُ فِي القُرْآنِ وَالأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ وَالحِسَانِ عَلَى أَنَّهُ كَبِيرَةٌ، فَمَهْمَا بَلَغَ مَجْمُوعُ ذَلِكَ عُرِفَ مِنْهُ تَحْرِيرُ عَدَدِهَا"

(1)

.

(1)

فَتْحُ البَارِي (12/ 184).

وَأَيضًا أَفَادَهُ شَيخُ الإِسْلَامِ رحمه الله فِي مَجْمُوعِ الفَتَاوَى (11/ 650) بِمَعْنَاهُ.

وَقَالَ فِيهِ أَيضًا عَنِ الصَّغِيرَةِ -بِالمُقَابَلَةِ-: "أَمْثَلُ الأَقْوَالِ فِي هَذِهِ المَسْأَلَةِ؛ القَولُ المَأْثُورُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -وَذَكَرَهُ أَبُو عُبَيدَةَ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيرُهُمَا- وَهُوَ: أَنَّ الصَّغِيرَةَ مَا دُونَ الحَدَّينِ: حَدِّ الدُّنْيَا وَحَدِّ الآخِرَةِ".

ص: 17

‌مَسَائِلُ عَلَى البَابِ

-‌

‌ المَسْأَلَةُ الأُولَى: قَولُهُ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيأَسَ الرُّسُلُ

وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يُوسُف: 110]؛ أَلَيسَ فِيهِ أَنَّ الرُّسُلَ يَئِسُوا؟

الجَوَابُ: فِيهَا قَولَانِ.

1 -

أَنَّ هَذَا يَأْسٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ المَدْعُوِّينَ أَنَّهُم لَنْ يُؤمِنُوا بَعْدَ هَذَا الوَقْتِ، وَلَيسَ مِنْ جِهَةِ يَأْسِهِم مِنْ رَوحِ اللهِ تَعَالَى

(1)

.

2 -

مَا أَفَادَهُ الإِمَامُ السَّعْدِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ العَظِيمِ "القَوَاعِدُ الحِسَانُ لِتَفْسِيرِ القُرْآنِ"، فَقَالَ رحمه الله:

" القَاعِدَةُ الرَّابِعَةُ وَالسِّتُّونَ: الأُمُورُ العَارِضَةُ الَّتِي لَا قَرَارَ لَهَا بِسَبَبِ المُزْعِجَاتِ أَوِ الشُّبُهَاتِ قَدْ تَرِدُ عَلَى الحَقِّ وَعَلَى الأُمُورِ اليَقِينِيَّةِ وَلَكِنْ سُرْعَانَ مَا تَضْمَحِلُّ وَتَزُولُ.

وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ شَرِيفَةٌ جَلِيلَةٌ قَدْ وَرَدَتْ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ مِنَ القُرْآنِ، فَمَنْ لَمْ يُحْكِمْهَا

(1)

وَقَولُهُ تَعَالَى: {كُذِبُوا} فِيهَا قِرَاءَتَان، بِالتَّخْفِيفِ: وَيَكُونُ فِيهَا صَاحِبُ الظَّنِّ هُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ وَالمَدْعُوُّونَ.

وَالقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ هِيَ بِالتَّشْدِيدِ {كُذِّبُوا} : وَيَكُونُ صَاحِبُ الظَّنِّ فِيهَا هُمُ الرُّسُلُ؛ حَيثُ ظَنُّوا أَنَّ النَّاسَ قَدْ كَذَّبُوهُم. اُنْظُرْ تَفْسِيرَ الطَّبَرِيِّ رحمه الله (16/ 308).

وَقَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله فِي الفَتْحِ (8/ 369): "وَجَاءَ ذَلِكَ مِنْ رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَير عَن ابْنِ عَبَّاسٍ نَفْسِهِ، فَعِنْدَ النَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَولِهِ: {قَدْ كُذِبُوا} قَالَ اسْتَيأَسَ الرُّسُلُ مِنْ إِيمَانِ قَومِهِمْ؛ وَظَنَّ قَومُهُمْ أَنَّ الرُّسُلَ قَدْ كَذَبُوهُمْ. وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ، فَلْيَكُنْ هُوَ الْمُعْتَمد فِي تَأْوِيل مَا جَاءَ عَن ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ -وَهُوَ أَعْلَمُ بِمُرَادِ نَفْسِهِ مِنْ غَيرِهِ-".

ص: 18

حَصَلَ لَهُ مِنَ الغَلَطِ فِي فَهْمِ بَعْضِ الآيَاتِ مَا يُوجِبُ الخُرُوجَ عَنْ ظَاهِرِ النَّصِّ.

وَمَنْ عَرَفَ حِكْمَةَ اللهِ تَعَالَى: فِي وُرُودِهَا عَلَى الحَقِّ الصَّرِيحِ لِأَسْبَابٍ مُزْعِجَةٍ تَدْفَعُهَا أَوْ لِشُبْهَةٍ قَوِيَّةٍ تُحْدِثُهَا ثُمَّ بَعْدَ هَذَا إِذَا رَجَعَ إِلَى اليَقِينِ وَالحَقِّ الصَّرِيحِ، وَتَقَابَلَ الحَقُّ وَالبَاطِلُ، وَوَقَعَتِ الخُصُومَةُ بَينَهُمَا فَغَلَبَ الحَقُّ البَاطِلَ، وَدَمَغَهُ فَزَهَقَ البَاطِلُ وَثَبَتَ الحَقُّ؛ حَصَلَتِ العَاقِبَةُ الحَسَنَةُ، وَزِيَادَةُ الإِيمَانِ وَاليَقِينِ، فَكَانَ فِي ذَلِكَ التَّقْدِيرُ حِكَمٌ بَالِغَةٌ وَأَيَادٍ سَابِغَةٌ.

وَلْنُمَثِّلْ لِهَذَا بِأَمْثِلَةٍ: فَمِنْهَا أَنَّ الرُّسُلَ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيهِمْ أَكْمَلُ الخَلْقِ إِيمَانًا وَيَقِينًا وَتَصْدِيقًا بِوَعْدِ اللهِ وَوَعِيدِهِ، وَهَذَا أَمْرٌ يَجِبُ عَلَى الأُمَمِ أَنْ يَعْتَقِدُوهُ فِي الرُّسُلِ مِنْ أَنَّهُم قَدْ بَلَغُوا الذِّرْوَةَ فِيهِ، وَأَنَّهُم مَعْصُومُونَ مِنْ ضِدِّهِ، وَلَكِنْ ذَكَرَ اللهُ فِي بَعْضِ الآيَاتِ أَنَّهُ قَدْ يَعْرِضُ لَهُم بَعْضُ الأُمُورِ المُزْعِجَةِ -المُنَافِيَةِ حِسًّا لِمَا عُلِمَ يَقِينًا- مَا يُوجِبُ لِهَؤُلَاءِ الكُمَّلِ أَنْ يَسْتَبْطِئُوا مَعَهُ النَّصْرَ، وَيَقُولُونَ:{مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} [البَقَرَة: 214]؟! وَقَدْ يَخْطُرُ فِي هَذِهِ الحَالَةِ عَلَى القُلُوبِ شَيءٌ مِنْ عَوَارِضِ اليَأْسِ بِحَسْبِ قُوَّةِ الوَارِدَاتِ وَتَأْثِيرِهَا فِي القُلُوبِ؛ ثُمَّ فِي َأَسْرَعِ وَقْتٍ تَنْجَلِي هَذِهِ الحَالُ وَتَنْفَرِجُ الأَزْمَةُ وَيَأْتِي النَّصْرُ مِنْ قَرِيبٍ {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البَقَرَة: 214]، فَعِنْدَئِذٍ يَصِيرُ لِنَصْرِ اللهِ وَصِدْقِ مَوعُودِهِ مِنَ الوَقْعِ وَالبِشَارَةِ وَالآثَارِ العَجِيبَةِ أَمْرٌ كَبِيرٌ لَا يَحْصُلُ بِدُونِ هَذِهِ الحَالَةِ، وَلِهَذَا قَالَ:{حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} [يُوسُف: 110] فَلِهَذَا الوَارِدِ الَّذِي لَا َقَرَارَ لَهُ، وَعِنْدَمَا حَقَّتِ الحَقَائِقُ اضْمَحَلَّ وَتَلَاشَى؛ لَا يُنْكَرُ وَيُطْلَبُ لِلْآيَاتِ تَأْوِيلَاتٌ مُخَالِفَةٌ لِظَاهِرِهَا"

(1)

.

(1)

القَوَاعِدُ الحِسَانُ (ص 155).

ص: 19

-‌

‌ المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: كَيفَ يُوصَفُ اللهُ تَعَالَى بِالمَكْرِ مَعَ أَنَّ ظَاهِرَهُ مَذْمُومٌ؟

الجَوَابُ:

إِنَّ المَكْرَ فِي مَحَلِّهِ المَمْدُوحِ مَمْدُوحٌ؛ فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى قُوَّةِ المَاكِرِ وَأَنَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ، وَلَا يُوصَفُ اللهُ تَعَالَى بِهِ عَلَى الإِطْلَاقِ!

فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ: إنَّ اللهَ مَاكِرٌ! وَإنَّمَا تُذْكَرُ هَذِهِ الصِّفَةُ فِي مَقَامٍ يَكُونُ فِيهِ مَدْحًا، وَهَذِهِ الصِّفَةُ لَا تُنْفى عَنْهُ أَيضًا عَلَى سَبِيلِ الإِطْلَاقِ؛ وَلَكِنْ يُوصَفُ بِهَا اللهُ تَعَالَى فِي المَوضِعِ الَّذِي تَكُونُ فِيهِ مَدْحًا، فَلِذَلِكَ لَا يُسَمَّى اللهُ بِهَا؛ فَلَا يُقَالُ: إنَّ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ المَاكِرُ

(1)

!

قَالَ الشَّيخُ مُحَمَّدُ رَشِيد رِضَا رحمه الله: "وَالغَالِبُ فِي عَادَاتِ البَشَرِ أَنْ يَكُونَ المَكْرُ فِيمَا يَسُوءُ وَيُذَمُّ مِن الكَذِبِ وَالحِيَلِ، وَلِذَلِكَ تَأَوَّلَ المُفَسِّرُونَ مَا أُسْنِدَ إِلَى اللهِ تَعَالَى مِنْهُ؛ فَقَالُوا فِي مِثْلِ هَاتَينِ الآيتَينِ -آيَةِ الأَنْفَالِ وَآيَةِ آلِ عِمْرَانَ-: إِنَّهُ أُسْنِدَ إِلَى اللهِ تَعَالَى مِن بَابِ المُشَاكَلَةِ بِتَسْمِيَةِ تَخْيِيبِ سَعْيِهِم فِي مَكْرِهِم أَوْ مُجَازَاتِهِم عَلَيهِ بِاسْمِهِ.

وَالحَقُّ أَنَّ المَكْرَ مِنْهُ الخَيرُ وَالشَّرُّ، وَالحَسَنُ وَالسَّيِّءُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43] "

(2)

.

وَتَأَمَّلْ كَيفَ وَصَفَ اللهُ تَعَالَى نَفْسَهُ بِأَنَّهُ خَيرُ مَنْ مَكَرَ، حَيثُ دَفَعَ سُبْحَانَهُ كُلَّ شُبْهَةِ سُوءِ فَهْمٍ عَنْ مَكْرِهِ؛ فَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ

(1)

وَذَلِكَ لِأَنَّ الاسْمِ يُفِيدُ الاسْتِغْرَاقَ دُونَ التَّفْصِيلَ، وَأَيضًا لِأَنَّ الأَسْمَاءَ تَوقِيفِيَّةٌ.

(2)

تَفْسِيرُ المَنَارِ (9/ 541).

ص: 20

يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيرُ الْمَاكِرِينَ} [الأَنْفَال: 30]

(1)

.

وَأَمَّا قَولُهُ تَعَالَى: {وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ} [الرَّعْدُ: 42] فَمَعْنَاهُ إِحَاطَتُهُ تَعَالَى بِمَكْرِهِم عِلْمًا وَجَزَاءً وَخَلْقًا وَتَقْدِيرًا.

قَالَ البَغَوِيُّ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (4/ 328): "أَي: عِنْدَ اللهِ جَزَاءُ مَكْرِهِمْ، وَقِيلَ: إِنَّ اللهَ خَالِقُ مَكْرِهِمْ جَمِيعًا؛ بِيَدِهِ الخَيرُ وَالشَّرُّ، وَإِلَيهِ النَّفْعُ وَالضُّرُّ؛ فَلَا يَضُرُّ مَكْرُ أَحَدٍ أَحَدًا إِلَّا بِإِذْنِهِ"

(2)

.

(1)

وَمِثْلُهَا أَيضًا صِفَةُ الخِدَاعِ وَالكَيدِ؛ فَهِيَ صِفَاتٌ جَاءَتْ فِي مُقَابَلَةِ صَنِيعِ أَعْدَاءِ الرُّسُلِ، وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى عِلْمِ اللهِ تَعَالَى بِصَنِيعِهِم وَقُدْرَتِهِ سُبْحَانَهُ عَلَيهِم وَإِحَاطَتِهِ بِهِم.

أَرَأَيتَ لَو أَنَّ رَجُلًا مُحْتَالًا أَرَادَ خِدَاعَ شَخْصٍ؛ فَعَلِمَ بِذَلِكَ هَذَا الشَّخْصُ وَجَارَاهُ عَلَى خُدْعَتِهِ لِيُوقِعَ بِهِ وَلِيَرُدَّ خُدْعَتَهُ إِلَيهِ وَيُوقِعَهُ فِي شَرِّ عَمَلِهِ؛ هَلْ يَكُونُ هَذَا الخِدَاعُ وَالمَكْرُ مَذْمُومًا؟! فَمَكْرُ الرَّجُلِ الأَوَّلِ هُوَ مِنْ بَابِ قَولِهِ تَعَالَى: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فَاطِر: 43]، وَأَمَّا مَكْرُ اللهِ تَعَالَى فَهُوَ فِي مُقَابَلَةِ مَكْرِهِم مِنْ حَيثُ لَا يَشْعُرُونَ؛ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى القُوَّةِ وَالعِلْمِ وَالعِزَّةِ وَالمَنَعَةِ، قَالَ تَعَالَى:{وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [النَّمْل: 50].

وَتَأَمَّلْ -بِنَحْوِهِ- قَولَهُ صلى الله عليه وسلم: ((الحَرْبُ خَدْعَةٌ)). رَوَاهُ البُخَارِيُّ (3030)، وَمُسْلِمٌ (1739) عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا.

(2)

تَفْسِيرُ البَغَوِيِّ (4/ 328).

ص: 21

-‌

‌ المَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِذَا كَانَ القُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى كُفْرٌ؛ فَكَيفَ اسْتَبْعَدَ إِبْرَاهِيمُ

عليه الصلاة والسلام الفَرَجَ فِي قَولِهِ تَعَالَى عَنْهُ: {قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} ؟

الجَوَابُ:

إِنَّ قَولَ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام لِلمَلَائِكَةِ: {قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ * قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ * قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} لَيسَ فِيهِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام قَنَطَ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ! وَإنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ اسْتِبْعَادِ الوُقُوعِ مِنْ جِهَةِ الأَسْبَابِ، وَلَيسَ مِنْ جِهَةِ قُدْرَةِ اللهِ تَعَالَى وَرَحْمَتِهِ، لِأَنَّ العَادَةَ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا كَبُرَ سِنُّهُ وَسِنُّ زَوجَتِهِ اسْتُبْعِدَ أَنْ يُولَدَ لَهُ مِنْهَا مِنْ جِهَةِ الأَسْبَابِ الكَونِيَّةِ، فَلَيسَ قَولُهُ ذَاكَ هُوَ مِنَ القُنُوطِ! فَإِنَّهُ يَعْلَمُ مِنْ قُدْرَةِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ مَا هُوَ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ وَأَعْظَمُ، وَلِذَلِكَ وَصَفَ هُوَ نَفْسُهُ القَانِطَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى بِالضَّلَالِ.

وَمِثْلُهُ قَولُ زَكَرِيَّا عليه السلام عِنْدَمَا بَشَّرُوُهُ بِيَحْيَى عليه السلام: {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [آل عِمْرَان: 40] فَهُوَ نَظَرَ إِلَى الأَسْبَابِ وَتَعَجَّبَ مِنْ إِتْيَانِ الوَلَدِ بِهَا، وَلَمْ يُظْهِرْ قُنُوطًا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ!

بَلْ لَمَّا سَمِعَ قَولَ مَرْيَمَ عليها السلام عِنْدَمَا رَأَى رِزْقَ رَبِّهَا لَهَا -مِنْ غَيرِ سَعْيٍ مِنْهَا- دَعَا اللهَ بِالذُّرِّيَّةِ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِيَطْلُبَ مِنْهُ تَعَالَى إِذَا كَانَ قَانِطًا مِنْ ربِّهِ! قَالَ تَعَالَى:{كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيرِ حِسَابٍ * هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} [آل عِمْرَان: 36 - 37] فَدُعَائُهُ دَالٌّ عَلَى اعْتِقَادِهِ أَنَّ اللهَ قَادِرٌ عَلَى رِزْقِهِ وَلَو عَدِمَ هُوَ السَّبَبَ.

ص: 22

بَابُ مِنَ الإِيمَانِ بِاللهِ الصَّبْرُ عَلَى أَقْدَارِ اللهِ

وَقَولُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ} [التَّغَابُن: 11]. قَالَ عَلْقَمَةُ: (هُوَ الرَّجُلُ تُصِيبُهُ المُصِيبَةُ؛ فَيَعْلَمُ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللهِ فَيَرْضَى وَيُسَلِّمُ)

(1)

.

وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((اثْنَتَانِ فِي النَّاسِ هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ: الطَّعْنُ فِي النَّسَبِ، وَالنِّيَاحَةُ عَلَى المَيِّتِ))

(2)

.

وَلَهُمَا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا: ((لَيسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الخُدُودَ، وَشَقَّ الجُيُوبَ، وَدَعَا بِدَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ))

(3)

.

وَعَنْ أَنَسٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((إِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدِهِ الخَيرَ؛ عَجَّلَ لَهُ بِالعُقُوبَةِ فِي الدُّنْيَا، وَإِذَا أَرَادَ بِعَبْدِهِ الشَّرَّ؛ أَمْسَكَ عَنْهُ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوَافِيَ بِهِ يَومَ القِيَامَةِ))

(4)

.

(1)

تَفْسِيرُ الطَّبَرِيِّ (23/ 421).

(2)

مُسْلِمٌ (67).

(3)

رَوَاهُ البُخَارِيُّ (1297)، وَمُسْلِمٌ (103).

(4)

صَحِيحٌ. التِّرْمِذِيُّ (2396). الصَّحِيحَةُ (1220).

قَالَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله: "عَنْ سِنَانِ بْنِ سَعْدٍ، أَو سَعْدِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.

قُلْتُ: وَسَعْدٌ هَذَا اخْتَلَفَ فِيهِ الرُّواةُ؛ فَبَعْضُهُم يَقُولُ: سَعْدُ بْنُ سِنَانٍ، وَبَعْضُهُم عَلَى القَلْبِ: سِنَانُ بْنُ سَعْدٍ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ عِنْدَ البُخَارِيِّ. قَالَ الحَافِظُ فِي التَّقْرِيبِ: صَدُوقٌ لهُ أَفْرَادٌ.

وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ الحَسَنِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُغَفَّلٍ مَرْفُوعًا بِهِ. أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ (2455) وَأَبْو نُعَيمٍ فِي أَخْبَارِ أَصْبَهَانَ (2/ 274) وَالبَيهَقِيُّ (ص 153 - 154) وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، لَكِنَّ الحَسَنَ -وَهُوَ البَصْرِيَّ- مُدَلِّسٌ وَقَدْ عَنْعَنَهُ. وَلِشَطْرِهِ الأَوَّلِ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا. أَخْرَجَهُ ابْنُ الجَوزِيِّ فِي (ذَمِّ الهَوَى)(ص 126) ".

ص: 23

وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ عِظَمَ الجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ البَلَاءِ، وَإِنَّ اللهَ تَعَالَى إِذَا أَحَبَّ قَومًا ابْتَلَاهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ)). حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ

(1)

.

فِيهِ مَسَائِلُ:

الأُولَى: تَفْسِيرُ آيَةِ التَّغَابُنِ.

الثَّانِيَةُ: أَنَّ هَذَا مِنَ الإِيمَانِ بِاللَّهِ.

الثَّالِثَةُ: الطَّعْنُ فِي النَّسَبِ.

الرَّابِعَةُ: شِدَّةُ الوَعِيدِ فِيمَنْ ضَرَبَ الخُدُودَ، وَشَقَّ الجُيُوبَ، وَدَعَا بِدَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ.

الخَامِسَةُ: عَلَامَةُ إِرَادَةِ اللهِ بِعَبْدِهِ الخَيرَ.

السَّادِسَةُ: عَلَامَةُ إِرَادَةِ اللهِ بِعَبْدِهِ الشَّرَّ.

السَّابِعَةُ: عَلَامَةُ حُبِّ اللهِ لِلْعَبْدِ.

الثَّامِنَةُ: تَحْرِيمُ السُّخْطِ.

التَّاسِعَةُ: ثَوَابُ الرِّضَا بِالبَلَاءِ.

(1)

صَحِيحٌ. التِّرْمِذِيُّ (2396) عَنْ سَعْدِ بْنِ سِنَانٍ عَنْ أَنَسٍ. الصَّحِيحَةُ (146).

ص: 24

‌الشَّرْحُ

- مُقَدِّمَةٌ فِي فَضْلِ الصَّبْرِ:

قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيرِ حِسَابٍ} [الزُّمَر: 10].

وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((مَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيرًا وَأَوسَعَ مِنَ الصَّبْرِ))

(1)

.

وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((الصَّبْرِ ضِيَاءٌ))

(2)

.

وَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: (وَجَدْنَا خَيرَ عَيشِنَا بِالصَّبْرِ)

(3)

.

- الصَّبْرُ لُغَةً: الحَبْسُ وَالمَنْعُ، وَمِنْهُ قُتِلَ فُلَانٌ صَبْرًا: أَي: حَبْسًا.

- مُنَاسَبَةُ الآيَةِ مَعَ البَابِ وَمَعَ كِتَابِ التَّوحِيدِ هُوَ: أَنَّ الصَّبْرَ إِيمَانٌ، وَتَرْكَهُ تَرْكٌ لِلإِيمَانِ

(4)

، كَمَا فِي الحَدِيثِ:((اثْنَتَانِ فِي النَّاسِ هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ: الطَّعْنُ فِي النَّسَبِ، وَالنِّيَاحَةُ عَلَى المَيِّتِ)) حَيثُ جُعِلَ تَرْكُ الصَّبْرِ -وَهُوَ النِّيَاحَةُ هُنَا- كُفْرًا.

(1)

الحَدِيثُ بِتَمَامِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ؛ أَنَّ نَاسًا مِنَ الأَنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ حَتَّى إِذَا نَفِدَ مَا عِنْدَهُ، قَالَ:((مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ، وَإِنَّهُ مَنْ يَسْتَعِفْ يُعِفُّهُ اللهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللهُ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيرًا وَأَوسَعَ مِنَ الصَّبْرِ)). رَوَاهُ البُخَارِيُّ (1469)، وَمُسْلِمٌ (1053).

(2)

مُسْلِمٌ (223) عَنْ أَبِي مَالِكٍ الأَشْعَرِيِّ.

(3)

ذَكَرَهُ البُخَارِيُّ (8/ 99) تَعْلِيقًا.

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله فِي الفَتْحِ (11/ 303): "وَقَدْ وَصَلَهُ أَحْمَدُ فِي كِتَابِ الزُّهْدِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ مُجاهدٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ

".

(4)

حَيثُ جَعَلَ اللهُ تَعَالَى الصَّبْرَ إِيمَانًا فِي قَولِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ} [التَّغَابُن: 11].

ص: 25

- مَوَاضِعُ الصَّبْرِ: الصَّبْرُ يَقَعُ عَلَى القَلْبِ، وَعَلَى اللِّسَانِ، وَعَلَى الجَوَارِحِ

(1)

.

- أَنْوَاعُ الصَّبْرِ:

1 -

صَبْرٌ عَلَى طَاعَةِ اللهِ.

2 -

صَبْرٌ عَنْ مَعْصِيَةِ اللهِ.

3 -

صَبْرٌ عَلَى مَا قَدَّرَهُ اللهُ مِنَ المَصَائِبِ -وَهُوَ مَوضُوعُ البَابِ-.

- قَولُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ} أَي: مَنْ عَلِمَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ كَانَ بِقَدَرِ اللهِ، وَرَضِيَ بِذَلِكَ وَصَبَرَ؛ فَإِنَّ اللهَ يُثِيبُهُ هِدَايَةً فِي قَلْبِهِ.

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله: "وَمَنْ أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ فَعَلِمَ أَنَّهَا بِقَضَاءِ اللهِ وَقَدَرِهِ فَصَبَرَ وَاحْتَسَبَ وَاسْتَسْلَمَ لِقَضَاءِ اللهِ؛ هَدَى اللهُ قَلْبَهُ، وعَوَّضَهُ عَمَّا فَاتَهُ مِنَ الدُّنْيَا هُدًى فِي قَلْبِهِ وَيَقِينًا صَادِقًا، وَقَدْ يُخْلِفُ عَلَيهِ مَا كَانَ أَخَذَ مِنْهُ أَو خَيرًا مِنْهُ"

(2)

.

- فِي البَابِ مِنَ الفِقْهِ أَنَّ مِنَ الكُفْرِ مَا لَا يُخْرِجُ منَ المِلَّةِ، وَفِي الحَدِيثِ:((أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ الجَاهِلِيَّةِ لَا يَتْرُكُونَهُنَّ: الفَخْرُ فِي الأَحْسَابِ، وَالطَّعْنُ فِي الأَنْسَابِ، وَالاسْتِسْقَاءُ بِالنُّجُومِ، وَالنِّيَاحَةُ. وَقَالَ: النَّائِحَةُ إِذَا لَمْ تَتُبْ قَبْلَ مَوتِهَا؛ تُقَامُ يَومَ القِيَامَةِ وَعَلَيهَا سِرْبَالٌ مِنْ قَطِرَانٍ، وَدِرْعٌ مِنْ جَرَبٍ))

(3)

.

- قَولُهُ: ((هُمَا بِهِم كُفْرٌ)) لِأَنَّهُمَا مِنْ أَفْعَالِ الجَاهِلِيَّةِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَونِهِمَا كُفْرًا أَنْ يَكُونَ فَاعِلُهُمَا كَافِرًا

(4)

! كَمَا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَونِ الزِّنْدِيقِ وَاليَهُودِيِّ وَغَيرِهِمَا مِنَ

(1)

قُلْتُ: وَيُقَابِلُهُ السُّخَطُ؛ فَإِنَّهُ يَقَعُ عَلَى هَذِهِ الجَوَانِبِ أَيضًا.

(2)

تَفْسِيرُ ابْنِ كَثِيرٍ (8/ 137).

(3)

مُسْلِمٌ (934) عَنْ أَبِي مَالِكٍ الأَشْجَعِيِّ مَرْفُوعًا.

(4)

إِلَّا إِنِ اسْتَحَلَّهَا، وَهَذَا الاسْتِحْلَالُ هُوَ الَّذِي يَجْعَلُهُ كَافِرًا كُفْرًا أَكْبَرَ مُخْرِجًا عَنِ المِلَّةِ.

ص: 26

الكُفَّارِ؛ أَنَّه إِذَا فَعَلَ شُعْبَةً مِنْ شُعَبِ الإِيمَانِ -كَإِمَاطَةِ الأَذَى عَنِ الطَّريقِ وَالصِّدْقِ وَالصَّدَقَةِ- أَنَّهُ يَكُونُ مُؤْمِنًا! وَذَلِكَ لِأَنَّه كَافِرٌ فِي أَصْلِهِ، بِخِلَافِ مَنْ سَبَقَ الكَلَامُ عَلَيهِ؛ فَإِنَّهُ مُؤْمِنٌ فِي أَصْلِهِ.

وَهَذَا الحَدِيثُ يَجْعَلُهُ أَهْلُ العِلْمِ مِنْ نُصُوصِ الوَعِيدِ الَّتِي يُمِرُّونَهَا كَمَا جَاءَتْ دُونَ الخَوضِ فِي تَفْسِيرِهَا، لَا لِعَدَمِ العِلْمِ بِمَعْنَاهَا وَمَآلِهَا! وَلَكِنْ كَي تَكُونَ أَوقَعَ فِي النَّفْسِ وَأَبْلغَ فِي الزَّجْرِ، وحَقِيقَةُ هَذَا الكُفْرِ أَنَّهُ مُنَافٍ لِكَمَالِ التَّوحِيدِ الوَاجِبِ؛ حَيثُ يَأْثَمُ تَارِكُهُ وَلَا يَخْرُجُ بِهِ مِنَ المِلَّةِ

(1)

.

- قَولُهُ: ((مَنْ ضَرَبَ الخُدُودَ)) هَذَا خَرَجَ مَخْرَجَ الغَالِبِ، لَا أَنَّهُ مُقَيَّدٌ بِهِ، وَعَلَيهِ فَمَا كَانَ مِنَ الأَعْمَالِ بِمَعْنَاهُ فَهُوَ مِنْهُ

(2)

.

- قَولُهُ: ((دَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ)) عَامٌّ فِي كُلِّ مَا كَانَ مِنْ أَعْمَالِ الجَاهِلِيَّةِ مِنَ الأَقْوَالِ المَذْمُومَةِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ نَدْبُ الميِّتِ، وَالدُّعَاءُ بِالوَيلِ وَالثُّبُورِ

(3)

، وَهَذَا مِنَ السَّخَطِ بِاللِّسَانِ؛ فَهُوَ مُنَافٍ لِلصَّبْرِ، وَيَدْخُلُ فِي دَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ أَيضًا التَّعَصُّبُ وَدَعْوَى التَّجَمُّعِ عَلَى غَيرِ الإِسْلَامِ

(4)

.

(1)

قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رحمه الله فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ (2/ 57): "وَفِيهِ أَقْوَالٌ أَصَحُّهَا: أَنَّ مَعْنَاهُ: هُمَا مِنْ أَعمَالِ الكُفَّارِ وَأَخْلَاقِ الجَاهِلِيَّةِ. وَالثَّانِي: أَنَّه يُؤَدِّي إِلَى الكُفْرِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّه كُفْرُ النِّعْمَةِ وَالإحْسَانِ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ ذَلِكَ فِي المُسْتَحِلِّ".

(2)

قَالَ الشَّيخُ ابْنُ عُثَيمِين رحمه الله فِي كِتَابِهِ القَولُ المُفِيدُ (2/ 116): "وَمِثْلُهُ هَدْمُ البُيُوتِ، وَكَسْرُ الأَوَانِي، وَتَخْرِيبُ الطَّعَامِ، وَنَحْوُهُ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ عِنْدَ المُصِيبَةِ".

(3)

كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ مَاجَه (1585) عَنْ أَبِي أُمَامَةَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم (لَعَنَ الخَامِشَةَ وَجْهَهَا، وَالشَّاقَّةَ جَيبَهَا، وَالدَّاعِيَةَ بِالوَيلِ وَالثُّبُورِ). الصَّحِيحَةُ (2147).

(4)

كَمَا فِي البُخَارِيِّ (4/ 183) -كِتَابِ المَنَاقِبِ؛ بَابِ مَا يُنْهَى مِنْ دَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ- عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه؛

=

ص: 27

وَفِي الحَدِيثِ: انْتَسَبَ رَجُلَانِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: أَنَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، فَمَنْ أَنْتَ لَا أُمَّ لَكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:((انْتَسَبَ رَجُلَانِ عَلَى عَهْدِ مُوسَى عليه السلام، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: أَنَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ حَتَّى عَدَّ تِسْعَةً؛ فَمَنْ أَنْتَ لَا أُمَّ لَكَ؟ قَالَ: أَنَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ ابْنُ الإِسْلَامِ. قَالَ: فَأَوحَى اللهُ إِلَى مُوسَى عليه السلام أَنْ قُلْ لهَذَينِ المُنْتَسِبَينِ: أَمَّا أَنْتَ أَيُّهَا المُنْتَمِي -أَوِ المُنْتَسِبُ- إِلَى تِسْعَةٍ فِي النَّارِ! فَأَنْتَ عَاشِرُهُمْ، وَأَمَّا أَنْتَ يَا هَذَا المُنْتَسِبُ إِلَى اثْنَينِ فِي الجَنَّةِ! فَأَنْتَ ثَالِثُهُمَا فِي الجَنَّةِ))

(1)

.

- قَولُهُ: ((عَجَّلَ لَهُ العُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا)) أَرَادَ المُصَنِّفُ رحمه الله الإِرْشَادَ إِلَى أَنَّ المَصَائِبَ قَدْ يَكُونُ فِيهَا مَنْفَعَةُ العَبْدِ، فَتَكُونُ نِعْمَةً فِي حَقِّهِ، وَهَذَا مِمَّا يَحْمِلُهُ عَلَى الصَّبْرِ عَلَيهَا وَالاحْتِسَابِ وَالاسْتِرْجَاعِ؛ فَتَكُونُ المُصِيبَةُ فِي تِلْكَ الحَالِ خَيرًا لَهُ.

وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ صُهَيبٍ مَرْفُوعًا: ((عَجَبًا لِأَمْرِ المُؤْمِنِ؛ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيرٌ -وَلَيسَ ذلِكَ لأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ-، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ؛ فَكَانَ خَيرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ؛ فَكانَ خَيرًا لَهُ))

(2)

.

=

قالَ: غَزَونَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ ثَابَ مَعَهُ نَاسٌ مِنَ المُهَاجِرِينَ حَتَّى كَثُرُوا، وَكَانَ مِنَ المُهَاجِرِينَ رَجُلٌ لَعَّابٌ، فَكَسَعَ أَنْصَارِيًّا، فَغَضِبَ الأَنْصَارِيُّ غَضَبًا شَدِيدًا حَتَّى تَدَاعَوا، وَقَالَ الأَنْصَارِيُّ: يَا لَلْأَنْصَارِ! وَقَالَ المُهَاجِرِيُّ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ! فَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: ((مَا بَالُ دَعْوَى أَهْلِ الجَاهِلِيَّةِ؟!!)) ثُمَّ قَالَ: ((مَا شَأْنُهُمْ؟)) فَأُخْبِرَ بِكَسْعَةِ المُهَاجِرِيِّ الأَنْصَارِيَّ، قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ((دَعُوهَا؛ فَإِنَّهَا خَبِيثَةٌ)).

وَ (الكَسْعُ): أَنْ تَضْرِبَ دُبُرَ الإِنْسَانِ بِيَدِكَ، أَو بِصَدْرِ قَدَمِكَ.

(1)

صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (21178) عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ. الصَّحِيحَةُ (1270).

(2)

مُسْلِمٌ (2999).

وَعِنْدَ أَحْمَدَ (16806) مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُغَفَّلٍ: أَنَّ رَجُلًا لَقِيَ امْرَأَةً كَانَتْ بَغِيًّا فِي الجَاهِلِيَّةِ، فَجَعَلَ يُلَاعِبُهَا حَتَّى بَسَطَ يَدَهُ إِلَيهَا، فَقَالَتِ المَرْأَةُ: مَهْ! فَإِنَّ اللهَ عز وجل قَدْ ذَهَبَ بِالشِّرْكِ، وَجَاءَنَا بِالإِسْلَامِ، فَوَلَّى الرَّجُلُ، فَأَصَابَ وَجْهَهُ الحَائِطُ فَشَجَّهُ، ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ:((أَنْتَ عَبْدٌ أَرَادَ اللهُ بِكَ خَيرًا، إِذَا أَرَادَ اللهُ عز وجل بِعَبْدٍ خَيرًا عَجَّلَ لَهُ عُقُوبَةَ ذَنْبِهِ، وَإِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ شَرًّا أَمْسَكَ عَلَيهِ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوَفَّى بِهِ يَومَ القِيَامَةِ)). صَحِيحٌ. اُنْظُرْ تَخْرِيجَ كِتَابِ (كَلِمَةُ الإِخْلَاصِ وَتَحْقِيقُ مَعْنَاهَا لِلحَافِظِ ابْنِ رَجَب)(ص 47) لِلشَّيخِ الأَلْبَانِيِّ رحمه الله.

ص: 28

وَكَمَا فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ أَيضًا عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَى أُمِّ السَّائِبِ -أَو أُمِّ المُسَيَّبِ- فَقَالَ: ((مَا لَكِ يَا أُمَّ السَّائِبِ -أَو يَا أُمَّ المُسَيَّبِ- تُزَفْزِفِينَ؟))

(1)

قَالَتْ: الحُمَّى، لَا بَارَكَ اللهُ فِيهَا، فَقَالَ:((لَا تَسُبِّي الحُمَّى؛ فَإِنَّهَا تُذْهِبُ خَطَايَا بَنِي آدَمَ كَمَا يُذْهِبُ الكِيرُ خَبَثَ الحَدِيدِ))

(2)

.

- فِي حَدِيثِ أَنَسٍ هَذَا قَولُهُ صلى الله عليه وسلم: ((أَرَادَ بِعَبْدِهِ الشَّرَّ)) مَعَ قَولِهِ أَيضًا صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثٍ آخَرٍ: ((وَالشَّرُّ لَيسَ إِلَيكَ))

(3)

تَفْصِيلٌ، وَهُوَ: أَنَّ الخَيرَ وَالشَّرَّ مَخْلُوقَانِ مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَلَكِنَّ الشَّرَّ لَيسَ مَقْصُودًا ابْتِدَاءً، بَلْ هُوَ خَيرٌ فِي حَقِيقَتِهِ، فَيَظْهَرُ فِيهِ فَضْلُ اللهِ تَعَالَى عَلَى الصَّابِرِ، وَعَدْلُهُ مَعَ الكَافِرِ.

وَقَالَ العُلَمَاءُ: أَفْعَالُ اللهِ تَعَالَى كُلُّهَا حِكْمَةٌ؛ تَدُورُ بَينَ العَدْلِ وَالفَضْلِ

(4)

.

(1)

قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رحمه الله فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ (16/ 131): " ((تُزَفْزِفِينَ)) مَعْنَاهُ: تَتَحَرَّكِينَ حَرَكَةً شَدِيدَةً، أَي تَرْعَدِينَ".

(2)

مُسْلِمٌ (2575).

(3)

وَهُوَ مِنْ حَدِيثِ عَليٍّ مَرْفُوعًا فِي مُسْلِمٍ (771).

وَقَرِيبٌ مِنْهُ فِي ظَاهِرِ الإِشْكَالِ قَولُهُ تَعَالَى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيرِ فِتْنَةً وَإِلَينَا تُرْجَعُونَ} [الأَنْبِيَاء: 35].

(4)

قُلْتُ: وَتَأَمَّلْ قِصَّةَ مُوسَى عليه الصلاة والسلام مَعَ الخَضِرِ وَمَا فِيهَا مِنَ الحِكَمِ، ثُمَّ تَأَمَّلْ قَولَ الخَضِرِ {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكَهْف: 82].

ص: 29

- أَوجُهُ بَيَانِ أَنَّ المَصَائِبَ نِعْمَةٌ

(1)

:

1 -

مُكَفِّرَاتٌ لِلذُّنُوبِ، كَمَا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ:((عَجَّلَ لَهُ العُقُوبَةَ)).

2 -

تَدْعُو إِلَى الصَّبْرِ؛ فَيُثَابُ عَلَيهَا -كَمَا فِي آيَةِ البَابِ-

(2)

(3)

.

3 -

تَقْتَضِي الإِنَابَةَ إِلَى اللهِ وَالذُّلَّ لَهُ، حَيثُ يَسْتَشْعِرُ العَبْدُ ضَعْفَهُ وَحَاجَتَهُ إِلَى رَبِّهِ، وَيَظْهَرُ افْتِقَارُهُ إِلَيهِ، فَتَظْهَرُ عُبُودِيَّتُهُ لَهُ سُبْحَانَهُ

(4)

.

4 -

رَفْعُ الدَّرَجَاتِ

(5)

، كَمَا فِي الحَدِيثِ: ((يَوَدُّ أَهْلُ العَافِيَةِ يَومَ القِيَامَةِ -حِينَ

(1)

وَلَكِنَّهَا بِقَيدِ الحَدِيثِ السَّابِقِ: ((وَلَيسَ ذَلِكَ إِلَّا لِلمُؤْمِنِ)).

(2)

قُلْتُ: وَفِي حَدِيثِ البُخَارِيِّ (1283)، وَمُسْلِمٍ (926) عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا:((إنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى)).

قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رحمه الله فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ (6/ 227): "مَعْنَاهُ: الصَّبْرُ الكَامِلُ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيهِ الأَجْرُ الجَزِيلُ لِكَثْرَةِ المَشَقَّةِ فِيهِ، وَأَصْلُ الصَّدْمِ الضَّرْبُ فِي شَيءٍ صُلْبٍ، ثُمَّ اُسْتُعْمِلَ مَجَازًا فِي كُلِّ مَكْرُوهٍ حَصَلَ بَغْتَةً".

(3)

قُلْتُ: وَقَدْ تَجْتَمِعُ الكَفَّارَةُ وَالإِثَابَةُ فِيهَا.

قَالَ شَيخُ الإِسْلَامِ رحمه الله: "وَلِهَذَا كَانَتِ الْمَصَائِبُ تُكَفِّرُ سَيِّئَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَبِالصَّبْرِ عَلَيهَا تَرْتَفِعُ دَرَجَاتُهُمْ". مَجْمُوعُ الفَتَاوَى (14/ 255).

(4)

"وَالمُؤْمِنُ إِذَا اسْتَبْطَأَ الفَرَجَ وَأَيِسَ مِنْهُ بَعْدَ كَثْرَةِ دُعَائِهِ وَتَضَرُّعِهِ وَلَمْ تَظْهَرْ لَهُ اسْتِجَابَةٌ؛ رَجَعَ إِلَى نَفْسِهِ بِاللَّومِ، وَهَذَا اللَّومُ أَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الطَّاعَاتِ، فَإِنَّهُ يُوجِبُ انْكِسَارَ العَبْدِ لِمَولَاهُ، وَاعْتِرَافَهَ لَهُ بِأَنَّه أَهْلٌ لِمَا نَزَلَ بِهِ مِنَ البَلَاءِ، وَأَنَّهُ لَيسَ أَهْلًا لِإِجَابَةِ الدُّعَاءِ، فَلِذَلِكَ تَسْرعُ إِلَيهِ حِينَئِذٍ إِجَابَةُ الدُّعَاءِ وَتَفْرِيجُ الكُرَبِ؛ فَإِنَّهُ تَعَالَى عِنْدَ المُنْكَسِرَةِ قُلُوبُهُم مِنْ أَجْلِهِ". جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (1/ 494) بِتَصَرُّفٍ يَسِيرٍ.

(5)

هَذَا مَعَ بَيَانِ أَنَّ الأَصْلَ فِي المَصَائِبِ أَنَّهَا بِسَبَبِ الذُّنُوبِ، لِقَولِهِ تَعَالَى:{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشُّورَى: 30]، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ بِسَبَبِ الذُّنُوبِ كَانَتْ امْتِحَانًا لِلْعَبْدِ كَي يَظْهَرَ صَبْرُهُ وَيَنَالَ الدَّرَجَاتِ العَالِيَةَ عِنْدَ رَبِّهِ، كَمَا فِي حَدِيثِ البُخَارِيِّ (5648) عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ

=

ص: 30

يُعْطَى أَهْلُ البَلَاءِ الثَّوَابَ- لَو أَنَّ جُلودَهُمْ كانَتْ قُرِضَتْ فِي الدُّنْيَا بِالمَقَارِيضِ))

(1)

.

- فِي حَدِيثِ أَنَسٍ الثَّاني بَيَانُ تَفَاضُلِ الثَّوَابِ بِتَفَاضُلِ الابْتِلَاءِ، كَمَا فِي الحَدِيثِ:((أشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً الأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ، يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسْبِ دِينِهِ؛ فَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى قَدْرِ دِينِهِ، فَما يَبْرَحُ البَلَاءُ بِالعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ وَمَا عَلَيهِ خَطِيئَةٌ))

(2)

.

وَفِيهِ بَيَانُ فَضْلِ اللهِ تَعَالَى وَرَحْمَتِهِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَبْتَلِي العَبْدَ بِمَا يُطِيقُ، وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَولُهُ تَعَالَى:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البَقَرَة: 286].

- وَلَا بُدَّ مِنَ العِلْمِ أَنَّ هَذَا الحَدِيثَ المَقْصُودُ بِهِ الحَثُّ عَلَى الصَّبْرِ عَلَى البَلَاءِ بَعْدَ وُقُوعِهِ لَا التَّرْغِيبُ فِي طَلَبِهِ! وَذَلِكَ لِوُرُود النَّهْي عَنْهُ

(3)

.

- مَرَاتِبُ النَّاسِ عِنْدَ المُصِيبَةِ:

1 -

مَرْتَبَةُ السَّخَطِ عَلَى قَدَرِ اللهِ تَعَالَى: وَيَكُونُ بِالقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَالجَوَارِحِ، كَمَا فِي المتَّفَقِ عَلَيهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا: ((لَيسَ مِنَّا مَنْ لَطَمَ الخُدُودَ وَشَقَّ

=

رضي الله عنه: (أَنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُوعَكُ كَمَا يُوعَكُ رَجُلَانِ مِنَّا).

وكَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا: ((إنَّ الرَّجُلَ لَيَكُونُ لَهُ المَنْزِلَةُ عِنْدَ اللهِ؛ فَما يَبْلُغُها بِعَمَلٍ! فَلَا يَزَالُ اللهُ يَبْتَلِيهِ بِمَا يَكْرَهُ حَتَّى يُبْلِّغَهُ إيَّاهَا)). حَسَنٌ. ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ (2908). الصَّحِيحَةُ (1599).

(1)

حَسَنٌ. التِّرْمِذِيُّ (2402) عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (2206).

(2)

صَحِيحٌ. التِّرْمِذِيُّ (2398) عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (143).

(3)

أَفَادَهُ المُبَارَكْفُورِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (تُحْفَةُ الأَحْوَذِيِّ)(7/ 66).

وَبِنَحْوِهِ قَولُهُ عليه الصلاة والسلام: ((لَا تَمَنَّوا لِقَاءَ العَدُوِّ؛ فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا)). رَوَاهُ البُخَارِيُّ (3026)، وَمُسْلِمٌ (1741) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا.

ص: 31

الجُيُوبَ وَدَعَا بِدَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ))

(1)

.

2 -

مَرْتَبَةُ الصَّبْرِ: وَهُوَ الرِّضَى بِمَا قَدَّرَ اللهُ عَلَيهِ مِنَ البَلَاءِ؛ وَأنَّهُ لِحِكْمَةٍ يَعْلَمُهَا اللهُ، وَقَدْ يَتَمَنَّى العَبْدُ زَوَالَهَا، كَمِثْلِ مَنْ ابْتُلِيَ بِمَرَضٍ وَيَعْلَمُ أنَّهُ لِحِكْمَةٍ مِنْ رَبِّهِ؛ فَهُوَ رَاضٍ بِفِعْلِ رَبِّهِ (أَي بِتَقْدِيرِهِ) وَإِنْ كَانَ مُتَمَنِّيًا لِزَوَالِهِ -وَهُوَ المَقْدُورُ-

(2)

.

3 -

مَرْتَبَةُ الرِّضَا بِالمَقْدُورِ: فَهُوَ رَاضٍ بِالقَدَرِ مِنَ اللهِ تَعَالَى وَيَعْلَمُ أَنَّهُ لِحِكْمَةٍ، وَأَيضًا هُوَ رَاضٍ بِمَا حَلَّ بِهِ -أَي: مِنَ المَقْدُورِ- غَيرُ مُتَمَنٍ لِزَوَالِ مَا أَصَابَهُ.

لَكِنَّ هَذَا لَا يَعْنِي أَنَّهُ لَا يَأْخُذُ بِأَسْبَابِ إِزَالَةِ المُؤْلِمِ! لِأَنَّ المَقْصُودَ هُوَ إِظْهَارُ مَحَبَّةِ مَا اخْتَارَهُ اللهُ لَكَ، لِأَنَّهُ نَاتِجٌ عَنْ عِلْمٍ وَحِكْمَةٍ وَرَحْمَةٍ

(3)

(4)

.

4 -

مَرْتَبَةُ الشُّكْرِ عَلَى المُصِيبَةِ: ووَجْهُهَا أَنَّه يَحْمَدُ اللهَ تَعَالَى أَنَّه لَمْ يَجْعَلْهَا فِي

(1)

رَوَاهُ البُخَارِيُّ (1297)، وَمُسْلِمٌ (103).

(2)

وَهَذِهِ المَرْتَبَةُ تُسَمَّى أَحْيَانًا بِمَرْتَبَةِ الرِّضَا؛ وَلَكِنْ بِالنِّسْبَةِ لِفِعْلِ اللهِ تَعَالَى -وَالَّذِي هُوَ المُقَارِنُ لِحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَعَدْلِهِ وَفَضْلِهِ-، وَأَمَّا المَرْتَبَةُ التَّالِيَةُ فَهِي الرِّضَا بِالمَقْدُورِ -وَهُوَ الَّذِي فِيهِ الخَيرُ وَالشَّرُّ-، وَهِيَ أَعْلَى مِنَ السَّابِقَةِ.

(3)

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ الحَنْبَلِيُّ رحمه الله: "وَالفَرْقُ بَينَ الرِّضَا وَالصَّبْرِ: أَنَّ الصَّبْرَ كَفُّ النَّفْسِ وَحَبْسُهَا عَنِ التَّسَخُّطِ مَعَ وُجُودِ الأَلَمِ وَتَمَنِّي زَوَالِ ذَلِكَ، وَكَفُّ الجَوَارِحِ عَنِ العَمَلِ بِمُقْتَضَى الجَزَعِ.

وَالرِّضَا: انْشِرَاحُ الصَّدْرِ وَسَعَتُهُ بِالقَضَاءِ، وَتَرْكُ تَمَنِّي زَوَالِ ذَلِكَ المُؤْلِمِ وَإِنْ وُجِدَ الإِحْسَاسُ بِالأَلَمِ، لَكِنَّ الرِّضَا يُخَفِّفُهُ لِمَا يُبَاشِرُ القَلْبَ مِنْ رُوحِ اليَقِينِ وَالمَعْرِفَةِ، وَإِذَا قَوِيَ الرِّضَا؛ فَقَدْ يُزِيلُ الإِحْسَاسَ بِالأَلَمِ بِالكُلِّيَّةِ كَمَا سَبَقَ". جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (1/ 488).

(4)

قُلْتُ: لَا سِيَّمَا إِنْ تَعَلَّقَ بِهَا مَا هُوَ خَيرٌ مِنْهَا، أَو مَا كَانَ مَذْمُومًا فِي نَفْسِهِ، فَالمَقْصُودُ هُنَا الابْتِلَاءُ بِالمُصِيبَةِ، كَمَا بَوَّبَ عَلَيهِ المُصَنِّفُ رحمه الله بِقَولِهِ (بَاب مِنَ الإِيمَانِ بِاللهِ الصَّبْرُ عَلَى أَقْدَارِ اللهِ).

وَقَالَ ابْنُ القَيِّمِ رحمه الله فِي كِتَابِهِ زَادُ المَعَادِ (4/ 9): "فَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم فِعْلُ التَّدَاوِي فِي نَفْسِهِ، وَالْأَمْرُ بِهِ لِمَنْ أَصَابَهُ مَرَضٌ مِنْ أَهْلِهِ وَأَصْحَابِهِ".

ص: 32

دِينِهِ

(1)

، وَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَأَنَّ عَذَابَ الدُّنيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الآخِرَةِ.

وَفِي الأَثَرِ عَن شُرَيحٍ القَاضِي: "إِنِّي لَأُصَابُ بِالمُصِيبَةِ؛ فَأَحْمَدُ اللهَ عَلَيهَا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ!

أَحْمَدُ إِذْ لَمْ يَكُنْ أَعْظَمُ مِنْهَا،

وَأَحْمَدُ إِذْ رَزَقَنِي الصَّبْرَ عَلَيهَا،

وَأَحْمُدُ إِذْ وَفَّقَنِي لِلاسْتِرْجَاعِ لِمَا أَرْجُو مِنَ الثَّوَابِ،

وَأَحْمَدُ إِذْ لَمْ يَجْعَلْهَا فِي دِينِي"

(2)

.

- مِمَّا يُعِينُ عَلَى الصَّبْرِ عِنْدَ المُصِيبَةِ أَمْرَانِ:

1 -

مُلَاحَظَةُ حِكْمَةِ اللهِ تَعَالَى فِي ابْتِلَائِهِ، وَأَنَّ أَفْعَالَهُ كُلُّهَا سُبْحَانَهُ تَدُورُ بَينَ العَدْلِ وَالفَضْلِ.

2 -

مُلَاحَظَةُ ثَوَابِ الرِّضَى بِالقَدَرِ، وَمَا أَعَدَّهُ اللهُ تَعَالَى لِلصَّابِرِينَ، وَقَدْ دَلَّ لَهُ الحَدِيثُ:((إِنَّ عِظَمَ الجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ البَلَاءِ))

(3)

.

(1)

كَمَا فِي الحَدِيثِ: ((وَلَا تَجْعَلْ مُصِيبَتَنا فِي دِينِنَا)). حَسَنٌّ. التِّرْمِذِيُّ (3502) عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (1268).

(2)

سِيَرُ أَعْلَامِ النُّبَلَاءِ (4/ 105).

(3)

قُلْتُ: وَتَأَمَّلْ قَولَهُ تَعَالَى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ} [التَّغَابُن: 11].

ص: 33

بَابُ مَا جَاءَ فِي الرِّيَاءِ

وَقَولِ اللهِ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكَهْف: 110].

وَعَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا: ((قَالَ تَعَالَى: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ مَعِي فِيهِ غَيرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(1)

.

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا: ((أَلَا أُخْبِرُكُمْ مَا هُوَ أَخْوَفُ عَلَيكُمْ عِنْدِي مِنَ المَسِيحِ الدَّجَّالِ؟)) قَالُوا: بَلَى. قَالَ: ((الشِّرْكُ الخَفِيُّ، يَقُومُ الرَّجُلُ فَيُصَلِّي؛ فَيُزَيِّنُ صَلَاتَهَ لِمَا يَرَى مِنْ نَظَرِ رَجُلٍ إِلَيهِ)). رَوَاهُ أَحْمَدُ

(2)

.

(1)

مُسْلِمٌ (2985).

(2)

حَسَنٌ. ابْنُ مَاجَه (4204)، وَأَحْمَدُ (11252). صَحِيحُ الجَامِعِ (2607).

ص: 34

فِيهِ مَسَائِلُ:

الأُولَى: تَفْسِيرُ آيَةِ الكَهْفِ.

الثَّانِيَةُ: الأَمْرُ العَظِيمُ فِي رَدِّ العَمَلِ الصَّالِحِ إِذَا دَخَلَهُ شَيءٌ لِغَيرِ اللهِ.

الثَّالِثَةُ: ذِكْرُ السَّبَبِ المُوجِبِ لِذَلِكَ وَهُوَ كَمَالُ الغِنَى.

الرَّابِعَةُ: أَنَّ مِنَ الأَسْبَابِ؛ أَنَّهُ تَعَالَى خَيرُ الشُّرَكَاءِ.

الخَامِسَةُ: خَوفُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَصْحَابِهِ مِنَ الرِّيَاءِ.

السَّادِسَةُ: أَنَّهُ فَسَّرَ ذَلِكَ بِأَنَّ المَرْءَ يُصَلِّي لِلَّهِ؛ لَكِنْ يُزَيِّنُهَا لِمَا يَرَى مِنْ نَظَرِ رَجُلٍ إِلَيهِ.

ص: 35

‌الشَّرْحُ

- الرِّيَاءُ حَقِيقَتُهُ مِنَ الرُّؤيَةِ البَصَرِيَّةِ، وَيَكُونُ أَيضًا مِنَ السَّمْعِ؛ فَيُسَمَّى سُمْعَةً، كَمَا فِي الحَدِيثِ:((مَن سَمَّع سَمَّعَ اللهُ به، وَمَنْ رَاءَى رَاءَى اللهُ بِهِ))

(1)

.

- الرِّيَاءُ هُوَ شِرْكٌ أَصْغَرُ، وَهُوَ أَيضًا شِرْكٌ خَفيٌّ، فَهُوَ أَصْغَرُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَيسَ بِأَكْبَرَ، أَي: لَيسَ فَاعِلُهُ كَافِرًا بِاللهِ تَعَالَى خَارِجًا عَنِ المِلَّةِ.

وَهُوَ شِرْكٌ خَفِيٌّ

(2)

بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَيسَ بِظَاهِرٍ؛ لِأَنَّه يُخَالِطُ نِيَّةَ العَبْدِ وَلَيسَ عَمَلَهُ

(3)

.

- أَنْوَاعُ الرِّيَاءِ

(4)

:

1 -

رِيَاءُ المُنَافِقِينَ: بِأَنْ يُظْهِرَ الإِسْلَامَ وَيُبْطِنَ الكُفْرَ، فَالرِّيَاءُ هَذَا هُوَ فِي أَصْلِ الدِّينِ.

(1)

رَوَاهُ البُخَارِيُّ (6499)، وَمُسْلِمٌ (2986) مِنْ حَدِيثِ جُنْدُبٍ مَرْفُوعًا.

وَفِي رِوَايَةٍ لَأَحْمَدَ (3839) مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: ((مَنْ سَمَّعَ النَّاسَ بِعَمَلِهِ؛ سَمَّعَ اللهُ بِهِ سَامِعَ خَلْقِهِ))، وَالمَعْنَى: أَظْهَرَ اللهُ عَنْهُ مَا يَنطَوي عَلَيهِ مِنْ قُبْحِ السَّرَائِرِ.

(2)

وَعِنْدَ ابْنِ خُزَيمَةَ (937) عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ قَالَ: خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: ((أَيُّهَا النَّاسُ إِيَّاكُمْ وَشِرْكَ السَّرَائِرِ)). قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ مَا شِرْكُ السَّرَائِرِ؟ قَالَ: ((يَقُومُ الرَّجُلُ فَيُصَلِّي؛ فَيُزَيِّنُ صَلَاتَهُ جَاهِدًا لِمَا يَرَى مِنْ نَظَرِ النَّاسِ إِلَيهِ، فَذَلِكَ شِرْكُ السَّرَائِرِ)). حَسَنٌ. صَحِيحُ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ (31).

(3)

وَتَأَمَّلِ الحَدِيثَ عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ: انْطَلَقْتُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:((يَا أَبَا بَكْرٍ، لَلشِّرْكُ فِيكُمْ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ))، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَلِ الشِّرْكُ إِلَّا مَنْ جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ؟ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ؛ لَلشِّرْكُ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ، أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى شَيءٍ إِذَا قُلْتَهُ ذَهَبَ عَنْكَ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ؟)) قَالَ: ((قُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أُشْرِكَ بِكَ وَأَنَا أَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لَا أَعْلَمُ)). صَحِيحٌ. الأَدَبُ المُفْرَدُ (716). صَحِيحُ الأَدَبِ المُفْرَدِ (554).

(4)

مُسْتَفَادٌ مِنَ التَّمْهِيدِ (ص 52) لِلشَّيخِ صَالِحِ آلِ الشَّيخ حَفِظَهُ اللهُ.

ص: 36

وَهَذَا مِنَافٍ لِلتَّوحِيدِ مِنْ أَصْلِهِ، وكُفْرٌ أَكْبَرُ بِاللهِ جل جلاله، وَقَدْ وَصَفَ اللهُ المُنَافِقِينَ بِقَولِهِ:{يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النِّسَاء: 142].

2 -

رِيَاءُ المُسْلِمِ (أَي الَّذِي قَدْ يَصْدُرُ مِنَ المُسْلِمِ): بِأَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ مُسْلِمًا، وَلَكِنَّهُ يُرَائِي بِبَعْضِ عَمَلِهِ، فَهَذَا شِرْكٌ خَفِيٌّ، وَهُوَ مُنافٍ لِكَمَالِ التَّوحِيدِ الوَاجِبِ، لِأَنَّه لَيسَ فِي أَصْلِ تَديُّنِهِ؛ وَعَلَيهِ حَدِيثُ البَابِ. وَقَدْ سَبَقَ فِي بَابِ (الخَوفِ مِنَ الشِّرْكِ) بَيَانُ أَنَّهُ مِنَ الشِّرْكِ الأَصْغَرِ

(1)

.

- سَبَبُ كَونِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَخْشَى عَلَى أَصْحَابِهِ مِنَ الشِّركِ الخَفِيِّ أَكْثَرَ مِنَ المَسِيحِ الدَّجَّالِ رُغْمَ عِظَمِ فِتْنَتِهِ؛ هُوَ أَنَّ هَذَا النَّوعَ مِنَ الشِّرْكِ خَفيٌّ لَيسَ بِظَاهِرٍ، وَيَعْرِضُ لِلعُبَّادِ فِي عِبَادَتِهِم، أَمَّا المَسِيحُ الدَّجَّالُ؛ فَإِنَّ أَمْرَهُ ظَاهِرٌ، وَذَلِكَ لِمَا جَاءَ فِي حَقِّهِ مِنَ النُّصُوصِ، لِذَلِكَ كَانَ أَكْثَرَ شِيعَتَهِ هُمْ مِمَّن لَا عِلْمَ عِنْدَهُم.

- إِنَّ اسْتِدْلَالَ المُصَنِّفِ هُنَا هُوَ منِ بَابِ الأَولَى، حَيثُ إِذَا كَانَ عليه الصلاة والسلام لَمْ يَأْمَنْ عَلَى أَصْحَابِهِ مِنَ الرِّيَاءِ؛ فَغَيرُهُم -مِمَّنْ هُم أَقَلُّ عِلْمًا وَصَلَاحًا- هُمْ مِنْ بَابِ أَولَى.

- حُكْمُ العِبَادَةِ إِذَا خَالَطَهَا الرِّيَاءُ هُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَشْكَالٍ

(2)

:

1 -

أَنْ يَكُونَ البَاعِثَ عَلَى العِبَادَةِ مُرَاءَاةُ النَّاسِ مِنَ الأَصْلِ؛ كَمَنْ قَامَ يُصَلِّي مِنْ أَجْلِ مُرَاءَاةِ النَّاسِ، وَلَمْ يَقْصِدْ وَجْهَ اللهِ تَعَالَى! فَهَذَا شِرْكٌ وَالعِبَادَةُ بَاطِلَةٌ

(3)

.

(1)

وذَكَرْنَا هُنَاكَ أَنَّ الشِّرْكَ الأَصْغَرَ: هُوَ جَمِيعُ الأَقْوَالِ وَالأَفْعَالِ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى الشِّرْكِ؛ كَالغُلوِّ فِي المَخْلُوقِ -بِحَيثُ لَا يَصِلُ هَذَا الغُلُوُّ إِلَى رُتْبَةِ العِبَادَةِ- وَكَالحَلِفِ بِغَيرِ اللهِ وَكَيَسِيرِ الرَّيَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

(2)

القَولُ المُفِيدُ لِلشَّيخِ العُثَيمِين رحمه الله (2/ 125)؛ بِتَصَرُّفٍ يَسِيرٍ.

(3)

قَالَ الإِمَامُ ابْنُ القَيِّمِ رحمه الله: "وَإِنْ كَانَتِ النِّيَّةُ شَرْطًا فِي سُقُوطِ الفَرْضِ وَجَبَتْ عَلَيهِ الإِعَادَةُ؛ فَإِنَّ حَقِيقَةَ الإِخْلَاصِ الَّتِي هِي شَرْطٌ فِي صِحَّةِ العَمَلِ وَالثَّوَابِ عَلَيهِ لَمْ تُوجَدْ؛ وَالحُكْمُ المُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ عَدَمٌ عِنْدَ

=

ص: 37

2 -

أَنْ يَكُونَ الرِّيَاءُ مُشَارِكًا لِلعِبَادَةِ فِي أَثْنَائِهَا؛ بِمَعْنَى أَنْ يَكُونَ الحَامِلَ لَهُ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ الإِخْلَاصُ للهِ تَعَالَى ثُمَّ يَطْرَأُ الرِّيَاءُ فِي أَثْنَاءِ العِبَادَةِ؛ فَهُنَا نُمَيِّزُ العِبَادَةَ نَفْسَهَا؛ فَإِنْ كَانَتِ العِبَادَةُ لَا يَنْبَنِي آخِرُهَا عَلَى أوَّلِهَا -كَقِرَاءَةِ القُرْآنِ، وَالصَّدَقَةِ تِلوَ الصَّدَقَةِ- فَأَوَّلُهَا صَحِيحٌ بِكُلِّ حَالٍ، وَالبَاطِلُ آخِرُهَا.

أَمَّا إِذَا كَانَتِ العِبَادَةُ يَنْبَنِي آخِرُهَا عَلَى أَوَّلِهَا -كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ-؛ فَإِذَا دَافَعَ الرِّيَاءَ وَكَرِهَهُ؛ فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّهُ، لِقَولِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:((إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ أَو تَتَكَلَّمْ))

(1)

.

أمَّا إِذَا اسْتَرْسَلَ مَعَهُ ولم يُدَافِعْهُ؛ فَحِينَئِذٍ تَبْطُلُ جَمِيعُ العِبَادَةِ؛ لِأَنَّ آخِرَهَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَوَّلِهَا وَمُرْتَبِطٌ بِهَا

(2)

.

3 -

إِذَا طَرَأَ الرِّيَاءُ - وَهُوَ هُنَا مَحَبَّةُ الثَّنَاءِ وَالفَرَحُ بِهِ- بَعْدَ انْتِهَاءِ العِبَادَةِ؛ فَإِنَّهُ لَا يُؤَثِّرُ عَلَيهَا شَيئًا، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِ عُدْوَانٌ كَالمَنِّ وَالأَذَى بِالصَّدَقَةِ؛ فَإِنَّ هَذَا العُدْوَانَ يَكُونُ إِثْمُهُ مُقَابِلًا لِأَجْرِ الصَّدَقَةِ فَيُبْطِلُهَا؛ لِقَولِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَومِ

=

عَدَمِهِ، فَإِنَّ الإِخْلَاصَ هُوَ تَجْرِيدُ القَصْدِ طَاعَةً لِلْمَعْبُودِ؛ وَلَمْ يُؤْمَرْ إِلَّا بِهَذَا. وَإِذَا كَانَ هَذَا هُوَ المَأْمُورُ بِهِ فَلَمْ يَأْتِ بِهِ؛ بَقِيَ فِي عُهْدَةِ الأَمْرِ". إِعْلَامُ المُوَقِّعِين (2/ 124).

وَيُنْظَرُ أَيضًا: (الجَوَابُ الكَافِي) لِابْنِ القَيِّمِ (ص 132).

(1)

رَوَاهُ البُخَارِيُّ (5269)، وَمُسْلِمٌ (127) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ.

(2)

وَفِي بُطْلَانِهَا خِلَافٌ بَينَ أَهْلِ العِلْمِ، وَقَالَ بَعْضُهُم: إَنَّهُ يُجَازَى بِأَصْلِ نِيَّتِهِ؛ وَهُوَ قَولُ الإِمَامِ أَحْمَدَ وَابْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ رحمهم الله. اُنْظُرْ كِتَابَ (جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ)(1/ 83).

قُلْتُ: وَلَكِنْ يَشْهَدُ لِمَا أَثْبَتْنَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيرَةَ المَرْفُوعُ: ((قَالَ تَعَالَى: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ؛ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ مَعِي فِيهِ غَيرِي، تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ (2985).

ص: 38

الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي القَومَ الكَافِرِينَ} [البَقَرَة: 264].

- قَولُهُ تَعَالَى: {يُوحَى إِلَيَّ} الوَحْيُ فِي اللُّغَةِ: الإِعْلَامُ بِسُرْعَةٍ وَخَفَاءٍ، وَمِنْهُ قَولُهُ تَعَالَى:{فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مَرْيَم: 11]، وَفِي الشَّرْعِ: إِعْلَامُ اللهِ بالشَّرْعِ.

- قَولُهُ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا} المُرَادُ بِاللِّقَاءِ هُنَا المُلَاقَاةُ الخَاصَّةُ، لِأَنَّ اللِّقَاءَ نَوعَان:

1 -

عَامٌّ لِكُلِّ إِنْسَانٍ، قَالَ تَعَالَى:{يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} [الانِشْقِاق: 6].

2 -

خَاصٌّ بِالمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ لَقَاءُ الرِّضَى وَالنَّعِيمِ كَمَا فِي هَذِهِ الآيَةِ، وَتَتَضَمَّنُ رؤيَتَهُ تبارك وتعالى.

- قَولُهُ تَعَالَى: {فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} فِيهِ بَيَانُ صِفَةِ العَمَلِ المَقْبُولِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، وَكَمَا فِي الحَدِيثِينِ اللَّذَينِ هُمَا مِيزَانَا قَبُولِ العَمَلِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، وَهُمَا حَدِيثُ:((إنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ))، وَحَدِيثُ:((مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيسَ عَلَيهِ أَمْرُنَا فَهو رَدٌّ))

(1)

.

وَكَمَا قَالَ الفُضَيلُ بْنُ عِيَاضٍ رحمه الله فِي قَولِهِ تَعَالَى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [المُلْك: 2] قَالَ: "أخْلَصَهُ وَأَصْوَبَهُ، فَإِنَّهُ إِذَا

(1)

الحَدِيثُ الأَوَّلُ رَوَاهُ البُخَارِيُّ (1)، وَمُسْلِمٌ (1907) عَنْ عُمَرَ مَرْفُوعًا، والثَّانِي رَوَاهُ البُخَارِيُّ (2697)، وَمُسْلِمٌ (1718) عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا؛ وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.

ص: 39

كَانَ خَالِصًا وَلَمْ يَكُنْ صَوَابًا لَمْ يُقْبَلْ! وَإِذَا كَانَ صَوَابًا وَلَمْ يَكُنْ خَالِصًا لَمْ يُقْبَلْ! حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا صَوَابًا، وَالخَالِصُ إِذَا كَانَ للهِ وَالصَّوَابُ إِذَا كَانَ عَلَى السُّنَّةِ"

(1)

.

- قَولُهُ تَعَالَى: {بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} ذِكْرُ الرُّبُوبِيَّةِ هُنَا فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى العِلَّةِ فِي التَّوحِيدِ، فَكَمَا أَنَّ رَبَّكَ خَلَقَكَ وَلَا يُشَارِكُهُ أَحَدٌ فِي خَلْقِكَ؛ فَإِنَّهُ أَيضًا مَعْبُودُكَ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُشَارِكُهُ أَحَدٌ فِي العِبَادَةِ، قَالَ تَعَالَى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البَقَرَة: 21].

(1)

رَوَاهُ الأَصْبَهَانِيُّ فِي الحِلْيَةِ (8/ 95).

ص: 40

‌مَسَائِلُ عَلَى البَابِ

-‌

‌ مَسْأَلَةٌ: مَا حُكْمُ مَنْ خَالَطَتْ نِيَّتَهُ نِيَّةٌ غَيرُ الرِّيَاءِ؟

كَمَنْ جَاهَدَ مِنْ أَجْلِ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ) وَأَضَافَ لِذَلِكَ المَغْنَمَ!

وَكَمَنْ حَجَّ لِأَدَاءِ مَا أَوجَبَ اللهُ عَلَيهِ مِنْ فَرِيضَةٍ؛ وَأَضَافَ لِذَلِكَ تِجَارَةً دُنْيَوِيَّةً!

وَكَمَنْ وَصَلَ الرَّحِمَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ؛ وَتَوسِيعًا فِي رِزْقِهِ؛ وَإِطَالَةً لِعُمُرِهِ!

الجَوَابُ:

إِنَّ هَذَا جَائِزٌ؛ وَلَا يَبْطُلُ عَمَلُهُ بِذَلِكَ، لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى رَغَّبَ المُؤْمِنِينَ فِي تَقْوَاهُ بِذِكْرِ مَنَافِعَ لَهُم فِي الدُّنْيَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطَّلَاق: 2]. وَكَمَا فِي الحَجِّ: {لَيسَ عَلَيكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البَقَرَة: 198].

وَكَمَا فِي الصَّحِيحَينِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ مَرْفُوعًا ((مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَه فِي رِزْقِهِ وَأَنْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ))

(1)

(2)

.

إِلَّا أَنَّ أَجْرَهُ يَنْقُصُ بِحَسْبِ ذَلِكَ، كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا ((مَا مِنْ غَازِيَةٍ تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُصِيبُونَ الغَنِيمَةَ؛ إِلَّا تَعَجَّلُوا ثُلُثَي أَجْرِهِمْ مِنَ الأُجْرَةِ، وَيَبْقى لَهُمُ الثُّلْثُ، فَإِنْ لَمْ يُصِيبُوا غَنِيمَةً تَمَّ لَهُمْ أَجْرُهُمُ))

(3)

(4)

.

(1)

البُخَارِيُّ (5985)، وَمُسْلِمٌ (2557).

(2)

وَلَكِنَّ هَذَا أَيضًا لَا يَعْنِي جَوَازَ أَنْ تَكُونَ نيَّتُهُ خَالِصَةً لِأَمْرِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ هَذَا مَذْمُومٌ كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا} [الإِسْرَاء: 18]، وَكَمَا فِي الحَدِيثِ:((مَنْ غَزَا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَمْ يَنْوِ إِلَّا عِقَالًا فَلَهُ مَا نَوَى)).

(3)

مُسْلِمٌ (1906).

(4)

قَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ رحمه الله: "التَّاجِرُ وَالمُسْتَأْجَرُ أَجْرُهُم عَلَى قَدْرِ مَا يَخْلُصُ مِنْ نيَّتِهِم فِي غَزَاتِهِم، وَلَا يَكُونُ مِثْلَ مَنْ جَاهَدَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ لَا يَخْلِطُ بِهِ غَيرَهُ". جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (1/ 82).

ص: 41

قَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ رحمه الله: "التَّاجِرُ وَالمُسْتَاجَرُ أَجْرُهُم عَلَى قَدْرِ مَا يَخْلُصُ مِنْ نيَّتِهِم فِي غَزَاتِهِم؛ وَلَا يَكُونُ مِثْلَ مَنْ جَاهَدَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ لَا يَخْلِطُ بِهِ غَيرَهُ".

- تَنْبِيهٌ:

إِنَّ مَا سَبَقَ لَا يَعْنِي جَوَازَ أَنْ تَكُونَ نيَّتُهُ خَالِصَةً لِأَمْرِ الدُّنْيَا! فَإِنَّ هَذَا مَذْمُومٌ، كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ العَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيهُمْ مَشْكُورًا} [الإِسْرَاء: 18، 19].

وَكَمَا فِي الحَدِيثِ ((مَنْ غَزَا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَمْ يَنْوِ إِلَّا عِقَالًا! فَلَهُ مَا نَوَى))

(1)

.

(1)

صَحِيحٌ. النَّسَائِيُّ (3138) عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (6401).

ص: 42

بَابُ مِنَ الشِّرْكِ إِرَادَةُ الإِنْسَانِ بِعَمَلِهِ الدُّنْيَا

وَقَولُهُ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هُود: 15 - 16].

في الصَّحَيحِ عَنْ أَبِي هُرَيرَة رضي الله عنه؛ قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ، تَعِسَ عَبْدُ الخَمِيصَةِ، تَعِسَ عَبْدُ الخَمِيلَةِ، إنْ أُعْطِيَ رَضِيَ وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ! تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَقَشَ. طُوبَى لِعَبْدٍ آخِذٍ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ، أَشْعَثَ رَأْسُهُ، مُغْبَرَّةٍ قَدَمَاهُ، إِنْ كَانَ فِي الحِرَاسَةِ؛ كَانَ فِي الحِرَاسَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي السَّاقَةِ؛ كَانَ فِي السَّاقَةِ، إِنْ اسْتَأْذَنَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ! وَإِنْ شَفَعَ لَمْ يُشَفَّعْ!))

(1)

.

(1)

صَحِيحُ البُخَارِيِّ (2887).

وَأَمَّا ذِكْرُ "الخَمِيلَةِ" فَلَمْ أَجِدْهُ فِي شَيءٍ مِنْ أَلفَاظِ الحَدِيثِ -فَضْلًا عَنْ صَحِيحِ البُخَارِيِّ-، وَقَدْ أَورَدَهُ شَيخُ الإسْلَامِ رحمه الله فِي مَجْمُوعِ الفَتَاوَى (1/ 35) هَكَذَا -كَمَا ذَكَرَهُ المُصَنِّفُ هُنَا-، وَعِوَضًا عَنْهُ فِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ قَولُهُ:((القَطِيفَةُ)) بَدَلَ: ((الخَمِيلَةِ)). وَالقَطِيفَةُ: كِسَاءٌ لَهُ خَمْلٌ، وَهِيَ بِمَعْنَى الخَمِيلَةِ؛ كَمَا ذَكَروا فِي كُتُبِ اللُّغَةِ.

ص: 43

فِيهِ مَسَائِلُ:

الأُولَى: إِرَادَةُ الإِنْسَانِ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الآخِرَةِ.

الثَّانِيَةُ: تَفْسِيرُ آيَةِ هُودٍ.

الثَّالِثَةُ: تَسْمِيَةُ الإِنْسَانِ المُسْلِمِ عَبْدَ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ وَالخَمِيصَةِ.

الرَّابِعَةُ: تَفْسِيرُ ذَلِكَ؛ بِأَنَّهُ إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ.

الخَامِسَةُ: قَولُهُ: ((تَعِسَ وَانْتَكَسَ)).

السَّادِسَةُ: قَولُهُ: ((وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَقَشَ)).

السَّابِعَةُ: الثَّنَاءُ عَلَى المُجَاهِدِ المَوصُوفِ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ.

ص: 44

‌الشَّرْحُ

- مُنَاسَبَةُ هَذَا البَابِ لِكِتَابِ التَّوحِيدِ أَنَّهُ مُشَابِهٌ لِلبَابِ السَّابِقِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ العَامِلَ فِيهِ يُرِيدُ بِعَمَلِهِ الثَّوَابَ العَاجِلَ -كَالرِّزْقِ وَالعَافِيَةِ وَالأَمَانِ وَالذُّرِّيَّةِ-؛ وَلَكِنَّهُ مُخَالِفٌ لِلبَابِ السَّابِقِ فِي أَنَّ العَامِلَ هُنَا عَمَلُهُ هُوَ لِوَجْهِ اللهِ وَلَيسَ رِيَاءً، وَأَمَّا البَابُ السَّابِقُ فَعَمَلُهُ هُوَ لِمُرَاءَاةِ النَّاسِ، وَاشْتَرَكوا فِي كَونِ الغَايَةِ من عَمَلِهِم هِيَ المَصْلَحَةُ العَاجِلَةُ فَقَط.

قُلْتُ: وَأَيضًا يُمْكِنُ أَنْ يُضَافَ أَنَّ العَمَلَ هُنَاكَ حَابِطٌ لَا ثَوَابَ فِيهِ مِنَ اللهِ -لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الآخِرَةِ-، أَمَّا هُنَا؛ فَقَدْ يُثَابُ عَلَيهِ فِي الدُّنْيَا.

- مَنْ كَانَ عَمَلُهُ كُلُّهُ لِلأَجْرِ العَاجِلِ وَالثَّوَابِ الدُّنْيَوِيِّ ولَا يَرْجُو الآخِرَةِ أَبَدًا؛ فَهَذَا هُوَ الكَافِرُ الكُفْرَ الأَكْبَرَ

(1)

، وَسَبَبُ ذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى عَدَمِ إِيمَانِهِ بِاليَومِ الآخِرِ؛ وَأَنَّ فِيهِ الجَزَاءَ وَالثَّوَابَ وَالجنَّةَ وَالنَّارَ، وَهَذَا يُنَاقِضُ أَصْلَ التَّوحِيدِ، وَمَنْ فَعَلَ فِعْلَهُ مِنَ المُسْلِمِينَ فَفِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ الكُفْرِ حتَّى يَدَعَهَا

(2)

، وَهُوَ بِذَلِكَ يُنَاقِضُ كَمَالَ التَّوحِيدِ الوَاجِبِ، فَهُوَ يُرِيدُ بِعَمَلِهِ نَفْعًا فِي الدُّنْيَا فَقَطْ وَهُوَ غَافِلٌ عَنْ ثَوَابِ الآخِرَةِ

(3)

.

(1)

وَكَذَلِكَ فِي البَابِ السَّابِقِ مَنْ كَانَ عَمَلُهُ كُلُّهُ لِغَيرِ اللهِ؛ فَهَذَا هُوَ المُنَافِقُ الأَصْلِيُّ، وَكَمَا سَبَقَ قَرِيبًا بَيَانُ أَنَّ الرِّيَاءَ نَوعَانِ: رِيَاءُ المُنَافِقِ، وَرِيَاءُ المُسْلِم.

(2)

كَمَا أَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَكُونُ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ خِصَالِ المُنَافِقِ الخَالِصِ -كَالكَذِبِ وَالخِيَانَةِ وَالغَدْرِ وَالفُجُورِ-.

(3)

قَالَ العَلَّامَةُ السَّعْدِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي التَّفْسِيرِ (ص 378): "يَقُولُ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} أَي: كُلُّ إِرَادَتِهِ مَقْصُورةٌ عَلَى الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَعَلَى زِينَتِهَا مِنَ النِّسَاءِ وَالبَنِينَ وَالقَنَاطِيرِ المُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ وَالخَيلِ المُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالحَرْثِ، قَدْ صَرَفَ رَغْبَتَهُ وَسَعْيَهُ وَعَمَلَهُ فِي هَذِهِ الأَشْيَاء وَلَمْ يَجْعَلْ لِدَارِ القَرَارِ مِنْ إِرَادَتِهِ شَيئًا! فَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا كَافِرًا، لِأَنَّهُ لَو كَانَ مُؤْمِنًا لَكَانَ مَا مَعَهُ مِنَ الإِيمَانِ يَمْنَعُهُ أَنْ تَكُونَ جَمِيعُ إِرَادَتِهِ لِلدَّارِ الدُّنْيَا، بَلْ نَفْسُ إيِمَانِهِ وَمَا تَيَسَّرَ لَهُ مِنَ الأَعْمَالِ أَثَرٌ

=

ص: 45

- مَنْ عَمِلَ عَمَلًا مُخْلِصًا فِيهِ للهِ رَاجِيًا بِذَلِكَ الثَّوَابَ العَاجِلَ؛ فَإِنَّهُ قَدْ يُؤْجَرُ عَلَيهِ فِي الدُّنْيَا وَلَو كَانَ كَافِرًا

(1)

.

وَفِي الحَدِيثِ: ((إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مُؤْمِنًا حَسَنَةً؛ يُعْطَى بِهَا فِي الدُّنْيَا وَيُجْزَى بِهَا فِي الآخِرَةِ، وَأَمَّا الكَافِرُ؛ فَيُطْعَمُ بِحَسَنَاتِ مَا عَمِلَ بِهَا لِلَّهِ فِي الدُّنْيَا حَتَّى إِذَا أَفْضَى إِلَى الآخِرَةِ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ يُجْزَى بِهَا))

(2)

.

فَالمُشْرِكُ -مَثَلًا- لَمَّا رَكِبَ البَحْرَ وَخَشِيَ الغَرَقَ وَدَعَا اللهَ تَعَالَى مُخْلِصًا لَهُ اسْتَجَابَ لَهُ سُبْحَانَهُ فَنَجَّاهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العَنْكَبُوتُ: 65].

=

مِنْ آثَارِ إِرَادَتِهِ الدَّارَ الآخِرَةَ.

وَلَكِنَّ هَذَا الشَّقِيَّ الَّذِي كَأَنَّهُ خُلِقَ لِلدُّنْيَا وَحْدِهَا: {نُوَفِّ إِلَيهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} أَي: نُعْطِيهِم مَا قُسِمَ لَهُم فِي أُمِّ الكِتَابِ مِنْ ثَوَابِ الدُّنْيَا {وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ} أَي: لَا يُنْقَصُونَ شَيئًا مِمَّا قُدِّرَ لَهُم؛ وَلَكِنْ هَذَا مُنْتَهَى نَعِيمِهِم".

(1)

قَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُم فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ} [الأَحْقَاف: 20].

وَكَمَا فِي البُخَارِيِّ (2468)، وَمُسْلِمٌ (1479) مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ رضي الله عنه؛ أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: اُدْعُ اللهَ أَنْ يُوسِّعَ عَلَى أُمَّتِكِ؛ فَقَدْ وَسَّعَ عَلَى فَارِسَ وَالرُّومَ؛ وَهُمْ لَا يعْبُدُونَ اللهَ! فَاسْتَوَى جَالِسًا، ثُمَّ قَالَ:((أَفِي شَكٍّ أَنْتَ يَا ابْنَ الخَطَّابِ؟! أُولَئِكَ قَومٌ عُجِّلَتْ لَهُم طَيِّبَاتُهم فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا)).

(2)

مُسْلِمٌ (2808) عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا.

وَرَوَى الطَّبَرِيُّ فِي التَّفْسِيرِ (15/ 264) عَنْ قَتَادَةَ قَولَهُ: " {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ} أَي: لَا يُظْلَمُونَ. يَقُولُ: مَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ وَسَدَمَهُ [أَي: وَلَعَهُ] وَطِلْبَتَهُ وَنِيَّتَهُ جَازَاهُ اللهُ بِحَسَنَاتِهِ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ يُفْضِي إِلَى الآخِرَةِ وَلَيسَ لَهُ حَسَنَةٌ يُعْطَى بِهَا جَزَاءً. وَأَمَّا المُؤْمِنُ؛ فَيُجَازَى بِحَسَنَاتِهِ فِي الدُّنْيَا وَيُثَابُ عَلَيهَا فِي الآخِرَةِ {وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ} أَي: فِي الآخِرَةِ لَا يُظْلَمُونَ".

ص: 46

وَهَذَا بِخِلَافِ عَامَّةِ دُعَائِهِ الشِّرْكِيِّ؛ فَإِنَّ اللهَ يَجْعَلُهُ هَبَاءً مَنْثُورًا، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ:{وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} [الرَّعْدُ: 14].

- قَولُهُ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هُود: 16] هَذِهِ الآيَةُ مَخْصُوصَةٌ بِقَولِهِ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} [الإِسْرَاء: 18] أَي: لِمَنْ شَاءَ وبِمَا شَاءَ سُبْحَانَهُ

(1)

.

- مِنَ الأَمْثِلَةِ الَّتِي تُبَيِّنُ كَيفِيَّةَ إِرَادَةِ الإِنْسَانِ بِعَمَلِهِ الدُّنْيَا:

أَنْ يُرِيدَ المَالَ، كَمَنْ أَذَّنَ لِيَأْخُذَ رَاتِبَ المُؤَذِّنِ، أَو حَجَّ لِيَأْخُذَ المَالَ.

أَنْ يُرِيدَ المَرْتَبَةَ، كَمَنْ تَعَلَّمَ فِي كُلِّيَّةٍ شَرْعِيَّةٍ لِيَأْخُذَ الشَّهَادَةَ؛ فَتَرْتَفِعَ مَرْتَبَتُهُ بَينَ النَّاسِ.

أَنْ يُرِيدَ دَفْعَ المَصَائِبِ وَالأَمْرَاضِ عَنْهُ، كَمَنْ يَعْبُدُ اللهَ كَي يَجْزيَهُ اللهُ بِهَذَا فِي الدُّنْيَا بِمَحَبَّةِ الخَلْقِ لَهُ وَدَفْعِ السُّوءِ عَنْهُ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.

- ((القَطِيفَةُ)) كِسَاءٌ لَهُ خَمْلٌ، وَهِيَ بِمَعْنَى الخَمِيلَةِ.

- سُمِّيَ الرَّجُلُ عَابِدًا لِلدِّرْهَمِ وَالدِّينَارِ لِأَنَّهَا هِيَ المَقْصُودَةُ بِعَمَلِهِ وَهِمَّتِهِ، بِعَكْسِ مَنْ كَانَتْ هِمَّتُهُ مُنْصَرِفَةً لِابْتِغَاءِ الدَّارِ الآخِرَةِ.

- قَولُهُ: ((تَعِسَ وَانْتَكَسَ)) تَعِسَ: خَابَ وَهَلَكَ، وَانْتَكَسَ: انْتَكَسَتْ عَلَيهِ الأُمُورُ

(1)

وَكَقَولِهِ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشُّورَى: 20] فَقَولُهُ تَعَالَى: {نُؤْتِهِ مِنْهَا} "مِنْ" هُنَا لِلْتَبْعِيضِ، يَعْنِي: نُؤْتِهِ مِنْ بَعْضِهَا.

ص: 47

بِحَيثُ لَا تَتَيَسَّرُ لَهُ، فَكُلَّمَا أَرَادَ شَيئًا انْقَلَبَتْ عَلَيهِ الأُمُورُ خِلَافَ مَا يُرِيدُ.

- قَولُهُ: ((طُوبَى)) مِنَ الطِّيبِ، وَهِيَ اسْمُ تَفْضِيلٍ، وَيُقَالُ:(أَطْيَبُ) لِلمُذَكَّرِ وَ (طُوبَى) لِلمُؤَنَّثِ، وَالمَعْنَى: أَطْيَبُ حَالٍ تَكُونُ لِهَذَا الرَّجُلِ، وَفِي الحَدِيثِ:((طُوبَى شَجَرَةٌ فِي الجَنَّةِ مَسِيرَةَ مائَةَ عَامٍ؛ ثِيَابُ أَهْلِ الجَنَّةِ تَخْرُجُ مِنْ أَكْمَامِهَا))

(1)

.

- فِي قَولِهِ: ((إِنْ كَانَ فِي الحِرَاسَةِ

وَإنْ كَانَ فِي السَّاقَةِ)) ذِكْرٌ حَسَنٌ مِنْ صِفَاتِ ذَلِكَ الرَّجُلِ، وَهِيَ:

1 -

بَيَانُ ائْتِمَارِهِ بِمَا أُمِرَ طَالَمَا أَنَّهُ فِي سَبيلِ اللهِ

(2)

.

2 -

قِيَامُهُ بِعَمَلِهِ عَلَى أَحْسِنِ وَجْهٍ.

وَالتَّكْرَارُ فِي قَولِهِ: ((إِنْ كَانَ فِي الحِرَاسَةِ كَانَ فِي الحِرَاسَةِ)) أُسْلُوبٌ مِنَ أَسَالِيبِ العَرَبِ فِي بَيَانَ تَحَقُّقِ الشَّيءِ وَوُقُوعِهِ عَلَى وَجْهِهِ.

3 -

عَدَمُ سَعْيِهِ خَلْفَ ثَنَاءِ النَّاسِ، فَالسَّاقَةُ -وَهِيَ فِي مُؤَخِّرَةُ الجَيشِ- لَا يُتَفَطَّنُ لِصَاحِبِهَا أَنَّهُ فِي جِهَادٍ؛ بِخِلَافِ مُقَدَّمِ الجَيشِ، فَهَذَا الرَّجُلُ بَعِيدٌ عَنِ الرِّيَاءِ.

- قَولُهُ: ((إِنْ اسْتَأْذَنَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، وَإِنْ شَفَعَ لَمْ يُشَفَّعْ)) أَي: لَيسَ لَهُ جَاهٌ وَلَا شَرَفٌ عِنْدَ أَصْحَابِ الدُّنْيَا لِأَنَّه لَيسَ مِنْ طُلَّابِهَا، فَلَا تُقْبَلُ لَهُ شَفَاعَةٌ عِنْدَ أَحَدٍ، وَلَا يُؤْذَنُ لَهُ عِنْدَهُم، كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا: ((رُبَّ أشْعَثَ مَدْفُوعٍ بِالأَبْوَابِ؛ لَو أَقْسَمَ

(1)

صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (11673) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (1985).

(2)

قَالَ العَينِيُّ رحمه الله: "وَالسَّاقَةُ مُؤَخِّرَةُ الجَيشِ، وَالمَعْنَى: إِيتِمَارُهُ لِمَا أُمِرَ، وَإِقَامَتُهُ حَيثُ أُقِيمَ، لَا يُفْقَدُ مِنْ مَكَانِهِ بِحَالٍ، وَإِنَّمَا ذُكِرَتِ الحِرَاسَةُ وَالسَّاقَةُ؛ لِأَنَّهُمَا أَشَدُّ مَشَقَّةً وَأَكْثَرُ آفَةً، الأَوَّلُ عِنْدَ دُخُولِهِم دَارَ الحَرْبِ، وَالآخَرُ عِنْدَ خُرُوجِهِم مِنْهَا". عُمْدَةُ القَارِي (14/ 172).

ص: 48

عَلَى اللهِ لأَبَرَّهُ)). مُسْلِمٌ

(1)

.

قِصَّةٌ فِيهَا عِبْرَةٌ:

نَقَلَ ابْنُ الجَوزِيِّ رحمه الله عَنِ الحَسَنِ البَصْرِيِّ؛ قَالَ: "كَانَتْ شَجَرَةٌ تُعْبَدُ مِن دُونِ اللَّهِ، فَجَاءَ إِلَيهَا رَجُلٌ فَقَالَ: لَأَقْطَعَنَّ هَذِهِ الشَّجَرَةَ، فَجَاءَ لِيَقْطَعَهَا -غَضَبًا للهِ-، فَلَقِيَهُ إِبْلِيسُ فِي صُورَةِ إِنْسَانٍ، فَقَالَ: مَا تُرِيدُ؟ قَالَ: أُرِيدُ أَنْ أَقْطَعَ هَذِهِ الشَّجَرَةَ الَّتِي تُعْبَدُ مِن دُونِ اللَّهِ! قَالَ: إِذَا أَنْتَ لَمْ تَعْبُدْهَا؛ فَمَا يَضُرُّكَ مَن عَبَدَهَا؟! قَالَ: لَأَقْطَعَنَّهَا. فَقَالَ لَهُ الشَّيطَانُ: هَلْ لَكَ فِيمَا هُوَ خَيرٌ لَكَ؟ لَا تَقْطَعْهَا وَلَكَ دِينَارَانِ كُلَّ يَومٍ إِذَا أَصْبَحْتَ عِنْدَ وِسَادَتِكَ. قَالَ: فَمِن أَينَ لِي ذَلِكَ؟ قَالَ: أَنَا لَكَ. فَرَجَعَ فَأَصْبَحَ؛ فَوَجَدَ دِينَارَين عِنْدَ وِسَادَتِهِ، ثُمَّ أَصْبَحَ بَعْدَ ذَلِكَ؛ فَلَمْ يَجِدْ شَيئًا! فَقَامَ غَضَبًا لِيَقْطَعَهَا، فَتَمَثَّلَ لَهُ الشَّيطَانُ فِي صُورَتِهِ، وَقَالَ: مَا تُرِيدُ؟ قَالَ: أُرِيدُ قَطْعَ هَذِهِ الشَّجَرَةَ الَّتِي تُعْبَدُ مِن دُونِ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ: كَذَبْتَ، مَا لَكَ إِلَى ذَلِكَ مِن سَبِيلٍ! فَذَهَبَ لِيَقْطَعَهَا؛ فَضَرَبَ بِهِ الأَرْضَ وَخَنَقَهُ حَتَّى كَادَ يَقْتُلَهُ، قَالَ: أَتَدْرِي مَن أَنَا؟ أَنَا الشَّيطَانُ، جِئْتَ أَوَّلَ مَرَّةٍ غَضَبًا؛ فَلَمْ يَكُن لِي عَلَيكَ سَبِيلٌ؛ فَخَدَعْتُكَ بِالدِّينَارَينِ؛ فَتَرَكْتَهَا، فَلَمَّا جِئْتَ غَضَبًا لِلدِّينَارَينِ سُلِّطْتُ عَلَيكَ"

(2)

.

قُلْتُ: وَهُوَ مِصْدَاقُ قَولِهِ تَعَالَى: {إِنَّ عِبَادِي لَيسَ لَكَ عَلَيهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا} [الإِسْرَاء: 65]، وَقَولِهِ:{إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النَّحْل: 100]

(3)

.

(1)

مُسْلِمٌ (2622).

(2)

تَلْبِيسُ إِبْلِيسَ (ص 30).

(3)

يُنْظَرُ: (النُّبُوَّات) لِابْنِ تَيمِيَّةَ (2/ 1018).

ص: 49

‌مَسَائِلُ عَلَى البَابِ

-‌

‌ المَسْأَلَةُ الأُولَى: مَا حُكْمُ أَخْذِ المَالِ عَلَى بَعْضِ الوَظَائِفِ الدِّينيَّةِ؛ كَإِمَامَةِ المَسْجِدِ، وَالتَّدْرِيسِ الشَّرْعِيِّ، وَتَعْلِيمِ القُرْآنِ وَمَا أَشْبَهَ؟

الجَوَابُ:

لَا يَجُوزُ أَخْذُهُ عَلَى أَنَّهُ أَجْرٌ عَلَى العِبَادَةِ، وَلَكِنْ يَجُوزُ مِنْ بَابِ الإِعَانَةِ عَلَى الطَّاعَةِ وَالتَّعْوِيضِ لَهُ عَنِ اشْتِغَالِهِ بِالأُمُورِ النَّافِعَةِ لِلمُسْلِمِينَ حَيثُ تَعَطَّلَ عَنْ كَسْبِ القُوتِ لِأَجْلِ ذَلِكَ، وَالفَرْقُ بَينَهُمَا ظَاهِرٌ مِنْ جِهَةِ النِّيَّةِ، وَيَزِيدُ وُضُوحًا أَيضًا فِيمَا لَو لَمْ يُعْطَ الأُجْرَةَ عِنْدَ اكْتِفَائِهِ؛ فَهَلْ سَيَبْقَى عَلَى عَمَلِهِ السَّابِقِ؟

وَفِي الحَدِيثِ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ؛ قَالَ: عَلَّمْتُ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ الكِتَابَ وَالقُرْآنَ، فَأَهْدَى إِلَيَّ رَجُلٌ مِنْهُمْ قَوسًا، فَقُلْتُ: لَيسَتْ بِمَالٍ؛ وَأَرْمِي عَنْهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ عز وجل، لَآتِيَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَأَسْأَلَنَّهُ، فَأَتَيتُهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ رَجُلٌ أَهْدَى إِلَيَّ قَوسًا مِمَّنْ كُنْتُ أُعَلِّمُهُ الكِتَابَ وَالقُرْآنَ -وَلَيسَتْ بِمَالٍ؛ وَأَرْمِي عَنْهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ-؟ قَالَ: ((إِنْ كُنْتَ تُحِبُّ أَنْ تُطَوَّقَ طَوقًا مِنْ نَارٍ فَاقْبَلْهَا))

(1)

. فَالحَدِيثُ هُنَا صَرِيحٌ فِي النَّهْي عَنْ أَخْذِ مُقَابِلٍ عَلَى تَعْلِيمِ القُرْآنِ.

وَفِي مُسْنَدِ الإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شِبْلٍ مَرْفُوعًا: ((اقْرَءُوا الْقُرْآنَ، وَلَا تَغْلُوا فِيهِ، وَلَا تَجْفُوا عَنْهُ، وَلَا تَأْكُلُوا بِهِ، وَلَا تَسْتَكْثِرُوا بِهِ))

(2)

. وَالحَدِيثُ هُنَا أَيضًا صَرِيحٌ فِي النَّهْي عَنِ التَّأَكُّلِ بالقُرْآنِ.

(1)

صَحِيحٌ. أَبُو دَاوُدَ (3416)، صَحِيحُ أَبِي دَاوُدَ (3416).

(2)

صَحِيحٌ. مُسْنَدُ أَحْمَد (15529). صَحِيحُ الجَامِعِ الصَّغِيرِ (1168).

ص: 50

وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ مَرْفُوعًا: ((بَشِّرْ هَذِهِ الأُمَّةَ بِالسَّنَاءِ وَالدِّينِ وَالرِّفْعَةِ وَالنَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ فِي الأَرْضِ؛ فَمَنْ عَمِلَ مِنْهُمْ عَمَلَ الآخِرَةِ لِلدُّنْيا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ))

(1)

.

وَقَالَ البُخَارِيُّ رحمه الله فِي صَحِيحِهِ: "وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: لا يَشْتَرِطُ المُعَلِّمُ! إِلَّا أَنْ يُعْطَى شَيئًا فَلْيَقْبَلْهُ. وَقَالَ الحَكَمُ: لَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا كَرِهَ أَجْرَ المُعَلِّمِ. وَأَعْطَى الحَسَنُ دَرَاهِمَ عَشَرَةً"

(2)

.

وَأَورَدَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله -جَمْعًا بَينَ رِوَايَتَينِ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ ظَاهِرُهُمَا التَّعَارِضُ- وَجْهًا فِي الجَمْعِ: بِأَنَّ المَنْهِيَّ عَنْهُ هُوَ مَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ الشَّرْطِ لَا مَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ الهِبَةِ وَالهَدِيَّةِ، وَأَيَّدَهُ بِمَا سَلَفَ عَنِ الشَّعْبِيِّ رحمه الله

(3)

.

وَقَدْ فَرَّقَ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ مِنْ جِهَةِ سَبَبِ أَخْذِ الأُجْرَةِ

(4)

، فَإِنْ كَانَ السَّبَبُ نَفْسَ التَّعَبُّدِ بِالقِرَاءَةِ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ هُوَ التَّعْلِيمَ وَتَقْدِيمَ المَنْفَعَةِ؛ فَإِنَّهُ يَجُوزُ -وَكَذَا الرُّقْيَةُ-، كَمَا جَازَ فِي كَونِهِ عِوَضًا فِي قِصَّةِ الوَاهِبَةِ

(5)

.

(1)

صَحِيحٌ. ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ (405)، وَالحَاكِمُ (4/ 346). صَحِيحُ الجَامِعِ (2825).

(2)

البُخَارِي (3/ 92). وَلَفْظُ أَثَرِ الحَسَنِ فِي مُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيبَةَ (20838): "لَا بَأْسَ أَنْ يَأْخُذَ عَلَى الْكِتَابَةِ أَجْرًا، وَكَرِهَ الشَّرْطَ".

(3)

فَتْحُ البَارِي (4/ 454).

(4)

كَمَا ذَهَبَ إِلَيهِ الشَّيخُ ابْنُ عُثَيمِين رحمه الله كَمَا فِي كِتَابِهِ (الشَّرْحُ المُمْتِعُ عَلَى زَادِ المُسْتَقْنِعِ)(10/ 54).

(5)

وَالحَدِيثُ فِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ (5121) عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ؛ أَنَّ امْرَأَةً عَرَضَتْ نَفْسَهَا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ زَوِّجْنِيهَا، فَقَالَ:((مَا عِنْدَكَ؟)) قَالَ: مَا عِنْدِي شَيءٌ! قَالَ: ((اذْهَبْ فَالْتَمِسْ وَلَو خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ))، فَذَهَبَ ثُمَّ رَجَعَ، فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ مَا وَجَدْتُ شَيئًا وَلَا خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ، وَلَكِنْ هَذَا إِزَارِي وَلَهَا نِصْفُهُ -قَالَ سَهْلٌ: وَمَا لَهُ رِدَاءٌ-، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:((وَمَا تَصْنَعُ بِإِزَارِكَ؛ إِنْ لَبِسْتَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيهَا مِنْهُ شَيءٌ، وَإِنْ لَبِسَتْهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيكَ مِنْهُ شَيءٌ))! فَجَلَسَ الرَّجُلُ حَتَّى إِذَا طَالَ مَجْلِسُهُ قَامَ، فَرَآهُ

=

ص: 51

قُلْتُ: وَعَلَى كُلِّ حَالٍ؛ فَالاحْتِيَاطُ فِي هَذَا البَابِ هُوَ عَدَمُ أَخْذِ الأُجْرَةِ عَلَى التَّعْلِيمِ لِعُمُومِ وَصَرَاحَةِ أَحَادِيثِ النَّهْي إِلَّا مَا كَانَ مِن بَابِ الضَّرُورَةِ وَالإِعَانَةِ

(1)

.

وَفِي مَسَائِلِ الإِمَامِ أَحْمَدَ رحمه الله: "سَمِعْتُ أَحْمَدَ؛ سُئِلَ عَنْ إِمَامٍ قَالَ لِقَومٍ: أُصَلِّي بِكُمْ رَمَضَانَ بِكَذَا وَكَذَا دِرْهَمًا؟ قَالَ: أَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ؛ مَنْ يُصَلِّي خَلْفَ هَذَا؟! "

(2)

(3)

.

وَأَمَّا الجَوَابُ عَنِ الاسْتِدْلَالِ بِقِصَّةِ الوَاهِبَةِ؛ فَهُوَ مِنْ أَوجُهٍ:

1 -

أَنَّهُ خَاصٌّ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، كَمَا أَفَادَهُ الطَّحَاوِيُّ رحمه الله:"فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ كَانَ مِمَّا خَصَّهُ اللهُ عز وجل بِهِ، مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُمَلِّكَ غَيرَهُ مَا كَانَ لَهُ تَمَلُّكُهُ بِغَيرِ صَدَاقٍ"

(4)

.

2 -

أَنَّ هَذَا التَّعْلِيمَ كَانَ مِنْ بَابِ عَدَمِ القُدْرَةِ عَلَى غَيرِهِ فِي المَهْرِ؛ فَجَازَ فِي هَذِهِ الحَالَةِ

(5)

.

=

النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَدَعَاهُ -أَو دُعِيَ لَهُ- فَقَالَ لَهُ: ((مَاذَا مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ؟)) فَقَالَ: مَعِي سُورَةُ كَذَا وَسُورَةُ كَذَا -لِسُوَرٍ يُعَدِّدُهَا- فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ((أَمْلَكْنَاكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ)).

وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ (1425) أَنَّهُ قَالَ: ((انْطَلِقْ فَقَدْ زَوَّجْتُكَهَا؛ فَعَلِّمْهَا مِنَ الْقُرْآنِ))، وَفِيهِ صَرَاحَةُ كَونِ هَذَا التَّعْلِيمِ عِوَضًا عَنِ المَهْرِ، إِلَّا أَنَّهُ يُمْكِنُ الجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ بِمَا سَيَأْتِي.

(1)

انْظُرْ أَشْرِطَةَ فَتَاوَى سِلْسِلَةِ الهُدَى وَالنُّورِ لِلْأَلْبَانِيِّ (شَرِيط 171).

(2)

مَسَائِلِ الإِمَامِ أَحْمَدَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيِّ (ص 91).

(3)

وَفِي سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ (209)"عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي العَاصِ؛ قَالَ: إِنَّ مِنْ آخِرِ مَا عَهِدَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَنْ ((اتَّخِذْ مُؤَذِّنًا لَا يَأْخُذُ عَلَى أَذَانِهِ أَجْرًا)). حَدِيثُ عُثْمَانَ حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَالعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ العِلْمِ كَرِهُوا أَنْ يَأْخُذَ المُؤَذِّنُ عَلَى الأَذَانِ أَجْرًا، وَاسْتَحَبُّوا لِلْمُؤَذِّنِ أَنْ يَحْتَسِبَ فِي أَذَانِهِ". وَالحَدِيثُ صَحِيحٌ كَمَا فِي صَحِيحِ الجَامِعِ (1480).

(4)

شَرْحُ مَعَانِي الآثَارِ (3/ 18).

(5)

انْظُرِ المَنْتَقَى شَرْحُ المُوَطَّأِ (3/ 277) لِلبَاجِي.

ص: 52

3 -

أَنَّهُ يُمْكِنُ القَولُ بِأَنَّ البَاءَ هُنَا سَبَبِيَّةٌ -أَو بِمَعْنَى اللَّامِ-، يَعْنِي أَنَّ الإنْكَاحَ هَذَا سَبَبُهُ لِأَجْلِ أَنَّكَ حَامِلٌ لِلقُرْآنِ، وَهَذَا وَجْهٌ فِيهِ إِظْهَارُ حُرْمَةِ القُرْآنِ؛ خِلَافًا لِمَنْ جَعَلَ البَاءَ هُنَا لِلعِوَضِ

(1)

.

قُلْتُ: وَلَكِنْ يُعَكِّرُ عَلَيهِ لَفْظُ مُسْلِمٍ وَفِيهِ: ((انْطَلِقْ فَقَدْ زَوَّجْتُكَهَا؛ فَعَلِّمْهَا مِنَ الْقُرْآنِ))

(2)

.

قَالَ العَلَّامَةُ مُحَمَّدُ الأَمِين الشِّنْقِيطِيُّ رحمه الله -فِي مَعْرِضِ ذِكْرِ أَدِلَّةِ المُجِيزِينَ-: "فَقَالُوا: هَذَا الرَّجُلُ أَبَاحَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَجْعَلَ تَعْلِيمَهُ بَعْضَ الْقُرْآنِ لِهَذِهِ الْمَرْأَةِ عِوَضًا عَنْ صَدَاقِهَا، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْعِوَضَ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ جَائِزٌ، وَمَا رَدَّ بِهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الِاسْتِدْلَالَ بِهَذَا الْحَدِيثِ مِنْ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم زَوَّجَهُ إِيَّاهَا بِغَيرِ صَدَاقٍ إِكْرَامًا لَهُ لِحِفْظِهِ ذَلِكَ الْمِقْدَارَ مِنَ الْقُرْآنِ وَلَمْ يَجْعَلِ التَّعْلِيمَ صَدَاقًا لَهَا! مَرْدُودٌ بِمَا ثَبَتَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ:((انْطَلِقْ؛ فَقَدْ زَوَّجْتُكَهَا؛ فَعَلِّمْهَا مِنَ الْقُرْآنِ)) وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ: ((عَلِّمْهَا عِشْرِينَ آيَةً وَهِيَ امْرَأَتُكَ))

(3)

.

وَاحْتَجُّوا أَيضًا بِعُمُومِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم الثَّابِتِ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ((إِنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيهِ أَجْرًا كِتَابُ اللَّهِ))، قَالُوا: الْحَدِيثُ -وَإِنْ كَانَ وَارِدًا فِي الْجُعْلِ عَلَى الرُّقْيَةِ بِكِتَابِ اللَّهِ- فَالْعِبْرَةُ بِعُمُومِ الْأَلْفَاظِ لَا بِخُصُوصِ الْأَسْبَابِ، وَاحْتِمَالُ الْفَرْقِ بَينَ الجُعْلِ عَلَى الرُّقْيَةِ وَبَينَ الْأُجْرَةِ عَلَى التَّعْلِيمِ ظَاهِرٌ.

(1)

انْظُرْ كِتَابَ (إِكْمَالُ المُعْلِمِ شَرْحُ مُسْلِمٍ) لِلقَاضِي عِيَاض رحمه الله (4/ 581).

(2)

صَحِيحُ مُسْلَم (1425).

(3)

ضَعِيفٌ. أَبُو دَاود (2112). ضَعِيفُ الجَامِعِ (4114).

ص: 53

قَالَ مُقَيِّدُهُ -عَفَا اللَّهُ عَنْهُ-: الَّذِي يَظْهَرُ لِي -وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ- أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا لَمْ تَدْعُهُ الْحَاجَةُ الضَّرُورِيَّةُ؛ فَالْأَوْلَى لَهُ أَلَّا يَأْخُذَ عِوَضًا عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالْعَقَائِدِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ لِلْأَدِلَّةِ الْمَاضِيَةِ، وَإِنْ دَعَتْهُ الْحَاجَةُ أَخَذَ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ مِنْ بَيتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ المَأْخُوذَ مِنْ بَيتِ الْمَالِ مِنْ قَبِيلِ الْإِعَانَةِ عَلَى الْقِيَامِ بِالتَّعْلِيمِ لَا مِنْ قَبِيلِ الْأُجْرَةِ، وَالْأَوْلَى -لِمَنْ أَغْنَاهُ اللَّهُ- أَنْ يَتَعَفَّفَ عَنْ أَخْذِ شَيءٍ فِي مُقَابِلِ التَّعْلِيمِ لِلْقُرْآنِ وَالْعَقَائِدِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى"

(1)

.

قَالَ شَيخُ الإِسْلَامِ رحمه الله: "وَبِكُلِّ حَالٍ؛ فَحَالُ الْمُحْتَاجِ إلَيهِ لَيسَتْ كَحَالِ الْمُسْتَغْنِي عَنْهُ، كَمَا قَالَ السَّلَفُ: كَسْبٌ فِيهِ بَعْضُ الدَّنَاءَةِ خَيرٌ مِنْ مَسْأَلَةِ النَّاسِ.

وَلِهَذَا لَمَّا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي أَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَنَحْوِهِ: كَانَ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيرِهِ، أَعْدَلُهَا أَنَّهُ يُبَاحُ لِلْمُحْتَاجِ، قَالَ أَحْمَد: أُجْرَةُ التَّعْلِيمِ خَيرٌ مِنْ جَوَائِزِ السُّلْطَانِ، وَجَوَائِزُ السُّلْطَانِ خَيرٌ مِنْ صِلَةِ الْإِخْوَانِ.

وَأُصُولُ الشَّرِيعَةِ كُلُّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ؛ أَنَّهُ يُفَرَّقُ فِي الْمَنْهِيَّاتِ بَينَ الْمُحْتَاجِ وَغَيرِهِ كَمَا فِي الْمَأْمُورَاتِ، وَلِهَذَا أُبِيحَتِ المُحَرَّمَاتُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ لَا سِيَّمَا إذَا قُدِّرَ أَنَّهُ يَعْدِلُ عَنْ ذَلِكَ إلَى سُؤَالِ النَّاسِ؛ فَالْمَسْأَلَةُ أَشَدُّ تَحْرِيمًا! وَلِهَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ: يَجِبُ أَدَاءُ الْوَاجِبَاتِ وَإِنْ لَمْ تَحْصُلْ إلَّا بِالشُّبُهَاتِ، كَمَا ذَكَرَ أَبُو طَالِبٍ وَأَبُو حَامِدٍ أَنَّ الْإِمَامَ أَحْمَد سَأَلَهُ رَجُلٌ قَالَ: إنَّ ابْنًا لِي مَاتَ وَعَلَيهِ دَينٌ وَلَهُ دُيُونٌ أَكْرَهُ تَقَاضِيهَا! فَقَالَ لَهُ الْإِمَامُ أَحْمَد: أَتَدَعُ ذِمَّةَ ابْنِك مُرْتَهِنَةً؟! يَقُولُ: قَضَاءُ الدَّينِ وَاجِبٌ وَتَرْكُ الشُّبْهَةِ لِأَدَاءِ الْوَاجِبِ هُوَ الْمَأْمُورُ.

(1)

أَضْوَاءُ البَيَانِ (2/ 182).

ص: 54

وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُرْزَقُ الْحَاكِمُ وَأَمْثَالُهُ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَتَنَازَعُوا فِي الرِّزْقِ عِنْدَ عَدَمِ الْحَاجَةِ، وَأَصْلُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ فِي وَلِيِّ الْيَتِيمِ:{وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6]، فَهَكَذَا يُقَالُ فِي نَظَائِرِ هَذَا؛ إذِ الشَّرِيعَةُ مَبْنَاهَا عَلَى تَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ وَتَكْمِيلِهَا وَتَعْطِيلِ الْمَفَاسِدِ وَتَقْلِيلِهَا، وَالْوَرَعُ تَرْجِيحُ خَيرِ الْخَيرَينِ بِتَفْوِيتِ أَدْنَاهُمَا؛ وَدَفْعِ شَرِّ الشَّرَّينِ وَإِنْ حَصَلَ أَدْنَاهُمَا"

(1)

.

وَأَمَّا أَخْذُ الجُعْلِ -لَا الأُجْرَة- عَلَى الرُّقْيَةِ؛ فَلَا بَأْسَ بِهِ، بِحَيثُ إِنَّهُ إِذَا شُفِيَ المَرِيضُ بِالرُّقْيَةِ؛ فَإِنَّ لِلرَّاقِي كَذَا وَكَذَا، لِمَا ثَبَتَ فِي قِصَّةِ رُقْيَةِ ذَلِكَ الصَّحَابِيِّ لِسَيِّدِ القَومِ، وَفِيهَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:((وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ؟! اضْرِبُوا لِي مَعَكُم بِسَهْمٍ))

(2)

.

(1)

مَجْمُوعُ الفَتَاوَى (30/ 192).

(2)

وَالحَدِيثُ فِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ (5121) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ؛ أَنَّ رَهْطًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم انْطَلَقُوا فِي سَفْرَةٍ سَافَرُوهَا، حَتَّى نَزَلُوا بِحَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ العَرَبِ، فَاسْتَضَافُوهُمْ؛ فَأَبَوا أَنْ يُضَيِّفُوهُمْ، فَلُدِغَ سَيِّدُ ذَلِكَ الحَيِّ، فَسَعَوا لَهُ بِكُلِّ شَيءٍ لا يَنْفَعُهُ شَيءٌ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَو أَتَيتُمْ هَؤُلاءِ الرَّهْطَ الَّذِينَ قَدْ نَزَلُوا بِكُمْ؛ لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ شَيءٌ، فَأَتَوهُمْ فَقَالُوا: يَا أَيُّهَا الرَّهْطُ، إِنَّ سَيِّدَنَا لُدِغَ؛ فَسَعَينَا لَهُ بِكُلِّ شَيءٍ لا يَنْفَعُهُ شَيءٌ! فَهَلْ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْكُمْ شَيءٌ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَعَمْ، وَاللَّهِ إِنِّي لَرَاقٍ، وَلَكِنْ؛ وَاللَّهِ لَقَدِ اسْتَضَفْنَاكُمْ فَلَمْ تُضَيِّفُونَا! فَمَا أَنَا بِرَاقٍ لَكُمْ حَتَّى تَجْعَلُوا لَنَا جُعْلًا، فَصَالَحُوهُمْ عَلَى قَطِيعٍ مِنَ الغَنَمِ، فَانْطَلَقَ فَجَعَلَ يَتْفُلُ وَيَقْرَأُ:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] حَتَّى لَكَأَنَّمَا نُشِطَ مِنْ عِقَالٍ، فَانْطَلَقَ يَمْشِي مَا بِهِ قَلَبَةٌ، قَالَ: فَأَوفَوهُمْ جُعْلَهُمُ الَّذِي صَالَحُوهُمْ عَلَيهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: اقْسِمُوا، فَقَالَ الَّذِي رَقَى: لا تَفْعَلُوا حَتَّى نَأْتِيَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَنَذْكُرَ لَهُ الَّذِي كَانَ؛ فَنَنْظُرَ مَا يَأْمُرُنَا، فَقَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرُوا لَهُ، فَقَالَ:((وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ؟! أَصَبْتُمْ، اقْسِمُوا، وَاضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ بِسَهْمٍ)).

وَقَولُهُ: ((مَا بِهِ قَلَبَةٌ)): أَي: أَلَمٌ وَعِلَّةٌ. النِّهَايَةُ لِابْنِ الأَثِيرِ (4/ 98).

ص: 55

-‌

‌ المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَلْ يَدْخُلُ فِي الذَّمِّ مَنْ يَتَعَلَّمُونَ فِي الكُلِّيَّاتِ أَو غَيرِهَا لِغَايَةِ شَهَادَةٍ أَو مَرْتَبَةٍ؟

الجَوَابُ:

إِنَّهُم يَدْخُلُونَ فِي ذَلِكَ إِذَا لَمْ يُرِيدُوا غَرَضًا شَرْعِيًّا، وَلَكِنْ نَقُولُ لَهُم:

1 -

لَا تَقْصِدُوا بِذَلِكَ المَرْتَبَةَ الدُّنْيَوِيَّةَ! بَلِ اتَّخِذُوا هَذِهِ الشَّهَادَاتِ وَسِيلَةً لِلعَمْلِ فِي الحُقُولِ النَّافِعَةِ لِلخَلْقِ، لِأَنَّ الأَعْمَالَ فِي الوَقْتِ الحَاضِرِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الشَّهَادَاتِ

(1)

، وَالنَّاسُ لَا يَسْتَطِيعُونَ الوُصُولَ إِلَى مَنْفَعَةِ الخَلْقِ إِلَّا بِهَذِهِ الوَسِيلَةِ، وَبِذَلِكَ تَكُونُ النِّيَّةُ سَلِيمَةً.

2 -

أَنَّ مَنْ أَرَادَ العِلْمَ لِذَاتِهِ؛ فَإِنَّه قَدْ لَا يَجِدُهُ إِلَّا فِي الكُلِّيَّاتِ، فَيَدْخُلُ الكُلِّيَّةَ أَو نَحْوَهَا لِهَذَا الغَرَضِ، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلمَرْتَبَةِ؛ فَإِنَّهَا لَا تَهُمُّهُ.

3 -

أَنَّ الإِنْسَانَ إِذَا أَرَادَ بِعَمَلِهِ الحُسْنَيِينِ -حُسْنَى الدُّنْيَا وَحُسْنَى الآخِرَةِ- فَلَا شَيءَ عَلَيهِ، لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2 - 3]، فَرَغَّبَهُ سُبْحَانَهُ فِي التَّقْوَى بِذِكْرِ المَخْرَجِ مِنْ كُلِّ ضِيقٍ وَالرِّزْقِ مِنْ حَيثُ لَا يَحْتَسِبُ

(2)

.

(1)

بِاعْتِبَارِ الغَالِبِ.

(2)

يُنْظَرُ (القَولُ المُفِيدُ) لِابْنِ عُثَيمِينَ (2/ 138).

ص: 56

بَابُ مَنْ أَطَاعَ العُلَمَاءَ وَالأُمَرَاءَ فِي تَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ اللهُ أَو تَحْلِيلِ مَا حَرَّمَ اللهُ؛ فَقَدْ اتَّخَذَهُمْ أَرْبَابًا مَنْ دُونِ اللهِ

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (يُوشِكُ أَنْ تَنْزِلَ عَلَيكُمْ حِجَارَةٌ مِنَ السَّمَاءِ؛ أَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ؛ وَتَقُولُونَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ؟!)

(1)

.

وَقَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ: عَجِبْتُ لِقَومٍ عَرَفُوا الإِسْنَادَ وَصِحَّتَهُ؛ وَيَذْهَبُونَ إِلَى رَأْيِ سُفْيَانَ!! وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النُّور: 63]، أَتَدْرِي مَا الفِتْنَةُ؟ الفِتْنَةُ الشِّرْكُ، لَعَلَّهُ إِذَا رَدَّ بَعْضَ قَولِهِ أَنْ يَقَعَ فِي قَلْبِهِ شَيءٌ مِنَ الزَّيغِ فَيَهْلَكَ

(2)

.

(1)

صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (3121)، وَلَفْظُهُ:(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ قَالَ: تَمَتَّعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيرِ: نَهَى أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ عَنِ المُتْعَةِ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا يَقُولُ عُرَيَّةُ؟ قَالَ: يَقُولُ نَهَى أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ عَنِ المُتْعَةِ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أُرَاهُمْ سَيَهْلِكُونَ؛ أَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم؛ وَيَقُولُ: نَهَى أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ). قَالَ الشَّيخُ صَالِحُ آلِ الشَّيخِ حَفِظَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ التَّمْهِيدُ (ص 417): "بِإِسْنَادٍ صَحَيحٍ".

وَأَورَدَهُ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ العَسْقَلَانِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (المَطَالِبُ العَالِيَةُ)(7/ 96) وَقَالَ: "قَالَ إِسْحَاقُ: نَا سُلَيمَانُ بْنُ حَرْبٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيكَةَ، قَالَ: قَالَ عُرْوَةُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: وَيحَكَ أَضَلَلْتَ! تَأْمُرُنَا بِالعُمْرَةِ فِي العَشْرِ وَلَيسَ فِيهِنَّ عُمْرَةٌ! فَقَالَ: يَا عُرَيُّ؛ فَسَلْ أُمَّكَ. قَالَ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ لَمْ يَقُولَا ذَلِكَ؛ وَكَانَا أَعْلَمَ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَتْبَعَ لَهُ مِنْكَ. فَقَالَ: مِنْ هَهُنَا تَرِدُونَ؛ نَجِيئُكُمْ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَتَجِيئُونَ بِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ. سَنَدُهُ صَحِيحٌ، وَبَعْضُهُ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالعُمْرَةِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ".

(2)

ذَكَرَهُ بِنَحْوِهِ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي الفُرُوعِ (11/ 107)، وَأَيضًا شَيخُ الإِسْلَامِ رحمه الله فِي مَجْمُوعِ الفَتَاوَى (19/ 104).

=

ص: 57

وَعَنْ عَدِيٍّ بْنِ حَاتِمٍ؛ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ هَذِهِ الآيَةَ {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التَّوبَة: 31]، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّا لَسْنَا نَعْبُدُهُمْ! قَالَ: ((أَلَيسَ يُحَرِّمُونَ مَا أَحَلَّ اللهُ فَتُحَرِّمُونَهُ، وَيُحِلُّونَ مَا حَرَّمَ اللهُ فَتُحِلُّونَهُ؟))، فَقُلْتُ: بَلَى، قَالَ:((فَتِلْكَ عِبَادَتُهُم)). رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ

(1)

.

=

وَرَوَاهُ بِإِسْنَادِهِ ابْنُ بَطَّةَ العُكْبَرِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ الإبانَةُ الكُبْرَى (1/ 260) عَنِ الفَضْلِ بْنِ زِيَادٍ، قَالَ:"سَمَعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ؛ أَحْمَدَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ يَقُولُ: نَظَرْتُ فِي المُصْحَفِ فَوَجَدْتُ فِيهِ طَاعَةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي ثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ مَوضِعًا، ثُمَّ جَعَلَ يَتْلو: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النُّور: 63]، وَجَعَلَ يُكَرِّرُهَا، وَيَقُولُ: ومَا الفِتْنَةُ؟ الشِّرْكُ. لَعَلَّهُ أَنْ يَقَعَ فِي قَلْبِهِ شَيءٌ مِنَ الزَّيغِ فَيَزِيغَ فيُهْلِكَهُ. وَجَعَلَ يَتْلُو هَذِهِ الآيَةَ {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَينَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النِّسَاء: 65] ".

قُلْتُ: وَأَمَّا سُفْيَانُ هُنَا؛ فَقَدْ ذَكَرُوا فِي شُرُوحِ كِتَابِ التَّوحِيدِ أَنَّهُ الثَّورِيُّ.

(1)

صَحِيحٌ. الطَّبَرَانِيُّ فِي الكَبِيرِ (17/ 92 - ح 218) وَالتِّرْمِذِيُّ (3095) وَحَسَّنَهُ. الصَّحِيحَةُ (3293).

وَلَفْظُهُ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ قَالَ: أَتَيتُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وَفي عُنُقِي صَلِيبٌ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ:((يَا عَدِيُّ؛ اطْرَحْ عَنْكَ هَذَا الوَثَنَ))، وَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} ، قَالَ:((أَمَا إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيئًا اسْتَحَلُّوهُ، وَإِذَا حَرَّمُوا عَلَيهِمْ شَيئًا حَرَّمُوهُ)).

وَلَمْ أَجِدْهُ فِي أَحْمَدَ -إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَصْدُهُ أَصْلَ الحَدِيثِ-، وَلَمْ أَرَ مَنْ عَزَاهُ إِلَيهِ فِي تَخْرِيجِهِ أَيضًا.

ص: 58

فِيهِ مَسَائِلُ:

الأُولَى: تَفْسِيرُ آيَةِ النُّور.

الثَّانِيَةُ: تَفْسِيرُ آيَةِ بَرَاءَةَ.

الثَّالِثَةُ: التَّنْبِيهُ عَلَى مَعْنَى العِبَادَةِ الَّتِي أَنْكَرَهَا عَدِيٌّ.

الرَّابِعَةُ: تَمْثِيلُ ابْنِ عَبَّاسٍ بِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَتَمْثِيلُ أَحْمَدَ بِسُفْيَانَ.

الخَامِسَةُ: تَغَيُّرُ الأَحْوَالِ إِلَى هَذِهِ الغَايَةِ، حَتَّى صَارَ عِنْدَ الأَكْثَرِ عُبَادَةُ الرُّهْبَانِ هِيَ أَفْضَلُ الأَعْمَالِ -وَتُسَمَّى الوَلَايَةُ-، وَعِبَادَةُ الأَحْبَارِ هِيَ العِلْمُ وَالفِقْهُ، ثُمَّ تَغَيَّرَتِ الأَحْوَالُ إِلَى أَنَّ عُبِدَ مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لَيسَ مِنَ الصَّالِحِينَ، وَعُبِدَ بِالمَعْنَى الثَّانِيَ مَنْ هُوَ مِنَ الجَاهِلِينَ.

ص: 59

‌الشَّرْحُ

- مُنَاسَبَةُ البَابِ لِكِتَابِ التَّوحِيدِ أَنَّ تَوحِيدَ العَبْدِ لَا يَصِحُّ حَتَّى يَعْتَقِدَ العَبْدُ مَا شَرَعَ اللهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ.

- قَولُهُ: (العُلَمَاءَ وَالأُمَرَاءَ): هُمْ أُولُو الأَمْرِ؛ لِقَولِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النِّسَاء: 59]. وَالأَمْرُ يَشْمَلُ:

1 -

الأَمْرَ الدِّينِيَّ، وَأَصْحَابُهُ هُمُ العُلَمَاءُ.

2 -

الأَمْرَ الدُّنْيَوِيَّ، وَأَصْحَابُهُ هُمُ الأُمَرَاءُ.

- قَولُهُ: (أَنْ يَقَعَ فِي قَلْبِهِ شَيءٌ مِنَ الزَّيغِ فَيَهْلَكَ): أَي: إِذَا رَدَّ بَعْضَ قَولِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام بِقَولِ أَحَدٍ؛ فَإِنَّه يُخْشَى عَلَيهِ أَنْ يُعَاقَبَ فَيُجْعَلَ فِي قَلْبِهِ الزَّيغُ، كَقَولِهِ تَعَالَى عَنِ اليَهُودِ {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصَّفُّ: 5]، فَهُم زَاغُوا بِمَحْضِ إِرَادَتِهِم وَاخْتِيَارِهِم مَعَ بَيَانِ الحُجَجِ وَظُهُورِ الدَّلَائِلِ وَالبَرَاهِينَ، فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُم عُقُوبَةً مِنْهُ لَهُم عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ يَصِلُ ذَلِكَ إِلَى الشِّرْكِ الأَكْبَرِ إِذَا كَانَ فِي تَحْلِيلِ الحَرَامِ مَعَ العِلْمِ بِأَنَّهُ حَرَامٌ! أَو تَحْرِيمِ الحَلَالِ مَعَ العِلْمِ بأَنَّهُ حَلَالٌ!

- قَالَ شَيخُ الإِسْلَامِ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (الصَّارِمُ المَسْلُولُ): "إِذَا كَانَ المُخَالِفُ عَنْ أَمْرِهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ حُذِّرَ مِنَ الكُفْرِ وَالشِّرْكِ أَو مِنَ العَذَابِ الأَلِيمِ؛ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ مُفْضِيًا إِلَى الكُفْرِ أَوِ العَذَابِ الأَلِيمِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ إِفْضَاءَهُ إِلَى العَذَابِ هُوَ مَجُرَّدُ فِعْلِ المَعْصِيَةِ، وَإِفْضَاؤُهُ إِلَى الكُفْرِ؛ إنَّمَا هُوَ لِمَا قَد يَقْتَرِنُ بِهِ مِنْ اسْتِخْفَافٍ بِحَقِّ الأَمْرِ

ص: 60

الشَّرْعِيِّ كَمَا فَعَلَ إِبْلِيسُ"

(1)

.

- قَولُ الإمَامِ أَحْمَدَ رحمه الله: (عَجِبْتُ). العَجَبُ نَوعَان:

1 -

عَجَبُ اسْتِحْسَانٍ، كَمَا فِي البُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها:(كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُعْجِبُهُ التَّيَمُّنُ فِي تَنَعُّلِهِ وَتَرَجُّلِهِ وَطُهُورِهِ وَفِي شَأْنِهِ كُلِّهِ)

(2)

.

2 -

عَجَبُ إِنْكَارٍ، كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى:{بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} [الصَّافَات: 12]، وَكَمَا فِي كَلَامِ الإِمَامِ أَحْمَدَ هُنَا.

- قَولُهُ تَعَالَى: {يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} الأَمْرُ هُنَا هُوَ وَاحِدُ الأَوَامِرِ، وَلَيسَ مِنَ الأُمُورِ أَي (الشُّؤُونِ)، وَهُوَ مُفْرَدٌ مُضَافٌ؛ فَيَعُمُّ جَمِيعَ الأَوَامِرِ، وَعُدِّيَ فِعْلُ (يُخَالِفُونَ) بِـ (عَنْ) لِإفَادَتِهِ مَعْنَى الإِعْرَاضِ

(3)

.

- حَدِيثُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ الطَّائِيِّ بِتَمَامِهِ -كَمَا عَنْدَ الطَّبَرانِيِّ فِي الكَبِيرِ- قَالَ: أَتَيتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَفِي عُنُقِي صَلِيبٌ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ:((يَا عَدِيُّ اطْرَحْ هَذَا الوَثَنَ مِنْ عُنُقِكَ))، فَطَرَحْتُهُ، فَانْتَهَيتُ إِلَيهِ وَهُوَ يَقْرَأُ سُورَةَ بَرَاءَة، فَقَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التَّوبَة: 31] حَتَّى فَرَغَ مِنْهَا، فَقُلْتُ: إِنَّا لَسْنَا نَعْبُدُهُمْ، فَقَالَ: ((أَلَيسَ يُحَرِّمُونَ مَا أَحَلَّ اللهُ فَتُحَرِّمُونَهُ، وَيُحِلُّونَ مَا حَرَّمَ اللهُ

(1)

الصَّارِمُ المَسْلُولُ (ص 57).

(2)

البُخَارِيُّ (168).

(3)

قَالَ الطَّبَرِيُّ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (19/ 231): "وَقَولُهُ: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} أُدْخِلَتْ (عَنْ) لِأَنَّ مَعْنَى الكَلَامِ: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يَلُوذُونَ عَنْ أَمْرِهِ، وَيُدْبِرُونَ عَنْهُ مُعْرِضِينَ".

قُلْتُ: وَكَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى أَيضًا عَنِ المُنَافِقِينَ {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النِّسَاء: 61].

ص: 61

فَتَسْتَحِلُّونَهُ؟)) قُلْتُ: بَلَى، قَالَ:((فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ))

(1)

.

- قَولُهُ تَعَالَى: {سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (سُبْحَانَ): اسْمُ مَصْدَرٍ مِنَ التَّسْبِيحِ؛ وَهُوَ التَّنْزِيهُ، أَي: تَنْزِيهُ اللهِ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ.

- اعْلَمْ أَنَّ اتِّبَاعَ العُلَمَاءِ أَوِ الأُمَرَاءِ فِي تَحْلِيلِ مَا حَرَّمَ اللهُ أَو تَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ اللهُ يَنْقَسِمُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ

(2)

:

1 -

أَنْ يُتَابِعَهُم فِي ذَلِكَ رَاضِيًا بِقَولِهِم، مُقَدِّمًا لَهُ، سَاخِطًا لِحُكْمِ اللهِ! فَهُوَ كَافِرٌ،

(1)

صَحِيحٌ. الطَّبَرَانِيُّ فِي الكَبِيرِ (17/ 92)، وَالتِّرْمِذِيُّ (3095) وَحَسَّنَهُ. الصَّحِيحَةُ (3293).

(2)

أَفَادَهُ الشَّيخُ ابْنُ عُثَيمِين رحمه الله فِي كِتَابِهِ (القَولُ المُفِيدُ)(2/ 157).

وَقَدْ سَبَقَ فِي بَابِ تَفْسِيرِ التَّوحِيدِ نَقْلُ قَولِ شَيخِ الإِسْلَامِ رحمه الله، وَنُعِيدُهُ هُنَا لِتَمَامِ الفَائِدَةِ:

قَالَ شَيخُ الإِسْلَامِ رحمه الله فِي مَجْموعِ الفَتَاوى (7/ 70): " وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا -حَيثُ أَطَاعُوهُمْ فِي تَحْلِيلِ مَا حَرَّمَ اللهُ وَتَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ اللهُ- يَكُونُونَ عَلَى وَجْهَينِ:

أَحَدِهِمَا: أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّهُمْ بَدَّلُوا دِينَ اللهِ؛ فَيَتْبَعُونَهُمْ عَلَى التَّبْدِيلِ؛ فَيَعْتَقِدُونَ تَحْلِيلَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَتَحْرِيمَ مَا أَحَلَّ اللهُ اتِّبَاعًا لِرُؤَسَائِهِمْ -مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّهُمْ خَالَفُوا دِينَ الرُّسُلِ- فَهَذَا كُفْرٌ، وَقَدْ جَعَلَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ شِرْكًا -وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا يُصَلُّونَ لَهُمْ وَيَسْجُدُونَ لَهُم-، فَكَانَ مَنِ اتَّبَعَ غَيرَهُ فِي خِلَافِ الدِّينِ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ خِلَافُ الدِّينِ، وَاعْتَقَدَ مَا قَالَهُ ذَلِكَ دُونَ مَا قَالَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ: مُشْرِكًا مِثْلَ هَؤُلَاءِ.

وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ اعْتِقَادُهُمْ وَإِيمَانُهُمْ [بِتَحْرِيمِ الحَرَامِ وَتَحْلِيلِ الحَلَالِ] ثَابِتًا، لَكِنَّهُمْ أَطَاعُوهُمْ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ -كَمَا يَفْعَلُ المُسْلِمُ مَا يَفْعَلُهُ مِنَ المَعَاصِي الَّتِي يَعْتَقِدُ أَنَّهَا مَعَاصٍ-؛ فَهَؤُلَاءِ لَهُمْ حُكْمُ أَمْثَالِهِمْ مِنْ أَهْلِ الذُّنُوبِ؛ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:((إنَّمَا الطَّاعَةُ فِي المَعْرُوفِ)) ".

قُلْتُ: وَهَذا الحَدِيثُ الأَخِيرُ رَوَاهُ البُخَارِيُّ (7145)، وَمُسْلِمٌ (1840) مِنْ حَدِيثِ عَليٍّ مَرْفُوعًا.

مُلَاحَظَةٌ: فِي الأُصُولِ (بِتَحْرِيمِ الحَلَالِ وَتَحْلِيلِ الحَرَامِ)!! وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ خَطَأٌ مِنَ النُّسَّاخِ.

قَالَ الشَّيخُ نَاصِرُ بْنُ حَمَدٍ الفَهْدُ حَفِظَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (صِيَانَةُ مَجْمُوعِ الفَتَاوَى مِنَ السَّقْطِ وَالتَّصْحِيفِ)(ص 59): "وَقَولُهُ هُنَا (بِتَحْرِيمِ الحَلَالِ وَتَحْلِيلِ الحَرَامِ) قَدْ أَشَارَ عَدَدٌ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ إِلَى أَنَّهَا قَدْ تَكُونُ تَصْحِيفًا مِنَ النُّسَّاخِ، وَالأَظْهَرُ أَنَّ العِبَارَةَ هِيَ (بِتَحْرِيمِ الحَرَامِ وَتَحْلِيلِ الحَلَالِ) ".

ص: 62

لِأَنَّهُ كَرِهَ مَا أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ اللهُ عَمَلَهُ، وَلَا تَحْبُطُ الأَعْمَالُ إِلَّا بِالكُفْرِ، فَكُلُّ مَنْ كَرِهَ مَا أَنْزَلَ اللهُ فَهُوَ كَافِرٌ.

2 -

أَنْ يُتَابِعَهُم فِي ذَلِكَ رَاضِيًا بِحُكْمِ اللهِ وَعَالِمًا بِأَنَّهُ أَمْثَلُ وَأَصْلَحُ لِلعِبَادِ وَالبِلَادِ، وَلَكِنْ لِهَوًى فِي نَفْسِهِ اخْتَارَهُ، كَأَنْ يُرِيدَ مَثَلًا وَظِيفَةً؛ فَهَذَا لَا يَكْفُرُ، وَلَكِنَّهُ فَاسِقٌ وَلَهُ حُكْمُ غَيرِهِ مِنَ العُصَاةِ.

3 -

أَنْ يُتَابِعَهُم جَاهِلًا؛ فَيَظُنَّ أَنَّ ذَلِكَ حُكْمُ اللهِ، فَهَذَا لَهُ حَالَانِ:

أ- أَنْ يُمْكِنَهُ أَنْ يَعْرِفَ الحَقَّ بِنَفْسِهِ، فَهُوَ مُفَرِّطٌ أَو مُقَصِّرٌ، وَهُوَ آثِمٌ، لِأَنَّ اللهَ أَمَرَ بِسُؤَالِ أَهْلِ العِلْمِ عِنْدَ عَدَمِ العِلْمِ.

ب- أَنْ لَا يَكُونَ عَالِمًا وَلَا يُمْكِنَهُ التَّعَلُّمُ فَيُتَابِعُهُم تَقْلِيدًا، وَيَظُنُّ أَنَّ هَذَا هُوَ الحَقَّ؛ فَهَذَا لَا شَيءَ عَليهِ، لِأَنَّه فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ، وَكَانَ مَعْذُورًا بِذَلِكَ

(1)

.

- قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: "إنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رضي الله عنه قَضَى فِي الإِبْهَامِ بِخَمْسَ عَشَرَةَ، فَلَمَّا وَجَدَ كِتَابَ آلِ عَمْرُو بْنِ حَزْمٍ؛ وَفِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ قَالَ:((وفي كُلِّ إِصْبَعٍ مِمَّا هُنَالِكَ عَشْرٌ مِنَ الإِبِلِ)) صَارُوا إِلَيهِ. قَالَ: وَلَمْ يَقْبَلُوا كِتَابَ آلِ عَمْرُو بْنِ حَزْمٍ -وَاللهُ أَعْلَمُ- حَتَّى ثَبَتَ لَهُم أَنَّهُ كِتَابُ رَسُولِ اللهِ. وَفِي هَذَا الحَدِيثِ دِلَالَتَانِ:

إِحْدَاهُمَا: قَبُولُ الخَبَرِ.

وَالأُخْرَى: أَنْ يُقْبَلَ الخَبَرُ فِي الوَقْتِ الَّذِي يَثْبُتُ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَمْضِ عَمَلٌ مِنْ أَحَدٍ

(1)

وَقَالَ الشَّيخُ ابْنُ عُثَيمِين رحمه الله أَيضًا فِي كِتَابِهِ (القَولُ المُفِيدُ)(1/ 273): "وَالعَجَبُ أَنَّهُم فِي العِرَاقِ يَقُولُونَ: عِنْدَنَا الحُسَينُ؛ فَيَطُوفُونَ قَبْرَهُ وَيَسْأَلُونَهُ! وَفِي مِصْرَ كَذَلِكَ! وَفِي سُورِيَّا كَذَلِكَ! وَهَذَا سَفَهٌ فِي العُقُولِ وَضَلَالٌ فِي الدِّينِ، وَالعَامَّةُ لَا يُلَامُونَ فِي الوَاقِعِ، لَكِنَّ الَّذِي يُلَامُ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ العُلَمَاءِ وَمِنْ غَيرِ العُلَمَاءِ".

ص: 63

مِنَ الأَئِمَّةِ بِمِثْلِ الخَبَرِ الَّذِي قَبِلُوا، وَدِلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَو مَضَى أَيضًا عَمَلٌ مِنْ أَحَدٍ مِنَ الأَئِمَّةِ ثُمَّ وُجِدَ عَنِ النَّبِيِّ خَبَرٌ يُخَالِفُ عَمَلَهُ لَتُرِكَ عَمَلُهُ لِخَبَرِ رَسُولِ اللهِ، وَدِلَالَةٌ عَلَى أَنَّ حَدِيثَ رَسُولِ اللهِ يَثْبُتُ بِنَفْسِهِ لَا بِعَمَلِ غَيرِهِ بَعْدهُ"

(1)

.

- لَيسَ كُلُّ حُكْمٍ بِغَيرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى يَكُونُ كُفْرًا مُخْرِجًا مِنَ المِلَّةِ.

قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المَائِدَة: 44].

قَالَ إِمَامُ المُفَسِّرِينَ الطَّبَرِيُّ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ: "وَأَولَى هَذِهِ الأَقْوَالِ عِنْدِي بِالصَّوَابِ؛ قَولُ مَنْ قَالَ: نَزَلَتْ هذهِ الآيَاتُ فِي كُفَّارِ أَهْلِ الكِتَابِ، لِأَنَّ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الآيَاتِ فِيهِم نَزَلَتْ، وَهُمُ المَعنِيُّونَ بِهَا، وَهَذِهِ الآيَاتُ سِيَاقُ الخَبَرِ عَنْهُم؛

(1)

أَورَدَهُ القَاسِمِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (قَوَاعِدُ التَّحَدِيثِ)(ص 302) فِي (بَيَانِ الثَّمَرَاتِ المُجْتَنَاةِ مِنْ شَجَرةِ الحَدِيثِ الصَّحِيحِ المُبَارَكَةِ) وَالنَّصُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى هُوَ فِي كِتَابِهِ الرِّسَالَةُ (ص 424).

وَأَمَّا الحَدِيثُ الَّذِي أَورَدَهُ فَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْهُ وَفِي مُصَنَّفِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ (17698) وَغَيرِه، وَلَفْظُهُ -كَمَا أَورَدَهُ السُّيُوطِيُّ رحمه الله فِي جَامِعِ الأَحَادِيثِ (2/ 471) - "عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ قَالَ: قَضَى عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ فِي الإِبْهَامِ وَالتِي تَلِيهَا نِصْفَ دِيَّةِ الكَفِّ. وَفِي لَفْظٍ: قَضَى فِي الإِبْهَامِ خَمْسَ عَشَرَةَ، وَفِي السَّبَّابَةِ عَشْرًا، وَفِي الوسْطَى عَشْرًا، وَفِي البِنْصَرِ تِسْعًا، وَفِي الخِنْصَرِ سِتًّا، حَتَّى وَجَدَ كِتَابًا عِنْدَ آلِ عَمْرُو بْنِ حَزْمٍ يَزْعُمُونَ أنَّهُ مِنْ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ فِيهِ:((وَفِي كُلِّ إِصْبَعٍ عَشْرٌ)). فَأَخَذَ بِهِ وَصَارَتْ إِلَى عَشْرٍ عَشْرٍ". قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله: إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ مُتَّصِلٌ إِلَى ابْنِ المُسيِّبِ؛ فَإِنْ كَانَ سَمِعَهُ مِنْ عُمَرَ فَذَاكَ.

قُلْتُ: وَالتَّفْصِيلُ مِنْ عُمَرَ رضي الله عنه يَدُورُ حَولَ الخَمْسِينَ مِنَ الإِبِلِ، لِأَنَّهَا دِيَّةُ اليَدِ إِذَا قُطِعَتْ، وَالاجْتِهَادُ مِنْهُ رضي الله عنه هُوَ فِي دِيَّةِ كُلِّ أُصْبُعٍ لِوَحْدِهَا.

ص: 64

فَكَونُهَا خَبَرًا عَنْهُم أَولَى.

فَإنْ قَالَ قَائِلٌ: فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ قَد عَمَّ بِالخَبَرِ بِذَلِكَ عَنْ جَميعِ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ! فَكَيفَ جَعَلْتَهُ خَاصًّا؟ قِيلَ: إنَّ اللهَ تَعَالَى عَمَّ بِالخَبَرِ بِذَلِكَ عَنْ قَومٍ كَانُوا بِحُكْمِ اللهِ الَّذِي حَكَمَ بِهِ فِي كِتَابِهِ جَاحِدِينَ، فَأَخْبَرَ عَنْهُم أَنَّهُم بِتَرْكِهِم الحُكْمَ -عَلَى سَبِيلِ مَا تَرَكُوهُ- كَافِرُونَ. وَكَذَلِكَ القَولُ فِي كُلِّ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ جَاحِدًا بِهِ؛ هُوَ بِاللهِ كَافِرٌ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ

(1)

، لِأَنَّه بِجُحُودِهِ حُكْمَ اللهِ -بَعْدَ عِلْمِهِ أَنَّهُ أَنْزَلُه فِي كِتَابِهِ- نَظِيرُ جُحُودِهِ نُبُوَّةَ نَبيِّهِ -بَعْدَ عِلْمِهِ أَنَّهُ نَبيٌّ-"

(2)

.

- قَالَ الإمَامُ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ رحمه الله فِي عَقِيدَتِهِ المَشْهُورَةِ: "وَلَا نُكَفِّرُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ القِبْلَةِ بِذَنْبٍ مَا لَم يَسْتَحِلَّهُ"

(3)

.

(1)

قَولُ ابْنِ عبَّاسٍ المَذْكُورُ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ نَفْسُهُ (10/ 357)، وَلَفْظُهُ:(مَنْ جَحَدَ مَا أَنْزَلَ اللهُ فَقَدْ كَفَرَ، وَمَنْ أَقَرَّ بِهِ وَلَمْ يَحْكُمْ؛ فَهُوَ ظَالِمٌ فَاسِقٌ). وَقَالَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله فِي الصَّحِيحَةِ (2552): "جَيِّدٌ فِي الشَّوَاهِدِ".

(2)

تَفْسِيرُ الطَّبَرِيِّ (10/ 358).

(3)

قَالَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله فِي تَخْرِيجِ الطَّحَاوِيَّةِ (ص 57): "يَعْنِي اسْتِحْلَالًا قَلْبيًّا اعْتِقَادِيًّا؛ وَإلَّا فَكُلُّ مُذْنِبٍ مُسْتَحِلٌّ لِذَنْبِهِ عَمَلِيًّا -أَي: مُرْتَكِبٌ لَهُ-، وَلِذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنَ التَّفْرِيقِ بَينَ المُسْتَحِلِّ اعْتِقَادًا؛ فَهُوَ كَافِرٌ إِجْمَاعًا، وَبَينَ المُسْتَحِلِّ عَمَلًا لَا اعْتِقَادًا؛ فَهُوَ مُذْنِبٌ يَسْتَحِقُّ العَذَابَ اللَّائِقَ بِهِ -إِلَّا أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُ- ثُمَّ يُنْجِيهِ إِيمَانُهُ، خِلَافًا لِلخَوَارِجِ وَالمُعْتَزِلَةِ الَّذِينَ يَحْكُمُونَ عَلَيهِ بِالخُلُودِ فِي النَّارِ وَإِنٍ اخْتَلَفُوا فِي تَسْمِيَتِهِ كَافِرًا أَو مُنَافِقًا".

وَقَالَ أَيضًا رحمه الله فِي رِسَالَتِهِ النَّفِيسَةِ الوَجِيزَةِ (فِتْنَةُ التَّكْفِيرِ)(ص 32): "وَفِي قِصَّةِ ذَلِكَ الصَّحَابِيِّ الَّذِي قَاتَلَ أَحَدَ المُشْرِكِينَ؛ فَلَمَّا رَأَى هَذَا المُشْرِكُ أَنَّهُ صَارَ تَحْتَ ضَرْبَةِ سَيفِ المُسْلِمِ الصَّحَابِيِّ قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَمَا بَالَاهَا الصَّحَابِيُّ؛ فَقَتَلَهُ! فَلَمَّا بَلَغَ خَبَرُهُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنْكَرَ عَلَيهِ ذَلِكَ أَشَدَّ الإِنْكَارِ، فَاعْتَذَرَ الصَّحَابِيُّ بِأَنَّ المُشْرِكَ مَا قَالَهَا إِلَّا خَوفًا مِنَ القَتْلِ، وَكَانَ جَوَابُهُ صلى الله عليه وسلم:((هَلَّا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ))؟! أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ زَيدٍ رضي الله عنه.

إِذًا الكُفْرُ الاعْتِقَادِيُّ لَيسَ لَهُ عَلَاقَةٌ أَسَاسِيَّةٌ بِمُجَرَّدِ العَمَلِ؛ إِنَّمَا عَلَاقَتُهُ الكُبْرَى بِالقَلْبِ".

ص: 65

وَقَالَ العَلَّامَةُ ابْنُ القَيِّمِ رحمه الله: "وَأَمَّا الحُكْمُ المُبَدَّلُ -وَهُوَ الحُكْمُ بِغَيرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ- فَلَا يَحِلُّ تَنْفِيذُهُ، ولَا العَمَلُ بِهِ، ولَا يَسُوغُ اتِّبَاعُهُ، وَصَاحِبُهُ بَينَ الكُفْرِ وَالفُسُوقِ وَالظُلْمِ"

(1)

.

وَقَالَ الشَّيخُ ابْنُ عُثَيمِين رحمه الله: "أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ وَضَعَ قَوَانِينَ تَشْرِيعِيَّةً مَع عِلْمِهِ بِحُكْمِ اللهِ، وَبِمُخَالَفَةِ هَذِهِ القَوَانِين لِحُكْمِ اللهِ؛ فَهَذَا قَد بَدَّلَ الشَّرِيعَةَ بِهَذِهِ القَوَانِين، فَهُوَ كَافِرٌ، لِأَنَّهُ لَمْ يَرْغَبْ بِهَذَا القَانُونِ عَن شَرِيعَةِ اللهِ إِلَّا وَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ خَيرٌ لِلعِبَادِ وَالبِلَادِ مِنْ شَرِيعَةِ اللهِ، وَعِنْدَمَا نَقُولُ بِأَنَّهُ كَافِرٌ؛ فَنَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّ هَذَا الفِعْلَ يُوصِلُ إِلَى الكُفْرِ، وَلَكِنْ قَدْ يَكُونُ الوَاضِعُ لَهُ مَعْذُورًا؛ مِثْلَ أَنْ يُغَرَّرَ بِهِ، كَأَنْ يُقَالَ: إنَّ هَذَا لَا يُخَالِفُ الإِسْلَامَ! أَو هَذَا مِنَ المَصَالِحِ المُرْسَلَةِ! أَو هَذَا مِمَّا رَدَّهُ الإِسْلَامُ إِلَى النَّاسِ! فَيُوجَدُ بَعْضُ العُلَمَاءِ -وَإِنْ كَانُوا مُخْطِئِينَ- يَقُولُونَ: إنَّ مَسْأَلَةَ المُعَامَلَاتِ لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالشَّرْعِ؛ بَلْ تَرْجِعُ إِلَى مَا يُصْلِحُ الاقْتِصَادَ فِي كُلِّ زَمَانٍ بِحَسْبِهِ؛ فَإِذَا اقْتَضَى الحَالُ أَنْ نَضَعَ بُنُوكًا لِلرِّبَا أَو ضَرَائِبَ عَلَى النَّاسِ، فَهَذَا لَا شَيءَ فِيهِ! "

(2)

.

(1)

الرُّوحُ (267).

(2)

القَولُ المُفِيدُ (2/ 160).

ص: 66

‌مَسَائِلُ عَلَى البَابِ

-‌

‌ المَسْأَلَةُ الأُولَى: مَا هِيَ شُرُوطُ التَّكْفِيرِ؟

الجَوَابُ:

1 -

ثُبُوتُ أَنَّ هَذَا القَولَ أَوِ الفِعْلَ أَوِ التَّرْكَ؛ كُفْرٌ بِمُقْتَضَى دِلَالَةِ الكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ.

2 -

ثُبُوتُ قِيَامِهِ بِالمُكَلَّفِ.

قَالَ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحُجُرَات: 6].

3 -

بُلُوغُ الحُجَّةِ.

قَالَ تَعَالَى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النِّسَاء: 165].

4 -

انْتِفَاءُ مَوَانِعِ التَّكْفِيرِ فِي حَقِّهِ.

وَمِنْ مَوَانِعِ التَّكفِيرِ: الإِكْرَاهُ.

قَالَ تَعَالَى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النَّحْل: 106].

وَعَدَمُ القَصْدِ؛ فَلَا يَدْرِي مَا يَقُولُ لِشِدَّةِ فَرَحٍ أَو حُزْنٍ أَو خَوفٍ.

قَالَ تَعَالَى: {وَلَيسَ عَلَيكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأَحْزَاب: 5].

ص: 67

وَفِي الحَدِيثِ: (قَالَ عَلِيٌّ: بَقَرَ حَمْزَةُ خَوَاصِرَ شَارِفَيَّ، فَطَفِقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَلُومُ حَمْزَةَ، فَإِذَا حَمْزَةُ قَدْ ثَمِلَ؛ مُحْمَرَّةٌ عَينَاهُ؛ ثُمَّ قَالَ حَمْزَةُ: هَلْ أَنْتُمْ إِلَّا عَبِيدٌ لِأَبِي

(1)

؟! فَعَرَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَدْ ثَمِلَ، فَخَرَجَ وَخَرَجْنَا مَعَهُ)

(2)

. رَوَاهُ البُخَارِيِّ -وَهَذَا اللَّفْظُ مِنْهُ مُعَلَّقٌ-، وَتَرْجَمَ عَلَيهِ بِـ:"بَابُ الطَّلَاقِ فِي الإِغْلَاقِ وَالكُرْهِ وَالسَّكْرَانِ وَالمَجْنُونِ وَأَمْرِهِمَا وَالغَلَطِ وَالنِّسْيَانِ فِي الطَّلَاقِ وَالشِّرْكِ وَغَيرِهِ"

(3)

.

قَالَ شَيخُ الإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي مَجْمُوعِ الفَتَاوَى -فِي مَعْرِضِ الكَلَامِ عَنِ الخَوَارِجِ وَالرَّافِضَةِ-: "وَأَمَّا تَكْفِيرُهُمْ وَتَخْلِيدُهُمْ؛ فَفِيهِ أَيضًا لِلْعُلَمَاءِ قَولَانِ مَشْهُورَانِ: وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ، وَالقَولَانِ فِي الخَوَارِجِ وَالمَارِقِينَ مِنَ الحَرُورِيَّةِ وَالرَّافِضَةِ وَنَحْوِهِمْ.

وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذِهِ الأَقْوَالَ الَّتِي يَقُولُونَهَا -الَّتِي يُعْلَمُ أَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لَمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ- كُفْرٌ، وَكَذَلِكَ أَفْعَالُهُمُ -الَّتِي هِيَ مِنْ جِنْسِ أَفْعَالِ الكُفَّارِ بِالمُسْلِمِينَ- هِيَ كُفْرٌ أَيضًا، وَقَدْ ذَكَرْتُ دَلَائِلَ ذَلِكَ فِي غَيرِ هَذَا المَوضِعِ، لَكِنَّ تَكْفِيرَ الوَاحِدِ المُعَيَّنِ مِنْهُمْ، وَالحُكْمَ بِتَخْلِيدِهِ فِي النَّارِ مَوقُوفٌ عَلَى ثُبُوتِ شُرُوطِ التَّكْفِيرِ وَانْتِفَاءِ مَوَانِعِهِ.

(1)

قُلْتُ: وَوَجْهُ قَولِهِ: (هَلْ أَنْتُمْ إِلَّا عَبِيدٌ لِأَبِي)! هُوَ أَنَّ الخَمْرَ إِذَا أَخَذَتْ مَأْخَذَهَا مِنَ المَرْءِ؛ فَإِنَّهَا تُعْطِيهِ نَشْوَةً وَانْشِرَاحًا -أَعَاذَنَا اللهُ مِنْهَا- فَيَشْعُرُ نَفْسَهُ كَالمَلِكِ.

وَقَدِ اشْتَهَرَ قَولُ حَسَّانِ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه -فِي الجَاهِلِيَّةِ- عَنِ الخَمْرِ: "فَنَشْرَبُهَا فَتَتْرُكُنَا مُلُوكًا

وَأُسْدًا، مَا يُنَهْنِهُنَا اللِّقَاءُ".

(2)

البُخَارِيُّ (7/ 45).

(3)

يُنْظَرُ: (مَجْمُوعُ فَتَاوَى الشَّيخِ ابْنِ عُثَيمِين)(3/ 52).

ص: 68

فَإِنَّا نُطْلِقُ القَولَ بِنُصُوصِ الوَعْدِ وَالوَعِيدِ وَالتَّكْفِيرِ وَالتَّفْسِيقِ؛ وَلَا نَحْكُمُ لِلْمُعَيَّنِ بِدُخُولِهِ فِي ذَلِكَ العَامِّ حَتَّى يَقُومَ فِيهِ المُقْتَضَى الَّذِي لَا مُعَارِضَ لَهُ، وَقَدْ بَسَطْتُ هَذِهِ القَاعِدَةَ فِي (قَاعِدَةُ التَّكْفِيرِ)، وَلِهَذَا لَمْ يَحْكُمِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِكُفْرِ الَّذِي قَالَ:((إذَا أَنَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِي ثُمَّ ذَرُّونِي فِي اليَمِّ؛ فَوَ اللهِ لَئِنْ قَدَرَ اللهُ عَلَيَّ لَيُعَذِّبَنِي عَذَابًا لَا يُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ العَالَمِينَ)) مَعَ شَكِّهِ فِي قُدْرَةِ اللهِ وَإِعَادَتِهِ! وَلِهَذَا لَا يُكَفِّرُ العُلَمَاءُ مِنِ اسْتَحَلَّ شَيئًا مِنَ المُحَرَّمَاتِ لِقُرْبِ عَهْدِهِ بِالإِسْلَامِ أَو لِنَشْأَتِهِ بِبَادِيَةٍ بَعِيدَةٍ، فَإِنَّ حُكْمَ الكُفْرِ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ بُلُوغِ الرِّسَالَةِ، وَكَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ قَدْ لَا يَكُونُ قَدْ بَلَغَتْهُ النُّصُوصُ المُخَالِفَةُ لِمَا يَرَاهُ، وَلَا يَعْلَمُ أَنَّ الرَّسُولَ بُعِثَ بِذَلِكَ! فَيُطْلَقُ أَنَّ هَذَا القَولَ كُفْرٌ؛ وَيُكَفَّرُ مَتَى قَامَتْ عَلَيهِ الحُجَّةُ دُونَ غَيرِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ"

(1)

.

(1)

مَجْمُوعُ الفَتَاوَى (28/ 500).

ص: 69

-‌

‌ المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا كَانَ التَّحْلِيلُ وَالتَّحْرِيمُ هُوَ مِنِ اتِّخَاذِ الأَرْبَابِ؛ فَمَا الجَوَابُ عَن تَحْرِيمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَعْضَ الأَشْيَاءِ عَلَى نَفْسِه؟!

كَقَولِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التَّحْرِيم: 1]!

وَمِثْلُه قَولُهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ} [المَائِدَة: 87]!

وَأَيضًا قَوْلُه تَعَالَى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ} [آل عِمْرَان: 93]!

الجَوَابُ:

إِنَّ هَذَا التَّحْرِيمَ هُنَا لَا يَدْخُلُ فِي هَذَا البَابِ، لِأَنَّهُ بِمَعْنَى مَنْعِ النَّفْسِ مِن الشَّيءِ، وَلَيسَ بِمَعْنَى جَعْلِهِ مُحَرَّمًا عَنْدَ رَبِّ العَالَمِينَ! كَمَا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ عَنِ المُشْرِكِينَ:{وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} [النَّحْل: 116].

لِذَلِكَ فَمِثْلُ ذَلِكَ حُكْمُهُ حُكْمُ اليَمِينَ، وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ

(1)

.

فَفِي الصَّحِيحَينِ عَنِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيرٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما؛ قَالَ: (فِي الحَرَامِ يُكَفَّرُ)، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأَحْزَاب: 21]

(2)

.

(1)

وَذَهَبَ الإِمَامُ الطَّبَرِيُّ رحمه الله إِلَى أَنَّ وَصْفَهَا بِاليَمِينِ هُوَ لِكَونِ ذَاكَ التَّحْرِيمِ كَانَ مَعَ أَيمَانٍ حَلَفُوا بِهَا؛ لِذَلِكَ سُمِّيَتْ يَميِنًا وَلَزِمَتْهَا كَفَّارَةُ يَمِينٍ؛ فَاللهُ أَعْلَمُ. اُنْظُرْ تَفْسِيرَ الطَّبَرِيِّ (23/ 480)، (10/ 523).

(2)

البُخَارِيُّ (4911)، مُسْلِم (1473).

ص: 70

قَالَ الإِمَامُ ابْنُ قُدَامَةَ المَقْدِسِيُّ رحمه الله: "وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إذَا قَالَ: هَذَا حَرَامٌ عَلَيَّ إنْ فَعَلْتُ؛ وَفَعَلَ، أَوْ قَالَ: مَا أَحَلَّ اللَّهُ عَلَيَّ حَرَامٌ إنْ فَعَلْتُ؛ ثُمَّ فَعَلَ؛ فَهُوَ مُخَيَّرٌ، إنْ شَاءَ تَرَكَ مَا حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنْ شَاءَ كَفَّرَ.

وَإِنْ قَالَ: هَذَا الطَّعَامُ حَرَامٌ عَلَيَّ؛ فَهُوَ كَالْحَلِفِ عَلَى تَرْكِهِ.

وَيُرْوَى نَحْوُ هَذَا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَالْحَسَنِ، وَجَابِرِ بْنِ زَيدٍ، وَقَتَادَةَ، وَإِسْحَاقَ، وَأَهْلِ الْعِرَاقِ.

وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيرٍ -فِيمَنْ قَالَ: الْحِلُّ عَلَيَّ حَرَامٌ-: يَمِينٌ مِنَ الْأَيمَانِ؛ يُكَفِّرُهَا.

وَقَالَ الْحَسَنُ: هِيَ يَمِينٌ؛ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ طَلَاقَ امْرَأَتِهِ.

وَعَنْ إبْرَاهِيمَ مِثْلُهُ، وَعَنْهُ: إنْ نَوَى طَلَاقًا؛ وَإِلَّا فَلَيسَ بِشَيءٍ.

وَعَنِ الضَّحَّاكِ؛ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَابْنَ مَسْعُودٍ قَالُوا: (الْحَرَامُ يَمِينُ طَلَاقٍ).

وَقَالَ طَاوُسٌ: هُوَ مَا نَوَى.

وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: لَيسَ بِيَمِينٍ، وَلَا شَيءَ عَلَيهِ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ تَغْيِيرَ الْمَشْرُوعِ فَلَغَا مَا قَصَدَهُ، كَمَا لَوْ قَالَ: هَذِهِ رَبِيبَتِي.

وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} إلَى قَوْلِهِ: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيمَانِكُمْ} سَمَّى تَحْرِيمَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ يَمِينًا، وَفَرَضَ لَهُ تَحِلَّةً؛ وَهِيَ الْكَفَّارَةُ"

(1)

.

وَقَالَ شَيخُ الإِسْلَامِ رحمه الله: "أَفْتَى جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ -كَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَغَيرِهِمْ- أَنَّ تَحْرِيمَ الْحَلَالِ يَمِينٌ مُكَفَّرَةٌ: إمَّا كَفَّارَةً كُبْرَى -كَالظِّهَارِ-، وَإِمَّا كَفَّارَةً صُغْرَى -كَالْيَمِينِ بِاللَّهِ-، وَمَا زَالَ السَّلَفُ

(1)

المُغْنِي (9/ 508).

ص: 71

يُسَمُّونَ الظِّهَارَ وَنَحْوَهُ يَمِينًا"

(1)

.

وَقَالَ الشَّيخُ ابْنُ عُثَيمِين رحمه الله: "جَعَلَ اللهُ هَذَا التَّحْرِيمَ يَمِينًا وَقَالَ: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيمَانِكُمْ} ، فَالإِنْسَانُ إِذَا قَالَ: هَذَا حَرَامٌ عَلَيَّ، أَوْ حَرَامٌ عَلَيَّ إِنْ لَمْ أَفْعَلْ كَذَا -وَقَصْدُهُ بِذَلِكَ الامْتِنَاعَ عَنْ هَذَا الشَّيءِ- فَحُكْمُهُ حُكْمُ اليَمِينِ، بِمَعْنَى أَنْ نَقُولَ: كَأَنَّكَ قُلْتَ: وَاللهِ لَا أَفْعَلُ هَذَا الشَّيءَ، أَوْ وَاللهِ لَا أَلْبِسُ هَذَا الثَّوبَ، أَوْ وَاللهِ لَا آكُلُ هَذَا الطَّعَامَ. فَإِذَا حَنَثَ كَفَّرَ كَفَّارَةَ يَمِينٍ.

وَقَدْ دَلَّ القُرْآنُ الكَرِيمُ عَلَى كَونِ كَفَّارَةِ التَّحْرِيمِ هِيَ كَفَّارَةُ اليَمِينِ، فَقَدْ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ كَفَّارَةَ اليَمِينِ بَعْدَ سِيَاقِ التَّحْرِيمِ"

(2)

(3)

.

وَكَذَا دَلَّ السِّيَاقُ بَعْدَ قَولِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} حَيثُ قَالَ: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المَائِدَة: 89].

(1)

مَجْمُوعُ الفَتَاوَى (35/ 272).

(2)

مَجْمُوعُ فَتَاوَى وَرَسَائِلُ العُثَيمِين (2/ 220).

(3)

يَعنِي قَولَهُ تَعَالَى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيمَانِكُمْ} .

ص: 72

بَابُ قَولِ اللهِ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا * فَكَيفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} [النِّسَاء: 60 - 61].

وَقَولُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البَقَرَة: 11].

وَقَولُهُ تَعَالَى: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأَعْرَاف: 56].

وَقَولُهُ تَعَالَى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المَائِدَة: 50].

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ)). قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ: "حَدِيثٌ صَحِيحٌ رَوَينَاهُ فِي كِتَابِ الحُجَّةِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ"

(1)

.

(1)

الأَرْبَعُونَ النَّوَوِيَّةُ (ص 113).

وَالحَدِيثُ ضَعِيفٌ، ضَعَّفَهُ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله فِي ظِلَالِ الجَنَّةِ (15)، وَقَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ الحَنْبَلِيُّ

=

ص: 73

وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: "كَانَ بَينَ رَجُلٍ مِنَ المُنَافِقِينَ وَرَجُلٍ مِنَ اليَهُودِ خُصُومَةٌ، فَقَالَ اليَهُودِيُّ: نَتَحَاكَمُ إِلَى مُحَمَّدٍ -عَرَفَ أَنَّهُ لَا يَأْخُذُ الرِّشْوَةَ-، وَقَالَ المُنَافِقُ: نَتَحَاكَمُ إِلَى اليَهُودِ -لَعَلِمَهُ أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ الرِّشْوَةَ-، فَاتَّفَقَا أَنْ يَأْتِيَا كَاهِنًا فِي جُهَينَةَ فَيَتَحَاكَمَا إِلَيهِ؛ فَنَزَلَتْ {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ} الآيَة"

(1)

.

وَقِيلَ: "نَزَلَتْ فِي رَجُلَينِ اخْتَصَمَا، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: نَتَرَافَعُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ الآخَرُ: إِلَى كَعْبِ بْنِ الأَشْرَفِ، ثُمَّ تَرَافَعَا إِلَى عُمَرَ، فَذَكَرَ لَهُ أَحَدُهُمَا القِصَّةَ، فَقَالَ لِلَّذِي لَمْ يَرْضَ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَكَذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَضَرَبَهُ بِالسَّيفِ فَقَتَلَهُ"

(2)

.

=

رحمه الله فِي كِتَابِهِ جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (2/ 294): "تَصْحِيحُ هَذَا الحَدِيثِ بَعِيدٌ جِدًّا مِنْ وُجُوهٍ؛ مِنْهَا: أَنَّهُ حَدِيثٌ يَتَفَرَّدُ بِهِ نُعَيمُ بْنُ حَمَّادٍ المَرْوَزِيُّ".

وَقَالَ الشَّيخُ ابْنُ عُثَيمِين رحمه الله فِي شَرْحِ الأَرْبَعِينَ النَّوَوِيَّةِ (ص 395): "مَعْنَى الحَدِيثِ -بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ إِسْنَادِهِ- صَحِيحٌ".

(1)

صَحِيحٌ.

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله فِي الفَتْحِ (5/ 37): "رَوَى إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيهِ فِي تَفْسِيرِهِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ:

".

(2)

صَحِيحٌ.

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله فِي الفَتْحِ (5/ 37): "وَقَدْ رَوَى الكَلْبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي رَجُلٍ مِنَ المُنَافِقِينَ كَانَ بَينَهُ وَبَينَ يَهُودِيٍّ خُصُومَةٌ؛ فَقَالَ اليَهُودِيُّ: انْطَلِقْ بِنَا إِلَى مُحَمَّدٍ، وَقَالَ المُنَافِقُ: بَلْ نَأْتِي كَعْبَ بْنَ الأَشْرَفِ، فَذَكَرَ القِصَّةَ، وَفِيهِ أَنَّ عُمَرَ قَتَلَ المُنَافِقَ؛ وَأَنَّ ذَلِكَ سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الآيَاتِ؛ وَتَسْمِيَةِ عُمَرَ الفَارُوقَ، وَهَذَا الإِسْنَادُ وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا لَكِنْ تَقَوَّى بِطَرِيقِ مُجَاهِدٍ".

ص: 74

فِيهِ مَسَائِلُ:

الأُولَى: تَفْسِيرُ آيَةِ النِّسَاءِ وَمَا فِيهَا مِنَ الإِعَانَةِ عَلَى فَهْمِ الطَّاغُوتِ.

الثَّانِيَةُ: تَفْسِيرُ آيَةِ البَقَرَةِ {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} .

الثَّالِثَةُ: تَفْسِيرُ آيَةِ الأَعْرَافِ {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} .

الرَّابِعَةُ: تَفْسِيرُ {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ} .

الخَامِسَةُ: مَا قَالَ الشَّعْبِيُّ فِي سَبَبِ نُزُولِ الآيَةِ الأُولَى.

السَّادِسَةُ: تَفْسِيرُ الإِيمَانِ الصَّادِقِ وَالكَاذِبِ.

السَّابِعَةُ: قِصَّةُ عُمَرَ مَعَ المُنَافِقِ.

الثَّامِنَةُ: كَونُ الإِيمَانِ لَا يَحْصُلُ لِأَحَدٍ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم.

ص: 75

‌الشَّرْحُ

- هَذَا البَابُ يَصْلُحُ أَنْ يُسَمَّى بِبَابِ النَّهْي عَنِ التَّحَاكُمِ إِلَى غَيرِ شَرْع ِاللهِ تَعَالَى.

- قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا * فَكَيفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا * وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا * فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَينَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النِّسَاء: 60 - 65].

- وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنِ احْكُمْ بَينَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المَائِدَة: 49 - 50].

- مُنَاسَبَةُ البَابِ لِكِتَابِ التَّوحِيدِ أَنَّ تَوحِيدَ العَبْدِ لَا يَكْمُلُ الكَمَالَ الوَاجِبَ حَتَّى يُحَكِّمَ شَرْعَ اللهِ تَعَالَى فِي شَأْنِهِ كُلِّهِ.

ص: 76

وَإِنَّ الحُكْمَ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فَرْضٌ، وَهُوَ مِنْ مُقْتَضَى شَهَادَةِ "لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؛ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ"، وَإِنَّ تَرْكَ الحُكْمِ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ؛ وَتَحْكِيمَ غَيرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ فِي شُؤُونِ المُتَخَاصِمِينَ؛ وَتَنْزِيَلَ ذَلِكَ مَنْزِلَةَ القُرْآنِ الكَرِيمِ شِرْكٌ أَكْبَرُ وَكُفْرٌ مُخْرِجٌ عَنِ مِلَّةِ الإِسْلَامِ.

- الحُكْمُ للهِ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي خَلَقَ، قَالَ تَعَالَى:{أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأَعْرَاف: 54]، فَالأَمْرُ لَهُ وَحْدَهُ؛ كَمَا أَنَّهُ هُوَ الخَالِقُ وَحْدَهُ.

وَإِنَّ تَرْكَ التَّحَاكُمِ إِلَى شَرْعِهِ تَعَالَى رَغْبَةً عَنْهُ: مُنَافٍ لِأَصلِ التَّوحِيدِ؛ لِأَنَّه فَقَدَ بَعْضَ شُرُوطِ شَهَادَةِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؛ أَلَا وَهِيَ المَحَبَّةُ وَالانْقِيَادُ وَالقَبُولُ.

وَأَمَّا مَنْ تَرَكَ التَّحَاكُمَ إِلَى شَرْعِهِ تَعَالَى جَهَالَةً مِنْهُ وَسَفَهًا وَإِيثَارًا لِهَوَى النَّفْسِ وَطَاعَةً لِلشَّيطَانِ -دُونَ جُحُودٍ لِذَلِكَ- معَ الاعْتِرَافِ بَالخَطَأِ وَالتَّقْصِيرِ فِي جَنَابِهِ تَعَالَى، وَمَعَ الإِقْرَارِ بِصِحَّةِ التَّنْزِيلِ وَصَلَاحِهِ لِكُلِّ عَصْرٍ؛ فَهُوَ تَارِكٌ لِكَمَالِ التَّوحِيدِ الوَاجبِ -الَّذِي يَأْثَمُ تَارِكُهُ-، وَهُوَ تَحْتَ المَشِيئَةِ. وَقَدْ سَبَقَ فِي البَابِ المَاضِي وَفِي بَابِ (تَفْسِيرِ التَّوحِيدِ) تَفْصِيلُ هَذِهِ المَسْأَلَةِ. وَالحَمْدُ للهِ

(1)

.

(1)

قَالَ فِي فَتْحِ المَجِيدِ (ص 397): "فَإِنْ كَانَ الَّذِي تُحِبُّهُ وَتَمِيلُ إِلَيهِ وَتَعْمَلُ بِهِ تَابِعًا لِمَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم -لَا يَخْرُجُ عَنْهُ إِلَى مَا يُخَالِفُهُ- فَهَذِهِ صِفَةُ أَهْلِ الإِيمَانِ المُطْلَقِ، وَإِنْ كَانَ بِخِلَافِ ذَلِكَ أَو فِي بَعْضِ أَحْوَالِهِ أَو أَكْثَرِهَا؛ انْتَفَى عَنْهُ مِنَ الإِيمَانِ كَمَالُهُ الوَاجِبُ، كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ: ((لَا يَزْنِي الزَّانِي -حِينَ يَزْنِي- وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ)) يَعْنِي: أَنَّهُ بِالمَعْصِيَةِ يَنْتَفِي عَنْهُ كَمَالُ الإِيمَانِ الوَاجِبِ، وَيَنْزِلُ عَنْهُ فِي دَرَجَةِ الإِسْلَامِ وَيَنْقُصُ إِيمَانُهُ، فَلَا يُطْلَقُ عَلَيهِ الإِيمَانُ إِلَّا بِقَيدِ المَعْصِيَةِ أَوِ الفُسُوقِ، فَيُقَالُ: مُؤْمِنٌ عَاصٍ، أَو يُقَالُ: مُؤْمِنٌ بِإِيمَانِهِ؛ فَاسِقٌ بِمَعْصِيَتِهِ، فَيَكُونُ مَعَهُ مُطْلَقُ الإِيمَانِ الَّذِي لَا يَصِحَّ إِسْلَامُهُ إِلَّا بِهِ".

قُلْتُ: وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيرَةَ السَّابِقِ رَوَاهُ البُخَارِيُّ (2475)، وَمُسْلِمٌ (57) مَرْفُوعًا.

=

ص: 77

- حُكْمُ اللهِ تَعَالَى أَنْوَاعٌ:

1 -

قَدَرِيٌّ (كَونِيٌّ)، كَمَا فِي قَولِ أَخِي يُوسُفَ:{فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيرُ الْحَاكِمِينَ} [يُوسُف: 80].

2 -

شَرْعِيٌّ، كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى:{وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشُّورَى: 10].

3 -

جَزَائِيٌّ، كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى:{وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَينَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [البَقَرَة: 113].

- زَعْمُ المُنَافِقِينَ هُنَا هُوَ قَولُهُم الكَذِبَ

(1)

، لِأَنَّه لَا يَجْتَمِعُ الإِيمَانُ بِالقُرْآنِ مَعَ إِرَادَةِ التَّحَاكُمِ إِلَى غَيرِهِ.

وَالإِرَادَةُ هُنَا ضَابِطٌ مُهِمٌّ لِكَونِ فَاعِلِهِ كَافِرًا كُفْرًا أَكْبَرَ، فَهو تَارِكٌ لِلحَقِّ مُقْبِلٌ عَلَى البَاطِلِ، وَلَو كَانَ صَادِقًا فِي إِيمَانِهِ لَمْ يَكُنْ فِي قَلْبِهِ مَيلٌ لِغَيرِ شَرْعِ اللهِ تَعَالَى

(2)

(3)

.

=

وَقَالَ الشَّيخُ الفَوزَانُ حَفِظَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ إِعَانَةُ المُسْتَفِيدِ (2/ 187): "مَن اخْتارَ حُكْمَ الطَّاغُوتِ عَلَى حُكْمِ اللهِ أَو سَوَّى بَينَهُمَا وَقَالَ: هُمَا سَوَاءٌ، أَو قَالَ: تَحْكِيمُ الطَّاغُوتِ جَائِزٌ، أَو حَكَمَ بِالشَّرِيعَةِ فِي بَعْضِ الأُمُورِ دُونَ بَعْضٍ؛ فَهَذَا كَافِرٌ بِاللهِ -كَالَّذِينَ يُحَكِّمُونَ الشَّرِيعَةَ فِي الأَحْوَالِ الشَّخْصِيَّةِ فَقَط-.

أَمَّا مَنْ حَكَمَ بِغَيرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ لِهَوىً فِي نَفْسِهِ وَهُوَ يَعْتَرِفُ وَيَعْتَقِدُ أَنَّ حُكْمَ اللهِ هُوَ الحَقُّ، وَحُكْمَ غَيرِهِ بَاطِلٌ، وَيَعْتَرِفُ أَنَّهُ مُخْطِئٌ وَمُذْنِبٌ؛ فَهَذَا يَكْفُرُ كُفْرًا أَصْغَرَ لَا يُخْرِجُ مِنَ المِلَّةِ".

(1)

قَالَ ابْنُ دُرَيدٍ فِي كِتَابِهِ جَمْهَرَةُ اللُّغَةِ (2/ 816): "وَأَكْثَرُ مَا يَقَعُ الزَّعْمُ عَلَى البَاطِلِ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي التَّنْزِيلِ {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا} [التَّغَابُن: 7] ".

(2)

كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى فِي نَفْسِ الآيَاتِ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} .

(3)

وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ (50) -بَعْدَ حَدِيثِ البَابِ- عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((مَا مِنْ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللهُ فِي أُمَّةٍ قَبْلِي إِلَّا كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ وَأَصْحَابٌ يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ، ثُمَّ إِنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ، وَيَفْعَلُونَ مَا لَا يُؤْمَرُونَ، فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَيسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ)).

ص: 78

- قَولُهُ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيكَ} هُمُ المُنَافِقُونَ، {وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} هُمُ اليَهُودُ، وَكُلٌّ قَدْ أُمِرَ فِي كِتَابِهِ بِالكُفْرِ بِالطَّاغُوتِ، وَالطَّاغُوتُ هُنَا هُوَ الكَاهِنُ المَذْكُور فِيمَا سَبَقَ مِنَ الأَبْوَابِ، حَيثُ أَنَّهُم أَرَادُوا التَّحَاكُمَ إِلَيهِ.

- قَولُهُ تَعَالَى: {فَكَيفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ} المُصِيبَةُ هُنَا تَشْمَلُ المُصِيبَةَ الشَّرْعِيَّةَ

(1)

، وَالمُصِيبَةَ الدُّنْيَوِيَّةَ كَالفَقْرِ وَالجَدْبِ.

- (الصَّدُّ): الإِعْرَاضُ وَالصُّدُوفُ

(2)

، فَقَولُهُ تَعَالَى:{رَأَيتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} أَي: يُعْرِضُونَ إِعْرَاضًا كُلِّيًّا.

- قَولُهُ تَعَالَى: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} أَي: لَا تَقْبَلِ اعْتِذَارَهُم؛ لِأَنَّه اعْتِذَارٌ كَاذِبٌ، وَإِنَّمَا يُقْبَلُ الاعْتِذَارُ مِنَ النَّادِمِ وَالتَّائِبِ وَالمُخْطِئِ مِنْ غَيرِ تَعَمُّدٍ، أَمَّا الإِنْسَانُ المُتَعَمِّدُ لِلبَاطِلِ فَلَا يُقْبَلُ اعْتِذَارُهُ إِلَّا إِذَا رَجَعَ إِلَى الصَّوَابِ وَتَابَ.

- قَولُهُ تَعَالَى: {وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} أَي: وَانْصَحْهُم فِيمَا بَينَكَ وَبَينَهُم بِكَلَامٍ بَلِيغٍ رَادِعٍ لَهُم.

- الإِفْسَادُ فِي الأَرْضِ نَوعَان:

1 -

إِفْسَادٌ حِسِّيٌّ (مَادِّيٌّ): وَذَلِكَ كَهَدْمِ البُيُوتَ وَإِفْسَادِ الطُّرُقِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ

(3)

.

(1)

قُلْتُ: كَالقَتْلِ وَالحَبْسِ وَالهَجْرِ وَالفَضِيحَةِ.

(2)

لِسَانُ العَرَبِ (3/ 245).

(3)

قُلْتُ: كَقَولِهِ تَعَالَى: {إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} [الكَهْف: 94].

ص: 79

2 -

إِفْسَادٌ مَعْنَوِيٌّ: وَذَلِكَ بِالمَعَاصِي، وَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ الفَسَادِ فِي الأَرْضِ، قَالَ تَعَالَى:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البَقَرَة: 11].

- قَولُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البَقَرَة: 11]. فِيهِ بَيَانُ أُمُورٍ:

1 -

أَنَّ التَّحَاكُمَ إِلَى غَيرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ هُوَ مِنَ الفَسَادِ فِي الأَرْضِ.

2 -

أَنَّهُ مِنْ عَمِلِ المُنَافِقِينَ.

3 -

التَّنْبِيهُ عَلَى عَدَمِ الاغْتِرَارِ بِأَقْوَالِ أَهْلِ الأَهْوَاءِ -وَإِنْ زَخْرَفُوهَا بِالدَّعَاوَى- كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى عَنِ المُنَافِقِينَ: {وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} [المُنَافِقُون: 4]

(1)

.

4 -

التَّحْذيرُ مِنَ الاغْتِرَارِ بِالرَّأْي مَا لَمْ يَقُمْ عَلَى صِحَّتِهِ دَلِيلٌ مِنْ كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم

(2)

.

5 -

فِيهِ بَيَانُ أَنَّ المُنَافِقَ لَا يَثِقُ بِحُكْمِ الشَّرِيعَةِ؛ لِذَلكَ أَرَادَ مَا هُوَ أَحْسنُ مِنْهَا فِي ظَنِّهِ

(3)

!

- قَولُهُ: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} أَي: لَا حُكْمَ أَحْسَنُ مِنْ حُكْمِهِ

(1)

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثير رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (8/ 126): "أَي: كَانُوا أَشْكَالًا حَسَنَةً وَذَوِي فَصَاحَةٍ وَأَلْسِنَةٍ؛ إِذَا سَمِعَهُمُ السَّامِعُ يُصْغِي إِلَى قَولِهِمْ لِبَلَاغَتِهِمْ".

(2)

قَالَ أَبُو بَكْرٍ بْنِ عيَّاشٍ -مِنْ كِبَارِ أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ، (ت 194 هـ) - فِي الآيَةِ:"إنَّ اللهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ -وَهُم فَسَادٌ- فَأَصْلَحَهُم اللهُ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم؛ فَمَنْ دَعَا إِلَى خِلَافِ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم؛ فهوَ مِنَ المُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ". تَفْسِيرُ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ (8601).

(3)

وَفِي البُخَارِيِّ (6882) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: ((أبْغَضُ النَّاسِ إِلَى اللهِ ثلَاثةٌ؛ مُلْحِدٌ فِي الحَرَمِ، وَمُبْتَغٍ فِي الإسْلَامِ سُنَّةَ الجَاهِلِيَّةِ، وَمُطَّلِبٌ دَمَ امْرِئٍ بَغيرِ حَقَ لِيُهْرِيقَ دَمَهُ)).

ص: 80

تَعَالَى لِلمُوقِنِينَ، وكُلَّمَا زَادَ إِيمَانُ العَبْدِ وَيَقِينُهُ زَادَ حُسْنُ حُكْمِ الشَّرْعِ عِنْدَهُ، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ هِيَ مِنْ آثَارِ الإِيمَانِ بِالأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَمَعْرِفَةِ حِكْمَةِ اللهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ وَأَفْعَالِهِ وَشَرْعِهِ.

- قَولُهُ: {وَمَنْ أَحْسَنُ} هُوَ من بَابِ اسْتِعْمَالِ أَفْعُلِ التَّفْضِيلِ فِيمَا لَيسَ لَهُ فِي الطَّرَفِ الآخَرِ مُشَارِكٌ.

- فِي النُّصُوصِ السَّابِقَةِ بَيَانُ وُجُوبِ تَحْكِيمِ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الأُمُورِ كَافَّةٍ، وَإِنَّ مَنَاهِجَ الجَمَاعَاتِ الدَّعَوِيَّةِ هِيَ مِنْ هَذَا البَابِ أَيضًا؛ فَيَجِبُ أَنْ نُحَكِّمَ فِيهَا كِتَابَ اللهِ وُسنَّةَ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، فَمَا كَانَ مِنْهَا مُتَمَشِّيًا مَعَ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَهُوَ مَنْهَجٌ صَحِيحٌ يَجِبُ السَّيرُ عَلَيهِ، وَمَا كَانَ مُخَالِفًا لِكِتَابِ اللهِ وسُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم؛ فَيَجِبُ أَنْ نَرْفُضَهُ وَأَنْ نَبْتَعِدَ عَنْهُ، وَلَا يَجُوزُ التَّعَصُّبُ لِجَمَاعَةٍ أَو لِحِزْبٍ أَو لِمَنْهَجٍ دَعَوِيٍّ عَلَى حِسَابِ تَجَاوُزِ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.

فَالَّذِي يَقْصُرُ هَذَا التَّحَاكُمَ عَلَى المَحَاكِمِ الشَّرْعِيَّةِ فَقَطْ! فَهُوَ مُخْطِئٌ، لِأَنَّ المُرَادَ التَّحَاكُمُ فِي جَمِيعِ الأُمُورِ وَجَمِيعِ المُنَازَعَاتِ وَالخُصُومَاتِ وَالحُقُوقِ المَالِيَّةِ وَغَيرِهَا، وَحَتَّى فِي أَقْوَالِ المُجْتَهِدِينَ وَالفُقَهَاءِ وَالمَنَاهِجِ الدَّعَوِيَّةِ وَالمَنَاهِجِ الجَمَاعِيَّةِ؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ:{وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشُّورَى: 10] وَ {شَيءٍ} نَكِرةُ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ تَعُمُّ كُلَّ نِزَاعٍ وكُلَّ خِلَافٍ

(1)

.

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله -فِي آيَةِ البَابِ-: "وَالآيَةُ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، فَإِنَّهَا ذَامَّةٌ لِمَنْ عَدَلَ عَنِ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَتَحَاكَمُوا إِلَى مَا سِوَاهُمَا مِنَ البَاطِلِ! وَهُوَ المُرَادُ

(1)

يُنْظَرُ: (إِعَانَةُ المُسْتَفِيدِ) لِلْفَوزَان (2/ 119).

ص: 81

بِالطَّاغُوتِ هَاهُنَا"

(1)

.

- سَبَبُ نُزُولِ قَولِهِ تَعَالَى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَينَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النِّسَاء: 65] هُوَ مَا فِي الصَّحِيحَينِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيرِ رضي الله عنهما: أَنَّ رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ خَاصَمَ الزُّبَيرَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي شِرَاجِ الحَرَّةِ

(2)

الَّتِي يَسْقَونَ بِهَا النَّخْلَ، فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ: سَرِّح المَاءَ يَمُرُّ، فَأَبَى عَلَيهِ، فَاخْتَصَمَا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِلزُّبَيرِ:((اسْقِ يَا زُبَيرُ، ثُمَّ أَرْسِلِ المَاءَ إِلَى جَارِكَ))، فَغَضِبَ الأَنْصَارِيُّ فَقَالَ: أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ؟! فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قَالَ: ((اسْقِ يَا زُبَيرُ، ثُمَّ احْبِسِ المَاءَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الجَدْرِ))

(3)

، فَقَالَ الزُّبَيرُ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَحْسِبُ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَينَهُمْ}

(4)

(5)

.

- قَالَ الشَّيخُ السَّعْدِيُّ رحمه الله فِي تَفْسِيرِ قَولِهِ تَعَالَى: {حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا

(1)

تَفْسِيرُ ابْنِ كَثِيرٍ (2/ 346).

(2)

(الشِّرَاجُ) بِكَسْرِ الشِّينِ: جَمْعُ شَرجَة؛ وَهِيَ مَسِيلُ المَاءِ.

(3)

(الجَدْرُ): الحَائِطُ؛ وَالمَعْنَى أَنْ يَحْبِسَ المَاءَ حَتَّى يَصِلَ إِلَى ارْتِفَاعِ الحَاجِزِ بَينَ الحِيَاضِ -وَهُوَ قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى مُجَرَّدِ السُّقْيَا-، وَبَعْضُهُم يَرْوِي (الجَذْر): وَالمَعْنَى أَنْ يَصِلَ إِلَى تَمَامِ الشُّرْبِ.

(4)

البُخَارِيُّ (2359)، وَمُسْلِمٌ (2357).

(5)

قَالَ شَيخُ الإِسْلَامِ رحمه الله فِي كِتَابِهِ الصَّارِمُ المَسْلُولُ (ص 528): "وَمِنْ هَذَا البَابِ قَولُ القَائِلِ: (إِنَّ هَذِهِ لَقِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللهِ)!! وَقَولُ الآخَرِ: (اعْدِلْ؛ فَإِنَّكَ لَمْ تَعْدِلْ)!! وَقَولُ ذَلِكَ الأَنْصَارِيِّ: (أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ)!! فَإِنَّ هَذَا كُفْرٌ مَحْضٌ؛ حَيثُ زَعَمَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا حَكَمَ لِلزُّبَيرِ لِأَنَّهُ ابْنُ عَمَّتِهِ! وَلِذَلِكَ أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةِ، وَأَقْسَمَ أَنَّهُم لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِم حَرَجًا مِنْ حُكْمِهِ، وَإِنَّمَا عَفَا عَنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَمَا عَفَا عَنِ الَّذِي قَالَ: (إِنَّ هَذِهِ لَقِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللهِ)؛ وَعَنِ الَّذِي قَالَ: (اعْدِلْ؛ فَإِنَّكَ لَمْ تَعْدِلْ) ".

ص: 82

شَجَرَ بَينَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} "فَالتَّحْكِيمُ فِي مَقَامِ الإِسْلَامِ، وَانْتِفَاءُ الحَرَجِ فِي مَقَامِ الإِيمَانِ، وَالتَّسْلِيمُ فِي مَقَامِ الإِحْسَانِ. فَمَنِ اسْتَكْمَلَ هَذِهِ المَرَاتِبَ وَكَمَّلَهَا؛ فَقَدِ اسْتَكْمَلَ مَرَاتِبَ الدِّينِ كُلِّهَا.

فَمَنْ تَرَكَ هَذَا التَّحْكِيمَ المَذْكُورَ غَيرَ مُلْتَزِمٍ لَهُ فَهُوَ كَافِرٌ، وَمَنْ تَرَكَهُ -مَعَ التِزَامِهِ- فَلَهُ حُكْمُ أَمْثَالِهِ مِنَ العَاصِينَ"

(1)

.

- قَولُهُ: ((حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ)) الهَوَى -بِالقَصْرِ-: المَيلُ، وَبِالمَدِّ هُوَ: الرِّيحُ، وَالمُرَادُ الأَوَّلُ.

- قَولُهُ: ((لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُم)) هَذَا فِيهِ نَفيٌ لِكَمَالِ الإِيمَانِ الوَاجِبِ.

وَمَعْنَى الحَدِيثِ أَنَّ الإِنْسَانَ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا كَامِلَ الإِيمَانِ الوَاجِبِ حَتَّى تَكُونَ مَحبَّتُهُ تَابِعَةً لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم مِنَ الأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي وَغَيرِهَا؛ فَيُحِبُّ مَا أَمَرَ بِهِ، وَيَكْرَهُ مَا نَهَى عَنْهُ.

قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأَحْزَاب: 36].

وَفِي الصَّحِيحَينِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: ((لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ))، فَلَا يَكُونُ المُؤْمِنُ مُؤْمِنًا حَقًّا حَتَّى يُقَدِّمَ مَحَبَّةَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَحَبَّةِ جَمِيعِ الخَلْقِ، وَمَحَبَّةُ الرَّسُولِ تَابِعَةٌ لِمَحَبَّةِ مُرْسِلِهِ

(2)

(3)

.

(1)

تَفْسِيرُ السَّعْدِيِّ (ص 184).

(2)

البُخَارِيُّ (13)، وَمُسْلِمٌ (45).

(3)

قَالَ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ: كُلُّ مَنِ ادَّعَى مَحَبَّةِ اللهِ عز وجل، وَلَمْ يُوَافِقِ اللهَ فِي أَمْرِهِ، فَدَعْوُاهُ بَاطِلَةٌ، وَكُلُّ مُحِبٍّ لَيسَ يَخَافُ اللهَ، فَهُوَ مَغْرُورٌ.

ص: 83

- قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ رحمه الله: "فَجَمِيعُ المَعَاصِي تَنْشَأُ مِنْ تَقْدِيمِ هَوَى النُّفُوسِ عَلَى مَحَبَّةِ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَقَدْ وَصَفَ اللهُ المُشْرِكِينَ بِاتِّبَاعِ الهَوَى فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ، وَقَالَ تَعَالَى:{فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} [القَصَص: 64].

وَكَذَلِكَ البِدَعُ؛ إِنَّمَا تَنْشَأُ مِنْ تَقْدِيمِ الهَوَى عَلَى الشَّرْعِ، وَلِهَذَا يُسَمَّى أَهْلُهَا أَهْلَ الأَهْوَاءِ، وَكَذَلِكَ المَعَاصِي؛ إِنَّمَا تَقَعُ مِنْ تَقْدِيمِ الهَوَى عَلَى مَحَبَّةِ اللهِ وَمَحَبَّةِ مَا يُحِبُّهُ اللهُ"

(1)

.

قُلْتُ: وَفِي قَولِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القَصَص: 50] بَيَانُ أَنَّ مَنْ لَمْ يُحَكِّمِ الشَّرِيعَةَ فَهُوَ صَاحِبُ هَوًى.

قَالَ ابْنُ القَيِّمِ رحمه الله: "وَجَعَلَ سبحانه وتعالى الاتِّبَاعَ قِسْمَينِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا: إِمَّا مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، وَإِمَّا الهَوَى"

(2)

.

- قَولُهُ: ((هَوَاهُ)) الهَوَى لَهُ مَعْنَيَانِ:

1 -

المَيلُ إِلَى خِلَافِ الحَقِّ، وَهُوَ المَعْنَى إِذَا أُطْلِقَ اللَّفْظُ، كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى:{وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26].

وَكَقَولِهِ تَعَالَى أَيضًا {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النَّازِعَات: 40 - 41].

(1)

جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (2/ 397) عِنْدَ شَرْحِ حَدِيثِ رَقَم (41) مِنَ الأَرْبَعِين النَّوَوِيَّةِ.

(2)

رَوضَةُ المُحِبِّينَ (1/ 404).

ص: 84

2 -

المَحَبَّةُ وَالمَيلُ مُطْلَقًا، فَيَدْخُلُ فِيهِ المَيلُ إِلَى الحَقِّ وَغَيرِهِ، فيُذَمُّ وَيُمْدَحُ بِحَسْبِ المَحْبُوبِ.

وَفِي الصَّحِيحَينِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها؛ قَالَتْ: (أَمَا تَسْتَحِي المَرْأَةُ أَنْ تَهَبَ نَفْسَهَا لِلرَّجُلِ؟! فَلَمَّا نَزَلَتْ: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} [الأَحْزَاب: 51]

(1)

، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ مَا أَرَى رَبَّكَ إِلَّا يُسَارِعُ فِي هَوَاكَ)

(2)

.

وَعَلَى هَذَا النَّوعِ يُحْمَلُ حَدِيثُ البَابِ، أَي: لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُم الإِيمَانَ الوَاجِبَ حَتَّى تَكُونَ مَحَبَّتُهُ تَابِعَةً لِمَحَبَّةِ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم

(3)

.

- قَولُهُ: ((وَرَجُلٌ مِنَ اليَهُودِ)) اليَهُودُ هُمُ المُنْتَسِبُونَ إِلَى دِينِ مُوسَى عليه السلام، وَسُمُّوا بِذَلِكَ إِمَّا مِنْ قَولِهِ تَعَالَى عَنْهُم:{إِنَّا هُدْنَا إِلَيكَ} [الأَعْرَاف: 156] أَي:

(1)

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي التَّفْسِيرِ (6/ 445): " {تُرْجِي} أَي: تُؤَخِّرُ {مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} أَي: مِنَ الوَاهِبَاتِ أَنْفُسَهُنَّ، {وَتُؤْوِي إِلَيكَ مَنْ تَشَاءُ} أَي: مَنْ شِئْتَ قَبِلْتَهَا، ومَنْ شِئْتَ رَدَدْتَهَا، وَمَنْ رَدَدْتَهَا؛ فَأَنْتَ فِيهَا أَيضًا بِالخَيَارَ بَعْدَ ذَلِكَ؛ إنْ شِئْتَ عُدْتَ فِيهَا فَآوَيتَهَا، وَلِهَذَا قَالَ:{وَمَنِ ابْتَغَيتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيكَ} ).

(2)

البُخَارِيُّ (5113)، وَمُسْلِمٌ (1464).

(3)

وَعَلَى هَذَا الوجْهِ -أَنَّ الهَوَى بِمَعْنَى المَحَبَّةِ- لَا يَبْقَى وَجْهٌ لِإِنْكَارِ مَتْنِ الحَدِيثِ -مِمَّنْ أَنْكَرَهُ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ وَالفَضْلِ- بِحُجَّةِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ لِلهَوَى أَنْ يُوَافِقَ الشَّرْعَ؛ وَأَنَّ الهَوَى مُخَالِفٌ لِلشَّرْعِ دَومًا؛ وَأَنَّ الإِيمَانَ يَكُونُ بِمُخَالَفَةِ الهَوَى بِاتِّبَاعِ الشَّرْعِ.

وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ الإِنْكَارِ بِالحَدِيثِ: ((حُفَّتِ الجَنَّةَ بِالمَكَارِهِ وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ (2822) عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا، وَأَيضًا بِحَدِيثِ:((وَالمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ اللهِ)). صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (23967) عَنْ فُضَالَةَ بْنِ عُبَيدٍ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (549).

قُلْتُ: بَلْ قَدْ يَكُونُ فِي مَا يَهْوَاهُ وَيُحِبُّهُ المَرْءُ بِطَبْعِهِ مَا يُؤْجَرُ عَلَيهِ مَعَ النِّيَّةِ الصَّالِحَةِ، كَمَا فِي حَدِيثِ:((وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1006) عَنْ أَبِي ذَرٍّ مَرْفُوعًا.

ص: 85

رَجَعنَا، أَو نِسْبَةً إِلَى أَبِيهِم يَهُوذَا، وَلَكِنْ بَعْدَ التَّعْرِيبِ صَارَ بِالدَّالِ.

- فِي القِصَّةِ أَنَّ المُنَافِقَ أَرَادَ التَّحَاكُمَ إِلَى اليَهُودِ لِعِلْمِهِ أَنَّهُم يَأْخُذُونَ الرِّشْوَةَ، وَهِيَ مِصْدَاقُ قَولِهِ تَعَالَى فِيهِم:{سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المَائِدَة: 42] أَي: سَمَّاعُونَ لِلبَاطِلِ، {أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} أَي الحَرَامِ، وَهُوَ الرِّشْوَةُ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيرُ وَاحِدٍ

(1)

.

- كِتَابُ (الحُجَّةُ عَلَى تَارِكِ المَحَجَّةِ) لِلشَّيخِ أَبِي الفَتْحِ؛ نَصْرِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ المَقْدِسِيِّ الشَّافِعِيِّ، الفَقِيهِ الزَّاهِدِ نَزيلِ دِمَشْقَ، تَضَمَّنَ كِتَابُهُ ذِكْرَ أُصُولِ الدِّينِ عَلَى قَوَاعِدِ أَهْلِ الحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ، (ت 490 هـ)

(2)

.

- فَائِدَةٌ: لَيسَ المَقْصُودُ مِنَ التَّحَاكُمِ إِلَى الشَّرِيعَةِ هُوَ مُجَرَّدُ تَحْقِيقِ الأَمْنِ وَالعَدَالَةِ بَينَ النَّاسِ! فَهَذَا لَا يَكْفِي، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ تَحْكِيمُ الشَّرِيعَةِ تَعَبُّدًا وَطَاعَةً للهِ تَعَالَى، وَلَا يَخْفَاكَ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَحْكَامِ هِيَ تَعَبُّدِيَّةٌ مَحْضَةٌ -لَا تُعْقَلُ لَدِينَا-؛ فَلَا يَجُوزُ تَعْطِيلُهَا بِحُجَّةِ أنَّنَا لَا نَعْلَمُ وَجْهَ إِفَادَتِهَا اجْتِمَاعِيًّا أَوِ اقْتِصَادِيًّا أَو كَونًا.

(1)

تَفْسِيرُ ابْنِ كَثِيرٍ (3/ 117).

(2)

جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (2/ 393)، وَاُنْظُرِ السِّيَرَ لِلذَّهَبِيِّ (19/ 136).

ص: 86

بَابُ مَنْ جَحَدَ شَيئًا مِنَ الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ

وَقَولُ اللهِ تَعَالَى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيهِ مَتَابِ} [الرَّعْد: 30].

وَفِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ؛ قَالَ عَلِيٌّ: (حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ؛ أَتُرِيدُونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللهُ وَرَسُولُهُ؟!)

(1)

.

وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا انْتَفَضَ لَمَّا سَمِعَ حَدِيثًا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الصِّفَاتِ -اسْتِنْكَارًا لِذَلِكَ-، فَقَالَ:(مَا فَرَقُ هَؤُلَاءِ؟ يَجِدُونَ رِقَّةً عِنْدَ مُحْكَمِهِ وَيَهْلِكُونَ عِنْدَ مُتَشَابِهِهِ!)

(2)

.

وَلَمَّا سَمِعَتْ قُرَيشٌ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ الرَّحْمَنَ أَنْكَرُوا ذَلِكَ؛ فَأَنْزَلَ اللهُ فِيهِمْ: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرَّعْد: 30]

(3)

.

(1)

رَوَاهُ البُخَارِيُّ (127) عَنْ عَلِيٍّ مَوقُوفًا، وَلَا يَصِحُّ مَرْفُوعًا، وَفِي كَشْفِ الخَفَاءِ لِلعَجْلُونِيِّ رحمه الله (1/ 405) أَنَّ المَرْفُوعَ مِنْهُ مَوضُوعٌ.

(2)

رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي التَّفْسِيرِ (2/ 239)، وَابْنُ أَبِي عَاصِمٍ فِي السُّنَّةِ (485)، وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله فِي الظِّلَالِ (485)، وَأَيضًا صَحَّحَهُ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ الحَنْبَلِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي)(7/ 232).

(3)

تَفْسِيرُ الطَّبَرِيِّ بِنَحْوهِ (16/ 445).

ص: 87

فِيهِ مَسَائِلُ:

الأُولَى: عَدَمُ الإِيمَانِ بِجَحْدِ شَيءٍ مِنَ الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ.

الثَّانِيَةُ: تَفْسِيرُ آيَةِ الرَّعْدِ.

الثَّالِثَةُ: تَرَكُ التَّحْدِيثِ بِمَا لَا يَفْهَمُ السَّامِعُ.

الرَّابِعَةُ: ذِكْرُ العِلَّةِ؛ أَنَّهُ يُفْضِي إِلَى تَكْذِيبِ اللهِ وَرَسُولِهِ؛ وَلَو لَمْ يَتَعَمَّدِ المُنْكِرُ.

الخَامِسَةُ: كَلَامُ ابْنِ عَبَّاسٍ لِمَنِ اسْتَنْكَرَ شَيئًا مِنْ ذَلِكَ؛ وَأَنَّهُ أَهْلَكَهُ.

ص: 88

‌الشَّرْحُ

- مُنَاسَبَةُ البَابِ لِكِتَابِ التَّوحِيدِ هُوَ مِنْ جِهَتَينِ:

1 -

أَنَّ جَحْدَ شَيءٍ مِنَ الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ

(1)

هُوَ مِنْ خِصَالِ الكُفَّارِ وَالمُشْرِكِينَ

(2)

.

وَالجُحُودُ: هُوَ الإِنْكَارُ مَعَ العِلْمِ.

2 -

أَنَّ مِنْ بَرَاهِينِ تَوحِيدِ العِبَادَةِ تَوحِيدُ الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَهُوَ أَحَدُ أَنْوَاعِ التَّوحِيدِ، وَإنَّ جَحْدَ شَيءٍ مِنْهَا مُنَافٍ لِأَصْلِ التَّوحِيدِ

(3)

.

(1)

أَي: مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ.

(2)

وَهَذَا الإِنْكَارُ إِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ الجُحُودِ مِنْهُم وَلَيسَ الجَهْلِ، كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى:{قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ} [يس: 15] فَصِفَةُ الرَّحْمَنِ مَعْرُوفَةٌ نِسْبَتُهَا إِلَى الرَّبِّ سُبْحَانَهُ.

وَقَدْ وَرَدَتْ أَشْعَارٌ مِنْ أَشْعَارِ الجَاهِلِيَّةِ أَيضًا فِيهَا ذِكْرُ الرَّحْمَنِ وَالإِقْرَارِ بِهِ وتَسميَتِهِ سُبْحَانَهُ بِهِ، كَمَا فِي لِسَانِ العَرَبِ (6/ 214) نَقْلًا عَنِ امْرِئِ القَيسِ (ت 80 ق. هـ): "تِلْكَ السَّحَابُ إِذَا الرَّحْمَنُ أَنْشَأَهَا

رَوَّى بِهَا مِنْ مَحُولِ الأَرْضِ أَنْفَاسًا".

وَ (المَحْلُ): الجُوعُ الشَّدِيدُ؛ كَمَا في لِسَانِ العَرَبِ (11/ 616).

قَالَ الطَّبَرِيُّ رحمه الله فِي تَفْسِيرِهِ (1/ 131): "وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الغَبَاءِ أَنَّ العَرَبَ كَانَتْ لَا تَعْرِفُ (الرَّحْمَنَ)؛ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي لُغَتِهَا! "

(3)

وَتَوحِيدُ الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ هُوَ النَّوعُ الثَّالِثُ مِنْ أَنْوَاعِ التَّوحِيدِ، وَهُوَ فِي الحَقِيقَةِ دَاخِلٌ فِي تَوحِيدِ الرُّبُوبيَّةِ، وَمِنْ أَجْلِ هَذَا بَعْضُ العُلماءِ يُجْمِلُ وَيَجْعَلُ التَّوحِيدَ نَوعَينِ:

تَوحِيدًا فِي المَعْرِفَةِ وَالإِثْبَاتِ؛ وَهُوَ تَوحِيدُ الرُّبُوبيَّةِ وَالأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَهُوَ التَّوحِيدُ العِلْمِيُّ الخَبَرِيُّ.

وَتَوحِيدًا فِي الطًّلبِ وَالقَصْدِ؛ وَهُوَ التَّوحِيدُ العَمَلِيُّ الطَّلَبِيُّ، وَهُوَ تَوحِيدُ الأُلُوهِيَّةِ.

وَلَكِنْ لَمَّا وُجِدَتْ طَوَائِفُ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ افْتَرَقَتْ عَنْ مَذْهَبِ السَّلَفِ وَصَارَ لَهَا رَأْيٌ فِي الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ تُخَالِفُ بِهِ الحَقَّ؛ جُعِلَ هَذَا قِسْمًا ثَالِثًا مِنْ أَجْلِ الرَّدِّ عَلَيهِم وَبَيَانِهِ لِلنَّاسِ.

ص: 89

فَنَفْيُ الصِّفَاتِ تَعْطِيلٌ، وَتَمَامُ التَّعْطِيلِ نَفيُ وُجُودِ الرَّبِّ أَصْلًا! لِأَنَّ عَدَمَ الصِّفَاتِ عَدَمٌ لِلمَوصُوفِ، فَكُلُّ مَا لَا صِفَةَ لَهُ؛ عَدَمٌ.

قَالَ نُعَيمُ بْنَ حَمَّادٍ: "أَنَا كُنْتُ جَهْمِيًّا؛ فَلِذَلِكَ عَرَفْتُ كَلَامَهُم، فَلَمَّا طَلَبْتُ الحَدِيثَ؛ عَرَفتُ أَنَّ أَمرَهُم يَرْجِعُ إِلَى التَّعْطِيلِ"

(1)

.

- إنَّ الإِيمَانَ بِالأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَمَعْرِفَةَ آثَارِهِمَا فِي مَلَكوتِ اللهِ تَعَالَى يُقُوَيَّانِ اليَقِينَ بِهِ سُبْحَانَهُ، وَهُمَا سَبَبَانِ لِمَعْرِفَةِ اللهِ تَعَالَى وَلِمَا يَنْتُجُ عَنْهُمَا مِنَ المَحَبَّةِ وَالخَشيَةِ وَالتَّقوى وَالعَمَلِ.

- الظَّاهِرُ مِنْ إِيرَادِ المُصَنِّفِ رحمه الله لِلآيَةِ الكَرِيمَةِ هُوَ بَيَانُ أَنَّ عَدَمَ الإِقْرَارِ بِأَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ هُوَ كُفْرٌ بِاللهِ تَعَالَى، ثُمَّ أَورَدَ بَعْدَهَا أَثَرَ عَلِيٍّ رضي الله عنه لِبَيَانِ أَنَّ

(1)

اُنْظُرْ سِيَرَ أَعْلَامِ النُّبَلَاءِ (10/ 597) لِلحَافِظِ الذَّهَبِيِّ رحمه الله عِنْدَ تَرْجَمَةِ نُعَيمِ بْنِ حَمَّادٍ -وَهُوَ شَيخُ البُخَارِيِّ- (ت 229 هـ).

وَأَورَدَ الحَافِظُ الذَّهَبِيُّ رحمه الله أَيضًا فِي السِّيَرِ (21/ 376) -عِنْدَ تَرْجَمَةِ أَبِي الفَرَجِ ابْنِ الجَوزِيِّ، (ت 597 هـ) - قَولَهُ رحمه الله:"أَهْلُ الكَلَامِ يَقُولُونَ: مَا فِي السَّمَاءِ رَبٌّ! وَلَا فِي المُصْحَفِ قُرْآنٌ! وَلَا فِي القَبْرِ نَبِيٌّ! ثَلَاثُ عَورَاتٍ لَكُم".

وَقَالَ ابْنُ القَيِّمِ رحمه الله فِي كِتَابِهِ الصَّوَاعِقُ المُرْسَلَةُ عَلَى الجَهْمِيَّةِ وَالمُعَطِّلَةِ (1/ 148): "المُعَطِّلُ يَعْبُدُ عَدَمًا، وَالمُمَثِّلُ يَعْبُدُ صَنَمًا، وَالمُوَحِّدُ يَعْبُدُ رَبًّا لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ؛ لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى وَالصِّفَاتُ العُلَى".

وَقَالَ ابْنُ خُزَيمَةَ رحمه الله فِي كِتَابِهِ التَّوحِيدُ (1/ 11): "أَوَّلُ مَا نَبْدَأُ بِهِ مِنْ ذِكْرِ صِفَاتِ خَالِقِنَا: ذِكْرُ نَفْسِهِ؛ جَلَّ رَبُّنَا عَنْ أَنْ تَكُونَ نَفْسُهُ كَنَفْسِ خَلْقِهِ، وَعَزَّ عَنْ أَنْ يَكُونَ عَدَمًا لَا نَفْسَ لَهُ"!

قُلْتُ: وَهَذَا عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّ النَّفْسَ صِفَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ، وَلَيسَتْ نَفْسَهَا الذَّاتُ.

ص: 90

الوَاجِبَ عَلَى الدَّاعِي أَنْ لَا يُحَدِّثَ النَّاسَ بِمَا لَا تُدْرِكُهُ عُقُولُهُم؛ لِأَنَّ بَعْضَ ذَلِكَ الكُفْرِ سَبَبُهُ تَحْدِيثُ السَّامِعِ بِمَا لَا يَعْقِلُ، ثُمَّ أَورَدَ بَعْدَهَا أَثَرَ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنه لِبَيَانِ أَنَّ الوَاجِبَ عَلَى المُسْتَمِعِ أَنْ يُسَلِّمَ لِلكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَا يَرُدَّ الأَسْمَاءَ وَالصِّفَاتِ لِجَهْلِهِ بِحَقِيقَتِهَا! فَرَحِمَهُ اللهُ مَا أَفْقَهَهُ.

- قَولُهُ تَعَالَى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} المُرَادُ أَنَّهُم يَكْفُرُونَ بِهَذَا الاسْمِ لَا بالمُسَمَّى؛ فَهُم يُقرِّونَ بِهِ، قَالَ تَعَالَى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [لُقْمَان: 25].

- (الرَّحْمَنُ): اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى، وَهُوَ ثَابِتٌ بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَقَدْ جَحَدَهُ المُشْرِكُونَ وَلَمْ يُقِرُّوا بِهِ

(1)

، وَقَدْ ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى جُحُودَهُم هَذَا فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ العَزِيزِ، قَالَ تَعَالَى:

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا} [الفُرْقَان: 60].

{قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإِسْرَاء: 110]

(2)

.

(1)

وَجَحْدُهُم هَذَا مُتَضَمِّنٌ لِتَكْذِيبِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ.

(2)

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (5/ 128): "يَقُولُ تَعَالَى: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ المُشْرِكِينَ المُنْكِرِينَ صِفَةَ الرَّحْمَةِ لِلَّهِ عز وجل؛ المَانِعِينَ مِنْ تَسْمِيَتِهِ بِالرَّحْمَنِ: {ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} أَي: لَا فَرْقَ بَينَ دُعَائِكُمْ لَهُ بِاسْمِ (اللَّهِ) أَو بِاسْمِ (الرَّحْمَنِ) فَإِنَّهُ ذُو الأَسْمَاءِ الحُسْنَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} إِلَى أَنْ قَالَ: {لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحَشْرِ: 24]. وَقَدْ رَوَى مَكْحُولٌ أَنَّ رَجُلًا مِنَ المُشْرِكِينَ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَقُولُ فِي سُجُودِهِ: ((يَا رَحْمَنُ يَا

=

ص: 91

{قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [المُلْك: 29].

{وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ} [الأَنْبِيَاء: 36]

(1)

(2)

.

- قَالَ البَغَويُّ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ: "قَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ وَابْنُ جُرَيجٍ: الآيَةُ مَدَنِيَّةٌ نَزَلَتْ فِي صُلْحِ الحُدَيبِيَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ سُهَيلَ بْنَ عَمْرٍو لَمَّا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنْ يَكْتُبُوا كِتَابَ الصُّلْحِ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِعَلِيٍّ رضي الله عنه: ((اكْتُبْ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ))، قَالُوا: لَا نَعْرِفُ الرَّحْمَنَ إِلَّا صَاحِبَ اليَمَامَةِ -يَعْنُونَ مُسَيلِمَةَ الكَذَّابَ-! اكْتُبْ كَمَا كُنْتَ تَكْتُبُ: بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ، فَهَذَا مَعْنَى قَولِهِ: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} "

(3)

.

- إَنَّ تَأْوِيلَ المُعطِّلَةِ لِصَفَةِ الرَّحْمَةِ أَخْطَرُ مِنْ جَحْدِ المُشْرِكِينَ لِاسْمِ الرَّحْمَنِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ المُشْرِكِينَ أَنْكَرُوا الاسْمَ فَقَطْ وَلَمْ يُنْكِروا المَعْنَى؛ بِخِلَافِ المُعَطِّلَةِ فَهُم أَنْكَرُوا المَعْنَى -وَإِنْ أَثْبَتُوا الاسْمَ-، وَلَا يَخْفَى أَنَّ المَقْصُودَ مِنَ الاسْمِ مَعْنَاهُ وَلَيسَ

=

رَحِيمُ))، فَقَالَ: إِنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّهُ يَدْعُو وَاحِدًا؛ وَهُوَ يَدْعُو اثْنَينِ! فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ. وَكَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَوَاهُمَا ابْنُ جَرِيرٍ".

قُلْتُ: وَأَثَرُ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ عَنْهُ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله فِي الفَتْحِ (13/ 360): "رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوِيه بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ".

(1)

قَالَ البَغَويُّ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (5/ 318): "وَذَلِكَ أَنَّهُم كَانُوا يَقُولُونَ: لَا نَعْرِفُ الرَّحْمَنَ إِلَّا مُسَيلِمَةَ"!

(2)

وَقَدْ أَوَّلَ هَذِهِ الصِّفَةَ الأَشَاعِرَةُ وَلَمْ يُثْبِتُوا مَعْنَاهَا للهِ تَعَالَى؛ فَجَعَلُوهَا دَالَّةً عَلَى الضَّعْفِ وَاللِّينِ! وَسَيَأْتِي الكَلَامُ فِي ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللهُ.

(3)

تَفْسِيرُ البَغَوِيِّ (4/ 318).

ص: 92

مُجَرَّدَ لَفْظِهِ! فَأَسْمَاءُ اللهِ تَعَالَى أَعْلَامٌ وَأَوصَافٌ

(1)

.

- الجَحْدُ: هُوَ الإِنْكَارُ، وَالإِنْكَارُ نَوعَانِ:

1 -

إِنْكَارُ تَكْذِيبٍ: وَهَذَا كُفْرٌ مُخْرِجٌ عَنِ المِلَّةِ، فَلَو أَنَّ أَحَدًا أَنْكَرَ اسْمًا مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ أَو صِفَةً مِنْ صِفَاتِهِ الثَّابِتَةِ فِي الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: لَيسَ للهِ يَدٌ، أَو أَنَّ اللهَ لَمْ يَسْتَوِ عَلَى عَرْشِهِ، أَو لَيسَ لَهُ عَينٌ! فَهُوَ كَافِرٌ بِإِجْمَاعِ المُسْلِمِينَ.

2 -

إِنْكَارُ تَأْوِيلٍ: وَهُوَ أَنْ لَا يُنْكِرَهَا وَلَكِنْ يَتَأَوَّلُهَا إِلَى مَعْنًى يُخَالِفُ ظَاهِرَهَا؛ فَهَذَا نَوعَانِ:

أ- أَنْ يَكُونَ لِلتَّأْوِيلِ مُسَوِّغٌ فِي اللُّغَةِ العَرَبيَّةِ؛ فَهَذَا لَا يُوجِبُ الكُفْرَ -وَإِنْ كَانَ مُخْطِئًا فِي ذَلِكَ-.

ب- أَنْ لَا يَكُونَ لهُ مُسَوِّغٌ فِي اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ؛ فَهَذَا حُكْمُهُ الكُفْرُ، لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مُسَوِّغٌ؛ صَارَ فِي الحَقِيقَةِ تَكْذِيبًا! مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: المُرَادُ بِقَولِهِ تَعَالَى: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القَمَر: 14] أَي: تَجْرِي بِأَرَاضِينَا! فَهَذَا كَافِرٌ لِأَنَّه نَفَاهَا نَفْيًا مُطْلَقًا، فَهُوَ مُكَذِّبٌ.

وَلَو قَالَ فِي قَولِهِ تَعَالَى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المَائِدَة: 64] المُرَادُ بِيَدَيهِ: السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ! فَهُوَ كُفْرٌ أَيضًا؛ لِأَنَّه لَا مُسَوِّغَ لَهُ فِي اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ، لَكِنْ إِنْ قَالَ: المُرَادُ بِاليَدِ: النِّعْمَةُ أَوِ القُوَّةُ؛ فَلَا يَكْفُرُ، لِأَنَّ اللُّغَةَ تَحْتَمِلُهَا

(2)

.

(1)

بِتَصَرُّفٍ مِنْ شَرِحِ الشَّيخِ الغُنَيمَانِ عَلَى كِتَابِ التَّوحِيدِ مَنْ صَحِيحِ البُخَارِيِّ (1/ 89).

(2)

القَولُ المُفِيدُ (2/ 183).

وَقَالَ الشَّيخُ الغُنَيمَانُ حَفِظَهُ اللهُ تَعَالَى: "أَمَّا إِذَا وَقَعَ إِنْسَانٌ فِي شَيءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ فَأَنْكَرَ مَثَلًا أَنْ يَكُونَ اللهُ مَوصُوفًا بِالرَّحْمَةِ أَو مَوصُوفًا بِالعُلُوِّ أَو مَوصُوفًا بِأَنَّهُ يَنْزِلُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا أَو مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ فَقَدْ يَكُونُ

=

ص: 93

- قَولُهُ تَعَالَى: {وَإِلَيهِ مَتَابِ} أَي: وَإِلَيهِ مَرْجِعِي وَأَوبَتِي

(1)

.

وَالتَّوبَةُ الَّتِي لَا تَكُونُ إِلَّا للهِ هِيَ تَوبَةُ العِبَادَةِ -كَمَا فِي هَذِهِ الآيَةِ-، وَأَمَّا التَّوبَةُ الَّتِي هِيَ بِمَعْنَى الرُّجُوعِ؛ فَإِنَّهَا تَكُونُ لَهُ وَلِغَيرِهِ، وَمِنْهُ قَولُ عَائِشَةَ رضي الله عنها حِينَ جَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَوَجَدَ نُمْرُقَةً (وِسَادَةً) فِيهَا صُوَرٌ؛ فَوَقَفَ بِالبَابِ وَلَمْ يَدْخُلْ، فَقَالَتْ:(أَتُوبُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ)

(2)

(3)

.

- قَولُ عَليٍّ رضي الله عنه: (حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ)، أَي: بِمَا يُمْكِنُ أَنْ يَعْرِفُوهُ وَتَبْلُغُهُ عُقُولُهُم حَتَّى لَا يُفْتَنُوا بِهِ، كَمَا فِي الأَثَرِ الآخَرِ:(مَا أَنْتَ مُحَدِّثٌ قَومًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُم إِلَّا كَانَ لِبَعْضِهِم فِتْنَةً)

(4)

، وَقَدْ بَوَّبَ البُخَارِيُّ رحمه الله فِي الصَّحِيحِ عَلَى أَثَرِ عَلِيٍّ رضي الله عنه فِي كِتَابِ العِلْمِ بِقَولِهِ:"بَابُ مَنْ خَصَّ بِالعِلْمِ قَومًا دُونَ قَومٍ كَرَاهِيَةَ أَلَّا يَفْهَمُوا".

=

عِنْدَهُ شُبَهٌ، فَيَجِبُ أَنْ تُزَالَ الشُّبَهُ عَنْهُ، فَإِذَا أُزِيلَتِ الشُّبَهُ عَنْهُ وَأَصَرَّ عَلَى الإِنْكَارِ فَلَهُ حُكْمٌ آخَر، غَيرَ أًنَّنَا نَقُولُ: إنَّ فِعْلَكَ أَو قَولَكَ هَذَا كُفْرٌ، فَإِذَا تَبَيَّنَ لَهُ الحَقُّ وأَقَرَّ بِهِ يَكُونُ كَافِرًا، نَسأَلُ اللهَ العَافِيَةَ". مُسْتَفَادٌ مِنْ شَرْحِ الشَّيخِ الغُنَيمَانِ حَفِظَهُ اللهُ عَلَى كِتَابِ (فَتْحُ المَجِيدِ)، شَرِيطُ رَقَم (103)، شَرْحُ البَابِ.

(1)

تَفْسِيرُ الطَّبَرِيِّ (16/ 445).

(2)

وَالحَدِيثُ بِتَمَامِهِ فِي البُخَارِيِّ (5957) عَنْ عَائِشَةَ؛ أُمِّ المُؤْمِنِينَ رضي الله عنها: أَنَّهَا اشْتَرَتْ نُمْرُقَةً فِيهَا تَصَاوِيرُ، فَلَمَّا رَآهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ عَلَى البَابِ فَلَمْ يَدْخُلْهُ، فَعَرَفْتُ فِي وَجْهِهِ الكَرَاهِيَةَ؛ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ أَتُوبُ إِلَى اللهِ وَإِلَى رَسُولِهِ؛ مَاذَا أَذْنَبْتُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((مَا بَالُ هَذِهِ النُّمْرُقَةِ؟)) قُلْتُ: اشْتَرَيتُهَا لَكَ لِتَقْعُدَ عَلَيهَا وَتَوَسَّدَهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ أَصْحَابِ هَذِهِ الصُّوَرِ يَومَ القِيَامَةِ يُعَذَّبُونَ؛ فَيُقَالُ لَهُمْ: أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ)). وَقَالَ: ((إِنَّ البيتَ الَّذِي فِيهِ الصُّوَرُ لَا تَدْخُلُهُ المَلَائِكَةُ)).

(3)

أَي: أَرْجِعُ إِلَى مَا يُرِيدُ اللهُ وَرَسُولُهُ، وَمِنْ ذَلِكَ أَيضًا حِينَ يَضْرِبُ الوَالِدُ ابْنَهُ لِسُوءِ أَدَبِهِ؛ فَيَقُولُ الابْنُ: أَتُوبُ.

(4)

مُسْلِمٌ (1/ 11) عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَوقُوفًا، بَابُ النَّهْي عَنِ الحَدِيثِ بِكُلِّ مَا سَمِعَ.

ص: 94

وَلِهَذَا كَانَ مِنَ الحِكْمَةِ فِي الدَّعْوَةِ أَلَّا تُبَاغِتَ النَّاسَ بِمَا لَا يُمْكِنُهم إِدْرَاكُهُ! بل تَدْعُوهُم رُوَيدًا رُوَيدًا حَتَّى تَسْتَقِرَ عُقُولُهُم

(1)

.

وَفِي الأَثَرِ دَلِيلٌ عَلَى مَنْعِ تَحَدِيثِ النَّاسِ بَمَا لَا تُدْرِكُهُ عُقُولُهُم، وَمِنْ ذَلِكَ التَّفَاصِيلُ وَالتَّوَسُّعُ فِي أَسْمَاءِ اللهِ وَصِفَاتِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يُؤَدِّي إِلَى إِنْكَارِهَا -وَهُوَ كُفْرٌ بِهَا- وَذَلِكَ يُنَافِي تَوحِيدَ الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ.

وَدَلَّ الأَثَرُ أَيضًا عَلَى أَنَّ بَعْضَ العِلْمِ لَا يَصْلُحُ لِكُلِّ أَحَدٍ.

- قَولُهُ: (بِمَا يَعْرِفُونَ): لَيسَ مَعْنَاهُ بِمَا يَعْرِفُونَهُ مِنْ قَبْلُ! لِأَنَّ الَّذِي يَعْرِفُونَهُ مِنْ قَبْلُ يَكُونُ التَّحَدِيثُ بِهِ مِنْ تَحْصِيلِ الحَاصِلِ، وَإِنَّمَا المَقْصُودُ بِمَا يُدْرِكُونَ بِعُقُولِهِم، لِأَنَّ السَّامِعَ لِمَا لَمْ يَفْهَمْهُ يَعْتَقدُ اسْتِحَالَتَه -جَهْلًا- فَلَا يَعْرِفُ وُجُودَهُ؛ فَيَلْزَمُ التَّكْذِيبَ.

(1)

قَالَ الشَّيخُ ابْنُ عُثَيمِين رحمه الله فِي كِتَابِهِ القَولُ المُفِيدُ (2/ 193): "وَمِثْلُ ذَلِكَ: العَمَلُ بِالسُّنَّةِ الَّتِي لَا يَعْتَادُهَا النَّاسُ وَيَسْتَنْكِرُونَهَا، فَإِنَّنَا نَعْمَلُ بِهَا لَكِنْ بَعْدَ أَنْ نُخْبِرَهُم بِهَا، حَتَّى تَقْبَلَهَا نُفُوسُهُم وَيَطْمَئِنُّوا إِلَيهَا.

وُيسْتَفَادُ مِنْ هَذَا الأَثَرِ أَهَمِّيَّةُ الحِكْمَةِ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ عز وجل؛ وَأَنَّهُ يَجْبُ عَلَى الدَّاعِيَةِ أَنْ يَنْظُرَ فِي عُقُولِ المَدْعُوِّينَ وَيُنْزِلَ كُلَّ إِنْسَانٍ مَنْزِلَتَهُ".

قُلْتُ: وَمِنْ نَفْسِ البَابِ أَورَدَ النَّوَوِيُّ رحمه الله حَدِيثَ البُخَارِيِّ (6502) فِي أَرْبَعِينِيَّتِهِ وَهُوَ: ((إنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبْ، وَمَا تقرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيءٍ أَحَبَّ إليَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّه، فَإِذَا أحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وإنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَإِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ)) وَلَكِنَّهُ لَيسَ بِتَمَامِهِ! وَتَمَامُهُ: ((وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ المُؤْمِنِ؛ يَكْرَهُ المَوتَ وَأَنَا أَكْرْهُ مَسَاءَتَهُ))، فَلَعَلَّ اخْتِصَارَهُ لَهُ هُوَ مِنْ هَذَا البَابِ -أَي مُرَاعَاةً لِحَالِ السَّامِعِينَ- وَذَلِكَ لِكَونِ هَذِهِ الأَرْبَعِينَ هِيَ مِنَ المُتُونِ المُعَدَّةِ لِلمُبْتَدِئِينَ فِي طَلَبِ العِلْمِ. وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

ص: 95

- وَجْهُ التَّكْذِيبِ فِي أَثَرِ عَلِيٍّ هُوَ أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: قَالَ اللهُ وَقَالَ رَسُولُهُ: كَذَا وَكَذَا، قَالُوا هَذَا كَذِبٌ -إِذَا كَانَتْ عُقُولُهُم لَا تَبْلُغُهُ-، فَهُمْ لَا يُكَذِّبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ؛ لَكِنْ يُكَذِّبُونَكَ بِحَديثٍ تَنْسِبُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، فَيَكُونُونَ مُكَذِّبِينَ للهِ وَلِرَسُولِهِ لَا مُبَاشَرَةً لَكِنْ بِوَاسِطَةِ النَّاقِلِ.

- مُنَاسَبَةُ هَذَا الأَثَرِ لِهَذَا البَابِ أَنَّ مِنْ أَسْبَابِ جَحْدِ الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ أَنْ يُحَدِّثَ المَرْءُ النَّاسَ بِمَا لَا يَعْقِلُونَهُ مِنَ الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، فَالنَّاسُ عِنْدَهُم إِيمَانٌ إِجْمَالِيٌّ بِالأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ يَصِحُّ مَعَهُ تَوحِيدُهُم وَإِيمَانُهُم وَإِسْلَامُهُم، فَالدُّخُولُ فِي تَفَاصِيلِ ذَلِكَ غَيرُ مُنَاسِبٍ؛ إِلَّا إِذَا كَانَ المُخَاطَبُ يَعْقِلُ ذَلِكَ وَيَعِيه، وَهَذِهِ لَيسَتْ حَالَ أَكْثَرِ النَّاسِ.

- ذِكْرُ تَرْجَمَةِ بَعْضِ مَنْ سَبَقَ مِنَ الأَعْلَامِ:

(عَبْدُ الرَّزَّاقِ): هُوَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ، مِنْ صِغَارِ أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ، (ت 211 هـ).

(مَعْمَرُ): هُوَ مَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ الأَزْدِيُّ؛ البَصْرِيُّ؛ نَزِيلُ اليَمَنِ، من كِبَارِ أَتباعِ التَّابِعِينَ، (ت 154 هـ).

(ابْنُ طَاوُس): هُوَ عَبْدُ اللهِ بْنُ طَاوُسٍ اليَمَانِيُّ، لَمْ يَلْقَ الصَّحَابَةَ، قَالَ مَعْمرٌ:"كَانَ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِالعَرَبيَّةِ"، (ت 132 هـ).

(طَاوُس): هُوَ طَاوُسُ بْنُ كَيسَانَ الجَنَدِيُّ -بِفَتْحِ الجِيمِ وَالنُّونِ-، الإِمَامُ العَلَمُ، مِنَ الوُسْطَى مِنَ التَّابِعِينَ، قِيلَ: اسْمُهُ ذَكوَان؛ وَطَاوُسُ لَقَبُهُ، (ت 106 هـ).

- قَولُهُ: (مَا فَرَقُ) هِيَ عَلَى احْتِمَالَاتٍ ثَلَاثَةٍ:

ص: 96

(فَرَقُ): بِفَتْحِ الرَّاءِ وَضَمِّ القَافِ؛ اسْمٌ مِنَ الفَرَقِ، أَي: الخَوفِ

(1)

.

(فرَّقَ، فَرَقَ): بِفَتحِ الرَّاءِ -مُشَدَّدَةً- وفَتْحِ القَافِ، أَو بِفَتحِ الرَّاءِ -مُخَفَّفَةً- وَفَتْحِ القَافِ؛ فِعْلٌ مِنَ التَّفْرِيقِ وَالتَّمْيِيزِ.

فَعَلى الأُولَى -ولَعَلَّهَا الأَولَى أَيضًا- تَكُونُ (مَا) اسْتِفْهَاميَّةً لِلإِنْكَارِ، أَي: مَا خَوفُ هَؤُلْاءِ مِنْ إِثْبَاتِ الصِّفَةِ الَّتِي تُلِيَتْ عَلَيهِم وَبَلَغَتْهُم؟! لِمَاذَا لَا يُثْبِتُونَهَا للهِ عز وجل كَمَا أَثْبَتَهَا اللهُ لِنَفْسِهِ وَأَثْبَتَهَا لَهُ رَسُولُه؟! وَهَذَا يَنْصَبُّ تَمَامًا عَلَى أَهْلِ التَّعْطِيلِ وَالتَّحْرِيفِ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ الصِّفَاتِ، فَمَا الَّذِي يُخَوِّفُهُم مِنْ إِثْبَاتِهَا وَاللهُ تَعَالَى قَدْ أَثْبَتَهَا لِنَفْسِهِ؟!

(2)

- قَولُهُ: (يَجِدُونَ رِقَّةً عِنْدَ مُحْكَمِهِ): أَي: مُحْكَمِ القُرْآنِ، يَعْنِي إِذَا خُوطِبُوا بِمَا يَعْلَمُونَه وَجَدُوا فِي قُلُوبِهِم رِقَّةً لِذَلِكَ وَقَبُولًا.

- قَولُهُ: (وَيَهُلَكُونَ عِنْدَ مُتَشَابِهِهِ): أَي: مُتَشَابِهِ القُرْآنِ، يَعْنِي إِذَا سَمِعُوا فِي الكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ شَيئًا لَا تَعْقِلُهُ عُقُولُهُم لَمْ يُسَلِّمُوا بِهِ؛ فَهَلَكُوا عِنْدَهُ وَخَافُوا وَفَرَقُوا وَأَوَّلُوا وَنَفَوا أَو جَحَدُوا! وَذَلِكَ هُوَ مِنْ أَسْبَابِ الضَّلَالِ وَالتَّهْلُكَةِ.

وَالمُتَشَابِهُ هُنَا هُوَ حَقِيقَةُ الصِّفَةِ وَكَيفيَّتُهَا، وَهِيَ الَّتِي خَافُوا مِنْ إِثْبَاتِهَا، فَكَانَ عَلَيهِم أَنْ يَرُدُّوا مَا تَشَابَهَ عَلَيهِم إِلَى مُحْكَمِهِ، وَهُوَ قَولِهِ تَعَالَى:{لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشُّورَى: 11].

- وَجْهُ إِنْكَارِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه عَلَى الرَّجُلِ هُوَ عَدَمُ التَّسْلِيمِ لِمَا جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

(1)

كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} [التَّوبَة: 56].

(2)

وَعَلَى الأُخْرَيِينِ تَكُونُ فِعْلًا مَاضِيًا.

ص: 97

وَإِنَّ عَدَمَ إِنْكَارِهِ عَلَى التَّالِي لِلحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ النُّصُوصِ لَيسَتْ مِنَ المُتَشَابِهَاتِ الَّتِي تُتْرَكُ! وَإِنَّمَا يُسَلَّمُ بِمَعْنَاهَا وَمَا فِيهَا مِنَ الفَوَائِدِ وَالعِبَرِ -مِنْ رَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى وَقُدْرَتِهِ وَعَظَمَتِهِ وَخَوفِ المَخْلُوقاتِ مِنْهُ (كَالنَّارِ هُنَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ السَّابِقِ، وَسَيَأْتِي) -، لَكِنْ تُوكَلُ كَيفِيَّةُ وَحَقِيقَةُ مَا فِيهَا مِنَ الصِفَاتِ إِلَيهِ سُبْحَانَهُ، وَهَذَا هُوَ مَنْهَجُ السَّلَفِ رِضْوَانُ اللهِ تَعَالَى عَلَيهِم.

فَالمُنْتَفِضُ لَمْ يُسَلِّمْ لَهَا كَمَا سَلَّمَ لِغَيرِهَا، وَالوَاجِبُ هُوَ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:"آمَنْتُ بِاللهِ وَبِمَا جَاءَ عَنِ اللهِ؛ عَلَى مُرَادِ اللهِ، وَآمَنْتُ بِرَسُولِ اللهِ وَبِمَا جَاءِ عَنْ رَسُولِ اللهِ؛ عَلَى مُرَادِ رَسُولِ اللهِ"

(1)

.

فَالمُتَشَابِهُ هُنَا هُوَ كَيفيَّةُ وَحَقِيقَةُ هَذِهِ الصِّفَةِ، فَمَثَلًا صِفَةُ السَّمْعِ للهِ تَعَالَى ثَابِتَةٌ بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَمَعْنَاهَا مَفْهُومٌ: مِنْ سَمَاعِهِ تَعَالَى لِجَمِيعِ خَلْقِه، وَلَكِنَّ كَيفِيَّةَ السَّمَاعِ مَجْهُولَةٌ لَنَا، فَالمُتَشَابِهُ هُنَا هُوَ الكَيفيَّةُ وَلَيسَتِ الصِّفَةُ!

(1)

لُمْعَةُ الاعْتِقَادِ (1/ 7) لِابْنِ قُدَامَةَ المَقْدِسِيِّ رحمه الله.

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله فِي كِتَابِهِ البِدَايَةُ وَالنِّهَايَةُ (14/ 138): "وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الرَّبِيعِ وَغَيرِ وَاحِدٍ مِنْ رُؤُوسِ أَصْحَابِهِ [أَي: الشَّافِعِيَّ] مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَمُرُّ بِآيَاتِ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثِهَا كَمَا جَاءَتْ مِنْ غَيرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَشْبِيهٍ وَلَا تَعْطِيلٍ وَلَا تَحْرِيفٍ؛ عَلَى طَرِيقِ السَّلَفِ".

وَقَالَ الحَافِظُ الذَّهَبِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ العُلُوُّ لِلعَلِيِّ الغَفَّارِ (ص 166): "وَعَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الأَعْلَى؛ سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: للهِ تَعَالَى أَسْمَاءٌ وَصِفَاتٌ لَا يَسَعُ أَحَدًا -قَامَتْ عَلَيهِ الحُجَّةُ- رَدُّهَا".

وَقَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله فِي الفَتْحِ (13/ 407): "وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي مَنَاقِبِ الشَّافِعِيِّ عَنْ يُونُس بْنِ عَبْدِ الأَعْلَى، سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: للهِ أَسْمَاءٌ وَصِفَاتٌ لَا يَسَعُ أَحَدًا رَدُّهَا، وَمَنْ خَالَفَ بَعْدَ ثُبُوتِ الحُجَّةِ عَلَيهِ فَقَدَ كَفَرَ، وَأَمَّا قَبْلَ قِيَامِ الحُجَّةِ فَإِنَّهُ يُعْذَرُ بِالجَهْلِ، لِأَنَّ عِلْمَ ذَلِكَ لَا يُدْرِكُ بِالعَقْلِ وَلَا الرُّؤْيَةِ وَالفِكْرِ، فَنُثْبِتُ هَذِهِ الصِّفَاتِ وَنَنْفِي عَنْهُ التَّشْبِيهَ كَمَا نَفَى عَنْ نَفْسِهِ، فَقَالَ: {لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ} ".

ص: 98

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ الحَنْبَلِيُّ رحمه الله: "وَقَدْ صَحَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ أنْكَرَ عَلَى مَنْ اسْتَنْكَرَ شَيئًا مِنْ هَذِهِ النُّصُوصِ؛ وَزَعَمَ أَنَّ اللهَ مُنَزَّهٌ عَمَّا تَدُلُّ عَلَيهِ! فَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي كِتَابِهِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيه؛ قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلًا يُحَدِّثُ ابْنَ عبَّاسٍ بحَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ: ((تَحَاجَّتِ الجَنَّةُ وَالنَّارُ))، وَفِيهِ:((فَلَا تَمْتَلِئُ حَتَّى يَضَعَ رِجْلَهُ)) أَوْ قَالَ: ((قَدَمَهُ)) فِيهَا

(1)

، قَالَ: فَقَامَ رَجُلٌ فَانْتَفَضَ، فَقَالَ ابْنُ عبَّاسٍ:(مَا فَرَقُ هَؤْلَاءِ؟! يَجِدُونَ رِقَّةً عِنْدَ مُحْكَمِهِ، وَيَهلَكُونَ عندَ مُتَشَابِهِهِ). وَخَرَّجَهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوِيه فِي مُسْنَدِهِ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَلَو كَانَ لِذَلِكَ عِنْدَهُ تَأْوِيلٌ لَذَكَرَهُ لِلنَّاسِ وَلَمْ يَسَعْهُ كِتْمَانُهُ"

(2)

(3)

.

- المُحْكَمُ: هُوَ مَا يُمَيِّزُ الحَقِيقَةَ المَقْصُودَةَ عَنْ غَيرِهَا. وَالمُتشَابِهُ: مَا احْتَمَل مَعنَيَينِ؛ فَيُشبِهُ هَذَا وَيُشبِهُ هَذَا.

وَحُكْمُهُ هُوَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عِمْرَان: 7].

(1)

وَالحَدِيثُ بِتَمَامِهِ مَرْفُوعًا: ((تَحَاجَّتِ الجَنَّةُ وَالنَّارُ، فَقَالَتِ النَّارُ: أُوثِرْتُ بِالمُتَكَبِّرِينَ وَالمُتَجَبِّرِينَ، وَقَالَتِ الجَنَّةُ: مَا لِي لَا يَدْخُلُنِي إِلَّا ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَسَقَطُهُمْ؟! قَالَ اللهُ تبارك وتعالى لِلْجَنَّةِ: أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي. وَقَالَ لِلنَّارِ: إِنَّمَا أَنْتِ عَذَابِي أُعَذِّبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِلْؤُهَا. فَأَمَّا النَّارُ فَلَا تَمْتَلِئُ حَتَّى يَضَعَ رِجْلَهُ؛ فَتَقُولُ: قَطْ قَطْ، فَهُنَالِكَ تَمْتَلِئُ وَيُزْوَى بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ -وَلَا يَظْلِمُ اللهُ عز وجل مِنْ خَلْقِهِ أَحَدًا- وَأَمَّا الجَنَّةُ؛ فَإِنَّ اللهَ عز وجل يُنْشِئُ لَهَا خَلْقًا)). رَوَاهُ البُخَارِيُّ (4850)، وَمُسْلِمٌ (2846).

(2)

قُلْتُ: وَقَصْدُهُ إِجْرَاءُ النُّصُوصِ عَلَى ظَاهِرِهَا دُونَ التَّعَرُّضِ لِتَفْسِيرِهَا؛ مَعَ اعْتِقَادِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى: {لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} .

(3)

(فَتْحُ البَارِي) لِابْنِ رَجَب (7/ 232).

ص: 99

فَابْتِغَاءُ الفِتْنَةِ هُوَ: لِيَفْتِنُوا النَّاسَ بِهِ؛ إِذْ وَضَعُوهُ عَلَى غَيرِ مَوَاضِعِهِ، {وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} أَي: تَحْرِيفَهِ عَلَى مَا يُرِيدُونَ

(1)

.

- القُرْآنُ كُلُّهُ مُحْكَمٌ بِاعْتِبَارٍ، وَكُلُّهُ مُتَشَابِهٌ بِاعْتِبَارٍ آخَرَ، وَمِنْهُ المُحْكَمُ وَمِنْهُ المُتَشَابِهُ بِاعْتِبَارٍ ثَالِثٍ؛ فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ:

الأَوَّلُ: كُلُّهُ مُحْكَمٌ: كَمَا قَالَ جَلَّ وَعَلَا: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ * أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [هُود: 1 - 2]، فَالقُرْآنُ كُلُّهُ مُحْكَمٌ؛ بِمَعْنَى أنًّ مَعْنَاهُ وَاضِحٌ مُتَعَاضِدٌ؛ وَأَنَّ اللهَ جَلَّ وَعَلَا أَحْكَمَهُ فَلَا اخْتِلَافَ فِيهِ وَلَا تَبَايُنَ، وَإِنَّمَا بَعْضُهُ يُصَدِّقُ بَعْضًا كَمَا قَالَ جَلَّ وَعَلَا:{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النِّسَاء: 82].

الثَّانِي: كُلُّهُ مُتَشَابِهٌ: بِمَعْنَى أَنَّ بَعْضَهُ يُشْبِهُ بَعْضًا، فَهَذَا الحُكْمُ وَهَذِهِ المَسْأَلَةُ تُشْبِهُ تِلْكَ لِأَنَّهَا تَسِيرُ مَعَهَا فِي قَاعِدَةٍ وَاحِدَةٍ، فَنُصُوصُ الشَّرِيعَةِ يُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا

(1)

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (2/ 8): " {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} أَي: إِنَّمَا يَأْخُذُونَ مِنْهُ بِالمُتَشَابِهِ الَّذِي يُمْكِنُهُمْ أَنْ يُحَرِّفُوهُ إِلَى مَقَاصِدِهِمُ الفَاسِدَةِ، وَيُنْزِلُوهُ عَلَيهَا لِاحْتِمَالِ لَفْظِهِ لِمَا يَصْرِفُونَهُ، فَأَمَّا المُحْكَمُ فَلَا نَصِيبَ لَهُمْ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ دَامِغٌ لَهُمْ وَحُجَّةٌ عَلَيهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ: {ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} أَيِ: الإِضْلَالَ لِأَتْبَاعِهِمْ إِيهَامًا لَهُمْ أَنَّهُمْ يَحْتَجُّونَ عَلَى بِدْعَتِهِمْ بِالقُرْآنِ! وَهَذَا حُجَّةٌ عَلَيهِمْ لَا لَهُمْ، كَمَا لَوِ احْتَجَّ النَّصَارَى بِأَنَّ القُرْآنَ قَدْ نَطَقَ بِأَنَّ عِيسَى هُوَ رُوحُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ، وَتَرَكُوا الِاحْتِجَاجَ بِقَولِهِ تَعَالَى: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيهِ} [الزُّخْرُف: 59]، وَبِقَولِهِ: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آلِ عِمْرَانَ: 59] وَغَيرِ ذَلِكَ مِنَ الآيَاتِ المُحْكَمَةِ المُصَرِّحَةِ بِأَنَّهُ خَلْقٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ، وَعَبْدٌ وَرَسُولٌ مِنْ رُسُلِ اللَّهِ. وَقَولُهُ: {وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} أَي: تَحْرِيفَهُ عَلَى مَا يُرِيدُون، وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَالسُّدِّيُّ: يَبْتَغُونَ أَنْ يَعْلَمُوا مَا يَكُونُ، وَمَا عَوَاقِبُ الأَشْيَاءِ مِنَ القُرْآنِ".

ص: 100

وَيَؤُولُ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، وَقَدْ قَالَ جَلَّ وَعَلَا:{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} [الزُّمَر: 23]، فَقَالَ:{كِتَابًا مُتَشَابِهًا} فَالقُرْآنُ مُتَشَابِهٌ؛ يَعْنِي بَعْضُهُ يُشْبِهُ بَعضًا، فَهَذَا خَبَرٌ فِي الجَنَّةِ وَهَذَا خَبَرٌ فِي الجنَّةِ، وَبَعْضُ الأَخْبَارِ تُفَصِّلُ بَعْضًا، هَذِهِ قِصَّةٌ وَهَذِهِ قِصَّةٌ، هَذِهِ تُصَدِّقُ هَذِهِ، وَهَذِهِ تَزِيدُهَا تَفْصِيلًا وَأَحْكَامًا، وَهَكَذَا فِي كُلِّ مَا فِي القُرْآنِ

(1)

.

الثَّالِثُ: مِنْهُ المُحْكَمُ وَمِنْهُ المُتَشَابِهُ: وَهُوَ الَّذِي جَاءَ فِي آيَةِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عِمْرَان: 7]، فَمِنْهُ: مُحْكَمٌ؛ وَهُوَ الَّذِي اتَّضَحَ لَكَ عِلْمُهُ، وَمِنْهُ مُتَشَابِهٌ: وَهُوَ الَّذِي اشْتَبَهَ عَلَيكَ عِلْمُهُ، ومَنْهَجُ أَهْلِ الحَقِّ هُوَ رَدُّ مَا اشْتَبَهَ مِنْهُ إِلَى مُحْكَمِهِ، وَلَا يُعَارِضُونَ بَينَهُمَا! كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنِ الرَّاسِخِينَ فِي العِلْمِ:{وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عِمْرَان: 7]

(2)

.

وَالمُحْكَمُ مِنَ النُّصُوصِ هُوَ: الَّذِي يُفْهَمُ مَعْنَاهُ مِنْ لَفْظِهِ وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ

(1)

فَالتَّشَابُهُ هُنَا يَكُونُ مِنْ جِهَةِ المُشَابَهَةِ فِي السِّيَاقِ: كالثَّوَابِ وَالعِقَابِ، وَنَصْرِ المُؤْمِنِينَ وَعِقَابِ الكَافِرِينَ وَأَمْثَالِهَا، وَيَكُونُ أَيضًا التَّشَابُهُ مِنْ جِهَةِ التَّقْيِيدِ وَالتَّفْصِيلِ. وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

(2)

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (2/ 6): "يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّ فِي القُرْآنِ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ، أَي: بَيِّنَاتٌ وَاضِحَاتُ الدِّلَالَةِ؛ لَا التِبَاسَ فِيهَا عَلَى أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، وَمِنْهُ آيَاتٌ أُخَرُ فِيهَا اشْتِبَاهٌ فِي الدِّلَالَةِ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ أَو بَعْضِهِمْ، فَمَنْ رَدَّ مَا اشْتَبَهَ عَلَيهِ إِلَى الوَاضِحِ مِنْهُ، وَحَكَّمَ مُحْكَمَهُ عَلَى مُتَشَابِهِهِ عِنْدَهُ؛ فَقَدِ اهْتَدَى، وَمَنْ عَكَسَ انْعَكَسَ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} أَي: أَصْلُهُ الَّذِي يَرْجِعُ إِلَيهِ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} أَي: تَحْتَمِلُ دِلَالَتُهَا مُوَافَقَةَ المُحْكَمِ وَقَدْ تَحْتَمِلُ شَيئًا آخَرَ مِنْ حَيثُ اللَّفْظِ وَالتَّرْكِيبِ لَا مِنْ حَيثُ المُرَادِ".

ص: 101

آخَرَ يُفَسِّرُهُ، وَالمُتَشَابِهُ هُوَ: الَّذِي لَا يُفْهَمُ مَعْنَاهُ مِنْ لَفْظِهِ، وَيَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ آخَرَ يُفَسِّرُهُ، كَالنَّاسِخِ وَالمَنْسُوخِ

(1)

، وَالمُطْلَقِ وَالمُقَيَّدِ، وَالعَامِّ وَالخَاصِّ، وَالمُجْمَلِ وَالمُبَيَّنِ

(2)

.

وَعَلَامَةُ أَهْلِ البِدَعِ اتِّبَاعُ المُتَشَابِهِ وَتَرْكُ المُحْكَمِ، كَمَا فِي الصَّحِيحَينِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها؛ قَالَتْ: تَلَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((إِذَا رَأَيتُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ؛ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللهُ فَاحْذَرُوهُمْ))

(3)

.

- قَالَ العَلَّامَةُ الشَّاطِبِيُّ رحمه الله: "وَمَنْ نَظَرَ إِلَى طُرُقِ أَهْلِ البِدَعِ فِي الِاسْتِدْلَالِ؛ عَرَفَ أَنَّهَا لَا تَنْضَبِطُ، لِأَنَّهَا سَيَّالَةٌ لَا تَقِفُ عِنْدَ حَدٍّ، وَعَلَى وَجْهٍ يَصِحُّ لِكُلِّ زَائِغٍ وَكَافِرٍ أَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَى زَيغِهِ وَكُفْرِهِ حَتَّى يَنْسِبَ النِّحْلَةَ الَّتِي التَزَمَهَا إِلَى الشَّرِيعَةِ!

فَقَدْ رَأَينَا وَسَمِعْنَا عَنْ بَعْضِ الكُفَّارِ أَنَّهُ اسْتَدَلَّ عَلَى كُفْرِهِ بِآيَاتِ القُرْآنِ!

كَمَا اسْتَدَلَّ بَعْضُ النَّصَارَى عَلَى تَشْرِيكِ عِيسَى بِقَولِهِ تَعَالَى: {وَكَلِمَتُهُ

ص: 102

أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} [النِّسَاء: 171]!

وَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ الكَفَّارَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ بِإِطْلَاقِ قَولِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البَقَرَة: 62] الآيَةَ!

وَاسْتَدَلَّ بَعْضُ اليَهُودِ عَلَى تَفْضِيلِهِمْ عَلَينَا بِقَولِهِ سُبْحَانَهُ: {اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البَقَرَة: 47]!

وَبَعْضُ الحُلُولِيَّةِ اسْتَدَلَّ بِقَولِهِ تَعَالَى: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحِجْر: 29]!

وَالتَّنَاسُخِيُّ اسْتَدَلَّ بِقَولِهِ: {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانْفِطَار: 8]!

وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنِ اتَّبَعَ المُتَشَابِهَاتِ أَو حَرَّفَ المَنَاطَاتِ أَو حَمَّلَ الآيَاتِ مَا لَا تَحْتَمِلُهُ عِنْدَ السَّلَفِ الصَّالِحِ أَو تَمَسَّكَ بِالأَحَادِيثِ الوَاهِيَةِ أَو أَخَذَ الأَدِلَّةَ بِبَادِيَ الرَّأْيِ؛ (لَهُ) أَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَى كُلِّ فِعْلٍ أَو قَولٍ أَوِ اعْتِقَادٍ وَافَقَ غَرَضَهُ بِآيَةٍ أَو حَدِيثٍ لَا يَفُوزُ بِذَلِكَ أَصْلًا"

(1)

.

- والمُتَشَابِهُ هُنَا (في آيَةِ آلِ عِمْرَانَ) نَوعَانِ: تَشَابُهٌ نِسْبِيٌّ، وَتَشَابُهٌ مُطْلَقٌ:

1 -

فَالمُتَشَابِهُ المُطْلَقُ: يَخْفَى عَلى كُلِّ أَحَدٍ، حَتَّى عَلَى الرَّاسِخِينَ فِي العِلْمِ، وَلَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ إِلَّا اللهُ تَعَالَى.

وَهَذِهِ مَأْخُوذَةٌ مِنْ قِرَاءَةِ الوَقْفِ عِنْدَ قَولِهِ تَعَالَى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ}

(2)

،

(1)

الاعْتِصَامُ (1/ 363).

(2)

وَعَلَيهَا الجُمْهُورُ، كَمَا ذَكَرَهُ الشّنْقِيطِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ أَضْوَاءُ البَيَانِ (1/ 192).

قَالَ الطَّبَرِيُّ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (6/ 204): "وَالصَّوَابُ عِنْدَنَا فِي ذَلِكَ أَنَّهُم مَرْفُوعُونَ بِجُمْلَةِ خَبَرِهِم بَعْدَهُم وَهُوَ (يَقُولُونَ)؛ لِمَا قَدْ بَيَّنَا قَبْلُ مِنْ أَنَّهُم لَا يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَ المُتَشَابِهِ الَّذِي ذَكَرَهُ اللهُ عز وجل فِي هَذِهِ الآيَةِ، وَهُوَ فِيمَا بَلَغَنِي مَعَ ذَلِكَ فِي قِرَاءَة أُبَيٍّ: (وَيَقُولُ الرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ) كَمَا ذَكَرْنَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُهُ، وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللهِ: (إِنْ تَأْوِيلُهُ إِلَّا عِنْدَ اللهِ. وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ يَقُولُونَ) ".

ص: 103

وَذَلِكَ مِثْلُ كَيفِيَّةِ وَحَقَائِقِ صِفَاتِ اللهِ تَعَالَى، وَحَقَائِقِ مَا أَخْبَرَ اللهُ بِهِ مِنْ نَعِيمِ الجَنَّةِ وَعَذَابِ النَّارِ

(1)

، قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي نَعِيمِ الجَنَّةِ:{فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السَّجْدَة: 17]، أَي: لَا تَعْلَمُ حَقَائِقَ ذَلِكَ، مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْ صِفَاتِهَا عُمُومًا كَأَنْهَارِهَا وَأَشْجَارِهَا وَثَمَرَاتِهَا وَنِسَائِهَا، وكَمَا فِي الأَثَرِ:(لَيسَ فِي الجَنَّةِ شَيءٌ مِمَّا فِي الدُّنْيَا إِلَّا الأَسْمَاءَ)

(2)

.

وَهَذِهِ الحَقَائِقُ هِيَ مِمَّا لَا تَتَعَلَّقُ بِهَا ضَرُورَةٌ وَلَا حَاجَةٌ لِلنَّاسِ فِي تَدَيُّنِهِم وَسُلُوكِهِم وَعَقِيدَتِهِم؛ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهَا عَمَلٌ شَرْعِيٌّ، فَلَو كَانَ لِلنَّاسِ فِيهَا حَاجَةٌ لَبَيَّنَهَا اللهُ تَعَالَى وَلَمْ يَسْكُتْ عَنْهَا

(3)

.

(1)

وَمِثْلُ قَولِهِ تَعَالَى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} [الأَعْرَاف: 53] أَي: حَقِيقَةَ مَا أُخْبِرُوا بِهِ مِنْ أَمْرِ المَعَادِ. قَالَهُ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (2/ 11).

(2)

رَوَاهُ أَبُو نُعَيمٍ فِي صِفَة الجَنَّةِ (ص 124)، وَالمَقْدِسِيُّ فِي المُخْتَارَةِ (16/ 10) مَوقُوفًا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما. الصَّحِيحَةُ (2188).

(3)

قَالَ الطَّبَرِيُّ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (6/ 180): "وَذَلِكَ أَنَّ جَمِيعَ مَا أَنْزَلَ اللهُ عز وجل مِنْ آي القُرْآنِ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ فَإِنَّمَا أَنْزَلَهُ عَلَيهِ بَيَانًا لَهُ وَلِأُمَّتِهِ وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ، وَغَيرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ فِيهِ مَا لَا حَاجَةَ بِهِمْ إِلَيهِ، وَلَا أَنْ يَكُونَ فِيهِ مَا بِهِمْ إِلَيهِ الحَاجَةُ؛ ثُمَّ لَا يَكُونُ لَهُمْ إِلَى عِلْمِ تَأْوِيلِهِ سَبِيلٌ!! فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ؛ فَكُلُّ مَا فِيهِ لِخَلْقِهِ إِلَيهِ الحَاجَةُ -وَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِهِ مَا بِهِمْ عَنْ بَعْضِ مَعَانِيهِ الغِنَى؛ وَإِنِ اضْطَرَّتْهُ الحَاجَةُ إِلَيهِ فِي مَعَانٍ كَثِيرَةٍ- وَذَلِكَ كَقَولِ اللهِ عز وجل: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيرًا} [الأَنْعَام: 158] فَأَعْلَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أُمَّتَهُ أَنَّ تِلْكَ الآيَةَ الَّتِي أَخْبَرَ اللهُ جَلَّ ثناؤُهُ عِبَادَهُ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَمْ يَنْفَعْ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ: هِيَ طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَالَّذِي كَانَتْ بِالعِبَادِ إِلَيهِ الحَاجَةُ مِنْ عِلْمِ ذَلِكَ هُوَ العِلْمُ مِنْهُمْ بِوَقْتِ نَفْعِ التَّوبَةِ بِصِفَتِهِ بِغَيرِ تَحْدِيدِهِ بِعَدٍّ بِالسِّنِينَ وَالشُّهُورِ وَالأَيَّامِ، فَقَدْ بَيَّنَ اللهُ ذَلِكَ لَهُمْ بِدِلَالَةِ الكِتَابِ، وَأَوضَحَهُ لَهُمْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُفَسَّرًا، وَالَّذِي لَا حَاجَةَ لَهُمْ إِلَى عِلْمِهِ مِنْهُ هُوَ العِلْمُ بِمِقْدَارِ المُدَّةِ الَّتِي بَينَ وَقْتِ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ وَوَقْتِ حُدُوثِ تِلْكَ الآيَةِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا حَاجَةَ بِهِمْ إِلَى عِلْمِهِ فِي دِينٍ وَلَا دُنْيَا، وَذَلِكَ هُوَ العِلْمُ الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِهِ دُونَ خَلْقِهِ فَحَجَبَهُ عَنْهُمْ، وَذَلِكَ وَمَا أَشْبَهَهُ هُوَ المَعْنَى الَّذِي طَلَبَتِ اليَهُودُ مَعْرِفَتَهُ فِي مُدَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَأُمَّتِهِ مِنْ قِبَلِ قَولِهِ: (الم، وَالمص، وَالر، وَالمر) وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الحُرُوفِ المُقَطَّعَةِ المُتَشَابِهَاتِ الَّتِي أَخْبَرَ اللهُ جَلَّ ثناؤُهُ أَنَّهُمْ لَا يُدْرِكُونَ تَأْوِيلَ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِهِ؛ وَأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ".

ص: 104

2 -

المُتَشَابِهُ النِّسْبِيُّ: وَهَذَا يَخْفَى عَلى أَحَدٍ دُونَ أَحَدٍ، وَهَذِهِ مَأْخُوذَةٌ مِنْ قِرَاءَةِ الوَصْلِ عِنْدَ قَولِهِ تَعَالَى:{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} ، فَيَكُونُ هَذَا المُتَشَابِهُ مَعْلُومًا أَيضًا لِلرَّاسِخِينَ فِي العِلْمِ دُونَ عُمُومِ النَّاسِ، كَمَا فِي التَّفَاسِيرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ أَنَّهُ قَالَ:(أَنَا مِنَ الرَّاسِخينَ فِي العِلْمِ الَّذِي يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ)

(1)

.

- قَالَ الشَّيخُ ابْنُ عُثَيمِين رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ

(2)

: "وَ (الرَّحْمَن) أَي: ذُو الرَّحْمَةِ الوَاسِعَةِ؛ ولِهَذَا جَاءَتْ عَلَى وَزْنِ (فَعْلَانَ) الَّذِي يَدُلُّ عَلَى السَّعَةِ، وَ (الرَّحِيم) أَي المُوصِلُ الرَّحْمَةِ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ؛ ولِهَذَا جَاءَتْ عَلَى وَزْنِ (فَعِيلٍ) الدَّالِّ عَلَى وُقوعِ الفِعْلِ.

فَهُنَا رَحْمَةٌ هِيَ صِفَتُهُ؛ هَذِهِ دَلَّ عَلَيهَا اسْمُ (الرَّحْمَنِ)، وَرَحْمَةٌ هِيَ فِعْلُهُ، أَي: إِيصَالَ الرَّحْمَةِ إِلَى المَرْحُومِ؛ دَلَّ عَلَيهَا اسْمُ (الرَّحِيمِ) "

(3)

.

(1)

تَفْسِيرُ البَغَوِيِّ (2/ 10).

وَاسْتَدَلَ لِصِحَّةِ هَذَا المَعْنَى بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ حَيثُ قَالُوا: إنَّ اللهَ تَعَالَى ذَكَرَ فِي آخِرِ الآيَاتِ: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّاسِخِينَ أَصْحَابَ الأَلبَابِ هُمُ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ مَعَانِيهَا دُونَ سَائِر النَّاسِ.

(2)

تَفْسِيرُ الفَاتِحَةِ وَالبَقَرَةِ (1/ 5).

(3)

قَالَ ابْنُ القَيِّمِ رحمه الله فِي كِتَابِهِ مَدَارِجُ السَّالِكِينَ (1/ 56): "فَالرَّحْمَنُ: الَّذِي الرَّحْمَةُ وَصْفُهُ، وَالرَّحِيمُ:

=

ص: 105

‌مَسَائِلُ عَلَى البَابِ

-‌

‌ المِسْأَلَةُ الأُولَى: هَلْ يَصِحُّ تَأْوِيلُ صِفَةِ الرَّحْمَةِ للهِ تَعَالَى بِإِرَادَةِ الثَّوَابِ أَوِ الرِّضَى

(1)

؟ حَيثُ أَنَّهُم -المُعَطِّلَةُ- قَالُوا: إِنَّ الرَّحْمَةَ لِينٌ وَضَعْفٌ وَرِقَّةٌ يَتَنَزَّهُ البَارِي سُبْحَانَهُ عَنْهَا! أَمَّا الإِرَادَةُ فَهِيَ مِمَّا دَلَّ العَقْلُ عَلَيهَا!

=

الرَّاحِمُ لِعِبَادِهِ. وَلِهَذَا يَقُولُ تَعَالَى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأَحْزَاب: 43]، وكَقَولِهِ تَعَالَى:{إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التَّوبَة: 117]، وَلَمْ يَجِئْ: رَحْمَنٌ بِعِبَادِهِ! وَلَا رَحْمَنٌ بِالمُؤْمِنِينَ! مَعَ مَا فِي اسْمِ الرَّحْمَنِ -الَّذِي هُوَ عَلَى وَزْنِ فَعْلَانَ- مِنْ سَعَةِ هَذَا الوَصْفِ وَثُبُوتِ جَمِيعِ مَعْنَاهُ المَوصُوفِ بِهِ! أَلَا تَرَى أَنَّهُم يَقُولُونَ: "غَضْبَانُ" لِلمُمْتَلِئِ غَضَبًا؛ وَنَدْمَانُ وَحَيرَانُ وَسَكْرَانُ وَلَهْفَانُ لِمَنْ مُلِئَ بِذَلِكَ؟! فَبِنَاءُ فَعْلَانَ لِلسَّعَةِ وَالشُّمُولِ، وَلِهَذا يُقْرَنُ اسْتِوَاءُهُ عَلَى العَرْشِ بِهَذا الاسْمِ كَثِيرًا كَقَولِهِ تَعَالَى:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طَه: 5]، فَاسْتَوَى عَلَى عَرْشِهِ باسْمِ الرَّحْمَنِ، لِأَنَّ العَرْشَ مُحِيطٌ بِالمَخْلُوقَاتِ قَدْ وَسِعَهَا؛ وَالرَّحْمَةُ مُحِيطَةٌ بِالخَلْقِ وَاسِعَةٌ لَهُم كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيءٍ} [الأَعْرَاف: 156] ".

(1)

كَمَا قَالَ صَاحِبُ تَفْسِيرِ الجَلَالَينِ (1/ 2) عِنْدَ تَفْسِيرِ سُورَةِ الفَاتِحَةِ: (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ): "أَي ذِي الرَّحْمَةِ؛ وَهِيَ إِرَادَةُ الخَيرِ لِأَهْلِهِ".

وَكَمَا قَالَ الشَّيخُ ابْنُ دَقِيق العِيد (ت 702 هـ) رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى وغَفَرَ لَهُ فِي شَرْحِ البَسْمَلَةِ مِنْ مُقَدِّمَةِ النَّوَوِيِّ رحمه الله عَلَى الأَرْبَعِينَ النَّوَوِيَّةِ (ص 11): "وَالرَّحْمَنُ: العَامُّ الرَّحْمَةِ لِجَمِيعِ البَرِيَّةِ، وَالرَّحِيمُ: الخَاصُّ الرَّحْمَةِ لِلمُؤْمِنِينَ، وَأَصْلُ الرَّحْمَةِ انْعِطَافُ القَلْبِ وَالرِّقَةُ، وَهِيَ فِي حَقِّهِ سبحانه وتعالى إِرَادَةُ الخَيرِ لِمَنْ يَسْتَحِقُّهَا، أَو تَرْكُ العُقُوبَةِ لِمَنْ يَسْتَوجِبُهَا".

وَبِمِثْلِهِ نَقَلَ النَّوَوِيُّ رحمه الله في صِفَةِ المَحَبَّةِ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ (16/ 183) عِنْدَ بَابِ إِذَا أَحَبَّ اللهُ عَبْدًا أَمَرَ جِبْرِيلَ فَأَحَبَّهُ، وَأَحَبَّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، فَقَالَ:"ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ القَبُولُ فِي الأَرْضِ، وَذَكَرَ في البُغْضِ نَحْوَهُ. قَالَ العُلَمَاءُ: مَحَبَّةُ اللهِ تَعَالَى لِعَبْدِهِ هِيَ إِرَادَتُهُ الخَيرَ لَهُ وَهِدَايَتُهُ وَإِنْعَامُهُ عَلَيهِ"!

ص: 106

الجَوَابُ:

لَا يَصِحُّ، وَبَيَانُ ذَلِكَ مِنْ أَوجُهٍ:

1 -

أَنَّ اللهَ تَعَالَى وَصَفَ نَفْسَهُ بِالرَّحْمَةِ، وَقَالَ عَنْ نَفْسِهِ:{لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ} [الشُّورَى: 11].

فَنُثْبِتُ مَا أَثْبَتَ وَنَنْفِي عَنْه التَّمْثِيلَ، فيَكُونُ بِذَلِكَ حَالُنَا كَحَالِ مِنْ قَالَ اللهُ تَعَالَى فِيهِم:{وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آلِ عِمْرَان: 7].

2 -

أَنَّ الرَّحْمَةَ الَّتِي تَسْتَلْزِمُ الضَّعْفَ وَاللَّينَ وَالرِّقَّةَ هِيَ رَحْمَةُ المَخْلُوقِ

(1)

وَلَيسَتْ رَحْمَةُ الخَالِقِ تَعَالَى! فَالخَالِقُ سُبْحَانَهُ رَحْمَتُهُ مُقَارِنَةٌ لِكَمَالِ سُلْطَانِهِ وَعِزَّتِهِ وَقوَّتِهِ.

وَتَأَمَّلْ جَمْعَ اللهِ تَعَالَى بَينَ صِفَتَينِ لَهُ في مَوضِعٍ وَاحِدٍ وَهُوَ قَولُهُ تَعَالَى: {إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الدُّخَان: 42]، فَعِزَّتُهُ تَعَالَى غَيرُ مُنْفَكَّةٍ عَنْ رَحْمَتِهِ؛ فَلَا يَكُونُ فِيهَا ضَعْفٌ وَلِينٌ وَرِقِّةٌ وَ

مِمَّا يُنَزَّهُ اللهُ عَنْهُ! وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ

(2)

.

(1)

بَلْ بَعْضُ المَخْلُوقِينَ -كَالنِّسَاءِ وَنَحْوِهِنَّ- وَلَيسَ كُلُّ المَخْلُوقِينَ.

(2)

وَتَأَمَّلْ كَيفَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالرَّحْمَةِ فِي قَولِهِ: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} [البَلَد: 17] مَعَ نَهْيِهِ عِبَادَهُ عَنِ الوَهَنِ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ:{وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آلِ عِمْرَان: 139]، وَكَذَا مَعَ وَصْفِهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ بِالشِّدَّةِ عَلَى الكَافِرِينَ فِي قَولِهِ تَعَالَى:{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} [الفَتْحِ: 29]. وَعَلَى هَذَا؛ فَلَا تَلَازُمَ بَينَ الرَّحْمَةِ وَبَينَ الوَهَنِ وَالضَّعْفِ! وَتَرَى المَلِكَ ذُا السُّلْطَانِ العَظِيمِ يَكُونُ مِنْ أَقْوَى النَّاسِ؛ وَيَكُونُ أَيضًا مِنْ أَرْحَمِ النَّاسِ، وَهَذَا مُمْكِنٌ؛ فَلَا تَلَازُمَ بَينَ الرَّحْمَةِ وَالضَّعْفِ! وَتَرَى الرَّجُلَ الشَّدِيدَ الغَلِيظَ صَاحِبَ البَطْشِ يَكُونُ رَحِيمًا بِأَولَادِهِ عَطُوفًا عَلَيهِم دُونَ غَيرِهِم، وَتَرَى الأُنْثَى مِنَ السِّبَاعِ وَالوُحُوشِ الكَوَاسِرِ تَكُونُ رَفِيقَةً رَحِيمَةً بِأَولَادِهَا؛ وَمَعَ ذَلِكَ هِيَ قَوِيَّةٌ عَزِيزَةٌ فِي مَمْلَكَتِهَا.

=

ص: 107

3 -

تَأْوِيلُ الرَّحْمَةِ بِإِرَادَةِ الرِّضَى أَوِ الثَّوَابِ بِحُجَّةِ أَنَّ هَذَا تَنْزِيهٌ للهِ تَعَالَى عَنْ مُشَابَهَةِ المَخْلُوقِ يَرِدُ عَلَيهِ أُمُورٌ:

أ- أَنَّ الإِرَادَةَ أَيضًا يَرِدُ عَلَيهَا مِثْلَمَا ذَكَرُوا فِي الرَّحْمَةِ! فَيُقَالُ لَهُم: إِنَّ الإِرَادَةَ -وَهِيَ مَيلُ النَّفْسِ إِلَى جَلْبِ مَنْفَعَةٍ أَو دَفْعِ مَضَرَّةٍ- الرَّبُّ عز وجل لَا يَلِيقُ بِهِ ذَلِكَ -مُجَارَاةً لَهُم عَلَى قَاعِدَتِهِم-، فَإِذَا قَالُوا: هَذِهِ إِرَادَةُ المَخْلُوقِ الضَّعِيفِ المُحْتَاجِ! أَمْكَنَ الجَوَابُ بِمِثْلِهِ فِي الرَّحْمَةِ؛ بِأَنَّ الرَّحْمَةَ المُسْتَلْزِمَةَ لِلنَّقْصِ هِيَ رَحْمَةُ المَخْلُوقِ الضَّعِيفِ.

ب- تَأْوِيلُ الرَّحْمَةِ بِمَا سَبَقَ مِنْ إِرَادَةِ الثَّوَابِ أَوِ الرِّضَى مُخَالِفٌ لَمَا جَاءَ عَنِ السَّلَفِ، فَلَو كَانَ حَقًّا لَذَكَرُوهُ وَمَا غَفِلُوا عَنْهُ كَمَا يَدَّعِي المُؤَوِّلُونَ!

وَالصَّوَابُ الَّذِي لَا رَيبَ فِيهِ: أَنَّ مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا عَلَيهِ أَصْحَابُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَمَنْ تَبِعَهُم بِإِحْسَانٍ؛ فَهُوَ عَلَى الهَدِي المُسْتَقِيمِ.

قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البَقَرَة: 137]

(1)

.

=

وَكَيفَ يَصِحُّ القَولُ بِذَلِكَ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ((لَا تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إِلَّا مِنْ شَقِيٍّ))! حَسَنٌ. الأَدَبُ المُفْرَدُ (374) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الأَدَبِ المُفْرَدِ (288).

فَإِنْ اسْتَقَامَ ذَلِكَ في المَخْلُوقِ؛ أَفَلَا يَكُون البَارِي أُولَى سُبْحَانَهُ بِكَمَالِ الصِّفات؛ وَهُوَ سُبْحَانَهُ الَّذِي لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ؟! وَلَكِنْ لَمَّا كَانَتِ الرَّحْمَةُ فِي حَقِّ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ قَدْ تُقَارِنُ الضَّعْفَ وَالخَوَرَ؛ ظَنَّ مَنْ غَلِطَ في ذَلِكَ أَنَّهَا كَذِلِكَ مُطْلَقًا. وَانْظُرْ شَرْحَ الشَّيخِ الغُنَيمَانِ حَفِظَهُ اللهُ عَلَى كِتَابِ التَّوحِيدِ مِنْ صَحِيحِ البُخَارِيِّ (1/ 62).

(1)

قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ رحمه الله فِي جَوَابِ مَنْ سَأَلَهُ عَنِ القَدَرِ: "فَارْضَ لِنَفْسِكَ مَا رَضِيَ بِهِ القَومُ لأَنْفُسِهِمْ؛ فَإِنَّهُمْ عَلَى عِلْمٍ وَقَفُوا، وَبِبَصَرٍ نَافِذٍ كَفُّوا، وَلَهُمْ عَلَى كَشْفِ الأُمُورِ كَانُوا أَقْوَى، وَبِفَضْلِ مَا كَانُوا فِيهِ أَولَى. فَإِنْ كَانَ الهُدَى مَا أَنْتُمْ عَلَيهِ؛ لَقَدْ سَبَقْتُمُوهُمْ إِلَيهِ! وَلَئِنْ قُلْتُمْ إِنَّمَا حَدَثَ بَعْدَهُمْ؛ [فَـ] مَا أَحْدَثَهُ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَ غَيرَ سَبِيلِهِمْ وَرَغِبَ بِنَفْسِهِ عَنْهُمْ! فَإِنَّهُمْ هُمُ السَّابِقُونَ، فَقَدْ تَكَلَّمُوا فِيهِ بِمَا يَكْفِي، وَوَصَفُوا مِنْهُ مَا يَشْفِي". صَحِيحٌ مَقْطُوعٌ. أَبُو دَاوُدَ (4612). صَحِيحُ أَبِي دَاوُدَ (4614).

ص: 108

جـ- دَعْوَى أَنَّ العَقْلَ دَلَّ عَلَى صِفَةِ الإِرَادَةِ وَلَمْ يَدُلَّ عَلَى صِفَةِ الرَّحْمَةِ! فِيهِ مُجَازَفَةٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ تَنَوُّعُ المَخْلُوقَاتِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ خَالِقَهَا مُرِيدٌ لِهَذَا التَّنَوُّعِ؛ فَأَوضَحُ مِنْهُ مَا قَامَ فِي الفِطَرِ وَنُفُوسِ النَّاسِ مِنْ حُصُولِ النِّعَمِ وَانْدِفَاعِ النِّقَمِ وَانْتِشَارِ الخَيرِ وَتَفْرِيجِ الغَمِّ وَنُزُولِ الغَيثِ مِمَّا فِيهِ بَيَانُ رَحْمَةِ مَنْ أَجْرَى تِلْكَ الأُمُورَ، وَهُوَ الَّذِي تَرَاهُ يَجْرِي عَلَى لِسَانِ العَامَّةِ مِنْهُم فَضْلًا عَنِ الخَاصَّةِ.

وَكَمَا سَبَقَ فِي شِعْرِ امْرِئِ القَيسِ: "تِلْكَ السَّحَابُ إِذَا الرَّحْمَنُ أَنْشَأَهَا

رَوَّى بِهَا مِنْ مَحُولِ الأَرْضِ أَنْفَاسًا".

وَ (المَحْلُ): الجُوعُ الشَّدِيدُ

(1)

.

د- أَنَّ الرَّحْمَةَ مُغَايِرَةٌ لِلثَّوَابِ أَوِ الرِّضَى أَوِ الفَضْلِ! فَاللهُ تَعَالَى وَسِعَتْ رَحْمَتُهُ كُلَّ شَيءٍ، وَبِهَا يَرْحَمُ الكَافِرَ في الدُّنْيَا، وَلَكِنَّهُ لَا يُثِيبُهُ وَلَا يَرْضَى عَنْهُ -كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ قَطْعًا-!

وَفِي الحَدِيثِ: ((جَعَلَ اللهُ الرَّحْمَةَ مَائَةَ جُزْءٍ، فَأمسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ، وَأَنْزَلَ فِي الأَرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا، فَمِن ذَلِكَ الجُزْءِ تَتَراحَمُ الخَلَائِقُ؛ حَتَّى تَرْفَعَ الدَّابَّةُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ))

(2)

.

وَكَقَولُهُ تَعَالَى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يُونُس: 58] فَفَرَّقَ اللهُ تَعَالَى بَينَ الرَّحْمَةِ وَالفَضْلِ أَيضًا؛ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى المُغَايَرَةِ.

(1)

لِسَانُ العَرَبِ (11/ 616).

(2)

رَوَاهُ البُخَارِيُّ (6000)، وَمُسْلِمٌ (2752) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا.

ص: 109

وَلَا بُدَّ مِنَ التَّنْوِيهِ إِلَى أَنَّ رَحْمَةَ اللهِ تَعَالَى هِيَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ غَيرُ مَخْلُوقَةٍ؛ وَأَنَّ مَا نُشَاهِدُهُ مِنَ الخَيرِ وَانْدِفَاعِ النِّقَمِ وَحُصُولِ النِّعَمِ هِيَ آثَارُ رَحْمَةِ اللهِ، فَنُزُولُ المَطَرِ وَنَبَاتُ الأَرْضِ وَمَا أَشْبَهَ هِيَ أَشْيَاءُ مَخْلُوقَةٌ.

وَبِمَعْنًى آخَر؛ فَإِنَّ العَرَبَ تُطْلِقُ اسْمَ مَا تَوَلَّدَ مِنَ الشَيء عَلَى الشَيءِ؛ وَأَيضًا تُطْلِقُ الصِّفَةَ عَلَى المَفْعُولِ، كَقَولِكَ عَنِ المَقْدُورِ هَذِهِ قُدْرَةُ اللهِ

(1)

، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ * فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ} [الرُّوم: 48 - 50].

وَالخُلَاصَةُ هُنَا: أَنَّ الرَّحْمَةَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ سبحانه وتعالى يَرْحَمُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ، فَهِيَ صِفَةُ ذَاتٍ وَصِفَةُ فِعْلٍ؛ لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ فِيهَا، وَإِنَّ كُلَّ مَا نُشَاهِدُهُ مِنَ النِّعَمِ وَالإِحْسَانِ إِنَّمَا هُوَ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ رَحْمَتِهِ سُبْحَانَهُ.

(1)

وَكَقَولِكَ عَنْ إِهْلَاكِ اللهِ تَعَالَى لِلأُمَمِ الكَافِرَةِ: هَذَا عَذَابُ اللهِ، وَهَذِهِ حِكْمَةُ اللهِ، وَهَذِهِ قُدْرَتُهُ، وَهَذَا جَزَاؤُهُ، وَكَقَولِكَ عَنِ المَولُودِ الذَّكَرِ أَوِ الأُنْثَى: هَذِهِ إِرَادَةُ اللهِ، وَعَنِ المَطَرِ: هَذِهِ رَحْمَةُ اللهِ، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى:{هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [لُقْمَان: 11] وَذَلِكَ بَعْدَ قَولِهِ: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} [لقُمْان: 10]، فَالمَخْلُوقُ المَفْعُولُ عُبِّرَ عَنْهُ بِالصِّفَةِ وَهِيَ الخَلْقُ.

ص: 110

-‌

‌ المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَا هِيَ شُرُوطُ التَّوبَةِ

(1)

؟

الجَوَابُ: خَمْسَةُ شُرُوطٍ، وَهِيَ:

1 -

الإِخْلَاصُ فِيهَا: فَلَا يَحْمِلْهُ عَلَى التَّوبَةِ خَوفُهُ مِنْ أَحَدٍ، أَو تَابَ لِأَجْلِ أَنْ يُقَالَ: فُلَانٌ مُسْتَقِيمٌ! فَـ ((إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيهِ

(2)

.

2 -

النَّدَمُ عَلَى مَا فَعَلَ، وَفِي الحَدِيثِ:((النَّدَمُ تَوبَةٌ))

(3)

.

3 -

الإِقْلَاعُ عَنِ الذَّنْبِ، لَكِنْ إِنْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ وَجَبَ أَدَاؤُهُ:

أ- فَإِنْ كَانَ فِي حَقِّ اللهِ تَعَالَى مِنْ جِهَةِ الأَوَامِرِ وَيُمْكِنُهُ إِدْرَاكُهُ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ فِعْلِهِ.

ب- وَإِنْ كَانَ فِي حَقِّ اللهِ تَعَالَى مِنْ جِهَةِ الكَفَّارَاتِ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ قَضَائِهَا.

ج- وَإِنْ كَانَ فِي حَقِّ العِبَادِ فَيَجِبُ أَدَاؤُهُ.

4 -

العَزْمُ عَلَى عَدَمِ العَودَةِ فِي المُسْتَقْبَلِ.

وَلَيسَ الشَّرْطُ عَدَمَ العَودَةِ! فَإِنْ عَادَ إِلَى الذَّنْبِ؛ فَلَا يَضُرُّ ذَلِكَ تَوبَتَهُ الأُولَى

(4)

.

(1)

اُنْظُرْ شَرْحَ الأَرْبَعِين النَّوَوِيَّةِ (ص 401) لِلشَّيخِ ابْنِ عُثَيمِين رحمه الله.

(2)

البُخَارِيُّ (1)، وَمُسْلِمٌ (1907).

(3)

صَحِيحٌ. ابْنُ مَاجَه (4252) عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (6802).

(4)

كَمَا في الصَّحِيحَين من حَدِيثِ أَبي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا: ((أَذْنَبَ عَبْدٌ ذَنْبًا فَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي. فَقَالَ تبارك وتعالى: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا؛ فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ. ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ، فَقَالَ: أَي: رَبِّ؛ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي. فَقَالَ تبارك وتعالى: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا؛ فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ. ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ، فَقَالَ: أَي رَبِّ؛ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي. فَقَالَ تبارك وتعالى: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا؛ فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ، وَاعْمَلْ مَا شِئْتَ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ)). البُخَارِيُّ (7507)، وَمُسْلِمٌ (2758).

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ الحَنْبَلِيُّ رحمه الله: "وَالمَعْنَى مَا دَامَ عَلَى هَذَا الحَالِ: كُلَّمَا أَذْنَبَ اسْتَغْفَرَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَهُ الاسْتِغْفَارُ المَقْرُونُ بِعَدَمِ الإِصْرَارِ". جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (2/ 409).

ص: 111

5 -

أَنْ تَكُونَ التَّوبَةُ فِي وَقْتِ القَبُولِ، وَالوَقْتُ وَقْتَانِ:

أ- عَامٌّ: وَهُوَ قَبْلَ قِيَامِ السَّاعَةِ.

كَمَا فِي الحَدِيثِ: ((لَا تَنْقَطِعُ الهِجْرَةُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوبَةُ، وَلَا تَنْقَطِعُ التَّوبَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا))

(1)

.

وَكَقَولِهِ تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ} [السجدة: 28 - 29].

ب- خَاصٌّ لِكُلِّ فَرْدٍ: وَهُوَ قَبْلَ نَزْعِ الرُّوحِ، لِقَولِهِ تَعَالَى:{وَلَيسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النِّسَاء: 18]

(2)

.

(1)

صَحِيحٌ. أَبُو دَاوُدَ (2479) عَنْ مُعَاوِيَة مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (7469).

(2)

قَالَ الشَّيخُ السَّعْدِيُّ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (ص 171): "وَذَلِكَ أَنَّ التَّوبَةَ فِي هَذِهِ الحَالِ تَوبَةُ اِضْطِرَارٍ لَا تَنْفَعُ صَاحِبَهَا، إِنَّمَا تَنْفَعُ تَوبَةُ الاخْتِيَارِ".

ص: 112

‌المُلْحَقُ السَّابِعُ عَلَى كِتَابِ التَّوحِيدِ: مُخْتَصَرُ القَوَاعِدِ المُثْلَى

الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

أَمَّا بَعْدُ؛ فَهَذَا مُخْتَصَرٌ مُفِيدٌ لِكِتَابِ (القَوَاعِدُ المُثْلَى فِي صِفَاتِ اللهِ وَأَسْمَائِهِ الحُسْنَى) لِلشَّيخِ ابْنِ عُثَيمِين رحمه الله؛ قَدْ أَحْبَبْتُ إِثْرَاءِ كِتَابِي هَذَا بِهِ تَتْمِيمًا لِمَادَّةِ الكِتَابِ مِنْ جِهَةِ تَوحِيدِ الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ

(1)

.

‌قَوَاعِدُ فِي أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى:

1 -

أَسْمَاءُ اللهِ تَعَالَى كُلُّهَا حُسْنَى:

أَي: بَالِغَةٌ فِي الحُسْنِ غَايَتَهُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الأَعْرَاف: 180].

مِثَالُ ذَلِكَ: (الحَيُّ) اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى، مُتَضَمِّنٌ لِلحَيَاةِ الكَامِلَةِ الَّتِي لَمْ تُسْبَقْ بِعَدَمٍ، وَلَا يَلْحَقُهَا زَوَالٌ، الحَيَاةُ المُسْتَلْزِمَةُ لِكَمَالِ الصِّفَاتِ مِنَ العِلْمِ وَالقُدْرَةِ وَالسَّمْعِ وَالبَصَرِ وَغَيرِهَا.

وَالحُسْنُ فِي أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى يَكُونُ بِاعْتِبَارِ كُلِّ اسْمٍ عَلَى انْفِرَادِهِ، وَيَكُونُ بِاعْتِبَارِ جَمْعِهِ إِلَى غَيرِهِ، فَيَحْصُلُ بِجَمْعِ الاسْمِ إِلَى الآخَرِ كَمَالٌ فَوقَ كَمَالٍ.

(1)

وَفِيهِ تَصَرُّفٌ وَزِيَادَةٌ يَسِيرَةٌ، أَمَّا الحَاشِيَةُ فَهِيَ مِنْ خَارِجِ الكِتَابِ الأَصْلِ، أَضَفْتُهَا تَتْمِيمًا لِلفَائِدَةِ.

ص: 113

مِثَالُ ذَلِكَ: (العَزِيزُ الحَكِيمُ)، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يَجْمَعُ بَينَهُمَا فِي القُرْآنِ كَثِيرًا، فَيَكُونُ كُلٌّ مِنْهُمَا دَالًّا عَلَى الكَمَالِ الخَاصِّ الَّذِي يَقْتَضِيهِ وَهُوَ العِزَّةُ فِي العَزِيزِ، وَالحِكْمَةُ فِي الحَكِيمِ، وَالجَمْعُ بَينَهُمَا دَالٌّ عَلَى كَمَالٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ عِزَّتَهُ تَعَالَى مَقْرُونَةٌ بِالحِكْمَةِ، فَعِزَّتُهُ لَا تَقْتَضِي ظُلْمًا وَجَورًا كَسُوءِ فِعْلٍ! كَمَا قَدْ يَكُونُ مِنْ أَعِزَّاءِ المَخْلُوقِينَ، فَإِنَّ العَزِيزَ مِنْهُم قَدْ تَأْخُذُهُ العِزَّةُ بِالإِثْمِ فَيَظْلُمُ وَيَجُورُ وَيُسِيءُ التَّصَرُّفَ، وَكَذَلِكَ حُكْمُهُ تَعَالَى وَحِكْمَتُهُ مَقْرُونَانِ بِالعِزِّ الكَامِلِ بِخِلَافِ حِكْمَةِ المَخْلُوقِ فَإِنَّهَا قَدْ يَعْتَرِيهَا الذُلُّ.

2 -

أَسْمَاءُ اللهِ تَعَالَى أَعْلَامٌ وَأَوصَافٌ:

فَهِيَ أَعْلَامٌ بِاعْتِبَار دِلَالَتِهَا عَلَى الذَّاتِ، وَأَوصَافٌ بِاعْتِبَارِ مَا دَلَّتْ عَلَيهِ مِنَ المَعَانِي، وَهِيَ بِالاعْتِبَارِ الأَوَّلِ مُتَرَادِفَةٌ لِدِلَالَتِهَا عَلَى مُسَمًّى وَاحِدٍ وَهُوَ اللهُ عز وجل، وَبِالاعْتِبَارِ الثَّانِي مُتَبَايِنَةٌ لِدِلَالَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى مَعْنَاهُ الخَاصِّ، فَـ (الحَيُّ، العَلِيمُ، القَدِيرُ، السَّمِيعُ، البَصِيرُ، الرَّحْمَنُ، الرَّحِيمُ، العَزِيزُ، الحَكِيمُ) كُلُّهَا أَسْمَاءٌ لِمُسَمًّى وَاحِدٍ وَهُوَ اللهُ سبحانه وتعالى، لَكِنَّ مَعْنَى الحَيِّ غَيرُ مَعْنَى العَلِيمِ، وَمَعْنَى العِلِيمِ غَيرُ مَعْنَى القَدِيرِ، وَهَكَذَا.

3 -

أَسْمَاءُ اللهِ تَعَالَى إِنْ دَلَّتْ عَلَى وَصْفٍ مُتَعَدٍّ؛ لَزِمَ إِثْبَاتُهُ، أَي: ثُبُوتُ حُكْمِهِ وَمُقْتَضَاهُ.

مِثَالُ ذَلِكَ: (السَّمِيعُ) يَتَضَمَّنُ إِثْبَاتَ السَّمِيعِ اسْمًا للهِ تَعَالَى، وَإِثْبَاتَ السَّمْعِ صِفَةً لَهُ، وَإِثْبَاتَ حُكْمِ ذَلِكَ وَمُقْتَضَاهُ وَهُوَ أَنَّهُ يَسْمَعُ أَيضًا السِّرَّ وَالنَّجْوَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المُجَادِلَة: 1].

ص: 114

4 -

دِلَالَةُ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى عَلَى ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ تَكُونُ بِالمُطَابَقَةِ وَبِالتَّضَمُّنِ وَبالالْتِزَامِ:

مِثَالُ ذَلِكَ: (الخَالِقُ) يَدُلُّ عَلَى ذَاتِ اللهِ وَعَلَى صِفَةِ الخَلْقِ بِالمُطَابَقَةِ، وَيَدُلُّ عَلَى الذَّاتِ وَحْدَهَا بِالتَّضَمُّنِ، وَعَلَى صِفَةِ الخَلْقِ وَحْدَهَا أَيضًا بِالتَّضَمُّنِ، وَيَدُلُّ عَلَى صِفَتَي العِلْمِ وَالقُدْرَةِ بِالالْتِزَامِ، وَلِهَذَا لَمَّا ذَكَرَ اللهُ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قَالَ:{لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيءٍ عِلْمًا} [الطَّلَاق: 12].

5 -

أَسْمَاءُ اللهِ تَعَالَى تَوقِيفِيَّةٌ لَا مَجَالَ لِلعَقْلِ فِيهَا:

وَعَلَى هَذَا فَيَجِبُ الوُقُوفُ فِيهَا عَلَى مَا جَاءَ بِهِ الكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، فَلَا يُزَادُ فِيهَا وَلَا يُنْقَصُ؛ لِأَنَّ العَقْلَ لَا يُمْكِنُهُ إِدْرَاكُ مَا يَسْتَحِقُّهُ تَعَالَى مِنَ الأَسْمَاءِ

(1)

، فَوَجَبَ الوُقُوفُ فِي ذَلِكَ عَلَى النَّصِ لِقَولِهِ تَعَالَى:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإِسْرَاء: 36]، وَقَولِهِ:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأَعْرَاف: 33].

6 -

أَسْمَاءُ اللهِ تَعَالَى غَيرُ مَحْصُورَةٍ بِعَدَدٍ مُعَيَّنٍ.

(1)

أَمَّا عَلَى سَبِيلِ الإِجْمَالِ؛ فَنَعَم، بِخِلَافِ التَّفْصِيلِ وَالاسْتِحْقَاقِ.

وَتَأَمَّلْ قَولَهُ تَعَالَى لِقَومِ مُوسَى الَّذِينَ عَبَدُوا العِجْلَ: {أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} [طَه: 89].

وَأَيضًا قَولُ إِبْرَاهِيمَ عليه الصلاة والسلام لِأَبِيهِ {لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيئًا} [مَرْيَم: 42].

ص: 115

وَهَذَا لِقَولِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الحَدِيثِ: ((أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ؛ سَمَّيتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَو أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوِ استَأثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الغَيبِ عِنْدَكَ: أَنْ تَجْعَلَ القُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي))

(1)

، وَمَا اسْتَأْثَرَ اللهُ تَعَالَى بِهِ فِي عِلْمِ الغَيبِ لَا يُمْكِنُ لِأَحَدٍ حَصْرُهُ وَلَا الإِحَاطَةُ بِهِ

(2)

.

وَلَمْ يَصِحَّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَعْيِينُ هَذِهِ الأَسْمَاءِ، وَالحَدِيثُ المَرْوِيُّ عَنْهُ فِي تَعْيِينِهَا ضَعِيفٌ

(3)

.

7 -

الإِلْحَادُ فِي أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى هُوَ المَيلُ بِهَا عَمَّا يَجِبُ فِيهَا. وَهُوَ أَنْوَاعٌ:

الأوَّلُ: أَنْ يُنْكِرَ شَيئًا مِنْهَا أَو مِمَّا دَلَّتْ عَلَيهِ مِنَ الصِّفَاتِ وَالأَحْكَامِ، كَمَا فَعَلَ أَهْلُ التَّعْطِيلُ مِنَ الجَهْمِيَّةِ وَغَيرِهِم.

وَإنَّمَا كَانَ ذَلِكَ إِلْحَادًا لِوُجُوبِ الإِيمَانِ بِهَا وَبِمَا دَلَّتْ عَلَيهِ مِنَ الأَحْكَامِ

(1)

صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (3712) عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (199).

(2)

وَأَمَّا حَدِيثُ: ((إِنَّ للهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا .... ))، فَقَدْ قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رحمه الله فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ (5/ 17):"وَاتَّفَقَ العُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ هَذَا الحَدِيثَ لَيسَ فِيهِ حَصْرٌ لِأَسْمَائِهِ سبحانه وتعالى، فَلَيسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَيسَ لهُ أَسْمَاءٌ غَيرَ هَذِهِ التِّسْعَةِ وَالتِّسْعِينَ! وَإِنَّمَا مَقْصُودُ الحَدِيثِ أَنَّ هَذِهِ التِّسْعَةَ وَالتِّسْعِينَ: مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الجَنَّةَ. فَالمُرَادُ الإِخْبَارُ عَنْ دُخُولِ الجَنَّةِ بِإِحْصَائِهَا لَا الإِخْبَارُ بِحَصْرِ الأَسْمَاءِ، ولِهَذَا جَاءَ فِي الحَدِيثِ الآخَرِ: ((أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، سَمَّيتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَو أنْزَلتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوِ اسْتَأثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الغَيبِ عِنْدَكَ)) ".

قُلْتُ: وَكَذَا القَولُ فِي حَدِيثِ البُخَارِيِّ (2790)((إِنَّ فِي الجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ؛ أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)).

يُنْظَرُ كِتَابُ (حَادِي الأَرْوَاحِ) لِابْنِ القَيِّمِ (ص 66).

(3)

قَالَ الحَافِظُ فِي بُلُوغِ المَرَامِ (ص 419): "وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ سَرْدَهَا إِدْرَاجٌ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ".

ص: 116

وَالصِّفاتِ اللَّائِقَةِ بِاللهِ، فَإِنْكَارُ شَيءٍ مِنْ ذَلِكَ مَيلٌ بِهَا عَمَّا يَجِبُ فِيهَا

(1)

.

الثَّانِي: أَنْ يَجْعَلَهَا دَالَّةً عَلَى صِفَاتٍ تُمَاثِلُ صِفَاتِ المَخْلُوقِينَ -كَمَا فَعَلَ أَهْلُ التَّمْثِيلِ-، وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّمْثِيلَ مَعْنَى بَاطِلٌ لَا يُمْكِنُ أَنْ تدُّلَ عَلَيهِ النُّصُوصُ، بَلْ هِيَ دَالَّةٌ عَلَى بُطْلَانِهِ، فَجَعْلُهَا دَالَّةً عَلَيهِ مَيلٌ بِهَا عَمَّا يَجِبُ فِيهَا

(2)

.

الثَّالِثُ: أَنْ يُسَمِّيَ اللهَ تَعَالَى بِمَا لَمْ يُسَمِّ بِهِ نَفْسَهُ، كَتَسْمِيَةِ النَّصَارَى لَهُ:(الأَبَ)! وَتَسْمِيَةِ الفَلَاسِفَةِ إِيَّاهُ: (العِلَّةَ الفَاعِلَةَ)! وَذَلِكَ لِأَنَّ أَسْمَاءَ اللهِ تَعَالَى تَوقِيفِيَّةٌ، فَتَسْمِيَةُ اللهِ تَعَالَى بِمَا لَمْ يُسَمِّ بِهِ نَفْسَهُ مَيلٌ بِهَا عَمَّا يَجِبُ فِيهَا، كَمَا أَنَّ هَذِهِ الأَسَمْاءَ نَفْسَهَا الَّتِي سَمَّوهُ بِهَا بَاطِلةٌ يُنَزَّهُ اللهُ تَعَالَى عَنْهَا

(3)

.

الرَّابِعُ: أَنْ يَشْتَقَّ مِنْ أَسْمَائِهِ أَسْمَاءً لِلأَصْنَامِ، كَمَا فَعَلَ المُشْرِكُونَ فِي اشْتِقَاقِ العُزَّى مِنَ العَزِيزِ، وَاشْتِقَاقِ اللَّاتِ مِنَ الإِلَهِ -عَلَى أَحَدِ القَولَينِ- فَسَمَّوا بِهَا أَصْنَامَهُم؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ أَسْمَاءَ اللهِ تَعَالَى مُخْتَصَّةٌ بِهِ، لِقَولِهِ تَعَالَى:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأَعْرَاف: 180]

(4)

.

(1)

وَيَدُلُّ عَلَيهِ قَولُهُ تَعَالَى عَنِ المُشْرِكِينَ: {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيهِمُ الَّذِي أَوْحَينَا إِلَيكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيهِ مَتَابِ} [الرَّعْد: 30].

(2)

وَأَشْهَرُ مَنْ نُسِبَ إِلَى التَّمْثِيلِ مِنَ الطَّوَائِفِ هُمْ قُدَمَاءُ الرَّافِضَةِ، حَيثُ جَعَلُوا اللهَ حَالًّا فِي عَلِيٍّ رضي الله عنه. اُنْظُرْ مِنْهَاجَ السُّنَّةِ (2/ 242) لِشَيخِ الإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.

(3)

قُلْتُ: وَمِثْلُهُ قَولُ المُتَصَوِّفَةِ عَنِ اللهِ تَعَالَى: (هُوَ)، (أَه)!

(4)

قُلْتُ: وَإِنَّ تَقْدِيمَ مَا حَقُّهُ التَّأخِيرُ يُفِيدُ الحَصْرَ، فَقَولُهُ تَعَالَى:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} فِيهِ حَصْرُ الأَسْمَاءِ الحُسْنَى فِيهِ سُبْحَانَهُ.

ص: 117

‌قَوَاعِدُ فِي صِفَاتِ اللهِ تَعَالَى:

1 -

صِفَاتُ اللهِ تَعَالَى كُلُّهَا صِفَاتُ كَمَالٍ؛ لَا نَقْصَ فِيهَا بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ: كَالحَيَاةِ وَالعِلْمِ وَالقُدْرَةِ وَالسَّمْعِ وَالبَصَرِ وَالرَّحْمَةِ وَالعِزَّةِ وَالحِكْمَةِ وَالعُلُوِّ وَالعَظَمَةِ وَغَيرِ ذَلِكَ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا السَّمْعُ

(1)

وَالعَقْلُ وَالفِطْرَةُ.

قَالَ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [النَّحْل: 60)، وَالمَثَلُ الأَعْلَى هُوَ الوَصْفُ الأَعْلَى.

وَإِذَا كَانَتِ الصِّفَةُ كَمَالًا فِي حَالٍ، وَنَقْصًا فِي حَالٍ؛ لَمْ تَكُنْ جَائِزَةً فِي حَقِّ اللهِ وَلَا مُمْتَنِعَةً عَلَى سَبِيلِ الإِطْلَاقِ، فَلَا تُثْبَتُ لَهُ إِثْبَاتًا مُطْلَقًا، وَلَا تُنْفَى عَنْهُ نَفْيًا مُطْلَقًا بَلْ لَا بُدَّ مِنَ التَّفْصِيلِ، فَتَجُوزُ فِي الحَالِ الَّتِي تَكُونُ كَمَالًا، وَتَمْتَنِعُ فِي الحَالِ الَّتِي تَكُونُ نَقْصًا، وَذَلِكَ كَالمَكْرِ وَالكَيدِ وَالخِدَاعِ وَنَحْوِهَا.

فَهَذِهِ الصِّفَاتُ تَكُونُ كَمَالًا إِذَا كَانَتْ فِي مُقَابَلَةِ مَنْ يُعَامِلُونَ الفَاعِلَ بِمِثْلِهَا، لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ فَاعِلَهَا قَادِرٌ عَلَى مُقَابَلَةِ عَدُوِّهِ بِمِثْلِ فِعْلِهِ أَو أَشَدَّ، وَتَكُونُ نَقْصًا فِي غَيرِ هَذِهِ الحَالِ، وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْهَا اللهُ تَعَالَى مِنْ صِفَاتِهِ عَلَى سَبِيلِ الإِطْلَاقِ وَإِنَّمَا ذَكَرَهَا فِي مُقَابَلَةِ مَنْ يُعَامِلُونَهُ وَرُسَلَهُ بِمِثْلِهَا، كَقَولِهِ تَعَالَى:{وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيرُ الْمَاكِرِينَ} [الأَنْفَال: 30]، وَقَولِهِ:{إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيدًا * وَأَكِيدُ كَيدًا} [الطّارق: 15 - 16]، وَقَولِهِ:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النِّسَاء: 142]، وَقَولِهِ:{قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البَقَرَة: 14 - 15]

(2)

.

(1)

أَي الدَّلِيلُ الخَبَريُّ مِنَ القُرْآنِ وَالسُّنَّةِ.

(2)

وَأَمَّا فِي قَولِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ

=

ص: 118

2 -

بَابُ الصِّفَاتِ أَوسَعُ مِنْ بَابِ الأَسْمَاءِ:

وَذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ اسْمٍ مُتَضَمِّنٌ لِصِفَةٍ -كَمَا سَبَقَ فِي القَاعِدَةِ الثَّالِثَةِ مِنْ قَوَاعِدِ الأَسْمَاءِ-، وَلِأَنَّ مِنَ الصِّفَاتِ مَا يَتَعَلَّقُ بِأَفْعَالِ اللهِ تَعَالَى، وَأَفْعَالُهُ لَا مُنْتَهَى لَهَا.

وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ: أَنَّ مِنْ صِفَاتِ اللهِ تَعَالَى المَجِيءَ وَالإِتْيَانَ وَالأَخْذَ وَالإِمْسَاكَ وَالبَطْشَ إِلَى غَيرِ ذَلِكَ مِنَ الصِّفَاتِ الَّتِي لَا تُحْصَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفَجْر: 22]، وَقَالَ:{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} [البَقَرَة: 210]، فَنَصِفُ اللهَ تَعَالَى بِهَذِهِ الصِّفَاتِ عَلَى الوَجْهِ الوَارِدِ -وَلَا نُسَمِّيهِ بِهَا-، فَلَا نَقُولُ: إِنَّ مِنْ أَسْمَائِهِ: الجَائِي، وَالآتِي، وَالآخِذِ، وَالمُمْسِكِ، وَالبَاطِشِ، وَالمُرِيدِ، وَالنَّازِلِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ وَإِنْ كُنَّا نُخْبِرُ بِذَلِكَ عَنْهُ وَنَصِفُهُ بِهَا

(1)

.

3 -

صِفَاتُ اللهِ تَعَالَى تَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَينِ: ثُبُوتِيَّةٍ، وَسَلْبِيَّةٍ [مَنْفِيَّةٍ].

فَالثُبُوتِيَّةُ: مَا أَثْبَتَهُ اللهُ تَعَالَى لِنَفْسِهِ فِي كِتَابِهِ، أَو عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، وَكُلُّهَا صِفَاتُ كَمَالٍ لَا نَقْصَ فِيهَا بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ، كَالحَيَاةِ وَالعِلْمِ وَالقُدْرَةِ وَالاسْتِوَاءِ عَلَى العَرْشِ وَالنُّزُولِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَالوَجْهِ وَاليَدِينِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَالصِّفَاتُ السَّلْبِيَّةُ: مَا نَفَاهَا اللهُ سُبْحَانَهُ عَنْ نَفْسِهِ فِي كِتَابِهِ، أَو عَلَى لِسَانِ

=

حَكِيمٌ} [الأَنْفَال: 71] فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ خَانَ مَنْ خَانَهُ! فَقَالَ: {فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ} وَلَمْ يَقُلْ: (فَخَانَهُم)! لِأَنَّ الخِيَانَةَ خُدْعَةٌ فِي مَقَامِ الائْتِمَانِ، وَهِيَ صِفَةُ ذمٍّ مُطْلَقًا، وَتَجِدُ بُرْهَانَ ذَلِكَ فِي الحَدِيثِ:((أَدِّ الأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خانَكَ)). صَحِيحٌ. أَبُو دَاوُدَ (3535) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (423). فَلَمْ يَجُزْ لِلمُؤْمِنِ أَنْ يُقَابِلَ مَنْ خَانَهُ أَوَّلًا بِخِيَانَةٍ مُمَاثِلَةٍ رُغْمَ أَنَّهَا مِنْ بَابِ المُقَابَلَةِ وَلَيسَ الابْتِدَاءِ، وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ صِفَةَ الخِيَانَةِ مَذْمُومَةٌ مُطْلَقًا.

(1)

وَكَذَلِكَ بَابُ الإِخْبَارِ أَوسَعُ مِنْ بَابِ الصِّفَاتِ؛ فَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأَفْعَالِهِ تَعَالَى وَهِيَ لَا مُنْتَهَى لَهَا.

ص: 119

رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، وَكُلُّهَا صِفَاتُ نَقْصٍ فِي حقِّهِ كَالمَوتِ، وَالنَّومِ، وَالجَهْلِ، وَالنِّسْيَانِ، وَالعَجْزِ، وَالتَّعَبِ.

فَيَجِبُ نَفْيُهَا عَنِ اللهِ تَعَالَى مَعَ إِثْبَاتِ ضِدِّهَا عَلَى الوَجْهِ الأَكْمَلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَا نَفَاهُ اللهُ تَعَالَى عَنْ نَفْسِهِ فَالمُرَادُ بِهِ بَيَانُ انْتِفَائِهِ لِثُبُوتِ كَمَالِ ضِدِّهِ؛ لَا لِمُجَرَّدِ نَفْيهِ! لِأَنَّ النَّفْيَ لَيسَ بِكَمَالٍ؛ إِلَّا أَنْ يَتَضَمَّنَ مَا يَدُلُّ عَلَى الكَمَالِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّفْيَ عَدَمٌ؛ وَالعَدَمُ لَيسَ بشَيءٍ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ كَمَالًا.

مِثَالُ ذَلِكَ: قَولُهُ تَعَالَى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} [الفُرْقَان: 58]، فَنَفْيُ المَوتِ عَنْهُ يَتَضَمَّنُ كَمَالَ حَيَاتِهِ.

مِثَالٌ ثَانٍ: قَولُهُ تَعَالَى: {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكَهْف: 49]، فَنَفْيُ الظُلْمِ عَنْهُ يَتَضَمَّنُ كَمَالَ عَدْلِهِ.

مِثَالٌ ثَالِثٌ: قَولُهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} [فَاطِر: 44]، فَنَفْيُ العَجْزِ عَنْهُ يَتَضَمَّنُ كَمَالَ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَهُ:{إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} ، لِأَنَّ العَجْزَ سَببُهُ إِمَّا الجَهْلُ بِأَسْبَابِ الإِيجَادِ، وَإِمَّا قُصُورُ القُدْرَةِ عَنْهُنَّ، فَلِكَمَالِ عِلْمِ اللهِ تَعَالَى وَقُدْرَتِهِ لَمْ يَكُنْ لِيُعْجِزَهُ شَيءٌ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ

(1)

.

4 -

الصِّفَاتُ الثُّبُوتِيَّةُ صِفَاتُ مَدْحٍ وَكَمَالٍ، فَكُلَّمَا كَثُرَتْ وَتَنَوَّعَتْ دِلَالَتُهَا ظَهَرَ مِنْ كَمَالِ المَوصُوفِ بِهَا مَا هُوَ أَكْثَرُ.

(1)

فَائِدَةٌ: الصِّفَاتُ السَّلْبِيَّةُ عِنْدَ الأَشَاعِرَةِ هِيَ الَّتِي تَسْلِبُ عَنِ اللهِ تَعَالَى مَا لَا يَلِيقُ بِهِ، وَهِيَ خَمْسُ صِفَاتٍ -عَلَى اصْطِلَاحِهِم- وَهِيَ:(البَقَاءُ، القِدَمُ، مُخَالَفَتُهُ لِلحَوَادِثِ، قِيَامُهُ بِنَفْسِهِ، الوَحْدَانِيَّةُ).

ص: 120

وَلِهَذَا كَانَتِ الصِّفَاتُ الثُّبُوتِيَّةُ الَّتِي أَخْبَرَ اللهُ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ أَكْثَرَ بِكَثِيرٍ مِنَ الصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ.

أَمَّا الصِّفَاتُ السَّلْبِيَّةُ فَلَمْ تُذْكَرْ غَالِبًا إِلَّا فِي الأَحْوَالِ التَّالِيَةِ:

الأُولَى: بَيَانُ عُمُومِ كَمَالِهِ تَعَالَى، كَمَا فِي قَولِهِ:{لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ} [الشُّورَى: 11]، وَقَولِهِ تَعَالَى:{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإِخْلَاص: 4].

الثَّانِيَةُ: نَفْيُ مَا ادَّعَاهُ فِي حَقِّهِ الكَاذِبُونَ، كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى:{أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} [مَرْيَم: 91 - 92].

الثَّالِثَةُ: دَفْعُ تَوَهُّمِ نَقْصٍ مِنْ كَمَالِ اللهِ تَعَالَى فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأَمْرٍ مُعَيَّنٍ، كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى:{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَينَهُمَا لَاعِبِينَ} [الدُّخَان: 38]، وَقَولِهِ تَعَالَى:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَينَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق: 38]

(1)

.

5 -

الصِّفَاتُ الثُّبُوتِيَّةُ تَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَينِ، ذَاتِيَّةٍ وَفِعْلِيَّةٍ:

فَالذَّاتِيَّةُ: هِيَ الَّتِي لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ مُتَّصِفًا بِهَا، كَالعِلْمِ وَالقُدْرَةِ وَالسَّمْعِ وَالبَصَرِ وَالعِزَّةِ وَالحِكْمَةِ وَالعُلُوِّ وَالعَظَمَةِ

(2)

.

(1)

قُلْتُ: وَالدَّلِيلُ هَذَا صَالِحٌ لِلحَالَينِ الأَخِيرَينِ، كَمَا فِي تَفْسِيرِ ابْنِ كَثِيرٍ (7/ 409) رحمه الله:"وَقَالَ قَتَادَةُ: قَالَتِ اليَهُودُ -عَلَيهِم لَعَائِنُ اللهِ-: خَلَقَ اللهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَرَاحَ فِي اليَومِ السَّابِعِ -وَهُوَ يَومُ السَّبْتِ-! وَهُم يُسَمُّونَهُ يَومَ الرَّاحَةِ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى تَكْذِيبَهُم فِيمَا قَالُوهُ".

(2)

قُلْتُ: وَهُوَ تَعَالَى مُتّصِفٌ بِهَا دَومًا؛ فَهِيَ غَيرُ مُرْتَبِطَةٍ بِالمَشِيئَةِ كَالصِّفَاتِ الفِعْلِيَّةِ.

وَهَذِهِ الصِّفَاتُ الذَّاتِيَّةُ تُقْسَمُ أَيضًا إِلَى صِفَاتٍ مَعْنَوِيَّةٍ: كَالعِلْمِ وَالرَّحْمَةِ وَالحِكْمَةِ وَالسَّمْعِ وَالبَصَرِ، وَإِلَى صِفَاٍت خَبَرِيَّةٍ: كَالوَجْهِ وَاليَدَينِ وَالعَينَينِ، وَهَذِهِ الخَبَرِيَّةُ مُسَمَّاهَا بِالنِّسْبَةِ لَنَا أَجْزَاءٌ وَأَبْعَاضٌ.

"وَلَا نَقُولُ: أَجْزَاءٌ وَأَبْعَاضٌ! بَلْ نَتَحَاشَا هَذَا اللَّفْظَ، لَكِنَّ مُسَمَّاهَا لَنَا أَجْزَاءٌ وَأَبْعَاضٌ، لِأَنَّ الجُزْءَ وَالبَعْضَ مَا جَازَ انْفِصَالُهُ عَنِ الكُلِّ، فَالرَّبُّ عز وجل لَا يُتَصَوَّرُ أَنَّ شَيئًا مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ الَّتِي وَصَفَ بِهَا نَفْسَهُ -كَاليَدِ- أَنْ تَزُولَ أَبَدًا، لِأَنَّهُ مَوصُوفٌ بِهَا أَزَلًا وَأَبَدًا، وَلِهَذَا لَا نَقُولُ: إِنَّهُ أَبْعَاضٌ وَأَجْزَاءٌ". شَرْحُ الوَاسِطِيةِ لِلْعُثَيمِين (1/ 118).

ص: 121

وَالفِعْلِيَّةُ: هِيَ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ تَعَالَى؛ إِنْ شَاءَ فَعَلَهَا وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَفْعَلْهَا، كَالاسْتِوَاءِ عَلَى العَرْشِ، وَالنُّزُولِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا.

وَقَدْ تَكُونُ الصِّفَةُ ذَاتِيَّةً فِعْلِيَّةً

(1)

بِاعْتِبَارَينِ، كَالكَلَامِ؛ فَإِنَّهُ بِاعْتِبَارِ أَصْلِهِ صِفَةٌ ذَاتِيَّةٌ، لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يَزْلْ وَلَا يَزَالُ مُتَكَلِّمًا، وَبِاعْتِبَارِ آحَادِ الكَلَامِ صِفَةٌ فِعْلِيَّةٌ، لِأَنَّ الكَلَامَ يَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ تَعَالَى يَتَكَلَّمُ مَتَى شَاءَ بِمَا شَاءَ، كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يَس: 82]، وَكُلُّ صِفَةٍ تَعَلَّقَتْ بِمَشِيئَتِهِ تَعَالَى فَإِنَّهَا تَابِعَةٌ لِحِكْمَتِهِ، وَقَدْ تَكُونُ الحِكْمَةُ مَعْلُومَةً لَنَا وَقَدْ نَعْجَزُ عَنْ إِدْرَاكِهَا، لَكِنَّنَا نَعْلَمُ عِلْمَ اليَقِينِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَشَاءُ شَيئًا إِلَّا وَهُوَ مُوَافِقٌ لِلحِكْمَةِ، كَمَا يُشِيرُ إِلَيهِ قَولُهُ تَعَالَى:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الإِنْسَان: 30].

6 -

يَلْزَمُ فِي إِثْبَاتِ الصِّفَاتِ التَّخَلِّي عَنْ مَحْذُورَينِ عَظِيمَينِ هُمَا: التَّمْثِيلُ، وَالتَّكْيِيفُ.

فَالتَّمْثِيلُ: هُوَ اعْتِقَادُ المُثْبِتِ أَنَّ مَا أَثْبَتَهُ مِنْ صِفَاتِ اللهِ تَعَالَى مُمَاثِلٌ لِصِفَاتِ المَخْلُوقِينَ! وَهَذَا اعْتِقَادٌ بَاطِلٌ بِدَلِيلِ السَّمْعِ وَالعَقْلِ.

أَمَّا السَّمْعُ: فَمِنْهُ قَولُهُ تَعَالَى: {لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ} [الشُّورَى: 11]، وَقَولُهُ:{هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مَرْيَم: 56]، وَقَولُهُ:{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإِخْلَاص: 4].

وَأَمَّا العَقْلُ فَمِنْ وُجُوهٍ؛ مِنْهَا: أَنَّهُ قَدْ عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ بَينَ الخَالِقِ وَالمَخْلُوقِ

(1)

وَتُسَمَّى أَيضًا الصِّفَاتِ الطَارِئَةَ.

ص: 122

تَبَايُنًا فِي الذّاتِ، وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ بَينَهُمَا تَبَايُنٌ فِي الصِّفَاتِ، وَأَيضًا أَنَّنَا نُشَاهِدُ فِي المَخْلُوقَاتِ مَا يَتَّفِقُ فِي الأَسْمَاءِ وَيَخْتَلِفُ فِي الحَقِيقَةِ وَالكَيفِيَّةِ، فَنُشَاهِدُ أَنَّ لِلإِنْسَانِ يَدًا لَيسَتْ كَيَدِ الفِيلِ، وَلَهُ قُوَّةً لَيسَتْ كَقُوَّةِ الجَمَلِ، مَعَ الاتِّفَاقِ فِي الاسْمِ، فَهَذِهِ يَدٌ وَهَذِهِ يَدٌ، وَهَذِهِ قُوَّةٌ وَهَذِهِ قُوَّةٌ، وَبَينَهُمَا تَبَايُنٌ فِي الكَيفِيَّةِ وَالوَصْفِ، فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ الاتّفاقَ فِي الاسْمِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ الاتِّفَاقُ فِي الحَقِيقَةِ.

وَالتَّشْبِيهُ هُوَ كَالتَّمْثِيلِ، وَقَدْ يُفَرَّقُ بَينَهُمَا بِأَنَّ التَّمْثِيلَ هُوَ التَّسْوِيَةُ فِي كُلِّ الصِّفَاتِ، وَالتَّشْبِيهَ التَّسْوِيَةُ فِي أَكْثَرِ الصِّفَاتِ، لَكِنَّ التَّعْبِيرَ بِنَفْي التَّمْثِيلِ أَولَى لِمُوَافَقَةِ القُرْآنِ، قَالَ تَعَالَى:{لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ} [الشُّورَى: 11]

(1)

.

وَأَمَّا التَّكْيِيفُ: وَهُوَ أَنْ يَعْتَقِدَ المُثْبِتُ أَنَّ كَيفِيَّةَ صِفَاتِ اللهِ تَعَالَى كَذَا وَكَذَا! وَهَذَا اعْتِقَادٌ بَاطِلٌ بِدَلِيلِ السَّمْعِ وَالعَقْلِ.

أَمَّا السَّمْعُ: فَمِنْهُ قَولُهُ تَعَالَى: {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طَه: 110]، وَقَولُهُ:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإِسْرَاء: 36]، وَمِنَ المَعْلُومِ أَنَّهُ لَا عِلْمَ لَنَا بِكَيفِيَّةِ صِفَاتِ رَبِّنَا، لِأَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَنَا عَنْهَا وَلَمْ يُخْبِرْنَا عَنْ كَيفِيَّتِهَا، فَيَكُونُ تَكْيِيفُنَا لَهَا قَفْوًا لِمَا لَيسَ لَنَا بِهِ عِلْمٌ، وَقولًا بِمَا لَا يُمْكِنُنَا الإِحَاطةُ بِهِ.

(1)

وَلِأَنَّ نَفْيَ التَّشْبِيهِ مُطْلَقًا بَينَ الخَالِقِ وَالمَخْلُوقِ غَيرُ صَحِيحٌ، وَذَلِكَ لِوُجُودِ الاشْتِرَاكِ فِي أَصْلِ الصِّفَةِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الصِّفَاتِ، كَصِفَةِ السَّمْعِ وَالبَصَرِ وَالعِلْمِ وَالحَيَاةِ وَالقُدْرَةِ، وَلَكِنَّ الكَمَالَ فِيهَا هُوَ للهِ تَعَالَى، كَمَا فِي قَولِ اللهِ تَعَالَى:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأَعْرَاف: 180]، وَكَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى أَيضًا:{لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [النَّحْل: 60]. يُنْظَرُ: تَفْسِيرُ العُثَيمِين لِسُورَةِ الشُّورَى (ص 113).

ص: 123

وَأَمَّا العَقْلُ: فَلِأَنَّ الشَّيءَ لَا تُعْرَفُ كَيفِيَّةُ صِفَاتِهِ إِلَّا بَعْدَ العِلْمِ بِأَحَدِ ثَلَاثٍ: كَيفِيَّةِ ذَاتِهِ، أَو بِنَظِيرِهِ المُسَاوِي لَهُ، أَو بِالخَبَرِ الصَّادِقِ عَنْهُ، وَكُلُّ هَذِهِ الطُّرُقِ مُنْتَفِيَةٌ فِي حَقِّ صِفَاتِ اللهِ عز وجل؛ فَوَجَبَ بُطْلَانُ تَكْيِيفِهَا.

7 -

صِفَاتُ اللهِ تَعَالَى تَوقِيفِيَّةٌ لَا مَجَالَ لِلعَقْلِ فِيهَا: فَلَا نُثْبِتُ للهِ تَعَالَى مِنَ الصِّفَاتِ إِلَّا مَا دَلَّ الكِتَابُ وَالسُّنَّةُ عَلَى ثُبُوتِهِ.

قَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: "لَا يُوصَفُ اللهُ إِلَّا بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، أَو وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ، لَا يُتَجَاوَزُ القُرْآنُ وَالحَدِيثُ"

(1)

.

‌قَوَاعِدُ فِي أَدِلَّةِ الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ:

1 -

الأَدِلَّةُ الَّتِي تَثْبُتُ بِهَا أَسْمَاءُ اللهِ تَعَالَى وَصِفَاتُهُ هِيَ: كِتَابُ اللهِ تَعَالَى، وَسُنَّةُ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَا تَثْبُتُ أَسْمَاءُ اللهِ وَصِفَاتُهُ بِغَيرِهِمَا.

وَعَلَى هَذَا فَمَا وَرَدَ إِثْبَاتُهُ للهِ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ فِي الكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ وَجَبُ إِثْبَاتُهُ، وَمَا وَرَدَ نَفْيُهُ فِيهِمَا وَجَبَ نَفْيُهُ -مَعَ إِثْبَاتِ كَمَالِ ضِدِّهِ-، وَمَا لَمْ يَرِدْ إِثْبَاتُهُ وَلَا نَفْيُهُ فِيهِمَا وَجَبَ التَّوقُّفُ فِي لَفْظِهِ فَلَا يُثْبَتُ وَلَا يُنْفَى لِعَدَمِ وُرُودِ الإِثْبَاتِ وَالنَّفْي فِيهِ، وَأَمَّا مَعْنَاهُ فيُفَصَّلُ فِيهِ؛ فَإِنْ أُرِيدَ بِهِ حَقٌّ يَلِيقُ بِالله تَعَالَى فَهُوَ مَقْبُولٌ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ مَعْنًى لَا يَلِيقُ بِاللهِ عز وجل وَجَبَ رَدُّهُ.

وَمِمَّا لَمْ يَرِدْ إِثْبَاتُهُ وَلَا نَفْيُهُ لَفْظُ الجِهَةِ، فَلَو سَأَلَ سَائِلٌ هَلْ نُثْبِتُ للهِ تَعَالَى جِهَةً؟ قُلْنَا لَهُ: لَفْظُ الجِهَةِ لَمْ يَرِدْ فِي الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إِثْبَاتًا وَلَا نَفْيًا، وَيُغْنِي عَنْهُ مَا ثَبَتَ فِيهِمَا

(1)

ذَكَرَهُ أَبُو عُثْمَان الصَّابُونِيُّ رحمه الله (ت 449 هـ) فِي كِتَابِهِ: (عَقِيدَةُ السَّلَفِ وَأَصْحَابِ الحَدِيثِ)(ص 63).

ص: 124

مِنْ أَنَّ اللهَ تَعَالَى فِي السَّمَاءِ

(1)

.

2 -

الوَاجِبُ فِي نُصُوصِ القُرْآنِ وَالسُّنَّةِ إِجْرَاؤُهَا عَلَى ظَاهِرِهَا دُونَ تَحْرِيفٍ، لَاسِيَّمَا نُصُوصِ الصِّفَاتِ، حَيثَ لَا مَجَالَ لِلرَّأْي فِيهَا.

وَدَلِيلُ ذَلِكَ: السَّمْعُ، وَالعَقْلُ.

أَمَّا السَّمْعُ: فَقَولُهُ تَعَالَى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشُّعَرَاء: 193 - 195]، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ فَهْمِهِ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُهُ بِاللِّسَانِ العَرَبِيِّ؛ إِلَّا أَنْ يَمْنَعَ مِنْهُ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ.

وَقَدْ ذَمَّ اللهُ تَعَالَى اليَهُودَ عَلَى تَحْرِيفِهِم، فقَالَ تَعَالَى:{مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَينَا} [النِّسَاء: 46].

وَأَمَّا العَقْلُ: فَلِأَنَّ المُتَكَلِّمَ بِهَذِهِ النُّصُوصِ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ مِنْ غَيرِهِ، وَقَدْ خَاطَبَنَا بِاللِّسَانِ العَرَبِيِّ المُبِينِ؛ فَوَجَبَ قَبُولُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَإِلَّا لَاخْتَلَفَتِ الآرَاءُ وَتَفَرَّقَتِ الأُمَّةُ.

3 -

ظَوَاهِرُ نُصُوصِ الصِّفَاتِ مَعْلُومةٌ لَنَا بِاعْتِبَارٍ، وَمَجْهُولَةٌ لَنَا بِاعْتِبَارٍ آخَرَ، فَبِاعْتِبَارِ المَعْنَى هِيَ مَعْلُومَةٌ، وَبِاعْتِبَارِ الكَيفِيَّةِ الَّتِي هِيَ عَلَيهَا مَجْهُولَةٌ.

4 -

ظَاهِرُ النُّصُوصِ هُوَ مَا يَتَبَادَرُ مِنْهَا إِلَى الذّهْنِ مِنَ المَعَانِي: وَهُوَ يَخْتَلِفُ بِحَسْبِ السِّيَاقِ وَمَا يُضَافُ إِلَيهِ الكَلَامُ، فَالكَلِمَةُ الوَاحِدَةُ يَكُونُ لَهَا مَعْنًى فِي سِيَاقٍ،

(1)

قُلْتُ: وَمِثْلُهُ الكَلَامُ عَلَى المَكَانِ، فَلَفْظُهُ لَيسَ فِي الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَكِنْ نَنْظُرُ إِلَى المَقْصُودِ؛ فَإِنْ كَانَ المَقْصُودُ نَفْيُ سُؤَالِ أَينَ اللهَ؟ وَأَنَّهُ فِي السَّمَاءِ فَوقَ العَرْشِ! فَهُوَ بَاطِلٌ مَرْدُودٌ بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَإِنْ كَانَ المَقْصُودُ أَنَّهُ غَيرُ مَوجُودٍ دَاخِلَ خَلْقٍ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ -أَي: غَيرَ مُحَاطٍ بِالمَخْلُوقَاتِ؛ وَهِيَ الأَمَاكِنُ الَّتِي خَلقَهَا اللهُ- فَهَذَا صَحِيحٌ، فَاللهُ فَوقَ عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ خَالِقُ المَكَانِ وَالزَّمَانِ.

ص: 125

وَمَعْنًى آخَرَ فِي سِيَاقٍ آخَرَ، وَتَرْكِيبُ الكَلَامِ يُفِيدُ مَعْنًى عَلَى وَجْهٍ وَمَعْنًى آخَرَ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ، فَلَفْظُ (القَرْيَةِ) مَثَلًا يُرَادُ بِهِ القَومُ تَارَةً وَمَسَاكِنُ القَومِ تَارَةً أُخْرَى، فَمِنَ الأَوَّلِ قَولُهُ تَعَالَى:{وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا} [الإِسْرَاء: 58]، وَمِنَ الثَّانِي قَولُهُ تَعَالَى عَنِ المَلَائِكَةِ ضَيفِ إِبْرَاهِيم:{إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ} [العَنْكَبُوت: 36]، وَتَقُولُ: صَنَعْتُ هَذَا بِيَدِي؛ فَلَا تَكُونُ اليَدُ كَاليَدِ فِي قَولِهِ تَعَالَى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]! لِأَنَّ اليَدَ فِي المِثَالِ أُضِيفَتْ إِلَى المَخْلُوقِ فَتَكُونُ مُنَاسِبَةً لَهُ، وَفِي الآيَةِ أُضِيفَتْ إِلَى الخَالِقِ فَتَكُونُ لَائِقَةً بِهِ، فَلَا أَحَدَ -سَلِيمَ الفِطْرَةِ؛ صَحِيحَ العَقْلِ- يَعْتَقِدُ أَنَّ يَدَ الخَالِقِ كَيَدِ المَخْلُوقِ أَو بِالعَكْسِ، وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا؛ فَظَاهِرُ نُصُوصِ الصِّفَاتِ هُوَ مَا يَتَبَادَرُ مِنْهَا إِلَى الذّهْنِ مِنَ المَعَانِي.

وَهُنَا انْقَسَمَ النَّاسُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:

القِسْمِ الأوَّلِ: هُمْ مَنْ جَعَلُوا الظَّاهِرَ المُتَبَادِرَ مِنْهَا مَعْنًى حَقًّا يَلِيقُ بِاللهِ عز وجل، وَأَبْقَوا دِلَالَتَهَا عَلَى ذَلِكَ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ السَّلَفُ الَّذِينَ اجْتَمَعُوا عَلَى مَا كَانَ عَلَيهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ، وَالَّذِينَ لَا يَصْدُقُ لَقَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ إِلَّا عَلَيهِم، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى ذَلِكَ، كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (التَّمْهِيدُ) فَقَالَ: "أَهْلُ السُّنَّةِ مُجْمِعُونَ عَلَى الإِقْرَارِ بِالصِّفَاتِ الوَارِدَةِ كُلِّهَا فِي القُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَالإِيمَانِ بِهَا، وَحَمْلِهَا عَلَى الحَقِيقَةِ لَا عَلَى المَجَازِ، إِلَّا أَنَّهُم لَا يُكَيِّفُونَ شَيئًا مِنْ ذَلِكَ، وَلَا يَحُدُّونَ فِيهِ صِفَةً مَحْصُورَةً.

وَأَمَّا أَهْلُ البِدَعِ وَالجَهْمِيَّةُ وَالمُعْتَزِلَةُ كُلُّهَا وَالخَوَارِجُ فَكُلُّهُم يُنْكِرُها وَلَا يَحْمِلُ

ص: 126

شَيئًا مِنْهَا عَلَى الحَقِيقَةِ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّ مَنْ أقرَّ بِهَا مُشَبِّهٌ، وَهُم عِنْدَ مَنْ أَثْبَتَهَا نَافُونَ لِلمَعْبُودِ!

وَالحَقُّ فِيمَا قَالَهُ القَائِلُونَ بِمَا نَطَقَ بِهِ كِتَابُ اللهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ، وَهُمْ أَئِمَّةُ الجَمَاعَةِ. وَالحَمْدُ للهِ"

(1)

.

القِسْمِ الثَّانِي: مَنْ جَعَلُوا الظَّاهِرَ المُتَبَادِرَ مِنْ نُصُوصِ الصِّفَاتِ مَعْنًى بَاطِلًا لَا يَلِيقُ بِاللهِ، وَهُوَ التَّشْبِيهُ، وَأَبْقَوا دِلَالَتَهَا عَلَى ذَلِكَ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ المُشَبِّهَةُ، وَمَذْهَبُهُم بَاطِلٌ مُحَرَّمٌ مِنْ عِدَّةِ أَوجُهٍ، وَيُخَالِفُ مَا فَهِمَهُ السَّلَفُ فيَكُونُ بَاطِلًا.

القِسْمِ الثَّالِثِ: مَنْ جَعَلُوا المَعْنَى المُتَبَادِرَ مِنْ نُصُوصِ الصِّفَاتِ مَعْنًى بَاطِلًا لَا يَلِيقُ بِالله وَهُوَ التَّشْبِيهُ، ثُمَّ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَنْكَرُوا مَا دَلَّتْ عَلَيهِ مِنَ المَعْنَى، فَهَؤُلَاءِ صَرَفُوا النُّصُوصَ عَنْ ظَاهِرِهَا إِلَى مَعَانٍ عَيَّنُوهَا بِعُقُولِهِم، وَاضْطَرَبُوا فِي تَعْيِينِهَا اضْطِرَابًا كَثِيرًا، وَسَمَّوا ذَلِكَ تَأْوِيلًا، وَهُوَ فِي الحَقِيقَةِ تَحْرِيفٌ، وَمَذْهَبُهُم بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ:

أ- أَنَّهُ جِنَايَةٌ عَلَى النُّصُوصِ حَيثُ جَعَلُوهَا دَالَّةً عَلَى مَعْنًى بَاطِلٍ غَيرِ لَائِقٍ بِاللهِ وَلَا مُرَادٍ لَهُ.

(1)

التَّمْهِيدُ (7/ 145).

قُلْتُ: وَقَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله فِي الفَتْحِ (13/ 407): "وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي مَنَاقِبِ الشَّافِعِيِّ عَنْ يُونُس بْنِ عَبْدِ الأَعْلَى، سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: للهِ أَسْمَاءٌ وَصِفَاتٌ لَا يَسَعُ أَحَدًا رَدُّهَا، وَمَنْ خَالَفَ بَعْدَ ثُبُوتِ الحُجَّةِ عَلَيهِ فَقَدَ كَفَرَ، وَأَمَّا قَبْلَ قِيَامِ الحُجَّةِ فَإِنَّهُ يُعْذَرُ بِالجَهْلِ، لِأَنَّ عِلْمَ ذَلِكَ لَا يُدْرِكُ بِالعَقْلِ وَلَا الرُّؤْيَةِ وَالفِكْرِ، فَنُثْبِتُ هَذِهِ الصِّفَاتِ وَنَنْفِي عَنْهُ التَّشْبِيهَ كَمَا نَفَى عَنْ نَفْسِهِ، فَقَالَ: {لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ} ".

ص: 127

ب- أَنَّهُ صَرْفٌ لِكَلَامِ اللهِ تَعَالَى وَكَلَامِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ظَاهِرِهِ، وَاللهُ تَعَالَى خَاطَبَ النَّاسَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ؛ لِيَعْقِلُوا الكَلَامَ وَيَفْهَمُوهُ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ هَذَا اللِّسَانُ العَرَبِيُّ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَاطَبَهُم بِأَفْصِحِ لِسَانِ البَشَرِ، فَوَجَبَ حَمْلُ كَلَامِ اللهِ وَرَسُولِهِ عَلَى ظَاهِرِهِ المَفْهُومِ بِذَلِكَ اللِّسَانِ العَرَبِيِّ، غَيرَ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُصَانَ عَنِ التَّكْيِيفِ وَالتَّمْثِيلِ فِي حَقِّ اللهِ عز وجل.

جـ- أَنَّ صَرْفَ كَلَامِ اللهِ وَرَسُولِهِ عَنْ ظَاهِرِهِ إِلَى مَعْنًى يُخَالِفُهُ! قَولٌ عَلَى اللهِ بِلَا عِلْمٍ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ لِقَولِهِ تَعَالَى:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأَعْرَاف: 3].

فَالصَّارِفُ لِكَلَامِ اللهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ عَنْ ظَاهِرِهِ إِلَى مَعْنًى يُخَالِفُهُ قَدْ قَفَا مَا لَيسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ، وَقَالَ عَلَى اللهِ مَا لَا يَعْلَمُ، وَذَلِكَ مِنْ وَجْهَينِ:

الأَوَّلُ: أَنَّهُ زَعَمَ أَنَّهُ لَيسَ المُرَادُ بِكَلَامِ اللهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ كَذَا مَعَ أَنَّهُ ظَاهِرُ الكَلَامِ!

الثَّانِي: أَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ المُرَادَ بِهِ كَذَا -لِمَعْنًى آخَرَ- لَا يَدُلُّ عَلَيهِ ظَاهِرُ الكَلَامِ.

مِثَالُ ذَلِكَ: قَولُهُ تَعَالَى لِإِبْلِيسَ: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]، فَإِذَا صَرَفَ الكَلَامَ عَنْ ظَاهِرِهِ؛ وَقَالَ: لَمْ يُرِدْ بِاليَدَينِ اليَدَينِ الحَقِيقِيَّتَينِ! وَإِنَّمَا أَرَادَ كَذَا وَكَذَا! قُلْنَا لَهُ: مَا دَلِيلُكَ عَلَى مَا نَفَيتَ؟ وَمَا دَلِيلُكَ عَلَى مَا أَثْبَتَّ؟ فَإنْ أَتَى بِدَلِيلٍ -وَأَنَّى لَهُ ذَلِكَ- وَإِلَّا كَانَ قَائِلًا عَلَى اللهِ بِلَا عِلْمٍ فِي نَفْيِهِ وَإِثْبَاتِهِ.

د- أَنَّ صَرْفَ نُصُوصِ الصِّفَاتِ عَنْ ظَاهِرِهَا مُخَالِفٌ لِمَا كَانَ عَلَيهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم

ص: 128

وَأَصْحَابُهُ وَسَلَفُ الأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا؛ فيَكُونُ بَاطِلًا، لِأَنَّ الحَقَّ -بِلَا رَيبٍ- فِيمَا كَانَ عَلَيهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ وَسَلَفُ الأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا.

هـ- أَنْ يُقالَ لِلمُعَطِّلِ: هَلْ أَنْتَ أَعْلَمُ بِاللهِ مِنْ نَفْسِهِ؟ فَسَيَقُولُ: لَا.

ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: هَلْ مَا أَخْبَرَ اللهُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ صِدْقٌ وَحَقٌّ؟ فَسَيَقُولُ: نَعَم.

ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: هَلْ تَعْلَمُ كَلَامًا أَفْصَحَ وَأَبْيَنَ مِنْ كَلَامِ اللهِ تَعَالَى؟ فَسَيَقُولُ: لَا.

ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: هَلْ تَظُنُّ أَنَّ اللهَ سبحانه وتعالى أَرَادَ أَنْ يُعَمِّيَ الحَقَّ عَلَى الخَلْقِ فِي هَذِهِ النُّصُوصِ لِيَسْتَخْرِجُوهُ بِعُقُولِهِم؟ فَسَيَقُولُ: لَا.

فَيُقَالُ لَهُ: يَلْزَمُ مِمَّا سَبَقَ مِنْ جَوَابِكَ أَنْ تُثْبِتَ مَا أَثْبَتَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ دُونَ تَعْطِيلٍ مِنْكَ، فَهَذَا أَقْوَمُ لَكَ فِي دِينِكَ، وَأَسْلَمُ لَكَ، قَالَ تَعَالَى:{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القَصَص: 65].

و- أَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَى هَذَا التَّعْطِيلِ -المُسَمَّى عِنْدَهُم: تَأْوِيلًا- لَوَازِمُ بَاطِلَةٌ؛ أَهَمُّهَا: أَنَّ ظَاهِرَ القُرْآنِ وَالسُّنَّةِ تَشْبِيهٌ لِلخَالِقِ بِالمَخْلُوقِ! وَأَنَّ ظَاهِرَهُمَا كُفْرٌ لَا يَجُوزُ القَولُ بِهِ! وَأَنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يُبَيِّنْ لَنَا مَعَانِيهَا بَلْ أَوكَلَهَا إِلَى عُقُولِنَا المُتَضَارِبَةِ وَإلى فَهْمِ كُلِّ شَخْصٍ! وَفِيهِ مِنْ سُوءِ الظَّنِّ بِالنَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ لَنَا مَعْنَاهَا! وَفِيهِ سُوءُ الظَّنِّ بِالصَّحَابَةِ أَنَّهُم إِمَّا سَكَتُوا عَنِ القَولِ فِيهَا لِجَهْلِهِم بِمَعْنَاهَا؛ أَو عَلِمُوهَا وَكَتَمُوا بَيَانَهَا

(1)

!

(1)

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (3/ 426): "وَأَمَّا قَولُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} فَلِلنَّاسِ فِي هَذَا المَقَامِ مَقَالَاتٌ كَثِيرَةٌ جِدًّا لَيسَ هَذَا مَوضِعَ بَسْطِهَا، وَإِنَّمَا نَسْلُكُ فِي هَذَا المَقَام مَذْهَبَ السَّلَفِ الصَّالِح: مَالِكٍ وَالأَوزَاعِيّ وَالثَّورِيّ وَاللَّيثِ بْنِ سَعْدٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيهِ

=

ص: 129

ثُمَّ إِنَّ مِنْ أَهْلِ التَّعْطِيلِ مَنْ طَرَّدَ قَاعِدَتَهُ فِي جَمِيعِ الصِّفَاتِ، أَو تَعَدَّى إِلَى الأَسْمَاءِ أَيضًا، وَمِنْهُم مَنْ تَنَاقَضَ فَأَثْبَتَ بَعْضَ الصِّفَاتِ دُونَ بَعْض كَالأَشْعَرِيَّةِ وَالمَاتُرِيدِيَّةِ؛ أَثْبَتُوا مَا أَثْبَتُوهُ بِحُجَّةِ أَنَّ العَقْلَ يَدُلُّ عَلَيهِ، وَنَفَوا مَا نَفَوهُ بِحُجَّةِ أَنَّ العَقْلَ يَنْفِيهِ أَو لَا يَدُلُّ عَلَيهِ.

فَنَقُولُ لَهُم: نَفْيُكُم لِمَا نَفَيتُمُوهُ بِحُجَّةِ أَنَّ العَقْلَ لَا يَدُلُّ عَلَيهِ؛ يُمْكِنُ إِثْبَاتُهُ بِالطَّرِيقِ العَقْلِيِّ الَّذِي أَثْبَتُّمْ بِهِ مَا أَثْبَتُّمُوهُ كَمَا هُوَ ثَابِتٌ بِالدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ.

مِثَالُ ذَلِكَ: أَنَّهُم أَثْبَتُوا صِفَةَ الإِرَادَةِ، وَنَفَوا صِفَةَ الرَّحْمَةِ، فَأَثْبَتُوا صِفَةَ الإِرَادَةِ لِدِلَالَةِ السَّمْعِ وَالعَقْلِ عَلَيهَا.

أَمَّا السَّمْعُ: فَمِنْهُ قَولُهُ تَعَالَى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البَقَرَة: 235)، وَأَمَّا العَقْلُ: فَإِنَّ اخْتِلَافَ المَخْلُوقَاتِ وَتَخْصِيصَ بَعْضِهَا بِمَا يَخْتَصُّ بِهِ مِنْ ذَاتٍ أَو وَصْفٍ دَلِيلٌ عَلَى الإِرَادَةِ.

وَنَفَوا الرَّحْمَةَ؛ لِأَنَّهَا تَسْتَلْزِمُ لِينَ الرَّاحِمِ وَرقَّتَهُ لِلمَرْحُومِ، وَهَذَا مُحَالٌ فِي حَقِّ اللهِ تَعَالَى

(1)

! وَأَوَّلُوا الأَدِلَّةَ السَّمْعِيَّةَ المُثْبِتَةَ لِلرَّحْمَةِ إِلَى الفِعْلِ أَو إِرَادَةِ الفِعْلِ،

=

وَغَيرِهِمْ مِنْ أَئِمَّة المُسْلِمِينَ قَدِيمًا وَحَدِيثًا؛ وَهُوَ إِمْرَارهَا كَمَا جَاءَتْ مِنْ غَير تَكْيِيفٍ وَلَا تَشْبِيهٍ وَلَا تَعْطِيلٍ. وَالظَّاهِرُ المُتَبَادِرُ إِلَى أَذْهَانِ المُشَبِّهِينَ مَنْفِيٌّ عَنِ اللهِ؛ فَإِنَّ اللهَ لَا يُشْبِهُهُ شَيءٌ مِنْ خَلْقِهِ وَ {لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ، بَلِ الأَمْرُ كَمَا قَالَ الأَئِمَّةُ مِنْهُمْ نُعَيمُ بْنُ حَمَّادٍ الخُزَاعِيُّ -شَيخُ البُخَارِيِّ- قَالَ: مَنْ شَبَّهَ اللهَ بِخَلْقِهِ كَفَرَ، وَمَنْ جَحَدَ مَا وَصَفَ الله بِهِ نَفْسَهُ فَقَدْ كَفَرَ، وَلَيسَ فِيمَا وَصَفَ اللهُ بِهِ نَفْسَهُ وَلَا رَسُولُهُ تَشْبِيهٌ، فَمَنْ أَثْبَتَ لِلَّهِ تَعَالَى مَا وَرَدَتْ بِهِ الآيَاتُ الصَّرِيحَةُ وَالأَخْبَارُ الصَّحِيحَةُ عَلَى الوَجْهِ الَّذِي يَلِيقُ بِجَلَالِ اللهِ وَنَفَى عَنِ اللهِ تَعَالَى النَّقَائِصَ؛ فَقَدْ سَلَكَ سَبِيلَ الهُدَى".

(1)

كَمَا قَالَ الشَّيخُ ابْنُ دَقِيق العِيد (ت 702 هـ) رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى وغَفَرَ لَهُ -فِي شَرْحِ البَسْمَلَةِ مِنْ مُقَدِّمَةِ

=

ص: 130

فَفَسَّرُوا الرَّحِيمَ بِالمُنْعِمِ أَو مُرِيدِ الإِنْعَامِ!

فَنَقُولُ لَهُم: الرَّحْمَةُ ثَابِتَةٌ للهِ تَعَالَى بِالأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ، وَأَدِلَّةُ ثُبُوتِهَا أَكْثَرُ عَدَدًا وَتَنَوُّعًا مِنْ أَدِلَّةِ الإِرَادَةِ، فَقَدْ وَرَدَتْ بِالاسْمِ مِثْلِ:{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفَاتِحَة: 1]، وَالصِّفَةِ مِثْلِ:{وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ} [الكَهْف: 58]، وَالفِعْلِ مِثْلِ:{وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ} [العَنْكَبُوت: 21].

وَيُمْكِنُ إِثْبَاتُهَا بِالعَقْلِ أَيضًا؛ فَإِنَّ النِّعَمَ الكَثِيرَةَ عَلَى العبَادِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَالنِّقَمَ الَّتِي تُدْفَعُ عَنْهُم فِي كُلِّ حِينٍ دَالَّةٌ عَلَى ثُبُوتِ الرَّحْمَةِ للهِ عز وجل، وَدِلَالَتُهَا عَلَى ذَلِكَ أَبْيَنُ وَأَجْلَى مِنْ دِلَالَةِ الإِرَادَةِ لِظُهُورِ ذَلِكَ لِلخَاصَّةِ وَالعَامَّةِ، بِخِلَافِ دِلَالَةِ التَّخْصِيصِ عَلَى الإِرَادَةِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَظْهَرُ إِلَّا لِأَفْرَادٍ مِنَ النَّاسِ.

وَأَمَّا نَفْيُهَا بِحُجَّةِ أَنَّهَا تَسْتَلْزِمُ اللِّينَ وَالرِّقَةَ؛ فَجَوَابُهُ: أَنَّ هَذِهِ الحُجَّةَ لَو كَانَتْ مُسْتَقِيمَةً لَأَمْكَنَ نَفْيُ الإِرَادَةِ بِمِثْلِهَا فَيُقَالُ: الإِرَادَةُ: مَيلُ المُرِيدِ إِلَى مَا يَرْجُو بِهِ حُصُولَ مَنْفَعَةٍ أَو دَفْعَ مَضَرَّةٍ، وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ الحَاجَةَ! وَاللهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ. فَإِنْ أُجِيبَ: بِأَنَّ هَذِهِ إِرَادَةُ المَخْلُوقِ؛ أَمْكَنَ الجَوَابُ بِمِثْلِهِ فِي الرَّحْمَةِ بِأَنَّ الرَّحْمَةَ المُسْتَلْزِمَةَ لِلنَّقْصِ هِيَ رَحْمَةُ المَخْلُوقِ، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ بُطْلَانُ مَذْهَبِ أَهْلِ التَّعْطِيلِ سَوَاءً كَانَ تَعْطِيلًا عَامًّا أَو خَاصًّا.

=

النَّوَوِيِّ رحمه الله عَلَى الأَرْبَعِينَ النَّوَوِيَّةِ- (ص 11): "وَالرَّحْمَنُ: العَامُّ الرَّحْمَةِ لِجَمِيعِ البَرِيَّةِ، وَالرَّحِيمُ: الخَاصُّ الرَّحْمَةِ لِلمُؤْمِنِينَ، وَأَصْلُ (الرَّحْمَةِ) انْعِطَافُ القَلْبِ وَالرِّقَةُ، وَهِيَ فِي حَقِّهِ سبحانه وتعالى إِرَادَةُ الخَيرِ لِمَنْ يَسْتَحِقُّهَا، أَو تَرْكُ العُقُوبَةِ لِمَنْ يَسْتَوجِبُهَا"!

ص: 131

-‌

‌ شُبَهٌ وَجَوَابُهَا:

زَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ صَرَفُوا بَعْضَ النُّصُوصِ عَنْ ظَاهِرِهَا! وَذَلِكَ مُلْزِمٌ لِأَهْلِ السُّنَّةِ بِالمُوَافَقَةِ عَلَى التَّأْوِيلِ أَوِ المُدَاهَنَةِ فِيهِ، وَقَالُوا: كَيفَ تُنْكِرُونَ عَلَينَا تَأْوِيلَ مَا أَوَّلْنَاهُ مَعَ ارْتِكَابِكُم لِمِثْلِهِ فِيمَا أَولَّتُمُوهُ؟

الجَوَابُ هُوَ مِنْ وَجْهَينِ:

الأَوَّلُ: جَوَابٌ مُجْمَلٌ:

أ- لَا نُسلِّمُ أَنَّ تَفْسِيرَ السَّلَفِ لَهَا هُوَ صَرْفٌ لَهَا عَنْ ظَاهِرِهَا، فَإِنَّ ظَاهِرَ الكَلَامِ هُوَ مَا يَتَبَادَرُ مِنْهُ مِنَ المَعْنَى، وَهُوَ يَخْتَلِفُ بِحَسْبِ السِّيَاقِ وَمَا يُضَافُ إِلَيهِ الكَلَامُ، فَإِنَّ الأَلْفَاظَ يَخْتَلِفُ مَعْنَاهَا بِحَسْبِ تَرْكِيبِ الكَلَامِ، وَالكَلَامُ مُرَكَّبٌ مِنْ أَلْفَاظٍ وَجُمَلٍ يَظْهَرُ مَعْنَاهَا وَيَتَعَيَّنُ بِضَمِّ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ.

ب- أَنَّنَا لَو سَلَّمْنَا أَنَّ تَفْسِيرَهُم صَرْفٌ لَهَا عَنْ ظَاهِرِهَا؛ فَإِنَّ لَهُم فِي ذَلِكَ دَلِيلًا مِنَ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ إِمَّا مُتَّصِلًا وَإِمَّا مُنْفَصِلًا، وَلَيسَ لِمُجَرَّدِ شُبُهَاتٍ يَزْعُمُهَا الصَّارِفُ بَرَاهِينَ وَقَطْعِيَّاتٍ يَتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى نَفْي مَا أَثْبَتَهُ اللهُ لِنَفْسِهِ فِي كِتَابِهِ أَو عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم!

الثَّانِي: جَوَابٌ مُفَصَّلٌ، وَلنُمَثِّلْ بِالأَمْثِلَةِ التَّالِيَةِ:

1 -

فَنَبْدَأُ بِمَا حَكَاهُ أَبُو حَامِدٍ الغَزَالِيُّ

(1)

عَنْ بَعْضِ الحَنَابِلَةِ؛ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ أَحْمَدَ لَمْ يَتَأَوَّلْ إِلَّا فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: ((الحَجَرُ الأَسْوَدُ يَمِينُ اللهِ فِي الأَرْضِ يُصَافِحُ بِهَا عِبَادَهُ)

(1)

إِحْيَاءُ عُلُومِ الدِّينِ (1/ 103).

ص: 132

وَ ((إِنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بَينِ إِصْبَعَينِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ))، وَ ((إِنِّي أَجِدُ نَفَسَ الرَّحْمَنِ مِنْ قِبَلِ اليَمَنِ)).

وَالجَوَابُ:

أ- إِنَّ هَذِهِ الحِكَايَةَ كَذِبٌ عَلَى أَحْمَدَ رحمه الله، نَقَلَهَا عَنِ الغَزَالِيِّ شَيخُ الإِسْلَامِ ابْنُ تَيمِيَّةَ مِنْ مَجْمُوعِ الفَتَاوَى، وَقَالَ:"هَذِهِ الحِكَايَةُ كَذِبٌ عَلَى أَحْمَدَ"

(1)

.

ب- حَدِيثُ: ((الحَجَرُ الأَسْوَدُ يَمِينُ اللهِ فِي الأَرْضِ يُصَافِحُ بِهَا عِبَادَهُ)). الحَدِيثُ مُنْكَرٌ

(2)

.

جـ) حَدِيثُ: ((إِنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بَينِ إصْبَعَينِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(3)

.

وَالجَوَابُ عَنْهُ: قَدْ أَخَذَ السَّلَفُ أَهْلُ السُّنَّةِ بِظَاهِرِ الحَدِيثِ وَقَالُوا: إِنَّ للهِ تَعَالَى أَصَابِعَ حَقِيقَةً نُثْبِتُهَا لَهُ كَمَا أَثْبتَها لَهُ رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَونِ قُلُوبِ بَنِي آدَمَ بَينَ إِصْبَعِينِ مِنْهَا أَنْ تَكُونَ مُمَاسَةً لَهَا حَتَّى يُقَالَ: إِنَّ الحَدِيثَ مُوهِمٌ لِلحُلُولِ؛ فَيَجِبُ صَرْفُهُ عَنْ ظَاهِرِهِ! فَهَذَا السَّحَابُ مُسَخَّرٌ بَينَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَهُوَ لَا يَمَسُّ السَّمَاءَ وَلَا الأَرْضَ.

وَيُقَالُ: بَدْرٌ بَينَ مَكَّةَ وَالمَدِينَةَ رُغْمَ تَبَاعُدِ مَا بَينَهَا وَبَينَهُمَا، فَقُلُوبُ بَنِي آدَمَ كُلُّهَا

(1)

مَجْمُوع الفَتَاوَى (5/ 398).

(2)

قَالَ المُنَاوِيُّ رحمه الله مُتَعَقِّبًا عَلَى السُّيُوطِيِّ حَيثُ أَورَدَهُ فِي الجَامِعِ مِنْ رِوَايَةِ الخَطِيبِ وَابْنِ عَسَاكِرَ: "قَالَ ابْنُ الجَوزِيِّ: حَدِيثٌ لَا يَصِحُّ، وَقَالَ ابْنُ العَرَبِيِّ: هَذَا حَدِيثٌ بَاطِلٌ؛ فَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيهِ". فَيضُ القَدِيرِ (3/ 409).

(3)

مُسْلِمٌ (2654) عَنِ ابْنِ عَمْرو مَرْفُوعًا.

ص: 133

بَينَ إِصْبَعِينِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ حَقِيقَةً، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ مُمَاسَةٌ وَلَا حُلُولٌ.

د- حديث: ((إِنِّي أَجِدُ نَفَسَ الرَّحْمَنِ مِنْ قِبَلِ اليَمَنِ))

(1)

.

وَالجَوَابُ: إِنَّ هَذَا الحَدِيثَ هُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَالنَّفَسُ هُنَا هُوَ مِنَ التَّنْفِيسِ وَهُوَ التَّفْرِيجُ، وَلَيسَتِ النَّفْسُ بِمَعْنَى الذَّاتِ!

قَالَ الأَزْهَرِيُّ فِي (تَهْذِيبِ اللُّغَةِ): "النَّفَسُ فِي هَذينِ الحَدِيثَينِ اسْمٌ وُضِعَ مَوضِعَ المَصْدَرِ الحَقِيقِيِّ مِنْ (نَفَّسَ يُنَفِّسُ تَنْفِيسًا وَنَفَسًا) كَمَا يُقَالُ: فَرَّجَ يُفَرِّجُ تَفْرِيجًا وَفَرَجًا، كَأَنَّهُ قَالَ: أَجِدُ تَنْفِيسَ ربِّكُم مِنْ قِبَلِ اليَمَنِ، لِأَنَّ اللهَ جَلَّ وَعَزَّ نَصَرَهُم بِهِم وَأَيَّدَهُم بِرِجَالِهِم"

(2)

.

2 -

قَولُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [البَقَرَة: 29]

(3)

: إِنَّ لِأَهْلِ السُّنَّةِ فِي تَفْسِيرِهَا قَولَانِ:

أ- أَنَّهَا بِمَعْنَى: ارْتَفَعَ إِلَى السَّمَاءِ، وَهُوَ الَّذِي رَجَّحَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، قَالَ رحمه الله فِي تَفْسِيرِهِ -بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الخِلَافَ-:"وَأَولَى المَعَانِي بِقَولِ اللهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ} عَلَا عَلَيهِنَّ وَارْتَفَعَ؛ فَدَبَّرَهُنَّ بِقُدْرَتِهِ وَخَلَقَهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ"

(4)

.

وَقَالَ البَغَوِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: "هُوَ قَولُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَكْثَرِ مُفَسِّرِي السَّلَفِ، وَذَلِكَ

(1)

صَحِيحٌ. أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الكَبِيرِ (7/ 52) عَنْ سَلَمَةَ بْنِ نُفَيلٍ السَّكُونِيِّ مَرْفُوعًا، وَقَدْ ضَعَّفَهُ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله أَوَّلًا، ثُمَّ وَجَدَ لَهُ شَاهِدًا فَصَحَّحَهُ فِي الصَّحِيحَةِ (3367).

(2)

تَهْذِيبُ اللُّغَةِ (9/ 13).

(3)

وَالمَقْصُودُ مِنْ إِيرَادِهَا الإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ مِنَ السَّلَفِ مَنْ أَوَّلَها بِالقَصْدِ وَلَيسَ بِالعُلُوِّ.

(4)

تَفْسِيرُ الطَّبَرِيِّ (1/ 430).

ص: 134

تَمَسُّكًا بِظَاهِرِ لَفْظِ (اسْتَوَى)، وَتَفْوِيضًا لِعِلْمِ كَيفِيَّةِ هَذَا الارْتِفَاعِ إِلَى اللهِ عز وجل"

(1)

.

ب- أَنَّ الاسْتِوَاءَ هُنَا بِمَعْنَى القَصْدِ التَّامِ، وَإِلى هَذَا القَولِ ذَهَبَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ البَقَرَةِ، وَالبَغَوِيُّ فِي تَفْسِيرِ فُصِّلَت.

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله: "أَي: قَصَدَ إِلَى السَّمَاءِ، وَالاسْتِوَاءُ هَاهُنَا ضُمِّنَ مَعْنَى القَصْدِ وَالإِقْبَالِ؛ لِأَنَّهُ عُدِّيَ بِإلَى"

(2)

.

وَقَالَ البَغَوِيُّ: "أَي: عَمَدَ إِلَى خَلْقِ السَّمَاءِ"

(3)

.

وَهَذَا القَولُ لَيسَ صَرْفًا لِلكَلَامِ عَنْ ظَاهِرِه، وَذَلِكَ لِأَنَّ الفِعْلَ (اسْتَوَى) اقْتَرَنَ بِحَرْفٍ يَدُلُّ عَلَى الغَايَةِ وَالانْتِهَاءِ، فَانْتَقَلَ إِلَى مَعْنًى يُنَاسِبُ الحَرْفَ المُقْتِرِنَ بِهِ

(4)

.

(1)

تَفْسِيرُ البَغَوِيِّ (1/ 78).

(2)

تَفْسِيرُ ابْنِ كَثِيرٍ (1/ 213).

(3)

تَفْسِيرُ البَغَوِيِّ (7/ 165).

(4)

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ رحمه الله: "وَأَمَّا نَزْعُ -مَنْ نَزَعَ مِنْهُمْ- بِحَدِيثٍ يَرْوِيهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ وَاقِدٍ الوَاسِطِيُّ عَن إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ مُجَاهِدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طَه: 5]: (اسْتَولَى) عَلَى جَمِيعِ بَرِيَّتِهِ؛ فَلَا يَخْلُو مِنْهُ مَكَانٌ! فَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا أَنَّ هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَنَقَلَتُهُ مَجْهُولُونَ ضُعَفَاءُ، فَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دَاوُدَ الْوَاسِطِيُّ وَعَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مُجَاهِدٍ فَضَعِيفَانِ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ مَجْهُولٌ لَا يُعْرَفُ، وَهُمْ لَا يَقْبَلُونَ أَخْبَارَ الْآحَادِ الْعُدُولِ؛ فَكَيفَ يَسُوغُ لَهُمُ الِاحْتِجَاجُ بِمِثْلِ هَذَا مِنَ الْحَدِيثِ لَوْ عَقِلُوا أَوْ أَنْصَفُوا؟! أَمَا سَمِعُوا اللَّهَ عز وجل حَيثُ يَقُولُ: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر: 36 - 37] فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مُوسَى عليه السلام كَانَ يَقُولُ: "إِلَهِي فِي السَّمَاءِ" وَفِرْعَوْنُ يَظُنُّهُ كَاذِبًا! ". التَّمْهِيدُ (7/ 132).

وَرَاجِعْ إِثْبَاتَ سَقْطِ كَلِمَةِ "اسْتَولَى" فِي نَقْلِ ابْنِ القَيِّمِ لِنَفْسِ المَوْضِعِ مِنَ التَّمْهِيدِ فِي كِتَابِهِ (اجْتِمَاعُ الجُيُوشِ الإِسْلَامِيَّةِ)(2/ 146)، وَكَذَا فِي كِتَابِ (العَرْشِ) لِلذَّهَبِيِّ (1/ 197).

ص: 135

3 -

أَمَّا عَدَمُ مُنَافَاةِ العُلُوِّ لِلمَعِيَّةِ

(1)

كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَينَ مَا كُنْتُمْ} [الحَدِيد: 4]، وَقَولِهِ:{وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَينَ مَا كَانُوا} [المُجَادِلَة: 4].

فَالجَوَابُ: أَنَّ الكَلَامَ فِي هَاتَينِ الآيَتِينِ حَقٌّ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَظَاهِرِهِ، وَلَكِنْ مَا حَقِيقَتُهُ وَظَاهِرُهُ؟

هَلْ يُقَالُ: إِنَّ ظَاهِرَهُ وَحَقِيقَتَهُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى مَعَ خَلْقِهِ مَعِيَّةً تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مُخْتَلِطًا بِهِم! أَو حَالًّا فِي أَمْكِنَتِهِم؟!

أَو يُقَالُ: إِنَّ ظَاهِرَهُ وَحَقِيقَتَهُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى مَعَ خَلْقِهِ مَعِيَّةً تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مُحِيطًا بِهِم عِلْمًا وَقُدْرَةً وَسَمْعًا وَبَصَرًا وَتَدْبِيرًا وَسُلْطَانًا وَغَيرَ ذَلِكَ مِنْ مَعَانِي رُبُوبيَّتِهِ مَعَ عُلُوِّهِ عَلَى عَرْشِهِ فَوقَ جَمِيعِ خَلْقِهِ؟

لَا رَيبَ أَنَّ القَولَ الأوَّلَ لَا يَقْتَضِيهِ السِّيَاقُ، وَلَا يَدُلُّ عَلَيهِ بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ المَعِيَّةَ هُنَا أُضِيفَتْ إِلَى اللهِ عز وجل وَهُوَ أَعْظَمُ وَأَجَلُّ مِنْ أَنْ يُحِيطَ بِهِ شَيءٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ! وَلِأَنَّ المَعِيَّةَ فِي اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا القُرْآنُ لَا تَسْتَلْزِمُ الاخْتِلَاطَ أَوِ المُصَاحَبَةَ فِي المَكَانِ، وَإِنَّمَا تَدُلُّ عَلَى مُطْلَقِ المُصَاحَبَةِ، ثُمَّ تُفَسَّرُ فِي كُلِّ مَوضِعٍ بِحَسْبِهِ

(2)

.

(1)

عِنْدَ مَنْ يَسْتَشْكِلُ كَونَهُ سُبْحَانَهُ فِي السَّمَاءِ وَأَيضًا أَنَّهُ مَعَ عِبَادِهِ!

(2)

قُلْتُ: وَمِنْ أَمْثِلَةِ أَنَّ المَعِيَّةَ فِي اللُّغَةِ لَا يَلْزَمُ مِنْهَا الحُلُولُ فِي المَكَانِ قَولُكَ: سِرْتُ مَعَ القَمَر، وَأَيضًا لَا يَلْزَمُ مِنْهَا الاخْتِلَاطُ كَقَولِكَ: زَوجَتِي مَعِي.

قَالَ الإِمَامُ؛ حَافِظُ الأَنْدَلُسِ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ رحمه الله: "وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِقَوْلِهِ عز وجل: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَينَ مَا كَانُوا} فَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي ظَاهِرِ هَذِهِ الآيَةِ، لِأَنَّ عُلَمَاءَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ الَّذِينَ حَمَلْتُ عَنْهُمُ التَّأْوِيلَ فِي القُرْآنِ قَالُوا فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الآيَةِ: هُوَ عَلَى العَرْشِ وَعِلْمُهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَمَا خَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ يُحْتَجُّ بِقَوْلِهِ".

=

ص: 136

وَتَفْسِيرُ مَعِيَّةِ اللهِ تَعَالَى لِخَلْقِهِ بِمَا يَقْتَضِي الحُلُولَ وَالاخْتِلَاطَ بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ؛ مِنْهَا:

أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ السَّلَفِ، فَمَا فَسَّرَهَا أَحَدٌ مِنْهُم بِذَلِكَ؛ بَلْ كَانُوا مُجْمِعِينَ عَلَى إِنْكارِهِ.

وَأَيضًا أَنَّهُ مُنَافٍ لِعُلُوِّ اللهِ تَعَالَى الثَّابِتِ بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالعَقْلِ وَالفِطْرةِ وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ.

فَإِذَا تَبيَّنَ بُطْلَانُ هَذَا القَولِ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الحَقُّ هُوَ القَولُ الثَّانِي؛ وَهُوَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى مَعَ خَلْقِهِ مَعِيَّةً تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مُحِيطًا بِهِم -عِلْمًا وَقُدْرَةً وَسَمْعًا وَبَصَرًا وَتَدْبِيرًا وَسُلْطَانًا وَغَيرَ ذَلِكَ- مِمَّا تَقْتَضِيهِ رُبُوبِيَّتُهُ مَعَ عُلُوِّهِ عَلَى عَرْشِهِ فَوقَ جَمِيعِ خَلْقِهِ، وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ الآيَتِينِ بِلَا رَيبٍ.

قَالَ شَيخُ الإِسْلَامِ ابْنُ تَيمِيَّةَ رحمه الله فِي (الفَتْوَى الحَمَوِيَّةِ): "ثُمَّ هَذِهِ المَعِيَّةُ تَخْتَلِفُ أَحْكَامُهَا بِحَسَبِ المَوَارِدِ، فَلَمَّا قَالَ:{يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} إلَى قَولِهِ: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَينَ مَا كُنْتُمْ} دَلَّ ظَاهِرُ الخِطَابِ عَلَى أَنَّ حُكْمَ هَذِهِ المَعِيَّةِ وَمُقْتَضَاهَا أَنَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَيكُمْ؛ شَهِيدٌ عَلَيكُمْ وَمُهَيمِنٌ عَالِمٌ بِكُمْ، وَهَذَا مَعْنَى قَولِ السَّلَفِ: إنَّهُ مَعَهُمْ بِعِلْمِهِ، وَهَذَا ظَاهِرُ الخِطَابِ وَحَقِيقَتُهُ، وَكَذَلِكَ فِي قَولِهِ:{مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} إلَى قَولِهِ: {هُوَ مَعَهُمْ أَينَ مَا كَانُوا} الآيَة، وَلَمَّا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِصَاحِبِهِ فِي الغَارِ:{لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} كَانَ هَذَا أَيضًا حَقًّا عَلَى ظَاهِرِهِ، وَدَلَّتِ الحَالُ عَلَى أَنَّ

=

التَّمْهِيدُ (7/ 138).

وَقَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ رحمه الله: "وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ البَرِّ وَغَيرُهُ إِجْمَاعَ العُلَمَاءِ مِن الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِي تَأْوِيلِ قَولِهِ: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَينَ مَا كُنْتُمْ} أَنَّ المُرَادَ: عِلْمُهُ، وَكُلُّ هَذَا قَصَدُوا بِهِ رَدَّ قَولِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى بِذَاتِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ". فَتْحُ البَارِي لِابْنِ رَجَبٍ الحَنْبَلِيِّ (2/ 332).

ص: 137

حُكْمَ هَذِهِ المَعِيَّةِ هُنَا مَعِيَّةُ الِاطِّلَاعِ وَالنَّصْرِ وَالتَّأْيِيدِ"

(1)

.

وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيسَ مُقْتَضَاهَا أَنْ تَكُونَ ذَاتُ الرَّبِّ عز وجل مُخْتَلِطَةً بِالخَلْقِ: أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَينَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحَدِيد: 4]. فَيَكُونُ ظَاهِرُ الآيَةِ أَنَّ مُقْتَضَى هَذِهِ المَعِيَّةِ عِلْمُهُ بِعِبَادِهِ، وَبَصَرُهُ بِأَعْمَالِهِم -مَعَ عُلُوِّهِ عَلَيهِم، وَاسْتِوَائِهِ عَلَى عَرْشِهِ-؛ لَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ مُخْتَلِطٌ بِهِم! وَلَا أَنَّهُ مَعَهُم فِي الأَرْضِ! وَإِلَّا لَكَانَ آخِرُ الآيَةِ مُنَاقِضًا لِأَوَّلِهَا الدَّالِّ عَلَى عُلُوِّهِ وَاسْتِوَائِهِ عَلَى عَرْشِهِ.

فَإِذَا تَبَيَّنَ ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ مُقْتَضَى كَونِهِ تَعَالَى مَعَ عِبَادِهِ: أَنَّهُ يَعْلَمُ أَحْوَالَهُم، وَيَسْمَعُ أَقْوَالَهُم، وَيَرَى أَفْعَالَهُم، وَيُدَبِّرُ شُؤُونَهُم؛ فَيُحِيِي وُيُمِيتُ، وَيُغْنِي وَيُفْقِرُ، وَيُؤْتِي المُلْكَ مَنْ يَشَاءُ، وَيَنْزِعُ المُلْكَ مِمَّنْ يَشَاءُ، وَيُعِزُّ مَنْ يَشَاءُ، وَيُذِلُّ مَنْ يَشَاءُ؛ إِلَى غَيرِ ذَلِكَ مِمَّا تَقْتَضِيهِ رُبُوبيَّتُهُ وَكَمَالُ سُلْطَانِهِ؛ لَا يَحْجُبُهُ عَنْ خَلْقِهِ شَيءٌ، ومِنْ كَانَ هَذَا شَأْنُهُ فَهُوَ مَعَ خَلْقِهِ حَقِيقَةً وَلَو كَانَ فَوقَهُم عَلَى عَرْشِهِ حَقِيقَةً.

وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ: لَو فُرِضَ امْتِنَاعُ اجْتِمَاعِ المَعِيَّةِ وَالعُلوِّ فِي حَقِّ المَخْلُوقِ؛ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُمْتَنِعًا فِي حَقِّ الخَالِقِ الَّذِي جَمَعَ لِنَفْسِهِ بَينَهُمَا، لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يُمَاثِلُهُ شَيءٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الذَّارِيَات: 11]

(2)

.

(1)

الفَتْوَى الحَمَوِيَّةُ (ص 521).

(2)

وَلَا يَصِحُّ اسْتِدْلَالُ المُعَطِّلَةِ عَلَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى فِي كُلِّ مَكَانٍ بِالآيَةِ الكَرِيْمَةِ {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحَدِيْد: 4] وَذَلِكَ لِأَنَّ الآيَةَ قَدْ دَلَّتْ عَلَى المَعِيَّةِ لِلأَشْخَاصِ فَقَط؛ وَلَيْسَ لِعُمُوْمِ الأَمْكِنَةِ، فَتَنَبَّهْ. وَبِاللهِ التَّوْفِيْقُ.

ص: 138

4 -

قَولُهُ تَعَالَى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 16 - 18] حَيثُ فُسِّرَ القُرْبُ فِيهِمَا بِقُرْبِ المَلَائِكَةِ!

وَالجَوَابُ: إِنَّ تَفْسِيرَ القُرْبِ فِيهِمَا بِقُرْبِ المَلَائِكَةِ لَيسَ صَرْفًا لِلكَلَامِ عَنْ ظَاهِرِهِ لِمَنْ تَدَبَّرَهُ، فَإِنَّ القُرْبَ مُقَيَّدٌ فِيهَا بِالمَلَائِكَةِ حَيثُ قَالَ:{إِذْ يَتَلَقَّى} فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ المُرَادَ بِهِ قُرْبُ المَلَكَينِ المُتَلَقِيِينِ.

فَإِنْ قِيلَ: لِمَاذَا أَضَافَ اللهُ القُرْبَ إِلَيهِ، وَهَلْ جَاءَ نَحْو هَذَا التَّعْبِيرِ مُرَادًا بِهِ المَلَائِكَةُ؟

فَالجَوَابُ: أَضَافَ اللهُ تَعَالَى قُرْبَ المَلَائِكَةِ إِلَيهِ؛ لِأَنَّ قُرْبَهُم تَمَّ بِأَمْرِهِ، وَهُمْ جُنُودُهُ وَرُسُلُهُ، وَقَدْ جَاءَ نَحْو هَذَا التَّعْبِيرِ مُرَادًا بِهِ المَلَائِكَةُ، كَقَولِهِ تَعَالَى:{فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القِيَامَة: 18] فَإِنَّ المُرَادَ بِهِ قِرَاءَةُ جِبْرِيلَ القُرْآنَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَضَافَ القِرَاءَةَ إِلَيهِ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ جِبْرِيلُ يَقْرَأُهُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى صَحَّتْ إِضَافَةُ القِرَاءَةِ إِلَيهِ تَعَالَى.

وَكَذَلِكَ جَاءَ فِي قَولِهِ تَعَالَى: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} [هُود: 74] وَإِبْرَاهِيمُ إِنَّمَا كَانَ يُجَادِلُ المَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ رُسُلُ اللهِ تَعَالَى.

5) قَولُهُ تَعَالَى عَنْ سَفِينَةِ نُوحٍ: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القَمَر: 14]، وَقَولُهُ لِمُوسَى:{وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَينِي} [طَه: 39].

ص: 139

وَالجَوَابُ: إِنَّ المَعْنَى فِي هَاتَينِ الآيَتِينِ عَلَى ظَاهِرِ الكَلَامِ وَحَقِيقَتِهِ، لَكِنْ مَا ظَاهِرُ الكَلَامِ وَحَقِيقتُهُ هُنَا؟ هَلْ يُقَالُ: إِنَّ ظَاهِرَهُ وَحَقِيقَتَهُ أَنَّ السَّفِينَةَ تَجْرِي فِي عَينِ اللهِ؛ أَو أَنَّ مُوسَى عليه الصلاة والسلام يَرْبَى فَوقَ عَينِ اللهِ تَعَالَى؟!!

أَو يُقَالُ: إِنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّ السَّفِينَةَ تَجْرِي وَعَينُ اللهِ تَرْعَاهَا وَتَكْلَؤُهَا، وَكَذَلِكَ تَرْبِيَةُ مُوسَى تَكُونُ عَلَى عَينِ اللهِ تَعَالَى يَرْعَاهُ وَيَكْلَؤُهُ بِهَا، وَلَا رَيبَ أَنَّ القَولَ الأَوَّلَ بَاطِلٌ، وَذَلِكَ مِنْ وَجْهَينِ:

أ- أَنَّهُ لَا يَقْتَضِيهِ الكَلَامُ بِمُقْتَضَى الخِطَابِ العَرَبِيِّ، وَالقُرْآنُ إِنَّمَا نَزَلَ بِلُغَةِ العَرَبِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يُوسُف: 2] وَلَا أَحَدَ يَفْهَمُ مِنْ قَولِ القَائِلِ: فُلَانٌ يَسِيرُ بِعَينِي أَنَّ المَعْنَى أَنَّهُ يَسِيرُ دَاخِلَ عَينِهِ، وَلَا مِنْ قَولِ القَائِلِ: فُلَانٌ تَخَرَّجَ عَلَى عَينِي؛ أَنَّ تَخَرُّجَهُ كَانَ وَهُوَ رَاكِبٌ عَلَى عَينِهِ، وَلَو ادَّعَى مُدَّعٍ أَنَّ هَذَا هُوَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ فِي هَذَا الخِطَابِ لَضَحِكَ مِنْهُ السُّفَهَاءُ فَضْلًا عَنِ العُقَلَاءِ

(1)

.

ب- أَنَّ هَذَا مُمْتَنِعٌ غَايَةَ الامْتِنَاعِ، وَلَا يُمْكِنُ لِمَنْ عَرَفَ اللهَ وَقَدَّرَهُ حَقَّ قَدْرِهِ أَنْ يَفْهَمَهُ فِي حَقِّ اللهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ لَا يَحُلُّ فِيهِ شَيءٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ، وَلَا هُوَ حَالٌّ فِي شَيءٍ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ سبحانه وتعالى.

فَإِذَا تَبَيَّنَ بُطْلَانُ هَذَا مِنَ النَّاحِيَةِ اللَّفْظِيَّةِ وَالمَعْنَوِيَّةِ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ ظَاهِرُ الكَلَامِ هُوَ القَولُ الثَّانِي؛ أَنَّ السَّفِينَةَ تَجْرِي وَعَينُ اللهِ تَرْعَاهَا وَتَكْلَؤُهَا، وَكَذَلِكَ تَرْبِيَةُ مُوسَى تَكُونُ عَلَى عَينِ اللهِ يَرْعَاهُ وَيَكْلَؤُهُ بِهَا، وَهَذَا مَعْنَى قَولِ بَعْضِ السَّلَفِ: بِمَرْأًى مِنِّي،

(1)

قُلْتُ: وَمِثْلُهُ قَولُ: إِنَّكَ تَحْتَ عَينِي، وَفُلَانٌ تَخَرَّجَ مِنْ تَحْتِ يَدِي، وَفُلَانٌ يَدِي اليُمْنَى وَ

مِمَّا مَعْنَاهُ ظَاهِرٌ مَفْهُومٌ بِاللِّسَانِ العَرَبِيِّ.

ص: 140

فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى إِذَا كَانَ يَكْلَؤُهُ بِعَينِهِ لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ يَرَاهُ

(1)

.

6 -

قَولُهُ تَعَالَى فِي الحَدِيثِ القُدُسِيِّ: ((وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَلَئِنْ سَأَلَنِي لأُعطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ)). صَحِيح البُخَارِيِّ

(2)

.

وَقَدْ أَخَذَ السَّلَفُ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ بِظَاهِرِ الحَدِيثِ وَأَقَرُّوهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَلَكِنْ مَا ظَاهِرُ هَذَا الحَدِيثِ؟ هَلْ يُقَالُ: إِنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَكُونُ سَمْعَ الوَلِيِّ وَبَصَرَهُ وَيَدَهُ وَرِجْلَهُ؟! أَو يُقَالُ: إِنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يُسَدِّدُ الوَلِيَّ فِي سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَيَدِهِ وَرِجْلِهِ بِحَيثُ يَكُونُ إِدْرَاكُهُ وَعَمَلُهُ للهِ وَبِاللهِ وَفِي اللهِ؟

وَلَا رَيبَ أَنَّ القَولَ الأَوَّلَ لَيسَ هُوَ ظَاهِرُ الكَلَامِ؛ بَلْ وَلَا يَقْتَضِيهِ الكَلَامُ لِمَنْ تَدَبَّرَ الحَدِيثَ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ: ((وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ؛ فَإِذَا أَحْبَبتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ

))، وَقَالَ:((وَلَئِنْ سَأَلَنِي لأُعطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ)) فَأَثْبَتَ عَبْدًا وَمَعْبُودًا، وَمُتَقَرِّبًا وَمُتَقَرَّبًا إِلَيهِ، وَمُحِبًّا وَمَحْبُوبًا، وَسَائِلًا وَمَسْئُولًا، وَمُعْطِيًا وَمُعْطًى، وَمُسْتَعِيذًا وَمُسْتَعَاذًا بِهِ، فَسِيَاقُ الحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى اثْنَينِ مُتَبَايِنَينِ؛ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيرُ الآخَرِ.

وَإِذَا تَبَيَّنَ بُطْلَانُ القَولِ الأَوَّلِ وَامْتِنَاعُهُ تَعَيَّنَ القَولُ الثَّانِي وَهُوَ ظَاهِرُ سِيَاقِ الحَدِيثِ؛ حَيثُ جُعِلَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الإِثَابَةِ وَالإِعَانَةِ، وَهُوَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يُسَدِّدُ هَذَا

(1)

قُلْتُ: وَوَجْهُ كَونِ العَينِ هِيَ الَّتِي تَرْعَاهُ دُونَ الوَجْهِ أَوِ اليَدِ أَو

هُوَ لِأَنَّ العَينَ تُفِيدُ الاطِّلَاعَ وَالمُرَاقَبَةَ وَالإِحَاطَةَ مِمَّا يُنَاسِبُ الحِفْظَ. وَاللهُ أَعْلَمُ.

(2)

البُخَارِيُّ (6502)، وَفِي الحَدِيثِ كَلَامٌ، رَاجِعِ الصَّحِيحَةَ (1640).

ص: 141

الوَلِيَّ فِي سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَعَمَلِهِ، وَهَذَا مَا فَسَّرَهُ بِهِ السَّلَفُ، وَهُوَ تَفْسِيرٌ مُطَابِقٌ لِظَاهِرِ اللَّفْظِ وَمُوَافِقٌ لِحَقِيقَتِهِ وَمُتَعَيِّنٌ بِسِيَاقِهِ، وَلَيسَ فِيهِ تَأْوِيلٌ وَلَا صَرْفٌ لِلكَلَامِ عَنْ ظَاهِرِهِ، وَللهِ الحَمْدُ وَالمِنَّةُ

(1)

(2)

.

-‌

‌ بَيَانُ أَدِلَّةِ العُلُوِّ مِنَ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالعَقْلِ وَالفِطْرَةِ وَالإِجْمَاعِ:

1 -

أَمَّا دِلَالَةُ الكِتَابِ، فَقَدْ تَنَوَّعَتْ دِلَالتُهُ عَلَى ذَلِكَ:

أ- تَارَةً بِلَفْظِ العُلُوِّ، كَقَولِهِ تَعَالَى:{وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البَقَرَة: 255]،

وَالفَوقِيَّةِ، كَقَولِهِ تَعَالَى:{وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأَنْعَام: 18]،

وَالاسْتِوَاءِ عَلَى العَرْشِ، كَقَولِهِ تَعَالَى:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طَه: 5]،

(1)

أَفَادَهُ الشَّيخُ ابْنُ عُثَيمِين رحمه الله فِي كِتَابِهِ (المُجَلَّى فِي شَرْحِ القَوَاعِدِ المُثْلَى)(ص 284) بِتَصَرُّفٍ يَسِيرٍ.

قُلْتُ: وَمِثْلُهُ قَولُ القَائِلِ: اسْتَعْمِلْنِي عَلَى كَذَا؛ أَكُنْ يَدَكَ اليُمْنَى، فَمَا هُوَ ظاهِرُ هَذَا الكَلَامِ عَلَى الحَقِيقَةِ، وَالَّذِي يَتَبَادَرُ إِلَى ذِهْنِ العَالِمِ أَوِ العَامِيِّ؟؟.

(2)

وَفِي الجَوَابِ عَنِ الحَدِيث أَقْوَالٌ أُخْرُ؛ مِنْهَا: إِنَّ الإِنْسَانَ إِذَا كَانَ وَلِيًّا للهِ عز وجل حَفِظَ سَمْعَهُ وبَصَرَهُ وَ

، فَلَا يَسْتَخْدِمُهَا إِلَّا فِي طَاعَةِ اللهِ تَعَالَى.

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله فِي الفَتْحِ (11/ 344): "وَقَالَ الطُّوفِيُّ: اتَّفَقَ العُلَمَاءُ -مِمَّنْ يُعْتَدُّ بِقَولِهِم- أَنَّ هَذَا مَجَازٌ وَكِنَايَةٌ عَنْ نُصْرَةِ العَبْدِ وَتَأْيِيدِهِ وَإِعَانَتِهِ حَتَّى كَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ يُنَزِّلُ نَفْسَهُ مِنْ عَبْدِهِ مَنْزِلَةَ الآلَاتِ الَّتِي يَسْتَعِينُ بِهَا".

قُلْتُ: وَهَذَا المَعْنَى حَقٌّ، لَكِنْ لَيسَ فِي الحَدِيثِ مَجَازٌ حَتَّى يُذْهَبَ بِهِ إِلَى مَعْنًى آخَرَ، فَالحَدِيثُ ظَاهِرُهُ هُوَ هَذَا المَعْنَى نَفْسُهُ.

أَمَّا (الطُّوفِيُّ) هَذَا؛ فَلَعَلَّهُ هُوَ سُلَيمَانُ بْنُ عَبْدِ القَوِيِّ الطُّوفِيُّ الصَّرْصَرِيُّ؛ أَبُو الرَّبِيعِ؛ نَجْمُ الدِّينِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 716 هـ)، وَلَهُ شَرْحُ عَلَى الأَرْبَعِين. اُنْظُرْ كِتَابَ (ذَيلُ طَبَقَاتِ الحَنَابِلَةِ) لِلحَافِظِ ابْنِ رَجَبٍ رحمه الله (4/ 404).

ص: 142

وَكَونِهِ فِي السَّمَاءِ، كَقَولِهِ تَعَالَى:{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} [المُلْك: 16]

(1)

(2)

.

ب- وَتَارَةً بِلَفْظِ صُعُودِ الأَشْيَاءِ وَعُرُوجِهَا وَرَفْعِهَا إِلَيهِ، كَقَولِهِ تَعَالَى:{إِلَيهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فَاطِر: 10]، وَقَولِهِ تَعَالَى:{تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيهِ} [المَعَارِج: 4]، وَقَولِهِ تَعَالَى:{إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آلِ عِمْرَان: 55].

ج- وَتَارَةً بِلَفْظِ نُزُولِ الأَشْيَاءِ مِنْهُ، كَقَولِهِ تَعَالَى:{قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ} [النَّحْل: 102]، وَقَولِهِ تَعَالَى:{يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ} [السَّجْدَة: 5]

(3)

(1)

قَالَ البَيهَقِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ الأَسْمَاءُ وَالصِّفَاتُ (2/ 324): "بَابُ قَولِ اللهِ عز وجل: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [المُلْك: 16] قَالَ الشَّيخُ أَبُو بَكْرٍ؛ أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ أَيُّوبَ الفَقِيهُ: قَدْ تَضَعُ العَرَبُ (فِي) بِمَوضِعِ (عَلَى)، قَالَ اللهُ عز وجل: {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ} [التَّوبَة: 2] وَقَالَ: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طَه: 71] وَمَعْنَاهُ: عَلَى الأَرْضِ وَعَلَى النَّخْلِ، فَكَذَلِكَ قَولُهُ: {فِي السَّمَاءِ} أَي: عَلَى العَرْشِ فَوقَ السَّمَاءِ".

(2)

وَأَمَّا مَنْ جَعَلَ المَقْصُودَ فِي الآيَةِ الأَخِيرَةِ المَلَائِكَةَ! فَيُرَدُّ عَلَيهِ مِنْ وَجْهَينِ:

أ- قَولُهُ تَعَالَى: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ العَذَابُ مِنْ حَيثُ لَا يَشْعُرُونَ} [النَّحْل: 45] حَيثُ بَيَّنَ أَنَّهُ هُوَ الفَاعِلُ سُبْحَانَهُ لِلخَسْفِ وَلَيسَ المَلَائِكَةَ.

ب- أَنَّهَا عَلَى فَرْضِ كَونِ المَقْصُودِ بِهَا المَلَائِكَةُ، فَنَقُولُ قَدْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى أَنَّ المَلَائِكَةَ عِنْدَهُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى كَونِهِ تَعَالَى فِي السَّمَاءِ، قَالَ تَعَالَى:{إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأَعْرَاف: 206].

(3)

قُلْتُ: وَأَمَّا اعْتِرَاضُ بَعْضِهِم بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ ذَكَرَ إِنْزَالَ الحَدِيدِ وَالأَنْعَامِ وَالمَطَرِ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِثْلُ إِنْزَالِ القَرْآنِ؛ فَهِيَ لَا تَدُلُّ عَلَى العُلُوِّ!

فَالجَوَابُ:

إِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ الإِنْزَالَ -فِي القُرْآنِ- عَلَى ثَلَاثِةِ أَشْكَالٍ:

=

ص: 143

(1)

.

=

أ- إِنْزَالٍ مُطْلَقٌ، كَقَولِهِ تَعَالَى:{وَأَنْزَلْنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} [الحَدِيد: 25] فَأَطْلَقَ الإِنْزَالَ وَلَمْ يَذْكُرْ مَبْدأَهُ، وَكَقَولِهِ تَعَالَى:{وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الزُّمَر: 6].

ب- الإِنْزَالِ مِنَ السَّمَاءِ، كَقَولِهِ تَعَالَى:{وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفُرْقَان: 48].

ج- إِنْزَالٍ مِنْهُ سُبْحَانَهُ، كَقَولِهِ:{تَنْزِيلُ الكِتَابِ مِنَ اللَّهِ العَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الزُّمَر: 1]، وَقَولِهِ:{قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النَّحْل: 102]، وَقَالَ أَيضًا:{وَالَّذِينَ آتَينَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [الأَنْعَام: 114].

فَهَذَا الإِنْزَالُ مِنْ عِنْدِهِ خَصَّهُ اللهُ تَعَالَى بِالقُرْآنِ خِلَافًا لِمَا سَبَقَ مِنَ الأَنْوَاعِ، فَلَا تَصِحُّ مُعَارَضَتُهُ بِمَا سَبَقَ مِنَ الأَمْثِلَةِ وَالحَمْدُ للهِ. اُنْظرْ كِتَابَ (الدُّرَرُ السَّنِيَّةُ فِي الأَجْوِبَةَ النَّجْدِيَّةِ)(3/ 377).

(1)

قُلْتُ: وَأَيضًا هُنَاكَ أَوجُهٌ أُخَرُ، مِنْهَا:

أ- الإِخْبَارُ عَنِ الأُمَمِ المَاضِيَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ قَولِ فِرْعَونَ لِهَامَانَ:{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} [غَافِر: 36 - 37].

قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَبَرِيُّ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (21/ 387): "وَقَولُهُ: {وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} يَقُولُ: وَإِنِّي لَأَظُنُّ مُوسَى كَاذِبًا فِيمَا يَقُولُ وَيَدَّعِي مِنْ أَنَّ لَهُ فِي السَّمَاءِ؛ رَبًّا أَرْسَلَهُ إِلَينَا".

قَالَ ابْنُ أَبِي العِزِّ الحَنَفِيُّ رحمه الله فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيَّةِ (ص 287) -بَعْدَ إِيرَادِ وَجْهِ الدِّلَالَةِ مِنَ الآيَةِ الكَرِيمَةِ-: "فَمَنْ نَفَى العُلُوَّ مِنَ الجَهْمِيَّةِ فَهُوَ فِرْعَونِيٌّ، وَمَنْ أَثْبَتَهُ فَهُوَ مُوسَوِيٌّ مُحَمَّدِيٌّ".

ب- الإِخْبَارُ بِـ (عِنْدَ) حَيثُ عُلِمَ أَنَّ المَلَائِكَةَ فِي السَّمَاءِ، كَقَولِهِ تَعَالَى:{وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ} [الأَنْبِيَاء: 19].

وَكَقَولِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأَعْرَاف: 206].

ج- تَشْبِيهُ الرُّؤْيَةِ بِالرُّؤْيَةِ فِي حَدِيثِ البُخَارِيِّ (806)، فَعَنْ أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه؛ أَنَّ النَّاسَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَومَ القِيَامَةِ؟ قَالَ: ((هَلْ تُمَارُونَ فِي القَمَرِ لَيلَةَ البَدْرِ لَيسَ دُونَهُ سَحَابٌ؟)) قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: ((فَهَلْ تُمَارُونَ فِي الشَّمْسِ لَيسَ دُونَهَا سَحَابٌ،

)). فَالتَّشْبِيهُ فِي الرُّؤْيَةِ فِيهِ ثَلَاثَةُ=

ص: 144

2 -

أَمَّا السُّنَّةُ، فَقَدْ دَلَّتْ عَلَيهِ بِأَنْوَاعِهَا القَولِيَّةِ وَالفِعْلِيَّةِ وَالإِقْرَارِيَّةِ، وَفِي أَحَادِيثَ كَثِيرْةٍ تَبْلُغُ حَدَّ التَّوَاتُرِ، وَعَلَى وُجُوهٍ مُتَنَوِّعَةٍ:

أ- قَولِيَّةٍ: كَقَولِهِ صلى الله عليه وسلم فِي سُجُودِهِ: ((سُبْحَانَ رَبِّيَ الأَعْلَى))

(1)

، وَقَولِهِ:((لَمَّا قَضَى اللهُ الخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابِهِ؛ فَهُوَ عِنْدَهُ فَوقَ العَرْشِ: إِنَّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ غَضَبِي))

(2)

، وَقَولِهِ:((أَلَا تَأْمَنُونِي وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ))

(3)

.

ب- فِعْلِيَّةٍ: أَنَّهُ رَفَعَ يَدَهُ إِلَى السَّمَاءِ وَهُوَ يَخْطُبُ النَّاسَ يَومَ عَرَفَة حِينَ قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيتَ وَنَصَحْتَ. فَقَالَ: ((اللَّهُمَّ اشْهَدْ))

(4)

.

ج- إِقْرَارِيَّةٍ: أَنَّهُ قَالَ لِلجَارِيَةِ: ((أَينَ اللهُ؟)) قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ. فَأَقَرَّهَا، وَقَالَ لِسَيِّدِهَا:((اعْتِقْهَا؛ فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ))

(5)

(6)

.

=

جَوَانِبَ هِيَ: الوُضُوحُ لِلرَّائِي (لَيسَ دُونَهَا سَحَابٌ)، العُلُوُّ لِلمَرْئِيِّ (عُلُوُّ الشَّمْسِ وَالقَمَرِ)، النَّظَرُ إِلَى العُلُوِّ (النَّظَرُ إِلَى السَّمَاءِ).

(1)

مُسْلِمٌ (772) عَنْ حُذَيفَةَ مَرْفُوعًا.

(2)

رَوَاهُ البُخَارِيُّ (7404)، وَمُسْلِمٌ (2751) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا.

(3)

رَوَاهُ البُخَارِيُّ (4351)، وَمُسْلِمٌ (1064) عَنْ أَبِي سَعِيد الخُدْرِيِّ مَرْفُوعًا.

(4)

مُسْلِمٌ (1218) عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا.

(5)

مُسْلِمٌ (571) عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الحَكَمِ السُّلَميِّ مَرْفُوعًا.

(6)

وَهُوَ سُؤَالُ امْتِحَانٍ لِلإِيمَانِ.

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ الرِّسَالَةُ (ص 75): "فَلَو آمَنَ عَبْدٌ بِهِ وَلَمْ يُؤْمِنْ بَرَسُولِهِ لَمْ يَقَعْ عَلَيهِ اسْمُ كَمَالِ الإِيمَانِ أَبَدًا حَتَّى يُؤْمِنَ بِرَسُولِهِ مَعَهُ، وَهَكَذَا سَنَّ رَسُولُهُ فِي كُلِّ مَنْ امْتَحَنَهُ لِلإِيمَانِ.

أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ هِلَالِ بْنِ أُسَامَةَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الحَكَمِ قَالَ: أَتَيتُ رَسُولَ اللهِ بِجَارِيَةٍ؛ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ: عَلَيَّ رَقَبَةٌ أَفَأُعْتِقُها؟ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ: ((أَينَ اللهُ؟)) فَقَالَتْ: فِي السَّمَاءِ. فَقَالَ: ((وَمَنْ أَنَا؟)) قَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللهِ. قَالَ: ((فَأَعْتِقْهَا)) ".

ص: 145

3 -

أَمَّا العَقْلُ: فَقَدْ دَلَّ عَلَى وُجُوبِ صِفَةِ الكَمَالِ للهِ تَعَالَى وَتَنْزِيهِهِ عَنِ النَّقْصِ، وَالعُلُوُّ صِفَةُ كَمَالٍ، وَالسُّفْلُ نَقْصٌ، فَوَجَبَ للهِ تَعَالَى صِفَةُ العُلُوِّ وَتَنْزِيهُهُ عَنْ ضِدِّهَا

(1)

.

4 -

أَمَّا الفِطْرَةُ: فَقَدْ دَلَّتْ عَلَى عُلُوِّ اللهِ تَعَالَى دِلَالَةً ضَرُورِيَّةً فِطْرِيَّةً؛ فَمَا مِنْ دَاعٍ أَو خَائِفٍ فَزِعَ إِلَى ربِّه تَعَالَى إِلَّا وَجَدَ فِي قَلْبِهِ ضَرُورَةَ الاتِّجَاهِ نَحْوَ العُلُوِّ لَا يَلْتَفِتُ عَنْ ذَلِكَ يَمْنَةً وَلَا يَسْرَةً.

وَاسْأَلِ المُصَلِّينَ؛ يَقُولُ الوَاحِدُ مِنْهُم فِي سُجُودِهِ: ((سُبْحَانَ رَبِّيَ الأَعْلَى)) فَاُنْظُرْ أَينَ تَتَّجِهُ قُلُوبُهُم حِينَذَاكَ؟

(2)

(3)

(1)

وَتَأَمَّلِ السُّفْلَ وَالأَسْفَلَ فِي النُّصُوصِ القُرْآنيِّةِ لِتَرَى بُرْهَانَ ذَلِكَ.

(2)

قَالَ الحَافِظُ الذَّهَبِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ سِيَرُ أَعْلَامِ النُّبَلَاءِ (18/ 474) -عِنْدَ تَرْجَمَةِ إِمَامِ الحَرَمَينِ أَبِي المَعَالِي الجُوَينِيِّ-: "قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ طَاهِرٍ: حَضَرَ المُحَدِّثُ أَبُو جَعْفَرٍ الهَمَذَانِيُّ فِي مَجْلِسَ وَعْظِ أَبِي المَعَالِي، فَقَالَ: كَانَ اللهُ وَلَا عَرْشَ، وَهُوَ الآنَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيهِ. فَقَالَ أَبُو جَعْفَر: أَخْبِرْنَا يَا أَسْتَاذُ عَنْ هَذِهِ الضَّرُورَةِ الَّتِي نَجِدُهَا، مَا قَالَ عَارِفٌ قَطُّ: يَا اللهُ! إِلَّا وَجَدَ مِنْ قَلْبِهِ ضَرُورَةً تَطْلُبُ العُلُوَّ! وَلَا يَلتَفِتُ يَمْنَةً وَلَا يَسْرَةً! فَكَيفَ نَدْفَعُ هَذِهِ الضَّرُورَةَ عَنْ أَنْفُسنَا؟ -أَو قَالَ: فَهَلْ عِنْدَكَ دَوَاءٌ لِدَفْعِ هَذِهِ الضَّرُورَةِ الَّتِي نَجدُهَا؟ - فَقَالَ: يَا حَبِيبِي! مَا ثَمَّ إِلَّا الحَيرَةَ، وَلَطَمَ عَلَى رَأْسِهِ، وَنَزَلَ، وَبَقِيَ وَقْتًا عَجِيب، وَقَالَ فِيمَا بَعْد: حَيَّرَنِي الهَمَذَانِيُّ".

قُلْتُ: وَأمَّا مَا نقَلَهُ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رحمه الله فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ (5/ 24) -عَنْ بَعْضِهِم عِنْدَ شَرْحِ حَدِيثِ الجَارِيَةِ- قَولَهُ: "لِأَنَّ السَّمَاءَ قِبْلَةُ الدَّاعِينَ، كَمَا أَنَّ الكَعْبَة قِبْلَةُ المُصَلِّينَ" مُرِيدًا بِذَلِكَ مُعَارَضَةَ الجَوَابِ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى فِي السَّمَاءِ! فَهُوَ كَلَامٌ هَزِيلٌ مَرْدُودٌ، وَهُزَالَهُ يَأْتِي مِنْ إِخْرَاجِ كَلَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ظَاهِرِهِ مَعَ أَنَّ المَقَامَ خَطِيرٌ جَلِيلٌ فِيهِ إِخْبَارٌ عَنِ الرَّبِّ تَعَالَى فِيمَا ظَاهِرُهُ كُفْرٌ عِنْدَهُم!! وَلَو تَسَامَحْنَا بِمِثْلِ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتَ فِي العَقِيدَةِ؛ فَمَاذَا يَسْلَمُ لَنَا مِنْ دِينِنَا؟ وَاللهُ المُوَفِّقُ وَهُوَ الهَادِي لِلصَّوَابِ.

(3)

وَفِي كِتَابِ التَّوحِيدِ مِنْ صَحِيحِ البُخَارِيِّ (9/ 126)؛ قَالَ رحمه الله: "بَابُ قَولِ اللهِ تَعَالَى: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيهِ} وَقَولِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ: {إِلَيهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ}، وَقَالَ أَبُو جَمْرَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: بَلَغَ أَبَا ذَرٍّ مَبْعَثُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لِأَخِيهِ: اعْلَمْ لِي عِلْمَ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ يَأْتِيهِ الخَبَرُ مِنَ السَّمَاءِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ} يَرْفَعُ الكَلِمَ الطَّيِّبَ، يُقَالُ: {ذِي الْمَعَارِجِ} المَلَائِكَةُ تَعْرُجُ إِلَى اللهِ".

قَالَ الشَّيخُ الغُنَيمَانُ حَفِظَهُ اللهُ فِي شَرْحِ كِتَابِ التَّوحِيدِ مِنْ صَحِيحِ البُخَارِيِّ (1/ 443): "وَمَقْصُودُهُ مِنْ ذَلِكَ بَيَانُ أَنَّ عُلُوَّ اللهِ تَعَالَى عَلَى خَلْقِهِ أَمْرٌ مَفْطُورٌ عَلَيهِ الخَلْقُ، وَمَعْلُومٌ بِالعَقْلِ، وَالوَحْيُ جَاءَ مُؤَيِّدًا لِذَلِكَ، وَمُوَضِّحًا لَهُ".

قُلْتُ: وَكَانَ مِنْ أَيمَانِ العَرَبِ قَولُهُم: "لَا وَالَّذِي يَرَانِي مِنْ فَوقِ سَبْعَةِ أَرْقِعَةٍ". أَفَادَهُ الشَّيخُ الغُنَيمَانُ حَفِظَهُ اللهُ فِي شَرْحِ كِتَابِ التَّوحِيدِ مِنْ صَحِيحِ البُخَارِيِّ (1/ 463)، وَعَزَاهُ هُنَاكَ إِلَى كِتَابِ (أَيمَانُ العَرَبِ)(ص 15) لِلنُّجِيرَمِيِّ.

ص: 146

5 -

أَمَّا الإِجْمَاعُ: فَقَدْ أَجْمَعَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَالأَئِمَّةُ عَلَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى فَوقَ سَمَاوَاتِهِ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ، وَكَلَامُهُم مَشْهُورٌ فِي ذَلِكَ نَصًّا وَظَاهِرًا، قَالَ الأَوزَاعِيُّ:"كُنَّا وَالتَّابِعُونَ مُتَوَافِرُونُ نَقُولُ: إِنَّ اللهَ عَلَى عَرْشِهِ، وَنُؤْمِنُ بِمَا وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ مِنْ صِفَاتِهِ"

(1)

(2)

.

(1)

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله فِي الفَتْحِ (13/ 406): "أَخْرَجَهُ البَيهَقِيُّ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ".

(2)

قُلْتُ: وَلَو رُحْتَ تَسْأَلُ اليَومَ بَعْضَ الأَشَاعِرَةِ وَأَمْثَالَهُم: أَينَ اللهُ؟ فَلَعَلَّكَ لَا تَجِدُ عِنْدَهُم جَوَابًا!

وَبَعْضُهُم يُنْكِرُ هَذَا السُّؤَالَ أَصْلًا!

وَبَعْضُهُم يَقُولُ: نُؤْمِنُ بِأَنَّهُ مَوجُودٌ وَيَكْفِينَا!

وَبَعْضُهُم -وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ مِنْ أَمْثَلِهِم طَرِيقَةً- يَقُولُ: "اللهُ لَا فَوقَ وَلَا تَحْتَ، وَلَا يَمِينَ وَلَا يَسَارَ، وَلَا أَمَامَ وَلَا خَلَفَ، وَلَا دَاخِلَ العَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ"! كَذَا فِي حَاشِيَةِ البَيجُورِيّ عَلَى (الجَوهَرَةِ) صَفْحَة (58). وَيُنْظَرُ مُقَدِّمَةُ الشَّيخِ الأَلْبَانِيِّ رحمه الله عَلَى مُخْتَصَرِ العُلُوِّ (ص 54).

ص: 147

-‌

‌ حُكْمُ مُنْكِرِ الصِّفَاتِ:

يَجِبُ قَبْلَ الحُكْمِ عَلَى المُسْلِمِ بِكُفْرٍ أَو فِسْقٍ أَنْ يُنْظَرَ فِي أَمْرَينِ:

1 -

دِلَالَةِ الكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ هَذَا القَولَ أَوِ الفِعْلَ مُوجِبٌ لِلكُفْرِ أَوِ الفِسْقِ.

2 -

انْطِبَاقِ هَذَا الحُكْمِ عَلَى القَائِلِ المُعَيَّنِ أَوِ الفَاعِلِ المُعَيَّنِ؛ بِحَيثُ تَتِمُ شُرُوطُ التَّكْفِيرِ أَوِ التَّفْسِيقِ فِي حَقِّهِ وَتَنْتَفِي المَوَانِعُ.

وَمِنْ أَهَمِّ الشُّرُوطِ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِمُخَالَفَتِهِ الَّتِي أَوجَبَتْ أَنْ يَكُونَ كَافِرًا أَو فَاسِقًا؛ وَذَلِكَ لِقَولِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النِّسَاء: 115]، وَقَولِهِ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ [التَّوبَة: 115].

وَلِهَذَا قَالَ أَهْلُ العِلْمِ: لَا يَكْفُرُ جَاحِدُ الفَرَائِضِ إِذَا كَانَ حَدِيثَ عَهْدٍ بِإِسْلَامٍ حَتَّى يُبَيَّنَ لَهُ.

وَمِنَ المَوَانِعِ أَنْ يَقَعَ مَا يُوجِبُ الكُفْرَ أَوِ الفِسْقَ بِغَيرِ إِرَادَةٍ مِنْهُ، وَلِذَلِكَ صُوَرٌ:

مِنْهَا: أَنْ يُكْرَهَ عَلَى ذَلِكَ؛ فَيَفْعَلَهُ لِدَاعِي الإِكْرَاهِ لَا اطْمِئْنَانًا بِهِ، فَلَا يَكْفُرُ حِينَئِذٍ؛ لِقَولِهِ تَعَالَى:{مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النَّحْل: 106].

وَمِنْهَا: أَنْ يُغْلَقَ عَلَيهِ فِكْرُهُ؛ فَلَا يَدْرِي مَا يَقُولُ لِشِدَّةِ فَرَحٍ أَو حُزْنٍ أَو خَوفٍ أَو

ص: 148

نَحْوِ ذَلِكَ، كَالحَدِيثِ الَّذِي فِيهِ قَولُ الرَّجُلِ:((اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ))! رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(1)

.

قَالَ شَيخُ الإِسْلَامِ رحمه الله فِي مَجْمُوعِ الفَتَاوَى

(2)

: "هَذَا مَعَ أَنِّي دَائِمًا -وَمَنْ جَالَسَنِي يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنِّي- أَنِّي مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ نَهْيًا عَنْ أَنْ يُنْسَبَ مُعَيَّنٌ إلَى تَكْفِيرٍ وَتَفْسِيقٍ وَمَعْصِيَةٍ؛ إِلَّا إذَا عُلِمَ أَنَّهُ قَدْ قَامَتْ عَلَيهِ الحُجَّةُ الرِّسَالِيَّةُ الَّتِي مَنْ خَالَفَهَا كَانَ كَافِرًا تَارَةً وَفَاسِقًا أُخْرَى وَعَاصِيًا أُخْرَى. وَإِنِّي أُقَرِّرُ أَنَّ اللهَ قَدْ غَفَرَ لِهَذِهِ الأُمَّةِ خَطَأَهَا، وَذَلِكَ يَعُمُّ الخَطَأَ فِي المَسَائِلِ الخَبَرِيَّةِ القَولِيَّةِ

(3)

وَالمَسَائِلِ العَمَلِيَّةِ، وَمَا زَالَ السَّلَفُ يَتَنَازَعُونَ فِي كَثِيرٍ مِنْ هَذِهِ المَسَائِلِ وَلَمْ يَشْهَدْ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى أَحَدٍ لَا بِكُفْرِ وَلَا بِفِسْقِ وَلَا مَعْصِيَةٍ".

وَقَالَ أَيضًا رحمه الله: "وَكُنْت أُبَيِّنُ لَهُمْ أَن َّمَا نُقِلَ لَهُمْ عَنِ السَّلَفِ وَالأَئِمَّةِ مِنْ إطْلَاقِ القَولِ بِتَكْفِيرِ مَنْ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا؛ فَهُوَ أَيضًا حَقٌّ، لَكِنْ يَجِبُ التَّفْرِيقُ بَينَ الإِطْلَاقِ وَالتَّعْيِينِ.

وَهَذِهِ أَوَّلُ مَسْأَلَةٍ تَنَازَعَتْ فِيهَا الأُمَّةُ مِنْ مَسَائِلِ الأُصُولِ الكِبَارِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ

(1)

وَالحَدِيثُ بِتَمَامِهِ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: ((لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيهِ مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلَاةٍ، فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ -وَعَلَيهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ- فَأَيِسَ مِنْهَا، فَأَتَى شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ، فَبَينَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا قَائِمَةً عِنْدَهُ، فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا، ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الفَرَحِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ! أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الفَرَحِ)). صَحِيحُ مُسْلِمٍ (2747).

(2)

مَجْمُوعُ الفَتَاوَى (3/ 229).

(3)

أَي: الاعْتِقَادِيَّة.

ص: 149

الوَعِيدِ؛ فَإِنَّ نُصُوصَ القُرْآنِ فِي الوَعِيدِ مُطْلَقَةٌ كَقَولِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} الآيَةَ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا وَرَدَ:(مَنْ فَعَلَ كَذَا فَلَهُ كَذَا)؛ فَإِنَّ هَذِهِ مُطْلَقَةٌ عَامَّةٌ، وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ قَولِ مَنْ قَالَ مِنَ السَّلَفِ:(مَنْ قَالَ كَذَا؛ فَهُوَ كَذَا)، ثُمَّ الشَّخْصُ المُعَيَّنُ يَلْتَغِي حُكْمُ الوَعِيدِ فِيهِ بِتَوبَةٍ أَو حَسَنَاتٍ مَاحِيَةٍ أَو مَصَائِبَ مُكَفِّرَةٍ أَو شَفَاعَةٍ مَقْبُولَةٍ، وَالتَّكْفِيرُ هُوَ مِنَ الوَعِيدِ، فَإِنَّهُ -وَإِنْ كَانَ القَولُ تَكْذِيبًا لِمَا قَالَهُ الرَّسُولُ- لَكِنْ قَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ حَدِيثَ عَهْدٍ بِإِسْلَامِ أَو نَشَأَ بِبَادِيَةِ بَعِيدَةٍ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَكْفُرُ بِجَحْدِ مَا يَجْحَدُهُ حَتَّى تَقُومَ عَلَيهِ الحُجَّةُ، وَقَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ لَا يَسْمَعُ تِلْكَ النُّصُوصَ، أَو سَمِعَهَا وَلَمْ تَثْبُتْ عِنْدَهُ، أَو عَارَضَهَا عِنْدَهُ مُعَارِضٌ آخَرُ أَوجَبَ تَأْوِيلَهَا -وَإِنْ كَانَ مُخْطِئًا-، وَكُنْت دَائِمًا أَذْكُرُ الحَدِيثَ الَّذِي فِي الصَّحِيحَينِ فِي الرَّجُلِ الَّذِي قَالَ:((إذَا أَنَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِي، ثُمَّ اسْحَقُونِي، ثُمَّ ذَرُّونِي فِي اليَمِّ؛ فَوَاللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ اللهُ عَلَيَّ لَيُعَذِّبَنِي عَذَابًا مَا عَذَّبَهُ أَحَدًا مِنَ العَالَمِينَ. فَفَعَلُوا بِهِ ذَلِكَ، فَقَالَ اللهُ لَهُ: مَا حَمَلَك عَلَى مَا فَعَلْتَ؟ قَالَ: خَشْيَتُكَ. فَغَفَرَ لَهُ)). فَهَذَا رَجُلٌ شَكَّ فِي قُدْرَةِ اللهِ وَفِي إعَادَتِهِ إذَا ذُرِّيَ، بَلْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ لَا يُعَادُ! وَهَذَا كُفْرٌ بِاتِّفَاقِ المُسْلِمِينَ، لَكِنْ كَانَ جَاهِلًا لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ، وَكَانَ مُؤْمِنًا يَخَافُ اللهَ أَنْ يُعَاقِبَهُ، فَغَفَرَ لَهُ بِذَلِكَ.

وَالمُتَأَوِّلُ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ؛ الحَرِيصُ عَلَى مُتَابَعَةِ الرَّسُولِ أَولَى بِالمَغْفِرَةِ مِنْ مِثْلِ هَذَا".

وَبِهَذَا عُلِمَ الفَرْقُ بَينَ القَولِ وَالقَائِلِ، وَبَينَ الفِعْلِ وَالفَاعِلِ، فَلَيسَ كُلُّ قَولٍ أَو فِعْلٍ -يَكُون فِسْقًا أَو كُفْرًا يُحْكَمُ عَلَى قَائِلِهِ أَو فَاعِلِهِ بِذَلِكَ، لَكِنْ مَنِ انْتَسَبَ إِلَى غَيرِ الإِسْلَامِ أُعْطِيَ أَحْكَامَ الكُفَّارِ فِي الدُّنْيَا، ومَنْ تَبَيَّنَ لَهُ الحَقُّ فَأَصَرَّ عَلَى مُخَالَفَتِهِ تَبَعًا

ص: 150

لِاعْتِقَادٍ كَانَ يَعْتَقِدُهُ أَو مَتْبُوعٍ كَانَ يُعَظِّمُهُ أَو دُنْيَا كَانَ يُؤْثِرُهَا؛ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ مَا تَقْتَضِيهِ تِلْكَ المُخَالَفَةُ مِنْ كُفْرٍ أَو فُسُوقٍ

(1)

(2)

.

(1)

قَالَ الحَافِظُ الذَّهَبِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ سِيَرُ أَعْلَامِ النُّبَلَاءِ (14/ 374): "قَالَ أَبُو الوَلِيدِ؛ حَسَّانُ بْنُ مُحَمَّدٍ الفَقِيهُ: سَمِعْتُ ابْنَ خُزَيمَةَ يَقُولُ: القُرْآنُ كَلَامُ اللهِ تَعَالَى، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ مَخْلُوقٌ! فَهُوَ كَافِرٌ؛ يُسْتَتَابُ؛ فَإِنْ تَابَ وَإِلاَّ قُتِلَ، وَلَا يُدفَنُ فِي مَقَابِرِ المُسْلِمِينَ. وَلابْنِ خُزَيمَةَ عَظَمَةٌ فِي النُّفُوسِ، وَجَلَالَةٌ فِي القُلُوبِ لِعِلْمِهِ وَدِينِهِ وَاتِّبَاعِهِ السُّنَّةَ، وَكِتَابُهُ فِي (التَّوحِيدِ) مُجَلَّدٌ كَبِيرٌ، وَقَدْ تَأَوَّلَ فِي ذَلِكَ حَدِيثَ الصُّورَةِ، فَلْيَعْذُرْ مَنْ تَأَوَّلَ بَعْضَ الصِّفَاتِ، وَأَمَّا السَّلَفُ فَمَا خَاضُوا فِي التَّأْوِيلِ، بَلْ آمَنُوا وَكَفُّوا، وَفَوَّضُوا عِلْمَ ذَلِكَ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ. وَلَو أَنَّ كُلَّ مَنْ أَخْطَأَ فِي اجْتِهَادِهِ -مَعَ صِحَّةِ إِيمَانِهِ وَتَوَخِّيهِ لِاتِّبَاعِ الحَقِّ- أَهْدَرْنَاهُ وَبَدَّعنَاهُ! لَقَلَّ مَنْ يَسْلَمُ مِنَ الأَئِمَّةِ مَعَنَا، رَحِمَ اللهُ الجَمِيعَ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ".

قُلْتُ: وَمَقْصُودُهُ أَنَّ ابْنَ خُزَيمَةَ نَفْسَهُ هُوَ أَيضًا تَأَوَّلَ بَعْضَ الصِّفَاتِ؛ لِذَلِكَ فَلْيَعْذُرْ غَيرَهُ أَيضًا.

(2)

وَلِتَمَامِ الفَائِدَةِ انْظُرْ مَسْأَلَةَ (شُرُوطِ التَّكْفِيرِ) فِي شَرْحِ بَابِ (مَنْ أَطَاعَ العُلَمَاءَ وَالأُمَرَاءَ فِي تَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ اللهُ أَو تَحْلِيلِ مَا حَرَّمَ اللهُ؛ فَقَدْ اتَّخَذَهُمْ أَرْبَابًا مَنْ دُونِ اللهِ).

ص: 151

بَابُ قَولِ اللهِ تَعَالَى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ} [النَّحْل: 107].

قَالَ مُجَاهِدٌ مَا مَعْنَاهُ: هُوَ قَولُ الرَّجُلِ: هَذَا مَالِي، وَرِثْتُهُ عَنْ آبَائِي.

وَقَالَ عَونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ: يَقُولُونَ: لَولَا فُلَانٌ لَمْ يَكُنْ كَذَا

(1)

.

وَقَالَ ابْنُ قُتَيبَةَ: يَقُولُونَ: هَذَا بِشَفَاعَةِ آلِهَتِنَا

(2)

.

وَقَالَ أَبُو العَبَّاسِ -بَعْدَ حَدِيثِ زَيدِ بْنِ خَالِدٍ الَّذِي فِيهِ: ((وَأَنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ: أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ)) - الحَدِيثَ وَقَدْ تَقَدَّمَ: "وَهَذَا كَثِيرٌ فِي الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ يَذُمُّ سُبْحَانَهُ مَنْ يُضِيفُ إِنْعَامَهُ إِلَى غَيرِهِ وَيُشْرِكُ بِهِ. قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: هُوَ كَقَولِهِمْ: كَانَتِ الرِّيحُ طَيِّبَةً، وَالمَلَّاحُ حَاذِقًا، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ جَارٍ عَلَى أَلْسِنَةٍ كَثِيرَةٍ"

(3)

.

(1)

رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (17/ 273) بِنَحْوِهِ.

(2)

رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (17/ 273) بِنَحْوِهِ.

(3)

مَجْمُوعُ الفَتَاوَى (8/ 33).

ص: 152

فِيهِ مَسَائِلُ:

الأُولَى: تَفْسِيرُ مَعْرِفَةِ النِّعْمَةِ وَإِنْكَارِهَا.

الثَّانِيَةُ: مَعْرِفَةُ أَنَّ هَذَا جَارٍ عَلَى أَلْسِنَةٍ كَثِيرَةٍ.

الثَّالِثَةُ: تَسْمِيَةُ هَذَا الكَلَامِ إِنْكَارًا لِلنِّعْمَةِ.

الرَّابِعَةُ: اجْتِمَاعُ الضِّدَّينِ فِي القَلْبِ.

ص: 153

‌الشَّرْحُ

- هَذَا البَابُ ذَكَرَهُ الشَّيخُ رحمه الله بَعْدَ بَابِ (مَنْ جَحَدَ شَيئًا مِنَ الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ) لِأَنَّه مِنْ جِنْسِهِ، فَفِيهِ تَنَقُّصٌ لِلرُّبُوبِيَّةِ، فَالَّذِي يَجْحَدُ الأَسْمَاءَ وَالصِّفَاتِ قَدْ تَنَقَّصَ الرُّبُوبِيَّةَ، وَكَذَلِكَ الَّذِي يُضُيفُ النِّعَمَ إِلَى غَيرِ اللهِ سبحانه وتعالى فَقَدْ تَنَقَّصَ الرُّبُوبِيَّةَ.

- هَذِهِ الآيَةُ هِيَ مِنْ سُورَةِ النَّحْلِ الَّتِي تُسَمَّى سُورَةَ النِّعَمِ، لِأَنَّ اللهَ سبحانه وتعالى عَدَّدَ فِيهَا كَثِيرًا مِنْ نِعَمِهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَقَالَ فِيهَا:{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النَّحْل: 18].

- قَولُهُ تَعَالَى: {يَعْرِفُونَ} أَي: يُدْرِكُونَ بِحَوَاسِّهِم أَنَّ النِّعْمَةَ مِنْ عِنْدِ اللهِ.

- قَولُهُ: {نِعْمَتَ اللَّهِ} مُفْرَدَةٌ مُضَافَةٌ؛ وَالمُرَادُ بِهَا الجَمْعُ، وَالقَاعِدَةُ اللُّغَوِيَّةُ: أَنَّ المُفْرَدَ المُضَافَ يَعُمُّ.

- قَولُهُ: {ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا} أَي: يُنْكِرونَ إِضَافَتَهَا إِلَى اللهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُم يُضِيفُونَهَا إِلَى السَّبَبِ غَافِلِينَ عَنِ المُسَبِّبِ الَّذِي هُوَ اللهُ سُبْحَانَهُ، وَلَيسَ المَعْنَى أنَّهُم يُنْكِرُونَ هَذِهِ النِّعْمَةَ؛ مِثَلَ أَنْ يَقُولُوا: مَا جَاءَنَا مَطَرٌ أَو وَلَدٌ أَو صِحَّةٌ! وَلَكِنْ يُنْكِرُونَهَا بِإضَافَتِهَا إِلَى غَيرِ اللهِ تَعَالَى غَافِلِينَ عَنِ الَّذِي خَلَقَ السَّبَبَ فَوُجِدَتْ بِهِ النِّعْمَةُ

(1)

.

- فِي هَذِهِ الآيَةِ بَيَانُ أَنَّ إِضَافَةَ النِّعَمِ إِلَى غَيرِ اللهِ نَقْصٌ فِي كَمَالِ التَّوحِيدِ، وَنَوعُ شِرْكٍ بِاللهِ جَلَّ وَعَلَا، وَالآيَةُ الكَرِيمَةُ -وَإِنْ كَانَ الرَّاجِحُ أَنَّ المَقْصُودَ بِالنِّعْمَةِ فِيهَا هُوَ بَعْثَةُ الرَّسُولِ الكَرِيمِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم

(2)

- فَعُمُومُهَا صَحِيحٌ، وَيَصِحُّ القَولُ بِأَنَّ إِنْكَارَ

(1)

وَهِيَ كَقَولِهِ تَعَالَى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} فِي نِسْبَةِ المَطَرِ إِلَى الأَنْوَاءِ.

(2)

قَالَ الطَبَرِيُّ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (17/ 273): "وَأَولَى الأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ وَأَشْبَهُهَا بِتَأْوِيلِ الآيَةِ قَولُ مَنْ قَالَ: عُنِيَ بالنِّعْمَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللهُ فِي قَولِهِ: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ} النِّعْمَةَ عَلَيهِم بِإِرْسَالِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم إِلَيهِم دَاعِيًا إِلَى مَا بَعَثَهُ بِدُعَائِهِم إِلَيهِ، وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ بَينَ آيَتَينِ كِلْتَاهُمَا خَبَرٌ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَعَمَّا بُعِثَ بِهِ".

ص: 154

النِّعَمِ هُوَ مِنْ أَفْعَالِ المُشْرِكِينَ، وَقَدْ سُمِّيَ كُفْرًا كَمَا سَبَقَ فِي بَابِ (مَا جَاءَ فِي الاسْتِسْقَاءِ بالأَنْوَاءِ)، والقَاعِدَةُ المَشْهُورَةُ فِي التَّفْسِيرِ تَقُولُ:(العِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ).

- مَنْ أَضَافَ نِعْمَةَ الخَالِقِ إِلَى غَيرِهِ؛ فَقَدْ جَعَلَ مَعَهُ شَرِيكًا فِي الرُّبُوبِيَّةِ وَالأُلُوهِيَّةِ:

1 -

فَإِضَافَتُهَا إِلَى السَّبَبِ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلٌ؛ هَذَا إِخْلَالٌ بِتَوحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ.

2 -

تَرْكُ القِيَامِ بِالشُّكْرِ -الَّذِي هُوَ العِبَادَةُ- هُوَ إِخْلَالٌ بِتَوحِيدِ الأُلُوهِيَّةِ.

- قَولُهُ: (هَذَا مَالِي وَرِثْتُهُ عَنْ آبَائِي)، وقَولُهُ:(يَقُولُونَ: لَولَا فُلَانٌ لَمْ يَكُنْ كَذَا)؛ ظَاهِرُ هَذِهِ الكَلِمَةِ أَنَّهُ لَا شَيءَ فِيهَا، وَلِكْن لَمَّا كَانَتْ هَذِهِ النِّسْبَةُ فِي مَعْرِضِ الكَلَامِ عَنِ المُنْعِمِ كَانَ ذَلِكَ مِنَ المَحْذُورِ، أَمَّا لَو كَانَ ذَلِكَ فِي سِيَاقِ بَيَانِ السَّبَبِ -دُونَ الغَفْلَةِ عَنِ اللهِ تَعَالَى- لَكَانَ جَائِزًا، لِأَنَّه خَبَرٌ مَحْضٌ.

وَدَلَّتْ لِذَلِكَ بَعْضُ نُصُوصِ السُّنَّةِ الشَّرِيفَةِ مِثْلُ قَولِهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ: ((وَلَولَا أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ))

(1)

، فَتَبَيَّنَ أَنَّ هُنَاكَ فَرْقًا بَينَ إِضَافَةِ النِّعْمَةِ إِلَى الإِنْسَانِ عَلَى سَبِيلِ الخَبَرِ، وَبَينَ إِضَافَتِهِ إِلَى سَبَبِهِ مُتَنَاسِيًا المُسَبِّبَ وَهُوَ اللهُ عز وجل لَاسِيَّمَا مَا كَانَ عَلَى وَجْهِ ذِكْرِ النِّعْمَةِ.

- وَأَمَّا قَولُهُم: (هَذَا بِشَفَاعَةِ آلِهَتِنَا) فَفِيهِ الشِّرْكُ الأَكْبَرُ؛ مُضَافٌ إِلِيهِ كُفْرُ النِّعْمَةِ.

(1)

البُخَاريُّ (3883) عَنِ العَبَّاسِ مَرْفُوعًا.

ص: 155

- أَقْوَالُ المُفَسِّرِينَ السَّابِقَةُ مُخْتَلِفَةٌ عَنْ بَعْضِهَا مِنْ جِهَةِ التَّنَوِّعِ وَلَيسَ مِنْ جِهَةِ اخْتِلَافِ التَّضَادِّ، لِأَنَّ الآيَةَ تَحْتَمِلُ عِدَّةَ مَعَانٍ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ المُفَسِّرينَ يَأْخُذُ مَعْنًى مِنْ هَذِهِ المَعَانِي؛ فَإِذَا جَمَعْتَهَا وَجَدْتَّ أَنَّ الآيَةَ تَتَضَمَّنُ هَذِهِ المَعَانِي الَّتِي قَالُوهَا جَمِيعًا.

- المَلَّاحُ: هُوَ قَائِدُ السَّفِينَةِ، وَسُمِّيَ مَلَّاحًا لِمُلَازَمَتِهِ لِلمَاءِ المِلْحِ، لِأَنَّ مَاءَ البَحْرِ مَالِحٌ، وَأمَّا الحَاذِقُ: فَهُوَ الَّذِي يُجِيدُ المِهْنَةَ.

- أَرْكَاُنُ الشُّكْرِ:

1 -

الاعْتِرَافُ بِالنِّعْمَةِ.

2 -

نِسْبَتُهَا إِلَى المُنْعِمِ، وَذَلِكَ بِالتَّحَدُّثِ بِهَا ظَاهِرًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضُّحَى: 11].

3 -

صَرْفُهَا فِي طَاعَتِهِ تَعَالَى

(1)

.

(1)

قَالَ الإِمَامُ ابْنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: "وَأَصْلُ الشُّكْرِ فِي وَضْعِ اللِّسَانِ: ظُهُورُ أَثَرِ الغِذَاءِ فِي أَبْدَانِ الحَيَوَانِ ظُهُورًا بَيِّنًا. يُقَالُ: شَكِرَتِ الدَّابَّةُ؛ تَشْكَرُ شِكَرًا -عَلَى وَزْنِ سَمِنَتْ تَسْمَنُ سِمَنًا- إِذَا ظَهَرَ عَلَيهَا أَثَرُ العَلَفِ، وَدَابَّةٌ شَكُورٌ: إِذَا ظَهَرَ عَلَيهَا مِنَ السِّمَنِ فَوقَ مَا تَأْكُلُ وَتُعْطَى مِنَ العَلَفِ.

وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: ((حَتَّى إِنَّ الدَّوَابَّ لَتَشْكَرُ مِنْ لُحُومِهِمْ))، أَي: لَتَسْمَنُ مِنْ كَثْرَةِ مَا تَأْكُلُ مِنْهَا. وَكَذَلِكَ حَقِيقَتُهُ فِي العُبُودِيَّةِ: وَهُوَ ظُهُورُ أَثَرِ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى لِسَانِ عَبْدِهِ ثَنَاءً وَاعْتِرَافًا، وَعَلَى قَلْبِهِ شُهُودًا وَمَحَبَّةً، وَعَلَى جَوَارِحِهِ انْقِيَادًا وَطَاعَةً.

وَالشُّكْرُ مَبْنِيٌ عَلَى خَمْسِ قَوَاعِدَ: خُضُوعُ الشَّاكِرِ لِلْمَشْكُورِ، وَحُبُّهُ لَهُ، وَاعْتِرَافُهُ بِنِعْمَتِهِ، وَثَنَاؤُهُ عَلَيهِ بِهَا، وَأَنْ لَا يَسْتَعْمِلَهَا فِيمَا يَكْرَهُ". مَدَارِجُ السَّالِكِينَ (2/ 234).

قُلْتُ: وَالحَدِيثُ المَذْكُورُ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ (3153)، وَلَمْ أَجِدْ لَفْظَهُ فِي مُسْلِمٍ -إِلَّا أنْ يَكُونَ المَقْصُودَ أَصْلُهُ-، وَأَخْرَجَهُ الحَاكِمُ فِي المُسْتَدْرَكِ (8501) وَقَالَ:"هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيخَينِ، وَلَمْ يُخْرِجَاهُ".

وَالحَدِيثُ المَذْكُورُ هُوَ فِي حَقِّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ عِنْدَ مَوتِهِم؛ حَيثُ تَأْكُلُ دَوَابُّ الأَرْضِ مِنْ جُثَثِهِم.

ص: 156

- إنَّ نِسْبَةَ النِّعْمَةِ إِلَى غَيرِ اللهِ تَعَالَى -لَفْظًا- لَهُ أَحْوَالٌ ثَلَاثَةٌ:

1 -

أَنْ يَكُونَ السَّبَبُ خَفِيًّا لَا تَأْثِيرَ لَهُ إِطْلَاقًا، كَأنْ يَقُولَ: لَولَا الوَلِيُّ الفُلَانيُّ -المَيِّتُ أَوِ الغَائِبُ- مَا حَصَلَ كَذَا وَكَذَا! فَهَذَا شِرْكٌ أَكْبَرُ؛ لِأَنَّه بِهَذَا القَولِ يَعْتَقِدُ أَنَّ لِهَذَا الوَلِيِّ تَصَرُّفًا فِي الكَونِ مَعَ أَنَّهُ مَيِّتٌ أَو غَائِبٌ، فَهُوَ تَصَرُّفٌ خَفِيٌّ.

2 -

أَنْ يُضِيفَهُ إِلَى سَبَبٍ ظَاهِرٍ؛ لَكِن لَمْ يَثْبُتْ كَونُهُ سَبَبًا لَا شَرْعًا وَلَا حِسًّا؛ فَهَذَا نَوعٌ مِنَ الشِّرْكِ الأَصْغَرِ

(1)

.

3 -

أَنْ يُضِيفَهُ إِلَى سَبَبٍ صَحِيحٍ ثَابِتٍ شَرْعًا أَو حِسًّا؛ فَهَذَا جَائِزٌ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَعْتَقِدَ أَنَّ السَّبَبَ مُؤَثِرٌ بِنَفْسِهِ، وَأَنْ لَا يَتَنَاسَى المُنْعِمَ بِذلِكَ.

- فِي بَيَانِ قُبْحِ وبُطْلَانِ مَنْ أَضَافَ النِّعْمَةَ إِلَى السَّبَبِ دُونَ الخَالِقِ:

1 -

أَنَّ الخَالِقَ لِهَذهِ الأَسْبَابِ هُوَ اللهُ تَعَالَى؛ فَكَانَ الوَاجِبُ أَنْ يُشْكَرَ وتُضَافَ النِّعْمَةُ إِلَيهِ.

2 -

أَنَّ السَّبَبَ قَدْ لَا يُؤَثِّرُ! كَمَا فِي الحَدِيثِ: ((لَيسَتِ السَّنَةُ بِأَنْ لَا تُمْطَرُوا، وَلَكِنَّ السَّنَةَ أَنْ تُمْطَرُوا وَتُمْطَرُوا وَلَا تُنْبِتُ الأَرْضُ شَيئًا))

(2)

.

3 -

أَنَّ السَّبَبَ قَدْ يَكُونُ لَهُ مَانِعٌ يَمْنَعُ مِنْ تَأْثِيرِهِ

(3)

.

(1)

وَذَلِكَ مِثْلُ التَّمَائِمِ وَالقَلَائِدِ الَّتِي يُقَالُ: إِنَّهَا تَمْنَعُ العَينَ ومَا أَشْبَهَ ذَلِكَ! فَكَانَ مُشَابِهًا لِلمُشْرِكِينَ فِي صَنِيعِهِم وَتَعَلُّقِهِم بِهَا.

وَمِثْلُهُ أَيضًا زَعْمُ نُزُولِ المَطَرِ بِسَبَبِ حَرَكَاتِ النُّجُومِ وأَمْثَالِهَا، حَيثُ جَاءَ فِيهِ:((أَصْبَحَ مِنْ عِبَادي مُؤْمِنٌ بي وَكَافِرٌ))، وَقَدْ سَبَقَ فِي (بَابِ مَا جَاءَ فِي الاسْتِسْقَاءِ بِالأَنْوَاءِ) مِثْلُ هَذَا البَيَانِ.

(2)

مُسْلِمٌ (2904) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا.

(3)

قَالَ الشَّيخُ السَّعْدِيُّ رحمه الله -وَقَدْ سَبَقَ-: "أَحْكَامُ الأَسْبَابِ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ:

=

ص: 157

- ذِكْرُ تَرْجَمَةِ بَعْضِ مَنْ سَبَقَ مِنَ الأَعْلَامِ:

(عَونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ): هُوَ ابْنُ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ الهُذَلِيُّ، أَبُو عَبْدِ اللهِ؛ الكُوفيُّ؛ الزَّاهِدُ، تَابِعِيٌّ ثِقَةٌ مَاتَ قَبْلَ (120 هـ).

(ابْنُ قُتَيبَةَ): هُوَ أَبُو مُحَمَّدٍ؛ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيبَةَ الدِّينَوَرِيُّ -قَاضِي دِينَوَرَ- النَّحَوِيُّ؛ اللُّغَوِيُّ؛ صَاحِبُ التَّصَانِيفِ البَدِيعَةِ المَشْهُورَةِ، (ت 276 هـ).

=

1 -

أَنْ لَا يَجْعَلَ مِنْهَا سَبَبًا إِلَّا مَا ثَبَتَ أَنَّه سَبَبٌ شَرْعًا أَو قَدَرًا.

2 -

أَنْ لَا يَعْتَمِدَ العَبْدُ عَلَيهَا، بَلْ يَعْتَمِدُ عَلَى مُسَبِّبِهَا وَمُقَدِّرِهَا، مَعَ قِيَامِهِ بِالمَشْرُوعِ مِنْهَا، وَحِرْصِهِ عَلَى النَّافِعِ مِنْهَا.

3 -

أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الأَسْبَابَ مُرْتَبِطَةٌ بِقَضَاءِ اللهِ وَقَدَرِهِ، وَاللهُ تَعَالَى يَتَصَرَّفُ فِيهَا كَيفَ يَشَاءُ؛ إِنْ شَاءَ أَبْقَى سَبَبِيَّتَها جَارِيَةً وَإِنْ شَاءَ غَيَّرَهَا كَيفَ يَشَاءُ، وَفِي هَذَا فَائِدَةٌ عَظِيمَةٌ لِلعِبَادِ فِي أَنْ لَا يَعْتَمِدوا عَلَيهَا، وَلِيَعْلَمُوا كَمَالَ قُدْرَتِهِ سُبْحَانَهُ".

ص: 158

بَابُ قَولِهِ تَعَالَى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البَقَرَة: 22]

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي الآيَةِ: (الأَنْدَادُ هُوَ الشِّرْكُ؛ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ عَلَى صَفَاةٍ سَودَاءَ فِي ظُلْمَةِ اللَّيلِ! وَهُوَ أَنْ تَقُولَ: وَاللَّهِ؛ وَحَيَاتِكَ يَا فُلَانُ! وَحَيَاتِي! وَتَقُولَ: لَولَا كُلَيبَةُ هَذَا؛ لَأَتَانَا اللُّصُوصُ! وَلَولَا البَطُّ فِي الدَّارِ؛ لَأَتَى اللُّصُوصُ! وَقَولُ الرَّجُلِ لِصَاحِبِهِ: مَا شَاءَ اللهُ وَشِئْتَ! وَقَولُ الرَّجُلِ: لَولَا اللهُ وَفُلَانٌ! لَا تَجْعَلْ فِيهَا فُلَانًا، هَذَا كُلُّهُ بِهِ شِرْكٌ). رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ

(1)

.

وَعَنِ [ابْنِ] عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رضي الله عنه؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((مَنْ حَلَفَ بِغَيرِ اللهِ فَقَدْ كَفَرَ أَو أَشْرَكَ)). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ

(2)

.

وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: (لَأَنْ أَحْلِفَ بِاللَّهِ كَاذِبًا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَحْلِفَ بِغَيرِهِ صَادِقًا)

(3)

.

(1)

حَسَنٌ. ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ (229). اُنْظُرْ كِتَابَ (تَخْرِيجُ أَحَادِيثَ وَآثَارِ كِتَابِ: فِي ظِلَالِ القُرْآنِ)(ص 15) لِلشَّيخِ عَلَوِي السَّقَّاف.

وَفِي كِتَابِ الإِيمَانِ لِلقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ (ص 73) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه: (إِنَّ القَومَ يُشْرِكُونَ بِكَلْبِهِم! يَقُولُونَ: كَلْبُنَا يَحْرُسُنَا، وَلَوْلَا كَلْبُنَا لَسُرِقْنَا)! وَضَعَّفَ إِسْنَادَهُ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله فِي التَّحْقِيقِ.

(2)

صَحِيحٌ. الحَاكِمُ (7814)، وَالتِّرْمِذِيُّ (1535) عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا -وَلَيسَ عَنْ عُمَرَ-. صَحِيحُ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ (2952).

(3)

صَحِيحٌ. الطَّبَرَانِيُّ فِي الكَبِيرِ (9/ 183)، وَابْنُ أَبِي شَيبَةَ (12281) عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَوقُوفًا. صَحِيحُ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ (2953).

ص: 159

وَعَنْ حُذَيفَةَ رضي الله عنه؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((لَا تَقُولُوا: مَا شَاءَ اللهُ وَشَاءَ فُلَانٌ! وَلَكِنْ قُولُوا: مَا شَاءَ اللهُ ثُمَّ شَاءَ فُلَانٌ)). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ

(1)

.

وَجَاءَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ؛ أَنَّهُ يَكْرَهُ: أَعُوذُ بِاللَّهِ وَبِكَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَقُولَ: بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ، قَالَ: وَيَقُولُ: لَولَا اللهُ ثُمَّ فُلَانٌ، وَلَا تَقُولُوا: لَولَا اللهُ وَفُلَانٌ

(2)

.

(1)

صَحِيحٌ. أَبُو دَاوُدَ (4980) عَنْ حُذَيفَةَ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (137).

(2)

مُصَنَّفُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ (19811).

ص: 160

فِيهِ مَسَائِلُ:

الأُولَى: تَفْسِيرُ آيَةِ البَقَرَةِ فِي الأَنْدَادِ.

الثَّانِيَةُ: أَنَّ الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم يُفَسِّرُونَ الآيَةَ النَّازِلَةَ فِي الشِّرْكِ الأَكْبَرِ أَنَّهَا تَعُمُّ الأَصْغَرَ.

الثَّالِثَةُ: أَنَّ الحَلِفَ بِغَيرِ اللهِ شِرْكٌ.

الرَّابِعَةُ: أَنَّهُ إِذَا حَلَفَ بِغَيرِ اللهِ صَادِقًا فَهُوَ أَكْبَرُ مِنَ اليَمِينِ الغَمُوسِ.

الخَامِسَةُ: الفَرَقُ بَينَ (الوَاوِ) وَ (ثُمَّ) فِي اللَّفْظِ.

ص: 161

‌الشَّرْحُ

- الآيَةُ الَّتِي فِي التَّرْجَمَةِ يُقْصَدُ بِهَا الشِّرْكُ الأَكْبَرُ؛ بِأَنْ يَجْعَلَ للهِ نِدًّا فِي العِبَادَةِ وَالحُبِّ وَالخَوفِ وَالرَّجَاءِ وَغَيرِهَا مِنَ العِبَادَاتِ، وَلَكِنْ أَرَادَ بِهَا المُصَنِّفُ هُنَا الشِّرْكَ الأَصْغَرَ؛ كَالشِّرْكِ فِي الأَلفَاظِ وَالحَلِفِ بِغَيرِ اللهِ، وَكَالتَّشْرِيكِ بَينَ اللهِ وَبَينَ خَلْقِهِ فِي الأَلْفَاظِ كَـ:(لَولَا اللهُ وَفُلَانٌ؛ وَهَذَا بِاللهِ وَبِكَ)، وَكَإِضَافَةِ النِّعَمِ وَوُقُوعِهَا لِغَيرِ اللهِ كَـ:(لَولَا الحَارِسُ لِأَتَانَا اللُّصُوصُ، وَلَولَا الدَّوَاءُ الفُلَانِيُّ لَهَلَكْتُ، ولَولَا حِذْقُ فُلَانٍ فِي المَكْسَبِ الفُلَانِيِّ لَمَا حَصَلَ كَذَا)! فَكُلُّ هَذَا يُنَافِي كَمَالَ التَّوحِيدِ الوَاجِبِ.

وَالوَاجِبُ أَنْ تُضَافَ الأُمُورُ وَوُقُوعُهَا وَنَفْعُ الأَسْبَابِ إِلَى إِرَادَةِ اللهِ ابْتِدَاءً؛ ثُمَّ يَذْكُرَ معَ ذَلكَ مَرْتَبَةَ السَّبَبِ وَنَفْعَهُ؛ فَيَقُولَ: (لَولَا اللهُ ثُمَّ كَذَا) لِيُعْلَمَ أَنَّ الأَسْبَابَ مُرْتَبِطَةٌ بِقَضَاءِ اللهِ وَقَدَرِهِ، فَلَا يَتِمُّ تَوحِيدُ العَبْدِ حَتَّى لَا يَجْعَلَ للهِ نِدًّا فِي قَلبِهِ وَقَولِهِ وَفِعْلِهِ.

- قَولُهُ تَعَالَى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} الفَاءُ فِي الآيَةِ الكَرِيمَةِ هِيَ فَاءُ التَّعْلِيلِ، وَمَعْنَى الكَلَامِ أَنَّ مَنْ عَلِمَ كُلَّ مَا سَبَقَ عَن اللهِ تَعَالَى وَنِعَمِهِ الظَّاهِرَةِ وَالبَاطِنَةِ

(1)

فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ مَعَهُ نِدًّا سبحانه وتعالى، وَالنِّدُّ هُوَ المَثِيلُ.

- قَولُهُ تَعَالَى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} يَشْمَلُ العِبَادَةَ؛ وَأَيضًا الأَسْمَاءَ والصِّفَاتِ.

- قَولُهُ: (أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ عَلَى صَفَاةٍ سَودَاءَ فِي ظُلْمَةِ اللَّيلِ): الخَفَاءُ هُوَ

ص: 162

لِأَثَرِ الدَّبِيبِ عَلَى الصَّفَاةِ وَهُوَ الحَجَرُ الأَمْلَسُ، وَزَادَ الأَمْرَ خَفَاءً ظُلْمَةُ اللَّيلِ، وَقَدْ سَبَقَ حَدِيثُ:((أَلَا أخْبِرُكمْ بِمَا هُوَ أخْوَفُ عَلَيكُمْ عِنْدِي مِنَ المَسِيحِ الدَّجَّالِ؟ الشِّرْكُ الخَفِيُّ؛ أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ فَيُصَلِّيَ؛ فَيُزَيِّنَ صَلَاتَهُ لِمَا يَرَى مِنْ نَظَرِ رَجُلٍ))

(1)

، وكذا في الحديث ((يَا أَبَا بَكْرٍ! لَلشِّرْكُ فِيكُمْ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ))

(2)

.

- الحَلِفُ: هُوَ تَأْكِيدُ الكَلَامِ بِذِكْرِ مُعَظَّمٍ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ، وَيَكُونُ غَالِبًا بِالبَاءِ وَالوَاوِ وَالتَّاءِ.

- قَولُ (وَاللَّهِ؛ وَحَيَاتِكَ يَا فُلَانُ) فِيهِ مَنهيَّانِ:

1 -

الحَلِفُ بِغَيرِ اللهِ تَعَالَى.

2 -

الشِّرْكُ بِالتَّسْوِيَةِ بَينَهُمَا بِوَاوِ العَطْفِ.

- الكَمَالُ أَنْ يُقَالَ: لَولَا اللهُ لَمْ يَكنْ كَذَا، وَيَجُوزُ قَولُ: لَولَا اللهُ ثُمَّ فُلَانٌ لَمْ يَكنْ كَذَا.

- حَدِيثُ: ((مَنْ حَلَفَ بِغَيرِ اللهِ فَقَدْ كَفَرَ أَو أَشْرَكَ)) هُوَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُمرَ وَلَيسَ عَنْ أَبِيهِ.

- الحَدِيثُ الَّذِي فِي الحَلِفِ هُوَ مِنَ الكُفْرِ الأَصْغَرِ إِنْ قُصِدَ بِالحَلِفِ تَعْظِيمُ المَحْلُوفِ بِهِ فَقَط، وَيَكُونُ مِنَ الأَكْبَرِ إِنْ كَانَ ذَلكَ عِنْدَهُ مُعَظَّمًا كَرَبِّ العَالَمِينَ، وَأَمَّا إِنْ حَلَفَ بِاللهِ كَاذِبًا ثُمَّ لَمْ يَرْضَ بِالحَلِفِ بِغَيرِهِ كَاذِبًا! فَهوَ مِنَ الشِّرْكِ الأَكْبَرِ،

(1)

حَسَنٌ. أَحْمَدُ (11252) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (2607).

(2)

صَحِيحٌ. الأَدَبُ المُفْرَدُ (716). صَحِيحُ الأَدَبِ المُفْرَدِ (554).

ص: 163

ويَكُونُ مِنْ شِرْكِ السَّرَائِرِ

(1)

.

- قَولُ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: (لَأَنْ أَحْلِفَ بِاللَّهِ كَاذِبًا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَحْلِفَ بِغَيرِهِ صَادِقًا) فِيهِ بَيَانُ أَنَّ الشِّرْكَ الأَصْغَرَ أَكْبَرُ مِنَ الكَبَائِرِ، وَقَدْ سَبَقَ قَولُ المُصَنِّفِ رحمه الله فِي مَسَائِلِ البَابِ السَّابِعِ:"فِيهِ شَاهِدٌ لِكَلَامِ الصَّحَابَةِ أَنَّ الشِّرْكَ الأَصْغَرَ أَكْبَرُ مِنَ الكَبَائِرِ"، وَفِيهِ أَيضًا عُمْقُ عِلْمِ السَّلَفِ، وَفِيهِ اسْتِعْمَالُ أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ فِيمَا لَيسَ فِي الطَّرَفِ الآخَرِ مُشَارِكٌ لَهُ.

- قَولُهُ: ((لَا تَقُولُوا: مَا شَاءَ اللهُ وَشَاءَ فُلَانٌ)) لِأَنَّ فِيهِ تَسْوِيَةً فِي المَشِيئَةِ، وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَولُهُ تَعَالَى عَنِ المُشْرِكِينَ:{قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ * تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 96 - 98]

(2)

.

- قَولُهُ: ((لَا تَقُولُوا: مَا شَاءَ اللهُ وَشَاءَ فُلَانٌ؛ وَلَكِنْ قُولُوا: مَا شَاءَ اللهُ ثُمَّ شَاءَ فُلَانٌ)) فِيهِ بَيَانُ أَنَّهُ يَنْبَغِي عَلَى مَنْ سَدَّ بَابًا مُحَرَّمًا أَنْ يَفْتَحَ لَهُم بَابًا مُبَاحًا

(3)

.

- إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَزِيدٍ النَّخَعِيُّ: هُوَ أَبُو عِمْرَانَ؛ الإِمَامُ الحَافِظُ؛ فَقِيهُ العِرَاقِ؛ النَّخَعِيُّ؛ اليَمَانِيُّ ثُمَّ الكُوفِيُّ؛ أَحَدُ الأَعْلَامِ؛ مِنْ صِغَارِ التَّابِعِينَ، (ت 96 هـ).

(1)

بِتَصَرُّفٍ يَسَيرٍ مِنْ إِعَانَةِ المُسْتَفِيدِ (2/ 218) لِلشَّيخِ الفَوزَانِ حَفِظَهُ اللهُ.

(2)

وَفِي البُخَارِيِّ (8/ 133): بَابُ (لَا يَقُولُ مَا شَاءَ اللهُ وَشِئْتَ؛ وَهَلْ يَقُولُ أَنَا بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ): -ثُمَّ أَورَدَ الحَدِيثَ عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ- أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ((إِنَّ ثَلَاثَةً فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ؛ أَرَادَ اللهُ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ، فَبَعَثَ مَلَكًا، فَأَتَى الأَبْرَصَ؛ فَقَالَ: تَقَطَّعَتْ بِيَ الحِبَالُ؛ فَلَا بَلَاغَ لِي إِلَّا بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ

)) فَذَكَرَ الحَدِيثَ. وَسَيَأْتِي مَعَنَا إِنْ شَاءَ اللهُ.

(3)

كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البَقَرَة: 104].

ص: 164

- فِي كَرَاهَةِ النَّخَعيِّ بَيَانُ أَنَّ السَّلَفَ يَسْتَخْدِمُونَ لَفْظَ الكَرَاهَةِ بِمَعْنَى التَّحْرِيمِ، وَلَكِنَّهَا بِالنِّسْبَةِ لَهُم فِيمَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ.

- فَائِدَة 1: فِي التَّخَلُّصِ مِنَ الشِّرْكِ بِنَوعيهِ الأَكْبَرِ وَالأَصْغَرِ:

عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: انْطَلَقْتُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ فَقَالَ: ((يَا أَبَا بَكْرٍ؛ لَلشِّرْكُ فِيكُمْ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ))، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَلِ الشِّرْكُ إِلَّا مَنْ جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ؟! قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ؛ لَلشِّرْكُ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ. أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى شَيءٍ إِذَا قُلْتَهُ ذَهَبَ عَنْكَ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ؟)) قَالَ: ((قُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أُشْرِكَ بِكَ وَأَنَا أَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لَا أَعْلَمُ))

(1)

.

- فَائِدَة 2: فِي أَثَرِ ابْنِ عَبَّاسٍ بَيَانُ أَنَّ السَّلَفَ يَسْتَدِلُّونَ بِأَدِّلَّةِ الشِّرْكِ الأَكْبَرِ عَلَى الأَصْغَرِ، كَمَا سَبَقَ فِي أَثَرِ حُذَيفَةَ فِي بَابِ (مِنَ الشِّرْكِ لُبْسُ الحَلْقَة وَالخَيطِ وَنَحْوِهِمَا لِرَفْعِ البَلَاءِ أَو دَفْعِهِ)

(2)

.

- فَائِدَة 3: الظَّاهِرُ أَنَّ قَولَ السَّلَفِ: الشِّرْكُ الأَصْغَرُ أَكْبَرُ مِنَ الكَبَائِرِ؛ يَعْنِي مِمَّا هُوَ مِنْ جِنْسِهِ -كَالحَلِفِ هُنَا-، فَالحَلِفُ بِغَيرِ اللهِ أَكْبَرُ مِنَ الحَلِفِ بِاللهِ كَذِبًا -كَمَا فِي أَثَرِ ابْنِ مَسْعُودٍ هُنَا-، وَجِنْسُ الشِّرْكِ أَكْبَرُ مِنْ جِنْسِ الكَبَائِرِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَا قِيلَ فِيهِ: إِنَّهُ شِرْكٌ أَصْغَرُ؛ أَنَّهُ يَكُونُ أَكْبَرَ مِنْ كُلِّ الكَبَائِرِ! فَفِي الكَبَائِرِ مَا جَاءَ فِيهِ مِنَ التَّغلِيظِ وَالوَعِيدِ الشَّدِيدِ مَا لَمْ يَأْتِ مِثْلُهُ فِي بَعْضِ أَنْوَاعِ الشِّرْكِ الأَصْغَرِ،

(1)

صَحِيحٌ. الأَدَبُ المُفْرَدُ (716). صَحِيحُ الأَدَبِ المُفْرَدِ (554).

(2)

وَالأثَرُ لِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ فِي التَّفْسِيرِ (12040) عَنْ حُذَيفَةَ رضي الله عنه: أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا فِي يَدِهِ خَيطٌ مِنَ الحُمَّى؛ فَقَطَعَهُ، وتَلَا قَولَهُ تَعَالَى:{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يُوسُف: 106].

ص: 165

كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَولِ الرَّجُلِ: "مَا شَاءَ اللهُ وَشِئْتَ". وَاللهُ أَعْلَمُ

(1)

(2)

.

(1)

أَفَادَهُ الشَّيخُ الفَاضِلُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ نَاصِرٍ البَرَّاكُ حَفِظَهُ اللهُ. فَتْوَى رَقَم (17618) تَارِيخ 27/ 10/1427 هـ، مِنْ مَوقِعِ (نُورِ الإِسْلَامِ) عَلَى الشَّبَكَةِ العَنْكَبُوتِيَّةِ.

(2)

قُلْتُ: ومِنْ أَمْثِلَةِ ذَلكَ: مَنْ جَاهَدَ رِيَاءً! فَإِنَّ إِثْمَهُ أَكْبَرُ مِمَّنْ تَرَكَ الجِهَادَ أَصْلًا.

وَدَلِيلُ ذَلِكَ قَولُهُ تَعَالَى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التَّوبَة: 24] فَقَدْ جَاءَ التَّهْدِيدُ فِيمَنْ رَغِبَ عَنِ الجِهَادِ وَالهِجْرَةِ، أَمَّا الآخَرُ فَقَدْ جَاءَ فِيهِ وَعِيدٌ أَشَدُّ، كَمَا فِي الحَدِيثِ:((إِنَّ اللهَ إذَا كَانَ يَومَ القيَامَةِ يَنْزِلُ إِلَى العِبَادِ لِيَقْضِيَ بَينَهُمْ -وَكُلُّ أُمَّةٍ جَاثِيَةٌ-، فَأَوَّلُ مَنْ يَدْعُو بِهِ: رَجُلٌ جَمَعَ القُرْآنَ، وَرَجُلٌ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَرَجُلٌ كَثِيرُ المَالِ. فَيَقُولُ اللهُ لِلْقارِئِ: أَلَمْ أُعَلِّمْكَ مَا أَنْزَلْتُ عَلَى رَسُولِي؟ قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ، قَالَ: فَمَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا عَلِمْتَ؟ قالَ: كُنْتُ أقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، فَيَقُولُ اللهُ لهُ: كَذَبْتَ، وَتَقُولُ لَهُ المَلَائِكَةُ: كَذَبْتَ، وَيَقُولُ اللهُ لَهُ: بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ: فُلَانٌ قَارِئٌ! فَقَدْ قِيلَ ذَلِكَ. وَيُؤْتَى بِصَاحِبِ المَالِ فَيَقُولُ اللهُ لَهُ: ألَمْ أُوَسِّعْ عَلِيكَ حَتَّى لَمْ أَدَعْكَ تَحْتَاجُ إِلَى أَحَدٍ؟ قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ، قالَ: فَمَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا آتَيتُكَ؟ قَالَ: كُنْتُ أَصِلُ الرَّحِمَ وَأَتَصَدَّقُ، فَيَقُولُ اللهُ لَهُ: كَذَبْتَ، وَتَقُولُ المَلَائِكَةُ: كَذَبْتَ، وَيَقُولُ اللهُ: بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ: فُلَانٌ جَوَادٌ! فَقَدْ قِيلَ ذَلِكَ، وَيُؤْتَى بِالَّذِي قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَيَقُولُ اللهُ: فَبِمَاذَا قُتِلْتَ؟ فَيَقُولُ: أُمِرْتُ بِالجِهَادِ فِي سَبِيلِكَ؛ فَقاتَلْتُ حَتَّى قُتلْتُ، فَيَقُولُ اللهُ لهُ: كَذَبْتَ، وَتَقُولُ لَهُ المَلَائِكَةُ: كَذَبْتَ، وَيَقُولُ اللهُ: بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ: فُلَانٌ جَرِيءٌ! فَقَدْ قِيلَ ذَلِكَ. يَا أَبَا هُرَيرَةَ أُولَئِكَ الثَّلاثَةُ أَوَّلُ خَلْقِ اللهِ تُسْعَرُ بِهِمُ النَّارُ يَومَ القيَامَةِ)). صَحِيحٌ. التِّرْمِذِيُّ (2382) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (1713).

ص: 166

‌مَسَائِلُ عَلَى البَابِ

-‌

‌ المَسْأَلَةُ الأُولَى: إِذَا كَانَ الحَلِفُ بِغَيرِ اللهِ تَعَالَى شِرْكٌ؛ فَمَا الجَوَابُ عَنْ قَسَمِ الرَّبِّ تَعَالَى بِالمَخْلُوقَاتِ؟

كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى: {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} [الطَّارق: 1]، وَقَولِهِ تَعَالَى أَيضًا:{وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا} [الشَّمْس: 6]، وَقولِهِ تَعَالَى أَيضًا:{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النَّجْم: 1]؛ وَغَيرِهَا كَثيرٌ.

الجَوَابُ مِنْ أَوجُهٍ:

1 -

أَنَّ القَسَمَ بِغَيرِ اللهِ تَعَالَى هُوَ شِرْكٌ؛ وَلَكِنَّهُ مِنْ جِهَةِ المَخْلُوقِ، وَلَيسَ مِنْ جِهَةِ الخَالِقِ سُبْحَانَهُ! فَهُوَ الَّذِي يَأْمُرُ ويَنْهَى؛ والعَبْدُ هُوَ المَأْمُورُ.

2 -

أَنَّ قَسَمَ المَخْلُوقِ بِغَيرِ اللهِ تَعَالَى فِيهِ إِظْهَارٌ لِعَظَمَةِ المُقْسَمِ بِهِ فَقَط! بِخِلَافِ قَسَمِهِ سُبْحَانَهُ بِالمَخْلُوقَاتِ؛ فَإِنَّهُ لِبَيَانِ عَظَمَتِهِ نَفْسِهِ تَعَالَى، فَعَظَمَةُ الشَّيءِ دَلِيلٌ عَلَى عَظَمَةِ خَالِقِهِ، كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى:{سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الزُّخْرُف: 82]، وَقَدْ سَبَقَ فِي السُّؤَالِ قَسَمُ اللهِ تَعَالَى بِالسَّمَاءِ وَالأَرْضِ لِبَيَانِ عَظَمَةِ خَلْقِهِمَا؛ وَهُنَا أَضَافَهُمَا إِلَى نَفْسِهِ سُبْحَانَهُ إِضَافَةَ رُبُوبِيَّةٍ مَعَ تَسْبِيحِ نَفْسِهِ سُبْحَانَهُ. وَالحَمْدُ للهِ عَلَى تَوفِيقِهِ.

3 -

أَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ كَمَا أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأَنْبِيَاء: 23].

ص: 167

-‌

‌ المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا كَانَ الحَلِفُ بِغَيرِ اللهِ تَعَالَى شِرْكٌ؛ فَمَا الجَوَابُ عَنِ الحَدِيثِ الَّذِي فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ

عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيدِ اللهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي جَوَابِ الأَعْرَابِيِّ الَّذِي سَأَلَ عَمَّا فَرَضَ اللهُ عَلَيهِ؛ وَقَالَ فِي آخِرِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ((أَفْلَحَ وَأَبِيهِ؛ إِنْ صَدَقَ))

(1)

، وَأَيضًا فِي الحَدِيثِ الآخَرِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ الَّذِي سَأَلَ عَنْ أَيِّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ وَفِيهِ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:((أَمَا وَأَبِيكَ؛ لَتُنَبَّأَنَّهُ))

(2)

؟

الجَوَابُ مِنْ عِدَّةِ أَوجُهٍ:

1 -

الحَدِيثُ الأَوَّلُ لَفْظُهُ هَذَا شَاذٌّ، وَالآخَرُ مُنْكَرٌ؛ كَمَا حَقَّقَهُ العَلَّامَةُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله

(3)

.

2 -

أَنَّ هَذَا تَصْحِيفٌ مِنَ الرُّوَاةِ حَيثُ أَنَّ أَصْلَ الكِتَابَةِ هِيَ بِدَونِ تَنْقِيطٍ؛ فَتَشَابَهَ رَسْمُ (أَبِيهِ - أَبِيكَ) مَعَ رَسْمِ (اللهِ).

(1)

وَالحَدِيثُ بِتَمَامِهِ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ، ثَائِرُ الرَّأْسِ، نَسْمَعُ دَوِيَّ صَوتِهِ، وَلَا نَفْقَهُ مَا يَقُولُ، حَتَّى دَنَا مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنِ الإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:((خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي اليَومِ وَاللَّيلَةِ))، فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيرُهُنَّ؟ قَالَ: ((لَا، إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ، وَصِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ))، فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيرُهُ؟ فَقَالَ: ((لَا، إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ))، وَذَكَرَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الزَّكَاةَ، فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيرُهَا؟ قَالَ: ((لَا، إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ)). قَالَ: فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ: وَاللَّهِ، لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلَا أَنْقُصُ مِنْهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:((أَفْلَحَ وَأَبِيهِ؛ إِنْ صَدَقَ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ (11).

(2)

وَالحَدِيثُ بِتَمَامِهِ عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ؛ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ أَجْرًا؟ فَقَالَ: ((أَمَا وَأَبِيكَ لَتُنَبَّأَنَّهُ. أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَخْشَى الفَقْرَ، وَتَأْمُلُ البَقَاءَ، وَلَا تُمْهِلَ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الحُلْقُومَ قُلْتَ: لِفُلَانٍ كَذَا، وَلِفُلَانٍ كَذَا! وَقَدْ كَانَ لِفُلَانٍ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1032).

(3)

اُنْظُرِ الضَّعيفَةَ (4992).

ص: 168

3 -

أَنَّ هَذَا مِمَّا يَجْرِي عَلَى أَلْسِنَةِ العَرَبِ؛ وَلَا تَقْصِدُ حَقِيقَتَهُ

(1)

.

4 -

أَنَّهُ كَانَ مَسْكُوتًا عَنْهُ فِي أَوَّلِ الأَمْرِ؛ ثُمَّ نُسِخَ بِأَحَادِيثِ النَّهْي، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ فِي أَوَّلِ الإِسْلَامِ لَمْ يُنْهَ عَنْ أَشْيَاءَ مِثْلِ (مَا شَاءَ اللهُ وشَاءَ مُحَمَّدٌ) ثُمَّ نُهيَ عَنْهَا بَعْدُ، وَهِيَ مِنَ الشِّرْكِ اللَّفْظِيِّ

(2)

.

5 -

أَنَّ فِيهِ حَذْفُ مُضَافٍ مُقَدَّرٍ، وَالتَّقْدِيرُ:(أَفْلَحَ وَرَبِّ أَبِيهِ).

(1)

أَفَادَهُ النَّوَوِيُّ رحمه الله فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ (1/ 168).

(2)

كَمَا فِي الحَدِيثِ: ((إِنَّ طُفَيلًا رَأَى رُؤْيَا؛ فَأَخْبَرَ بِهَا مَنْ أَخْبَرَ مِنْكُمْ، وَإِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَقُولُونَ كَلِمَةً كَانَ يَمْنُعُنِي الحَيَاءُ مِنْكُمْ أَنْ أَنْهَاكُمْ عَنْهَا، لَا تَقُولُوا مَا شَاءَ اللهُ وَمَا شَاءَ مُحَمَّدٌ)). صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (20694) عَنْ طُفَيلِ بْنِ سَخْبَرَةَ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (138).

ص: 169

بَابُ مَا جَاءَ فِيمَنْ لَمْ يَقْنَعْ بِالحَلِفِ بِاللَّهِ

عَنِ ابْنِ عُمَرَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، مَنْ حَلَفَ بِاللَّهِ فَلْيَصْدُقْ، وَمَنْ حُلِفَ لَهُ بِاللَّهِ فَلْيَرْضَ، وَمَنْ لَمْ يَرْضَ؛ فَلَيسَ مِنَ اللهِ)). رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِسَنَدٍ حَسَنٍ

(1)

.

فِيهِ مَسَائِلُ:

الأُولَى: النَّهْيُ عَنِ الحَلِفِ بِالآبَاءِ.

الثَّانِيَةُ: الأَمْرُ لِلْمَحْلُوفِ لَهُ بِاللَّهِ أَنْ يَرْضَى.

الثَّالِثَةُ: وَعِيدُ مَنْ لَمْ يَرْضَ.

(1)

صَحِيحٌ. ابْنُ مَاجَه (2101) عَنِ ابْنِ عمرَ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (7247).

ص: 170

‌الشَّرْحُ

- الرِّضَى عِنْدَ مَنْ حُلِفَ لَهُ باللهِ يَدُلُّ عَلَى تَعْظِيمِ المَحْلُوفِ بِهِ، وَفِي الصَّحِيحَينِ عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قَالَ:((رَأَى عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَجُلًا يَسْرِقُ، فَقَالَ لَهُ: أَسَرَقْتَ؟! قَالَ: كَلَّا؛ وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، فَقَالَ عِيسَى: آمَنْتُ بِاللَّهِ وَكَذَّبْتُ عَينِي))

(1)

.

- قَولُهُ: ((مَنْ حُلِفَ لَهُ باللهِ فَلْيَرْضَ)) لَهُ جِهَتَانِ:

1 -

مِنْ جِهَةٍ شَرعِيَّةٍ: يَجِبُ القَبُولُ؛ لِأَنَّه مِنَ الرِّضَى بالحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، وَخَاصَّةً عِنْدَ القَاضِي.

وَلَعَلَّ هَذَا الوَجهَ هُوَ المَقْصُودُ مِنَ البَابِ لِقَولِهِ: (مَا جَاءَ فِيمَنْ لَمْ يَقْنَعْ بِالحَلِفِ بِاللَّهِ) فَمَطْلُوبُهُ إِظْهَارُ القَنَاعَةِ، وَهُوَ دَلِيلُ تَعْظِيمِ المَحْلُوفِ بِهِ

(2)

.

2 -

مِنْ جِهَةٍ حِسِّيَّةٍ: إِنْ كَانَ الحَالِفُ مَوضِعَ ثِقَةٍ؛ فَيَجِبُ الرِّضَى وَإلَّا فَلَا يَجِبُ، كَمَا لَو كَانَ كَافِرًا أَو مَعْرُوفًا بِكَذِبِهِ

(3)

.

(1)

البُخَارِيُّ (3444)، وَمُسْلِمٌ (2368).

(2)

وَلَهُ أَنْ لَا يُصَدِّقَهُ إِنْ تَرَجَّحَ كَذِبُهُ عِنْدَهُ.

(3)

كَمَا فِي البُخَارِيِّ (6898)، وَمُسْلِمٍ (1669) عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ؛ قَالَ: انْطَلَقَ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةُ بْنُ مَسْعُودِ بْنِ زَيدٍ إِلَى خَيبَرَ -وَهِيَ يَومَئِذٍ صُلْحٌ- فَتَفَرَّقَا، فَأَتَى مُحَيِّصَةُ إِلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ سَهْلٍ وَهُوَ يَتَشَمَّطُ فِي دَمِهِ قَتِيلًا فَدَفَنَهُ، ثُمَّ قَدِمَ المَدِينَةَ فَانْطَلَقَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةُ وَحُوَيِّصَةُ ابْنَا مَسْعُودٍ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ فَذَهَبَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَتَكَلَّمُ فَقَالَ:((كَبِّرْ كَبِّرْ)) -وَهُوَ أَحْدَثُ القَومِ- فَسَكَتَ، فَتَكَلَّمَا فَقَالَ:((تَحْلِفُونَ؛ وَتَسْتَحِقُّونَ قَاتِلَكُمْ أَو صَاحِبَكُمْ))؟ قَالُوا: وَكَيفَ نَحْلِفُ وَلَمْ نَشْهَدْ وَلَمْ نَرَ؟! قَالَ: ((فَتُبْرِيكُمْ يَهُودُ بِخَمْسِينَ))، فَقَالُوا: كَيفَ نَأْخُذُ أَيمَانَ قَومٍ كُفَّارٍ؟! فَعَقَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ عِنْدِهِ.

قُلْتُ: والشَّاهِدُ أنَّهم لَمْ يَقْبَلوا بِأَيمَانِ اليَهُودِ.

ص: 171

- قَولُهُ: ((وَمَنْ لَمْ يَرْضَ؛ فَلَيسَ مِنَ اللهِ)) أَي: فَقَدْ بَرِءَ اللهُ مِنْهُ، أَو فَقَدْ بَرِءَ هُوَ مِنْ كَونِهِ مِنْ حِزِبَ اللهِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ هَذَا الفِعْلَ مِنَ الكَبَائِرِ

(1)

.

- أَنْوَاعُ اليَمِينِ:

1 -

يَمِينُ اللَّغُوِ.

وَهُوَ أَنْ يُقْسِمَ عَلَى شَيءٍ أَنَّهُ كَذَا وَيَكُونُ مُخْطِئًا فِيهِ؛ فَلَا يُؤَاخَذُ بِهِ، وَلَيسَ عَلَيهِ كَفَّارَةٌ.

2 -

اليَمِينُ الغَمُوسُ.

وَهُوَ أَنْ يُقْسِمَ عَلَى شَيءٍ أَنَّهُ كَذَا وَهُوَ كَاذِبٌ فِيهِ؛ فَهُوَ مُؤَاخَذٌ بِهِ، وَلَيسَ لَهُ كَفَّارَةٌ

(2)

.

وَفِي البُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عَمْرو مَرْفُوعًا: ((الكَبَائِرُ: الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الوَالِدَينِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَاليَمِينُ الغَمُوسُ))

(3)

.

3 -

اليَمِينُ المُنْعَقِدُ عَلَى فِعْلِ أَمْرٍ أَو تَرْكِهِ، وَهُوَ الَّذِي فِيهِ الكفَّارَةُ المَوصُوفَةُ بِالآيَةِ.

(1)

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله في التَّفْسِيرِ (2/ 30) عِنْدَ قَولِهِ تَعَالَى: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [آلِ عِمْرَان: 28]: "نَهَى تبارك وتعالى عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ أَنْ يُوَالُوا الكَافِرِينَ؛ وَأَنْ يَتَّخِذُوهُمْ أَولِيَاءَ يُسِرُّونَ إِلَيهِمْ بِالمَوَدَّةِ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ، ثُمَّ تَوَعَّدَ عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيءٍ} أَي: وَمَنْ يَرْتَكِبْ نَهْيَ اللهِ فِي هَذَا، فَقَدْ بَرِءَ مِنَ اللهِ".

(2)

وَذَلِكَ لِعِظَمِ الذَّنْبِ؛ فَلَا تَصْلُحُ فِيهِ إِلَّا التَّوبَةُ الصَّادِقَةُ.

(3)

البُخَارِيُّ (6870).

ص: 172

قَالَ الإِمَامُ مَالِكُ رحمه الله فِي (المُوَطَّإِ) -بَابُ اللَّغْوِ فِي اليَمِينِ-: "أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ فِي هَذَا: أَنَّ اللَّغْوَ: حَلِفُ الإِنْسَانِ عَلَى الشَّيءِ يَسْتَيقِنُ أَنَّهُ كَذَلِكَ، ثُمَّ يُوجَدُ عَلَى غَيرِ ذَلِكَ؛ فَهُوَ اللَّغْوُ

(1)

.

وَعَقْدُ اليَمِينِ: أَنْ يَحْلِفَ الرَّجُلُ أَنْ لَا يَبِيعَ ثَوبَهُ بَعَشَرَةِ دَنَانِيرَ ثُمَّ يَبِيعَهُ بِذَلِكَ، أَو يَحْلِفَ لَيَضْرِبَنَّ غُلَامَهُ ثُمَّ لَا يَضْرِبُهُ، وَنَحْوَ هَذَا، فَهَذَا الَّذِي يُكَفِّرُ صَاحِبُهُ عَنْ يَمِينِهِ، وَلَيسَ فِي اللَّغْوِ كَفَّارَةٌ.

فَأَمَّا الَّذِي يَحْلِفُ عَلَى الشَّيءِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ آثِمٌ، وَيَحْلِفُ عَلَى الكَذِبِ وَهُوَ يَعْلَمُ لِيُرْضِيَ بِهِ أَحَدًا، أَو لِيَعْتَذِرَ بِهِ إِلَى مُعْتَذَرٍ إِلَيهِ، أَو لِيَقْطَعَ بِهِ مَالًا! فَهَذَا أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تَكُونَ فِيهِ كَفَّارَةٌ"

(2)

.

(1)

وَفِي البُخَارِيِّ (6663) عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيمَانِكُمْ} [البَقَرَة: 225]؛ قَالَتْ: (أُنْزِلَتْ فِي قَولِهِ: لَا وَاللهِ، بَلَى وَاللهِ).

(2)

المُوَطَّأُ (2/ 477) مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى اللَّيثِيِّ عَنْهُ، بِحَذْفٍ يَسِيرٍ.

ص: 173

بَابُ قَولِ: (مَا شَاءَ اللهُ وَشِئْتَ)

عَنْ قُتَيلَةَ

(1)

؛ أَنَّ يَهُودِيًّا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم؛ فَقَالَ: إِنَّكُمْ تُشْرِكُونَ، تَقُولُونَ: مَا شَاءَ اللهُ وَشِئْتَ! وَتَقُولُونَ: وَالكَعْبَةِ! فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرَادُوا أَنْ يَحْلِفُوا أَنْ يَقُولُوا: ((وَرَبِّ الكَعْبَةِ، وَأَنْ يَقُولُوا: مَا شَاءَ اللهُ ثُمَّ شِئْتَ)). رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ

(2)

.

وَلَهُ أَيضًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: مَا شَاءَ اللهُ وَشِئْتَ، فَقَالَ:((أَجَعَلْتَنِي لِلَّهِ نِدًّا؟! بَلْ مَا شَاءَ اللهُ وَحْدَهُ))

(3)

.

وَلِابْنِ مَاجَه عَنِ الطُّفَيلِ -أَخِي عَائِشَةَ لِأُمِّهَا-؛ قَالَ: رَأَيتُ كَأَنِّي أَتَيتُ عَلَى نَفَرٍ مِنَ اليَهُودِ؛ قُلْتُ: إِنَّكُمْ لَأَنْتُمُ القَومُ لَولَا أَنَّكُمْ تَقُولُونَ عُزَيرٌ ابْنُ اللهِ! قَالُوا: وَأَنْتُمْ لَأَنْتُمُ القَومُ لَولَا أَنَّكُمْ تَقُولُونَ مَا شَاءَ اللهُ وَشَاءَ مُحَمَّدٌ! ثُمَّ مَرَرْتُ بِنَفَرٍ مِنَ النَّصَارَى، فَقُلْتُ: إِنَّكُمْ لَأَنْتُمُ القَومُ لَولَا أَنَّكُمْ تَقُولُونَ: المَسِيحُ ابْنُ اللهِ! قَالُوا: وَإِنَّكُمْ لَأَنْتُمُ القَومُ لَولَا أَنَّكُمْ تَقُولُونَ: مَا شَاءَ اللهُ وَشَاءَ مُحَمَّدٌ! فَلَمَّا أَصْبَحْتُ أَخْبَرْتُ بِهَا مَنْ أَخْبَرْتُ، ثُمَّ

(1)

قَالَ صَاحِبُ فَتْحِ المَجِيدِ رحمه الله (ص 419): "بِمُثَنَّاةٍ مُصَغَّرَةٍ؛ بِنْتُ صَيفِيّ الأَنْصَارِيَّةُ، صَحَابِيَّةٌ مُهَاجِرَةٌ"!

وَلَكِنْ قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله فِي الإِصَابَةِ (8/ 284): "قُتَيلَةُ بِنْتُ صَيفِيّ، وَيُقَالُ: الأَنْصَارِيَّةُ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: كَانَتْ مِنَ المُهَاجِرَاتِ الأُوَّلِ، رَوَى عَنْهَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يَسَارٍ، وَلَمْ أَرَ مَنْ نَسَبَهَا أَنْصَارِيَّةً. وَقَولُهُ: (مِنَ المُهَاجِرَاتِ) يَأْبَى ذَلِكَ".

(2)

صَحِيحٌ. النَّسَائِيُّ (3773). الصَّحِيحَةُ (136).

(3)

صَحِيحٌ. النَّسَائِيُّ فِي الكُبْرَى (10759). صَحِيحُ الأَدَبِ المُفْرَدِ (783).

ص: 174

أَتَيتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْتُهُ، قَالَ:((هَلْ أَخْبَرْتَ بِهَا أَحَدًا؟)) قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيهِ، ثُمَّ قَالَ:((أَمَّا بَعْدُ؛ فَإِنَّ طُفَيلًا رَأَى رُؤْيَا؛ أَخْبَرَ بِهَا مَنْ أَخْبَرَ مِنْكُمْ، وَإِنَّكُمْ قُلْتُمْ كَلِمَةً كَانَ يَمْنَعُنِي كَذَا وَكَذَا أَنْ أَنْهَاكُمْ عَنْهَا، فَلَا تَقُولُوا: مَا شَاءَ اللهُ وَشَاءَ مُحَمَّدٌ، وَلَكِنْ قُولُوا: مَا شَاءَ اللهُ وَحْدَهُ))

(1)

.

(1)

صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (20694)، وابْنُ مَاجَه (2118). الصَّحِيحَةُ (137).

ص: 175

فِيهِ مَسَائِلُ:

الأُولَى: مَعْرِفَةُ اليَهُودِ بِالشِّرْكِ الأَصْغَرِ.

الثَّانِيَةُ: فَهْمُ الإِنْسَانِ إِذَا كَانَ لَهُ هَوًى.

الثَّالِثَةُ: قَولُهُ صلى الله عليه وسلم: ((أَجَعَلْتَنِي لِلَّهِ نِدًّا؟!)) فَكَيفَ بِمَنْ قَالَ: ((يَا أَكْرَمَ الخَلْقِ مَا لِي مَنْ أَلُوذُ بِهِ سِوَاكَ)) وَالبَيتَينِ بَعْدَهُ؟!

(1)

الرَّابِعَةُ: أَنَّ هَذَا لَيسَ مِنَ الشِّرْكِ الأَكْبَرِ، لِقَولِهِ:((يَمْنَعُنِي كَذَا وَكَذَا)).

الخَامِسَةُ: أَنَّ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةَ مِنْ أَقْسَامِ الوَحْي.

السَّادِسَةُ: أَنَّهَا قَدْ تَكُونُ سَبَبًا لِشَرْعِ بَعْضِ الأَحْكَامِ.

(1)

وَهُمَا قَولُهُ:

"وَلَنْ يَضِيقَ رَسُولَ اللهِ جَاهُكَ بِي

إِذَا الكَرِيمُ تَحلَّى بِاسمِ مُنتَقِمِ

فَإِنَّ مِنْ جُودِكَ الدُّنْيَا وَضَرَّتها

وَمِنْ عُلُومِكَ عِلْمَ اللَّوحِ وَالقَلَمِ".

وَسَيَأْتِي مَعَنَا مُلْحَقٌ مُخْتَصَرٌ-إِنْ شَاءَ اللهُ- فِي الرَّدِّ عَلَى أَبْيَاتٍ مِنَ البُرْدَةِ.

ص: 176

‌الشَّرْحُ

- هَذَا البَابُ هُوَ فِي بَيَانِ نَوعٍ مِنْ شِرْكِ الأَلفاظِ، وَأَنَّ التَّسْوِيَةَ فِي بَعْضِهَا

(1)

بِالوَاوِ دُونَ -ثُمَّ- يُعَدُّ شِرْكًا لَفظِيًّا.

قَالَ الشَّيخُ الأَلْبَانيُّ رحمه الله: "وَفِي هَذِهِ الأَحَادِيثِ أَنَّ قَولَ الرَّجُلِ لِغَيرهِ: (مَا شَاءَ اللهُ وَشِئْتَ) يُعَدُّ شِرْكًا فِي الشَّرِيعَةِ، وَهُوَ مِنْ شِرْكِ الأَلفَاظِ، لِأَنَّهُ يُوهِمُ أَنَّ مَشِيئَةَ العَبْدِ فِي دَرَجَةِ مَشيئَةِ الرَّبِّ سبحانه وتعالى، وَسَبَبُهُ القَرْنُ بَينَ المَشِيئَتَينِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ قَولُ بَعْضِ العَامَّةِ وأَشْبَاهِهِم -مِمَّنْ يَدعي العِلْمَ-:(مَا لِي غَيرُ اللهِ وَأَنْتَ)! وَ (تَوَكَّلْنَا عَلى اللهِ وَعَلَيكَ)! وَمِثْلُهُ قَولُ بَعْضِ المُحَاضِرِينَ: (بَاسْمِ اللهِ وَالوَطَنِ)، أَو (بَاسْمِ اللهِ وَالشَّعْبِ)، وَنَحوِ ذَلِكَ مِنَ الأَلْفَاظِ الشِّرْكِيَّةِ الَّتِي يَجِبُ الانْتِهَاءُ عَنْهَا وَالتَّوبَةُ مِنْهَا أَدَبًا مَعَ اللهِ تبارك وتعالى.

وَلَقَدْ غَفَلَ عَنْ هَذا الأَدَبِ الكَرِيمِ كَثِيرٌ مِنَ العَامَّةِ وَغَيرُ قَلِيلٍ مِنَ الخَاصَّةِ الَّذِينَ يُسَوِّغُونَ النُّطْقَ بِمِثْلِ هَذهِ الشِّرْكِيَّاتِ! كَمُنَادَاتِهِم غَيرَ اللهِ فِي الشَّدَائِدِ! والاسْتِنْجَادِ بِالأَمْوَاتِ مِنَ الصَّالِحِينَ! وَالحَلِفِ بِهِم مِنْ دُونِ اللهِ تَعَالَى! وَالإِقْسَامِ بِهِم عَلَى اللهِ عز وجل! فَإِذَا مَا أَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيهِم عَالِمٌ بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ فَإِنهَّمُ بَدَلَ أَنْ يَكُونُوا عَونًا عَلَى إِنْكَارِ المُنْكَرِ، عَادُوا بِالإِنْكَارِ عَلَيهِ، وَقَالُوا: إِنَّ نِيَّةَ أُولَئِكَ -المُنَادِينَ غَيرَ اللهِ- طَيِّبَةٌ؛ وَإِنَّهَا (الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ!!) كَمَا جَاءَ فِي الحِدِيثِ.

فَيَجْهَلُونَ أَو يَتَجَاهَلُونَ -إِرْضَاءً لِلعَامَّةِ- أَنَّ النِّيَّةَ الطَّيِّبَةَ وَإِنْ وُجِدَتْ عِنْدَ المَذْكُورِينَ؛ فَهيَ لَا تَجْعَلُ العَمَلَ السَّيِّءَ صَالِحًا! وَأَنَّ مَعْنَى الحَدِيثِ المَذْكُورِ:

(1)

احْتِرَازًا مِنْ كُلٍّ، كَمَا سَيَأْتِي فِي المَسَائِلِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.

ص: 177

إِنَّمَا الأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ بِالنِّيَّاتِ الخَالِصَةِ، لَا أَنَّ الأَعْمَالَ المُخَالِفَةَ لِلشَّرِيعَةِ تَنْقَلُب إِلَى أَعْمَالٍ صَالِحَةٍ مَشْرُوعَةٍ بِسَبَبِ اقْتِرَانِ النِّيَّةِ الصَّالِحَةِ بِهَا! ذَلِكَ مَا لَا يَقُولُهُ إِلَّا جَاهِلٌ أَو مُغْرِضٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ رَجُلًا لَو صَلَّى تُجَاهَ القَبْرِ؛ لَكَانَ ذَلكَ مُنْكَرًا مِنَ العَمَلِ؛ لِمُخَالَفَتِهِ لِلأَحَادِيثِ وَالآثَارِ الوَارِدَةِ فِي النَّهْي عَنِ اسْتِقْبَالِ القَبْرِ بِالصَّلَاةِ، فَهَلْ يَقُولُ عَاقِلٌ: إِنَّ الَّذِي يَعُودُ إِلَى الاسْتِقْبَالِ -بَعْدَ عِلْمِهِ بِنَهي الشَّرْعِ عَنْهُ-: إِنَّ نِيَّتَهُ طَيِّبَةٌ وَعَمَلَهُ مَشْرُوعٌ؟! كَلَّا ثُمَّ كَلَّا، فَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ الَّذِي يَسْتَغِيثُونَ بِغَيرِ اللهِ تَعَالَى، وَيَنْسَونَهُ تَعَالَى فِي حَالَةٍ هُمْ أَحْوَجُ مَا يَكُونُونَ فِيهَا إِلَى عَونِهِ وَمَدَدِهِ؛ لَا يُعْقَلُ أَنْ تَكُونَ نِيَّاتُهُم طَيِّبَةً؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ عَمَلُهُم صَالِحًا، وَهُمْ يُصِرُّونَ عَلَى هَذا المُنْكَرِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ"

(1)

.

- قَولُهُ: ((فَلَا تَقُولُوا مَا شَاءَ اللهُ وَشَاءَ مُحَمَّدٌ)) لِأَنَّ فِيهِ تَسْوِيَةً فِي المَشِيئَةِ، وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَولُهُ تَعَالَى عَنِ المُشْرِكِينَ:{قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ * تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشُّعَرَاء: 96 - 98].

- قَولُهُ: ((لَا تَقُولُوا: مَا شَاءَ اللهُ وَشَاءَ فُلَانٌ؛ وَلَكِنْ قُولُوا: مَا شَاءَ اللهُ ثُمَّ شَاءَ فُلَانٌ)) فِيهِ بَيَانُ أَنَّهُ يَنْبَغِي عَلَى مَنْ سَدَّ بَابًا مُحَرَّمًا أَنْ يَفْتَحَ لَهُم بَابًا مُبَاحًا

(2)

.

- فِي الحَدِيثِ قَبُولُ الحَقِّ أَينَمَا كَانَ، كَمَا فِي الأَثَرِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ عُمَيرَةَ؛ أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ قَالَ:(وَأُحَذِّرُكُمْ زَيغَةَ الحَكِيمِ؛ فَإِنَّ الشَّيطَانَ قَدْ يَقُولُ كَلِمَةَ الضَّلَالَةِ عَلَى لِسَانِ الحَكِيمِ، وَقَدْ يَقُولُ المُنَافِقُ كَلِمَةَ الحَقِّ)، قَالَ: قُلْتُ لِمُعَاذٍ: مَا يُدْرِينِي -

ص: 178

رَحِمَكَ اللهُ- أَنَّ الحَكِيمَ قَدْ يَقُولُ كَلِمَةَ الضَّلَالَةِ؛ وَأَنَّ المُنَافِقَ قَدْ يَقُولُ كَلِمَةَ الحَقِّ؟ قَالَ: (بَلَى؛ اجْتَنِبْ مِنْ كَلَامِ الحَكِيمِ المُشْتَهِرَاتِ

(1)

الَّتِي يُقَالُ لَهَا: مَا هَذِهِ؟ وَلَا يُثْنِيَنَّكَ ذَلِكَ عَنْهُ؛ فَإِنَّهُ لَعَلَّهُ أَنْ يُرَاجِعَ، وَتَلَقَّ الحَقَّ إِذَا سَمِعْتَهُ فَإِنَّ عَلَى الحَقِّ نُورًا)

(2)

.

- فِي لَفْظِ أَحْمَدَ: ((كَانَ يَمْنُعُنِي الحَيَاءُ مِنْكُمْ))

(3)

، حَيَاؤُهُ صلى الله عليه وسلم مِنْهُم لَيسَ عَلَى وَجْهِ الحَيَاءِ مِنَ الإِنْكَارِ عَلَيهِم! بَلْ كَانَ صلى الله عليه وسلم يَكْرَهُهَا، وَلَكِنَّهُ يَستَحْيِي أَنْ يَذْكُرَهَا لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْمَرْ بِإِنْكَارِهَا؛ فَلَمَّا جَاءَ الأَمْرُ الإِلَهِيُّ بِالرُّؤيَا الصَّالِحَةِ أَنْكَرَهَا وَلَم يَستَحْي فِي ذَلكَ.

- هَذِهِ المَسَائِلُ لَيسَتْ مِنَ الشِّرْكِ الأَكْبَرِ وَإِنَّمَا مِنَ الأَصْغَرِ -كَمَا قَالَ المُصَنِّفُ رحمه الله فِي مَسَائِلِهِ-، وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَولُهُ فِي آخِرِ الحَدِيثِ:((وَإِنَّكُمْ قُلْتُمْ كَلِمَةً كَانَ يَمْنَعُنِي كَذَا وَكَذَا أَنْ أَنْهَاكُمْ عَنْهَا)) وَتَحْرِيمُ الشِّرْكِ فِي الأَلْفَاظِ أَتَى بِالتَّدْرِيجِ فِي تَارِيخِ بَعْثَةِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام وَتَبْلِيغِهِ أُمَّتِهُ بِالأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، أَمَّا الشِّرْكُ الأَكْبَرُ -الجَلِيُّ- فَقَدْ نَفَاهُ مِنْ أَوَّلِ الرِّسَالَةِ.

(1)

قَالَ أَبُو دَاوُد رحمه الله في سُنَنِهِ (4/ 202): "وَقَالَ صَالِحُ بْنُ كَيسَانَ عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي هَذَا (المُشَبَّهَاتِ) مَكَانَ (المُشْتَهِرَاتِ) ".

قَالَ صَاحِبُ عَونُ المَعْبُودِ بِشَرْحِ سُنَنِ أَبِي دَاوُد (12/ 238): "أَي الكَلِمَاتِ المُشْتَهِرَاتِ بِالبُطْلَانِ، (الَّتِي يُقَالُ لَهَا: مَا هَذِهِ؟) أَي: يَقُولُ النَّاسُ إِنْكَارًا فِي شَأْنِ تِلْكَ المُشْتَهِرَاتِ: مَا هَذِهِ؟ (وَلَا يُنْئِيَنَّكَ) أَي: لَا يَصْرِفَنَّكَ عَنِ الصِّرَاطِ المُسْتَقِيمِ، (ذَلِكَ) المَذْكُورُ مِنْ مُشْتَهِرَاتِ الحَكِيمِ، (عَنْهُ) أَي: عَنِ الحَكِيمِ، (فَإِنَّهُ لَعَلَّهُ) أَي الحَكِيمُ، (أَنْ يُرَاجِعَ) أَي: يَرْجِعَ عَنِ المُشْتَهِرَاتِ".

(2)

صَحِيحٌ مَوقُوفٌ. أَبُو دَاوُدَ (4611). صَحِيحُ أَبِي دَاوُدَ (4611).

وَأَمَّا حَدِيثُ: ((الكَلِمَةُ الحِكْمَةُ؛ ضَالَّةُ المُؤْمِنِ)). فَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا. ابْنُ مَاجَه (4169) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا. ضَعِيفُ الجَامِعِ (4301،4302).

(3)

صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (20694) عَنْ طُفَيلِ بْنِ سَخْبَرَةَ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (138).

ص: 179

وَهَذَا فِيهِ بَيَانٌ لِفِقْهِ الدَّعْوَةِ فِي تَبْلِيغِ الأَهَمِّ فَالأَهَمِّ، وَفِيهِ بَيَانُ فِقْهِ الدَّاعِيَةِ؛ أَنَّه يَنْبَغِي عِنْدَ تَغْيِيرِ الشَّيءِ وَالنَّهْي عَنْهُ أَنْ يُغَيِّرَ إِلَى شَيءٍ قَرِيبٍ مِنْهُ كَقَولِهِ عليه الصلاة والسلام هُنَا (الكَعْبَة - رَبِّ الكَعْبَة) وَ (وَشِئْتَ - ثُمَّ شِئْتَ).

- قَولُ: ((مَا شَاءَ اللهُ وَحْدَهُ)) أَكْمَلُ فِي الإِخْلَاصِ وَأَبْعَدُ عَنِ الشِّرْكِ مِنْ أَنْ يَقُولَ: (ثُمَّ شَاءَ فُلَانٌ) مَعَ أَنَّهُ جَائِزٌ أَيضًا.

ص: 180

‌مَسَائِلُ عَلَى البَابِ

-‌

‌ مَسْأَلَةٌ: يُشْكِلُ جَوَازُ العَطْفِ فِي حَدِيثِ زَيدِ بْنِ خَالِدٍ -الَّذِي فِيهِ قَولُهُم: (اللهُ وَرَسُولُهُ أعلمُ) - مَعَ حَدِيثِ: قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: مَا شَاءَ اللهُ وشِئْتَ.

فَقَالَ: ((جَعَلتَ للهِ نِدًّا؟! مَا شَاءَ اللهُ وَحْدَهُ))

(1)

؟

الجَوَابُ:

إِنَّ إِقْرَارَهُ لِقَولِهِم: (اللهُ وَرَسُولَهُ أَعْلَمُ) الَّذِي فِيهِ العَطْفُ بِالوَاوِ؛ هُوَ لِأَنَّ عِلْمَ الرَّسُولِ هَذَا -الشَّرْعِيَّ- هُوَ مِنْ عِلْمِ اللهِ تَعَالَى، فَهُوَ الَّذِي يُعلِّمُهُ مَا لَا يُدْرِكُهُ البَشَرُ.

وَكَذَلِكَ فِي المَسَائِلِ الشَّرْعيَّةِ الأُخْرَى يُقَالُ: (اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ) لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَعْلَمُ الخَلْقِ بِشَرْعِ اللهِ، وَعِلْمُهُ بِهِ هُوَ مِنْ تَعْلِيمِ اللهِ تَعَالَى لَهُ، وَمَا قَالَهُ صلى الله عليه وسلم فِي الشَّرْعِ فَهُوَ كَقَولِ اللهِ تَعَالَى، وَلَيسَ هَذَا كَقَولِهِ:(مَا شَاءَ اللهُ وَشِئْتَ)! لِأَنَّ هَذَا فِي بَابِ القَدَرِ وَالمَشِيئَةِ؛ وَمَشِيئَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُسْتَقِلَّةٌ عَنْ مَشِيئَتِهِ تَعَالَى، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم مَقْرُونًا مَعَ اللهِ تَعَالَى فِي ذَلِكَ

(2)

، بَلْ يُقَالُ: مَا شَاءَ اللهُ؛ ثُمَّ يُعْطَفُ بِـ (ثُمَّ)، فَالضَّابِطُ فِي ذَلِكَ: أَنَّ الأُمُورَ الشَّرْعِيَّةَ يَصِحُّ فِيهَا العَطْفُ بِالوَاوِ، وَأَمَّا الكَونِيَّةَ، فَلَا.

قُلْتُ: وَبِمِثْلِهِ أَيضًا الجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ: ((إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)) وَالَّذِي فِيهِ الهِجْرَةُ ((إِلى اللهِ وَرَسُولِهِ)) وَلَمْ يَقُلْ: (ثُمَّ رَسُولِهِ)، وَالجَوَابُ فِيهِ أَيضًا: أَنَّ مَا يَتَعَلَّقُ

(1)

صَحِيحٌ. الأَدَبُ المُفْرَدُ (783) عَنِ ابْنِ عبَّاسٍ. الصَّحِيحَةُ (139).

(2)

كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الإِنْسَان: 30].

ص: 181

بِالشَّرِيعَةِ يَصِحُّ أَنْ يُعبَّرَ عَنْهُ بِالوَاوِ؛ لِأَنَّ مَا صَدَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الشَّرْعِ إِنَّمَا هُوَ بِأَمْرِ رَبِّهِ تَعَالَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النِّسَاء: 80]، وَأَمَّا الأُمُورُ الكَونِيَّةُ -كَالمَشِيئَةِ مَثَلًا- فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقْرَنَ مَعَ اللهِ أَحَدٌ بِالوَاوِ أَبَدًا؛ لِأَنَّ مَشِيئَةَ العَبْدِ مُسْتَقِلَّةٌ عَنْ مَشِيئَةِ اللهِ، وَلَكِنَّهَا لَا تَقَعُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَشَاءَ اللهُ، فَكُلُّ شَيءٍ تَحْتَ إِرَادَةِ اللهِ تَعَالَى وَمَشِيئَتِهِ، قَالَ تَعَالَى:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التَّكْوِير: 29]، وَكَذَا قَولُهُ تَعَالَى:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الإِنْسَان: 30]

(1)

.

(1)

مُلَاحَظَةٌ: لِتَمَامِ الفَائِدَةِ رَاجِعْ مَسَائِلَ بَابِ (مَا جَاءَ فِي الاسْتِسْقَاءِ بِالأَنْوَاءِ).

ص: 182

بَابُ مَنْ سَبَّ الدَّهْرَ فَقَدْ آذَى اللهَ

وَقَولُ اللهِ تَعَالَى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [الجَاثِيَة: 24].

وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قَالَ: ((قَالَ اللهُ تَعَالَى: يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ؛ يَسُبُّ الدَّهْرَ -وَأَنَا الدَّهْرُ- أُقَلِّبُ اللَّيلَ وَالنَّهَارَ)).

وَفِي رِوَايَةٍ: ((لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ؛ فِإنَّ اللهَ هُوَ الدَّهْرُ))

(1)

.

(1)

البُخَارِيُّ (4826). وَفِيهِ أَيضًا (6182) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قَالَ: ((لَا تُسَمُّوا العِنَبَ الكَرْمَ، وَلَا تَقُولُوا خَيبَةَ الدَّهْرِ؛ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الدَّهْرُ)).

ص: 183

فِيهِ مَسَائِلُ:

الأُولَى: النَّهْيُ عَنْ سَبِّ الدَّهْرِ.

الثَّانِيَةُ: تَسْمِيَتُهُ أَذًى للهِ.

الثَّالِثَةُ: التَّأَمُّلُ فِي قَولِهِ: ((فَإِنَّ اللهَ هُوَ الدَّهْرُ)).

الرَّابِعَةُ: أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ سَابًّا -وَلَو لَمْ يَقْصِدْهُ بِقَلْبِهِ-!

ص: 184

‌الشَّرْحُ

- إِنَّ سَبَّ الدَّهْرِ يُنَافي كَمَالَ التَّوحِيدِ الوَاجِبِ، وَيَعُودُ عَلَى اللهِ جَلَّ وَعَلَا بِالإِيذَاءِ؛ لِأَنَّه سَبٌّ لِمَنْ تَصَرَّفَ بِهَذَا الدَّهْرِ.

وَفِي الحَدِيثِ: ((مَنْ لَعَنَ شَيئًا لَيسَ لَهُ بِأَهْلٍ؛ رَجَعَتِ اللَّعْنَةُ عَلَيهِ))

(1)

.

- الآيَةُ ظَاهِرَةٌ فِي أَنَّ نِسْبَةَ الأَشْيَاءِ إِلَى الدَّهْرِ اسْتِقْلَالًا هِيَ مِنْ خِصَالِ المُشْرِكِينَ أَعْدَاءِ التَّوحِيدِ، وَمِنْهُ قَولُ ابْنِ المُعْتَزِّ

(2)

:

"يَا دَهْرُ وَيحَكَ مَا أَبْقَيتَ لِي أَحَدًا

وَأَنْتَ وَالِدُ سُوءٍ تَأْكُلُ الوَلَدَ"

(3)

.

فَلَا تَصِحُّ نِسْبَةُ الإِهْلَاكِ إِلَى الدَّهْرِ لِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ مَرْبُوبٌ لَيسَ لَهُ تَصَرُّفٌ لَا فِي غَيرِهِ وَلَا فِي نَفْسِهِ أَصْلًا! بَلِ اللهُ جَلَّ وَعَلَا هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَيَقْضِي فِيهِ بِمَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ، وَلَكِنَّ الأَعْظَمَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ هُوَ عَودَةُ مَسَبَّةِ الدَّهْرِ إِلَى اللهِ تَعَالَى.

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: "وَإِنَّمَا تَأْوِيلُهُ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ-: أَنَّ العَرَبَ كَانَ شَأْنُهَا أَنْ تَذُمَّ الدَّهْرَ وَتَسُبَّهُ عِنْدَ الْمَصَائِبِ الَّتِي تَنْزِلُ بِهِمْ مِنْ مَوتٍ أَو هَرمٍ أَو تَلَفٍ أَو غَيرِ ذَلِكَ فَيَقُولُونَ: إِنَّمَا يُهْلِكُنَا الدَّهْرُ -وَهُوَ اللَّيلُ وَالنَّهَارُ-! وَهُمَا الفَنَتَانِ

(4)

وَالجَدِيدَانِ، فَيَقُولُونَ: أَصَابَتْهُمْ قَوَارِعُ الدَّهْرِ، وَأَبَادَهُمُ الدَّهْرُ، وَأَتَى عَلَيهِمْ، فَيَجْعَلُونَ اللَّيلَ وَالنَّهَارَ

(1)

صَحِيحٌ. أَبُو دَاوُدَ (4908) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (528).

(2)

هُوَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ؛ المُعْتَزُّ بِاللهِ بْنُ المُتَوَكِّلِ بْنِ المُعْتَصِمِ بْنِ الرَّشيدِ العَبَّاسِيُّ، أَبُو العَبَّاسِ، (ت 296 هـ).

(3)

اُنْظُرْ كِتَابَ البِدَايَةُ وَالنِّهَايَةُ (14/ 713) لِلحَافِظِ ابْنِ كَثِيرٍ رحمه الله.

(4)

"مُثَنَّى الفَنَة: السَّاعَةُ مِنَ الزَّمَانِ، وَأَيضًا: الطَّرَفُ مِنَ الدَّهْرِ كَالفَينَةِ، يَقُولُونَ: كُنْتُ بِحَالِ كَذَا وَكَذَا فَنَّةً مِنَ الدَّهَرِ". تَاجُ العَرُوسِ (35/ 519).

ص: 185

اللَّذَينِ يَفْعَلَانِ ذَلِكَ! فَيَذُمُّونَ الدَّهْرَ بِأَنَّهُ الَّذِي يُفْنِينَا وَيَفْعَلُ بِنَا؛ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ)) عَلَى أَنَّهُ يُفْنِيكُمْ وَالَّذِي يَفْعَلُ بِكُمْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ!! فَإِنَّكُمْ إِذَا سَبَبْتُمْ فَاعِلَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَإِنَّمَا تَسُبُّون اللَّهَ تبارك وتعالى؛ فَإِنَّ اللَّهَ فَاعِلُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ"

(1)

.

وَقَالَ ابْنُ الجَوزِيُّ رحمه الله: "وَرُبَّمَا جَعَلُوا اللهَ الدُّنْيَا، وَيَقُولُونَ: فَعَلَتْ وَصَنَعَتْ"! وَ "كَذَلِكَ لَعْنُ جَمِيعِ الحَيَوَانَاتِ وَالجَمَادَاتِ؛ فَكُلُّهُ مَذْمُومٌ"

(2)

.

- إِنَّ سَبَّ الدَّهْرِ -أَو وَصْفَهُ- يَنْقَسِمُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ

(3)

:

1 -

أَنْ يَقْصِدَ الخَبَرَ المَحْضَ دُونَ اللَّومِ؛ فَهَذَا جَائِزٌ، ومِنْهُ قَولُ لُوطٍ عليه الصلاة والسلام:{وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} [هُود: 77]

(4)

.

2 -

أَنْ يَسُبَّ الدَّهْرَ عَلَى أَنَّه هُوَ الفَاعِلُ؛ كَأَنْ يَعْتَقِدَ بِسَبِّهِ الدَّهْرَ أَنَّ الدَّهْرَ هُوَ الَّذِي يُقَلِّبُ الأُمُورَ إِلَى الخَيرِ وَالشَّرِّ! فَهَذَا شِرْكٌ أَكْبَرُ؛ لِأَنَّه اعْتَقَدَ أَنَّ مَعَ اللهِ خَالِقًا، وَلِأَنَّهُ نَسَبَ إِيجَادَ الحَوادِثِ إِلَى غَيرِ اللهِ، وَمِنْ ذَلِكَ الضَّلَالِ نِسْبَةُ الإِمَاتَةِ إِلَى الدَّهْرِ فِي قَولِ المُشْرِكِينَ:{وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجَاثِيَة: 24].

3 -

أَنْ يَسُبَّ الدَّهْرَ لَا لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ هُوَ الفَاعِلَ؛ بَلْ يَعْتَقِدُ أَنَّ اللهَ هُوَ الفَاعِلُ لَكِنْ يَسُبُّهُ لِأَنَّهُ مَحَلٌّ لِهَذَا الأَمْرِ المَكْرُوهِ عِنْدَهُ؛ فَهَذَا مُحَرَّمٌ، وَهُوَ مَقْصُودُ المُصَنِّفِ فِي هَذَا البَابِ.

(1)

مَعْرِفَةُ السُّنَنِ وَالآثَارِ لِلبَيهَقِيِّ (5/ 203).

(2)

صَيدُ الخَاطِرِ (ص 407)، وَانْظُرْ (الأَذْكَارُ)(ص 354) لِلنَّوَوِيِّ رحمه الله، وَ (الكَبَائِرُ)(ص 167) لِلذَّهَبِيِّ رحمه الله.

(3)

القَولُ المُفِيدُ (2/ 240) بِتَصَرُّفٍ يَسِيرٍ.

(4)

قُلْتُ: الأَولَى فِي هَذَا النَّوعِ أَنْ يُسَمَّى وَصْفًا وَلَا يُسَمَّى سَبًّا، كَمَا قَالَ صَاحِبُ فَتْحِ المَجِيدِ رحمه الله (ص 425):"وَلَيسَ مِنْهُ وَصْفُ السِّنِينَ بالشِّدَّةِ وَنَحوِ ذَلكَ كَقَولِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ} [يُوسُف: 48] ".

ص: 186

‌مَسَائِلُ عَلَى البَابِ

-‌

‌ المَسْأَلَةُ الأُولَى: هَلِ الدَّهْرُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى؟

كَمَا فِي الحَدِيثِ الَّذِي فِي الصَّحِيحِ: ((قَالَ اللهُ تَعَالَى: يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ؛ يَسُبُّ الدَّهْرَ -وَأَنَا الدَّهْرُ- أُقَلِّبُ اللَّيلَ وَالنَّهَارَ))

(1)

.

الجَوَابُ:

الدَّهْرُ لَيسَ هُوَ نَفْسُ اللهِ، وَلَيسَ اسْمًا مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى.

وَيَدُلُّ لِذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ:

1 -

أَنَّ سِيَاقَ الحَدِيثِ يَأْبَاهُ، بَلْ يُرْشِدُ إِلَى أَنَّ المَقْصُودَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ المُتَصَرِّفُ بِالدَّهْرِ نَفْسِهِ، كَمَا فِي قَولِهِ:((بِيَدِي الأَمْرُ؛ أُقَلِّبُ اللَّيلَ وَالنَّهَارَ))، وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّيلَ وَالنَّهَارَ هُوَ الزَّمَنُ، وَهُوَ الدَّهْرُ نَفْسُهُ، فَاللهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يُقَلِّبُهُما

(2)

.

2 -

أَنَّ الزَّمَنَ مَخْلُوقٌ كَالمَكَانِ، وَاللهُ هُوَ الَّذِي خَلَقَهُ، قَالَ تَعَالَى:{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} [يُونُس: 67]، وَقَالَ أَيضًا سُبْحَانَهُ: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَينِ

(1)

قَالَ شَيخُ الإِسْلَامِ رحمه الله فِي مَجْمُوعِ الفَتَاوَى (2/ 494): "وَالقَولُ الثَّانِي: قَولُ نُعَيمِ بْنِ حَمَّادٍ وَطَائِفَةٍ مَعَهُ مِنْ أَهْلِ الحَدِيثِ وَالصُّوفِيَّةِ أَنَّ الدَّهْرَ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى، وَمَعْنَاهُ القَدِيمُ الأَزَلِيُّ، وَرَوَوا فِي بَعْضِ الأَدْعِيَةِ:(يَا دَهْرُ، يَا دَيهُورُ، يَا دَيهَارُ).

وَهَذَا المَعْنَى صَحِيحٌ، لِأَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ هُوَ الأَوَّلُ لَيسَ قَبْلَهُ شَيءٌ، وَهُوَ الآخِرُ لَيسَ بَعْدَهُ شَيءٌ، فَهَذَا المَعْنَى صَحِيحٌ؛ إنَّمَا النِّزَاعُ فِي كَونِهِ يُسَمَّى دَهْرًا".

(2)

وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ المُتَبَادِرُ مِنْ سِيَاقِ الحَدِيثِ، وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ مِنَ الكَلَامِ شَائِعَةُ الاسْتِخْدَامِ، كَمَا يُقَالُ عَنِ الرَّجُلِ العَظِيمِ الشَّأْنِ المُتَصَرِّفِ فِي الدَّولَةِ أَنَّهُ دَولَةٌ، وَعَنْ رَئِيسِ الشُّرْطَةِ أَنَّهُ هُوَ الشُّرْطَةُ.

ص: 187

وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيلَ وَالنَّهَارَ} [إِبْرَاهِيم: 33].

فَالإِخْبَارُ عَنِ الجَعْلِ -وَهُوَ الخَلْقُ هُنَا- وَالتَّسْخِيرِ دَلِيلٌ عَلَى كَونِهِ مَخْلُوقًا مِنْ جُمْلَةِ المَخْلُوقَاتِ

(1)

.

3 -

أَنَّ أَسْمَاءَ اللهِ تَعَالَى كُلُّهَا حُسْنَى، أَي: بَالِغَةٌ فِي الحُسْنِ أَقْصَاهُ، وَهِيَ مُتضمِّنةٌ لِصِفَاتِ الكَمَالِ، أَمَّا الدَّهْرُ فَهُوَ اسْمٌ جَامِدٌ لَا يَتَضَمَّنُ مَعْنًى يَتَفَاضَلُ أَصْلًا! فَلَيسَ فِيهِ مَدْلُولٌ لِلحُسْنِ كَسَائِرِ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى.

4 -

أَنَّهُ لَو كَانَ الدَّهْرُ اسْمًا مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ؛ لَمْ يَكُنْ قَولُ الكُفَّارِ: {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} خَطَأً! فَتَأَمَّلْ.

(1)

وَلَمْ نَسْتَدِلَّ بِمِثْلِ قَولِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفُرْقَان: 62]-كَمَا ذَهَبَ إِلَيهِ بَعْضُ الأَفَاضِلِ- وَذَلِكَ لِأَنَّها لَا تَدُلُّ صَرَاحَةً عَلَى المَقْصُودِ، ذَلِكَ أَنَّ كَلِمَةَ (جَعَلَ) إِذَا تَعَدَّتْ إِلَى مَفْعُولَينِ؛ فَإِنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى الخَلْقِ؛ وَإنَّمَا عَلَى التَّصْيِيرِ، كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى:{إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزُّخْرُف: 3]، بِخِلَافِ مَا إِذَا تَعَدَّتْ إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ فَقَط؛ فَإِنَّ مَعْنَاهَا (الخَلْقُ). وَالحَمْدُ للهِ.

قَالَ شَيخُ الإِسْلَامِ رحمه الله: "وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} لَمْ يَقُلْ: (جَعَلْنَاهُ) فَقَطْ حَتَّى يُظَنَّ أَنَّهُ بِمَعْنَى: (خَلَقْنَاهُ)! وَلَكِنْ قَالَ: {جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} أَي: صَيَّرْنَاهُ عَرَبِيًّا". مَجْمُوعُ الفَتَاوَى (12/ 522).

ص: 188

-‌

‌ المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: كَيفَ يَصِحُّ القَولُ بِأَنَّ ابْنَ آدَمَ يُؤْذِي اللهَ تَعَالَى؛ مَعَ أَنَّهُ هُوَ رَبُّ العَالَمِينَ؟!

الجَوَابُ:

لَا يَلْزَمُ مِنَ الأَذِيَّةِ الضَّرَرُ! فَالإِنْسَانُ يَتَأَذَّى بِسَمَاعِ القَبِيحِ أَو مُشَاهَدَتِهِ؛ وَلَكِنَّهُ لَا يَتَضَرَّرُ بِذَلِكَ، وَأَيضًا يَتَأَذَّى بِالرَّائِحَةِ الكَرِيهَةِ كَالبَصَلِ وَالثُّومِ وَلَا يَتَضَرَّرُ بِذَلِكَ، وَلِهَذَا أَثْبَتَ اللهُ تَعَالَى الأَذِيَّةَ فِي القُرْآنِ وَنَفَى الضَّرَرَ عَنْ نَفْسِهِ، فَقَالَ تَعَالَى:{إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا} [الأَحْزَاب: 57]، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى قَالَ أَيضًا:{إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عِمْرَان: 177].

وَأَيضًا أَثْبَتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الأَذِيَّةَ للهِ كَمَا فِي حَدِيثِ البَابِ

(1)

، وَأَخْبَرَ أَيضًا عَنْ نَفْي الضَّرَرِ عَنْهُ تَعَالَى كَمَا فِي الحَدِيثِ القُدُسيِّ:((يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي))

(2)

.

وَتَأَمَّلْ قَولَهُ تَعَالَى: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ} [آل عِمْرَان: 111]

(3)

.

(1)

وَكَحَدِيثِ: ((لَيسَ أَحَدٌ -أَو لَيسَ شَيءٌ- أَصْبَرَ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنَ اللهِ؛ إِنَّهُمْ لَيَدَّعُونَ لَهُ وَلَدًا -وَإِنَّهُ لَيُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ-)). رَوَاهُ البُخَارِيُّ (6099)، وَمُسْلِمٌ (2804) عَنْ أَبِي مُوسَى مَرْفُوعًا.

(2)

مُسْلِمٌ (2577) عَنْ أَبِي ذَرٍّ مَرْفُوعًا.

(3)

قُلْتُ: وَكَمَا جَاءَ عَنِ الأَصْمَعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: رَأَيتُ أَعْرَابِيَّةً فِي الفَلَاةِ، فَقُلْتُ: كَيفَ تَصْبِرُونَ عَلَى الحَرِّ

=

ص: 189

قَالَ الشَّيخُ السَّعْدِيُّ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ

(1)

: "فَلَيسَ عَلَى المُؤْمِنِينَ مِنْهُم ضَرَرٌ فِي أَدْيَانِهِم وَلَا أَبْدَانِهِم، وَإنَّمَا غَايَةُ مَا يَصِلُونَ إِلَيهِ مِنَ الأَذَى؛ أَذِيَّةُ الكَلَامِ الَّتِي لَا سَبِيلَ إِلَى السَّلَامَةِ مِنْهَا مِنْ كُلِّ مُعَادِي"

(2)

.

=

وَالبَرْدِ؟ أَمَا يَضُرُّكُم الحَرُّ وَالبَرْدُ؟ فَقَالَتْ: لَا سَوَاءَ! أَمَّا الحَرُّ فَهُوَ أَذًى، وَإِنَّمَا الَّذِي يَضُرُّ هُوَ البَرْدُ. مُسْتَفَادٌ مِنْ شَرْحِ الشَّيخِ الغُنَيمَانِ حَفِظَهُ اللهُ عَلَى كِتَابِ فَتْحُ المَجِيدِ، شَرِيطُ رَقَم (56)، شَرْحُ بَابِ قَولِهِ تَعَالَى:{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} .

(1)

تَفْسِيرُ السَّعْدِيّ (ص 143).

(2)

وُيُنْظَرُ كِتَابُ (الصَّارِمُ المَسْلُولُ) لِابْنِ تَيمِيَّةَ (ص 58).

ص: 190

بَابُ التَّسَمِّي بِقَاضِي القُضَاةِ وَنَحْوِهِ

فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قَالَ: ((إِنَّ أَخْنَعَ اسْمٍ عِنْدَ اللهِ رَجُلٌ تَسَمَّى مَلِكَ الأَمْلَاكِ؛ لَا مَالِكَ إِلَّا اللهَ)).

وَفِي رِوَايَةٍ: ((أَغْيَظُ رَجُلٍ عَلَى اللهِ يَومَ القِيَامَةِ، وَأَخْبَثُهُ))

(1)

.

قَولُهُ: ((أَخْنَعَ)) يَعْنِي: أَوضَعَ.

قَالَ سُفْيَانُ: مِثْلُ شَاهَانْ شَاهْ.

(1)

البُخَارِيُّ (6206)، وَمُسْلِمٌ (2143)، وَاللَّفْظُ لَهُ.

ص: 191

فِيهِ مَسَائِلُ:

الأُولَى: النَّهْيُ عَنِ التَّسَمِّي بِمَلِكِ الأَمْلَاكِ.

الثَّانِيَةُ: أَنَّ مَا فِي مَعْنَاهُ مِثْلُهُ -كَمَا قَالَ سُفْيَانُ-.

الثَّالِثَةُ: التَّفَطُّنُ لِلتَّغْلِيظِ فِي هَذَا وَنَحْوِهِ مَعَ القَطْعِ بِأَنَّ القَلْبَ لَمْ يَقْصِدْ مَعْنَاهُ.

الرَّابِعَةُ: التَّفَطُّنُ أَنَّ هَذَا لِأَجْلِ اللهِ سُبْحَانَهُ.

ص: 192

‌الشَّرْحُ

- قَولُهُ: ((إِنَّ أَغْيَظَ اسْمٍ عَلَى اللهِ)) الغَيظُ هُنَا لَا يَتَعَلَّقُ فَقَطْ بِالاسْمِ المُجَرَّدِ بَلْ بِمَنْ تَسَمَّى بِهِ كَمَا فِي الرِّوَايَةِ الأُخْرَى: ((أَغْيَظَ رَجُلٍ عَلَى اللهِ)).

- قَولُهُ: ((أَغْيَظَ)) الغَيظُ: الغَضَبُ، أَو أشَدُّهُ

(1)

، وَهِيَ من الصِفَاتِ الَّتِي تُمَرُّ كَمَا جَاءَتْ

(2)

.

- أَخَذَ المُصَنِّفُ رحمه الله النَّهْيَ عَنِ التَّسْمِيَةِ بِـ (قَاضِي القُضَاةِ) وَهُوَ مِمَّا اشْتَهَرَ بَينَ النَّاسِ وَيَعْنُونَ بِهِ: أَعْلَمَ القُضَاةِ مِنْ مَعْنَى قَولِهِ: ((مَلِكَ الأَمْلَاكِ))، وَحَيثُ أنَّ اللهَ هُوَ المَالِكُ الحَقِيقِيُّ وأنَّ مُلْكَهُ كَامِلٌ؛ وأَنَّ العِبَادَ مُلْكُهُم قَاصِرٌ وَلَا يَمْلِكُ أَحَدُهُم إِلَّا مَا فِي يَدِهِ؛ صَارَ من نَفْسِ المَعنى أَنَّ التَّسَمِّي بِقَاضِي القُضَاةِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ أَعْلَمَ مَنْ يَقْضِي بَينَ النَّاسِ هُوَ اللهُ تَعَالَى، فَاللهُ حُكْمُهُ حَقٌّ بِلَا شَكٍ، وَهُوَ يَقْضِي بَينَ الجَمِيعِ -بِمَنْ فِيهِم القُضَاةُ أَنْفُسُهُم-، قَالَ تَعَالَى:{إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَينَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [النَّمْل: 78]، وكَقَولِهِ تَعَالَى:{إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَينَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [يُونُس: 93]، وَالقَاضِي مِنَ البَشَرِ قَدْ يُخْطِئُ وَقَدْ يُصِيبُ، وَقَضَاؤهُ لَا يَقَعُ إِلَّا بَينَ مَنْ هُم فِي بَلَدِهِ وَتَحْتَ إِمْرَتِهِ؛ لِذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ إِطْلَاقُ قَاضِي القُضَاةِ عَلَى البَشَرِ لِأَنَّهُ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِاللهِ تَعَالَى، وَيُمْكِنُ إِطْلَاقُهَا مُقَيَّدَةً كَقَولِك: قَاضِي قُضَاةِ دِمَشْقَ.

(1)

القَامُوسُ المُحِيطُ (ص 697).

(2)

وَفِي كِتَابِ (صِفَاتُ اللهِ عز وجل لِلشَّيخِ عَلَوي السَّقَّاف (ص 264): "وَقَالَ قَوَّامُ السُّنَّةِ الأَصْبَهَانِيُّ فِي الحُجَّةُ فِي بَيَانِ المَحَجَّةِ (2/ 457): قَالَ عُلَمَاؤُنَا: يُوصَفُ اللهُ بِالغَضَبِ، وَلَا يُوصَفُ بَالغَيظِ". فَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

ص: 193

- المَلِكُ وَالمَالِكُ لُغَةً: المَلِكُ مِنَ المُلْكِ؛ وَهُوَ الَّذِي يَنْفُذُ أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ، أَمَّا المَالِكُ فَهُوَ فَاعِلٌ مِنَ المِلْكِ، وَمَلَكَ الشَّيءَ يَعْنِي: اقْتَنَاهُ وَصَارَ مُخْتَصًّا بِهِ

(1)

.

- مَنْ قَصَدَ بِتَسْمِيَةِ نَفْسِهِ مَلِكَ الأَمْلَاكِ رِفْعَةً وَعُلُّوًّا؛ فإِنَّ اللهَ تَعَالَى يُجَازِيهِ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ وَيَجْعَلُهُ وَضِيعًا، كَمَا جَاءَ فِي الحَدِيثِ:((يُحْشَرُ المُتَكَبِّرُونَ يَومَ القِيَامَةِ أَمْثَالَ الذَّرِّ فِي صُوَرِ الرِّجَالِ، يَغْشَاهُمُ الذُّلُّ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، يُسَاقُونَ إِلَى سِجْنٍ فِي جَهَنَّمَ يُسَمَّى بُولُسَ، تَعْلُوهُمْ نَارُ الأَنْيَارِ، يُسْقَونَ مِنْ عُصَارَةِ أَهْلِ النَّارِ؛ طِينَةِ الخَبَالِ))

(2)

، وَذَلِكَ مُعَامَلَةً لَهُم بِنَقيضِ قَصْدِهِم، قَالَ تَعَالَى:{تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القَصَص: 83]، وَفِي الحَدِيثِ:((إِنَّ أَحَبَّ أَسْمَائِكُمْ إِلَى اللهِ: عَبْدُ اللهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ))

(3)

.

- شَرْحُ سُفْيَانَ -وَهُوَ ابْنُ عُيَينَةَ- ((مَلِكِ الأَمْلَاكِ)) بِـ: (شَاهَان شَاه) إنَّمَا هُوَ لِبَيانِ أَنَّ المَنْهِيَّ لَيسَ اللَّفْظَ المُجَرَّدَ بَلِ المَعْنَى، وَ" شَاهَان شَاه" كَلَامٌ فَارِسِيٌّ مَعْنَاهُ مَلِكُ الأَمْلَاكِ.

(1)

قَالَ ابْنُ الجَوزِيِّ رحمه الله فِي تَفْسِير الفَاتِحَةِ: "وَجُمْهُورُ القُرَّاءِ (مَلِكِ) -بِفَتْحِ المِيمِ مَعَ كَسْرِ اللَّامِ- وَهُوَ أَظْهَرُ فِي المَدْحِ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَلِكٍ مَالِكٌ، وَلَيسَ كُلُّ مَالِكٍ مَلِكًا". زَادُ المَسِيرِ (1/ 19).

(2)

حَسَنٌ. التِّرْمِذِيُّ (2492) عَنِ ابْنِ عَمْرو مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (8040).

وَالخَبَالُ: بِفَتْحِ الخَاءِ المُعْجَمَةِ؛ هُوَ الفَسَادُ.

(3)

مُسْلِمٌ (2132) عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا.

ص: 194

‌مَسَائِلُ عَلَى البَابِ

-‌

‌ مَسْأَلَةٌ: كَيفَ الجَمْعُ بَينَ قَولِهِ تَعَالَى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} [فَاطِر: 13] الَّتِي فِيهَا نَفيُ التَّمَلُّكِ عَنِ البَشَرِ؛ وَبَينَ غَيرِهَا مِنَ النُّ

صُوصِ الَّتِي فِيهَا إِثْبَاتُ التَّمَلُّكِ مِثْلَ قَولِهِ تَعَالَى عَنِ الأَكْلِ مِنَ البُيُوتِ: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ} [النُّور: 61]، وَقَولِهِ تَعَالَى:{إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيرُ مَلُومِينَ} [المُؤْمِنُون: 6]؟

الجَوَابُ:

إِنَّ مِلْكَ العَبْدِ لِلشَّيءِ هُوَ مِلْكٌ قَاصِرٌ وَلَيسَ تَامًّا، وَهَذَا القُصُورُ هُوَ مِنْ عِدَّةِ جِهَاتٍ:

1 -

مِنْ جِهَةِ القَدَرِ.

فَأَنَا لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقُولَ لِعَبْدِي المَرِيضِ: اِبْرَأْ؛ فَيَبْرَأُ! وَلَا أَسْتَطِيعُ إِرْجَاعَ دِرْهَمٍ أَنْفَقْتُهُ! وَلَا شَيئًا أَحْرَقْتُهُ!

2 -

مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ.

فَأَنَا لَا أَسْتَطِيعُ أَنَّ أَتَصَرَّفَ فِي مِلْكِي كَمَا أَشَاءُ -إِذَا خَالَفَ الشَّرْعَ- كَالتَّعَامُلِ بِالرِّبَا، أَوِ القِمَارِ!

3 -

مِنْ جِهَةِ الشُّمُولِ.

أَنَّ العَبْدَ يَمْلِكُ مَا تَحْتَ يَدِهِ، وَلَا يَمْلِكُ مَا تَحْتَ يَدِ غَيرِهِ.

4 -

مِنْ جِهَةِ الزَّمَنِ.

ص: 195

فَاللهُ تَعَالَى مَالِكُ كُلِّ شَيءٍ، وَهُوَ الَّذِي وَرَّثَ الشَّيءَ مِنْ شَخْصٍ لِآخَرَ، فَالعَبْدُ -وَلَو كَانَ مَالِكًا لِشَيءٍ فِي الحَاضِرِ- وَلَكِنَّهُ قَبْلَ وُصُولِهِ لِيَدِهِ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا لَهُ! وَقَبْلَ خَلْقِهِ -أَي: الشَّخْصِ- لَمْ يَكُنْ مَالِكًا لَهُ، وَبَعْدَ مَوتِهِ كَذَلِكَ، وَإِذَا سُرِقَ مِنْهُ كَذَلِكَ.

فَالمِلْكُ وَالمَالُ كُلُّهُ للهِ يُورِثُهُ مَنْ يَشَاءُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النُّور: 33]، وَكَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى:{آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} [الحَدِيد: 7]

(1)

.

(1)

يُنْظَرُ: شَرْحُ العَقِيدَةِ الوَاسِطِيَّةِ لِلْعُثَيمِين (1/ 23).

ص: 196

بَابُ احْتِرَامِ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى، وَتَغْيِيرِ الِاسْمِ لِأَجْلِ ذَلِكَ

عَنْ أَبِي شُرَيحٍ؛ أَنَّهُ كَانَ يُكَنَّى أَبَا الحَكَمِ؛ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ اللهَ هُوَ الحَكَمُ، وَإِلَيهِ الحُكْمُ))، فَقَالَ: إِنَّ قَومِي إِذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيءٍ أَتَونِي؛ فَحَكَمْتُ بَينَهُمْ؛ فَرَضِيَ كِلَا الفَرِيقَينِ، فَقَالَ:((مَا أَحْسَنَ هَذَا، فَمَا لَكَ مِنَ الوَلَدِ))؟ قُلْتُ: شُرَيحٌ وَمُسْلِمٌ وَعَبْدُ اللهِ، قَالَ:((فَمَنْ أَكْبَرُهُمْ؟)) قُلْتُ: شُرَيحٌ، قَالَ:((فَأَنْتَ أَبُو شُرَيحٍ)). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيرُهُ

(1)

.

فِيهِ مَسَائِلُ:

الأُولَى: احْتِرَامُ أَسْمَاءِ اللهِ وَصِفَاتِهِ وَلَو لَمْ يَقْصِدْ مَعْنَاهُ.

الثَّانِيَةُ: تَغْيِيرُ الِاسْمِ لِأَجْلِ ذَلِكَ.

الثَّالِثَةُ: اخْتِيَارُ أَكْبَرِ الأَبْنَاءِ لِلْكُنْيَةِ.

(1)

صَحِيحٌ. أَبُو دَاوُدَ (4955). صَحِيحُ أَبِي دَاوُدَ (4955).

ص: 197

‌الشَّرْحُ

- يُوصَفُ اللهُ عز وجل بِأَنَّهُ الحَاكِمُ وَالحَكَمُ.

وَ (الحَكَمُ): اسْمٌ لَهُ ثَابِتٌ بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ

(1)

.

- اسْمُ (أَبِي الحَكَمِ) فِيهِ مُخَالَفَةٌ مِنْ وَجْهَينِ:

1 -

أَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ الحَكَمُ، فَفِيهِ مُنَازَعَةٌ للهِ تَعَالَى فِي اسْمِهِ وَصِفَتِهِ، كَمَا فِي قَولِهِ:((إِنَّ اللهَ هُوَ الحَكَمُ، وَإِلَيهِ الحُكْمُ))، خَاصَّةً أَنَّهَا مَقْرُونَةٌ بِأَلِّ التَّعْرِيفِ الدَّالَّةِ عَلَى الاسْتِغْراقِ

(2)

.

2 -

أَنَّ قَولَهُم: (أَبَا الحَكَمِ) هُنَا يُفِيدُ عُلُوَّ وَكَمَالَ هَذِهِ الصِّفَةِ، وَهَذَا لَا يَلِيقُ إِلَّا بِاللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ.

- الكُنْيِةُ مَا صُدِّرَ بَأَبٍ أَو أُمٍّ أَو ابْنٍ أَو ابْنَةٍ وَنَحوِ ذَلِكَ، وَاللَّقَبُ مَا لَيسَ كَذَلِكَ،

(1)

صِفَاتُ اللهِ عز وجل، لِلشَّيخ عَلَوي السَّقَّاف (ص 121).

وَقَالَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي أَشْرِطَةِ سِلْسِلَةِ الهُدَى وَالنُّورِ (ش 13): "يُطْلَقُ عَلَى اللهِ تَعَالَى (الحَاكِمُ) عَلَى سَبِيلِ الإِخْبَارِ".

(2)

قَالَ الشَّيخُ الفَاضِلُ الفَوزَانُ حَفِظَهُ اللهُ: "فَالحَكَمُ -بِالأَلِفِ وَاللَّامِ- لَا يُطْلَقُ إِلَّا عَلَى اللهِ سبحانه وتعالى، أَمَّا أَنْ يُقَالَ: (حَكَمٌ) بِدُونِ تَعْرِيفٍ فَلَا بَأْسَ، فَاللهُ جَلَّ وَعَلَا يَقُولُ: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النِّسَاء: 35] ". إِعَانَةُ المُسْتَفِيدِ (2/ 257).

قُلْتُ: فإنَّ "ال" التَّعْرِيفِ هُنَا هِيَ لِلاسْتِغْرَاقِ، وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا للهِ تَعَالَى، أمَّا مَا كَانَ مُجَرَّدًا مِثَلَ (حَكَم) وَلَمْ تُقَارِنْهَا الصِّفَةُ -وهيَ النِّهَايَةُ فِي الحُكْمِ؛ وَلَيسَ مُجَرَّدَ الحُكْمِ- فَهُوَ جَائِزٌ، وَأَيضًا لَو كَانَتْ مُحَلَّاةً بِـ "ال" التَّعْرِيفِ وَلَكِنْ مِنْ جِهَةِ العَهْدِ -الذِكْرِيِّ-، أَو مِنْ جِهَةِ العَلَمِيَّةِ فَقَط؛ فَإِنَّهَا صَحِيحَةٌ كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى:{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَينَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البَقَرَة: 188].

ص: 198

كَزَينِ العَابِدِين وَنَحْوِهِ.

وَتَكُونُ الكُنيَةُ لِلمَدْحِ كَمَا فِي هَذَا الحَدِيثِ، وَقَدْ تَكُونُ لِلذَّمِّ كَأَبِي جَهْلٍ، وَقَدْ تَكُونُ لِمُصَاحَبَةِ الشَّيءِ مِثْلِ أَبِي هُرَيرَةَ، وَقَدْ تَكُونُ لِمُجَرَّدِ العَلَمِيَّةِ كَأَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه.

- حُكْمُ اللهِ تَعَالَى أَنْوَاعٌ:

1 -

قَدَرِيٌّ (كَونِيٌّ).

كَمَا فِي قَولِ أَخِي يُوسُفَ: {فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيرُ الْحَاكِمِينَ} [يُوسُف: 80].

2 -

شَرْعِيٌّ.

كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشُّورَى: 10].

3 -

جَزَائِيٌّ.

كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَينَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [البَقَرَة: 113].

- فِي الحَدِيثِ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِأَهلِ الوَعْظِ وَالإِرْشَادِ وَالنُّصْحِ إِذَا أَغْلَقوا بَابًا مُحَرَّمًا أَنْ يُبَيِّنُوا للنَّاسِ المُبَاحَ مِنْهُ.

- أَسْمَاءُ اللهِ تَعَالَى تَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَينِ -مِنْ حَيثُ جَوَازِ التَّسْمِيَةِ-:

1 -

مَا لَا يَصِحُّ إِلَّا للهِ؛ فَهَذَا لَا يُسَمَّى بِهِ غَيرُهُ، وَإِنْ سُمِّيَ وَجَبَ تَغْيِيرُهُ، مِثْلَ: اللهُ، الرَّحْمَنُ، رَبُّ العَالَمِين، وَمَا أَشْبَهَ ذَلكَ.

ص: 199

2 -

مَا يَصِحُّ أَنْ يُوصَفَ بِهِ غَيرُ اللهِ، مِثْلَ: الرَّحِيمُ، السَّمِيعُ، البَصِيرُ، فَإِنْ لُوحِظَتِ الصِّفَةُ مَعَهَا مُنِعَ مِنَ التَّسَمِّي بِهَا، وَإِنْ لَمْ تُلَاحَظِ الصِّفَةُ جَازَ التَّسَمِّي بِهِ عَلَى أَنَّهُ عَلَمٌ مَحْضٌ

(1)

.

وَدِلَالَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ فِي الصَّحَابَةِ مَنْ كَانَ اسْمُهُ: (الحَكَمُ، وَحَكِيمٌ) وَلَمْ يُغَيِّرْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَمَا غَيَّرَ اسْمَ أَبِي الحَكَمِ! وَذَلِكَ لِأَنَّه عَلَمٌ مَحْضٌ

(2)

.

- قَالَ العَلَّامَةُ ابْنُ القَيِّمِ رحمه الله: "وَأَمَّا الأَسْمَاءُ الَّتِي تُطْلَقُ عَلَيهِ وَعَلَى غَيرِهِ -كَالسَّميعِ وَالبَصِيرِ وَالرَّؤُوفِ وَالرَّحِيمِ- فَيَجُوزُ أَنْ يُخْبَرَ بِمَعَانِيهَا عَنِ المَخْلُوقِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُتَسَمَّى بِهَا عَلَى الإِطْلَاقِ؛ بِحَيثُ يُطْلَقُ عَلَيهِ كَمَا يُطْلَقُ عَلَى الرَّبِّ تَعَالَى"

(3)

.

وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ رحمه الله: "وَأَمَّا الرَّبُّ فَهِيَ كَلِمَةٌ -وَإِنْ كَانَتْ مُشْتَرِكَةً؛ وَتَقَعُ عَلَى غَيرِ الخَالِقِ لِقَولِهِمْ: (رَبُّ الدَّابَّةِ، وَرَبُّ الدَّارِ) وَيُرَادُ صَاحِبُهَا-؛ فَإِنَّهَا لَفْظَةٌ تَخْتَصُّ بِاللَّهِ عز وجل فِي الأَغْلَبِ وَالأَكْثَرِ، فَوَجَبَ أَلَّا تُسْتَعْمَلَ فِي المَخْلُوقِينَ؛ لِنَفْيِ اللهِ عز وجل الشَّرِكَةَ بَينَهُمْ وَبَينَ اللهِ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لِأَحَدٍ غَيرِ اللهِ (إلَهٌ) وَلَا (رَحْمَنٌ)، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ (رَحِيمٌ) لِاخْتِصَاصِ اللهِ بِهَذِهِ الأَسْمَاءِ، فَكَذَلِكَ الرَّبُّ لَا يُقَالُ لِغَيرِ اللهِ"

(4)

.

(1)

القَولُ المُفِيدُ (2/ 261).

(2)

كالحَكَمِ بْنِ الحَارثِ السُّلَمِيِّ، وَالحَكَمِ بْنِ سَعِيدٍ بْنِ العَاصِ، وَالحَكَمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الثَّقَفِيِّ، وَكَحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، وَحَكِيمِ بْنِ الحَارِثِ الطَّائِفِيِّ، وَحَكِيمِ بْنِ طَليقٍ الأُمَوِيِّ، وَغَيرِهِم رضي الله عنهم. انْظُرِ (الإِصَابَةُ)(2/ 86) لِابْنِ حَجَرٍ رحمه الله.

(3)

تُحْفَةُ المَودُودِ (ص 127).

(4)

شَرْحِ البُخَارِيِّ (7/ 68).

ص: 200

بَابُ مَنْ هَزَلَ بِشَيءٍ فِيهِ ذِكْرُ اللهِ أَوِ القُرْآنِ أَوِ الرَّسُولِ

وَقَولِ اللهِ تَعَالَى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التَّوبَة: 65].

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، وَزَيدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَقَتَادَةَ -دَخَلَ حَدِيثُ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضِ-: أَنَّهُ قَالَ رَجُلٌ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ: مَا رَأَينَا مِثْلَ قُرَّائِنَا هَؤُلَاءِ؛ أَرْغَبَ بُطُونًا، وَلَا أَكْذَبَ أَلْسُنًا، وَلَا أَجْبَنَ عِنْدَ اللِّقَاءِ -يَعْنِي رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ القُرَّاءَ-، فَقَالَ لَهُ عَوفُ بْنُ مَالِكٍ: كَذَبْتَ؛ وَلَكِنَّكَ مُنَافِقٌ، لَأُخْبِرَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَهَبَ عَوفٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِيُخْبِرَهُ فَوَجَدَ القُرْآنَ قَدْ سَبَقَهُ، فَجَاءَ ذَلِكَ الرَّجُلُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم -وَقَدِ ارْتَحَلَ وَرَكِبَ نَاقَتَهُ-، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَتَحَدَّثُ حَدِيثَ الرَّكْبِ؛ نَقْطَعُ بِهِ عَنَاءَ الطَّرِيقِ! قَالَ ابْنُ عُمَرَ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيهِ مُتَعَلِّقًا بِنِسْعَةِ نَاقَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَإِنَّ الحِجَارَةَ تَنْكُبُ رِجْلَيهِ وَهُوَ يَقُولُ: إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ، فَيَقُولُ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:{أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التَّوبَة: 65 - 66] مَا يَلْتَفِتُ إِلَيهِ وَمَا يَزِيدُهُ عَلَيهِ"

(1)

.

(1)

حَسَنٌ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (14/ 333) مِنْ طَرِيقِ كُلٍّ مِنَ الرُّوَاةِ المَذْكُورِين، وَأَيضًا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ (6/ 1829)، وَحَسَّنَهُ الشَّيخُ مُقْبِلُ الوَادِعِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (الصَّحِيحُ المُسْنَدُ مِنْ أَسْبَابِ النُّزُولِ)(ص 108).

ص: 201

فِيهِ مَسَائِلُ:

الأُولَى: وَهِيَ العَظِيمَةُ؛ أَنَّ مَنْ هَزَلَ بِهَذَا فَهُوَ كَافِرٌ.

الثَّانِيَةُ: أَنَّ هَذَا تَفْسِيرُ الآيَةِ فِيمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَائِنًا مَنْ كَانَ.

الثَّالِثَةُ: الفَرَقُ بَينَ النَّمِيمَةِ وَبَينَ النَّصِيحَةِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ.

الرَّابِعَةُ: الفَرَقُ بَينَ العَفْوِ الَّذِي يُحِبُّهُ اللهُ وَبَينَ الغِلْظَةِ عَلَى أَعْدَاءِ اللهِ.

الخَامِسَةُ: أَنَّ مِنَ الِاعْتِذَارِ مَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقْبَلَ.

ص: 202

‌الشَّرْحُ

- مُنَاسَبَةُ هَذَا البَابِ لِكتَابِ التَّوحِيدِ ظَاهِرَةٌ؛ وهيَ أَنَّ الهَزلَ وَالاسْتِهْزَاءَ بِاللهِ أَو بِالرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم أَو بِالقُرْآنِ مُنَافٍ لِأَصلِ التَّوحِيدِ وَكُفْرٌ مُخْرِجٌ مِنَ المِلَّةِ.

- المُصَنِّفُ رحمه الله لَمْ يَذْكُرِ (الدِّينَ) فِي جُمْلَةِ قَولِهِ: (اللهِ أَوِ القُرْآنِ أَوِ الرَّسُولِ) وَذَلِكَ لِأَنَّ الهَزْلَ بِالدِّينِ فِيهِ تَفْصِيلٌ، وَذَلِكَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الهَزْلَ بِالدِّينِ قَدْ يُقْصَدُ بِهِ تَدَيُّنُ الرَّجُلِ نَفْسِهِ، وَقَدْ يُقْصَدُ بِهِ المَنْهَجُ الدِّينِيُّ الَّذِي يَنْتَمِي إِلَيهِ الشَّخْصُ المَذْمُومُ، وَالحُكْمُ لَيسَ وَاحِدًا.

- قَالَ تَعَالَى: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ * وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ * الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [التوبة: 64 - 67]

(1)

.

هَذِهِ السُّوَرةُ كَانَتْ تُسَمَّى عِنْدَ الصَّحَابَةِ بِالفَاضِحَةِ؛ لِأَنَّهَا ذَكَرَتِ المُنَافِقِينَ وَعَلَامَاتِهِم وَأَقْوَالَهُم.

ص: 203

- فِي البَابِ ضَرُورَةُ مُرَاقَبَةِ الإِنْسَانِ لِلِسَانَهُ، كَمَا فِي أَحَادَيثَ مِنْهَا:

1 -

((إِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللهِ -لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا- يَرْفَعُهُ اللهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ -لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا- يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ))

(1)

.

2 -

((وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ -أَو قَالَ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ- إِلَّا حَصَائِدُ أَلسِنَتِهِمْ))

(2)

.

- الاسْتِهْزَاءُ بِآيَاتِ اللهِ يَشْمَلُ الآيَاتِ الشَّرْعِيَّةَ كَالقُرْآنِ، وَالآيَاتِ الكَونِيَّةَ كَتَقْدِيرِ اللهِ اللَّيلَ وَالنَّهَارَ وَ

الَّتِي تَدُلُّ عَلَى صُنْعِ اللهِ تَعَالَى وَتَدْبِيرِهِ وَحِكْمَتِهِ.

- إِنَّ أَهْلَ التَّوحِيدِ لَا يَصْدُرُ مِنْهُم اسْتِهْزَاءٌ أَصْلًا، وَلَو صَدَرَ لَعَلِمْنَا أَنَّهُم غَيرُ مُعَظِّمِينَ للهِ تَعَالَى؛ وَأَنَّ تَوحِيدَهُم ذَهَبَ أَصْلًا؛ لِأَنَّ الاسْتِهْزَاءَ يُنَافِي التَّعْظِيمَ

(3)

.

- لَا يَقَعُ الكُفْرُ الأَكْبَرُ عَلَى مَنْ وَقَعَ فِي شَيءٍ مِنَ الإِسَاءَةِ لِلشَّرِيعَةِ إِنْ كَانَ غَيرَ قَاصِدٍ لِمَا يَقُولُ، وَهَذِهِ أَمْثِلَةٌ:

1 -

قَالَ عَلِيٌّ: (بَقَرَ حَمْزَةُ خَوَاصِرَ شَارِفَيَّ

(4)

، فَطَفِقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَلُومُ حَمْزَةَ، فَإِذَا حَمْزَةُ قَدْ ثَمِلَ

(5)

؛ مُحْمَرَّةٌ عَينَاهُ؛ ثُمَّ قَالَ حَمْزَةُ: هَلْ أَنْتُمْ إِلَّا عَبِيدٌ لِأَبِي؟! فَعَرَفَ

(1)

رَوَاهُ البُخَارِيُّ (6478)، وَمُسْلِمٌ (2988) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا.

(2)

صَحِيحٌ. التِّرْمِذِيُّ (2616) عَنْ مُعَاذٍ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (1122).

(3)

قُلْتُ: إِنَّ الاسْتِهْزَاءَ بِشَيءٍ مِنَ الدِّينِ -حَتَّى لَو كَانَ صَاحِبُهُ مَازِحًا لَاعِبًا غَيرَ جَادٍ- هُوَ كُفْرٌ أَكْبَرُ مُخْرِجٌ عَنِ المِلَّةِ، إِلَّا إِنْ كَانَ غَيرَ فَاهِمٍ وَلَا عَاقِلٍ لِمَا يَقُولُ.

(4)

شَارِفَيَّ: تَثْنِيَةُ شَارِفٍ: وَهوَ المُسِنُّ مِنَ الإِبِلِ.

(5)

ثَمِلَ: أَي: قَد أَخَذَهُ الشَّرَابُ.

ص: 204

النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَدْ ثَمِلَ، فَخَرَجَ وَخَرَجْنَا مَعَهُ)

(1)

.

2 -

((لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوبَةِ عَبْدِهِ -حِينَ يَتُوبُ إِلَيهِ- مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلَاةٍ، فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ وَعَلَيهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَأَيِسَ مِنْهَا، فَأَتَى شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ، فَبَينَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا -قَائِمَةً عِنْدَهُ- فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا، ثُمَّ قَالَ -مِنْ شِدَّةِ الفَرَحِ-: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ! أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الفَرَحِ))

(2)

(3)

.

- قَولُهُ: (وَالحِجَارَةُ تَنْكُبُ رِجلَيهِ): أَي: يَمْشِي وَالحِجَارَةُ تَضْرُبُ رِجلَيهِ، وَكَأَنَّهُ يَمْشِي بِسُرْعَةٍ؛ وَلَكِنَّهُ لَا يُحِسُّ فِي تِلْكَ الحَالِ؛ لِأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَعْتَذِرَ.

- الغَضَبُ لَا يُؤَاخَذُ بِهِ صَاحِبُهُ، كَمَا قَالَ عليه الصلاة والسلام:((لَا طَلَاقَ وَلَا عِتَاقَ فِي غِلَاقٍ))

(4)

، لَكِنَّ الغَضَبَ الَّذِي لَا يُؤَاخَذُ بِهِ صَاحِبُهُ هُوَ الَّذِي يَغِيبُ فِيهِ وَعْيُهُ فَلَا

(1)

البُخَارِيُّ (7/ 45)، وَهَذَا اللَّفْظُ مِنْهُ مُعَلَّقٌ، وَعُنْوَانُ البَابِ:"بَابُ الطَّلَاقِ فِي الإِغْلَاقِ وَالكُرْهِ وَالسَّكْرَانِ وَالمَجْنُونِ وَأَمْرِهِمَا وَالغَلَطِ وَالنِّسْيَانِ فِي الطَّلَاقِ وَالشِّرْكِ وَغَيرِهِ".

(2)

صَحِيحُ (2747) عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا.

(3)

قَالَ الحَافِظُ زَينُ الدِّينِ العِرَاقِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ طَرْحُ التَّثْرِيبِ (2/ 20): "فَائِدَةٌ: مَنْ سَبَقَ لِسَانُهُ إلَى كَلِمَةِ الكُفْرِ: (الثَّالِثَةُ وَالأَرْبَعُونَ) فِيهِ حُجَّةٌ عَلَى بَعْضِ المَالِكِيَّةِ مِنْ أَنَّهُمْ لَا يَدِينُونَ مَنْ سَبَقَ لِسَانُهُ إلَى كَلِمَةِ الكُفْرِ -إذَا ادَّعَى ذَلِكَ- وَخَالَفَهُمُ الجُمْهُورُ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فِي قِصَّةِ الرَّجُلِ الَّذِي ضَلَّتْ رَاحِلَتُهُ؛ ثُمَّ وَجَدَهَا فَقَالَ -مِنْ شِدَّةِ الفَرَحِ-: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي، وَأَنَا رَبُّك. قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ((أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الفَرَحِ)). وَالَّذِي جَرَتْ بِهِ عَادَةُ الحُكَّامِ الحُذَّاقِ مِنْهُمْ اعْتِبَارُ حَالِ الوَاقِعِ مِنْهُ ذَلِكَ، فَإِنْ تَكَرَّرَ مِنْهُ ذَلِكَ وَعُرِفَ مِنْهُ وُقُوعُهُ فِي المُخَالَفَاتِ وَقِلَّةُ المُبَالَاةِ بِأَمْرِ الدِّينِ؛ لَمْ يَلْتَفِتُوا إلَى دَعْوَاهُ، وَمَنْ وَقَعَ مِنْهُ ذَلِكَ فَلْتَةً وَعُرِفَ بِالصِّيَانَةِ وَالتَّحَفُّظِ قَبِلُوا قَولَهُ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ تَوَسُّطٌ حَسَنٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ".

(4)

حَسَنٌ. أَبُو دَاوُدَ (2193) عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (7525).

قَالَ أَبُو دَاوُدَ: الغِلَاقُ أَظُنُّهُ فِي الغَضَبِ.

ص: 205

يَعْلَمُ مَا يَقُولُ، أَمَّا إِنْ كَانَ الغَضَبُ قَلِيلًا يَعِي مَعَهُ صَاحِبُهُ مَا يَقُولُ فَهَذَا يُؤَاخَذُ بِعَوَاقِبِهِ

(1)

.

- مَنْ سَبَّ اللهَ تَعَالَى فإِنَّهُ تُقْبَلُ تَوبَتُهُ إِنْ كَانَ صَادِقًا وَأَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِالخَطَأ، وَوَصَفَ اللهَ تَعَالَى بِمَا يَسْتَحِقُّ مِنْ صِفَاتِ التَّعْظِيمِ، قَالَ تَعَالَى:{قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزُّمَر: 53].

أَمَّا مَنْ سَبَّ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم فَلَهُ تَوبَةٌ أَيضًا وَلَكِنْ يَجِبُ قَتْلُهُ؛ بِخِلَافِ مَنْ سَبَّ اللهَ تَعَالَى؛ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ تَوبَتُهُ وَلَا يُقْتَلُ، وَهَذا لَيسَ لِأَنَّ حَقَّ اللهِ تَعَالَى دُونَ حَقِّ الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم! بَلْ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى أَخْبَرَنَا بِعَفْوِهِ عَنْ حَقِّهِ إِذَا تَابَ العَبْدُ إِلَيهِ؛ بِأَنَّهُ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، أَمَّا سَبُّ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ رَاجِعٌ لِحَقِّهِ، وَلَكِنْ بَعْدَ وَفَاتِهِ فَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ عَنْهُ أَنَّهُ عَفَا، لِذَلِكَ نُنْفِذُ مَا نَرَاهُ وَاجِبًا فِي حَقِّهِ، فَيُقْتَلُ السَّابُّ بَعْدَ تَوبَتِهِ عَلَى أَنَّهُ مُسْلِمٌ، فَإِذَا قُتِلَ؛ غَسَّلْنَاهُ وَكَفَّنَّاهُ وَصَلَّينَا عَلَيهِ وَدَفَنَّاهُ مَعَ المُسْلِمِينَ، وَكَذَا لَو قَذَفَهُ؛ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ وَلَا

(1)

وَفِي فَتَاوَى (نُورٌ عَلَى الدَّرْبِ)، شَرِيطُ رَقَم (374) للشَّيخِ ابن عُثَيمِين رحمه الله:"تَقُولُ السَّائِلَةُ مِنَ الجَزَائِرِ: يَا شَيخُ، هَلْ سَبُّ الدِّينِ فِي حَالَةِ الغَضَبِ مِنَ الكُفْرِ؟ فَأَجَابَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: أَمَّا إِذَا كَانَ الغَضَبُ شَدِيدًا بِحَيثُ لَا يَمْلِكُ الإِنْسَانُ نَفْسَهُ؛ فَإِنَّهُ لَا يَخْرُجُ بِذَلِكَ مِنَ الدِّينِ لِأَنَّهُ لَا يَعِي مَا يَقُولُ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ يَمْلِكُ نَفْسَهُ فَسَبُّ الدِّينِ كُفْرٌ وَرِدَّةٌ؛ فَيَجِبُ عَلَيهِ أَنْ يَتُوبَ إِلَى اللهِ عز وجل وَأَنْ يُجَدِّدَ إِسْلَامَهُ".

قلت: وَمِثْلُ هَذَا -الأَوَّلُ- يُعَزَّرُ تَأْدِيبًا وَرَدْعًا لَهُ وَلِأَمْثَالِهِ.

قَالَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله -فِيمَنْ يَسُبُّ الدِّينَ عِنْدَ الغَضَبِ، ثُمَّ يَتَأَسَّفُ مِمَّا بَدَرَ-:"وَلَو كَانَ هُنَاكَ حُكْمٌ أَوْ حَاكِمٌ يَحْكُمُ بِالشَّرْعِ لَاقْتَرَحْنَا بِأَنْ يُعَزَّرَ بِأَنْ يُجْلَدَ عَشْرَ أَسْوَاطٍ، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ الرَّسُولِ عليه السلام المَعْرُوفُ". مَوسُوعَةُ الأَلْبَانِيِّ فِي العَقِيدَةِ (5/ 623).

ص: 206

يُجْلَدُ، وَذَلِكَ لِحَقِّ النُّبُوَّةِ لَا لِمُجَرَّدِ حَدِّ القَذْفِ

(1)

.

وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتْرُكُ قَتْلَ بَعْضِ المُنَافِقِينَ الَّذِينَ ظَهَرَ كُفْرُهُم لِئَلَّا يَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ

(2)

، وَلَكِنَّ هَذَا فِي حَيَاتِهِ فَقَط.

قَالَ الإِمَامُ ابْنُ القَيِّمِ رحمه الله: "وَأَمَّا تَرْكُهُ صلى الله عليه وسلم قَتْلَ مَنْ قَدَحَ فِي عَدْلِهِ بِقَولِهِ: (اعْدِلْ؛ فَإِنَّكَ لَمْ تَعْدِلْ)! وَفِي حُكْمِهِ بِقَولِهِ: (أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ؟) وَفِي قَصْدِهِ بِقَولِهِ: (إنَّ هَذِهِ قِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللهِ) أَو فِي خَلْوَتِهِ بِقَولِهِ: (يَقُولُونَ: إِنَّكَ تَنْهَى عَنِ الغَيِّ وَتَسْتَخْلِي بِه)! وَغَيرِ ذَلِكَ؛ فَذَلِكَ أَنَّ الحَقَّ لَهُ؛ فَلَهُ أَنْ يَسْتَوفِيَهُ وَلَهُ أَنْ يَتْرُكَهُ، وَلَيسَ لِأُمَّتِهِ تَرْكُ اسْتِيفَاءِ حَقَّهِ صلى الله عليه وسلم.

وَأَيضًا؛ فَإِنَّ هَذَا كَانَ فِي أَوَّلِ الأَمْرِ حَيثُ كَانَ صلى الله عليه وسلم مَأْمُورًا بِالعَفْوِ وَالصَّفْحِ.

وَأَيضًا؛ فَإِنَّهُ كَانَ يَعْفُو عَنْ حَقَّهِ لِمَصْلَحَةِ التَّأْلِيفِ وَجَمْعِ الكَلِمَةِ، وَلِئَلَّا يَنْفُرَ النَّاس عَنْهُ، وَلِئَلَّا يَتَحَدَّثُوا أَنَّهُ يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ! وَكُلُّ هَذَا يَخْتَصُّ بِحَيَاتِهِ صلى الله عليه وسلم"

(3)

.

قُلْتُ: وَيَشْهَدُ لِوُجُوبِ قَتْلِ مَنْ سَبَّ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم مَا فِي سُنَنِ النَّسَائِيِّ -بَابُ الحُكْمِ فِيمَنْ سَبَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ؛ قَالَ: أَغْلَظَ رَجُلٌ لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، فَقُلْتُ: أَقْتُلُهُ؟ فَانْتَهَرَنِي، وَقَالَ: (لَيسَ هَذَا لِأَحَدٍ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم

(4)

.

وَأَيضًا فِي الحَدِيثِ عِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما؛ أَنَّ أَعْمًى كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ -

(1)

وَفِي الحَدِيثِ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا: ((مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الأَشْرَفِ؟ فَإِنَّهُ قَدْ آذَى اللهَ وَرَسُولَهُ))، فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَتُحِبُّ أَنْ أَقْتُلَهُ؟ قَالَ:((نَعَمْ)). رَوَاهُ البُخَارِيُّ (3031)، وَمُسْلِمٌ (1801).

(2)

وَمِنْ نَفْسِ البَابِ تَرْكُهُ عليه الصلاة والسلام قَتْلَ ذَلِكَ المُنَافِقِ الَّذِي قَالَ مَا قَالَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكٍ كَمَا فِي حَدِيثِ البَابِ.

(3)

زَادُ المَعَادِ (5/ 56).

(4)

صَحِيحٌ. النَّسَائِيُّ (4071). صَحِيحُ النَّسَائِيِّ (4071).

ص: 207

وَكَانَتْ لَهُ أُمُّ وَلَدٍ، وَكَانَ لَهُ مِنْهَا ابْنَانِ-، وَكَانَتْ تُكْثِرُ الوَقِيعَةَ بِرَسُولِ اللهِ وَتَسُبُّهُ، فَيَزْجُرُهَا فَلَا تَنْزَجِرُ، وَيَنْهَاهَا فَلَا تَنْتَهِي، فَلَمَّا كَانَتْ ذَاتَ لَيلَةٍ، فَذَكَرَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم؛ فَوَقَعَتْ فِيهِ، قَالَ: فَلَمْ أَصْبِرْ أَنْ قُمْتُ إِلَى المِغْوَلِ فَوَضَعْتُهُ فِي بَطْنِهَا فَاتَّكَأْتُ عَلَيهِ فَقَتَلْتُهَا؛ فَأَصْبَحَتْ قَتِيلًا، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ فَجَمَعَ النَّاسَ وَقَالَ:((أَنْشُدُ اللهَ رَجُلًا لِي عَلَيهِ حَقٌّ فَعَلَ مَا فَعَلَ؛ إِلَّا قَامَ))، فَأَقْبَلَ الأَعْمَى يَتَدَلْدَلُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَنَا صَاحِبُهَا! كَانَتْ أُمَّ وَلَدِي، وَكَانَتْ بِي لَطِيفَةً رَفِيقَةً، وَلِي مِنْهَا ابْنَانِ مِثْلُ اللُّؤْلُؤَتَينِ، وَلَكِنَّهَا كَانَتْ تُكْثِرُ الوَقِيعَةَ فِيكَ، وَتَشْتُمُكَ، فَأَنْهَاهَا؛ فَلَا تَنْتَهِي، وَأَزْجُرُهَا؛ فَلَا تَنْزَجِرُ، فَلَمَّا كَانَتِ البَارِحَةَ ذَكَرَتْكَ؛ فَوَقَعَتْ فِيكَ، فَقُمْتُ إِلَى المِغْوَلِ فَوَضَعْتُهُ فِي بَطْنِهَا؛ فَاتَّكَأْتُ عَلَيهَا حَتَّى قَتَلْتُهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ:((أَلَا اشْهَدُوا أَنَّ دَمَهَا هَدْرٌ))

(1)

.

- ذَكَرُوا فِي التَّفَاسِيرِ أَنَّهُم كَانُوا ثَلَاثَةَ أَشْخَاصٍ، اثْنَانِ مِنْهُم يَسْتَهْزِؤُونَ وَالثَّالِثُ كَانَ يَضْحَكُ وَلَا يَخُوضُ، وَكَانَ يَمْشِي مُجَانِبًا لَهُم وَيُنْكِرُ بَعضَ مَا يَسْمَعُ -وَهوَ الَّذِي عُفيَ عَنْهُ-، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذهِ الآيةُ تَابَ مِنْ نِفَاقِهِ.

فَهَذَا الَّذِي حَضَرَ هُوَ مِثْلُ الَّذِي اسْتَهْزَأَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [النِّسَاء: 140].

(1)

صَحِيحٌ. النَّسَائِيُّ (4070). صَحِيحُ النَّسَائِيِّ (4070).

وَ (المِغْوَلُ) -بِالغَينِ المُعْجَمَةِ-: سَيفٌ قَصِيرٌ يَشْتَمِلُ بِهِ الرَّجُلُ تَحتَ ثِيَابِهِ فَيُغَطِّيهِ، وَقِيلَ: حَدِيدَةٌ لَهَا حَدٌّ مَاضٍ. وَفِي رِوَايَةٍ: (مِعْوَلٌ) وَهِيَ آلَةٌ حَدِيدِيَّةٌ تُسْتَعْمَلُ للحَفْرِ فِي الأَرْضِ أَوِ الجَبَلِ.

وَ (دَمَهَا هَدْرٌ): الهَدْرُ: الَّذِي لَا يُضْمَنُ بِقِصَاصٍ وِلَا دِيَةٍ وَلَا كَفَّارَةٍ.

وَ (يَتَدَلْدَلُ): أَي: يَضْطَرِبُ فِي مَشْيِهِ.

ص: 208

- إِنَّ تِلْكَ الصِّفَاتِ الَّتِي ذَكَرَهَا المُنَافِقُونَ؛ هُمْ أَولَى بِهَا مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالمُؤْمِنِينَ، وَهِيَ: الكَذِبُ، وَالجُبْنُ، وَالشَّرَاهَةُ فِي الأَكْلِ.

- قَولُ المُصَنِّفِ رحمه الله فِي المَسَائِلِ: (الفَرْقُ بَينَ النَّمِيمَةِ، وَالنَّصِيحَةِ للهِ وَلِرَسُولِهِ): النَّمِيمَةُ: هِيَ نَقْلُ الكَلَامِ عَلَى وَجْهِ الوِشَايَةِ وَالإِفْسَادِ، كَمَا فِي الحَدِيثِ:((أَتَدْرُونَ مَا العَضْهُ؟)) قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ:((نَقْلُ الحَدِيثِ مِنْ بَعْضِ النَّاسِ إِلَى بَعْضٍ؛ لِيُفْسِدُوا بَينَهُمْ))

(1)

، وَأَمَّا النَّصِيحَةُ للهِ وَلِرَسُولِهِ؛ فَلَا يُقْصَدُ بِهَا ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يُقْصَدُ بِهَا احْتِرَامُ شَعَائِرِ اللهِ عز وجل، وَإِقَامَةُ حُدُودِهِ، وَحِفْظُ شَريعَتِهِ.

- قَولُ المُصَنِّفِ رحمه الله فِي المَسَائِلِ: (الفَرَقُ بَينَ العَفْوِ الَّذِي يُحِبُّهُ اللهُ، وَبَينَ الغِلْظَةِ عَلَى أَعْدَاءِ اللهِ): الفَرْقُ هوَ أَنَّ العَفْوَ الَّذِي يُحِبُّهُ اللهُ هُوَ الَّذِي فِيهِ إِصْلَاحٌ، لِأَنَّ اللهَ اشْتَرَطَ ذَلِكَ فِي العَفْوِ؛ فَقَالَ تَعَالَى:{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشُّورَى: 40] أَي: كَانَ عَفْوُهُ مُشْتَمِلًا عَلَى الإِصْلَاحِ، أَمَّا مَنْ كَانَ عَفْوُهُ إفِسْادًا لَا إِصْلَاحًا؛ فَإِنَّهُ آثِمٌ بِهَذَا العَفْوِ، فَإِنَّ هَذَا يَحُضُّ الظَّالِمَ عَلَى التَّمَادِي، وَإِنَّ أَعْدَاءَ اللهِ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ دِينَهُ وَيُظْهِرُونَ العَدَاوَةَ؛ الأَصْلُ فِي مُعَامَلَتِهِم الشِّدَّةُ وَالغِلْظَةُ، كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى:{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} [الفَتْحِ: 29]، فَلَا يَكُونُ الرِّفْقُ مَعَهُم إِلَّا فِي جَانِبِ الدَّعْوَةِ وَتَأْلِيفِ القُلُوبِ، فَالغِلْظُ وَالرِّفْقُ فِي الأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنِ المُنْكَرِ رَاجِعٌ إِلَى مُنَاسَبَةِ الحِكْمَةِ فِي ذَلِكَ -وَإِنْ كَانَ الأَصْلُ هُوَ الرِّفْقُ بِلَا رَيبٍ-

(2)

.

(1)

صَحِيحٌ. الأَدَبُ المُفْرَدُ (245) عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (845).

(2)

قُلْتُ: وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَولُهُ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَينَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ

=

ص: 209

- فِي الحَديثِ اسْتِعْمَالُ الغِلْظَةِ فِي مَحَلِّهَا، وَإِلَّا فَالأَصْلُ أَنَّ مَنْ جَاءَ يَعْتَذِرُ فَإِنَّهُ يُرْحَمُ، لَكِنْ هُنَا فإنَّ هَذَا الهَازِلَ لَيسَ أَهْلًا للرَّحْمَةِ.

- الاسْتِهْزَاءُ بِوَاحِدٍ مِنْ هَذهِ الثَّلَاثَةِ المَذْكُورَةِ فِي الآيَةِ هوَ كُفْرٌ أَكْبَرُ مُخْرِجٌ عَنِ المِلَّةِ، أَمَّا الاسْتِهْزَاءُ بِالدِّينِ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ، وَهُوَ أَنَّهُ قَد يَكُونُ المَقْصُودُ بِالدِّينِ هُوَ الإِسْلَامَ نَفْسَهُ؛ وَهَذَا يَكُونُ كُفْرًا أَكْبَرَ، أَمَّا لَو كَانَ المَقْصُودُ هوَ تَدَيُّنَ الرَّجُلِ المَسْبُوبِ وَلَيسَ شَرِيعَتَهُ الَّتِي يَنْتَمِي إِلَيهَا أَصْلًا؛ فَهَذَا لَا يَكْفُرُ؛ وَإِنَّمَا يُزْجَرُ عَنْ هَذَا اللَّفْظِ المُوهِمِ.

وَفِي مَجْمُوعِ فَتَاوَى وَرَسَائِلِ الشَّيخِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ آلِ الشَّيخِ رحمه الله: "سُئِلَ الشَّيخُ -مُفْتِي الدِّيَارِ السَّعَودِيَّةِ رحمه الله عَنْ حُكْمِ سَبِّ دِينِ رَجُلٍ.

مِنْ مُحَمِّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ إِلَى فَضِيلَةِ الأَخِّ المُكَرَّمِ الشَّيخِ عَبْدِ المَلِكِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ -رَئِيسِ عَامِّ هَيئَاتِ الأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ فِي الحِجَازِ.

السَّلَامُ عَلَيكُم وَرَحَمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ، وبَعْدُ

فَقَدِ اطَّلَعْنَا عَلَى المُعَامَلَةِ الوَارِدَةِ مِنْكُم بِرَقَم .... الخَاصَّةِ بِاعْتِرَافِ سَعْدِ بْنِ

بِسَبِّ الدِّينِ، وَالمُثْبَتِ اعْتِرَافُهُ لَدَى فَضِيلَةِ رَئِيسِ المَحْكَمَةِ الكُبْرَى بِمَكَّةَ المُكَرَّمَةَ، وَأَنَّه لَمْ يَثْبُتْ لَدَى فَضِيلَتِهِ مَا يُوجِبُ إِقَامَةَ حَدِّ الرِّدَّةِ بِقَتْلِ سَعْدٍ المَذْكُورِ،

إِذْ إنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ بِسَبِّ الإِسْلَامِ، وَإِنَّمَا سَبِّ دِينِ ذَلِكَ الرَّجُلِ، وَهَذا يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ تَدَيُّنَ

=

فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} [الحِجْر: 85].

قَالَ الشَّيخُ السَّعْدِيُّ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (ص 434): "وَقَدْ ظَهَرَ لِي مَعْنًى أَحْسَنُ مِمَّا ذَكَرْتُ هُنَا، وَهُوَ: أَنَّ المَأْمُورَ بِهِ هُوَ الصَّفْحُ الجَمِيلُ، أَي: الحَسَنُ الَّذِي قَدْ سَلِمَ مِنَ الحِقْدِ وَالأَذِيَّةِ القَولِيَّةِ وَالفِعْلِيَّةِ؛ دُونَ الصَّفْحِ الَّذِي لَيسَ بِجَمِيلٍ، وَهُوَ الصَّفْحُ فِي غَيرِ مَحَلِّهِ، فَلَا يَصْفَحُ حَيثُ اقْتَضَى المَقَامُ العُقُوبَةَ، كَعُقُوبَةِ المُعْتَدِينَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ لَا تَنْفَعُ فِيهُم إِلَّا العُقُوبَةُ".

ص: 210

الرَّجُلِ رَدِيٌّ، وَالحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، وَبِهَذَا تَكُونُ إِحَالَةُ المَذْكُورِ إِلَى القَاضِي المُسْتَعْجَلَةُ لِتَقْرِيرِ التَّعْزِيزِ اللَّازِمِ عَلَيهِ وَجِيهًا.

أَمَّا سَجْنُهُ؛ فَإِنَّهُ يُكْتَفَى بِمَا مَضَى لَهُ فِي السِّجْنِ، وَاللهُ يَحْفَظُكُم"

(1)

.

وَفِي فَتْوى أُخْرَى أَيضًا قَالَ رحمه الله: "مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ إِلَى فَضِيلَةِ مُسَاعِدِ قَاضِي مَحْكَمَةِ صَامِطَة سَلَّمَهُ اللهُ.

السَّلَامُ عَلَيكُم وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ، وَبَعْدُ

فَقَد جَرَى اطْلَاعُنَا عَلَى خِطَابِكُم رَقَم

بِخُصُوصِ مَسْأَلَةِ مُعَوَّضِ بْنِ .... وَمَا صَدَرَ مِنْهُ مِنْ لَعْنِهِ دِينَ مُحَمَّدِ بْنِ المَهْدِيّ، وَمَا قَرَّرْتُمُوهُ فِي حَقِّهِ مِنْ جَلْدِهِ عَشَرَةَ أَسْوَاطٍ تَعْزِيرًا، وَاسْتِتَابَتِهِ، ثُمَّ تَوبَتِهِ وَاسْتِغْفَارِهِ، وَطَلَبِكُم مِنَّا الإِحَاطَةَ بِذَلِكَ، وَنُفِيدُكُم أَنَّ سَبَّهُ دِينَ مُحَمَّدِ بْنِ المَهْدِيِّ -وَالحَالُ أَنَّ مُحَمَّدَ المَهْدِيَّ مُسْلِمٌ- هُوَ سَبٌّ لِلدِّينِ الإِسْلَامِيِّ، وَسَبُّ الدِّينِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَيكُم ارْتِدَادٌ -وَالعِيَاذُ بِاللهِ-، وَعَلَيهِ فَيَلْزَمُكُم -علَاوَةً عَلَى مَا أَجْرَيتُم- إِحْضَارُ المَذْكُورَ، وَأَمْرُهُ بِالاغْتِسَالِ، ثُمَّ النُّطْقِ بِالشَّهَادَتَينِ، وَتَجْدِيدُهُ التَّوبَةَ بَعْدَ إِخْبَارِهِ بِشُرُوطِهَا الثَّلَاثَةِ مِنَ الإِقْلَاعِ عَنْ مُوجِبِ الإِثْمِ، وَالنَّدَمِ عَلَى صُدُورِهِ مِنْهُ، وَالعَزْمِ عَلَى عَدَمِ العَودَةِ إِلَيهِ.

(1)

مَجْمُوعُ فَتَاوَى وَرَسَائِلِ الشَّيخِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ آلِ الشَّيخِ رحمه الله (رَقَم 3899).

قُلْتُ: وحَدِيثُ: ((ادْرَؤوا الحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ)) ضَعِيفٌ. رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي التَّارِيخِ (23/ 347)، وَهُوَ فِي الإِرْوَاءِ (2316).

وَلَكِنْ -فِي الجُمْلَةِ- مَعْنَاهُ صَحِيحٌ، وَيَشْهَدُ لَهُ مَا فِي سُنَنِ البَيهَقِيِّ الكُبْرَى (17064) مَوقُوفًا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه:(ادْرَءُوا الجَلْدَ وَالقَتْلَ عَنِ المُسْلِمِينَ مَا اسْتَطَعْتُمْ). حَسَنٌ. اُنْظُرِ التَّعْلِيقَ عَلَى حَدِيثِ الضَّعِيفَةِ (2198)، وَلَفْظُهُ هُنَاكَ (الحَدَّ) بَدَلَ (الجَلْدَ) بِخِلَافِ الأَصْلِ عِنْدَ البَيهَقِيِّ وَالإِرْوَاءِ (2355).

ص: 211

وَنَظَرًا لِمَا ذَكَرْتَهُ عَنْهُ مِنْ أَنَّهُ جَاهِلٌ بِمَدْلُولِ مَا صَدَرَ مِنْهُ؛ فَيُكْتَفَى بِمَا قَرَّرْتُمُوهُ عَلَيهِ تَعْزِيرًا. وَفَّقَكُمُ اللهُ، وَالسَّلَامُ عَلَيكُم. مُفْتِي الدِّيَارِ السَّعَودِيَّةِ"

(1)

.

- قَالَ ابْنُ حَجَرٍ الهَيتَمِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (الزَّوَاجِرُ عَنِ اقْتِرَافِ الكَبَائِرِ)

(2)

: "الكَبِيرَةُ الأُولَى: الشِّرْكُ بِاللهِ [في سِيَاقِ الكَلَامِ عَلَى مَا يَكْفُرُ بِهِ صَاحِبُهُ، وَذِكْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم]: .... أَو يَلْعَنُهُ أَو يَسُبُّهُ أَو يَسْتَخِفُّ أَو يَسْتَهْزِئُ بِهِ أَو بِشَيءٍ مِنْ أَفْعَالِهِ؛ كَلَحْسِ الأَصَابِعِ، أَو يُلْحِقُ بِهِ نَقْصًا فِي نَفْسِهِ أَو نَسَبِهِ أَو دِينِهِ أَو فِعْلِهِ، أَو يُعَرِّضُ بذَلِكَ، أَو يُشَبِّهُهُ بِشَيءٍ عَلَى طَرِيقِ الإِزْرَاءِ أَوِ التَّصْغِيرِ لِشَأْنِهِ أَوِ الغَضِّ مِنْهُ.

أَو تَشَبَّهَ بِالعُلَمَاءِ أَوِ الوُعَّاظِ أَوِ المُعَلِّمِينَ -عَلَى هَيئَةٍ مُزْرِيَةٍ بِحَضْرَةِ جَمَاعَةٍ- حَتَّى يَضْحَكُوا، أَو يَلْعَبُوا اسْتِخْفَافًا، أَو قَالَ: قَصْعَةُ ثَرِيدٍ خَيرٌ مِنَ العِلْمِ -اسْتِخْفَافًا أَيضًا-"

(3)

.

(1)

مَجْمُوعُ فَتَاوَى وَرَسَائِلِ الشَّيخِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ آلِ الشَّيخِ رحمه الله (رَقَم 3900).

(2)

الزَّوَاجِرُ (1/ 48).

(3)

وَفِي رَوضَةِ الطَّالِبِين (7/ 287) لِلنَّوَوِيِّ رحمه الله: "وَلَو حَضَرَ جَمَاعَةٌ، وَجَلَسَ أَحَدُهُم عَلَى مَكَانٍ رَفِيعٍ تَشَبُّهًا بِالمُذَكِّرِينَ، فَسَأَلوهُ المَسَائِلَ وَهُمْ يَضْحَكُونَ! ثُمَّ يَضْرِبُونَهُ بِالمِخْرَاقِ، أَو تَشَبَّهَ بِالمُعَلِّمِينَ، فَأَخَذَ خَشَبَةً، وَجَلَسَ القَومُ حَولَهُ كَالصِّبْيَانِ، وَضَحِكُوا وَاسْتَهْزَؤوا، وَقَالَ: قَصْعَةُ ثَرِيدٍ خَيرٌ مِنَ العِلْمِ! كَفَرَ. قُلْتُ [النَّوَوِيُّ]: الصَّوَابُ أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ فِي مَسْأَلَتَيِّ التَّشَبُّهِ. واللهُ أَعْلَمُ".

قُلْتُ: وَذَلِكَ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ المَقْصُودُ الاسْتِهْزَاءَ بِشَخْصِ المُدَرِّسِ نَفْسِهِ لَا بِالشَّرِيعَةِ وَأَهْلِهَا، وَلَكِنَّ هَذَا لَا يَعْنِي أَنَّ فِعْلَهُ مُبَاحٌ! كَمَا هُوَ مَفْهُومٌ مِنْ قَولِهِ:(لَا يَكْفُرْ)، وَقَدْ أَقَرَّ رحمه الله كَونَ ذَلِكَ مِنَ الكَبَائِرِ. وَاللهُ أَعْلَمُ.

وَقَالَ أَيضًا رحمه الله نَقْلًا عَنِ القَاضِي عِيَاض رحمه الله: "وَأَفْتَى مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي زَيدٍ فِيمَنْ قَالَ لِصَبِيٍّ: لَعَنَ اللهُ مُعَلِّمَكَ وَمَا عَلَّمَكَ! قَالَ: أَرَدْتُ سُوءَ الأَدَبِ وَلَمْ أُرِدِ القُرْآنَ. قَالَ: يُؤَدَّبُ القَائِلُ، قَالَ: وَأَمَّا مَنْ لَعَنَ المُصْحَفَ؛ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ هَذَا". التِّبْيَانُ فِي آدَابِ حَمَلَةِ القُرْآنِ (ص 165).

ص: 212

بَابُ قَولِ اللهِ تَعَالَى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي} [فُصِّلت: 50].

قَالَ مُجَاهِدٌ: (هَذَا بِعَمَلِي، وَأَنَا مَحْقُوقٌ بِهِ)

(1)

.

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (يُرِيدُ: مِنْ عِنْدِي)

(2)

.

وَقَولِهِ: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القَصَص: 78].

قَالَ قَتَادَةُ: (عَلَى عِلْمٍ مِنِّي بِوُجُوهِ المَكَاسِبِ)

(3)

.

وَقَالَ آخَرُونَ: (عَلَى عِلْمٍ مِنَ اللهِ أَنِّي لَهُ أَهْلٌ)، وَهَذَا مَعْنَى قَولِ مُجَاهِدٍ:(أُوتِيتُهُ عَلَى شَرَفٍ)

(4)

.

وَعَنْ أَبِي هُرَيرَةَ؛ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ((إِنَّ ثَلَاثَةً مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ؛ أَبْرَصَ وَأَقْرَعَ وَأَعْمَى، فَأَرَادَ اللهُ أَنَّ يَبْتَلِيَهُمْ، فَبَعَثَ إِلَيهِمْ مَلَكًا، فَأَتَى الأَبْرَصَ، فَقَالَ: أَيُّ شَيءٍ أَحَبُّ إِلَيكَ؟ قَالَ: لَونٌ حَسَنٌ وَجِلْدٌ حَسَنٌ، وَيَذْهَبُ عَنِّي الَّذِي قَدْ قَذَرَنِي النَّاسُ بِهِ. قَالَ: فَمَسَحَهُ، فَذَهَبَ عَنْهُ قَذَرُهُ، فَأُعْطِيَ لَونًا حَسَنًا وَجِلْدًا حَسَنًا، قَالَ:

(1)

رَوَاهُ البُخَارِيُّ (6/ 127) تَعْلِيقًا، وَقَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله فِي الفَتْحِ (8/ 560):"وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ".

(2)

تَفْسِيرُ القُرطُبيِّ (15/ 373).

(3)

تَفْسِيرُ القُرطُبيِّ (15/ 266).

(4)

الدُّرُّ المَنْثُورُ (7/ 234) لِلسُّيُوطِيِّ رحمه الله.

ص: 213

فَأَيُّ المَالِ أَحَبُّ إِلَيكَ؟ قَالَ: الإِبِلُ أَوِ البَقَرُ -شَكَّ إِسْحَاقُ

(1)

- فَأُعْطِيَ نَاقَةً عُشَرَاءَ، وَقَالَ: بَارَكَ اللهُ لَكَ فِيهَا.

قَالَ: فَأَتَى الأَقْرَعَ، فَقَالَ: أَيُّ شَيءٍ أَحَبُّ إِلَيكَ؟ قَالَ: شَعْرٌ حَسَنٌ، وَيَذْهَبُ عَنِّي الَّذِي قَدْ قَذَرَنِي النَّاسُ بِهِ. فَمَسَحَهُ، فَذَهَبَ عَنْهُ، وَأُعْطِيَ شَعْرًا حَسَنًا، فَقَالَ: أَيُّ المَالِ أَحَبُّ إِلَيكَ؟ قَالَ: البَقَرُ أَوِ الإِبِلُ، فَأُعْطِيَ بَقَرَةً حَامِلًا، قَالَ: بَارَكَ اللهُ لَكَ فِيهَا.

فَأَتَى الأَعْمَى، فَقَالَ: أَيُّ شَيءٍ أَحَبُّ إِلَيكَ؟ قَالَ: أَنْ يَرُدَّ اللهُ إِلَيَّ بَصَرِي فَأُبْصِرَ بِهِ النَّاسَ، فَمَسَحَهُ، فَرَدَّ اللهُ إِلَيهِ بَصَرَهُ، قَالَ: فَأَيُّ المَالِ أَحَبُّ إِلَيكَ؟ قَالَ: الغَنَمُ، فَأُعْطِيَ شَاةً وَالِدًا.

فَأُنْتَجَ هَذَانِ، وَوَلَّدَ هَذَا، فَكَانَ لِهَذَا وَادٍ مِنَ الإِبِلِ، وَلِهَذَا وَادٍ مِنَ البَقَرِ، وَلِهَذَا وَادٍ مِنَ الغَنَمِ.

قَالَ: ثُمَّ إِنَّهُ أَتَى الأَبْرَصَ فِي صُورَتِهِ وَهَيئَتِهِ، فَقَالَ: رَجُلٌ مِسْكِينٌ وَابْنُ سَبِيلٍ؛ قَدْ انْقَطَعَتْ بِيَ الحِبَالُ

(2)

فِي سَفَرِي، فَلَا بَلَاغِ لِيَ اليَومَ إِلَّا بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ، أَسْأَلُكَ بِالَّذِي أَعْطَاكَ اللَّونَ الحَسَنَ وَالجَلْدَ الحَسَنَ وَالمَالَ؛ بَعِيرًا أَتَبَلَّغُ بِهِ فِي سَفَرِي، فَقَالَ: الحُقُوقُ كَثِيرَةٌ، فَقَالَ لَهُ: كَأَنِّي أَعْرِفُكَ! أَلَمْ تَكُنْ أَبْرَصَ يَقْذَرُكَ النَّاسُ؟ فَقِيرًا؛ فَأَعْطَاكَ اللهُ عز وجل المَالَ؟ فَقَالَ: إِنَّمَا وَرِثْتُ هَذَا المَالَ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ، فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللهُ إِلَى مَا كُنْتَ.

(1)

هُوَ إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ؛ تَابِعِيٌّ مِنَ الوُسْطَى؛ ثِقَةٌ حُجَّةٌ (ت 132 هـ).

(2)

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله فِي الفَتْحِ (6/ 502): "وَلِبَعْضِ رُوَاةِ مُسْلِمٍ: الحِيَالُ -بِالمُهْمَلَةِ وَالتَّحْتَانِيَّةِ-، جَمْعُ حِيلَةٍ: أَي: لَمْ يَبْقَ لِي حِيلَةٌ".

ص: 214

قَالَ: ثُمَّ إِنَّهُ أَتَى الأَقْرَعَ فِي صُورَتِهِ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لِهَذَا، وَرَدَّ عَلَيهِ مِثْلَ مَا رَدَّ عَلَيهِ هَذَا، فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللهُ إِلَى مَا كُنْتَ.

قَالَ: وَأَتَى الأَعْمَى فِي صُورَتِهِ، فَقَالَ: رَجُلٌ مِسْكِينٌ وَابْنُ سَبِيلٍ، قَدْ انْقَطَعَتْ بِيَ الحِبَالُ فِي سَفَرِي؛ فَلَا بَلَاغَ لِيَ اليَومَ إِلَّا بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ، أَسْأَلُكَ بالَّذِي رَدَّ عَلَيكَ بَصَرَكَ؛ شَاةً أَتَبَلَّغُ بِهَا فِي سَفَرِي، فَقَالَ: قَدْ كُنْتُ أَعْمَى؛ فَرَدَّ اللهُ إِلَيَّ بَصَرِي، فَخُذْ مَا شِئْتَ، وَدَعْ مَا شِئْتَ؛ فَوَاللَّهِ لَا أَجْهَدُكَ اليَومَ بِشَيءٍ أَخَذْتَهُ لِلَّهِ، فَقَالَ: أَمْسِكْ مَالَكَ؛ فَإِنَّمَا ابْتُلِيتُمْ؛ فَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنْكَ وَسَخِطَ عَلَى صَاحِبَيكَ)). أَخْرِجَاهُ

(1)

.

(1)

البُخَارِيُّ (3464)، وَمُسْلِمٌ (2964).

ص: 215

فِيهِ مَسَائِلُ:

الأُولَى: تَفْسِيرُ الآيَةِ.

الثَّانِيَةُ: مَا مَعْنَى {لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي} ؟

الثَّالِثَةُ: مَا مَعْنَى قَولِهِ: {أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} ؟

الرَّابِعَةُ: مَا فِي هَذِهِ القِصَّةِ العَجِيبَةِ مِنَ العِبَرِ العَظِيمَةِ.

ص: 216

‌الشَّرْحُ

- قَالَ تَعَالَى: {لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ * وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} [فُصِّلَت: 49 - 50].

- وقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيهِمْ وَآتَينَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ * قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [القَصَص: 76 - 78].

- وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيهِ تَجْأَرُونَ} [النَّحْل: 53].

- وَفِي الآيَةِ الكَرِيمَةِ: {فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الزُّمَر: 49 - 50].

قَالَ الشَّيخُ السَّعْدِيُّ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ: "يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ حَالَةِ الإِنْسَانِ وَطَبِيعَتِهِ؛ أَنَّهُ حِينَ يَمَسُّهُ ضُرٌّ مِنْ مَرَضٍ أَو شِدَّةٍ أَو كَرْبٍ {دَعَانَا} مُلِحًّا فِي تَفْريجِ مَا نَزَلَ بِهِ

ص: 217

{ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا} فَكَشَفْنَا ضُرَّهُ وَأَزَلْنَا مَشَقَّتَهُ؛ عَادَ بِرَبِّهِ كَافِرًا، وَلِمَعْرُوفِهِ مُنْكِرًا! وَ {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} أَي: عِلْمٍ مِنَ اللهِ أَنِّي لَهُ أَهْلٌ، وَأَنِّي مُسْتَحِقٌّ لَهُ، لِأَنِّي كَرِيمٌ عَلَيهِ، أَو عَلَى عِلْمٍ مِنِّي بِطُرُقِ تَحْصِيلِهِ! {بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ} يَبْتَلِي اللهُ بِهَا عِبَادَهُ لِيَنْظُرَ مَنْ يَشْكُرُهُ مِمَّنْ يَكْفُرُهُ، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} فَلِذَلِكَ يَعُدُّونَ الفِتْنَةَ مِنْحَةً، وَيَشْتَبِهُ عَلَيهِم الخَيرُ المَحْضُ بِمَا قَدْ يَكُونُ سَبَبًا لِلخَيرِ أَو لِلشَّرِّ، {قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أَي: قَولَهُم {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} فَمَا زَالتْ مُتَوَارَثَةً عِنْدَ المُكَذِّبِينَ، لَا يُقِرُّونَ بِنِعْمَةِ رَبِّهِم، وَلَا يَرَونَ لَهُ حَقًّا، فَلَم يَزَلْ دَأْبُهُم حَتَّى أُهْلِكُوا، وَلَم يُغْنِ {عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} حِينَ جَاءَهُم العَذَابُ"

(1)

.

- هَذَا البَابُ كَالأَبْوَابِ الَّتِي قَبْلَهُ فِي بَيَانِ وُجُوبِ تَعْظِيمِ اللهِ تَعَالَى فِي الأَلْفَاظِ، وَأَنَّ النِّعَمَ يَجِبُ أَنْ تُنْسَبَ إِلَيهِ، وَأَنْ يُشْكَرَ عَلَيهَا؛ فَتُعْزَى إِلَيهِ، وَيَقُولُ العَبْدُ: هَذَا أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ بِهِ.

وَالكَذِبُ فِي هَذِهِ المَسَائِلِ أَو أَنْ يَتَكَلَّمَ المَرْءُ بِكَلَامٍ لَيسَ مُوَافِقًا للحَقِيقَةِ أَو هُوَ مُخَالِفٌ لِمَا يَعْلَمُهُ مِنْ أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَد أَنْعَمَ عَلَيهِ بِذَلِكَ؛ فَهَذَا يُؤَدِّيهِ إَلى المَهَالِكِ، وَقَد يَسْلُبُ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ النِّعْمَةَ بِسَبَبِ لَفْظِهِ.

- دَخَلَ فِي هَذَا البَابِ نَوعَانِ مِنَ النَّاسِ:

1 -

مَنْ يَنْسِبُ النِّعْمَةَ إِلَى نَفْسِهِ أَو إِلَى أَسْبَابِهَا وَلَا يَنْسِبُهَا إِلَى اللهِ جَلَّ وَعَلَا أَصْلًا! فَهَذَا مُسِيءٌ مِنْ جَانِبِ الرُّبُوبِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ غَافِلٌ عَنِ اللهِ تَعَالَى، كَمَا فِي قَولِ ابْنِ عَبَّاسٍ:(يُرِيدُ مِنْ عِنْدِي)، وَكَمَا فِي قَول قَتَادَةَ:(عَلَى عِلْمٍ مِنِّي بِوُجُوهِ المَكَاسِبِ).

(1)

تَفْسِيرُ السَّعْدِيِّ (ص 727).

ص: 218

2 -

مَنْ يَنْسِبُ النِّعْمَةَ إِلَى نَفْسِهِ مِنْ جِهَةِ الاسْتِحْقَاقِ، وَأَنَّهُ يَرَى نَفْسَهُ مُسْتَحِقًّا لِذَلِكَ الشَّيءَ عَلَى اللهِ عز وجل؛ فَهَذَا مُسِيءٌ مِنْ جَانِبِ العُبُودِيَّةِ، كَمَا فِي قَولِ مُجَاهِدٍ:(هَذَا بِعَمَلِي، وَأَنَا مَحْقُوقٌ بِهِ)، وقَولِهِ أَيضًا:(أُوتِيتُهُ عَلَى شَرَفٍ)، فَجَعَلَ تِلْكَ النِّعْمَةَ مِنَ اللهِ تَعَالَى اسْتِحْقَاقًا لَهُ وَلَيسَ تَفَضُّلًا مِنْهُ سبحانه وتعالى!

- قَولُهُ: (أَبْرَصَ): البَرَصُ مَرَضٌ جِلْدِيٌّ مِنَ الأَمْرَاضِ المُسْتَعْصِيَةِ عَلَى البَشَر، لِذَلِكَ كَانَ الشِّفَاءُ مِنْهُ آيَةً عَلَى صِدْقِ المَسِيحِ عليه السلام، كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى:{وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيئَةِ الطَّيرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عِمْرَان: 49].

- قَولُهُ: (يَبْتَليَهُم): أَي: يَخْتَبِرَهُم؛ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيرِ فِتْنَةً} [الأَنْبِيَاء: 35]، وَقَالَ تَعَالَى عَنْ سُلَيمَانَ عليه السلام:{هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} [النَّمْل: 40].

- قَولُهُ: ((قَذَرَنِيَ)) أَي اسْتَقْذَرَنِي وَكَرِهَ النَّاسُ مُخَالَطَتي مِنْ أَجْلِهِ.

- قَولُهُ: ((بَارَكَ اللهُ لَكَ فِيهَا)) يُحْتَمَلُ أَنَّهُ خَبَرٌ بِمَعْنَى أَنَّهَا مُبَارَكَةٌ مِنَ اللهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ إِنْشَاءٌ؛ فَهوَ يَدْعُو لَهُ.

- قَولُهُ: ((فَأُبْصِرَ بِهِ النَّاسَ)) لَمْ يَطْلُبْ بَصَرًا حَسَنًا كَمَا طَلَبَهُ صَاحِبَاهُ، وَإنَّمَا طَلَبَ بَصَرًا يُبْصِرُ بِهِ النَّاسَ فَقَط؛ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى قَنَاعَتِهِ بِالكِفَايَةِ.

ص: 219

وَطَلَبُهُ لِلغَنَمِ دَلِيلٌ عَلَى سَكِينَتِهِ؛ لِأَنَّ ((السَّكِينَةَ فِي أَهْلِ الغَنَمِ))

(1)

.

- قَولُهُ: ((فَأُعُطْيَ نَاقَةً عُشَرَاءَ)) العُشَرَاءُ: هِيَ الحَامِلُ الَّتِي تَمَّ لَهَا ثَمَانِيَةُ أَشْهُرٍ، وَهِيَ أَنْفَسُ الأَمْوَالِ، قَالَ تَعَالَى:{وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ} [التَّكْوِير: 4]

(2)

.

- قَولُهُ: ((فَأُنْتَجَ)) مَعْنَاهُ: تَوَلَّى الوِلَادَةَ.

- قَولُهُ: ((في صُورَتِهِ وَهَيئَتِهِ)) الصُّورَةُ فِي الجِسْمِ، وَالهَيئَةُ فِي الشَّكْلِ وَاللِّبَاسِ.

- قَولُهُ: ((ابْنُ سَبِيلٍ)) أَي: مُسَافِرٌ؛ وَقَد نَفِدَ مَا مَعَهُ مِنَ الزَّادِ، وَقَد جَعَلَ اللهُ لَهُ حَقًّا فِي الزَّكَاةِ؛ وَلَو كَانَ غَنِيًّا فِي بَلَدِهِ.

وسُمِّيَ ابْنَ سَبِيلٍ لِكَونِهِ مُلَازِمًا لِلسَّبِيلِ وَهوَ الطَّرِيقُ، كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ ابْنُ سُوقٍ، وَابْنُ مَصْلَحَةٍ.

- قَولُهُ: ((أَسْأَلُكَ بِالَّذِي أَعْطَاكَ اللَّونَ الحَسَنَ وَالجَلْدَ الحَسَنَ وَالمَالَ)) فِيهِ التَّذْكِيرُ بِالنِّعْمَةِ وَالمُنْعِمِ؛ لِيَكُونَ أَحْرَى إِلَى الإِجَابَةِ وَلِدَفْعِ الغَفْلَةِ.

- قَولُهُ: ((الحُقُوقُ كَثِيرَةٌ)) أَي: هَذَا المَالُ الَّذِي عِنْدِي مُتَعَلِّقٌ بِهِ حُقُوقٌ كَثِيرَةٌ؛ لَيسَ حَقَّكَ أَنْتَ فَقَط!

- قَولُهُ: ((لَا أَجْهَدُكَ)) الجَهْدُ: المَشَقَّةُ، والمَعْنَى: لَا أَشُقُّ عَلَيكُم بِمَنْعٍ وَلَا مِنَّةٍ.

(1)

رَوَاهُ البُخَارِيُّ (3301)، وَمُسْلِمٌ (52) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا.

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله فِي الفَتْحِ (1/ 133): "السَّكِينَةُ؛ أَي: الوَقَارُ أَوِ الرَّحْمَةُ أَوِ الطُّمَأْنِينَةُ، مَأْخُوذٌ مِنْ سُكُونِ القَلْبِ".

(2)

قَالَ الشَّيخُ السَّعْدِيُّ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (ص 912): "أَي: عَطَّلَ النَّاسُ حِينَئِذٍ نَفَائِسَ أَمْوَالِهِم الَّتِي كَانُوا يَهْتَمُّونَ لَهَا وَيُرَاعُونَهَا فِي جَمِيعِ الأَوقَاتِ، فَجَاءَهُم مَا يُذْهِلُهُم عَنْهَا، فَنَبَّهَ بِالعِشَارِ -وَهيَ النُّوقُ الَّتِي تَتْبَعُهَا أَولَادُهَا- وَهيَ أَنْفَسُ أَمْوَالِ العَرَبِ إِذْ ذَاكَ".

ص: 220

- الظَّاهِرُ أَنَّ أَمْرَ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ قَدِ انْتَشَرَ وَذَلِكَ لِابْتِدَاءِ قَولِ المَلَكِ: ((أَسْأَلُكَ بِالَّذِي أَعْطَاكَ اللَّونَ الحَسَنَ وَالجَلْدَ الحَسَنَ وَالمَالَ))، وَلِقَولِهِ:((كَأَنِّي أَعْرِفُكَ))، وَلِقَولِهِ فِيمَا بَعْدُ:((فَإِنَّمَا ابْتُلِيتُمْ)).

- الحَدِيثُ بَوَّبَ عَلَيهِ البُخَارِيُّ رحمه الله فِي الصَّحِيحِ: "بَابُ لَا يَقُولُ: مَا شَاءَ اللهُ وَشِئْتَ، وَهَلْ يَقُولُ أَنَا بِاللهِ ثُمَّ بِكَ؟ "

(1)

، وَالحَدِيثُ دلَّ عَلَى الجَوَازِ

(2)

.

- فِي الحَدِيثِ إِثْبَاتُ صِفَةِ الإِرَادَةِ للهِ تَعَالَى، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ أَنْوَاعِهَا فِي بَابِ قَولِ اللهِ تَعَالَى:{حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سَبَأ: 23].

- فِي الحَدِيثِ أَيضًا أَنَّ الإِنْسَانَ لَا يَلْزَمُهُ الرِّضَى بِقَضَاءِ اللهِ -أَي: بِالمَقْضِيِّ-،

(1)

البُخَارِيُّ (8/ 133).

(2)

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله فِي الفَتْحِ (11/ 540): "وَقَالَ المُهَلَّبُ: إِنَّمَا أَرَادَ البُخَارِيُّ أَنَّ قَولَهُ: ((مَا شَاءَ اللهُ ثُمَّ شِئْتَ)) جَائِزٌ مُسْتَدِلًّا بِقَولِهِ: ((أَنَا بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ)) وَقَدْ جَاءَ هَذَا المَعْنَى عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَإِنَّمَا جَازَ بِدُخُولِ (ثُمَّ) لِأَنَّ مَشِيئَةَ اللهِ سَابِقَةٌ عَلَى مَشِيئَةِ خَلْقِهِ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الحَدِيثُ المَذْكُورُ عَلَى شَرْطِهِ اسْتَنْبَطَ مِنَ الحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي عَلَى شَرْطِهِ مَا يُوَافِقُهُ.

وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى بَأْسًا أَنْ يَقُولَ: (مَا شَاءَ اللهُ ثُمَّ شِئْتَ) وَكَانَ يَكْرَهُ: (أَعُوذُ بِاللَّهِ وَبِكَ)، وَيُجِيزُ:(أَعُوذُ بِاللَّهِ ثمَّ بِكَ) وَهُوَ مُطَابِقٌ لحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيرِهِ مِمَّا أَشَرْتُ إِلَيهِ.

تَنْبِيهٌ: مُنَاسَبَةُ إِدْخَالِ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ فِي كِتَابِ الأَيمَانِ مِنْ جِهَةِ ذِكْرِ الحَلِفِ فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا ذَكَرْتُ، وَمِنْ جِهَةِ أَنَّهُ قَدْ يُتَخَيَّلُ جَوَازُ اليَمِينِ بِاللَّهِ ثُمَّ بِغَيرِهِ عَلَى وِزَانِ مَا وَقَعَ فِي قَولِهِ:((أَنَا بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ)) فَأَشَارَ إِلَى أَنَّ النَّهْيَ ثَبَتَ عَنِ التَّشْرِيكِ، وَوَرَدَ بِصُورَةِ التَّرْتِيبِ عَلَى لِسَانِ المَلَكِ، وَذَلِكَ فِيمَا عَدَا الأَيمَانَ، أَمَّا اليَمِينُ بِغَيرِ ذَلِكَ فَثَبَتَ النَّهْيُ عَنْهَا صَرِيحًا فَلَا يُلْحَقُ بِهَا مَا وَرَدَ فِي غَيرِهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ".

ص: 221

لِأَنَّ هَؤلَاءِ الَّذِينَ أُصِيبُوا قَالُوا: أَحَبُّ إِلَينَا كَذَا وَكَذَا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الرِّضَا.

- وَفِيهِ أَيضًا جَوَازُ التَّمْثِيلِ لِلمَصْلَحَةِ، وهوَ أَنْ يَتَمَثَّلَ الإِنْسَانُ بِحَالٍ لَيسَ هُوَ عَلَيهَا فِي الحَقيقَةِ، مِثْلَ أَنْ يَأتيَ بِصُورَةِ مِسْكِينٍ -وَهو غَنِيٌّ- وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ إِذا كَانَتْ فِيهِ مَصْلَحَةٌ؛ وَأَرَادَ أَنْ يَخْتَبِرَ إِنْسَانًا بِمِثْلِ هَذَا مَثَلًا؛ فَلَهُ ذَلِكَ

(1)

.

(1)

القَولُ المُفِيدُ (2/ 295).

ص: 222

بَابُ قَولِ اللهِ تَعَالَى: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الأَعْرَاف: 190].

قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: "اتَّفَقُوا عَلَى تَحْرِيمِ كُلِّ اسْمٍ مُعَبَّدٍ لِغَيرِ اللهِ؛ كَعَبْدِ عَمْرِوٍ، وَعَبْدِ الكَعْبَةِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ حَاشَا عَبْدِ المُطَّلِبِ"

(1)

.

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ قَالَ: (لَمَّا تَغَشَّاهَا آدَمُ؛ حَمَلَتْ، فَأَتَاهُمَا إِبْلِيسُ، فَقَالَ: إِنِّي صَاحِبُكُمَا الَّذِي أَخْرَجَكُمَا مِنَ الجَنَّةِ، لَتُطِيعَاني أَو لَأَجْعَلَنَّ لَهُ قَرْنَي أَيِّلٍ؛ فَيَخْرُجُ مِنْ بَطْنِكِ فَيَشُقُّهُ، وَلَأَفْعَلَنَّ -يُخَوِّفُهُمَا-، سَمِّيَاهُ عَبْدَ الحَارِثِ. فَأَبَيَا أَنْ يُطِيعَاهُ، فَخَرَجَ مَيِّتًا، ثُمَّ حَمَلَتْ فَأَتَاهُمَا، فَذَكَرَ لَهُمَا، فَأَدْرَكَهُمَا حُبُّ الوَلَدِ؛ فَسَمَّيَاهُ عَبْدَ الحَارِثِ، فَذَلِكَ قَولُهُ: {جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا}). رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ

(2)

.

(1)

مَرَاتِبُ الإِجْمَاعِ (ص 154) لابْنِ حَزْمٍ الأَنْدَلُسِيِّ رحمه الله.

(2)

تَفْسِيرُ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ (8654).

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (3/ 528) -فِي هَذَا الأَثَرِ عَنِ ابْنِ عبَّاسٍ رضي الله عنه: "وَكَأَنَّهُ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ- أَصْلُهُ مَأْخُوذٌ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ، فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَوَاهُ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ -كَمَا رَوَاهُ ابْن أَبِي حَاتِمٍ-: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو الجُمَاهِرِ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ -يَعْنِي: ابْنَ بَشِيرٍ- عَنْ عُقْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ:(لَمَّا حَمَلَتْ حَوَّاءُ أَتَاهَا الشَّيطَانُ، فَقَالَ لَهَا: أَتُطِيعِينَنِي؛ وَيَسْلَمُ لَكِ وَلَدُكِ؟ سَمِّيهِ عَبْدَ الحَارِثِ! فَلَمْ تَفْعَلْ، فَوَلَدَتْ؛ فَمَاتَ! ثُمَّ حَمَلَتْ، فَقَالَ لَهَا مِثْل ذَلِكَ، فَلَمْ تَفْعَلْ، ثُمَّ حَمَلَتِ الثَّالِثَةَ فَجَاءَهَا، فَقَالَ: إِنْ تُطِيعِينِي يَسْلَمُ وَإِلَّا فَإِنَّهُ يَكُونُ بَهِيمَةً، فَهَيَّبَهُمَا فَأَطَاعَا).

وَهَذِهِ الآثَارُ يَظْهَر عَلَيهَا -وَاللَّهُ أَعْلَمُ- أَنَّهَا مِنْ آثَارِ أَهْل الكِتَاب، وَقَدْ صَحَّ الحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:((إِذَا حَدَّثَكُمْ أَهْل الكِتَابِ فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ)).

ثُمَّ أَخْبَارُهُمْ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ، فَمِنْهَا مَا عَلِمْنَا صِحَّتَهُ بِمَا دَلَّ عَلَيهِ الدَّلِيلُ مِنْ كِتَابِ اللهِ أَو سُنَّةِ رَسُولِهِ، وَمِنْهَا مَا

=

ص: 223

وَلَهُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ قَتَادَةَ؛ قَالَ: (شُرَكَاءَ فِي طَاعَتِهِ وَلَمْ يَكُنْ فِي عِبَادَتِهِ)

(1)

.

وَلَهُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَولِهِ: {لَئِنْ آتَيتَنَا صَالِحًا} قَالَ: أَشْفَقَا أَلَّا يَكُونَ إِنْسَانًا

(2)

، وَذَكَرَ مَعْنَاهُ عَنِ الحَسَنِ

(3)

وَسَعِيدٍ

(4)

وَغَيرِهِمَا

(5)

.

=

عَلِمْنَا كَذِبَهُ بِمَا دَلَّ عَلَى خِلَافِهِ مِنَ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَيضًا، وَمِنْهَا مَا هُوَ مَسْكُوتٌ عَنْهُ؛ فَهُوَ المَأْذُونُ فِي رِوَايَتِهِ بِقَولِهِ عليه السلام:((حَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ)) وَهُوَ الَّذِي لَا يُصَدَّقُ وَلَا يُكَذَّبُ لِقَولِهِ: ((فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ)). وَهَذَا الأَثَرُ هُوَ القِسْمُ الثَّانِي أَوِ الثَّالِثُ؟ فِيهِ نَظَرٌ. فَأَمَّا مَنْ حَدَّثَ بِهِ مِنْ صَحَابِيٍّ أَو تَابِعِيٍّ؛ فَإِنَّهُ يَرَاهُ مِنَ القِسْم الثَّالِثِ، وَأَمَّا نَحْنُ فَعَلَى مَذْهَبِ الحَسَنِ البَصْرِيِّ رحمه الله فِي هَذَا؛ وَأَنَّهُ لَيسَ المُرَادُ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ آدَمَ وَحَوَّاءَ، وَإِنَّمَا المُرَادُ مِنْ ذَلِكَ المُشْرِكُونَ مِنْ ذُرِّيَّتهِ، وَلِهَذَا قَالَ الله:{فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} ، ثُمَّ قَالَ فَذَكَرَ آدَمَ وَحَوَّاءَ أَوَّلًا كَالتَّوطِئَةِ لِمَا بَعْدَهُمَا مِنَ الوَالِدَينِ وَهُوَ كَالِاسْتِطْرَادِ مِنْ ذِكْر الشَّخْص إِلَى الجِنْس، كَقَولِهِ:{وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} الآيَةَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ المَصَابِيحَ -وَهِيَ النُّجُومُ الَّتِي زُيِّنَتْ بِهَا السَّمَاءُ- لَيسَتْ هِيَ الَّتِي يُرْمَى بِهَا! وَإِنَّمَا هَذَا اسْتِطْرَادٌ مِنْ شَخْصِ المَصَابِيحِ إِلَى جِنْسِهَا، وَلِهَذَا نَظَائِرُ فِي القُرْآنِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ".

قُلْتُ: وَأَيضًا هَذَا الأَثَرُ جَاءَ مِنْ طَريقٍ عَنِ الحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ مَرْفُوعًا عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ (3077) وَقَالَ فِيهِ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله أَيضًا (3/ 526): "وَالغَرَضُ: أَنَّ هَذَا الحَدِيثَ مَعْلُولٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوجُهٍ" وَذَكَرَهَا رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ، وَقَدْ ضَعَّفَهُ أَيضًا الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله فِي الضَّعِيفَةِ (342).

وَقَالَ الإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدٍ ابْنُ حَزْمٍ رحمه الله: "وَهَذَا الَّذِي نَسَبُوهُ إِلَى آدَمَ عليه السلام مِنْ أَنَّهُ سَمَّى ابْنَهُ عَبْدَ الحَارِثِ! خُرَافَةٌ مَوضُوعَةٌ مَكْذُوبَةٌ مِنْ تَأْلِيفِ مَنْ لَا دِينَ لَهُ وَلَا حَيَاءَ، لَمْ يَصِحَّ سَنَدُهَا قَطُّ، وَإِنَّمَا نَزَلَتْ فِي المُشْرِكِينَ عَلَى ظَاهِرِهَا، وَحَتَّى لَو صَحَّ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي آدَمَ -وَهَذَا لَا يَصِحُّ أَصْلًا- لَمَا كَانَتْ فِيهِ لِلمُخَالِفِ حُجَّةٌ، لِأَنَّهُ كَأَنْ يَكُونَ الشِّرْكُ أَو الشُّرَكَاءُ المَذْكُورونَ فِي الآيَةِ حِينَئِذٍ عَلَى غَيرِ الشِّرْكِ الَّذِي هُوَ الكُفْرُ؛ لَكِنْ بِمَعْنَى أَنَّهُمَا جَعَلَا معَ تَوَكُّلِهِمَا شِرْكَةً مِنْ حِفْظِهِ". الفِصَلُ فِي المِلَلِ والأَهْوَاءِ والنِّحَلِ (4/ 4).

(1)

تَفْسِيرُ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ (8659)، وَتَفْسِيرُ الطَّبَرِيِّ (13/ 312).

(2)

تَفْسِيرُ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ (8648).

(3)

تَفْسِيرُ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ (8650).

(4)

تَفْسِيرُ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ (8651).

(5)

قُلْتُ: وَلَكِنْ قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (3/ 526): "قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ،

=

ص: 224

فِيهِ مَسَائِلُ:

الأُولَى: تَحْرِيمُ كُلِّ اسْمٍ مُعَبَّدٍ لِغَيرِ اللهِ.

الثَّانِيَةُ: تَفْسِيرُ الآَيَةِ.

الثَّالِثَةُ: أَنَّ هَذَا الشِّرْكَ فِي مُجَرَّدِ تَسْمِيَةٍ لَمْ تُقْصَدْ حَقِيقَتُهَا.

الرَّابِعَةُ: أَنَّ هِبَةَ اللهِ لِلرَّجُلِ البِنْتَ السَّوِيَّةَ مِنَ النِّعَمِ.

الخَامِسَةُ: ذِكْرُ السَّلَفِ الفَرْقَ بَينَ الشِّرْكِ فِي الطَّاعَةِ وَالشِّرْكِ فِي العِبَادَةِ.

=

حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنِ الحَسَنِ:{جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} قَالَ: كَانَ هَذَا فِي بَعْضِ أَهْلِ المِلَلِ، وَلَمْ يَكُنْ بِآدَمَ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَورٍ، عَنْ مَعْمَرٍ قَالَ: قَالَ الحَسَنُ: عَنَى بِهَا ذَرِّيَّةَ آدَمَ -وَمَنْ أَشْرَكَ مِنْهُمْ بَعْدَهُ-، يَعْنِي قَولَهُ:{جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} . وَحَدَّثَنَا بِشْرٌ؛ حَدَّثَنَا يَزِيدُ؛ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: كَانَ الحَسَنُ يَقُولُ: هُمُ اليَهُودُ وَالنَّصَارَى؛ رَزَقَهُمُ اللهُ أَولَادًا؛ فَهَوَّدُوا وَنَصَّرُوا.

وَهَذِهِ أَسَانِيدُ صَحِيحَةٌ عَنِ الحَسَنِ رحمه الله؛ أَنَّهُ فَسَّرَ الآيَةَ بِذَلِكَ، وَهُوَ مِنْ أَحْسَنِ التَّفَاسِيرِ وَأَولَى مَا حُمِلَتْ عَلَيهِ الآيَةُ، وَلَو كَانَ هَذَا الحَدِيثُ عِنْدَهُ مَحْفُوظًا عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمَا عَدَلَ عَنْهُ هُوَ وَلَا غَيرُهُ! وَلَا سِيَّمَا مَعَ تَقْوَاهُ لِلَّهِ وَوَرَعُهُ، فَهَذَا يَدُلُّكَ عَلَى أَنَّهُ مَوقُوفٌ عَلَى الصَّحَابِيِّ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ تَلَقَّاهُ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الكِتَابِ -مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ- مِثْلِ: كَعْبٍ أَو وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ وَغَيرِهِمَا -كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى- إِلَّا أَنَّنَا بَرِئْنَا مِنْ عُهْدَةِ المَرْفُوعِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ".

ص: 225

‌الشَّرْحُ

- هَذَا البَابُ مُشَابِهٌ لِلأَبْوَابِ السَّابِقَةِ فِي شُكْرِ النِّعْمَةِ، لِأَنَّ مِنْ شُكْرِ النِّعْمَةِ نِسْبَتُهَا لِلمُنْعِمِ.

- قَالَ اللهُ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [الأَعْرَافُ: 189 - 191].

قَالَ الشَّيخُ السَّعْدِيُّ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ: "أَي: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ} أَيُّهَا الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ المُنْتَشِرُونَ فِي الأَرْضِ عَلَى كَثْرَتِكُم وَتَفَرُّقِكُم {مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} وَهوَ آدمُ أَبُو البَشَرِ صلى الله عليه وسلم {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} أَي: خَلَقَ مِنْ آدَمَ زَوجَتَهُ حَوَّاءَ لِأَجْلِ أَنْ يَسْكُنَ إِلَيهَا، لِأَنَّهَا إِذَا كَانَتْ مِنْهُ حَصَلَ بَينَهُمَا مِنَ المُنَاسَبَةِ وَالمُوَافَقَةِ مَا يَقْتَضِي سُكُونَ أَحَدِهِمَا إِلَى الآخَرِ، فَانْقَادَ كُلٌّ مِنْهُمَا إِلَى صَاحِبِهِ بِزِمَامِ الشَّهْوَةِ {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا}

(1)

أَي: تَجَلَّلَهَا مُجَامِعًا لَهَا؛ قَدَّرَ البَارِي أَنْ يُوجَدَ مِنْ تِلْكَ الشَّهْوَةِ وَذَلكَ الجِمَاعِ النَّسْلَ، وَحِينَئِذٍ {حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا} وَذَلِكَ فِي ابْتِدَاءِ الحَمْلِ، لَا تَحِسُّ بِهِ الأُنْثَى، وَلَا يُثْقِلُهَا {فَلَمَّا} اسْتَمَرَّتْ بِهِ وَ {أَثْقَلَتْ} بِهِ حِينَ كَبُرَ فِي بَطْنِهَا فَحِينَئِذٍ صَارَ فِي قُلُوبِهِمَا

(1)

فِيهِ الإِرْشَادُ إِلَى الأَدَبِ فِي عَدَمِ ذِكْرِ (الجِمَاعِ) بِصَرِيحِ اسْمِهِ، وَلِأَنَّ الطِّبَاعَ السَّلِيمَةَ تَكْرَهُ أَنْ تَذْكُرَ هَذَا الشَّيءَ بِاسْمِهِ، إِلَّا إِذَا دَعَتِ الحَاجَةُ إِلَى ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ قَد يُصَرِّحُ بِهِ، كَمَا فِي قَولِهِ صلى الله عليه وسلم لِمَاعِزٍ -وَقَد أَقَرَّ عِنْدَهُ بِالزِّنَا-:((أَنِكْتَهَا)) لَا يُكَنِّي! لِأَنَّ الحَاجَةَ هُنَا دَاعِيَةٌ لِلتَّصْرِيحِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ الأَمْرُ جَلِيًّا. وَالحَدِيثُ رَوَاهُ البُخَارِيُّ (6824) عَنِ ابْنِ عبَّاسٍ مَرْفُوعًا.

ص: 226

الشَّفَقَةُ عَلَى الوَلَدِ وَعَلَى خُرُوجِهِ حَيًّا صَحِيحًا سَالِمًا لَا آفَةَ فِيهِ، فَدَعَوا {اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيتَنَا}

(1)

وَلَدًا {صَالِحًا} أَي: صَالِحَ الخِلْقَةِ تَامَّهَا

(2)

لَا نَقْصَ فِيهِ {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} ، {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا} عَلَى وُفْقِ مَا طَلَبَا، وَتَمَّتْ عَلَيهِمَا النِّعْمَةُ فِيهِ {جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} أَي: جَعَلَا للهِ شُرَكَاءَ فِي ذَلِكَ الوَلَدِ الَّذِي انْفَرَدَ اللهُ بِإِيجَادِهِ وَالنِّعْمَةِ بِهِ، وَأَقرَّ بِهِ أَعْيُنَ وَالِدَيهِ؛ فَعَبَّدَاه لِغَيرِ اللهِ

(3)

! إِمَّا أَنْ يُسَمِّيَاهُ بِعَبْدِ غَيرِ اللهِ كَـ (عَبْدِ الحَارِثِ) وَ (عَبْدِ العُزَيرِ) وَ (عَبْدِ الكَعْبَةِ) وَنَحْوِ ذَلِكَ، أَو يُشْرِكَا بِاللهِ فِي العِبَادَةِ

(4)

بَعْدَمَا مَنَّ اللهُ عَلَيهِمَا بِمَا مَنَّ مِنَ النِّعَمِ الَّتِي لَا يُحْصِيهَا أَحَدٌ مِنَ العِبَادِ.

وَهَذَا انْتِقَالٌ مِنَ النَّوعِ إِلَى الجِنْسِ؛ فَإِنَّ أَوَّلَ الكَلَامِ فِي آدَمَ وَحَوَّاءَ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى الكَلَامِ فِي الجِنْسِ

(5)

، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا مَوجُودٌ فِي الذُّرِّيَّةِ كَثِيرًا؛ فَلِذَلِكَ قَرَّرَهُمُ اللهُ

(1)

قُلْتُ: فِي قَولِهِ تَعَالَى: {اللَّهَ رَبَّهُمَا} بَيَانُ عِلَّةِ قُبْحِ الشِّرْكِ؛ أَنَّهُ إِشْرَاكٌ لِمَنْ لَا يَمْلِكُ مَعَ مَنْ يَمْلِكُ، وَلِمَنْ بِيَدِهِ النَّفْعُ وَالضُّرُّ مَعَ مَنْ لَا يَمْلِكُ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا؛ فَسُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ.

(2)

وَلَيسَ بِمُمْتَنِعٍ أَنْ يَكُونَ المَقْصُودُ أَيضًا مَعَهُ صَلَاحًا دِينِيًّا، ولَكِنَّ الأَوَّلَ أَولَى، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَولَهُ تَعَالَى:{فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ بَعْدَ الوِلَادَةِ مُبَاشَرَةً؛ وَلَيسَ بَعْدَ النُّضْجِ.

(3)

قَالَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله فِي تَحْقِيقِ كِتَابِ الإِيمَانِ (ص 87) لِابْنِ سَلَّام رحمه الله: "وَالضَّمِيرُ فِي قَولِهِ تَعَالَى: {جَعَلَا} إِنَّمَا يَعُودَ إِلَى اليَهُودِ وَالنَّصَارَى. بِذَلِكَ فَسَّرَهُ الحَسَنُ البَصْرِيُّ كَمَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْهُ، وَهُوَ أَولَى مَا حُمِلَتْ عَلَيهِ الآيةُ كَمَا قَالَ الحَافِظُ ابْنْ كَثيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ".

(4)

وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَولُهُ تَعَالَى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [التَّوبَة: 75 - 76].

(5)

وَكَذَا أَوضَحَهُ الحَافِظُ السُّيُوطِيُّ رحمه الله -تَحْتَ النَّوعِ التَّاسِعِ وَالعِشْرِينَ فِي بَيَانِ المَوصُولِ لَفْظًا؛ المَفْصُولَ مَعْنًى- فَقَالَ رحمه الله: "وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ تَغْيِيرُ الضَّمِيرِ إِلَى الْجَمْعِ بَعْدَ التَّثْنِيَةِ وَلَو كَانَتِ الْقِصَّةُ وَاحِدَةٌ لَقَالَ عَمَّا يُشْرِكَانِ". الإِتْقَانُ فِي عُلُومِ القُرْآنِ (1/ 310).

ص: 227

عَلى بُطْلَانِ الشِّرْكِ، وَأَنَّهُم فِي ذَلِكَ ظَالِمُونَ أَشَدَّ الظُلْمِ، سَوَاءً كَانَ الشِّرْكُ فِي الأَقْوَالِ أَمْ فِي الأَفْعَالِ؛ فَإِنَّ الخَالِقَ لَهُم مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ؛ الَّذِي خَلَقَ مِنْهَا زَوجَهَا وَجَعَلَ لَهُم مِنْ أَنْفُسِهِم أَزْوَاجًا، ثُمَّ جَعَلَ بَينَهُم مِنَ المَوَدَّةِ وَالرَّحْمَةِ مَا يَسْكُنُ بَعْضُهُم إِلَى بَعْضٍ وَيَأْلَفُهُ وَيَلْتَذُّ بِهِ، ثُمَّ هَدَاهُم إِلَى مَا بِهِ تَحْصُلُ الشَّهْوَةُ وَاللَّذَّةُ وَالأَولَادُ وَالنَّسْلُ، ثُمَّ أَوجَدَ الذُّرِّيَّةَ فِي بُطُونِ الأُمَّهَاتِ وَقْتًا مَوقُوتًا تَتَشَوَّفُ إِلَيهِ نُفُوسُهُم وَيَدْعُونَ اللهَ أَنْ يُخْرِجَهُ سَوِيًّا صَحِيحًا، فَأَتَمَّ اللهُ عَلَيهِمُ النِّعْمَةَ وَأَنَالَهُم مَطْلُوبَهُم؛ أَفَلَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ فِي عِبَادَتِهِ أَحَدًا، وَيُخْلِصُوا لَهُ الدِّينَ؟! وَلَكِنَّ الأَمْرَ جَاءَ عَلَى العَكْسِ، فَأَشْرَكُوا باللهِ مَنْ لَا {يَخْلُقُ شَيئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} {وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ} أَي: لِعَابِدِيهَا {نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} "

(1)

.

- ابْنُ حَزْمٍ: هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ؛ أَبُو مُحَمَّدٍ؛ عَالِمُ الأَنْدَلُسِ فِي عَصْرِهِ، وَأَحَدُ أَئِمَّةِ الإسلَامِ، كَان فِي الأَنْدَلُسِ خَلْقٌ كَثِيرٌ يَنْتَسِبُونَ إِلَى مَذْهَبِهِ يُقَالُ لَهُم:(الحَزْمِيَّةُ)، وُلِدَ بِقُرْطُبَةَ، وَكَانَ يُقَالُ: لِسَانُ ابْنِ حَزْمٍ وَسَيفُ الحَجَّاجِ شَقِيقَانِ، (ت 456)

(2)

.

- عبْدُ المُطَّلِبِ؛ اسْمُهُ: شَيبَةُ الحَمْدِ، وَسُمِّيَ بِعَبْدِ المُطَّلِبِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ مَعَ عَمِّهِ المُطَّلِبِ -وَقَد اسْوَدَّتْ بَشَرَتُهُ مِنَ السَّفَرِ- ظَنَّهُ النَّاسُ عَبْدًا لَهُ؛ فَنَسَبُوهُ إِلَيهِ.

- قَولُهُ: (إِبْلِيسَ): عَلَى وَزْنِ (إِفْعِيل)، مِنْ أَبْلَسَ: إِذَا يَئِسَ، لِأَنَّهُ يَئِسَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى.

(1)

تَفْسِيرُ السَّعْدِيِّ (ص 311).

(2)

الأَعْلَامُ للزِّرِكْلِيِّ (2/ 245).

ص: 228

- الأَيِّلُ: الذَّكَرُ مِنَ الأوعَالِ، والجَمِيعُ الأَيَايِلُ، وَسُمِّيَ بِذَاكَ لأَنَّهُ يَؤُولُ إِلَى الجِبَالِ يَتَحَصَّنُ بِهَا.

- قَولُهُ: (شُرَكَاءَ فِي طَاعَتِهِ): أَي: أَطَاعَاهُ فِيمَا أَمَرَهُمَا بِهِ مِنْ جِهَةِ التَّسْمِيَةِ لَا مِنْ جِهَةِ العِبَادَةِ، وَإِنَّمَا عَبَّدَا الوَلَدَ لِغَيرِ اللهِ، وَفَرْقٌ بَينَ الطَّاعَةِ وَالعِبَادَةِ. هَذَا عَلَى فَرْضِ صِحَّةِ القِصَّةِ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ أَنَّهَا فِي حَقِّ أَهْلِ الكِتَابِ دُونَ آدَمَ وَحَوَّاءَ عليهما السلام، عَلَى أَنَّهُ مِنْ جِهَةِ عُمُومِ اللَّفْظِ؛ فَإِنَّ هَذَا التَّشْرِيكَ يُمْكِنُ حَمْلُهُ أَيضًا عَلَى أَنَّهُ شِرْكٌ مِنْ جِهَةِ التَّعَلُّقِ بِالأَسبَابِ وَعَدَمِ نِسْبَةِ النِّعْمَةِ إِلَى المُنْعِمِ سبحانه وتعالى؛ حَيثُ يُضِيفُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ سَلَامَةَ المَولُودِ وَوِقَايَتَهُ إِلَى الأَطِبَّاءِ وَإِرْشَادَاتِهِم، وَإِلى القَوَابِلِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.

- قَولُهُ: (أَشْفَقَا أَنْ لَا يَكُونَ إِنْسَانًا): أَي: خَافَا أَنْ يَكُونَ حَيَوَانًا أَو جِنِّيًّا أَو غَيرَ ذَلِكَ.

- قَولُ المُصَنِّفِ رحمه الله فِي المَسْأَلَةِ الرَّابِعَةِ: "أَنَّ هِبَةَ اللهِ لِلرَّجُلِ البِنْتَ السَّوِيَّةَ مِنَ النِّعَمِ" مَأْخُوذٌ مِنْ أَنَّ النِّعْمَةَ فِي الآيَةِ الكَرِيمَةِ تَمَّتْ بِحُصُولِ المَولُودِ الصَّالِحِ التَّامِّ بِغَضِّ النَّظَرِ عَنْ جِنْسِهِ.

- قَولُ المُصَنِّفِ رحمه الله فِي المَسْأَلَةِ الخَامِسَةِ: "ذِكْرُ السَّلَفِ الفَرْقَ بَينَ الشِّرْكِ فِي الطَّاعَةِ وَالشِّرْكِ فِي العِبَادَةِ" وَذَلِكَ أَنَّ طَاعَةَ اللهِ نَفْسَهَا هِيَ عِبَادَةٌ لَهُ تَعَالَى، بِخِلَافِ طَاعَةِ غَيرِهِ؛ فَلَا تَكُونُ عِبَادَةً لَهُ، لِأَنَّ الطَّاعَةَ تَكُونُ عِبَادَةً إِذَا اقْتَرَنَتْ بِالخُضُوعِ وَالتَّعْظِيمِ وَالحُبِّ وَالرَّجَاءِ وَالخَوفِ.

فَطَاعَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَثَلًا هِيَ عِبَادَةٌ للهِ تَعَالَى، وَلَيسَتْ لَهُ صلى الله عليه وسلم، وَكَذَلِكَ طَاعَةُ أَهْلِ المَعَاصِي لِأَرْبَابِهِم مِنَ الفُسَّاقِ لَيسَتْ عِبَادَةً لَهُم، فَهُوَ فَرْقٌ بَينَ الشِّرْكِ الأَكْبَرِ وَبَينَ

ص: 229

سَائِرِ المَعَاصِي؛ لِذَلِكَ حَسُنَ التَّفْرِيقُ مِنَ السَّلَفِ بَينَهُمَا دَرْءًا لِلْخَلْطِ.

- قَولُهُ: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} ؛ فِيهَا قَولَانِ:

1 -

إِنَّ المُرَادَ بِالنَّفْسِ الوَاحِدَةِ: العَينُ الوَاحِدَةُ؛ أَي: مِنْ شَخْصٍ مُعَيَّنِ وَاحِدٍ؛ وَهُوَ آدَمُ عليه السلام.

2 -

إِنَّ المُرَادَ بِالنَّفْسِ: الجِنْسُ، وَجَعَلَ مِنْ هَذَا الجِنْسِ زَوجَهُ؛ وَلَمْ يَجْعَلْ زَوجَهُ مِنْ جِنْسٍ آخَرَ

(1)

.

(1)

كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [آل عِمْرَان: 164] أَي: مِنْ جِنْسِهِم.

ص: 230

‌مَسَائِلُ عَلَى البَابِ

-‌

‌ المَسْأَلَةُ الأُولَى: مَا وَجْهُ التَّوفِيقِ بَينَ مَا اتَّفَقَ عَلَيهِ أَهْلُ العِلْمِ مِنْ عَدَمِ جَوَازِ التَّسْمِيَةِ بِاسْمٍ مُعَبَّدٍ لِغَيرِ اللهِ تَعَالَى مَعَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ

مِنْ قَولِهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ نَفْسِهِ: ((أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ؛ أَنَا ابْنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ))

(1)

، وَمِثْلِ قَولِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الحَدِيثِ:((تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ، تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ))

(2)

؟

الجَوَابُ مِنْ أَوجُهٍ:

1 -

قَولُهُ صلى الله عليه وسلم عَنْ نَفْسِهِ: ((أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ؛ أَنَا ابْنُ عَبْدِ المُطَّلِبْ)) هَذَا لَيسَ مِنْ بَابِ إِنْشَاءِ التَّسْمِيَةِ بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ الإِخْبَارِ بِالاسْمِ الَّذِي عُرِفَ بِهِ المُسَمَّى دُونَ غَيرِهِ، وَالإِخْبَارُ بِمِثْلِ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ تَعْرِيفِ المُسَمَّى لَا يَحْرُمُ، فقد كَانَ الصَّحَابَةُ يُنَادُونَ بَني عَبْدِ شَمْسٍ وَبَني عَبْدِ الدَّارِ بِأَسْمَائِهِم وَلَا يُنْكِرُ عَلَيهِمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، لِذَلِكَ نَقُولُ: بَابُ الإِخْبَارِ أَوسَعُ مِنْ بَابِ الإِنْشَاءِ

(3)

.

2 -

أَنَّ النِّسْبَةَ فِي قَولِهِ: ((أَنَا ابْنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ)) لَيسَتْ نِسْبَةَ عُبُودِيَّةٍ وَتَشْرِيكٍ بِاللهِ الخَالِقِ العَظِيمِ! وَإِنَّمَا هِيَ نِسْبَةُ رِقٍّ وَتَبَعِيَّةٍ -كَمَا سَبَقَ-.

3 -

أَنَّ قَولَهُ صلى الله عليه وسلم: ((تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ)) لَيسَ مِنْ بَابِ التَّسْمِيَةِ، وَلَكِنْ مِنْ بَابِ

(1)

رَوَاهُ البُخَارِيُّ (2864) عَنِ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ مَرْفُوعًا.

(2)

رَوَاهُ البُخَارِيُّ (2887) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا.

(3)

بَلْ وَفِي الحَدِيثِ: قَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ أَنْزَلَ اللهُ عز وجل: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} قَالَ: ((يَا مَعْشَرَ قُرَيشٍ -أَو كَلِمَةً نَحْوَهَا- اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ؛ لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ شَيئًا، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ شَيئًا)). رَوَاهُ البُخَارِيُّ (4771)، وَمُسْلِمٌ (206) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا، فَفِي هَذَا الحَدِيثِ نِدَاءُهُ إِيَّاهُم بِـ (بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ).

ص: 231

الوَصْفِ بِمَا يُذَمُّ عَلَيهِ صَاحِبُهُ، وَمَعْنَى العُبُودِيَّةِ هُنَا أَنَّ ذَلِكَ المَوصُوفَ قَد جَعَلَ الأَجْرَ الدُّنْيَوِيَّ مُبْتَغَاهُ دُونَ الأَجْرِ الأُخْرَوِيِّ.

تَنْبِيهٌ وَتَعْلِيقٌ عَلَى قَولِ ابْنِ حَزْمٍ رحمه الله: "حَاشَا عَبْدَ المُطَّلِبِ"!

قَالَ الإِمَامُ ابْنُ القَيِّمِ رحمه الله -مُتَعَقِّبًا ابنَ حَزْمٍ-: "وَلَا وَجْهَ لِتَخْصِيصِ أَبِي مُحَمَّدٍ بْنِ حَزْمٍ ذَلِكَ بِعَبْدِ المْطَّلِبِ خَاصَّةً! فَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ يُسَمُّونَ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَبَنِي عَبْدِ الدَّارِ بِأَسْمَائِهِمْ وَلَا يُنْكِرُ عَلَيهِمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَبَابُ الإِخْبَارِ أَوسَعُ مِنْ بَابِ الإِنْشَاءِ، فَيَجُوزُ مَا لَا يَجُوزُ فِي الإِنْشَاءِ"

(1)

.

وَقَدْ عَلَّقَ الشَّيخُ ابْنُ بَازٍ رحمه الله عَلَى تَعْقِيبِ ابْنِ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى؛ فَقَالَ: "فِي هَذَا التَّعْقِيبِ نَظَرٌ، لِأَنَّ مَقْصُودَ ابْنَ حَزْمٍ جَوَازُ التَّسْمِيَةِ بِعَبْدِ المُطَّلِبِ لِمَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ لَمْ يُغَيِّر اسْمَ ابْنَ عَمَّهِ عَبْدِ المُطَّلِبِ بْنِ رَبِيعَةَ، وَلَيسَ مَقْصُودُهُ مَنْعَ الإِخْبَارِ بِالأَسْمَاءِ المُعَبَّدَةِ لِغَيرِ اللهِ سِوَى عَبْدِ المُطَّلِبِ! لِأَنَّ هَذَا لَا حَرَجَ فِيهِ، وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَينَ أَهْلِ العِلْمِ فِي جَوَازِهِ لِوُرُودِهِ فِي الأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَعَنْ أَصْحَابِهِ رضي الله عنهم. وَاللهُ وَلِيُّ التَّوفِيقِ"

(2)

.

وَقَالَ رحمه الله أَيضًا: "حَاشَا عَبْدَ المُطَّلِبِ: لِأَنَّهُ مُسْتَثْنًى مِنَ النَّهْيِ، لِأَنَّ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم أَقَرَّ ذَلِكَ وَلَمْ يُغَيِّرْهُ، وَمِنَ الصَّحَابَةِ عَبْدُ المُطَّلِبِ بْنِ رَبِيعَةَ، لِأَنَّ الأَصْلَ فِيهِ أَنَّهُ تَعْبِيدٌ بِالعِتْقِ وَالرِّقِّ، وَسَمَّوهُ عَبْدَ المُطَّلِبِ -وَاسْمُهُ شَيبَةُ بْنُ هَاشِمٍ-، لِأَنَّهُم ظَنُّوهُ

(1)

تُحْفَةُ المَودُودِ (ص 114).

(2)

أَفَادَهُ الشَّيخُ فَهْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الرُّومِيُّ فِي تَحْقِيقِ رِسَالَةِ (تَفْسِيرُ الفَاتِحَةِ)(ص 45) لِلشَّيخِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الوَهَّابِ رحمه الله -بِتَقْدِيمِ الشَّيخِ ابْنِ بَازٍ-.

ص: 232

عَبْدًا لِلْمُطَّلِبِ بِسَبَبِ تَغَيُّرِ وَجْهِهِ مِنَ السَّفَرِ، وَالمُطَّلِبُ عَمُّهُ؛ فَأُقِرَّ هَذَا الاسْمُ فِي الإِسْلَامِ بِخِلَافِ غَيرِهِ مِنَ الأَسْمَاءِ"

(1)

.

قُلْتُ: قَدْ نَظَرْتُ فِي كَلَامِ ابْنِ حَزْمٍ رحمه الله فِي مَوضِعِهِ

(2)

فَلَمْ أَجِدْ ذِكْرًا لِـ (عَبْدِ المُطَّلِبِ بْنِ رَبِيعَةَ)، فَالأَظْهَرُ أَنْ قَصْدَ ابْنِ حَزْمٍ رحمه الله هُوَ جَدُّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

قَالَ الشَّيخُ صَالِحُ آلِ الشَّيخِ حَفِظَهُ اللهُ: "وَأَمَّا تَسْمِيَةُ بَعْضِ الصَّحَابَةِ بِعَبْدِ المُطَّلِبِ! فَالمُحَقِّقُونَ مِنَ الرُّوَاةِ يَقُولُونُ: إِنَّ مَنْ سُمِّيَ بِعَبْدِ المُطَّلِبِ؛ فَالصَّحِيحُ أَنَّ اسْمَهُ المُطَّلِبُ -بِدُونِ التَّعْبِيدِ-، وَلَكِنْ نُقِلَ بِعَبْدِ المُطَّلِبِ؛ لِأَنَّهُ شَاعَتِ التَّسْمِيَةُ بِعَبْدِ المُطَّلِبِ دُونَ المُطَّلِبِ، فَوَقَعَ خَطَأٌ فِي ذَلِكَ"

(3)

.

قُلْتُ: وَفِي المُعْجَمِ الكَبِيرِ لِلطَّبَرَانِيِّ: "مُطَّلِبُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ الحَارِثِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ بْنِ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَيُقَالُ: عَبْدُ الْمُطَّلِبِ، وَالصَّوَابُ: المُطَّلِبُ، وَمَاتَ بِدِمَشْقَ، وَكَانَ يَسْكُنُ بِهَا، فَتُوُفِّيَ سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ"

(4)

.

وَعَلَى كُلِّ حَالٍ: بِوُجُودِ هَذَا الاحْتِمَالِ؛ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ الاسْتِدْلَالُ عَلَى الجَوَازِ، لَا سِيَّمَا وَأَنَّهُ خِلَافُ الأَصْلِ؛ وَلَا وَجْهَ لِلاسْتِثْنَاءِ هُنَا فِي مُخَالَفَةِ الأَصْلِ! فَتَأَمَّلْ.

(1)

التَّعْلِيقُ المُفِيدُ (ص 234).

(2)

مَرَاتِبُ الإِجْمَاعِ لِابْنِ حَزْمٍ (ص 154).

(3)

التَّمْهِيدُ (ص 501).

(4)

المُعْجَمُ الكَبِيرُ لِلطَّبَرَانِيِّ (20/ 284).

ص: 233

-‌

‌ المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَا أَوجُهُ الرَّدِّ عَلَى هَذهِ القِصَّةِ -الَّتِي فِي هَذَا البَابِ-؛ بِاخْتِصَارٍ

(1)

؟

الجَوَابُ:

1 -

عَدَمُ صِحَّتِهَا مِنْ جِهَةِ الإِسْنَادِ، وَتُخَالِفُ مَا ثَبَتَ بِالأَسَانِيدِ عَنِ الحَسَنِ وَغَيرِهِ

(2)

.

2 -

أَنَّ الأَنْبِيَاءَ مَعْصُومُونَ عَنِ الشِّرْكِ بِاتِّفَاقِ العُلَمَاءِ

(3)

.

3 -

أَنَّهُ ثَبَتَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ أَنَّ النَّاسَ يَأْتُونَ إِلَى آدَمَ يَطْلُبُونَ مِنْهَ الشَّفَاعَةَ؛ فَيَعْتَذِرُ بِأَكْلِهِ مِنَ الشَّجَرَةِ -وَهِيَ مَعْصِيَةٌ لَيسَتْ بِشِرْكٍ- وَلَو وَقَعَ مِنْهُ الشِّرْكُ لَكَانَ اعْتِذَارُهُ بِهِ أَولَى وَأَحْرَى.

4 -

أَنَّ الشَّيطَانَ -فِي هَذِهِ القِصَّةِ- جَاءَ إِلَيهِمَا وَقَالَ: (أَنَا صَاحِبُكُمَا الَّذِي أَخْرَجْتُكُمَا مِنَ الجَنَّةِ) وَهَذا لَا يَقُولُه مَنْ يُرِيدُ الإِغْوَاءَ! وَإِنَّمَا يَأْتِي بِشَيءٍ يُقَرِّبُ قَبُولَ

(1)

القَولُ المُفِيدُ (2/ 309) بِاخْتِصَارٍ يَسِيرٍ.

(2)

قُلْتُ: خِلَافًا لِمَا قَالَهُ الشَّارِحُ الشَّيخُ سُلَيمَانُ بْنُ عَبدِ اللهِ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (تَيسِيرُ العَزِيزِ الحَمِيدِ)(ص 630) مِنْ أَنَّ التَّفْسِيرَ بِغَيرِ ذَلِكَ -وهوَ أَنَّ المَقْصُودَ بِقَولِهِ تَعَالَى: {جَعَلَا لَهُ} هُمَا آدَمُ وحوَّاءُ- أَنَّهُ مِنَ التَّفَاسِيرِ المُبْتَدَعَةِ، وَقَد ذَكَرْنَا فِيمَا سَبَقَ مِنَ النَّقْلِ عَنِ الحَسَنِ وَغَيرِهِ بِالأَسَانِيدِ الصَّحِيحَةِ غَيرَ ذَلِكَ، وَقَد أَيَّدَهُ عُلَمَاءُ التَّفْسِيرِ كَالحَافِظِ ابْنِ كَثِيرٍ رحمه الله -وَحَسْبُكَ بِهِ عَالِمًا بِالتَّفَاسِيرِ المُبْتَدَعَةِ مِنَ الثَّابِتَةِ- حَيثُ قَالَ رحمه الله (3/ 528):"وَأَمَّا نَحْنُ؛ فَعَلَى مَذْهَبِ الحَسَنِ البَصْرِيِّ رحمه الله فِي هَذَا، وَأَنَّهُ لَيسَ المُرَادُ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ آدَمَ وَحَوَّاءَ، وَإِنَّمَا المُرَادُ مِنْ ذَلِكَ المُشْرِكُونَ مِنْ ذُرِّيَّتهِ، وَلِهَذَا قَالَ اللهُ: {فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} ".

قُلْتُ: وَأَمَّا التَّثْنِيَةُ بِـ "جَعَلَا" فَهِيَ رَاجِعَةٌ إِلَى الوَالِدَينِ عُمُومًا. وَاللهُ أَعْلَمُ.

(3)

قَالَ الشَّيخُ صَالِحُ آلِ الشَّيخِ حَفِظَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ التَّمْهِيدُ (ص 498): "وَالمَعَاصِي الصِّغَارُ جَائِزَةٌ عَلَى الأَنْبِيَاءِ -كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَ أَهْلِ العِلْمِ-".

ص: 234

قَولِهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى نَكَارَةِ اللَّفْظِ أَصْلًا.

5 -

أَنَّ إِقْرَارَهُمَا فِي قَولِهِ: (لَأَجْعَلَنَّ لَهُ قَرْنَي أَيِّلٍ) هُوَ شِرْكٌ فِي الرُّبُوبِيَّةِ! لِأَنَّه لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا اللهُ؛ فَكَانَ بِذَلِكَ شِرْكًا وَكُفْرًا أَكْبَرَ، وَهَذَا مُسْتَحِيلٌ عَلَيهِمَا أَيضًا.

ص: 235

بَابُ قَولِ اللهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأَعْرَاف: 180].

ذَكَرَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ({يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} يُشْرِكُونَ)، وَعَنْهُ:(سَمُّوا اللَّاتَ مِنَ الإِلَهِ، وَالعُزَّى مِنَ العَزِيزِ).

وَعَنِ الأَعْمَشِ: (يُدْخِلُونَ فِيهَا مَا لَيسَ مِنْهَا)

(1)

.

فِيهِ مَسَائِلُ:

الأُولَى: إِثْبَاتُ الأَسْمَاءِ.

الثَّانِيَةُ: كَونُهَا حُسْنَى.

الثَّالِثَةُ: الأَمْرُ بِدُعَائِهِ بِهَا.

الرَّابِعَةُ: تَرَكُ مَنْ عَارَضَ مِنَ الجَاهِلِينَ المُلْحِدِينَ.

الخَامِسَةُ: تَفْسِيرُ الإِلْحَادِ فِيهَا.

السَّادِسَةُ: وَعِيدُ مَنْ أَلْحَدَ.

(1)

عِنْدَ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ فِي التَّفْسِيرِ (5/ 1623): "قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ}: التَّكْذِيبُ، وَعَنْهُ أَيضًا قَالَ: الإِلْحَادُ، المُلْحِدِينَ: أَنْ ادَّعَوا اللَّاتَ وَالعُزَّى فِي أَسْمَاءِ اللهِ عز وجل. وَعَنْ قَتَادَةَ قَولُهُ: (يُلْحِدُونَ) قَالَ: يُشْرِكُونَ. وَقَالَ الأَعْمَشُ: يُدْخِلُونَ فِيهَا مَا لَيسَ مِنْهَا". انْتَهَى بِتَصَرُّفٍ يَسِيرٍ وَحَذْفٍ لِلأَسَانِيدِ.

ص: 236

‌الشَّرْحُ

- هَذَا البَابُ فِيهِ بَيَانُ الأَدَبِ الأَكْمَلِ فِي سُؤَالِ اللهِ تَعَالَى؛ وَذَلِكَ بِأَنْ يَتَوَسَّلَ إِلَيهِ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَهوَ دَلِيلُ العِلْمِ بِهِ وَبِتَعْظِيمِهِ وَالتَّعَلُّقِ بِهِ سُبْحَانَهُ.

- قَولُهُ تَعَالَى: {الْحُسْنَى} مُؤَنَّثُ أَحْسَن، وَهُوَ اسْمُ تَفْضِيلٍ، وَمَعنى الحُسْنَى: أَي البَالِغَةَ فِي الحُسْنِ أَكْمَلَهُ، وَاللَّامُ هُنَا لِلاسْتِحْقَاقِ.

وَالحُسْنُ فِي الأَسْمَاءِ يَكُونُ رَاجِعًا إِلَى أَنَّ الصِفَةَ الَّتِي اشْتَمَلَ عَلَيهَا ذَلِكَ الاسْمُ تَكُونُ حَقًّا مَوجُودَةً فيمَنْ تَسَمَّى بِهَا، وَعَلَى الوَجْهِ الأَكْمَلِ الَّذِي لَا نَقْصَ فِيهِ بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ، وَالإِنْسَانُ -وَإِنْ تَسَمَّى بِاسمٍ فِيهِ مَعنًى- فَقَد لَا يَكُونُ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ المَعْنَى شَيءٌ! فَيُسَمَّى (صَالِحًا) وَقَد لَا يَكُونُ صَالِحًا! وَيُسَمَّى (خَالِدًا) وَلَا يَكُونُ خَالِدًا -عَلَى مَعْنَى طُولِ العُمُرِ-! وَيُسَمَّى (مُحَمَّدًا) وَقَد لَا يَكُونُ كَثيرَ خِصَالِ الحَمْدِ! وَهَكَذَا؛ فَإِنَّ الإِنْسَانَ قَد يُسَمَّى بِأَسْمَاءٍ كَثِيرَةٍ؛ لَكِنْ لَا تَكُونُ فِي حَقِّهِ حُسْنَى

(1)

.

- قَولُهُ تَعَالَى: {فَادْعُوهُ بِهَا} اعْلَمْ أَنَّ دُعَاءَ اللهِ بِأَسْمَائِهِ لَهُ مَعْنَيَانِ:

1 -

دُعَاءُ العِبَادَةِ.

وَذَلِكَ بِأَنْ تَتَعَبَّدَ للهِ بِمَا تَقْتَضِيهِ تِلْكَ الأَسْمَاءُ، فَمَثَلًا: اسْمُ الرَّحِيمِ يَدُلُّ عَلَى

(1)

وَأَهْلُ العِلْمِ إِذَا فَسَّرُوا الأَسْمَاءَ الحُسْنَى؛ فَإِنَّمَا هُوَ تَقْرِيبٌ لَيَدُلُّوا النَّاسَ عَلَى أَصْلِ المَعْنَى، أَمَّا المَعْنَى بِكَمَالِهِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ إِلَّا اللهُ تَعَالَى، وَلِهَذَا قَالَ صلى الله عليه وسلم فِي دُعَائِهِ:((لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيتَ عَلَى نَفْسِكَ)). مُسْلِمٌ (486) عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا.

ص: 237

الرَّحْمَةِ؛ وَحِينَئِذٍ تَتَطَلَّعُ إِلَى أسَبْابِ الرَّحْمَةِ وَتَفْعَلُهَا.

وَالسَّمِيعُ: يَقْتَضِي أَنْ تَتَعَبَّدَ للهِ بِمُقْتَضَى السَّمْعِ بِحَيثُ لَا تُسْمِعُ اللهَ قَولًا يُغْضِبُهُ وَلَا يَرْضَاهُ مِنْكَ.

وَالبَصِيرُ: يَقْتَضِي أَنْ تَتَعَبَّدَ للهِ بِمُقْتَضَى ذَلِكَ البَصَرِ بِحَيثُ لَا يَرَى مِنْكَ فِعْلًا يَكْرَهُهُ مِنْكَ

(1)

.

2 -

دُعَاءُ المَسْأَلَةِ، وَهوَ أَنْ تُقَدِّمَ هَذِهِ الأَسْمَاءَ بَينَ يَدِي سُؤَالِكَ مُتَوَسِّلًا بِهَا إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَالأَكْمَلُ أَنْ يَسْأَلَ بِالاسِمِ المُنَاسِبِ لِلْمَطْلُوبِ.

مَثَلًا: يَا غَفُورُ؛ يَا رَحِيمُ؛ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي، كَمَا فِي الحَدِيثِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه؛ أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتِي، قَالَ:((قُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ؛ فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ وَارْحَمْنِي؛ إِنَّكَ أَنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ))

(2)

.

وَالإِنْسَانُ إِذَا دَعَا وَعَلَّلَ؛ فَقَد أَثْنَى عَلَى رَبِّهِ بِهَذَا الاسْمِ طَالِبًا أَنْ يَكُونَ سَبَبًا

(1)

قَالَ الشَّيخُ السَّعْدِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ القُولُ السَّديدُ (ص 161): "فَمَثَلًا أَسْمَاءُ العَظَمَةِ وَالكِبْرِيَاءِ وَالمَجْدِ وَالجَلَالِ وَالهَيبَةِ تَمْلَأُ القُلُوبَ تَعْظِيمًا للهِ وَإِجْلَالًا لَهُ. وَأَسْمَاءُ الجَمَالِ وَالبِرِّ وَالإِحْسَانِ وَالرَّحْمَةِ وَالجُودِ تَمْلَأُ القَلْبَ مَحَبَّةً للهِ وَشَوقًا لَهُ وَحَمْدًا لَهُ وَشُكْرًا. وَأَسْمَاءُ العِزِّ وَالحِكْمَةِ وَالعِلْمِ وَالقُدْرَةِ تَمْلَأُ القَلْبَ خُضُوعًا للهِ وَخُشُوعًا وَانْكِسَارًا بَينَ يَدَيهِ. وَأَسْمَاءُ العِلْمِ وَالخِبْرَةِ وَالإِحَاطَةِ وَالمُرَاقَبَةِ وَالمُشَاهَدَةِ تَمْلَأُ القَلْبَ مُرَاقَبَةً للهِ فِي الحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ، وَحِرَاسَةً لِلخَوَاطِرِ عَنِ الأَفْكَارِ الرَّدِيَّةِ وَالإِرَادَاتِ الفَاسِدَةِ. وَأَسْمَاءُ الغِنَى وَاللُّطْفِ تَمْلَأُ القَلْبَ افْتِقَارًا وَاضْطِرَارًا إِلَيهِ، وَالتِفَاتًا إِلَيهِ كُلَّ وَقْتٍ؛ فِي كُلِّ حَالٍ".

(2)

رَوَاهُ البُخَارِيُّ (834)، وَمُسْلِمٌ (2705).

ص: 238

لِلإِجَابَةِ، وَالتَّوَسُّلُ بِصِفَةِ المَدْعُوِّ المَحْبُوبَةِ لَهُ هُوَ سَبَبٌ آخَرُ لِلإِجَابَةِ؛ فَإنَّ الثَّنَاءَ عَلَى اللهِ بِأَسْمَائِهِ هُوَ مِنْ أَسْبَابِ الإِجَابَةِ أَيضًا.

وَالآيَةُ هُنَا فِي البَابِ تَحْتَمِلُ المَعنَيِين.

- قَولُهُ تَعَالَى: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} أَي: لَا تَسْلُكُوا مَسْلَكَهُم وَلَا طَرِيقَهُم؛ فَإِنَّهُم عَلَى ضَلَالٍ وَعُدْوَانٍ، وَلَيسَ المَعْنَى عَدَمَ مُنَاصَحَتِهِم وَبَيَانَ الحَقِّ لَهُم! إِذْ لَا يُتْرَكُ الظَّالِمُ عَلَى ظُلْمِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّ المُرَادَ بِقَولِهِ:(ذَرُوا) هُوَ التَّهْدِيدُ لِلمُلْحِدِين، أَوِ الإِعْرَاضُ عَنْهُم كَمَا قَالَ المُصَنِّفُ رحمه الله فِي المَسَائِلِ:"تَرَكُ مَنْ عَارَضَ مِنَ الجَاهِلِينَ المُلْحِدِينَ".

- الإِلْحَادُ فِي أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى: هُوَ المَيلُ بِهَا عَمَّا يَجِبُ فِيهَا، وَهُوَ أَنْوَاعٌ سَبَقَ بَيَانُهَا

(1)

.

- أَنْوَاعُ التَّوَسُّلِ المَشْرُوعِ:

1 -

التَّوَسُّلُ بَأَسْمَاءِ اللهِ وَصِفَاتِهِ.

تَقُولُ: (يَا رَحْمَنُ ارْحَمْنِي)، (يَا غَفُورُ اغْفِرْ لِي) وَهَكَذَا، تَذْكُرُ فِي دُعَائِكَ كُلَّ اسْمٍ يُنَاسِبُ حَاجَتَكَ.

2 -

التَّوَسُّلُ بِدُعَاءِ الصَّالِحِينَ.

فَتَأْتِي إِلَى الرَّجُلِ الصَّالِحِ فَتَقُولُ لَهُ: (ادْعُ اللهَ لِي أَنْ يَغْفِرَ لِي)، وَكَتَوَسُّلِ عُمَرَ بِدُعَاءِ العَبَّاسِ رضي الله عنهما، كَمَا فِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ

(2)

.

(1)

وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُ ذَلِكَ فِي مُخْتَصَرِ القَوَاعِدِ المُثْلَى؛ فَلْيُرَاجَعْ.

(2)

البُخَارِيُّ (1010). وَسَيَأْتِي الكَلَامُ عَلَى الشُّبْهَةِ فِي ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.

ص: 239

3 -

التَّوَسُّلُ بِالأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ.

كَمَا فِي حَدِيثِ أَصْحَابِ الغَارِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ انْطَبَقَتْ عَلَيهِمُ الصَّخْرَةُ

(1)

.

(1)

وَالحَدِيثُ بِتَمَامِهِ -كَمَا فِي البُخَارِيِّ (5974) - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما؛ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((بَينَمَا ثَلَاثَةُ نَفَرٍ يَتَمَاشَونَ؛ أَخَذَهُمُ المَطَرُ، فَمَالُوا إِلَى غَارٍ فِي الجَبَلِ فَانْحَطَّتْ عَلَى فَمِ غَارِهِمْ صَخْرَةٌ مِنَ الجَبَلِ فَأَطْبَقَتْ عَلَيهِمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: انْظُرُوا أَعْمَالًا عَمِلْتُمُوهَا لِلَّهِ صَالِحَةً؛ فَادْعُوا اللهَ بِهَا لَعَلَّهُ يَفْرُجُهَا.

فَقَالَ أَحَدُهُمْ: اللَّهُمَّ إِنَّهُ كَانَ لِي وَالِدَانِ شَيخَانِ كَبِيرَانِ وَلِي صِبْيَةٌ صِغَارٌ كُنْتُ أَرْعَى عَلَيهِمْ، فَإِذَا رُحْتُ عَلَيهِمْ فَحَلَبْتُ؛ بَدَأْتُ بِوَالِدَيَّ أَسْقِيهِمَا قَبْلَ وَلَدِي، وَإِنَّهُ نَاءَ بِيَ الشَّجَرُ؛ فَمَا أَتَيتُ حَتَّى أَمْسَيتُ، فَوَجَدْتُهُمَا قَدْ نَامَا، فَحَلَبْتُ كَمَا كُنْتُ أَحْلُبُ، فَجِئْتُ بِالحِلَابِ، فَقُمْتُ عِنْدَ رُؤُوسِهِمَا أَكْرَهُ أَنْ أُوقِظَهُمَا مِنْ نَومِهِمَا، وَأَكْرَهُ أَنْ أَبْدَأَ بِالصِّبْيَةِ قَبْلَهُمَا -وَالصِّبْيَةُ يَتَضَاغَونَ عِنْدَ قَدَمَيَّ-، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبِي وَدَأْبَهُمْ حَتَّى طَلَعَ الفَجْرُ، فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ؛ فَافْرُجْ لَنَا فُرْجَةً نَرَى مِنْهَا السَّمَاءَ، فَفَرَجَ اللهُ لَهُمْ فُرْجَةً حَتَّى يَرَونَ مِنْهَا السَّمَاءَ.

وَقَالَ الثَّانِي: اللَّهُمَّ إِنَّهُ كَانَتْ لِي ابْنَةُ عَمٍّ أُحِبُّهَا كَأَشَدِّ مَا يُحِبُّ الرِّجَالُ النِّسَاءَ، فَطَلَبْتُ إِلَيهَا نَفْسَهَا فَأَبَتْ حَتَّى آتِيَهَا بِمِائَةِ دِينَارٍ، فَسَعَيتُ حَتَّى جَمَعْتُ مِائَةَ دِينَارٍ، فَلَقِيتُهَا بِهَا، فَلَمَّا قَعَدْتُ بَينَ رِجْلَيهَا، قَالَتْ: يَا عَبْدَ اللهِ؛ اتَّقِ اللهَ، وَلَا تَفْتَحِ الخَاتَمَ، فَقُمْتُ عَنْهَا، اللَّهُمَّ؛ فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي قَدْ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ؛ فَافْرُجْ لَنَا مِنْهَا، فَفَرَجَ لَهُمْ فُرْجَةً.

وَقَالَ الآخَرُ: اللَّهُمَّ إِنِّي كُنْتُ اسْتَأْجَرْتُ أَجِيرًا بِفَرَقِ أَرُزٍّ، فَلَمَّا قَضَى عَمَلَهُ قَالَ: أَعْطِنِي حَقِّي، فَعَرَضْتُ عَلَيهِ حَقَّهُ؛ فَتَرَكَهُ وَرَغِبَ عَنْهُ، فَلَمْ أَزَلْ أَزْرَعُهُ حَتَّى جَمَعْتُ مِنْهُ بَقَرًا وَرَاعِيَهَا، فَجَاءَنِي؛ فَقَالَ: اتَّقِ اللهَ وَلَا تَظْلِمْنِي وَأَعْطِنِي حَقِّي، فَقُلْتُ: اذْهَبْ إِلَى ذَلِكَ البَقَرِ وَرَاعِيهَا، فَقَالَ: اتَّقِ اللهَ وَلَا تَهْزَأْ بِي! فَقُلْتُ: إِنِّي لَا أَهْزَأُ بِكَ، فَخُذْ ذَلِكَ البَقَرَ وَرَاعِيَهَا، فَأَخَذَهُ فَانْطَلَقَ بِهَا؛ فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ؛ فَافْرُجْ مَا بَقِيَ. فَفَرَجَ اللهُ عَنْهُمْ).

وَقَولُهُ: (وَإِنَّهُ نَاءَ بِيَ الشَّجَرُ) أَي: اسْتَطْرَدَ مَعَ غَنَمِهِ فِي الرَّعْي إِلَى أَنْ بَعُدَ عَنْ مَكَانِهِ زِيَادَةً عَلَى العَادَةِ؛ فَلِذَلِكَ أَبْطَأَ عَنْ أَهْلِهِ.

(يَتَضَاغَونَ): يَضِجُّونَ وَيَصِيحُونَ مِنَ الجُوعِ.

=

ص: 240

وَكَتَوَسُّلِ آدَمَ وَحَوَّاءَ عليهما السلام بِاعْتِرَافِهِم بِخَطَئِهِم وَظُلْمِهِم لِأَنْفُسِهِم {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأَعْرَاف: 23].

وَكَتَوَسُّلِ المُؤْمِنِينَ بِاتِّبَاعِهِم لِلنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ} [آل عِمْرَان: 193].

- الأَعْمَشُ: هُوَ سُلَيمَانُ بْنُ مَهْرَانَ؛ أَبُو مُحَمَّدٍ، تَابِعِيٌّ مَشْهُورٌ، كَانَ رَأْسًا فِي العِلْمِ النَّافِعِ وَالعَمَلِ الصَّالِحِ، ثِقَةٌ حَافِظٌ؛ لَكِنَّهُ يُدَلِّسُ (ت 148 هـ)

(1)

.

=

(وَلَا تَفْتَحِ الخَاتَمَ): كِنَايَةٌ عَنِ الجِمَاعِ وَالوَطْءِ.

(بِفَرَقِ أَرُزٍّ): الفَرَقُ: إِنَاءٌ يَسَع ثَلَاثَةَ آصُعٍ، وَالصَّاعُ مِكْيَالٌ لِأَهْلِ المَدِينَةِ يَأْخُذُ أَرْبَعَةَ أَمْدَادٍ، وَالمُدُّ مُقَدَّرٌ بِأَنْ يَمُدَّ الرَّجُلُ يَدَيهِ فَيَمْلَأَ كَفَّيهِ.

(1)

الأَعْلَامُ لِلزِّرِكْلِيِّ (3/ 135).

ص: 241

‌مَسَائِلُ عَلَى البَابِ

-‌

‌ مَسْأَلَةٌ: قَالَ بَعْضُهُم: إِنَّ الطَّلَبَ وَالاسْتِغَاثَةَ بِالصَّالِحِينَ هُوَ مِنْ بَابِ الأَسْبَابِ،

وَلَا يَعْنِي ذَلِكَ أَنَّهُم يَعْتَقِدُونَ فِيهِم أَنَّهُمْ يَخْلُقُونَ وَيَضُرُّونَ وَيَنْفَعُونَ! وَإِنَّمَا يُسْتَغَاثُ بِهِم لِتَحْصِيلِ إِغَاثَةِ اللهِ تَعَالَى لَهُم.

وَهَذَا مِنْ بَابِ التَّوَسُّلِ، وَقَد قَالَ اللهُ تَعَالَى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المَائِدَة: 35].

وَفِي الحَدِيثِ: ((تَوَسَّلُوا بِجَاهِي؛ فَإِنَّ جَاهِي عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ)).

وَكَمَا فِي حَدِيثِ تَوَسُّلِ الأَعْمَى بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

وَقَد تَوَسَّلَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله بِأَبي حَنِيفَةَ النُّعْمَانِ -كَمَا فِي أَوَائِلِ تَارِيخِ بَغداد لِلخَطِيبِ البَغْدَادِيِّ رحمه الله

(1)

.

وَفِي البُخَارِيِّ -فِي مَعْرِضِ ذِكْرِ التَّوَسُّلِ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِلاسْتِسْقَاءِ-؛ كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَتَمَثَّلُ شِعْرَ أَبِي طَالِبٍ؛ وَفِيهِ: (وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الغَمَامُ بِوَجْهِهِ

ثِمَالُ اليَتَامَى عِصْمَةٌ لِلْأَرَامِلِ)

(2)

، فَمَا الجَوَابُ عَمَّا سَلَفَ؟

(1)

تَارِيخُ بَغْدَادَ وَذُيُولُهُ (1/ 135).

(2)

البُخَارِيُّ (1008).

وَالثِّمَالُ: هُوَ المَلْجَأُ؛ وَالَّذِي يُعْتَمَدُ عَلَيهِ فِي الأُمُورِ.

ص: 242

الجَوَابُ هُوَ مِنْ أَوجُهٍ -بِحَولِ اللهِ وَقُوَّتِهِ-:

1 -

أَنَّ دَعْوَى (أَنَّ الاسْتِغَاثَةَ بِالصَّالِحِينَ سَبَبٌ لِإِجَابَةِ اللهِ تَعَالَى) كَذِبٌ عَلَى الشَّرِيعَةِ، وَإِبْطَالٌ لِلتَّوحِيدِ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلِ الاسْتِغَاثَةَ بِخَلْقِهِ سَبَبًا لِلإِجَابَةِ! بَلْ هُوَ سَبَبٌ لِلمَنْعِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} [يُونُس: 106].

وَتَأَمَّلْ كَيفَ جَعَلَ اللهُ تَعَالَى الاسْتِغَاثَةَ بِهِ فِي بَدْرٍ سَبَبًا لِحُصُولِ النَّصْرِ -رُغْمَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ مَعَهُم-! قَالَ تَعَالَى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأَنْفَال: 9].

وَتَأَمَّلْ حِكْمَةَ اللهِ تَعَالَى كَيفَ خَلَّا بَينَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَبَينَ أَعْدَائِهِ فِي أُحُدٍ حَتَّى شَجُّوهُ وَكَسَرُوا رَبَاعِيَّتَهُ! لِيُعْلَمَ أَنَّهُ مِنَ البَشَرِ؛ يَطْرَأُ عَلَيهِ مَا يَطْرَأُ عَلَى البَشَرِ مِنَ الأَسْقَامِ وَالأَوجَاعِ، وَلِيَبْطُلَ بِذَلِكَ التَّعَلُّقُ بِغَيرِ اللهِ تَعَالَى وَلَو كَانَ سَيِّدَ البَشَرِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيهِ

(1)

.

وَإِنَّ الاسْتِغَاثَةَ بِالمَخْلُوقِ مُنَاقِضَةٌ لِلعُبُودِيَّةِ الخَالِصَةِ للهِ تَعَالَى، حَيثُ يُجْعَلُ الذُّلُّ وَالخُضُوعُ وَالإِنَابَةُ وَالتَّعَلُّقُ لِغَيرِ اللهِ تَعَالَى! فَهَذَا مِنْ أَبْطَلِ البَاطِلِ، وَإنَّمَا يَتَعَيَّنُ عَلَى العِبَادِ جَمِيعِهِم أَنْ يَعْتَمِدُوا عَلَى خَالِقِ الأَسْبَابِ، وَيَرْغَبُوا إِلَيهِ، وَيَسْتَعِينُوا بِهِ، وَيَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}

(2)

.

(1)

قَالَ القَاضِي عِيَاض رحمه الله: "وَلِيُعْلَمَ أَنَّهُم مِنَ البَشَرِ؛ تُصِيبُهُم مِحَنُ الدُّنْيَا، وَيَطْرَأُ عَلَى أَجْسَامِهِم مَا يَطْرَأُ". إِكْمَالُ المُعْلِمِ شَرْحُ مُسْلِمٍ (6/ 84).

(2)

وَهَذَا لَا يَعْنِي عَدَمَ جَوَازِ الاسْتِغَاثَةِ بِالعَبْدِ فِيمَا يَقْدِرُ عَلَيهِ العَبْدُ! وَلَكِنَّ المَحْذُورَ هُوَ فِي الاسْتِغَاثَةِ بِمَا كَانَ للهِ تَعَالَى خَارِجًا عَنْ قُدْرَةِ البَشَرِ أَصْلًا، وَتَأَمَّلْ قَولَ اللهِ تَعَالَى عَنِ المُشْرِكِينَ:{قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ * تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشُّعَرَاء: 96 - 98].

ص: 243

وَتَأَمَّلْ تَفْرِيقَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَينَ مَا فِي يَدِهِ وَبَينَ مَا عِنْدَ اللهِ عِنْدَمَا قَالَ لابْنَتِهِ: ((يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ رَسُولِ اللهِ! سَلِينِي بِمَا شِئْتِ؛ لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيئًا)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ

(1)

.

وَقَالَ تَعَالَى - عَنْ يَومِ القِيَامَةِ أَيضًا -: {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانْفِطَار: 19] وَذَلِكَ لِتَفَرُّدِهِ سُبْحَانَهُ فِي ذَلِكَ اليَومِ بِالتَّصَرُّفِ وَالحُكْمِ وَالتَّدْبِيرِ، فَلَيسَ لِأَحَدٍ مَعَهُ فِي ذَلِكَ اليَومِ تَصَرُّفٌ وَلَا تَدْبِيرٌ وَلَا أَمْرٌ وَلَا نَهيٌ، بِخِلَافِ الحَالِ فِي الدُّنْيَا؛ فَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ مَلَّكَ أَهْلَهَا مَا خَوَّلَهُم فِيهَا فَهُم يَتَصَرَّفُونَ فِيمَا أَعْطَاهُم بِحَسْبِ اخْتِيَارِهِم -مَعَ كَونِ المِلْكِ وَالأَمْرِ فِي الحَقِيقَةِ للهِ وَحْدَهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ-.

2 -

أَمَّا دَعْوَى أَنَّ هَذَا مِنَ التَّوَسُّلِ! فَهَذَا خَطَأٌ كَبِيرٌ.

لِأَنَّ التَّوَسُّلَ مَعْنَاهُ التَّقَرُّبَ.

قَالَ فِي لِسَانِ العَرَبِ: "الوَسِيلةُ: المَنْزِلَةُ عِنْدَ المَلِكِ، وَالوَسِيلةُ: الدَّرَجَةُ، وَالوَسِيلَةُ: القُرْبَةُ، وَوَسَّلَ فُلَانٌ إِلَى اللهِ وَسِيلَةً: إِذَا عَمِلَ عَمَلًا تَقَرَّبَ بِهِ إِلَيهِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [الإِسْرَاء: 57]، وَفِي حَدِيثِ الأَذَانِ:((اللَّهُمَّ آتِ مُحَمَّدًا الوَسِيلَةَ)) هيَ فِي الأَصْلِ مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى الشَّيءِ وَيُتَقَرَّبُ بِهِ، وَالمُرَادُ بِهِ فِي الحَدِيثِ: القُرْبُ مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَقِيلَ: هِيَ الشَّفَاعَةُ

(1)

مُسْلِمٌ (206).

ص: 244

يَومَ القِيَامَةِ، وَقِيلَ: هِيَ مَنْزِلَةٌ مِنْ مَنَازِلِ الجَنَّةِ كَمَا جَاءَ فِي الحَدِيثِ"

(1)

.

وَمَفَادُ الآيَةِ هُوَ اتِّخَاذُ الوَسَائِلِ المُؤَدِيَّةِ إِلَى رِضْوَانِ اللهِ تَعَالَى، وَهَذَا بِخِلَافِ دُعَاءِ غَيرِ اللهِ تَعَالى؛ فَإِنَّ هَذَا مِنَ الأَسْبَابِ المَانِعَةِ لِرِضْوَانِ اللهِ تَعَالَى أَصْلًا!

(2)

وَالتَّوَسُّلُ إِلَى اللهِ تَعَالَى حَقِيقٌ بِهِ أَنْ يَكُونَ مَحَبَّةً لَهُ سُبْحَانَهُ وَرَغْبَةً إِلَيهِ وَخَوفًا مِنْهُ وَتَوَكُّلًا عَلَيهِ وَأَخْذًا بِأَسْبَابِ كُلِّ ذَلِكَ، خِلَافًا لِمَا يَزْعُمُونَ مِنْ جَعْلِ دُعَاءِ غَيرِ اللهِ تَوَسُّلًا؛ فَيَصْرِفُونَ المَحَبَّةَ وَالخَشْيَةَ وَالإِنَابَةَ وَالرَّجَاءَ إِلَى غَيرِ اللهِ تَعَالَى! وَالحَمْدُ للهِ عَلَى تَوفِيقِهِ.

(1)

لِسَانُ العَرَبِ (11/ 724).

(2)

وَأَمَّا قَولُ بَعْضِ مَنِ افْتَرَى عَلَى البَغَويِّ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ عِنْدَ قَولِهِ: (يَنْظُرُونَ أَيُّهُم أَقْرَبُ إِلَى اللهِ؛ فَيَتَوَسَّلُونَ بِهِ) حَيثُ اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ التَّوَسُّلِ بِالأَشْخَاصِ، فَهُوَ افْتِرَاءٌ عَلَيهِ رحمه الله، وَانْظُرْ تَمَامَ كَلَامِهِ حَيثُ تَجِدُهُ عَنَى التَّوَسُّلَ بِالأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَلَيسِ بِالأَشْخَاصِ الصَّالِحِينَ!

قَالَ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (5/ 105): "وَقَولُهُ: {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} مَعْنَاهُ: يَنْظُرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ إِلَى اللهِ فَيَتَوَسَّلُونَ بِهِ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَيُّهُم أَقْرَبُ يَبْتَغِي الوَسِيلَةَ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَيَتَقَرَّبُ إِلَيهِ بِالعَمَلِ الصَّالِحِ".

وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي التَّفْسِيرِ (3/ 103) -عِنْدَ قَولِهِ تَعَالَى: {وَابْتَغُوا إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ} -: "قَالَ سُفْيَانُ الثَّورِيُّ: عَنْ طَلْحَةَ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَي: القُرْبَةُ، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدُ وَأَبُو وَائِلٍ وَالحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ كَثِيرٍ وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ زَيدٍ وَغَيرُ وَاحِدٍ، وَقَالَ قَتَادَةُ: أَي: تَقَرَّبُوا إِلَيهِ بِطَاعَتِهِ وَالعَمَلِ بِمَا يُرْضِيهِ، وَقَرَأَ ابْنُ زَيدٍ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ}، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ هَؤُلَاءِ الأَئِمَّةُ لَا خِلَاف بَينَ المُفَسِّرِينَ فِيهِ".

قُلْتُ: وَتَأَمَّلْ تَصْرِيحَ الحَافِظِ ابْنِ كَثِيرٍ بِأَنَّ هَذَا هُوَ اتِّفَاقُ المُفَسِّرِينَ عَلَى مَعْنَى الآيَةِ الكَرِيمَةِ.

وَفِي تَفْسِيرِ الطَّبَرِيِّ (10/ 291): "قَالَ ابْنُ زَيدٍ فِي قَولِهِ: {وَابْتَغُوا إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ} قَالَ: المَحَبَّةَ، تَحَبَّبُوا إِلَى اللهِ، وَقَرَأَ:{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} [الإِسْرَاءُ: 57]).

ص: 245

3 -

أَمَّا الحَدِيثُ المَذْكُورُ: ((تَوَسَّلُوا بِجَاهِي؛ فَإِنَّ جَاهِي عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ)) فَلَا أَصْلَ لَهُ

(1)

، وَأَمَّا الأَحَادِيثُ الوَارِدَةُ فِي التَّوَسُّلِ بِهِ صلى الله عليه وسلم فَتَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَينِ: صَحِيحٍ وَضَعِيفٍ.

أَمَّا الصَّحِيحُ؛ فَلَا دَلِيلَ فِيهِ البَتَّةَ عَلَى المُدَّعَى، مِثْلُ تَوَسُّلِ الصَّحَابَةِ بِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الاسْتِسْقَاءِ، وَتَوَسُّلِ الأَعْمَى بِهِ صلى الله عليه وسلم؛ فَإِنَّهُ تَوَسُّلٌ بِدُعَائِهِ صلى الله عليه وسلم لَا بِجَاهِهِ وَلَا بِذَاتِهِ -كَمَا سَيَأْتِي-.

وَلَمَّا كَانَ التَّوَسُّلُ بِدُعَائِهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ انْتِقَالِهِ إِلَى الرَّفِيقِ الأَعْلَى غَيرَ مُمْكِنٍ كَانَ بِالتَّالِي التَّوَسُّلُ بِهِ صلى الله عليه وسلم الآنَ غَيرَ جَائِزٍ.

وَمِمَّا يَدُلُّكَ عَلَى هَذَا؛ أَنَّ الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم لَمَّا اسْتَسْقَوا فِي زَمَنِ عُمَرَ تَوَسَّلُوا بِعَمِّهِ العَبَّاسِ، وَلَمْ يَتَوَسَّلُوا بِهِ صلى الله عليه وسلم! وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِأَنَّهُم يَعْلَمُونَ مَعْنَى التَّوَسُّلِ المَشْرُوعِ -وَهوَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ التَّوَسُّلِ بِدُعَائِهِ صلى الله عليه وسلم، وَلِذَلِكَ تَوَسَّلُوا بَعْدَهُ بِدُعَاءِ عَمِّهِ لِأَنَّهُ مُمْكِنٌ وَمَشْرُوعٌ

(2)

، وَكَذَلِكَ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّ أَحَدًا مِنَ العُمْيَانِ تَوَسَّلَ بِدُعَاءِ ذَلِكَ الأَعْمَى -وَسَيَأْتِي حَدِيثُهُ قَرِيبًا-، ذَلِكَ لِأَنَّ السِّرَّ لَيسَ فِي قَولِ الأَعْمَى:((اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ وَأَتَوَجَّهُ إِلَيكَ بِنَبِيِّكَ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ))! وَإِنَّمَا السِّرُّ الأَكْبَرُ هُوَ فِي دُعَائِهِ صلى الله عليه وسلم لَهُ كَمَا

(1)

قَالَ ابْنُ تَيمِيَّةَ وَالأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُمَا اللهُ: "لَا أَصْلَ لَه". اقْتِضَاءُ الصِّرَاطِ المُسْتَقِيمِ، وَالضَّعِيفَةُ (22)، وَتَتِمَّةُ التَّعْلِيقِ مُسْتَفَادٌ مِنَ الضَّعِيفَةِ (22).

(2)

وَلَو كَانَ المُرَادُ مِنَ التَّوَسُّلِ هُوَ التَّوَسُّلُ بِالجَاهِ؛ لَكَانَ الأَمْرُ مُمْكِنًا عِنْدَهُم، وَذَلِكَ لِبَقَاءِ جَاهِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَيًّا وَمَيِّتًا، بِخِلَافِ الدُّعَاءِ بَعْدَ مَوتِهِ، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ مُرَادَهُمُ التَّوَسُّلُ بِالدُّعَاءِ لَا بِالجَاهِ! وَالحَمْدُ للهِ عَلَى تَوفِيقِهِ.

ص: 246

يَقْتَضِيهِ وَعْدُهُ صلى الله عليه وسلم إِيَّاهُ بِالدُّعَاءِ لَهُ، ويُشْعِرُ بِهِ قَولُهُ فِي دُعَائِهِ:((اللَّهُمَّ؛ فَشَفِّعْهُ فِيَّ)) أَي: اقْبَلْ شَفَاعَتَهُ -وَهُوَ دُعَاءَهُ- فِيَّ، وَقَولُهُ:((وَشَفِّعْنِي فِيهِ)) أَي اقْبَلْ شَفَاعَتِي -أَي: دُعَائِي- فِي قَبُولِ دُعَائِهِ صلى الله عليه وسلم فِيَّ، فَمَوضُوعُ الحَدِيثِ كُلُّهِ يَدُورُ حَولَ الدُّعَاءِ؛ فَلَا عَلَاقَةَ لِلحَدِيثِ بِالتَّوَسُّلِ المُبْتَدَعِ -وَهُوَ التَّوَسُّلُ بِالجَاهِ وَالذَّاتِ هُنَا-

(1)

.

4 -

وَأَمَّا مَا قِيلَ مِنْ تَوَسُّلِ الإِمَامِ الشَّافِعِيِّ بِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللهُ تَعَالَى كَمَا فِي التَّارِيخِ لِلخَطِيبِ البَغْدَادِيِّ

(2)

؛ فَنَصُّهُ: "سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: إِنِّي لَأَتَبَرَّكُ بِأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَجِيءُ إِلَى قَبْرِهِ فِي كُلِّ يَومٍ -يَعْنِي زَائِرًا- فَإِذَا عَرَضَتْ لِي حَاجَةٌ؛ صَلَّيتُ رَكْعَتَينِ، وَجِئْتُ إِلَى قَبْرِهِ، وَسَأَلْتُ اللهَ تَعَالَى الحَاجَةَ عِنْدَهُ، فَمَا تَبْعُدُ عَنِّي حَتَّى تُقْضَى"! فهيَ رِوَايَةٌ بَاطِلَةٌ؛ فَإِنَّ فِيهَا عُمَرَ بْنَ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَهُوَ غَيرُ مَعْرُوفٍ، وَلَيسَ لَهُ ذِكْرٌ فِي شَيءٍ مِنْ كُتُبِ الرِّجَالِ، وَلَقَد رَأَى الشَّافِعِيُّ بِالحِجَازِ وَاليَمَنِ وَالشَّامِ وَالعِرَاقِ وَمِصْرَ مِنْ قُبُورِ الأَنْبِيَاءِ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مَنْ كَانَ أَصْحَابُهَا عِنْدَهُ -وَعِنْدَ المُسْلِمِينَ جَمِيعًا- أَفْضَلَ مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَمْثَالِهِ مِنَ العُلَمَاءِ رحمهم الله وَرَضِيَ عَنْهُم-، وَلَم يُنْقَلْ تَوَسُّلُهُ بِأَحٍدٍ مِنْهُم!

بَلْ قَد جَاءَ عَنِ الشَّافِعِيِّ -مَا هُوَ ثَابِتٌ فِي كِتَابِهِ الأُمِّ- مِنْ كَرَاهَةِ تَعْظِيمِ قُبُورِ

(1)

قَالَ فِي الدُّرِّ المُخْتَارِ مَعَ حَاشِيَةِ رَدَّ المُحْتَارِ (6/ 396) -مِنْ كُتُبِ الحَنَفِيَّةِ-: "وَفِي التَّتَارْخَانِيَّة -مَعْزِيًّا لِلْمُنْتَقَى- عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَدْعُوَ اللهَ إِلَّا بِهِ، وَالدُّعَاءُ المَأْذُونُ فِيهِ؛ المَأْمُورُ بِهِ؛ مَا اُسْتُفِيدَ مِنْ قَوله تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأَعْرَاف: 180] ".

(2)

عَزَا الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله الأَثَرَ إِلَى تَارِيخِ الخَطِيبِ (1/ 123)، وَجُمْلَةُ تَضْعِيفِ الأَثَرِ -مِنْ جِهَةِ الإِسْنَادِ- أَفَادَهُ الشَّيخُ رحمه الله تَحْتَ حَدِيثِ الضَّعِيفَةِ (22).

ص: 247

المَخْلُوقِينَ خَشْيَةَ الفِتْنَةِ بِهَا، حَيثُ قَالَ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (الأُمُّ): "وَأَكْرَهُ أَنْ يُبْنَى عَلَى القَبْرِ مَسْجِدٌ؛ وَأَنْ يُسَوَّى، أَو يُصَلَّى عَلَيهِ وَهُوَ غَيرُ مُسَوَّى -يَعْنِي أَنَّهُ ظَاهِرٌ مَعْرُوفٌ- أَو يُصَلَّى إِلَيهِ.

قَالَ: وَإِنْ صَلَّى إِلَيهِ أَجْزَأَهُ؛ وَقَدْ أَسَاءَ. أَخْبَرَنَا مَالِكٌ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((قَاتَلَ اللهُ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى؛ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِم مَسَاجِدَ))، قَالَ: وَأَكْرَهُ هَذَا لِلسُّنَّةِ وَالآثَارِ. وَأنَّهُ كَرِهَ -وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ- أَنْ يُعَظَّمَ أَحَدٌ مِنَ المُسْلِمِينَ -يَعْنِي: يُتَّخَذَ قَبْرُهُ مَسْجِدًا-؛ وَلَمْ تُؤْمَنْ فِي ذَلِكَ الفِتْنَةُ وَالضَّلَالُ"

(1)

.

5 -

وَأَمَّا تَمَثُّلُ ابْنِ عُمَرَ لِشِعْرِ أَبِي طَالِبٍ؛ فَلَيسَ فِيهِ دَلِيلٌ البَتَّةَ عَلَى التَّوَسُّلِ البِدْعِيِّ -أَي: بِالجَاهِ وَالذَّاتِ- وَذَلِكَ لِأُمُورٍ:

أ- أَنَّ هَذَا شِعْرٌ لِأَبي طَالِبٍ؛ وَلَا يُحْتَجُّ بِهِ أَبَدًا، لِكَونِهِ لَيسِ بِمُسْلِمٍ أَصْلًا فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَقَرَّهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَمِثْلُ هَذَا يَجْرِي مَجْرَى الشِّعْرِ الَّذِي تَتَنَاقَلُهُ العَرَبُ بِمَا فِيهِ مِنْ حُسْنٍ أَو قُبْحٍ.

ب- أًنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنه؛ إِنَّمَا تَمَثَّلَهُ حَالَ دُعَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الاسْتِسْقَاءِ، كَمَا فِي البُخَارِيِّ عَنْهُ: (رُبَّمَا ذَكَرْتُ قَولَ الشَّاعِرِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى وَجْهِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَسْقِي؛ فَمَا يَنْزِلُ حَتَّى يَجِيشَ كُلُّ مِيزَابٍ: وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الغَمَامُ بِوَجْهِهِ

ثِمَالُ اليَتَامَى عِصْمَةٌ لِلْأَرَامِلِ)

(2)

(1)

البُخَارِيُّ (437) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا.

(2)

البُخَارِيُّ (1008).

ص: 248

، فَمَنْ أَرَادَ الاحْتِجَاجَ بِهِ؛ فَلْيَحْتَجَّ بِهِ كَمَا وَرَدَ -وَهُوَ التَّوَسُّلُ بِالدُّعَاءِ-.

ج- أَنَّ أَهْلَ الحَدِيثِ الَّذِينَ أَورَدُوا هَذَا الحَدِيثَ لَمْ يَحْمِلُوهُ عَلَى التَّوَسُّلِ بِالجَاهِ! وَإِنَّمَا بِالدُّعَاءِ، فَقَد بَوَّبَ عَلَيهِ:

البُخَارِيُّ فِي الصَّحِيحِ: بَابُ سُؤَالِ النَّاسِ الإِمَامَ الِاسْتِسْقَاءَ إِذَا قَحَطُوا

(1)

.

البَيهَقِيُّ فِي السُّنَنِ الصُغْرَى: بَابُ الاسْتِسْقَاءِ بِمَنْ تُرْجَى بَرَكَةُ دُعَائِهِ

(2)

.

(1)

البُخَارِيُّ (2/ 27).

(2)

البَيهقيُّ فِي السُّنَنِ الصُغْرَى (3/ 491).

ص: 249

‌المُلْحَقُ الثَّامِنُ عَلَى كِتَابِ التَّوحِيدِ: مُخْتَصَرُ كِتَابِ "التَّوَسُّلُ؛ أَنْوَاعُهُ؛ أَحْكَامُهُ"

الحَمْدُ للهِ، وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ

أَمَّا بَعْدُ؛ فَهَذَا مُخْتَصَرٌ مُفِيدٌ لِكِتَابِ (التَّوَسُّلُ؛ أَنْوَاعُهُ؛ أَحْكَامُهُ) لِشَيخِنَا المُحَدِّثِ الأَلبَانِيِّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى، وَقَدْ أَضَفْتُ إِلَيهِ بَعْضَ الفَوَائِدِ إِلَى مَتْنِهِ وإلى حَاشِيَتِهِ تَتْمِيمًا لِلفَائِدَةِ.

-‌

‌ الفَصْلُ الأَوَّلُ: التَّوَسُّلُ فِي اللُّغَةِ وَالقُرْآنِ:

1 -

مَعْنَى التَّوَسُّلِ فِي لُغَةِ العَرَبِ:

قَالَ ابْنُ الأَثِيرِ رحمه الله: "مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى الشَّيءِ وَيُتَقَرَّبُ بِهِ، وَجَمْعُهَا وَسَائِلُ"

(1)

.

وَقَالَ فِي القَامُوسِ المُحِيطِ: "وَسَلَ إِلَى اللهِ تَعَالَى تَوسِيلًا: عَمِلَ عَمَلًا تَقَرَّبَ بِهِ إِلَيهِ كَتَوَسَّلَ"

(2)

.

وَهُنَاكَ مَعْنًى آخَرُ لِلوَسِيلَةِ؛ وهيَ المَنْزِلَةُ عِنْدَ المَلِكِ، وَالدَّرَجَةُ وَالقُرْبَةُ

(3)

.

(1)

النِّهَايَةُ فِي غَرِيبِ الحَدِيثِ (5/ 402).

(2)

القَامُوسُ المُحِيطُ (ص 1068).

(3)

قَالَ فِي لِسَانِ العَرَبِ (11/ 724): "الوَسِيلةُ: المَنْزِلَةُ عِنْدَ المَلِكِ، وَالوَسِيلةُ: الدَّرَجَةُ، وَالوَسِيلَةُ: القُرْبَةُ، وَوَسَّلَ فُلَانٌ إِلَى اللهِ وَسِيلَةً: إِذَا عَمِلَ عَمَلًا تَقَرَّبَ بِهِ إِلَيهِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ

=

ص: 250

2 -

مَعْنَى الوَسِيلَةِ فِي القُرْآنِ:

وَرَدَتْ لَفْظَةُ -الوَسِيلَةِ- فِي مَوضِعَينِ، وَهُمَا:

قَولُهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المَائِدَة: 35]، وَقَولُهُ تَعَالَى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإِسْرَاء: 57].

فَأَمَّا الآيَةُ الأُولَى؛ فَقَد قَالَ إِمَامُ المُفَسِّرينَ الحَافِظُ ابْنُ جَرِيرٍ رحمه الله فِي تًفْسِيرِهَا: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ صَدَّقُوا اللهَ وَرَسُولَهُ فِيمَا أَخْبَرَهُم وَوَعَدَ مِنَ الثَّوَابِ وَأَوعَدَ مِنَ العِقَابِ؛ {اتَّقُوا اللَّهَ} يَقُولُ: أَجِيبُوا اللهَ فِيمَا أَمَرَكُم وَنَهَاكُم بِالطَّاعَةِ لَهُ فِي ذَلِكَ. {وَابْتَغُوا إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ} يَقُولُ: وَاطْلُبُوا القُرْبَةَ إِلَيهِ بِالعَمَلِ بِمَا يُرْضِيهِ"

(1)

.

=

يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [الإِسْرَاء: 57]، وَفِي حَدِيثِ الأَذَانِ:((اللَّهُمَّ آتِ مُحَمَّدًا الوَسِيلَةَ)) هيَ فِي الأَصْلِ مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى الشَّيءِ وَيُتَقَرَّبُ بِهِ، وَالمُرَادُ بِهِ فِي الحَدِيثِ: القُرْبُ مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَقِيلَ: هِيَ الشَّفَاعَةُ يَومَ القِيَامَةِ، وَقِيلَ: هِيَ مَنْزِلَةٌ مِنْ مَنَازِلِ الجَنَّةِ كَمَا جَاءَ فِي الحَدِيثِ".

وَقَدْ وَرَدَ فِي الحَدِيثِ تَسْمِيَةُ أَعْلَى مَنْزِلَةٍ فِي الجَنَّةِ بِهَا، وَهُوَ قَولُهُ صلى الله عليه وسلم:((إِذَا سَمِعْتُمُ المُؤَذِّنَ؛ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ، ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ؛ فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى اللهُ عَلَيهِ بِهَا عَشْرًا، ثُمَّ سَلُوا اللهَ لِيَ الوَسِيلَةَ؛ فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إِلَّا لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللهِ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ، فَمَنْ سَأَلَ لِي الوَسِيلَةَ حَلَّتْ لَهُ الشَّفَاعَةُ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ (384) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو.

(1)

تَفْسِيرُ الطَّبَرِيِّ (10/ 289).

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ: " {وَابْتَغُوا إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ} قَالَ سُفْيَانُ الثَّورِيُّ عَنْ طَلْحَةَ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَي القُرْبَةَ، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدُ وَأَبُو وَائِلٍ وَالحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ كَثِيرٍ وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ زَيدٍ وَغَيرُ وَاحِدٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: أَي: تَقَرَّبُوا إِلَيهِ بِطَاعَتِهِ وَالعَمَلِ بِمَا يُرْضِيهِ، وَقَرَأَ ابْنُ زَيدٍ {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} . وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ هَؤُلَاءِ الأَئِمَّةُ لَا خِلَافَ بَينَ المُفَسِّرِينَ فِيهِ، وَأَنْشَدَ ابْنُ جَرِيرٍ عَلَيهِ قَولَ الشَّاعِرِ:

إِذَا غَفَلَ الوَاشُونَ عُدْنَا لِوصْلنَا

وَعَادَ التَّصَافِي بَينَنَا وَالوَسَائِلُ

وَالوَسِيلَة: هِيَ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى تَحْصِيلِ المَقْصُودِ، وَالوَسِيلَةُ أَيضًا: عَلَمٌ عَلَى أَعْلَى مَنْزِلَةٍ فِي الجَنَّةِ؛ وَهِيَ مَنْزِلَةُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَدَارُهُ فِي الجَنَّةِ، وَهِيَ أَقْرَبُ أَمْكِنَةِ الجَنَّةِ إِلَى العَرْشِ".

ص: 251

وَأَمَّا الآيَةُ الثَّانِيَةُ فَقَد بَيَّنَ الصَّحَابِيُّ الجَلِيلُ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه مُنَاسَبَةَ نُزُولِهَا الَّتِي تُوَضِّحُ مَعْنَاهَا؛ فَقَالَ: (نَزَلَتْ فِي نَفَرٍ مِنَ العَرَبِ كَانُوا يَعْبُدُونَ نَفَرًا مِنَ الجِنِّ؛ فَأَسْلَمَ الجِنِّيُّونَ -وَالإِنْسُ الَّذِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَهُم لَا يَشْعُرُونَ-)

(1)

.

وَهيَ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ المُرَادَ بِالوَسِيلَةِ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَلِذَلِكَ قَالَ:{يَبْتَغُونَ} أَي: يَطْلُبُونَ مَا يَتَقَرَّبُونَ بِهِ إِلَى اللهِ تَعَالَى مِنَ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ.

3 -

الأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ وَحْدَهَا هِيَ الوَسَائِلُ المُقَرِّبَةُ إِلَى اللهِ:

قَدْ تَبَيَّنَ مِنَ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَنَّ العَمَلَ حَتَّى يَكُونَ صَالِحًا مَقْبُولًا يُقَرِّبُ إِلَى اللهِ سُبْحَانَهُ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَتَوَفَّرَ فِيهِ أَمْرَانِ هَامَّانِ عَظِيمَانِ، أَوَّلُهُمَا: أَنْ يَكُونَ صَاحِبُهُ قَد قَصَدَ بِهَ وَجْهَ اللهِ عز وجل، وَثَانِيهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِمَا شَرَعَهُ اللهُ تبارك وتعالى فِي كِتَابِهِ، أَو

(1)

البُخَارِيُّ (4714).

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله فِي الفَتْحِ (8/ 397): "اسْتَمَرَّ الإِنْسُ الَّذِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَ الجِنَّ عَلَى عِبَادَةِ الجِنِّ -وَالجِنُّ لَا يَرْضَونَ بِذَلِكَ لِكَونِهِمْ أَسْلَمُوا-، وَهُمُ الَّذِينَ صَارُوا يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةَ، وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ؛ فَزَادَ فِيهِ: (وَالإِنْسُ الَّذِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ بِإِسْلَامِهِمْ) وَهَذَا هُوَ المُعْتَمَدُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ".

ص: 252

بَيَّنَهُ رَسُولُهُ فِي سُنَّتِهِ، فَإِذَا اخْتَلَّ وَاحِدٌ مِنْ هَذَينِ الشَّرْطَينِ لَمْ يَكُنِ العَمَلُ صَالِحًا وَلَا مَقْبُولًا.

وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قَولُهُ تبارك وتعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكَهْف: 110] فَقَد أَمَرَ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ العَمَلُ صَالِحًا -أَي: مُوَافِقًا لِلسُّنَّةِ-، ثُمَّ أَمَرَ أَنْ يُخْلِصَ بِهِ صَاحِبُهُ للهِ؛ لَا يَبْتَغي بِهِ سِوُاهُ.

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله: "وَهَذَانَ رُكْنَا العَمَلِ المُتَقَبَّلِ، لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ خَالِصًا لِلَّهِ؛ صَوَابًا عَلَى شَرِيعَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم

(1)

"، وَرُوِيَ مِثْلُ هَذَا عَنِ الفُضَيلِ بْنِ عِيَاضٍ رحمه الله

(2)

وَغَيرِهِ.

(1)

تَفْسِيرُ ابْنِ كَثِيرٍ (5/ 205).

(2)

رَوَاهُ الأَصْبَهَانِيُّ فِي الحِلْيَةِ (8/ 95).

ص: 253

-‌

‌ الفَصْلُ الثَّانِي: الوَسَائِلُ الكَونِيَّةُ وَالشَّرْعِيَّةُ:

1 -

الوَسِيلَةُ الكَونِيَّةُ: هيَ كُلُّ سَبَبٍ طَبِيعِيٍ يُوصِلُ إِلَى المَقْصُودِ بِخِلْقَتِهِ الَّتِي خَلَقَهَا اللهُ بِهَا، وَيُؤَدِّي إِلَى المَطْلُوبِ بِفِطْرَتِهِ الَّتِي فَطَرَهُ اللهُ عَلَيهَا، وَهيَ مُشْتَرِكَةٌ بَينَ المُؤْمِنِ وَالكَافِرِ مِنْ غَيرِ تَفْرِيقٍ، وَمِنْ أَمْثِلَتِهَا: المَاءُ؛ فَهُوَ وَسِيلَةٌ إِلَى رِيِّ الإِنْسَانِ، وَالطَّعَاُم وَسِيلَةٌ إِلَى شَبَعِهِ، وَاللِّبَاسُ وَسِيلَةٌ إِلَى حِمَايَتِهِ مِنَ الحَرِّ وَالقَرِّ، وَالسَّيَّارَةُ وَسِيلَةٌ إِلَى انْتِقَالِهِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ، وَهَكَذَا.

2 -

الوَسِيلَةُ الشَّرْعِيَّةُ: هيَ كُلُّ سَبَبٍ يُوصِلُ إِلَى المَقْصُودِ عَنْ طَرِيقِ مَا شَرَعَهُ اللهُ تَعَالَى وَبَيَّنَهُ فِي كِتَابِهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ، وَهيَ خَاَّصٌة بِالمُؤْمِنِ المُتَّبِعِ أَمْرَ اللهِ وَرَسُولِهِ.

وَمِنْ أَمْثِلَتِهَا: النُّطْقُ بِالشَّهَادَتَينِ -بِإِخْلَاصٍ وَفَهْمٍ- وَسِيلَةٌ إِلَى دُخُولِ الجَنَّةِ وَالنَّجَاةِ مِنَ الخُلُودِ فِي النَّارِ، وَإِتْبَاعُ السَّيِّئَةِ الحَسَنَةَ وَسِيلَةٌ إِلَى مَحْوِ السَّيِّئَةِ، وَقَولُ الدُّعَاءِ المَأْثُورِ بَعْدَ الأَذَانِ وَسِيلَةٌ إِلَى نَيلِ شَفَاعَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَصِلَةُ الأَرْحَامِ وَسِيلَةٌ لِطُولِ العُمُرِ وَسِعَةِ الرِّزْقِ، وَهَكَذَا.

فَهَذِهِ الأُمُورُ وَأَمْثَالُهَا إِنَّمَا عَرَفْنَا أَنَّهَا وَسَائِلُ تُحَقِّقُ تِلْكَ الغَايَاتِ وَالمَقَاصِدِ عَنْ طَرِيقِ الشَّرْعِ وَحْدَهُ؛ لَا عَنْ طَريقِ العِلْمِ أَوِ التَّجْرِبَةِ أَوِ الحَوَاسِّ، فَنَحْنُ لَمْ نَعْلَمْ أَنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ تُطِيلُ العُمُرَ وَتُوَسِّعُ الرِّزْقَ إِلَّا مِنْ قَولِهِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيهِ:((مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، وَأَنْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ؛ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ))

(1)

.

3 -

كَيفَ تُعْرَفُ صِحَّةُ الوَسَائِلِ وَمَشْرُوعِيَّتُهَا:

(1)

البُخَارِيُّ (5985)، وَمُسْلِمٌ (2557) عَنْ أنسِ بْنِ مالكٍ مَرْفُوعًا.

ص: 254

أَمَّا الوَسِيلَةُ الكَونِيَّةُ؛ فَلَهَا شَرْطَانِ.

الأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا فِي الشَّرْعِ.

وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَد ثَبَتَ تَحْقِيقُهُ لِلمَطْلُوبِ أَو غَلَبَ ذَلِكَ عَلَى الظَّنِّ.

وَأَمَّا الوَسِيلَةُ الشَّرْعِيَّةُ؛ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهَا إِلَّا ثُبُوتُهَا فِي الشَّرْعِ؛ لَيسَ غَيرُ.

ص: 255

-‌

‌ الفَصْلُ الثَّالِثُ: التَّوَسُّلُ المَشْرُوعُ وَأَنْوَاعُهُ:

1 -

التَّوَسُّلُ إِلَى اللهِ تَعَالَى بِاسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ الحُسْنَىَ أَو صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ العُلْيَا.

كَأَنْ يَقُولَ المُسْلِمُ فِي دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّك أَنْتَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، اللَّطِيفُ الخَبِيرُ أَنْ تُعَافِيَنِي، أَو يَقُولَ: أَسْأَلُكَ بِرَحْمَتِكَ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيءٍ أَنْ تَرْحَمَنِي وَتَغْفِرَ لِي.

وَمِثْلُهُ قَولُ القَائِلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِحُبِّكَ لِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، فَإِنَّ الحُبَّ مِنْ صِفَاتِهِ تَعَالَى، وَدَلِيلُ مَشْرُوعِيَّةِ هَذَا التَّوَسُّلَ قَولُهُ عز وجل:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأَعْرَاف: 180].

وَكَمَا فِي الحَدِيثِ: ((اللَّهُمَّ بِعِلْمِكَ الغَيبَ وَقُدْرَتِكَ عَلَى الخَلْقِ؛ أَحْيِنِي مَا عَلِمْتَ الحَيَاةَ خَيرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا عَلِمْتَ الوَفَاةَ خَيرًا لِي))

(1)

.

وَمِنْهَا أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ فِي تَشَهُّدِهِ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ؛ يَا اللهُ؛ بِأَنَّكَ الوَاحِدُ الأَحَدُ الصَّمَدُ؛ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ؛ أَنْ تَغْفِرَ لِي ذُنُوبِي؛ إِنَّكَ أَنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ)، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:((قَدْ غُفِرَ لَهُ)) ثَلَاثًا

(2)

.

وَسَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا آخَرَ يَقُولُ فِي تَشَهُّدِهِ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّ لَكَ الحَمْدَ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، الْمَنَّانُ، بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، ذَا الجَلَالِ وَالإِكْرَامِ، يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ؛ إِنِّي أَسْأَلُكَ)، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:((أَتَدْرُونَ بِمَا دَعَا؟)) قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ؛ لَقَدْ دَعَا اللهَ بِاسْمِهِ العَظِيمِ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ،

(1)

صَحِيحٌ. النَّسَائيُّ (1305) عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (1301).

(2)

صَحِيحٌ. النَّسَائيُّ (1301) عَنْ مِحْجَنِ بْنِ الأَدْرَعِ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ النَّسَائيِّ (1301).

ص: 256

وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى))

(1)

.

2 -

التَّوَسُّلُ إِلَى اللهِ تَعَالَى بِعَمَلٍ صَالِحٍ قَامَ بِهِ الدَّاعِيُ:

كَأَنْ يَقُولَ المُسْلِمُ: اللَّهُمَّ بِإِيمَانِي بِكَ، وَمَحَبَّتِي لَكَ، وَاتِّبَاعِي لِرَسُولِكَ؛ اغْفِرْ لي.

أَو يَقُولَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِحُبِّي لِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَإِيمَانِي بِهِ؛ أَنْ تُفَرِّجَ عَنِّي.

وَمِنْهُ أَنْ يَذْكُرَ الدَّاعِيُ عَمَلًا صَالِحًا -ذَا بَالٍ- فِيهِ خَوفُهُ مِنَ اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَقْوَاهُ إِيَّاهُ وَإِيثَارُهُ رِضَاهُ تَعَالَى عَلَى كُلِّ شَيءٍ وَطَاعَتُهُ لَهُ جَلَّ شَأْنُهُ؛ ثُمَّ يَتَوَسَّلَ بِهِ إِلَى رَبِّهِ فِي دُعَائِهِ لِيَكُونَ أَرْجَى لِقَبُولِهِ وَإِجَابَتِهِ.

وَيَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ قَولُهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عِمْرَان: 16].

وَكَمَا فِي الحَدِيثِ عَنْ بُرَيدةَ بْنِ الحٌصَيبِ رضي الله عنه؛ حَيثُ قَالَ: سَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا يَقُولُ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنِّي أَشْهَدُ أَنَّكَ أَنْتَ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ؛ الأَحَدُ الصَّمَدُ، الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَم يُولَدْ، وَلَم يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدُ)، فَقَالَ:((قَدْ سَأَلَ اللهَ بِاسْمِهِ الأَعْظَمِ؛ الَّذِي إِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى، وَإِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ))

(2)

.

وَمِنْ ذَلِكَ قِصَّةُ أَصْحَابِ الغَارِ الَّذِينَ أَطْبَقَتْ عَلَيهِم الصَّخْرَةُ فِي الغَارِ؛ فَسَأَلُوا اللهَ تَعَالَى بِصَالِحِ أَعْمَالِهِم؛ فَفَرَّجَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُم

(3)

.

(1)

صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (12611) عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (3411).

(2)

صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (12611) عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ (1640).

(3)

وَالحَدِيثُ بِتَمَامِهِ -كَمَا فِي البُخَارِيِّ (5974) - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما؛ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((بَينَمَا

=

ص: 257

3 -

التَّوَسُّلُ إِلَى اللهِ تَعَالَى بِدُعَاءِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ:

=

ثَلَاثَةُ نَفَرٍ يَتَمَاشَونَ؛ أَخَذَهُمُ المَطَرُ، فَمَالُوا إِلَى غَارٍ فِي الجَبَلِ فَانْحَطَّتْ عَلَى فَمِ غَارِهِمْ صَخْرَةٌ مِنَ الجَبَلِ فَأَطْبَقَتْ عَلَيهِمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: انْظُرُوا أَعْمَالًا عَمِلْتُمُوهَا لِلَّهِ صَالِحَةً؛ فَادْعُوا اللهَ بِهَا لَعَلَّهُ يَفْرُجُهَا.

فَقَالَ أَحَدُهُمْ: اللَّهُمَّ إِنَّهُ كَانَ لِي وَالِدَانِ شَيخَانِ كَبِيرَانِ وَلِي صِبْيَةٌ صِغَارٌ كُنْتُ أَرْعَى عَلَيهِمْ، فَإِذَا رُحْتُ عَلَيهِمْ فَحَلَبْتُ؛ بَدَأْتُ بِوَالِدَيَّ أَسْقِيهِمَا قَبْلَ وَلَدِي، وَإِنَّهُ نَاءَ بِيَ الشَّجَرُ؛ فَمَا أَتَيتُ حَتَّى أَمْسَيتُ، فَوَجَدْتُهُمَا قَدْ نَامَا، فَحَلَبْتُ كَمَا كُنْتُ أَحْلُبُ، فَجِئْتُ بِالحِلَابِ، فَقُمْتُ عِنْدَ رُؤُوسِهِمَا أَكْرَهُ أَنْ أُوقِظَهُمَا مِنْ نَومِهِمَا، وَأَكْرَهُ أَنْ أَبْدَأَ بِالصِّبْيَةِ قَبْلَهُمَا -وَالصِّبْيَةُ يَتَضَاغَونَ عِنْدَ قَدَمَيَّ-، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبِي وَدَأْبَهُمْ حَتَّى طَلَعَ الفَجْرُ، فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ؛ فَافْرُجْ لَنَا فُرْجَةً نَرَى مِنْهَا السَّمَاءَ، فَفَرَجَ اللهُ لَهُمْ فُرْجَةً حَتَّى يَرَونَ مِنْهَا السَّمَاءَ.

وَقَالَ الثَّانِي: اللَّهُمَّ إِنَّهُ كَانَتْ لِي ابْنَةُ عَمٍّ أُحِبُّهَا كَأَشَدِّ مَا يُحِبُّ الرِّجَالُ النِّسَاءَ، فَطَلَبْتُ إِلَيهَا نَفْسَهَا فَأَبَتْ حَتَّى آتِيَهَا بِمِائَةِ دِينَارٍ، فَسَعَيتُ حَتَّى جَمَعْتُ مِائَةَ دِينَارٍ، فَلَقِيتُهَا بِهَا، فَلَمَّا قَعَدْتُ بَينَ رِجْلَيهَا، قَالَتْ: يَا عَبْدَ اللهِ؛ اتَّقِ اللهَ، وَلَا تَفْتَحِ الخَاتَمَ، فَقُمْتُ عَنْهَا، اللَّهُمَّ؛ فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي قَدْ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ؛ فَافْرُجْ لَنَا مِنْهَا، فَفَرَجَ لَهُمْ فُرْجَةً.

وَقَالَ الآخَرُ: اللَّهُمَّ إِنِّي كُنْتُ اسْتَأْجَرْتُ أَجِيرًا بِفَرَقِ أَرُزٍّ، فَلَمَّا قَضَى عَمَلَهُ قَالَ: أَعْطِنِي حَقِّي، فَعَرَضْتُ عَلَيهِ حَقَّهُ؛ فَتَرَكَهُ وَرَغِبَ عَنْهُ، فَلَمْ أَزَلْ أَزْرَعُهُ حَتَّى جَمَعْتُ مِنْهُ بَقَرًا وَرَاعِيَهَا، فَجَاءَنِي؛ فَقَالَ: اتَّقِ اللهَ وَلَا تَظْلِمْنِي وَأَعْطِنِي حَقِّي، فَقُلْتُ: اذْهَبْ إِلَى ذَلِكَ البَقَرِ وَرَاعِيهَا، فَقَالَ: اتَّقِ اللهَ وَلَا تَهْزَأْ بِي! فَقُلْتُ: إِنِّي لَا أَهْزَأُ بِكَ، فَخُذْ ذَلِكَ البَقَرَ وَرَاعِيَهَا، فَأَخَذَهُ فَانْطَلَقَ بِهَا؛ فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ؛ فَافْرُجْ مَا بَقِيَ. فَفَرَجَ اللهُ عَنْهُمْ).

وَقَولُهُ: (وَإِنَّهُ نَاءَ بِيَ الشَّجَرُ) أَي: اسْتَطْرَدَ مَعَ غَنَمِهِ فِي الرَّعْي إِلَى أَنْ بَعُدَ عَنْ مَكَانِهِ زِيَادَةً عَلَى العَادَةِ؛ فَلِذَلِكَ أَبْطَأَ عَنْ أَهْلِهِ.

(يَتَضَاغَونَ): يَضِجُّونَ وَيَصِيحُونَ مِنَ الجُوعِ.

(وَلَا تَفْتَحِ الخَاتَمَ): كِنَايَةٌ عَنِ الجِمَاعِ وَالوَطْءِ.

(بِفَرَقِ أَرُزٍّ): الفَرَقُ: إِنَاءٌ يَسَع ثَلَاثَةَ آصُعٍ، وَالصَّاعُ مِكْيَالٌ لِأَهْلِ المَدِينَةِ يَأْخُذُ أَرْبَعَةَ أَمْدَادٍ، وَالمُدُّ مُقَدَّرٌ بِأَنْ يَمُدَّ الرَّجُلُ يَدَيهِ فَيَمْلَأَ كَفَّيهِ.

ص: 258

كَأَنْ يَكُونَ المُسْلِمُ فِي ضِيقٍ شَدِيدٍ، أَوْ تَحُلُّ بِهِ مُصِيبَةٌ كَبِيرَةٌ -وَيَعْلَمَ مِنْ نَفْسِهِ التَّفْرِيطَ فِي جَنْبِ اللهِ تبارك وتعالى؛ فَيَأْخُذَ بِسَبَبٍ قَوِيٍّ إِلَى اللهِ؛ فَيَذْهَبَ إِلَى رَجُلٍ -يَعْتَقِدُ فِيهِ الصَّلَاحَ وَالتَّقْوَى أَوِ الفَضْلَ وَالعِلْمَ بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ-؛ فَيَطْلُبَ مِنْهُ أَنْ يَدْعُوَ لَهُ رَبَّهُ لِيُفَرِّجَ عَنْهُ كَرْبَهُ، وَيُزِيلَ عَنْهُ هَمَّهُ.

وَقَد وَرَدَتْ أَمْثِلَةٌ مِنْ ذَلِكَ فِي السُّنَّةِ الشَّرِيفَةِ، كَمَا وَقَعَتْ نَمَاذِجُ مِنْهُ مِنْ فِعْلِ الصَّحَابَةِ الكِرَامِ رِضْوَانُ اللهِ تَعَالَى عَلَيهِم، فَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه حَيثُ قَالَ: أَصَابَتِ النَّاسَ سَنَةٌ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَبَينَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ فِي يَومِ جُمُعَةٍ؛ قَامَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ هَلَكَ المَالُ، وَجَاعَ العِيَالُ! فَادْعُ اللهَ لَنَا، فَرَفَعَ يَدَيهِ -وَمَا نَرَى فِي السَّمَاءِ قَزَعَةً- فَوَ الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا وَضَعَهَا حَتَّى ثَارَ السَّحَابُ أَمْثَالَ الجِبَالِ، ثُمَّ لَمْ يَنْزِلْ عَنْ مِنْبَرِهِ حَتَّى رَأَيتُ المَطَرَ يَتَحَادَرُ عَلَى لِحْيَتِهِ صلى الله عليه وسلم. فَمُطِرْنَا يَومَنَا ذَلِكَ وَمِنَ الغَدِ وَبَعْدَ الغَدِ وَالَّذِي يَلِيهِ حَتَّى الجُمُعَةِ الأُخْرَى، وَقَامَ ذَلِكَ الأَعْرَابِيُّ -أَو قَالَ: غَيرُهُ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ تَهَدَّمَ البِنَاءُ، وَغَرِقَ المَالُ! فَادْعُ اللهَ لَنَا، فَرَفَعَ يَدَيهِ فَقَالَ:((اللَّهُمَّ حَوَالَينَا وَلَا عَلَينَا)) فَمَا يُشِيرُ بِيَدِهِ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنَ السَّحَابِ إِلَّا انْفَرَجَتْ وَصَارَتِ المَدِينَةُ مِثْلَ الجَوبَةِ، وَسَالَ الوَادِي -قَنَاةُ- شَهْرًا، وَلَمْ يَجِئْ أَحَدٌ مِنْ نَاحِيَةٍ إِلَّا حَدَّثَ بِالجَودِ

(1)

.

وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه أَيضًا: (أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رضي الله عنه كَانَ

(1)

البُخَارِيُّ (933)، وَمُسْلِمٌ (897).

وَ (القَزَعَةُ): قِطْعَةٌ مِنَ السَّحَابِ الصِّغَارِ المُتَفَرِّقِ.

وَ (الجَوبَةُ): المَوضِعُ المُنْخَفِضُ مِنَ الأَرْضِ.

وَ (قَنَاةُ): اسْمُ وَادٍ فِي المَدِينَةِ.

ص: 259

إِذَا قَحَطُوا اسْتَسْقَى بِالعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّا كُنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيكَ بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا؛ وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا، قَالَ: فَيُسْقَونَ)

(1)

.

وَمَعْنَى قَولِ عُمَرَ: (إِنَّا كُنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيكَ بِنَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم وَ (إِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا): أَنَّنَا كُنَّا نَقْصُدُ نَبِيَّنَا صلى الله عليه وسلم وَنَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَدْعُوَ لَنَا؛ وَنَتَقَرَّبُ إِلَى اللهِ بِدُعَائِهِ، وَالآنَ -وَقَد انْتَقَلَ صلى الله عليه وسلم إِلَى الرَّفِيقِ الأَعْلَى، وَلَم يَعُدْ مِنَ المُمْكِنِ أَنْ يَدْعُوَ لَنَا- فَإِنَّنَا نَتَوَجَّهُ إِلَى عَمِّ نَبِيِّنَا العَبَّاسِ، وَنَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَدْعُوَ لَنَا. وَلَيسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُم كَانُوا يَقُولُونَ فِي دُعَائِهِم:(اللَّهُمَّ بِجَاهِ نَبِيِّكَ اسْقِنَا) ثُمَّ أَصْبَحُوا يَقُولُونَ بَعْدَ وَفَاتِهِ صلى الله عليه وسلم: (اللَّهُمَّ بِجَاهِ العَبَّاسِ اسْقِنَا)!! لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا دُعَاءٌ مُبْتَدَعٌ لَيسَ لَهُ أَصْلٌ فِي الكِتَابِ وَلَا فِي السُّنَّةِ، وَلَم يَفْعَلُهُ أَحَدٌ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ رِضْوَانُ اللهِ تَعَالَى عَلَيهِم

(2)

.

(1)

صَحِيح البُخَارِيِّ (1010).

(2)

وَمِنْ ذَلِكَ أَيضًا مَا رَوَاهُ الحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرٍ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي تَارِيخِهِ (65/ 112) بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ التَّابِعِيِّ الجَلِيلِ سُلَيمِ بْنِ عَامِرٍ الخَبَائِرِيِّ: (أَنَّ السَّمَاءَ قَحِطَتْ؛ فَخَرَجَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ -وَأَهْلُ دِمَشْقَ يَسْتَسْقُونَ- فَلَمَّا قَعَدَ مُعَاوِيَةُ عَلَى المِنْبَرِ، قَالَ: أَينَ يَزِيدُ بْنُ الأَسْوَدِ الجُرَشيُّ؟ فَنَادَاهُ النَّاسُ، فَأَقْبَلَ يَتَخَطَّى النَّاسَ، فَأَمَرَهُ مُعَاوِيَةُ؛ فَصَعِدَ عَلَى المِنْبَرِ، فَقَعَدَ عِنْدَ رِجْلَيهِ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْتَشْفِعُ إِلَيكَ اليَومَ بِخَيرِنَا وَأَفْضَلِنَا، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْتَشْفِعُ إِلَيكَ اليَومَ بِيَزيدِ بْنِ الأَسْوَدِ الجُرَشِيِّ، يَا يَزِيدُ ارْفَعْ يَدَيكَ إِلَى اللهِ، فَرَفَعَ يَدَيهِ، وَرَفَعَ النَّاسُ أَيدِيَهُم؛ فَمَا كَانَ أَوشَكَ أَنْ ثَارَتْ سَحَابَةٌ فِي الغَرْبِ كَأَنَّهَا تُرْسٌ، وَهَبَّتْ لَهَا رِيحٌ، فَسَقَتْنَا حَتَّى كَادَ النَّاسُ أَنْ لَا يَبْلُغُوا مَنَازِلَهُم).

فَهَذَا مُعَاوِيَةُ رضي الله عنه أَيضًا لَا يَتَوَسَّلُ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِمَا سَبَقَ بَيَانُهُ، وَإِنَّمَا يَتَوَسَّلُ بِهَذَا الرَّجُلِ الصَّالِحِ يَزِيدَ بْنِ الأَسْوَدِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى؛ فَيَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَدْعُوَ اللهَ تَعَالَى لِيَسْقِيَهُم وَيُغِيثَهُم.

وَحَدَثَ مِثْلُ هَذَا فِي وِلَايَةِ الضَّحَّاكِ بْنِ قَيسٍ أَيضًا حَيثُ اسْتَسْقَى بِيَزِيدَ هَذَا أَيضًا.

وَيَزِيدُ هَذَا هُوَ مِنْ سَادَةِ التَّابِعِينَ بِالشَّامِ، يَسْكُنُ بِالغُوطَةِ بِقَرْيَةِ زِبْدِينَ، أَسْلَمَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: "بَلَغَنِي أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي العِشَاءَ الآخِرَةَ بِمَسْجِدِ دِمَشْقَ، وَيَخْرُجُ إِلَى زِبْدِينَ فَتُضِيءُ إِبْهَامُهُ اليُمْنَى، فَلَا يَزَالُ يَمْشِي فِي ضَوئِهَا إِلَى القَرْيَةِ". تَارِيخُ دِمَشْقَ (65/ 107).

قُلْتُ: وَالضَّحَّاكُ بْنُ قَيسٍ عِدَادُهُ فِي صِغَارِ الصَّحَابَةِ، وَلَهُ أَحَادِيثُ. سِيَرُ أَعْلَامِ النُّبَلَاءِ (3/ 241).

ص: 260

وَأَمَّا مَا عَدَا هَذِهِ الأَنْوَاعِ مِنَ التَّوَسُّلَاتِ؛ فَفِيهَا خِلَافٌ، وَالَّذِي نَعْتَقِدُهُ وَنَدِينُ اللهَ تَعَالَى بِهِ أَنَّهُ غَيرُ جَائِزٍ وَلَا مَشْرَوعٍ، لِأَنَّه لَمْ يَرِدْ فِيهَا دَلِيلٌ تَقُومُ بِهِ الحُجَّةُ، وَقَد أَنْكَرَهُ العُلَمَاءُ المُحَقِّقُونَ فِي العُصُورِ الإِسْلَامِيَّةِ المُتَعَاقِبَةِ

(1)

، مَعَ أَنَّهُ قَد قَالَ بِبَعْضِهِ بَعْضُ الأَئِمَّةِ، فَأَجَازَ الإِمَامُ أَحْمَدُ رحمه الله التَّوَسُّلَ بِالرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَحْدَهُ فَقَط، وَأَجَازَ غَيرُهُ كَالإِمَامِ الشَّوكَانِيِّ رحمه الله التَّوَسُّلَ بِهِ وَبِغَيرِهِ مِنَ الأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ.

وَلَكِنَّنا -كَشَأْنِنَا فِي جَمِيعِ الأُمُورِ الخِلَافِيَّةِ- نَدُورُ مَعَ الدَّلِيلِ حَيثُ دَارَ، وَلَا نَتَعَصَّبُ لِلرِّجَالِ، وَلَا نَنْحَازُ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلحَقِّ -كَمَا نَرَاهُ وَنَعْتَقِدُهُ-، وَقَد رَأَينَا فِي قَضِيَّةِ التَّوَسُّلِ -الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا- الحَقَّ مَعَ الَّذِينَ حَظَرُوا التَّوَسُّلَ بِمَخْلُوقٍ، وَلَم نَرَ لِمُجِيزِيهِ دَلِيلًا صَحِيحًا يُعْتَدُّ بِهِ، وَنَحْنُ نُطَالِبُهُم بِأَنْ يَأْتُونَا بِنَصٍّ صَحِيحٍ صَرِيحٍ مِنَ الكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ فِيهِ التَّوَسُّلُ بِمَخْلُوقٍ، وَهَيهَاتَ أَنْ يَجِدُوا شَيئًا يُؤَيِّدُ مَا يَذْهَبُونَ إِلَيهِ، أَو يَسْنُدُ مَا يَدَّعُونَهُ، اللَّهُمَّ إِلَّا شُبَهًا وَاحْتِمَالَاتٍ؛ سَنَعْرُضُ لِلرَّدِّ عَلَيهَا بَعْدَ قَلِيلٍ.

ومِنَ الغَرِيبِ حَقًّا أَنَّكَ تَرَى هَؤُلَاءِ يُعْرِضُونَ عَنْ أَنْوَاعِ التَّوَسُّلِ المَشْرُوعَةِ

(1)

فَلَم نَنْفَرِدْ نَحْنُ -اليَومَ- بِإِنْكَارِ تِلْكَ التَّوَسُّلَاتِ المُبْتَدَعَةِ! بَلْ سَبَقَنَا إِلَى إِنْكَارِهَا كِبَارُ الأَئِمَّةِ وَالعُلَمَاءِ، وَتَقَرَّرَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ كُتُبِ المَذَاهِبِ المُتَّبَعَةِ -كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله؛ فَقَد جَاءَ فِي كِتَابِ الدُّرُّ المُخْتَارُ مَعَ حَاشِيَةِ رَدِّ المُحْتَارِ (6/ 396) -مِنْ كُتُبِ الحَنَفِيَّةِ-:"وَفِي التَّتَارْخَانِيَّة -مَعْزِيًّا لِلْمُنْتَقَى- عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَدْعُوَ اللهَ إِلَّا بِهِ، وَالدُّعَاءُ المَأْذُونُ فِيهِ المَأْمُورُ بِهِ؛ مَا اُسْتُفِيدَ مِنْ قَوله تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأَعْرَاف: 180] ".

ص: 261

السَّابِقَةِ؛ فَلَا يَكَادُونَ يَسْتَعْمِلُونَ شَيئًا مِنْهَا فِي دُعَائِهِم أَو تَعْلِيمِهِم النَّاسَ مَعَ ثُبُوتِهَا فِي الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الأُمَّةِ عَلَيهَا؛ وَتَرَاهُم بَدَلًا مِنْ ذَلِكَ يَعْمَدُونَ إِلَى أَدْعِيَةٍ اخْتَرَعُوهَا وَتَوَسُّلَاتٍ ابْتَدَعُوهَا لَمْ يَشْرَعْهَا اللهُ عز وجل، وَلَم يَسْتَعْمِلْهَا رَسُولُهُ المُصْطَفَى صلى الله عليه وسلم، وَلَم تُنْقَلْ عَنْ سَلَفِ هَذِهِ الأُمَّةِ مِنْ أَصْحَابِ القُرُونِ الثَّلَاثَةِ الفَاضِلَةِ، وَأَقَلُّ مَا يُقَالُ فِيهَا: إِنَّهَا مُخْتَلَفٌ فِيهَا!! فَمَا أَجْدَرَهُم بِقَولِهِ تبارك وتعالى: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيرٌ} [البَقَرَة: 61].

ص: 262

-‌

‌ الفَصْلُ الرَّابِعُ: شُبُهَاتٌ وَالجَوَابُ عَلَيهَا:

-‌

‌ الشُّبْهَةُ الأُولَى: اسْتِسْقَاءُ عُمَرَ بِالعَبَّاسِ رضي الله عنهما:

رَوَى البُخَارِيُّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رضي الله عنه؛ كَانَ إِذَا قَحَطُوا اسْتَسْقَى بِالعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، فَقَالَ:(اللَّهُمَّ إِنَّا كُنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيكَ بِنَبِيِّنَا؛ فَتَسْقِينَا، وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا)، قَالَ: فَيُسْقَونَ

(1)

.

فَيَفْهَمُونَ مِنْ هَذَا الحَدِيثِ أَنَّ تَوَسُّلَ عُمَرَ رضي الله عنه إِنَّمَا كَانَ بِجَاهِ العَبَّاسِ رضي الله عنه وَمَكَانَتِهِ عِنْدَ اللهِ سُبْحَانَهُ، وَأَنَّ تَوَسُّلَهُ هُوَ مُجَرَّدُ ذِكْرٍ مِنْهُ للعَبَّاسِ فِي دُعَائِهِ؛ وَأَنَّهُ فَقَط طَلَبٌ مِنْهُ للهِ أَنْ يَسْقِيَهُم مِنْ أَجْلِهِ رضي الله عنهم، وَقَدْ أَقَرَّتْهُ الصَّحَابَةُ عَلَى ذَلِكَ! فَأَفَادَ -بِزَعْمِهِم- مَا يَدَّعُونَ.

وَأَمَّا سَبَبُ عُدُولِ عُمَرَ رضي الله عنه عَنِ التَّوَسُّلِ بِالرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم -بِزَعْمِهِم أَيضًا- وَتَوَسُّلِهِ بَدَلًا مِنْهُ بِالعَبَّاسِ رضي الله عنه؛ فَإِنَّمَا كَانَ لِبَيَانِ جَوَازِ التَّوَسُّلِ بِالمَفْضُولَ مَعَ وُجُودِ الفَاضِلِ لَيسَ إِلَّا! أَو لَعَلَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ حَدِيثُ الضَّرِيرِ!

(2)

وَالجَوَابُ

(3)

:

إِنَّ قَولَ عُمَرَ رضي الله عنه السَّابِقَ: (وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا) فِيهِ تَقْدِيرٌ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ (نَتَوَسَّلُ إِلَيكَ بِجَاهِ عَمِّ نَبِيِّنَا) وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ (نَتَوَسَّلُ إِلَيكَ بِدُعَاءِ عَمِّ نَبِيِّنَا)، وَالصَّوَابُ قَطْعًا هُوَ الثَّانِي، وَذَلِكَ لِعِدَّةِ مُلَاحَظَاتٍ:

(1)

البُخَارِيُّ (1010) عَنْ أنسٍ.

(2)

وَسَيَأْتِي ذِكْرُهُ قَرِيبًا.

(3)

بِتَصَرُّفٍ يَسِيرٍ وَزِيَادَةٍ عَمَّا فِي الأَصْلِ.

ص: 263

1 -

أَنَّ النُّصُوصَ الشَّرْعِيَّةَ يُفَسِّرُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَذَلِكَ بِكَونِ الأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ قَدْ تَضَافَرَتْ عَلَى أَنَّ التَّوَسُّلَ بِالصَّالِحِينَ كَانَ بِإِتْيَانِهِم؛ فَيَدْعُونَ لَهُم، وَيُرْشِدُ إِلَى ذَلِكَ قَولُهُ تبارك وتعالى:{وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النِّسَاء: 64]

(1)

.

2 -

أَنَّ المُقَارَنَ بِهِ فِي التَّوَسُّلِ كَانَ (إِنَّا كُنَا نَتَوَسَّلُ إِلَيكَ بِنَبِيِّنَا؛ فَتَسْقِينَا) فَإِذَا عُلِمَتْ صِفَةُ هَذَا التَّوَسُّلِ الأَوَّلِ عُلِمَتْ صِفَةُ الآخَرِ -وَهُوَ مَوضُوعُ النِّزَاعِ-، وَالنَّاظِرُ فِي السُّنَّةِ يَجِدُ أَنَّ الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم لَمَّا قَحَطَوا جَاءَ بَعْضُهُم إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَطَلَبَ مِنْهُ الدُّعَاءَ، وَلَو كَانَ المَقْصُودُ هُوَ التَّوَسُّلَ بِالجَاهِ لَبَقِيَ الطَّالِبُ فِي دَارِهِ وَتَوَسَّلَ بِهِ! -إِذْ إِنَّ الجَاهَ مَوجُودٌ فِي كِلَا الحَالَتَينِ كَمَا لَا يَخْفَى-

(2)

.

3 -

أَنَّ العَبَّاسَ رضي الله عنه عِنْدَمَا تَوَسَّلُوا بِهِ قَامَ فَدَعَى

(3)

؛ فَبَانَ بِذَلِكَ أَنَّ التَّوَسُّلَ بِهِ هُوَ الدُّعَاءُ.

4 -

أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه عِنْدَمَا تَوَسَّلَ بِالعَبَّاسِ أَمَرَهُ بِالدُّعَاءِ، فَقَد رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: (أَنَّ عُمَرَ اسْتَسْقَى بِالمُصَلَّى؛ فَقَالَ لِلْعَبَّاسِ: قُمْ فَاسْتَسْقِ. فَقَامَ

(1)

وَلِتَمَامِ الفَائِدَةِ رَاجِعْ مَسْأَلَةَ قِصَّةِ العُتْبِيِّ فِي مُلْحَقِ (قَوَاعِدُ ومَسَائِلُ فِي التَّبَرُّكُ والبَرَكَةُ).

(2)

وَقَد سَبَقَ حَدِيثُ أَنَسٍ رضي الله عنه فِي إِتْيَانِ الأَعْرَابِيِّ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم -وَهُوَ يَخْطُبُ- فَطَلَبَ مِنْهُ الاسْتِسْقَاءَ لَهُم.

(3)

نَقَلَهُ الحَافِظُ العَسْقَلَانُّي رحمه الله فِي الفَتْحِ (3/ 150) حَيثُ قَالَ: "وَقَدْ بَيَّنَ الزُّبَيرُ بْنُ بَكَّارٍ فِي الأَنْسَابِ صِفَةَ مَا دَعَا بِهِ العَبَّاسُ فِي هَذِهِ الوَاقِعَةِ وَالوَقْتَ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ ذَلِكَ؛ فَأَخْرَجَ بِإِسْنَادٍ لَهُ أَنَّ العَبَّاسَ لَمَّا اسْتَسْقَى بِهِ عُمَرُ قَالَ: (اللَّهُمَّ إِنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ بَلَاءٌ إِلَّا بِذَنْبٍ وَلَمْ يُكْشَفْ إِلَّا بِتَوبَةٍ، وَقَدْ تَوَجَّهَ القَومُ بِيَ إِلَيكَ لِمَكَانِي مِنْ نَبِيِّكَ، وَهَذِهِ أَيدِينَا إِلَيكَ بِالذُّنُوبِ، وَنَوَاصِينَا إِلَيكَ بِالتَّوبَةِ؛ فَاسْقِنَا الغَيثَ)، فَأَرْخَتِ السَّمَاءُ مِثْلَ الجِبَالِ حَتَّى أَخْصَبَتِ الأَرْضُ وَعَاشَ النَّاسُ".

ص: 264

العَبَّاسُ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّ عِنْدَكَ سَحَابًا، وَإِنَّ عِنْدَكَ مَاءً؛ فَانْشُرِ السَّحَابَ، ثُمَّ أَنْزِلْ فِيهِ المَاءَ، ثُمَّ أَنْزِلْهُ عَلَينَا) فَذَكَرَ الحَدِيثَ

(1)

.

5 -

أَنَّ الحَدِيثَ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ جَاءَ مُصَرِّحًا بِلَفْظِ الاسْتِسْقَاءِ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عِوَضًا عَنِ التَّوَسُّلِ بِهِ، كَمَا هُوَ عِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَالإسْمَاعِيلِيِّ

(2)

، وَالاسْتِسْقَاءُ: هُوَ طَلَبُ السُّقْيَا كَمَا لَا يَخْفَى؛ فَظَهَرَ بِذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى التَّوَسُّلِ هُنَا هُوَ الدُّعَاءُ

(3)

.

6 -

أَنَّ الفَارِقَ فِي قَولِ عُمَرَ بَينَ (كُنَّا) وَ (إِنَّا) -أَي الآنَ- إِنَّمَا هُوَ حَيَاةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَكَمَا قَالَ اللهُ عَزَّ شَأْنُهُ:{وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المُؤْمِنُون: 100].

وَقَد أَشَارَ إِلَى هَذِهِ الحَقِيقَةِ الصَّحَابيُّ الجَلِيلُ ابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه فِي قَولِهِ: (عَلَّمَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم -وَكَفِّي بَينَ كَفَّيهِ- التَّشَهُّدَ كَمَا يُعَلِّمُنِي السُّورَةَ مِنَ القُرْآنِ: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ، السَّلَامُ عَلَيكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَينَا وَعَلَى

(1)

مُصَنَّفُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ (4913). وَالأَثَرُ نَقَلَهُ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله فِي الفَتْحِ (2/ 495) وَسَكَتَ عَنْهُ.

(2)

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله فِي الفَتْحِ (2/ 495): "وَأَمَّا حَدِيثُ أَنَسٍ عَنْ عُمَرَ؛ فَأَشَارَ بِهِ أَيضًا -أَي: البُخَارِيُّ- إِلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ وَهُوَ عِنْدَ الإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ المُثَنَّى عَنِ الأَنْصَارِيِّ بِإِسْنَادِ البُخَارِيِّ إِلَى أَنَسٍ قَالَ: كَانُوا إِذَا قَحَطُوا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اسْتَسْقَوا بِهِ؛ فَيَسْتَسْقِي لَهُمْ؛ فَيُسْقَونَ، فَلَمَّا كَانَ فِي إِمَارَةِ عُمَرَ؛ فَذَكَرَ الحَدِيثَ".

فَقَولُهُ: (فَيَسْتَسْقِي لَهُم) صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَطْلُبُ لَهُم السُّقْيَا مِنَ اللهِ تَعَالَى.

قَالَ ابْنُ الأَثِيرِ رحمه الله: "الاسْتِسْقَاءُ -وَهُوَ اسْتِفْعَالٌ- مِنْ طَلَبِ السُّقْيا: أَي: إنْزَالَ الغَيثِ عَلَى البِلَادِ وَالعِبَادِ. يُقَالُ: سَقَى اللهُ عِبَادَهُ الغَيثَ وَأَسْقَاهُم. وَالاسْمُ السُّقْيَا بِالضَّمِّ. واسْتَسْقَيتَ فُلَانًا: إِذَا طَلَبتَ مِنْهُ أَنْ يَسْقِيَكَ". النِّهَايَةُ فِي غَرِيبِ الحَدِيثِ وَالأَثَرِ (2/ 962).

(3)

وَأَيضًا فَقَد تَتَابَعَ عَمَلُ السَّلَفِ عَلَى التَّوَسُّلِ بُدُعَاءِ الصَّالِحِينَ كَمَا فِي خَبَرِ مُعَاوِيَةَ وَالضَّحَّاكِ رضي الله عنهما مَعَ يَزيدَ بْنِ الأَسْوَدِ الجُرَشِيِّ، وَقَد سَبَقَ.

ص: 265

عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ -وَهُوَ بَينَ ظَهْرَانَينَا-؛ فَلَمَّا قُبِضَ قُلْنَا: السَّلَامُ -يَعْنِي عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم). رَوَاهُ البُخَارِيُّ

(1)

(2)

.

7 -

أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالُ: إِنَّ مُرَادَ عُمَرَ هُوَ بَيَانُ جَوَازِ التَّوَسُّلِ بِالمَفْضُولِ مَعَ وُجُودِ الفَاضِلِ! وَذَلِكَ لِأُمُورٍ؛ مِنْهَا:

أ- أَنَّ هَذِهِ دَعْوَى لَا دَلِيلَ عَلَيهَا، وَإِنَّمَا يَكْفِينَا القَولُ بِأَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يَتَوَسَّلُوا -بِغَضِّ النَّظَرِ عَنْ مَعْنَى التَّوَسُّلِ- بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ مَوتِهِ.

ب- أَنَّ أَحْرَجَ الأَوقَاتِ -مِنَ القَحْطِ وَالجَدْبِ وَالجُوعِ- لَا يُقْبَلُ فِيهِ تَرْكُ الفَاضِلِ وَاللُّجُوءُ إِلَى المَفْضُولِ! لَا سِّيَمَا وَأَنَّ ذَلِكَ يُمْكِنُ بَيَانُهُ بِالقَولِ، أَو أَنْ يَتَوَسَّلَ بِهِمَا جَمِيعًا

(3)

(4)

.

(1)

البُخَارِيُّ (6265).

(2)

وَأَمَّا فِرْيَةُ مَنْ لَم تَشْعُرْ أَفْئِدَتُهُم بِتَقْوَى اللهِ فِي المُسْلِمِينَ؛ مِنْ أَنَّ سَبَبَ قَولِ مَانِعِي التَّوَسُّلِ بِالجَاهِ والذَّاتِ هُوَ ظَنُّهُم أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ لَهُ أَثَرٌ ذَاتِيٌّ فِي النَّفْعِ وَالضُّرِّ قَبْلَ مَوتِهِ؛ فَلَمَّا مَاتَ لَم يَعُدْ لَهُ أَثَرٌ فِي ذَلِكَ! أَو أَنَّهُ لمَ يَعُدْ لَهُ جَاهٌ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى! وَأَنَّهُم بِذَلِكَ يَعْتَقِدُونَ -أَي: السَّلَفِيُّونَ المُنْكِرُونَ لِلتَّوَسُّلِ بِالذَّاتِ وَالجَاهِ- النَّفْعَ وَالضُّرَّ فِي ذَاتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم! فَهَذَا مَحْضُ افْتِرَاءٍ وَكَذِبٍ -عَلَيهِم مِنَ اللهِ مَا يَسْتَحِقُّونَ-، وَإِنَّمَا الفَارِقُ عِنْدَنَا حَقِيقَةً هُوَ إِمْكَانِيَّةُ الدُّعَاءِ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم، فَبَعْدَ مَوتِهِ لَمْ يَعُدْ ذَلِكَ مُمْكِنًا، بِخِلَافِ زَمَنِ حَيَاتِهِ صلى الله عليه وسلم، وَالفَيصَلُ بَينَنَا وَبَينَهُم قَولُ عُمَرَ رضي الله عنه:(اللَّهُمَّ إِنَّا كُنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيكَ بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا؛ وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا)، وَكُلُّ خَيرٍ فِي اِتِّبَاعِ مَنْ سَلَفَ، فَنَحْنُ سَلَفِيُّونَ وَهُمْ خَلَفِيُّونَ، وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: "أُولَئِكَ آبَائِي؛ فَجِئْني بمِثْلِهِم

إِذَا جَمَعَتْنَا يَا جَرِيرُ المَجَامِعُ".

(3)

وَأَيضًا فَهُنَاكَ مِنَ المَفْضُولِ مَنْ هُوَ أَدْنَى مِنَ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَأَعْلَى مِنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَحْصُلِ التَّوَسُّلُ بِهِم؛ كَسَائِرِ الأَنْبِيَاءِ وَالمَلَائِكَةِ الكِرَامِ المُقَرَّبُونَ! وَالحَمْدُ للهِ عَلَى تَوفِيقِهِ.

(4)

وَإِنَّ الانْصِرَافَ عَنِ التَّوَسُّلِ بِجَاهِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم -لَو جَازَ- إِلَى التَّوَسُّلِ بِجَاهِ غِيرِهِ؛ مَا هُوَ إَلَّا كَالانْصِرَافِ عَنِ الاقْتِدَاءِ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الصَّلَاةِ إِلَى الاقْتِدَاءِ بِغَيرِهِ -سَوَاءً بِسَوَاءٍ- إِذْ لَا مُقَارَبَةَ أَبَدًا بَينَهُ وَبَينَ غَيرِهِ.

وَلَو أَنَّ إِنْسَانًا أُصِيبَ بِمَكْرُوهٍ فَادِحٍ؛ وَكَانَ أَمَامَهُ نَبِيٌّ وَآخَرُ غَيرُ نَبِيٍّ، وَأَرَادَ أَنْ يَطْلُبَ الدُّعَاءَ مِنْ أَحَدِهِمَا؛ لَمَا طَلَبَهُ إِلَّا مِنَ النَّبيِّ، وَلَو طَلَبَهُ مِنْ غَيرِ النَّبِيِّ وَتَرَكَ النَّبِيَّ لَعُدَّ مِنَ الجَاهِلِينَ الَّذِينَ يَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيرٌ!

ص: 266

ج- أَنَّ التَّوَسُّلَ جَاءَ إِيضَاحُ مَعْنَاهُ بِدُعَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِلَأعرَابِيِّ، وَأَيضًا بِدُعَاءِ العَبَّاسِ -سَوَاءً كَانَ المَقْصُودُ تَعْلِيمَ الجَوَازِ أَمْ غَيرَهُ-، فَنَقُولُ: إِذًا فَلْيَتَوَسَّلُوا بِهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا تَوَسَّلَ بِهِ أَصْحَابُهُ، وَأَنَّى لَهُم ذَلِكَ بَعْدَ وَفَاتِهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزُّمَر: 30]؟!

د- تَكْرَارُ التَّوَسُّلِ بِالعَبَّاسِ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وجُودِ تِلْكَ الدَّعْوَى أَصْلًا؛ لِقَولِهِ: (إِنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ كَانَ إِذَا قَحَطُوا؛ اسْتَسْقَى بِالعَبَّاسِ)

(1)

(2)

.

8 -

وَأَمَّا دَعْوَى أَنَّ عُمَرَ تَرَكَ التَّوَسُّلَ بِذَاتِهِ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّهُ لَم يَبْلُغْهُ حَدِيثُ الضَّرِيرِ -وَسَيَأْتِي-! فَهُوَ جَوَابٌ بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ:

(1)

مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ رضي الله عنهما؛ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ فِي الاسْتِيعَابِ (2/ 814).

(2)

وَأَمَّا رِوَايَةُ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَرَى لِلعَبَّاسِ مَا يَرَى الوَلَدُ لِلْوَالِدِ؛ فَاقْتَدُوا بِرَسُولِ اللهِ، وَاتَّخِذُوهُ [أَي: العَبَّاسَ] وَسِيلَةً إِلَى اللهِ)! فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ ضَعِيفَةٌ، فِيهَا دَاوُدُ بْنُ عَطَاءٍ المَدَنِيُّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ كَمَا فِي التَّقْرِيبِ (ص 199) لِلحَافِظِ، وَقَد تَعَقَّبَ الذَّهَبِيُّ الحَاكِمَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ قَائِلًا:"دَاوُدُ: مَتْرُوكٌ".

وَقَد ذَكَرَ لَهَا الشَّيخُ الأَلبَانيُّ رحمه الله ثَلَاثَ عِلَلٍ:

1 -

دَاودُ بْنُ عَطَاءٍ؛ ضَعِيفٌ.

2 -

سَاعِدَةُ بْنُ عُبَيدِ اللهِ المُزَنِيُّ؛ لَمْ تُوجَدْ لَهُ تَرْجَمَةٌ.

3 -

الاضْطِرَابُ فِي السَّنَدِ؛ فَتَارَةً عَنْ زَيدٍ عَنْ أَبِيهِ مِنْ طَرِيقِ هِشَام بْنِ سَعْدٍ، وَتَارةً عَنْهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَهِشَامُ أَقْوَى مِنْ دَاوُدَ.

قُلْتُ: وَلَكِنْ أَيضًا هَذِهِ الرِّوَايَةُ يَكُونُ فِيهَا التَّوَسُّلُ مَحْمُولٌ عَلَى الدُّعَاءِ؛ لِوُجُودِ النُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ فِي ذَلِكَ.

ص: 267

أ- أَنَّ حَدِيثَ الضَّرِيرِ؛ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيهِ تَوَسُّلُ عُمَرَ هَذَا مِنَ التَّوَسُّلِ بِالدُّعَاءِ لَا بِالذَّاتِ -كَمَا سَيأْتِي بَيَانُهُ-.

ب- أَنَّ تَوَسُّلَ عُمَرَ لَم يَكُنْ سِرًّا! بَلْ كَانَ جَهْرًا عَلَى رُؤُوسِ الأَشْهَادِ وَفِيهِم كِبَارُ الصَّحَابَةِ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَغَيرِهِم، فَإِذَا جَازَ أَنْ يَخْفَى الحَدِيثُ عَلَى عُمَرَ؛ فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَخْفَى عَلَى جَمِيعِ المَوجُودِينِ مَعَ عُمَرَ مِنَ الصَّحَابَةِ؟!

ج- أَنَّ عُمَرَ -كَمَا سَبَقَ- كَانَ يُكَرِّرُ هَذَا التَّوَسُّلَ كُلَّمَا نَزَلَ بِأَهْلِ المَدِينَةِ خَطَرٌ، أَو كُلَّمَا دُعِيَ لِلاسْتِسْقَاءِ -كَمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ لَفْظُ (كَانَ) - فِي حَدِيثِ أَنَسٍ السَّابِقِ؛ وَالَّذِي فِيهِ أَنَّ عُمَرَ كَانَ إِذَا قَحَطُوا اسْتَسْقَى بِالعَبَّاسِ، وَكَذَلِكَ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ -كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ فِي كِتَابِهِ (الاسْتِيعَابُ)

(1)

-، فَإِذَا جَازَ أَنْ يَخْفَى ذَلِكَ عَلَيهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ؛ أَفَيَجُوزُ أَنْ يَسْتَمِرَ عَلَى الجَهْلِ بِهِ كُلَّمَا اسْتَسْقَى بِالعَبَّاسِ -وَعِنْدَهُ المُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ- وَهُمْ سُكُوتٌ لَا يُقَدِّمُونَ إِلَيهِ مَا عِنْدَهُم مِنَ العِلْمِ بِحَدِيثِ الضَّرِيرِ؟!

د- أَنَّ عُمُرَ لَيسَ هُوَ وَحْدَهُ الَّذِي عَدَلَ عَنِ التَّوَسُّلِ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى التَّوَسُّلِ بِغَيرِهِ! بَلْ تَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، فَإِنَّهُ أَيضًا عَدَلَ إِلَى التَّوَسُّلِ بِدُعَاءِ يَزِيدَ بْنِ الأَسْوَدِ، وَلَم يَتَوَسَّلَ بِهِ صلى الله عليه وسلم -وَعِنْدَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَأَجِلَاءِ التَّابِعِينَ-، فَهَلْ يُقَالُ أَيضًا: إِنَّ مُعَاوِيَةَ -وَمَنْ مَعَهُ- لَم يَكُونُوا يَعْلَمُونَ بِحَدِيثِ الضَّرِيرِ؟! وَقُلْ نَحْوَ ذَلِكَ فِي تَوَسُّلِ الضَّحَّاكِ بْنِ قَيسٍ بِيَزِيدَ هَذَا أَيضًا!

(2)

(1)

الاسْتِيعَابُ (2/ 814).

(2)

رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرٍ فِي التَّارِيخِ (65/ 112)، وَصَحَّحَهُ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ التَّوَسُّلُ (ص 42).

ص: 268

-‌

‌ الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ: حَدِيثُ الضَّرِيرِ.

أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَغَيرُهُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حُنَيفٍ؛ أَنَّ رَجُلًا ضَرِيرَ البَصَرِ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: اُدْعُ اللهَ أَنْ يُعَافِيَني. قَالَ: ((إِنْ شِئْتَ دَعَوتُ لَكَ، وَإِنْ شِئْتَ أَخَّرْتُ ذَاكَ؛ فَهوَ خَيرٌ))، وَفِي رِوَايَةٍ:((وَإِنْ شِئْتَ صَبَرْتَ فَهوَ خَيرٌ لَكَ))، فَقَالَ: ادْعُهُ. فَأَمَرَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ فَيُحْسِنَ وُضُوءَهُ؛ فَيُصَلِّيَ رَكْعَتَين، وَيَدْعُوَ بِهَذَا الدُّعَاءِ:((اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ وَأَتَوَجَّهُ إِلَيكَ بِنَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ، يَا مُحمَّدُ إِنِّي تَوَجَّهْتُ بِكَ إِلَى رَبِّي فِي حَاجَتِي هَذِهِ فَتُقْضَى لِي، اللَّهُمَّ؛ فَشَفِّعْهُ فِيَّ وَشَفِّعْنِي فِيهِ))، فَفَعَلَ الرَّجُلُ فَبَرِئَ

(1)

.

فَيَرَى المُخَالِفُونَ أَنَّ هَذَا الحَدِيثَ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ التَّوَسُّلِ فِي الدُّعَاءِ بِالجَاهِ أَوِ الذَّاتِ!

الجَوَابُ: إِنَّ هَذَا التَّوَسُّلَ لَيسَ تَوَسُّلًا بِالذَّاتِ وَالجَاهِ، وَإِنَّمَا هُوَ تَوَسُّلٌ بِالدُّعَاءِ، وَهُوَ النَّوعُ الثَّالِثُ المَشْرُوعُ، وَتَدُلُّ لِذَلِكَ أُمُورٌ:

1 -

أَنَّ الأَعْمَى إِنَّمَا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِيَدْعُوَ لَهُ، وَذَلِكَ مِنْ قَولِهِ:((اُدْعُ اللهَ أَنْ يُعَافِيَنِي))، وَلَو كَانَ قَصْدُ الأَعْمَى التَّوَسُّلَ بِذَاتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَو جَاهِهِ أَو حَقِّهِ لَمَا كَانَ ثَمَّةَ حَاجَةٍ بِهِ إِلَى أَنْ يَأْتيَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَيَطْلُبَ مِنْهُ الدُّعَاءَ لَهُ! بَلْ كَانَ الأَولَى لَهُ أَنْ يَقْعُدَ فِي بَيتِهِ وَيَدْعُوَ رَبَّهُ بِهِ

(2)

.

(1)

صَحِيحٌ. التِّرْمِذِيُّ (3578)، وَأَحْمَدُ (17241) عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حُنَيفٍ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (1279).

(2)

وَلَكِنَّهُ لَم يَفْعَلْ؛ لِأَنَّهُ عَرَبِيٌّ يَفْهَمُ مَعْنَى التَّوَسُّلِ فِي لُغَةِ العَرَبِ حَقَّ الفَهْمِ، وَيَعْرِفُ أَنَّهُ لَيسَ كَلِمَةً يَقُولُهَا صَاحِبُ الحَاجَةِ يَذْكُرُ فيهَا اسْمَ مَنْ يَتَوَسَّلُ بِهِ! بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَشْتَمِلَ عَلَى المَجِيءِ إِلَى مَنْ يَعْتَقِدُ فِيهِ الصَّلَاحَ وَالعِلْمَ بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ فَيَطْلُبُ مِنْهُ الدُّعَاءَ لَهُ.

ص: 269

2 -

أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَعَدَهُ بِالدُّعَاءِ -وَذَلِكَ فِي مَعْرِضِ إِجَابَةِ طَلَبِهِ-؛ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ هُوَ المَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ التَّوَسُّلِ

(1)

.

3 -

قَولُ الضَّرِيرِ فِي آخِرِ دُعَائِهِ: (اللَّهُمَّ فَشَفِّعْهُ فِيَّ، وَشَفِّعْنِي فِيهِ)

(2)

صَرِيحٌ فِي أَنَّ التَّوَسُّلَ كَانَ بِدُعَائِهِ صلى الله عليه وسلم؛ إِذْ إِنَّ الشَّفَاعَةَ هيَ الدُّعَاءُ

(3)

، وَعَلَيهِ فَلَا يَصِحُّ حَمْلُ الحَدِيثِ عَلَى التَّوَسُّلِ بِذَاتِهِ صلى الله عليه وسلم، أَو جَاهِهِ، أَو حَقِّهِ.

4 -

أَنَّ مِمَّا عَلَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الأَعْمَى أَنْ يَقُولَهُ هُوَ: ((وَشَفِّعْنِي فِيهِ))

(4)

أَي: اقْبَلْ شَفَاعَتِي؛ أَي: دُعَائِي، فَلَو حُمِلَ التَّوَجُّهُ بِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الذَّاتِ وَالجَاهِ لَمَا كَانَ لِقَولِ الضَّرِيرِ هَذَا مَعْنًى! وَأَمَّا لَو حُمِلَ عَلَى الدُّعَاءِ لَكَانَ المَعْنَى وَاضِحًا مُسْتَقِيمًا؛ أَنَّهُ يَدْعُو اللهَ تَعَالَى أَنْ تُقْبَلَ شَفَاعَتُهُ صلى الله عليه وسلم فِي أَنْ يُرَدَّ عَلَيهِ بَصَرُهُ.

5 -

أَنَّ هَذَا الحَدِيثَ ذَكَرَهُ العُلَمَاءُ فِي مُعْجِزَاتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَدُعَائِهِ المُسْتَجَابِ، وَلَو كَانَ المُرَادُ مِنْهُ التَّوَسُّلَ بِالذَّاتِ لَمَا أَورَدَهُ عُلَمَاءُ الحَدِيثِ فِي هَذَا البَابِ

(5)

! فَهَذَا

(1)

وَفِيهِ أَيضًا أَنَّهُ وَجَّهَهُ إِلَى النَّوعِ الثَّانِي مِنَ التَّوَسُّلِ المَشْرُوعِ، وَهُوَ التَّوَسُّلُ بِالعَمَلِ الصَّالِحِ.

(2)

هَذِهِ الجُمْلَةُ هيَ عَنْدَ أَحْمَدَ أَيضًا (17241)، وَالحَاكِمِ (1180) وَغَيرِهِمَا.

وَفِي لَفْظٍ لِلحَاكِمِ (1929): ((اللَّهُمَّ شَفِّعْهُ فِيَّ، وَشَفِّعْنِي فِي نَفْسِي)). صَحِيحُ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ (681).

(3)

قَالَ فِي لِسَانِ العَرَبِ (8/ 184): "وَالشَّفَاعَةُ: كَلَامُ الشَّفِيعِ لِلْمَلِكِ فِي حَاجَةٍ يَسْأَلُها لِغَيرِهِ، وَشَفَعَ إِلَيهِ: فِي مَعْنَى طَلَبَ إِلَيهِ، وَالشَّافِعُ: الطَّالِبُ لِغَيرِهِ يَتَشَفَّعُ بِهِ إِلَى المَطْلُوبِ".

(4)

هَذِهِ الجُمْلَةُ صَحَّتْ فِي الحَدِيثِ، أَخْرَجَهَا أَحْمَدُ (17241)، وَالحَاكِمُ (1180) وَصَحَّحَهُ وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيُّ، وَهِيَ وَحْدَهَا حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ عَلَى أَنَّ حَمْلَ الحَدِيثِ عَلَى التَّوَسُّلِ بِالذَّاتِ بَاطِلٌ.

(5)

كَمَا فِي كِتَابِ دَلَائِلُ النُّبُوَّةِ للبَيهَقِيِّ (6/ 83): "بَابُ جِمَاعِ أَبْوَابِ دَعَوَاتِ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم المُسْتَجَابَةِ فِي الأَطْعِمَةِ وَالأَشْرِبَةِ، وَبَرَكَاتِهِ الَّتِي ظَهَرَتْ فِيمَا دَعَا فِيهِ، وَغَيرِ ذَلِكَ مِنْ دَعَوَاتِهِ عَلَى طَرِيقِ الاخْتِصَارِ".

ص: 270

مِمَّا يَدُلُّ دِلَالَةً صَرِيحَةً عَلَى أَنَّ المَقْصُودَ مِنَ الحَدِيثِ بَيَانُ دُعَائِهِ صلى الله عليه وسلم وَلَيسَ التَّوَسُّلَ بِالجَاهِ وَالذَّاتِ الَّذِي لَا يَقْتَصِرُ فَقَطْ عَلَى حَيَاتِهِ صلى الله عليه وسلم! فَتَأَمَّلْ

(1)

.

6 -

لَو كَانَ المَقْصُودُ مِنْ حَدِيثِ الضَّرِيرِ هُوَ التَّوَسُّلُ بِالذَّاتِ وَالجَاهِ لَتَوَاتَرَ عَلَيهِ عَمَلُ الصَّحَابَةِ، كَيفَ وَهُوَ مِنَ الوَسِيلَةِ المَأْمُورِ بِهَا -كَمَا يَقْصِدُ بِهِ المُبْتَدِعَةُ فِي قَولِهِ تَعَالَى:{وَابْتَغُوا إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ} -! وَحَيثُ أَنَّهُ لَم يَقُمْ عَلَيهِ دَلِيلٌ صَحِيحٌ مِنْ فِعْلِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ فَإِنَّهُ يَبْدُو جَلِيًّا أَنَّ ذَلِكَ لَيسَ هُوَ المَقْصُودُ بِالَحَدِيثِ، وَالحَمْدُ للهِ.

- فَائِدَة 1: أمَّا الزِّيَادَةُ الَّتِي وَرَدَتْ عِنْدَ ابْنِ أَبِي خَيثَمَةَ فِي تَارِيخِهِ فِي آخِرِ الحَدِيثِ وَهيَ: ((وَإِنْ كَانَتْ حَاجَةٌ؛ فَافْعَلْ مِثْلَ ذَلِكَ)) فَهِيَ زِيَادَةٌ شَاذَّةٌ

(2)

.

وَلَو صَحَّتْ لَمْ تَكُنْ دَلِيلًا عَلَى جَوَازِ التَّوَسُّلِ بِذَاتِهِ صلى الله عليه وسلم لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَولِه: ((فَافْعَلْ مِثْلَ ذَلِكَ)) يَعني: مِنْ إِتْيَانِهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَالِ حَيَاتِهِ، وَطَلَبِ الدُّعَاءِ مِنْهُ وَالتَّوَسُّلِ بِهِ وَالتَّوَضُّؤِ وَالصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ الَّذِي عَلَّمَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَدْعُو بِهِ. وَاللهُ أَعْلَمُ.

- فَائِدَة 2: أَمَّا الزِّيَادَةُ الثَّانِيَةُ وَهيَ قِصَّةُ الرَّجُلِ مَعَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَتَوَسُّلِهِ

(1)

كَمَا أَنَّهُ لَو كَانَ السِّرُّ فِي شِفَاءِ الأَعْمَى أَنَّهُ تَوَسَّلَ بِجَاهِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْرِهِ وَحَقِّهِ -كَمَا يَفْهَمُ عَامَّةُ المُتَأَخِّرِينَ- لَكَانَ مِنَ اللَّازِمِ أَنْ يَحْصُلَ هَذَا الشِّفَاءُ لِغَيرِهِ مِنَ العُمْيَانِ الَّذِينَ يَتَوَسَّلُونَ بِجَاهِهِ صلى الله عليه وسلم، بَلْ وَيَضُمُّونَ إِلَيهِ أَحْيَانًا جَاهَ جَمِيعِ الأَنْبِيَاءِ وَالمُرْسَلِينَ وَكُلِّ الأَولِيَاءِ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَجَاهِ كُلِّ مَنْ لَهُ جَاهٌ عِنْدَ اللهِ مِنَ المَلَائِكَةِ وَالإنْسِ وَالجِنِّ أَجْمَعِينَ!

(2)

وَقَد تَفَرَّدَ فِيهَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، وَخَالَفَ بِذَلِكَ رِوَايَةَ شُعْبَةَ -وَهُوَ أَجَلُّ مَنْ رَوَى هَذَا الحَدِيثَ-.

ص: 271

بِهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ مَوتِهِ حَتَّى قَضَى لَهُ حَاجَتَهُ؛ فَقَدْ أَخْرَجَهَا الطَّبَرَانيُّ فِي المُعْجمِ الصَّغِيرِ وَالكَبِيرِ

(1)

، وَهِيَ قِصَّةٌ ضَعِيفَةٌ مُنْكَرَةٌ

(2)

.

(1)

المُعْجَمُ الكَبِيرُ (9/ 30)، وَالمُعْجَمُ الصَّغِيرُ (508).

وَالحَدِيثُ بِتَمَامِهِ: عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ المَكِّيِّ -شَبِيبِ بْنِ سَعِيدٍ-، عَنْ رَوحِ بْنِ القَاسِمِ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الخَطْمِيِّ المَدَنِيِّ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيفٍ، عَنْ عَمِّهِ عُثْمَانَ بْنِ حُنَيفٍ: أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَخْتَلِفُ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي حَاجَةٍ لَهُ، فَكَانَ عُثْمَانُ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيهِ وَلَا يَنْظُرُ فِي حَاجَتِهِ، فَلَقِيَ ابْنَ حُنَيفٍ؛ فَشَكَا ذَلِكَ إِلَيهِ، فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ بْنُ حُنَيفٍ: ائْتِ المِيضَأَةَ؛ فَتَوَضَّأْ، ثُمَّ ائْتِ المَسْجِدَ؛ فَصَلِّ فِيهِ رَكْعَتَينِ، ثُمَّ قُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ وَأَتَوَجَّهُ إِلَيكَ بنبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم نَبِيِّ الرَّحْمَةِ، يَا مُحَمَّدُ؛ إِنِّي أَتَوَجَّهُ بِكَ إِلَى رَبِّي فَتَقْضِي لِي حَاجَتِي -وَتُذَكُرُ حَاجَتَكَ-، وَرُحْ حَتَّى أَرْوَحَ مَعَكَ، فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ؛ فَصَنَعَ مَا قَالَ لَهُ، ثُمَّ أَتَى بَابَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، فَجَاءَ البَوَّابُ حَتَّى أَخَذَ بِيَدِهِ فَأَدْخَلَهُ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، فَأَجْلَسَهُ مَعَهُ عَلَى الطِّنْفِسَةِ [البِسَاطِ]، فَقَالَ: حَاجَتُكَ؟ فَذَكَرَ حَاجَتَهُ وَقَضَاهَا لَهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: مَا ذَكَرْتُ حَاجَتَكَ حَتَّى كَانَ السَّاعَةُ، وَقَالَ: مَا كَانَتْ لَكَ مِنْ حَاجَةٍ؛ فَائتِنَا، ثُمَّ إِنَّ الرَّجُلَ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ فَلَقِيَ عُثْمَانَ بْنَ حُنَيفٍ، فَقَالَ لَهُ: جَزَاكَ اللهُ خَيرًا مَا كَانَ يَنْظُرُ فِي حَاجَتِي وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَيَّ حَتَّى كَلَّمْتَهُ فِيَّ، فَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ حُنَيفٍ: وَاللَّهِ مَا كَلَّمْتُهُ! وَلَكِنِّي شَهِدْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَتَاهُ ضَرِيرٌ فَشَكَا إِلَيهِ ذَهَابَ بَصَرِهِ؛ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ((فَتَصَبَّر؟)) فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ لَيسَ لِي قَائِدٌ، وَقَدْ شَقَّ عَلَيَّ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:((ائْتِ المِيضَأَةَ؛ فَتَوَضَّأْ، ثُمَّ صَلِّ رَكْعَتَينِ، ثُمَّ ادْعُ بِهَذِهِ الدَّعَوَاتِ))، قَالَ ابْنُ حُنَيفٍ: فَوَاللَّهِ مَا تَفَرَّقْنَا وَطَالَ بِنَا الحَدِيثُ حَتَّى دَخَلَ عَلَينَا الرَّجُلُ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِهِ ضُرٌّ قَطُّ! حَدَّثَنَا إِدْرِيسُ بْنُ جَعْفَرٍ العَطَّارُ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ بْنِ فَارِسٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الخَطْمِيِّ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيفٍ، عَنْ عَمِّهِ عُثْمَانَ بْنِ حُنَيفٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَهُ. وَالحَدِيثُ صَحِيحٌ [قَالَهُ الطَّبَرانيُّ رحمه الله].

قَالَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله: "قُلْتُ: لَا شَكَّ فِي صِحَّةِ الحَدِيثِ -النَّبَوِيِّ-، وَإِنَّمَا البَحْثُ الآنَ فِي هَذِهِ القِصَّةِ الَّتِي تَفَرَّدَ بِهَا شَبِيبُ بْنُ سَعِيدٍ كَمَا قَالَ الطَّبَرانِيُّ".

(2)

قَالَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله: "وَخُلَاصَةُ القَولِ: إِنَّ هَذِهِ القِصَّةَ ضَعِيفَةٌ مُنْكَرَةٌ؛ لِأُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: ضَعْفِ حِفْظِ المُتَفَرِّدِ بِهَا -شَبِيبِ بْنِ سَعِيدٍ-، وَالاخْتِلَافِ عَلَيهِ فِيهَا، وَمُخَالَفَتِهِ لِلثِّقَاتِ الَّذِينَ لَم يَذْكُرُوهَا فِي الحَدِيثِ. وَأَمْرٌ وَاحِدٌ مِنْ هَذِهِ الأُمُورِ كَافٍ لِإِسْقَاطِ هَذِهِ القِصَّةَ؛ فَكَيفَ بِهَا مُجْتَمِعَةً"؟!

ص: 272

وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَمَنْ رَأَى أَنَّ تَوَسُّلَ الأَعْمَى كَانَ بِذَاتِهِ صلى الله عليه وسلم؛ فَعَلَيهِ أَنْ يَقِفَ عِنْدَهُ، وَلَا يَزِيدَ عَلَيهِ، كَمَا نُقِلَ عَنِ الإِمَامِ أَحْمَدَ وَالشَّيخِ العِزِّ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ رَحِمَهُمَا اللهُ تَعَالَى، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ البَحْثُ العِلْمِيُّ مَعَ الإِنْصَافِ، وَاللهُ المُوَفِّقُ للصَّوَابِ.

- فَائِدَة 3: وَأَمَّا الخِطَابُ فِي قَولِهِ هُنَا (يَا مُحَمَّدُ) -بِالنِّدَاءِ- فَفِيهِ تَوجِيهَانِ:

1 -

أَنَّهُ كَانَ بِحَضْرَتِهِ صلى الله عليه وسلم؛ وَعَلَيهِ فَلَا إِشْكَالَ.

قَالَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله: "هَذَا إِذَا افْتُرِضَ أَنَّ النّبيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ بَعِيدًا أَو غَائِبًا عَنْهُ لَا يَسْمَعُهُ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ ذَلِكَ فِي حُضُورِهِ صلى الله عليه وسلم؛ فَلَا إِشْكَالَ"

(1)

.

2 -

قَالَ شَيخُ الإْسَلَامِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: "هَذَا وَأَمْثَالَهُ: نِدَاءٌ يُطْلَبُ مِنْهُ اسْتِحْضَارُ المُنَادَى فِي القَلْبِ؛ فَيُخَاطَبُ المَشْهُودُ بِالقَلْبِ، كَمَا يَقُولُ المُصَلِّيُ: السَّلَامُ عَلَيكَ أيُّها النَّبِيُّ ورَحْمَةُ اللهُ وبَرَكَاتُهُ، وَالإِنْسَانُ يَقُولُ مِثْلَ هَذَا كَثِيرًا؛ يُخَاطِبُ مَنْ يَتَصَوَّرُهُ فِي نَفْسِهِ وإنْ لَمْ يكنْ فِي الخَارِجِ مَنْ يَسْمَعُ الخِطَابَ"

(2)

.

قُلْتُ: وَتَأْكِيدًا عَلَى أَنَّ (يَا) النِّدَاء هُنَا المَقْصُودُ بِهَا اسْتِحْضَارُ صُورَةِ المُخَاطَبِ بِهَا فِي الذِّهْنِ؛ أَنَّ مَا بَعْدَهَا لَيسَ فِيهِ طَلَبٌ مِنَ المُنَادَى! وَإِلَّا لَرَأَيتَ بَعْدَهَا: يَا مُحَمَّدُ؛ اسْأَلِ اللهَ لِي!! أَو اشْفَعْ لِي!! وَنَحْوَ هَذَا.

وَعَلَيهِ أَيضًا؛ فَإِنَّ النِّدَاءَ هُنَا لَيسَ دُعَاءً مِنْ دُونِ اللهِ -كَمَا ذَهَبَ إِلَيهِ بَعْضُ الغُلَاةِ- وَإِنَّمَا هُوَ تَوَسُّلٌ بِالدُّعَاءِ.

- فَائِدَة 4: فِي مُجْمَلِ أَمْرِهِ صلى الله عليه وسلم لِلضَّرِيرِ جَمْعٌ لَطِيفٌ بَينَ أَنْوَاعِ التَّوَسُّلِ

(1)

تَحْقِيقُ كِتَابِ (الآيَاتُ البَيِّنَاتُ)(ص 91).

(2)

اقْتِضَاءُ الصِّرَاطِ المُسْتَقِيمِ (2/ 319).

ص: 273

المَشْرُوعَةِ، حَيثُ أَمَرَهُ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَتَوَضَّأَ وَيُصَلِّيَ رَكْعَتَين ثُمَّ يَدْعُوَ لِنَفْسِهِ -وَهَذِهِ الأَعْمَالُ طَاعَةٌ للهِ سبحانه وتعالى يُقَدِّمُهَا بَينَ يَدي دُعَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهُ، وَهيَ تَدْخُلُ فِي قَولِهِ تَعَالَى:{وَابْتَغُوا إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ} كَمَا سَبَقَ-، ثُمَّ أَنْ يَتَوَسَّلَ بِصِفَةِ الأُلُوهِيَّةِ للهِ تَعَالَى فِي قَولِهِ:(اللَّهُمَّ)، ثُمَّ جَاءَ دُعَاءُ الرَّجُلِ الصَّالِحِ بَعْدَهُ.

ص: 274

-‌

‌ الشُّبْهَةُ الثَّالِثَةُ: الأَحَادِيثُ الضَّعِيفَةُ فِي التَّوَسُّلِ، وَأَشْهَرُهَا:

1 -

عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْريِّ مَرْفُوعًا: ((مَنْ خَرَجَ مِنْ بَيتِهِ إِلَى الصَّلَاةِ؛ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِحَقِّ السَّائِلِينَ عَلَيكَ، وَبِحَقِّ مَمْشَايَ هذَا))

(1)

. وَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ، فِيهِ عَطِيَّةُ العَوفِيُّ؛ مُجْمَعٌ عَلَى ضَعْفِهِ

(2)

.

2 -

كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ قَالَ: ((بِسْمِ اللهِ، آمَنْتُ باللَّهِ، تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ، لَا حَولَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، اللَّهُمَّ بِحَقِّ السَّائِلِينَ عَلَيكَ، وَبِحَقِّ مَخْرَجِي هَذَا؛ فَإِنِّي لَمْ أَخْرُجْهُ أَشَرًا وَلَا بَطَرًا وَلَا رِيَاءً وَلَا سُمْعَةً، خَرَجْتُ ابْتِغاءَ مَرْضَاتِكَ، وَاتِّقاءَ

(1)

رَوَاهُ أَحْمَدُ (11156)، وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ عَطِيَّةَ العَوفِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، وَعَطِيَّةُ ضَعِيفٌ، قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله فِي التَّقْرِيبِ (1/ 393):"صَدُوقٌ يُخْطِئُ كَثِيرًا، كَانَ شِيعِيًا مُدَلِّسًا"، وَقَالَ الذَّهَبِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ المُغْنِي فِي الضُّعَفَاءِ (2/ 436):"مُجْمَعٌ عَلَى ضَعْفِهِ". وَانْظُرِ الكَلَامَ عَلَى الحَدِيثِ مُفَصَّلًا فِي الضَّعِيفَةِ (24).

وَقَالَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله: "وَخُلَاصَةُ ذَلِكَ أَنَّ عَطِيَّةَ هَذَا كَانَ يَروي عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه؛ فَلَمَّا مَاتَ جَالَسَ أَحَدَ الكَذَّابِينَ المَعْرُوفِينَ بِالكَذِبِ فِي الحَدِيثِ وَهُوَ الكَلبِيُّ، فَكَانَ عَطِيَّةُ إِذَا رَوَى عَنْهُ كَنَّاهُ أَبَا سَعِيدٍ؛ فَيَتَوَهَّمُ السَّامِعُونَ مِنْهُ أَنَّهُ يُرِيدُ أَبَا سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ! وَهَذَا وَحْدَهُ عِنْدِي يُسْقِطُ عَدَالَةَ عَطِيَّةَ هَذَا؛ فَكَيفَ إِذَا انْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ سُوءُ حِفْظِهِ! ". التَّوَسُّلِ (ص 93).

وَأَورَدَهُ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله فِي رِسَالَتِهِ (طَبَقَاتُ المُدَلِّسِينَ)(ص 50)، فَقَالَ:"تَابِعِيٌّ مَعْرُوفٌ، ضَعِيفُ الحِفْظِ؛ مَشْهُورٌ بِالتّدْلِيسِ القَبِيحِ"، ذَكَرَهُ فِي المَرْتَبَةِ الرَّابِعَةِ؛ وَهيَ الَّتِي يُورِدُ فِيهَا مَنْ اتُّفِقَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُحْتَجُّ بِشَيءٍ مِنْ حَدِيثِهِم إِلَّا ِبمَا صَرَّحُوا فِيهِ بِالسَّمَاعِ؛ لِكَثْرَةِ تَدْلِيسِهِم عَنِ الضُّعَفَاءِ وَالمَجَاهِيلَ.

(2)

وَالحَدِيثُ بِتَمَامِهِ: ((مَنْ خَرَجَ مِنْ بَيتِهِ إِلَى الصَّلَاةِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِحَقِّ السَّائِلِينَ عَلَيكَ، وَأَسْأَلُكَ بِحَقِّ مَمْشَايَ هذَا؛ فَإِنِّي لَمْ أَخْرُجْ أَشَرًا، وَلَا بَطَرًا، وَلَا رِيَاءً، وَلَا سُمْعَةً، وَخَرَجْتُ اتِّقَاءَ سَخَطِكَ، وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِكَ؛ فَأَسْأَلُكَ أَنْ تُعِيذَنِي مِنَ النَّارِ، وَأَنْ تَغْفِرَ لِي ذُنُوبِي إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ: أَقْبَلَ اللهُ عَلَيهِ بِوَجْهِهِ، وَاسْتَغْفَرَ لَهُ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ حَتَّى تَنْقَضِيَ صَلَاتُهُ)).

ص: 275

سَخَطِكَ، أَسْأَلُكَ أَنْ تُعِيذَنِي مِنَ النَّارِ وتُدْخِلَنِي الجَنَّةَ))

(1)

. مُنْكَرٌ، فِيهِ الوَازِعُ بْنُ نَافِعٍ العُقَيلِيُّ؛ وَهوَ مُتَّفَقٌ عَلَى ضَعْفِهِ.

وَلَكِنْ مَعَ كَونِ هَذَينِ الحَدِيثَينِ ضَعِيفَينِ؛ فَهُمَا لَا يَدُلَّانِ عَلَى التَّوَسُّلِ بِالمَخْلُوقِينَ أَبَدًا! وَإِنَّمَا يَعُودَانِ إِلَى أَحَدِ أَنْوَاعِ التَّوَسُّلِ المَشْرُوعَةِ الَّذِي تَقَدَّمَ الكَلَامُ عَنْهُ، وَهُوَ التَّوَسُّلِ إِلَى اللهِ تَعَالَى بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ عز وجل، لِأَنَّ فِيهِمَا التَّوَسُّلَ بِحَقِّ السَّائِلِينَ عَلَى اللهِ، وَبِحَقِّ مَمْشَى المُصَلِّينَ، فَمَا هُوَ حَقُّ السَّائِلِينَ عَلَى اللهِ تَعَالَى؟ لَا شَكَّ أَنَّهُ إِجَابَةُ دُعَائِهِم، وَإِجَابَةُ اللهِ دُعَاءَ عِبَادِهِ هِيَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ عز وجل، وَكَذَلِكَ حَقُّ مَمْشَى المُسْلِمِ إِلَى المَسْجِدِ هُوَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُ وَيُدْخِلَهُ الجَنَّةَ، وَأَنْ يَجْعَلَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ حَسَنَةً وَيَمْحِي عَنْهُ سَيِّئَةً، وَمَغْفِرَةُ اللهِ تَعَالَى وَرَحْمَتُهُ وَإِدْخَالُهُ بَعْضَ خَلْقِهِ مِمَّنْ يُطِيعُهُ الجَنَّةَ؛ كُلُّ ذَلِكَ صِفَاتٌ لَهُ تبارك وتعالى، وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الحَدِيثَ الَّذِي يَحْتَجُّ بِهِ المُبْتَدِعُونَ يَنْقَلِبُ عَلَيهِم.

3 -

عَنْ أَبي أُمَامَةَ؛ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَصْبَحَ وَإِذَا أَمْسَى دَعَا بِهَذَا الدُّعَاءِ: ((اللَّهُمَّ أَنْتَ أَحَقُّ مَنْ ذُكِرَ، وَأَحَقُّ مَنْ عُبَدَ، أَسْأَلُكَ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ بِكُلِّ حَقٍّ هُوَ لَكَ وَبِحَقِّ السَّائِلِينَ))

(2)

.

(1)

الحَدِيثُ أَخْرَجَهُ ابْنُ السُّنِّيِّ فِي عَمَلِ اليَومِ وَاللَّيلَةِ (1/ 75) مِنْ طَريقِ الوَازِعِ بْنِ نَافِعٍ العُقَيلِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ بِلَالٍ.

وَهَذَا سَنَدٌ ضَعِيفٌ جِدًّا، وَآفَتُهُ الوَازِعُ هَذَا؛ فَإِنَّهُ لَم يَكُنْ عِنْدَهُ وَازِعٌ يَمْنَعُهُ مِنَ الكَذِبِ! كَمَا فِي الضَّعِيفَةِ (6252)، وَفِيهَا:"وَلِذَلِكَ لَمَّا قَالَ النَّوَوِيُّ فِي الأَذْكارِ: حَدِيثٌ ضَعِيفٌ؛ أَحَدُ رُوَاتِهِ الوَازِعُ بْنُ نَافِعٍ العُقَيليُّ -وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَى ضَعْفِهِ؛ وَأَنَّهُ مُنْكَرُ الحَدِيثِ- قَالَ الحَافِظُ بَعْدَ تَخْرِيجِهِ: هَذَا حَدِيثٌ وَاهٍ جِدًّا، أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي (الأَفْرَادِ) مِنْ هَذَا الوَجْهِ، وَقَالَ: تَفَرَّدَ بِهِ الوَازِعُ، وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَى ضَعْفِهِ؛ وَأَنَّهُ مُنْكَرُ الحَدِيثِ".

(2)

الطَّبَرَانِيُّ فِي الكَبِيرِ (8/ 264).

وَالحَدِيثُ بِتَمَامِهِ: عَنْ أَبِي أُمَامَةَ البَاهِلِيِّ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَصْبَحَ وَأمْسَى دَعَا بِهَؤُلَاءِ

=

ص: 276

وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا. رَوَاهُ الطَّبَرَانيُّ، وَفِيهِ فَضَّالُ بْنُ جُبَيرٍ، وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا، اتَّهَمَهُ ابْنُ حِبَّانَ

(1)

(2)

.

4 -

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ؛ قَالَ: لَمَّا مَاتَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَسَدِ بْنِ هَاشِمٍ -أُمُّ عَلِيِّ بِنْ أَبِي طَالِبٍ-؛ دَعَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أُسَامَةَ بْنَ زَيدٍ وَأَبَا أَيُّوبَ الأَنْصَارِيَّ وَعُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ وَغُلَامًا أَسْوَدَ يَحْفُرُونَ، فَلَمَّا فَرَغَ دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَاضْطَجَعَ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ:((اللَّهُ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ؛ اغْفِرْ لأُمِّي فَاطِمَةَ بِنْتِ أَسَدٍ، ولَقِّنْهَا حُجَّتَها، وَوَسِّعْ عَلَيهَا مُدْخَلَهَا؛ بِحَقِّ نَبِيِّكَ وَالأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِي؛ فَإِنَّكَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ))

(3)

. مُنْكَرٌ. رَوَاهُ الطَّبَرَانيُّ فِي الكَبيرِ وَالأَوسَطِ، وَفِيهِ رَوحُ بْنُ صَلَاحٍ

=

الدَّعَوَاتِ: ((اللَّهُمَّ أَنْتَ أَحَقُّ مَنْ ذُكِرَ، وَأَحَقُّ مَنْ عُبِدَ، وَأَنْصَرُ مَنْ ابْتُغِي، وَأَرْأَفُ مَنْ مَلَكَ، وَأَجْوَدُ مَن سُئِلَ، وَأَوسَعُ مَنْ أَعْطَى، أَنْتَ المَلِكُ لَا شَرِيكَ لَكَ، وَالفَرْدُ لَا تَهْلَكُ، كُلُّ شَيءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَكَ، لَنْ تُطَاعَ إِلَّا بِإذْنِكَ، وَلَنْ تُعْصَى إِلَّا بِعِلْمِكَ، تُطَاعُ فَتَشْكُرُ، وَتُعْصَى فَتَغْفِرُ، أَقْرَبُ شَهِيدٍ، وَأدْنَى حَفِيظٍ، حِلْتَ دُونَ الثُّغُورِ، وَأَخَذْتَ بِالنَّوَاصِي، وَكَتَبْتَ الآثَارَ، وَنَسَخْتَ الآجَالَ، القُلُوبُ لَكَ مُفْضِيَّةٌ، وَالسِّرُّ عِنْدَكَ عَلَانِيَّةٌ، الحَلَالُ مَا أَحْلَلَتَ، وَالحَرَامُ مَا حَرَّمْتَ، وَالدِّينُ مَا شَرَّعْتَ، وَالأَمْرُ مَا قَضَيتَ، وَالخَلْقُ خَلْقُكَ، وَالعَبْدُ عَبْدُكَ، وَأَنْتَ اللهُ الرَّؤُوفُ الرَّحِيمُ، أَسأَلُكَ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَبِكُلِّ حَقٍّ هُوَ لَكَ، وَبِحَقِّ السَّائِلِينَ عَلَيكَ أَنْ تَقْبَلَنِي فِي هَذِهِ الغَدَاةِ أَو فِي هَذِهِ العَشِّيةِ، وَأَنْ تُجِيرَنِي مِنَ النَّارِ بِقُدْرَتِكَ)).

(1)

كِتَابُ المَجْرُوحِينَ (2/ 204)، وَقَالَ ابْنُ عَدِّيٍّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ الكَامِلُ (7/ 131):"وَلِفَضَّالِ بْنِ جُبَيرٍ عَنِ أَبِي أُمَامَةَ قَدْرُ عَشَرَةِ أَحَادِيثَ؛ كُلُّهَا غَيرُ مَحْفُوظَةٍ".

(2)

انْظُرِ الضَّعِيفَةَ (6253).

(3)

الطَّبَرَانيُّ فِي الكَبيرِ (24/ 351) وَالمُعْجَمِ الأَوسَطِ (189).

وَالحَدِيثُ بِتَمَامِهِ -كَمَا فِي المُعْجَمِ الكَبِيرِ-: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ؛ قَالَ: لَمَّا مَاتَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَسَدِ بْنِ هَاشِمٍ -أُمُّ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ- دَخَلَ عَلَيهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَجَلَسَ عِنْدَ رَأْسِهَا، فَقَالَ: ((رَحِمَكِ اللهُ يَا

=

ص: 277

ضَعِيفٌ تَفَرَّدَ بِهِ

(1)

.

5 -

عَنْ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ خَالِدِ بْنِ أَسِيد؛ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَفْتِحُ بِصَعَالِيكِ المُهَاجِرِينَ.

أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانيُّ فِي المُعْجَمِ الكَبِيرِ

(2)

، وَيَرَى المُخَالِفُونَ أَنَّ هَذَا الحَدِيثَ يُفِيدُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَطْلُبُ مِنَ اللهِ تَعَالَى أَنْ يَنْصُرَهُ وَيَفْتَحَ عَلَيهِ بِالضُّعَفَاءِ المَسَاكِينِ مِنَ المُهَاجِرِينَ، وَهَذَا -بِزَعْمِهِم- هُوَ التَّوَسُّلُ المُخْتَلَفُ فِيهِ نَفْسُهُ.

وَلَكِنَّ الحَدِيثَ مُرْسَلٌ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ أُمَيَّةَ لَم تَثْبُتْ لَهُ صُحْبَةٌ

(3)

.

ثُمَّ يُقَالُ: إِنَّ الحَدِيثَ لَو صَحَّ فَلَا يَدُلُّ إِلَّا عَلَى مِثْلِ مَا دَلَّ عَلَيهِ حَدِيثُ عُمَرَ وَحَدِيثُ الأَعْمَى مِنَ التَّوَسُّلِ بِدُعَاءِ الصَّالِحِينَ.

قَالَ المُنَاوِيُّ رحمه الله: "كَانَ يَسْتَفْتِحُ؛ أَي: يَفْتَتِحُ القِتَالَ، مِنْ قَولِهِ تَعَالَى: {إِنْ

=

أُمِّي، كُنْتِ أُمِّي بَعْدَ أُمِّي، وتُشْبِعِينِي وَتَعْرَينَ، وتُكْسِينِي وَتَمْنَعِينَ نَفْسَكِ طَيِّبًا، وتُطْعِمِينِي تُرِيدِينَ بِذَلِكَ وَجْهَ اللهِ وَالدَّارَ الآخِرَةَ))، ثُمَّ أَمَرَ أَنْ تُغَسَّلَ ثَلَاثًا، فَلَمَّا بَلَغَ المَاءَ الَّذِي فِيهِ الكَافُورُ؛ سَكَبَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ، ثُمَّ خَلَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَمِيصَهُ، فَأَلْبَسَهَا إِيَّاهُ وَكَفَّنَهَا بِبُرْدٍ فَوقَهُ، ثُمَّ دَعَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أُسَامَةَ بْنَ زَيدٍ وَأَبَا أَيُّوبٍ الأَنْصَارِيَّ وَعُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ وَغُلَامًا أَسْوَدَ يَحْفُرُونَ فَحَفَرُوا قَبْرَهَا، فَلَمَّا بَلَغُوا اللَّحْدَ حَفَرَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ، وَأَخْرَجَ تُرَابَهُ بِيَدِهِ، فَلَمَّا فَرَغَ دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَاضْطَجَعَ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ:((اللَّهُ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، اغْفِرْ لأُمِّي فَاطِمَةَ بِنْتِ أَسَدٍ، وَلَقِّنْهَا حُجَّتَها، وَوَسِّعْ عَلَيهَا مُدْخَلَهَا؛ بِحَقِّ نَبِيِّكَ وَالأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِي؛ فَإِنَّكَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)) وَكَبَّرَ عَلَيهَا أَرْبَعًا، وأَدْخَلُوهَا اللَّحْدَ -هُوَ وَالعَبَّاسُ وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ-.

(1)

الضَّعِيفَةُ (23).

(2)

الطَّبَرَانيُّ فِي المُعْجَمِ الكَبِيرِ (1/ 292).

(3)

قَالَ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ الاسْتِيعَابُ (1/ 107): "لَا تَصِحُّ عِنْدِي صُحْبَتُهُ، وَالحَدِيثُ مُرْسَلٌ".

ص: 278

تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} [الأَنْفَال: 19] ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَيَسْتَنْصِرُ؛ أَي: يَطْلُبُ النُّصْرَةَ بِصَعَالِيكِ المُسْلِمِينَ؛ أَي: بُدُعَاءِ فُقَرَائِهِم الَّذِينَ لَا مَالَ لَهُم"

(1)

.

وَفِي الحَدِيثِ الصَّحِيحِ: ((هَلْ تُنْصَرُونَ إِلَّا بِضُعَفَائِكُمْ؛ بِدَعْوَتِهِمْ وَإِخْلَاصِهِمْ))

(2)

.

6 -

عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رضي الله عنه؛ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((لَمَّا اقْتَرَفَ آدَمُ الخَطِيئَةَ قَالَ: يَا رَبِّ؛ أَسْأَلُكَ بِحَقِّ مُحَمَّدٍ لَمَا غَفَرْتَ لِي، فَقَالَ اللهُ: يَا آدَمُ، وَكَيفَ عَرَفْتَ مُحَمَّدًا وَلَمْ أَخْلُقْهُ؟! قَالَ: يَا رَبِّ، لِأَنَّكَ لَمَّا خَلَقْتَنِي بِيَدِكَ وَنَفَخْتَ فِيَّ مِنْ رُوحِكَ؛ رَفَعْتُ رَأْسِي فَرَأَيتُ عَلَىَ قَوَائِمِ العَرْشِ مَكْتُوبًا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ؛ فَعَلِمْتُ أَنَّكَ لَمْ تُضِفْ إِلَى اسْمِكَ إِلَّا أَحَبَّ الخَلْقِ إِلَيكَ، فَقَالَ اللهُ: صَدَقْتَ يَا آدَمُ، إِنَّهُ لَأَحَبُّ الخَلْقِ إِلَيَّ، ادْعُنِي بِحَقِّهِ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ، وَلَولَا مُحَمَّدٌ مَا خَلَقْتُكَ)). أَخْرَجَهُ الحَاكِمُ فِي المُسْتَدْرَكِ

(3)

، وَهُوَ مَوضُوعٌ، فِيهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيدِ بْنِ أَسْلَمَ وَاهٍ، وعَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمٍ الفِهْرِيُّ مُتَّهَمٌ بِوَضْعِ الحَدِيثِ

(4)

.

(1)

فَيضُ القَدِيرِ (5/ 219).

(2)

صَحِيحٌ. حِلْيَةُ الأَولِيَاءِ (8/ 289) عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (7034).

(3)

مَوضُوعٌ. الحَاكِمُ (4228). وَقَالَ عَقِبَهُ رحمه الله: "صَحِيحُ الإِسْنَادِ؛ وَهُوَ أَوَّلُ حَدِيثٍ ذَكَرْتُهُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيدِ بْنِ أَسْلَمَ فِي هَذَا الكِتَابِ"! فَتَعَقَّبَهُ الذَّهَبِيُّ رحمه الله بِقَولِهِ: "قُلْتُ: بَلْ مَوضُوعٌ؛ وَعَبُدُ الرَّحْمَنِ وَاهٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمٍ الفِهْرِيُّ لَا أَدْري مَنْ ذَا".

قَالَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله: "وَمِنْ تَنَاقُضِ الحَاكِمِ فِي المُسْتَدْرَكِ نَفْسِهِ أَنَّهُ أَورَدَ فِيهِ حَدِيثًا آخَرَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ هَذَا وَلَم يُصَحِّحْهُ، بَلْ قَالَ: وَالشَّيخَانِ لَم يَحْتَجَّا بِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيدٍ"! قُلْتُ: انْظُرِ المُسْتَدْرَكَ (3/ 374).

(4)

وَأَمَّا اسْتِدْلَالُ بَعْضِهِم بِأَنَّ الحَافِظَ العَسْقَلَانِيَّ رحمه الله حَكَمَ عَلَى (عَبْدِ الرَّحْمَن ِبْنِ زَيدِ بْنِ أَسْلَمَ) أَنَّهُ ضَعِيفٌ فَقَط -كَمَا فِي اللِّسَانِ (4/ 29) -! فَلَا يُفِيدُهُم شَيئًا بِفَضْلِ اللهِ؛ فَإِنَّ الحَافِظَ نَفْسَهُ قَالَ عَنْ هَذَا الحَدِيثِ أَصْلًا أَنَّهُ خَبَرٌ بَاطِلٌ، كَمَا تَجِدُهُ فِي تَرْجَمَةِ (عَبْدِ اللهِ بْنِ مُسْلِمٍ الفِهْرِيِّ) مِنْ نَفْسِ الكِتَابِ (3/ 359). وَالحَمْدُ للهِ.

ص: 279

وَمِمَّا يُؤَيِّدُ مَا ذَهَبَ إِلَيهِ العُلَمَاءُ مِنْ وَضْعِ هَذَا الحَدِيثِ وَبُطْلَانِهِ أَنَّهُ يُخَالِفُ القُرْآنَ الكَرِيمَ فِي مَوضِعَينِ مِنْهُ؛ وَهُمَا:

أ- أَنَّهُ تَضَمَّنَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى غَفَرَ لِآدَمَ بِسَبَبِ تَوَسُّلِهِ بِهِ صلى الله عليه وسلم؛ وَأَنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ لَهُ: ((يَا آدَمُ، وَكَيفَ عَرَفْتَ مُحَمَّدًا وَلَمْ أَخْلُقْهُ؟!))، وَاللهُ عز وجل يَقولُ:{فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البَقَرَة: 37]، فَالحَقِيقَةُ أَنَّ هَذَا التَّلَقِّي لِلْكَلِمَاتِ هُوَ سَبَبُ قَبُولِ التَّوبَةِ

(1)

.

ب- قَولُهُ فِي آخِرِهِ: ((وَلَولَا مُحَمَّدٌ مَا خَلَقْتُكَ))! مُعَارِضٌ لِمَا قَد أَخْبَرَنَا اللهُ تَعَالَى بِهِ عَنِ الحِكْمَةِ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا خَلَقَ آدَمَ وَذُرِّيَّتَهُ، فَقَالَ عز وجل:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذَّارِيَات: 56]

(2)

.

(1)

قَالَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله: "وَقَد جَاءَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الكَلِمَاتِ عَنْ تَرْجُمَانِ القُرْآنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما بِمَا يُخَالِفُ هَذَا الحَدِيثَ، فَأَخْرَجَ الحَاكِمُ (3/ 545) عَنْهُ:{فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} قَالَ: أَي رَبِّ؛ أَلَمْ تَخْلُقْنِي بِيَدِكَ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: أَي رَبِّ؛ أَلَمْ تَنْفُخْ فِيَّ مِنْ رُوحِكَ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: أَي رَبِّ؛ أَلَمْ تُسْكِنِّي جَنَّتَكَ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: أَي رَبِّ؛ أَلَمْ تَسْبِقْ رَحْمَتُكَ غَضَبَكَ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: أَرَأَيتَ إِنْ تُبْتُ وَأَصْلَحْتُ؛ أَرَاجِعِي أَنْتَ إِلَى الجَنَّةِ؟ قَالَ: بَلَى [فِي غَيرِهَا مِنَ الأُصُولِ: نَعَم. وَهُوَ الصَّوَابُ لُغَةً]. قَالَ: فَهُوَ قَولُهُ {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} . قَالَ الحَاكِمُ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ. وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيُّ، وَهُوَ كَمَا قَالَا.

وَقَولُ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا هُوَ فِي حُكْمِ المَرْفُوعِ مِنْ وَجْهَينِ:

1 -

أَنَّهُ أَمْرٌ غَيبِيٌّ؛ لَا يُقَالُ مِنْ مُجَرَّدِ الرَّأْي.

2 -

أَنَّهُ وَرَدَ فِي تَفْسِيرِ الآيَةِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَهوَ فِي حُكْمِ المَرْفُوعِ".

(2)

وَمِثْلُهُ الحَدِيثُ المَشْهُورُ لَفْظًا: ((يَا مُحَمَّدُ، لَولَاكَ مَا خَلَقْتُ الدُّنْيَا))!! وَهُوَ مَوضُوعٌ، كَمَا فِي تَلْخِيصِ كِتَابِ المَوضُوعَاتِ (ص 86) لِلحَافِظِ الذَّهَبِيِّ؛ وَفِيهِ أَيضًا:"وَقَالَ ابْنُ الجَوزِيِّ: مَوضُوعٌ بِلَا شَكٍّ، وَيَحْيَى البَصْرِيُّ تَالِفٌ كَذَّابٌ، وَالسَّنَدُ فِيهِ ظُلْمَةٌ".

ص: 280

وَأَمَّا زَعْمُ بَعْضِهِم أَنَّهُ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ فَقَط -جَدَلًا-؛ وَأَنَّ الحَدِيثَ الضَّعِيفَ يُعْمَلُ بِهِ فِي فَضَائِلِ الأَعْمَالِ اتِّفَاقًا! فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ أَيضًا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى اسْتِحْبَابِ هَذَا التَّوَسُّلِ، وَلِكَونِ الاسْتِحْبَابِ هُوَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ مِنَ الأَحْكَامِ الخَمْسَةِ -الَّتِي لَا تَثْبُتُ إِلَّا بِنَصٍّ صَحِيحٍ تَقُومُ بِهِ الحُجَّةُ- فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ بِالحَدِيثِ الضَّعِيفِ، فَالأَمْرُ خَارِجٌ عَنْ مُجَرَّدِ الفَضَائِلِ

(1)

.

(1)

قُلْتُ: وَمَعْنَى (فِي الفَضَائِلِ): أَي: إِيرَادُ الحَدِيثِ الضَّعِيفِ الإِسْنَادِ فِي مَعْرِضِ ذِكْرِ فَضِيلَةِ عَمَلٍ مَا ثَابِتٍ شَرْعًا، أَوِ الحَثِّ عَلَيهِ، وَلَيسَ فِي مَعْرِضِ إِثْبَاتِ حُكْمٍ بِهِ! وَدَعْوَى الاتِّفَاقِ هَذِهِ غَيرُ مُسَلَّمٍ بِهَا، وَالرَّاجِحُ عَدَمُ الجَوَازِ؛ لِأَنَّ الكُلَّ شَرْعٌ.

وَلَكِنْ حَتَّى الَّذِينَ قَالُوا بِذَلِكَ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ قَدْ وَضَعُوا لِذَلِكَ العَمَلِ شُرُوطًا.

قَالَ الحَافِظُ ابْن حَجَرٍ رحمه الله: "وَلَكِنِ اشْتُهِرَ أَنَّ أَهْلَ العِلْمِ يَتَسَامَحُونَ فِي إِيرَادِ الأَحَادِيثِ فِي الفَضَائِلِ -وَإِنْ كَانَ فِيهَا ضَعْفٌ- مَا لَمْ تَكُنْ مَوضُوعَةً.

وَيَنْبَغِي مَعَ ذَلِكَ اشْتِرَاطُ أَنْ يَعْتَقِدَ العَامِلُ كَونَ ذَلِكَ الحَدِيثِ ضَعِيفًا، وَأَنْ لَا يُشْهِرَ بِذَلِكَ؛ لِئَلَّا يَعْمَلَ المَرْءُ بِحَدِيثٍ ضَعِيفٍ؛ فَيُشَرِّعَ مَا لَيسَ بِشَرْعٍ! أَو يَرَاهُ بَعْضُ الجُهَّالِ؛ فَيَظُنُّ أَنَّهُ سُنَّةٌ صَحِيحَةٌ! وَقَدْ صَرَّحَ بِمَعْنَى ذَلِكَ الأُسْتَاذُ أَبُو مُحَمَّدٍ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَغَيرُهُ، وَلْيَحْذَرِ المَرْءُ مِنْ دُخُولِهِ تَحْتَ قَولِهِ صلى الله عليه وسلم:((مَنْ حَدَّثَ عَنِّي بِحَدِيثٍ يُرَى أَنَّهُ كَذِبٌ فَهُوَ أَحَدُ الكَذَّابِين)) فَكَيفَ بِمَنْ عَمِلَ بِهِ؟! وَلَا فَرْقَ فِي العَمَلِ بِالحَدِيثِ فِي الأَحْكَامِ أَو فِي الفَضَائِلِ؛ إِذِ الكُلُّ شَرْعٌ". تَبْيِينُ العَجَبِ بِمَا وَرَدَ فِي شَهْرِ رَجَب (ص 11).

وَقَالَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (تَمَامُ المِنَّةِ)(ص 36): "فَهَذِهِ شُرُوطٌ ثَلَاثَةٌ مُهِمَّةٌ لِجَوَازِ العَمَلِ بِهِ:

1 -

أَنْ لَا يَكُونَ مَوضُوعًا.

2 -

أَنْ يَعْرِفَ العَامِلُ بِهِ كَونَهُ ضَعِيفًا.

3 -

أَنْ لَا يُشْهرَ العَمَلُ بِهِ".

قُلْتُ: وَيُضَافُ إِلَى ذَلِكَ أَنْ يَنْدَرِجَ العَمَلُ نَفْسُهُ تَحْتَ أَصْلٍ شَرْعِيٍّ.

=

ص: 281

7 -

حَدِيثُ: ((تَوَسَّلُوا بِجَاهِي؛ فَإِنَّ جَاهِي عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ))، وَبَعْضُهُم يَرْوِيهِ بِلَفْظِ:((إِذَا سَأَلْتُمُ اللهَ؛ فَاسْأَلُوهُ بِجَاهِي؛ فَإِنَّ جَاهِيَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ)). هُوَ حَدِيثٌ بَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ فِي شَيءٍ مِنْ كُتُبِ الحَدِيثِ البَتَّةَ

(1)

.

8 -

أَثَرُ الاسْتِسْقَاءِ بِالرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ وَفَاتِهِ:

قَالَ الحَافِظُ رحمه الله فِي الفَتْحِ مَا نَصُّهُ: "وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيبَةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ، عَنْ مَالِكِ الدَّارِ وَكَانَ خَازِنَ عُمَرَ، قَالَ: أَصَابَ النَّاسَ قَحْطٌ فِي زَمَنِ عُمَرَ، فَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى قَبْرِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ اسْتَسْقِ لِأُمَّتِكَ؛ فَإِنَّهُمْ قَدْ هَلَكُوا! فَأَتَى الرَّجُلَ فِي المَنَامِ فَقِيلَ لَهُ: ائْتِ عُمَرَ .. الحَدِيثَ

(2)

، وَقَدْ رَوَى سَيفٌ فِي الفُتُوحِ أَنَّ الَّذِي رَأَى المَنَامَ المَذْكُورَ هُوَ بِلَالُ بْنُ الحَارِثِ المُزَنِيُّ أَحَدُ الصَّحَابَةِ"

(3)

.

=

قَالَ الشَّيخُ القَاسِمِيُّ رحمه الله: "وَذَكَرَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ لَهُ ثَلَاثَةَ شُرُوطٍ:

أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الضَّعْفُ غَيرَ شَدِيدٍ؛ فَيَخْرُجُ مَنْ انْفَرَدَ مِنَ الكَذَّابِينَ وَالمُتَّهَمِينَ بِالكَذِبِ وَمَنْ فَحُشَ غَلَطُهُ. نَقَلَ العَلَائِيُّ الاتِّفَاقَ عَلَيهِ.

الثَّانِي: أَنْ يَنْدَرِجَ تَحْتَ أَصْلٍ مَعْمُولٍ بِهِ.

الثَّالِثُ: أَنْ لَا يَعْتَقِدَ عِنْدَ العَمَلِ بِهِ ثُبُوتَهُ؛ بَلْ يَعْتَقِد الاحْتِيَاطَ". قَوَاعِدُ التَّحْدِيثِ (ص 116).

(1)

الضَّعِيفَةُ (22).

وَقَالَ شَيخُ الإِسْلَامِ رحمه الله فِي مَجْمُوعِ الفَتَاوَى (1/ 320): "وَلَكِنَّ جَاهَ المَخْلُوقِ عِنْدَ الخَالِقِ تَعَالَى لَيسَ كَجَاهِ المَخْلُوقِ عِنْدَ المَخْلُوقِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَشْفَعُ عِنْدَهُ أَحَدٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَالمَخْلُوقُ يَشْفَعُ عِنْدَ المَخْلُوقِ بِغَيرِ إذْنِهِ؛ فَهُوَ شَرِيكٌ لَهُ فِي حُصُولِ المَطْلُوبِ؛ وَاللَّهُ تَعَالَى لَا شَرِيكَ لَهُ". تَمَّ بِحَذْفٍ يَسِيرٍ.

(2)

أَي الَّذِي فِيهِ اسْتِسْقَاءُ عُمَرَ بِالعَبَّاسِ رضي الله عنهما.

(3)

فَتْحُ البَارِي (2/ 495).

ص: 282

وَالجَوَابُ عَلَيهِ هُوَ مِنْ وُجُوهٍ:

أ- مَالِكُ الدَّارِ هَذَا غَيرُ معْرُوفِ العَدَالَةِ وَالضَّبْطِ، وَأَمَّا قَولُ الحَافِظِ رحمه الله:"بِإسْنَادٍ صَحِيحٍ" فَهوَ إِلَى مَالِكِ الدَّارِ، وَأَمَّا مَالِكُ نَفْسُهُ فَهوَ مَجْهُولٌ

(1)

!

ب- أَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِمَا ثَبَتَ فِي الشَّرْعِ مِنْ اسْتِحْبَابِ إِقَامَةِ صَلَاةِ الاسْتِسْقَاءِ لِاسْتِنْزَالِ الغَيثِ مِنَ السَّمَاءِ.

ج- أَنَّ القِصَّةَ لَو صَحَّتْ -جَدَلًا- فَلَا حُجَّةَ فِيهَا؛ لِأَنَّ مَدَارَهَا عَلَى رَجُلٍ لَم يُسَمَّ؛ فَهُوَ مَجْهُولٌ أَيضًا، وَتَسْمِيَتُهُ بِلَالًا (بْنَ الحَارِثِ المُزَنِيَّ) فِي رِوَايَةِ سَيفٍ لَا تُسَاوِي شَيئًا! لِأَنَّ سَيفًا هَذَا -وَهُوَ ابْنَ عُمَرَ التَّمِيمِيَّ- مُتَّفَقٌ عَلَى ضَعْفِهِ عِنْدَ المُحَدِّثِينَ

(2)

.

د- أَنَّ هَذَا الأَثَرَ لَيسَ فِيهِ التَّوَسُّلُ -مَوضُوعُ البَحْثِ- وَإِنَّمَا فِيهِ الطَّلَبُ مِنَ الأَمْوَاتِ، وَهَذَا بَحْثٌ آخَرٌ؛ يَكْفِينَا القَولُ فِيهِ بِقَولِهِ تَعَالَى:{وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} [يُونُس: 106]

(3)

.

9 -

حَدِيثُ الكُوَّةِ فَوقَ القَبْرِ

(4)

:

رَوَى الدَّارِمِيُّ عَنْ أَبِي النُّعْمَانِ؛ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ زَيدٍ؛ حَدَّثَنَا عَمْرو بْنُ مَالِكٍ

(1)

وَقَد قَالَ الحَافِظُ المُنْذِرِيُّ رحمه الله فِي قِصَّةٍ أُخْرَى مِنْ رِوَايَةِ مَالِكِ الدَّارِ عَنْ عُمَرَ: "رَوَاهُ الطَّبَرَانيُّ فِي الكَبِيرِ، وَرُوَاتُهُ إِلَى مَالِكِ الدَّارِ ثِقَاتٌ مَشْهُورُونَ، وَمَالِكُ الدَّارِ لَا أَعْرِفُهُ". التَّرْغِيبُ وَالتَّرْهِيبُ (2/ 29).

(2)

قَالَ ابْنُ حِبَّانَ رحمه الله فِي كِتَابِهِ المَجْرُوحِينَ (1/ 345): "يَرْوِي المَوضُوعَاتِ عَنِ الأَثْبَاتِ".

(3)

وَأَخِيرًا؛ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ الرَّدُّ مِنْ نَفْسِ الأَثَرِ؛ فَإِنَّ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم -فِي الرُّؤْيَا- لَمْ يُجِبْهُ وَإِنَّمَا أَحَالَهُ إِلَى الاسْتِسْقَاءِ بِالأَحْيَاءِ؛ فَقَالَ لَهُ: (ائْتِ عُمَرَ)!

(4)

وَقَدْ سَبَقَتِ المَسْأَلَةُ فِي مُلْحَقِ (قَوَاعِدُ ومَسَائِلُ فِي التَّبَرُّكُ وَالبَرَكَةِ)، وَالإِعَادَةُ لِلمُنَاسَبَةِ.

ص: 283

النُّكْرِيُّ؛ حَدَّثَنَا أَبُو الجَوزَاءِ -أَوسُ بْنُ عَبْدِ اللهِ- قَالَ: قَحَطَ أَهْلُ المَدِينَةِ قَحْطًا شَدِيدًا، فَشَكَوا إِلَى عَائِشَةَ، فَقَالَتْ: انْظُرُوا قَبْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَاجْعَلُوا مِنْهُ كُوًّا إِلَى السَّمَاءِ حَتَّى لَا يَكُونَ بَينَهُ وَبَينَ السَّمَاءِ سَقْفٌ، قَالَ: فَفَعَلُوا، فَمُطِرْنَا مَطَرًا حَتَّى نَبَتَ العُشْبُ وَسَمِنَتِ الإِبِلُ حَتَّى تَفَتَّقَتْ مِنَ الشَّحْمِ؛ فَسُمِّيَ عَامَ الفَتْقِ

(1)

.

فَمَا الجَوَابُ عَنْهُ؟

الجَوَابُ من أَوجُهٍ:

1 -

أَنَّ الحَدِيثَ ضَعِيفٌ لَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ مُطْلَقًا بِسَبَبِ أُمُورٍ:

أَوَّلِهَا: أَنَّ سَعِيدَ بْنَ زَيدٍ فِيهِ ضَعْفٌ، قَالَ فِيهِ الحَافِظُ فِي كِتَابِهِ (التَّقرِيبُ):"صَدُوقٌ لَهُ أَوهَامٌ"

(2)

.

وَثَانِيهَا: أَنَّ أبَا النُّعْمَانِ هَذَا هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ الفَضْلِ -يُعْرَفُ بِعَارِمٍ-، وَهوَ -وَإِنْ كَانَ ثِقَةً- فَقَد اخْتَلَطَ فِي آخِرِ عُمُرِهِ

(3)

.

2 -

أَنَّهُ مَوقُوفٌ عَلَى عَائِشَةَ، وَلَيسَ بِمَرْفُوعٍ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلَو صَحَّ؛ لَمْ تَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ، لِأَنَّه يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَبِيلِ الآرَاءِ الاجْتِهَادِيَّةِ لِبَعْضِ الصَّحَابَةِ مِمَّا يُخْطِئُونَ فِيهِ وَيُصِيبُونَ، وَلَسْنَا مُلْزَمِينَ بِالعَمَلِ بِهَا إِذَا لَمْ تُوَافِقِ السُّنَّةَ.

3 -

مِمَّا يُبَيّنُ كَذِبَ هَذهِ الرِّوَايَةِ أَنَّه فِي مُدَّةِ حَيَاةِ عَائِشَةَ لَمْ يَكُنْ لِلبَيتِ كُوَّةٌ! بَلْ كَانَ بَاقِيًا كَمَا كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم -بَعْضُهُ مَسْقُوفٌ وَبَعْضُهُ مَكْشُوفٌ- وَكَانَتِ

(1)

الدَّارِمِيُّ (93).

(2)

التَّقرِيبُ (ص 236).

(3)

قَالَ ابْنُ حِبَّانَ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (المَجْرُوحِينَ)(1/ 345): "يَرْوِي المَوضُوعَاتِ عَنِ الأَثْبَاتِ".

ص: 284

الشَّمْسُ تَنْزِلُ فِيهِ

(1)

، وَلَم تَزَلِ الحُجْرَةُ كَذَلِكَ حَتَّى زَادَ الوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ المَلِكِ فِي المَسْجِدِ فِي إِمَارَتِهِ لَمَّا أَدْخَلَ الحُجَرَ فِي مَسْجِدِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، وَمِنْ حِينِئِذٍ دَخَلَتِ الحُجْرَةُ النَّبَوِيَّةُ فِي المَسْجِدِ، ثُمَّ إِنَّه بَنَى حَولَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ الَّتِي فِيهَا القَبْرُ جِدَارًا عَالِيًا، وَبَعْدَ ذَلِكَ جُعِلَتِ الكُوَّةُ لِيَنْزِلَ مِنْهَا مَنْ يَنْزِلُ إِذَا احْتِيجَ إِلَى ذَلِكَ لِأَجْلِ كَنْسٍ أَو تَنْظِيفٍ

(2)

.

(1)

كَمَا ثَبَتَ فِي البُخَارِيِّ (545)، وَمُسْلِمٍ (611) عَنْ عَائِشَةَ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلي العَصْرَ -وَالشَّمْسُ فِي حُجْرَتِهَا- لَمْ يَظْهَرِ الفَيءُ بَعْدُ.

(2)

يُنْظَرُ: (الاسْتِغَاثَةُ) لِابْنِ تَيمِيَّةَ (ص 105)، وَكِتَابَ (التَّوَسُّلُ) لِلْأَلْبَانِيِّ (ص 127).

ص: 285

-‌

‌ الشُّبْهَةُ الرَّابِعَةُ: قِيَاسُ الخَالِقِ عَلَى المَخْلُوقِ!

حَيثُ ادَّعَى المُخَالِفُونَ أَنَّ التَّوَسُّل بِذَوَاتِ الصَّالِحِينَ وَأَقْدَارِهِم أَمْرٌ مَطْلُوبٌ وَجَائِزٌ، لِأَنَّ أَحَدَنَا إِذَا كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ عِنْدَ مَلِكٍ أَو وَزِيرٍ أَو مَسْؤُولٍ كَبِيرٍ فَإِنَّهُ لَا يَذْهَبُ إِلَيهِ مُبَاشَرَةً لِأَنَّهُ يَشْعُرُ أَنَّهُ رُبَّمَا لَا يَلْتَفِتُ إِلَيهِ -هَذَا إِذَا لَمْ يَرُدَّهُ أَصْلًا-! لِذَلِكَ كَانَ مِنَ الطَّبِيعِيِّ إِذَا أَرَدْنَا حَاجَةً مِنْ مِثْلِهِ؛ فَإِنَّنَا نَبْحَثُ عَمَّنْ يَعْرِفُهُ -وَيَكُونُ مُقَرَّبًا إِلَيهِ-، وَنَجْعَلُهُ وَاسِطَةً بَينَنَا وَبَينَهُ؛ فَإِذَا فَعَلْنَا ذَلِكَ اسْتَجَابَ لَنَا، وَقُضِيَتْ حَاجَتُنَا، وَهَكَذَا الأَمْرُ نَفْسُهُ فِي عَلَاقَتَنِا بِاللهِ سبحانه وتعالى -بِزَعْمِهِم-!!

وَالجَوَابُ

(1)

: أَنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ عَلِيلٌ، وَهُوَ مِنَ المُنْكَرِ العَظِيمِ

(2)

، وَذَلِكَ مِنْ أَوجُهٍ:

أ- أَنَّ اللهَ تَعَالَى سَمِيعٌ عَلِيمٌ بَصِيرٌ؛ لَيسَ كَآحَادِ خَلْقِهِ سُبْحَانَهُ، فَالمُلُوكُ وَأَشْبَاهُهُم يَحْتَاجُونَ إِلَى مَنْ يُبَلِّغُهُم أَحْوَالَ الفُقَرَاءِ وَالمُسْتَضْعَفِينَ، فَهَذَا مِنْ قِيَاسِ الخَالِقِ عَلَى المَخْلُوقِ -تَعَالَى اللهُ عَمَّا يَقُولُهُ الظَّالِمُونَ-

(3)

.

(1)

بِتَصَرُّفٍ وَزِيَادَةٍ.

(2)

وَالمُنْكَرُ العَظِيمُ هُوَ مِنْ جِهِةِ المِثَالِ المَذْكُورِ -لَا مِنْ جِهَةِ مَسْأَلِة التّوَسُّلِ بِجَاهِ الصَّالِحِينَ- وَعَلَيهِ أَوجُهُ الرَّدِّ.

كَمَا يَصِحُّ الرَّدُّ بِهَذِهِ الأَوجُهِ عَلَى مَنْ اسْتَدَلَّ بِنفْسِ المِثَالِ عَلَى أَنَّ مَنِ اسْتَغَاثَ بِغَيرِ اللهِ تَعَالَى مِنَ الصَّالِحِينَ وَالأَولِيَاءِ بِدَعْوَى أَنَّهُم هُمُ الَّذِينَ يَرْفَعُونَ حَوَائِجَ الخَلْقِ إِلَى اللهِ تَعَالَى.

(3)

قَالَ الإِمَامُ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ رحمه الله: "لَا خِلَافَ بَينَ فُقَهَاءِ الأَمْصَارِ وَسَائِرِ أَهْلِ السُّنَّةِ -وَهُمْ أَهْلُ الْفِقْهِ وَالحَدِيثِ- فِي نَفْيِ الْقِيَاسِ فِي التَّوحِيدِ؛ وَإِثْبَاتِهِ فِي الْأَحْكَامِ؛ إِلَّا دَاوُدَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ خَلَفٍ الأَصْفَهَانِيَّ ثُمَّ الْبَغْدَادِيَّ وَمَنْ قَالَ بِقَولِهِمْ؛ فَإِنَّهُمْ نَفَوَا القِيَاسَ فِي التَّوحِيدِ وَالأَحْكَامِ جَمِيعًا، وَأَمَّا أَهْلُ الْبِدَعِ فَعَلَى قَولَينِ فِي هَذَا الْبَابِ سِوَى القَولَينِ المَذْكُورَينِ، مِنْهُمْ مَنْ أَثْبَتَ الْقِيَاسَ فِي التَّوحِيدِ وَالْأَحْكَامِ جَمِيعًا، وَمِنْهُمْ مَنْ أَثْبَتَهُ فِي التَّوحِيدِ وَنَفَاهُ فِي الْأَحْكَامِ". جَامِعُ بَيَانِ العِلْمِ وَفَضْلِهِ (2/ 887).

ص: 286

ب- أَنَّ اللهَ تَعَالَى رَحْمَنُ رَحِيمٌ رَؤُوفٌ؛ لَيسَ كَآحَادِ خَلْقِهِ سُبْحَانَهُ، فَالخَلْقُ رَحْمَتُهُم تُنَاسِبُ قَدْرَهُم، فَهيَ لَا تَسَعُ جَمِيعَ الخَلْقِ! وَأَمَّا اللهُ تَعَالَى فَرَحْمَتُهُ وَاسِعَةٌ؛ لَا يَحْتَاجُ سبحانه وتعالى إِلَى أَنْ يُذْكَرَ عِنْدَهُ اسْمُ مَنْ تُسْتَجْلَبُ بِهِ الرَّحْمَةُ إِلَى الخَلْقِ

(1)

! بِخِلَافِ مُلُوكِ الدُّنْيَا، وَهَذَا مِنْ قِيَاسِ الخَالِقِ عَلَى المَخْلُوقِ!

ج- أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ أَنَّ شِرْكَ المُشْرِكِينَ كَانَ بِاتِّخَاذِ الشُّفَعَاءِ مِنَ الصَّالِحِينَ بَينَهُم وَبَينَ اللهِ تَعَالَى، وَفَتْحُ بَابِ التَّوَسُّل بِذَوَاتِ الصَّالِحِينَ قَدْ يُفْضِي إَلَى ذَلِكَ

(2)

.

قَالَ تَعَالَى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ

(1)

وَفِي الحَدِيثِ: ((جَعَلَ اللهُ عز وجل الرَّحْمَةَ مِائَةَ جُزْءٍ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ وَأَنْزَلَ فِي الأَرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا، فَمِنْ ذَلِكَ الجُزْءِ يَتَرَاحَمُ الخَلْقُ حَتَّى تَرفعَ الفَرَسُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ)). صَحِيحٌ. الأَدَبُ المُفْرَدُ (100) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الأَدَبِ المُفْرَدِ (73).

(2)

قَالَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله: "إِنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي يَحْمِلُ بَعْضَ العُلَمَاءِ وَالمُحَقِّقِينَ عَلَى المُبَالَغَةِ فِي إِنْكَارِ التَّوَسُّل بِذَوَاتِ الأَنْبِيَاءِ وَاعْتِبَارِهِ شِرْكًا -وَإِنْ كَانَ هُوَ نَفْسُهُ لَيسَ شِرْكًا عِنْدَنَا- بَلْ يُخْشَى أَنْ يُؤَدِّيَ إِلَى الشِّرْكِ". التَّوَسُّلُ (ص 133).

وَقَالَ الشَّيخُ عَبْدُ اللهِ الغُنَيمَانُ حَفِظَهُ اللهُ: "أَمَّا دَعْوَةُ اللهِ بِهِمْ؛ كَأَنْ يَقُولَ: يَا رَبِّ! أَسْأَلُكَ بِوَلِيِّكَ الفُلَانِيِّ، أَو أَسْأَلُكَ بِنَبِيِّكَ، أَو أَسْأَلُكَ بِجِبْرِيلَ، أَو أَسْأَلُكَ بِفُلَانٍ وَفُلَانٍ؛ فَهَذَا -وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شِرْكًا- إِلَّا أَنَّهُ مِنَ البِدَعِ الَّتِي تَكُونُ طَرِيقًا إِلَى الشِّرْكِ". شَرْحُ بَابِ (مَا جَاءَ فِي المُصَوِّرِين) مِنْ شَرْحِهِ عَلَى كِتَابِ (فَتْحُ المَجِيدِ) شَرِيطُ رَقَم (128).

قُلْتُ: فَهُوَ مِنْ بِدَعِ الدُّعَاءِ، وَقَد جَاءَ النَّهْيُ عَنِ الاعْتِدَاءِ فِي الدُّعَاءِ، كَمَا فِي الحَدِيثِ:((إِنَّهُ سَيَكُونُ فِي هَذِهِ الأُمَّةِ قَومٌ يَعْتَدُونَ فِي الطُّهُورِ وَالدُّعَاءِ)). صَحِيحٌ. أَبُو دَاوُدَ (96) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُغَفَّلٍ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (2396).

ص: 287

شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يُونُس: 18].

وقَالَ تَعَالَى أَيضًا: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ * فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النَّحْل: 73 - 74]

(1)

.

د- أَنَّ صَلَاحَ الصَّالِحِينَ هُوَ أَمْرٌ يَتَعَلَّقُ بِهِم وَحْدَهُم، فَكَيفَ يَتَوَسَّلُ -المُجِيزُونَ- بِعَمَلٍ لَيسَ مِنْ عَمَلِهِم؟! فَإِنَّمَا صَلَاحُ الصَّالِحِينَ رَاجِعٌ إِلَيهِم، وَهَذَا بِخِلَافِ التَّوَسُّلِ المَشْرُوعِ بِالعَمَلِ الصَّالِحِ كَمَا سَبَقَ

(2)

.

(1)

قَالَ الإِمَامُ العِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي رِسَالَةِ الوَاسِطَةُ (ص 5): "وَمَنْ أَثْبَتَ الأَنْبِيَاءَ وَسِوَاهُم مِنَ مَشَايخِ العِلْمِ وَالدِّينِ وَسَائِطَ بَينَ اللهِ وَبَينَ خَلْقِهِ كَالحُجَّابِ الَّذِينَ بَينَ المَلِكِ وَرَعِيَّتِهِ بِحَيثُ يَكُونُونُ هُم يَرْفَعُونَ إِلَى اللهِ تَعَالَى حَوَائِجَ خَلْقِهِ؛ وَأَنَّ اللهَ تَعَالَى إِنَّمَا يَهْدِي عِبَادَهُ وَيَرْزُقَهُم وَيَنْصُرَهُم بِتَوَسُّطِهِم؛ بِمَعْنَى أَنَّ الخَلْقَ يَسْأَلُونَهُم وَهُم يَسْأَلُونَ اللهَ كَمَا أَنَّ الوَسَائِطَ عِنْدَ المُلُوكِ يَسْأَلونَ المَلِكَ حَوَائِجَ النَّاسِ لِقُرْبِهِم مِنْهُم وَالنَّاسُ يَسْأَلونَهُم أَدَبًا مِنْهُم أَنْ يُبَاشِرُوا سُؤَالَ المَلِكِ؛ وَلِأَنَّ طَلَبَهُم مِنَ الوَسَائِطِ أَنْفَعُ لَهُم مِنْ طَلَبِهِم مِنَ المَلِكِ لِكَونِهِم أَقْرَبَ إِلَى المَلِكِ مِنَ [الطَّالِبِ]! فَمَنْ أَثْبَتَهُم وَسَائِطَ عَلَى هَذِهِ الوُجُوهِ؛ فَهُوَ كَافِرٌ مُشْرِكٌ، يَجِبُ أَنْ يُسْتَتَابَ؛ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ، وَهَؤُلَاءِ مُشَبِّهُونَ للهِ، شَبَّهُوا الخَالِقَ بِالمَخْلُوقِ، وَجَعَلُوا للهِ أَنْدَادًا". مُسْتَفَادٌ مِنْ كِتَابِ (التَّوَسُّلُ)(ص 133) لِلشَّيخِ الأَلْبَانِيِّ رحمه الله.

(2)

وَأَمَّا التَّوَسُّلُ بِأَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ؛ فَقَد دَلَّتْ عَلَيهِ الشَّرِيعَةُ، وَفِيهِ بَيَانُ فَضْلِ اللهِ تَعَالَى الرَّحْمَن ِالرَّحِيمِ عَلَى خَلْقِهِ بِأَنْ جَعَلَ لَهُم مِنَ الأَسْبَابِ الشَّرْعِيَّةِ مَا يُقَرِّبُ إِجَابَةَ دُعَائِهِم مِنْهُ سبحانه وتعالى.

وَأَمَّا التَّوَسُّلُ بِدُعَاءِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ؛ فَصَحِيحٌ أَنَّ صَلَاحَهُم أَيضًا يَتَعَلَّقُ بِهِم وَحْدَهُم مِنْ حَيثُ الأَجْرِ وَالثَّوَابِ، وَلَكِنَّهُ مِنْ حَيثُ الثَّمَرَةِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِم وَحْدَهُم! لِأَنَّهُ عَمَلٌ صَالِحٌ مُتَعَدٍّ إِلَى الغَيرِ، فَهُوَ -مِنْ جِهَةِ تَعَدِّي ثَمَرَةِ الصَّلَاحِ إِلَى الغَيرِ- هُوَ كَحُسْنِ الجِوَارِ، وَإِمَاطَةِ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَإِطْعَامِ الفُقَرَاءِ وَالمَسَاكِينَ، فَهَذَا كُلُّهُ -مِنْ جِهَةِ الثَّمَرَةِ- مُخَالِفٌ لِمَسْأَلَةِ جَاهِهِم وَشَرَفِهِم، لِأَنَّ الأَخِيرَ مُخْتَصٌّ بِهِم، وَلَكِنَّهُ إِنْ تَحَلَّى بِالدُّعَاءِ فَهُوَ حَرِيٌّ بِالإِجَابَةِ، فَلَو أَنَّ رَجُلًا تَوَسَّلَ إِلَيكَ بِجَاهِ مَحْبُوبٍ عِنْدَكَ؛ هَلْ يَكُونُ

=

ص: 288

وَفِي الصَّحِيحَينِ عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا: ((يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ رَسُولِ اللهِ: سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيئًا))

(1)

.

قَالَ العَلَّامَةُ السَّعْدِيُّ رحمه الله: "فَهَؤُلَاءِ قَدْ تَرَكُوا مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ مِن الإِخْلَاصِ وَتَجَرَّأُوا عَلَى أَعْظَمِ المُحَرَّمَاتِ -وَهُوَ الشِّرْكُ-، وَقَاسُوا الَّذِي لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ -المَلِكَ العَظِيمَ-، بِالمُلُوكِ! وَزَعَمُوا بِعُقُولِهِمُ الفَاسِدَةِ وَرَأْيهِمُ السَّقِيمِ أَنَّ المُلُوكَ -كَمَا أَنَّهُ لَا يُوصَلُ إِلَيهِمُ إِلَّا بِوُجَهَاءَ وَشُفَعَاءَ وَوُزَرَاءَ يَرْفَعُون إِلَيهِم حَوَائِجَ رَعَايَاهُم، وَيَسْتَعْطِفُونَهُم عَلَيهِم، وَيُمَهِّدُونَ لَهُمُ الأَمْرَ فِي ذَلِكَ- أَنَّ اللهَ تَعَالَى كَذَلِكَ! وَهَذَا القِيَاسُ مِن أَفْسَدِ الأَقْيسَةِ، وَهُوَ يَتَضَمَّنُ التَّسْوِيَةَ بَينِ الخَالِقِ وَالمَخْلُوقِ -مَعَ ثُبُوتِ الفَرْقِ العَظِيمِ عَقْلًا وَنَقْلًا وَفِطْرَةً-؛ فَإِنَّ المُلُوكَ إِنَّمَا احْتَاجُوا للوَسَاطَةِ بَينَهُم وَبَينَ رَعَايَاهُم لِأَنَّهُم لَا يَعْلَمُونَ أَحْوالَهُم؛ فَيَحْتَاجُ مَن يُعْلِمُهُم بِأَحْوَالِهِم، وَرُبَّمَا لَا يَكُونُ فِي قُلُوبِهِم رَحْمَةٌ لِصَاحِبِ الحَاجَةِ فَيُحْتَاجُ مَن يُعَطِّفُهُم عَلَيهِ وَيَسْتَرْحِمُهُ لَهُم، وَيَحْتَاجُونَ إِلَى الشُّفَعَاءِ وَالوُزَرَاءِ، وَيَخَافُونَ مِنْهُم فَيَقْضُونَ حَوَائِجَ مَن تَوَسَّطُوا لَهُم مُرَاعَاًة لَهُم، وَمُدَارَاةً لِخَوَاطِرِهِم، وَهُم أَيضًا فُقَرَاءُ قَدْ يَمْنَعُونَ لِمَا يَخْشَونَ مِن الفَقْرِ! وَأَمَّا الرَّبُّ تَعَالى؛ فَهُوَ الَّذِي أَحَاطَ عِلْمُهُ بِظَوَاهِرِ الأُمُورِ وَبَوَاطِنِها؛ الَّذِي لَا يَحْتَاجُ مَن يُخْبِرُهُ بِأَحْوَالِ رَعِيَّتِهِ وَعِبَادِهِ، وَهُوَ تَعَالَى أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، وَأَجْوَدُ الأَجْوَدِينَ؛ لَا يَحْتَاجُ إِلَى أَحَدٍ مِن خَلْقِهِ يَجْعَلُهُ رَاحِمًا لِعِبَادِهِ، بَلْ هُوَ أَرْحَمُ بِهِم مِن أَنْفُسِهِم

=

لَهُ نَفْسُ الأَثَرِ كَمَا لَو أَنَّ ذَلِكَ المَحْبُوبَ هُوَ الَّذِي كَلَّمَكَ بِشَأْنِهِ؟! فَالأَوَّلُ غَائِبٌ؛ وَأَمَّا الثَّانِي فَشَافِعٌ، وَفيهِ أَيضًا بَيَانُ فَضْلِ اللهِ تَعَالَى بِاسْتِجَابَةِ دُعَاءِ الصَّالِحِينَ -إِنْ شَاءَ-؛ فَهِيَ فَضِيلَةٌ لِلدَّاعِي وَرَحْمَةٌ لِلمَدْعُوِّ. فَظَهَرَ الفَرْقُ وَالحَمْدُ للهِ.

(1)

رَوَاهُ البُخَارِيُّ (4771)، وَمُسْلِمٌ (206).

ص: 289

وَوَالِدِيهِم، وَهُوَ الَّذِي يَحُثُّهُم وَيَدْعُوهُم إِلَى الأَسْبَابِ الَّتِي يَنَالُونَ بِهَا رَحْمَتَهُ، وَهُوَ يُرِيدُ مِن مَصَالِحِهِم مَا لَا يُرِيدُونَهُ لِأَنْفُسِهِم، وَهُوَ الغَنِيُّ الَّذِي لَهُ الغِنَى التَّامُّ المُطْلَقُ؛ الَّذِي لَوِ اجْتَمَعَ الخَلْقُ مِن أَوَّلِهِم وَآخِرِهِم فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُوهُ فَأَعْطَى كُلًّا مِنْهُم مَا سَأَلَ وَتَمَنَّى لَمْ يُنْقِصُوا مِن غِنَاهُ شَيئًا، وَلَمْ يُنْقِصُوا مِمَّا عِنْدَهُ؛ إِلَّا كَمَا يُنْقِصُ البَحْرُ إِذَا غُمِسَ فِيهِ المِخْيَطُ.

وَجَمِيعُ الشُّفَعَاءِ يَخَافُونَهُ؛ فَلَا يَشْفَعُ مِنْهُم أَحَدٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَلَهُ الشَّفَاعَةُ كُلُّهَا.

فَبِهَذِهِ الفُرُوقِ يُعْلَمُ جَهْلُ المُشْرِكِينَ بِهِ، وَسَفَهُهُم العَظِيمُ، وَشِدَّةُ جَرَاءَتِهِم عَلَيهِ، وَيُعْلَمُ أَيضًا الحِكْمَةُ فِي كَونِ الشِّرْكِ لَا يَغْفِرُهُ اللهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ القَدْحَ فِي اللهِ تَعَالَى، وَلِهَذَا قَالَ حَاكِمًا بَينَ الفَرِيقَينِ المُخْلِصِينَ وَالمُشْرِكِينَ -وَفِي ضِمْنِهِ التَّهْدِيدُ لِلْمُشْرِكِينَ-:{إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَينَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الزُّمَر: 3] "

(1)

.

(1)

تَفْسِيرُ السَّعْدِيِّ (ص 718).

ص: 290

-‌

‌ الشُّبْهَةُ الخَامِسَةُ: هَلْ هُنَاكَ مَانِعٌ مِنَ التَّوَسُّلِ المُبْتَدَعِ عَلَى وَجْهِ الإِبَاحَةِ؛ لَا الاسْتِحْبَابِ؟

الجَوَابُ: هُوَ مَمْنُوعٌ.

وَالمَانِعُ هُوَ مِنْ أَوجُهٍ

(1)

:

- أَنَّ التَّوَسُّلَ أَصْلًا هُوَ اتِّخَاذُ الوَسِيلَةِ المُقَرِّبَةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى؛ فَإِذَا لَم تَدُلَّ عَلَيهِ الشَّرِيعَةُ فَلَيسَ هُوَ بِتَوَسُّلٍ أَصْلًا!

2 -

أَنَّ الشَّرِيعَةَ قَد دَلَّتْ عَلَى أَنَّ هَيئَةَ الدُّعَاءِ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ مُوَافِقَةً لِمَا شُرِعَ، وَلَا يَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى مَا وَرَدَ فِيهَا، وَفي الحَدِيثِ:((إِنَّهُ سَيَكُونُ فِي هَذِهِ الأُمَّةِ قَومٌ يَعْتَدُونَ فِي الطُّهُورِ وَالدُّعَاءِ))

(2)

.

3 -

أَنَّ الشَّرِيعَةَ قَد دَلَّتْ عَلَى المَشْرُوعِ مِنَ التَّوَسُّلِ؛ فَلَا يَصِحُّ بَعْدَ ذَلِكَ اسْتِبْدَالُ مَا هُوَ أَعْلى بِمَا هُوَ أَدْنَى، وَفي الحَدِيثِ:((مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيسَ عَلَيهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ))

(3)

.

(1)

بِتَصَرُّفٍ وَحَذْفٍ.

(2)

صَحِيحٌ. أَبُو دَاوُدَ (96) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُغَفَّلٍ. صَحِيحُ الجَامِعِ (2396).

(3)

مُسْلِمٌ (1718) عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا.

ص: 291

-‌

‌ الشُّبْهَةُ السَّادِسَةُ: قِيَاسُ التَّوَسُّلِ بِالذَّاتِ عَلَى التَّوَسُّلِ بِالعَمَلِ الصَّالِحِ!

الجَوَابُ: هُوَ مِنْ أَوجُهٍ

(1)

:

1 -

أَنَّ هَذَا قِيَاسٌ؛ وَالقِيَاسُ فِي العِبَادَاتِ -كَالاسْتِحْبَابِ هُنَا- بَاطِلٌ كَمَا تَقَدَّمَ، وَفي الحَدِيثِ:((مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيسَ عَلَيهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ))

(2)

.

2 -

أَنَّ هَذَا القِيَاسَ لَا وَجْهَ لَهُ! فَقَدْ عُلِمَ فِي أُصُولِ الفِقْهِ أَنَّ القِيَاسِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ عِلَّةٍ، فَمَا هِيَ عِلَّةُ القِيَاسِ هُنَا

(3)

؟! فَعَمَلُ العَبْدِ المُتَوَسِّلِ بِعَمَلِ نَفْسِهِ رَاجِعٌ لَهُ؛ بِخِلَافِ ذَوَاتِ الصَّالِحِينَ وَجَاهِهِم؛ فَإِنَّهُ شَيءٌ يَتْبَعُ صَلَاحَهُم؛ فَأَينَ وَجْهُ القِيَاسِ؟!

3 -

أَنَّ القِيَاسَ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ فُقْدَانِ النَّصِّ، أَمَا وَالتَّوَسُّلُ قَد دَلَّتِ الشَّرِيعَةُ عَلَى أَشْكَالِهِ؛ فَأَينَ سَبَبُ القِيَاسِ؟!

(1)

بِتَصَرُّفٍ وَزِيَادَةٍ.

(2)

مُسْلِمٌ (1718) عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا.

(3)

أَي: وَجْهُ الجَمْعِ بَينَهُمَا.

ص: 292

-‌

‌ الشُّبْهَةُ السَّابِعَةُ: قِيَاسُ التَّوَسُّلِ بِذِكْرِ ذَاتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَجَاهِهِ عَلَى التَّبَرُّكِ بِآثَارِهِ!

الجَوَابُ

(1)

:

إِنَّ هَذَا القِيَاسَ لَا يَقُولُ بِهِ عَالِمٌ! لِأَنَّ التَّبَرُّكَ بِالذَّاتِ النَّبَوِيَّةِ الشَّرِيفَةِ تَتْبَعُ ذَاتَهُ صلى الله عليه وسلم، وَهَذَا قَد انْقَطَعَ بِمَوتِهِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا مَا بَقِيَ يَقِينًا مِنْ آثَارِهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَينَ ذَلِكَ مِنَ التَّوَسُّلِ بِذَاتِهِ وَجَاهِهِ -أَي سُؤَالِ اللهِ تَعَالَى بِهِ-؟! وَفَرْقٌ كَبِيرٌ لُغَةً وَشَرْعًا بَينَ التَّوَسُّلِ -عَلَى مَا بَيَّنَاهُ سَابِقًا- وَبَينَ التَّبَرُّكِ.

فَالتَّبَرُّكُ هُوَ التِمَاسُ مَنْ حَازَ أَثَرًا مِنْ آثَارِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حُصُولَ خَيرٍ بِهِ، فهيَ خُصُوصِيَّةٌ لَهُ صلى الله عليه وسلم

(2)

، وَأَمَّا التَّوَسُّل فَهُوَ إِرْفَاقُ دُعَاءِ اللهِ تَعَالَى بِشَيءٍ مِنَ الوَسَائِلِ الَّتِي شَرَعَهَا اللهُ تَعَالَى لِعِبَادِهِ، كَأَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِحُبِّي لِنَبِيِّكَ صلى الله عليه وسلم أَنْ تَغْفِرَ لي، وَنَحْوَ ذَلِكَ.

فَالتَّبَرُّكُ يُرْجَى بِهِ شَيءٌ مِنَ الخَيرِ الدُّنْيَويِّ فَحَسْب، بِخِلَافِ التَّوَسُّلِ الَّذِي يُرْجَى بِهِ أَيُّ شَيءٍ مِنَ الخَيرِ الدُنْيَوِيِّ وَالأُخْرَوِيِّ، وَهُوَ عِبَادَةٌ فِي نَفْسِهِ لِمَا يُرَافِقُهُ مِنَ الدُّعَاءِ.

وَإِنَّ الشَّرِيعَةَ قَدْ دَلَّتْ عَلَى جَوَازِ التَّبَرُّكِ بِالآثَارِ؛ وَلَمْ تَدُلَّ عَلَى التَّوَسُّلِ بِالذَّاتِ وَالجَاهِ! وَلَو كَانَ خَيرًا لَعَمِلَ بِهِ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

وَقَولُ القَائِلِ -مِنْ بَابِ القِيَاسِ-: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ وَأَتَوَسَّلُ إِلَيكَ بِثَوبِ نَبِيِّكَ أَو نَعْلِهِ أَو

"! لَا رَيبَ أَنَّهُ يُعَرِّضُ نَفْسَهُ لِيَشُكَّ النَّاسُ فِي عَقْلِهِ وَفَهْمِهِ فَضْلًا عَنْ عَقِيدَتِهِ وَدِينِهِ.

(1)

بِتَصَرُّفٍ.

(2)

وَفِي صَحيحِ مُسْلِمٍ (2069) عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ تُخْبِرُ عَنْ جُبَّةٍ كَانَتْ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ:(هَذِهِ كَانَتْ عِنْدَ عَائِشَةَ رضي الله عنها حَتَّى قُبِضَتْ، فَلَمَّا قُبِضَتْ قَبَضْتُهَا -وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَلْبَسُهَا- فَنَحْنُ نَغْسِلُهَا لِلْمَرْضَى)، فَأَينَ هَذَا مِنَ التّوَسُّلِ بِالذَّاتِ وَالجَاهِ؟!!

ص: 293

بَابُ لَا يُقَالُ: السَّلَامُ عَلَى اللهِ

فِي الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه؛ قَالَ: كُنَّا إِذَا كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الصَّلَاةِ؛ قُلْنَا: السَّلَامُ عَلَى اللهِ مِنْ عِبَادِهِ، السَّلَامُ عَلَى فُلَانٍ وَفُلَانٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:((لَا تَقُولُوا: السَّلَامُ عَلَى اللهِ؛ فَإِنَّ اللهَ هُوَ السَّلَامُ))

(1)

.

(1)

البُخَارِيُّ (835).

ص: 294

فِيهِ مَسَائِلُ:

الأُولَى: تَفْسِيرُ السَّلَامِ.

الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَحِيَّةٌ.

الثَّالِثَةُ: أَنَّهَا لَا تَصْلُحُ لِلَّهِ.

الرَّابِعَةُ: العِلَّةُ فِي ذَلِكَ.

الخَامِسَةُ: تَعْلِيمُهُمُ التَّحِيَّةَ الَّتِي تَصْلُحُ لِلَّهِ.

ص: 295

‌الشَّرْحُ

- قَولُ: (السَّلَامُ عَلَى اللهِ) يُوهِمُ أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ قَد يَلْحَقُهُ النَّقْصُ وَالضَّرَرُ وَالمَرَضُ؛ لِذَلِكَ نَحْنُ نَدْعُو لَهُ بِالسَّلَامَةِ! وَهَذَا يُنَافي كَمَالَ صِفَاتِهِ تَعَالَى؛ فَاللهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي يُسَلِّمُ غَيرَهُ، قَالَ تَعَالَى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فَاطِر: 15].

- مُنَاسَبَةُ هَذَا البَابِ لِكِتَابِ التَّوحِيدِ هُوَ اجْتِنَابُ الأَلْفَاظِ المُوهِمَةِ لِلنَّقْصِ فِي حَقِّ اللهِ تَعَالَى.

- أَورَدَ المُصَنِّفُ رحمه الله هَذَا البَابِ بَعْدَ بَابِ الأَسْمَاءِ الحُسْنَى لِبَيَانِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يَلْحَقُهُ نَقْصٌ فِي شَيءٍ مَنْ صِفَاتِ كَمَالِهِ.

- السَّلَامُ هُوَ اسْمُ اللهِ تَعَالَى، وَمَعْنَاهُ المُتَّصِفُ بِالسَّلَامَةِ الكَامِلَةِ مِنْ كُلِّ نَقْصٍ وَعَيبٍ، وَهُوَ الَّذِي يُعْطِي السَّلَامَةَ لِلْخَلْقِ، وَقَولُ المُسْلِمِ لِأَخِيهِ:"السَّلَامُ عَلَيكُم" هُوَ مِنْ بَابِ التَّوَسُّلِ بِاسْمِ اللهِ فِي الدُعَاءِ بِمَا يُنَاسِبُ المَطْلُوبَ.

- فِي الحَدِيثِ التَّنْبِيهُ عَلَى مَعْرِفَةِ مَعْنَى الكَلَامِ قَبْلَ التَّلَفُّظِ بِهِ؛ فَقَد يَكُونُ الكَلَامُ مُحَرَّمًا وَلَو قَصَدَ بِهِ صَاحِبُهُ مَعْنًى حَسَنًا! فَالصَّحَابَةُ رضي الله عنهم قَصَدُوا بِذَلِكَ التَّحِيَّةَ عَلَى اللهِ تَعَالَى؛ وَلَكِنْ لَمَّا تَضَمَّنَ اللَّفْظُ مَعْنًى لَا يَلِيقُ بِاللهِ تَعَالَى نَهَاهُم النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْهُ.

- فِيهِ مِنْ حُسْنِ التَّعْلِيمِ النَّهْيُ عَنِ المُحَرَّمِ بِبَيَانِ عِلَّتِهِ -إِنْ عُلِمَتْ-، وَفَائِدَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ:

1 -

أَوعَى لِلفَهْمِ وَأَثْبَتُ للذِّهْنِ.

2 -

أَدْعَى لِلاسْتِجَابَةِ.

ص: 296

3 -

يُبَيِّنُ سُمُوَّ الشَّرِيعَةِ وَكَونَهَا مَبْنِيَّةً عَلَى الحِكْمَةِ، وَاللهُ تَعَالَى مِنْ أَسْمَائِهِ (الحَكِيمُ).

4 -

فِيهِ طُمَأْنِينَةُ النَّفْسِ لِلحُكْمِ.

5 -

القِيَاسُ عَلَى مَا شَابَهَ الأَمْرَ فِي العِلَّةِ.

- فِيهِ مِنْ حُسْنِ التَّعلِيمِ إِعْطَاءُ البَديلِ المُبَاحِ عِنْدَ النَّهْي عَنِ المُحَرَّمِ.

- (السَّلَامُ) اسْمٌ ثُبُوتِيٌّ سَلْبِيٌّ، فَهُوَ ثُبُوتِيٌّ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ اسْمًا للهِ تَعَالَى، وَسَلٍبِيٌّ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ سَلْبِيٌّ، فَهُوَ يَنْفِي النَّقْصَ عَنِ اللهِ تَعَالَى، وَهُوَ مِثْلُ اسْمِ القُدُّوسِ للهِ تَعَالَى.

- قَولُ القَائِلِ: "السَّلَامُ عَلَيكُم" يَتَضَمَّنُ ذَلِكَ أَرْبَعَةَ أَشْيَاء:

1 -

ذِكْرُ اسْمِ اللهِ تَعَالَى، وَالتَّبَرُّكُ بِهِ.

2 -

إِعْلَامُ المُسَلَّمِ عَلَيهِ؛ أَنَّهُ مُسَالِمٌ لَهُ لَا يَنَالُهُ مِنْهُ أَذَى.

3 -

طَلَبُ السَّلَامَةِ وَالخَيرِ لَهُ.

4 -

التَّوَسُّلُ بِاسْمِهِ تَعَالَى (السَّلَام) بِمَا يُنَاسِبُ السَّلَامَةَ.

- فَائِدَةٌ: فِي تَشَهُّدِ الصَّلَاةِ يَقُولُ المُصَلِّي: (السَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ) خِلَافًا لِلمَشْهُورِ: (السَّلَامُ عَلَيكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ)، وَذَلِكَ لِعَمَلِ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللهِ تَعَالَى عَلَيهِم، وَالحَدِيثُ مَوضُوعُ البَابِ جَاءَ فِي أَحَدِ ألفَاظِهِ -كَمَا فِي البُخَارِيِّ- عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: عَلَّمَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم -وَكَفِّي بَينَ كَفَّيهِ- التَّشَهُّدَ كَمَا يُعَلِّمُنِي السُّورَةَ مِنَ القُرْآنِ: ((التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ؛ السَّلَامُ عَلَيكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَينَا وَعَلَى عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ)) -وَهُوَ بَينَ ظَهْرَانَينَا- فَلَمَّا قُبِضَ قُلْنَا

(1)

: السَّلَامُ: يَعْنِي

(1)

وَهَذِهِ صِيغَةُ جَمْعٍ تُفيدُ عَمَلَ الصَّحَابَةِ مَعَهُ.

ص: 297

عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

(1)

(2)

.

وَقَد عَمِلَ بِهَا الصَّحَابَةُ الكِرَامُ رضي الله عنهم، كَمَا فِي مُسْتَخْرَجِ أَبِي عَوَانَةَ وَصَحَّحَ الرِّوَايَةَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله الفَتْحِ

(3)

، وَكَذَا نُقِلَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا هَكَذَا كَانَتْ تُعَلِّمُهُ

(4)

، وَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ بِتَوقِيفٍ مِنْهُ لَهُم صلى الله عليه وسلم؛ وَلَيسَ اجْتِهَادًا

(1)

البُخَارِيُّ (6265).

(2)

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله فِي الفَتْحِ (2/ 314): "كَذَا وَقَعَ فِي البُخَارِيِّ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ وَالسَّرَّاجُ وَالجَوزَقِيُّ وَأَبُو نُعَيمٍ الأَصْبَهَانِيُّ وَالبَيهَقِيُّ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ إِلَى أَبِي نُعَيمٍ شَيخِ البُخَارِيِّ فِيهِ بِلَفْظِ: (فَلَمَّا قُبِضَ؛ قُلْنَا: السَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ) بِحَذْفِ لَفْظِ (يَعْنِي) وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ بْنُ أَبِي شَيبَةَ عَنْ أَبِي نُعَيمٍ. قَالَ السُّبْكِيُّ فِي شَرْحِ المِنْهَاجِ -بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ مِنْ عِنْدِ أَبِي عَوَانَةَ وَحْدَهُ-: إِنْ صَحَّ هَذَا عَنِ الصَّحَابَةِ؛ دَلَّ عَلَى أَنَّ الخِطَابَ فِي السَّلَامِ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم غَيرُ وَاجِبٍ؛ فَيُقَالُ: السَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ. قُلْتُ: قَدْ صَحَّ بِلَا رَيبٍ، وَقَدْ وَجَدْتُ لَهُ مُتَابِعًا قَوِيًّا، قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيجٍ، أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ: أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يَقُولُونَ -وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَيٌّ- السَّلَامُ عَلَيكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ؛ فَلَمَّا مَاتَ قَالُوا: السَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ. وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ. وَأَمَّا مَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيدَةَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَّمَهُمُ التَّشَهُّد؛ فَذَكَرَهُ، قَالَ: فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (إِنَّمَا كُنَّا نَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ -إِذْ كَانَ حَيًّا! -) فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: (هَكَذَا عُلِّمْنَا! وَهَكَذَا نُعَلِّمُ)، فَظَاهِرٌ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَه بَحْثًا وَأَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ لَمْ يَرْجِعْ إِلَيهِ، لَكِنَّ رِوَايَةَ أَبِي مَعْمَرٍ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ أَبَا عُبَيدَةَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِيهِ؛ وَالإِسْنَادُ إِلَيهِ مَعَ ذَلِكَ ضَعِيفٌ".

(3)

فَتْحُ البَارِي (2/ 314).

(4)

قَالَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله فِي الإِرْوَاءِ (312): "قُلْتُ: وَقَد وَجَدْتُ لَهُ شَاهِدَينِ صَحِيحَينِ:

الأَوَّلُ: عَنِ ابْنِ عُمَرَ: (أَنَّهُ كَانَ يَتَشَهَّدُ فَيَقُولُ:

السَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ) أَخْرَجَهُ مَالِكُ فِي المُوَطَّأِ عَنْ نَافِعٍ عَنْهُ، وَهَذَا سَنَدٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيخَينِ.

الثَّاني: عَنْ عَاثِشَةَ: (أَنَّهَا كَانَتْ تُعَلِّمُهُم التَّشَهُّدَ فِي الصَّلَاةِ؛ السَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ). رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيبَةَ فِي المُصَنَّفِ وَالسِّرَاجُ فِي مُسْنَدِهِ وَالمُخَلِّصُ فِي الفَوَائِدِ بِسَنَدَينِ صَحِيحَينِ عَنْهَا.

وَلَا شَكَّ أَنَّ عُدُولَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم مِنْ لَفْظِ الخِطَابِ (عَلَيكَ) إِلَى لَفْظِ الغيبَةِ (عَلَى النَّبِيِّ) إِنَّمَا بِتَوقِيفٍ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّه أَمْرٌ تَعَبُّدِيٌّ مَحْضٌ لَا مَجَالَ للرَّأيِ وَالاجْتِهَادِ فِيهِ. وَاللهُ أَعْلَمُ".

ص: 298

مِنَ الصَّحَابِيِّ فَحَسْبُ!

(1)

- مِنْ فِقْهِ خَدِيجَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ رضي الله عنها

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله: "وِلِلنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ؛ قَالَ: (قَالَ جِبْرِيلُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللَّهَ يُقْرِئُ خَدِيجَةَ السَّلَامَ -يَعْنِي: فَأَخْبِرْهَا-، فَقَالَتْ: إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلَامُ، وَعَلَى جِبْرِيلَ السَّلَامُ، وَعَلَيكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ)، زَادَ ابْنُ السُّنِّيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ: (وَعَلَى مَنْ سَمِعَ السَّلَامَ إِلَّا الشَّيطَانَ). قَالَ الْعُلَمَاءُ: فِي هَذَهِ الْقِصَّةِ دَلِيلٌ عَلَى وُفُورِ فِقْهِهَا، لِأَنَّهَا لَمْ تَقُلْ: وَعَلَيهِ السَّلَامُ -كَمَا وَقَعَ لِبَعْضِ الصَّحَابَة- حَيثُ كَانُوا يَقُولُونَ فِي التَّشَهُّدِ: السَّلَامُ عَلَى اللَّهِ فَنَهَاهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: ((إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلَامُ؛ فَقُولُوا التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ))، فَعَرَفَتْ خَدِيجَةُ -لِصِحَّةِ فَهْمِهَا- أَنَّ اللَّهَ لَا يُرَدُّ عليه السلام كَمَا يُرَدُّ عَلَى الْمَخْلُوقِينَ، لِأَنَّ السَّلَامَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ، وَهُوَ أَيضًا دُعَاءٌ بِالسَّلَامَةِ، وَكِلَاهُمَا لَا يَصْلُحُ أَنْ يُرَدَّ بِهِ عَلَى اللَّهِ، فَكَأَنَّهَا قَالَتْ: كَيفَ أَقُولُ: عليه السلام؛ وَالسَّلَامُ اسْمُهُ وَمِنْهُ يُطْلَبُ وَمِنْهُ يَحْصُلُ؟! فَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِاللَّهِ إِلَّا الثَّنَاءُ عَلَيهِ، فَجَعَلَتْ مَكَانَ رَدِّ السَّلَامِ عَلَيهِ الثَّنَاءَ عَلَيهِ، ثُمَّ غَايَرَتْ بَينَ مَا يَلِيقُ بِاللَّهِ وَمَا يَلِيقُ بِغَيرِهِ؛ فَقَالَتْ: وَعَلَى جِبْرِيلَ السَّلَامُ، ثُمَّ قَالَتْ: وَعَلَيكَ السَّلَامُ"

(2)

.

(1)

وَأَمَّا اسْتِدْلَالُ بَعْضِ الأَفَاضِلِ بِأَنَّ مِنَ الصَّحَابَةِ مَنْ عَلَّمَ التَّشَهُّدَ عَلَى المَلَإِ بِلَفْظِ الخِطَابِ؛ فَهُوَ غَيرُ قَادِحٍ فِيمَا ذَكَرْنَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّشَهُّدَ هَكَذَا سَمِعُوهُ؛ فَنَقَلُوهُ كَمَا سَمِعُوهُ، وَأَمَّا فِي مَعْرِضِ العَمَلِ بِهِ؛ فَهُوَ كَمَا رَأَيتَ بِلَفْظِ الغيبَةِ، وَهَذَا التَّوجِيهُ أَقْرَبُ لِجَمْعِ النُّصُوصِ عَنِ الصَّحَابَةِ مِنْ أَخْذِ بَعْضٍ وَإِهْمَالِ بَعْضٍ، وَالحَمْدُ للهِ.

(2)

فَتْحُ البَارِي (7/ 139).

ص: 299

بَابُ قَولِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ.

فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((لَا يَقُلْ أَحَدُكُم: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ! اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي إِنْ شِئْتَ! لِيَعْزِمِ المَسْأَلَةَ؛ فَإِنَّ اللهَ لَا مُكْرِهَ لَهُ)).

وَلِمُسْلِمٍ: ((وَلْيُعَظِّمِ الرَّغْبَةَ؛ فَإِنَّ اللهَ لَا يَتَعَاظَمُهُ شَيءٌ أَعْطَاهُ))

(1)

.

(1)

البُخَارِيُّ (6339)، وَمُسْلِمٌ (2679). وَفِي لَفْظٍ لِلبُخَارِيِّ (7477):((لَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ: ارْزُقْنِي إِنْ شِئْتَ)).

ص: 300

فِيهِ مَسَائِلُ:

الأُولَى: النَّهْيُ عَنِ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الدُّعَاءِ.

الثَّانِيَةُ: بَيَانُ العِلَّةِ فِي ذَلِكَ.

الثَّالِثَةُ: قَولُهُ: ((لِيَعْزِمِ المَسْأَلَةَ)).

الرَّابِعَةُ: إِعْظَامُ الرَّغْبَةِ.

الخَامِسَةُ: التَّعْلِيلُ لِهَذَا الأَمْرِ.

ص: 301

‌الشَّرْحُ

- هَذَا البَابُ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الأَبْوَابِ الَّتِي فِيهَا بَيَانُ الأَدَبِ فِي دُعَاءِ اللهِ تَعَالَى؛ وَذَلِكَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِكَمَالِ التَّوحِيدِ الوَاجِبِ.

- قَولُهُ: ((اللَّهُمَّ)) مَعْنَاهُ: يَا اللهُ، لَكِنْ لِكَثْرَةِ الاسْتِعْمَالِ حُذِفَتْ (يَا) النِّدَاءِ، وَعُوِّضَ عَنْهَا بِالمِيمِ، وَجُعِلَ العِوَضُ فِي الآخِرِ تَيَمُّنًا بِالابْتِدَاءِ بِذِكْرِ اللهِ تَعَالَى.

- قَولُهُ: ((اغْفِرْ لِي)) المَغْفِرَةُ: سَتْرُ الذَّنْبِ مَعَ التَّجَاوُزِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهَا مُشْتَقَّةٌ مِنَ الغَفْرِ: وَهُوَ السَّتْرُ، وَالمِغْفَرُ: هُوَ مَا يُسْتَرُ بِهِ الرَّأْسُ لِلوِقَايَةِ مِنَ السِّهَامِ فِي الحَرْبِ، وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا بِشَيءٍ سَاتِرٍ وَاقٍ

(1)

.

- العَزْمُ: هُوَ الجَزْمُ فِي الطَّلَبِ مِنْ غَيرِ تَرَدُّدٍ وَلَا ضَعْفٍ.

- النَّهيُ فِي هَذَا التَّعْلِيقِ هُوَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوجُهٍ:

1 -

أنَّهُ يُشْعِرُ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى لَهُ مُكْرِهٌ عَلَى الشَّيءِ، وَأَنَّهُ قَد يُعْطي العَطَاءَ وَهُوَ مُكْرَهٌ! ((فَإِنَّ اللهَ لَا مُكْرِهَ لَهُ))، وَفِيهِ الدِّلَالَةُ عَلَى كَمَالِ عِزَّتِهِ.

2 -

أنَّهُ يُشْعِرُ بِأَنَّ هَذَا الأَمْرَ عَظِيمٌ عَلَى اللهِ وَيَصْعُبُ عَلَيهِ أَنْ يُعْطِيَهُ لِلعَبْدِ؛ لِذَلِكَ فَهُوَ يَرْبِطُهُ بِالمَشِيئَةِ وَلَا يُرِيدُ أَنْ يُصَعِّبَ عَلَيهِ! ((فَإِنَّ اللهَ لَا يَتَعَاظَمُهُ شَيءٌ أَعْطَاُه))، وَفِيهِ

(1)

وَفِي الحَدِيثِ: ((يُدْنَى المُؤْمِنُ يَومَ القِيَامَةِ مِنْ رَبِّهِ عز وجل حَتَّى يَضَعَ عَلَيهِ كَنَفَهُ، فَيُقَرِّرُهُ بِذُنُوبِهِ، فَيَقُولُ: هَلْ تَعْرِفُ؟ فَيَقُولُ: أَي: رَبِّ أَعْرِفُ، قَالَ: فَإِنِّي قَدْ سَتَرْتُهَا عَلَيكَ فِي الدُّنْيَا، وَإِنِّي أَغْفِرُهَا لَكَ اليَومَ، فَيُعْطَى صَحِيفَةَ حَسَنَاتِهِ، وَأَمَّا الكُفَّارُ وَالمُنَافِقُونَ؛ فَيُنَادَى بِهِمْ عَلَى رُؤُوسِ الخَلَائِقِ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ)). رَوَاهُ مُسْلِمُ (2768) عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا.

وَالشَّاهِدُ مِنْهُ أَنَّهُ فِي الآخِرَةِ يَسْتُرُهُ فـ ((يَضَعُ كَنَفَهُ)) وَيَتَجَاوَزُ عَنْ ذُنُوبِهِ.

ص: 302

الدِّلَالَةُ عَلَى كَمَالِ مُلْكِهِ وَغِنَاهُ، وَهَذَا وَمَا قَبْلَهُ نَقْصٌ فِي جَانِبِ تَعْظِيمِ الرُّبُوبيَّةِ.

3 -

أنَّهُ يُشْعِرُ بِأَنَّ الدَّاعِيَ مُسْتَغْنٍ عَنِ اللهِ تَعَالَى؛ كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنْ شِئْتَ فَافْعَلْ، وَإِنْ شِئْتَ فَلَا تَفْعَلْ لَا يَهُمُّنِي! وَهَذَا نَقْصٌ فِي جَانِبِ العُبُودِيَّةِ، فَهُوَ مُظْهِرٌ لِضَعْفِ عِبَادَةِ الرَّجَاءِ إِلَى اللهِ تَعَالَى

(1)

.

وَفِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه؛ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قَالَ: ((بَينَمَا أَيُّوبُ يَغْتَسِلُ عُرْيَانًا خَرَّ عَلَيهِ رِجْلُ جَرَادٍ مِنْ ذَهَبٍ، فَجَعَلَ يَحْثِي فِي ثَوبِهِ، فَنَادَاهُ رَبُّهُ: يَا أَيُّوبُ؛ ألَمْ أَكُنْ أَغْنَيتُكَ عَمَّا تَرَى؟! قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ، وَلَكِنْ لَا غِنَى لِي عَنْ بَرَكَتِكَ))

(2)

.

(1)

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله فِي الفَتْحِ (11/ 140): "وَالمُرَادُ: أَنَّ الَّذِي يَحْتَاجُ إِلَى التَّعْلِيقِ بِالمَشِيئَةِ مَا إِذَا كَانَ المَطْلُوبُ مِنْهُ يَتَأَتَّى إِكْرَاهُهُ عَلَى الشَّيءِ فَيُخَفِّفُ الأَمْرَ عَلَيهِ، وَيَعْلَمُ بِأَنَّهُ لَا يَطْلُبُ مِنْهُ ذَلِكَ الشَّيءَ إِلَّا بِرِضَاهُ، وَأَمَّا اللهُ سُبْحَانَهُ فَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ فَلَيسَ لِلتَّعْلِيقِ فَائِدَةٌ، وَقِيلَ: المَعْنَى أَنَّ فِيهِ صُورَةَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنِ المَطْلُوبِ وَالمَطْلُوبِ مِنْهُ".

(2)

صَحِيحُ البُخَارِيِّ (3391).

وَقَولُهُ ((رِجْلُ جَرَادٍ)) أَي: طَائِفَةُ جَرَادٍ.

ص: 303

‌مَسَائِلُ عَلَى البَابِ

-‌

‌ المَسْأَلَةُ الأُولَى: مَا الجَوَابُ عَنِ بَعْضِ النُّصُوصِ التَّالِيَةِ الَّتِي فِيهَا التَّعْلِيقُ بِالمَشِيئَةِ عِنْدَ الدُّعَاءِ:

1 -

حَدِيثُ البُخَارِيِّ عِنْدَمُا زَارَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَعْرَابِيًّا مَرِيضًا فَقَالَ لَهُ: ((طَهُورٌ؛ إِنْ شَاءَ اللهُ))

(1)

.

2 -

حَدِيثُ: ((لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ المَوتَ مِنْ ضُرٍّ أَصَابَهُ، فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ فَاعِلًا؛ فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الحَيَاةُ خَيرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الوَفَاةُ خَيرًا لِي))

(2)

، فَإِنَّهُ لَيسَ فِيهِ جَزْمٌ بِالمَطْلُوبِ!

3 -

قَولُهُ تَعَالَى: {قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} [الكَهْف: 69]؟

الجَوَابُ:

1 -

إِنَّ الاسْتِثْنَاءَ إِنْ كَانَ عَلَى جِهَةِ الخِطَابِ فَلَا يَجُوزُ لِحَدِيثِ البَابِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى سَبِيلِ الخَبَرِ وَالتَّبَرُّكِ؛ فَلَا بَأْسَ بِهِ، فَفي الحَدِيثِ الأَوَّلِ يَكُونُ المَعْنَى: إِنَّ هَذَا المَرَضُ هُوَ طُهْرٌ لَكَ إِنْ شَاءَ اللهُ ذَلِكَ؛ تَحَاشِيًا لِلجَزْمِ عَلَى اللهِ بِكَونِهِ صَنَعَ ذَلِكَ بِهِ، فَهُوَ خَبَرٌ، وَكَذَا فِي الآيَةِ الكَرِيمَةِ إِنَّمَا هُوَ عَلَى سَبِيلِ الخَبَرِ وَالتَّبَرُّكِ لَا الدَّعَاءِ

(3)

.

2 -

أَنَّ الدُّعَاءَ فِي الحَدِيثِ الثَّانِي؛ صَحِيحٌ أَنَّهُ دُعَاءٌ بِصِيغَةِ الخِطَابِ وَلَيسَ فِيهِ

(1)

البُخَارِيُّ (7470) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا.

(2)

البُخَارِيُّ (5671)، وَمُسْلِمٌ (2680) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ مَرْفُوعًا.

(3)

وَكَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى -أَيضًا- عَنْ إِسْمَاعِيلَ عليه الصلاة والسلام: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصَّافّات: 102].

ص: 304

جَزْمٌ؛ وَلِكنَّ مَعْنَاهُ خَالٍ مِنْ عِلَّةِ النَّهْي -وَهيَ المَحْذُورَاتُ الثَّلَاثُ الَّتِي سَبَقَ بَيَانُهَا-، وَوَجْهُ عَدَمِ الجَزْمِ فِي الدُّعَاءِ فِيهِ أَنَّ المَطْلُوبَ غَيرُ مُحَقَّقِ النَّفْعِ وَالخَيرِيَّةِ بِخِلَافِ النَّفْعِ وَالخَيرِ المَحْضِ كَالمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ، فَيَكُونُ المَعْنَى: اللَّهُمَّ إِنْ عَلِمْتَ أَنَّ هَذَا فِيهِ خَيرٌ لِي فَأَعْطِنِي إِيَّاهُ، فَهَذَا التَّعْلِيلُ خَارِجٌ عَنِ الأَوجُهِ الثَّلَاثِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، فَهُوَ تَعْلِيقٌ مِنْ جِهَةِ العِلْمِ وَلَيسَ مِنْ جِهَةِ المَشِيئَةِ، وَالحَمْدُ للهِ عَلَى تَوفِيقِهِ.

ص: 305

-‌

‌ المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا كَانَ الجَزْمُ بِالدُّعَاءِ وَاجِبًا؛ فَهَلِ الجَزْمُ بِحُصُولِ الإِجَابَةِ وَاجِبٌ أَيضًا؟

الجَوَابُ: فِيهِ تَفْصِيلٌ.

إِنْ كَانَ المَقْصُودُ هُوَ مِنْ جِهَةِ قُدْرَةِ اللهِ تَعَالَى عَلَى الإِجَابَةِ؛ وَصِدْقِ مَا أَخْبَرَ اللهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ رَبْطِ النَّتِيجَةِ بِالأَسْبَابِ؛ فَالجَوَابُ أَنَّهُ يَجْزِمُ بِهِ، وَذَلِكَ لِقَولِهِ تَعَالَى:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غَافِر: 60].

وَإِنْ كَانَ المَقْصُودُ مُطْلَقًا؛ فَلَا يَصِحُّ الجَزْمُ، وَذَلِكَ لِتَعَلُّقِ الإِجَابَةِ بِأُمُورٍ أُخْرَى مِنْهَا:

1 -

أَنَّ الإِجَابَةَ لَهَا شُرُوطٌ وَمَوَانِعُ.

2 -

أَنَّ الإِجَابَةَ قَد تَتَخَلَّفُ بِاعْتِبَارِ المَطْلُوبِ وَلَيسِ بِاعْتِبَارِ قَبُولِهَا مِنَ اللهِ تَعَالَى، فَقَد تَكُونُ لِلعَبْدِ مَصْلَحَةٌ أَعْلَى مِنْ جِهَةِ عَدَمِ إِجَابَةِ نَفْسِ الطَّلَبِ، وَفِي الحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:((مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيسَ فِيهَا إِثْمٌ وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إِلَّا أَعْطَاهُ اللهُ بِهَا إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ يُعَجِّلَ لَهُ دَعْوَتَهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُفَّ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ بِمِثْلِهَا، قَالُوا: إِذًا نُكْثِرُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: اللهُ أَكْثَرُ))

(1)

.

وَتَتْمِيمًا لِلْفَائِدَةِ نَذْكُرُ جُمْلَةً شُرُوطِ وَمَوَانِعِ قَبُولِ الدُّعَاءِ

مِنْ جُمْلَةِ الشُّرُوطِ: حُضُورُ القَلْبِ، كَمَا فِي الحَدِيثِ: ((اُدْعُوا اللهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ

(1)

صَحِيحٌ. الأَدَبُ المُفْرَدُ (710) -بَابُ مَا يُدَّخرُ لِلدَّاعِي مِنَ الأَجْرِ وَالثَّوَابِ- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الأَدَبِ المُفْرَدِ (550).

ص: 306

بِالإِجَابَةِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لَاهٍ))

(1)

.

وَأَيضًا الرَّجَاءُ مَعَ الدُّعَاءِ، كَمَا فِي الحَدِيثِ القُدُسِيِّ:((يَا ابْنَ آَدَمَ؛ إِنَّكَ مَا دَعَوتَنِي وَرَجَوتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ مِنْكَ وَلَا أُبَالِي))

(2)

.

وَأَيضًا الكَسْبُ الحَلَالُ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ؛ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ اللهَ تَعَالَى طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ المُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ المُرْسَلِينَ فَقَالَ: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المُؤْمِنُون: 51]، وَقَالَ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البَقَرَة: 172]، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيهِ إِلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالحَرَامِ؛ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لَهُ؟!))

(3)

.

وَمِنْ جُمْلَةِ المَوَانِعِ: أَنْ لَا يَكُونَ الدُّعَاءُ فِيهِ إِثْمٌ وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ، كَمَا فِي الحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:((مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيسَ فِيهَا إِثْمٌ، وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إِلَّا أَعْطَاهُ اللهُ بِهَا إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ يُعَجِّلَ لَهُ دَعْوَتَهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُفَّ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ بِمِثْلِهَا، قَالُوا: إِذًا نُكْثِرُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: اللهُ أَكْثَرُ))

(4)

.

وَأَيضًا أَنْ لَا يَسْتَعجِلَ الإِجَابَةَ؛ فَيُؤَدِّي بِهِ لِتَرْكِ الدُّعَاءِ! كَمَا فِي الحَدِيثِ أَيضًا: ((مَا مِنْ مُؤْمِنٍ يَنْصِبُ وَجْهَهُ لِلَّهِ -يَسْأَلُهُ مَسْأَلَةً- إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهَا؛ إِمَّا عَجَّلَهَا لَهُ فِي الدُّنْيَا

(1)

صَحِيحٌ. التِّرْمِذِيُّ (3479) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (594).

(2)

صَحِيحٌ. التِّرْمِذِيُّ (3540) عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (127).

(3)

رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1015).

(4)

صَحِيحٌ. الأَدَبُ المُفْرَدُ (710) بَابُ مَا يُدَّخَرُ لِلدَّاعِي مِنَ الأَجْرِ وَالثَّوَابِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الأَدَبِ المُفْرَدِ (550).

ص: 307

وَإِمَّا ادَّخَرَهَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مَا لَمْ يَعْجَلْ، يَقُولُ: قَدْ دَعَوتُ وَدَعَوتُ فَلَا أَرَاهُ يُسْتَجَابُ!!))

(1)

.

أَو أَنْ يَكُونَ الدُّعَاءُ فِيهِ اعْتِدَاءٌ، كَطَلَبِ مَا لَا يَجُوزُ شَرْعًا، أَو مَا لَا يُقْبَلُ قَدَرًا كَمُخَالَفَةِ سُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ، وَفِي الحَدِيثِ عَنِ ابْنٍ لِسَعْدٍ أَنَّهُ قَالَ:(سَمِعَنِي أَبِي وَأَنَا أَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الجَنَّةَ وَنَعِيمَهَا وَبَهْجَتَهَا وَكَذَا وكَذَا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ وَسَلَاسِلِهَا وَأَغْلَالِهَا وَكَذَا وَكَذَا. فَقَالَ: يَا بُنيَّ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ((سَيَكُونُ قَومٌ يَعْتَدُونَ فِي الدُّعَاءِ))؛ فَإِيَّاكَ أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ. إِنْ أُعْطِيتَ الجَنَّةَ؛ أُعْطِيتَهَا وَمَا فِيهَا مِنَ الخَيرِ، وَإِنْ أُعِذْتَ مِنَ النَّارِ؛ أُعِذْتَ مِنْهَا وَمَا فِيهَا مِنَ الشَّرِّ)

(2)

.

(1)

صَحِيحٌ. الأَدَبُ المُفْرَدُ (711) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الأَدَبِ المُفْرَدِ (551).

(2)

صَحِيحٌ. أَبُو دَاوُدَ (1480). صَحِيحُ الجَامِعِ (2397).

ص: 308

بَابُ لَا يَقُولُ: عَبْدِي وَأَمَتِي

فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((لَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ: أَطْعِمْ رَبَّكَ، وَضِّئْ رَبَّكَ! وَلْيَقُلْ: سَيِّدِي وَمَولَايَ، وَلَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ: عَبْدِي وَأَمَتِي! وَلْيَقُلْ: فَتَايَ وَفَتَاتِي وَغُلَامِي))

(1)

.

(1)

البُخَارِيُّ (2552)، وَمُسْلِمٌ (2249).

ص: 309

فِيهِ مَسَائِلُ:

الأُولَى: النَّهْيُ عَنْ قَولِ: عَبْدِي وَأَمَتِي.

الثَّانِيَةُ: لَا يَقُولُ العَبْدُ: رَبِّي، وَلَا يُقَالُ لَهُ: أَطْعِمْ رَبَّكَ.

الثَّالِثَةُ: تَعْلِيمُ الأَوَّلِ قَولَ: فَتَايَ وَفَتَاتِي وَغُلَامِي.

الرَّابِعَةُ: تَعْلِيمُ الثَّانِي قَولَ: سَيِّدِي وَمَولَايَ.

الخَامِسَةُ: التَّنْبِيهُ لِلْمُرَادِ؛ وَهُوَ تَحْقِيقُ التَّوحِيدِ حَتَّى فِي الأَلْفَاظِ.

ص: 310

‌الشَّرْحُ

- هَذَا البَابُ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الأَبْوَابِ السَّابِقَةِ فِي بَيَانِ مُكَمِّلَاتِ التَّوحِيدِ، وَبَيَانِ الأَدَبِ الأَكْمَلِ مَعَ الله ِتَعَالَى، وَذَلِكَ بِعَدَمِ اسْتِعْمَالِ الأَلْفَاظِ الَّتِي يَكُونُ الأَولَى فِيهَا إِطْلَاقَهَا عَلَى اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، فَيَكُونُ نَهْيًا عَنِ التَّطَاوُلِ فِي الأَلْفَاظِ، كَمَا فِي لَفْظِ مُسْلِمٍ:((لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: عَبْدِي وَأَمَتِي! كُلُّكُمْ عَبِيدُ اللهِ، وَكُلُّ نِسَائِكُمْ إِمَاءُ اللهِ، وَلَكِنْ لِيَقُلْ: غُلَامِي وَجَارِيَتِي وَفَتَايَ وَفَتَاتِي)).

- النَّهْيُ فِي هَذَا الحَدِيثِ هُوَ لِلكَرَاهَةِ وَلَيسَ لِلتَّحْرِيمِ، وَقَد أَورَدَهُ البُخَارِيُّ رحمه الله فِي صَحِيحِهِ وَأَرْفَقَ مَعَهُ فِي التَّبْوِيبَ مَا يَدُلُّ عَلَى الكَرَاهَةِ فَقَط

(1)

.

- فِي الحَدِيثِ الإِرْشَادُ إِلَى إِطْلَاقِ لَفْظِ (سَيِّدِكَ) وَ (سَيِّدِي) وَ (مَولَايَ) عِوَضًا عَنْ (رَبِّكَ) وَ (رَبِّي) لِلمَالِكِ رُغْمَ أَنَّ المَقْصُودَ وَاحِدٌ! وَلَكِنْ لِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِ لَفْظَةِ (الرَّبِّ) عَلَى اللهِ وَحْدَهُ؛ كَانَ الأَولَى عَدَمَ إِطْلَاقِهَا عَلَى الخَلْقِ.

وَالنَّهيُ هُنَا -كَمَا سَيَأْتِي- هُوَ لِلكَرَاهَةِ، وَلَكِنَّ إِطْلَاقَ لَفْظِ (الرَّبِّ) عَلَى البَشَرِ هَكَذَا مُفْرَدًا دَونَ إِضَافَةٍ هُوَ لِلتَّحْرِيمِ، لِأَنَّهُ إِذَا أُطْلِقَ فَإِنَّهُ يُقْصَدُ بِهِ الرَّبُّ أَصْلًا، فَـ (الـ)

(1)

البُخَارِيِّ (3/ 139): بَابُ كَرَاهِيَةِ التَّطَاوُلِ عَلَى الرَّقِيقِ، وَقَولِهِ: عَبْدِي أَو أَمَتِي، وَقَالَ اللهُ تَعَالَى:{وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النُّور: 32]، وَقَالَ:{عَبْدًا مَمْلُوكًا} [النَّحْل: 75]، وَ {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} [يُوسُف: 25]، وَقَالَ:{مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النِّسَاء: 25]، وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:((قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ)) وَ {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} [يُوسُف: 42] عِنْدَ سَيِّدِكَ، وَ ((مَنْ سَيِّدُكُمْ؟)).

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ؛ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيدِ اللهِ؛ حَدَّثَنِي نَافِعٌ عَنْ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه؛ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قَالَ: ((إِذَا نَصَحَ العَبْدُ سَيِّدَهُ وَأَحْسَنَ عِبَادَةَ رَبِّهِ؛ كَانَ لَهُ أَجْرُهُ مَرَّتَينِ)).

ص: 311

التَّعْرِيفِ هُنَا مَحْمُولَةٌ عَلَى الاسْتِغْرَاقِ، وَهَذَا لَا يُنَاسِبُ إِلَّا جَنَابَ اللهِ تَعَالَى.

قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رحمه الله: "قَالَ العُلَمَاءُ: لَا يُطْلَقُ الرَّبُّ -بِالأَلِفِ وَاللَّامِ- إِلَاّ عَلَى اللهِ تَعَالَى خَاصَّةً، فَأَمَّا مَعَ الإِضَافَةِ فَيُقَالُ: رَبُّ المَالِ، وَرَبُّ الدَّارِ، وَغَيرُ ذَلِكَ. وَمِنْهُ قَولُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي ضَالَّةِ الإِبِلِ: ((دَعْهَا حتَّى يَلْقاهَا رَبُّهَا)) "

(1)

.

- وَأَيضًا فِي الحَدِيثِ الإِرْشَادُ إِلَى إِطْلَاقِ لَفْظِ (غُلَامِي) وَ (فَتَايَ) عِوَضًا عَنْ (عَبْدِي) وَ (أَمَتِي) لِلمَمْلُوكِ رُغْمَ أَنَّ المَقْصُودَ وَاحِدٌ! وَلَكِنْ لِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِ لَفْظَةِ العُبُودِيَّةِ عَلَى التَّأَلُّهِ إِلَى اللهِ تَعَالَى؛ كَانَ الأَولَى عَدَمَ إِطْلَاقِهَا إِلَّا بِقَصْدِ التَّعَبُّدِ للهِ تَعَالَى.

- قَولُهُ: ((سَيِّدِي)) السِّيَادَةُ فِي الأَصْلِ عُلُوُّ المَنْزِلَةِ، لِأَنَّهَا مِنَ السُّؤْدُدِ وَالشَّرَفِ وَالجَاهِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَالسَّيِّدُ يُطْلَقُ عَلَى مَعَانٍ؛ مِنْهَا: المَالِكُ، وَالزَّوجُ، وَالشَّرِيفُ المُطَاعُ.

- قَد ذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ إِلَى أَنَّ النَّهيَ هُنَا لِلتَّحْرِيمِ وَلَيسِ لِلكَرَاهَةِ، وَأَجَابُوا عَنِ الأَدِلَّةِ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ الرَّبِّ مُضَافًا إِلَى المَخْلُوقِ -وَالعُبُودِيَّةِ مُضَافَةً إِلَى الغُلَامِ-؛ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي شَرْعِ مَنْ قَبْلِنَا، وَأَمَّا فِي شَرْعِنَا فَقَد نُهِيَ عَنْهُ، وَعَلَيهِ يَكُونُ النَّهْيُ لِلتَّحْرِيمِ.

قَالَ شَيخُ الإِسْلَامِ رحمه الله: "فَإِنْ قِيلَ: لَا رَيبَ أَنَّ يُوسُفَ سَمَّى السَّيِّدَ رَبًّا فِي قَولِهِ: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} وَ {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ} وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَهَذَا كَانَ جَائِزًا فِي

(1)

الأَذْكَارُ (ص 363).

قُلْتُ: وَالحَدِيثُ الأَخِيرُ رَوَاهُ البُخَارِيُّ (91)، وَمُسْلِمٌ (1722) عَنْ زَيدِ بْنِ خَالِدٍ مَرْفُوعًا.

ص: 312

شَرْعِهِ، كَمَا جَازَ فِي شَرْعِهِ أَنْ يَسْجُدَ لَهُ أَبَوَاهُ وَإِخْوَتُهُ! وَكَمَا جَازَ فِي شَرْعِهِ أَنْ يُؤْخَذَ السَّارِقُ عَبْدًا! وَإِنْ كَانَ هَذَا مَنْسُوخًا فِي شَرْعِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم"

(1)

.

قُلْتُ: وَهُوَ جَوَابٌ مُتَوَجِّهٌ لَولَا أَنَّ فِي شَرْعِنَا مَا دَلَّ عَلَى مِثْلِ مَا جَاءَ فِي شَرْعِ مَنْ قَبْلِنَا، وَمِنْهُ قَولُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي ضَالَّةِ الإِبِلِ:((دَعْهَا حتَّى يَلْقاهَا رَبُّهَا))

(2)

؛ فَوَجَبَ الحَمْلُ عَلَى الجَوَازِ مَعَ الكَرَاهَةِ، أَو جَاءَ النَّهْيُ لِتَحْقِيقِ كَمَالِ التَّوحِيدِ المُسْتَحَبِّ فِي الأَلْفَاظِ. وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ

(3)

(4)

.

- إِنَّ ذِكْرَ السَّقْيِ وَالإِطْعَامِ وَالوُضُوءِ هُوَ مِنْ بَابِ التَّمْثِيلِ لَا الحَصْرِ، وَالمَقْصُودُ النَّهْيُ عَنِ اسْتِعْمَالُ لَفْظِ الرَّبِّ، وَإِنَّمَا ذُكِرَتْ هَذِهِ الأُمُورُ لِغَلَبَةِ اسْتِعْمَالِهَا فِي الخِطَابِ.

- فِي الحَدِيثِ بَيَانُ أَنَّهُ يَنْبَغِي عَلَى مَنْ سَدَّ بَابًا مُحَرَّمًا أَنْ يَفْتَحَ لَهُم بَابًا مُبَاحًا.

- العُبُودِيَّةُ نَوعَانِ:

1 -

عَامَّةٌ: كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مَرْيَم: 93].

(1)

مَجْمُوعُ الفَتَاوَى (15/ 118).

(2)

البُخَارِيُّ (91)، وَمُسْلِمٌ (1722) عَنْ زَيدِ بْنِ خَالِدٍ مَرْفُوعًا.

(3)

قَالَ المُصَنِّفُ رحمه الله فِي المَسَائِلِ: "التَّنْبِيهُ لِلْمُرَادِ؛ وَهُوَ تَحْقِيقُ التَّوحِيدِ حَتَّى فِي الأَلْفَاظِ".

(4)

قَالَ الحَافِظِ العِرَاقِيِّ رحمه الله: "هَذَا النَّهْيُ عَلَى التَّنْزِيهِ دُونَ التَّحْرِيمِ، وَقَدْ حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ جَمِيعُ العُلَمَاءِ حَتَّى أَهْلُ الظَّاهِرِ، وَأَشَارَ إلَى ذَلِكَ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ فَبَوَّبَ: بَابُ كَرَاهِيَةِ التَّطَاوُلِ عَلَى الرَّقِيقِ". طَرْحُ التَّثْرِيبِ (6/ 223).

قُلْتُ: وَأَيضًا حَمَلَ بَعْضُ أَهْلِ الِعِلْمِ النَّهْيَ عَلَى مَا كَانَ بِلَفْظِ الخِطَابِ، وَأَجَازَ مَا كَانَ بِلَفْظِ الغَيبَةِ، وَلَكِنْ مَا أَثْبَتْنَاهُ أَولَى مِنْ جِهَةِ الجَمْعِ. وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

ص: 313

2 -

خَاصَّةٌ: كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفُرْقَان: 63].

- قَولُهُ: (مَولَايَ): الوَلَايَةُ -بِفَتْحِ الوَاوِ-: المَحَبَّةُ وَالنُّصْرَةُ، وَبِالكَسْرِ: المُلْكُ وَالإِمَارَةُ.

- الوَلَايَةُ تَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَينِ:

1 -

وَلَايَةٌ مُطْلَقَةٌ، وَهَذِهِ للهِ عز وجل، لَا تَصْلُحُ لِغَيرِهِ كَالسِّيَادَةِ المُطْلَقَةِ.

وَوَلَايَةُ اللهِ لِعِبَادِهِ أَيضًا نَوعَان:

أ- عَامَّةٌ: وَهِيَ الشَّامِلَةُ لِكُلِّ أَحَدٍ، قَالَ اللهُ تَعَالَى:{هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [يُونُس: 30]، فجَعَلَ سُبْحَانَهُ لِنَفْسِهِ وَلَايَةً عَلَى هَؤُلَاءِ المُفْتَرِينَ؛ فَهَذِهِ وَلَايَةٌ عَامَّةٌ، فاللهُ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى عِبَادَهُ بِالتَّدْبِيرِ وَالتَّصْرِيفِ وَالسُّلْطَانِ وَغَيرِ ذَلِكَ.

ب- خَاصَّةٌ: وَهِيَ أَنْ يَتَوَلَّى اللهُ العَبْدَ بِعِنَايَتِهِ وَتَوفِيقِهِ وَهِدَايَتِهِ، وَهَذِهِ خَاصَّةٌ بِالمُؤْمِنِينَ، قَالَ تَعَالَى:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} [مُحَمَّد: 11].

2 -

وَلَايَةٌ مُقَيَّدَةٌ مُضَافَةٌ: وَهَذِهِ يَجُوزُ أَنْ تُطْلَقَ لِغَيرِ اللهِ تَعَالَى، وَلَهَا فِي اللُّغَةِ مَعَانٍ كَثِيرَةٌ؛ مِنْهَا: النَّاصِرُ، وَالمُتَوَلِّي لِلأُمُورِ، وَالسَّيِّدُ، وَالعَتِيقُ، قَالَ تَعَالَى:{وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} [التَّحْرِيم: 4].

قَالَ الشَّيخُ ابْنُ عُثَيمِين رحمه الله: "وَعَلَيهِ يُعْرَفُ أَنَّهُ لَا وَجْهَ لِاسْتِنْكَارِ بَعْضِ النَّاسِ لِمَنْ خَاطَبَ مَلِكًا بِقَولِهِ: (مَولَايَ) لِأَنَّ المُرَادَ بِمَولَايَ أَي: مُتَوَلِّي أَمْرِي، وَلَا

ص: 314

شَكَّ أَنَّ رَئِيسَ الدَّولَةِ يَتَوَلَّى أُمُورَهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النِّسَاء: 59] "

(1)

.

قُلْتُ: وَقَدْ سَبَقَ قَولُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} [التَّحْرِيم: 4].

- فَائِدَةٌ 1: اسْمُ (السَّيِّدِ) هُوَ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى

(2)

، وَدَلَّ لِذَلِكَ الحَدِيثُ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الشِّخِّيرِ؛ قَالَ: انْطَلَقْتُ فِي وَفْدِ بَنِي عَامِرٍ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ فَقُلْنَا: أَنْتَ سَيِّدُنَا. فَقَالَ: ((السَّيِّدُ اللهُ تبارك وتعالى)، قُلْنَا: وَأَفْضَلُنَا فَضْلًا، وَأَعْظَمُنَا طَولًا. فَقَالَ:((قُولُوا بِقَولِكُمْ أَو بَعْضِ قَولِكُمْ وَلَا يَسْتَجْرِيَنَّكُمُ الشَّيطَانُ))

(3)

.

وجَازَ إِطْلَاقُهُ عَلَى المَخْلُوقِ لِأَنَّهُ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ عُمُومًا إِلَّا مَا يُنَاسِبُ المَخْلُوقَ، وَقَد انْتَشَرَ اسْتِعْمَالُهُ فِي حَقِّ المَخْلُوقِ بِخِلَافِ لَفْظِ (الرَّبِّ).

قَالَ أَبُو العَبَّاسِ القُرْطُبِيُّ رحمه الله: "إنَّمَا فُرِّقَ بَينَ الرَّبِّ وَالسَّيِّدِ؛ لِأَنَّ الرَّبَّ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى بِالِاتِّفَاقِ، وَاخْتُلِفَ فِي السَّيِّدِ؛ هَلْ هُوَ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى أَمْ لَا؟ فَإِذَا قُلْنَا: لَيسَ مِنْ أَسْمَائِهِ؛ فَالفَرْقُ وَاضِحٌ إذْ لَا التِبَاسَ وَلَا إشْكَالَ يَلْزَمُ مِنْ إطْلَاقِهِ كَمَا يَلْزَمُ مِنْ إطْلَاقِ الرَّبِّ، وَإِذَا قُلْنَا: إنَّهُ مِنْ أَسْمَائِهِ؛ فَلَيسَ فِي الشُّهْرَةِ وَالِاسْتِعْمَالِ كَلَفْظِ الرَّبِّ؛ فَيَحْصُلُ الفَرْقُ بِذَلِكَ"

(4)

.

(1)

القَولُ المُفِيدُ (2/ 343).

(2)

انْظُرْ كِتَابَ (القَوَاعِدُ المُثْلَى)(ص 16) لِلشَّيخِ ابْنِ عُثَيمِين رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى، وَكِتَابَ (صِفَاتُ اللهِ الوَارِدَةُ فِي الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ)(ص 208) لِلشَّيخِ عَلَوِي السَّقَّاف حَفِظَهُ اللهُ.

(3)

صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (16307)، وَأَبُو دَاوُدَ (4806). صَحِيحُ الجَامِعِ (3700).

(4)

المُفْهِمُ لِمَا أَشْكَلَ مِنْ تَلْخِيصِ كِتَابِ مُسْلِمٍ (5/ 554).

ص: 315

وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ رحمه الله: "وَأَمَّا الرَّبُّ فَهِيَ كَلِمَةٌ -وَإِنْ كَانَتْ مُشْتَرِكَةً؛ وَتَقَعُ عَلَى غَيرِ الخَالِقِ؛ لِقَولِهِمْ: (رَبُّ الدَّابَّةِ، وَرَبُّ الدَّارِ) وَيُرَادُ صَاحِبُهَا؛ فَإِنَّهَا لَفْظَةٌ تَخْتَصُّ بِاللَّهِ عز وجل فِي الأَغْلَبِ وَالأَكْثَرِ؛ فَوَجَبَ أَلَّا يُسْتَعْمَلَ فِي المَخْلُوقِينَ لِنَفْيِ اللهِ عز وجل الشَّرِكَةَ بَينَهُمْ وَبَينَ اللهِ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لِأَحَدٍ -غَيرِ اللهِ- إلَهٌ وَلَا رَحْمَنٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: رَحِيمٌ؛ لِاخْتِصَاصِ اللهِ بِهَذِهِ الأَسْمَاءِ؛ فَكَذَلِكَ الرَّبُّ لَا يُقَالُ لِغَيرِ اللهِ"

(1)

.

وَنَقَلَ القَاضِي عِيَاضٌ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ كَرِهَ الدُّعَاءَ بِسَيِّدِي

(2)

، قُلْتُ: وَهَذَا وَجْهُهُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ عُمُومِ اطْلَاقِ اسْمِ السَّيِّدِ عَلَى غَيرِ حَقِّ اللهِ تَعَالَى عِنْدَ العَامَّةِ.

وَلَكِنْ إِذَا كَانَ السِّيَاقُ سِيَاقَ غُلُوٍّ؛ فَإِنَّهُ يُنْهَى عَنْ إِطْلَاقِهِ عَلَى البَشَرِ؛ لِدِلَالَةِ صَرِيحِ الحَدِيثِ السَّابِقِ

(3)

.

- فَائِدَةٌ 2: فِي أَحَدِ أَلْفَاظِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ جَاءَ النَّهْيُ عَنْ أَنْ يَقُولَ: (مَولَايَ)، فَقَالَ فِيهِ:((لَا تَقُولُوا مَولَايَ؛ فَإِنَّ مَولَاكُمُ اللهُ عز وجل) مَعَ أَنَّهُ وَرَدَ جَوَازُهُ عِنْدَهُ فِي لَفْظٍ آخَر! وَهَذَا اللَّفْظُ -لَفْظُ النَّهْي- أَعَلَّهُ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ بِأَنَّهُ نُقِلَ بِالمَعْنَى؛ فَهُوَ شَاذٌّ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ، وَمُعَارِضٌ لِهَذَا الحَدِيثِ الَّذِي هُوَ نَصٌّ فِي إِجَازَةِ ذَلِكَ، فَالصَّحِيحُ جَوَازُ إِطْلَاقِ لِفْظِ (مَولَايَ)

(4)

.

(1)

شَرْحُ البُخَاريِّ (7/ 68).

(2)

طَرْحُ التَّثرِيبِ (6/ 222) لِلحَافِظِ العِرَاقِيِّ.

(3)

اُنْظُرْ كِتَابَ (إِعَانَةُ المُسْتَفِيدِ)(2/ 432) للشَّيخِ الفَوزَان حَفِظَهُ اللهُ.

(4)

انْظُرْ (طَرْحُ التَّثرِيبِ)(6/ 222) لِلحَافِظِ العِرَاقِيِّ رحمه الله.

ص: 316

بَابُ لَا يُرَدُّ مَنْ سَأَلَ بِاللَّهِ

عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما؛ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ سَأَلَ بِاللَّهِ؛ فَأَعْطُوهُ، وَمَنِ اسْتَعَاذَ بِاللَّهِ؛ فَأَعِيذُوهُ، وَمَنْ دَعَاكُمْ؛ فَأَجِيبُوهُ، وَمَنْ صَنَعَ إِلَيكُمْ مَعْرُوفًا؛ فَكَافِئُوهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُونَهُ فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَرَوا أَنَّكُمْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ)). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ

(1)

.

(1)

صَحِيحٌ. أَبُو دَاوُدَ (1672)، وَالنَّسَائِيُّ (2567). الصَّحِيحَةُ (254).

ص: 317

فِيهِ مَسَائِلُ:

الأُولَى: إِعَاذَةُ مَنِ اسْتَعَاذَ بِاللَّهِ.

الثَّانِيَةُ: إِعْطَاءُ مَنْ سَأَلَ بِاللَّهِ.

الثَّالِثَةُ: إِجَابَةُ الدَّعْوَةِ.

الرَّابِعَة: المُكَافَأَةُ عَلَى الصَّنِيعَةِ.

الخَامِسَةُ: أَنَّ الدُّعَاءَ مُكَافَأَةٌ لِمَنْ لَمْ يَقْدِرْ إِلَّا عَلَيهِ.

السَّادِسَةُ: قَولُهُ: ((حَتَّى تَرَوا أَنَّكُمْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ)).

ص: 318

‌الشَّرْحُ

- مُنَاسَبَةُ البَابِ لِكِتَابِ التَّوحِيدِ أَنَّ مِنْ إِظْهَارِ تَعْظِيمِ اللهِ عز وجل أَنْ لَا يُرَدَّ مَنْ سَأَلَ بِهِ، وَفي رَدِّهِ إِسَاءَةٌ فِي حَقِّ اللهِ تَعَالَى وَنقْصٌ فِي التَّوحِيدِ، وَفي إِعْطَائِهِ احْتِرَامٌ لِحَقِّ اللهِ تَعَالَى وَتَكْمِيلٌ لِلتَّوحِيدِ

(1)

.

- إِنَّ إِجَابَةَ مَنْ سَأَلَ بِاللهِ يَكُونُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ

(2)

:

1 -

حَالٌ يَحْرُمُ فيهَا رَدُّ السَّائِلِ؛ وَهِيَ إِذَا تَحَقَّقَتْ فيها قُيُودٌ:

أ- إِذَا تَوَجَّهَ لِمُعَيَّنٍ فِي أَمْرٍ مُعَيَّنٍ؛ خَصَّكَ بِهَذَا التَّوَجُّهَ.

ب- سَأَلَكَ بِاللهِ أَنْ تُعِينَهُ.

ج- القُدْرَةُ عَلَى المَعُونَةِ.

2 -

حَالٌ يُكْرَهُ فِيهَا رَدُّ السَّائِلِ: إِذَا كَانَ التَّوَجُّهُ لَيسَ لِمُعَيَّنٍ؛ كَأَنْ يَسْأَلَ فُلَانًا وَفُلَانًا وَفُلَانًا.

3 -

حَالٌ يُبَاحُ: فِيمَا إِذَا كَانَ مَنْ سَأَلَ بِاللهِ يُعْرَفُ مِنْهُ الكَذِبُ.

قَالَ الشَّيخُ ابْنُ عُثَيمِين رحمه الله: "لَكِنْ لَو سَأَلَ إِثْمًا، أَو كَانَ فِي إِجَابَتِهِ ضَرَرٌ عَلَى المَسْئُولِ؛ فَإِنَّهُ لَا يُجَابُ"

(3)

.

(1)

وَكَذَلِكَ إِعَاذَةُ مَنْ اسْتَعَاذَ بِاللهِ.

(2)

أَفَادَهُ الشَّيخُ صَالِحُ آلِ الشَّيخِ حَفِظَهُ اللهُ في كِتَابِهِ (التَّمْهِيدُ)(ص 524) بِتَصَرُّفٍ يَسِيرٍ.

(3)

القَولُ المُفِيدُ (2/ 349).

ص: 319

وَقَالَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله: "وَوُجُوبُ الإِعْطَاءِ إِنَّمَا هُوَ إِذَا كَانَ المَسْؤُولُ قَادِرًا عَلَى الإِعْطَاءِ وَلَا يَلْحَقُهُ ضَرَرٌ بِهِ أَو بِأَهْلِهِ؛ وَإِلَّا فَلَا يَجِبُ عَلَيهِ. وَاللهُ أَعْلَمُ"

(1)

.

- إِنَّ سُؤَالَ النَّاسِ مِنْ غَيرٍ حَاجَةٍ أَو ضَرُورَةٍ مَكْرُوهٌ أَو مُحَرَّمٌ، وَلِهَذَا كَانَ مِمَّا بَايَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ عَلَيهِ أَنْ لَا يَسْأَلُوا النَّاسَ شَيئًا، حَتَّى إِنَّ سَوطَ أَحَدِهِم لَيَسْقُطُ مِنْهُ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ؛ فَلَا يَقُولُ لِأَحَدٍ: نَاوِلْنِيه! بَلْ يَنْزِلُ وَيَأْخُذُهُ بِنَفْسِهِ، كَمَا فِي الحَدِيثِ عَنْ عَوفِ بْنِ مَالِكٍ الأَشْجَعِيِّ؛ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم تِسْعَةً أَو ثَمَانِيَةً أَو سَبْعَةً؛ فَقَالَ: ((أَلَا تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللهِ؟)) وَكُنَّا حَدِيثَ عَهْدٍ بِبَيعَةٍ، قُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ! حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا، فَبَسَطْنَا أَيدِيَنَا فَبَايَعْنَاهُ، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ إِنَّا قَدْ بَايَعْنَاكَ! فَعَلَامَ نُبَايِعُكَ؟ قَالَ: ((أَنْ تَعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيئًا، وَتُصَلُّوا الصَّلَوَاتِ الخَمْسَ، وَتَسْمَعُوا وَتُطِيعُوا)) وَأَسَرَّ كَلِمَةً خُفْيَةً؛ قَالَ: ((وَلَا تَسْأَلُوا النَّاسَ شَيئًا)). قَالَ: فَلَقَدْ كَانَ بَعْضُ أُولَئِكَ النَّفَرِ يَسْقُطُ سَوطُهُ؛ فَمَا يَسْأَلُ أَحَدًا أَنْ يُنَاوِلَهُ إِيَّاهُ

(2)

.

وَفِي الحَدِيثِ: ((مَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَسْأَلُ النَّاسَ حَتَّى يَأْتِيَ يَومَ القِيَامَةِ لَيسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ))

(3)

، وَظَاهِرُهُ يَدُلُّ عَلَى التَّحْرِيمِ إِلَّا لِلضَّرُورَةِ.

- قَولُهُ: ((مَنِ اسْتَعَاذَ بِاللهِ؛ فَأَعِيذُوهُ)) أَي: قَالَ: (أَعُوذُ بِاللهِ مِنْكَ) فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيكَ أَنْ تُعِيذَهُ، لِأَنَّهُ اسْتَعَاذَ بِعَظِيمٍ، وَلِهَذَا لَمَّا قَالَتِ ابْنَةُ الجَونِ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم: أَعُوذُ بِاللهِ مِنْكَ! قَالَ لَهَا: ((لَقَدْ عُذْتِ بِعَظِيمٍ؛ الْحَقِي بِأَهْلِكِ))

(4)

.

(1)

الصَّحِيحَةُ (255).

(2)

مُسْلِمٌ (1043).

(3)

رَوَاهُ البُخَارِيُّ (1474)، وَمُسْلِمٌ (1040) عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا.

(4)

البُخَارِيُّ (5254) عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها.

ص: 320

فَإِعَاذَةُ مَنِ اسْتَعَاذَ بِاللهِ هُوَ دَلِيلُ تَعْظِيمٍ للهِ تَعَالَى، وَهِيَ مِنْ خِصَالِ المُتَّقِينَ، كَمَا قَالَتْ مَرْيَمُ عليها السلام عِنْدَمَا جَاءَهَا جِبْرِيلُ:{قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا} [مَرْيَم: 18].

وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَا لَوِ اسْتَعَاذَ مِنْ أَمْرٍ وَاجِبٍ عَلَيهِ؛ أَو أَلْزَمْتَهُ بِالإِقْلَاعِ عَنْ أَمْرٍ مُحَرَّمٍ؛ فَاسْتَعَاذَ بِاللهِ مِنْكَ! فَإِنَّكَ لَا تُعِيذُهُ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّعَاوُنِ عَلَى الإِثْمِ وَالعُدْوَانِ، وَلِأَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يُعِيذُ عَاصِيًا! بَلِ العَاصِي يَسْتَحِقُّ العُقُوبَةَ لَا الانْتِصَارَ لَهُ وَإِعَانَتَهُ! فَإِعْطَاءُ مَنْ سَأَلَ بِاللهِ هُوَ مِنْ نَفْسِ بَابِ عَدَمِ الإِعَانَةِ عَلَى مَعْصِيَةِ اللهِ؛ لِأَنَّ الجَمِيعَ مِنْ بَابِ تَعْظِيمِ اللهِ تَعَالَى.

- قَولُهُ: ((وَمَنْ دَعَاكُم فَأَجِيبُوهُ)) جُمْهُورُ أَهْلِ العِلْمِ عَلَى أَنَّهَا وَاجِبَةٌ فِي وَلِيمَةِ العُرْسِ فَقَط، لِقَولِهِ صلى الله عليه وسلم فِيهَا:((بِئْسَ الطَّعَامُ طَعَامُ الوَلِيمَةِ؛ يُدْعَى إِلَيهِ الأَغْنِيَاءُ وَيُتْرَكُ المَسَاكِينُ! فَمَنْ لَمْ يَأْتِ الدَّعْوَةَ؛ فَقَدْ عَصَى اللهَ وَرَسُولَهُ))

(1)

.

وَهُنَا يُشْتَرَطُ عَدَمُ وُجُودِ المُنْكَرِ فِيهَا إِلَّا إِنْ أَمْكَنَ التَّغييِرُ، كَمَا أَنَّهَا لَا تَجِبُ إِنْ كَانَ الدَّاعِي غَيرَ مُسْلِمٍ؛ لِحَدِيث:((حَقُّ المُسْلِمِ عَلَى المُسْلِمِ خَمْسٌ: رَدُّ السَّلَامِ، وَعِيَادَةُ المَرِيضِ، وَاتِّبَاعُ الجَنَائِزِ، وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ، وَتَشْمِيتُ العَاطِسِ))

(2)

، وَأَيضًا أَنْ لَا يَلْزَمَ مِنَ الحُضُورِ إِسْقَاطُ وَاجِبٍ، وَأَنْ لَا تَتَضَمَّنَ ضَرَرًا عَلَى المُجِيبِ

(3)

.

- إِنَّ إِجَابَةَ الدَّعْوَةِ حَقٌّ لِلدَّاعِي وَلَيسَتْ حَقًّا للهِ تَعَالَى؛ لِذَا إِذَا أَقَالَكَ الدَّاعِي فَلَا إِثْمَ عَلَيكَ، كَمَا سَبَقَ فِي الحَدِيثِ:((حَقُّ المُسْلِمِ عَلَى المُسْلِمِ)).

(1)

البُخَارِيُّ (5177)، وَمُسْلِمٌ (1432) عَنِ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا.

(2)

البُخَارِيُّ (1240)، وَمُسْلِمٌ (2162) عَنِ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا.

(3)

اُنْظُرْ تَمَامَ شُرُوطِ الإِجَابَةِ فِي الفَتْحِ (9/ 242) لِابْنِ حَجَرٍ رحمه الله.

ص: 321

- قَولُهُ: ((حَتَّى تَرَوا)) بِفَتْحِ التَّاءِ بِمَعْنَى: تَعْلَمُوا، وَيَجُوزُ الضَّمُّ؛ وَالمَعْنَى حَتَّى تُظْهِرُوا أَنَّكُم قَدْ كَافَأْتُمُوهُ.

- فِي المُكَافَأَةِ فَائِدَتَانِ:

1 -

تَشْجِيعُ ذَوِي المَعْرُوفِ عَلَى فِعْلِ المَعْرُوفِ.

2 -

أَنَّ الإِنْسَانَ يَكْسِرُ بِهَا الذُّلَّ الحَاصِلَ لَهُ بِصُنْعِ المَعْرُوفِ إِلَيهِ، فَإِذَا رَدَدْتَ إِلَيهِ مَعْرُوفَهُ زَالَ عَنْكَ ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ فِي قَلْبِكِ شُعُورٌ بِالمِنَّةِ لِأَحِدٍ سِوَى رَبِّ العَالَمِينَ.

- مِنَ المُكَافَأَةِ مَا جَاءَ فِي الحَديثِ: ((مَنْ صُنِعَ إِلَيهِ مَعْرُوفٌ فَقَالَ لِفَاعِلِهِ: جَزَاكَ الله خَيرًا؛ فَقَدْ أَبْلَغَ فِي الثَّنَاءِ))

(1)

.

قُلْتُ: وَوَجْهُ الإِحَالَةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى فِي الجَزَاءِ هُوَ لِعَجْزِهِ عَنْ جَزَاءِهِ بَنَفْسِهِ؛ فَأَحَالَهُ إِلَى الغَنِيِّ الَّذِي لَا يَعْدِلُ جَزَاءَهُ جَزَاءٌ. وَاللهُ أَعْلَمُ.

- فَائِدَةٌ 1: فِي الأَمْرِ بِالمُكَافَأَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهَا مِنْ جِنْسِ المَعْرُوفِ السَّابِقِ.

- فَائِدَةٌ 2: أَولَى فِي المَنْعِ مِنَ الإِعْطَاءِ: مَنْ جَعَلَ التَّسَوُّلَ مِهْنَةً لَهُ؛ فَيَسْأَلُ مَعَ هَذَا بِاللهِ تَعَالَى أَنْ تُعْطِيَهُ! فَهَؤُلَاءِ حَقِيقَتُهُم عَلَى العَكْسِ مِنَ المُرَادِ النَّبَوِيِّ فِي حَدِيثِ البَابِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُم لَا يُعَظِّمُونَ اسْمَ اللهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُم لَو عَظَّمُوهُ مَا جَعَلُوهُ عُرْضَةً لِأَنْ يَسْأَلوا بِاسْمِهِ أَيَّ شَيءٍ مِمَّا تُحْتَقَرُ قِيمَتُهُ عِنْدَ النَّاسِ!

(1)

صَحِيحٌ. التِّرْمِذِيُّ (2035) عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيدٍ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (6368).

ص: 322

بَابُ لَا يُسْأَلُ بِوَجْهِ اللهِ إِلَّا الجَنَّةُ

عَنْ جَابِرٍ؛ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((لَا يُسْأَلُ بِوَجْهِ اللهِ إِلَّا الجَنَّةُ)). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ

(1)

.

فِيهِ مَسَائِلُ:

الأُولَى: النَّهْيُ عَنْ أَنْ يُسْأَلَ بِوَجْهِ اللهِ إِلَّا غَايَةُ المَطَالِبِ.

الثَّانِيَةُ: إِثْبَاتُ صِفَةِ الوَجْهِ.

(1)

ضَعِيفٌ. أَبُو دَاوُدَ (1671). ضَعِيفُ أَبِي دَاوُدَ (الأُمّ)(298).

وَقَالَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله فِيهِ: "إِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ لِسُوءِ حِفْظِ سُلَيمَان، وَهُوَ ابْنُ قَرْمِ بْنِ مُعَاذٍ، يُنْسَبُ إِلَى جَدِّهِ، وَقَدْ ضَعَّفَهُ الجُمْهُورُ".

ص: 323

‌الشَّرْحُ

- إِنَّ التَّوَسُّلَ بِالأَمْرِ العَظِيمِ فِي الشَّيءِ الحَقِيرِ هُوَ تَقْلِيلٌ لِشَأْنِهِ! فَلَا يُسْأَلُ بِوَجْهِ اللهِ تَعْظِيمًا لَهُ إِلَّا أَعْلَى المَطَالِبِ ألَا وَهِيَ الجَنَّةُ، فَفِي هَذَا البَابِ مُمَاثَلَةٌ لِمَا سَبَقَ مِنَ الأَبْوَابِ فِي الآدَابِ اللَّفْظِيَّةِ فِي تَعْظِيمِ جَنَابِ اللهِ تَعَالَى.

- إِنَّ النُّصُوصَ الشَّرْعِيَّةَ فِي هَذِهِ المَسْأَلَةِ عُمُومًا دَلَّتْ عَلَى:

1 -

وُجُوبِ إِجَابَةِ مَنْ سُئِلَ بِاللهِ -وَقَدْ سَبَقَ فِي البَابِ المَاضِي بَيَانُهُ-.

2 -

جَوَازُ أَنْ يَسْأَلَ العَبْدُ العَبْدَ بِاللهِ أَمْرًا مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا، كَمَا فِي الآيَةِ الكَرِيمَةِ {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيكُمْ رَقِيبًا} [النِّسَاء: 1]، وَحَدِيثِ المَلَكِ وَالثَّلَاثَةِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِي سَبَقَ.

3 -

تَحْرِيمُ سُؤَالِ العَبْدِ لِلعَبْدِ بِوَجْهِ اللهِ أَمْرًا مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا، كَمَا سَيَأْتِي فِي الحَدِيثِ.

4 -

مَنْعُ سُؤَالِ اللهِ بَوَجْهِهِ إِلَّا الجَنَّةَ، كَمَا فِي حَدِيثِ البَابِ وَغَيرِهِ، وَسَيَأْتِي عَنْ عَطَاءَ رحمه الله مَا يُؤَيِّدُهُ، وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

- البَابُ المَاضِي كَانَ الحُكْمُ فِيهِ مُتَوَجِّهًا إِلَى المَسْئُولِ، وُهُنَا الحُكْمُ مُتَوَجِّهٌ إِلَى السَّائِلِ.

- قَولُهُ: ((لَا يُسْأَلُ)) هَذَا نَفْيٌ، وَالنَّفْيُ هُنَا مُتَضَمِّنٌ للنَّهْي.

- الحَدِيثُ ضَعِيفُ الإِسْنَادِ، وَلَكِنَّ النَّهيَ عَنِ السُؤَالِ بِوَجْهِ اللهِ أَمْرًا مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا صَحِيحٌ، لحَدِيثِ: ((مَلْعُونٌ مَنْ سَأَلَ بِوَجْهِ اللهِ، وَمَلْعُونٌ مَنْ سُئِلَ بِوَجْهِ الله ثُمَّ مَنَعَ

ص: 324

سَائِلَهُ؛ مَا لَمْ يَسْأَلْ هُجْرًا))

(1)

(2)

.

قَالَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله: "فَائِدَةٌ: فِي الحَدِيثِ

(3)

تَحْرِيمُ سُؤَالِ شَيءٍ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا بِوَجْهِ اللهِ تَعَالَى، وَتَحْرِيمِ عَدَمِ إِعْطَاءِ مَنْ سَأَلَ بِهِ تَعَالَى.

قَالَ السِّنْدِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى النَّسَائِيِّ: (الذِي يَسْأَلُ بِاللهِ) عَلَى بِنَاءِ الفَاعِلِ، أَي: الَّذِي يَجْمَعُ بَينَ القُبْحَتَينِ، أَحَدِهِمَا: السُّؤَالُ بِاللهِ، وَالثَّانِي: عَدَمُ الإِعْطَاءِ لِمَنْ يُسْأَلُ بِهِ تَعَالَى، فَمَا يُرَاعِي حُرْمَةَ اسْمِهِ تَعَالَى فِي الوَقْتَينِ جَمِيعًا.

وَأَمَّا جَعْلُهُ مَبْنِيًّا لِلمَفْعُولِ فَبَعِيدٌ؛ إِذْ لَا صُنْعَ للعَبْدِ فِي أَنْ يَسْأَلَهُ السَّائِلُ بِاللهِ، فَلَا وَجْهَ لِلجَمْعِ بَينَهُ وَبَينَ تَرْكِ الإِعْطَاءِ فِي هَذَا المَحَلِّ.

قُلْتُ [الأَلْبَانِيُّ]: وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ عَدَمِ الإِعْطَاءِ لِمَنْ يَسْأَلُ بِهِ تَعَالَى حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ المُتَقَدِّمَين: ((وَمَنْ سَأَلَكُم بِاللهِ فَأَعْطُوهُ))، وَيَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ السُّؤَالِ بِهِ تَعَالَى حَدِيثُ:((لَا يُسْأَلُ بِوَجْهِ اللهَ إِلَّا الجَنَّةَ)) وَلَكِنَّهُ ضَعِيفُ الإِسْنَادِ كَمَا بَيَّنَهُ المُنْذِرِيُّ وَغَيرُهُ، وَلَكِنَّ النَّظَرَ الصَّحِيحَ يَشْهَدُ لَهُ

(4)

، فَإِنَّهُ إِذَا ثَبَتَ

(1)

حَسَنٌ. تَارِيخُ ابْنِ عَسَاكِر (58/ 26) عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (2290).

(2)

قَالَ الحَافِظُ السَّخَاوِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ المَقَاصِدُ الحَسَنَةُ (ص 370): "يَعْنِي: شَيئًا قَبِيحًا لَا يَلِيقُ، أَو يَكُونُ سُؤَالُهُ بِلَفْظٍ قَبِيحٍ".

(3)

وَهُوَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيرِ النَّاسِ مَنْزِلًا؟)). قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: ((رَجُلٌ آخِذٌ بِرَأْسِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ عز وجل حَتَّى يَمُوتَ أَو يُقْتَلَ. وَأُخْبِرُكُمْ بِالَّذِي يَلِيهِ؟)). قُلْنَا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: ((رَجُلٌ مُعْتَزِلٌ فِي شِعْبٍ؛ يُقِيمُ الصَّلَاةَ وَيُؤْتِي الزَّكَاةَ وَيَعْتَزِلُ شُرُورَ النَّاسِ. وَأُخْبِرُكُمْ بِشَرِّ النَّاسِ؟)). قُلْنَا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: ((الَّذِي يُسْأَلُ بِاللَّهِ عز وجل وَلَا يُعْطِي بِهِ)). صَحِيحٌ. النَّسَائيُّ (2569). الصَّحِيحَةُ (255).

(4)

أَي: يَشْهَدُ لِمَنْعِ السُّؤَالِ -كَمَا تَجِدُهُ مِنَ السِّيَاقِ-.

ص: 325

وُجُوبُ الإِعْطَاءِ لِمَنْ سَأَلَ بِهِ تَعَالَى -كَمَا تَقَدَّمَ- فَسُؤَالُ السَّائِلِ بِهِ؛ قَدْ يُعَرِّضُ المَسْؤُولَ لِلوُقُوعِ فِي المُخَالَفَةِ وَهِيَ عَدَمُ إِعْطَائِهِ إِيَّاهُ مَا سَأَلَ وَهُوَ حَرَامٌ، وَمَا أَدَّى إِلَى مُحَرَّمٍ فَهُوَ مُحَرَّمٌ؛ فَتَأَمَّلْ.

وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُسْأَلَ بِوَجْهِ اللهِ أَو بِالقُرْآنِ شَيءٌ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا، وَوُجُوبُ الإِعْطَاءِ إِنَّمَا هُوَ إِذَا كَانَ المَسْؤُولُ قَادِرًا عَلَى الإِعْطَاءِ وَلَا يَلْحَقُهُ ضَرَرٌ بِهِ أَو بِأَهْلِهِ، وَإِلَّا فَلَا يَجِبُ عَلَيهِ. وَاللهُ أَعْلَمُ"

(1)

.

- قُلْتُ: يَشْهَدُ لِعُمُومِ المَنْعِ مِنَ سُؤَالِ المَخْلُوقِ بِوَجْهِ اللهِ حَدِيثُ: ((مَلْعُونٌ مَنْ سَأَلَ بِوَجْهِ اللهِ، وَمَلْعُونٌ مَنْ سُئِلَ بِوَجْهِ اللهِ ثُمَّ مَنَعَ سَائِلَهُ؛ مَا لَمْ يَسْأَلْ هُجْرًا)) -وَقَدْ سَبَقَ-.

وَيَشْهَدُ لِاسْتِثْنَاءِ سُؤَالِ الخَالِقِ بِوَجْهِهِ فِي أَمْرِ الدِّينِ -وَمَا يُؤَدِّي إِلَيهِ مِنَ أَمْرِ الدُّنْيَا- حَدِيثُ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} [الأَنْعَام: 65] قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((أَعُوذُ بِوَجْهِكَ))، قَالَ:{أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} قَالَ: ((أَعُوذُ بِوَجْهِكَ))، {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:((هَذَا أَهْوَنُ؛ أَو هَذَا أَيسَرُ))

(2)

.

فَحَدِيثُ البَابِ صَحِيحُ المَعْنَى؛ إِلَّا أَنَّهُ يَزِيدُ قَيدًا وَهُوَ: أَنْ لَا يُسْأَلَ بِوَجْهِ اللهِ إِلَّا الجَنَّةَ، وَهَذَا الحَصْرُ يُوَافِقُ مَا سَبَقَ مِنْ لَفْظِ الحَدِيثِ:((أَعُوذُ بِوَجْهِكَ)) فِي دَفْعِ العَذَابِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ فِيهِ طَلَبَ ضِدِّهِ وَهُوَ طَلَبُ النَّجَاةِ إِلَى الجَنَّةِ بِسَلَامٍ.

(1)

الصَّحِيحَةُ (255).

(2)

البُخَاريُّ (4628) عَنْ جَابِرٍ.

ص: 326

- فَائِدَة 1: رَوَى ابْنُ أَبِي شَيبَةَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عَطَاءٍ: أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُسْأَلَ بِوَجْهِ اللهِ أَو بِالقُرْآنِ شَيءٌ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا

(1)

.

- فَائِدَة 2: للهِ تَعَالَى صِفَةُ الوَجْهِ -كَمَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَكَمَالِهِ-، وَلَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ فِيهِ.

قَالَ إِمَامُ الأَئِمَّةِ ابْنُ خُزَيمَةَ رحمه الله: "فَنَحْنُ -وَجَمِيعُ عُلَمَائِنَا مِنْ أَهْلِ الحِجَازِ وَتِهَامَةَ وَاليَمَنِ وَالعِرَاقِ وَالشَّامِ وَمِصْرَ- مَذْهَبُنَا: أَنَّا نُثْبِتُ لِلَّهِ مَا أَثْبَتَهُ اللهُ لِنَفْسِهِ، نُقِرُّ بِذَلِكَ بِأَلْسِنَتِنَا، وَنُصَدِّقُ ذَلِكَ بِقُلُوبِنَا؛ مِنْ غَيرِ أَنْ نُشَبِّهَ وَجْهَ خَالِقِنَا بِوَجْهِ أَحَدٍ مِنَ المَخْلُوقِينَ، عَزَّ رَبُّنَا عَنْ أَنْ يُشَبَّهَ بِالمَخْلُوقِينَ! وَجَلَّ رَبُّنَا عَنْ مَقَالَةِ المُعَطِّلِينَ! وَعَزَّ عَنْ أَنْ يَكُونَ عَدَمًا كَمَا قَالَهُ المُبْطِلُونَ! لأَنَّ مَا لَا صِفَةَ لَهُ عَدَمٌ، تَعَالَى اللهُ عَمَّا يَقُولُ الجَهْمِيُّونَ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ صِفَاتِ خَالِقِنَا الَّذِي وَصَفَ بِهَا نَفْسَهُ فِي مُحْكَمِ تَنْزِيلِهِ وَعَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم"

(2)

.

(1)

مُصَنَّفُ ابْنِ أَبِي شَيبَةَ (10794). الصَّحِيحَةُ (253).

(2)

التَّوحِيدُ (1/ 26) لِابْنِ خُزَيمَةَ.

ص: 327

‌مَسَائِلُ عَلَى البَابِ

-‌

‌ المَسْأَلَةُ الأُولَى: قَالَ بَعْضُهُم: وَجْهُ اللهِ؛ المُرَادُ بِهِ القِبْلَةُ

(1)

أَوِ الجِهَةُ أَوِ الثَّوَابُ كَمَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ

(2)

، وَلَيسَ للهِ تَعَالَى وَجْهٌ حَقِيقِيٌّ! فَمَا الجَوَابُ؟

الجَوَابُ:

الصَّوَابُ أنَّهُ وَجْهٌ للهِ حَقِيقِيٌّ، لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ:{وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرَّحْمَن: 27)، فَإِذَا كَانَ الوَجْهُ مَوصُوفًا بِالجَلَالِ وَالإِكْرَامِ؛ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الثَّوَابُ أَوِ الجِهَةُ!

قُلْتُ: إِلَّا أَنَّ هَذَا لَا يَعْني أَنَّهُ قَد لَا يَأْتِي بِمَعْنَى الثَّوَابِ فِي بَعْضِ المَوَاضِعِ!

قَالَ شَيخُ الإِسْلَامِ رحمه الله فِي مَعْرِضِ ذِكْرِ رَدِّهِ فِي مَجْلِسِ مُنَاظَرَةٍ: "فَأَحْضَرَ بَعْضُ أَكَابِرِهِمْ كِتَابَ الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ لِلبَيهَقِيِّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى؛ فَقَالَ: هَذَا فِيهِ تَأْوِيلُ الوَجْهِ عَنِ السَّلَفِ، فَقُلْتُ: لَعَلَّك تَعْنِي قَولَهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَينَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البَقَرَة: 115) فَقَالَ: نَعَمْ. قَدْ قَالَ مُجَاهِدٌ وَالشَّافِعِيُّ -يَعْنِي قِبْلَةَ اللهِ-!

(1)

كَمَا نَقَلَهُ البَيهَقِيُّ فِي كِتَابِهِ (الأَسْمَاءُ وَالصِّفَاتُ) عَنِ الشَّافِعِيِّ وَمُجَاهِدٍ رحمهم الله.

فَأَمَّا أَثَرُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله هَذَا؛ فَقَد أَورَدَهُ البَيهَقِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (أَحْكَامُ القُرْآنِ لِلشَّافِعِيِّ)(1/ 64) قَالَ: "قَرَأْتُ فِي كِتَابِ المُخْتَصَرِ الكَبِيرِ فِيمَا رَوَاهُ أَبو إِبْرَاهِيمَ المُزَنِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ

" فَهُوَ وِجَادَةٌ غَيرُ مُتَّصِلٍ. اُنْظُرْ تَحْقِيقَ كِتَابِ (الأَسْمَاءُ وَالصِّفَاتُ) للبَيهَقِيِّ (4/ 239) طَبْعَةَ دَارِ الرِّسَالَةِ ناشِرُون لِلأَخِ سَعْدِ بِنِ نَجْدَت آل عُمَر.

وَأَمَّا أَثَرُ مُجَاهِدٍ؛ فَقَد رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ (5/ 56) وَالطَّبَرِيُّ فِي التَّفْسِيرِ (2/ 536).

(2)

أَي: كُلُّ عَمَلٍ هُوَ بَاطِلٌ إِلَّا مَا ابْتُغِيَ بِهِ اللهُ وَحْدَهُ؛ وَهُوَ المَقْصُودُ بِـ (وَجْهِ اللهِ).

ص: 328

فَقُلْتُ: نَعَمْ: هَذَا صَحِيحٌ عَنْ مُجَاهِدٍ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيرِهِمَا، وَهَذَا حَقٌّ، وَلَيسَتْ هَذِهِ الآيَةُ مِنْ آيَاتِ الصِّفَاتِ! وَمَنْ عَدَّهَا فِي الصِّفَاتِ فَقَدْ غَلِطَ كَمَا فَعَلَ طَائِفَةٌ؛ فَإِنَّ سِيَاقَ الكَلَامِ يَدُلُّ عَلَى المُرَادِ حَيثُ قَالَ:{وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَينَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} وَالمَشْرِقُ وَالمَغْرِبُ الجِهَاتُ، وَالوَجْهُ هُوَ الجِهَةُ، يُقَالُ: أَيُّ وَجْهٍ تُرِيدُهُ؟ أَي: أَيُّ جِهَةٍ، وَأَنَا أُرِيدُ هَذَا الوَجْهَ؛ أَي: هَذِهِ الجِهَةَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} [البَقَرَة: 148] وَلِهَذَا قَالَ: {فَأَينَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} أَي: تَسْتَقْبِلُوا وَتَتَوَجَّهُوا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ"

(1)

.

(1)

مَجْمُوعُ الفَتَاوَى (3/ 193).

ص: 329

-‌

‌ المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ إِلَى أَنَّ عَدَمَ إِجَابَةِ مَنْ سَأَلَ بِاللهِ هُوَ مَكْرُوهٌ فَقَط وَلَيسَ لِلتَّحْرِيمِ!

اسْتِدْلَالًا بِحَدِيثِ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَوَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللهِ؛ لَتُحَدِّثَنِّي بِالَّذِي أَخْطَأْتُ. قَالَ: ((لَا تُقْسِمْ))

(1)

، فَفِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُجِبْ طَلَبَهُ! فَمَا الجَوَابُ؟

الجَوَابُ مِنْ أَوجُهٍ:

1 -

إِنَّ الحَدِيثَ السَّابِقَ لَيسَ فِيهِ السُّؤَالُ بِاللهِ أَصْلًا! وَإِنَّمَا فِيهِ القَسَمُ بِاللهِ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْهُ مِنْ جِهَةِ إِظْهَارِ التَّعْظِيمِ بِإِبْرَارِهِ وَلَكِنْ فَرْقٌ بَينَهُمَا

(2)

.

(1)

وَالحَدِيثُ رَوَاهُ البُخَارِيُّ (7046)، وَمُسْلِمٌ (2269).

وَهُوَ بِتَمَامِهِ: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ رَجُلًا أَتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِنِّي رَأَيتُ اللَّيلَةَ فِي المَنَامِ ظُلَّةً تَنْطُفُ السَّمْنَ وَالعَسَلَ، فَأَرَى النَّاسَ يَتَكَفَّفُونَ مِنْهَا؛ فَالمُسْتَكْثِرُ وَالمُسْتَقِلُّ، وَإِذَا سَبَبٌ وَاصِلٌ مِنَ الأَرْضِ إِلَى السَّمَاءِ، فَأَرَاكَ أَخَذْتَ بِهِ فَعَلَوتَ، ثُمَّ أَخَذَ بِهِ رَجُلٌ آخَرُ فَعَلَا بِهِ، ثُمَّ أَخَذَ بِهِ رَجُلٌ آخَرُ فَعَلَا بِهِ، ثُمَّ أَخَذَ بِهِ رَجُلٌ آخَرُ فَانْقَطَعَ، ثُمَّ وُصِلَ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ بِأَبِي أَنْتَ وَاللَّهِ! لَتَدَعَنِّي فَأَعْبُرُهَا. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ((اعْبُرْهَا))، قَالَ: أَمَّا الظُّلَّةُ؛ فَالإِسْلَامُ، وَأَمَّا الَّذِي يَنْطُفُ مِنَ العَسَلِ وَالسَّمْنِ؛ فَالقُرْآنُ؛ حَلَاوَتُهُ تَنْطُفُ، فَالمُسْتَكْثِرُ مِنَ القُرْآنِ وَالمُسْتَقِلُّ، وَأَمَّا السَّبَبُ الوَاصِلُ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ؛ فَالحَقُّ الَّذِي أَنْتَ عَلَيهِ؛ تَأْخُذُ بِهِ فَيُعْلِيكَ اللهُ، ثُمَّ يَأْخُذُ بِهِ رَجُلٌ مِنْ بَعْدِكَ فَيَعْلُو بِهِ، ثُمَّ يَأْخُذُ بِهِ رَجُلٌ آخَرُ فَيَعْلُو بِهِ، ثُمَّ يَأْخُذُهُ رَجُلٌ آخَرُ فَيَنْقَطِعُ بِهِ ثُمَّ يُوَصَّلُ لَهُ فَيَعْلُو بِهِ، فَأَخْبِرْنِي يَا رَسُولَ اللهِ -بِأَبِي أَنْتَ- أَصَبْتُ أَمْ أَخْطَأْتُ؟ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:((أَصَبْتَ بَعْضًا وَأَخْطَأْتَ بَعْضًا))، قَالَ: فَوَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللهِ؛ لَتُحَدِّثَنِّي بِالَّذِي أَخْطَأْتُ. قَالَ: ((لَا تُقْسِمْ)).

(2)

وَلَا يَخْفَى الفَرْقُ بَينَ السُّؤَالِ بِالرَّحِمِ -وَهُوَ جَائِزٌ- وَبَينَ سُؤَالِ الرَّحِمِ نَفْسِهَا -وَهِيَ مَخْلُوقَةٌ-! قَالَ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [النِّسَاء: 1].

قَالَ القُرْطُبِيُّ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (4/ 5): "ثُمَّ النَّهْيُ إِنَّمَا جَاءَ فِي الْحَلِفِ بِغَيرِ اللَّهِ، وَهَذَا تَوَسُّلٌ إِلَى الْغَيرِ بِحَقِّ الرَّحِمِ؛ فَلَا نَهْيَ فِيهِ".

ص: 330

2 -

أَنَّ امْتِنَاعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَد يَكُونُ لِضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ؛ أَو فِيهَا مَا لَا يَنْبَغِي تَفْسِيرُهُ وَذِكْرُهُ.

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله فِي فَوَائِدِ الحَدِيثِ: "وَأَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ إِبْرَارُ الْقَسَمِ إِذَا كَانَ فِيهِ مَفْسَدَةٌ"

(1)

.

وَكَمَا فِي الحَدِيثِ: ((إِنَّ الرُّؤْيَا تَقَعُ عَلَى مَا تُعَبَّرُ، وَمَثَلُ ذَلِكَ مَثَلُ رَجُلٍ رَفَعَ رِجْلَهُ فَهُوَ يَنْتَظِرُ مَتَى يَضَعُهَا، فَإِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ رُؤْيَا فَلَا يُحَدِّثْ بِهَا إِلَّا نَاصِحًا أَو عَالِمًا))

(2)

.

3 -

قَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ الثَّلَاثَةِ -الأَقْرَعِ وَالأَبْرَصِ وَالأَعْمَى- بَيَانُ أَنَّ السَّخَطَ وَقَعَ عَلَى مَنْ لَمْ يُجِبْ سُؤَالَ المَلَكِ بِاللهِ، وَالَّذِي فِيهِ:((أَسْأَلُكَ بِالَّذِي)) فَمِثْلُهُ يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَيسَ فَقَط لِلكَرَاهَةِ. وَاللهُ أَعْلَمُ

(3)

.

4 -

أَنَّ أَلْفَاظَ أَحَادِيثِ النَّهْي هُنَا لَا تَقْبَلُ الحَمْلَ عَلَى الكَرَاهَةِ، كَمَا فِي الحَدِيثِ:((وَأُخْبِرُكُمْ بِشَرِّ النَّاسِ؟)) قُلْنَا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: ((الَّذِي يُسْأَلُ بِاللَّهِ عز وجل وَلَا يُعْطِي بِهِ))

(4)

، وَكَمَا فِي مَنْ مَنَعَ مَنْ سَأَلَ بِوَجْهِ اللهَ؛ فَقَالَ فِي حَقِّهِ عليه الصلاة والسلام:((مَلْعُونٌ مَنْ سُئِلَ بِوَجْهِ اللهِ ثُمَّ مَنَعَ سَائِلَهُ))، وَقَدْ سَبَقَ.

(1)

فَتْحُ البَارِي (12/ 437).

(2)

صَحِيحٌ. الحَاكِمُ (8177) عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (120).

(3)

عَلَى أَنَّهُ قَدْ يُقَالُ: إِنَّ السَّخَطَ فِي الحَدِيثِ كَانَ مُرَتَّبًا عَلَى أَمْرَينِ مَعًا -وَلَيسَ عَلَى أَمْرٍ وَاحِدٍ- وَهُمَا: الاضْطِرَارُ وَالسُّؤَالُ بِاللهِ.

(4)

صَحِيحٌ. النَّسَائيُّ (2569). الصَّحِيحَةُ (255).

ص: 331

بَابُ مَا جَاءَ فِي الـ (لَو)

وَقَولِ اللهِ تَعَالَى: {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} [آل عِمْرَان: 154].

وَقَولِهِ: {الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} [آل عِمْرَان: 168].

وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجَزَنْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيءٌ؛ فَلَا تَقُلْ: لَو أَنِّي فَعَلْتُ كَذَا؛ لَكَانَ كَذَا وَكَذَا! وَلَكِنْ قُلْ: قَدَّرَ اللهُ، وَمَا شَاءَ فَعَلَ؛ فَإِنَّ "لَو" تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيطَانِ))

(1)

.

(1)

رَوَاهُ مُسْلِمٌ (2664) دُونَ البُخَاريِّ.

ص: 332

فِيهِ مَسَائِلُ:

الأُولَى: تَفْسِيرُ الآيَتَينِ فِي آلِ عِمْرَانَ.

الثَّانِيَةُ: النَّهْيُ الصَّرِيحُ عَنْ قَولٍ: (لَو) إِذَا أَصَابَكَ شَيءٌ.

الثَّالِثَةُ: تَعْلِيلُ المَسْأَلَةِ بِأَنَّ ذَلِكَ يَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيطَانِ.

الرَّابِعَةُ: الإِرْشَادُ إِلَى الكَلَامِ الحَسَنِ.

الخَامِسَةُ: الأَمْرُ بِالحِرْصِ عَلَى مَا يَنْفَعُ مَعَ الِاسْتِعَانَةِ بِاللَّهِ.

السَّادِسَةُ: النَّهْيُ عَنْ ضِدِّ ذَلِكَ؛ وَهُوَ العَجْزُ.

ص: 333

‌الشَّرْحُ

- مُنَاسَبَةُ البَابِ لِكِتَابِ التَّوحِيدِ هُوَ وُجُوبُ الاسْتِسْلَامِ لِلقَضَاءِ وَالقَدَرِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ كَمَالِ التَّوحِيدِ الوَاجِبِ.

- لَمْ يَجْزِمِ المُصَنِّفُ بِحُكْمِ قَولِ: (لَو) لِأَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِحَسْبِ الحَامِلِ عَلَيهَا.

- قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ * الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عِمْرَان: 166 - 168].

- وَقَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عِمْرَان: 154].

- قَولُهُ تَعَالَى: {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} أَي: لَو كَانَ لَنَا فِي هَذِهِ الوَاقِعَةِ رَأْيٌ وَمَشُورَةٌ {مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} وَهَذَا إِنْكَارٌ مِنْهُم وَتَكْذِيبٌ بِقَدَرِ اللهِ! وَتَسْفِيهٌ مِنْهُم لِرَأْي رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَرَأْي أَصْحَابِهِ! وَتَزْكِيَةٌ مِنْهُم لِأَنْفُسِهِم! فَرَدَّ اللهُ عَلَيهِم بِقَولِهِ: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ} الَّتِي هِيَ أبَعْدُ شَيءٍ عَنْ مَظَانِّ القَتْلِ {لَبَرَزَ الَّذِينَ

ص: 334

كُتِبَ عَلَيهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ}.

- قَولُهُ: {لِإِخْوَانِهِمْ} قِيلَ: فِي النَّسَبِ لَا فِي الدِّينِ، وَقِيلَ: فِي الدِّينِ ظَاهِرًا؛ لِأَنَّ المُنَافِقِينَ يَتَظَاهَرُونَ بِالإِسْلَامِ، وَلَو قِيلَ: إِنَّهُ شَامِلٌ لِلأَمْرَينِ؛ لَكَانَ صَحِيحًا.

- حَدِيثُ البَابِ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ قَولِ: (لَو) أَو (لَيتَ) وَمَا شَابَهَهُمَا عَلَى سَبِيلِ التَّحَسُّرِ وَالنِّقْمَةِ عَلَى القَدَرِ، وَأَمَّا اسْتِخْدَامُهَا فِي عُمُومِ الإِخْبَارِ وَالتَّمَنِّي أَوِ الحَدِيثِ عَنِ المُسْتَقْبَلِ فَيَجُوزُ لِأَنَّهُ لَيسَ فِيهِ اعْتِرَاضٌ عَلَى القَدَرِ، وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللهُ.

قَالَ الشَّيخُ السَّعْدِيُّ رحمه الله: "فَاسْتِعْمَالُ (لَو) يَكُونُ بِحَسْبِ الحَالِ الحَامِلِ عَلَيهَا، فَإِنْ حَمَلَ عَلَيهَا الضَّجَرُ وَالحُزْنُ وَضَعْفُ الإِيمَانِ بِالقَضَاءِ وَالقَدَرِ أَو تَمَنِّي الشَّرِّ كَانَ مَذْمُومًا، وَإِنْ حَمَلَ عَلَيهَا الرَّغْبَةُ فِي الخَيرِ وَالإِرْشَادِ وَالتَّعْلِيمِ كَانَ مَحْمُودًا، وَلِهَذَا جَعَلَ المُصَنِّفُ التَّرْجَمَةَ مُحْتَمِلَةً لِلأَمْرَينِ"

(1)

.

- الوَاجِبُ عَلَى المُسْلِمِ إِذَا أَصَابَهُ شَيءٌ أَنْ يَكُونَ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ((عَجَبًا لأَمْرِ المُؤْمِنِ؛ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيرٌ -وَلَيسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ-: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ؛ فَكَانَ خَيرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ؛ فَكَانَ خَيرًا لَهُ))

(2)

.

- حَدِيثُ البَابِ أَوَّلُهُ هُوَ: ((المُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيرٌ))، وَالقَوِيُّ هُنَا: أَي: فِي إِيمَانِهِ وَمَا يَقْتَضِيهِ إِيمَانُهُ

(3)

: مِنَ العَمَلِ الصَّالِحِ، وَالجِهَادِ، وَالأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ، وَالنَّهْي عَنِ المُنْكَرِ، وَالحَزْمِ فِي العِبَادَاتِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.

(1)

القَولُ السَّدِيدُ (ص 172).

(2)

مُسْلِمٌ (2999) عَنْ صُهَيبٍ مَرْفُوعًا.

(3)

وَبِنَحْوِهِ قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رحمه الله فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ (16/ 215).

ص: 335

- قَولُهُ: ((احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ)) فِيهِ إِرْشَادٌ كَرِيمٌ إِلَى الاهْتِمَامِ بِمَا يَنْفَعُ، وَمِثْلُهُ قَولُهُ عليه الصلاة والسلام:((فَلْيَقُلْ خَيرًا أَو لِيَصْمُتْ))

(1)

، وَكَقَولِهِ:((مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ المَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ))

(2)

، وَكُلَّمَا كَانَ النَّفْعُ أَكْبَرَ كَانَ الحِرْصُ أَكْثَرَ.

- قَولُهُ: ((وَلَا تَعْجَزَنْ)) العَجْزُ هُنَا مَعْنَاهُ التَّعَاجُرُ وَالكَسَلُ وَالإِهْمَالُ، وَلَيسَ العَجْزَ الجِسْمِيَّ! فَإِنَّ الإِنْسَانَ إِذَا عَجَزَ عَجْزًا جِسْمِيًّا لَا يُؤَاخَذُ بِهِ لِأَنَّهُ لَيسَ بِاخْتِيَارِهِ، وَفي الحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَسْتَعِيذُ بِاللهِ تَعَالَى مِنَ العَجْزِ وَالكَسَلِ

(3)

.

- قَولُهُ: ((وَإِنْ أَصَابَكَ شَيءٌ)) فِيهِ إِرْشَادٌ إِلَى الاحْتِجَاجِ بِالقَدَرِ عِنْدَ المَصَائِبِ

(4)

الَّتِي لَا سَعْيَ لِلعَبْدِ فِيهَا.

كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحَدِيد: 22]،

وَأَيضًا قَولُهُ تَعَالَى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ} [التَّغَابُن: 11].

خِلَافًا لِلْمَعَائِبِ وَالمَعَاصِي

(5)

.

(1)

رَوَاهُ البُخَارِيُّ (6369)، وَمُسْلِمٌ (2706) عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا.

(2)

صَحِيحٌ. التِّرْمِذِيُّ (2317) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (5911).

(3)

كَمَا فِي البُخَارِيِّ (6367)، وَمُسْلِمٍ (2706) عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا:((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ العَجْزِ وَالكَسَلِ وَالجُبْنِ وَالهَرَمِ وَالبُخْلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ المَحْيَا وَالمَمَات)).

(4)

كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحَدِيد: 22]، وَأَيضًا قَولُهُ تَعَالَى:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ} [التَّغَابُن: 11].

(5)

كَمَا يَصِحُّ الاحْتِجَاجُ بِالقَدَرِ بَعْدَ التَّوبَةِ مِنَ المَعْصِيَةِ -كَمَا ذَهَبَ إِلَيهِ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ- وَسَيَأْتِي قَرِيبًا ذِكْرُ وَجْهِ ذَلِكَ؛ إِنْ شَاءَ اللهُ.

ص: 336

- قَولُهُ: ((فَإِنَّ "لَو" تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيطَانِ)) عَمَلُ الشَّيطَانِ هُنَا هُوَ مَا يُلْقِيهِ فِي قَلْبِ الإِنْسَانِ مِنَ الحَسْرَةِ وَالنَّدَمِ وَالحُزْنِ.

كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيسَ بِضَارِّهِمْ شَيئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [المُجَادِلَة: 10]، وَحَتَّى فِي المَنَامِ يُرِيهِ أَحْلَامًا مُخِيفَةً لِيُحْزِنَهُ وَيُخَوِّفَهُ!

وَأَسْوَأُ مِنْهُ مَا يُلْقِيهِ فِي نَفْسِ العَبْدِ مِنْ مُدَافَعَةٍ للقَدَرِ بِالظُّنُونِ وَالأَوهَامِ، وَإِنْكَارِ أَنْ يَكُونَ مَا تَمَّ هُوَ بِقَدَرٍ سَابِقٍ مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَإِنْكَارِ حِكْمَةِ اللهِ تَعَالَى فِي أَفْعَالِهِ!

- فِي الحَدِيثِ بَيَانُ أَرْبَعِ خُطُوَاتٍ عِنْدَ السَّعْي لِلحُصُولِ عَلَى المَطْلُوبِ؛ وَهِيَ:

1 -

الحِرْصُ عَلَى مَا يَنْفَعُ.

2 -

الاسْتِعَانَةُ بِاللهِ.

3 -

المُضِيُّ فِي الأَمْرِ، وَالاسْتِمَرَارُ فِيهِ، وَعَدَمُ التَّعَاجُزِ، وَهُوَ التَّهَاوُنُ وَالكَسَلُ.

وَهَذِهِ المَرَاتِبُ السَّابِقَةُ كُلُّهَا مَطْلُوبَةٌ مِنَ العَبْدِ مِنْ جِهَةِ سَعْيِهِ.

4 -

وَإِذَا حَصَلَ خِلَافُ المَقْصُودِ؛ فَهَذِهِ لَيسَتْ إِلَيكَ، وَإِنَّمَا تَعْزُوهَا إِلَى قَدَرِ اللهِ تَعَالَى، وَلِهَذَا قَالَ:((وَإِنْ أَصَابَكَ)) فَفَوَّضَ الأَمْرَ إلِى اللهِ تَعَالَى، وَأَمَرَهُ بِقَولِ:((قَدَّرَ اللهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ)).

- فِي الآيَةِ الكَرِيمَةِ: {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ} [آلِ عِمْرَان: 167] دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ العَبْدَ قَدْ يَكُونُ فِيهِ خَصْلَةُ كُفْرٍ وَخَصْلَةُ إِيمَانٍ، وَقَدْ يَكُونُ إِلَى أَحَدِهِمَا

ص: 337

أَقْرَبُ مِنْهُ إِلَى الأُخْرَى؛ وَلَا يَكُونُ بَعْدُ كَافِرًا خَارِجًا مِنَ الإِسْلَامِ!

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثيرٍ رحمه الله: "اسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى أَنَّ الشَّخْصَ قَدْ تَتَقَلَّبُ بِهِ الْأَحْوَالُ فَيَكُونُ فِي حَالٍ أَقْرَبَ إِلَى الْكُفْرِ، وَفِي حَالٍ أَقْرَبَ إِلَى الْإِيمَانِ"

(1)

.

- ذِكْرُ أَوجُهٍ في اسْتِعْمَالِ (لَو) -مِنْ حَيثُ عُمُومِ الاسْتِعْمَالِ-

(2)

:

1 -

فِي الاعْتِرَاضِ عَلَى الشَّرْعِ!

وَهَذَا مُحَرَّمٌ، حَيثُ اعْتَرَضَ المُنَافِقُونَ عَلَى أَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا:{لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} [آل عِمْرَان: 168].

2 -

فِي الاعْتِرَاضِ عَلَى القَدَرِ!

وَهَذَا مُحَرَّمٌ أَيضًا، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى عَنِ المُنَافِقِينَ:{يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} [آل عِمْرَان: 154]، أَي: قَالُوا: لَو أَنَّهُم لَمْ يَخْرُجُوا لَمَا تَعَرَّضُوا لِلقَتْلِ! فَهُم يَعْتَرِضُونَ عَلَى قَدَرِ اللهِ.

3 -

أَنْ تُسْتَعْمَلَ للنَّدَمِ وَالتَّحَسُّرِ.

وَهَذَا مُحَرَّمٌ أَيضًا، وَيَدُلُّ عَلَيهِ الحَدِيثُ فِي البَابِ، وَلِأَنَّ كُلَّ شَيءٍ يَفْتَحُ النَّدَمَ عَلَيكَ؛ فَإِنَّهُ مَنْهِيٌ عَنْهُ، لِأَنَّ النَّدَمَ يُكْسِبُ النَّفْسَ حُزْنًا وَانْقِبَاضًا، وَاللهُ يُرِيدُ مِنَّا أَنْ نَكُونَ فِي انْشِرَاحٍ وَانْبِسَاطٍ وَاسْتِبْشَارٍ، كَمَا سَبَقَ فِي الكَلَامِ عَلَى الفَأْلِ الحَسَنِ فِي بَابِ: مَا جَاءَ فِي الطِّيَرَةِ.

4 -

أَنْ تُسْتَعْمَلَ فِي الاحْتِجَاجِ بِالقَدَرِ عَلَى المَعْصِيَةِ!

(1)

تَفْسِيرُ ابْنِ كَثِير (2/ 160). وَانْظُرِ تَفْسِيرَ السَّعْدِيِّ (ص 156)، وَبِنَحْوِهِ أَفَادَ ابْنُ القَيِّمِ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (مَدَارِجُ السَّالِكِينَ)(1/ 293).

(2)

انْظُرِ كِتَابَ (القَولُ المُفِيدُ)(2/ 361) لِلشَّيخِ ابْنِ عُثَيمِين رحمه الله.

ص: 338

وَهَذَا مُحَرَّمٌ أَيضًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النَّحْل: 35]

(1)

.

5 -

أَنْ تُسْتَعْمَلَ فِي التَّمَنِّي.

وَحُكْمُهُ بِحَسْبِ مَا تَمَنَّى؛ فَإِنْ كَانَ خَيرًا فَخَيرٌ، وَإِنْ كَانَ شَرًّا فَشَرٌّ.

وَفي الحَدِيثِ فِي قِصَّةِ النَّفَرِ الأَرْبَعَةِ؛ قَالَ أَحَدُهُم: ((لَو أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ)) أَي مِنَ الخَيرِ ((فَهُوَ بِنِيَّتِهِ؛ فأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ)) فَهَذَا تَمَنَّى خَيرًا، وَقَالَ الثَّانِي:((لَو أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ)) أَي مِنَ الشَّرِّ ((فَهُوَ بِنِيَّتِهِ؛ فَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ))

(2)

(3)

.

(1)

وَأَيضًا قَولُهُ تَعَالَى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} [الأَنْعَام: 148].

(2)

وَالحَدِيثُ بِتَمَامِهِ: (ثَلَاثَةٌ أُقْسِمُ عَلَيهِنَّ، وَأُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا فَاحْفَظُوهُ، قَالَ: مَا نَقَصَ مَالُ عَبْدٍ مِنْ صَدَقَةٍ، وَلَا ظُلِمَ عَبْدٌ مَظْلِمَةً فَصَبَرَ عَلَيهَا إِلَّا زَادَهُ اللهُ عِزًّا، وَلَا فَتَحَ عَبْدٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ إِلَّا فَتَحَ اللهُ عَلَيهِ بَابَ فَقْرٍ -أَو كَلِمَةً نَحْوَهَا-، وَأُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا فَاحْفَظُوهُ، قَالَ: إِنَّمَا الدُّنْيَا لأَرْبَعَةِ نَفَرٍ.

عَبْدٍ رَزَقَهُ اللهُ مَالًا وَعِلْمًا فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا، فَهَذَا بِأَفْضَلِ المَنَازِلِ.

وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللهُ عِلْمًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالًا فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ يَقُولُ: لَو أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ؛ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ؛ فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ.

وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللهُ مَالًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْمًا؛ فَهُوَ يَخْبِطُ فِي مَالِهِ بِغَيرِ عِلْمٍ لَا يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ وَلَا يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَلَا يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا؛ فَهَذَا بِأَخْبَثِ المَنَازِلِ.

وَعَبْدٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللهُ مَالًا وَلَا عِلْمًا فَهُوَ يَقُولُ: لَو أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ فِيهِ بِعَمَلِ فُلَانٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ)). صَحِيحٌ. التِّرْمِذِيُّ (2325) عَنْ أَبي كَبْشَةَ الأَنَّمَارِيِّ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (3024).

(3)

قُلْتُ: وَفي البُخَاريِّ (9/ 85) بَابُ: مَا يَجُوزُ مِنَ اللَّو، وَقَولِهِ تَعَالَى:{لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً} [هُود: 80].

ص: 339

6 -

أَنْ تُسْتَعْمَلَ عَلَى سَبِيلِ الإِخْبَارِ فَقَط.

وَهَذَا جَائِزٌ، مِثْلُ: لَو حَضَرْتَ الدَّرْسَ لَاسْتَفَدْتَ عِلْمًا، وَمِنْهُ قَولُهُ صلى الله عليه وسلم:((لَو اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا أَهْدَيتُ، وَلَولَا أَنَّ مَعِي الهَدْيَ لَأَحْلَلْتُ))

(1)

.

قُلْتُ: وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ عُمُومِ اللُّغَةِ فَلَهَا أَوْجُهٌ عِدَّةٌ

(2)

.

- تَنْبِيهٌ: (لَو): لَيسَتْ اسْمًا؛ وَإِنَّمَا هِيَ حَرْفٌ، وَأُضِيفَتْ إِلَيهَا (الـ) التَّعْرِيفِ الخَاصَّةِ بِالأَسْمَاءِ -فِي عُنْوَانِ البَابِ- مِنْ أَجْلِ مُعَامَلَتِهَا أَثْنَاءَ الكَلَامِ كَالأَسْمَاءِ.

(1)

البُخَارِيُّ (1651)، وَمُسْلِمٌ (1216) مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ مَرْفُوعًا.

وَحَقِيقَةُ قَولِ -لَو- هُنَا؛ هُوَ الإِخْبَارُ عَنِ الأَفْضَلِ لِلمُسْتَقْبَلِ، وَلَيسَ فِيهَا تَحَسُّرٌ وَنَدَمٌ وَجَزَعٌ عَلَى مَا فَاتَ.

(2)

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله فِي الفَتْحِ (13/ 226): "قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: (لَو) تَدُلُّ عِنْدَ العَرَبِ عَلَى امْتِنَاعِ الشَّيءِ لِامْتِنَاعِ غَيرِهِ، تَقُولُ: لَو جَاءَنِي زَيدٌ لَأَكْرَمْتُكَ؛ مَعْنَاهُ: إِنِّي امْتَنَعْتُ مِنْ إِكْرَامِكَ لِامْتِنَاعِ مَجِيءِ زَيدٍ، وَعَلَى هَذَا جَرَى أَكْثَرُ المُتَقَدِّمِينَ، وَقَدْ تَجِيءُ بِمَعْنَى (إِنْ) الشَّرْطِيَّةِ نَحْوَ: {وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} [البقرة: 221] أَي: وَإِنْ أَعْجَبَتْكُمْ، وَتَرِدُ لِلتَّقْلِيلِ نَحْوَ: (التَمِسْ وَلَو خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ)، وَمِثْلَ: (فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَو بِشِقِّ تَمْرَة)، وَتَرِدُ لِلْعَرْضِ نَحْوَ: (لَو تَنْزِلُ عِنْدَنَا فَتُصِيبَ خَيرًا)، وَلِلْحَضِّ نَحْوَ: (لَو فَعَلْتَ كَذَا) بِمَعْنَى افْعَلْ، وَالأَوَّلُ طَلَبٌ بِأَدَبٍ وَلِينٍ، وَالثَّانِي طَلَبٌ بِقُوَّة وَشِدَّةٍ، وَتَأْتِي بِمَعْنَى التَّمَنِّي نَحْوَ: {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} [الشعراء: 102] أَي: فَلَيتَ لَنَا". تَمَّ بِحَذْفٍ يَسِيرٍ.

ص: 340

بَابُ النَّهْي عَنْ سَبِّ الرِّيحِ

عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((لَا تَسُبُّوا الرِّيحَ، فَإِذَا رَأَيتُمْ مَا تَكْرَهُونَ؛ فَقُولُوا: اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ مِنْ خَيرِ هَذِهِ الرِّيحِ وَخَيرِ مَا فِيهَا وَخَيرِ مَا أُمِرَتْ بِهِ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ هَذِهِ الرِّيحِ وَشَرِّ مَا فِيهَا وَشَرِّ مَا أُمِرَتْ بِهِ)). صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ

(1)

.

(1)

صَحِيحٌ. التِّرْمِذِيُّ (2252). الصَّحِيحَةُ (2756).

وَفي صَحِيحِ مُسْلِمٍ (899) عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا عَصَفَتِ الرِّيحُ قَالَ: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيرَهَا وَخَيرَ مَا فِيهَا وَخَيرَ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ مَا فِيهَا وَشَرِّ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ)).

ص: 341

فِيهِ مَسَائِلُ:

الأُولَى: النَّهْيُ عَنْ سَبِّ الرِّيحِ.

الثَّانِيَةُ: الإِرْشَادُ إِلَى الكَلَامِ النَّافِعِ إِذَا رَأَى الإِنْسَانُ مَا يَكْرَهُ.

الثَّالِثَةُ: الإِرْشَادُ إِلَى أَنَّهَا مَأْمُورَةٌ.

الرَّابِعَةُ: أَنَّهَا قَدْ تُؤْمَرُ بِخَيرٍ وَقَدْ تُؤْمَرُ بِشَرٍّ.

ص: 342

‌الشَّرْحُ

- سَبَبُ النَّهْي عَنْ سَبِّ الرِّيحِ هُوَ أَنَّ مَسَبَّتَهَا مَسَبَّةٌ لِلآمِرِ لَهَا؛ وَهُوَ اللهُ سبحانه وتعالى! حَيثُ إنَّهَا مَأْمُورَةٌ مِنْ قِبَلِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي النَّهْي عَنْ سَبِّ الدَّهْرِ، وهَذَا قَدْحٌ فِي التَّوحِيدِ، وَفِي الحَدِيثِ: إِنَّ رَجُلًا نَازَعَتْهُ الرِّيحُ رِدَاءَهُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَعَنَهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:((لَا تَلْعَنْهَا؛ فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ، وَإِنَّهُ مَنْ لَعَنَ شَيئًا لَيسَ لَهُ بِأَهْلٍ رَجَعَتِ اللَّعْنَةُ عَلَيهِ))

(1)

.

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: "وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَسُبَّ الرِّيحَ؛ فَإِنَّهَا خَلْقٌ للهِ مُطِيعٌ وَجُنْدٌ مِنْ أَجْنَادِهِ يَجْعَلُهَا رَحْمَةً وَنَقْمَةً إِذَا شَاءَ"

(2)

.

وَتَأَمَّلْ قَولَهُ تَعَالَى: {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَينَ يَدَي رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [النَّمْل: 63].

وَأَيضًا قَولَهُ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ * إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [الشُّورَى: 32 - 33].

- إِنَّ الرِّيحَ لَا تُسَبُّ وَلَا تُمْدَحُ، فَهِيَ لَا تُسَبُّ لِأَنَّهَا مَأْمُورَةٌ، وَأَيضًا لَا تُمْدَحُ - أَي: مِنْ جِهَةِ نِسْبَةِ النِّعْمَةِ إِلَيهَا، وَلَيسَ مِنْ جِهَةِ عُمُومِ الإِخْبَارِ وَالوَصْفِ- لِأَنَّ فِي هَذَا تَنَقُّصًا لِلهِ عز وجل؛ وِإِسْنَادًا لِلأُمُورِ إِلَى غَيرِهِ سُبْحَانَهُ، وَقَدْ سَبَقَ فِي بَابِ قَولِ اللهِ تَعَالَى:

(1)

صَحِيحٌ. أَبُو دَاوُدَ (4908) عَنِ ابْنِ عبَّاسٍ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (528).

(2)

ذَكَرَهُ البَيهَقِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (مَعْرِفَةُ السُّنَنِ وَالآثَارِ)(7250) بَعْدَ ذِكْرِ حَدِيثٍ مُنْقَطِعٍ -أَعَلَّهُ بِذَلِكَ المُنَاوِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ فَيضُ القَدِيرِ (6/ 399) - وَفِيهِ: شَكَا رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الفَقْرَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:((لَعَلَّكَ تَسُبُّ الرِّيحَ))؟!

ص: 343

{يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ} [النَّحْل: 107] ذِكْرُ قَولِ بَعْضِ السَّلَفِ: "هُوَ كَقَولِهِمْ: كَانَتِ الرِّيحُ طَيِّبَةً، وَالمَلَّاحُ حَاذِقًا".

قُلْتُ: وَلَيسَ مِنْ هَذَا وَصْفُ الرِّيحِ بِمَا فِيهَا مِنْ صِفَاتٍ -أَي: مِنْ جِهَةِ الشِّدَّةِ وَاللُّطْفِ وَالتَّدْمِيرِ مَثَلًا-، كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى:{هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَينَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [يُونُس: 22]، وَكَقَولِهِ تَعَالَى:{وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} [الحَاقَّة: 6]، وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُ نَظِيرِ ذَلِكَ فِي بَابِ: مَنْ سَبَّ الدَّهْرَ فَقَدْ آذَى اللهَ

(1)

.

- قَولُهُ: ((مِنْ خَيرِ هَذِهِ الرِّيحِ)) الرِّيحُ نَفْسُهَا فِيهَا خَيرٌ وَفِيهَا شَرٌّ، فَقَدْ تَكُونُ عَاصِفَةً تَقْلَعُ الأَشْجَارَ، وَتَهْدِمُ الدِّيَارَ، وَتُفِيضُ البِحَارَ وَالأَنْهَارِ، وَقَدْ تَكُونُ هَادِئَةً تُبْرِدُ الجَوَّ وَتُكْسِبُ النَّشَاطَ.

- قَولُهُ: ((وَخِيرِ مَا فِيهَا)) أَي: مَا تَحْمِلُهُ، لِأَنَّهَا قَدْ تَحْمِلُ خَيرًا؛ كَتَلْقِيحِ النَّبَاتِ، وَقَدْ تَحْمِلُ رَائِحَةً طَيِّبَةَ الشَّمِّ، وَقَدْ تَحْمِلُ شَرًّا، كَإِزَالَةِ لِقَاحِ النَّبَاتِ، وَأَمْرَاضٍ تَضُرُّ الإِنْسَانَ وَالبَهَائِمَ.

- قَولُهُ: ((وَخَيرِ مَا أُمِرَتْ بِهِ)) أَي: مِنْ جِهَةِ عُمُومِ الأَمْرِ الرَّبَّانِيِّ لَهَا.

قُلْتُ: فِي تَوجِيهِ الفَرْقِ بَينَ الجُمْلَةِ الأُولَى وَالثَّالِثَةِ: أَنَّ الخَيرَ فِي الجُمْلَةِ الأُولَى هُوَ بِاعْتِبَارِ مَا تَقُومُ بِهِ الرِّيحُ فِي الظَّاهِرِ، وَأَمَّا فِي الجُمْلَةِ الثَّالِثَةِ فَهُوَ بِاعْتِبَارِ الخَيرِ فِيهَا مَآلًا. وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(1)

قُلْتُ: وَلَكِنَّ الفَرْقَ بَينَ الدَّهْرِ وَالرِّيحِ؛ هُوَ أَنَّ الرَّيحَ عَبْدٌ مَأْمُورٌ مُطِيعٌ للهِ تَعَالَى لَهُ اخْتِيَارٌ بِنَفْسِهِ مِنْ جِهَةِ الطَّاعَةِ، أَمَّا الدَّهْرُ فَهُوَ ظَرْفٌ لِمَا يَحَلُّ فِيهِ مِنَ الحَوَادِثِ؛ فَهُوَ لَيسَ عَينًا! وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

ص: 344

- الرِّيحُ مَأْمُورَةٌ؛ قَدْ تُؤْمَرُ بِخَيرٍ وَقَدْ تُؤْمَرُ بِشَرٍ، كَمَا فِي الحَدِيثِ:((لَا تَسُبُّوا الرِّيحَ؛ فَإِنَّهَا مِنْ رَوحِ اللهِ، تَأْتِي بِالرَّحْمَةِ وَالعَذَابِ، وَلَكِنْ سَلُوا اللهَ مِنْ خَيرِهَا وَتَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ شَرِّهَا))

(1)

:

1 -

فَالخَيرُ هَوَ كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَينَ يَدَي رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ} [الأَعْرَاف: 57].

وَكَقَولِهِ تَعَالَى أَيضًا: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَينَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} [الحِجْر: 22].

2 -

وَالشَّرُّ هُوَ كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى عَنْهَا: {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ * مَا تَذَرُ مِنْ شَيءٍ أَتَتْ عَلَيهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} [الذَّارِيَات: 41 - 42]

(2)

.

وَكَقَولِهِ تَعَالَى أَيضًا: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ * تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} [القَمَر: 19 - 20]

(3)

.

وَفِي الصَّحِيحَينِ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: مَا رَأَيتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ضَاحِكًا حَتَّى

(1)

صَحِيحٌ. ابْنُ مَاجَه (3727) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (7316).

(2)

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثيرٍ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (7/ 423): " (العَقِيمَ) أَيِ: المُفْسِدَةَ الَّتِي لَا تَنْتِجُ شَيئًا. قَالَهُ الضَّحَّاكُ وَقَتَادَةُ وَغَيرُهُمَا، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {مَا تَذَرُ مِنْ شَيءٍ أَتَتْ عَلَيهِ} أَي: مِمَّا تُفْسِدُهُ الرِّيحُ {إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} أَي: كَالشَّيءِ الهَالِكِ البَالِي".

(3)

قَالَ الشَّيخُ السَّعْدِيُّ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (ص 826): " {رِيحًا صَرْصَرًا} أَي: شَدِيدَةً جِدًّا، {فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ} أَي: شَدِيدِ العَذَابِ وَالشَّقَاءِ عَلَيهِم، {مُسْتَمِرٍّ} عَلَيهِم سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا، {تَنْزِعُ النَّاسَ} مِنْ شِدَّتِهَا فَتَرْفَعُهُم إِلَى جَوِّ السَّمَاءِ ثُمَّ تَدْفَعُهُم بِالأَرْضِ فَتُهْلِكُهُم، فَيُصْبِحُونَ {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} أَي: كَأَنَّ جُثَثَهُم بَعْدَ هَلَاكِهِم مِثْلُ جُذُوعِ النَّخْلِ الخَاوي الَّذِي اقْتَلَعَتْهُ الرِّيحُ فَسَقَطَ عَلَى الأَرْضِ، فَمَا أَهْوَنَ الخَلْقَ عَلَى اللهِ إِذَا عَصَوا أَمْرَهُ".

ص: 345

أَرَى مِنْهُ لَهَوَاتِهِ

(1)

! إِنَّمَا كَانَ يَتَبَسَّمُ، قَالَتْ: وَكَانَ إِذَا رَأَى غَيمًا أَو رِيحًا عُرِفَ فِي وَجْهِهِ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوا الغَيمَ فَرِحُوا رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ المَطَرُ، وَأَرَاكَ إِذَا رَأَيتَهُ عُرِفَ فِي وَجْهِكَ الكَرَاهِيَةُ! فَقَالَ:((يَا عَائِشَةُ مَا يُؤْمِنِّي أَنْ يَكُونَ فِيهِ عَذَابٌ؟ عُذِّبَ قَومٌ بِالرِّيحِ، وَقَدْ رَأَى قَومٌ العَذَابَ فَقَالُوا: {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأَحْقَاف: 24]))

(2)

(3)

.

وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ، فَلَمَّا كَانَ قُرْبَ المَدِينَةِ هَاجَتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ تَكَادُ أَنْ تَدْفِنَ الرَّاكِبَ، فَزَعَمَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:((بُعِثَتْ هَذِهِ الرِّيحُ لِمَوتِ مُنَافِقٍ))، فَلَمَّا قَدِمَ المَدِينَةَ؛ فَإِذَا مُنَافِقٌ عَظِيمٌ مِنَ المُنَافِقِينَ قَدْ مَاتَ

(4)

.

(1)

قَالَ الشَّيخُ ابْنُ عُثَيمِين رحمه الله: "يَعْنِي لَيسَ يَضْحَكُ ضَحِكًا فَاحِشًا بِقَهْقَهَةٍ: يَفْتَحُ فَمَهُ حَتَّى تَبْدُو لُهَاتُهُ! وَلَكِنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَبَتَسَّمُ أَو يَضْحَكُ حَتَّى تَبْدُو نَوَاجِذُهُ أَو تَبْدُو أَنْيَابُهُ". شَرْحُ رِيَاضِ الصَّالِحِينَ (4/ 92).

(2)

البُخَارِيُّ (4828)، وَمُسْلِمٌ (899).

(3)

قَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} [الأَحْقَاف: 24 - 25].

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (7/ 286): "أَي: لَمَّا رَأَوُا العَذَابَ مُسْتَقْبِلَهُمْ؛ اعْتَقَدُوا أَنَّهُ عَارِضٌ مُمْطِرٌ، فَفَرِحُوا وَاسْتَبْشَرُوا بِهِ، وَقَدْ كَانُوا مُمْحِلِينَ مُحْتَاجِينَ إِلَى المَطَرِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} أَي: هُوَ العَذَابُ الَّذِي قُلْتُمْ: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}، {تُدَمِّرُ} أَي: تُخَرِّبُ {كُلَّ شَيءٍ} مِنْ بِلَادِهِمْ مِمَّا مِنْ شَأْنِهِ الخَرَابُ {بِأَمْرِ رَبِّهَا} أَي: بِإِذْنِ اللهِ لَهَا فِي ذَلِكَ، كَقَولِهِ: {مَا تَذَرُ مِنْ شَيءٍ أَتَتْ عَلَيهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} [الذَّارِيَات: 42] أَي: كَالشَّيءِ البَالِي، وَلِهَذَا قَالَ: {فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} أَي: قَدْ بَادُوا كُلُّهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ وَلَمْ تَبْقَ لَهُمْ بَاقِيَةٌ، {كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} أَي: هَذَا حُكْمُنَا فِيمَنْ كَذَّبَ رُسُلَنَا وَخَالَفَ أَمْرَنَا".

(4)

مُسْلِمٌ (2782).

ص: 346

- فِي الحَدِيثِ بَيَانُ الذِّكْرِ المَشْرُوعِ عِنْدَ رُؤْيَةِ مَا يُكْرَهُ مِنَ الرِّيحِ، وَأَيضًا مَا جَاءَ فِي الحَدِيثِ: كَانَ إِذَا اشْتَدَّتِ الرِّيحُ يَقُولُ: ((اللَّهُمَّ لَاقِحًا؛ لَا عَقِيمًا))

(1)

(2)

.

وَفِي الحَدِيثِ أَيضًا عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَبْصَرْنَا شَيئًا فِي السَّمَاءِ -تَعْنِي السَّحَابَ- تَرَكَ عَمَلَهُ وَاسْتَقْبَلَهُ، قَالَ:((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا فِيهِ))، فَإِنْ كَشَفَهُ اللهُ حَمِدَ اللهَ، وَإِنْ مَطَرَتْ؛ قَالَ:((اللَّهُمَّ سَقْيًا نَافِعًا))

(3)

.

- فَائِدَةٌ: "فِي الحَدِيثِ دِلَالَةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى أَنَّ الرِّيحَ قَدْ تَأْتِي بِالرَّحْمَةِ، وَقَدْ تَأْتِي بِالعَذَابِ، وَأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَينَهُمَا إِلَّا بِالرَّحْمَةِ وَالعَذَابِ، وَأَنَّهَا رِيحٌ وَاحِدَةٌ لَا رِيَاحٌ، فَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ الطَّبَرَانِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ:((اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا رِيَاحًا وَلَا تَجْعَلْهَا رِيحًا))

(4)

فَهُوَ بَاطِلٌ، وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: لَا أَصْلَ لَهُ"

(5)

.

قَالَ الشَّيخُ ابْنُ عُثَيمِينَ رحمه الله عِنْدَ قَولِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَينَ يَدَي رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفُرْقَان: 48]: "هَذِهِ الآيةُ فِيهَا عِدَّةُ قِرَاءَاتٍ: أَوَّلًا: (الرِّيَاحُ) فِيهَا قِرَاءَتَانِ سَبْعِيَّتَانِ، وَالدَّلِيلُ أَنَّ المُفَسِّرَ رحمه الله

(6)

إِذَا قَالَ: (وَفِي قِرَاءَةٍ) فَهِيَ سَبْعِيَّةٌ، وَإِذَا قَالَ:(وَقُرِئَ) فَهِيَ شَاذَّةٌ، فَفِيهَا قِرَاءَتَانِ:(الرِّيَاحُ)

(1)

صَحِيحٌ. الأَدَبُ المُفْرَدُ (718) عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (2058).

(2)

أَي: حَامِلًا لِلمَاءِ كَاللقْحَةِ مِنَ الإِبْلِ، وَ (العَقِيمُ) الَّتِي لَا مَاءَ فِيهَا، كَالعَقِيمِ مِنَ الحَيَوَانِ لَا وَلَدَ فِيهَا، وَكَمَا سَبَقَ فِي قَولِهِ تَعَالَى:{وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ * مَا تَذَرُ مِنْ شَيءٍ أَتَتْ عَلَيهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} [الذَّارِيَات: 41 - 42].

(3)

صَحِيحٌ. السُّنَنُ الكُبْرَى لِلبَيهَقِيِّ (6469). مِشْكَاةُ المَصَابِيحِ (1520).

(4)

بَاطِلٌ. الطَّبَرَانِيُّ فِي الكَبِيرِ (11/ 213). الضَّعِيفَةُ (5600).

(5)

قَالَهُ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله فِي الصَّحِيحَةِ (2756).

(6)

يُرِيدُ تَفْسِيرَ الجَلَالَينِ.

ص: 347

وَ (الرِّيحُ)، وَبِهَذَا نَعْرِفُ أَنَّ مَا اشْتُهِرَ مِن قَوْلِهِم: إِنَّ (الرِّيحَ) لَا تَكُونُ إِلَّا فِي العَذَابِ؛ وَ (الرِّيَاحُ) تَكُونُ فِي الرَّحْمَةِ! لَيسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ، وَأَنَّهُ قَدْ يُؤْتَى بِالرِّيحِ مُفْرَدًا فِي رِيحِ الرَّحْمَةِ؛ لَكِنَّهُ لَهُ قَرِينَةٌ، فَهُنَا لَمَّا قَالَ:{بَينَ يَدَي رَحْمَتِهِ} عَرَفْنَا أَنَّهَا رِيحُ رَحْمَةٍ، وَكَذَلِكَ قَولُهُ سبحانه وتعالى:{حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَينَ بِهِمْ بِرِيحٍ} [يونس: 22] مَاذَا بَعْدَهَا؟ {طَيِّبَةٍ} هَذِهِ رِيحُ رَحْمَةٍ؛ لَكِنَّهَا وُصِفَتْ، فَأَمَّا عِنْدَ الإِطْلَاقِ؛ فَالغَالِبُ أَنَّ الرِّيحَ لِلْعَذَابِ"

(1)

.

(1)

تَفْسِيرُ سُورَةِ الفُرْقَانِ لِابْنِ عُثَيمِينَ (ص 203).

ص: 348

بَابُ قَولِ اللهِ تَعَالَى: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيءٍ} [آل عِمْرَان: 154].

وَقَولِهِ: {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} [الفَتْحِ: 6].

قَالَ ابْنُ القَيِّمِ فِي الآيَةِ الأُولَى: "فُسِّرَ هَذَا الظَّنُّ بِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَنْصُرُ رَسُولَهُ، وَأَنَّ أَمْرَهُ سَيَضْمَحِلُّ! وَفُسِّرَ بِأَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ بِقَدَرِ اللهِ وَحِكْمَتِهِ!

فَفُسِّرَ بِإِنْكَارِ الحِكْمَةِ وَإِنْكَارِ القَدَرِ وَإِنْكَارٍ أَنْ يُتِمَّ أَمْرَ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنْ يُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، وَهَذَا هُوَ ظَنُّ السَّوءِ الَّذِي ظَنَّهُ المُنَافِقُونَ وَالمُشْرِكُونَ فِي سُورَةِ الفَتْحِ.

وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا ظَنَّ السَّوء؛ لِأَنَّهُ ظَنُّ غَيرِ مَا يَلِيقُ بِهِ سُبْحَانَهُ وَمَا يَلِيقُ بِحِكْمَتِهِ وَحَمْدِهِ وَوَعْدِهِ الصَّادِقِ.

فَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ يُدِيلُ البَاطِلَ عَلَى الحَقِّ إِدَالَةً مُسْتَقِرَّةً يَضْمَحِلُّ مَعَهَا الحَقُّ! أَو أَنْكَرَ أَنَّ مَا جَرَى بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ! أَو أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ قَدَرُهُ لِحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ يَسْتَحِقُّ عَلَيهَا الحَمْدَ؛ بَلْ زَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ لِمَشِيئَةٍ مُجَرَّدَةٍ! فَـ {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص: 27].

وَأَكْثَرُ النَّاسِ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوءِ فِيمَا يَخْتَصُّ بِهِمْ وَفِيمَا يَفْعَلُهُ بِغَيرِهِمْ! وَلَا يَسْلَمُ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا مَنْ عَرَفَ اللهَ وَأَسْمَاءَهُ وَصِفَاتِهِ وَمُوجَبَ

(1)

حِكْمَتِهِ وَحَمْدِهِ.

(1)

بِالفَتْحِ: هُوَ المُسَبَّبُ النَاتِجُ عَنِ السَّبَبِ بِمَعْنَى المُقْتَضَى.

ص: 349

فَلْيَعْتَنِ اللَّبِيبُ النَّاصِحُ لِنَفْسِهِ بِهَذَا، وَلْيَتُبْ إِلَى اللهِ، وَلْيَسْتَغْفِرْهُ مِنْ ظَنِّهِ بِرَبِّهِ ظَنَّ السَّوءِ.

وَلَو فَتَّشْتَ مَنْ فَتَّشْتَّ لَرَأَيتَ عِنْدَهُ تَعَنُّتًا عَلَى القَدَرِ وَمَلَامَةً لَهُ! وَأَنَّهُ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَذَا وَكَذَا! فَمُسْتَقِلٌّ وَمُسْتَكْثِرٌ، وَفَتِّشْ نَفْسَكَ هَلْ أَنْتَ سَالِمٌ؟

فَإِنْ تَنْجُ مِنْهَا تَنْجُ مِنْ ذِي عَظِيمَةٍ .... وَإِلَّا فَإِنِّي لَا إِخَالُكَ

(1)

نَاجِيًا".

(1)

أَي: أَظُنُّكَ.

ص: 350

‌الشَّرْحُ

- هَذَا البَابُ يَصْلُحُ أَنْ يُسَمَّى بِبَابِ (النَّهْيُ عَنْ ظَنِّ السُّوءِ بِاللهِ تَعَالَى).

- مُنَاسَبَةُ هَذَا البَابِ لِكِتَابِ التَّوحِيدِ: أَنَّ حُسْنَ الظَّنِّ بِاللهِ سبحانه وتعالى هُوَ مِنْ وَاجِبَاتِ التَّوحِيدِ، وَسُوءَ الظَّنِّ بِاللهِ عز وجل يُنَافِي التَّوحِيدَ

(1)

، وَفي الحَدِيثِ:((لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللَّهِ عز وجل)

(2)

.

- قَولُهُ تَعَالَى: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} فُسِّرَ هَذَا الظَّنُّ كَمَا فِي سُورَةِ الفَتْحِ: {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا} [الفَتْح: 12]، وَهَكَذَا هَؤُلَاءِ اعْتَقَدُوا أَنَّ المُشْرِكِينَ لَمَّا ظَهَرُوا تِلْكَ السَّاعَةِ ظَنُّوا أَنَّهَا الفَيصَلَةُ، وَأَنَّ الإِسْلَامَ قَدْ بَادَ وَأَهْلَهُ.

- إِنَّ ظَنَّ السَّوءِ الَّذِي ظَنَّهُ المُنَافِقُونَ هُوَ مِنْ ثَلَاثِ جِهَاتٍ:

1 -

أَنَّ اللهَ لَا يَنْصُرُ رَسُولَهُ، وَإِنَّ أَمْرَهُ سَيَضْمَحِلُّ!

وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ إِرْسَالَ الرَّسُولِ عليه الصلاة والسلام عَبَثٌ وَسَفَهٌ! فَمَا الفَائِدَةُ مِنْ أَنْ يُرْسَلَ رَسُولٌ وَيُؤْمَرَ بِالقِتَالِ وَإِتْلَافِ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ؛ ثُمَّ تَكُونَ النَّتِيجَةُ أَنْ يَضْمَحِلَ أَمْرُهُ وَيُنْسَى؟! فَهَذَا ظَنُّ سَوءٍ بِاللهِ تَعَالَى، وَلَا سِيَّمَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِي هُوَ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ بِأَنَّ شَرِيعَتَهُ سَوفَ تَبْقَى إِلَى يَومِ القِيَامَةِ.

(1)

يُنَافِي أَصْلَهُ إِذَا زَادَ وَكَثُرَ وَاسْتَمَرَّ وَصَرَّحَ بِهِ، أَو يُنَافِي كَمَالَهُ الوَاجِبَ إِذَا كَانَ شَيئًا عَارِضًا أَو شَيئًا خَفِيفًا أَو خَاطِرًا فِي النَّفْسِ فَقَطْ -لَا يَقْصُدُ حَقِيقَتَهُ-، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مِنْ أَعْمَالِ القُلُوبِ مَا يُؤَاخَذُ بِهِ صَاحِبُهُ؛ خِلَافًا لِحَدِيثِ النَّفْسِ.

(2)

مُسْلِمٌ (2877) عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا.

ص: 351

قَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصَّف: 9]، وَهَذَا الظَّنُّ أَيضًا تَكْذِيبٌ لِقَولِهِ تَعَالَى:{إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غَافِر: 51]، وَلَا رَيبَ أَنَّ التَّكْذِيبَ لِوَعْدِ اللهِ كُفْرٌ.

2 -

أَنَّ مَا أَصَابَهُم لَمْ يَكُنْ بِقَضَاءِ اللهِ وَقَدَرِهِ! فَهُوَ إِنْكَارٌ لِلقَدَرِ، وَهَذَا رَدٌّ لِرُكْنِ الإِيمَانِ السَّادِسِ.

3 -

إِنْكَارُهُم لِلحِكْمَةِ! وَهَذَا أَيضًا كُفْرٌ بِاللهِ وَضَلَالٌ، فَمَنْ أَنْكَرَهَا كَفَرَ بِاسْمِ اللهِ الحَكِيمِ، وَمَنْ أَوَّلَهَا فَقَدْ ضَلَّ.

- لَا يَسْلَمُ مِنْ ظَنِّ السَّوءِ بِاللهِ إِلَّا مَنْ عَرَفَ اللهَ وَأَسْمَاءَهُ وَصِفَاتِهِ.

وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ؛ تَأَمُّلُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى: ((يُعْطِي الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لَا يُحِبُّ، وَأَمَّا الدِّينَ فَإِنَّهُ لَا يُعْطِيهِ إِلَّا لِمَنْ يُحِبُّ))

(1)

، فَلَيسَ حُصُولُ الخَيرَاتِ أَوِ المَصَائِبِ دَلِيلًا عَلَى المَحَبَّةِ أَو عَلَى البُغْضِ وَالكَرَاهَةِ! وَإنَّمَا هُوَ ابْتِلَاءٌ وَامْتِحَانٌ، فَقَدْ يَبْتَلِي اللهُ مَنْ يُحِبُّهُ بما يَسُوءُهُ، وَقَدْ يُنْعِمُ عَلَى مَنْ يُبْغِضُهُ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا، كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى:{وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عِمْرَان: 178].

وَكَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ} [الفَجْر: 15 - 17].

(1)

صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (3672) عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (2714).

ص: 352

وَكَمَا فِي الأَثَرِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ؛ قَالَ: كُنْتُ مَعَ سَلْمَانَ -وعَادَ مَرِيضًا فِي كِنْدَةَ-، فلمَّا دَخلَ عَليهِ قَال:(أَبشِر فِإنَّ مَرَضَ المُؤْمِنِ يَجَعَلُهُ اللهُ لَه كَفَّارَةً وَمُسْتَعْتَبًا، وإِنَّ مَرَضَ الفَاجِرِ كَالبَعِيرِ! عَقَلَهُ أَهْلُهُ ثُم أَرْسَلُوهُ؛ فَلَا يَدْرِي لِمَ عُقِلَ وَلِمَ أُرْسِلَ؟)

(1)

.

قَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ

(2)

:

"فَلَا تَجْزَعْ وَإِنْ أَعْسَرْتَ يَومًا

فَقَدْ أَيسَرْتَ فِي الزَّمَنِ الطَّوِيلِ

وَلَا تَيأَسْ؛ فَإِنَّ اليَأْسَ كُفْرٌ

لَعَلَّ اللهَ يُغْنِي عَنْ قَلِيلِ

وَلَا تَظْنُنْ بِرَبِّكَ ظَنَّ سَوءٍ

فَإِنَّ اللهَ أَولَى بِالجَمِيلِ"

(3)

.

- قَولُهُ تَعَالَى: {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ}

(4)

: يَعْنِي: أَنَّ دَائِرَةَ العَذَابِ تَدُورُ عَلَيهِم، وَأَنَّ السُّوءَ مُحِيطٌ بِهِم جَمِيعًا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ كَمَا تُحِيطُ الدَّائِرَةُ بِمَا فِي جَوفِهَا.

- اسْمُ اللهِ تَعَالَى (الحَكِيمُ) مُشْتَمِلٌ عَلَى عِدَّةِ مَعَانٍ؛ فَإِنَّهُ تَعَالَى:

1 -

حَكِيمٌ بِمَعْنَى حَاكِمٌ.

2 -

حَكيمٌ بِمَعْنَى مُحْكِمٌ لِلأُمُورِ.

(1)

صَحِيحٌ. الأَدَبُ المُفْرَدُ (493). صَحِيحُ الأَدَبِ المُفْرَدِ (379).

(2)

هُوَ ابْنُ عَلِيِّ بْنِ الحُسَينِ رضي الله عنهم.

(3)

شُعَبُ الإِيمَانِ (12/ 363).

(4)

قَالَ القُرْطُبيُّ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (8/ 234): " {عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ} قَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرو بِضَمِّ السِّينِ، وَفَتَحَهَا البَاقُونَ". وَقَالَ أَيضًا رحمه الله: "أَجْمَعُوا عَلَى فَتْحِ السِّينِ فِي قَولِهِ: {مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ} [مَرْيَم: 28] ".

ص: 353

3 -

حَكِيمٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ ذُو الحِكْمَةِ البَالِغَةِ، وَكُلُّ فِعْلٍ يَفْعَلُهُ اللهُ تَعَالَى فَهُوَ لِحِكْمَةٍ، وَنَحْنُ قَدْ نَعْلَمُهَا وَقَدْ لَا نَعْلَمُهَا.

- الأَصْلُ فِي الظَّنِّ: أَنَّهُ الاحْتِمَالُ الرَّاجِحُ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى اليَقِينِ، كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى:{الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيهِ رَاجِعُونَ} [البَقَرَة: 46] أَي: يَتَيَقَّنُونَ، وَضِدُّ الرَّاجِحِ: المَرْجُوحُ، وَيُسَمَّى وَهْمًا

(1)

.

وَظَنُّ المَنَافِقِينَ هُوَ ظَنُّ الجَاهِلِيَّةِ، لِأَنَّهَا لَا تَعْرِفُ قَدْرَ اللهِ وَعَظَمَتَهُ، فَهُوَ ظَنٌّ بَاطِلٌ مبْنِيٌّ عَلَى الجَهْلِ.

- قَولُهُ تَعَالَى: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} [آل عِمْرَان: 154]: الكِتَابَةُ مِنَ اللهِ تَعَالَى نَوعَانِ: شَرْعِيَّةٌ وَكَونِيَّةٌ، وَالفَرْقُ بَينَهُمَا أَنَّ الكَونِيَّةَ وَاقِعَةٌ لَا مَحَالَةَ، وَقَدْ يُحِبُّهَا اللهُ تَعَالَى وَقَدْ لَا يُحِبُّهَا -وَعَلَيهَا تُحْمَلُ الكِتَابَةُ هُنَا-.

أَمَّا الشَّرْعِيَّةُ فَقَدْ تَقَعُ وَقَدْ لَا تَقَعُ، وَهِيَ مَحْبُوبَةٌ دَومًا مِنَ اللهِ تَعَالَى

(2)

.

- قَولُهُ تَعَالَى: {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ} أَي: يَخْتَبِرَ مَا فِي صُدُورِكُم

(1)

قَالَ الجُرْجَانِيُّ النَّحَوِيُّ (ت 816 هـ) رحمه الله: "الظَّنُّ: هُوَ الاعْتِقَادُ الرَّاجِحُ مَعَ احْتِمَالِ النَّقِيضِ، وَيُسْتَعْمَلُ فِي اليَقِينِ وَالشَّكِّ، وَقِيلَ: الظَّنُّ أَحَدُ طَرَفَيِّ الشَّكِّ بِصِفَةِ الرَّجَحَانِ". التَّعْرِيفَاتُ (1/ 144).

(2)

وَمِثَالُ الكِتَابَةِ الشَّرْعِيَّةِ قَولُهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البَقَرَة: 183].

وَمِثَالُ الكِتَابَةِ الكَونِيَّةِ قَولُهُ تَعَالَى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المُجَادِلَة: 21]، وَقَولُهُ تَعَالَى أَيضًا:{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأَنْبِيَاء: 105].

ص: 354

مِنَ الإِيمَانِ بِقَضَاءِ اللهِ وَقَدَرِهِ وَالإِيمَانِ بِحِكْمَتِهِ، فَيَخْتَبِرَ مَا فِي قَلْبِ العَبْدِ بِمَا يُقَدِّرُهُ عَلَيهِ مِنَ الأُمُورِ المَكْرُوهَةِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ مَنْ اسْتَسْلَمَ لِقَضَاءِ اللهِ وَقَدَرِهِ وَحِكْمَتِهِ مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ.

- قَولُهُ تَعَالَى: {وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} أَي: إِذَا حَصَلَ الابْتِلَاءُ فَقُوبِلَ بِالصَّبْرِ صَارَ فِي ذَلِكَ تَمْحِيصٌ لِمَا فِي القَلْبِ، أَي: تَطْهِيرٌ لَهُ وَإِزَالَةٌ لِمَا يَكُونُ قَدْ عَلقَ بِهِ مِنْ بَعْضِ الأُمُورِ الَّتِي لَا تَنْبَغِي.

وَقَدْ حَصَلَ الابْتِلَاءُ وَالتَّمْحِيصُ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ بِدَلِيلِ أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمَّا نَدَبَهُم الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم لِلخُرُوجِ حِينَ قِيلَ لَهُ: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} [آل عِمْرَان: 172] خَرَجُوا إِلَى (حَمْرَاءَ الأَسَدِ) وَلَمْ يَجِدُوا غَزْوًا فَرَجَعُوا، {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عِمْرَان: 174].

- (ابْنُ القَيِّمِ): هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبي بَكْرِ بْنِ أَيُّوبَ بْنِ سَعْدٍ الزَّرْعِيُّ؛ الدِّمَشْقِيُّ؛ أَبْو عَبْدِ اللهِ؛ شَمْسُ الدِّينِ؛ مِنْ أَرْكَانِ الإِصْلَاحِ الإِسْلَامِيِّ؛ وَأَحَدُ كِبَارِ العُلَمَاءِ، تَتَلْمَذَ عَلَى شَيخِ الإِسْلَامِ ابْنِ تَيمِيَّةَ حَتَّى كَانَ لَا يَخْرُجُ عَنْ شَيءٍ مِنْ أَقْوَالِهِ، بَلْ يَنْتَصِرُ لَهُ فِي جَمِيعِ مَا يَصْدُرُ عَنْهُ، وَسُجِنَ مَعَهُ فِي قَلْعَةِ دِمَشْقَ، وَأُهِينَ وَعُذِّبَ بِسَبَبِهِ، وَكَانَ حَسَنَ الخُلُقِ مَحْبُوبًا عِنْدَ النَّاسِ، (ت 751)

(1)

.

- قَولُهُ: "فَإِنْ تَنْجُ مِنْهَا تَنْجُ مِنْ ذِي عَظِيمَةٍ وَإِلَّا فَإِنِّي لَا إِخَالُكَ" البَيتُ مَنْسُوبٌ لِلْأَسْوَدِ بْنِ سَرِيعٍ التَّمِيمِيِّ؛ صَاحِبِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم

(2)

.

(1)

الأَعْلَامُ لِلزِّرِكْلِيِّ (6/ 56).

(2)

البَيَانُ وَالتَّبِيينُ (1/ 293) لِلْجَاحِظِ.

ص: 355

- فَائِدَةٌ جَلِيلَةٌ: "عَلَى قَدْرِ حُسْنِ ظَنِّكَ بِرَبِّكَ وَرَجَائِكَ لَهُ؛ يَكُونُ تَوَكُّلُكَ عَلَيهِ، وَلِذَلِكَ فَسَّرَ بَعْضُهُمُ التَّوَكُّلَ بِحُسْنِ الظَّنِّ بِاللَّهِ.

وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ حُسْنَ الظَّنِّ بِهِ يَدْعُوهُ إِلَى التَّوَكُّلِ عَلَيهِ؛ إِذْ لَا يُتَصَوَّرُ التَّوَكُّلُ عَلَى مَنْ سَاءَ ظَنُّكَ بِهِ، وَلَا التَّوَكُّلُ عَلَى مَنْ لَا تَرْجُوهُ! "

(1)

.

- وَلِتَمَامِ الفَائِدَةِ نَنْقُلُ تَتِمَّةَ كَلَامِ الإِمَامِ ابْنِ القَيِّمِ رحمه الله، فَقَالَ: "وَمَنْ ظَنَّ بِهِ أَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ بِمَا ظَاهِرُهُ بَاطِلٌ وَتَشْبِيهٌ وَتَمْثِيلٌ؛ وَتَرْكَ الحَقَّ لَمْ يُخْبِرْ بِهِ؛ وَإِنَّمَا رَمَزَ إلَيهِ رُمُوزًا بَعِيدَةً؛ وَأَشَارَ إلَيهِ إِشَارَاتٍ مُلْغزَةً لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ، وَصَرَّحَ دَائِمًا بِالتّشْبِيهِ وَالتّمْثِيلِ وَالبَاطِلِ؛ وَأَرَادَ مِنْ خَلْقِهِ أَنْ يُتْعِبُوا أَذْهَانَهُمْ وَقُوَاهُمْ وَأَفْكَارَهُمْ فِي تَحْرِيفِ كَلَامِهِ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَتَأْوِيلِهِ عَلَى غَيرِ تَأْوِيلِهِ؛ وَيَتَطّلَبُوا لَهُ وُجُوهَ الِاحْتِمَالَاتِ المُسْتَكْرَهَةِ وَالتَّأْوِيلَاتِ -الَّتِي هِيَ بِالأَلْغَازِ وَالأَحَاجِي أَشْبَهُ مِنْهَا بِالكَشْفِ وَالبَيَانِ- وَأَحَالَهُمْ فِي مَعْرِفَةِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ عَلَى عُقُولِهِمْ وَآرَائِهِمْ لَا عَلَى كِتَابِهِ؛ بَلْ أَرَادَ مِنْهُمْ أَنْ لَا يَحْمِلُوا كَلَامَهُ عَلَى مَا يَعْرِفُونَ مِنْ خِطَابِهِمْ وَلُغَتِهِمْ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى أَنْ يُصَرِّحَ لَهُمْ بِالحَقِّ الَّذِي يَنْبَغِي التّصْرِيحُ بِهِ وَيُرِيحَهُمْ مِنَ الأَلْفَاظِ الَّتِي تُوقِعُهُمْ فِي اعْتِقَادِ البَاطِلِ؛ فَلَمْ يَفْعَلْ! بَلْ سَلَكَ بِهِمْ خِلَافَ طَرِيقِ الهُدَى وَالبَيَانِ! فَقَدْ ظَنَّ بِهِ ظَنَّ السّوءِ.

فَإِنَّهُ إنْ قَالَ: إنّهُ غَيرُ قَادِرٍ عَلَى التَّعْبِيرِ عَنِ الحَقِّ بِاللّفْظِ الصَّرِيحَ -الَّذِي عَبّرَ بِهِ هُوَ وَسَلَفُهُ-! فَقَدْ ظَنَّ بِقُدْرَتِهِ العَجْزَ،

وَإِنْ قَالَ: إنَّهُ قَادِرٌ وَلَمْ يُبَيِّنْ؛ وَعَدَلَ عَنِ البَيَانِ وَعَنِ التَّصْرِيحِ بِالحَقِّ إلَى مَا يُوهِمُ بَلْ يُوقِعُ فِي البَاطِلِ المُحَالِ وَالِاعْتِقَادِ الفَاسِدِ! فَقَدْ ظَنَّ بِحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ ظَنَّ

(1)

مَدَارِجُ السَّالِكِينَ (2/ 121).

ص: 356

السَّوءِ، وَظَنَّ أَنَّهُ هُوَ وَسَلَفُهُ عَبَّرُوا عَنِ الحَقِّ بِصَرِيحِهِ دُونَ اللهِ وَرَسُولِهِ؛ وَأَنَّ الهُدَى وَالحَقَّ فِي كَلَامِهِمْ وَعِبَارَاتِهِمْ؛ وَأَمّا كَلَامُ اللهِ فَإِنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْ ظَاهِرِهِ التّشْبِيهُ وَالتّمْثِيلُ وَالضَّلَالُ وَظَاهِرُ كَلَامِ المُتَهَوِّكِينَ! ظَنَّ السَّوءِ، وَمِنَ الظَّانِّينَ بِهِ غَيرَ الحَقِّ ظَنَّ الجَاهِلِيَّةِ"

(1)

.

(1)

زَادُ المَعَادِ (3/ 207).

ص: 357

‌مَسَائِلُ عَلَى البَابِ

-‌

‌ المَسْأَلَةُ الأُولَى: إِذَا كَانَ ظَنُّ السَّوءِ بِاللهِ بِهَذِهِ المَثَابَةِ وَالخُطُورَةِ؛ فَمَا الجَوَابُ عَنْ مِثْلِ قَولِهِ تَعَالَى:

{حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يُوسُف: 110]!

وَكَقَولِهِ تَعَالَى: {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} [البَقَرَةث: 214]!

وَكَقَولِهِ تَعَالَى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} [الأَحْزَابُ: 10]؟!

الجَوَابُ:

إِنَّ خَيرَ مَنْ أَفَادَنَا بِبَيَانِهِ هُوَ الإِمَامُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ السَّعْدِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ العَظِيمِ (القَوَاعِدُ الحِسَانُ لِتَفْسِيرِ القُرْآنِ)، وَأَنْقُلُ هُنَا هَذِهِ القاَعِدَةَ الجَلِيلَةَ الَّتِي ذَكَرَهَا رحمه الله وَفِي ضِمْنِهَا جَوَابُ السُّؤَالِ.

قَالَ رحمه الله:

"القَاعِدَةُ الرَّابِعَةُ وَالسِّتُّونَ: الأُمُورُ العَارِضَةُ الَّتِي لَا قَرَارَ لَهَا بِسَبَبِ المُزْعِجَاتِ أَوِ الشُّبُهَاتِ قَدْ تَرِدُ عَلَى الحَقِّ وَعَلَى الأُمُورِ اليَقِينِيَّةِ وَلَكِنْ سُرْعَانَ مَا تَضْمَحِلُّ وَتَزُولُ.

وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ شَرِيفَةٌ جَلِيلَةٌ قَدْ وَرَدَتْ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ مِنِ القُرْآنِ، فَمَنْ لَمْ

ص: 358

يُحْكِمْهَا حَصَلَ لَهُ مِنِ الغَلَطِ فِي فَهْمِ بَعْضِ الآيَاتِ مَا يُوجِبُ الخُرُوجَ عَنْ ظَاهِرِ النَّصِّ، وَمِنْ عَرَفَ حِكْمَةَ اللَّهِ تَعَالَى فِي وُرُودِهَا عَلَى الحَقِّ الصَّرِيحِ لِأَسْبَابٍ مُزْعِجَةٍ تَدْفَعُهَا أَو لِشُبْهَةٍ قَوِيَّةٍ تُحْدِثُهَا ثُمَّ بَعْدَ هَذَا إِذَا رَجَعَ إِلَى اليَقِينِ وَالحَقِّ الصَّرِيحِ، وَتَقَابَلَ الحَقُّ وَالبَاطِلُ، وَوَقَعَتِ الخُصُومَةُ بَينَهُمَا، فَغَلَبَ الحَقُّ البَاطِلَ، وَدَمَغَهُ فَزَهَقَ البَاطِلُ وَثَبَتَ الحَقُّ؛ حَصَلَتِ العَاقِبَةُ الحَسَنَةُ، وَزِيَادَةُ الإِيمَانِ وَاليَقِينِ، فَكَانَ فِي ذَلِكَ التَّقْدِيرِ حِكَمٌ بَالِغَةٌ، وَأَيَادٍ سَابِغَةٌ.

وَلْنُمَثَّلْ لِهَذَا بِأَمْثِلَةٍ، فَمِنْهَا:

أَنَّ الرُّسُلَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيهِمْ أَكْمَلَ الخَلْقِ إِيمَانًا وَيَقِينًا وَتَصْدِيقًا بِوَعْدِ اللَّهِ وَوَعِيدِهِ -وَهَذَا أَمْرٌ يَجِبُ عَلَى الأُمَمِ أَنْ يَعْتَقِدُوا فِي الرُّسُلِ مِنْ أَنَّهُمْ قَدْ بَلَغُوا الذُّرْوَةَ فِيهِ، وَأَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ مِنْ ضِدِّهِ- وَلَكِنْ ذَكَرَ اللَّهُ فِي بَعْضِ الآيَاتِ أَنَّهُ قَدْ يَعْرِضُ لَهُمْ بَعْضُ الأُمُورِ المُزْعِجَةِ المُنَافِيَةِ حِسًّا لِمَا عُلِمَ يَقِينًا: مَا يُوجِبُ لِهَؤُلَاءِ الكُمَّلِ أَنَّ يَسْتَبْطِئُوا مَعَهُ النَّصْرَ، وَيَقُولُونَ:{مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} [البَقَرَةُ: 214]! وَقَدْ يَخْطُرُ فِي هَذِهِ الحَالَةِ عَلَى القُلُوبِ شَيءٌ مِنْ عَوَارِضِ اليَأْسِ بِحَسَبِ قُوَّةِ الوَارِدَاتِ وَتَأْثِيرِهَا فِي القُلُوبِ ثُمَّ فِي أَسْرَعِ وَقْتٍ تَنْجَلِي هَذِهِ الحَالُ وَتَنْفَرِجُ الأَزْمَةُ وَيَأْتِي النَّصْرُ مِنْ قَرِيبٍ {أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البَقَرَةُ: 214]، فَعِنْدئِذٍ يَصِيرُ لِنَصْرِ اللَّهِ وَصِدْقِ مَوعُودِهِ مِنِ الوَقْعِ وَالبِشَارَةِ وَالآثَارِ العَجِيبَةِ أَمْرٌ كَبِيرٌ لَا يَحْصُلُ بِدُونِ هَذِهِ الحَالَةِ، وَلِهَذَا قَالَ:{حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} [يُوسُف: 110] فَلِهَذَا الوَارِدِ الَّذِي لَا قَرَارَ لَهُ، وَعِنْدَمَا حَقَّتِ الحَقَائِقُ اِضْمَحَلَّ وَتَلَاشَى، لَا يُنْكَرُ وَيُطْلَبُ لِلْآيَاتِ تَأْوِيلَاتٌ مُخَالِفَةٌ لِظَاهِرِهَا! " إِلَى أَنْ قَالَ رحمه الله:

ص: 359

"فَمَنْ أَنْكَرَ وُقُوعَ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الرُّسُلَ لَا رَيبَ وَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ، وَظَنَّ أَنَّ هَذَا يُنَافِي العِصْمَةَ! فَقَدَ غَلَطَ أَكْبَرَ غَلَطٍ، وَلَو فَهِمَ أَنَّ الأُمُورَ العَارِضَةَ لَا تُؤَثِّرُ فِي الأُمُورِ الثَّابِتَةِ لَمْ يَقِلِ قَولاً يُخَالِفُ فِيهِ الوَاقِعُ وَيُخَالِفُ بَعْضَ الآيَاتِ وَيَطْلُبُ التَّأْوِيلَاتِ المُسْتَبْعَدَاتِ!

وَمِنْ هَذَا -عَلَى أَحَدِ قَولِي المُفَسِّرِينَ- قَولُهُ تَعَالَى عَنْ يُونُسَ: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأَنْبِيَاءُ: 87]، وَأَنَّهُ ظَنٌّ عَرَضَ فِي الحَالِ ثُمَّ زَالَ، نَظِيرُ الوَسَاوِسِ العَارِضَةِ فِي أَصْلِ الإِيمَانِ الَّتِي يَكْرَهُهَا العَبْدُ حِينَ تَرِدُ عَلَى قَلْبِهِ، وَلَكِنَّ إِيمَانَهُ وَيَقِينَهُ يُزِيلُهَا وَيُذْهِبُهَا، وَلِهَذَا قَالَ صلى الله عليه وسلم عِنْدَمَا شَكَا إِلَيهِ أَصْحَابُهُ هَذِهِ الحَالَ الَّتِي أَقْلَقَتْهُمْ مُبَشِّرًا لَهُمْ:((الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ كَيدَهُ إِلَى الوَسْوَسَةِ))

(1)

، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ هَذَا صَرِيحُ الإِيمَانِ.

وَيُشْبِهَ هَذَا: العَوَارِضُ الَّتِي تَعْرِضُ فِي إِرَادَاتِ الإِيمَانِ لِقُوَّةِ وَارِدٍ مِنْ شَهْوَةٍ أَو غَضَبٍ، وَأَنَّ المُؤَمَّنَ الكَامِلَ الإِيمَانِ قَدْ يَقَعُ فِي قَلْبِهِ هَمٌّ وَإِرَادَةٌ لِفِعْلِ بَعْضِ المَعَاصِي الَّتِي تُنَافِي الوَاجِبَ ثُمَّ يَأْتِي بُرْهَانُ الإِيمَانِ، وَقُوَّةُ مَا مَعَ العَبْدِ مِنِ الإِنَابَةِ التَّامَّةِ فَيَدْفَعُ هَذَا العَارِضَ.

وَمِنْ هَذَا: قَولُهُ تَعَالَى عَنْ يُوسُفَ عليه الصلاة والسلام: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يُوسُف: 24]، وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا رَجَعَ إِلَى مَا مَعَهُ مِنِ الإِيمَانِ وَمُرَاقَبَةِ اللَّهِ وَخَوفِهِ وَخَشْيَتِهِ وَرَجَائِهِ دَفَعَ عَنْهُ هَذَا الهَمَّ وَمُوجِبَهُ وَاضْمَحَلَّ، وَصَارَتْ إِرَادَتُهُ التَّامَّةُ فِيمَا يُرْضِي رَبَّهُ، وَلِهَذَا فَازَ بِمَرْتَبَةِ الصِّدِّيقِيَّةِ لِقُوَّةِ إِخْلَاصِهِ وَإِيمَانِهِ بِآيَاتِ رَبِّهِ، وَانْتَصَرَ

(1)

صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (2097) مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا. وَصَحَّحَهُ الشَّيخُ أَحْمَدُ شَاكِر رحمه الله فِي تَحْقِيقِ المُسْنَدِ.

ص: 360

بَعْدَ المُعَالَجَةِ الشَّدِيدَةِ مِنِ النِّسْوَةِ الَّتِي لَا يَصْبِرُ عَلَيهَا إِلَّا سَادَاتُ الخَلْقِ حَتَّى دَعَا رَبَّهُ أَنْ يُبْعِدَهُ عَنْ مُوَاطِنِ الفِتَنِ فَقَالَ: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يُوسُف: 33]! وَكَانَ كُلُّ مَنْ يَتَشَبَّهُ بِهِ وَيَقِفُ أَحَدَ السَّبْعَةِ الَّذِينَ يُظِلُّهُمِ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوم لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ، ((وَرَجُلٌ دَعَتْهُ اِمْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ؛ فَقَالَ: إِنِّي أَخَافَ اللَّهَ))

(1)

.

وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأَعْرَافُ: 201] يَشْمَلُ الطَّائِفَ الَّذِي يَعْرِضُ فِي أَصْلِ الإِيمَانِ وَالَّذِي يَعْرِضُ فِي إِرَادَتِهِ، فَإِذَا مَسَّهُمْ تَذَكَّرُوا مَا يَدْعُو إِلَى الإِيمَانِ وَوَاجِبَاتِهِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَسُنَنِهِ وَحِكْمَتِهِ وَأَحْكَامِهِ فَأَبْصَرُوا؛ فَانْدَفَعَتِ الشُّبُهَاتُ وَالشَّهَوَاتُ فَرَجَعَ الشَّيطَانُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ"

(2)

.

(1)

البُخَارِيُّ (1357)، وَمُسْلِمٌ (1031) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا.

(2)

القَوَاعِدُ الحِسَانُ (ص 155).

ص: 361

-‌

‌ المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: زَعَمَتِ المُعَطِّلَةُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يُوصَفُ بِالحِكْمَةِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الأَغْرَاضِ!

وَقَالُوا: إِنَّ فِعْلَهُ لِغَرَضٍ مَا يَدُلُّ عَلَى حَاجَتِهِ وَافْتِقَارِهِ إِلَيهِ! فَمَا الجَوَابُ؟

الجَوَابُ هُوَ مِنْ أَوجُهٍ:

1 -

أَنَّ الحِكْمَةَ لَا يَلْزَمُ مِنْهَا الحَاجَةُ وَالافْتِقَارُ! فَالحِكْمَةُ هِيَ وَضْعُ الشَّيءِ فِي مَوضِعِهِ المُنَاسِبِ لِلْغَايَةِ المَحْمُودَةِ، فَهِيَ صِفَةُ كَمَالٍ لَا نَقْصَ فِيهَا بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ.

2 -

أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ أَثْبَتَ لِنَفْسِهِ الحِكْمَةَ فِي غَيرِ مَوضِعٍ، وَأَثْبَتَ كَمَالَ غِنَاهُ وَعِزَّتَهُ؛ فَنُثْبِتُ الحِكْمَةَ وَنَنْفِي عَنْهُ النَّقْصَ وَالحَاجَةَ وَالافْتِقَارَ.

3 -

أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يُرِيدُ بِأَفْعَالِهِ مَنْفَعَةَ نَفْسِهِ! وَإِنَّمَا مَنْفَعَةَ عبِادِهِ، فَظَهَرَتْ بِذَلِكَ حِكْمَتُهُ مَعَ رَحْمَتِهِ سبحانه وتعالى عَنْ تَعْطِيلِ الجَاهِلِينَ-.

وَتَأَمَّلْ فِي ذَلِكَ قَولَهُ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النِّسَاء: 28)، وَقَولَهُ أَيضًا: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البَقَرَة: 185].

ص: 362

بَابُ مَا جَاءَ فِي مُنْكِرِي القَدَرِ

وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَالَّذِي نَفْسُ ابْنِ عُمَرَ بِيَدِهِ؛ لَو كَانَ لِأَحَدِهِمْ مِثْلُ أُحُدٍ ذَهَبًا ثُمَّ أَنْفَقَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ؛ مَا قَبِلَهُ اللهُ مِنْهُ حَتَّى يُؤْمِنَ بِالقَدَرِ. ثُمَّ اسْتَدَلَّ بِقَولِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: ((الإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَاليَومِ الآخِرِ؛ وَتُؤْمِنَ بِالقَدَرِ خَيرِهِ وَشَرِّهِ)) رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(1)

.

(1)

مُسْلِمٌ (8).

وَالحَدِيثُ بِتَمَامِهِ: عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ قَالَ: كَانَ أَوَّلَ مَنْ قَالَ فِي القَدَرِ بِالبَصْرَةِ مَعْبَدٌ الجُهَنِيُّ، فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَحُمَيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الحِمْيَرِيُّ حَاجَّينِ أَو مُعْتَمِرَينِ، فَقُلْنَا: لَو لَقِينَا أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلْنَاهُ عَمَّا يَقُولُ هَؤُلَاءِ فِي القَدَرِ، فَوُفِّقَ لَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ دَاخِلًا المَسْجِدَ، فَاكْتَنَفْتُهُ أَنَا وَصَاحِبِي -أَحَدُنَا عَنْ يَمِينِهِ وَالآخَرُ عَنْ شِمَالِهِ-، فَظَنَنْتُ أَنَّ صَاحِبِي سَيَكِلُ الكَلَامَ إِلَيَّ، فَقُلْتُ: أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ؛ إِنَّهُ قَدْ ظَهَرَ قِبَلَنَا نَاسٌ يَقْرَءُونَ القُرْآنَ وَيَتَقَفَّرُونَ العِلْمَ -وَذَكَرَ مِنْ شَأْنِهِمْ- وَأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنْ لَا قَدَرَ، وَأَنَّ الأَمْرَ أُنُفٌ! قَالَ: فَإِذَا لَقِيتَ أُولَئِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنِّي بَرِيءٌ مِنْهُمْ وَأَنَّهُمْ بُرَآءُ مِنِّي. وَالَّذِي يَحْلِفُ بِهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ؛ لَو أَنَّ لأَحَدِهِمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا فَأَنْفَقَهُ؛ مَا قَبِلَ اللهُ مِنْهُ حَتَّى يُؤْمِنَ بِالقَدَرِ، ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ؛ قَالَ: بَينَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَومٍ؛ إِذْ طَلَعَ عَلَينَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ، شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعَرِ، لَا يُرَى عَلَيهِ أَثَرُ السَّفَرِ .. ) ثُمَّ تَابَعَ الحَدِيثَ المَعْرُوفَ.

قَالَ ابْنُ الجَوزِيِّ رحمه الله: "قَولُهُ: (يَتَقَفَّرُونَ العِلْمَ): أَي: يَطْلُبُونَهُ وَيَتَّبِعُونَ أَثَرَهُ، يُقَالُ: فُلَانٌ يَتَقَفَّرُ الشَّيءَ إِذَا طَلَبَهُ وَاجْتَهَدَ فِي البَحْثِ عَنْهُ. وَقَولُهُ: (يَزْعُمُونَ أَنْ لَا قَدَرَ): أَي: أَنَّ الأَشْيَاءَ لَمْ يَسْبِقْ تَقْدِيرُهَا. وَقَولُهُ: (أَنَّ الأَمْرَ أُنُفٌ): أَي: مُسْتَأْنَفٌ؛ لَمْ يَتَقَدَّمْ فِيهِ قَدَرٌ وَلَا مَشِيئَةٌ! يُقَالُ: رَوضَةٌ أُنُفٌ؛ إِذَا كَانَتْ وَافِيَةَ الكَلَأ لَمْ يُرْعَ مِنْهَا شَيءٌ، وَيَعْنُونَ أَنَّ مَا نَعْمَلُهُ لَمْ يُقَدَّرْ". كَشْفُ المُشْكِلِ مِنْ حَدِيثِ الصَّحِيحَينِ (1/ 130).

ص: 363

وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ؛ أَنَّهُ قَالَ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ إِنَّكَ لَنْ تَجِدَ طَعْمَ الإِيمَانِ حَتَّى تَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ؛ وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:((إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللهُ القَلَمَ، فَقَالَ لَهُ: اُكْتُبْ. فَقَالَ: رَبِّ وَمَاذَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اُكْتُبْ مَقَادِيرَ كُلِّ شَيءٍ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ)). يَا بُنَيَّ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ((مَنْ مَاتَ عَلَى غَيرِ هَذَا فَلَيسَ مِنِّي))

(1)

.

وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ: ((إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللهُ تَعَالَى القَلَمَ فَقَالَ لَهُ: اُكْتُبْ. فَجَرَى فِي تِلْكَ السَّاعَةِ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَومِ القِيَامَةِ))

(2)

.

وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ وَهْبٍ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:((فَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِالقَدَرِ خَيرِهِ وَشَرِّهِ أَحْرَقَهُ اللهُ بِالنَّارِ))

(3)

.

وَفِي المُسْنَدِ والسُّنَنِ عَنِ ابْنِ الدَّيلَمِيِّ، قَالَ: أَتَيتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي شَيءٌ مِنَ القَدَرِ؛ فَحَدِّثْنِي بِشَيءٍ لَعَلَّ اللهَ يُذْهِبُهُ مِنْ قَلْبِي، فَقَالَ:(لَو أَنْفَقْتَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا؛ مَا قَبِلَهُ اللهُ مِنْكَ حَتَّى تُؤْمِنَ بِالقَدَرِ، وَتَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، وَلَو مِتَّ عَلَى غَيرِ هَذَا لَكُنْتَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ). قَالَ: فَأَتَيتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعُودٍ وَحُذَيفَةَ بْنَ اليَمَانِ وَزَيدَ بْنَ ثَابِتٍ؛ فَكُلُّهُمْ حَدَّثَنِي بِمِثْلِ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. حَدِيثٌ صَحِيحٌ رَوَاهُ الحَاكِمُ فِي صَحِيحِهِ

(4)

.

(1)

صَحِيحٌ. أَبُو دَاوُدَ (4700)، وَالتِّرْمِذِيُّ (2155). صَحِيحُ الجَامِعِ (2018).

(2)

صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (22705). قَالَ الشَّيخُ شُعَيبُ الأَرْنَؤُوطُ فِي تَحْقِيقِ المُسْنَدِ: "حَدِيثٌ صَحِيحٌ؛ وَهَذَا إِسْنَادٌ حَسَنٌ".

(3)

كِتَابُ (القَدَرُ)(1/ 121) لِابْنِ وَهْبٍ.

(4)

صَحِيحٌ. السُّنَّةُ (245) لِابْنِ أَبي عَاصِمٍ، وَأَحْمَدُ (21589)، وَابْنُ حَبَّانَ (727). ظِلَالُ الجَنَّةِ (245).

مُلَاحَظَةٌ: لَمْ أَجِدِ الحَدِيثَ عِنْدَ الحَاكِمِ -لَا لَفْظًا وَلَا أَصْلًا-.

ص: 364

فِيهِ مَسَائِلُ:

الأُولَى: بَيَانُ فَرْضِ الإِيمَانِ بِالقَدَرِ.

الثَّانِيَةُ: بَيَانُ كَيفَيَّةِ الإِيمَانِ.

الثَّالِثَةُ: إِحْبَاطُ عَمَلِ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ.

الرَّابِعَةُ: الإِخْبَارُ أَنَّ أَحَدًا لَا يَجِدُ طَعْمَ الإِيمَانِ حَتَّى يُؤْمِنَ بِهِ.

الخَامِسَةُ: ذِكْرُ أَوَّلِ مَا خَلَقَ اللهُ.

السَّادِسَةُ: أَنَّهُ جَرَى بِالمَقَادِيرِ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ.

السَّابِعَةُ: بَرَاءَتُهُ صلى الله عليه وسلم مِمَّنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ.

الثَّامِنَةُ: عَادَةُ السَّلَفِ فِي إِزَالَةِ الشُّبْهَةِ بِسُؤَالِ العُلَمَاءِ.

التَّاسِعَةُ: أَنَّ العُلَمَاءَ أَجَابُوهُ بِمَا يُزِيلُ شُبْهَتَهُ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ نَسَبُوا الكَلَامَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَطْ.

ص: 365

‌الشَّرْحُ

- قَولُهُ: (مُنْكِرِي): أَصْلُهُ مُنْكِرِينَ، وَلَكِنْ حُذِفَتِ النُّونُ لِلإِضَافَةِ.

- قَولُهُ: (القَدَر)

(1)

: هُوَ تَقْدِيرُ اللهِ عز وجل لِلكَائِنَاتِ، وَهُوَ سِرُّ مَكْتُومٌ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ أَو مَنْ شَاءَ اللهُ أَنْ يُعَلِّمَهُ مِنْ خَلْقِهِ

(2)

.

وَالقَدَرُ يُطْلَقُ عَلَى مَعْنَيَينِ

(3)

:

1 -

التَّقْدِيرِ؛ أَي: إِرَادَةُ اللهِ عز وجل الشَّيءَ.

2 -

المُقَدَّرِ؛ أَي: مَا قَدَّرَهُ اللهُ عز وجل أَنْ يَكُونَ.

- مُنَاسَبَةُ البَابِ لِكِتَابِ التَّوحِيدِ أَنَّ الإِيمَانَ بِالقَدَرِ مُتَعَلِّقٌ بِتَوحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ وَبِتَوحِيدِ الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَلَا يَصِحُّ إِيمَانُ عَبْدٍ أَصْلًا حَتَّى يُؤْمِنَ بِالقَدَرِ خَيرِهِ وَشَرِّهِ، وَالإِيمَانُ بِالقَدَرِ هُوَ إِيمَانٌ بِكَمَالِ صِفَاتِ اللهَ تَعَالَى.

قَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ رحمه الله: "القَدَرُ قُدْرةُ اللهِ عز وجل عَلَى العِبَادِ"

(4)

.

(1)

القَدَرُ لُغَةً: هُوَ القَضَاءُ وَالحُكْمُ؛ وَمِنْهُ لَيلَةُ القَدْرِ: أَي: لَيلَةُ التَّقْدِيرِ؛ وَيُمْكِنُ أَيضًا: اللَّيلَةُ ذَاتُ الشَّأْنِ.

(2)

كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى عَنِ الخَضِرِ عليه السلام بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ عِلَّةَ أَفْعَالِهِ: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكَهْف: 82].

(3)

وَهَذَا لِكَونِ العَرَبِ تُطْلِقُ الاسْمَ عَلَى الفِعْلِ وَعَلَى المَفْعُولِ. وَسَيَأْتِي مَزِيدُ بَيَانٍ لِهَذَا إِنْ شَاءَ اللهُ.

(4)

أَخْرَجَهُ الخَلَّالُ فِي كِتَابِ السُّنَّةُ (3/ 544)، وَتَمَامُهُ "أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللهِ سُئِلَ عَنِ القَدَرِ؛ فَقَالَ: القَدَرُ قُدْرَةُ اللهِ عز وجل عَلَى العِبَادِ، فَقَالَ رَجُلٌ: إِنْ زَنَى فَبِقَدَرٍ؛ وَإِنْ سَرَقَ فَبِقَدَرٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، اللهُ قَدَّرَهُ عَلَيهِ".

قُلْتُ: وَالمُرَادُ بِهَذَا بَيَانُ كَمَالِ رُبُوبِيَّةِ اللهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُ لَا يَخْرُجُ شَيءٌ عَنْ مَشِيئَتِهِ وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ؛ لَا أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَرَادَ مِنْهُ شَرْعًا ذَلِكَ! وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ خَالِقُ إِرَادَةِ العَبْدِ وَهُوَ خَالِقُ آلَاتِهِ، وَبِهِمَا يَقَعُ الفِعْلُ مِنَ العَبْدِ، وَلَو شَاءَ اللهُ لَصَرَفَ نِيَّتَهُ وَإِرَادَتَهُ، ولَمَنَعَهُ العَمَلَ أَصْلًا، وَلَكِنْ قَضَتْ حِكْمَةُ اللهِ فِي ذَلِكَ {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النجم: 31]. وَسَيَأْتِي مَزِيدُ بَيَانٍ لِهَذَا إِنْ شَاءَ اللهُ.

ص: 366

- حُكْمُ مُنْكِرِ القَدَرِ: قَالَ الإِمَامُ اللَّالكَائِيُّ رحمه الله في كِتَابِهِ (اعْتِقَادُ أَهْلِ السُّنَّةِ): "رُوِيَ عِنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، وَالأَوزَاعِيِّ، وَعُبَيدِ اللهِ بْنِ الحَسَنِ العَنْبَرِيِّ

(1)

: يُسْتَتَابُونَ؛ فَإِنْ تَابُوا وَإِلَّا قُتِلُوا.

وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيرٍ: القَدَرِيَّةُ يَهُودٌ.

وَعَنِ الشَّعْبِيِّ: القَدَرِيَّةُ نَصَارَى.

وَعَنْ نَافِعٍ مَولَى ابْنِ عُمَرَ: القَدَرِيَّةُ يُقْتَلُونَ.

وَحَكَى المُزَنِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ كَفَّرَهُم.

وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ

(2)

: القَدَرِيَّةُ كُفَّارٌ.

وَعَنْ أَحْمِد بْنِ حَنْبَلٍ مِثَلُ قَولِ مَالِكٍ"

(3)

.

- النَّاسُ فِي القَدَرِ ثَلَاثُ طَوَائِفَ:

1 -

الجَبْرِيَّةُ الجَهْمِيَّةُ: أَثْبَتُوا قَدَرَ اللهِ تَعَالَى وَغَلَوا فِي إِثْبَاتِهِ حَتَّى سَلَبُوا العَبْدَ اخْتِيَارَهُ وَقُدْرَتَهُ، وَقَالُوا: لَيسَ لِلعَبْدِ اخْتِيَارٌ وَلَا قُدْرَةٌ فِي مَا يَفْعَلُهُ أَو يَتْرُكَهُ!

2 -

القَدَرِيَّةُ المُعْتَزِلَةُ: أَثْبَتُوا لِلعَبْدِ اخْتِيَارًا وَقُدْرَةً فِي عَمَلِهِ وَغَلَوا فِي ذَلِكَ حَتَّى نَفَوا أَنْ تَكُونَ للهِ تَعَالَى فِي عَمَلِ العَبْدِ مَشِيئَةٌ أَو خَلْقٌ! وَنَفَى غُلَاتُهُم عِلْمَ اللهِ بِهِ قَبْلَ وُقُوعِهِ.

(1)

قَاضٍ مِنَ الفُقَهَاءِ العُلَمَاءِ بِالحَدِيثِ، مِنْ أَهْلِ البَصْرَةِ، (مِنْ كِبَارِ أَتْبَاعِ التَّابِعِين)، قَالَ ابْنُ حِبَّانَ: مِنْ سَادَاتِهَا فِقْهًا وَعِلْمًا، (ت 168 هـ). الأَعْلَامُ لِلزِّرِكْلِيِّ (4/ 192).

(2)

حَافِظٌ؛ مِنْ كِبَارِهِم فِي خُرَاسَانَ، (مِنْ كِبَارِ أَتْبَاعِ التَّابِعِين)، (ت 168 هـ). الأَعْلَامُ لِلزِّرِكْلِيِّ (1/ 44).

(3)

اعْتِقَادُ أَهْلِ السُّنَّةِ (4/ 781).

ص: 367

3 -

أَهْلُ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ: وَهُمُ الطَّائِفَةُ الوَسَطُ الَّذِينَ جَمَعُوا بَينَ الأَدِلَّةِ وَسَلَكُوا فِي طَرِيقِهِم خَيرَ مِلَّةٍ؛ فَآمَنُوا بِقَضَاءِ اللهِ وَقَدَرِهِ، وَبِأَنَّ لِلعَبْدِ اخْتِيَارًا وَقُدْرَةً وَمَشِيئَةً؛ لَكِنَّ مَشِيئَتَهُ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَشِيئَةِ اللهِ تَعَالَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التَّكْوِير: 28 - 29].

- إِنَّ حُكْمَ ابْنِ عُمَرَ عَلَى مُنْكِرِي القَدَرِ بِأَنَّ نَفَقَاتِهِم غُيرُ مَقْبُولَةٍ يَسْتَوجِبُ تَكْفِيرَهُم عِنْدَهُ؛ وَذَلِكَ لِقَولِهِ تَعَالَى: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ} [التَّوبَة: 54]، وَإِيرَادُ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه لِحَدِيثِ جِبْرِيلَ يُرِيدُ بِهِ أَنَّ الإِيمَانَ لَا يُقْبَلُ حَتَّى يُؤْمِنَ العَبْدُ بِالقَدَرِ

(1)

.

وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ قَالَ: (جَاءَ مُشْرِكُو قُرَيشٍ يُخَاصِمُونَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي القَدَرِ؛ فَنَزَلَتْ {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القَمَر: 48 - 49])

(2)

.

وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ العَاصِ: (نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ} [القَمَر: 47] فِي أَهْلِ القَدَرِ"

(3)

.

(1)

وَعَنْهُ رضي الله عنه أَيضًا؛ أَنَّهُ كَانَ لَهُ صَدِيقٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ يُكَاتِبُهُ، فَكَتَبَ إِلَيهِ مَرَّةً عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ: إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّكَ تَكَلَّمْتَ فِي شَيءٍ مِنَ القَدَرِ! فَإِيَّاكَ أَنْ تَكْتُبَ إِلَيَّ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:((سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي أَقْوَامٌ يُكَذِّبُونَ بِالقَدَرِ)). صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (5639). صَحِيحُ الجَامِعِ (3669).

وَفي لَفْظٍ لِابْنِ مَاجَه (4061): ((يَكُونُ فِي أُمَّتِي -أَو فِي هَذِهِ الأُمَّةِ- مَسْخٌ وَخَسْفٌ وَقَذْفٌ؛ وَذَلِكَ فِي أَهْلِ القَدَرِ)). صَحِيحٌ. الصَّحِيحَةُ (1787).

(2)

مُسْلِمٌ (2656).

(3)

قَالَ السُّيُوطِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ الدُّرُّ المَنْثُورُ (7/ 683): "وَأَخْرَجَ البَزَّارُ وَابْنُ المُنْذِرِ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ مِنْ طَرِيقِ عَمْرو بْنِ شُعَيبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: .... "، وَأَورَدَهُ البُخَارِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ خَلْقُ أَفْعَالِ العِبَادِ (ص 49)، وَقَالَ:"وَيُرْوَى فِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ رضي الله عنهم".

ص: 368

- وَمِمَّا يَنْبَغِي مَعْرِفَتُهُ هُنَا أَنَّ "العَرَبَ كَانَتْ فِي جَاهِلِيَّتِهَا تُقِرُّ بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ. قَالَ ابْنُ قُتَيبَةَ وَغَيرُهُ: مَا زَالَتِ الْعَرَبُ فِي جَاهِلِيَّتِهَا وَإِسْلَامِهَا مُقِرَّةً بِالْقَدَرِ. وَقَدْ قَالَ عَنْتَرَةُ: يَا عَبْلُ؛ أَينَ مِنَ المَنِيَّةِ مَهْرَبٌ

إِنْ كَانَ رَبِّي فِي السَّمَاءِ قَضَاهَا"

(1)

.

- قَولُهُ: ((تُؤْمِنَ بِالقَدَرِ خَيرِهِ وَشَرِّهِ)) الخَيرُ وَالشَّرَّ هُنَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِمَا يَجِدُهُ الإِنْسَانُ، أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِفِعْلِ اللهِ جَلَّ وَعَلَا فَاللهُ تَعَالَى أَفْعَالُهُ كُلُّهَا خَيرٌ، لِأَنَّهَا مُوَافِقَةٌ لِحِكْمَتِهِ، وَفي الحَدِيثِ:((والشَّرُّ لَيسَ إِلَيكَ))

(2)

، وَمِن مِثَالِهِ مَا فِي قَولِهِ تَعَالَى:{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الرُّوم: 41].

وَتَأَمَّلْ قَولَهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النُّور: 11].

وَكَذَا قَولَهُ تَعَالَى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيرِ فِتْنَةً وَإِلَينَا تُرْجَعُونَ} [الأَنْبِيَاء: 35].

وَقَدْ سَبَقَ فِي شَرْحِ بَابِ (مِنَ الإِيمَانِ بِاللهِ الصَّبْرُ عَلَى أَقْدَارِ اللهِ) حَدِيثُ أَنَسٍ؛ وَفِيهِ قَولُهُ صلى الله عليه وسلم: ((أَرَادَ بِعَبْدِهِ الشَّرَّ)) مَعَ قَولِهِ أَيضًا صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثٍ آخَرَ: ((والشَّرُّ لَيسَ إِلَيكَ))؛ وَأَنَّ جَوَابَ ذَلِكَ هُوَ أَنَّ الخَيرَ وَالشَّرَّ مَخْلُوقَانِ مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَلَكِنَّ الشَّرَّ لَيسَ مَقْصُودًا ابْتِدَاءً! بَلْ هُوَ خَيرٌ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَآلِهِ؛ فَيَظْهُرُ فِيهِ فَضْلُ اللهِ تَعَالَى عَلَى

(1)

مِنْهَاجُ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ (5/ 183) لِابْنِ تَيمِيَّةَ.

(2)

وَهُوَ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ (771).

ص: 369

الصَّابِرِ، وَعَدْلُهُ مَعَ الكَافِرِ، قَالَ العُلَمَاءُ: أَفْعَالُ اللهِ تَعَالَى كُلُّهَا حِكْمَةٌ؛ تَدُورُ بينَ العَدْلِ وَالفَضْلِ.

وَتَأَمَّلْ قِصَّةَ مُوسَى عليه الصلاة والسلام مَعَ الخَضِرِ وَمَا فِيهَا مِنَ الحِكَمِ، ثُمَّ تَأَمَّلْ قَولَ الخَضِرِ:{وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكَهْف: 82].

- قَولُهُ: ((خَيرِهِ وَشَرِّهِ)) مَفَادُهُ التَّأْكِيدُ عَلَى أَنَّ الخَيرَ وَالشَّرَّ كِلَاهُمَا مَخْلُوقَانِ مُقَدَّرَانِ مِنَ اللهِ تَعَالَى.

- قَولُهُ: ((حَتَّى تَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ)) أَي: أَنَّ مَا قَدَّرَ اللهُ أَنْ يُصِيبَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ مَهْمَا عَمِلْتَ مِنْ أَسْبَابٍ؛ فَإِنَّ قَدَرَ اللهِ تَعَالَى وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ.

- قَولُهُ: ((إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللهُ القَلَم)) القَلَمُ بِالرَّفْعِ

(1)

، وَرُويَ بِالنَّصْبِ

(2)

.

وَعَلَى رِوَايَةِ الرَّفْعِ يَكُونُ المَعْنَى: أَنَّ أَوَّلَ مَخْلُوقٍ هُوَ القَلَمُ، وَأَمَّا عَلَى رِوَايَةِ النَّصْبِ يَكُونُ المَعْنَى: إِنَّ اللهَ تَعَالَى أَمَرَ القَلَمَ أَنْ يَكْتُبَ عِنْدَ أَوَّلِ خَلْقِهِ لَهُ.

وَقَولُ المُصِنِّفِ رحمه الله فِي المَسَائِلِ: (ذِكْرُ أَوَّلِ مَا خَلَقَ اللهُ): ظَاهِرُهُ المَيلُ إِلَى أَنَّ القَلَمَ هُوَ أَوُّلُ مَخْلُوقَاتِ اللهِ، وَسَيَأْتِي قَرِيبًا بَحْثٌ يَسِيرٌ فِي ذَلِكَ.

- قَولُهُ: ((إلى يَومِ القِيَامَةِ)) هُوَ يَومُ البَعْثِ، وَسُمِّيَ يَومَ القِيَامَةِ؛ لِقِيَامِ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ فِيهِ:

1 -

قِيَامِ النَّاسِ مِنْ قُبُورِهِم لِرَبِّ العَالَمِينَ.

(1)

عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّهُ خَبَرُ إِنَّ؛ وَيَكُونُ بِذَلِكَ نَصًّا فِي أَنَّهُ أَوَّلُ مَخْلُوقٍ.

(2)

عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ لِفِعْلِ (خَلَقَ)، وَيَكُونُ خَبَرُ (إِنَّ) هُوَ جُمْلَةُ:(فَقَالَ لَهُ: اُكْتُبْ)، وَعَلَى هَذَا تَكُونُ الأَوَّلِيَّةُ فِي الحَدِيثِ بِاعْتِبَارِ خَلْقِ القَلَمِ، وَلَيسِ لِعُمُومِ الخَلْقِ.

ص: 370

كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المُطَفِّفِين: 5 - 6].

2 -

قِيَامِ الأَشْهَادِ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ لِلرُّسُلِ وَعَلَى الأُمَمِ.

كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غَافِر: 51].

3 -

قِيَامِ العَدْلِ.

كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأَنْبِيَاء: 47].

- (ابْنُ الدَّيلَمِيِّ): هُوَ عَبْدُ اللهِ بْنُ فَيرُوز الدَّيلَمِيُّ؛ ثِقَةٌ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ، وَأَبُوهُ فَيرُوزُ هُوَ قَاتِلُ الأَسْوَدِ العَنَسِيِّ الكَذَّابِ.

- قَولُهُ: (وَلَو مِتَّ عَلَى غَيرِ هَذَا؛ لَكُنْتَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ): جَزَمَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ رضي الله عنه بِأَنَّهُ إِذَا مَاتَ عَلَى غَيرِ هَذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ؛ لَأَنَّ مَنْ أَنْكَرَ القَدَرَ فَهُوَ كَافِرٌ، وَالكَافِرُ يَكُونُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ الَّذِينَ هُمْ أهْلُهَا المُخَلَّدُونَ فِيهَا.

وَلَكِنْ هَلْ هَذَا الدَّوَاءُ يُفِيدُ مَنْ أَشْكَلَ عَلَيهِ أَمْرُ القَدَرِ؟

الجَوَابُ: نَعَمْ يُفِيدُ، وَالإِفَادَةُ هِي مِنْ جِهَتَينِ:

1 -

أَنَّ كُلَّ مُؤْمِنٍ بِاللهِ إِذَا عَلِمَ أَنَّ مُنْتَهَى مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِالقَدَرِ -عَلَى نَحْوِ مَا وُصِفَ- هُوَ هَذَا؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يَرْتَدِعَ، وَلَا بُدَّ أَنْ يُؤْمِنَ بِالقَدَرِ عَلَى مَا جَاءَ فِي كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، وَإِذَا نُسِبَ الأَمْرُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ؛ زَالَتِ الشُّبْهَةُ تَمَامًا، لَكِنْ تَزُولُ عَنِ المُؤْمِنِ، أَمَّا غَيرُ المَؤْمِنِ فَلَا تَنْفَعُهُ؛ فَاللهُ عز وجل يَقُولُ:{وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} [يُونُس: 101]

(1)

.

(1)

القَولُ المُفِيدُ (2/ 433).

ص: 371

2 -

أَنَّ أَمْرَ القَدَرِ هُوَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ سبحانه وتعالى، وَاللهُ تَعَالَى لَا نَعْلَمُ عَنْهُ إِلَّا وُفْقَ مَا أَخْبَرَ بِهِ؛ وَعَلَيهِ فَلَا يَلْزَمُ حُصُولُ اسْتِشْكَالٍ عَلَى شَيءٍ فِيهِ؛ فَالإِيمَانُ هُنَا هُوَ تَعَلُّمٌ وَلَيسَ فَهْمٌ!

- فِي حَدِيثِ ابْنِ الدَّيلَمِيِّ بَيَانُ جَوَازِ سُؤَالِ أَكْثَرِ مِنْ عَالِمٍ لِلتَّثَبُّتِ، أَمَّا سُؤَالُ أَكْثَرِ مِنْ عَالِمٍ لِتَتَبُّعِ الرُّخَصِ! فَهَذَا لَا يَجُوزُ.

قَالَ الإِمَامُ ابْنُ القَيِّمِ رحمه الله: "وَمَنْ تَتَبَّعَ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ العُلَمَاءُ وَأَخَذَ بِالرُّخَصِ مِنْ أَقَاوِيلِهِم تَزَنْدَقَ، أَو كَادَ"

(1)

.

- قَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ رضي الله عنه فِي حَدِيثِ ابْنِ الدَّيلَمِيِّ-وَاللَّفْظُ لِأَحْمَدَ-: (لَو أَنَّ اللهَ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ؛ لَعَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيرُ ظَالِمٍ لَهُمْ، وَلَو رَحِمَهُمْ؛ كَانَتْ رَحْمَتُهُ لَهُمْ خَيرًا مِنْ أَعْمَالِهِمْ)

(2)

، وَالمَعْنَى أَنَّ أَهْلَ السَّمَوَاتِ وَأَهْلَ الأَرْضِ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَقُومُوا بِحُقُوقِ اللهِ جَلَّ وَعَلَا الوَاجِبَةِ لَهُ؛ فَلَو عَذَّبَهُم لَعَذَّبَهُم عَلَى تَرْكِ الحَقِّ، وَلَو رَحِمَهُم لَكَانَتْ رَحْمَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ اسْتِحْقَاقِهِم لَهَا، فَاللهُ تَعَالَى جَعَلَ عَلَى نَفْسِهِ حَقًا لَهُم؛ وَلَكِنَّهُ حَقُّ تَفَضُّلٍ وَلَيسَ حَقَ مُقَابَلَةٍ

(3)

.

- قَولُ المُصِنِّفِ رحمه الله فِي المَسَائِلِ: (بَيَانُ كَيفِيَّةِ الإِيمَانِ): أَي: بِالقَدَرِ، وَهُوَ أَنْ تُؤْمِنَ بِأَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ.

(1)

إِغَاثَةُ اللهْفَانِ (1/ 228).

(2)

أَحْمَدُ (21611) عَنْهُ مَرْفُوعًا، وَصَحَّحَهُ الشَّيخُ شُعَيبُ الأَرْنَؤُوط فِي تَحْقِيقِ المُسْنَدِ.

(3)

كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى عَنْ جَزَاءِ أَهْلِ الجَنَّةِ: {جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا} [النَّبَأ: 36].

وَكَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [النِّسَاء: 173].

ص: 372

- مَرَاتِبُ الإِيمَانِ بِالقَدَرِ:

1 -

العِلْمُ.

وَذَلِكَ بِأَنْ تُؤْمِنَ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى عَلِمَ كُلَّ شَيءٍ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا؛ فَعَلِمَ مَا كَانَ وَمَا سَيَكُونُ

(1)

.

2 -

الكِتَابَةُ.

وَذَلِكَ بِأَنْ تُؤْمِنَ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى كَتَبَ عِنْدَهُ مَقَادِيرَ كُلِّ شَيءٍ مُنْذُ خَلَقَ القَلَمَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ

(2)

.

وَدَلِيلُ المَرْتَبَتَينِ السَّابِقَتَينِ قَولُهُ تَعَالَى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأَنْعَام: 59]،

(1)

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ الحَنْبَلِيُّ رحمه الله: "وَأَمَّا مَنْ أَنْكَرَ العِلْمَ القَدِيمَ؛ فَنَصَّ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ عَلَى تَكْفِيرِهِ، وَكَذَلِكَ غَيرُهُمَا مِنْ أَئِمَّةِ الإِسْلَامِ". جَامِعُ العُلومِ وَالحِكَمِ (1/ 104).

(2)

وَتَأَمَّلْ كَيفَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الأُمُورِ قَبْلَ وُقُوعِهَا، كَإِخْبَارِهِ بِهَزِيمَةِ الفُرْسِ أَمَامَ الرُّومِ فِي بِضْعِ سِنِينَ، وَكَإِخْبَارِهِ عَنْ قَولِ المُنَافِقِينَ المُسْتَهْزِئِينَ وَمَا كَانَ جَوَابُهُم، وَغَيرُهُ كَثِيرٌ، وَكُلُّ ذَلِكَ فِي القُرْآنِ وَهُوَ مُنَزَّلٌ مِنَ اللَّوحِ المَحْفُوظِ؛ مَكْتُوبٌ مِنْ قَبْلِ تَنْزِيلِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} [الوَاقِعَة: 77 - 78].

وَفِي الأَثَرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه؛ قَالَ: (فُصِلَ الْقُرْآنُ مِنَ الذِّكْرِ؛ فَوُضِعَ فِي بَيتِ الْعِزَّةِ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَجَعَلَ جِبْرِيلُ عليه السلام يُنْزِلُهُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَيُرَتِّلُهُ تَرْتِيلًا). رَوَاهُ الحَاكِمُ فِي المُسْتَدْرَكِ (2881) وَصَحَّحَهُ، وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيُّ. وَحُكْمُهُ الرَّفْعُ بِلَا شَكٍّ كَمَا أَفَادَهُ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله. انْظُرْ أَشْرِطَةَ فَتَاوَى سِلْسِلَةِ الهُدَى وَالنُّورِ (شَرِيط: 410).

ص: 373

وَأَيضًا قَولُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحَجّ: 70]

(1)

.

3 -

المَشِيئَةُ.

وَذَلِكَ بِأَنْ تُؤْمِنَ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يَكُونُ مِنْ شَيءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا بِإِرَادَتِهِ تَعَالَى، فَلَا يَكُونُ فِي مُلْكِهِ مَا لَا يُرِيدُ أَبَدًا! سَوَاءً كَانَ ذَلِكَ فِيمَا يَفْعَلُهُ بِنَفْسِهِ أَو مَا يِفْعَلُهُ المَخْلُوقُ.

قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يَس: 82]،

وَأَيضًا قَولُهُ تَعَالَى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [الأَنْعَام: 112]،

وَأَيضًا قَولُهُ تَعَالَى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ} [البَقَرَة: 253].

4 -

الخَلْقُ.

وَذَلِكَ بِأَنْ تُؤْمِنَ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى مَا مِنْ شَيءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا هُوَ خَالِقُهُ وَمَالِكُهُ وَمُدَبِّرُهُ وَذُو سُلْطَانِهِ.

قَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيءٍ} [الزُّمَر: 62]

(2)

.

(1)

وَهَاتَانِ المَرْتَبَتَانِ سَابِقَتَانِ لِوُقُوعِ الأَمْرِ، وَإِنْكَارُهُمَا مُنَافٍ لِأَصْلِ التَّوحِيدِ. قَالَهُ الشَّيخُ صَالِحُ آلِ الشَّيخِ حَفِظَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (التَّمْهِيدُ)(ص 551).

(2)

وَهَاتَانِ المَرْتَبَتَانِ الأَخِيرَتَانِ مُقَارِنَتَانِ لِوُقُوعِ الأَمْرِ، وَإِنْكَارُهُمَا مُنَافٍ لِكَمَالِ التَّوحِيدِ الوَاجِبِ. قَالَهُ الشَّيخُ صَالِحُ آلِ الشَّيخِ حَفِظَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (التَّمْهِيدُ)(ص 551).

قُلْتُ: وَوَجْهُ عَدَمِ كَونِ إِنْكَارِهِمَا مُنَافٍ لِأَصْلِ التَّوحِيدِ هُوَ أَنَّهُم لَا يُصَرِّحُونَ بِوُجُودِ خَالِقٍ مَعَ اللهِ تَعَالَى، فَهُمْ يَنْفُونَ أَنْ تَكُونَ المَعَاصِي وَاقِعَةً بِمَشِيئَةِ اللهِ تَعَالَى، وَهَذَا مِنْ بَابِ حُسْنِ ظَنِّهِم بِاللهِ تَعَالَى -بِحَسْبِ زَعْمِهِم-، وَلَكِنَّهُم أَخْطَأُوا وَوَقَعُوا فِي الضَّلَالِ المُبِينِ. مُسْتَفَادٌ مِنْ شَرْحِ الشَّيخِ الغُنَيمَانِ حَفِظَهُ اللهُ عَلَى كِتَابِ (فَتْحُ المَجِيدِ)، شَرِيطُ رَقَم (127) فِي شَرْحُ البَابِ.

ص: 374

- اللهُ تَعَالَى خَالِقُ كُلِّ شَيءٍ، وَهَذَا العُمُومُ لَا مُخَصِّصَ لَهُ، حَتَّى فِعْلَ المَخْلُوقِ مَخْلُوقٌ للهِ تَعَالَى، لِأَنّ فِعْلَ المَخْلُوقِ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ، وَهُو وَصِفَاتُهُ مَخْلُوقَانِ، وَلِأَنَّ فِعْلَهُ نَاتِجٌ عَنْ إِرَادَةٍ وَقُدْرَةٍ، وَاللهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي خَلَقَ فِي الإِنْسَانِ الإِرَادَةَ الجَازِمَةَ وَالقُدْرَةَ التَّامَّةَ.

فَفِعْلُ العَبْدِ مُرْتَبِطٌ بِشَيئَينِ:

1 -

خَلْقٍ: وَهَذَا يَتَعَلَّقُ بِاللهِ تَعَالَى.

2 -

مُبَاشَرَةٍ: وَهَذَا يَتَعَلَّقُ بِالعَبْدِ وَيُنْسَبُ إِلَيهِ، قَالَ تَعَالَى:{جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الوَاقِعَة: 24]، وَقَالَ تَعَالَى أَيضًا:{ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النَّحْل: 32]، وَلَولَا نِسْبَةُ الفِعْلِ إِلَى العَبْدِ مَا كَانَ لِلثَّنَاءِ عَلَى المُؤْمِنِ المُطِيعِ وَإِثَابَتِهِ وَجْهٌ وَلَا فَائِدَةٌ! وَكَذَلِكَ عُقُوبَةُ العَاصِي وَتَوبِيخُهُ.

- أَنْوَاعُ التَّقْدِيرَاتِ (الكِتَابَةِ):

1 -

التَّقْدِيرُ العَامُّ فِي اللَّوحِ المَحْفُوظِ.

كَمَا فِي الحَدِيثِ: ((كَتَبَ اللهُ مَقَادِيرَ الخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَعَرْشُهُ عَلَى المَاءِ))

(1)

(2)

.

(1)

مُسْلِمٌ (2653) عَنِ ابْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا.

(2)

وَكَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأَنْعَام: 38]، قَالَ البَغَوِيُّ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (3/ 142):"هُوَ اللَّوحُ المَحْفُوظُ".

ص: 375

2 -

التَّقْدِيرُ العُمُرِيُّ.

كَمَا فِي الحَدِيثِ: ((إنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَومًا، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُرْسَلُ إلَيهِ المَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ، وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: بِكَتْبِ رِزْقِهِ، وَأَجَلِهِ، وَعَمَلِهِ، وَشَقِيٍّ أَمْ سَعِيدٍ. فَوَ اللهِ الَّذِي لَا إِلَهَ غَيرُهُ إنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَينَهُ وَبَينَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ؛ فَيَسْبِقُ عَلَيهِ الكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا. وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَينَهُ وَبَينَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ؛ فَيَسْبِقُ عَلَيهِ الكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا))

(1)

.

3 -

التَّقْدِيرُ الحَولِيُّ.

وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ فِي لَيلَةِ القَدْرِ؛ فَيُكْتَبُ فِيهَا مَا يَكُونُ فِي السَّنَةِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى:{فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدُّخَان: 4].

4 -

التَّقْدِيرُ اليَومِيُّ.

كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرَّحْمَن: 29]

(2)

.

(1)

البُخَارِيُّ (3332)، وَمُسْلِمٌ (2643) عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا.

(2)

مُلَاحَظَةٌ: ذَكَرَ ابْنُ القَيِّمِ رحمه الله نَوعًا آخَرَ بَعْدَ الأَوَّلِ وَهُوَ التَّقْدِيرُ قَبْلَ خَلْقِ العِبَادِ، وَهُوَ مِنْ قَولِهِ تَعَالَى:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأَعْرَاف: 172].

ص: 376

- مِنْ فَوَائِدِ الإِيمَانِ بِالقَدَرِ:

1 -

أَنَّهُ مِنْ تَمَامِ تَوحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ.

2 -

يُوجِبُ صِدْقَ الاعْتِمَادِ عَلَى اللهِ عز وجل، لِأَنَّك إِذَا عَلِمْتَ أَنَّ كُلَّ شَيءٍ بِقَضَاءِ اللهِ وَقَدَرِهِ صَدَقَ اعْتِمَادُكَ عَلَى اللهِ.

3 -

أَنَّهُ يُوجِبُ لِلقَلْبِ الطُّمَأْنِينَةَ، حَيثُ تَعْلَمُ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ.

4 -

مَنْعُ إِعْجَابِ المَرْءِ بِعَمَلِهِ إَذَا عَمِلَ عَمَلًا يُشْكَرُ عَلَيهِ، لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي مَنَّ عَلَيهِ وَقَدَّرَهُ لَهُ.

5 -

عَدَمُ حُزْنِهِ عَلَى مَا أَصَابَهُ، لِأَنَّه مِنْ رَبِّهِ؛ فَهُوَ صَادِرٌ عَنْ عِلْمٍ وَرَحْمَةٍ وَحِكْمَةٍ

(1)

.

قَالَ تَعَالَى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحَدِيد: 22 - 23]

(2)

.

(1)

وَفي الحَدِيثِ: أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم؛ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ؛ أَيُّ العَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: ((إِيمَانُ بِاللَّهِ وَتَصْدِيقٌ بِهِ وَجِهَادٌ فِي سَبِيلِهِ))، قَالَ: أُرِيدُ أَهْوَنَ مِنْ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: ((السَّمَاحَةُ وَالصَّبْرُ)). قَالَ: أُرِيدُ أَهْوَنَ مِنْ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: ((لَا تَتَّهِمِ اللهَ تبارك وتعالى فِي شَيءٍ قَضَى لَكَ بِهِ)). صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (22717) عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (3334).

(2)

أَي: فَرَحَ بَطَرٍ وَإِعْجَابٍ بِالنَّفْسِ.

ص: 377

- أَنْوَاعُ القَدَرِيَّةِ -مِمَّنْ نُصَّ عَلَيهِم-:

"القَدَرِيَّةُ المَذْمُومُونَ فِي السُّنَّةِ وَعَلَى لِسَانِ السَّلَفِ هُمْ هَؤُلَاءِ الفِرَقُ الثَّلَاثُ:

1 -

نُفَاتُهُ: وُهُمُ القَدَرِيَّةُ المَجُوسِيَّةُ.

2 -

وَالمُعَارِضُونَ بِهِ لِلشَّرِيعَةِ الَّذِينَ قَالُوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} [الأَنْعَام: 148] وَهُمُ القَدَرِيَّةُ الشِّرْكِيَّةُ.

3 -

وَالمُخَاصِمُونَ بِهِ لِلرَّبِّ سُبْحَانَهُ، وَهُمْ أَعْدَاءُ اللهِ وَخُصُومُهُ، وَهُمُ القَدَرِيَّةُ الإِبْلِيسِيَّةُ، وَشَيخُهُم إِبْلِيسُ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنِ احْتَجَّ عَلَى اللهِ بِالقَدَرِ فَقَالَ:{بِمَا أَغْوَيتَنِي} [الحِجْر: 39] "

(1)

(2)

.

- فَائِدَة 1: لَا يَجُوزُ الخَوضُ فِي مَسَائِلِ القَدَرِ إِلَّا بِقَدْرِ ذِكْرِ مَا جَاءَ فِيهَا مِنَ الشَّرْعِ وَلَو حَسُنَتْ نِيَّةُ الخَائِضِ، فَقَدْ جَاءَ فِي الحَدِيثِ النَّهْيُ عَنِ التَّوَسُّعِ والتَّعَمُّقِ فِيهِ

(3)

، كَمَا فِي الحَدِيثِ:((إِذَا ذُكِرَ أَصْحَابِي فَأَمْسِكُوا، وَإِذَا ذُكِرَتِ النُّجُومُ فأَمْسِكُوا، وَإِذَا ذُكِرَ القَدَرُ فأمْسِكُوا))

(4)

.

وَأَيضًا فِي الحَدِيثِ: ((لَا يَزَالُ أَمْرُ هَذِهِ الأُمَّةِ مُوَاتِيًا -أَو مُقَارِبًا- مَا لَمْ يَتَكَلَّمُوا فِي الوِلْدَانِ وَالقَدَرِ))

(5)

.

(1)

طَرِيقُ الهِجْرَتَينِ لِابْنِ القَيِّمِ (ص 86).

(2)

مَقْصُودُ ابْنِ القَيِّمِ هُوَ مَن نُصَّ عَلَيهِ، وَإِلَّا فَالجَبْرِيَّةُ أَيضًا يُوصَوفُون بِأَنَّهُم قَدَرِيَّةٌ أَيضًا! إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُنَصَّ عَلَيهِم. يُنْظَرُ:(جَامِعُ المَسَائِلِ لِابْنِ تَيمِيَّةَ - المَجْمُوعَةُ السَّابِعَةُ)(1/ 383).

(3)

انْظُرْ تَعْلِيقَ الشَّيخِ الأَلبَانيِّ رحمه الله عَلَى مَتْنِ الطَّحَاوِيَّةِ (ص 42).

(4)

صَحِيحٌ. الطَّبَرَانِيُّ فِي الكَبِيرِ (10/ 198) عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (34).

(5)

صَحِيحٌ. ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ (6724) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (1515).

وَالمَقْصُودُ بِالكَلَامِ عَلَى الوِلْدَانِ: وِلْدَانُ المُشْرِكِينَ، وَهُوَ الخَوضُ فِي كَونِهِم مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ أَوِ النَّارِ لِمَنْ مَاتَ مِنْهُم قَبْلَ البُلُوغِ، وَأَيضًا الخَوضُ فِي ذَلِكَ بِلَا دَلِيلٍ.

ص: 378

- فَائِدَة 2: قُلْتُ: القَدَرُ أَصْلًا الكَلَامُ فِيهِ بِغَيرِ مَا أَثْبَتَهُ الشَّرْعُ هُوَ مَوضُعِ امْتِحَانٍ، وَذَلِكَ لِحَدِيثِ:((إِذَا ذُكِرَ القَدَرُ فأمْسِكُوا))، وَلِحَدِيثِ الإِيمَانِ بِالقَدَرِ خَيرِهِ وَشَرِّهِ، وَلِحَدِيثِ:((القَدَرِيَّةُ مَجُوسُ هَذِهِ الأُمَّةِ))

(1)

، وَلِحَدِيثِ اسْتِشْكَالِ الأَعْرَابِيِّ بِقَولِهِ:(فَفِيمَ العَمَلُ؟!)

(2)

.

فَكُلُّ ذَلِكَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ القَدَرَ أَصْلُ عَرْضِهِ مُشْكِلٌ لِلبَشَرِ فِي عُقُولِهِم، لِذَلِكَ كَانَ المَطْلُوبُ هُوَ التَّسْلِيمُ بِهِ وُفْقَ مَا دَلَّتْ عَلَيهِ الشَّرِيعَةُ.

- فَائِدَة 3: لَقَدْ جَاءَ الإِرْشَادُ النَّبَوُيُّ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالقَدَرِ عَلَى عِدَّةِ جَوَانِبَ مَأْمُورٍ بِهَا، وَهِيَ وَاجِبُنَا فِي مَسَائِلِ القَدَرِ:

1 -

الأَمْرُ بِإِثْبَاتِ القَدَرِ؛ خَيرِهِ وَشَرِّهِ.

2 -

عَدَمُ التَّعَمُّقِ فِيهِ، وَتَرْكُ الخَوضَ فِيمَا لَا يَشْهَدُ لَهُ النَّصُّ

(3)

.

(1)

صَحِيحٌ. أَبُو دَاوُدَ (4691) عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (4442).

(2)

وَهُوَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ (2648) عَنْ جَابِرٍ قَالَ: جَاءَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ بْنِ جُعْشُمٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ بَيِّنْ لَنَا دِينَنَا كَأَنَّا خُلِقْنَا الآنَ، فِيمَ العَمَلُ اليَومَ؟ أَفِيمَا جَفَّتْ بِهِ الأَقْلَامُ وَجَرَتْ بِهِ المَقَادِيرُ أَمْ فِيمَا نَسْتَقْبِلُ؟ قَالَ:((لَا؛ بَلْ فِيمَا جَفَّتْ بِهِ الأَقْلَامُ وَجَرَتْ بِهِ المَقَادِيرُ)). قَالَ: فَفِيمَ العَمَلُ؟! قَالَ: ((اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ)).

(3)

وَفِي الحَدِيثِ: خَرَجَ عَلَينَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم -وَنَحْنُ نَتَنَازَعُ فِي القَدَرِ- فَغَضِبَ حَتَّى احْمَرَّ وَجْهُهُ؛ حَتَّى كَأَنَّمَا فُقِئَ فِي وَجْنَتَيهِ الرُّمَّانُ! فَقَالَ: ((أَبِهَذَا أُمِرْتُمْ؟! أَمْ بِهَذَا أُرْسِلْتُ إِلَيكُمْ؟! إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حِينَ تَنَازَعُوا فِي هَذَا الأَمْرِ، عَزَمْتُ عَلَيكُمْ أَلاَّ تَتَنَازَعُوا فِيهِ)). حَسَنٌ. التِّرْمِذِيُّ (2133) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ التِّرْمِذِيِّ (2133).

ص: 379

3 -

الأَمْرُ بِالعَمَلِ وَعَدَمِ الاتِّكَالِ عَلَى مَا سَبَقَ فِي القَدَرِ.

4 -

جَعْلُ دُخُولِ الجَنَّةِ مُرَتَّبًا عَلَى العَمَلِ.

5 -

جَعْلُ الاحْتِجَاجِ بِالقَدَرِ عَلَى المَعْصِيَةِ مِنْ قَولِ الكُفَّارِ.

6 -

جَوَازُ الاحْتِجَاجِ بِالقَدَرِ عَلَى المَصَائِبِ، كَمَا فِي سُورَةِ التَّغَابُنِ وَسُورَةِ الحَدِيدِ

(1)

، وَكَمَا فِي حَدِيثِ:((وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ))

(2)

.

- فَائِدَة 4: فِي الحَدِيثِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: ((كُلُّ شَيءٍ بِقَدَرٍ؛ حَتَّى العَجْزِ وَالكَيسِ))

(3)

، وَعَلَيهِ فَإِنَّهُ لَا يُلَامُ العَاجِزُ؛ وَإِنَّمَا المُقَصِّرُ.

وَالمَعْنَى أَنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ لِهُ طَاقَتُهُ وَقُدْرَتُهُ الَّتِي تُنَاسِبُهُ؛ فَمَنْ رَامَ تَكْلِيفَهُ مَا لَا يُطِيقُ -وَإِنْ كَانَ غَيرُهُ يُطِيقُهُ- فَعَجَزَ عَنْهُ وَقَصُرَ؛ فَإِنَّهُ لَا يُلَامُ! وَإِنَّمَا يُلَامُ الَّذِي كَلَّفَهُ أَكْثَرَ مِنْ طَاقَتِهِ، وَمَفَادُ ذَلِكَ أَنَّ العَجْزَ وَالضَّعْفَ كَمَا أَنَّهُ يَكُونُ فِي الخَلْقِ وَالقُوَّةِ وَالطُّولِ وَمَا أَشْبَهَهُ؛ فَهُوَ أَيضًا يَكُونُ فِي الفِكْرِ وَالنَّظَرِ وَالحِفْظِ وَالاجْتِهَادِ؛ فَكُلُّهُ مُقَدَّرٌ مِنْهُ سُبْحَانَهُ، وَتَبَارَكَ اللهُ رَبُّنَا القَائِلُ:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البَقَرَة: 286].

- فَائِدَة 5: الأَجَلُ وَالرِّزْقُ بِقَدَرٍ؛ مَقَادِيرُهُا وَأَسْبَابُهَا -حَلَالًا كَانَتْ أَوْ حَرَامًا-.

قَالَ الإِمَامُ أَبُو الحَسَنِ الأَشْعَرِيُّ رحمه الله: "وَأَنَّ مَنْ مَاتَ مَاتَ بِأَجَلِهِ، وَكَذَلِكَ

(1)

أَمَّا الأُولَى؛ فَهِيَ قَولُهُ تَعَالَى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ} [التَّغَابُن: 11].

وَأَمَّا الثَّانِيَةُ؛ فَقَولُهُ تَعَالَى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحَدِيد: 22].

(2)

رَوَاهُ مُسْلِمٌ (2664) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا.

(3)

مُسْلِم (2655).

ص: 380

مَنْ قُتِلَ قُتِلَ بِأَجَلِهِ، وَأَنَّ الأَرْزَاقَ مِنْ قِبَلِ اللهِ سُبْحَانَهُ؛ يَرْزُقُهَا عِبَادَهُ -حَلَالًا كَانَتْ أَمْ حَرَامًا"

(1)

.

- فَائِدَة 6: مُنَاقَشَةٌ حَولَ أَوَّلِ خَلْقِ اللهِ؛ بَينَ القَلَمِ وَالعَرْشِ

قَالَ الشَّيخُ ابْنُ عُثَيمِين رحمه الله: "وَلَكِنَّ الصَّحِيحَ خِلَافُهُ، وَأَنَّ القَلَمَ لَيسَ أَوَّلَ مَخْلُوقَاتِ اللهِ! لِأَنَّهُ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ البُخَاريِّ:((كَتَبَ اللهُ مَقَادِيرَ الخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، قَالَ: وَعَرْشُهُ عَلَى المَاءِ))

(2)

وَهَذَا وَاضِحٌ فِي التَّرْتِيبِ، وَلِهَذَا كَانَ الصَّوَابُ بِلَا شَكٍّ أَنَّ خَلْقَ القَلَمِ بَعْدَ خَلْقِ العَرْشِ"

(3)

.

وَفِي المَنْظُومَةِ النُّونِيَّةِ لِابْنِ القَيِّمِ رحمه الله:

"وَالنَّاسُ مُخْتَلِفُونَ فِي القَلَمِ الَّذِي

كُتِبَ القَضَاءُ بِهِ مِنَ الدَّيَّانِ

هلْ كَانَ قَبْلَ العَرْشِ أَو هُوَ بَعْدَهُ

قَولَانِ عِنْدَ أَبِي العَلَا الهَمَذَانِي

وَالحَقُّ أنَ العرْشَ قَبْلُ لأَنَّهُ

قَبْلَ الكِتَابَةِ كَانَ ذَا أرْكَانِ".

قُلْتُ: عَلَى هَذَا التَّوجِيهِ صَحِيحٌ أَنَّ العَرْشَ يَكُونُ سَابِقًا لِلقَلَمِ، وَلَكِنَّهُ لَا يَعْنِي أَنَّهُ سَبْقٌ مُطْلَقٌ؛ بِأَنْ يَكُونَ هُوَ أَوَّلُ مَخْلُوقٍ مُطْلَقًا!

وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى قَالَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله تَحْتَ حَدِيثِ ((إِنَّ أَوَّلَ شَيءٍ خَلَقَهُ اللهُ تَعَالَى القَلَمُ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَكْتُبَ كُلَّ شَيءٍ يَكُونُ)): "فِي الحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى رَدِّ

(1)

مَقَالَاتُ الإِسْلَامِييَن (1/ 229).

(2)

مُسْلِمٌ (2653) عَنِ ابْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا.

(3)

القَولُ المُفِيدُ (2/ 431).

ص: 381

مَا يَتَنَاقَلُهُ النَّاسُ -حَتَّى صَارَ ذَلِكَ عَقِيدَةً رَاسِخَةً فِي قُلُوبِ كَثِيرٍ مِنْهُم- وَهُوَ أَنَّ النُّورَ المُحَمَّدِيَّ هُوَ أَولُ مَا خَلَقَ اللهُ تبارك وتعالى! وَلَيسَ لِذَلِكَ أَسَاسٌ مِنَ الصِّحَّةِ، وَحَدِيثُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ غَيرُ مَعْرُوفٍ إِسْنَادُهُ، وَلَعَلَّنَا نُفْرِدُهُ بِالكَلَامِ في الأَحَادِيثِ الضَّعِيفَةِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.

وَفِيهِ رَدُّ عَلَى مَنْ يَقُولُ بِأَنَّ العَرْشَ هُوَ أَوَّلُ مَخْلُوقٍ! وَلَا نَصَّ فِي ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم، وَإِنَّمَا يَقُولُ بِهِ مَنْ قَالَهُ كَابْنِ تَيمِيَّةَ وَغَيرِهِ اسْتِنْبَاطًا وَاجْتِهَادًا، فَالأَخْذُ بِهَذَا الحَدِيثِ -وَفِي مَعْنَاهُ أَحَادِيثُ أُخْرَى- أَولَى لِأَنَّهُ نَصٌّ فِي المَسْأَلَةِ، وَلَا اجْتِهَادَ فِي مَورِدِ النَّصِّ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ.

وَتَأْويلُهُ بِأَنَّ القَلَمَ مَخْلُوقٌ بَعْدَ العَرْشِ بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ يَصِحُّ مِثْلُ هَذَا التَّأْويلِ لَو كَانَ هُنَاكَ نَصٌّ قَاطِعٌ عَلَى أَنَّ العَرْشَ أَوَّلُ المَخْلُوقَاتِ كُلِّهَا -وَمِنْهَا القَلَمُ-، أَمَا وَمِثْلُ هَذَا النَّصِّ مَفْقُودٌ، فَلَا يَجُوزُ هَذَا التَّأْوِيلُ"

(1)

.

قُلْتُ: وَعَلَى هَذَا الكَلَامِ الأَخِيرِ تَكُونُ جُمْلَةُ ((وَعَرْشُهُ عَلَى المَاءِ)) اسْتِئْنَافِيَّةً، فِيهَا عَطْفُ إِخْبَارٍ وَلَيسَ عَطْفُ زَمَانٍ.

وَهَذَا لَهُ نَظَائِرُ فِي اللُّغَةِ، وَمِنْهُ قَولُ اللهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ السَّجْدَةِ:{الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [السَّجْدَة: 7 - 9]، فَهُنَا أَخَّرَ ذِكْرَ نَفْخِ الرُّوحِ مَعَ أَنَّهُ بَينَهُمَا؛ لِأَجْلِ أَنْ يَتَنَاسَبَ ذِكْرُ الأَطْوَارِ الَّتِي يَمُرُّ بِهَا الإِنْسَانُ فِي تَكْوِينِهِ، وَهِيَ الطَّينُ ثُمَّ المَاءُ. وَاللهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(1)

الصَّحِيحَةُ (133).

ص: 382

- فَائِدَة 7: فِي بَيَانِ وَجْهِ كَونِ القَدَرِيَّةِ مَجُوسًا!

قَالَ البَيهَقِيُّ رحمه الله: "إِنَّمَا سَمَّاهُمْ مَجُوسًا لِمُضَاهَاةِ بَعْضِ مَا يَذْهَبُونَ إِلَيهِ مَذَاهِبَ المَجُوسِ فِي قَولِهِمْ بِالأَصْلَينِ وَهُمَا النُّورُ وَالظُّلْمَةُ، يَزْعُمُونَ أَنَّ الخَيرَ مِنْ فِعْلِ النُّورِ وَأَنَّ الشَّرَّ مِنْ فِعْلِ الظُّلْمَةِ! فَصَارُوا ثَنَوِيَّةً، كَذَلِكَ القَدَرِيَّةُ يُضِيفُونَ الخَيرَ إِلَى اللهِ وَالشَّرَّ إِلَى غَيرِهِ! وَاللَّهُ تَعَالَى خَالِقُ الخَيرِ وَالشَّرِّ، وَالأَمْرَانِ مَعًا مُضَافَانِ إِلَيهِ خَلْقًا وَإِيجَادًا، وَإِلَى الفَاعِلِينَ لَهُمَا مِنْ عِبَادِهِ فِعْلًا وَاكْتِسَابًا. هَذَا قَولُ أَبِي سُلَيمَانَ الخَطَابِيِّ رحمه الله"

(1)

.

قُلْتُ: وَهُمْ فِي الحَقِيقةِ فَاقُوا المَجُوسَ فِي هَذِهِ البِدْعَةِ لِأَنَّهُم أَثْبَتُوا خَالِقِينَ كُثُرَ بِعَدَدِ الفَاعِلِينَ مِنَ المَخْلُوقَاتِ!

(1)

السُّنَنُ الكُبْرَى (10/ 349).

ص: 383

‌المُلْحَقُ التَّاسِعُ عَلَى كِتَابِ التَّوحِيدِ: مَسَائِلُ فِي الإِيمَانِ بِالقَدَرِ

-‌

‌ المَسْأَلَةُ الأُولَى: هَلْ مِنْ مَعْنَى الإِيمَانِ بِالقَدَرِ تَرْكُ العَمَلِ وَالاتِّكَالُ عَلَى مَا كُتِبَ فِي اللَّوحِ المَحْفُوظِ؟ وَهَلْ فِي ذَلِكَ حُجَّةٌ لِلعَاصِي عَلَى مَعْصِيَتِهِ؟

الجَوَابُ: لَا، وَذَلِكَ لِسَبَبَينِ:

1 -

دَلِيلٌ أَثَرِيٌ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِالعَمَلِ رُغْمَ وُجُودِ الكِتَابَةِ وَفِي نَفْسِ الحَدِيثِ.

وَهُوَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه؛ قَالَ: كُنَّا فِي جَنَازَةٍ فِي بَقِيعِ الغَرْقَدِ، فَأَتَانَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَعَدَ وَقَعَدْنَا حَولَهُ وَمَعَهُ مِخْصَرَةٌ، فَنَكَّسَ فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِمِخْصَرَتِهِ

(1)

، ثُمَّ قَالَ:((مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ، وَمَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إِلَّا كُتِبَ مَكَانُهَا مِنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَإِلَّا قَدْ كُتِبَتْ شَقِيَّةً أَو سَعِيدَةً))، قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ أَفَلَا نَتَّكِلُ عَلَى كِتَابِنَا وَنَدَعُ العَمَلَ؛ فَمَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَسَيَصِيرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ فَسَيَصِيرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ؟ قَالَ:((أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ؛ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ؛ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاءِ)) ثُمَّ قَرَأَ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} الآيَةَ [اللَّيل: 5 - 7]. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ

(2)

.

فَالحَدِيثُ صَرِيحٌ فِي الأَمْرِ بِالعَمَلِ رُغْمَ وُجُودِ الكِتَابَةِ، وَلَكِنْ يَكُونُ العَمَلُ

(1)

المِخْصَرَةُ: مَا يُتَوَكَّأُ عَلَيهِ مِنْ عَصَا وَغَيرِهَا.

(2)

البُخَارِيُّ (4948)، وَمُسْلِمٌ (2647).

ص: 384

نَفْسُهُ سَبَبًا لِلجَنَّةِ أَو لِلنَّارِ، كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى:{تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزُّخْرُف: 72].

وَأَيضًا فِي الحَدِيثِ عَنْ عُمَرَ مَرْفُوعًا: ((إِنَّ اللهَ عز وجل خَلَقَ آدَمَ ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ بِيَمِينِهِ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً، فَقَالَ: خَلَقْتُ هَؤُلَاءِ لِلْجَنَّةِ، وَبِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ يَعْمَلُونَ، ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً، فَقَالَ: خَلَقْتُ هَؤُلَاءِ لِلنَّارِ؛ وَبِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ يَعْمَلُونَ)). فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ فَفِيمَ العَمَلُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ اللهَ عز وجل إِذَا خَلَقَ العَبْدَ لِلْجَنَّةِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الجَنَّةِ فَيُدْخِلَهُ بِهِ الجَنَّةَ، وَإِذَا خَلَقَ العَبْدَ لِلنَّارِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ النَّارِ فَيُدْخِلَهُ بِهِ النَّارَ))

(1)

.

2 -

دَلِيلٌ نَظَرِيٌّ: أَنَّهُ يُقَالُ لِهَذَا الرَّجُلِ العَاصِي: مَا الَّذِي أَعْلَمَكَ أَنَّ اللهَ كَتَبَكَ مُسِيئًا؟ هَلْ تَعْلَمُ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تَعْمَلَ الإِسَاءَةَ؟ فَجَوَابُهُ حَتْمًا هُوَ النَّفْيُ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَقُولَ إِنَّهُ هُوَ نَفْسُهُ اخْتَارَ ذَلِكَ.

وَتَأَمَّلْ قَولَهُ تَعَالَى عَنِ المُشْرِكِينَ: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ * قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأَنْعَام: 148 - 149]

(1)

صَحِيحٌ. سُنَنُ أَبِي دَاوُدَ (4703).

قُلْتُ: وَجُمْلَةُ: ((مَسْحِ الظَّهْرِ)) ضَعَّفَهَا الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله قَدِيمًا؛ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى تَصْحِيحِهَا بَعْدَ أَنْ تَنَبَّهَ إِلَى شَوَاهِدَ لَهَا. تَخْرِيجُ الطَّحَاوِيَّةِ (ص 266 - ط 2).

ص: 385

حَيثُ جَعَلَ تَعَالَى عَدَمَ عِلْمِهِم بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ حُجَّةً بِالِغَةً عَلَيهِم.

وَقَالَ تَعَالَى أَيضًا عَنْهُم: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الزخرف: 20]

(1)

.

(1)

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثيرٍ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (7/ 224): " {مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} أَي: بِصِحَّةِ مَا قَالُوهُ وَاحْتَجُّوا بِهِ، {إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} أَي: يَكْذِبُونَ وَيَتَقَوَّلُونَ".

ص: 386

-‌

‌ المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَا الجَوَابُ عَنْ أَدِلَّةِ الفِرْقَتَينِ الضَّالَّتَينِ فِي مَسَائِلِ القَدَرِ؟

حَيثُ كَانَتْ أَدِلَّةُ الفِرْقَةِ الأُولَى (الجَبْرِيَّةِ) -بِإِيجَازٍ-:

قَولُهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصَّافَّات: 96]

(1)

.

وَقَولُهُ تَعَالَى: {وَمَا رَمَيتَ إِذْ رَمَيتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأَنْفَال: 17]، فَنَفَى اللهُ الرَّمْيَ عَنْ نَبِيِّهِ حِينَ رَمَى وَأَثْبَتَهُ لِنَفْسِهِ!

وَكَانَتْ أَدِلَّةُ الفِرْقَةِ الثَّانِيَةِ (المُعْتَزِلَةِ القَدَرِيَّةِ) -بِإِيجَازٍ-:

قَولُهُ تَعَالَى: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [آل عِمْرَان: 152]، وَكَقَولِهِ تَعَالَى أَيضًا:{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التَّكْوِير: 28]، وَكَقَولِهِ تَعَالَى أَيضًا:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فُصِّلَت: 46] وَنَحْوِهَا مِنَ النُّصُوصِ القُرْآنِيَّةِ وَالنَّبَوِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ لِلعَبْدِ إِرَادَةً وَمَشِيئَةً خَاصَّةً بِهِ، وَأَنَّهُ هُوَ العَامِلُ الكَاسِبُ الرَّاكِعُ السَّاجِدُ وَنَحْو ذَلِكَ.

وَقَالُوا أَيضًا: إِنَّ هَذَا فِيهِ نِسْبَةَ الفَحْشَاءِ -بِزَعْمِهِم- إِلَى اللهِ تَعَالَى! فَمَعْصِيَةُ العَبْدِ لَا يَجُوزُ أَنْ تُنْسَبَ إِلَيهِ تَعَالَى!

الجَوَابُ عَلَى اسْتِدْلَالِ الفِرْقَةِ الأُولَى:

1 -

قَولُهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} هُوَ حُجَّةُ عَلَيهِم، لِأَنَّهُ تَعَالَى أَضَافَ العَمَلَ إِلَيهِم، وَأَمَّا كَونُ اللهِ تَعَالَى خَالِقُهُ؛ فَلِأَنَّ عَمَلَ العَبْدِ حَاصِلٌ بِإِرَادَتِهِ الجَازِمَةِ وَقُدْرَتِهِ التَّامَّةِ، وَالإِرَادَةُ وَالقُدْرَةُ مَخْلُوقَتَانِ للهِ عز وجل؛ فَكَانَ بِهِمَا الفِعْلُ مَخْلُوقًا أَيضًا للهِ تَعَالَى.

(1)

وَهُوَ عَلَى تَوجِيهِ أَنَّ العَمَلَ هُنَا هُوَ صِفَةُ العَبْدِ القَائِمَةِ بِهِ؛ وَلَيسَ المَعْمُولَ؛ أَي: الأَصْنَامَ.

ص: 387

2 -

وَأَمَّا قَولُهُ تَعَالَى: {وَمَا رَمَيتَ إِذْ رَمَيتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَيهِم أَيضًا؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى أَضَافَ الرَّمْيَ إِلَى نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم، لَكِنَّ الرَّمْيَ فِي الآيَةِ لَهُ مَعْنَيَانِ:

أ- رَمْيُ الشَّيءِ المَرْمِيِّ؛ وَهُوَ فِعْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الَّذِي أَضَافَهُ اللهُ إِلَيهِ.

ب- إِيصَالُ المَرْمِيِّ إِلَى أَعْيُنِ الكُفَّارِ الَّذِينَ رَمَاهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالتُّرَابِ يَومُ بَدْرٍ فَأَصَابَ عَينَ كُلِّ وَاحِدٍ مَنْهُم، وَهَذَا مِنْ فَعْلِ اللهِ، إِذْ لَيسَ بِمَقْدُورِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُوصِلَ التُّرَابَ إِلَى عَينِ كُلِّ وَاحِدٍ مَنْهُم

(1)

(2)

.

(1)

قَالَ الإِمَامُ البَيهَقِيُّ رحمه الله: "بَابٌ: القَولُ فِي خَلْقِ الأَفْعَالِ، قَالَ اللَّهُ عز وجل: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيءٍ} [غافر: 62] فَدَخَلَ فِيهِ الأَعْيَانُ وَالأَفْعَالُ مِنَ الخَيرِ وَالشَّرِّ" ثُمَّ أَورَدَ مَجْمُوعَةً مِنَ الأَدِلَّةِ إِلَى أَنْ قَالَ: "فَثَبَتَ أَنَّ الأَفْعَالَ كُلَّهَا -خَيرَهَا وَشَرَّهَا- صَادِرَةٌ عَنْ خَلْقِهِ وَإِحْدَاثِهِ إِيَّاهَا؛ وَلِأَنَّهُ قَالَ: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيتَ إِذْ رَمَيتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأَنْفَال: 17]، وَقَالَ: {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الوَاقِعَة: 64] فَسَلَبَ عَنْهُمْ فِعْلَ القَتْلِ وَالرَّمْيِ وَالزَّرْعِ مَعَ مُبَاشَرَتِهِمْ إِيَّاهُ، وَأَثْبَتَ فِعْلَهَا لِنَفْسِهِ لِيَدُلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ المَعْنَى المُؤَثِّرَ فِي وُجُودِهَا بَعْدَ عَدَمِهَا هُوَ إِيجَادُهُ وَخَلْقُهُ، وَإِنَّمَا وُجِدَتْ مِنْ عِبَادِهِ مُبَاشَرَةُ تِلْكَ الأَفْعَالِ بِقُدْرَةٍ حَادِثَةٍ أَحْدَثَهَا خَالِقُنَا عز وجل عَلَى مَا أَرَادَ، فَهِيَ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ خَلْقٌ -عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ هُوَ الَّذِي اخْتَرَعَهَا بِقُدْرَتِهِ القَدِيمَةِ- وَهِيَ مِنْ عِبَادِهِ كَسْبٌ -عَلَى مَعْنَى تَعَلُّقِ قُدْرَةٍ حَادِثَةٍ بِمُبَاشَرَتِهِمُ الَّتِي هِيَ أَكْسَابُهُمْ-". الاعْتِقَادُ (ص 142).

(2)

قُلْتُ: وَمِنْ هَذَا البَابِ مَا يُتَنَاقَلُ عَلَى لِسَانِ العَامَّةِ فَضْلًا عَنِ الخَاصَّةِ مِنْ أَنَّهُم يَنْسِبُونَ أَفْعَالًا قَامَتْ بِالعِبَادِ إِلَى اللهِ تَعَالَى كَقَولِ المَرِيضِ: (شَفَانِي اللهُ تَعَالَى) بَعْدَ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَعَاطَى عِلَاجَ الطَّبِيبِ، وَمِثْلُ أَنْ يَقُولَ:(أَعْطَانِي اللهُ هَذَا المَالَ) مَعَ أَنَّهُ وَرِثَهُ أَو كَسِبَهُ مِنْ عَمَلٍ أَو تِجَارَةٍ وَنَحْو ذَلِكَ، فَهَذَا كُلُّهُ صَحِيحٌ لِأَنَّهُ فِي سِيَاقِ إِظْهَارِ نِعْمَةِ المُنْعِمِ بِذَلِكَ وَهُوَ اللهُ تبارك وتعالى، وَلَا يَخْفَى أَنَّ عِلَاجَ الطَّبِيبِ إِنَّمَا أَخَذَ أَثَرَهُ بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَى، بَلْ طِبُّ الطَّبِيبِ إِنَّمَا كَانَ بِتَعْلِيمِ اللهِ تَعَالَى لَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النَّحْل: 78]، وَأَيضًا هِبَةُ المَالِ أَو كَسْبُهُ فِي التِّجَارَةِ إِنَّمَا تَمَّ بِتَعْلِيمِ وَتَيسِيرِ اللهِ لِهَذَا المَالِ إَلَى أَنْ يَقَعَ فِي يَدِ ذَلِكَ التَّاجِرِ أَوِ الوَارِثِ أَوِ الكَاسِبِ، كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى:{وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النُّور: 33].

ص: 388

3 -

أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَبْطَلَ حُجَّةَ المُشْرِكِينَ الَّذِينَ اسْتَدَلُّوا بِالقَدَرِ عَلَى مَعَاصِيهِم وَزَعَمُوا أَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي شَاءَ ذَلِكَ، بِمَعْنَى أَنَّهُم لَيسَ لَهُم اخْتِيَارٌ يُلَامُونَ عَلَيهِ! فَقَالَ تَعَالَى:{سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} [الأَنْعَام: 148].

4 -

أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّ لِلعَبْدِ مَشِيئَةً مُسْتَقِلَّةً -مِنْ جِهَةِ اخْتِيَارِهِ-، وَلَكِنَّهَا خَاضِعَةٌ لِمَشِيئَتِهِ تَعَالَى؛ فَلَا يَقَعُ إِلَّا مَا شَاءَهُ اللهُ تَعَالَى، قَالَ تَعَالَى:{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التَّكْوِير: 28 - 29]

(1)

.

5 -

أَنَّ القَولَ بِسَلْبِ مَشِيئَةِ وَاخْتِيَارِ العَبْدِ يُبْطِلُ الثَّوَابَ وَالعِقَابَ! وَلَولَا نِسْبَةُ الفِعْلِ إِلَى العَبْدِ مَا كَانَ لِلثَّنَاءِ عَلَى المُؤْمِنِ المُطِيعِ وَإِثَابَتِهِ فَائِدَةٌ، وَكَذَلِكَ عُقُوبَةُ العَاصِي وَتَوبِيخُهُ، وَهَذَا قَادِحٌ فِي الإِيمَانِ بِاليَومِ الآخِرِ، وَقَادِحٌ فِي عَدْلِهِ تَعَالَى.

بَلْ إِنَّهُ "إِذَا كَانَ الْعُقَلَاءُ مُتَّفِقِينَ عَلَى أَنَّ حَقَّ الْمَخْلُوقِ لَا يَجُوزُ إسْقَاطُهُ احْتِجَاجًا بِالْقَدَرِ؛ فَكَيفَ يَجُوزُ إسْقَاطُ حَقِّ الْخَالِقِ احْتِجَاجًا بِالْقَدَرِ؟! وَهُوَ سُبْحَانَهُ الْحَكَمُ الْعَدْلُ الَّذِي لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ، وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْه أَجْرًا عَظِيمًا"

(2)

.

(1)

وَفِي قَولِهِ تَعَالَى: {مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيهَا} [الإسراء: 15] بَعْدَ قَولِه سُبْحَانَه: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} أَنَّ "الأَفْعَالَ جَارِيَةٌ مِن فَاعِلِيهَا عَلَى مَا سَبَقَ مِن القَضَاءِ عَلَيهِم فِيهَا، وَإِنَّ مَن نَسَبَ الفِعْلَ إِلَيهِم وَالقَضَاءَ إِلَيهِ سُبْحَانَهُ؛ فَقَد قَالَ بِجَمِيعِ المَعْنَيَين وَاسْتَقَامَ قَولُهُ". يُنْظَرُ: النُّكَتُ الدَّالَّةُ عَلَى البَيَانِ، لِلقَصَّابِ (2/ 109).

(2)

مَجْمُوعُ الفَتَاوَى (14/ 314).

ص: 389

وَفي الحَدِيثِ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم طَرَقَهُ وَفَاطِمَةَ عليها السلام -بِنْتَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُمْ: ((أَلَا تُصَلُّونَ؟)) فَقَالَ عَلِيٌّ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّمَا أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللهِ؛ فَإِذَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَنَا بَعَثَنَا. فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ قَالَ لَهُ ذَلِكَ وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيهِ شَيئًا، ثُمَّ سَمِعَهُ -وَهُوَ مُدْبِرٌ يَضْرِبُ فَخِذَهُ- وَهُوَ يَقُولُ:{وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيءٍ جَدَلًا} [الكَهْف: 54]

(1)

.

"فِي هَذَا الحَدِيثِ بَيَانُ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي مُعَارَضَةُ الأَمْرِ بِالقَدَرِ، فَإِنَّ قَولَهُ: (إِنَّمَا نُفُوسُنَا بِيَدِ اللهِ) إِلَى آخِرِهِ، اسْتِنَادٌ إِلَى القَدَرِ فِي تَرْكِ امْتِثَالِ الأَمْرِ، وَهَذَا القَولُ فِي نَفْسِهِ حَقٌّ، وَلَكِنْ لَا يَصْلُحُ لِمُعَارَضَةِ الأَمْرِ، بَلْ مُعَارَضَةُ الأَمْرِ بِهَذَا مِنْ بَابِ الجَدَلِ المَذْمُومِ الَّذِي قَالَ اللهُ فِيهِ: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيءٍ جَدَلًا}، وَلِهَذَا انْصَرَفَ عَنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَارِهًا لِمَقَالَتِهِ، وَتَلَا قَولَهُ تَعَالَى: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيءٍ جَدَلًا}، وَضَرْبُهُ فَخِذَهُ يَدُلُّ عَلَى كَرَاهَتِهِ لِذَلِكَ أَيضًا، وَتَعَجُّبِهِ مِنْ عَلِيٍّ كَيفَ يُعَارِضُ قَولَهُ لَهُ: ((أَلَا تُصَلُّونَ؟)) بِتِلْكَ المَقَالَةِ؟! وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ شَيءٍ بِمَشِيئَةِ اللهِ، فَلَو أَنَّ كُلَّ مَنْ أُمِرَ بِأَمْرٍ قَالَ: إِذَا شَاءَ اللهُ فَعَلْتُهُ وَإِذَا شَاءَ لَمْ أَفْعَلْهُ! لَتَعَطَّلَتِ الأَوَامِرُ كُلُّهَا، وَسَادَ هَوَى النُّفُوسِ"

(2)

.

وَأَمَّا الجَوَابُ عَلَى اسْتِدْلَالِ الفِرْقَةِ الثَّانِيَةِ فَهُوَ:

1 -

أَنَّ إِثْبَاتِ مَشِيئَةِ العَبْدِ لَا يَعْنِي اسْتِقْلَالَهَا -مِنْ جِهَةِ الوُقُوعِ-! وَلَكِنَّهَا تَحْتَ مَشِيئَةِ اللهِ تَعَالَى، كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى:{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التَّكْوِير: 28 - 29].

2 -

أَنَّ إِثْبَاتَ وُجُودِ شَيءٍ فِي الكَونِ بِغَيرِ مَشِيئَةِ اللهِ هُوَ نَوعُ إِشْرَاكٍ بِهِ مِنْ جِهَةِ

(1)

البُخَارِيُّ (7347)، وَمُسْلِمٌ (775).

(2)

شَرْحُ كِتَابِ التَّوحِيدِ مِنْ صَحِيحِ البُخَارِيِّ (2/ 259) لِلغُنَيمَانُ حَفِظَهُ اللهُ.

ص: 390

تَوحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَلِهَذَا سَمَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم القَدَرِيَّةَ مَجُوسَ هَذِهِ الأُمَّةِ

(1)

.

3 -

أَنَّ عِلْمَ اللهِ بِكُلِّ شَيءٍ وَبِمَا سَيَكُونُ فِي المُسْتَقْبَلِ يَدُلُّ عَلَى أنَّهُ أَرَادَهُ كَونًا؛ وَهَذِهِ هِيَ المَشِيئَةُ.

4 -

أَنَّ فِعْلَ العَبْدِ مِنْ طَاعَةٍ أَو مَعْصِيَةٍ يُنْسَبُ إِلَيهِ مُبَاشَرَةً لِأَنَّ فِيهِ اخْتِيَارًا مِنْهُ، وَهُوَ أَيضًا يُنْسَبُ إِلَى اللهِ تَعَالَى خَلْقًا وَمَشِيئَةً، وَمَفَادُهُ أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ شَيءٌ عَنْ مُلْكِهِ وَإِذْنِهِ سُبْحَانَهُ، فَهُوَ دَلِيلُ عَظَمَةِ الرَّبِّ تَعَالَى وَكَمَالِ سُلْطَانِهِ، وَتَأَمَّلْ قَولَهُ تَعَالَى:{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البَقَرَة: 253]

(2)

(3)

.

(1)

صَحِيحٌ. وَهُوَ لَفْظُ الحَدِيثِ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ (4691) عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (4442).

قَالَ البَيهَقِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ السُّنَنُ الكُبْرَى (10/ 349): "إِنَّمَا سَمَّاهُمْ مَجُوسًا لِمُضَاهَاةِ بَعْضِ مَا يَذْهَبُونَ إِلَيهِ مَذَاهِبَ المَجُوسِ فِي قَولِهِمْ بِالأَصْلَينِ -وَهُمَا النُّورُ وَالظُّلْمَةُ-، يَزْعُمُونَ أَنَّ الخَيرَ مِنْ فِعْلِ النُّورِ وَأَنَّ الشَّرَّ مِنْ فِعْلِ الظُّلْمَةِ! فَصَارُوا ثَنَوِيَّةً، كَذَلِكَ القَدَرِيَّةُ يُضِيفُونَ الخَيرَ إِلَى اللهِ وَالشَّرَّ إِلَى غَيرِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى خَالِقُ الخَيرِ وَالشَّرِّ، وَالأَمْرَانِ مَعًا مُضَافَانِ إِلَيهِ خَلْقًا وَإِيجَادًا وَإِلَى الفَاعِلِينَ لَهُمَا مِنْ عِبَادِهِ فِعْلًا وَاكْتِسَابًا، هَذَا قَولُ أَبِي سُلَيمَانَ الخَطَابِيِّ رحمه الله".

قُلْتُ: وَهُمْ فِي الحَقِيقةِ فَاقُوا المَجُوسَ فِي هَذِهِ البِدْعَةِ لِأَنَّهُم أَثْبَتُوا خَالِقَينِ كُثُر بِعَدَدِ العِبَادِ.

(2)

قَالَ الشَّيخُ الغُنَيمَانُ حَفِظَهُ اللهُ فِي شَرْحِ كِتَابِ التَّوحِيدِ مِنْ صَحِيحِ البُخَارِيِّ (2/ 492): "فَأَفْعَالُ العِبَادِ مَخْلُوقَةٌ للهِ كَسَائِرِ مَخْلُوقَاتِهِ، وَمَفْعُولَةٌ لَهُ، وَهِيَ فِعْلُ العِبَادِ حَقِيقَةً، وَقَائِمَةٌ بِهِم حَقِيقَةً. فَالكُفْرُ وَالكَذِبُ وَالظُّلْمُ وَنَحْو ذَلِكَ مِنَ القَبَائِحِ؛ يَتَّصِفُ بِهَا مَنْ قَامَتْ بِهِ وَفَعَلَهَا، وَلَا يَتَّصِفُ بِهَا مَنْ خَلَقَهَا وَجَعَلَهَا صِفَةً لِغَيرِهِ! فَكَمَا أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يَكُونُ مُتَّصِفًا بِمَا خَلَقَهُ فِي خَلْقِهِ مِنَ الأَلْوَانِ وَالرَّوَائِحِ وَالطُّعُومِ! فَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ مُتَّصِفًا بِالفِعْلِ الَّذِي خَلَقَهُ فِي عِبَادِهِ وَجَعَلَهُ وَصْفًا لَهُم.

وَبِهَذَا تَزُولُ شُبْهَةُ المُعْتَزِلَةِ وَمَنْ وَافَقَهُم فَي نَفْيِهِمُ الأَفْعَالَ القَبِيحَةَ أَنْ تَدْخُلَ تَحْتَ مَشِيئَةِ اللهِ وَخَلْقِهِ مُحْتَجِّينَ بِأَنَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ القَبِيحِ. وَاللهُ أَعْلَمُ".

(3)

وَيُقَالُ: "إِنَّ بَعْضَ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ أُحْضِرَ لِلْمُنَاظَرَةِ مَعَ بَعْضِ أَئِمَّةِ المُعْتَزِلَةِ، فَلَمَّا جَلَسَ المُعْتَزِلِيُّ قَالَ:

=

ص: 391

وَيَزِيدُ هَذَا بَيَانًا مَعْرِفَةُ أَنَّ إِرَادَةَ اللهِ تَعَالَى نَوعَانِ؛ شَرْعِيَّةٌ وَكَونِيَّةٌ؛ وَالفَرْقُ بَينَهُمَا:

أ- مِنْ حَيثُ المَحَبَّةِ؛ الشَّرْعيَّةُ تَتَعَلَّقُ بِمَا يُحِبُّهُ اللهُ، وَأَمَّا الكَونِيَّةُ فَقَدْ يُحِبُّهَا اللهُ وَقَدْ لَا يُحِبُّهَا.

ب- مِنْ حَيثُ الوُقُوعِ؛ الشَّرْعِيَّةُ قَدْ تَقَعُ وَقَدْ لَا تَقَعُ، بِخِلَافِ الكَونِيَّةِ فَهِيَ وَاقِعَةٌ لَا مَحَالَةَ، وَكِلَا النَّوعَينِ مَقُرُونٌ بِالحِكْمَةِ.

وَمِثَالُ الكَونِيَّةِ قَولُهُ تَعَالَى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البُرُوج: 16)، وَالإِرَادَةُ الكَونِيَّةُ هِيَ نَفْسُهَا المَشِيئَةُ؛ فَمَا شَاءَ اللهُ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشأْ لَمْ يَكُنْ.

وَمِثَالُ الشَّرْعِيَّةِ: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيكُمْ} [النِّسَاء: 27]

=

سُبْحَانَ مَنْ تَنَزَّهَ عَنِ الفَحْشَاءِ. فَقَالَ السُّنِّيُّ: سُبْحَانَ مَنْ لَا يَقَعُ فِي مُلْكِهِ إِلَّا مَا يَشَاءُ. فَقَالَ المُعْتَزِلِيُّ: أَيَشَاءُ رَبُّنَا أَنْ يُعْصَى؟! فَقَالَ السُّنِّيُّ: أَفَيُعْصَى رَبُّنَا قَهْرًا؟! فَقَالَ المُعْتَزِلِيُّ: أَرَأَيتَ إِنْ مَنَعَنِي الهُدَى وَقَضَى عَلَيَّ بِالرَّدَى؛ أَحْسَنَ إِلَيَّ أَو أَسَاءَ؟ فَقَالَ السُّنِّيُّ: إِنْ كَانَ مَنَعَكَ مَا هُوَ لَكَ؛ فَقَدْ أَسَاءَ، وَإِنْ كَانَ مَنَعَكَ مَا هُوَ لَهُ؛ فَإِنَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ. فَانْقَطَعَ". فَتْحُ البَارِي (13/ 451).

ص: 392

-‌

‌ المَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: كَيفَ الجَمْعُ بَينَ حَدِيثِ: ((مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ وَأَنْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أثَرِهِ؛ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ))

(1)

مَعَ الأَحَادِيثِ الكَثِيرَةِ الصَّرِيحَةِ الَّتِي فِيهَا كِتَابَةُ أَجَلِ الإِنْسَانِ عَ

لَيهِ، وَمِنْهَا حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ المَرْفُوعُ فِي الصَّحِيحَينِ

(2)

وَالَّذِي فِيهِ: ((إنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَومًا، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُرْسَلُ إلَيهِ المَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ، وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: بِكَتْبِ رِزْقِهِ، وَأَجَلِهِ، وَعَمَلِهِ، وَشَقِيٍّ أَمْ سَعِيدٍ)) وَذَلِكَ فِي كَونِ الأَجَلِ مَكْتُوبًا، وَفِي الحَدِيثِ الأَوَّلِ بَيَّنَ أَنَّهُ قَابِلٌ لِلزِّيَادَةِ؟

(3)

وَكَقَولِهِ تَعَالَى: {لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [يُونُس: 49]؟

الجَوَابُ مِنْ أَوجُهٍ:

1 -

أَنَّ هَذَا أَمْرٌ غَيبِيٌّ لَا يُعْلَمُ إِلَّا مِنْ جِهَةِ الشَّرِيعَةِ، فَيَجِبُ إِثْبَاتُ كِلَا الأَمْرَينِ، فَنَقُولُ: العُمْرُ مَكْتُوبٌ؛ وَأَيضًا هُوَ قَابِلٌ لِلزِّيَادَةِ بِسَبَبِ هَذِهِ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ.

2 -

أَنَّ الشَّرِيعَةَ قَدْ دَلَّتْ أَصْلًا عَلَى إِمْكَانِيَّةِ حُصُولِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ أَوِ النُّقْصَانِ فِي الأَعْمَارِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [فَاطِر: 11]

(4)

.

(1)

رَوَاهُ البُخَارِيُّ (5985)، وَمُسْلِمٌ (2557) عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا.

(2)

البُخَارِيُّ (3332)، وَمُسْلِمٌ (2643).

(3)

وَإِذَا كَانَ قَابِلًا لِلزِّيَادَةِ فَهُوَ أَيضًا قَابِلٌ لِلنَّقْصِ.

(4)

وَفي شَرْحِ هَذَا التَّعْمِيرِ وَالنَّقْصِ أَقْوَالٌ؛ أَشْهَرُهَا أَرْبَعَةٌ، وَهِيَ -بِاخْتِصَارٍ وَتَصَرُّفٍ يَسِيرٍ مِنْ تَفْسِيرِ القُرْطُبِيِّ (14/ 333) -:

=

ص: 393

3 -

أَنَّ هَذِهِ الكِتَابَةَ لَا تُنَافِي وُجُودَ الزِّيَادَةِ أَصْلًا فِي الأَعْمَارِ تَبَعًا لِهَذَهِ الأَسْبَابِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الكِتَابَةَ مَقْطُوعٌ بِهَا بِاعْتِبَارِ الخَاتِمَةِ وَالنِّهَايَةِ؛ فَلَا يَمْنَعُ أَصْلًا أَنْ تَكُونَ مُعْتَبَرَةً ضِمْنَ هَذِهِ الكِتَابَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [فَاطِر: 11]

(1)

.

=

الأَوَّلُ: أَنَّ التَّعْمِيرَ هُوَ كِتَابَةُ كَمْ يَكُونُ لَهُ مِنَ العُمُرِ، كَمْ سَنَةً وَكَمَ شَهْرًا وَكَمْ يَومًا وَكَمْ سَاعَةً، وَالإِنْقَاصُ هُوَ كِتَابَةُ تَنَاقُصِ عُمُرِهِ البَاقِي حَتَّى يَسْتَوفيَ أَجَلَهُ. كَمَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيرٍ: يُكْتَبُ عُمُرُهُ كَذَا وَكَذَا سَنَةً، ثُمَّ يُكْتَبُ فِي أَسْفَلِ ذَلِكَ: ذَهَبَ يَومٌ، ذَهَبَ يَومَانِ، حَتَّى يَأْتيَ عَلَى آخِرِهِ.

وَالضَّمِيرُ فِي قَولِهِ: {مِنْ عُمُرِهِ} يَعُودُ إِلَى نَفْسِ الشَّخْصِ.

الثَّاني: أَنَّ المُعَمَّرَ مَنْ بَلَغَ سِتِّينَ سَنَةً، وَالمَنْقُوصَ مِنْ عُمُرِهِ مَنْ يَمُوتُ قَبْلَ سِتِّينَ سَنَةً، فَالتَّقْصِيرُ لَهُ هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ كَانَ عُمُرُهُ أَطْوَلَ مِنْهُ.

وَالضَّمِيرُ فِي قَولِهِ: {مِنْ عُمُرِهِ} يَعُودُ إِلَى غَيرِ الأَوَّلِ.

الثَّالِثُ: أَنَّ اللهَ كَتَبَ عُمُرَ الإِنْسَانِ مِائَةَ سَنَةٍ مَثَلًا إِنْ أَطَاعَ، وَتِسْعِينَ إِنْ عَصَى، فَأيُّهُمَا بَلَغَ فَهُوَ فِي كِتَابٍ. أَي: أَنَّهُ يُكْتَبُ فِي اللَّوحِ المَحْفُوظِ: عُمُرُ فُلَانٍ كَذَا سَنَةً، فَإِنْ وَصَلَ رَحِمَهُ زِيدَ فِي عُمُرِهِ كَذَا سَنَةً، فَبَيَّنَ ذَلِكَ فِي مَوضِعٍ آخَرَ مِنَ اللَّوحِ المَحْفُوظِ إنَّهُ سَيَصِلُ رَحِمَهُ، فَمَنْ اطَّلَعَ عَلَى الأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي ظَنَّ أَنَّهُ زِيَادَةٌ أَو نُقْصَانٌ.

وَالضَّمِيرُ فِي قَولِهِ: {مِنْ عُمُرِهِ} يَعُودُ إِلَى نَفْسِ الشَّخْصِ.

الرَّابِعُ: أَنَّ النَّقْصَ هُوَ النَّقْصُ مِنَ العُمُرِ المَكْتُوبِ، كَمَا يُرَادُ بِالزِّيَادَةِ الزِّيَادَةُ فِي العُمُرِ المَكْتُوبِ. وَالتَّغْيِيرُ يَكُونُ فِي صُحُفِ المَلَائِكَةِ دُونَ مَا فِي عِلْمِ اللهِ تَعَالَى.

وَالضَّمِيرُ فِي قَولِهِ: {مِنْ عُمُرِهِ} يَعُودُ إِلَى نَفْسِ الشَّخْصِ.

وَالقَولُ الثَّالِثُ وَالرَّابِعُ قَرِيبَانِ، وَالرَّابِعُ أَرْجَحُ عِنْدِي لِمُوَافَقَتِهِ صَرِيحَ الحَدِيثِ وَكَلَامَ السَّلفِ كَعُمَرَ رضي الله عنه؛ كَمَا سَيَأْتِي.

(1)

وَفِي صَحيحِ مُسْلِمِ (2647) عَنْ حُذَيفَةَ بْنِ أَسِيدٍ مَرْفُوعًا: ((يَدْخُلُ المَلَكُ عَلَى النُّطْفَةِ بَعْدَمَا تَسْتَقِرُّ فِي الرَّحِمِ بِأَرْبَعِينَ لَيلَةً، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ مَاذَا؟ أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ؟ أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ فَيَقُولُ اللهُ فَيُكْتَبَانِ، وَيُكْتَبُ عَمَلُهُ وَأَثَرُهُ وَمُصِيبَتُهُ وَرِزْقُهُ وَأَجَلُهُ، ثُمَّ تُطْوَى الصَّحِيفَةُ فَلَا يُزَادُ عَلَى مَا فِيهَا وَلَا يُنْقَصُ)) فَهُوَ يُبَيِّنُ عَدَمَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ؛ وَلَكِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى عَدَمِ التَّبْدِيلِ مِنْ جِهَةِ المَلَكِ، كَمَا فِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ:((فَلَا يَزِيدُ عَلَى مَا أُمِرَ وَلَا يُنْقِصُ)).

ص: 394

وَأَيضًا قَولُهُ تَعَالَى: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرَّعْد: 39]

(1)

.

4 -

أَنَّ التَّبْدِيلَ هُوَ حَاصِلٌ بِدِلَالَةِ صَرِيحِ الحَدِيثِ لَكِنَّهُ يَكُونُ فِي صُحُفِ المَلَائِكَةِ؛ بِخِلَافِ مَا هُوَ فِي عِلْمِ اللهِ تَعَالَى أَوِ اللَّوحِ المَحْفُوظِ فَهُوَ لَا يَتَغَيَّرُ.

كَمَا ثَبَتَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ -وَهُوَ يَطُوفُ بِالبَيتِ وَيَبْكِي-: (اللَّهُمَّ! إِنْ كُنْتَ كَتَبْتَ عَلَيَّ شِقْوَةً أَو ذَنْبًا؛ فَامْحُهُ؛ فَإِنَّكَ تَمْحُو مَا تَشَاءُ وَتُثْبِتُ وَعِنْدَكَ أُمُّ الكِتَابِ، فَاجْعَلْهُ سَعَادَةً وَمَغْفِرَةً)

(2)

.

قَالَ شَيخُ الإِسْلَامِ رحمه الله: "وَالجَوَابُ المُحَقَّقُ: أَنَّ اللهَ يَكْتُبُ لِلْعَبْدِ أَجَلًا فِي صُحُفِ المَلَائِكَةِ؛ فَإِذَا وَصَلَ رَحِمَهُ زَادَ فِي ذَلِكَ المَكْتُوبِ، وَإِنْ عَمِلَ مَا يُوجِبُ النَّقْصَ نَقَصَ مِنْ ذَلِكَ المَكْتُوبِ.

وَنَظِيرُ هَذَا مَا فِي التِّرْمِذِيِّ وَغَيرِهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَنَّ آدَمَ لَمَّا طَلَبَ مِنَ اللهِ أَنْ يُرِيَهُ صُورَةَ الأَنْبِيَاءِ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ؛ فَأَرَاهُ إيَّاهُمْ، فَرَأَى فِيهِمْ رَجُلًا لَهُ بَصِيصٌ؛ فَقَالَ: مَنْ هَذَا يَا

(1)

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (4/ 469) بَعْدَ إِيرَادِهِ عِدَّةَ أَقْوَالٍ: "وَمَعْنَى هَذِهِ الأَقْوَالِ: أَنَّ الأَقْدَارَ يَنْسَخُ اللهُ مَا يَشَاءُ مِنْهَا، وَيُثْبِتُ مِنْهَا مَا يَشَاءُ، وَقَدْ يُسْتَأْنَسُ لِهَذَا القَولِ بِمَا رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ (22386) عَنْ ثَوبَانَ مَرْفُوعًا: ((إِنَّ الرَّجُلُ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ، وَلَا يَرُدُّ القَدَرَ إِلَّا الدُّعَاءُ، ولَا يَزِيدُ فِي العُمُرِ إِلَّا البِرُّ)) ".

قُلْتُ: وَالشَّطْرُ الأَوَّلُ مِنَ الحَدِيثِ لَمْ يَصِحَّ، كَمَا فِي الصَّحِيحَةِ (154).

(2)

صَحِيحٌ. الطَّبَرِيُّ فِي التَّفْسِيرِ (16/ 481). اُنْظُرِ التَّعْلِيقَ عَلَى حَدِيثِ الضَّعِيفَةِ (5448).

ص: 395

رَبِّ؟ فَقَالَ: (ابْنُكَ دَاوُد). قَالَ: فَكَمْ عُمُرُهُ؟ قَالَ: (أَرْبَعُونَ سَنَةً). قَالَ: وَكَمْ عُمْرِي؟ قَالَ: (أَلْفُ سَنَةٍ). قَالَ: فَقَدْ وَهَبْتُ لَهُ مِنْ عُمْرِي سِتِّينَ سَنَةً. فَكَتَبَ عَلَيهِ كِتَابًا وَشَهِدَتْ عَلَيهِ المَلَائِكَةُ، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الوَفَاةُ قَالَ: قَدْ بَقِيَ مِنْ عُمْرِي سِتُّونَ سَنَةً! قَالُوا: وَهَبْتَهَا لِابْنِك دَاوُد. فَأَنْكَرَ ذَلِكَ، فَأَخْرَجُوا الكِتَابَ. قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:((فَنَسِيَ آدَمُ فَنَسِيَتْ ذُرِّيَّتُهُ، وَجَحَدَ آدَمُ فَجَحَدَتْ ذُرِّيَّتُهُ)). وَرُوِيَ أَنَّهُ كَمَّلَ لِآدَمَ عُمُرَهُ وَلِدَاوُدَ عُمُرَهُ. فَهَذَا دَاوُدُ كَانَ عُمُرُهُ المَكْتُوبُ أَرْبَعِينَ سَنَةً ثُمَّ جَعَلَهُ سِتِّينَ. وَهَذَا مَعْنَى مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: (اللَّهُمَّ إنْ كُنْت كَتَبَتْنِي شَقِيًّا فَامْحُنِي وَاكْتُبْنِي سَعِيدًا؛ فَإِنَّكَ تَمْحُو مَا تَشَاءُ وَتُثْبِتُ). وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ عَالِمٌ بِمَا كَانَ وَمَا يَكُونُ وَمَا لَمْ يَكُنْ لَو كَانَ كَيفَ كَانَ يَكُونُ، فَهُوَ يَعْلَمُ مَا كَتَبَهُ لَهُ وَمَا يَزِيدُهُ إيَّاهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَالمَلَائِكَةُ لَا عِلْمَ لَهُمْ إِلَّا مَا عَلَّمَهُمُ اللهُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ الأَشْيَاءَ قَبْلَ كَونِهَا وَبَعْدَ كَونِهَا؛ فَلِهَذَا قَالَ العُلَمَاءُ: إنَّ المَحْوَ وَالإِثْبَاتَ فِي صُحُفِ المَلَائِكَةِ، وَأَمَّا عِلْمُ اللهِ سُبْحَانَهُ فَلَا يَخْتَلِفُ وَلَا يَبْدُو لَهُ مَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهِ، فَلَا مَحْوَ فِيهِ وَلَا إثْبَاتَ، وَأَمَّا اللَّوحُ المَحْفُوظُ فَهَلْ فِيهِ مَحْوٌ وَإِثْبَاتٌ عَلَى قَولَينِ. وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ"

(1)

.

وَقَالَ الشَّيخُ السَّعْدِيُّ رحمه الله: " {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ} مِنَ الأَقْدَارِ {وَيُثْبِتُ} مَا يَشَاءُ مِنْهَا، وَهَذَا المَحْو وَالتَّغْيِيرُ فِي غَيرِ مَا سَبَقَ بِهِ عِلْمُهُ وَكَتَبَهُ قَلَمُهُ؛ فَإِنَّ هَذَا لَا يَقَعُ فِيهِ تَبْدِيلٌ وَلَا تَغْيِيرٌ، لِأَنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ عَلَى اللهِ أَنْ يَقَعَ فِي عِلْمِهِ نَقْصٌ أَو خَلَلٌ، وَلِهَذَا قَالَ:{وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} أَي اللَّوحُ المَحْفُوظُ الَّذِي تَرْجِعُ إِلَيهِ سَائِرُ الأَشْيَاءِ؛ فَهُوَ

(1)

مَجْمُوعُ الفَتَاوَى (14/ 491).

قُلْتُ: وَحَدِيثُ آدَمَ وَدَاوُدَ عليهما السلام صَحِيحٌ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ (3368) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (5208).

ص: 396

أَصْلُهَا وَهِيَ فُرُوعٌ لَهُ وَشُعَبٌ.

فَالتَّغْيِيرُ وَالتَّبْدِيلُ يَقَعُ فِي الفُرُوعِ وَالشُّعَبِ كَأَعْمَالِ اليَومِ وَاللَّيلَةِ الَّتِي تَكتُبُهَا المَلَائِكَةُ

(1)

، وَيَجْعَلُ اللهُ لِثُبُوتِهَا أَسْبَابًا وَلِمَحْوِهَا أَسْبَابًا، لَا تَتَعَدَّى تِلْكَ الأَسْبَابُ مَا رُسِمَ فِي اللَّوحِ المَحْفُوظِ، كَمَا جَعَلَ اللهُ البِرَّ وَالصِّلَةَ وَالإِحْسَانَ مِنْ أَسْبَابِ طُولِ العُمُرِ وَسِعَةِ الرِّزْقِ، وَكَمَا جَعَلَ المَعَاصِي سَبَبًا لِمَحقِ بَرَكَةِ الرِّزْقِ وَالعُمُرِ، وَكَمَا جَعَلَ أَسْبَابَ النَّجَاةِ مِنَ المَهَالِكِ وَالمَعَاطِبِ سَبَبًا لِلسَّلَامَةِ، وَجَعَلَ التَّعَرُّضَ لِذَلِكَ سَبَبًا لِلعَطَبِ، فَهُوَ الَّذِي يُدَبِّرُ الأُمُورَ بِحَسْبِ قُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ، وَمَا يُدَبِّرُهُ مِنْهَا لَا يُخَالِفُ مَا قَدْ عَلِمَهُ وَكَتَبَهُ فِي اللَّوحِ المَحْفُوظِ"

(2)

(3)

.

(1)

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله فِي الفَتْحِ (11/ 488): "وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَتَعَلَّقَ ذَلِكَ بِمَا فِي عِلْمِ الحَفَظَةِ وَالمُوَكَّلِينَ بِالآدَمِيِّ؛ فَيَقَعُ فِيهِ المَحْو وَالإِثْبَاتُ كَالزِّيَادَةِ فِي العُمُرِ وَالنَّقْصِ، وَأَمَّا مَا فِي عِلْمِ اللهِ فَلَا مَحْوَ فِيهِ وَلَا إِثْبَاتَ. وَالعِلْمُ عِنْدَ اللهِ".

(2)

تَفْسِيرُ السَّعْدِيِّ (ص 419).

(3)

وَهُنَاكَ وَجْهٌ خَامِسٌ أَورَدَهُ بَعْضُهُم، وَهُوَ أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي العُمُرِ هِيَ بِمَعْنَى البَرَكَةِ، وَهَذَا الوَجْهُ بَعِيدٌ عَنِ الصِّحَّةِ، وَالرَّاجِحُ مَا أَثْبَتْنَاهُ.

قَالَ شَيخُ الإِسْلَامِ رحمه الله فِي مَجْمُوعِ الفَتَاوَى (14/ 490): "وَقَدْ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إنَّ المُرَادَ بِهِ البَرَكَةُ فِي العُمْرِ؛ بِأَنْ يَعْمَلَ فِي الزَّمَنِ القَصِيرِ مَا لَا يَعْمَلُهُ غَيرُهُ إِلَّا فِي الكَثِيرِ، قَالُوا: لِأَنَّ الرِّزْقَ وَالأَجَلَ مُقَدَّرَانِ مَكْتُوبَانِ. فَيُقَالُ لِهَؤُلَاءِ: تِلْكَ البَرَكَةُ -وَهِيَ الزِّيَادَةُ فِي العَمَلِ وَالنَّفْعِ- هِيَ أَيضًا مُقَدَّرَةٌ مَكْتُوبَةٌ وَتَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الأَشْيَاءِ".

وَفَرَّقَ بَعْضُهُم بَينَ العُمْرِ وَالأَجَلِ؛ فَجَعَلَ العُمْرَ قَابِلًا لِلزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ بِدِلَالَةِ النُّصُوصِ، وَجَعَلَ الأَجَلَ غَيرَ قَابِلٍ لِلزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ أَيضًا بِدِلَالَةِ النُّصُوصِ!

قُلْتُ: وَلَكِنَّ التَّفْرِيقَ يَحْتَاجُ لِدَلِيلٍ أَصْرَحَ، وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

ص: 397

-‌

‌ المَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إِذَا كَانَ العَبْدُ قَدْ سَبَقَ فِي عِلْمِهِ تَعَالَى وَكَتَبَ ذَلِكَ عِنْدَهُ؛ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ أَو مِنْ أَهْلِ النَّارِ؛ فَلِمَاذَا العَمَلُ؟

الجَوَابُ مِنْ أَوجُهٍ:

1 -

أَنَّ عِلْمَ اللهِ تَعَالَى هُوَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ رُبُوبِيَّتِهِ، وَيَدُلُّ عَلَى عَظَمَتِهِ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الثَّوَابُ وَالعِقَابُ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ الثَّوَابُ وَالعِقَابُ بِعَمَلِ العَبْدِ، فَاللهُ تَعَالَى عَلِمَ مَا سَيَكُونُ وَكَتَبَ عِنْدَهُ، وَأَمَّا جَزَاؤُهُ فَمُتَعَلِّقٌ بِعَمَلِ العَبْدِ، وَهَذَا عِلْمٌ آخَرُ غَيرُ العِلْمِ الأَوَّلِ، كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى:{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عِمْرَان: 142]، فَالعَبْدُ مَأْمُورٌ بِالعَمَلِ لِتَكُونَ لَهُ حُجَّتُهُ عِنْدَ رَبِّهِ

(1)

.

وَتَأَمَّلْ قَولَهُ تَعَالَى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [يُونُس: 2] كَيفَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ الإِيمَانَ سَبَبًا لِمَا سَبَقَ عِنْدَهُ مِنْ عِلْمِهِ بِدُخُولِهِمُ الجَنَّةَ.

2 -

أَنَّ العَبْدَ وَإِنْ كَانَ مَكْتُوبًا اسْمُهُ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ أَوِ السَّعَادَةِ؛ فَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مِنْ أَيِّ الفَرِيقَينِ! وَلَكِنَّ عَمَلَهُ يَكُونُ دَالًّا عَلَى ذَلِكَ، كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: جَاءَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ؛ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ بَيِّنْ لَنَا دِينَنَا كَأَنَّا خُلِقْنَا الآنَ، فِيمَ العَمَلُ اليَومَ، أَفِيمَا جَفَّتْ بِهِ الأَقْلَامُ وَجَرَتْ بِهِ المَقَادِيرُ أَمْ فِيمَا نَسْتَقْبِلُ؟ قَالَ:((لَا، بَلْ فِيمَا جَفَّتْ بِهِ الأَقْلَامُ وَجَرَتْ بِهِ المَقَادِيرُ)).

(1)

قَالَ السُّيُوطِيُّ رحمه الله: "فِي غَرِيبِ سُورَةِ يُونُس: فَقَالَ: {أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ} [يُونُس: 2]: سَبَقَ لَهُمُ السَّعَادَةُ فِي الذِّكْرِ الْأَوَّلِ". الإِتْقَانُ فِي عُلُومِ القُرْآنِ (2/ 18) تَحْتَ النَّوعِ السَّادِسِ وَالثَّلَاثِينَ: فِي مَعْرِفَةِ غَرِيبِهِ.

ص: 398

قَالَ: فَفِيمَ العَمَلُ؟ قَالَ: ((اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ))

(1)

، فَعَمَلُ العَبْدِ هُوَ الشَّاهِدُ لَهُ وَهُوَ الدَّلِيلُ عَلَيهِ

(2)

.

وَفي الصَّحِيحَينِ عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا: ((مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ، وَمَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إِلَّا كُتِبَ مَكَانُهَا مِنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَإِلَّا قَدْ كُتِبَتْ شَقِيَّةً أَو سَعِيدَةً))، قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ أَفَلَا نَتَّكِلُ عَلَى كِتَابِنَا وَنَدَعُ العَمَلَ؛ فَمَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَسَيَصِيرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ وَمَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ فَسَيَصِيرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ؟ قَالَ: ((أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاءِ)) ثُمَّ قَرَأَ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} الآيَةَ [اللَّيل: 5 - 7]

(3)

.

فَتَأَمَّلْ رَحِمَكَ اللهُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ -كَمَا فِي الآيَةِ الكَرِيمَةِ- أَنَّ مَنْ بَادَرَ بِالطَّاعَةِ وَالتَّصْدِيقِ؛ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى سَيُيَسِّرُهُ لِلحُسْنَى الَّتِي هِيَ الجَنَّةُ، والعَكْسُ بِالعَكْسِ

(4)

.

قَالَ ابْنُ بَطَّال رحمه الله فِي شَرْحِ البُخَاريِّ: "وَقَولُهُ: ((اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ

(1)

مُسْلِمٌ (2548).

(2)

وَفِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ (337) فِي آخِرِ الحَدِيثِ: قَالَ سُرَاقَةُ: (فَلَا أَكُونُ أَبَدًا أَشَدَّ اجْتِهَادًا فِي الْعَمَلِ مِنِّي الْآنَ). التَّعْلِيقَاتُ الحِسَانُ (338).

(3)

البُخَارِيُّ (1362)، وَمُسْلِمٌ (2647).

(4)

وَقَدْ سَأَلَ أَحَدُ إِخْوَانِنَا الشَّيخَ حَمْدِي بْنَ عَبْدِ المَجِيدِ السَّلَفِيَّ حَفِظَهُ اللهُ عَنْ أَحَدِ مَشَايخِ السُّوءِ الَّذِي ادَّعَى أَنَّ فُلَانًا -مِنْ أَكَابِرِ مُجْرِمِيهَا- أَنهُّ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ!! فَأَجَابَ الشَّيخُ الفَاضِلُ بِقَولِهِ: "صَحِيحٌ أَنِّي لَا أَعْرِفُ عَنْ فُلَانٍ -مِثْلَ مَا يَقُولُ ذَلِكَ الشَّيخُ- أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ! وَلَكِنِّي أَعْرِفُ صِفَاتِ كُلِّ أَهْلِ الجَنَّةِ؛ وَلَيسِ فَرْدًا وَاحِدًا".

ص: 399

لَهُ)) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى إِبْطَالِ قَولِ أَهْلِ الجَبْرِ، لِأَنَّ التَّيسِيرَ غَيرُ الجَبْرِ! وَاليُسْرَى: العَمَلُ بِالطَّاعَةِ، وَالعُسْرَى: العَمَلُ بِالمَعْصِيَةِ.

قَالَ الطَّبَرِيُّ -فِي حَدِيثِ عَليٍّ-: إِنَّ اللهَ لَمْ يَزَلْ عَالِمًا بِمَنْ يُطِيعُهُ فَيُدْخِلُهُ الجَنَّةَ، وَبِمَنْ يَعْصِيهِ فَيُدْخِلُهُ النَّارَ، وَلَمْ يَكُنِ اسْتِحْقَاقُ مِنْ يَسْتَحِقُّ الجَنَّةَ مِنْهُم بِعِلْمِهِ السَّابِقِ فِيهِم؛ وَلَا اسْتِحْقَاقِهِ النَّارَ لِعِلْمِهِ السَّابِقِ فِيهِم! وَلَا اضْطَرَّ أَحَدًا مِنْهُم عِلْمُهُ السَّابِقُ إِلَى طَاعَةٍ أَو مَعْصِيَةٍ! وَلَكِنَّهُ تَعَالَى نَفَذَ عِلْمُهُ فِيهِم قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُم وَمَا هُمْ عَامِلُونَ وَإِلى مَا هُمْ صَائِرُونَ، إِذْ كَانَ لَا تَخْفَى عَلَيهِ خَافِيَةٌ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُم وَلَا بَعْدَ مَا خَلَقَهُم، وَلِذَلِكَ وَصَفَ أَهْلَ الجَنَّةِ فَقَالَ:{ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ} [الوَاقِعَة: 13 - 14]، إِلَى قَولِهِ:{وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ * جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الوَاقِعَة: 22 - 24]، وقَالَ تَعَالَى:{فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السَّجْدَة: 17].

وَكَذَلِكَ قَالَ فِي أَهْلِ النَّارِ: {ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [فُصِّلت: 28]، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ أَثَابَ أَهْلَ طَاعَتِهِ جَنَّتَهُ بِطَاعَتِهِ، وَجَازَى أَهْلَ مَعْصِيَتِهِ النَّارَ بِمَعْصِيَتِهِم إِيَّاهُ، وَلَم يُخْبِرْنَا أنَّهُ أَدْخَلَ مَنْ أَدْخَلَ مِنْهُم النَّارَ وَالجَنَّةَ لِسَابِقِ عِلْمِهِ فِيهِم! وَلَكِنَّهُ سَبَقَ فِي عِلْمِهِ أَنَّ هَذَا مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ وَالجَنَّةِ وَأَنَّهُ يَعْمَلُ بِطَاعَتِهِ؛ وَفِي هَذَا أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ وَأَنَّهُ يَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا بِمَعْصِيَتِهِ، فَلِذَلِكَ أَمَرَ تَعَالَى وَنَهَى، لِيُطِيعَهُ المُطِيعُ مِنْهُم فَيَسْتَوجِبَ بِطَاعَتِهِ الجَنَّةَ، وَيَسْتَحِقَّ العِقَابَ مِنْهُم بِمَعْصِيَتِهِ العَاصِي فَيَدْخُلَ بِهَا النَّارَ، وَلِتَتِمَّ حُجَّةُ اللهِ عَلَى خَلْقِهِ.

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَمَا مَعْنَى قَولِهِ صلى الله عليه وسلم: ((اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ)) إِنْ كَانَ الأَمْرُ كَمَا وُصِفَ مِنْ أَنَّ الَّذِي سَبَقَ لِأَهْلِ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاءِ لَمْ يَضْطَرَّ وَاحِدًا مِنَ الفَرِيقَينِ إِلَى الَّذِي كَانَ يَعْمَلُ وَيُمَهِّدُ لِنَفْسِهِ فِي الدُّنْيَا وَلَمْ يُجْبِرْهُ عَلَى ذَلِكَ؟

ص: 400

قِيلَ: هُوَ أَنَّ كُلَّ فَرِيقٍ مِنْ هَذِينِ مُسَهَّلٌ لَهُ العَمَلُ الَّذِي اخْتَارَهُ لِنَفْسِهِ؛ مُزَيَّنٌ ذَلِكَ لَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحُجُرَات: 7] الآيَةُ

(1)

.

وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاءِ؛ فَإِنَّهُ زَيَّنَ لَهُم سُوءَ أَعْمَالِهِم لِإِيثَارِهِم لَهَا عَلَى الهُدَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ} [النَّمْل: 4]، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى:{أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} [فَاطِر: 8]، وَهَذَا يُصَحِّحُ مَا قُلْنَاهُ مِنْ أَنَّ عِلْمَ اللهِ النَّافِذَ فِي خَلْقِهِ بِمَا هُمْ بِهِ عَامِلُونَ؛ وَكِتَابَهُ الَّذِي كَتَبَهُ قَبْلَ خَلْقِهِ إِيَّاهُم بِأَعْمَالِهِم: لَمْ يَضْطَرَّ أَحَدًا مِنْهُم إِلَى عَمَلِهِ ذَلِكَ! بَلْ هُوَ أَنَّ المُضْطَرَّ إِلَى الشَّيءِ لَا شَكَّ أَنَّهُ مُكْرَهٌ عَلَيهِ لَا مُحِبٌّ لَهُ! بَلْ هُوَ لَهُ كَارِهٌ وَمِنْهُ هَارِبٌ، وَالكَافِرُ يُقَاتِلُ دُونَ كُفْرِهِ أَهْلَ الإِيمَانِ! وَالفَاسِقُ يُنَاصِبُ دُونَ فِسْقِهِ الأَبْرَارَ! مُحَامَاةً مِنْ هَذَا عَنْ كُفْرِهِ الَّذِي اخْتَارَهُ عَلَى الإِيمَانِ، وَإِيثَارًا مِنْ هَذَا لِفِسْقِهِ عَلَى الطَّاعَةِ، وَكَذَلِكَ المُؤْمِنُ يَبْذُلُ مُهْجَتَهُ دُونَ إِيمَانِهِ، وَيُؤْثِرُ العَنَاءَ وَالنَّصَبَ دُونَ مَلَاذِّهِ وَشَهَوَاتِهِ حُبًّا لِمَا هُوَ لَهُ مُخْتَارٌ مِنْ طَاعَةِ رَبِّهِ عَلَى مَعَاصِيهِ، وَأَنَّى يَكُونُ مُضْطَرًّا إِلَى مَا يَعْمَلُهُ مَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَاتُهُ؟ فَبَانَ أَنَّ مَعْنَى قَولِهِ:((اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ)) هُوَ أَنَّ كُلَّ فرِيقَي السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ مُسَهَّلٌ لَهُ العَمْلُ الَّذِي اخْتَارَهُ؛ مُزَيَّنٌ ذَلِكَ لَهُ"

(2)

.

(1)

وَعَلَيهِ تَكُونُ عَلَامَةُ هِدَايَةِ اللهِ تَعَالَى لِلْعَبْدِ هِيَ أَنْ يُحِبَّ العَبْدُ مَا يُحِبُّ اللهُ تَعَالَى، وَأَنْ يَكْرَهَ العَبْدُ مَا يَكْرَهُهُ اللهُ تَعَالَى، وَتَأَمَّلْ قَولَهُ تَعَالَى:{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأَنْعَام: 125].

(2)

شَرْحُ البُخَارِيِّ (10/ 303).

ص: 401

-‌

‌ المَسْأَلَةُ الخَامِسَةُ: مَا الجَوَابُ عَنْ قَولِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيءٍ مِنَ الصَّيدِ تَنَالُهُ أَيدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ

مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المَائِدَة: 94] وَالَّذِي فِيهِ الإِشَارَةُ إِلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَعْلَمُ مَا سَيَكُونُ مِنْ عِبَادِهِ إِلَّا بَعْدَ الوُقُوعِ؟

(1)

الجَوَابُ:

إِنَّ هَذَا العِلْمَ عِلْمٌ آخَرُ غَيرُ العِلْمِ السَّابِقِ، فَهُوَ عِلْمُ مُشَاهَدَةٍ وَظُهُورٍ، أَمَّا العِلْمُ السَّابِقُ لَهُ سُبْحَانَهُ فَهُوَ عِلْمٌ أَزَلِيٌّ بِمَا كَانَ وَمَا سَيَكُونُ -كَمَا سَبَقَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَدِلَّةِ-، وَلَكِنَّ الفَرْقَ بَينَهُمَا أَنَّ العِلْمَ المُضَارِعَ للعَمَلِ هُوَ الَّذِي يُبْنَى عَلَيهِ الثَّوَابُ وَالعِقَابُ، وَذَلِكَ كَي لَا يَكُونَ لِلعَاصِي حُجَّةٌ عَلَى مَعْصِيَتِهِ

(2)

.

قَالَ شَيخُ الإِسْلَامِ رحمه الله: "وَأَمَّا قَولُهُ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيهِ} [البَقَرَة: 143]، وَقَوْلُهُ:{لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَينِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا} [الكهف: 12] وَنَحْوُ ذَلِكَ؛ فَهَذَا هُوَ الْعِلْمُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالْمَعْلُومِ بَعْدَ وُجُودِهِ، وَهُوَ الْعِلْمُ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيهِ الْمَدْحُ وَالذَّمُّ، وَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْعِلْمُ بِأَنَّهُ سَيَكُونُ، وَمُجَرَّدُ ذَلِكَ الْعِلْمِ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيهِ مَدْحٌ وَلَا ذَمٌّ، وَلَا ثَوَابٌ وَلَا عِقَابٌ؛ فَإِنَّ هَذَا إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ وُجُودِ الْأَفْعَالِ.

وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذَا: (لِنَرَى). وَكَذَلِكَ الْمُفَسِّرُونَ قَالُوا:

(1)

وَمِثْلُهُ أَيضًا قَولُهُ تَعَالَى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عِمْرَان: 142].

(2)

قُلْتُ: وَأَمَّا لَو اسْتَنْفَدَ العَاصيُ فُرْصَتَهُ فِي العَمَلِ؛ فَإِنَّ عِلْمَ اللهِ تَعَالَى السَّابِقَ حَاكِمٌ عَلَيهِ، كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى:{وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأَنْعَام: 28].

ص: 402

لِنَعْلَمَهُ مَوْجُودًا بَعْدَ أَنْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ سَيَكُونُ"

(1)

.

وَقَالَ الشَّيخُ العَلَّامَةُ السَّعْدِيُّ رحمه الله -فِي القَوَاعِدِ الحِسَانِ-: "القَاعِدَةُ الثَّامِنَةُ وَالأَرْبَعُونَ: مَتَى عَلَّقَ اللهُ عِلْمَهُ بِالأُمُورِ بَعْدَ وُجُودِهَا؛ كَانَ المُرَادُ بِذَلِكَ العِلْمَ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيهِ الجَزَاءُ"

(2)

.

(1)

مَجْمُوعُ الفَتَاوَى (8/ 496).

(2)

القَوَاعِدُ الحِسَانُ (ص 123).

ص: 403

-‌

‌ المَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: إِذَا كَانَتِ الهِدَايَةُ مِنَ اللهِ تَعَالَى؛ فَكَيفَ يَكُونُ لِلعَبْدِ أَصْلًا سَعْيٌ فِيهَا، وَمَا الَّذِي يُمَيِّزُ العَاصِي عَنِ الطَّائِعِ؟

الجَوَابُ:

إنَّ اللهَ تَعَالَى يَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِ كُلِّ عَبْدٍ، فَإِذَا عَلِمَ مِنْهُ صِدْقَ الطَّلَبِ لِلهِدَايَةِ، وَالإِنْصَافَ فِي سَمَاعِ الحَقِّ وَتَمْيِيزَهُ، وَحِرْصَهُ عَلَى ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ تَعَالَى يَهْدِيه كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى:{وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأَنْفَال: 23]، وَهَذِهِ الهِدَايَةُ هِيَ فَضْلٌ وَرَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللهُ تَعَالَى عَلَى نَفْسِهِ.

وَأَمَّا المُعْرِضُ عَنْ سَمَاعِ وَتَدَبُّرِ الآيَاتِ؛ المُسْتَكْبِرُ عَنِ الحَقِّ؛ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يَطْمِسُ عَلَى قَلْبِهِ فَلَا يَشْرَحُ صَدْرَهُ لِلِإسْلَامِ، كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى:{وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} [يُونُس: 100)، فَلَا يَجِدُ المُعْرِضُ مَا يَجِدُ المُؤْمِنُ مِنْ حَلَاوَةِ الطَّاعَاتِ وَمَحَبَّةِ العِبَادَةِ وَالتَّعَلُّقِ بِاللهِ تَعَالَى وَالفَرَحِ بِذِكْرِ اللهِ وَالاطْمِئْنَانِ إِلَى السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ وَالانْشِرَاحِ إِلَيهَا

(1)

.

(1)

وَكَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصَّف: 5].

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثيرٍ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (8/ 109): "وَقَولُهُ: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}: أَي: فَلَمَّا عَدَلُوا عَنِ اتِّبَاعِ الحَقِّ مَعَ عِلْمِهِمْ بِهِ؛ أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ عَنِ الهُدَى، وَأَسْكَنَهَا الشَّكَّ وَالحَيرَةَ وَالخُذْلَانَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأَنْعَامِ: 110]، وَقَالَ: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النِّسَاءِ: 115] وَلِهَذَا قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الآيَةِ: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} ".

ص: 404

-‌

‌ المَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: مَا هُوَ حَدِيثُ الكِتَابَينِ، وَأَينَ هُمَا الآنَ؟

الجَوَابُ:

الحَدِيثُ هُوَ: خَرَجَ عَلَينَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَفِي يَدِهِ كِتَابَانِ، فَقَالَ:((أَتَدْرُونَ مَا هَذَانِ الكِتَابَانِ؟)) فَقُلْنَا: لَا يَا رَسُولَ اللهِ؛ إِلَّا أَنْ تُخْبِرَنَا، فَقَالَ لِلَّذِي فِي يَدِهِ اليُمْنَى:((هَذَا كِتَابٌ مِنْ رَبِّ العَالَمِينَ؛ فِيهِ أَسْمَاءُ أَهْلِ الجَنَّةِ وَأَسْمَاءُ آبَائِهِمْ وَقَبَائِلِهِمْ، ثُمَّ أُجْمِلَ عَلَى آخِرِهِمْ فَلَا يُزَادُ فِيهِمْ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُمْ أَبَدًا))، ثُمَّ قَالَ لِلَّذِي فِي شِمَالِهِ: ((هَذَا كِتَابٌ مِنْ رَبِّ العَالَمِينَ؛ فِيهِ أَسْمَاءُ أَهْلِ النَّارِ وَأَسْمَاءُ آبَائِهِمْ وَقَبَائِلِهِمْ، ثُمَّ أُجْمِلَ عَلَى آخِرِهِمْ

(1)

؛ فَلَا يُزَادُ فِيهِمْ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُمْ أَبَدًا))، فَقَالَ أَصْحَابُهُ: فَفِيمَ العَمَلُ يَا رَسُولَ اللهِ إِنْ كَانَ أَمْرٌ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ؟ فَقَالَ: ((سَدِّدُوا وَقَارِبُوا؛ فَإِنَّ صَاحِبَ الجَنَّةِ يُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ وَإِنْ عَمِلَ أَيَّ عَمَلٍ، وَإِنَّ صَاحِبَ النَّارِ يُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ وَإِنْ عَمِلَ أَيَّ عَمَلٍ))، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدَيهِ فَنَبَذَهُمَا، ثُمَّ قَالَ:((فَرَغَ رَبُّكُمْ مِنَ العِبَادِ؛ فَرِيقٌ فِي الجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ))

(2)

.

وَأَمَّا نَفْسُ الكِتَابَينِ؛ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا تَمْثِيلٌ وَتَقْرِيبٌ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَيسَ هُمَا كِتَابَينِ حَقِيقَةً

(3)

، وَبَيَانُ ذَلِكَ هُوَ مِنْ أَوجُهٍ:

أ- أَنَّ اللَّوحَ المَحْفُوظَ الَّذِي فِيهِ تِلْكَ الأَسْمَاءُ هُوَ مَحْفُوظٌ أَصْلًا مَنْ أَنْ يَمَسَّهُ أَحَدٌ.

(1)

قَالَ فِي لِسَانِ العَرَبِ (11/ 128): "أَجْمَلْتُ الحِسَابَ: إِذَا جَمَعْتُ آحَادَهُ وَكَمَّلْتُ أَفْرَادَهُ، أَي: أُحْصُوا وَجُمِعُوا؛ فَلَا يُزَادُ فِيهِمْ وَلَا يُنْقَصُ".

(2)

صَحِيحٌ. التِّرْمِذِيُّ (2141) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرو بْنِ العَاصِ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (848).

(3)

وَذَهَبَ المُبَارَكْفُورِي رحمه الله فِي كِتَابِهِ (مِرْعَاةُ المَفَاتِيحِ)(1/ 185) إِلَى حَقِيقَةِ الكِتَابَينِ.

قُلْتُ: وَمَا أَثْبَتْنَاهُ أَولَى لِمَا سَتَرَى مِنْ وُجُوهِ التَّرْجِيحِ. وَاللهُ أَعْلَمُ.

ص: 406

ب- أَنَّهُ لَو كَانَ المَقْصُودُ حَقِيقَتَهُ؛ لَتَوَاتَرَتِ الأَخْبَارُ عَنْهُمَا وَعَنْ مَصِيرِهِمَا؛ فَشَأْنُهُمَا أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَخْفَيَانِ عَلَى أَحَدٍ.

ج- أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَبَذَهُمَا بِيَدِهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا لَيسَا بِمُحْتَرَمَينِ أَصْلًا مِنْ جِهَةِ حَقِيقَتِهِمَا.

قَالَ الشَّيخُ الغُنَيمَانُ حَفِظَهُ اللهُ: "وَهَذَانِ الكِتَابَانِ اللَّذَانِ أَخَذَهُمَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَيسَا هُمَا الكِتَابَانِ اللَّذَانِ كَتَبَ اللهُ فِيهِمَا أَسْمَاءَ أَهْلِ الجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ تَمْثِيلٌ مِنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَتَقْرِيبٌ إِلَى أَفْهَامِ النَّاسِ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى عَلِمَ كُلَّ شَيءٍ مِمَّا سَيَكُونُ وَمَا يَصِيرُ إِلَيهِ العِبَادُ، وَكَتَبَهُ تَأْكِيدًا لِعِلْمِهِ تَعَالَى فَلَا يَتَغَيَّرُ وَلَا يَتَبَدَّلُ"

(1)

.

(1)

شَرْحُ كِتَابِ التَّوحِيدِ مِنْ صَحِيحِ البُخَارِيِّ (2/ 628).

ص: 407

-‌

‌ المَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: إِذَا كَانَ لَا يَجُوزُ الاحْتِجَاجُ بِالقَدَرِ عَلَى المَعْصِيَةِ؛ فَكَيفَ احْتَجَّ آدَمُ عليه الصلاة والسلام بِالقَدَرِ عَلَى مَعْصِيَتِهِ؟

(1)

الجَوَابُ هُوَ مِنْ أَحَدِ وَجْهَينِ:

1 -

أَنَّ لَومَ مُوسَى عليه الصلاة والسلام لِآدَمَ لَيسَ هُوَ عَلَى المَعْصِيَةِ؛ وَإِنَّمَا عَلَى الخُرُوجِ مِنَ الجَنَّةِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَجَابَ عَنْهُ آدَمُ عليه الصلاة والسلام بِكَونِهِ مَكْتُوبًا عَلَيهِ وَعَلَى ذُرِّيَّتِهِ قَبْلَ أَنْ يَعْمَلَ المَعْصِيَةَ، فَهُوَ اسْتِدْلَالٌ بِالقَدَرِ عَلَى الخُرُوجِ مِنَ الجَنَّةِ وَلَيسَ عَلَى المَعْصِيَةِ نَفْسِهَا، فَالمَعْصِيَةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِآدَمَ وَحْدَهُ، بِخِلَافِ الهُبُوطِ مِنَ الجَنَّةِ فَهُو مُتَعَلِّقٌ بِكُلِّ بَني آدَمَ، وَهَذَا الَّذِي لَامَ عَلَيهِ مُوسَى عليه الصلاة والسلام.

وَعَلَيهِ؛ فَإِنَّ آدَمَ لَمْ يَحْتَجَّ بِالقَدَرِ عَلَى المَعْصِيَةِ! وَإِنَّمَا عَلَى الهُبُوطِ بِشَأْنِ الذُّرِّيَّةِ، وَهُوَ شَيءٌ مُخْتَلِفٌ عَنِ المَعْصِيَةِ.

قَالَ شَيخُ الإِسْلَامِ رحمه الله: "الصَّوَابُ فِي قِصَّةِ آدَمَ وَمُوسَى أَنَّ مُوسَى لَمْ يَلُمْ آدَمَ إلَّا مِنْ جِهَةِ المُصِيبَةِ الَّتِي أَصَابَتْهُ وَذُرِّيَّتَهُ بِمَا فَعَلَ لَا لِأَجْلِ أَنَّ تَارِكَ الْأَمْرِ مُذْنِبٌ عَاصٍ! وَلِهَذَا قَالَ: لِمَاذَا أَخْرَجْتنَا وَنَفْسَك مِنَ الجَنَّةِ؟ لَمْ يَقُلْ: لِمَاذَا خَالَفْت الْأَمْرَ وَلِمَاذَا عَصَيْت؟ وَالنَّاسُ مَأْمُورُونَ عِنْدَ المَصَائِبِ الَّتِي تُصِيبُهُمْ بِأَفْعَالِ النَّاسِ أَوْ بِغَيْرِ أَفْعَالِهِمْ بِالتَّسْلِيمِ لِلْقَدَرِ وَشُهُودِ الرُّبُوبِيَّةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إلَّا

(1)

وَالحَدِيثُ هُوَ: ((التَقَى آدَمُ وَمُوسَى، فَقَالَ مُوسَى لِآدَمَ: أنْتَ الَّذِي أَشْقَيتَ النَّاسَ وَأَخْرَجْتَهُمْ مِنَ الجَنَّةِ؟! قَالَ آدَمُ: أَنْتَ مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاكَ اللهُ بِرِسَالَتِهِ، وَاصْطَفَاكَ لِنَفْسِهِ، وَأَنْزَلَ عَلَيكَ التَّورَاةَ؟! قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَوَجَدْتَهَا كُتِبَ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي؟ قَالَ: نَعَمْ. فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى)). البُخَارِيُّ (4736)، وَمُسْلِمٌ (2652) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا.

وَمَعْنَى (فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى): أَي: غَلَبَهُ بِالحُجَّةِ.

ص: 408

بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَوْ غَيْرُهُ: هُوَ الرَّجُلُ تُصِيبُهُ المُصِيبَةُ فَيَعْلَمُ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَيَرْضَى وَيُسَلِّمُ"

(1)

.

2 -

أَنَّ احْتِجَاجَ آدَمَ عليه الصلاة والسلام لَوْ كَانَ بِالقَدَرِ عَلَى وُقُوعِ المَعْصِيَةِ؛ فَإِنَّهُ لَا حَرَجَ فِيهِ هُنَا لِأَنَّهُ احْتِجَاجٌ بَعْدَ التَّوبَةِ مِنْهَا وَلَيسَ مَعَ المَعْصِيَةِ! وَعَلِيهِ فَلَا إِشْكَالَ فِي الاحْتِجَاجِ بِالقَدَرِ لِأَنَّه لَا يُبَرِّرُ مُحَرَّمًا وَلَا يَمْنَعُ وَاجِبًا، وَهُوَ دَلِيلُ ضَعْفِ العَبْدِ وَافْتِقَارِهِ إِلَى رَبِّهِ فِي كُلِّ أَمْرِهِ حَتَّى فِي حِفْظِهِ مِنْ شَرِّ نَفْسِهِ. وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

قَالَ الإِمَامُ ابْنُ القَيِّمِ رحمه الله: "وَقَدْ يَتَوَجَّهُ جَوَابٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الاحْتِجَاجَ بِالقَدَرِ عَلَى الذَّنْبِ يَنْفَعُ فِي مَوضِعٍ وَيَضُرُّ فِي مَوضِعٍ، فَيَنْفَعُ إِذَا احْتُجَّ بِهِ بَعْدَ وُقُوعِهِ وَالتَّوبَةِ مِنْهُ وَتَرْكِ مُعَاوَدَتِهِ -كَمَا فَعَلَ آدَمُ-، فَيَكُونُ فِي ذِكْرِ القَدَرِ إِذْ ذَاكَ مِنَ التَّوحِيدِ وَمَعْرِفَةِ أَسْمَاءِ الرَّبِّ وَصِفَاتِهِ وَذِكْرِهَا مَا يَنْتَفِعُ بِهِ الذَّاكِرُ وَالسَّامِعُ، لِأَنَّهُ لَا يَدْفَعُ بِالقَدَرِ أَمْرًا وَلَا نَهْيًا وَلَا يُبْطِلُ بِهِ شَرِيعَةً! بَلْ يُخْبِرُ بِالحَقِّ المَحْضِ عَلَى وَجْهِ التَّوحِيدِ وَالبَرَاءَةِ مِنَ الحَولِ وَالقُوَّةِ"

(2)

.

(1)

مَجْمُوعُ الفَتَاوَى (8/ 319).

قُلْتُ: وَأَمَّا الأَثَرُ الأَخِيرُ؛ فَفِي تَفْسِيرِ الطَّبَرِيِّ (23/ 12) عَنْ عَلْقَمَةَ.

(2)

شِفَاءُ العَلِيلِ (ص 18).

ص: 409

-‌

‌ المَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: إِذَا كَانَ الشَّرُّ لَا يَجُوزُ أَنْ يُنْسَبَ إِلَى اللهِ تَعَالَى؛ فَمَا الجَوَابُ عَنِ الحَدِيثِ المَعْرُوفِ: ((وَتَؤْمِنَ بِالقَدَرِ خَيرِهِ وَشَرِّهِ)

الجَوَابُ:

إِنَّ الَّذِي لَا يَجُوزُ أَنْ يُنْسَبَ إِلَيهِ تَعَالَى هُوَ الشَّرُّ الَّذِي هُوَ مِنْ جِهَةِ الأَفْعَالِ -أَي: نَفْسِ فِعْلِهِ تَعَالَى-، وَفي الحَدِيثِ:((والشَّرُّ لَيسَ إِلَيكَ))

(1)

، وَلَكِنَّهُ يُنْسَبُ إِلَيهِ تَعَالَى خَلْقًا وَمَشِيئَةً؛ إِذْ لَا يَحْصُلُ فِي مُلْكِهِ تَعَالَى إِلَّا مَا شَاءَ وَأَذِنَ بِهِ سُبْحَانَهُ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ الحَكِيمُ

(2)

، وَلَهُ فِي ذَلِكَ الحِكْمَةُ البَالِغَةُ، وَتَأَمَّلْ قَولَهُ تَعَالَى:{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيرِ فِتْنَةً وَإِلَينَا تُرْجَعُونَ} [الأَنْبِيَاء: 35] فَظَاهِرٌ مِنَ الآيَةِ الكَرِيمَةِ أَنَّ الإِنْسَانَ مَخْلُوقٌ لِلابْتِلَاءِ بِالشَّرِّ وَالخَيرِ، وَلَكِنَّهُ رَاجِعٌ لَا مَحَالَةَ إِلَى اللهِ تَعَالَى فَمُجَازِيهِ عَلَى مَا عَمِلَ فِي ابْتِلَائِهِ.

وَأَمَّا قَولُهُ عليه الصلاة والسلام فِي الحَدِيثِ: ((وَتَؤْمِنَ بِالقَدَرِ خَيرِهِ وَشَرِّهِ)) فَيُقْصَدُ بِهِ المَقْدُورُ أَوِ القَضَاءُ الَّذِي هُوَ المَخْلُوقُ وَلَيسَ نَفْسَ تَقْدِيرِ اللهِ تَعَالَى، فَهُوَ كُلُّهُ خَيرٌ، وَالقَدَرُ وَالقَضَاءُ هُمَا مِنَ الأَلْفَاظِ المُشْتَرَكَةِ الَّتِي إِذَا اجْتَمَعَتْ افْتَرَقَتْ؛ وَإِذَا افْتَرَقَتْ اجْتَمَعَتْ

(3)

(1)

وَهُوَ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ (771).

(2)

قَالَ الإِمَامُ أَبُو الحَسَنِ الأَشْعَرِيُّ رحمه الله: "وَيَقُولُونَ: إِنَّ اللهَ لَمْ يَأْمُرْ بِالشَّرِّ، بَلْ نَهَى عَنْهُ وَأَمَرَ بِالَخيرِ، وَلَمْ يَرْضَ بِالشَّرِّ وَإِنْ كَانَ مُرِيدًا لَهُ". مَقَالَاتُ الإِسْلَامِييَن (1/ 228).

(3)

قَالَ فِي لِسَانِ العَرَبِ (15/ 186): "وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: القَضَاءُ فِي اللُّغَةِ عَلَى وُجُوهٍ مَرْجِعُهَا إِلَى انْقِطَاعِ الشَّيءِ وَتَمَامِهِ. وَكُلُّ مَا أُحْكِمَ عَمَلُهُ أَو أُتِمَّ أَو خُتِمَ أَو أُدِّيَ أَدَاءً أَو أُوجِبَ أَو أُعْلِمَ أَو أُنْفِذَ أَو أُمْضِيَ فَقَدْ قُضِيَ. قَالَ: وَقَدْ جَاءَتْ هَذِهِ الوُجُوهُ كُلُّهَا فِي الحَدِيثِ، وَمِنْهُ القَضَاءُ المَقْرُونُ بِالقَدَرِ، وَالمُرَادُ بِالقَدَرِ

=

ص: 410

_________

=

التَّقْدِيرُ، وَبِالقَضَاءِ الخَلْقُ، كَقَولِهِ تَعَالَى:{فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} أَي: خَلَقَهُنَّ، فَالقَضَاءُ وَالقَدَرُ أَمْرَانِ مُتَلَازِمَانِ لَا يَنْفَكُّ أَحَدُهُمَا عَنِ الآخَرِ، لِأَنَّ أَحَدَهُمَا بِمَنْزِلَةِ الأَسَاسِ وَهُوَ القَدَرُ، وَالآخَرُ بِمَنْزِلَةِ البِنَاءِ وَهُوَ القَضَاءُ، فَمَنْ رَامَ الفَصْلَ بَينَهُمَا فَقَدْ رَامَ هَدْمَ البِنَاءِ وَنَقْضَهُ".

وَقَالَ الشَّيخُ عَبْدُ الرَّحْمَن ِبْنِ حَسَن آلِ الشَّيخِ رحمه الله فِي كِتَابِ الدُّرَرُ السَّنِيَّةُ فِي الأَجْوِبَةِ النَّجْدِيَّةِ (3/ 213): "وَأَمَّا سُؤَالُهُ عَنِ الفَرْقِ بَينَ القَضَاءِ وَالقَدَرِ؟ فَالقَدَرُ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الإِيمَانِ، كَمَا فِي سُؤَالِ جِبْرِيلَ عليه السلام، وَمَا أَجَابَهُ بِهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ سَأَلَهُ، قَالَ:((الإِيمَانُ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَاليَومِ الآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالقَدَرِ خَيرِهِ وَشَرَّهِ))، وَفِي الحَدِيثِ الصَّحِيحِ:((إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللهُ القَلَم، فَقَالَ لَهُ: اُكْتُبْ، فَجَرَى بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَومِ القِيَامَةِ)) أَي: جَرَى بِمَا يَكُونُ مِمَّا يَعْلَمُ اللهُ تَعَالَى، فَإِنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ، وَمَا لَمْ يَكُنْ؛ لَو كَانَ كَيفَ يَكُونُ، {لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [سَبَأ: 3].

وَأَمَّا القَضَاءُ: فَيُطْلَقُ فِي القُرْآنِ وَيُرَادُ بِهِ إِيجَادُ المُقَدَّرِ، كَقَولِهِ:{فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَينِ} [فُصِّلَت: 12]، وَقَولِهِ:{فَلَمَّا قَضَينَا عَلَيهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ} [سَبَأ: 14].

وَيُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الإِخْبَارُ بِمَا سَيَقَعُ مِمَّا قَدَّرَ، كَقَولِهِ:{وَقَضَينَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ} [الإِسْرَاءُ: 4]، أَخْبَرَهُم فِي كِتَابِهِم أَنَّهُم يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ مَرَّتَينِ.

وَيُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الأَمْرُ وَالوَصِيَّةُ، كَمَا قَالَ:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإِسْرَاء: 23 - أَي: أَمَرَ وَوَصَّى.

وَيُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الحُكْمُ، كَقَولِهِ:{وَقُضِيَ بَينَهُمْ بِالْحَقِّ} [الزُّمَر: 69).

وَيُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ القَدَرُ، وَنَحْو ذَلِكَ".

وَقَالَ الشَّيخُ العَلَّامَةُ ابْنُ عُثَيمِين رحمه الله فِي كِتَابِهِ شرْحُ العَقِيدَةِ الوَاسِطِيَّةِ (2/ 187): "وَلِهَذَا نَقُولُ: إِنَّ القَضَاءَ وَالقَدَرَ مُتَبَايِنَانِ إِنْ اجْتَمَعَا، وَمُتَرَادِفَانِ إِنْ تَفَرَّقَا؛ عَلَى حَدِّ قَولِ العُلَمَاءِ: هُمَا كَلِمَتَانِ إِنْ اجْتَمَعَتَا افْتَرَقَتَا، وَإِنْ افْتَرَقَتَا اجْتَمَعَتَا. فَإِذَا قِيلَ: هَذَا قَدَرُ اللهِ؛ فَهُوَ شَامِلٌ لِلقَضَاءِ، أَمَّا إِذَا ذُكِرَا جَمِيعًا؛ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعْنًى.

فَالتَّقْدِيرُ: هُوَ مَا قَدَّرَهُ اللهُ تَعَالَى فِي الأَزَلِ أَنْ يَكُونَ فِي خَلْقِهِ، وَأَمَّا القَضَاءُ: فَهُوَ مَا قَضَى بِهِ اللهُ سبحانه وتعالى فِي خَلْقِهِ مِنْ إِيجَادٍ أَو إِعْدَامٍ أَو تَغْيِيرٍ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ التَّقْدِيرُ سَابِقًا".

=

ص: 4110

. . . . .

(1)

.

وَوَجْهُ ذَلِكَ: أَنَّ العَرَبَ تُطْلِقُ اسْمَ مَا تَوَلَّدَ مِنَ الشَيءِ عَلَى الشَيءِ، وَتُطْلِقُ الصِّفَةَ عَلَى المَفْعُولِ، كَقَولِكَ عَنِ المَقْدُورِ: هَذِهِ قُدْرَةُ اللهِ، فَمِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ يُمْكِنُ

=

وَقَالَ الشَّيخُ صَالِحُ آلِ الشَّيخِ حَفِظَهُ اللهُ فِي شَرْحِ العَقِيدَةِ الطَّحَاوِيَّةِ -شَرِيط رَقَم (31) -: "قَالَ: ((وَالقَدَرِ خَيرِهِ وَشَرِّهِ، وَحُلْوِهِ وَمُرِّهِ مِنَ اللهِ تَعَالَى)) وَالخَيرُ وَالشَّرُّ وَالحُلْوُ وَالمُرُّ فِي القَدَرْ: المَقْصُودُ بِهِ مَا يُضَافُ لِلعَبْدِ مِنَ القَدَرِ -يَعْنِي: المَقْدُور- فَالقَدَرُ لَهُ جِهَتَانِ:

أ- جِهَةٌ صِفَةُ اللهِ وَفِعْلُ اللهِ: وَهَذِهِ مُرْتَبِطَةٌ بِعَدَدٍ مِنْ صِفَاتِ الرَّبِّ: أَوَّلُهَا: العِلْمُ، وَالثَّانِي: الكِتَابَةُ وَالمَشِيئَةُ وَالخَلْقُ وَالحِكْمَةُ وَهِيَ وَضْعُ الأُمُورِ مَوَاضِعَهَا اللَّائِقَةَ بِهَا المُوَافِقَةَ لِلغَايَاتِ المَحْمُودَةِ مِنْهَا، وَالعَدْلُ فِي حُكْمِهِ تَعَالَى القَدَرِيِّ؛ وَهُوَ وَضْعُ الأُمُورِ وَالمَقَادِيرِ فِي مَوَاضِعِهَا، هَذِهِ جِهَةٌ تَتَعَلَّقُ بِاللهِ تَعَالَى.

ب- جِهَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالعَبْدِ: وَهِيَ المَقْدُورُ: وُقُوعُ المَقْدُورِ؛ وُقُوعُ المُقَدَّرِ عَلَيهِ؛ وُقُوعُ القَدَرِ عَلَيهِ؛ أَو حُصُولُ القَدَرِ، وَهَذِهِ تُسَمَّى المَقْدُورَ، وَتُسَمَّى القَضَاءَ كَمَا أَسْلَفْنَا لَكُم فِي الفَرْقِ مَا بَينَ القَدَرِ وَالقَضَاءِ. هَذَا المُقَدَّرُ هُوَ الَّذِي يَنْقَسِمُ إِلَى خَيرٍ وَشَرٍّ وَإِلى حُلْوٍ وَمُرٍّ".

(1)

قُلْتُ: وَعَلَيهِ؛ فَإِنَّ مَا اشْتُهِرَ فِي دُعَاءِ القُنُوتِ عِنْدَ العَامَّةِ بِقَولِهِم: (وَقِنِا شَرَّ وَسُوءَ مَا قَدَّرْتَ وَقَضَيتَ) يَكُونُ مُنْكَرًا؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الشَّرَّ وَالسُّوءَ فِي تَقْدِيرِ اللهِ نَفْسِهِ الَّذِي هُوَ فِعْلُهُ تَعَالَى -وَفِعْلُهُ كُلُّهُ خَيرٌ كَمَا سَلَفَ-، وَأَمَّا جَعْلُهُ فِي القَضَاءِ أَيضًا -الَّذِي هُوَ المَقْدُورُ-؛ فَهَذَا صَحِيحٌ لَا رَيبَ فِيهِ، فَالمَحْظُورُ وَقَعَ هُنَا عِنْدَمَا جُمِعَ بَينَ القَضَاءِ وَالقَدَرِ فِي مَوطِنٍ وَاحِدٍ مَعَ نِسْبَةِ السُّوءِ وَالشَّرِّ إِلَيهِمَا جَمِيعًا.

وَأَمَّا الدُّعَاءُ المَسْنُونُ فَهُوَ بِلَفْظِ: ((وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيتَ)) فَقَط؛ كَمَا تَجِدُهُ فِي سُنَنِ أَبي دَاوُدَ (1425)؛ فَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّهِ الَّذِي لَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى، وَصَدَقَ الصَّحَابِيُّ الجَلِيلُ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه حِينَ قَالَ:(الاقْتِصَادُ فِي السُّنَّةِ خَيرٌ مِنَ الاجْتِهَادِ فِي البِدْعَةِ). رَوَاهُ الحَاكِمُ فِي المُسْتَدْرَكِ (352)، وَصَحَّحَهُ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى حَدِيثِ الضَّعِيفَةِ (3917).

وَقَرِيبٌ مِنَ الدُّعَاءِ السَّابِقِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيرَةَ؛ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ جَهْدِ البَلاءِ، وَدَرَكِ الشَّقَاءِ، وَسُوءِ القَضَاءِ، وَشَمَاتَةِ الأَعْدَاءِ)). البُخَارِيُّ (6616).

ص: 412

التَّعْبِيرُ عَنِ المَفْعُولِ بِالصِّفَةِ لِأَنَّهُ نَاجِمٌ عَنْهَا، فَالقَدَرُ يُطْلَقُ عَلَى نَفْسِ تَقْدِيرِ اللهِ تَعَالَى -وَهَذَا مُلَازِمٌ لِحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَعِلْمِهِ سُبْحَانَهُ- وَهَذَا كُلُّهُ خَيرٌ؛ لَيسَ فِيهِ شَرٌّ مُطْلَقًا، وَأَيضًا يُطْلَقُ القَدَرُ عَلَى المَقْدُورِ، وَهُوَ المُفْعُولِ مِنْهُ سبحانه وتعالى فِي خَلْقِهِ -وَهَذَا هُوَ الَّذِي فِيهِ الخَيرُ وَالشَّرُّ-، لِأَنَّهُ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ ابْتِلَاءِ اللهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ بِالخَيرِ وَالشَّرِّ، كَمَا سَبَقَ فِي قَولِهِ تَعَالَى:{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيرِ فِتْنَةً وَإِلَينَا تُرْجَعُونَ} [الأَنْبِيَاء: 35]، فَيَظْهَرُ فِيهِ -مَآلًا- فَضْلُهُ تَعَالَى مَعَ المُطِيعِ، وَعَدْلُهُ مَعَ العَاصِي، وَكُلُّ ذَلِكَ خَيرٌ فِي حَقِيقَتِهِ

(1)

.

وَقَدْ أَشَارَ البُخَارِيُّ رحمه الله إِلَى نَحْوِ ذَلِكَ في صَحِيحِهِ فَقَالَ: "بَابُ مَا جَاءَ فِي تَخْلِيقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَغَيرِهَا مِنَ الخَلَائِقِ، وَهُوَ فِعْلُ الرَّبِّ تبارك وتعالى وَأَمْرُهُ، فَالرَّبُّ بِصِفَاتِهِ وَفِعْلِهِ وَأَمْرِهِ وَكَلَامِهِ؛ وَهُوَ الخَالِقُ المُكَوِّنُ: غَيرُ مَخْلُوقٍ، وَمَا كَانَ بِفِعْلِهِ وَأَمْرِهِ وَتَخْلِيقِهِ وَتَكْوِينِهِ فَهُوَ مَفْعُولٌ مَخْلُوقٌ مُكَوَّنٌ)

(2)

.

(1)

وَلِتَمَامِ الفَائِدَةِ فِي بَيَانِ أَنَّ الصِّفَةَ تُطْلَقُ عَلَى المَفْعُولِ؛ رَاجِعِ الفَوَائِدَ فِي شَرْحِ بَابِ (فَضْلِ التَّوحِيدِ وَمَا يُكَفَّرُ مِنَ الذُّنُوبِ) مِنْ كِتَابِنَا هَذَا.

(2)

البُخَارِيُّ (9/ 134).

ص: 413

-‌

‌ المَسْأَلَةُ العَاشِرَةُ: أَلَيسَ فِي قَولِهِ عليه الصلاة والسلام: ((اللهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانوا عَامِلِينَ بِه))

(1)

، وَقَولِهِ أَيضًا:((إنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَينَهُ وَبَينَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ؛ فَيَسْبِقُ عَلَيهِ الكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ؛ فَيَدْخُلُهَا))

(2)

دِلَالَةٌ عَلَى الاحْتِجَاجِ بِالقَدَرِ عَلَى الأَعْمَالِ؟!

الجَوَابُ: لَا، وَبَيَانُ ذَلِكَ:

1 -

أَنَّ مَقْصُودَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الحَدِيثِ الأَوَّلِ هُوَ أَنْ لَا تَحْكُمُوا عَلَيهِم بِالنَّارِ بِسَبَبِ كُفْرِ آبَائِهِم إِذْ لَمْ يَبْلُغُوا فَيَكْفُرُوا، وَلَا تَحْكُمُوا عَلَيهِم بِمِيثَاقِ الفِطْرَةِ الَّتِي وُلِدُوا عَلَيهَا؛ لِأَنَّهُم لَمْ يَبْلُغُوا فَيُؤْمِنُوا

(3)

.

(1)

وَالحَدِيثُ هُوَ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَولَادِ المُشْرِكِينَ؛ فَقَالَ: ((اللَّهُ إِذْ خَلَقَهُمْ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ)). البُخَارِيُّ (6597)، وَمُسْلِمٌ (2659) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا.

وَمِثْلُهُ مَا رَوَاهُ أَيضًا البُخَارِيُّ (6599) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا: ((مَا مِنْ مَولُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ، كَمَا تُنْتِجُونَ البَهِيمَةَ؛ هَلْ تَجِدُونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ؟! حَتَّى تَكُونُوا أَنْتُمْ تَجْدَعُونَهَا)) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ؛ أَفَرَأَيتَ مَنْ يَمُوتُ -وَهُوَ صَغِيرٌ- قَالَ: ((اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ)).

(2)

وَالحَدِيثُ بِتَمَامِهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا: ((إنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَومًا، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُرْسَلُ إلَيهِ المَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ، وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: بِكَتْبِ رِزْقِهِ، وَأَجَلِهِ، وَعَمَلِهِ، وَشَقِيٍّ أَمْ سَعِيدٍ؛ فَوَ اللهِ الَّذِي لَا إلَهَ غَيرُهُ إنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَينَهُ وَبَينَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ؛ فَيَسْبِقُ عَلَيهِ الكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا! وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَينَهُ وَبَينَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ؛ فَيَسْبِقُ عَلَيهِ الكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا)). رَوَاهُ البُخَارِيُّ (3332)، وَمُسْلِمٌ (2643).

(3)

أَفَادَهُ ابْنُ قُتَيبَةَ رحمه الله كَمَا فِي كَشْفُ المُشْكِلِ مِنْ حَدِيثِ الصَّحِيحَينِ (2/ 366) لِابْنِ الجَوزِيِّ رحمه الله.

قُلْتُ: وَيَزِيدُهُ تَأْكِيدًا حَدِيثُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ؛ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((يُؤْتَى بِأَرْبَعَةٍ يَومَ القِيَامَةِ: بِالمَولُودِ، وَبِالمَعْتُوهِ، وَبِمَنْ مَاتَ فِي الفَتْرَةِ، وَالشَّيخِ الفَانِي: كُلُّهُمْ يَتَكَلَّمُ بِحُجَّتِهِ، فَيَقُولُ الرَّبُّ تبارك وتعالى لِعُنُقٍ مِنَ النَّارِ: ابْرُزْ. فَيَقُولُ لَهُمْ: إِنِّي كُنْتُ أَبْعَثُ إِلَى عِبَادِي رُسُلًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ؛ وَإِنِّي رَسُولُ نَفْسِي إِلَيكُمْ، ادْخُلُوا هَذِهِ،

=

ص: 414

وَأَمَّا حَدِيثُ: وَسُئِلَ عَنْ أَهْلِ الدَّارِ يُبَيَّتُونَ -مِنَ المُشْرِكِينَ- فَيُصَابُ مِنْ نِسَائِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ؛ قَالَ: ((هُمْ مِنْهُمْ))

(1)

فَالمَقْصٌودٌ بِهِ أَنَّهُم فِي الدُّنْيَا يُعَامَلُونَ مُعَامَلَةَ آبَائِهِم الكُفَّارِ.

2 -

أَنَّ قَولَهُ فِي الحَدِيثِ الثَّانِي: ((فَيَسْبِقُ عَلَيهِ الكِتَابُ)) لَا يَعني أنَّهُ أُجْبِرَ عَلَى عَمَلِ أَهْلِ النَّارِ! وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ تَحَوُّلِ عَمَلِ الرَّجُلِ نَفْسِهِ، وَلَكِنَّ عِلْمَ اللهَ تَعَالَى سَابِقٌ لِعَمَلِ الرَّجُلِ، كَمَا فِي الحَدِيثِ:((لَا عَلَيكُمْ أَنْ لَا تَعْجَبُوا بِأَحَدٍ حَتَّى تَنْظُرُوا بِمَ يُخْتَمُ لَهُ؛ فَإِنَّ العَامِلَ يَعْمَلُ زَمَانًا مِنْ عُمْرِهِ أَو بُرْهَةً مِنْ دَهْرِهِ بِعَمَلٍ صَالِحٍ لَو مَاتَ عَلَيهِ دَخَلَ الجَنَّةَ؛ ثُمَّ يَتَحَوَّلُ فَيَعْمَلُ عَمَلًا سَيِّئًا! وَإِنَّ العَبْدَ لَيَعْمَلُ البُرْهَةَ مِنْ دَهْرِهِ بِعَمَلٍ سَيِّءٍ لَو مَاتَ عَلَيهِ دَخَلَ النَّارَ؛ ثُمَّ يَتَحَوَّلُ فَيَعْمَلُ عَمَلًا صَالِحًا! وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدٍ خَيرًا اسْتَعْمَلَهُ قَبْلَ مَوتِهِ)). قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَكَيفَ يَسْتَعْمِلُهُ؟ قَالَ:((يُوَفِّقُهُ لِعَمَلٍ صَالِحٍ ثُمَّ يَقْبِضُهُ عَلَيهِ))

(2)

.

=

فَيَقُولُ مَنْ كُتِبَ عَلَيهِ الشَّقَاءُ: يَا رَبِّ؛ أَينَ نَدْخُلُهَا وَمِنْهَا كُنَّا نَفِرُّ؟! قَالَ: وَمَنْ كُتِبَتْ عَلَيهِ السَّعَادَةُ يَمْضِي، فَيَتَقَحَّمُ فِيهَا مُسْرِعًا، قَالَ: فَيَقُولُ تبارك وتعالى: أَنْتُمْ لِرُسُلِي أَشَدُّ تَكْذِيبًا وَمَعْصِيَةً، فَيُدْخِلُ هَؤُلَاءِ الجَنَّةَ، وَهَؤُلَاءِ النَّارَ)). صَحِيحٌ. مُسْنَدُ أَبِي يَعْلَى (4224). الصَّحِيحَةُ (2468).

(1)

البُخَارِيُّ (3013)، وَمُسْلِمٌ (1745) عَنِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ مَرْفُوعًا.

(2)

صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (12214) عَنْ أَنَس مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (1334).

ص: 415

-‌

‌ المَسْأَلَةُ الحَادِيَةَ عَشَرَةَ: قَولُهُ تَعَالَى فِي الحَدِيثِ القُدُسِيِّ: ((كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيتُهُ))

(1)

يُشْكِلُ مَعَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ المَرْفُوعِ:

((كُلُّ مَولُودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ فأَبَوَاه يُهَوِّدَانِهِ، أَو يُنَصِّرَانِهِ، أَو يُمَجِّسَانِهِ))

(2)

مِنْ جِهَةِ حُصُولِ الهِدَايَةِ ابْتِدَاءً؛ فَمَا الجَوَابُ؟

الجَوَابُ هُوَ مِنْ وَجْهَينِ:

1 -

أَنَّ الخِطَابَ فِي الحَدِيثِ الأَوَّلِ هُوَ عَنِ المُكَلَّفِينَ الَّذِينَ تَبَيَّنَ سَعْيُهُم، وَاخْتَارُوا طَرِيقَهُم، بَينَمَا الحَدِيثُ الآخَرُ: الكَلَامُ فِيهِ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُكَلَّفُوا بَعْدُ.

2 -

أَنَّ مَعْنَى الفِطْرَةِ فِي هَذَا الحَدِيثِ الثَّانِي هُوَ الاسْتِعْدَادُ لِقَبُولِ الإِسْلَامِ؛ وَلَيسَ هُوَ نَفْسَ الإِسْلَامِ.

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ الحَنْبَلِيُّ رحمه الله: "قَدْ ظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ مُعَارِضٌ لِحَدِيثِ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ((يَقُولُ اللهُ عز وجل: خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ -وَفِي رِوَايَةٍ: مُسْلِمِينَ- فَاجْتَالَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ)) وَلَيسَ كَذَلِكَ! فَإِنَّ اللهَ خَلَقَ بَنِي آدَمَ، وَفَطَرَهُمْ عَلَى قَبُولِ الإِسْلَامِ، وَالمَيلِ إِلَيهِ دُونَ غَيرِهِ، وَالتَّهَيُّؤِ لِذَلِكَ، وَالِاسْتِعْدَادِ لَهُ بِالقُوَّةِ، لَكِنْ لَا بُدَّ لِلْعَبْدِ مِنْ تَعْلِيمِ الإِسْلَامِ بِالفِعْلِ؛ فَإِنَّهُ قَبْلَ التَّعْلِيمِ جَاهِلٌ لَا يَعْلَمُ شَيئًا، كَمَا قَالَ عز وجل: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيئًا} [النَّحْل: 78]، وَقَالَ لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضُّحَى: 7]، وَالمُرَادُ: وَجَدَكَ غَيرَ عَالِمٍ بِمَا عَلَّمَكَ مِنَ الكِتَابِ وَالحِكْمَةِ"

(3)

.

(1)

رَوَاهُ أَبُو ذَرٍّ مَرْفُوعًا، وَهُوَ قُدُسِيٌّ. صَحِيحِ مُسْلِمٍ (2577).

(2)

البُخَارِيُّ (1358)، وَمُسْلِمٌ (2658).

(3)

جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (2/ 39).

قُلْتُ: وَحَدِيثُ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ هُوَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ (2865) مَرْفُوعًا.

ص: 416

-‌

‌ المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشَرَةَ: مَا حُكْمُ قَولِ القَائِلِ: "حَصَلَ هَذَا الأَمْرُ الفُلَانِيُّ صُدْفَةً"؟

الجَوَابُ:

حُكْمُهُ يَخْتَلِفُ بِحَسْبِ مَنْ يُنْسَبُ إِلَيهِ العَمَلُ، فَإِنْ كَانَ فِي حَقِّ العَبْدِ فَهُوَ صَحِيحٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ العَبْدَ لَا يَعْلَمُ الغَيبَ، وَإِنَّمَا يُجْرِي سَائِرَ أَعْمَالِهِ وُفْقَ ظَنِّهِ فِيهَا، فَهُوَ مِنْ جِهَةِ الوَاقِعِ يُصَادِفُ أَشْيَاءَ بِغَيرِ حُسْبَانٍ لَهَا.

وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ لَفْظُ حَدِيثِ البُخَارِيِّ عَنْ عَلِيٍّ (أَنَّ فَاطِمَةَ رضي الله عنها أَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَشْكُو إِلَيهِ مَا تَلْقَى فِي يَدِهَا مِنَ الرَّحَى -وَبَلَغَهَا أَنَّهُ جَاءَهُ رَقِيقٌ- فَلَمْ تُصَادِفْهُ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ

) إِلَى آخِرِ قِصَّةِ الحَدِيثِ

(1)

.

أَمَّا إِنْ كَانَ الأَمْرُ فِي حَقِّ اللهِ تَعَالَى فَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ، لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى كُلّ شَيءٍ عِنْدَهُ مَعْلُومٌ وَهُوَ بِقَدَرٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{إِنَّا كُلَّ شَيءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القَمَر: 49].

(1)

صَحِيحُ البُخَارِيِّ (5361).

ص: 417

‌المُلْحَقُ العَاشِرُ عَلَى كِتَابِ التَّوحِيدِ: لَمْحَةٌ عَنِ الفِرَقِ الضَّالَّةِ فِي العَقِيدَةِ

(1)

‌مُقَدِّمَةٌ:

عَنْ حُذَيفَةَ بْنِ اليَمَانِ؛ قَالَ: كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الخَيرِ، وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ فَجَاءَنَا اللهُ بِهَذَا الخَيرِ، فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الخَيرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ:((نَعَمْ)). قُلْتُ: وَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيرٍ؟ قَالَ: ((نَعَمْ، وَفِيهِ دَخَنٌ)). قُلْتُ: وَمَا دَخَنُهُ؟ قَالَ: ((قَومٌ يَهْدُونَ بِغَيرِ هَدْيِي، تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ)). قُلْتُ: فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الخَيرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: ((نَعَمْ، دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيهَا قَذَفُوهُ فِيهَا)). قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ صِفْهُمْ لَنَا. فَقَالَ: ((هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا)). قُلْتُ: فَمَا تَأْمُرُنِي إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ؟ قَالَ: ((تَلْزَمُ جَمَاعَةَ المُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ)). قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلَا إِمَامٌ؟ قَالَ: ((فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الفِرَقَ كُلَّهَا وَلَو أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ المَوتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ)). رَوَاهُ البُخَارِيُّ

(2)

(3)

.

(1)

وَهِيَ عَلَى سَبِيلِ الاخْتِصَارِ وَالإِجْمَالِ إِثْرَاءً لِشَرْحِ كِتَابِ التَّوحِيدِ.

(2)

البُخَارِيُّ (7084).

وَفِي رِوَايَةٍ: ((فَإِنْ لَمْ تَرَ خَلِيفَةً؛ فَاهْرُبْ فِي الأَرْضِ حَتَّى يُدْرِكَكَ المَوتُ وَأَنْتَ عَاضٌّ عَلَى جِذْلِ شَجَرَةٍ)). رَوَاهُ أَبْو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ (444). الصَّحِيحَةُ (2739).

(3)

قَالَ ابْنُ بَطَّال رحمه الله -عِنْدَ بَابِ: كَيفَ الأَمْرُ إِذَا لَمْ تَكُنْ جَمَاعَةٌ-: "مُرَادُ البَابِ الحَضُّ عَلَى الاعْتِصَامِ

=

ص: 418

إِنَّ مَعْرِفَةَ الفِرَقِ وَمَذَاهِبِهَا وَشُبُهَاتِهَا؛ وَمَعْرِفَةَ الفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ -أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ- وَمَا هِيَ عَلَيهِ؛ هُوَ أَمْرٌ ضَرِورِيٌّ لِلمُسْلِمِ، لِأَنَّ هَذِهِ الفِرَقَ الضَّالَّةَ عِنْدَهَا شُبُهَاتٌ ومُغْرَيَاتُ تَضْلِيلٍ؛ قَدْ يَغْتَرُّ الجَاهِلُ بِهَا وَيَنْخَدِعُ؛ فَيَنْتَمِي إِلَيهَا!

وَقَدْ حَذَّرَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْهَا، فَعَنِ العِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ؛ قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَومٍ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَينَا فَوَعَظَنَا مَوعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا العُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا القُلُوبُ. فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ كَأَنَّ هَذِهِ مَوعِظَةُ مُوَدِّعٍ! فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَينَا؟ فَقَالَ: ((أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا؛ فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا؛ فَعَلَيكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ المَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ؛ فَإِنَّ كُلَّ

=

بِالجَمَاعَةِ،

وَالمُرَادُ: بِالجَمَاعَةِ أَهْلُ الحَلِّ وَالعَقْدِ مِنْ كُلِّ عَصْرٍ". اُنْظُرْ كِتَابَ فَتْحُ البَارِي (13/ 316) لِلحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ رحمه الله.

وَقَالَ الكِرْمَانِيُّ رحمه الله: "مَقْتَضَى الأَمْرِ بِلُزُومِ الجَمَاعَةِ أَنَّهُ يَلْزَمُ المُكَلَّفَ المُتَابَعَةُ لِمَا أَجْمَعَ عَلَيهِ المُجْتَهِدُونَ، وَهُمُ المُرَادُ بِقَولِهِ: وَهُمْ أَهْلُ العِلْمِ". فَتْحُ البَارِي (13/ 316).

وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ رحمه الله فِي سُنَنِهِ (4/ 37): "وَتَفْسِيرُ الجَمَاعَةِ عِنْدَ أَهْلِ العِلْمِ هُمْ: أَهْلُ الفِقْهِ وَالعِلْمِ وَالحَدِيثِ".

وَقَالَ البُخَارِيُّ رحمه الله فِي صَحِيحِهِ (6/ 21): "بَابُ قَولِهِ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} وَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِلُزُومِ الجَمَاعَةِ؛ وَهُمْ أَهْلُ العِلْمِ".

وَقَالَ أَيضًا رحمه الله (9/ 101): "بَابُ قَولِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: ((لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الحَقِّ يُقَاتِلُونَ))؛ وَهُمْ أَهْلُ العِلْمِ".

وَبَوَّبَ النَّوَوِيُّ رحمه الله فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ (3/ 1475): "بَابُ الأَمْرِ بِلُزُومِ الجَمَاعَةِ عِنْدَ ظُهُورِ الفِتَنِ، وَتَحْذِيرِ الدُّعَاةِ إِلَى الكُفْرِ".

ص: 419

مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ))

(1)

.

وَقَدْ جَعَلَ اللهُ تَعَالَى مِنْ عَلَامَاتِ رِضَاهُ عَنْ عِبَادِهِ اتِّبَاعَ الصَّحَابَةِ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، فَقَالَ تَعَالَى:{وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التَّوبَة: 100].

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرو بْنِ العَاصِ مَرْفُوعًا: ((وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً؛ كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلَّا مِلَّةً وَاحِدَةً))، قَالُوا: وَمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: ((مَا أَنَا عَلَيهِ وَأَصْحَابِي))

(2)

.

وَإِنَّ أُصُولَ البِدَعِ أَرْبَعُ طَوَائِفَ، وَسَائِرُ الثِّنْتَينِ وَالسَّبْعِينَ فِرْقَةً عَنْ هَؤْلَاءِ تَفَرَّقُوا، وَهُمُ: القَدَرِيَّةُ، وَالخَوَارِجُ، وَالرَّوَافِضُ، وَالمُرْجِئَةُ

(3)

، وَسَنَعْرُضُ أَشْهَرَهَا.

(1)

صَحِيحٌ. التِّرْمِذِيُّ (2676). صَحِيحُ الجَامِعِ (2549).

(2)

حَسَنٌ. التِّرْمِذِيُّ (2641). صَحِيحُ الجَامِعِ (9474).

(3)

انْظُرْ كِتَابَ (الاعْتِصَامُ)(2/ 720) لِلشَّاطِبِيِّ، وَكِتَابَ (فَتْحُ البَارِي)(13/ 344) لِلحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ رَحِمَهُمَا اللهُ.

ص: 420

‌الفِرْقَةُ الأُولَى: القَدَرِيَّةُ

1 -

تَعْرِيفُهَا:

هُمُ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ القَدَرَ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ مَا يَجْرِي فِي هَذَا الكَونِ لَيسَ بِقَدَرٍ وَقَضَاءٍ مِنَ اللهِ تَعَالَى؛ وَإِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ يَحْدُثُ بِفِعْلِ العَبْدِ بُدُونِ سَابِقِ عِلْمٍ وَتَقْدِيرٍ مِنَ اللهِ تَعَالَى

(1)

!

وَقَدْ وَصَفَهُم النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِمَجُوسِ هَذِهِ الأُمَّةِ، كَمَا فِي الحَدِيثِ:((القَدَرِيَّةُ مَجُوسُ هَذِهِ الأُمَّةِ))

(2)

.

وَأَبْرَزُ دُعَاتِهَا هُمْ دُعَاةُ الاعْتِزَالِ أَنْفُسُهُم؛ لِأَنَّ المُعْتَزِلَةَ قَدَرِيَّةٌ.

2 -

نَشْأَتُهَا:

"رُوِيَ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ ابْتَدَعَهُ بِالعِرَاقِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ البَصْرَةِ يُقَالُ لَهُ: (سِيسَوَيه) مِنْ أَبْنَاءِ المَجُوسِ، وَتَلَقَّاهُ عَنْهُ مَعْبَدٌ الجُهَنِّيُّ. وَيُقَالُ: أَوَّلُ مَا حَدَثَ فِي الحِجَازِ لَمَّا احْتَرَقَتِ الكَعْبَةُ؛ فَقَالَ رَجُلٌ: احْتَرَقَتْ بِقَدَرِ اللهِ تَعَالَى، فَقَالَ آخَرُ: لَمْ يُقَدِّرِ اللهُ هَذَا!

وَلَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ أَحَدٌ يُنْكِرُ القَدَرَ، فَلَمَّا ابْتَدَعَ هَؤُلَاءِ

(1)

وَقَابَلَتْهُم فِرْقَةُ الجَبْرِيَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ العَبْدَ مَجْبُورٌ عَلَى فِعْلِهِ، وَلَيسَ لَهُ فِعْلٌ وَلَا اخْتِيَارٌ؛ وَإِنَّمَا هُوَ كَالرِّيشَةِ الَّتِي تُحَرِّكُهَا الرِّيحُ بِغَيرِ اخْتِيَارِهَا!

قَالَ ابْنُ أَبِي العِزِّ الحَنَفِيُّ رحمه الله فِي شَرْحِ العَقِيدَةِ الطَّحَاوِيَّةِ (ص 113): "وَسُمُّوا قَدَرِيَّةً لِإِنْكَارِهِمُ القَدَرَ، وَكَذَلِكَ تُسَمَّى الجَبْرِيَّةُ المُحْتَجُّونَ بِالقَدَرِ قَدَرِيَّةً أَيضًا، وَالتَّسْمِيَةُ عَلَى الطَّائِفَةِ الأُولَى أَغْلَبُ".

(2)

صَحِيحٌ. أَبُو دَاوُدَ (4691) عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (4442).

وَفِي الحَدِيثِ أَيضًا: ((صِنْفَانِ مِنْ أُمَّتِي لَا يَرِدَانِ عَلَيَّ الحَوْضَ: القَدَرِيَّةُ، وَالْمُرْجِئَةِ)). السُّنَّةُ لِابْنِ أَبِي عَاصِمٍ (2/ 462)، وَهُوَ صَحِيحٌ. رَاجِعِ الصَّحِيحَةَ (2748).

ص: 421

التَّكْذِيبَ بِالقَدَرِ رَدَّهُ عَلَيهِمْ مَنْ بَقِيَ مِنَ الصَّحَابَةِ كَعَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ وَعَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَوَاثِلَةَ بْنِ الأَسْقَعِ"

(1)

.

3 -

أَبْرَزُ بِدَعِهَا:

أ- أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يُقَدِّرْ عِنْدَهُ مَا هُوَ كَائِنٌ؛ فَلَمْ يَعْلَمْ وَلَمْ يَكْتُبْ عِنْدَهُ -سُبْحَانَهُ- مَا سَيَكُونُ مِنْ أَفْعَالِ العِبَادِ!

ب- أَنَّ مَا يَقَعُ مِنْ مَعَاصِي العِبَادِ لَيسَ بِمَشِيئَةِ اللهِ تَعَالَى!

جـ- أَنَّ العَبْدَ يَخْلُقُ فِعْلَهُ!

قَالَ البَيهَقِيُّ رحمه الله: "إِنَّمَا سَمَّاهُمْ مَجُوسًا لِمُضَاهَاةِ بَعْضِ مَا يَذْهَبُونَ إِلَيهِ مَذَاهِبَ المَجُوسِ فِي قَولِهِمْ بِالأَصْلَينِ وَهُمَا النُّورُ وَالظُّلْمَةُ، يَزْعُمُونَ أَنَّ الخَيرَ مِنْ فِعْلِ النُّورِ وَأَنَّ الشَّرَّ مِنْ فِعْلِ الظُّلْمَةِ! فَصَارُوا ثَنَوِيَّةً، كَذَلِكَ القَدَرِيَّةُ يُضِيفُونَ الخَيرَ إِلَى اللهِ وَالشَّرَّ إِلَى غَيرِهِ! وَاللَّهُ تَعَالَى خَالِقُ الخَيرِ وَالشَّرِّ، وَالأَمْرَانِ مَعًا مُضَافَانِ إِلَيهِ خَلْقًا وَإِيجَادًا، وَإِلَى الفَاعِلِينَ لَهُمَا مِنْ عِبَادِهِ فِعْلًا وَاكْتِسَابًا. هَذَا قَولُ أَبِي سُلَيمَانَ الخَطَابِيِّ رحمه الله"

(2)

.

قُلْتُ: وَهُمْ فِي الحَقِيقةِ فَاقُوا المَجُوسَ فِي هَذِهِ البِدْعَةِ لِأَنَّهُم أَثْبَتُوا خَالِقِينَ كُثُرَ بِعَدَدِ الفَاعِلِينَ مِنَ المَخْلُوقَاتِ!

(1)

مَجْمُوعُ الفَتَاوَى (7/ 384).

(2)

السُّنَنُ الكُبْرَى (10/ 349).

ص: 422

‌الفِرْقَةُ الثَّانِيَةُ: الخَوَارِجُ

1 -

تَعْرِيفُهَا:

هُمُ الَّذِينَ خَرَجُوا عَلَى وَلِيِّ الأَمْرِ فِي آخِرِ عَهْدِ عُثْمَانَ رضي الله عنه؛ ونتَجَ عَنْ خُرُوجِهِم قَتْلُ عُثْمَانَ، ثُمَّ فِي خِلَافَةِ عَلِيٍّ رضي الله عنه زَادَ شَرُّهُم، وَانْشَقُّوا عَلَيهِ، وَكَفَّرُوهُ

(1)

، وَكَفَّرُوا الصَّحَابَةَ لِأَنَّهُم لَمْ يُوَافِقُوهُم عَلَى مَذْهَبِهِم، وَهُمْ يَحْكُمُونَ عَلَى مَنْ خَالَفَهُم فِي مَذْهَبِهِم أَنَّهُ كَافِرٌ.

وَأَبْرَزُ دُعَاتِهَا هُمْ دُعَاةُ التَّكْفِيرِ بِالكَبِيرَةِ؛ وَالخُرُوجِ عَلَى الوُلَاةِ

(2)

فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ.

(1)

كَمَا أَنْشَدَ عِمْرَانُ بْنُ حِطَّانَ الخَارِجِيُّ فِي قَاتِل عَلِيٍّ، فَقَالَ:

"يَا ضَرْبَةً مِنْ تَقِيٍّ مَا أَرَادَ بهَا

إِلَّا لِيَبْلُغَ مِنْ ذِي العَرْشِ رِضْوَانًا،

إِنِّي لَأَذْكُرُهُ حِينًا فَأَحْسِبُهُ

أَوفَى البَريَّةِ عِنْدَ اللهِ مِيزَانًا".

أَفَادَهُ الحَافِظُ الذَّهَبِيُّ رحمه الله فِي السِّيَرِ (4/ 215) عِنْدَ تَرْجَمَةِ عِمْرَانَ بْنِ حِطَّانَ.

ثُمَّ قَالَ رحمه الله:

"قُلْتُ: وَقَدْ رَدَّ هَذِهِ الأَبْيَاتَ بَعْضُهُم، فَقَالَ:

"يَا ضَرْبَةً مِنْ شَقِيٍّ لَمْ يَزَلْ أَبْدًا

بِهَا عَلَيهِ إِلَهُ الخَلْقِ غَضْبَانًا،

إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّ اللهَ جَاعِلُهُ

أَوفَى البَرِيَّةِ عِنْدَ اللهِ خُسْرَانًا".

وَقَالَ غَيرُهُ:

"يَا ضَرْبَةً مِنْ شَقِيٍّ مَا أَرَادَ بِهَا

إِلَّا لِيَبْلُغَ مِنْ ذِي العَرْشِ خُسْرَانًا،

إِنِّي لَأَذْكُرُهُ حِينًا فَألْعَنُهُ

لَعْنًا وَأَلْعَنُ عِمْرَانَ بْنَ حِطَّانًا".

(2)

بِسَبَبِ مُجَرَّدِ الفِسْقِ.

ص: 423

2 -

نَشْأَتُهَا:

"أَوَّلُ البِدَعِ ظُهُورًا فِي الإِسْلَامِ؛ وَأَظْهَرُهَا ذَمًّا فِي السُّنَّةِ وَالآثَارِ: بِدْعَةُ الحَرُورِيَّةِ المَارِقَةِ، فَإِنَّ أَوَّلَهُمْ

(1)

قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي وَجْهِهِ: اعْدِلْ يَا مُحَمَّدُ؛ فَإِنَّكَ لَمْ تَعْدِلْ، وَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَتْلِهِمْ وَقِتَالِهِمْ، وَقَاتَلَهُمْ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَعَ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ"

(2)

.

3 -

أَبْرَزُ بِدَعِهَا:

أ- عَدَمُ التِزَامِ جَمَاعَةِ المُسْلِمينَ.

ب- الخُرُوجُ عَلَى وَلِي الأَمْرِ، وَعَدَمُ طَاعَتِهِ.

جـ- التَّكْفِيرُ بِالكَبَائِرِ؛ وَأَنَّ صَاحِبَهَا مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ

(3)

.

قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رحمه الله: "وَأَمَّا الخُرُوجُ عَلَيهِم وَقِتَالُهُم [أَي وُلَاةُ الأُمُورِ] فَحَرَامٌ بِإِجْمَاعِ المُسْلِمِينَ -وَإِنْ كَانُوا فَسَقَةً ظَالِمِينَ-! وَقَدْ تَظَاهَرَتِ الأَحَادِيثُ بِمَعْنَى مَا ذَكَرْتُهُ، وَأَجْمَعَ أَهْلُ السُّنَّةِ أنَّهُ لَا يَنْعَزِلُ السُّلْطَانُ بِالفِسْقِ"

(4)

.

(1)

وَهُوَ ذُو الخُوَيصِرَةِ التَّمِيمِيُّ. كَمَا أَفَادَهُ شَيخُ الإِسْلَامِ رحمه الله فِي مَجْمُوعِ الفَتَاوَى (28/ 496).

(2)

مَجْمُوعُ الفَتَاوَى (19/ 71).

(3)

فِي حِينِ أَنَّ أَهْلَ السَّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ يَرَونَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ نَاقِصُ الإِيمَانِ، وَأَنَّهُ لَو دَخَلَ النَّارَ فَهُوَ لَا يَخْلُدُ فِيهَا بِسَبَبِ مَا عِنْدَهُ مِنَ التَّوحِيدِ.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: (مَنْ جَحَدَ مَا أَنْزَلَ اللهُ فَقَدْ كَفَرَ. وَمَنْ أَقَرَّ بِهِ وَلَمْ يَحْكُمْ؛ فَهُوَ ظَالِمٌ فَاسِقٌ). أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ فِي التَّفْسِيرِ (10/ 357)، وَقَالَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله فِي الصَّحِيحَةِ (2552):"جَيِّدٌ فِي الشَّوَاهِدِ".

(4)

شَرْحُ مُسْلِمٍ (12/ 229).

ص: 424

قُلْتُ: وَأَمَّا الحَاكِمُ الكَافِرُ؛ فَإِنَّهُ يُطَاعُ فِيمَا هُوَ مِنَ المَعْرُوفِ، كَأَنْظِمَةِ المُرُورِ وَقَوَانِينِ المُؤَسَّسَاتِ العَامَّةِ وَ .... مِمَّا هُوَ ظَاهِرُ فِي المَعْرُوفِ وَالمَصْلَحَةِ العَامَّةِ مِنْ غَيرِ مَعْصِيَةٍ.

وَفِي فَتَاوَى الشَّيخِ عَبْدِ العَزِيزِ بْنِ بَازٍ رحمه الله:

"سُؤَالٌ: مَا حُكْمُ سَنِّ القَوَانِينِ الوَضْعِيَّةِ؟ وَهَلْ يَجُوزُ العَمَلُ بِهَا؟ وَهَلْ يَكْفُرُ الحَاكِمُ بِسَنِّهِ هَذِهِ القَوَانِينَ؟

جَوَابٌ: إِذَا كَانَ القَانُونُ يُوَافِقُ الشَّرْعَ؛ فَلَا بَأْسَ بِهِ، مِثْلَ أَنْ يَسُنَّ قَانُونًا لِلطُّرُقِ يَنْفَعُ المُسْلِمِينَ وَغَيرَ ذَلِكَ مِنَ الأَشْيَاءِ الَّتِي تَنْفَعُ المُسْلِمِينَ -وَلَيسَ فِيهَا مُخَالَفَةٌ لِلشَّرْعِ- وَلَكِنْ لِتَسْهِيلِ أُمُورِ المُسْلِمِينَ؛ فَلَا بَأْسَ بِهَا.

أَمَّا القَوَانِينُ الَّتِي تُخَالِفُ الشَّرْعَ؛ فَلَا يَجُوزُ سَنُّهَا، فَإِذَا سَنَّ قَانُونًا يَتَضَمَّنُ أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَى الزَّانِي، أَو لَا حَدَّ عَلَى السَّارِقِ، أَو لَا حَدَّ عَلَى شَارِبِ الخَمْرِ؛ فَهَذَا قَاُنونٌ بَاطِلٌ، وَإِذَا اسْتَحَلَّهُ الوَالِي كَفَرَ لِكِونِهِ اسْتَحَلَّ مَا يُخَالِفُ النَّصَّ وَالإِجْمَاعَ، وَهَكَذَا كُلُّ مَنْ اسْتَحَلَّ مَا حَرَّمَ اللهُ مِنَ المُحَرَّمَاتِ المُجْمَعِ عَلَيهَا فَهُوَ يَكْفُرُ بِذَلِكَ.

سُؤَالٌ: كَيفَ نَتَعَامَلُ مَعَ هَذَا الوَالِي؟

جَوَابٌ: نُطِيعُهُ فِي المَعْرُوفِ وَلَيسَ فِي المَعْصِيَةِ حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِالبَدِيلِ"

(1)

.

(1)

فَتَاوَى الشَّيخِ عَبْدِ العَزِيزِ بْنِ بَازٍ رحمه الله (7/ 119).

ص: 425

‌الفِرْقَةُ الثَّالِثَةُ: الشِّيعَةُ (الرَّافِضَةُ)

1 -

تَعْرِيفُهَا:

هُمُ الَّذِينَ يَتَشَيَّعُونَ لِأَهْلِ بَيتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

وَالتَّشَيُّعُ فِي الأَصْلِ: الاتِّبَاعُ وَالمُنَاصَرَةُ، كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى:{وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ} [الصَّافَّات: 83].

وَتَفَرَّقَتِ الشِّيعَةُ إِلَى فِرَقٍ كَثِيرَةٍ بَعْضُهَا أَشَدُّ ضَلَالًا مِنْ بَعْضٍ، مِنْهُم: الزَّيدِيَّةُ

(1)

، وَالرَّافِضَةُ الإِثْنَا عَشَرِيَّة

(2)

، وَالإِسْمَاعِيلِيَّةُ

(3)

، وَالفَاطِمِيَّةُ

(4)

، وَالقَرَامِطَةُ

(5)

، وَالنُّصَيرِيَّةُ

(6)

؛

(1)

فِرْقَةٌ مِنَ الشِّيعَةِ تُنْسَبُ إِلَى زَيدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الحُسَينِ رضي الله عنهم، وَمَذْهَبُهُم هُوَ السَّائِدُ فِي اليَمَنِ، وَهُوَ حَصْرُ الإِمَامَةِ فِي أَولَادِ عَلِيٍ مِنْ فَاطِمَة. المُعْجَمُ الوَسِيطُ (1/ 409).

إِلَّا أَنَّ المَذْهَبَ الزَّيدِيَّ فِي الفُرُوعِ لَا يَخْرُجُ عَنْ إِطَارِ مَدَارِسِ الفِقْهِ الإِسْلَامِيِّ وَمَذَاهِبِهِ، وَمَوَاطِنُ الاخْتِلَافِ بَينَ الزَّيدِيَّةِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ فِي مَسَائِلِ الفُرُوعِ لَا تَكَادُ تُذْكَرُ، وَلَكِنَّهُم افْتَرَقُوا عَنِ الشَّيعَةِ الإِمَامِيَّةِ بِأَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ أَهَمُّهَا: أَنَّهُم يُقِرُّونَ بِخِلَافَةِ أَبي بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما وَلَا يَلْعَنُونَهُمَا كَمَا تَفْعَلُ فِرَقُ الشِّيعَةِ! وَيُخَالِفُونَ الشِّيعَةَ فِي زَوَاجِ المُتْعَةِ وَيَسْتَنْكِرُونَهُ، وَلَا يَقُولُونَ بِالغُلُوِّ فِي الأَئِمَّةِ.

(2)

يَقُولُونَ بِاثْنَي عَشَرَ إِمَامًا أَوَّلُهُم عَلِيُّ بْنُ أَبي طَالِبٍ وَآخِرُهُم الإِمَامُ المُنْتَظَرُ. المُعْجَمُ الوَسِيطُ (1/ 101).

وَمِنْ جُمْلَةِ بِدَعِهِم: الإِمَامَةُ، وَالعِصْمَةُ، وَالعِلْمُ اللَّدُنِّيُّ، وَالغَيبَةُ، والرَّجْعَةُ، وَالتَّقِيَّةُ، وَالمُتْعَةُ، وَالبَرَاءَةُ، وَنَقْصُ المُصْحَفِ، وَالنِّيَاحَةُ وَالعَزَاءُ فِي عَاشُورَاء.

(3)

فِرْقَةٌ مِنَ البَاطِنِيَّةِ مَنْسُوبَةٌ لِاسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ، يَعْتَقِدُونَ بِإِسْقَاطِ التَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ! وَأَنَّ ذَاتَ اللهِ لَا تَقُومُ بِهَا صِفَاتٌ! مُعْجَمُ لُغَةِ الفُقَهَاءِ لِلقَلْعَجِيِّ (ص 18).

وَ (الدَّرْزِيَّةُ): طَائِفَةٌ مِنَ الإِسْمَاعِيلِيَّةِ يُقَدِّسُونَ الحَاكِمَ بِأَمْرِ اللهِ الفَاطِمِيِّ، يُنْسَبُونَ إِلَى أَبِي مُحَمَّدٍ؛ عَبْدِ اللهِ الدَّرْزِيِّ. المُعْجَمُ الوَسِيطُ (1/ 279).

(4)

الدَّولَةُ الفَاطِمِيَّةُ: دَولَةٌ يَزْعُمُ خُلَفَاؤُهَا أَنَّهُم يَنْتَسِبُونَ إِلَى السَّيِّدَةِ فَاطِمَةَ الزَّهْرَاءِ.

(5)

نَشَأَتْ بِالعِرَاقِ سَنَةَ إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَمائَتَينِ لِلهِجْرَةِ، وَمِنْ مَبَادِئِهَا: الإِبَاحِيَّةُ. مُعْجَمُ لُغَةِ الفُقَهَاءِ لِلقَلْعَجِيِّ (ص 360).

(6)

فِرْقَةٌ مِنْ غُلَاةِ الشِّيعَةِ، يَقُولُونَ بِأُلُوهِيَّةِ عَلِيِّ بْنِ أَبي طَالِبٍ! وَبِتَنَاسُخِ الأَرْوَاحِ! وَبِإِنْكَارِ اليَومِ الآخِرِ! وَيُعْرَفُونَ اليَومَ بِاسْمِ (العَلَوِيِّينَ)، وُهُوَ الاسْمُ الَّذِي أَطْلَقُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِم إِبَّانَ الحُكْمِ الفَرَنْسِيِّ لِسُورِيَّا فِي النِّصْفِ الأَوَّلِ مِنَ القَرْنِ العِشْرِين، وَيَسْكُنُونَ الجُزْءَ الشَّمَالِيَّ الغَرْبِيَّ مِنْ سُورِيَّا. مُعْجَمُ لُغَةِ الفُقَهَاءِ لِلقَلْعَجِيِّ (ص 481).

ص: 426

عَدَدٌ كَبِيرٌ، وَفِرَقٌ كَثِيرَةٌ.

2 -

نَشْأَتُهَا:

"أَصْلُ الرَّفْضِ إِنَّمَا أَحْدَثَهُ مُنَافِقٌ زِنْدِيقٌ، قَصْدُهُ إِبْطَالُ دِينِ الإِسْلَامِ وَالقَدْحُ فِي الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم! كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ العُلَمَاءُ، فَإِنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ سَبَأٍ لَمَّا أَظْهَرَ الإِسْلَامَ أَرَادَ أَنْ يُفْسِدَ دِينَ الإِسْلَامِ بِمَكْرِهِ وَخُبْثِهِ كَمَا فَعَلَ بُولِسُ بِدِينِ النَّصْرَانِيَّةِ، فَأَظْهَرَ التَّنَسُّكَ، ثُمَّ أَظْهَرَ الأَمْرَ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ المُنْكَرِ، حَتَّى سَعَى فِي فِتْنَةِ عُثْمَانَ وَقَتْلِهِ، ثُمَّ لَمَّا قَدِمَ عَلى الكُوفَةِ أَظْهَرَ الغُلُوَّ فِي عَلِيٍّ وَالنَّصْرَ لَهُ لِيَتَمَكَّنَ بِذَلِكَ مِنْ أَغْرَاضِهِ، وَبَلَغَ ذَلِكَ عَلِيًّا فَطَلَبَ قَتْلَهُ، فَهَرَبَ مِنْهُ"

(1)

.

3 -

أَبْرَزُ بِدَعِ الرَّافِضَةِ الإِمَامِيَّةِ:

أ- أَنَّ عَلِيًّا هُوَ الوَصِيُ بَعْدَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الخِلَافَةِ؛ وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَالصَّحَابَةَ؛ ظَلَمُوا عَلِيًّا، وَاغْتَصَبُوا الخِلَافَةَ مِنْهُ!

ب- كُفْرُ الصَّحَابَةِ إِلَّا عَدَدًا قَلِيلًا مِنْهُم! وَصَارُوا يَلْعَنُونَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَيُلَقِّبُونَهُمَا بِصَنَمَي قُرَيشٍ!

جـ- الغُلُوُّ فِي آلِ البَيتِ

(2)

، وَإِعْطَائُهُم حَقَّ التَّشْرِيعِ وَالنَّسْخِ!

(1)

شَرْحُ العَقِيدَةِ الطَّحَاوِيَّةِ لِابْنِ أَبي العِزِّ الحَنَفِيِّ (ص 490).

(2)

وَكَثِيرٌ مِنْهُم يُقَدِّمُونَ لَهُم الوَانًا مِنَ العِبَادَاتِ كَالطَّوَافِ بِقُبُورِهِم، وَالاسْتِغَاثَةِ بِهِم؛ بَل وَالسُّجُودِ لَهُم عِنْدَ قُبُورِهِم.

ص: 427

‌الفِرْقَةُ الرَّابِعَةُ: الجَهْمِيَّةُ

1 -

تَعْرِيفُهَا:

"هُمْ نُفَاةُ صِفَاتِ اللهِ؛ المُتَّبِعُونَ لِلصَّابِئَةِ الضَّالَّةِ"

(1)

.

2 -

نَشْأَتُهَا:

"إِنَّ أَوَّلَ مَنْ حُفِظَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ هَذِهِ المَقَالَةَ فِي الإِسْلَامِ -أَعْنِي أَنَّ اللهَ سبحانه وتعالى لَيسَ عَلَى العَرْشِ حَقِيقَةً وَأَنَّ مَعْنَى اسْتَوَى بِمَعْنَى: اسْتَولَى وَنَحْوَ ذَلِكَ- هُوَ الجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ

(2)

،

(1)

مَجْمُوعُ الفَتَاوَى (12/ 358).

وَقَالَ فِي المُعْجَمُ الوَسِيطُ (1/ 144): "الجَهْمِيَّةُ: طَائِفَةٌ مِنَ الخَوَارِجِ مِنَ المُرْجِئَةِ".

وَقَالَ الحَافِظُ الذَّهَبِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ تَذْكِرَةُ الحُفَّاظِ (1/ 191): "وَفي هَذَا الزَّمَانِ [أَي: الطَّبَقَةَ الثَّالِثَةَ مِنَ التَّابِعِينَ] ظَهَرَ بِالبَصْرَةِ عَمْرو بْنُ عُبَيدٍ العَابِدُ، وَوَاصِلُ بْنُ عَطَاءٍ الغَزَّالُ، وَدَعَوا النَّاسَ إِلَى الاعْتِزَالِ وَالقَولِ بِالقَدَرِ، وَظَهَرَ بِخُرَاسَان الجَهْمُ بْنُ صَفْوَان وَدَعَا إِلَى تَعْطِيلِ الرَّبِّ عز وجل؛ وَخَلْقِ القُرْآنِ".

(2)

قَالَ ابْنُ أَبِي العِزِّ الحَنَفِيُّ رحمه الله فِي شَرْحِ العَقِيدَةِ الطَّحَاوِيَّةِ (ص 522): "وَالجَهْمِيَّةُ: هُمُ المُنْتَسِبُونَ إِلَى جَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ السَّمَرْقَنْدِيِّ، وَهُوَ الَّذِي أَظْهَرَ نَفْيَ الصِّفَاتِ وَالتَّعْطِيلَ، وَهُوَ أَخَذَ ذَلِكَ عَنِ الجَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ الَّذِي ضَحَّى بِهِ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ القَسْرِيُّ بِوَاسِطَ؛ فَإِنَّهُ خَطَبَ النَّاسَ فِي يَومِ عِيدِ الأَضْحَى، وَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، ضَحُّوا تَقَبَّلَ اللهُ ضَحَايَاكُمْ؛ فَإِنِّي مُضَحٍّ بِالجَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ، إِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ اللهَ لَمْ يَتَّخِذْ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وَلَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا! تَعَالَى اللهُ عَمَّا يَقُولُ الجَعْدُ عُلُوًّا كَبِيرًا، ثُمَّ نَزَلَ فَذَبَحَهُ. وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ اسْتِفْتَاءِ عُلَمَاءِ زَمَانِهِ، وَهُمُ السَّلَفُ الصَّالِحُ رَحِمَهُمُ اللهُ تَعَالَى.

وَكَانَ الجَهْمُ بَعْدَهُ بِخُرَاسَانَ؛ فَأَظْهَرَ مَقَالَتَهُ هُنَاكَ، وَتَبِعَهُ عَلَيهَا نَاسٌ؛ بَعْدَ أَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ أَرْبَعِينَ يَومًا شَكًّا فِي رَبِّهِ! وَكَانَ ذَلِكَ لِمُنَاظَرَتِهِ قَومًا مِنَ المُشْرِكِينَ، يُقَالُ لَهُمُ السُّمَنِيَّةُ -مِنْ فَلَاسِفَةِ الهِنْدِ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ مِنَ العِلْمِ مَا سِوَى الحِسِّيَّاتِ-، قَالُوا لَهُ: هَذَا رَبُّكَ الَّذِي تَعْبُدُهُ؛ هَلْ يُرَى أَو يُشَمُّ أَو يُذَاقُ أَو يُلْمَسُ؟ فَقَالَ: لَا، فَقَالُوا: هُوَ مَعْدُومٌ!! فَبَقِيَ أَرْبَعِينَ يَومًا لَا يَعْبُدُ شَيئًا، ثُمَّ لَمَّا خَلَا قَلْبُهُ مِنْ مَعْبُودٍ يُؤَلِّهُهُ، نَقَشَ الشَّيطَانُ اعْتِقَادًا نَحَتَهُ فِكْرُهُ؛ فَقَالَ: إِنَّهُ الوُجُودُ المُطْلَقُ! وَنَفَى جَمِيعَ الصِّفَاتِ، وَاتَّصَلَ بِالجَعْدِ".

ص: 428

وَأَخَذَهَا عَنْهُ الجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ، وَأَظْهَرَهَا؛ فَنُسِبَتْ مُقَالَةُ الجَهْمِيَّةِ إلَيهِ"

(1)

.

وَانْشَقَّ عَنْهَا مَذْهَبُ المُعْتَزِلَةِ وَمَذْهَبُ الأَشَاعِرَةِ وَمَذْهَبُ المَاتُرِيدِيَّةِ.

وَ"المُعْتَزِلَةُ: مِنَ القَدَرِيَّةِ، زَعَمُوا أَنَّهُم اعْتَزَلوا فِئَتَيِ الضَّلَالَةِ عِنْدَهُم: أَهْلَ السُّنَّةِ، وَالخَوَارِجَ. أَو سَمَّاهُم بِهِ الحَسَنُ (البَصْرِيُّ) لَمَّا اعْتَزَلَهُ وَاصِلُ بْنُ عَطَاءٍ وَأَصْحَابُهُ إِلَى أُسْطُوَانَةٍ مِنْ أُسْطُوَانَاتِ المَسْجِدِ، وَشَرَعَ يُقَرِّرُ القَولَ بِالمَنْزِلَةِ بَينَ المَنْزِلَتَينِ، وَأَنَّ صَاحِبَ الكَبِيرَةِ لَا مُؤْمِنٌ مُطْلَقٌ وَلَا كَافِرٌ مُطْلَقٌ؛ بَلْ بَينَ المَنْزِلَتَينِ"

(2)

.

(1)

مَجْمُوعُ الفَتَاوَى (5/ 20).

وَتَتِمَّةُ كَلَامِهِ رحمه الله: "وَقَدْ قِيلَ: إنَّ الجَعْدَ أَخَذَ مَقَالَتَهُ عَنْ أَبَانَ بْنِ سَمْعَانَ، وَأَخَذَهَا أَبَانُ عَنْ طَالُوتَ ابْنِ أُخْتِ لَبِيدِ بْنِ الأَعْصَمِ، وَأَخَذَهَا طَالُوتُ مِنْ لَبِيدِ بْنِ الأَعْصَمِ اليَهُودِيِّ السَّاحِرِ الَّذِي سَحَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ الجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ هَذَا -فِيمَا قِيلَ- مِنْ أَهْلِ حَرَّانَ وَكَانَ فِيهِمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الصَّابِئَةِ وَالفَلَاسِفَةِ بَقَايَا أَهْلِ دِينِ نُمْرُودَ وَالكَنْعَانِيِّينَ الَّذِينَ صَنَّفَ بَعْضُ المُتَأَخِّرِينَ فِي سِحْرِهِمْ، وَنُمْرُودُ هُوَ مَلِكُ الصَّابِئَةِ الكَلْدَانِيِّينَ المُشْرِكِينَ، كَمَا أَنَّ كِسْرَى مَلِكُ الفُرْسِ وَالمَجُوسِ، وَفِرْعَونَ مَلِكُ مِصْرَ، وَالنَّجَاشِيَّ مَلِكُ الحَبَشَةِ، وَبَطْلَيمُوسَ مَلِكُ اليُونَانِ، وَقَيصَرَ مَلِكُ الرُّومِ، فَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ لَا اسْمَ عَلَمٍ، فَكَانَتِ الصَّابِئَةُ -إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ- إذْ ذَاكَ عَلَى الشِّرْكِ وَعُلَمَاؤُهُمْ هُمُ الفَلَاسِفَةُ، وَإِنْ كَانَ الصَّابِئُ قَدْ لَا يَكُونُ مُشْرِكًا؛ بَلْ مُؤْمِنًا بِاللَّهِ وَاليَومِ الآخِرِ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البَقَرَة: 62]، وَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [المَائِدَة: 69]. لَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ أَو أَكْثَرَهُمْ كَانُوا كُفَّارًا أَو مُشْرِكِينَ؛ كَمَا أَنَّ كَثِيرًا مِنَ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى بَدَّلُوا وَحَرَّفُوا وَصَارُوا كُفَّارًا أَو مُشْرِكِينَ، فَأُولَئِكَ الصَّابِئُونَ -الَّذِينَ كَانُوا إذْ ذَاكَ- كَانُوا كُفَّارًا أَو مُشْرِكِينَ وَكَانُوا يَعْبُدُونَ الكَوَاكِبَ وَيَبْنُونَ لَهَا الهَيَاكِلَ".

(2)

القَامُوسُ المُحِيطُ (ص 1031).

ص: 429

وَهُمْ يُثْبِتُونَ أَسْمَاءَ اللهِ تَعَالَى مُجَرَّدَةً عَنِ الصِّفَاتِ وَالمَعَانِي، فَيَجْعَلُونَهَا أَعْلَامًا مَحْضَةً.

3 -

أَبْرَزُ بِدَعِ الجَهْمِيَّةِ:

أ- نَفيُ الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَنِ اللهِ تَعَالَى

(1)

.

ب- أَنَّ العَبْدَ لَيسَ لَهُ مَشِيئَةٌ، وَلَيسَ لَهُ اخْتِيَارٌ؛ وَإِنَّمَا هُوَ مُجْبَرٌ عَلَى أَفْعَالِهِ!

جـ- أَنَّ القُرْآنَ مَخْلُوقٌ.

د- أَنَّ العَمَلَ لَيسَ مِنَ الإِيمَانِ؛ فَهُمْ مُرْجِئَةٌ

(2)

.

4 -

‌ أُصُولُ المُعْتَزِلَةِ خَمْسَةٌ؛ هِيَ:

أ- التَّوحِيدُ.

وَهُوَ عِنْدَهُم نَفْيُ المُمَاثَلَةِ عَنِ اللهِ تَعَالَى، وَعَلَيهِ فَتُنْفى الصِّفَاتُ عَنِ اللهِ تَعَالَى!! فَالصِّفَاتُ الإِلَهِيَّةُ المَقْصُودُ بِهَا عِنْدَهُم نَفْسُ اللهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ تَعَدُّدَ الصِّفَاتِ يَدُلُّ عَلَى تَعَدُّدِ الذَّاتِ عِنْدَهُم!!

(1)

لِأَنَّ إِثْبَاتَ الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ -بِزَعْمِهِم- يَقْتَضِي الشِّرْكَ وَتَعَدُّدَ الآلِهَةِ! وَيَقتَضِي أَيضًا التَّشْبِيهَ! لِأَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ يُوجَدُ مِثْلُهَا فِي المَخْلُوقَاتِ.

(2)

قَالَ ابْنُ أَبي العِزِّ الحَنَفِيُّ رحمه الله فِي شَرْحِ العَقِيدَةِ الطَّحَاوِيَّةِ (ص 332): "ذَهَبَ الجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ وَأَبُو الحَسَنِ الصَّالِحِيُّ -أَحَدُ رُؤُوسِ القَدَرِيَّةِ- إِلَى أَنَّ الإِيمَانَ هُوَ المَعْرِفَةُ بِالقَلْبِ! وَهَذَا القَولُ أَظْهَرُ فَسَادًا مِمَّا قَبْلَهُ! فَإِنَّ لَازِمَهُ أَنَّ فِرْعَونَ وَقَومَهُ كَانُوا مُؤْمِنِينَ! فَإِنَّهُم عَرَفُوا صِدْقَ مُوسَى وَهَارُونَ عليهما السلام وَلَمْ يُؤْمِنُوا بِهِمَا، وَلِهَذَا قَالَ مُوسَى لِفِرْعَونَ: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ} [الإِسْرَاء: 102]، وَقَالَ تَعَالَى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُفْسِدِينَ} [النَّمْل: 14] ".

ص: 430

ب- العَدْلُ.

يَقُولُونَ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يُحِبُّ الفَسَادَ -وَهُوَ صَحِيحٌ بِهَذَا القَدْرِ-؛ لَكِنَّهُم يَبْنُونَ عَلَيهِ أَنَّهُ لَا يَخْلُقُ أَفْعَالَ عِبَادِهِ! بَلْ جَعَلَ لَهُم قُدْرَةً يَخْلِقُونَ بِهَا أَفْعَالَهُم.

ج- إِنْفَاذُ الوَعِيدِ.

بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى أَوعَدَ المُرْتَكِبَ لِلكَبِيرَةِ بِالنَّارِ؛ فَسَيَخْلُدُ فِيهَا حَتْمًا وَلَا يَجْعَلُونَ عِقَابَهُ تَحْتَ المَشِيئَةِ! فَلَا يُغْفَرُ لَهُ عِنْدَهُم إِلَّا إِنْ تَابَ مِنْهَا

(1)

.

د- المَنْزِلَةُ بَينَ المَنْزِلَتَينِ.

وَتَعْنِي أَنَّ مُرْتَكِبَ الكَبِيرَةِ فِي مَنْزِلَةٍ بَينَ الإِيمَانِ وَالكُفْرِ؛ فَلَيسَ بِمُؤْمِنٍ وَلَا كَافِرٍ.

هـ- الأَمْرُ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ المُنْكَرِ.

فَيَقُولُونَ بِوُجُوبِ الخُرُوجِ عَلَى الحَاكِمِ إِذَا خَالَفَ وَانْحَرَفَ عَنِ الحَقِّ.

قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رحمه الله: "وَأَمَّا الخُرُوجُ عَلَيهِم وَقِتَالُهُم [أَي وُلَاةُ الأُمُورِ] فَحَرَامٌ بِإِجْمَاعِ المُسْلِمِينَ -وَإِنْ كَانُوا فَسَقَةً ظَالِمِينَ-! وَقَدْ تَظَاهَرَتِ الأَحَادِيثُ بِمَعْنَى مَا ذَكَرْتُهُ، وَأَجْمَعَ أَهْلُ السُّنَّةِ أنَّهُ لَا يَنْعَزِلُ السُّلْطَانُ بِالفِسْقِ"

(2)

.

5 -

‌ وَأَمَّا الأَشَاعِرَةُ

(3)

: فَيُنْسَبُونَ إِلَى أَبِي الحَسَنِ الأَشْعَرِيِّ رحمه الله، وَكَانَ مُعْتَزِلِيًّا

(1)

قُلْتُ: وَفِي الحَدِيثِ: ((مَنْ وَعَدَهُ اللهُ عز وجل عَلَى عَمَلٍ ثَوَابًا، فَهُوَ مُنْجِزُهُ لَهُ، وَمَنْ وَعَدَهُ عَلَى عَمَلٍ عِقَابًا؛ فَهُوَ فِيهِ بِالخِيَارِ)). صَحِيحٌ. أَبُو يَعْلَى (3316) عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (2463).

(2)

شَرْحُ مُسْلِمٍ (12/ 229).

(3)

وَقَرِيبٌ مِنْهَا المَاتُرِيدِيَّةُ؛ المَنْسُوبُونَ إِلَى أَبي مَنْصُورٍ المَاتُرِيدِيِّ الحَنَفيِّ (ت 333 هـ).

ص: 431

ثُمَّ ظَهَرَ لَهُ بُطْلَانُ مَذْهَبِهِم وَصَارَ إِلَى مَذْهَبِ الكُلاَّبِيَّةِ -أَتْبَاعِ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَعِيدٍ بْنِ كُلاَّب، وَالَّذِي كَانَ يُثبِتُ سَبْعَ صِفَاتٍ وَيَنْفِي مَا عَدَاهَا

(1)

-، ثُمَّ إِنَّ اللهَ تَعَالَى مَنَّ عَلَى أَبِي الحَسَنِ الأَشْعَرِيِّ وَتَرَكَ مَذْهَبَ الكُلاَّبِيَّةِ وَرَجَعَ إِلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ وَقَولِ الإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَل رحمه الله.

قَالَ الحَافٍظُ الذَّهَبِيُّ رحمه الله: "عَلِيُّ بنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ: العَلاَّمَةُ؛ إِمَامُ المُتَكَلِّمِين؛ .. وَلَمَّا بَرَعَ فِي مَعْرِفَةِ الاعْتِزَالِ كَرِهَهُ وَتبرَّأَ مِنْهُ، وَصَعِدَ لِلنَّاسِ فتَابَ إِلَى اللهِ تَعَالَى مِنْهُ، ثُمَّ أَخَذَ يَرُدُّ عَلَى المُعْتَزِلَة، وَيَهْتِكُ عِوَارَهُم. قَالَ الفَقِيهُ أَبُو بَكْرٍ الصَّيرَفِيُّ: كَانَتِ المُعْتَزِلَةُ قَدْ رَفَعُوا رُؤُوسَهُم؛ حَتَّى نَشَأَ الأَشْعَرِيُّ فَحَجَرَهُم فِي أَقمَاع السِّمْسِمِ.

وَعَنِ ابْنِ البَاقلَانِيِّ قَالَ: أَفْضَلُ أَحْوَالِي أَنْ أَفهَمَ كَلَامَ الأَشْعَرِيِّ.

قُلْتُ: رَأَيتُ لأَبِي الحَسَنَ أَرْبَعَةَ توَالِيفَ فِي الأُصُولِ؛ يَذْكُرُ فِيهَا قوَاعِدَ مَذْهَبِ السَّلَفِ فِي الصِّفَاتِ، وَقَالَ فِيهَا:(تُمَرُّ كَمَا جَاءَتْ). ثُمَّ قَالَ: (وَبِذَلِكَ أَقُولُ، وَبِهِ أَدِينُ، وَلَا تُؤوَّلُ) "

(2)

.

قُلْتُ: وَلِكنَّ مُدَّعِي اتِّبَاعِهِ بَقَوا عَلَى مَذْهَبِ الكُلَّابيَّةِ! فَغَالِبُهُم لَا يَزَالُونَ عَلَى مَذْهَبِهِ الثَّانِي، وَلِذَلِكَ يُسَمَّونَ بِالأَشْعَرِيَّةِ؛ نِسْبَةً إِلَى الأَشْعَرِيِّ فِي مَذْهَبِهِ الثَّانِي -قَبْلَ انْتِقَالِهِ إِلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ-، بَلْ غَالِبُهُم اليَومَ يُنْكِرُونَ أَنَّهُ تَرَكَ مَذْهَبَ الكَلَّابِيَّةِ أَصْلًا!

(1)

بِدَعْوَى أَنَّ العَقْلَ لَا يَدُلُّ إِلَا عَلَى سَبْعِ صِفَاتٍ فَقَط! وَهِيَ: العِلْمُ وَالقُدْرَةُ وَالإِرَادَةُ وَالسَّمْعُ وَالبَصَرُ وَالكَلَامُ [النَّفْسِيُّ] وَالحَيَاةُ.

(2)

سِيَرُ أَعْلَامِ النُّبَلَاءِ (15/ 85).

قُلْتُ: تُوفِيَّ سَنَةَ 324 هـ.

ص: 432

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله فِي كِتَابِهِ طَبَقَاتُ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ: "ذَكَرُوا لِلشَّيخِ أَبِي الحَسَنِ الأَشْعَرِيِّ ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ:

أَوَّلِهَا: حَالُ الاعْتِزَالِ الَّتِي رَجَعَ عَنْهَا لَا مَحَالَةَ.

وَالحَالِ الثَّانِي: إِثْبَاتُ الصِّفَاتِ العَقْلِيَّةِ السَّبْعَةِ، وَهِيَ: الحَيَاةُ وَالعِلْمُ وَالقُدْرَةُ وَالإِرَادَةُ وَالسَّمْعُ وَالبَصَرُ وَالكَلَامُ [وَهُوَ النَّفْسِيُّ]، وَتَأْوِيلُ الخَبَرِيَّةِ كَالوَجْهِ وَاليَدِينِ وَالقَدَمِ وَالسَّاقِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَالحَالُ الثَّالِثُ: إِثْبَاتُ ذَلِكَ كُلِّهِ مِنْ غَيرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَشْبِيهٍ، جَرْيًا عَلَى مِنْوَالِ السَّلَفِ، وَهِيَ طَرِيقَتُهُ فِي الإِبَانَةِ الَّتِي صَنَّفَهَا آخِرًا؛ وَشَرَحَهَا القَاضِي البَاقِلَّانِيُّ، وَنَقَلَهَا الحَافِظُ أَبُو القَاسِمِ بْنُ عَسَاكِر، وَهِيَ الَّتِي مَالَ إِلَيهَا البَاقِلَّانِيُّ وَإِمَامُ الحَرَمَينِ وَغَيرِهِمَا مِنْ أَئِمَّةِ أَصْحَابِهِ المُتَقَدِّمِينَ فِي أَوَاخِرِ قَولِهِم. وَاللهُ أَعْلَمُ"

(1)

.

(1)

طَبَقَاتُ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ (1/ 210).

ص: 433

بَابُ مَا جَاءَ فِي المُصَوِّرِينَ

عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه؛ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: قَالَ اللهُ تَعَالَى: ((وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي؟! فَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً، أَو لِيَخْلُقُوا حَبَّةً، أَو لِيَخْلُقُوا شَعِيرَةً)). أَخْرَجَاهُ

(1)

.

وَلَهُمَا عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَومَ القِيَامَةِ الَّذِينَ يُضَاهِئُونَ بِخَلْقِ اللهِ))

(2)

.

وَلَهُمَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ((كُلُّ مُصَوِّرٍ فِي النَّارِ؛ يُجْعَلُ لَهُ بِكُلِّ صُورَةٍ صَوَّرَهَا نَفْسٌ يُعَذَّبُ بِهَا فِي جَهَنَّمَ))

(3)

.

وَلَهُمَا عَنْهُ مَرْفُوعًا: ((مَنْ صَوَّرَ صُورَةً فِي الدُّنْيَا؛ كُلِّفَ أَنْ يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ وَلَيسَ بِنَافِخٍ))

(4)

.

وَلِمُسْلِمٍ عَنْ أَبِي الهَيَّاجِ؛ قَالَ: قَالَ لِي عَلِيٌّ: (أَلَا أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ أَلَّا تَدَعَ صُورَةً إِلَّا طَمَسْتَهَا؛ وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا إِلَّا سَوَّيتَهُ)

(5)

.

(1)

البُخَارِيُّ (5953)، وَمُسْلِمٌ (2111).

(2)

البُخَارِيُّ (5954)، وَمُسْلِمٌ (2107).

(3)

البُخَارِيُّ (2225) بِلَفْظٍ قَرِيبٍ، وَمُسْلِمٌ (2110). وَالحَدِيثُ فِي مُسْلِمٍ بِلَفْظِ البِنَاءِ لِلفَاعِلِ:((يَجْعَلُ لَهُ))، وَأَمَّا بِلَفْظِ المُصَنِّفِ؛ فَهُوَ عِنْدَ أَحْمَدَ (2810).

(4)

البُخَارِيُّ (2225)، وَمُسْلِمٌ (2110).

(5)

مُسْلِمٌ (969).

ص: 434

فِيهِ مَسَائِلُ:

الأُولَى: التَّغْلِيظُ الشَّدِيدُ فِي المُصَوِّرِينَ.

الثَّانِيَةُ: التَّنْبِيهُ عَلَى العِلَّةِ، وَهُوَ تَرْكُ الأَدَبِ مَعَ اللهِ؛ لِقَولِهِ:((وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي)).

الثَّالِثَةُ: التَّنْبِيهُ عَلَى قُدْرَتِهِ وَعَجْزِهِمْ؛ لِقَولِهِ: ((فَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً أَو شَعِيرَةً)).

الرَّابِعَةُ: التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُمْ أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا.

الخَامِسَةُ: أَنَّ اللهَ يَخْلُقُ بِعَدَدِ كُلِّ صُورَةٍ نَفْسًا يُعَذَّبُ بِهَا المُصَوِّرُ فِي جَهَنَّمَ.

السَّادِسَةُ: أَنَّهُ يُكَلَّفُ أَنْ يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ.

السَّابِعَةُ: الأَمْرُ بِطَمْسِهَا إِذَا وُجِدَتْ.

ص: 435

‌الشَّرْحُ

- مُنَاسَبَةُ البَابِ لِكِتَابِ التَّوحِيدِ هُوَ مِنْ جِهَتَينِ:

1 -

أَنَّ التَّصْوِيرَ فِيهِ تَرْكٌ لِلأَدَبِ مَعَ اللهِ تَعَالَى.

حَيثُ جَعَلَ المُصَوِّرُ نَفْسَهُ مُضَاهِيًا للهِ تَعَالَى فِي صِفَةِ الخَلْقِ، كَمَا فِي قَولِ المُصَنِّفِ رحمه الله فِي المَسَائِلِ:"التَّنْبِيهُ عَلَى العِلَّةِ؛ وَهُوَ تَرْكُ الأَدَبِ مَعَ اللهِ؛ لِقَولِهِ: ((وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي)) ".

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ: "قَالَ عِكْرِمَةُ فِي قَولِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأَحْزَاب: 58]: نَزَلَتْ فِي المُصَوِّرِينَ"

(1)

.

2 -

أَنَّ التَّصْوِيرَ هُوَ مِنْ ذَرَائِعِ الشِّرْكِ.

كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ؛ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ ذَكَرَتْ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَنِيسَةً رَأَتْهَا بِأَرْضِ الحَبَشَةِ وَمَا فِيهَا مِنَ الصُّوَرِ، فَقَالَ:((أُولَئِكَ إِذَا مَاتَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ أَوِ العَبْدُ الصَّالِحُ؛ بَنَوا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ؛ أُولَئِكَ شِرَارُ الخَلْقِ عِنْدَ اللهِ))

(2)

.

- قَولُهُ: ((وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي)) (مَنْ): اسْمُ اسْتِفْهَامٍ؛ وَالمُرَادُ بِهِ النَّفْيُ؛ أَي: لَا أَحَدَ أَظْلَمُ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنَ النَّهْي المَحْضِ.

- قَولُهُ: ((يَخْلُقُ كَخَلْقِي)) الخَلْقُ: يُقْصَدُ بِهِ أَحَدُ مَعْنَيَينِ: التَّقْدِيرُ، وَالفِعْلُ.

(1)

تَفْسِيرُ ابْنِ كَثِيرٍ (6/ 480).

(2)

البُخَارِيُّ (434).

ص: 436

وَالأَخِيرُ هُوَ المَقْصُودُ هُنَا.

- قَولُهُ: ((فَلْيَخْلُقُوا)) اللَّامُ لِلأَمْرِ، وَلَكِنَّ المُرَادَ بِهِ التَّحَدِّي وَالتَّعْجِيزُ.

- قَولُهُ: ((فَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً)) الذَّرَّةُ: وَاحِدَةُ الذَّرِّ، وَهِيَ النَّمْلُ الصِّغَارُ.

- قَولُهُ: ((أَو لِيَخْلُقُوا حَبَّةً)) (أَو) لِلتَّنْوِيعِ، حَيثُ انْتَقَلَ مِنَ التَّحَدِّي بِخَلْقِ الحَيَوَانِ ذِي الرُّوحِ إِلَى خَلْقِ الحَبَّةِ الَّتِي لَيسَ لَهَا رَوحٌ.

- قَولُهُ: ((الَّذِينَ يُضَاهِئُونَ بِخَلْقِ اللهِ)) (يُضَاهِئُونَ) أَي: يُشَابِهُونَ اللهَ فِي خَلْقِهِ وَفِعْلِهِ، يَعْنِي: أَنَّهُم يُصَوِّرُونَ الصُّوَرَ الَّتِي خَلَقَهَا اللهُ جَلَّ وَعَلَا -وَلَيسَ للهِ مَثِيلٌ فِي الخَلْقِ، وَلَيسَ لَهُ نَظِيرٌ يَخْلُقُ كَخَلْقِهِ-، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُم أَسَاءُوا الأَدَبَ مِعَ اللهِ تَعَالَى، وَجَعَلُوا أَنْفُسَهُم بِمَنْزِلَةِ المُشَارِكِ للهِ جَلَّ وَعَلَا فِي صِفَةِ الخَلْقِ والتَّصْوِيرِ -تَعَالَى اللهُ وَتَقَدَّسَ-.

- قَولُهُ: ((يُجْعَلُ لَهُ بِكُلِّ صُورَةٍ صَوَّرَهَا نَفْسٌ يُعَذَّبُ بِهَا فِي جَهَنَّمَ)) أَي أَنَّ عَذَابَهُ يَتَضَاعَفُ بِعَدَدِ الصُّوَرِ الَّتِي صَوَّرَهَا.

- قَولُهُ: ((كُلِّفَ أَنْ يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ وَلَيسَ بِنَافِخٍ)) أي أنه يُكَلَّفُ أَنْ يَنْفُخَ الرُّوحَ فِي كُلِّ صُورَةٍ صَوَّرَهَا حَتَّى تَكُونَ حَيَّةً، وَهَذَا مُمْتَنِعٌ، وَتَكْلِيفُهُ لَا يَنْقَطِعُ؛ فَيَسْتَمِرُّ عَذَابُهُ.

- فِي قَولِهِ: ((يَخْلُقُ كَخَلْقِي)) جَوَازُ إِطْلَاقِ صِفَةِ الخَلْقِ عَلَى غَيرِ اللهِ، وَلَكِنَّ الخَلْقَ مِنَ العَبْدِ هُوَ بِمَعْنَى التَّصْيِيرِ وَلَيسَ بَمَعْنَى الإِيجَادِ مِنَ العَدَمِ! هَذَا مَعَ الفَارِقِ بَينَ أَنَّ خَلْقَ اللهِ تَامٌّ؛ وَخَلْقَ العَبْدِ وَتَصْوِيرَهُ نَاقِصٌ، فَهُوَ خَالٍ مِنَ الحَيَاةِ؛ سَوَاءً كَانَ المُصَوَّرُ ذَا رَوحٌ أَو لَا، وَقَد جَعَلَهُمُ اللهُ تَعَالَى قَادِرِينَ عَلَى هَذَا التَّصْيِيرِ

(1)

.

(1)

قَالَ الشَّيخُ الغُنَيمَانُ حَفِظَهُ اللهُ فِي شَرْحِ كِتَابِ التَّوحِيدِ مِنْ صَحِيحِ البُخَاريِّ (2/ 692): "وَمُرَادُ

=

ص: 437

- قَولُهُ: ((أَلَّا تَدَعَ صُورَة إِلَّا طَمَسْتَهَا)) الصُورَةُ هُنَا نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْي فَتَعُمُّ، وَجُمْهُورُ أَهْلِ العِلْمِ -وَهُوَ الصَّوَابُ- عَلَى أَنَّ المُحَرَّمَ هُوَ صُوَرُ الحَيَوَانِ فَقَط دُونَ الشَّجَرِ وَالجَمَادِ، لِمَا وَرَدَ فِي الحَدِيثِ:((فَمُرْ بِرَأْسِ التِّمْثَالِ الَّذِي فِي البَيتِ يُقْطَعُ؛ فَيَصِيرُ كَهَيئَةِ الشَّجَرَةِ))

(1)

.

- هَذَا الطَّمْسُ يَخْتَلِفُ بِحَسْبِ الصُورَةِ، فَمَا كَانَ بِالتَّلْوِينِ وَالرَّسْمِ وَلَيسَ لَهُ ظِلٌّ؛ فَطَمْسُهُ يَكُونُ بِوَضْعِ لَونٍ آخَرَ عَلَيهِ، وَمَا كَانَ مَنْحُوتًا بِالنَّقْشِ فَيَكُونُ بِالنَّحْتِ فَوقَهُ، وَمَا كَانَ مُجَسَّمًا لَهُ ظِلٌّ؛ فَإِنَّهُ يُكْسَرُ رَأْسُهُ.

وَمِمَّا يَجْدُرُ التَّنْبِيهُ إِلَيهِ أَنَّهُ "لَيسَ مَعْنَى طَمْسِ الصُورَةِ -كَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ الجُهَّالِ أَوِ المُتَحَيِّلِينَ- أَنَّهُ يَجْعَلُ خَطًّا فِي عُنُقِ الصُورَةِ فَيُصْبِحَ كَالطَّوقِ! لِأَنَّ الطَّمْسَ أَنْ تُزِيلَ الرَّأْسَ إِمَّا بِقَطْعِهِ، وَإِمَّا بِتَلْطِيخِهِ وَإِخْفَائِهِ تَمَامًا"

(2)

.

- لَمْ يُفَرِّقِ الحَدِيثُ بَينَ مَا كَانَ يُعْبَدُ مَنْ دُونِ اللهِ وَبَينَ غَيرِهِ، وَلَا بَينَ مَا كَانَ لَهُ ظِلٌّ وَمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ، وَلَا بَينَ مَا كَانَ مُمْتَهَنًا وَبَينَ غِيرِهِ، وَلَا يَقَعُ الاسْتِثْنَاءُ مِنَ النَّهْي إِلَّا

=

البُخَارِيِّ رحمه الله نِسْبَةُ الخَلْقِ إِلَيهِم فِعْلًا لَهُمْ حَقِيقَةً مَعَ أَنَّهُم مَخْلُوقُونَ للهِ تَعَالَى، فَاللهُ خَالِقُهُم وَخَالِقُ أَفْعَالِهِم، وَلَكِنَّهُ جَعَلَهُم فَاعِلِينَ قَادِرِينَ عَلَى فِعْلِهِم بِاخْتِيَارِهِم وَقُدْرَتِهِم الَّتِي خَلَقَهَا اللهُ فِيهِم، وَلِهَذَا عَذَّبَهُم عَلَى ذَلِكَ، وَلَو لَمْ يَكُنْ فِعْلًا لَهُمْ حَقِيقَةً مَا عُذِّبُوا عَلَيهِ".

(1)

صَحِيحٌ. أَبُو دَاوُدَ (4158) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوْعًا. الصَّحِيحَةُ (356).

وَالحَدِيثُ بِتَمَامِهِ: ((أَتَانِي جِبْرِيلُ عليه السلام فَقَالَ لِي: أَتَيتُكَ البَارِحَةَ؛ فَلَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَكُوْنَ دَخَلْتُ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ عَلَى البَابِ تَمَاثِيلُ، وَكَانَ فِي البَيتِ قِرَامَي سِتْرٍ فِيهِ تَمَاثِيلُ، وَكَانَ فِي البَيتِ كَلْبٌ، فَمُرْ بِرَأْسِ التِّمْثَالِ الَّذِي فِي البَيتِ يُقْطَعُ فَيَصِيرُ كَهَيئَةِ الشَّجَرَةِ، وَمُرْ بِالسِّتْرِ فَلْيُقْطَعْ؛ فَلْيُجْعَلْ مِنْهُ وِسَادَتَينِ مَنْبُوذَتَينِ تُوْطَآنِ، وَمُرْ بِالكَلْبِ فَلْيُخْرَجْ)).

(2)

إِعَانَةُ المُسْتَفِيدِ (2/ 373).

ص: 438

وُفْقَ مَا اسْتَثْنَاهُ الحَدِيثُ

(1)

.

- قَولُهُ: ((وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا إِلَّا سَوَّيتَهُ)) أَي: سَوَّيتَهُ بِمَا حَولَهُ مِنَ القُبُورِ، أَو جَعَلْتَهُ حَسَنًا عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ الشَّرِيعَةُ، وَلَيسَ المَعْنَى أَنْ تُسَوِّيَهُ بِالأَرْضِ! لِأَنَّ هَذَا خِلَافُ السُّنَّةِ

(2)

.

- مُنَاسَبَةُ ذِكْرِ القَبْرِ المُشْرِفِ مَعَ الصُّوَرِ أَنَّ كِلَيهِمَا قدْ يُتَّخَذُ وَسِيلَةً إِلَى الشِّرْكِ؛ فَإِنَّ أَصْلَ الشِّرْكِ فِي قَومِ نُوحٍ أَنَّهُم صَوَّرُوا صُوَرَ رِجَالٍ صَالِحِينَ؛ فَلَمَّا طَالَ عَلَيهِمُ الأَمَدُ عَبَدُوهَا! وَكَذَلِكَ القُبُورُ المُشْرِفَةُ قَدْ يَزْدَادُ فِيهَا الغُلُوُّ حَتَّى تُجْعَلَ أَوثَانًا تُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ!

- أَبُو الهَيَّاجِ: هُوَ حَيَّانُ بْنُ حُصَينٍ؛ الأَسَدِيُّ الكُوفِيُّ، ثِقَةٌ مِنَ الطَّبَقَةِ الوُسْطَى مِنَ التَّابِعِينَ، (ت 80 هـ).

- حُكْمُ التَصْوِير

هُوَ كَبِيرَةٌ مِنَ الكَبَائِرِ، وَقَدْ يَكُونُ كُفْرًا أَكْبَرَ مُخْرِجًا مِنَ المِلَّةِ، فَهُمَا حَالَتَانِ

(1)

كَتَصْوِيرِ مَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ، وَمَا لَيسَ لَهُ رَوحٌ، وَمَا كَانَ مُمْتَهَنًا -عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ العِلْمِ-، وَسَيَأْتِي فِي المُلْحَقِ التَّالِي لِلبَابِ ذِكْرُ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.

(2)

كَمَا فِي البُخَارِيِّ (2/ 102): بَابُ مَا جَاءَ فِي قَبْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَبي بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما: عَنْ سُفْيَانَ التَّمَّارِ: (أَنَّهُ رَأَى قَبْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُسَنَّمًا). وَسُفْيَانُ هَذَا هُوَ مِنْ كِبَارِ أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ؛ كَمَا فِي الفَتْحِ (3/ 257).

وَأَيضًا كَمَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ رضي الله عنه: (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم الحِدَ لَهُ لَحْدٌ، وَنُصِبَ اللَّبِنُ نَصْبًا، وَرُفِعَ قَبْرُهُ مِنَ الأَرْضِ نَحْوًا مِنْ شِبْرٍ). رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ (6635)، وَالبَيهَقِيُّ فِي الكُبْرَى (3/ 576) وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ. أَحْكَامُ الجَنَائِزِ (ص 153).

وَفِي التِّرْمِذِيِّ (2/ 358) عَقِبَ حَدِيثِ عَلِيٍّ رضي الله عنه: ((ولَا قَبْرًا مُشْرِفًا إِلَّا سَوَّيتَهُ)) قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: "أَكْرَهُ أَنْ يُرْفَعَ القَبْرُ إِلَّا بِقَدْرِ مَا نَعْرِفُ أَنَّه قَبْرٌ، لِكَي لَا يُوطَأَ وَلَا يُجْلَسَ عَلَيهِ".

ص: 439

ذَكَرَهُمَا الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رحمه الله فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ.

قَالَ رحمه الله: "قَولُهُ: ((أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا)) قِيلَ: هِيَ مَحْمُولَةٌ عَلَى مَنْ فَعَلَ الصُورَةَ لِتُعْبَدَ، وَهُوَ صَانِعُ الأَصْنَامِ وَنَحْوِهَا؛ فَهَذَا كَافِرٌ، وَهُوَ أَشَدُّ عَذَابًا، وَقِيلَ: هِيَ فِيمَنْ قَصَدَ المَعْنَى الَّذِي فِي الحَدِيثِ مِنْ مُضَاهَاةِ خَلْقِ اللهِ تَعَالَى، وَاعْتَقَدَ ذَلِكَ؛ فَهَذَا كَافِرٌ، لَهُ مِنْ أَشَدّ العَذَابِ مَا لِلْكُفَّارِ، وَيَزِيدُ عَذَابُهُ بِزِيَادَةِ قُبْحِ كُفْرِهِ.

فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَقْصِدْ بِهَا العِبَادَةَ وَلَا المُضَاهَاةَ؛ فَهُوَ فَاسِقٌ صَاحِبُ ذَنْبٍ كَبِيرٍ، وَلَا يَكْفُرُ كَسَائِرِ المَعَاصِي"

(1)

.

قَالَ الحَافِظُ الهَيتَمِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (تُحْفَةُ المُحْتَاجِ فِي شَرْحِ المِنْهَاجِ) مِنْ كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ: "بَابٌ فِي شِرْطِ الشَّاهِدِ: أَمَّا ذُو حِرْفَةٍ مُحَرَّمَةٍ كَمُنَجِّمٍ وَمُصَوِّرٍ؛ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ مُطْلَقًا"

(2)

.

- عُقُوبَةُ المُصَوِّرِ:

1 -

أَنَّهُ أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا.

2 -

أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَجْعَلُ لَهُ فِي كُلِّ صُورَة نَفْسًا يُعَذَّبُ بِهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ.

3 -

أَنَّهُ يُكَلَّفُ أَنْ يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ؛ وَلَيسَ بِنَافِخٍ!

4 -

أَنَّهُ فِي النَّارِ.

كَمَا فِي الحَدِيثِ: ((يَخْرُجُ عُنُقٌ مِنَ النَّارِ يَومَ القِيَامَةِ؛ لَهُ عَينَانِ تُبْصِرَانِ، وَأُذُنَانِ تَسْمَعَانِ، وَلِسَانٌ يَنْطِقُ يَقُولُ: إِنِّي وُكِّلْتُ بِثَلَاثَةٍ: بِكُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ، وَبِكُلِّ مَنْ دَعَا مَعَ اللهِ

(1)

شَرْحُ مُسْلِمٍ (14/ 91).

(2)

تُحْفَةُ المُحْتَاجِ (10/ 226).

ص: 440

إِلَهًا آخَرَ، وَبِالمُصَوِّرِينَ))

(1)

.

5 -

أَنَّهُ مَلْعُونٌ.

كَمَا فِي البُخَارِيِّ عَنْ أَبِي جُحَيفَةَ: (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ ثَمَنِ الدَّمِ وَثَمَنِ الكَلْبِ وَكَسْبِ البَغِيِّ، وَلَعَنَ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَالوَاشِمَةَ وَالمُسْتَوشِمَةَ وَالمُصَوِّرَ)

(2)

.

‌جُمْلَةٌ مِنَ الفَوَائِدِ المُتَعَلِّقَةِ بِالبَابِ

- فَائِدَة 1: فِي الحَدِيثِ: ((الصُورَةُ الرَّأْسُ؛ فَإِذَا قُطِعَ الرَّأْسُ فَلَا صُورَةَ))

(3)

.

وَمِمَّا "يَشْهَدُ لَهُ قَولُهُ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ: ((أَتَانِي جِبْرِيلُ

)) الحَدِيثُ، وَفِيهِ: ((فَمُرْ بِرَأْسِ التِّمْثَالِ الَّذِي فِي البَيتِ يُقْطَعُ فَيَصِيرُ كَهَيئَةِ الشَّجَرَةِ

)) فَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ قَطْعَ رَأْسِ الصُّورَةِ -أَي: التِّمْثَالَ المُجَسَّمَ- يَجْعَلُهُ كَـ لَا صُورَةٍ)) "

(4)

.

وَعَلَيهِ فَلَو صُوِّرَ شَيءٌ مِنَ الجَسَدِ بِلَا رَأْسٍ جَازَ، بِخِلَافِ تَصْوِيرِ الرَّأْسِ وَحْدَهُ دُونَ جَسَدٍ؛ فَإِنَّهُ يَبْقَى مَنْهِيًّا عَنْهُ لِدِلَالَةِ الحَدِيثِ.

وَفِي مَجْمُوعِ فَتَاوَى وَرَسَائِلِ الشَّيخِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ آلِ الشَّيخِ رحمه الله: "التَّصْوِيرُ النِّصْفِيُّ لَا إِشْكَالَ عِنْدِي فِي أَنَّهُ مُحَرَّمٌ؛ وَإِنْ كَانَ ذَهَبَ نَزْرٌ قَلِيلٌ إِلَى القَولِ بِعَدَمِ التَّحْرِيمِ، وَرُبَّمَا يَكُونُ أَخَفَّ مِنَ الكَامِلِ لِأَجْلِ هَذَا القَولِ، وَأَمَّا أَنَا؛ فَلَا إِشْكَالَ

(1)

صَحِيحٌ. التِّرْمِذِيُّ (2574) عَنْ أَبي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (512).

(2)

البُخَارِيُّ (5962).

(3)

صَحِيحٌ. الإسْمَاعِيلِيُّ فِي مُعْجَمِهِ (2/ 662) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (1921).

(4)

الصَّحِيحَةُ (4/ 554).

ص: 441

عِنْدِي فِيهِ، لِأَنَّ الوَجْهَ هُوَ المَقْصُودُ"

(1)

.

وَقَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله: "وَنَقَلَ الرَّافِعِيُّ عَنِ الجُمْهُورِ أَنَّ الصُورَةَ إِذَا قُطِعَ رَأْسُهَا ارْتَفَعَ المَانِعُ"

(2)

.

عِلْمًا أَنَّهُ يُقْصَدُ أَحْيَانًا بِالصُورَةِ: الوَجْهُ، كَمَا فِي البُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ تُعْلَّمَ الصُورَةُ، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ:((نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُضْرَبَ))

(3)

.

- فَائِدَة 2: قَالَ الشَّيخُ ابْنُ عُثَيمِين رحمه الله فِيمَنْ "يَقْتَنِي الصُّوَرَ لَا لِرَغْبَةٍ فِيهَا إِطْلَاقًا؛ وَلَكِنَّهَا تَأْتِي تَبَعًا لِغَيرِهَا كَالتِي تَكُونُ فِي المَجَلَّاتِ وَالصُّحُفِ وَلَا يَقْصِدُهَا المُقْتَنِي، وَإِنَّمَا يَقْصُدُ مَا فِي هَذِهِ المَجَلَّاتِ وَالصُّحُفِ مِنَ الأَخْبَارِ وَالبُحُوثِ العِلْمِيَّةِ وَنَحْو ذَلِكَ؛ فَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا لَا بَأْسَ بِهِ، لِأَنَّ الصُّوَرَ فِيهَا غَيرُ مَقْصُودَةٍ، لَكِنْ إِنْ أَمْكَنَ طَمْسُهَا بِلَا حَرَجٍ وَلَا مَشَقَّةٍ؛ فَهُوَ أَولَى"

(4)

.

- فَائِدَة 3: يَجُوزُ الانْتِفَاعُ بِالبِسَاطِ أَوِ الثَّوبِ الَّذِي فِيهِ الصُورَةُ بِشَرْطِ طَمْسِ الوَجْهِ فِيهَا، أَو تَقْطِيعِهِ بِمَا تَذْهَبُ بِهِ مَعَالِمُ الصُورَةِ -لَاسِيَّمَا الرَّأْسَ-، وَلَا يَكْفِي كَونُهُ مُمْتَهَنًا!

وَدَلَّ لِذَلِكَ حَدِيثُ جِبْرِيلَ وَفِيهِ: (أَنَّ جِبْرِيلَ عليه السلام جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَعَرَفَ صَوتَهُ فَقَالَ: ((ادْخُلْ))، فَقَالَ: إِنَّ فِي البَيتِ سِتْرًا فِي الحَائِطِ فِيهِ تَمَاثِيلُ! فَاقْطَعُوا

(1)

مَجْمُوعِ فَتَاوَى وَرَسَائِلِ الشَّيخِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ (1/ 190).

(2)

الفَتْحُ (10/ 388).

(3)

البُخَارِيُّ (5541)، وَلْفُظُهُ عِنْدَ أَحْمَدَ (5991):(نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ضَرْبِ الوَجْهِ).

(4)

القَولُ المُفِيدُ (2/ 450).

ص: 442

رُؤُوسَهَا فَاجْعَلُوهَا بِسَاطًا أَو وَسَائِدَ فَاوطَئُوهُ؛ فَإِنَّا لَا نَدْخُلُ بَيتًا فِيهِ تَمَاثِيلُ)

(1)

.

- فَائِدَة 4: نَفْسُ التَّصْوِيرِ أَشَدُّ تَحْرِيمًا مِنْ اقْتِنَاءِ الصُورَةِ، وَذَلِكَ لِمَا جَاءَ فِيهِ مِنْ نُصُوصِ الوَعِيدِ

(2)

.

قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رحمه الله: "قَالَ أَصْحَابنَا وَغَيرُهُمْ مِنَ العُلَمَاءِ: تَصْوِيرُ صُورَةِ الحَيَوَانِ حَرَامٌ شَدِيدُ التَّحْرِيمِ، وَهُوَ مِنَ الكَبَائِرِ، لِأَنَّهُ مُتَوَعَّدٌ عَلَيهِ بِهَذَا الوَعِيدِ الشَّدِيدِ المَذْكُورِ فِي الأَحَادِيثِ، وَسَوَاءً صَنَعَهُ بِمَا يُمْتَهَنُ أَو بِغَيرِهِ؛ فَصَنْعَتُهُ حَرَامٌ بِكُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّ فِيهِ مُضَاهَاةً لِخَلْقِ اللهِ تَعَالَى، وَسَوَاءً مَا كَانَ فِي ثَوبٍ أَو بِسَاطٍ أَو دِرْهَمٍ أَو دِينَارٍ أَو فَلْسٍ أَو إِنَاءٍ أَو حَائِطٍ أَو غَيرهَا.

وَأَمَّا تَصْوِيرُ صُورَةِ الشَّجَرِ وَرِحَالِ الإِبِلِ وَغَيرِ ذَلِكَ مِمَّا لَيسَ فِيهِ صُورَةُ حَيَوَانٍ؛ فَلَيسَ بِحِرَامٍ، هَذَا حُكْمُ نَفْسِ التَصْوِيرِ.

وَأَمَّا اتِّخَاذُ المُصَوَّرِ فِيهِ صُورَةُ حَيَوَانٍ؛ فَإِنْ كَانَ مُعَلَّقًا عَلَى حَائِطٍ أَو ثَوبًا مَلْبُوسًا

(1)

صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (8079) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ. الصَّحِيحَةُ (356).

(2)

أَمَّا التَّحْنِيطُ فَلَيسَ فِيهِ مَحْذُورٌ، وَيَجُوزُ اقْتِنَاءُ المُحَنَّطِ وَلَا يُعَدُّ ذَلِكَ مِنْ اقْتِنَاءِ الصُّوَرِ.

فِي فَتَاوَى سِلْسِلَةِ الهُدَى وَالنُّورِ -شَرِيط (ب/12) - مِنْ فَتَاوَى الشَّيخِ الأَلْبَانِيِّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:

"السُؤَالُ: مَا هُوَ حُكْمُ تَحْنِيطِ الحَيَوَانَاتِ كَالأَفْعَى وَغَيرِهَا؟

الجَوَابُ: كَثُرَ السُّؤَالُ عَنْ هَذَا، وَالجَوَابُ: أَنَّهُ إِذَا كَانَ التَّحْنِيطُ لِلحَيَوَانِ -وَهُوَ حَيٌّ- فَفِيهِ تَعْذِيبٌ؛ فَلَا يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ المَوتِ؛ فَلَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ فِيمَا نَعْلَمُ.

السَّائِلُ: وَالمُحَنَّطُ هَلْ يُوضَعُ فِي البَيتِ؟

الشَّيخُ: مَا فِي مَانِع، لِأَنَّ هَذَا لَيسَ صُورَةٌ".

قُلْتُ: وَقَصْدُ الشَّيخِ رحمه الله أَنَّهَا لَيسَتِ الصُّورَةَ الَّتِي صَوَّرَهَا العَبْدُ -وَالَّتِي جَاءَ فِيهَا النَّهْيُ- وَإِنَّمَا هِيَ الصُّورَةُ الَّتِي صَوَّرَهَا الرَّحْمَنُ تَعَالَى. وَاللهُ أَعْلَمُ.

ص: 443

أَو عِمَامَةً وَنَحْو ذَلِكَ مِمَّا لَا يُعَدّ مُمْتَهَنًا؛ فَهُوَ حَرَامٌ، وَإِنْ كَانَ فِي بِسَاطٍ يُدَاسُ وَمِخَدَّةٍ وَوِسَادَةٍ وَنَحْوِهَا -مِمَّا يُمْتَهَنُ- فَلَيسَ بِحِرَامٍ

(1)

"

(2)

.

- فَائِدَة 5: بِغَضِّ النَّظَرِ عَنْ حُكْمِ التَصْوِيرِ أَو حُكْمِ اقْتِنَاءِ الصُّوَرِ؛ فَإِنَّ مَا عَمَّ اليَومَ مِنْ دُخُولِ جِهَازِ التِّلْفَازِ وَ "الدِّشِّ" هُوَ مِنْ أَكْثَرِ الأَخْطَارِ الَّتِي تُهَدِّدُ سَلَامَةَ البُيُوتِ، وَذَلِكَ لِكَثْرَةِ مَا فِيهَا مِنَ الفِتَنِ -رُغْمَ مَا فِيهَا مِنَ الحَسَنَاتِ بِدَرَجَةٍ أَقَلَّ-، وَذَلِكَ لِتَنَوُّعِ وَسَائِلِ الإِغْرَاءِ فِيهِ لِلرَّجُلِ وَلِلمَرْأَةِ وَلِلطِّفْلِ مِنْ مَشَاهِدَ وَمَعَازِفَ، وَمَا فِيهَا مِنْ أَفْكَارٍ قَبِيحَةٍ مُسْتَورَدَةٍ مِنْ بِلَادِ الكُفْرِ، وَأَيضًا لِسُرْعَةِ الافْتِتَانِ بِهِ لِسُهْولَةِ تَولِيفِهِ لِلصَّغِيرِ وَالكَبِيرِ

(3)

، لِذَلِكَ فَالأَولَى التَّخَلُّصُ مِنْهُ وَعَدَمُ احْتِوَاءِهِ أَصْلًا

(4)

.

قَالَ الشَّيخُ ابْنُ عُثَيمِين رحمه الله: "كَمَا أَنَّنِي -بِالمُنَاسَبَةِ- أُحَذِّرُ صَاحِبَ كُلِّ بَيتٍ مِنْ أَنْ يَضَعَ فِي بَيتِهِ مِثْلَ هَذَا "الدِّشِّ" لِأَنَّهُ سَوفَ يَخْلُفُهُ بَعْدَ مَوتِهِ، فَيَكُونُ وَبَالًا عَلَيهِ

(1)

قُلْتُ: وَأَمَّا هَذِهِ الأَخِيرَةُ؛ فَالرَّاجِحُ فِيهَا -وَاللهُ أَعْلَمُ- أَنَّهَا مَشْمُولَةٌ بِالنَّهِي، وَسَيَأْتِي الكَلَامُ عَلَيهَا فِي المَسَائِلِ إِنْ شَاءَ اللهُ.

(2)

شَرْحُ مُسْلِمٍ (14/ 81).

(3)

وَيَنْدُرُ أَنْ تَجِدَ بَيتًا فِيهِ أَجْهِزَةُ التِّلْفَازِ وَ "الدِّشِّ" وَأَهْلُهَا يُصَلُّونَ صَلَاةَ الفَجْرِ فِي وَقْتِهَا! وَذَلِكَ لِبَقَائِهِم أَمَامَهَا إِلَى مَا بَعْدِ مُنْتَصَفِ اللَّيلِ.

(4)

أَقُولُ: وَمَنْ عَجَزَ عَنْ إِزَالَتِهِ أَو صَعُبَ عَلَيهِ؛ فَلَا أَقَلَّ مِنْ ضَبْطِهِ عَلَى القَنَوَاتِ الخَالِيَةِ مِنَ المَعَاصِي مِنْ أَفْلَامٍ وَتَمْثِيلِيَّاتٍ وَأَغَانِي وَغَيرِهَا ضِمْنَ خِطَّةِ إِزَالَتِهِ بَعْدَ مُدَّةٍ، مَعَ مُحَاوَلَةِ تَأْمِينِ البَدِيلِ النَّظِيفِ -كَأَجْهِزَةِ الحَاسُوبِ- وَالتِي تَخْتَلِفُ عَنِ "الدِّشِّ" بِكَونِهَا لَا تَعْرِضُ إِلَّا مَا تَضَعُ أَنْتَ فِيهَا، أَمَّا مَا كَانَ فِيهِ مِنْ مَعْصِيَةٍ فَيَحْتَاجُ إِلَى زَمَنٍ أَطْوَلَ لِلوصُولِ إِلَيهِ وَالبَحْثِ عَنْهُ، عَدَا عَنْ كَونِهِ أَصْلًا هُوَ جِهَازٌ تَفَاعُلِيٌّ مُعَدٌّ لِلتَّعْلِيمِ وَالعَمَلِ وَغَيرِهِمَا مِنَ الأَشْيَاءِ المُفِيدَةِ؛ وَإِلَّا صَارَ مِثْلَ الأَوَّلِ فِي الحَظْرِ!

ص: 444

فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَمَاتِهِ، وَإِنِّي أَسْأَلُ وَاضِعَ "الدِّشِّ" فِي بَيتِهِ وَهُوَ يَرَى هَذِهِ المُنْكَرَاتِ الَّتِي تُبَثُّ مِنْهُ؛ هَلْ هُوَ بِهَذَا نَاصِحٌ لِأَهْلِ بَيتِهِ أَو غَاشٌّ لَهُمْ؟ وَالجَوَابُ وَلَا بُدَّ: إِنَّهُ غَاشُّ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ طَبَعَ اللهُ عَلَى قَلْبِهِ؛ فَلَا يَحِسُّ! لَكِنْ سَيَقُولُ: إَنَّهُ غَاشٌّ، فَأَقُولُ لَهُ: اذْكُرْ قَولَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم: ((مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللهُ رَعِيَّةً؛ يَمُوتُ يَومَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إِلَّا حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الجَنَّةَ))

(1)

.

فَأَنْتَ الآنَ إِذَا مِتَّ وَقَدْ وَضَعْتَ لِأَهْلِكَ هَذَا "الدِّشَّ" الَّذِي لَا يَشُكُّ أَحَدٌ أَنَّهُ غِشٌّ فِي البَيتِ، لِأَنَّ البَيتَ فِيهِ نِسَاءٌ، وَفِيهِ سُفَهَاءٌ صِغَارٌ؛ لَا يَتَحَاشَونَ الشَّيءَ المُحَرَّمِ! فَأَنْتَ بِهَذَا: مَنْ يَمُوتُ وَهُوَ غَاٌّش لِرَعِيَّتِهِ! فَتَكُونُ أَهْلًا لِلوَعِيدِ الشَّدِيدِ الَّذِي جَاءَ فِي الحَدِيثِ؛ وَإِلَّا فَكَيفَ يَلِيقُ بِالإِنْسَانِ أَنْ يُدَمِّرَ أَخْلَاقَهُ وَأَخْلَاقَ أَهْلِهِ؟! "

(2)

.

- فَائِدَة 6: اشْتُهِرَ فِي هَذَا الزَّمَنِ مَا يُسَمَّى بِالرَّسْمِ الهَزَلِيِّ "الكَارِيكَاتُورِيِّ"، وَهَذَا النَّوعُ أَشَدُّ قُبْحًا وَتَحْرِيمًا مِنْ غَيرِهِ، لِأَنَّهُ يَزِيدُ عَلَى حُرْمَةِ التَّصْوِيرِ بِكَونِهِ يَتَضَمَّنُ السِّخْرِيَةَ بِخَلْقِ اللهِ تَعَالَى بِتَشْوِيهِ الخِلْقَةِ لِيَكُونَ مُضْحِكًا!

وَفِي الحَدِيثِ: ((وَيلٌ لِلَّذِي يُحَدِّثُ فَيَكْذِبُ لِيُضْحِكَ بِهِ القَومَ، وَيلٌ لَهُ، وَيلٌ لَهُ))

(3)

.

- فَائِدَة 7: تَحْرِيمُ بَيعِ الصُّوَرِ فَرْعٌ عَنْ تَحْرِيمِ نَفْسِ التَّصْوِيرِ.

فَفِي الأَثَرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ أَنَّهُ أَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبَّاسٍ؛ إِنِّي إِنْسَانٌ إِنَّمَا

(1)

رَوَاهُ مُسْلِمٌ (142) عَنْ مَعْقِل بْنِ يَسَارٍ مَرْفُوعًا.

(2)

مَجْمُوعُ الفَتَاوَى وَالرَّسَائِلِ لِلشَّيخِ ابْنِ عُثَيمِين رحمه الله (15/ 30).

(3)

حَسَنٌ. أَبُو دَاوُدَ (4990) عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيدَةَ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (7136).

ص: 445

مَعِيشَتِي مِنْ صَنْعَةِ يَدِي، وَإِنِّي أَصْنَعُ هَذِهِ التَّصَاوِيرَ! فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا أُحَدِّثُكَ إِلَّا مَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ، سَمِعْتُهُ يَقُولُ:((مَنْ صَوَّرَ صُورَةً؛ فَإِنَّ اللهَ مُعَذِّبُهُ حَتَّى يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ وَلَيسَ بِنَافِخٍ فِيهَا أَبَدًا)) فَرَبَا الرَّجُلُ رَبْوَةً شَدِيدَةً وَاصْفَرَّ وَجْهُهُ. فَقَالَ: وَيحَكَ! إِنْ أَبَيتَ إِلَّا أَنْ تَصْنَعَ؛ فَعَلَيكَ بِهَذَا الشَّجَرِ؛ كُلِّ شَيءٍ لَيسَ فِيهِ رُوحٌ

(1)

.

فَفِيهِ دَلِيلٌ أَيضًا عَلَى تَحْرِيمِ بَيعِ صُوَرِ ذَوَاتِ الرُّوحِ عُمُومًا.

قَالَ البُخَارِيُّ رحمه الله -فِي تَبْوِيبِهِ عَلَى الحَدِيثِ السَّابِقِ-: "بَابُ بَيعِ التَّصَاوِيرِ الَّتِي لَيسَ فِيهَا رُوحٌ، وَمَا يُكْرَهُ مِنْ ذَلِكَ"

(2)

.

- فَائِدَة 8: تَأَمَّلْ كَيفَ أَنَّ رَسُولَنَا الكَرِيمَ صلى الله عليه وسلم لَا تَجِدُ لَهُ صُورَةً وَاحِدَةً لَا مَرْسُومَةً عَلى وَرَقٍ! وَلَا مَنْقُوشَةً عَلَى حَائِطٍ! وَلَا مَنْحُوتَةً مِنْ حَجَرٍ! بَلْ وَلَا لِأَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ رضي الله عنهم! بَلْ وَلَا عَنِ الأَئِمَّةِ الأَرْبَعَةِ! وَلَكِنَّكَ تَجِدُ رُسُومًا وَنُقُوشًا لِلفَرَاعِنَةِ وَغَيرِهِم وَهُمْ قَبْلَهُم بِآلَافِ السَّنَوَاتِ! إِلَّا أَنَّ جَوَابَ ذَلِكَ هُوَ بِسَبَبِ الإِسْلَامِ وَمَا هُوَ مَعْلُومٌ قَطْعًا مِنْ حُكْمِ الإِسْلَامِ فِي التَّصْوِيرِ، وَمَعْرِفَةِ مَا كَانَتْ عَلَيهِ الأُمَمُ المَاضِيَةُ مِنَ الشِّرْكِ بِسَبَبِ التَّصْوِيرِ.

- فَائِدَة 9: فِي البُخَارِيِّ عَنْ أَبي طَلْحَةَ مَرْفُوعًا: ((إِنَّ المَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيتًا فِيهِ صُورَةٌ))

(3)

، وَلَكِنَّ المَلَائِكَةَ الَّتِي لَا تَدْخُلُ إِنَّمَا هِيَ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَالتَّبْرِيكِ وَلَيسَتِ

(1)

البُخَارِيُّ (2225)، وَمُسْلِمٌ (2110).

(2)

البُخَارِيُّ (3/ 82).

(3)

البُخَارِيُّ (5958).

ص: 446

المَلَائِكَةَ الحَفَظَةَ! وَأَيضًا إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِمَا يَحْرُمُ مِنَ الاقْتِنَاءِ لَا لِمَا اسْتُثْنِيَ.

قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رحمه الله: "وَأَمَّا هَؤُلَاءِ المَلَائِكَةُ الَّذِينَ لَا يَدْخُلُونَ بَيتًا فِيهِ كَلْبٌ أَو صُورَةٌ؛ فَهُمْ مَلَائِكَةٌ يَطُوفُونَ بِالرَّحْمَةِ وَالتَّبْرِيكِ وَالِاسْتِغْفَارِ، وَأَمَّا الحَفَظَةُ فَيَدْخُلُونَ فِي كُلّ بَيتٍ، وَلَا يُفَارِقُونَ بَنِي آدَمَ فِي كُلِّ حَالٍ، لِأَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِإِحْصَاءِ أَعْمَالِهِمْ وَكِتَابَتهَا.

قَالَ الخَطَّابِيُّ: وَإِنَّمَا لَا تَدْخُلُ المَلَائِكَةُ بَيتًا فِيهِ كَلْبٌ أَو صُورَةٌ مِمَّا يَحْرُمُ اقْتِنَاؤُهُ مِنَ الكِلَابِ وَالصُّوَرِ، فَأَمَّا مَا لَيسَ بِحِرَامٍ مِنْ كَلْبِ الصَّيدِ وَالزَّرْعِ وَالمَاشِيَةِ وَالصُورَةِ الَّتِي تُمْتَهَنُ فِي البِسَاطِ وَالوِسَادَةِ وَغَيرِهِمَا؛ فَلَا يَمْتَنِع دُخُولُ المَلَائِكَةِ بِسَبَبِهِ

(1)

.

وَأَشَارَ القَاضِي إِلَى نَحْوِ مَا قَالَهُ الخَطَّابِيُّ، وَالأَظْهَر أَنَّهُ عَامٌّ فِي كُلِّ كَلْبٍ، وَكُلِّ صُورَةٍ، وَأَنَّهُمْ يَمْتَنِعُونَ مِنَ الجَمِيعِ لِإِطْلَاقِ الأَحَادِيثِ، وَلِأَنَّ الجِرْوَ الَّذِي كَانَ فِي بَيتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَحْتَ السَّرِيرِ كَانَ لَهُ فِيهِ عُذْرٌ ظَاهِرٌ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَعْلَم بِهِ، وَمَعَ هَذَا امْتَنَعَ جِبْرِيلُ صلى الله عليه وسلم مِنْ دُخُولِ البَيتِ وَعَلَّلَ بِالجِرْوِ! فَلَو كَانَ العُذْرُ فِي وُجُودِ الصُورَةِ وَالكَلْبِ لَا يَمْنَعهُمْ لَمْ يَمْتَنِعْ جِبْرِيلُ. وَالله أَعْلَمُ"

(2)

.

قُلْتُ: وَكَمَا فِي الحَدِيثِ: ((إِنَّ للهِ مَلَائِكَةً سَيَّاحِينَ فِي الأَرْضِ فُضُلًا عَنْ كُتَّابِ النَّاسِ؛ فَإِذَا وَجَدُوا قَومًا يَذْكُرُونَ اللهَ تَنَادَوا: هَلُمُّوا إِلَى بُغْيَتِكُمْ، فَيَجِيئُونَ، فَيَحُفُّونَ بِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا))

(3)

.

(1)

وَسَيَأْتِي مَعَنَا قَرِيبًا فِي المُلْحَقِ التَّالِي مَسْأَلَةٌ فِي حُكْمِ الصُّوَرِ المُمْتَهَنَةِ.

(2)

شَرْحُ مُسْلِمٍ (14/ 84).

(3)

صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (7424)، وَالتِّرْمِذِيُّ (3600) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (3540)، وَهُوَ فِي الصَّحِيحَينِ أَيضًا.

ص: 447

وَأَيضًا -تَعْلِيقًا عَلَى تَوجِيهِ النَّوَوِيِّ رحمه الله الأَخِيرِ-: وَلَكِنْ فِي الحَدِيثِ: ((مَنْ اقْتَنَى كَلْبًا -إِلَّا كَلْبًا ضَارِيًا لِصَيدٍ أَو كَلْبَ مَاشِيَةٍ-؛ فَإِنَّهُ يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَومٍ قِيرَاطَانِ))

(1)

.

قَالَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله: "السَّادِسُ: تَحْرِيمُ اقْتِنَاءِ الكَلْبِ لِأَنَّهُ أَيضًا سَبَبٌ يَمْنَعُ مِنْ دُخُولِ المَلَائِكَةِ، وَهَلْ يَمْنَعُ لَو كَانَ كَلْبَ مَاشِيَةٍ أَو صَيدٍ؟ الظَّاهِرُ: لَا؛ لِأَنَّهُ يُبَاحُ اقْتِنَاؤُهُ. وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ الصُّورَةَ إِذَا كَانَتْ مُبَاحَةً لَا تَمْنَعُ أَيضًا مِنْ دُخُولِ المَلَائِكَةِ بِدَلِيلِ أَنَّ السَّيِّدَةَ عَائِشَةَ رضي الله عنها كَانَتْ تَقْتَنِي لُعَبَ البَنَاتِ، وَتَلْعَبُ بِهَا هِيَ وَرَفِيقَاتُهَا عَلَى مَرْآةٍ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَا يُنْكِرُهَا عَلَيهَا كَمَا ثَبَتَ فِي البُخَارِيِّ وَغَيرِهِ، فَلَو كَانَ ذَلِكَ مَانِعًا مِنْ دُخُولِ المَلَائِكَةِ لَمَا أَقَرَّهَا صلى الله عليه وسلم عَلَيهِ. وَاللهُ أَعْلَمُ"

(2)

.

قُلْتُ: وَلَكِنَّ إِطْلَاقَ الإِمَامِ النَّوَوِيِّ رحمه الله فِي مَنْعِ دُخُولِ المَلَائِكَةِ قَدْ يَكُونُ مُتَّجِهًا وَصَحِيحًا بِالنِّسْبَةِ لِكَلْبِ الصَّيدِ وَالمَاشِيَةِ فِي البَيتِ، لِأَنَّ مِثْلَ هَؤُلَاءِ إِنَّمَا أُبِيحُوا وُفْقَ وَجْهِ اسْتِعْمَالِهِم، بِمَعْنَى أَنَّ كَلْبَ المَاشِيَةِ لَا يَلْزَمُ مِنِ اقْتِنَائِهِ إِدْخَالُهُ البَيتَ! وَكَذَا كَلْبُ الزَّرْعِ؛ فَكُلٌّ مَكَانُهُ فِي المَزْرَعَةِ أَو فِي البَرِّ حَيثُ الصِّيدِ لَا فِي البَيتِ! وَاللهُ أَعْلَمُ.

(1)

رَوَاهُ البُخَارِيُّ (5481)، وَمُسْلِمٌ (1574) عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا.

(2)

الصَّحِيحَةُ (356).

ص: 448

‌مَسَائِلُ عَلَى البَابِ

-‌

‌ مَسْأَلَةٌ: كَيفَ الجَمْعُ بَينَ حَدِيثِ: ((وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي))

وَبَينَ قَولِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [البَقَرَة: 114]، وَقَولِهِ:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الأَنْعَام: 21] وَغَيرِ ذَلِكَ مِنَ النُّصُوصِ الَّتِي تُبَيِّنُ أَنَّ فِعْلًا مَا هُوَ الأَظْلَمُ؟

الجَوَابُ مِنْ أَوجُهٍ:

1 -

أَنَّهَا جَمِيعَهَا مَرَدُّهَا إِلَى شَيءٍ وَاحِدٍ؛ وَهُوَ الشِّرْكُ بِاللهِ تَعَالَى

(1)

.

2 -

أَنَّهَا مُشْتَرِكَةٌ فِي الأَظْلَمِيَّةِ، أَي أَنَّهَا فِي مُسْتَوًى وَاحِدٍ فِي كَونِهَا فِي قِمَّةِ الظُّلْمِ.

3 -

أَنَّ الأَظْلَمِيَّةَ فِي النُّصُوصِ نِسْبِيَّةٌ. أَي: لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِمَّنْ فَعَلَ كَذَا بِالنِّسْبَةِ لِنَوعِ هَذَا العَمَلِ لَا فِي كُلِّ شَيءٍ.

فَيُقَالُ مَثَلًا: وَمَنْ أَظْلَمُ -فِي مُشَابَهَةِ أَحَدٍ فِي صُنْعِهِ- مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِ اللهِ؟

وَمَنْ أَظْلَمُ -فِي مَنْعِ حَقٍّ- مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ؟

وَمَنْ أَظْلَمُ -فِي افْتِرَاءِ كَذِبٍ- مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا؟

(2)

(1)

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله فِي الفَتْحِ (10/ 383): "وَقَدِ اسْتُشْكِلَ كَونُ المُصَوِّرِ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا مَعَ قَولِهِ تَعَالَى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العَذَابِ} [غَافِر: 46]؛ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ المُصَوِّرُ أَشَدَّ عَذَابًا مِنْ آلِ فِرْعَونَ! وَأَجَابَ الطَّبَرِيُّ بِأَنَّ المُرَادَ هُنَا مَنْ يُصَوِّرُ مَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ -وَهُوَ عَارِفٌ بِذَلِكَ قَاصِدٌ لَهُ- فَإِنَّهُ يَكْفُرُ بِذَلِكَ؛ فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُدْخَلَ مُدْخَلَ آلِ فِرْعَونَ، وَأَمَّا مَنْ لَا يَقْصِدُ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ يَكُونُ عَاصِيًا بِتَصْوِيرهِ فَقَطْ".

(2)

يُنْظَرُ: (العَذْبُ النَّمِير) لِلشّنْقِيطِي (3/ 209).

ص: 449

‌المُلْحَقُ الحَادِي عَشَرَ: مَسَائِلُ فِي أَحْكَامِ الصُّوَرِ وَالتَصْوِيرِ

-‌

‌ المَسْأَلَةُ الأُولَى: مَا أَوجُهُ النَّهْي عَنِ التَصْوِيرِ؟

الجَوَابُ:

1 -

مُضَاهَاةُ خَلْقِ اللهِ.

حَيثُ جَعَلَ المُصَوِّرُ نَفْسَهُ نِدًّا للهِ تَعَالَى فِي الخَلْقِ وَالتَصْوِيرِ، وَاللهُ تَعَالَى مِنْ أَسْمَائِهِ المُصَوِّرُ، وَفي الحَدِيثِ:((وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي))

(1)

.

وَفِي الحَدِيثِ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيدٍ؛ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الكَعْبَةِ وَرَأَى صُوَرًا، قَالَ: فَدَعَا بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ، فَأَتَيتُهُ بِهِ، فَجَعَلَ يَمْحُوهَا وَيَقُولُ:((قَاتَلَ اللَّهُ قَومًا يُصَوِّرُونَ مَا لَا يَخْلُقُونَ))

(2)

.

2 -

أَنَّ التَّصْوِيرَ هُوَ مِنْ ذَرَائِعِ الشِّرْكِ.

كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي الهَيَّاجِ الأَسَدِيِّ؛ قَالَ: قَالَ لِي عَلِيٌّ: (أَلَا أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ أَلَّا تَدَعَ صُورَةً إِلَّا طَمَسْتَهَا، وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا إِلَّا سَوَّيتَهُ)

(3)

.

(1)

البُخَارِيُّ (5953)، وَمُسْلِمٌ (2111) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ.

(2)

صَحِيحٌ. الطَّيَالِسِيُّ (657). الصَّحِيحَةُ (996).

(3)

مُسْلِمٌ (969).

ص: 450

وَتَأَمَّلْ أَكْثَرَ شِرْكِ الأُمَمِ تَجِدُهُ كَانَ بِتَصْوِيرِ مَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ تَعَالَى.

فَقَومُ نُوحٍ عليه الصلاة والسلام نَصَبُوا أَنْصَابًا ثُمَّ عَبَدُوهَا.

كَمَا فِي البُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فِي قَولِهِ تَعَالَى: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا * وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا} [نُوح: 23 - 24]، قَالَ:(هَذِهِ أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ قَومٍ نُوحٍ، فَلَمَّا هَلَكُوا؛ أَوحَى الشَّيطَانُ إِلَى قَومِهِم أَنِ انْصِبُوا إِلَى مَجَالِسِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَجْلِسُونَ فِيهَا أَنْصَابًا وَسَمُّوهَا بِأَسْمَائِهِمْ، فَفَعَلُوا وَلَمْ تُعْبَدْ، حَتَّى إِذَا هَلَكَ أُولَئِكَ، وَنُسِيَ العِلْمُ عُبِدَتْ)

(1)

.

وَقَومُ إِبْرَاهِيمَ عليه الصلاة والسلام عَبَدُوا مَا نَحَتُوا.

كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى: {فَأَقْبَلُوا إِلَيهِ يَزِفُّونَ * قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 94 - 96].

وَقَومُ مُوسَى عليه الصلاة والسلام أَخْرَجَ لَهُمُ السَّامِرِيُّ عِجْلًا جَسَدًا.

كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ} [الأَعْرَاف: 148].

وَقَومُ عِيسَى عليه الصلاة والسلام صَوَّرُوا الصَّالِحِينَ فِي مَسَاجِدِهِم.

كَمَا فِي الحَدِيثِ عَنْ عَائِشَةَ؛ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ رضي الله عنهما ذَكَرَتْ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَنِيسَةً رَأَتْهَا بِأَرْضِ الحَبَشَةِ، وَمَا فِيهَا مِنَ الصُّوَرِ؛ فَقَالَ: ((أُولَئِكَ إِذَا مَاتَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ أَوِ العَبْدُ الصَّالِحُ بَنَوا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ؛ أُولَئِكَ

(1)

البُخَارِيُّ (4920).

ص: 451

شِرَارُ الخَلْقِ عِنْدَ اللهِ))

(1)

(2)

.

وَمُشْرِكُو قُرَيشٍ جَعَلُوا أَصْنَامَهُم كَذَلِكَ.

كَمَا قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله: "وَقَولُهُ: {وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} [الأَعْرَاف: 198]: إِنَّمَا قَالَ: {يَنْظُرُونَ إِلَيكَ} أَي: يُقَابِلُونَكَ بِعُيُونٍ مُصُورَة كَأَنَّهَا نَاظِرَةٌ -وَهِيَ جَمَادٌ-، وَلِهَذَا عَامَلَهُم مُعَامَلَةَ مَنْ يَعْقِلُ لِأَنَّهَا عَلَى صُوَرٍ مُصُورَةٍ كَالإِنْسَانِ، فَقَالَ: {وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيكَ} فَعبَّرَ عَنْهَا بِضَمِيرِ مَنْ يَعْقِلُ"

(3)

.

3 -

تَشَبُّهٌ بِالمُشْرِكِينَ.

كَمَا فِي الحَدِيثِ المُتَّفَقِ عَلَيهِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها فِي ذِكْرِ تَصْوِيرِ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى لِصُوَرِ الصَّالِحِينَ فِي كَنَائِسِهِم، وَقَدْ سَبَقَ

(4)

.

"قَالَ القُرْطُبِيُّ فِي المُفْهِمِ: إِنَّمَا لَمْ تَدْخُلِ المَلَائِكَةُ البَيتَ الَّذِي فِيهِ الصُورَةُ لِأَنَّ مُتَّخِذَهَا قَدْ تَشَبَّهَ بِالكُفَّارِ لِأَنَّهُمْ يَتَّخِذُونَ الصُّوَرَ فِي بُيُوتِهِمْ وَيُعَظِّمُونَهَا؛ فَكَرِهَتِ المَلَائِكَةُ ذَلِكَ فَلَمْ تَدْخُلْ بَيتَهُ هَجْرًا لَهُ لِذَلِكَ"

(5)

.

وَيَظْهَرُ مِنَ النَّهْي فِي الحَدِيثِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مُحَرَّمًا فِي الأُمَمِ المَاضِيَةِ أَيضًا.

(1)

البُخَارِيُّ (434).

(2)

قُلْتُ: وَكَثيرٌ مِنْ مُتَصَوِّفَةِ زَمَنِنَا صَوَّرُوا مَشَائِخَهُم بِـ (الكَامِيرَا) لِيَسْتَحْضِرُوا صُوَرَهُمْ فِي الذِّكْرِ المُسَمَّى بِـ (الرَّابِطَةِ الشَّرِيفَةِ)! فَكَانُوا أَبْعَدَ مَا يَكُونُ عَنْ قَولِهِ عليه الصلاة والسلام فِي مَقَامِ الإِحْسَانِ: ((أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ)) فصارت: (كأنك ترى الشيخ)!! وَالحَدِيثُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ (8) عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه.

(3)

تَفْسِيرُ ابْنِ كَثِير (3/ 530).

(4)

البُخَارِيُّ (434)، وَمُسْلِمٌ (528).

(5)

فَتْحُ البَارِي (10/ 392).

ص: 452

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله: "وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَينِ حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ الكَنِيسَةِ الَّتِي كَانَتْ بِأَرْضِ الحَبَشَةِ وَمَا فِيهَا مِنَ التَّصَاوِيرِ؛ وَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((كَانُوا إِذَا مَاتَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ؛ أُولَئِكَ شِرَارُ الخَلْقِ عِنْدَ اللهِ)) فَإِنَّ ذَلِكَ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ لَو كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا فِي ذَلِكَ الشَّرْعِ مَا أَطْلَقَ عَلَيهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ الَّذِي فَعَلَهُ شَرُّ الخَلْقِ! فَدَلَّ عَلَى أَنَّ فِعْلَ صُوَرِ الحَيَوَانِ فِعْلٌ مُحْدَثٌ أَحْدَثَهُ عُبَّادُ الصُّوَرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ"

(1)

.

4 -

أَنَّ المَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيتًا فِيهِ تَصَاوِيرُ.

كَمَا فِي البُخَارِيِّ عَنْ أَبي طَلْحَةَ مَرْفُوعًا: ((إِنَّ المَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيتًا فِيهِ صُورَةٌ))

(2)

.

(1)

فَتْحُ البَارِي (10/ 382).

(2)

البُخَارِيُّ (5958).

ص: 453

-‌

‌ المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَلَا يَدُلُّ حَدِيثُ أَبِي هُرَيرَةَ الَّذِي فِيهِ: ((فَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً، أَو لِيَخْلُقُوا حَبَّةً، أَو لِيَخْلُقُوا شَعِيرَةً)) أَنَّ النَّهْيَ لَا يَخْتَصُّ بِذَوَاتِ الأَرْوَاحِ

(1)

؟

الجَوَابُ:

ظَاهِرُهُ يَدُلُّ، وَلَكِنَّهُ حَقِيقَةً لَيسَ بِمَقْصُودٍ بِالنَّهْي، وَبَيَانُ ذَلِكَ مِنْ عِدَّةِ أَوجُهٍ:

1 -

أَنَّ ذِكْرَ الذَّرَّةِ وَالحَبَّةِ وَالشَّعِيرَةِ خَرَجَ مَخْرَجَ التَّحَدِّي وَذَلِكَ بِعَجْزِ المُصَوِّرِينَ عَنِ الخَلْقِ مُطْلَقًا، وَهُوَ الإِيجَادُ مِنَ العَدَمِ حَتَّى لِأَحْقَرِ الأَشْيَاءِ، فَخَلْقُهُم هُوَ مُجَرَّدُ تَغْيِيرٍ مِنْ شَكْلٍ إِلَى شَكْلٍ، فَمَهْمَا صَوَّرُوا فَتَصْوِيرُهُم نَاقِصٌ قَاصِرٌ.

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله: "وَالحَقُّ: أَنَّهُ خِطَابُ تَعْجِيزٍ لَا تَكْلِيفٍ"

(2)

.

2 -

دِلَالَةُ أَحَادِيثِ النَّهْي الأُخْرَى عَلَى تَعْذِيبِ مَنْ صَوَّرَ ذَاتَ الرُّوحِ مِثْلَ: ((مَنْ صَوَّرَ صُورَة فِي الدُّنْيَا كُلِّفَ أَنْ يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ وَلَيسِ بِنَافِخٍ))، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ:((كُلُّ مُصَوِّرٍ فِي النَّارِ، يَجْعَلُ لَهُ بِكُلِّ صُورَةٍ صَوَّرَهَا نَفْسًا يُعَذَّبُ بِهَا فِي جَهَنَّمَ))

(3)

.

3 -

حَدِيثُ جِبْرِيلَ وَفِيهِ: ((فَمُرْ بِرَأْسِ التِّمْثَالِ الَّذِي فِي البَيتِ يُقْطَعُ؛ فَيَصِيرُ كَهَيئَةِ الشَّجَرَةِ))

(4)

مِمَّا يَدُلُّ أَنَّهُ إِذَا صَارَ التِّمْثَالُ عَلَى هَيئَةِ شَجَرَةٍ فَإِنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ

(5)

.

(1)

وَإِلى ذَلِكَ ذَهَبَ مُجَاهِدٌ وَحْدَهُ رحمه الله، كَمَا نَقَلَهُ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله فِي الفَتْحِ (10/ 395) عَنِ القَاضِي عِيَاضٍ رحمه الله.

وَالأَثَرُ مُخَرَّجٌ في مُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيبَةَ (25293) عَنْ مُجَاهِدٍ بِلَفْظِ: (أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يُصَوَّرَ الشَّجَرُ المُثْمِرُ).

قُلْتُ: وَقَدْ يَكُونُ لَهُ مُتَّجَهٌ عَنْهُ رحمه الله مِنْ بَابِ سَدِّ الذَّرَائِعِ. وَاللهُ أَعْلَمُ.

(2)

فَتْحُ البَارِي (10/ 394).

(3)

البُخَارِيُّ (2225)، وَمُسْلِمٌ (2110).

(4)

صَحِيحٌ. أَبُو دَاوُدَ (4158) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (356).

(5)

وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي أُمَامَةَ (أَنَّ امْرَأَةً أَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّ زَوجَهَا فِي بَعْضِ المَغَازِي، فَاسْتَأْذَنَتْهُ أَنْ تُصَوِّرَ فِي بَيتِهَا نَخْلَةً؛ فَمَنَعَهَا، أَو نَهَاهَا) فَهُوَ ضَعِيفٌ. ابْنُ مَاجَه (3652). ضَعِيفُ سُنَنِ ابْنِ مَاجَه (3652).

ص: 454

4 -

فَتْوَى ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه فِي تَجْوِيزِ مَا لَيسَ لَهُ رَوحٌ، وَهُوَ رَاوِي أَحَادِيثِ النَّهِي، وَالرَّاوِي أَدْرَى بِمَرْوِيِّهِ- كَمَا عُلِمَ فِي الأُصُولِ-.

فَفِي الأَثَرِ؛ أَنَّهُ أَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبَّاسٍ؛ إِنِّي إِنْسَانٌ إِنَّمَا مَعِيشَتِي مِنْ صَنْعَةِ يَدِي، وَإِنِّي أَصْنَعُ هَذِهِ التَّصَاوِيرَ! فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا أُحَدِّثُكَ إِلَّا مَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ، سَمِعْتُهُ يَقُولُ:((مَنْ صَوَّرَ صُورَةً؛ فَإِنَّ اللهَ مُعَذِّبُهُ حَتَّى يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ وَلَيسَ بِنَافِخٍ فِيهَا أَبَدًا)) فَرَبَا الرَّجُلُ رَبْوَةً شَدِيدَةً وَاصْفَرَّ وَجْهُهُ. فَقَالَ: وَيحَكَ! إِنْ أَبَيتَ إِلَّا أَنْ تَصْنَعَ؛ فَعَلَيكَ بِهَذَا الشَّجَرِ؛ كُلِّ شَيءٍ لَيسَ فِيهِ رُوحٌ

(1)

.

5 -

أَنَّ الصُورَةَ المَنْهِيَّ عَنْهَا هِيَ الصُورَةُ ذَاتُ الرَّأْسِ؛ لِحَدِيثِ: ((الصُورَةُ الرَّأْسُ؛ فَإِذَا قُطِعَ الرَّأْسُ فَلَا صُورَةَ))

(2)

.

عِلْمًا أَنَّهُ يُقْصَدُ أَحْيَانًا بِالصُورَةِ: الوَجْهُ، كَمَا فِي البُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ تُعْلَّمَ الصُورَةُ، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ:((نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُضْرَبَ))

(3)

.

(1)

البُخَارِيُّ (2225)، وَمُسْلِمٌ (2110).

(2)

صَحِيحٌ. الإسْمَاعِيلِيُّ فِي مُعْجَمِهِ (2/ 662) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (1921).

(3)

البُخَارِيُّ (5541)، وَلْفُظُهُ عِنْدَ أَحْمَدَ (5991):(نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ضَرْبِ الوَجْهِ).

ص: 455

-‌

‌ المَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَلْ يُلْحَقُ بِالتَّصْوِيرِ المَنْهِيِّ عَنْهُ التَّصْوِيرُ الشَّمْسِيُّ (الفُوتُوغَرَافِيُّ)؟ وَذَلِكَ لِاخْتِلَافِهِ عَنِ التَّصْوِيرِ اليَدَوِيِّ بِأُمُورٍ هِيَ:

1 -

أَنَّهُ مُجَرَّدُ حَبْسٍ لِلظِّلِّ، وَلَيسَ تَصْوِيرًا!

2 -

أَنَّ أَصْلَ الصُورَةِ هَذِهِ هِيَ تَصْوِيرُ اللهِ تَعَالَى، وَالعَبْدُ إِنَّمَا هُوَ نَاسِخٌ فَقَطْ!

3 -

أَنَّ التَّصْوِيرَ الفُوتُوغَرَافِيَّ لَيسَ فِيهِ مُضَاهَاةٌ لِخَلْقِ اللهِ تَعَالَى؛ وَإِنَّمَا هُوَ مُجَرَّدُ (كَبْسَةِ زِرٍّ)! بِخِلَافِ الرَّسْمِ اليَدَوِيِّ فَهُوَ الَّذِي يَقُومُ صَاحِبُهُ بِبَذْلِ جُهْدِهِ فِيهِ وَتَقَصُّدِ المُضَاهَاةِ.

4 -

أَنَّ قِيَاسَهُ عَلَى صُورَة المِرْآةِ وَالانْعِكَاسِ عَلَى وَجْهِ المَاءِ السَّاكِنِ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِهِ، وَإِلَّا لَزِمَ مِنْهُ تَحْرِيمَ هَذَا المَقِيسِ عَلَيهِ! وَلَا قَائِلَ بِهِ.

الجَوَابُ:

نَعَمْ؛ يُلْحَقُ بِهِ، بَلْ إِنَّهُ قَدْ يَكُونُ أَولَى مِنْهُ فِي التَّحْرِيمِ، وَالرَّدُّ عَلَى مَا سَبَقَ هُوَ أَيضًا مِنْ أَوجُهٍ:

1 -

عُمُومُ النَّهْي فِي الحَدِيثِ: ((مَنْ صَوَّرَ صُورَةً))، فَقَولُهُ:((صُورَةً)) نَكِرَةٌ تَعُمُّ كُلَّ الصُّوَرِ؛ فَلَا يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ إِلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ الشَّرْعُ.

2 -

أَنَّ النَّهْيَ لَيسَ سَبَبَهُ المُضَاهَاةُ فَقَط! وَلَكِنَّهُ أَيضًا ذَرِيعَةٌ إِلَى الشِّرْكِ

(1)

، وَأَيضًا لِكَونِهِ مَانِعًا لِدُخُولِ المَلَائِكَةِ إِلَى البُيُوتِ

(2)

، وَأَيضًا تَشَبُّهٌ بِالمُشْرِكِينَ، وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُ أَوجُهِ النَّهْي عَنِ التَّصْوِيرِ

(3)

.

(1)

كَمَا فِي مُسْلِمٍ (969) عَنْ أَبِي الهَيَّاجِ قَالَ: (قَالَ لِي عَلِيٌّ: أَلَا أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ أَلَّا تَدَعَ صُورَة إِلَّا طَمَسْتَهَا؛ وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا إِلَّا سَوَّيتَهُ).

(2)

كَمَا فِي البُخَارِيِّ (5958) عَنْ أَبي طَلْحَةَ مَرْفُوعًا: ((إِنَّ المَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيتًا فِيهِ صُورَةٌ)).

(3)

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله فِي الفَتْحِ (10/ 382): "وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَينِ حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ

=

ص: 456

وَعَلَيهِ إِذَا انْتَفَتْ عِلَّةُ المُضَاهَاةِ -جَدَلًا- فَمَا زَالَتْ هُنَاكَ عِلَلٌ أُخْرَى لِلنَّهْي بَاقِيَةٌ.

3 -

دَعْوَى أَنَّهُ مُجَرَّدُ حَبْسٍ لِلظِّلِّ! فُيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ تَغْيِيرَ اللَّفْظِ لَا يُغَيِّرُ حَقِيقَةَ المَعْنَى، فَإِذَا كَانَ حَبْسُ الظِّلِّ تَنْتُجُ عَنْهُ الصُورَةُ؛ فَهُوَ إِذًا تَصْوِيرٌ، وَهُوَ كَقَولِنَا عَنِ الرَّسْمِ اليَدِوِيِّ أَنَّهُ مُجَرَّدُ نَقْلٌ مِنَ الوَاقِعِ -أَوِ الخَيَالِ- إِلَى الوَرَقِ، أَو مُجَرَّدُ شَفٍّ لِلصُورَةِ المَخْلُوقَةِ إِلَى الوَرَقِ، أَو مُجَرَّدُ تَحْرِيكٍ لِلفُرْشَاةِ عَلَى اللَّوحَةِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا مَفَادُهُ تَغْيِيرُ الأَلْفَاظِ لِلخُرُوجِ مِنَ الأَحْكَامِ!

4 -

أَنَّ كَونَ أَصْلِ الصُورَةِ المُصَوِّرَةِ هِيَ خَلْقُ اللهِ تَعَالَى أَو صُنْعُهُ المُبَاشَرُ؛ لَا يُخْرِجُ الفَاعِلَ عَنْ كَونِهِ قَدْ أَخْرِجَ صُورَةً! فَإِنْ سُمِّيَ نَاسِخًا أَو مُصَوِّرًا فَلَا فَرْقَ، وَإِلَّا فَمَا وَجْهُ النَّهْي عَنِ التَّصْوِيرِ عُمُومًا فِي الأَحَادِيثِ -كَحَدِيثِ ((وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي)) - وَقَدْ عُلِمَ أَصْلًا أَنَّ المُصَوِّرَ إِنَّمَا يُقَلِّدُ الصُّورَةَ المَخْلُوقَةَ للهِ تَعَالَى؟! فَإِنْ أَخْرَجَهَا بِيَدِهِ رَسْمًا أَوْ بِالآلَةِ؛ فَكِلَاهُمَا يَنْقُلُ عَنْ أَصْلٍ مَخْلُوقٍ مَوجُودٍ.

وَعَلى كُلِّ حَالٍ؛ فَالصُورَةُ هِيَ فِعْلُ المُصَوِّرِ لُغَةً وَشَرْعًا وَعُرْفًا،

أَمَّا مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ فَالصُورَةُ فِعْلُ المُصَوِّرِ

(1)

،

وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ؛ فَقَدْ سَبَقَ فِي الحَدِيثِ: ((مَنْ صَوَّرَ صُورَةً فِي الدُّنْيَا كُلِّفَ

=

الكَنِيسَةِ الَّتِي كَانَتْ بِأَرْضِ الحَبَشَةِ وَمَا فِيهَا مِنَ التَّصَاوِيرِ؛ وَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((كَانُوا إِذَا مَاتَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ؛ أُولَئِكَ شِرَارُ الخَلْقِ عِنْدَ اللهِ)) فَإِنَّ ذَلِكَ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ لَو كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا فِي ذَلِكَ الشَّرْعِ مَا أَطْلَقَ عَلَيهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ الَّذِي فَعَلَهُ شَرُّ الخَلْقِ! فَدَلَّ عَلَى أَنَّ فِعْلَ صُوَرِ الحَيَوَانِ فِعْلٌ مُحْدَثٌ أَحْدَثَهُ عُبَّادُ الصُّوَرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ".

(1)

قَالَ فِي المُعْجَمِ الوَسِيطِ (1/ 528): "التَصْوِيرُ: نَقْشُ صُورَةِ الأَشْيَاءِ أَوِ الأَشْخَاصِ عَلَى لَوحٍ أَو حَائِطٍ أَو نَحْوِهِمَا بِالقَلَمِ أَو بِالفُرْجُونِ أَو بِآلَةِ التَصْوِير، وَالتَّصْوِيُر الشَّمْسِيُّ: أَخْذُ صُورَةِ الأَشْيَاءِ بِالمُصَوِّرَةِ الشَّمْسِيَّةِ".

قُلْتُ: وَالفُرْجُونُ هُوَ المِحَسَّةُ: وَهُوَ مِشْطٌ لَهُ أَسْنَانٌ لِلتَنْظِيفِ، وَهُوَ بِمَعْنَى فُرْشَاةِ الرَّسْمِ هُنَا، وَاللهُ أَعْلَمُ.

ص: 457

أَنْ يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ وَلَيسَ بِنَافِخٍ))،

وَأَمَّا عُرْفًا فَصَاحِبُ دُكَّانِ التَّصْوِيرِ الشَّمْسِيِّ يُسَمَّى مُصَوِّرًا.

5 -

"التَّفْرِيقُ بَينَ التَّصْوِيرِ اليَدَوِيِّ وَالتَّصْوِيرِ الفُوتُوغِرَافِيِّ؛ فَيَحْرُمُ الأَوَّلُ دَونَ الثَّانِي! ظَاهِرِيَّةٌ عَصْرِيَّةٌ وَجُمُودٌ لَا يُحْمَدُ"

(1)

.

وَأَمَّا دَعْوَى أَنَّ التَّصْوِيرَ الفُوتُوغَرَافِيَّ لَيسَ فِيهِ مُضَاهَاٌة لِخَلْقِ اللهِ تَعَالَى؛ وَإِنَّمَا هُوَ مُجَرَّدُ (كَبْسَةِ زِرٍّ)!! فَهُوَ عَجَبٌ مِنَ الكَلَامِ وَاللهِ! وَذَلِكَ لِأُمُورٍ:

أ- أَنَّ كَبْسَةَ الزِّرِّ هَذِهِ هِيَ عَمَلٌ لَا رَيبَ أَنَّهُ صَادِرٌ عَنْ قَصْدٍ وَإِرَادَةٍ وَسَعْيٍ، فَكَمَا أَنَّ الكَلِمَةَ قَدْ تَكُونُ سَبَبًا فِي الهَوِيِّ فِي النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا؛ فَكَذَلِكَ مَا كَانَ مِثْلَهَا مِنَ العَمَلِ وَالقَصْدِ وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا

(2)

.

ب- أَنَّ هَذِهِ الكَبْسَةَ لَيسَتْ مُجَرَّدَةً! فَهِيَ مَسْبُوقَةٌ بِأَعْمَالٍ ضِمْنَ عَشَرَاتِ السِّنِينَ مِنَ السَّعْي وَالجُهْدِ فِي طَرِيقِ الوُصُولِ إِلَى مَا هِيَ عَلَيهِ الآنَ، وَمُخْتَتَمَةٌ أَيضًا بِأَعْمَالِ إِخْرَاجٍ -مِنْ تَحْمِيضٍ وَطِبَاعَةٍ وَتَلْوِينٍ- فَهِيَ لَيسَتْ مُجَرَّدَ كَبْسَةِ زِرٍّ!

ج- أَنَّ هَذَا المُصَوِّرَ مِنْهُ المُحْتَرِفُ وَمِنْهُ المُبْتَدِئُ، وَلَكِنْ كِلَاهُمَا -مَهْمَا قِيلَ فِي يُسْرِ عَمَلِهِ- فَهُوَ بِلَا شَكٍّ حَرِيصٌ عَلَى أَنْ تَكُونَ صُورَتُهُ فِي أَفْضَلِ حَالٍ مِنَ المُضَاهَاةِ حَتْمًا، لِذَلْكَ تَرَاهُ يَتَمَايَلُ يَمِينًا وَشِمَالًا، إِلَى أَعْلَى وَأَسْفَل، مُشَدِّدًا الإِضَاءَةَ وَمُضَعِّفَهَا، مُنْتَقِيًا لِأَحْسَنِ الآلَاتِ المُصَوِّرَةِ -بِحَسْبِ قُدْرَتِهِ-، فَهَلْ مِثْلُ هَذَا يُقَالُ عَنْهُ: إِنَّهُ لَا يَقْصِدُ المُضَاهَاةِ؟!

(1)

الصَّحِيحَةِ (356).

(2)

كَمَا فِي البُخَارِيِّ (6478)، وَمُسْلِمٍ (2988) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا:((إِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَرْفَعُهُ اللهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ)).

ص: 458

د- إِذَا كَانَتِ المُضَاهَاةُ هِيَ عِلَّةَ النَّهْي فِي الرَّسْمِ اليَدَوِيِّ -وَهِيَ أَحَدُ أَوجُهِ النَّهْي- فَلَا رَيبَ أَنَّ التَّصْوِيرَ الشَّمْسِيَّ أَعْلَى مُضَاهَاةً مِنْ جِهَةِ النَّتِيجَةِ؛ وَعَلَيهِ فَالعِلَّةُ فِيهِ هِيَ مِنْ بَابِ أَولَى

(1)

.

6 -

أَنَّ قِيَاسَهُ عَلَى صُورَةِ المِرْآةِ وَالانْعِكَاسِ عَلَى وَجْهِ المَاءِ السَّاكِنِ لَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِهِ، وَذَلِكَ مِنْ أَوجُهٍ:

أ- أَنَّ القَائِمَ قُبَالَةَ المِرْآةِ أَو وَجْهِ المَاءِ لَا يُسَمَّى مُصَوِّرًا لَا لُغَةً وَلَا عُرْفًا وَلَا شَرْعًا.

ب- أَنَّ الصُورَةَ فِي المِرْآةِ وَعَلَى وَجْهِ المَاءِ لَيسَتْ مُسْتَقِرَّةً؛ فَلَا يَكُونُ صَاحِبُهَا قَدْ خَرَجَ بِصُورَة! بَلْ هَذِهِ الصُورَة تَزُولُ بِزَوَالِ المُقَابِلِ لَهَا

(2)

.

ج- أَنَّ الصُورَةَ القَائِمَةَ فِي المِرْآةِ أَو عَلَى وَجْهِ المَاءِ تَحْصُلُ بِدُونِ أَيِّ سَعْيٍ أَو عَمَلٍ مِنَ المَرْءِ، بِخِلَافِ صَاحِبِ (كَبْسَةِ الزِّرِّ)

(3)

!

(1)

وَلِبَيَانِ شَيءٍ مِنَ الوَاقِعِ؛ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ العِلْمِ بِأَنَّ التَّصْوِيرَ الشَّمْسِيَّ حَقِيقَةً هُوَ كَاليَدَوِيِّ مِنْ حَيثُ تَدَرُّجِ الدِّقَّةِ فِي الالْتِقَاطِ وَالعَرْضِ، فَهُنَاكَ مَا يُسَمَّى بِدَرَجَةِ الـ (بِكْسِلْ) وَهِي دَرَجَةٌ تُعَبِّرُ عَنْ دِقَّةِ الالْتِقَاطِ وَالعَرْضِ، فَمُنْذُ سَنَوَاتٍ كُنْتَ تَجِدُ أَنَّ هُنَاكَ مِنَ الصُّوَرِ الشَّمْسِيَّةِ إِذَا أَعْمَلْتَ فِيهَا العَدَسَةَ المُكَبِّرَةَ قَلِيلًا رَأَيتَهَا تَنْقَسِمُ إِلَى مُرَبَّعَاتٍ لَوْنِيَّةٍ؛ حَيثُ تَفْقِدُ الصُوْرَةُ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ مِنَ التَّكْبِيرِ دِقَّتَهَا وَوُضُوْحَهَا، وَمَعَ تَقَدُّمِ التّقَنِيَّةِ تَزْدَادُ هَذِهِ الدِّقَّةُ، فَهَلْ يُقَالُ بَعْدُ مَعَ هَذَا: إِنَّ المُصَوَّرَ هُوَ نَفْسُ تَصْوِيرِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ؟! وَالحَمْدُ للهِ عَلَى تَوْفِيقِهِ.

(2)

وَعَلَيهِ فَلَا مَحْذُورَ فِي اسْتِخْدَامِ آلَاتِ المُرَاقَبَةِ فِي المُنْشَآتِ وَالمَتَاجِرِ وَأَشْبَاهِهَا لِأَنَّ الصُورَةَ لَيسَتْ مَحْفُوظَةً أَصْلًا، وَإِنَّمَا حَقِيقَتُهَا انْعِكَاسُ الصُّوَرِ فِي المَرَايَا، وَهِيَ أَيضًا لَو حُفِظَتْ؛ فَلَا حَرَجَ إِنْ شَاءَ اللهُ لِأَنَّهَا مِمَّا تَسْتَدْعِيهِ المَصْلَحَةُ وَالحَاجَةُ المُلِحَّةُ.

(3)

قَالَ الشَّيخُ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ رحمه الله فِي مَجْمُوعِ الفَتَاوَى وَالرَسَائِلِ (1/ 187): "وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ مُجِيزِي التَّصْوِيرِ الشَّمْسِيِّ أَنَّهُ نَظِيرُ ظُهُورِ الوَجْهِ فِي المِرْآةِ وَنَحْوِهَا مِنَ الصَّقِيلَاتِ! وَهَذَا فَاسِدٌ؛ فَإِنَّ ظُهُورَ الوَجْهِ فِي المِرْآةِ وَنَحْوِهَا شَيءٌ غَيرُ مُسْتَقِرٍ، وَإِنَّمَا يُرَى بِشَرْطِ بَقَاءِ المُقَابَلَةِ؛ فَإِذَا فُقِدَتِ المُقَابَلَةُ

=

ص: 459

7 -

لِيَكُنْ إلْحَاقُ التَّصْوِيرِ الشَّمْسِيِّ "الفُوتُوغَرَافِيِّ" بَعِيدًا عَنْ كَونِهِ تَصْوِيرًا مُحَرَّمًا؛ فَهُنَا تَرِدُ مُلَاحَظَاتٌ:

أ- مَا هُوَ وَاجِبُ المُسْلِمِ إِذَا اشْتَبَهَ عَلَيهِ الحُكْمُ مِنْ جِهَةِ الحِلِّ أَوِ التَّحْرِيمِ؟

الجَوَابُ: هُوَ فِي الحَدِيثِ الشَّرِيفِ: ((إِنَّ الحَلالَ بَيِّنٌ وَإنَّ الحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَينَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ؛ فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الحَرَامِ))

(1)

.

ب- مَا هُوَ الحَاصِلُ مِنْ إِبَاحَةِ هَذَا النَّوعِ مِنَ التَصْوِيرِ؟ هَلْ هُوَ لِتَصْوِيرِ مَا يَلْزَمُ مِنَ الأَورَاقِ الرَّسْمِيَّةِ الحُكُومِيَّةِ لِلأَشْخَاصِ؟ أَمْ لِتَصْوِيرِ صُوَرِ الذِّكْرَيَاتِ وَتَنَاقُلِهَا وَتَعْلِيقِهَا بِمَا لَا يُمْكِنُ أَبَدًا ضَبْطُهُ! عِلْمًا أَنَّ حُكْمَ التَّصْوِيرِ نَفْسَهُ مُفَارِقٌ عَنْ حُكْمِ اقْتِنَاءِ الصُّوَرِ وَتَعْلِيقِهَا؛ فَهَذِهِ الأَخِيرَةُ مَشْمُولَةٌ بِنُصُوصٍ أُخْرَى مِنْ مَنْعِ دُخُولِ المَلَائِكَةِ وَغَيرِهَا؛ فَتَنَبَّهْ.

ج- هَلْ فَتْحُ هَذَا البَابِ أَسْلَمُ لِحَيَاةِ المُجْتَمَعِ المُسْلِمِ أَمْ إِغْلَاقُهُ؟ وَالوَاقِعُ يَشْهَدُ بِأَوْلَوِيَّةِ الإِغْلَاقِ.

=

فُقِدَ ظُهُورُ الصُورَةِ فِي المِرْآةِ وَنَحْوِهَا، بِخِلَافِ الصُورَةِ الشَّمْسِيَّةِ؛ فَإِنَّهَا بَاقِيَةٌ فِي الأَورَاقِ وَنَحْوِهَا مُسْتَقِرَّةٌ، فَإِلْحَاقُهَا بِالصُّوَرِ المَنْقُوشَةِ بِاليَدِ أَظْهَرُ وَأَوضَحُ وَأَصَحُّ مِنْ إلْحَاقِهَا بِظُهُورِ الصُورَةِ فِي المِرْآةِ وَنَحْوِهَا؛ فَإِنَّ الصُورَةَ الشَّمْسِيَّةَ وَبُدُوَّ الصُورَةِ فِي الأَجْرَامِ الصَّقِيلَةِ وَنَحْوِهَا يَفْتَرِقَانِ فِي أَمْرَينِ:

1 -

الاسْتِقْرَارِ وَالبَقَاءِ.

2 -

حُصُولِ الصُورَةِ عَنْ عَمَلٍ وَمُعَالَجَةٍ، فَلَا يُطْلَقُ -لَا لُغَةً، وَلَا عَقْلًا، وَلَا شَرْعًا- عَلَى مُقَابِلِ المِرْآةِ وَنَحْوِهَا أَنَّهُ صَوَّرَ ذَلِكَ! وَمُصَوِّرُ الصُّوَرِ الشَّمْسِيَّةِ مُصَوِّرٌ لُغَةً وَعَقْلًا وَشَرْعًا، فَالمُسَوِّي بَينَهُمَا مُسَوٍّ بَينَ مَا فَرَّقَ اللهُ بَينَهُ، وَالمَانِعُونَ مِنْهُ قَدْ سَوَّوا بَينَ مَا سَوَّى اللهُ بَينَهُ، وَفَرَّقُوا بَينَ مَا فَرَّقَ اللهُ بَينَهُ؛ فَكَانُوا بِالصَّوَابِ أَسْعَدَ؛ وَعَنْ فَتْحِ أَبْوَابِ المَعَاصِي وَالفِتَنِ أَنْفَرَ وَأَبْعَدَ".

(1)

رَوَاهُ البُخَارِيُّ (52)، وَمُسْلِمٌ (1599) عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ مَرْفُوعًا.

ص: 460

قَالَ الشَّيخُ العَلَّامَةُ ابْنُ بَازٍ رحمه الله: "أَمَّا إِنْ كَانَ لَا ظِلَّ لَهُ كَالتَّصْوِيرِ الشَّمْسِيِّ فِي القِرْطَاسِ وَنَحْوِهِ؛ هَذَا أَيضًا مُحَرَّمٌ عِنْدَ جُمْهُورِ أَهْلِ العِلْمِ لِعُمُومِ الأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ، فَلَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَتَعَاطَى شَيئًا مِن ذَلِكَ، وَلَيسَ مَعَ مَنْ أَجَازَ التَّصْوِيرَ الشَّمْسِيَّ حُجَّةٌ، بَلْ هُوَ قَولٌ بَاطِلٌ لَا وَجْهَ لَهُ، فَالتَّصْوِيرُ كُلُّهُ مَمْنُوعٌ؛ فِي القِرْطَاسِ أَوْ فِي الأَلْوَاحِ أَوْ فِي المَلَابِسِ أَوْ فِي الجُدْرَانِ أَوْ غَيرِ ذَلِكَ مِنْ حَدِيدٍ أَوْ خَشَبٍ أَوْ غَيرِ ذَلِكَ.

وَالوَاجِبُ طَمْسُ الصُّوَرِ إِذَا وُجِدَتْ بِقَطْعِ رُؤُوسِهَا أَوْ مَحْوِهَا بِالكُلِّيَّةِ، لِقَولِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الحَدِيثِ الصَّحِيحِ لِعَلِيٍّ رضي الله عنه:((لَا تَدَعْ صُورَةً إِلَّا طَمَسْتَهَا))، وَلِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمَّا دَخَلَ الكَعْبَةَ عَامَ الفَتْحِ مَحَا جَمِيعَ الصُّوَرِ الَّتِي فِي الكَعْبَةِ، وَكَسَرَ الأَصْنَامَ، وَأَخَذَ مَاءً وَثَوبًا فَمَسَحَ بِهِ مَا بِجُدْرَانِ الكَعْبَةِ مِنَ الصُّوَرِ.

لَكِنْ إِذَا أُكْرِهَ الإِنْسَانُ عَلَى الصُّورَةِ لِأَخْذِ التَّابِعِيَّةِ -الحَفِيظَةِ- مَثَلًا أَوْ لِأَسْبَابٍ أُخْرَى لَيسَ لَهُ فِيهَا اخْتِيَارٌ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى ذَلِكَ كَالتَّابِعِيَّةِ وَالشَّهَادَةِ العِلْمِيَّةِ وَقِيَادَةِ السَّيَّارَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يُلْزَمُ بِهِ وَلَيسَ لَهُ مَنْدُوحَةٌ عَنْهُ؛ فَلَا حَرَجَ عَلَيهِ إِذَا أَخَذَ ذَلِكَ مِن أَجْلِ الضَّرُورَةِ وَهُوَ لَا يُحِبُّ ذَلِكَ وَلَا يَرْضَى ذَلِكَ؛ لَكِنْ لِأَجْلِ الحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ إِلَى هَذَا الشَّيءِ. وَاللهُ وَلِيُّ التَّوفِيقِ"

(1)

.

تَنْبِيهٌ:

وَأَمَّا مَا نُسِبَ إِلَى الشَّيخِ الفَاضِلِ ابْنِ عُثَيمِينَ رحمه الله مِنْ إِبَاحَةِ التَّصْوِيرِ الفُوتُوغَرَافِيِّ مُطْلَقًا! فَهُوَ كَذِبٌ وَزُورٌ عَلَيهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ صَحِيحٌ أَنَّهُ لَمْ يَعْتَبِرْهُ مِنْ جُمْلَةِ

(1)

فَتَاوَى نُورٌ عَلَى الدَّرْبِ (شريط: 857).

ص: 461

التَّصْوِير المُحَرَّمِ، وَلَكِنَّهُ أَجَازَهُ فَقَط لِمِثْلِ مَا أَجَزْنَاهُ مِنَ التَّصْوِير لِلحَاجَةِ وَالمَصْلَحَةِ، أَمَّا التَّصْوِيرُ لِلذِّكْرَى وَالحَنِينِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ فَقَدْ نَهَى عَنْهُ رحمه الله.

قَالَ رحمه الله: "وَلَكِنْ يَبْقَى النَّظَرُ: هَلْ يَحِلُّ هَذَا الفِعْلُ أَو لَا؟

وَالجَوَابُ: إِذَا كَانَ لِغَرَضٍ مُحَرَّمٍ صَارَ حَرَامًا، وَإِذَا كَانَ لِغَرَضٍ مُبَاحٍ صَارَ مُبَاحًا؛ لِأَنَّ الوَسَائِلَ لَهَا أَحْكَامُ المَقَاصِدِ، وَعَلَى هَذَا؛ فَلَو أَنَّ شَخْصًا صَوَّرَ إِنْسَانًا لِمَا يُسَمُّونَهُ بِالذِّكْرَى -سَوَاءً كَانَتْ هَذِهِ الذِّكْرَى لِلتَّمَتُّعِ بِالنَّظَرِ إِلَيهِ أَوِ التَّلَذُّذِ بِهِ أَو مِنْ أَجْلِ الحَنَانِ وَالشَّوقِ إِلَيهِ-؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مُحَرَّمٌ وَلَا يَجُوزُ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ اقْتِنَاءِ الصُّوَرِ، لِأَنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ صُورَةً وَلَا أَحَدَ يُنْكِرُ ذَلِكَ.

وَإِذَا كَانَ لِغَرَضٍ مُبَاحٍ كَمَا يُوجَدُ فِي التَّابِعِيَّةِ وَالرُّخْصَةِ وَالجَوَازِ وَمَا أَشْبَهَهُ؛ فَهَذَا يَكُونُ مُبَاحًا، فَإِذَا ذَهَبَ الإِنْسَانُ الَّذِي يَحْتَاجُ إِلَى رُخْصَةٍ إِلَى هَذَا المُصَوِّرِ الَّذِي تَخْرُجُ مِنْهُ الصُورَةُ فَورِيَّةً بِدُونِ عَمَلٍ -لَا تَحْمِيضٍ وَلَا غَيرِهِ- وَقَالَ: صَوِّرْنِي، فَصَوَّرَهُ؛ فَإِنَّ هَذَا المُصَوِّرَ لَا نَقُولُ: إِنَّهُ دَاخِلٌ فِي الحَدِيثِ -أَي: حَدِيثِ الوَعِيدِ عَلَى التَصْوِيرِ-، أَمَّا إِذَا قَالَ: صَوِّرْنِي لِغَرَضٍ آخَرَ غَيرِ مُبَاحٍ؛ صَارَ مِنْ بَابِ الإِعَانَةِ عَلَى الإِثْمِ وَالعُدْوَانِ"

(1)

.

(1)

القَولُ المُفِيدُ (2/ 439).

ص: 462

-‌

‌ المَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: هَلِ النَّهْيُ هُوَ عَنِ التَّمَاثِيلِ المُجَسَّمَةِ (ذَاتِ الظِّلِّ) أَمْ عَنْ عُمُومِ الصُّوَرِ؟

الجَوَابُ: بَلْ عَنْ عُمُومِ الصُّوَرِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ هُوَ مِنْ جِهَتَينِ:

1 -

مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ: أَنَّ الصُورَةَ تُطْلَقُ عَلَى التِّمْثَالِ، وَالعَكْسُ بِالعَكْسِ.

قَالَ فِي لِسَانِ العَرَبِ: "التِّمْثَالُ: الصُورَةُ"

(1)

.

وَفِي الحَدِيثِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا: ((أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَومَ القِيَامَةِ رَجُلٌ قَتَلَهُ نَبِيٌّ أَو قَتَلَ نَبِيًّا، وَإِمَامُ ضَلَالَةٍ، وَمُمَثِّلٌ مِنَ المُمَثِّلِينَ))

(2)

.

2 -

مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ: جَاءَ فِي الحَدِيثِ النَّهْيُ عَنْ وُجُودِ الصُّوَرِ عَلَى السَّتَائِرِ وَغِيرِهَا؛ وَهِيَ بِلَا شَكٍّ لَيسَتْ مُجَسَّمَةً!

كَمَا فِي الصَّحِيحَينِ عَنْ عَائِشَةَ؛ قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ سَتَرْتُ سَهْوَةً

(3)

لِي بِقِرَامٍ

(4)

فِيهِ تَمَاثِيلُ

(5)

، فَلَمَّا رَآهُ هَتَكَهُ، وَتَلَوَّنَ وَجْهُهُ، وَقَالَ:((يَا عَائِشَةُ! أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا عِنْدَ اللهِ يَومَ القِيَامَةِ الَّذِينَ يُضَاهُونَ بِخَلْقِ اللهِ))، قَالَتْ عَائِشَةُ:

(1)

لِسَانُ العَرَبِ (11/ 613).

(2)

صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (3868). الصَّحِيحَةُ (281).

قَالَ فِي لِسَانِ العَرَبِ (11/ 613): "وَفِي الحَدِيثِ: ((أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا مُمَثِّلٌ مِنَ المُمَثِّلِينَ)) أَي: مُصَوِّرٌ"، وَكَذَا فِي النِّهَايَةِ لِابْنِ الأَثِيرِ رحمه الله.

(3)

قَالَ ابْنُ الأَثِيرِ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (النِّهَايَةُ فِي غَرِيبِ الحَدِيثِ وَالأَثَرِ)(2/ 1047): "السَّهْوَةُ: بَيتٌ صَغِيرٌ مُنْحَدِرٌ فِي الأَرْضِ قَلِيلًا؛ شَبِيهٌ بِالمُخْدَعِ وَالخِزَانةِ".

(4)

القِرَامُ: بِكَسْرِ القَافِ: السِّتْرُ.

(5)

وَفِي لَفْظٍ لَهُ أَيضًا: (فِيهِ الخَيلُ ذَوَاتُ الأَجْنِحَةِ).

ص: 463

فَقَطَعْنَاهُ؛ فَجَعَلْنَا مِنْهُ وِسَادَةً أَو وِسَادَتَينِ

(1)

.

قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رحمه الله: "وَلَا فَرْق فِي هَذَا كُلِّهِ بَينِ مَا لَهُ ظِلٌّ وَمَا لَا ظِلَّ لَهُ، هَذَا تَلْخِيصُ مَذْهَبِنَا فِي المَسْأَلَةِ، وَبِمَعْنَاهُ قَالَ جَمَاهِيرُ العُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَهُوَ مَذْهَبُ الثَّورِيِّ وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيرِهِمْ، وَقَالَ بَعْض السَّلَفِ: إِنَّمَا يُنْهَى عَمَّا كَانَ لَهُ ظِلٌّ، وَلَا بَأْس بِالصُّوَرِ الَّتِي لَيسَ لَهَا ظِلٌّ، وَهَذَا مَذْهَبٌ بَاطِلٌ؛ فَإِنَّ السِّتْرَ الَّذِي أَنْكَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الصُورَةَ فِيهِ؛ لَا يَشُكُّ أَحَدٌ أَنَّهُ مَذْمُومٌ، وَلَيسَ لِصُورَتِهِ ظِلٌّ! مَعَ بَاقِي الأَحَادِيثِ المُطْلَقَةِ فِي كُلّ صُورَة.

وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: النَّهْيُ فِي الصُورَةِ عَلَى العُمُومِ، وَكَذَلِكَ اسْتِعْمَالُ مَا هِيَ فِيهِ، وَدُخُولُ البَيتِ الَّذِي هِيَ فِيهِ؛ سَوَاءً كَانَتْ رَقْمًا فِي ثَوبٍ أَو غَيرَ رَقْمٍ، وَسَوَاء ًكَانَتْ فِي حَائِطٍ أَو ثَوبٍ أَو بِسَاط ٍمُمْتَهَنٍ أَو غَيرِ مُمْتَهَنٍ؛ عَمَلًا بِظَاهِرِ الأَحَادِيثِ، لَا سِيَّمَا حَدِيثِ (النُّمْرُقَةِ) الَّذِي ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ. وَهَذَا مَذْهَبٌ قَوِيٌّ"

(2)

.

(1)

البُخَارِيُّ (5954)، وَمُسْلِمٌ (2107).

(2)

شَرْحُ مُسْلِمٍ (14/ 81).

ص: 464

-‌

‌ المَسْأَلَةُ الخَامِسَةُ: هَلْ يَخْرُجُ مِنَ النَّهْي صُوَرُ مَا لَهُ رَأْسٌ إِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَعِيشُ حَقِيقَةً فِي الخَارِجِ؛ كَالصُّوَرِ الخَيَالِيَّةِ وَالصُّوَرِ النِّصْفِيَّةِ؟

الجَوَابُ: إِنَّ هَذَا التَّفْرِيقَ لَا دَلِيلَ عَلَيهِ، بَلْ يَبْقى مَا سَلَفَ مَشْمُولًا بِالنَّهْي، وَبَيَانُ ذَلِكَ هُوَ مِنْ وَجْهَينِ:

1 -

أَنَّ الأَصْلَ فِي تَحْرِيمِ الصُورَةِ بَقَاءُ الرَّأْسِ، فَحَتَّى لَو كَانَتِ الصُورَةُ مِمَّا لَا يَعِيشُ حَقِيقَةً أَو صُورَةً نِصْفِيَّةً -كَأَعْلَى البَدَنِ، أَوِ الوَجْهِ- فَهُوَ مُحَرَّمٌ، وَدَلَّ لِذَلِكَ الحَدِيثُ:((الصُورَةُ الرَّأْسُ؛ فَإِذَا قُطِعَ الرَّأْسُ فَلَا صُورَةَ))

(1)

.

2 -

أَنَّهُ قَدْ جَاءَ تَحْرِيمُ بَعْضٍ مِمَّا سَلَفَ مِنَ الأَمْثِلَةِ، كَمَا فِي الصَّحِيحَينِ عَنْ عَائِشَةَ؛ قَالَتْ: (قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ سَفَرٍ وَقَدْ سَتَّرْتُ عَلَى بَابِي دُرْنُوكًا

(2)

فِيهِ الخَيلُ ذَوَاتُ الأَجْنِحَةِ؛ فَأَمَرَنِي فَنَزَعْتُهُ)

(3)

، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَيسَ فِي الطَّبِيعَةِ المَحْسُوسَةِ عِنْدَنَا خَيلٌ بِجَنَاحَينِ

(4)

!

(1)

صَحِيحٌ. الإسْمَاعِيلِيُّ فِي مُعْجَمِهِ (2/ 662) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (1921).

وَكَحَدِيثِ: ((فَمُرْ بِرَأْسِ التِّمْثَالِ الَّذِي فِي البَيتِ يُقْطَعُ؛ فَيَصِيرُ كَهَيئَةِ الشَّجَرَةِ)) وَقَدْ سَبَقَ. صَحِيحٌ. أَبُو دَاوُدَ (4158) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (356).

(2)

قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رحمه الله فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ (14/ 87): "الدُّرْنُوكُ: سِتْرٌ لَهُ خَمْلٌ".

(3)

رَوَاهُ البُخَارِيُّ (5955)، وَمُسْلِمٌ (2107) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا.

(4)

وَإِنْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ؛ فَإنَّهُ فِي الحَدِيثِ: أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَعْرَابِيٌ؛ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ إِنّي أُحِبُّ الخَيلَ! أَفِي الجَنَّةِ خَيلٌ؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((إِنْ أُدْخِلْتَ الجَنَّةَ؛ أُتِيتَ بِفَرَسٍ مِنْ يَاقُوتَةٍ لَهُ جَنَاحَانِ فَحُمِلْتَ عَلَيهِ، ثُمْ طَارَ بِكَ حَيثُ شِئْتَ)). صَحِيحٌ. التِّرْمِذِيُّ (2544) عَنْ أَبي أَيُّوبٍ. الصَّحِيحَةُ (3001).

وَكَذَا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها؛ قَالَتْ: (قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ أَو خَيبَرَ وَفِي سَهْوَتِهَا

=

ص: 465

-‌

‌ المَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: هَلْ يَخْرُجُ مِنَ النَّهْي الصُورُ المُمْتَهَنَةُ كَالفُرُشِ وَالبُسُطِ وَالوَسَائِدِ؟

كَمَا دَلَّ لِذَلِكَ أَمْرُ جِبْرِيلَ عليه السلام بِأَنْ تُجْعَلَ الصُورَةُ وِسَادَتَينِ تُوطَئَانِ

(1)

، وَكَحَدِيثِ:((إِلَّا رَقْمًا فِي ثَوبٍ))

(2)

، وَكَحَدِيثِ الاتِّكَاءِ عَلَى مِرْفَقَةٍ فِيهَا صُورَةٌ

(3)

.

الجَوَابُ: الرَّاجِحُ أَنَّ الامْتِهَانَ -وَإِنْ كَانَ أَهْوَنَ مِنْ عَدَمِهِ-؛ فَهُوَ لَا يُخْرِجُ الصُورَةَ مِنْ حُكْمِ المَنْعِ.

=

سِتْرٌ؛ فَهَبَّتْ رِيحٌ فَكَشَفَتْ نَاحِيَةَ السِّتْرِ عَنْ بَنَاتٍ لِعَائِشَةَ لُعَبٍ، فَقَالَ:((مَا هَذَا يَا عَائِشَةُ؟)) قَالَتْ: بَنَاتِي. وَرَأَى بَينَهُنَّ فَرَسًا لَهُ جَنَاحَانِ مِنْ رِقَاعٍ، فَقَالَ:((مَا هَذَا الَّذِي أَرَى وَسْطَهُنَّ؟)) قَالَتْ: فَرَسٌ. قَالَ: ((وَمَا هَذَا الَّذِي عَلَيهِ)). قَالَتْ: جَنَاحَانِ. قَالَ: ((فَرَسٌ لَهُ جَنَاحَانِ!)). قَالَتْ: أَمَا سَمِعْتَ أَنَّ لِسُلَيمَانَ خَيلًا لَهَا أَجْنِحَةٌ؟ قَالَتْ: فَضَحِكَ حَتَّى رَأَيتُ نَوَاجِذَهُ). صَحِيحٌ. أَبُو دَاوُدَ (4932). صَحِيحُ أَبِي دَاوُدَ (4932).

(1)

وَالحَدِيثُ بِتَمَامِهِ: ((أَتَانِي جِبْرِيلُ عليه السلام، فَقَالَ لِي: أَتَيتُكَ البَارِحَةَ؛ فَلَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَكُونَ دَخَلْتُ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ عَلَى البَابِ تَمَاثِيلُ، وَكَانَ فِي البَيتِ قِرَامَي سِتْرٍ فِيهِ تَمَاثِيلُ، وَكَانَ فِي البَيتِ كَلْبٌ، فَمُرْ بِرَأْسِ التِّمْثَالِ الَّذِي فِي البَيتِ يُقْطَعُ فَيَصِيرُ كَهَيئَةِ الشَّجَرَةِ، وَمُرْ بِالسِّتْرِ فَلْيُقْطَعْ فَلْيُجْعَلْ مِنْهُ وِسَادَتَينِ مَنْبُوذَتَينِ تُوطَآنِ، وَمُرْ بِالكَلْبِ فَلْيُخْرَجْ)). صَحِيحٌ. أَبُو دَاوُدَ (4158) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (356).

(2)

البُخَارِيُّ (5613)، وَمُسْلِمٌ (2106).

وَلَفْظُهُ: "عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ أَبِي طَلْحَةَ -صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((إِنَّ المَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيتًا فِيهِ صُورَةٌ))، قَالَ بُسْرٌ: ثُمَّ اشْتَكَى زَيْدٌ فَعُدْنَاهُ، فَإِذَا عَلَى بابهِ سِتْرٌ فِيهِ صُورَةٌ! فَقُلْتُ لِعُبَيْدِ اللَّهِ -رَبِيبِ مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَلَمْ يُخْبِرْنَا زَيْدٌ عَنِ الصُّوَرِ يَوْمَ الأَوَّلِ؟! فَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: أَلَمْ تَسْمَعْهُ حِينَ قَالَ: (إِلَّا رَقْمًا فِي ثَوْبٍ) ".

(3)

وَالحَدِيثُ بِتَمَامِهِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها؛ قَالَتْ: (قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ سَفَرٍ -وَقَدْ اشْتَرَيتُ نَمَطًا فِيهِ صُورَةٌ- فَسَتَرْتُهُ عَلَى سَهْوَةِ بَيتِي، فَلَمَّا دَخَلَ كَرِهَ مَا صَنَعْتُ وَقَالَ: ((أَتَسْتُرِينَ الجُدُرَ يَا عَائِشَةُ؟!)) فَطَرَحْتُهُ فَقَطَعْتُهُ مِرْفَقَتَينِ؛ فَقَدْ رَأَيتُهُ مُتَّكِئًا عَلَى إِحْدَاهُمَا وَفِيهَا صُورَةٌ). صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (26103). آدَابُ الزِّفَافِ (ص 185). وَ (النَّمَطُ): بِسَاطٌ لَهُ خَمْلٌ رَقِيقٌ.

ص: 466

وَبَيَانُ ذَلِكَ هُوَ مِنْ أَوجُهٍ:

1 -

أَنَّ نَفْسَ الحَدِيثِ مَوضِعِ الاسْتِدْلَالِ جَاءَ بِلَفْظٍ يُشْعِرُ بالامْتِهَانِ؛ وَلَكِنْ بَعْدَ قَطْعِ الرُؤُوسِ مِنَ الصُورَةِ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ نَفْسَ الامْتِهَانِ لَا يَكْفِي، وَاللَّفْظُ هُوَ: أَنَّ جِبْرِيلَ عليه السلام جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ فَعَرَفَ صَوتَهُ فَقَالَ: ((ادْخُلْ))، فَقَالَ: إِنَّ فِي البَيتِ سِتْرًا فِي الحَائِطِ فِيهِ تَمَاثِيلُ! فَاقْطَعُوا رُءُوسَهَا فَاجْعَلُوهَا بِسَاطًا أَو وَسَائِدَ فَاوطَئُوهُ؛ فَإِنَّا لَا نَدْخُلُ بَيتًا فِيهِ تَمَاثِيلُ

(1)

.

فَإِنْ قِيلَ: فَمَا وَجْهُ ذِكْرِ الوَسَائِدِ المَوطُوءَةِ إِذًا؟!

فَالجَوَابُ عَلَيهِ: أَنَّ هَذَا يَكُونُ إِرْشَادًا إِلَى عَدَمِ إِتْلَافِهِ مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا تَغْيِيرُهُ بِطَرِيقَةٍ تُمَكِّنُ مِنَ الانْتِفَاعِ بِهِ كَالوَسَائِدِ؛ فَهُوَ مِنْ بَابِ ضَرْبِ المِثَالِ لَا الحَصْرِ، وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

(1)

صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (8079) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ. الصَّحِيحَةُ (356).

وَأَمَّا لَفْظُ النَّسَائِيِّ (5365) الَّذِي فِيهِ التَخْيِيرُ وَهُوَ: (فَإِمَّا أَنْ تُقْطَعَ رُءُوسُهَا أَو تُجْعَلَ بِسَاطًا يُوطَأُ) فَهُوَ مَرْجُوحٌ مِنْ وَجْهَينِ:

مِنْ جِهَةِ الإِسْنَادِ؛ قَالَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله فِي الصَّحِيحَةِ (356): "قُلْتُ: وَقَدْ تَابَعَهُ أَبُو إِسْحَاقَ [أي لِيُونُسَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ اللهِ؛ وَهُوَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ]، فَقَالَ أَحْمَدُ (2/ 308): حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنْبَأَنَا مَعْمَرُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ مُجَاهِدٍ بِهِ مُخْتَصَرًا بِالرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ. وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيخَينِ لَولَا أَنَّ أَبَا إِسْحَاقَ -وَهُوَ السَّبِيعِيَّ؛ وَالِدَ يُونُسَ- كَانَ تَغَيَّرَ فِي آخِرِهِ، وَقَدْ اخْتُلِفَ عَلَيهِ فِي لَفْظِهِ؛ فَرَوَاهُ عَنْهُ مَعْمَرُ هَكَذَا، وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ عَنْهُ بِهِ نَحْوَهُ بِلَفْظِ: ((فَإِمَّا أَنْ تُقْطَعَ رُءُوسُهَا أَو تُجْعَلَ بِسَاطًا يُوطَأُ)) أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ (2/ 302) وَالأَوَّلُ أَصَحُّ، لِأَنَّ مَعْمَرًا حَفِظَهُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَهُوَ ابْنُ عَيَّاشٍ الكُوفِيُّ، قَالَ الحَافِظُ: ثِقَةٌ عَابِدٌ؛ إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَبُرَ سَاءَ حِفْظُهُ، وَكِتَابُهُ صَحِيحٌ".

ب- مِنْ جِهَةِ الفِقْهِ: أَنَّهُ قَدْ جَاءَ امْتِنَاعُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ دُخُولِ البَيتِ -وَفِيهِ النُمْرُقَةُ (الوِسَادَةُ) الَّتِي عَلَيهَا صُورَةٌ- وَهِيَ مُمْتَهَنَةٌ بِلَا رَيبٍ. وَقَدْ سَبَقَ الحَدِيثُ فِي ذَلِكَ.

ص: 467

قُلْتُ: وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيرَةَ رَفَعَهُ: (رَخَّصَ فِيمَا كَانَ يُوطَأُ، وَكَرِهَ مَا كَانَ مَنْصُوبًا) فَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا

(1)

.

2 -

قَدْ جَاءَ تَحْرِيمُ بَعْضٍ مِمَّا سَلَفَ مِنَ الأَمْثِلَةِ الَّتِي فِيهَا الامْتِهَانُ وَلَمْ يُقِرَّهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم!

كَمَا فِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها؛ أَنَّهَا اشْتَرَتْ نُمْرُقَةً

(2)

فِيهَا تَصَاوِيرٌ، فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالبَابِ فَلَمْ يَدْخُلْ، فَقُلْتُ: أَتُوبُ إِلَى اللهِ مِمَّا أَذْنَبْتُ، قَالَ:((مَا هَذِهِ النُّمْرُقَةُ؟)) قُلْتُ: لِتَجْلِسَ عَلَيهَا وَتَوَسَّدَهَا، قَالَ:((إِنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الصُّوَرِ يُعَذَّبُونَ يَومَ القِيَامَةِ يُقَالُ لَهُمْ: أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ! وَإِنَّ المَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيتًا فِيهِ الصُورَةُ))

(3)

.

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله: "وَظَاهِرُ حَدِيثَي عَائِشَةَ -هَذَا وَالَّذِي قَبْلَهُ- التَّعَارُضُ، لِأَنَّ الَّذِي قَبْلَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم اسْتَعْمَلَ السِّتْرَ الَّذِي فِيهِ الصُورَةُ بَعْدَ أَنْ قُطِعَ وَعُمِلَتْ مِنْهُ الوِسَادَةُ؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَسْتَعْمِلْهُ أَصْلًا! وَقَدْ أَشَارَ المُصَنِّفُ إِلَى الجَمْعِ بَينَهُمَا بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ جَوَازِ اتِّخَاذِ مَا يُوطَأُ مِنَ الصُّوَرِ جَوَازُ القُعُودِ عَلَى الصُورَةِ! فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتَعْمَلَ مِنَ الوِسَادَةِ مَا لَا صُورَة فِيهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَأَى التَّفْرِقَةَ بَينَ القُعُودِ وَالِاتِّكَاءِ وَهُوَ بَعِيدٌ، وَيُحْتَمَلُ أَيضًا أَنْ يُجْمَعَ بَينَ الحَدِيثَينِ بِأَنَّهَا لَمَّا قَطَعَتِ السِّتْرَ وَقَعَ القَطْعُ فِي وَسْطِ الصُورَةِ مَثَلًا؛ فَخَرَجَتْ عَنْ هَيئَتِهَا؛ فَلِهَذَا صَارَ يَرْتَفِقُ بِهَا، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الجَمْعَ الحَدِيثُ الَّذِي فِي البَابِ قَبْلَهُ فِي نَقْضِ الصُّوَرِ"

(4)

.

(1)

ضَعِيفٌ جِدًّا. الطَّبَرَانِيُّ فِي الأَوسَطِ (5703). الضَّعِيفَةُ (5998).

(2)

وَهِيَ الوِسَادَةُ.

(3)

البُخَارِيُّ (5957).

(4)

فَتْحُ البَارِي (10/ 390).

ص: 468

قُلْتُ: وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُ الحَدِيثِ بِلَفْظٍ آخَرَ وَهُوَ: ((فَاقْطَعُوا رُؤوسَهَا؛ فَاجْعَلُوهَا بِسَاطًا أَو وَسَائِدَ فَاوطَئُوهُ))

(1)

، فَفِيهِ بَيَانُ النَّصِّ عَلَى وُفْقِ مَا وَجَّهَهُ الحَافِظُ؛ وَمَا أَشَارَ إِلَيهِ البُخَارِيُّ رَحِمَهُمَا اللهُ.

وَقَالَ أَيضًا رحمه الله -عِنْدَ شَرْحِ بَابِ نَقْضِ الصُّوَرِ

(2)

-: "وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ اسْتَنْبَطَ مِنْ نَقْضِ الصَّلِيبِ نَقْضَ الصُورَةِ الَّتِي تَشْتَرِكُ مَعَ الصَّلِيبِ فِي المَعْنَى وَهُوَ عِبَادَتُهُمَا مِنْ دُونِ اللهِ؛ فَيَكُونُ المُرَادُ بِالصُّوَرِ فِي التَّرْجَمَةِ خُصُوصَ مَا يَكُونُ مِنْ ذَوَاتِ الأَرْوَاحِ؛ بَلْ أَخَصُّ مِنْ ذَلِكَ"

(3)

.

3 -

أَمَّا حَدِيثُ: ((إِلَّا رَقْمًا فِي ثَوبٍ)) فَفِيهِ مَسَالِكُ:

الأَوَّلُ: مَعْنَى الرَّقْمِ لَغْةً:

قَالَ فِي تَاجِ العَرُوسِ: "رَقَمَ الثَّوبَ رَقْمًا: وَشَاهُ"

(4)

.

وَقَالَ فِي جَمْهَرَةِ اللُّغَةِ: "الرَّقْمُ: رَقْمُ الثَّوبِ، وَكُلُّ ثَوبٍ وُشِّيَ فَهُوَ مَرْقُومٌ"

(5)

.

وَالوَشْيُ مَعْرُوفٌ أَنَّهُ مِنْ خَلْطِ الأَلْوَانِ، فَهُوَ بِمَعْنَى التَّعْلِيمِ، قَالَ فِي لِسَانِ

(1)

صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (8079) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ. الصَّحِيحَةُ (356).

(2)

وَفِيهِ حَدِيثُ عَائِشَةَ رضي الله عنها: (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ يَتْرُكُ فِي بَيتِهِ شَيئًا فِيهِ تَصَالِيبُ إِلَّا نَقَضَهُ). البُخَارِيُّ (5952).

(3)

فَتْحُ البَارِي (10/ 385).

(4)

تَاجُ العَرُوسِ (32/ 272).

(5)

جَمْهَرَةُ اللُّغَةِ (2/ 790).

وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ فِي مُعْجَمِ مَقَايِيسِ اللُّغَةِ (2/ 425): " (رَقَمَ) الرَّاءُ وَالقَافُ وَالمِيمُ: أَصْلٌ وَاحِدٌ يَدُلُّ عَلَى خَطٍّ وَكِتَابَةٍ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. فَالرَّقْمُ: الخَطُّ، وَكُلُّ ثَوبٍ وُشِيَ فَهُوَ رَقْمٌ".

ص: 469

العَرَبِ: "الوَشْيُ مَعْرُوفٌ؛ وَهُوَ يَكُونُ مِنْ كُلِّ لَونٍ"

(1)

.

وَقَالَ ابْنُ الأَثِيرِ رحمه الله: " (رَقَمَ): فِيهِ: أَتَى فَاطِمَةَ فَوَجَدَ عَلَى بَابِهَا سِتْرًا مُوشّى، فَقَالَ:((مَا أَنَا وَالدُّنْيَا وَالرَّقْمَ؟!))

(2)

؛ يُريدُ النَّقْشَ وَالوَشْيَ، وَالأَصْلُ فِيهِ الكِتَابَةُ"

(3)

.

قَالَ العَينِيُّ رحمه الله: "قَالَ الخَطَّابِيُّ رحمه الله: المُصَوِّرُ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُ أَشْكَالَ الحَيَوَانِ، وَالنَّقَّاشُ الَّذِي يَنْقُشُ أَشْكَالَ الشَّجَرِ وَنَحْوِهَا؛ فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ لَا يَدْخُلَ فِي هَذَا الوَعِيدِ؛ وَإِنْ كَانَ جُمْلَةُ هَذَا البَابِ مَكْرُوهًا وَدَاخِلًا فِيمَا يُشْغِلُ القَلْبَ بِمَا لَا يِنْبَغِي"

(4)

.

وَعَلَى مَا سَبَقَ؛ فَإِنَّ الرَّقْمَ لَيسَ مِنْ بَابِ صُوَرِ ذَوَاتِ الأَرْوَاحِ! فَلَا تَعَارُضَ بِحَمْدِ اللهِ.

الثَّانِي: جَمْعُ النُّصُوصِ: الاسْتِثْنَاءُ هُنَا يَكُونُ بِحَمْلِ الرَّقْمِ عَلَى مَا يَحِلُّ كَصُوَرِ الشَّجَرِ وَالجَمَادِ، أَوِ الصُورَةِ المُقَطَّعَةِ وَالَّتِي لَا رَأْسَ فِيهَا، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ أَنَّ أَحَادِيثَ النَّهْي قَدْ تَنَاوَلَتْ عِدَّةَ أَنْوَاعٍ مِنَ الثِّيَابِ نُهِيَ عَنِ الصُّوَرِ فِيهَا كَالسِّتْرِ وَالقِرَامِ وَالوِسَادَةِ، وَهذا الجَمْعُ هُوَ مِنْ بَابِ حَمْلِ المُتَشَابِهِ عَلَى المُحْكَمِ

(5)

.

قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رحمه الله فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ

(6)

: "هَذَا يَحْتَجّ بِهِ مَنْ يَقُول بِإِبَاحَةِ مَا

(1)

لِسَانُ العَرَبِ (15/ 392).

(2)

صَحِيحٌ. أَبُو دَاوُدَ (4149) عَنِ ابْنِ عُمَرَ. الصَّحِيحَةُ (2421).

(3)

النِّهَايَةُ فِي غَرِيبِ الحَدِيثِ وَالأَثَرِ (2/ 618).

(4)

عُمْدَةُ القَارِي (22/ 74).

(5)

أَفَادَهُ الشَّيخُ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ رحمه الله فِي مَجْمُوعِ الفَتَاوَى وَالرَسَائِلِ (1/ 180).

(6)

شَرْحُ مُسْلِمٍ (14/ 85).

ص: 470

كَانَ رَقْمًا مُطْلَقًا كَمَا سَبَقَ! وَجَوَابُنَا وَجَوَابُ الجُمْهُور عَنْهُ: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى رَقْمٍ عَلَى صُورَةِ الشَّجَرِ وَغَيرِهِ مِمَّا لَيسَ بِحَيَوَانٍ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ هَذَا جَائِزٌ عِنْدَنَا"

(1)

.

الثَّالِثُ: يُمْكِنُ القَولُ أَيضًا بِمَا أَورَدَهُ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي)

(2)

: "وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ النَّهْي كَمَا يَدُلُّ عَلَيهِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيرَةَ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ وَسَأَذْكُرُهُ فِي البَاب الَّذِي يَلِيهِ"

(3)

.

الرَّابِعُ: أَنَّ الرَّقْمَ -هُنَا- لَو حُمِلَ عَلَى كَونِهِ صُورَةَ ذِي رُوحٍ كَامِلَةٍ -جَدَلًا- فَالظَّاهِرُ

(1)

وَقَالَ الشَّيخُ ابْنُ عُثَيمِين رحمه الله فِي كِتَابِهِ القَولُ المُفِيدُ (2/ 439): "المُرَادُ بِالاسْتِثْنَاءِ: مَا يَحِلُ تَصْوِيرُهُ مِنَ الأَشْجَارِ وَنَحْوِهَا".

(2)

فَتْحُ البَارِي (10/ 391).

(3)

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله فِي الفَتْحِ (10/ 392) -عَنْدَ بَابِ: لَا تَدْخُلُ المَلَائِكَةُ بَيتًا فِيهِ صُورَةٌ-: "وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيرَةَ فِي السُّنَنِ -وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ- أَتَمُّ سِيَاقًا مِنْهُ؛ وَلَفْظُهُ: ((أَتَانِي جِبْرِيلُ فَقَالَ: أَتَيتُكَ البَارِحَةَ فَلَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَكُونَ دَخَلْتُ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ عَلَى البَابِ تَمَاثِيلُ، وَكَانَ فِي البَيتِ قِرَامُ سِتْرٍ فِيهِ تَمَاثِيلُ، وَكَانَ فِي البَيتِ كَلْبٌ؛ فَمُرْ بِرَأْسِ التِّمْثَالِ الَّذِي عَلَى بَابِ البَيتِ يُقْطَعْ فَيَصِيرُ كَهَيئَةِ الشَّجَرَةِ، وَمُرْ بِالسِّتْرِ فَلْيُقْطَعْ فَلْيُجْعَلْ مِنْهُ وِسَادَتَانِ مَنْبُوذَتَانِ تُوطَآنِ، وَمُرْ بِالكَلْبِ فَلْيُخْرَجْ؛ فَفَعَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم)، وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ:((إِمَّا أَنْ تُقْطَعَ رُؤوسُهَا أَو تُجْعَلَ بُسُطًا تُوطَأُ))، وَفِي هَذَا الحَدِيثِ تَرْجِيحُ قَولِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الصُورَةَ الَّتِي تَمْتَنِعُ المَلَائِكَةُ مِنْ دُخُولِ المَكَانِ الَّتِي تَكُونُ فِيهِ بَاقِيَةٌ عَلَى هَيئَتِهَا مُرْتَفِعَةٌ غَيرُ مُمْتَهَنَةٍ؛ فَأَمَّا لَو كَانَتْ مُمْتَهَنَةً، أَو غَيرَ مُمْتَهَنَةٍ لَكِنَّهَا غُيِّرَتْ مِنْ هَيئَتِهَا إِمَّا بِقَطْعِهَا مِنْ نِصْفِهَا أَو بِقَطْعِ رَأْسِهَا؛ فَلَا امْتِنَاعَ.

وَقَالَ القُرْطُبِيُّ: ظَاهِرُ حَدِيثِ زَيدِ بْنِ خَالِدٍ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ المَاضِي قِيلَ: إِنَّ المَلَائِكَةَ لَا تَمْتَنِعُ مِنْ دُخُولِ البَيتِ الَّذِي فِيهِ صُورَةٌ إِنْ كَانَتْ رَقْمًا فِي الثَّوبِ؛ وَظَاهِرُ حَدِيثِ عَائِشَةَ المَنْعُ، وَيُجْمَعُ بَينَهُمَا بِأَنْ يُحْمَلَ حَدِيثُ عَائِشَةَ عَلَى الكَرَاهَةِ وَحَدِيثُ أَبِي طَلْحَةَ عَلَى مُطْلَقِ الجَوَازِ، وَهُوَ لَا يُنَافِي الكَرَاهَةَ.

قُلْتُ: وَهُوَ جَمْعٌ حَسَنٌ؛ لَكِنَّ الجَمْعَ الَّذِي دَلَّ عَلَيهِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيرَةَ أَولَى مِنْهُ. وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ".

قُلْتُ: وَقَدْ قَدَّمْنَا فِيمَا سَبَقَ أَنَّ رِوَايَةَ النَّسَائِيِّ المَذْكُورَةَ مَرْجُوحَةٌ مِنْ جِهَةِ التَّخْيِيرِ.

ص: 471

أَنَّ الجَائِزَ مِنْهَا مَا كَانَ مُمْتَهَنًا، وَدَلَّ لِذَلِكَ أَصْلُ الحَدِيثِ عَنِ الصَّحَابِيِّ الرَّاوِي رضي الله عنه حَيثُ كَانَ الكَلَامُ عَنْ نَمَطٍ جَلَسَ عَلَيهِ، فَقَدْ رَوَى الإِمَامُ مَالِكٌ رحمه الله وَغَيرُهُ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ؛ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى أَبِي طَلْحَةَ الأَنْصَارِيِّ يَعُودُهُ، فَوَجَدَ عِنْدَهُ سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ، فَدَعَا أَبُو طَلْحَةَ إِنْسَانًا يَنْزِعُ نَمَطًا تَحْتَهُ، فَقَالَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ: لِمَ تَنْزِعُهُ؟ قَالَ: لأَنَّ فِيهِ تَصَاوِيرَ؛ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ فِيهَا مَا قَدْ عَلِمْتَ، قَالَ سَهْلٌ: أَوَ لَمْ يَقُلْ: ((إِلَّا مَا كَانَ رَقْمًا فِي ثَوْبٍ))؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنَّهُ أَطْيَبُ لِنَفْسِي"

(1)

.

4 -

وَأَمَّا الحَدِيثُ الَّذِي فِيهِ الاتِّكَاءُ عَلَى الصُورَةِ؛ فَالجَوَابُ عَلَيهِ هُوَ مِنْ أَوجُهٍ:

أ- قَولُهَا: (وَفِيهَا صُورَةٌ) مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ فِيهَا أَجْزَاءً مِنَ الصُورَةِ الَّتِي قُطِعَتْ وَلَيسَ كَامِلَ الصُورَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهَا رضي الله عنها أَخْبَرَتْ عَنْ نَمَطِهَا أَنَّ فِيهِ صُورَةً -بِلَفْظِ الإِفْرَادِ- وَأَنَّهَا جَعَلَتْ مِنْهُ مِرْفَقَتَينِ اثْنَتَين

(2)

مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصُورَةَ -مَوضِعَ النَّهْيَ- قَدْ صَارَتْ شِقَّينِ وَلَمْ تَبْقَ عَلَى حَالِهَا؛ فَتَأَمَّلْ، وَالحَمْدُ للهِ عَلَى تَوفِيقِهِ.

ب- أَنَّهُ قَدْ سَبَقَ فِي الحَدِيثِ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام لَمْ يُقِرَّهَا عَلَى النُّمْرُقَةِ (الوِسَادَةِ) الَّتِي فِيهَا صُورَةٌ؛ فَلَا بُدَّ إِذًا مِنَ الحَمْلِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَعَارَضُ مَعَ غَيرِهِ، وَهُوَ إِمَّا أَنَّ الصُورَةَ مُقَطَّعَةٌ، أَو أَنَّهَا صُورَةُ مَا لَيسَ بِذِي رَوحٍ. وَقَدْ سَبَقَ التَّعْلِيقُ بِنَحْوِ هَذَا الكَلَامِ.

ج- أَنَّهُ يُمْكِنُ القَولُ أَيضًا أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ النَّهْي، وَذَلِكَ أَنَّ سَبَبَ إِنْكَارِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هُوَ سَتْرُ الجِدَارِ أَصْلًا

(3)

وَلَيسَ وجُودَ الصُورَةِ نَفْسِهَا! كَمَا هُوَ فِي لَفْظِ مُسْنَدِ أَحْمَدَ -وَقَدْ سَبَقَ-؛ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصُورَةَ لَمْ تَكُنْ أَصْلًا مَنْهِيًّا عَنْهَا. وَالحَمْدُ للهِ عَلَى تَوفِيقِهِ.

(1)

صَحِيحٌ. المُوَطَّأ (2/ 966). غَايَةُ المَرَامِ (134).

(2)

صَحِيحُ مُسْلِمٍ (2107).

(3)

وَلَفْظُ مُسْلِمِ (2107): ((إِنَّ اللهَ لَمْ يَأْمُرْنَا أَنْ نَكْسُوَ الحِجَارَةَ وَالطِّينَ)).

ص: 472

فَمِثْلُ هَذَا الحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ جَائِزًا، وَفِي مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنه قَالَتْ: كَانَ لَنَا سِتْرٌ فِيهِ تِمْثَالُ طَائِرٍ؛ وَكَانَ الدَّاخِلُ إِذَا دَخَلَ اسْتَقْبَلَهُ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:((حَوِّلِي هَذَا؛ فَإِنِّي كُلَّمَا دَخَلْتُ فَرَأَيتُهُ؛ ذَكَرْتُ الدُّنْيَا))

(1)

.

قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رحمه الله: "هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ تَحْرِيمِ اتِّخَاذِ مَا فِيهِ صُورَةٌ؛ فَلِهَذَا كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَدْخُلُ وَيَرَاهُ وَلَا يُنْكِرُهُ قَبْل هَذِهِ المَرَّة الأَخِيرَةِ"

(2)

.

نَقْلٌ عَنِ الحَافِظِ وَتَعْلِيقٌ:

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله: "قَالَ النَّوَوِيُّ: وَذَهَبَ بَعْضُ السَّلَفِ إِلَى أَنَّ المَمْنُوعَ مَا كَانَ لَهُ ظِلٌّ، وَأَمَّا مَا لَا ظِلَّ لَهُ؛ فَلَا بَأْسَ بِاتِّخَاذِهِ مُطْلَقًا

(3)

! وَهُوَ مَذْهَبٌ بَاطِلٌ؛ فَإِنَّ السِّتْرَ الَّذِي أَنْكَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَانَتِ الصُّورَةُ فِيهِ بِلَا ظِلٍّ بِغَيرِ شَكٍّ؛ وَمَعَ ذَلِكَ فَأَمَرَ بِنَزْعِهِ!

قُلْتُ: المَذْهَبُ المَذْكُورُ نَقَلَهُ ابن أَبِي شَيبَةَ عَنِ القَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ بِسَنَدٍ صَحِيح، وَلَفظه عَن ابن عَوْنٍ؛ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى القَاسِمِ -وَهُوَ بِأَعْلَى مَكَّةَ فِي بَيتِهِ- فَرَأَيتُ فِي بَيتِهِ حَجَلَةً [مَقْصُورَةٌ] فِيهَا تَصَاوِيرُ القُنْدُسِ وَالْعَنْقَاءِ. فَفِي إِطْلَاقِ كَوْنِهِ مَذْهَبًا بَاطِلًا نَظَرٌ؛ إِذْ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ تَمَسَّكَ فِي ذَلِكَ بِعُمُومِ قَوْلِهِ: ((إِلَّا رَقْمًا فِي ثَوْبٍ)) فَإِنَّهُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُعَلَّقًا أَوْ مَفْرُوشًا، وَكَأَنَّهُ جَعَلَ إِنْكَارِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى عَائِشَةَ تَعْلِيقَ السِّتْرِ المَذْكُورِ مُرَكَّبًا مِنْ كَوْنِهِ مُصَوَّرًا وَمِنْ كَوْنِهِ سَاتِرًا لِلْجِدَارِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ، فَأَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ زَيدِ بْنِ خَالِدٍ الجُهَنِيِّ قَالَ: (دَخَلْتُ عَلَى

(1)

صَحِيحُ مُسْلِمٍ (2107).

(2)

شَرْحُ مُسْلِمٍ (14/ 87).

(3)

وَالكَلَامُ هُنَا هُوَ عَلَى حُكْمِ الاقْتِنَاءِ وَلَيسَ عَلَى حُكْمِ التَّصْوِيرِ؛ فَتَنَبَّهْ، وَسَيَأْتِي قَرِيبًا التَّنْبِيهُ عَلَى ذَلِكَ.

ص: 473

عَائِشَةَ) فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ البَابِ لَكِنْ قَالَ: (فَجَذَبَهُ حَتَّى هَتَكَهُ، وَقَالَ: ((إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْنَا أَنْ نَكْسُوَ الحِجَارَةَ وَالطِّينَ))! قَالَ: فَقَطَعْنَا مِنْهُ وِسَادَتَينِ) الحَدِيثَ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَرِهَ سَتْرَ الجِدَارِ بِالثَّوْبِ المُصَوَّرِ؛ فَلَا يُسَاوِيهِ الثَّوْبُ المُمْتَهَنُ وَلَوْ كَانَتْ فِيهِ صُورَةٌ، وَكَذَلِكَ الثَّوْبُ الَّذِي لَا يُسْتَرُ بِهِ الجِدَارُ! وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَحَدُ فُقَهَاءِ المَدِينَةِ، وَكَانَ مِنْ أَفْضَلِ أَهْلِ زَمَانِهِ، وَهُوَ الَّذِي رَوَى حَدِيثَ النُّمْرُقَةِ؛ فَلَوْلَا أَنَّهُ فَهِمَ الرُّخْصَةَ فِي مِثْلِ الحَجَلَةِ مَا اسْتَجَازَ اسْتِعْمَالَهَا! لَكِنَّ الجَمْعَ بَينَ الأَحَادِيثِ الوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَذْهَبٌ مَرْجُوحٌ؛ وَأَنَّ الَّذِي رُخِّصَ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ مَا يُمْتَهَنُ لَا مَا كَانَ مَنْصُوبًا، وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيبَةَ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: كَانُوا يَقُولُونَ فِي التَّصَاوِيرِ فِي البُسُطِ وَالْوَسَائِدِ الَّتِي تُوطَأُ: ذُلٌّ لَهَا، وَمِنْ طَرِيقِ عَاصِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: كَانُوا يَكْرَهُونَ مَا نُصِبَ مِنَ التَّمَاثِيلِ نَصْبًا وَلَا يَرَوْنَ بَأْسًا بِمَا وَطِئَتْهُ الأَقْدَامُ، وَمِن طَرِيقِ ابْنِ سِيرِينَ وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَعِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيرٍ فرقهم

(1)

أَنَّهُمْ قَالُوا: لَا بَأْس بِالصُّورَةِ إِذَا كَانَتْ تُوطَأُ، وَمِنْ طَرِيقِ عُرْوَةَ أَنَّهُ كَانَ يَتَّكِئُ عَلَى المَرَافِقِ فِيهَا التَّمَاثِيلُ الطَّيرُ وَالرِّجَالُ"

(2)

.

قُلْتُ: وَلَنَا عَلَى كَلَامِهِ رحمه الله تَعْلِيقَاتٌ:

1 -

أَمَّا قَولُهُ رحمه الله: "فَفِي إِطْلَاقِ كَوْنِهِ مَذْهَبًا بَاطِلًا نَظَرٌ؛ إِذْ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ تَمَسَّكَ فِي ذَلِكَ بِعُمُومِ قَوْلِهِ: ((إِلَّا رَقْمًا فِي ثَوْبٍ)) فَإِنَّهُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُعَلَّقًا أَوْ مَفْرُوشًا" لَا يُخْرِجُهُ عَن كَونِهِ مَذْهَبًا بَاطِلًا! لِأَنَّ كَلَامَ النَّوَوِيِّ رحمه الله إِنَّمَا كَانَ عَن مَن فَرَّقَ فِي حُكْمِ الصُّورَةِ بَينَ مَا لَهَا ظِلٌّ وَمَا لَيسَ لَهَا ظِلٌّ دَونَ ذِكْرِ سَتْرِ الجَدَارِ مِن عَدَمِهِ!

(1)

لَمْ يَظْهَرْ لِي مَعْنَاهَا.

(2)

فَتْحُ البَارِي (10/ 388).

ص: 474

2 -

وَأَمَّا قَولُهُ عَنِ القَاسِمِ بنِ مُحَمَّدٍ رحمه الله: "وَهُوَ الَّذِي رَوَى حَدِيثَ النُّمْرُقَةِ" فَهَذَا يُقْبَلُ لَو أَنَّهُ لَمْ يُخَالِفْ مَرْوِيَّهُ! وَالمُعْتَمَدُ عِنْدَ مُخَالَفَةِ الرَّاوِي لِمَرْوِيِّهِ إِنَّمَا هُوَ رِوَايَتُهُ، وَذَلِكَ لِاحْتِمَالِ وَقْعِ النِّسْيَانِ، أَوْ أَنَّهُ لَمْ يَتَفَطَّنْ لِوَجْهِ الدِّلَالَةِ فِي ذَلِكَ

(1)

.

3 -

وَأَمَّا قَولُهُ: "وَأَنَّ الَّذِي رُخِّصَ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ مَا يُمْتَهَنُ لَا مَا كَانَ مَنْصُوبًا" فَهُوَ مَرْدُودٌ بِصَرَاحَةِ حَدِيثِ البُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ؛ أُمِّ المُؤْمِنِينَ رضي الله عنها وفيه: (أَنَّهَا اشْتَرَتْ نُمْرُقَةً فِيهَا تَصَاوِيرُ، فَلَمَّا رَآهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ عَلَى البَابِ فَلَمْ يَدْخُلْهُ، فَعَرَفْتُ فِي وَجْهِهِ الكَرَاهِيَةَ؛ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ أَتُوبُ إِلَى اللهِ وَإِلَى رَسُولِهِ؛ مَاذَا أَذْنَبْتُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (مَا بَالُ هَذِهِ النُّمْرُقَةِ؟) قُلْتُ: اشْتَرَيتُهَا لَكَ لِتَقْعُدَ عَلَيهَا وَتَوَسَّدَهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ أَصْحَابِ هَذِهِ الصُّوَرِ يَومَ القِيَامَةِ يُعَذَّبُونَ؛ فَيُقَالُ: لَهُمْ أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ). وَقَالَ: (إِنَّ البيتَ الَّذِي فِيهِ الصُّوَرُ لَا تَدْخُلُهُ المَلَائِكَةُ))

(2)

، فَهُوَ حَاسِمٌ لِمَادَّةِ النِّزَاعِ أَصْلًا فِي كَونِ الصُّورَةِ حَتَّى لَو كَانَتْ مُمْتَهَنَةً فَإِنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي النَّهْي.

وَسَبَقَ أَيضًا فِي حَدِيثِ أَحْمَدَ: أَنَّ جِبْرِيلَ قَالَ: (إِنَّ فِي البَيتِ سِتْرًا فِي الحَائِطِ فِيهِ تَمَاثِيلُ؛ فَاقْطَعُوا رُؤوسَهَا فَاجْعَلُوهَا بِسَاطًا أَو وَسَائِدَ فَاوطَئُوهُ) فَلَمْ يَكْتَفِ جِبْرِيلُ بِكَونِهَا وَسَائِدَ مَوْطُوءَةً مَنْبُوذَةً! حَتَّى أَضَافَ لِذَلِكَ قَطْعَ الرُّؤُوسِ، وَهَذَا كُلُّهُ عُمُومًا خَارِجٌ عَنْ كَونِ العِلَّةِ سَتْرَ الجُدُرِ! فَتَنَبَّهْ.

4 -

سَبَقَ النَّقْلُ عَنِ الحَافِظِ رحمه الله بِمَا يَشْهَدُ لِلْمَطْلُوبِ، وَهُوَ قَولُهُ: "وَيُحْتَمَلُ أَيضًا أَنْ يُجْمَعَ بَينَ الحَدِيثَينِ بِأَنَّهَا لَمَّا قَطَعَتِ السِّتْرَ وَقَعَ القَطْعُ فِي وَسْطِ الصُورَةِ مَثَلًا؛ فَخَرَجَتْ عَنْ هَيئَتِهَا؛ فَلِهَذَا صَارَ يَرْتَفِقُ بِهَا، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الجَمْعَ الحَدِيثُ الَّذِي فِي

(1)

وَلْيُرَاجَعْ فِي هَذَا البَابِ إِجْمَالًا كَتَابَ شَيخِ الإِسْلَامِ رحمه الله "رَفْعُ المَلَامِ عَنِ الأَئِمَّةِ الأَعْلَامِ".

(2)

صَحِيحُ البُخَارِيِّ (5957).

ص: 475

البَابِ قَبْلَهُ فِي نَقْضِ الصُّوَرِ"

(1)

.

5 -

أَمَّا مَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ مِن إِبَاحَةِ مَا كَانَ مُمْتَهَنًا؛ فَجَوَابُهُ مِن جِهَتِين:

أ- أنَّ العِبْرَةَ بِجُمْلَةِ مَا وَرَدَتْ بِهِ النُّصُوصُ النَّبَوِيَّةُ الصَّحِيحَةُ؛ وَفِيهَا النَّهْيُ عَنِ الصُّورَةِ حَتَّى لَو كَانَتْ نُمْرُقَةً يَتَوَسَّدُهَا المُسْلِمُ!

ب- أَنَّهُ مَدْفُوعٌ بِكَلَامِ غَيرِهِم مِنَ السَّلَفِ مِمَّن لَمْ يُبِيحُوَها حَتَّى لَو كَانَتْ مُمْتَهَنَةً، وَهَاكَ بَعْضُها:

عَن مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ:(أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ التَّصَاوِيرَ؛ مَا نُصِبَ مِنْهَا وَمَا بُسِطَ)

(2)

.

وَعَنْ شُعْبَةَ: (أَنَّ المِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ دَخَلَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَعُودُهُ مِنْ وَجَعٍ، وَعَلَيهِ بُرْدٌ إِسْتَبْرَقٌ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبَّاسٍ؛ مَا هَذَا الثَّوْبُ؟ قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: هَذَا الإِسْتَبْرَقُ! قَالَ: وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ بِهِ! وَمَا أَظُنُّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ هَذَا حِينَ نَهَى عَنْهُ إِلَّا لِلتَّجَبُّرِ وَالتَّكَبُّرِ، وَلَسْنَا بِحَمْدِ اللَّهِ كَذَلِكَ. قَالَ: فَمَا هَذِهِ التَّصَاوِيرُ فِي الكَانُونِ [المَوقِد]؟ قَالَ: أَلَا تَرَى قَدْ أَحْرَقْنَاهَا بِالنَّارِ؟! فَلَمَّا خَرَجَ المِسْوَرُ، قَالَ: انْزَعُوا هَذَا الثَّوْبَ عَنِّي، وَاقْطَعُوا رُؤوسَ هَذِهِ التَّمَاثِيلِ. قَالُوا: يَا أَبَا عَبَّاسٍ؛ لَوْ ذَهَبْتَ بِهَا إِلَى السُّوقِ كَانَ أَنْفَقَ لَهَا مَعَ الرَّأْسِ! قَالَ: لَا. فَأَمَرَ بِقَطْعِ رُءُوسِهَا)

(3)

.

وَعَنِ ابْنِ عَوْنٍ، قَالَ: كَانَ فِي مَجْلِسِ مُحَمَّدٍ وَسَائِدُ فِيهَا تَمَاثِيلُ عَصَافِيرَ؛ فَكَانَ أُنَاسٌ يَقُولُونَ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ مُحَمَّدٌ:(إِنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ أَكْثَرُوا؛ فَلَوْ حَوَّلْتُمُوهَا)

(4)

.

(1)

فَتْحُ البَارِي (10/ 390).

(2)

مُصَنَّفُ ابْنِ أَبِي شَيبَةَ (25298).

(3)

مُسْنَدُ أَحْمَد (2934)، وَحَسَّنَهُ الشَّيخُ أَحْمَدُ شَاكِر رحمه الله فِي تَحْقِيقِ المُسْنَدِ.

(4)

مُصَنَّفُ ابْنِ أَبِي شَيبَةَ (25294).

ص: 476

تَنْبِيهٌ هَامٌّ فِي التَّفْرِيقُ بَينَ صُنْعِ الصُّورَةِ وَبَينَ اقْتِنَائِهَا

إِنَّ مَا سَبَقَ مِن الخِلَافِ إِنَّمَا هُوَ فِي اتِّخَاذِ الصُّوَرِ فِي البَيتِ، وَلَيسَ فِي حُكْمِ صِنَاعَتِهَا! فَلَا يُفْهَمُ مِن قَولِ بَعْضِ مَن جَوَّزَ الاقْتِنَاءَ فِي البَيتِ -بِحُجَّةِ الامْتِهَانِ أَوْ غَيرِهِ- أَنَّهُ يُجَوِّزُ الصُّنْعَ!

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ أَبِي شَيبَةَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيلٍ، عَنْ لَيثٍ، قَالَ: رَأَيتُ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ مُتَّكِئًا عَلَى وِسَادَةٍ حَمْرَاءَ فِيهَا تَمَاثِيلُ فَقُلْتُ لَهُ؛ فَقَالَ: (إِنَّمَا يُكْرَهُ هَذَا لِمَنْ يَنْصِبُهُ، وَيَصْنَعُهُ)

(1)

.

وَهَذَا ظَاهِرٌ أَنَّهُ حَمَلَ مَا جَاءَ فِي النَّهْي عَلَى غَيرِ المُمْتَهَنِ -عَلَى مَذْهَبِ مَن يَرَى ذلك-، وَأَيضًا حَمَلَهُ عَلَى الصَّانِعِ لِلصُّوَرِ؛ فَلَا يُقَالُ هُنَا:"كُلُّ مَا جَازَ اقْتِنَاؤُهُ جَازَ صُنْعُهُ"!!

قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رحمه الله: "قَالَ أَصْحَابنَا وَغَيرُهُمْ مِنَ العُلَمَاءِ: تَصْوِيرُ صُورَةِ الحَيَوَانِ حَرَامٌ شَدِيدُ التَّحْرِيمِ، وَهُوَ مِنَ الكَبَائِرِ، لِأَنَّهُ مُتَوَعَّدٌ عَلَيهِ بِهَذَا الوَعِيدِ الشَّدِيدِ المَذْكُورِ فِي الأَحَادِيثِ، وَسَوَاءً صَنَعَهُ بِمَا يُمْتَهَنُ أَو بِغَيرِهِ؛ فَصَنْعَتُهُ حَرَامٌ بِكُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّ فِيهِ مُضَاهَاةً لِخَلْقِ اللهِ تَعَالَى، وَسَوَاءً مَا كَانَ فِي ثَوبٍ أَو بِسَاطٍ أَو دِرْهَمٍ أَو دِينَارٍ أَو فَلْسٍ أَو إِنَاءٍ أَو حَائِطٍ أَو غَيرهَا.

وَأَمَّا تَصْوِيرُ صُورَةِ الشَّجَرِ وَرِحَالِ الإِبِلِ وَغَيرِ ذَلِكَ مِمَّا لَيسَ فِيهِ صُورَةُ حَيَوَانٍ؛

(1)

مُصَنَّفُ ابْنِ أَبِي شَيبَةَ (25287).

ص: 477

فَلَيسَ بِحِرَامٍ، هَذَا حُكْمُ نَفْسِ التَصْوِيرِ.

وَأَمَّا اتِّخَاذُ المُصَوَّرِ فِيهِ صُورَةُ حَيَوَانٍ؛ فَإِنْ كَانَ مُعَلَّقًا عَلَى حَائِطٍ أَو ثَوبًا مَلْبُوسًا أَو عِمَامَةً وَنَحْو ذَلِكَ مِمَّا لَا يُعَدّ مُمْتَهَنًا؛ فَهُوَ حَرَامٌ، وَإِنْ كَانَ فِي بِسَاطٍ يُدَاسُ وَمِخَدَّةٍ وَوِسَادَةٍ وَنَحْوِهَا -مِمَّا يُمْتَهَنُ- فَلَيسَ بِحِرَامٍ

(1)

"

(2)

.

وقَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله -وَقَد سَبَقَ عَنْهُ النَّقْلُ فِي مَوضُوعِ الامْتِهَانِ-: "وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَينِ حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ الكَنِيسَةِ الَّتِي كَانَتْ بِأَرْضِ الحَبَشَةِ وَمَا فِيهَا مِنَ التَّصَاوِيرِ؛ وَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((كَانُوا إِذَا مَاتَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ؛ أُولَئِكَ شِرَارُ الخَلْقِ عِنْدَ اللهِ)) فَإِنَّ ذَلِكَ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ لَو كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا فِي ذَلِكَ الشَّرْعِ مَا أَطْلَقَ عَلَيهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ الَّذِي فَعَلَهُ شَرُّ الخَلْقِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ فِعْلَ صُوَرِ الحَيَوَانِ فِعْلٌ مُحْدَثٌ أَحْدَثَهُ عُبَّادُ الصُّوَرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ"

(3)

.

(1)

قُلْتُ: وَأَمَّا هَذِهِ الأَخِيرَةُ؛ فَالرَّاجِحُ فِيهَا -وَاللهُ أَعْلَمُ- أَنَّهَا مَشْمُولَةٌ بِالنَّهِي، وَسَبَقَ الكَلَامُ عَلَيهَا فِي المَسَائِلِ.

(2)

شَرْحُ مُسْلِمٍ (14/ 81).

(3)

فَتْحُ البَارِي (10/ 382).

ص: 478

-‌

‌ المَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: إِذَا كَانَ التَّصْوِيرُ وَاقْتِنَاءُ الصُّوَرِ مُحَرَّمًا، فَمَا الجَوَابُ عَنْ شُبْهَةِ جَوَازِ صُنْعِ التَّمَاثِيلِ فِي قَولِهِ تَعَالَى عَنْ سُلَيمَانَ

عليه الصلاة والسلام: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سَبَأ: 13]؟

(1)

الجَوَابُ هُوَ مِنْ وَجْهَينِ:

1 -

أَنَّ التِّمْثَالَ لَا يَعْنِي بِالضَّرُورَةِ أَنْ يَكُونَ عَلَى صُورَةِ ذِي رَوحٍ، فَقَدْ يَكُونُ عَلَى صُورَةِ شَيءٍ مُبَاحٍ كَالشَّجَرِ وَمَا لَا رَوحَ فِيهِ.

2 -

أَنَّ التَّمَاثِيلَ لَو كَانَتْ لِذَوَاتِ الأَرْوَاحِ؛ فَهِيَ كَانَتْ جَائِزَةً فِي شَرْعِ مَنْ قَبْلِنَا، وَقِد اخْتَلَفَ أَهْلُ العِلْمِ فِي العَمَلِ بِشَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا إِذَا لَمْ يُخَالِفْ شَرْعَنَا؛ فَكَيفَ إِذَا خَالَفَ شَرْعَنَا! فَشَرْعُنَا أَتَمُّ مِنْ شَرْعِ مَنْ قَبْلِنَا كَمَا لَا يَخْفَى، وَقَدْ جَاءَ بِسَدِّ الذَّرَائِعِ -وَالَّذِي هُوَ أَصْلًا سَبَبُ النَّهِي عَنِ التَصْوِيرِ-

(2)

. وَالحَمْدُ للهِ.

(1)

{مَحَارِيبَ} : أَي: المَسَاجِدَ وَالأَبْنِيَةَ المُرْتَفِعَةِ، {وَجِفَانٍ}: قِصَاعٍ، {كَالْجَوَابِ}: كَالحِيَاضِ الَّتِي يُجْبَى فِيهَا المَاءُ، {وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ}: ثَابِتَاتٍ لَهَا قَوَائِمُ؛ لَا يُحَرَّكْنَ عَنْ أَمَاكِنِهَا لِعَظْمِهِنَّ. يُنْظَرُ: (اللُّبَابُ) لِابْنِ عَادِلٍ (16/ 27).

(2)

قَالَ البَغَوِيُّ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (6/ 391): "قَولُهُ عز وجل: {وَتَمَاثِيلَ} أَي: كَانُوا يَعْمَلُونَ لَهُ تَمَاثِيلَ، أَي: صُوَرًا مِنْ نُحَاسٍ وَصُفْرٍ وَشَبَّةٍ وَزُجَاجٍ وَرُخَامٍ. وَقِيلَ: كَانُوا يُصَوِّرُونَ السِّبَاعَ وَالطُّيُورَ. وَقِيلَ: كَانُوا يَتَّخِذُونَ صُوَرَ المَلَائِكَةِ وَالأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ فِي المَسَاجِدِ لِيَرَاهَا النَّاسُ فَيَزْدَادُوا عِبَادَةً، وَلَعَلَّهَا كَانَتْ مُبَاحَةً فِي شَرِيعَتِهِمْ؛ كَمَا أَنَّ عِيسَى كَانَ يَتَّخِذُ صُوَرًا مِنَ الطِّينِ فَيَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيرًا بِإِذْنِ اللهِ".

قُلْتُ: أَمَّا عَن تَصْوِيرِ عِيسَى صلى الله عليه وسلم؛ فَلَا دَاعِيَ لِإِدْرَاجِهِ هُنَا أَصْلًا! لِأَنَّ هَذَا التَّصْوِيرَ قَدْ أَذِنَ اللهُ بِهِ، لَاسِيَّمَا وَأَنَّهُ فِي مَقَامِ مَصْلَحَةٍ عُظْمَى وَهِيَ إِقَامَةُ الحُجَّةِ الرِّسَالِيَّةِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ. يُنْظَرُ:(الجَوَابُ الصَّحِيحُ) لِابْنِ تَيمِيَّةَ (4/ 46).

ص: 479

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله: "وَقَدِ اسْتَشْكَلَ كَونُ المَلَائِكَةِ لَا تَدْخُلُ المَكَانَ الَّذِي فِيهِ التَّصَاوِيرُ مَعَ قَولِهِ سبحانه وتعالى عِنْدَ ذِكْرِ سُلَيمَانَ عليه السلام: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ} ، وَقَدْ قَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَتْ صُوَرًا مِنْ نُحَاسٍ. أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ. وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَتْ مِنْ خَشَبٍ وَمِنْ زُجَاجٍ. أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ.

وَالجَوَابُ: أَنَّ ذَلِكَ كَانَ جَائِزًا فِي تِلْكَ الشَّرِيعَةِ، وَكَانُوا يَعْمَلُونَ أَشْكَالَ الأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ مِنْهُمْ عَلَى هَيئَتِهِمْ فِي العِبَادَةِ لِيَتَعَبَّدُوا كَعِبَادَتِهِمْ، وَقَدْ قَالَ أَبُو العَالِيَةِ

(1)

: لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي شَرِيعَتِهِمْ حَرَامًا ثُمَّ جَاءَ شَرْعُنَا بِالنَّهْي عَنْهُ.

وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ التَّمَاثِيلَ كَانَتْ عَلَى صُورَةِ النُّقُوشِ لِغَيرِ ذَوَاتِ الأَرْوَاحِ. وَإِذَا كَانَ اللَّفْظُ مُحْتَمَلًا؛ لَمْ يَتَعَيَّنِ الحَمْلُ عَلَى المَعْنَى المُشْكِلِ"

(2)

.

(1)

(أَبُو العَالِيَةِ): هُوَ الإِمَامُ المُقْرِئُ الحَافِظُ المُفَسِّرُ؛ أَبُو العَالِيَةِ؛ رُفَيعُ بْنُ مِهْرَانَ الرِّيَاحِيُّ؛ البَصْرِيُّ؛ أَحَدُ الأَعْلَامِ؛ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ، وَفَاتُهُ قُرَابَةُ التِّسْعِينَ. يُنْظُرُ:(سِيَرُ أَعْلَامِ النُّبَلَاءِ) لِلذَّهَبِيِّ (4/ 207).

(2)

فَتْحُ البَارِي (10/ 382).

ص: 480

-‌

‌ المَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: إِذَا كَانَ التَّصْوِيرُ وَاقْتِنَاءُ الصُّوَرِ مُحَرَّمًا؛ فَمَا الجَوَابُ عَنِ الأَحَادِيثِ الَّتِي فِيهَا وجُودُ بَعْضِ التَّمَاثِيلِ فِي بَيتِ النَّبِيِّ

صلى الله عليه وسلم كَبَنَاتِ عَائِشَةَ

(1)

، وَالفَرَسِ الَّذِي لَهُ جَنَاحَانِ

(2)

؟

وَكَذَا صُنْعُ الصَّحَابِةِ لِلُعَبِ العِهْنِ لِلأَولَادِ فِي رَمَضَانَ

(3)

!

وَعَدَمُ التَّحَرُّزِ مِنَ التَّعَامُلِ بِالدَّرَاهِمِ الفَارِسِيَّةِ وَالدَّنَانِيرِ الرُّومِيَّةِ الَّتِي عَلَيهَا صُوَرُ مُلُوكِهِم!

الجَوَابُ:

1 -

إِنَّ الأَحَادِيثَ الَّتِي فِيهَا وُجُودُ بَعْضِ اللُّعَبِ فِي بَيتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هِيَ لُعَبٌ لِلْبَنَاتِ، وَهِيَ مِمَّا دَلَّتِ النُّصُوصُ عَلَى جَوَازِهَا؛ فَيَكُونُ مُسْتَثْنًى مِنَ الأَصْلِ.

وَلِتَمَامِ الفَائِدَةِ نَقُولُ: إِنَّ تَحْرِيمَ التَّصْوِيرِ وَوجُودِ الصُّوَرِ مَشْمُولٌ بِقَاعِدَةِ (مَا

(1)

وَالحَدِيثُ رَوَاهُ البُخَارِيُّ (6130) وَمُسْلِمٌ (81) عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها؛ قَالَتْ: (كُنْتُ العَبُ بِالبَنَاتِ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

(2)

وَالحَدِيثُ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها؛ قَالَتْ: قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ أَو خَيبَرَ وَفِي سَهْوَتِهَا سِتْرٌ؛ فَهَبَّتْ رِيحٌ فَكَشَفَتْ نَاحِيَةَ السِّتْرِ عَنْ بَنَاتٍ لِعَائِشَةَ لُعَبٍ، فَقَالَ:((مَا هَذَا يَا عَائِشَةُ؟)) قَالَتْ: بَنَاتِي. وَرَأَى بَينَهُنَّ فَرَسًا لَهُ جَنَاحَانِ مِنْ رِقَاعٍ، فَقَالَ:((مَا هَذَا الَّذِي أَرَى وَسْطَهُنَّ؟)) قَالَتْ: فَرَسٌ. قَالَ: ((وَمَا هَذَا الَّذِي عَلَيهِ؟)). قَالَتْ: جَنَاحَانِ. قَالَ: ((فَرَسٌ لَهُ جَنَاحَانِ!)). قَالَتْ: أَمَا سَمِعْتَ أَنَّ لِسُلَيمَانَ خَيلًا لَهَا أَجْنِحَةٌ؟! قَالَتْ: فَضَحِكَ حَتَّى رَأَيتُ نَوَاجِذَهُ. صَحِيحٌ. أَبُو دَاوُدَ (4932). صَحِيحُ أَبِي دَاوُدَ (4932).

(3)

وَالحَدِيثُ عَنِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ فِي صَومِ عَاشُورَاءَ؛ قَالَتْ: أَرْسَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم غَدَاةَ عَاشُورَاءَ إِلَى قُرَى الأَنْصَارِ: ((مَنْ أَصْبَحَ مُفْطِرًا؛ فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ يَومِهِ، وَمَنْ أَصْبَحَ صَائِمًا؛ فَليَصُمْ)). قَالَتْ: فَكُنَّا نَصُومُهُ بَعْدُ وَنُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا، وَنَجْعَلُ لَهُمُ اللُّعْبَةَ مِنَ العِهْنِ؛ فَإِذَا بَكَى أَحَدُهُمْ عَلَى الطَّعَامِ أَعْطَينَاهُ ذَاكَ حَتَّى يَكُونَ عِنْدَ الإِفْطَارِ. رَوَاهُ البُخَارِيُّ (1960)، وَمُسْلِمٌ (1136).

ص: 481

حُرِّمَ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ؛ فَإِنَّهُ يُبَاحُ لِلمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ)

(1)

، فَلُعَبُ البَنَاتِ مَثَلًا تُسَاعِدُ عَلَى تَعْلِيمِهِم مَا يُسَمَّى اليَومَ بِالتَّدْبِيرِ المَنْزِلِيِّ

(2)

.

(1)

وَقَدْ ذَكَرَ هَذِهِ القَاعِدَةَ ابْنُ القيَّمِ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (إِعْلَامُ المُوَقِّعِينَ)(2/ 108).

(2)

وَالتَّخْصِيصُ مِنَ العُمُومِ هُوَ مَذْهَبُ الجُمْهُورِ، وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ إِلَى أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِأَحَادِيثِ النَّهْي، وَلَكِنَّ هَذَا مَرْجُوحٌ لِإِمْكَانِيَّةِ الجَمْعِ بَينَهُمَا بِالتَّخْصِيصِ المَذْكُورِ، وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله فِي الفَتْحِ (10/ 527): "وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الحَدِيثِ عَلَى جَوَازِ اتِّخَاذِ صُوَرِ البَنَاتِ وَاللُّعَبِ مِنْ أَجْلِ لَعِبِ البَنَاتِ بِهِنَّ، وَخُصَّ ذَلِكَ مِنْ عُمُومِ النَّهْيِ عَنِ اتِّخَاذِ الصُّوَرِ، وَبِهِ جَزَمَ عِيَاضٌ وَنَقَلَهُ عَنِ الجُمْهُورِ؛ وَأَنَّهُمْ أَجَازُوا بَيعَ اللُّعَبِ لِلْبَنَاتِ لِتَدْرِيبِهِنَّ مِنْ صِغَرِهِنَّ عَلَى أَمْرِ بُيُوتِهِنَّ وَأَولَادِهِنَّ. قَالَ: وَذَهَبَ بَعْضُهُم إِلَى أَنَّهُ مَنْسُوخٌ، وَإِلَيهِ مَالَ ابْنُ بَطَّالٍ، وَحَكَى عَن ابْنِ أَبِي زَيدٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَشْتَرِيَ الرَّجُلُ لِابْنَتِهِ الصُّوَرَ، وَمِنْ ثَمَّ رَجَّحَ الدَّاودِيُّ أَنه مَنْسُوخٌ.

وَقَدْ ترْجَمَ ابْنُ حِبَّانَ الإِبَاحَةَ لِصِغَارِ النِّسَاءِ اللَّعِبَ بِاللُّعَبِ، وَتَرْجَمَ لَهُ النَّسَائِيُّ: إِبَاحَةُ الرَّجُلِ لِزَوجَتِهِ اللَّعِبَ بِالبَنَاتِ؛ فَلَمْ يُقَيَّدْ بِالصِّغَرِ! وَفِيهِ نَظَرٌ.

قَالَ البَيهَقِيُّ بَعْدَ تَخْرِيجِهِ: ثَبَتَ النَّهْيُ عَنِ اتِّخَاذِ الصُّوَرِ؛ فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ الرُّخْصَةَ لِعَائِشَةَ فِي ذَلِكَ كَانَتْ قَبْلَ التَّحْرِيمِ. وَبِه جَزَمَ ابْنُ الجَوزِيِّ، وَقَالَ المُنْذِرِيُّ: إِنْ كَانَتِ اللُّعَبُ كَالصُورَةِ؛ فَهُوَ قَبْلَ التَّحْرِيمِ، وَإِلَّا فَقَدْ يُسَمَّى مَا لَيسَ بِصُورَةٍ لُعْبَةً، وَبِهَذَا جَزَمَ الحَلِيمِيُّ، فَقَالَ: إِنْ كَانَتْ صُورَةً كَالوَثَنِ لَمْ يَجُزْ وَإِلَّا جَازَ. وَقِيلَ مَعْنَى الحَدِيثِ: اللَّعِبُ مَعَ البَنَاتِ أَيِ الجَوَارِي، وَالبَاءُ هُنَا بِمَعْنَى مَعَ. حَكَاهُ ابْنُ التِّينِ عَنِ الدَّاوُدِيِّ وَرَدَّهُ.

قُلْتُ: وَيَرُدُّهُ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ عُيَينَةَ فِي الجَامِعِ مِنْ رِوَايَةَ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ المَخْزُومِيِّ عَنْهُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ فِي هَذَا الحَدِيثِ: (وَكُنَّ جِوَارِي يَأْتِينَ فَيَلْعَبْنَ بِهَا مَعِيَ) وَفِي رِوَايَةِ جَرِيرٍ عَنْ هِشَامٍ: (كُنْتُ العَبُ بِالبَنَاتِ -وَهُنَّ اللُّعَبُ-). أَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ وَغَيرُهُ، وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:(قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ أَو خَيبَرَ) فَذَكَرَ الحَدِيثَ فِي هَتْكِهِ السِّتْرَ الَّذِي نَصَبَتْهُ عَلَى بَابِهَا، قَالَتْ:(فَكَشَفَ نَاحِيَةَ السِّتْرِ عَلَى بَنَاتٍ لِعَائِشَةَ لُعَبٍ، فَقَالَ: ((مَا هَذَا يَا عَائِشَةُ؟)) قَالَتْ: بَنَاتِي، قَالَتْ: وَرَأَى فِيهَا فَرَسًا مَرْبُوطًا لَهُ جَنَاحَانِ فَقَالَ: ((مَا هَذَا؟)) قُلْتُ: فَرَسٌ، قَالَ:((فَرَسٌ لَهُ جَنَاحَانِ!)) قُلْتُ: أَلَمْ تَسْمَعْ أَنَّهُ كَانَ لِسُلَيمَانَ خَيلٌ لَهَا أَجْنِحَةٌ؟! فَضَحِكَ). فَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ المُرَادَ بِاللُّعَبِ غَيرُ الآدَمِيَّاتِ.

=

ص: 482

وَمِثْلُهُ الفَرَسُ ذُو الجَنَاحَينِ؛ فَهُوَ مِمَّا يُشَجِّعُ الفُرُوسِيَّةَ وَيَبْعَثُ الهِمَّةَ عَلَى فُنُونِ الجِهَادِ، وَقَدْ أَقْسَمَ اللهُ بِالعَادِيَاتِ، وَقَالَ صلى الله عليه وسلم:((الخَيلُ فِي نَوَاصِيهَا الخَيرُ إِلَى يَومِ القِيَامَة))

(1)

.

وَأَيضًا صُنْعُ اللُّعَبِ مِنَ العِهْنِ لِلأَطْفَالِ فِي رَمَضَانَ؛ فَهُوَ لِتَحْقِيقِ فَائِدَةِ تَصْبِيرِهِم عَلَى الصِّيَامِ حَتَّى يَحِينَ مَوعِدُ الإِفْطَارِ.

2 -

أَمَّا عَدَمُ التَّحَرُّزِ مِنَ التَّعَامُلِ بِالدَّرَاهِمِ الفَارِسِيَّةِ وَالدَّنَانِيرِ الرُّومِيَّةِ الَّتِي عَلَيهَا صُوَرُ مُلُوكِهِم؛ فَهُوَ مِنْ بَابِ دَفْعِ الحَرَجِ فِي ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحَجّ: 78]

(2)

.

=

قَالَ الخَطَّابِيُّ: فِي هَذَا الحَدِيثِ أَنَّ اللَّعِبَ بِالبَنَاتِ لَيسَ كَالتَّلَهِّي بِسَائِرِ الصُّوَرِ الَّتِي جَاءَ فِيهَا الوَعِيدُ، وَإِنَّمَا أَرْخَصَ لِعَائِشَةَ فِيهَا لِأَنَّهَا إِذْ ذَاكَ كَانَتْ غَيرَ بَالِغٍ.

قُلْتُ: وَفِي الجَزْمِ بِهِ نَظَرٌ، لَكِنَّهُ مُحْتَمَلٌ؛ لِأَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ فِي غَزْوَةِ خَيبَرَ بِنْتَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً -إِمَّا أَكْمَلَتْهَا أَو جَاوَزَتْهَا أَو قَارَبَتْهَا-، وَأَمَّا فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ فَكَانَتْ قَدْ بَلَغَتْ قَطْعًا؛ فَيَتَرَجَّحُ رِوَايَةُ مَنْ قَالَ فِي خَيبَرَ، وَيُجْمَعُ بِمَا قَالَ الخَطَّابِيُّ لِأَنَّ ذَلِكَ أَولَى مِنَ التَّعَارُض".

(1)

رَوَاهُ البُخَارِيُّ (2849).

(2)

وَقَدْ ذهَبَ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ أَنَّ اسْتِعْمَالَهَا كَانَ مِنْ بَابِ الامْتِهَانِ، وَهَذَا بَعِيدٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ الكُفَّارَ مَا وَضَعُوا صُوَرَ مُلُوكِهِم عَلَيهَا إِلَّا لِلتَّعْظِيمِ وَالتَّخْلِيدِ لِذِكْرَاهُم.

قَالَ الحَافِظُ الهَيتَمِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (تُحْفَةُ المُحْتَاجِ فِي شَرْحِ المِنْهَاجِ) -مِنْ كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ- (7/ 433): "لَا يُؤَثِّرُ حَمْلُ النَّقْدِ الَّذِي عَلَيهِ صُورَةٌ كَامِلَةٌ؛ لِأَنَّهُ لِلْحَاجَةِ، وَلِأَنَّهَا مُمْتَهَنَةٌ بِالمُعَامَلَةِ بِهَا، وَلِأَنَّ السَّلَفَ كَانُوا يَتَعَامَلُونَ بِهَا مِنْ غَيرِ نَكِيرٍ، وَمِنْ لَازِمِ ذَلِكَ عَادَةً حَمْلُهمْ لَهَا، وَأَمَّا الدَّرَاهِمُ الإِسْلَامِيَّةُ فَلَمْ تَحْدُثْ إِلَّا فِي زَمَنِ عَبْدِ المَلِكِ، وَكَانَ مَكْتُوبًا عَلَيهَا اسْمُ اللهِ وَاسْمُ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم".

ص: 483

-‌

‌ المَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: هَلِ النَّهْيُ عَنِ التَّصْوِيرِ أَو اقْتِنَاءِ الصُّوَرِ خَاصٌّ بِمَا كَانَ عَلَى صُورَةِ مَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ تَعَالَى فَقَط؟

الجَوَابُ: بَلْ هُوَ نَهْيٌ عَامٌّ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أُمُورٌ:

1 -

أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَمَّ بِالنَّهِي كُلَّ المُصَوِّرِينَ؛ فَلَا دَلِيلَ عَلَى التَّخْصِيصِ.

وَأَمَّا قَولُ بَعْضِهِم أَنَّ وَصْفَهُ لِلمُصَوِّرِ بِـ ((وَمَنْ أَظْلَمُ)) يَدُلُّ عَلَى أَنَّ المَقْصُودَ هُوَ الشِّرْكُ الأَكْبَرُ؛ وَأَنَّ هَذَا يَتَعَلَّقُ بِمَا يُعْبَدُ! فَصَحِيحٌ إِنْ كَانَ التَّصْوِيرُ لِهَذَا القَصْدِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِذَلِكَ القَصْدِ؛ فَهُوَ مُشَابِهٌ لَهُ وَمُرْتَكِبٌ لِلكَبِيرَةِ؛ وَهِيَ ذَرِيعَةُ الشِّرْكِ

(1)

، وَلَا يَكُونُ كَمَا فِي لَفْظِ الحَدِيثِ:((وَمَنْ أَظْلَمُ))، وَلَا يَخْفَى أَنَّ النَّهْيَ فِي كَثِيرٍ مِنَ النُّصُوصِ السَّابِقَةِ قَدْ جَاءَ مُرَتَّبًا عَلَى نَفْسِ التَّصْوِيرِ وَلَيسَ عَلَى الشِّرْكِ

(2)

.

2 -

أَنَّ النَّهْيَ فِي الأَحَادِيثِ لَمْ يَقَعْ فَقَطْ عَلَى جَانِبِ الشَّرْكِ وَذَرَائِعِهِ، وَإِنَّمَا أَيضًا عَلَى جَانِبِ المُضَاهَاةِ، وَهَذَهِ عِلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ عَنِ العِلَّةِ المَذْكُورَةِ، كَمَا سَبَقَ فِي

(1)

وَمِثْلُهُ اتِّخَاذُ القُبُورِ مَسَاجِدَ؛ فَهُوَ مِنَ الكَبَائِرِ وَلَيسَ شِرْكًا؛ إِلَّا إِنْ صَحِبَهَا قَصْدُ التَّعْظِيمِ وَالتَّقَرُّبِ بِالمَقْبُورِ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَفِيهِ الحَدِيثُ:((إِنَّ مِنْ شِرَارِ النَّاسِ مَنْ تُدْرِكُهُمُ السَّاعَةُ وَهُمْ أَحْيَاءٌ، وَالَّذِينَ يَتَّخِذُونَ القُبُورَ مَسَاجِدَ)). صَحِيحٌ. رَوَاهُ أَحْمَدُ (3844) عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا. تَحْذِيرُ السَّاجِدِ (ص 23).

(2)

قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رحمه الله فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ (14/ 91): "قَولُهُ: ((أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا)) قِيلَ: هِيَ مَحْمُولَةٌ عَلَى مَنْ فَعَلَ الصُورَةَ لِتُعْبَدَ -وَهُوَ صَانِعُ الأَصْنَامِ وَنَحْوِهَا- فَهَذَا كَافِرٌ، وَهُوَ أَشَدُّ عَذَابًا، وَقِيلَ: هِيَ فِيمَنْ قَصَدَ المَعْنَى الَّذِي فِي الحَدِيثِ مِنْ مُضَاهَاةِ خَلْقِ اللهِ تَعَالَى وَاعْتَقَدَ ذَلِكَ، فَهَذَا كَافِرٌ؛ لَهُ مِنْ أَشَدّ العَذَابِ مَا لِلْكُفَّارِ، وَيَزِيدُ عَذَابُهُ بِزِيَادَةِ قُبْحِ كُفْرِهِ.

فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَقْصِدْ بِهَا العِبَادَةَ وَلَا المُضَاهَاةَ؛ فَهُوَ فَاسِقٌ صَاحِبُ ذَنْب كَبِيرٍ، وَلَا يَكْفُر كَسَائِرِ المَعَاصِي".

ص: 484

الصَّحِيحَينِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَومَ القِيَامَةِ الَّذِينَ يُضَاهِئُونَ بِخَلْقِ اللهِ))

(1)

.

3 -

أَنَّ النَّهْيَ لَو كَانَ خَاصًّا بِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ تَعَالَى؛ لَكَانَ الامْتِهَانُ كَافِيًا فِي جَوَاز مِثْلِ هَذِهِ الصُّوَرِ، وَهَذَا يَرُدُّهُ عَمَلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الوِسَادَتَينِ اللَّتَينِ كَانَ فِيهِمَا تَصَاوِيرٌ، كَمَا فِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها؛ أَنَّهَا اشْتَرَتْ نُمْرُقَةً

(2)

فِيهَا تَصَاوِيرٌ، فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالبَابِ؛ فَلَمْ يَدْخُلْ، فَقُلْتُ: أَتُوبُ إِلَى اللهِ مِمَّا أَذْنَبْتُ، قَالَ:((مَا هَذِهِ النُّمْرُقَةُ؟)) قُلْتُ: لِتَجْلِسَ عَلَيهَا وَتَوَسَّدَهَا، قَالَ:((إِنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الصُّوَرِ يُعَذَّبُونَ يَومَ القِيَامَةِ يُقَالُ لَهُمْ: أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ! وَإِنَّ المَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيتًا فِيهِ الصُورَةُ))

(3)

.

4 -

أَنَّ النُّصُوصَ الَّتِي فِيهَا وجُودُ بَعْضِ الصُّوَرِ أَوِ التَّمَاثِيلِ فِي بَيتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ جَاءَ النَّهْيُ عَنْهَا؛ هَلْ يَقَعُ فِي ظَنِّ أَحَدٍ أَنَّهَا كَانَتْ لِمَعْبُودَاتٍ مِنْ دُونِ اللهِ تَعَالَى! فَكَانَتْ أَوَّلًا مُبَاحَةً ثُمَّ نُهِيَ عَنْهَا لِمَا فيهَا مِنْ إِظْهَارِ عِبَادَةِ غَيرِ اللهِ تَعَالَى!! وَلَا يَخْفَى أَنَّ أَصْلَ دَعْوَةِ الرُّسُلِ هُوَ نَبْذُ الشِّرْكِ؛ فَهُوَ أَوَّلُ مَطْلُوبٍ.

(1)

رَوَاهُ البُخَارِيُّ (5954)، وَمُسْلِمٌ (2107).

(2)

وَهِيَ الوِسَادَةُ.

(3)

البُخَارِيُّ (5957).

ص: 485

-‌

‌ المَسْأَلَةُ العَاشِرَةُ: أَلَا يَكُونُ إِبْقَاءُ التَّمَاثِيلِ الَّتِي هِيَ عَلَى هَيئَةِ ذِي رَوحٍ جَائِزًا مِنْ بَابِ حِمَايَةِ الآثَارِ التَّارِيخِيَّةِ وَالتُّرَاثِ الإِنْسَانِيِّ؟!

وَأَلَمْ يَتْرِكِ الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم أَهْرَامَاتِ الفَرَاعِنَةَ وَفِيهَا تَمَاثِيلُ الأَشْخَاصِ كَـ (أَبِي الهَولِ)؟

الجَوَابُ: لَا؛ لَيسَ بِجَائِزٍ، وَذَلِكَ مِنْ أَوجُهٍ:

1 -

عُمُومُ قَولِهِ صلى الله عليه وسلم لِعَلِيٍّ رضي الله عنه: ((لَا تَدَعَ صُورَة إِلَّا طَمَسْتَهَا؛ وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا إِلَّا سَوَّيتَهُ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(1)

.

قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رحمه الله فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: "وَأَجْمَعُوا عَلَى مَنْعِ مَا كَانَ لَهُ ظِلٌّ، وَوُجُوبِ تَغْيِيرِهِ"

(2)

.

2 -

أَنَّهُ عَلَى فَرْضِ أَهَمِّيَّةِ هَذِهِ الآثَارِ؛ فَإِنَّ سَدَّ ذَرَائِعِ الشِّرْكِ أَولَى، لَا سِيَّمَا وَالحَالُ اليَومَ ظَاهِرٌ فِي بُعْدِ المُسْلِمِينَ عَنْ دِينِهِم

(3)

.

3 -

وَأَمَّا التَّعْلِيلُ بِكَونِ هَذِهِ التَّمَاثِيلِ مِنَ التُّرَاثِ الإِنْسَانِيِّ! فَهَذَا كَلَامٌ لَا يُلْتَفَتُ إِلَيهِ؛ فَإِنَّ اللَّاتَ وَالعُزَّى وَهُبَلَ وَمَنَاةَ وَغَيرَهَا مِنَ الأَصْنَامِ كَانَتْ تُرَاثًا لِمَنْ يَعْبُدُهَا مِنَ العَرَبِ مِنْ أَهْلِ قُرَيشٍ وَالجَزِيرَةِ، وَهُوَ تُرَاثٌ، لَكِنَّهُ تُرَاثٌ مُحَرَّمٌ يَجِبُ إِزَالَتُهُ، فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللهِ وَرَسُولِهِ فَالمُؤْمِنُ يُبَادِرُ إِلَى الامْتِثَالِ وَلَا يَرُدُّ أَمْرَ اللهِ وَرَسُولِهِ بِمِثْلِ هَذِهِ الحُجَجِ الوَاهِيَةِ! قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا كَانَ قَولَ المُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَينَهُمْ أَن يَقُولُوا

(1)

مُسْلِمٌ (969).

(2)

شَرْحُ مُسْلِمٍ (14/ 82).

(3)

وَلَا يَخْفَى أَنَّ الأَصْنَامَ اليَومَ مَا زَالَتْ تُعْبَدُ مِنْ قِبَلِ كَثِيرٍ مِنَ الأُمَمِ، وَاسْأَلْ -إِنْ شِئْتَ- عَنْ مَعْبُودَاتِ أَهْلِ الهِنْدِ وَاليَابَانِ وَغَيرِهَا اليَومَ مِنَ الأُمَمِ المُتَحَضِّرَةِ -زَعَمُوا-.

ص: 486

سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} [النُّوُر: 51].

وَعَلَى هَذَا كَانَ هَدْيُ الخَلِيفَةِ الرَّاشِدِ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رضي الله عنه، فقد قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ:"وَقَدْ رُوِّينَا عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ أَنَّهُ لَمَّا وَجَدَ قَبْرَ دَانْيَال -فِي زَمَانِهِ بِالعِرَاقِ- أَمَرَ أَنْ يُخْفَى عَنِ النَّاسِ"

(1)

.

4 -

أَنَّ هَذِهِ التَّمَاثِيلَ -كَأَبِي الهَولِ مَثَلًا- لَيسَ هُنَاكَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ مُشَاهَدَةً مَعْلُومَةً مِنْ قِبَلِ الصَّحَابَةِ!

وَقَدْ سُئِلَ المُؤَرِّخُ الزِّرِكْلِيُّ عَنِ الأَهْرَامِ وَأَبِي الهَولِ وَنَحْوِهَا: هَلْ رَآهُ الصَّحَابَةُ الَّذِينَ دَخَلُوا مِصْرَ؟ فَقَالَ: "كَانَ أَكْثَرُهَا مَغْمُورًا بِالرِّمَالِ، وَلَا سِيَّمَا أَبَا الهَولِ"

(2)

.

5 -

عَلَى فَرْضِ أَنَّهَا كَانَتْ مَعْلُومَةً مُشَاهَدَةً مِنْ قِبَلِهِم؛ فَهَلْ يَسْتَطِيعُونَ إِزَالَتَهَا وَهَدْمَهَا؟! فَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ بَطُّوطَة فِي رِحْلَتِهِ

(3)

أَنَّ الخَلِيفَةَ المَأْمُونَ حَاوَلَ تَدْمِيرَ الأَهْرَامِ وَضَرَبَهَا بِالمنْجَنِيقِ وَلَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ إِلَّا فِي إِحْدَاثِ ثُلْمٍ فِيهَا

(4)

.

(1)

تَفْسِيرُ ابْنِ كَثِيرٍ (5/ 147).

وَالأَثَرُ صَحِيحٌ. أَورَدَهُ الرَّبَعِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِ فَضَائِلِ الشَّامِ، اُنْظُرْ تَخْرِيجَ كِتَابِ فَضَائِلِ الشَّامِ (ص 51)، وَصَحَّحَهُ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله فِي أَشْرِطَةَ فَتَاوَى سِلْسِلَةِ الهُدَى وَالنُّورِ (ش 304).

(2)

كِتَابُ (شِبْهُ جَزِيرَةِ العَرَبِ)(4/ 1188).

(3)

رِحْلَةُ ابْنِ بَطُّوطَة (1/ 17).

(4)

بَلْ إِنَّهُ يُوجَدُ جَدْعٌ فِي أَنْفِ التِّمْثَالِ نَتِيجَةَ إِطْلَاقِ المَدَافِعِ عَلَيهِ إِبَّانَ الحَمْلَةِ الفَرَنْسِيَّةِ عَلَى مِصْرَ عَام (1798 م)، وَلَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ فِيهِ.

ص: 487

-‌

‌ المَسْأَلَةُ الحَادِيَةَ عَشَرَةَ: مَا الأُمُورُ الَّتِي يَنْبَغِي مُرَاعَاتُهَا فِي اسْتِخْدَامِ لُعَبِ الأَطْفَالِ -ذَاتِ الرُّوحِ

قُلْتُ: لِيُعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّ الأَصْلَ فِي التَّصْوِيرِ وَاقْتِنَاءِ الصُّوَرِ التَّحْرِيمُ؛ وَأَنَّ مَا أَجَازَتْهُ الأَدِلَّةُ لَا يَعْنِي نَسْخَ التَّحْرِيمِ وَالخُرُوجَ مِنْ هَذَا الأَصْلِ مُطْلَقًا!

بَلْ يَبْقَى الجَوَازُ مُقَيَّدًا وُفْقَ مَا جَاءَتْ بِهِ الأَدِلَّةُ، فَالتَّصْوِيرُ كَبْيرَةٌ مِنَ الكَبَائِرِ

(1)

-كَمَا سَبَقَ عَنِ النَّوَوِيِّ رحمه الله، فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْيِيدِ الجَوَازِ بِظُرُوفِ النُّصُوصِ المُبِيحَةِ خَوفًا مِنَ التَّوَسُّعِ الغَيرِ مَحْمُودِ وَالتَّفَلُّتِ مِنْ أَصْلِ التَّحْرِيمِ.

ثُمَّ نَقُولُ: قَدْ جَاءَتْ أَدِلَّةُ جَوَازِ لُعَبِ الأَطْفَالِ بِالقُيُودِ التَّالِيَةِ -فَهْمًا وَلَيسَتْ نَصًّا- مُرَتَّبَةً مِنَ الأَعْلَى إِلَى الأَدْنَى:

1 -

أَنْ تُحَقِّقَ مَصْلَحَةً لِلطِّفْلِ

(2)

:

أ- إِمَّا تَرْبَوِيَّةً وَتَعْلِيمِيَّةً.

كَبَنَاتِ عَائِشَةَ رضي الله عنها، وَهِيَ مِمَّا يُسَاعِدُ عَلَى أُمُورِ الأُسْرَةِ وَمَا يُسَمَّى بِالتَّدْبِيرِ المَنْزِلِيِّ اليَومَ، كَمَا فِي الصَّحِيحَينِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها؛ قَالَتْ: (كُنْتُ العَبُ بِالبَنَاتِ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

(3)

.

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله: "وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الحَدِيثِ عَلَى جَوَازِ اتِّخَاذِ صُوَرِ البَنَاتِ وَاللُّعَبِ مِنْ أَجْلِ لَعِبِ البَنَاتِ بِهِنَّ، وَخُصَّ ذَلِكَ مِنْ عُمُومِ النَّهْيِ عَنِ اتِّخَاذِ الصُّوَرِ، وَبِهِ جَزَمَ عِيَاضٌ وَنَقَلَهُ عَنِ الجُمْهُورِ؛ وَأَنَّهُمْ أَجَازُوا بَيعَ اللُّعَبِ لِلْبَنَاتِ

(1)

وَلَا يُقَيَّدُ ذَلِكَ بِالامْتِهَانِ؛ وَإِنَّمَا الَّذِي قَيَّدَهُ بِالامْتِهَانِ -بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ- هُوَ المُصَوَّرُ نَفْسُهُ، وَلَيسَ التَّصْوِيرَ -الَّذِي هُوَ صُنْعُ الصُّورَةِ-.

(2)

وَهُنَا أُورِدُ تَقْسِيمَاتٍ لِلتَّمْثِيلِ فَقَط؛ ولَيسَتْ لِلحَصْرِ.

(3)

رَوَاهُ البُخَارِيُّ (6130)، وَمُسْلِمٌ (81).

ص: 488

لِتَدْرِيبِهِنَّ مِنْ صِغَرِهِنَّ عَلَى أَمْرِ بُيُوتِهِنَّ وَأَولَادِهِنَّ"

(1)

.

ب- أَو شَرْعِيَّةً.

كَمَا فِي الحَدِيثِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها؛ قَالَتْ: قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ أَو خَيبَرَ وَفِي سَهْوَتِهَا سِتْرٌ؛ فَهَبَّتْ رِيحٌ فَكَشَفَتْ نَاحِيَةَ السِّتْرِ عَنْ بَنَاتٍ لِعَائِشَةَ لُعَبٍ، فَقَالَ:((مَا هَذَا يَا عَائِشَةُ؟)) قَالَتْ: بَنَاتِي، وَرَأَى بَينَهُنَّ فَرَسًا لَهُ جَنَاحَانِ مِنْ رِقَاعٍ؛ فَقَالَ:((مَا هَذَا الَّذِي أَرَى وَسْطَهُنَّ؟)) قَالَتْ: فَرَسٌ. قَالَ: ((وَمَا هَذَا الَّذِي عَلَيهِ)). قَالَتْ: جَنَاحَانِ. قَالَ: ((فَرَسٌ لَهُ جَنَاحَانِ!)). قَالَتْ: أَمَا سَمِعْتَ أَنَّ لِسُلَيمَانَ خَيلًا لَهَا أَجْنِحَةٌ؟ قَالَتْ: فَضَحِكَ حَتَّى رَأَيتُ نَوَاجِذَهُ

(2)

. فَهُوَ مِمَّا يُشَجِّعُ الفُرُوسِيَّةَ وَيَبْعَثُ الهِمَّةَ عَلَى فُنُونِ الجِهَادِ، كَمَا أَنَّهُ قَدْ يُحَقِّقُ مَصْلَحَةً آنِيَّةً كَمَا فِي الفَقَرَةِ التَّالِيَةِ.

ج- أَو آنِيَّةً.

كَتَعْوِيدِهِم عَلَى الصَّبْرِ، حَيثُ تُلْهِي هَذِهِ اللُّعَبُ الأَطْفَالَ بُرْهَةً مِنَ الزَّمَنِ بِمَا يُحَقِّقُ مَصْلَحَةً مَا

(3)

.

فَفِي الصَّحِيحَينِ عَنِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذِ بْنِ عَفْرَاءَ؛ قَالَتْ: أَرْسَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم غَدَاةَ عَاشُورَاءَ إِلَى قُرَى الأَنْصَارِ: ((مَنْ أَصْبَحَ مُفْطِرًا؛ فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ يَومِهِ، وَمَنْ أَصْبَحَ صَائِمًا؛

(1)

فَتْحُ البَارِي (10/ 527).

(2)

صَحِيحٌ. أَبُو دَاوُدَ (4932). صَحِيحُ أَبِي دَاوُدَ (4932).

(3)

وَأَمَّا بَعْضُ اللُّعَبِ الَّتِي لَا طَائِلَ مِنْ وَرَائِهَا كَلُعْبَةِ الدُّبِّ (الأَحْمَرِ) مَثَلًا! فَهِيَ حَتْمًا لَيسَتْ مِنْ هَذَا البَابِ، وَإِنْ كَانَ لِلأَسَفِ كَثِيرٌ مِمَّنْ يَقْتَنِيهَا لَيسوا مِنَ الصِّغَارِ سِنًّا؛ وَلَكِنَّهُم مِنَ الصِّغَارِ عَقْلًا! عَدَا عَنْ مَا فِيهَا مِنْ مُخَالَفَةِ الفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ في الأُنْسِ بِالوُحُوشِ.

ص: 489

فَليَصُمْ))، قَالَتْ: فَكُنَّا نَصُومُهُ بَعْدُ وَنُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا، وَنَجْعَلُ لَهُمُ اللُّعْبَةَ مِنَ العِهْنِ؛ فَإِذَا بَكَى أَحَدُهُمْ عَلَى الطَّعَامِ أَعْطَينَاهُ ذَاكَ حَتَّى يَكُونَ عِنْدَ الإِفْطَارِ

(1)

(2)

.

2 -

أَنْ يَكُونَ عَدَدُهَا وَتَنَوُّعُهَا بِقَدْرِ الحَاجَةِ وَالمَصْلَحَةِ، لِأَنَّ الأَصْلَ فِيهَا الحُرْمَةُ

(3)

.

3 -

أَنْ تَكُونَ مَسْتُورَةً مَخْفِيَّةً غَالِبًا، وَتُخْرَجَ وَقْتَ الحَاجَةِ عِنْدَ اللَّعِبِ بِهَا، لِأَنَّ الإِبَاحَةَ جَاءَتْ بِقَيدِ اللَّعِبِ؛ بِخِلَافِ مَنْ يَجْعَلُهَا ضِمْنَ خِزَانَةِ العَرْضِ الزُّجَاجِيَّةِ مَثَلًا! فَهِيَ -وَإِنْ كَانَتْ لُعْبَةَ أَطْفَالٍ- فَمَكَانُهَا هُنَاكَ لَيسَ مَكَانَ اللَّعِبِ بِهَا! بَلْ مَكَانُهَا المَطْلُوبُ هُوَ أَمَامَ الطِّفْلِ وَبَينَ يَدِيهِ.

وَتَأَمَّلْ حَدَيثَ الرُّبَيِّعِ السَّابِقَ تَجِدْهُ مِنْ هَذَا البَابِ، حَيثُ أَنَّ إِعْطَاءَ اللُّعَبِ كَانَ إِذَا بَكَى الصَبِيُّ عَلَى الطَّعَامِ، وَإِلَّا فَهِيَ لَمْ تَكُنْ عِنْدَهُ أَصْلًا

(4)

.

4 -

أَنْ تَكُونَ مَنْزِلِيَّةَ الصُّنْعِ؛ وَلَا تُشْتَرَى مِنْ خَارِجِ البَيتِ، وَذَلِكَ لِأَسْبَابٍ:

(1)

قُلْتُ: إِنْ أَمْكَنَ الاسْتِغْنَاءُ عَنْ لُعَبِ البَنَاتِ بِمَا يُمَاثِلُهَا مِنَ الأَلْعَابِ الَّتِي تُحَقِّقُ الفَائِدَةَ دُونَ أَنْ تَكُونَ صُورَةً فَهُوَ أَمْرٌ حَسَنٌ، كَمِثْلِ لُعَبِ أَدَوَاتِ المَطْبَخِ وَالخِيَاطَةِ وَ .... ، وَلَا بُدَّ لِلأُسْرَةِ المُسْلِمَةِ مِنَ السَّعْي بِاتَّجَاهِ ذَلِكَ، وَيَجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ حَدِيثُ لُعَبِ عَائِشَةَ السَّابِقِ مَحْمُولًا عَلَى ظَاهِرِهِ مُجَرَّدًا عَنْ مَعْنَاهُ وَفَائِدَتِهِ الَّتِي مِنْ أَجْلِهِ أُبِيحَتْ هَذِهِ الصُّوَرُ، وَلَا سِيَّمَا حَدِيثُ الرُّبَيِّعِ رضي الله عنها فِي تَعْوِيدِ الصِّغَارِ عَلَى الصِّيَامِ، فَهُوَ الآنَ يَتَحَقَّقُ بِكَثيرٍ مِنَ الأَشْيَاءِ وَالأَلْعَابِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَوجُودَةً سَابِقًا، خَاصَّةً وَأَنَّ المَقْصُودَ مِنْهَا مَعْقُولُ المَعْنَى. وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

(2)

رَوَاهُ البُخَارِيُّ (1960)، وَمُسْلِمٌ (1136).

(3)

وَلَيسَ كَبَعْضِ بُيُوتِ المُتْرَفِينَ -بَلِ الجَاهِلِينَ- يَجْعَلُونَ غُرْفَةَ الطِّفْلِ مَدِينَةً لِلصُّوَرِ وَالتَّمَاثِيلِ! فَهَلْ مِثْلُ هَذَا هُوَ الَّذِي أَبَاحَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم؟!

(4)

وَتَأَمَّلْ أَيضًا حَدِيثَ بَنَاتِ عَائِشَةَ -فِيمَا سَبَقَ- تَجِدُهُ مِنْ هَذَا القَبِيلِ وَفِيهِ: (فَهَبَّتْ رِيحٌ فَكَشَفَتْ نَاحِيَةَ السِّتْرِ عَنْ بَنَاتٍ لِعَائِشَةَ لُعَبٍ).

ص: 490

أ- أَنَّ المَقْصُودَ مِنْهَا: الفَائِدَةُ أَوِ التَّلْهِيَةُ وَلَيسَ المُضَاهَاةَ! كَمَا هُوَ عِنْدَ الشِّرَاءِ مِنَ خَارِجِ البَيتِ، لِأَنَّهَا تَكُونُ حِينَئِذٍ حِرْفَةً تُقْصَدُ فِيهَا المُضَاهَاةُ، فَلَا بُدَّ إِذًا أَنْ تَكُونَ بَسِيطَةَ الهَيئَةِ وَالصُّنْعِ

(1)

.

وَالمُتَأَمِّلُ فِي النُّصُوصِ المُبِيحَةِ يَجِدُ أَنَّ هَذِهِ اللُّعَبَ لَمْ تَكُنْ وَاضِحَةَ المَعَالِمِ أَصْلًا! كَمَا يَدُلُّ عَلَيه مَثَلًا حَدِيثُ الفَرَسِ ذِي الجَنَاحَينِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الفَرَسَ كَانَ عَلَى نَحْوِ لُعَبِ صِبْيَانِ العَرَبِ -مِنَ السَّذَاجَةِ وَبَسَاطَةِ الصُّورَةِ- وَلَمْ يَكُنْ صُورَةً حَقِيقَةً، لذلك فالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمّا رَآهُ سَأَلَ عَائِشَةَ رضي الله عنها:((مَا هَذَا الَّذِي أَرَى وَسْطَهُنَّ؟))، فَقَالَتْ: فَرَسٌ، فَلَو كَانَتْ صُورَةً وَاضِحَةَ المَعَالِمِ لَعَرَفَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى سُؤَالِ عَائِشَةَ

(1)

وَفِي مَجْمُوعِ فَتَاوَى وَرَسَائِلِ الشَّيخِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ آلِ الشَّيخِ رحمه الله (1/ 181) -جَوَابًا عَلَى سُؤَالٍ حَولَ (عَرَائِسِ البَنَاتِ) - قَالَ: "نَعَمْ؛ يَخْتَلِفُ حُكْمُ هَذِهِ الحَادِثَةِ الجَدِيدَةِ عَنْ حُكْمِ لُعَبِ أُمِّ المُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ رضي الله عنها لِمَا فِي هَذِهِ الجَدِيدَةِ الحَادِثَةِ مِنْ حَقِيقَةِ التَّمْثِيلِ وَالمُضَاهَاةِ وَالمُشَابَهَةِ بِخَلْقِ اللهِ تَعَالَى لِكَونِهَا صُوَرًا تَامَّةً بِكُلِّ اعْتِبَارٍ، وَلَهَا مِنَ المَنْظَرِ الأَنِيقِ وَالصُّنْعِ الدَّقِيقِ وَالرَّونَقِ الرَّائِعِ مَا لَا يُوجَدُ مِثْلُهُ وَلَا قَرِيبٌ مِنْهُ فِي الصُّوَرِ الَّتِي حَرَّمَتْهَا الشَّرِيعَةُ المُطَهَّرَةُ، وَتَسْمِيَتُهَا لُعَبًا؛ وَصِغَرُ أَجْسَامِهَا؛ لَا يُخْرِجُهَا عَنْ أَنْ تَكُونَ صُوَرًا! إِذِ العِبْرَةُ فِي الأَشْيَاءِ بِحَقَائِقِهَا لَا بِأَسْمَائِهَا. فَكَمَا أَنَّ الشِّرْكَ شِرْكٌ وَإنْ سَمَّاهُ صَاحِبُهُ اسْتِشْفَاعًا وَتَوَسُّلًا، وَالخَمْرَ خَمْرٌ وَإِنْ سَمَّاهَا صَاحِبُهَا نَبِيذًا! فَهَذِهِ صُوَرٌ حَقِيقِيَّةٌ وَإِنْ سَمَّاهَا صَانِعُوهَا وَالمُتَاجِرُونَ فِيهَا وَالمَفْتُونُونَ بِالصُّوَرِ: لُعَبَ أَطْفَالٍ! وَفِي الحَدِيثِ: ((يَجِيءُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ أَقوامٌ يَسْتحِلُّونَ الخَمْرَ يُسَمُّونَهَا بِغَيرِ اسْمِهَا)).

وَمَنْ زعَمَ أَنَّ لُعَبَ عَائِشَةَ صُوَرٌ حَقِيقِيَّةٌ لِذَوَاتِ الأَرْوَاحِ! فَعَلِيهِ إِقَامَةٌ الدَّلِيلِ، وَلَنْ يَجِدَ إِلَى ذَلِكَ سَبْيلًا، فَإِنَّهَا لَيسَتْ مَنْقُوشَةً وَلَا مَنْحُوتَةً وَلَا مَطْبُوعَةً مِنَ المَعَادِنِ المُنْطَبِعَةِ وَلَا نَحْو ذَلِكَ، بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّهَا مِنْ عِهْنٍ أَو قُطْنٍ أَو خِرَقٍ أَو قَصَبَةٍ أَو عَظْمٍ مَرْبُوطٍ فِي عَرْضِهِ عُودٌ مُعْتَرِضًا بِشَكْلٍ يُشْبِهُ المَوجُودَ مِنَ اللُّعَبِ فِي أَيدِي البَنَاتِ الآنَ فِي البُلْدَانِ العَرَبِيَّةِ البَعِيدَةِ عَنِ التَّمَدُّنِ وَالحَضَارَةِ مِمَّا لَا تُشْبِهُ الصُورَةَ المُحَرَّمَةَ إِلَّا بِنِسْبَةٍ بَعِيدَةٍ جِدًّا، لِمَا فِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ مِنْ أَنَّ الصَّحَابَةَ يُصَوِّمُونَ أَولَادَهُم؛ فَإِذَا طَلَبُوا الطَّعَامَ أَعْطَوهُم اللُّعَبَ مِنَ العِهْنِ يُعَلِّلُونَهُم بِذَلِكَ، وَلِمَا فِي سُنَنِ أَبي دَاوُدَ وَشَرْحِهَا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ مِنْ ذِكْرِ الفَرَسِ ذِي أَرْبَعَةِ الأَجْنِحَةِ مِنْ رِقَاعٍ -يَعْنِي مِنْ خِرَقٍ-؛ وَلِمَا عُلِمَ عَنْ حَالِ العَرَبِ مِنَ الخُشُونَةِ غَالِبًا فِي أَوَانِيهِم وَمَرَاكِبِهِم وَآلَاتِهِم آلَاتِ اللَّعِبِ وَغَيرِهَا. وَفِيمَا ذَكَرْتُ هَا هُنَا مَقْنَعٌ لِمُرِيدِ الحَقِّ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى".

ص: 491

عَنْهُ! وَكَذَا الجَنَاحَان اللَّذَانِ عَلَى الفَرَسِ حَيثُ قَالَ فِيهِ: ((وَمَا هَذَا الَّذِي عَلَيهِ؟))

(1)

.

بَلْ إِنَّ مِنَ الأَئِمَّةِ مَن لَمْ يُجَوِّزْ ذَلِكَ كُلَّهُ بِسَبَبِ مَا فِي الصُّورَةِ مِنَ المَعَالِمِ، فَقَدْ (قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ [يَعْنِي: الإِمَامَ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلَ]؛ تَرَى لِلرَّجُلِ الوَصِيِّ تَسْأَلُهُ الصَّبِيَّةُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهَا لُعْبَةً؟ فَقَالَ: إِنْ كَانَتْ صُورَةً؛ فَلا، وَذَكَرَ فِيهِ شَيئًا، قُلْتُ: الصُّورَةُ إِذَا كَانَتْ يَدًا أَو رِجْلًا!! فَقَالَ: عِكْرِمَةُ يَقُولُ: كُلُّ شَيءٍ لَهُ رَأْسٌ فَهُوَ صُورَةٌ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: فَقَدْ يُصَيِّرُونَ لَهَا صَدْرًا وَعَينًا وَأَنْفًا وَأَسْنَانًا!! قُلْتُ: فَأَحَبُّ إِلَيكَ أَنْ يَجْتَنِبَ شِرَاءَهَا؟ قَالَ: نَعَمْ)

(2)

.

ب- أَنَّ غَالِبَ الدُّمَى اليَومَ -مِنْ جِهَةِ الوَاقِعِ- تُعَبِّرُ عَنْ عَادَاتِ مُجْتَمَعَاتِهَا، وَغَالِبُهَا مُسْتَورَدٌ مِنْ مُجْتَمَعَاتِ الكُفَّارِ، كَمَا فِي الدُّمْيَةِ المَشْهُورَةِ المُسَمَّاةِ بِـ (بَارْبِي) وَالتِي إِنْ كَانَ اقْتِنَاءُ الصُّوَرِ -جَدَلًا- حَلَالًا مُطْلَقًا؛ فَهِي وَحْدَهَا تُسْتَثْنَى لِتَكُونَ حَرَامًا لِمَا فِيهَا مِنْ نَقْلِ هَيئَةِ الكُفَّارِ فِي لِبَاسِهِم إِلَى مُجْتَمَعِنَا المُسْلِمِ، وَضِمْنَ سِيَاقِ تَعْوِيدِ البَنَاتِ لِتَكُونَ هَذِهِ الدُّمْيَةُ قُدْوَةً لَهُنَّ فِي لِبَاسِهِنَّ وَفِسْقِهِنَّ

(3)

!

وَقَدْ أَفْتَى الشَّيخُ الأَلبَانِيُّ رحمه الله بِجَوَازِ اللُّعَبِ المَصْنُوعَةِ مَنْزِلِيًّا؛ دُونَ الشِّرَاءِ مِنَ الخَارِجِ

(4)

.

وَبِهَذَا تَمَّتِ هَذِهِ القُيُودُ بِحَسْبِ مَا ظَهَرَ لِي فِي هَذِهِ المَسْأَلَةِ، فَإِنْ أَصَبْتُ؛ فَمِنَ اللهِ، وَإِنْ أَخْطَأْتُ؛ فَمِنْ قُصُورِي وَضَعْفِ فَهْمِي. وَالحَمْدُ للهِ أَولًا وَآخِرًا.

(1)

يُنْظَرُ: (إِعْلَانُ النَّكِيرِ عَلَى المَفْتُونِينَ بِالتَّصْوِيرِ) لِحُمُود التّوِيجري (ص 101).

(2)

يُنْظَرُ: (الوَرَعُ لِأَحْمَدَ) بِرِوَايَةِ المَرْوَزِيّ (ص 154) بَابُ: كَرَاهِيَةُ شِرَاءِ اللُّعَبِ وَمَا فِي الصُّوَرِ.

(3)

وَلَيسَتْ أَيضًا دُمْيَةُ (فُلَّة) بِالخَالِيَةِ مِنَ العُيُوبِ -وَإِنْ كَانَتْ أَهْوَنَ مِنَ السَّابِقَةِ- وَذَلِكَ لِوُجُودِ بَعْضِ المُخَالَفَاتِ فِيهَا لِلمُتَأَمِّلِ مِنْ (أَحْمَرِ الشِّفَاهِ، وَالكُمِّ الوَاسِعِ، وَ

).

(4)

أَشْرِطَةُ فَتَاوَى جَدَّة (14/ب).

ص: 492

بَابُ مَا جَاءَ فِي كَثْرَةِ الحَلِفِ

وَقَولِ اللهِ تَعَالَى: {وَاحْفَظُوا أَيمَانَكُمْ} [المَائِدَة: 89].

عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه؛ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ((الحَلِفُ مَنْفَقَةٌ لِلسِّلْعَةِ، مَمْحَقَةٌ لِلْكَسْبِ)) أَخْرَجَاهُ

(1)

.

وَعَنْ سَلْمَانَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: أُشَيمِطٌ زَانٍ، وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ، وَرَجُلٌ جَعَلَ اللهَ بِضَاعَتَهُ؛ لَا يَشْتَرِي إِلَّا بِيَمِينِهِ، وَلَا يَبِيعُ إِلَّا بِيَمِينِهِ)). رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ

(2)

.

وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَينٍ رضي الله عنه؛ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((خَيرُ أُمَّتِي قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ -قَالَ عِمْرَانُ: فَلَا أَدْرِي أَذَكَرَ بَعْدَ قَرْنِهِ مَرَّتَينِ أَو ثَلَاثًا؟ - ثُمَّ إِنَّ بَعْدَكُمْ قَومًا يَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَخُونُونَ وَلَا يُؤْتَمَنُونَ، وَيَنْذِرُونَ وَلَا يُوفُونَ، وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ))

(3)

.

وَفِيهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((خَيرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ قَومٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ، وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ)). وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ كَانُوا يَضْرِبُونَنَا عَلَى الشَّهَادَةِ وَالعَهْدِ وَنَحْنُ صِغَارٌ

(4)

.

(1)

البُخَارِيُّ (2087)، وَمُسْلِمٌ (1606)، وَابْنُ حِبَّانَ (4906).

(2)

صَحِيحٌ. الطَّبَرَانِيُّ فِي الكَبِيرِ (6/ 246). صَحِيحُ الجَامِعِ (3072).

(3)

البُخَاريُّ (2651).

(4)

البُخَاريُّ (2652). وَقَولُ إِبْرَاهِيمَ هَذَا هُوَ تَتِمَّةُ الحَدِيثِ نَفْسِهِ.

ص: 493

فِيهِ مَسَائِلُ:

الأُولَى: الوَصِيَّةُ بِحِفْظِ الأَيمَانِ.

الثَّانِيَةُ: الإِخْبَارُ بِأَنَّ الحَلِفَ مَنْفَقَةٌ لِلسِّلْعَةِ، مَمْحَقَةٌ لِلْبَرَكَةِ.

الثَّالِثَةُ: الوَعِيدُ الشَّدِيدُ فِيمَنْ لَا يَبِيعُ إِلَّا بِيَمِينِهِ وَلَا يَشْتَرِي إِلَّا بِيَمِينِهِ.

الرَّابِعَةُ: التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ الذَّنْبَ يَعْظُمُ مَعَ قِلَّةِ الدَّاعِي.

الخَامِسَةُ: ذَمُّ الَّذِينَ يَحْلِفُونَ وَلَا يُسْتَحْلَفُونَ.

السَّادِسَةُ: ثَنَاؤُهُ صلى الله عليه وسلم عَلَى القُرُونِ الثَّلَاثَةِ أَوِ الأَرْبَعَةِ، وَذِكْرُ مَا يَحْدُثُ بَعْدَهُمْ.

السَّابِعَةُ: ذَمُّ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ.

الثَّامِنَةُ: كَونُ السَّلَفِ يَضْرِبُونَ الصِّغَارَ عَلَى الشَّهَادَةِ وَالعَهْدِ.

ص: 494

‌الشَّرْحُ

- قَولُهُ: (بَابُ مَا جَاءَ فِي كَثْرَةِ الحَلِفِ): أَي: مِنَ النَّهْي عَنْهُ وَالوَعِيدِ، وَالمَقْصُودُ كَثْرَةُ الحَلِفِ بِاللهِ تَعَالَى.

- كَثْرَةُ الحَلِفِ هُوَ مَظِنَّةُ تَقْلِيلِ شَأْنِ المَحْلُوفِ بِهِ وَالاسْتِخْفَافِ بِهِ، وَهُوَ يُنَافِي كَمَالَ التَّوحِيدِ الوَاجِبِ؛ وَيُفْضِي إِلَى الحَلِفِ كَذِبًا بِهِ، فَإِنَّمَا شُرِعَتِ اليَمِينُ لِتَأْكِيدِ الأَمْرِ المَحْلُوفِ عَلَيهِ، وَتَعْظِيمًا لِلخَالِقِ.

قَالَ الشَّيخُ السَّعْدِيُّ رحمه الله: "قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} [القَلَم: 10] أَي: كَثِيرِ الحَلِفِ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ إِلَّا وَهُوَ كَذَّابٌ، وَلَا يَكَونُ كَذَّابًا إِلَّا وَهُوَ {مَهِينٍ} أَي: خَسِيسُ النَّفْسِ"

(1)

.

- تَمَامُ الآيَةِ الَّتِي فِي المَتْنِ هُوَ: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المَائِدَة: 89]

(2)

.

- فِي الحَلِفِ جَاءَتْ أَحَادِيثُ مُتَنَوِّعَةٌ، وَفِيمَا يَرْتَبِطُ بِالبَابِ نَذْكُرُ مِنْهَا:

1 -

حَدِيثُ البَابِ: ((الحَلِفُ مُنَفِّقَةٌ لِلسِّلْعَةِ؛ مُمْحِقَةٌ لِلْبَرَكَةِ)).

2 -

حَدِيثُ البَابِ، وَفِيهِ: ((وَرَجُلٌ جَعَلَ اللهَ بِضَاعَتَهُ؛ لَا يَشْتَرِي إِلَّا بِيَمِينِهِ، وَلَا

(1)

تَفْسِيرُ السَّعْدِيِّ (ص 897).

(2)

وَالكِسْوَةُ: هِيَ قَدْرُ مَا يُجْزِئُ فِي الصَّلَاةِ. تَفْسِيرُ السَّعْدِيِّ (ص 242).

ص: 495

يَبِيعُ إِلَّا بِيَمِينِهِ)).

3 -

حَدِيثُ: ((إِيَّاكُمْ وَكَثْرَةَ الحَلِفِ فِي البَيعِ؛ فَإِنَّهُ يُنَفِّقُ ثُمَّ يَمْحَقُ))

(1)

.

4 -

حَدِيثُ: ((اليَمِينُ الكَاذِبَةُ مَنْفَقَةٌ لِلسِّلْعَةِ؛ مَمْحَقَةٌ لِلْكَسْبِ))

(2)

.

5) حَدِيثُ: ((احْلِفُوا بِاللهِ وَبِرُّوا وَاصْدُقُوا؛ فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ أَنْ يُحْلَفَ بِهِ))

(3)

.

وَعَلَيهِ يَكُونُ:

1 -

الحَلِفُ وَكَثْرَةُ الحَلِفِ مَنْهِيٌّ عَنْهُمَا؛ إِلَّا لِحَاجَةٍ أَو طَاعَةٍ.

2 -

الحَلِفُ فِي البَيعِ مَكْرُوهٌ مُطْلَقًا.

3 -

أَنَّ الحَلِفَ الكَاذِبَ فِيهِ يَزِيدُهُ حُرْمَةً.

4 -

أَنَّ الحَلِفَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِاللهِ، وَإِلَّا كَانَ مَعْصِيَةً وَشِرْكًا.

قَالَ الإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: "وَأَكْرَهُ الأَيمَانَ بِاللهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ إِلَّا فِيمَا كَانَ للهِ طَاعَةً؛ مِثْلَ البَيعَةِ عَلَى الجِهَادِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ"

(4)

.

وَقَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله عِنْدَ شَرْحِ حَدِيثِ البُخَارِيِّ؛ وَفِيهِ: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّكُمْ لَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ)) أي الأَنْصَارُ: "وَفِي هَذِهِ الأَحَادِيثِ جَوَازُ الحَلِفِ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَقَالَ قَومٌ: يُكْرَهُ، لِقَولِهِ تَعَالَى:{وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيمَانِكُمْ} ، وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا عَجَزَ عَنِ الوَفَاءِ بِهَا. وَيُحْمَلُ مَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى مَا إِذَا كَانَ فِي طَاعَةٍ أَو دَعَتْ إِلَيهَا

(1)

مُسْلِمٌ (1607) عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الأَنْصَارِيِّ مَرْفُوعًا.

(2)

صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (7207) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (3363).

(3)

صَحِيحٌ. الحِلْيَةُ (7/ 267) عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (1119).

(4)

الأُمُّ (7/ 64).

ص: 496

حَاجَةٌ، كَتَأْكِيدِ أَمْرٍ أَو تَعْظِيمِ مَنْ يَسْتَحِقُّ التَّعْظِيمَ أَو كَانَ فِي دَعْوَى عِنْدَ الحَاكِمِ وَكَانَ صَادِقًا"

(1)

.

- قَولُهُ تَعَالَى: {وَاحْفَظُوا أَيمَانَكُمْ} فِيهِ ثَلَاثُ مَرَاتِبَ:

1 -

النَّهْيُ عَنْ كَثْرَةِ الحَلِفِ.

2 -

أَنَّ مَنْ حَلَفَ؛ فَلْيُوَفِّ وَلَا يَحْنُثْ فِيهَا.

3 -

أَنَّ مَنْ حَنَثَ فِيهَا؛ فَلَا يَتْرُكْهَا دُونَ تَكْفِيرٍ.

وَالمُصَنِّفُ رحمه الله أَرَادَ مِنَ الآيَةِ المَعْنَى الأَوَّلَ -وَإِنْ كَانَ الجَمِيعُ مَشْمُولًا بِالآيَةِ-، وَذَلِكَ لِأَنَّ حَاصِلَ المَعَانِي الثَّلَاثَةِ تَعْظِيمُ اللهِ تَعَالَى.

- الأَفْضَلُ فِي مَنْ حَلَفَ عَدَمُ الحِنْثِ بِاليَمِينِ إِلَّا لِمَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ: كَأَنْ يَكُونَ حَلَفَ عَلَى أَمْرٍ مُحَرَّمٍ أَو مَكْرُوهٍ، قَالَ تَعَالَى:{وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَينَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البَقَرَة: 224].

أَو أَنْ يَأْتِيَ مَا هُوَ خَيرٌ مِنْهُ، كَمَا فِي الحَدِيثِ:((وَاللَّهِ -إِنْ شَاءَ اللهُ- لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيرَهَا خَيرًا مِنْهَا إِلَّا أَتَيتُ الَّذِي هُوَ خَيرٌ وَتَحَلَّلْتُهَا))

(2)

.

- قَولُهُ: ((ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُم وَلَا

)) دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الكَبَائِرِ.

- قَولُهُ: ((لَا يُكَلِّمُهُم)) المُرَادُ بِنَفي الكَلَامِ هُنَا كَلَامُ الرِّضَا، أَمَّا كَلَامُ العَرْضِ وَالتَّوبِيخِ وَالحِسَابِ؛ فَإِنَّ هَذَا الحَدِيثَ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِهِ، وَفِي الحَدِيثِ: ((مَا مِنْكُمْ

(1)

فَتْحُ البَارِي (11/ 529).

(2)

البُخَارِيُّ (3133)، وَمُسْلِمٌ (1649) عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ مَرْفُوعًا.

ص: 497

مِنْ أَحَدٍ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ اللهُ -لَيسَ بَينَهُ وَبَينَهُ تُرْجُمَانٌ- فَيَنْظُرُ أَيمَنَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ بَينَ يَدَيهِ فَلَا يَرَى إِلَّا النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَو بِشِقِّ تَمْرَةٍ))

(1)

(2)

.

- قَولُهُ: ((لَايُزَكِّيهِم)) أَي: لَا يُوَثِّقُهُم، وَلَا يَشْهَدُ لَهُم بِالإِيمَانِ

(3)

.

- قَولُهُ: ((أُشَيمِطٌ)) الأُشَيمِطُ: تَصْغِيرُ (أَشْمَط)، وَالأَشْمَطُ: هُوَ الَّذِي بَدَأَهُ الشَّيبُ، وَصَغَّرَهُ تَحْقِيرًا لِشَأْنِهِ

(4)

.

- قَولُهُ: ((عَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ)) الاسْتِكْبَارُ يَكُونُ لِلذَّاتِ -كَهَذَا الحَدِيثِ-، وَيَكُونُ لِلصِّفَاتِ كَمَنْ لَدِيهِ جَاهٌ وَمَالٌ وَحَسَبٌ يَدْفَعُهُ لِذَلِكَ.

- قَولُهُ: ((زَانٍ)) وَ ((مُسْتَكْبِرٌ)) يَدُلُّ عَلَى خُبْثِ الطَّبْعِ، فَمَنْ كَبُرَ سِنُّهُ ضَعُفَتْ شَهْوَتُهُ؛ وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ فَقِيرًا ذُو حَاجَةٍ؛ فَإِنَّهُ لَيسَ لَدِيهِ مَا يَفْتِنُهُ وَيَدْفَعُهُ إِلَى الكِبْرِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الخُبْثَ هُوَ فِي أَصْلِ طِبَاعِهِم، بِخِلَافِ مَنْ كَانَ شَابًّا؛ فَشَهْوَتُهُ العَارِمَةُ تَقُودُهُ، أَو مَنْ كَانَ غَنِيًّا ذَا مَالٍ وَجَاهٍ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يُغْرِيهِ بِالكِبْرِ، لِذَلِكَ قَالَ المُصَنِّفُ رحمه الله فِي المَسَائِلِ:"التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ الذَّنْبَ يَعْظُمُ مَعَ قِلَّةِ الدَّاعِي".

قَالَ شَيخُ الإِسْلَامِ رحمه الله: "وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ((ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إلَيهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: شَيخٌ زَانٍ، وَمَلِكٌ كَذَّابٌ، وَعَائِلٌ

(1)

البُخَارِيُّ (7512)، وَمُسْلِمٌ (1016) عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ مَرْفُوعًا.

(2)

وَتَأَمَّلْ قَولَهُ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا العَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [الأَحْقَاف: 34].

(3)

وَأَيضًا لَا يُطَهِّرُهُم مِنَ الأَخْلَاقِ الرَّذِيلَةِ؛ وَهَذَا عَلَى مَعْنَى أَنَّ الزَّكَاةَ هِيَ التَّطْهِيرُ.

(4)

قَالَ فِي القَامُوسِ المُحِيطِ (ص 674): "الشَّمَطُ: بَيَاضُ الرَّأْسِ يُخالِطُ سَوَادَهُ".

ص: 498

مُسْتَكْبِرٌ))

(1)

فَهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ اشْتَرَكُوا فِي هَذَا الوَعِيدِ، وَاشْتَرَكُوا فِي فِعْلِ هَذِهِ الذُّنُوبِ مَعَ ضَعْفِ دَوَاعِيهِمْ! فَإِنَّ دَاعِيَةَ الزِّنَا فِي الشَّيخِ ضَعِيفَةٌ، وَكَذَلِكَ دَاعِيَةُ الكَذِبِ فِي المَلِكِ ضَعِيفَةٌ -لِاسْتِغْنَائِهِ عَنْهُ-، وَكَذَلِكَ دَاعِيَةُ الكِبْرِ فِي الفَقِيرِ؛ فَإِذَا أَتَوْا بِهَذِهِ الذُّنُوبِ -مَعَ ضَعْفِ الدَّاعِي- دَلَّ عَلَى أَنَّ فِي نُفُوسِهِمْ مِنَ الشَّرِّ الَّذِي يَسْتَحِقُّونَ بِهِ مَنَ الوَعِيدِ مَا لَا يَسْتَحِقُّهُ غَيرُهُمْ"

(2)

.

- قَولُهُ: ((جَعَلَ اللهَ بِضَاعَتَهُ)) وَذَلِكَ لِمُلَازَمَتِهِ لَهُ وَغَلَبَتِهِ عَلَيهِ؛ فَهُوَ يُكْثِرُ مِنَ الحَلِفِ تَهَاونًا.

- قَولُهُ: ((خَيرُ النَّاسِ قَرْنِي)) يَدُلُّ عَلَى تَفْضِيلِهِم مُقَارَنَةً مَعَ كُلِّ الأَزْمِنَةِ، فَصَحَابَتُهُ صلى الله عليه وسلم أَفْضَلُ مِنَ الحَوَارِيِّينَ الَّذِينَ هُمْ أَنْصَارُ عِيسَى صلى الله عليه وسلم، وَأَفْضَلُ مِنَ النُّقَبَاءِ السَّبْعِينَ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ مُوسَى صلى الله عليه وسلم لِمِيقَاتِ رَبِّهِ

(3)

(4)

.

- قَولُهُ: ((قَرْنِي)) القَرْنُ مُعْتَبَرٌ بِمُعْظَمِ النَّاسِ، فَإِذَا كَانَ مُعْظَمُ النَّاسِ الصَّحَابَةُ؛

(1)

صَحِيحُ مُسْلِمٍ (107) مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه مَرْفُوعًا.

(2)

مَجْمُوعُ الفَتَاوَى (18/ 14).

(3)

كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا} [الأَعْرَاف: 155].

(4)

قَالَ البُخَارِيُّ رحمه الله فِي صَحِيحِهِ (3649): بَاب فَضَائِلِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَمَنْ صَحِبَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَو رَآهُ مِنَ المُسْلِمِينَ فَهُوَ مِنْ أَصْحَابِهِ.

حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ؛ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ؛ فَيَغْزُو فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ، فَيَقُولُونَ: فِيكُمْ مَنْ صَاحَبَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيُفْتَحُ لَهُمْ. ثُمَّ يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ؛ فَيَغْزُو فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ، فَيُقَالُ: هَلْ فِيكُمْ مَنْ صَاحَبَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيُفْتَحُ لَهُمْ. ثُمَّ يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ؛ فَيَغْزُو فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ، فَيُقَالُ: هَلْ فِيكُمْ مَنْ صَاحَبَ مَنْ صَاحَبَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيُفْتَحُ لَهُمْ)).

ص: 499

فَالقَرْنُ قَرْنُهُم، وَإِذَا كَانَ مُعْظَمُ النَّاسِ التَّابِعِينَ؛ فَالقَرْنُ قَرْنُهُم، وَهَكَذَا

(1)

.

وَلَكِنَّ هَذِهِ الأَفْضَلِيَّةَ أَفْضَلِيَّةٌ مِنْ حَيثُ العُمُومِ وَالجِنْسِ؛ لَا مِنْ حَيثُ الأَفْرَادِ مُطْلَقًا، فَلَا يَعْنِي أَنَّهُ لَا يُوجَدُ فِي تَابِعِي التَّابِعِين مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنَ بَعْضِ التَّابِعِينَ، أَو أَنَّهُ لَا يُوجَدُ فِي التَّابِعِينَ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ، أَمَّا فَضْلُ الصُّحْبَةِ؛ فَلَا يَنَالُهُ أَحَدٌ غَيرُ الصَّحَابَةِ، وَلَا أَحَدَ يَسْبِقُهُم فِيهِ، وَأَمَّا العِلْمُ وَالعِبَادَةُ؛ فَقَدْ يَكُونُ فِيمَنْ بَعْدَ الصَّحَابَةِ مَنْ هُوَ أَكْثَرُ مِنْ بَعْضِهِم عِلْمًا وَعِبَادَةً.

- قَولُهُ: ((وَيَخُونُونَ وَلَا يُؤْتَمَنُونَ)) هِيَ مِنْ عَلَامَاتِ وُقُوعِ الفِتَنِ كَمَا فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ، مِنْهَا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه مَوقُوفًا: (كَيفَ أَنْتُمْ إِذَا لَبِسَتْكُمْ فِتْنَةٌ: يَهْرَمُ فِيهَا الكَبِيرُ، وَيَرْبُو فِيهَا الصَّغِيرُ، وَيَتَّخِذُهَا النَّاسُ سُنَّةً؛ فَإِذَا غُيِّرَتْ قَالُوا: غُيِّرَتِ السُّنَّةُ!

قَالُوا: وَمَتَى ذَلِكَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ قَالَ: إِذَا كَثُرَتْ قُرَّاؤُكُمْ، وَقَلَّتْ فُقَهَاؤُكُمْ، وَكَثُرَتْ أُمَرَاؤُكُمْ، وَقَلَّتْ أُمَنَاؤُكُمْ، وَالتُمِسَتِ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الآخِرَةِ)

(2)

.

- قَولُهُ: ((وَيَظْهَرُ فِيهِم السِّمَنُ)) لِرَغْبَتِهِم فِي الدُّنْيَا، وَنَيلِ شَهَوَاتِهِم وَالتَّنَعُّمِ بِهَا، وَغَفْلَتِهِم عَنِ الدَّارِ الآخِرَةِ وَالعَمَلِ لَهَا.

(1)

قَالَ صَاحِبُ عَونِ المَعْبُودِ (12/ 267): "وَالقَرْنُ: أَهْلُ كُلِّ زَمَانٍ، وَهُوَ مِقْدَارُ التَّوَسُّطِ فِي أَعْمَارِ أَهْلِ كُلِّ زَمَانٍ، وَقِيلَ: القَرْنُ أَرْبَعُونَ سَنَةً، وَقِيلَ ثَمَانُونَ، وَقِيلَ مِائَةُ سَنَةٍ.

قَالَ السُّيُوطِيُّ: وَالأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَنْضَبِطُ بِمُدَّةٍ، فَقَرْنُهُ صلى الله عليه وسلم هُمُ الصَّحَابَةُ، وَكَانَتْ مُدَّتُهُمْ مِنَ المَبْعَثِ إِلَى آخِرِ مَنْ مَاتَ مِنَ الصَّحَابَةِ مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَقَرْنُ التَّابِعِينَ مِنْ مِائَةِ سَنَةٍ إِلَى نَحْوِ [مِائَة وَ] سَبْعِينَ، وَقَرْنُ أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ مِنْ ثَمَّ إِلَى نَحْوِ العِشْرِينَ وَمِائَتَينِ، وَفِي هَذَا الوَقْتِ ظَهَرَتِ البِدَعُ ظُهُورًا فَاشِيًا، وَأَطْلَقَتِ المُعْتَزِلَةُ أَلْسِنَتَهَا".

(2)

صَحِيحٌ. الدَّارِمِيُّ (191). صَحَّحَهُ الشَّيخُ حُسَين سَلِيم أَسَد رحمه الله.

ص: 500

- قَولُهُ: (كَانُوا يَضْرِبُونَنَا عَلَى الشَّهَادَةِ وَالعَهْدِ وَنَحْنُ صِغَارٌ): قَالَ أَبُو عُمَر ابْنُ عَبْدِ البَرِّ رحمه الله: "مَعْنَاهُ عِنْدَهُم: النَّهْيُ عَنْ مُبَادَرَةِ الرَّجُلِ بِقَولِهِ: (أَشْهَدُ بِاللهِ) وَ (عَلَى عَهْدِ اللهِ لَقَدْ كَانَ كَذَا) وَنحْوِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا كَانُوا يَضْرِبُونَهُم عَلَى ذَلِكَ حَتَّى لَا يَصِيرَ لَهُمْ بِهِ عَادَةٌ فَيَحْلِفُونَ فِي كُلِّ مَا يَصْلُحُ وَمَا لَا يَصْلُحُ"

(1)

.

- الضَّرْبُ مُبَاحٌ شَرْعًا فِي سِيَاقِ التَّأْدِيبِ وَالتَّرْبِيَةِ وَعِلَاجِ النُّشُوزِ؛ كَمَا فِي قَولِ النَّخَعِيِّ هُنَا، وَكَمَا فِي حَدِيثِ:((مُرُوا الصَّبِيَّ بِالصَّلَاةِ إِذَا بَلَغَ سَبْعَ سِنِينَ، وَإِذَا بَلَغَ عَشْرَ سِنِينَ فَاضْرِبُوهُ عَلَيهَا))

(2)

، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى فِي عِلَاجِ نُشُوزِ المَرْأَةِ:{وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي المَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النِّسَاء: 34]

(3)

.

- فَائِدَةٌ: يُشْتَرَطُ لِجَوَازِ ضَرْبِ الصَّغِيرِ -تَأْدِيبًا- أُمُورٌ؛ مِنْهَا:

1 -

أَنْ يَكُونَ الصَّغِيرُ قَابِلًا لِلتَّأْدِيبِ؛ فَلَا يُضْرَبُ مَنْ لَا يَعْرِفُ المُرَادَ مِنَ الضَّرْبِ!

(4)

2 -

أَنْ يَكُونَ التَّأْدِيبُ مِمَّنْ لَهُ وِلَايَةٌ عَلَيهِ.

(1)

(عُمْدَةُ القَارِي) لِلعَينِيِّ (13/ 214).

(2)

صَحِيحٌ. أَبُو دَاوُدَ (495) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرو مَرْفُوعًا. الإِرْوَاء (298).

(3)

وَقالَ البُخَارِيُّ رحمه الله فِي صَحِيحِهِ (7/ 32): "بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنْ ضَرْبِ النِّسَاءِ، وَقَولِ اللهِ {وَاضْرِبُوهُنَّ} أَي: ضَرْبًا غَيرَ مُبَرِّحٍ".

قَالَ القُرْطُبُيُّ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (5/ 172): "وَالضَّرْبُ فِي هَذِهِ الآيَةِ هُوَ ضَرْبُ الأَدَبِ غَيرُ المُبَرِّحِ، وَهُوَ الَّذِي لَا يَكْسِرُ عَظْمًا وَلَا يَشِينُ جَارِحَةً؛ كَاللَّكْزَةِ وَنَحْوِهَا، فَإِنَّ المَقْصُودَ مِنْهُ الصَّلَاحُ لَا غَيرَ، فَلَا جَرَمَ إِذَا أَدَّى إِلَى الهَلَاكِ وَجَبَ الضَّمَانُ، وَكَذَلِكَ القَولُ فِي ضَرْبِ المُؤَدِّبِ غُلَامَهُ لِتَعْلِيمِ القُرْآنِ وَالأَدَبِ".

(4)

وَحَدَّهُ الشَّيخُ الأَلبَانِيُّ رحمه الله بِمَا بَعْدَ العَشْرِ سِنِينَ إِلَى البُلُوغِ كَمَا فِي أَشْرِطَةِ سِلْسِلَةِ الهُدَى وَالنُّورِ (306).

ص: 501

3 -

أَنْ لَا يُسْرِفَ فِي ذَلِكَ كَمًّا أَو نَوعًا.

4 -

أَنْ يَقَعَ مِنَ الصَّغِيرِ مَا يَسْتَحِقُّ التَّأْدِيبَ عَلَيهِ.

5 -

أَنْ يَقْصِدَ تَأْدِيبَهُ؛ لَا الانْتِقَامَ لِنَفْسِهِ! فَإِنْ قَصَدَ الانْتِقَامَ لَمْ يَكُنْ مُؤَدِّبًا بَلْ مُنْتَصِرًا.

وَسُئِلَ أَحْمَدُ رحمه الله عَنْ ضَرْبِ المُعَلِّمِ الصِّبْيَانَ؛ فَقَالَ: "عَلَى قَدْرِ ذُنُوبِهِم، وَيَتَوَقَّى بِجُهْدِهِ الضَّرْبَ، وَإِذَا كَانَ صَغِيرًا لَا يَعْقِلُ؛ فَلَا يَضْرِبْهُ"

(1)

.

وَاليَتِيمُ يَجُوزُ لِكَافِلِهِ أَنْ يَضْرِبَهُ، لِحَدِيثِ شُمَيسَةَ العَتَكِيَّةِ؛ قَالَتْ: ذُكِرَ أَدَبُ اليَتِيمِ عِنْدَ عَائِشَةَ رضي الله عنها، فَقَالَتْ:(إِنِّي لأَضْرِبُ اليَتِيمَ حَتَّى يَنْبَسِطَ)

(2)

.

وَلَا يَزِيدُ المُرَبِّي فِي ضَرْبِهِ عَنْ عَشْرِ ضَرْبَاتٍ، لِمَا فِي الحَدِيثِ عَنْ أَبِي بُرْدةَ رضي الله عنه مَرْفُوعًا:((لَا يُجْلَدُ فَوقَ عَشْرِ جَلَدَاتٍ إِلَّا فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ))

(3)

.

(1)

المُغْنِي (5/ 397).

(2)

صَحِيحٌ. الأَدَبُ المُفْرَدُ (142). صَحِيحُ الأَدَبِ المُفْرَدِ (105).

وَمَعْنَى (حَتَّى يَنْبَسِطَ) أَي: حَتَّى يَمْتَدَّ وَيَنْبَطِحَ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الاسْتِيَاءِ، وَهَذَا الضَّرْبُ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ الإِحْسَانِ إِلَيهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّرْبِيَةِ وَالأَدَبِ.

(3)

رَوَاهُ البُخَارِيُّ (6848)، وَمُسْلِمٌ (1708).

ص: 502

‌مَسَائِلُ عَلَى البَابِ

-‌

‌ المَسْأَلَةُ الأُولَى: قَولُهُ: ((يَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ)) يُشْكِلُ مَعَ حَدِيثِ: ((أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيرِ الشُّهَدَاءِ؟ الَّذِي يَأْتِي بِشَهَادَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا))

(1)

! فَمَا الجَوَابُ؟

الجَوَابُ:

إِنَّ المَقْصُودَ بِحَدِيثِ البَابِ تَعْظِيمُ جَنَابِ اللهِ تَعَالَى، وَأَنْ لَا يُكْثِرَ مِنَ الحَلِفِ بِاللهِ، فَهَؤُلَاءِ يَشْهَدُونَ دُونَ أَنْ تُطْلَبَ مِنْهُمُ الشَّهَادَةُ، بَلْ يُبَادِرُونَ إِلَيهَا، فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى اسْتِخْفَافِهِم بِالشَّهَادَةِ وَعَلَى مُسَارَعَتِهِم إِلَيهَا لِقِلَّةِ دِينِهِم وَقِلَّةِ أَمَانَتِهِم، وَأَمَّا الحَدِيثُ الآخَرُ فَمَعْنَاهُ هُوَ مَدْحُ مَنْ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ لِإِنْسَانٍ بِحَقٍ لَا يَعْلَمُ بِهِ إِلَّا هُوَ؛ فَيَأْتِي إِلَيهِ فَيُخْبِرُهُ بِهَا

(2)

.

(1)

مُسْلِمٌ (1719) عَنْ زَيدِ بْنِ خَالِدٍ الجُهَنِيِّ مَرْفُوعًا.

(2)

قُلْتُ: فَمَعْنَاهُ حِرْصُهُ عَلَى حُقُوقِ المُسْلِمِينَ.

ص: 503

-‌

‌ المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي حَدِيثِ البُخَارِيِّ: ((خَيرُ النَّاسِ قَرْنِي))، قَدْ وَرَدَ فِي نُصُوصٍ أُخَرَ صَحِيحَةٍ قَولُهُ:((إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ زَمَانَ صَبْرٍ؛ للمُتَمَسِّكِ فِيهِ أَجْرُ خَمْسِينَ شَهِيدًا)

فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ مِنَّا أَو مِنْهُمْ؟ قَالَ: ((مِنْكُمْ))

(1)

. فَمَا التَّوفِيقُ؟

الجَوَابُ هُوَ مِنْ وَجْهَينِ:

1 -

أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ زِيَادَةِ الأَجْرِ فِي العَمَلِ زِيَادَةُ الفَضْلِ، أَي: أَنَّ الفَضْلَ الأَكْبَرَ هُوَ قَطْعًا لِلصَّحَابَةِ، وَلَكِنْ مِنَ النَّاسِ مَنْ قَدْ يُؤْجَرُ عَلَى فِعْلٍ مَا أَكْثَرَ مِمَّا يُؤْجَرُونَ هُمْ عَلَى نَفْسِ الفِعْلِ، كَالحَدِيثِ السَّابِقِ.

2 -

أَنَّ هَذَا الأَجْرَ لَيسَ مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا هُوَ مُقيَّدٌ بِأُمُورٍ هِيَ:(ذَلِكَ الزَّمَنُ، وَذَلِكَ الصَّبْرُ، وَتِلْكَ الشِّدَّةُ)، بَينَمَا فَضْلُ الصَّحَابَةِ دَائِمٌ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ.

(1)

صَحِيحٌ. الطَّبَرَانِيُّ فِي الكَبِيرِ (10/ 182) عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا. اُنْظُرِ التَّعْلِيقَ عَلَى حَدِيثِ الصَّحِيحَةِ (494).

ص: 504

بَابُ مَا جَاءَ فِي ذِمَّةِ اللهِ وَذِمَّةِ نَبِيِّهِ

وَقَولِهِ تَعَالَى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الأَيمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [النَّحْل: 91].

عَنْ بُرَيدَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيشٍ أَو سَرِيَّةٍ أَوصَاهُ بِتَقْوَى اللهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ المُسْلِمِينَ خَيرًا؛ فَقَالَ: ((اُغْزُوَا بِسْمِ اللهِ، فِي سَبِيلِ اللهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ.

اُغْزُوَا، وَلَا تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تُمَثِّلُوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا.

وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ المُشْرِكِينَ؛ فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ أَو خِلَالٍ، فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ.

ثُمَّ اُدْعُهُمْ إِلَى الإِسْلَامِ

(1)

؛ فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، ثُمَّ اُدْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ المُهَاجِرِينَ، وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ؛ فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ وَعَلَيهِمْ مَا عَلَى المُهَاجِرِينَ، فَإِنْ أَبَوا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا؛ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ المُسْلِمِينَ يَجْرِي عَلَيهِمْ حُكْمُ اللهِ تَعَالَى وَلَا يَكُونُ لَهُمْ فِي الغَنِيمَةِ وَالفَيءِ شَيءٌ إِلَّا أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ المُسْلِمِينَ، فَإِنْ هُمْ أَبَوا؛ فَاسْأَلْهُمُ الجِزْيَةَ، فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكَفَّ عَنْهُمْ، فَإِنْ هُمْ أَبَوا؛ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ.

وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ؛ فَأَرَادُوكَ أَنْ تَجْعَلَ لَهُمْ ذِمَّةَ اللهِ وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ؛ فَلَا تَجْعَلْ

(1)

وَعِنْدَ ابْنِ مَاجَه (2858) بِحَذْفِ (ثُمَّ)، وَعِنْدَ التِّرْمِذِيِّ (1617)(الوَاوُ) بَدَلَ (ثُمَّ).

ص: 505

لَهُمْ ذِمَّةَ اللهِ وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ، وَلَكِنِ اجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّتَكَ وَذِمَّةَ أَصْحَابِكَ؛ فَإِنَّكُمْ أَنْ تَخْفِرُوا ذِمَمَكُمْ وَذِمَّةَ أَصْحَابِكُمْ أَهْوَنُ مِنْ أَنْ تَخْفِرُوا ذِمَّةَ اللهِ وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ.

وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ؛ فَأَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللهِ؛ فَلَا تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللهِ، وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ؛ فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَتُصِيبُ فِيهِمْ حُكْمَ اللهِ أَمْ لَا)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(1)

.

(1)

مُسْلِمٌ (1731).

ص: 506

فِيهِ مَسَائِلُ:

الأُولَى: الفَرْقُ بَينَ ذِمَّةِ اللهِ وَذِمَّةِ نَبِيِّهِ؛ وَذِمَّةِ المُسْلِمِينَ.

الثَّانِيَةُ: الإِرْشَادُ إِلَى أَقَلِّ الأَمْرَينِ خَطَرًا.

الثَّالِثَةُ: قَولُهُ: ((اُغْزُوَا بِسْمِ اللهِ، فِي سَبِيلِ اللهِ)).

الرَّابِعَةُ: قَولُهُ: ((قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ)).

الخَامِسَةُ: قَولُهُ: ((اسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ)).

السَّادِسَةُ: الفَرْقُ بَينَ حُكْمِ اللهِ وَحُكْمِ العُلَمَاءِ.

السَّابِعَةُ: فِي كَونِ الصَّحَابِيِّ يَحْكُمُ عِنْدَ الحَاجَةِ بِحُكْمٍ لَا يَدْرِي أَيُوَافِقُ حُكْمَ اللهِ أَمْ لَا؟

ص: 507

‌الشَّرْحُ

- العَهْدُ هُنَا هُوَ إِبْرَامُ العَقْدِ مَعَ اليَمِينِ، وَالمُسْلِمُ مَأْمُورٌ بِعَدَمِ نَقْضِهِ.

- وَجْهُ مُنَاسَبَةِ البَابِ لِكِتَابِ التَّوحِيدِ هُوَ مِنْ جِهَتَينِ:

1 -

أَنَّ نَقْضَ العَهْدِ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ تَعْظِيمِ مَنْ جُعِلَ العَهْدُ مَنُوطًا بِهِ، فَكَمَا أَنَّ كَثْرَةَ الحَلِفِ تَدُلُّ عَلَى عَدِمِ التَّعْظِيمِ؛ فَكَذَلِكَ نَقْضُ مَنْ جُعِلَ عَهْدُهُ بِاللهِ يَدُلُّ عَلَى عَدِمِ التَّعْظِيمِ، فَهُوَ مُشَابِهٌ لِلبَابِ المَاضِي مِنْ هَذِهِ الجِهَةِ.

وَتَأَمَّلْ قَولَهُ تَعَالَى فِيهَا: {وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيكُمْ كَفِيلًا} لِأَنَّ مَنْ أَعْطَى اليَمِينَ بِاللهِ؛ فَإِنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ أَكَّدَ وَفَاءَهُ بِهَذَا الشَّيءِ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ؛ فَكَانَ لِهُ بِمَثَابَةِ الكَفِيلِ، فَنَقْضُهُ لِلعَهْدِ هَذَا يَدُلُّ عَلَى اسْتِهَانَتِهِ بِهِ.

2 -

أًنَّ نَقْضَ العَهْدِ هُوَ مِنْ خِصَالِ المُنَافِقِ، كَمَا فِي الحَدِيثِ:((وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ))

(1)

.

- الذِّمَّةُ: هِيَ العَهْدُ؛ وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يُلْتَزَمُ بِهَا كَمَا يَلْتَزِمُ صَاحِبُ الدَّينِ بِدَينِهِ فِي ذِمَّتِهِ، وَأُضِيفَ العَهْدُ هُنَا إِلَى اللهِ لِتَشْرِيفِهِ.

- السَّرِيَّةُ: هِيَ الخَيلُ تَبْلُغُ أَرْبَعمَائَةٍ وَنَحْوَهَا، وَسُمِّيَتْ سَرِيَّةً لِأَنَّهَا تَسْرِي بِالليلِ

(2)

.

(1)

البُخَارِيُّ (34)، وَمُسْلِمٌ (58) مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَمْرو مَرْفُوعًا.

(2)

قَالَ الثَّعَالِبِيُّ رحمه الله: "أَقلُّ العَسَاكِرِ:

الجَرِيدَةُ: وهي قِطْعَة جُرِّدَتْ مِنْ سَائِرِهَا لِوَجْهٍ،

ثُمَّ السَّرِيَّةُ: وَهِيَ مِنْ خَمْسِينَ إِلَى أَرْبَعْمائةٍ،

=

ص: 508

- قَولُهُ: ((أَوصَاهُ بِتَقْوَى اللهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ المُسْلِمِينَ خَيرًا)) فِيهِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى مَنْ تَوَلَّى أَمْرًا مِنْ أُمُورِ المُسْلِمِينَ أَنْ يَسْلُكَ بِهِم الأَخْيَرَ؛ بِخِلَافِ عَمَلِ الإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ.

- قَولُهُ: ((اُغْزُوَا بِسْمِ اللهِ، فِي سَبِيلِ اللهِ)) أَي اشْرَعُوا فِي فِعْلِ الغَزْوِ مُسْتَعِينِينَ بِاللهِ مُخْلِصِينَ لَهُ، فَالبَاءُ فِي ((بِسْمِ اللهِ)) هُنَا لِلاسْتِعَانَةِ.

- قَولُهُ: ((قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ)) هَذَا العُمُومُ يَشْمَلُ جَمِيعَ أَهْلِ الكُفْرِ المُحَارِبِينَ، عَدَا مَنْ لَهُ عَهْدٌ وَأَيضًا الرُّهْبَانَ وَالنِّسْوَانَ، وَمَنْ لَمْ يَبْلُغِ الحُلُمَ، وَالشُّيُوخَ؛ إِلَّا مَنْ كَانَ لَهُ مِنْهُم رَأْيٌ وَتَدْبِيرٌ

(1)

.

- قَولُهُ: ((وَلَا تَغُلُّوا)) الغُلُولُ: أَنْ يَكْتُمَ المُجَاهِدُ شَيئًا مِنَ الغَنِيمَةِ فَيَخْتَصَّ بِهِ، وَهُوَ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ، قَالَ تَعَالَى:{وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القِيَامَةِ} [آل عِمْرَان: 161] أَي: مُعَذَّبًا بِهِ.

- قَولُهُ: ((وَلَا تَغْدِرُوا)) وَهَذَا إِذَا عَاهَدَنَا، أَمَّا الغَدْرُ بِلَا عَهْدٍ فَجَائِزُ؛ لِأَنَّ ((الحَرْبَ خَدْعَةٌ)) كَمَا فِي الصَّحِيحَينِ

(2)

.

- قَولُهُ: ((وَلَا تُمَثِّلُوا)) التَّمْثِيلُ هُوَ التَّشْوِيهُ بِقَطْعِ بَعْضِ الأَعْضَاءِ، وَلَا يَجُوزُ إِلَّا

=

ثُمَّ الكَتِيبَةُ: وهِيَ مِن أرْبَعِمَائَةٍ إِلَى الأَلْفِ،

ثُمَّ الجَيشُ: وهُوَ مِنْ ألْفٍ إِلَى أرْبَعَةِ آلَافٍ، وَكَذَلِكَ الفَيلَقُ والجَحْفَلُ،

ثُمَّ الخَمِيسُ: وهوَ مِنْ أرْبَعَةِ آلَافٍ إِلَى اثْنَي عَشَرَ الفًا، والعَسْكَرُ يَجمَعُهَا". فِقْهُ اللُّغَةِ (ص 156).

(1)

وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ وُجُوبُ قِتَالِ الكُفَّارِ؛ وَأَنَّ عِلَّةَ قِتَالِهِم الكُفْرُ، وَلَيسَ المَعْنَى أَنَّهُ لَا يُقَاتَلُ إِلَّا مَنْ كَفَرَ! بَلِ الكُفْرُ سَبَبٌ لِلقِتَالِ، وَمَنْ مَنَعَ الزَّكَاةَ أَيضًا يُقَاتَلُ، وَإِذَا تَرَكَ أَهْلُ بَلَدٍ شَعَائِرَ الإِسْلَامِ الظَّاهِرَةِ كَصَلَاةِ العِيدِ مَثَلًا قُوتِلُوا، وَكَذَا مَنْ تَرَكَ الأَذَانَ وَالإِقَامَةَ -مَعَ أَنَّهُم لَا يَكْفُرُونَ بِذَلِكَ-، وَأَيضًا إِذَا اقْتَتَلَتْ طَائِفَتَانِ وَأَبَتْ إِحْدَاهُمَا أَنْ تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ؛ قُوتِلَتْ، فَالقِتَالُ لَهُ أَسْبَابٌ مُتَعَدِّدَةٌ غَيرُ الكُفْرِ.

(2)

البُخَارِيُّ (3030)، وَمُسْلِمٌ (1739) عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا.

ص: 509

إِنْ مَثَّلَ المُشْرِكُونَ بِالمُسْلِمِينَ، وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ حَدِيثُ العُرَنِيِّينَ

(1)

.

وَهَذَا يَكُونُ مِنْ بَابِ المُعَاقَبَةِ بِالمِثْلِ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى قُوَّةٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{الشَّهْرُ الحَرَامُ بِالشَّهْرِ الحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ المُتَّقِينَ} [البَقَرَة: 194].

- قَولُهُ: ((ثُمَّ اُدْعُهُمْ إِلَى الإِسْلَامِ)) أَكْثَرُ نُسَخِ مُسْلِمٍ عَلَى إِثْبَاتِ (ثُمَّ)؛ وَالصَّوَابُ إِسْقَاطُهَا كَمَا فِي غَيرِهَا مِنَ الرِّوَايَاتِ، وَلِأَنَّ الدَّعْوَةَ هِيَ إِحْدَى الخِصَالِ الثَّلَاثِ

(2)

.

- قَولُهُ: ((إِلى دَارِ المُهَاجِرِينَ)) المُرَادُ بِهِ تَحَوُّلُ أَهْلِ البَوَادِي الَّذِينَ أَسْلَمُوا إِلَى دَارِ الإِسْلَامِ، وَفِي ذَلِكَ الوَقْتِ كَانَتِ الدَّارُ هِيَ المَدِينَةُ النَّبَوِيَّةُ.

- قَولُهُ: ((فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ وَعَلَيهِمْ مَا عَلَى المُهَاجِرِينَ)) فَلَهُمْ مَا لِلمُهَاجِرِينَ مِنَ الغَنِيمَةِ وَالفَيءِ، وَعَلَيهِم مَا عَلَيهِم مِنَ الجِهَادِ وَالنُّصْرَةِ.

- قَولُهُ: ((وَلَا يَكُونُ لَهُمْ فِي الغَنِيمَةِ وَالفَيءِ شَيءٌ)) الغَنِيمَةُ: مِا أُخِذَ مِنْ أَمْوَالِ

(1)

وَلَفْظُهُ: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ؛ أَنَّ نَاسًا مِنْ عُرَينَةَ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم المَدِينَةَ، فَاجْتَوَوهَا، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:((إِنْ شِئْتُمْ أَنْ تَخْرُجُوا إِلَى إِبِلِ الصَّدَقَةِ فَتَشْرَبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا))، فَفَعَلُوا، فَصَحُّوا، ثُمَّ مَالُوا عَلَى الرِّعَاءِ، فَقَتَلُوهُمْ وَارْتَدُّوا عَنِ الإِسْلَامِ، وَسَاقُوا ذَودَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم! فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم؛ فَبَعَثَ فِي أَثَرِهِمْ فَأُتِيَ بِهِمْ، فَقَطَعَ أَيدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ، وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ، وَتَرَكَهُمْ فِي الحَرَّةِ حَتَّى مَاتُوا. رَوَاهُ البُخَارِيُّ (233)، وَمُسْلِمٌ (1671).

وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ؛ قَالَ أَنَسُ: (إِنَّمَا سَمَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَعْيُنَ أُولَئِكَ لِأَنَّهُمْ سَمَلُوا أَعْيُنَ الرِّعَاءِ).

وَ (عُرَينَةُ): حَيٌّ مِنْ بُجَيلَةَ مِنْ قَحْطَانَ.

وَ (فَاجْتَوَوهَا): مَعْنَاهُ اسْتَوخَمُوهَا؛ وَلَمْ تُوَافِقْهُم لِسَقَمٍ أَصَابَهُم.

وَ (سَمَلَ أَعْيُنَهُم): فَقَأَهَا.

(2)

المُفْهِمُ بِشَرْحِ مُسْلِمٍ (3/ 513).

ص: 510

الكُفَّارِ بِقِتَالٍ، أَمَّا الفَيءُ فَهُوَ مَا أُخِذَ مِنْ أَمْوَالِ الكُفَّارِ بِغَيرِ قِتَالٍ

(1)

.

- قَولُهُ: ((الجِزْيَة)) هو مِنْ جَزَى يَجْزِي، وَظَاهِرُهَا أَنَّها مُكَافَأَةٌ عَلَى شِيءٍ، وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ مَالٍ مَدْفُوعٍ مِنْ غَيرِ المُسْلِمِ عِوَضًا عَنْ حِمَايَتِهِ وَإِقَامَتِهِ بِدَارِنَا، وَالذِّمِّيُّ مَعْصُومٌ مَالُهُ وَدَمُّهُ وَذُرِّيَّتُهُ مُقَابِلَ الجِزْيَةِ.

وَأَمَّا صِفَةُ أَدَاءِ الجِزْيَةِ؛ فَهِيَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التَّوبَة: 29] أَي: يُسَلِّمُوهَا بِأَيدِيهِم؛ فَلَا يُقْبَلُ أَنْ يُرْسِلَ بِهَا الذِّمِّيُّ خَادِمَهُ أَو ابْنَهُ! بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَأْتِيَ بِهَا هُوَ نَفْسُهُ بِهَا.

- قَولُهُ: ((اسْتَعِنْ بِاللهِ)) دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الاسْتِعَانَةِ بِاللهِ تَعَالَى وَعَدَمِ الاغْتِرَارِ بِالقُوَّةِ أَوِ الكَثْرَةِ، فَالاعْتِمَادُ عَلَيهَا سَبَبٌ لِلهَزِيمَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَيَوْمَ حُنَينٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيئًا وَضَاقَتْ عَلَيكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيتُمْ مُدْبِرِينَ} [التَّوبَة: 25].

- قَولُهُ: ((فَلَا تَجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّةَ اللهِ وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ)) وَذَلِكَ خَشْيَةَ نَقْضِ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ حَقَّ الوَفَاءِ بِالعَهْدِ مِنَ المُسْلِمِينَ -كَجُمْلَةِ الأَعْرَابِ مَثَلًا-، أَو لِعَارِضٍ خَارِجٍ عَنْ طَاقَتِهِ؛ فَيَقَعُ النَّقْضُ!

وَالمَعْنَى العَامُّ: أَنَّهُ إِنْ وَقَعَ نَقْضٌ؛ فَنَقْضُ عَهْدِ الخَلْقِ أَهْوَنُ مِنْ نَقْضِ عَهْدِ اللهِ تَعَالَى، كَمَا فِي قَولِ المُصَنِّفِ رحمه الله فِي المَسَائِلِ:"الإِرْشَادُ إِلَى أَقَلِّ الأَمْرَينِ خَطَرًا".

- قَولُهُ: ((وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ)) هَذَا فِيمَا لَيسَ عِنْدَهُ فِيهِ نَصٌّ لِأَنَّهُ مَوضِعُ اجْتِهَادٍ، وَبَيَانُهُ فِي تَتِمَّةِ قَولِهِ:((فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَتُصِيبُ فِيهِمْ حُكْمَ اللهِ أَمْ لَا)).

(1)

وَعَلَيهِ أَكْثَرُ أَهْلِ العِلْمِ، أَفَادَهُ الشَّنْقِيطِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (أَضْوَاءُ البَيَانِ)(2/ 54).

ص: 511

- لِلمُشْرِكِينَ مَعَ المُسْلِمِينَ ثَلَاثُ حَالَاتٍ

(1)

:

1 -

أَنْ لَا يَكُونَ بَينَنَا وَبَينَهُم عَهْدٌ؛ فَيَجِبُ قِتَالُهُم بَعْدَ دَعْوَتِهِم إِلَى الإِسْلَامِ وِإِبَائِهِم عَنْهُ وَعَنْ بَذْلِ الجِزْيَةِ، وَلَكِنْ بِشَرْطِ قُدْرَتِنَا عَلَى ذَلِكَ.

2 -

أَنْ يَكُونَ بَينَنَا وَبَينَهُم عَهْدٌ مَحْفُوظٌ يَسْتَقِيمُونَ فِيهِ

(2)

؛ فَهُنَا يَجِبُ الوَفَاءُ لَهُمْ بِعَهْدِهِم، لِقَولِهِ تَعَالَى:{فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ} [التَّوبَة: 7]، وَكَقَولِهِ تَعَالَى:{إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ} [التَّوبَة: 4].

3 -

أَنْ يَكُونَ بَينَنَا وَبَينَهُم عَهْدٌ نَخَافُ خِيَانَتَهُم فِيهِ؛ فَهُنَا يَجِبُ أَنْ نَنْبِذَ إِلَيهِم العَهْدَ وَنُخْبِرَهُمْ أنَّهُ لَا عَهْدَ بَينَنَا، لِقَولِهِ تَعَالَى:{وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الخَائِنِينَ} [الأَنْفَال: 58]

(3)

.

- قَولُهُ: ((أَنْ تَخْفِرُوا)) أَي: تَغْدِرُوا وَتَنْقُضُوا.

- الهِجْرَةُ الشَّرْعِيَّةُ تُطْلَقُ عَلَى الانْتِقَالِ مِنْ بِلَادِ الكُفْرِ إِلَى بِلَادِ المُسْلِمِينَ مِنْ أَجْلِ حِفْظِ الدَّينِ

(4)

.

وَالهِجْرَةُ بَاقِيَةٌ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ، كَمَا فِي الحَدِيثِ: ((لَا تَنْقَطِعُ الهِجْرَةُ حَتَّى

(1)

القَولُ المُفِيدُ (2/ 480).

(2)

أَي: يُحَافِظُونَ عَلِيهِ.

(3)

قَالَ الشَّيخُ السَّعْدِيُّ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (ص 324): " {عَلَى سَوَاءٍ} أَي: حَتَّى يَسْتَوِي عِلْمُكَ وَعِلْمُهُم بِذَلِكَ، وَلَا يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَغْدِرَهُم أَو تَسْعَى فِي شَيءٍ مِمَّا مَنَعَهُ مُوجِبُ العَهْدِ حَتَّى تُخْبِرَهُم بِذَلِكَ"

(4)

وَإِنْ كَانَتْ أَيضًا قَدْ تَقَعُ مِنْ بِلَادِ الكُفْرِ إِلَى بِلَادِ الكُفْرِ أَيضًا؛ وَلَكِنْ بِفَارِقِ الأَمْنِ -إِذَا عُدِمَتْ بِلَادُ الإِسْلَامِ- كَمَا فِي هِجْرَةِ الحَبَشَةِ.

ص: 512

تَنْقَطِعَ التَّوبَةُ، وَلَا تَنْقَطِعُ التَّوبَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا))

(1)

.

وَأَمَّا قَولُهُ صلى الله عليه وسلم: ((لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ؛ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ))

(2)

فَالمُرَادُ بِهِ: الهِجْرَةُ مِنْ مَكَّةَ، لِأَنَّهَا بَعْدَ الفَتْحِ صَارَتْ دَارَ إِسْلَامٍ، وَأَمَّا الهِجْرَةُ مِنْ بِلَادِ الكُفْرِ إِلَى بِلَادِ الإِسْلَامِ فَهِي بَاقِيَةٌ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، وَإِذَا كَانَتِ البِلَادُ بِلَادًا إِسْلَامِيَّةً فَالانْتِقَالُ مِنْهَا إِلَى بَلَدٍ أَفْضَلَ مِنْهَا مُسْتَحَبٌّ

(3)

.

- قَالَ الشَّيخُ ابْنُ عُثَيمِينَ رحمه الله مُعَلِّقًا عَلَى قَولِ المُصَنِّفِ رحمه الله: (الفَرْقُ بَينَ ذِمَّةِ اللهِ وَذِمَّةِ نَبِيِّهِ وَذِمَّةِ المُسْلِمِينَ): "لَو قَالَ: الفَرْقُ بَينَ ذِمَّةِ اللهِ وَذِمَّةِ نَبِيِّهِ وَبَينَ ذِمَّةِ المُسْلِمِينَ؛ لَكَانَ أَوْضَحَ، لِأَنَّكَ عِنْدَمَا تَقْرَأُ كَلَامَهُ تَظُنُّ أَنَّ الفُرُوقَ بَينَ الثَّلَاثَةِ كُلِّهَا، وَلَيسَ كَذَلِكَ! فَإِنَّ ذِمَّةَ اللهِ وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ وَاحِدَةٌ، وَإِنَّمَا الفَرْقُ بَينَهُمَا وَبَينَ ذِمَّةِ المُسْلِمِينَ.

وَالفَّرْقُ أَنَّ جَعْلَ ذِمَّةِ اللهِ وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ لِلْمُحَاصِرِينَ مُحَرَّمَةٌ، وَجَعْلَ ذِمَّةِ المُحَاصِرِينَ -بِكَسْرِ الصَّادِ- ذِمَّةٌ جَائِزَةٌ"

(4)

.

- فَائِدَةٌ: ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله -وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الإِمَامِ أَحْمَدَ رَحِمَهُمَا اللهُ تَعَالَى- إِلَى أَنَّ أَخْذَ الجِزْيَةِ خَاصٌّ بِأَهْلِ الكِتَابِ وَبِالمَجُوسِ فَقَط مِنَ العَرَبِ وَمِنَ العَجَمِ، وَأَمَّا مَنْ عَدَاهُم مِنَ المُشْرِكِينَ فَلَا تُقْبَلُ مِنْهُم جِزْيَةٌ، وَبَعْضُهُم كَالإِمَامِ مَالِكٍ تَوَسَّعَ فَجَعَلَهَا مِنْ كُلِّ المُشْرِكِينَ

(5)

.

(1)

صَحِيحٌ. أَبُو دَاوُدَ (2479) عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (7469).

(2)

رَوَاهُ البُخَارِيُّ (2783)، وَمُسْلِمٌ (1353) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا.

(3)

إِعَانَةُ المُسْتَفِيدِ (2/ 410).

(4)

القَولُ المُفِيدُ (2/ 494).

(5)

رَاجِعْ تَفْسِيرَ ابْنِ كَثِيرٍ (4/ 132).

=

ص: 513

‌مَسَائِلُ عَلَى البَابِ

-‌

‌ مَسْأَلَةٌ: مَا الجَوَابُ عَنْ ظَاهِرِ التَّعَارُضِ بَينَ الآيَةِ فِي البَابِ، وَبَينَ النُّصُوصِ الَّتِي فِيهَا إِبَاحَةُ نَقْضِ اليَمِينِ مَعَ الكَفَّارَةِ!

كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَينَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البَقَرَة: 224]

(1)

، وَكَقَولِهِ تَعَالَى أَيضًا:{ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المَائِدَة: 89]، وَكَقَولِهِ عليه الصلاة والسلام:((وَاللَّهِ -إِنْ شَاءَ اللهُ- لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيرَهَا خَيرًا مِنْهَا؛ إِلَّا أَتَيتُ الَّذِي هُوَ خَيرٌ، وَتَحَلَّلْتُهَا))

(2)

؟

الجَوَابُ: لَا تَعَارُضَ؛ وَذَلِكَ مِنْ وَجْهَينِ:

1 -

أَنَّ هَذِهِ الأَيمَانَ الَّتِي لَا يَجُوزُ نَقْضُهَا هِيَ الأَيمَانُ الدَّاخِلَةُ فِي العُهُودِ وَالمَوَاثِيقِ، لَا الأَيمَانَ الوَارِدَةَ عَلَى حَثٍّ أَو مَنْعٍ؛ فَالَّذِي نَهَى عَنْ نَقْضِ الأَوَّلِ هُوَ الَّذِي حَضَّ عَلَى نَقْضِ الثَّانِي.

=

قُلْتُ: وَلَعَلَّ الأَوَّلَ هُوَ الأَرْجَحُ، وَيُشِيرُ لِذَلِكَ حَدِيثُ البُخَارِيِّ (3156) عَنْ بَجَالَةَ وَفِيهِ:(وَلَمْ يَكُنْ عُمَرُ أَخَذَ الجِزْيَةَ مِنَ المَجُوسِ حَتَّى شَهِدَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوفٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَخَذَهَا مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ) فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى التَّخْصِيصِ وَعَدَمِ العُمُومِ أَصْلًا.

قَالَ الإِمَامُ ابْنُ القَيِّمِ رحمه الله: "فَأَجْمَعَ الفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الجِزْيَةَ تُؤْخَذُ مِن أَهْلِ الكِتَابِ وَمِنَ المَجُوسِ". أَحْكَامُ أَهْلِ الذِّمَّةِ (1/ 79).

(1)

قَالَ العَلَّامَةُ الشِّنْقِيطِيُّ رحمه الله: "أَي: لَا تَحْلِفُوا بِاللَّهِ عَلَى فِعْلِ الخَيرِ؛ فَإِذَا قِيلَ لَكُمُ: اتَّقُوا وَبَرُّوا، وَأَصْلِحُوا بَينَ النَّاسِ؛ قُلْتُمْ: حَلَفْنَا بِاللَّهِ لَا نَفْعَلُ ذَلِكَ؛ فَتَجْعَلُوا الحَلِفَ بِاللَّهِ سَبَبًا لِلِامْتِنَاعِ مِنْ فِعْلِ الخَيرِ! ". أَضْوَاءُ البَيَانِ (5/ 487).

(2)

البُخَارِيُّ (3133)، وَمُسْلِمٌ (1649) عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ مَرْفُوعًا.

ص: 514

2 -

أَنَّ النَّقْضَ فِي الأَوَّلِ فِيهِ إِشَارَةٌ لِلْتَهَاوُنِ فِي حَقِّ اللهِ؛ وَأَمَّا النَّقْضُ فِي الثَّانِي فَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَزِيدٍ مِنَ التَّعْظِيمِ، لِأَنَّ سَبَبَهُ هُوَ الانْتِقَالُ إِلَى مَا كَانَ خَيرًا مِنَ الأَوَّلِ. وَالحَمْدُ للهِ عَلَى تَوفِيقِهِ.

ص: 515

بَابُ مَا جَاءَ فِي الإِقْسَامِ عَلَى اللهِ

عَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه؛ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((قَالَ رَجُلٌ: وَاللَّهِ لَا يَغْفِرُ اللهُ لِفُلَانٍ، فَقَالَ اللهُ عز وجل: مَنْ ذَا الَّذِي يَتَأَلَّى عَلَيَّ أَنْ لَا أَغْفِرَ لِفُلَانٍ؟! إِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُ وَأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(1)

.

وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ؛ أَنَّ القَائِلَ رَجُلٌ عَابِدٌ، قَالَ أَبُو هُرَيرَةَ:(تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَوبَقَتْ دُنْيَاهُ وَآخِرَتَهُ)

(2)

.

(1)

مُسْلِمٌ (2621).

(2)

رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ (4901). صَحِيحُ الجَامِعِ (4455).

وَتَمَامُ الحَدِيثِ: ((كَانَ رَجُلَانِ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مُتَآخِيَينِ، فَكَانَ أَحَدُهُمَا يُذْنِبُ وَالآخَرُ مُجْتَهِدٌ فِي العِبَادَةِ، فَكَانَ لَا يَزَالُ المُجْتَهِدُ يَرَى الآخَرَ عَلَى الذَّنْبِ فَيَقُولُ: أَقْصِرْ، فَوَجَدَهُ يَومًا عَلَى ذَنْبٍ؛ فَقَالَ لَهُ: أَقْصِرْ. فَقَالَ: خَلِّنِي وَرَبِّي؛ أَبُعِثْتَ عَلَيَّ رَقِيبًا؟! فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا يَغْفِرُ اللهُ لَكَ -أَو لَا يُدْخِلُكَ اللهُ الجَنَّةَ-. فَقَبَضَ أَرْوَاحَهُمَا، فَاجْتَمَعَا عِنْدَ رَبِّ العَالَمِينَ، فَقَالَ لِهَذَا المُجْتَهِدِ: أَكُنْتَ بِي عَالِمًا؟ أَو كُنْتَ عَلَى مَا فِي يَدِي قَادِرًا؟ وَقَالَ لِلْمُذْنِبِ: اذْهَبْ؛ فَادْخُلِ الجَنَّةَ بِرَحْمَتِي. وَقَالَ لِلآخَرِ: اذْهَبُوا بِهِ إِلَى النَّارِ)). قَالَ أَبُو هُرَيرَةَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَوبَقَتْ دُنْيَاهُ وَآخِرَتَهُ.

ص: 516

فِيهِ مَسَائِلُ:

الأَولَى: التَّحْذِيرُ مِنَ التَّأَلِّي عَلَى اللهِ.

الثَّانِيَةُ: كَونُ النَّارِ أَقْرَبَ إِلَى أَحَدِنَا مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ.

الثَّالِثَةُ: أَنَّ الجَنَّةَ مِثْلُ ذَلِكَ.

الرَّابِعَةُ: فِيهِ شَاهِدٌ لِقَولِهِ: ((إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ)) إِلَى آخِرِهِ.

الخَامِسَةُ: أَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يُغْفَرُ لَهُ بِسَبَبٍ هُوَ مِنْ أَكْرَهِ الأُمُورِ إِلَيهِ!

ص: 517

‌الشَّرْحُ

- الإِقْسَامُ عَلَى اللهِ: هُوَ الحَلَفِ عَلَى اللهِ، وَيَتَأَلَّى أَي: يَحْلِفُ

(1)

، وَمِنْهُ قَولُهُ تَعَالَى:{لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البَقَرَة: 226]

(2)

.

- مُنَاسَبَةُ التَّرْجَمَةِ لِكِتَابِ التَّوحِيدِ: أَنَّ مَنْ تَأَلَّى عَلَى اللهِ عز وجل؛ فَقَدْ أَسَاءَ الأَدَبَ مَعَهُ، وَتَجَرَّأَ عَلَيهِ، وَزَعَمَ التَّحَكُّمَ فِي أَفْعَالِهِ تَعَالَى! فَالتَّأَلِّي عَلَى العَظِيمٌ تَنَقُّصٌ لِعَظَمَتِهِ.

وَيَزْدَادُ الأَمْرُ سُوءًا إِذَا انْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ مُخَالَفَةُ مَا عُلِمَ مِنْ صِفَاتِ اللهِ تَعَالَى وَأَفْعَالِهِ، وَفِي الحَدِيثِ هُنَا جَاءَ التَّأَلِّي عَلَى اللهِ مُضَافًا إِلَيهِ حَجْرُ فَضْلِهِ تَعَالَى، وَتَقْنِيطُ عِبَادِهِ مِنْ رَحْمَتِهِ!

- القَسَمُ عَلَى اللهِ تَعَالَى ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ

(3)

:

1 -

أَنْ يُقْسِمَ عَلَى مَا أَخْبَرَ اللهُ بِهِ وَرَسُولُهُ مِنْ نَفْي أَو إِثْبَاتٍ؛ فَهَذَا جَائِزٌ، وَهُوَ

(1)

قَالَ فِي القَامُوسِ المُحِيطِ (ص 1260): "آلَى وَائْتَلَى وَتَأَلَّى: أَقْسَمَ".

(2)

قَالَ الشَّيخُ السَّعْدِيُّ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (ص 101): "وَهَذَا مِنَ الأَيمَانِ الخَاصَّةِ بِالزَّوجَةِ فِي أَمْرٍ خَاصٍّ، وَهُوَ حَلِفُ الزَّوجِ عَلَى تِرْكِ وَطْءِ زَوجَتِهِ".

وَفِي الآيَةِ تَعْدِيَةُ الإِيلَاءِ بِـ (مِنْ) لِتَضَمُّنِ مَعْنَى البُعْدِ، فَصَارَ بِمَعْنَى: يَبْعُدُونَ مِنْ نِسَائِهِم مُؤْلِينَ أَو مُقْسِمِينَ.

(3)

القَولُ المُفِيدُ (2/ 497).

ص: 518

دَلِيلٌ عَلَى يِقَينِهِ بِمَا أَخْبَرَ اللهُ بِهِ وَرَسُولُهُ، كَقَولِ القَائِلِ:"وَاللهِ؛ لَيُشَفِّعَنَّ اللهُ نَبِيَّهُ فِي الخَلْقِ يَومَ القِيَامَةِ"، وَكَقَولِ:"وَاللهِ؛ لَا يَغْفِرُ اللهُ لِمَنْ أَشْرَكَ بِهِ"

(1)

.

2 -

أَنْ يُقْسِمَ عَلَى رَبِّهِ لِقُوَّةِ رَجَائِهِ وَحُسْنِ ظَنِّهِ بِهِ؛ فَهَذَا جَائِزٌ، كَمَا فِي الحَدِيثِ:((إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللهِ مَنْ لَو أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ))

(2)

(3)

.

3 -

أَنْ يَكُونَ الحَامِلَ لَهُ هُوَ الإِعْجَابُ بِالنَّفْسِ، وَحَجْرُ فَضْلِ اللهِ عز وجل، وَسُوءُ الظَّنِّ بِهِ تَعَالَى! فَهَذَا مُحَرَّمٌ، وَهُوَ وَشِيكٌ بِأَنْ يُحْبِطَ اللهُ عَمَلَ هَذَا المُقْسِمِ.

(1)

قُلْتُ: وَمِصْدَاقُهُ فِي عِلَّةِ النَّهْي فِي حَدِيثِ البَابِ: ((أَكُنْتَ بِي عَالِمًا))؟!

(2)

وَتَمَامُ الحَدِيثِ كَمَا فِي البُخَارِيِّ (2703)، وَمُسْلِمٍ (1635) عَنْ أَنَسِ بْنِ النَّضْرِ: أَنَّ الرُّبَيِّعَ -وَهِيَ ابْنَةُ النَّضْرِ- كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ، فَطَلَبُوا الأَرْشَ وَطَلَبُوا العَفْوَ؛ فَأَبَوا، فَأَتَوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَهُمْ بِالقصَاصِ، فَقَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ: أَتُكْسَرُ ثَنِيَّةُ الرُّبَيِّعِ يَا رَسُولَ اللهِ؟! لَا؛ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ لَا تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا. فَقَالَ: ((يَا أَنَسُ؛ كِتَابُ اللهِ القِصَاصُ))، فَرَضِيَ القَومُ وَعَفَوا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:((إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللهِ مَنْ لَو أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ)).

وَالأَرْشُ: هُوَ دِيَّةُ الجِرَاحَةِ.

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله فِي الفَتْحِ (11/ 543): "وَقَولُهُ: ((لَو أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ)) أَي: لَو حَلَفَ يَمِينًا عَلَى شَيءٍ أَنْ يَقَعَ -طَمَعًا فِي كَرَمِ اللهِ بِإِبْرَارِهِ- لَأَبَرَّهُ وَأَوقَعَهُ لِأَجْلِهِ".

(3)

وَالحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى قُوَّةِ رَجَاءِ المُقْسِمِ بِاللهِ تَعَالَى، وَعَلَى حُسْنِ ظَنَّهِ بِرَبِّهِ؛ أَنَّهُ تَعَالَى سَيُنْجِزُ لَهُ مَا طَلَبَهُ مِنْهُ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا اشْتُهِرَ عَنِ بَعْضِ المُتَصَوِّفَةِ مِنْ قَولِهِم عَنِ الأَولِيَاءِ الصَّالِحِينَ:"إِنَّ للهِ عِبَادًا؛ إِذَا أَرَادُوا أَرَادَ"!! فَهَذَا فِيهِ قِلَّةُ أَدَبٍ مَعَ اللهِ تَعَالَى -إِنْ لَمْ يَكُنْ كُفْرًا-، وَذَلِكَ لِجَعْلِ إِرَادَةِ اللهِ تَعَالَى تَابِعَةً وَمَحْكُومَةً لِإِرَادَةِ المَخْلُوقِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الإِنْسَان: 30].

فَهَذَا الوَجْهُ جَازَ بِسَبَبِ مَعْرِفَةِ العَبْدِ بِمَا أَرْشَدَتْ إِلَيهِ عُمُومُ الشَّرِيعَةِ مِن صِفَاتِ اللهِ، وَجَزَاءِ مَن رَجَا وَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ، وَنَصْرِهِ لِأَوْلِيَائِهِ، وَخِذْلَانِهِ لِأَعْدَائِهِ.

ص: 519

وَهَذَا النَّوعُ الأَخِيرُ هُوَ الَّذِي سَاقَ المُؤَلِّفُ الحَدَيثَ مِنْ أَجْلِهِ

(1)

.

- فِي الحَدِيثِ دِلَالَةٌ عَلَى وُجُوبِ التَّحَفُّظِ -عِنْدَ إِنْكَارِ المُنْكَرِ- مِنَ الكَلَامِ الَّذِي يَكُونَ وَبَالًا عَلَى صَاحِبِهِ، لِأَنَّ بَعْضَ النَّاسِ عِنْدَ إِنْكَارِهِ المُنْكَرَ قَدْ تَحْمِلُهُ الغَيرَةُ فَيَتَكَلَّمُ عَلَى العُصَاةِ وَالمُخَالِفِينَ بِكَلَامٍ لَا يَصِحُّ شَرْعًا؛ فَيُؤَاخَذُ بِهِ.

- قَولُ المُصَنِّفِ رحمه الله فِي المَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ: "كَونُ النَّارِ أَقْرَبَ إِلَى أَحَدِنَا مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ، وَأَنَّ الجَنَّةَ مِثْلُ ذَلِكَ" يَقْصِدُ حَدِيثَ: ((الجَنَّةُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ وَالنَّارُ مِثْلُ ذَلِكَ))

(2)

.

- قَولُ المُصَنِّفِ رحمه الله فِي المَسْأَلَةِ الرَّابِعَةِ: "فِيهِ شَاهِدٌ لِقَولِهِ: ((إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ)) إِلَى آخِرِهِ" يَقْصِدُ حَدِيثَ: ((إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ -لَا يَرَى بِهَا بَأْسًا- يَهْوِي بِهَا سَبْعِينَ خَرِيفًا فِي النَّارِ))

(3)

.

- قَولُ المُصَنِّفِ رحمه الله فِي المَسْأَلَةِ الخَامِسَةِ: "أَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يُغْفَرُ لَهُ بِسَبَبٍ هُوَ مِنْ أَكْرَهِ الأُمُورِ إِلَيهِ" يُرِيدُ أَنَّهُ بِسَبَبِ إِنْكَارِ ذَلِكَ العَابِدِ عَلَيهِ، وَالحَقِيقَةُ أَنَّ المَغْفِرَةَ حَصَلَتْ بِسَبَبِ رَحْمَةِ اللهِ لَهُ وَلَكِنْ جُعِلَ ذَلِكَ سَبَبًا مُبَاشِرًا في حُصُولِهَا.

لَكِنَّ هَذِهِ المَسْأَلَةَ صَحِيحَةٌ مِنْ حَيثُ الجُمْلَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{كُتِبَ عَلَيكُمُ القِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيئًا وَهُوَ خَيرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البَقَرَة: 216].

(1)

وَبَوَّبَ عَلَيهِ النَّوَوِيُّ رحمه الله فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ (4/ 2023): "بَابُ النَّهْي عَنْ تَقْنِيطِ الإِنْسَانِ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ".

(2)

رَوَاهُ البُخَارِيُّ (6488) عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا.

(3)

صَحِيحٌ. التِّرْمِذِيُّ (2314) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (1618).

ص: 520

- فَائِدَةٌ: قَولُ الرَّجُلِ: "مَا أَظُنُّ اللهَ عز وجل يَدَعُ فُلَانًا مِنَ العُقُوبَةِ" هَذَا القَولُ لَا يَجُوزُ، وَيُخْشَى عَلَيهِ أَنْ يَكُونَ مِنَ المُتَأَلِّينَ عَلَى اللهِ تَعَالَى.

قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رحمه الله تَعْلِيقًا عَلَى حَدِيثِ البَابِ: "وَفِيهِ دَلَالَةٌ لِمَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي غُفْرَانِ الذُّنُوبِ بِلَا تَوْبَةٍ إِذَا شَاءَ اللَّهُ غُفْرَانَهَا"

(1)

.

(1)

شَرْحُ النَّوَوِيِّ عَلَى مُسْلِمٍ (16/ 174).

ص: 521

‌مَسَائِلُ عَلَى البَابِ

-‌

‌ المَسْأَلَةُ الأُولَى: مَا الأُمُورُ الَّتِي يَجِبُ مُرَاعَاتُهَا عِنْدَ الأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ، أَو إِنْكَارِ المُنْكَرِ؟

الجَوَابُ:

1 -

العِلْمُ: وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ هَذَا الأَمْرُ مُنْكَرًا وَاضِحًا يَتَّفِقُ عَلَيهِ الجَمِيعُ، أَو فِيهِ خِلَافٌ ضَعِيفٌ غَيرُ مُعْتَبَرٍ

(1)

.

2 -

القُدْرَةُ عَلَى تَغْيِيرِهِ: وَكُلُّ بِحَسْبِ طَاقَتِهِ وَوِلَايَتِهِ، كَمَا فِي الحَدِيثِ:((مَا مِنْ قَومٍ يُعْمَلُ فِيهِمْ بِالمَعَاصِي؛ ثُمَّ يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يُغَيِّرُوا ثُمَّ لَا يُغَيِّرُوا! إِلَّا يُوشِكُ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللهُ مِنْهُ بِعِقَابٍ))

(2)

.

وَلَكِنْ تُلَاحَظُ فِيهِ القُدْرَةُ عَلَى تَحَمُّلِ الأَذَى، وَكُلٌّ بِحَسْبِ طَاقَتِهِ، وَفِي الحَدِيثِ:((لَا يَنْبَغِي لِمُؤْمِنٍ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ! يَتَعَرَّضُ مِنَ البَلَاءِ لِمَا لَا يُطِيقُ))

(3)

.

(1)

وَأَيضًا أَنْ يَسْتَبِينَ كَونُ الأَمْرِ مُنْكَرًا فِي حَقِّ المُنْكَرِ عَلِيهِ بِدُونِ التِبَاسٍ، كَالإِنْكَارُ عَلَى امْرَأَةٍ تَأْكُلُ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ لِعِلَّةِ حَيضِهَا؛ وَهُوَ أَمْرٌ خَفِيٌّ، أَوِ الإِنْكَارُ عَلَى رَجُلٍ يَأْكُلُ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ لِعِلَّةِ سَفَرِهِ أَوْ مَرَضِهِ المُزْمِنِ كَالسُّكَّرِيِّ؛ وَهُوَ أَيضًا أَمْرٌ خَفِيٌّ؛ فَوَجَبَ الاحْتِيَاطُ وَالتَّثَبُّتُ.

(2)

صَحِيحٌ. أَبُو دَاوُدَ (4338) عَنْ جَرِيرٍ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (3353).

(3)

صَحِيحٌ. التِّرْمِذِيُّ (2254) عَنْ حُذَيفَةَ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (613).

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ رحمه الله فِي كِتَابِهِ جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (2/ 251): "فَأَمَّا حَدِيثُ: ((لَا يَنْبَغِي لِمُؤْمِنٍ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ)) فَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُطِيقُ الأَذَى وَلَا يَصْبِرُ عَلَيهِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَتَعَرَّضُ حِينَئِذٍ لِلأَمْرِ -وَهَذَا حَقٌّ-، وَإنَّمَا الكَلَامُ فِيمَنْ عَلِمَ مِنْ نَفْسِهِ الصَّبْرَ، كَذَلِكَ قَالَهُ الأَئِمَّةُ؛ كَسُفْيَانَ وَأَحْمَدَ وَالفُضِيلِ بْنِ عِيَاضٍ وَغَيرِهِم".

=

ص: 522

3 -

عَدَمُ الانْتِقَالِ إِلَى مُنْكَرٍ آخَرَ -مِثْلِهِ أَو أَشَدَّ-: وَلَكِنْ إِلَى مَعْرُوفٍ، أَو تَرْكٍ لِلمُنْكَرِ، أَو أَدْنَى مِنْهُ.

4 -

الرِّفقُ: كَمَا فِي الحَدِيثِ: ((إِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيءٍ إِلَّا شَانَهُ))

(1)

.

=

وَقَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله فِي الفَتْحِ (13/ 53): "قَالَ الطَّبَرِيُّ: اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي الأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ؛ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يَجِبُ مُطْلَقًا، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ رَفَعَهُ:((أَفْضَلُ الجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ))، وَبِعُمُومِ قَولِهِ:((مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا؛ فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ)) الحَدِيثَ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجِبُ إِنْكَارُ المُنْكَرِ؛ لَكِنَّ شَرْطَهُ أَنْ لَا يَلْحَقَ المُنْكِرَ بَلَاءٌ لَا قِبَلَ لَهُ بِهِ مِنْ قَتْلٍ وَنَحْوِهِ.

وَقَالَ آخَرُونَ: يُنْكِرُ بِقَلْبِهِ لِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ مَرْفُوعًا: ((يُسْتَعْمَلُ عَلَيكُمْ أُمَرَاءُ بَعْدِي؛ فَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ بَرِئَ، وَمَنْ أَنْكَرَ فَقَدْ سَلِمَ، وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ

)) الحَدِيث.

قَالَ: وَالصَّوَابُ اعْتِبَارُ الشَّرْطِ المَذْكُورِ، وَيَدُلُّ عَلَيهِ حَدِيثُ:((لَا يَنْبَغِي لِمُؤْمِنٍ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ)) ثُمَّ فَسَّرَهُ بِأَنْ ((يَتَعَرَّضَ مِنَ البَلَاءِ لِمَا لَا يُطِيقُ)). انْتَهَى مُلَخَّصًا.

وَقَالَ غَيرُهُ: يَجِبُ الأَمْرُ بِالمَعْرُوفِ لِمَنْ قَدَرَ عَلَيهِ وَلَمْ يَخَفْ عَلَى نَفْسِهِ مِنْهُ ضَرَرًا".

قُلْتُ: وَأَمَّا حَدِيثُ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ؛ فَهُوَ صَحِيحٌ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ (4344). صَحِيحُ أَبِي دَاوُدَ (4344).

وَأَمَّا حَدِيثُ: ((مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا؛ فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ)) فَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ (49) عَنْ أَبي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا.

وَأمَّا حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ؛ فَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1854) أَيضًا.

وَأمَّا حَدِيثُ: ((لَا يَنْبَغِي لِمُؤْمِنٍ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ)) فَهُوَ صَحِيحٌ. التِّرْمِذِيُّ (2254) عَنْ حُذَيفَةَ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (613).

(1)

مُسْلِمٌ (2594) عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا.

قُلْتُ: وَالأَصْلُ فِي الأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنِ المُنْكَرِ هُوَ الرِّفْقُ، لَكِنْ قَدْ تَكُونُ الشِّدَّةُ هِيَ الأَفْضَلُ فِي بَعْضِ الَحالاتِ، كَمَا سَبَقَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي بَابِ "مَنْ هَزَلَ بِشَيءٍ فِيهِ ذِكْرُ اللهِ أَوِ القُرْآنِ أَوِ الرَّسُولِ".

قَالَ الإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: "مَنْ وَعَظَ أَخَاهُ سِرًّا فَقَدْ نَصَحَهُ وَزَانَهُ، وَمَنْ وَعَظَهُ عَلَانِيَةً فَقَدْ فَضَحَهُ وَشَانَهُ". شَرْحُ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ (2/ 24).

ص: 523

5 -

ظَنُّ الانْتِفَاعِ

(1)

.

وَلْتُرَاجَعِ الحَوَاشِي عَلَى هَذِهِ المَسْأَلَةِ جَيِّدًا؛ فَإِنَّ فِيهَا فَوَائِدَ هَامَّةً.

(1)

وَالجُمْهُورُ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِهِ، وَاسْتُدِلَ لِعَدَمِ اعْتِبَارِهِ بِقَولِهِ تَعَالَى:{وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَينَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 164 - 165]، وَالشَّاهِدُ فِيهِ أَنَّ النَّجَاةَ كَانَتْ لِمَنْ كَانَ يَنْهَى عَنِ السُّوءِ.

وَرُدَّ عَلَى الاسْتِدْلَالِ السَّابِقِ بِتَمَامِ الآيَةِ وَفِيهَا: {وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأَعْرَاف: 165] وَالشَّاهِدُ هُوَ أَخْذُ الظَّالِمِينَ فَقَط بِالعَذَابِ.

ص: 524

-‌

‌ المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّتِ المُعْتَزِلَةُ بِحَدِيثِ البَابِ عَلَى إِحْبَاطِ الأَعْمَالِ بِالْمَعَاصِي الكَبَائِرِ خِلَافًا لِمَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ! فَمَا الجَوَابُ؟

الجَوَابُ مَحْمُولٌ عَلَى أَوْجًهٍ:

1 -

أَنَّ الإِحْبَاطَ هُوَ لِكَامِلِ عَمَلِهِ، وَذَلِكَ لِكَونِهِ قَدْ تَعَلَّقَ بِعَمَلِ نَفْسِهِ، وَظَنَّ أَنَّ لَهُ بِذَلِكَ إِدْلَالًا

(1)

، وَتَحَكُّمًا عَلَى اللهِ تَعَالَى فِي رَحْمَتِهِ؛ فَكَانَ هَذَا سَبَبًا لِإِبْطَالِ كُلِّ مَا سَبَقَ مِنْ عَمَلِهِ حَيثُ فَقَدَ رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِ العِبَادَةِ وَهُوَ رُكْنُ الذُّلِّ وَالخُضُوعِ للهِ تَعَالَى.

2 -

أَنَّ الإِحْبَاطَ هُوَ لِنَوعِ العَمَلِ الَّذِي كَانَ مُتَقَدِّمًا فِيهِ عَلَى ذَلِكَ العَاصِي -الَّذِي قَصَّرَ فِيهِ هَذَا الأَخِيرُ-، فَيَكُونُ الإِحْبَاطُ جُزْئِيًّا مِنْ بَابِ العُقُوبَةِ عَلَى ذَلِكَ التَّأَلِّي.

3 -

أَنَّ هَذَا الحُكْمَ كَانَ فِي شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا؛ وَجَاءَ شَرْعُنَا بِخِلَافِهِ

(2)

.

وَفِي الحَدِيثِ عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ؛ قَالَ: خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى رَهْطٍ مِنْ أَصْحَابِهِ يَضْحَكُونَ وَيَتَحَدَّثُونَ، فَقَالَ:((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ؛ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا، وَلَبَكَيتُمْ كَثِيرًا))، ثُمَّ انْصَرَفَ وَأَبْكَى القَوْمَ، وَأَوْحَى اللَّهُ عز وجل إِلَيهِ:((يَا مُحَمَّدُ؛ لِمَ تُقَنِّطُ عِبَادِي؟!))، فَرَجَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:((أَبْشِرُوا، وَسَدِّدُوا، وَقَارِبُوا))

(3)

.

(1)

قَالَ فِي تَاجِ العَرُوسِ (28/ 502): "الأَدَلُّ: المَنَّانُ بعَمَلِهِ".

(2)

يُنْظَرُ: شَرْحُ النَّوَوِيِّ عَلَى مُسْلِمٍ (16/ 174)، والقَولُ المُفِيدُ (2/ 501).

(3)

صَحِيحٌ. الأَدَبِ المُفْرَدِ لِلْبُخَارِيِّ (254). الصَّحِيحَةُ (3194).

ص: 525

بَابُ لَا يُسْتَشْفَعُ بِاللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ

عَنْ جُبَيرِ بْنِ مُطْعِمٍ رضي الله عنه؛ قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! نُهِكَتِ الأَنْفُسُ، وَجَاعَ العِيَالُ، وَهَلَكَتِ الأَمْوَالُ؛ فَاسْتَسْقِ لَنَا رَبَّكَ؛ فَإِنَّا نَسْتَشْفِعُ بِاللَّهِ عَلَيكَ، وَبِكَ عَلَى اللهِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:((سُبْحَانَ اللهِ! سُبْحَانَ اللهِ!))، فَمَا زَالَ يُسَبِّحُ حَتَّى عُرِفَ ذَلِكَ فِي وُجُوهِ أَصْحَابِهِ، ثُمَّ قَالَ:((وَيحَكَ! أَتَدْرِي مَا اللهُ؟ إِنَّ شَأْنَ اللهِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ، إِنَّهُ لَا يُسْتَشْفَعُ بِاللَّهِ عَلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ))، وَذَكَرَ الحَدِيثَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد

(1)

.

فِيهِ مَسَائِلُ:

الأُولَى: إِنْكَارُهُ عَلَى مَنْ قَالَ: (نَسْتَشْفِعُ بِاللَّهِ عَلَيكَ).

الثَّانِيَةُ: تَغَيُّرُهُ تَغَيُّرًا عُرِفَ فِي وُجُوهِ أَصْحَابِهِ مِنْ هَذِهِ الكَلِمَةِ.

الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيهِ قَولَهُ: (نَسْتَشْفِعُ بِكَ عَلَى اللهِ).

الرَّابِعَةُ: التَّنْبِيهُ عَلَى تَفْسِيرِ (سُبْحَانَ اللهِ).

الخَامِسَةُ: أَنَّ المُسْلِمِينَ يَسْأَلُونَهُ صلى الله عليه وسلم الاسْتِسْقَاءَ.

(1)

ضَعِيفٌ. أَبُو دَاوُدَ (4726). ظِلَالُ الجَنَّةِ (575).

ص: 526

‌الشَّرْحُ

- الشَّفَاعَةُ لُغَةً: مِنَ الشَّفْعِ وَهُوَ الزَّوجُ، وَهُوَ خِلَافُ الوَتْرِ

(1)

، وَاصْطِلَاحًا: التَّوَسُّطُ لِلغَيرِ بِجَلْبِ مَنْفَعَةٍ أَو دَفْعِ مَضَرَّةٍ.

- مُنَاسَبَةُ البَابِ لِكِتَابِ التَّوحِيدِ أَنَّ المُسْلِمَ يَتَحَرَّزُ مِنَ الأَلْفَاظِ الَّتِي فِيهَا سُوءُ أَدَبٍ مَعَ اللهِ تَعَالَى وَتَنَقُّصٌ لِمَقَامِ الرُّبُوبِيَّةِ للهِ جل جلاله.

فَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْكَرَ عَلَى الأَعْرَابِيِّ لِأَنَّ سُؤَالَهُ يُوهِمُ أَنَّ اللهَ مُفْتَقِرٌ لِمَا فِي يَدِ عَبْدِهِ المَشْفُوعِ عِنْدَهُ! وَالحَقُّ أَنَّ الكُلَّ مُفْتَقِرٌ إِلَى اللهِ تَعَالَى، كَمَا فِي قَولِهِ سُبْحَانَهُ:{وَإِنْ مِنْ شَيءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} [الحِجْر: 21]، وَكَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ} [فَاطِر: 15].

- إِنَّ تَسْبِيحَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَدُلُّ عَلَى تَنْزِيهِهِ للهِ تَعَالَى مِمَّا نُسِبَ إِلَيهِ مِنَ السُّوءِ.

- حَدِيثُ البَابِ ضَعَّفَهُ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله

(2)

، وَقَالَ الشَّيخُ ابْنُ عُثَيمِين رحمه الله:"لَكِنَّهُ صَحِيحُ المَعْنَى"

(3)

.

- قَولُهُ: ((وَيحَكَ)) (وَيح) كَلِمَةٌ يُرَادُ بِهَا الزَّجْرُ وَالعِتَابُ، وَيُرَادُ بِهَا الشَّفَقَةُ أَحْيَانًا.

(1)

قَالَ فِي لِسَانِ العَرَبِ (8/ 184): "وَالشَّفَاعَةُ: كَلَامُ الشَّفِيعِ لِلْمَلِكِ فِي حَاجَةٍ يَسْأَلُهَا لِغَيرِهِ، وَشَفَعَ إِلَيهِ: فِي مَعْنَى طَلَبَ إِلَيهِ، وَالشَّافِعُ: الطَّالِبُ لِغَيرِهِ يَتَشَفَّعُ بِهِ إِلَى المَطْلُوبِ".

(2)

ظِلَالُ الجَنَّةِ (575).

(3)

القَولُ المُفِيدُ (2/ 511).

ص: 527

- قَولُهُ: ((إِنَّ شَأْنَ اللهِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ)) أَي: إِنَّ شَأْنَ اللهِ أَعْظَمُ مِمَّا تَصَوَّرْتَ حَيثُ جِئْتَ بِهَذَا اللَّفْظِ.

- قَولُهُ: ((إِنَّهُ لَا يُسْتَشْفَعُ بِاللهِ عَلَى أَحَدٍ)) أَي: لَا يُطْلَبُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ شَفِيعًا إِلَى أَحًدٍ، وَذَلِكَ لِكَمَالِ عَظَمَتِهِ وَكِبْرِيَائِهِ.

- فِي الحَدِيثِ مَشْرُوعِيَّةُ التَّسْبِيحِ وَالتَّكْبِيرِ عِنْدَ حُصُولِ أَمْرٍ مُنْكَرٍ أَو أَمْرٍ عَجِيبٍ.

ص: 528

‌مَسَائِلُ عَلَى البَابِ

-‌

‌ مَسْأَلَةٌ: إِذَا كَانَ الاسْتِشْفَاعُ بِاللهِ تَعَالَى عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ عِبَادِهِ غَيرَ مَشْرُوعٍ؛ فَكَيفَ جَازَ السُّؤَالُ بِاللهِ فِي الحَدِيثِ: ((مَنْ سَأَلَ بِاللهِ فَأَعْطُوهُ))

(1)

؟! وَكَحَدِيثِ الصَّحِيحَينِ فِي قَولِ المَلَكِ: ((أَسْأَلُكَ بِالَّذِي أَعْطَاكَ اللونَ الحَسَنَ))

(2)

!

الجَوَابُ: لَا تَعَارُضَ أَبَدًا بَينَهُمَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ حَدِيثَ البَابِ -كَمَا سَبَقَ- يَدُلُّ عَلَى أَنَّ شَأْنَ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِ اللهِ أَعْظَمُ -أَو مُقَارِبٌ- لِشَأْنِ اللهِ سُبْحَانَهُ! فَهُوَ تَنَقُّصٌ لِمَقَامِ الرُّبُوبِيَّةِ، بِخِلَافِ الأَحَادِيثِ الأُخْرَى فَهِيَ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ إِعْطَاءِ مَنْ سَأَلَ بِاللهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى تَعْظِيمِ المَسْئُولِ بِهِ -وَهُوَ اللهُ تَعَالَى- عِنْدَ السَّائِلِ؛ وَأَيضًا عِنْدَ المَسْئُولِ إِذَا أَجَابَهُ سُؤَالَهُ

(3)

.

(1)

صَحِيحٌ. أَبُو دَاوُدَ (1672) عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (254).

(2)

البُخَارِيُّ (3464)، وَمُسْلِمٌ (2964). وَقَدْ سَبَقَ.

(3)

وَقَدْ سَبَقَ فِي بَابِ (لَا يُسْأَلُ بِوَجْهِ اللهِ إِلَّا الجَنَّةُ) الكَلَامُ عَنْ حُكْمِ السُّؤَالِ بِاللهِ، وَبِوَجْهِ الله؛ فَلْيُنْظَرْ.

ص: 529

بَابُ مَا جَاءَ فِي حِمَايَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِمَى التَّوحِيدِ وَسَدِّهِ طُرُقَ الشِّرْكِ

عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الشِّخِّيرِ رضي الله عنه؛ قَالَ: انْطَلَقْتُ فِي وَفْدِ بَنِي عَامِرٍ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ فَقُلْنَا: أَنْتَ سَيِّدُنَا، فَقَالَ:((السَّيِّدُ اللهُ تبارك وتعالى)، قُلْنَا: وَأَفْضَلُنَا فَضْلًا، وَأَعْظَمُنَا طَولًا، فَقَالَ:((قُولُوا بِقَولِكُمْ أَو بَعْضِ قَولِكُمْ، وَلَا يَسْتَجْرِيَنَّكُمُ الشَّيطَانُ)). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ

(1)

.

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه؛ أَنَّ نَاسًا قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! يَا خَيرَنَا وَابْنَ خَيرِنَا، وَسَيِّدَنَا وَابْنَ سَيِّدِنَا! فَقَالَ:((يَا أَيُّهَا النَّاسُ! قُولُوا بِقَولِكُمْ، وَلَا يَسْتَهْوِيَنَّكُمُ الشَّيطَانُ، أَنَا مُحَمَّدٌ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، مَا أُحِبُّ أَنْ تَرْفَعُونِي فَوقَ مَنْزِلَتِي الَّتِي أَنْزَلَنِي اللهُ عز وجل). رَوَاهُ النَّسَائِيُّ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ

(2)

.

(1)

صَحِيحٌ. أَبُو دَاوُدَ (4806). صَحِيحُ أَبِي دَاوُدَ (4806).

(2)

صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (12551)، وَالنَّسَائِيُّ فِي الكُبْرَى (10007). غَايَةُ المَرَامِ (127).

ص: 530

فِيهِ مَسَائِلُ:

الأُولَى: تَحْذِيرُ النَّاسِ مِنَ َالغُلُوِّ.

الثَّانِيَةُ: مَا يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ مَنْ قِيلَ لَهُ: (أَنْتَ سَيِّدُنَا).

الثَّالِثَةُ: قَولُهُ: ((لَا يَسْتَجْرِيَنَّكُمُ الشَّيطَانُ)) مَعَ أَنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا إِلَّا الحَقَّ.

الرَّابِعَةُ: قَولُهُ: ((مَا أُحِبُّ أَنْ تَرْفَعُونِي فَوقَ مَنْزِلَتِي)).

ص: 531

‌الشَّرْحُ

- مُنَاسَبَةُ البَابِ لِكِتَابِ التَّوحِيدِ هُوَ سَدُّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ذَرَائِعَ الشِّرْكِ مِنْ جِهَةِ التَّمَادِي فِي الأَلْفَاظِ.

- سَبَقَ مَعَنَا بَابٌ مُشَابِهٌ وَهُوَ بَابُ (مَا جَاءَ فِي حِمَايَةِ المُصْطَفَى جَنَابَ التَّوحِيدِ وَسَدِّهِ كُلَّ طَرِيقٍ يُوَصِّلُ إِلَى الشِّرْكِ)، وَالفَرْقُ بَينَ البَابَينِ أَنَّ الأَوَّلَ فِيهِ حِمَايَةُ التَّوحِيدِ مِنْ جِهَةِ الأَفْعَالِ، وَهَذَا البَابُ فِيهِ حِمَايَتُهُ مِنْ جِهَةِ الأَقْوَالِ.

- قَولُهُ: ((السَّيِّدُ)) هُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى، وَمَعْنَاهُ: ذُو السُّؤْدُدِ وَالشَّرَفِ، وَالسُّؤْدُدُ مَعْنَاهُ: العَظَمَةُ وَالفَخْرُ وَمَا أَشْبَهَهُ، وَهُوَ مِنْ مَعَانِي اسْمِ الصَّمَدِ.

- المَقْصُودُ بِقَولِهِ: ((السَّيِّدُ اللهُ تبارك وتعالى) أَنَّ السَّيِّدَ الحَقِيقِيَّ المَالِكَ لِكُلِّ شَيءٍ هُوَ اللهُ تَعَالَى، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هُوَ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمِ كَمَا فِي الحَدِيثِ:((أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَومَ القِيَامَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ القَبْرُ، وَأَوَّلُ شَافِعٍ، وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ))

(1)

، وَلَكِنَّهُ قَالَ ذَلِكَ لَمَّا خَافَ مِنَ الغُلُوِّ حَيثُ لَاحَظَ الإِطْرَاءَ وَالمَدْحَ فِي كَلَامِهِم فَأَرْشَدَهُم إِلَى السَّيِّدِ الحَقِيقِيِّ وَهُوَ اللهُ تَعَالَى، وَفِي ذَلِكَ تَوَاضُعٌ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

(2)

، وَقَدْ أَخْبَرَتْ أُمُّ المُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ رضي الله عنها عَنْ

(1)

رَوَاهُ مُسْلِمٌ (2278) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا.

(2)

قَالَ الحَافِظُ البَيهَقِيُّ رحمه الله: "عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ؛ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: يَا خَيرَ البَرِيَّةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:((ذَاكَ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام). رَوَاهُ مُسْلِمٌ (2369) فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي كُرَيبٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ.

وَذَهَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا أَيضًا مَذْهَبَ التَّوَاضُعِ، وَكَانَ يُشِيرُ إِلَى النَّهْي عَنِ المُبَالَغَةِ فِي الثَّنَاءِ عَلَيهِ فِي وَجْهِهِ تَوَاضُعًا لِرَبِّهِ عز وجل، فَقَالَ لِوَفْدِ بَنِي عَامِرٍ حِينَ قَالُوا لَهُ: أَنْتَ سَيِّدُنَا وَذُو الطَّولِ عَلَينَا، فَقَالَ:((مَهْ مَهْ، قُولُوا بِقَولِكُم، وَلَا يَسْتَجْرِيَنَّكُمُ الشَّيطَانُ، السَّيِّدُ اللهُ عز وجل)، وَقَالَ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رضي الله عنه:((لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ؛ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ، فَقُولُوا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ)) ". دَلَائِلُ النُّبُوَّةِ (5/ 497).

ص: 532

شَيءٍ مِنْ تَوَاضُعِهِ عليه الصلاة والسلام فَقَالَتْ: (كَانَ يَفْلِي ثَوبَهُ، وَيَحْلُبُ شَاتَهُ، وَيَخْدُمُ نَفْسَهُ)

(1)

.

وَأَيضًا فِي الأَحَادِيثِ نَهْيٌ عَنِ الغُلُوِّ فِيهِ صلى الله عليه وسلم بِرَفْعِهِ فَوقَ مَنْزِلَتِهِ؛ كَمَا هُوَ صَرِيحُ الحَدِيثِ

(2)

.

- قَولُهُ: (وَأَعْظَمُنَا طَولًا): أَي: عَطَاءً لِلأَحِبَّاءِ وَعُلَوًّا عَلَى الأَعْدَاءِ

(3)

، وَالطَّولُ أَيضًا الشَّرَفُ والغِنَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ المُؤْمِنَاتِ} [النِّسَاء: 25]، وَيَكُونُ بِمَعْنَى العَظَمَةِ أَيضًا، قَالَ تَعَالَى:{غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ العِقَابِ ذِي الطَّوْلِ} [غَافِر: 3]، أَي: ذِي العَظَمَةِ وَالغِنَى.

- قَولُهُم: (وَابْن خَيرِنَا): أَي: فِي النَّسَبِ لَا فِي المَقَامِ وَالحَالِ

(4)

، وَكَذَلِكَ يُقَالُ فِي قَولِهِ:(وَابْنَ سَيِّدِنَا).

(1)

صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (26194) عَنْ عَائِشَةَ مَوقُوفًا. الصَّحِيحَةُ (671).

(2)

قَالَ القُرْطُبِيُّ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (5/ 247): "وَأَمَّا قَولُهُ صلى الله عليه وسلم فِي صَحِيحِ الحَدِيثِ: ((لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى عَيسَى بْنَ مَرْيَمَ، وَقُولُوا: عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ)) فَمَعْنَاهُ: لَا تَصِفُونِي بِمَا لَيسَ فِيَّ مِنَ الصِّفَاتِ -تَلْتَمِسُونَ بِذَلِكَ مَدْحِي- كَمَا وَصَفَتِ النَّصَارَى عِيسَى بِمَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ، فَنَسَبُوهُ إِلَى أَنَّهُ ابْنُ اللهِ فَكَفَرُوا بِذَلِكَ وَضَلُّوا.

وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ مَنْ رَفَعَ امْرَأً فَوقَ حَدِّهِ وَتَجَاوَزَ مِقْدَارَهُ بِمَا لَيسَ فِيهِ فَمُعْتَدٍ آثِمٌ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَو جَازَ فِي أَحَدٍ لَكَانَ أَولَى الخَلْقِ بِذَلِكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم".

(3)

عَونُ المَعْبُودِ (13/ 113).

(4)

كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ (203) عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَينَ أَبِي؟ قَالَ: ((فِي النَّارِ)). فَلَمَّا قَفَّى دَعَاهُ فَقَالَ: ((إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ)).

ص: 533

- قَولُهُ: ((قُولُوا بِقَولِكُمْ)) "أَي: قُولُوا بِقَولِ أَهْلِ دِينِكُمْ وَمِلَّتِكُمْ؛ وَادْعُونِي نَبِيًّا وَرَسُولًا كَمَا سَمَّانِي اللهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ، وَلَا تُسَمُّونِي سَيِّدًا كَمَا تُسَمُّونَ رُؤَسَاءَكُمْ وَعُظَمَاءَكُمْ، وَلَا تَجْعَلُونِي مِثْلَهُم فَإِنِّي لَسْتُ كَأَحَدِهِمْ؛ إِذْ كَانُوا لَيَسُودُونَكُم فِي أَسْبَابِ الدُّنْيَا؛ وَأَنَا أَسُودُكُمْ بِالنُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ فَسَمُّونِي نَبِيًّا وَرَسُولًا"

(1)

.

- قَولُهُ: ((أَو بَعْضِ قَولِكُمْ)) فِيهِ حَذْفٌ وَاخْتِصَارٌ؛ وَمَعْنَاهُ: دَعُوا بَعْضَ قَولِكُمْ وَاتْرُكُوهُ وَاقْتَصَدُوا فِيهِ بِلَا إِفْرَاطٍ، أَو دَعُوا:(سَيِّدًا) وَقُولُوا: (نَبِيًّا وَرَسُولًا).

- قَولُهُ: ((وَلَا يَسْتَجْرِيَنَّكُمُ الشَّيطَانُ)) اسْتَجْرَاهُ بِمَعْنَى: جَذَبَهُ وَجَعَلَهُ يَجْرِي مَعَهُ، أَي: لَا يَسْتَمِيلَنَّكُمُ الشَّيطَانُ وَيَجْذِبَنَّكُم إِلَى أَنْ تَقُولُوا قَولًا مُنْكَرًا، وَمِثْلُهُ أَيضًا:(وَلَا يَسْتَهْوِيَنَّكُمُ الشَّيطَانُ) هُوَ مِنَ الهَوَى: أَي المَحَبَّةِ وَالمَيلِ، وَقِيلَ مِنَ الهُوِيِّ: وَهُوَ الوَقُوعُ.

- فَائِدَة 1: مَدْحُ الرَّجُلِ فِي وَجْهِهِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ

(2)

، إِلَّا إِنْ كَانَ مِمَّنْ تُؤْمَنُ عَلَيهِ

(1)

عَونُ المَعْبُودِ (13/ 112).

وَقَالَ ابْنُ الأَثِيرِ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (النِّهَايَةُ فِي غَرِيبِ الحَدِيثِ وَالأَثَرِ)(1/ 739): "يُرِيدُ: تَكَلَّمُوا بِمَا يَحْضُرُكُم مِنَ القَولِ، وَلَا تَتَكَلَّفُوهُ كَأَنَّكُم وُكَلَاءُ الشَّيطَانِ وَرُسُلُهُ تَنْطقُونَ عَنْ لِسَانِهِ"!

(2)

بَوَّبَ النَّوَوِيُّ رحمه الله فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ (4/ 2297): (بَابُ النَّهْي عَنِ المَدْحِ إِذَا كَانَ فِيهِ إِفْرَاطٌ وَخِيفَ مِنْهُ فِتْنَةٌ عَلَى المَمْدُوحِ)، وَفِيهِ: عَنْ أَبِىِ مَعْمَرٍ قَالَ: قَامَ رَجُلٌ يُثْنِي عَلَى أَمِيرٍ مِنَ الأُمَرَاءِ؛ فَجَعَلَ المِقْدَادُ يَحْثِي عَلَيهِ التُّرَابَ، وَقَالَ:(أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَحْثِيَ فِي وُجُوهِ المَدَّاحِينَ التُّرَابَ).

وَفِي الأَدَبِ المُفْرَدِ (337) لِلبُخَارِيِّ رحمه الله: (بَابُ مَنْ أَثْنَى عَلَى صَاحِبِهِ إِنْ كَانَ آمِنًا بِهِ)، عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:((نِعْمَ الرَّجُلُ أَبُو بَكْرٍ، نِعْمَ الرَّجُلُ عُمَرُ، نِعْمَ الرَّجُلُ أَبُو عُبَيدَةَ، نِعْمَ الرَّجُلُ أُسَيدُ بْنُ حُضَيرٍ، نِعْمَ الرَّجُلُ ثَابِتُ بْنُ قَيسِ بْنِ شَمَّاسٍ، نِعْمَ الرَّجُلُ مُعَاذُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الجَمُوحِ، نِعْمَ الرَّجُلُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ))، قَالَ:((وَبِئْسَ الرَّجُلُ فُلَانٌ، وَبِئْسَ الرَّجُلُ فُلَانٌ حَتَّى عَدَّ سَبْعَةً)). صَحِيحٌ. صَحِيحُ الأَدَبِ المُفْرَدِ (275).

ص: 534

الفِتْنَةُ، كَمَا فِي الحَدِيثِ:((الحَسَنُ وَالحُسَينُ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَأَبُوهُمَا خَيرٌ مِنْهُمَا))

(1)

.

- فَائِدَة 2: لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لِلمُنَافِقِ سَيِّدٌ، كَمَا فِي الحَدِيثِ:((لَا تَقُولُوا لِلْمُنَافِقِ: سَيِّدُنَا! فَإِنَّهُ إِنْ يَكُنْ سَيِّدًا فَقَدْ أَسْخَطْتُمْ رَبَّكُمْ))

(2)

، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَكُونُ تَعْظِيمًا لَهُ وَهُوَ مِمَّنْ لَا يَسْتَحِقُّ التَّوقِيرِ وَالتَّعْظِيمِ مُطْلَقًا.

- فَائِدَة 3: لَا يُشْرَعُ زِيَادَةُ لَفْظِ (سَيِّدِنَا) فِي تَشَهُّدِ الصَّلَاةِ لِعَدَمِ وُرُودِهَا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَنْ صَحَابَتِهِ رِضْوَانُ اللهِ تَعَالَى عَلَيهِم أَجْمَعِينَ.

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ العَسْقَلَانِيُّ رحمه الله: "اتِّبَاعُ الأَلْفَاظِ المَأْثُورَةِ أَرْجَحُ، وَلَا يُقَالُ: لَعَلَّهُ تَرَكَ ذَلِكَ تَوَاضُعًا مِنْهُ صلى الله عليه وسلم؛ كَمَا لَمْ يَكُنْ يَقُولُ عِنْدَ ذِكْرِهِ صلى الله عليه وسلم: صلى الله عليه وسلم، وَأُمَّتُهُ مَنْدُوبَةٌ إِلَى أَنْ تَقُولَ ذَلِكَ كُلَّمَا ذُكِرَ!! لِأَنَّا نَقُولُ: لَو كَانَ ذَلِكَ رَاجِحًا [يَعْنِي: وَصْفَهُ بِالسِّيَادَةِ فِي الصَّلَاةِ] لَجَاءَ عَنِ الصَّحَابَةِ ثُمَّ عَنِ التَّابِعِينَ، وَلَمْ نَقِفْ عَلَى شَيءٍ مِنَ الآثَارِ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَلَا التَّابِعِينَ لَهُمْ مَعَ كَثْرَةِ مَا وَرَدَ عَنْهُم مِنْ ذَلِكَ"

(3)

.

(1)

صَحِيحٌ. ابْنُ مَاجَه (118) عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (3182).

(2)

صَحِيحٌ. أَبُو دَاوُدَ (4977) عَنْ بُرَيدَةَ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (371).

(3)

انْظُرْ كِتَابَ (أَصْلِ صِفَةِ الصَّلَاةِ) لِلشَّيخِ الأَلْبَانِيِّ رحمه الله (الفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ ص 938) مِنْ طَرِيقِ الحَافِظِ الغَرَابِيلِيِّ عَنِ الحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ رحمه الله.

ص: 535

‌مَسَائِلُ عَلَى البَابِ

-‌

‌ المَسْأَلَةُ الأُولَى: إِذَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هُوَ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ -كَمَا ثَبَتَ فِي الحَدِيثِ- فَمَا الجَوَابُ عَنِ الأَحَادِيثِ الَّتِي فِيهَا النَّهْيُ عَنْ تَفْضِيلِهِ عَلَى غَيرِهِ مِنَ الأَنْبِيَاءِ؟

الجَوَابُ: إِنَّ سَبَبَ النَّهْي عَن التَّفْضِيلِ بَينَ الأَنْبِيَاءِ -وَهُمْ مُفَضَّلُونَ عَلَى بِعْضٍ شَرْعًا- أَنَّ هَذَا التَّفْضِيلَ إِذَا خَاضَ النَّاسُ فِيهِ؛ فَإِنَّهُ سَيُفْضِي إِلَى تَنَقُّصِ أَحَدٍ مِنْهُم عَلَيهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ؛ وَهَذَا كُفْرٌ، لِذَلِكَ جَاءَ الأَمْرُ بِسَدِّ هَذَا البَابِ.

قَالَ الحَافِظُ البَيهَقِيُّ رحمه الله: "وَقَولُ اللهِ عز وجل: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البَقَرَة: 253] يَدُلُّ عَلَى تَفْضِيلِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَقَولُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: ((لَا تُفَضِّلُوا بَينَ أَنْبِيَاءِ اللهِ))، وَقَولُهُ: ((لَا تُخَيِّرُوا بَينَ الأنْبِيَاءِ)) إِنَّمَا هُوَ فِي مُجَادَلَةِ أَهْلِ الكِتَابِ عَلَى مَعْنَى الإِزْرَاءِ بِبَعْضِهِمْ؛ فَإِنَّهُ رُبَّمَا أَدَّى ذَلِكَ إِلَى فَسَادِ الِاعْتِقَادِ فِيهِمْ وَالإخلَالِ بالوَاجِبِ مِنْ حُقُوقِهِمْ، أَمَّا إِذَا كَانَتِ المُخَايَرَةُ مِنْ مُسْلِمٍ يُرِيدُ الوُقُوفَ عَلَى الأَفْضَلِ مِنْهُمْ؛ فَلَيسَ هَذَا بِمَنْهِيٍّ عَنْهُ. وَاللهُ أَعْلَمُ"

(1)

.

وَتَأَمَّلْ قَولَهُ صلى الله عليه وسلم عَنْ يُونُسَ عليه الصلاة والسلام: ((لَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ: أَنَا خَيرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى))

(2)

، فَقَدْ خَصَّ يُونُسَ عليه الصلاة والسلام بِهَذَا القَولِ لِمَا يُخْشَى عَلَى مَنْ سَمِعَ قِصَّتَهُ أَنْ يَقَعَ فِي نَفْسِهِ تَنَقُّصٌ لَهُ، فَبَالَغَ صلى الله عليه وسلم فِي ذِكْرِ فَضْلِهِ لِسَدِّ هَذِهِ الذَّرِيعَةِ

(3)

.

(1)

دَلَائِلُ النُّبُوَّةِ (3/ 77).

(2)

رَوَاهُ البُخَارِيُّ (3395) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا.

(3)

وَمِثْلُهُ حَدِيثُ: ((المِرَاءُ فِي القَرْآنِ كُفْرٌ)). صَحِيحٌ، أَبُو دَاوُدَ (4603) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (6687).

=

ص: 536

-‌

‌ المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لِمَاذَا قَالَ عليه الصلاة والسلام فِي الحَدِيثِ: ((السَّيِّدُ اللهُ)) وَلَمْ يَقُلْ: (اللهُ سَيِّدُكُم) مِنْ بَابِ المُقَابَلَةِ؟

الجَوَابُ هُوَ مِنْ وَجْهَينِ

(1)

:

1 -

لِإِفَادَةِ العُمُومِ مِنْ (ال) التَّعْرِيفِ المُفِيدَةِ لِلِاسْتِغْرَاقِ، بِخِلَافِ الإِضَافَةِ؛ فَهِيَ أَقَلُّ شُمُولًا.

2 -

لِئَلَّا يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ المُضَافِ إِلَيهِ؛ لِأَنَّ سَيِّدَ كُلِّ شَيءٍ هُوَ مِنْ جِنْسِهِ.

=

قَالَ أَبُو حَاتِمٍ (ابْنُ حِبَّانَ)(4/ 324): "إِذَا مَارَى المَرْءُ فِي القُرْآنِ أَدَّاهُ ذَلِكَ -إِنْ لَمْ يَعْصِمْهُ اللهُ- إِلَى أَنْ يَرْتَابَ فِي الآي المُتَشَابِهِ مِنْهُ، وَإِذَا ارْتَابَ فِي بَعْضِهِ أَدَّاهُ ذَلِكَ إِلَى الجَحْدِ، فَأَطْلَقَ صلى الله عليه وسلم اسْمَ الكُفْرِ الَّذِي هُوَ الجَحْدُ عَلَى بِدَايَةِ سَبَبِهِ الَّذِي هُوَ المِرَاءُ".

(1)

القَولُ المُفِيدُ (2/ 518).

ص: 537

بَابُ مَا جَاءَ فِي قَولِ اللهِ تَعَالَى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزُّمَر: 67]

عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه؛ قَالَ: جَاءَ حَبْرٌ مِنَ الأَحْبَارِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ! إِنَّا نَجِدُ أَنَّ اللهَ يَجْعَلُ السَّمَاوَاتِ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالأَرَضِينَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالشَّجَرَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالمَاءَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالثَّرَى عَلَى إِصْبَعٍ

(1)

، وَسَائِرَ الخَلْقِ عَلَى إِصْبَعٍ، فَيَقُولُ: أَنَا المَلِكُ، فَضَحِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ تَصْدِيقًا لِقَولِ الحَبْرِ، ثُمَّ قَرَأَ:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} .

وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: ((وَالجِبَالَ وَالشَّجَرَ عَلَى إِصْبَعٍ، ثُمَّ يَهُزُّهُنَّ فَيَقُولُ: أَنَا المَلِكُ، أَنَا اللهُ)).

وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: ((وَيَجْعَلُ السَّمَاوَاتِ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالمَاءَ وَالثَّرَى عَلَى إِصْبَعٍ، وَسَائِرَ الخَلْقِ عَلَى إِصْبَعٍ)) أَخْرِجَاهُ

(2)

.

وَلِمُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: ((يَطْوِي اللهُ السَّمَاوَاتِ يَومَ القِيَامَةِ ثُمَّ يَأْخُذُهُنَّ بِيَدِهِ اليُمْنَى، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا المَلِكُ، أَينَ الجَبَّارُونَ؟ أَينَ المُتَكَبِّرُونَ؟ ثُمَّ يَطْوِي

(1)

الَّذِي فِي صَحِيحِ البُخَاريِّ هُوَ: ((وَالمَاءَ وَالثَّرَى عَلَى إِصْبَعٍ))، وَفِي ألْفَاظٍ أُخَرَ لَهُ:((وَالجِبَالَ عَلَى إِصْبَعٍ)) وَ: ((وَالشَّجَرَ وَالأَنْهَارَ عَلَى إِصْبَعٍ)).

(2)

البُخَارِيُّ (4811)، وَمُسْلِمٌ (2786).

ص: 538

الأَرْضِينَ السَّبْعَ، ثُمَّ يَأْخُذُهُنَّ بِشِمَالِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا المَلِكُ، أَينَ الجَبَّارُونَ؟ أَينَ المُتَكَبِّرُونَ؟))

(1)

.

وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ قَالَ: (مَا السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُونَ السَّبْعُ فِي كَفِّ الرَّحْمَنِ إِلَّا كَخَرْدَلَةٍ فِي يَدِ أَحَدِكُمْ)

(2)

.

وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيدٍ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((مَا السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ فِي الكُرْسِيِّ إِلَّا كَدَرَاهِمَ

(1)

مُسْلِمٌ (2786).

قَالَ الحَافِظُ البَيهَقِيُّ رحمه الله: "رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيبَةَ هَكَذَا، وَذِكْرُ الشِّمَالِ فِيهِ تَفَرَّدَ بِهِ عُمَرُ بْنُ حَمْزَةَ عَنْ سَالِمٍ، وَقَدْ رَوَى هَذَا الحَدِيثَ نَافِعٌ، وَعُبَيدُ اللهِ بْنُ مِقْسَمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ؛ لَمْ يَذْكُرَا فِيهِ الشِّمَالَ، وَرَوَاهُ أَبُو هُرَيرَةَ رضي الله عنه وَغَيرُهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ فَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ أَحَدٌ مِنْهُمُ الشِّمَالَ، وَرُوِيَ ذِكْرُ الشِّمَالِ فِي حَدِيثٍ آخَرَ فِي غَيرِ هَذِهِ القِصَّةِ إِلَّا أَنَّهُ ضَعِيفٌ بِمَرَّةٍ تَفَرَّدَ بِأَحَدِهِمَا جَعْفَرُ بْنُ الزُّبَيرِ، وَبِالآخَرِ يَزِيدُ الرَّقَاشِيُّ -وَهُمَا مَتْرُوكَانِ- وَكَيفَ يَصِحُّ ذَلِكَ؟! وَصَحِيحٌ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ سَمَّى كِلْتَي يَدَيهِ يَمِينًا، وَكَأَنَّ مَنْ قَالَ ذَلِكَ أَرْسَلَهُ مِنْ لَفْظِهِ عَلَى مَا وَقَعَ لَهُ، أَو عَلَى عَادَةِ العَرَبِ فِي ذِكْرِ الشِّمَالِ فِي مُقَابَلَةِ اليَمِينِ". الأَسْمَاءُ وَالصِّفَاتُ (2/ 139).

وَقَدْ حَكَمَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله عَلَى هَذِهِ اللَّفْظَةِ بِالنَّكَارَةِ -وَلَيسَ فَقَط بِالشُّذُوذِ- لِضَعْفِ (عُمَرَ بْنِ حَمْزَةَ) المَذْكُورِ آنِفًا، اُنْظُرِ التَّعْلِيقَ عَلَى حَدِيثِ الصَّحِيحَةِ (3136).

(2)

أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (21/ 324) مَوقُوفًا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ؛ وَبِلَفْظِ: (فِي يَدِ اللهِ).

قَالَ الشَّيخُ نَاصِرُ بْنُ حَمَدٍ الفَهَد فِي كِتَابِهِ (تَنْبِيهَاتٌ عَلَى كُتُبِ تَخْرِيجِ كِتَابِ التَّوحِيدِ)(ص 94): "الحَدِيثُ حَسَنٌ عَلَى أَقَلِّ الأَحْوَالِ".

قُلْتُ: انْظُرْ -لِزَامًا- سَبَبَ تَحْسِينِهِ لِلحَدِيثِ، وَرَدَّهُ عَلَى مَنْ ضَعَّفَ الحَدِيثَ بِسَبَبِ أَحَدِ رُوَاتِهِ (عَمْرو بْنِ مَالِكٍ النُّكْرِيِّ) فَقَدْ أَتَى بِمَا يَجْدُرُ تَأَمُّلُهُ، وَلَيسَ هَذَا مَوضِعُ تَفْصِيلِهِ.

ص: 539

سَبْعَةٍ القِيَتْ فِي تُرْسٍ))

(1)

.

قَالَ: وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ رضي الله عنه: سَمِعْتَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ((مَا الكُرْسِيِّ فِي العَرْشِ إِلَّا كَحَلْقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ أُلْقِيَتْ بَينَ ظَهْرَي فَلَاةٍ مِنَ الأَرْضِ))

(2)

.

وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ؛ قَالَ: (بَينَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَالَّتِي تَلِيهَا خَمْسُمَائَةِ عَامٍ، وَبَينَ كُلِّ سَمَاءٍ وَسَمَاءٍ خَمْسُمَائَةِ عَامٍ، وَبَينَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَالكُرْسِيِّ خَمْسُمَائَةِ عَامٍ، وَبَينَ الكُرْسِيِّ وَالمَاءِ خَمْسُمَائَةِ عَامٍ، وَالعَرْشُ فَوقَ المَاءِ، وَاللَّهُ فَوقَ العَرْشِ؛ لَا يَخْفَى عَلَيهِ شَيءٌ مِنْ أَعْمَالِكُمْ). أَخْرَجَهُ ابْنُ مَهْدِيّ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ زِرٍّ عَنْ عَبْدِ اللهِ، وَرَوَاهُ بِنَحْوِهِ المَسْعُودِيُّ عَنْ عَاصِمٍ عَنِ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ

(3)

. قَالَهُ

(1)

ضَعِيفٌ. تَفْسِيرُ الطَّبَرِيِّ (5794). قَالَ الذَّهَبِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ العُلُوُّ لِلعَلِيِّ الغَفَّارِ (ص 100): "هَذَا مُرْسَلٌ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ ضَعِيفٌ". وَانْظُرْ أَيضًا الضَّعِيفَةَ (6118).

(2)

صَحِيحٌ. تَفْسِيرُ الطَّبَرِيِّ (5794). رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيبَةَ فِي كِتَابِهِ (العَرْشُ)(432). الصَّحِيحَةُ (109).

وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ المَرْفُوعُ الَّذِي عِنْدَ أَبِي الشَّيخِ فِي (العَظَمَةِ)(2/ 587) بِلَفْظِ: (الكُرْسِيُّ مَوضِعُ القَدَمَينِ) فَهُوَ ضَعِيفٌ. الضَّعِيفَةُ (6118).

قَالَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله فِي التَّعْلِيقِ عَلَى الطَّحَاوِيَّةِ (ص 54): "وَأَمَّا الكُرْسِيُّ فَفِيهِ قَولُهُ تَعَالَى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [البقرة: 255]، وَالكُرْسِيُّ هُوَ الَّذِي بَينَ يَدَي العَرْشِ، وَقَدْ صَحَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوقُوفًا عَلِيهِ مِنْ قَولِهِ: (الكُرْسِيُّ مَوضِعُ القَدَمَينِ، وَالعَرْشُ لَا يُقَدِّرُ قَدْرَهُ إِلَّا اللهُ تَعَالَى). وَهُوَ مُخَرَّجٌ فِي كِتَابِي (مُخْتَصَرُ العُلُوِّ لِلذَّهَبِيِّ) وَلَمْ يَصِحَّ فِيهِ مَرْفُوعًا سِوَى قَولِهِ عليه الصلاة والسلام: ((مَا السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ فِي الكُرْسِيِّ إِلَّا كَحَلْقَةٍ مُلْقَاةٍ بِأَرْضٍ فَلَاةٍ، وَفَضْلُ العَرْشِ عَلَى الكُرْسِيِّ كَفَضْلِ تِلْكَ الفَلَاةِ عَلَى تِلْكَ الحَلْقَةِ)). وَذَلِكَ مِمَّا يُبْطِلُ أَيضًا تَأْوِيلَ الكُرْسِيِّ بِالعِلْمِ، وَلَمْ يَصِحَّ هَذَا التَّأْوِيلُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا بَيَّنْتُهُ فِي الصَّحِيحَةِ (109) ".

(3)

إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ. (التَّوحِيدُ)(1/ 244)(2/ 885) لِابْنِ خُزَيمَةَ. اُنْظُرْ كِتَابَ (مُخْتَصَرُ العُلُوِّ) لِلشَّيخِ الأَلْبَانِيِّ رحمه الله (ص 103).

ص: 540

الحَافِظُ الذَّهَبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى، قَالَ:"وَلَهُ طُرُقٌ"

(1)

.

وَعَنِ العَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ رضي الله عنه؛ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((هَلْ تَدْرُونَ كَمْ بَينَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ؟)) قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ:((بَينَهُمَا مَسِيرَةُ خَمْسُمِائَةِ سَنَةٍ، وَمِنْ كُلِّ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ، مَسِيرَةُ خَمْسُمِائَةِ سَنَةٍ، وَكِثَفُ كُلِّ سَمَاءٍ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ، وَبَينَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَالعَرْشِ بَحْرٌ بَينَ أَسْفَلِهِ وَأَعْلَاهُ كَمَا بَينَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى فَوقَ ذَلِكَ وَلَيسَ يَخْفَى عَلَيهِ شَيءٌ مِنْ أَعْمَالِ بَنِي آدَمَ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيرُهُ

(2)

.

(1)

العُلُوُّ (ص 45) لِلذَّهَبِيِّ.

(2)

ضَعِيفٌ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ (4723)، وَانْظُرْ أَوجُهَ التَّضْعِيفِ وَالرَّدَّ عَلَى مَنْ صَحَّحَهُ فِي الضَّعِيفَةِ (1247).

ص: 541

فِيهِ مَسَائِلُ:

الأُولَى: تَفْسِيرُ قَولِهِ تَعَالَى: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ} .

الثَّانِيَةُ: أَنَّ هَذِهِ العُلُومَ وَأَمْثَالَهَا بَاقِيَةٌ عِنْدَ اليَهُودِ الَّذِينَ فِي زَمَنِهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُنْكِرُوهَا وَلَمْ يَتَأَوَّلُوهَا!

الثَّالِثَةُ: أَنَّ الحَبْرَ لَمَّا ذَكَرَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم صَدَّقَهُ، وَنَزَلَ القُرْآنُ بِتَقْرِيرِ ذَلِكَ.

الرَّابِعَةُ: وُقُوعُ الضَّحِكُ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم لَمَّا ذَكَرَ الحَبْرُ هَذَا العِلْمَ العَظِيمَ.

الخَامِسَةُ: التَّصْرِيحُ بِذِكْرِ اليَدَينِ، وَأَنَّ السَّمَاوَاتِ فِي اليَدِ اليُمْنَى، وَالأَرَضِينَ فِي اليَدِ الأُخْرَى.

السَّادِسَةُ: التَّصْرِيحُ بِتَسْمِيَتِهَا: الشِّمَالُ.

السَّابِعَةُ: ذِكْرُ الجَبَّارِينَ وَالمُتَكَبِّرِينَ عِنْدَ ذَلِكَ.

الثَّامِنَةُ: قَولُهُ: ((كَخَرْدَلَةٍ فِي كَفِّ أَحَدِكُمْ)).

التَّاسِعَةُ: عِظَمُ الكُرْسِيِّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى السَّمَوَاتِ.

العَاشِرَةُ: عِظَمُ العَرْشِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الكُرْسِيِّ.

الحَادِيَةَ عَشْرَةَ: أَنَّ العَرْشَ غَيرُ الكُرْسِيِّ وَالمَاءِ.

الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: كَمْ بَينَ كُلِّ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ.

الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: كَمْ بَينَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَالكُرْسِيِّ.

الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: كَمْ بَينَ الكُرْسِيِّ وَالمَاءِ.

الخَامِسَةَ عَشْرَةَ: أَنَّ العَرْشَ فَوقَ المَاءِ.

ص: 542

السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: أَنَّ اللهَ فَوقَ العَرْشِ.

السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: كَمْ بَينَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ.

الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: كِثَفُ كُلِّ سَمَاءٍ خَمْسُمَائَةِ سَنَةٍ.

التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: أَنَّ البَحْرَ الَّذِي فَوقَ السَّمَاوَاتِ؛ بَينَ أَعْلَاهُ وَأَسْفَلِهِ مَسِيرَةُ خَمْسِمَائَةِ سَنَةٍ.

وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

وَالحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

- إِلَى هُنَا تَمَّ بِحَمْدِ اللهِ كِتَابُ التَّوحِيدِ الأَصْلُ -

ص: 543

‌الشَّرْحُ

- مُنَاسَبَةُ هَذَا البَابِ لِكِتَابِ التَّوحِيدِ هُوَ أَنَّ هَذَا البَابَ فِيهِ خُلَاصَةٌ جَامِعَةٌ لِمُجْمَلِ الكِتَابِ، وَذَلِكَ أَنَّ الآيَةَ الكَرِيمَةَ فِي أَوَّلِ البَابِ دَلَّ أَوَّلُهَا عَلَى عَظَمَةِ اللهِ تَعَالَى، وَهَذَا فِيهِ إِظْهَارُ الرُّبُوبِيَّةِ لَهُ سبحانه وتعالى، وَدَلَّ آخِرُهَا عَلَى تَنْزِيهِهِ عَنِ الشِّرْكِ بِهِ، وَهَذَا فِيهِ إِظْهَارٌ لِتَوحِيدِهِ بِالعُبُودِيَّةِ، فَصَارَتْ مِنْ جِهَةِ الدِّلَالَةِ كَقَولِهِ تَعَالَى:{فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البَقَرَة: 22]. وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

- قَولُهُ تَعَالَى: {وَمَا قَدَرُوا} أَي المُشْرِكِينَ، وَ {قَدَرُوا} أَي: عَظَّمُوا، وَالمَعْنَى: مَا عَظَّمُوا اللهَ حَقَّ تَعْظِيمِهِ حَيثُ أَشْرَكُوا مَعَهُ فِي عِبَادَتِهِ.

- قَولُهُ تَعَالَى: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ} فِيهِ بَيَانُ عَظَمَةِ اللهِ عز وجل.

- قَولُهُ تَعَالَى: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا} جَمِيعًا: حَالٌ، وَهِي دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ المُرَادَ بِالأَرْضِ الأَرْضُونَ كُلُّهَا، وَلِأَنَّ المَوضِعَ مَوضِعُ تَفْخِيمٍ.

- قَولُهُ تَعَالَى: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} فِيهِ اسْتِدْلَالٌ بِالرُّبُوبِيَّةِ عَلَى تَوحِيدِ الأُلُوهِيَّةِ.

- قَولُهُ: (حَبْرٌ): الحَبْرُ: هُوَ العَالِمُ الكَثِيرُ العِلْمِ، وَلَفْظُ (الحَبْرِ) يُشَابِهُ لَفْظَ (البَحْرِ) فِي تَرْكِيبِ الحُرُوفِ وَالاسْتِخْدَامِ، وَلِهَذَا كَانَ العَالِمُ أَحْيَانًا يُسَمَّى بِالحَبْرِ وَأَحْيَانًا بِالبَحْرِ.

- قَولُهُ: (إِنَّا نَجِدُ): أَي: فِي التَّورَاةِ.

ص: 544

- قَولُهُ: (عَلَى إِصْبَعٍ)

(1)

: فِيهِ إِثْبَاتُ صِفَةِ الأَصَابِعِ للهِ تَعَالَى كَمَا يَلِيقُ بِهِ سُبْحَانَهُ، مِنْ غَيرِ تَمْثِيلٍ وَلَا تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ.

- قَولُهُ: (فَضَحِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم تَصْدِيقًا لِقَولِ الحَبْرِ، ثُمَّ تَلَا قَولَهُ تَعَالَى) فِيهِ تَأْكِيدُ صِحَّةِ مَا ذُكِرَ، وَذَلِكَ مِنْ أَوجُهٍ، وَهِيَ:

1 -

ضَحِكُهُ صلى الله عليه وسلم.

2 -

فَهْمُ الصَّحَابِيِّ.

3 -

تَأْكِيدُهُ صلى الله عليه وسلم لِتِلْكَ الصِّفَاتِ بِمَثِيلَتِهَا مِنَ القُرْآنِ

(2)

.

- قَولُهُ: ((يَطْوِي الأَرَضِينَ السَّبْعَ)) إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الأَرَضِينَ سَبْعٌ كَالسَّمَوَاتِ، وَشَاهِدُهُ فِي القُرْآنِ فِي قَولِهِ تَعَالَى:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطَّلَاق: 12].

- قَولُهُ: ((ثُمَّ يَأْخُذُهُنَّ بِشِمَالِهِ)) لَفْظَةُ (شِمَالِهِ) فِيهَا اخْتِلَافٌ بَينَ الرُّوَاةِ، فَمِنْهُم مَنْ أَورَدَهَا هَكَذَا وَمِنْهُم مَنْ أَورَدَهَا بِلَفْظِ:((بِيَدِهِ الأُخْرَى))، وَعَلَى كُلٍّ إِنْ كَانَتْ ثَابِتَةً -بِاللَّفْظِ الأَوَّلِ- مِنْ جِهَةِ الحَدِيثِ

(3)

فَلَيسِ فِيهَا تَعَارُضٌ مَعَ حَدِيثِ: ((وَكِلْتَا يَدِي رَبِّي يَمِينٌ))

(4)

وَذَلِكَ مِنْ وَجْهَينِ:

(1)

(الإِصْبَع): مُثَلَّثَةُ الأَوَّلِ وَالثَّالِثِ.

(2)

وَفِي البَابِ مَسْأَلَةٌ خَاصَّةٌ فِي رَدِّ شُبُهَاتِ المُعَطِّلَةِ عَلَى هَذَا الحَدِيثِ؛ سَتَأْتِي إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.

(3)

قَدْ حَكَمَ عَلَيهَا الحَافِظُ البَيهَقِيُّ رحمه الله بِالشُّذُوذِ فِي كِتَابِهِ (الأَسْمَاءُ وَالصِّفَاتُ)(2/ 139)، وَعَدَّهَا الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله مُنْكَرَةً. الصَّحِيحَةُ (3136). وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي الحَاشِيَةِ قَبْلَ قَلِيلٍ.

(4)

صَحِيحٌ. التِّرْمِذِيُّ (3368) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (5209).

وَهُوَ بِتَمَامِهِ: ((لَمَّا خَلَقَ اللهُ آدَمَ وَنَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ؛ عَطَسَ فَقَالَ: الحَمْدُ لِلَّهِ، فَحَمِدَ اللهَ بِإِذْنِهِ، فَقَالَ لَهُ رَبُّهُ:

=

ص: 545

1 -

أَنَّ الإِشْكَالَ بَينَ كَونِهَا يَمِينًا أَو شِمَالًا هُوَ بِاعِتَبارِ المَخْلُوقِ، أَمَّا اللهُ تَعَالَى فَلَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ، فَمَا صَحَّ أَنْ يَكُونَ مُشْكِلًا فِي حَقِّ المَخْلُوقِ؛ لَا يَلْزَمُ عَلَيهِ أَنْ يَكُونَ مُشْكِلًا فِي حَقِّ الخَالِقِ تَعَالَى

(1)

.

=

رَحِمَكَ اللهُ يَا آدَمُ، اذْهَبْ إِلَى أُولَئِكَ المَلَائِكَةِ -إِلَى مَلَإٍ مِنْهُمْ جُلُوسٍ- فَقُلْ: السَّلَامُ عَلَيكُمْ. قَالُوا: وَعَلَيكَ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللهِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى رَبِّهِ، فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ بَنِيكَ بَينَهُمْ. فَقَالَ اللهُ لَهُ -وَيَدَاهُ مَقْبُوضَتَانِ-: اخْتَرْ أَيَّهُمَا شِئْتَ، قَالَ: اخْتَرْتُ يَمِينَ رَبِّي، وَكِلْتَا يَدَي رَبِّي يَمِينٌ مُبَارَكَةٌ، ثُمَّ بَسَطَهَا فَإِذَا فِيهَا آدَمُ وَذُرِّيَّتُهُ، فَقَالَ: أَي رَبِّ؛ مَا هَؤُلَاءِ؟ فَقَالَ: هَؤُلَاءِ ذُرِّيَّتُكَ. فَإِذَا كُلُّ إِنْسَانٍ مَكْتُوبٌ عُمْرُهُ بَينَ عَينَيهِ-، فَإِذَا فِيهِمْ رَجُلٌ أَضْوَؤُهُمْ -أَو مِنْ أَضْوَئِهِمْ- قَالَ: يَا رَبِّ مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا ابْنُكَ دَاوُدُ؛ قَدْ كَتَبْتُ لَهُ عُمْرَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، قَالَ: يَا رَبِّ زِدْهُ فِي عُمْرِهِ. قَالَ: ذَاكَ الَّذِي كُتِبَ لَهُ، قَالَ: أَي: رَبِّ؛ فَإِنِّي قَدْ جَعَلْتُ لَهُ مِنْ عُمْرِي سِتِّينَ سَنَةً، قَالَ: أَنْتَ وَذَاكَ. قَالَ: ثُمَّ أُسْكِنَ الجَنَّةَ مَا شَاءَ اللهُ، ثُمَّ أُهْبِطَ مِنْهَا، فَكَانَ آدَمُ يَعُدُّ لِنَفْسِهِ، قَالَ: فَأَتَاهُ مَلَكُ المَوتِ، فَقَالَ لَهُ آدَمُ: قَدْ عَجَّلْتَ! قَدْ كُتِبَ لِي ألْفُ سَنَةٍ، قَالَ: بَلَى، وَلَكِنَّكَ جَعَلْتَ لابْنِكِ دَاوُدَ سِتِّينَ سَنَةً، فَجَحَدَ؛ فَجَحَدَتْ ذُرِّيَّتُهُ، وَنَسِيَ؛ فَنَسِيَتْ ذُرِّيَّتُهُ. قَالَ: فَمِنْ يَومِئِذٍ أُمِرَ بِالكِتَابِ وَالشُّهُودِ)).

(1)

وَسُئِلَ الشَّيخُّ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله: "كَيفَ نُوَفِّقُ بَينَ رِوَايَةِ (بِشِمَالِهِ) الوَارِدَةِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ؛ وَقَولِهِ صلى الله عليه وسلم: ((وَكِلْتَا يَدِيهِ يَمِينٌ)

الجَوَابُ: لَا تَعَارُضَ بَينَ الحَدِيثَينِ بَادِئ بِدْءٍ؛ فَقَولُهُ صلى الله عليه وسلم: ((وَكِلْتَا يَدِيهِ يَمِينٌ)) تَأْكَيدٌ لِقَولِهِ تَعَالَى: {لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} ، فَهَذَا الوَصْفُ الَّذِي أَخْبَرَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَأْكِيدٌ لِلتَّنْزِيهِ، فَيَدُ اللهِ لَيسَتْ كَيَدِ البَشَرِ (شِمَالٌ وَيَمِينٌ) وَلَكِنْ كِلْتَا يَدِيهِ سُبْحَانَهُ يَمِينٌ.

وَأَمْرٌ آخَرٌ؛ أَنَّ رِوَايَةَ: (بِشِمَالِهِ) شَاذَّةٌ؛ كَمَا بيَّنْتُهَا فِي (تَخْرِيجِ المُصْطَلَحَاتِ الأَرْبَعَةِ الوَارِدَةِ فِي القُرْآنِ)(رَقَم 1) لِلمَودُودِيِّ.

وَيُؤَكِّدُ هَذَا أَنَّ أَبَا دَاوُدَ رَوَاهُ وَقَالَ: ((بِيَدِهِ الأُخْرَى)) - بَدَلَ: (بِشِمَالِهِ) - وَهُوَ المُوَافِقُ لِقَولِهِ صلى الله عليه وسلم: ((وَكِلْتَا يَدِيهِ يَمِينٌ))، وَاللهُ أَعْلَمُ". مَجَلَّةِ الأَصَالَةِ (ع 4، ص 68).

قُلْتُ: وَاُنْظُرْ كِتَابَ (صِفَاتُ اللهِ عز وجل الوَارِدَةُ فِي الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ)(ص 385) لِلشَّيخِ عَلَوِيِّ السَّقَّافِّ.

ص: 546

2 -

أَنَّ قَولَهُ: ((وَكِلْتَا يَدَي رَبِّي يَمِينٌ)) مَعْنَاهُ أَنَّ شِمَالَهُ سُبْحَانَهُ لَيسَتْ بِأَنْقَصَ مَنْ يَمِينِهِ -كَحَالِ البَشَرِ-، فَهِيَ لَا تَعْنِي أَنَّهَا لَيسَتْ شِمَالًا، وَدِلَالَةُ ذَلِكَ سِيَاقُ الحَدِيثِ وَفِيهِ:((فَقَالَ اللهُ لَهُ [أَي: لِآدَمَ]-وَيَدَاهُ مَقْبُوضَتَانِ-: اخْتَرْ أَيَّهُمَا شِئْتَ، قَالَ: اخْتَرْتُ يَمِينَ رَبِّي؛ وَكِلْتَا يَدَي رَبِّي يَمِينٌ مُبَارَكَةٌ))

(1)

.

وَالأَقْرَبُ -وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ- هُوَ التَّوَقُّفُ فِيهَا لِعَدَمِ ثُبُوتِهَا مِنْ جِهَةِ صَنْعَةِ الحَدِيثِ

(2)

.

- قَولُهُ: ((ثُمَّ يَهُزُّهُنَّ)) أَي: هَزًّا حَقِيقِيًّا، فَيَظْهَرُ فِيهِ لِلعِبَادِ فِي ذَلِكَ المَوقِفِ عَظَمَتُهُ تَعَالَى وَقُدْرَتُهُ.

وَفِي الحَدِيثِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ؛ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم -وَهُوَ عَلَى المِنْبَرِ- يَقُولُ: ((يَأْخُذُ الجَبَّارُ سَمَاوَاتِهِ وَأَرْضَهُ بِيَدِهِ -وَقَبَضَ بِيَدِهِ فَجَعَلَ يَقْبِضُهَا وَيَبْسُطُهَا- ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الجَبَّارُ، أَينَ الجَبَّارُونَ؟ أَينَ المُتَكَبِّرُونَ؟)) قَالَ: وَيَتَمَيَّلُ

(1)

أَفَادَهُ الشَّيخُ ابْنُ عُثَيمِين رحمه الله فِي كِتَابِهِ (القَولُ المُفِيدُ)(2/ 534).

(2)

وَجَاءَ فِي كِتَابِ (صِفَاتُ اللهِ عز وجل الوَارِدَةُ فِي الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ) للشَّيخِ عَلَوِيُّ السَّقَّافُ (379):

"أَوَّلًا: القَائِلُونَ بِإِثْبَاتِ صِفَةِ الشِّمَالِ أَوِ اليَسَارِ، وَمِنْهُم: الإِمَامُ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ، وَأَبُو يَعْلَى الفَرَّاءُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الوَهَّابِ، وَصِدِّيقُ حَسَن خَان، وَمُحَمَّدُ خَلَيل الهَرَّاسُ، وَعَبْدُ اللهِ الغُنَيمَانُ، وَإِلَيكَ أَدِلَّتَهُم وَأَقْوَالَهُم:

(وَسَاقَهَا).

ثَانِيًا: القَائِلُونَ بِأَنَّ كِلْتَا يَدِي اللهِ يَمِينٌ -لَا شِمَالَ وَلَا يَسَارَ فِيهِمَا- مِنْهُمْ: الإِمَامُ ابْنُ خُزَيمَةَ فِي (كِتَابِ التَّوحِيدِ)، وَالإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالبَيهَقِيُّ، وَالأَلْبَانِيُّ، وَإِلَيكَ أَدِلَّتَهُم وَأَقْوَالَهُم:

(وَسَاقَهَا).

التَّرْجِيحُ: إِنَّ تَعْلِيلَ القَائِلِينَ بِأَنَّ إِحْدَى يَدَي اللهِ عز وجل يَمِينٌ وَالأُخْرَى شِمَالٌ؛ وَأَنَّنَا إِنَّمَا نَقُولُ كِلْتَاهُمَا يَمِينٌ؛ تَأَدُّبًا وَتَعْظِيمًا؛ إِذِ الشِّمَالُ مِنْ صِفَاتِ النَّقْصِ وَالضَّعْفِ؛ قَولٌ قَوِيٌّ، وَلَهُ حَظٌّ مِنَ النَّظَرِ؛ إِلَّا أَنَّنَا نَقُولُ: إِنَّ صِفَاتِ اللهِ تَوقِيفِيَّةٌ، وَمَا لَمْ يَأْتِ دَلِيلٌ صَحِيحٌ صَرِيحٌ فِي وَصْفِ إِحْدَى يَدِي اللهِ عز وجل بِالشِّمَالِ أَوِ اليَسَارِ؛ فَإِنَّنَا لَا نَتَعَدَّى قَولَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:((كِلْتَاهُمَا يَمِينٌ)). وَاللهُ أَعْلَمُ". تَمَّ بِحَذْفٍ دُونَ تَصَرُّفٍ.

ص: 547

رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى المِنْبَرِ يَتَحَرَّكُ مِنْ أَسْفَلِ شَيءٍ مِنْهُ؛ حَتَّى إِنِّي أَقُولُ: أَسَاقِطٌ هُوَ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟

(1)

- قَولُهُ: ((أَنَا المَلِكُ)) أَي أَنَّهُ فِي ذَلِكَ اليَومِ لَا مُلْكَ لِأَحَدٍ سِوَى اللهِ عز وجل، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيءٌ لِمَنِ المُلْكُ اليَوْمَ لِلَّهِ الوَاحِدِ القَهَّارِ} [غَافِر: 16]، وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَقَدْ جَعَلَ اللهُ مِنَ النَّاسِ مُلُوكًا عَلَى مَا اسْتَخْلَفَهُم فِيهِ

(2)

، وَمُلْكُهُم قَاصِرٌ وَلَا رَيبَ

(3)

، وَأَمَّا مُلْكُ اللهِ تَعَالَى تَامٌّ، وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى فِي الآخِرَةِ يَحْشُرُ النَّاسَ جَمِيعًا حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا

(4)

؛ فَيَظْهَرُ فِيهِ بِشَكْلٍ بَيِّنٍ -لَا خَفَاءَ فِيهِ عَلَى أَحَدٍ وَلَا اسْتِكْبَارَ- كَمَالُ مُلْكِهِ وَسُلْطَانِهِ تَعَالَى.

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله في التَّفْسِيرِ (1/ 134): "وَتَخْصِيصُ المُلْكِ بِيَومِ الدِّينِ لَا يَنْفِيهِ عَمَّا عَدَاهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ الإِخْبَارُ بِأَنَّهُ رَبُّ العَالَمِينَ، وَذَلِكَ عَامٌّ فِي الدُّنْيَا

(1)

صَحِيحٌ. ابْنُ مَاجَه (198). صَحِيحُ ابْنِ مَاجَه (198)، وَهُوَ فِي مُسْلِمٍ أَيضًا (2788)؛ وَلَكِنْ لَيسَ فِيهِ ذِكْرُ المَيلُ.

قَالَ الشَّيخُ الغُنَيمَانُ حَفِظَهُ اللهُ فِي شَرْحِ كِتَابِ التَّوحِيدِ مِنْ صَحِيحِ البُخَارِيِّ (1/ 330): "وَلَمَّا ذَكَرَ ذَلِكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ يَقْبِضُ يَدَيهِ وَيَبْسُطُهُمَا -تَحْقِيقًا لِلصِّفَةِ- لَا تَشْبِيهًا لَهَا، كَمَا أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمَّا قَرَأَ قَولَهُ تَعَالَى: {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النِّسْاء: 134] وَضَعَ إِصْبِعَهُ عَلَى عَينِهِ وَالأُخْرَى عَلَى أُذُنِهِ؛ تَحْقِيقًا لِصِفَةِ السَّمْعِ وَالبَصَرِ".

قُلْتُ: وَالحَدِيثُ الأَخِيرُ صَحِيحٌ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد (4728). صَحِيحُ أَبِي دَاوُد (4728).

(2)

كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} [الحَدِيد: 7].

(3)

وَقَدْ سَبَقَ فِي بَابِ قَولِهِ تَعَالَى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} بَيَانُ نَوَاحِي هَذَا القُصُورِ.

(4)

(غُرْلًا): أَي: غَيرُ مَخْتُونِينَ، كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى:{كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأَنْبِيَاء: 104].

ص: 548

وَالآخِرَةِ، وَإِنَّمَا أُضِيفَ إِلَى يَومِ الدِّينِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِي أَحَدٌ هُنَالِكَ شَيئًا، وَلَا يَتَكَلَّمُ أَحَدٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ، كَمَا قَالَ:{يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} [النَّبَأ: 38]، وَقَالَ تَعَالَى:{وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} [طَه: 108]، وَقَالَ:{يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هُود: 105] "

(1)

.

- قَولُهُ: ((أَينَ الجَبَّارُونَ؟)) الاسْتِفْهَامُ هُنَا لِلتَّحَدِّي وَالتَّوبِيخِ؛ فَيَقُولُ: أَينَ المُلُوكُ الَّذِينَ كَانُوا فِي الدُّنْيَا لَهُم السُّلْطَةُ وَالتَّجَبُّرُ وَالتَّكَبُّرُ عَلَى عِبَادِ اللهِ؟ وَفِي ذَلِكَ الوَقْتِ يُحْشَرُ أُولَئِكَ أَمْثَالَ الذَّرِّ يَطَؤُهُمُ النَّاسُ بِأَقْدَامِهِم، كَمَا فِي الحَدِيثِ:((يُحْشَرُ المُتَكَبِّرُونَ يَومَ القِيَامَةِ أَمْثَالَ الذَّرِّ في صُوَرِ الرِّجَالِ؛ يَغْشَاهُمُ الذُّلُّ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، يُسَاقُونَ إِلَى سِجْنٍ في جَهَنَّمَ يُسَمَّى بُولُسَ، تَعْلُوهُمْ نَارُ الأَنْيَارِ، يُسْقَونَ مِنْ عُصَارَةِ أَهْلِ النَّارِ؛ طِينَةِ الخَبَالِ))

(2)

، وذَلكَ مُقَابَلَةً لَهُم مِنْ جِنْسِ عَمَلِهِم.

- قَولُهُ: ((فِي كَفِّ الرَّحْمَنِ)) هَكَذَا سَاقَهُ المُؤَلِّفُ؛ وَلَكِنَّ الَّذِي فِي تَفْسِيرِ ابْنِ جَرِيرٍ هُوَ بِلَفْظِ: ((فِي يَدِ اللهِ))، إِلَّا أَنَّ صِفَةَ الكَفِّ للهِ تَعَالَى ثَابِتَةٌ فِي أَحَادِيثَ أُخْرَ صَحِيحَةٍ

(3)

.

- قَولُهُ: ((كَخَرْدَلَةٍ)) هِيَ حَبَّةُ نَبَاتٍ صَغِيرَةٍ جِدًّا؛ يُضْرَبُ بِهَا المَثَلُ فِي الصِّغَرِ وَالقِلَّةِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى عَظَمَتِهِ سُبْحَانَهُ، وَأَنَّهُ تَعَالَى لَا يُحِيطُ بِهِ شَيءٌ، وَالأَمْرُ أَعْظَمُ مِنْ

(1)

تَفْسِيرُ ابْنِ كَثِيرٍ (1/ 134).

(2)

حَسَنٌ. التِّرْمِذِيُّ (2492) عَنِ ابْنِ عَمْرُو مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (8040).

(3)

كَمَا فِي الحَدِيثِ: ((مَا تَصَدَّقَ أَحَدٌ بِصَدَقَةٍ مِنْ طَيِّبٍ -وَلَا يَقْبَلُ اللهُ إِلَّا الطَّيِّبَ- إِلَّا أَخَذَهَا الرَّحْمَنُ بِيَمِينِهِ -وَإِنْ كَانَتْ تَمْرَةً- فَتَرْبُو فِي كَفِّ الرَّحْمَنِ حَتَّى تَكُونَ أَعْظَمَ مِنَ الجَبَلِ؛ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ أَو فَصِيلَهُ)). مُسْلِمٌ (1014) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا.

ص: 549

هَذَا التَّمْثِيلِ التَّقْرِيبِيِّ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ، وَلَا تُحِيطُ بِهِ الأَفْهَامُ.

- فَي الآثَارِ السَّابِقَةِ بَيَانُ مَذْهَبِ السَّلَفِ فِي إِثْبَاتِ الصِّفَاتِ وَإِمْرَارِهَا كَمَا جَاءَتْ مِنْ غَيرِ تَأْوِيلٍ وَلَا تَعْطِيلٍ

(1)

.

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثيرٍ رحمه الله في التَّفْسِيرِ -عِنْدَ آيَةِ البَابِ-: "وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِهَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ، وَالطَّرِيقُ فِيهَا وَفِي أَمْثَالِهَا مَذْهَبُ السَّلَفِ، وَهُوَ إِمْرَارُهَا كَمَا جَاءَتْ مِنْ غَيرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَحْرِيفٍ"

(2)

.

وَقَالَ أَيضًا رحمه الله فِي كِتَابِهِ (البِدَايَةُ وَالنِّهَايَةُ): "وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الرَّبِيعِ وَغَيرِ وَاحِدٍ مِنْ رُؤُوسِ أَصْحَابِهِ [أَي: الشَّافِعِيِّ] مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَمُرُّ بِآيَاتِ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثِهَا كَمَا جَاءَتْ مِنْ غَيرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَشْبِيهٍ وَلَا تَعْطِيلٍ وَلَا تَحْرِيفٍ؛ عَلَى طَرِيقِ السَّلَفِ"

(3)

.

وَقَالَ الحَافِظُ الذَّهَبِيُّ رحمه الله في كِتَابِهِ (العُلُوُّ لِلعَليِّ الغَفَّارِ): "وَعَنْ يُونُسَ بْنِ

(1)

وَمِنَ التَّأْوِيلِ المَذْمُومِ -وَالَّذِي لَمْ يَقُمْ عَلَيهِ دَلِيلٌ صَحِيحٌ صَرِيحٌ شَرْعِيٌّ- مَا فِي تَفْسِيرِ الجَلَالَينِ (ص 177) عِنْدَ قَولِهِ تَعَالَى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} ، فَقَالَ رحمه الله:"مَا عَرَفُوهُ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ، أَو مَا عَظَّمُوهُ حَقَّ عَظَمَتِهِ حِينَ أَشْرَكُوا بِهِ غَيرَهُ، {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا} حَالٌ؛ أَي: السَّبْعُ؛ {قَبْضَتُهُ} أَي: مَقْبُوضَةٌ لَهُ: أَي: فِي مُلْكِهِ وَتَصَرًّفِهِ!!! {يَوْمَ القِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ} مَجْمُوعَاتٌ؛ {بِيَمِينِهِ} بِقُدْرَتِهِ!!! {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} مَعَهُ".

قُلْتُ: عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ (أَوِ التَّأْوِيلِ) تَرِدُ أَسْئِلَةٌ مُخْتَصَرَةٌ، وَفِي تَأَمُّلِهَا الإِجَابَةُ:

أ- مَنْ فَسَّرَ (القَبْضَةَ) بِالمُلْكِ، وَ (اليَمِينَ) بِالقُدْرَةِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِي هَذِهِ الآيَةِ؟

ب- مَا وَجْهُ جَعْلِ الأَرْضِ يَومَ القِيَامَةِ -دُونَ السَّمَوَاتِ؛ فِي هَذَا التَّفْسِيرِ- مَخْصُوصَةً بِالمُلْكِ وَالتَّصَرُّفِ؛ رُغْمَ أَنَّ كُلَّ شَيءٍ هُوَ أَصْلًا فِي مُلْكِهِ وَتَصَرُّفِهِ تَعَالَى؛ سَوَاءً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ؟

(2)

تَفْسِيرُ ابْنِ كَثِير (7/ 113).

(3)

البِدَايَةُ وَالنِّهَايَةُ (14/ 138).

ص: 550

عَبْدِ الأَعْلَى؛ سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: للهِ تَعَالَى أَسْمَاءٌ وَصِفَاتٌ لَا يَسَعُ أَحَدًا -قَامَتْ عَلَيهِ الحُجَّةُ- رَدُّهَا"

(1)

.

وَقَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي): "وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي مَنَاقِبِ الشَّافِعِيِّ عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الأَعْلَى؛ سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: للهِ أَسْمَاءٌ وَصِفَاتٌ لَا يَسَعُ أَحَدًا رَدُّهَا، وَمَنْ خَالَفَ بَعْدَ ثُبُوتِ الحُجَّةِ عَلَيهِ فَقَدَ كَفَرَ، وَأَمَّا قَبْلَ قِيَامِ الحُجَّةِ فَإِنَّهُ يُعْذَرُ بِالجَهْلِ، لِأَنَّ عِلْمَ ذَلِكَ لَا يُدْرِكُ بِالعَقْلِ وَلَا الرُّؤْيَةِ وَالفِكْرِ، فَنُثْبِتُ هَذِهِ الصِّفَاتِ وَنَنْفِي عَنْهُ التَّشْبِيهَ كَمَا نَفَى عَنْ نَفْسِهِ، فَقَالَ: {لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ} "

(2)

.

- قَولُهُ: ((مَا الكُرْسِيِّ فِي العَرْشِ إِلَّا كَحَلْقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ أُلْقِيَتْ بَينَ ظَهْرَي فَلَاةٍ مِنَ الأَرْضِ)) فِيهِ بَيَانُ عَظَمَةِ العَرْشِ، وَعَظَمَتُهُ تَدُلُّ عَلَى عَظَمَةِ صَاحِبِهِ وَخَالِقِهِ تبارك وتعالى.

- قَولُ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: (وَاللَّهُ فَوقَ العَرْشِ؛ لَا يَخْفَى عَلَيهِ شَيءٌ مِنْ أَعْمَالِكُمْ) فِيهِ بَيَانُ عُلُوِّهِ تَعَالَى عَلَى خَلْقِهِ فَوقَ جَمِيعِ مَخْلُوقَاتِهِ؛ وَأَنَّ عُلُوَّهُ مُلَازِمٌ لِعِلْمِهِ تَعَالَى لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ؛ خِلَافًا لِحَالِ المَخْلُوقِ.

وَفِي الحَدِيثِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: (تَبَارَكَ الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ كُلَّ شَيءٍ! إِنِّي لَأَسْمَعُ كَلَامَ خَولَةَ بِنْتِ ثَعْلَبَةَ -وَيَخْفَى عَلَيَّ بَعْضُهُ- وَهِيَ تَشْتَكِي زَوجَهَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ وَهِيَ تَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَكَلَ شَبَابِي! وَنَثَرْتُ لَهُ بَطْنِي! حَتَّى إِذَا كَبِرَتْ سِنِّي وَانْقَطَعَ وَلَدِي ظَاهَرَ مِنِّي!! اللَّهُمَّ إِنِّي أَشْكُو إِلَيكَ، فَمَا بَرِحَتْ حَتَّى نَزَلَ جِبْرَائِيلُ بِهَؤُلَاءِ

(1)

العُلُوُّ لِلعَليِّ الغَفَّارِ (ص 166).

(2)

فَتْحُ البَارِي (13/ 407).

ص: 551

الآيَاتِ: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} [المُجَادِلَة: 1])

(1)

.

- فَائِدَةٌ: عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها؛ أَنَّهَا سَأَلَتْ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَولِهِ: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} فَأَينَ النَّاسُ يَومَئِذٍ يَا رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: ((هُمْ عَلَى جِسْرِ جَهَنَّمَ))

(2)

.

- قَولُ المُصَنِّفِ رحمه الله فِي المَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ (أَنَّ هَذِهِ العُلُومَ وَأَمْثَالَهَا بَاقِيَةٌ عِنْدَ اليَهُودِ الَّذِينَ فِي زَمَنِهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُنْكِرُوهَا وَلَمْ يَتَأَوَّلُوهَا): كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ اليَهُودَ خَيرٌ -مِنْ هَذِهِ الجِهَةِ- مِنْ أُولَئِكَ المُعَطِّلَةِ لِلصِّفَاتِ؛ المُحَرِّفِينَ لَهَا، لِأَنَّهُم لَمْ يُكَذِّبُوهَا وَلَمْ يَتَأَوَّلُوهَا.

- ذِكْرُ تَرْجَمَةِ بَعْضِ مَنْ سَبَقَ مِنَ الأَعْلَامِ:

ابْنُ جَرِيرٍ: هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ بْنِ يَزِيدَ بْنِ كَثِيرٍ الطَّبَرِيُّ الآمِلِيُّ؛ أَبُو جَعْفَرٍ، صَاحِبُ التَّفْسِيرِ المَشْهُورِ، إِمَامٌ مُجْتَهِدٌ؛ عَالِمُ عَصْرِهِ، (ت 310 هـ)

(3)

.

وَيُونُسُ: هُوَ يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى المَصْرِيُّ، ثِقَةٌ فَقِيهٌ، (ت 264 هـ).

وَابْنُ مَهْدِي: هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِي بْنِ حَسَّانِ العَنْبَرِيُّ، إِمَامٌ ثِقَةٌ، (ت 198 هـ).

(1)

صَحِيحٌ. صَحِيحُ ابْنِ مَاجَه (2063).

وَرَوَاهُ البُخَارِيُّ (9/ 117) تَعْلِيقًا، وَقَالَ:(بَابُ قَولِ اللهِ تَعَالَى: {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} وَقَالَ الأَعْمَشُ: عَنْ تَمِيمٍ؛ عَنْ عُرْوَةَ؛ عَنْ عَائِشَةَ؛ قَالَتْ: الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ الأَصْوَاتَ؛ فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا}).

(2)

صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (24856) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (561).

(3)

وَأَمَّا مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرِ بْنِ رُسْتُمَ؛ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ (أَيضًا)؛ فَهُوَ مِنَ الرَّوَافِضِ. انْظُرِ السِّيَرَ (14/ 267) وَ (14/ 282) لِلذَّهَبِيِّ رحمه الله.

ص: 552

وَابْنُ وَهْبٍ: هُوَ عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبِ بْنِ مُسْلِمٍ القُرَشِيُّ، ثِقَةٌ حَافِظٌ، (ت 197 هـ).

وَابْنُ زَيدٍ: هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيدِ بْنِ أَسْلَمَ القُرَشِيُّ، ضَعِيفٌ، (ت 182 هـ)، وَأَبُوهُ فَقِيهٌ عَالِمٌ (ت 136 هـ).

وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ: هُوَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ بْنِ دِينَارٍ البَصْرِيُّ، ثِقَةٌ عَابِدٌ، (ت 167 هـ).

وَالمَسْعُودِيُّ: هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ، صَدُوقٌ، (ت 160 هـ).

وَعَاصِمُ: هُوَ عَاصِمُ بْنُ أَبِي النَّجُودِ -ابْنُ بَهْدَلَةَ- الأَسَدِيُّ، ثِقَةٌ، (ت 128 هـ).

وَزِرُّ: هُوَ زِرُّ بْنُ حُبَيشِ بْنِ حُبَاشَةَ بْنِ أَوسٍ الأَسَدِيُّ، ثِقَةٌ جَلِيلٌ، (ت 81 هـ).

وَأَبُو وَائِل: هُوَ شَقِيقُ بْنُ سَلَمَةَ الأَسَدِيُّ الكُوفِيُّ، مُخَضْرَمٌ ثِقَةٌ، (ت 79 هـ).

ص: 553

‌مَسَائِلُ عَلَى البَابِ

-‌

‌ المَسْأَلَةُ الأُولَى: هَلْ للهِ تَعَالَى صِفَةُ الأَصَابِعِ حَقِيقَةً؟

أَمْ أَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ مَعْنَى المُلْكِ وَالتَّصَرُّفِ، لِأَنَّ إِثْبَاتَ الأَصَابِعِ للهِ تَعَالَى يَدُلُّ عَلَى التَّجْسِيمِ! وَقَدْ جَاءَ فِي البُخَارِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ضَحِكَ مِنْ قَولِ اليَهُودِيِّ لَمَّا سَمِعَهُ يَقُولُ ذَلِكَ، وَهَذَا أَيضًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّها مِنْ وَصْفِ اليَهُودِ المُجَسِّمَةِ للهِ تَعَالَى!

(1)

(1)

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله: "وَقَالَ الخَطَّابِيُّ: لَمْ يَقَعْ ذِكْرُ الإِصْبَعِ فِي القُرْآنِ وَلَا فِي حَدِيثٍ مَقْطُوعٍ بِهِ، وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ اليَدَ لَيسَتْ بِجَارِحَةٍ حَتَّى يُتَوَهَّمَ مِنْ ثُبُوتِهَا ثُبُوتُ الأَصَابِعِ، بَلْ هُوَ تَوقِيفٌ أَطْلَقَهُ الشَّارِعُ فَلَا يُكَيَّفُ وَلَا يُشَبَّهُ، وَلَعَلَّ ذِكْرَ الأَصَابِعِ مِنْ تَخْلِيطِ اليَهُودِيِّ! فَإِنَّ اليَهُودَ مُشَبِّهَةٌ، وَفِيمَا يَدَّعُونَهُ مِنَ التَّورَاةِ أَلْفَاظٌ تَدْخُلُ فِي بَابِ التَّشْبِيهِ وَلَا تَدْخُلُ فِي مَذَاهِبِ المُسْلِمِينَ، وَأَمَّا ضَحِكُهُ صلى الله عليه وسلم مِنْ قَولِ الحَبْرِ فَيَحْتَمِلُ الرِّضَى وَالإِنْكَارَ، وَأَمَّا قَولُ الرَّاوِي:(تَصْدِيقًا لَهُ) فَظَنٌّ مِنْهُ وَحُسْبَانٌ، وَقَدْ جَاءَ الحَدِيثُ مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ لَيسَ فِيهَا هَذِهِ الزِّيَادَةُ، وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهَا فَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِحُمْرَةِ الوَجْهِ عَلَى الخَجَلِ، وَبِصُفْرَتِهِ عَلَى الوَجَلِ، وَيَكُونُ الأَمْرُ بِخِلَافِ ذَلِكَ، فَقَدْ تَكُونُ الحُمْرَةُ لِأَمْرٍ حَدَثَ فِي البَدَنِ كَثَوَرَانِ الدَّمِ، وَالصُّفْرَةُ لِثَوَرَانٍ خَلْطٍ مِنْ مِرَارٍ وَغَيرِهِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَحْفُوظًا فَهُوَ مَحْمُولٌ على تَأْوِيلِ قَولِهِ تَعَالَى:{وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} أَي: قُدْرَتُهُ عَلَى طَيِّهَا، وَسُهُولَةُ الأَمْرِ عَلَيهِ فِي جَمْعِهَا بِمَنْزِلَةِ مَنْ جَمَعَ شَيئًا فِي كَفِّهِ وَاسْتَقَلَّ بِحَمْلِهِ مِنْ غَيرِ أَنْ يَجْمَعَ كَفَّهُ عَلَيهِ، بَلْ يُقِلُّهُ بِبَعْضِ أَصَابِعِهِ، وَقَدْ جَرَى فِي أَمْثَالِهِمْ: فُلَانٌ يُقِلُّ كَذَا بِإِصْبَعِهِ وَيَعْمَلُهُ بِخِنْصَرِهِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا.

وَقَدْ تَعَقَّبَ بَعْضُهُمْ إِنْكَارَ وُرُودِ الأَصَابِعِ لِوُرُودِهِ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ كَالحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ: ((إِنَّ قَلْبَ بَنِي آدَمَ بَينَ إِصْبَعَينِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ)) وَلَا يَرِدُ عَلَيهِ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا نَفَى القَطْعَ.

وَقَالَ القُرْطُبِيُّ فِي المُفْهِمِ: "قَولُهُ: ((إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ .. )) إِلَى آخِرِ الحَدِيثِ، هَذَا كُلُّهُ قَولُ اليَهُودِيِّ وَهُمْ يَعْتَقِدُونَ التَّجْسِيمَ وَأَنَّ اللهَ شَخْصٌ ذُو جَوَارِحَ! كَمَا يَعْتَقِدُهُ غُلَاةُ المُشَبِّهَةِ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ، وَضَحِكُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا هُوَ لِلتَّعَجُّبِ مِنْ جَهْلِ اليَهُودِيِّ، وَلِهَذَا قَرَأَ عِنْدَ ذَلِكَ:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} أَي: مَا عَرَفُوهُ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ وَلَا عَظَّمُوهُ حَقَّ تَعْظِيمِهِ، فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ هِيَ الصَّحِيحَةُ المُحَقَّقَةُ، وَأَمَّا مَنْ زَادَ:(تَصْدِيقًا لَهُ) فَلَيسَتْ بِشَيءٍ؛ فَإِنَّهَا مِنْ قَولِ الرَّاوِي وَهِيَ بَاطِلَةٌ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَا يُصَدِّقُ المُحَالَ، وَهَذِهِ الأَوصَافُ

=

ص: 554

_________

=

فِي حَقِّ اللهِ مُحَالٌ؛ إِذْ لَو كَانَ ذَا يَدٍ وَأَصَابِعَ وَجَوَارِحَ كَانَ كَوَاحِدٍ مِنَّا؛ فَكَانَ يَجِبُ لَهُ مِنَ الِافْتِقَارِ وَالحُدُوثِ وَالنَّقْصِ وَالعَجْزِ مَا يَجِبُ لَنَا، وَلَو كَانَ كَذَلِكَ لَاسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ إِلَهًا؛ إِذْ لَو جَازَتِ الإِلَهِيَّةُ لِمَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ لَصَحَّتْ لِلدَّجَّالِ وَهُوَ مُحَالٌ، فَالمُفْضِي إِلَيهِ كَذِبٌ، فَقَولُ اليَهُودِيِّ كَذِبٌ وَمُحَالٌ، وَلِذَلِكَ أَنْزَلَ اللهُ فِي الرَّدِّ عَلَيهِ:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} ، وَإِنَّمَا تَعَجَّبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ جَهْلِهِ؛ فَظَنَّ الرَّاوِي أَنَّ ذَلِكَ التَّعَجُّبَ تَصْدِيقٌ وَلَيسَ كَذَلِكَ.

فَإِنْ قِيلَ قَدْ صَحَّ حَدِيثُ: ((إِنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ بَينَ إِصْبَعَينِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ)).

فَالجَوَابُ: أَنَّهُ إِذَا جَاءَنَا مِثْلُ هَذَا فِي الكَلَامِ الصَّادِقِ تَأَوَّلْنَاهُ أَو تَوَقَّفْنَا فِيهِ إِلَى أَنْ يَتَبَيَّنَ وَجْهُهُ -مَعَ القَطْعِ بِاسْتِحَالَةِ ظَاهِرِهِ لِضَرُورَةِ صِدْقِ مَنْ دَلَّتِ المُعْجِزَةُ عَلَى صِدْقِهِ-، وَأَمَّا إِذَا جَاءَ عَلَى لِسَانِ مَنْ يَجُوزُ عَلَيهِ الكَذِبُ بَلْ عَلَى لِسَانِ مَنْ أَخْبَرَ الصَّادِقُ عَنْ نَوعِهِ بِالكَذِبِ وَالتَّحْرِيفِ كَذَّبْنَاهُ وَقَبَّحْنَاهُ، ثُمَّ لَو سَلَّمْنَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَرَّحَ بِتَصْدِيقِهِ؛ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ تَصْدِيقًا لَهُ فِي المَعْنَى! بَلْ فِي اللَّفْظِ الَّذِي نَقَلَهُ مِنْ كِتَابِهِ عَنْ نَبِيِّهِ وَنَقْطَعُ بِأَنَّ ظَاهِرَهُ غَيرُ مُرَادٍ. انْتَهَى مُلَخَّصًا.

وَهَذَا الَّذِي نَحَا إِلَيهِ أَخِيرًا أَولَى مِمَّا ابْتَدَأَ بِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الطَّعْنِ عَلَى ثِقَاتِ الرُّوَاةِ وَرَدِّ الأَخْبَارِ الثَّابِتَةِ، وَلَو كَانَ الأَمْرُ عَلَى خِلَافِ مَا فَهِمَهُ الرَّاوِي بِالظَّنِّ لَلَزِمَ مِنْهُ تَقْرِيرُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى البَاطِلِ وَسُكُوتُهُ عَنِ الإِنْكَارِ؛ وَحَاشَا لِلَّهِ مِنْ ذَلِكَ.

وَقد اشْتَدَّ إِنْكَارُ ابْنِ خُزَيمَةَ عَلَى مَنِ ادَّعَى أَنَّ الضَّحِكَ المَذْكُورَ كَانَ عَلَى سَبِيلِ الإِنْكَارِ؛ فَقَالَ بَعْدَ أَنْ أَورَدَ هَذَا الحَدِيثَ فِي كِتَابِ التَّوحِيدِ مِنْ صَحِيحِهِ بِطَرِيقِهِ: (قَدْ أَجَلَّ اللهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَنْ يُوصَفَ رَبُّهُ بِحَضْرَتِهِ بِمَا لَيسَ هُوَ مِنْ صِفَاتِهِ؛ فَيَجْعَلَ بَدَلَ الإِنْكَارِ وَالغَضَبِ عَلَى الوَاصِفِ ضَحِكًا! بَلْ لَا يَصِفُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا الوَصْفِ مَنْ يُؤْمِنُ بِنُبُوَّتِهِ).

وَقَدْ وَقَعَ الحَدِيثُ المَاضِي فِي الرِّقَاقِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَفَعَهُ: ((تَكُونُ الأَرْضُ يَومَ القِيَامَةِ خُبْزَةً وَاحِدَةً يَتَكَفَّؤُهَا الجَبَّارُ بِيَدِهِ كَمَا يَتَكَفَّؤُ أَحَدُكُمْ خُبْزَتَهُ)) الحَدِيثَ، وَفِيهِ أَنَّ يَهُودِيًّا دَخَلَ فَأَخْبَرَ بِمِثْلِ ذَلِكَ فَنَظَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى أَصْحَابه ثُمَّ ضَحِكَ". فَتْحُ البَارِي (13/ 398).

قُلْتُ: وَقَولُ الحَافِظِ رحمه الله عَنْ قَولِ ابْنِ خُزَيمَةَ السَّابِقِ إِنَّمَا هُوَ فِي كِتَابِهِ (التَّوحِيدُ)(1/ 178)، وَلَيسَ فِي صَحِيحِهِ أَصْلًا -لَا الحَدِيثَ وَلَا البَيَانَ-، وَالحَمْدُ للهِ.

وَمَعْنَى الحَدِيثِ الأَخِيرِ الَّذِي أَورَدَهُ الحَافِظُ هُوَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَجْعَلُ الأَرْضَ كَالرَّغِيفِ العَظِيمِ؛ فَيَكُونُ ذَلِكَ طَعَامًا لِأَهْلِ الجَنَّةِ.

=

ص: 555

_________

=

وَكُلُّ مَا سَبَقَ مِنَ الشُّبَهِ -بِحَمْدِ اللهِ- مَرْدُودٌ عَلَيهَا فِي الجَوَابِ؛ عَدَا جُمْلَةِ القُرْطُبِيِّ -عَفَا اللهُ عَنْهُ- وَهُوَ "إِذْ لَو جَازَتِ الإِلَهِيَّةُ لِمَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ لَصَحَّتْ لِلدَّجَّالِ"!!

وَالجَوَابُ: هَلِ الأُلُوهِيَّةُ تُنْفَى بِإِثْبَاتِ الصِّفَاتِ؟! فَعَلَى هَذَا تُنْفَى بَاقِي الصِّفَاتِ السَّبْعَةِ -عَلَى مَذْهَبِ الأَشَاعِرَةِ- أَيضًا عَنِ اللهِ تَعَالَى!!

فَإِذَا قِيلَ: هَذِهِ الصِّفَاتُ السَّبْعَةُ هِيَ كَمَا يَلِيقُ بِهِ سُبْحَانَهُ؛ فَنَقُولُ: وَتِلْكَ الَّتِي أَثْبَتَهَا الشَّرْعُ أَيضًا هِيَ كَمَا يَلِيقُ بِهِ سُبْحَانَهُ.

ثُمَّ لَو كَانَتْ صِفَاتُ المَسِيحِ الدَّجَّالِ الجَسَدِيَّةُ هِيَ عِلَّةُ إِنْكَارِ رُبُوبِيَّتِهِ -كَمَا سَيَدَّعِيهِ هُوَ فِي وَقْتِهِ- لَمْ يَكُنْ لِإِخْبَارِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَوجُهِ مَعْرِفَتِهِ سَبَبٌ أَبَدًا، حَيثُ أَخْبَرَ عليه الصلاة والسلام عَنْهُ بِعِدَّةِ صِفَاتٍ -غَيرِ جَسَدِيَّةٍ- لِمَعْرِفَةِ كَذِبِهِ، فَلَمْ تَكُنْ صِفَاتُهُ الجَسَدِيَّةُ هِيَ وَجْهُ بَيَانِ ضَلَالِهِ، وَإِنَّمَا جَاءَ بَيَانُ وَجْهِ الضَّلَالَةِ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ عليه الصلاة والسلام عَنْهُ مِنْ أَنَّهُ يَأْتِي وَمَعَهُ جَنَّةٌ وَنَارٌ، وَأَنَّهُ يُحْيِي المَيِّتَ -بِإِذْنِ اللهِ الكَونِيِّ- وَأَنَّهُ مَكْتُوبٌ بَينَ عَينَيهِ كَافِرٌ وَ

، هَذَا كُلُّهُ مَعَ ضَرُورَةِ مَعْرِفَةِ أَنَّهُ لَا تَلَازُمَ أَبَدًا فِي حَقِيقَةِ الصِّفَةِ بَينَ الخَالِقِ وَالمَخْلُوقِ، فَكَمَا أَنَّ اللهَ تَعَالَى حَيٌّ -وَهَذَا لَا يَعْنِي أَنَّ حَيَاتَهُ مُمَاثِلَةٌ لِحَيَاةِ البَشَرِ-! فَكَذَلِكَ أَصَابِعُهُ سُبْحَانَهُ لَيسَتْ كَأَصَابِعِ البَشَرِ، لِأَنَّ الكَلَامَ فِي الصِّفَاتِ فَرْعٌ عَنِ الكَلَامِ عَلَى الذَّاتِ.

فَدَلَّ هَذَا البَيَانُ -بِفَضْلِ اللهِ- عَلَى خَطَأِ تَوجِيهِ القُرْطُبِيِّ رحمه الله فِي قَولِهِ: "إِذْ لَو جَازَتِ الإِلَهِيَّةُ لِمَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ لَصَحَّتْ لِلدَّجَّالِ". وَبَاقِي الرَّدِّ تَجِدُهُ فِي تَمَامِ الجَوَابِ. وَالحَمْدُ للهِ عَلَى تَوفِيقِهِ.

قُلْتُ: وَأَمَّا قَولُ الخَطَّابِيِّ -فِي نَقْلِ الحَافِظِ-: "وَقَدْ جَاءَ الحَدِيثُ مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ لَيسَ فِيهَا هَذِهِ الزِّيَادَةُ"! يَعْنِي قَولَهُ: (تَصْدِيقًا لِقَوْلِ الحَبْرِ) فَرَدَّهُ الحَافِظُ البَيهَقِيُّ عَلَيهِ بِقَولِهِ: "قَدْ رُوِّينَا مُتَابَعَةَ عَلْقَمَةَ إِيَّاهُ فِي ذَلِكَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ". (الأَسْمَاءُ وَالصِّفَاتُ) لِلْبَيهَقِيِّ (2/ 169).

وَأَيضًا مِمَّا يَنْبَغِي الإِشَارَةُ إِلَيهِ أَنَّ الإِمَامَ الخَطَّابِيَّ رحمه الله رَجَعَ عَن مَذْهَبِهِ ذَاكَ -بِفَضْلِ اللهِ تَعَالَى-.

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ رحمه الله: "وَقَدْ ذَكَرَ الأَشْعَرِيُّ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ أَنَّ طَرِيقَةَ المُتَكَلِّمِينَ فِي الاسْتِدْلَالِ عَلَى قِدَمِ الصَّانِعِ وَحُدُوثِ العَالَمِ بِالجَوَاهِرِ وَالأَجْسَامِ وَالأَعْرَاضِ مُحَرَّمَةٌ عِنْدَ عُلَمَاءِ المُسْلِمِينَ.

وَقَدْ رُوِيَ ذَمُّ ذَلِكَ وَإِنْكَارُهُ وَنِسْبَتُهُ إِلَى الفَلَاسِفَةِ عَن أَبِي حَنِيفَةَ.

وَقَالَ ابْنُ سَرَيجٍ: تَوْحِيدُ أَهْلِ العِلْمِ وَجَمَاعَةِ المُسْلِمِينَ: الشَّهَادَتَانِ، وَتوْحِيدُ أَهْلِ البَاطِنِ مِن المُسْلِمِينَ: الخَوْضُ فِي الأَعْرَاضِ وَالأَجْسَامِ، وَإِنَّمَا بُعِثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِإِنْكَارِ ذَلِكَ. خَرَّجَهُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَن ِالسُّلَمِيِّ.

=

ص: 556

الجَوَابُ: للهِ تَعَالَى صِفَةُ الأَصَابِعِ، وَهِيَ غَيرُ صِفَةِ المُلْكِ، وَلَيسَ فِي إِثْبَاتِ ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّجْسِيمِ للهِ تَعَالَى! فَنُثْبِتُ مَا أَثْبَتَهُ اللهُ تَعَالَى لِنَفْسِهِ وَنَنْفِي عَنْهُ مَا نَفَى سُبْحَانَهُ عَنْ نَفْسِهِ.

وَلَئِنْ كَانَتْ صِفَةُ السَّمْعِ وَالبَصَرِ وَالإِرَادَةِ لَا تَدُلُّ عَلَى التَّمْثِيلِ -رُغْمَ أَنَّ أَغْلَبَ المَخْلُوقَاتِ الحَيَوَانِيَّةِ لَهُم مِنْ جِنْسِ هَذِهِ الصِّفاتِ-؛ فَإِنَّ صِفَةَ الأَصَابِعِ للهِ تَعَالَى أَيضًا لَا تَدُلُّ عَلَى التَّمْثِيلِ وَلَا عَلَى التَّجْسِيمِ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ القَومَ شَبَّهُوا أَوَّلًا فنَفَرُوا، فعَطَّلُوا ثَانِيًا فَكَفَرُوا.

أَمَّا مَا ذُكِرَ فِي بَيَانِ مَعْنَى الحَدِيثِ الَّذِي فِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ -وَالَّذِي فِيهِ إِثْبَاتُ صِفَةِ الأَصَابِعِ، فَنَحْنُ نُورِدُهُ وَنُلَخِّصُ مِنْهُ أَوجُهًا فِي بَيَانِ المَطْلُوبِ- إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.

فَفِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ: عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ حَبْرٌ مِنَ الأَحْبَارِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّا نَجِدُ أَنَّ اللهَ يَجْعَلُ السَّمَوَاتِ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالأَرَضِينَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالشَّجَرَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالمَاءَ وَالثَّرَى عَلَى إِصْبَعٍ، وَسَائِرَ الخَلَائِقِ عَلَى إِصْبَعٍ، فَيَقُولُ: أَنَا المَلِكُ. فَضَحِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ تَصْدِيقًا لِقَولِ الحَبْرِ. ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزُّمَرْ: 67]

(1)

.

=

وَكَذَلِكَ ذَكَرَهُ الخَطَّابِيُّ فِي رِسَالَتِهِ فِي (الغُنْيَةُ عَنِ الكَلَامِ وَأَهْلِهِ)، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا يُؤْخَذُ مِن كَلَامِهِ فِي كَثِيرٍ مِن كُتُبِهِ -مِمَّا يُخَالِفُ ذَلِكَ، وَيُوَافِقُ طَرِيقَةَ المُتَكَلِّمِينَ- فَقَدْ رَجَعَ عَنْهُ؛ فَإِنَّ نَفيَ كَثِيرٍ مِن الصِّفَاتِ إِنَّمَا هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى ثُبُوتِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ". فَتْحُ البَارِي لِابْنِ رَجَبٍ (7/ 236).

(1)

البُخَارِيُّ (4811)، وَمُسْلِمٌ (2786).

ص: 557

وَهُنَا وَقَفَاتٌ:

1 -

لَا يَلْزَمُ مِنْ كَونِ اللهِ تَعَالَى قَدْ وُصِفَ بِصِفَةٍ عِنْدَ اليَهُودِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ خَطَأً مُطْلَقًا! بَلْ مَا وَافَقَ شَرْعَنَا مِنْهُ يَكُونُ مَقْبُولًا، كَمَا فِي الحَدِيثِ:((مَا حَدَّثَكُمْ أَهْلُ الكِتَابِ فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ، وَقُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ؛ فَإِنْ كَانَ حَقًّا لَمْ تُكَذِّبُوهُمْ، وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا لَمْ تُصَدِّقُوهُمْ))

(1)

.

وَعَلَيهِ فَإِثْبَاتُ أَهْلِ الكِتَابِ لِلْنُبُوَّاتِ وَالمَعَادِ؛ يَلْزَمُ مِنْهُ إِنْكَارُنَا لِذَلِكَ!!

2 -

أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَقَرَّهُ عَلَى ذَلِكَ وضَحِكَ، وَلَا يُقَالُ هُنَا: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ضَحِكَ اسْتِهْزَاءً وَتَعَجُّبًا مِنْ تَجْسِيمِ اليَهُودِيِّ!! وَذَلِكَ لِأُمُورٍ:

أ- أَنَّ الضَّحِكَ لَا يُعْرَفُ فِي اللُّغَةِ أَنَّهُ يَكُونُ إِنْكَارًا! لَا سِيَّمَا مَعَ السُّكُوتِ وَعَدَمِ البَيَانِ.

قَالَ إِمَامُ الأَئِمَّةِ ابْنُ خُزَيمَةَ رحمه الله فِي كِتَابِ التَّوحِيدِ (1/ 178): "بَابُ ذِكْرِ إِمْسَاكِ اللهِ تبارك وتعالى اسْمُهُ وَجَلَّ ثَنَاؤُهُ- السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا عَلَيهَا عَلَى أَصَابِعِهِ، جَلَّ ربُّنَا عَنْ أَنْ تَكُونَ أَصَابِعُهُ كَأَصابِعِ خَلْقِهِ، وَعَنْ أَنْ يُشْبِهَ شَيءٌ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ صِفَاتِ خَلْقِهِ، وَقَدْ أَجَلَّ اللهُ قَدْرَ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَنْ يُوصَفَ الخَالِقُ البَارِئُ بِحَضْرَتِهِ بِمَا لَيسَ مِنْ صِفَاتِهِ؛ فَيَسْمَعُهُ فَيَضْحَكُ عِنْدَهُ؛ وَيَجْعَلُ بَدَلَ وُجُوبِ النَّكِيرِ وَالغَضَبِ عَلَى المُتَكَلِّمِ بِهِ ضَحِكًا تَبْدُو نَوَاجِذُهُ تَصْدِيقًا وَتَعَجُّبًا لِقَائِلِهِ! لَا يَصِفُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِهَذِهِ الصِّفَةِ مُؤْمِنٌ مُصَدِّقٌ برِسَالَتِهِ"

(2)

.

(1)

صَحِيحٌ. ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ (1487)، وَأَحَمْدُ (17225) عَنْ أَبِي نَمْلَةَ الأَنْصَارِيِّ. الصَّحِيحَةُ (2800).

(2)

كِتَابِ التَّوحِيدِ (1/ 178).

وَقَالَ المُبَارَكْفُورِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ تُحْفَةُ الأَحْوَذِيِّ بِشَرْحِ جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ (9/ 81): "قُلْتُ: قَولُ مَنْ قَالَ: إِنَّ الضَّحِكَ المَذْكُورَ كَانَ عَلَى سَبِيلِ الإِنْكَارِ! لَا شَكَّ عِنْدِي أَنَّهُ يَسْتَأْهِلُ أَنْ يُنْكَرَ عَلَيهِ أَشَدَّ الإِنْكَارِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ".

ص: 558

ب- قَدْ ثَبَتَتْ صِفَةُ الأَصَابِعِ للهِ تَعَالَى فِي أَحَادِيثَ أُخَرَ -خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ غَيرَ ذَلِكَ- كَحَدِيثِ: ((إِنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بَينِ إِصْبَعَينِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ كَقَلْبٍ وَاحِدٍ يُصَرِّفهُ حَيثُ شَاءَ))

(1)

.

ج- أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أَخْبَرَ أَنَّ هَذَا الضَّحِكَ هُوَ مِنْ بَابِ التَّصْدِيقِ.

وَأَمَّا قَولُ بَعْضِهِم أَنَّ هَذَا كَانَ بِاعْتِبَارِ مَا فَهِمَ الصَّحَابِيُّ! فَمَرْدُودٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ يَعْلَمُونَ عَنِ اللهِ تَعَالَى أَكْثَرَ مِمَّا نَعْلَمُ بِلَا رَيبٍ، وَأَيضًا هَذَا يَقْتَضِي وَصْفَ ابْنِ مَسْعُودٍ وَسَائِر الصَّحَابَةِ الكِرَامِ بِالتَّجْسِيمِ -عَلَى حَدِّ زَعْمِهِم-!

وَأَيضًا كَيفَ تَصِحُّ تَخْطِئَتُهُ بِلَا دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ؛ وَقَدْ جَعَلَ اللهُ تَعَالَى الإِيمَانَ يَقَعُ صَحِيحًا إِذَا كَانَ عَلَى مِثْلِ إِيمَانِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ تَعَالَى:{فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا} [البَقَرَة: 137].

وَأَيضًا فَإِنَّ مِنْ قَوَاعِدِ عِلْمِ الحَدِيثِ (الرَّاوِي أَدْرَى بِمَرْوِيِّهِ).

3 -

أَنَّ سُكُوتَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بعْدَ هَذَا الوَصْفِ دُونَ أَنْ يُتْبِعَهُ بِبَيَانٍ هُوَ إِقْرَارٌ لَهُ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ عُلِمَ أَيضًا فِي الأُصُولِ أَنَّ (تَأْخِيرَ البَيَانِ عَنْ وَقْتِ الحَاجَةِ لَا يَجُوزُ).

وَفِي زَعْمِ هَؤُلَاءِ أَنَّ البَيَانَ تأَخَّرَ عَنْ وَقْتِ الحَاجَةِ حَتَّى وَقَعَ المَحْظُورُ، فَفَهِمَ الصَّحَابةُ التَّجْسِيمَ -وَهُوَ الكُفْرُ المَحْضُ عِنْدَ المُعَطِّلَةِ- عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ وَلَمْ يَفْهَمُوا

(1)

مُسْلِمٌ (2654) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمْرو مَرْفُوعًا.

ص: 559

قَصْدَهُ عليه الصلاة والسلام مِنْ إِيرَادِهِ الآيَةَ الكَرِيمَةَ!!

4 -

أَنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اسْتَدَلَّ بِالقُرْآنِ عَلَى صِحَّةِ مَا قَالَهُ الحَبْرُ عِنْدَمَا تَلَا الآيَةَ الكَرِيمَةَ، حَيثُ ذَكَرَ فِيهَا قَبْضَةَ اللهِ تَعَالَى؛ وَبِمِثْلِ مَا جَاءَ الكَلَامُ عَنِ اليَهُودِيِّ فِي قَبْضِ الأَرْضِ وَطَيِّ السَّمَاءِ.

5 -

عَلَى تَقْدِيرِ خَطَأ جَعْلِ الأَصَابِعِ صِفَةً للهِ تَعَالَى حَيثُ جَاءَتْ فِي الحَدِيثِ؛ فَهَلْ يُقرُّونَ بِصِفَةِ القَبْضَةِ للهِ تَعَالَى الَّتِي جَاءَتْ فِي الآيَةِ الكَرِيمَة؟ ِ! فَإِنْ كَانُوا كَذَلِكَ -وَلَابُدَّ؛ وَلَو مَعَ التَّأْوِيلِ عِنْدَهُم- فَصِفَةُ الأَصَابِعِ لَيسَتْ بِأَعْجَبَ مِنْ صِفَةِ القَبْضَةِ! فَمَا سَلَّمُوا بِهِ هُنَا يَصْلُحُ أَنْ يُسَلِّمُوا بِمِثْلِهِ هُنَاكَ. وَالحَمْدُ للهِ.

6 -

أَنَّ المُتَأَمَّلَ فِي سِيَاقِ الحَدِيثِ وَمَا ذُكِرَ فِي الآيَةِ الكَرِيمَةِ بَعْدَهَا يَجِدُ دِلَالَةً ظَاهِرَةً لِمَا ذَكَرْنَاهُ، حَيثُ لَو كَانَ المَقْصُودُ مِنَ الآيَةِ تَنْزِيهَ اللهِ تَعَالَى عَنِ التَّجْسِيمِ وَالصِّفَاتِ القَبِيحَةِ -عَلَى حَدِّ زَعْمِ المُعَطِّلةِ- لَكَانَ اللَّفْظُ المُوَافِقُ لِلسِّيَاقِ هُوَ كَمَا فِي آيَاتٍ أُخَرَ؛ كَقَولِهِ تَعَالَى:{وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} [الأَنْعَام: 100]، وَإِنَّمَا جَاءَ الكَلَامُ هُنَا مِنْ لَدُنِ حَكِيمٍ خَبِيرٍ {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} حَيثُ جَاءَ فِي أَوَّلِ الآيَةِ ذِكْرُ صِفَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالعَظَمَةِ ثُمَّ أُتْبِعَتْ بِالأَمْرِ بِتَوحِيدِ الأُلُوهِيَّةِ -كَمَا لَا يَخْفَى مِنَ الأُسْلُوبِ القُرْآنِيِّ فِي ذَلِكَ-، فَلَمْ يَذُمَّ اللهُ تَعَالَى مَا ذُكِرَ مِنَ الوَصْفِ!

وَبِمَعْنًى آخَرَ: إِنَّ الآيَةَ ذمَّتِ المُشْرِكِينَ -وَمِنْهُم اليَهُودُ- عَلَى مَا جَاءُوا بِهِ مِنَ الشِّرْكِ وَلَيسَ مِنَ الوَصْفِ، فَهِيَ كَقَولِهِ تَعَالَى:{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البَقَرَة: 22].

ص: 560

-‌

‌ المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَمْ يُذْكَرْ فِي الحَدِيثِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم اسْتَعَاذَ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ عِنْدَ تِلَاوَةِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ،

وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {فَإِذَا قَرَأْتَ القُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ} [النَّحْل: 98]! فَمَا الجَوَابُ؟

الجَوَابُ:

قَدْ دَلَّتْ سُنَّةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم العَمَلِيَّةُ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ الكَرِيمَةَ تَأْمُرُ بِالاسْتِعَاذَةِ فِي حَالِ التِّلَاوَةِ وَلَيسَ فِي حَالِ الاسْتِشْهَادِ وَالاسْتِدْلَالِ، وَكُتُبُ الحَدِيثِ -مِنْ جِهَةِ الهَدْي النَّبَوِيِّ- تَشْهَدُ عَلَى ذَلِكَ.

قَالَ الحَافِظُ السُّيُوطِيُّ رحمه الله فِي رِسَالَتِهِ (القُذَاذَةُ فِي تَحْقِيقِ مَحَلِّ الِاسْتِعَاذَةِ): "الَّذِي ظَهَرَ لِي مِنْ حَيثُ النَّقْلِ وَالِاسْتِدْلَالِ أَنَّ الصَّوَابَ أَنْ يَقُولَ: قَالَ اللهُ تَعَالَى؛ وَيَذْكُرَ الآيَةَ، وَلَا يَذْكُرَ الِاسْتِعَاذَةَ. فَهَذَا هُوَ الثَّابِتُ فِي الأَحَادِيثِ وَالآثَارِ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ"

(1)

.

(1)

الحَاوِي لِلفَتَاوِي (1/ 297).

ص: 561

‌المُلْحَقُ الثَّانِي عَشَرَ: مُخْتَصَرٌ فِي الرَّدِّ عَلَى أَبْيَاتٍ مِنَ البُرْدَةِ لِلبُوصِيرِي

‌مُقَدِّمَةٌ

الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ خَاتَمِ المُرْسَلِينَ.

أَمَّا بَعْدُ؛ فَهَذَا مُلْحَقٌ مُتَمِّمٌ لِكِتَابِي هَذَا قَدِ اسْتَحْسَنْتُ إِيرَادَهُ تَتْمِيمًا لِفَائِدَةِ هَذَا الكِتَابِ المُبَارَكِ إِنْ شَاءَ اللهُ، وَقَدْ جَعَلْتُهُ خَاصًّا فِي التَّعْلِيقِ والرَّدِّ عَلَى أَبْيَاتٍ مُعَيَّنَةٍ مِن قَصِيدَةِ البُرْدَةِ

(1)

المَعْرُوفَةِ لِلبُوصِيرِي

(2)

، وَقَدْ جَمَعْتُ فِيهِ أُصُولًا فِي الرَّدِّ

(1)

وَقَدْ أُطْلِقَ عَلَى هَذِهِ القَصِيدَةِ اسْمَ (البُرْدَةُ) مِنْ بَابِ المُحَاكَاةِ وَالمُشَاكَلَةِ لِلقَصِيدَةِ الشَّهِيرَةِ لِكَعْبِ بْنِ زُهَيرٍ رضي الله عنه فِي مَدْحِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَدِ اشْتُهِرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَعْطَى كَعْبًا بُرْدَتَهُ حِينَ أَنْشَدَ القَصِيدَةَ -إِنْ صَحَّ ذَلِكَ-؛ لِأَنَّ ابْنَ كَثِيرٍ رحمه الله قَالَ:"قُلْتُ: وَرَدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَعْطَاهُ بُرْدَتَهُ حِينَ أَنْشَدَهُ القَصِيدَةَ، وَقَدْ نَظَمَ ذَلِكَ الصَّرْصَرِيُّ فِي بَعْضِ مَدَائِحِهِ، وَهَكَذَا ذَكَرَ ذَلِكَ الحَافِظُ أَبُو الحَسَنِ ابْنُ الأَثِيرِ فِي الغَابَةِ قَالَ: وَهِيَ البُرْدَةُ الَّتِي عِنْدَ الخُلَفَاءِ. قُلْتُ: وَهَذَا مِنَ الأُمُورِ المَشْهُورَةِ جِدًّا، وَلَكِنْ لَمْ أَرَ ذَلِكَ فِي شَيءٍ مِنْ هَذِهِ الكُتُبِ المَشْهُورَةِ بِإِسْنَادٍ أَرْتَضِيهِ؛ فَاللَّهُ أَعْلَمُ". البِدَايَةُ وَالنِّهَايَةُ (4/ 429).

كَمَا أَنَّ لِهَذِهِ البُرْدَةِ اسْمًا آخَرَ هُوَ "البُرْأَةُ"، وَذَلِكَ لِأَنَّ البُوصِيرِي -كَمَا يَزْعُمُونَ- شُفِيَ بِهَا مِنْ عِلَّتِهِ، وَقَدْ سُمِّيَتْ كَذَلِكَ بِقَصِيدَةِ الشَّدَائِدِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا -فِي زَعْمِهِم- تُقْرَأُ لِتَفْرِيجِ الشَّدَائِدِ وَتَيسِيرِ كُلِّ أَمْرٍ عَسِيرٍ.

وَبَعْضُهُم يَكْتُبُهَا بِالزَّعْفَرَانِ عَلَى الوَرَقِ ثُمَّ يَحُلُّ الوَرَقَ فِي المَاءِ وَيَشْرَبُهُ بِنِيَّةِ قَضَاءِ الحَاجَاتِ وَالشِّفَاءِ مِنَ الأَمْرَاضِ!

(2)

"مُحَمَّدُ البُوصِيرِي (608 - 694 هـ): مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ حَمَّادِ بْنِ مُحْسِنِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الصَنْهَاجِيُّ؛

=

ص: 562

عَلَى طَرِيقَةِ أَهْلِ البِدَعِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا البَابِ، وَقَدْ جَمَعْتُهَا مِنْ كَلَامِ أَهْلِ العِلْمِ -مُؤَلِّفًا بَينَهَا- مَعَ بَعْضِ الفَوَائِدِ الَّتِي اسْتَحْسَنْتُ إِيرَادَهَا، وَالحَمْدُ للهِ أَوَّلًا وَآخِرًا، وَفِي المُلْحَقِ التَّالِي لِهَذَا وَهُوَ "ردُّ شُبُهَاتِ المُشْرِكِينَ" مَزِيدُ فَائِدَةٍ عَلَى مَا فِي هَذَا المُلْحَقِ مِنْ وُجُوهٍ أُخَر.

-‌

‌ قَولُهُ: (وقَدَّمَتْكَ جَمِيعُ الأَنْبِيَاءِ بِهَا

(1)

والرُّسْلِ تَقْدِيمَ مَخْدُومٍ عَلَى خَدَمِ)

التَّعْلِيقُ: هُوَ خَطَأٌ لَا شَكَّ فِيهِ، وَقِلَّةُ أَدَبٍ مَعَ مَقَامِ النُّبُوَّةِ، لِأَنَّ الأَنْبِيَاءَ بَعْضُهُم مَعَ بَعْضٍ لَيسَ فِيهِم خَادِمٌ وَمَخْدُومٌ، وَلَيسَ تَفْضِيلُ بَعْضِهِم عَلَى بَعْضٍ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ المَفْضُولُ خَادِمًا لِلفَاضِلِ، بَلْ هُمْ سَوَاءٌ فِي النُّبُوَّةِ.

وَفِي الحَدِيثِ: ((لَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ: أَنَا خَيرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى))

(2)

.

-‌

‌ قَولُهُ: (وَكَيفَ تَدْعُو إلَى الدُّنْيَا ضَرُورَةُ مَنْ

لَولَاهُ لَمْ تَخْرُجِ الدُّنْيَا مِنَ العَدَمِ)

(3)

التَّعْلِيقُ: هُوَ كَذِبٌ عَلَى الشَّرِيعَةِ؛ فَقَدْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى أَنَّ سَبَبَ خَلْقِ الجِنِّ

=

الدَّلَاصِيُّ؛ البُوصِيرِيُّ؛ (شَرَفُ الدِّينِ؛ أَبُو عَبْدِ اللهِ) صُوفِيٌّ مِنْ أَهْلِ الطُّرُقِ؛ نَاظِمٌ. وُلِدَ بِدِلَاص فِي أَوَّلِ شَوَّال، وَنَشَأَ فِي (أَبُو صِير)، وَتُوُفِّيَ بِالإِسْكَنْدَرِيَّةِ، مِنْ آثَارِهِ: قَصِيدَةُ الكَوَاكِبِ الدُّرِّيَّةِ فِي مَدْحِ خَيرِ البَرِيَّةِ؛ المَعْرُوفَةُ بِالبُرْدَةِ". مُعْجَمُ المُؤَلِّفِينَ (10/ 28) لِعُمَر كَحَّالَة.

(1)

وَهِيَ مَنْزِلَتُهُ صلى الله عليه وسلم، حَيثُ قَالَ فِي البَيتِ السَّابِقِ: (وَبِتَّ تَرْقَى إلَى أنْ نِلْتَ مَنْزِلَةً

مِنْ قَابِ قَوسِينِ لَمْ تُدْرَكْ وَلَمْ تُرَمِ).

(2)

رَوَاهُ البُخَارِيُّ (3395) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا.

(3)

وَالمَعْنَى: وَكَيفُ يُمْكِنُ لِفَقْرِهِ أَنْ يُغْرِيَهُ بِشَيءٍ مِنْ زَخَارِفِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا؛ وَهُوَ الَّذِي لَمْ تُخْلَقِ الدُّنْيَا بِمَا فِيهَا إِلَّا لِأَجْلِهِ.

ص: 563

وَالإِنْسِ هُوَ لِعِبَادَتِهِ تَعَالَى، قَالَ عز وجل:{وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذَّارِيَات: 56].

وَبَيَّنَ أَيضًا سُبْحَانَهُ أَنَّهُ خَلَقَ مَا فِي الأَرْضِ لِأَجْلِنَا كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ} [البَقَرَة: 29].

وَأَمَّا الحَدِيثُ المَشْهُورَ عَلَى الأَلْسِنَةِ: ((يَا مُحَمَّدُ، لَولَاكَ مَا خَلَقْتُ الدُّنْيَا)) فَهوَ مَوضُوعٌ

(1)

.

بَلْ إِنَّهُ يُمْكِنُ القَولُ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُبْعَثُ أَصْلًا إِلَّا مِنْ أَجْلِ العَالَمِينَ -رَحْمَةً مِنَ اللهِ بِهِم-، قَالَ تَعَالَى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأَنْبِيَاء: 107].

-‌

‌ قَولُهُ: (فَاقَ النَّبِيِّينَ في خَلْقٍ وفي خُلُقٍ

وَلَمْ يُدَانُوهُ في عِلْمٍ وَلَا كَرَمِ

وَكُلُّهُم مِنْ رَسُولِ اللهِ مُلتَمِسٌ

غَرْفًا مِنَ البَحْرِ أَو رَشفًا مِنَ الدِّيمِ)

(2)

التَّعْلِيقُ: مَعْنَاهُ أَنَّ كُلَّ الأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ السَّابِقِينَ قَدْ نَالُوا وَأَخَذُوا مِنَ الرَسُولَ اللَّاحِقِ!

وَيَكْفِي فِي رَدِّهِ أَنَّهُ قَولٌ بِلَا دَلِيلٍ، وَغُلُوٌّ فَاضِحٌ، وَانْظُرْ قَولَهُ تَعَالَى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأَنْعَام: 90].

(1)

كَمَا فِي تَلْخِيصِ كِتَابِ المَوضُوعَاتِ (ص 86) لِلحَافِظِ الذَّهَبِيِّ؛ وَفِيهِ أَيضًا: "وَقَالَ ابْنُ الجَوزِيِّ: مَوضُوعٌ بِلَا شَكٍّ، وَيَحْيَى البَصْرِيُّ تَالِفٌ كَذَّابٌ، وَالسَّنَدُ فِيهِ ظُلْمَةٌ".

(2)

(الدِّيمُ): جَمْعُ دِيمَة: وَهُوَ المَطَرُ لَيسَ فِيهِ رَعْدٌ وَلَا بَرْقٌ. لِسَانُ العَرَبِ (12/ 219).

ص: 564

قَالَ الإِمَامُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ رحمه الله: "يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَبَالْعَمَلِ الَّذِي عَمِلُوا وَالمِنْهَاجِ الَّذِي سَلَكُوا؛ وَبِالهُدَى الَّذِي هَدَينَاهُم؛ وَالتَّوفِيقَ الَّذِي وَفَّقْنَاهُم؛ {اقْتَدِهْ} يَا مُحَمَّدُ، أَي: فَاعْمَلْ، وَخُذْ بِهِ وَاسْلُكْهُ؛ فَإِنَّهُ عَمَلٌ للهِ فِيهِ رِضًا، وَمِنْهَاجٌ مَنْ سَلَكَهُ اهْتَدَى"

(1)

.

وَأَيضًا تَأَمَّلْ قَولَ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم عَنْ أَخِيهِ مُوسَى عليه الصلاة والسلام فِي شَرْحِ قِصَّتِهِ مَعَ الخَضِرِ: ((يَرْحَمُ اللهُ مُوسَى لَوَدِدْنَا لَو صَبَرَ حَتَّى يُقَصَّ عَلَينَا مِنْ أَمْرِهِمَا))

(2)

.

-‌

‌ قَولُهُ: (دَعْ مَا ادَّعَتهُ النَّصَارَى في نَبِيِّهِمُ

(3)

وَاحْكُمْ بِمَا شِئْتَ مَدْحًا فِيهِ وَاحْتَكِمِ

وَانْسُبْ إِلَى ذَاتِهِ مَا شِئْتَ مِنْ شَرَفٍ

وَانْسُبْ إلى قَدْرِهِ ما شِئْتَ منْ عِظَمِ)

(4)

التَّعْلِيقُ: قَدْ جَرَى المُؤَلِّفُ في هَذَا البَيتِ -بِزَعْمِهِ- إِلَى الخُلُوصِ مِنَ الشِّرْكِ، حَيثُ ظَنَّ أَنَّ النَّهيَ فِي قَولِهِ:((لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ)) أَنَّهُ نَهْيٌ عَنْ مِثْلِ إِطْرَاءِ النَّصَارَى لِعِيسَى عليه السلام فَقَط، يَعْنِي: لَا تُطْرُونِي بِمِثْلِ مَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَم، فَيَكُونُ المَنْهيُّ عَنْهُ هُوَ -فَقَط- أَنْ يُدَّعَى أَنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم ابْنٌ للهِ تَعَالَى، فَالنَّهْيُ عَنِ الإِطْرَاءِ لَيسَ عَلَى عُمُومِهِ!

(1)

تَفْسِيرُ الطَّبَرِيِّ (3/ 229).

(2)

البُخَارِيُّ (122) عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ مَرْفُوعًا.

(3)

وَقَدْ جَعَلَ بَعْضُهُم هَذَا الشَّطْرَ قَرِينَةً لِصَرْفِ أَيِّ بَيتٍ دَلَّ عَلَى الشِّرْكِ فِي بَاقِي أَبْيَاتِ البُرْدَةِ بِغَضِّ النَّظَرِ عَنِ المَدْلُولِ!!

(4)

وَقَدْ سَبَقَتْ نَفْسُ المَسْأَلَةِ فِي بَابِ (مَا جَاءَ أَنَّ سَبَبَ كُفْرِ بَنِي آدَمَ وَتَرْكِهِمْ دِينَهُمْ هُوَ الغُلُوُّ فِي الصَّالِحِينَ) وَالإِعَادَةُ هُنَا لِلمُنَاسَبَةِ.

ص: 565

وَالجَوَابُ هُوَ مِنْ أَوجُهٍ:

1 -

أَنَّ الكَافَ هُنَا فِي قَولِهِ: ((كَمَا)) هِيَ كَافُ التَّشْبِيهِ (القِيَاسِ)، وَالفَرْقُ بَينَ التَّمْثِيلِ وَالتَّشْبيهِ: أنَّ التَّمْثِيلَ يَعْنِي المُطَابَقَةَ، بَينَمَا التَّشْبِيهُ يَعْنِي الاشْتِرَاكَ فِي أَصْلِ الشَّيءِ -كَالعِلَّةِ فِي الحُكْمِ-، فَيَكُونُ المَنْهيُّ عَنْهُ هُوَ أَصْلُ الإِطْرَاءِ.

وَيَدُلُّ لِذَلِكَ سِيَاقُ الحَدِيثِ؛ فَقَد أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَقُولُوا: ((عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ))، وَهَذَا هُوَ المَآلُ مِنَ النَّهْيِّ عَنِ الإِطْرَاءِ، بِخِلَافِ مَا لَو كَانَ النَّهْيُ هُوَ عَنْ ادِّعَاءِ أَنَّهُ ابْنٌ للهِ تَعَالَى فَقَط -وَالَّذِي يَنْبَنِي عَلِيهِ جَوَازُ ادِّعَاءِ صِفَاتِ اللهِ تَعَالَى عَلَى عَبْدِهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم! وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا هُوَ مِنْ شِرْكِ الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [النَّحْل: 60]

(1)

.

وَلَا يَخْفَى إِنْ شَاءَ اللهُ أنَّ أَنْوَاعَ الشِّرْكِ كَثِيرْةٌ وَلَيسَتْ مَحْصُورَةً فَقَط بِشِرْكِ النَّصَارى بِاتِّخَاذِ الوَلَدِ! بَلْ إِنَّ أَصْلَ شِرْكِ المُشْرِكِينَ هُوَ ادِّعَاءُ أَنَّ للهِ تَعَالَى شُفَعَاءَ مِنَ الصَّالِحِينَ يَشْفَعُونَ عِنْدَهُ بِغَيرِ إِذْنِهِ لَهُم وَبِغَيرِ رِضَاهُ عَنِ المَشْفُوعِ فِيهِم.

قَالَ القُرْطُبِيُّ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ: "وَأَمَّا قَولُهُ صلى الله عليه وسلم فِي صَحِيحِ الحَدِيثِ: ((لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى عَيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، وَقُولُوا: عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ)) فَمَعْنَاهُ: لَا تَصِفُونِي بِمَا لَيسَ فِيَّ مِنَ الصِّفَاتِ تَلْتَمِسُونَ بِذَلِكَ مَدْحِي، كَمَا وَصَفَتِ النَّصَارَى عِيسَى بِمَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ، فَنَسَبُوهُ إِلَى أَنَّهُ ابْنُ اللهِ فَكَفَرُوا بِذَلِكَ وَضَلُّوا.

وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ مَنْ رَفَعَ امْرَأً فَوقَ حَدِّهِ، وَتَجَاوَزَ مِقْدَارَهُ بِمَا لَيسَ فِيهِ؛ فَمُعْتَدٍ

(1)

وَتَقْدِيمُ الجَارِّ وَالمَجْرُورِ فِي قَولِهِ: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} يُفِيدُ الحَصَرَ.

ص: 566

آثِمٌ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَو جَازَ فِي أَحَدٍ لَكَانَ أَولَى الخَلْقِ بِذَلِكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم"

(1)

.

2 -

أنَّ قَولَهُ صلى الله عليه وسلم: ((فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ)) هُوَ مِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ فِي الحَصْرِ، أَي: مَا هُوَ إِلَّا عَبْدٌ رَسُولٌ، وَجَاءَ هَذَا الحَصْرُ بَعْدَ فَاءِ التَّعْلِيلِ لِبَيَانِ أَنَّ العِلَّةَ فِي عَدَمِ الإطْرَاءِ هُوَ لِكَونِهِ فَقَط عَبْدٌ رَسُولٌ، فَهُوَ عَبْدٌ لَا يُعبْدُ، وَرَسُولٌ لَا يُكَذَّبُ.

3 -

قَدْ دَلَّتِ النُّصُوصُ الكَثِيرَةُ مِنَ السُّنَّةِ عَلَى النَّهْي عَنِ الغُلوِّ مُطْلَقًا وَعَنْ أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ جَاءَتْ فِي سِيَاقِ المَدْحِ، وَلَكِنْ نُهِيَ عَنْهَا خَوفًا مِمَّا تَكُونُ ذَرِيعَةً إِلَيهِ.

وَتَأَمَّلِ الأَحَادِيثَ الآتِيَةَ عَلَى سَبِيلِ المِثَالِ:

أ- عَنْ أَنَسٍ؛ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: يَا سَيِّدَنَا وَابْنَ سَيِّدِنَا، وَيَا خَيرَنَا وَابْنَ خَيرِنَا. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:((يَا أَيُّهَا النَّاسُ قُولُوا بِقَولِكُمْ وَلَا يَسْتَهْوِيَنَّكُمُ الشَّيطَانُ! أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، وَرَسُولُ اللهِ. وَاللَّهِ مَا أُحِبُّ أَنْ تَرْفَعُونِي فَوقَ مَا رَفَعَنِي اللهُ عز وجل)

(2)

.

ب- عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ الشِّخِّيرِ؛ قَالَ: انْطَلَقْتُ فِي وَفْدِ بَنِي عَامِرٍ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْنَا: أَنْتَ سَيِّدُنَا. فَقَالَ: ((السَّيِّدُ اللهُ تبارك وتعالى). قُلْنَا: وَأَفْضَلُنَا فَضْلًا، وَأَعْظَمُنَا طَولًا. فَقَالَ:((قُولُوا بِقَولِكُمْ أَو بَعْضِ قَولِكُمْ؛ وَلَا يَسْتَجْرِيَنَّكُمُ الشَّيطَانُ))

(3)

(4)

.

(1)

تَفْسِيرُ القُرْطُبِيِّ (5/ 247).

(2)

صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (13529)، وَالنَّسَائِيُّ فِي الكُبْرَى (10007). غَايَةُ المَرَامِ (127).

(3)

أَي: لَا يَتَّخِذَنَّكُم الشَّيطَانُ جَرِيًّا لَهُ.

وَقَالَ ابْنُ الأثير رحمه الله فِي كِتَابِهِ النِّهَايَةُ فِي غَرِيبِ الحَدِيثِ وَالأَثَرِ (1/ 739): "يُرِيدُ: تَكَلَّمُوا بِمَا يَحْضُرُكُم مِنَ القَولِ، وَلَا تَتَكَلَّفُوهُ كَأَنَّكُم وُكَلَاءُ الشَّيطَانِ وَرُسُلُهُ تَنْطقُونَ عَنْ لِسَانِهِ".

(4)

صَحِيحٌ. أَبُو دَاوُدَ (4806). صَحِيحُ أَبِي دَاوُدَ (4806).

ص: 567

ج- عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه؛ قَالَ: جاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا خَيرَ البَرِيَّةِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((ذَاكَ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام). رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(1)

(2)

.

- فَائِدَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ: إِنَّ تَعْظِيمَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم غَيرَ المَشْرُوعِ نَوعَان:

الأَوَّلُ: كُفْرٌ؛ وَهُوَ مَا كَانَ مُخْتَصًّا بِاللهِ تَعَالَى، كَدُعَائِهِ صلى الله عليه وسلم وَالاسْتِغَاثَةِ بِهِ فِي الشَّدَائِدِ، وَوَصْفِهِ بِمَا لَا يَتَّصِفُ بِهِ إِلَّا اللهُ.

الثَّانِي: مَعْصِيَةٌ وَذَرِيعَةٌ إِلَى الشِّرْكِ؛ كَالكَذِبِ عَلَيهِ فِي صِفَاتِهِ، وَاخْتِرَاعِ الآيَاتِ وَالمُعْجِزَاتِ غَيرِ المَرْويَّةِ بِالأَسَانِيدِ الصَّحِيحَةِ.

وَهَذَا الوَجْهُ هُوَ أَقَلُّ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيهِ قَولُ البُوصِيرِي: (وَانْسُبْ إِلَى ذَاتِهِ مَا شِئْتَ مِنْ شَرَفٍ) يَعْنِي مَا شِئْتَ أَنْتَ وَلَيسَ مَا هُوَ مِنْ جِهَةِ الحَقِيقَةِ وَالوَاقِعِ! وَسَبَقَ كَلَامُ القُرْطُبِيِّ فِي مِثْلِ هَذَا؛ وَأَنَّ صَاحِبَهُ مُعْتَدٍ آثِمٌ.

-‌

‌ قَولُهُ: (لَو نَاسَبَتْ قَدْرَهُ آيَاتُهُ عِظَمًا

أَحْيَا اسْمُهُ حِينَ يُدْعَى دَارِسَ الرِّمَمِ)

التَّعْلِيقُ: يَعْنِي أَنَّ آيَاتِهِ (مُعْجِزَاتِهِ) صلى الله عليه وسلم هِيَ أَقْلُ مِنْ قَدْرِهِ، وَلَو كَانَتْ تُنَاسِبُهُ

(1)

مُسْلِمٌ (2369).

(2)

وَقَدْ حَكَمَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله بِالشُّذُوذِ لِجُمْلَةِ (قَولِ خَيرِ البَرِيَّةِ) الَّتِي فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ -فِي غَيرِ هَذَا السِّيَاقِ- وَجَرَى عَلَيهَا بَعْضُ الشُّرَّاحِ! وَبَيَّنَ رحمه الله أَنَّ صَوَابَهَا (مِنْ خَيرِ قَولِ البَرِيَّةِ) -وَلَا يَخْفَى الفَرْقُ بَينَهُمَا- وَأَنَّ الصَّوَابَ المَحْفُوظَ هُوَ كَمَا فِي أَلْفَاظِ الصَّحِيحَينِ.

وَالحَدِيثُ بِتَمَامِهِ فِي البُخَارِيِّ (3611) عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه مَرْفُوعًا: ((يَأْتِي فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَومٌ، حُدَثَاءُ الأَسْنَانِ، سُفَهَاءُ الأَحْلامِ، يَقُولُونَ مِنْ خَيرِ قَولِ البَرِيَّةِ، يَمْرُقُونَ مِنَ الإِسْلامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، لا يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ، فَأَينَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ، فَإِنَّ قَتْلَهُمْ أَجْرٌ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَومَ القِيَامَةِ)).

ص: 568

لَكَانَ اسْمُهُ -إِذَا دَعَاهُ الدَّاعِي- يُحْيِي العِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ! وَهَذَا غُلُوٌّ قَبِيحٌ، وَشِرْكٌ بِاللهِ تَعَالَى؛ فَإِنَّ مِنْ آيَاتِهِ وَمُعْجِزَاتِهِ صلى الله عليه وسلم القُرْآنُ العَظِيمُ، وكَيفَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَقُولُ: إِنَّ القُرْآنَ لَا يُنَاسِبُ قَدْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

(1)

!! فَهُنَا قَدْ جَمَعَ المُؤَلِّفُ بَينَ فِرْيَتَينِ عَظِيمَتَينِ:

الأُولَى: أَنَّ آيَاتِهِ لَمْ تُنَاسِبْ قَدْرَهُ! وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ أَعْظَمَ آيَاتِهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ القُرْآنُ

(1)

وَلَكِنَّهُ -لِلأَسَفِ- مُسْتَقِيمٌ عَلَى مَذْهَبِ الأَشَاعِرَةِ؛ حَيثُ جَعَلُوا القُرْآنَ الكَرِيمَ -الَّذِي نَتْلُوهُ فِي صَلَاتِنَا- لَيسَ كَلَامَ اللهِ تَعَالَى حَقِيقَةً! لِأَنَّ كَلَامَ اللهِ تَعَالَى عِنْدَهُم هُوَ كَلَامُهُ القَائِمُ بِنَفْسِهِ -الَّذِي لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ-! بِخِلَافِ المَتْلُوِّ؛ وَعَلَيهِ فَلَا حَرَجَ في ذَلِكَ البَيتِ قَطُّ!!

وَانْظُرْ كَلَامَ البَاجُورِيِّ في شَرْحِ ذَلِكَ البَيتِ مِنَ البُرْدَةِ حَيثُ قَالَ فِي ذَلِكَ: "لِأَنَّ الوَاقِعَ أَنَّ قَدْرَهُ صلى الله عليه وسلم أَعْظَمُ مِنْ آيَاتِهِ -حَتَّى مِنَ القُرْآنِ المَتْلُوِّ- بِخِلَافِ القُرْآنِ غَيرِ المَتْلُوِّ، وَهُوَ المَعْنَى القَائِمِ بِذَاتِهِ تَعَالَى؛ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ مِنْهُ، لِأَنَّ القَدِيمَ أَفْضَلُ مِنَ الحَادِثِ، وَمَا شَاعَ عَلَى الأَلْسِنَةِ مِنْ أنَّ كُلَّ حَرْفٍ مِنَ القُرْآنِ أَفْضَلُ مِنْ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ! فَكَلَامٌ بَاطِلٌ. وَلَا يَصِحُّ حَمْلُهُ عَلَى القُرْآنِ القَدِيمِ؛ لِأَنَّهُ لَيسَ بِحَرْفٍ وَلَا صَوتٍ، خِلَافًا لِمَنْ زعَمَ ذَلِكَ". (شَرْحُ البَاجُورِيِّ عَلَى البُرْدَةِ) طَبْعَةُ دَارِ مَكْتَبَةِ الآدَابِ (ص 51).

قُلْتُ: وَقَصْدُهُ بِـ (القُرْآنِ القَدِيمِ) أَي: كَلَامُ اللهِ النَّفْسِيُّ؛ خِلَافًا لِمَا بَينَ أَيدِينَا فِي المُصْحَفِ المَتْلُوِّ.

قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (التِّبْيَانُ فِي آدَابِ حَمَلَةِ القُرْآنِ): (ص 164): "وَقَدْ أَجْمَعَ المُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ القُرْآنَ المَتْلُوَّ فِي الأَقْطَارِ؛ المَكْتُوبَ فِي الصُّحُفِ؛ الَّذِي بِأَيدِي المُسْلِمِينَ؛ مِمَّا جَمَعَتْهُ الدَّفَّتَانِ؛ مِنْ أَوَّلِ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ} إِلَى آخِرِ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}: كَلَامُ اللهِ وَوَحْيُهُ المُنَزَّلُ عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم".

فَتَأَمَّلْ بَيَانَهُ رحمه الله لِتِلْكَ الفِرْيَةِ حَيثُ وَضَّحَ المَطْلُوبَ فَقَالَ: (المَتْلُوَّ) خِلَافًا لِأَهْلِ الضَّلَالِ المُفَرِّقِينَ بَينَ المَتْلُوِّ وَبَينَ غَيرِ المَتْلُوِّ.

قَالَ ابْنُ الجَوزِيِّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (صَيدُ الخَاطِرِ)(ص 284): "وَكَذَلِكَ عَظَّمَ أَمْرَ القُرْآنِ وَنَهَى المُحْدِثَ أَنْ يَمَسَّ المُصْحَفَ؛ فَآلَ الأَمْرُ لِقَومٍ مِنَ المُتَكَلِّمِينَ إِلَى أَنْ أَجَازُوا الاسْتِنْجَاءَ بِهِ"! وَهَذَا مُتَوَقَّعٌ مِنْ جَرَّاءِ تِلْكَ الفَلْسَفَةِ الكُفْرِيَّةِ فِي التَّفْرِيقِ بَينَ القُرْآنِ المَتْلُوِّ وَغَيرِ المَتْلُوِّ!

ص: 569

الكَرِيمُ؛ فَهَذَا كُفْرٌ بِاللهِ تَعَالَى شَنِيعٌ، فَالقُرْآنُ كَلَامُ اللهِ تَعَالَى وَصِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ؛ بَلْ وَيُحْلَفُ بِهِ، لَا يُقَارَنُ بشَيءٍ مِنْ خَلْقِ اللهِ تَعَالَى؛ فكَيفَ إِذَا جُعِلَ أَدْنَى مِنْ مَقَامِ مَخْلُوقٍ! بَلْ قَدْ جَعَلَ النَّاظِمُ أَيضًا إِحْيَاءَ المَوتَى أَعْظَمَ مِنَ القُرْآنِ الكَرِيمِ.

وَقَدْ أَشَارَتِ السُّنَّةُ إِلَى أَنَّ آيَةَ إِنْزَالِ القُرْآنِ الكَرِيمِ أَعْظَمُ مِنْ آيَاتِ إِحْيَاءِ المَوتَى، حَيثُ أَنَّ الَّذِي أُوتِيَهُ سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم أَعْظَمُ مِنْ آيَةِ سَيِّدِنَا عِيسَى عليه الصلاة والسلام وَالَّتِي مِنْهَا إِحْيَاءُ المَوتَى بِإِذْنِ اللهِ، كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ المَرْفُوعِ المُتَّفَقِ عَلَيهِ:((مَا مِنَ الأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلَّا أُعْطِيَ مَا مِثْلَهُ آمَنَ عَلَيهِ البَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوحَاهُ اللهُ إِلَيَّ؛ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَومَ القِيَامَةِ))

(1)

.

الثَّانِيَةُ: أَنَّ المُنَاسَبَةَ بَينَ قَدْرِهِ عليه الصلاة والسلام وَآيَاتِهِ لَو تَمَّتْ؛ لَكَانَ دُعَاءُهُ يُحْيي المَيِّتَ، وَهَذَا كَذِبٌ وَشِرْكٌ بِالله تَعَالَى، فَمِنْ أَينَ لَهُ أَنَّ آيَاتِهِ لَمْ تُنَاسِبْ قَدْرَهُ؟! وَمِنْ أَينَ لَهُ أَنَّ دُعَائَهُ لَو نَاسَبَ قَدْرَهُ؛ فَإِنَّهُ يُحْيي المَيِّتَ؟! وَاللهُ تَعَالَى هُوَ وَحْدَهُ الَّذِي يُحْيي المَوتَى، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ عَنْ نَفْسِهِ:{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} [يُونُس: 31].

-‌

‌ قَولُهُ: (لَا طِيبَ يَعْدِلُ تُرْبًا ضَمَّ أَعْظُمَهُ

طُوبَى لِمُنْتَشِقٍ مِنْهُ وَمُلْتَثِمِ)

التَّعْلِيقُ: هَذَا البَيتُ جَمَعَ أَنْوَاعًا مِنَ المُخَالَفَاتِ، مِنْهَا:

أ- دَعْوَى أَنَّهُ لَا طِيبَ يَعْدِلُ تُرْبَةَ قَبْرِهِ صلى الله عليه وسلم، وَالصَّوَابُ هُوَ كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم:

(1)

البُخَارِيُّ (4981)، وَمُسْلِمٌ (152).

ص: 570

((أَحَبُّ البِلَادِ إِلَى اللهِ تَعَالَى مَسَاجِدُهَا))

(1)

، وَأَحَبُّ هَذِهِ المَسَاجِدِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم المَسْجِدُ الحَرَامُ.

ب- دَعْوَى نَيلِ الجَنَّةِ فِي قَولِهِ "طُوبَى" لِمَنْ قَبَّلَ تِلْكَ التُّرْبَةَ وَانْتَشَقَ مِنْ رِيحِهَا! هَذَا كَذِبٌ عَلَى الشَّرِيعَةِ؛ فَلَمْ يَجْعَلِ اللهُ تَعَالَى ذَلِكَ سَبَبًا لِدُخُولِ الجَنَّةِ، وَلَا نَقُولُ: إِنَّ ذَلِكَ عَلَامَةٌ عَلَى المَحَبَّةِ؛ فيَكُونَ سَبَبًا لِدُخُولِ الجَنَّةِ! لِأَنَّ المَحَبَّةَ وَحْدَهَا لَا تَكْفِي دُونَ العَمَلِ الصَّالِحِ عَلَى مَنْهَجِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ، وَدُونَ الإِخْلَاصِ فِي العِبَادَاتِ للهِ تَعَالَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكَهْف: 110].

ج- دَعْوَى جَوَازِ التَّمَسُّحِ بِالقَبْرِ الشَّرِيفِ!! هَذَا الشَّكْلُ مِنَ التَّبَرُّكِ لَمْ يَكُنْ مِنْ هَدْي الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم، عَدَا عَنْ مَا فِيهِ مِنَ الشِّرْكِ.

قَالَ المُنَاوِيُّ رحمه الله عِنْدَ حَدِيثِ: ((فَزُورُوا القُبُورَ؛ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمُ الآخِرَةَ)): "أَي: بِشَرْطِ أَنْ لَا يَقْتَرِنَ بِذَلِكَ تَمَسُّحٌ بِالقَبْرِ أَو تَقْبِيلٌ أَو سُجُودٌ عَلَيهِ أَو نَحْو ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ كَمَا قَالَ السُّبكْيُّ: بِدْعَةٌ مُنْكَرَةٌ؛ إِنَّمَا يَفْعَلُهَا الجُهَّالُ"

(2)

.

-‌

‌ قَولُهُ: (فَإِنَّ لِي ذِمَّةً مِنْهُ بتَسْمِيَتِي

مُحمَّدًا وَهُوَ أَوفَى الخَلْقِ بِالذِّمَمِ)

التَّعْلِيقُ: هَذَا كَذِبٌ عَلَى اللهِ تَعَالَى وَعَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم؛ فَلَيسَ بَينَهُ عليه الصلاة والسلام وَبَينَ من اسْمِهُ مُحَمَّدٌ ذِمَّةٌ إِلَّا بِالطَّاعَةِ؛ لَا بِمُجَرَّدِ الاشْتِرَاكِ فِي الاسْم!

(1)

رَوَاهُ مُسْلِمٌ (671) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا.

(2)

فَيضُ القَدِيرِ (5/ 55).

ص: 571

وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبٍ الأَسْلَمِيِّ؛ قَالَ: كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَتَيتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ، فَقَالَ لِي:((سَلْ)). فَقُلْتُ: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الجَنَّةِ، قَالَ:((أَوَ غَيرَ ذَلِكَ))؟! قُلْتُ: هُوَ ذَاكَ، قَالَ:((فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ))

(1)

.

وَلَعَلَّ مَا اشْتُهِرَ مِنَ الأَحَادِيثِ البَاطِلَةِ هُوَ سَبَبُ قَولِهِ ذَاكَ، كَمِثْل حَدِيثِ:((مَنْ وُلِدَ لَهُ مَولُودٌ؛ فَسَمَّاهُ مُحَمَّدًا -تَبَرُّكًا بِهِ- كَانَ هُوَ وَمَولُودُهُ فِي الجَنَّةِ)) وَهُوَ مَوضُوعٌ

(2)

.

-‌

‌ قَولُهُ: (مَا سَامَنِي الدَّهْرُ ضَيمًا وَاسْتَجَرْتُ بِهِ

إِلَّا وَنِلْتُ جِوَارًا مِنْهُ لَمْ يُضَمِ)

التَّعْلِيقُ: هَذَا البَيتُ فِيهِ اسْتِغَاثَةٌ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ مَوتِهِ، وَهُوَ مِنَ الشَّرْكِ؛ لِأَنَّهُ دُعَاءٌ لِلأَمْوَاتِ.

قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأَحْقَاف: 5 - 6].

وَفِي البَيتِ أَيضًا نِسْبَةُ الأَفْعَالِ (الضَّيمِ) إِلَى الدَّهْرِ، وَهَذَا لَيسَ مِنْ سُلُوكِ أَهْلِ الإِسْلَامِ، وَإِنَّمَا مِنْ سُلُوكِ أَهْلِ الإِلْحَادِ الدَّهْرِيِّينَ، قَالَ تَعَالَى عَنِ المُشْرِكِينَ:

(1)

مُسْلِمٌ (489).

(2)

اُنْظُرِ المَوضُوعَاتُ (1/ 157) لِابْنِ الجَوزِيِّ. وَاُنْظُرِ الضَّعِيفَةَ (171).

ص: 572

{وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [الجَاثِيَة: 24]

(1)

.

-‌

‌ قَولُهُ: (أَقْسَمْتُ بِالقَمَرِ المُنْشَقِّ: إِنَّ لَهُ

مِنْ قَلْبِهِ نِسْبَةً مَبْرُورَةَ القَسَمِ)

التَّعْلِيقُ: القَسَمُ بِغَيرِ اللهِ تَعَالَى شِرْكٌ، أَجْمَعَتِ الأُمَّةُ عَلَى عَدَمِ مَشْرُوعِيَّتِهِ، كَمَا فِي الحَدِيثِ:((مَنْ حَلَفَ بِغَيرِ اللهِ فَقَدْ كَفَرَ أَو أَشْرَكَ))

(2)

.

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ عَبْدُ البَّرِّ رحمه الله: "أَجْمَعَ العُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ اليَمِينَ بِغَيرِ اللهِ مَكْرُوهَةٌ مَنْهِيٌّ عَنْهَا، لَا يَجُوزُ الحَلِفَ بِهَا لِأَحَدٍ"

(3)

.

-‌

‌ قَولُهُ: (يَا أَكْرَمَ الرُّسُلِ

(4)

مَا لِي مَن أَلُوذُ بِهِ

سِوَاكَ عِنْدَ حُلُولِ الحَادِثِ العَمِمِ)

التَّعْلِيقُ: فِي هَذَا البَيتِ دُعَاءٌ لِغَيرِ اللهِ تَعَالَى، وَهَذَا شِرْكٌ بِاللهِ -وَإِنْ قُصِدَتْ بِهِ الشَّفَاعَةُ- لِأَنَّ طَلَبَ الشَّفَاعَةِ مِنَ الأَمْوَاتِ شِرْكٌ بِدَلِيلِ قَولِهِ تَعَالَى:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يُونُس: 18]،

(1)

قَالَ صَاحِبُ فَتْحِ المَجِيدِ رحمه الله (ص 425): "وَلَيسَ مِنْهُ وَصْفُ السِّنِينَ بالشِّدَّةِ وَنَحوِ ذَلكَ كَقَولِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ} [يُوسُف: 48] ".

وَقَدْ سَبَقَ الكَلَامُ فِي ذَلِكَ فِي بَابِ (مَنْ سَبَّ الدَّهْرَ فَقَدْ آذَى اللهَ).

(2)

صَحِيحٌ. التِّرْمِذِيُّ (1535) عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ (2952).

(3)

التَّمْهِيدُ (14/ 367).

(4)

وَبَعْضُهُم يَرْوِي البَيتَ بِلَفْظِ (الخَلْقِ) عِوَضًا عَنِ (الرُّسُلِ).

ص: 573

فَسَمَّى اللهُ تَعَالَى اتِّخَاذَ الشُّفَعَاءِ عِنْدَهُ شِرْكًا، وَقَدْ جَعَلَ اللهُ تَعَالَى لِلشَّفَاعَةِ شُرُوطًا مِنْهَا رِضَاهُ عَنِ المَشْفُوعِ، كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى:{يَعْلَمُ مَا بَينَ أَيدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأَنْبِيَاء: 28]، فَيَكُونَ مِنْ أَسْبَابِ هَذِهِ الشَّفَاعَةِ طَلَبُ الرِّضَى مِنَ اللهِ تَعَالَى.

وَأَيضًا فَاللهُ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلْ مِنْ أَسْبَابِ حُصُولِ هَذِهِ الشَّفَاعَةِ أَنْ تُطْلَبَ مِنْ غَيرِهِ تَعَالَى! بَلْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ شِرْكَ المُشْرِكِينَ الأَوَائِلَ كَانَ فِي طَلَبِ الشَّفَاعَةِ مِنَ الأَولِيَاءِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يُونُس: 18]، وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُ صلى الله عليه وسلم أَيضًا أَنَّ الدُّعَاءَ هُوَ العِبَادَةُ.

كَمَا فِي الحَدِيثِ: ((الدُّعَاءُ هُوَ العِبَادَةُ)) ثُمَّ قَرَأَ {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غَافِر: 60]

(1)

.

أَمَّا إِنْ كَانَ المَقْصُودُ بِذَلِكَ يَومَ القِيَامَةِ عِنْدَ مَوقِفِ الشَّفَاعَةِ الكُبْرَى لِنَبِيِّنَا عليه الصلاة والسلام فَيَصِحُّ ذَلِكَ؛ وَلَكِنْ بِقُيُودٍ؛ مِنْهَا:

أ- تَصْحِيحُ ذَلِكَ البَيتِ لِيَكُونَ المَقْصُودُ بِهِ يَومَ القِيَامَةِ، وَفِي الحَدِيثِ:((إِيَّاكَ وَكُلَّ أَمْرٍ يُعْتَذرُ مِنْهُ))

(2)

.

(1)

صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (18352) عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (3407).

(2)

صَحِيحٌ. الضِّيَاءُ المَقْدِسِيُّ فِي المُخْتَارَةِ (6/ 188) عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (354).

ص: 574

ب- نَفْيُ الحَصْرِ فِي قَولِهِ (مَا لِي مَنْ أَلُوذُ بِهِ سِوَاكَ) فَيُجْعَلُ فِيهِ التَّرْتِيبُ بِـ (اللهِ تَعَالَى) ثُمَّ (أَنْتَ).

ج- مَعْرِفَةُ أَنَّ شَفَاعَتَهُ صلى الله عليه وسلم لَهَا أَسْبَابٌ وَلَا تَنَالُ مَنْ يَدْعُو غَيرَ اللهِ تَعَالَى.

د- أَنَّ الشَّفَاعَةَ لَهَا شَرْطَان هُمَا: رِضَى اللهِ تَعَالَى عَنِ المَشْفُوعِ، وَإِذْنُهُ لِلشَّافِعِ فِي أَنْ يَشْفَعَ

(1)

.

هـ- أَنَّ ذَلِكَ بِهَذِهِ القُيُودِ يَصِحُّ لِكَونِهِ مِنْ بَابِ سُؤَالِ الحَيِّ الحَاضِرِ القَادِرِ؛ بِخِلَافِ مَنْ يَدْعُو النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام اليَومَ.

فَسُؤَالُ النَّاسِ لِلأَنْبِيَاءِ يَومَ القِيَامَةِ فِي مَوقِفِ الشَّفَاعَةِ الكُبْرَى صَحِيحٌ لِأَنَّهُم أَحْيَاءٌ حِينَهَا وَقَادِرُونَ عَلَى الإِجَابَةِ، أَمَّا الآنَ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا فَهُم أَمْوَاتٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزُّمَر: 30].

قَالَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله فِي سِيَاقِ الكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ الكُبْرَى: "وَلَيسَ فِيهِ جَوَازُ الاسْتِغَاثَةِ بِالأَمْوَاتِ -كَمَا يَتَوَهَّمُ كَثِيرٌ مِنَ المُبْتَدِعَةِ الأَمْوَاتِ-! بَلْ

(1)

فَشُرُوطُ الشَّفَاعَةِ:

أ- إِذْنُ اللهِ تَعَالَى لِلشَّافِعِ بِأَنْ يَشْفَعَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البَقَرَة: 255].

ب- رِضَاهُ عَنِ المَشْفُوعِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَينَ أَيدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأَنْبِيَاء: 26 - 28]، وَاللهُ تَعَالَى لَا يَرْضَى مِنَ العَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ خَالِصًا لَهُ؛ مُوَافِقًا لِشَرْعِهِ.

وَهَذَانِ النَّوعَانِ مَجْمُوعَانِ فِي قَولِهِ تَعَالَى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النَّجْم: 26].

ص: 575

هُوَ مِنْ بَابِ الاسْتِغَاثَةِ بِالحَيِّ فِيمَا يَقْدِرُ عَلَيهِ"

(1)

.

وَفِي مَجْمُوعِ الفَتَاوَى ذَكَرَ شَيخُ الإِسْلَامِ رحمه الله أَنْوَاعَ التَّوَسُّلِ، وَذَكَرَ فِي النَّوعِ الثَّانِي مَا نَصُّهُ:"التَّوَسُّلُ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ، وَهَذَا كَانَ فِي حَيَاتِهِ، وَيَكُونُ يَومَ القِيَامَةِ؛ يَتَوَسَّلُونَ بِشَفَاعَتِهِ"

(2)

.

وَفِي الحَدِيثِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ؛ قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَشْفَعَ لِي يَومَ القِيَامَةِ، فَقَالَ:((أَنَا فَاعِلٌ))، قَالَ: قُلْتْ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ فَأَينَ أَطْلُبُكَ؟ قَالَ: ((اُطْلُبْنِي -أَوَّلَ مَا تَطْلُبُنِي- عَلَى الصِّرَاطِ))، قَالَ: قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَلْقَكَ عَلَى الصِّرَاطِ؟ قَالَ: ((فَاطْلُبْنِي عِنْدَ المِيزَانِ))، قَالَ: قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَلْقَكَ عِنْد المِيزَانِ؟ قَالَ: ((فَاطْلُبْنِي عِنْدَ الحَوضِ؛ فَإِنِّي لَا أُخْطِئُ هَذِهِ الثَّلَاثَ المَوَاطِنِ))

(3)

(4)

.

-‌

‌ قَولُهُ: (وَلَنْ يَضِيقَ -رَسُولَ اللهِ- جَاهُكَ بِي

إِذَا الكَرِيمُ تَحلَّى بِاسمِ مُنتَقِمِ)

التَّعْلِيقُ: فِي هَذَا البَيتِ غُلُوٌّ فِيهِ عليه الصلاة والسلام، وَأَيضًا تَنَقُّصٌ لِرُبُوبِيَّةِ اللهِ تَعَالَى، وَالرَّدُّ عَلَيهِ هُوَ مِنْ جَوَانِبَ عِدَّةٍ:

أ- أَنَّ اللهُ تَعَالَى قَالَ لِلنَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام: {لَيسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيءٌ} فَبَطَلَ بِذَلِكَ

(1)

الصَّحِيحَةُ (5/ 459).

(2)

مَجْمُوعُ الفَتَاوَى (1/ 202).

(3)

صَحِيحٌ. التِّرْمِذِيُّ (2433). الصَّحِيحَةُ (2630).

(4)

وَمِنْ بَابِ إِبْطَالِ حُجَّتِهِم بِلَازِمِهَا؛ أَنَّهُم يُجَوِّزُونَ بِهَذَا: الاسْتِشْفَاعَ بِغَيرِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام! وَهَذَا قَدْ مُنِعَ مِنْهُ أَشْرَفُ النَّاسِ بَعْدَ النَّبِيِّ فِي ذَلِكَ المَوقِفِ وَهُمُ الأَنْبِيَاءُ؛ فَفِي هَذَا إِبْطَالُ احْتِجَاجِهِم بِهِ عَلَى جَوَازِ الاسْتِغَاثَةِ بِالأَولِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ -بَلْ وَالأَنْبِيَاءِ عُمُومًا- إِذْ قَدْ مُنِعَ مِنْهُ غَيرُهُ صلى الله عليه وسلم! وَالحَمْدُ للهِ عَلَى تَوفِيقِهِ

ص: 576

التَّعَلُّقُ بِهِ صلى الله عليه وسلم فِي جَلْبِ النَّفْعِ وَدَفْعِ الضُّرِّ، وَهُوَ أَيضًا مِصْدَاقُ قَولِهِ تَعَالَى:{قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الغَيبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأَعْرَاف: 188].

وَأَيضًا فِي قَولِهِ صلى الله عليه وسلم لِابْنَتِهِ فَاطْمَةَ رضي الله عنها: ((سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي؛ لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيئًا))

(1)

بَيَانُ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ النَّفْعَ لِغَيرِهِ -وَهِيَ رضي الله عنها مِنْ أَقْرَبِ النَّاسِ إِلَيهِ- فكَيفَ بِغَيرِهَا؟!

ب- أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ أَنَّ يَومَ القِيَامَةِ لَا يَمْلِكُ أَحَدٌ لِأَحَدٍ شَيئًا، قَالَ تَعَالَى:{يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانْفِطَار: 19]، وَتَأَمَّلْ كَونَ النَّفْسِ فِي الآيَةِ جَاءَتْ نَكِرَةً فِي حَقِّ الشَّافِعِ والمَشْفُوعِ وَجِهَةِ الشَّفَاعَةِ؛ الأَمْرَ الَّذِي يَعْنِي أَنَّهُ أَيًّا كَانَ الشَّافِعُ، وَأَيًّا كَانَ المَشْفُوعُ فِيهِ، وَأَيًّا كَانَ وَجْهُ الشَّفَاعَةِ؛ فَلَا يَمْلِكُ أَحَدٌ لِأَحَدٍ شَيئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَى، وَعَلَيهِ فَيَجِبُ التَّعَلُّقُ بِاللهِ تَعَالَى لِتَحْصِيلِ المَطْلُوبِ.

جـ- زَعْمُ النَّاظِمِ أَنَّ جَاهَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَنْفَعُ (إِذَا الكَرِيمُ تَحلَّى بِاسمِ مُنتَقِمِ)! مَرْدُودٌ، وَذَلِكَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى إِذَا تَحَلَّى -كَمَا زَعَمَ النَّاظِمُ- بِاسْمِ مُنْتَقِمٍ؛ فَإِنَّهُ تَعَالَى لَا يَقُومُ لِغَضَبِهِ شَيءٌ؛ إِلَّا مَا أَذِنَ بِهِ مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ مَقْبُولٍ

(2)

؛ أَو شَفَاعَةٍ مَقْبُولَةٍ مَأْذُونٍ فِيهَا

(3)

، وَأَمَّا عَلَى سَبِيلِ هَذَا الإِطْلَاقِ وَبِمَعْنَى المُقَابَلَةِ! فَلَيسَ بِصَحِيحٍ، قَالَ تَعَالَى:{أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيهِ كَلِمَةُ العَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} [الزُّمَر: 19].

(1)

البُخَارِيُّ (4771)، وَمُسْلِمٌ (206) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا.

(2)

كَمَا فِي الحَدِيثِ: ((صَدَقَةُ السِّرِّ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ)). صَحِيحٌ. البَيهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ (3168) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (1908).

(3)

كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى: {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} [طَه: 109].

ص: 577

-‌

‌ قَولُهُ: (فَإِنَّ مِنْ جُودِكَ الدُّنْيَا وَضَرَّتها

وَمِنْ عُلُومِكَ عِلْمَ اللَّوحِ وَالقَلَمِ)

التَّعْلِيقُ: هَذَا البَيتُ فِيهِ غُلُوٌّ شَدِيدٌ، وَلَا سِيَّمَا مَعَ (مِنْ) التَّبْعِيضِيَّةِ هَذِهِ، بَلْ كُفْرٌ بِالرُّبُوبِيَّةِ، وَذَلِكَ مِنْ أَوجُهٍ:

أ- أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلْ رِزْقَ العِبَادِ فِي أَيدِي النَّاسِ اسْتِقْلَالًا! وَلَمْ يَجْعَلْ طَلَبَ الرِّزْقِ إِلَّا مِنْهُ تَعَالَى حَصْرًا! قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيهِ تُرْجَعُونَ} [العَنْكَبُوت: 17].

فَالمِلْكُ وَالمَالُ كُلُّهُ للهِ يُورِثُهُ مَنْ يَشَاءُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النُّور: 33]، وَكَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى:{آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} [الحَدِيد: 7].

ب- أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ مِلْكٌ لَهُ وَحْدَهُ سُبْحَانَهُ كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالأُولَى} [اللَّيل: 13]،

وَكَقَولِهِ تَعَالَى أَيضًا: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الغَيبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} [الأَنْعَام: 50]، فَظَهَرَ بِذَلِكَ كَذِبُ قَولِهِ:(فَإِنَّ مِنْ جُودِكَ الدُّنْيَا وَضَرَّتَهَا).

ج- أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَفْسَهُ قَدْ بَيَّنَ أَنَّهُ لَا يُعْطِي وَلَا يَمْنَعُ مِنْ عِنْدَ نَفْسِهِ، كَمَا فِي الحَدِيثِ:((مَا أُعْطِيكُمْ وَلَا أَمْنَعُكُمْ؛ إِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ أَضَعُ حَيثُ أُمِرْتُ))

(1)

، فَبَطَلَ بِذَلِكَ

(1)

رَوَاهُ البُخَارِيُّ (3117) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا.

ص: 578

التَّعَلُّقُ بِهِ صَلَوَاتُ اللهِ تَعَالَى وَسَلَامُهُ عَلَيهِ مِنْ جِهَةِ الأَسْبَابِ أَيضًا.

د- مَنْ زَعَمَ أَنَّ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ خُلِقَتَا لِأَجْلِهِ صلى الله عليه وسلم! وَهُوَ يَجُودُ بِهَا عَلَى مَنْ أَرَادَ! فَهَذَا بَاطِلٌ أَيضًا، وَفِيهِ حَدِيثٌ مَوضُوعٌ

(1)

، فَاللهُ سبحانه وتعالى قَدْ أَعْلَمَنَا بِالحِكْمَةِ مِنْ خَلْقِهِمَا كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ} [البَقَرَة: 29]،

وَقَالَ تَعَالَى أَيضًا: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هُود: 7].

هـ- وَأَمَّا دَعْوَى أَنَّ مِنْ عِلْمِهِ عليه الصلاة والسلام عِلْمُ اللَّوحِ المَحْفُوظِ! فَهُوَ كَذِبٌ عَلَى الشَّرِيعَةِ، فَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ عَنْ نَبِيِّهِ:{وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الغَيبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيرِ} [الأَعْرَاف: 188].

تَمَّ إِلَى هُنَا التَّعْلِيقُ عَلَى نُبْذَةٍ مِنْ أَبْيَاتِ البُوصِيرِي بِمَا يُحَقِّقُ المَطْلُوبَ، وَالحَمْدُ للهِ عَلَى تَوفِيقِهِ.

(1)

وَالحَدِيثُ المَشْهُورُ لَفْظًا: ((يَا مُحَمَّدُ، لَولَاكَ مَا خَلَقْتُ الدُّنْيَا)) فَهوَ مَوضُوعٌ. كَمَا فِي تَلْخِيصِ كِتَابِ المَوضُوعَاتِ (ص 86) لِلحَافِظِ الذَّهَبِيِّ؛ وَفِيهِ أَيضًا: "وَقَالَ ابْنُ الجَوزِيِّ: مَوضُوعٌ بِلَا شَكٍّ، وَيَحْيَى البَصْرِيُّ تَالِفٌ كَذَّابٌ، وَالسَّنَدُ فِيهِ ظُلْمَةٌ".

ص: 579

‌المُلْحَقُ الثَّالِثَ عَشَرَ: ردُّ شُبُهَاتِ المُشْرِكِينَ

‌مُقَدِّمَةٌ:

الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

أَمَّا بَعْدُ؛ فَهَذِهِ أَجْوِبَةٌ قَدَّرُ اللهُ تَعَالَى لِي أَنْ أَجْمَعَهَا فِي بَيَانِ الرَّدِّ عَلَى بَعْضِ الشُّبُهَاتِ فِي مَسَائِلِ عِلْمِ التَّوحِيدِ مِمَّا تَدْعُو الضَّرُورَةُ إِلَى مَعْرِفَتِهِ تَتْمِيمًا لِفَوَائِدِ هَذَا الكِتَابِ المُبَارَكِ إِنْ شَاءُ اللهُ تَعَالَى

(1)

.

-‌

‌ الشُّبْهَةُ الأُولَى: إِنَّ قَولَ صَاحِبِ البُرْدَةِ (وَمِنْ عُلُومِكَ عِلْمَ اللَّوحِ وَالقَلَمِ) لَيسَ فِيهِ مَحْظُورٌ! لِأَنَّ اللَّوحَ غَيرُ أُمِّ الكِتَابِ،

وَهَذَا الأَخِيرُ هُوَ الَّذِي فِيهِ الخَمْسُ الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللهُ؛ الَّتِي فِي قَولِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الغَيثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لُقْمَان: 34]، وَأَمَّا اللَّوحُ فَشَيءٌ آخَرُ، وَعَلَيهِ فَلَا مَانِعَ مِنْ

(1)

أُصُولُ مَادَّةِ هَذَا الرَّدِّ مُسْتَفَادَةٌ مِنْ رِسَالَةِ (تَأْسِيسُ التَّقْدِيسِ فِي كَشْفِ تَلْبِيسِ دَاوُدَ بْنِ جَرْجِيس) لِلشَّيخِ عَبْدِ اللهِ أَبَا بطين تِلْمِيذِ الشَّيخِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الوَّهَّابِ رَحِمَهُمُ اللهُ تَعَالَى.

وَفِي هَذَا المُلْحَقِ اشْتِرَاكٌ فِي بَعْضِ جَوَانِبِ الرَّدِّ مَعَ المُلْحَقِ السَّابِقِ (مُخْتَصَرٌ فِي الرَّدِّ عَلَى أَبْيَاتٍ مِنَ البُرْدَةِ لِلبُوصِيرِيِّ)، وَلَكِنَّهُ أَوسَعُ مِنْ جِهَةِ الشُّبُهَاتِ وَمِنْ جِهَةِ الجَوَابِ.

ص: 580

كَونِهِ شَيئًا مِنْ عِلْمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم!

الجَوَابُ:

إِنَّ هَذِهِ فِرْيَةٌ لَا دَلِيلَ عَلَيهَا، لِأَنَّ اللَّوحَ المَحْفُوظَ هُوَ نَفْسُهُ أُمُّ الكِتَابِ.

وَتَأَمَّلْ قَولَهُ تَعَالَى فِي سِيَاقِ الكَلَامِ عَنِ القُرْآنِ الكَرِيمِ، قَالَ تَعَالَى:{إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الزُّخْرُف: 3، 4]، وَقَالَ عَنِ اللَّوحِ:{بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البُرُوج: 21، 22] فَأَخْبَرَ عَنِ القُرْآنِ فِي الأَوَّلِ أَنَّهُ فِي أُمِّ الكِتَابِ وَأَخْبَرَ فِي الثَّانِي أَنَّهُ فِي لَوحٍ. وَالحَمْدُ للهِ عَلَى تَوفِيقِهِ.

قَالَ البَيضَاوِيُّ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ: " {وَعِنْدَهُ أُمُّ الكِتَابِ} أَصْلُ الكُتُبِ وَهُوَ اللَّوحُ المَحْفُوظُ؛ إِذْ مَا مِنْ كَائِنٍ إِلَّا وَهُوَ مَكْتُوبٌ فِيهِ"

(1)

، وَبِمِثْلِهِ قَالَ النَّسَفِيُّ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ

(2)

.

(1)

تَفْسِيرُ البَيضَاوِيِّ (3/ 190).

وَقَالَ أَيضًا فِي قَولِهِ سُبْحَانَهُ: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الكِتَابِ} : "فِي اللَّوحِ المَحْفُوظِ؛ فَإِنَّهُ أَصْلُ الكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ". تَفْسِيرُ البَيضَاوِيِّ (5/ 86).

(2)

تَفْسِيرُ النَّسَفِيِّ (2/ 158).

ص: 581

-‌

‌ الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ: قَولُ صَاحِبِ البُرْدَةِ فِي هَمْزِيَّتِهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: (وَلَيسَ يَخْفَى عَلَيكَ فِي القَلْبِ دَاءٌ) لَيسَ فِيهِ مَحْظُورٌ!

لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى أَعْطَى لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم عِلْمَ مَعْرِفَةِ القُلُوبِ!!

الجَوَابُ:

1 -

إِنَّ هَذَا كَذِبٌ عَلَى اللهِ تَعَالَى، وَكَذِبٌ عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم؛ فَإِنَّ هَذَا هُوَ مِمَّا اخْتَصَّ بِهِ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ، فَقَالَ عَنْ نَفْسِهِ:{يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طَهَ: 7].

وَقَالَ أَيضًا سُبْحَانَهُ: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} [البَقَرَة: 235].

وَقَالَ أَيضًا سُبْحَانَهُ: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} [التَّوبَة: 101]

(1)

.

وَقَالَ أَيضًا سُبْحَانَهُ: {وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأَنْفَال: 60].

وَفِي الحَدِيثِ: ((إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ الحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ؛ فَمَنْ قَضَيتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ شَيئًا بِقَولِهِ؛ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ فَلَا يَأْخُذْهَا))

(2)

،

(1)

قَالَ السَّعْدِيُّ رحمه الله في التَّفْسِيرِ (ص 350): " {مَرَدُوا} أَي: تَمَرَّنُوا عَلَيهِ، وَاسْتَمَرُّوا وَازْدَادُوا فِيهِ طُغْيَانًا".

(2)

رَوَاهُ البُخَارِيُّ (2680) عَنْ أمِّ سَلَمَةَ مَرْفُوعًا.

قَالَ القَاضِي عِيَاضٌ رحمه الله: "وَيُجْرِي أَحْكَامَهُ صلى الله عليه وسلم عَلَى الظَّاهِرِ وَمُوجِبِ غَلَبَاتِ الظَّنِّ؛ بِشَهَادَةِ الشَّاهِدَينِ، وَيَمِينِ الحَالِفِ، وَمُرَاعَاةِ الأَشْبَهِ، وَمَعْرِفَةِ العِفَاصِ [الوِعَاءُ] وَالوِكَاءِ [مَا يُرْبَطُ بِهِ] مَعَ مُقْتَضَى حِكْمَةِ اللهِ فِي ذَلِكَ.

=

ص: 582

فَفِيهِ عَدَمُ مَعْرِفَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمَا فِي القُلُوبِ مِنْ حَقٍّ أَوْ بَاطِلٍ.

وَفِي الحَدِيثِ أَيضًا: ((أَلَا إِنَّهُ يُجَاءُ بِرِجَالٍ مِنْ أُمَّتِي فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ؛ فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أَصْحَابِي! فَيُقَالُ: لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ))

(1)

.

وَكَمَا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها فِي رَدِّهَا عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ؛ حَيثُ قَالَتْ رضي الله عنها: (وَمَنْ حَدَّثَكَ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ؛ فَقَدْ كَذَبَ، ثُمَّ قَرَأَتْ: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا}، وَمَنْ حَدَّثَكَ أَنَّهُ كَتَمَ؛ فَقَدْ كَذَبَ، ثُمَّ قَرَأَتْ: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيكَ مِنْ رَبِّكَ})

(2)

.

2 -

أَمَّا مَا يُخْبِرُ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أُمُورِ المُغَيَّبَاتِ؛ فَهُوَ بِإِطْلَاعِ اللهِ تَعَالَى لَهُ عَلَيهِ وَلَيسَ اسْتِقْلَالًا!

قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [الرَّعْد: 38].

وَلِذَلِكَ أَثْبَتَ اللهُ تَعَالَى الإِظْهَارَ مِنْهُ إِلَى نَبِيِّهِ، وَنَفَى عَنْهُ العِلْمَ.

=

فَإِنَّهُ تَعَالَى -لَو شَاءَ- لَأَطْلَعَهُ عَلَى سَرَائِرِ عِبَادِهِ وَمُخَبَّئَاتِ ضَمَائِرِ أُمَّتِهِ؛ فَتَوَلَّى الحُكْمَ بَينَهُمْ بِمُجَرَّدِ يَقِينِهِ وَعِلْمِهِ دُونَ حَاجَةٍ إِلَى اعْتِرَافٍ أَو بَيِّنَةٍ أَو يَمِينٍ أَو شُبْهَةٍ! وَلَكِنْ لَمَّا أَمَرَ اللهُ أُمَّتَهُ بِاتِّبَاعِهِ وَالِاقْتِدَاءِ بِهِ فِي أَفْعَالِهِ وَأَحْوَالِهِ وَقَضَايَاهُ وَسِيَرِهِ، وَكَانَ هَذَا -لَو كَانَ- مِمَّا يُخَصُّ بِعِلْمِهِ وَيُؤْثِرُهُ اللهُ بِهِ؛ لَمْ يَكُنْ لِلْأُمَّةِ سَبِيلٌ إِلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِ فِي شَيءٍ مِنْ ذَلِكَ! وَلَا قَامَتْ حُجَّةٌ بِقَضِيَّةٍ مِنْ قَضَايَاهُ لِأَحَدٍ فِي شَرِيعَتِهِ؛ لِأَنَّا لَا نَعْلَمُ مَا أُطْلِعَ عَلَيهِ هُوَ فِي تِلْكَ القَضِيَّةِ بِحُكْمِهِ هُوَ إِذْنٌ فِي ذَلِكَ بِالمَكْنُونِ مِنْ إِعْلَامِ اللهِ لَهُ بِمَا أَطْلَعَهُ عَلَيهِ مِنْ سَرَائِرِهِمْ، وَهَذَا مَا لَا تَعْلَمُهُ الأُمَّةُ! فَأَجْرَى اللهُ تَعَالَى أَحْكَامَهُ عَلَى ظَوَاهِرِهِمُ الَّتِي يَسْتَوِي فِي ذَلِكَ هُوَ وَغَيرُهُ مِنَ البَشَرِ لِيَتِمَّ اقْتِدَاءُ أُمَّتِهِ بِهِ فِي تَعْيِينِ قَضَايَاهُ وَتَنْزِيلِ أَحْكَامِهِ". الشِّفَا بِتَعْرِيفِ حُقُوقِ المُصْطَفَى (2/ 241).

(1)

رَوَاهُ البُخَارِيُّ (4740) عَنِ ابْنِ عبَّاسٍ مَرْفُوعًا.

(2)

البُخَارِيُّ (4855)، وَمُسْلِمٌ (177).

ص: 583

(1)

قَالَ أَبُو حَيَّانَ الأَنْدَلُسِيُّ رحمه الله: "فَاطِّلَاعُ الرَّسُولِ عَلَى الغَيبِ هُوَ بِإِطْلَاعِ اللهِ تَعَالَى بِوَحْيٍ إِلَيهِ، فَيُخْبَرُ بِأَنَّ فِي الغَيبِ كَذَا مِنْ نِفَاقِ هَذَا وَإِخْلَاصِ هَذَا؛ فَهُوَ عَالِمٌ بِذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الوَحِي لَا مِنْ جِهَةِ اطِّلَاعِهِ نَفْسِهِ مِنْ غَيرِ وَاسِطَةِ وَحْيٍ عَلَى المُغَيَّبَاتِ"! البَحْرُ المُحِيطُ (3/ 132).

ص: 584

-‌

‌ الشُّبْهَةُ الثَّالِثَةُ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَعْلَمُ الغَيبَ! وَالمَلَائِكَةُ أَيضًا! فَعِلْمُ الغَيبِ لَيسَ مَحْصُورًا بِاللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ!

حَتَّى الخَمْسَ المَذْكُورَةَ فِي قَولِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الغَيثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لُقْمَان: 34]!

وَهَاكَ أَمْثِلَةً مِنَ النُّصُوصِ عَلَى ذَلِكَ:

قَولُهُ سبحانه وتعالى: {عَالِمُ الغَيبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجِنّ: 26 - 27].

وَقَولُهُ سُبْحَانَهُ أَيضًا: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغَيبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ} [آلِ عِمْرَان: 179].

وَقَدْ أَشَارَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى مَصَارِعِ القَتْلَى يَومَ بَدْرٍ، وَكُلٌّ مِنْهُم صُرِعَ فِي ذَلِكَ المَكَانِ؛ فَقَدْ عَلِمَ أَنَّ هَذِهِ الأَنْفُسَ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ وَهِيَ مِنَ الخَمْسِ!

وَقَولُ اللهِ تَعَالَى عَنِ المَسِيحِ عليه السلام: {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} [آلِ عِمْرَان: 49] وَهِيَ أَيضًا مِنَ الخَمْسِ!

وَقَولُهُ تَعَالَى لِلمَلَكِ الَّذِي يَكْتُبُ عَلَى النُّطْفَةِ رِزْقَهَا وَأَجَلَهَا وَعَمَلَهَا وَشَقِيٌّ صَاحِبُهَا أَمْ سَعِيدٌ؛ فَهُوَ عَلِمَ الغَيبِ، وَهَذِهِ أَيضًا مِنَ الخَمْسِ!

وَقَولُهُ عليه الصلاة والسلام فِي حَدِيثِ اخْتِصَامِ المَلَأِ الأَعْلَى: ((فَعَلِمْتُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ))

(1)

فَيَشْمَلُ عِلْمَ السَّاعَةِ وَغَيرِهَا!

(1)

حَسَنٌ. التِّرْمِذِيُّ (3234) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ التِّرْمِذِيِّ (3234).

=

ص: 585

وَحَدِيثُ حُذَيفَةَ؛ وَفِيهِ: (قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَقَامًا مَا تَرَكَ شَيئًا يَكُونُ فِي مَقَامِهِ ذَلِكَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ إِلَّا حَدَّثَ بِهِ)

(1)

.

وَحَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ؛ وَفِيهِ: (تَرَكَنَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَمَا طَائِرٌ يُقَلِّبُ جَنَاحَيهِ فِي الهَوَاءِ إِلَّا وَهُوَ يُذَكِّرُنَا مِنْهُ عِلْمًا)

(2)

.

الجَوَابُ مِنْ عِدَّةِ جِهَاتٍ:

1 -

لَيسَ في ذَلِكَ حُجَّةٌ لِذَلِكَ! بَلْ فِيهِ حُجَّةٌ عَلَى ذَلِكَ، فَمَعْنَى الآيَتَينِ عِنْدَ أَهْلِ التَّفْسِيرِ أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ يُطْلِعُ رُسُلَهُ عَلَى مَا يَشَاءُ مِنَ الغَيبِ آيَةً لَهُم وَمُعْجِزَةً، وَهَذَا يَشْمَلُ مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ، وَحَتَّى مَا ذُكِرَ عَنْ عِيسَى عليه الصلاة والسلام، وَيَشْمَلُ أَيضًا المَلَائِكَةَ

=

وَتَمَامُهُ: ((أَتَانِي رَبِّي فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، قُلْتُ: لَبَّيكَ رَبِّي وَسَعْدَيكَ، قَالَ: فِيمَ يَخْتَصِمُ المَلَأُ الأَعْلَى؟ قُلْتُ: رَبِّ لَا أَدْرِي، فَوَضَعَ يَدَهُ بَينَ كَتِفَيَّ فَوَجَدْتُ بَرْدَهَا بَينَ ثَدْيَيَّ فَعَلِمْتُ مَا بَينَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ. فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، فَقُلْتُ: لَبَّيكَ وَسَعْدَيكَ، قَالَ: فِيمَ يَخْتَصِمُ المَلَأُ الأَعْلَى؟ قُلْتُ: فِي الدَّرَجَاتِ، وَالكَفَّارَاتِ، وَفِي نَقْلِ الأَقْدَامِ إِلَى الجَمَاعَاتِ، وَإِسْبَاغِ الوُضُوءِ فِي المَكْرُوهَاتِ، وَانْتِظَارِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَمَنْ يُحَافِظْ عَلَيهِنَّ عَاشَ بِخَيرٍ وَمَاتَ بِخَيرٍ، وَكَانَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَومِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ)).

وَبِنَحْوِهِ أَيضًا فِي التِّرْمِذِيِّ (3235) مِنْ حَدِيثِ مُعَاذٍ، قَالَ عَنْهُ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ رحمه الله:"هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، سَأَلْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ [البُخَارِيَّ] عَنْ هَذَا الحَدِيثِ، فَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ".

(1)

البُخَارِيُّ (6604)، وَمُسْلِمٌ (2891) عَنْ حُذَيفَةَ مَرْفُوعًا.

وَهُوَ بِتَمَامِهِ في مُسْلِمٍ عَنْ حُذَيفَةَ قَالَ: (قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَقَامًا مَا تَرَكَ شَيئًا يَكُونُ فِي مَقَامِهِ ذَلِكَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ إِلَّا حَدَّثَ بِهِ -حَفِظَهُ مَنْ حَفِظَهُ، وَنَسِيَهُ مَنْ نَسِيَهُ-، قَدْ عَلِمَهُ أَصْحَابِي هَؤُلَاءِ، وَإِنَّهُ لَيَكُونُ مِنْهُ الشَّيءُ قَدْ نَسِيتُهُ فَأَرَاهُ فَأَذْكُرُهُ كَمَا يَذْكُرُ الرَّجُلُ وَجْهَ الرَّجُلِ إِذَا غَابَ عَنْهُ ثُمَّ إِذَا رَآهُ عَرَفَهُ).

(2)

صَحِيحٌ. الطَّبَرَانِيُّ فِي المُعْجَمِ الكَبِيرِ (2/ 155). الصَّحِيحَةُ (1803).

ص: 586

فَهُم رُسُلُ اللهِ تَعَالَى أَيضًا.

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله: "وَقَولُهُ: {عَالِمُ الغَيبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} هَذِهِ كَقَولِهِ تَعَالَى: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البَقَرَةِ: 255] وَهَكَذَا قَالَ هَاهُنَا: إِنَّهُ يَعْلَمُ الغَيبَ وَالشَّهَادَةَ، وَإِنَّهُ لَا يَطَّلِعُ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ عَلَى شَيءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا مِمَّا أَطْلَعَهُ تَعَالَى عَلَيهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} وَهَذَا يَعُمُّ الرَّسُولَ المَلَكِيَّ وَالبَشَرِيَّ"

(1)

.

وَأَمَّا عِلْمُ المَلَكِ وَكِتَابَتُهُ فِي الرَّحِمِ عَنِ النُّطْفَةِ فِي رِزْقِهَا وَأَجَلِهَا وَعَمَلِهَا وَالشِّقَاوَةِ وَالسَّعَادَةِ؛ فَهُوَ أَيضًا مِنْ تَعْلِيمِ اللهِ تَعَالَى لَهُ.

وَأَمَّا عِلْمُهُ بِكَونِهِ ذَكَرًا أَو أُنْثَى مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ عَلِمَ مَا فِي الأَرْحَامِ؛ وَأَنَّ اللهَ تَعَالَى خَصَّ نَفْسَهُ سُبْحَانَهُ بِعِلْمِ خَمْسَةٍ مِنْ عِلْمِ الغَيبِ وَمِنْهَا {وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ} [لُقْمَان: 34] فَهُوَ كَمَا قَالَ طَائِفَةٌ مِنَ المُحَقِّقِينَ أَنَّهُ بَعْدَ الاثْنَتَينِ وَالأَرْبَعِينَ -وُفْقًا لِحَدِيثٍ فِي كِتَابَةِ ذَلِكَ عَنْ حُذَيفَةَ بْنِ أَسِيدٍ مَرْفُوعًا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ- فَإِنَّهُ يَخْرُجُ عِلْمُ نَوعِ الجَنِينِ مِنْ كَونِهِ ذَكَرًا أَو أُنْثَى عَنِ اخْتِصَاصِ اللهِ تَعَالَى بِهِ، وَعَلَيهِ فَلَا يَكُونُ غَيبًا مُطْلَقًا!

وَمِثْلُهُ مَعْرِفَةُ الأَطِبَّاءِ -غَالِبًا- بِمَا فِي الرَّحِمِ بَعْدَ أَشْهُرٍ مِنْ تَكْوِينِهِ؛ فَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ اللهَ مَكَّنَهُم مِنْ ذَلِكَ، وَلَيسَ مَحْضَ عِلْمٍ بِالغَيبِ مِنْهُم!

وَقَدْ نَقَلَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ رحمه الله عَنِ القُرْطُبِيِّ رحمه الله "أَنَّ هَذِهِ الخَمْسَ لَا سَبِيلَ لِمَخْلُوقٍ عَلَى عِلْمٍ بِهَا قَاطِعٍ، وَأَمَّا الظَّنُّ بِشَيءٍ مِنْهَا بِأَمَارَةٍ قَدْ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ؛ فَلَيسَ

(1)

تَفْسِيرُ ابْنِ كَثِيرٍ (8/ 247).

ص: 587

ذَلِكَ بِمُمْتَنِعٍ، وَلَا نَفْيُهُ مُرَادٌ مِنْ هَذِهِ النُّصُوصِ"

(1)

.

2 -

كَونُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أُطْلِعَ عَلَى شَيءٍ مِنَ الغَيبِ لَا يَعْنِي أَنَّهُ يَعْلَمُهُ بِنَفْسِهِ عِلْمًا ذَاتِيًا -كَمَا يَزْعُمُ بَعْضُهُم-! وَقَدْ سَبَقَ فِي رَدِّ الشُّبُهَاتِ السَّابِقَةِ بَيَانُ أَمْثِلَةٍ مِنْ ذَلِكَ كَحَدِيثِ: ((إِنَّكُم تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ))، وَحَدِيثِ:((مَتَى السَّاعَةُ))

(2)

، وَكَحَدِيثِ:((إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ))، وَ

3 -

هَذِهِ الأَشْيَاءُ الَّتِي أُطْلِعَ عَلَيهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هِيَ مِنْ بَابِ إِظْهَارِ الآيَاتِ عَلَى صِدْقِهِ وَعَلَى تَأْيِيدِ رَبِّهِ لَهُ، وَلَا يَمْلِكُ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَأْتِيَ بِهَا اسْتِقْلَالًا

(3)

! بَلْ هِيَ مَقْرُونَةٌ بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَى، وَلَهُ الحِكْمَةُ البَالِغَةُ فِي اطْلَاعِهِ عَلَيهَا مَتَى شَاءَ وَأَينَمَا شَاءَ، قَالَ تَعَالَى:{وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [الرَّعْد: 38].

وَقَالَ تَعَالَى أَيضًا {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ} [إِبْرَاهِيم: 11].

4 -

أَمَّا بِخُصُوصِ حَدِيثِ الاخْتِصَامِ؛ فَمَعْنَاهُ أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ كَشَفَ لَهُ عَنِ الأَعْيَانِ المَوجُودَةِ إِذْ ذَاكَ

(4)

، فَلَيسَ فِيهِ مَعْنَى كَشْفِ وَقْتِ السَّاعَةِ! وَلَا عِلْمَ مَا

(1)

فَتْحُ البَارِي لِابْنِ رَجَبٍ (1/ 216).

(2)

وَقَدْ أَورَدَ بَعْضُ أَهْلِ الضَّلَالِ هَاهُنَا شَرْحًا عَجِيبًا لِذَلِكَ فَقَالُوا: ((مَا المَسْؤُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ)) أَنَّ المَعْنَى: أَنَا وَأَنْتَ فِي العِلْمِ بِهَا سَوَاءٌ؛ فَكَمَا تَعْلَمُهَا أَنْتَ؛ أَعْلَمُهَا أَنَا!!

قُلْتُ: وَيَرُدُّهُ آخِرُ الحَدِيثِ؛ وَفِيهِ قَولُهُ صلى الله عليه وسلم: ((فِي خَمْسٍ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا اللهُ، ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الغَيثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ} [لُقْمَان: 34])).

(3)

أَي: لَيسَ لَهُ فِيهَا اخْتِيَارٌ وَلَا قَصْدٌ؛ وَإِلَّا فَكُلُّ شَيءٍ مَقْرُونٌ بِحَولِ اللهِ تَعَالَى وَمَشِيئَتِهِ؛ فَلَا حَولَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ.

(4)

وَكَذَلِكَ حَدِيثُ حُذَيفَةَ الآتِي.

ص: 588

سَيَكُونُ كُلِّيًّا! وَإِلَّا تَعَارَضَ الحَدِيثُ مَعَ النُّصُوصِ الكَثِيرَةِ المُتَوَاتِرَةِ مِنْ جِهَةِ الدِّلَالَةِ الَّتِي فِيهَا عَدَمُ عِلْمِهِ عليه الصلاة والسلام بِالغَيبِ وَبِمَا فِي الصُّدُورِ!

وَاُنْظُرْ سِيَاقَ الحَدِيثِ حَيثُ كَانَ السُّؤَالُ عَنِ اخْتِصَامِ المَلَأِ الأَعْلَى؛ فَأَجَابَ صلى الله عليه وسلم بِعَدَمِ العِلْمِ، ثُمَّ بَعْدَ أَنْ عُلِّمَ أَجَابَ عَنِ الدَّرَجَاتِ وَالكَفَّارَاتِ؛ فَهَذَا السُّؤَالُ كَانَ عَمَّا هُوَ مَوجُودٌ مِنْ ذَلِكَ الاخْتِصَامِ؛ وَالتَّعْلِيمُ أَيضًا كَانَ عَمَّا هُوَ مَوجُودٌ مِنْهُ. وَبِاللهِ التَّوفِيق.

5 -

أَيضًا عَلَى فَرْضِ حَمْلِ حَدِيثِ الاخْتِصَامِ عَلَى الغَيبِ المُسْتَقْبَلِيِّ؛ فَمَا أُطْلِعَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَمْرِ مَا سَيَكُونُ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ هُوَ عَلَى سَبِيلِ الإِجْمَالِ وَلَيسَ التَّفْصِيلِ!

(1)

لِذَلِكَ تَجِدُ بَيَانَ عَائِشَةَ رضي الله عنها فِي رَدِّهَا عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍّ؛ حَيثُ قَالَتْ رضي الله عنها: (وَمَنْ حَدَّثَكَ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ؛ فَقَدْ كَذَبَ، ثُمَّ قَرَأَتْ {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا}، وَمَنْ حَدَّثَكَ أَنَّهُ كَتَمَ؛ فَقَدْ كَذَبَ، ثُمَّ قَرَأَتْ: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيكَ مِنْ رَبِّكَ}). مُتَّفَقٌ عَلَيهِ

(2)

.

6 -

أَمَّا بِخُصُوصِ حَدِيثِ حُذَيفَةَ؛ فَالخَطْبُ فِيهِ أَسْهَلُ، لِأَنَّهُ خَاصٌّ بِمَا سَيَكُونُ مِنْ فِتَنٍ وَمَلَاحِمَ، كَذَا بَيَّنَهُ أَحَدُ الفَاظِ الحَدِيثِ الَّذِي فِي مُسْلِمٍ، حَيثُ قَالَ حُذَيفَةُ بْنُ اليَمَانِ رضي الله عنه: وَاللهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ النَّاسِ بِكُلِّ فِتْنَةٍ هِيَ كَائِنَةٌ فِيمَا بَينِي وَبَينَ السَّاعَةِ، وَمَا بِي إِلَّا أَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَسَرَّ إِلَيَّ فِي ذَلِكَ شَيئًا لَمْ يُحَدِّثْهُ غَيرِي! وَلَكِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم

(1)

البُخَارِيُّ (4855)، وَمُسْلِمٌ (177).

(2)

وَفِي لَفْظٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ (4243)؛ قَالَ حُذَيفَةُ: (وَاللَّهِ مَا أَدْرِي أَنَسِيَ أَصْحَابِي أَمْ تَنَاسَوا؟ وَاللَّهِ مَا تَرَكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ قَائِدِ فِتْنَةٍ إِلَى أَنْ تَنْقَضِيَ الدُّنْيَا يَبْلُغُ مَنْ مَعَهُ ثَلَاثَمِائَةٍ فَصَاعِدًا؛ إِلَّا قَدْ سَمَّاهُ لَنَا بِاسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ وَاسْمِ قَبِيلَتِهِ). وَهُوَ ضَعِيفٌ. المِشْكَاةُ (5393).

ص: 589

قَالَ -وَهُوَ يُحَدِّثُ مَجْلِسًا أَنَا فِيهِ عَنِ الفِتَنِ- فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَعُدُّ الفِتَنَ: ((مِنْهُنَّ ثَلَاثٌ لَا يَكَدْنَ يَذَرْنَ شَيئًا، وَمِنْهُنَّ فِتَنٌ كَرِيَاحِ الصَّيفِ؛ مِنْهَا صِغَارٌ وَمِنْهَا كِبَارٌ))، قَالَ حُذَيفَةُ: فَذَهَبَ أُولَئِكَ الرَّهْطُ كُلُّهُمْ غَيرِي

(1)

.

وَقَدْ أَورَدَهُ أَهْلُ الحَدِيثِ -وَهُمُ العَالِمُونَ بِالآثَارِ وَمَعَانِيهَا وَمَوَاضِعِهَا- فِي ذِكْرِ أَحَادِيثِ الفِتَنِ مِنْ سُنَنِهِم، وَهَاكَ أَمْثِلَةً:

فِي أَبِي دَاوُدَ، قَالَ: بَابُ ذِكْرِ الفِتَنِ وَدَلَائِلِهَا

(2)

.

وَفِي المُسْتَدْرَكِ قَالَ: كِتَابُ الفِتَنِ وَالمَلَاحِمِ

(3)

.

وَفِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ قَالَ: بَابُ إِخْبَارِهِ صلى الله عليه وسلم عَمَّا يَكُونُ فِي أُمَّتِهِ مِنَ الفِتَنِ وَالحَوَادِثِ

(4)

.

وَأَورَدَهُ النَّوَوِيُّ رحمه الله فِي تَبْوِيبِ مُسْلِمٍ ضِمْنَ كِتَابِ الفِتَنِ

(5)

(6)

.

7 -

أَمَّا بِخُصُوصِ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه فَقَولُهُ: (إِلَّا وَهُوَ يُذَكِّرُنَا مِنْهُ عِلْمًا) فِيهِ أَنَّ "مِنْ" هُنَا لِلتَّبْعِيضِ؛ فَزَالَتِ الشُّبْهَةُ أَصْلًا، وَانْدَرَجَتْ مَعَ أَخَوَاتِهَا فِي ذِكْرِ الإِجْمَالِ.

(1)

صَحِيحُ مُسْلِمٍ (4/ 2207).

(2)

سنن أَبِي دَاوُدَ (4/ 94).

(3)

المُسْتَدْرَكِ (4/ 465).

(4)

صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ (5/ 15).

(5)

النَّوَوِيُّ رحمه الله فِي تَبْوِيبِ مُسْلِمٍ (4/ 2207).

(6)

وَمِثْلُ حَدِيثِ حُذَيفَةَ فِي الدِّلَالَةِ مَا أَورَدَهُ مُسْلِمٌ (2892) أَيضًا فِي كِتَابِ الفِتَنِ -عَقِبَ حَدِيثِ حُذَيفَةَ رضي الله عنه السَّابِقِ- عَنْ عَمْرَو بْنِ أَخْطَبَ؛ قَالَ: (صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الفَجْرَ، وَصَعِدَ المِنْبَرَ؛ فَخَطَبَنَا حَتَّى حَضَرَتِ الظُّهْرُ فَنَزَلَ فَصَلَّى، ثُمَّ صَعِدَ المِنْبَرَ فَخَطَبَنَا حَتَّى حَضَرَتِ العَصْرُ، ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى ثُمَّ صَعِدَ المِنْبَرَ فَخَطَبَنَا حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَأَخْبَرَنَا بِمَا كَانَ وَبِمَا هُوَ كَائِنٌ؛ فَأَعْلَمُنَا أَحْفَظُنَا).

ص: 590

8 -

أَنَّ حَدِيثَ أَبِي ذَرٍّ أَصْلًا يَتَنَاوَلُ أُمُورَ الشَّرِيعَةِ، وَعَلَى هَذَا المَعْنَى؛ فَلَا إِشْكَالَ فِي أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَتْرُكْ شَيئًا إِلَّا بَيَّنَهُ مِنْ أُمُورِ الشَّرِيعَةِ، وَالحَمْدُ للهِ.

وَدَلَّ لِذَلِكَ نَفْسُ الحَدِيثِ؛ حَيثُ إِنَّ الحَدِيثَ بِتَمَامِهِ: قَالَ أَبُو ذَرٍّ رضي الله عنه: تَرَكْنَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم -وَمَا طَائِرٌ يُقَلِّبُ جَنَاحَيهِ فِي الهَوَاءِ- إِلَّا وَهُوَ يُذَكِّرُنَا مِنْهُ عِلْمًا، قَالَ: فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: ((مَا بَقِيَ شَيءٌ يُقَرِّبُ مِنَ الجَنَّةِ، ويُبَاعِدُ مِنَ النَّارِ؛ إِلَّا وَقَدْ بُيِّنَ لَكُمْ)).

قَالَ ابْنُ حِبَّانَ -عَقِبَ ذِكْرِ الحَدِيثِ-: "مَعْنَى (عِنْدَنَا مِنْهُ) يَعْنِي بِأَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ وَأَخْبَارِهِ وَأَفْعَالِهِ وَإِبَاحَاتِهِ صلى الله عليه وسلم"

(1)

.

(1)

صَحِيحُ ابْنِ حِبَّانَ (1/ 267).

ص: 591

-‌

‌ الشُّبْهَةُ الرَّابِعَةُ: قَولُ صَاحِبِ البُرْدَةِ: (فَإِنَّ مِنْ جُودِكَ الدُّنْيَا وَضَرَّتَهَا) لَيسَ فِيهِ مَحْذُورٌ!

لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى أَعْطَى نَبِيَّهُ فِعْلًا مَزِيَّةِ إِنْقَاذِ النَّاسِ مِنَ النَّارِ، كَمَا فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ؛ أَنَّهُ يُقَالُ لَهُ:(أَخْرِجْ مَنْ فِي قَلْبِهِ كَذَا وَكَذَا مِنْ إِيمَانٍ)!

الجَوَابُ هُوَ مِنْ أَوجُهٍ:

1 -

أَنَّ اللهَ تَعَالَى لم يُمَلِّكِ الشَّفَاعَةَ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ!

قَالَ تَعَالَى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيئًا وَلَا يَعْقِلُونَ * قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيهِ تُرْجَعُونَ} [الزُّمَر: 43 - 44].

وَتَأَمَّلْ كَونَ المَلَائِكَةِ وَعُزَيرًا وَعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ كَيفَ أَنَّهُم آلِهَةٌ عِنْدَ المُشْرِكِينَ؛ وَقَدْ نَفَى اللهُ مُلْكَهُم لِلشَّفَاعَةِ وَدُعَاءَهُم بِقَصْدِهَا؛ مَعَ أَنَّ الأَنْبِيَاءَ وَالمَلَائِكَةَ لَهُم شَفَاعَةٌ يَومَ القِيَامَةِ! كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنِ المَلَائِكَةِ: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأَنْبِيَاء: 28].

وَفِي الحَدِيثِ: ((مَا أُعْطِيكُمْ وَلَا أَمْنَعُكُمْ! إِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ؛ أَضَعُ حَيثُ أُمِرْتُ))

(1)

.

وَكَونُهُ تَعَالَى أَعْطَاهُ الشَّفَاعَةَ؛ فَهُوَ مِنْ بَابِ إِكْرَامِهِ وَإِظْهَارِ شَرَفِهِ عَلَى غَيرِهِ؛ وَلَيسَ مِنْ بَابِ تَمَلُّكِهَا اسْتِقْلَالًا! لِذَلِكَ لَمْ تَنْفَعْ شَفَاعَتُهُ صلى الله عليه وسلم لِأُمِّهِ كَمَا فِي الحَدِيثِ: ((اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي عز وجل فِي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَهَا؛ فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي))

(2)

.

(1)

رَوَاهُ البُخَارِيُّ (3117) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا.

(2)

وَالحَدِيثُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ (976) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ؛ قَالَ: زَارَ رَسُولُ اللهِ قَبْرَ أُمِّهِ، فَبَكَى وَأَبْكَى مَنْ حَولَهُ، وَقَالَ:((اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي عز وجل فِي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَهَا؛ فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي، وَاسْتَأْذَنْتُ فِي أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأَذِنَ لِي؛ فَزُورُوا القُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمُ المَوتَ)).

ص: 592

كَمَا لَمْ تَنْفَعْ أَيضًا شَفَاعَةُ إِبْرَاهِيمَ صلى الله عليه وسلم لِأَبِيهِ، كَمَا فِي الحَدِيثِ:((فَيَقُولُ إِبْرَاهِيمُ: يَا رَبِّ إِنَّكَ وَعَدْتَنِي أَنْ لَا تُخْزِيَنِيَ يَومَ يُبْعَثُونَ؛ فَأَيُّ خِزْيٍ أَخْزَى مِنْ أَبِي الأَبْعَدِ؟! فَيَقُولُ اللهُ تَعَالَى: إِنِّي حَرَّمْتُ الجَنَّةَ عَلَى الكَافِرِينَ))

(1)

.

كَمَا لَمْ تَنْفَعْ أَيضًا شَفَاعَةُ نُوحٍ عليه الصلاة والسلام فِي ابْنِهِ، كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى:{وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ} [هود: 45 - 46].

وَبِنَاءً عَلَى مَا سَبَقَ؛ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ طَلَبُهَا مِنَ العَبْدِ، بل تُطْلَبُ مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ بِأَنْ يُشفِّعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِيهِ، كَمَا فِي حَدِيثِ دُعَاءِ الضَّرِيرِ:((اللَّهُمَّ؛ فَشَفِّعْهُ فِيَّ))

(2)

.

(1)

وَالحَدِيثُ فِي البُخَارِيِّ (3350) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه مَرْفُوعًا: ((يَلْقَى إِبْرَاهِيمُ أَبَاهُ آزَرَ يَومَ القِيَامَةِ وَعَلَى وَجْهِ آزَرَ قَتَرَةٌ وَغَبَرَةٌ، فَيَقُولُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ لَا تَعْصِنِي؟! فَيَقُولُ أَبُوهُ: فَاليَومَ لَا أَعْصِيكَ. فَيَقُولُ إِبْرَاهِيمُ: يَا رَبِّ إِنَّكَ وَعَدْتَنِي أَنْ لَا تُخْزِيَنِيَ يَومَ يُبْعَثُونَ؛ فَأَيُّ خِزْيٍ أَخْزَى مِنْ أَبِي الأَبْعَدِ؟! فَيَقُولُ اللهُ تَعَالَى: إِنِّي حَرَّمْتُ الجَنَّةَ عَلَى الكَافِرِينَ. ثُمَّ يُقَالُ: يَا إِبْرَاهِيمُ؛ مَا تَحْتَ رِجْلَيكَ؟ فَيَنْظُرُ؛ فَإِذَا هُوَ بِذِيخٍ مُلْتَطِخٍ! فَيُؤْخَذُ بِقَوَائِمِهِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ)).

وَ (الذِّيخُ): ذَكَرُ الضَّبْعِ الكَثِيرُ الشَّعْرِ، حَيثُ أُرِيَ إِبْرَاهِيمُ أَبَاهُ عَلَى غَيرِ هَيئَتِهِ وَمَنْظَرِهِ لِيَسْرُعْ إِلَى التَّبَرُّؤِ مِنْهُ. وَقَولُهُ (مُلْتَطِخٌ): أَي: مُتَلَوّثٌ بِالدَّمِ وَنَحْوِهِ.

(2)

صَحِيحٌ. التِّرْمِذِيُّ (3578)، وَأَحْمَدُ (17241) عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حُنَيفٍ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (1279).

وَتَمَامُهُ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حُنَيفٍ: أَنَّ رَجُلًا ضَرِيرَ البَصَرِ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: اُدْعُ اللهَ أَنْ يُعَافِيَني، قَالَ:((إِنْ شِئْتَ دَعَوتُ لَكَ، وَإِنْ شِئْتَ أَخَّرْتُ ذَاكَ؛ فَهوَ خَيرٌ)) -وَفِي رِوَايَةٍ ((وَإِنْ شِئْتَ صَبَرْتَ؛ فَهوَ خَيرٌ لَكَ)) -، فَقَالَ: ادْعُهُ. فَأَمَرَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ فَيُحْسِنَ وُضُوءَهُ؛ فَيُصَلِّيَ رَكْعَتَين، وَيَدْعُوَ بِهَذَا الدُّعَاءِ:((اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ وَأَتَوَجَّهُ إِلَيكَ بِنَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ، يَا مُحمَّدُ؛ إِنِّي تَوَجَّهْتُ بِكَ إِلَى رَبِّي فِي حَاجَتِي هَذِهِ فَتُقْضَى لِي، اللَّهُمَّ فَشَفِّعْهُ فِيَّ وَشَفِّعْنِي فِيهِ))، فَفَعَلَ الرَّجُلُ فَبَرِئَ.

ص: 593

تَنْبِيهٌ:

وَهَذَا الإِتْيَانُ مِنَ الضَّرِيرِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَقْرُونٌ بِحَيَاتِهِ فَقَط، أَمَّا بَعْدَ مَمَاتِهِ؛ فَلَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ دُعَاءِ الأَمْوَاتِ، وَهوَ شِرْكٌ بِاللهِ تَعَالَى، قَالَ تَعَالَى:{وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْوَاتٌ غَيرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النَّحْل: 20 - 21].

وَكَقَولِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [الأَحْقَاف: 5].

وَأَمَّا يَومُ القِيَامَةِ؛ فَيَطْلُبُ النَّاسُ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَشْفَعَ لَهُم عِنْدَ رَبِّهِم لِأَنَّهُ حَيٌّ حَاضِرٌ قَادِرٌ، وَلَكِنَّهُ هُوَ نَفْسُهُ لَا يَشْفَعُ حَتَّى يُؤْذَنَ لَهُ، وَلَا تُقْبَلُ شَفَاعَتُهُ إِلَّا فِيمَنْ أَذِنَ اللهُ لَهُم حَيثُ يُجْعَلُ لَهُ حَدٌّ في كُلِّ مَرَّةٍ فَيُدْخِلُهُم الجَنَّةَ.

2 -

أَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي حَدَّ لَهُ مَنْ سَيَدْخُلُ الجَنَّةَ، وَلَيسَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ! كَمَا فِي نَفْسِ الحَدِيثِ:((فَيَأْتُونِي، فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي فَيُؤْذَنُ لِي، فَإِذَا أَنَا رَأَيتُهُ وَقَعْتُ سَاجِدًا، فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللهُ، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ؛ ارْفَعْ رَأْسَكَ، قُلْ تُسْمَعْ، سَلْ تُعْطَهْ، اشْفَعْ تُشَفَّعْ. فَأَرْفَعُ رَأْسِي؛ فَأَحْمَدُ رَبِّي بِتَحْمِيدٍ -يُعَلِّمُنِيهِ رَبيَّ- ثُمَّ أَشْفَعُ، فَيَحُدُّ لِي حَدًّا فَأُخْرِجُهُمْ مِنَ النَّارِ وَأُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(1)

(2)

.

(1)

مُسْلِمٌ (193).

(2)

وَمِنْ بَابَ التَّقْرِيبِ لِلأَذْهَانِ: أَرَأَيتَ لَو أَنَّ رَجُلًا أَهْدَى هَدِيَّةً إِلَى صَدِيقِهِ وَأَرْسَلَهَا مَعَ عَامِلِهِ؛ فَهَلْ يَكُونُ فِيهَا الفَضْلُ لِلعَامِلِ أَمْ لِمَنْ أَرْسَلَهُ؟! وَمَا رَأْيُكَ بِمَنْ شَكَرَ هَذَا العَامِلَ وَتَعَلَّقَ بِهِ وَطَلَبَ مِنْهُ المَزِيدَ؟ هَلْ يَكُونُ إِلَّا جَاحِدًا مُنْكِرًا لِإِحْسَانِ صَاحِبِهِ؛ بِحَيثُ يَقُولُ لَهُ: إِنَّ العَامِلَ هُوَ الَّذِي أَهْدَانِي وَلَيسَ أَنْتَ لِأَنِّي رَأَيتُهَا في يَدِهِ؟! فَقَارِنْ بَينَ هَذَا وَبَينَ قَولِ النَّاظِمِ لِلبُرْدَةِ:

(يَا أَكْرَمَ الخَلْقِ مَا لِي مَنْ أَلُوذُ بِهِ

سِوَاكَ عِنْدَ حُلُولِ الحَادِثِ العَمَمِ

إِنْ لَمْ تَكُنْ فِي مَعَادِي آخِذًا بِيَدِي

فَضْلًا وَإِلَّا فَقُلْ يَا زَلَّةَ القَدَمِ)!!!

ص: 594

3 -

أَنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ لِلشَّفَاعَةِ شُرُوطًا مِنْهَا: رِضَى اللهِ تَعَالَى عَنِ المَشْفُوعِ، كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى:{يَعْلَمُ مَا بَينَ أَيدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأَنْبِيَاء: 28]، فيَكُونُ مِنْ أَسْبَابِ حُصُولِ هَذِهِ الشَّفَاعَةِ طَلَبُ الرِّضَى مِنَ اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ وَلَيسَ مِنْ غَيرِهِ! فاللهُ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلْ مِنْ أَسْبَابِ حُصُولِ الشَّفَاعَةِ أَنْ تُطْلَبَ مِنْ غَيرِهِ تَعَالَى، بَلْ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ شِرْكَ المُشْرِكِينَ الأَوَائِلِ كَانَ فِي طَلَبِ الشَّفَاعَةِ مِنَ الأَولِيَاءِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يُونُس: 18]، وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ الدُّعَاءَ هُوَ العِبَادَةُ

(1)

.

4 -

أَنَّ يَومَ القِيَامَةِ يَكُونُ المُلْكُ وَالتَّصَرُّفُ فِيهِ هُوَ للهِ وَحْدَهُ، قَالَ تَعَالَى:{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ؛ فَلَا يَتَكَلَّمُ أَحَدٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ تَعَالَى

(2)

.

(1)

وَالحَدِيثِ هُوَ ((الدُّعَاءُ هُوَ العِبَادَةُ)) ثُمَّ قَرَأَ {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غَافِر: 60]. صَحِيحٌ. التِّرْمِذِيُّ (2969) عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (3407).

(2)

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله في التَّفْسِيرِ (1/ 134): "وَتَخْصِيصُ المُلْكِ بِيَومِ الدِّينِ لَا يَنْفِيهِ عَمَّا عَدَاهُ، لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ الإِخْبَارُ بِأَنَّهُ رَبُّ العَالَمِينَ، وَذَلِكَ عَامٌّ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَإِنَّمَا أُضِيفَ إِلَى يَومِ الدِّينِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِي أَحَدٌ هُنَالِكَ شَيئًا، وَلَا يَتَكَلَّمُ أَحَدٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ، كَمَا قَالَ: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} [النَّبَأ: 38]، وَقَالَ تَعَالَى: {وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} [طَه: 108]، وَقَالَ: {يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هُود: 105] ".

ص: 595

- الشُّبْهَةُ الخَامِسَةُ: إِنَّ الكُفَّارَ لَمْ تَنْفَعْهُمُ الشَّفَاعَةُ -كَمَا فِي الآيَةِ الكَرِيمَةِ {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيئًا وَلَا يُنْقِذُونِ} [يَس: 23]- لِكَونِهِم يَرْجُونَهَا مِنَ الأَصْنَامِ، وَهَلْ هِيَ إِلَّا حِجَارَةٌ صَمَّاءُ عَمْيَاءُ؟!

فَكَيفَ يُقَاسُ سَيِّدُ الأَنَامِ بِهَذِهِ الأَصْنَامِ؛ فَيُقَالُ: إَنَّهُ لَا يَمْلِكُ لِأُمَّتِهِ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا!

أَلَيسَ هَذَا إِنْكَارًا لِلشَّفَاعَةِ؟! لِأَنَّ الشَّفَاعَةَ فِيهَا إِثْبَاتُ النَّفْعِ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

فَظَهَرَ بِذَلِكَ بُطْلَانُ حَشْرِهِمُ الأَنْبِيَاءَ وَالصَّالِحِينَ مَعَ زُمْرَةِ الأَصْنَامِ فِي عَدَمِ جَوَازِ الاسْتِشْفَاعِ بِهِم.

الجَوَابُ مِنْ أُوجُهٍ:

1 -

إِنَّ هَذَا الإِيرَادَ فِيهِ حَقٌّ وَفِيهِ بَاطِلٌ، لِأَنَّ الآيَةَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَا دُعِيَ مِنْ دُونِ اللهِ تَعَالَى؛ فَإِنَّ الأَصْنَامَ -وَهِيَ حِجَارَةٌ صَمَّاءُ بِلَا رَيبٍ- لَمْ تُعْبَدْ عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّهَا حِجَارَةٌ صَمَّاءُ! بَلْ عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّهَا تَرْمُزُ إِلَى أَصْحَابِهَا مِنَ الأَولِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَالمَلَائِكَةِ حَيثُ جَعَلَهَا المُشْرِكُونَ شُفَعَاءَ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى

(1)

، فَلَمْ يَعْتَقِدُوا أَصْلًا فِيهِمُ

(1)

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي تَفْسِيرِ قَولِهِ تَعَالَى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيهِ اللَّيلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الآفِلِينَ} [الأَنْعَام: 76]: "وَالحَقُّ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عليه الصلاة والسلام كَانَ فِي هَذَا المَقَام مُنَاظِرًا لِقَومِهِ؛ مُبَيِّنًا لَهُمْ بُطْلَانَ مَا كَانُوا عَلَيهِ مِنْ عِبَادَة الهَيَاكِلِ وَالأَصْنَامِ، فَبَيَّنَ فِي المَقَامِ الأَوَّلِ مَعَ أَبِيهِ خَطَأَهُمْ فِي عِبَادَة الأَصْنَامِ الأَرْضِيَّةِ الَّتِي هِيَ عَلَى صُوَرِ المَلَائِكَةِ السَّمَاوِيَّةِ لِيَشْفَعُوا لَهُمْ إِلَى الخَالِقِ العَظِيمِ الَّذِينَ هُمْ عِنْد أَنْفُسِهِمْ أَحْقَرُ مِنْ أَنْ يَعْبُدُوهُ! وَإِنَّمَا يَتَوَسَّلُونَ إِلَيهِ بِعِبَادَةِ مَلَائِكَتِهِ لِيَشْفَعُوا لَهُمْ عِنْدَه فِي الرِّزْقِ وَالنَّصْرِ وَغَيرِ ذَلِكَ مِمَّا يَحْتَاجُونَ إِلَيهِ". تَفْسِيرُ ابْنِ كَثِيرٍ (3/ 292).

ص: 596

الخَلْقَ أَوِ الضُّرَّ أَوِ النَّفْعَ! قَالَ تَعَالَى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [العَنْكَبُوت: 61].

وَتَأَمَّلِ التَّعْبِيرَ بِـ (مَنْ) الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ المَدْعُوَّ مِنْ دُونِ اللهِ عَاقِلٌ وَلَيسَ بِجَمَادٍ أَصَمَّ فِي قَولِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [الأَحْقَاف: 5].

2 -

إِنَّ شِرْكَ المُشْرِكِينَ أَصْلًا هُوَ فِي دُعَاءِ الصَّالِحِينَ وَالاسْتِغَاثَةِ وَالاسْتِشْفَاعِ بِهِم عِنْدَ رَبِّهِم، قَالَ تَعَالَى:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يُونُس: 18].

3 -

إِنَّ إِثْبَاتَ الشَّفَاعَةِ لَا يَعْنِي إِثْبَاتَ النَّفْعِ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِلنَّاسِ -مِنْ جِهَةِ أَمْرِ الجَنَّةِ وَالنَّارِ طَبْعًا؛ وَمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيهِ إِلَّا اللهُ-! وَإِنَّمَا هُوَ سَبَبٌ جَعَلَهُ اللهُ لِرَحْمَةِ مَنْ رَضِيَ عَنْهُ، وَتَأَمَّلْ قَولَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِابْنَتِهِ:((يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ رَسُولِ اللهِ: سَلِينِي بِمَا شِئْتِ؛ لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيئًا)) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ

(1)

.

وَتَأَمَّلْ قَولَهُ تَعَالَى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النَّجْم: 26]، وَكَقَولِهِ تَعَالَى أَيضًا:{لَيسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيءٌ} [آلِ عِمْرَان: 128].

(1)

البُخَارِيُّ (4771)، وَمُسْلِمٌ (206).

ص: 597

-‌

‌ الشُّبْهَةُ السَّادِسَةُ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى بَشَّرَ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّهُ لَنْ يُخْزِيَهِ فِي أُمَّتِهِ

؛ فَقَالَ لَهُ: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضُّحَى: 5]، فَهَلْ يَرْضَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِعَذَابِ أُمَّتِهِ؟! أَو أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ مِنْهُم قَدْ أَخْطَأَ السَّبِيلَ فَاسْتَغَاثَ بِهِ -عَلَى فَرْضِ خَطَئِهِ- أَنْ يَكُونَ فِي النَّارِ؟! فَشَفَاعَتُهُ صلى الله عليه وسلم إِذًا نَائِلَةٌ جَمِيعَ أُمَّتِهِ بِغَضِّ النَّظَرِ عَنْ أَخْطَائِهِم!

الجَوَابُ هُوَ مِنْ أَوجُهٍ:

1 -

إِنَّ الَّذِي بَشَّرَهُ بِـ {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} هُوَ الَّذِي أَخْبَرَ عَنْهُ بِأَنَّهُ {لَيسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيءٌ} [آلِ عِمْرَان: 128] فَلَا تَعَارُضَ بَينَهُمَا، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَا يَرْضَى مَا لَا يَرْضَى اللهُ تَعَالَى عَنْهُ.

فَنَقُولُ: هَلْ يَرْضَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُدْعَى مَعَ اللهِ؟! أَلَيسَ هُوَ الَّذِي قَالَ لِابْنِ عَمَّهِ مُعَلِّمًا إِيَّاهُ كَلِمَاتٍ جَامِعَاتٍ نَافِعَاتٍ: ((إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللهَ))

(1)

.

قَالَ ابْنُ القَيِّمِ رحمه الله: "وَمِنْهُمْ مَنْ يَغْتَرُّ بِفَهْمٍ فَاسِدٍ فَهِمَهُ -هُوَ وَأَضْرَابُهُ- مِنْ نُصُوصِ القُرْآنِ وَالسُّنَّةِ فَاتَّكَلُوا عَلَيهِ! كَاتِّكَالِ بَعْضِهِمْ عَلَى قَولِهِ تَعَالَى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضُّحَى: 55] قَالَ: وَهُوَ لَا يَرْضَى أَنْ يَكُونَ فِي النَّارِ أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِهِ!!

وَهَذَا مِنْ أَقْبَحِ الجَهْلِ وَأَبْيَنِ الكَذِبِ عَلَيهِ؛ فَإِنَّهُ يَرْضَى بِمَا يَرْضَى بِهِ رَبُّهُ عز وجل، وَاللَّهُ تَعَالَى يُرْضِيهِ تَعْذِيبُ الظَّلَمَةِ وَالفَسَقَةِ وَالخَوَنَةِ وَالمُصِرِّينَ عَلَى الكَبَائِرِ، فَحَاشَا رَسُولَهُ أَنْ يَرْضَى بِمَا لَا يَرْضَى بِهِ رَبُّهُ تبارك وتعالى! "

(2)

.

2 -

إِنَّ مَنْ بَدَّلَ فِي دِينِهِ وَغَيَّرَ وَحَرَّفَ، وَاسْتَبْدَلَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيرٌ مِنْ

(1)

صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (2803)، وَالتِّرْمِذِيُّ (2516). صَحِيحُ التِّرْمِذِيِّ (2516).

(2)

الجَوَابُ الَكَافِي (ص 23).

ص: 598

أُمَّتِهِ صلى الله عليه وسلم؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَا يَرْضَى عَنْهُ بَلْ يُبَاعِدُهُ عَنْ نَفْسِهِ، كَمَا فِي حَدِيثِ ذَودِ بَعْضِ مَن يَرِدُ عَلَى الحَوضِ الشَّرِيفِ ((فَأَقُولُ: إِنَّهُمْ مِنِّي! فَيُقَالُ: إِنَّكَ لا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ، فَأَقُولُ: سُحْقًا سُحْقًا لِمَنْ غَيَّرَ بَعْدِي))، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سُحْقًا: بُعْدًا

(1)

.

3 -

إِنَّ الرِّضا المقصُودَ في الآيةِ مَعناهُ أنْ تَدْخُلَ أُمَّتُهُ كُلُّهَا الجنَّةَ وَلا يُخَلَّدَ أَحدٌ مِنْ أُمَّتِهِ صلى الله عليه وسلم فِي النَّارِ؛ وَلَيسَ عَدَمَ الدُّخُولِ أصَلْاً! فَقَدْ دَلَّتْ أَحاديثُ الشَّفاعَةِ عَلى دُخُولِ طَوائِفَ مِنْهُم بِذُنُوبهم.

قَالَ الإِمَامُ القُرْطُبِيُّ رحمه الله: "قَالَ بَعْضُهُم: أَرْجَى آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ عز وجل: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يَرْضَى بِبَقَاءِ أَحَدٍ مِنْ أُمَّتِهِ فِي النَّارِ"

(2)

.

"وَأَخْرَجَ البَيهَقِيُّ فِي شُعَبِ الإِيمَانِ مِن طَرِيقِ سَعِيدِ بنِ جُبَيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فِي قَوْله: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} قَالَ: رِضَاهُ أَنْ تَدْخُلَ أُمَّتُهُ الجنَّةَ كُلُّهُم.

وَأَخْرَجَ الخَطِيبُ فِي (تَلْخِيصِ المُتَشَابِهِ) مِن وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فِي قَوْله: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} قَالَ: لَا يَرْضَى مُحَمَّدٌ وَأَحَدٌ مِن أُمَّتِهِ فِي النَّارِ"

(3)

.

(1)

البُخَارِيُّ (6584)، وَمُسْلِمٌ (26) مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا.

(2)

تَفْسِيرُ القُرْطُبِي (12/ 209).

(3)

الدُّرُّ المَنْثُورُ (8/ 542).

ص: 599

-‌

‌ الشُّبْهَةُ السَّابِعَةُ: مَا جَاءَ فِي الحَدِيثِ مِنْ كَونِهِ صلى الله عليه وسلم لَا يَمْلِكُ لِأَهْلِهِ وَلِلنَّاسِ شَيئًا؛ لَا يَعْنِي عَدَمَ نَفْعِهِ لَهُم فِي الآخِرَةِ!

لِأَنَّ مَنْ نُفِيَ عَنْهُم النَّفْعُ هُمُ الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَصْلًا، فَالمَقْصُودُ بِالحَدِيثِ هُوَ لَا أُغْنِي عَنْكُم مِنَ اللهِ شَيئًا إِذَا لَمْ تُؤْمِنُوا؛ أَمَّا إِذَا آمَنْتُم؛ فَإِنِّي أُغْنِي عَنْكُم!

الجَوَابُ هُوَ مِنْ أَوجُهٍ:

1 -

إِنَّ هَذَا تَلْفِيقٌ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَاسْتِدْرَاكٌ عَلَيهِ! فَلَمْ يَقُلْهُ عليه الصلاة والسلام، بَلْ يَبْقَى الحَدِيثُ عَلَى عُمُومِهِ؛ لَا سِيَّمَا وَهُوَ مُؤَكَّدٌ بِقَولِهِ:(شَيءٌ) فَهِيَ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْي تُفِيدُ عُمُومَ عَدَمِ نَفْعِهِ صلى الله عليه وسلم لَهُم شَيئًا مِنْ دُونِ إِذْنِ رَبِّهِ

(1)

.

2 -

إِنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ أَنَّ يَومَ القِيَامَةِ لَا يَمْلِكُ أَحَدٌ لِأَحَدٍ شَيئًا، قَالَ تَعَالَى:{يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانْفِطَار: 19]، وَتَأَمَّلْ كَونَ النَّفْسِ فِي الآيَةِ جَاءَتْ نَكِرَةً فِي حَقِّ الشَّافِعِ والمَشْفُوعِ وَجِهَةِ الشَّفَاعَةِ؛ الأَمْرَ الَّذِي يَعْنِي أَنَّهُ أَيًّا كَانَ الشَّافِعُ، وَأَيًّا كَانَ المَشْفُوعُ فِيهِ، وَأَيًّا كَانَ وَجْهُ الشَّفَاعَةِ؛ فَلَا يَمْلِكُ أَحَدٌ لِأَحَدٍ شَيئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَى، وَعَلَيهِ فَيَجِبُ التَّعَلُّقُ بِاللهِ تَعَالَى لِتَحْصِيلِ المَطْلُوبِ.

3 -

إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ بيَّنَ فِي بَعْضِ أَحَادِيثِهِ الشَّرِيفَةِ أَنَّهُ لَا يُغْنِي عَنْ أُمَّتِهِ نَفْسِهَا شَيئًا إِذَا جَاءُوهُ بِالمَعَاصِي -وَلَيسَ بِالكُفْرِ فَقَط-، كَمَا فِي الحَدِيثِ:((إِنَّ أَولِيَائِي يَومَ القِيَامَةِ المُتَّقُونَ -وَإِنْ كَانَ نَسَبٌ أَقْرَبَ مِنْ نَسَبٍ-؛ فَلَا يَأْتِينِي النَّاسُ بِالأَعْمَالِ وَتَأْتُونَ بِالدُّنْيَا تَحْمِلُونَهَا عَلَى رِقَابِكُمْ، فَتَقُولُونَ: يَا مُحَمَّدُ! فَأَقُولُ: هَكَذَا وَهَكَذَا؛ لَا)) وَأَعْرَضَ فِي كِلَا عِطْفَيهِ

(2)

، وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ لَا يُغْنِي عَنْهُم مِنْ جِهَةِ

(1)

وَلَا يَخْفَى إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى أَنَّ الشَّفَاعَةَ نَافِعَةٌ، وَلَكِنَّهَا مَقْرُونَةٌ بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَى لَهُ وَرِضَاهُ عَنْهُم.

(2)

حَسَنٌ. الأَدَبُ المُفْرَدُ (897) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ. الصَّحِيحَةُ (765).

ص: 600

عِصْيَانِهِم؛ وَلَيسَ مِنْ جِهَةِ شِرْكِهِم فَقَطْ!

وَلَا يَخْفَى عِنْدَ أَهْلِ العِلْمِ الأَحَادِيثُ الكَثِيرَةُ المَشْهُورَةُ الَّتِي تُثْبِتُ دُخُولَ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ التَّوحِيدِ النَّارَ -مِمَّنْ لَهُم مَعَاصٍ لَمْ يَتُوبُوا مِنْهَا؛ وَلَمْ يُغْفَرْ لَهُم ابْتِدَاءً- ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا بِإِذْنِ اللهِ.

وَتَأَمَّلْ قَولَهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البَقَرَة: 254]

(1)

، وَالشَّاهِدُ مِنْهُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَمَرَ أَهْلَ الإِيمَانِ بِالنَّفَقَةِ مُحَذِّرًا إِيَّاهُم مِنْ إِتْيَانِ يَومٍ لَا تَنْفَعُهُم فِيهِ شَفَاعَةٌ؛ الأَمْرُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّفَاعَةَ لَيسَتْ مِنْ بَابِ تَحْصِيلِ الحَاصِلِ لِأَهْلِ المِلَّةِ! بَلْ هِيَ مَقْرُونَةٌ بِرِضَى الرَّبِّ سبحانه وتعالى عَنِ المَشْفُوعِينَ وَإِذْنِهِ لِلشَّافِعِينَ بِالشَّفَاعَةِ، هَذَا كُلُّهُ عَدَا عَنْ كَونِهَا دَرَجَاتٍ فِي حَقِيقَتِهَا.

4 -

إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ بَيَّنَ فِي بَعْضِ أَحَادِيثِهِ الشَّرِيفَةِ أَنَّ شَفَاعَتَهُ تُنَالُ بِالأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ -وَلَيسَ بِالدَّعَوَاتِ الفَارِغَةِ مِنَ المَضْمُونِ- وَأَهَمُّ هَذِهِ الأَعْمَالِ التَّوحِيدُ، كَمَا فِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ؛ مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يَومَ القِيَامَةِ؟ فَقَالَ: ((لَقَدْ ظَنَنْتُ يَا أَبَا هُرَيرَةَ أَنْ لَا يَسْأَلَنِي عَنْ هَذَا الحَدِيثِ أَحَدٌ أَوَّلَ مِنْكَ لِمَا رَأَيتُ مِنْ حِرْصِكَ عَلَى الحَدِيثِ، أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَومَ القِيَامَةِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ خَالِصًا مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ))

(2)

.

(1)

وَمِثْلُهَا قَولُ اللهِ عز وجل: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأَنْعَام: 51]؛ حَيثُ كَانَ الإِنْذَارُ لِمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ؛ وَأَنَّ العِلْمَ بِذَلِكَ هُوَ سَبَبُ التَّقْوَى.

(2)

البُخَارِيُّ (99).

ص: 601

وَتَأَمَّلِ الحَدِيثَ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبٍ الأَسْلَمِيِّ؛ قَالَ: كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَتَيتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ، فَقَالَ لِي:((سَلْ))، فَقُلْتُ: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الجَنَّةِ، قَالَ:((أَوَ غَيرَ ذَلِكَ))؟! قُلْتُ: هُوَ ذَاكَ، قَالَ:((فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ))

(1)

.

(1)

صَحِيحُ مُسْلِمٍ (489).

ص: 602

-‌

‌ الشُّبْهَةُ الثَّامِنَةُ: الطَّلَبُ مِنَ الأَمْوَاتِ وَالغَائِبِينَ لَا يُسَمَّى دُعَاءً بَلْ هُوَ نِدَاءٌ، وَالنَّهْيُ إِنَّمَا هُوَ عَنْ دُعَاءِ الأَمْوَاتِ فَقَط؛ وَلَيسَ عَنْ نِدَائِهِم!

الجَوَابُ هُوَ مِنْ أَوجُهٍ:

1 -

إِنَّ هَذَا كَذِبٌ عَلَى اللُّغَةِ؛ فَالنِّدَاءُ هُوَ الدُّعَاءُ، وَلَكِنَّ الفَرْقَ بَينَهُمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ رَفْعِ الصَّوتَ وَخَفْضِهِ، وَلَيسَ مِنْ جِهَةِ حَقِيقَةِ المَعْنَى!

قَالَ أَبُو الهِلَالِ العَسْكَرِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (مُعْجَمُ الفُرُوقِ اللُّغَوِيَّةِ): "الفَرْقُ بَينَ النِّدَاءِ وَالدُّعَاءِ: أَنَّ النِّدَاءَ هُوَ رَفْعُ الصَّوتِ بِمَا لَهُ مَعْنًى، وَالعَرَبِيُّ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ: نَادِ مَعَي؛ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَنْدَى لِصَوتِنَا، أَي: أَبْعَدَ لَهُ، وَالدُّعَاءُ يَكُونُ بِرَفْعِ الصَّوتِ وَخَفْضِهِ، يُقَالُ: دَعَوتُهُ مِنْ بَعِيدٍ وَدَعَوتُ اللهَ فِي نَفْسِي، وَلَا يُقَالَ: نَادَيتُهُ فِي نَفْسِي"

(1)

.

2 -

إِنَّ هَذَا كَذِبٌ عَلَى الشَّرِيعَةِ؛ فَقَدْ سَمّى اللهُ تَعَالَى النِّدَاءَ دُعَاءً فِي كَثِيرٍ مِنَ المَوَاضِعِ، وَإِلَيكَ بَعْضَهَا:

قَالَ تَعَالَى عَنْ نَوحٍ عليه الصلاة والسلام: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [القَمَر: 10]، وَقَالَ أَيضًا:{وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّينَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الكَرْبِ العَظِيمِ} [الأَنْبِيَاء: 76].

وَقَالَ عَنْ زكَرِيَّا عليه الصلاة والسلام: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} [مَرْيَم: 3]، وَقَالَ أَيضًا:{هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} [آلِ عِمْرَان: 38].

وَقَالَ عَنْ يُونُسَ عليه الصلاة والسلام: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ

(1)

مُعْجَمُ الفُرُوقِ اللُّغَوِيَّةِ (ص 38).

ص: 603

عَلَيهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأَنْبِيَاء: 87]، وَقَالَ صلى الله عليه وسلم:((دَعْوَةُ ذِي النُّونِ -إِذْ دَعَا وَهُوَ فِي بَطْنِ الحُوتِ-: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ فِي شَيءٍ قَطُّ إِلَّا اسْتَجَابَ اللهُ لَهُ))

(1)

.

وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَينَهُمْ مَوْبِقًا} [الكَهْف: 52] فَسَمَّى اللهُ تَعَالَى النِّدَاءَ مِنْهُم دُعَاءً.

3 -

إِنَّ هَذَا ضَلَالٌ مِنْ جِهَةِ المَعْنَى؛ فَمَا الغَايَةُ مِنْ نِدَائِهِم وَقَدْ فَرَّقَ اللهُ تَعَالَى بَينَ الحَيِّ وَالمَيِّتِ، وَجَعَلَ الاسْتِجَابَةَ لِلحَيِّ دُونَ المَيِّتِ، فَنِدَاؤُهُ هُوَ كَنِدَاءِ الجِدَارِ الأَصَمِّ، وَالحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا، وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَولَا أَنْ هَدَانَا اللهُ.

قَالَ تَعَالَى: {وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلَا الأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي القُبُورِ} [فَاطِر: 22]، وَقَالَ تَعَالَى أَيضًا:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [الأَحْقَاف: 5]

(2)

.

4 -

إِنَّ الطَّلَبَ مِنَ الحَيِّ -سَوَاءً سُمِّيَ نِدَاءً أَو دُعَاءً- يَجُوزُ فِي الأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي أَقْدَرُ اللهُ تَعَالَى البَشَرَ عَلَيهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيكُمُ النَّصْرُ} [الأَنْفَال: 72]، أَمَّا مَا كَانَ مُخْتَصًّا بِاللهِ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ مِنَ الإِحْيَاءِ وَالإِمَاتَةِ وَالفَلَاحِ فِي الدُّنْيَا وَالفَوزِ بِالآخِرَةِ وَكَشْفِ الكُرُبَاتِ وَمَعْرِفَةِ مَا فِي الضَّمِيرِ

(1)

صَحِيحٌ. التِّرْمِذِيُّ (3505) عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (5695).

(2)

وَتَأَمَّلِ التَّعْبِيرَ بِـ (مَنْ) الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ المَدْعُوَّ مِنْ دُونِ اللهِ عَاقِلٌ وَلَيسَ بِجَمَادٍ أَصَمٍّ! فَهُم كَانُوا يَعْبُدُونَ الصَّالِحِينَ وَالمَلَائِكَةَ طَمَعًا فِي شَفَاعَتِهِم.

ص: 604

وَالرِّزْقِ بِالبَنِين وَالإِمْدَادِ بِالأَمْوَالِ مِنَ الغَيبِ وَكُلِّ مَا كَانَ خَارِجًا عَنْ طَاقَةِ البَشَرِ؛ فَلَا يَجُوزُ، وَهُوَ مِنَ الشِّرْكِ بِاللهِ تَعَالَى مِنْ جِهَةِ الرُّبُوبِيَّةِ فَضْلًا عَنْ جِهَةِ العُبُودِيَّةِ، قَالَ تَعَالَى:{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأَعْرَاف: 194].

وَأَيضًا الطَّلَبُ مِنَ الغَائِبِ مِنَ البَشَرِ -وَإِنْ كَانَ حَيًّا- لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ هَذَا المَدْعُوَ بَشَرٌ لَا يَسْمَعُ أَكْثَرَ مِمَّا يَسْمَعُهُ البَشَر،؛ فَدَعْوَى سَمَاعِهِ وَحُضُورِهِ هُوَ إِشْرَاكٌ بِهِ مَعَ اللهِ تَعَالَى الَّذِي هُوَ مَعَنَا أَينَمَا كُنَّا، فَيَكُونُ ذَلِكَ شِرْكًا فِي المَعِيَّةِ وَالعِلْمِ وَالإِحَاطَةِ.

وَقَدْ سَبَقَ أَيضًا أَنَّ نِدَاءَ الأَمْوَاتِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ أَعْمَالِ الكُفَّارِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْوَاتٌ غَيرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النَّحْل: 21].

وَأَخِيرًا؛ أَقُولُ: بَلْ لَو كَانَ المَيِّتُ يَقْضِي حَوَائِجَ المُسْلِمِينَ؛ لَكَانَ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ عَمَلِهِ الصَّالِحِ الجاري بَعْدَ مَوتِهِ الَّذِي يُؤْجَرُ عَلَيهِ؛ فَمَا الجَمْعُ مَعَ الحَدِيثِ الَّذِي فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَو عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَو وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ))

(1)

؟! وَلَكِنَّ الأَمْرَ هُوَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَمَاذَا بَعْدَ الحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يُونُس: 32].

وَيُقَالُ أَيضًا لِهَذَا المُسَاوِي بَينَ الحَيِّ وَالمَيِّتِ أَنَّهُ لَو أَعْطَى إِنْسَانٌ إِنْسَانًا مَالًا وَقَالَ: أَودِعْهُ عِنْدَ ثِقَةٍ، فَذَهَبَ بِهِ الوَكِيلُ وَأَودَعَهُ عِنْدَ قَبْرِ رَجُلٍ صَالِحٍ أَوْ

(1)

صَحِيحُ مُسْلِمٍ (1631).

ص: 605

وَلِيٍّ، وَقَالَ: هَذَا وَدِيعَةٌ عِنْدَكَ لِفُلَانٍ، وَاسْتَحْفَظَهُ إِيَّاهُ؛ فَضَاعَ! لَعَدَّهُ النَّاسُ مَجْنُونًا وَلَأَلْزَمُوهُ الضَّمَانَ.

وَكَمَا لَو أَنَّ مُغَسِّلًا -يُغَسِّلُ مَيِّتًا- ذَهَبَ يَسْتَأْذِنُهُ فِي أَنْ يُغَسِّلَهُ بِمَاءٍ بَارِدٍ أَو حَارٍّ؛ أَلَا يَكُونُ عِنْدَ جَمِيعِ النَّاسِ أَحْمَقًا؟! فَكَيفَ إِذَا طَلَبَ مِنْهُ أَنْ يَقْضِيَ حَاجَتَهُ وَهُوَ فِي هَذِهِ الحَالِ مَيِّتٌ بَينَ يَدِي مُغَسِّلٍ!

ص: 606

-‌

‌ الشُّبْهَةُ التَّاسِعَةُ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى يُمَلِّكُ الشَّفَاعَةَ مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ، وَأَولَى النَّاسِ بِذَلِكَ هُمُ الصَّالِحُونَ،

وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} [مَرْيَم: 87]، وَقَولُهُ:{وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزُّخْرُف: 86]، فَطَلَبُ الشَّفَاعَةِ مِنْهُم صَحِيحٌ إِذًا؛ مُوَافِقٌ لِلأُصُولِ!!

الجَوَابُ:

1 -

إِنَّ الشَّفَاعَةَ لَا يَمْلُكُهَا أَحَدٌ إِلَّا اللهُ تَعَالَى كَمَا أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ تَعَالَى، فَقَالَ سُبْحَانَهُ:{قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيهِ تُرْجَعُونَ} [الزُّمَر: 44].

وَأَمَّا مَا يُمْكِنُ قَولُهُ فِي هَذَا المَقَامِ

(1)

أَنَّ تَمَلُّكَ المُؤْمِنِينَ لِلشَّفَاعَةِ هُوَ بِقَيدِ أَنْ يَرْضَى اللهُ تَعَالَى عَنِ المَشْفُوعِ فِيهِ، لِأَنَّ الشَّفَاعَةَ المُثْبَتَةَ فِي الشَّرِيعَةِ لَهَا شَرْطَانِ هُمَا: الإِذْنُ لِلشَّافِعِ وَقَدْ تَحَقَّقَ هُنَا -جَدَلًا-، وَالثَّانِي هُوَ الرِّضَى عَنِ المَشْفُوعِ كَمَا قَالَ

(1)

عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّ الاسْتِثْنَاءَ فِي الآيَتَينِ مُتَّصِلٌ -عَلَى أَحَدِ قَولَي المُفَسِّرِينَ-؛ وَإِلَّا فَإِنَّ الحَافِظَ ابْنَ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الاسْتِثْنَاءَ فِي الآيَةِ مُنْقَطِعٌ، قَالَ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (7/ 243):" {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} أَي: مِنَ الأَصْنَامِ وَالأَوثَانِ (الشَّفَاعَةَ) أَي: لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الشَّفَاعَة لَهُمْ {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} هَذَا اسْتِثْنَاء مُنْقَطِع، أَي: لَكِنْ مَنْ شَهِدَ بِالحَقِّ عَلَى بَصِيرَةٍ وَعِلْمٍ؛ فَإِنَّهُ تَنْفَعُ شَفَاعَتُهُ عِنْدَهُ بِإِذْنِهِ لَهُ".

قُلْتُ: وَمَعْنَى الانْقِطَاعِ فِي الاسْتِثْنَاءِ أَنَّ المُسْتَثْنَى لَيسَ جُزْءًا مِنَ المُسْتَثْنَى مِنْهُ، أَمَّا المُتَّصِلُ فَمَفَادُهُ هُنَا أَنَّ الَّذِينَ يُدْعَونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كَانُوا مُوَحِّدِينَ؛ فَإِنَّهُم يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ لِغَيرِهِم بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَى لَهُم، وَفِيمَنْ رضي الله عنهم.

ص: 607

تَعَالَى عَنِ الشُّفَعَاءِ: {يَعْلَمُ مَا بَينَ أَيدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأَنْبِيَاء: 28].

2 -

إِنَّ إِثْبَاتَ مِلْكِ الشَّفَاعَةِ لِلصَّالِحِينَ لَا يَعْنِي طَلَبَهَا مِنْهُم! لِأَنَّ هَذَا هُوَ شِرْكُ المُشْرِكِينَ، حَيثُ أَنَّ عِيسَى وَمَرْيَمَ وَالعُزَيرَ هُمْ مِنْ سَادَاتِ الأَولِيَاءِ مِنَ الصَّالِحِينَ الَّذِينَ هُمْ أَولَى مِنْ غَيرِهِم بِتَمَلُّكِ الشَّفَاعَةِ -عَلَى القَولِ بِالتَّمَلُّكِ- ومع هَذَا فَقَدْ جَاءَ بَيَانُ أَنَّ مَنْ دَعَاهُم كَانَ مُشْرِكًا مَذْمُومًا شَرْعًا، قَالَ تَعَالَى فِي مَعْرِضِ تَحَدِّي المُشْرِكِينَ:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإِسْرَاء: 56 - 57].

قَالَ البَغَوِيُّ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ: "قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: وَهُمْ عِيسَى وَأُمُّهُ وَعُزَيرٌ وَالمَلَائِكَةُ وَالشَّمْسُ وَالقَمَرُ وَالنُّجُومُ، (يَبْتَغُونَ) أَي: يَطْلُبُونَ إِلَى رَبِّهِمُ (الوَسِيلَةَ) أَيِ القُرْبَةَ. وَقِيلَ: الوَسِيلَةُ الدَّرَجَةُ العُلْيَا، أَي: يَتَضَرَّعُونَ إِلَى اللهِ فِي طَلَبِ الدَّرَجَةِ العُلْيَا"

(1)

، فَبَيَّنَ اللهُ تَعَالَى أَنَّ هَؤُلَاءِ المَعْبُودَاتِ أَنْفُسِهَا هُمْ أَصْلًا يَدْعُونَ اللهَ تَعَالَى وَيَتَقَرَّبُونَ إِلَيهِ.

3 -

إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَيِّدُ البَشَرِ لَمْ يَمْلِكْ لِأَقْرَبِ النَّاسِ إِلَيهِ شَيئًا مِنْ دُونِ اللهِ، كَمَا فِي قَولِهِ صلى الله عليه وسلم لِابْنَتِهِ فَاطْمَةَ رضي الله عنها:((سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي؛ لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيئًا))

(2)

.

(1)

تَفْسِيرُ البَغَوِيِّ (5/ 101).

(2)

رَوَاهُ البُخَارِيُّ (4771)، وَمُسْلِمٌ (206) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا.

ص: 608

4 -

إِنَّ الشَّفَاعَةَ لَو كَانَتْ مِلْكًا -جَدَلًا- لِلصَّالِحِينَ؛ فَالأَحْيَاءُ مِنْهُم يَمْلِكُونَ الدُّعَاءَ لِمَنْ طَلَبَ مِنْهُم، وَأَمَّا الأَمْوَاتُ مِنْهُم فَهُم فِي البَرْزَخِ، وَلَا يَدْرُونَ عَنِ الَّذِينَ يَدْعُونَهُم شَيئًا؛ فَضْلًا عَنِ الاسْتِجَابَةِ لَهُم، قَالَ تَعَالَى:{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ المُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ القِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فَاطِر: 13 - 14].

ص: 609

-‌

‌ الشُّبْهَةُ العَاشِرَةُ: إِنَّ الأَنْبِيَاءَ وَالصَّالِحِينَ أَحْيَاءٌ يُجِيبُونَ مَنْ دَعَاهُم -وَمِثْلُهُمُ الشُّهَدَاءُ- لِذَلِكَ يَجُوزُ دُعَاؤُهُم وَالاسْتِغَاثَةُ بِهِم بِخِلَافِ الأَصْنَامِ فَهِيَ حِجَارَةٌ لَا تَسْمَعُ وَلَا تَعْقِلُ!

وَهَاكَ الأَدِلَّةَ مِنَ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى حَيَاتِهِم:

1 -

قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ} [البَقَرَة: 154].

2 -

قَولُ المُصَلِّي فِي التَّشَهُّدِ -بِلَفْظِ الخِطَابِ- ((السَّلَامُ عَلَيكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ)) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ

(1)

، وَحَدِيثُ:((الأَنْبِيَاءُ أَحْيَاءٌ فِي قُبُورِهِم يُصَلُّونَ))

(2)

.

3 -

عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا: ((إِذَا انْفَلَتَتْ دَابَّةُ أَحَدِكُم بِأَرْضٍ فَلَاةٍ؛ فَلْيُنَادِ: يَا عِبَادَ اللهِ احْبِسُوا؛ يَا عِبَادَ اللهِ احْبِسُوا، فَإِنَّ للهِ حَاضِرًا فِي الأَرْضِ سَيَحْبِسُهُ)). رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ

(3)

.

4 -

عَنْ عُتْبَةَ بْنِ غَزْوَان مَرْفُوعًا: ((إِذَا أَضَلَّ أَحَدُكُم شَيئًا أو أَرَادَ غَوثًا -وهُوَ بِأرْضٍ لَيسَ بِها أَنِيسٌ- فَلْيَقُلْ يَا عِبَادَ اللهِ أغِيثُونِي؛ يَا عِبَادَ اللهِ أغِيثُونِي؛ فَإِنَّ للهِ تَعَالَى عِبَادًا لَا نَرَاهُمْ)). رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ

(4)

.

5 -

رَوَى ابْنُ أَبِي شَيبَةَ عَنْ مَالِكِ الدَّارِ -وَكَانَ خَازِنَ عُمَرَ- قَالَ: أَصَابَ النَّاسَ قَحْطٌ فِي زَمَنِ عُمَرَ، فَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى قَبْرِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ اسْتَسْقِ لِأُمَّتِكَ؛

(1)

البُخَارِيُّ (1202)، وَمُسْلِمٌ (402).

(2)

صَحِيحٌ. أَبُو يَعْلَى (6888) عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (621).

(3)

ضَعِيفٌ (وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ). الطَّبَرَانِيُّ فِي الكَبِيرِ (10/ 217)، وَأَبُو يَعْلَى (5269).

(4)

ضَعِيفٌ. الطَّبَرَانِيُّ فِي الكَبِيرِ (17/ 117). الضَّعِيفَةُ (656).

ص: 610

فَإِنَّهُمْ قَدْ هَلَكُوا، فَأَتَى الرَّجُلَ فِي المَنَامِ؛ فَقِيلَ لَهُ: ائْتِ عُمَرَ فَأَقْرِئْهُ السَّلامَ، وَأَخْبِرْهُ أَنَّكُمْ مُسْتَقِيونَ، وَقُلْ لَهُ: عَلَيكَ الكَيسُ، عَلَيك الكَيسُ، فَأَتَى عُمَرَ فَأَخْبَرَهُ فَبَكَى عُمَرُ، ثُمَّ قَالَ:(يَا رَبِّ لَا آلُو إلاَّ مَا عَجَزْتُ عَنْهُ)

(1)

.

الجَوَابُ:

1 -

إِنَّ إِثْبَاتَ الحَيَاةِ لِلأَنْبِيَاءِ وَالشُّهَدَاءِ وَلِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَيسَ عَلَى تِلْكَ الصُّورَةِ الَّتِي يُوهِمُهَا أَهْلُ البِدَعِ! فَكَونُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَيٌّ فِي قَبْرِهِ -كَمَا أَنَّ الشُّهَدَاءَ أَحْيَاءٌ فِي قُبُورِهِم- لَا يَعْنِي ذَلِكَ أَنَّ لَهُم اتِّصَالًا بِالدُّنْيَا! كَمَا قَالَ تَعَالَى: {بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ} [البَقَرَة: 154]، وَكَمَا قَالَ أَيضًا:{بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [آلِ عِمْرَان: 169]، فَصِفَةُ الحَيَاةِ لَهُم هِيَ فِي البَرْزَخِ وَلَيسَتْ فِي الدُّنْيَا.

وَتَأَمَّلْ قَولَهُ تَعَالَى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزُّمَر: 30]، وَأَيضًا حَدِيثَ:((وَلَيُذَادَنَّ بِأَقْوَامٍ مِنْ أُمَّتِي عَنِ الحَوضِ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أَصْحَابِي! فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيهِ

(2)

.

وَفِي حَدِيثِ قَبْضِ الرُّوحِ أَنَّ أَرْوَاحَ المُؤْمِنِينَ تَسْأَلُ الرُّوحَ المَقْبُوضَةَ حَدِيثًا عَنْ أَهْلِ الدُّنْيَا وَأَحْوَالِهِم مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُم مَعْزُولُونَ عَنْهُم تَمَامًا إِلَّا مِنْ جِهَةِ مَا يُخْبَرُونَ بِهِ عَنْهُم

(3)

.

(1)

ضَعِيفٌ. مُصَنَّفُ ابْنِ أَبِي شَيبَةَ (32002). اُنْظُرْ كِتَابَ (التَّوَسُّلُ) لِلشَّيخِ الأَلْبَانِيِّ رحمه الله (ص 118).

وَقَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله فِي الفَتْحِ (2/ 495): "وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيبَةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ عَنْ مَالِكِ الدَّارِ

".

قُلْتُ: وَلَكِنَّ (مَالِكَ الدَّارِ) هَذَا مَجْهُولُ الحَالِ، وَسَيَأْتِي مَزِيدُ بَيَانٍ.

(2)

البُخَارِيُّ (6576)، وَمُسْلِمٌ (2297) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا.

(3)

وَالحَدِيثُ بِتَمَامِهِ عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((إِذَا حُضِرَ المُؤْمِنُ؛ أَتَتْهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ بِحَرِيرَةٍ

=

ص: 611

وَنَقُولُ -مِنْ بَابِ الإِفْحَامِ- لِمَنْ لَمْ يَقْنَعْ بِكَونِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الآنَ مَيِّتٌ: كَمْ عُمُرُهُ الآنَ عليه الصلاة والسلام؟ وَفِي الجَوَابِ مَقْنَعٌ لِمُرِيدِ الهِدَايَةِ، وَالحَمْدُ للهِ.

2 -

إِنَّ المَقْصُودَ مِنْ حَيَاةِ الشُّهَدَاءِ هُوَ تَنَعُّمُهُم فِي البَرْزَخ وَلَيسَ أَنَّهُم مَا زَالَوا أَحْيَاءَ فِي الدُّنْيَا! وَإِلَّا فَكَيفَ يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عَنْهُم أَنَّهُم قُتِلُوا أَصْلًا؟! كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُم: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آلِ عِمْرَان: 169].

قَالَ البَغَوِيُّ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ

(1)

: " {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ} نَزَلَتْ فِي قَتْلَى بَدْرٍ مِنَ المُسْلِمِينَ، وَكَانُوا أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، سِتَّةٌ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَثَمَانِيَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ؛ كَانَ النَّاسُ يَقُولُونَ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ: مَاتَ فُلَانٌ، وَذَهَبَ عَنْهُ نَعِيمُ الدُّنْيَا وَلَذَّتُهَا! فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى:{وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ} كَمَا قَالَ فِي شُهَدَاءِ أُحُدٍ: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آلِ عِمْرَان: 169]، قَالَ الحَسَنُ: إِنَّ الشُّهَدَاءَ أَحْيَاءٌ

=

بَيضَاءَ، فَيَقُولُونَ: اخْرُجِي رَاضِيَةً مَرْضِيًّا عَنْكِ إِلَى رَوحِ اللَّهِ وَرَيحَانٍ، وَرَبٍّ غَيرِ غَضْبَانَ، فَتَخْرُجُ كَأَطْيَبِ رِيحِ المِسْكِ، حَتَّى أَنَّهُ لَيُنَاوِلُهُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، حَتَّى يَأْتُونَ بِهِ بَابَ السَّمَاءِ، فَيَقُولُونَ: مَا أَطْيَبَ هَذِهِ الرِّيحَ الَّتِي جَاءَتْكُمْ مِنَ الأَرْضِ! فَيَأْتُونَ بِهِ أَرْوَاحَ المُؤْمِنِينَ. فَلَهُمْ أَشَدُّ فَرَحًا بِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ بِغَائِبِهِ يَقْدَمُ عَلَيهِ، فَيَسْأَلُونَهُ: مَاذَا فَعَلَ فُلَانٌ؟ مَاذَا فَعَلَ فُلَانٌ؟ فَيَقُولُونَ: دَعُوهُ؛ فَإِنَّهُ كَانَ فِي غَمِّ الدُّنْيَا، فَإِذَا قَالَ: أَمَا أَتَاكُمْ؟ قَالُوا: ذُهِبَ بِهِ إِلَى أُمِّهِ الهَاوِيَةِ. وَإِنَّ الكَافِرَ إِذَا احْتُضِرَ؛ أَتَتْهُ مَلَائِكَةُ العَذَابِ بِمِسْحٍ، فَيَقُولُونَ: اخْرُجِي سَاخِطَةً مَسْخُوطًا عَلَيكِ إِلَى عَذَابِ اللَّهِ عز وجل، فَتَخْرُجُ كَأَنْتَنِ رِيحِ جِيفَةٍ، حَتَّى يَأْتُونَ بِهِ بَابَ الأَرْضِ، فَيَقُولُونَ: مَا أَنْتَنَ هَذِهِ الرِّيحَ! حَتَّى يَأْتُونَ بِهِ أَرْوَاحَ الكُفَّارِ)). صَحِيحٌ. النَّسَائِيُّ (1833). الصَّحِيحَةُ (1309).

(1)

تَفْسِيرُ البَغَوِيِّ (1/ 168).

ص: 612

عِنْدَ اللهِ تَعَالَى: تُعْرَضُ أَرْزَاقُهُمْ عَلَى أَرْوَاحِهِمْ فَيَصِلُ إِلَيهِمُ الرَّوحُ وَالفَرَحُ، كَمَا تُعْرَضُ النَّارُ عَلَى أَرْوَاحِ آلِ فِرْعَونَ غُدْوَةً وَعَشِيَّةً فَيَصِلُ إِلَيهِمُ الوَجَعُ"

(1)

.

3 -

كَونُهُم أَحْيَاءً فِي قُبُورِهِم لَا يَعْنِي سَمَاعَهُم لِمَنْ يَسْتَغِيثُ بِهِم! لِقَولِهِ تَعَالَى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ المَوْتَى} [النَّمْل: 80]

(2)

.

4 -

إِنَّ الاسْتِغَاثَةَ وَالتَّعَلُّقَ بِهِم فِي تَفْرِيجِ الكُرُبَاتِ شِرْكٌ، بَلْ أَصْلُ شِرْكِ العَالَمِينَ هُوَ التَّعَلُّقُ بِالصَّالِحِينَ وَجَعْلُهُم وَسَائِطَ بَينَ النَّاسِ وَبَينَ اللهِ تَعَالَى، قَالَ تَعَالَى:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [الأَحْقَاف: 5].

5 -

إِنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ بَلْ وَرَدَ عَنِ السَّلَفِ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ.

عَنْ عَلِيِّ بْنِ الحُسَينِ رضي الله عنه؛ أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا يَجِيءُ إِلَى فُرْجَةٍ كَانَتْ عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَيَدْخُلُ فِيهَا فَيَدْعُو، فَنَهَاهُ، فَقَالَ: أَلَا أُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا سَمِعْتُهُ مِنْ أَبِي عَنْ جَدِّي عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: ((لا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا، وَلَا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا؛ فَإِنَّ تَسْلِيمَكُمْ يَبْلُغُنِي أَينَمَا كُنْتُمْ))

(3)

.

(1)

وَمِنْ لَطَائِفِ مَا يُذْكَرُ مِنَ القَصَصِ هُنَا: مَا حُكِيَ أَنَّ رَجُلًا يُنْسَبُ إِلَى عِلْمٍ! قَالَ لِرَجُلٍ عَامِّيٍّ: أَنْتُم مَا لِلأَولِيَاءِ عِنْدَكُم قَدْرٌ! وَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ فِي الشُّهَدَاءِ: إِنَّهُم أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِم يُرْزَقُونَ. قَالَ لَهُ العَامِّيُّ: هَلْ قَالَ: يَرْزُقُونَ؟ -يَعْنِي: بِفَتْحِ اليَاءِ- أَو قَالَ يُرْزَقُونَ؟ -يَعْنِي بِالضَّمِّ-؛ فَإِنْ كَانَ بِالفَتْحِ؛ فَأَنَا أَطْلُبُ مِنْهُم، وَإِنْ كَانَ بِالضَّمِّ فَأَنَا أَطْلُبُ مِنَ الَّذِي يَرْزُقُهُم، فَأُفْحِمَ الأَوَّلُ وَسَكَتَ.

(2)

وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ عَدَمِ سَمَاعِ الأَمْوَاتِ فِي مُلْحَقِ (مُخْتَصَرُ الآيَاتِ البَيِّنَاتِ فِي عَدَمِ سَمَاعِ الأَمْوَاتِ) مِنْ هَذَا الكِتَابِ المُبَارَكِ إِنْ شَاءَ اللهُ.

(3)

صَحِيحٌ لِغَيرِهِ. الضِّيَاءُ المَقْدِسِيُّ فِي المُخْتَارَةِ (2/ 49)، وَقَالَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ تَخْرِيجُ أَحَادِيثِ فَضَائِلِ الشَّامِ (ص 52):"صَحِيحٌ بِطُرُقِهِ وشَوَاهِدِهِ".

ص: 613

6 -

أَمَّا بِخُصُوصِ دُعَاءِ التَّشَهُّدِ فِي الصَّلَاةِ؛ فَهُوَ أَمْرٌ تَعَبُّدِيٌّ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ لَفْظِ الخِطَابِ أَنْ يَكُونَ صلى الله عليه وسلم سَامِعًا لِمَنْ خَاطَبَهُ أَصْلًا، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ حَاضِرًا، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى المَطْلُوبِ لِكُلِّ مَا يُطْلَبُ مِنْهُ!

فَلَفْظَ الخِطَابِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَبَدًا أَنْ يَكُونَ المُخَاطَبُ سَامِعًا لِلنِّدَاءِ، بَلْ إِنَّ الجَمَادَاتِ قَدْ تُنَادَى، كَمَا فِي مُخَاطَبَةِ عُمَرَ رضي الله عنه لِلحَجَرِ الأَسْوَدِ فِي قَولِهِ:(إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ)

(1)

.

وَمِثْلُهُ قَولُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَمَا هَاجَرَ فَخَاطَبَ مَكَّةَ قَائِلًا: ((وَاللهِ؛ إِنَّكِ لَخَيرُ أَرْضِ اللهِ وَأَحَبُّ أَرْضِ اللهِ إِلَيَّ، وَلَولَا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ))

(2)

.

وَكَمُخَاطَبَةِ الصَّحَابَةِ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي حَيَاتِهِ فِي تَشَهُّدِ الصَّلَاةِ بِقَولِهِم: (السَّلَامُ عَلَيكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ) وَهُم فِي جَمِيعِ المَسَاجِدِ؛ وَلَمْ يَكُنْ يَسْمَعُهُم وَيَرُدُّ عليهم السلام -وَرَدُّ السَّلَامِ وَاجِبٌ كَمَا لَا يَخْفَى-؛ وَلَكِنَّهَا عِبَادَةٌ يُتعَبَّدُ اللهُ تَعَالَى بِهَا -أَي: دُعَاءُ دُخُولِ المَقَابِرِ، وَالتَّشَهُّدُ-.

وِمِثْلُهُ حَدِيثُ: ((مَنْ رَأَى مُبْتَلى، فَقَالَ: الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَافَانِي مِمَّا ابْتَلَاكَ بِهِ، وَفَضَّلَنِي عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقَ تَفْضِيلًا؛ لَمْ يُصِبْهُ ذَلِكَ البَلَاءُ))

(3)

.

قَالَ المُنَاوِيُّ رحمه الله: "قَالَ العُلَمَاءُ: يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ هَذَا الذِّكْرَ سِرًّا بِحَيثُ يُسْمِعُ نَفْسَهُ وَلَا يُسْمِعْهُ المُبْتَلَى؛ إِلَّا أَنْ تَكُونَ بَلِيَّتُهُ مَعْصِيَةً فَيُسْمِعُهُ -إِنْ لَمْ يَخَفْ مَفْسَدَةً-"

(4)

!

(1)

البُخَارِيُّ (1597).

(2)

صَحِيحٌ. التِّرْمِذِيُّ (3925) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الحَمْرَاءِ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (7089).

(3)

صَحِيحٌ. التِّرْمِذِيُّ (3432) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (602).

(4)

فَيضُ القَدِيرِ (6/ 130).

ص: 614

بَلْ قَدْ عَلِمَ أَصْحَابُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الفَرْقَ بَينَ حَيَاتِهِ وَمَوتِهِ فِي نَفْسِ هَذَا التَّشَهُّدِ، وَقَد أَشَارَ إِلَى هَذِهِ الحَقِيقَةِ الصَّحَابيُّ الجَلِيلُ ابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه فِي قَولِهِ:(عَلَّمَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم -وَكَفِّي بَينَ كَفَّيهِ- التَّشَهُّدَ كَمَا يُعَلِّمُنِي السُّورَةَ مِنَ القُرْآنِ: ((التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ، السَّلَامُ عَلَيكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَينَا وَعَلَى عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ)) وَهُوَ بَينَ ظَهْرَانَينَا؛ فَلَمَّا قُبِضَ قُلْنَا: السَّلَامُ -يَعْنِي: عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) رَوَاهُ البُخَارِيُّ

(1)

(2)

، وَكَمَا قَالَ اللهُ عَزَّ شَأْنُهُ أَيضًا:{وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المُؤْمِنُون: 100].

7 -

وَأَمَّا حَدِيثُ: ((إِذَا انْفَلَتَتْ دَابَّةُ أَحَدِكُم بِأَرْضٍ فَلَاةٍ؛ فَلْيُنَادِ: يَا عِبَادَ اللهِ احْبِسُوا؛ يَا عِبَادَ اللهِ احْبِسُوا، فَإِنَّ للهِ حَاضِرًا فِي الأَرْضِ سَيَحْبِسُهُ)) فَهُوَ ضَعِيفٌ.

(1)

البُخَارِيُّ (6265).

(2)

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله فِي الفَتْحِ (2/ 314): "كَذَا وَقَعَ فِي البُخَارِيِّ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ وَالسَّرَّاجُ وَالجَوزَقِيُّ وَأَبُو نُعَيمٍ الأَصْبَهَانِيُّ وَالبَيهَقِيُّ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ إِلَى أَبِي نُعَيمٍ شَيخِ البُخَارِيِّ فِيهِ بِلَفْظِ:(فَلَمَّا قُبِضَ؛ قُلْنَا: السَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ) بِحَذْفِ لَفْظِ (يَعْنِي) وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ بْنُ أَبِي شَيبَةَ عَنْ أَبِي نُعَيمٍ.

قَالَ السُّبْكِيُّ فِي شَرْحِ المِنْهَاجِ -بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ مِنْ عِنْدِ أَبِي عَوَانَةَ وَحْدَهُ-: إِنْ صَحَّ هَذَا عَنِ الصَّحَابَةِ؛ دَلَّ عَلَى أَنَّ الخِطَابَ فِي السَّلَامِ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم غَيرُ وَاجِبٍ؛ فَيُقَالُ: السَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ.

قُلْتُ: قَدْ صَحَّ بِلَا رَيبٍ، وَقَدْ وَجَدْتُ لَهُ مُتَابِعًا قَوِيًّا، قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيجٍ، أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ: أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يَقُولُونَ -وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَيٌّ- السَّلَامُ عَلَيكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ؛ فَلَمَّا مَاتَ قَالُوا: السَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ. وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ. وَأَمَّا مَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيدَةَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَّمَهُمُ التَّشَهُّد؛ فَذَكَرَهُ، قَالَ: فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (إِنَّمَا كُنَّا نَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ -إِذْ كَانَ حَيًّا! -) فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: (هَكَذَا عُلِّمْنَا! وَهَكَذَا نُعَلِّمُ)، فَظَاهِرٌ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَه بَحْثًا وَأَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ لَمْ يَرْجِعْ إِلَيهِ، لَكِنَّ رِوَايَةَ أَبِي مَعْمَرٍ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ أَبَا عُبَيدَةَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِيهِ؛ وَالإِسْنَادُ إِلَيهِ مَعَ ذَلِكَ ضَعِيفٌ".

ص: 615

قَالَ الحَافِظُ الهَيثَمِيُّ رحمه الله: "رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى وَالطَّبَرَانِيُّ وَزَادَ (سَيَحْبِسُهُ عَلَيكُم). وَفِيهِ مَعْرُوفُ بْنُ حَسَّان وَهُوَ ضَعِيفٌ"

(1)

.

وَأَيضًا؛ فَإِنَّ الحَدِيثَ الآخَرَ -حَدِيثَ عُتْبَةَ بْنِ غَزْوَان- هُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا، وَمِنْ أَوجُهِ ضَعْفِهِ أَنَّ فِيهِ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ شَرِيكٍ -وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ اللهِ القَاضِي- وَأَبَاهُ؛ كِلَاهُمَا ضَعِيفَانِ، قَالَ الحَافِظُ فِي الأَوَّلِ مِنْهُمَا:"صَدُوقٌ يُخْطِئُ"، وَقَالَ فِي أَبِيهِ:"صَدُوقٌ يُخْطِئُ كَثِيرًا"، وَذَكَرَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله غَيرَ ذَلِكَ مِنَ العِلَلِ أَيضًا

(2)

.

وَأَجْوَدُ مَا يُمْكِنُ إِيرَادُهُ

(3)

فِي هَذَا المَقَامِ -مِنْ جِهَةِ الإِسْنَادِ- الأَثَرُ عَنِ ابْنِ

(1)

مَجْمَعُ الزَّوَائِدِ (17100).

وَقَالَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله فِي الضَّعِيفَةِ (655) -بَعْدَ ذِكْرِهِ العِلَّةَ الأُولَى-: "العِلَّةُ الثَّانِيَةُ: الانْقِطَاعُ، وَبِهِ أَعَلَّهُ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ، فَقَالَ: حَدِيثٌ غَرِيبٌ، أَخْرَجَهُ ابْنُ السُّنِّيِّ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَفِي السَّنَدِ انْقِطَاعٌ بَينَ ابْنِ برَيدَةَ وَابْنِ مَسْعُودٍ. نَقَلَهُ ابْنُ علَّانَ فِي (شَرْحُ الأَذْكَارِ)(5/ 150).

وَقَالَ الحَافِظُ السَّخَاوِيُّ فِي (الابْتِهَاجُ بِأَذْكَارِ المُسَافِرِ وَالحَاجِّ)(ص 39): وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ. لَكِنْ قَالَ النَّوَوِيُّ: إِنَّهُ جَرَّبَهُ هُوَ وَبَعْضُ أَكَابِرِ شُيُوخِهِ!

قُلْتُ [الأَلْبَانِيُّ]: العِبَادَاتُ لَا تُؤْخَذُ مِنَ التَّجَارِبِ! سِيَّمَا مَا كَانَ مِنْهَا فِي أَمْرٍ غَيبِيٍّ كَهَذَا الحَدِيثِ، فَلَا يَجُوزُ المَيلُ إِلَى تصَحِيحِهِ بِالتَّجْرِبَةِ!

كَيفَ وَقَدْ تَمَسَّكَ بِهِ بَعْضُهُم فِي جَوَازِ الاسْتِغَاثَةِ بِالمَوتَى عِنْدَ الشَّدَائِدِ وَهُوَ شِرْكٌ خَالِصٌ! وَاللهُ المُسْتَعَانُ.

وَمَا أَحْسَنَ مَا رَوَى الهَرَوِيُّ فِي (ذَمِّ الكَلَامِ)(4/ 68/1) أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ المُبَارَكِ ضَلَّ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ فِي طَرِيقٍ وَكَانَ قَدْ بَلَغَهُ أَنَّ مَنِ اضْطُرَّ -كَذَا الأَصْلُ، وَلَعَلَّ الصَّوَابَ: ضَلَّ- فِي مَفَازَةٍ فَنَادَى: عِبَادَ اللهِ أَعِينُونِي! أُعِينَ. قَالَ: فَجَعَلْتُ أَطْلُبُ الجُزْءَ أَنْظُرُ إِسْنَادَهُ. قَالَ الهَرَوِيُّ: فَلَمْ يَسْتَجِزْ أَنْ يَدْعُوَ بِدُعَاءٍ لَا يَرَى إِسْنَادَهُ. قُلْتُ: فَهَكَذَا؛ فَلَيكُنِ الاتِّبَاعُ".

(2)

الضَّعِيفَةُ (656).

(3)

وَهُوَ مِنْ بَابِ أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ يَذْكُرُونَ مَا لَهُم وَمَا عَلَيهِم، وَلَيسَ فِي شَيء مِنْ ذَلِكَ مَا يُحَابَى عَلَى حِسَابِ الحَقِّ وَالشَّرِيعَةِ! فَاللَّهُمَّ؛ اهْدِنَا لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الحَقِّ بِإِذْنِكَ؛ إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.

ص: 616

عَبَّاسٍ: ((إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً فَضْلًا -سِوَى الحَفَظَةِ- يَكْتُبُونَ مَا سَقَطَ مِنْ وَرَقِ الشَّجَرِ؛ فَإِذَا أَصَابَتْ أَحَدَكُمْ عَرْجَةٌ فِي سَفَرٍ؛ فَلِيُنَادِ: أَعِينُوا عِبَادَ اللهِ؛ رَحِمَكُمُ اللهُ))

(1)

.

وَلَنَا فِيهِ -بِتَوفِيقِ اللهِ- كَلِمَاتٌ:

أَوَّلًا: أَنَّ الصَّوَابَ وَقْفُهُ وَلَيسَ رَفْعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم! فَإِنَّ الحَدِيثَ جَاءَ مَرْفُوعًا عِنْدَ البَزَّارِ، وَمَوقُوفًا عِنْدَ البَيهَقِيِّ فِي الشُّعَبِ، وَالرُّوَاةُ فِيهِ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيدٍ

(2)

مُخْتَلِفُونَ فِي الوَقْفِ وَالرَّفْعِ، وَلَكِنَّ جَعْفَرَ بْنَ عَونٍ (الرَّاوِي لِرِوَايَةِ الوَقْفِ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيدٍ فِي الشُّعَبِ) أَوثَقُ مِنْ حَاتِمِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ (وَهُوَ الرَّاوِي لِرِوَايَةِ الرَّفْعِ عَنْ أُسَامَةَ عِنْدَ البَزَّارِ)

(3)

.

ثَانِيًا: أَنَّ كَونَهُ مَوقُوفًا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما لَا يَعْنِي كَونَهُ حُجَّةً فِي هَذَا البَابِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ ابْنُ عَبَّاسٍ تَلَقَّاهُ مِنْ مُسْلِمَةِ أَهْلِ الكِتَابِ. وَاللهُ أَعْلَمُ.

ثَالِثًا: أَنَّهُ إِنْ قِيلَ بِحُجِّيَّتِهِ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْيِيدِهِ بِأُمُورٍ أَهَمِّهَا:

أ- تَقْيِيدُهُ بِكَونِ المُسْتَغَاثِ بِهِ هُمُ المَلَائِكَةُ.

وَهَذَا لَهُ مَخْرَجٌ صَحِيحٌ مِنْ جِهَةِ أُصُولِ عِلْمِ التَّوحِيدِ، وَذَلِكَ لِكَونِ المُسْتَغَاثِ بِهِ حَيًّا؛ وَحَاضِرًا -كَمَا بَيَّنَهُ نَفْسُ الحَدِيثِ بِقَولِهِ (حَاضِرًا) -، وَقَادِرًا -كَمَا بَيَّنَهُ نَفْسُ الحَدِيثِ بِكَونِ اللهِ تَعَالَى جَعَلَهُم لِهَذِهِ المُهِمَّةِ-، وَهَذَا يُبْطِلُ اسْتِدْلَالَهُم بِالحَدِيثِ عَلَى الأَمْوَاتِ وَالأَولِيَاءِ وَالغَائِبِينَ، وَالحَمْدُ للهِ.

(1)

الحَدِيثُ وَرَدَ مَرْفُوعًا وَمَوقُوفًا، وَهُوَ صَحِيحٌ مَوقُوفًا، رَوَاهُ البَزَّارُ (11/ 181) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا، وَالبَيهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ (165) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوقُوفًا. الصَّحِيحَةَ (656).

(2)

وَأُسَامَةُ بْنُ زَيدٍ هَذَا؛ هُوَ اللَّيثِيُّ؛ مِنْ كِبَارِ أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ (ت 153 هـ)؛ وَلَيسَ هُوَ أُسَامَةَ بْنَ زَيدِ بْنِ حَارِثَةَ؛ الصَّحَابِيُّ!

(3)

اُنْظُرِ الصَّحِيحَةَ (656).

ص: 617

قَالَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله: "فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُلْحَقَ بِهِمُ المُسْلِمُونَ مِنَ الجِنِّ أَوِ الإِنْسِ مِمَّنْ يُسَمُّونَهُم بِرِجَالِ الغَيبِ مِنَ الأَولِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ، سَوَاءً كَانُوا أَحْيَاءً أَو أَمْوَاتًا! فَإِنَّ الاسْتِغَاثَةَ بِهِم وَطَلَبَ العَونِ مِنْهُم شِرْكٌ بَيِّنٌ، لِأَنَّهُم لَا يَسْمَعُونَ الدُّعَاءَ، وَلَو سَمِعُوا لَمَا اسْتَطَاعُوا الإِجَابَةَ وَتَحْقِيقَ الرَّغْبَةِ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي آيَاتٍ كَثِيرْةٍ، مِنْهَا قَولُهُ تبارك وتعالى: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ القِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فَاطِر: 14] "

(1)

.

ب- تَقْيِيدُهُ بِمَنْ أَصَابَتْهُ عَرْجَةٌ بِأَرْضٍ فَلَاةٍ؛ فَيُدَلُّ إِلَى الطَّرِيقِ، كَمَا جَاءَ فِي نَفْسِ الحَدِيثِ، وَلَيسَ عُمُومَ النَّصْرِ وَالإِغَاثَةِ وَالرِّزْقِ وَالشَّفَاعَةِ

(2)

!

رَابِعًا: أَنَّ الشَّرْعَ دَلَّ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ -جَدَلًا- وَلَمْ يَدُلَّ عَلَى دُعَاءِ الأَمْوَاتِ وَالغَائِبِينَ! فَالوُقُوفُ مَعَ النَّصِّ هُوَ الصَّوَابُ -إِثْبَاتًا وَنَفْيًا-.

خَامِسًا: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ جَعْلُ هَذَا الأَثَرِ -عَلَى القَولِ بِحُجَّتِهِ- نَصًّا لِهَدْمِ النُّصُوصِ العَامَّةِ الَّتِي تَمْنَعُ مِنْ دُعَاءِ الأَمْوَاتِ وَالغَائِبِينَ وَمَنْ لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ -فَضْلًا عَنْ غَيرِهِ- ضَرًّا وَلَا نَفْعًا!

(1)

الصَّحِيحَةُ (656).

(2)

وَقَالَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله أَيضًا فِي الصَّحِيحَةِ (656): "وَيَبْدُو أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ -الَّذِي حَسَّنَهُ الحَافِظُ- كَانَ الإِمَامُ أَحْمَدُ يُقَوِّيهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ عَمِلَ بِهِ، فَقَالَ ابْنُهُ عَبْدُ اللهِ فِي (المَسَائِلِ) (217): سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: حَجَجْتُ خَمْسَ حُجَجٍّ؛ مِنْهَا اثْنَتَين رَاكِبًا، وَثَلَاثَةً مَاشِيًا، أَوِ اثْنَتَين مَاشِيًا، وَثَلَاثَةً رَاكِبًا؛ فَضَلَلْتُ الطَّرِيقَ فِي حَجَّةٍ -وَكُنْتُ مَاشِيًا-، فَجَعَلْتُ أَقُولُ: يَا عِبَادَ اللهِ دُلُّونَا عَلَى الطَّرِيقِ! فَلَمْ أَزَلْ أَقُولُ ذَلِكَ حَتَّى وَقَعْتُ عَلَى الطَّرِيقِ.

قُلْتُ: وَقَدْ أَورَدَ ابْنُ القَيِّمِ رحمه الله حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ السَّابِقَ فِي كِتَابِهِ (الوَابِلُ الصَّيِّبُ) فِي الفَصْلِ السَّابِعِ وَالثَّلَاثُينَ (ص 125): فِي (الدَّابَةُ إِذَا انْفَلَتَتْ وَمَا يُذْكَرُ عِنْدَ ذَلِكَ).

ص: 618

8 -

أَمَّا حَدِيثُ الرَّجُلِ الَّذِي أَتَى قَبْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِيَسْتَسْقِي لَهُ ثُمَّ أَتَى عُمَرَ

؛ فَهُوَ ضَعِيفٌ، وَلَا يُفِيدُ تَصْحِيحُ الحَافِظِ لِإِسْنَادِهِ! لِأَنَّهُ إِنَّمَا صَحَّحَهُ إِلَى مَالِكِ الدَّارِ فَقَط، وَمَالِكُ هَذَا مَجْهُولُ الحَالِ، أَي: مَجْهُولُ العَدَالَةِ وَالضَّبْط وَلَيسَ لَهُ تَوثِيقٌ فِي شَيءٍ مِنْ كُتُبِ الرِّجَالِ

(1)

، عَدَا عَنْ مُخَالَفَةِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ لِمَا سَنَّهُ النَّبِيُ صلى الله عليه وسلم لِأُمَّتِهِ مِنْ دُعَاءِ وَصَلَاةِ الاسْتِسْقَاءِ.

(1)

وَقَدْ رَوَى لَهُ الحَافِظُ الهَيثَمِيُّ رحمه الله فِي مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ (4688) أَثَرًا عَنْ عُمَرَ فِي -بَابٌ فِي الإِنْفَاقِ- وَقَالَ فِي آخِرِ حَدِيثهِ: "وَمَالِكُ الدَّارِ لَمْ أَعْرِفْهُ، وَبَقِيَّةُ رِجَالِهِ ثِقَاتٌ".

ص: 619

-‌

‌ الشُّبُهْةُ الحَادِيَةَ عَشَرَةَ: أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يَسْتَغِيثُونَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ مَوتِهِ،

فَابْنُ عُمَرَ كَانَ يَسْتَغِيثُ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَلَمَّ بِهِ مَكْرُوهٌ، بَلْ حَتَّى إِذَا خَدِرَتْ رِجْلُهُ فَقَط!

فَفِي الحَدِيثِ عَنِ الهَيثَمِ بْنِ حَنَشٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، فَخَدِرَتْ رِجْلُهُ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: اُذْكُرْ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَيكَ، فَذَكَرَ مُحَمَّدًا؛ فَكَأَنَّما نَشِطَ مِنْ عِقَالٍ!

(1)

وَأَيضًا مَا جَاءَ فِي الأَحَادِيثِ مِنْ أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانَ شِعَارُهُم فِي الحَرْبِ (يَا مُحَمَّدُ)!

الجَوَابُ هُوَ مِنْ أَوجُهٍ:

1 -

أَنَّ حَدِيثَ الخَدَرِ ضَعِيفٌ.

2 -

أَنَّ الحَدِيثَ مَعَ ذَلِكَ لَيسَ فِيهِ مُتَمَسَّكٌ لِلاسْتِغَاثَةِ بِغَيرِ اللهِ، لِأَنَّهُ لَيسَ فِيهِ اسْتِغَاثَةٌ أَصْلًا! بَلْ هُوَ عِلَاجٌ قَدِيمٌ مَعْرُوفٌ لِلخَدَرِ؛ حَيثُ يَذْكُرُ صَاحِبُهُ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَيهِ فَيَزُولُ الخَدَرُ

(2)

.

وَهَذَا الدَّوَاءُ التَّجْرِيبِيُّ لِلخَدَرِ كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَ الجَاهِلِيِّينَ قَبْلَ الإِسْلَامِ، وَجُرَّبَ فَنَفَعَ بِإِذْنِ اللهِ، وَلَيسَ فِيهِ إِلَّا ذِكْرُ المَحْبُوبِ، وَقِيلَ فِي تَفْسِيرِ ذَلِكَ: إِنَّ ذِكْرَهُ لِمَحْبُوبِهِ يَجْعَلُ الحَرَارَةَ الغَرِيزِيَّةَ تَتَحَرَّكُ فِي بَدَنِهِ فَيَجْرِي الدَّمُ فِي عُرُوقِهِ فَتَتَحَرَّكُ أَعْصَابُ الرِّجْلِ؛ فَيَذْهَبُ الخَدَرُ، وَجَاءَتِ الأَشْعَارُ بِهَذَا كَثِيرَةً فِي الجَاهِلِيَّةِ وَالإِسْلَامِ، فَمِنْهَا مَا فِي:

دِيوَانِ عُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ:

"إِذَا خَدِرَتْ رِجْلِي أَبُوحُ بِذِكْرِهَا

لِيَذْهَبَ عَنْ رِجْليَ الخُدُورُ؛ فَيَذهَبُ"

(1)

ضَعِيفٌ. عَمَلُ اليَومِ وَاللَّيلَةِ لِابْنِ السُّنِّيِّ (1/ 141). تَحْقِيقُ الكَلِمِ الطَّيِّبِ لِلشَّيخِ الأَلْبَانِيِّ رحمه الله (236).

(2)

قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رحمه الله: " (يُسْتَحَبُّ) وَإِذَا خَدِرَتْ رِجْلُهُ؛ ذِكْرُ مَنْ يُحِبُّهُ". المَجْمُوعُ (4/ 652).

قُلْتُ: فَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَصْلًا!

ص: 620

وَفِي دِيوَانِ جَمِيلِ بُثَينَةَ:

"وَأَنْتِ لِعَينِي قُرَّةٌ حِينَ نَلْتَقِي

وَذِكْرُكِ يَشْفِينِي إِذَا خَدِرَتْ رِجْلِي"

3 -

أَمَّا مَا ذُكِرَ مِنْ كَونِ (يَا مُحَمَّد) شِعَارُهُم فِي الحَرْبِ؛ أَنَّهُ مِنْ بَابِ الاسْتِغَاثَةِ بِهِ! فَحَمْلُهُ عَلَى هَذَا الوَجْهِ مَرْدُودٌ، لِأَنَّ الشِّعَارَ فِي الحَرْبِ هُوَ مَا يُمَيِّزُ بِهِ المُحَارِبُونَ أَنْفُسَهُم عَنْ عَدُوِّهِم عِنْدَ الاخْتِلَاطِ، وَهُوَ يُشْبِهُ مَا يُعْرَفُ اليَومَ بِـ "كَلِمَةِ السِّرِّ".

قَالَ الرَّازِي فِي كِتَابِهِ (مُخْتَارُ الصِّحَاحِ): "شِعَارُ القَومِ فِي الحَرْبِ: عَلَامَتُهُم؛ لِيَعْرِفَ بَعْضُهُم بَعْضًا"

(1)

.

وَفِي الحَدِيثِ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ؛ قَالَ: (غَزَونَا مَعَ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه زَمَنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَكَانَ شِعَارُنَا: أَمِتْ؛ أَمِتْ)

(2)

(3)

.

وَمِثْلُهُ عَنِ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ مَرْفُوعًا: ((إنْ بُيِّتُّمْ؛ فَلْيَكُنْ شِعارُكُم: حَم، لَا يُنْصَرُونَ))

(4)

.

4 -

أَنَّ حَمْلَ الأَثَرَينِ عَلَى الاسْتِغَاثَةِ بِهِ عليه الصلاة والسلام لِيَزُولَ الضُّرُّ بِذِكْرِهِ غَيرُ مَشْرُوعٍ! لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم -وَغَيرَهُ مِنْ بَابِ أَولَى- لَا يَمْلِكُ كَشْفَ الضُّرِّ أَصْلًا! قَالَ اللهُ تَعَالَى: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا} [الجِنّ: 21].

(1)

مُخْتَارُ الصِّحَاحِ (ص 165).

(2)

صَحِيحٌ. أَبُو دَاوُدَ (2596) بَابٌ فِي الرَّجُلِ يُنَادِي بِالشِّعَارِ. صَحِيحُ أَبِي دَاوُدَ (2596).

وَرَوَاهُ البَغَوِيُّ (11/ 52) بَابُ الشِّعَارِ فِي الحَرْبِ.

(3)

قَالَ ابْنُ الأَثِيرِ رحمه الله: "هُوَ أَمْرٌ بِالمَوتِ، وَالمُرَادُ بِهِ التَّفَاؤُلُ بِالنَّصْرِ بَعْدَ الأَمْرِ بِالإِمَاتَةِ مَعَ حُصُولِ الغَرَضِ لِلشِّعَارِ؛ فَإِنَّهُمْ جَعَلُوا هَذِهِ الكَلِمَةَ عَلَامَةً بَينَهُمْ يَتَعَارَفُونَ بِهَا لِأَجْلِ ظُلْمَةِ اللَّيلِ". النِّهَايَةُ فِي غَرِيبِ الحَدِيثِ (4/ 809).

(4)

صَحِيحٌ. أَبُو دَاوُدَ (2597) عَنِ المُهَلَّبِ بْنِ أَبِي صُفْرَةَ عَنْ أَحَدِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. الصَّحِيحَةُ (3066).

ص: 621

-‌

‌ الشُّبُهْةُ الثَّانِيَةَ عَشَرَةَ: أَلَيسَ قَدِ اسْتَقَرَّ عِنْدَ الخَاصَّةِ وَكَثِيرٍ مِنَ العَامَّةِ مَا يُسَمَّى بِـ (الأَبْدَالِ)؟!

وَأَلَمْ يَرِدْ فِي الشَّرْعِ مَا يَشْهَدُ لِوُجُودِهِم؟!

فَعَلَيهِ؛ تَصِحُّ الاسْتِغَاثَةُ بِهِم لِقَضَاءِ حَوَائِجِ النَّاسِ وَكَشْفِ الضُّرِّ وَإِنْزَالِ الرَّحْمَةِ!!

الجَوَابُ:

1 -

أَمَّا مَا يُسَمَّونَ بِـ (الأَبْدَالِ) فَلَا يَصِحُّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم شَيءٌ فِي خَبَرِهِم

(1)

، وَأَعْلَى مَا يَصِحُّ فِي ذَلِكَ هُوَ أَثَرٌ مَوقُوفٌ عَلَى عَلِيٍّ رضي الله عنه

(2)

.

(1)

قَالَ ابْنُ الجَوزِيِّ رحمه الله: "وَقَدْ رُوِيَ ذِكْرُ عَدَدِ الأَولِيَاءِ فِي أَحَادِيثَ لا تَصِحُّ". التَّبْصِرَةُ (2/ 113).

وَقَالَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله فِي الضَّعِيفَةِ (935): "وَاعْلَمْ أَنَّ أَحَادِيثَ الأَبْدَالِ لَا يَصِحُّ مِنْهَا شَيءٌ، وَكُلُّهَا مَعْلُولَةٌ، وَبَعْضُهَا أَشَدُّ ضَعْفًا مِنْ بَعْضٍ".

وَقَالَ أَيضًا رحمه الله فِي الضَّعِيفَةِ (1479): " (فَائِدَةٌ): نَقَلْتُ أَكْثَرَ أَسَانِيدِ الأَحَادِيثِ المُتَقَدِّمَةِ مِنْ رِسَالَةِ السُّيُوطِيِّ (الخَبَرُ الدَّالُّ عَلَى وُجُودِ القُطْبِ وَالأَوتَادِ وَالنُّجَبَاءِ وَالأَبْدَالِ)، وَقَدْ حَشَاهَا بِالأَحَادِيثِ الضَّعِيفَةِ وَالآثَارِ الوَاهِيَةِ، وَبَعْضُهَا أَشَدُّ ضَعْفًا مِنْ بَعْضٍ كَمَا يَدُلُّكَ هَذَا التَّخْرِيجُ، وَمِنْ عَجِيبِ أَمْرِهِ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِيهَا وَلَا حَدِيثًا وَاحِدًا فِي القُطْبِ المَزْعُومِ، وَيُسِمِّيهِ تَبَعًا لِلصُّوفِيَّةِ بِالغَوثِ أَيضًا! وَكَذَلِكَ لَمْ يَذْكُرْ فِي الأَوتَادِ وَالنُّجَبَاءِ أَيَّ حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ! وَإِنَّمَا هِيَ كُلُّهَا أَسْمَاءٌ مُخْتَرَعَةٌ عِنْدَ الصُّوفِيَّةِ لَا تُعْرَفُ عِنْدَ السَّلَفِ؛ اللَّهُمَّ إِلَّا اسْمَ "البَدَلِ" فَهُوَ مَشْهُورٌ عِنْدَهُم كَمَا تَقَدَّمَ. وَاللهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ نَقَلَ السُّيُوطِيُّ عَنِ اليَافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: وَقَالَ بَعْضُ العَارِفِينَ: وَالقُطْبُ هُوَ الوَاحِدُ المَذْكُورُ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ عَلَى قَلْبِ إِسْرَافِيلَ! فَنَقُولُ: أَثْبِتِ العَرْشَ ثُمَّ انْقُشْ، فَالحَدِيثُ كَذِبٌ كَمَا سَمِعْتَ عَنِ الذَّهَبِيِّ وَالعَسْقَلَانِيِّ، فَالعَجَبُ مِنَ السُّيُوطِيِّ -لَا اليَافِعِيِّ- أَنْ يَخْفَى ذَلِكَ عَلَيهِ".

(2)

قَالَ الحَافِظُ السَّخَاوِيُّ رحمه الله: "وَمِمَّا يَتَقَوَّى بِهِ هَذَا الحَدِيثُ [حَدِيثٌ فِيهِ ذِكْرُ الأَبْدَالِ] وَيَدُلُّ لِانْتِشَارِهِ بَينَ الأَئِمَّةِ قَولُ إِمَامِنَا الشَّافِعِيِّ رحمه الله فِي بَعْضِهِم: (كُنَّا نَعُدُّهُ مِنَ الأَبْدَالِ)، وَقَولُ البُخَارِيِّ فِي غَيرِهِ: (كَانُوا لَا يَشُكُّونَ أَنَّهُ مِنَ الأَبْدَالِ)، وَكَذَا وَصْفُ غَيرِهِمَا -مِنَ النُّقَّادِ وَالحُفاَّظِ وَالأَئِمَّةِ- غَيرَ وَاحِدٍ بِأَنَّهُم مِنَ الأَبْدَالِ". المَقَاصِدُ الحَسَنَةُ (ص 45).

ص: 622

قَالَ الشَّيخُ مُلَّا عَلِي القَارِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (الأَسْرَارُ المَرْفُوعَةُ فِي الأَخْبَارِ المَوضُوعَةِ): "وَمِنْ ذَلِكَ أَحَادِيثُ الأَبْدَالِ وَالأَقْطَابِ وَالأَغْوَاثِ وَالنُّقَبَاءِ وَالنُّجَبَاءِ وَالأَوتَادِ؛ كُلُّهَا بَاطِلَةٌ عَن رَسُولِ اللهِ، وَأَقْرَبُ مَا فِيهَا:(لَا تَسُبُّوا أَهْلَ الشَّامِ؛ فَإِنَّ فِيهِمِ البُدَلَاءَ، كُلَّمَا مَاتَ رَجُلٌ مِنْهُمْ أَبْدَلَ اللهُ مَكَانَهُ رَجُلًا آخَرَ). ذَكَرَهُ أَحْمَدُ، وَلَا يَصِحُّ أَيضًا؛ فَإِنَّهُ مُنْقَطِعٌ

(1)

.

قُلْتُ [مُلَّا عَلِي القَارِي رحمه الله]: وَقَدْ وَرَدَتِ الأَحَادِيثُ وَالآثَارُ مَرْفُوعَةً وَمَوقُوفَةً عَلَى الصَّحَابَةِ الأَبْرَارِ وَالتَّابِعِينَ الأَخْيَارِ، وَقَدْ جَمَعَهَا السُّيُوطِيُّ فِي رِسَالَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ سَمَّاهَا (الخَبَرُ الدَّالُ عَلَى وُجُودِ القُطُبِ وَالأَوتَادِ وَالنُّجَبَاءِ وَالأَبْدَالِ) "

(2)

.

أَمَّا أَثَرُ عَلِيٍّ رضي الله عنه المَوقُوفُ -الصَّحِيحُ- فَهُوَ: قَامَ رَجُلٌ يَومَ صِفِّينَ؛ فَقَالَ: اللَّهُمَّ الْعَنْ أَهْلَ الشَّامِ. فَقَالَ عَلِيٌّ: (مَهْ، لَا تَسُبَّ أَهْلَ الشَّامِ جَمًّا غَفِيرًا؛ فَإِنَّ فِيهِمُ الأَبْدَالَ)

(3)

.

2 -

أَمَّا مَعْنَى الأَبْدَالِ فَهُوَ مِنَ الإِبْدَالِ، وَعَلَى وُفْقِ مَا أَشَارَتْ إِلَيهِ النُّصُوصُ -وَكُلُّهَا ضَعِيفَةٌ كَمَا سَبَقَ- هُوَ عَلَى عِدَّةِ مَعَانٍ، مِنْهَا:

أ- أَنَّهُ كُلَّمَا مَاتَ مِنْهُم وَاحِدٌ أَبْدَلَ اللهُ مَكَانَهُ وَاحِدًا آخَرَ

(4)

.

(1)

هَذَا النَّقْلُ هُوَ مِنْ كَلَامِ الإِمَامِ ابْنِ القَيِّمِ رحمه الله -كَمَا فِي كِتَابِهِ (المَنَارُ المُنِيفُ)(ص 136) - نَقَلَهُ الشَّيخُ مُلَّا عَلِي القَارِي رَحِمَهُمَا اللهُ.

(2)

الأَسْرَارُ المَرْفُوعَةُ فِي الأَخْبَارِ المَوضُوعَةِ (ص 491).

(3)

صَحِيحٌ مَوقُوفٌ. المُخْتَارَةُ (2/ 111)، وَقَالَ الضِّيَاءُ المَقْدِسِيُّ:"وَهُوَ أَولَى مِنَ المَرْفُوعِ". اُنْظُرِ التَّعْلِيقَ عَلَى حَدِيثِ الضَّعِيفَةِ (2994).

(4)

كَمَا فِي الحَدِيثِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا؛ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((خِيَارُ أُمَّتِي فِي كُلِّ قَرْنٍ خَمْسُمِائَةٍ، وَالأَبْدَالُ أَرْبَعُونَ؛ فَلَا الخَمْسُمِائَةَ يَنْقُصُونَ وَلَا الأَرْبَعُونَ، كُلَّمَا مَاتَ رَجُلٌ أَبْدَلَ اللهُ عز وجل مِنَ الخَمْسِمِائَةِ مَكَانَهُ، وَأَدْخَلَ مِنَ الأَرْبَعِينَ مَكَانَهُمْ))، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ دُلَّنَا عَلَى أَعْمَالِهِمْ. قَالَ: ((يَعْفُونَ عَمَّنْ ظَلَمَهُمْ، وَيُحْسِنُونَ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيهِمْ، وَيَتَوَاسُونَ فِيمَا آتَاهُمُ اللهُ عز وجل). مَوضُوعٌ. الحِلْيَةُ (1/ 8). المَوضُوعَاتُ لِابْنِ الجَوزِيِّ (3/ 151)، وَالضَّعِيفَةُ (935).

ص: 623

ب- أَنَّهُم أَبْدَلُوا السَّيِّئَاتِ مِنْ أَخْلَاقِهِم وَأَعْمَالِهِم وَعَقَائِدِهِم بِحَسَنَاتٍ؛ فَهُم أَصْلَحُ النَّاسِ فِي كُلِّ زَمَنٍ

(1)

.

ج- أَنَّهُم أَبْدَالُ الأَنْبِيَاءِ.

3 -

أَمَّا مِنْ جِهَةِ جَوَازِ الاسْتِغَاثَةِ بِهِم فِي مَا سَبَقَ مِنَ الكَلَامِ؛ فَيَصِحُّ إِنْ كَانُوا أَحْيَاءً حَاضِرِينَ قَادِرِينَ؛ يَقُومُونَ بِأَسْبَابِ النَّفْعِ الدُّنْيَوِيَّةِ -مِنْ سَعْيٍ وَإِنْفَاقٍ وَنُصْحٍ وَإِرْشَادٍ-، أَو يَقُومُونَ بِأَسْبَابِ نَفْعٍ دِينِيَّةٍ -مِنْ دُعَاءٍ للهِ وَتَضَرُّعٍ وَتَعْلِيمٍ لِلشَّرِيعَةِ- فَيَصِحُّ أَيضًا عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّهُم أَسْبَابٌ

(2)

.

وَأَمَّا الاسْتِغَاثَةُ بِهِم -وَهُم أَمْوَاتٌ-؛ وَالتَّعَلُّقِ بِهِم فِيمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيهِ البَشَرُ مِنْ كَشْفِ الكُرَبِ وَالنَّصْرِ العَامِّ وَشِفَاءِ المَرْضَى وَإِنْزَالِ الغَيثِ وَالنَّصْرِ عَلَى الأَعْدَاءِ وَمَا أَشْبَهَ؛ فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ شِرْكِ المُشْرِكِينَ حَيثُ ادَّعَوا فِي شُفَعَائِهِم وَأَولِيَائِهِم الصَّالِحِينَ

(1)

وَقَدْ سَبَقَ فِي الحَاشِيَةِ المَاضِيَةِ بَيَانُ شَيءٍ مِنْ وَصْفِهِم.

وَقَالَ العَجْلُونِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (كَشْفُ الخَفَاءِ)(1/ 35): "فَائِدَةٌ: لِلأَبْدَالِ عَلَامَاتٌ؛ مِنْهَا مَا وَرَدَ فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ: ((ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ فَهُوَ مِنَ الأَبْدَالِ: الرِّضَى بِالقَضَاءِ، وَالصَّبْرُ عَنِ المَحَارِمِ، وَالغَضَبُ للهِ)). مَوضُوعٌ. الدَّيلَمِيُّ فِي الفِرْدَوسِ (2/ 84) عَنْ مُعَاذٍ مَرْفُوعًا. الضَّعِيفَةُ (1474).

(2)

كَمَا فِي أَثَرِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، وَهُوَ: قِيلَ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ: كَيفَ بِهِمْ يُحْيِي وَيُمِيتُ؟ قَالَ: (لِأَنَّهُمْ يَسْأَلُونَ اللهَ عز وجل إِكْثَارَ الأُمَمِ فَيَكْثُرُونَ، وَيَدْعُونَ عَلَى الجَبَابِرَةِ فَيُقْصَمُونَ، وَيَسْتَسْقَونَ فَيُسْقَونَ، وَيَسْأَلُونَ فَتُنْبِتُ لَهُمُ الأَرْضُ، وَيَدْعُونَ فَيُدْفَعُ بِهِمْ أَنْوَاعَ البَلَاءِ). مَوضُوعٌ. الحِلْيَةُ (1/ 9). الضَّعِيفَةُ (1479).

وَقَالَ الحَافِظُ السُّيُوطِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (اللَّآلِئُ المَصْنُوعَةُ فِي الأَحَادِيثِ المَوضُوعَةُ)(2/ 279): "فِيهِ مَجَاهِيلٌ".

وَقَالَ الحَافِظُ السَّخَاوِيُّ رحمه الله فِي (كِتَابِهِ المَقَاصِدُ الحَسَنَةُ)(ص 46): "وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ: الأَبْدَالُ: هُمْ أَهْلُ العِلْمِ. وَقَالُ الإِمَامُ أَحْمَدُ: إِنْ لَمْ يَكُونُوا أَصْحَابَ الحَدِيثِ؛ فَمَنْ هُمْ؟! ".

ص: 624

أَنَّهُم إِذَا دَعَوهُم؛ فَإِنَّهُم سَيَدْعُونَ اللهَ لَهُم وَيَتَوَسَّطُونَ لَهُم عِنْدَ اللهِ! وَهَذَا شِرْكٌ فِي الأُلُوهِيَّةِ، قَالَ تَعَالَى:{وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ * وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يُونُس: 106 - 107]

(1)

.

قَالَ شَيخُ الإِسْلَامِ رحمه الله فِي مَجْمُوعِ الفَتَاوَى وَقَد سُئِلَ رحمه الله عَنْ الحَدِيثِ المَرْوِيِّ فِي (الأَبْدَالِ) هَلْ هُوَ صَحِيحٌ أَمْ مَقْطُوعٌ؟ وَهَلِ (الأَبْدَالُ) مَخْصُوصُونَ بِالشَّامِ؟ أَمْ حَيثُ تَكُونُ شَعَائِرُ الإِسْلَامِ قَائِمَةً بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يَكُونُ بِهَا الأَبْدَالُ بِالشَّامِ وَغَيرِهِ مِنَ الأَقَالِيمِ؟

وَهَلْ صَحِيحٌ أَنَّ الوَلِيَّ يَكُونُ قَاعِدًا فِي جَمَاعَةٍ وَيَغِيبُ جَسَدُهُ؟

وَمَا قَولُ السَّادَةِ العُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الأَسْمَاءِ الَّتِي تَسَمَّى بِهَا أَقْوَامٌ مِنَ المَنْسُوبِينَ إلَى الدِّينِ وَالفَضِيلَةِ وَيَقُولُونَ: هَذَا غَوثُ الأَغْوَاثِ، وَهَذَا قُطْبُ الأَقْطَابِ، وَهَذَا قُطْبُ العَالَمِ، وَهَذَا القُطْبُ الكَبِيرُ، وَهَذَا خَاتَمُ الأَولِيَاءِ؟

فَأَجَابَ:

"أَمَّا الأَسْمَاءُ الدَّائِرَةُ عَلَى ألْسِنَةِ كَثِيرٍ مِنَ النُّسَّاكِ وَالعَامَّةِ مِثْلُ (الغَوثِ) الَّذِي بِمَكَّةَ وَ (الأَوتَادِ الأَرْبَعَةِ) وَ (الأَقْطَابِ السَّبْعَةِ) وَ (الأَبْدَالِ الأَرْبَعِينَ) وَ (النُّجَبَاءِ الثَّلَاثِمِائَةِ)؛ فَهَذِهِ أَسْمَاءٌ لَيسَتْ مَوجُودَةً فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى؛ وَلَا هِيَ أَيضًا مَأْثُورَةٌ عَنْ

(1)

وَقَدِ اسْتَطَالَ الشِّرْكُ بِبَعْضِهِم حَتَّى جَعَلُوا لِلأَبْدَالِ هَؤُلَاءِ مِنْ صِفَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ وَمِنَ الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ مَا لَا يَكُونُ إِلَّا للهِ تَعَالَى، كَقَولِ بَعْضِ المُنْشِدِينَ -قَاتَلَهُمُ اللهُ-:"شَيخ رَسْلَان! يَا حَامِي البَرِّ وَالشَّامِ"، وَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ:{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأَعْرَاف: 194].

ص: 625

النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِإِسْنَادِ صَحِيحٍ وَلَا ضَعِيفٍ يُحْمَلُ عَلَيهِ ألْفَاظُ الأَبْدَالِ.

فَقَدْ رُوِيَ فِيهِمْ حَدِيثٌ شَامِيٌّ مُنْقَطِعُ الإِسْنَادِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: ((إنَّ فِيهِمْ -يَعْنِي أَهْلَ الشَّامِ- الأَبْدَالَ الأَرْبَعِينَ رَجُلًا، كُلَّمَا مَاتَ رَجُلٌ أَبْدَلَ اللهُ تَعَالَى مَكَانَهُ رَجُلًا)) وَلَا تُوجَدُ هَذِهِ الأَسْمَاءُ فِي كَلَامِ السَّلَفِ كَمَا هِيَ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ، وَلَا هِيَ مَأْثُورَةٌ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ وَالمَعَانِي عَنْ المَشَايِخِ المَقْبُولِينَ عِنْدَ الأُمَّةِ قَبُولًا عَامًّا، وَإِنَّمَا تُوجَدُ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ عَنْ بَعْضِ المُتَوَسِّطِينَ مِنَ المَشَايِخِ، وَقَدْ قَالَهَا إمَّا آثِرًا لَهَا عَنْ غَيرِهِ أَو ذَاكِرًا.

وَهَذَا الجِنْسُ وَنَحْوُهُ مِنْ عِلْمِ الدِّينِ قَدِ الْتَبَسَ عِنْدَ أَكْثَرِ المُتَأَخِّرِينَ حَقُّهُ بِبَاطِلِهِ، فَصَارَ فِيهِ مِنَ الحَقِّ مَا يُوجِبُ قَبُولَهُ وَمِنْ البَاطِلِ مَا يُوجِبُ رَدَّهُ، وَصَارَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ عَلَى طَرَفَي نَقِيضٍ، قَومٌ كَذَّبُوا بِهِ كُلَّهُ لِمَا وَجَدُوا فِيهِ مِنَ البَاطِلِ، وَقَومٌ صَدَّقُوا بِهِ كُلَّهُ لِمَا وَجَدُوا فِيهِ مِنَ الحَقِّ، وَإِنَّمَا الصَّوَابُ التَّصْدِيقُ بِالحَقِّ وَالتَّكْذِيبُ بِالبَاطِلِ، وَهَذَا تَحْقِيقٌ لِمَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ عليه السلام عَنْ رُكُوبِ هَذِهِ الأُمَّةِ سُنَنَ مَنْ قَبْلَهَا حَذْوَ القُذَّةِ بِالقُذَّةِ؛ فَإِنَّ أَهْلَ الكِتَابَينِ لَبَّسُوا الحَقَّ بِالبَاطِلِ وَهَذَا هُوَ التَّبْدِيلُ وَالتَّحْرِيفُ الَّذِي وَقَعَ فِي دِينِهِمْ؛

فَأَمَّا لَفْظُ (الغَوثِ) وَ (الغِيَاثِ) فَلَا يَسْتَحِقُّهُ إِلَّا اللهُ؛ فَهُوَ غِيَاثُ المُسْتَغِيثِينَ، فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِ الِاسْتِغَاثَةُ بِغَيرِهِ؛ لَا بِمَلَكٍ مُقَرَّبٍ وَلَا نَبِيٍّ مُرْسَلٍ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ أَهْلَ الأَرْضِ يَرْفَعُونَ حَوَائِجَهُمْ -الَّتِي يَطْلُبُونَ بِهَا كَشْفَ الضُّرِّ عَنْهُمْ وَنُزُولَ الرَّحْمَةِ إلَى الثَّلَاثِمِائَةِ؛ وَالثَّلَاثمِائَة إلَى السَّبْعِينَ، وَالسَّبْعُونَ إلَى الأَرْبَعِينَ، وَالأَرْبَعُونَ إلَى السَّبْعَةِ، وَالسَّبْعَةُ إلَى الأَرْبَعَةِ، وَالأَرْبَعَةُ إلَى الغَوثِ- فَهُوَ كَاذِبٌ ضَالٌّ مُشْرِكٌ، فَقَدْ كَانَ المُشْرِكُونَ كَمَا أَخْبَرَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ بِقَولِهِ: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي البَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ

ص: 626

إِلَّا إِيَّاهُ} [الإِسْرَاء: 67]، وَقَالَ سبحانه وتعالى:{أَمَّنْ يُجِيبُ المُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النَّمْل: 62]، فَكَيفَ يَكُونُ المُؤْمِنُونَ يَرْفَعُونَ إلَيهِ حَوَائِجَهُمْ بَعْدَهُ بِوَسَائِطَ مِنَ الحُجَّابِ وَهُوَ القَائِلُ تَعَالَى:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البَقَرَة: 186]؟!

وَقَدْ عَلِمَ المُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَامَّةُ المُسْلِمِينَ وَلَا مَشَايِخُهُمُ المَعْرُوفُونَ يَرْفَعُونَ إلَى اللهِ حَوَائِجَهُمْ لَا ظَاهِرًا وَلَا بَاطِنًا بِهَذِهِ الوَسَائِطِ وَالحُجَّابِ، فَتَعَالَى اللهُ عَنْ تَشْبِيهِهِ بِالمَخْلُوقِينَ مِنَ المُلُوكِ وَسَائِرِ مَا يَقُولُهُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا، وَهَذَا مِنْ جِنْسِ دَعْوَى الرَّافِضَةِ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي كُلِّ زَمَانٍ مِنْ إمَامٍ مَعْصُومٍ يَكُونُ حُجَّةَ اللهِ عَلَى المُكَلَّفِينَ؛ لَا يَتِمُّ الإِيمَانُ إِلَّا بِهِ! ثُمَّ مَعَ هَذَا يَقُولُونَ إنَّهُ كَانَ صَبِيًّا دَخَلَ السِّرْدَابَ مِنْ أَكْثَرِ مِنْ أَرْبَعِمِائَةٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَة؛ وَلَا يُعْرَفُ لَهُ عَينٌ وَلَا أَثَرٌ وَلَا يُدْرَكُ لَهُ حِسٌّ وَلَا خَبَرٌ، وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَدَّعُونَ هَذِهِ المَرَاتِبَ فِيهِمْ مُضَاهَاةٌ لِلرَّافِضَةِ مِنْ بَعْضِ الوُجُوهِ

وَأَمَّا الأَوتَادُ؛ فَقَدْ يُوجَدُ فِي كَلَامِ البَعْضِ أَنَّهُ يَقُولُ: فُلَانٌ مِنَ الأَوتَادِ؛ يَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يُثَبِّتُ بِهِ الإِيمَانَ وَالدِّينَ فِي قُلُوبِ مَنْ يَهْدِيهِمُ اللهُ بِهِ كَمَا يُثَبِّتُ الأَرْضَ بِأَوتَادِهَا، وَهَذَا المَعْنَى ثَابِتٌ لِكُلِّ مَنْ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ مِنَ العُلَمَاءِ، فَكُلُّ مَنْ حَصَلَ بِهِ تَثْبِيتُ العِلْمِ وَالإِيمَانِ فِي جُمْهُورِ النَّاسِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الأَوتَادِ العَظِيمَةِ وَالجِبَالِ الكَبِيرَةِ .....

وَأَمَّا القُطْبُ؛ فَيُوجَدُ أَيضًا فِي كَلَامِهِمْ: فُلَانٌ مِنَ الأَقْطَابِ، أَو فُلَانٌ قُطْبٌ، فَكُلُّ مَنْ دَارَ عَلَيهِ أَمْرٌ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ أَوِ الدُّنْيَا بَاطِنًا أَو ظَاهِرًا فَهُوَ قُطْبُ ذَلِكَ الأَمْرِ وَمَدَارُهُ؛ سَوَاءً كَانَ الدَّائِرُ عَلَيهِ أَمْرَ دَارِهِ أَو دَرْبِهِ أَو قَرْيَتِهِ أَو مَدِينَتِهِ؛ أَمْرَ دِينِهَا أَو دُنْيَاهَا؛ بَاطِنًا أَو ظَاهِرًا، وَلَا اخْتِصَاصَ لِهَذَا المَعْنَى بِسَبْعَةٍ وَلَا أَقَلَّ وَلَا أَكْثَرَ، لَكِنَّ المَمْدُوحَ مِنْ ذَلِكَ

ص: 627

مَنْ كَانَ مَدَارًا لِصَلَاحِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ دُونَ مُجَرَّدِ صَلَاحِ الدُّنْيَا، فَهَذَا هُوَ القُطْبُ فِي عُرْفِهِمْ، فَقَدْ يَتَّفِقُ فِي بَعْضِ الأَعْصَارِ أَنْ يَكُونَ شَخْصٌ أَفْضَلَ أَهْلِ عَصْرِهِ، وَقَدْ يَتَّفِقُ فِي عَصْرٍ آخَرَ أَنْ يَتَكَافَأَ اثْنَانِ أَو ثَلَاثَةٌ فِي الفَضْلِ عِنْدَ اللهِ سَوَاءٌ، وَلَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي كُلِّ زَمَانٍ شَخْصٌ وَاحِدٌ هُوَ أَفْضَلُ الخَلْقِ عِنْدَ اللهِ مُطْلَقًا!

وَكَذَلِكَ لَفْظُ (البَدَلِ)؛ جَاءَ فِي كَلَامِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ، فَأَمَّا الحَدِيثُ المَرْفُوعُ فَالأَشْبَهُ أَنَّهُ لَيسَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ عليه السلام، فَإِنَّ الإِيمَانَ كَانَ بِالحِجَازِ وَبِاليَمَنِ قَبْلَ فُتُوحِ الشَّامِ وَكَانَتِ الشَّامُ وَالعِرَاقُ دَارَ كُفْرٍ ....

وَالَّذِينَ تَكَلَّمُوا بِاسْمِ البَدَلِ فَسَّرُوهُ بِمَعَانٍ مِنْهَا: أَنَّهُمْ أَبْدَالُ الأَنْبِيَاءِ، وَمِنْهَا أَنَّهُ كُلَّمَا مَاتَ مِنْهُمْ رَجُلٌ أَبْدَلَ اللهُ تَعَالَى مَكَانَهُ رَجُلًا، وَمِنْهَا أَنَّهُمْ أُبْدِلُوا السَّيِّئَاتِ مِنْ أَخْلَاقِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ وَعَقَائِدِهِمْ بِحَسَنَاتٍ، وَهَذِهِ الصِّفَاتُ كُلُّهَا لَا تَخْتَصُّ بِأَرْبَعِينَ وَلَا بِأَقَلَّ وَلَا بِأَكْثَرَ، وَلَا تُحْصَرُ بِأَهْلِ بُقْعَةٍ مِنَ الأَرْضِ، وَبِهَذَا التَّحْرِيرِ يَظْهَرُ المَعْنَى فِي اسْمِ (النُّجَبَاءِ).

فَالغَرَضُ أَنَّ هَذِهِ الأَسْمَاءَ تَارَةً تُفَسَّرُ بِمَعَانٍ بَاطِلَةٍ بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ مِثْلِ تَفْسِيرِ بَعْضِهِمْ (الغَوثَ) هُوَ الَّذِي يُغِيثُ اللهُ بِهِ أَهْلَ الأَرْضِ فِي رِزْقِهِمْ وَنَصْرِهِمْ! فَإِنَّ هَذَا نَظِيرُ مَا تَقُولُهُ النَّصَارَى ....

وَكَذَلِكَ مَنْ فَسَّرَ (الأَرْبَعِينَ الأَبْدَالَ) بِأَنَّ النَّاسَ إنَّمَا يُنْصَرُونَ وَيُرْزَقُونَ بِهِمْ؛ فَذَلِكَ بَاطِلٌ؛ بَلِ النَّصْرُ وَالرِّزْقُ يَحْصُلُ بِأَسْبَابِ مِنْ آكَدِهَا دُعَاءُ المُؤْمِنِينَ وَصِلَاتُهُمْ وَإِخْلَاصُهُمْ، وَلَا يَتَقَيَّدُ ذَلِكَ لَا بِأَرْبَعِينَ وَلَا بِأَقَلَّ وَلَا بِأَكْثَرَ ....

وَلَيسَ فِي أَولِيَاءِ اللهِ المُتَّقِينَ وَلَا عُبَّادِ اللهِ المُخْلِصِينَ الصَّالِحِينَ وَلَا أَنْبِيَائِهِ المُرْسَلِينَ مَنْ كَانَ غَائِبَ الجَسَدِ دَائِمًا عَنْ أَبْصَارِ النَّاسِ! بَلْ هَذَا مِنْ جِنْسِ قَولِ

ص: 628

القَائِلِينَ: إنَّ عَلِيًّا فِي السَّحَابِ! وَإِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الحَنَفِيَّةِ فِي جِبَالِ رَضْوَى! وَإِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الحَسَنِ بِسِرْدَابٍ سَامِرِيٍّ! وَإِنَّ الحَاكِمَ بِجَبَلِ مِصْرَ! وَإِنَّ الأَبْدَالَ الأَرْبَعِينَ -رِجَالَ الغَيبِ- بِجَبَلِ لُبْنَانَ! فَكُلُّ هَذَا وَنَحْوُهُ مِنْ قَولِ أَهْلِ الإِفْكِ وَالبُهْتَانِ.

نَعَمْ؛ قَدْ تُخْرَقُ العَادَةُ فِي حَقِّ الشَّخْصِ فَيَغِيبُ تَارَةً عَنْ أَبْصَارِ النَّاسِ إمَّا لِدَفْعِ عَدُوٍّ عَنْهُ وَإِمَّا لِغَيرِ ذَلِكَ؛ وَأَمَّا أَنَّهُ يَكُونُ هَكَذَا طُولَ عُمْرِهِ! فَبَاطِلٌ ....

وَكَذَا لَفْظُ (خَاتَمِ الأَولِيَاءِ) لَفْظٌ بَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ، وَأَوَّلُ مَنْ ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ؛ الحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَدِ انْتَحَلَهُ طَائِفَةٌ كُلٌّ مِنْهُمْ يَدَّعِي أَنَّهُ خَاتَمُ الأَولِيَاءِ؛ كَابْنِ حَموية وَابْنِ عَرَبِيٍّ وَبَعْضِ الشُّيُوخِ الضَّالِّينَ بِدِمَشْقَ وَغَيرِهَا، وَكُلٌّ مِنْهُمْ يَدَّعِي أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنَ النَّبِيِّ عليه السلام مِنْ بَعْضِ الوُجُوهِ؛ إلَى غَيرِ ذَلِكَ مِنَ الكُفْرِ وَالبُهْتَانِ، وَكُلُّ ذَلِكَ طَمَعًا فِي رِيَاسَةِ خَاتَمِ الأَولِيَاءِ لَمَّا فَاتَتْهُمْ رِيَاسَةُ خَاتَمِ الأَنْبِيَاءِ! وَقَدْ غَلِطُوا

(1)

، فَإِنَّ خَاتَمَ الأَنْبِيَاءِ إنَّمَا كَانَ أَفْضَلَهُمْ لِلْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ، وَلَيسَ كَذَلِكَ خَاتَمُ الأَولِيَاءِ! فَإِنَّ أَفْضَلَ أَولِيَاءِ هَذِهِ الأُمَّةِ السَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، وَخَيرُ هَذِهِ الأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه ثُمَّ عُمَرُ رضي الله عنه ثُمَّ عُثْمَانُ رضي الله عنه ثُمَّ عَلِيٌّ رضي الله عنه، وَخَيرُ قُرُونِهَا

(1)

وَتَأَمَّلْ عَجَبًا مَا نَقَلَهُ المُنَاوِيُّ رحمه الله وَغَفَرَ لَهُ عِنْدَ شَرْحِ حَدِيثِ (الأَبْدَالُ مِنَ المَوَالِي) وَلَا يَصِحُّ أَيضًا: " (خَاتِمَةٌ) قَالَ ابْنُ عَرَبِي: الأَوتَادُ الَّذِينَ يَحْفَظُ اللهُ بِهِمُ العَالَمَ أَرْبَعَةٌ فَقَط، وَهُم أَخَصُّ مِنَ الأَبْدَالِ، وَالإِمَامَانِ أَخَصُّ مِنْهُم، وَالقُطْبُ أَخَصُّ الجَمَاعَةِ، وَالأَبْدَالُ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ يُطْلِقُونَهُ عَلَى مَنْ تَبَدَّلَتْ أَوصَافُهُ المَذْمُومَةُ بِمَحْمُودَةٍ، وَيُطْلِقُونِهُ عَلَى عَدَدٍ خَاصٍّ وَهُمْ أَرْبَعُونَ، وَقِيلَ: ثَلَاثُونَ، وَقِيلَ: سَبْعَةٌ، وَلِكُلِّ وَتَدٍ مِنَ الأَوتَادِ الأَرْبَعَةِ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ البَيتِ.

وَيَكُونُ عَلَى قَلْبِ عِيسَى؛ لَهُ اليَمَانِيُّ، وَالَّذِي عَلَى قَلْبِ نَبِيٍّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ، فَالَّذِي عَلَى قَلْبِ آدَمَ لَهُ الرُّكْنُ الشَّامِيُّ، وَالَّذِي عَلَى قَلْبِ إِبْرَاهِيمَ لَهُ العِرَاقِيُّ، وَالَّذِي عَلَى قَلْبِ مُحَمَّدٍ لَهُ رُكْنُ الحَجَرِ الأَسْوَدِ؛ وَهُوَ لَنَا بِحَمْدِ اللهِ"!! فَيضُ القَدِيرِ (3/ 170).

ص: 629

القَرْنُ الَّذِي بُعِثَ فِيهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، وَخَاتَمُ الأَولِيَاءِ فِي الحَقِيقَةِ آخِرُ مُؤْمِنٍ تَقِيٍّ يَكُونُ فِي النَّاسِ، وَلَيسَ ذَلِكَ بِخَيرِ الأَولِيَاءِ وَلَا أَفْضَلِهِمْ! بَلْ خَيرُهُمْ وَأَفْضَلُهُمْ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه ثُمَّ عُمَرُ اللَّذَانِ مَا طَلَعَتْ شَمْسٌ وَلَا غَرَبَتْ عَلَى أَحَدٍ بَعْدَ النَّبِيِّينَ وَالمُرْسَلِينَ أَفْضَلَ مِنْهُمَا"

(1)

.

تَمَّ الكِتَابُ بِحَولِهِ تَعَالَى وَقُوَّتِهِ وَفَضْلِهِ.

وَأَخِيرًا أَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى إِجَابَتِي دَعْوَةً كَدَعْوَةِ أَبِينَا إِبْرَاهِيمَ عليه الصلاة والسلام {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ * رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الحِسَابُ}

وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ.

وَكَتَبَهُ أَبُو عَبْدِ اللهِ؛ خُلْدُونُ بْنُ مَحْمُودِ بْنِ نَغَوِي آل حَقُوي

(1)

مَجْمُوعُ الفَتَاوَى (11/ 433) بِحَذْفٍ يَسِيرٍ دَرْءًا لِلإِطَالَةِ.

ص: 630

‌فِهْرِسُ المَصَادِرِ وَالمَرَاجِعِ:

- اقْتِضَاءُ الصِّرَاطِ المُسْتَقِيمِ، لِشَيخِ الإِسْلَامِ؛ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الحَلِيمِ بْنِ تَيمِيَّةَ الحَرَّانِيِّ؛ أَبِي العَبَّاسِ؛ تَقِي الدِّينِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 728 هـ)، دَارُ عَالَمِ الكُتُبِ، بَيرُوت، بِتَحْقِيقِ نَاصِر عَبْدِ الكَرِيمِ العَقل.

- الإِتْقَانُ فِي عُلُومِ القُرْآنِ، لِلحَافِظِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْر؛ جَلَالِ الدِّينِ السُّيُوطِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 911 هـ)، الهَيئَةُ المِصْرِيَّةُ العَامَّةُ لِلكِتَابِ، بِتَحْقِيقِ مُحَمَّد أَبِي الفَضْلِ إِبْرَاهِيم.

- الإِجَابَةُ لِإِيرَادِ مَا اسْتَدْرَكَتْهُ عَائِشَةُ عَلَى الصَّحَابَةِ، لِلإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ بَهَادِر الزَّرْكَشِيِّ؛ أَبِي عَبْدِ اللهِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 794 هـ)، المَكْتَبُ الإِسْلَامِيُّ - بَيرُوت، بِتَحْقِيقِ د. عِصْمَتِ اللهِ.

- الأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ الكُبْرَى، لِلإِمَامِ عَبْدِ الحَقِّ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الإِشْبِيلِيِّ؛ المَعْرُوفِ بِابْنِ الخَرَّاطِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 581 هـ)، مَكْتَبَةُ الرُّشْدِ - الرِّيَاض، بِتَحْقِيقِ حُسَينِ بْنِ عُكَاشَة.

- الاسْتِذْكَارُ، لِلإِمَامِ الحَافِظِ يُوسُف بنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ البَرِّ؛ القُرْطُبِيِّ؛ أَبِي عُمَرَ، المَالِكِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 463 هـ)، دَارُ الكُتُبِ العِلْمِيَّةِ - بَيرُوت، بِتَحْقِيقِ سَالِم مُحَمَّد عَطَا، وُمُحَمَّد عَلِي مُعَوَّض.

- الاسْتِيعَابُ فِي مَعْرِفَةِ الأَصْحَابِ، لِلإِمَامِ الحَافِظِ يُوسُف بنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ البَرِّ؛ القُرْطُبِيِّ؛ أَبِي عُمَرَ، المَالِكِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 463 هـ)، دَارُ الجِيلِ - بَيرُوت، بِتَحْقِيقِ عَلِي البجاوي.

ص: 631

- الاعْتِصَامُ، لِلإِمَامِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُوسَى بْنِ مُحَمَّدِ اللَّخْمِيِّ الغِرْنَاطِيِّ، الشَّهِيرِ بِالشَّاطِبِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 790 هـ)، دَارُ ابْنِ عَفَّانَ، المَمْلَكَةُ العَرَبِيَّةُ السّعُودِيَّةُ، بِتَحْقِيقِ سَلِيمِ بْنِ عِيدٍ الهِلَالِيِّ.

- الاعْتِقَادُ، لِلإِمَامِ الحَافِظِ أَحْمَدَ بْنِ الحُسَينِ بْنِ عَلِيٍّ الخُرَاسَانِيِّ، أَبِي بَكْرٍ البَيهَقِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 458 هـ)، دَارُ الآفَاقِ الجَدِيدَةِ - بَيرُوت، بِتَحْقِيقِ أَحْمَد عِصَام الكَاتِب.

- الإِبَانَةُ الكُبْرَى، لِلإِمَامِ عُبَيدِ اللهِ بْنِ مُحَمَّد العُكْبَريِّ؛ أَبِي عَبْدِ اللهِ - المَعْرُوفِ بِابْنِ بَطَّةَ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 387 هـ)، دَارُ الرَّايَةِ - الرِّيَاض، بِتَحْقِيقِ مَجْمُوعَةٍ مِنَ المُحَقِّقِين.

- الإِصَابَةُ فِي تَمْيِيزِ الصَّحَابَةِ، لِلإِمَامِ الحَافِظِ أَحْمَدِ بْنِ عَلِيّ بْنِ حَجَرٍ؛ أَبِي الفَضْلِ العَسْقَلَانِيِّ الشَّافِعِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 852 هـ)، دَارُ الكُتُبِ العِلْمِيَّةِ - بَيرُوت، بِتَحْقِيقِ عَادِل عَبْدِ المَوجُود، وَعَلِي معَوَّض.

- الإِيضَاحُ فِي مَنَاسِكِ الحَجِّ وَالعُمْرَةِ، لِلإِمَامِ يَحْيَى بْنِ شَرَفِ بْنِ مَرِيِّ النَّوَوِيِّ؛ أَبِي زَكَرِيَّا، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 676 هـ)، دَارُ البَشَائِرِ الإِسْلَامِيَّةِ، بَيرُوت.

- الأَحَادِيثُ المُخْتَارَةُ، لِلحَافِظِ ضِيَاءِ الدِّينِ؛ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الوَاحِدِ المَقْدِسِيِّ؛ أَبِي عَبْدِ اللهِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 643 هـ)، دَارُ خضر - بَيرُوت، بِتَحْقِيقِ عَبْدِ المَلِكِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ دهيش.

- الأَدَبُ المُفْرَدُ، لِلإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الجعْفِيِّ البُخَارِيِّ؛ أَبِي عَبْدِ اللهِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 256 هـ)، دَارُ البَشَائِرِ الإِسْلَامِيَّةِ، بَيرُوت، بِتَحْقِيقِ مُحَمَّد فُؤَاد عَبْدِ البَاقِي.

- الأَذْكَارُ، لِلإِمَامِ يَحْيَى بْنِ شَرَفِ بْنِ مَرِيِّ النَّوَوِيِّ؛ أَبِي زَكَرِيَّا، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 676 هـ)، دَارُ الفِكْرِ لِلطِّبَاعَةِ وَالنَّشْرِ وَالتَّوزِيعِ، بَيرُوت، بِتَحْقِيقِ الشَّيخِ الفَاضِلِ عَبْدِ القَادِرِ الأَرْنَؤُوطِ.

ص: 632

- الأَرْبَعُونَ النَّوَوِيَّةُ، لِلإِمَامِ يَحْيَى بْنِ شَرَفِ بْنِ مَرِيِّ النَّوَوِيِّ؛ أَبِي زَكَرِيَّا، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 676 هـ)، دَارُ المِنْهَاجِ لِلنَّشْرِ وَالتَّوزِيعِ، لُبْنَان - بَيرُوت.

- الإِسْرَاءُ وَالمِعْرَاجُ وَذِكْرُ أَحَادِيثِهِمَا وَتَخْرِيجِهَا وَبَيانِ صَحِيحِهَا، لِلمُحَدِّثِ الإِمَامِ مُحَمَّد نَاصِرِ الدِّينِ الأَلْبَانِيِّ؛ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1420 هـ)، المَكْتَبَةُ الإِسْلَامِيَّةُ - عَمَّان.

- الأَسْرَارُ المَرْفُوعَةُ فِي الأَخْبَارِ المَوضُوعَةِ، لِلشَّيخِ الفَقِيهِ مُلَّا عَلِيِّ الهَرَوِيِّ القَارِيّ، أَبِي الحَسَنِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1104 هـ)، دَارُ الرِّسَالَة - بَيرُوت، بِتَحْقِيقِ مُحَمَّدِ الصَّبَّاغِ.

- الأَسْمَاءُ وَالصِّفَاتُ، لِلإِمَامِ الحَافِظِ أَحْمَدَ بْنِ الحُسَينِ بْنِ عَلِيٍّ الخُرَاسَانِيِّ، أَبِي بَكْرٍ البَيهَقِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 458 هـ)، مَكْتَبَةُ السوادي، جِدَّة - المَمْلَكَةُ العَرَبِيَّةُ السّعُودِيَّةُ، بِتَحْقِيقِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُحَمَّدِ الحَاشِدِيِّ.

- الأَعْلَامُ، تَأْلِيفُ خَيرِ الدِّينِ بْنِ مَحْمُودٍ الزِّرِكْلِيِّ الدِّمَشْقِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1396 هـ)، دَارُ العِلْمِ لِلمَلَايِينِ.

- الأَوسَطُ فِي السُّنَنِ وَالإِجْمَاعِ وَالاخْتِلَافِ، لِلإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ المُنْذِرِ النَّيسَابُورِيِّ؛ أَبِي بَكْر، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 315 هـ)، دَارُ طَيبَةَ - الرِّيَاض، بِتَحْقِيقِ أَبِي حَمَّادٍ؛ صغير أحمد بن محمد حنيف.

- الأُمُّ، لِلإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيِّ؛ أَبِي عَبْدِ اللهِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 204 هـ)، دَارُ المَعْرِفَةِ - بَيرُوت.

- الآثَارُ، لِلإمَامِ الحَافِظِ مُحَمَّدِ بْنِ الحَسَنِ الشَّيبَانِيِّ؛ أَبِي عَبْدِ اللهِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 189 هـ)، دَارُ الكُتُبِ العِلْمِيَّةِ - بَيرُوت، بِتَحْقِيقِ أَبِي الوَفَا الأَفَغَانِيِّ.

- الآيَاتُ البَيِّنَاتُ فِي عَدَمِ سَمَاعِ الأَمْوَاتِ عَلَى مَذْهَبِ الحَنَفِيَّةِ السَّادَاتِ، لِلشَّيخِ

ص: 633

نُعْمَانِ بْنِ مَحْمُود بِنْ عَبْدِ اللهِ؛ أَبِي البَرَكَاتِ؛ خَيرِ الدِّين؛ الآلُوسِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1317 هـ)، المَكْتَبُ الإِسْلَامِيُّ، بِتَحْقِيقِ الشَّيخِ المُحَدِّثِ مُحَمَّد نَاصِر الدِّين الأَلْبَانِيِّ.

- البُرْهَانُ فِي عُلُومِ القُرْآنِ، لِلإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ بَهَادِر الزَّرْكَشِيِّ؛ أَبِي عَبْدِ اللهِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 794 هـ)، دَارُ إِحْيَاءِ الكُتُبِ العَرَبِيَّةِ، دَارُ المَعْرِفَةِ - بَيرُوت، بِتَحْقِيقِ مُحَمَّد أَبِي الفَضْلِ إِبْرَاهِيم.

- البِدَايَةُ وَالنِّهَايَةُ، لِلحَافِظِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيِّ الدِّمَشْقِيِّ؛ أَبِي الفِدَاءِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 774 هـ)، دَارُ هجر، بِتَحْقِيقِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ المُحْسِنِ التّركيّ.

- البِنَاءُ عَلَى القُبُورِ، لِلشَّيخِ المُحَدِّثِ عَبْدِ الرَّحْمَن بْنِ يَحْيَى المُعَلِّمِي اليَمَانِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1386 هـ)، دَارُ أَطْلَس - الرِّيَاض، بِتَحْقِيقِ حَاكِم بْنِ عبيسَان المطِيرِي.

- التَّبَرُّكُ، لِلشَّيخِ نَاصِرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَن الجدْيع، (مُعَاصِرٌ)، مَكْتَبَةُ الرُّشْدِ لِلنَّشْرِ وَالتَّوزِيعِ - الرِّيَاض.

- التَّبْصِرَةُ، لِلإِمَامِ عَبْدِ الرَّحْمَن بْنِ عَلِيّ بْنِ مُحَمَّدِ الجَوزِيِّ؛ أَبِي الفَرَجِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 579 هـ)، دَارُ الكُتُبِ العِلْمِيَّةِ - بَيرُوت.

- التَّخْوِيفُ مِنَ النَّارِ وَالتَّعْرِيفُ بِحَالِ دَارِ البَوَارِ، لِلإِمَامِ الحَافِظِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ رَجَبٍ البَغْدَادِيِّ الحَنْبَلِيِّ (المُتَوَفَّى سَنَةَ 795 هـ)، دَارُ البَيَانِ - دِمَشْقَ، بِتَحْقِيقِ بَشِير مُحَمَّد عُيُون.

- التَّذْكِرَةُ بِأَحْوَالِ المَوتَى وَأُمُورِ الآخِرَةِ، لِلإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي بَكْرٍ؛ شَمْسِ الدِّينِ القُرْطُبِيِّ؛ أَبِي عَبْدِ اللهِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 671 هـ)، مَكْتَبَةُ دَارِ المِنْهَاجِ - الرِّيَاض، بِتَحْقِيقِ الصَّادِقِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ.

- التَّرْغِيبُ وَالتَّرْهِيبُ، لِلإِمَامِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الفَضْلِ الأَصْبَهَانِيِّ؛ أَبِي

ص: 634

القَاسِمِ، المُلَقَّبِ بِقَوَّامِ السُّنَّةِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 535 هـ)، دَارُ الحَدِيثِ - القَاهِرَةُ، بِتَحْقِيقِ أَيمَن بْنِ صَالِحِ بْنِ شَعْبَانَ.

- التَّرْغِيبُ وَالتَّرْهِيبُ، لِلحَافِظِ عَبْدِ العَظِيمِ بْنِ عَبْدِ القَوِيِّ المُنْذِرِيّ؛ زَكِيّ الدِّين، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 656 هـ)، دَارُ الكُتُبِ العِلْمِيَّةِ - بَيرُوت، بِتَحْقِيقِ إِبْرَاهِيم شَمْسِ الدِّين.

- التَّفْسِيرُ الكَبِيرُ (مَفَاتِيحُ الغَيبِ)، لِلإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ الرَّازِي؛ أَبِي عَبْدِ اللهِ؛ المُلَقَّبِ بِفَخْرِ الدِّينِ الرَّازِي، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 606 هـ)، دَارُ إِحْيَاءِ التُّرَاثِ العَرَبِيِّ - بَيرُوت.

- التَّمْهِيدُ لِشَرْحِ كِتَابِ التَّوحِيدِ، لِلشَّيخِ العَلَّامَةِ صَالِحِ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ آلِ الشَّيخِ، (مُعَاصِرٌ)، دَارُ التَّوحِيدِ.

- التَّمْهِيدُ لِمَا فِي المُوَطَّأِ مِنَ المَعَانِي وَالأَسَانِيدِ، لِلإِمَامِ الحَافِظِ يُوسُف بنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ البَرِّ؛ القُرْطُبِيِّ؛ أَبِي عُمَرَ، المَالِكِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 463 هـ)، وِزَارَةُ عُمُومِ الأَوقَافِ وَالشُّؤُونِ الإِسْلَامِيَّةِ - المَغْرِب، بِتَحْقِيقِ مُصْطَفَى بْنِ أَحْمَد العَلَوِيِّ، وَمُحَمَّد عَبْدِ الكَبِير البَكْرِيِّ.

- التَّنْكِيلُ بِمَا فِي تَأْنِيبِ الكَوثَرِيِّ مِنَ الأَبَاطِيل، لِلشَّيخِ المُحَدِّثِ عَبْدِ الرَّحْمَن بْنِ يَحْيَى المُعَلِّمِي اليَمَانِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1386 هـ)، المَكْتَبُ الإِسْلَامِيُّ - بَيرُوت، بِتَحْقِيقِ الشَّيخِ المُحَدِّثِ مُحَمَّد نَاصِر الدِّين الأَلْبَانِيِّ.

- التَّوَسُّلُ؛ أَنْوَاعُهُ وَأَحْكَامُهُ، لِلمُحَدِّثِ الإِمَامِ مُحَمَّدِ نَاصِرِ الدِّينِ الأَلْبَانِيِّ؛ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1420 هـ)، مَكْتَبَةُ المَعَارِفِ لِلنَّشْرِ وَالتَّوزِيعِ، الرِّيَاض، بِتَحْقِيقِ مُحَمَّد عِيد العَبَّاسِي.

- التَّوضِيحُ لِشَرْحِ الجَامِعِ الصَّحِيحِ، لِلإِمَامِ ابْنِ المُلَقِّنِ؛ أَبِي حَفْصٍ؛ عُمَرَ بْنِ عَلِيّ بْنِ أَحْمَدَ الشَّافِعِيِّ المِصْرِيِّ؛ سِرَاجِ الدِّينِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 804 هـ)، دَارُ النَّوَادِرِ - دِمَشْقَ،

ص: 635

بِتَحْقِيقِ دَارِ الفَلَاحِ لِلبَحْثِ العِلْمِيِّ.

- التَّوقِيفُ علَى مُهِمَّاتِ التَّعَارِيفِ، لِلشَّيخِ عَبْدِ الرَّؤُوفِ المُنَاوِيِّ؛ زَينِ الدِّينِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1031 هـ)، عَالَمُ الكُتُبِ - القَاهِرَةُ.

- التِّبْيَانُ فِي آدَابِ حَمَلَةِ القُرْآنِ، لِلإِمَامِ يَحْيَى بْنِ شَرَفِ بْنِ مَرِيِّ النَّوَوِيِّ؛ أَبِي زَكَرِيَّا، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 676 هـ)، دَارُ ابْنِ حَزْمٍ - بَيرُوت، بِتَحْقِيقِ مُحَمَّدِ الحَجَّارِ.

- الثَّمَرُ المُسْتَطَابُ فِي فِقْهِ السُّنَّةِ وَالكِتَابِ، لِلمُحَدِّثِ الإِمَامِ مُحَمَّد نَاصِرِ الدِّينِ الأَلْبَانِيِّ؛ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1420 هـ)، مَكْتَبَةُ غِرَاس لِلنَّشْرِ وَالتَّوزِيعِ.

- الثِّقَاتُ، لِلحَافِظِ مُحَمَّدِ بْنِ حِبَّانَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حِبَّانَ؛ أَبِي حَاتِمٍ البُسْتِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 354 هـ)، دَائِرَةُ المَعَارِفِ العُثْمَانِيَّةِ - حَيدَر آبَاد.

- الجَامِعُ لِأَحْكَامِ القُرْآنِ، لِلإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي بَكْرٍ؛ شَمْسِ الدِّينِ القُرْطُبِيِّ؛ أَبِي عَبْدِ اللهِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 671 هـ)، دَارُ الكُتُبِ المَصْرِيَّةِ - القَاهِرَة، بِتَحْقِيقِ أَحْمَد البردوني وإبراهيم أطفيش.

- الجَدِيدُ فِي شَرْحِ كِتَابِ التَّوحِيدِ، لِلإِمَامِ مُحَمَّد بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ السُّلَيمَان القَرْعَاوِيِّ، مَكْتَبَةُ السَّوَادِي - جَدَّة، بِتَحْقِيقِ مُحَمَّد بْنِ أَحْمَد سَيِّد أَحْمَد.

- الجَرْحُ وَالتَّعْدِيلُ؛ لِلْإِمَامِ أَبِي مُحَمَّدٍ؛ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِدْرِيسَ الرَّازِي؛ ابْنُ أَبِي حَاتِم (المُتَوَفَّى سَنَةَ 327 هـ)، دَارُ إِحْيَاءِ التُّرَاثِ العَرَبِي - بَيرُوت.

- الجَوَابُ الصَّحِيحُ لِمَنْ بَدَّلَ دِينَ المَسِيحِ، لِشَيخِ الإِسْلَامِ؛ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الحَلِيمِ بْنِ تَيمِيَّةَ الحَرَّانِيِّ؛ أَبِي العَبَّاسِ؛ تَقِي الدِّينِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 728 هـ)، دَارُ العَاصِمَةِ - الرِّيَاض، بِتَحْقِيقِ عَلِي بْنِ حَسَن - عَبْدِ العَزِيزِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ - حَمْدَان بْنِ مُحَمَّد.

- الجَوَابُ الكَافِي لِمَنْ سَأَلَ عَنِ الدَّوَاءِ الشَّافِي (الدَّاءُ وَالدَّوَاءُ)، لِلإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ

ص: 636

أَبِي بَكْرِ بْنِ أَيَّوبَ، ابْنِ قَيِّمِ الجَوزِيَّةِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 751 هـ)، دَارُ المَعْرِفَةِ - المَغْرِب.

- الحَاوِي الكَبِيرُ فِي فِقْهِ مَذْهَبِ الإِمَامِ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ شَرْحُ مُخْتَصَرِ المُزَنِيِّ، لِأَبِي الحَسَنِ؛ عَلِيّ بْنِ مُحَمَّد البَصْرِيِّ البَغْدَادِيِّ؛ الشَّهِيرِ بِالمَاوَرْدِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 450 هـ)، دَارُ الكُتُبِ العِلْمِيَّةِ - بَيرُوت، بِتَحْقِيقِ الشَّيخِ عَلِيّ مُحَمَّد مُعَوَّض - الشَّيخ عَادِل أَحْمَد عَبْدِ المَوجُودِ.

- الحَاوِي لِلفَتَاوَى، لِلحَافِظِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْر؛ جَلَالِ الدِّينِ السُّيُوطِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 911 هـ)، دَارُ الكُتُبِ العِلْمِيَّةِ - بَيرُوت.

- الحُجَّةُ فِي بَيَانِ المَحَجَّةِ، لِلإِمَامِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الفَضْلِ الأَصْبَهَانِيِّ؛ أَبِي القَاسِمِ، المُلَقَّبِ بِقَوَّامِ السُّنَّةِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 535 هـ)، دَارُ الرَّايَةِ، بِتَحْقِيقِ الشَّيخِ مُحَمَّدِ بْنِ رَبِيعٍ المَدْخَلِيِّ.

- الدَّرَارِي المَضِيَّةُ شَرْحُ الدُّرَرِ البَهِيَّةِ، لِلإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الشَّوكَانِيِّ اليَمَنِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1250 هـ)، دَارُ الكُتُبِ العِلْمِيَّةِ.

- الدُّرَرُ السَّنِيَّةُ فِي الأَجْوِبَةِ النَّجْدِيَّةِ، تَأْلِيفُ عُلَمَاءِ نَجْدٍ الأَعْلَامِ - الطَّبْعَةُ السَّادِسَةُ - بِتَحْقِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ قَاسِمٍ.

- الدُّرُّ المَنْثُورُ، لِلحَافِظِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْر؛ جَلَالِ الدِّينِ السُّيُوطِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 911 هـ)، دَارُ الفِكْرِ - بَيرُوت.

- الدِّرَايَةُ فِي تَخْرِيجِ أَحَادِيثِ الهِدَايَةِ، لِلإِمَامِ الحَافِظِ أَحْمَدِ بْنِ عَلِيّ بْنِ حَجَرٍ؛ أَبِي الفَضْلِ العَسْقَلَانِيِّ الشَّافِعِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 852 هـ)، دَارُ المَعْرِفَةِ - بَيرُوت، بِتَحْقِيقِ السَّيِّد عَبْدِ اللهِ هَاشِم اليَمَانِيِّ المَدَنِيِّ.

- الرُّوحُ، لِلإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَيَّوبَ، ابْنِ قَيِّمِ الجَوزِيَّةِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ

ص: 637

751 هـ)، دَارُ الكُتُبِ العِلْمِيَّةِ - بَيرُوت.

- الرِّسَالَةُ، لِلإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيِّ؛ أَبِي عَبْدِ اللهِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 204 هـ)، دَارُ الكُتُبِ العِلْمِيَّةِ - بَيرُوت.

- الزَّوَاجِرُ عَنِ اقْتِرَافِ الكَبَائِرِ، لِلإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّد بْنِ حَجَرٍ الهَيتَمِيِّ؛ أَبِي العَبَّاسِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 974 هـ)، دَارُ الفِكْرِ.

- الزُّهْدُ، لِلإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلَ بْنِ هِلَالِ بْنِ أَسَدٍ الشَّيبَانِيِّ؛ أَبِي عَبْدِ اللهِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 241 هـ)، دَارُ الكُتُبِ العِلْمِيَّةِ - بَيرُوت.

- السُّنَنُ الكُبْرَى، لِلإِمَامِ الحَافِظِ أَحْمَدَ بْنِ الحُسَينِ بْنِ عَلِيٍّ الخُرَاسَانِيِّ، أَبِي بَكْرٍ البَيهَقِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 458 هـ)، دَارُ الكُتُبِ العِلْمِيَّةِ - بَيرُوت، بِتَحْقِيقِ مُحَمَّد عَبْدِ القَادِرِ عَطَا.

- السُّنَّةُ، لِلشَّيخِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ هَارُون الخَلَّالِ الحَنْبَلِيِّ؛ أَبِي بَكْرٍ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 311 هـ)، دَارُ الرَّايَةِ - الرِّيَاض، بِتَحْقِيقِ عَطِيَّةَ الزَّهْرَانِيِّ.

- السِّيرَةُ النَّبَوِيَّةُ، لِلحَافِظِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيِّ الدِّمَشْقِيِّ؛ أَبِي الفِدَاءِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 774 هـ)، دَارُ المَعْرِفَةِ - بَيرُوت، بِتَحْقِيقِ مُصْطَفَى عَبْدِ الوَاحِدِ.

- الشَّرْحُ المُمْتِعُ عَلَى زَادِ المُسْتَقْنِعِ، لِلشَّيخِ مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحٍ العُثِيمِين، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1421 هـ)، دَارُ ابْنِ الجُوزِيِّ لِلنَّشْرِ وَالتَّوزِيعِ، المَمْلَكَةُ العَرَبِيَّةُ السُّعُودِيَّةُ.

- الشِّفَا بِتَعْرِيفِ حُقُوقِ المُصْطَفَى، لِلقَاضِي عِيَاضِ بْنِ مُوسَى بْنِ عِيَاضِ اليَحْصُبِيِّ؛ أَبِي الفَضْلِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 544 هـ)، دَارُ الفَيحَاء - عَمان.

- الصَّارِمُ المَسْلُولُ عَلَى شَاتِمِ الرَّسُولِ، لِشَيخِ الإِسْلَامِ؛ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الحَلِيمِ بْنِ تَيمِيَّةَ الحَرَّانِيِّ؛ أَبِي العَبَّاسِ؛ تَقِي الدِّينِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 728 هـ)، النَّاشِرُ: الحَرَسُ الوَطَنِيُّ

ص: 638

السُّعُودِيُّ، المَمْلَكَةُ العَرَبِيَّةُ السُّعُودِيَّةُ، بِتَحْقِيقِ مُحَمَّد مُحْي الدِّينِ عَبْدِ الحَمِيدِ.

- الصَّارِمُ المُنْكِي فِي الرَّدِّ عَلَى السُّبْكِيِّ، لِلحَافِظِ شَمْسِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الهَادِي الحَنْبَلِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 744 هـ)، مُؤَسَّسَةُ الرَّيَّان، بَيرُوت - لُبْنَان، بِتَحْقِيقِ عَقِيلِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زَيدٍ المقطري.

- الصَّحِيحُ المُسْنَدُ مِنْ أَسْبَابِ النُّزُولِ، لِلشَّيخِ المُحَدِّثِ مُقْبِلِ بْنِ هَادِي الوَادِعِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1422 هـ)، مَكْتَبَةُ ابْنِ تَيمِيَّةَ - القَاهِرَة.

- الصَّلَاةُ وَحُكْمُ تَارِكِهَا، لِلإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَيَّوبَ، ابْنِ قَيِّمِ الجَوزِيَّةِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 751 هـ)، مَكْتَبَةُ الثَّقَافَةِ بِالمَدِينَةِ المُنَوَّرَةِ.

- الصَّوَاعِقُ المُرْسَلَةُ فِي الرَّدِّ عَلَى الجَهْمِيَّةِ وَالمُعَطِّلَةِ، لِلإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَيَّوبَ، ابْنِ قَيِّمِ الجَوزِيَّةِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 751 هـ)، دَارُ العَاصِمَةِ، الرِّيَاض، المَمْلَكَةُ العَرَبِيَّةُ السُّعُودِيَّةُ، بِتَحْقِيقِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ الدَّخِيل الله.

- الصِّحَاحُ، لِلإِمَامِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ حَمَّادٍ الجَوهَرِيِّ الفَارَابِيِّ؛ أَبِي نَصْرٍ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 393 هـ)، دَارُ العِلْمِ لِلمَلَايِين - بَيرُوت، بِتَحْقِيقِ أَحْمَد عَبْدِ الغَفُورِ عَطَّار.

- الطَّبَقَاتُ الكُبْرَى، لِلإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ؛ أَبِي عَبْدِ اللهِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 230 هـ)، دَارُ صَادِر - َبيرُوت، بِتَحْقِيقِ إِحْسَان عَبَّاس.

- العَرْشُ وَمَا رُوِي فِيهِ، لِلحَافِظِ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيبَةَ العَبْسِيِّ؛ أَبِي جَعْفَرٍ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 297 هـ)، مَكْتَبَةُ الرُّشْدِ - الرِّيَاض، بِتَحْقِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ خَلِيفَةَ بْنِ عَلِيٍّ التَّمِيمِيِّ.

- العُرْفُ الشَّذِيُّ شَرْحُ سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ، لِلشَّيخِ مُحَمَّد أَنْوَر شَاه بْنِ مُعَظَّم شَاه الكَشْمِيرِيُّ الهِنْدِيُّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1353 هـ)، دَارُ التُّرَاثِ العَرَبِيِّ - بَيرُوت، بِتَصْحِيحِ الشَّيخِ مَحْمُود شَاكِر.

ص: 639

- العَظَمَةُ، لِلحَافِظِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ؛ أَبِي مُحَمَّدٍ؛ المَعْرُوفِ بِأَبِي الشَّيخِ الأَصْبَهَانِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 369 هـ)، دَارُ العَاصِمَةِ - الرِّيَاض، بِتَحْقِيقِ رِضَاءِ اللهِ بْنِ مُحَمَّدِ إِدْرِيس المُبَارَكْفُورِي.

- العُلُوِّ لِلعَلِيِّ الغَفَّارِ، لِلحَافِظِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ قَايمازَ الذَّهَبِيِّ؛ أَبِي عَبْدِ اللهِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 748 هـ)، مَكْتَبَةُ أَضْوَاءِ السَّلَفِ - الرِّيَاض، بِتَحْقِيقِ أَشْرَف بْنِ عَبْدِ المَقْصُودِ.

- العِلَلُ المُتَنَاهِيَةُ فِي الأَحَادِيثِ الوَاهِيَةِ، لِلإِمَامِ عَبْدِ الرَّحْمَن بْنِ عَلِيّ بْنِ مُحَمَّدِ الجَوزِيِّ؛ أَبِي الفَرَجِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 579 هـ)، إِدَارَةُ العُلُومِ الأَثَرِيَّةِ، بَاكِسْتَان، بِتَحْقِيقِ إِرْشَادِ الحَقِّ الأَثَرِيِّ.

- الفَتَاوَى الكُبْرَى، لِشَيخِ الإِسْلَامِ؛ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الحَلِيمِ بْنِ تَيمِيَّةَ الحَرَّانِيِّ؛ أَبِي العَبَّاسِ؛ تَقِيِّ الدِّينِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 728 هـ)، دَارُ الكُتُبِ العِلْمِيَّةِ - بَيرُوت.

- الفَتْوَى الحَمَوِيَّةُ الكُبْرَى، لِشَيخِ الإِسْلَامِ؛ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الحَلِيمِ بْنِ تَيمِيَّةَ الحَرَّانِيِّ؛ أَبِي العَبَّاسِ؛ تَقِي الدِّينِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 728 هـ)، دَارُ الصّميعي - الرِّيَاض، بِتَحْقِيقِ حَمَدِ بْنِ عَبْدِ المُحْسِنِ التُّوُيجري.

- الفَوَائِدُ، لِلإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَيَّوبَ، ابْنِ قَيِّمِ الجَوزِيَّةِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 751 هـ)، دَارُ الكُتُبِ العِلْمِيَّةِ - بَيرُوت.

- الفُرُوقُ اللُّغَوِيَّةُ، لِلحَسَنِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَهْلٍ العَسْكَرِيِّ؛ أَبِي الهِلَالِ، (المُتَوَفَّى بَعْدَ سَنَةِ 395 هـ)، دَارُ العِلْمِ وَالثَّقَافَةِ لِلنَّشْرِ وَالتَّوزِيعِ - القَاهِرَةُ، بِتَحْقِيقِ مُحَمَّد إِبْرَاهِيم سَلِيم.

- الفِرْدَوسُ بِمَأْثُورِ الخِطَابِ، لِلحَافِظِ شِيرَوَيه بنِ شَهْردَارِ؛ أَبِي شُجَاعٍ الدَّيلَمِيِّ

ص: 640

الهَمَذَانِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 509 هـ)، دَارُ الكُتُبِ العِلْمِيَّةِ - بَيرُوت، بِتَحْقِيقِ السَّعِيدِ بْنِ بَسْيِونِي زَغْلُول.

- الفِصَلُ فِي المِلَلِ وَالأَهْوَاءِ وَالنِّحَلِ، لِلإِمَامِ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ حَزْمٍ الأَنْدَلُسِيِّ؛ أَبِي مُحَمَّد، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 456 هـ)، مَكْتَبَةُ الخَانجي - القَاهِرَة.

- الفِقْهُ الإِسْلَامِيُّ وَأَدِلَّتُهُ، لِلشَّيخِ وَهْبَة بْنِ مُصْطَفَى الزُّحَيلِيِّ، دَارُ الفِكْرِ - دِمَشق.

- الفِقْهُ عَلَى المَذَاهِبِ الأَرْبَعَةِ، لِلشَّيخِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّد عَوَض الجزيريِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1360 هـ)، دَارُ الكُتُبِ العِلْمِيَّةِ - بَيرُوت.

- القَامُوسُ المُحِيطُ، لِمُحَمَّدِ بْنِ يَعْقُوبَ الفَيرُوزآبَادِي؛ أَبِي طَاهِرٍ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 817 هـ)، مُؤَسَّسَةُ الرِّسَالَةِ - بَيرُوت، بِتَحْقِيقِ مَكْتَبِ تَحْقِيقِ التُّرَاثِ فِي مُؤَسَّسَةِ الرِّسَالَةِ.

- القَدَرُ وَمَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ مِنَ الآثَارِ، لِلإِمَامِ عَبْدِ اللهِ بْنِ وَهْبِ بْنِ مُسْلِمٍ المِصْرِيِّ القُرَشِيِّ؛ أَبِي مُحَمَّد، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 197 هـ)، دَارُ السُّلْطَانِ - مَكَّة المُكَرَّمَة، بِتَحْقِيقِ عَبْدِ العَزِيزِ عَبْدِ الرَّحْمَن العثيم.

- القَوَاعِدُ الحِسَانُ فِي تَفْسِيرِ القُرْآنِ، لِلشَّيخِ العَلَّامَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَاصِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ السَّعْدِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1376 هـ)، مَكْتَبَةُ الرُّشْدِ لِلنَّشْرِ وَالتَّوزِيعِ - الرِّيَاض.

- القَوَاعِدُ الفِقْهِيَّةُ، لِلشَّيخِ مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحٍ العُثِيمِين، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1421 هـ)، دَارُ البَصِيرَةِ - الإسْكَنْدَرِيَّة.

- القَوَاعِدُ المُثْلَى فِي صِفَاتِ اللهِ وَأَسْمَائِهِ الحُسْنَى، لِلشَّيخِ مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحٍ العُثِيمِين، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1421 هـ)، الجَامِعَةُ الإِسْلَامِيَّةُ، المَدِينَةُ المُنَوَّرَةُ.

- القَولُ السَّدِيدُ فِي مَقَاصِدِ التَّوحِيدِ، لِلشَّيخِ العَلَّامَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَاصِرِ بْنِ

ص: 641

عَبْدِ اللهِ السَّعْدِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1376 هـ)، مَجْمُوعَةُ التُّحَفِ النَّفَائِسِ الدُّوَلِيَّةِ، بِتَحْقِيقِ المُرْتَضَى الزَّين أَحْمَد.

- القَولُ المُفِيدُ عَلَى كِتَابِ التَّوحِيدِ، لِلشَّيخِ مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحٍ العُثِيمِين، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1421 هـ)، دَارُ ابْنِ الجَوزِيِّ - المَمْلَكَةُ العَرَبِيَّةُ السّعُودِيَّةُ.

- الكَافِي فِي فِقْهِ الإِمَامِ أَحْمَد، لِلإمَامِ الفَقِيهِ مُوَفَّق الدِّين؛ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّد بْنِ قُدَامَةَ المَقْدِسِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 620 هـ)، دَارُ الكُتُبِ العِلْمِيَّةِ، بَيرُوت.

- الكَامِلُ فِي ضُعَفَاءِ الرِّجَالِ، لِلحَافِظِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَدِيٍّ الجُرْجَانِيِّ؛ أَبِي أَحْمَدَ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 365 هـ)، دَارُ الكُتُبِ العِلْمِيَّةِ - بَيرُوت، بِتَحْقِيقِ عَادِل أَحْمَد عَبْدِ المَوجُود، وَعَلِي مُحَمَّد مُعَوَّض، وَعَبْدِ الفَتَّاحِ أَبُو سنة.

- الكَبَائِرُ، لِلحَافِظِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ قَايمازَ الذَّهَبِيِّ؛ أَبِي عَبْدِ اللهِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 748 هـ)، دَارُ النَّدْوَةِ الجَدِيدَةِ - بَيرُوت.

- الكِتَابُ المُصَنَّفُ فِي الأَحَادِيثِ وَالآثَارِ، لِلحَافِظِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي شَيبَةَ العَبْسِيِّ؛ أَبِي بَكْرٍ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 235 هـ)، مَكْتَبَةُ الرُّشْدِ - الرِّيَاض، بِتَحْقِيقِ كَمَال يُوسُف الحُوت.

- الكَشَّافُ عَنْ حَقَائِقِ غَوَامِضِ التَّنْزِيلِ، لِلشَّيخِ مَحْمُودِ بْنِ عَمْرو الزَّمَخْشَرِيِّ؛ أَبِي القَاسِمِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 538 هـ)، دَارُ الكِتَابِ العَرَبِيِّ - بَيرُوت.

- الكَلِمُ الطَّيِّبُ، لِشَيخِ الإِسْلَامِ؛ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الحَلِيمِ بْنِ تَيمِيَّةَ الحَرَّانِيِّ؛ أَبِي العَبَّاسِ؛ تَقِي الدِّينِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 728 هـ)، مَكْتَبَةُ المَعَارِفِ لِلنَّشْرِ وَالتَّوزِيعِ، الرِّيَاض، بِتَحْقِيقِ الشَّيخِ المُحَدِّثِ مُحَمَّد نَاصِرِ الدِّينِ الأَلْبَانِيِّ رحمه الله.

- الكُلِّيَّاتُ، لِمُؤَلِّفِهِ أَيُّوب بْنِ مُوسَى الحُسَينِي الكَفَوِيّ؛ أَبُو البَقَاءِ الحَنَفِيِّ (المُتَوَفَّ

ص: 642

سَنَةَ 1094 هـ)، مُؤَسَّسَةُ الرِّسَالَةِ - بَيرُوت -، بِتَحْقِيقِ عَدْنَان دُرْوُيش - مُحَمَّد المِصْرِي.

- المَجْرُوحِينَ مِنَ المُحَدِّثِينَ وَالضُّعَفَاءِ وَالمَتْرُوكِينَ، لِلحَافِظِ مُحَمَّدِ بْنِ حِبَّانَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حِبَّانَ؛ أَبِي حَاتِمٍ البُسْتِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 354 هـ)، دَارُ الوَعي - حَلَب، بِتَحْقِيقِ مَحْمُود إِبْرَاهِيم زَايد.

- المَجْمُوعُ شَرْحُ المُهَذَّبِ، لِلإِمَامِ يَحْيَى بْنِ شَرَفِ بْنِ مَرِيِّ النَّوَوِيِّ؛ أَبِي زَكَرِيَّا، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 676 هـ)، دَارُ الفِكْرِ.

- المَدْخَلُ إِلَى مَذْهَبِ الإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَل، لِلشَّيخِ عَبْدِ القَادِرِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّد بَدْرَان، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1346 هـ)، مُؤَسَّسَةُ الرِّسَالَةِ - بَيرُوت، بِتَحْقِيقِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ المُحْسِنِ التُّرْكِيِّ.

- المَطَالِبُ العَالِيَةُ بِزَوَائِدِ المَسَانِيدِ الثَّمَانِيَةِ، لِلإِمَامِ الحَافِظِ أَحْمَدِ بْنِ عَلِيّ بْنِ حَجَرٍ؛ أَبِي الفَضْلِ العَسْقَلَانِيِّ الشَّافِعِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 852 هـ)، دَارُ العَاصِمَةِ - الرِّيَاض- بِتَنْسِيقِ سَعْدِ بْنِ نَاصِرٍ الشَّثْرِيِّ.

- المَقَاصِدُ الحَسَنَةُ فِي بَيَانِ كَثِيرٍ مِنَ الأَحَادِيثِ المُشْتَهِرَةِ عَلَى الأَلْسِنَةِ، لِلحَافِظِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّد السَّخَاوِيِّ الشَّافِعِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 902 هـ)، دَارُ الكِتَابِ العَرَبِيِّ - بَيرُوت، بِتَحْقِيقِ مُحَمَّد عُثْمَان الخشت.

- المَنَارُ المُنِيفُ فِي الصَّحِيحِ وَالضَّعِيفِ، لِلإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَيَّوبَ، ابْنِ قَيِّمِ الجَوزِيَّةِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 751 هـ)، مَكْتَبَةُ المَطْبُوعَاتِ الإِسْلَامِيَّةِ، حَلَب، بِتَحْقِيقِ عَبْدِ الفَتَّاحِ أَبُو غُدَّة.

- المَوضُوعَاتُ، لِلإِمَامِ الحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الحَسَنِ الصَّغَانِيِّ الحَنَفِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 650 هـ)، دَارُ المَأْمُونِ لِلتُّرَاثِ - دِمَشْق، بِتَحْقِيقِ نَجْمِ عَبْدِ الرَّحْمَن خَلَف.

ص: 643

- المَوضُوعَاتُ، لِلإِمَامِ عَبْدِ الرَّحْمَن بْنِ عَلِيّ بْنِ مُحَمَّدِ الجَوزِيِّ؛ أَبِي الفَرَجِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 579 هـ)، المَكْتَبَةُ السَّلَفِيَّةُ - المَدِينَةُ المُنَوَّرَةُ، بِتَحْقِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَن مُحَمَّد عُثْمَان.

- المُجَلَّى فِي شَرْحِ القَوَاعِدِ المُثْلَى، لِلشَّيخِ مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحٍ العُثِيمِين، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1421 هـ)، دَارُ ابْنِ حَزْمٍ، تَأْلِيفُ كَامِلَة الكَوَارِي.

- المُسْتَدْرَكُ عَلَى الصَّحِيحَينِ، لِلحَافِظِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُحَمَّدٍ النَيسَابُورِيِّ؛ أَبِي عَبْدِ اللهِ الحَاكِمِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 405 هـ)، دَارُ الكُتُبِ العِلْمِيَّةِ - بَيرُوت، بِتَحْقِيقِ مُصْطَفَى عَبْدِ القَادِرِ عَطَا.

- المُعْجَمُ الأَوسَطُ، لِلحَافِظِ سُلَيمَانَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ أَيُّوبَ؛ أَبِي القَاسِمِ الطَّبَرَانِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 360 هـ)، دَارُ الحَرَمَينِ - القَاهِرَة، بِتَحْقِيقِ طَارِقِ بْنِ عَوَض اللهِ بْنِ مُحَمَّد، وَعَبْدِ المُحْسِنِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الحُسَينِيِّ.

- مُعْجَمُ البُلْدَانِ، لِشِهَابِ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللهِ؛ يَاقُوتِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الرُّومِيِّ الحَمَوِيِّ (المُتَوَفَّى سَنَةَ 626 هـ)، دَارُ صَادِر، بَيرُوت.

- المُعْجَمُ الصَّغِيرُ، لِلحَافِظِ سُلَيمَانَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ أَيُّوبَ؛ أَبِي القَاسِمِ الطَّبَرَانِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 360 هـ)، المَكْتَبُ الإِسْلَامِيُّ، دَارُ عَمَّار - بَيرُوت، عَمَّان، بِتَحْقِيقِ مُحَمَّد شَكُور مَحْمُود الحَاج أمرير.

- المُعْجَمُ الكَبِيرُ، لِلحَافِظِ سُلَيمَانَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ أَيُّوبَ؛ أَبِي القَاسِمِ الطَّبَرَانِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 360 هـ)، مَكْتَبَةُ ابْنِ تَيمِيَّةَ - القَاهِرَة، بِتَحْقِيقِ حَمْدِي بْنِ عَبْدِ المَجِيدِ السَّلَفِيِّ.

- المُعْجَمُ الوَسِيطُ، إِعْدَادُ مَجْمَعِ اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ بِالقَاهِرَةِ، دَارُ الدَّعْوَةِ - مِصْر.

ص: 644

- المُعْجَمُ فِي أَسَامِي شُيُوخِ أَبِي بَكْرٍ الإِسْمَاعِيلِيِّ، لِلحَافِظِ أَحْمَد بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مِرْدَاسٍ الإِسْمَاعِيلِيِّ الجُرْجَانِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 371 هـ)، مَكْتَبَةُ العُلُومِ وَالحِكَمِ - المَدِينَةُ المُنَوَّرَةُ، بِتَحْقِيقِ زِيَاد مُحَمَّد مَنْصُور.

- المُغْنِي عَنْ حَمْلِ الأَسْفَارِ فِي الأَسْفَارِ، لِلحَافِظِ زَينِ الدِّينِ؛ عَبْدِ الرَّحِيمِ بْنِ الحُسَينِ العِرَاقِيِّ؛ أَبِي الفَضْلِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 806 هـ)، دَارُ طَبَريَّة - الرِّيَاض، بِتَحْقِيقِ أَشْرَف عَبْدِ المَقْصُودِ.

- المُغْنِي فِي الضُّعَفَاءِ، لِلحَافِظِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ قَايمازَ الذَّهَبِيِّ؛ أَبِي عَبْدِ اللهِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 748 هـ)، إِدَارَةُ إِحْيَاءِ التُّرَاثِ الإِسْلَامِيِّ - قَطَر، بِتَحْقِيقِ نُورِ الدِّين عِتِر.

- المُغْنِي، لِلإمَامِ الفَقِيهِ مُوَفَّق الدِّين؛ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّد بْنِ قُدَامَةَ المَقْدِسِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 620 هـ)، مَكْتَبَةُ القَاهِرَةِ.

- المُفْهِمُ لِمَا أَشْكَلَ مِنْ تَلْخِيصِ كِتَابِ مُسْلِمٍ، لِلإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ القُرْطُبِيِّ؛ أَبِي العَبَّاسِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 656 هـ)، دَارُ ابْنِ كَثِيرٍ - دِمَشْق، بِتَحْقِيقِ مُحْيي الدِّين مستو، وَآخَرِين.

- المُنْتَقَى شَرْحُ المُوَطَّإِ، لِلإِمَامِ سُلَيمَان بْنِ خَلَف البَاجِي الأَنْدَلُسِيِّ؛ أَبِي سُلَيمَان، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 474 هـ)، مَطْبَعَةُ السَّعَادَةِ - مِصْر.

- المُوَافَقَاتُ، لِلإِمَامِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُوسَى بْنِ مُحَمَّدِ اللَّخْمِيِّ الغِرْنَاطِيِّ، الشَّهِيرِ بِالشَّاطِبِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 790 هـ)، دَارُ ابْنِ عَفَّانَ، بِتَحْقِيقِ الشَّيخِ الفَاضِلِ مَشْهُور بْنِ حَسَن آل سَلْمَان.

- المُوَطَّأ، لِلإِمَامِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ الأَصْبَحِيِّ المَدَنِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 179 هـ)، دَارُ

ص: 645

إِحْيَاءِ التُّرَاثِ العَرَبِيِّ - بَيرُوت، بِتَرْقِيمِ وَتَعْلِيقِ مُحَمَّدِ فُؤَادِ عَبْدِ البَاقِي.

- المُوَطَّأ، لِلإِمَامِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ الأَصْبَحِيِّ المَدَنِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 179 هـ)، دَارِ الفَجْرِ لِلتُّرَاثِ - القَاهِرَة، بِتَحْقِيقِ حَامِد مُحَمَّد طَاهِر.

- النُّكَتُ عَلَى كِتَابِ ابْنِ الصَّلَاحِ، لِلإِمَامِ الحَافِظِ أَحْمَدِ بْنِ عَلِيّ بْنِ حَجَرٍ؛ أَبِي الفَضْلِ العَسْقَلَانِيِّ الشَّافِعِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 852 هـ)، دَارُ الرَّايَةِ لِلنَّشْرِ وَالتَّوزِيعِ، بِتَحْقِيقِ الشَّيخِ الفَاضِلِ رَبِيعِ بْنِ هَادِي عمير حَفِظَهُ اللهُ.

- النِّهَايَةُ فِي غَرِيبِ الحَدِيثِ وَالأَثَرِ، لِلمُبَارَكِ بْنِ مُحَمَّدِ الجَزَرِيِّ؛ أَبِي السَّعَادَاتِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 606 هـ)، مُؤَسَّسَةُ التَّارِيخِ العَرَبِيِّ، بِتَحْقِيقِ طَاهِر أَحْمَد الزَّاوِي وَمَحْمُود مُحَمَّد الطَنَاحِيّ.

- النَّهْرُ الفَائِقُ شَرْحُ كَنْزِ الدَّقَائِقِ، لِلشَّيخِ عُمْرَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الحَنَفِيِّ؛ سِرَاجِ الدِّينِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1005 هـ)، دَارُ الكُتُبِ العِلْمِيَّةِ، بِتَحْقِيقِ أَحْمَد عزّو عِنَايَة.

- الوَابِلُ الصَّيِّبُ مِنَ الكَلِمِ الطَّيِّبِ، لِلإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَيَّوبَ، ابْنِ قَيِّمِ الجَوزِيَّةِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 751 هـ)، دَارُ الحَدِيثِ - القَاهِرَة، بِتَحْقِيقِ سَيِّد إِبْرَاهِيم.

- الوَجِيزُ فِي فِقْهِ السُّنَّةِ وَالكِتَابِ العَزِيزِ، لِلشَّيخِ الفَاضِلِ عَبْدِ العَظِيمِ بْنِ بَدَوِي، (مُعَاصِرٌ)، دَارُ ابْنِ رَجَبٍ.

- الوُجُوهُ وَالنَّظَائِرُ، لِلحَسَنِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَهْلٍ العَسْكَرِيِّ؛ أَبِي الهِلَالِ، (المُتَوَفَّى بَعْدَ سَنَةِ 395 هـ)، مَكْتَبَةُ الثَّقَافَةِ الدِّينِيَّةِ - القَاهِرَة، بِتَحْقِيقِ مُحَمَّد عُثْمَان.

- الوَرَعُ، لِلإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلَ بْنِ هِلَالِ بْنِ أَسَدٍ الشَّيبَانِيِّ؛ أَبِي عَبْدِ اللهِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 241 هـ)، بِرِوَايَةِ المرَوزَيّ (المُتَوَفّى سَنَةَ 275 هـ)، دَارُ الصُّمَيعِي - الرِّيَاض، بِتَحْقِيقِ سَمِير الزُّهَيرِي.

ص: 646

- إِحْيَاءُ عُلُومِ الدِّينِ، لِلشَّيخِ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الغَزَالِيِّ الطُوسِيِّ، أَبِي حَامِدٍ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 505 هـ)، دَارُ المَعْرِفَةِ - بَيرُوت.

- إِرْوَاءُ الغَلِيلِ، لِلمُحَدِّثِ الإِمَامِ مُحَمَّدِ نَاصِرِ الدِّينِ الأَلْبَانِيِّ؛ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1420 هـ)، المَكْتَبُ الإِسْلَامِيُّ - بَيرُوت.

- إِعَانَةُ المُسْتَفِيدِ بِشَرْحِ كِتَابِ التَّوحِيدِ، لِلشَّيخِ العَلَّامَةِ صَالِحِ بْنِ فَوزَان بْنِ عَبْدِ اللهِ الفَوزَان، (مُعَاصِرٌ)، مُؤَسَّسَةُ الرِّسَالَةِ، نَاشِرُون.

- إِعْلَامُ المُوَقِّعِينَ عَنْ رَبِّ العَالَمِينَ، لِلإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَيَّوبَ، ابْنِ قَيِّمِ الجَوزِيَّةِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 751 هـ)، دَارُ الكُتُبِ العِلْمِيَّةِ - بَيرُوت، بِتَحْقِيقِ مُحَمَّد عَبْدِ السَّلَام إِبْرَاهِيم.

- إِعْلَانُ النَّكِيرِ عَلَى المَفْتُونِينَ بِالتَّصْوِيرِ، لِلشَّيخ ِحُمُود التّوِيجري، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1413 هـ)، دَارُ الهِجْرَةِ لِلطِّبَاعَةِ وَالنَّشْرِ - الدَّمَّام -.

- إِغَاثَةُ اللَّهْفَانِ مِنْ مَصَايِدِ الشَّيطَانِ، لِلإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَيَّوبَ، ابْنِ قَيِّمِ الجَوزِيَّةِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 751 هـ)، مَكْتَبَةُ المَعَارِفِ - المَمْلَكَةُ العَرَبِيَّةُ السّعُودِيَّةُ، بِتَحْقِيقِ مُحَمَّد حَامِدِ الفَقي.

- إِكْمَالُ المُعْلِمِ، لِلقَاضِي عِيَاضِ بْنِ مُوسَى بْنِ عِيَاضِ اليَحْصُبِيِّ؛ أَبِي الفَضْلِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 544 هـ)، دَارُ الوَفَاءِ - المَنْصُورَة، بِتَحْقِيقِ يَحْيَى إِسْمَاعِيل.

- أَحْكَامُ الجَنَائِزِ، لِلمُحَدِّثِ الإِمَامِ مُحَمَّدِ نَاصِرِ الدِّينِ الأَلْبَانِيِّ؛ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1420 هـ)، المَكْتَبُ الإِسْلَامِيُّ.

- أَحْكَامُ القُرْآنِ لِلشَّافِعِيِّ، لِلإِمَامِ الحَافِظِ أَحْمَدَ بْنِ الحُسَينِ بْنِ عَلِيٍّ الخُرَاسَانِيِّ،

ص: 647

أَبِي بَكْرٍ البَيهَقِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 458 هـ)، مَكْتَبَةُ الخانجي - القَاهِرَة، بِتَحْقِيقِ مُحَمَّد زَاهِد الكَوثَرِيِّ.

- أَشْرِطَةُ سِلْسِلَةِ الهُدَى وَالنُّورِ، لِلمُحَدِّثِ الإِمَامِ مُحَمَّد نَاصِرِ الدِّينِ الأَلْبَانِيِّ؛ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1420 هـ)، البَرْنَامِجُ الحَاسُوبِيُّ: أَهْلُ الحَدِيثِ وَالأَثَرِ.

- أَشْرِطَةُ شَرْحِ العَقِيدَةِ الطَّحَاوِيَّةِ، لِلشَّيخِ العَلَّامَةِ صَالِحِ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ آلِ الشَّيخِ، (مُعَاصِرٌ)، البَرْنَامِجُ الحَاسُوبِيُّ: أَهْلُ الحَدِيثِ وَالأَثَرِ.

- أَشْرِطَةُ شَرْحِ العَقِيدَةِ الوَاسِطِيَّةِ، لِلشَّيخِ العَلَّامَةِ صَالِحِ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ آلِ الشَّيخِ، (مُعَاصِرٌ)، مَوقِعُ (طَرِيقِ الإِسْلَامِ) عَلَى الشَّبَكَةِ العَنْكَبُوتِيَّةِ.

- أَشْرِطَةُ شَرْحِ سُنَنِ أَبِي دَاوُد، لِلشَّيخِ الإِمَامِ عَبْدِ المُحْسِنِ العَبَّادِ، (مُعَاصِرٌ)، البَرْنَامِجُ الحَاسُوبِيُّ: أَهْلُ الحَدِيثِ وَالأَثَرِ.

- أَشْرِطَةُ شَرْحِ صَحِيحِ البُخَارِيِّ، لِلشَّيخِ مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحٍ العُثِيمِين، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1421 هـ)، البَرْنَامِجُ الحَاسُوبِيُّ: أَهْلُ الحَدِيثِ وَالأَثَرِ.

- أَشْرِطَةُ شَرْحِ كِتَابِ (فَتْحُ المَجِيدِ)، لِلشَّيخِ العَلَّامَةِ عَبْدِ اللهِ الغُنَيمَان، (مُعَاصِرٌ)، مَوقِعُ (طَرِيقِ الإِسْلَامِ) عَلَى الشَّبَكَةِ العَنْكَبُوتِيَّةِ.

- أَشْرِطَةُ شَرْحِ كِتَابِ (قُرَّةُ عُيُونِ المُوَحِّدِينَ)، لِلشَّيخِ العَلَّامَةِ صَالِحِ الفَوزَان، (مُعَاصِرٌ)، البَرْنَامِجُ الحَاسُوبِيُّ: أَهْلُ الحَدِيثِ وَالأَثَرِ.

- أَشْرِطَةُ فَتَاوَى (نُورُ عَلَى الدَّرْبِ)، لِلشَّيخِ مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحٍ العُثِيمِين، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1421 هـ)، البَرْنَامِجُ الحَاسُوبِيُّ: أَهْلُ الحَدِيثِ وَالأَثَرِ.

- أَضْوَاءُ البَيَانِ فِي إِيضَاحِ القُرْآنِ بِالقُرْآنِ، لِلإِمَامِ مُحَمَّد الأَمِين بْنِ مُحَمَّد المُخْتَارِ الشَّنْقِيطِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1393 هـ)، دَارُ الفِكْرِ لِلطِّبَاعَةِ وَالنَّشْرِ وَالتَّوزِيعِ - بَيرُوت.

ص: 648

- آدَابُ الزَّفَافِ فِي السُّنَّةِ المُطَهَّرَةِ، لِلمُحَدِّثِ الإِمَامِ مُحَمَّد نَاصِرِ الدِّينِ الأَلْبَانِيِّ؛ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1420 هـ)، دَارُ السَّلَامِ.

- بَدَائِعُ الفَوَائِدِ، لِلإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَيَّوبَ، ابْنِ قَيِّمِ الجَوزِيَّةِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 751 هـ)، دَارُ عَالَمِ الفَوَائِدِ، بِتَحْقِيقِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّد العِمْرَانَ.

- بُلُوغُ المَرَامِ مِنْ أَدِلَّةِ الأَحْكَامِ، لِلإِمَامِ الحَافِظِ أَحْمَدِ بْنِ عَلِيّ بْنِ حَجَرٍ؛ أَبِي الفَضْلِ العَسْقَلَانِيِّ الشَّافِعِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 852 هـ)، دَارُ الفَلَقِ - الرِّيَاض، بِتَحْقِيقِ سَمِيرِ بْنِ أَمِين الزهري.

- تَاجُ العَرُوسِ مِنْ جَوَاهِرِ القَامُوسِ، لِلسَّيِّدِ مُحَمَّد مُرْتَضَى الحُسَينِي الزُّبَيدِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1205 هـ)، مَطْبَعَةُ حُكُومَةِ الكُوَيتِ، بِتَحْقِيقِ عَبْدِ السّتَّارِ أَحْمَد فَراج.

- تَارِيخُ الإِسْلَامِ وَوَفِيَّاتُ المَشَاهِيرِ وَالأَعْلَامِ، لِلحَافِظِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ قَايمازَ الذَّهَبِيِّ؛ أَبِي عَبْدِ اللهِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 748 هـ)، دَارُ الكِتَابِ العَرَبِيِّ، بَيرُوت، بِتَحْقِيقِ عُمَر عَبْدِ السَّلَامِ التَّدْمُرِيِّ.

- تَارِيخُ دِمَشْقَ، لِلحَافِظِ عَلِيِّ بْنِ الحَسَنِ بْنِ هِبَةِ اللهِ؛ المَعْرُوفِ بِابْنِ عَسَاكِر؛ أَبِي القَاسِمِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 571 هـ)، دَارُ الفِكْرِ، بتحقيق عَمْرو بْنِ غرامة العمروي.

- تَأْسِيسُ التَّقْدِيسِ فِي كَشْفِ تَلْبِيسِ دَاوُد بْنِ جَرْجِيس، لِلشَّيخِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَن بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ؛ المُلَقَّبِ بِـ (أبا بطين)، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1282 هـ)، مُؤَسَّسَةُ الرِّسَالَةِ، بِتَحْقِيقِ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ بَرْجَس العَبْدِ الكَرِيمِ.

- تَحْذِيرُ السَّاجِدِ مِنِ اتِّخَاذِ القُبُورِ مَسَاجِدَ، لِلمُحَدِّثِ الإِمَامِ مُحَمَّدِ نَاصِرِ الدِّينِ الأَلْبَانِيِّ؛ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1420 هـ)، المَكْتَبُ الإِسْلَامِيُّ - بَيرُوت.

- تَخْرِيجُ العَقِيدَةِ الطَّحَاوِيَّةِ (الطَّبْعَةُ الثَّانِيَةُ)، لِلمُحَدِّثِ الإِمَامِ مُحَمَّد نَاصِرِ الدِّينِ

ص: 649

الأَلْبَانِيِّ؛ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1420 هـ)، المَكْتَبُ الإِسْلَامِيُّ - بَيرُوت.

- تَخْرِيجُ أَحَادِيثَ وَآثَارِ كِتَابِ فِي ظِلَالِ القُرْآنِ، لِلشَّيخِ عَلَوِي بْنِ عَبْدِ القَادِرِ السَّقَّافِ، (مُعَاصِرٌ)، دَارُ الهِجْرَةِ لِلنَّشْرِ وَالتَّوزِيعِ.

- تَخْرِيجُ أَحَادِيثِ فَضَائِلِ الشَّامِ وَدِمَشْقَ لِلرَّبَعِيِّ، لِلمُحَدِّثِ الإِمَامِ مُحَمَّد نَاصِرِ الدِّينِ الأَلْبَانِيِّ؛ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1420 هـ)، مَكْتَبَةُ المَعَارِفِ لِلنَّشْرِ وَالتَّوزِيعِ، الرِّيَاض.

- تَذْكِرَةُ الحُفَّاظِ، لِلحَافِظِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ قَايمازَ الذَّهَبِيِّ؛ أَبِي عَبْدِ اللهِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 748 هـ)، دَارُ الكُتُبِ العِلْمِيَّةِ - بَيرُوت.

- تَعْرِيفُ أَهْلِ التَّقْدِيسِ بِمَرَاتِبِ المَوصُوفِينَ بِالتَّدْلِيسِ، لِلإِمَامِ الحَافِظِ أَحْمَدِ بْنِ عَلِيّ بْنِ حَجَرٍ؛ أَبِي الفَضْلِ العَسْقَلَانِيِّ الشَّافِعِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 852 هـ)، مَكْتَبَةُ المَنَارِ - عَمَّان، بِتَحْقِيقِ عَاصِم القَرْيُوتِي.

- تَغْلِيقُ التَّعْلِيقِ عَلَى صَحِيحِ البُخَارِيِّ، لِلإِمَامِ الحَافِظِ أَحْمَدِ بْنِ عَلِيّ بْنِ حَجَرٍ؛ أَبِي الفَضْلِ العَسْقَلَانِيِّ الشَّافِعِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 852 هـ)، دَارُ عَمَّار - عَمَّان، بِتَحْقِيقِ سَعِيدِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مُوسَى القزقي.

- تَفْسِيرُ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ، لِلإِمَامِ الحَافِظِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي حَاتِم ٍالرَّازِي؛ أَبِي مُحَمَّد، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 327 هـ)، المَكْتَبَةُ العَصْرِيَّةُ، صيدَا - بَيرُوت، بِتَحْقِيقِ أَسْعَد مُحَمَّد الطَّيِّبْ.

- تَفْسِيرُ ابْنِ بَادِيس، لِلعَلَّامَةِ عَبْدِ الحَمِيدِ؛ مُحَمَّدِ بْنِ بَادِيس الصَّنْهَاجِيّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1359 هـ)، دَارُ الكُتُبِ العِلْمِيَّةِ - بَيرُوت، عَلَّقَ عَلَيهِ وَخَرَّجَ آيَاتِهِ وَأَحَادِيثِهِ أَحْمَدُ شَمْسُ الدِّينِ.

ص: 650

- تَفْسِيرُ البَحْرِ المُحِيطِ، لِلإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُف؛ أَبِي حَيَّان الأَنْدَلُسِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 745 هـ)، دَارُ الكُتُبِ العِلْمِيَّةِ - لُبْنَان، بِتَحْقِيقِ مَجْمُوعَةٍ مِنَ المُحَقِّقِينَ.

- تَفْسِيرُ البَيضَاوِيِّ، لِلقَاضِي عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدَ الشِّيرَازِيِّ؛ نَاصِرِ الدِّينِ البَيضَاوِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 685 هـ)، دَارُ الفِكْرِ، بَيرُوت.

- تَفْسِيرُ الجَلَالَين، لِلإِمَامَين جَلَالِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ المَحَلِّي (المُتَوَفَّى سَنَةَ 864 هـ)، وَجَلالَ الدِّينِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيِّ (المُتَوَفَّى سَنَةَ 911 هـ)، دَارُ الحَدِيثِ - القَاهِرَة.

- تَفْسِيرُ الفَاتِحَةِ وَالبَقَرَةِ، لِلشَّيخِ مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحٍ العُثِيمِين، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1421 هـ)، دَارُ ابْنِ الجُوزِيِّ لِلنَّشْرِ وَالتَّوزِيعِ، المَمْلَكَةُ العَرَبِيَّةُ السُّعُودِيَّةُ.

- تَفْسِيرُ القُرْآنِ العَظِيمِ، لِلحَافِظِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيِّ الدِّمَشْقِيِّ؛ أَبِي الفِدَاءِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 774 هـ)، دَارُ طيبَة، بِتَحْقِيقِ سَامِي مُحَمَّد سَلَامَة.

- تَفْسِيرُ النَّسَفِيِّ (مَدَارِكُ التَّنْزِيلِ وَحَقَائِقُ التَّأْوِيلِ)، لِلشَّيخِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَحْمَدَ النَّسَفِيِّ؛ أَبِي البَرَكَاتِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 710 هـ)، دَارُ الكَلِمِ الطَّيِّبِ، بَيرُوت، بِتَحْقِيقِ يُوسُف عَلِي بديوي.

- تَفْسِيرُ سُورَةِ الزُّمَر، لِلشَّيخِ مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحٍ العُثِيمِين، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1421 هـ)، مُؤَسَّسَةُ الشَّيخِ مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحٍ العُثَيمِين الخَيرِيَّةِ، المَمْلَكَةُ العَرَبِيَّةُ السُّعُودِيَّةُ.

- تَفْسِيرُ سُورَةِ الكَهْفِ، لِلشَّيخِ مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحٍ العُثِيمِين، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1421 هـ)، دَارُ ابْنِ الجُوزِيِّ لِلنَّشْرِ وَالتَّوزِيعِ، المَمْلَكَةُ العَرَبِيَّةُ السُّعُودِيَّةُ.

- تَفْسِيرُ سُورَةِ فَاطِر، لِلشَّيخِ مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحٍ العُثِيمِين، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1421 هـ)، مُؤَسَّسَةُ الشَّيخِ مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحٍ العُثَيمِين الخَيرِيَّةِ، المَمْلَكَةُ العَرَبِيَّةُ السُّعُودِيَّةُ.

ص: 651

- تَفْسِيرُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، لِلحَافِظِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بْنِ هَمَّام الصَّنْعَانِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 211 هـ)، مَكْتَبَةُ الرُّشْدِ - الرِّيَاض، بِتَحْقِيقِ مُصْطَفَى مُسْلِم مُحَمَّد.

- تَقْرِيبُ التَّهْذِيبِ، لِلإِمَامِ الحَافِظِ أَحْمَدِ بْنِ عَلِيّ بْنِ حَجَرٍ؛ أَبِي الفَضْلِ العَسْقَلَانِيِّ الشَّافِعِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 852 هـ)، دَارُ الرَّشِيدِ - سُورِيَّا، بِتَحْقِيقِ مُحَمَّد عَوَّامَة.

- تَلْخِيصُ كِتَابِ الاسْتِغَاثَةِ، لِشَيخِ الإِسْلَامِ؛ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الحَلِيمِ بْنِ تَيمِيَّةَ الحَرَّانِيِّ؛ أَبِي العَبَّاسِ؛ تَقِي الدِّينِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 728 هـ)، مَكْتَبَةُ الغُرَبَاءِ الأَثَرِيَّةِ، بِتَحْقِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيّ عَجَّال.

- تَلْخِيصُ كِتَابِ المَوضُوعَاتِ لِابْنِ الجَوزِيِّ، لِلحَافِظِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ قَايمازَ الذَّهَبِيِّ؛ أَبِي عَبْدِ اللهِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 748 هـ)، مَكْتَبَةُ الرُّشْدِ - الرِّيَاض، بِتَحْقِيقِ يَاسِر بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّد.

- تَمَامُ المِنَّةِ فِي التَّعْلِيقِ عَلَى فِقْهِ السُّنَّةِ، لِلمُحَدِّثِ الإِمَامِ مُحَمَّدِ نَاصِرِ الدِّينِ الأَلْبَانِيِّ؛ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1420 هـ)، دَارُ الرَّايَةِ، الرِّيَاض.

- تَنْبِيهَاتٌ علَى كُتُبِ تَخْرِيجِ كِتَابِ التَّوحِيدِ، لِمُؤَلِّفِهِ نَاصِرِ بْنِ حَمَدٍ الفَهَد، (مُعَاصِرٌ)، دَارُ البَرَاءِ لِلنَّشْرِ وَالتَّوزِيعِ - الرِّيَاض.

- تَهْذِيبُ الآثَارِ، لِلإمَامِ المُفَسِّرِ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرِ الآمِلِي الطَّبَرِيِّ؛ أَبِي جَعْفَر، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 310 هـ)، مَطْبَعَةُ المَدَنِيّ - القَاهِرَة، بِتَحْقِيقِ مَحْمُود مُحَمَّد شَاكِر.

- تَهْذِيبُ الأَسْمَاءِ وَاللُّغَاتِ، لِلإِمَامِ يَحْيَى بْنِ شَرَفِ بْنِ مَرِيِّ النَّوَوِيِّ؛ أَبِي زَكَرِيَّا، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 676 هـ)، دَارُ الكُتُبِ العِلْمِيَّةِ، بَيرُوت.

- تَهْذِيبُ اللُّغَةِ، لِلإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَد بْنِ الأَزْهَرِ الأَزْهَرِيِّ الهَرَوِيِّ؛ أَبِي

ص: 652

مَنْصُورٍ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 370 هـ)، دَارُ إِحْيَاءِ التُّرَاثِ العَرَبِيِّ - بَيرُوت، بِتَحْقِيقِ مُحَمَّد عَوَض مُرْعِب.

- تَوضِيحُ الأَفْكَارِ لِمَعَانِي تَنْقِيحِ الأَنْظَارِ، لِلإِمَامِ الفَقِيهِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الصَّنْعَانِيِّ؛ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1182 هـ)، دَارُ الكُتُبِ العِلْمِيَّةِ - بَيرُوت، بِتَحْقِيقِ صَلَاحِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُوَيضَة.

- تَيسِيرُ العَزِيزِ الحَمِيدِ فِي شَرْحِ كِتَابِ التَّوحِيدِ، لِلشَّيخِ سُلَيمَانَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الوَهَّابِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1233 هـ)، المَكْتَبُ الإِسْلَامِيُّ - بَيرُوت، بِتَحْقِيقِ زُهَير الشَّاوِيش.

- تَيسِيرُ الكَرِيمِ الرَّحْمَنِ فِي تَفْسِيرِ كَلَامِ المَنَّانِ - المُسَمَّى بِتَفْسِيرِ السَّعْدِيِّ -، لِلشَّيخِ العَلَّامَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَاصِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ السَّعْدِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1376 هـ)، مُؤَسَّسَةُ الرِّسَالَةِ، بِتَحْقِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ معَلَّا اللَّويحق.

- تُحْفَةُ الأَحْوَذِيِّ شَرْحُ سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ، لِلإِمَامِ الفَقِيهِ مُحَمَّد عَبْدِ الرَّحْمَن بْنِ عَبْدِ الرَّحِيمِ المُبَارَكْفُورِي؛ أَبِي العِلَا، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1353 هـ)، دَارُ الكُتُبِ العِلْمِيَّةِ - بَيرُوت.

- تُحْفَةُ المَودُودِ بِأَحْكَامِ المَولُودِ، لِلإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَيَّوبَ، ابْنِ قَيِّمِ الجَوزِيَّةِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 751 هـ)، مَكْتَبَةُ دَارِ البَيَانِ - دِمَشْق، بِتَحْقِيقِ الشَّيخِ عَبْدِ القَادِرِ الأَرْنَاؤُوطِ.

- تُحْفَةُ المُحْتَاجِ فِي شَرْحِ المِنْهَاجِ، لِلإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّد بْنِ حَجَرٍ الهَيتَمِيِّ؛ أَبِي العَبَّاسِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 974 هـ)، المَكْتَبَةُ التِّجَارِيَّةُ الكُبْرَى - مِصْر.

- جَامِعُ الأَحَادِيثِ، لِلحَافِظِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْر؛ جَلَالِ الدِّينِ السُّيُوطِيِّ،

ص: 653

(المُتَوَفَّى سَنَةَ 911 هـ)، دَارُ الفِكْرِ - بَيرُوت، جَمْعُ وَتَرْتِيبُ عَبَّاس أَحْمَد صَقر، وَأَحْمَد عَبْدِ الجَوَّادِ.

- جَامِعُ البَيَانِ فِي تَأْوِيلِ القُرْآنِ، لِلإمَامِ المُفَسِّرِ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرِ الآمِلِي الطَّبَرِيِّ؛ أَبِي جَعْفَر، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 310 هـ)، مُؤَسَّسَةُ الرِّسَالَةِ، بِتَحْقِيقِ المُحَدِّثِ أَحْمَد شَاكِر.

- جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ فِي شَرْحِ خَمْسِينَ حَدِيثًا مِنْ جَوَامِعِ الكَلِمِ، لِلإِمَامِ الحَافِظِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ رَجَبٍ البَغْدَادِيِّ الحَنْبَلِيِّ (المُتَوَفَّى سَنَةَ 795 هـ)، مُؤَسَّسَةُ الرِّسَالَةِ - بَيرُوت، بِتَحْقِيقِ شُعَيبِ الأَرْنَؤُوطِ - إِبْرَاهِيم باجس.

- جَامِعُ بَيَانِ العِلْمِ وَفَضْلِهِ، لِلإِمَامِ الحَافِظِ يُوسُف بنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ البَرِّ؛ القُرْطُبِيِّ؛ أَبِي عُمَرَ، المَالِكِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 463 هـ)، دَارُ ابْنِ الجَوزِيِّ - المَمْلَكَةُ العَرَبِيَّةُ السّعُودِيَّةُ، بِتَحْقِيقِ أَبِي الأَشْبَالِ الزّهيري.

- جَمْهَرَةُ اللُّغَةِ، لِلإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ الحَسَنِ بْنِ دُرَيدٍ الأَزْدِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 321 هـ)، دَارُ العِلْمِ لِلمَلَايِين - بَيرُوت، بِتَحْقِيقِ رَمْزِي مُنِير بَعَلْبَكِي.

- حَادِي الأَرْوَاحِ إِلَى بِلَادِ الأَفْرَاحِ،، لِلإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَيَّوبَ، ابْنِ قَيِّمِ الجَوزِيَّةِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 751 هـ)، مَطْبَعَةُ المَدَنِيِّ، القَاهِرَة.

- حَاشِيَةُ السِّنْدِيِّ عَلَى سُنَنِ النَّسَائِيِّ، لِلإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الهَادِي التتوي السِّنْدِيِّ؛ أبِي الحَسَنِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1138 هـ)، مَكْتَبُ المَطْبُوعَاتِ الإِسْلَامِيَّةِ - حَلَب.

- حُسْنُ الأُسْوَةِ بِمَا ثَبَتَ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ فِي النِّسْوَةِ، لِلإِمَامِ مُحَمَّد صِدِّيق خَان؛ البُخَارِيِّ القَنُّوجِيِّ؛ أَبِي الطَّيِّب، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1307 هـ)، مُؤَسَّسَةُ الرِّسَالَةِ - بَيرُوت، بِتَحْقِيقِ مُصْطَفَى الخِنِّ، وَمُحْي الدِّين مِسْتُو.

- حِلْيَةُ الأَولِيَاءِ، لِلإِمَامِ الحَافِظِ أَبِي نُعَيمٍ؛ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَحْمَدَ الأَصْبَهَانِيِّ،

ص: 654

(المُتَوَفَّى سَنَةَ 430 هـ)، دَارُ السَّعَادَةِ - مِصْر.

- خَلْقُ أَفْعَالِ العِبَادِ، لِلإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الجعْفِيِّ البُخَارِيِّ؛ أَبِي عَبْدِ اللهِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 256 هـ)، دَارُ المَعَارِفِ - الرِّيَاض، بِتَحْقِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَن عَمِيرَة.

- دَلَائِلُ النُّبُوَّةِ، لِلإِمَامِ الحَافِظِ أَحْمَدَ بْنِ الحُسَينِ بْنِ عَلِيٍّ الخُرَاسَانِيِّ، أَبِي بَكْرٍ البَيهَقِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 458 هـ)، دَارُ الكُتُبِ العِلْمِيَّةِ - بَيرُوت، بِتَحْقِيقِ عَبْدِ المُعْطِي قَلْعَجِي.

- دِيوَانُ ابْنِ الرُّومِيِّ، لِعَلِيِّ بْنِ العَبَّاسِ بْنِ جُرَيجٍ، أَبِي الحَسَنِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 383 هـ)، دَارُ الكُتُبِ العِلْمِيَّةِ - بَيرُوت، بِشَرْحِ أَحْمَد حَسَن بَسَج.

- ذَيلُ طَبَقَاتِ الحَنَابِلَةِ، لِلإِمَامِ الحَافِظِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ رَجَبٍ البَغْدَادِيِّ الحَنْبَلِيِّ (المُتَوَفَّى سَنَةَ 795 هـ)، مَكْتَبُ العُبَيكَان - الرِّيَاض، بِتَحْقِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَن بْنِ سُلَيمَان العُثَيمِين.

- رَدُّ المُحْتَارِ عَلَى الدُّرِّ المُخْتَارِ، لِمُؤَلِّفِهِ مُحَمَّد أَمِين بْنِ عُمَرَ عَابْدِين الدِّمَشْقِيِّ الحَنَفِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1252 هـ)، دَارُ الفِكْرِ- بَيرُوت.

- رَوضَةُ الطَّالِبِينَ وَعُمْدَةُ المُفْتِينَ، لِلإِمَامِ يَحْيَى بْنِ شَرَفِ بْنِ مَرِيِّ النَّوَوِيِّ؛ أَبِي زَكَرِيَّا، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 676 هـ)، دَارُ عَالَمِ الكُتُبِ - المَمْلَكَةُ العَرَبِيَّةُ السُّعُودِيَّةُ، بِتَحْقِيقِ عَادِل عَبْدِ المَوجُود، وَعَلِي معَوَّض.

- رَوضَةُ المُحِبِّينَ وَنُزْهَةُ المُشْتَاقِينَ، لِلإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَيَّوبَ، ابْنِ قَيِّمِ الجَوزِيَّةِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 751 هـ)، دَارُ الكُتُبِ العِلْمِيَّةِ - بَيرُوت.

- رُوحُ المَعَانِي، لِلشَّيخِ مَحْمُودِ بِنِ عَبْدِ اللهِ؛ شهاب الدِّين؛ الآلُوسِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1270 هـ)، دَارُ الكُتُبِ العِلْمِيَّةِ - بَيرُوت، بِتَحْقِيقِ عَلِي عَبْدِ البَارِي عَطِيَّة.

ص: 655

- رِسَالَةُ السِّجْزِيِّ إِلَى أَهْلِ زبيد فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ الحَرْفَ وَالصَّوتَ، لِلإِمَامِ عُبَيدِ اللهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ حَاتِمٍ السِّجْزِيِّ البَكْرِيِّ؛ أَبِي نَصْرٍ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 444 هـ)، عَمَادَةُ البَحْثِ العِلْمِيِّ بِالجَامِعَةِ الإِسْلَامِيَّةِ، المَدِينَةُ المُنَوَّرَةُ، بِتَحْقِيقِ مُحَمَّد بَا كَرِيم بَا عَبْدِ اللهِ.

- رِيَاضُ الصَّالِحِينَ، لِلإِمَامِ يَحْيَى بْنِ شَرَفِ بْنِ مَرِيِّ النَّوَوِيِّ؛ أَبِي زَكَرِيَّا، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 676 هـ)، المَكْتَبُ الإِسْلَامِيُّ، بَيرُوت، بِتَحْقِيقِ الشَّيخِ مُحَمَّد نَاصِرِ الدِّينِ الأَلْبَانِيِّ رحمه الله.

- زَادُ المَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ، لِلإِمَامِ عَبْدِ الرَّحْمَن بْنِ عَلِيّ بْنِ مُحَمَّدِ الجَوزِيِّ؛ أَبِي الفَرَجِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 579 هـ)، دَارُ الكِتَابِ العَرَبِيِّ - بَيرُوت، بِتَحْقِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ مَهْدِي.

- زَادُ المَعَادِ فِي هَدْي خَيرِ العِبَادِ، لِلإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَيَّوبَ، ابْنِ قَيِّمِ الجَوزِيَّةِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 751 هـ)، مُؤَسَّسَةُ الرِّسَالَةِ - بَيرُوت.

- سُبُلُ السَّلَامِ، لِلإِمَامِ الفَقِيهِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الصَّنْعَانِيِّ؛ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1182 هـ)، دَارُ الحَدِيثِ.

- سُنَنُ الدَّارَقُطْنِيِّ، لِلحَافِظِ عَلِيِّ بْنِ عُمَرَ؛ أَبِي الحَسَنِ الدَّارَقُطْنِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 385 هـ)، مُؤَسَّسَةُ الرِّسَالَةِ - بَيرُوت، بِتَحْقِيقِ الشَّيخِ شُعَيبٍ الأَرْنَؤُوط وَغَيرِهِ.

- سُنُنُ ابْنِ مَاجَه، لِلإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدٍ القُزْوِينِيِّ؛ أَبِي عَبْدِ اللهِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 273 هـ)، دَارُ إِحْيَاءِ الكُتُبِ العَرَبِيَّةِ، بِتَحْقِيقِ مُحَمَّد فُؤَاد عَبْدِ البَاقِي.

- سُنُنُ التِّرْمِذِيِّ، لِلإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى بْنِ سَورةَ التِّرْمِذِيِّ؛ أَبِي عِيسَى، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 279 هـ)، دَارُ الغَرْبِ الإِسْلَامِيِّ - بَيرُوت، بِتَحْقِيقِ بَشَّار عَوَّاد مَعْرُوف.

- سُنُنُ النَّسَائِيِّ (المُجْتَبَى)، لِلإِمَامِ أَحْمَدِ بْنِ شُعَيبِ بْنِ عَلِيٍّ الخُرَاسَانِيِّ النَّسَائِيِّ؛ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 303 هـ)، مَكْتَبُ المَطْبُوعَاتِ الإِسْلَامِيَّةِ - حَلَب،

ص: 656

بِتَحْقِيقِ عَبْدِ الفَتَّاحِ أَبِي غُدَّة.

- سُنُنُ النَّسَائِيِّ الكُبْرَى، لِلإِمَامِ أَحْمَدِ بْنِ شُعَيبِ بْنِ عَلِيٍّ الخُرَاسَانِيِّ النَّسَائِيِّ؛ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 303 هـ)، مُؤَسَّسَةُ الرِّسَالَةِ - بَيرُوت، حَسَن عَبْدُ المُنْعِمِ شَلَبِي.

- سُنُنُ أَبِي دَاوُد، لِلإِمَامِ سُلَيمَانَ بْنِ الأَشْعَثِ الأَزْدِيِّ السَّجِسْتَانِيِّ؛ أَبِي دَاوُد، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 275 هـ)، المَكْتَبَةُ العَصْرِيَّةُ، صيدَا - بَيرُوت، بِتَحْقِيقِ مُحَمَّدِ مُحْيي الدِّينِ عَبْدِ الحَمِيدِ.

- سِلْسِلَةُ الأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَشَيءٌ مِنْ فِقْهِهَا وَفَوَائِدِهَا، لِلمُحَدِّثِ الإِمَامِ مُحَمَّد نَاصِرِ الدِّينِ الأَلْبَانِيِّ؛ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1420 هـ)، مَكْتَبَةُ المَعَارِفِ لِلنَّشْرِ وَالتَّوزِيعِ، الرِّيَاض.

- سِلْسِلَةُ الأَحَادِيثِ الضَّعِيفَةِ، لِلمُحَدِّثِ الإِمَامِ مُحَمَّدِ نَاصِرِ الدِّينِ الأَلْبَانِيِّ؛ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1420 هـ)، مَكْتَبَةُ المَعَارِفِ لِلنَّشْرِ وَالتَّوزِيعِ، الرِّيَاض.

- سِيَرُ أَعْلَامِ النُّبَلَاءِ، لِلحَافِظِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ قَايمازَ الذَّهَبِيِّ؛ أَبِي عَبْدِ اللهِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 748 هـ)، مُؤَسَّسَةُ الرِّسَالَةِ، بِتَحْقِيقِ مَجْمُوعَةٍ مِنَ المُحَقِّقِينَ.

- سِيرَةُ ابْنِ إِسْحَاقَ، لِلإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَار، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 151 هـ)، دَارُ الفِكْرِ - بَيرُوت، بِتَحْقِيقِ سُهِيل زَكَّار.

- شَذَرَاتٌ مِنْ كُتُبٍ مَفْقُودَةٍ فِي التَّارِيخِ، اسْتَخْرَجَهَا وَحَقَّقَهَا الدُّكْتُور إِحْسَان عَبَّاس، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1424 هـ)، دَارُ الغَرْبِ الإِسْلَامِيِّ - بَيرُوت.

- شَرْحُ الأَرْبَعِينَ النَّوَوِيَّةِ، لِلشَّيخِ مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحٍ العُثِيمِين، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1421 هـ)، دَارُ الثُّرَيَّا لِلنَّشْرِ.

- شَرْحُ الأَرْبَعِينَ حَدِيثًا النَّوَوِيَّةَ، لِلإِمَامِ العَلَّامَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ بْنِ دَقِيق العِيد؛ أَبِي

ص: 657

الفَتْحِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 702 هـ)، مُؤَسَّسَةُ الرَّيَّانِ، بَيرُوت.

- شَرْحُ البَاجُورِيِّ عَلَى البُرْدَةِ، لِمُؤَلِّفِهِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ البَاجُورِيِّ الشَّافِعِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1277 هـ)، طَبْعَةُ دَارِ مَكْتَبَةِ الآدَابِ.

- شَرْحُ الزَّرْقَانِيِّ عَلَى مُوَطَّإِ الإِمَامِ مَالِك، لِلإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ البَاقِي بْنِ يُوسُفَ الزَّرْقَانِيِّ المِصْرِيِّ الأَزْهَرِيِّ، ِ (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1122 هـ)، مَكْتَبَةُ الثَّقَافَةِ الدِّينِيَّةِ - القَاهِرَة، بِتَحْقِيقِ طَهَ عَبْدِ الرَّؤُوفِ سَعْد.

- شَرْحُ السُّنَّةِ، لِلإِمَامِ مُحْيِي السُّنَّةِ؛ الحُسَينِ بْنِ مَسْعُودٍ؛ أَبِي مُحَمَّدِ البَغَوِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 516 هـ)، المَكْتَبُ الإِسْلَامِيُّ - دِمَشْق، بَيرُوت، بِتَحْقِيقِ شُعَيب الأَرْنَؤُوط وَمُحَمَّد زُهَير الشَّاوِيش.

- شَرْحُ العَقِيدَةِ الأَصْفَهَانِيَّةِ، لِشَيخِ الإِسْلَامِ؛ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الحَلِيمِ بْنِ تَيمِيَّةَ الحَرَّانِيِّ؛ أَبِي العَبَّاسِ؛ تَقِي الدِّينِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 728 هـ)، المَكْتَبَةُ العَصْرِيَّةُ - بَيرُوت، بِتَحْقِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ رِيَاض الأَحْمَد.

- شَرْحُ العَقِيدَةِ الطَّحَاوِيَّةِ، لِلشَّيخِ الفَقِيهِ عَلِيِّ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي العِزِّ الحَنَفِيِّ الدِّمَشْقِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 792 هـ)، دَارُ السَّلَامِ- مِصْرَ، بِتَحْقِيقِ المُحَدِّثِ الإِمَامِ مُحَمَّد نَاصِرِ الدِّينِ الأَلْبَانِيِّ.

- شَرْحُ العَقِيدَةِ الوَاسِطِيَّةِ، لِلشَّيخِ مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحٍ العُثِيمِين، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1421 هـ)، دَارُ ابْنِ الجُوزِيِّ لِلنَّشْرِ وَالتَّوزِيعِ، المَمْلَكَةُ العَرَبِيَّةُ السُّعُودِيَّةُ.

- شَرْحُ أُصُولِ اعْتِقَادِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ، لِلإِمَامِ هِبَةِ اللهِ بْنِ الحَسَنِ بْنِ مَنْصُورٍ الطَبَرِيِّ الرَّازِيِّ اللَّالكَائِيِّ؛ أَبِي القَاسِمِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 418 هـ)، دَارُ طَيبَة - المَمْلَكَةُ العَرَبِيَّةُ السّعُودِيَّةُ، بِتَحْقِيقِ أَحْمَدَ بْنِ سَعْدِ بْنِ حَمْدَانَ الغَامِدِيِّ.

ص: 658

- شَرْحُ رِيَاضِ الصَّالِحِين، لِلشَّيخِ مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحٍ العُثِيمِين، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1421 هـ)، دَارُ الوَطَنِ لِلنَّشْرِ- الرِّيَاض.

- شَرْحُ صَحِيحِ البُخَارِيِّ، لِلإِمَامِ عَلِيِّ بْنِ خَلَف بْنِ عَبْدِ المَلِكِ؛ أَبِي الحَسَنِ بْنِ بَطَّال، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 449 هـ)، مَكْتَبَةُ الرُّشْدِ - المَمْلَكَةُ العَرَبِيَّةُ السّعُودِيَّةُ، بِتَحْقِيقِ أَبِي تَمِيم؛ يَاسِر بْنِ إِبْرَاهِيم.

- شَرْحُ صَحِيحِ مُسْلِمٍ، لِلإِمَامِ يَحْيَى بْنِ شَرَفِ بْنِ مَرِيِّ النَّوَوِيِّ؛ أَبِي زَكَرِيَّا، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 676 هـ)، دَارُ إِحْيَاءِ التُّرَاثِ العَرَبِيِّ - بَيرُوت.

- شَرْحُ كِتَابِ التَّوحِيدِ، لِلعَلَّامَةِ الإِمَامِ عَبْدِ العَزِيزِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ بَاز، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1420 هـ)، دَارُ الضِّيَاءِ - طَنْطَا، بِتَحْقِيقِ وَتَخْرِيجِ مُحَمَّدِ العَلَّاوِيِّ.

- شَرْحُ كِتَابِ التَّوحِيدِ مِنْ صَحِيحِ البُخَارِيِّ، لِلشَّيخِ الفَاضِلِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُحَمَّدِ الغُنَيمَانِ حَفِظَهُ اللهُ، مَكْتَبَةُ الدَّارِ، المَدِينَةُ المُنَوَّرَةُ.

- شَرْحُ مُشْكِلِ الآثَارِ، لِلإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَامَةَ الأَزْدِيِّ الحَجْرِيِّ المِصْرِيِّ؛ المَعْرُوفِ بِالطَّحَاوِيِّ؛ أَبِي جَعْفَر، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 321 هـ)، مُؤَسَّسَةُ الرِّسَالَةِ، بِتَحْقِيقِ شُعَيبِ الأَرْنَؤُوطِ.

- شَرْحُ مَعَانِي الآثَارِ، لِلإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَامَةَ الأَزْدِيِّ الحَجْرِيِّ المِصْرِيِّ؛ المَعْرُوفِ بِالطَّحَاوِيِّ؛ أَبِي جَعْفَر، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 321 هـ)، عَالَمُ الكُتُبِ، بِاعْتِنَاءِ د. يُوسُف عَبْد الرَّحْمَن المرعشلي.

- شُعَبُ الإِيمَانِ، لِلإِمَامِ الحَافِظِ أَحْمَدَ بْنِ الحُسَينِ بْنِ عَلِيٍّ الخُرَاسَانِيِّ، أَبِي بَكْرٍ البَيهَقِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 458 هـ)، مَكْتَبَةُ الرُّشْدِ - الرِّيَاض، بِتَحْقِيقِ عَبْدِ العَلِيِّ عَبْدِ الحَمِيدِ حَامِد.

ص: 659

- شِفَاءُ العَلِيلِ فِي مَسَائِلِ القَضَاءِ وَالقَدَرِ وَالحِكْمَةِ وَالتَّعْلِيلِ، لِلإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَيَّوبَ، ابْنِ قَيِّمِ الجَوزِيَّةِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 751 هـ)، دَارُ المَعْرِفَةِ، بَيرُوت.

- صَحِيحُ ابْنِ حِبَّانَ بِتَرْتِيبِ ابْنِ بَلْبان، لِلحَافِظِ مُحَمَّدِ بْنِ حِبَّانَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حِبَّانَ؛ أَبِي حَاتِمٍ البُسْتِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 354 هـ)، مُؤَسَّسَةُ الرِّسَالَةِ - بَيرُوت، بِتَحْقِيقِ الشَّيخِ شُعَيبٍ الأَرْنَؤُوط.

- صَحِيحُ ابْنِ خُزَيمَةَ، لِلحَافِظِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيمَةِ؛ أَبِي بَكْرٍ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 311 هـ)، المَكْتَبُ الإِسْلَامِيُّ - بَيرُوت، بِتَحْقِيقِ مُحَمَّد مُصْطَفَى الأَعْظَمِيِّ.

- صَحِيحُ الأَدَبِ المُفْرَدِ، لِلمُحَدِّثِ الإِمَامِ مُحَمَّدِ نَاصِرِ الدِّينِ الأَلْبَانِيِّ؛ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1420 هـ)، دَارُ الصِّدِّيقِ لِلنَّشْرِ وَالتَّوزِيعِ.

- صَحِيحُ البُخَارِيِّ، لِلإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الجعْفِيِّ البُخَارِيِّ؛ أَبِي عَبْدِ اللهِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 256 هـ)، دَارُ طَوقِ النَّجَاةِ (مُصَوَّرَةٌ عَنْ السُّلْطَانِيَّةِ بِإِضَافَةِ تَرْقِيمِ مُحَمَّد فُؤَاد عَبْدِ البَاقِي)، بِتَحْقِيقِ مُحَمَّد زُهَير بْنِ نَاصِر النَّاصِر.

- صَحِيحُ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، لِلمُحَدِّثِ الإِمَامِ مُحَمَّدِ نَاصِرِ الدِّينِ الأَلْبَانِيِّ؛ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1420 هـ)، مَكْتَبَةُ المَعَارِفِ لِلنَّشْرِ وَالتَّوزِيعِ، الرِّيَاض.

- صَحِيحُ الجَامِعِ الصَّغِيرِ وَزِيَادَاتِهِ، لِلمُحَدِّثِ الإِمَامِ مُحَمَّد نَاصِرِ الدِّينِ الأَلْبَانِيِّ؛ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1420 هـ)، المَكْتَبُ الإِسْلَامِيُّ.

- صَحِيحُ السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ، لِلمُحَدِّثِ الإِمَامِ مُحَمَّد نَاصِرِ الدِّينِ الأَلْبَانِيِّ؛ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1420 هـ)، المَكْتَبَةُ الإِسْلَامِيَّةُ - عَمَّان.

- صَحِيحُ سُنَنِ ابْنِ مَاجَه، لِلمُحَدِّثِ الإِمَامِ مُحَمَّد نَاصِرِ الدِّينِ الأَلْبَانِيِّ؛ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1420 هـ)، مَكْتَبَةُ المَعَارِفِ لِلنَّشْرِ وَالتَّوزِيعِ، الرِّيَاض.

ص: 660

- صَحِيحُ سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ، لِلمُحَدِّثِ الإِمَامِ مُحَمَّد نَاصِرِ الدِّينِ الأَلْبَانِيِّ؛ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1420 هـ)، مَكْتَبَةُ المَعَارِفِ لِلنَّشْرِ وَالتَّوزِيعِ، الرِّيَاض.

- صَحِيحُ سُنَنِ النَّسَائِيِّ، لِلمُحَدِّثِ الإِمَامِ مُحَمَّد نَاصِرِ الدِّينِ الأَلْبَانِيِّ؛ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1420 هـ)، مَكْتَبَةُ المَعَارِفِ لِلنَّشْرِ وَالتَّوزِيعِ، الرِّيَاض.

- صَحِيحُ سُنَنِ أَبِي دَاوُد، لِلمُحَدِّثِ الإِمَامِ مُحَمَّد نَاصِرِ الدِّينِ الأَلْبَانِيِّ؛ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1420 هـ)، مَكْتَبَةُ المَعَارِفِ لِلنَّشْرِ وَالتَّوزِيعِ، الرِّيَاض.

- صَحِيحُ مُسْلِمٍ، لِلإِمَامِ مُسْلِمِ بْنِ الحَجَّاجِ القُشَيرِيِّ النَّيسَابُورِيِّ؛ أَبِي الحَسَنِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 261 هـ)، دَارُ إِحْيَاءِ التُّرَاثِ العَرَبِيِّ، بَيرُوت، بِتَحْقِيقِ مُحَمَّد فُؤَاد عَبْدِ البَاقِي.

- صِفَاتُ اللهِ عز وجل الوَارِدَةُ فِي الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، لِلشَّيخِ عَلَوِي بْنِ عَبْدِ القَادِرِ السَّقَّافِ، (مُعَاصِرٌ)، دَارُ الهِجْرَةِ لِلنَّشْرِ وَالتَّوزِيعِ.

- صِفَةُ الجَنَّةِ، لِلإِمَامِ الحَافِظِ أَبِي نُعَيمٍ؛ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَحْمَدَ الأَصْبَهَانِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 430 هـ)، دَارُ المَأْمُونِ لِلتُّرَاثِ - دِمَشْق، بِتَحْقِيقِ عَلِي رِضَا عَبْد اللهِ.

- صِيَانَةُ مَجْمُوعِ الفَتَاوَى مِنَ السَّقْطِ وَالتَّصْحِيفِ، لِلشَّيخِ نَاصِرِ بْنِ حَمَدٍ الفَهْدِ حَفِظَهُ اللهُ، مَكْتَبَةُ أَضْوَاءِ السَّلَفِ - الرِّيَاض.

- صَيدُ الخَاطِرِ، لِلإِمَامِ عَبْدِ الرَّحْمَن بْنِ عَلِيّ بْنِ مُحَمَّدِ الجَوزِيِّ؛ أَبِي الفَرَجِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 579 هـ)، دَارُ القَلَم - دِمَشْق، بِعِنَايَةِ حَسَن السَمَاحِي سُوَيدَان.

- ضَعِيفُ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، لِلمُحَدِّثِ الإِمَامِ مُحَمَّدِ نَاصِرِ الدِّينِ الأَلْبَانِيِّ؛ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1420 هـ)، مَكْتَبَةُ المَعَارِفِ لِلنَّشْرِ وَالتَّوزِيعِ، الرِّيَاض.

- ضَعِيفُ سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ، لِلمُحَدِّثِ الإِمَامِ مُحَمَّد نَاصِرِ الدِّينِ الأَلْبَانِيِّ؛ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1420 هـ)، مَكْتَبَةُ المَعَارِفِ لِلنَّشْرِ وَالتَّوزِيعِ، الرِّيَاض.

ص: 661

- ضَعِيفُ سُنَنِ أَبِي دَاوُد، لِلمُحَدِّثِ الإِمَامِ مُحَمَّد نَاصِرِ الدِّينِ الأَلْبَانِيِّ؛ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1420 هـ)، مَكْتَبَةُ المَعَارِفِ لِلنَّشْرِ وَالتَّوزِيعِ، الرِّيَاض.

- طَبَقَاتُ الحُفَّاظِ، لِلحَافِظِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْر؛ جَلَالِ الدِّينِ السُّيُوطِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 911 هـ)، دَارُ الكُتُبِ العِلْمِيَّةِ - بَيرُوت.

- طَبَقَاتُ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ، لِلحَافِظِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيِّ الدِّمَشْقِيِّ؛ أَبِي الفِدَاءِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 774 هـ)، مَكْتَبَةُ الثَّقَافَةِ الدِّينِيَّةِ - بُورسَعِيد، بِتَحْقِيقِ أَحْمَد عَمْرو هَاشِم، وَمُحَمَّد زِينهُم مُحَمَّد عزب.

- طَرْحُ التَّثْرِيبِ فِي شَرْحِ التَّقْرِيبِ، لِلحَافِظِ زَينِ الدِّينِ؛ عَبْدِ الرَّحِيمِ بْنِ الحُسَينِ العِرَاقِيِّ؛ أَبِي الفَضْلِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 806 هـ)، دَارُ إِحْيَاءِ التُّرَاثِ العَرَبِيِّ.

- عَقِيدَةُ السَّلَفِ وَأَصْحَابِ الحَدِيثِ، لِشَيخِ الإِسْلَامِ إِسْمَاعِيل بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَن الصَّابُونِيِّ النَّيسَابُورِيِّ؛ أَبِي عُثْمَان، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 449 هـ)، دَارُ العَاصِمَةِ - الرِّيَاض، بِتَحْقِيقِ نَاصِر الجْديع.

- عَمَلُ اليَومُ وَاللَّيلَةِ، لِلحَافِظِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ الدّينَوَريِّ؛ المَعْرُوفِ بِـ (ابْنِ السُّنِّيِّ)، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 364 هـ)، دَارُ القِبْلَةِ لِلثَّقَافَةِ الإِسْلَامِيَّةِ وَمُؤَسَّسَةُ عُلُومِ القُرْآنِ - جِدَّة، بَيرُوت، بِتَحْقِيقِ كَوثَر البرني.

- عَونُ المَعْبُودِ شَرْحُ سُنَنِ أَبِي دَاوُد، لِلإِمَامِ الفَقِيهِ مُحَمَّدِ أَشْرَف بْنِ أَمِيرٍ؛ شَمْسِ الحَقِّ العَظِيمِ آبَادِي؛ أَبِي الطَّيِّبِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1329 هـ)، دَارُ الكُتُبِ العِلْمِيَّةِ - بَيرُوت.

- عُمْدَةُ القَارِي شَرْحُ صَحِيحِ البُخَارِيِّ، لِلإِمَامِ المُحَدِّثِ مَحْمُودِ بْنِ أَحْمَدَ؛ بَدْرِ الدِّينِ العَينِيِّ الحَنَفِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 855 هـ)، دَارُ إِحْيَاءِ التُّرَاثِ العَرَبِيِّ - بَيرُوت.

- عِلْمُ الغَيبِ فِي الشَّرِيعَةِ الإِسْلَامِيَّةِ، لِلشَّيخِ أَحْمَدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الغُنَيمَانِ،

ص: 662

(مُعَاصِرٌ)، مَكْتَبَةُ العُلُومِ وَالحِكَمِ - المَدِينَةُ المُنَوَّرَةُ.

- غَايَةُ المَرَامِ فِي تَخْرِيجِ أَحَادِيثِ الحَلَالِ وَالحَرَامِ، لِلمُحَدِّثِ الإِمَامِ مُحَمَّد نَاصِرِ الدِّينِ الأَلْبَانِيِّ؛ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1420 هـ)، المَكْتَبُ الإِسْلَامِيُّ - بَيرُوت.

- فَتَاوَى وَرَسَائِلُ سَمَاحَةِ الشَّيخِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّطِيفِ آلِ الشَّيخِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1389 هـ)، مَطْبَعَةُ الحُكُومَةِ بِمَكَّةَ المُكَرَّمَةَ، بِاعْتِنَاءِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَن بْنِ قَاسِم.

- فَتْحُ البَارِي شَرْحُ صَحِيحِ البُخَارِيِّ، لِلإِمَامِ الحَافِظِ أَحْمَدِ بْنِ عَلِيّ بْنِ حَجَرٍ؛ أَبِي الفَضْلِ العَسْقَلَانِيِّ الشَّافِعِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 852 هـ)، دَارُ المَعْرِفَةِ - بَيرُوت.

- فَتْحُ البَارِي شَرْحُ صَحِيحِ البُخَارِيِّ، لِلإِمَامِ الحَافِظِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ رَجَبٍ البَغْدَادِيِّ الحَنْبَلِيِّ (المُتَوَفَّى سَنَةَ 795 هـ)، مَكْتَبُ تَحْقِيقِ دَارِ الحَرَمَينِ - القَاهِرَةُ، مَجْمُوعَةٌ مِنَ المُحَقِّقِينَ.

- فَتْحُ المَجِيدِ شَرْحُ كِتَابِ التَّوحِيدِ، لِلشَّيخِ العَلَّامَةِ عَبْدِ الرَّحْمَن بْنِ حَسَن آلِ الشَّيخِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1285 هـ)، مَطْبَعَةُ السُّنَّةِ المُحَمَّدِيَّةِ، القَاهِرَة، بِتَحْقِيقِ مُحَمَّد حَامِدِ الفَقي.

- فَضَائِلُ القُرْآنِ، لِلإِمَامِ القَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ الهَرَوِيِّ البَغْدَادِيِّ؛ أَبِي عُبَيدٍ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 224 هـ)، دَارُ ابْنِ كَثِيرٍ - دِمَشْق، بِتَحْقِيقِ مَرْوَان العَطِيَّة، وَمُحْسِن خرابة، وَوَفَاء تَقِيّ الدِّين.

- فَيضُ البَارِي عَلَى صَحِيحِ البُخَارِيِّ، لِلشَّيخِ مُحَمَّد أَنْوَر شَاه؛ الكَشْمِيرِي الهِنْدِيّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1353 هـ)، دَارُ الكُتُبِ العِلْمِيَّةِ - بَيرُوت، بِتَحْقِيقِ مُحَمّد بَدر عَالِم الميرتهي.

- فَيضُ القَدِيرِ شَرْحُ الجَامِعِ الصَّغِيرِ، لِلشَّيخِ عَبْدِ الرَّؤُوفِ المُنَاوِيِّ؛ زَينِ الدِّينِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1031 هـ)، المَكْتَبَةُ التِّجَارِيَّةُ الكُبْرَى - مِصْر.

- فِتْنَةُ التَّكْفِيرِ، لِلمُحَدِّثِ الإِمَامِ مُحَمَّد نَاصِرِ الدِّينِ الأَلْبَانِيِّ؛ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ،

ص: 663

(المُتَوَفَّى سَنَةَ 1420 هـ)، دَارُ ابْنِ خُزَيمَةَ - الرِّيَاض، بِإِعْدَادِ عَلِيِّ بْنِ حُسَين أَبُو لَوز.

- فِقْهُ اللُّغَةِ وَسِرُّ العَرَبِيَّةِ، لِمُؤَلِفِهِ عَبْدِ المَلِكِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الثَّعَالِبِيِّ؛ أَبِي مَنْصُورٍ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 429 هـ)، إِحْيَاءُ التُّرَاثِ العَرَبِيِّ، بِتَحْقِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ المَهْدِيِّ.

- قِصَّةُ الإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الوَهَّابِ، لِلْمُؤَرِّخِ رَاغِبِ السّرْجَانِي، (مُعَاصِرٌ)، مُؤَسَّسَةُ اِقْرَأ.

- قَوَاعِدُ التَّحْدِيثِ مِنْ فُنُونِ مُصْطَلَحِ الحَدِيثِ، لِلشَّيخِ مُحَمَّدُ جَمَال الدِّين القَاسِمِيُّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1332 هـ)، دَارُ الكُتُبِ العِلْمِيَّةِ - بَيرُوت.

- كَشْفُ الأَسْتَارِ عَنْ زَوَائِدِ البَزَّارِ، لِلإِمَامِ عَلِيٍّ بْنِ أَبِي بَكْر بْنِ سُلَيمَانَ الهَيثَمِيِّ؛ أَبِي الحَسَنِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 807 هـ)، مُؤَسَّسَةُ الرِّسَالَةِ، بِتَحْقِيقِ حَبِيبِ الرَّحْمَن الأَعْظَمِيِّ.

- كَشْفُ الخَفَاءِ وَمُزِيلُ الإِلْبَاسِ، لِلشَّيخِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدَ بْنِ عَبْدِ الهَادِي الجَرَّاحِيِّ العَجْلُونِيِّ؛ أَبِي الفِدَاءِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1162 هـ)، المَكْتَبَةُ العَصْرِيَّةُ، بِتَحْقِيقِ عَبْدِ الحَمِيدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ يُوسُفَ بْنِ هنداوي.

- كَشْفُ المُشْكِلِ مِنْ حَدِيثِ الصَّحِيحَين، لِلإِمَامِ عَبْدِ الرَّحْمَن بْنِ عَلِيّ بْنِ مُحَمَّدِ الجَوزِيِّ؛ أَبِي الفَرَجِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 579 هـ)، دَارُ الوَطَنِ - الرِّيَاض، بِتَحْقِيقِ عَلِي حُسَين البَوَّاب.

- كَلِمَةُ الإِخْلَاصِ وَتَحْقِيقُ مَعْنَاهَا، لِلإِمَامِ الحَافِظِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ رَجَبٍ البَغْدَادِيِّ الحَنْبَلِيِّ (المُتَوَفَّى سَنَةَ 795 هـ)، المَكْتَبُ الإِسْلَامِيُّ - بَيرُوت.

- كِتَابُ الإِيمَانِ، لِلإِمَامِ القَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ الهَرَوِيِّ البَغْدَادِيِّ؛ أَبِي عُبَيدٍ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 224 هـ)، بِتَحْقِيقِ الإِمَامِ مُحَمَّدِ نَاصِرِ الدِّينِ الأَلْبَانِيِّ، مَكْتَبَةُ المَعَارِفِ لِلنَّشْرِ وَالتَّوزِيعِ، الرِّيَاض.

ص: 664

- كِتَابُ التَّعْرِيفَاتِ، لِمُؤَلِّفِهِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الجُرْجَانِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 816 هـ)، دَارُ الكُتُبِ العِلْمِيَّةِ - بَيرُوت.

- كِتَابُ التَّوحِيدِ وَإِثْبَاتِ صِفَاتِ الرَّبِّ عز وجل، لِلحَافِظِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيمَةِ؛ أَبِي بَكْرٍ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 311 هـ)، مَكْتَبَةُ الرُّشْدِ لِلنَّشْرِ وَالتَّوزِيعِ، الرِّيَاض، بِتَحْقِيقِ عَبْدِ العَزِيزِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الشَّهْوَان.

- كِتَابُ السُّنَّةِ (وَمَعَهُ ظِلَالُ الجَنَّةِ فِي تَخْرِيجِ السُّنَّةِ بِقَلَمِ مُحَمَّدِ نَاصِرِ الدِّينِ الأَلْبَانِيِّ)، لِلحَافِظِ أَحْمَدِ بْنِ عَمْرو بْنِ أَبِي عَاصِمٍ؛ الضَّحَّاكِ بْنِ مَخْلَدٍ الشَّيبَانِيِّ؛ أَبِي بَكْر، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 287 هـ)، المَكْتَبُ الإِسْلَامِيُّ.

- كِتَابُ الشَّفَاعَةُ، لِلشَّيخِ المُحَدِّثِ مُقْبِلِ بْنِ هَادِي الوَادِعِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1422 هـ)، دَارُ الآثَارِ - صَنْعَاء.

- كِتَابُ الفُرُوعِ (وَمَعَهُ تَصْحِيحُ الفُرُوعِ لِعَلَاءِ الدِّينِ المَرْدَاوِيِّ)، لِلإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ مُفْلِحٍ المَقْدِسِيِّ الحَنْبَلِيِّ؛ أَبِي عَبْدِ اللهِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 736 هـ)، مُؤَسَّسَةُ الرِّسَالَةِ - بَيرُوت، بِتَحْقِيقِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ المُحْسِنِ التُّرْكِيِّ.

- لُمْعَةُ الاعْتِقَادِ، لِلإمَامِ الفَقِيهِ مُوَفَّق الدِّين؛ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّد بْنِ قُدَامَةَ المَقْدِسِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 620 هـ)، وَزَارَةُ الشُّؤُونِ الإِسْلَامِيَّةِ وَالأَوقَافِ وَالدَّعْوَةِ وَالإِرْشَادِ - المَمْلَكَةُ العَرَبِيَّةُ السُّعُودِيَّةُ.

- لِسَانُ العَرَبِ، لِمُحَمَّدِ بْنِ مُكرَّم بْنِ مَنْظُور؛ أَبِي الفَضْلِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 711 هـ)، دَارُ صَادِر - بَيرُوت.

- لِسَانُ المِيزَانِ، لِلإِمَامِ الحَافِظِ أَحْمَدِ بْنِ عَلِيّ بْنِ حَجَرٍ؛ أَبِي الفَضْلِ العَسْقَلَانِيِّ الشَّافِعِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 852 هـ)، مُؤَسَّسَةُ الأَعْلَمِيِّ لِلمَطْبُوعَاتِ - بَيرُوت، بِتَحْقِيقِ دَائِرَةُ

ص: 665

المَعَارِفِ النظامية - الهِنْد.

- مَجْمَعُ الزَّوَائِدِ وَمَنْبَعُ الفَوَائِدِ، لِلإِمَامِ عَلِيٍّ بْنِ أَبِي بَكْر بْنِ سُلَيمَانَ الهَيثَمِيِّ؛ أَبِي الحَسَنِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 807 هـ)، مَكْتَبَةُ القُدْسِيِّ، القَاهِرَةَ، بِتَحْقِيقِ حُسَامِ الدِّينِ القُدْسِيِّ.

- مَجْمُوعَةُ التَّوحِيدِ، لِلشَّيخَين (أَحْمَدِ بْنِ تَيمِيَّةَ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 728 هـ)، ومُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الوَهَّابِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1205 هـ))، دَارُ إِحْيَاءِ التُّرَاثِ.

- مَجْمُوعَةِ التَّوحِيدِ النَّجْدِيَّةِ، لِلشَّيخِ الإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الوَهَّابِ (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1205 هـ)؛ (وَبَعْضٍ مِنْ أَحْفَادِهِ)، مَطْبَعَةُ المَنَارِ - مِصْر، بِإِشْرَافِ السَّيِّدِ مُحَمَّد رَشِيد رِضَا.

- مَجْمُوعُ الفَتَاوَى، لِشَيخِ الإِسْلَامِ؛ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الحَلِيمِ بْنِ تَيمِيَّةَ الحَرَّانِيِّ؛ أَبِي العَبَّاسِ؛ تَقِي الدِّينِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 728 هـ)، مُجَمَّعُ المَلِكِ فَهْدٍ لِطِبَاعَةِ المُصْحَفِ الشَّرِيفِ، المَدِينَةُ النَّبَوِيَّةُ، المَمْلَكَةُ العَرَبِيَّةُ السُّعُودِيَّةُ، بِاعْتِنَاءِ عَبْدِ الرَّحْمَن بْنِ مُحَمَّد بْنِ قَاسِمٍ.

- مَجْمُوعُ فَتَاوَى ابْنِ بَاز، لِلعَلَّامَةِ الإِمَامِ عَبْدِ العَزِيزِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ بَاز، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1420 هـ)، دَارُ القَاسِمِ - الرِّيَاض، بِإِشْرَافِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ الشويعر.

- مَجْمُوعُ فَتَاوَى وَرَسَائِلِ فَضِيلَةِ الشَّيخِ مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحٍ العُثَيمِين، لِلشَّيخِ مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحٍ العُثِيمِين، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1421 هـ)، دَارُ الوَطَنِ، دَارُ الثُّرَيَّا، بِإِعْدَادِ فَهْدِ بْنِ نَاصِرِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ السُّلَيمَان.

- مُحَاضَرَاتُ الأُدَبَاءُ وَمُحَاوَرَاتُ الشُّعَرَاءُ وَالبُلَغَاءُ، لِمُؤَلِّفِهِ الحُسَين بْنِ مُحَمَّد؛ أَبِي القَاسِمِ؛ المَعْرُوفِ بِالرَّاغِبِ الأَصْفَهَانِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 502 هـ)، دَارُ الأَرْقَمِ بْنِ أَبِي الأَرْقَمِ - بَيرُوت.

- مُخْتَارُ الصِّحَاحِ، لِمُؤَلِّفِهِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ القَادِرِ الرَّازِيِّ؛ أَبِي عَبْدِ اللهِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 666 هـ)، المَكْتَبَةُ العَصْرِيَّةُ - الدَّارُ النَّمُوذَجِيَّةُ، بَيرُوت - صَيدَا،

ص: 666

بِتَحْقِيقِ يُوسُف الشَّيخ مُحَمَّد.

- مُخْتَصَرُ العُلُوِّ لِلعَلِيِّ العَظِيمِ، لِلمُحَدِّثِ الإِمَامِ مُحَمَّد نَاصِرِ الدِّينِ الأَلْبَانِيِّ؛ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1420 هـ)، المَكْتَبُ الإِسْلَامِيُّ، حَقَّقَهُ وَاخْتَصَرَهُ الشَّيخُ المُحَدِّثُ مُحَمَّد نَاصِر الدِّين الأَلْبَانِيُّ.

- مَدَارِجُ السَّالِكِينَ، لِلإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَيَّوبَ، ابْنِ قَيِّمِ الجَوزِيَّةِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 751 هـ)، دَارُ الكِتَابِ العَرَبِيِّ - بَيرُوت، بِتَحْقِيقِ مُحَمَّد المُعْتَصِمِ بِاللهِ البَغْدَادِيِّ.

- مَرَاتِبُ الإِجْمَاعِ فِي العِبَادَاتِ وَالمُعَامَلَاتِ وَالاعْتِقَادَاتِ، لِلإِمَامِ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ حَزْمٍ الأَنْدَلُسِيِّ؛ أَبِي مُحَمَّد، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 456 هـ)، دَارُ الكُتُبِ العِلْمِيَّةِ - بَيرُوت.

- مِرْعَاةُ المَفَاتِيحِ شَرْحُ مِشْكَاةِ المَصَابِيحِ، لِلإِمَامِ عُبَيدِ اللهِ بْنِ مُحَمَّدِ الرَّحْمَانِيِّ المُبَارَكْفُورِيِّ؛ أَبِي الحَسَنِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1414 هـ)، نَشْرُ إِدَارَةِ البُحُوثِ العِلْمِيَّةِ وَالدَّعْوَةِ وَالإِفْتَاءِ - الجَامِعَةُ السَّلَفِيَّةُ - بَنَارِس الهِنْد.

- مِرْقَاةُ المَفَاتِيحِ شَرْحُ مِشْكَاةِ المَصَابِيحِ، لِلشَّيخِ الفَقِيهِ مُلَّا عَلِيِّ الهَرَوِيِّ القَارِيّ، أَبِي الحَسَنِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1104 هـ)، دَارُ الفِكْرِ- بَيرُوت.

- مَسَائِلُ الإِمَامِ أَحْمَدَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ، لِلإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلَ بْنِ هِلَالِ بْنِ أَسَدٍ الشَّيبَانِيِّ؛ أَبِي عَبْدِ اللهِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 241 هـ)، مَكْتَبَةُ ابْنِ تِيمِيَةَ - مِصْرَ، بِتَحْقِيقِ طَارِق بْنِ عَوض الله بْنِ مُحَمَّد.

- مُسْنَدُ الإِمَامِ أَحْمَدَ، لِلإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلَ بْنِ هِلَالِ بْنِ أَسَدٍ الشَّيبَانِيِّ؛ أَبِي عَبْدِ اللهِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 241 هـ)، مُؤَسَّسَةُ الرِّسَالَةِ، بِتَحْقِيقِ شُعَيبِ الأَرْنَؤُوطِ - عَادِل مرشد، وَآخَرُونَ.

- مُسْنَدُ البَزَّارِ (البَحْرُ الزَّخَّارُ)، لِلحَافِظِ أَحْمَدَ بْنِ عَمْرو بْنِ عَبْدِ الخَالِقِ العَتَكِيِّ،

ص: 667

المَعْرُوفِ بِالبَزَّارِ؛ أَبِي بَكْرٍ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 292 هـ)، مَكْتَبَةُ العُلُومِ وَالحِكَمِ - المَدِينَةُ المُنَوَّرَةُ، مَجْمُوعَةٌ مِنَ المُحَقِّقِينَ.

- مُسْنَدُ الدَّارِمِيِّ، لِلإِمَامِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيِّ؛ أَبِي مُحَمَّدٍ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 255 هـ)، دَارُ المُغْنِي لِلنَّشْرِ وَالتَّوزِيعِ، المَمْلَكَةُ العَرَبِيَّةُ السّعُودِيَّةُ، بِتَحْقِيقِ حُسَين سَلِيم أَسَد الدَّارَانِيِّ.

- مُسْنَدُ الشَّامِيِّين، لِلحَافِظِ سُلَيمَانَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ أَيُّوبَ؛ أَبِي القَاسِمِ الطَّبَرَانِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 360 هـ)، مُؤَسَّسَةُ الرِّسَالَةِ - بَيرُوت، بِتَحْقِيقِ حَمْدِي بْنِ عَبْدِ المَجِيدِ السَّلَفِيِّ.

- مُسْنَدُ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ، لِلحَافِظِ سُلَيمَانَ بْنِ دَاوُدَ بْنِ الجَارُودِ الطَّيَالِسِيِّ البَصْرِيِّ؛ أَبِي دَاوُدَ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 204 هـ)، دَارُ هجر، بِتَحْقِيقِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ المُحْسِنِ التّركيّ.

- مُسْنَدُ أَبِي يَعْلَى، لِلإِمَامِ الحَافِظِ أَبِي يَعْلَى؛ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيّ بْنِ المثُنى التَّمِيمِيِّ المَوصِلِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 307 هـ)، دَارُ المَأْمُونِ لِلتُّرَاثِ - دِمَشْقَ، بِتَحْقِيقِ حُسَين سَلِيم أَسَد الدَّارَانِيِّ.

- مِشْكَاةُ المَصَابِيحِ، لِلإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الخَطِيبِ التِّبْرِيزِيِّ، أَبِي عَبْدِ اللهِ؛ (المُتَوَفَّى سَنَةَ 741 هـ)، المَكْتَبُ الإِسْلَامِيُّ - بَيرُوت، بِتَحْقِيقِ الشَّيخِ مُحَمَّد نَاصِرِ الدِّينِ الأَلْبَانِيِّ رحمه الله.

- مُصَنَّفُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، لِلحَافِظِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بْنِ هَمَّام الصَّنْعَانِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 211 هـ)، المَكْتَبُ الإِسْلَامِيُّ - بَيرُوت، بِتَحْقِيقِ حَبِيبِ الرَّحْمَن الأَعْظَمِيِّ.

- مَعَالِمُ التَّنْزِيلِ فِي تَفْسِيرِ القُرْآنِ (تَفْسِيرُ البَغَوِيِّ)، لِلإِمَامِ مُحْيِي السُّنَّةِ؛ الحُسَينِ بْنِ مَسْعُودٍ؛ أَبِي مُحَمَّدِ البَغَوِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 516 هـ)، دَارُ طِيبَةَ لِلنَّشْرِ وَالتَّوزِيعِ، بِتَحْقِيقِ النمر وضميرية والحرش.

ص: 668

- مَعَالِمُ السُّنَنِ، لِلإِمَامِ الفَقِيهِ حَمَدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الخَطَّابِ البُسْتِيِّ؛ المَعْرُوفِ بِالخَطَّابِيِّ؛ أَبِي سُلَيمَان، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 388 هـ)، المَطْبَعَةُ العِلْمِيَّةُ - حَلَب.

- مَعَانِي القُرْآنِ، لِلإِمَامِ يَحْيَى بْنِ زِيَادٍ الدَّيلَمِيِّ الفَرَّاءِ؛ أَبِي زَكَرِيَّا، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 207 هـ)، دَارُ المَصْرِيَّةِ لِلتَّأْلِيفِ وَالتَّرْجَمَةِ - مِصْر، بِتَحْقِيقِ أَحْمَد يُوسُف النَّجَاتِي، وَمُحَمَّد عَلِي النَّجَّار، وَعَبْدِ الفَتَّاحِ إِسْمَاعِيل الشَّلَبِيِّ.

- مُعْتَقَدِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي أَبَوَي الرَّسُولِ عليه الصلاة والسلام، لِلشَّيخِ الفَقِيهِ مُلَّا عَلِيِّ الهَرَوِيِّ القَارِيّ، أَبِي الحَسَنِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1104 هـ)، دَارُ الفِكْرِ- بَيرُوت.

- مُعْجَمُ المُؤَلِّفِين، لِعُمَر بْنِ رِضَا كَحَّالَة الدِمَشْقِي، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1408 هـ)، دَارُ إِحْيَاءِ التُّرَاثِ العَرَبِيِّ - بَيرُوت.

- مُعْجَمُ مَقَايِيسِ اللُّغَةِ، لِمُؤَلِّفِهِ أَحْمَدَ بْنِ فَارِس بْنِ زَكَرِيَّا؛ أَبِي الحَسَنِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 395 هـ)، دَارُ الفِكْرِ، بِتَحْقِيقِ عَبْدِ السَّلَامِ مُحَمَّد هَارُون.

- مَعْرِفَةُ السُّنَنِ وَالآثَارِ، لِلإِمَامِ الحَافِظِ أَحْمَدَ بْنِ الحُسَينِ بْنِ عَلِيٍّ الخُرَاسَانِيِّ، أَبِي بَكْرٍ البَيهَقِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 458 هـ)، دَارُ قُتَيبَة- بَيرُوت، بِتَحْقِيقِ عَبْدِ المُعْطِي قَلْعَجِي.

- مَعْرِفَةُ عُلُومِ الحَدِيثِ، لِلحَافِظِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُحَمَّدٍ النَيسَابُورِيِّ؛ أَبِي عَبْدِ اللهِ الحَاكِمِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 405 هـ)، دَارُ الكُتُبِ العِلْمِيَّةِ - بَيرُوت، بِتَحْقِيقِ السَّيِّد معظم حُسين.

- مِفْتَاحُ دَارِ السَّعَادَةِ، لِلإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَيَّوبَ، ابْنِ قَيِّمِ الجَوزِيَّةِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 751 هـ)، دَارُ الكُتُبِ العِلْمِيَّةِ - بَيرُوت.

- مَقَالَاتُ الإِسْلَامِيِّينَ وَاخْتِلَافُ المُصَلِّينَ، لِلْإِمَامِ أَبِي الحَسَنِ؛ عَلِي بْنِ إِسْمَاعِيلَ الأَشْعَرِيُّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 324 هـ)، المَكْتَبَةُ العَصْرِيَّةُ، بِتَحْقِيقِ نعَيم زَرْزُور.

ص: 669

- مِنْهَاجُ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ فِي نَقْضِ كَلَامِ الشِّيعَةِ القَدَرِيَّةِ، لِشَيخِ الإِسْلَامِ؛ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الحَلِيمِ بْنِ تَيمِيَّةَ الحَرَّانِيِّ؛ أَبِي العَبَّاسِ؛ تَقِي الدِّينِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 728 هـ)، جَامِعَةُ الإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ سُعُودٍ الإِسْلَامِيَّةِ، بِتَحْقِيقِ مُحَمَّد رَشَاد سَالِم.

- مَوسُوعَةُ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي نَقْدِ أُصُولِ فِرْقَةِ الأَحْبَاشِ وَمَنْ وَافَقَهُم فِي أُصُولِهِم، لِلشَّيخِ الفَاضِلِ عَبْدِ الرَّحْمَن بْنِ مُحَمَّد سَعِيد دِمَشْقِيَّة، مَكْتَبَةُ الشَّقَرِي.

- مِيزَانُ الاعْتِدَالِ فِي نَقْدِ الرِّجَالِ، لِلحَافِظِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ قَايمازَ الذَّهَبِيِّ؛ أَبِي عَبْدِ اللهِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 748 هـ)، دَارُ المَعْرِفَةِ لِلطِّبَاعَةِ وَالنَّشْرِ، بَيرُوت - لُبْنَان، بِتَحْقِيقِ عَلِي مُحَمَّد البجاوي.

- نَيلُ الأَوطَارِ، لِلإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الشَّوكَانِيِّ اليَمَنِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1250 هـ)، دَارُ الحَدِيثِ - مِصْر، بِتَحْقِيقِ عِصَامِ الدِّينِ الصَّبَابطي.

- هَذِهِ مَفَاهِيمُنَا، لِلشَّيخِ العَلَّامَةِ صَالِحِ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ آلِ الشَّيخِ، (مُعَاصِرٌ)، إِدَارَةُ المَسَاجِدِ وَالمَشَارِيعِ الخَيرِيَّةِ - الرِّيَاض.

ص: 670