الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
60 - باب الصَّلَاةِ عَلَى الجَنَائِزِ بِالمُصَلَّى وَالمَسْجِدِ
1327 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ، وَأَبِي سَلَمَةَ أَنَّهُمَا حَدَّثَاهُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: نَعَى لَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم النَّجَاشِيَّ صَاحِبَ الحَبَشَةِ يَوْمَ الذِي مَاتَ فِيهِ، فَقَالَ:"اسْتَغْفِرُوا لأَخِيكُمْ". [انظر: 1245 - مسلم: 951 - فتح: 3/ 199]
1328 -
وَعَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ المُسَيَّبِ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَفَّ بِهِمْ بِالمُصَلَّى، فَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعًا. [انظر: 1245 - مسلم: 951 - فتح: 3/ 199]
1329 -
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ المُنْذِرِ، حَدَّثَنَا أَبُو ضَمْرَةَ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ اليَهُودَ جَاءُوا إِلَي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِرَجُلٍ مِنْهُمْ وَامْرَأَةٍ زَنَيَا، فَأَمَرَ بِهِمَا، فَرُجِمَا قَرِيبًا مِنْ مَوْضِعِ الجَنَائِزِ عِنْدَ المَسْجِدِ. [3635، 4556، 6819، 6841، 7332، 7543 - مسلم: 1699 - فتح: 3/ 199]
ذكر فيه حديث أبي هريرة: نعانا
(1)
رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم النَّجَاشِيَّ يَوْمَ الذِي مَاتَ فِيهِ، فَقَالَ:"اسْتَغْفِرُوا لأَخِيكُمْ".
وَعَنِ ابن شِهَابٍ، عن سَعِيد، عن أَبي هُرَيْرَةَ: أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَفَّ بِهِمْ بِالمُصَلَّى، فَكَبَّرَ عَليْهِ أَرْبَعًا.
وعن ابن عمر: أَنَّ اليَهُودَ جَاءُوا إِلَي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم برَجُلٍ مِنْهُمْ وَامْرَأَةٍ زَنَيَا، فَأَمَرَ بِهِمَا، فَرُجِمَا قَرِيبًا مِنْ مَوْضِعِ الجَنَائِزِ عِنْدَ المَسْجِدِ.
الشرح:
حديث النجاشي سلف
(2)
، وحديث ابن عمر يأتي في موضعه -إن
(1)
وقع في الأصل: نعى لنا. وفوقها: نعانا. وصوبها الناسخ.
(2)
برقم (1245) باب: الرجل ينعى إلى أهل الميت بنفسه.
شاء الله
(1)
- وإنما ذكر المسجد في الترجمة لاتصاله بمصلى الجنائز. قَالَ ابن حبيب: إذا كان مصلى الجنائز قريبًا من المسجد أو لاصقًا به -مثل مصلى الجنائز بالمدينة فإنه لاصق بالمسجد من ناحية السوق
(2)
- فلا بأس بوضع الجنائز في المصلى خارجًا من المسجد. وتمتد الصفوف بالناس في المسجد، كذلك قَالَ مالك: فلا يعجبني أن يصلى على أحد في المسجد
(3)
. وهو قول ابن أبي ذئب وأبي حنيفة، وأصحابه
(4)
، وروي مثله عن ابن عباس
(5)
.
قَالَ ابن حبيب: ولو فعل ذلك فاعل ما كان ضيقًا ولا مكروهًا، فقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سهيل بن بيضاء في المسجد
(6)
، وصلى صهيب على عمر في المسجد. وأخرجه مالك وغيره
(7)
، وهو قول عائشة.
وقال ابن المنذر: صلي على أبي بكر، وعمر في المسجد
(8)
، وأسنده ابن أبي شيبة عنهما وقال: تجاه المنبر
(9)
، وأجاز الصلاةَ في المسجد الشافعيُّ من غير كراهة بل استحبها به، كما صرح به
(1)
برقم (3635) كتاب: المناقب، باب: قول الله تعالى: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} .
(2)
كذا في الأصل: السوق، وفي مصادر التخريج: الشرق.
(3)
انظر: "الاستذكار" 8/ 274.
(4)
انظر: "البناية" 3/ 267.
(5)
رواه ابن أبي شيبة 3/ 47 (11972) باب: من كره الصلاة على الجنازة في المسجد من حديث عائشة.
(6)
حديث رواه مسلم (973) كتاب: الجنائز، باب: الصلاة على الجنازة في المسجد.
(7)
رواه مالك في "الموطأ" ص 159، والحاكم في "المستدرك" 3/ 92، والبيهقي 4/ 52 من حديث ابن عمر.
قال النووي في "خلاصة الأحكام" 2/ 965 (3448): إسناده صحيح.
(8)
"الأوسط" 5/ 415 - 416.
(9)
"المصنف" 3/ 47 (11967) باب: في الصلاة على الميت في المسجد من لم ير به بأس.
الماوردي وغيره
(1)
، وحكاه ابن المنذر عن أبي بكر، وعمر، وسائر أمهات المؤمنين، وأحمد، وإسحاق، وبعض أصحاب مالك
(2)
.
قَالَ إسماعيل بن إسحاق: لا بأس بالصلاة عليها فيه إن احتيج إلى ذلك
(3)
. وقال إسماعيل المتكلم -فيما ذكره ابن حزم: الصلاة عليها فيه مكروهة كراهية تحريم.
وحديث صلاته على سهيل حجة للشافعي، والحديث أخرجه مسلم من حديث أبي النضر، عن أبي سلمة، عن عائشة: لما توفي سعد بن أبي وقاص، وطلبت دخوله المسجد، فأنكروا ذلك عليها، فقالت: والله لقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابن بيضاء في المسجد
(4)
. وفي لفظ: سهل وسهيل.
نعم في الحديث علة؛ لأن الواقدي ذكر أن سهلًا مات بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي مات في أيامه سهيل سنة تسع، ولابن الجوزي: سهيل وصفوان. وهو وهم؛ لأن صفوان قتل ببدر، ولم يمت بالمدينة. وأولاد بيضاء ثلاثة لا رابع لهم
(5)
، وقد نبه على ذلك عبد الغني في "أوهام كتاب الصحابة" وقال: لا نعلم قائلًا بأن صفوان صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أخيه سهيل.
وأعله الدارقطني بوجه آخر، حيث قَالَ في "تتبعه": رواه مسلم من حديث أبي فديك، عن الضحاك، عن أبي النضر، عن أبي سلمة، عن
(1)
"الحاوي" 3/ 50، "روضة الطالبين" 2/ 131.
(2)
"الأوسط" 5/ 415 - 416.
(3)
انظر: "النوادر والزيادات" 1/ 623.
(4)
"صحيح مسلم"(973).
(5)
انظر ترجمتهم في "الاستيعاب" 2/ 220 (1085)، 2/ 227 (1105، 2/ 278 (1221).
عائشة. وقد خالف الضحاك بن عثمان حافظان: مالك، والماجشون، فروياه عن أبي النضر، عن عائشة مرسلًا. وقيل: عن الضحاك، عن أبي النضر، عن أبي بكر بن عبد الرحمن، ولا يصح إلا مرسلًا
(1)
.
ولك أن تقول: الضحاك ثقة، وقد زاد الوصل فقدم.
وادعى ابن سحنون أن حديث النجاشي ناسخ لحديث سهيل مع انقطاعه
(2)
، كذا قَالَ.
وقال ابن العربي: ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى على الميت في المسجد، وله صورتان: إحداهما
(3)
: أن يدخل الميت في المسجد، وكرهه علماؤنا؛ لئلا يخرج من الميت شيء، وتعريض المسجد للنجاسات لا معنى له. والحديث محتمل لأن يكون حرف الجر متعلقًا بفعل (صلى) أو باسم فاعل مضمر، والأولى الأول، فيكون صلى الله عليه وسلم في المسجد والميت خارجه، وهذا لا بد منه، وإنما أذنت عائشة بمرور الميت فيه؛ لأنها أمنت أن يخرج منه شيء؛ لقرب مدة المرور.
وكان صلاة الناس على عمر كصلاته صلى الله عليه وسلم على سهيل، كذا قَالَ. لكن رواية ابن أبي شيبة تجاه المنبر ترده
(4)
، وزعم صاحب "المبسوط" أنه صلى الله عليه وسلم كان ذلك الوقت معتكفًا فلم يمكنه الخروج فوضعت خارجه فصلى عليه
(5)
، وعلم ذلك الصحابة لبروزهم، وخفي على عائشة.
وأما حديث أبي هريرة مرفوعًا: "من صلى على جنازة في المسجد
(1)
"الإلزامات والتتبع" ص 341 - 343 (184).
(2)
انظر: "النوادر والزيادات" 1/ 622.
(3)
في الأصل: إحديهما.
(4)
رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" 3/ 47 (11967، 11970).
(5)
"المبسوط" 2/ 68.
فلا شيء له" أخرجه أبو داود
(1)
، فعنه أجوبة:
أحدها: ضَعْفه، كما نص عليه أحمد
(2)
وغيره، بل قَالَ ابن حبان: إنه خبر باطل على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكيف يخبر المصطفي بذلك ويصلي على سهيل فيه
(3)
.
ثانيها: أن الذي في الأصول المعتمدة: "فلا شيء عليه"، ولا إشكال
(1)
أبو داود (3191) بلفظ: " .. فلا شيء عليه".
ورواه ابن ماجه (1517) -وسيأتي- وأحمد 2/ 544، وابن الجوزي في "التحقيق في أحاديث الخلاف" 2/ 13 (887) بلفظ:" .. فليس له شيء". ورواه أحمد 2/ 455، 505، وابن حبان في "المجروحين" 1/ 362، وابن عدي في "الكامل" 5/ 85، والبيهقي في "السنن" 4/ 52، وفي "المعرفة" 5/ 318 (7683)، وابن عبد البر في "التمهيد" 21/ 220، 221، وابن الجوزي في "العلل المتناهية" 1/ 414 (696) بلفظ:" .. فلا شيء له". وهذا هو اللفظ الذي ذكره المصنف.
واللفظان الأخيران لا فرق بينهما، وإنما الخلاف مع اللفظ الأول، كما سيأتي.
والحديث رووه جميعًامن طريق ابن أبي ذئب عن صالح مولى التوأمة، عن أبي هريرة.
(2)
نص على ذلك في "المسائل برواية عبد الله"(527) ص 142.
(3)
قال ذلك في "المجروحين" 1/ 362.
والحديث ضعفه أيضًا الخطابي في "معالم السنن" 1/ 272، والبيهقي في "السنن" 4/ 52، ونقل في "المعرفة" 5/ 319 عن أحمد قال: المشهور عند أهل الحديث أن صالحًا مولى التوأمة تغير في آخر عمره.
وضعفه ابن عبد البر في "التمهيد" 21/ 221 - 222.
وأشار ابن الجوزي في "التحقيق" لضعفه. وصرح بضعفه في "العلل" فقال: حديث لا يصح.
وكذا أشار لضعفه المنذري في "المختصر" 4/ 325. وقال النووي في "المجموع" 5/ 171: حديث ضعيف باتفاق الحفاظ. وضعفه كذلك في "الخلاصة" 2/ 966 (3451).
إذن
(1)
. ولفظ ابن ماجه: "فليس عليه شيء"
(2)
. وفي لفظ: "فلا أجر له"
(3)
. قَالَ عبد الحق: والصحيح رواية: "لا شيء له"
(4)
.
تالثها: على تقدير صحته
(5)
تؤول (له). بمعنى (عليه) كقوله تعالى: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7].
رابعها: أنه محمول على نقصان أجره إذا لم يتبعها للدفن
(6)
.
خامسها: نسخه بحديث سهيل، قاله ابن شاهين
(7)
، وعكس ذلك الطحاوي
(8)
، وقد سلف. نعم لو ظهرت أمارات التلويث من انتفاخ وشبهه لم يدخل المسجد.
قَالَ أبو عمر: والصلاة في المسجد قول جمهور أهل العلم، وهي السنة المعمول بها في الخليفتين، وما أعلم من يكره ذلك إلا ابن أبي ذئب، ورويت كراهة ذلك عن ابن عباس من وجه لا يثبت ولا يصح،
(1)
قلت: في النسخة التي بأيدينا من "سنن أبي داود"(3191): ( .. فلا شيء عليه) كما ذكرنا.
(2)
"سنن ابن ماجه"(1517) لكن بلفظ: "فليس له شيء". كما تقدم.
(3)
رواه البغوي في "مسند ابن الجعد"(2752) بلفظ: " .. فليس له أجر".
وقال ابن عبد البر في "التمهيد" 21/ 221: هذا اللفظ خطأ لا إشكال فيه.
(4)
"الأحكام الوسطى" 2/ 141.
وصحح هذا اللفظ أيضًا ابن عبد البر في "التمهيد" 21/ 221.
(5)
قلت: الحديث حسنه ابن القيم في "زاد المعاد" 1/ 501، وصححه الألباني في
"الصحيحة"(2351)، وفي "الثمر المستطاب" 2/ 766 - 769.
(6)
انظر تفصيلًا لهذِه الأجوبة في: "الاستذكار" 8/ 273 - 274، و"مسلم بشرح النووي" 7/ 40، و"المجموع" 5/ 171، و"حاشية ابن القيم" 4/ 325 - 326، و"الثمر المستطاب" 2/ 766 - 769.
(7)
"ناسخ الحديث ومنسوخه" 1/ 302 - 305.
(8)
"شرح معاني الآثار" 1/ 492 - 493.
وبعض أصحاب مالك رواه عنه، وقد روي عنه جواز ذلك من رواية أهل المدينة، وقد قَالَ في المعتكف: لا يخرج إلى جنازة، فإن اتصلت الصفوف به في المسجد فلا بأس أن يصلي عليها مع الناس
(1)
.
فرع:
في "الأوسط" للطبراني من حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يصلى على الجنائز بين القبور
(2)
. وأما حديث ابن عمر فسيأتي -إن شاء الله- في التفسير في حكم اليهود إذا ترافعوا البناء
(3)
.
وقوله فيه: (فرجما قريبًا من موضع الجنائز عند المسجد). يدل على أنه كان للجنائز موضع معروف.
(1)
"الاستذكار" 8/ 273 - 274.
(2)
"المعجم الأوسط" 6/ 6 (5631)، وقال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن عاصم الأحول إلا حفص، تفرد به حسين بن يزيد.
وقال الهيثمي في "المجمع" 3/ 36: وإسناده حسن.
(3)
برقم (4556) باب: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} .
61 - باب مَا يُكْرَهُ مِنِ اتِّخَاذِ المَسَاجِدِ عَلَى القُبُورِ
وَلَمَّا مَاتَ الحَسَنُ بْنُ الحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ ضَرَبَتِ امْرَأَتُهُ القُبَّةَ عَلَى قَبْرِهِ سَنَةً، ثُمَّ رُفِعَتْ، فَسَمِعُوا صَائِحًا يَقُولُ: أَلَا هَلْ وَجَدُوا مَا فَقَدُوا؟ فَأَجَابَهُ الآخَرُ: بَلْ يَئِسُوا فَانْقَلَبُوا.
1330 -
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ شَيْبَانَ، عَنْ هِلَالٍ -هُوَ: الوَزَّانُ- عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي مَرَضِهِ الذِي مَاتَ فِيهِ:"لَعَنَ اللهُ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى؛ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسْجِدًا". قَالَتْ: وَلَوْلَا ذَلِكَ لأَبْرَزُوا قَبْرَهُ غَيْرَ أَنِّي أَخْشَى أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا. [انظر: 435 - مسلم: 529 - فتح: 3/ 200]
وذكر فيه حديث عائشة، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي مَرَضِهِ الذِي مَاتَ فِيهِ:"لَعَنَ الله اليَهُودَ وَالنَّصَارى؛ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسْجِدًا". قَالَتْ: وَلَوْلَا ذَلِكَ لأبرز قَبْرُهُ غَيْرَ أَنِّي أَخْشَى أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا.
الشرح:
هذِه الزوجة هي فاطمة بنت الحسين بن علي، وهي التي حلفت له بجميع ما تملكه أنها لا تزوج عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان ثم تزوجته، فأولدها محمد الديباج
(1)
. وهذا المتكلم يجوز أن يكون من مؤمني الجن أو من الملائكة، قالاه موعظة، قاله ابن التين.
ومعنى ضرب القبة على الحسن في هذا الباب: يريد بذلك أن القبة حين ضربت عليه سكنت وصلي فيها فصارت مسجدًا على القبر. وأورده دليلًا على الكراهية؛ لقول الصائح: ألا هل وجدوا .. القصة.
وحديث الباب تقدم في المساجد
(2)
، وهذا النهي من باب قطع
(1)
انظر ترجمتها في "تهذيب الكمال" 35/ 254 (7901).
(2)
برقم (435) كتاب: الصلاة.
الذريعة؛ لئلا يعبد قبره الجهال كما فعلت اليهود والنصارى بقبور أنبيائهم، وكره مالك المسجد على القبور، فأما مقبرة داثرة بني عليها مسجد يصلى فيه فلا بأس به
(1)
. قَالَ مالك: وأول من ضرب على قبر فسطاطًا عمر بن الخطاب، ضرب على قبر زينب بنت جحش أم المؤمنين
(2)
، وأوصى أبو هريرة أهله عند موته أن لا يضربوا عليه فسطاطًا
(3)
.
وقول أبي سعيد الخدري، وسعيد بن المسيب ذكره ابن وهب في "موطئه" يعني: الكراهة. وقال ابن وهب: ضرب الفسطاط على قبر المرأة أجوز منه على قبر الرجل؛ لما يستر منها عند إقبارها، فأما على قبر الرجل فأُجِيْزَ، وكُرِهَ، ومن كرهه فإنما كرهه من جهة السمعة والمباهاة، وكذا قَالَ ابن حبيب: ضربه على المرأة أفضل من الرجل، وضربته عائشة على قبر أخيها فنزعه ابن عمر، وضربه محمد بن الحنفية على قبر ابن عباس فأقام عليه ثلاثة أيام
(4)
، وكره أحمد ضربه على القبر، وقال ابن حبيب: أراه في اليوم واليومين والثلاثة واسعًا إذا خيف من نبش أو غيره
(5)
. واللعن: الطرد والإبعاد، فهم مطرودون ومبعدون من الرحمة ولعنوا؛ لكفرهم ولفعلهم. وكره مالك الدفن في المسجد، وقاله في مرضه تحذيرًا مما صنعوه. ومعنى:(لأبرز قبره). أي: لم يجعل عليه حائط، وفي رواية: خشي. وروي بضم الخاء
(6)
.
(1)
انظر: "النوادر والزيادات" 1/ 652.
(2)
روى هذا الأثر عن عمر ابن سعد في "طبقاته" 8/ 113.
(3)
رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 3/ 25 (11747) كتاب: الجنائز، باب: الفسطاط يضرب على القبر.
(4)
هذا القول من كلام ابن حبيب، كما في "النوادر والزيادات" 1/ 665، أما أثر محمد بن الحنيفة، فقد رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 3/ 25 (11749).
(5)
انظر: "النوادر والزيادات" 1/ 665.
(6)
ستأتي برقم (1390).
62 - باب الصَّلَاةِ عَلَى النُّفَسَاءِ إِذَا مَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا
1331 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ بُرَيْدَةَ، عَنْ سَمُرَةَ رضي الله عنه قَالَ: صَلَّيْتُ وَرَاءَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى امْرَأَةٍ مَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا، فَقَامَ عَلَيْهَا وَسَطَهَا.
ذكر فيه حديث سمرة: صَلَّيْتُ وَرَاءَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَى امْرَأَةٍ مَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا، فَقَامَ عَلَيْهَا وَسَطَهَا.
ثم ترجم عليه:
63 - باب أَيْنَ يَقُومُ مِنَ المَرْأَةِ وَالرَّجُلِ
؟
1332 -
حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مَيْسَرَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَارِثِ، حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ، عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ، حَدَّثَنَا سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ رضي الله عنه قَالَ: صَلَّيْتُ وَرَاءَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى امْرَأَةٍ مَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا فَقَامَ عَلَيْهَا وَسَطَهَا. [انظر: 332 - مسلم: 964 - فتح: 3/ 201]
وهذا الحديث أخرجه مسلم، وسمى المرأة أم كعب
(1)
، والحديث سلف في الحيض
(2)
، ولفظة (وراء) من الأضداد، فإنها قد تكون بمعنى قدام، ومنه:{وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ} [الكهف: 79] والنفاس -بكسر النون- الدم الخارج بعد الولد.
وقوله: (قام وسطها) هو بسكون السين، وهو الصواب وقيده بعضهم بالفتح أيضًا.
وكون هذِه المرأة ماتت في نفاسها وصف غير معتبر اتفاقًا، وإنما هو حكايته أمر وقع، وأما وصف كونها امرأة: فهل هو معتبر أم لا؟ من الفقهاء من ألغاه، وقال: يقام عند وسط الجنازة مطلقًا ذكرًا كان أو أنثى
(3)
. ومنهم من خص ذلك بالمرأة؛ محاولة للستر. وقيل: كان قبل اتخاذ الأنعشة والقباب. وأما الرجل فعند رأسه؛ لئلا ينظر إلى فرجه، وهو مذهب الشافعي، وأحمد، وأبي يوسف
(4)
.
وفيه حديث في أبي داود والترمذي وابن ماجه
(5)
.
(1)
"صحيح مسلم"(964) كتاب: الجنائز، باب: أين يقوم الإمام من الميت للصلاة عليه؟
(2)
برقم (332) باب: الصلاة على النفساء وسننها.
(3)
انظر: "إحكام الأحكام" ص 383، "المغني" 2/ 517، "المجموع" 5/ 173.
(4)
انظر: "مختصر الطحاوي" ص 42، "روضة الطالبين" 2/ 122، "المغني" 3/ 452.
(5)
"سنن أبي داود"(3194) كتاب: الجنائز، باب: أين يقوم الإمام من الميت إذا صلى عليه؟، و"سنن الترمذي" (1034) كتاب: الجنائز، باب: أين يقوم الإمام =
وقال ابن مسعود: بعكس هذا. وإسناده ضعيف.
وذكر عن الحسن التوسعة في ذلك
(1)
، وبها قَالَ أشهب، وابن شعبان
(2)
، وقال أصحاب الرأي: يقوم منها حذو الصدر. قَالَ النخعي وأبو حنيفة: عند الوسط
(3)
. وعبارة ابن الحاجب: ويقام عند وسط الجنازة، وفي منكبي المرأة قولان، ويجعل رأسه على يمين المصلي
(4)
. والخنثى كالمرأة
(5)
، والإجماع قائم على أنه لا يقوم ملاصقًا للجنازة وأنه لا بد من فُرجة بينهما.
وفي الحديث: إثبات الصلاة على النفساء وإن كانت شهيدة، وعن الحسن أنه لا يصلى عليها بموت من زنا ولا ولدها. وقاله قتادة في ولدها
(6)
. وفيه أيضًا أن السنة أن يقف الإمام عند العجيزة كما سلف، وأن موقف المأموم في صلاة الجنازة وراء الإمام
(7)
.
= إذا صلى على الجنازة؟
و"سنن ابن ماجه"(1494) كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في أين يقوم الإمام إذا صلى على الجنازة؟ من حديث أنس.
(1)
رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 3/ 6 (11546) كتاب: الجنائز، باب: في المرأة أين يقام منها في الصلاة والرجل أين يقام منه؟.
(2)
انظر: "النوادر والزيادات" 1/ 589، "حاشية العدوي على الكفاية" 1/ 375.
(3)
انظر: "الأصل" 1/ 426، "شرح معاني الآثار" 1/ 490 - 491.
(4)
"مختصر ابن الحاجب" ص 68.
(5)
ورد بهامش الأصل ما نصه: كون الخنثى كالمرأة قاله النووي في "شرح المهذب" ولم يذكره في "الروضة".
(6)
رواه عبد الرزاق 3/ 534 (6613) كتاب: الجنائز، باب: الصلاة على ولد الزنا والمرجوم.
(7)
ورد بهامش الأصل: ثم بلغ سابعًا. كتبه مؤلفه غفر الله له.
64 - باب التَّكْبِيرِ عَلَى الجَنَازَةِ أَرْبَعًا
وَقَالَ حُمَيْدٌ بن هلال صَلَّى بِنَا أَنَسٌ فَكَبَّرَ ثَلَاثًا، ثُمَّ سَلَّمَ، فَقِيلَ لَهُ: فَاسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ، ثُمَّ كَبَّرَ الرَّابِعَةَ ثُمَّ سَلَّمَ.
1333 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَعَى النَّجَاشِيَّ فِي اليَوْمِ الذِي مَاتَ فِيهِ، وَخَرَجَ بِهِمْ إِلَى المُصَلَّى، فَصَفَّ بِهِمْ، وَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ. [انظر: 1245 - مسلم: 951 - فتح: 3/ 202]
1334 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ، حَدَّثَنَا سَلِيمُ بْنُ حَيَّانَ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مِينَاءَ، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى عَلَى أَصْحَمَةَ النَّجَاشِيِّ فَكَبَّرَ أَرْبَعًا.
وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ وَعَبْدُ الصَّمَدِ، عَنْ سَلِيمٍ: أَصْحَمَةَ. وَتَابَعَهُ عَبْدُ الصَّمَدِ. [انظر: 1317 - مسلم: 952 - فتح: 3/ 202]
ثم ذكر حديث أبي هريرة أنَّه عليه السلام كبَّر على النجاشيّ أربعًا.
ثم ذكر حديث جابر: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى عَلَى أَصْحَمَةَ النَّجَاشِيِّ فَكَبَّرَ أَرْبَعًا. وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ وَعَبْدُ الصَّمَدِ، عَنْ سَلِيمٍ -يعني: ابن حيَّان- أَصْحَمَةَ.
حديث أبي هريرة سلف في باب النعي
(1)
، وحديث جابر سلف قريبًا في الصفوف على الجنازة
(2)
، وتعليق حميد عن أنس أخرجه ابن أبي شيبة مختصرًا عن معاذ، عن عمران بن حدير قَالَ: صليت مع أنس ابن مالك على جنازة فكبر عليها ثلاثًا، ثم لم يزد عليها، ثم انصرف
(3)
. وقد سلف فقه الباب هناك، وأنه الذي استقر عليه آخر الأمر. أعني: التكبيرات الأربعة.
(1)
سلف برقم (1245).
(2)
سلف برقم (1320).
(3)
"المصنف" 2/ 496 (11456) كتاب: الجنائز، باب: من كبر على الجنازة ثلاثًا.
قَالَ أبو عمر: لا نعلم أحدًا من فقهاء الأمصار قَالَ: يكبر الإمام خمسًا. إلا ابن أبي ليلى
(1)
.
قلتُ: هو رواية عن أبي يوسف حكاها في "المبسوط"
(2)
، وهو
مذهب ابن حزم. وقَالَ: أفٍّ لإجماعٍ يخرج منه علي، وابن مسعود، وأنس، وابن عباس، وابن سيرين، وجابر بن زيد، وغيرهم بأسانيد في غاية الصحة، ويدعي الإجماع بخلاف هؤلاء بأسانيد واهية
(3)
.
وعند أبي حنيفة وأبي يوسف: لا يتابعه في الخامسة بل يسلم
(4)
.
وقال أحمد وأهل الحديث: يكبر معه خمسًا وسبعًا
(5)
. وعند المالكية: إذا زاد ففي التسليم والانتظار قولان، وإن سلم بعد ثلاث كبرها ما لم يطل فتعاد ما لم تدفن
(6)
. وعندنا: لو زاد على الأربع لم تبطل على الأصح، ولو خمس إمامه لم يتابعه في الأصح بل يسلم أو ينتظر ليسلم معه
(7)
. وقال عياض: جاء التكبير إلى ثمانٍ، وثبت على أربع حين مات النجاشي
(8)
.
وقال السرخسي في "مبسوطه": اختلف الصحابة من ثلاث إلى أكثر من تسع
(9)
.
(1)
"الاستذكار" 8/ 240.
(2)
"المبسوط" 2/ 63.
(3)
"المحلى" 5/ 124، 127.
(4)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 1/ 389، "الهداية" 1/ 98.
(5)
انظر: "المغني" 3/ 447 - 450، "المبدع" 2/ 256.
(6)
"انظر: "عقد الجواهر الثمينة" 1/ 191، "مواهب الجليل" 3/ 18، "الخرشي على
مختصر خليل" 2/ 119.
(7)
انظر: "روضة الطالبين" 2/ 124.
(8)
"إكمال المعلم" 3/ 416.
(9)
"المبسوط" 2/ 416.
قلتُ: وكبر على أهل بدر وبني هاشم سبعًا لشرفهم، ولم يبين في أثر أنس هل رفعت الجنازة أم لا؟ قَالَ ابن حبيب: إذا ترك بعض التكبير جهلًا أو نسيانًا أتم ما بقي من التكبير، وإن رفعت إذا كان بقرب ذلك، فإن طال ولم تدفن أعيدت الصلاة عليها، وإن دفنت تركت
(1)
. وفي "العتبية" نحوه عن مالك
(2)
.
وعندنا خلاف في البطلان
(3)
إذا رفعت في أثناء الصلاة، والأصح الصحة
(4)
، ولو صلَّى عندنا عليها قبل وضعها، ففي الصحة وجهان
(5)
في "البحر".
(1)
انظر: "التاج والإكليل" 3/ 18.
(2)
انظر: "المنتقى" 2/ 15.
(3)
ورد بهامش الأصل ما نصه: كونها تبطل وجه في "البحر".
(4)
قال النووي رحمه الله في "المجموع" 5/ 202:
قال أصحابنا: ويستحب أن لا ترفع الجنازة حتى يتم المسبوقون ما عليهم، فإن رفعت لم تبطل صلاتهم بلا خلاف، بل يتمونها.
(5)
انظر: "حاشية عميرة" 1/ 347.
65 - باب قِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الكِتَابِ عَلَى الجَنَازَةِ
وَقَالَ الحَسَنُ: يَقْرَأُ عَلَى الطِّفْلِ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ لَنَا فَرَطًا وَسَلَفًا وَذُخْرا.
1335 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سَعْدٍ، عَنْ طَلْحَةَ قَالَ: صَلَّيْتُ خَلْفَ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: صَلَّيْتُ خَلْفَ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَلَى جَنَازَةٍ فَقَرَأَ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ قَالَ: لِيَعْلَمُوا أَنَّهَا سُنَّةٌ. [فتح: 3/ 203]
وعن طلحة بن عبد الله بن عوف من طريقين: قَالَ: صَلَّيْتُ خَلْفَ ابن عَبَّاسٍ عَلَى جَنَازَةٍ فَقَرَأَ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ، قَالَ: لِيَعْلمُواَ أَنَّهَا سُنَّةٌ.
أما أثر الحسن فذكره أبو نصر عبد الوهاب بن عطاء الخفاف في "الجنائز"، فقال: سئل شعبة عن الصلاة على الصبي والسقط، وأنا عن قتادة، عن الحسن أنه كان يكبر، ثم يقرأ بفاتحة الكتاب، ثم يقول: اللهم اجعله لنا سلفًا وفرطًا وأجرًا.
والفرط والفارط: المتقدم في طلب الماء، فكأنه يقول: اجعله لنا متقدم خير بين أيدينا. وقيل: كرره لاختلاف اللفظ وهو السالف. قَالَ ابن فارس
(1)
: احتسب فلان ابنه، إذا مات كبيرًا، وافترطه إذا مات صغيرًا
(2)
.
وأما أثر ابن عباس فهو مرفوع؛ لأنه كقول الصحابي: من السنة
(1)
ورد بهامش الأصل ما نصه: تقدم ذكر ذلك عن ابن فارس.
(2)
"مجمل اللغة" 1/ 234. وقد تقدم نقله.
كذا
(1)
، وللنسائي: حق وسنة
(2)
، وللترمذي: من تمام السنة، ثم روى من طريق مقسم عنه أنه صلى الله عليه وسلم قرأ على الجنازة بفاتحة الكتاب. وقال: ليس إسناده بذاك القوي، والصحيح عن ابن عباس قوله: من السنة
(3)
.
وقال الإسماعيلي: جمع البخاري بين الإسنادين، والمتن مختلف، ففي حديث غندر أنه حق وسنة.
قَالَ غندر: نعم إنه حق وسنة. وفي حديث سفيان: من السنة، أو من تمام السنة. وللشافعي من حديث ابن عجلان عن سعيد بن أبي سعيد: سمعت ابن عباس يجهر بفاتحة الكتاب على الجنازة ويقول: إنما فعلت هذا لتعلموا أنها سنة
(4)
. وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، قَالَ: وقد أجمعوا أن قول الصحابي سنة، حديث مسند، وله شاهد مفسر، فذكره من حديث جابر، وابن عباس
(5)
.
(1)
قال النووي رحمه الله في "المجموع" 1/ 99:
إذا قال الصحابي: أمرنا بكذا، أو نهينا عن كذا، أو من السنة كذا، أو مضت السنة بكذا، أو السنة كذا، ونحو ذلك، فكله مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على مذهبنا الصحيح المشهور، ومذهب الجماهير، ولا فرق بين أن يقول ذلك في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بعده، صرح به الغزالي وآخرون، وقال الإمام أبو بكر الإسماعيلي من أصحابنا: له حكم الموقوف على الصحابي، وأما إذا قال التابعي: من السنة كذا ففيه وجهان حكاهما القاضي أبو الطيب الطبري: الصحيح منهما والمشهور: أنه موقوف على بعض الصحابة، والثاني: أنه مرفوع إلى رسول صلى الله عليه وسلم ولكنه مرفوع مرسل.
(2)
"سنن النسائي" 4/ 75 كتاب: الجنائز، باب: الدعاء.
(3)
"سنن الترمذي"(1026، 1027) كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في القراءة على الجنازة بفاتحة الكتاب.
(4)
"مسند الشافعي" 1/ 210 (580) باب: صلاة الجنائز وأحكامها.
(5)
"المستدرك" 1/ 358 كتاب: الجنائز.
وعند الشافعي أنها ركن في أول تكبيرة
(1)
، وبه قَالَ أحمد، وإسحاق، وأشهب
(2)
، وسماها بعض أصحابه: شرطًا. وهو مجاز، وخالف فيه الأئمة الثلاثة، وهو قول ابن عمر
(3)
، وعن الحسن أنه يقرأ بها في كل تكبيرة
(4)
، وعن الحسن بن علي: يقرأ ثلاث مرات
(5)
. وعن المسور بن مخرمة أنه قرأ في الأولى بأم القرآن وسورة وجهر
(6)
، دليل مالك أنه ركن من أركان الصلاة، فلم يكن من شرط صحته قراءة أم القرآن كسجود التلاوة. قَالَ الداودي: أحسب أن ابن عباس تأول قوله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن"
(7)
قَالَ: وذلك ليس من هذا في شيء، ولو كان على عمومه لكان الدعاء غير جائز إلا بعد قراءتها، ولكانت الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كذلك، قلتُ: هو مذهبنا. وقد قَالَ صلى الله عليه وسلم: "استغفروا لأخيكم"
(8)
ولم يذكر قراءة.
وفي قول ابن عباس: (لتعلموا أنها سنة) رد على الداودي، وقال أبو عبد الملك: لعل ابن عباس سمع ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة، ولم يجر عليه العمل بعد ذلك.
(1)
انظر: "البيان" 3/ 66، "روضة الطالبين" 2/ 125.
(2)
انظر: "عقد الجواهر الثمينة" 191، "المغني" 3/ 411.
(3)
رواه ابن أبي شيبة 2/ 492 (11404) باب: من قال: ليس على الجنازة قراءة.
(4)
رواه ابن أبي شيبة 2/ 492 (11395) باب: من قال: يقرأ على الجنازة بفاتحة الكتاب.
(5)
رواه ابن المنذر في "الأوسط" 5/ 439.
(6)
انظر: التخريج السابق.
(7)
سبق الحديث برقم (756) كتاب: الأذان، باب: وجوب القراءة للإمام والمأموم.
(8)
رواه أبو داود من حديث عثمان بن عفان (3221) كتاب: الجنائز، باب: الاستغفار عند القبر للميت، والبزار في "البحر الزخار" 2/ 91 (445)، والحاكم 1/ 370 كتاب: الجنائز، وقال: صحيح الإسناد،، وصححه الألباني في "صحيح الجامع الصغير"(945).
وقال ابن بطال: اختلف العلماء في قراءة الفاتحة على الجنازة، فروي عن ابن مسعود، وابن الزبير، وابن عباس، وعثمان بن حنيف، وأبي أمامة بن سهل بن حنيف، أنهم كانوا على ظاهر حديث ابن عباس، وهو قول مكحول والحسن، وبه قَالَ الشافعي، وأحمد، وإسحاق، وقالوا: ألا ترى قول ابن عباس: لتعلموا أنها سنة، والمراد: سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وذكر أبو عبيد في "فضائله" عن مكحول قَالَ: أم القرآن قراءة ومسألة
(1)
ودعاء. وممن لا يقرأ عليها وينكر ذلك عمر، وعلي، وابن عمر، وأبو هريرة. ومن التابعين: عطاء، وطاوس، وسعيد بن المسيب، وابن سيرين، وسعيد بن جبير، والشعبي، والحكم
(2)
، وبه قَالَ مالك، والثوري، وأبو حنيفة، وأصحابه. قَالَ مالك: الصلاة على الجنازة إنما هو دعاء، وليس قراءة فاتحة الكتاب معمولًا بها ببلدنا. وعبارة ابن الحاجب: ولا يستحب دعاء معين اتفاقًا. ولا قراءة الفاتحة على المشهور.
وقال الطحاوي: يحتمل أن تكون قراءة من قرأها من الصحابة على وجه الدعاء لا على وجه التلاوة، وقالوا: إنها سنة. يحتمل أن الدعاء سنة لما روي عن جماعة من الصحابة والتابعين أنهم أنكروا ذلك، ولما لم يقرأ بعد التكبيرة الثانية دل أنه لا يقرأ فيما قبلها؛ لأن كل تكبيرة قائمة مقام ركعة، ولما لم يتشهد في آخرها دل على أنه لا قراءة فيها
(3)
، ولا يلزم ذلك؛ إذ كل تكبيرة لها واجب مستقل.
(1)
"فضائل القرآن" ص 223.
(2)
روى هذِه الآثار ابن المنذر في "الأوسط" 5/ 437 - 438.
(3)
"شرح ابن بطال" 3/ 316 - 317.
فرع:
عندنا: يدعو للمؤمنين في الثانية استحبابًا، وللميت في الثالثة والرابعة، اللهم لا تحرمنا
(1)
.
فرع:
هل يستحب قراءة السورة عندنا أم لا؟ فيه وجهان: أصحهما: لا.
ونقل الإمام فيه إجماع العلماء
(2)
.
والثاني: يستحب قراءة سورة قصيرة
(3)
، وفيه حديث. قَالَ البيهقي: إنه غير محفوظ
(4)
. والأصح أنه لا يأتي بافتتاح، نعم يتعوذ
(5)
.
(1)
انظر: "مختصر المزني" 1/ 182، "البيان" 3/ 68، 70.
(2)
انظر "المجموع" 5/ 192.
(3)
انظر: "البيان" 3/ 66 - 67.
(4)
"السنن الكبرى" 4/ 38 كتاب: الجنائز، باب: القراءة في صلاة الجنازة.
(5)
انظر: "المجموع" 5/ 193.
66 - باب الصَّلَاةِ عَلَى القَبْرِ بَعْدَ مَا يُدْفَنُ
1336 -
حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ الشَّيْبَانِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَنْ مَرَّ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى قَبْرٍ مَنْبُوذٍ، فَأَمَّهُمْ وَصَلَّوْا خَلْفَهُ. قُلْتُ: مَنْ حَدَّثَكَ هَذَا يَا أَبَا عَمْرٍو؟ قَالَ: ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما. [انظر: 857 - مسلم: 954 - فتح: 3/ 204]
1337 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الفَضْلِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ أَسْوَدَ -رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً- كَانَ يَقُمُّ المَسْجِدَ فَمَاتَ، وَلَمْ يَعْلَمِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِمَوْتِهِ، فَذَكَرَهُ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ:"مَا فَعَلَ ذَلِكَ الإِنْسَانُ؟ ". قَالُوا: مَاتَ يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: "أَفَلَا آذَنْتُمُونِي؟ ". فَقَالُوا: إِنَّهُ كَانَ كَذَا وَكَذَا -قِصَّتَهُ- قَالَ: فَحَقَرُوا شَأْنَهُ. قَالَ: "فَدُلُّونِي عَلَى قَبْرِهِ". فَأَتَى قَبْرَهُ فَصَلَّى عَلَيْهِ. [انظر: 458 - مسلم: 956 - فتح: 3/ 204]
ذكر فيه حديث الشعبي السالف في باب: الصلاة على الجنازة
(1)
وغيره.
وحديث أبي هريرة في ذاك المسكين: (فَصَلَّى عَلَيْهِ). وهذا الحديث سلف بعضه في باب: الإذن بالجنازة معلقًا
(2)
، ومسندًا في باب: كنس المسجد
(3)
، وقد أسلفنا هناك فوائده.
و (يقم المسجد)، أي: يكنسه، والقمامة: الكناسة.
وقوله: (فحقروا شأنه). قَالَ الداودي: ليس كذلك. وقد بين أنهم إنما امتنعوا للظلمة، وكراهية إيقاظه.
وقد اختلف العلماء فيمن فاتته الصلاة على الجنازة هل يصلي على
(1)
برقم (1322).
(2)
برقم (1247) كتاب: الجنائز.
(3)
برقم (458) كتاب: الصلاة.
القبر؟ فروي عن طائفة من الصحابة وأتباعهم جوازه، وبه قَالَ الشافعي وأحمد
(1)
، واحتجوا بأحاديث الباب وغيرها، وقالوا: لا يصلى على قبر إلا قرب ما يدفن. وأكثر ما حدوا فيه شهرًا، إلا إسحاق فإنه قَالَ:(يصلي الغائب على القبر إلى شهر)
(2)
، والحاضر إلى ثلاثة
(3)
.
وكره قوم الصلاة على القبر، وروي عن ابن عمر أنه كان إذا انتهى إلى جنازة قد صلي عليها دعا وانصرف ولم يصل عليها
(4)
، وهو قول مالك. قَالَ ابن القاسم: قلتُ لمالك: فالحديث؟ قَالَ: قد جاء، وليس عليه العمل
(5)
.
وقال أبو الفرج: إنه خاص به؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن هذِه القبور مملوءة ظلمة على أهلها حَتَّى أصلي عليها"
(6)
وعبارة ابن الحاجب، ولا يصلى على قبر على المشهور، فإن دفن بغير صلاة فقولان، وعلى النفي. ثالثها: يخرج ما لم يطُل
(7)
.
وقال أبو حنيفة: لا يصلى على (قبر)
(8)
مرتين، إلا أن يصلي عليها
(1)
انظر: "الأم" 1/ 240، "المبدع" 2/ 259.
(2)
في الأصل: (يصلي الغائب من شهر إلى شهر) والمثبت من مصادر التخريج.
(3)
انظر: "المغني" 3/ 355، "المحلى" 5/ 140.
(4)
رواه عبد الرزاق 3/ 519 (6545) كتاب: الجنائز، باب: الصلاة على الميت بعد ما يدفن.
(5)
انظر: "المدونة" 1/ 164.
(6)
رواه مسلم (956) كتاب: الجنائز، باب: الصلاة على القبر، وأحمد 2/ 388، والطيالسي في "مسنده" 4/ 194 (2568)، وأبو يعلى في "مسنده" 11/ 314 (6429)، وابن حبان في "صحيحه" 7/ 355 - 356 (3086): كتاب الجنائز، باب: فصل في الصلاة على الجنازة.
(7)
"مختصر ابن الحاجب" ص 67 - 68.
(8)
كذا في الأصل ولعل الصواب: جنازة.
غير وليها، فيعيد وليها الصلاة عليها
(1)
. وقال الطحاوي: يسقط الفرض بالصلاة الأولى إذا صلى عليها الولي، والثانية لو فعلت لم تكن فرضًا، فلا يصلى عليه؛ لأنهم لا يختلفون أن الولي إذا صلى عليه، لم يجز له إعادة الصلاة ثانيًا؛ لسقوط الفرض. قَالَ: وكذلك غيره من الناس، إلا أن يكون الذي صلى عليها غير الولي فلا يسقط حق الولي؛ لأن الولي كان إليه فعل فرض الصلاة على الميت.
وما روي عن الشارع في إعادة الصلاة، فلأنه كان إليه فرض فعل الصلاة، فلم يكن يسقطه فعل غيره. وقد كان صلى الله عليه وسلم تقدم إليهم أن يعلموه. وقد قَالَ صلى الله عليه وسلم:"لا يموت منكم ميت ما دمت بين أظهركم إلا آذنتموني به؛ فإن صلاتي عليه رحمة"
(2)
.
وقد ذكر ابن القصار نحو هذِه الحجة سواء، واحتج أيضًا بالإجماع في ترك الصلاة على قبر النبي صلى الله عليه وسلم. ولو جاز ذلك لكان قبره أولى أن يصلى عليه أبدًا، وكذا أبو بكر وعمر، فلما لم ينقل أن أحدًا صلى عليهم كان ذلك من أقوى الدلالة على أنه لا يجوز.
(1)
انظر: "مختصر الطحاوي" ص 42.
(2)
رواه النسائي 4/ 84 - 85 كتاب: الجنائز، باب: الصلاة على القبر، وابن ماجه (1528) كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في الصلاة على القبر، وأحمد 4/ 388، وأبو يعلى 2/ 236 - 237 (937).
وابن حبان في "صحيحه" 7/ 356 - 357 (3087) كتاب: الجنائز، باب: فصل في الصلاة على الجنازة، والطبراني 22/ 240 (628)، والحاكم 3/ 591 كتاب: معرفة الصحابة، والبيهقي 4/ 48 كتاب: الجنائز، باب: الصلاة على القبر بعد ما يدفن الميت.
وصححه الألباني في "الإرواء" 3/ 185 (736)، وانظر:"مختصر اختلاف العلماء" 1/ 394.
واختلفوا فيمن دفن ونسيت الصلاة عليه، فقال أبو حنيفة ومحمد: يصلى على القبر ما بينهم وبين ثلاث
(1)
. وقال ابن وهب: إذا ذكروا ذلك عند انصرافهم من دفنه، فإنه لا ينبش، وليصلوا على قبره. وقاله يحيى بن يحيى
(2)
: وعن ابن القاسم أنه يخرج بحضرة ذلك ويصلى عليه، وإن خافوا أن يتغير
(3)
. وقاله عيسى بن دينار، وعن ابن القاسم قَالَ: وكذلك إذا نسوا غسله مع الصلاة عليه
(4)
. وعن مالك: إذا نسيت حين فرغ من دفنه، لا ينبش، ولا يصلى على قبره، ولكن يدعون له. وهو قول أشهب وسحنون، ولم يروا بالصلاة على القبر
(5)
.
(1)
هذا القول منسوب في "المبسوط" 2/ 69، "بدائع الصنائع" 1/ 315 لأبي يوسف ومحمد.
(2)
كذا بالأصل، أما قول يحيى بن يحيى فهو: لا يُنْبَشُ، قَرُبَ ذلك أو بعُدَ، وليصلوا على قبره، انظر:"النوادر والزيادات" 1/ 631.
(3)
كذا بالأصل، وتتمة الكلام: وإن خافوا أن يتغير، صلوا على قبره، انظر: "النوادر
والزيادات" 1/ 631.
(4)
انظر: "النوادر والزيادات" 1/ 630 - 631.
(5)
انظر: "المنتقى" 2/ 15، "البيان والتحصيل" 2/ 255.
67 - باب المَيِّتُ يَسْمَعُ خَفْقَ النِّعَالِ
1338 -
حَدَّثَنَا عَيَّاشٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ قَالَ: وَقَالَ لِي خَلِيفَةُ: حَدَّثَنَا ابْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"العَبْدُ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ، وَتُوُلِّيَ وَذَهَبَ أَصْحَابُهُ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ، أَتَاهُ مَلَكَانِ فَأَقْعَدَاهُ فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم؟ فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ. فَيُقَالُ: انْظُرْ إِلَي مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ، أَبْدَلَكَ اللهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنَ الجَنَّةِ -قَالَ النَّبِيُّ: صلى الله عليه وسلم فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا- وَأَمَّا الكَافِرُ -أَوِ المُنَافِقُ- فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي، كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ. فَيُقَالُ: لَا دَرَيْتَ وَلَا تَلَيْتَ. ثُمَّ يُضْرَبُ بِمِطْرَقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ ضَرْبَةً بَيْنَ أُذُنَيْهِ، فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ إِلاَّ الثَّقَلَيْنِ". [1374 - مسلم: 2870 - فتح: 3/ 205]
حدثنا عَيَّاشٌ، ثنا عَبْدُ الأَعْلَى، ثنا سَعِيدٌ: وَقَالَ لِي خَلِيفَةُ: ثنا ابن زُرَيْع، ثنا سَعيدٌ عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ:"الْعَبْدُ إِذَا وُضِعَ فِي قبْرِهِ، وَتُوُلِّيَ وَذَهَبَ أَصْحَابُهُ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ، أَتَاهُ مَلَكَانِ .. " الحديث.
وعند مسلم قَالَ قتادة، وذكر أنه يفسح له في قبره سبعون ذراعًا ويملأ عليه خضرًا إلى يوم يبعثون
(1)
.
وقوله: (وقال لي خليفة). قد سلف أنه إذا قَالَ مثل هذا، يكون أخذه عنه في المذاكرة غالبًا، لا جرم. قَالَ أبو نعيم الأصبهاني: إن البخاري رواه عن خليفة وعياش الرقام.
وللالكائي: "لولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم عذاب
(1)
"صحيح مسلم"(2870/ 70) كتاب: الجنة ونعيمها، باب: عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه وإثبات عذاب القبر والتعوذ منه.
القبر"
(1)
. وفي الباب عن أبي هريرة
(2)
والبراء
(3)
، وللترمذي:"ملكان أسودان أزرقان يقال لأحدهما: المنكر، والآخر: النكير"
(4)
وفي "الأوسط" للطبراني: "أعينهما مثل قدور (النحاس)
(5)
، وأنيابهما مثل صياصي البقر"
(6)
وللنسائي في "كناه": "منكر ونكير وأنكر" زاد ابن الجوزي بسند ضعيف: "ناكور وسيدهم رومان".
إذا تقرر ذلك فالكلام عليه من أوجه:
أحدها:
قوله: ("إذا وضع في قبره") كيفية وضعه: أن يكون مستقبل القبلة على شقه الأيمن؛ لأنه كذلك فعل برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك كان يفعله،
(1)
"شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة" 6/ 1203 (2131).
(2)
رواه الترمذي (1071) كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في عذاب القبر، وابن أبي عاصم في "السنة" ص 402 - 403 (864)، وابن حبان في "صحيحه" 7/ 386 (3117) كتاب: الجنائز، باب: فصل في أحوال الميت، والآجرى في "الشريعة" 3/ 1288 - 1289 (858)، وقال الترمذي: حديث أبي هريرة حديث حسن غريب، وحسنه الألباني في "صحيح الترمذي"(856)، وانظر "الصحيحة"(1391).
(3)
رواه أبو داود (4753 - 4754) كتاب: السنة، باب: المسألة في القبر وعذاب القبر، والنسائي 4/ 78 كتاب: الجنائز، باب: الوقوف للجنائز، وابن ماجه (1549) كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في الجلوس في المقابر.
وأحمد 4/ 287 - 288، والطبري في "تفسيره" 7/ 450 (20771)، والحاكم 1/ 37 - 38 كتاب: الإيمان.
وصححه الألباني في "المشكاة" 1/ 512 (1630).
(4)
"سنن الترمذي"(1071) كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في عذاب القبر.
(5)
في الأصل: الناس، والصواب ما أثبتناه من مصادر التخريج.
(6)
"المعجم الأوسط" 5/ 44 (4629)، وقال: لم يرو هذا الحديث عن أبي أمامة بن سهل ومحمد بن عبد الرحمن بن ثوبان إلا موسى بن جبير، تفرد به ابن لهيعة، وقال الهيثمي في "المجمع" 3/ 54: فيه كلام.
فلو وضع على اليسار كره ولم ينبش. وقضية كلام بعض أصحابنا أنه لا يجوز. وأما وضعه للقبلة فهو واجب على الأصح
(1)
.
وقوله: ("وتولى وذهب عنه أصحابه") كرر اللفظ، والمعنى واحد.
ثانيها:
("قرع نعالهم"): صوتها عند المشي. وهو دال على جواز لبس النعل لزائر القبور الماشي بين ظهرانيها.
وأما حديث: صاحب السبتيتين: "ألقِ سبتيتيك" أخرجه الحاكم عن بشير بن الخصاصية، وصحح إسناده
(2)
، وكذا ابن حزم
(3)
. وقال أحمد: إسناده جيد
(4)
. وقال عبد الله بن أحمد: سمعت بعض الأشياخ -وأظنه أبي- يقول: كان يزيد بن زريع في جنازة فأراد أن يدخل المقابر فوقف. وقال: حديث حسن، وشيخ ثقة، وخلع نعليه ودخل.
وفي "علل الخلال": قَالَ محمد بن عوف: رأيتُ أحمد أتى المقبرة
(1)
انظر: "روضة الطالبين" 2/ 134 - 135.
(2)
"المستدرك" 1/ 373.
ورواه أبو داود (3230)، والنسائي 4/ 96، وابن ماجه (1568)، والبخاري في "الأدب المفرد"(775، 829)، والبيهقي 4/ 80 من طريق الأسود بن شيبان عن خالد بن سميرعن بشير بن نهيك عن بشير، به.
(3)
انظر: "المحلى" 5/ 142 - 143.
(4)
نقله عنه صاحب "المغني" 3/ 514.
وروى ابن ماجه (1568) عن محمد بن بشار عن عبد الرحمن بن مهدي قال: كان عبد الله بن عثمان يقول: حديث جيد ورجل ثقة.
وقال النووي في "المجموع" 5/ 288، وفي "خلاصة الأحكام" 2/ 1069 - 1070 (3818)، وفي "الأذكار"(492، 814): إسناده حسن.
وقال الحافظ الذهبي في "المهذب" 3/ 1431 (6401): إسناده صالح. وصحح الألباني إسناده في "الإرواء"(760).
فنزع نعليه، فسئل عن ذلك، فحَدَّثنَا بحديث بشير.
وذكر عبد الحق عن ابن أيمن أن بشيرًا هو المقول له
(1)
، فأجاب الخطابي عنه بأن قَالَ: يشبه أن يكون إنما كره ذلك لما فيها من الخيلاء؛ لأنها من لباس أهل الشرف والتنعم، فأحب أن يكون دخوله المقبرة على زي التواضع والخشوع
(2)
. واعترضه ابن الجوزي فقال: هذا تكلف منه؛ لأن ابن عمر كان يلبس النعال السبتية، ويتوخى السنة في نعاله، إما لأن نعاله صلى الله عليه وسلم كانت سبتية، أو لأن السبتية تشبهها، وما كان ابن عمر يقصد التنعم بل يقصد السنة.
وليس في هذا الحديث سوى الحكاية عمن يدخل المقابر، وذلك لا يقتضي إباحة ولا تحريمًا، ويدل على أنه أمره بخلعهما احترامًا للقبور؛ لأنه نهى عن الاستناد إليه والجلوس عليه، وأحسن من ذلك كله أنه ورد في بعض الأحاديث أن صاحب القبر كان يسأل فلما سمع صرير السبتيتين أصغى إليه، فكاد يهلك؛ لعدم جواب الملكين، فقال له صلى الله عليه وسلم:"ألقهما؛ لئلا تؤذي صاحب القبر" ذكره أبو عبد الله الحكيم الترمذي. وأبعد ابن حزم فقال: يحرم المشي بهما بين القبور
(3)
، ولا يكره عندنا المشي بالنعلين فيها
(4)
. وقال الماوردي: يخلعهما، على طِبق الحديث
(5)
. وكرهه أحمد كما سلف
(6)
، وسواء فيه النعل والخف، وأكثر أهل العلم لا يرون بذلك بأسًا.
(1)
"الأحكام الوسطى" 2/ 148 - 149 حيث قال: خرج محمد بن عبد الملك بن أيمن عن بشير
…
الحديث.
(2)
"معالم السنن" 1/ 276.
(3)
"المحلى" 5/ 137.
(4)
انظر: "البيان" 3/ 125.
(5)
"الحاوي" 3/ 69.
(6)
انظر: "المغني" 3/ 514.
ثالثها:
قوله: ("أتاه ملكان") هما منكر ونكير كما سلف.
وقوله: "فيراهما جميعًا" يعني: الجنة والنار، وقوله:("وأما الكافر، أو المنافق") الذي يدل عليه الحديث أنه المنافق؛ لأنه يقر بلسانه ولا يصدق بقلبه، فيقول:"لا أدري كنت أقول ما يقول الناس". والكافر لم يكن يقول ذلك.
رابعها:
قوله: ("فيقال له: لا دريت") قَالَ الداودي: أي: لا وقفت على مقامك هذا، ولا في البعث:("ولا تليت"): قَالَ: أي: لا تَبِعتَ الحق.
وقال غيره: وقع هنا: "تليت" على وزن فعلت، والصواب: لا أتليت. على وزن (أفعلت)
(1)
. من قولك: ما ألوت. أي: ما استطعت، يريد: لا دريت ولا استطعتَ أن تدري
(2)
. قاله الأصمعي.
وقال الفراء: لا دريتَ ولا ائتليتَ. أي: ولا قصرت في طلب الدراية ثم لا تدري؛ ليكون ذلك أشقى لك. قَالَ: وهو افتعلت، من ألوت في الشيء إذا قصرت فيه.
قَالَ القزاز: وقيل: الرواية: لا دريت ولا أتليت. من الإتلاء، أي: لا أتلت إبلك. أي: ولا ولدت أولادًا تتلوها. قال ابن سراج: وهذا بعيد في دعاء الملكين للميت، وأي مال له؟! وقيل: لا دريت ولا أحسنت أن تتبع من يدري. وحكي: ولا تليت. بمعنى: تلوت على الاتباع لدريت، وهذا قاله القزاز في مَثَل تقوله العرب في الدعاء على الإنسان. وقول
(1)
في الأصل: افتعلت.
(2)
"النهاية في غريب الحديث" 1/ 195 - 196، و"لسان العرب" 1/ 445.
الداودي غير بيِّن فلا وجه له إلا أنْ يريد: ولا وقفتَ بحجةٍ في مقامك هذا، ولا في البعث. قَالَ أبو عبد الملك: ويقرأ: ولا تليت بإسكان التاء وفتحها، ومعناه بفتحها: ولا اتبعت. مأخوذة من تلاوة القرآن التي يتبع بعضها بعضًا.
وقال صاحب "المطالع": قيل: معناه: لا تلوت، يعني: القرآن.
أي: لم تدر ولم تتل. أي: لم تنتفع بدرايتك وتلاوتك كما قَالَ: {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31)} [القيامة: - 31] قاله أبو الحسين، وَرَدَّ قوله ابن الأنباري وغيره، وجاء في "مسند أحمد" من حديث البراء بن عازب:"لا دريت ولا تلوت"
(1)
أي: لم تتل القرآن فلم تنتفع بدرايتك ولا تلاوتك. وهذا التفسير صريح مغن عن كل ما قيل فيه.
فائدة:
قيل في قوله تعالى: {فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} [الروم: 44] قيل: في القبر إذا انصرف الملكان، إن كان سعيدًا كان روحه في الجنة، وإن كان شقيًّا ففي سجين على صخرة على شفير جهنم في الأرض السابعة.
وعن ابن عباس: يكون قوم في البرزخ ليسوا في جنة ولا نار. ويدل عليه قصة أصحاب الأعراف، والله أعلم ما يقال لمن يدخل من أصحاب الكبائر، إن كان يقال له: نم صالحًا، أو يسكت عنه.
وقيل: إن أرواح السعداء تطلع على قبورها، وأكثر ما يكون منها ليلة الجمعة ويومها وليلة السبت إلى طلوع الشمس، فإنهم يعرفون أعمال الأحياء، يسألون: من مات من السعداء ما فعل فلان؟ فإن ذكر خيرًا قَالَ: اللهم ثبته. وإن كان غيره قَالَ: اللهم راجع به. وإن
(1)
"مسند أحمد" 4/ 295.
قيل لهم: مات. قيل: ألم ياتكم؟ قالوا: إن لله وإنا إليه راجعون، سلك به طريقًا غير طريقنا، هوى به إلى أمه الهاوية. وقيل إنهم: إذا كانوا على قبورهم يسمعون من يسلم عليهم، فلو أذن لهم لردوا السلام
(1)
.
خامسها:
الثقلان: الجن والإنس، قَالَ ابن الأنباري: إنما قيل لهما: الثقلان؛ لأنهما كالثقل للأرض وعليها، والثقل بمعنى: الثقيل، وجمعها: أثقال، ومجراهما مجرى قول العرب: مثْلُ ومَثَل وشبْه وشَبَه، وكانت العرب تقول للرجل الشجاع: ثقل على الأرض، فإذا مات أو قتل سقط ذلك عنها. قالت الخنساء ترثي أخاها:
(1)
أما قوله أنها تطلع على قبورها وأكثر ما يكون منها ليلة الجمعة ويومها وليلة السبت إلى طلوع الشمس، فهذا تحديد لا دليل عليه.
وأما قوله إنهم يعرفون أعمال الأحياء فقد روي ما يدل عليه موقوفًا عن أبي الدرداء كما في "زوائد الزهد" لنعيم بن حماد (165) أنه قال: إن أعمالكم تعرض على موتاكم فيسرون ويساءون.
قال الألباني في "الصحيحة" 6/ 607 هذا إسناد رجاله ثقات. اهـ.
وأما قوله إنهم يسألونهم ما فعل فلان فقد روي ما يدل عليه من حديث أبي هريرة مرفوعًا كما عند النسائي في "الكبرى" 1/ 603 (1959)، وابن حبان 7/ 284 - 285 (3014)، والحاكم 1/ 353 وفيه:
فيأتون بأرواح المؤمنين فلهم أشد فرحًا به من أحدكم بغائبه يقدم عليه فيسألون: ما فعل فلان، ما فعل فلان؟ فيقولون: دعوه فإنه كان في غم الدنيا، فيقول: قد مات، أما أتاكم؟ فيقولون: ذهب به إلى أمه الهاوية.
قال الحاكم: صحيح. وصححه الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب" 3/ 401 - 4025 (3559).
وأخرجه ابن المبارك موقوفًا على أبي أيوب في "الزهد"(443)، وقال الألباني في "الصحيحة" 6/ 604 (2758): إسناده صحيح. اهـ.
أبعد ابن عمرو من آل الشريد
…
حلت به الأرض أثقالها
سادسها:
قوله: ("ثم يضرب بمطرقة من حديد ضربة") وفي رواية: "بمطارق من حديد"
(1)
وفي أخرى: "ضربة من حديد" أي: من رجل حديد، فحذف الموصوف وأقام الصفة مقامه، قَالَ أبو الحسن: معناه: من خنق شديد الغضب.
سابعها:
سماع قرع نعله وكلامه مع الملكين يبين أن قوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي القُبُورِ} [فاطر: 22] أنه على غير العموم، وقال المهلب: لا معارضة بينهما؛ لأن كل ما نسب إلى الموتى من إسماعِ النداء والنوح فهي في هذا الوقت عند الفتنة، أول ما يوضع الميت في قبره أو متى شاء الله إلى أن ترد أرواح الموتى ردها إليهم لما يشاء {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)} [الأنبياء: 23] ثم قَالَ بعد ذلك: لا يسمعون كما قَالَ تعالى: {إِنّكَ لَا تُسْمِعُ المَوْتَى} [النمل: 8]{وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي القُبُورِ} [فاطر: 22].
ثامنها:
فيه: أن فتنة القبر حق، وهو مذهب أهل السنة كما ستعلمه -إن شاء الله- في بابه.
تاسعها:
المراد من يليه من الملائكة: الذين يلون فتنته ومسألته وما يليه في قبره، وإنما منعت الجن سماع هذِه الصيحة، ولم تمتع سماع كلام
(1)
سيأتي برقم (1374) باب،: ما جاء في عذاب القبر.
الميت إذا حمل وقال: قدموني، قدموني. كما سلف؛ لأن كلام الميت حين يحمل إلى قبره فيه حكم الدنيا، وليس فيه شيء من الجزاء والعقوبة؛ لأن الجزاء لا يكون إلا في الآخرة، وإنما كلامه اعتبار لمن سمعه وموعظة فأسمعها الله الجن؛ لأنه جعل فيهم قوة يثبتون بها عند سماعه، ولا يصعقون، بخلاف الإنسان الذي كان يصعق لو سمعه.
وصيحة الميت في القبر عند فتنته هي عقوبة وجزاء فدخلت في حكم الآخرة؛ فمنع الله الثقلين الذين هما في دار الدنيا سماع عقوبته وجوابه في الآخرة، كما سمَّعه وأسمعه سائر خلقه.
68 - باب مَنْ أَحَبَّ الدَّفْنَ فِي الأَرْضِ المُقَدَّسَةِ أَوْ نَحْوِهَا
1339 -
حَدَّثَنَا مَحْمُودٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ:"أُرْسِلَ مَلَكُ المَوْتِ إِلَي مُوسَى عليهما السلام فَلَمَّا جَاءَهُ صَكَّهُ، فَرَجَعَ إِلَي رَبِّهِ فَقَالَ: أَرْسَلْتَنِي إِلَي عَبْدٍ لَا يُرِيدُ المَوْتَ. فَرَدَّ اللهُ عَلَيْهِ عَيْنَهُ وَقَالَ: ارْجِعْ فَقُلْ لَهُ: يَضَعُ يَدَهُ عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ، فَلَهُ بِكُلِّ مَا غَطَّتْ بِهِ يَدُهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ سَنَةٌ. قَالَ: أَيْ رَبِّ، ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: ثُمَّ المَوْتُ. قَالَ: فَالآنَ. فَسَأَلَ اللهَ أَنْ يُدْنِيَهُ مِنَ الأَرْضِ المُقَدَّسَةِ رَمْيَةً بِحَجَرٍ". قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "فَلَوْ كُنْتُ ثَمَّ لأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ إِلَي جَانِبِ الطَّرِيقِ عِنْدَ الكَثِيبِ الأَحْمَرِ". [3407 - مسلم: 2372 - فتح: 3/ 206]
ذكر فيه حديث عَبْدِ الرَّزَّاقِ، ثنا مَعْمَرٌ، عَنِ ابن طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:"أُرْسِلَ مَلَكُ المَوْتِ إِلَي مُوسَى عليهما السلام فَلَمَّا جَاءَهُ صَكَّهُ، فَرَجَعَ إِلَي رَبِّهِ فَقَالَ: أَرْسَلْتَني إِلَي عَبْدٍ لَا يُرِيدُ المَوْتَ. فَرَدَّ اللهُ عَلَيْهِ عَيْنَهُ .. الحديث .. فَسَأَل اللهَ أَنْ يُدْنِيَهُ مِنَ الأَرْضِ المُقَدَّسَةِ رَمْيَةً بِحَجَرٍ إليه فَلَوْ كنْتُ ثَمَّ لأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ في جَانِبِ الطَّرِيقِ عِنْدَ الكَثِيبِ الأَحْمَرِ".
هذا الحديث ذكره أيضًا في أحاديث الأنبياء، وقال في آخره: وأخبرنا معمر، عن همام ثنا أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه
(1)
. أي: مثل ما ذكره سواء، وفيه زيادة الرفع الذي عابه به الإسماعيلي بقوله: أول هذا الحديث موقوف، وهو ما خرجه مسلم عن محمد بن رافع، ثنا عبد الرزاق، أنا معمر، عن همام قَالَ: هذا ما حَدَّثنا أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جاء ملك الموت" الحديث، وفي بعض نسخه قَالَ أبو إسحاق -يعني: إبراهيم بن سفيان-: حَدَّثَنَا محمد بن يحيى
(1)
برقم (3407) باب: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} .
ثنا عبد الرزاق أنا معمر، بمثله
(1)
، ووقع في الحميدي أن مسلمًا رواه من جهة همام منفردًا به عن البخاري
(2)
. وصوابه: العكس.
إذا تقرر ذلك فقد أنكر بعض أهل البدع والجهمية هذا الحديث كما قَالَ ابن خزيمة، وقالوا: لا يخلو أن يكون موسى عرف ملك الموت أو لم يعرفه، فإن كان عرفه فقد استخف به، وإن كان لم يعرفه فرواية من روى أنه كان يأتي موسى عيانًا لا معنى لها، ثم إن الله تعالى لم يقتص لملك الموت من اللطمة وفقء العين والله تعالى لا يظلم أحدًا، وهذا اعتراضُ مَنْ أعمى الله بصيرته.
ومعنى الحديث صحيح، وذلك أن موسى لم يبعث الله إليه الملك وهو يريد قبض روحه حينئذ، وإنما بعثه اختبارًا وابتلاءً، كما أمر الله خليله بذبح ولده ولم يُرد إمضاء ذلك، ولو أراد أن تقبض روح موسى حين لطم الملك لكان ما أراد، وكانت اللطمة مباحة عند موسى إذ رأى آدميًا دخل عليه ولا يعلم أنه ملك الموت، وقد أباح الشارع فقء عين الناظر في دار المسلم من غير إذن
(3)
ومحال أن يعلم موسى أنه مَلَك الموت ويفقأ عينه، وقد جاءت الملائكة إلى إبراهيم فلم يعرفهم ابتداء، ولو علمهم لكان من المحال أن يقدم إليهم عجلًا؛ لأنهم لا يطعمون، وقد جاء الملك إلى مريم فلم تعرفه ولو عرفته لما
(1)
مسلم (2372/ 158) كتاب: الفضائل، باب: من فضائل موسى عليه السلام.
(2)
"الجمع بين الصحيحين" 3/ 139.
(3)
سيأتي خبر يدل على ذلك برقم (5924) كتاب: اللباس، باب: الامتشاط. عن سهل بن سعد أن رجلًا اطلع من جحر في دار النبي صلى الله عليه وسلم والنبي صلى الله عليه وسلم يحك رأسه بالمدرى، فقال:"لو علمت أنك تنظر لطعنت بها عينك، إنما جعل الاذن من قبل الأبصار".
استعاذت منه، وقد دخل الملكان على داود في شبه آدميين يختصمان عنده فلم يعرفهما، وقد جاء جبريل إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأله عن الإيمان ولم يعرفه، وقال:"ما أتاني في صورةٍ قط إلا عرفتُه فيها غير هذه المرة"
(1)
فكيف يستنكر أن لا يعرف موسى الملك حين دخل عليه.
واعترض على هذا بما في الحديث: "يا رب أَرْسَلْتَنِي إِلَي عَبْدٍ لَا يُرِيدُ المَوْتَ"، فلو لم يعرفه موسى لما صح هذا من الملك.
وأما قول الجهمي: إن الرب تعالى لم يقتص للمَلَك؛ فهو دليل على جهله، ومن أخبره أن بين الملائكة والآدميين قصاصًا؟! ومن أخبره أن ملك الموت طلب القصاص من موسى فلم يقتص له؟! وقد أخبر الله تعالى أن موسى قتل نفسًا ولم يقتص منه، وما الدليل على أن ذلك كان عمدًا، وقد أخبر نبينا صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى لم يقبض نبيًّا حَتَّى يريه مقعده من الجنة ويخيره
(2)
فلم ير أن يقبض روحه قبل أن يريه مقعده من الجنة ويخيره، ويدل على صحة هذا أنه لما رجع إليه ثانيًا استسلم.
وقول من قَالَ: فقأ عينه بالحجة ليس بشيء لما في الحديث: "فردَّ الله عينَهُ"، فإن قيل: رد حجته فغير جيد أيضًا، وقال ابن قتيبة في "مختلفه": أذهب موسى العين التي هي تخييل وتمثيل وليست على
(1)
هذا جزء من حديث رواه أحمد 1/ 52 - 53، والنسائي في "الكبرى" 3/ 446 - 447 (5883) كتاب: العلم، باب: توقير العلماء.، والطبراني 12/ 430 - 431 من حديث ابن عمر رضي الله عنه وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 1/ 41: رواه الطبراني في "الكبير" ورجاله.
(2)
سيأتي برقم (4437) كتاب: المغازي، باب: مرض النبي صلى الله عليه وسلم ورواه مسلم برقم (2444) كتاب: "فضائل الصحابة" باب: في فضل عائشة.
حقيقته، وعاد ملك الموت إلى حقيقة خلقه الروحاني كما كان ولم ينقص منه شيء
(1)
، وذكر ابن عقيل أنه يجوز أن يكون موسى أُذن له في ذلك الفعل بالملك، وابتلي الملك بالصبر عليه كما جرى له مع الخضر.
وفي قوله: "يَضَعُ يَدَهُ عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ، فَلَهُ بِكُلِّ مَا غَطَّتْ يَدُهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ سَنَةٌ" دلالة أن الدنيا بقي منها كثير، وإن كان قد ذهب أكثرها؛ لأنه لم يكن ليعده ما لا تبقى الدنيا إليه، وقيل: فيه الزيادة في العمر مثل الحديث الآخر "مَنْ سرَّه أنْ يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه"
(2)
وهو يؤيد قول من قَالَ في قوله تعالى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ} [فاطر:11] الآية أنه زيادة ونقص في الحقيقة.
وقوله: "ثم ماذا؟ " وفي رواية: "ثم مَه؟ " وهي ما الاستفهامية، لما وقف عليها زاد هاء السكت.
وقوله: "قَالَ: فالآن" هو ظرف زمان غير متمكن، وهو اسم لزمان الحال، وهو الزمان الفاصل بين الماضي والمستقبل، وهو يدل على أن موسى لما خيره الله تعالى اختار الموت؛ شوقًا إلى لقاء ربه تعالى، كما خير نبينا صلى الله عليه وسلم فقال:"الرفيق الأعلى"
(3)
.
وقوله: "أَنْ يُدْنِيَهُ مِنَ الأَرْضِ المُقَدَّسَةِ" هي بيت المقدس، وكان
(1)
"تأويل مختلف الحديث" ص 402.
(2)
سيأتي برقم (2067) كتاب: البيوع، باب: قول الله تعالى: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} من حديث أنس رضي الله عنه، ورواه مسلم برقم (2557) كتاب: البر والصلة، باب: صلة الرحم.
(3)
سيأتي برقم (4436) كتاب: المغازي، باب: مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته، ورواه مسلم برقم (2444) كتاب: فضائل الصحابة، باب: في فضل عائشة رضي الله عنها عن عائشة قالت: لما مرض النبي صلى الله عليه وسلم المرض الذي مات فيه، جعل يقول:"في الرفيق الأعلى".
موته بالتيه، وسؤاله الدنو منه ولم يسأل نفس البيت؛ لأنه خاف أن يكون قبره مشهورًا فيفتتن به الناس، كما أخبر الشارع أن اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد
(1)
، وسؤاله الدنو منها؛ لفضل من دفن في الأرض المقدسة من الأنبياء والصالحين، فاستحب مجاورتهم في الممات كما في الحياة؛ ولأن الفضلاء يقصدون المواضع الفاضلة ويزورون قبورها ويدعون لأهلها، وقال المهلب: إنما سأل الدنو منها؛ ليسهل على نفسه؛ ويسقط عنها المشقة التي تكون على من هو بعيد منها وصعوبته عند البعث والحشر، ومعنى بعده منها برمية حجر؛ ليُعْمَى قبره كما سلف.
وقوله: "لو كنت ثَمَّ" هو اسم إشارة، وهو مفتوح الثاء، ولما عُرج بنبينا صلى الله عليه وسلم رأى موسى قائمًا يصلي في قبره
(2)
.
وذكر ابن حبان في "صحيحه" أن قبر موسى بمدين بين المدينة وبين بيت المقدس
(3)
، واعترض أيضًا محمد بن عبد الواحد في كتابه:"علل أحاديث في هذا الصحيح" فقال: قوله: بمدين فيه نظر؛ لأن مدين ليست قريبة من القدس ولا من الأرض المقدسة
(4)
.
(1)
سبق ما يدل على ذلك برقم (1330) كتاب: الجنائز، باب: ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور، ورواه مسلم برقم (529) كتاب: المساجد، باب: النهي عن بناء المساجد على القبور، كلاهما عن عائشة رضي الله عنها.
(2)
رواه مسلم (2375) كتاب: الفضائل، باب: من فضائل موسى عليه السلام.
(3)
"صحيح ابن حبان" 1/ 242 - 243 (50).
(4)
مَدْيَن: هي مدينة شعيب عليه السلام، بين وادي القرى والشام، قاله الحازمي. وقيل: مدين تجاه تبوك بين المدينة والشام على ست مراحل وبها استقى موسى عليه السلام.
وقال البكري: مدين: بلد بالشام معلوم تلقاء غزة، انظر:"معجم ما استعجم" 4/ 1201، "معجم البلدان" 5/ 77.
وقد اشتهر أن قبرًا بأريحا -وهي من الأرض المقدسة- يزار ويقال: إنه قبر موسى، وعنده كثيب أحمر -كما في الحديث- وطريق، وقد زرناه وختمنا به ختمة، وقرأنا به جزءًا في فضائله عليه أفضل الصلاة والسلام.
وقال ابن التين: قولى: "أَنْ يُدْنِيَهُ
(1)
مِنَ الأَرْضِ المُقَدَّسَةِ " يعنى: الشام، وتفسير: "المقدسة": المطهرة. قَالَ: وقوله: "عَلَى رميةِ حجرٍ" يحتمل أن يكون على قربها دونها قدر رمية حجر، أو محل من طرفها قدر ذلك، قيل: والأول أشبه أنه سأل أن يقرب إليها ولو رمية بحجر على وجه الرغبة في القرب منها. قَالَ: وإنما سأله ذلك؛ لأنه لم يدفن نبي إلا حيث قبض، وكل هذا سبق في علم الله كونه، والكَثِيْب: الكدية من الرمل.
(1)
ورد في الأصل أعلى هذِه الكلمة: قاله المصنف.
69 - باب الدَّفْنِ بِاللَّيْلِ
وَدُفِنَ أَبُو بَكْرٍ لَيْلًا.
1340 -
حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الشَّيْبَانِيِّ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى رَجُلٍ بَعْدَ مَا دُفِنَ بِلَيْلَةٍ، قَامَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، وَكَانَ سَأَلَ عَنْهُ فَقَالَ:"مَنْ هَذَا؟ ". فَقَالُوا: فُلَانٌ، دُفِنَ البَارِحَةَ. فَصَلَّوْا عَلَيْهِ. [انظر: 857 - مسلم: 954 - فتح: 3/ 207]
وعَنِ ابن عَبَّاسٍ قَالَ: صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى رَجُلٍ بَعْدَ مَا دُفِنَ بِلَيْلَةٍ، قَامَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، وَكَانَ سَأَلَ عَنْهُ فَقَالَ:"مَنْ هذا؟ ". قَالُوا: فُلَانٌ، دُفِنَ البَارِحَةَ. فَصَلَّوْا عَلَيْهِ.
الشرح:
أما دفن الصديق ليلًا فأخرجه ابن أبي شيبة عن القاسم بن محمد
(1)
، ثم روى عن ابن السباق أن عمر دفن أبا بكر ليلًا ثم دخل المسجد فأوتر
(2)
، ثم رواه كذلك عن عقبة وعائشة
(3)
. وحديث ابن عباس سلف في الإذن بالجنازة
(4)
.
أما حكم الباب: فالدفن جائز ليلًا ونهارًا من غير كراهة، وهو مذهب العلماء كافة إلا الحسن البصري فإنه كرهه
(5)
، وكذا قتادة كما رواه عنه ابن أبي شيبة
(6)
، وسعيد بن المسيب كما ذكره ابن حزم
(7)
(1)
"المصنف" 3/ 33 (11828) كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في الدفن بالليل.
(2)
"المصنف" 3/ 33 (11830).
(3)
"المصنف" 3/ 33 (11827) عن عقبة، وبرقم (11833) عن عائشة رضي الله عنها.
(4)
برقم (1247) كتاب: الجنائز.
(5)
رواه ابن أبي شيبة 3/ 34 (11837).
(6)
"المصنف" 3/ 33 (11829).
(7)
"المحلى" 5/ 115.
وكذا الدارمي من أصحابنا، لنا أن الخلفاء -ما عدا عليًّا- وعائشة وفاطمة دفنوا ليلًا
(1)
.
وقد فعله عليه أفضل الصلاة والسلام أيضًا كما رواه أبو داود وصححه الحاكم من حديث جابر ولم ينكر على من دفن ليلًا
(2)
. كما سلف، نعم الدفن نهارًا أفضل؛ لأنه أيسر للاجتماع وخروجًا من
(1)
رواه ابن أبي شيبة 3/ 33 (11825 - 11826)، (11833)، (11838).
(2)
"سنن أبي داود"(3164) كتاب: الجنائز، باب: في الدفن بالليل. و"المستدرك" 1/ 368، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. وقال الذهبي: على شرط مسلم، وله شاهد بإسناد معضل
وقال النووي في "المجموع" 5/ 302: رواه أبو داود بإسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم.
وقال الألباني بعد أن حكى أقوال الحاكم والذهبي والنووي: وكل ذلك خطأ فإن مدار إسناده على محمد بن مسلم الطائفي وهو وإن كان ثقة في نفسه فقد كان ضعيفًا في حفظه ولذلك لم يحتج الشيخان به، وإنما روى له البخاري تعليقًا، ومسلم استشهادًا، ومن العجائب أن الحاكم والذهبي على علم ببعض هذا، فقد ذكر المزِّي أن الطائفي هذا ليس له في مسلم إلا حديث واحد، قال الحافظ ابن حجر: وهو متابعة عنده كما نص عليه الحاكم. أهـ. وكذلك صرح الذهبي في ترجمته من "الميزان" أن مسلمًا روى له متابعة، وله شاهد آخر من حديث أبي ذر نحوه أخرجه الحاكم بسند فيه رجل لم يُسم وبقية رجاله ثقات. أهـ. "أحكام الجنائز" ص 180 - 181.
قلت: محمد بن مسلم الطائفي؛ قال أحمد: ما أضعف حديثه. وقال عباس الدوري عن ابن معين: ثقة لا بأس به، وابن عيينة أثبت منه، وكان إذا حدث من حفظه يخطئ وإذا حدث من كتابه فليس به بأس وابن عينية أوثق منه في عمرو بن دينار، وقال البخاري عن ابن مهدي: كتبه صحاح، وقال أبو داود: ليس به بأس وذكره ابن حبان في الثقات وقال: يخطئ وقال الساجي: صدوق ويهم. وقال ابن حجر: صدوق يهم في الحديث. انظر: "الثقات" 7/ 399، و"تهذيب التهذيب" 3/ 696، و"التقريب" ص 506 (6293).
خلاف من كرهه.
وأما حديث جابر في مسلم: زجر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقبر الرجل بالليل إلا أن يضطر إلى ذلك
(1)
.
وللطحاوي من حديث ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن الدفن ليلًا. فقال الطحاوي: يجوز أن يكون النهي عن ذلك ليس من طريق كراهية الدفن بالليل؛ لأنه أراد صلى الله عليه وسلم أن يصلي على جميع الموتى بالمدينة لما لهم في ذلك من الخير والفضل.
وقيل: إنما نهى عن ذلك لمعنى آخر رواه أشعث عن الحسن أن قومًا كانوا يسيئون أكفان موتاهم، فنهى عن دفن الليل لذلك
(2)
، وروي عن جابر
(3)
بن عبد الله نحو ذلك، وقد فعل ذلك برسول الله صلى الله عليه وسلم. ولابن شاهين من حديث عبد الصمد بن علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه، عن جده مرفوعًا:"بادِرُوا بموتاكُم ملائكة النهار؛ فإنهم أرأفُ من ملائكة الليل"
(4)
.
وقال ابن المنذر: أجاز أكثر العلماء الدفن ليلًا، وهو قول أبي حنيفة وأحمد وإسحاق، ودفن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلًا وكذا عثمان وعائشة وفاطمة وابن مسعود وإبراهيم النخعي
(5)
. قَالَ ابن شاهين: وهذا يدل على نسخ الأول
(6)
.
(1)
"صحيح مسلم"(943) كتاب: الجنائز، باب: في تحسين كفن الميت.
(2)
انظر: "شرح معاني الآثار" 1/ 513.
(3)
ورد بهامش الأصل ما نصه: من خط الشيخ: فيه ابن عقيل.
(4)
"الناسخ والمنسوخ" 1/ 281 (319)، قال الألباني في "ضعيف الجامع الصغير" (2017): ضعيف.
(5)
"الأوسط" 5/ 459 - 461.
(6)
"ناسخ الحديث ومنسوخه" 1/ 282.
ودفن الرجل الذي كان يرفع صوته بالذكر ليلًا كما أخرجه أبو داود
(1)
بإسناد جيد، ورخص في ذلك عقبة بن عامر وعطاء، وهو قول الزهري والثوري وابن أبي حازم ومطرف بن عبد الله، ذكره ابن حبيب
(2)
.
ولابن شاهين: سُئل أنس عن الدفن بالليل فقال: ما الدفن بالليل إلا كالدفن بالنهار، ودفن شريح ابنه ليلًا
(3)
.
وعن ابن عمر مرفوعًا: "مَنْ ماتَ عشيةً فلا يبيتن إلا في قَبْرِه"
(4)
.
(1)
"سنن أبي داود"(3164) كتاب: الجنائز، باب: في الدفن بالليل.
(2)
انظر: "النوادر والزيادت" 1/ 651 - 652.
(3)
"ناسخ الحديث ومنسوخه" 1/ 283.
(4)
رواه ابن شاهين في "ناسخه ومنسوخه" 1/ 284 (325)، والطبراني 12/ 421 (3551) وابن عدي في "الكامل" 2/ 492 ترجمة (395).
قلت: مدار الحديث على الحكم بن ظهير وهو كما قال النسائي: كوفي، متروك الحديث، وقال ابن معين: كذاب. وقال السعدي: ساقط، وقال البخاري: الحكم بن ظهير عن السدي وعاصم منكر الحديث. انظر: "التاريخ الكبير" 2/ 345 (2694) و"الكامل" 2/ 492 (395). والحديث كذلك ضعفه الألباني في "الضعيفة"(4659).
70 - باب بِنَاءِ المَسْجِدِ عَلَى القَبْرِ
1341 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: لَمَّا اشْتَكَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَتْ بَعْضُ نِسَائِهِ كَنِيسَةً رَأَيْنَهَا بِأَرْضِ الحَبَشَةِ، يُقَالُ لَهَا مَارِيَةُ، وَكَانَتْ أُمُّ سَلَمَةَ وَأُمُّ حَبِيبَةَ رضي الله عنهما أَتَتَا أَرْضَ الحَبَشَةِ، فَذَكَرَتَا مِنْ حُسْنِهَا وَتَصَاوِيرَ فِيهَا، فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ:"أُولَئِكَ إِذَا مَاتَ مِنْهُمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، ثُمَّ صَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّورَةَ، أُولَئِكَ شِرَارُ الخَلْقِ عِنْدَ اللهِ". [انظر: 427 - مسلم: 528 - فمّح: 3/ 208]
ذكر فيه حديث عائشة: لَمَّا اشْتَكَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ نِسَائِهِ كَنيسَةً بِأَرْضِ الحَبَشَةِ إلى أن قال: " .. بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا
…
" الحديث.
وقد سلف بعد باب الصلاة في البيعة
(1)
، وإنما ذمهم صلى الله عليه وسلم وجعلهم شرار الخلق؛ لأنهم كانوا يعبدون تلك القبور، وقد سلف أنه خشي أن يتخذ قبره مسجدًا
(2)
؛ ولهذا لم يبرز، سدًّا للذريعة في ذلك؛ لئلا يعبد قبره، وسيأتي إن شاء الله في اللباس
(3)
وغيره.
(1)
برقم (434) كتاب: الصلاة.
(2)
برقم (1330) كتاب: الجنائز، باب: ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور.
(3)
سيأتي برقم (5815، 5816) باب: الأكسية والخمائص.
71 - باب مَنْ يَدْخُلُ قَبْرَ المَرْأَةِ
1342 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ، حَدَّثَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا هِلَالُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ: شَهِدْنَا بِنْتَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ عَلَى القَبْرِ، فَرَأَيْتُ عَيْنَيْهِ تَدْمَعَانِ، فَقَالَ:"هَلْ فِيكُمْ مِنْ أَحَدٍ لَمْ يُقَارِفِ اللَّيْلَةَ؟ ". فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أَنَا. قَالَ: "فَانْزِلْ فِي قَبْرِهَا". فَنَزَلَ فِي قَبْرِهَا فَقَبَرَهَا.
قَالَ ابْنُ مُبَارَكٍ: قَالَ فُلَيْحٌ: أُرَاهُ يَعْنِي: الذَّنْبَ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: {وَلِيَقْتَرِفُوا} [الأنعام: 113] أَيْ: لِيَكْتَسِبُوا. [انظر: 1258 - فتح: 3/ 208]
ذكَرَ فيه حديث أنس: "هَلْ فِيكُمْ مِنْ أَحَدٍ لَمْ يُقَارِفِ اللَّيْلَةَ؟ " .. الحديث.
وقد سلف في أثناء تعذيب الميت ببكاء بعض أهله عليه، وذهب العلماء إلى أن زوج المرأة أولى بإلحادها من الأب والأم. ولا خلاف بينهم أنه يجوز للفاضل غير الولي أن يلحد المرأة إذا عدم الولي، ولما كان صلى الله عليه وسلم أولى بالمؤمنين من أنفسهم ولم يجز لأحد التقدم بين يديه في شيء لقوله تعالى:{لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات:1] ولم يكن لعثمان أن يتقدم بين يديه في إلحاد زوجته، وفيه فضل عثمان، وإيثاره الصدق حين لم يدع تلك المقارفة تلك الليلة، وإن كان عليه بعض الغضاضة في إلحاد غيره لزوجته.
وقول البخاري: (قَالَ ابن المبارك قَالَ فليح: أراه يعني: الذنب).
قَالَ أبو علي الجَيَّاني كذا في النسخ: (قَالَ ابن المبارك). وفي أصل أبي الحسن القابسي: قَالَ أبو المبارك.
قال أبو الحسن: هو أبو المبارك محمد بن سنان. يعني: شيخ
البخاري في هذا الحديث هنا. قَالَ الجَيَّاني: وهذا وهم، محمد بن سنان لا أعلم بينهم خلافًا أنه يكنى أبا بكر، وكان في نسخة عن أبي زيد كما عند سائر الرواة على الصواب
(1)
.
(1)
"تقييد المهمل" 2/ 600 - 601.
72 - باب الصَّلَاةِ عَلَى الشَّهِيدِ
1343 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ يَقُولُ:"أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ؟ ". فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إِلَي أَحَدِهِمَا قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ وَقَالَ: "أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلَاءِ يَوْمَ القِيَامَةِ". وَأَمَرَ بِدَفْنِهِمْ فِي دِمَائِهِمْ، وَلَمْ يُغَسَّلُوا وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِمْ. [1345، 1346، 1347، 1348، 1353، 4079 - فتح: 3/ 209]
1344 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي الخَيْرِ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ يَوْمًا فَصَلَّى عَلَى أَهْلِ أُحُدٍ صَلَاتَهُ عَلَى المَيِّتِ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى المِنْبَرِ فَقَالَ:"إِنِّي فَرَطٌ لَكُمْ، وَأَنَا شَهِيدٌ عَلَيْكُمْ، وَإِنِّي وَاللهِ لأَنْظُرُ إِلَى حَوْضِي الآنَ، وَإِنِّي أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الأَرْضِ -أَوْ مَفَاتِيحَ الأَرْضِ- وَإِنِّي وَاللهِ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا بَعْدِي، وَلَكِنْ أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنَافَسُوا فِيهَا". [انظر: 3596، 4042، 4085، 6426، 6590 - مسلم: 2216 - فتح: 3/ 209]
ذكر فيه حديث جابر وحديث عقبة بن عامر.
أما حديث جابر فذكره من حديثِ اللَّيْث عن ابن شِهَابٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ جَابِرِ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ .. إلى أنْ قال: وَلَمْ يُغَسَّلُوا وَلَمْ يُصَل عَلَيْهِمْ.
وهو من أفراده.
قال الترمذيُّ: حديث جابر حسن صحيح. وقال محمد: هو حديث حسن. قَالَ الترمذي: وقد روي هذا الحديث عن الزهري، عن أنس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروي عن الزهري، عن ثعلبة بن
أبي صُعَير
(1)
، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنهم من ذكره عن جابر
(2)
. وقال النسائي: ما أعلم أحدًا تابع الليث من ثقات أصحاب الزهري على هذا الإسناد واختلف على الزهري فيه
(3)
.
ورواه البيهقي من حديث عبد الرحمن بن عبد العزيز الأنصاري، ثنا الزهري ثنا عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ يوم أحد:"من رأى مقتل حمزة" الحديث
(4)
. وفيه زيادات ليست في رواية الليث، وفي رواية الليث زيادة ليست في هذِه، فيحتمل أن تكون روايته عن جابر وعن أصحابه صحيحتين وإن كانتا مختلفتين، فالليث ابن سعد إمام، حافظ، فروايته أولى، وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: عبد الرحمن بن عبد العزيز شيخ مدني، مضطرب الحديث
(5)
.
قلتُ: وعبد الرحمن ليس صحابيًّا؛ لأنه عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، نص على ذلك البخاري وابن حبان وغيرهما، بل قَالَ ابن عبد البر: عبد الرحمن لم يسمع من جده. وحكي ترجيح ذلك عن الذهلي والترمذي والحاكم من طريق أسامة بن زيد عن الزهري عن أنس: لما كان يوم أحد مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمزة وفيه: ولم يصلِ على أحد من الشهداء غيره
(6)
.
(1)
ورد بهامش الأصل ما نصه: ثعلبة بن صعير، ويقال: ابن أبي صعير، روى عنه ابنه عبد الله، ولهما صحبة.
(2)
"الترمذي" عقب (1036) كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في ترك الصلاة على الشهيد.
(3)
"سنن النسائي الكبرى" 1/ 635 كتاب: الجنائز وتمني الموت، باب: ترك الصلاة عليهم أي الشهداء.
(4)
"السنن الكبرى" 4/ 10.
(5)
"الجرح والتعديل" 1/ 351 - 352 (1038).
(6)
رواه أبو داود برقم (3137) كتاب: الجنائز، باب: في الشهيد يغسل، وابن سعد =
قال الترمذي: غريب
(1)
. وقال الحاكم: ولم يصل عليهم. ثم قَالَ: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وأخرج البخاري وحده حديث الزهري عن ابن كعب عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل عليهم. وليس فيه هذِه الألفاظ المجموعة التي تفرد بها أسامة بن زيد الليثي عن الزهري
(2)
.
وقال البخاري فيما نقله الترمذي: حديث أسامة هذا غير محفوظ، غلط فيه أسامة
(3)
. قَالَ الدارقطني: وهذِه اللفظة: ولم يصل على أحد من الشهداء غيره. ليست بمحفوظة
(4)
.
وأما حديث عُقْبة: فأخرجه من حديثِ أبي الخير عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ يَوْمًا فَصَلَّى عَلَى أَهْلِ أُحُدٍ صَلَاتَهُ عَلَى المَيِّتِ، .. الحديث، وفي لفظٍ:"بعد ثمان سنين"
(5)
، وعند مسلم: صعد المنبرَ كالمودعِ للأحياءِ والأمواتِ. قَالَ عُقبةُ: فكانت آخر ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر
(6)
.
= في "الطبقات الكبرى" 3/ 14، وابن أبي شيبة 7/ 367 (36741) وأبو يعلى في "مسنده" 6/ 264 - 265 (3568) والدارقطني 4/ 116 - 117. والحاكم 3/ 196 - مختصرًا- وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، والبيهقي 4/ 10، وابن الجوزي في "التحقيق" 2/ 9 (872) وقال: فإن قيل: قد قال الدارقطني: لم يقل هذِه اللفظة غير عثمان بن عمر وليست محفوظة. قلنا: عثمان مخرج عنه في الصحيحين، والزيادة مقبولة من الثقة. اهـ. والحديث حسنه الألباني في:"صحيح أبي داود".
(1)
"سنن الترمذي" 3/ 327 كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في قتلى أحد وذكر حمزة.
(2)
"المستدرك" 1/ 365 - 366.
(3)
"علل الترمذي الكبير" 1/ 411.
(4)
"سنن الدارقطني" 4/ 116 - 117.
(5)
سيأتي برقم (2042) كتاب: المغازي، باب: غزوة أحد.
(6)
"صحيح مسلم"(2296/ 31) كتاب: الفضائل، باب: إثبات حوض نبينا صلى الله عليه وسلم وصفاته.
واختلف العلماء في هذا الباب: فقال مالك: الذي سمعته من أهل العلم والسنة أن الشهداء لا يغسلون، ولا يصلى على أحد منهم، ويدفنون بثيابهم التي قتلوا فيها
(1)
. وهو قول عطاء والنخعي والحكم والليث والشافعي وأحمد وأكثر الفقهاء
(2)
، كما حكاه عنهم ابن التين، وقال أبو حنيفة والثوري والمزني والأوزاعي: يصلى عليه، ولا يغسل. وهو قول مكحول ورواية عن أحمد
(3)
، وقال عكرمة: لا يغسل؛ لأن الله قد طيبه، لكن يصلى عليه
(4)
. وقال سعيد بن المسيب، والحسن البصري كما حكاه ابن أبي شيبة: يغسل ويصلى عليه؛ لأن كل ميت يجنب
(5)
.
حجة الأولين حديث جابر أنه لم يغسلوا ولم يصلَّ عليهم -بفتح اللام- وأيضًا فلا يغير حالهم، ويوم أحد قتل فيه سبعون نفسًا، فلا يجوز أن تخفي الصلاة عليهم؛ ولأنه حي بنص القرآن؛ ولأن القتل قد طهره، والله قد غفر له، ويأتي يوم القيامة بِكَلْمه ريح دمه مسك. واحتج أبو حنيفة ومن وافقه بحديث عقبة في الباب، وبما روي أنه صلى على حمزة سبعين صلاة
(6)
، وأجاب الأولون بأن
(1)
انظر: "المدونة" 1/ 165.
(2)
انظر: "المجموع" 5/ 221، 225، "المغني" 3/ 467.
(3)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 1/ 399، "المجموع" 5/ 221، "المغني" 3/ 467.
(4)
رواه عبد الرزاق 3/ 545 (6649) كتاب: الجنائز، باب: الصلاة على الشهيد وغسله.
(5)
"المصنف" 2/ 458 (10999) كتاب: الجنائز، باب: الرجل يقتل أو يستشهد.
(6)
رواه عبد الرزاق 3/ 546 (6653) كتاب: الجنائز، باب: الصلاة على الشهيد وغسله، وابن سعد في "الطبقات" 3/ 16، وابن عدي في "الكامل" 4/ 439 ترجمة (814)، والخطيب في "تاريخه" 4/ 365 ترجمة (2230)، وفيه: سعيد بن =
المراد الدعاء، وكذا ما ورد في غيره من الأحاديث.
ثم المخالف يقول: لا يصلى على القبر بعد ثلاثة أيام، فلابد من تأويل الحديث أنه صلى عليهم بعد ثمان سنين بالدعاء، وصلاته على حمزة لا تصح أو خاص به؛ لأنه كبر عليه سبعًا، والمخالف لا يقول بأكثر من أربع، وقد سلف أنه لم يصل على أَحَدٍ من قتلى أُحُد غيره فصار مخصوصًا بذلك؛ لأنه وجده مجروحًا ممثلًا به فقال:"لولا أن تجزع عليه صفية لتركته حَتَّى يحضره الله من بطون الطير والسباع" فكفنه في نمرة، إذا خمر رأسه بدت رجلاه، وإذا خمر رجليه بدا رأسه، ولم يصل على أحد غيره وقال:"أنا شهيد عليكم اليوم"
(1)
.
ويشهد لهذا المعنى حديث جابر. وقول سعيد والحسن مخالف للآثار فلا وجه له.
قَالَ ابن حزم: قولهم: صلَّى على حمزةَ سبعينَ صلاة أو كبَّر سبعين تكبيرةً باطلٌ بلا شك
(2)
. وقال إمام الحرمين في "أساليبه"
(3)
: ما ذكره من صلاته صلى الله عليه وسلم على قتلى أحد فخطأ لم يصححه الأئمة؛ لأنهم رووا أنه كان يؤتى بعشرة عشرة وحمزة أحدهم. فصلَّى على حمزةَ سبعينَ صلاة. وهذا غلطٌ ظاهرٌ، فإنَّ شهداءَ أحدٍ سبعون، وإنما يَخُصُّ حمزة سبعون صلاة لو كانوا سبعمائة. وقد أوضح ذلك الشافعي نفسه.
فرع:
اختلف فيما إذا جرح في المعركة ثم عاش بعد ذلك، أو قتل ظلمًا
= ميسرة البكري: منكر الحديث.
(1)
سبق تخريجه قريبًا.
(2)
"المحلى" 5/ 128.
(3)
كذا تُقْرأ بالأصل، ولعلها "أماليه".
بحديدة أو غيرها فعاشَ، فقال مالك: يُغسل ويصلَّى عليه. وبه قَالَ الشافعي، وقال أبو حنيفة: إن قتل ظلمًا في العصر بحديدة لم يغسل وإن قتل بغير الحديد غسل
(1)
.
حجة الأول: رواية نافع عن ابن عمر أن عمر غسل وصلي عليه
(2)
؛ لأنه عاش بعد طعنته، وكان شهيدًا ولم ينكره أحد، وكذلك جرح عليٌّ فعاش ثم مات من ذلك فغسل وصلي عليه
(3)
ولم ينكره أحد. وفروع الشهيد كثيرة ومحلها الفروع.
وفيه: جواز جمع الرجلين في ثوب، والظاهر أنه كان يقسمه بينهم للضرورة
(4)
، وإن لم يستر إلا بعض بدنه، يدل عليه تمام الحديث أنه كان يسأل عن أكثرهم قرآنا فيقدمه في اللحد، فلو أنهم في ثوب واحد جملة لسأل عن أفضلهم قبل ذلك؛ لئلا يؤدي إلى نقض التكفين وإعادته.
وفيه: التفضيلُ بقراءة القرآن، فإذا استووا في القراءة قدم أكبرهما؛ لأن السنن فضيلة. قَالَ أشهب: ولا يكفنان في كفن واحد إلا من ضرورة،
(1)
انظر: "الهداية" 1/ 101، 102، "عيون المجالس" 1/ 456 - 457، "البيان" 3/ 82، "روضة الطالبين" 2/ 119.
(2)
رواه مالك في "الموطأ" 287 (36).
(3)
رواه عبد الرزاق في "المصنف" 3/ 544 - 545 (6646) كتاب: الجنائز، باب: الصلاة على الشهيد وغسله. من طريق الحكم عن يحيى بن الجزار.
والبيهقي في "السنن الكبرى" 4/ 17. عن أبي إسحاق أن الحسن صلى على علي رضي الله عنه.
(4)
تعليق بهامش الأصل بخط سبط بقلم دقيق: قول الشيخ (الظاهر أنه كان يقسمه) إلى آخره ورده على ابن العربي ما فهمه من الحديث يرده في الباب بعد بعد بعده: فَكُفِّنَ أبِي وَعَمِّي فِي نَمِرَةٍ وَاحِدَةٍ. وظاهره أنها لم تشقق. والله أعلم وكذلك قوله في ثوب واحد.
وكذا في الدفن. قَالَ أشهب: وإذا دفنا في قبر لم يجعل بينهما حاجز من التراب
(1)
؛ (وذلك أنه لا معنى له إلا التضييق)
(2)
.
وفيه: دلالة علي ارتفاع التكليف بالموت، وإلا فلا يجوز أن يلصق الرجل بالرجل إلا عند انقطاع التكليف أو للضرورة، كذا قَالَ ابن العربي وكأنه فهم أن تكفينهم كان جملة، وفيه ما أسلفناه.
وقوله: "أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هؤلاء" يعني: أنهم لم يعجل لهم من أجرهم شيء في الدنيا، وقيل: أشهد بإخلاصهم وصدقهم.
وقوله: (وَلَمْ يُغَسَّلُوا) قل سلف أنه الصواب.
(1)
انظر: "النوادر والزيادات" 1/ 559، 646.
(2)
من (م).
73 - باب دَفْنِ الرَّجُلَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ فِي قَبْرٍ
1345 -
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبٍ، أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما أَخْبَرَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ. [انظر: 1343 - فتح: 3/ 211]
ذكر فيه حديث جابر أنَّه عليه السلام كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ.
وقد سلف في الباب قبله، واختلفوا في دفن الاثنين والثلاثة في قبر فكرهه الحسن البصري
(1)
وأجازه غير واحد من أهل العلم، فقالوا: لا بأس أن يُدفن الرجل والمرأة في القبر الواحد وهو قول مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق، غير أن الشافعي وأحمد قالا: ذلك موضع الضرورات
(2)
. وحجتهم حديث جابر السالف، وقال: يقدم أسنهم وأكثرهم أخذًا للقرآن ويقدم الرجل أمام المرأة، قَالَ المهلب: وهذا خطاب للأحياء أن يتعلموا القرآن ولا يغفلوه حين أكرم الله حملته في حياتهم وبعد مماتهم.
(1)
رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" 3/ 16 (11654) كتاب: الجنائز، باب: في الرجلين يدفنان في قبر واحد.
(2)
تعليق بهامش الأصل بخط سبط بقلم دقيق: لا يجوز الجمع بين الرجالِ والنِّساءِ إلا في الضرورة، إلا إذا كان بينهما زوجية أو محرمية فلا منع، قاله ابن الصباغ وغيره.
وانظر: "تحفة الفقهاء" 1/ 256، "الكافي" ص 87، "المجموع" 5/ 247، "المغني" 3/ 513.
74 - باب مَنْ لَمْ يَرَ غَسْلَ الشُّهَدَاءِ
1346 -
حَدَّثَنَا أَبُو الوَلِيدِ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "ادْفِنُوهُمْ فِي دِمَائِهِمْ". - يَعْنِي: يَوْمَ أُحُدٍ. وَلَمْ يُغَسِّلْهُمْ. [انظر: 1343 - فتح: 3/ 212]
ذكر فيه حديث جابر: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "ادْفِنُوهُمْ فِي دِمَائِهِمْ". يَعْنِي: يَوْمَ أُحُدٍ. وَلَمْ يُغَسِّلْهُمْ.
وقد سلف.
75 - باب مَنْ يُقَدَّمُ فِي اللَّحْدِ
وَسُمِّىَ اللَّحْدَ؛ لأَنَّهُ فِي نَاحِيَةٍ، وَكُلُّ جَائِرٍ مُلْحِدٌ. {مُلْتَحَدًا} [الكهف: 27] مَعْدِلًا، وَلَوْ كَانَ مُسْتَقِيمًا كَانَ ضَرِيحًا.
1347 -
حَدَّثَنَا ابْنُ مُقَاتِلٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، أَخْبَرَنَا لَيْثُ بْنُ سَعْدٍ، حَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ ثُمَّ يَقُولُ:"أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ؟ ". فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إِلَي أَحَدِهِمَا قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ وَقَالَ: "أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلَاءِ". وَأَمَرَ بِدَفْنِهِمْ بِدِمَائِهِمْ، وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يُغَسِّلْهُمْ. [انظر: 1343 - فتح: 3/ 212]
1348 -
وَأَخْبَرَنَا الأَوْزَاعِيُّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ لِقَتْلَى أُحُدٍ:"أَيُّ هَؤُلَاءِ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ؟ ". فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إِلَي رَجُلٍ قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ قَبْلَ صَاحِبِهِ. وَقَالَ جَابِرٌ: فَكُفِّنَ أَبِي وَعَمِّي فِي نَمِرَةٍ وَاحِدَةٍ. [فتح: 3/ 212]
وقال سُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ: حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ، حَدَّثَنَا مَنْ سَمِعَ جَابِرًا رضى الله عنه.
ذكر فيه حديثَ جابرٍ عن ابن مُقَاتِلٍ، أَنَا عَبْدُ اللهِ -هو ابن المبارك- أَنَا الليْثُ قال -يعني ابن المبارك- وَأَنَا الأَوْزَاعِيُّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ جَابِرِ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ لِقَتْلَى أُحُدٍ: "أَيُّ هؤلاء أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ؟ ". فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إِلَى رَجُلٍ قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ قَبْلَ صَاحِبِهِ. قَالَ جَابرٌ: فَكُفِّنَ أَبِي وَعَمِّي فِي نَمِرَةٍ وَاحِدَةٍ.
وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ: حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ قال: حَدَّثَنَي مَنْ سَمِعَ جَابِرًا.
ما ذكره في تسمية اللحد هو ما ذكره أبو عبيد في كتابه "المجاز"
(1)
.
(1)
"مجاز القرآن" 1/ 398.
وألحد: أجود من لحد، وكذلك فُعِل بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أفضل من الشق إن صَلُبت الأرض.
وقوله: (فَكُفِّنَ أَبِي وَعَمِّي فِي نَمِرَةِ) سماه عمًّا؛ تعظيمًا له وتكريمًا؛ لأنه عمرو بن الجموح بن زيد بن حرام، وعبد الله أبو جابر: هو ابن عمرو بن حرام، فهو ابن عمه وزوج أخته هند بنت عمرو. روى القعنبي عن مالك بن أنس أن عبد الله بن عمرو وعمرو بن الجموح كفنا في كفنٍ واحد، وقُبِرا في قبرٍ واحد.
وحكى غيره أن السيل كان قد ضرب قبرهما فحفر عنهما؛ ليغيرا من مكانهما فوجدا لم يتغيرا كأنما ماتا بالأمس. وكان أحدهما قد جرح ووضع يده على جرحه فدفن وهو كذلك، فأميطت يده عن جرحه ثم أرسلت فرجعت كما كانت وكان بين يوم أحد ويوم حفر عنهما ستة وأربعون سنة، ذكر ذلك ابن سعد
(1)
.
والنَمِرة: كساء من شعر له هدب.
وقوله: (عن الزهري عن جابر)، وقوله ثانيًا عن الزهري:(حَدَّثَني من سمع جابرًا). يدل أن الأول ليس بجيد لا جرم. قَالَ ابن التين: إنه ليس بصحيح، ليس للزهري سماع من جابر؛ لأن جابرًا توفي سنة ثمان وثمانين، وفي "الكاشف": سنة ثمان وسبعين
(2)
. ووالده كان أحد النقباء
(3)
.
(1)
"الطبقات الكبرى" 3/ 562 - 563.
(2)
"الكاشف" 1/ 287 (733).
(3)
بهامش الأصل بخط سبط: قال النووي في "التهذيب": توفي جابر سنة 73 وقيل 78 وقيل 68 انتهى. وفي "مراسيل العلائي": روى عن جا بر وذلك مرسل. [قلت: انظر: "تهذيب الأسماء واللغات" 1/ 142 - 143 (100) ترجمة جابر بن عبد الله، "جامع التحصيل" ص 269 ترجمة الزهري].
76 - باب الإِذْخِرِ وَالحَشِيشِ فِي القَبْرِ
1349 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ حَوْشَبٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَهَّابِ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"حَرَّمَ اللهُ مَكَّةَ، فَلَمْ تَحِلَّ لأَحَدٍ قَبْلِي وَلَا لأَحَدٍ بَعْدِي، أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا، وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا، وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَلَا تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهَا إِلاَّ لِمُعَرِّفٍ".
فَقَالَ العَبَّاسُ رضي الله عنه: إِلاَّ الإِذْخِرَ لِصَاغَتِنَا وَقُبُورِنَا. فَقَالَ: "إِلاَّ الإِذْخِرَ".
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:"لِقُبُورِنَا وَبُيُوتِنَا". [انظر: 112 - مسلم: 1355]
وَقَالَ أَبَانُ بْنُ صَالِحٍ، عَنِ الَحسَنِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ صَفِيَّهَ بِنْتِ شَيْبَةَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: لِقَيْنِهِمْ وَبُيُوتِهِمْ.
[1587، 1348، 1834، 2090، 2433، 2783، 2825، 3077، 3189، 4313 - مسلم: 1353 - فتح: 3/ 213]
ذكر فيه حديث ابن عباس: عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "حَرَّمَ اللهُ مَكَّةَ، فَلَمْ تَحِلَّ لأَحَدٍ قَبْلِي .. " الحديث إلى قوله: فَقَالَ: "إِلَّا الإِذْخِرَ".
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:"لِقُبُورِنَا وَبُيُوتِنَا".
وَقَالَ أَبَانُ بْنُ صَالِحٍ، عَنِ الحَسَنِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ صَفِيَّةَ بنْتِ شَيْبَةَ
(1)
: سَمِعْتُ النُّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ.
(1)
بهامش الأصل بخط سبط: مَيْل المزي في "التهذيب"والذهبي في "كاشفه" و"تجريده" أن صفية ليست لها صُحبة، وانظر هذا المعلق كيف فيه التصريح بصحبتها وسماعها ضعف المزي أبان بن صالح في "أطرافه" في ترجمة صفية لكونه في السند المصرح بسماعها، فقال
…
، وقد انفرد المزي بتضعيفه. [وانظر:"تحفة الأشراف" 11/ 343 حاشية سبط ابن العجمي على "الكاشف" بتحقيق عوامة 2/ 512].
وَقَالَ مُجَاهِدٌ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابن عَبَّاسٍ: لِقَيْنِهِمْ وَبُيُوتِهِمْ.
الشرح:
أما حديث ابن عباس فسيأتي إن شاء الله في الحج
(1)
، وتعليق أبي هريرة قد أسنده في كتاب العلم كما سلف
(2)
، وأما تعليق أبان فأسنده ابن ماجه من حديث ابن إسحاق عن أبان
(3)
، وأما تعليق مجاهد
(4)
(5)
.
والإِذْخِر بالذال المعجمة الحشيش يتخذ بمكة كالتبن يوقده الصائغ والحداد ويجعل في الطين، لتملس به القبور والبيوت وُيسمى حَلفاء مكة، وقال ابن فارس: الإذخر: حشيشة طيبة
(6)
.
وقام الاتفاق على جواز قطع الإذخر خاصة في منبته من مكة لما ذكروا أن غيره من النبات يحرم قلعه، ويجوز عند العلماء استعمال الحشيش، وهو الورق الساقط والعشب المتكسر، وإنما يحرم قطعه من منبته فقط.
(1)
سيأتي برقم (1587) باب: فضل مكة وبنيانها.
(2)
سبق برقم (112) باب: كتابة العلم.
(3)
"سنن ابن ماجة" برقم (3109) كتاب: المناسك، باب: فضل مكة، وحسنه الألباني في "صحيح ابن ماجه"(2524).
(4)
بعد هذِه الكلمة في الأصل بياض كتب فوقه: كذا، كما ورد في الهامش ما نصه: حاشية: أخرج تعليق مجاهد البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي
…
في الحج وفيه وفي الجزية وفي الجهاد
…
(5)
سيأتي برقم (1834) كتاب: جزاء الصيد، باب: لا يحل القتال بمكة، و (3189) كتاب: الجزية والموادعة، باب: إثم الغادر للبر والفاجر. ورواه مسلم برقم (1353) كتاب: الحج، باب: تحريم مكة وصيدها، وأبو داود برقم (2018) كتاب: المناسك، باب: تحريم حرم مكة، والترمذي برقم (1590) كتاب: السير، باب: ما جاء في الهجرة، والنسائي 5/ 203 - 204 كتاب: مناسك الحج، حرمة مكة.
(6)
"مجمل اللغة" 2/ 365.
والحديث دال على جواز استعمال الإذخر وما جانسه من الحشيش الطيب الرائحة في القبور والأموات، وأهل مكة يستعملون من الإذخر ذريره ويطيبون بها أكفان الموتى. ففهم البخاري أن ما كان من النبات في معنى الإذخر فهو داخل في الإباحة، كما أن المسك وما جانسه من الطيب في الحنوط داخل في معنى إباحة الكافور للميت.
وقوله: "إِلَّا الإِذْخِرَ" يجوز أن يكون أوحي إليه تلك الساعة، أو من اجتهاده.
وقوله: (لصاغتنا وقبورنا). وفي الأخرى: "لقبورنا وبيوتنا". وفي الأخرى: (لقينهم وبيوتهم). يحتمل أن يكون قال كل ذلك، فاقتصر كل راوٍ على بعض، وكله من قول العباس، بخلاف ما ذكر الداودي في قوله:(لصاغتنا). ولعله أراد رواية أخرى. والمراد بالساعة من النهار: يوم الفتح. قَالَ مالك: افتتحت مكة في تسعة عشر يومًا من رمضان على ثمان سنين من الهجرة. وقال يحيى بن سعيد: دخل صلى الله عليه وسلم مكة عام الفتح في عشرة آلاف أو اثني عشر ألفًا، قد أكب على وسط راحلته حَتَّى كادت تنكسر به يريد تواضعًا وشكرًا لربه تعالى.
والخَلَى: مقصور، ووقع عند أبي الحسن بالمد، وهو في اللغة مقصور، وهو جمع: خلاة، وهو الحشيش اليابس. قاله جماعة من أهل اللغة
(1)
، وقال الداودي: هو الحشيش الرطب. وكذلك في "أدب الكاتب" أنه الرطب
(2)
. وقاله القزاز، ويكتب بالياء.
(1)
الخلى مقصورًا: الرَّطب من الحشيش، الواحدة خلاة، وقيل الخلى: الرُّطب بالضم لا غير، فإذا قلت الرطب من الحشيش فَتَحْتَ؛ لأنك تريد ضد اليابس.
انظر: "الصحاح" 6/ 2331، و"لسان العرب" 2/ 1258.
(2)
"أدب الكاتب" ص 78.
والعضد: الكسر، وقيل: القطع.
"وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا": أي: لا يطرد من الظل ويقعد مكانه.
وقوله: "إِلَّا لِمُعَرِّفٍ" أي: منشد. وقيل: تعرف سنة كغيرها. وفي الشجرة الكبيرة: بقرة. وفي الصغيرة: شاة. قاله عطاء والشافعي، وقال مالك: أساء، ولا شيء عليه. وسيكون لنا عودة إليه في آخر الحج في أبواب مفرقة إن شاء الله تعالى.
77 - باب هَلْ يُخْرَجُ المَيِّتُ مِنَ القَبْرِ وَاللَّحْدِ لِعِلَّةٍ
؟
1350 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ عَمْرٌو: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما قَالَ: أَتَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَبْدَ اللهِ بْنَ أُبَيٍّ بَعْدَ مَا أُدْخِلَ حُفْرَتَهُ فَأَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ، فَوَضَعَهُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَنَفَثَ عَلَيْهِ مِنْ رِيقِهِ، وَأَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ، فَاللهُ أَعْلَمُ، وَكَانَ كَسَا عَبَّاسًا قَمِيصًا.
قَالَ سُفْيَانُ: وَقَالَ أَبُو هَريرُة: وَكَانَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَمِيصَانِ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبْدِ اللهِ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلْبِسْ أَبِي قَمِيصَكَ الذِي يَلِي جِلْدَكَ. قَالَ سُفْيَانُ: فَيُرَوْنَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَلْبَسَ عَبْدَ اللهِ قَمِيصَهُ مُكَافَأَةً لِمَا صَنَعَ. [انظر: 1270 - مسلم: 2733 - فتح: 3/ 214]
1351 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، أَخْبَرَنَا بِشْرُ بْنُ المُفَضَّلِ، حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ المُعَلِّمُ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا حَضَرَ أُحُدٌ دَعَانِي أَبِي مِنَ اللَّيْلِ فَقَالَ: مَا أُرَانِي إِلاَّ مَقْتُولًا فِي أَوَّلِ مَنْ يُقْتَلُ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَإِنِّي لَا أَتْرُكُ بَعْدِي أَعَزَّ عَلَيَّ مِنْكَ، غَيْرَ نَفْسِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِنَّ عَلَيَّ دَيْنًا فَاقْضِ، وَاسْتَوْصِ بِأَخَوَاتِكَ خَيْرًا. فَأَصْبَحْنَا فَكَانَ أَوَّلَ قَتِيلٍ، وَدُفِنَ مَعَهُ آخَرُ فِي قَبْرٍ، ثُمَّ لَمْ تَطِبْ نَفْسِي أَنْ أَتْرُكَهُ مَعَ الآخَرِ، فَاسْتَخْرَجْتُهُ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَإِذَا هُوَ كَيَوْمِ وَضَعْتُهُ هُنَيَّةً غَيْرَ أُذُنِهِ. [1352 - فتح: 3/ 214]
1352 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَامِرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: دُفِنَ مَعَ أَبِي رَجُلٌ، فَلَمْ تَطِبْ نَفْسِي حَتَّى أَخْرَجْتُهُ، فَجَعَلْتُهُ فِي قَبْرٍ عَلَى حِدَةٍ. [انظر: 1351 - فتح: 3/ 215]
ذكر فيه حديثَ جابرٍ: أَتَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَبْدَ اللهِ بْنَ أُبَيًّ بَعْدَ مَا أُدْخِلَ حُفْرَتَهُ، فَأَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ، وَأَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ .. الحديث.
وحديثه أيضًا: لَمَّا حَضَرَ أُحُدٌ دَعَانِي أَبِي -أي: مِنَ اللَّيْلِ- فَقَالَ: مَا أُرَانِي إِلَّا مَقْتُولًا .. الحديث، وفي آخرهِ: فَاسْتَخْرَجْتُهُ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَإِذَا هُوَ كَيَوْمِ وَضَعْتُهُ هُنيَةً غَيْرَ أُذُنِهِ.
وحديثه أيضًا من طريقِ شُعْبَةَ، عَنِ ابن أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْه قالَ: دُفِنَ مَعَ أَبِي رَجُلٌ، فَلَمْ تَطِبْ نَفْسِي حَتَّى أَخْرَجْتُهُ، فَجَعَلْتُهُ فِي قَبْرٍ على حِدَةٍ.
الشرح:
حديث جابر الأول سبق في باب: الكفن في القميص واضحًا.
وقوله: (وقال أبو هارون
(1)
: وكان على رسول الله صلى الله عليه وسلم قميصان).
أبو هارون هذا: هو موسى بن أبي عيسى ميسرة المدني الحفاظ أخو عيسى الغفاري. ولأبي داود: فما أنكرت منه شيئًا إلا شعرات كن في لحيته مما يلي الأرض
(2)
. قَالَ الجياني: كذا روي هذا الإسناد عن البخاري، إلا أبا علي بن السكن وحده فإنه قَالَ في روايته: مجاهدًا بدل عطاء، والأول أصح
(3)
، وكذا أخرجه النسائي
(4)
ورواه أبو نعيم من حديث أبي نضرة عن جابر قَالَ: وأبو نضرة (م، الأربعة) ليس من شرط البخاري ثم رواه من حديث بشر عن عطاء عن جابر قَالَ: وهو غريب جدًا منا حديث عطاء عن جابر.
ورواه أبو داود من حديث أبي نضرة، وللترمذي مصححًا عن جابر قَالَ: أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلى أحد أن يردوا إلى مصارعهم وكانوا نقلوا إلى المدينة
(5)
.
(1)
قال الحافظ في "الفتح" 3/ 215: كذا وقع في رواية أبي ذر وغيرها، ووقع في كثير من الروايات:(قال أبو هريرة) وكذا في "مستخرج أبي نعيم" وهو تصحيف.
(2)
"سنن أبي داود" برقم (3232) كتاب: الجنائز، باب: في تحويل الميت من موضعه للأمر يحدث، وقال الألباني: صحيح الإسناد.
(3)
"تقييد المهمل" 2/ 602.
(4)
"سنن النسائي" 4/ 84 كتاب: الجنائز، باب: إخراج الميت من القبر بعد أن يدفن فيه.
(5)
"سنن الترمذي" برقم (1717) كتاب: الجهاد، باب: ما جاء في دفن القتيل في مقتله وقال: هذا حديث حسن صحيح.
وقوله: (هُنَيَّة) ضبطه بعضهم بضم الهاء ثم نون ثم ياء مشددة تصغير (هنا)، أي: قريبًا من وقت وضعته، وبالهمز بعد الياء. قَالَ ابن التين: وهي التي روينا، والمعنى: كهيئته يوم وضعته. وضبطه بعضهم بفتح الهاء والياء، أي: على حالته.
وقوله: (كيوم وضعته هنيَّة غَيْرَ أُذُنِهِ) هو بغير، والصواب: رواية ابن السكن وغيره (غير هُنية في أُذنه) بتقديم غير، يريد: غير أثر يسير غيرته الأرض من أذنه، قاله عياض
(1)
.
وقوله: (فَاستَخْرَجْتُهُ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَاِذَا هُوَ كَيَوْمِ وَضَعْتُة) كذا في "الصحيح"، وفي "الموطأ" بلاغًا أنه أخرج هو وعمرو بن الجموح بعد ستة وأربعين سنة فوجدا كيوم دفنا، وأميطت يده أو يد صاحبه وهو عبد الله بن عمرو، هذا عن الجرح فلما تركت عادت لمكانها. كما رواه في "الموطأ" مرسلًا
(2)
وهو خلاف ما هنا أنه استخرج والده بعد ستة أشهر وقد بدت قدم عمر رضي الله عنه حين بني المسجد وهدم البيت ليصلح بعد ست وستين سنة فوجد عليه أثر شراك النعل لم يتغير، وروى ابن عيينة عن أبي الزبير عن جابر قَالَ: لما أراد معاوية أن يجري العين بأحدٍ نودي بالمدينة: من كان له قتيل فليأت. قَالَ جابر: فأتيناهم فأخرجناهم رطابًا ينثنون فأصابت المسحاة أصبع رجل منهم فانقطرت دمًا
(3)
.
(1)
"مشارق الأنوار" 2/ 271.
(2)
"الموطأ" ص 291 (50)(938) كتاب: الجهاد، باب: الدفن في قبر واحد
…
(3)
رواه عبد الرزاق في "المصنف" 3/ 547 (6656) كتاب: الجنائز، باب: الصلاة على الشهيد وغسله، و 5/ 277 (9602) كتاب: الجهاد، باب: الصلاة علي الشهيد وغسله، وانظر:"التمهيد" 18/ 174.
قَالَ سفيان: بلغني أنه حمزة بن عبد المطلب
(1)
. وهذا غير الوقت الذي أخرج فيه جابر أباه من قبره، ويقال: أربعة لا تعدو عليهم الأرض ولا هوامها: الأنبياء والعلماء والشهداء والمؤذنون. وقيل: ذلك خصوص لأهل أُحُد كرامة لهم، وكذلك من كان في المنزلة مثلهم.
وقوله أولًا: (مَا أُرَانِي إِلَّا مَقْتُولًا) هو بضم الهمزة أي: أظنني، وإنما قاله لما كان عليه من العزم أن يقاتل حَتَّى يقتل.
وقوله: (فِي أَوَّلِ مَنْ يُقْتَلُ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) إنما قَالَ ذلك؛ لأن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان رأى في سيفه ثلما عند خروجهم إلى أحد، فأوله أنه يصاب بعض أصحابه
(2)
، فقتل يومئذ منهم سبعون وقيل: خمسة وستون، منهم أربعة من المهاجرين، وقال مالك: قتل من المهاجرين أربعة ومن الأنصار سبعون، ولم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم قصة أشد ولا أكثر قتلًا منها، وكانت في سنة ثلاث من الهجرة خرج إليها عشية الجمعة لأربع عشرة خلت من شوال. قَالَ مالك: كانت أحد وخيبر في أول النهار.
وقوله: (وإنَّ عليَّ دينًا) كان عليه أوسق تمر ليهودي كما سيأتي
(3)
.
وقوله: (وَاسْتَوْصِ بِأَخَوَاتِكَ خَيْرًا) كانت له تسع أخوات كما
(1)
قال ابن عبد البر: الذي أصابت المسحاة أصبعه هو حمزة رضي الله عنه، رواه عبد الأعلي بن حماد، قال: حدثنا عبد الجبار -يعني ابن الورد- قال سمعت أبا الزبير يقول: سمعت جابر بن عبد الله يقول: رأيت الشهداء يخرجون على رقاب الرجال كأنهم رجال قوم حتى إذا أصابت المسحاة قدم حمزة رضي الله عنه فانبثقت دمًا.
"التمهيد" 19/ 242.
(2)
سيأتي برقم (3622) كتاب: المناقب، باب: علامات النبوة.
(3)
سيأتي برقم (2396) كتاب: في الاستقراض، باب: إذا قاصَّ أو جازفه في الدَّين تمرًا بتمرٍ أو غيره.
سيأتي
(1)
باختلاف فيه فوَكَّد عليه فيهن مع ما كان في جابر من الخير، فوجب لهن حق القرابة وحق وصية الأب وحق اليتم وحق الإسلام.
وفي الصحيح لما قَالَ له صلى الله عليه وسلم: "تزوجتَ بكرًا أم ثيبًا" قَالَ: ثيبًا، قَالَ:"فهلا بكرًا تُلاعبها وتُلاعبك" قَالَ: إن أبي ترك أخوات كرهت أن أضم إليهن خرقاء مثلهن
(2)
. فلم ينكر عليه ذلك.
أما أحكام الباب: ففيه: جواز إخراج الميت بعد ما يدفن إذا كان لذلك معنى بأن دفن بلا غسل ونحو ذلك، قَالَ الماوردي في "أحكامه": وكذا إذا لحق الأرض المدفون فيها سيل أو نداوة على ما رآه الزبيري، وخالفه غيره. قلتُ: وقول الزبيري أصح.
قَالَ ابن المنذر: اختلف العلماء في النبش عمن دفن ولم يغسل فأكثرهم يجيز إخراجه وغسله، هذا قول مالك والشافعي إلا أن مالكًا قَالَ: ما لم يتغير
(3)
. وكذا عندنا ما لم يتغير بالنتن كما قَالَ الماوردي، وقال القاضي أبو الطيب: بالتقطيع، وقيل: ينبش ما دام فيه جزء من عظم وغيره، وقال أبو حنيفة وأصحابه: إذا وضع في اللحد وغطي بالتراب ولم يغسل، لم ينبغ لهم أن ينبشوه. وهو قول أشهب
(4)
. والأول أصح، وبه قال أحمد وداود
(5)
.
وكذلك اختلفوا فيمن دفن بغير صلاة فعندنا: لا ينبش بل يصلى على القبر، اللهم إلا أن لا يهال عليه التراب، فإنه يخرج ويصلى
(1)
سيأتي برقم (4052) كتاب: المغازي، باب: إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا.
(2)
سيأتي برقم (4052).
(3)
"الأوسط" 5/ 343.
(4)
انظر: "الفتاوى التاتارخانية" 2/ 174 - 175، "النوادر والزيادات" 1/ 630.
(5)
انظر: "المغني" 3/ 500، "المحلى" 5/ 114.
عليه. نص عليه الشافعي
(1)
؛ لقلة المشقة ولأنه لا يسمى نبشًا، وقيل: يرفع لبنة وهو في لحده مما يقابل وجهه لينظر بعضه فيصلى عليه.
وقال ابن القاسم: يخرج بحُدْثَان ذلك ما لم يتغير وهو قول سحنون، وقال أشهب: إن ذكروا ذلك قبل أن يهال عليه التراب، أخرج وصلي عليه، وإن أهالوا فليترك، وإن لم يصل عليه. وعن مالك: إذا نسيت الصلاة على الميت حَتَّى يفرغ من دفنه لا أرى أن ينبشوه لذلك ولا يصلى على قبره، ولكن يدعون له
(2)
. وينبش في صور أخرى محلها الفروع فلا نطول بذلك.
وروى سعيد بن منصور عن شريح (س ت) بن عبيد أن رجالًا قبروا صاحبًا لهم لم يغسلوه ولم يجدوا له كفنًا فوجدوا معاذ بن جبل فأخبروه، فأمرهم أن يخرجوه ثم غسل وكفن وحنط ثم صلي عليه.
وفي قول جابر: نفث عليه من ريقه. حجة على من يرى بنجاسة الريق والنخامة وهو قول يروى عن سلمان الفارسي، وإبراهيم النخعي
(3)
، والعلماء كلهم على خلافه والسنن وردت برده، فمعاذ الله من صحة خلافها، والشارع علمنا النظافة والطهارة، وبه طهرنا الله من الأدناس فريقه يتبرك به ويستشفي.
وفيه أن الشهداء لا تأكل الأرض لحومهم، وقد سلف.
فرع:
يحرم عندنا نقل الميت قبل دفنه إلى بلد آخر؛ لأن في نقله تأخر دفنه
(1)
انظر: "الحاوي" 3/ 62.
(2)
انظر: "عقد الجواهر الثمينة" 1/ 193.
(3)
روى ذلك ابن أبي شيبة في "المصنف" 1/ 152 (1754) كتاب: الطهارات، باب: النخاع والبزاق يقع في البئر.
وتعريضه لهتك حرمته من وجوه، ولو أوصى بنقله لم تنفذ وصيته، وقال جماعات من أصحابنا: يكره ولا يحرم
(1)
.
وروي عن عائشة، أيضًا
(2)
، لكن يرده حديث جابر: كنا حملنا القتلى يوم أحد فجاء منادي: رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم أن تدفنوا القتلى في مضاجعهم. رواه أصحاب السنن الأربعة وقال الترمذي: حديث حسن صحيح
(3)
، اللهم إلا أن يكون بقرب مكة أو المدينة أو بيت المقدس لفضلها فينقل، نص عليه الشافعي، كما نقله الماوردي من أصحابنا
(4)
.
(1)
قال النووي رحمه الله: قال صاحب "الحاوي": قال الشافعي رحمه الله تعالى: لا أحبه -أي نقل الميت من بلد إلى بلد- إلا أن يكون بقرب مكة أو المدينة أو بيت المقدس، فيختار أن ينقل إليها؛ لفضل الدفن فيها. وقال البغوي والشيخ أبو نصر البندنيجي من العراقيين: يكره نقله، وقال القاضي حسين والدارمي والمتولي: يحرم نقله، وقال القاضي حسين والمتولي: ولو أوصى بنقله لم تنفذ وصيته، وهذا هو الأصح؛ لأن الشرع أمر بتعجيل دفنه، وفي نقله تأخيره، وفيه أيضًا انتهاكه من وجوه وتعرضه للتغير وغير ذلك، "المجموع" 5/ 272 - 273.
(2)
رواه الترمذي برقم (1055) كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في الرخصة في زيارة القبور، وعبد الرزاق في "المصنف" 3/ 517 (6535) كتاب: الجنائز، باب: لا ينقل الرجل من حيث يموت، وابن المنذر في "الأوسط" 5/ 464. من طريق ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة، وقال المباركفوري: ولم يحكم الترمذي على حديث الباب بشيء من الصحة والضعف، ورجاله ثقات إلا ابن جريج مدلس، ورواه عن عبد الله بن أبي مليكة بالعنعنة "تحفة الأحوذي" 4/ 139، وضعفه الألباني في "ضعيف الترمذي".
(3)
رواه أبو داود برقم (3165) كتاب: الجنائز، باب: في الميت يحمل من أرض إلى أرض، والترمذي برقم (1717) كتاب: الجهاد، باب: ما جاء في دفن القتيل في مقتله، والنسائي 4/ 79 كتاب: الجنائز، باب: أين يدفن الشهيد؟ وابن ماجه برقم (1516) كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في الصلاة على الشهداء ودفنهم.
والحديث صححه الألباني في "صحيح أبي داود".
(4)
"الحاوي" 3/ 26.
ومن هذا نقل جنازة سعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد من العقيق إلى المدينة
(1)
وللقرب أيضًا ولا يبعد ما إذا كان بقربه قرية أهلها صالحون كذلك، وصح أن يوسف صلى الله عليه وسلم نقل بعد دفنه بالبحر بسنين كثيرة، واستخرجت عظامه، كما أخرجه ابن حبان فنقل إلى جوار إبراهيم الخليل عليه السلام
(2)
.
وروى ابن إسحاق أن أم عبد الله بن سلمة البلوي البدري لما قتل يوم أحد شهيدًا استاذنت النبي صلى الله عليه وسلم في نقله إلى المدينة، فنقل هو والمجذر بن زياد البلوي.
(1)
رواه البيهقي في "السنن الكبرى" 4/ 57.
(2)
"صحيح ابن حبان" 2/ 500 - 501 (723) كتاب: الرقائق، باب: الورع والتوكل.
78 - باب الشَّقِّ وَاللَّحْدِ فِي القَبْرِ
(1)
1353 -
حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَجْمَعُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ، ثُمَّ يَقُولُ:"أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ؟ ". فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إِلَي أَحَدِهِمَا قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ فَقَالَ: "أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلَاءِ يَوْمَ القِيَامَةِ". فَأَمَرَ بِدَفْنِهِمْ بِدِمَائِهِمْ، وَلَمْ يُغَسِّلْهُمْ. [انظر: 1343 - فتح: 3/ 217]
ذكر فيه حديث جابر: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَجْمَعُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ .. الحديث.
وقد سلف قريبًا في مواضع
(2)
، والكل جائز، واللحد أفضل عندنا من الشق إن صلبت الأرض، لُحِد لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولصاحبيه
(3)
ولابنه إبراهيم، وأوصى به ابن عمر
(4)
واستحبه الأئمة: النخعي ومالك وأبو حنيفة وأصحابه وإسحاق، قالوا: وهو ما اختاره الله تعالى لنبيه
(5)
، وقد روى أصحاب السنن الأربعة من حديث ابن عباس مرفوعًا:"اللَّحدُ لنا، والشَّقُّ لغيرِنا". قَالَ الترمذي: حديث غريب
(6)
.
(1)
ورد بهامش الأصل ما نصه: ثم بلغ في الثامن كتبه مؤلفه غفر الله له.
(2)
سلف برقم (1343) باب: الصلاة على الشهيد، و (1345) باب: دفن الرجلين والثلاثة في قبر واحد، و (1346) باب: من لم ير غسل الشهداء، و (1347 - 1348) باب: من يقدم في اللحد.
(3)
رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" 3/ 14 (11634).
(4)
رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" 3/ 15 (11638).
(5)
انظر: "تحفة الفقهاء" 1/ 255، "الفتاوى التاتارخانية" 2/ 167، "المعونة" 1/ 205 - 206، "عقد الجواهر الثمينة" 1/ 194.
(6)
"سنن أبي داود" برقم (3208) كتاب: الجنائز، باب: في اللحد، "سنن الترمذي" برقم (1045) كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "اللحد لنا والشق =
وصفة اللحد أن يحفر حائط القبر مائلًا عن استوائه من أسفله قدر ما يوضع فيه الميت، وليكن من جهة القبلة.
والشَّق -بفتح الشين- أن يُحْفر وسطُه كالنهرِ، ويبنى جانباه باللبنِ أو غيره ويُجعل بينهما شق، يُوضع فيه الميت ويُسَقَّف.
= لغيرنا"، "سنن النسائي" 4/ 80 كتاب: الجنائز، اللحد والشق، "سنن ابن ماجة" برقم (1554) كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في استحباب اللحد. وصححه الألباني.
79 - باب إِذَا أَسْلَمَ الصَّبِيُّ فَمَاتَ هَلْ يُصَلَّى عَلَيْهِ؟ وَهَلْ يُعْرَضُ عَلَى الصَّبِيِّ الإِسْلَامُ
؟
وَقَالَ الحَسَنُ وَشُرَيْحٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَقَتَادَةُ: إِذَا أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا فَالوَلَدُ مَعَ المُسْلِمِ. وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَعَ أُمِّهِ مِنَ المُسْتَضْعَفِينَ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَ أَبِيهِ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ. وَقَالَ: الإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى.
1354 -
حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما أَخْبَرَهُ، أَنَّ عُمَرَ انْطَلَقَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي رَهْطٍ قِبَلَ ابْنِ صَيَّادٍ، حَتَّى وَجَدُوهُ يَلْعَبُ مَعَ الصِّبْيَانِ عِنْدَ أُطُمِ بَنِي مَغَالَةَ -وَقَدْ قَارَبَ ابْنُ صَيَّادٍ الحُلُمَ- فَلَمْ يَشْعُرْ حَتَّى ضَرَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ لاِبْنِ صَيَّادٍ "تَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللهِ؟ ". فَنَظَرَ إِلَيْهِ ابْنُ صَيَّادٍ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ الأُمِّيِّينَ. فَقَالَ ابْنُ صَيَّادٍ: لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللهِ؟ فَرَفَضَهُ وَقَالَ: "آمَنْتُ بِاللهِ وَبِرُسُلِهِ". فَقَالَ لَهُ: "مَاذَا تَرَى". قَالَ ابْنُ صَيَّادٍ: يَأْتِينِي صَادِقٌ وَكَاذِبٌ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "خُلِّطَ عَلَيْكَ الأَمْرُ" ثُمَّ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي قَدْ خَبَأْتُ لَكَ خَبِيئًا". فَقَالَ ابْنُ صَيَّادٍ: هُوَ الدُّخُّ. فَقَالَ: "اخْسَأْ، فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ". فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: دَعْنِى يَا رَسُولَ اللهِ أَضْرِبْ عُنُقَهُ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "إِنْ يَكُنْهُ فَلَنْ تُسَلَّطَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْهُ فَلَا خَيْرَ لَكَ فِي قَتْلِهِ". [3055، 6173، 6618 - مسلم: 2930 - فتح: 3/ 218]
1355 -
وَقَالَ سَالِمٌ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما يَقُولُ: انْطَلَقَ بَعْدَ ذَلِكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأُبَىُّ بْنُ كَعْبٍ إِلَي النَّخْلِ التِي فِيهَا ابْنُ صَيَّادٍ، وَهُوَ يَخْتِلُ أَنْ يَسْمَعَ مِنِ ابْنِ صَيَّادٍ شَيْئًا قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ ابْنُ صَيَّادٍ، فَرَآهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُضْطَجِعٌ -يَعْنِى: فِي قَطِيفَةٍ لَهُ فِيهَا رَمْزَةٌ أَوْ زَمْرَةٌ- فَرَأَتْ أُمُّ ابْنِ صَيَّادٍ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَتَّقِي بِجُذُوعِ النَّخْلِ فَقَالَتْ لاِبْنِ صَيَّادٍ: يَا صَافِ -وَهْوَ اسْمُ ابْنِ صَيَّادٍ- هَذَا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم. فَثَارَ ابْنُ صَيَّادٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"لَوْ تَرَكَتْهُ بَيَّنَ". وَقَالَ شُعَيْبٌ فِي حَدِيثِهِ: فَرَفَصَهُ رَمْرَمَةٌ، أَوْ
زَمْزَمَةٌ. وَقَالَ [إِسْحَاقُ الكَلْبِىُّ] وَعُقَيْلٌ: رَمْرَمَةٌ. وَقَالَ مَعْمَرٌ: رَمْزَةٌ. [2638، 3033، 3056، 6174 - مسلم: 2931 - فتح: 3/ 218]
1356 -
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ -وَهْوَ: ابْنُ زَيْدٍ- عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ غُلَامٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَمَرِضَ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعُودُهُ، فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقَالَ لَهُ:"أَسْلِمْ". فَنَظَرَ إِلَي أَبِيهِ وَهْوَ عِنْدَهُ فَقَالَ لَهُ: أَطِعْ أَبَا القَاسِمِ صلى الله عليه وسلم. فَأَسْلَمَ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهْوَ يَقُولُ:"الحَمْدُ لله الذِي أَنْقَذَهُ مِنَ النَّارِ". [5657 - فتح: 3/ 219]
1357 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: قَالَ عُبَيْدُ اللهِ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما يَقُولُ: كُنْتُ أَنَا وَأُمِّي مِنَ المُسْتَضْعَفِينَ، أَنَا مِنَ الوِلْدَانِ، وَأُمِّي مِنَ النِّسَاءِ. [4587، 4588، 4597 - فتح: 3/ 219]
1358 -
حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: يُصَلَّى عَلَى كُلِّ مَوْلُودٍ مُتَوَفًّى وَإِنْ كَانَ لِغَيَّةٍ؛ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ وُلِدَ عَلَى فِطْرَةِ الإِسْلَامِ، يَدَّعِي أَبَوَاهُ الإِسْلَامَ أَوْ أَبُوهُ خَاصَّةً، وَإِنْ كَانَتْ أُمُّهُ عَلَى غَيْرِ الإِسْلَامِ، إِذَا اسْتَهَلَّ صَارِخًا صُلِّيَ عَلَيْهِ، وَلَا يُصَلَّى عَلَى مَنْ لَا يَسْتَهِلُّ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ سِقْطٌ، فَإِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه كَانَ يُحَدِّثُ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَا تُنْتَجُ البَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاء، هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ؟ ". ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30] الآيَةَ. [1359، 1385، 4775، 6599 - مسلم: 2658 - فتح: 3/ 219]
1359 -
حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَا تُنْتَجُ البَهِيمَةُ بَهِيمَةً [جَمْعَاءَ]، هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ؟ ". ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم: 30]. [انظر: 1358 - مسلم: 2658 - فتح: 3/ 219]
ذكر فيه حديث عُمر في قصة ابن صيَّاد بطولِها.
وذكر حديث أنس: كان غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم، فمرض .. وذكر الحديث.
وعن ابن عباس: كُنْتُ أَنَا وَأُمِّي مِنَ المُسْتَضْعَفِينَ، أَنَا مِنَ الوِلْدَانِ، وَأُمِّي مِنَ النِّسَاءِ.
وحديث أبي هريرة: "مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ" .. الحديث بطريقيه.
الشرح:
الكلام على ما ذكره البخاري رحمه الله واحدًاواحدًا، فإنه من الأبواب التي تحتاج إلى إيضاح فلا تسأم من الطول، ولا شك أنه يصلى علي الصغير المولود في الإسلام؛ لأنه كان على دين أبويه.
قَالَ ابن القاسم: إذا أسلم الصغير وقد عقل الإسلام فله حكم المسلمين في الصلاة عليه، ويباع على النصراني إن ملكه؛ لأن مالكًا يقول: لو أسلم وقد عقل الإسلام ثم بلغ فرجع عنه أجبره عليه. قَالَ أشهب: وإن لم يعقله لم أجبر الذمي على بيعه، ولا يؤخذ الصبي بإسلامه إن بلغ
(1)
.
وقد اختلف الناس في حكم الصبي إذا أسلم أحد أبويه على ثلاثة أقوال:
أحدها: يتبع أيهما أسلم، وهو أحد قولي مالك، وبه أخذ ابن وهب، وهي مقالة هؤلاء الجلة، ويصلى عليه إن مات على هذا.
وثانيها: يتبع أباه وإسلام أمه لا يُعدُّ به الولد مسلمًا، وهو قول مالك في "المدونة".
(1)
انظر: "المدونة" 3/ 282، "النوادر والزيادات" 1/ 603.
ثالثها: يتبع أمه وإن أسلم أبوه وهي مقالة شاذة ليست في مذهب مالك.
قال سحنون: إنما يكون إسلام [الوالد]
(1)
إسلامًا له، ثم إذا لم يكن معه أبوه فهو
(2)
على دين أمه
(3)
. ويعضده حديث الباب: "فأبواه يهودانه وينصرانه". فشرك بينهما في ذلك، فإذا انفرد أحدهما دخل في معنى الحديث.
وقال ابن بطال: أجمع العلماء في الطفل الحربي يُسبى ومعه أبواه، أن إسلام الأب إسلام له. واختلفوا فيما إذا أسلمت الأم، وحجة مالك إجماع العلماء، أنه من دام مع أبويه لم يلحقه سباء فحكمه حكم أبويه حَتَّى يبلغ، فكذلك إذا سُبي لا يغير السباء حكمه حَتَّى يبلغ فيعبر عن نفسه، وكذلك إن مات لا يصلى عليه، وهو قول الشعبي. قَالَ: واختلفوا إذا لم يكن معه أبوه ووقع في المقاسم دونهما، ثم مات في ملك مشتريه، فقال مالك في "المدونة": لا يصلى عليه إلا أن يجيب إلى الإسلام بأمر يعرف أنه عقله، وهو المشهور من مذهبه، وعنه: إذا لم يكن معه أحد من آبائه ولم يبلغ أن يتدين أو يدعى ونوى سيده الإسلام فإنه يصلى عليه وأحكامه أحكام المسلمين في الدفن في مقابر المسلمين والموارثة، وهو قول ابن الماجشون وابن دينار وأصبغ، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه والأوزاعي والشافعي
(4)
.
(1)
في الأصل: الولد، وما أثبتناه يقتضيه المعنى.
(2)
في الأصل: وهو، والصواب ما أثبتناه.
(3)
انظر: "النوادر والزيادات" 1/ 601.
(4)
انظر: "شرح ابن بطال" 3/ 341 - 342.
وفي "شرح الهداية" إذا سُبِيَ صبي مع أحد أبويه فمات لم يصل عليه حتى يقر بالإسلام، وهو يعقل، أو يسلم أحد أبويه خلافًا لمالك في إسلام الأم، والشافعي في إسلامه هو والولد: يتبع خير الأبوين دينًا.
والتبعية مراتب: أقواها: تبعية الأبوين ثم الدار، ثم اليد.
وفي "المغني": لا يصلى على المشركين إلا أن يسلم أحد أبويهم، أو يموت مشركا، فيكون ولده مسلمًا، أو يُسبى منفردًا، أو مع أحد أبويه فإنه يصلى عليه.
وقال أبو ثور: إذا سبى مع أحد أبويه لا يصلى عليه إلا أن يسلم وفي "الإشراف" عنه: إذا أسر مع أبويه أو أحدهما أو وحده ثم مات قبل أن يختار الإسلام يصلى عليه.
وقوله: (وكان ابن عباس .. ) إلى آخره. قد أسنده بعد
(1)
، وهو مبني على من قَالَ: إن إسلام العباس متأخر
(2)
، وأما من قَالَ: إنه قديم قبل الهجرة، فلا. وأمه أم الفضل لُبابة
(3)
.
قَالَ ابن سعد: أسلمت بعد خديجة
(4)
. وقال محمد بن عمر: هاجرت إلى المدينة بعد إسلام زوجها.
وقوله: (وَقَالَ: الإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى) ولم يذكر قائله، وقد أخرجه الدارقطني في النكاح من "سننه" بإسناد جيد من حديث عائذ
(1)
سيأتي مسندًا برقم (1357).
(2)
ورد بهامش الأصل ما نصه: حاشية: أسلم قبل خيبر وكان يكتم إسلامه، ويقال: (
…
) قبل بدر (
…
).
(3)
ورد بهامش الأصل ما نصه: قال ابن (
…
) وابن سعد: هي أول امرأة أسلمت بعد خديجة.
(4)
"الطبقات الكبرى" 8/ 277.
ابن عمرو المحزني أن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى"
(1)
(2)
.
وقصة ابن صياد ذكرها البخاري في مواضع أخر، منها: قَالَ: سالم عن ابن عمر: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فذكره. وفيه: "أنه أعور وأن الله ليس بأعور"
(3)
.
ومنها في الجهاد في باب: ما يجوز من الاحتيال، معلقًا عن الليث
(4)
. ووصله الإسماعيلي من حديث ابن بكير وأبي صالح عنه.
ولمسلم قَالَ ابن شهاب: وأخبرني عمر بن ثابت، أنه أخبره بعض الصحابة أنه صلى الله عليه وسلم قَالَ يوم حذر الناس الدجال:"أنه مكتوبٌ بين عينيه كافِرٌ، يقرأه مَنْ كَرِه عملَهُ .. "
(5)
. الحديث.
وله أيضًا من حديث أبي سعيد بنحوه
(6)
، وللترمذي: فاحتبسه وهو
(1)
"سنن الدارقطني" 3/ 252 كتاب: النكاح، باب: المهر، والحديث حسنه الألباني في "الإرواء"(1268).
(2)
ورد بهامش الأصل ما نصه: قال المصنف في تخريج أحاديث الرافعي المسمى بـ"خلاصة البدر المنير" في حديث "الإسلام يعلو ولا يعلى": رواه الدارقطني في "سننه" من رواية عائذ بن عمرو المزني بإسناد واه، ولفظه "الإسلام يعلو ولا يعلى"، والطبراني في أصغر معاجمه وأبو نعيم والبيهقي في كتابيهما "دلائل النبوة" من رواية عمر بن الخطاب ولفظه:"الحمد لله الذي هدانا لهذا الدين الذي يعلو ولا يعلى" قاله الأعرابي في حديث طويل، وفي سنده محمد بن على بن الوليد السلمي البصري. قال البيهقي: الحمل فيه على السلمي، قال الذهبي: صدق والله البيهقي؛ فإنه خبر باطل. ثم عزاه المصنف إلى البخاري تعليقا موقوفًا. اهـ. وانظر: "خلاصة البدر المنير" 2/ 362 - 363.
(3)
سيأتي برقم (6175) كتاب: الأدب، باب: قول الرجل للرجل: اخسأ.
(4)
سيأتي برقم (3033).
(5)
"صحيح مسلم" برقم (169) بعد حديث (2931) كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: ذكر ابن صياد.
(6)
السابق برقم (2933) باب: ذكر الدجال وصفته.
غلام يهودي له ذؤابة
(1)
وله من حديث أبي بكرة فيه وقال: غريب
(2)
.
وروي أنه كان يشب في اليوم الواحد شباب الصبي لشهر
(3)
. وروي أنه ولد أعور مختتن
(4)
. ولنتكلم على مفرداته ومعانيه:
فالرهط: ما دون العشرة من الرجال، ولا يكون فيهم امرأة قاله الجوهري
(5)
. وفي "العين": هو عدد جمع من ثلاثة إلى عشرة. وبعض يقول: من سبعة إلى عشرة، وما دون السبعة إلى الثلاثة نفر
(6)
. وعن ثعلب: الرهط: الأب الأدنى. وفي "المحكم": الرهط لا واحد له من لفظه
(7)
. وفي "الجامع": الرهط: ما بين الثلاثة إلى العشرة، وربما جاوزوا ذلك. وكذا في "الجمهرة"
(8)
.
والأُطُم -بضم الهمزة والطاء- بناء من حجارة موضوع كالقصر.
وقيل: هو الحصين. وجمعه آطام
(9)
.
وقوله: (أُطُم بني مغالة). كذا هو في الصحيح، وفي "صحيح مسلم"
(1)
"سنن الترمذي" برقم (2247) كتاب: الفتن، باب: ما جاء في ذكر ابن صائد، وقال: هذا حديث حسن.
(2)
"سنن الترمذي" برقم (2248) كتاب: الفتن، باب: ما جاء في ذكر ابن صائد، وضعفه الألباني في "ضعيف الترمذي".
(3)
روى ما يدل على ذلك أبو يعلى في "مسنده" 13/ 93 (7163)، وابن حبان في "صحيحه" 14/ 243 (6335) كتاب: التاريخ، باب: صفته صلى الله عليه وسلم وأخباره، كلاهما من حديث حليمة أم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(4)
رواه عبد الرزاق في "المصنف" 11/ 396 (20831).
(5)
"الصحاح" 3/ 1128.
(6)
"العين" 4/ 19.
(7)
"المحكم" 4/ 176.
(8)
"جمهرة اللغة" 2/ 761.
(9)
"النهاية في غريب الحديث والأثر" 1/ 54، و"لسان العرب" 1/ 92.
رواية الحلواني: أطم بني معاوية. وذكر الزبير بن أبي بكر: أن كل ما كان عن يمينك إذا وقفت آخر البلاط مستقبل مسجد المدينة فهو لبني مغالة، ومسجده صلى الله عليه وسلم في بني مغالة، وما كان عن يسارك فلبني حديلة. وقال بعضهم: بنو مغالة: حي من قضاعة، وبنو معاوية هم بنو حديلة، وهي: امرأة نسبوا إليها امرأة عدي بن عمرو بن مالك بن النجار.
و (مَغَالة) بفتح الميم وبالغين المعجمة.
و (ابن صياد) يقال فيه: بالألف واللام أيضًا، كما قاله ابن الجوزي، وابن صائد واسمه: صافٍ كقاضٍ. وقيل: عبد الله. وقال الواقدي: هو من بني النجار. وقيل: من اليهود وكانوا حلفاء بني النجار، وابنه عمارة (ت ق): شيخ مالك من خيار المسلمين، ولما دفعته بنو النجار عن نسبهم حلف منهم تسعة وأربعون رجلًا، ورجل من بني ساعدة على دفعه.
وقوله: ("أتشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللهِ؟ "). فيه: عرضُ الإسلام على الصغير، واستدل به قوم على صحة إسلام الصبي، وكان قارب الاحتلام، وهو مقصود البخاري في تبويبه: هل يعرض على الصبي الإسلام؟ وبه قَالَ أبو حنيفة، ومالك، خلافًا للشافعي؛ لعدم تكليفه، ولا يرد على الشافعي صلاته قبل البلوغ كما ألزمه ابن العربي؛ لأنها من باب التمرين وقد أمر الشارع بها.
واختلف المالكية في إسلام ابن الكافر وارتداد ابن المسلم هل يعتد به أم لا؟ على قولين. واختار بعض المتأخرين منهم الاعتداد.
وقوله: (إنك نبي الأميين). قَالَ الرشاطي: الأميون مشركو العرب. نسبوا إلى ما عليه أمة العرب، وكانوا لا يكتبون.
وقيل: الأمية هي التي على أصل ولادات أمهاتها لم تتعلم الكتابة.
وقيل: نسبة إلى أم القرى.
وقوله: (فرفضه النبي صلى الله عليه وسلم). أي: تركه. كذا هو بالضاد المعجمة.
وفي رواية أخرى بالمهملة، وكذا هو بخط الدمياطي، وقال في الحاشية: إنه كذا عند البخاري ومسلم.
قال عياض: وهي روايتنا عن الجماعة. وقال بعضهم: إنه الرفص بالرجل مثل الرفس بالسين المهملة، فإن صح هذا فهو بمعناه قَالَ: لكن لم أجد هذِه اللفظة في أصول اللغة
(1)
.
قلتُ: لكنهما متقاربان، ووقع في رواية القاضي التميمي: فَرَضَّه بضاد معجمة، وهو وهم. وفي رواية المروزي: فوقصه، بقاف وصاد مهملة، قال: ولا وجه له.
قَالَ الخطابي: إنما هو فرصَّه -أي بتشديد الصاد المهملة، كذا حدثونا من وجوه. وكذلك هو في رواية شعيب بعد هذا، إلا أنه ضبطه بضاد معجمة، يريد أنه ضغطه حَتَّى ضم بعضه إلى بعض، ومنه {بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف: 4]
(2)
.
وقال المازري: أقرب منه أن يكون بالسين المهملة أي: ركله. أي: ضربه برجل واحدة
(3)
.
فإن قلتَ: ما تَرْكه عليه السلام لابن صياد وقد ادعى النبوة؟
قلتُ لأوجهٍ:
أحدها: أنه من أهل الذمة.
(1)
"إكمال المعلم" 8/ 470.
(2)
"أعلام الحديث" 1/ 708 و"الغريب" 1/ 634.
(3)
"المعلم بفوائد مسلم" 2/ 444.
ثانيها: أنه كان دون البلوغ، وهو ما اختاره عياض، فلم تجر عليه الحدود
(1)
.
ثالثها: أنه كان في أيام المهادنة مع اليهود. جزم به الخطابي
(2)
.
وقوله عليه السلام له: ("خُلِّطَ عَلَيْكَ الأَمْرُ") أي: خلط عليه شيطانه ما يلقي إليه من السمع مع ما يكذب إلى ذلك.
وقوله: "إِنِّي قَدْ خَبَأْتُ لَكَ خَبِئًا" فقال ابن صياد: هو الدُّخ. خبأت مهموز وخبأ بباء موحدة. وفي بعض النسخ "خَبِيئًا" بزيادة ياء مثناة تحت، وهو ما في مسلم
(3)
. وكلاهما صحيح بمعنى: الشيء الغائب المستور.
واختلف في هذا المخبأ ما هو؟ فقال الأكثرون كما حكاه القرطبي: إنه أضمر له في نفسه {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان: 10]
(4)
، قَالَ ابن التين: وهو ما عليه أهل اللغة. وقال الداودي: كان في يده سورة الدخان مكتوبة فلما قَالَ: الدُّخ. وأصاب بعضًا قَالَ له؟ "اخْسَأْ".
والدَّخُّ بفتح الدال وضمها، والمشهور في كتب اللغة والحديث كما ذكره النووي الضم فقط
(5)
، ولا يقدح في ذلك اقتصار ابن سيده وغيره على الفتح
(6)
، وقد اقتصر على الضم الجوهري
(7)
.
وقال القرطبي: وجدته ساكن الخاء مصححًا عليه، وكأنه الوقف.
قَالَ: وأما في الشعر:
(1)
"إكمال المعلم" 8/ 466 - 467.
(2)
"أعلام الحديث" 1/ 710.
(3)
مسلم برقم (2924) كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: ذكر ابن صياد.
(4)
"المفهم" 7/ 264.
(5)
"صحيح مسلم بشرح النووي" 18/ 49.
(6)
قلت: بل الذي عن ابن سيده الوجهان -الفتح والضم- حيث قال: الدَّخُ والدُّخُّ: الدخان. ثم قال: وحكاه ابن دريد بالضم فقط. انظر: "المحكم" 4/ 366.
(7)
"الصحاح" 1/ 420.
...........
…
عند رواق البيت يغشى الدُّخَّا
فمشدد الخاء، وكذلك قراءته في الحديث
(1)
.
وقال صاحب "العين": الدُّخُّ: الدخان
(2)
. ولم يذكر ابن بطال غيره
(3)
.
وقَالَ الخطابي: لا معنى للدخان هنا؛ لأنه ليس مما يخبأ في كف أو كم، بل الدخ: نبت موجود بين النخيل والبساتين. إلا أن يحمل قوله:
"خَبَأْتُ لَكَ خَبِيئًا" أي: أضمرت لك اسم الدخان فيجوز على الضمير.
وقد روي من حديث ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم أضمر هذِه اللفظة في نفسه فصادفه ابن صياد، وفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ليختبر ما عنده.
وقال أبو موسى المديني في "مغيثه": وقيل: إن الدجال يقتله عيسى بجبل الدخان، فيحتمل أن يكون أراده -قلتُ: وهو ما أورده أحمد في "مسنده" من حديث جابر مرفوعًا
(4)
- قَالَ: والدّخُّ: الدخان، وقال في موضع آخر: الظل والنحاس
(5)
.
وقال صاحب "المطالع": الدخ لغة في الدخان لم يستطع ابن صياد أن يتم الكلمة ولم يهتد من الآية إلا لهذين الحرفين على عادة الكهان من اختطاف بعض الكلمات من أوليائهم من الجن أو من هواجس النفس؛ ولهذا قَالَ له: "اخسأ فلن تعدو قدرك" يعني: قدر الكهان. وهي كلمة زجر وطرد، وهي مهموزة تقول منه: خسأتُ الكلبَ، ومنه: قوله تعالى: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108].
ووقع في "علوم الحاكم": أنه الدخ بمعنى: الزخ. وهو الجماع وهو عجيب.
(1)
"المفهم" 7/ 264 - 265.
(2)
"العين" 4/ 138.
(3)
"شرح ابن بطال" 3/ 343.
(4)
"المجموع المغيث" 645/ 1.
(5)
"المسند" 3/ 367 - 368.
وقوله: ("فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ") أي: لست بنبي فلن تجاوز قدرك، فإنما أنت كاهن ودجال. وقيل: أن تسبق قدر الله فيك وفي أمرك. قَالَ ابن التين: ووقع هنا بغير واو. وقال القزاز: هي لغة لبعض العرب يجزمون بلن مثل لم، وذكر أن بعض القراء قرأ {لن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا} [التوبة: 51] وقال ابن الجوزي: لا تبلغ قدرك، أي: تطالع بالغيب من قبل الوحي المخصوص بالأنبياء، ولا من قبيل الإلهام الذي يدركه الصالحون، وإنما كان الذي قاله من شيء ألقاه الشيطان إليه إما لكونه عليه السلام تكلم بذلك بينه وبين نفسه فسمعه الشيطان، وإما أن يكون الشيطان سمع ما يجري بينهما من السماء؛ لأنه إذا قضي القضاء في السماء تكلمت به الملائكة فاسترق الشيطان السمع، وإما أن يكون عليه السلام حدث بعض أصحابه بما أضمر. ويدل عليه قول ابن عمر: وخبأ له رسول الله صلى الله عليه وسلم {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان: 10].
فالظاهر أنه أعلم الصحابة بما يخبأ له، أو أن يكون اعتمد ذلك؛ لأن الدخان يستر أعين الناظرين عن الشمس.
وقد روى الطبراني أنه صلى الله عليه وسلم قَالَ لأصحابه: "خبأت له سورة الدخان" من حديث زيد بن حارثة
(1)
، وإنما فعل الشارع ذلك به؛ ليختبره على طريقة الكهان كما سلف؛ وليبين للصحابة حاله وكذبه.
(1)
رواه في "الكبير" 5/ 88 (4666)، و"الأوسط" 4/ 164 (3875)، وقال: لم يرو هذا الحديث عن فرات القزاز إلا ابنه الحسن، ولا عن ابنه إلا ابنه زياد، تفرد به إبراهيم بن عيسى التنوخي، وأورده الهيثمي في "المجمع" 8/ 4، وقال: رواه البزار والطبراني في "الكبير" و"الأوسط"، وفيه: زياد بن الحسن بن فرات ضعفه أبو حاتم ووثقه ابن حبان.
وقول عمر: (دعني أضرب عنقه). يعني: لما ادعى وظن أنه يجب عليه.
وقوله صلى الله عليه وسلم: ("إِنْ يَكُنْ هُو"). هو الصحيح وفي رواية: "يَكُنْهُ". وهذا الضمير في "يكنه" هو خبرها، وقد وضع موضع المنفصل واسمها مستتر فيها.
والمعنى: إن يكن هو الدجال الذي يقول: إنه رب فلن تسلط عليه؛ لأن له مدة سيبلغها، وإنما يقتله عيسى، ولابد أن ينفذ فيه القضاء. ("وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُو فَلَا خَيْرَ لَكَ فِي قَتْلِهِ") يعني: لصغره، وهذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يتضح له شيء من أمره هل هو الدجال أم لا؟
ولعل الله تعالى قد علم في إخفائه مصلحة فأخفاه، وأوجب الإيمان بخروج الدجال الكذاب، وفي هذا دلالة على التئبت في أمر التهم، وأن لا تستباح الدماء إلا بيقين، ولا شك في أن ابن صياد من الدجاجلة، وأما احتجاجه بأنه مسلم والدجال كافر، وبأنه لا يولد للدجال وقد ولد له، وبأن الدجال لا يدخل الحرمين وقد دخلهما، فغير واضح، وإن كان محمد بن جرير وغيره ذكروه في جملة الصحابة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم إنما أخبر عن صفات الدجال وقت فتنته وخروجه.
ويؤكد أنه هو، أو دجال من الدجاجلة: قوله لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أتشهد أني رسول الله، وأنه يأتيه صادق وكاذب، وأنه يرى عرشًا، وأنه لا يكره أن يكون الدجال، وأنه يعرف موضعه الآن، ولا شك أن من رضي لنفسه دعوى الإلهية وحالة الدجال فهو كافر، وقد صرح به القرطبي
(1)
.
(1)
"المفهم" 7/ 270.
وقال الخطابي: اختلف السلف في أمره بعد كبره أي: هل هو الدجال أم لا؟ فروي عنه أنه تاب من ذلك القول، ومات بالمدينة، وأنهم لما أرادوا الصلاة عليه كشفوا عن وجهه حَتَّى رآه الناس، وقيل
لهم أشهدوا
(1)
.
وكان ابن عمر
(2)
وجابر
(3)
يحلفان أنه الدجال، وكذا أبو ذر
(4)
.
فقيل لجابر: إنه أسلم قَالَ: وإن أسلم. فقيل: إنه دخل مكة وكان بالمدينة فقال: وإن دخل. قيل له: فإنه قد مات. قَالَ: وإن مات
(5)
.
لكن في أبي داود عن جابر قَالَ: فقدنا ابن صياد يوم الحرة
(6)
، وهو رد لمن قَالَ مات بالمدينة. وفي "مسلم": حلف عمر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه الدجال، فلم ينكره
(7)
.
(1)
"أعلام الحديث" 1/ 710 - 711.
(2)
رواه أبو داود (4330) كتاب: الملاحم، باب: في خبر ابن صائد. وأبو عوانة 1/ 130 (387) كتاب: الإيمان، باب: إثبات خازن النار. وأبو نعيم في "المستخرج" 1/ 237 - 238 (429) كتاب: الإيمان، باب: ذكر ما أُري من صفات الأنبياء ونعوتهم.
(3)
سيأتي برقم (7355) كتاب: الاعتصام، باب: من رأى ترك النكير من النبي صلى الله عليه وسلم حجة لا من غير الرسول.
(4)
أخرجه أحمد 5/ 148، وابن شَبَّة في "أخبار المدينة" 2/ 401 - 402، والبزار 9/ 395 - 396 (3983)، والطبراني في "الأوسط" 8/ 242 (8520)، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 8/ 2: رواه أحمد والبزار والطبراني في "الأوسط" ورجال أحمد رجال الصحيح غير الحارث بن حصيرة وهو ثقة.
(5)
هو جزء من حديث رواه أبو داود (4328) باب خبر الجساسة. وضعف الألباني إسناده.
(6)
"سنن أبي داود"(4332)، باب: في خبر ابن الصائد، وقال الألباني في "صحيح أبي داود": صحيح الإسناد.
(7)
"صحيح مسلم"(2929) كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: ذكر ابن الصياد.
وفي "الفتوح" لسيف: لما نزل النعمان على السوس أعياهم حصارها فقال لهم القسيسون: يا معشر العرب، إن مما عهد علماؤنا وأوائلنا أن لا يفتح السوس إلا الدجال، فإن كان فيكم فستفتحونها وإن لم يكن فيكم فلا قَالَ: وَصَافَّ ابن صياد في جند النعمان، فأتى باب السوس غضبانًا فدقه برجله. وقال: انفتح فتقطعت السلاسل وتكسرت الأغلاق وانفتح الباب فدخل الناس.
قَالَ ابن التين: والأصح أنه ليس هو؛ لأن عينه لم تكن ممسوحة ولا عينه طافية، ولا وجدت فيه علامة.
وقوله: (يختل أن يسمع من ابن صياد شيئًا قبل أن يراه ابن صياد). أي: يطلب أن يأتيه من حيث لا يعلم فيسمع ما يقول في خلوته، وبهذه اللفظة ساغ للبخاري إدخال هذا الحديث في باب: شهادة المختبئ من الشهادات
(1)
-وهي بكسر التاء- أي: مستغفلا ليسمع من كلامه شيئًا ليعلم به حاله أهو كاهن أو ساحر، وهي في مذهب مالك جائزة إذا لم يكن المقر خائفًا ولا ضعيفًا ولا مختدعًا.
وقوله: (وهو مضطجع في قطيفة). هي: كساء له خمل، والجمع قطائف، وقطف
(2)
. وفعله ذلك يحتمل أن يكون حين يأتيه شيطانه، وأن يفعله احتيالًا وكذبًا وتشبهًا مما فعله الشارع حين أتاه الوحي.
وقوله: (له فيها رمزة أو زمرة. وقال شعيب في حديثه: فرضَّه رمرمة أو زمزمة
(3)
وقال إسحاق وعقيل: رمرمة. وقال معمر: رمزة). وهذا
(1)
سيأتي برقم (2638) كتاب: الشهادات.
(2)
انظر: "الصحاح" 4/ 1417، "لسان العرب" 6/ 3681.
(3)
سيأتي موصولًا برقم (6173 - 6174) كتاب: الأدب، باب: قول الرجل للرجل اخسأ.
اختلاف وشك في ضبط ذلك.
قَالَ صاحب "المطالع": رمرمة أو رمزة كذا للبخاري. وعند أبي ذر زمرة. وقال شعيب: رمزة، وهذا خلاف ما أسلفناه عن البخاري.
وعند بعض رواة مسلم: زمرة، وفي رواية شعيب: رمرمة أو زمزمة، وكذا هو في البخاري كما سلف، وكذا للنسفي قَالَ: ومعنى هذِه الألفاظ كلها متقارب. قَالَ الخطابي: الرمرمة: تحريك الشفتين بالكلام. قَالَ: فالمرمة: الشفة
(1)
.
وقال غيره: هو كلام العلوج، وهو صوت من الخياشم والحلق لا يتحرك فيه اللسان والشفتان. والرمزة: صوت خفي، كلام لا يفهم، وقد يقال له: الهينمة. وأما الزمرة -بتقديم الزاي- فمن داخل الفم.
وقال صاحب "العين": الزمزمة: أصوات العلوج عند الأكل
(2)
، والزمزمة من الرعد ما لم يفصح، ولم يذكر ابن بطال سواه
(3)
.
وقال عياض: جمهور رواة مسلم بالمعجمتين، وأنه في بعضها براء أولًا وزاي آخرًا وحذف الميم الثانية، وهو: صوت خفي لا يكاد يفهم أو لا يفهم
(4)
.
وقوله: (فثار ابن صياد). أي: رجع عما كان متماديًا على قوله، كذا هو بخط الدمياطي فثار، وشرحه ابن التين على أنه فثاب بالباء، ثم قَالَ: وفي رواية أبي ذر: فثار، أي: وثب.
وقوله: ("لو تركته بيَّن") يقول لو وقف عليه من يتفهم كلامه لتبين من قوله ذلك الزمزمة، فيعرف ما يدعي من الكذب، إن كان الذي يقول في وقته ذلك هو الذي أظهر من دعواه أنه رسول الله.
(1)
"أعلام الحديث" 1/ 708.
(2)
"العين" 7/ 354.
(3)
"شرح ابن بطال" 3/ 343.
(4)
"إكمال المعلم" 8/ 468 - 469.
فصل:
وأما حديث أنس في الغلام اليهودِي
(1)
فيأتي في الطب
(2)
، وفيه عرض الإسلام على الصبي، كما ترجم له، وإنما دعاه إليه بحضرة أبيه؛ لأن الله تعالى أخذ عليه فرض التبليغ لعباده ولا يخافُ في الله لومة لائم، وتعذيب من لم يسلم إذا عقل الكفر، لقوله:("الحَمْدُ لله الذِي أَنْقَذَهُ مِنَ النَّارِ").
وأثر ابن عباس بعده فيه عبيد الله الراوي، عن ابن عباس، وهو ابن أبي يزيد.
فصل:
وأما قوله: حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ، أَنَا شُعَيْبٌ، قَالَ ابن شِهَاب: يُصَلَّى عَلَى كُل مَوْلُودٍ مُتَوَفًّى وإِنْ كَانَ لِغَيَّةٍ؛ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ وُلدَ عَلَى فِطْرَةِ الإِسْلَامِ .. إلى قوله: وَلَا يُصَلَّى عَلَى مَنْ لَا يَسْتَهِلُّ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ سَقْطٌ، فَإِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يُحَدِّثُ قَالَ النبي صلى الله عليه وسلم:"مَا مِنْ مَوْلُودٍ .. " الحديث، وهذا منقطع؛ لأن الزهري لم يسمع من أبي هريرة شيئًا ولا أدركه، والبخاري لم يذكره للاحتجاج، إنما ذكر الزهري مسندًا بعلو، واعتماده على سنده الثاني عن الزهري، عن أبي سلمة، عن
أبي هريرة، وإن كان نازلًا فهو متصل بذلك، وكذا ذكره في ذكر أولاد المشركين، وفي سورة الروم من التفسير
(3)
.
(1)
بهامش الأصل: واسم الغلام عبد القدوس كذا أوله ابن بشكوال في "مبهماته".
(2)
سيأتي برقم (5657) باب: عيادة المشرك.
(3)
سيأتي قريبًا برقم (1385) باب: ذكر أولاد المشركين، وبرقم (4775) باب:{لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} .
قَالَ أبو عمر: وروي من وجوهٍ صحاح ثابتة من حديث أبي هريرة وغيره
(1)
. وقول ابن شهاب: (وَإِنْ كَانَ لِغَيَّةٍ). يريد لزنا، وهو قول جميع الفقهاء إلا قتادة فانفرد فقال: لا يصلى عليه
(2)
.
وقوله: (يَدَّعِي أَبَوَاهُ الإِسْلَامَ أَوْ أَبُوهُ خَاصَّةً) وهو قول مالك وغيره أنه إن أسلم أبوه تبعه
(3)
.
وقوله: (إِذَا اسْتَهَلَّ صَارِخًا صُلِّيَ عَلَيْهِ) الاستهلال: الصياح والبكاء.
وإذا استهل صلِّي عليه عندنا
(4)
لحديث ابن عباس مرفوعًا: "إذا استهل السقط صلِّي عليه وورث"
(5)
.
ورواه الترمذي من حديث جابر، وصوب وقفه
(6)
.
ونقل ابن المنذر الإجماع على وجوب الصلاة على السقط
(7)
.
وحكي عن سعيد بن جبير: لا يصلى عليه ما لم يبلغ
(8)
.
(1)
"التمهيد" 6/ 349.
(2)
رواه عبد الرزاق في "المصنف" 3/ 534 (6613) كتاب: الجنائز، باب: الصلاة على ولد الزنا والمرجوم.
(3)
انظر: "الاستذكار" 8/ 406.
(4)
انظر: "البيان" 3/ 77.
(5)
حديث ابن عباس رواه ابن المنذر في "الأوسط" 5/ 403، وابن عدي في "الكامل" 5/ 20، وذكره ابن حجر في "التلخيص الحبير" 2/ 114، وقال: وقواه ابن طاهر في "الذخيرة"، وذكره أيضًا في "الدراية" 1/ 235، وقال: وإسناده حسن. أهـ، وللحديث شواهد عن جابر وأبي هريرة.
(6)
"سنن الترمذي"(1032) كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في ترك الصلاة على الجنين حتى يستهل.
(7)
انظر: "الأوسط" 5/ 403.
(8)
روى ذلك ابن أبي شيبة في "مصنفه" 3/ 11 (11598) كتاب: الجنائز، باب: من قال: لا يصلى على السقط حتى يستهل صارخًا.
قَالَ ابن حزم: ورويناه أيضًا عن سويد بن غفلة
(1)
. وعند المالكية لا يصلى عليه ما لم تعلم حياته بعد انفصاله بالصراخ وفي العطاس والحركة الكثيرة والرضاع اليسير، قولان للمالكية
(2)
.
أما الرضاع المتحقق والحياة المعلومة بطول المكث فكالصراخ.
وعن الليث وابن وهب وأبي حنيفة والشافعي: أن الحركة والرضاع والعطاس استهلال
(3)
. وعن بعض المالكية: أن البول والحدث حياة.
وفي شرح "الهداية": إذا استهل المولود سمي وغسل وصُلَّي عليه، وكذا إذا استهل ثم مات لحينه، فإن لم يستهل لا يغسل ولا يرث ولا يورث ولا يسمى. وعند الطحاوي: أن الجنين الميت يغسل ولم يحك خلافًا. وعن محمد في سقط استبان خلقه: يغسل ويكفن ويحنط ولا يصلى عليه.
وقال أبو حنيفة: إذا خرج أكثر الولد صُلّي عليه، وإن خرج أقله لم يُصَلْ عليه. وعن ابن عمر، أنه يصلى عليه، وإن لم يستهل، وبه قَالَ ابن سيرين وابن المسيب
(4)
وأحمد وإسحاق.
وقال العبدري: إن كان له دون أربعة أشهر لم يُصَلْ عليه بلا خلاف، يعني بالإجماع، وإن كان له أربعة أشهر ولم يتحرك لم يصل عليه عند جمهور العلماء.
(1)
"المحلى" 5/ 160.
(2)
انظر: "مواهب الجليل" 3/ 71.
(3)
انظر: "بداع الصنائع" 1/ 311، "النوادر والزيادات" 1/ 597، "روضة الطالبين" 2/ 117.
(4)
روى هذِه الآثار عبد الرزاق 3/ 531 (6600 - 6601) كتاب: الجنائز، باب: الصلاة على الصغير والسقط وميراثه، وابن أبي شيبة في "المصنف" 3/ 10 - 11 (11584، 11591، 11594 - 11595) كتاب الجنائز، باب: من قال: يُصلى على السقط، وابن المنذر في "الأوسط" 5/ 403 - 406.
وقال أحمد وداود: يُصلَّى عليه
(1)
. وقال ابن بطال: اتفق جمهور الفقهاء على أنه لا يُصَلّى عليه حَتَّى يستهل، قَالَ: وهو قول مالك والكوفيين والأوزاعي والشافعي، وهو الصواب؛ لأن من لم يَسْتهل لم تصح له حياة، ولا يقال فيه إنه ولد على الفطرة، وإنما سن الشارع الصلاة على من مات ممن تقدمت له حياة، لا من لم تصح له حياة
(2)
.
فصل:
وقولى: ("مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ .. ") الحديث. الفطرة في كلام العرب تنصرف على وجوه: منها: الجبلة، وزكاة الفطر، والخلقة يقال: فطر الله الخلق أي: خلقهم. وقيل: ابتداء الخلق المراد بالحديث.
وهي في الشرع: الحالة التي خلقوا عليها من الإيمان. فالمعنى: على الفطرة التي خلق عليها من الإيمان.
وقال الأوزاعي وغيره: تفسيره قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} [الأعراف: 172].
قَالَ ابن المبارك: هذا لمن يكون مسلمًا يذهب إلى أنه مخصوص، فمعنى الحديث على هذا: يولد على العهد الذي أخذه عليه. وقيل: معناه يولد على الفطرة السلمية والطبع المتهيئ لقبول الدين لو تُرك.
وقيل: على فطرة الله.
وقال محمد بن الحسن: كان هذا في أول الإسلام قبل نزول الفرائض وأمر المسلمين بالجهاد
(3)
.
قَالَ أبو عبيد: كأنه يذهب إلى أنه لو كان يولد على الفطرة ثم مات
(1)
انظر: "المغني" 3/ 458.
(2)
"شرح ابن بطال" 3/ 342.
(3)
نقله عنه أبو عبيد في "غريب الحديث" 1/ 221.
قبل أن يهوده أبواه لم يتوارثا؛ لأنه مسلم وهذا كافر
(1)
، وهذا ليس ببين لأن بنفس تمام الولادة يسري إليه هذا الحكم، ويرد عليه أيضًا أنه لا يجوز أن يكون منسوخًا؛ لأنه خبر ولا يكون كما قَالَ ابن المبارك، وإنما أشكل معنى الحديث؛ لأنهم تأولوا الفطرة بالإسلام، وإنما هي ابتداء الخلق. وقيل: نسخه قوله: "الله أعلمُ مما كانُوا عامِلين"
(2)
وقيل: نسخه سبيهم مع آبائهم. وقال ابن عبد البر: اختلفوا في معناه، فقالت طائفة: ليس عامًا، ومعناه: إن كل من ولد على الفطرة، وكان له أبوان على غير الإسلام هوَّداه أو نصراه.
قالوا: وليس المعنى أن جميع المولودين من بني آدم أجمعين مولودون على الفطرة بين الأبوين الكافرين، وكذلك من لم يولد عليها وكان أبواه مؤمنين حكم له بحكمهما في صغره، وإن كانا يهوديين فهو يهودي ويرثهما ويرثانه، وكذلك إن كانا نصرانيين أو مجوسيين حَتَّى يعبر عنه لسانه ويبلغ الحنث، فيكون له حكم نفسه حينئذ لا حكم أبويه، واحتج القائلون بهذِه المقالة بحديث أُبي بن كعب، قَالَ النبي صلى الله عليه وسلم:"الغلام الذي قتله الخِضر طبعه الله يوم طبعه كافرًا"
(3)
.
(1)
المصدر السابق.
(2)
سيأتي برقم (1384): باب: ما قيل في أولاد المشركين.
(3)
رواه مسلم (2661) كتاب: القدر، باب: معنى كل مولد يولد على الفطرة، وأبو داود (4705) كتاب: السنة، باب: في القدر، والطيالسي 1/ 435 (540)، وابن أبي عاصم في "السنة" 1/ 85 - 86، والطحاوي في "شرح مشكل الآثار" كما في "تحفة الأخيار" 8/ 419 (6096) كتاب: التفسير، بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما قد اختلف القراءة فيه، والشاشي في "مسنده" 3/ 309 - 310 (1412 - 1413)، وابن حبان 14/ 108 (6221): كتاب: التاريخ، باب: بدء الخلق، واللالكائي في "شرح أصول الاعتقاد" 4/ 665 (1075).
وبحديث أبي سعيد مرفوعًا: "ألا إن بني آدم خلقوا طبقات، فمنهم من يولد مؤمنًا ويحيى مؤمنًا ويموت مؤمنًا، ومنهم من يولد كافرًا .. "
(1)
إلى آخر الحديث بالقسمة الرباعية، ففيه وفي غلام الخضر ما يدل على أن قوله:"كل مولود" ليس على العموم، وأن المعنى فيه، أن كل مولود يولد على الفطرة وأبواه (يهوديان أو نصرانيان)
(2)
، فإنهما يهودانه أو ينصرانه، ثم يصير عند بلوغه إلى ما يحكم به عليه، ودفعوا رواية من روى:"كل بني آدم يولد على الفطرة".
قالوا: ولو صح هذا اللفظ ما كان فيه حجة؛ لأن الخصوص جائز دخوله على لفظة "كل" قَالَ تعالى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} [الأحقاف: 25] ولم تدمر السماء والأرض وقال {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 44] ولم يفتح عليهم أبواب الرحمة.
وذكروا في ذلك رواية الأوزاعي، عن الزهري، عن حميد، عن أبي هريرة: "كل مولودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ
(1)
حديث أبي سعيد جزء من حديث طويل رواه الترمذي (2191) كتاب: الفتن، باب: ما جاء ما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه مما هو كائن إلى يوم القيامة، وقال: هذا حديث حسن صحيح. والحميدي 2/ 17 (769)، وأحمد 3/ 19، وأبو يعلى 2/ 352 - 353 (1101)، والحاكم 4/ 505 - 506 وقال: تفرد بهذِه السياقة علي بن زيد بن جدعان عن أبي نضرة، والشيخان لم يحتجا بعلي بن زيد وقال الذهبي: ابن جدعان صالح الحديث. اهـ. والحديث رواه أيضًا البيهقي في "الشعب" 6/ 309 - 310 (8289) باب: في حسن الخلق، والبغوي في "شرح السنة" 14/ 239 - 242 (4039) باب: في التجافي عن الدنيا، وقال: هذا حديث حسن، وقال الألباني: إسناده ضعيف. "مشكاة المصابيح" 3/ 1424 (5145)، وقال أيضًا في "ضعيف الترمذي": ضعيف لكن بعض فقراته صحيح، وانظر "الضعيفة"(2927).
(2)
في الأصل: (يهودان أو ينصران)، والمثبت هو الموافق للسياق.
أَوْ يُمَجِّسَانِهِ"
(1)
. قَالَ الأوزاعي: وذلك بقضاء.
وفي حديث معمر: "كما تنتج البهيمةُ بهيمةً جمعاء، هل تحسون فيها مِنْ جدعاء". يقول أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم {فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}
(2)
[الروم: 30] ولم يختلف في هذا اللفظ عن معمر، وكذا حديث سمرة في الرؤيا عن النبي صلى الله عليه وسلم:"كلُّ مَوْلودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ" هذا لفظه.
وفي حديث أبي رجاء، عن سمرة:"وأمَّا الرجلُ الطويل الذي في الرَّوضةِ فإنَّه إبراهيم، وأمَّا الوِلدَان الذين حوله فكل مَوْلودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ"
(3)
.
وقال آخرون: المعنى في كل ذلك: كل مولود من بني آدم، فهو يولد على الفطرة أبدًا، وأبواه يحكم له بحكمهما، وإن كان ولد على الفطرة حَتَّى يكون ممن يعبر عنه لسانه، يدل على ذلك رواية من روى:"كلُّ بني آدمَ يُولد على الفطرةِ". وحق الكلام أن يحمل على عمومه، وحديث أبي هريرة مرفوعًا:"الله أعلمُ مما كانوا عامِلين" وروى أبو سلمة عنه مرفوعًا: "ما من مَوْلودٍ إلا يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ" ثم قرأ: الآية {فِطْرَتَ اللهِ} الآية [الروم: 30] وبنحوه رواه الليث عن يونس، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة. وذكر حديث إبراهيم والوِلْدَان من حوله: أولاد الناس، قالوا:
(1)
رواها ابن حبان 1/ 336 (128) كتاب: الإيمان، باب: الفطرة، والبيهقي 6/ 203 كتاب: اللقطة، باب: الولد يتبع أبويه في الكفر، والذهلي في "الزهريات" كما ذكره ابن حجر في "الفتح" 3/ 248.
(2)
رواه مسلم (2658) كتاب: القدر، باب: معنى كل مولود يولد على الفطرة، وأحمد 2/ 275، وعبد الرزاق 11/ 119 - 120 (20087) كتاب: الجامع، باب: القدر، وابن حبان 1/ 338 - 339 (130) كتاب: الإيمان، باب: الفطرة.
(3)
سيأتي برقم (7047) كتاب: التعبير، باب: تعبير الرؤيا بعد صلاة الصبح.
فهذِه الأحاديث تدل ألفاظها على أن المعنى: الجميع يولدون على الفطرة
(1)
. انتهى.
أما حديث أبي سعيد: ففيه ابن جدعان، وهو ضعيف ثم لا معارضة بينه وبين من قَالَ بالعموم؛ لأنه من ولد مؤمنًا وعاش عليه ومات عليه، وكذا عكسه وما أشبهه كله راجع إلى علم الله تعالى، فإنه قد يولد الولد بين مؤمنين، والعياذ بالله يكون سبق في علم الله تعالى غير ذلك، وكذا من ولد بين كافرين، وإلى هذا أيضًا يرجع غلام الخضر.
قَالَ أبو عمر: وقد اختلف العلماء في هذِه الفطرة، فذكر أبو عبيد أنه سأل محمد بن الحسن عن معنى هذا الحديث، فما أجابه بأكثر من أن قَالَ: هذا القول من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قبل أن يؤمر الناس بالجهاد. كأنه حاد عن الجواب إما لإشكاله أو لكراهة الخوض فيه. وقوله: قبل أن يؤمر الناس بالجهاد غير جيد؛ لأن في حديث الحسن عن الأسود بن سريع بيان أن ذلك كان بعد الجهاد وهو قوله: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما بال قوم بلغوا في القتل إلى الذرية، إنه ليس من مولود إلا وهو يولد على الفطرة فيعبر عنه لسانه"
(2)
وهو حديث بصري صحيح
(3)
.
(1)
"التمهيد" 6/ 350 - 353.
(2)
رواه النسائي في "الكبرى" 5/ 184 (8616) كتاب: السير، باب: النهي عن قتل ذراري المشركين، وأحمد 3/ 435، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" 2/ 375 (1160)، والطبراني في "الكبير" 1/ 284 (829، 832)، والحاكم في "المستدرك" 2/ 123 كتاب: الجهاد، والبيهقي في "السنن" 9/ 77 كتاب: السير، باب: النهي عن قصد النساء والولدان بالقتل، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 5/ 316: رواه أحمد والطبراني، وبعض أسانيد أحمد رجاله رجال الصحيح.
(3)
"التمهيد" 6/ 353 - 355.
وقال أبو نعيم: مشهور ثابت
(1)
.
قلتُ: فيه نظر؛ لأن ابن معين وجماعة أنكروا سماع الحسن من الأسود.
وأخرجه ابن حبان في "صحيحه": "ما مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إلا عَلَى فِطْرَةِ الإسلام حتى يعرب"
(2)
.
وقال أبو حاتم: يريد الفطرة التي يعهدها أهل الإسلام، حيث أخرج الخلق من صلب آدم، فأقروا له بتلك الفطرة من الإسلام، فنسبت الفطرة إلى الإسلام عند الاعتقاد، على سبيل المجاورة
(3)
.
وروى عوف الأعرابي، عن أبي رجاء عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم:"كلّ مَوْلودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ" فناداه الناس يا رسول الله وأولاد المشركين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وأولاد المشركين".
وقال ابن المبارك: تفسيره: "الله أعلم مما كانوا عاملين".
وقالت جماعة: الفطرة هنا: الخلقة التي يخلق عليها المولود من المعرفة، فكأنه قَالَ كل مولود يولد على خلقة يعرف بها ربه جَلَّ وعَزَّ إذا كبر وبلغ المعرفة، يريد خلقة مخالفة لخلقة البهائم التي لا تصل بخلقتها إلى معرفة ذلك.
قَالَ: وأنكروا أن يكون المولود يُفْطر على كفر أو إيمان أو معرفة أو إنكار وإنما يولد على السلامة في الأغلب خلقة وطبعًا، وبنية ليس فيها إيمان ولا كفر ولا إنكار ولا معرفة، ثم يعتقدون الإيمان أو غيره إذا ميزوا.
واحتجوا بقوله: "كمَا تُنْتَجُ البَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ" يعني: سالمة.
(1)
"حلية الأولياء" 8/ 263.
(2)
"صحيح ابن حبان" 1/ 341 (132) كتاب: الإيمان، باب: الفطرة.
(3)
"صحيح ابن حبان" 1/ 342.
"هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ". يعني: مقطوعة الأذن. فمثَّل قلوب بني آدم بالبهائم؛ لأنها تولد كاملة الخلق ليس فيها نقص ثم تجدع، فكذا يكون الأطفال في حين ولادتهم ليس لهم كفر حينئذ ولا إيمان ولا معرفة ولا إنكار مثل البهائم السالمة، فلما بلغوا استهواهم الشيطان فكفر أكثرهم إلا من عصم الله.
قالوا: ولو كان الأطفال قد فطروا على الكفر أو الإيمان في أول أمرهم فما انقلبوا عنه أبدًا، وقد نجدهم يؤمنون ثم يكفرون، ويستحيل أن يكون الطفل في حين ولادته يعقل شيئًا؛ لأن الله تعالى أخرجهم في حال لا يفقهون معها شيئًا، فمن لا يعلم شيئًا استحال منه كفر أو إيمان أو معرفة أو إنكار.
قَالَ أبو عمر: وهذا القول أصح ما قيل في معنى الفطرة هنا، وذلك أن الفطرة: السلامة والاستقامة بدليل حديث عياض بن حمار، قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم:"قَالَ الله تبارك وتعالى: إني خلقت عبادي حنفاء"
(1)
أي: على استقامة وسلامة، والحنيف في كلام العرب: المستقيم السالم
(2)
. وذكر الباقلاني في نقض كتاب "العمد" للجاحظ، أن المراد: أن كل مولود يولد في دار الإسلام فحكمه حكم الدار، وأنه لاحق بكونه مولودًا موجودًا بأحكام المسلمين في تولي أمره ووجوب الصلاة عليه ودفنه في مقابر المسلمين، ومنعه من اعتقاد غير
(1)
رواه مسلم (2865) كتاب: الجنة والنار، باب: الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار، وأحمد 4/ 162، الطبراني في "الكبير" 17/ 361 - 362 (995)، وفي "الأوسط" 3/ 206 (2933)، البيهقي 9/ 20 كتاب: السير، باب: أصل فرض الجهاد.
(2)
انظر: "التمهيد" 6/ 354 - 356.
الإسلام إذا بلغ.
وقال آخرون: الفطرة هنا: الإسلام، وهو المعروف عند السلف من أهل العلم بالتأويل، فإنهم أجمعوا في قوله تعالى:{فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30]. قالوا: هي دين الإسلام، واحتجوا بقول أبي هريرة اقرءوا إن شئتم:{فِطْرَتَ اللهِ} الآية. وبحديث عياض السالف. وبقوله صلى الله عليه وسلم: "خمس من الفطرة" فذكر قص الشارب والاختتان وذلك من سنن الإسلام، وإليه ذهب أبو هريرة وعكرمة والحسن وإبراهيم والضحاك وقتادة والزهري، وعلى هذا معنى قوله:"بهيمة جمعاء" يقول: خلق الطفل سليمًا من الكفر مؤمنًا مسلمًا على الميثاق الذي أخذ على الذرية {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} [الأعراف: 172] قَالَ: ويستحيل أن يكون على الفطرة هنا الإسلام؛ لأن الإسلام والإيمان: قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح، وهذا معدوم في الطفل.
وقال آخرون: معنى الفطرة هنا: البداءة التي ابتدأهم عليها أي: على ما فطر الله تعالى عليه خلقه من أنه ابتدأهم للمحيا والموت والسعادة والشقاوة، وإلى ما يصيرون إليه عند البلوغ من [ميولهم عن]
(1)
آبائهم واعتقادهم، وذلك ما فطرهم عليه مما لا بد من مصيرهم إليه، وكأنه قَالَ: كل مولود يولد على ما ابتدأه الله عليه. واحتجوا بما رواه مجاهد، عن ابن عباس قَالَ: لم أدر ما {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ} [فاطر: 1] حَتَّى أتى أعرابيان يختصمان في بئر، فقَالَ: أحدهما أنا فطرتها أي: ابتدأتها
(2)
.
(1)
زيادة يقتضيها السياق، أثبتناها من "التمهيد" 6/ 360.
(2)
رواه الطبري في "تفسيره" 5/ 158 (13114)، والبيهقي في "شعب الإيمان" 2/ 258 (1682) باب: في طلب العلم، وابن عبد البر في "التمهيد" 6/ 360.
وقال محمد بن نصر المروزي، وهذا المذهب شبيه بما حكاه أبو عبيد، عن ابن المبارك قَالَ: وقد كان أحمد يذهب إلى هذا القول ثم تركه، ومذهب مالك نحو هذا.
وقال آخرون: معناه أن الله فطرهم على الإنكار والمعرفة وعلى الكفر والإيمان، فأخذ من ذرية آدم الميثاق حين خلقهم فقال:{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} قالوا جميعًا: {بَلَى} . وأما أهل السعادة فقالوا جميعًا: بلى على معرفة له طوعًا من قلوبهم، وأما أهل الشقاوة فقالوا: بلى، كرهًا لا طوعًا. تصديق ذلك قوله تعالى:{وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [آل عمران: 83] وكذا قوله: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ} [الأعراف: 29، 30].
قَالَ المروزي: وسمعت ابن راهويه يذهب إلى هذا، واستدل بقول أبي هريرة: اقرءوا إن شئتم: {فِطْرَتَ اللَّهِ} [الروم: 3] الآية. قَالَ إسحاق: لا تبديل لخلقته التي جبل عليها بني آدم كلهم من الكفر والإيمان والمعرفة والإنكار. واحتج أيضًا بقوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} [الأعراف: 172] الآية.
قَالَ إسحاق: أجمع أهل العلم أنها الأرواح قبل الأجساد. واحتج بحديث أبي بن كعب يرفعه في غلام الخضر فكان الظاهر ما قَالَ موسى: (أقتلت نفسًا زاكية)
(1)
[الكهف: 74]، فأعلم الله الخضر ما كان الغلام عليه من الفطرة التي فطره عليها وهي الكفر. وكان ابن عباس يقرأ. (وأما الغلام فكان كافرًا وكان أبواه مؤمنين) [الكهف: 80].
(1)
قراءة: أبي جعفر، ونافع، ورويس عن يعقوب، وأبي عمرو. "الكوكب الدري" ص 481.
قَالَ إسحاق: فلو ترك الشارع ولم يبين لهم حكم الأطفال، لم يعرفوا المؤمن منهم من الكافر؛ لأنهم لا يدرون ما جبل كل واحد منهم عليه حين أخرج من ظهر آدم، فبين لهم حكم الطفل في الدنيا فقال:"أبواه يهودانه أو ينصرانه" يقول: إنهم لا يعرفون ما طبع عليه في الفطرة الأولى، ولكن حكم الطفل في الدنيا حكم أبويه، فأعرفوا ذلك بالأبوين، فمن كان صغيرًا بين أبوين مسلمين التحق بحكمهما.
واحتج أيضًا بحديث عائشة حين مات صبي من الأنصار بين أبوين مسلمين فقالت عائشة: طوبى له عصفور من عصافير الجنة. فرد عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "مه يا عائشة، وما يدريك؟ إن الله تعالى خلق الجنة وخلق لها أهلًا، وخلق النار وخلق لها أهلًا"
(1)
.
قَالَ إسحاق: فهذا الأصل الذي نعتمده ويعتمد عليه أهل العلم. قَالَ أبو عمر: وقول إسحاق: إن الفطرة المعرفة
(2)
، فلا يخلو من أن يكون أراد بقوله أن الله تعالى خلق الأطفال وأخرجهم من بطون أمهاتهم؛ ليعرف منهم العارف ويعترف فيؤمن، وينكر منهم المنكر ما يعرف فيكفر، وذلك كله قد سبق به لهم قضاء الله وتقدم فيه علمه، ثم يصيرون إليه، فتصح منهم المعرفة والإيمان والكفر والجحود، وذلك عند التمييز والإدراك. فذلك ما قلنا، أو أراد أن الطفل يولد عارفًا مقرًا مؤمنًا أو عارفًا جاحدًا منكرًا كافرًا في حين ولادته، فهذا ما يكذبه العيان والعقل، ولا أعلم أصح من الذي بدأنا به.
(1)
رواه مسلم (2662) كتاب: القدر، باب: معنى كل مولود يولد على الفطرة، وأبو داود (4713) كتاب: السنة، باب: في ذراري المشركين، والنسائي 4/ 57 كتاب: الجنائز، باب: الصلاة على الصبيان، وابن ماجة (82) في المقدمة، باب: في القدر، وأحمد 6/ 208.
(2)
كذا بالأصل، وتتمة قول إسحاق: والإنكار والكفر والإيمان، "التمهيد" 6/ 365.
وقول إسحاق في هذا الباب لا يرضاه حذاق الفقهاء من أهل السنة، وإنما هو قول المجبرة.
وقال آخرون: معناها ما أخذه الله تعالى من الميثاق على الذرية،
فأقروا جميعًا له بالربوبية عن معرفة منهم به، ثم أخرجهم من أصلاب آبائهم مطبوعين على تلك المعرفة وذلك الإقرار، قالوا: وليست تلك المعرفة والإقرار بإيمان، ولكنه إقرار من الطبيعة للرب فطرة ألزمها قلوبهم، ثم أرسل إليهم الرسل فدعوهم إلى الاعتراف له بالربوبية والخشوع تصديقًا لما جاءت به الرسل، فمنهم من أنكر وجحد بعد المعرفة وهو به عارف؛ لأنه لم يكن الله ليدعو خلقه إلى الإيمان بما لا يعرفون، وتصديق ذلك قوله جل وعلا:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ} [الزخرف: 87].
وقال آخرون: الفطرة: ما يقلِّب الله قلوب الخلق إليه بما يريد ويشاء، واحتجوا بحديث أبي سعيد السالف:"إن بني آدم خلقوا على طبقات"، فالفطرة عند هؤلاء ما قضاه الله وقدره لعباده من أول أحوالهم إلى آخرها، كل ذلك عندهم فطرة.
قَالَ أبو عمر: وهذا القول وإن كان صحيحًا في الأصل، فإنه أضعف الأقاويل من جهة اللغة في معنى الفطرة
(1)
.
فصل:
وقوله: ("فَأبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ ويُنصَّرَانِهِ ويُمَجَّسَانِهِ"). يريد أنهما يعلمانه ما هما عليه ويصرفانه عن الفطرة، ويحتمل أن يكون المراد: يرغبانه في ذلك، أو أن كونه تبعًا لهما في الدين بولادته على فراشهما، يوجب أن
(1)
"التمهيد" 6/ 357 - 360، 362 - 368.
يكون حكمه حكمهما ويستن بسنتهما، ويعقدان له الذمة بعقدهما، ولم يرد أنهما يجعلانه ذلك، وظاهر الحديث: كونه تبعًا لهما، وإن اختلفت أديانهما.
وقوله: ("كَمَا تُنْتَجُ البَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ"). يريد سالمة من العيوب، ونصب بهيمة على المعنى؛ لأن المعنى: تنتج البهيمة بهيمة أي: تلد بهيمة فهي مفعولة لتلد. يقال: نُتجت الناقة بضم النون ونتجها أهلها.
وقوله: ("هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ"). "تُحِسُّونَ" -بضم التاء من الإحساس- وهو العلم بالشيء.
وقوله: ("مِنْ جَدْعَاءَ"). يريد لا جدع فيها من أصل الخلقة، إنما يجدعها أهلها بعد ذلك، أي: يسمونها في الآذان أو غيرها، كذلك المولود يولد على الفطرة ثم يغيره أبواه فيهودانه وينصرانه وذلك كله بقدر الله.
فصل:
وفي حديث ابن صياد من الفقه: جواز التجسس على من يخشى منه فساد الدين والدنيا، وهذا الحديث يبين أن قوله تعالى:{وَلَا تَجَسَّسُوا} [الحجرات: 12]، ليس على العموم، وإنما المراد به عن التجسس على من لم يخش القدح في الدين، ولم يضمر الغل للمسلمين واستتر بقبائحه، فهذا الذي ترجى له التوبة والإنابة، وأما من خشي منه مثل ما خشي من ابن صياد ومن كعب بن الأشرف وأشباههما ممن كان يضمر الفتك لأهل الإسلام فجائز التجسس عليه، وإعمال الحيلة في أمره إذا خشي. وقد ترجم له في الجهاد باب ما يجوز من الاحتيال والحذر على من تخشى معرته. كما سلف.
وفيه: أيضًا أن للإمام أو الرئيس أن يعمل نفسه في أمور الدين ومصالح المسلمين، وإن كان له من يقوم في ذلك مقامه.
وفيه: أن للإمام أن يهتم بصغار الأمور ويبحث عنها خشية ما يئول منها من الفساد.
وفيه: أنه يجب التثبت في أهل التهم، وأن لا تستباح الدماء إلا بيقين لقوله:"وإنْ لم يكن هُو فلا خيرَ لكَ في قتلِهِ".
وفيه: أن للإمام أن يصبر ويعفو إذا خفي عليه أو قوبل بما لا ينبغي لقول ابن صياد لنبينا صلى الله عليه وسلم: (أشهد أنك نبي الأميين). ولم يعاقبه.
وفيه: أن للعالم والرئيس أن يكلم الكاهن والمنجم على سبيل الاختبار لما عندهم والعيب لما يدعونه والإبطال لما ينتحلونه.
80 - باب إِذَا قَالَ المُشْرِكُ عِنْدَ المَوْتِ: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ
(1)
1360 -
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ صَالِحٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ المُسَيَّبِ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الوَفَاةُ جَاءَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ، وَعَبْدَ اللهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ المُغِيرَةِ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لأَبِي طَالِبٍ:"يَا عَمِّ، قُلْ: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، كَلِمَةً أَشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللهِ". فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: يَا أَبَا طَالِبٍ، أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ المُطَّلِبِ؟! فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ، وَيَعُودَانِ بِتِلْكَ المَقَالَةِ، حَتَّى قَالَ أَبُو طَالِبٍ آخِرَ مَا كَلَّمَهُمْ هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، وَأَبَى أَنْ يَقُولَ: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَمَا وَاللهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ، مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ". فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِيهِ: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ} [التوبة: 113] الآيَةَ. [3884، 4675، 4772، 6681 - مسلم: 24 - فتح: 3/ 222]
ذكر فيه حديث ابن شِهَابٍ عن سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ، عَنْ أَبِيهِ فِي وفاةِ أبي طالب .. إلى قولهِ: فَأنْزَلً اللهُ تَعَالَى فِيهِ: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ} الآيَةَ.
وفيه: "قُلْ: لَا إله إِلَّا اللهُ، كَلِمَةً أَشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللهِ". وفي لفظ: "أحاج" بدل: "أشهد"
(2)
. وأخرجه مسلم من حديث أبي حازم، عن أبي هريرة مختصرًا
(3)
، وفيه فنزلت {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ}
(1)
ورد بهامش الأصل ما نصه: آخر 4 من 4 من تجزئة المصنف.
(2)
سيأتي الحديث بهذا اللفظ برقم (3884) كتاب: مناقب الأنصار، باب: قصة أبي
طالب، وبرقم (4675) كتاب: التفسير، باب: قوله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} ، وبرقم (4772) كتاب: التفسير، باب:{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} ، وبرقم (6681) كتاب: الأيمان والنذور، باب: إذا قال: والله لا أتكلم اليوم.
(3)
مسلم برقم (25) كتاب: الإيمان، باب: الدليل على صحة إسلام من حضره الموت، ..
[القصص: 56]. وأخرجه الحاكم من حديث سعيد، عن أبي هريرة، ثم قَالَ: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، فإن يونس وعقيلًا أرسلاه، عن الزهري، عن سعيد، وطريق الزهري، عن سعيد، عن أبيه: مشهور
(1)
.
ونقل الواحدي بإسناده عن الزجاج إجماع المفسرين أنها نزلت
(2)
في أبي طالب
(3)
، واستبعده الحسن بن الفضل؛ لأن السورة من آخر ما نزل من القرآن، ومات أبو طالب في عنفوان الإسلام بمكة.
إذا تقرر ذلك، فالكلام عليه من أوجه:
أحدها:
أن حديث الباب من أفراد الصحيح؛ لأن المسيب لم يرو عنه غير ابنه سعيد، ثم هو من مراسيل الصحابة؛ لأنه على قول مصعب هو وأبوه من مسلمة الفتح، وعلى قول العسكري بايع تحت الشجرة
(4)
، وأيما كان فلم يشهد أمر أبي طالب؛ لأنه توفي هو وخديجة في أيام ثلاثة، حَتَّى كان النبي صلى الله عليه وسلم يسمي ذلك العام: عام الحزن، وكان ذلك وقد أتى لرسول الله صلى الله عليه وسلم تسع وأربعون سنة وثمانية أشهر وأحد عشر يومًا. وقيل: مات في شوال، في نصفه من السنة العاشرة من النبوة. وقال ابن الجزار: قبل الهجرة بثلاث سنين، وقيل: بخمس، وقيل: بأربع، وقيل: بعد الإسراء، ومن الغريب: ذكر ابن حبان له في ثقات التابعين.
(1)
"المستدرك" 2/ 335 - 336 كتاب: التفسير.
(2)
ورد بهامش الأصل ما نصه: يعني: (ما كان للنبي .. ).
(3)
"أسباب النزول" ص 348.
(4)
انظر: ترجمته في "معجم الصحابة" لابن قانع 3/ 126 - 127 (1099)، و"معرفة الصحابة" 5/ 2598 - 2599 (2776)، و"الاستيعاب" 3/ 457 (2436)، و"أسد الغابة" 5/ 177 (4921)، و"الإصابة" 3/ 420 (7996).
ثانيها:
إن قلت قد استغفر الشارع يوم أُحد لهم، فقال:"اللهمَّ اغفر لقومِي فإنَّهم لا يعلَمُون"
(1)
قلتُ: استغفاره لقومه مشروط بتوبتهم من الشرك، كأنه أراد الدعاء لهم بالتوبة، وقد جاء في رواية:"اللهمَّ اهدِ قومي".
وقيل: أراد مغفرة تصرف عنهم عقوبة الدنيا من المسخ وشبهه.
وقيل: تكون الآية تأخر نزولها فنزلت بالمدينة ناسخة للاستغفار للمشركين فيكون سبب نزولها متقدمًا ونزولها متأخرًا لا سيما وبراءة من آخر ما نزل فتكون على هذا ناسخة للاستغفار، لا يقال: لا يصح أن تكون الآية التي نزلت في غيره ناسخة لاستغفاره يوم أحد؛ لأن عمه توفي قبل ذلك لما قررناه.
ثالثها:
اسم أبي طالب: عبد مناف، قاله غير واحد. وقال الحاكم: تواترت الأخبار أن اسمه كنيته قَالَ: ووجد بخط علي الذي لا شك فيه، وكتب علي بن أبي طالب
(2)
. وقال أبو القاسم المعري
(3)
الوزير: اسمه عمران.
رابعها:
أبو جهل كنيته: أبو الحكم
(4)
، كذا كناه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال ابن
(1)
سيأتي برقم (3477) كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: حديث الغار، وبرقم (6929) كتاب: استتابة المرتدين، باب: إذا عرض الذمي وغيره بسب النبي صلى الله عليه وسلم، ورواه مسلم برقم (1792) كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة أحد.
(2)
"المستدرك" 3/ 108 كتاب: معرفة الصحابة.
(3)
ورد بهامش الأصل: لعله المغربي.
(4)
ورد بهامش الأصل ما نصه: مقتضى كلام ابن القيم في "الهدي" بل صريحه في (
…
) أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تكنية أبي جهل بأبي الحكم.
الحذاء: أبو الوليد واسمه: عمرو بن هشام بن المغيرة المخزومي، ويقال له: ابن الحنظلية، واسمها: أسماء بنت سلامة بن مخرمة، وكان أحول مأبونا، وكان رأسه أول رأس جز في الإسلام، فيما ذكره ابن دريد في "وشاحه".
وعبد الله بن أبي أمية، أمه: عاتكة عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، توفي شهيدًا بالطائف أخو أم سلمة، وكان شديدًا على المسلمين معاديًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الفتح هو وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، ولهم عبد الله بن أبي أمية بن وهب حليف بني أسد وابن أختهم استشهد بخيبر ولهم عبد الله بن أمية اثنان: أحدهما بدري.
خامسها:
إنما تنفع كلمة التوحيد من قالها قبل المعاينة للملائكة التي تقبض الأرواح، فحينئذ تنفعه قَالَ تعالى:{وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ} الآية [النساء: 18]، والمراد بحضور الموت: حضور ملك الموت، وهي المعاينة لقبض روحه، ولا يرأهم أحد إلا عند الانتقال من الدنيا إلى الآخرة، فلم يحكم بما انتقل إليه حين أدركه الغرق بقوله:{ءَامَنتُ} الآية [يونس: 90] فقيل له: {آلْآنَ} [يونس: 91] قالها حين عاين ملك الموت ومن معه من الملائكة وأيقن، فحثا جبريل في فمه الحمأة؛ ليمنعه استكمال التوحيد حنقًا عليه، ويدل على ذلك قوله تعالى:{يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} الآيت [الأنعام: 158] أي: لما رأى الآية التي جعلها الله علامة لانقطاع التوبة وقبولها لم ينفعه ما كان قبل ذلك، كما لم ينفع الإيمان بعد رؤية الملك.
والمحاجة السابقة تحتمل وجوهًا:
أحدها: أن يكون الشارع ظن أن عمه اعتقد أن من آمن في مثل حاله
أنه لا ينفعه إيمانه إذا لم يقارنه عمل سواه، فأعلمه أنه من قال هذِه الكلمة، أنه يدخل في جملة المؤمنين، وإن تعرى عن عمل سواها.
ثانيها: أن يكون أبو طالب قد عاين أمر الآخرة وأيقن بالموت، وصار في حالة لا ينتفع بالإيمان لو آمن، وهو الوقت الذي قَالَ فيه: أنا على ملة عبد المطلب عند خروج نفسه فرجا له صلى الله عليه وسلم أن من قالها وأقر بنبوته أن يشفع له بذلك، ويحاج له عند الله في أن يتجاوز عنه ويتقبل منه إيمانه في تلك الحال، ويكون ذلك خاصًّا لأبي طالب وحده، لمكانه من الحماية والمدافعة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه نزلت {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} [الأنعام: 26] على قول ابن عباس
(1)
، وقال مجاهد: يعني به قريشًا
(2)
، وأكثر المفسرين أنه للكفار ينهون عن اتباعه ويبعدون عنه، وهو أشبه؛ لأنه متصل بأخبار الكفار، وقد روي مثل هذا المعنى عن ابن عباس
(3)
، ألا ترى أنه قد نفعه وإن
(1)
رواه عن ابن عباس عبد الرزاق في "التفسير" 1/ 199 (785) وسعيد بن منصور في "سننه" 5/ 10 - 11 (874)، والطبري في "تفسيره" 5/ 172 (1373، 1374، 1375)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 4/ 1278 (7206)، والطبراني في "الكبير" 12/ 133 (12682)، والحاكم في "المستدرك" 2/ 315 كتاب: التفسير، والبيهقي في "الدلائل" 2/ 340 - 341، والواحدي في "أسباب النزول"(426)، وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" 3/ 15 إلى الفريابي وعبد بن حميد، وابن المنذر، وأبي الشيخ، وابن مردويه وابن أبي شيبة.
قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. قال الهيثمي: رواه الطبراني، وفيه: قيس بن الربيع، وثقه شعبة وغيره، وضعفه ابن معين وغيره، وبقية رجاله ثقات. "مجمع الزوائد" 7/ 20.
(2)
رواه عنه الطبري في "تفسيره" 5/ 171 (13169، 13170).
(3)
رواه عن ابن عباس ابن جرير في "تفسيره" 5/ 171 (13163)، وابن أبي حاتم 4/ 1278 (7207)، وعزاه السيوطي في "الدر" 3/ 15 إلى ابن المنذر وابن مردويه.
كان قد مات على غير دين الإسلام؛ لأن يكون أخف أهل النار عذابًا فهو في ضحضاح من نار يغلي منه دماغه، ولولا الشارع لكان في الدرك الأسفل، فنفعه له لو شهد بشهادة التوحيد، وإن كان ذلك عند المعاينة أحرى بأن يكون.
ثالثها: أن أبا طالب كان ممن عاين البراهين، وصدق معجزاته ولم يشك في صحة نبوته، وإن كان ممن حملته الأنفة وحمية الجاهلية على تكذيبه، وكان سائر المشركين ينظرون إلى رؤسائهم ويتبعون ما يقولون، فاستحق أبو طالب ونظراؤه على ذلك من عظيم الوزر وكبير الإثم، إن باءوا بإثمهم على تكذيبه، فرجا له المحاجة بكلمة الإخلاص عند الله حَتَّى يسقط عنه إثم العناد والتكذيب لما قد تبين حقيقته، وإثم من اقتدى به في ذلك، وإن كان الإسلام يهدم ما قبله، لكنه آنسه بقوله:"أحاج لك بها عند الله" لئلا يتردد في الإيمان ولا يتوقف عنه لتماديه على خلاف ما تبين حقيقته وتورطه في أنه كان مضلاًّ لغيره.
وقيل: إن قوله: "أحاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللهِ" كقوله "أشهدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللهِ"؛ لأن الشهادة للمرء حجة له في طلب حقه، ولذلك ذكر البخاري هنا الشهادة؛ لأنه أقرب للتاويل وذكر "أحاج" في قصة أبي طالب في كتاب المبعث
(1)
، لاحتمالها التأويل، ووقع لابن إسحاق أن العباس قَالَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ابن أخي، إن الكلمة التي عرضتها على عمك سمعته يقولها. فقال صلى الله عليه وسلم:"لم أسمع"
(2)
.
قَالَ السهيلي: لأن العباس قَالَ ذلك في حال كونه على غير
(1)
سيأتي برقم (3884).
(2)
رواه ابن إسحاق في "السيرة" ص 222 - 223 (328).
الإسلام، ولو أداها بعد الإسلام لقبلت منه، كما قبل من جبير بن مطعم حديثه الذي سمعه في حال كفره وأداه في الإسلام
(1)
.
وفي مسلم: فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه أي: بفتح الياء وكسر الراء، ويعود له بتلك المقالة، يعني: أبا طالب. وفي رواية: ويعيدانه
(2)
على التثنية يعني أبا جهل وعبد الله. ووقع في مسلم: لولا تعيرني قريش تقول: إنما حمله على ذلك الجزع
(3)
-وهو بالجيم والزاي- وهو الخوف
(4)
، وذهب الهروي والخطابي فيما رواه عن ثعلب في آخرين أنه بخاء معجمة وراء مهملة مفتوحتين
(5)
. قَالَ عياض: ونبهنا غير واحد، أنه الصواب، ومعناه: الضعف والخور
(6)
.
وقوله في الآية {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ} [التوبة: 113] هو نهي ومثله {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ} [الأحزاب:53] وإن كانت (ما) تأتي أيضًا للنفي {مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا} [النمل: 60]{وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ} [آل عمران: 145]، وتأول بعضهم الاستغفار هنا: بمعنى الصلاة.
(1)
"الروض الأنف" 2/ 170.
(2)
"صحيح مسلم"(24) كتاب: الإيمان، باب: الدليل على صحة إسلام من حضره الموت، ما لم يشرع في النزع.
(3)
"صحيح مسلم" برقم (25/ 42).
(4)
"لسان العرب" 1/ 616.
(5)
"غريب الحديث" للخطابي 1/ 491.
(6)
"إكمال المعلم" 1/ 251.
81 - باب الجَرِيدِ عَلَى القَبْرِ
وَأَوْصَى بُرَيْدَةُ الأَسْلَمِيُّ أَنْ يُجْعَلَ فِي قَبْرِهِ جَرِيدتانِ. وَرَأَى ابْنُ عُمَرَ فُسْطَاطًا عَلَى قَبْرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَقَالَ: انْزِعْهُ يَا غُلَامُ، فَإِنَّمَا يُظِلُّهُ عَمَلُهُ. وَقَالَ خَارِجَةُ بْنُ زَيْدٍ: رَأَيْتُنِي وَنَحْنُ شُبَّانٌ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ، وَإِنَّ أَشَدَّنَا وَثْبَةً الذِي يَثِبُ قَبْرَ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ حَتَّى يُجَاوِزَهُ. وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ حَكِيمٍ: أَخَذَ بِيَدِي خَارِجَةُ فَأَجْلَسَنِي عَلَى قَبْرٍ، وَأَخْبَرَنِي عَنْ عَمِّهِ يَزِيدَ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: إِنَّمَا كُرِهَ ذَلِكَ لِمَنْ أَحْدَثَ عَلَيْهِ. وَقَالَ نَافِعٌ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَجْلِسُ عَلَى القُبُورِ.
1361 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ مَرَّ بِقَبْرَيْنِ يُعَذَّبَانِ فَقَالَ:"إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لَا يَسْتَتِرُ مِنَ البَوْلِ، وَأَمَّا الآخَرُ فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ". ثُمَّ أَخَذَ جَرِيدَةً رَطْبَةً فَشَقَّهَا بِنِصْفَيْنِ، ثُمَّ غَرَزَ فِي كُلِّ قَبْرٍ وَاحِدَةً. فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، لِمَ صَنَعْتَ هَذَا؟ فَقَالَ:"لَعَلَّهُ أَنْ يُخَفَّفَ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا". [انظر: 216 - مسلم: 292 - فتح: 3/ 222]
ثم ذكر حديثَ ابن عبَّاس: مَرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بِقَبْرَيْنِ يُعَذَّبَانِ .. الحديث.
الشرح:
حديث ابن عباس سلف في الطهارة
(1)
، وترجم له قريبًا باب: عذاب القبر من الغيبة والبول
(2)
. وإنما خصَّ الجريدتين للغرز على القبر من دون سائر النبات والثمار؛ لأنهما أطول الثمار بقاء، فتطول
(1)
برقم (216) جتاب: الوضوء، باب: من الكبائر أن لا يستتر من بوله.
(2)
سيأتي هذا الحديث يرقم (1378) كتاب: الجنائز.
مدة التخفيف عنهما، وهي شجرة طيبة كما سماها الله، وهي شجرة شبهها النبي صلى الله عليه وسلم بالمؤمن، كما سلف في كتاب العلم
(1)
.
وقيل: إنها خلقت من فضلة طينة آدم، وإنما فعل بريدة ما سلف اتباعًا لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبرين وتبركًا بفعله ورجاء أن يخفف عنه
(2)
، والمراد بعبد الرحمن: ابن أبي بكر كما بينه عبد الحق في "جمعه".
والفسطاط: المضرب. قاله أبو حاتم. وقال الجوهري: بيت من شعر
(3)
. وقال المطرزي: خيمة عظيمة. وفي "الباهر" هو: مضرب السلطان الكبير، وهو السرادق أيضًا. وقال الزمخشري: هو ضرب من الأبنية في السفر دون السرادق
(4)
. وقال صاحب "المطالع": هو الخباء ونحوه.
وفي أثر خارجة دلالة على رفع القبور عن الأرض وتطويلها؛ لتعرف من غير قصد مباهاة، ذكره الداودي. ويستنثى قبر المسلم ببلاد الكفار فيخفي صيانة عنهم.
وقوله عن خارجة: (عن عمه يزيد) خارجة بن زيد بن ثابت، لم يدرك عمه يزيد بن ثابت. مات خارجة سنة مائة
(5)
عن سبعين سنة،
(1)
برقم (61) باب: قول المحدِّث حدثنا أو أخبرنا وأنبأنا.
(2)
سبق وأن ذكرنا أن هذا الفعل خاص به صلى الله عليه وسلم، وأن السر في تخفيف العذاب عن القبرين لم يكن في نداوة العسيب، بل في شفاعته صلى الله عليه وسلم ودعائه لهما، وهذا مما لا يمكن وقوعه مرة أخرى بعد انتقاله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، ولا لغيره من بعده صلى الله عليه وسلم.
(3)
"الصحاح" 3/ 1150.
(4)
"الفائق في غريب الحديث" 3/ 116.
(5)
ورد بهامش الأصل ما نصه: في "الكاشف" سنة 99 جزم به وقد قال ابن عبد البر في ترجمة يزيد أن خارجة روى عنه ثم قال: وأظنه ليس (
…
) أو ما هذا معناه، وقد =
وقتل عمه يوم اليمامة
(1)
.
وقول يزيد في الجلوس على القبر، وهو قول مالك، وقد جاء في النهي عن الجلوس عليه أحاديث صحيحة
(2)
، وأخذ النخعي ومكحول والحسن وابن سيرين بها، فجعلوها على العموم، وكرهوا المشي على القبور والقعود عليها
(3)
، ونقل أيضًا عن ابن مسعود وأبي بكرة وعقبة بن عامر وأبي العلاء بن الشخير فيما ذكره ابن أبي شيبة
(4)
.
وأجاز مالك والكوفيون الجلوس عليها وقالوا: إنما نهي عن القعود عليها للمذاهب -فيما نرى والله أعلم- يريد حاجة الإنسان
(5)
.
= ذكر النووي في "التهذيب" أنه سمع منه وكذلك المزي في "تهذيبه" قال: إنه سمع منه فقيل: لم يسمع، والظاهر عدم سماعه منه، وجزم في "الوفيات" بمائة.
(1)
خارجة بن زيد، أبو زيد المدني، أخو إسماعيل، وسعد، وسليمان، ويحيى أبناء زيد بن ثابت، أمه أم سعد بنت سعد بن الربيع النقيب، أدرك زمن عثمان بن عفان، ذكره ابن سعد في الطبقة الثانية من أهل المدينة، وقال أحمد بن عبد الله العجلي: مدني تابعي ثقة.
انظر: "الطبقات الكبرى" 5/ 262، و"التاريخ الكبير" 3/ 204 (696)، و"معرفة الثقات" 1/ 330 (385)، و"تهذيب الكمال" 8/ 8 - 13 (1589).
(2)
دل على ذلك أحاديث وردت في "صحيح مسلم" منها حديث برقم (970) كتاب: الجنائز، باب: النهي عن تجصيص القبر والبناء عليه، وحديث أبي هريرة برقم (971) كتاب: الجنائز، باب: النهي عن الجلوس على القبر والصلاة عليه، وحديث أبي مرثد الغنوي برقم (972).
(3)
روى هذِه الآثار ابن أبي شيبة 3/ 27 (11774)، (11777) كتاب: الجنائز، باب: من كره أن يطأ على القبر.
(4)
"المصنف" 3/ 27 (11770 - 11773)، (11775).
(5)
هذا ما ذكره الطحاوي عن أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد في "شرح معاني الآثار" 1/ 517، ونقله عنه العيني في "عمدة القاري" 7/ 102، 103 ثم قال: بل مذهب أبي حنيفة وأصحابه كقول مالك لما نقله عنهم الطحاوي. وجاء في "مختصر =
وفي مسند ابن وهب، عن محمد بن أبي حميد أن محمد بن كعب القرظي حدثهم قَالَ: إنما قَالَ أبو هريرة: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من جَلَسَ عَلَى قَبْرٍ يبولُ عليها أو يتغوط، فكأنَّما جلسَ على جَمْرَةِ نار"
(1)
.
واحتج بعضهم بأن عليًّا كان يتوسد القبور ويضطجع عليها
(2)
.
وقال أبو أمامة بن سهل بن حنيف: إن زيد بن ثابت قَالَ: هلم يا ابن أخي أخبرك، إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجلوس على القبور لحدثٍ أو
= اختلاف العلماء" 1/ 408، قال أصحابنا: يكره أن يطأ على القبر أو يقعد عليه، وفي " تحفة الفقهاء" 1/ 257، وكره أبو حنيفة أن يوطأ على قبر، أو يجلس عليه أو ينام عليه، وفي "بدائع الصنائع" 1/ 320 مثل ما في "التحفة" وفي "الاختيار" 1/ 126، ويكره وطء القبر والجلوس والنوم عليه، وفي "البناية" 3/ 303، وكره أبو حنيفة أن يبنى على القبر أو يوطأ عليه أو يجلس عليه
…
، وحمل الطحاوي الجلوس المنهي عنه على الجلوس لقضاء الحاجة، وفي "الفتاوى الهندية" 1/ 166، ويكره أن يبني على القبر أو يقعد أو ينام عليه.
وانظر "النوادر والزيادات" 1/ 653.
(1)
روى هذا الحديث بتمامه أبو داود الطيالسي 4/ 276 (2667) والطحاوي في "شرح معاني الآثار" 1/ 517 كتاب: الجنائز، باب: الجلوس على القبر، وقد روى هذا الحديث بدون لفظ: الغائط والبول، مسلم (971)، كتاب: الجنائز، باب: النهي عن الجلوس على القبر والصلاة عليه، وأبو داود (3228) كتاب: الجنائز، باب: كراهية القعود على القبر، وابن ماجه (1566) كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في النهي عن المشي على القبور والجلوس عليها، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" 1/ 516، وابن حبان في "صحيحه" 7/ 436 - 437 (3166) كتاب: الجنائز، باب: فصل في القبور، والطبراني في "الأوسط" 1/ 217 (706).
(2)
رواه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" 1/ 517 كتاب: الجنائز، باب: الجلوس على القبور، وقد ذكر البيهقي في "معرفة السنن والآثار" 5/ 355 (7814)، أن حديث علي في توسده القبر، واضطجاعه منقطع وموقوف.
بولٍ أو غائط، وروي مثله عن أبي هريرة، كذا في ابن بطال، وعزاه إلى "موطأ ابن وهب"
(1)
، وفي "شرح شيخنا علاء الدين" أن أبا هريرة كرهه وشدد في ذلك.
وقوله: "لَعَلَّهُ أَنْ يُخَففَ عَنْهُمَا" لعل: معناها: الترجي والطمع.
ومعنى الحديث: الحض على ترك النميمة والتحرز من البول، والإيمان بعذاب القبر، وإنما ترجم له فيما سيأتي باب: عذاب القبر من الغيبة والبول. وذكر فيه النميمة فقط، ولعلها كانت معها غيبة وهما محرمتان وهما في النهي عنهما سواء.
وقال بعض شيوخنا في شرحه: فهم البخاري من جعل الجريد عليه جواز جلوس الآدميين عليه ولا يسلم له ذلك.
وقوله: "وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ" أي: عندهما، ولذلك قَالَ:"بلى" في موضع آخر
(2)
.
وفيه: دلالة على أنهما كانا مسلمين؛ لأنه لا يذكر أنهما يعذبان على ما دون الشرك، ولا يذكر هو، وعذابهما يجوز أن يكون سمعه أو أخبر به، وموجبه أخبر به، والتخفيف يجوز أن يكون بدعاءٍ منه مدة بقاء النداوة من الجريد، لا أن في الجريد معنى يوجبه، وقيل: لأنه يسبح مادام رطبًا، وقد سلف في الطهارة بسط ذلك.
والجريد: سعف النخل. الواحدة: جريدة، سميت بذلك؛ لأنه قد جرد عنها خوصها.
(1)
"شرح ابن بطال" 3/ 348.
(2)
سلف برقم (216) كتاب: الوضوء، باب: من الكبائر أن لا يستتر من بوله.
وقوله: "مَا لَمْ يَيْبَسَا" يجوز بفتح الباء وكسرها، وهو شاذ في باب فعل بكسر العين أن يأتي مستقبله على يفعل بكسرها، فشذ هذا الفعل ونظائره، مثل: يبس ففيه أيضًا الوجهان، وكذا: ورم يرم، ووقر يقر، مكسور مستقبلهما وماضيهما.
قَالَ الداودي: وفيه دليل على المرجئة
82 - باب مَوْعِظَةِ المُحَدِّثِ عِنْدَ القَبْرِ، وَقُعُودِ أَصْحَابِهِ حَوْلَهُ
{يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ} [المعارج: 43] القُبُورُ. {بُعْثِرَتْ} [الانفطار: 4] أُثِيرَتْ. بَعْثَرْتُ حَوْضِي: جَعَلْتُ أَسْفَلَهُ أَعْلَاهُ، الإِيفَاضُ: الإِسْرَاعُ. وَقَرَأَ الأَعْمَشُ: {إِلَى نُصُبٍ} [المعارج: 43] إِلَي شَيْءٍ مَنْصُوبٍ يَسْتَبِقُونَ إِلَيْهِ، وَالنُّصْبُ وَاحِدٌ، وَالنَّصْبُ مَصْدَرٌ {يَوْمُ الْخُرُوجِ} [ق: 42] مِنَ القُبُورِ. {يَنْسِلُونَ} [يس: 51] يَخْرُجُونَ.
1362 -
حَدَّثَنَا عُثْمَانُ قَالَ: حَدَّثَنِي جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا فِي جَنَازَةٍ فِي بَقِيعِ الغَرْقَدِ، فَأَتَانَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَعَدَ وَقَعَدْنَا حَوْلَهُ، وَمَعَهُ مِخْصَرَةٌ فَنَكَّسَ، فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِمِخْصَرَتِهِ ثُمَّ قَالَ:"مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ، مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إِلَّا كُتِبَ مَكَانُهَا مِنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَإِلاَّ قَدْ كُتِبَ شَقِيَّةً أَوْ سَعِيدَةً". فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَفَلَا نَتَّكِلُ عَلَى كِتَابِنَا وَنَدَعُ العَمَلَ، فَمَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَسَيَصِيرُ إِلَي عَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ فَسَيَصِيرُ إِلَي عَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ قَالَ:"أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ الشَّقَاوَةِ"، ثُمَّ قَرَأَ:{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5)} [الليل: 5] الآيَةَ. [4145، 4946، 4947، 4948، 4949، 6217، 6605، 7552 - مسلم: 2674 - فتح: 3/ 225]
ذكر فيه حديث علي قَالَ: كُنَّا فِي جَنَازَةٍ فِي بَقِيعِ الغَرْقَدِ، فأتى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فقَعَدَ وَقَعَدْنَا حَوْلَهُ، وَمَعَهُ مِخْصَرَةٌ فَنكَّسَ، فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِمِخْصَرَتِهِ ثُمَّ قَالَ: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ، مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إِلَّا كُتِبَ مَكَانُهَا مِنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ .. الحديث
الشرح:
ما ذكره في الأجداثِ، هو ما قال، قال ابن سيده: الجدث: القبر. والجمع: أجداث، وقد قالوا: جدف بالفاء بدل من الثاء، إلا أنهم قد أجمعوا في الجمع على أجداث، ولم يقولوا: أجداف
(1)
، زاد في "المخصص" قَالَ الفارسي: اشتقاقه من التجديف وهو كفر النعم
(2)
.
وقال ابن جني: الجمع: أجْدث، ولا يكسر بالفاء. قَالَ: وأجدف: موضع، وقد نفي سيبويه أن يكون أفعل من أبنية الواحد، فيجب أن يعد هذا مما فاته، إلا أن يكون جمع الجدث الذي هو القبر على أجدث، ثم سُمِّي به الموضع. ويروى بالفاء. وفي "الصحاح": الجمع: أجدث وأجداث
(3)
. وفي "المجاز" لأبي عبيدة: بالثاء لغة أهل العالية، وأهل نجد يقولون: جدف بالفاء
(4)
.
وما ذكره في؟ بعثرت؟ فهو أيضًا كذلك
(5)
.
قَالَ أبو عبيدة في "المجاز": بعثرت حوضي أي: هدمته
(6)
.
وقال الفراء: بعثرت وبحثرت لغتان إذا استخرجت الشيء وكشفته
(7)
. وفي "الصحاح" عن أبي عبيدة: {بُعْثِرَ مَا فِي القُبُورِ} [العاديات: 9]: أثير وأخرج
(8)
.
(1)
"المحكم" 7/ 218.
(2)
"المخصص" 2/ 78.
(3)
"الصحاح" 1/ 277.
(4)
"مجاز القرآن" 2/ 163.
(5)
ورد بهامش الأصل ما نصه: قال ابن دريد: الحدث: القبر وهو الجدف أيضًا، وقال في (ج. د. ف) الجدف لغة في الجدث، وهو القبر (من "الجمهرة").
(6)
"المجاز" 2/ 288، وعبارته: بعثرتُ حوضي، جعلتُ أسفله أعلاه.
(7)
نقله الجوهري عن الفراء في "الصحاح" 2/ 593، وانظر:"معاني القرآن" للفراء 3/ 286.
(8)
"الصحاح" 2/ 594.
وعن ابن عباس فيما ذكره الطبري: بعثرت: بحثت
(1)
. وقال ابن سيده: بعثر المتاع والتراب: قلبه، وبعثر الشيء: فرقه. وزعم يعقوب أن عينها بدل من عين بعثر، أو غين بغثر بدل منها، وبعثر الخبز: بحثه
(2)
.
وما ذكره في الإيفاض: أنه الإسراع، فهو كما قَالَ.
قَالَ أبو عبيدة في "مجازه": النصب: العلم الذي نصبوه، ومن قَالَ:(إلى نُصُب)، فهو جماعة مثل رهْن ورُهُن
(3)
. قَالَ ابن قتيبة في "غريبه": أنكر أبو حاتم هذا على أبي عبيدة. وقال: يقال للشيء تنصبه نَصب ونُصْب ونُصُب.
وفي "المعاني" للزجاج
(4)
: قريء نَصْب ونُصُب، فمن قرأ بالإسكان فمعناه: كأنهم إلى علم منصوب لهم، ومن قرأ بضم الصاد فمعناه: إلى أصنام لهم. وفي "المعاني" للفراء: قرأ الأعمش وعاصم: (إلى نَصب)، بفتح النون يريدان إلى شيء منصوب. وقرأ زيد بن ثابت:(نُصب) بضم النون، وكان النُصب الآلهة التي كانت تعبد من أحجار وكلٌّ صواب، والنصب واحد وهو مصدر، والجمع: الأنصاب
(5)
.
وفي "المنتهى" و"الواعي": النَصب والنُصْب النُصُب بمعنى. وقيل: النصب: حجر ينصب فيعبد ويصب عليه ماء الذبائح. وقيل: هو العلم ينصب للقوم أي علم كان، وقال ابن سيده: النُصب جمع نصيبة،
(1)
"تفسير الطبري" 12/ 674 (37849).
(2)
"المحكم" 2/ 325.
(3)
"مجاز القرآن" 2/ 270.
(4)
"معاني القرآن وإعرابه" 2/ 146.
(5)
"معاني القرآن" 3/ 186.
كسفينة وسفن، وقيل: النصب: الغاية، وحكاه عَبْد في "تفسيره" عن مجاهد وأبي العالية
(1)
، وضعفه ابن سيده، قَالَ: والنصب جمع، واحدها: نصاب، وجائز أن يكون واحدًا
(2)
.
وقال الجوهري: النُصب بالضم، وقد يحرك
(3)
. وعند ابن التين: قرأ أبو العالية والحسن بضم النون والصاد.
وقال الحسن فيما حكاه عبد في "تفسيره": كانوا يهتدون إذا طلعت الشمس بنصبهم سراعًا أيهم يستلمها أولًا، لا يلوي أولهم على آخرهم.
وفي "المحكم": وفضت الإبل: أسرعت، وناقة ميفاض: مسرعة، وكذلك النعا مة، وأوفضها واستوفضها: طردها، واستوفضها: استعجلها، وجاء على وَفْض ووُفُص
(4)
. وقال الفراء: الإيفاض: السرعة والزمع
(5)
.
وما ذكره في {يَنْسِلُونَ} ذكره عبد بن حميد، عن قتادة. وقال أبو عبيدة:؟ ينسلون؟: يسرعون، والذئب ينسل ويعسل
(6)
، وفسره ابن عباس بالخروج بسرعة
(7)
.
وفي "المجمل": النسلان: مشية الذئب إذا أعنق وأسرع
(8)
.
(1)
عزاه السيوطي في "الدر المنثور" لعبد بن حميد عنهما 5/ 422.
(2)
"المحكم" 8/ 227.
(3)
"الصحاح" 1/ 225.
(4)
"المحكم" 8/ 168.
(5)
"معاني القرآن" 3/ 163.
(6)
"المحكم" 8/ 328.
(7)
روى عنه الطبري في "تفسيره" 10/ 450 (29178)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 10/ 3198 (18097) كلاهما بلفظ: يخرجون.
(8)
"المجمل" 2/ 865.
وقال ابن سيده: أصله للذئب، ثم استعمل في غير ذلك.
وحديث علي أخرجه مسلم والأربعة
(1)
، ويأتي في القدر أيضًا
(2)
.
والكلام عليه من أوجه:
أحدهما: البَقِيع -بفتح أوله- من الأرض موضع فيه أروم شجر بين ضروب شتى، وبه سميَّ بقيع الغرقد بالمدينة
(3)
.
والغرقد: عربي، شجر له شوك يشبه العوسج
(4)
. وفي الحديث في ذكر الدجال: "كل شيء يواري يهوديًّا ينطق إلا الغرقد، فإنه من شجرهم فلا ينطق"
(5)
كان ينبت هناك، فذهب الشجر وبقي الاسم لازمًا للموضع.
وعن "الجامع": سُمِّي بذلك لاختلاف ألوان شجره. وقال أبو عبيد البكري، عن الأصمعي: قطعت غرقدات في هذا الموضع حين دفن فيه عثمان بن مظعون، فسمي بقيع الغرقد
(6)
. لهذا قال ابن سيده: وربما قيل له: الغرقد
(7)
. أي: بغير ذكر البقيع.
(1)
"صحيح مسلم"(2647) كتاب: القدر، باب: كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه.
وأبو داود (4694)، والترمذي (2136)، وابن ماجه (78)، والنسائي في "الكبرى"(تحفة 7/ 10167).
(2)
برقم (6605) باب: {وَكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} .
(3)
انظر: "معجم ما استعجم" 1/ 265، و"معجم البلدان" 1/ 473.
(4)
انظر: "الصحاح" 2/ 517، و"لسان العرب" 6/ 3246.
(5)
رواه ابن ماجه (4077) من حديث أبي أمامة مطولًا، ورواه مسلم (2922) كتاب: الفتن، باب: لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل .. ، ومن حديث أبي هريرة مختصرًا دون ذكر الدجال.
(6)
"معجم ما استعجم" 1/ 265.
(7)
"المحكم" 6/ 47 وفيه: الفرقد.
وقال ياقوت: وبالمدينة أيضًا بقيع الزبير، وبقيع الخيل: عند دار زيد بن ثابت، وبقيع الخبجبة
(1)
، ونقيع الخضمات بالنون وقيل بالباء
(2)
.
ثانيها: المخصرة قَالَ ابن سيده: هو شيء يأخذه الرجل ليتوكأ عليه، مثل العصا ونحوها، وهو أيضًا ما بيد الملك يشير به إذا خطب، واختصر الرجل: أمسك المخصرة
(3)
. وجزم ابن بطال بأنها العصا
(4)
. وقال ابن التين: عصا أو قضيب. والنكت: قرعك الأرض بعودٍ أو أصبع يؤثر فيه. ونكس: أمال، ويكون ذلك عند الخضوع والتفكر. ويقال: نكس بالتخفيف والتشديد.
ثالثها: في أحكامه:
فيه جواز الجلوس عند القبور والتحدث عندها بالعلم والمواعظ، ونكته صلى الله عليه وسلم بالمخصرة في الأرض: هو أصل تحريك الأصبع في التشهد، قاله المهلب. ومعنى النكت بالمخصرة. هو إشارة إلى المعاني وتفصيل الكلام، وإحضار القلوب للفصول والمعاني. وهذا الحديث أصل لأهل السنة، في أن السعادة والشقاء خلق لله تعالى، بخلاف قول القدرية الذين يقولون: إن الشر ليس بخلق الله تعالى.
وفيه رد على أهل الجبر بأن المجبر لا يأتي الشيء إلا وهو يكرهه، والتيسير ضد الجبر، ألا ترى قوله صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ لِي عَنْ أمّتِي ما اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ"
(5)
. والتيسير: هو أن يأتي الإنسان الشيء وهو يحبه،
(1)
"معجم البلدان" 1/ 474.
(2)
"معجم ما استعجم" 4/ 1296، 1324، و"معجم البلدان" 5/ 301.
(3)
"المحكم" 5/ 34.
(4)
"شرح ابن بطال" 3/ 349.
(5)
سبق تخريجه.
وسيكون لنا عودة إلى ذلك في كتاب القدر إن شاء الله ذلك وقدره.
وفيه: تنكيس الرءوس في الجنائز، وظهور الخشوع والتفكر في أمر الآخرة، كان الناس إذا حضروا جنازة يلقى أحدهم حميمه فلا ينشط إليه ولا يقبل عليه إلا بالسلام حَتَّى يرى أنه واجد عليه؛ لما يشغلون أنفسهم من ذكر الموت وما بعده، وكانوا لا يضحكون هناك، ورأى بعضهم رجلًا يضحك فآلي أن لا يكلمه أبدًا، وكان يبقى أثر ذلك عليهم ثلاثة أيام، لشدة ما أشعروا أنفسهم، وحضر الحسن والفرزدق جنازة فقال الحسن للفرزدق: ماذا أعددت لهذا المقام؟ فقال: شهادة أن لا إله إلا الله منذ ثمانين سنة. فقال الحسن: خذها من غير رامٍ، ثم قَالَ له: ما يقول الناس يا أبا فراس؟ فقال: يقولون: حضر اليوم خير الناس وشر الناس يعني: الحسن ونفسه. فقال له: ما أنت بشرهم، ولا أنا بخيرهم، فلما توفي الفرزدق رآه رجل في المنام فقال له رجل: ما فعلت؟ قَالَ: نفعتني كلمتي مع الحسن
(1)
.
وقول الرجل: (أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟) فيه مطالبة بأمرٍ مضمونه تعطيل العبودية، وذلك أن إخباره صلى الله عليه وسلم بسبق الكتاب بالسعادة والشقاء، إخبار عن علم الغيب فيهم، وهو حجة عليهم، فراموا أن يتخذوه حجة لأنفسهم في ترك العمل والاتكال على سابق الكتاب.
فأعلم أن ها هنا أمرين لا يبطل أحدهما الآخر: باطن: هو العلة الموجبة في أمر الربوبية. وظاهر: هو السمة اللازمة في حق العبودية، وإنما هو أمارة مخيلة في مطالعة أمر العواقب غير مفيدة حقيقة العلم
(1)
رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" 7/ 140، وذكره ابن عبد البر في "الاستيعاب" 3/ 286 (1994) والذهبي في "سير أعلام النبلاء" 4/ 584.
به، ويشبه أن يكونوا إنما عوملوا به وتعبدوا هذا النوع من التعبد؛ ليتعلق خوفهم بالباطن المغيب عنهم، ورجاؤهم بالظاهر البادي لهم والخوف والرجاء مروحتا العبودية فيستكملون بذلك صفة الإيمان، وبيّن أن كلا ميسر لما خلق له، وأن عمله في العاجل دليل مصيره في الآجل، ولذلك تمثل بالآية، وهذا الظاهر من أحوال العباد، ووراء ذلك علم الله فيهم، وهو الحكيم الذي لا يسأل عما يفعل.
قَالَ أبو سليمان: فإذا طلبت لهذا الشأن نظيرًا من العلم يجمع لك هذين المعنيين، فاطلبه في باب أمر الرزق المقسوم مع الأمر بالكسب والأجل المضروب في العمر مع التعالج بالطب، فإنك تجد الغيب عنهما علة موجبة، والظاهر البادي سببًا مخيلًا، وقد اصطلح الخاص والعام على أن الظاهر منهما لا يترك للباطن، وهذا القدر منه يكفي الفهم الموفق
(1)
.
قَالَ الداودي: قد كتب الله أفعال العباد وما يصيرون إليه قبل خلقهم، فالعباد غير خارجين من العلم ولا ممنوعين من العمل.
قلتُ: فلا يقال إذا وجبت السعادة والشقاوة بالقضاء الأزلي والقدر الإلهي فلا فائدة إلى التكليف، فإن هذا أعظم شبهة للنافين للقدر، وقد أجابهم الشارع بما لا يبقى معه إشكال، ووجه الانفصال أن الرب تعالى أمرنا بالعمل، فلا بد من امتثاله، وغيب عنا المقادير؛ لقيام حجته وزجره ونصب الأعمال علامة على ما سبق في مشيئته فسبيله التوقيف. فمن عدل عنه ضل وتاه؛ لأن القدر سر من أسراره لا يطلع عليه إلا هو، فإذا دخلوا الجنة كشف لهم.
(1)
"أعلام الحديث" 1/ 720 - 721.
واختلف هل يعلم في الدنيا الشقي من السعيد مثل: من اشتهر له لسان صدق؟ فقال قوم: نعم. محتجين بهذِه الآية الكريمة والحديث؛ لأن كل عمل أمارة على جزائه، وقال قوم: لا. والحق أنه يدرك ظنًّا لا جزمًا
(1)
.
(1)
ورد بهامش الأصل ما نصه: ثم بلغها في الناسخ كتبه مؤلفه.
83 - باب مَا جَاءَ فِي قَاتِلِ النَّفْسِ
1363 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَنْ حَلَفَ بِمِلَّةٍ غَيْرِ الإِسْلَامِ كَاذِبًا مُتَعَمِّدًا فَهُوَ كَمَا قَالَ، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ عُذِّبَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ". [4171، 4843، 6047، 6105، 6652 - مسلم: 110 - فتح: 3/ 226]
1364 -
وَقَالَ حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ: حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، عَنِ الحَسَنِ، حَدَّثَنَا جُنْدَبٌ رضي الله عنه فِي هَذَا المَسْجِدِ فَمَا نَسِينَا، وَمَا نَخَافُ أَنْ يَكْذِبَ جُنْدَبٌ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"كَانَ بِرَجُلٍ جِرَاحٌ فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَقَالَ اللهُ: بَدَرَنِي عَبْدِي بِنَفْسِهِ حَرَّمْتُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ". [3463 - مسلم: 113 - فتح: 3/ 226]
1365 -
حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "الَّذِي يَخْنُقُ نَفْسَهُ يَخْنُقُهَا فِي النَّارِ، وَالَّذِي يَطْعُنُهَا يَطْعُنُهَا فِي النَّارِ". [5778 - مسلم: 109 - فتح: 3/ 227]
ذكر فيه ثلاثة أحاديث:
أحدها: حديث ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ المبايع تحتَ الشَجرةِ: "مَنْ حَلَفَ بِمِلَّةٍ غيرِ الإِسْلَامِ كَاذِبًا مُتَعَمِّدًا فَهُوَ كمَا قَالَ، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ عُذِّبَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَمَ".
ثانيها: وَقَالَ حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ: ثنا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، عَنِ الحَسَنِ، ثنا جُنْدَبٌ فِي هذا المَسْجِدِ فَمَا نَسِينَا، وَمَا نَخَافُ أَنْ يَكْذِبَ جُنْدَبٌ عَنِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"كَانَ بِرَجُلٍ جِرَاحٌ فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَقَالَ اللهُ تعالى: بَدَرَنِي عَبْدِي بِنَفْسِهِ حَرَّمْتُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ".
ثالثها: حديث أَبِي هُرَيْرَةَ: "الَّذِي يَخْنُقُ نَفْسَهُ يَخْنُقُهَا فِي النَّارِ، وَالَّذِي يَطْعُنُهَا يَطْعُنُهَا فِي النَّارِ".
الشرح:
حديث ثابت خرجه مسلم والأربعة
(1)
ويأتي في الأيمان والنذور
(2)
والأدب
(3)
(4)
.
وحديث جندب المعلق خرجه في أخبار بني إسرائيل فقال: حَدَّثَنَا محمد، ثنا حجاج بن منهال
(5)
، وهو يضعف قول من قَالَ: إنه إذا قَالَ عن شيخه: وقال فلان. يكون أخذه عنه مذاكرة.
وأخرجه من حديث محمد بن أبي بكر المقدمي، ثنا وهب بن جرير، ثنا أبي
(6)
.
ومحمد -الراوي عن حجاج- هو الذهلي.
قَالَ الجياني: ونسبه أبو علي بن السكن، عن الفربري فقال: حَدَّثَنَا محمد بن سعيد، ثنا حجاج.
وقال الدارقطني: قد أخرج البخاري عن محمد بن معمر، وهو مشهور بالرواية عن حجاج.
ثم روى أبو علي من طريق محمد بن علي بن محرز، ثنا حجاج، فذكره
(7)
.
(1)
"صحيح مسلم"(110) كتاب: الإيمان، باب: غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه. وأبو داود (3257)، والترمذي (1527) و (1543) و (2636)، والنسائي 7/ 6، 19، وابن ماجه (2098).
(2)
سياتى برقم (6652) باب: من حلف بملة سوى ملة الإسلام.
(3)
في الأصل و (م): الكذب. تحريف.
(4)
سيأتي برقم (6105) باب: من أكفر أخاه بغير تأويل فهو كما قال.
(5)
سيأتي برقم (3463) كتاب: أحاديث الأنبياء.
(6)
مسلم (113/ 181) كتاب: الإيمان، باب: غلظ تحريم قتل النفس.
(7)
"تقييد المهمل" 3/ 1041 - 1042.
وحديث أبي هريرة أخرجه
(1)
(2)
.
إذا تقرر ذلك على قوله: "فهو كما قَالَ" يريد إن أضمر الكفر بعد حنثه فلا يخرج من الإيمان بالحلف وقد قَالَ صلى الله عليه وسلم: "من قَالَ: واللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله"
(3)
.
"وكاذبًا" منصوب على الحال. وقيل: معناه: كاذبًا حقًّا؛ لأنه يعتقد أنه لا حرمة لما حلف به، ثم لو اعتقدها ضاهى الكفار، ولا يظن بذكر الكذب الإباحة بها بالصدق؛ لنهيه صلى الله عليه وسلم عن الحلف بغير الله مطلقًا.
واختلف العلماء هل عليه كفارة؟
فقال الشافعي ومالك والجمهور: لا ينعقد يمينه وعليه الاستغفار، ولا كفارة عليه، وإن فعله
(4)
عملًا بالحديث السالف: "فليقل: لا إله إلا الله" ولم يذكر كفارة، والأصل عدمها حَتَّى يثبت شرع فيها.
وقال أبو حنيفة: تجب الكفارة
(5)
كالمظاهر بجامع أنه منكر من القول وزور.
وقوله: "وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ .. " إلى آخره. يعني ذلك جزاؤه إلا أن يعفو الله تعالى عنه، فقد قَالَ (الله)
(6)
تعالى {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48].
(1)
في الأصل بياض بعد هذِه الكلمة بمقدار نصف سطر، وفي مقابله في الحاشية حاشية نصها: أخرجه البخاري.
(2)
سيأتي برقم (5778) كتاب: الطب، باب: شرب السم والدواء به.
(3)
سيأتي برقم (4860) كتاب: التفسير، باب:{أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالعُزَّى (19)} .
(4)
انظر: "الكافي" ص 194، "إحكام الأحكام" ص 665، "روضة الطالبين" 11/ 6.
(5)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 3/ 239، "تحفة الفقهاء" 2/ 300.
(6)
من (م).
قَالَ ابن بطال: أجمع الفقهاء وأهل السنة أن من قتل نفسه لا يخرج بذلك من الإسلام، وأنه يصلى عليه وإثمه عليه ويدفن في مقابر المسلمين، ولم يكره الصلاة عليه إلا عمر بن عبد العزيز والأوزاعي في خاصة أنفسهما، والصواب: قول الجماعة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم بين الصلاة على المسلمين، ولم يستثن منهم أحدًا فيصلى على جميعهم: الأخيار والأشرار، إلا الشهداء الذين أكرمهم الله بالشهادة
(1)
.
ولعل هذا هو الداعي للبخاري على التبويب هنا. نعم يكره للإمام وأهل الفضل أن يصلوا عليه، وكذا كل كبيرة لا تخرج من الإيمان ردعًا لهم وزجرًا، فلم يصل الشارع على قاتل نفسه بمشاقص، والمقتول في الفئة الباغية يغسل ويصلى عليه خلافًا لأبي حنيفة
(2)
.
وقال ابن عبد الحكم: الإمام إن شاء صلى على من رجمه في حد، فإنه صلى الله عليه وسلم صلى على ماعز والغامدية
(3)
.
وروي أنه لم يصل على ماعز ولم ينه عن الصلاة عليه
(4)
.
وقوله صلى الله عليه وسلم: ("بدرني عَبْدِي بنفسِهِ، حَرَّمْتُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ") وسائر الأحاديث محملها عند العلماء في وقت دون وقت إن أراد الله أن
(1)
"شرح ابن بطال" 3/ 349.
(2)
انظر: "تحفة الفقهاء" 1/ 248 - 249، "الاختيار" 1/ 129.
(3)
انظر: "الذخيرة" 2/ 469.
(4)
رواه أبو داود (3186) كتاب: الجنائز، باب: الصلاة على من قتلته الحدود، والبيهقي 4/ 19 كتاب: الجنائز، باب: الصلاة على من قتلته الحدود، وابن الجوزي في "التحقيق في أحاديث الخلاف" 2/ 17 (904) كلهم من حديث أبي برزة الأسلمي، وقال ابن الجوزي معلقًا عليه: والجواب أن هذا الحديث يرويه مجاهيل، ثم لو صح فصلاته على تلك المرأة كانت بعد ذلك؛ لأن أول مرجوم كان ماعزًا، ولهذا قالت له: تريد أن تردني كما رددت ماعزًا. وقال الألباني في "صحيح أبي داود": حسن صحيح.
ينفذ عليه وعيده؛ لأن الله تعالى في وعيده للمذنبين المؤمنين بالخيار عند أهل السنة، إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه، ثم يدخله الجنة ويرفع عنه التخليد على ما في القرآن والحديث.
قَالَ (الله تعالى)
(1)
{وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] وقال صلى الله عليه وسلم: "من قَالَ لا إله إلا الله حرمه الله على النار"
(2)
أي: حرم خلوده فيها.
ومعنى "بدرني بنفسه": استعجل الموت ولم يكن ليؤخر عن وقته، لو لم يفعل ذلك بنفسه.
ويجوز أن يكون معنى قوله: "حَرَّمْتُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ" أن يدخلها من أول أو الجنة العالية، وكذا القول في خانق نفسه وطاعنها. وقد يحمل على المستحل إذ كان كافرًا، لكنها محرمة عليه وإن لم يقتل نفسه.
واستدل بعض أصحابنا بحديث ثابت وأبي هريرة على المماثلة في القصاص بمثل ما قتل، وفيه نظر.
والخُرَاج، بضم الخاء المعجمة وتخفيف الراء: ما يخرج في البدن من بثرة وغيرها
(3)
.
وقال النووي: إنه قرحة وهي واحدة القروح. وهي: حبات تخرج في بدن الإنسان
(4)
.
(1)
من (م).
(2)
رواه بنحوه البخاري (128) كتاب: العلم، باب: من خص بالعلم قومًا .. ، ومسلم (32) كتاب: الإيمان، باب: من مات على التوحيد دخل الجنة، من حديث أنس ابن مالك.
(3)
انظر: "الصحاح" 1/ 309، و"المجمل" 1/ 286، و"لسان العرب" 2/ 1126.
(4)
"صحيح مسلم بشرح النووي" 2/ 124.
84 - باب مَا يُكْرَهُ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَى المُنَافِقِينَ وَالاِسْتِغْفَارِ لِلْمُشْرِكِينَ
رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. [انظر: 1269]
1366 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنِي اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رضي الله عنهم أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا مَاتَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ دُعِيَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا قَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَثَبْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَتُصَلِّي عَلَى ابْنِ أُبَيٍّ وَقَدْ قَالَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا كَذَا وَكَذَا؟! أُعَدِّدُ عَلَيْهِ قَوْلَهُ فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ:"أَخِّرْ عَنِّي يَا عُمَرُ". فَلَمَّا أَكْثَرْتُ عَلَيْهِ قَالَ: "إِنِّي خُيِّرْتُ فَاخْتَرْتُ، لَوْ أَعْلَمُ أَنِّي إِنْ زِدْتُ عَلَى السَّبْعِينَ فَغُفِرَ لَهُ لَزِدْتُ عَلَيْهَا". قَالَ: فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ انْصَرَفَ، فَلَمْ يَمْكُثْ إِلاَّ يَسِيرًا حَتَّى نَزَلَتِ الآيَتَانِ مِنْ بَرَاءَةٌ:{وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} إِلَى {وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 84] قَالَ: فَعَجِبْتُ بَعْدُ مِنْ جُرْأَتِي عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَئِذٍ، وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. [4671 - فتح: 3/ 228]
ذكر فيه حديث عمر في قصة عبد الله بن أبي بن سلول، وقد سلف
في الباب، وقد اختلفت الروايات في قصته والله أعلم أي ذلك كان.
قَالَ ابن التين: فإن كان هذا محفوظًا، فإنما ذكره عمر مخافة النسيان؛ لأنه بشر ينسى.
وقوله: (فلم يمكث إلا يسيرًا حَتَّى نزلت الآيتان من براءة: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} إلى {وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 84]) قَالَ الداودي: إنما ذاك في قوم بأعيانهم يدل عليه قوله:؟ وممن حولكم من الأعراب؟ الآية [التوبة: 101] فلم ينه عما لا يعلم، وكذلك إخباره لحذيفة بسبعة عشر من المنافقين ليسوا جميعهم، وقد كانوا يناكحون
المسلمين ويوارثونهم ويجري عليهم حكم الإسلام؛ لاستتارهم بكفرهم، ولم ينه الناس عن الصلاة عليهم، إنما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم وحده، وكان عمر ينظر إلى حذيفة فإن شهد جنازة ممن يظن به شهده، وإلا لم يشهده، ولو كان أمرًا ظاهرًا لم يسره الشارع إلى حذيفة.
وذكر عن الطبري أنه يجب ترك الصلاة على معلن الكفر وفسره بهذِه، قَالَ: وأما المقام على قبره فغير محرم بل جائز لوليه القيام عليه لإصلاحه ودفنه، وبذلك صح الخبر وعمل به أهل العلم، وهذا خلاف ما قدمنا أن ولد الكافر لا يدفنه ولا يحضر دفنه، إلا أن يضيع فيواريه.
وفي "النوادر" عن ابن سيرين: ما حرم الله الصلاة على أحد من أهل القبلة إلا على ثمانية عثر رجلًا من المنافقين
(1)
، وقد سلف فقد قَالَ صلى الله عليه وسلم لعلي:"اذهبْ فَوَارِه" يعني: أباك
(2)
.
(1)
"النوادر والزيادات" 1/ 614.
(2)
رواه أبو داود من حديث علي (3214) كتاب: الجنائز، باب: الرجل يموت له قرابة مشرك، والنسائي 1/ 110 كتاب: الطهارة، باب: الغسل من مواراة المشرك، والشافعي في "مسنده" بترتيب السندي 1/ 207 (572) كتاب: الصلاة، باب: في صلاة الجنائز وأحكامها. وأبو داود الطيالسي في "مسنده" 1/ 113 (122)، وعبد الرزاق في "مصنفه" 6/ 39 - 40 (9936) كتاب: أهل الكتاب، باب: غسل الكافر وتكفينه. وابن أبي شيبة 3/ 34 (11839 - 11840) كتاب: الجنائز، باب: في الرجل يموت له القرابة المشرك يحضره أم لا؟
وأحمد 1/ 97، وأبو يعلى 1/ 334 - 336 (423 - 424)، والبيهقي 1/ 304 كتاب: الطهارة، باب: الاغتسال للأعياد وصححه الألباني في "صحيح أبي داود"(2201).
وروى سعيد بن جبير قَالَ: مات رجل يهودي له ابن مسلم، فذكر ذلك لابن عباس فقال: كان ينبغي له أن يمشي معه ويدفنه ويدعو له بالصلاح مادام حيًّا، فإذا مات وكله إلى شأنه ثم قرأ {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ} الآية [التوبة: 114]
(1)
.
وقال النخعي: توفيت أم الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة، وهي نصرانية فاتبعها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تكرمة للحارث، ولم يصلوا عليها. ثم فرض على جميع الأمة أن لا يدعى لمشرك ولا يستغفر له إذا ماتوا على شركهم. وقال تعالى:{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} الآية [التوبة: 113] وقد بيّن الله تعالى عذر إبراهيم في استغفاره لأبيه. فقال: {إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} [التوبة: 114] فدعا له وهو يرجو إنابته ورجوعه إلى الإيمان، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه.
ففي هذا من الفقه، أنه جائز أن يدعى لكل من يرجى من الكفار إنابته بالهداية مادام حيًّا؛ لأنه صلى الله عليه وسلم إذ شمته أحد المنافقين واليهود قَالَ:"يهديكُم الله ويُصْلِح بالكم"
(2)
وقد يعمل الرجل بعمل أهل النار ويختم له بعمل أهل الجنة.
وفيه: تصحيح القول بدليل الخطاب لاستعمال النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك أن إخباره تعالى أنه لا يغفر له، ولو استغفر سبعين مرة، يحتمل أنه
(1)
رواه ابن أبي شيبة 3/ 34 - 35 (11846)، (11848) كتاب: الجنائز، باب: في الرجل يموت له القرابة المشرك يحضره أم لا؟ وابن المنذر 5/ 342.
(2)
رواه الترمذي (2739) كتاب: الأدب، باب: ما جاء كيف تشميت العاطس، وقال: هذا حديث حسن صحيح، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" 4/ 302 كلاهما من حديث أبي موسى، وصححه الألباني في "صحيح الترمذي".
لو زاد عليها أنه يغفر له، لكن لما شهد الله تعالى أنه كافر بقوله {ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله} [التوبة: 80] دلت هذِه الآية على تغليب أحد الاحتمالين، وهو أنه لا يغفر له لكفره، فلذلك أمسك صلى الله عليه وسلم عن الدعاء له.
وفي إقدام عمر على مراجعة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة عليه من الفقه أن الوزير الفاضل الناصح لا حرج عليه في أن يخبر سلطانه بما عنده من الرأي وإن كان مخالفًا لرأيه، وكان عليه فيه بعض الخفاء إذا علم فضل الوزير وثقته وحسن مذهبه، فإنه لا يلزمه اللوم على ما يؤديه اجتهاده إليه، ولا يتوجه إليه سوء الظن، وأن صبر السلطان على ذلك من تمام فضله، ألا ترى سكوته صلى الله عليه وسلم عن عمر، وتركه الإنكار عليه، وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم أكبر الأسوة.
85 - باب ثَنَاءِ النَّاسِ عَلَى المَيِّتِ
1367 -
حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه يَقُولُ: مَرُّوا بِجَنَازَةٍ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"وَجَبَتْ". ثُمَّ مَرُّوا بِأُخْرَى فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا، فَقَالَ:"وَجَبَتْ". فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رضي الله عنه: مَا وَجَبَتْ؟ قَال: "هَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا فَوَجَبَتْ لَهُ الجَنَّةُ، وَهَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا فَوَجَبَتْ لَهُ النَّارُ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللهِ فِي الأَرْضِ". [2642 - مسلم: 949 - فتح: 3/ 228]
1368 -
حَدَّثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي الفُرَاتِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ قَالَ: قَدِمْتُ المَدِينَةَ وَقَدْ وَقَعَ بِهَا مَرَضٌ، فَجَلَسْتُ إِلَي عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رضي الله عنه، فَمَرَّتْ بِهِمْ جَنَازَةٌ فَأُثْنِيَ عَلَى صَاحِبِهَا خَيْرًا، فَقَالَ عُمَرُ - رضى الله عنه -: وَجَبَتْ. ثُمَّ مُرَّ بِأُخْرَى، فَأُثْنِيَ عَلَى صَاحِبِهَا خَيْرًا، فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: وَجَبَتْ. ثُمَّ مُرَّ بِالثَّالِثَةِ، فَأُثْنِيَ عَلَى صَاحِبِهَا شَرًّا فَقَالَ: وَجَبَتْ. فَقَالَ أَبُو الأَسْوَدِ: فَقُلْتُ: وَمَا وَجَبَتْ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: قُلْتُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "أَيُّمَا مُسْلِمٍ شَهِدَ لَهُ أَرْبَعَةٌ بِخَيْرٍ أَدْخَلَهُ اللهُ الجَنَّةَ". فَقُلْنَا: وَثَلَاثَةٌ؟ قَالَ: "وَثَلَاثَةٌ". فَقُلْنَا: وَاثْنَانِ؟ قَالَ: "وَاثْنَانِ". ثُمَّ لَمْ نَسْأَلْهُ عَنِ الوَاحِدِ. [2643 - فتح: 3/ 229]
ذكر فيه حديث أنس: مَرُّوا بِجَنَازَةٍ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا .. الحديث.
وحديث عمر: "أَيُّمَا مُسْلِمٍ شَهِدَ لَهُ أَرْبَعَةٌ بِخَيْرٍ أَدْخَلَةُ اللهُ الجَنةَ". فَقُلْنَا: وَثَلَاثَة؟ قَالَ: "وَثَلَاَثةٌ". فقُلْنَا: وَاثْنَانِ؟ قَالَ: "وَاثْنَانِ". ثُمَّ لَمْ نَسْأَلْهُ عَنِ الوَاحِدِ.
أما حديث أنس فأخرجه مسلم
(1)
أيضًا، وسيأتي في البخاري في الشهادات في باب: تعديل كم يجوز؟
(2)
. وحديث عمر من أفراد
(1)
"صحيح مسلم"(949) الجنائز، باب: فيمن يثنى عليه خير أو شر من الموتى.
(2)
برقم (2642).
البخاري وذكره مسندًا عن شيخه عفان بن مسلم، ووقع في البيهقي أنه رواه معلقًا عنه
(1)
، وأسنده الإسماعيلي أيضًا وأبو نعيم من طريق ابن أبي شيبة عنه، وأسنده البيهقي من حديث الصغاني عن عفان
(2)
، ولأحمد:"فيشهد له أربعة أثبات من جيرانه الأدنين إلا قَالَ الله تعالى: قد قبلت علمهم فيه وغفرت له ما لا يعلمون"
(3)
.
إذا تقرر ذلك فالكلام عليه من أوجه:
أحدها:
قوله في حديث عمر: (فأثنى على صاحبها خيرًا) كذا هو في أصل الدمياطي: (خيرًا) في الموضعين، (ثم مُرَّ بثالثة فأثنى على صاحبها شرًّا)، بالألف في الثلاثة، وهو أصح إذا قرئ فأثنى بفتح الألف. وقال ابن التين: قوله: (خيرًا) صوابه: خيرٌ. قَالَ: وكذلك هو في بعض الروايات، وشرٌ مثله، وكأنه أراد إذا قرئ مبنيًّا. قَالَ: وفي نصبه بعدٌ في اللسان.
ثانيها:
عارض بعضهم قوله: (فأثنى على صاحبها شرًّا). بالحديث الآخر: "أمسكوا عن ذي قبر". أي: من أهل الإيمان، وجوابه من أوجه:
أحدها: على تقدير صحته ولا نعلمها، يحتمل أن يكون مجاهرًا.
ثانيها: لم يقبر فيكون ذا قبر، ويرده قوله بعد هذا:"لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا" وسيأتي قريبًا في البخاري
(4)
.
(1)
"السنن الكبرى" 4/ 75 كتاب: الجنائز، باب: الثناء على الميت وذكره بما كان فيه من الخير.
(2)
المصدر السابق.
(3)
"مسند أحمد" 3/ 242. من حديث أنس.
(4)
برقم (1393) كتاب: الجنائز، باب: ما ينهى من سب الأموات.
ثالثها: أنه كان في زمانه صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ لأنه كان زمان ينطقهم الله فيه بالحكمة ويجريها على ألسنتهم، وأما الآن فلا، إلا أن يثني أهل العداله.
وقيل: إن حديث أنس يجري مجرى الغيبة في الأحياء، وإن كان
الرجل أغلب أحواله الخير وقد يكون منه الغلبة، فالاغتياب له محرم، وإن كان فاسقًا معلنًا فلا غيبة فيه، فكذلك الميت، إذا كان أغلب أحواله الخير لم يجز ذكر ما فيه من شرٍّ ولا سبه به، وإن كان أغلب أحواله الشر فيباح ذكره منه، وليس ذلك مما نهي عنه من سب الأموات، ويؤيد ذلك إجماع أهل العلم من ذكر الكذابين وتجريح المجروحين.
وقيل: إن حديث: "لا تسبوا الأموات" عام وحديث: "أمسكوا عن ذي قبر" يحتمل أن يكون أباح ذكر الميت بما فيه من غالب الشر عند موته خاصة؛ ليتعظ بذلك فُسَّاق الأحياء، فإذا صار في قبره أمسك عنه، لإفضائه إلى ما قدم، فإن اعترض على التجريح بأن الضرورة دعت إلى ذلك حياطة لحديثه، فيقال له: هو مثل الذي غلب عليه الفسق، فوجب ذكر فسقه تحذيرًا من حاله، وهو من هذا الباب ومثله مما لا اعتراض له فيه ذكره صلى الله عليه وسلم للذي لم يعمل حسنة قط وهو مؤمن فبذلك غفر له، فذكره بقبيح عمله إذ كان الغالب على عمله الشر، لكنه انتفع بخشية الله تعالى.
وهل يشترط أن يكون ثناؤهم مطابقًا لأفعاله، فيه احتمالان. وقال القرطبي: يحتمل أن يكون النهي عن سب الموتى متأخرًا عن هذا الحديث فيكون ناسخًا
(1)
.
(1)
"المفهم" 2/ 608.
ثالثها:
قَالَ الداودي: معنى هذا الحديث عند الفقهاء: إذا أثنى عليه أهل الفضل والصدق؛ لأن الفسقة قد يثنون على الفاسق فلا يدخلون في معنى هذا الحديث، والمراد -والله أعلم-: إذا كان المثني بالشر ممن ليس له بعدو؛ لأنه قد يكون للرجل الصالح العدو، فإذا مات عدوه ذكر عند ذلك الرجل الصالح شرًّا، فلا يدخل الميت في معنى هذا الحديث؛ لأن شهادته كانت لا تجوز عليه في الدنيا وإن كان عدلًا للعداوة؛ والبشر غير معصومين.
رابعها:
حديث أنس لم يشترط في الذين أثنوا عددًا من الناس لا يجزئ أقل منهم، بخلاف حديث عمر، وأحال في ذلك صلى الله عليه وسلم ما يغلب على الرجل بعد موته عند جملة من الناس من ثناء الخير والشر، وأنه المحكوم له به في الآخرة، وقد جاء بيان هذا في حديث آخر:"إن الله عز وجل إِذَا أَحَبَّ عبْدًا أمر الملائكةَ أن تُناديَ في السماء: ألا أنَّ الله يُحِبُّ فُلَانًا فأحبوه. فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُجعلُ لَهُ القَبُولُ فِي أهلِ الأَرْضِ، وإذا أبغض عبدًا كذلك"
(1)
فهذا معنى قوله: "أنتم شهداء الله في الأرض"؛ لأن المحبة والبغضة من عنده تعالى، ويشهد لصحة هذا قوله تعالى:{وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} [طه: 39]
فإن قلت: فهذا المعنى مخالف لحديث عمر؛ لأنه شرط فيه أربعة شهداء أو ثلاثة أو اثنين بخلاف الأول. قيل: ليس كما توهمت، وإنما اختلف العددان؛ لاختلاف المعنيين وذلك أن الثناء قد يكون بالسماع
(1)
سيأتي برقم (3209) كتاب: بدء الخلق، باب: ذكر الملائكة.
المتصل على الألسنة، فاستحب في ذلك التواتر والكثرة، والشهادة لا تكون إلا بالمعرفة والعلم بأحوال المشهود له، فناب في ذلك أربعة شهداء وذلك أعلى ما يكون من الشهادة؛ لأن الله تعالى جعل في الزنا أربعة شهداء، فإن قصروا ناب فيه ثلاثة
(1)
، فإن قصروا عن ذلك ناب فيه شاهدان، وذلك أقل ما يجزئ من الشهادة على سائر الحقوق رحمة من الله لعباده المؤمنين وتجاوزًا عنهم حين أجرى أمورهم في الآخرة على ما أجراه في الدنيا، وقبل شهادة رجلين من عباده المؤمنين بعضهم على بعض في أحكام الآخرة.
وقال أبو سليمان: هذا من ظاهر العلم الذي تقدم أنه أمارة محيلة على الباطن. وقال البيهقي: فيه دلالة على جواز ذكر المرء بما يعلمه إذا وقعت الحاجة إليه نحو سؤال القاضي المزكي ونحوه
(2)
.
فائدة:
الثناء: ممدود يستعمل في الخير ولا يستعمل في الشر، وقيل: يستعمل فيهما، وأما النَثَاْ بتقديم النون وبالقصر ففي الشر خاصة، وقد يستعمل في الخير أيضًا، واستعمل الثناء هنا بالمد في الشر، بناء على اللغة الشاذة أو للتجانس كقوله:{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40].
(1)
ورد في هامش الأصل: وهو وجه عند الشافعي في الاعتبار أنه لا يقبل فيه إلا ثلاثة. قال به الفوراني.
(2)
"السنن الكبرى" 4/ 75 - 76 تقال: الجنائز، باب: النهي عن سب الأموات والأمر بالكف عن مساوئهم إذا كان مستغنيًا عن ذكرها.
86 - باب مَا جَاءَ فِي عَذَابِ القَبْرِ
وَقَوْلُهُ عز وجل: {إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} [الأنعام: 93] والهُون والهَوَانُ، وَالْهَوْنُ: الرِّفْقُ، وَقَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ:{سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} [التوبة: 101] وَقَوْلُهُ {إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ المَوْتِ وَالمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ اليَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام: 93]، وقوله {فَوَقَاهُ اللهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ العَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العَذَابِ (46)} [غافر: 45 - 46]
1369 -
حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ عَنِ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِذَا أُقْعِدَ المُؤْمِنُ فِي قَبْرِهِ أُتِيَ، ثُمَّ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} "[إبراهيم: 27]. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ بِهَذَا وَزَادَ:{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} [إبراهيم: 27] نَزَلَتْ فِي عَذَابِ القَبْرِ. [4699 - مسلم: 2871 - فتح: 3/ 231]
1370 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ صَالِحٍ حَدَّثَنِي نَافِعٌ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما أَخْبَرَهُ قَالَ: اطَّلَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَهْلِ القَلِيبِ فَقَالَ: "وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ ". فَقِيلَ لَهُ: تَدْعُو أَمْوَاتًا؟! فَقَالَ: "مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لَا يُجِيبُونَ". [3980 - فتح: 3/ 232]
1371 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ،
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: إِنَّمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّهُمْ لَيَعْلَمُونَ الآنَ أَنَّ مَا كُنْتُ أَقُولُ حَقٌّ، وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} ". [النمل: 80]
[3978، 3979، 3981 - مسلم: 932 - فتح: 3/ 232]
1372 -
حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ شُعْبَةَ، سَمِعْتُ الأَشْعَثَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ يَهُودِيَّةً دَخَلَتْ عَلَيْهَا، فَذَكَرَتْ عَذَابَ القَبْرِ، فَقَالَتْ لَهَا: أَعَاذَكِ اللهُ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ. فَسَأَلَتْ عَائِشَةُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ عَذَابِ القَبْرِ، فَقَالَ:"نَعَمْ عَذَابُ القَبْرِ". قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدُ صَلَّى صَلَاةً إِلاَّ تَعَوَّذَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ. زَادَ غُنْدَرٌ: "عَذَابُ القَبْرِ [حَقٌّ] ". [انظر: 1049 - مسلم: 586، 903 - فتح: 3/ 232]
1373 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما تَقُولُ: قَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَطِيبًا فَذَكَرَ فِتْنَةَ القَبْرِ التِي يَفْتَتِنُ فِيهَا المَرْءُ، فَلَمَّا ذَكَرَ ذَلِكَ ضَجَّ المُسْلِمُونَ ضَجَّةً. [انظر: 86 - مسلم: 905 - فتح: 3/ 232]
1374 -
حَدَّثَنَا عَيَّاشُ بْنُ الوَلِيدِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّهُ حَدَّثَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِنَّ العَبْدَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ، وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ، وَإِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ، أَتَاهُ مَلَكَانِ فَيُقْعِدَانِهِ فَيَقُولَانِ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي الرَّجُلِ لِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم؟ فَأَمَّا المُؤْمِنُ فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ. فَيُقَالُ لَهُ: انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ، قَدْ أَبْدَلَكَ اللهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنَ الجَنَّةِ، فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا". قَالَ قَتَادَةُ: وَذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ يُفْسَحُ فِي قَبْرِهِ. ثُمَّ رَجَعَ إِلَي حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: "وَأَمَّا المُنَافِقُ وَالكَافِرُ فَيُقَالُ لَهُ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِى، كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ. فَيُقَالُ: لَا دَرَيْتَ وَلَا تَلَيْتَ. وَيُضْرَبُ بِمَطَارِقَ مِنْ حَدِيدٍ ضَرْبَةً، فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ، غَيْرَ الثَّقَلَيْنِ". [انظر: 1338 - مسلم: 2870 - فتح: 3/ 232]
ذكر فيه ستة أحاديث:
أحدها:
حديث البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ: "إِذَا أُقعِدَ المُؤْمِنُ فِي قَبْرِهِ أُتِيَ، ثُمَّ شَهِدَ أَنْ لَا إله إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا} الآية" وقال شُعْبَةُ: نَزَلَتْ فِي عَذَابِ القَبْرِ.
ثانيها:
حديث ابن عمر: اطَّلَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَهْلِ القَلِيبِ .. الحديث.
ثالثها:
حديث عائشة: إِنَّمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّهُمْ لَيَعْلَمُونَ الآنَ أَنَّ مَا كُنْتُ أَقُولُ لهم حَقٌّ، وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى:{إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ المَوْتَى} .
رابعها:
حديثها أيضًا: أَنَّ يَهُودِيَّةَ دَخَلَتْ عَلَيْهَا، فَذَكَرَتْ عَذَابَ القَبْرِ، فَقَالَتْ لَهَا: أَعَاذَكِ اللهُ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ. فَسَألَتْ عَائِشَةُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ عَذَابِ القَبْرِ، فَقَالَ:"نَعَمْ عَذَابُ القَبْرِ". قَالَتْ عَائِشَةُ: فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدُ صَلَّى صَلَاةَ إِلَّا تَعَوَّذَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ. زَادَ غُنْدَرٌ: "عَذَابُ القَبْرِ حَقٌّ".
خامسها:
حديث أسماء: قَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَطِيبًا فَذَكَرَ فِتْنَةَ القَبْرِ التِي يَفْتَتِنُ فِيهَا المَرْءُ، .. الحديث.
سادسها:
حديث أنس: "إِنَّ العَبدَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ، وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ، .. الحديث بطوله.
الشرح:
هذِه الأحاديث سلفت أو أكثرها، والأخير سلف في باب الميت يسمع خفق النعال
(1)
.
و {غَمَرَاتِ المَوْتِ} شدائده. {وَالمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ} أي بالعذاب.
و {الهُونِ} الهوان، كما سلف.
قَالَ ابن جريج: عذاب الهون في الآخرة. وقال غيره: لما بعثوا صاروا إلى النار، قالت الملائكة:{اليَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهُونِ} قَالَ: الهوان.
وقول الملائكة: {أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} على معنى التوبيخ، أي: أنتم تفارقون أنفسكم، والهَوْن -بفتح الهاء- السكينة والوقار.
وقوله: {سَنُعَذبُهُم مَّرَتَيْنِ} الآية [التوبة: 101] قيل: عذاب يوم بدر بالقتل، ثم في القبر، ثم يردون إلى عذاب جهنم، وقيل: بالسباء ثم بالقتل ثم بجهنم. وقال مجاهد: بالجوع والقتل ثم بجهنم
(2)
. وقيل: بالزكاة تؤخذ منهم كرهًا.
{وَحَاقَ} : نزل. وقوله: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} قَالَ ابن مسعود: إن أرواح آل فرعون في أجواف طير سود، تعرض على النار مرتين، يقال لهم: هذِه داركم
(3)
.
وعن أبي هريرة أنه كان إذا أصبح قَالَ: أصبحنا والحمد لله، وعرض آل فرعون على النار. وكذلك إذا أمسى فلا يسمعه أحد إلا تعوذ بالله من
(1)
برقم (1338) كتاب: الجنائز.
(2)
رواه الطبري في "تفسيره" 6/ 457 (17140).
(3)
رواه البزار في "البحر الزخار" 4/ 284 (1454)، وذكره ابن كثير في "تفسيره" 12/ 196 - 197.
النار
(1)
. وقال مجاهد: {غُدُوًّا وَعَشِيًّا} : من أيام الدنيا
(2)
.
وقال الفراء: ليس في القيامة غدو ولا عشي، لكن مقدار ذلك
(3)
.
ويرد عليه قوله: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العَذَابِ} [غافر: 46] فدل على أن الأول بمنزلة عذاب القبر.
وحديث البراء مفسر للآية، وقد اختلف في قوله:{فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا} [إبراهيم: 27] فقَالَ طاوس: قول: لا إله إلا الله
(4)
. وقال قتادة: يثيبهم بالخير والعمل الصالح
(5)
، وقيل: الحياة حياتان: دنيا وهي التي نحن فيها؛ لأنها تقدمت ودنت، والثانية الآخرة؛ لأنها تأخرت.
وحديث ابن عمر في أهل القليب قد يكون هو المحفوظ؛ لأنه لا يكلم من لا يسمع كلامه، وإذا أراد الله إسماع شيء أسمعه، ألا تراه أنه عرض الأمانة على السموات والأرض والجبال، وأن النار اشتكت إلى ربها تعالى، ويكون معنى قوله:{لَا تُسْمِعُ المَوْتَى} الآية [النمل: 80] مثل قوله: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56] ويعني بالموتى وأهل القبور من سبق فرب علم الله أنه لا يسلم، ويكون قول عائشة إنما حملته على التأويل، وإن كانت ما قالته عائشة محفوظًا فإنما حمله ابن عمر على التأويل.
(1)
ذكره القرطبي في "تفسيره" 15/ 319.
(2)
رواه الطبري في "تفسيره" 11/ 67 (30373).
(3)
"معاني القرآن" 3/ 9.
(4)
رواه الطبري في "تفسيره" 7/ 450 - 451 (20775).
(5)
المصدر السابق برقم (20776).
واحتج بعض الفقهاء بقوله صلى الله عليه وسلم: "ما أنتم بأسمع منهم" فإن العموم لا يصح في الأفعال، وهو مذهب المحققين قالوا: لأنها قضية عين لا يجب أن يلحق بها غيرها، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم للمرأة التي رفعت إليه صبيًّا، ثم قالت: ألهذا حج؟ قَالَ: "نعم، ولك أجر"
(1)
فظن بعض من لم يحقق الكلام أن غير هذِه الأشياء يحمل عليها.
وحديث عائشة مع اليهودية فيه أن يتحدث عن أهل الكتاب إذا وافق قول الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن يوقف عن خبرهم حَتَّى يعرف أصدق هو أم كذب.
وفيه: أن المؤمن يتذكر إذا سمع شيئًا، فرب كلمة ينتفع بها سامعها دون قائلها.
وقوله: ("ويضرب بمطارق من حديد ضربة") أي: من رجل حنق شديد الغضب، قَالَه الشيخ أبو الحسن.
واحتجَّ لأهل السنَّةِ القائلين أنَّ الأرواحَ كلَّها باقيةٌ، أرواح السعداء منعمة، وأرواح الأشقياء معذبة بالآية السالفة:{النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} [غافر: 46]، وبقوله:{وَالمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} [الأنعام: 93] ولم يقل: إنهم يميتون أنفسهم، وقيل في قوله:{رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون: 99]: إنه قول الروح.
وقوله تعالى: {أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} اختلف في النفس والروح، فقال القاضي أبو بكر وأصحابه: إنهما اسمان لشيء واحد. وقال ابن حبيب:
(1)
رواه مسلم من حديث ابن عباس برقم (1336) كتاب: الحج، باب: صحة حج الصبي وأجر من حج به، وأبو داود (1736) كتاب: المناسك، باب: في الصبي يحج، والترمذي (924) كتاب: الحج، باب: ما جاء في حج الصبي، والنسائي 5/ 120 كتاب: مناسك الحج، باب: الحج بالصغير، وابن ماجه (2910) كتاب: المناسك، باب: حج الصبي.
الروح هو النفس البخاري يدخل ويخرج لا حياة للنفس إلا به، والنفس تألم وتلذ، والروح لا تألم ولا تلذ. وعن ابن القاسم، عن عبد الرحيم بن خالد: بلغني أن الروح له جسد ويدان ورجلان ورأس وعينان يسل من الجسد سلًا. وعنه أيضًا: أن النفس هي التي لها جسد مجسد.
قَالَ ابن حبيب: وهي في الجسد تحلق في جوف حلق تخرج من الجسد عند الوفاة، ويبقى الجسد حيًّا، ونحوه حكى ابن شعبان، عن ابن القاسم وزاد قَالَ: الروح كالماء الجاري. قَالَ أبو بكر بن مجاهد: أجمع أهل السنة على أن عذاب القبر حق، وأن الناس يفتنون في قبورهم بعد أن يحيوا فيها، ويسألون ويثبت الله من أحب تثبيته منهم. وقال أبو عثمان بن الحداد: وإنما أنكر عذاب القبر بشر المريسي والأصم وضرار، واحتجوا بقوله تعالى:{لَا يَذُوقُونَ فِيهَا المَوْتَ إِلَّا المَوْتَةَ الأُولَى} [الدخان: 56] وبمعارضة عائشة لابن عمر.
قَالَ القاضي أبو بكر بن الطيب وغيره: قد ورد القرآن بتصديق الأخبار الواردة في عذاب القبر قَالَ تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} [غافر: 46] وقام الاتفاق على أنه لا غدو ولا عشي في الآخرة، وإنما هما في الدنيا، وقد سلف ذلك، فهم يعرضون بعد مماتهم على النار قبل يوم القيامة، ويوم القيامة يدخلون أشد العذاب. قَالَ تعالى:{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العَذَابِ} [غافر: 46] فإذا جاز أن يكون المكلف بعد موته معروضًا على النار غدوًّا وعشيًّا، جاز أن يسمع الكلام، ويُمنع الجواب؛ لأن اللذة والعذاب (تجيء بالإحساس)
(1)
، فإذا كان ذلك وجب اعتقاد رد
(1)
خَلْط بالأصل والمثبت من "شرح ابن بطال" 3/ 359.
الحياة في تلك الأجسام، وسماعهم للكلام، والعقل لا يدفع هذا ولا يوجب حاجة إلى بلل ورطوبة، وإنما يقتضي حاجتها إلى المحل فقط، فإذا صحَّ رد الحياة إلى أجسامهم مع ما هم عليه من نقصِ البنية وتقطيع الأوصال، صحَّ أن يوجد منهم سماع الكلام والعجز عن رد الجواب.
وقد ذكر البخاري في غزوة بدر بعد قوله صلى الله عليه وسلم: "ما أنتم بأسمع لما أقول منهم" قَالَ قتادة: أحياهم الله حَتَّى أسمعهم توبيخًا ونقمة وحسرة وندمًا
(1)
. وعلى تأويل قتادة فقهاء الأمة وجماعة أهل السنة، وعلى ذلك تأوله عبد الله بن عمر، وهو راوي الحديث.
قَالَ القاضي: وليس في قول عائشة ما يعارض رواية ابن عمر؛ لأنه يمكن أن يكون قد قَالَ في قتلى بدر القولين جميعًا، ولم تحفظ عائشة إلا أحدهما؛ لأن القولين غير متنافيين أي: ما دُعوا إليه حَتَّى لا يبقى رد الحياة إلى أجسامهم وسماعهم النداء بعد موتهم إذا عادوا أحياء.
وقال الطبري في معنى قوله: "ما أنتم بأسمع منهم ولكنهم لا يجيبون": اختلف السلف من العلماء في تأويله، فقال جماعة: يكثر تعدادها بعموم الحديث. وقالت: إن الميت يسمع كلام الأحياء، ولذلك قَالَ صلى الله عليه وسلم لأهل القليب ما قَالَ. وقال:"ما أنتم بأسمع منهم".
واحتجوا بأحاديث في معنى قوله صلى الله عليه وسلم في الميت "إنه ليسمع قرع نعالهم"
(2)
ثم روى أنهم يسمعون كلام الأحياء ويتكلمون عن أبي هريرة. ثم روى عن ابن وهب، عن العطاف بن خالد، عن خالته
(1)
برقم (3976) كتاب: المغازي، باب: قتل أبي جهل.
(2)
سبق برقم (1838) كتاب: الجنائز، باب: الميت يسمع خفق النعال، من حديث أنس.
-وكانت من الغوابر- أنها كانت تأتي قبور الشهداء، قالت: صليت يومًا عند قبر حمزة بن عبد المطلب، فلما قمت قلتُ: السلام عليكم، فسمعت أذناي رد السلام يخرج من تحت الأرض، أعرفه كما أعرف أن الله خلقني، وما في الوادي داع ولا مجيب، فاقشعرت كل شعرة مني. وعن عامر بن سعد أنه كان إذا خرج إلى قبور الشهداء يقول لأصحابه: ألا تسلمون على الشهداء فيردون عليكم؟
(1)
وقال آخرون: معناه، ما أنتم بأعلم أنه حق منهم، ورووا ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وذكروا قول عائشة حين أنكرت على ابن عمر وقالت: إنما قَالَ صلى الله عليه وسلم: "إنهم ليعلمون الآن أن ما كنت أقول لهم حق". قالوا: فخبر عائشة يبين ما قلنا من التأويل، إلا أنه أخبر أنهم يسمعون أصوات بني آدم وكلامهم. قالوا: ولو كانوا يسمعون كلام الناس وهم موتى لم يكن لقوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ المَوْتَى} [النمل: 80]{وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي القُبُورِ} [فاطر: 22] معنى. وصوب الطبري تصحيح كل من الروايتين، والواجب الإيمان بها والإقرار بأن الله يسمع من يشاء من خلقه ما شاء من كلام خلقه، ويفهم من يشاء منهم ما يشاء، وينعم من أحب منهم ويعذب في قبره الكافر، ومن استحق العذاب كيف أراد، على ما صحت به الروايات عن سيد البشر، وليس في قوله:{إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي القُبُورِ} [فاطر: 22] حجة في دفع ما صحت به الآثار في قرع النعال وقصة القليب، إذ كان قوله:{وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي القُبُورِ} {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ المَوْتَى}
(1)
رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 3/ 28 - 29 (11787) كتاب: الجنائز، باب: التسليم على القبور إذا مر بها.
محتملًا لأن يكون معناه، فإنك لا تسمع الموتى بقدرتك إذ خالق السمع غيرك، ونظيره {وَمَا أَنْتَ بِهَادِي العُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ} [النمل: 81] وذلك بالتوفيق، والهداية بيد الله، فنفى الرب عن نبيه القدرة أن يسمع الموتى إلا بمشيئته، كما في الهداية، وإنما أنت نذير مبلغ ما أرسلت به.
ويحتمل أن يكون المراد: إنَّك لا تُسمع الموتى إسماعًا ينتفعون به؛ لانقطاع أعمالهم وانتقلوا إلى دار الجزاء فلا ينفع الدعاء إذًا؛ لأن الله ختم عليهم أن لا يؤمنوا، وكذا قوله:{إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي القُبُورِ} يريد: إنك لا تقدر على إسماع من جعله الله أصم عن الهدى، وفي صدر الآية ما يدل على هذا؛ لأنه تعالى قَالَ:{وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالبَصِيرُ (19)} [فاطر: 19]، يعني بالأعمى: الكافر، وبالبصير: المؤمن {وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20)} [فاطر: 20] يعني بالظلمات: الكفر، وبالنور: نور الإيمان {وَلَا الظِّلُّ} [فاطر: 21] أي الجبة {وَلَا الحَرُورُ} أي النار. {وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ} : العقلاء {وَلَا الأَمْوَاتُ} : الجهال ثم قَالَ: {إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ} يعني: إنك لا تسمع الجهال الذين كأنهم موتى في القبور، ولم يرد بالموتى الذين ضربهم مثلًا للجهال شهداء بدر المؤمنين فيحتج بهم، أولئك أحياء كما نطق به التنزيل، ولا يعارض ما يثبت في عذاب القبر الآية السالفة {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا المَوْتَ إِلَّا المَوْتَةَ الأُولَى} [الدخان: 56] لأن الله تعالى قد أخبر في كتابه بحياة الشهداء قبل يوم القيامة فقال: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ} الآية [آل عمران: 169] ولما كانت حياتهم قبل محشرهم ليست رادة لهذِه الآية كانت حياة المقبورين في قبورهم من قبل محشر الناس ليست رادة لقوله: {لَا يَذُوقُونَ} .
ومن أنكر حياة الشهداء قبل المحشر وادعى أن قوله: {أَحْيَاءٌ} أنه في يوم القيامة، أبطل ما اقتضاه قوله:{وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ} [آل عمران: 170]؛ لأن الشهداء وغيرهم من جميع البشر يتوافون يوم القيامة، ويستحيل فيمن وافاه غيره أن يقال في الذي وافاه إنه سيلحقه، أو يقال فيه بأنه خلفه، والأخبار إذًا في عذاب القبر صحيحة متواترة لا يصح عليها التواطؤ، وإن لم تصح مثلها لم يصح شيء من أمر الدين.
87 - باب التَّعَوُّذِ مِنْ عَذَابِ القَبِرْ
1375 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ المُثَنَّى، حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: حَدَّثَنِي عَوْنُ بْنُ أَبِي جُحَيْفَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ رضي الله عنهم قَالَ: خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ وَجَبَتِ الشَّمْسُ، فَسَمِعَ صَوْتًا فَقَالَ:"يَهُودُ تُعَذَّبُ فِي قُبُورِهَا".
وَقَالَ النَّضْرُ: أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا عَوْنٌ، سَمِعْتُ أَبِي، سَمِعْتُ البَرَاءَ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. [مسلم: 2869 - فتح: 3/ 241]
1376 -
حَدَّثَنَا مُعَلًّى، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ قَالَ: حَدَّثَتْنِي ابْنَةُ خَالِدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ العَاصِ أَنَّهَا سَمِعَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَتَعَوَّذُ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ. [6364 - فتح: 3/ 241]
1377 -
حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَمِنْ عَذَابِ النَّارِ، وَمِنْ فِتْنَةِ المَحْيَا وَالمَمَاتِ، وَمِنْ فِتْنَةِ المَسِيحِ الدَّجَّالِ". [مسلم: 588 (131) - فتح: 3/ 341]
ذكر فيه حديث يَحْييَ -هو ابن سعيد- ثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنِي عَوْنُ بْنُ أَبِي
جُحَيْفَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ: خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وقَدْ وَجَبَتِ الشَّمْسُ، فَسَمِعَ صَوْتًا فَقَالَ:"يَهُودُ تُعَذَّبُ فِي قُبُورِهَا".
وَقَالَ النَّضْرُ: أَنَا شُعْبَةُ، ثَنَا عَوْنٌ، سَمِعْتُ أَبِي، سَمِعْتُ البَرَاءَ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
وحديث مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ قَالَ: حَدَّثَتْنِي ابنةُ خَالِدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ العَاصِ أَنَّهَا سَمِعَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وهُوَ يَتَعَوَّذُ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ.
وحديث أبي هريرة: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَمِنْ عَذَابِ النَّارِ، وَمِنْ فِتْنَةِ المَحْيَا وَالمَمَاتِ، وَمِنْ فِتْنَةِ المَسِيحِ الدَّجَّالِ".
الشرح:
تقدمت هذِه الأحاديث في مواضعها، وتعليق النضر أتى به مسلم ليحيى بن سعيد
(1)
؛ لأن فيها كل واحد صرح بالسماع ممن فوقه وقد وصله الإسماعيلي، حدثنا مكي، ثنا زاج، ثنا النضر، ثنا شعبة وهو حديث فيه ثلاثة صحابيون يروي بعضهم عن بعض أولهم أبو جحيفة، وهذِه الأحاديث شاهدة للأحاديث التي في الباب السابق، أن عذاب القبر حق على ما ذهب إليه أهل السنة، ألا ترى أن الشارع استعاذ منه، وهو معصوم مطهر مغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟! فينبغي لك يا من انتفت عصمته وطهارته أن تكثر منه تأسيًا بسيد السادات، وإنما استعاذ مع غفرانه تعليمًا لك وتنبيهًا على الاقتداء به، واتباع هديه ثم كل الخلق في مقام الافتقار والخشوع والانكسار، والإقرار بشكر النعم واجب، وخشية كل أحد على قدر مقامه "أفلا أكونُ عبدًا شَكُورا"
(2)
وقد قَالَ تعالى له: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب: 1] أي: دُمْ على تقواه، فكان إذا قام في الصلاة يسمع لصدره أزيز.
وفتنة المحيا: من خروجه، وفتنة الممات: فتنة القبر، وفتنة المسيح الدجال أي: الذي يخرج في آخر الزمان أعاذنا الله منه.
(1)
"صحيح مسلم"(2869) كتاب: الجنة ونعيمها، باب: عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه.
(2)
سلف برقم (1130) كتاب: التهجد، باب: قيام النبي صلى الله عليه وسلم الليل حتى ترم قدماه.
88 - باب عَذَابِ القَبْرِ مِنَ الغِيبَةِ وَالبَوْلِ
1378 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ طَاوُسٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى قَبْرَيْنِ فَقَالَ: "إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ مِنْ كَبِيرٍ -ثُمَّ قَالَ:- بَلَى أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ يَسْعَى بِالنَّمِيمَةِ، وَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لَا يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ". قَالَ: ثُمَّ أَخَذَ عُودًا رَطْبًا فَكَسَرَهُ بِاثْنَتَيْنِ ثُمَّ غَرَزَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى قَبْرٍ، ثُمَّ قَالَ:"لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا". [انظر: 216 - مسلم: 292 - فتح: 3/ 242]
ذكر فيه حديث ابن عباس: مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى قَبْرَيْنِ .. الحديث.
وقد سلف قريبًا، ولم يذكر فيه الغيبة، إنما ذكر النميمة
(1)
؛ لأن من ينم عنه يغتابه، ويقال: إنهما أختان لا تفارق إحداهما الأخرى، وقد سلف ذلك أيضًا.
(1)
برقم (1361) باب: الجريد على القبر.
89 - باب المَيِّتِ يُعْرَضُ عَلَيْهِ بِالغَدَاةِ وَالعَشِيِّ
1379 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا مَاتَ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالغَدَاةِ وَالعَشِيِّ، إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ فَمِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ [فَمِنْ أَهْلِ النَّار]، فَيُقَالُ: هَذَا مَقْعَدُكَ حَتَّى يَبْعَثَكَ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ". [3240، 6515 - مسلم: 2866 - فتح: 3/ 243]
ذكر فيه حديث ابن عمر: أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا مَاتَ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالغَدَاةِ وَالعَشِيِّ، إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ فَمِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَمِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَيُقَالُ: هذا مَقْعَدُكَ حَتَّى يَبْعَثَكَ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ".
الشرح:
العرض لا يكون إلا على حيِّ، وهو قال على إحيائه ومنه:"ليسمع قرع نعالهم" وفيه دلالة على بقاء الأرواح؛ لأنها التي يعرض عليها، ويحتمل أن يريد بالغداة والعشي: كل غداة وكل عشية، وذلك لا يكون إلا بإحياء جزء منه، فإنا نشاهد الميت ميتًا بالغداة والعشي، وذلك يمنع إحياء جميعه، وإعادة جسمه، ولا يمتنع أن تعاد الحياة في جزء أو أجزاء منه، وتصح مخاطبته والعرض عليه، ويحتمل أن يريد بالغداة والعشي: غداة واحدة يكون العرض فيها، ذكره ابن التين.
وقوله: ("مقعده") يحتمل أن يريد مقعده من الجنة، وقد سلف ذلك مفصلًا في حديث أنس، ويكون معنى:"حَتَّى يَبْعَثَكَ اللهُ" أي: أنه مقعدك لا تصل إليه حَتَّى يبعثك الله.
ونقل ابن بطال عن بعضهم أن معنى العرض هنا: الإخبار بأن هذا موضع أعمالكم والجزاء لها عند الله تعالى، وأريد بالتكرير بالغداة والعشي تذكارهم بذلك، ولسنا نشك أن الأجسام بعد الموت والمساءلة هي في الذهاب وأكل التراب والفناء، ولا يعرض شيءٌ على فانٍ، فبان أن العرض الذي يدوم إلى يوم القيامة إنما هو على الأرواح خاصة، وذلك أن الأرواح لا تفنى وإنما هي باقية إلى أن يصير العباد إلى الجنة أو النار
(1)
.
ونقل عن القاضي أبي الطيب اتفاق المسلمين أنه لا غدو ولا عشاء في الآخرة، وإنما هو في الدنيا، فهم معروضون بعد مماتهم على النار، وقيل: يوم القيامة، ويوم القيامة يدخلون أشد العذاب، فمن عرض عليه النار غدوًّا وعشيًّا أحرى أن يسمع الكلام.
قال ابن عبد البر: وقد استدل بهذا الحديث من ذهب إلى أن
الأرواح على أفنية القبور، وهو أصح ما ذهب إليه في ذلك؛ لأن الأحاديث في ذلك أثبت نقلًا قَالَ: والمعنى عندي أنها قد تكون على أفنية قبورها؛ لأنها لا تفارق أفنية القبور، بل هي كما قَالَ مالك: إنه بلغه أن الأرواح تسرح حيث شاءت، وعن مجاهد: الأرواح على القبور سبعة أيام، من يوم دفن الميت لا تفارق
(2)
.
وقال الداودي: ومما يدل على حياة الروح والنفس وأنهما لا يفنيان قوله تعالى: {اللهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ} الآية [الزمر: 42] والإمساك لا يقع على الفاني
(3)
.
(1)
"شرح ابن بطال" 3/ 365.
(2)
"الاستذكار" 8/ 354 - 355.
(3)
"شرح ابن بطال" 3/ 365.
وحكى القرطبي أن العرض مخصوص بالمؤمن الكامل الإيمان، ومن أراد الله أن ينجيه من النار، وأما من أبعد الله عليه وعيده من المخلطين الذين خلطوا عملًا صالحًا وآخر سيئًا، فله مقعدان يراهما جميعًا، كما أنه يرى عمله شخصين في وقتين أو في وقت واحد قبيحًا وحسنًا.
قَالَ: وقد يحتمل أن يراد بأهل الجنة: كل من يدخلها كيف كان، ويجوز أن يكون ترد إليه الروح كما ترد عند المسألة، وقد ضرب بعض العلماء لتعذيب الروح مثلًا في النائم كأن روحه تنعم أو تعذب وحده لايحس بشيء من ذلك
(1)
.
وقوله: ("حَتَّى يبعثك الله يوم القيامة") هو تأكيد أعني: يوم القيامة، وزاد ابن القاسم:"حَتَّى يبعثك الله إليه" وكذا رواه ابن بكير، قال أبو عمر: ويحتمل أن تكون الهاء في قوله: "إليه" راجعة إلى الله تعالى، فإن إليه المصير، وكونها عائدة إلى المقعد الذي تصير إليه أشبه
(2)
بدلالة حديث أبي هريرة: "فَيُفْرَجُ لَهُ فُرْجَةٌ إلى النَّارِ فَيَنْظُرُ إِلَيْهَا، فَيُقَالُ لَهُ: انْظُرْ إِلَى مَا وَقَاكَ اللهُ، ثُمَّ يُفْرَجُ لَهُ فُرْجَةٌ في الجَنَّةِ فَيَنْظُرُ إِلَيها فَيُقَالُ لَهُ: هذا مَقْعَدُكَ"
(3)
.
(1)
انظر: "المفهم" 7/ 144 - 145.
(2)
"الاستذكار" 8/ 348، 349.
(3)
رواه ابن ماجه (4268) كتاب: الزهد، باب: ذكر القبر والبلى، وصححه الألباني في "صحيح ابن ماجه".
90 - باب كَلَامِ المَيِّتِ عَلَى الجَنَازَةِ
1380 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ رضي الله عنه يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا وُضِعَتِ الجَنَازَةُ فَاحْتَمَلَهَا الرِّجَالُ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ، فَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً قَالَتْ: قَدِّمُونِي قَدِّمُونِي. وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ صَالِحَةٍ قَالَتْ: يَا وَيْلَهَا أَيْنَ يَذْهَبُونَ بِهَا؟ يَسْمَعُ صَوْتَهَا كُلُّ شَيْءٍ إِلاَّ الإِنْسَانَ، وَلَوْ سَمِعَهَا الإِنْسَانُ لَصَعِقَ". [انظر: 1314 - فتح: 3/ 244]
ذكر فيه حديث أبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ: "إِذَا وُضِعَتِ الجَنَازَةُ فَاحْتَمَلَهَا الرِّجَالُ .. الحديث.
وقد سلف في باب حمل الجنازة بفوائده
(1)
.
وقد جاءت آثار تدل على معرفته من يحمله ويدخله في قبره ومن يغسله، أخرجه الطبري من حديث أبي سعيد مرفوعًا، وعن مجاهد: إذا مات الميت فملك قابض نفسه، فما من شيء إلا وهو يراه عند غسله وعند حمله وحتى يصل إلى قبره.
وإنما ترجم البخاري بكلام الميت عليها، وذكر حديثًا يدل أن الجنازة: الميت؛ لأنه من أئمة اللغة العارفين بها، فإنها بالفتح: الميت، وبالكسر: السرير، فأراد الميت على السرير
(2)
.
(1)
برقم (1314).
(2)
انظر: "الصحاح" 3/ 870، و"لسان العرب" 2/ 699.
91 - باب مَا قِيلَ فِي أَوْلَادِ المُسْلِمِينَ
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:"مَنْ مَاتَ لَهُ ثَلَاثَةٌ مِنَ الوَلَدِ لَمْ يَبْلُغُوا الحِنْثَ كَانَ لَهُ حِجَابًا مِنَ النَّارِ، أَوْ دَخَلَ الجَنَّةَ".
1381 -
حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنَ النَّاسِ مُسْلِمٌ يَمُوتُ لَهُ ثَلَاثَةٌ مِنَ الوَلَدِ لَمْ يَبْلُغُوا الحِنْثَ، إِلاَّ أَدْخَلَهُ اللهُ الجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إِيَّاهُمْ". [انظر: 1248 - فتح: 3/ 244]
1382 -
حَدَّثَنَا أَبُو الوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ سَمِعَ البَرَاءَ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ لَهُ مُرْضِعًا فِي الجَنَّةِ". [3255، 6195 - فتح: 3/ 244]
ثم ذكر حديث أنس: "مَا مِنَ النَّاسِ مُسْلِمٌ يَمُوتُ لَهُ ثَلَاَثَةٌ مِنَ الوَلَدِ لَمْ يَبْلُغُوا الحِنْثَ، إِلا أَدْخَلَهُ اللهُ الجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إِيَّاهُمْ".
وحديث البراء: قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ إِبْرَاهِيمُ قَالَ له رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ لَهُ مُرْضِعًا فِي الجَنَّةِ".
الشرح:
أما حديث أبي هريرة فقد سلف في أوائل الجنائز. لكن بلفظ آخر كما أوضحناه هناك في باب: من مات له ولد فاحتسبه
(1)
، وعَزَاهُ المزي في "أطرافه" إلى أنس بلفظ ليس هو هنا، ولا في ذاك الموضع، فليحمل على المعنى، وهذا لفظه: حديث: "ما من مسلم يموت له ثلاثة من الولد .. "
(2)
الحديث. أخرجه البخاري في
(1)
برقم (1251).
(2)
"تحفة الأشراف" 1/ 272 (1005).
الجنائز
(1)
، وحديث البراء أخرجه
(2)
.
إذا عرفتَ ذلك فالكلامُ عليه من أوجه:
أحدها:
الثلاثة داخلة في حيز الكثرة، وقد يصاب المؤمن فيكون في إيمانه من القوة ما يصبر للمصيبة، ولا يصبر لتردادها عليه، فلذلك صار من تكررت عليه المصائب صبره أولى بجزيل الثواب، والولد من أجَلِّ ما يسر به الإنسان، لقد يرضى أن يفديه بنفسه، هذا هو المعهود في الناس والبهائم، فلذلك قصد الشارع إلى إعلاء المصائب والحض على الصبر عليها، وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ:"لَا يَمُوتُ لأَحَدٍ مِنَ المُسْلِمِينَ ثَلَاثَةٌ مِنَ الوَلَدِ فَيَحْتَسِبُهُمْ إِلَّا كَانُوا له جُنَّةً مِنَ النَّارِ"
(3)
ومعنى الحسبة: الصبر لما ينزل به، والاستسلام لقضاء الله عليه، فإذا طابت نفسه على الرضا عن الله في فعله استكمل جزيل الأجر.
وقد جاء أنه ليس شيء من الأعمال يبلغ مبلغ الرضا عن الله في جميع النوازل، وهذا معنى قوله تعالى:{رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة: 119] يريد: رضي أعمالهم، ورضوا عنه بما أجرى عليهم من قضائه وما أجزل لهم من عطائه.
ثانيها:
معنى: "لم يبلغوا الحنث": لم يبلغوا أن تجري عليهم الأقلام
(1)
سلف برقم (1248) باب: فضل من مات له ولد فاحتسب.
(2)
بياض في الأصل بمقدار نصف سطر.
(3)
رواه مالك في "موطئه" من حديث أبي النضر السَّلَميص 162 (39) كتاب: الجنائز، باب: الحسبة بالمصيبة بالولد وغيره، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" 4/ 185 (2166).
بالأعمال، والحنث: الذنب العظيم.
ثالثها:
حديث أنس دال قاطع أن أولاد المسلمين في الجنة لا بد، لا يجوز أن يرحم الله الآباء من أجل من ليس بمرحوم، ويشهد لصحة هذا قوله في ابنه إبراهيم:"إن له مرضعًا في الجنة" وعلى هذا القول جمهور علماء المسلمين أن أطفال المسلمين في الجنة، إلا المجبرة فإنهم عندهم في المشيئة، وهو قول مهجور مردود بإجماع الحجة، ذكر للتنبيه على وهمه وغلطه
(1)
.
رابعها:
بوب البخاري على أولاد المسلمين، ولم يذكر حديثًا فيهم، وأجيب بأنه إذا رحم الآباء بهم فالأبناء أولى، وحديث إبراهيم يرده، وهو ظاهر في التبويب.
خامسها:
"إن له مرضعًا في الجنة" أي: من يتم رضاعه، يقال: امرأة موضع بغير هاء كحائض، وقد أرضعت فهي مرضعة، إذا بنيته من الفعل، وروي مَرضَعا -بفتح الميم -أي: رضاعا.
(1)
هذا القول فيه نظر فقد قال ابن عبد البر رحمه الله: وقد ذهب جماعة كثيرة من أهل الفقه والحديث إلى الوقوف عن الشهادة لأطفال المسلمين أو المشركين بجنة أو نار منهم: حماد بن زيد، وحماد بن سلمة، وابن المبارك، وإسحاق بن راهويه، وغيرهم، وهو يشبه ما رسمه مالك في أبواب القدر في موطئه، وما أورد من الأحاديث، وعلى ذلك أكثر أصحابه وليس عن مالك فيه شيء منصوص إلا أن المتأخرين من أصحابه ذهبوا إلى أن أطفال المسلمين في الجنة، وأطفال الكفار خاصة في المشيئة، "التمهيد" 18/ 111 - 112.
92 - باب مَا قِيلَ فِي أَوْلَادِ المُشْرِكِينَ
1383 -
حَدَّثَنَا حِبَّانُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَوْلَادِ المُشْرِكِينَ فَقَالَ: "اللهُ إِذْ خَلَقَهُمْ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ". [6597 - مسلم: 2660 - فتح: 3/ 245]
1384 -
حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ اللَّيْثِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَقُولُ: سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَرَارِيِّ المُشْرِكِينَ، فَقَالَ:"اللهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ". [6598، 6600 - مسلم: 2659 - فتح: 3/ 245]
1385 -
حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَثَلِ البَهِيمَةِ تُنْتَجُ البَهِيمَةَ، هَلْ تَرَى فِيهَا جَدْعَاءَ؟ ". [انظر: 1358 - مسلم: 2658 - فتح: 3/ 245]
ذكر فيه حديث ابن عباس: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَوْلَادِ المُشْرِكِينَ، فَقَالَ:"اللهُ إِذْ خَلَقَهُمْ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ".
وحديث أبي هريرة: سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَرَارِيِّ المُشْرِكِينَ، فَقَالَ:"اللهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ".
وحديثه أيضًا: "كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ، .. الحديث.
الشرح:
الحديث الأخير سلف قريبًا واضحًا. وقد اختلف العلماء في أولاد المشركين على أقوال:
أحدها: أنهم من أهل الجنة
(1)
؛ لأنهم وُلدوا على الفطرة. قَالَ
(1)
ورد بهامش الأصل ما نصه: كونهم في الجنة قول طائفة من المفسرين والفقهاء والمتكلمين والصوفية، وهو اختيار ابن حزم.
تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء: 40].
ومعنى: "اللهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ" أي: قد علم أنهم لا يعملون شيئًا ولا يرجعون في وقت يعملون فيه، وهذا هو المختار
(1)
.
ثانيها: أنهم خدمة أهل الجنة
(2)
.
ثالثها: أنهم من أهل النار؛ لحديث الذراري يصابون في شن الغارة: "هم من آبائهم"
(3)
. وجوابه أن ذلك في أمر الدنيا أي: إنهم إن أصيبوا في التبييت والإغارة لا قود فيهم ولا دية، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان في الحرب.
(1)
تعليق بهامش الأصل بخط سبط ابن العجمي: قولهم في الحديث قول طائفة من المفسرين والفقهاء والمتكلمين والصوفية، وهو اختيار ابن حزم.
(2)
تعليق بهامش الأصل بخط سبط ابن العجمي: وقد رأيت في "جامع سفيان الثوري" جمع الدولابي، قال الدولابي: حدثنا محمد بن خلف، ثنا قبيصة، عن سفيان، عن يزيد بن أبان، عن أنس بن مالك قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذراري المشركين، قال:"هم خدام أهل الجنة" وهو مذهب سفيان. [وقد بقي] على المصنف مع ما ذكره خمسة أقوال أخر، وهي: الإمساك في المسألة نفيًا وإثباتًا وجعل هذا بما استأثر الله بعلمه وهذا غير القول بأنهم مردودون إلى محض المشيئة غير الوقف في أمرهم لما يحكم لهم بجنة، ولا بنار. هذان قولان. الثالث: أنهم في منزلة بين الجنة والنار، فليس لهم إيمان يدخلون به الجنة، وليس لهم أعمال توجب دخولهم النار. الرابع: أن علمهم وعلم آبائهم في الدنيا والآخرة فلا ينفردون عنهم بحكم في الدارين. والفرق بين هذا وبين الثالث في كلام المصنف أنهم في النار. أن صاحب هذا المذهب الرابع يجعلهم تبعًا لهم حتى لو أسلم الأبوان بعد موتهم يحكم لأطفالهم بالنار وصاحب القول الثالث يقول: هم في النار سواء أسلم الأبوان أو لا. الخامس: أنهم يصيرون ترابًا حكاه أرباب المقالات عن علية بن أشرس.
(3)
سيأتي برقم (3012، 3013) كتاب: الجهاد، باب: أهل الدار يبيتون، ورواه مسلم أيضًا برقم (1745) كتاب: الجهاد، باب: جواز قتل النساء
…
، من حديث الصعب بن جثامة.
رابعها: إن الله يبعثهم ومن مات في الفترة، والصم والبكم والمجانين، وتؤجج لهم نار، ثم يُبعث إليهم رسول، يأمرهم باقتحامها فمن علم الله أنه لو وهبه عقلًا في الدنيا أطاعه، دخلها ولا تضره ويدخل الجنة، ومن علم أنه لو وهبه عقلًا لم يدخلها فيدخل النار. قَالَ ابن بطال: هو قول لا يصح؛ لأن الآثار الواردة بذلك ضعيفة لا تقوم بها حجة
(1)
.
وقَالَ الداودي: وهذا لا يصح في العقل والاعتبار لقوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 113] الآية.
فجعلهم من أصحاب الجحيم، ولو كان لهم موضع يرجى لهم فيه، لم ينه عن الاستغفار لهم، وهذا الاستدلال غير صحيح، كما قَالَ ابن التين؛ لأنه إنما نُهي عن الاستغفار لعبد الله بن أُبي، ومن هو مثله، ولم ينه عن الاستغفار لولدانهم.
خامسها: الوقف في أمرهم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الله أعلم بما كانوا عاملين". ونقل ابن بطال عن أكثر العلماء أنهم في المشيئة، وتأولوا قوله تعالى:{إِلَّا أَصْحَابَ اليَمِينِ (39)} [المدثر: 39] أنهم أطفال المؤمنين، وقيل: هم أصحاب الملائكة. وقد رتب بعض العلماء هذِه الأحاديث الأربعة بحيث لا يختلف منها حديث مع الآخر. فقال: أصلها حديث التأجيج. قَالَ: فمن دخل النار كان من خدمة أهل الجنة، وكان الله أعلم بما سيعمل لو أحياه حين يبلغ التكليف، وإن لم يدخلها كان في النار
(2)
، وهو الحديث الآخر:"هم من آبائهم".
(1)
"شرح ابن بطال" 3/ 374.
(2)
"شرح ابن بطال" 3/ 373 - 374.
فتتفق هذِه الأحاديث الأربعة
(1)
.
وقوله: "اللهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ" أخبر بعلم الشيء لو وجد كيف يكون، مثل قوله:{وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا} [الأنعام: 28] ولم يرد أنهم يجازون بذلك في الآخرة؛ لأن المرء لا يجازى بما لا يفعل، ولا خلاف أن من نوى شرب خمر ولم يفعل أنه لا يقام عليه بذلك حكم، فالصغير أبين؛ لأنه لم يكن منه فعل شيء، وكذلك أولاد المسلمين، ("الله أعلم بما يعملون لو عاشوا")
(2)
. وعن ابن القاسم في ولد المسلم يولد مخبولًا، أو يصيبه ذلك قبل بلوغه قَالَ: ما سمعت فيه شيئًا، غير أن الله تعالى قَالَ:(والذين آمنوا وأتبعناهم ذرياتهم)
(3)
الآية [الطور: 21] فأرجو أن يكونوا معهم.
(1)
قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: إذا مات غير المكلف بين والدين كافرين فحكمه حكمهما في أحكام الدنيا فلا يغسل ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين، أما في الآخرة فأمره إلى الله سبحانه، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لما سئل عن أولاد المشركين قال:"الله أعلم بما كانوا عاملين ".
وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن علم الله سبحانه فيهم يظهر يوم القيامة وأنهم يمتحنون كما يمتحن أهل الفترة ونحوهم فإن أجابوا إلى ما يطلب منهم دخلوا الجنة وإن عصوا دخلوا النار. وقد صحت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في امتحان أهل الفترة يوم القيامة. وهم الذين لم تبلغهم دعوة الرسل ومن كان في حكمهم كأطفال المشركين لقول الله عز وجل: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] وهذا القول هو أصح الأقوال في أهل الفترة ونحوهم ممن لم تبلغهم الدعوة الإلهية وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم وجماعة من السلف والخلف رحمة الله عليهم جميعًا، وقد بسط العلامة ابن القيم رحمه الله الكلام في حكم أولاد المشركين وأهل الفترة في آخر كتابه "طريق الهجرتين" تحت عنوان طبقات المكلفين. "مجموع فتاوى ومقالات متنوعة" 3/ 163 - 164.
(2)
في الأصل: تقديم: (أعلم) على: (الله).
(3)
هذِه قراءة أبي عمرو.
وأما من أصيب بعد الحلم. قَالَ ابن التين: سمعت بعض أهل العلم والفضل أنه يطبع على عمله كمن مات، ومن كتاب آخر أن المجنون والمخبول والمعتوه يصلى عليهم
(1)
.
وقال ابن بطال: يحتمل قوله: "الله أعلم بما كانوا عاملين". وجوهًا من التأويل:
أحدها: أن يكون قبل إعلامه أنهم من أهل الجنة.
ثانيها: أي: على أي دين كان يميتهم لو عاشوا فبلغوا العمل، وأما إذا عدم منهم العمل فهم في رحمة الله التي ينالها من لا ذنب له.
ثالثها: أنه مجمل يفسره قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} [الأعراف: 172] الآية، فهذا إقرار عام يدخل فيه أولاد المسلمين والمشركين، فمن مات منهم قبل بلوغ الحنث ممن أقر بهذا الإقرار من أولاد الناس كلهم، فهو على إقراره المتقدم لا يقضى له بغيره؛ لأنه لم يدخل عليه ما ينقضه إلى أن يبلغ الحنث، وأما من قَالَ: حكمهم حكم آبائهم، فهو مردود بقوله تعالى:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]
(2)
.
(1)
انظر: "النوادر والزيادات" 1/ 607.
(2)
"شرح ابن بطال" 3/ 373.
93 - باب
1386 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، حَدَّثَنَا أَبُو رَجَاءٍ،
عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا صَلَّى صَلَاةً أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَقَالَ: "مَنْ رَأَى مِنْكُمُ اللَّيْلَةَ رُؤْيَا؟ ". قَالَ: فَإِنْ رَأَى أَحَدٌ قَصَّهَا، فَيَقُولُ مَا شَاءَ اللهُ، فَسَأَلَنَا يَوْمًا، فَقَالَ:"هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمْ رُؤْيَا؟ ". قُلْنَا: لَا. قَالَ: "لَكِنِّي رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِي فَأَخَذَا بِيَدِي، فَأَخْرَجَانِي إِلَي الأَرْضِ المُقَدَّسَةِ، فَإِذَا رَجُلٌ جَالِسٌ، وَرَجُلٌ قَائِمٌ بِيَدِهِ كَلُّوبٌ مِنْ حَدِيدٍ -قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْ مُوسَى: إِنَّهُ- يُدْخِلُ ذَلِكَ الكَلُّوبَ فِي شِدْقِهِ، حَتَّى يَبْلُغَ قَفَاهُ، ثُمَّ يَفْعَلُ بِشِدْقِهِ الآخَرِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَيَلْتَئِمُ شِدْقُهُ هَذَا، فَيَعُودُ فَيَصْنَعُ مِثْلَهُ. قُلْتُ مَا هَذَا؟ قَالَا: انْطَلِقْ. فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُضْطَجِعٍ عَلَى قَفَاهُ، وَرَجُلٌ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِهِ بِفِهْرٍ -أَوْ صَخْرَةٍ- فَيَشْدَخُ بِهِ رَأْسَهُ، فَإِذَا ضَرَبَهُ تَدَهْدَهَ الحَجَرُ، فَانْطَلَقَ إِلَيْهِ لِيَأْخُذَهُ، فَلَا يَرْجِعُ إِلَي هَذَا حَتَّى يَلْتَئِمَ رَأْسُهُ، وَعَادَ رَأْسُهُ كَمَا هُوَ، فَعَادَ إِلَيْهِ فَضَرَبَهُ، قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَا: انْطَلِقْ. فَانْطَلَقْنَا إِلَي ثَقْبٍ مِثْلِ التَّنُّورِ، أَعْلَاهُ ضَيِّقٌ وَأَسْفَلُهُ وَاسِعٌ، يَتَوَقَّدُ تَحْتَهُ نَارًا، فَإِذَا اقْتَرَبَ ارْتَفَعُوا حَتَّى كَادَ أَنْ يَخْرُجُوا، فَإِذَا خَمَدَتْ رَجَعُوا فِيهَا، وَفِيهَا رِجَالٌ وَنِسَاءٌ عُرَاةٌ. فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَا: انْطَلِقْ. فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى نَهَرٍ مِنْ دَمٍ، فِيهِ رَجُلٌ قَائِمٌ عَلَى وَسَطِ النَّهَرِ [قال يزيد ووهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِم: وَعَلَى شَطِّ النهر] رَجُلٌ بَيْنَ يَدَيْهِ حِجَارَةٌ، فَأَقْبَلَ الرَّجُلُ الذِي فِي النَّهَرِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ رَمَى الرَّجُلُ بِحَجَرٍ فِي فِيهِ، فَرَدَّهُ حَيْثُ كَانَ، فَجَعَلَ كُلَّمَا جَاءَ لِيَخْرُجَ رَمَى فِي فِيهِ بِحَجَرٍ، فَيَرْجِعُ كَمَا كَانَ. فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ قَال: انْطَلِقْ.
فَانْطَلَقْنَا حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَي رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ، فِيهَا شَجَرَةٌ عَظِيمَةٌ، وَفِي أَصْلِهَا شَيْخٌ وَصِبْيَانٌ، وَإِذَا رَجُلٌ قَرِيبٌ مِنَ الشَّجَرَةِ بَيْنَ يَدَيْهِ نَارٌ يُوقِدُهَا، فَصَعِدَا بِي فِي الشَّجَرَةِ، وَأَدْخَلَانِي دَارًا لَمْ أَرَ قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهَا، فِيهَا رِجَالٌ شُيُوخٌ وَشَبَابٌ،
وَنِسَاءٌ وَصِبْيَانٌ، ثُمَّ أَخْرَجَانِي مِنْهَا، فَصَعِدَا بِي الشَّجَرَةَ، فَأَدْخَلَانِي دَارًا هِيَ أَحْسَنُ وَأَفْضَلُ، فِيهَا شُيُوخٌ وَشَبَابٌ. قُلْتُ: طَوَّفْتُمَانِي اللَّيْلَةَ، فَأَخْبِرَانِي عَمَّا رَأَيْتُ. قَالَا: نَعَمْ، أَمَّا الذِي رَأَيْتَهُ يُشَقُّ شِدْقُهُ فَكَذَّابٌ يُحَدِّثُ بِالكَذْبَةِ، فَتُحْمَلُ عَنْهُ حَتَّى تَبْلُغَ الآفَاقَ، فَيُصْنَعُ بِهِ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَالذِي رَأَيْتَهُ يُشْدَخُ رَأْسُهُ فَرَجُلٌ عَلَّمَهُ اللهُ القُرْآنَ، فَنَامَ عَنْهُ بِاللَّيْلِ، وَلَمْ يَعْمَلْ فِيهِ بِالنَّهَارِ، يُفْعَلُ بِهِ إِلَي يَوْمِ القِيَامَةِ. وَالذِي رَأَيْتَهُ فِي الثَّقْبِ فَهُمُ الزُّنَاةُ. وَالذِي رَأَيْتَهُ فِي النَّهَرِ آكِلُو الرِّبَا، وَالشَّيْخُ فِي أَصْلِ الشَّجَرَةِ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام وَالصِّبْيَانُ حَوْلَهُ فَأَوْلَادُ النَّاسِ، وَالذِي يُوقِدُ النَّارَ مَالِكٌ خَازِنُ النَّارِ. وَالدَّارُ الأُولَى التِي دَخَلْتَ دَارُ عَامَّةِ المُؤْمِنِينَ، وَأَمَّا هَذِهِ الدَّارُ فَدَارُ الشُّهَدَاءِ، وَأَنَا جِبْرِيلُ، وَهَذَا مِيكَائِيلُ، فَارْفَعْ رَأْسَكَ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا فَوْقِي مِثْلُ السَّحَابِ. قَالَا: ذَاكَ مَنْزِلُكَ. قُلْتُ دَعَانِي أَدْخُلْ مَنْزِلِي. قَالَا: إِنَّهُ بَقِيَ لَكَ عُمْرٌ لَمْ تَسْتَكْمِلْهُ، فَلَوِ اسْتَكْمَلْتَ أَتَيْتَ مَنْزِلَكَ". [انظر: 845 - مسلم: 2275 - فتح: 3/ 251]
ذكر فيه حديث سمرة بن جندب قال: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا صَلَّى صَلَاةً أَقْبَلَ عَلَيْنَا بوَجْههِ فَقَالَ: "مَنْ رَأى مِنْكُمُ اللَّيْلَةَ رُؤْيَا؟ .. " الحديث، وفيه:"لَكِنِّي رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ .. " فقصَّها بطولها، ويأتي في التعبير آخر الكتاب
(1)
، وساقه عقب ما قيل في أولاد المشركين؛ لأنه ذكر في الرؤيا: وفي أصل الروضة شيخ وصبيان، وأما الشيخ في أصل الشجرة إبراهيم، والولدان حوله فأولاد الناس.
وذكر في التعبير: "وأما الولدان الذين حوله فكل مولود مات على الفطرة". قَالَ بعض المسلمين: يا رسول الله، وأولاد المشركين؟ قالَ:"وأولاد المشركين" وهذِه حجة قاطعة، وكذا رواية البخاري:"والصببان حوله أولاد الناس". لأن هذا اللفظ يقتضي عمومه لجميع
(1)
سيأتي برقم (7047) باب: تعبير الرؤيا بعد صلاة الصبح.
الناس مؤمنهم وكافرهم، وقد أسلفنا أن هذا القول هو المختار.
وقال ابن بطال: إنه أصح ما في الباب من طريق الآثار وصحيح الاعتبار
(1)
.
والكلوب في الحديث -ويقال: الكلَّاب-: المنشال وهي: حديدة ينشل بها اللحم من القدر، قاله الجوهري
(2)
. وعبارة ابن بطال: هو خشبة في رأسها عقافة
(3)
.
وقوله: ("تدهدَهَ") أي: تدحرج. والفِهْر: الحجر ملء الكف.
والصخرة: الحجر العظيمة. قال يعقوب، تسكن الخاء وتفتح.
وقوله: ("فَانْطَلَقْتُ إِلَي ثَقْبِ مِثْلِ التَّنُّورِ") هو بإسكان القاف، أي: فتح. وضبطه بعضهم هنا بفتحها، وأنكره بعض أهل اللغة.
وقوله: ("فإذا فترت ارْتَفَعُوا") كذا وقع في رواية الشيخ أبي الحسن: "فترت" ولأبي ذر "أفترت"، وصوابه كما قَالَ ابن التين: قترت -بالقاف- ومعناه: ارتفعت. أي: لهبت وارتفع فوارها؛ لأن القتر: الغبار. قَالَ الجوهري: قَتَر اللحم يقتِر -بالكسر- إذا ارتفع قُتاره، وقتِر بالكسر لغة فيه
(4)
، وأما فترت -بالفاء- فما علمت له وجهًا؛ لأن بعده:"فَإِذَا خَمَدَتْ رَجَعُوا" ومعنى خمدت وفترت -بالفاء- واحد. وأما "أفترت" فذكره الهروي وقال: هو مثل فترت.
وقوله: ("حَتَّى كاد يخرجوا") هو منصوب بتقدير أن، وقد روي بإثباتها.
(1)
"شرح ابن بطال" 3/ 373.
(2)
"الصحاح" 1/ 214.
(3)
"شرح ابن بطال" 3/ 374.
(4)
"الصحاح" 2/ 785.
وقوله: ("وعلى وسط النهر") كذا في رواية، وفي أخرى، وهي ما في التعبير:"شط النهر" وهو: الوجه.
وقوله: ("وَفِي أَصْلِهَا شَيْخٌ وَصِبْيَانٌ") يريد: الذين هم في علم الله من أهل السعادة من أولاد المسلمين. قاله أبو عبد الملك، وقد أسلفنا ما يرده.
وقوله: ("وَالَّذِي رَأَيْتَهُ يُشْدَخُ رَأْسُهُ رجل عَلَّمَهُ اللهُ القُرْآنَ، فَنَامَ عَنْهُ باللَّيْلِ، وَلَمْ يَفعَلْ فِيهِ بِالنَّهَارِ") كذا هنا، وفي التعبير:"فإنه الرجل يَأخذُ القرآن فيرفضه وينام عن الصَّلاةِ المكتوبة".
94 - باب مَوْتِ يَوْمِ الاِثْنَيْنِ
1387 -
حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه فَقَالَ: فِي كَمْ كَفَّنْتُمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَتْ: فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ سَحُولِيَّةٍ، لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ. وَقَالَ لَهَا: فِي أَيِّ يَوْمٍ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَتْ: يَوْمَ الاِثْنَيْنِ. قَالَ: فَأَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ قَالَتْ: يَوْمُ الاِثْنَيْنِ. قَالَ: أَرْجُو فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَ اللَّيْلِ. فَنَظَرَ إِلَي ثَوْبٍ عَلَيْهِ كَانَ يُمَرَّضُ فِيهِ، بِهِ رَدْعٌ مِنْ زَعْفَرَانٍ فَقَالَ: اغْسِلُوا ثَوْبِي هَذَا، وَزِيدُوا عَلَيْهِ ثَوْبَيْنِ فَكَفِّنُونِي فِيهَا. قُلْتُ: إِنَّ هَذَا خَلَقٌ! قَالَ: إِنَّ الحَيَّ أَحَقُّ بِالجَدِيدِ مِنَ المَيِّتِ، إِنَّمَا هُوَ لِلْمُهْلَةِ. فَلَمْ يُتَوَفَّ حَتَّى أَمْسَى مِنْ لَيْلَةِ الثُّلَاثَاءِ وَدُفِنَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ. [انظر: 1264 - مسلم: 941 - فتح: 3/ 252]
ذكر فيه حديث عائشة قالت: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي بَكْرِ فَقَالَ: فِي كَمْ كَفَّنْتُمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَتْ: فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ .. إلى آخره.
سؤال أبي بكر لعائشة؛ لأنها أعلم الناس بموته؛ لأنه مات في بيتها، وسألها ليستعد كفنه ويجري ذلك على اختياره من الاقتداء بالشارع.
وقولها: في يوم الإثنين. كان ذلك لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول، حين اشتد الضحى، لإحدى عشرة سنة من الهجرة، وفيه نُبِّئ وولد وقدم المدينة، وكان يصوم الإثنين والخميس؛ لأنهما يوما رفع الأعمال ومحط الأثقال
(1)
، على أنه ورد في الموت ليلة الجمعة
(1)
يدل على ذلك ما رواه أبو داود عن أسامة بن زيد برقم (2436) كتاب: الصوم، باب: في صوم الإثنين والخميس والنسائي 4/ 201 - 202 كتاب: الصيام، وابن خزيمة في "صحيحه" 3/ 299 (2119) كتاب: الصيام، باب: في استحباب صوم يوم الإثنين والخميس، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود" برقم (2105).
ورواه الترمذي من حديث أبي هريرة (747) كتاب: الصوم، باب: ما جاء في صوم يوم الإثنين والخميس. وقال: حديث أبي هريرة حديث حسن غريب.
ويومها من حديث عمرو بن العاصي مرفوعًا: "مَنْ ماتَ يومَ الجمعةِ أو ليلتها وقاه الله فتَّان القَبْرِ"
(1)
وقال أبو عبيدة بن عقبة: من مات يوم الجمعة أمن فتنة القبر. فقال القاسم بن محمد: صدق أبو عبيدة.
واستفهام الصديق إنما هو ليتثبت، ولم يكن ليخفي عنه يوم وفاته، وقد يحتمل أن لا يعلم ما كفن فيه؛ لأن قومه ولوا أمره، ويحتمل أن يفعله أيضًا ليتثبت، ورجاء أن يتوفي في يوم وفاة الرسول؛ لفضل ذلك اليوم، فقبضه الله تعالى في الليلة التي تليه؛ لأنه تال لرسوله.
قَالَ علي: سبق رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى أبو بكر وصلى عمر.
ولا زال التبرك بالسلف مطلوب، وموافقتهم في المحيا والممات مرغوب، وقد كان ابن عمر شديد الاتباع حَتَّى يقف مرة ويدور بناقته أخرى في مكان وقوفه ودوران ناقته
(2)
، وما أحسنه من اتباع
(3)
.
(1)
لم أقف عليه من حديث عمرو بن العاص بل وجدته من حديث ابنه عبد الله بن عمرو بن العاص، وقد رواه الترمذي (1074) كتاب: الجنائز، باب: ما جاء فيمن مات يوم الجمعة، وعبد الرزاق في "مصنفه" 3/ 269 (5596) كتاب: الجمعة، باب: من مات يوم الجمعة، أحمد 2/ 169، 176، 220.
قال الألباني في "صحيح الترمذي"(858): حسن.
(2)
انظر:، "التمهيد" 10/ 23.
(3)
هذا القول فيه نظر من وجهين: الوجه الأول:
أن التبرك بالسلف الصالح لا يجوز لا في حياتهم ولا بعد مماتهم، فإن التبرك بغير النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته لم يثبت، كما قال الشاطبي رحمه الله، وقد ترك صلى الله عليه وسلم بعده أبا بكر وعمر وهما خير هذِه الأمة وخير ممن يوصف الناس بعدهم بالأولياء، ولم يثبت لواحد منهم من طريق صحيح أن متبركًا تبرك به على النحو الذي يفعله العامة في المشايخ من لمس الجسد والثياب، فهو إجماع منهم على ترك تلك الأشياء أهـ.
وقال ابن رجب رحمه الله: وكذلك التبرك بالآثار، فإنما كان يفعله الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكونوا يفعلونه مع بعضهم بعضًا، ولا يفعله التابعون مع الصحابة مع علو قدرهم. أهـ. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= "الاعتصام" 2/ 9 الحكم الجديرة بالإذاعة" ص 55.
الوجه الثاني: قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وكان ابن عمر يتحرى أن يسير مواضع سير النبي صلى الله عليه وسلم وينزل مواضع منزله ويتوضأ في السفر حيث رآه يتوضأ ويصب فضل مائه على شجرة صب عليها، ونحو ذلك بما استحبه طائفة من العلماء ورأوه مستحبا، ولم يستحب ذلك جمهور العلماء، كما لم يستحبه، ولم يفعله أكابر الصحابة كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود ومعاذ بن جبل وغيرهم، لم يفعلوا مثل ما فعل ابن عمر. ولو رأوه مستحبا لفعلوه كما كانوا يتحرون متابعته والاقتداء به.
وذلك؛ لأن المتابعة أن يفعل مثل ما فعل على الوجه الذي فعل، فإذا فعل فعلًا على وجه العبادة شرع لنا أن نفعله على وجه العبادة، وإذا قصد تخصيص مكان أو زمان بالعبادة خصصناه بذلك، كما كان يقصد أن يطوف حول الكعبة، وأن يستلم الحجر الأسود، وأن يصلي خلف المقام، وكان يتحرى الصلاة عند إسطوانة مسجد المدينة، وقصد الصعود على الصفا والمروة، والدعاء، والذكر هناك، وكذلك عرفة ومزدلفة وغيرهما.
وأما ما فعله بحكم الاتفاق ولم يقصده -مثل أن ينزل بمكان ويصلي فيه لكونه نزله لاقصدًا لتخصيصه به بالصلاة والنزول فيه- فإذا قصدنا تخصيص ذلك المكان بالصلاة فيه، أو النزول لم نكن متبعين، بل هذا من البدع التي كان ينهى عنها عمر بن الخطاب: كما ثبت بالإسناد الصحيح من حديث شعبة عن سليمان التيمي عن المعروف بن سويد، قال: كان عمر بن الخطاب في سفر فصلى الغداة ثم أتى على مكان فجعل الناس يأتونه فيقولون: صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: إنما هلك أهل الكتاب أنهم اتبعوا آثار أنبيائهم فاتخذوها كنائس وبيعا، فمن عرضت له الصلاة فليصل، وإلا فليمض.
فلما كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يقصد تخصيصه بالصلاة فيه بل صلى فيه؛ لأنه موضع نزوله رأى عمر أن مشاركته في صورته الفعل من غير موافقة له في قصده ليس متابعة، بل تخصيص ذلك المكان بالصلاة من بدع أهل الكتاب التي هلكوا بها، ونهى المسلمين عن التشبه بهم في ذلك، ففاعل ذلك متشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم في الصورة ومتشبه باليهود والنصارى في القصد الذي هو عمل القلب. =
والردع: الأثر
(1)
. وفي "الموطأ": به مشق أو زعفران
(2)
. وفيه: الاقتصاد في الكفن، وهذِه وصية منه أن يكفن في ثوب لبيس، وهو جائز في الكفن، ولا خلاف في جواز التكفين في خلق الثياب إذا كانت سالمة من القطع وساترة له، ويحتمل أن يكون أوصى أن يكفن فيه؛ لأنه لبسه في مواطن الحرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحرم فيه، وقد قَالَ ابن حبيب: يستحب مثل هذا؛ للحديث أنه صلى الله عليه وسلم أعطى أم عطية حقوه لأجل ابنته
(3)
. وهذا يقتضي أن وصية الميت معتبرة في كفنه
= وهذا هو الأصل، فإن المتابعة في السنة أبلغ من المتابعة في صورة العمل، ولهذا لما اشتبه على كثير من العلماء جلسة الاستراحة، هل فعلها استحبابًا أو لحاجة عارضة؟ تنازعوا فيها، وكذلك نزوله بالمحصب عند الخروج من مني لما اشتبه، هل فعله كان أسمح لخروجه أو لكونه سنة؟ تنازعوا في ذلك.
ومن هذا وضع ابن عمر يده على مقعد النبي صلى الله عليه وسلم، وتعريف ابن عباس بالبصرة وعمرو بن حريث بالكوفة، فإن هذا لما لم يكن مما يفعله سائر الصحابة، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم شرعه لأمته، لم يمكن أن يقال هذا سنة مستحبة، بل غايته أن يقال: هذا مما ساغ فيه اجتهاد الصحابة، أو مما لا ينكر على فاعله لأنه بما يسوغ فيه الاجتهاد، لا لأنه سنة مستحبة سنها النبي- صلى الله عليه وسلم لأمته، أو يقال في التعريف: إنه لا بأس به أحيانًا لعارض إذا لم يجعل سنة راتبة.
وهكذا يقول أئمة العلم في هذا وأمثاله: تارة يكرهونه، وتارة يسوغون فيه الاجتهاد، وتارة يرخصون فيه إذا لم يتخذ سنة، ولا يقول عالم بالسنة: إن هذِه سنة مشروعة للمسلمين.
فإن ذلك إنما يقال فيما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ ليس لغيره أن يسن ولا أن يشرع، وما سنه خلفاؤه الراشدون فإنما سنوه بأمره فهو من سننه، ولا يكون في الدين واجبًا إلا ما أوجبه، ولا حرامًا إلا ما حرمه، ولا مستحبًا إلا ما استحبه، ولا مكروهًا إلا ما كرهه، ولا مباحًا إلا ما أباحه. "مجموع الفتاوى" 1/ 280 - 282.
(1)
انظر: "الصحاح" 3/ 1218، "لسان العرب" 3/ 1623.
(2)
"الموطأ" ص 156 (6) كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في كفن الميت.
(3)
انظر: "النوادر والزيادات" 1/ 559.
وغير ذلك من أمره إذا وافق صوابًا، فإن أوصى بسرف، فعن مالك: يكفن بالقصد
(1)
، فإن لم يوص وتشاح الورثة لم ينقص عن ثلاثة أثواب من جنس لباسه في حياته؛ لأن الزيادة عليهن والنقص منهن خروج عن عادته.
وقوله: (اغسلوه). يحتمل أن يكون لشيء علمه فيه، وإلا فإن الثوب اللبيس لا يقتضي لبسه وجوب غسله. قاله سحنون، وربما كان الجديد أحق بالغسل منه، ويحتمل أن يكون أمر بالغسل للردع الذي فيه لما أخبر أن الشارع كفن في ثلاثة أثواب بيض.
وقول عائشة: (إن هذا خلق). وقولها في "الموطأ": وما هذا؟ تريد أنه لم يصلح عندها لكفنه، وأرادت أن يكفن في جديد، وغيره أفضل، فقال: الحي أحق بالجديد من الميت. يريد: لما يلزمه في طول عمره من اللباس وستر العورة، وأما الميت فتغيره سريع، ولذلك قَالَ:(إنما هو للمهلة) يريد: الصديد والقيح. يعني: إنه ليس بجمال ولا لاستدامة، وإنما يصير عن قريب إلى التغير بالصديد، فلا معنى لكونه جديدًا، هكذا رواه يحيى في "الموطأ" بكسر الميم، وروي بضمها
(2)
، وضبط في البخاري بالضم والكسر أيضًا، ورويناه بهما جميعًا
(3)
.
وقال ابن الأنباري: لا يقال: للمِهلة بالكسر. ورواه أبو عبيد: وإنما هو للمُهل والتراب. والمهل: الصديد، وقال ابن حبيب: بكسر الميم: الصديد، وبنصبها من التمهل، وبضمها: عكر الزيت الأسود المظلم.
ومنه قوله تعالى: {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالمُهْل} [المعارج: 8] وقال أبو عبيد:
(1)
المصدر السابق 1/ 560 - 561.
(2)
"الموطأ" ص 156.
(3)
ورد بهامش الأصل: قال في "المطالع": رويناه بالحركات الثلاث.
المهل بالضم: الصديد
(1)
، والمهل أيضًا: عكر الزيت الأسود. وقال ابن دريد في هذا الحديث: إنها صديد الميت، زعموا أن المهلة ضرب من القطران، والمهل: ما يتحات من الخبزة من رماد أو غيره
(2)
. وقال أبو عبيدة: قوله: الحي أحوج إلى الجديد من الميت. خلاف من يقول: إنهم يتزاورون في أكفانهم فيجب تحسينها، ألا ترى أنه يقول: فإنما هما للمهلة؟ ويشهد لذلك قول حذيفة حين أتى بكفنه ربطتين، قَالَ: لا تغالوا في الكفن؛ الحي أحوج إلى الجديد من الميت، إني لا ألبث إلا يسيرًا حَتَّى أبدل منهما خيرًا منهما أو شرًّا منهما
(3)
. ومنه قول ابن الحنفية: ليس للميت من الكفن شيء، إنما هو تكرمة للحي. وأما من خالف هذا فرأى تحسين الأكفان، فروي عن عمر أنه قَالَ: أحسنوا أكفان موتاكم، فإنهم يبعثون فيها يوم القيامة. وعن معاذ بن جبل مثله.
قلتُ: وأُوِّل الكفن بالعمل؛ لأنه يبلى. وأوصى ابن مسعود أن يكفن في حلة بمائتي درهم
(4)
. وفي "صحيح مسلم" من حديث جابر مرفوعًا: "إذا كفَّنَ أحدُكُم أخاهُ فليُحْسِن كَفَنَه"
(5)
وهو من أفراده. قَالَ ابن المنذر: وبحديث جابر قَالَ الحسن وابن سيرين، وكان إسحاق يقول: يغالي في الكفن إذا كان موسرًا، وإن كان فقيرًا فلا يغالِ به
(6)
.
(1)
"غريب الحديث" 2/ 7 - 8.
(2)
"جمهرة اللغة" 2/ 988، وانظر:"الصحاح" 5/ 1822، و"لسان العرب" 7/ 4288 - 4289.
(3)
رواه عبد الرزاق 3/ 432 (6210) كتاب: الجنائز، باب: ذكر الكفن والفساطيط.
(4)
رواه ابن أبي شيبة 2/ 468 - 469 كتاب: الجنائز، باب: ما قالوا في تحسين الكفن، وورى عنهم ذلك أيضًا ابن المنذر في "الأوسط" 5/ 359.
(5)
"صحيح مسلم"(943) كتاب: الجنائز، باب: في تحسين كفن الميت.
(6)
"الأوسط" 5/ 358 - 359.
95 - باب مَوْتِ الفَجْأَةِ بَغْتَةْ
1388 -
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي هِشَامٌ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ أُمِّي افْتُلِتَتْ نَفْسُهَا، وَأَظُنُّهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ، فَهَلْ لَهَا أَجْرٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا؟ قَالَ:"نَعَمْ". [2760 - مسلم: 1004 - فتح: 2/ 254]
ذكر فيه حديث عائشة: أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ أُمِّي افْتُلِتَتْ نَفْسُهَا، وَأَظُنُّهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ، فَهَلْ لَهَا أَجْرٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا؟ قَالَ:"نَعَمْ".
الشرح:
كأن البخاري أراد تفسير الفجأة بقوله: بغتة. وهو كما قَالَ، وهو بضم الفاء ممدود، وبفتحها مع إسكان الجيم. وهذا الرجل هو سعد ابن عبادة كما نقله أبو عمر، وقد ذكر البخاري فيما سيأتي من حديث ابن عباس أن سعد بن عبادة استفتى رسول الله صلى الله عليه وسلم في دين كان على أمه توفيت قبل أن تقضيه، فقال:"اقضه عنها"
(1)
.
ولأبي داود: إن امرأة قالت: يا رسول الله، إن أمي افتلتت نفسها. الحديث
(2)
.
ولمسلم: إن أمي ماتت وعليها صوم
(3)
.
وللنسائي عن ابن عباس عن سعد بن عبادة أنه قَالَ: قلتُ: يا رسول الله، إن أمي ماتت فأي الصدقة أفضل؟ قَالَ:"الماء"، جعله من مسند
(1)
برقم (2761) كتاب: الوصايا، باب: ما يستحب لمن توفي فجأة أن يتصدقوا عنه.
(2)
"سنن أبي داود"(2881) كتاب: الوصايا، باب: ما جاء فيمن مات عن غير وصية.
(3)
"صحيح مسلم"(1148) كتاب: الصيام، باب: قضاء الصيام عن الميت.
سعد
(1)
. ولمسلم عن أبي هريرة أن رجلًا قَالَ: يا رسول الله، إن أبي مات وترك مالًا ولم يوص، فهل يُكفِّر ذلك عنه أن أتصدق؟ قَالَ:"نعم"
(2)
.
فالقصة إذن متعددة، وعند ابن أبي الدنيا من حديث عبيد الله بن الوليد، عن عبد الله بن عبيد بن عمير، عن عائشة: سألت رسول الله عن موت الفجاة فقال: "راحة المؤمن، وأسف على الفاجر". ومن حديث أبي كرز عن أنس قَالَ: من أشراط الساعة حفز الموت. قيل: يا أبا حمزة، وما حفز الموت؟ قَالَ: موت الفجأة.
وفي "المصنف" من حديث مجالد عن الشعبي، كان يقال: من اقتراب الساعة موت الفجأة وعن تميم بن سلمة عن رجل من الصحابة: هي أخذة غضب. ومن حديث عبيد بن خالد: هي أخذة أسف. وقال إبراهيم: كانوا يكرهون أخذة كأخذة الأسف. وفي لفظ: كانوا يكرهون موت الفجأة. وعن عائشة وابن مسعود: هي رأفة بالمؤمن وأسف على الفاجر. وقال مجاهد: هي من أشراط الساعة
(3)
.
والافتلات عند العرب: المباغتة، تقول: مات بغتة. وإنما هو مأخوذ من الفلتة
(4)
. والأسف: الغضب. ويحتمل أن يكون ذلك -والله
(1)
"سنن النسائي" 6/ 254 - 255 كتاب: الوصايا، باب: فضل الصدقة عن الميت، ليس عن ابن عباس عن سعد ولكن وجدته عن ابن المسيب عن سعد، وفي أخرى عن الحسن عن سعد.
(2)
"صحيح مسلم"(1630) كتاب: الوصية، باب: وصول ثواب الصدقات إلى الميت.
(3)
"مصنف ابن أبي شيبة" 3/ 55 - 51 (12003 - 12009) كتاب: الجنائز، باب: في موت الفجاة.
(4)
انظر: "الصحاح" 1/ 260، "لسان العرب" 6/ 3455.
أعلم- لما في موت الفجأة من خوف حرمان الوصية، وترك الإعداد للمعاد، والاغترار بالآمال الكاذبة، والتسويف بالتوبة. وقد روي من حديث يزيد الرقاشي عن أنس: كنا نمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء رجل فقال: يا رسول الله، مات فلان. فقال:"أليس كان معنا آنفًا؟ " قالوا: بلى. قال: "سبحان الله! كأنه أخذه على غضب، المحروم من حرم وصيته"
(1)
. ذكره ابن أبي الدنيا في كتاب "ذكر الموت". وروي عن عبيد بن عمير: توشك المنايا أن تسبق الوصايا.
وقوله: (فهل لها من أجر إن تصدقت عنها؟ قَالَ: "نعم") هو كقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا ماتَ ابن آدم انقطعَ عملُهُ إلا من ثلاثٍ: صدقة جارية .. "
(2)
الحديث.
وقوله: افتلتت. يريد: ماتت فجأة كما سلف، ويجوز ضم (نفسها) ونصبه.
(1)
رواه ابن ماجه (2700) كتاب: الوصايا، باب: الحث على الوصية، وأبو يعلى في "مسنده" 7/ 152 - 153 (4122)، وأورده المنذري في "الترغيب والترهيب" 4/ 169، وقال: رواه أبو يعلى بإسناد حسن، وابن ماجه مختصرًا، وذكره الهيثمي في "المجمع" 4/ 209 باب: الحث على الوصية، وقال: رواه ابن ماجه وأبو يعلى، وإسناده حسن.
وضعفه الألباني في "ضعيف الترغيب والترهيب" برقم (2036).
(2)
رواه مسلم برقم (1631) كتاب: الوصية، باب: ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته، والبخاري في "الأدب المفرد" ص 26 (38) باب: بر الوالدين بعد موتهما.
96 - باب مَا جَاءَ فِي قَبْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما
{فَأَقْبَرَهُ} [عبس: 21] أَقْبَرْتُ الرَّجُلَ: إِذَا جَعَلْتَ لَهُ قَبْرًا، وَقَبَرْتُهُ دَفَنْتُهُ. {كِفَاتًا} [المرسلات: 25] يَكُونُونَ فِيهَا أَحْيَاءً، وَيُدْفَنُونَ فِيهَا أَمْوَاتًا.
1389 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ، عَنْ هِشَامٍ، وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مَرْوَانَ يَحْيَى بْنُ أَبِي زَكَرِيَّاءَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: إِنْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَيَتَعَذَّرُ فِي مَرَضِهِ "أَيْنَ أَنَا اليَوْمَ؟ أَيْنَ أَنَا غَدًا؟ " اسْتِبْطَاءً لِيَوْمِ عَائِشَةَ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمِي قَبَضَهُ اللهُ بَيْنَ سَحْرِي وَنَحْرِي، وَدُفِنَ فِي بَيْتِي. [انظر: 890 - مسلم: 2443 - فتح: 3/ 255]
1390 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ هِلَالٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَرَضِهِ الذِي لَمْ يَقُمْ مِنْهُ: "لَعَنَ اللهُ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ". لَوْلَا ذَلِكَ أُبْرِزَ قَبْرُهُ، غَيْرَ أَنَّهُ خَشِيَ -أَوْ خُشِيَ- أَنَّ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا. وَعَنْ هِلَالٍ قَالَ: كَنَّانِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَلَمْ يُولَدْ لِي. [انظر: 435 - مسلم: 529 - فتح: 3/ 255]
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلِ، أَخْبَرَنَا عَبدُ اللهِ، أَخبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ سُفْيَانَ التَّمَّارِ أَنَّهُ حَدثهُ أَنَّهُ رَاى قبْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُسَنَّمَا.
حَدَّثَنَا فَرْوَةُ، حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُزوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، لَمَّا سَقَطَ عَلَيْهِمُ الَحائِطُ فِي زَمَانِ الوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الَملِكِ أَخَذوا فِي بِنَائِهِ، فَبَدَتْ لَهُمْ قَدَمٌ فَفَزِغوا، وَظَنُّوا أنَهَا قَدَمُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَمَا وَجَدُوا أَحَدًا يَعْلَمُ ذَلِكَ، حَتَّى قَالَ لَهُمْ عُرْوَةُ: لَا والله مَا هِيَ قَدَمُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، مَا هِيَ إِلَّا قَدَمُ عُمَرَ رضي الله عنه.
1391 -
وَعَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا أَوْصَتْ عَبْدَ اللهِ بْنَ الزُّبَيْرِ رضي الله عنهما لَا تَدْفِنِّي مَعَهُمْ، وَادْفِنِّي مَعَ صَوَاحِبِي بِالبَقِيعِ، لَا أُزَكَّى بِهِ
أَبَدًا. [7327 - فتح: 3/ 255]
1392 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الحَمِيدِ، حَدَّثَنَا حُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ الأَوْدِيِّ قَالَ: رَأَيْتُ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: يَا عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ، اذْهَبْ إِلَي أُمِّ المُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ رضي الله عنها فَقُلْ: يَقْرَأُ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ عَلَيْكِ السَّلَامَ، ثُمَّ سَلْهَا أَنْ أُدْفَنَ مَعَ صَاحِبَيَّ. قَالَتْ: كُنْتُ أُرِيدُهُ لِنَفْسِي، فَلأُوثِرَنَّهُ اليَوْمَ عَلَى نَفْسِي. فَلَمَّا أَقْبَلَ قَالَ لَهُ: مَا لَدَيْكَ؟ قَالَ: أَذِنَتْ لَكَ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ. قَالَ مَا: كَانَ شَيْءٌ أَهَمَّ إِلَيَّ مِنْ ذَلِكَ المَضْجَعِ، فَإِذَا قُبِضْتُ فَاحْمِلُونِي، ثُمَّ سَلِّمُوا ثُمَّ قُلْ: يَسْتَأْذِنُ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ. فَإِنْ أَذِنَتْ لِي فَادْفِنُونِي، وَإِلاَّ فَرُدُّونِي إِلَي مَقَابِرِ المُسْلِمِينَ، إِنِّي لَا أَعْلَمُ أَحَدًا أَحَقَّ بِهَذَا الأَمْرِ مِنْ هَؤُلَاءِ النَّفَرِ الَّذِينَ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ عَنْهُمْ رَاضٍ، فَمَنِ اسْتَخْلَفُوا بَعْدِي فَهُوَ الخَلِيفَةُ، فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا. فَسَمَّى عُثْمَانَ وَعَلِيًّا وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ وَسَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ، وَوَلَجَ عَلَيْهِ شَابٌّ مِنَ الأَنْصَارِ فَقَالَ: أَبْشِرْ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ بِبُشْرَى اللهِ، كَانَ لَكَ مِنَ القَدَمِ فِي الإِسْلَامِ مَا قَدْ عَلِمْتَ، ثُمَّ اسْتُخْلِفْتَ فَعَدَلْتَ، ثُمَّ الشَّهَادَةُ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ. فَقَالَ: لَيْتَنِي يَا ابْنَ أَخِي، وَذَلِكَ كَفَافًا لَا عَلَيَّ وَلَا لِي، أُوصِي الخَلِيفَةَ مِنْ بَعْدِي بِالمُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ خَيْرًا، أَنْ يَعْرِفَ لَهُمْ حَقَّهُمْ، وَأَنْ يَحْفَظَ لَهُمْ حُرْمَتَهُمْ، وَأُوصِيهِ بِالأَنْصَارِ خَيْرًا الذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ أَنْ يُقْبَلَ مِنْ مُحْسِنِهِمْ، وَيُعْفَى عَنْ مُسِيئِهِمْ، وَأُوصِيهِ بِذِمَّةِ اللهِ وَذِمَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُوفَى لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ، وَأَنْ يُقَاتَلَ مِنْ وَرَائِهِمْ، وَأَنْ لَا يُكَلَّفُوا فَوْقَ طَاقَتِهِمْ. [3052، 3162، 3700، 4888، 7207 - فتح: 3/ 256]
ذكر فيه حديث عائشة: إِنْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ليَتَعَذَّرُ فِي مَرَضِهِ "أَيْنَ أَنَا اليَوْمَ؟ أَيْنَ أَنَا غَدًا؟ " اسْتِبْطَاءً ليَوْمِ عَائِشَةَ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمِي قَبَضَهُ اللهُ بَيْنَ سَحْرِي وَنَحْرِي، وَدُفِنَ فِي بَيْتِي.
وعنها: قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَرَضِهِ الذِي لَمْ يَقُمْ مِنْهُ: "لَعَنَ اللهُ اليَهُودَ وَالنَّصَارى، اَتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِد". لَوْلَا ذَلِكَ أُبْرِزَ قَبْرُهُ،
غَيْرَ أَنَّهُ خَشِيَ -أَوْ خُشِيَ- أَنَّ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا.
وَعَنْ هِلَالٍ الراوي عن عروة قَالَ: كَنَّانِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَلَمْ يُولَدْ لِي.
وحديث سُفْيَانَ التَّمَّارِ: أَنَّهُ رَأى قَبْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُسَنَّمًا.
وعَنْ عُرْوَه
(1)
، لَمَّا سَقَطَ عَلَيْهِمُ الحَائِطُ فِي زَمَانِ الوَليدِ أخذنا فِي بِنَائِهِ، فَبَدَتْ لَهُمْ قَدَمٌ. فَفَزِعُوا، وَظَنُّوا أَنَّهَا قَدَمُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَمَا وَجَدُوا أَحَدًا يَعْلَمُ ذَلِكَ، حَتَّى قَالَ لَهُمْ عُرْوَةُ: لَا والله مَا هِيَ قَدَمُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، مَا هِيَ إِلَّا قَدَمُ عُمَرَ رضي الله عنه.
وَعَنْ هِشَامٍ
(2)
بن عروةَ، عَنْ أَبِيهِ، أنَّ عَائِشَةَ أَوْصَتْ عَبْدَ اللهِ بْنَ الزُّبَيْرِ لَا تَدْفِنِّي مَعَهُمْ، وَادْفِنِّي مَعَ صَوَاحِبِي بِالبَقِيعِ، لَا أُزَكَّى بِهِ أَبَدًا.
وحديث عُمر أنَّه قال لابنه عبد الله: اذْهَبْ إِلَي عَائِشَةَ فَقُلْ: يَقْرَأُ عُمَرُ عَلَيْكِ السَّلَامَ .. الحديث في دفنِهِ مع صاحبيه.
الشرح:
غرض البخاري في هذا الباب، أن يبينَ فَضْلَ أبي بكر وعُمَر رضي الله عنهما بما لا يشاركهما فيه أحد، وذلك أنهما كانا وزيريه في حال حياته، وصارا ضجيعيه بعد مماته، فضيلة خصهما الله بها، وكرامة حباهما بها لم تحصل لأحد، ألا ترى وصية عائشة إلى ابن الزبير أن لا يدفنها معهم خشية أن تزكى بذلك، وهذا من تواضعها، وإقرارها بالحق لأهله، وإيثارها به على نفسها من هو أفضل منها، ولم تر أن تزكى بدفنها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأت عمر لذلك أهلًا، فمجاورتهما مَلْحَده لا يشبهه فضل، وأيضًا لقرب طينتهما من طينته.
(1)
ورد في الأصل فوق هذِه الكلمة: مسند.
(2)
ورد في الأصل فوق هذِه الكلمة: معلق.
ففي حديث أبي سعيد الخدري مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بجنازة عند قبر فقال: "قَبْرُ من هذا؟ " فقال: فلان الحبشي. فقال صلى الله عليه وسلم: "لا إله إلا الله، سِيْقَ مِنْ أرضِه وسَمائه إلى تربتِه التي منها خُلِقَ". قَالَ الحاكم: صحيح الإسناد
(1)
، وله شواهد أكثرها صحيحة. وإنما أستاذنها عمر في ذلك ورغب إليها فيه؛ لأن الموضع كان بيتها، ولها فيه حق، ولها أن تُؤثر به نفسها لذلك، فآثرت به عُمر، وقد كانت عائشة رأتْ رؤيا دلتها على ما فعلت، حين رأت ثلاثة أقمار سقطن في حجرها، فقصتها على والدها لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودفن في بيتها. فقال لها أبو بكر: هذا أول أقمارك وهو خيرها
(2)
.
ففيه من الفقه: الحرص على مجاورة الموتى الصالحين في القبور، طمعًا أن ينزل عليهم رحمة تصيب جيرانهم، أو رغبة أن ينالهم دعاء من يزور قبورهم من الصالحين.
وقول عمر: (إذا قُبِضت فاحملوني، ثم قل: يستأذن عمر). فيه من الفقه: أن من وعد بعدةٍ أنه يجوز له الرجوع فيها، ولا يُقْضَى عليه بالوفاء بها؛ لأن عمر لو علم أن عائشة لا يجوز لها أن ترجع في عدتها ما قَالَ ذلك، وسيأتي بسط ذلك في الهبة إن شاء الله.
(1)
"المستدرك" 1/ 366 - 367 كتاب: الجنائز، قال الذهبي: صحيح وأنيس ثقة، وله شواهد صحيحة.
(2)
رواه مالك في "الموطأ" ص 160 (30) كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في دفن الميت، وابن سعد في "الطبقات" 2/ 293، والطبراني 23/ 47 - 48، وفي "الأوسط" 6/ 266 (6373)، والحاكم في "المستدرك" 3/ 60، وفي "الكبير" 4/ 395، وصححه على شرط الشيخين.
وقال الهيثمي في "المجمع" 9/ 38: رواه الطبراني في "الكبير" و"الأوسط" ورجال "الكبير" رجال الصحيح.
وفيه: أن من بحث رسولًا في حاجة مهمة، له أن يسأل الرسول قبل وصوله إليه، وقبل أدائه الرسالة عليه، ولا يعد ذلك من قلة الصبر، ولا يذم فاعله، بل هو من الحرص على الخير؛ لقوله لابنه وهو مقبل: ما لديك؟
وفيه: أن الخليفة مباح له أن لا يستخلف على المسلمين غيره، اقتداء بالشارع صريحًا، وأن للإمام أن يترك الأمر شورى بين الأمة، إذا علم أن في الناس بعده من يحسن الاختيار للأمة.
وفيه: إنصاف عمر وإقراره بفضل أصحابه.
وفيه: أن المدح في الوجه بالحق لا يذم المادح به؛ لأن عمر لم ينه الأنصاري حين ذكر فضائله، فبان بهذا أن المدح في الوجه المنهي عنه، إنما هو المدح بالباطل.
وقوله: (لا أعلم أحدًا أحق بهذا من هؤلاء النفر) إنما لم يذكر أبا عبيدة؛ لأنه كان قد مات، وسعيد بن زيد كان غائبًا. وقال بعضهم: لم يذكره؛ لأنه كان قريبه وصهره، ففعل كما فعل مع عبد الله بن عمر.
وفيه: أن الرجل الفاضل ينبغي له أن يخاف على نفسه، ولا يثق بعمله، ويكون الغالب عليه الخشية، ويصغر نفسه؛ لقوله:(ليتنى يا ابن أخي وذلك كفافًا) وقد سُئِلَتَ عائشة عن قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون: 60]، فقالت: هم الذين يعملون الأعمال الصالحة، ويخافون أن لا تتقبل منهم
(1)
. وعلى هذا مضى خيار السلف، كانوا من عبادة ربهم بالغاية القصوى ويعدون أنفسهم
(1)
رواه الطبري في "تفسيره" 9/ 225 (25558)، وذكره البغوي في "معالم التنزيل" 5/ 421.
في الغاية السفلى؛ خوفًا على أنفسهم، ويستقلون لربهم ما يستكثره أهل الاغترار.
وقد ثبت عن عمر، أنه تناول تبنة من الأرض وقال: يا ليتني هذِه التبنة، يا ليتني لم أك شيئًا، يا ليت أمي لم تلدني، يا ليتني كنت نسيًا منسيا، وقال: لو كانت لي الدنيا لافتديت بها من النار ولم أرها
(1)
.
وقال قتادة: قَالَ الصديق وددت أني خضرة أكلتني الدواب
(2)
.
وقالت عائشة عند موتها: وددت أني كنت نسيًا منسيا
(3)
. وقال أبو عبيدة: وددت أني كبش فيذبحني أهلي، فيأكلون لحمي ويحتسون مرقي. وقال عمران بن حصين: وددت أني رماد على أكمة نسفتني الرياح في يوم عاصف
(4)
. ذكره أجمع الطبري، ويأتي إن شاء الله تعالى في الزهد في باب الخوف من الله، زيادة فيه.
وفيه: أن الرجل الفاضل والعالم ينبغي له نصح الخليفة، وأن يوصيه بالعدل وحسن السيرة في من ولاه الله رقابهم من الأمة، وأن يحضه على مراعاة أمور المسلمين، وتفقد أحوالهم، وأن يعرفَ الحقَّ لأهله.
وفيه: أن الرجل الفاضل ينبغي له أن تُقَال عثرته، ويُتَجَاوز عنه؛
(1)
رواه ابن المبارك في "الزهد" ص 79 (234) باب: تعظيم ذكر الله عز وجل، وابن أبي شيبة في "المصنف" 7/ 117 (34469) كتاب: الزهد، كلام عمر بن الخطاب، والبيهقي في "شعب الإيمان" 1/ 486 (789).
(2)
رواه ابن سعد في "الطبقات" 3/ 198.
(3)
رواه عبد الرزاق في "المصنف" 11/ 307 (20616) باب: أكثر أهل الجنة والنار، والبيهقي في "الشعب" 1/ 486 (791) باب: في الخوف من الله تعالى.
(4)
رواه ابن المبارك في "الزهد" ص 81 (241) باب: تعظيم ذكر الله عز وجل، وعبد الرزاق في "المصنف" 11/ 307 (20615)، والبيهقي في "الشعب" 1/ 486 (790).
لقوله في الأنصار: (أن يعْفي عَنْ مُسِيئِهِمْ)، فيما لم يكن لله فيه حد، ولا للمسلمين حق. ويشبه ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"أقيلوا ذَوي الهيئات زلاتهم"
(1)
فسره أهل العلم أن ذوي الهيئات أهل الصلاح والفضل، الذين يكون من أحدهم الزَّلَّة والفلتة في سب رجل من غير حد مما يجب في مثله الأدب، فيتجاوز له عن ذلك؛ لفضله، ولأن مثل ذلك لم يعهد منه
(2)
.
وفي استبطاء الشارع يوم عائشة من الفقه: أنه يجوز للفاضل الميل في المحبة إلى بعض أهله أكثر من بعض، وأنه لا إثم عليه في ذلك، إذا عدل بينهن في النفقة والقسمة، وقد بينت عائشة العلة في البناء على قبره وتحظيره، وذلك خشية أن يتخذ مسجدًا.
وقول سفيان: إنه رأى قبره صلى الله عليه وسلم مسنمًا، قد روي ذلك عن غيره، قَالَ إبراهيم النخعي: أخبرني من رأى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه مسنمة ناشزة من الأرض، عليها مرمر أبيض. وقال الشعبي: رأيت قبور شهداء أحد مسنمة، وكذا فعل بقبر ابن عمر وابن عباس
(3)
.
(1)
رواه أبو يعلى في "مسنده" 8/ 363 (4953)، وابن حبان في "صحيحه" 1/ 296 (94) كتاب: العلم، والبيهقي في "السنن الكبرى" 8/ 334 كتاب: الأشربة، باب: الإمام يعفو عن ذوي الهيئات زلاتهم ما لم تكن حدًا.
(2)
تعليق بهامش الأصل بخط سبط: وقد ذكر الشيخ عز الدين بن عبد السلام في القواعد الكبرى أن الصغيرة إذا حدثت من بعض أولياء الله تعالى لا يجوز للأئمة والحكام تعزيرهم عليها بل تقال عثرتهم وتُستر زلتهم، وقد جهل أكثر الناس فزعموا أن الولاية تسقط بالصغيرة، ذكر ذلك في أوائل الفصل المعقود لبيان التسميع بالعبادات وهو نحو ثلث الكتاب، وهذا وغيره وارد على ما قال الفقهاء في التعزير أنه مشروع في كل معصية ليس بها حَد ولا كفَّارة.
(3)
رواه عبد الرزاق في "المصنف" 3/ 504 - 505 (6490) كتاب: الجنائز، باب: الحدث والبنيان، وابن أبي شيبة في "المصنف" 3/ 23 - 24 (11735 - 11736) كتاب: الجنائز، ما قالوا في القبر يُسنمّ.
وقال الليث: حَدَّثَني يزيد بن أبي حبيب أنه يستحب أن تسنم القبور ولا ترفع ولا يكون عليه تراب كثير، وهو قول الكوفيين والثوري ومالك وأحمد، واختاره جماعة من أصحابنا، ومنهم المزني، أن القبور تسنم؛ لأنه أمنع من الجلوس عليها، واحتجوا بما سلف
(1)
.
وقال أشهب وابن حبيب: أحب إلى أن يسنم القبر، وإن رفع فلا بأس
(2)
. وقال طاوس: كان يعجبهم أن يرفع القبر شيئًا حَتَّى يعلم أنه قبر.
وقال الشافعي: تسطح القبور ولا تبنى ولا ترفع، تكون على وجه الأرض نحوًا من شبر. قَالَ: وبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم سطح قبر ابنه إبراهيم، وأن مقبرة المهاجرين والأنصار مسطحة قبورهم
(3)
.
وقال أبو مجلز: تسوية القبور من السنة
(4)
، واحتج أيضًا بحديث القاسم بن محمد قَالَ: رأيت قبر النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، لا مشرفة ولا لاطئة، مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء. رواه أبو داود، وقال الحاكم: صحيح الإسناد. وفي رواية الحاكم: فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدمًا، وأبا بكر رأسه بين كتفي النبي صلى الله عليه وسلم، وعمر رأسه عن رجل النبي صلى الله عليه وسلم
(5)
. وأجابوا عن خبر سفيان التمار، بأنه أولًا كان مسطحًا،
(1)
انظر: "البناية" 3/ 301، "المنتقى" 2/ 22، "المغني" 3/ 437، "المجموع" 5/ 265.
(2)
وفيما ذكره عن ابن حبيب نظر، فإن ابن حبيب يقول: أحب إليّ أن يُسَنَّم ولا يرفع، انظر:"النوادر والزيادات" 1/ 650، "المنتقى" 2/ 22، "الذخيرة" 2/ 479.
(3)
"الأم" 1/ 242.
(4)
رواه ابن أي شيبة في "المصنف" 3/ 30 (11797) كتاب: الجنائز، باب: في تسوية القبر وما جاء فيه.
(5)
"سنن أبي داود" برقم (3220) كتاب: الجنائز، باب: في تسوية القبر، "المستدرك" 1/ 369 - 370 كتاب: الجنائز، وضعفه الألباني كما في "ضعيف أبي داود".
كما قَالَ القاسم، ثم لما سقط الجدار في زمن الوليد بن عبد الملك -وقيل: عمر بن عبد العزيز- جعل مسنمًا. قَالَ البيهقي: حديث القاسم أصح وأولى أن يكون محفوظًا
(1)
، وأما قول علي رضي الله عنه: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا أدع قبرًا مشرفًا إلا سويته. أخرجه مسلم
(2)
، فالمراد بالتسوية: التسطيح، جمعًا بين الأحاديث.
وما ذكره البخاري في (أقبرت)، هو بالألف وهو كذلك في اللغة.
وفي رواية أبي الحسن بحذفها، وما ذكره في تفسير {كِفَاتًا} [المرسلات: 25] فهو ما ذكره أهل اللغة، نص عليه الفراء وغيره
(3)
.
وقال ابن التين: هو قول قتادة. وقال مجاهد: تكفت إذا هم أحياء ويقبرون فيها
(4)
. وقال ابن سيده: عندي أن الكفات في الآية مصدر من كفت
(5)
.
ومعنى (لتعذر)، في حديث عائشة، هو كالتمنع والتعسر، ولأبي الحسن بالقاف. قَالَ الداودي: معناه: يسأل عن قدر ما بقي إلى يومها؛ ليهون عليه بعض ما يجد؛ لأن المريض يجد عند بعض أهله ما لا يجده عند غيره من الإنس والسكون.
والسَحَر -بفتح السين والحاء، وبإسكانها، وبضم السين وإسكان الحاء- ما التزم بالحلقوم والمريء من أعلى البطن. والسحر أيضًا: الرئة، والجمع سحور، ذكره ابن سيده
(6)
.
(1)
"السنن الكبرى" 3/ 4 - 4 كتاب: الجنائز، باب: من قال بتسنيم القبور.
(2)
"صحيح مسلم"(969) كتاب: الجنائز، باب: الأمر بتسوية القبر.
(3)
"معاني القرآن" 3/ 224.
(4)
رواه الطبري في "تفسيره" 12/ 385 - 386 (35950 - 35951).
(5)
"المحكم" 6/ 481.
(6)
"المحكم" 3/ 133.
وفي "غريب ابن قتيبة": بلغني عن ابن عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير أنه قَالَ: إنما هو شجري -بالشين والجيم-، فسئل عن ذلك فشبك بين أصابعه، وقدمها من صدره، كأنه يضم شيئًا إليه، أراد أنه قبض، وقد ضمته بيديها إلى نحرها وصدرها
(1)
.
والشجر: التشبيك، وفي "المخصص": الشجر: طرف اللحيين.
وقيل: هو الذقن بعينه، حيث اشتجر طرفا اللحيين من أسفل. وقيل: هو مؤخر الفم. وفي حديث آخر: مات بين حاقنتي وذاقنتي
(2)
، وهو نحوه.
وقولها: (ودفن في بيتي) نسبت البيت إليها لقوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب: 33]؛ لأن البيوت كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا كله من فضلها، وكان هذا الكلام خرج منها في موطن هضمت فيه من حقها لو سئلت فأتت بالحديث على وجهه.
و (هلال) المذكور في حديث عائشة هو ابن أبي حميد ويقال: ابن حميد، وفي الترمذي ابن مقلاص الجهني
(3)
. وقيل: ابن عبد الله، وقيل: ابن عبد الرحمن، يكنى أبا عمرو، ويقال: أبو أمية، ويقال: أبو الحمراء، الوزان الصيرفي.
وقوله: (كناني عروة بن الزبير ولم يولد لي) فعله تبجيلًا وتفاؤلًا، وقد كنى الشارع عائشة بابن أختها عبد الله بن الزبير.
وأثر سفيان التمار من أفراد البخاري، زاد ابن أبي شيبة: وقبر أبي
(1)
"غريب الحديث" 2/ 457.
(2)
سيأتي برقم (4438) كتاب: المغازي، باب: مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته.
(3)
كذا بالأصل، وعند الترمذي (2520): الصيرفي.
بكر وعمر مسنمين
(1)
. وكذا أخرجه أبو نعيم عن سفيان بن دينار التمار قَالَ: دخلت
…
فذكره، وفي "تاريخ البخاري": سفيان بن زياد ويقال: ابن دينار التمار العصفري، وفرق بعضهم بين ابن زياد، وابن دينار، كما ذكره الباجي وزعم أنه هو المذكور عند البخاري في الصحيح.
وقال بعضهم: ابن عبد الملك. ووقع في ابن التين: حذيفة التمار في موضعين، وهو سهو، وكأن البخاري أراد بهذا الأثر بيان مذهبه في ذلك، أو أراد مخالفة حديث علي السالف.
وفي "أخبار المدينة" لابن النجار الحافظ، أن قبره صلى الله عليه وسلم وقبر صاحبيه في صفة بيت عائشة. قَالَ: وفي البيت موضع قبر في السهوة الشرقية.
قَالَ سعيد بن المسيب: فيه يدفن عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم
(2)
، وعن عبد الله بن سلام قال: يدفن عيسى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيكون قبره رابعًا
(3)
. وعن عثمان بن نسطاس قَالَ: رأيت قبر النبي صلى الله عليه وسلم لما هدمه عمر بن عبد العزيز مرتفعًا نحو أربعة أصابع، ورأيت قبر أبي بكر وراء قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقبر عمر أسفل.
وعن عمرة، عن عائشة قالت: رأس النبي صلى الله عليه وسلم مما يلي الغرب،
(1)
"المصنف" 3/ 23 (1733) كتاب: الجنائز، ما قالوا في القبر يسنم.
(2)
ذكره ابن حجر في "الفتح" 7/ 66، وعزاه إلى "أخبار المدينة" من وجه ضعيف عن سعيد بن المسيب قال: إن قبور الثلاثة في صفة بيت عائشة، وهناك موضع قبر يدفن فيه عيسى عليه السلام.
(3)
رواه الترمذي (3617) كتاب: المناقب، باب: في فضل النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: هذا حديث حسن غريب، وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 8/ 206، وقال: رواه الطبراني، وفيه: عثمان بن الضحاك، وثقه ابن حبان، وضعفه أبو داود، وقد ذكر المزي هذا في ترجمته وعزاه إلى الترمذي وقال: حسن، ولم أجده في الأطراف والله أعلم. وضعفه الألباني في "ضعيف الترمذي".
ورأس أبي بكر عند رجليه، وعمر خلف ظهره. وعن نافع بن أبي نعيم: قبر النبي صلى الله عليه وسلم أمامهما إلى القبلة مقدمًا، ثم قبر أبي بكر حذاء منكبي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقبر عمر حذاء منكبي أبي بكر.
وعن محمد بن المنكدر قَالَ: قبر النبي صلى الله عليه وسلم هكذا وأبو بكر خلفه، وقبر عمر عند رجلي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال ابن عقيل: قبر أبي بكر عند رجليه صلى الله عليه وسلم، وقبر عمر عند رجلي أبي بكر.
وقال ابن التين: يقال: إن أبا بكر خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جاوز مَلْحَدُهُ مَلحَدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأس عمر عند رجلي أبي بكر قد (جازت)
(1)
رجلاه رجلي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد ذكر في صفة قبورهم أقوال:
فالأكثر - وقيل: هكذا - وقيل: هكذا
النبي - النبي - النبي
أبو بكر - أبو بكر عمر - أبو بكر
عمر- - عمر
وقوله: (عن هشام، عن أبيه، عن عائشة) ذكر خلف وأبو نعيم الحافظ أن البخاري رواه عن فروة، كالحديث قبله في سقط الجدار، وأخرجه البخاري أيضًا في الاعتصام مسندًا عن عبيد بن إسماعيل، عن أبي أسامة، عن هشام. بزيادة: وعن هشام، عن أبيه: أن عمر أرسل إلى عائشة، ائذني لي أن أدفن مع صاحبي
(2)
، وفي "الإكليل" عن وردان، وهو الذي بني بيت عائشة لما سقط شقه الشرقي أيام
(1)
في الأصل: جاءت.
(2)
سيأتي برقم (7328) باب: ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وحض على اتفاق أهل العلم.
عمر بن عبد العزيز: وأن القدمين لما بدتا، قَالَ سالم بن عبد الله: أيها الأمير هذان قدما جدي وجدك عمر. فتحصلنا على قولين:
أحدهما: أن قائل ذلك عروة، وذا في البخاري.
ثانيهما: أنه سالم، وذا هنا.
وقال أبو الفرج الأموي في "تاريخه": وردان هذا أبو امرأة أشعب الطامع. وفي "الطبقات" قَالَ مالك: قسم بيت عائشة ثلثين، قسم فيه القبر، وقسم كان يكون فيه عائشة، وبينهما حائط فكانت عائشة ربما دخلت جنب القبر فضلًا، فلما دفن عمر لم تدخله إلا وهي جامعة عليها ثيابها.
قَالَ عمرو بن دينار، وعبيد الله بن أبي يزيد: لم يكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيت النبي حائط، فكان أول من بني عليه جدارًا عمر بن الخطاب. قَالَ عبيد الله: كان جداره قصيرًا، ثم بناه عبد الله ابن الزبير، وزاد فيه
(1)
.
(وقال ابن النجار)
(2)
: سقط جدار الحجرة بما يلي موضع الجنائز، في زمان عمر، فظهرت القبور، فما رئي باكيًا أكثر من يومئذ. فأمر عمر بقباطي يستر بها الموضع، وأمر ابن وردان أن يكشف عن الأساس، فلما بدت القدمان قام عمر فزعًا فقال له عبيد الله بن عبد الله بن عمر -وكان حاضرًا- أيها الأمير لا ترع، فهما قدما جدك عمر، ضاق البيت عنه، فحفر له في الأساس. فقال عمر: يا ابن وردان، غط ما رأيت. ففعل.
(1)
"الطبقات الكبرى" 2/ 294.
(2)
في الأصل: وقال النجار.
ْوفي رواية أن عمر أمر أبا حفصة مولى عائشة وناسًا معه، فبنوا الجدار وجعلوا فيه كوة، فلما فرغوا منه ورفعوه دخل مزاحم مولى عمر، فقم ما سقط على القبر من التراب، وبنى عمر على الحجرة حاجزًا في سقف المسجد إلى الأرض، وصارت الحجرة في وسطه، وهو على دورانها، فلما ولي المتوكل آزرها بالرخام من حولها، فلما كان في خلافة المقتفي بعد الخمسمائة. جدد التأزير، وجُعِل قامة وبسطة، وعُمِل لها شباك من الصندل والأبنوس وأداره حولها مما يلي السقف. ثم إن الحسن بن أبي الهيجاء صهر الصالح وزير المصريين، عمل لها ستارة من الديبقي الأبيض، مرقومة بالإبريسم الأصفر والأحمر، ثم جاءت من المستضيء بأمر الله ستارة من الأبريسم البنفسجي، وعلى دوران جاماتها مرقوم الخلفاء الأربعة، ثم سلت تلك ونفذت إلى مشهد علي بن أبي طالب وعلقت هذِه، ثم إن الناصر لدين الله نفذ ستارة من الإبريسم الأسود وطرزها، وجاماتها أبيض، فعلقت فوق تلك، ثم لما حجت الجهة الخليفية عملت ستارة على شكل المذكورة، ونفذتها، فعلقت.
وقول عائشة: (لا تدفني معهم) ذاك كما قَالَ ابن التين، على أنه بقي في البيت موضع ليس فيه أحد. ويعارضه قولها لما طلب منها أن يدفن عمر معهما: أردته لنفسي؛ لأن ظاهره أن البيت ليس فيه غير موضع عمر. وقيل: كان ظنًّا من عائشة.
وفي "التكملة" لابن الأبار من حديث محمد بن عبد الله العمري، ثنا
سعيد بن طلحة من ولد أبي بكر، عن أبيه، عن جده، عن عائشة قالت: قلتُ للنبي صلى الله عليه وسلم، إني لا أراني إلا سأكون بعدك، فتأذن لي أن أدفن إلى جانبك؟ قَالَ: "وأنى لك ذلك الموضع، ما فيه إلا قبرى، وقبر أبي بكر
وعمر، وقبر عيسى ابن مريم"
(1)
.
وقولها: (ادْفِنِّي مَعَ صوَاحِبِي بِالبَقِيعِ، لَا أُزَكَّى بِهِ أَبَدًا) إنما ذلك لئلا يقول الناس: زكت بهم، فتنجو بالدفن معهم، وشبه هذا من القول، وقيل: فعلته تواضعًا لله؛ ليرحمها.
واستئذان عمر عائشة؛ لأن الرب جل جلاله نسب تلك البيوت إلى أزواجه، وهمه أن لا يكون ينال ذلك خوفًا أن يكون قصر به عن اللحاق بهم، لتقصير كان منه، وهذِه صفة المؤمن قَالَ تعالى:{يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون: 60].
وقوله: (لا أعلم أحدًا أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر) يعني: إنه إن أخذ بالأفضل كان أولى، ليس أنه لا يجوز غيره.
ففيه: دلالة على جواز ولاية الفاضل على أفضل منه، حين جعل إليهم أن يولوا من شاءوا منهم. وقال: إن أصابت الخلافة سعدًا فذاك، وإلا فليستعن به الخليفة، وبعضهم أفضل من بعض، ولو لم يجز ذلك لزمه أن يستخلف أفضلهم، وأنه لو لم يفعل لم يجز أن يجعل إليهم أن يولوا من شاءوا منهم، ويدل على جواز ذلك قول أبي بكر: قد رضيت لكم أحد صاحبي هذين. يعني: عمر وأبا عبيدة، وقول عمر لأبي عبيدة: امدد يدك أبايعك
(2)
.
وبيعة سعد وسعيد وابن عمر، معاوية، وهم أفضل منه، وتسليم
(1)
أورده ابن حجر في "الفتح" 7/ 66، وقال: حديث لا يثبت.
(2)
أخرجه أحمد في "مسنده" 1/ 35، و"فضائل الصحابة" 2/ 926 (1284)، وابن سعد في "الطبقات" 3/ 181، وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" 5/ 183 كتاب: الخلافة، باب: الخلفاء الأربعة وقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح إلا أن أبا البختري لم يسمع من عمر.
الحسن الأمر إليه، وقوله صلى الله عليه وسلم:"ولعل الله أن يُصْلِحَ به بين فئتينِ عظيمتين مِنَ المسلمين"
(1)
.
وبيعة سائر الصحابة لمعاوية بحضرة بقية أهل بدر من قريش، ومن أنفق من قبل الفتح وقاتل. وبيعة ابن عمر ليزيد، وقوله لبنيه: لئن نكث أحدكم بيعته إلا كانت الفيصل بيني وبينه
(2)
، وبيعته لعبد الملك. وأما قوله حين قَالَ معاوية: من أحق بهذا الأمر منا؟ أنه همَّ أن يقول له أحق بذلك من أدخلك فيه كرهًا
(3)
. يريد لو كان الفضل لكان ثَمَّ من هو أفضل منه، وبعضهم لا يرى أن يلي أحد بحضرة من هو أفضل منه، والأول أصح؛ لما فيه من الطعن على من سلف.
وفيه: التعزية لمن يحضره الموت، بما يذكر من صالح عمله، والمهاجرون الأولون الذين صلوا إلى القبلتين وأنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا.
وقوله: {تبوءوا الدار} . يعني: المدينة، قدمها عمرو بن عامر حين رأى بسد مأرب ما دله على فساده، فاتخذ المدينة وطنًا، لما أراد الله منب كرامة الأنصار لنصرة نبيه وبالإسلام.
وقوله: {وَالإِيمَانَ} . قَالَ محمد بن الحسن: الإيمان: اسم من أسماء المدينة
(4)
، فإن لم يكن كذلك فيحتمل أن يريد: تبوءوا الدار، وأجابوا
(1)
سيأتي برقم (2704) كتاب: الصلح، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم للحسن بن علي.
(2)
سيأتي برقم (7111) كتاب: الفتن، باب: إذا قال عند قوم شيئًا، ثم خرج فقال بخلافه.
(3)
سيأتي برقم (4108) كتاب: المغازي، باب: غزوة الخندق.
(4)
ذكره ابن حجر في "الفتح" 7/ 110 وقال: زعم محمد بن الحسين بن زبالة أن الإيمان اسم من أسماء المدينة، واحتج بالآية، ولا حجة له فيها.
إلى الإيمان من قبل أن يهاجروا إليهم.
وقوله: (يُقْبَلَ مِنْ مُحْسِنِهِمْ) يقول: يفعل بهم من التلطف والبر ما كان يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم والخليفتان بعده.
وقوله: (وَيُعْفَى عَنْ مُسِيئِهِمْ) يعني: ما دون الحدود وحقوق الناس.
وقيل: لأهل المدينة
(1)
ذمة العهد الذي له، قَالَ تعالى:{لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً} [التوبة: 90] فالإل: الله. وقيل: القرابة. وقيل: العهد، والذمة: العهد.
(1)
تعليق بهامش الأصل: لعله: الذمة.
97 - باب مَا يُنْهَى مِنْ سَبِّ الأَمْوَاتِ
1393 -
حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَسُبُّوا الأَمْوَاتَ، فَإِنَّهُمْ قَدْ أَفْضَوْا إِلَي مَا قَدَّمُوا". وَرَوَاهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ القُدُّوسِ، عَنِ الأَعْمَشِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ أَنَسٍ، عَنِ الأَعْمَشِ. تَابَعَهُ عَلِيُّ بْنُ الجَعْدِ، وَابْنُ عَرْعَرَةَ، وَابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ. [6516 - فتح: 3/ 258]
حَدَّثَنَا آدم، ثنَا شعْبَةُ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَسُبُّوا الأَمْوَاتَ، فَإِنَّهُمْ قَدْ أَفْضَوْا إِلَي مَا قَدَّمُوا". تَابَعَهُ عَلِيُّ بْنُ الجَعْدِ وَابْنُ عَرْعَرَةَ وَابْنُ أَبِي عَدِيِّ، عَنْ شعْبَةَ.
رواه عبد الله بن عبد القدوس، عن الأعمش، ومحمد بن أنس، عن الأعمش.
الشرح:
هذا الحديث قد سلف الكلام عليه في باب الثناء على الميت، وهو من أفراده.
وقوله: (تَابَعَهُ) يعني: آدم. وهذِه المتابعة رواها أبو نعيم، عن أبي أحمد، عن المنيعي، عن علي بن الجعد. والإسماعيلي، عن أبي جعفر الحلبي، عن علي بن الجعد. وقد أخرجه البخاري في الرقاق عن علي بن الجعد، عن شعبة
(1)
.
وقوله: "فإنَّهُمْ قَدْ أفضَوْا إِلَي مَا قَدَّمُوا" يعني: قد عاينوا عملهم، وذهب وقت وعظهم، فسبهم أشد من سب الأحياء، قد عاينوا أعمالهم من حسن وقبيح، أحصاه الله ونسوه. وقد يختم لأهل
(1)
سيأتي برقم (6516) باب: سكرات الموت.
المعاصي من المؤمنين بخاتمة حسنة تخفي عن الناس، فمن سبهم فقد أثم. وقد جاء أنه لا يجب القطع على أحد بجنة ولا نار. وقد قَالَ صلى الله عليه وسلم في الميت الذي شُهد له بالجنة:"والله ما أدْري وأنا رَسُولُ الله ما يُفْعَلُ بي"
(1)
فلهذا أمسك عن الموتى.
وإنما ذكر الرب تعالى خطايا من سلف تتلى؛ لأنه على وجه الوعظ لخلقه ليُري المذنبين أنه عاقب أصفياءه على الفلتة من الذنوب؛ ليحذر الناس المعاصي، ويعلموا أنهم أحق بالعقاب من الأصفياء فينزجروا، وأيضًا فإن لوم تلك الذنوب
(2)
سقطت عن الأصفياء بالإعلام، فما بالك بامرئ هو تحت المشيئة. وأيضًا فعقابهم على تلك الفلتات في الدنيا رحمة لهم؛ ليلقوه مطهرين. وموتانا بخلاف ذلك لا نعلم ما أفضوا إليه، فلذلك نهينا عن ذكرهم بذنوبهم.
(1)
سبق برقم (1243) كتاب: الجنائز، باب: الدخول على الميت بعد الموت إذا أدرج في كفنه.
(2)
وقع في الأصل هنا: (عن) فكأنها زائدة.
98 - باب ذِكْرِ شِرَارِ المَوْتَى
1394 -
حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ أَبُو لَهَبٍ -عَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ- لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: تَبًّا لَكَ سَائِرَ اليَوْمِ. فَنَزَلَتْ: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1)} [المسد: 1][انظر: 3525، 3526، 4770، 4801، 4971، 4972، 4973 - مسلم 208]
ذكر فيه عَنِ ابن عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ أَبُو لَهَبٍ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: تَبًّا لَكَ سَائِرَ اليَوْمِ. فَنَزَلَتْ: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1)} .
الشرح:
هذا الحديث يأتي في تفسير سورة الشعراء
(1)
، وسورة تبت
(2)
، وفيه:(وقد تب) هكذا قرأها الأعمش. قَالَ الإسماعيلي: هذا الحديث مرسل؛ لأن هذِه الآية الكريمة نزلت بمكة، وكان ابن عباس إذ ذاك صغيرًا. قلتُ: بل قيل: إنه معدوم إذ ذاك.
وللطبري، عن ابن وهب، عن ابن زيد قَالَ: قَالَ أبو لهب لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ماذا أُعطى يا محمد إن آمنتُ بك؟ قَالَ: "كما يُعطَى المسلِمُون" قَالَ: فما لي عليهم فضل! تبًا لهذا الدين. أأكون أنا وهؤلاء سواء؟ فنزلت {تَبَّتْ} قَالَ: خسرت يداه
(3)
. واليدان هنا: العمل. ألا تراه يقول: بما عملت أيديهم.
وفي تفسير ابن عباس نحوه، فنزلت:{تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} أي صفرت يداه.
(1)
سيأتي برقم (4770) باب: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ (214)} .
(2)
سيأتي برقم (4971) باب: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1)} .
(3)
"تفسير الطبري" 12/ 733 (38257).
وقال صاحب "الأفعال": تب: ضعف وخسر. وتب: هلك. وفي القرآن: {وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ} [غافر: 37] وتب الإنسان: شاخ.
وقوله في قراءة الأعمش: (وقد تب) هو خبر بخلاف الأول، فإنه دعاء. وقوله:{وَتَبَّ} ليس بتكرير لما قلناه. وقوله: {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ} يحتمل أن يكون نفيًا أو استفهامًا. قَالَ مجاهد: {وَمَا كَسَبَ} : ولده
(1)
. وقيل: يبعد أن تكون ما لمن يعقل؛ لأنه لا يقال: كسب ولدًا: ولكن يكون المعنى: وما كسب من ذا وغيره.
أما فقه الباب: فذكر شرار الموتى من أهل الشرك خاصة جائز؛ لأنه لا شك في أنهم مخلدون في النار، فذكر شرارهم أيسر من حالهم التي صاروا إليها، مع أن في الإعلان بقبيح أفعالهم تقبيحًا لأحوالهم وذمًّا لهم؛ لينتهي الأحياء عن مثل أفعالهم ويحذروها. واعترض على البخاري في تخريجه لهذا الحديث في هذا الباب، وإن كان تبويبه له يدل على أنه أراد به العموم في شرار المؤمنين والكافرين. وحديث أنس: مر بجنازة فأثنوا عليها شرًّا، وافٍ به. فترك الشارع نهيهم عن ثناء الشر، ثم أخبر أنه بذلك الثناء وجبت النار، وقال:"أنتم شهداء الله في الأرض"
(2)
فدل ذلك أن للناس أن يذكروا الميت بما فيه من شر إذا كان شره مشهورًا، وكان ممن لا غيبة فيه؛ لشهرة شره. وسلف في باب ثناء الناس على الميت الكلام في الجمع بين هذا الحديث وبين الحديث في الباب قبله.
وقال ابن المنير: يحتمل أن يريد الخصوص، فطابقت الآية
(1)
"تفسير الطبري" 12/ 735 (38266).
(2)
سلف برقم (1367) باب: ثناء الناس على الميت، وأخرجه مسلم (949) كتاب: الجنائز، باب: فيمن يثنى عليه خير أو شر من الموتى.
الترجمة، أو يريد العموم قياسًا للمسلم المجاهر بالشر على الكافر؛ لأن المسلم الفاسق لا غيبة له. وقد حمل بعضهم -يعني: ابن بطال
(1)
- على البخاري، وظن به النسيان لحديث الجنازة. والظاهر أن البخاري جرى على عادته في الاستنباط الخفي والإحالة في الظاهر الجلي على سبق الأفهام إليه. على أن الآية الكريمة مرتبة، وهي تسمية المذموم، وتغييب الغيبة، وخصوصًا في الكتاب العزيز
(2)
.
واختلف في أبي لهب. هل هو لقب له أو كنية. فالذي عند ابن إسحاق في آخرين أن عبد المطلب لقبه بذلك لحمرة خديه وتوقدها كالجمر.
وللحاكم -وقال: صحيح الإسناد- أنه صلى الله عليه وسلم قَالَ للهب بن أبي لهب، واسمه عبد العزى:"أكلكَ كلبُ الله" فأكله الأسد
(3)
، وهو دال على أنه كُني بابنه.
آخر الجنائز.
(1)
"شرح ابن بطال" 3/ 385.
(2)
"المتواري" ص 122 - 123.
(3)
"المستدرك" 2/ 539 كتاب: التفسير، وصححه الحاكم.
24
كتاب الزكاة
بسم الله الرحمن الرحيم
[24 - كتاب الزكاة]
1 - باب وُجُوبِ الزَّكَاةِ
وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى عز وجل: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43]
في حديث هرقل: يَأْمُرُنَا بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّلَةِ وَالعَفَافِ
(1)
. [انظر: 7]
1395 -
حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ، عَنْ زَكَرِيَّاءَ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ صَيْفِيٍّ، عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ مُعَاذًا رضي الله عنه إِلَي اليَمَنِ فَقَالَ:"ادْعُهُمْ إِلَي شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللهَ قَدِ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً فِي أَمْوَالِهِمْ، تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ". [1458، 1496، 2448، 4347، 7371، 7372 - مسلم: 19 - فتح: 3/ 261]
(1)
علَّق تحت سبط بقوله: (هذا معنى كلام البخاري لا لفظه).
1396 -
حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ ابْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَوْهَبٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الجَنَّةَ. قَالَ: مَا لَهُ؟ مَا لَهُ؟ وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "أَرَبٌ مَالَهُ، تَعْبُدُ اللهَ، وَلَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ".
وَقَالَ بَهْزٌ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ، وَأَبُوهُ عُثْمَانُ بْن عَبْدِ اللهِ أنَهُمَا سَمِعَا مُوسَى بْنَ طَلْحَةَ، عَنْ أَبِي أيُّوبَ بهذا. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: أَخْشَى أَنْ يَكُونَ مُحَمَّدٌ غَيْرَ مَحْفُوظٍ إِنَّمَا هُوَ عَمْرٌو. [5982، 5983 - مسلم: 13 - فتح: 3/ 261]
1397 -
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمِ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ،
عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدِ بْنِ حَيَّانَ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه -أَنَّ أعْرَابِيًّا أَتَى النَّبِيَّ
صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: دُلَّنِي عَلَى عَمَلِ إِذَا عَمِلْتُهُ دَخَلْتُ الَجنَّةَ. قَالَ: "تَعْبُدُ اللهَ لَا تُشرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ المَكْتُوبَةَ، وَتُؤَدِّي الزَّكاةَ المَفْرُوضَةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ". قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا أَزِيدُ عَلَى هذا. فَلَمَّا وَلَّى قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَي رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ فَلْيَنْظُرْ إِلَي هذا".
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي حَيَّانَ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو زُرْعَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بهذا. [مسلم: 14 - فتح: 3/ 261]
1398 -
حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو جَمْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما يَقُولُ: قَدِمَ وَفْدُ عَبْدِ القَيْسِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ هَذَا الحَيَّ مِنْ رَبِيعَةَ، قَدْ حَالَتْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ كُفَّارُ مُضَرَ، وَلَسْنَا نَخْلُصُ إِلَيْكَ إِلَّا فِي الشَّهْرِ الحَرَامِ، فَمُرْنَا بِشَيْءٍ نَأْخُذُهُ عَنْكَ، وَنَدْعُو إِلَيْهِ مَنْ وَرَاءَنَا. قَالَ:"آمُرُكُمْ بِأَرْبَعٍ، وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ: الإِيمَانِ بِاللهِ وَشَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ -وَعَقَدَ بِيَدِهِ هَكَذَا - وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَأَنْ تُؤَدُّوا خُمُسَ مَا غَنِمْتُمْ، وَأَنْهَاكُمْ عَنِ الدُّبَّاءِ، وَالحَنْتَمِ، وَالنَّقِيرِ، وَالمُزَفَّتِ". وَقَالَ سُلَيْمَانُ وَأَبُو النُّعْمَانِ، عَنْ حَمَّادٍ:"الإِيمَانِ بِاللهِ شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ". [انظر: 53 - مسلم: 17 - فتح: 3/ 261]
1399 -
حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ الحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه، وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنَ العَرَبِ فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه، كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ. فَمَنْ قَالَهَا فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلاَّ بِحَقِّهِ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللهِ؟ "[6924، 7284 - مسلم: 20 - فتح: 3/ 262]
1400 -
فَقَالَ: وَاللهِ لأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ المَالِ، وَاللهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَي رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا. قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: فَوَاللهِ مَا هُوَ إِلاَّ أَنْ قَدْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الحَقُّ. [1456، 1457، 6925، 7285 - مسلم: 20 - فتح: 3/ 262]
ثمَّ ذَكَرَ حديثَ ابن عباسٍ في بعثِهِ معاذًا إلى اليمن، إلى أنْ قال:
" .. فَأعْلِمْهُمْ أَنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً فِي أَمْوَالِهِمْ، تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ".
وحديث أبي أيوب: أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الجَنَّةَ. وفيه: "وَتُؤْتي الزَّكاةَ". ذكره من حديثِ حَفْصِ بْنِ عُمَرَ، ثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ (أبي)
(1)
عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَوْهَبٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ أَبِي أيوبَ. وَقَالَ: قال بَهْزٌ: ثنَا شُعْبَةُ، ثنَا محمدُ بْنُ عُثْمَانَ، وَأَبُوهُ عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللهِ أَنَّهُمَا سَمِعَا مُوسَى بْنَ طَلْحَةَ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: وأَخْشَى أنْ يَكُونَ محمَّدٌ غَيْرَ مَحْفُوظٍ إِنَّمَا هُوَ عَمْروٌ.
وحديث أبي هريرة، وفيه:"وتؤدي الزَّكاةَ المفْرُوضة".
وحديث ابن عباس: قَدِمَ وَفْدُ عَبْدِ القَيْسِ .. الحديث، وفيه:"وَإيتَاءِ الزَّكاةِ".
(1)
كذا بالأصل، وفي اليونينية (ابن) وفي نسخة:(محمد بن) وسيأتي تعليق المصنف على هذا الاختلاف.
وحديث أبي هريرة: لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنَ العَرَبِ، وفيه: والله لأُقَاتِلَنَّ مَنْ فرق بَيْنَ الصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ .. الحديث.
الشرح:
الزكاةُ في اللغة: النَّماء والتطهير، وإن كان في الظاهر قد تنقص.
وحديث ابن عباس الأول سلف مسندًا في أول الكتاب وغيره
(1)
.
وحديثه الثاني أخرجه مسلم، والأربعة
(2)
، وسيأتي في مواضع من
الكتاب
(3)
. وعند مسلم عن أبي معبد، عن ابن عباس، عن معاذ قَالَ: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم. جعله من مسند معاذ
(4)
.
وفي "الإكليل" للحاكم أن بعثه وبعث أبي موسى عند انصرافه من تبوك سنة تسع، وفي "الطبقات" مثله، وأنه في ربيع الآخر
(5)
.
وزعم ابن الحذاء أن هذا كان في هذا الشهر سنة عشر. وقدم في خلافة أبي بكر في الحجة التي حج فيها عمر، وكذا ذكره سيف في "الردة"، وبعثه قاضيًا كما قَالَ أبو عمر
(6)
. وقال العسكري: واليًا.
(1)
سلف برقم (7) كتاب بدء الوحي، باب: كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(2)
"صحيح مسلم" برقم 19/ 31 كتاب: الإيمان، باب: الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام، وأبو داود (1584)، والترمذي (625)، والنسائي 5/ 2 - 4، وابن ماجه (1783).
(3)
سيأتي برقم (1458) باب: لا تؤخذ كرائم أموال الناس في الصدقة، (1496) باب: أخذ الصدقة من الأغنياء، (2448) كتاب: المظالم، باب: الاتقاء والحذر من دعوة المظلوم، و (4347) كتاب: المغازي، باب: بعث أبي موسى، و (7371 - 7372) كتاب: التوحيد، باب: ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى توحيد الله تبارك وتعالى.
(4)
"صحيح مسلم" 19/ 29.
(5)
"الطبقات" 3/ 584.
(6)
"الاستيعاب" 3/ 460.
وكان قسم اليمن على خمسة: خالد بن سعيد على صنعاء، والمهاجر بن أبي أمية على لبدة، وزياد بن أبيه
(1)
على حضرموت، ومعاذ على الجنَد، وأبي موسى على زَبيد وعدن والساحل.
وحديث أبي أيوب أخرجه البخاري في موضع آخر بلفظ: عرض له في سفر. وفي آخره: دع الناقة
(2)
.
قَالَ الدارقطني: يقال: إن شعبة وهم في اسم ابن عثمان بن موهب فسماه محمدًا، وإنما هو عمرو بن عثمان، والحديث محفوظ عنه، حدث به عن يحيى القطان وأحمد بن عبيد وجماعات عن عمرو بن عثمان
(3)
.
وقال الكلاباذي، والجياني
(4)
، وغيرهما: هو مما عد على شعبة أنه وَهِمَ فيه. وقد خرجه مسلم عن محمد بن نمير، عن أبيه، عن عمرو بن عثمان، ونبه عليه في كتابه "شيوخ شعبة".
وقال البخاري في كتاب الأدب: حَدَّثَني عبد الرحمن، ثنا بهز، عن شعبة، عن ابن عثمان
(5)
، وهو أقرب إلى الصواب.
وعند مسلم عن محمد بن حاتم، وعبد الرحمن بن بشر، ثنا بهز، أنا شعبة، ثنا محمد بن عثمان وأبوه عثمان
(6)
.
(1)
في هامش الأصل: صوابه كبير.
(2)
هذِه الرواية لم أقف عليها عند البخاري وإنما هي في "صحيح مسلم" برقم (13) كتاب: الإيمان، باب: بيان الإيمان الذي يُدخل به الجنة، وكذا عزاه ابن حجر إلى مسلم كما في "الفتح" 3/ 264، وعزاه أيضًا العيني إلى مسلم في "عمدة القاري" 7/ 167.
(3)
"علل الدارقطني" 6/ 112 - 113.
(4)
"تقييد المهمل" للجياني 2/ 605.
(5)
سيأتي برقم (5983) باب: فضل صلة الرحم.
(6)
"صحيح مسلم"(13) كتاب: الإيمان، باب: بيان الإيمان الذي يدخل به الجنة.
وفي الأول من حديث بدل بن المحبر، أنبأنا شعبة، عن محمد بن عثمان: سمعت موسى، فذكره. ثم قَالَ: قَالَ أبو يحيى: هذا حديث صحيح سمعه شعبة من عثمان بن عبد الله، ومن ابنه محمد بن عثمان، وسمعه محمد، وأبوه عثمان، وأخوه عمرو بن موسى عن أيوب.
وفيه: رد لقول الدارقطني: الحديث محفوظ عن عمرو.
وأخرجه النسائي من حديث بهز، عن شعبة، عن محمد بن عثمان، وأبيه عثمان، وكذا رواه أحمد، عن بهز
(1)
.
وقال الإسماعيلي: جوده بهز فقال: حَدَّثَنَا شعبة، ثنا محمد بن عثمان، وأبوه عثمان. قَالَ: وانفرد ابن أبي عدي بالرواية، عن محمد، عن أبيه، عن موسى.
وحديث أبي هريرة قَالَ البخاري في آخره: حَدَّثَنَا مسدد .. إلى أن
قَالَ: حَدَّثَنِي (أبو زرعة)
(2)
عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا، كذا هو ثابت في النسخ، وكذا ذكره صاحبا المستخرجين، والحميدي في "جمعه"
(3)
، وفي أصل العز الحراني، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة.
وزعم الجياني
(4)
أنه وقع تخليط وَوَهمٌ في رواية أبي أحمد كان عنده، من طريق عفان، عن يحيى بن سعيد بن حيان، أو عن يحيى بن سعيد؛ عن أبي حيان، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة. وهو خطأ، إنما الحديث عن وهيب، عن أبي حيان يحيى بن سعيد بن حيان، عن أبي زرعة على ما رواه ابن السكن، وأبو زيد، وسائر الرواة، عن الفربري
(5)
.
(1)
"سنن النسائي" 1/ 234 كتاب: الصلاة، ثواب من أقام الصلاة، وأحمد 5/ 418.
(2)
ورد في الأصل فوق هذِه الكلمة كلمة: تابعي.
(3)
انظر: "الجمع بين الصحيحين" 3/ 168 - 169.
(4)
"تقييد المهمل" 2/ 604.
(5)
انتهى كلام الجياني.
وهذا الأعرابي هو سعد كما قَالَ ابن الأثير. وفي الطبراني من حديث المغيرة بن سعد بن الأخرم، عن عمه أنه شاك
(1)
.
وحديث ابن عباس سلف في الإيمان
(2)
.
وحديث أبي هريرة الأخير فيه هنا: عناقًا، وفي موضع آخر: عقالًا
(3)
، وذكره في مسند الصديق، ويدخل في مسند عمر أيضًا لقوله: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أمرتُ أنْ أقاتِلَ النَّاَس" وذكره خلف في مسنديهما، وابن عساكر ذكره في مسند عمر. قَالَ الترمذي: ورواه عمران القطان، عن معمر، عن الزهري، عن أنس، عن أبي بكر، وهو خطأ. وقد خولف عمران في روايته عن معمر
(4)
.
وقال النسائي: المحفوظ حديث الزهري عن عبيد الله
(5)
.
إذا تقرر ذلك؛ فالزكاة فرض بنص الكتاب والسنة -وقد ذكر جملة منها في الباب- وإجماع الأمة، وهي الركن الثالث من أركان الإسلام الخمس في الحديث الصحيح:"بُنِي الإسلامُ عَلَى خَمْسٍ"
(6)
وهي دعائمه وقواعده لا يتم إسلام من جحد واحدًا منها، ألا ترى فهم الصديق لهذا المعنى.
(1)
"المعجم الكبير" 6/ 49 - 50 (5478).
(2)
سلف برقم (53) باب: أداء الخمس من الإيمان.
(3)
سيأتي برقم (7285) كتاب: الاعتصام، باب: الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(4)
"سنن الترمذي" بعد حديث (2607) كتاب: الإيمان، باب: عن رسول الله ما جاء أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله.
(5)
"السنن الكبرى" 3/ 6 كتاب: الجهاد، باب: وجوب الجهاد.
(6)
سلف برقم (8) كتاب: الإيمان، باب:{دُعَاؤُكُمْ} إيمانكم لقوله عز وجل: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ} ورواه مسلم (16) كتاب: الإيمان، باب: بيان أركان الإسلام ودعائمه العظام.
وقوله: (والله لأُقَاتِلَن مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ المَالِ) وقام الإجماع على أن جاحدها كافر، فإن منعها بخلًا أخذت قهرًا وعُزِّر، وإن نصب الحرب دونها قوتل اقتداءً بالصديق في أهل الردة
(1)
.
وكانت الردة أنواعًا: قوم ارتدوا على ما كانوا عليه من عبادة الأوثان، وقوم آمنوا بمسيلمة، وهم أهل اليمامة، وطائفة منعوا الزكاة وقالوا: ما رجعنا عن ديننا ولكن شححنا على أموالنا، فرأى الصديق قتال الجميع، ووافقه جميع الصحابة بعد أن خالفه عمر في ذلك، ثم بان له صواب قوله، فرجع إليه، فسبى الصديق نساءهم وأموالهم، اجتهادًا منه.
فلما ولي عمر بعده رأى أن يرد ذراريهم ونساءهم إلى عشائرهم، وفداهم وأطلق سبيلهم، وذلك أيضًا بمحضر الصحابة من غير نكير. والذين رد منهم عمر لم يأبَ أحد منهم الإسلام. وعذر أبا بكر في اجتهاده، وصوب رأيه.
وقال بعضهم: حكم أبو بكر في أهل الردة بالسبي وأخذ الأموال، وجعلهم كالناقضين. وحكم فيهم عمر بحكم المرتدين، فرد النساء والصغار من الرق إلى عشائرهم كذرية من ارتد فله حكم الإسلام، إلا من تمادى بعد بلوغه.
وعلى هذا الفقهاء، وبه قَالَ ربيعة، وابن الماجشون، وابن القاسم.
وذهب أصبغ إلى فعل أبي بكر أنهم كانوا كالناقضين
(2)
.
(1)
انظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" 2/ 615 - 618.
(2)
انظر: "النوادر والزيادات" 14/ 496، 497.
وتأويل أبي بكر مستنبط من قوله عز وجل في الكفار: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5]، فجعل من لم يلتزم ذلك كله كافرًا يحل دمه وماله وأهله، ولذلك قَالَ: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة.
وقَالَ الداودي: قَالَ أبو هريرة: والله الذي لا إله إلا هو لولا أبو بكر ما عبد الله. قيل له: اتق الله يا أبا هريرة. فكرر اليمين، وقال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب، وكثرت أطماع الناس في المدينة، وإرادته الصحابة على إمساكه لجيش أسامة والكف عمن منع الزكاة، فقال: والله لو لم يتبعني أحد لجاهدتهم بنفسي حَتَّى يعز الله دينه أو تنفرد سالفتي، فاشتد عزم الصحابة حينئذٍ، وقمع الله أهل الباطل بما أرادوه.
وهذا كله يشهد لتقدم الصديق في العلم ورسوخه فيه، وأن مكانه من العلم ونصرة الإسلام لا يوازيه فيه أحد.
ألا ترى رجوع جماعة الصحابة إلى رأيه في قتال أهل الردة، ولا يجوز عليهم اتباعه تقليدًا له دون تبين الحق لهم، وذلك بأنه احتج عليهم أن الزكاة قرينة الصلاة، وأنها حق المال، وأن من جحد فريضة فقد كفر ولم يعصم دمه ولا ماله، وأنه لا يعصم ذلك إلا بالوفاء بشرائع الإسلام، ولذلك قَالَ عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيت أن الله شرح صدر أبي بكر للقتال، فعرفت أنه الحق بما بينه أبو بكر من استدلاله على ذلك، فبان لعمر وللجماعة الحق في قوله: فلذلك اتبعوه.
وفي الآية التي ذكرها البخاري دليلان على الوجوب:
أحدهما: أنه أمر بإتيانها، والأمر للوجوب.
الثاني: أنه قرنها بالصلاة وهي الركن الثاني فاقتضى التساوي.
وبهذه الطريقة احتج الصديق على من ناظره كما أسلفناه. وإنما أمر في حديث معاذ بالدعاء بالشهادة من لم يكن أسلم من أهل الكتاب، وسيأتي هذا مبينًا في حديث معاذ في باب لا تؤخذ الكرائم:"إِنَّكَ تأتي أَهْلَ كِتَابٍ، فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ عِبَادَةُ اللهِ فَإِذَا عَرَفُوا اللهَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ"
(1)
.
ومعنى حديث معاذ في ترتيب ما يدعوهم إليه أنهم إن جحدوا واحدة من ذلك لم يكونوا مؤمنين، ولم يبين إن امتنعوا ما يكون حكمهم.
والحكم أنهم إذا امتنعوا بعد الإقرار بالشهادتين من شيء من ذلك ما سلف. وقال بعضهم: إن حكمهم حكم المرتد. والمعروف من مذهب مالك أنه يقتل
(2)
في ذلك، إلا أن يصلي صلاة واحدة
(3)
، ولم يذكر الحج ولا الصيام.
قَالَ ابن التين: ولعل ذلك قبل نزول فرضهما.
قلتُ: هذا غلط؛ فإن بعثه كان في السنة التاسعة أو العاشرة كما سلف، وفُرِضا قبل
(4)
. والجواب أنه اقتصر على الثلاثة؛ لتأكدها في ذلك الوقت.
(1)
يأتي برقم (1458).
(2)
في الأصل: يقال، والصواب ما أثبتناه.
(3)
انظر: "الكافي" ص 586.
(4)
ورد بهامش الأصل ما نصه: من خط الشيخ: وقع في كلام القرطبي أن الحج فرض في السنة الثانية، وهو غريب انتهى. لعلها الثامنة، فإن الماوردي ذكره كذلك في "الأحكام السلطانية".
وفيه: قبول خبر الواحد، ووجوب العمل به
(1)
، لكن أبو موسى كان معه.
وفيه: أنه لا يحكم لإسلام الكافر إلا بالنطق بالشهادتين، وإنما بدأ في المطالبة بهما؛ لأنهما أصله لا يصح شيء من فروعه إلا به، فمن كان منهم غير موحد على التحقيق، كالنصراني فالمطالبة متوجهة إليه بكل واحدة من الشهادتين.
وأما اليهود فبالجمع بين ما أقر به من التوحيد والإقرار بالرسالة، وأهل اليمن كانوا (يهود)
(2)
؛ لأن ابن إسحاق وغيره ذكروا أن تبعًا تَهوَّد وتبعه على ذلك قومه فاعلمه
(3)
.
ونبه صلى الله عليه وسلم على أنهم أهل كتاب لكثرة حججهم، وأنهم ليسوا كجهال الأعراب.
وفي قوله: "افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ" دلالة أن الوتر ليس بفرض، وهو ظاهر لا إيراد عليه، ومن ناقش فيه فقد غلط. وطاعتهم بالصلاة تحتمل وجهين:
أحدهما: الإقرار بوجوبها.
والثاني: الطاعة بفعلها.
والأول أرجح؛ لأن المذكور في الحديث هو الإخبار بالفرضية.
ويترجح الثاني بأن الامتثال كاف.
(1)
ورد بهامش الأصل ما نصه: ولا يخرج بذلك عن خبر الواحد.
(2)
كذا بالأصل، والجادة أن يقول (يهودًا) لأنه لم يرد بها العلمية وإنما أراد الجمع والله أعلم.
(3)
"سيرة ابن إسحاق" 29 - 33.
وفيه: أنه ليس في المالِ حقٌّ سِوى الزَّكاة وقد أخرجه مرفوعًا ابن ماجه كذلك، وفي إسناده ضعف
(1)
، وهّاه البيهقي
(2)
. وفي الترمذي: "إن في المال حقًّا سوى الزكاة" وقال: إسناده ليس بذاك
(3)
. وذهب جمع منهم مجاهد أنه إذا حصد ألقى لهم من السنبل، وإذا جدوا النخل ألقى لهم من الشماريخ، فإذا كاله زكاه
(4)
. وفي "تفسير الفلاس" من حديث أبي العالية قال: كانوا يعطون شيئًا سوى الزكاة ثم يسرفوا، فأنزل الله:{وَلَا تُسْرِفُوا} [الأنعام: 146]
(5)
. ومن حديث محمد بن كعب في قوله: {وَآتُوا حَقَّهُ} [الأنعام: 141]. قَالَ: ما قل منه أو كثر
(6)
. ومن حديث جعفر بن محمد، عن أبيه {وَآتُوا حَقَّهُ} قَالَ: شيء سوى الحق الواجب
(7)
. وعن عطاء: القبضة من الطعام
(8)
. ثم ذكر عن يزيد بن الأصم، وإبراهيم نحوه
(9)
.
(1)
"سنن ابن ماجه"(1789) كتاب: الزكاة، باب: ما أدي زكاته ليس بكنز، وقال الألباني: ضعيف منكر.
(2)
"السنن الكبرى" 4/ 84 - 85 كتاب: الزكاة، باب: الدليل على من أدى فرض الله في الزكاة فليس عليه أكثر منه، وقال: فهذا حديث يعرف بأبي حمزة ميمون الأعور كوفي، وقد جرحه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين فمن بعدهما من حفاظ الحديث، والذي يرويه أصحابنا في التعاليق:(ليس في المال حق سوى الزكاة) فلست أحفظ فيه إسنادًا، والذي رويت في معناه ما قدمت ذكره والله أعلم أهـ.
(3)
"سنن الترمذي"(659) كتاب: الزكاة، باب: ما جاء أن في المال حقًّا سوى الزكاة، وضعفه الألباني في "ضعيف الترمذي".
(4)
رواه الطبري في "تفسيره" 5/ 365 (13998).
(5)
رواه الطبري في "تفسيره" 5/ 370 عن أبي العالية.
(6)
رواه الطبري 5/ 367 (14021) عن محمد بن كعب.
(7)
الطبري 5/ 364 (13988).
(8)
الطبري 5/ 364 (13989).
(9)
الطبري 5/ 366 (14007 - 14008).
وروى أبو جعفر النحاس عن أبي سعيد مرفوعًا: "ما سقط من السنبل"
(1)
قَالَ: وقد روي وصح عن علي بن حسين، وهو قول عطية، وأبي عبيد. واحتج بحديث النهي عن حصاد الليل. وحكاه ابن التين عن الشعبي.
وحكى الأدفوي أقوالًا في الآية: منهم من قَالَ: إنها منسوخة بالزكاة المفروضة. قاله سعيد بن جبير وغيره.
ثانيها: أنه الزكاة المفروضة. قاله أنس وغيره
(2)
، وعزي إلى الشافعي، وفيهما نظر. ومنهم من قَالَ: إنها على الندب.
وانفرد داود
(3)
فأوجب الزكاة في كل الثمر وكل ما أنبتت الأرض، وهو قول مجاهد، وحماد بن أبي سليمان، وعمر بن عبد العزيز، وإبراهيم النخعي. قَالَ ابن حزم: والسند إليهم في غاية الصحة
(4)
.
وقال أبو حنيفة: في كل هذا الزكاة إلا في الحطب والقضب والحشيش
(5)
.
وقوله: ("تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ") استدل به بعضهم على الصرف لأحد الأصناف الثمانية خلافًا للشافعي، وأن الزكاة لا تنقل من موضعها، وبه قَالَ مالك والشافعي
(6)
، وعن مالك الجواز، وهو قول أبي حنيفة
(7)
.
(1)
"الناسخ والمنسوخ" 2/ 333 (480).
(2)
الطبري 5/ 362 (13966).
(3)
ورد بهامش الأصل ما نصه: يعني من أصحاب المذاهب المتبوعة فإن أراد التفرد الملطق فلا يصح.
(4)
"المحلى" 5/ 212.
(5)
انظر: "البناية" 3/ 492.
(6)
انظر: "البيان" 3/ 431، "المعونة" 1/ 271.
(7)
انظر: "المدونة" 1/ 245 - 246، "البناية" 3/ 564 - 565.
ومنع أحمد في مسافة القصر
(1)
.
وعن الحسن، والنخعي أنهما كرها نقلها إلا لذي قرابة
(2)
، وبه أخذ ابن حبيب. قَالَ: ويكرى على ذلك منها إن شح على دوابه، فإن منعنا النقل لم يقع الموقع عندنا على الأصح.
والخلاف للمالكية أيضًا بين سحنون المانع، وابن اللباد المجيز
(3)
، وعليهما ينبني الضمان إذا تلف.
ويدخل في عموم ذلك الطفل والمجنون، وبه قَالَ مالك، والشافعي، وخالف أبو حنيفة
(4)
.
وقال الأوزاعي: في ماله الزكاة غير أن الولي يحصيه، فإذا بلغ أعلمه؛ ليزكي عن نفسه. وقال الثوري: إن شاء اليتيم حينئذٍ زكَّاه
(5)
.
وقال الحسن وابن سيرين: لا زكاة في ماله إلا في زرع أو ضرع.
وقال أهل العراق: عليه في الأرض والفطر. وقد أفردت المسألة بالتصنيف وذكرت فيها مذاهب عديدة وأدلتها.
وفيه: أن الزكاة تدفع للمسلمين؛ خلافًا لأبي حنيفة
(6)
.
(1)
انظر: "المغني" 4/ 131.
(2)
رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" 2/ 393 (10307) كتاب: الزكاة، في الصدقة يخرج بها من بلد إلى بلد من كرهه؛ بلفظ: أنهما كانا يكرهان أن يخرج الزكاة من بلد إلى بلد.
(3)
انظر: "النوادر والزيادات" 2/ 291.
(4)
انظر: "الهداية" 1/ 103، "المدونة" 1/ 213، "البيان" 3/ 135.
(5)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 1/ 427.
(6)
هذا القول فيه نظر، فقد اتفق الفقهاء كما قال ابن هبيرة: على أنه لا يجوز إخراج الزكاة إلى الكافر، وقال الجوهري: وأجمعوا أن الذمي لا يعطى من زكاة الأموال، ولا من عشور الأرضين، وإن لم يوجد مسلم، إلا أن أبا حنيفة ذهب إلى =
وفيه: أن المديان لا زكاة عليه؛ لأنه قسمهم قسمين. وهو قول أبي حنيفة خلافًا للشافعي في أظهر قوليه
(1)
.
وفيه: أن حد ما بين الغني والفقير ما يجب فيه الزكاة. وقال بعضهم: في ألفين، وقال المغيرة، وأهل الكوفة: من له عشرون دينارًا لا يأخذ الزكاة
(2)
. وكذلك قَالَ مالك: لا يعطى أكثر من نصاب. وعنه: لا حد في ذلك، إنما هو على اجتهاد المتولي
(3)
. والصحيح جواز دفعها لمن له نصاب لا كفاية فيه.
وقوله: (أخبرني بعمل يدخلني الجنة) يريد ما افترض عليه. قاله ابن التين. ويجوز أن يكون أعم.
وقوله: "ما له؟ ما له؟ " كأنه استعظم سؤاله؛ لأن الأعمال كثيرة.
وقوله: (قَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: "أرَبٌ ماله؟ ") قَالَ صاحب "المطالع": يروى "أرِبٌ ماله" على أنه اسم فاعل مثل حذر. ورواه بعضهم بفتح الراء أي: وضم الباء منونة، وبعضهم بفتح الباء أيضًا. فمن كسر الراء جعله فعلًا بمعنى احتاج فسأل عن حاجته، وقد يكون بمعنى يفطن لما سأله عنه فقال: أرب إذا عقل. وقيل معناه: رجل حاذق سأل عما يعنيه. وقيل: تعجب من حرصه، ومعناه: لله دره، أي: فَعَل فِعْل العقلاء في سؤاله عما جهله. وقيل: هو دعاء عليه، أي: سقطت
= أنه يجوز أن يدفع إلى الذمي ما سوى ذلك من الصدقة، كزكاة الفطر والنذور والكفارات، وروي عن أبي يوسف أنه لا يعطى الذمي صدقة واجبة، انظر:"الإفصاح" 3/ 75، و"نوادر الفقهاء" ص 48، "البناية" 3/ 542، "الفتاوى الهندية" 1881، "مختصر اختلاف العلماء" 1/ 383.
(1)
انظر: "البناية" 3/ 354، "روضة الطالبين" 2/ 197.
(2)
انظر: "البناية" 3/ 546، "النوادر والزيادات" 2/ 287.
(3)
انظر: "النوادر والزيادات" 2/ 286، 287.
آرابه، وهي أعضاؤه على عادة العرب كعقرى حلقى ونحوه، من غير قصد لوقوعه. ومن قَالَ أرب فمعناه: حاجة به، وتكون ما زائدة، وفي سائر الوجوه استفهامية. ولا وجه لقول أبي ذر: أرب.
وفسر ابن قتيبة أرِبَ بكسر الراء وفتح الباء بأنه من الآراب مأخوذٌ، أي: الأعضاء، واحدها أرب، ومنه قيل: قطعت أربًا أربًا. أي عضوًا عضوًا
(1)
. وجاء في رواية: "أرب ما جاء به؟ " وإنما كرر قوله "ما له"؛ لحبسه زمام ناقته، أو غير ذلك فعله. وفسر الطبري قوله:"أرَبٌ ما جاء به؟ " وقال: معناه: لحاجة ما جاءت به، الإرب: الحاجة. و (ما) التي في قوله: "ما جاء به" صلة
(2)
في الكلام، كما قَالَ تعالى:{فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} [النساء: 155] والمعنى: أرب جاء به. قَالَ ابن بطال: وعلى هذا التقرير تكون (ما) في الحديث زائدة، كأنه قَالَ: أرب له. وهو أحسن من قول ابن قتيبة، والمراد: له حاجة مهمة مفيدة جاءت به، وإلا فسؤاله قال أن له حاجة
(3)
.
وقوله: "تعبد الله .. " إلى آخره؛ لم يذكر الحج والصوم. وفيه ما تقدم في حديث معاذ، ولم يذكر الجهاد؛ لأنه ليس بفرض على الأعراب. ذكره الداودي. ولم يذكر لهم التطوع؛ لأنهم كانوا حديثي عهد بإسلام، فاكتفي بالواجب تخفيفًا؛ ولئلا يعتقدوا أن التطوعات واجبة، فتركهم إلى أن تنشرح صدورهم لها فيسهل الأمر.
وذكر فيه صلة الرحم لحاجة السائل إليه، وذكر في حديث أبي هريرة زيادة الصوم.
(1)
"غريب الحديث" 1/ 457.
(2)
ورد في الأصل تحت هذِه الكلمة: أي زائدة.
(3)
"شرح ابن بطال" 3/ 398.
ويجوز أن يكون السائل فيه هو السائل في حديث أبي أيوب، فإن يكنه فقد عرفت اسمه فيما مضى؛ وقيد فيه الزكاة بالمفروضة؛ وقد وصفها بذلك في قوله:"هذِه فريضة الصدقة"
(1)
كما ستعلمه.
وقوله: (لا أزيد على هذا) أي من الفرائض أو أكتفي به عن النوافل.
ويجوز أن يكون المراد: لا أزيد على ما سمعت منك في أدائي لقومي، لأنه وافدهم، وهو لائح.
وقوله: في حديث ابن عباس: ("وشَهَادَةِ أَنْ لَا إله إِلَّا اللهُ") أي: وأن محمدًا رسول الله ولم يذكر فيه الصيام. وفيه ما سلف، وزاد فيه:"وأداء خُمُس المغنم".
وقوله: (وعقد بيده هكذا) قَالَ الداودي جعل ذلك مثلًا للعقد والعهد الذي أخذه الله على عباده في الإسلام، وعلى العروة التي لا انفصام لها.
والعَناق -بفتح العين-: الأنثى من ولد المعز ما دون الحول. وقيل عن أهل اللغة: إنها إذا أتى عليها أربعة أشهر، وفصل عن أمه، وقوي على الرعي فهو جدي. والأنثى عناق، حكاه ابن بطال
(2)
، وابن التين.
وقال الداودي: هي الأنثى من المعز الحديثة قاربت أن تلد أو حملت ولم تضع بعد، أو عند وضعها.
والمعروف أن العناق: جذعة. والجذعة لا تحمل، إنما تحمل الثنية فاعلمه.
والعقال: صدقة عام، أو الحبل الذي يعقل به البعير قولان، وذُكر
(1)
سيأتي برقم (1454) كتاب: الزكاة، باب: زكاة الغنم.
(2)
"شرح ابن بطال" 3/ 393 - 394.
ذلك على التقليل؛ لأن العناق لا يؤخذ في الصدقة عند أكثر أهل العلم، ولو كانت عناقًا كلها
(1)
. والجديد عندنا أن في الصغار صغير
(2)
. وبه قَالَ أحمد، ومالك وأبو يوسف وزفر. إلا أن مالكًا وزفر يقولان: لا يجب فيما كبر من جنسها
(3)
. وقال ابن التين: بالوجوب قَالَ الفقهاء، خلا محمد بن الحسن فقال: لا شيء فيه
(4)
.
وكان الواقدي يزعم أن التأويل الثاني رأي مالك، وابن أبي ذئب.
قَالَ أبو عبيد: والأول أشبه عندي.
وروى ابن وهب، عن مالك أن العقال: الفريضة من الإبل. وقال الخطابي: خُولف أبو عبيد في هذا التفسير، وذهب غير واحد من العلماء إلى أنه ضرب مثل بالقلة كقوله: لا أعطيك ولا درهمًا؛ وليس بسائغ في كلامهم أنه صدقة عام، وأيضًا فإنها منعت مطلقًا. وهم كانوا يتأولون أنهم كانوا مأمورين بدفعها إلى الشارع دون القائم بعده. وقيل: إنه كل ما أخذ من الأصناف من نعم وحب. وقيل: أن يأخذ عين الواجب لا الثمن. وفي رواية لابن الأعرابى: والله لو منعوني جديًا أدوط. قَالَ: والأدوط: الصغير الفك والذقن.
(1)
انظر: "الاستذكار" 9/ 228.
(2)
انظر: "روضة الطالبين" 2/ 167.
(3)
ذكر المصنف رحمه الله مالكًا وزفر معهم، باعتبار أنهما يقولان: إن في الصغار زكاة، إلا أنهما كما يقولان: إن في الصغار صغيرة، فإنهما يقولان: إنه لا يؤخذ من الصغار شيئًا، بل يؤخذ مما كبر من جنسها، كما ذكر "المصنف" انظر:"مختصر اختلاف العلماء" 1/ 419، "تحفة الفقهاء" 1/ 288، "الكافي" ص 107، "المنتقى" 2/ 143، "عقد الجواهر الثمينة" 1/ 202، "المغني" 4/ 47، "المحلى" 5/ 275.
(4)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 1/ 419، "تحفة الفقهاء" 1/ 288.
وقال الخطابي في قصة أبي بكر: هذا حديث مشكل لاختصاره في هذِه الرواية، وقد تعلق به الروافض. وقالوا: فيه تناقض، أخبر في أوله بكفر من كفر من العرب، وفي أثنائه:(لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة). وهذا يوجب كونهم ثابتين على الدين، وزعموا أن عمر وافقه على الحرب تقليدًا، وكيف استجاز قتلهم، وسبي ذراريهم إن كانوا مسلمين، وإن كانوا مرتدين فكيف تعلق بالفرق بين الصلاة والزكاة، ثم زعموا أن القوم تأولوا:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] أنها خصوص بالشارع لم يؤمر بأخذها أحد غيره، فإن صلاته (كانت)
(1)
سكنًا وتطهيرًا.
وقال شاعرهم وهو الحطيئة -فيما ذكره المبرد- من أبيات، وعزاها غيره لغيره:
أطعنا رسول الله ما دام بيننا
…
فيا عجبا ما بال ملك أبي بكر
أيورثها بكرًا إذا مات بعده
…
وتلك لعمرُ الله قاصمة الظهر
ونحن نبين ذلك فنقول: روايات أبي هريرة مختصرة إلا رواية سعيد، عن أبيه كثير، عن أبي هريرة مرفوعًا:"أمرتُ أنْ أقاتِلَ النَّاسَ .. " الحديث
(2)
، وفيه:"ثم حرمت عَلَيّ دماؤهُم وأموالهم".
(1)
من (م).
(2)
أخرجه أحمد 2/ 345، والبخاري في "التاريخ الكبير" 7/ 35 - 36، وإسحاق بن راهويه في "مسنده" 1/ 294 - 295 (272)، وابن خزيمة في "صحيحه" 4/ 8 (2248) كتاب: الزكاة، باب: الدليل على أن دم المرء وماله إنما يحرمان، والدارقطني في "سننه" 1/ 231 - 232 كتاب: الصلاة، باب: تحريم دمائهم وأموالهم إذا يشهدوا بالشهادتين ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة. وابن عدي في "الكامل" 5/ 377، والمروزي في "تعظيم قدر الصلاة" 1/ 92 (8)، والحاكم 1/ 387 كتاب: الزكاة.
و (كثير) هذا هو ابن عبيد مولى أبي هريرة، أدخله ابن خزيمة في "صحيحه"
(1)
.
ووافقه ابن عمر وأنس من طرق صحاح أن الزكاة كانت شرطًا لحقن الدماء، فثبت أن أبا بكر قاتلهم بالنص لا بالاجتهاد الذي جرى في خبر عبيد الله في البخاري، عن أبي هريرة. ويشبه أن يكون ما ذكره على سبيل الاستظهار في المناظرة بالترجيح. وفي هذا سقوط جميع ما أورده الروافض.
والمرتدة صنفان: صنف كفروا وهم أصحاب مسيلمة، ومن نحا نحوهم من إنكار نبوة نبينا، وإياهم عني بقوله:(وكفر من كفر). وصنف أنكروا الزكاة، وقالوا: ما رجعنا عن ديننا، ولكن شححنا على أموالنا، وهم في الحقيقة أهل بغي، ودخلوا في غمار الأولين فأضيف الاسم في الجملة إلى الردة، إذ كانت أعلى الأمرين خطبًا، وصار مبدأ قتال أهل البغي مؤرخًا بأيام علي، إذ كانوا منفردين في عصره لم يخلطوا بأهل شرك.
ولا شك أن من أنكر الزكاة الآن فهو كافر بالإجماع.
وهذِه الفرقة عذروا لقرب العهد بالزمان الذي غُيرت فيه الأحكام، ووقوع الفترة، وجهلهم أيضًا. وما جرى من السبي فهو راجع إلى الاجتهاد. واستولد علي جارية من سبي بني حنيفة، وولدت له محمدًا الذي يدعى ابن الحنفية، ثم لم ينقرض العصر حَتَّى رأوا خلافه.
واتفقوا على أن المرتد لا يسبى. وهذا مذهب أصبغ أن من ارتد كمن نقض العهد، وهو تأويل الصديق وجماعة العلماء على ما حكم
(1)
"صحيح ابن خزيمة" 4/ 8 (2248).
به عمر أنهم كالمرتدين، وذلك أن عمر رد النساء والصغار من الرق إلى عشائرهم كذرية من ارتد، إلا من تمادى بعد بلوغه. وإنما أوردوا الخلاف في أولاد المرتدين. وقد قيل: لم يسب أحد من رجالهم. وقد جيء بالأشعث بن قيس، وعيينة بن حصن فأطلقهما، ولم يسترقهما.
وقيل: كانت الردة على ثلاثة أنواع. وقد سلفت.
وأوضح ذلك الواقدي في "الردة" تأليفه فقال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب، وارتد من جماعة الناس: أسد، وغطفان إلا بني عبس؛ فأما بنو عامر فتربصت مع قادتها، وكانت فزارة قد ارتدت، وبنو حنيفة باليمامة، وارتد أهل البحرين، وبكر بن وائل، وأهل دباء، وأزد عمان، والنمر بن قاسط، وكلب، ومن قاربهم من قضاعة.
وارتدت عامة بني تميم، وارتدت من بني سُليم عُصية، وعُميرة، وخُفاف، وبنو عمرو بن امرئ القيس، وذكوان، وحارثة.
وثبت على الإسلام أسلم، وغفار، وجهينة، ومزينة، وأشجع، وكعب بن عمرو من خزاعة، وثقيف، وهذيل، والديل، وكنانة، وأهل السراة، وبجيلة، وخثعم، وطيء، ومن قارب تهامة من هوازن، وجشم، وسعد بن بكر، وعبد القيس، وتجيب، ومذحج إلا بني زبيد، وثبتت هَمْدَان، وأهل صنعاء.
ثم أسند من حديث أبي هريرة قَالَ: لم يرجع رجل من دوس، ولا من أهل السراة كلها. ومن حديث مروان التجيبي قَالَ: لم يرجع رجل واحد من تجيب ولا من همدان، ولا من الأنباء بصنعاء.
وقال موسى بن عقبة: لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع عِلْية العرب عن
دينهم: أهل اليمن، وعامة أهل المشرق، وغطفان، وأسد، وبنو عامر، وأشجع. ومسكت طيء بالإسلام.
وقال سيف في "الردة" عن فيروز الديلمي: أول ردة كانت باليمن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على يدي ذي الخمار عبد الله بن كعب وهو الأسود العنسي. وعن عروة: لم يبقَ حي من العرب إلا ارتد ما خلا أهل مكة، والطائف، والقبائل التي أجابت النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية ممن حول مكة، والقبائل التي عاتت الله يوم الحديبية. ورابَ عبد القيس وحضرموت بعض الريب، وحسن بلاؤهم واستقاموا. وقال قتادة فيما رواه الحاكم في الردة قَالَ: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب كلها إلا ثلاثة مساجد: مكة، والمدينة، والبحرين.
وأما قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] فلا شك أن الخطاب على أنحاء:
عام: كقوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} [المائدة: 6] و {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183].
وخاص: كقوله: {نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء: 79]، و {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50].
ومواجهة له صلى الله عليه وسلم، وهو والأمة فيه سواء كقوله:{أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78]، {فَإِذَا قَرَأْتَ القُرْآنَ فَاسْتَعِذْ} [النحل: 98]، {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ} [النساء: 102]، و {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التو بة: 103].
والفائدة في مواجهته في هذا الخطاب أنه هو الداعي إلى الله، والمبين عنه معنى ما أراد، فقدم اسمه في الخطاب؛ ليكون سلوك
الأمة في الشرائع على حسب ما بينه لهم. وعلى هذا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]، فافتتح الخطاب بالنبوة، ثم خاطب أمته بالحكم عمومًا، وربما كان الخطاب له والمراد غيره.
وأما التطهير والتزكية والدعاء من الإمام لصاحب الصدقة فباقٍ غير منقطع، يستحب للإمام والعامل الدعاء للمتصدق بالنماء والبركة في ماله.
وقوله: (من فرق) هو بتخفيف الراء وتشديدها.
وفيه: من الفقه -غير ما تقدم-: أخذ الصغائر من الصغائر، وهذا قد سلف، ونحا إليه ابن عبد الحكم، وقال: لولا خلاف قول مالك وأصحابنا لكان بينًا أن يأخذ واحدًا من أوساطها
(1)
. وقال مالك: فيها ثنية
(2)
، وكذا ذكره الداودي والخطابي عنه. قَالَ ابن التين: والمعروف عن مالك أن جذع المعز يجزئ (خلاف)
(3)
الضحايا. وإنما منع من ذلك ابن حبيب. وأجاب القاضي عبد الوهاب عن هذا الإلزام بأن قَالَ: المراد به عناقًا جذعة.
وفيه: دليل على أن حول النتاج حول الأمهات، ولو كان يفرد لها بحول لما يوجد السبيل إلى أخذ العناق، وإيجاب الزكاة فيها مطلقًا. وعند أبي حنيفة والشافعي بشرط أن تكون الأمهات نصابًا.
وفيه: أن الردة لا تسقط عن المرتد الزكاة إذا وجبت في ماله.
وقوله: "وحسابُهُ على الله" أي فيما يسره دون الظاهر من أمره.
(1)
انظر: "عقد الجواهر الثمينة" 1/ 202.
(2)
انظر: "التفريع" 1/ 283، "عيون المجالس" 2/ 480.
(3)
في الأصل: خلافًا. وفوقها كلمة: كذا.
وفيه: قبول توبة المرتد، وهو قول أكثر العلماء. وذكر عن مالك: لا تقبل توبة المستتر بكفره. وذكر عن أحمد نحوه
(1)
.
وقوله: (فعرفت أنه الحق). دال على أن عمر لم يرجع إلى أبي بكر تقليدًا.
(1)
انظر: "النوادر والزيادات" 14/ 518 - 519، "المعونة" 2/ 296، "المغني" 12/ 269.
2 - باب البَيْعَةِ عَلَى إِيتَاءِ الزَّكَاةِ
{فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة: 5]
1401 -
حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ قَيْسٍ قَالَ: قَالَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ: بَايَعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَى إِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ. [انظر: 58 - مسلم: 56 - فتح: 3/ 267]
وذكر فيه عن جَرِير بْن عَبْدِ اللهِ: بَايَعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَى إِقَامِ الصَّلَاةِ، وَاِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ.
هذا الحديث أخرجه البخاري قبيل كتاب العلم
(1)
كما سلف واضحًا، وهذا الباب في معنى الباب الذي قبله.
وقد أخبر الله تعالى في هذِه الآية أن الأخوة في الدين إنما تستحق بإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة. ودل ذلك أنه من لم يقمها فليس بأخ في الدين.
وفيها حجة للصديق في قتاله لأهل الردة حين منعوا الزكاة. وقد قام الإجماع في الرجل يقضي عليه القاضي بحقٍ لغيره فيمتنع من أدائه: أن واجبًا على القاضي أن يأخذه من ماله، فإن نصب الحرب دونه وامتنع قاتَلَهُ حَتَّى يأخذه منه، وإن أتى القتال على نفسه فشر قتيل. فحق الله الذي أوجبه للمساكين أولى بذلك.
وذكر النصح لكل مسلم في البيعة مع الصلاة والزكاة يدل (على)
(2)
حاجة جرير وقومه إلى ذلك. وكان جرير رئيس قومه. وقيل: كان جرير
(1)
سلف برقم (57) كتاب: الإيمان، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحة".
(2)
من (م).
إذا بايع أحدًا يقول له: الذي أخذنا منك أحب إلينا مما أعطيناك. ويخبره الحديث
(1)
(2)
.
(1)
ورد بهامش الأصل ما نصه: آخر 4 من 4 من تجزئة المصنف.
(2)
ورد بهامش الأصل ما نصه: ثم بلغ في الحادي عشر كتبه مؤلفه غفر الله له.
3 - باب إِثْمِ مَانِعِ الزَّكَاةِ
وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} إلى قوله: {تَكْنِزُونَ} [التوبة: 34 - 35]
1402 -
حَدَّثَنَا الحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ هُرْمُزَ الأَعْرَجَ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "تَأْتِي الإِبِلُ عَلَى صَاحِبِهَا عَلَى خَيْرِ مَا كَانَتْ، إِذَا هُوَ لَمْ يُعْطِ فِيهَا حَقَّهَا، تَطَؤُهُ بِأَخْفَافِهَا، وَتَأْتِي الغَنَمُ عَلَى صَاحِبِهَا عَلَى خَيْرِ مَا كَانَتْ، إِذَا لَمْ يُعْطِ فِيهَا حَقَّهَا، تَطَؤُهُ بِأَظْلَافِهَا، وَتَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا". وَقَالَ: "وَمِنْ حَقِّهَا أَنْ تُحْلَبَ عَلَى المَاءِ". قَالَ: "وَلَا يَأْتِي أَحَدُكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ بِشَاةٍ يَحْمِلُهَا عَلَى رَقَبَتِهِ لَهَا يُعَارٌ، فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ. فَأَقُول: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ بَلَّغْتُ. وَلَا يَأْتِي بِبَعِيرٍ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ لَهُ رُغَاءٌ، فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ. فَأَقُول: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ بَلَّغْتُ". [2371، 2378، 3073، 6958 - مسلم: 987 - فتح: 3/ 267]
1403 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ القَاسِمِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم "مَنْ آتَاهُ اللهُ مَالًا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ، مُثِّلَ لَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ، لَهُ زَبِيبَتَانِ، يُطَوَّقُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، ثُمَّ يَأْخُذُ بِلِهْزِمَيْهِ -يَعْنِي: شِدْقَيْهِ- ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا مَالُكَ، أَنَا كَنْزُكَ" ثُمَّ تَلَا: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} [آل عمران: 180] الآيَةَ. [2371، 4565، 4659، 6957 - مسلم: 987 - فتح: 3/ 368]
ذكر فيه حديث أبي هريرة قال النبي صلى الله عليه وسلم: "تَأْتِي الإِبِلُ عَلَى صَاحِبِهَا عَلَى خَيرِ مَا كَانَتْ، إِذَا هُوَ لَمْ يُعْطِ فِيهَا حَقَّهَا تَطَؤُهُ بِأَخْفَافِهَا .. ".
وعنه أيضًا: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ آتَاهُ اللهُ مَالًا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ، مُثِّلَ لَهُ ماله يَوْمَ القِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ .. ".
الشرح:
جعل أبو العباس الطرقي هذين الحديثين حديثًا واحدًا. ورواه مالك في "موطئه" موقوفًا على أبي هريرة
(1)
. قَالَ أبو عمر: ورواه عبد العزيز ابن أبي سلمة، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر مرفوعًا -وهذا في النسائي- قَالَ: وهو عندي خطأ، والمحفوظ حديث أبي هريرة، وحديث عبد العزيز خطأ بيّن في الإسناد، ورواية مالك وعبد الرحمن التي في البخاري هي الصحيحة، وهو مرفوع صحيح
(2)
.
أما الآية فقال أبو زكريا يحيى بن زياد النحوي في "معانيه": {وَلَا يُنْفِقُونَهَا} : إن شئت وجهت الذهب والفضة إلى الكنوز. وقيل المراد بالإنفاق: الزكاة، ويجوز أن يكون محمولًا على الأموال، ويجوز أن نعيده على الفضة، وحذف الذهب؛ لأنه داخل فيها.
وهذِه الآية قَالَ الأكثرون: إنها في أهل الكتاب. وقيل: عامة.
وقيل: خاصة في من لم يؤد زكاته من المسلمين، وعامة في المشركين، وهو تأويل البخاري بعد هذا. وقيل: إنها منسوخة بقوله تعالى {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} ؛ لأن جمع المال كان محرمًا في أول الإسلام، فلما فرضت الزكاة جاز جمعه. وقد وقع في "الصحيح" عن ابن عمر -وقد سُئل عن هذِه الآية- قَالَ: كان هذا قبل أن تفرض الزكاة
(3)
.
(1)
"الموطأ" ص 174 كتاب: الزكاة، باب: ما جاء في الكنز.
(2)
"الاستذكار" 9/ 131.
(3)
سيأتي برقم (1404) كتاب: الزكاة، باب: ما أدي زكاته فليس بكنز، وبرقم (4661) كتاب: التفسير، باب: قوله: {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)} .
وفي أبي داود -بإسناد جيد- عن ابن عباس: لما نزلت هذِه الآية كبر ذلك على المسلمين، فسأل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال. "إن الله تعالى لم يفرض الزكاة إلا ليطيب ما بقي من أموالكم"
(1)
.
واستدل بهذِه الآية البخاري على إثم مانعي الزكاة. ومن أداها ليس بداخل فيها. واستدل بها أيضًا على إيجاب الزكاة في سائر الذهب والفضة المطبوع وغيره؛ لعموم اللفظ، وعلى ضم الذهب إلى الفضة، وهو قول الحنفية، فيضم بالقيمة كالعروض. وعند صاحبيه بالأجزاء
(2)
.
والكنز أصله الضم والجمع، ولا يختص ذلك بالنقدين ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم:"ألا أخبركم بخيرِ ما يكنزه المرءُ: المرأة الصالِحة"
(3)
أي: يضمه لنفسه ويجمعه.
وقال صاحب "المحكم": هو اسم للمال ولما يحرز فيه، وجمعه: كنوز
(4)
. وقال في "المغيث": هو اسم للمال المدفون. وقيل: هو الذي لا يدرى مَن كنزه. وسيأتي في الباب بعده زيادة على ذلك؛ وعن علي:
(1)
"سنن أبي داود"(1664) كتاب: الزكاة، باب: في حقوق المال. وضعفه الألباني في "ضعيف أبي داود" 10/ 128 - 129 (293).
(2)
انظر: "الهداية" 1/ 113.
(3)
رواه أبو داود (1664) كتاب: الزكاة، باب: في حقوق المال، وأبو يعلى في "مسنده" 4/ 378 (2499)، والحاكم 2/ 333 كتاب: التفسير وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، والبيهقي في "سننه" 4/ 83 كتاب: الزكاة، باب: تفسير الكنز الذي ورد الوعيد فيه، وفي "شعب الإيمان" 3/ 194 (3307)، وابن عبد البر في "التمهيد" 19/ 168 مختصرًا، والحديث ضعفه الألباني في "ضعيف أبي داود" 10/ 128 - 129 (293).
(4)
"المحكم" 6/ 460.
أربعة آلاف فما دونها نفقة، فإن زادت فهي كنز أديت زكاة أو لم تؤدِ.
وظاهره منع آدخار كثير المال؛ وعن أبي أمامة: من خلف بيضاء أو صفراء، كوي بها مغفورًا له أو غير مغفور
(1)
. حكاه ابن التين.
وقوله: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21] أي: اجعل لهم موضع البشارة، عذابًا أليمًا، أي: مؤلمًا.
وقوله: ("على خير ما كانت") يعني في القوة والسمن، يكون أشد لثقلها وأنكى.
وقوله: ("تطَؤُهُ بِأخْفَافِها") سقطت الواو من "تطَؤُة" عند بعض النحويين؛ لشذوذ هذا القول من بين نظائره في التعدي، وكذلك وسِّع؛ لأن الفعل إذا كان فاؤه واوًا وكان على فَعِل بكسر العين، كان غير متعد غير هذين الحرفين، فلما شذَّا دون نظائرهما أعطيا هذا الحكم. وقيل: إن أصله يوطئ بكسر الطاء فسقطت لوقوعها بين ياء وكسرة، ثم فتحت الطاء لأجل الهمزة.
وقوله: ("وتَنْطحُه") هو بكسر الطاء. وحكى المطرز في "شرح الفصيح" فتحها
(2)
، وماضيه مخفف. وقد شُدد. ولا يختص بالكبش كما ادعاه ابن صاف، بل يستعمل في الثور، وغيره.
وقوله: ("وَمِنْ حَقِّهَا أَنْ تُحْلَبَ عَلَى المَاءِ") وجهه نيل المنتاب إلى الماء من الفقراء حسوة من لبنها، وكذلك ابن السبيل والمارة. وقد عاب الله قومًا أخفوا جدادهم
(3)
في قوله: {لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} [القلم: 17] أرادوا
(1)
"تفسير القرطبي" 8/ 131.
(2)
ورد بهامش الأصل: الفتح والكسر في "الصحاح".
(3)
ضبطها الناسخ بكسر الجيم وفتحها ثم كتب فوقها معًا.
أن لا يصيب المساكين منها شيئًا. وقيل في قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] نحو من هذا. وقيل: كان هذا قبل فرض الزكاة. ويحتمل أن يكون باقيًا معها وأنه مثلها، قاله الشعبي، والحسن، وعطاء، وطاوس.
وقال أبو هريرة: حق الإبل أن تنحر السمينة، وتمنح الغزيرة، ويفقر الظهر، ويطرق الفحل، ويسقى اللبن
(1)
. وتأول قائله قوله تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالمَحْرُومِ} [الذاريات: 19] فقالوا: مثل فك العاني، وإطعام الجائع الذي يخاف ذهاب نفسه، والمواساة في المسغبة والعسرة.
وتأول مسروق في قوله تعالى: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ} [آل عمران: 180] قَالَ: هو الرجل يرزقه الله المال فيمنع قرابته صلته فيجعل حية يطوقها
(2)
.
ومذهب أكثر العلماء أن هذا على الندب، أي: أن هذا حق الكرم والمواساة وشريف الأخلاق. وقد بين الشارع أن قوله: {سَيُطَوَّقُونَ} في مانع الزكاة، وقد انتزعها ابن مسعود في مانعها أيضًا
(3)
.
وقال إسماعيل القاضي: الحق المفترض هو الموصوف المحدود، وقد تحدث أمور لا تحد ولا يُحد لها وقت فيجب فيها المواساة للضرورة التي تنزل من ضيف مضطر، أو جائع، أو عارٍ، أو ميت ليس له من
(1)
رواه عبد الرزاق في "المصنف" 4/ 31 (6869) كتاب: الزكاة، باب: ما تجب في الإبل والبقر والغنم.
(2)
رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" 2/ 428 (10702) كتاب: الزكاة، ما ذكر في الكنز والبخل بالحق في المال.
(3)
رواه الطبري في "تفسيره" 3/ 533 (8289).
يواريه، فيجب حينئذ على من يمكنه المواساة التي تزول بها هذِه الضرورات.
قلتُ: وكان من عادة العرب التصدق باللبن علي الماء، وكان الضعفاء يرصدون ذلك منهم. وفي كتاب الشرب من البخاري من روى: تجلب، بالجيم، أراد تجلب لموضع سقيها، فيأتيها المصدق.
ولو كان كما قَالَ لقال: أن تجلب إلى الماء دون (على الماء). ولعل البخاري يرى رأي الكوفيين أن حروف الجر ينوب بعضها عن بعض.
وقوله: ("يُعار") هو بياء مثناة تحت مضمومة ثم عين مهملة، كذا هنا. وروي بالمثلثة. وروي:(ثُعار أو يعار) على الشك. وروي بالغين المعجمة. وفي باب الغلول: "شاة لها ثغاء أو يعار"
(1)
والثغاء للضأن، واليعار للمعز. وقال ابن سيده: اليعار: صوت الغنم، أو قيل: المعز. وقيل: هو الشديد من أصوات الشاء.
وقال الفراء: الثغار ليس بشيء، إنما هو الثغاء وهو صوت الشاة فيجوز أن يكون كتب الحرف بالهمزة أمام الألف، فظنت راء.
وقال صاحب "الأفعال": الثغور: الشاة التي تبول على حالها وتتغير فيفسد اللبن.
وقوله: ("ببعيرٍ له رُغَاءٌ") هو صوت البعير.
وقوله: ("مثل له ماله") أي جعل مثله. يريد أنه يجعل له ماله الذي كان لم يؤدِّ زكاته، أو الزكاة لم يؤدها. والأول أشبه بلفظ الحديث كما قاله ابن الأثير في "شرح المسند". قَالَ: ومثلت يتعدى إلى مفعولين، تقول: مثلت الشمع فرسًا. فإذا بُني لما لم يسم فاعله تعدى إلى
(1)
سيأتي برقم (3073) كتاب: الجهاد والسير.
مفعول واحد، فلهذا قَالَ:"مُثَّل له ماله شجاعًا أقرع"
(1)
. وفي رواية الشافعي: شجاع بالرفع
(2)
؛ لأنه الذي أقيم مقام الفاعل الأول لمثِّل لأنه أخلاه من الضمير، وجعل له مفعولًا واحدًا. ولا يكون الشجاع كناية عن المال الذي لم تؤدَّ زكاته. وإنما هو حقيقة حية تخلق له، تفعل به ذلك. يعضد ذلك أنه لم يذكر في رواية الشافعي ماله بخلاف رواية البخاري.
وقوله: "يطوقه" وفي رواية: "وحتى يطوقه"
(3)
فالواو مفتوحة أي: حَتَّى يطوقه الله في عنقه، أي: يجعل له طوقًا. والهاء فيها كالأول، وهي المفعول الثاني لطوق، والمفعول الأول مضمر فيه، وهو كناية عن الشجاع، أي: يصير له طوقًا. فالهاء عائدة على الطوق؛ لأن الطوق الحية. والأقرع إنما يتمعط شعر رأسه لجمعه السم فيه.
وقال أبو سعيد النيسابوري: هو الذي ذهب لحم رأسه ولصق جلدته. وإنما يكون أقرع إذا كان مرة أشعر فقرع بعد. وقال الأزهري: الشجاع: الحية الذكر، وسمي أقرع؛ لأنه يقري السم ويجمعه في رأسه حَتَّى تتمعط منه فروة رأسه. وقال القزاز في "جامعه": ليس على رءوس الحيات شعر، ولكن لعله يذهب جلد رأسه. وحكى اللحياني فتح الشين وضمها. قَالَ ابن دريد: الكسر
(4)
أكثر في
(1)
"الشافي شرح مسند الشافعي" 3/ 61. ط.
(2)
"الأم" 2/ 57 باب: غلول الصدقة.
(3)
رواها البيهقي في "السنن الكبرى" 4/ 81 كتاب: الزكاة، باب: ما ورد في الوعيد فيمن كنز مال الزكاة ولم يؤد زكاته.
(4)
بهامش الأصل: الذي قاله ابن دريد في "الجمهرة" وإنما هو في الجمع، لكن في "المطالع" الكسر في المفرد، ولفظه وقد تكسر السين، وحكي الضم والكسر في الجمع أيضًا، وفي "الصحاح" الضم والكسر في المفرد والجمع والله أعلم.
الجمع
(1)
. وقال شمِرُ في كتابه "الحيات": هو ضرب من الحيات لطيف رقيق، وهو -زعموا- أجرؤها
(2)
.
وقال في "الاستذكار": قيل: إنه الثعبان. وقيل: الحية. وقيل: هو الذي يواثب الفارس والراجل، ويقوم على ذنبه. وربما (بلغ)
(3)
وجه الفارس. ويكون في الصحاري. قَالَ: والأقرع الذي برأسه بياض. وقيل: كلما كثر سمه أبيض رأسه
(4)
.
قَالَ ابن خالويه: وليس في كلام العرب اسم الحيات وصفاتها إلا ما كتبته في هذا الباب، فذكر أربعة وثمانين اسمًا. وجزم ابن بطال
(5)
، وابن التين بأنه الحية الذي يقوم على ذنبه، وربما بلغ رأس الفارس.
وجزم ابن التين بأن الأقرع الذي لا شعر على رأسه لكثرة سمه ينحسر عنه الشعر، وهو أشد أذى.
والزبيبتان: نقطتان منتفختان في شدقيه كالرغوة، يقال: إنهما يبرزان حين يهيج ويغضب. وقيل: إنهما نقطتان سوداوان على عينيه، وهي علامة الذكر المؤذي
(6)
. وسئل مالك عنهما -فيما حكاه ابن العربي- فقال: أراهما شيئين يكونان على رأسه مثل الفرس. وقال الداودي: هما نابان يخرجان من فيها. وأنكره بعضهم وقال: إنه لا يوجد. وقيل: يخرجان على شدقيه من الرغوة كالزبيبتين.
(1)
"جمهرة اللغة" لابن دريد 1/ 477.
(2)
انظر: "تاج العروس" 11/ 234.
(3)
زيادة ليست بالأصل.
(4)
انظر "الاستذكار" 9/ 134، 135.
(5)
"شرح ابن بطال" 3/ 402.
(6)
انظر: "الاستذكار" 9/ 135، وقال: نقطتان مُسلحتان بدلا من منتفختان.
وقوله: "بلهزمتيه" يعني: شِدقيه، هي بكسر اللام، وقريب من هذا التفسير أن اللهزمة، اللحي، وما يتصل به من الحنك. وحكى ابن سيده فيه خلافًا. وهو راجع إلى هذا، وعبارة ابن العربي: هما الماصعتان اللتان بين الأذن والفم. قَالَ ابن دريد: لهزمه إذا ضرب لهزمته
(1)
.
وتلاوته صلى الله عليه وسلم الآية تدل على أنها نزلت في مانعي الزكاة. وقيل: إن المراد بها اليهود؛ لأنهم بخلوا بصفة النبي صلى الله عليه وسلم. فالمعنى: سيطوقون الإثم. وتأول مسروق أنها نزلت في من له مال فيمنع قرابته صلته، فيطوق حية كما سلف. وأكثر العلماء على أن ذلك في الزكاة المفروضة كما سلف. وادعى المهلب أن في الآية السالفة فرض زكاة الذهب، قال: ولم ينقل عن الشارع زكاة الذهب من طريق الخبر، كما نقل عنه زكاة الفضة.
قلتُ: بلى، صح من حديث أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كتب إلى أهل اليمن بكتاب فيه الفرائض والسنن والديات مطولًا، وفيه:"وفي كل أربعين دينارًا دينار" رواه ابن حبان والحاكم في صحيحيهما، ثم قَالَ: ونص الحديث في الفضة؛ وفي الرقة ربع العشر
(2)
.
قلتُ: قد قيل: إنها
(3)
تشمل الذهب أيضًا. قَالَ: إلا أن قوله: "من آتاه الله مالًا فلم يؤدِّ زكاته" يدخل في عمومه الذهب والفضة. قَالَ: وإنما لم يروا زكاة الذهب من طريق النص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والله أعلم؛
(1)
"الجمهرة" 2/ 827.
(2)
"صحيح ابن حبان" 14/ 501 (6559) كتاب: التاريخ، باب: كتب النبي صلى الله عليه وسلم، "المستدرك" 1/ 395 - 397 كتاب: الزكاة.
(3)
ورد بهامش الأصل ما نصه: الضمير في (إنها) يعود على الرقة وهي أقرب مذكور.
لكثرة الدراهم بأيديهم، وبها كان تجرهم؛ ولقلة الذهب عندهم. وكان صرف الدنانير حينئذٍ عشرة دراهم، فعدل المسلمون بخمس أواقٍ من الفضة عشرين مثقالًا وجعلوه نصاب زكاة الذهب وتواتر العمل به، وعليه جماعة العلماء أن الذهب إذا كان عشرين مثقالًا وقيمتها مائتا درهم فيها نصف دينار، إلا ما اختلف فيه عن الحسن أنه ليس فيما دون أربعين دينارًا زكاة، وهو شاذ لا يعرج عليه.
وذهبت طائفة إلى أن الذهب إذا بلغت قيمته مائتي درهم ففيه زكاة، وإن كان أقل من عشرين مثقالًا، وهو قول عطاء، وطاوس، والزهري، فجعلوا الفضة أصلًا في الزكاة.
4 - باب مَا أُدِّيَ زَكَاتُهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ
لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ".
1404 -
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ شَبِيبِ بْنِ سَعِيدٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ: أَخْبِرْنِي قَوْلَ اللهِ {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34] قَالَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما: مَنْ كَنَزَهَا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهَا فَوَيْلٌ لَهُ، إِنَّمَا كَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ تُنْزَلَ الزَّكَاةُ، فَلَمَّا أُنْزِلَتْ جَعَلَهَا اللهُ طُهْرًا لِلأَمْوَالِ. [4661 - فتح: 3/ 271]
1405 -
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ يَزِيدَ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ الأَوْزَاعِيُّ: أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، أَنَّ عَمْرَو بْنَ يَحْيَى بْنِ عُمَارَةَ أَخْبَرَهُ، عَنْ أَبِيهِ يَحْيَى بْنِ عُمَارَةَ بْنِ أَبِي الحَسَنِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ رضي الله عنه يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ"[1447، 1459، 1484 - مسلم: 979 - فتح: 3/ 271]
1406 -
حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، سَمِعَ هُشَيْمًا، أَخْبَرَنَا حُصَيْنٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ قَالَ: مَرَرْتُ بِالرَّبَذَةِ فَإِذَا أَنَا بِأَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه فَقُلْتُ لَهُ: مَا أَنْزَلَكَ مَنْزِلَكَ هَذَا؟ قَالَ: كُنْتُ بِالشَّأْمِ، فَاخْتَلَفْتُ أَنَا وَمُعَاوِيَةُ فِي الذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ. قَالَ مُعَاوِيَةُ: نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الكِتَابِ. فَقُلْتُ: نَزَلَتْ فِينَا وَفِيهِمْ. فَكَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ فِي ذَاكَ، وَكَتَبَ إِلَي عُثْمَانَ رضي الله عنه يَشْكُونِي، فَكَتَبَ إِلَيَّ عُثْمَانُ أَنِ اقْدَمِ المَدِينَةَ. فَقَدِمْتُهَا فَكَثُرَ عَلَيَّ النَّاسُ حَتَّى كَأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْنِي قَبْلَ ذَلِكَ، فَذَكَرْتُ ذَاكَ لِعُثْمَانَ، فَقَالَ لِي: إِنْ شِئْتَ تَنَحَّيْتَ فَكُنْتَ قَرِيبًا. فَذَاكَ الذِي أَنْزَلَنِي هَذَا المَنْزِلَ، وَلَوْ أَمَّرُوا عَلَيَّ حَبَشِيًّا لَسَمِعْتُ وَأَطَعْتُ. [4660 - فتح: 3/ 271]
1407 -
حَدَّثَنَا عَيَّاشٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى، حَدَّثَنَا الجُرَيْرِيُّ، عَنْ أَبِي العَلَاءِ، عَنِ الأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: جَلَسْتُ. وَحَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ
قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا الجُرَيْرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو العَلَاءِ بْنُ الشِّخِّيرِ، أَنَّ الأَحْنَفَ بْنَ قَيْسٍ حَدَّثَهُمْ قَالَ: جَلَسْتُ إِلَى مَلإٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَجَاءَ رَجُلٌ خَشِنُ الشَّعَرِ وَالثِّيَابِ وَالهَيْئَةِ، حَتَّى قَامَ عَلَيْهِمْ فَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: بَشِّرِ الكَانِزِينَ بِرَضْفٍ يُحْمَى عَلَيْهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، ثُمَّ يُوضَعُ عَلَى حَلَمَةِ ثَدْىِ أَحَدِهِمْ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ نُغْضِ كَتِفِهِ، وَيُوضَعُ عَلَى نُغْضِ كَتِفِهِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ حَلَمَةِ ثَدْيِهِ يَتَزَلْزَلُ، ثُمَّ وَلَّى فَجَلَسَ إِلَى سَارِيَةٍ، وَتَبِعْتُهُ وَجَلَسْتُ إِلَيْهِ، وَأَنَا لَا أَدْرِي مَنْ هُوَ فَقُلْتُ لَهُ: لَا أُرَى القَوْمَ إِلاَّ قَدْ كَرِهُوا الذِي قُلْتَ. قَالَ: إِنَّهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا. [مسلم: 992 - فتح: 3/ 271]
1408 -
قَالَ لِي خَلِيلِى -قَالَ: قُلْتُ: مَنْ خَلِيلُكَ؟ قَالَ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "يَا أَبَا ذَرٍّ أَتُبْصِرُ أُحُدًا؟ ". قَالَ: فَنَظَرْتُ إِلَي الشَّمْسِ مَا بَقِيَ مِنَ النَّهَارِ، وَأَنَا أُرَى أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُرْسِلُنِي فِي حَاجَةٍ لَهُ، قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: "مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا أُنْفِقُهُ كُلَّهُ إِلاَّ ثَلَاثَةَ دَنَانِيرَ". وَإِنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَعْقِلُونَ، إِنَّمَا يَجْمَعُونَ الدُّنْيَا. لَا والله لَا أَسْأَلُهُمْ دُنْيَا، وَلَا أَسْتَفْتِيهِمْ عَنْ دِينٍ حَتَّى أَلْقَى اللهَ. [انظر: 1237 - مسلم: 94، 992 - فتح: 3/ 272]
وقال أحمد بن شبيب بن سعيد .. فذكره بإسناده إلى ابن عمر قال: من كنزها فلم يؤد زكاتها فويل له، إنما كان هذا قبل أن تُنزل الزكاة فلما أنزلت جعلها الله طهرًا للأموال.
ثم ذكر حديث أبي سعيد: "لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ، ولا فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ، ولا فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ".
ثم ذكر اختلاف أبي ذرٍّ وَمُعَاوِيَة هل نزلت: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ} الآية. فِي أَهْلِ الكِتَابِ. وقال أبو ذرٍّ: فِينَا وَفِيهِمْ.
ثم ذكر عن الأَحْنَفَ قَالَ: جَلَسْتُ إِلَى ملأٍ مِنْ قُرَيْشٍ، .. الحديث بطوله.
الشرح:
هذِه الترجمة كذا رواها أبو ذر، ولأبي الحسن:(مَنْ) بدل (ما)، أي: فليس بذي كنز، وهذِه الترجمة طبق حديث أخرجه الحاكم على شرط البخاري عن أم سلمة مرفوعًا:"ما بَلَغَ أنْ تُؤدى زَكَاتُهُ فزكي فَلَيْسَ بكَنْزٍ"
(1)
ورجحه ابن القطان، وعاب على من ضعفه
(2)
. وفي "مسند أَحمد" بإسناد ضعيف من حديث جابر مرفوعًا: "أيما مال أديت زكاته فليس بكنز" لكنه ليس على شرطه، فلذا لم يخرجه. نعم للحاكم أيضًا، وقال: على شرطهما، من حديث أبي ذر مرفوعًا:"من رفع دنانير أو دراهم أو تبرًا أو فضة، لا يعدها لغريم، ولا ينفقها في سبيل الله، فهو كنز"
(3)
.
وقال الإسماعيلي: إن كانت الترجمة صحيحة لما ذكره فالمعنى من هذا الوجه ليس بصحيح، وأحسبه: وقال النبي كذا، أو يقول كذا.
قلتُ: بل المعنى صحيح؛ لأنه يريد أن ما دون خمس أواق ليس بكنز؛ لأنه لا صدقة فيه. فإذا زاد شيئًا عليها ولم تؤد زكاته فهو كنز.
وهذا التعليق ذكره بعدُ مسندًا.
وأثر ابن عمر أخرجه البيهقي، عن الحاكم، عن دعلج، عن أبي عبد الله محمد بن علي الصايغ، عن أحمد بن شبيب، به. وفي آخره
(1)
"المستدرك" 1/ 390 ورواه أبو داود (1564) بنحوه.
(2)
ابن القطان في "بيان الوهم والإيهام" 5/ 362 - 363 (2535) والذي عاب عليه ابن القطان في تضعيفه، هو عبد الحق في "الأحكام الوسطي" 2/ 169.
والحديث حسنه الألباني في "صحيح أبي دواد"(1397) بشاهد له ذكره في "صحيحته"(559) فلينظر غير مأمور.
(3)
"المستدرك" 1/ 388.
قَالَ خالد بن شبيب: ثم التفت إلي فقال: ما أبالي لو كان مثل أحد ذهبًا أعلم عدده أزكيه وأعمل بطاعة الله
(1)
. ورواه النسائي من حديث عقيل، عن ابن شهاب، عن خالد.
قَالَ الحميدي: وليس لخالد في "الصحيح" غيره
(2)
.
وحديث أبي سعيد أخرجه مسلم، والأربعة
(3)
، ويأتي في زكاة الورق وغيره
(4)
.
وقوله: (وحَدَّثَني علي، سمع هشيمًا) اختلف فيه على أقوال: فقيل: هو ابن أبي هاشم عبيد الله بن الطبراخ البغدادي. قَالَ الجياني: نسبه أبو ذر عن المستملي
(5)
. ولم يذكر الكلاباذي أن البخاري روى عنه هنا. قَالَ: وروى عنه في النكاح. وقيل: هو أبو الحسن علي بن مسلم ابن سعيد الطوسي نزيل بغداد. قاله الكلاباذي وابن طاهر. وقيل: هو ابن المديني
(6)
. ذكره الطرقي.
وأثر الأحنف زاد فيه مسلم قَالَ: قلتُ: مالكَ ولإخوانك من قريش لا تعتريهم، وتصيب منهم؟ قَالَ: لا وربك.
أما حكم الباب: فالكنز في كلام العرب كما قَالَ الطبري: كل شيء مجموع بعضه إلى بعض في بطن الأرض كان أو على ظهرها. وكذلك
(1)
"السنن الكبرى" 4/ 82 كتاب: الزكاة، باب: تفسير الكنز الذي ورد الوعيد فيه.
(2)
"الجمع بين الصحيحين" 2/ 94.
(3)
"صحيح مسلم"(979) كتاب: الزكاة.
(4)
سيأتي برقم (1447)، و (1459) باب: ليس فيما دون خمس ذود صدقة، و (1484) باب: ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة.
(5)
"تقييد المهمل" 3/ 1000.
(6)
ورد بهامش الأصل: وكل منهم روى عنه البخاري في "الصحيح".
تقول العرب للشيء المجتمع مكتنز لانضمام بعضه إلى بعض
(1)
.
واختلف السلف في معنى الكنز فقال بعضهم: هو كل مال وجبت فيه الزكاة فلم تؤد زكاته. وقالوا: معنى قوله تعالى: {وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ} لا يؤدون زكاتها. وهذا قول الفاروق
(2)
، وابنه
(3)
، وابن عباس
(4)
، وعبيد بن عمير
(5)
، وجماعة.
وقال آخرون: الكنز: ما زاد على أربعة آلاف درهم فهو كنز، وإن أديت زكاته. وسلف عن علي
(6)
. وقال آخرون: الكنز ما فضل عن حاجة صاحبه إليه. وهذا مذهب أبي ذر. روي أن نَصْل سيف أبي هريرة كان من فضة فنهاه عنه أبو ذر وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ تَرَكَ صفراءَ أو بيضاءَ كُوي بِها"
(7)
.
واتفق أئمة الفقهاء على قول الفاروق ومن تبعه، واحتج له بنحو ما شرع له البخاري فقال: الدليل أن كل ما أديت زكاته فليس بكنز إيجاب الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم في كل خمس أواقٍ ربع عشرها.
(1)
"تفسير الطبري" 6/ 361.
(2)
رواه عبد الرزاق في "المصنف" 4/ 108 (7146) كتاب: الزكاة، باب: إذا أديت زكاته فليس بكنز، وابن أبي شيبة في "المصنف" 2/ 411 (10516) كتاب: الزكاة، ما قالوا في المال الذي تؤدى زكاته فليس بكنز.
(3)
رواه عبد الرزاق في "المصنف" 4/ 106 - 107 (7140 - 7142)، وابن أبي شيبة في "المصنف" 2/ 411 (10519)، الطبري في "تفسيره" 6/ 357، 358 (16664 - 16668).
(4)
رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" 2/ 411 (10520).
(5)
رواه عبد الرزاق في "المصنف" 4/ 107 (7143).
(6)
رواه الطبري في "تفسييره" 6/ 358 (16674)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 6/ 1788 (10082).
(7)
رواه الطبري في "تفسيره" 6/ 359 (16675).
فإذا كان ذلك فرض الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم فمعلوم أن الكنز من المال -وإن بلغ الوفاء- إذا أديت زكاته فليس بكنز، ولا يحرم على صاحبه اكتنازه؛ لأنه لم يتوعد الله تعالى عليه بالعقاب، وإنما توعد على كل ما لم يؤد زكاته، وليس في القرآن بيان كم ذلك القدر من الذهب والفضة إذا جمع بعضه إلى بعض استحق جامعه الوعيد. فكان معلومًا أن بيان ذلك إنما يؤخذ من وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ما بيناه أنه المال الذي لم يؤد حق الله منه من الزكاة دون غيره من المال.
وإنما كتب معاوية إلى عثمان يشكو أبا ذر؛ لأنه كان كثير الاعتراض عليه والمنازعة له، فوقع في جيشه تشتيت من ميل بعضهم إلى قول أبي ذر فلذلك أقدمه عثمان إلى المدينة إذ خشي الفتنة في الشام ببقائه؛ لأنه كان رجلًا شديدًا لا يخاف في الله لومة لائم. وكان هذا توقيرًا من معاوية لأبي ذر. كتب إلى عثمان لا على أن يستجليه، وصانه معاوية من أن يخرجه فيكون عليه وصمة، وذكر الطبري أنه حين كثر الناس عليه بالمدينة يسألونه عن سبب خروجه من الشام خشي عثمان من التشتيت بالمدينة ما خشيه معاوية بالشام، فقال له: تنح قريبًا. قَالَ له: إني والله لن أدع ما كنت أقوله
(1)
.
ففيه من الفقه: أنه جائز للإنسان الأخذ بالشدة في الأمر بالمعروف وإن أدى ذلك إلى فراق وطنه.
وفيه: أنه جائز للإمام أن يخرج من توقع ببقائه فتنة بين الناس.
وفيه: ترك الخروج على الأئمة والانقياد لهم، وإن كان الصواب في خلافهم.
(1)
"تاريخ الطبري" 2/ 615.
وفيه: جواز الاختلاف والاجتهاد في الآراء، ألا ترى أن عثمان ومن كان بحضرته من الصحابة لم يرد أبا ذر عن مذهبه، ولا قالوا: إنه لا يجوز لك اعتقاد قولك؛ لأن أبا ذر نزع بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم واستشهد به، وذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا أُنْفِقُهُ كُلَّهُ إِلَّا ثَلَاَثةَ دَنَانِيرَ". وذلك حين أنكر على أبي هريرة نصل سيفه استشهد على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ ترَكَ صفراءَ أو بَيْضاءَ كوِيَ بِها"
(1)
.
وهذا حجة في أن الاختلاف في العلم باق إلى يوم القيامة لا يرتفع إلا بالإجماع، وقد روى ابن أبي شيبة من حديث الأحنف بن قيس قَالَ: كنت جالسًا في مسجد المدينة فأقبل رجل لا تراه حَلْقَةٌ إلا فروا منه، حَتَّى انتهى إلى الحلقة التي كنت فيها فثبت وفروا، فقلت: علام يفر الناس منك؟ قَالَ: إني أنهاهم عن الكنوز قلتُ: إن أُعطياتنا قد ارتفعت وكثرت فتخاف علينا منها؟ قَالَ: أما اليوم فلا، ولكنها توشك أن تكون أثمان دينكم، فدعوهم وإياها
(2)
.
والربذة: على ثلاث مراحل من المدينة، حمى عمر كما ستعلمه، والربذة أيضًا: موضع بين بغداد ومكة
(3)
، قاله (الرشاطي)
(4)
.
وأما حديث أبي سعيد فلنقدم الكلام فيه هنا استباقًا للخيرات وإن قلنا فيما مضى: إنه يأتي. فنقول: الأواق جمع أوقية، وهي ما كان
(1)
"تفسير الطبري" 6/ 359 (16675).
(2)
"المصنف" 2/ 427 (10695) كتاب: الزكاة، ما ذكر في الكنز والبخل بالحق في المال، و 7/ 141 (34680) كتاب: الزهد، كلام أبي ذر رضي الله عنه، و 7/ 469 (37289) كتاب: الفتن، من كره الخروج في الفتنة وتعوذ منها.
(3)
"معجم ما استعجم" 2/ 633 - 634، و"معجم البلدان" 3/ 24 - 25.
(4)
في (م): الدمياطي.
يوزن بها الفضة، وزنتها أربعون درهمًا، ومن ادَّعى أنها لم تكن معلومة إلى أيام عبد الملك فهو غلط، فكيف يوجب الشارع الزكاة في أعداد منها، وتقع بها البياعات والأنكحة، وجمعها: أواقي. بتشديد الياء وتخفيفها، وقال ابن التين: بدون الياء مع التخفيف، كما يقال: أضحية وأضاح.
ورواه البخاري في باب: ليس فيما دون خمس ذود صدقة، بلفظ:"ولَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ من الورقِ صَدَقَةٌ"
(1)
، والورق -بفتح الواو وكسرها مع إسكان الراء، وفتح الواو وكسر الراء-: الدراهم. وربما سميت: ورقة. والرقة: الفضة والمال، عن ابن الأعرابي، وقيل: الفضة والذهب عن ثعلب، حكاه ابن سيده
(2)
. وإنكار (النووي)
(3)
على صاحب "البيان" في قوله: الرقة: الذهب والفضة. ليس بجيد. وفي "الذخيرة" للقرافي أن الدرهم المصري أربعة وستون حبة، وهو أكثر من درهم الزكاة، فإذا أسقطت الزيادة كان النصاب من دراهم مصر مائة وثمانين درهمًا وحبتين
(4)
. وفي "فتاوى الفضل": دراهم كل بلد ودنانيرهم. قلتُ: وكل عشرة دراهم سبعة مثاقيل، هذا هو المستقر عليه، ولا شيء في المغشوش عندنا حَتَّى يبلغ خالصه نصابًا
(5)
.
وعند أبي حنيفة: إذا كان الغالب الغش فهي كالعروض والقيمة، وفيما زاد على النصاب بحسابه، وفاقًا للشافعي وأحمد ومالك
(1)
سيأتي برقم (1459).
(2)
"المحكم" 6/ 344.
(3)
في (م): الثوري، وهو خطأ بين.
(4)
"الذخيرة" 3/ 10.
(5)
انظر: "حلية العلماء" 3/ 79.
والصاحبين وجماعات
(1)
، وقال أبو حنيفة: لا شيء في الزيادة، حَتَّى تبلغ أربعين، فربع العشر، وهو درهم
(2)
، وهو قول الأوزاعي وجماعات. وسيأتي الكلام واضحًا عليه في بابه.
وقوله: ("ولا فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ") المشهور إضافة خمس إلى ذود، وروي بتنوين خمس؛ وتكون ذود بدلًا منها؛ والمعروف الأول، والذود من الثلاثة إلى العشرة من الإبل، لا واحد له من لفظه على الأصح، والواحد: بعير. وقال أبو عبيد: هو ما بين ثلاث إلى تسع. قَالَ: وهو مختص بالإناث. وقال شمر فيما حكاه ابن الجوزي في "غريبه": ما بين ثنتين إلى التسع. وقدمه ابن الأثير على الثلاث إلى العشر. قَالَ: والحديث عام في المذكور والإناث
(3)
.
وقيل: من ثلاث إلى خمس عشرة. وقيل: إلى عشرين. حكاهما ابن سيده
(4)
، وأنكر ابن قتيبة أنه لا يقال: خمس ذود. كما لا يقال: خمس ثوب. وغلطوه فيه، وليس جمعًا لمفرد، وروي: خمسة ذودٍ. في "صحيح مسلم"
(5)
، وهو صحيح؛ لانطلاقه على المذكر والمؤنث.
و"دُونَ" معناه: أقل. وأبعد من قَالَ: إنها بمعنى: غير.
(1)
انظر: "بدائع الصنائع" 2/ 17، "الذخيرة" 3/ 13، "حلية العلماء" 3/ 79، "المغني" 4/ 213.
(2)
انظر: "بدائع الصنائع" 2/ 17.
(3)
"النهاية" 2/ 171.
(4)
"المحكم" 10/ 119.
(5)
قال النووي: قد ضبطه الجمهور خمس ذود، ورواه بعضهم خمسة ذود، وكلاهما لرواة كتاب مسلم والأول أشهر. "مسلم بشرح النووي" 7/ 51.
والأوسق: جمع وسق، بفتح الواو وكسرها، أشهرهما الفتح، ولم يذكر الجوهري سوى (الفتح)
(1)
(2)
. قَالَ شمر: كل شيء وسقته إذا حملته. وقال غيره: الضم، وهو ستون صاعًا، والصاع: أربعة أمداد، والمد: رطل وثلث بالبغدادي، وهو مائة وثلاثون على ما صححه الرافعي، وذكر ابن المنذر أن علماء الأمصار زعموا أن الزكاة ليست واجبة فيما دون خمسة أوسق، إلا أبا حنيفة وحده قَالَ: تجب في كل ما أخرجته الأرض من قليل أو كثير إلا الحطب والقضب والحشيش والشجر الذي ليس له ثمر.
والحديث دال على عدم وجوب الزكاة فيما كان دون هذا المقدار، ووجوبها في هذا المقدار فما فوقه.
والمراد بالصدقة: الزكاة. وقد سمى الله تعالى الزكاة صدقة فقال: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] وقام الإجماع على أن ما دون خمس ذود من الإبل لا صدقة فيه كما ستعلمه في بابه.
والأحنف لقب، واسمه فيما ذكره المرزباني: صخر. قال: وهو المثبت. ويقال: الضحاك. ويقال: الحارث بن قيس بن معاوية. ووقع لابن دحية في "مستوفاه" أن اسمه: قيس. وإنما قيس والده كان أحنف برجليه جميعًا، قاله الجاحظ في "العرجان"، والهيثم وغيره في "العوران". قَالَ الجاحظ: ولم يكن له إلا بيضة واحدة. قَالَ: وقال أبو الحسن: ولد مرتتق خثار الاست حَتَّى شق وعولج. وقال أبو يوسف في "لطائف المعارف": كان أصلع، متراكب الأسنان، مائل
(1)
في الأصل: (الكسر) وهو خطأ.
(2)
"الصحاح" 2/ 471.
الذقن. وقال المنتجالي في "تاريخه": كان دميمًا قصيرًا كوسجًا.
وقوله فيه: (ملأ مِنْ قُرَيْشٍ) يعني: الأشراف منهم. وحسن الشعر بالحاء المهملة، وروي بالخاء المعجمة من الخشونة، وهو اللائق بزي أبي ذر وطريقته وتواضعه. ولمسلم: أخشن الثياب، أخشن الجسد، أخشن الوجه
(1)
. بخاء وستين معجمتين، وهي رواية الأكثرين.
ولابن الحذاء في الآخر خاصة بالحاء المهملة من الحسن، ولا شك أن من تأهب للمقام بين يدي الرب فليحسن حاله من غير إسراف.
وقوله: (بَشِّرِ الكَانِزِينَ بِرَضْفٍ) أي: اجعل لهم -يعني: الجماعين- مكان البشارة.
والرضف -بالضاد المعجمة- وهي: الحجارة المحماة بالنار. قَالَ الهروي: وفي حديث أبي ذر: (بشر الكنازين برضفة من الناغض).
أي: بحجر يحمى فيوضع على ناغضه. وفي الأصل هنا: الكانزين.
وللطبري وغيره بالثاء المثلثة، وراء مهملة من الكثرة، والمعروف خلافه.
والصحيح كما قَالَ القاضي: أن إنكار أبي ذر كان على السلاطين الذين يأخذون المال من بيته لأنفسهم ولا ينفقونه في وجهه
(2)
. وأبطله النووي بأن السلاطين في زمنه لم تكن هذِه صفتهم
(3)
.
والحلمة: ما نشز من الثدي وطال، ويقال لها: قراد الصدر.
وفيه: استعمال الثدي للرجل، وإن كان الفصيح خلافه، وأنه لا يقال: ثدي إلا للمرأة، ويقال للرجل: ثندوة
(4)
.
(1)
"صحيح مسلم"(992) كتاب: الزكاة، باب: في الكنازين للأموال والتغليظ عليهم.
(2)
"إكمال المعلم" 3/ 507.
(3)
"مسلم بشرح النووي" 7/ 77.
(4)
ورد بهامش الأصل تعليق نصه: بفتح الثاء بلا همز وبضمها مع الهمز، أما =
والنُغض -بضم النون، وحكى ابن التين عن عبد الملك فتحها، ثم غين معجمة-: الغضروف من الكتف. وقال الخطابي: الشاخص منه. سمي به؛ لأنه يتحرك من الإنسان في مشيه، ومنه {فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ} [الإسراء: 51].
وقوله: (يتزلزل). أي: يتحرك، قال عياض: والصواب أن الحركة والتزلزل إنما هو للرضف من نغض كتفه حَتَّى يخرج من حلمة ثديه
(1)
.
ووقع في بعض النسخ: (حَتَّى يخرج من حلمة ثدييه): بإفراد الثدي في الأول وتثنيته في الثاني.
والدنانير الثلاثة المؤخرة في الحديث: واحد لأهله، وآخر لعتق رقبة، وآخر لدين. ذكره القرطبي
(2)
.
وفي قوله: (بَشِّرِ الكَانِزِينَ) بكذا؛. وجوب مبا درة إخراج الزكاة عند حولها، والتحذير من تأخيرها.
وقوله: (ما أُرى القَوْمَ إِلَّا قَدْ كَرِهُوا الذِي قُلْتَ) إنما أراد أن يستخرج ما عنده.
وقوله: (قَالَ خليلي) لا تنافي بينه وبين قوله: "لو كنت متخذًا خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا"
(3)
كما في قول أبي هريرة وغيره: سمعت خليلي.
= الجوهري فإنه قال: الثدي للرجل والمرأة، وأما ابن فارس فأشار إلى تخصيص المرأة به، وقد ثبت في الحديث أن رجلًا وضع سنيه بين ثدييه وكذلك هذا الحديث أيضًا.
(1)
"إكمال المعلم" 3/ 506.
(2)
"المفهم" 3/ 34.
(3)
سلف برقم (466 - 467) كتاب: الصلاة، باب: الخوخة والممر في المسجد، وأخرجه مسلم برقم (2382) كتاب:"فضائل الصحابة" باب: من فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
وقوله: {وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء: 125] أي: إنه خليل الله فقط، فاعلمه.
وقوله: ("يا أبا ذر، أتبصرُ أحدًا؟ ") فيه تكنية الشارع لأصحابه، والذر: جمع ذرة، وهي: النملة الصغيرة. ذكر أن أبا ذر لما أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم ثم انصرف إلى قومه، فأتاه بعد مدة، فتوهم اسمه فقال:"أنتَ أبو نَمْلة" قَالَ أبو ذر: يا رسول الله، بل أبو ذر
(1)
. واسمه: جندب بن جنادة.
وقوله: "أتبصرُ أحدًا؟ " قَالَ: فنظرت إلى الشمس ما بقي من النهار.
إنما نظر لها؛ لأنها تعلوه عند الغروب، وهو مثل لتعجيل الزكاة. يقول: ما أحب أن أحبس ما أوجبه الله بقدر ما بقي من النهار.
وقوله: (وأنا أُرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسلني). أُرى -بضم الهمزة وفتح الراء- أي: أظن.
وفيه أنه كان يرسل فاضل أصحابه، يفضلهم بذلك لأنه يصير رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل في قوله:{فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} [يس: 14] إنهم رسل بعض رسل الله.
وقوله: ("مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا أُنْفِقُهُ كُلَّهُ إِلا ثَلَاَدةَ دَنَانِيرَ"). في بعض الروايات: "أُنفقُهُ في سبيل الله"
(2)
يقول: ما أحب أن يكون لي وأنفق منه ثلاثة دنانير بعد أن أنفقه.
(1)
رواه ابن عبد البر في "الاستيعاب" 4/ 217 - 218.
(2)
رواه أحمد 5/ 149، والبزار في "مسنده" 9/ 342 (3899)، والطبراني في "الأوسط" 3/ 284 (3159)، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 3/ 120، رواه أحمد، وفيه: سالم بن أبي حفصة، وفيه كلام. وصححه الألباني كما في "الصحيحة" 7/ 1439 (3491).
وفي أخرى: "تمر عليَّ ثلاث وعندي منه شيء إلا شيئًا أرصده لدين"
(1)
.
وقول أبي ذر: (إن هؤلاء لا يعقلون). أي: لم يعتبروا زوال الدنيا فيزهدوا.
وقوله: (لَا أَسْأَلُهُمْ دُنْيَا) يقول: ما لي لا أعظهم وأنصح لهم، ولست أسالهم دنيا، فأخاف منعهم.
وقوله: (وَلَا أَسْتَفْتِيهِمْ عَنْ دِينٍ) يعني: القوم الذين قام عنهم؛ لأنهم لم ينظروا لأنفسهم فيتركوا الدنيا، فكيف يستفتيهم غيرهم ويهتدي بهم في دينهم؟
فائدة: قَالَ سحنون: ترك الدنيا زهدًا أفضل من كسبها من الحلال وإنفاقها في السبيل. قَالَ بعضهم: وهذا الحديث يشهد له.
فرع:
لا يضم الذهب إلى الفضة عندنا
(2)
، وخالف أبو حنيفة ومالك فيه
(3)
؛ لقوله تعالى: {وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ} [التوبة: 34] ولم يخص كما لو كان معه مائة درهم وعرض يساوي مائة، أما إذا كان مديرًا قَالَ مالك: فيعدل المثقال بعشرة دراهم، فإذا كانت معه مائة درهم وعشرة دنانير ضما، وإن كانت تسعة دنانير تساوي مائة فلا
(4)
.
واعتبر أبو حنيفة القيمة كمن له مائة درهم وخمسة دنانير تساوي مائة ضُمَّا
(5)
.
(1)
سيأتي برقم (6445) كتاب: الرقاق، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما يسرني أن عندي مثل أحد هذا ذهب".
(2)
انظر: "روضة الطالبين" 2/ 257.
(3)
انظر: "الهداية" 1/ 113، "عيون المجالس" 2/ 524.
(4)
انظر: "المعونة" 1/ 210.
(5)
انظر: "الهداية" 1/ 113.
5 - باب إِنْفَاقِ المَالِ فِي حَقِّهِ
1409 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ المُثَنَّى، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنِي قَيْسٌ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ مَالًا فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الحَقِّ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللهُ حِكْمَةً فَهْوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا". [انظر: 73 - مسلم: 816 - فتح: 3/ 276]
ذكر فيه حديث ابن مسعود: "لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٍ آتَاهُ اللهُ مَالًا .. ".
وقد سلف في كتاب العلم واضحًا
(1)
، وأن المراد بالحسد هنا: شِدَّة الحرص والرغبة، وسماه البخاري الاغتباط، كما سلف، من غير أن تتمنى زوالها عن غيرك، ففيه المنافسة في الخير والحض عليه وفضل الصدقة والكفاف وفضل العلم وفضل تعلمه وفضل القول بالحق.
وقسم بعضهم إنفاق المال في حقه ثلاثة أقسام:
إنفاقه على نفسه وكل من تلزمه نفقته غير مسرف ولا مقتر لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا} [الفرقان: 67] الآية، وهذِه أفضل النفقات لقوله صلى الله عليه وسلم:"إِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللهِ إِلَّا أُجِرْتَ عَلَيْهَا، حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِيّ امْرَأَتِكَ"
(2)
.
ثانيها: أداء الزكاة، وقد جاء أن من أدى زكاة ماله فليس ببخيل.
وصلة البعيد من الأهل، وصدقة التطوع، ومواساة الصديق، وإطعام
(1)
سلف برقم (73) باب: الاغتباط في العلم والحكمة.
(2)
سلف برقم (56) كتاب: الإيمان، باب: ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة ولكل امرئ ما نوى، ورواه مسلم برقم (1628) كتاب: الوصية، باب: الوصية بالثلث.
الجائع. قَالَ صلى الله عليه وسلم: "السَّاعِي عَلَى الأَرْمَلَةِ وَاليتيم كَالمُجَاهِدِ فِي سبِيلِ اللهِ"
(1)
؛ فمن أنفق في هذِه الوجوه الثلاثة فقد وضع المال موضعه وأنفقه في حقه، وكذلك من آتاه الله حكمًا وعلمًا فهو وارث منزلة النبوة؛ لأنه يموت وأجر (علمه)
(2)
ومن عمل بعلمه باق إلى يوم القيامة. فينبغي لكل مؤمن أن يحسد من هذا حاله، ولله الفضل.
(1)
سيأتي برقم (5353) كتاب: النفقات، باب: فضل النفقة على الأهل، وفيه (المسكين) بدلا من (اليتيم) وأخرجه مسلم برقم (2982) كتاب: الزهد والرقائق، باب: الإحسان إلى الأرملة والمسكين واليتيم.
(2)
في الأصل: (عمله) والمثبت من (م).
6 - باب الرِّيَاءِ فِي الصَّدَقَةِ
لِقَوْلِهِ جل وعز: {لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالمَنِّ وَالأَذَى} إِلَى قَوْلِهِ {وَاللهُ لَا يَهْدِي القَوْمَ الكَافِرِينَ} . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: {صَلْدًا} : لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: {وَابِلٌ} مَطَرٌ شَدِيدٌ، وَالطَّلُّ: النَّدَى. [فتح 3/ 277]
الشرح:
قوله: {بِالمَنِّ} أي: لا تمنوا بما أعطيتم {وَالأَذَى} أن يوبخ المعطى. فهذان يبطلان الصدقة، كما تبطل نفقة المنافق الذي يعطي رياء ليوهم أنه مؤمن، وروى الطبري عن عمرو بن حريث قَالَ: إن الرجل يغزو ولا يزني ولا يسرق ولا يغل، لا يرجع بالكفاف. فقيل له: لماذا؟ قَالَ: إن الرجل ليخرج، فإذا أصابه من بلاءً الله الذي قد حكم عليه سب ولعن إمامه ولعن ساعة غزا، وقال: لا أعود لغزوة معه أبدًا. فهذا عليه وليس له مثل النفقة في سبيل الله يتبعها منٌ وأذى، فقد ضرب الله مثلها في القرآن:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ} [البقرة: 264] حَتَّى ختم الآية
(1)
.
وقوله: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ} [البقرة: 264] أي: فمثل نفقته كمثل صفوان، وهو الحجر الأملس. وحكى قطرب: صفوان- بكسر الصاد، والمعنى: لم يقدروا على كسبهم وقت حاجتهم ومحق مما ذهب كما محق المطر التراب عن الصفا، ولم يوافق في الصفا منبتا.
وما ذكره عن ابن عباس في تفسير {فَتَرَكَهُ صَلْدًا} [البقرة: 264] أخرجه ابن جرير عن محمد بن سعد حَدَّثَني أبي قَالَ: حَدَّثَني عمي قَالَ:
(1)
"تفسير الطبري" 3/ 65 (6039).
حَدَّثَني أبي عن ابن عباس. فذكره
(1)
، ومن وجهين آخرين عنه كذلك
(2)
، وفي رواية: تركها نقية ليس عليها شيء
(3)
. وأخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" من حديث الضحاك عنه بقوله: فتركه يابسًا خاسئًا لا ينبت شيئًا
(4)
.
وما ذكره عن عكرمة في {وَابِلٌ} [البقرة: 264] أخرجه عبد بن حميد في "تفسيره"، عن روح، عن عثمان بن غياث عنه، به سواء
(5)
، وقال غيره: الطل: مطر صغير القطر يدوم. وقال مجاهد فيما حكاه ابن أبي حاتم: الطل: الندى. قَالَ: وروي عن جماعات نحوه
(6)
.
أما فقه الباب: فالرياء يبطل الصدقة وجميع الأعمال؛ لأن المرائي إنما يفعل ذلك من أجل الناس ليحمدوه على عمله، فلم يحمده الله تعالى حين رضي بحمد الناس عوضًا (من)
(7)
حمد الله وثوابه، وراقب الناس دون ربه، قَالَ عليه أفضل الصلاة والسلام:"من عمل عملًا أشرك فيه غيري فهو له، وأنا أغنى الشركاء عن الشرك"
(8)
؛ وجاء في الحديث أن الرياء: الشرك الأصغر
(9)
، وكذلك السنن والأذى يبطلان الصدقة؛
(1)
"تفسير الطبري" 3/ 67 (6044).
(2)
"تفسير الطبري" 3/ 68 (6059، 6062).
(3)
"تفسير الطبري" 3/ 68 (6058).
(4)
"تفسير القرآن العظيم" 2/ 518 (2749).
(5)
ذكره السيوطي في "الدر المنثور" 1/ 600 وعزاه إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم.
(6)
"تفسير القرآن العظيم" 2/ 521 (2766).
(7)
كذا في الأصل، ولعلها (عن).
(8)
رواه مسلم برقم (2985) كتاب: الزهد والرقائق، باب: من أشرك في عمله غير الله.
(9)
رواه أحمد 5/ 428، والطبراني 4/ 253 (4301)، والبغوي في "شرح السنة" 14/ 323 - 324 (4130) كتاب: الرقاق، باب: الرياء والسمعة، وذكره الهيثمي في "المجمع" 1/ 102 وقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح وصححه الألباني في "الصحيحة" 2/ 634 (951).
لأن المنان بها لم ينو الله فيها ولا أخلصها لوجهه تعالى، ولا ينفع عمل بغير نية لقوله صلى الله عليه وسلم:"إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل أمرئ ما نوى"
(1)
، وكذلك المؤذي لمن يصدق عليه، يبطل إثم الأذكر أجر الصدقة.
وقد نهى الله تعالى عن انتهار السائل، فما فوق ذلك من الأذى أدخل في النهي، وكان ينبغي للبخاري أن يخرج في الباب حديث:"إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها .. "
(2)
الحديث.
فهو يشبه التبويب؛ لأن من ابتغى وجه الله سلم من الرياء، وابتغاء غير وجه الله هو عين الرياء.
(1)
سلف برقم (1) كتاب: بدء الوحي، باب: كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخرجه مسلم برقم (1907) كتاب: الإمارة، باب: قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات".
(2)
سبق تخريجه.
7 - باب لَا يَقْبَلُ اللهُ صَدَقَةً مِنْ غُلُولٍ، وَلَا يَقْبَلُ إِلاَّ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ
لِقَوْلِهِ: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263)} [البقرة: 263]
[البقرة: 263]. [فتح 3/ 277]
8 - باب الصَّدَقَةِ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ
لِقَوْلِهِ: {وَيُرْبِى الصَّدَقَاتِ} الآية
(1)
إِلَى {يَحْزَنُونَ} [البقرة: 276، 277]
1410 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُنِيرٍ، سَمِعَ أَبَا النَّضْرِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ -هُوَ: ابْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ- عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ -وَلَا يَقْبَلُ اللهُ إِلاَّ الطَّيِّبَ- وَإِنَّ اللهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الجَبَلِ". تَابَعَهُ سُلَيْمَانُ عَنِ ابْنِ دِينَارٍ.
وَقَالَ وَرْقَاءُ، عَنِ ابْنِ دِينَارٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَرَوَاهُ مُسْلِمُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَسُهَيْلٌ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. [7430 - مسلم: 1014 - فتح: 3/ 278]
ثم ذكر حديث أبي هريرة: "مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ .. " تَابَعَهُ سُلَيْمَانُ، عَنِ ابن دِينَارٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وَقَالَ وَرْقَاءُ: عَنِ ابن دِينَارٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَرَوَاهُ مُسْلِمُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، وَزيدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَسُهَيْلٌ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، به.
وله في التوحيد، ولم يصله:"وَلَا يَصْعَدُ إِلَى اللهِ إِلَّا الطَّيِّبُ"
(2)
.
الشرح:
في بعض النسخ حذف قوله: "وَلَا يَقْبَلُ اللهُ .. " إلى آخره، ولم يذكر
(1)
ورد في الأصل فوق هذِه الكلمة: ساقها البخاري.
(2)
سيأتي برقم (7430) باب: قول الله تعالى: {تَعْرُجُ المَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} .
فيه شيئًا، وهذِه الترجمة هي حديثٌ ذكر المصنف بعضه في الطهارة فقال: باب: لا يقبل الله صلاة بغير طهور. وهذا آخره: "ولا صَدَقَةً مِنْ غُلُولٍ". وقد تكلمنا عليه هناك
(1)
. واعترض الداودي فقال: لو نزع هذا بقوله تعالى: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة: 267] وقال في الذي قبله: {كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ} [البقرة: 264] فقد قَالَ كذلك.
وقال ابن المنير: إن قَلتَ: ما وجه الجمع بين الترجمة والآية؟ وهلا ذكر قوله تعالى: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} قلتُ: جرى على عادته في إيثار الاستنباط الخفي والاتكال في الاستدلال الجلي على سبق الأفهام له.
ووجه الاستنباط يحتمل أن الآية فيها إثبات الصدقة، غير أن الصدقة لما تبعها سيئة الأذى بطلت، فالغلول: غصب إذًا فيقارن الصدقة فتبطل بطريق الأولى، أو لأنه جعل المعصية اللاحقة للطاعة بعد تقررها، وهي الأذى تبطل الطاعة، فكيف إذا كانت الصدقة عين المعصية؛ لأن الغال في دفعه المال للفقير غاصب يتصرف في ملك الغير، فكيف تقع المعصية من أول أمرها طاعة معتبرة، وقد أبطلت المعصية المحققة من أول أمرها في الصدقة المتيقنة بالأذى، وهذا من لطيف الاستنباط
(2)
.
وقوله تعالى: ({وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى})[البقرة: 263] قَالَ الضحاك: يقول: إن تمسك مالك خير من أن تنفقه ثم تتبعه منًّا وأذى
(3)
{وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} أي: غني عن خلقه في سلطانه، حليم عن سيئ فعالهم.
(1)
راجع شرح حديث (135).
(2)
"المتواري" ص 123 - 124.
(3)
رواه الطبري في "تفسيره" 3/ 64 (6037).
وقوله: ({وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ})[البقرة: 276] أي: كفار بقليل الحلال لا يقنع، وأثيم في أخذ الحرام، والغلول: الخيانة. قَالَ ابن سيده: غل يغل غلولًا، وأغل: خان. قال: وخص بعضهم الخون في الفيء، والإغلال: السرقة
(1)
. قَالَ ابن السكيت: لم يسمع في المغنم إلا غل غلولًا
(2)
. وقال الجوهري: يقال من الخيانة: أغل يُغِل، ومن الحقد: غل الغل، ومن الغلول: غل يغُل
(3)
.
واستدل البخاري في الباب الأول بقوله: {وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276] لما كان حرمان السائل وقول المعروف والاستغفار خير من صدقة يتبعها أذى، وثبت أن الصدقة إذا كانت من غلول غير متقبلة؛ لأن الأذى في الغلول للمسلمين أشد من أذى المتصدق عليه وحده، وأولى من الاستدلال بها قوله تعالى {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} وحديث أبي هريرة مطابق للتبويبين.
ومتابعة سليمان -وهو ابن بلال- أخرجها في التوحيد بلفظ: وقال خالد بن مخلد، عن سليمان بن بلال، عن عبد الله بن دينار
(4)
.
وقد أسندها مسلم عن أحمد بن عثمان بن حكيم، عن خالد بن مخلد به
(5)
.
وتعليق ورقاء، عن سعيد بن يسار أخرجه الترمذي
(6)
لكن من
(1)
"المحكم" 5/ 221.
(2)
"إصلاح المنطق" ص 266.
(3)
"الصحاح" 5/ 1784.
(4)
سيأتي برقم (7430).
(5)
"صحيح مسلم"(1014/ 64) كتاب: الزكاة، باب: قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها.
(6)
بهامش الأصل بخط سبط: (بل أخرجه مسلم [1014]، والترمذي [661]، والنسائي [5/ 57] وابن ماجه [1842] أعني حديث سعيد بن يسار لكن ليس من رواية عبد الله بن دينار عنه. [قلت: رواية ورقاء عند أحمد 2/ 331].
حديث سعيد المقبري ويحيى بن سعيد وابن عجلان، عن سعيد بن يسار به، ثم قَالَ: حسن صحيح
(1)
.
وقال الداودي: تتابع الرواة عن أبي صالح، عن أبي هريرة دال على أن ورقاء أوهم به في قوله: عن سعيد بن يسار.
ولفظ ابن خزيمة: "مهره أو فصيله" زاد: "وإن الرَّجلَ ليتصدقُ باللقمةِ فتَربو في كفِّ الله عز وجل حَتَّى تكون مثل الجبل، فتصدَّقوا"
(2)
وفي رواية له: "فلوه أو قلوصه" وفي أخرى: "فلوة: قلوصه أو فصيله"
(3)
وهي في مسلم: "فلوه أو قلوصه" ورواية سهيل
(4)
أخرجها البزار من حديث خالد بن عبد الله الواسطي، عنه، عن أبيه، عن أبي هريرة. وفي "علل ابن أبي حاتم" رواه موسى بن عبيدة، عن عبد الله ابن دينار، عن ابن عمر مرفوعًا، وهو خطأ، إنما هو عن ابن دينار، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، فمنهم من يوقفه ومنهم من يسنده، ويحتمل صحة رفعه
(5)
.
(1)
"سنن الترمذي"(661) كتاب: الزكاة، باب: ما جاء في فضل الصدقة وصححه الألباني.
(2)
"صحيح ابن خزيمة" 4/ 93 (2426).
(3)
المصدر السابق برقم (2425).
(4)
بهامش الأصل: حاشية: رواية سهيل أخرجها مسلم في الزكاة عن أمية بن بسطام، عن يزيد بن زريع، عن روح بن القاسم، عن سهيل، به. وأخرجها أيضًا فيه عن أحمد بن عثمان بن هيثم، عن خالد بن مخلد، عن سليمان بن بلال، عن سهيل، به.
["صحيح مسلم" 1014/ 64 كتاب: الزكاة، باب: قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها].
(5)
"علل ابن أبي حاتم" 1/ 216 (628).
وفي "الرقائق" لعبد الله بن المبارك من حديث ابن مسعود قَالَ: "ما تصدَّق رجلٌ بصدقةٍ إلا وقعت في يدِ الرَّبِّ قبل أنْ تقعَ في يدِ السائل، وهو يضعها في يدِ السائل" قَالَ: وهو في القرآن العظيم.
فقرأ: {وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ} [التوبة: 104]
(1)
.
وقوله: ("مَنْ تَصَدَّق بعِدل تمرةٍ") أي: بقيمتها. وذلك أن جماعات من أهل اللغة كما نقله عنهم ابن التين قالوا: العدل، بفتح العين: المثل.
قَالَ تعالى: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة: 95] وبكسرها: الحمل. وهذا عكس قول ثعلب. وقال الكسائي: هما بمعنى واحد. وقال القزاز: عدل الشيء: مثله من غير جنسه، وبالكسر: مثله من جنسه. وأنكرها البصريون وقالوا: هما المثل مطلقًا، كما أن المثل لا يختلف. وقيل: بالفتح: مثله من القيمة. وبالكسر: مثله في المنظر. وهذا مثل قول الفراء. وقال ابن قتيبة: هو بالكسر: القيمة
(2)
. وعبارة "المحكم": العَدل والعديل، والعدل: النظير والمثل. وقيل: هو المثل وليس بالنظير عينه.
وقوله: ("مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ") أي: من حلال. وإنما لا يقبل الله غيره؛ لأنه غير مملوك للمتصدق؛ لأنه ممنوع من التصرف فيه، فلو قبلت لزم أن يكون مأمورًا به منهيًّا عنه من وجه واحد، وهو محال.
وقوله: ("بيمينه") ذكر اليمين هنا قيل: يراد بها سرعة القبول، وهو مجاز. وقيل: حسن القبول. وهو متقارب مع الأول؛ لأن عرف الناس أن أيمانهم مرصدة لما عز وشمائلهم لما هان، والجارحة على الرب جل جلاله محالة تقدس عنها، ولما كانت الشمائل عادة تنقص عن اليمين
(1)
"الزهد والرقائق" ص 227 - 228 (650) باب: الصدقة.
(2)
"غريب الحديث" 2/ 40.
بطشًا وقوة عرفنا الشارع بقوله: "وكِلتا يديه يَمين"
(1)
فانتفي النقص تعالى عنه.
والفَلو: هو المهر. كما سلف عن رواية ابن خزيمة، وهو ولد الفرس. وولد الحمار: جحش وعفر. وكذلك البغل الصغير، وهو بفتح الفاء وتشديد الواو، والأنثى فلوة مثال عدوة، والجمع: أفلاء مثال أعداء، وسمي بذلك؛ لأنه يفتلى. أي: يفطم.
وقال الداودي: يقال للمُهر: فلو. وللجحش -ولد الحمار- فِلوة بكسر الفاء. ويقال بفتحها والتشديد، وأنكر بعضهم كسر الفاء.
وقال الجوهري عن أبي زيد: إذا فتحت الفاء شددت الواو، وإذا كسرت خففت، فقلت: فِلو مثل جرو
(2)
.
وقال في "المخصص": إذا بلغ سنة -يعني: ولد الحِجْر- فهو فلو.
وقال أبو حاتم: في "فرقة" لا يقال فلو ولا فلوه كما تقول العامة.
وقوله: "حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الجَبَلِ" قَالَ الداودي: أي: كمن تصدق بمثل الجبل. ومعنى: "يربيها لصاحبها" أي ينميها فإن أريد به الزيادة في كمية عينها لتثقل في الميزان لم ينكر ذلك في معنى مقدور أو حكم معقول، وقيل: ينميها: يضاعف الأجر عليها. وهما متقاربان.
(1)
هو قطعة من حديث رواه مسلم (1827) كتاب: الإمارة، باب: فضيلة الإمام العادل، وعقوبة الجائز، والحث على الرفق بالرعية، والنهي عن إدخال المشقة عليهم، والنسائي 8/ 221 كتاب: آداب القضاة، فضل الحاكم العادل في حكمه، وأحمد 2/ 160، وابن حبان في "صحيحه" 10/ 336 (4484) كتاب: السير، باب: الخلافة والإمارة.
(2)
"الصحاح" 6/ 2456.
وقوله تعالى: {وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276] أي: يضاعف أجرها لربها وينميها. ولما كان الربا قد أخبر تعالى أنه يمحقه؛ لأنه حرام، دلت الآية أن الصدقة التي تربو وتتقبل لا تكون إلا من غير جنس الممحوق، وذلك الحلال، وقد بين ذلك الشارع بقوله:"لَا يَقْبَلُ اللهُ إِلَّا الطَّيِّبَ" والحديث دال على مضاعفة الثواب، والمثل في التشبيه بتربية الفلو؛ لأن الولد لا يخلق كبيرًا، ولكن ينمى بتعهد الأم له بالرضاع والقيام بمصالحه، وكذلك صاحب الصدقة إن أتبعها بأمثالها وصانها عن آفاتها نمت، وإن أعرض عنها بقيت وحيدة، فإن منَّ أو آذى بطل الثواب. وفقنا الله للصواب.
9 - باب الصَّدَقَةِ قَبْلَ الرَّدِّ
1411 -
حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا مَعْبَدُ بْنُ خَالِدٍ قَالَ: سَمِعْتُ حَارِثَةَ بْنَ وَهْبٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "تَصَدَّقُوا فَإِنَّهُ يَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ يَمْشِي الرَّجُلُ بِصَدَقَتِهِ، فَلَا يَجِدُ مَنْ يَقْبَلُهَا، يَقُولُ الرَّجُلُ: لَوْ جِئْتَ بِهَا بِالأَمْسِ لَقَبِلْتُهَا، فَأَمَّا اليَوْمَ فَلَا حَاجَةَ لِي بِهَا". [1424، 7120 - مسلم: 1011 - فتح: 3/ 128]
1412 -
حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكْثُرَ فِيكُمُ المَالُ فَيَفِيضَ، حَتَّى يُهِمَّ رَبَّ المَالِ مَنْ يَقْبَلُ صَدَقَتَهُ، وَحَتَّى يَعْرِضَهُ فَيَقُولَ الذِي يَعْرِضُهُ عَلَيْهِ: لَا أَرَبَ لِي". [85 - مسلم: 157 - فتح: 3/ 281]
1413 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ النَّبِيلُ، أَخْبَرَنَا سَعْدَانُ بْنُ بِشْرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُجَاهِدٍ، حَدَّثَنَا مُحِلُّ بْنُ خَلِيفَةَ الطَّائِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ رضي الله عنه يَقُولُ: كُنْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَجَاءَهُ رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا يَشْكُو العَيْلَةَ، وَالآخَرُ يَشْكُو قَطْعَ السَّبِيلِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"أَمَّا قَطْعُ السَّبِيلِ فَإِنَّهُ لَا يَأْتِي عَلَيْكَ إِلاَّ قَلِيلٌ حَتَّى تَخْرُجَ العِيرُ إِلَي مَكَّةَ بِغَيْرِ خَفِيرٍ، وَأَمَّا العَيْلَةُ فَإِنَّ السَّاعَةَ لَا تَقُومُ حَتَّى يَطُوفَ أَحَدُكُمْ بِصَدَقَتِهِ لَا يَجِدُ مَنْ يَقْبَلُهَا مِنْهُ، ثُمَّ لَيَقِفَنَّ أَحَدُكُمْ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ حِجَابٌ وَلَا تُرْجُمَانٌ يُتَرْجِمُ لَهُ، ثُمَّ لَيَقُولَنَّ لَهُ: أَلَمْ أُوتِكَ مَالًا؟ فَلَيَقُولَنَّ: بَلَى. ثُمَّ لَيَقُولَنَّ: أَلَمْ أُرْسِلْ إِلَيْكَ رَسُولًا؟ فَلَيَقُولَنَّ: بَلَى. فَيَنْظُرُ عَنْ يَمِينِهِ فَلَا يَرَى إِلاَّ النَّارَ، ثُمَّ يَنْظُرُ عَنْ شِمَالِهِ فَلَا يَرَى إِلاَّ النَّارَ، فَلْيَتَّقِيَنَّ أَحَدُكُمُ النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ". [1417، 3595، 6023، 6539، 6540، 6563، 7443، 7512 - مسلم: 1016 - فتح: 3/ 281]
1414 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ العَلَاءِ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَطُوفُ الرَّجُلُ فِيهِ بِالصَّدَقَةِ مِنَ الذَّهَبِ، ثُمَّ لَا يَجِدُ أَحَدًا يَأْخُذُهَا مِنْهُ، وَيُرَى الرَّجُلُ الوَاحِدُ يَتْبَعُهُ
أَرْبَعُونَ امْرَأَةً، يَلُذْنَ بِهِ مِنْ قِلَّةِ الرِّجَالِ وَكَثْرَةِ النِّسَاءِ" [مسلم: 1012 - فتح: 3/ 281]
ذَكَرَ فيه حَدِيثَ حَارِثَةَ بْنِ وَهْبٍ: "تَصَدَّقُوا، فَإِنَّهُ يَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَان .. " الحديث.
وحَدِيثَ أبي هُريرة: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكْثُرَ فِيكُمُ المَالُ فَيَفِيضَ .. " الحديث.
وحَدِيثَ عدي مطولًا، وفي آخره:" .. فَلْيَتَّقِيَنَّ أَحَدُكُمُ النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ".
وحديث أبي موسى: "لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَطُوفُ الرَّجُلُ فِيهِ بِالصَّدَقَةِ مِنَ الذَّهَبِ، ثُمَّ لَا يَجِدُ أَحَدًا يَأْخُذُهَا مِنْهُ .. " إلى آخره.
الشرح:
فيه الحث على الصدقة والترغيب ما وجد أهلها المستحقون لها؛ خشية أن يأتي الزمن الذي لا يوجد فيه من يأخذها، وهو زمان كثرة المال وفيضه قرب الساعة.
وفي قوله: ("وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ") حض على القليل من الصدقة، وهو بكسر الشين. أي: نصفها.
وقوله: ("فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ") حض أيضًا على أن لا يحقر شيئًا من المعروف قولًا وفعلًا وإن قل، فالكلمة الطيبة يتقي بها النار، كما أن الكلمة الخبيثة يستوجبها بها.
وقوله: "وَيُرى الرَّجُلُ الوَاحِدُ يَتْبَعُهُ أَرْبَعُونَ امْرَأَةً يَلُذْنَ بِهِ" أي: يحطن به "مِنْ قِلَّةِ الرِّجَالِ وَكَثْرَةِ النِّسَاءِ" فهذا والله أعلم يكون عند ظهور الفتن وكثرة القتل في الناس.
قَالَ الداودي: ليس لَهُنَّ قَيَّمٌ غيره. وهذا يحتمل أن يكن نساءه وجواريه وذوات محارمه وقراباته، وهذا كله من أشراط الساعة، ففيه الإعلام بما يكون بعده، وكثرة المال حَتَّى لا يجد من يقبله، وأن ذلك بعد قتل عيسى عليه السلام الدجالَ والكفار، فلم يبق بأرض الإسلام كافر، وتنزل إذ ذاك بركات السماء إلى الأرض، والناس إذ ذاك قليلون لا يدخرون شيئًا؛ لعلمهم بقرب الساعة، وتري الأرض إذ ذاك بركاتها حَتَّى تشبع الرمانة السكن -وهم أهل البيت- وتلقي الأرض أفلاذ كبدها -وهو ما دفنته ملوك العجم، كسرى وغيره- ويكثر المال حَتَّى لا يتنافس فيه الناس.
وقوله في حديث عدي: ("ثُمَّ لَيَقِفَنَّ أَحَدُكُمْ بَيْنَ يَدَي اللهِ عز وجل لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ حِجَابٌ وَلَا تُرْجُمَان") هو على جهة التمثيل ليفهم الخطاب؛ لأن الله تعالى لا يحيط به شيء ولا يحجبه حجاب، وإنما يستتر تعالى عن أبصارنا بما وضع فيها من الحجب والضعف عن الإدراك في الدنيا، فإذا كان في الآخرة وكشف تلك الحجب عن أبصارنا وقوَّاها حَتَّى تدرك معاينة ذاته كما يرى القمر ليلة البدر، كما ثبت في الأحاديث الصحاح الآتية في موضعها.
وقوله: ("حَتَّى يُهِمَّ رَبَّ
(1)
المَالِ مَنْ يَقْبَلُ صَدَقَتَهُ") هو بضم الياء وكسر الهاء، هذا هو المشهور، وقيل: بفتح الياء وضم الهاء ورفع "رب المال" وتقديره: يهمه من يقبل صدقته. أي يقصده. وقال صاحب "العين": أهمني الأمر مثل: غمني، وهمني همًّا: آذاني
(2)
.
(1)
ورد بهامش الأصل ما نصه: بنصب (رب) في الرواية الأولى.
(2)
"العين" 3/ 357.
وقوله: ("بغير خفير") أي: مجير. الخفير: المجير. والخفارة: الذمة. والخفير: من يصحب القوم؛ لئلا يعرض لهم أحد، واشتقاقه من الخفر، يصحبهم فلا تخفر ذمته.
وقوله: ("لا أرب لي فيه"): لا حاجة.
وفيه أنهم كانوا يشكون إلى الشارع من عيلة وقطع طريق وغيره؛ لما يرجون عنده من الفرج. والعيلة: الفقر.
وقوله: ("فلا يرى إلا النَّارَ") يقال: أي يؤتى بها يوم القيامة تقاد بسبعين ألف زمام فتقرب من الناس
(1)
، فحينئذ يقول الرسل: ربِّ سلِّم سلِّم
(2)
. فاجتهدوا فيما يقيكم منها، ولا تحقروا شيئًا من المعروف ولو شق تمرة
(3)
.
(1)
رواه مسلم برقم (2842) كتاب: الجنة ونعيمها، باب: في شدة حر نار جهنم وبعد قعرها، والترمذي برقم (2573) كتاب: صفة جهنم، باب: ما جاء في صفة النار، وأبن أبي شيبة في "المصنف" 7/ 77 (34155) كتاب: ذكر النار، باب: ما ذكر فيما أعد لأهل النار وشدته، والبيهقي في "الشعب" 6/ 352 (8478) باب: في حسن الخلق.
(2)
سيأتي برقم (7437) كتاب: التوحيد، باب: قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22)} ورواه مسلم برقم (182) كتاب: الإيمان، باب: معرفة طريق الرؤية.
(3)
ورد في هامش الأصل ما نصه: ثم بلغ في الثاني عشر، كتبه مؤلفه.
10 - باب اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ وَالقَلِيلِ مِنَ الصَّدَقَةِ
{وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ} وَإِلَى قَوْلِهِ {مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [البقرة: 265، 266]
1415 -
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ الحَكَمُ -هُوَ: ابْنُ عَبْدِ اللهِ البَصْرِيُّ- حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الصَّدَقَةِ كُنَّا نُحَامِلُ، فَجَاءَ رَجُلٌ فَتَصَدَّقَ بِشَيْءٍ كَثِيرٍ فَقَالُوا: مُرَائِي. وَجَاءَ رَجُلٌ فَتَصَدَّقَ بِصَاعٍ، فَقَالُوا: إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنْ صَاعِ هَذَا. فَنَزَلَتِ: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطَّوِّعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ} . [التوبة: 79] الآيَةَ. [1416، 2273، 4668، 4669 - مسلم: 1018 - فتح: 3/ 282]
1416 -
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَمَرَنَا بِالصَّدَقَةِ انْطَلَقَ أَحَدُنَا إِلَى السُّوقِ فَتَحَامَلَ، فَيُصِيبُ المُدَّ، وَإِنَّ لِبَعْضِهِمُ اليَوْمَ لَمِائَةَ أَلْفٍ. [انظر: 1415 - مسلم: 1018 - فتح: 3/ 283]
1417 -
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ مَعْقِلٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ". [انظر: 1413 - مسلم: 1016 - فتح: 3/ 283]
1418 -
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: دَخَلَتِ امْرَأَةٌ مَعَهَا ابْنَتَانِ لَهَا تَسْأَلُ، فَلَمْ تَجِدْ عِنْدِي شَيْئًا غَيْرَ تَمْرَةٍ فَأَعْطَيْتُهَا إِيَّاهَا، فَقَسَمَتْهَا بَيْنَ ابْنَتَيْهَا وَلَمْ تَأْكُلْ مِنْهَا، ثُمَّ قَامَتْ فَخَرَجَتْ، فَدَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَيْنَا، فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ:"مَنِ ابْتُلِيَ مِنْ هَذِهِ البَنَاتِ بِشَيْءٍ كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِنَ النَّارِ". [5995 - مسلم: 2629 - فتح: 3/ 283]
ذكر فيه أربعة أحاديث: حديث أبي مسعود: لَمَّا نَزَلَتْ (آيَةُ)
(1)
الصَّدَقَةِ كُنَّا نُحَامِلُ، فَجَاءَ رَجُلٌ فَتَصَدَّقَ بشَيْءٍ كَثِيرٍ، فَقَالُوا: مُرَائِي. وَجَاءَ رَجُلٌ فَتَصَدَّقَ بِصَاعٍ، فَقَالُوا: إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنْ صَاعِ هذا. فَنَزَلَتِ: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطَّوِّعِينَ} .. الآية.
وحديث أبي مسعود الأنصاري قال: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَمَرَنَا بِالصَّدَقَةِ .. الحديث.
وحديث عدي بن حاتم: "اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرةٍ".
وحديث عائشة في التمْرَةِ.
الشرح:
معنى {وَتَثْبِيتًا} [البقرة: 265]: تصديقًا ويقينًا. قاله الشعبي
(2)
. وهو حث أي: على إنفاقها في الطاعة، ووعد الله على ذلك بالإثابة. وقال قتادة: احتسابًا
(3)
. وكان الحسن إذا أراد أن ينفق تثبت فإن كان لله أمضى وإلا أمسك
(4)
.
والجنة: البستان. والربوة: الأرض المرتفعة المستوية. كما قاله مجاهد
(5)
، أضعفت في ثمرها، وهو مثل ضربه الله لفضل المؤمن، يقول: ليس لخيره خلفٌ، كما أنه ليس لخير الجنة خلف على أي حال، أصابها مطر شديد أو طل.
(1)
من (م).
(2)
رواه الطبري في "تفسيره" 3/ 69 (6063).
(3)
المصدر السابق برقم (6072).
(4)
المصدر السابق برقم (6071).
(5)
المصدر السابق 3/ 71 - 72 (6073 - 6074).
وقوله: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ} [البقرة: 266] هو ضرب مثل للعمل كان طائعًا فعصى فاحترقت أعماله، كما قاله عمر وابن عباس
(1)
، فتبطل أحوج ما كانوا إليها، كمثل رجل كانت له جنة وكنز، وله أطفال لا ينفعونه، فأصاب الجنة إعصار ريح عاصف كالزوبعة، فيها سَموم شديد فاحترقت.
وحديث أبي مسعود، أخرجه في التفسير من حديث غندر عن شعبة، وفيه هنا: بصاع
(2)
. وأخرجه مسلم من حديث جماعة عن شعبة
(3)
.
ومعنى (نحامل): نحمل للغير بالأجرة لنتصدق بها، ونحامل وزنه نفاعل، والمفاعلة لا تكون إلا من اثنين غالبا كالمبايعة والمعاملة، ألا ترى أنه حين نزلت:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا} [المجادلة: 12] شق عليهم العمل بها، فنسخت عنهم بقوله:{فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللهُ عَلَيْكُمْ} [المجادلة: 13] وقال علي: لم يعمل بها غيري لا قبلي ولا أحد بعدي، كان لي دينار فصرفته، فكنت إذا ناجيت الرسول تصدقت بدرهم حَتَّى نفذ ثم نسخت. ولما ذكر شيخنا علاء الدين في "شرحه":(نحامل)، نقل عن ابن سيده أنه قَالَ: تحامل في الأمر وتكلفه على مشقة وإعياء، وتحامل عليه: كلفه ما لا يطيق؛ وهذا ليس من معنى مادة ما نحن فيه.
وقوله: (فَتَصَدَّقَ بِشَيءٍ كَثِيرٍ) هو عبد الرحمن بن عوف، تصدق بنصف ماله، وكان ماله ثمانية آلاف دينار. ذكره ابن التين، فقالوا:
(1)
المصدر السابق 3/ 75 - 76 (6093 - 6095).
(2)
سيأتي برقم (4668) باب: قوله: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطَّوِّعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ} .
(3)
"صحيح مسلم" برقم (1018) كتاب: الزكاة، باب: الحمل بأجرة يتصدق بها، والنهي الشديد عن تنقيص المتصدق بقليل.
مرائى. وسيأتي في التفسير: أربعة آلاف درهم. أو: أربعمائة دينار. وفي "أسباب النزول" للواحدي أنه صلى الله عليه وسلم حث على الصدقة، فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم، شطر ماله يومئذٍ، وتصدق يومئذ عاصم بن عدي بن عجلان بمائة وسق تمر، وجاء أبو عقيل بصاع من تمر، فلمزهم المنافقون
(1)
، فنزلت هذِه الآية
(2)
.
وقوله: (وَجَاءَ رَجُلٌ فَتَصَدَّقَ بِصَاعٍ) وفي أخرى سلفت: بنصف صاع. وفي أخرى: بنصف صبرة تمر. هو أبو عقيل كما جاء في البخاري في موضع آخر
(3)
، وفي "صحيح مسلم" في قصة كعب بن مالك
(4)
. وقوله صلى الله عليه وسلم: "كُنْ أبا خَيْثمة" فإذا هو أبو خيثمة- يعني: عبد الرحمن بن نيحاز الأنصاري الذي تصدق بتمر فلمزه المنافقون
(5)
. وقال السهيلي في "تعريفه": أبو عقيل اسمه حثجاث، أحد بني أنيف. وقيل: الملموز رفاعة بن سهل
(6)
.
(1)
ورد بهامش الأصل ما نصه: قال الذهبي في "التجريد": أبو عقيل صاحب الصاع الذي لمزه المنافقون، قال قتادة: اسمه حثجاث.
(2)
"أسباب النزول" ص 260 (519).
(3)
سيأتي برقم (4668) كتاب: التفسير، باب: قوله: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطَّوِّعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ} .
(4)
"صحيح مسلم"(2769) كتاب: التوبة، باب: حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه.
(5)
المصدر السابق.
(6)
ورد بهامش الأصل ما نصه: قال الذهبي في "التجريد": سهل بن رافع بن خديج البلوي، حليف الأنصار، قيل: هو صاحب الصاع الذي لمزه المنافقون، وقيل: هو الذي بعده. ثم قال سهل بن رافع بن أبي عمرو بن عبيد، شهد أحدا، وتوفي في خلافة عمر، روت عنه بنته عميرة، ولها صحبة، كذا أخرجه ابن منده، وأما أبو عمرو فنسبه إلى بني النجار، وقال: له أخ يسمى سهيل، وهما التيميان صاحبا المربد. انتهى. ولم أر في "التجريد" من اسمه رفاعة بن سهل في الأسماء، اللهم إلا أن يكون مشهورا بالكنية، فيكون قد ذكره في الكنى، والله أعلم.
وفي "المعاني" للفراء: حث النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة، فجاء عمر بصدقة، وعثمان بصدقة عظيمة، وجاء أبو عقيل. الحديث
(1)
.
وفي "تفسير الثعلبي" عن أبي السليل قَالَ: وقف رجل على الحي فقال: حَدَّثَني أبي أو عمي أنه شهد النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "مَنْ يتصدَّق اليوم بصدقة أَشهدُ له بها" فجاء رجل ما بالبقيع أقصر قامة منه، يقول ناقة لا أرى بالبقيع أحسن منها فقال: هي وذو بطنها صدقة يا رسول الله. قَالَ: فلمزه رجل وقال: إنه يتصدق بها وهي خير منه. فقال صلى الله عليه وسلم: "بل هو خيرٌ منكَ ومنها" يقولها ثلاثًا. فنزلت الآية.
ويلمزون: يعيبون. يقال: لمزه، يَلْمِزُهُ وَيَلْمُزُهُ إذا عابه. وكذلك همزه، يهمزه. والجَهد والجُهد بمعنى واحد عند البصريين. وقال بعض الكوفيين: هو بالفتح: المشقة، وبالضم الطاقة. وقال الشعبي: بالضم في الفتنة يعني: المشقة. وبالفتح في العمل. وذكر القزاز نحوه قَالَ: الجَهْد: ما يجهد المؤمن من مرض وغيره. والجُهْد: شيء قليل يعيش به المقل. والذي ذكره ابن فارس وغيره مثل قول الكوفيين. واحتج ابن فارس بهذِه الآية أي: لا يجدون إلا طاقتهم
(2)
.
وقال الجوهري: الجَهد والجُهد: الطاقة
(3)
، وقرئ بهما الآية.
وقال ابن عيينة في "تفسيره" الجَهد: جهد الإنسان، والجُهد في ذات اليد.
وحكى الزجاج يَلْمزُون بكسر الميم وضمها، وقد تقدم. وكانوا عابوا الصحابة في صدقات أتوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(1)
"معاني القرآن" 1/ 447.
(2)
"مجمل اللغة" 1/ 200.
(3)
"الصحاح" 2/ 460.
يروى أن ابن عوف أتى بصُرَّةٍ تملأ الكف، وأن أبا عقيل .. الحديث.
ومحل {لَّذِينَ يَلْمِزُونَ} [التوبة: 79] نصب بالذم، أو رفع على الذم، أو جر بدلًا من الضمير في {سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} [التوبة: 78] والمطوعين: المتطوعين المتبرعين. وزعم أبو إسحاق أن الرواية عن ثعلب بتخفيف الطاء وتشديد الواو. وقال: وهو غير جيد. والصحيح تشديدهما. وأنكر ذلك ثعلب عليه، وقال: إنما هو بالتشديد. وقال التدميري في "شرحه": هم الذين يخرجون إلى الغزو بنفقات أنفسهم من غير استعانة منهم برزق وسلطان وغيرهم. قَالَ: ووزنهم المفعلة من الطوع. يقال: طاع له كذا وكذا أي: أتاه طوعًا. ولساني لا يتطوع أي: لا ينقاد. وقد طوعوا يطوعون. وهم المطوعة من ذلك.
وقوله: (إِنَّ لِبَعْضِهِمُ اليَوْمَ لَمِائَةَ أَلْفٍ) قَالَ شقيق -أحد رواته- فرأيت أنه يعني نفسه. كذا في "صحيح الإسماعيلي". وقوله: مائة ألف. كذا هو في البخاري. وكذا شرحه ابن التين، وذكره ابن بطال أيضًا
(1)
. وأما شيخنا علاء الدين فكتب بخطه في الأصل: وإن لبعضهم اليوم ثمانية آلاف. ثم قَالَ: وفي "فضل الصدقة" لابن أبي الدنيا مائة ألف. فأبعد النجعة، وصحف ما في البخاري فاحذره.
ومعنى (وَإِنَّ لِبَعْضِهِمُ اليَوْمَ لَمِائَةَ أَلْفٍ) أنهم كانوا يتصدقون بما يجدون، وهؤلاء يكنزون المال، ولا يتصدقون.
وفيه: ما كان عليه السلف من التواضع، والحرص على الخير، واستعمالهم أنفسهم في المهن والخدمة، رغبة منهم في الوقوف عند حدود الله، والاقتداء بكتابه، وكانوا لا يتعلمون شيئًا من القرآن
(1)
"شرح ابن بطال" 3/ 416.
إلا للعمل به، وكانوا يحملون على ظهورهم للناس، ويتصدقون بالثمن لعدم المال عندهم ذلك الوقت. وحديث:"اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ" سلف في الباب قبله
(1)
.
وأخرجه ابن خزيمة من حديث أنس بلفظ: "افتدوا مِنَ النَّارِ وَلَوْ بِشِقِّ تمرَةٍ"
(2)
ومن حديث ابن عباس بلفظ: "اتقوا"
(3)
وأخرجه ابن أبي الدنيا في "فضل الصدقة" من حديث أبي هريرة أيضًا.
وفيه: حض على الصدقة بالقليل، كما سلف. وإعطاء عائشة التمرة؛ لئلا ترد السائل خائبًا وهي تجد شيئًا. وروي أنها أعطت سائلًا حبة عنب، فجعل يتعجب، فقالت: كم ترى فيها من مثقال ذرة
(4)
. ومثله قوله صلى الله عليه وسلم لأبي تميمة الهجيمي: "لا تحقرن شيئًا من المعروف، ولو أن تضع من دلوك في إناء المستقي"
(5)
، وقسم المرأة التمرة بين ابنتيها لما جعل الله في قلوب الأمهات من الرحمة.
وفيه: أن النفقة على البنات والسعي عليهن من أفضل أعمال البر المجنبة من النار. وكانت عائشة من أجود الناس، أعطت بني أخويها
(1)
سلف برقم (1413).
(2)
"صحيح ابن خزيمة" 4/ 94 (2430) كتاب: الزكاة، باب: الأمر باتقاء النار -نعوذ بالله منها- بالصدقة وإن قلت.
(3)
"صحيح ابن خزيمة" 4/ 94 (2429).
(4)
رواه مالك في "الموطأ" ص 616 كتاب: الصدقة، باب: الترغيب في الصدقة- بلاغًا، والبيهقي في "شعب الإيمان" 3/ 254 (3466)، وقال الألباني في "ضعيف الترغيب والترهيب" (515): ضعيف موقوف.
(5)
هذا الحديث مرسل؛ لأن أبا تميمة تابعي، والصواب حديث أبي تميمة الهجيمي عن جابر بن سليم قال: أتيت رسول الله .. الحديث، كما في "المسند" 5/ 63 - 64، للاستزادة انظر:"الصحيحة" 2/ 399 (770) و 3/ 337 (1352).
ريعًا، أعطيت به مائة ألف درهم. وأعتقت في كفارة يمين أربعين رقبة
(1)
.
وقيل: فعلت ذلك في نذر مبهم، وكانت ترى أنها لم توف بما يلزمها.
وأعانت المنكدر في كتابته بعشرة آلاف درهم
(2)
.
وقوله: ("مَنِ ابْتُلِيَ مِنْ هذِه البَنَاتِ بِشَيْءٍ") سماه ابتلاء لموضع الكراهة لهن كما أخبر ربنا جل جلاله.
(1)
سيأتي برقم (3505) كتاب: المناقب، باب: مناقب قريش، و (6073) كتاب:
الأدب، باب: الهجرة.
(2)
رواه ابن الجعد في "مسنده" ص 253 (1673)، وابن سعد في "الطبقات" 5/ 28، والحاكم في "المستدرك" 3/ 456 - 457 كتاب: معرفة الصحابة.
11 - باب أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفضَلُ؟ وَصَدَقَةُ الصَّحِيحِ الشَّحِيحِ
كذا في أصل الدمياطي ومقابله باب فضل صدقة الصحيح الشحيح
(1)
وعلَّم عليه صح. وهو ما في شروحه ابن بطَّال
(2)
وابن التين وغيرهما. ثم قال: لِقَوْلِهِ: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ} [المنافقون: 10] إلى خاتمتها.
وَقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ} [البقرة: 254] الآيَةَ.
1419 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَاحِدِ، حدَّثَنَا عُمَارَةُ بْنُ القَعْقَاعِ، حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ أَجْرًا؟ قَالَ: "أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ، تَخْشَى الفَقْرَ وَتَأْمُلُ الغِنَى، وَلَا تُمْهِلُ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الحُلْقُومَ، قُلْتَ: لِفُلَانٍ كَذَا، وَلِفُلَانٍ كَذَا، وَقَدْ كَانَ لِفُلَانٍ". [2748 - مسلم: 1032 - فتح: 3/ 284]
ثم ذكر حديث أبي هريرة: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ أَجْرًا؟ قَالَ:"أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ، تَخْشَى الفَقْرَ وَتَأْمُلُ الغِنَى، وَلَا تُمْهِلُ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الحُلْقُومَ، قُلْتَ: لِفُلَانٍ كَذَا، وَلفُلَانٍ كَذَا، وَقَدْ كَانَ لِفُلَانٍ".
الشرح:
هذا الحديث أخرجه مسلم أيضًا
(3)
.
(1)
ورد بهامش الأصل: وكذا في نسختي، لكن فيها تقدم الشحيح على الصحيح.
(2)
"شرح ابن بطال" 3/ 417.
(3)
"صحيح مسلم"(1032) كتاب: الزكاة، باب: بيان أن أفضل الصدقة صدقة الصحيح الشحيح.
وسيأتي في الوصايا بزيادة: "وأنت صحيح حريص"
(1)
والخلة: الصداقة. وهذا اليوم هو يوم القيامة {فَأَصَّدَّقَ} [المنافقون: 10]: فأزكى، {وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [المنافقون: 10]: أحج، قاله ابن عباس
(2)
. والشح مثلث الشين: البخل. قاله ابن سيده، قَالَ: والضم أعلى.
وقال صاحب "الجامع": أرى أن يكون الفتح في المصدر، والضم في الاسم. وفي "المنتهى" لأبي المعالي: وليس في الكلام فُعل بالضم وفِعل إلا هذا الحرف، وأحرف أُخر غيره. وقال الحربي: الشح ثلاثة وجوه:
أحدها: أن تأخذ مال أخيك بغير حقه. قَالَ رجل لابن مسعود: ما أعطي ما أقدر على منعه. قَالَ: ذاك البخل، والشح: أن تأخذ مال أخيك بغير حقه
(3)
.
وقَالَ رجل لابن عمر: إني شحيح. فقال: إن كان شحك لا يحملك على أن تأخذ ما ليس لك، فليس بشحك بأس.
ثانيها: ما روي عن أبي سعيد الخدري أنه قَالَ: الشح: منع الزكاة وادخار الحرام.
ثالثها: ما روي في هذا الحديث.
(1)
سيأتي برقم (2748) باب: الصدقة عند الموت.
(2)
رواه الطبري في "تفسيره" 12/ 110 (34181).
(3)
رواه الطبري في "تفسيره" 12/ 41 - 42 (33880)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 3346 - 3347 (18855)، والطبراني 9/ 218 (9060)، والحاكم في "المستدرك" 2/ 490 كتاب: التفسير وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، والبيهقي في "شعب الإيمان" 7/ 426 - 427 (10841).
قَالَ: والذي يبرِّئ من الوجوه الثلاثة ما روي: "برئ من الشح، من أدى الزكاة، وقرى الضيف، وأعطى في النائبة"
(1)
. وقال في "المغيث": الشح أبلغ في المنع من البخل، والبخل في أفراد الأمور وخواص الأشياء، والشح عام، وهو كالوصف اللازم من قبل الطبع والجبلة وقيل: البخل بالمال، والشح بالماء والمعروف. وقيل: الشحيح: البخيل مع التحرص. وفي "مجمع الغرائب": الشح المطاع: هو البخل الشديد الذي يملك صاحبه بحيث لا يمكنه أن يخالف نفسه فيه.
فقوله: ("وأنت صحيح شحيح") أي؛ لأن أكثر الأصحاء يشحون ببعض ما في أيديهم من الفقر، ويأملون من الغنى.
ففيه: أن أعمال البر كلها إذا صعبت كان أجرها أعظم؛ لأن الشحيح الصحيح إذا خشي الفقر وأمل الغنى صعبت عليه الصدقة، وسول له الشيطان طول العمر وحلول الفقر به.
فمن تصدق في هذِه الحال فهو مؤثر ثواب الرب تعالى على هوى نفسه. وأما إذا تصدق عند خروج نفسه فيخشى عليه الفرار بميراثه، والجور في فعله. ولذلك قَالَ ميمون بن مهران حين قيل له: إن رقية امرأة هشام ماتت وأعتقت كل مملوك لها. فقال ميمون: يعصون الله في أموالهم مرتين. يبخلون بها وهي في أيديهم، فإذا صارت لغيرهم أسرفوا فيها
(2)
.
(1)
رواه ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني"(2161)، والطبراني (4096)، (4097)، كلاهما من طريق مجمع بن جارية، عن عمه خالد بن زيد مرسلًا.
ووصله البيهقي في "الشعب"(10842) من طريق مجمع، عن عمه، عن أنس بن مالك مرفوعًا. وانظر "السلسلة الضعيفة"(1709).
(2)
ذكره المزي في "تهذبب الكمال" 29/ 223، والذهبي في "سير أعلام النبلاء" 5/ 76.
وقوله: ("وتأمل الغنى") هو بضم الميم أي: تطمع.
و ("تمهل") يجوز فيه ثلاثة أوجه: الفتح، والضم، والإسكان.
وقوله: ("حَتَّى إذا بلغت الحلقوم") أي: قاربت بلوغه. إذ لو بلغت حقيقة لم تصح وصية ولا شيء من تصرفاته بالاتفاق. وليس للروح ذكر ها هنا، لكن دل عليها الحال لقوله تعالى {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الحُلْقُومَ (83)} يعني الحلق. قَالَ أبو عبيدة -كما نقله في "المخصص": هو مجرى النفس والسعال من الجوف، ومنه مخرج البصاق والصوت
(1)
. وفي "المحكم": الحلقوم كالحلق، فعلوم عند الخليل، وفعلول عند غيره
(2)
. واحتج به من قَالَ: إن النفس جسد. وقد تقدم.
وقوله: ("وَقَدْ كَانَ لِفُلَانٍ"): يريد به الوارث؛ لأنه لو شاء لم تجز الوصية. قاله الخطابي. يريد: (كان) بمعنى (صار). ولعله يريد: إذا جاوزت الثلث، أو كانت لوارث. وقيل: سبق القضاء به للموصى له.
ويحتمل أن يكون المعنى أنه خرج عن تصرفه، وكمال ملكه، واستقلاله بما شاء من تصرفه. وليس له في الوصية كبير ثواب بالنسبة إلى صدقة الصحيح. ففي الحديث:"مثل الذي يعتق عند الموت، كالذي يهدي إذا شبع"
(3)
.
(1)
رواه أبو داود (3968) كتاب: العتق، باب: في فضل العتق في الصحة، والترمذي (2123) كتاب: الوصايا، باب: ما جاء في الرجل يتصدق أو يعتق عند الموت، وأحمد 5/ 197، وعبد الرزاق في "المصنف" 9/ 157 (16740) كتاب: المدبر، باب: العتق عند الموت. والحاكم في "المستدرك" 2/ 213 كتاب: العتق، والبيهقي في "سننه" 4/ 190 كتاب: الزكاة، باب: فضل صدقة الصحيح الشحيح. و 10/ 273 كتاب: العتق، باب: فضل العتق في الصحة، والحديث ضعفه الألباني كما في "الضعيفة"(1322).
(2)
انظر "المحكم" 4/ 34.
(3)
"المحكم" 3/ 3.
-
باب
1420 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ فِرَاسٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ بَعْضَ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قُلْنَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَيُّنَا أَسْرَعُ بِكَ لُحُوقًا؟ قَالَ: "أَطْوَلُكُنَّ يَدًا". فَأَخَذُوا قَصَبَةً يَذْرَعُونَهَا، فَكَانَتْ سَوْدَةُ أَطْوَلَهُنَّ يَدًا، فَعَلِمْنَا بَعْدُ أَنَّمَا كَانَتْ طُولَ يَدِهَا الصَّدَقَةُ، وَكَانَتْ أَسْرَعَنَا لُحُوقًا بِهِ، وَكَانَتْ تُحِبُّ الصَّدَقَةَ. [مسلم: 2452 - فتح: 3/ 285]
ذكر فيه حديث مسروق عن عائشة: أَنَّ بَعْضَ أَزْوَاج النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أو أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قُلْنَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَيُّنَا أَسْرَعُ بِكَ لُحُوقًا؟ قَالَ: "أَطوَلُكُنَّ يَدًا". فَأخَذُوا قَصَبَةً يَذْرَعُونَهَا، فَكَانَتْ سَوْدَةُ أَطْوَلَهُنَّ يَدًا، فَعَلِمْنَا بَعْدُ أَنَّمَا كَانَتْ طُول يَدِهَا بالصَّدَقَة، وَكَانَتْ أَسْرَعَنَا لُحُوقًا بِهِ، وَكَانَتْ تُحِبُّ الصَّدَقَةَ.
الشرح:
كذا هو ثابت في كل النسخ باب بغير ترجمة، وكذا هو في الشروح، وهو داخل في الباب الأول. وزعم ابن أبي أحد عشر أنه ذكره في باب فضل زينب وسودة. والمشهور أن أسرعهن لحوقًا به زينب بنت جحش، وكانت كثيرة الصدقة.
قَالَ محمد بن عمر: هذا الحديث وهل في سودة، وإنما هو في زينب، وهي كانت أول نسائه لحوقًا به، وتوفيت في خلافة عمر
(1)
، وبقيت سودة إلى شوال سنة أربع وخمسين بالمدينة في خلافة معاوية
(2)
.
(1)
ورد بهامش الأصل ما نصه: سنة عشرين، وقال خليفة سنة 21، قاله النووي وغيره.
(2)
ورد بهامش الأصل ما نصه: قال الذهبي في "الكاشف": توفيت في آخر خلافة عمر. قال النووي في "التهذيب": وهذا قول الأكثرين، قال: وذكر محمد بن سعد عن الواقدي أنها توفيت في شوال سنة 43 هـ خلافة معاوية بالمدينة، قال الواقدي: وهذا الثبت عندنا.
وهو المثبت عندنا. وقد رواه مسلم على الصواب من حديث طلحة بن يحيى بن طلحة، عن عائشة بنت طلحة، عن عائشة خالتها
(1)
. وذكرت أنها زينب بنت جحش، وسبب طول يدها؛ أنها كانت تعمل وتتصدق.
وقال ابن بطال: سقط من الحديث ذكر زينب؛ لأنه لا خلاف بين أهل الأثر والسير أن زينب أول من مات من زوجاته
(2)
.
قَالَ عبد الرحمن بن أبزى: صليت مع عمر على زينب بنت جحش أم المؤمنين
(3)
.
قلتُ: فهو إذًا غلط من بعض الرواة. والعجب أن البخاري لم ينبه عليه ولا من بعده، حَتَّى أن بعضهم فسَّره بأن لحوق سودة من أعلامِ النبوة. ويجوز أن يكون خطابه لمن كان حاضرًا عنده إذ ذاك من الزوجات، وأن سودة وعائشة كانتا ثم دون زينب.
وفيه: الإنعام والإفضال، وأن الحكم للمعاني لا للألفاظ، -بخلاف أهل الظاهر- ألا ترى أن أزواجه سبق إليهن أنه أراد طول اليد التي هي الجارحة، فلما لم تتوف سودة التي كانت أطولهن يد الجارحة وتوفيت زينب قبلهن، علمن أنه لم يرد طول العضو وإنما أراد بذلك كثرة
(1)
"صحيح مسلم"(2452) كتاب: "فضائل الصحابة" باب: من فضائل زينب أم المؤمنين رضي الله عنها.
(2)
"شرح ابن بطال" 3/ 418.
(3)
رواه ابن سعد في "الطبقات" 8/ 112، وابن أبي شيبة في "المصنف" 7/ 249 (35753) كتاب: الأوائل، باب: أول ما فعل ومن فعله، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" 1/ 499، والدارقطني في "العلل" 2/ 178، والبيهقي في "سننه" 4/ 37 كتاب: الجنائز، باب: ما يستدل به على أن أكثر الصحابة اجتمعوا على أربع ورأى بعضهم الزيادة منسوخة، وقال الألباني: في "أحكام الجنائز" ص 187: سنده صحيح.
الصدقة؛ لأن زينب هي التي كانت تحب الصدقة. واليد ها هنا: يدها
للعطاء. وهو من مجاز الكلام. ومثله قول اليهود: {يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة: 64].
12 - باب صَدَقَةِ العَلَانِيَةِ
وَقَوْلِهِ: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً} إِلَي: {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 274][فتح 3/ 288].
اختلف في سبب نزول هذِه الآية:
فروى مجاهد عن ابن عباس: أنها نزلت في علي بن أبي طالب، كان معه أربعة دراهم فأنفق بالليل درهمًا، وبالنهار درهمًا، وسرًا درهمًا، وعلانية درهمًا
(1)
.
وقال الأوزاعي: نزلت في الذين يرتبطون الخيل خاصة في سبيل الله ينفقون عليها بالليل والنهار
(2)
.
وقال قتادة: نزلت في من أنقق ماله في سبيل الله؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الأَكْثَرِينَ هُمُ الأَقَلُّونَ يوم القيامة، إِلَّا مَنْ قَالَ بِالمَالِ هَكَذَا وَهَكَذَا -عن يمينه وعن شماله- وَقَلِيلٌ مَا هُمْ"
(3)
هؤلاء قوم أنفقوا في سبيل الله الذي آفترض وارتضى في غير سرف ولا إملاق ولا تبذير ولا فساد
(4)
.
ونقل الواحدي قول الأوزاعي عن جماعة غيره: أبي أمامة وأبي الدرداء ومكحول. قَالَ: والأوزاعي، عن رباح
(5)
. ورواه ابن غريب، عن أبيه، عن جده مرفوعًا
(6)
، ووافق مجاهد والكلبي الأول، زاد
(1)
رواه الواحدي في "أسباب نزول القرآن" ص 94 - 95 (180، 181).
(2)
المصدر السابق ص 93 (175).
(3)
سيأتي برقم (6638) كتاب: الإيمان والنذور، باب: كيف يمين النبي صلى الله عليه وسلم، ورواه
مسلم برقم (990) كتاب: الزكاة، باب: تغليظ عقوبة من لا يؤدي الزكاة.
(4)
رواه ابن جرير في "تفسيره" 3/ 101 (6331).
(5)
"أسباب النزول" ص 93.
(6)
رواه ابن سعد في "الطبقات" 7/ 433، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" 5/ =
الكلبي: فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما حملك على هذا؟ " قَالَ: حملني أن أستوجب على الله الذي وعدني. فقال له: "ألا إن ذلك لك" فأنزل الله هذِه الآية
(1)
. وفي "الكشاف": نزلت في أبي بكر إذ أنفق أربعين ألف دينار عشرة آلاف سرًا، ومثلها جهرًا، ومثلها ليلًا، ومثلها نهارًا
(2)
.
وقال الطبري عن آخرين: عني بها قوم أنفقوا في سبيل الله في غير إسراف ولا تقتير
(3)
. وهذا سلف.
فروي عن ابن عباس أن قوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} [البقرة: 271] إلى قوله: {وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 274] كان هذا يعمل به قبل أن تنزل براءة، فلما نزلت براءة بفرائض الصدقات انتهت الصدقات إليها
(4)
. وقال قتادة: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا} [البقرة: 271] كل مقبول إذا كانت النية صادقة، وصدقة السر أفضل. وذكر لنا أن الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وقاله أيضًا الربيع
(5)
. وعن ابن عباس: جعل الله صدقة السر في التطوع تفضل علانيتها، يقال: بسبعين ضعفًا. وجعل صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها، يقال: بخمسة وعشرين ضعفًا. وكذلك جميع الفرائض والنوافل في الأشياء كلها
(6)
.
= 158 (2696)، والطبراني 17/ 188 (504)، والواحدي في "أسباب نزول القرآن" ص 92 (175)، وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 3/ 27، وقال: رواه الطبراني، وفيه مجاهيل. وقال الألباني: موضوع، وهذا إسناد هالك. انظر:"الضعيفة" 7/ 472 - 473 (3475).
(1)
انظر: "أسباب نزول القرآن" ص 95 (182).
(2)
"الكشاف" 1/ 283.
(3)
"تفسير الطبري" 3/ 101 (6231).
(4)
"تفسير الطبري"(6232).
(5)
"تفسير الطبري" 3/ 92 (6193، 6194).
(6)
"تفسير الطبري" 3/ 93 (6195).
وقال سفيان: سوى الزكاة
(1)
. وهذا قول كالإجماع.
وقال آخرون: إنما عني بـ: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ} يعني: على أهل الكتابين من اليهود والنصارى {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} " قالوا: فأما من أعطى فقراء المسلمين من زكاة وصدقة وتطوع فإخفاؤه أفضل، ذكر ذلك يزيد بن أبي حبيب وقال: إنما أنزلت فيهم
(2)
.
قَالَ الطبري: لم يخص الله صدقة دون صدقة، وذلك على العموم إلا ما كان من زكاة واجبة، فإن الواجب من الفرائض قد أجمع الجميع على أن الفضل في إعلانه، وإظهار سوى الزكاة التي ذكرنا اختلاف المختلفين فيها مع إجماع جميعهم على أنها واجبة، فحكمها في أن الفضل في أدائها علانية حكم سائر الفرائض غيرها
(3)
.
وقال الحسن: إظهار الزكاة أفضل، وإخفاء التطوع أفضل.
وعند الزجاج: كانت صدقة الزكاة سرًّا أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما اليوم فالظن يساء بمن لم يظهرها. وروى أبو الفضل الجوزي من حديث القاسم، عن أبي أمامة أن أبا ذر سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الصدقة أفضل؟ قَالَ: "سر إلى فقير أو جهد من مقل"
(4)
(1)
"تفسير الطبري"(6196).
(2)
رواه الطبري في "تفسيره" 3/ 93 (6197).
(3)
المرجع السابق.
(4)
رواه أحمد 5/ 265 - 266 مطولًا، والطبراني 8/ 217 (7871)، وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 3/ 115، وقال: فيه علي بن يزيد، وفيه كلام. وضعفه الألباني كما في "ضعيف الترغيب والترهيب"(531).
وعن الشعبي: لما نزلت: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ} جاء عمر بنصف ماله يحمله على رءوس الناس، وجاء أبو بكر بجميع ماله يكاد أن يخفيه من نفسه، فقال صلى الله عليه وسلم:"ما تركت لأهلك؟ " قَالَ: عدة الله وعدة رسوله
(1)
.
واعلم أن البخاري لم يذكر في الباب حديثًا، وكأنه -والله أعلم- اكتفي بما أسلفه في الصلاة من الأمر بالصدقة والمبادرة إليها.
(1)
رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 536 (2848).
13 - باب صَدَقَةِ السِّرِّ
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:"وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا صَنَعَتْ يَمِينُهُ". وَقَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 271]. [فتح 3/ 288]
الشرح:
أما الآية الكريمة فقد سلف الكلام فيها في الباب قبله واضحًا، ومعنى أولها:{إِنْ تُبْدُوا} أي: إن تظهروا. وفي: {نِعِمَّا} قراءات، ليس هذا موضعها، ومعنى الإخفاء: السر.
وأما هذا التعليق فقد أسنده فيما مضى في باب: من جلس في المسجد ينتظر الصلاة
(1)
. ويأتي قريبًا أيضًا
(2)
، وتأولوا الإخفاء فيه على صدقة التطوع، وهو ضرب مثل في المبالغة في الإخفاء؛ لقرب الشمال من اليمين، وإنما أراد بذلك أن لو أراد أن لا يعلم من يكون على شماله من الناس ما تتصدق به يمينه لشدة استتاره، وهذا على المجاز كقوله تعالى:{وَاسْأَلِ القَرْيَةَ}
(3)
[يوسف: 82]؛ لأن الشمال لا توصف بالعلم. وكافة العلماء على الإسرار في التطوع دون الفرض
(4)
.
وقوله تعالى: {وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [البقرة: 234] أي: في صدقاتكم من إخفائها وإعلانها، وفي غير ذلك من أموركم، ذو خبرة
(1)
سلف برقم (660) كتاب: الأذان.
(2)
سيأتي برقم (1423) باب: الصدقة باليمين.
(3)
سيأتي الكلام عن نفي المجاز عن القرآن في كتابه: التفسير.
(4)
انظر: "المجموع" 6/ 236.
وعلم لا يخفي عليه شيء، فهو محيط به محصٍ له حَتَّى يجازيهم بالقليل والكثير. فإن قلت
(1)
: بداءة المصنف بالحديث ثم بالآية وكان الأولى عكسه. قلتُ: كأن -والله أعلم- أن الآية في الباب قبله نص فيه، فأشار إليها ثم أردفه بالأخرى.
(1)
ورد بهامش الأصل ما نصه: لما كانت الآية في الباب قبله صريحة فيه وفي هذا الباب فكأنها مذكررة هنا لقوة الصراحة، وإذا كانت مُنزَّلة مَنْزِلة المذكورة فقد قدمها على الحديث، لكن يبقى عليه أن يقال: فلم قدم الحديث على الآية الأخرى، والحديث والآية متساويان في الدلالة؟.
14 - باب إِذَا تَصَدَّقَ عَلَى غَنِيٍّ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ
1421 -
حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"قَالَ رَجُلٌ: لأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ. فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدِ سَارِقٍ، فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ: تُصُدِّقَ عَلَى سَارِقٍ. فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الحَمْدُ، لأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ. فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدَىْ زَانِيَةٍ، فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ: تُصُدِّقَ اللَّيْلَةَ عَلَى زَانِيَةٍ. فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الحَمْدُ عَلَى زَانِيَةٍ، لأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ. فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدَيْ غَنِيٍّ، فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ: تُصُدِّقَ عَلَى غَنِيٍّ فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الحَمْدُ، عَلَى سَارِقٍ، وَعَلَى زَانِيَةٍ، وَعَلَى غَنِيٍّ. فَأُتِيَ، فَقِيلَ لَهُ: أَمَّا صَدَقَتُكَ عَلَى سَارِقٍ فَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَعِفَّ عَنْ سَرِقَتِهِ، وَأَمَّا الزَّانِيَةُ فَلَعَلَّهَا أَنْ تَسْتَعِفَّ عَنْ زِنَاهَا، وَأَمَّا الغَنِيُّ فَلَعَلَّهُ يَعْتَبِرُ فَيُنْفِقُ مِمَّا أَعْطَاهُ اللهُ". [مسلم: 1022 - فتح: 3/ 290]
ذكر فيه حديث أبي هريرة في الصدقةِ على السَّارِق والزانية والغنيِّ، بطوله.
وقد أخرجه مسلم بزيادة: فقيل له: "أما صدقتَكَ فقد قُبِلَت"
(1)
. وهو ظاهر في الحض على الاغتباط بالصدقات، وكان هذا الرجل فيمن كان قبلنا فجازاه بها وقبل ذلك منه كما سلف، نبه عليه ابن التين قَالَ: وقوله: "فأتي فقيل له". يحتمل أن يكون أخبره بذلك نبي، أو أخبر في نوم.
قلتُ: قد جاء مصرحًا بالثاني. ففي "مستخرج أبي نعيم": "فأتي في منامه فقِيْلَ له: إن الله عز وجل قد قَبل صَدَقَتَكَ". وجزم به المهلب فقال: يعني: أنه أُري في المنام، والرؤيا حق.
(1)
"صحيح مسلم"(1022) كتاب: الزكاة، باب: أجر المتصدق وإن وقعت الصدقة
في يد غير أهلها.
وقوله: "فلعله أن يستعفف عن سرقته". (العل) من الله تعالى على معنى القطع والحتم. ودل ذلك أن صدقة الرجل على السارق والزانية والغني قد يقبلها الله تعالى، وقد صرح به كما سلف، لا سيما إذا كانت سببًا إلى ما يرضي الرب تعالى، فلا شك في فضلها وقبولها.
وقوله: "فعلَّها أنْ تَسْتَعِفَّ عن زناها". قَالَ ابن التين: رويناه بالمد. وعند أبي ذر بالقصر، وهي لغة أهل الحجاز، والمد لأهل نجد.
واختلف العلماء في الذي يعطي الفقير من الزكاة على ظاهر فقره ثم يتبين غناه، فقال الحسن البصري: إنها تجزئه. وهو قول أبي حنيفة ومحمد
(1)
، وقبلهما إبراهيم. قالوا: لأنه قد اجتهد وأعطى فقيرا عنده، وليس عليه غير الاجتهاد، وأيضًا فإن الصدقة إذا خرجت من مال المتصدق على نية الصدقة أنها جازئة عنه حيث وقعت ممن بسط إليها يدًا إذا كان مسلمًا بهذا الحديث، وقال أبو يوسف والثوري والحسن بن حي والشافعي: لا يجزئه؛ لأنه لم يضع الصدقة موضعها، وقد أخطأ في اجتهاده، كما لو نسي الماء في رحله وتيمم لصلاة لم تجزئه صلاته
(2)
. واختلف قول ابن القاسم: هل تجزئه أم لا
(3)
؟ قَالَ ابن القصار: وقول مالك يدل على هذا؛ لأنه نص في كفارة اليمين: إن أطعم الأغنياء فإنه لا يجزئه، وإن كان قد اجتهد فالزكاة أولى.
فأما الصدقةُ على السارِقِ والزَّانيةِ فإنَّ العلماءَ مُتفقون أنَّهما إذا كانا فقيرين فهما ممن تجوز له الزكاة.
(1)
انظر: "مختصر الطحاوي" ص 53.
(2)
انظر: "بدائع الصنائع" 2/ 50، "روضة الطالبين" 2/ 338، "المغني" 4/ 127.
(3)
انظر: "المنتقى" 2/ 151، "عيون المجالس" 2/ 599.
وفيه: وجوب الاعتبار والمنافسة في الخير كما سلف، وزعم بعضهم أن هذا كان في صدقة التطوع.
وقوله: (تُصدق) روي بضم التاء وفتحها.
15 - باب إِذَا تَصَدَّقَ عَلَى ابْنِهِ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ
1422 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، حَدَّثَنَا أَبُو الجُوَيْرِيَةِ، أَنَّ مَعْنَ بْنَ يَزِيدَ رضي الله عنه حَدَّثَهُ قَالَ: بَايَعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَا وَأَبِي وَجَدِّي، وَخَطَبَ عَلَيَّ فَأَنْكَحَنِي، وَخَاصَمْتُ إِلَيْهِ، وَكَانَ أَبِي يَزِيدُ أَخْرَجَ دَنَانِيرَ يَتَصَدَّقُ بِهَا، فَوَضَعَهَا عِنْدَ رَجُلٍ فِي المَسْجِدِ، فَجِئْتُ فَأَخَذْتُهَا فَأَتَيْتُهُ بِهَا، فَقَالَ: وَاللهِ مَا إِيَّاكَ أَرَدْتُ. فَخَاصَمْتُهُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"لَكَ مَا نَوَيْتَ يَا يَزِيدُ، وَلَكَ مَا أَخَذْتَ يَا مَعْنُ". [فتح: 3/ 291]
ذكر فيه حديث أبي الجويرية (خ، د، س) -بالجيم- حِطَّان بن خفاف الجرمي الكوفي أَنَّ مَعْنَ بْنَ يَزِيدَ (خ، د) -وهو ابن الأخنس- حَدَّثَهُ وهما من أفراد البخاري
(1)
قَالَ: بَايَعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَا وَأَبِي وَجَدِّي، وَخَطَبَ عَلَيَّ فَأَنْكَحَنِي، وَخَاصَمْتُ إِلَيْهِ، وَكَانَ أَبِي يَزِيدُ أَخْرَجَ دَنَانِيرَ يَتَصَدَّقُ بِهَا، فَوَضَعَهَا عِنْدَ رَجُلٍ فِي المَسْجِدِ، فَجِئْتُ فَأَخَذْتُهَا فَأَتَيْتُهُ بِهَا، فَقَالَ: والله مَا إِيَّاكَ أَرَدْتُ. فَخَاصَمْتُهُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"لَكَ مَا نَوَيْتَ يَا يَزِيدُ، وَلَكَ مَا أَخَذْتَ يَا مَعْنُ".
الشرح:
هذا الحديث من أفراده، وَمْعن هذا أدرك إمرة مروان. وهو ووالده وجده الأخْنس بدريون من الأفراد، فيما قاله يزيد بن أبي حبيب. وأما الصحابة فبيت الصديق فيه أربعة في نسق، وهو من الأفراد أيضًا.
وقوله: (وَخَطَبَ عَلَيَّ فَأَنْكَحَنِي) يريد: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذِه فضيلة، واتفق العلماء على أنه لا يجوز دفع الزكاة إلى الأبن ولا إلى
(1)
في هامش الأصل: أي عن مسلم.
الأب إذا كانا ممن تلزم المزكي نفقتهما
(1)
؛ لأنها وقاية لماله، ولم يختلفوا أنه يجوز له أن يعطيهما ما شاء من صدقة تطوع أو غيرها. قالوا؛ وهذا الحديث في التطوع.
وعن الشافعي: أنه يجوز للوالد الإعطاء إذا كان الولد غارمًا أو غازيًا، ويحمل حديث الباب عليه، وإذا كانا فقيرين وقلنا بعدم وجوب النفقة فلهما تناولها كالأجنبي.
واختلفوا في دفع الزكاة إلى سائر الأقارب المحتاجين الذين لا تلزم نفقتهم، فروي عن ابن عباس أنه يجزئه، وهو قول عطاء والقاسم وسعيد بن المسيب وأبي حنيفة والثوري والشافعي وأحمد
(2)
، وقالوا: هي لهم صدقة وصلة.
وقال ابن المسيب: أولى الناس بزكاة مالي يتيم ومن كان مني
(3)
.
وروى مطرف، عن مالك: أنه لا بأس أن يعطي قرابته من زكاته إذا لم يعط من يعول، وقال: رأيت مالكًا يعطي قرابته من زكاته. وهو قول أشهب
(4)
.
وقال الحسن البصري وطاوس: لا يعطي قرابته من الزكاة شيئًا.
وذكر ابن المواز عن مالك أنه كره أن يخص قرابته بزكاته وإن لم تلزمه نفقتهم
(5)
.
(1)
انظر: "الإجماع" لابن المنذر ص 142.
(2)
انظر: "الأصل" 2/ 148، "مختصر المزني" 1/ 256، "المغني" 4/ 99.
(3)
انظر: "مصنف ابن أبي شيبة" 2/ 412 (10532).
(4)
انظر: "النوادر والزيادات" 2/ 294، 295.
(5)
انظر: "النوادر والزيادات" 2/ 294.
وفيه: أن الابن يخاصم أباه، وليس بعقوق إذا كان ذلك في حق، على أن مالك قد كره ذلك ولم يجعله من باب البر.
وفيه: أن ما خرج إلى الابن من مال الأب على وجه الصدقة أو الصلة أو الهبة لله تعالى وحازه الابن أنه لا رجوع للأب فيه، بخلاف الهبة التي للأب أن يقتصرها. أي: يرجع فيها. ولم يكن له أن يقتصر الصدقة، وكل هبة وعطية لله فليس له أن يقتصرها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"العَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالعَائِدِ فِي قَيْئِهِ"
(1)
وهذا مذهب مالك
(2)
، وسيأتي مذهبنا في الرجوع في كتاب الهبة إن شاء الله.
وقال ابن التين: يجوز دفع الفرض إليه بشرطين:
أحدهما: أن يتولن غيره صرفها إليه.
الثاني: أن لا يكون في عياله، فإن كان في عياله وقصد إعطاءه فروى مطرف عن مالك: لا ينبغي له أن يفعل، فإن فعل أساء ولا يضمن إن لم يقطع عن نفسه إنفاقه عليهم.
قَالَ ابن حبيب: فإن قطع الإنفاق عن نفسه بذلك لم يجزئه، فإن لم يكن في عياله وتولى هو صرفها إليه. فاختلف قوله على ثلاث روايات: روى عنه ابن القاسم كراهية ذلك، وروى عنه مطرف جوازه، وروى عنه الواقدي: إن أفضل من وضعت فيه زكاتك أهل رحمك الذين لا تعول
(3)
.
(1)
سيأتي برقم (2589) كتاب: الهبة، باب: هبة الرجل لامرأته والمرأة لزوجها.
(2)
انظر: "المعونة" 2/ 503.
(3)
انظر: "النوادر والزيادات" 2/ 295 - 296.
وقد قَالَ بعض أهل العلم: إن نفقة الولد الكبير تلزم أباه وإن بلغ صحيحًا. واحتج بظاهر حديث هند: "خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالمَعْرُوفِ"
(1)
فعلى قوله لا يجوز دفعها للولد على كل حال؛ لأن النفقة له لازمة بالشرع، وفي الحديث:"إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّات"
(2)
وصح: "الصَّدقة على غير ذِي الرَّحِمِ صَدَقَةٌ، وَعَلَى ذِي الرَّحِمِ اثْنَتَانِ: صَدَقَةٌ وَصِلَة"
(3)
وممن قَالَ بإعطاء الأقارب ما لم يكونوا في عياله ابن عباس وابن المسيب وابن مسعود وسعيد بن جبير وإبراهيم والحسن وعطاء والضحاك وطاوس ومجاهد، حكاه في "المصنف" عنهم
(4)
، وفي "مسند الدارمي" من حديث حكيم مرفوعًا:"أفْضل الصَّدقة على ذي الَرَّحمِ الكاشح"
(5)
.
(1)
سيأتي برقم (2211) كتاب: البيوع، باب: من أجرى أمر الأمصار على ما يتعارفون بينهم
…
(2)
سبق برقم (1) كتاب: بدء الوحي، باب: كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(3)
رواه الترمذي (658) مطولًا، كتاب: الزكاة، باب: ما جاء في الصدقة على ذي القربى، وقال أبو عيسى: حديث سلمان حسن، والنسائي 5/ 92 كتاب: الزكاة، باب: الصدقة على الأقارب، وابن ماجه (1844) كتاب: الزكاة، باب: فضل الصدقة، وأحمد 4/ 18، والدارمي 2/ 1046 (722 - 1723) كتاب: الزكاة، باب: الصدقة على القرابة، والبيهقي 4/ 174 كتاب: الزكاة، باب: الاختيار في أن يؤثر بزكاة فطره وزكاة ماله ذوي رحمه
…
وصححه الألباني في "صحيح الترمذي"(531) و"ابن ماجه"(1494).
(4)
"مصنف ابن أبي شيبة" 2/ 412، 413 (10531 - 10542).
(5)
"مسند الدارمي" 2/ 1045 (1721) كتاب: الزكاة، باب: الصدقة على القرابة.
16 - باب الصَّدَقَةِ بِاليَمِينِ
1423 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللهِ قَالَ: حَدَّثَنِي خُبَيْبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ تَعَالَى فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ: إِمَامٌ عَدْلٌ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي المَسَاجِدِ، وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ". [انظر: 660 - مسلم: 1031 - فتح: 3/ 292]
1424 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الجَعْدِ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَعْبَدُ بْنُ خَالِدٍ قَالَ: سَمِعْتُ حَارِثَةَ بْنَ وَهْبٍ الخُزَاعِىَّ - رضى الله عنه - يَقُولُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "تَصَدَّقُوا، فَسَيَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ يَمْشِي الرَّجُلُ بِصَدَقَتِهِ، فَيَقُولُ الرَّجُلُ: لَوْ جِئْتَ بِهَا بِالأَمْسِ لَقَبِلْتُهَا مِنْكَ، فَأَمَّا اليَوْمَ فَلَا حَاجَةَ لِي فِيهَا". [انظر: 1411 - مسلم: 1011 - فتح: 3/ 293]
ذكر فيه حديث أبي هريرة: "سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظِلِّهِ
…
" وقد سلف
(1)
.
وحديث حارثة بن وهب: "تصدقوا .. " السالف في باب الصدقة قبل الرد
(2)
.
ولم يظهر لي وجه إيراده في الصدقة باليمين إلا أن يقال: إن قوله: "تصدقوا" يحمل على ما مدح فيه في الحديث الأول، وهو اليمين.
(1)
برقم (660) كتاب: الأذان، باب: من جلس في المسجد ينتظر الصلاة، وفضل المساجد.
(2)
برقم (1411) كتاب: الزكاة.
قَالَ ابن التين هنا: وقوله: "يُظِلّهُمُ اللهُ فِي ظِلِّهِ" جاء في [الأثر]
(1)
: أن الشمس تقرب من الخلائق يوم القيامة حَتَّى يبلغ الكافر في رشحه إلى أنصاف أذنيه، فيظل الله من يشاء في ظله. وقد سلف ما في ذلك مستوفي.
وبدأ بالإمام العادل؛ لأن الله تعالى يصلح به أمر العباد في [نفي]
(2)
الظلم، وإصلاح السبل، ودفع العدو، وغير ذلك. ويقال: للإمام مثل أجر من عمل بأمره وانتهى بنهيه ووعظه مع أجره، وليس أحد أقرب من الله منزلة منه بعد الأنبياء. وقال عثمان: الذي يزع بالإمام
(3)
أكثر مما يزع يالقرآن. يعني: يكف. وإنما خص اليمين لأن الصدقة لما كانت لله استعمل فيها أشرف الأعضاء وأفضل الجوارح. وقد سلف أن إخفاء النوافل والتستر بها أفضل عند الله من إظهارها، بخلاف الفرائض. وهذا مثل ضربه صلى الله عليه وسلم لإخفاء الصدقة لقرب الشمال من اليمين. وإنما أراد بذلك أن لو قدر على أن لا يعلم من يكون على شماله من الناس ما تصدقت به يمينه لشدة استتاره. وهذا على المجاز إذ لا يوصف بالعلم. وهذا قد سلف أيضًا.
(1)
في الأصل: الآية وهو خطأ.
(2)
ساقطة من الأصل.
(3)
وقع قبلها في الأصل: الإمام، وبيض مكانها في (م).
17 - باب مَنْ أَمَرَ خَادِمَهُ بِالصَّدَقَةِ وَلَمْ يُنَاوِلْ بِنَفْسِهِ
وَقَالَ أَبُو مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم "هُوَ أَحَدُ المُتَصَدِّقِينَ". [1438]
1425 -
حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَنْفَقَتِ المَرْأَةُ مِنْ طَعَامِ بَيْتِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ، كَانَ لَهَا أَجْرُهَا بِمَا أَنْفَقَتْ، وَلِزَوْجِهَا أَجْرُهُ بِمَا كَسَبَ، وَلِلْخَازِنِ مِثْلُ ذَلِكَ، لَا يَنْقُصُ بَعْضُهُمْ أَجْرَ بَعْضٍ شَيْئًا". [1437، 1439، 1440، 1441، 2065 - مسلم: 1024 - فتح: 3/ 213]
ذكر فيه عن شقيق، عن مسروق، عن عائشة: قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَنْفَقَتِ المَرْأَةُ مِنْ طَعَامِ بَيْتِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ، كَانَ لَهَا أَجْرُهَا بِمَا أَنْفَقَتْ، وَلِزَوْجِهَا أَجْرُهُ بِمَا كَسَبَ، وَلِلْخَازِنِ مِثْلُ ذَلِكَ، لَا يَنْقُصُ بَعْضُهُمْ أَجْرَ بَعْضٍ شَيْئًا".
أما التعليق فيأتي مسندًا قريبًا
(1)
. وحديث عائشة أخرجه مسلم
(2)
، والأربعة
(3)
. ولما رواه الترمذي من حديث أبي وائل عن عائشة، وحسنه قَالَ: حديث أبي وائل عن مسروق أصح، فإنه لا يذكر في حديثه عن مسروق
(4)
. وقال الدارقطني: روي من حديث أبي وائل الأسود، وهو وهم، والصحيح عن أبي وائل عن عائشة.
إذا تقرر ذلك، فكأن البخاري أراد بالترجمة معارضة ما روى ابن أبي
(1)
برقم (1438) كتاب: الزكاة، باب: أجر الخادم إذا تصدق بأمر صاحبه غير مفسد.
(2)
"صحيح مسلم"(1024) كتاب: الزكاة، باب: أجر الخازن الأمين، والمرأة إذا تصدقت من بيت زوجها
…
(3)
أبو داود (1685)، الترمذي (672)، النسائي 5/ 65، ابن ماجه (2294).
(4)
"سنن الترمذي"(671) كتاب: الزكاة، باب: في نفقة المرأة من بيت زوجها.
شيبة، عن وكيع، عن موسى بن عبيدة، عن عباس بن عبد الرحمن المدني قَالَ: خصلتان لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يكلهما إلى أحد من أهله: كان يناول المسكين بيده، ويضع الطهور لنفسه
(1)
. وكان الحسين يفعله
(2)
. وروى الجُوزي من حديث ابن عباس: كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يكل طهوره ولا صدقته التي يتصدق بها إلى أحد، يكون هو الذي يتولاهما بنفسه
(3)
. وفيه: كان ابن مكتوم إذا تصدق قام بنفسه.
والترجمة تتخذ من قوله في الحديث: "وَلِلْخَازِنِ مِثْلُ ذَلِكَ" والمراد: الخادم كما ستعلمه؛ لأن الخادم لا يجوز أن يتصدق من مال مولاه إلا بإذنه.
وقوله: "أَحَدُ المُتَصَدَّقَيْنِ" هو بالتثنية. ذكر القرطبي أنه لم يُروَ إلا بالتثنية. ومعناه أنه بما فعل متصدق، والذي أخرج الصدقة بما أخرج متصدق آخر، فهما متصدقان. ويصح أن يقال على الجمع، ويكون معناه أنه متصدق من جملة المتصدقين
(4)
. وبنحوه ذكره ابن التين وغيره.
وفي الباب أحاديث في إنفاق المرأة والمملوك: منها حديث أبي هريرة الآتي في البيوع "إِذَا أَنْفَقَتِ المَرْأةُ مِنْ كسْبِ زَوْجِهَا عَنْ غَيْرِ أَمْرِهِ، فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِهِ"
(5)
.
(1)
"المصنف" 1/ 178 (2045) كتاب: الطهارات، باب: من كان يحب أن يلي طهوره بنفسه.
(2)
رواه أحمد بن حنبل في "الزهد" 1/ 166.
(3)
رواه ابن ماجه (362) قال الألباني في "الضعيفة"(4250): ضعيف جدًا.
(4)
"المفهم" 3/ 68.
(5)
برقم (2066) باب: قول الله تعالى: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} .
وفي أبي داود -بإسناد جيد- من حديث سعد: لَمَّا بَايَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم النِّسَاءَ قَالت امْرَأَةٌ: يارسُولَ اللهِ إِنَّا كَلٌّ عَلَى آبَائِنَا وَأَبْنَائِنَا وأزواجنا فَمَا يَحِلُّ لَنَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ. فَقَالَ: "الرَّطْبُ تَأكلْنَهُ وَتُهْدِينَهُ". قَالَ أَبُو دَاوُدَ: الرَّطْبُ: الخُبْزُ وَالبَقْلُ وَالرُّطَبُ.
(1)
.
قَالَ ابن المديني: سعد ليس بابن أبي وقاص، فهو مرسل.
قلتُ: بل هو كما ذكره البزار وغيره.
وفي مسلم من حديث عمير مولى آبي اللحم: أتصدق يا رسول الله من مال مولاي؟ قَالَ: "نعم، والأجرُ بينكُما نِصْفان"
(2)
. وللترمذي من حديث أبي أمامة الباهلي قَالَ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته عام حجة الوداع: "لا تنفق امرأةٌ شيئًا من بيت زوجها" قيل: يا رسول الله ولا الطعام؟ قال: "ذلك أفضل أموالنا"
(3)
ولأبي داود من حديث أبي هريرة في المرأة تصدق من بيت زوجها
(4)
قَالَ: لا إلا من قوتها ثم قَالَ: هذا يضعف رواية أبي هريرة
(5)
.
(1)
"سنن أبي داود"(1686) كتاب: الزكاة، باب: المرأة تتصدق من بيت زوجها، وضعفه الألباني في "ضعيف أبي داود" برقم (301) قائلًا: ضعيف لانقطاعه بين زياد وسعد وهو: ابن أبي وقاص.
(2)
"صحيح مسلم"(1025) كتاب: الزكاة، باب: ما أنفق العبد من مال مولاه.
(3)
"سنن الترمذي"(670) كتاب: الزكاة، باب: في نفقة المرأة من بيت زوجها، وقال: هذا حديث حسن.
(4)
"سنن أبي داود"(1688) كتاب: الزكاة، باب: المرأة تتصدق من بيت زوجها، قال أبو داود: هذا يضعف حديث همام، وصححه الألبانى في "صحيح أبي داود" برقم (1481) قائلًا: إسناده صحيح موقوف، وهو تفسير للمرفوع الذي قبله.
(5)
يعني حديث "إذا أنفقت المرأة من كسب زوجها من غير أمره فلها نصف أجره" وسيأتي برقم (2066).
وقال الشعبي لمملوك سأله؛ يكتسب ويتصدق: الأجر لمواليك
(1)
.
وقَالَ إبراهيم: لا بأس أن يتصدق العبد من الفضل. وقال الحسن: يتصدق من قوته بالشيء الذي لا يضر به. وقَالَ ابن جبير: يتصدق بثلاثة دراهم أو أربعة. وقال ابن المسيب: يتصدق من ماله بالصاع وشبهه
(2)
. وقال إبراهيم: بما دون الدرهم. وقال عمر وعلي: بالدرهم. زاد عمر: والرغيف. وعن الشعبي وخيثمة: لا يتصدق بما فوق الدرهم
(3)
.
واختلف الناس في تأويل هذا الحديث على قولين كما قَالَ ابن العربي: فمنهم من قَالَ: إنه في اليسير الذي لا يؤبه إلى نقصانه، ولا يظهر. ومنهم من قَالَ: إذا أذن فيه الزوج، وهو اختيار البخاري. قَالَ: ويحتمل أن يكون محمولًا على العادة يوضحه قوله: "بطيب نفس" و"غَيْرَ مُفْسِدَةٍ"، وهو محمول على اليسير الذي لا يجحف به
(4)
، فإن زاد على المتعارف لم يجز. وذكر الإطعام؛ لأنه يسمح به في العادة، بخلاف الدراهم والدنانير في حق أكثر الناس. وزعم بعضهم أن المراد بنفقة المرأة والعبد والخازن النفقة على عيال صاحب المال، وغلمانه، ومصالحه، وكذا صدقتهم المأذون فيها عرفًا أو تصريحًا. وقال بعضهم: هذا على طريقة أهل الحجاز
(1)
رواه ابن أبي شيبة 2/ 391 (10281) كتاب: الزكاة، باب: من كره للعبد أن يتصدق بغير إذن مولاه.
(2)
روى هذِه الآثار ابن أبي شيبة 2/ 390 (10265 - 10268) كتاب: الزكاة، باب: في العبد يتصدق من رخص أن يفعل.
(3)
السابق 2/ 391 (10270)، (10272)، (10275).
(4)
"عارضة الأحوذي" 3/ 177 - 178.
وما جانسهم، وذلك أن رب البيت قد يأذن في مثل ذلك، وتطيب به نفسه، وليس ذلك بأن تفتات المرأة والخادم على رب البيت.
وفرَّق بعضهم بين الزوجة والخادم بأن الزوجة لها حق في مال الزوج، ولها النظر في بيتها، فجاز لها أن تتصدق ما لم يكن إسرافًا.
وأما الخادم فليس له تصرف في متاع مولاه ولا حكم، فيشترط الإذن فيه دون الزوجة. وجزم ابن التين بأن قوله:"غَيْرَ مُفْسِدَةٍ"، يريد: فعلت ما يلزم الزوج من نفقة عيال، وإعطاء سائل على ما جرت به العادة، أو صلة رحم، أو مواساة مضطر، فهذِه لها أجرها بما صرفت عنه من شح النفس.
وقوله: "وَلِلْخَازِنِ مِثْلُ ذَلِكَ" يريد الخادم طيب النفس. وقيل معناه: إذا فعل مثل المرأة كان له مثل أجرها. وبينه حديث أبي موسى الآتي: "طيب به نفسه"
(1)
ونفذ ما أمره به كاملًا موفرًا، وعليه يدل تبويب البخاري أخذه من قوله:"وَللْخَازِنِ مِثْلُ ذَلِكَ"؛ لأن الخازن لا يجوز له أن يتصدق إلا بإذن مولاه بخلاف الزوجة على قول من أباح لها ذلك؛ لأن الخازن إنما هو أمين فقط. ثم ظاهر الخبر أن أجر الجميع متساوٍ.
وقال بعضهم: لا يعلم مقدار أجر كل واحد منهم إلا الله غير أن الأظهر أن الكاسب أكثر أجرًا، كما قاله ابن بطال
(2)
.
وقد أسلفنا من حديث أبي هريرة أن لها نصف أجره. وقال بعضهم: النصف مجاز، وهما سواء في المثوبة، لكل منهما أجر كامل. ويحتمل
(1)
سيأتي هنا برقم (1438)، باب: أجر الخادم إذا تصدق بأمر صاحبه غير مفسد.
(2)
"شرح ابن بطال" 3/ 426 - 427.
أنها مثلان فأشبه الشيء المنقسم بنصفين. ثم اعلم أن البخاري ترجم على هذا الحديث تراجم: ترجم عليه ما نحن فيه. وترجم عليه باب أجر الخادم إذا تصدق بأمر صاحبه غير مفسد، وزاد فيه حديث أبي موسى كما ستعلمه
(1)
، وترجم عليه إثره باب: أجر المرأة إذا تصدقت أو أطعمت من بيت زوجها غير مفسدة، وساقه عن عائشة من طرق
(2)
. وهو من باب المعاونة التي أمر بها الرب جل جلاله حيث قَالَ: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] وهي دالة على اشتراك المتعاونين على الخير في الأجر.
وجاء هذا المعنى في هذِه الأحاديث إلا أنه لا يجوز لأحد أن يتصدق من مال أحد بغير إذنه، لكن لما كانت المرأة لها حق في ماله كان لها النظر في بيتها جاز لها الصدقة بما لا يكون إضاعة للمال، ولا إسرافًا، لكن بمقدار العرف والعادة، وما تعلم أنه لا يؤلم زوجها، وتطيب به نفسه. فأخبر أنها تؤجر على ذلك، ويؤجر زوجها بما كسب. ويؤجر الخادم الممسك كذلك هو والخازن المذكور في الحديث كما سلف إلا أن مقدار أجر كل منهم متفاوت كما سلف.
(1)
يأتي برقم (1437) وحديث أبي موسى برقم (1438).
(2)
أحاديث (1439 - 1441).
18 - باب لَا صَدَقَةَ إِلاَّ عَنْ ظَهْرِ غِنًى
وَمَنْ تَصَدَّقَ وَهْوَ مُحْتَاجٌ، أَوْ أَهْلُهُ مُحْتَاجون، أَوْ عَلَيْهِ دَيْنٌ، فَالدَّيْنُ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى مِنَ الصَّدَقَةِ وَالعِتْقِ وَالهِبَةِ، وَهْوَ رَدٌّ عَلَيْهِ، لَيْسَ لَهُ أَنْ يُتْلِفَ أَمْوَالَ النَّاسِ. قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ إِتْلَافَهَا أَتْلَفَهُ اللهُ". [2387] إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَعْرُوفًا بِالصَّبْرِ فَيُؤْثِرَ عَلَى نَفْسِهِ وَلَوْ كَانَ بِهِ خَصَاصَة، كَفِعْلِ أَبِي بَكْرٍ حِينَ تَصَدَّقَ بِمَالِهِ، وَكَذَلِكَ آثَرَ الأَنْصَارُ المُهَاجِرِينَ، وَنَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ إِضَاعَةِ المَالِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَيِّعَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِعِلَّةِ الصَّدَقَةِ. [انظر: 844]
وَقَالَ كَعْبٌ بنُ مالك: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إِلَي اللهِ وَإِلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ:"أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ، فَهْوَ خَيْرٌ لَكَ". قُلْتُ فَإِنِّي أُمْسِكُ سَهْمِى الذِي بِخَيْبَرَ. [2757]
1426 -
حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ المُسَيَّبِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ". [1428، 5355، 5356 - فتح: 3/ 294]
1427 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"اليَدُ العُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ، وَخَيْرُ الصَّدَقَةِ عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ". [مسلم: 1034 - فتح: 3/ 294]
1438 -
وَعَنْ وُهَيبِ قَالَ: أَخْبَرَنَا هِشَامٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبي هريرَةَ رضي الله عنه بهذا. [انظر: 1426 - فتح 3/ 294]
1429 -
حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ح.
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ وَهُوَ عَلَى المِنْبَرِ، وَذَكَرَ الصَّدَقَةَ وَالتَّعَفُّفَ وَالمَسْأَلَةَ:"اليَدُ العُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى، فَاليَدُ العُلْيَا هِيَ المُنْفِقَةُ، وَالسُّفْلَى هِيَ السَّائِلَةُ". [مسلم: 1033 - فتح: 3/ 294]
ذكر فيه أحاديث ثلاثة، وسردها ابن بطال حديثًا واحدًا من حديث أبي هريرة
(1)
:
أحدها: حديث أبي هريرة: "خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ".
ثانيها: حديث حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ: "اليَدُ العُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ، وَخَيْرُ الصَّدَقَةِ عَنْ ظَهْرِ غِنًى .. " الحديث.
وعن وهيب، حدثنا هشام، عن أبيه، عن أبي هُريرةَ، مرفوعًا مثله.
ثالثها: حديث ابن عمر: "اليَدُ العُلْيَا خير مِنَ اليَدِ السُّفْلَى، اليد العُلْيَا هِيَ المُنْفِقَةُ، وَالسُّفْلَى هِيَ السَّائِلَةُ ".
الشرح:
هذِه الترجمة بلفظها مروية أخرجها الواحدي بإسناده إلى أبي صالح، عن أبي هريرة، وذكره ابن بطال في حديث عطاء عن أبي هريرة أيضًا
(2)
. ولأبي داود: "إن خير الصدقة ما ترك غنى أو تصدق به عن ظهر غنى، وابدأ بمن تعول"
(3)
.
(1)
"شرح ابن بطال" 3/ 427 - 428.
(2)
"شرح ابن بطال" 3/ 430.
(3)
"سنن أبي داود"(1676) كتاب: الزكاة، باب: الرجل يخرج من ماله.
وحديث: "مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ .. " إلى آخره سيأتي مسندًا بعد إن شاء الله
(1)
.
وقوله: (فَالدَّيْنُ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى مِنَ الصَّدَقَةِ) لعله يريد حديث: "أرأيت لو كان على أُمك دينٌ أكنتِ قاضيته؟ " قالت: بلى. وسيأتي
(2)
وهو إجماع.
وقوله: (والعِتق) لعله يريد حديث نعيم النحَّام من عنده أيضًا في بيعه صلى الله عليه وسلم العبد المعتق عن دُبر الذي لم يكن لسيده مال غيره
(3)
، وقيل: إن عليه دينًا.
وقوله: (إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَعْرُوفًا بِالصَّبْرِ فَيُؤْثِرَ عَلَى نَفْسِهِ) إنما يرجع هذا الاستثناء إلى الصدقة لا إلى الدين كما سيأتي
(4)
.
ومن علم من نفسه الصبر على الضر والإضاقة والإيثار فمباح له أن يؤثر على نفسه ولو كان به خصاصة، وجائز له أن يتصدق وهو محتاج، ويأخذ بالشدة كما فعل الصديق والأنصار بالمهاجرين. وإن عرف أنه لا طاقة له ولا صبر فإمساكه أفضل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ، فَهْوَ خَيْرٌ لَكَ" وقوله: "ابدأ بمن تعول"، وحديث البخاري في
(1)
برقم (2387) كتاب: في الاستقراض، باب: من أخذ أموال الناس يريد أداءها أو إتلافها.
(2)
برقم (7315) كتاب: الاعتصام، باب: من شبه أصلًا معلومًا بأصل مبين قد بين الله حكمهما؛ ليفهم السائل.
(3)
سيأتي هذا الحديث برقم (2141) كتاب: البيوع، باب: بيع المزايدة، ورواه مسلم (997).
(4)
برقم (2387) كتاب: في الاستقراض، باب: من أخذ أموال الناس يريد أداءها أو إتلافها.
قصة الضيف الذي آثره صاحب البيت على نفسه وولده
(1)
، ظاهر فيما نحن فيه.
وعند الواحدي: نزلت في رجل أهديت له رأس شاة فآثر غيره بها فدارت على سبعة أبيات
(2)
. والخَصَاصَةُ: الإملاق، وأصله الخلل والفرج، يقال: بدا القمر من خصاصة الغيم. وسيكون لنا عودة إليه في التفسير.
وقوله: (كَفِعْلِ أَبِي بَكْرٍ حِينَ تَصَدَّقَ بِمَالِهِ كلِّه) أخرجه أبو داود، وصححه الترمذي والحاكم على شرط مسلم
(3)
.
وقوله: (وَكَذَلِكَ آثَرَ الأَنْصَارُ المُهَاجِرِينَ) ذكره ابن إسحاق وغيره: أن المهاجرين لما نزلوا على الأنصار آثروهم حَتَّى قَالَ بعضهم لعبد الرحمن بن عوف: أنزل لك عن إحدى امرأتيَّ
(4)
.
وقوله: (وَنَهَى عَنْ إِضَاعَةِ المَالِ) كأنه يشير إلى حديث المغيرة بن شعبة المذكور عنده في الصلاة
(5)
.
وقوله: (وقال كعب بن مالك .. ) إلى آخره. يأتي في موضعه مسندًا
(6)
.
(1)
يأتي برقم (3798).
(2)
"أسباب النزول" ص 439 - 440 (810).
(3)
"سنن أبي داود"(1678) كتاب: الزكاة، باب: في الرخصة في الرجل يخرج من ماله، "سنن الترمذي" (3675) كتاب: المناقب، باب: في مناقب أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وقال: هذا حديث حسن صحيح، "المستدرك" 1/ 414، وقال الألباني في "صحيح أبي داود"(1473) إسناده حسن على شرط مسلم.
(4)
الأنصاري هذا هو سعد بن الربيع كما سيأتي برقم (2049)، ورواه مسلم (1427).
(5)
سلف برقم (844) كتاب: الأذان، باب: الذكر بعد الصلاة.
(6)
سيأتي برقم (2757) كتاب: الوصايا، باب: إذا تصدق أو أوقف بعض ماله
…
وحديث أبي هريرة الأول من أفراده إلا قوله: "وابدأ بمن تعول".
وحديث حكيم أخرجه مسلم أيضًا بدون "ومن يستعفف .. " إلى آخره.
ولفظ مسلم: "أفضل الصدقة -أو خير الصدقة- عن ظهر غنى"
(1)
وما زاده البخاري أخرجه مسلم من حديث أبي سعيد
(2)
، وكذا البخاري أيضًا
(3)
. وحديث أبي هريرة الذي لم يذكر لفظه من أفراده. وقوله فيه: عن وهيب. ثم ساقه، قَالَ أبو مسعود، وخلف، وأبو نعيم أن البخاري رواه عن موسى بن إسماعيل عنه، كما أخرج حديث حكيم، ورواه الإسماعيلي من حديث حبان عنه، ثنا هشام، عن أبي هريرة مثل حديث حكيم وأخرجه الترمذي من حديث بيان بن بشر، عن قيس بن أبي حازم، عن أبي هريرة:"اليد العُليا" إلى قوله: "تعول" ثم قَالَ: حسن غريب، يستغرب من حديث بيان عن قيس
(4)
. ولابن أبي شيبة: "وخيرُ الصدقة ما أبقت غنى"
(5)
.
وحديث ابن عمر أخرجه مسلم أيضًا
(6)
. قَالَ أبو العباس أحمد بن طاهر الداني: تفسير العليا فيه، والسفلى مدرج في الحديث، وهو مرفوع وإن ظُنَّ لبعض الرواة. والمنفقة: المعطية. وفي رواية: "العليا
(1)
"صحيح مسلم"(1034) كتاب: الزكاة، باب: بيان أن اليد العليا خير من اليد السفلى.
(2)
"صحيح مسلم"(1053) كتاب: الزكاة، باب: فضل التعفف والصبر.
(3)
سيأتي برقم (1469) كتاب: الزكاة، باب: الاستعفاف عن المسألة.
(4)
"سنن الترمذي"(680) تقال: الزكاة، باب: ما جاء في النهي عن المسألة.
(5)
"المصنف" 2/ 472 (10693) كتاب: الزكاة، باب: في الاستغناء عن المسألة، من قال: اليد العليا خير من اليد السفلى.
(6)
"صحيح مسلم"(1033) كتاب: الزكاة، باب: بيان أن أفضل الصدقة صدقة الصحيح الشحيح.
المتعففة"
(1)
، أي: المنقبضة عن الأخذ. والأول أصح. وفي "الصحابة" للعسكري، عن عاصم الأحول، عن الحسن البصري قَالَ: معنى الحديث: يد المعطي خير من اليد المانعة. وقال أبو داود: أكثرهم "اليد العليا المتعففة"
(2)
أي: لأنها علت يده إذ سفلت يد السائل.
وفي "صحيح ابن خزيمة"، والحاكم -وقال: صحيح الإسناد- من حديث مالك بن نضلة مرفوعًا: "الأيدي ثلاثة: فيد الله العُليا، ويد المعطي التي تليها. ويد السائل السُّفلى. وأعط الفضل، ولا تعجز عن نفسك"
(3)
(4)
.
إذا تقرر ذلك فقوله: "خير الصدقة ما كان عن ظهرِ غنى" معناه: أن صاحبها يبقى بعدها مستغنيًا بما بقي معه لمصالحه. وإنما كانت هذِه أفضل ممن تصدق بالجميع، ولم يصبر؛ لأنه قد يندم. وقال الداودي: معناه: أن يستغني من تلزمه نفقته. وقال ابن التين: ما كان عفوًا قد فضل عن الحاجة. والمراد: أن يبقي لعياله قدر الكفاية. ودليله قوله: "وابدأ بمن تعول". وقيل معناه: أن تغني المتصدق عليه. ومعناه: إجزال العطاء. قَالَ: والأول أصح. وفيه دلالة على أن النفقة
(1)
رواها أبو داود من حديث عبد الله بن عمر (1648) كتاب: الزكاة، باب: في الاستعفاف، والبيهقي 4/ 197 - 198 كتاب: الزكاة، باب: بيان اليد العليا واليد السفلى، وقال الألباني في "صحيح أبي داود" (1454): إسناده صحيح على شرط الشيخين.
(2)
"سنن أبي داود" عقب حديث (1648)، وفيه: أكثرهم "المنفقة".
(3)
ورد بهامش الأصل ما نصه: ثم بلغ في الثالث عشر، كتبه مؤلفه غفر الله له.
(4)
"صحيح ابن خزيمة" 4/ 97 - 98 (2440) كتاب: الزكاة، باب: فضل الصدقة عن ظهر غنى يفضل عمن يعول المتصدق، "المستدرك" 1/ 408 كتاب: الزكاة.
ورواه أيضًا أبو داود (1649) قال الألباني في "صحيح أبي داود"(1455): إسناده صحيح.
على الأهل أفضل من الصدقة؛ لأن الصدقة تطوع، والنفقة على الأهل فريضة. وقال ابن بطال: معناه لا صدقة إلا بعد إحراز قوته وقوت أهله؛ لأن الابتداء بالفرض أهم. وليس لأحد إتلاف نفسه وأهله بإحياء غيره. إنما عليه إحياء غيره بعد إحياء نفسه وأهله، إذ حقهما أوجب من حق سائر الناس، ولذلك قَالَ:"وابدأْ بمَنْ تعول" وقال لكعب: "أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ، فَهْوَ خَيْرٌ لَك"
(1)
.
فإن قلتَ: هذا المعنى يعارض فعل الصديق السالف، حيث تصدق بماله كله وأمضاه الشارع. قلتُ: اختلف العلماء في ذلك أعني من تصدق بماله كله في صحته. فقالت طائفة: ذلك جائز احتجاجًا بذلك. وهو قول مالك، والكوفيين، والجمهور
(2)
. ونقله ابن بطال
(3)
، وابن التين عن الشافعي، والصحيح من مذهبه استحباب ذلك لمن قوي على الضر والإضاقة دون غيره
(4)
.
وقال آخرون: لا يجوز شيء منه، روي ذلك عن عمر وأنه رد على
غيلان بن سلمة نساءه، وكان طلقهن، وقسم ماله على بنيه، فرد عمر ذلك كله
(5)
. وقال آخرون: الجائز من ذلك الثلث، وترد الثلثان احتجاجًا بحديث كعب بن مالك السالف في غزوة تبوك، وأنه صلى الله عليه وسلم رد صدقته إلى الثلث. وهو قول الأوزاعي ومكحول. وقال آخرون: كل عطية تزيد على النصف ترد إلى النصف، روي ذلك عن مكحول. قَالَ
(1)
"شرح ابن بطال" 3/ 428.
(2)
انظر: "المعونة" 2/ 506، "المغني" 4/ 320.
(3)
انظر: "شرح ابن بطال" 3/ 429.
(4)
انظر: "البيان" 3/ 449.
(5)
رواه أحمد 2/ 14، وابن حبان (4156) والحديث روي مطولًا ومختصرًا، انظره مفصلًا في "البدر المنير" 7/ 602 - 611، و"تلخيص الحبير" 3/ 168 - 169، و"الإرواء"(1883) وفي الأخير جاء مصححًا.
الطبري: والصواب في ذلك عندنا أن صدقة المتصدق بماله كله في صحته جائزة؛ لإجازته صدقة الصديق بماله كله، وإن كنت لا أرى أن يتصدق بماله كله، ولا يجحف بماله ولا بعياله، ويستعمل في ذلك أدب الرب لنبيه بقوله:{وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} الآية [الإسراء: 29] وأن يجعل من ذلك الثلث كما أمر الشارع لكعب بن مالك، وأبي لبابة
(1)
وأما إجازته للصديق فهو إعلام بالجواز من غير ذم، وما فعل مع كعب وأبي لبابة إعلام بالاستحباب. والدليل على ذلك إجماع الجميع أن لكل مالك مال إنفاق جميعه في حاجاته، فكذا فيما هو قربة وأولى. فإن قلتَ: كيف نعمل بقوله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الحشر: 9] وقوله: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} [الإنسان: 8] وبحديث أبي ذر: "أفضل الصدقة جهد من مقل"
(2)
. وبحديث الباب. قلتُ: لا معارضة بينهما فإن المعنى في حديث الباب حصول ما تدفع به الحاجات الضرورية كالأكل، وستر العورة، وشبهها، فهذا ونحوه بما لا يجوز الإيثار به، ولا التصدق به بل يحرم، فإذا سقطت هذِه الواجبات صح الإيثار، وكان صدقته هي الأفضل؛ لأجل ما يحمله من مضض الحاجة، وشدة المشقة.
وقوله: "واليَدُ العُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى".
فيه: الندب إلى التعفف عن المسألة، والحض على معالي الأمور وترك دنيئها. والله تعالى يحب معالي الأمور.
(1)
انظر: "شرح ابن بطال" 3/ 429 - 430.
(2)
رواه أحمد 5/ 178، والطبراني في "الكبير" 8/ 217، والبيهقي في "السنن الكبرى" 4/ 180، قال الهيثمي في "المجمع" 1/ 159: مداره على علي بن يزيد وهو ضعيف.
وفيه: حض على الصدقة أيضًا؛ لأن العليا يد المتصدق، والسفلى يد السائل، والمعطي مفضل على المعطى، والمفضل خير من المفضل عليه. ولم يرد صلى الله عليه وسلم أن المفضل في الدنيا خير اليدين. وإنما أراد في الإفضال والإعطاء. قَالَ الخطابي: توهم كثير من الناس أن العليا من علو الشيء فوق الشيء، وليس ذلك عندي بالوجه، إنما هو على المجد والكرم. يريد به الترفع عن المسألة والتعفف عنها
(1)
. ورد عليه ابن الجوزي فقال: لا يمتنع أن يحمل على ما أنكره؛ لأنها إذا حملت العليا على المتعففة لم يكن للمنفق ذكر، وقد صحت لفظة: المنفقة، وكان المراد أن هذِه اليد التي علت وقت العطاء على يد السائل هي العالية في باب الفضل.
وزعم قوم: أن العُليا هي الآخذة، والسفلى هي المعطية. وهؤلاء قوم استطابوا السؤال فجنحوا إلى الدناءة. والناس إنما يعلون بالمعروف والعطايا.
وقال ابن العربي: إذا قلنا: إنَّ العليا: المعطي؛ فلأنها نائبة عن الله إذ هو خازنه ووكيله في الإعطاء، فأخذها منه كأنه أخذها من الله تعالى.
وقد قيل: إن العليا: يد السائل
(2)
؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الصدقةَ لتقع في كفِّ الرَّحمن قَبْل أن تقعَ في كفِّ السَّائلِ"
(3)
والتحقيق فيه أن الله تعالى عبر بالعليا عن يده المعطية إذ هو بأمره، وعبر عن يد السائل بالسفلى؛ لأنه الذي يقبل الصدقات. وكلتاهما يد الله، وكلتاهما يمين وعليا. فلذلك كان الأقوى أن تكون يد المعطي العليا. ويبقى في السفلى على ظاهره؛ لأنها
(1)
انظر: "غريب الحديث" 1/ 594 - 596.
(2)
انظر: "كتاب القبس" 2/ 453.
(3)
رواه ابن عبد البر في "تمهيده" 23/ 174.
تتقبلها، فكانت كالذي تؤخذ بالكف، وتقع في يد السائل فيقضي بها حاجته، ويسد فاقته.
قَالَ ابن التين: ويدل على أن المراد بالسفلى السائلة أن عمر قَالَ: يا رسول الله، ألست أخبرتنا أن خيرًا لأحدنا أن لا يأخذ من أحد شيئًا. فقال صلى الله عليه وسلم:"إنَّما ذلك عن مسألة، فأما ما كان عن غَيْرِ مسألة فإنَّما هو رزق رزقه الله تعالى"
(1)
، وقال:"لأن يأخُذَ أحدُكُم حَبْلَه فيحتطب، خيرٌ له مِنْ أنْ يأْتِيَ رجُلًا أعطاه الله من فضله فيسأله، أعطاهُ أو مَنَعَهُ"
(2)
.
فتحصلنا على أقوال:
أصحها: العليا: المنفقة، والسفلى: السائلة، كما هو مصرح به في الحديث كما سلف.
ثانيها: أن العليا: المتعففة، وجعله ابن التين الأشبه.
ثالثها: أن العليا: المعطية، والسفلى: المانعة، قاله الحسن.
رابعها: أن العليا: الآخذة، وقد سلف ما فيه.
وفي مراسيل سعيد وعروة أنه صلى الله عليه وسلم لما قَالَ: "اليد العُليا خيرٌ مِنَ اليد السُّفلى" قَالَ حكيم: ومنك يا رسول الله؟ قَالَ: "ومني" قَالَ: والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحدًا بعدك شيئًا. فلم يقبل عطاءً ولا ديوانًا حَتَّى مات. فلو كانت اليد المعطية لكان حكيم قد توهم أن يدًا خير من
(1)
رواه أبو يعلى 1/ 156 (167)، والبيهقي في "شعب الإيمان" 3/ 279 - 280 (3546)، وابن عبد البر في "تمهيده" 5/ 85، وذكره الهيثمي في "المجمع" 3/ 100، وقال: هو في الصحيح باختصارٍ، ورواه أبو يعلى ورجاله موثقون.
وصححه الألباني في "صحيح الترغيب"(846) قائلًا: صحيح لغيره.
(2)
سيأتي برقم (1740) كتاب: الزكاة، باب: الاستعفاف عن المسألة من حديث أبي هريرة.
يد رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوله: ومنك؟ يريد أن المتعفف عن مسألتك كهو من مسألة غيرك؟ فقال: "نعم" فكان بعد ذلك لا يقبل العطاء من أحد.
فائدة: في النفقة آداب: فرائض وسنن خمس. فمن الأول: الزكوات، والكفارات، والنذور، والنفقات الواجبات للآباء، والأبناء، والزوجات، والرقيق. ومن الثاني: الأضاحي عند من لم يوجبها، وصدقة الفطر عند من جعلها سنة، وغير ذلك. والتطوع كله آداب. وكل معروف صدقة.
فرع:
ينعطف على ما سبق أول الباب تقدم الدين العتق أو الصدقة رُدَّ لأجله عند المالكية. فإن كانا دينين: أحدهما قبلهما، والآخر بعدهما. رد من الدين بقدر الأول بلا خلاف. فإن فضلت فضلة من الصدقة أو من العبد المعتق. فقال ابن القاسم: يُمضي نفقته للموهوب، ويمضي من العتق بما فيه، ويدخل صاحب الدين الآخر على الأول، فيخاصمه فيما رد، يأخذ كل واحد بقدر دينه، وقال أشهب: إذا أخذ من يد صاحب الدين الأول شيء فرجع واستكمله من بقية الصدقة والمعتق حَتَّى تنفد الصدقة والعتق، أو يستوفيا جميعًا الدينين. وهذِه المسألة يعبرون عنها بمسألة الدور كما قال ابن التين.
فرع:
قد تقدم تفسير السفلى، وأنها السائلة ليست المعطاة بغير مسألة. وقد تأوله حكيم على عمومه. قَالَ مالك: كان ببلدنا من أهل الفضل والعبادة يردون العطية يُعطونها. قيل له: فالحديث: "ما أتاك من غير مسألة"
(1)
(1)
سيأتي برقم (6622) كتاب: الأيمان والنذور.
أفيه رخصة؟ قَالَ: نعم. وليس كل سائلة تكون المسئولة خيرًا منها، إنما هو أن يسأل وبه غنى، أو يظهر من الفقر فوق ما به. وقد استطعم موسى والخضر أهل القرية عند الضرورة. وقال صلى الله عليه وسلم في لحم بريرة:"هو عليها صدقة ولنا هدية"
(1)
.
(1)
سيأتي برقم (1493) باب: الصدقة على موالي أزواج النبي صلى الله عليه وسلم.
19 - باب المَنَّانِ بِمَا أَعْطَى
لِقَوْلِهِ تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى} [البقرة: 262] الآيَةَ. [فتح 3/ 298]
هذِه الآية نزلت -فيما ذكره الواحدي عن الكلبي- في عثمان، وعبد الرحمن بن عوف: جاء عبد الرحمن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربعة آلاف درهم نصف ماله. وقال عثمان: عليّ جهاز من لا جهاز له في غزوة تبوك، فجهز المسلمين بألف بعير بأقتابها وأحلاسها، فنزلت هذِه الآية
(1)
.
وقال ابن بطال: ذكر أهل التفسير أنها نزلت في الذي يعطي ماله المجاهدين في سبيل الله؛ معونة لهم على جهاد العدو، ثم يمن عليهم بأنه قد صنع إليهم معروفًا إما بلسان أو بفعل. والأذى: أن يقول لهم أن يقوموا بالواجب عليهم في الجهاد، وشبه ذلك من القول. ومن أخرج شيئًا لله لم ينبغِ له أن يمن به على أحد؛ لأن ثوابه على الله
(2)
. وفي مسلم من حديث أبي ذر: "ثلاثةٌ لا يكلمهم الله يومَ القيامة: المنَّان: الذي لا يعطي شيئًا إلا مَنَّهُ، والمنفق سِلعتَه بالحلفِ، والمسبل إزاره"
(3)
.
وفي الباب أيضًا عن ابن مسعود، وأبي هريرة، وأبي أمامة بن ثعلبة، وعمران بن حصين، ومعقل بن يسار. ولا شك أن الامتنان بالعطاء يحبط
(1)
"أسباب نزول القرآن" ص 89 (170).
(2)
"شرح ابن بطال" 3/ 432 - 433.
(3)
"صحيح مسلم"(106) كتاب: الإيمان، باب: بيان غلظ تحريم إسبال الإزار والمن بالعطية
…
أجر الصدقة. قَالَ تعالى: {لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالمَنِّ وَالأَذَى} [البقرة: 264] قَالَ القرطبي: ولا يكون المن غالبًا إلا من البخل والكبر والعجب ونسيان منة الله تعالى فيما أنعم عليه. فالبخيل يعظم في نفسه العطية، وإن كانت حقيرة في نفسها. والعجب يحمله على النظر لنفسه بعين العظمة، وأنه منعم بماله على المعطى، والكبر يحمله على أن يحقر المعطى له، وإن كان في نفسه فاضلًا. وموجب ذلك كله الجهل، ونسيان منة الله تعالى فيما أنعم عليه. ولو نظر مصيره لعلم أن المنة للآخذ لما يزيل عن المعطي من إثم المنع وذم المانع، ولما يحصل له من الأجر الجزيل والثناء الجميل. وقيل: المنان في حديث أبي ذر من المن، وهو القطع، كما قَالَ تعالى:{لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [فصلت: 8] أي: غير منقطع. فيكون معناه البخيل بقطعه عطاء ما يجب عليه للمستحق كما جاء في حديث آخر: "البخيل المنَّان"
(1)
فنعته به. والأول أظهر
(2)
.
(1)
قطعة من حديث رواه أحمد 5/ 151، 176، والبزار في "البحر الزخار" 9/ 348 (3908)، والحاكم 2/ 89، والبيهقي 9/ 160 من حديث أبي ذر. قال الحاكم: حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(3074).
(2)
"المفهم" 1/ 304 - 305.
20 - باب مَنْ أَحَبَّ تَعْجِيلَ الصَّدَقَةِ مِنْ يَوْمِهَا
1430 -
حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، أَنَّ عُقْبَةَ بْنَ الحَارِثِ رضي الله عنه حَدَّثَهُ قَالَ: صَلَّى بِنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم العَصْرَ، فَأَسْرَعَ ثُمَّ دَخَلَ البَيْتَ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ خَرَجَ، فَقُلْتُ -أَوْ قِيلَ- لَهُ، فَقَالَ:"كُنْتُ خَلَّفْتُ فِي البَيْتِ تِبْرًا مِنَ الصَّدَقَةِ، فَكَرِهْتُ أَنْ أُبَيِّتَهُ فَقَسَمْتُهُ". [انظر: 851 - فتح: 3/ 299]
ذكر فيه حديث عقبة بن الحارث: في التِبْرِ.
وقد سلف في الصلاة في باب: من صلى بالناس فذكر حاجة
(1)
.
والتبر جمع تبرة، وهي القطعة من الذهب، أو الفضة غير مصنوعة.
وقيل: قطع الذهب فقط كما سلف هناك.
وفيه: الحض على تعجيل الصدقة، وأفعال البر كلها إذا وجبت، وإنما عجلها؛ لأنه خشي أن يكون محتاجًا من وجب له حق في ذلك التبر. فيحبس عنه حقه، وقد كان بالمؤمنين رحيمًا، فبين لأمته الاقتداء به.
(1)
برقم (851) كتاب: الأذان.
21 - باب التَّحْرِيضِ عَلَى الصَّدَقَةِ وَالشَّفَاعَةِ فِيهَا
1431 -
حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا عَدِيٌّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ عِيدٍ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، لَمْ يُصَلِّ قَبْلُ وَلَا بَعْدُ، ثُمَّ مَالَ عَلَى النِّسَاءِ وَمَعَهُ بِلَالٌ، فَوَعَظَهُنَّ وَأَمَرَهُنَّ أَنْ يَتَصَدَّقْنَ، فَجَعَلَتِ المَرْأَةُ تُلْقِي القُلْبَ وَالخُرْصَ. [انظر: 98 - مسلم: 884 - فتح: 3/ 299]
1432 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَاحِدِ، حَدَّثَنَا أَبُو بُرْدَةَ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو بُرْدَةَ بْنُ أَبِي مُوسَى، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا جَاءَهُ السَّائِلُ، أَوْ طُلِبَتْ إِلَيْهِ حَاجَةٌ قَالَ:"اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا، وَيَقْضِي اللهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم مَا شَاءَ". [6027، 6028 - مسلم: 2627 - فتح: 3/ 329]
1433 -
حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الفَضْلِ، أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ فَاطِمَةَ، عَنْ أَسْمَاءَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ لِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لَا تُوكِي فَيُوكَى عَلَيْكِ".
حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ عَبْدَةَ، وَقَالَ:"لَا تُحْصِي فَيُحْصِيَ اللهُ عَلَيْكِ". [1434، 2590 - مسَلم: 1029 - فتح: 3/ 299]
ذكر فيه ثلاثة أحاديث:
أحدها: حديث ابن عباس: خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ العيد فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ .. الحديث. وَأَمَرَهُنَّ أَنْ يَتَصَدَّقْنَ، فَجَعَلَتِ المَرْأَةُ تُلْقِي القُلْبَ وَالخُرْصَ.
ثانيها: حديث أبي موسى: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا جَاءَهُ السَّائِلُ، أَوْ طُلِبَتْ إِلَيْهِ حَاجَةٌ قَالَ:"اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا، وَيَقْضِي اللهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم مَا شَاءَ".
ثالثها: حديث أسماء: "لَا توكِي فَيُوكَى عَلَيْكِ". وفي لفظ: "لَا تُحْصِي فَيُحْصِيَ اللهُ عَلَيْكِ".
الشرح:
حديث ابن عباس سلف في باب الخطبة بعد العيد
(1)
بشرحه واضحًا، وأما حديث أبي موسى فلا شك أن الشفاعة في الصدقة وسائر أفعال البر مرغب فيها مندوب إليها. فندب أمته إلى السعي في حوائج الناس، وشرط الأجر على ذلك، ودل قوله صلى الله عليه وسلم:"وَيَقْضِي اللهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيهِ مَا شَاءَ" أنَّ الساعي مأجور على كل حال، وإن خاب سعيه، ولم تنجح طلبته لهذِه الأمة. فإنه قَالَ: من يشفع، ولم يقل: من يُشفَّع. بضم أوله، وتشديد ثالثه، والمراد بـ"وَيَقْضِي اللهُ عَلَى لِسَانِ نَبيهِ مَا شَاءَ". ييسره لما يأمر به من العطاء، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"والله في عونِ العَبْد ما كان العبدُ في عونِ أخيه"
(2)
. ولأبي الحسن: "شفعوا" بحذف الألف، وإنما أمرهم بالشفاعة لما فيه من الأجر لقوله تعالى:{مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً} [النساء: 85] الآية.
ولأنهم إذا شفعوا، واجتمعت عليه المسألة كان أنجح، ولا يتأبى كبير أن يشفع عند صغير. فإن شفع عنده، ولم يقضها لا ينبغي له أن يتأذى الشافع. فقد شفع الشارع عند بريرة أن ترد زوجها فأبت
(3)
. وقد احتج أبو حنيفة والثوري بحديث ابن عباس السالف، وأوجبوا الزكاة
(1)
برقم (962) كتاب: العيدين.
(2)
رواه مسلم (2699) كتاب: الذكر والدعاء، باب: فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر، وأبو داود (4946) كتاب: الأدب، باب: المعونة للمسلم، والترمذي (1425) كتاب: الحدود، باب: ما جاء في الستر على المسلم، وابن ماجه (225) كتاب: المقدمة، باب: فضل العلماء والحث على طلب العلم، وابن حبان في "صحيحه" 2/ 292 - 293 (534) كتاب: البر والإحسان، باب: فضل البر والإحسان.
(3)
يشير إلى حديث مغيث وبريرة المشهور الآتي (5280 - 5283).
في الحلي المتخذ للنساء
(1)
، وقال مالك: لا زكاة فيه، وهو مذهب ابن عمر، وابن عباس، وجابر، وأنس، وعائشة، وأسماء
(2)
، وهو أظهر قولي الشافعي
(3)
، ولا حجة في الحديث الأول؛ لأنه صلى الله عليه وسلم إنما حضهن على صدقة التطوع. فقال:"تصدقوا" ولو كان ذلك واجبًا لما قال: "ولو مِنْ حُليِّكن"
(4)
، ومما يرد قوله أنه لو كان ذلك من باب الزكاة لأعطينه بوزن ومقدار، فدل أنه تطوع. وأيضًا هو كالأثاث، وليس كالرقة. وهذا إجماع أهل المدينة، وذكر مالك عن عائشة أنها كانت تحلي بنات أخيها -يتامى كن في حجرها- لهن الحلي ولا تخرج منه الزكاة، وكان يفعله ابن عمر
(5)
.
وأما حديث أسماء قد أخرجه مسلم أيضًا
(6)
. فإنما سألته عن الصدقة، وقالت يا رسول الله: ما لي إلا ما أدخل على الزبير. أفأتصدق؟ قَالَ: "تصدقي ولَا تُوكِي فَيُوكِي الله عَلَيْكِ". والمعنى: لا توكي مالكِ عن الصدقة، ولا تتصدقين خشية نفاده، وتدخريه فيوكي الله عليك أي: يمنعكِ. ويقطع مادة الرزق عنكِ، و (توكي) بالتاء لأنه خطاب للمؤنث، فسقطت النون للنهي فدل الحديث على أن الصدقة تنمي المال، وتكون سببًا إلى البركة والزيادة فيه، وأن من شح ولم يتصدق فإن الله يوكي عليه، ويمنعه من البركة في ماله، والنماء فيه.
(1)
انظر: "مختصر الطحاوي" ص 49، "مختصر اختلاف العلماء" 1/ 429.
(2)
انظر: "عيون المجالس" 2/ 562.
(3)
انظر: "المجموع" 5/ 519.
(4)
سيأتي برقم (1466) كتاب: الزكاة، باب: الزكاة على الزوج والأيتام في الحجر.
(5)
"الموطأ" ص 170 - 171.
(6)
"صحيح مسلم"(1029) كتاب: الزكاة، باب: الحث في الإنفاق وكراهة الإحصاء.
والإيكاء: شد رأس الوعاء بالوكاء، وهو الرباط الذي يربط به
(1)
.
قَالَ ابن فارس: وهو البخل
(2)
.
وهذا محمول على ما إذا أعطاه صاحب البيت نصيبًا لها. وقيل: إنَّ صاحب البيت إذا دخل بالشيء بيته كان ذلك في العرف مفوضًا إلى ربة المنزل، فهي تنفق منه بقدر الحاجة في الوقت. فكأنه قال: إذا كان الشيء مفوضًا إليكِ فاقتصري على قدر الحاجة للنفقة، وتصدقي بالباقي منه.
وقوله: "ولا تُحصي" الإحصاء للشيء معرفة قدره، أو وزنه، أو عدده، وهذا مقابلة اللفظ باللفظ، وتجنيس الكلام بمثله في جوابه، أي: يمنعكِ كما منعتِ. كقوله تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ} [آل عمران: 54] وقيل: معناه لا تحصي ما تعطين فتستكثريه. فيكون سببًا لانقطاعه، ويحتمل أن يراد بالإحصاء ونحوه عدده، خوف أن تزول البركة منه. كما قالت عائشة: حَتَّى كِلناه ففني.
ورجحه بعضهم، وقيل عددت ما أنفقته، فنهاها عن ذلك، وجاء أيضًا النفح وهو العطاء ويجوز أن يكون من نفح الطيب إذا تحركت رائحته، إذ العطية تستطاب كما تستطاب الرائحة الطيبة. أو من نفحت الريح إذا هبت باردة.
(1)
انظر: "لسان العرب" 8/ 4911.
(2)
"المجمل" 2/ 935.
22 - باب الصَّدَقَةِ فِيمَا اسْتَطَاعَ
1434 -
حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ. وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ، عَنْ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَخْبَرَهُ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما أَنَّهَا جَاءَتْ إِلَي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:"لَا تُوعِي فَيُوعِىَ اللهُ عَلَيْكِ، ارْضَخِي مَا اسْتَطَعْتِ". [انظر: 1433 - مسلم: 1029 - فتح: 3/ 301]
ذكر فيه حديث أسماء السالف في الباب قبلَه، وفيه:"لَا تُوعِي فَيُوعِيَ اللهُ عَلَيْكِ، ارْضَخِي مَا اسْتَطَعْتِ".
ومعنى "تُوعِي": تُمْسكي، والوعاء: الظرف يخبأ فيه، يقال منه: أوعيت المتاع في الوعاء أوعيه، قَالَ:
والشرُّ أخبثُ ما أوعيتَ في زادٍ
وقوله ("ارْضَخِي") يقال: رضَخ -بفتح الضاد- يرضخُ رضخًا، وهو العطاء اليسير وقيل: هو أن يعطي يسيرًا من كثير.
23 - باب الصَّدَقَةُ تُكَفِّرُ الخَطِيئَةَ
1435 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: أَيُّكُمْ يَحْفَظُ حَدِيثَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الفِتْنَةِ؟ قَالَ: قُلْتُ: أَنَا أَحْفَظُهُ كَمَا قَالَ. قَالَ: إِنَّكَ عَلَيْهِ لَجَرِيءٌ، فَكَيْفَ قَالَ؟ قُلْتُ: فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ وَجَارِهِ تُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ وَالصَّدَقَةُ وَالمَعْرُوفُ. قَالَ سُلَيْمَانُ: قَدْ كَانَ يَقُولُ: "الصَّلَاةُ وَالصَّدَقَةُ، وَالأَمْرُ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْىُ عَنِ المُنْكَرِ". قَالَ: لَيْسَ هَذِهِ أُرِيدُ، وَلَكِنِّي أُرِيدُ التِي تَمُوجُ كَمَوْجِ البَحْرِ. قَالَ: قُلْتُ: لَيْسَ عَلَيْكَ بِهَا يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ بَأْسٌ، بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَابٌ مُغْلَقٌ. قَالَ: فَيُكْسَرُ البَابُ أَوْ يُفْتَحُ؟ قَالَ: قُلْتُ: لَا. بَلْ يُكْسَرُ. قَالَ: فَإِنَّهُ إِذَا كُسِرَ لَمْ يُغْلَقْ أَبَدًا. قَالَ: قُلْتُ: أَجَلْ.
فَهِبْنَا أَنْ نَسْأَلَهُ مَنِ البَابُ، فَقُلْنَا لِمَسْرُوقٍ: سَلْهُ. قَالَ: فَسَأَلَهُ. فَقَالَ: عُمَرُ رضي الله عنه. قَالَ: قُلْنَا: فَعَلِمَ عُمَرُ مَنْ تَعْنِي؟ قَالَ: نَعَمْ، كَمَا أَنَّ دُونَ غَدٍ لَيْلَةً، وَذَلِكَ أَنِّي حَدَّثْتُهُ حَدِيثًا لَيْسَ بِالأَغَالِيطِ. [انظر: 525 - مسلم: 144 - فتح: 3/ 301]
ذكر فيه حديث حذيفة، وقد سلف بطوله في باب الصلاة كفارة
(1)
، ويأتي في الصوم أيضًا
(2)
، ونذكر نبذة من الكلام عليه لطول العهد به فـ (فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ وَجَارِهِ) يريد: ما يفتن به من صغار الذنوب التي تكفرها الصلاة والصدقة، وما جانسها. وفي ضرب الأمثال في العلم.
وفيه: حجة لسد الذرائع، ويعبر عنه بغلق الباب وفتحه كما عبد عنه حذيفة وعمر، وأن ذلك من المتعارف في الكلام.
وفيه: أنه قد يكون عند الصغير من العلم ما ليس عند المعلم المبرز.
(1)
برقم (525) كتاب: مواقيت الصلاة.
(2)
برقم (1895) باب: الصوم كفارة.
وفيه: أن العالم قد يرمز رمزًا ليفهم المرموز له دون غيره؛ لأنه ليس كل العلم تجب إباحته إلى من ليس متفهم له، ولا عالم بمعناه.
وفيه: أن الكلام في الحدثان مباح إذا كان في ذلك أثر عن النبوة، وما سوى ذلك ممنوع؛ لأنه لا يصدق منه إلا أقل من عشر العشر، وذلك الجزء إنما هو على غلبة الظن لقوله صلى الله عليه وسلم:"تِلْكَ الكَلِمَةُ مِنَ الحَقِّ، يَخْطَفُهَا الجِنَّيّ، فيضيفُ إليها أكْثَرَ مِنْ مِائَة كذْبَةٍ"
(1)
.
وقوله في آخره (حَدَّثْتُهُ حَدِيثًا لَيْسَ بِالأَغَالِيطِ) الأغلوطة: ما يغلط به عن الشارع، ونَهَى الشارع عن الأغلوطات، وهذا منه.
(1)
سيأتي برقم (5762) كتاب: الطب، باب: الكهانة.
24 - باب مَنْ تَصَدَّقَ فِي الشِّرْكِ ثُمَّ أَسْلَمَ
1436 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَرَأَيْتَ أَشْيَاءَ كُنْتُ أَتَحَنَّثُ بِهَا فِي الجَاهِلِيَّةِ مِنْ صَدَقَةٍ أَوْ عَتَاقَةٍ وَصِلَةِ رَحِمٍ، فَهَلْ فِيهَا مِنْ أَجْرٍ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"أَسْلَمْتَ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْ خَيْرٍ". [2220، 2538، مسلم: 5992 - مسلم: 123 - فتح: 3/ 301]
ذكر فيه حديث حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ: قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ أَشْيَاءَ كُنْتُ أَتَحَنَّثُ بِهَا فِي الجَاهِلِيَّةِ مِنْ صَدَقَةٍ أَوْ عَتَاقَةٍ أوَ صِلَةٍ، فَهَلْ فِيهَا مِنْ أَجْرٍ؟ فَقَالَ:"أَسْلَمْتَ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْ خَيْرٍ".
الشرح:
قالَ "صاحب المطالع": رواه المروزي
(1)
أَتَحَنَّتُ بتاء مثناة، وهو غلط من جهة المعنى دون الرواية، والوهم قبل شيوخ البخاري
(2)
بدليل قوله في باب: من وصل رحمه: ويقال أيضًا عن أبي اليمان: أتحنث أو أتحنت على الشك، والصحيح الذي رواه الكافةُ بثاء مثلثة. وعن عياض: بالتاء المثناة غلط من جهة المعنى، ويحتمل أن يكون معناه الحانوت؛ لأن العرب تسمي بيوت الخمارين الحوانيت، يعني: كنت أتجنب حوانيتهم.
وقال ابن التين: أتَحَنَّث. أي: أتقربُ: إلى الله، وأصلُه إطراح الحنث عن النفس كما تقول: يتأثم. أي: يلقي الإثم عن نفسه،
(1)
في هامش الأصل بخط سِبط: الذي رواه المروزي بالمثناة ليس في هذا الباب، إنما رواه في باب: مَن وَصَل رحمَه، وهذا فرع عبارة "المطالع" لا في كل باب فاعلمه.
(2)
في هامش الأصل بخط سِبط: عبارة "المطالع": والوهم فيه من شيوخ البخاري.
وكذلك يتحرج. وقوله: (عتاقة) وذلك أنه أعتق مائة رقبة في الجاهلية، وحمل على مائة بعير، وفي رواية قَالَ: يا رسول الله لا أدع شيئًا صنعته في الجاهلية إلا فعلت في الإسلام مثله
(1)
. ففعل ذلك.
وقوله: ("أَسْلَمْتَ عَلَى مَا أسلف مِنْ خَيْرٍ") قَالَ المازري: ظاهره خلاف ما تقتضيه الأصول؛ لأن الكافر لا تصح منه قربة فيكون مُثابًا على طاعاته، ويصح أن يكون مطيعًا غير متقرب كنظيره في الإيمان، فإنه مطيع من حيث كان موافقًا للأمر، والطاعة عندنا موافقة الأمر، لكنه لا يكون متقربًا؛ لأن من شرط التقرب أن يكون عارفًا بالمتقرب إليه، وهو في حين كفره لم يحصل له العلم بالله بعد.
فإذا (قرب)
(2)
هذا علم أن الحديث متأول، وهو محتمل وجوهًا:
أحدها: أن يكون المعنى: أنك اكتسبت طباعًا جميلة، وأنت تنتفع بتلك الطباع في الإسلام، وتكون العادة تمهيدًا لك، ومعونة على فعل الخير والطاعات.
ثانيها: معناه: اكتسبت بذلك (شيئًا)
(3)
جميلًا، فهو باقٍ في الإسلام، ويكثر أجره لما تقدم لك من الأفعال الجميلة. وقد تأولوا في الكافر أنه إذا كان يفعل الخير فإنه يخفف عنه به، ولا يبعد أن يزاد هذا في الأجور
(4)
.
وقال عياض: ببركة ما سبق لك من خير هداك الله إلى الإسلام، فإن
(1)
رواه مسلم (123/ 195) كتاب: الإيمان، باب: بيان حكم عمل الكافر إذا أسلم بعده.
(2)
في (م): قررت، وعند المازري: تقرَّر.
(3)
كذا بالأصل: وعند المازري: ثناءً.
(4)
"المعلم بفواند مسلم" 1/ 76.
من ظهر فيه خير في أول أمره فهو دليل على سعادة أخراه، وحسن عاقبته
(1)
.
وزعم ابن بطال وغيره أنه على ظاهره، وأنه إذا أسلم الكافر، ومات على إسلامه يثاب على ما فعله من الخير في حالة الكفر، وقال عن بعض أهل العلم: معنى الحديث أن كل مشرك أسلم أنه يكتب له خير عمله مثل إسلامه ولا يكتب عليه شيء من سيئاته؛ لأن الإسلام يهدم ما قبله من الشرك، وإنما كتب له الخير؛ لأنه أراد به وجه الله؛ لأنهم كانوا مقرين بالله تعالى إلا أنهم كان عملهم مردودًا عليهم لو ماتوا على شركهم، فلما أسلموا تفضل الله عليهم فكتب لهم الحسنات، ومحا عنهم السيئات كما قَالَ صلى الله عليه وسلم:"ثلاثة يُؤْتَونَ أجرَهم مَرَّتين"
(2)
أحدهم: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه، وآمن بنبينا
(3)
. ومما يدل على ذلك أن حديث أبي سعيد الخدري السالف في باب: حسن إسلام المرء من كتاب الإيمان معلقًا عن مالك عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار عنه
(4)
. ورواه عبدٍ الله بن وهب عن مالك به
(5)
.
وذكره الدارقطني في غريب حديث مالك من تسع طرق، وثبت فيها كلها أن الكافر إذا حسن إسلامه كتب له في الإسلام كل حسنة عملها في الشرك، ولعل حكيمًا لو مات على جاهليته أن يكون ممن يخفف عنه من عذاب النار كما جاء في أبي طالب، وأبي لهب بعتاقته ثويبة.
(1)
"إكمال المعلم" 1/ 416.
(2)
سيأتي برقم (97) من حديث أبي موسى كتاب: العلم، باب: تعليم الرجل أمته وأهله.
(3)
"شرح ابن بطال" 3/ 437 - 438.
(4)
برقم (41).
(5)
رواه ابن حجر في "تغليق التعليق" 2/ 45.
قلتُ: لا يقاس.
وقيل: إنه صلى الله عليه وسلم وروَّى عن جوابه، فإنه سأله: هل لي فيها أجر؟ يريد ثواب الآخرة، ومعلوم نفيه عنه، فقال له ذلك. والعتق فعل خير، فأراد إنك فعلت خيرًا، والخير يمدح فاعله، وقد يجازى عليه في الدنيا. حكاه ابن الجوزي. وفي مسلم من حديث أنس:"أما الكافِرُ فيُطْعَم بحسناتِهِ في الدنيا، فإذا لقي الله لم يكن له حسنة"
(1)
، وروي أن حسنات الكافر إذا أسلم محسوبة له مقبولة، فإن مات على كفره كانت هدرًا. ذكره الخطابي. قَالَ ابن الجوزي: فإن صح هذا كان المعنى: أسلمت على قبول ما سلف لك من خير.
قلتُ: ومراد الفقهاء: لا يصح من الكافر عبادة ولو أسلم لم يعتد بها المراد في أحكام الدنيا، وليس فيه تعرض لثواب الآخرة وإن أقدم قائل على التصريح بأنه إذا أسلم لا يثاب عليها في الآخرة رد قوله بهذِه السنة الصحيحة، وقد يعتد ببعض أفعال الكفار في أحكام الدنيا، فقد قَالَ الفقهاء: إذا وجب على الكافر كفارة ظهار أو غيرها، فكفَّر في حال كفره أجزأه ذلك، وإذا أسلم لم يجب عليه إعادته، وسيأتي إن شاء الله في كتاب العتق اختلاف أهل العلم في عتق المشرك.
واختلف أصحابنا في من أجنب ثم اغتسل ثم أسلم هل يجب عليه إعادة الغسل أم لا؟ وبالغ بعضهم فقال يصح من كل كافر كل طهارة من غسل ووضوء وتيمم. فإذا أسلم صلى بها، وقال القرطبي: الإسلام إذا حسن هدم ما قبله من الآثام، وأحرز ما قبله من البر. وقال الحربي:
(1)
"صحيح مسلم"(2808) كتاب: صفة الجنة والنار، باب: جزاء المؤمن بحسناته في الدنيا والآخرة، وتعجيل حسنات الكافر في الدنيا.
معنى الحديث: ما تقدم لك من الخير الذي عملته هو لك. كما تقول: أسلمت على ألف درهم على أن أحوزها لنفسي. قَالَ القرطبي: وهذا الذي قاله الحربي: هو أشبهها وأولاها
(1)
.
فرع:
طلق امرأته أو أعتق عبده ولم يبن عن مدة، فلا يلزمه ذلك في المشهور من مذهب مالك، وقال المغيرة: يلزمه، فإن حلف بذلك وهو نصراني ثم أسلم فحنث. قال مالك: لا يلزمه، وقال أشهب: نعم. ورُدَّ هذا بقوله: {إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38].
(1)
"المفهم" 1/ 332.
25 - باب أَجْرِ الخَادِمِ إِذَا تَصَدَّقَ بِأَمْرِ صَاحِبِهِ غَيْرَ مُفْسِدٍ
1437 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا تَصَدَّقَتِ المَرْأَةُ مِنْ طَعَامِ زَوْجِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ كَانَ لَهَا أَجْرُهَا، وَلِزَوْجِهَا بِمَا كَسَبَ، وَلِلْخَازِنِ مِثْلُ ذَلِكَ". [انظر: 1425 - مسلم: 1024 - فتح: 3/ 302]
1438 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ العَلَاءِ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"الخَازِنُ المُسْلِمُ الأَمِينُ الذِي يُنْفِذُ -وَرُبَّمَا قَالَ: يُعْطِي- مَا أُمِرَ بِهِ كَامِلًا مُوَفَّرًا طَيِّبٌ بِهِ نَفْسُهُ، فَيَدْفَعُهُ إِلَي الذِي أُمِرَ لَهُ بِهِ أَحَدُ المُتَصَدِّقَيْنِ". [2260، 2319 - مسلم: 1023 - فتح: 3/ 302]
سلف بما فيه وكذا الباب بعدَهُ.
26 - باب أَجْرِ المَرْأَةِ إِذَا تَصَدَّقَتْ أَوْ أَطْعَمَتْ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ
1439 -
حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ وَالأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَعْنِي:" إِذَا تَصَدَّقَتِ المَرْأَةُ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا". [انظر: 1425 - مسلم: 1024 - فتح: 3/ 303]
1440 -
حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَطْعَمَتِ المَرْأَةُ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ، لَهَا أَجْرُهَا، وَلَهُ مِثْلُهُ، وَلِلْخَازِنِ مِثْلُ ذَلِكَ، لَهُ بِمَا اكْتَسَبَ، وَلَهَا بِمَا أَنْفَقَتْ". [انظر: 1425 - مسلم: 1024 - فتح: 3/ 303]
1441 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِذَا أَنْفَقَتِ المَرْأَةُ مِنْ طَعَامِ بَيْتِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ، فَلَهَا أَجْرُهَا، وَلِلزَّوْجِ بِمَا اكْتَسَبَ، وَلِلْخَازِنِ مِثْلُ ذَلِكَ". [انظر: 1425 - مسلم: 1024 - فتح: 3/ 303]
27 -
باب قَوْلِ اللهِ تَعَالَى:
{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)} [الليل: 5 - 10]. "اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقَ مَالًا خَلَفًا".
1442 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي أَخِي، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي مُزَرِّدٍ، عَنْ أَبِي الحُبَابِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ العِبَادُ فِيهِ إِلاَّ مَلَكَانِ يَنْزِلَانِ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا". [مسلم: 1010 - فتح: 3/ 304]
ذكر فيه حديث مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي مُزَرِّدٍ، واسمُهُ عبد الرَّحمن: صدوق، عَنْ أَبِي الحُبَابِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبحُ العِبَادُ فِيهِ إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلَانِ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا".
أما الآية فقَالَ ابن عباس -فيما حكاه الطبري-: أعطى مما عنده، واتقى ربه، وصدق بالخلف من الله تعالى
(1)
. وقال قتادة: أعطى حق الله، واتقى محارمه التي نهى عنها. وقال الضحاك: زكى واتقى الله
(2)
.
وقيل: الحسنى: لا إله إلا الله، قاله أبو عبد الرحمن وعطاء والضحاك، وابن عباس في رواية
(3)
.
وقال مجاهد: بالجنة
(4)
.
(1)
"تفسير الطبري" 12/ 611 - 612 (37432)، (37433)، (37436 - 37439).
(2)
السابق 12/ 611 (37434 - 37435).
(3)
السابق 12/ 612 - 613 (27451 - 37453).
(4)
السابق 12/ 613 (27451 - 37453).
وقال قتادة: صدّق بموعود الله على نفسه فعمل بذلك الموعود الذي وعده
(1)
. قَالَ الطبري وغيره: والأشبه والأولى قول ابن عباس السالف. قَالَ: وإنما قلتُ ذلك؛ لأنه سياق الآية، وذكر أن هذِه الآية نزلت في الصديق كان اشترى نسمًا كانوا في أيدي المشركين فنزلت إلى آخر السورة، ورُوي أنها نزلت في رجل ابتاع نخلة كانت على حائط أيتام، فكان يمنعهم أكل ما سقط منها فابتاعها رجل منه، وتصدق بها عليهم، وأما الحديث فهو موافق لقوله تعالى:{وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ}
(2)
[سبأ: 39] ولقوله: "ابن آدم أنفق أنُفِقْ عليك"
(3)
، وهذا يعم الواجب والمندوب، والممسك يريد به: عن الواجبات دون المندوبات، فإنه قد لا يستحق هذا الدعاء، اللهم إلا أن يغلب عليه البخل بها وإن قلَّتْ في أنفسها كالحبة واللقمة، وما شابههما فقد يتناوله؛ لأنه إنما يكون كذلك لغلبة صفة البخل المذموم عليه وقلما يكون ذلك إلا ويبخل بكثير من الواجبات. إذ لا تطيب نفسه بها.
وفيه: الحض على الإنفاق في الواجبات كالنفقة على الأهل، وصلة الرحم، ويدخل فيه صدقة التطوع والفرض على ما أسلفناه. ومعلوم أن دعاء الملائكة مجاب بدليل قوله صلى الله عليه وسلم:"مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ المَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبهِ"
(4)
، وقوله تعالى:{فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7)} [الليل: 7] أي للحالة اليسَرى، وسمى العمل بما يرضاه الله تعالى منه في الدنيا ليوجب به الجنة في الآخرة.
(1)
السابق 12/ 613 (37454 - 37455).
(2)
انظر: "تفسير الطبري" 12/ 613 بتصرف.
(3)
سيأتي برقم (4684) كتاب: التفسير، باب: قوله: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ} .
(4)
سبق برقم (780) كتاب: الأذان، باب: جهر الإمام بالتأمين.
وقوله: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8)} : فيروى يعني أنه أبو سفيان.
وقوله: {وَكَذَّبَ بِالحُسْنَى (9)} أي: كذب بالخلف، عن ابن عباس
(1)
.
وروي عنه أيضًا: بلا إله إلا الله. كما سلف. وقال قتادة: كذب بموعود الله تعالى أن ييسره
(2)
.
{لِلْعُسْرَى} . أي: للعمل بالمعاصي. ودلت هذِه الآية أن الرب تعالى هو الموفق للأعمال الحسنة والسيئة كما قَالَ صلى الله عليه وسلم: "اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ، أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ فييسرون لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاءِ فييسرون لِعَمَلِ الشَّقَاء"
(3)
. ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالحُسْنَى (6)} [الليل: 5، 6] الآية.
وقال الضحاك: العُسْرى: النار. فإن قلت: التيسير إنما يكون لليسرى، فكيف جاء للعسرى؟ فالجواب أنه مثل قوله:{فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24)} [آل عمران: 21] أي أن ذلك لهم يقوم مقام البشارة.
وقال الفراء
(4)
: إذا اجتمع خير وشر فوقع للخير تيسير جاز أن يقع للشر مثله.
(5)
(1)
رواه الطبري في "تفسيره" 12/ 614 (37462 - 37465).
(2)
رواه الطبري في "تفسيره" 12/ 614 - 615 (37464 - 37465).
(3)
سيأتي برقم (4949) كتاب: التفسير، باب:{فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)} .
(4)
"معاني القرآن" 3/ 271.
(5)
بهامش الأصل: (آخر 6 من 5 من تجزئة المصنف).
28 - باب مَثَلِ المُتَصَدِّقِ وَالبَخِيلِ
1443 -
حَدَّثَنَا مُوسَى، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ البَخِيلِ وَالمُتَصَدِّقِ كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ، عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ". وَحَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ حَدَّثَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"مَثَلُ البَخِيلِ وَالمُنْفِقِ كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ، عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ، مِنْ ثُدِيِّهِمَا إِلَي تَرَاقِيهِمَا، فَأَمَّا المُنْفِقُ فَلَا يُنْفِقُ إِلاَّ سَبَغَتْ -أَوْ وَفَرَتْ- عَلَى جِلْدِهِ حَتَّى تُخْفِيَ بَنَانَهُ وَتَعْفُوَ أَثَرَهُ، وَأَمَّا البَخِيلُ فَلَا يُرِيدُ أَنْ يُنْفِقَ شَيْئًا إِلاَّ لَزِقَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ مَكَانَهَا، فَهُوَ يُوَسِّعُهَا وَلَا تَتَّسِعُ". تَابَعَهُ الحَسَنُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ طَاوُسٍ: فِي الجُبَّتَيْنِ. [1444، 2917، 5299، 5797 - مسلم: 1021 - فتح: 3/ 305]
1444 -
وَقَالَ حَنْظَلَةُ عَنْ طَاوُسٍ: "جُنَّتَانِ". وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي جَعْفَرٌ، عَنِ ابْنِ هُرْمُزٍ، سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:"جُنَّتَانِ". [انظر: 1443 - مسلم: 1021 - فتح: 3/ 305]
ذكر في حديث أبي هريرة من طريق ابن طاوُس، عن أبيه، عنه، ومن طريق أبي الزناد: أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ حَدّثَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ (أَبَا هُرَيْرَةَ)
(1)
أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَثَلُ البَخِيلِ وَالمُنْفِقِ كمَثَلِ رَجُلَيْنِ، عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ .. " الحديث. تَابَعَهُ الحَسَنُ بْنُ مُسْلِمِ، عَنْ طَاوُسٍ: فِي الجُبَّتيْنِ.
وَقَالَ حَنْظَلَةُ، عَنْ طَاوُسِ:"جُنَتَانِ". بالنون، وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي جَعْفَرٌ، عَنِ ابن هُرْمُزٍ، عن أبي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:"جُنَّتَانِ".
الشرح:
أما متابعة الحسن فقد أسندها في اللباس عن عبد الله بن محمد، عن
(1)
في الأصل مضبب فوق هذِه الكلمة.
أبي عامر، عن نافع، عنه
(1)
. وأخرجها العدني في "مسنده" عن ابن جريج عن الحسن عن طاوس عن أبي هريرة قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم "يُوَسِّعُهَا فلَا تتَوَسَّع" مرتين. ومتابعة حنظلة، وهو ابن أبي سفيان. ذكرها أيضًا في اللباس معلقة
(2)
.
وقوله: (وقال الليث: حَدَّثَني جعفر) كذا ذكرها معلقة. وكذا ذكر أبو مسعود وخلف أنه علقه أيضًا في الصلاة. وروى العدني محمد بن أبي عمر في "مسنده" عن سفيان عن أبي الزناد به. وأخرجه مسلم بألفاظ
(3)
، ومن حديث عمرو الناقد عن ابن عيينة:"مثل المنفق والمصدق كمثل رجل .. " الحديث، وفيه:"فإذا أراد المنفق أن يتصدق سبغت عليه أو مرت، وإذا أراد البخيل أن ينفق قلصت"
(4)
.
قَالَ عياض
(5)
: إنه وهم، وصوابه مثل ما وقع في باقي الروايات:"مثلُ البخيلِ والمتصدق" والتقسيم آخر الحديث بين ذلك. وقد يحتمل أن تكون على وجهها، وفيها محذوف مثل المنفق والمتصدق وقسيمهما، -وهو البخيل- حذف لدلالة المنفق والمتصدق عليه كقوله:{سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحَرَّ} أي: والبرد. فحذف ذكر البرد لدلالة الكلام عليه. ووقع في بعض الروايات: "والمصدق". وفي أخرى: "والمتصدق"
(6)
، وفي أخرى: حذف التاء وتشديد الصاد. وكلاهما صحيح.
(1)
سيأتي برقم (5797) باب: حبيب القميص من عند الصدر وغيره.
(2)
سيأتي عقب حديث (5797).
(3)
"صحيح مسلم"(1021) كتاب: الزكاة، باب: مثل المنفق والبخيل.
(4)
انظر: التخريج السابق.
(5)
"إكمال المعلم" 3/ 545.
(6)
"صحيح مسلم"(1021/ 76).
وقوله: "كمثل رجلين" وفي رواية مسلم: "كمثل رجل"
(1)
بالإفراد.
وكأنه تغيير من بعض الرواة.
وقوله: "جُبّتَانِ" روي كما سلف بالباء والنون. وفي رواية: "جبتان أو جنتان"
(2)
وكلا الوصفين يصح أن يمثل به. والأفصح بالنون: وهو ما يتستر به الإنسان فيجنه، وكذا قَالَ صاحب "المطالع" وغيره أن النون أصوب، وهو الدرع. يدل عليه قوله في الحديث "لَزِقَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ".
وفي لفظ: "وأخذتْ كُلُّ حَلْقَةٍ موضِعَها"
(3)
. وكذا قوله: "من حديد".
وقوله: "من ثُدِيِّهِمَا" قَالَ ابن التين: كذا في رواية أبي الحسن.
وضبطه بعضهم بضم الثاء، ويصح أن يكون بنصبها. وعند أبي ذر "ثَدْيَيْهما" ولا يكون إلا بنصب الثاء. قَالَ ابن فارس: والثَّدي -بالفتح- للمرأة، والجمع الثدى، يذكر ويؤنث. وثُندؤة الرجل كثدي المرأة، وهو مهموز إذا ضم أوله، فإذا فُتح لم يهمز. ويقال: هو طرف الثدي
(4)
. فانظر على هذا كيف قَالَ: "ثديهما"، وهو قد قَالَ:"كمثل رجلين؟ " وقال الجوهري: الثدي للمرأة والرجل، والجمع أثدٍ وثدى على فعول، وثِدى بكسر الثاء
(5)
.
وقوله: "إِلَي تَرَاقِيهِمَا" الترقوة، قَالَ الخليل: هي فعلوة وهو عظم وصل ما بين ثغرة النحر والعاتق. والتراقي جمع ترقوة. وهذا يشهد لرواية أبي الحسن أن ثديهما بالضم لتجانس اللفظ. وقد يكون قد
(1)
المرجع السابق.
(2)
رواها مسلم (1201/ 75).
(3)
سيأتي برقم (5299) كتاب: الطلاق، باب: الإشارة في الطلاق.
(4)
"مجمل اللغة" 1/ 157.
(5)
"الصحاح" 6/ 2291.
جمع الثدي والترقوة. ولأنهن جمع؛ لأن في كل واحد منها ثديين، كالعينين، لا تقول في الرجلين: عيناهما حسنتان. إنما تقول: عيونهما. بخلاف أن يكون في كل واحد منهما شيء واحد. فهذا إذا ثنيت جاز لك ثلاثة أوجه: الإفراد، والجمع، والتثنية. ونعني بذلك الأصل الذي هما عليه.
وقوله: "سبغت" أو "وفرت" كذا بخط الدمياطي: "وفرت" وكذا هو في شرح ابن التين، وابن بطال
(1)
، وفي بعضها "مرت"
(2)
بالميم.
قَالَ النووي
(3)
: وصوابه في مسلم: "مُدَّتْ" بالدال بمعنى سبغت كما في الحديث الآخر: "انبسطت"
(4)
لكنه قد يصح "مرت" على هذا المعنى. والسابغ: الكامل. وفي بعض نسخ البخاري: "مادت" بدال مخففة من ماد: إذا مال. ورواه بعضهم "مارت" أي: سالت عليه وانقلبت.
وقال الأزهري
(5)
: معناه ترددت، وذهبت، وجاءت بكمالها. وسبغت أي امتدت وطالت. وعند ابن طريف: هو شيء طال من فوق إلى أسفل سبوغًا، ألا ترى: سبع الثوب، يسبغ: اتسع. غيره: سبغت النعمة: سترت. وضبطه الأصيلي بضم الباء، وهو شيء لا يعُرف.
ولما ذكره ابن التين كما سلف شك -يعني الراوي- أيهما قال، ومعناهما واحد، فهو إذ أنفق طال ذلك اللباس. وحقيقة المعنى أن
(1)
"شرح ابن بطال" 3/ 441.
(2)
"صحيح مسلم"(1021).
(3)
"مسلم بشرح النووي" 7/ 108.
(4)
سيأتي برقم (5797).
(5)
"تهذيب اللغة" 4/ 3325.
الجواد تطاوعه يده في (النفقة)
(1)
إذا أعطى، وينمى ماله، ويستر بها من قرنه إلى قدمه. والبخيل تنقبض يده فدرعه عليه ثقل ووبال بالوقاية. وإليه أشير في قوله:{يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة: 64] فقال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64].
وقوله: "حَتَّى تُخفِي بنانه" ورواه الخطابي: "حَتَّى تجن بنانه" أي: تسترها. جن، وأجن بمعنى، وروي "تحز" -بحاء وزاي- وهو وهم. قَالَ النووي: والصواب: "تجن" -بجيم ونون- أي تستره. ومنه رواية بعضهم "ثيابه" بثاء مثلثة، وهو وهم، والصواب "بنانه" بالنون، وهي رواية الجمهور كما في الحديث الآخر "أنامله"
(2)
.
وقوله: "ويعفو أثره" أي كما يعفي الثوب الذي يجر الأرض أثر صاحبه إذا مشى بمرور الذيل عليه، كذلك تُذهب الصدقة خطاياه فتمحوها.
وقوله -في البخيل-: "لَزِقَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ مَكَانَهَا" ويروى: لزمت أي: ضُيقت عليه. ولزمت بجلده فهي تؤذيه بمعنى أنها تحمى عليه يوم القيامة، فيكوى بها. ولزق مثل لصق.
وقال النووي: معنى "تعفو أثره": تمحو أثر مشيه، تمثيل لكثرة الجود والبخل، وأن المعطي إذا أعطى انبسطت يداه بالعطاء، ويعود ذلك، وإذا أمسك صار ذلك عادة له.
وقيل: معنى "تمحو أثره" أي: تذهب بخطاياه وتمحوها. وهذا مثل ضربه الشارع للبخيل والجواد. وذلك أن الدرع أول ما تلبس تقع على
(1)
في (م): الصدقة.
(2)
سيأتي برقم (5797).
الصدور والثديين إلى أن يدخل اللابس يديه في كميه، فجعل مثل المنفق مثل من يلبس درعًا سابغة، فاسترسلت عليه حَتَّى سبغت جميع بدنه، وهو معنى قوله:"حَتَّى تعفو أثره" أي: تستر جميع بدنه. وجعل البخيل كرجل غلت يداه إلى عنقه، فلما أراد لبسها اجتمعت في عنقه. وهو معنى "قلصت" أي: تضامت واجتمعت. والمراد أن الجواد إذا هم بالصدقة انفسح لها صدره، والبخيل إذا حدث نفسه بها ضاق صدره، وانقبضت يده.
وقال المهلب: معناه أن الله تعالى ينمي مال المتصدق ويستره ببركته من قرنه إلى قدمه، وجميع عوراته في الدنيا، والأجر في الآخرة.
والبخيل ماله لا يمتد عليه، فلا يستر من عوراته شيئًا حَتَّى يبدو للناس منكشفًا مفتضحًا في الدنيا والآخرة، كمن يلبس جبة تبلغ إلى ثدييه لا تجاوز قلبه الذي يأمره بالامتثال
(1)
.
(1)
انظر "شرح ابن بطال" 3/ 441.
29 - باب صَدَقَةِ الكَسْبِ وَالتِّجَارَةِ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} الآية [البقرة: 267][فتح 3/ 307]
اقتصر البخاري رحمه الله على هذِه الآية، ولم يذكر فيها حديثًا. والمعنى أي: من طيب أموالكم وأنفسها. قاله ابن عباس
(1)
. وقال مجاهد: من التجارة الحلال
(2)
.
وقال علي: نزلت في الزكاة المفروضة، يقول: تصدقوا من أطيب أموالكم (وأنفسها)
(3)
(4)
.
وذكر أبو جعفر النحاس في سبب نزولها حديثًا أسنده عن البراء قَالَ: كانوا يجيئون في الصدقات بأردأ تمرهم، وأردأ طعامهم، فنزلت هذِه الآية إلى قوله:{إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} قال: لو كان لكم فأعطاكم لم تأخذوه إلا وأنتم ترون أنه قد نقصكم من حقكم
(5)
. وهذا قول الصحابة والعلماء.
وقال ابن زيد: المعنى: لا تنفقوا من الحرام، وتدعوا الحلال
(6)
.
وقال عبد الله بن معقل: ليس في مال المؤمن خبيث، ولكن {وَلَا تَيَمَّمُوا
(1)
رواه الطبري في "تفسيره" 3/ 81 (6128).
(2)
السابق 3/ 80 (6120 - 6123).
(3)
السابق 3/ 83 (6141).
(4)
في الأصل: (وأنفسه) ووضع فوقها كلمة صح.
(5)
"معاني القرآن الكريم" 1/ 296.
(6)
رواه الطبري في "تفسيره" 3/ 84 (6148).
الخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} لا يتصدق بالحشف، ولا بالدرهم الزَّيف، ولا بما لا خير فيه
(1)
. ومعنى {وَلَا تَيَمَّمُوا} : لا تقصدوا وتعمَّدوا. وفي قراءة عبد الله: (ولا تؤمّوا) من أممت. والمعنى سواء.
وقال البراء: نزلت في الأنصار، كانت إذا كان جداد النخل أخرجت من حيطانها أقناء البسر فعلقوه على حبل بين الأسطونتين في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأكل فقراء المهاجرين منه، فيعمد الرجل منهم إلى الحشف، فيدخله مع أقناء البسر بظن جوازه، فأنزل:{وَلَا تَيَمَّمُوا الخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ}
(2)
واستدرك الحاكم لزكاة التجارة من حديث أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "في الإبل صدقتها، وفي البقر صدقتها، وفي الغنم صدقتها، وفي البز صدقته" استدركه بإسنادين صحيحين، وقال: هما على شرط الشيخين
(3)
.
والبَز بفتح الباء وبالزاي، كذا رواه. وصرح بالزاي الدارقطني، والبيهقي
(4)
.
(1)
روه ابن أبي حاتم في "تفسير القرآن العظيم" 2/ 527 (2799).
(2)
رواه الطبري في "تفسيره" 3/ 82 (6138).
(3)
"المستدرك" 1/ 388 كتاب: الزكاة.
(4)
"سنن الدارقطني" 2/ 100 - 101 كتاب: الزكاة، باب: ليس في الخضروات صدقة، "سنن البيهقي" 4/ 247 كتاب: الزكاة، باب: زكاة التجارة، وقال الذهبي في "المهذب" 3/ 1505 - (6688): إسناده جيد ولم يخرجوه.
30 - باب عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ
1445 -
حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ". فَقَالُوا: يَا نَبِيَّ اللهِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ قَالَ: "يَعْمَلُ بِيَدِهِ فَيَنْفَعُ نَفْسَهُ وَيَتَصَدَّقُ". قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَجِدْ؟ قَالَ: "يُعِينُ ذَا الحَاجَةِ المَلْهُوفَ". قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَجِدْ؟ قَالَ: "فَلْيَعْمَلْ بِالمَعْرُوفِ، وَلْيُمْسِكْ عَنِ الشَّرِّ، فَإِنَّهَا لَهُ صَدَقَةٌ". [6602 - مسلم: 1008 - فتح: 3/ 307]
ذكر فيه حديث سَعِيد بْن أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ". قالوا: يَا نَبِيَّ اللهِ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ؟ قَالَ:"يَعْمَلُ بِيَدِهِ فَيَنْفَعُ نَفْسَهُ وَيَتَصَدَّقُ" .. الحديث.
هذا الحديث أخرجه مسلم أيضًا
(1)
، وأطلق الصدقة هنا وبينها في حديث أبي هريرة بقوله:"في كلِّ يَوْم"، وأن ظاهره الوجوب، لكن خففه عنا الرب جل جلاله حيث جعل ما خفي من المندوبات مسقطًا له. وهو مثل قوله صلى الله عليه وسلم:"عَلَى كُلِّ سُلامَى صدَقَةٌ"
(2)
أي على وجه الندب. والملهوف يُطلق على المضطر، وعلى المتحير، وعلى المظلوم.
قوله: "وَلْيُمْسِكْ عَنِ الشَّرِّ" وذلك [أنه]
(3)
إذا أمسك شره عن غيره فكأنه قد تصدق عليه بالسلامة. فإن كان شرًّا لا يعدو نفسه فقد تصدق على نفسه بأن منعها من الإثم.
(1)
"صحيح مسلم"(1008) كتاب: الزكاة، باب: بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف.
(2)
سيأتي برقم (2707) كتاب: الصلح، باب: فضل الإصلاح بين الناس والعدل بينهم.
(3)
من (م).
ومقصود الباب أن أعمال الخير إذا حسنت النيات فيها تنزلت منزلة الصدقات في الأجور، ولا سيما في حق من لا يقدر على الصدقة. ويفهم منه أن الصدقة في حق القادر عليها أفضل من سائر الأعمال القاصرة على فاعلها. ولا شك أن ثواب الفرض أفضل من ثواب النفل، ولن يتقرب المتقربون بأفضل بما افترضه عليهم كما أخبر به الرب جل جلاله في هذا "الصحيح" من حديث أبي هريرة كما سيأتي
(1)
.
وقال بعضهم
(2)
: إن ثواب الفرض أفضل من ثواب النفل بسبعين
(3)
درجة.
(1)
برقم (6502) كتاب: الرقاق، باب: التواضع.
(2)
ورد بهامش الأصل ما نصه: بعضهم هو الإمام، فإنه قال: قال بعض علمائنا: الفريضة يزيد ثوابها على ثواب النافلة سبعين درجة، فاستأنس بما رواه سلمان الفارسي أنه صلى الله عليه وسلم قال في رمضان:"من تقرب فيه بخصلة من خصال الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه".
(3)
ورد بهامش الأصل ما نصه: وهو حديث أخرجه ابن خزيمة في "صحيحه" والبيهقي في "الشعب".
31 - باب قَدْرُ كَمْ يُعْطَى مِنَ الزَّكَاةِ وَالصَّدَقَةِ؟ وَمَنْ أَعْطَى شَاةً
1446 -
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا أَبُو شِهَابٍ، عَنْ خَالِدٍ الحَذَّاءِ، عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رضي الله عنها قَالَتْ: بُعِثَ إِلَي نُسَيْبَةَ الأَنْصَارِيَّةِ بِشَاةٍ، فَأَرْسَلَتْ إِلَي عَائِشَةَ رضي الله عنها، مِنْهَا فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"عِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟ ". فَقُلْتُ: لَا، إِلاَّ مَا أَرْسَلَتْ بِهِ نُسَيْبَةُ مِنْ تِلْكَ الشَّاةِ فَقَالَ:"هَاتِ فَقَدْ بَلَغَتْ مَحِلَّهَا". [1494، 2579 - مسلم: 1076 - فتح: 3/ 309]
ذكر فيه حديث أم عطية قالت: بُعِثَ إِلَي نُسَيْبَةَ الأَنْصَارِيَّةِ بِشَاةٍ، فَأَرْسَلَتْ إِلَي عَائِشَةَ منها، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"عِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟ ". فقالت: لَا، إِلَّا مَا أَرْسَلَتْ بِهِ نُسَيْبَةُ مِنْ تِلْكَ الشَّاةِ. فَقَالَ:"هَاتِ فَقَدْ بَلَغَتْ مَحِلَّهَا".
الشرح:
أم عطية هي نسيبة المبعوث إليها بالشاة، وكأنها عنت نفسها. ويكون قولها (بُعِثَ) بباء موحدة مضمومة ثم عين مكسورة وفتح الثاء. وقد جاء في موضع آخر عن أم عطية قالت: بُعِثَ إِلَي رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاةٍ من الصدقة، فبعثت إلى عائشة منها .. الحديث
(1)
.
وتوهم ابن التين أنها غيرها فقال: تقدم عن أبي الحسن أن أم عطية اسمها أيضًا نسيبة. وكأن البخاري أراد بمقدار الشاة هو الذي يعطى في الزكاة. وأنه يجوز أن تتصدق من مالها بشاة كاملة.
وقد اختلف العلماء في قدر ما يجوز أن يعطى الإنسان من الزكاة:
(1)
رواه مسلم (1076)، كتاب: الزكاة، باب: إباحة الهدية للنبي صلى الله عليه وسلم.
فذهب أبو حنيفة إلى أنه يكره أن يدفع إلى شخص واحد بمائتي درهم فصاعدًا، وإن دفع أجزأ، ولا بأس أن يدفع أقل من ذلك. وقال محمد: وإن يُغْنَى به إنسان أحب إليَّ
(1)
. وقال ابن حبيب: لا بأس أن يعطي من زكاة غنمه للرجل شاة، ولأهل البيت شاتين والثلاث. وإذا كثرت الحاجة فلا بأس أن يجمع بين النفر في الشاة
(2)
.
وذكر ابن القصار عن مالك أنه قَالَ: يعطى الفقير من الزكاة قدر كفايته وكفاية عياله، ولم يبين مقدار ذلك لمدة معلومة. وعندي أنه يجوزأن يعطيه ما يغنيه حَتَّى يجب عليه ما يزكي.
قَالَ ابن بطال: قد بين المدة في رواية علي، وابن نافع عنه في "المجموعة": قَالَ مالك: يعطى الفقير قوت سنة، ثم يزيد في الكسوة بقدر ما يرى من حاجته. وقال المغيرة: لا بأس أن يعطيه من الزكاة أقل مما تجب فيه الزكاة، ولا يعطى ما تجب فيه الزكاة. وروى عنه علي أن ذلك لاجتهاد الوالي
(3)
. وقال الثوري وأحمد: لا يُعطى من الزكاة أكثر من خمسين درهمًا إلا أن يكون غارمًا
(4)
. وقال الشافعي: يعطى من الزكاة حَتَّى يغنى ويزول عنه اسم المسكنة
(5)
، ولا بأس أن يعطى الفقير الألف وأكثر من ذلك؛ لأنه لا يجب عليه الزكاة إلا بمرور الحول، وهو قول أبي ثور
(6)
.
(1)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 1/ 486.
(2)
انظر: "النوادر والزيادات" 2/ 288.
(3)
انظر: "النوادر والزيادات" 2/ 286، 287.
(4)
انظر: "المغني" 4/ 129.
(5)
انظر: "البيان" 3/ 409.
(6)
"شرح ابن بطال" 3/ 444.
وعنه قول: أنه يعطى كفاية سنة، وصححه من المتأخرين الرافعي
(1)
. وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الأنصار في دية عبد الله بن سهل مائة من الإبل
(2)
.
واشترى أبو زرارة أمةً من الصدقة وأعتقها، وأعطاها مائة شاة.
واستجاز قوم من حديث عبد الله بن سهل أن يعطى المسكين في المرة الواحدة مائة من الإبل.
وقال محمد بن عبد الله قاضي البصرة: يعطى من الصدقة أكثر ما تجب فيه الزكاة.
وقوله: "مَحِلَّهَا" أي قد صارت حلالًا بانتقالها من باب الصدقة إلى باب الهدية كذا شرحه ابن بطال
(3)
، وهذا مثل قوله:"هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ، وَلنَا هَدِيةٌ"
(4)
في لحم بَرِيرة التي أهدته لعائشة، وقد ترجم لهذا الباب بعد هذا باب إِذَا تَحَوَّلَتِ الصَّدَقَةُ، وضبط محلها بكسر الحاء
(5)
الدمياطي في أصله، وتبعه شيخنا علاء الدين، فقال في شرحه: محلها بكسر الحاء، أي: موضع الحلول والاستقرار، يعني: أنه قد حصل المقصود منها من ثواب التصدق ثم صارت ملكًا لمن وصلت إليه.
وفي الحديث دلالة أن الحاج لا ينقص من فضله أخذ الصدقة، وأن
(1)
انظر: "المجموع" 6/ 176.
(2)
سيأتي برقم (6898) كتاب: الديات، باب: القسامة.
(3)
"شرح ابن بطال" 3/ 444.
(4)
يأتي برقم (1495).
(5)
بهامش الأصل بخط سبط: وفي "المطالع" هذا المحل بكسر الحاء وفتحها وهو موضع الحلول، ومنه بلغت محلها أي: موضعها ومستحقها، قال الله تعالى:{ثُمَّ مَحِلُّهَا} بمقتضى عبارته أن يكون في (محلها) الكسرِ والفتح، والله أعلم.
خبر الواحد يقبل، وأن المتصدق عليه إذا أهدى لمن لا يجوز له الأخذ جاز له أخذها؛ لقوله:"هَاتِ فَقَدْ بَلَغَتْ مَحِلَّهَا".
وفيه دليل لمن يقول أن لحم الأضحية إذا قبضه المتصدق عليه وسائر الصدقات يجوز للقابض التصرف فيه بالبيع.
وفيه أنها تحل لمن أهداها إليه أو ملكها بطريق آخر، وقال بعض المالكية: لا يجوز بيع لحم الأضحية لقابضها، وعلله القرطبي بأن أصل مشروعية الأضحية ألا يباع منها شيء مطلقًا
(1)
، وأصح القولين جوازه.
(1)
"المفهم" 3/ 130.
32 - باب زَكَاةِ الوَرِقِ
1447 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى المَازِنِيِّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ مِنَ الإِبِلِ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ".
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الُمثَنَّى، حَدَّثَنَا عَندُ الوَهَّابِ قَالَ: حَدَّثَنِي يحيى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْروٌ سَمِعَ أَبَاهُ، عَنْ أَبي سَعِيدِ رضي الله عنه، سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بهذا. [1405 - مسلم: 979 - فتح: 3/ 310]
وذكر فيه حديث أبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ: " .. وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ .. ".
وقد سلف في باب ما أدي زكاته فليس بكنز
(1)
، ثم ذكره من طريق آخر عنه مع الكلام عليه واضحًا
(2)
. وظاهره نفي الزكاة عما دون ذلك، وإيجابها في ذلك المقدار، وما زاد فبحسابه؛ لأن النص الصحيح لما عدم في تحديد الزائد تعلق الوجوب به، ويروى هذا عن علي، وابن عمر، والنخعي، وعمر بن عبد العزيز، وابن أبي ليلى، والليث، والثوري، وإسحاق، وأبي ثور ومن سلف هناك.
وما أسلفناه عن أبي حنيفة هناك روي عن عمر رواه الليث عن يحيى ابن أيوب، عن حميد، عن أنس، عنه، وبه قَالَ سعيد بن المسيب، والحسن، وطاوس، وعطاء، والشعبي، ومكحول، وابن شهاب
(3)
، واحتجوا بحديث عبادة بن نسي، عن معاذ: أنه صلى الله عليه وسلم لما بعثه إلى
(1)
برقم (1405) كتاب: الزكاة.
(2)
سيأتي برقم (1484) باب: ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة.
(3)
انظر: "الاستذكار" 9/ 19 - 20.
اليمن أمره ألا يأخذ من الكسور شيئًا، إذا بلغ الورق مائتي درهم أخذ منه خمسة دراهم. ولا يأخذ ما زاد حَتَّى يبلغ أربعين
(1)
. قَالَ الطبري: عليهم من طريق النظر القياس على أوقاص البقر، وما بين الفريضتين في الإبل والغنم أنه لا شيء في ذلك. فالواجب أن يكون كذلك كل ما وجبت فيه الصدقة [أن لا]
(2)
يكون بين الفريضتين غير الفرض الأول، وأجاب الأولون عن حديث معاذ بأنه منقطع، عبادة لم يسمع منه
(3)
. ورواه أبو العطاف، وهو متروكُ الحديثِ
(4)
.
وعليهم من طريق النظر القياس على الحبوب والثمار، وأن الذهبَ والفضة مغيبان مستخرجان من الأرض بكلفة ومؤنة، ولا خلاف بين الجميع أن ما زاد على خمسة أوسق من الحبِّ، وما توصل إليه بمثل ذلك من التمر والزبيب فيه الصدقة بحساب ذلك، فالواجب قياسًا أن يكون مثله كلَّ مَا وجبت فيه بما استخرج من الأرض بكلفة ومؤنة، وهذا القول هو الصواب، وما لا مشقة في أوقاصه يخرج بخلاف غيره كالماشية، وقياسهم فاسد فيما يروى عن أبي حنيفة في خمسين من البقر مسنة وربع.
(1)
رواه الدارقطني 2/ 93 - 94 في الزكاة، باب في الكسر شيء، والبيهقي 4/ 135 - 136 في الزكاة، باب ذكر الخبر الذي روي في وقص الورق.
(2)
في (م): إلا أن.
(3)
تعليق بهامش الأصل بخط سبط: توفي معاذ سنة 18، أو سنة 17 من الهجرة.
(4)
قلت: الحديث ضعفه الدارقطني، وقال البيهقي والحافظ في "الدراية" 1/ 257: إسناده ضعيف جدًا.
33 - باب العَرْضِ فِي الزَّكَاةِ
وَقَالَ طَاوُسٌ: قَالَ مُعَاذٌ لأَهْلِ اليَمَنِ: ائْتُونِي بِعَرْضٍ ثِيَابٍ خَمِيصٍ أَوْ لَبِيسٍ فِي الصَّدَقَةِ، مَكَانَ الشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ، أَهْوَنُ عَلَيْكُمْ، وَخَيْرٌ لأَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالمَدِينَةِ. وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"وَأَمَّا خَالِدٌ احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ وَأَعْتُدَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ". وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "تَصَدَّقْنَ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ". فَلَمْ يَسْتَثْنِ صَدَقَةَ الفَرْضِ مِنْ غَيْرِهَا، فَجَعَلَتِ المَرْأَةُ تُلْقِي خُرْصَهَا وَسِخَابَهَا، وَلَمْ يَخُصَّ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ مِنَ العُرُوضِ.
1448 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي ثُمَامَةُ أَنَّ أَنَسًا رضي الله عنه حَدَّثَهُ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه كَتَبَ لَهُ التِي أَمَرَ اللهُ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم:"وَمَنْ بَلَغَتْ صَدَقَتُهُ بِنْتَ مَخَاضٍ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُ بِنْتُ لَبُونٍ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ، وَيُعْطِيهِ المُصَدِّقُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ بِنْتُ مَخَاضٍ عَلَى وَجْهِهَا، وَعِنْدَهُ ابْنُ لَبُونٍ، فَإِنَّهُ يُقْبَلُ مِنْهُ وَلَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ". [1450، 1451، 1453، 1454، 1455، 2487، 5878، 6955 - فتح: 3/ 312]
1449 -
حَدَّثَنَا مُؤَمَّلٌ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أَشْهَدُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَصَلَّى قَبْلَ الخُطْبَةِ، فَرَأَى أَنَّهُ لَمْ يُسْمِعِ النِّسَاءَ، فَأَتَاهُنَّ وَمَعَهُ بِلَالٌ نَاشِرَ ثَوْبِهِ، فَوَعَظَهُنَّ، وَأَمَرَهُنَّ أَنْ يَتَصَدَّقْنَ، فَجَعَلَتِ المَرْأَةُ تُلْقِي، وَأَشَارَ أَيُّوبُ إِلَى أُذُنِهِ وَإِلَى حَلْقِهِ. [انظر: 98 - مسلم: 884 - فتح: 3/ 312]
حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنِي ثُمَامَةُ، أَن أَنَسًا حَدَّثَهُ، أَن أَبَا بَكْرٍ كَتَبَ لَهُ التِي أَمَرَ اللهُ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم:"وَمَنْ بَلَغَتْ صَدَقَتُهُ بِنْتَ مَخَاضٍ وَلَيْسَتْ عنده، وَعِنْدَهُ بِنْتُ لَبُونٍ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ، وَيُعْطِيهِ المُصَدَّقُ عِشْرِينَ دِرْهمًا أَوُ شَاتَيْن .. " الحديث.
وساق عن ابن عَبَّاسٍ: أَشْهَدُ أن رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم لَصلَّى قَبْلَ الخُطْبَةِ، فَرَأى أَنَّهُ لَمْ يُسْمِع النِّسَاءَ، فَأَتَاهُنَّ وَمَعَهُ بِلَالٌ نَاشِرَ ثَوْبِهِ، فَوَعَظَهُنَّ وَأَمَرَهُنَ أَنْ يَتَصَدَّقنَ، فَجَعَلَتِ المَرْأَةُ تُلْقِي، وَأَشَارَ أَيُّوبُ إِلَى أُذُنِهِ وإلَى حَلْقِهِ.
الشرح:
أما أثر معاذ فأخرجه ابن أبي شيبة، عن ابن عيينة، عن إبراهيم بن ميسرة، عن طاوس قال معاذ: ائتوني بخميص
…
الحديث. وحَدَّثَنَا وكيع، عن سفيان، عن إبراهيم، عن طاوس أن معاذًا كان يأخذ العروض في الصدقة
(1)
. وهذا مرسلٌ؛ طاوس لم يدرك معاذًا كما نص عليه الدارقطني وغيره
(2)
.
وقال البيهقي: كذا قال إبراهيم بن ميسرة، وخالفه عمرو بن دينار، عن طاوس: فقال معاذ باليمن: ائتوني بعرض ثياب آخذه منكم مكان الذرة والشعير، قال: وقال الإسماعيلي: حديث طاوس عن معاذ إذا كان مرسلًا لا حجة، وقد قال بعضهم فيه: من الجزية، بدل: الصدقة.
قال البيهقي: وهذا الأليق بمعاذ، والأشبه بما أمره النبي صلى الله عليه وسلم به من أخذ الجنس في الصدقات وأخذ الدينار وعدله معافر ثياب اليمن في الجزية، وأن ترد الصدقات على فقرائهم [لا]
(3)
أن ينقلها إلى المهاجرين بالمدينة الذين أكثرهم أهل فَيء لا أهل صدقة
(4)
.
(1)
"المصنف" 2/ 404 (10439 - 10440) كتاب: الزكاة، ما قالوا في أخذ العروض في الصدقة.
(2)
"سنن الدارقطني" 2/ 100 كتاب: الزكاة، باب: ليس في الخضروات صدقة.
(3)
في الأصل: إلا، وما أثبتناه من "السنن الكبرى" 4/ 113.
(4)
"السنن الكبرى" 4/ 113 كتاب: الزكاة، باب: من أجاز أخذ القيم في الزكوات.
قال الإسماعيلي: حديث طاوس لو كان صحيحًا لوجب ذكره؛ لينتهى إليه، وإن كان مرسلًا فلا حجة فيه، وقد يقول: ائتوني به آخذه مكان الشعير والذرة الذي أخذه شراء بما أخذه، فيكون بأخذه قد بلغت محله، ثم يأخذه مكان ما يشتريه بما هو أوسع عندهم وأنفع للآخذ، ولو كانت هذِه من الزكاة لم تكن مردودة على أصحاب النبي بالمدينة دون غيرهم، ولو كان الوجه رده عليهم، وقد قال له صلى الله عليه وسلم:"تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم"
(1)
.
وقوله: (خميص) كذا هو بالصاد، قال صاحب "المطالع": كذا ذكره البخاري، وأبو عبيد وغيره يقولونه بالسين، ويقال له أيضًا: خموس، وهو الثوب الذي طوله خمسة أذرع، كأنه يعني الصغير من الثياب، وقال أبو عمرو الشيباني: أول من عملها باليمن ملك يقال له: الخميس
(2)
، وقد يكون بالصاد من الخميصة، ولا وجه له، وإن صحت الرواية بالصاد فيكون مذكر الخميصة، فاستعارها في الثوب، وذكره ابن التين أولًا بالسين، ثم قال: ووقع في بعض الأمهات بالصاد، ولا وجه له إلا أن يكون أراد خميصة.
وقال ابن بطال: وقع هنا بالصاد، والصواب بالسين، كذا فسره أبو عبيد وأهل اللغة، قال صاحب "العين":(الخميسي والمخموس)
(3)
ثوب طوله خمس أذرع، وذكره أبو عبيد عن الأصمعي
(4)
.
وقال صاحب "المغيث": الخميس: الثوب المخموس الذي طوله
(1)
سلف برقم (1395) باب: وجوب الزكاة.
(2)
ورد بهامش الأصل ما نصه: لعل صوابه الخمس.
(3)
في الأصل: الخميس والخموس. والمثبت من "العين" 4/ 205.
(4)
"شرح ابن بطال" 3/ 450.
خمس
(1)
، قال ابن فارس وغيره: وكأن معاذًا أراد أنه بمعنى الصغير من الثياب
(2)
، وقال في "مجمع الغرائب": أول من عمله ملك يقال له: الخمس، قال الطبري: وقولهم: مخموس فيه ما يدل أنه مما جاء مجيء ما يصرف من الأشياء التي أصلها مفعول إلى فعيل مثل: جريح وقتيل، أصله: مجروح ومقتول.
وقوله: (أو لبيس) يريد: أو ملبوس، كما قال ابن التين: مثل: قتيل ومقتول، ولو كان أراد الاسم لقال: لبوس؛ لأن اللبوس: كل ما يلبس من ثياب ودرع.
وحديث: ("وأما خالد") فقد وصله وسيأتي عن قريب
(3)
، قال الإسماعيلي: إذا احتبسها: جعلها حبسًا، وإذا جعلها حبسًا وأعيانها لا زكاة فيه سقطت الزكاة عنها فهذا لا يتصل بأخذ العرض في فرض الزكاة. قُلْتُ: كأن البخاري ترجم لزكاة العرض وأخذ الفرض، فذكر دليل الأول مرة والآخر أخرى.
وقوله: (وأعتده)
(4)
هو بالتاء وبالباء كما ستعلمه في موضعه والأول أصح.
وحديث: "تصدقن" سلف في العيد وغيره مسندًا
(5)
. وقال الإسماعيلي: هذا حث على الصدقة، ولو (لمن نفس مال)
(6)
، وليس في ذَلِكَ فرض،
(1)
"المجموع المغيث" 1/ 618.
(2)
"مجمل اللغة" 1/ 302 - 303.
(3)
سيأتي برقم (1468) باب: قول الله تعالى: {وفي الرقاب .. } .
(4)
ورد في هامش الأصل ما نصه: الكافة رووا: وأعْبُده. بالباء إلا الحموي والمستملي قال في "المطالع" ورجح هذا بعضهم.
(5)
سبق (979) في العيدين، باب مَوْعِظَةِ الإِمَام النِّسَاءَ يَوْمَ العِيدِ، عن ابن عباس.
(6)
كذا في الأصل وفوقها كلمة كذا وفي حاشيتهَا تعليقًا عليها: لعله من نفيس مال.
فلو كان من الفرض لقيل: أدّين صدقة أموالكن، إلا أن يشار إلى ما منه يتصدقن لنفاسته عليهن أو قريب متناوله منهن، والله أعلم.
قال: وما ذكره في الباب يؤخذ كذا وكذا، فليس ذَلِكَ أخذ عرض عن عين، بل الموجب فيها حال الوجود كذا، وفي حال عدمه في إبله كذا، فهو كأخذ شاة عن خمس من الإبل لا يقال: إنه أخذ عرضًا عن زكاة ولكن ذاك هو الموجب عليه، وكذلك الموجب في حال كذا وفي حال كذا فخالف الأول.
وحديث ثمامة عن أنس في كتاب الصديق فرقه البخاري في عشرة مواضع من هذا "الصحيح" كما ستراه
(1)
، ولا عبرة بمن طعن في اتصاله، فقد صححه الأئمة، قال الحاكم في "مستدركه": وهو صحيح على شرط مسلم، وأوضحه
(2)
.
وقال البخاري في كتاب الجهاد عن أنس: إن أبا بكر لما استخلف بعثه إلى البحرين وكتب له هذا الكتاب وختمه بخاتم النبي صلى الله عليه وسلم
(3)
، قال الحاكم: وتفرد البخاري بإخراجه من وجه علا فيه عن الأنصاري عن
(1)
سيأتي برقم (1450) كتاب: الزكاة، باب: لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع، و (1451) باب: ما كان من خليطين، فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية، و (1453) باب: من بلغت عنده صدقة بنت مخاض وليست عنده، و (1454) باب: زكاة الغنم، و (1455) باب: لا تؤخذ في الصدقة هرمة، و (2487) كتاب: الشركة، باب: ما كان من خليطين، و (3106) كتاب: فرض الخمس، باب: ما ذكر من درع النبي صلى الله عليه وسلم، (5878) كتاب: اللباس، باب: هل يجعل نقش الخاتم ثلاثة أسطر؟ و (6955) كتاب: الحيل، باب: في الزكاة، وأن لا يفرق بين مجتمع، ولا يجمع بين متفرق؛ خشية الصدقة.
(2)
"المستدرك" 1/ 390 - 392 كتاب: الزكاة.
(3)
سيأتي برقم (3106) باب: ما ذكر من درع النبي صلى الله عليه وسلم.
ثمامة، وحديث حماد بن سلمة عن ثمامة، وحديث حماد أصح وأشفى وأتم من حديث الأنصاري
(1)
.
وقال الميموني: سألت أبا عبد الله -يعني: أحمد بن حنبل- عن حديث حماد، عن ثمامة فقال: لا أعلم في الصدقات حديثًا أحسن منه، إلا أن عفان يقول عن حماد: سمعت من ثمامة، وأبو كامل عن حماد: دفع إلى ثمامة كتابه، قيل: فأي حديث أحسن في الصدقة؟ فقال: حديث حماد وعمرو بن حزم.
وقال مرة في حديث عمرو: أرجو أن يكون صحيحًا.
وخرجه في "مسنده"
(2)
عن الحكم بن موسى عنه، وقال إمامنا الشافعي فيما نقله عنه البيهقي: حديث أنس حديث ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من جهة حماد وغيره وبه نأخذ ولمَّا ذكره البيهقي في "المعرفة"، من حديث حماد قال: تعلق به بعض من ادعى المعرفة بالآثار فقال: هذا حديث منقطع، وأنتم لا تثبتون المنقطع، وإنما وصله عبد الله بن المثنى، عن ثمامة، عن أنس، وأنتم لا تجعلون عبد الله حجة، ولم يعلم أن موسى بن محمد المؤدب قد رواه عن حماد بن سلمة، قال: أخذت هذا الكتاب من ثمامة، عن أنس أن أبا بكر كتب له، وكذا رواه شريح بن النعمان، عن حماد، عن ثمامة، عن أنس، أن أبا بكر .. الحديث.
قال البيهقي: وقد رواه ابن المنذر في كتابه محتجًا به، ورواه
(1)
"المستدرك" 1/ 392 كتاب: الزكاة.
(2)
لم أجده في "المسند" وكذلك لم يذكره الحافظ في "الإطراف" 5/ 131 - 132، وإنما رواه النسائي 8/ 57 - 58، وابن حبان 14/ 501 (6559).
إسحاق بن راهويه وهو إمام عصره عن النضر بن شميل، وهو متفق عليه في العدالة والإتقان والتقدم، فقال: حَدَّثَنَا حماد قال: أخذنا هذا الكتاب من ثمامة بن عبد الله يحكيه عن أنس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
، وقال الدارقطني: إسناد صحيح، وكلهم ثقات
(2)
.
قال البيهقي: وقد اعتمد محمد -يعني: البخاري- على عبد الله بن المثنى لكثرة الشواهد لحديثه هذا بالصحة
(3)
، وقال الدارقطني: رواه محمد بن مصفي، عن نعيم [بن]
(4)
حماد، عن المعتمر، عن أبيه، عن أنس، عن أبي بكر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروي عن الأوزاعي، عن الزهري، عن أنس نحو قول ثمامة
(5)
.
وقال ابن حزم: هذا الحديث لا يصح في الماشية غيره، إلا خبر ابن عمر وليس بقائم، وحديث ثمامة في نهاية الصحة وعمل أبي بكر بحضرة الصحابة، ولا يعرف منهم مخالف، رواه عن أنس ثمامة، وهو ثقة سمعه من أنس، وعن ثمامة حماد بن سلمة، وعبد الله بن المثنى، وكلاهما ثقة إمام، وعن ابن المثنى ابنه محمد، وهو مشهور ثقة، وعنه البخاري، وأبو قلابة والناس، ورواه عن حماد يونس، وشريح، والتبوذكي، وأبو كامل المظفر بن مدرك، وغيرهم، وكل هؤلاء إمام ثقة مشهور
(6)
.
(1)
"معرفة السنن والآثار" 6/ 19 كتاب: الزكاة، كيف فرض الصدقة.
(2)
"سنن الدارقطني" 2/ 116 كتاب: الزكاة، باب: زكاة الإبل والغنم.
(3)
"معرفة السنن والآثار" 6/ 20 كتاب: الزكاة، كيف فرض الصدقة.
(4)
في الأصول: عن، وما أثبتناه من "العلل" 1/ 229.
(5)
"علل الدارقطني" 1/ 229 و 231.
(6)
"المحلى" 6/ 20 - 21. بتصرف.
قُلْتُ: وقوله في حديث ابن عمر: إنه ليس بقائم. فيه نظر؛ لأن الدارقطني أخرجه بإسناد صحيح، وزكاه الحاكم وطرقه
(1)
. وقال ابن العربي في "مسالكه": ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الماشية ثلاث كتب: كتاب أبي بكر، وكتاب آل عمرو بن حزم، وكتاب عمر بن الخطاب، وعليه عوَّل مالك لطول مدة خلافته وكثرة مصدقيه، واعترض الإسماعيلي من وجه آخر فقال: لو كان يعني القيمة أو العرض لكان ينظر إلى ما بين السنين في القيمة إلا أن يوقت الموجب فيها توقيت الموجبات في الأعداد منها سواها ويكون الفرض يزيد تارة وينقص أخرى كما تزيد القيمة تارة وتنقص أخرى.
إذا تقرر ذَلِكَ كله:
فاختلف العلماء في أخذ العروض والقيم في الزكاة، فقال مالك والشافعي: لا يجوز ذَلِكَ وجوزه أبو حنيفة
(2)
واحتج أصحابه بما ذكره البخاري من أخذ معاذ العروض في الزكاة، وبحديث أنس عن أبي بكر، وقالوا: كان معاذ ينقل الصدقات إلى المدينة فيتولى الشارع قسمتها، فإن كانت في حياته كذا
(3)
فهو إقرار منه على أخذ البدل منها؛ لأنه قد علم أن الزكاة ليس فيها ما هو من جنس الثياب، فإنها لا تؤخذ إلا على وجه البدل، فصار إقراره له على فعله دلالة على الجواز، وإن كان بعد موته فقد وضعها الصديق بحضرة الصحابة في
(1)
"سنن الدارقطني" 2/ 112 - 113 كتاب: الزكاة، باب: زكاة الإبل والغنم، وقال الدارقطني: كذا رواه سليمان بن أرقم، وهو ضعيف الحديث متروك، "المستدرك" / 392 - 393 كتاب: الزكاة.
(2)
انظر: "عيون المجالس" 2/ 491 - 492.
(3)
في الأصل كذلك وأعلاها كلمة: كذا، وصوبه.
مواضعها مع علمهم أن الثياب لا تجب في الزكاة فصار ذَلِكَ إقرارًا منهم على جواز أخذ القيم، فهو إذًا اتفاق من الصحابة، قالوا: وكذلك حديث أمره عليه السلام بإخراج بنت
(1)
لبون عن بنت مخاض ويزيده المصدق عشرين درهمًا أو شاتين، وهذا على طريق القيمة.
قالوا: وإذا جاز أن يخرج عن خمس من الإبل شاة وهي من غير الجنس، جاز أن يخرج دينارًا عن الشاة، واحتجوا بما روي عن عمر أنه كان يأخذ العروض في الزكاة ويجعلها في صنف واحد من الناس، ذكره عبد الرزاق عن الثوري
(2)
.
ولهذا المذهب احتج البخاري على كثرة مخالفته لأبي حنيفة وموضع الحجة من حديث إلقاء السخاب أنها ليست من ذهب ولا فضة، بل قلادة من قرنفل ومن حلي النساء الوقف وهو من عاج وذَبْل، ما لم يكن من ذهب ولا فضة، فهو من العروض، فأراد البخاري أنه صلى الله عليه وسلم أخذ ذَلِكَ كله.
قُلْت: حتَّى يثبت أنه في الزكاة، والظاهر أنه في التطوع.
والجواب عن حديث معاذ أنه من اجتهاده، وقيل: إنه خاص له لحاجة عَلِمَهَا بالمدينة، رأى أن المصلحة في ذَلِكَ، وقامت الدلالة على أن غيره لا يجوز له أخذها، ونقل ابن التين عن القاضي أبي محمد بأن حديث معاذ وارد في الجزية، بيانه أنه نقلها من اليمن إلى المدينة، وعندهم أن الزكاة لا تنقل، وأيضًا فإن الجزية قد كانت تؤخذ من قوم من العرب باسم الصدقة فيجوز أن يكون معاذ أراد هذا
(1)
في الأصل: ابن ولعل الصواب ما أثبتناه.
(2)
"المصنف" 4/ 96 (7099).
في قوله: (في الصدقة مكان الشعير والذرة)، بدلالة قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن:"خذ الحب من الحب، والغنم من الغنم، والبقر من البقر، والابل من الإبل"
(1)
لكن يرده مكان الشعير والذرة، إلا أن يكون يأخذها في الجزية.
وأما أخذ عمر العروض فكان على وجه التطوع لا على طريقة الفريضة.
وقولهم في حديث أنس: إنه لم يعمل به أهل المدينة، ولا أمر أبو بكر ولا عمر به السعاة فوجب تركه لمعنى علموه، لا يعجبني فإنه نص فيقتصر فيه على ما ورد، ثم هو ليس هو على وجه القيمة، بل على البدل بدليل أنه يجزئ عنها وإن كانت قيمتها أكثر منه، واحتج بفعل معاذ من اختار نقل الزكاة إلى بلد آخر وسيأتي في موضعه.
فائدة:
في حديث أنس هنا بنت المخاض ولها سنة، وبنت اللبون ولها سنتان، لا خلاف في ذَلِكَ وسميت بنت مخاض؛ لأن أمها آن لها أن تكون ماخضًا أي: حاملًا أي: دخل وقت قبول أمها للحمل وإن لم تحمل، وسميت بنت اللبون؛ لأن أمها ذات لبن أي: جاز لأمها أن ترضع ثانيًا ويصير لها لبن وإن لم ترضع، وجمع لبون: لبن بضم اللام وكسرها.
(1)
رواه أبو داود (1599) تقال: الزكاة، باب: صدقة الزرع، وابن ماجه (1814) كتاب: الزكاة: باب: ما تجب فيه الزكاة من الأموال، والدارقطني في "سننه" 2/ 99 - 100 كتاب: الزكاة، باب: ليس في الخضروات صدقة، والحاكم في "المستدرك" 1/ 388 كتاب: الزكاة، والبيهقي في "سننه" 4/ 112 كتاب: الزكاة، باب: لا يؤدي عنه ما له فيما وجب عليه إلا ما وجب عليه، والحديث ضعفه الألباني في "الضعيفة"(3544)، وفي "ضعيف أبي داود"(279).
وقوله: ("ويعطيه المصدِّق عشرين درهمًا أو شاتين") هو بكسر الدال مشددة أي: العامل، ورواه أبو عبيد بفتحها مشددة أي: المالك، وخالفوه.
وقال أبو موسى المديني: هو بتشديد الصاد والدال معًا والدال مكسورةٌ، وهو رب المال، وأصله: المتصدق فأدغمت التاء في الصاد؛ لتقارب مخرجهما، وقال ثابت: يقال: بتخفيف الصاد للذي يأخذها والذي يعطيها أيضًا.
وعندنا أن الخيار في الشاتين والدراهم لدافعها، سواء كان المالك أو الساعي، وفي قول: إن الخيرة إلى الساعي مطلقًا، فعلى هذا: إن كان هو المعطي راعى المصلحة للمساكين، وكل منهما أصل بنفسه وليس ببدل؛ لأنه خُيِّرَ بينهما بحرف أو يعلم أن ذَلِكَ لا يجري مجرى تعديل القيمة لاختلاف ذَلِكَ في الأزمنة والأمكنة، وإنما هو فرض شرعي كالغرة في الجنين، والصاع في المصرّاة، والسر في ذَلِكَ أن الصدقة كانت تؤخذ في البراري وعلى المياه بحيث لا يجد السوق، فقدر الشارع هذا قطعًا للتشاجر.
نبه عليه الخطابي
(1)
وغيره، وإنما لم يرد على من أخذ منه ابن لبون بدل بنت مخاض؛ لأنه وإن زاد في السنن فقد نقص بالذكورة، ولا يكلف شراء بنت مخاض وهذا بخلاف الكفارة؛ لأن الزكاة مبنية على التخفيف بخلافها.
(1)
"أعلام الحديث" 2/ 779 - 780.
فرع:
يجزئ الخنثى من أولاد اللبون عند فقد بنت المخاض على الأصح؛ لأنه إن كان ذكرًا فذاك وإن كان أنثى فقد زاد خيرًا
(1)
، وفي رواية:"ابن لبون ذكر"
(2)
وهو إما للتأكيد أو للاحتراز من الخنثى، أو ذكر تنبيها لرب المال والعامل لتطيب نفس رب المال بالزيادة المأخوذة منه وللمصدق؛ ليعلم أن سن المذكور مقبول من رب المال في هذا الموضع، وهو أمرٌ نادرٌ في باب الصدقات.
فرع:
من وجبت عليه ابنة مخاض فلم توجد عنده، ولا ابن لبون، ولا ابنة لبون، ووجدت حقة أخذت منه
(3)
، ويرد الساعي أربعين درهمًا أو أربع شياه، خلافًا لأصبغ حيث قال: ليس عليه إلا الدراهم ويجزئه. وقال ابن القاسم وأشهب: إن فعل أجزأه وعلى أصل المذهب في منع إخراج القيمة في الزكاة لا يجزئه؛ لأنه أعطى بنت لبون وأخذ دراهم فصار ما قابل الدراهم باع به بعض بنت لبون وأخرج بعض بنت لبون عن بنت مخاض.
(1)
انظر: "المجموع" 5/ 368.
(2)
رواه أبو داود برقم (1567) كتاب: الزكاة، باب: في زكاة السائمة، والنسائي 5/ 18 - 19 كتاب: الزكاة، باب: زكاة الإبل، وأحمد 1/ 11، والبزار 1/ 102 - 103 (40)، وأبو يعلي في "مسنده" 1/ 115 - 117 (127)، وابن حبان في "صحيحه" 8/ 57 (3266) كتاب: الزكاة، باب: فرض الزكاة، والدارقطني في "سننه" 2/ 113 - 114 كتاب: الزكاة، باب: زكاة الإبل والغنم، والحاكم في "المستدرك" 1/ 390 - 391 كتاب: الزكاة، والبيهقي في، "سننه" 4/ 86 كتاب: الزكاة، باب: فرض الصدقة.
(3)
انظر: "المجموع" 5/ 368.
فرع:
في (كتابة)
(1)
الصديق له حجة لمن أجازها، وقيل لمالك في الرجل يقول له العالم: هذا كتابي فاحمله عني، وحدث بما فيه. قال: لا أراه يجوز، وما يعجبني.
وروي عنه غير هذا، فإنه قال: كتبت ليحيى بن سعيد مائة حديث من حديث ابن شهاب فحملها عني ولم يقرأها عليَّ، وقد أجاز الكتاب ابن وهب وغيره والمناولة أقوى من الإجازة إذا صح الكتاب، وفيه: حجة لجواز كتابة العلم.
(1)
ورد في هامش الأصل ما نصه: الكتابة تنقسم إلى نوعين سواء كتبها إلخ، أوأمر شخصًا فكتبها. أحدهما: المقرونة بالإجازة، وهي شبيهة بالمناولة المقرونة بالإجازة صحة وقوة. والثاني: المحررة منها، وهي صحيحة أيضًا تجوز الرواية بها على الصحيح المشهور بين أهل الحديث، وهو عندهم معدود في سند الوصول، وهذا قول كثير من المتقدمين والمتأخرين منهم: السختياني، ومنصور، والليث، وجماعة من التابعين منهم: أبو منصور السمعاني، بل جعلها أقوى من الإجازة، وإليه صار جماعة من الأصوليين منهم: صاحب "المحصول"، وفي الصحيح أحاديث كذلك، منها عند مسلم: حديث عامر بن سعد بن أبي وقاص، قال: كتب إليَّ جابر بن سمرة مع غلامي نافع .. الحديث.
وقال في الأيمان والنذور: كتبه إليَّ محمد بن يسار، ومنع الصحة آخرون، وبه قطع في "الحاوي" قال الآمدي: لا يرونه إلا غلط من الشيخ؛ لقوله: ما رواه عني أو أجزت لك روايته عني وذهب ابن القطان إلى انقطاع الرواية بها، قاله عقب حديث جابر بن سمرة المذكور، ورد عليه ذلك ابن المواق.
34 - باب لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ
وَيُذْكَرُ عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلُهُ.
1450 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الأَنْصَارِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي ثُمَامَةُ أَنَّ أَنَسًا رضي الله عنه حَدَّثَهُ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه كَتَبَ لَهُ التِي فَرَضَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ، وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ، خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ". [انظر: 1448 - فتح: 3/ 314]
ثم ذكر حديث الأَنْصَارِيِّ عن أبيه، عن ثمامة، عن أنس أَنَّ أَبَا بَكْرِ صلى الله عليه وسلم كَتَبَ لَهُ التِي فَرَضَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ، وَلَا يفرق بَيْنَ مُجْتَمِعٍ، خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ".
الشرح:
المعلق أولًا أسنده الترمذي محسنًا له، قال: وعليه عامة العلماء
(1)
وقال في "علله": سألت محمدًا عن حديث سالم، عن أبيه: كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب الصدقة فقال: أرجو أن يكون محفوظًا، وسفيان بن حسين صدوق. وقال الداودي: إنه حديث ثابت.
وقد أسلفنا الكلام فيه، وقال الحاكم: إنه حديث كبير في هذا الباب يشهد لكثير من الأحكام التي في حديث ثمامة إلا أن الشيخين لم يخرجا لسفيان بن حسين، وهو أحد أئمة الحديث، وثقه يحيى بن معين وغيره، ويصححه على شرط الشيخين حديث الزهري، وإن كان فيه أدنى إرسال أنه شاهد صحيح لحديث سفيان بن حسين قال: ومما يشهد له بالصحة
(1)
"سنن الترمذي" برقم (621) كتاب: الزكاة، باب: ما جاء في زكاة الإبل والغنم، وصححه الألباني في "صحيح الترمذي"(507).
حديث عمرو بن حزم، وحديث عمر مثله
(1)
، وقال ابن جرير في "تهذيبه": حديث سفيان بن حسين أصلح هذِه الأحاديث إسنادًا إذ لا خبر منها إلا وفيه مقال لقائل وفي الباب عن علي، وسويد بن غفلة، وسعد بن أبي وقاص، وحديث أنس سلف.
وقوله: (فرض) أي: قدر. قاله الخطابي
(2)
؛ لأن الإيجاب قد بينه الله ويحتمل كما قاله ابن الجوزي أن يكون على بابه بمعنى الأمر يبينه قوله في الرواية السالفة: وهي التي أمر الله رسوله.
واختلف العلماء في تأويل هذا الحديث فقال مالك في "الموطأ": تفسيره: لا يجمع بين مفترق: أن يكون ثلاثة نفر لكل واحد أربعون شاة فإذا أظلهم المصدِّق جمعوها؛ ليؤدوا شاة. ولا يفرق بين مجتمع: أن يكون لكل واحد مائة وشاة فعليهما ثلاث شياه فيفرقوها؛ ليؤدوا شاتين فنهوا عن ذَلِكَ
(3)
.
وهو قول الثوري والأوزاعي، وقال الشافعي: تفسيره: أن يفرق الساعي الأول ليأخذ من كل واحد شاة، وفي الثاني ليأخذ ثلاثًا فالمعنى واحد لكن صرف الخطاب الشافعي إلى الساعي كما حكاه عنه الداودي في كتاب "الأموال"، وصرفه مالك إلى المالك، وهو قول أبي ثور، وقال الخطابي عن الشافعي أنه صرفه إليهما
(4)
.
قال ابن التين: وقول مالك عندي أولى؛ لقوله عليه السلام: "خشية الصدقة" وصرفه إلى المالك أولى كذا قال.
(1)
"المستدرك" 1/ 393 كتاب: الزكاة.
(2)
"أعلام الحديث" 2/ 776.
(3)
"الموطأ" 1/ 271 - 272 (693) كتاب: الزكاة، باب: صدقة الخلطاء.
(4)
" أعلام الحديث" 2/ 781.
والخشية خشيتان: خشية الساعي قلة الصدقة، وخشية المالك كثرتها، فأمر كل واحد منهما أن لا يحدث في الأموال شيئًا. وقال أبو حنيفة: معنى لا يجمع بين متفرق أن يكون بين رجلين أربعون شاة فإذا جمعاها فشاة، وإن فرقاها فلا شيء.
قالوا: ولو كانا شريكين متفاوضين لم يجمع بين أغنامهما. وقال: ولا يفرق بين مجتمع أن يكون لرجل مائة وعشرون شاة، فإن فرقها المصدق أربعين أربعين فثلاث شياه. وقال أبو يوسف: معنى الأول أن يكون للرجل ثمانون شاة، فإذا جاء المصدق قال: هي بيني و (بين)
(1)
إخوتي لكل واحد منا عشرون، فلا زكاة، أو يكون له أربعون ولأخوته أربعون، فيقول: كلها لي فشاة. فهذِه خشية الصدقة؛ لأن الذي يؤخذ منه يخشى الصدقة، قال
(2)
: ويكون وجه آخر: أن يجيء المصدق إلى ثلاثة أخوة لواحد عشرون ومائة شاة، فيقول: هذِه بينكم لكل واحد أربعون، فأنا آخذ ثلاثًا أو يكون لهم جميعًا أربعون فلا زكاة، فيقول: هذِه لواحد منكم فشاة
(3)
.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: الخلطاء في الزكاة كغير الخلطاء لا يجب على كل واحد منهم فيما يملك إلا مثل الذي يجب عليه لو لم يكن خليطًا كالذهب والفضة والزرع ولا يغير سنة الزكاة خلط أرباب المواشي بعضها ببعض
(4)
.
(1)
من (ج) و (م).
(2)
كذا الأصل، وتتمة كلام أبي يوسف كما في "مختصر اختلاف العلماء" 1/ 414: وأما إذا لم يقل فيها خشية الصدقة، فقد يكون على هذا الوجه ويكون على وجه آخر.
(3)
انظر: "الأصل" 2/ 51 - 52، و"مختصر اختلاف العلماء" 1/ 414.
(4)
انظر: "مختصر الطحاوي" ص 44.
وهذا التأويل كما قال ابن جرير تسقط معه فائدة الحديث؛ لأن نهيه أن يجمع بين متفرق وعكسه إنما أراد به لا يجمع أرباب المواشي ولا المصدق بين المواشي المفترقة بافتراق الأوقات، ولا يفرق بين المواشي المجتمعة بخلط أربابها بينها، وأراد صلى الله عليه وسلم إقرار الأموال المختلطة والمفترقة على ما كانت عليه قبل لحوق الساعي، ولا يتحيل بإسقاط صدقة بتفريق ولا جمع، ولو كان تفريقها مثل جمعها في الحكم، ما أفاد ذَلِكَ فائدة ولا نهى عنه، وإنما نهى عن أمر لو فعله كانت فيه فائدة قبل النهي عنه، ولولا أن ذَلِكَ معناه لما كان لتراجع الخليطين بالسوية بينهما معنى معقول؛ لأنهما إذا كانا يصدقان وهما خليطان صدقة المفردين لم يجب لأحدهما قِبَل صاحبه، بسبب ما أخذ فيه من الصدقة تباعة فلا يجوز أن يخاطب أمته خطابًا لا يفيدهم، وفي أمره صلى الله عليه وسلم الخليطين بالتراجع بينهما بالسّوية كما سيأتي صحة القول بأن صدقة الخلطاء صدقة الواحد، ولولا ذَلِكَ ما انتفعا بالخلطة. والتراجع مقتضاه من اثنين وهذا لا يجيء على مذهبه بوجه.
وعند الشافعي للخلطة شروط محل الخوض فيها كتب الفروع، وكذا عند المالكية، وفي الدارقطني من حديث سعد بن أبي وقاص مرفوعًا:"لا يفرق بين مجتمع ولا يجمع بين متفرق والخليطان ما اجتمعا في الحوض والفحل والراعي". وفيه ابن لهيعة وحالته معروفة
(1)
.
(1)
"سنن الدارقطني" 2/ 104 كتاب: الزكاة، باب: تفسير الخليطين وما جاء في الزكاة على الخليطين.
35 - باب مَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ
وَقَالَ طَاوُسٌ وَعَطَاءٌ: إِذَا عَلِمَ الخَلِيطَانِ أَمْوَالَهُمَا فَلَا يُجْمَعُ مَالُهُمَا. وَقَالَ سُفْيَانُ: لَا يَجِبُ حَتَّى يَتِمَّ لِهَذَا أَرْبَعُونَ شَاةً، وَلِهَذَا أَرْبَعُونَ شَاةً.
1451 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي ثُمَامَةُ أَنَّ أَنَسًا حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه كَتَبَ لَهُ التِي فَرَضَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "وَمَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ". [انظر: 1448 - فتح: 3/ 315]
ثم ذكر حديث ثمامة بالإسناد السالف "وَمَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ".
الشرح:
أما أثر طاوس فرواه ابن أبي شيبة، عن محمد بن بكر، عن ابن جريج، أخبرني عمرو بن دينار، عن طاوس قال: إذا كان الخليطان يعلمان أموالهما فلا تجمع أموالهما في الصدقة. وحَدَّثنَا محمد بن بكر عن ابن جريج قال: أخبرت عطاء قول طاوس فقال: ما أراه إلا حقًا
(1)
. وروى البيهقي من حديث عبد الرزاق أنا ابن جريج قال: سألت عطاء عن النفر الخلطاء لهم أربعون شاة، قال: عليهم شاة، قُلْتُ: فإن كان لواحد تسع وثلاثون وللآخر شاة قال: عليهما شاة
(2)
.
واعترض ابن المنذر فقال: قول طاوس وعطاء غفلة منهما إذ غير
(1)
"المصنف" 2/ 409 (10494 - 10495) كتاب: الزكاة، باب: في الخليطين إذا كانا يعملان في ماليهما.
(2)
"السنن الكبرى" 4/ 106 كتاب: الزكاة، باب: صدقة الخلطاء.
جائز أن يتراجعا بالسوية والمال بينهما لا يعرف أحدهما ماله من مال صاحبه.
ومذهب أبي حنيفة أن الخليط هو الشريك
(1)
، وخالفه مالك فقال: إنه غيره، والخليط: من يعرف ماله، والشريك: من لا يعرفه. وحكم الخليطين كالواحد
(2)
وقد سلف عن أبي حنيفة أنه لا تأثير للخلطة فيها، دليلنا حديث الباب ولا يصح ذَلِكَ إلا في الخليطين تؤخذ الزكاة من مال أحدهما، ولو كانا شريكين ما تصور بينهما تراجع، واستدل بعضهم على أبي حنيفة بقوله تعالى:{وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الخُلَطَاءِ} [ص: 24] فسماهم خلطاء، وقد ذكر في أول الآية:{إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ} [ص: 24] وهذان يعرف كل واحد متاعه، وما ذكره عن سفيان هو قول مالك، وخالفه الشافعي والليث وربيعة وأحمد فقالوا: إذا بلغت ماشيتهما النصاب زكيا
(3)
، وأما الحديث السالف:"ليس فيما دون خمس ذود صدقة"
(4)
، فلا حجة فيه؛ لأنه فيما عدا الخلطة، جمعًا بين الأدلة.
فرع: لم يراع مالك مرور الحول كله على الخلطاء
(5)
، وإذا خالط قبل الحول بشهر أو شهرين فهو عنده خليط، والشافعي يراعي مرور الحول كله عليهما
(6)
.
(1)
انظر: "مجمع الأنهر" 2/ 473.
(2)
انظر: "المنتقى" 2/ 136.
(3)
انظر: "المجموع" 5/ 407 - 408.
(4)
سلف برقم (1405).
(5)
انظر: "المنتقى" 2/ 141.
(6)
انظر: "المهذب" 1/ 494.
36 - باب زَكَاةِ الإِبِلِ
ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ وَأَبُو ذَرٍّ وَأَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنهم، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
[1448، 1460]
1452 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا الوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه، أَنَّ أَعْرَابِيًّا سَأَلَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الهِجْرَةِ، فَقَالَ:"وَيْحَكَ، إِنَّ شَأْنَهَا شَدِيدٌ، فَهَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ تُؤَدِّي صَدَقَتَهَا؟ ". قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: "فَاعْمَلْ مِنْ وَرَاءِ البِحَارِ، فَإِنَّ اللهَ لَنْ يَتِرَكَ مِنْ عَمَلِكَ شَيْئًا". [2633، 3923، 6165 - مسلم: 1865 - فتح: 3/ 316]
هي بكسر الباء وتسكن للتخفيف، ولا واحد لها من لفظها ثم قال:
ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ وَأَبُو ذَرٍّ وَأَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذِه الأحاديث سلف ذكرها عنده مسندة
(1)
.
ثم ساق حديث الوَلِيد بْنِ مُسْلِمٍ، ثَنَا الأَوْزَاعِيُّ، حَدَّثَنِي ابن شِهَابٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، أَن أَعْرَابِيًّا سَأَلَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الهِجْرَةِ، فَقَالَ:"وَيْحَكَ، إِنَّ شَأْنَهَا لشَدِيدٌ، فَهَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ تُؤَدِّي صَدَقَتَهَا؟ ". قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: "فَاعْمَلْ مِنْ وَرَاءِ البِحَارِ، فَإِنَّ اللهَ لَنْ يَتِرَكَ مِنْ عَمَلِكَ شَيْئًا".
هذا الحديث ذكره في العارية أيضًا معلقًا بلفظ: وقال محمد بن يوسف، ثنا الأوزاعي، ثنا ابن شهاب
(2)
. ولما رواه الإسماعيلي من
(1)
سلف برقم (1448) باب: العرض في الزكاة، عن أبي بكر، وبرقم (1402) باب: إثم مانع الزكاة عن أبي هريرة، وبرقم (1460) زكاة البقر.
(2)
سيأتي برقم (2633) كتاب: الهبة، باب: فضل المنيحة.
حديث الحسن بن عباس بن الوليد، ثنا محمد بن يوسف ومحمد بن عيسى قالا: ثنا الأوزاعي. قال فيه البخاري: قال محمد بن يوسف لم يذكر الخبر.
وقال أبو نعيم: ثنا سليمان بن أحمد، ثنا عبد الله بن محمد بن سعيد، ثنا الفريابي، ثنا الأوزاعي، فذكره.
وأما أصحاب الأطراف فذكروا أن البخاري رواه في هذا الباب -أعني العارية- عن محمد بن يوسف. قال خلف وأبو مسعود: قال: البخاري رواه محمد بن يوسف به.
إذا تقرر ذَلِكَ: فهذا القول كان منه قبل الفتح، كما قاله المهلب؛ لأنه لو كان بعده لقال لا هجرة بعد الفتح.
قُلْتُ: الحديث مؤول إما لا هجرة من مكة، أو لا هجرة فاضلة كما كانت قبلها، كما ستعلمه في موضعه، وقد سلف في أول الكتاب أيضًا في حديث:"إنما الأعمال بالنيات"
(1)
، الإحالة عليه، قال: ولكنه صلى الله عليه وسلم علم أن الأعراب قلما تصبر على المدينة؛ لشدتها ولأوائها ووبائها، ألا ترى قلة صبر الأعرابي الذي استقاله بيعته حين مسّته حمى المدينة، فقال للذي سأله عن الهجرة: إذا أديت الزكاة التي هي أكبر شيء على الأعراب، ثم منحت منها وحلبتها يوم ورودها من ينتظرها من المساكين فقد أديت المعروف من حقوقها فرضًا وفضلًا من وراء البحار فهو أقل لفتنتك كما افتتن المستقيل للبيعة؛ لأنه قد شرط صلى الله عليه وسلم ما يخشى من منع العرب الزكاة التي افتتنوا فيها بعده.
وقد ذكر البخاري هذا الحديث في باب: المنحة والهجرة، وقال
(1)
هو أول حديث في "الصحيح"(1).
فيه: "فهل تمنح منها؟ " فقال: نعم، قال:"فهل تحلبها بعد ورودها؟ " فقال: نعم
(1)
. ويحتمل كما قال القرطبي: خصوصية ذَلِكَ الأعرابي المذكور لما علم من حاله وضعفه عن المقام بالمدينة
(2)
. وقال بعض العلماء: كانت الهجرة على غير أهل مكة من الرغائب ولم تكن فرضًا، دليله: حديث الباب؛ فإنه لم يوجبها عليه.
قال أبو عبيد في "أمواله": كانت الهجرة على أهل الحاضرة دون أهل البادية
(3)
، وقيل: إنما كانت الهجرة واجبة إذا أسلم بعض أهل البلد دون بعض لئلا يجري على من أسلم أحكام الكفار؛ ولأن في هجرته توهينًا لمن لم يسلم وتفريقًا لجماعتهم، وذلك باقٍ إلى اليوم، وإذا أسلم في دار الحرب ولم يمكنه إظهار دينه وجب عليه الخروج.
فأما إذا أسلم الكل فلا هجرة عليهم؛ لحديث وقد عبد القيس، والهجرة باقية كما سلف، فلا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار، وكذا من هاجر ما نهي عنه
(4)
.
وقوله: ("فاعمل من وراء البحار"). يريد إذا كنت تؤدي فرض الله عليك في نفسك ومالك، فلا تبال أن تقيم في بيتك، وإن كانت دارك من وراء البحار، ولا تهاجر فإن الهجرة في جزيرة العرب، ومن كانت داره من وراء البحار لن يصل إليها. والمراد بالبحار: البلاد.
قيل: في قوله تعالى: {ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ} [الروم: 41] أنه القرى والأمصار، يوضحه: اصطلح أهل هذِه البحيرة -يريد المدينة- أن
(1)
سيأتي برقم (2633).
(2)
"المفهم" 4/ 72.
(3)
"الأموال" ص 98.
(4)
ورد في هامش الأصل ما نصه: ثم بلغ في الرابع عشر، كتبه مؤلفه سامحه الله.
يُعَصِّبوه. يعني ابن أُبي
(1)
. وفي حديث آخر: كتب لهم ببحرهم
(2)
، أي: ببلدتهم وأرضهم. وقيل: البحار نفسها. وعند صاحب "المطالع ": قال أبو الهيثم: من وراء البحار، قال: وهو وهم.
وقوله: ("لن يَتِرك")، هو بفتح المثناة تحت وكسر المثناة فوق، وفتح الراء، قيل: لن ينقصك من ثوابك شيئًا، يقال: وتره يتره ترة، وقيل: لن يظلمك، قال تعالى:{وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 35] ومثله {لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا} [الحجرات: 14] يعني: لن ينقصكم. وفيه لغتان ألت يألت ألتًا، ولات يليت ليتا، قاله الزيدي. ورواه بعضهم فيما حكاه المنذري بإسكان التاء من الترك، وهو ظاهر إن صح، وضبط في رواية أبي الحسن بتشديد التاء. قال ابن التين: وصوابه بالتخفيف. وعند الإسماعيلي: وقال الفريابي: بالتشديد.
وفي الحديث كما قال الداودي دليل على قبول الأعمال من قوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7)} [الزلزلة: 7]، وقال:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94)} [الأنبياء: 94] فمن عمل عملًا أراد به وجه الله ومات مسلمًا وجد عمله في المعاد محضرًا.
قال: وقوله: "إن شأنها لشديد" كان قبل الفتح، قبل انقضاء الهجرة، ويدل أن غير أهل مكة لم يكن عليهم أن يقيموا بالمدينة إذا هاجروا ودله على ما يطيقه من العمل ويدل أن من بايع من غير أهل مكة على المقام لزمه، ولذلك أبي أن يقيل الأعرابي بيعته، وقال
(1)
سيأتي برقم (4566) من حديث أسامة، وهو قول سعد بن عبادة.
(2)
سيأتي برقم (1481) من حديث أبي حميد الساعدي.
حين خرجوا من المدينة: "إن المدينة تنفي الناس"
(1)
.
وكلام الداودي هذا الأخير هو الذي ذكره العلماء كما نقله عنهم ابن التين، في هذا الخبر أنه يفيد أن الهجرة على من هو من غير أهل مكة غير واجبة، وقد سلف ما فيه.
فائدة:
قال الداودي: "ويح" كلمة تقال عند الزجر والموعظة والكراهة لفعل المقول له أو قوله. قال: ويدل عليه أنه إنما سأله أن يبايعه على ذَلِكَ على أن يقيم بالمدينة، ولم يكن من أهل مكة الذين وجبت عليهم الهجرة قبل الفتح، وفرض عليهم إتيان المدينة والمقام بها إلى موته عليه السلام، وأنه ألحّ في ذَلِكَ.
قُلْتُ: الذي ذكره أهل اللغة في (ويح) أنها كلمة رحمة أو توجع إن وقع في هلكة لا يستحقها، قال الداودي: وسأله أن يبايعه على ذَلِكَ على أن يقيم بالمدينة. وظاهر الحديث أنه صلى الله عليه وسلم ظهر له أن الرجل لا يهاجر، وتقييده الهجرة بموته صلى الله عليه وسلم فيه نظر؛ لأن القائل قائلان: إما بسقوطها بالفتح عن جميع الناس، من هاجر ومن لم يهاجر، وإما بعدم السقوط بالفتح لمن هاجر، نبه عليه ابن التين في الهجرة. وقال: واختلف في الفتح هل هو فتح مكة أو بيعة الرضوان؟
(1)
سيأتي برقم (1871) أبواب: فضائل المدينة، باب: فضل المدينة، وأنها تنفي الناس، ورواه مسلم (1382) كتاب: الحج، باب: المدينة تنفي شرارها.
37 - باب مَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ بِنْتِ مَخَاضٍ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ
1453 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي ثُمَامَةُ أَنَّ أَنَسًا رضي الله عنه حَدَّثَهُ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه كَتَبَ لَهُ فَرِيضَةَ الصَّدَقَةِ التِي أَمَرَ اللهُ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم:"مَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ مِنَ الإِبِلِ صَدَقَةُ الجَذَعَةِ، وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ جَذَعَةٌ وَعِنْدَهُ حِقَّةٌ، فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ الحِقَّةُ، وَيَجْعَلُ مَعَهَا شَاتَيْنِ إِنِ اسْتَيْسَرَتَا لَهُ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ الحِقَّةِ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ الحِقَّةُ وَعِنْدَهُ الجَذَعَةُ، فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ الجَذَعَةُ، وَيُعْطِيهِ المُصَدِّقُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ، وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ الحِقَّةِ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ إِلاَّ بِنْتُ لَبُونٍ، فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ بِنْتُ لَبُونٍ، وَيُعْطِي شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَمَنْ بَلَغَتْ صَدَقَتُهُ بِنْتَ لَبُونٍ وَعِنْدَهُ حِقَّةٌ، فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ الحِقَّةُ، وَيُعْطِيهِ المُصَدِّقُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ، وَمَنْ بَلَغَتْ صَدَقَتُهُ بِنْتَ لَبُونٍ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُ بِنْتُ مَخَاضٍ، فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ بِنْتُ مَخَاضٍ، وَيُعْطِي مَعَهَا عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ". [انظر: 1448 - فتح: 3/ 316]
ذكر فيه بسنده السالف إلى ثمامة عن أنس .. الحديث، ولم يذكر فيه ما بوب، نعم ذكره في العرض في الزكاة قبله كما سقته هناك، كأن البخاري لم يذكره اكتفاء بما تقدم، وهذا أولى عندي من نسبة ابن بطال البخاري إلى الغفلة في ذلك والحكم كما ذكره في أخذ بنت لبون عن بنت مخاض مفقودة مع إعطاء الجبران المذكور للمالك، وكذا من وجب عليه بنت لبون وليست عنده وعنده حقة وعكسه يعطي، وهو عند مالك لا بأس به، ولم يحدد ما يزيد. وقال ابن القاسم وأشهب: إن ترك مضى. وقال أصبغ: عليه البدل ولا يجزئه
(1)
.
(1)
انظر: "النوادر والزيادات" 2/ 221.
والجذع من الإبل: ما له أربع سنين، والحقة: ثلاث. وقال ابن التين: الجذع من الإبل ما له خمس سنين هذا هو المعروف من قول أهل اللغة والعلم، والحقة من أولاد الإبل: ما استحق أن يحمل عليه وهي بنت أربع، قال: وقال ابن الجلاب: سنها سنتان
(1)
وعندي أنه لا تنافي بينهما، فإن مراده بالسنتين: الطعن في الثالثة. وبنت المخاض لها سنة، وقال ابن التين: لها سنتان، وقيل: إذا دخلت في الثانية، وفيه ما قدمناه قبله.
وفي الحديث: جواز اشتراء الصدقة؛ لأنه إذا أعطى في بعضها دراهم فقد اشترى بعضها. وقال النخعي والشافعي وأبو ثور بظاهر الحديث: رد شاتين أو عشرين درهمًا إذا أخذ سنًّا دون سن. وقال علي: عشرة دراهم أو شاتين. وهو قول الثوري
(2)
.
وقال النخعي والأوزاعي: تؤخذ قيمة السنن الذي وجب عليه. وقال أبو حنيفة: تؤخذ قيمة الذي وجب عليه، وإن شاء أخذ الفضل منها ورد عليهم فيه دراهم، وإن شاء أخذ دونها وأخذ الفضل دراهم
(3)
، ولم يعين عشرين درهمًاولا غيرها، وجوز أخذ ابن لبون مع وجود بنت مخاض إذا كانت قيمتهما واحدة، ومشهور مذهب مالك المنع من ذَلِكَ كله، فعلى رب المال أن يبتاع للمصدق السنن الذي يجب عليه
(4)
. ولا خير في أن يعطيه بنت مخاض عن بنت لبون ويزيد ثمنًا أو يعطي بنت لبون عن بنت
(1)
جاء في "التفريع" لابن الجلاب 1/ 282 ما نصه: فإذا بلغت ستًا وأربعين، ففيها حقة، وسنها ثلاث سنين، وقد دخلت في الرابعة.
(2)
انظر: "البيان" 3/ 181.
(3)
انظر: "البناية" 3/ 407 - 408.
(4)
انظر: "المنتقى" 2/ 135.
مخاض ويأخذ ثمنًا وعلته ابتياع الصدقة
(1)
. قيل: ولم يخالف أحد الأحاديث كلها غيره.
قال ابن بطال: أكثر العلماء على حديث أنس أو بعضه ولم أجد من خالفه كله غير مالك بن أنس
(2)
. ونقل ابن حزم عن عمر كقول علي
(3)
.
قال القرطبي: وهو قول أبي عبيد واحد قولي إسحاق، وقوله الثاني كقول الشافعي، قال: وقول مكحول كقول الأوزاعي، وقول أبي يوسف وأحمد كالشافعي: إذا وجبت بنت مخاض ولم توجد أخذ ابن لبون
(4)
.
قال عبد الواحد: ومن منع أخذ القيم في الزكاة، واحتج أن ذَلِكَ من ابتياع الصدقة فليست له حجة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قد أجاز للمعري ابتياع عريته وهي صدقة بتمر إلى الجداد، وهذا أخف.
وقال المهلب: ليس ذَلِكَ ابتياعًا لها؛ لعدم تعينها فإنها معدومة مستهلكة في إبله، فعليه قيمة المستهلك في إبله من جنسها أو غيره، ألا ترى أنه صلى الله عليه وسلم أوجب في خمس من الإبل شاة وليست من جنسها، وقال في الخليطين: إنهما يتراجعان بينهما بالسّوية والتراجع لا يقوم إلا بالتقويم وأخذ العوض.
وقال الطبري: إنما جعل الشارع للمصدق النزول والصعود وأخذ الجبران وإعطاءه، ولا شك أنه أخذ عوض، وبدل من الواجب على رب المال، وأنه إن لم يكن بيعًا وشراء فهو نظيرهما.
(1)
هذا من قول ابن القاسم رحمه الله، انظر:"النوادر والزيادات" 2/ 221.
(2)
"شرح ابن بطال" 3/ 464.
(3)
"المحلى" 6/ 23.
(4)
انظر: "البناية" 3/ 407 - "المغني" 4/ 25 - 26.
38 - باب زَكَاةِ الغَنَمِ
1454 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ المُثَنَّى الأَنْصَارِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي ثُمَامَةُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَنَسٍ، أَنَّ أَنَسًا حَدَّثَهُ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه كَتَبَ لَهُ هَذَا الكِتَابَ، لَمَّا وَجَّهَهُ إِلَي البَحْرَيْنِ: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذِهِ فَرِيضَةُ الصَّدَقَةِ التِي فَرَضَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى المُسْلِمِينَ، وَالتِي أَمَرَ اللهُ بِهَا رَسُولَهُ، فَمَنْ سُئِلَهَا مِنَ المُسْلِمِينَ عَلَى وَجْهِهَا فَلْيُعْطِهَا، وَمَنْ سُئِلَ فَوْقَهَا فَلَا يُعْطِ: فِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ مِنَ الإِبِلِ فَمَا دُونَهَا مِنَ الغَنَمِ مِنْ كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ، إِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ إِلَى خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ أُنْثَى، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَثَلَاثِينَ إِلَى خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ فَفِيهَا بِنْتُ لَبُونٍ أُنْثَى، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَأَرْبَعِينَ إِلَى سِتِّينَ فَفِيهَا حِقَّةٌ طَرُوقَةُ الجَمَلِ، فَإِذَا بَلَغَتْ وَاحِدَةً وَسِتِّينَ إِلَى خَمْسٍ وَسَبْعِينَ فَفِيهَا جَذَعَةٌ، فَإِذَا بَلَغَتْ -يَعْنِى:- سِتًّا وَسَبْعِينَ إِلَى تِسْعِينَ فَفِيهَا بِنْتَا لَبُونٍ، فَإِذَا بَلَغَتْ إِحْدَى وَتِسْعِينَ إِلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَفِيهَا حِقَّتَانِ طَرُوقَتَا الجَمَلِ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَفِى كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ، وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إِلاَّ أَرْبَعٌ مِنَ الإِبِلِ فَلَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ، إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا، فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا مِنَ الإِبِلِ فَفِيهَا شَاةٌ، وَفِي صَدَقَةِ الغَنَمِ فِي سَائِمَتِهَا إِذَا كَانَتْ أَرْبَعِينَ إِلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ شَاةٌ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ إِلَى مِائَتَيْنِ شَاتَانِ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى مِائَتَيْنِ إِلَى ثَلَاثِمِائَةٍ فَفِيهَا ثَلَاثٌ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى ثَلَاثِمِائَةٍ فَفِي كُلِّ مِائَةٍ شَاةٌ، فَإِذَا كَانَتْ سَائِمَةُ الرَّجُلِ نَاقِصَةً مِنْ أَرْبَعِينَ شَاةً وَاحِدَةً فَلَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ، إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا، وَفِي الرِّقَةِ رُبْعُ العُشْرِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ إِلاَّ تِسْعِينَ وَمِائَةً فَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ، إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا". [انظر: 1448 - فتح: 3/ 317]
هو اسم جنس لا واحد لها من لفظها. قال أبو حاتم: وهي أنثى.
ذكر فيه بالإسناد السالف إلى ثمامة، عن أنسِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه كَتَبَ لَهُ هذا الكِتَابَ وفيه: فَمَنْ سُئِلَهَا مِنَ المُسْلِمِينَ عَلَى وَجْهِهَا فَلْيُعْطِهَا، وَمَنْ سُئِلَ فَوْقَهَا فَلَا يُعْطِ: فِي أَرْبَعِ وَعِشْرِينَ مِنَ الإِبِلِ فَمَا دُونَهَا مِنَ الغَنَمِ مِنْ
كُلِّ خَمْسِ شَاةٌ .. الحديث إلى أن قال: وَفِي صَدَقَةِ الغَنَمِ في سَائِمَتِهَا إِذَا كَانَتْ أَرْبَعِينَ إلى آخره. وذكر فيه: وَفِي الرِّقَةِ رُبْعُ العُشْرِ.
الكلام عليه من أوجه:
أحدها:
قوله: (هذِه فريضة الصدقة التي). كذا هو في الأصول، وروي:(الذي). و (سُئلها) بضم السين وكذا (سُئل).
وقوله: (فليعطها) هو بكسر الطاء وكذا قوله: (فلا يعط)، والمراد: لا يعطي الزائد، بل يعطي الواجب، وقيل: لا يعطها لهذا الساعي لظلمه بطلب الزائد فلا طاعة له.
وقوله: (في أربع وعشرين من الإبل
…
) إلى آخره، قيل: الحكمة في تقديم الخبر على المبتدأ أن المقصود بيان النصاب فكان تقديمه أهم؛ لأنه السابق في السبب.
وقوله: (بنت مخاض أنثى وبنت لبون أنثى)، للتأكيد؛ لاختلاف اللفظ كـ {وَغَرَابِيبُ سُودٌ} [فاطر: 27] أو للاحتراز من الخنثى.
ثانيها:
قام الإجماع على أن ما دون خمس من الإبل لا زكاة فيه لهذا الحديث وغيره
(1)
.
ثالثها:
الشاة جذعة الضأن لها سنة لا ستة أشهر على الأصح، أو ثنية معز لها سنتان على الأصح، وهو مخير بينهما على الأصح، وفي إجزاء
(1)
انظر: "الإجماع" لابن المنذر ص 51، "الإقناع في مسائل الإجماع" 2/ 646.
الذكر وجهان أصحهما الإجزاء
(1)
لصدق اسم الشاة عليه فإن الهاء فيه ليست للتأنيث، وقال ابن قدامة: لا يجزئ ويحتمل الإجزاء
(2)
.
وقال ابن حبيب: إن كان من أهل الضأن فمنها، وإن كان من أهل المعز فمنها، وإن كان من أهل الصنفين أخذ بما عنده فإن كانا عنده خُيِّرَ الساعي
(3)
.
وقال مالك: يؤخذ من الغالب، ولانظر إلى ما في ملكه فيؤخذ من غالب غنم البلد ضأنًا أو معزًا، وعنه: ما أدى أجزأه
(4)
.
وقال ابن قدامة: الذي روي عن علي في خمس وعشرين خمس شياه لا يصح
(5)
.
وفي ابن التين: حكي عن علي في ست وعشرين بنت مخاض، وحكاه أهل الخلاف عن الشعبي وشريك، وبه قال أبو مطيع البلخي.
فرع: قال ابن قدامة: فإن لم يكن غنم لزمه شراء شاة، وقال أبو بكر: يخرج عشرة دراهم قياسًا على شاة الجُبران
(6)
.
رابعها:
طروقة الجمل أي: مطروقته مثل حلوبة بمعنى: محلوبة، والذكر من الإبل لا يلقح حتَّى يكون ثنيًا وهو ابن ست سنين.
فرع: يجزئ بعير الزكاة عن دون خمس وعشرين على الأصح، وإن
(1)
انظر: "روضة الطالبين" 2/ 154.
(2)
"المغني" 4/ 14.
(3)
انظر: "النوادر والزيادات" 2/ 218.
(4)
المصدر السابق.
(5)
هذا قول ابن المنذر، نقله عنه ابن قدامة في "المغني" 4/ 11.
(6)
"المغني" 4/ 14.
كانت قيمته أقل من قيمة الشاة؛ لأنه إذا أجزأ عن خمس وعشرين فدونها أولى، وبه قال أبو حنيفة خلافًا لمالك وأحمد وداود وهو ظاهر الحديث
(1)
.
خامسها:
قوله: (في أربع وعشرين من الإبل فما دونها من الغنم في كل خمس شاة) أي الشاة تؤخذ فيها إلى هذا المقدار، وقوله:(إلى خمس وثلاثين)، (إلى خمس وأربعين)، (إلى ستين)، دليل على أن الأوقاص ليست بعفو وأن الفرض متعلق بالجميع، وهو أحد قولي الشافعي، والأصح خلافه
(2)
؛ لقوله عليه السلام: "في كل خمس شاة" ولو وجبت في الوقص لكانت الواجب في تسع ولأن العشرين نصاب يوجب أن يتقدمه عفو كالخمس والخلاف عند مالك أيضًا
(3)
، و (إلى) للغاية.
سادسها:
قوله: (فإذا زادت على عشرين ومائة إلى مائتين شاتان) ظاهره مطلق الزيادة حتَّى لو زادت بعض شاة على ذَلِكَ فيجب ثلاث بنات لبون وهو قول الإصطخري، والأصح المنع قياسًا على سائر النصب فإنها لم تتغير إلا بواحد كامل
(4)
.
سابعها:
قوله: (فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة)، هذا مستقر الحساب بعد إحدى وعشرين ومائة، كما
(1)
انظر: "المجموع" 5/ 360، "المغني" 4/ 15.
(2)
انظر: "المجموع" 5/ 357.
(3)
انظر: "الذخيرة" 3/ 111.
(4)
انظر: "المجموع" 5/ 355 - 356.
قررناه، وقال محمد بن إسحاق بن يسار، وأبو عبيد، وأحمد في رواية: لا يتغير الفرض إلى ثلاثين ومائة فيكون فيها حقة وبنتا لبون
(1)
.
وعن مالك روايتان، روى عنه ابن القاسم وابن عبد الحكم أن الساعي بالخيار بين أن يأخذ ثلاث بنات لبون أو حقتين على ما يرى صلاحًا للفقراء، وهو قول مطرف وابن أبي حازم وابن دينار وأصبغ، وقال ابن القاسم: فيها ثلاث بنات لبون ولا يخير الساعي إلى أن تبلغ ثلاثين ومائة، فيكون فيها حقة وابنتا لبون، وهو قول الزهري، والأوزاعي، والشافعي وأبي ثور.
وروى عبد الملك وأشهب وابن نافع عن مالك: أن الفريضة لا تتغير عن الحقتين بزيادة واحدة حتَّى تزيد عشرًا، فيكون فيها بنتا لبون وحقة وهو مذهب أحمد. وقال عبد الملك: وإنما يعني بالزيادة في الحديث زيادة تحيل الأسنان، ولا تزول عن الحقتين إلى ثلاثين ومائة
(2)
.
وعند أهل الظاهر -وهو قول الإصطخري السالف-: إذا زادت على عشرين ومائة بعض بعير، ففي كل خمسين حقة، وفي كل أربعين بنت لبون.
وقال حماد والحكم: إن في مائة وخمس وعشرين حقتين وبنت مخاض.
وقال ابن جرير: يتخير بين الاستئناف وعدمه؛ لورود الأخبار بهما، ووقع في "النهاية" و"الوسيط" أنه قول ابن خيران بدل ابن جرير وهو تصحيف
(3)
.
(1)
انظر: "المغني" 4/ 20.
(2)
انظر: "النوادر والزيادات" 2/ 215 - 216، "عيون المجالس"، 2/ 471 - 474، "روضة الطالبين" 2/ 151، "المغني" 4/ 20.
(3)
"الوسيط" 1/ 370.
وعند أبي حنيفة: إذا زادت على مائة وعشرين يستأنف الفريضة فيكون في الخمس شاة مع الحقتين، وفي العشر شاتان، وهكذا إلى خمس وعشرين فبنت مخاض إلى مائة وخمسين فثلاث حقاق، ثم تستأنف الفريضة كذلك
(1)
.
وهذا قول ابن مسعود، والنخعي، والثوري، وأهل العراق. وحكى الداودي عن علي أنها إذا زادت على العشرين خمسًا أو على الثلاثين والمائة أو على العقود التي فوق المائة والعشرين أو زادت أكثر من خمس ففيها شاة.
وفي "مراسيل أبي داود" ما يستدل له به
(2)
، وروى الطحاوي عن أبي عبيد وزياد بن أبي مريم عن ابن مسعود أنه قال: فإذا زادت الإبل على تسعين ففيها حقتان إلى عشرين ومائة، فإذا بلغتها استقبلت الفريضة بالغنم في كل خمس شاة، فإذا بلغت خمسًا وعشرين فالفرائض بالإبل، فإذا زادت ففي كل خمسين حقة. قال الطحاوي: فهذا ابن مسعود من أكبر الصحابة وأعلمهم قد قال بالاستئناف بالشياه
(3)
.
(1)
انظر: "مختصر الطحاوي" ص 43، "مختصر اختلاف العلماء" 1/ 412، "المبسوط" 2/ 151.
(2)
ورد في "مراسيل أبي داود": قال حماد: قلت لقيس بن سعد، خذ لي كتاب محمد ابن عمرو بن حزم، فأعطاني كتابًا، أخبر أنه أخذه من أبي بكر بن محمد بن عمرو ابن حزم، أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب لجده فقرأته، فكان فيه ذكر ما يخرج من فرائض الإبل، فقص الحديث إلى أن يبلغ عشرين وماءلة، فإذا كانت أكثر من ذلك فعد في كل خمسين حقة، وما فضل فإنه يعاد إلى أول فريضة من الإبل، وما كان أقل من خمس وعشرين ففيه الغنم في كل خمس ذود شاة، ليس فيها ذكر ولا هرمة ولا ذات عوار من الغنم. "المراسيل" ص 128 - 129 (106)، ما جاء في صدقة السائمة في الزكاة.
(3)
"شرح معاني الآثار" 4/ 377.
وروى عاصم بن ضمرة -فيما رواه ابن أبي شيبة- عن علي أنها إذا زادت على عشرين ومائة رد الفرائض إلى أولها
(1)
.
وقال الطبري: اختلفت الآثار في ذَلِكَ، فروي ما يوافق كل طائفة، فمن شاء أخذ بقول من شاء منهم
(2)
.
وقال غيره: ما قاله أبو حنيفة خلاف حديث أنس في الباب وهو المعمول به، وفيه: وإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة، ولم يخص زيادة من زيادة، ولا ذكر استئناف الغنم، وكذلك في رواية الزهري، عن سالم، عن أبيه
(3)
.
وفي كتاب عمر بن الخطاب: وهذِه جملة الأخبار المعول عليها. وهي مخالفة لقوله.
ثامِنها:
قام الإجماع -كما قال ابن المنذر- على أنه لا شيء في أقل من الأربعين من الغنم، وأن في الأربعين شاة، وفي مائة وإحدى وعشرين شاتين، وفي ثلاثمائة ثلاث شياه، فإذا زادت واحدة فليس فيها شيء إلى أربعمائة ففيها أربع شياه، ثم في كل مائة شاة
(4)
، وهذا قول أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد في الصحيح عنه، والثوري، وإسحاق، والأوزاعي، وجماعة أهل الأثر، وهو قول علي وابن مسعود. وقال الشعبي والنخعي والحسن بن حي: إذا زادت على
(1)
"المصنف" 2/ 361 (9911) كتاب: الزكاة، من قال: إذا زادت على عشرين ومائة استقبل بها الفريضة.
(2)
انظر "عيون المجالس" 2/ 474، "البيان" 3/ 167.
(3)
سبق تخريجه.
(4)
"الإجماع" لابن المنذر ص 51 - 52.
ثلاثمائة واحدة ففيها أربع شياه إلى أربعمائة، فإذا زادت واحدة يجب فيها خمس شياه، وهي رواية عن أحمد
(1)
، وهو مخالف للآثار.
وقيل: إذا زادت على مائتين ففيها شاتان حتَّى تبلغ أربعين ومائتين، حكاه ابن التين، وفقهاء الأمصار على خلافه.
تاسعها:
شرط الوجوب السوم عند الشافعي وأبي حنيفة، وهي الراعية في كلأ مباح، واحتج مالك على ذَلِكَ بقوله تعالى:{وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} [النحل: 10] يقول: فيه ترعون.
وقال ابن حزم: قال مالك، والليث، وبعض أصحابنا: تزكى السوائم والمعلوفة والمتخذة للركوب وللحرث وغير ذَلِكَ من الإبل والبقر والغنم، وقال بعض أصحابنا: أما الإبل فنعم، وأما البقر والغنم فلا زكاة إلا في سائمتها، وهو قول أبي الحسن بن المغلس، وقال بعضهم: أما الإبل والغنم فتزكى سائمتها وغير سائمتها، وأما البقر فلا تزكى إلا سائمتها، وهو قول أبي بكر بن داود ولم يختلف أحد من أصحابنا في أن سائمة الإبل وغير السائمة منها تزكى سواء سواء، وقال بعضهم: تزكى غير السائمة من كل [ذلك]
(2)
مرة واحدة في الدهر، ثم لا يعيد الزكاة فيها
(3)
.
وفي "شرح الهداية" قوله: وليس في العوامل والحوامل والمعلوفة صدقة، هذا قول أكثر أهل العلم كعطاء، والحسن، والنخعي، وابن
(1)
انظر: "البناية" 3/ 390، "المعونة" 1/ 233، "الاستذكار" 9/ 146، "المجموع" 5/ 386، "المغني" 4/ 39.
(2)
في الأصل: واحدة. وما أثبتناه يقتضيه السياق، وانظر مصادر التخريج.
(3)
"المحلى" 6/ 45.
جبير، والثوري، والليث، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور، وأبي عبيد، وابن المنذر، ويروى عن عمر بن عبد العزيز، وقال قتادة، ومكحول، ومالك: تجب الزكاة في المعلوفة والنواضح بالعمومات، وهو مذهب معاذ، وجابر بن عبد الله، وسعيد بن عبد العزيز، وابن حي
(1)
.
وحكاه ابن بطال، عن عمر بن عبد العزيز، والزهري، قال: وروي عن عليٍّ ومعاذ أنه لا زكاة فيها وهو قول أبي حنيفة
(2)
ومن سلف، حجة من اشترطه كتاب الصديق، وحديث عمرو بن حزم مثله، وفي سائمة الغنم في كل أربعين شاةً شاةٌ، وشرط السوم في الإبل حديث بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده مرفوعًا:"في كل سائمة من كل أربعين من الإبل ابنة لبون". رواه أبو داود والنسائي والحاكم وقال: صحيح الإسناد
(3)
.
وقد ورد تقييد السوم وهو مفهوم الصفة، والمطلق يحمل على المقيد إذا كانا في حادثة واحدة، وبالصفة إذا قرنت بالاسم العلم؛ ينزل منزلة
(1)
انظر: "البناية" 3/ 411.
(2)
"شرح ابن بطال" 3/ 468.
(3)
أبو داود (1575)، النسائي 5/ 15 - 16، 25، "المستدرك" 1/ 397 - 398.
ورواه أيضًا البيهقي 4/ 105، وفي "معرفة السنن والآثار" 6/ 57 - 58 (7986).
روى البيهقي عن الشافعي قال: لا يثبت أهل العلم بالحديث أن تؤخذ الصدقة وشطر إبل الغال لصدقته، ولو ثبت لقلنا به اهـ.
وقال النووي: إسناده إلى بهز صحيح، واختلفوا في الاحتجاج ببهز، ونقل الشافعي أن هذا الحديث ضعيف عند أهل الحديث، وادعى أصحابنا أنه منسوخ. اهـ "خلاصة الأحكام" 2/ 1078 - 1079.
وحسنه الألباني في "الإرواء"(791)، وفي "صحيح أبي داود"(1407).
وانظر: "البدر المنير" 5/ 480 - 488، و"تلخيص الحبير" 2/ 160 - 161.
العلة لإيجاب الحكم، وعن عليٍّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ليس في العوامل صدقة" رواه الدارقطني
(1)
، وصححه ابن القطان
(2)
. ورواه الدارقطني أيضًا من حديث ابن عباس
(3)
، وعمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده
(4)
.
(1)
"سنن الدارقطني" 2/ 103 من طريق أبي إسحاق عن الحارث الأعور وعاصم بن حمزة كلاهما عن علي، به.
وكذا رواه أيضًا أبو داود (1572) مطولًا، والبيهقي 4/ 116. واختلف في رفعه ووقفه.
(2)
"بيان الوهم والإيهام" 3/ 426 - 427 (1175) و 5/ 284 - 285 (2473).
وصححه أيضًا المصنف رحمه الله في "البدر المنير" 5/ 462.
وقال الحافظ في "بلوغ المرام"(630): الراجح وقفه على علي.
وقال الألباني في "الضعيفة" 9/ 369: أبو إسحاق هو السبيعي، مدلس وكان اختلط، وقد روي عنه موقوفًا.
وقال أيضًا في "صحيح أبي داود" 5/ 292 - 293: إسناد حسن من طريق عاصم ابن ضمرة عن علي، إن كان أبو إسحاق -وهو السبيعي- سمعه منه، وحدث به أبو إسحاق قبل اختلاطه، فإن زهيرًا سمع منه بعد الاختلاط، وقد خالفه جماعة من الثقات، فرووه عنه عن عاصم عن علي
…
موقوفًا.
(3)
"سنن الدارقطني" 2/ 103 من طريق سوار بن مصعب عن ليث عن مجاهد وطاوس، عن ابن عباس، به. وكذا رواه أيضًا الطبراني 11/ 40 (10974)، وابن عدي في "الكامل" 4/ 534.
قال البيهقي في "السنن" 4/ 116، والحافظ ابن كثير في "الإرشاد" 1/ 247، والمصنف رحمه الله في "البدر المنير" 5/ 460: إسناده ضعيف، وزاد: سوار بن مصعب متروك كما قاله أحمد والدارقطني، وليث. وأشار الحافظ الضعفه في "التلخيص" 2/ 157، و"الدراية" 1/ 256، وكذا الألباني في "الضعيفة" 9/ 370.
(4)
"سنن الدارقطني" 2/ 103 من طريق محمد بن حمزة الرقي، عن غالب القطان، عن عمرو بن شعيب، به. وقال: كذا قال: غالب القطان، وهو عندي غالب بن عبيد الله.
وكذا رواه أيضًا ابن عدي 7/ 111 - 112، والبيهقي 4/ 116 وضعف إسناده.
وضعف إسناده أيضًا ابن كثير في "الإرشاد" 2/ 247، والحافظ في "التلخيص" 2/ 157، وفي "الدراية" 1/ 256.
وقال الألباني في "الضعيفة" 9/ 369: حديث ضعيف جدًا.
وعن جابر قال: لا يؤخذ من البقر التي يحرث عليها من الزكاة شيء
(1)
، ورفعه حجاج عن ابن جريج عن زياد بن سعد عن أبي الزبير عنه بلفظ:"ليس في المثيرة صدقة"
(2)
، وفي "مصنف ابن أبي شيبة" من حديث ليث، عن طاوس، عن معاذ أنه كان لا يأخذ من البقر العوامل صدقة، وحَدَّثَنَا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم ومجاهد قالا: ليس في البقر العوامل صدقة، ومن حديث حجاج، عن الحكم أن عمر بن عبد العزيز قال: ليس في العوامل شيء، وكذا قاله سعيد ابن جبير، والشعبي، والضحاك، وعمرو بن دينار، وعطاء
(3)
.
وفي "الأسرار" للدبوسي: وعلي وجابر وابن عباس.
حجة من منعه ما رواه إسماعيل القاضي في "مبسوطه" عن الليث قال: رأيت الإبل التي تكرى للحج تزكى بالمدينة، ويحيى بن سعيد وربيعة وغيرهم من أهل المدينة حضور لا ينكرونه، ويرون ذَلِكَ من السنة إذا لم تكن متفرقة.
وعن طلحة بن أبي سعيد أن عمر بن عبد العزيز كتب وهو خليفة أن تؤخذ الصدقة من التي تعمل في الريف، قال طلحة: حضرت ذَلِكَ وعاينته.
(1)
"سنن الدارقطني" 2/ 103.
(2)
"سنن الدارقطني" 2/ 104.
قال البيهقي في "السنن" 4/ 116: في إسناده ضعف، والصحيح موقوف.
وقال الحافظ في "الدراية" 1/ 256: المرفوع إسناده حسن، وأخرجه عبد الرزاق في "المصنف" 4/ 19 (6828) موقوفًا، وهو أصح. اهـ بتصرف. وقال الألباني في "الضعيفة" 9/ 369: إسناده موقوف صحيح.
(3)
"المصنف" 2/ 365 (9953 - 9956، 9959 - 9960، 9962).
وعند أبي حنيفة وأحمد أن السائمة هي التي تكتفي بالرعي في أكثر الحول؛ لأن اسم السوم لا يزول عنها بالعلف اليسير؛ ولأن العلف اليسير لا يمكن التحرز عنه؛ ولأن الضرورة تدعو إليه في بعض الأحيان؛ لعدم المرعى فيه
(1)
.
واعتبر الشافعي السوم جميع الحول ولو علفت قدرًا تعيش بدونه بلا ضرر بيّن وجبت الزكاة
(2)
.
وفي الحديث من الفوائد: جواز الدفع عن ماله إذا طولب بالزيادة عملًا بقوله: ومن سئل فوقها فلا يعط قال ابن التين: ولو بالقتال قال: وفيه حديث حسن رواه ابن إسحاق في "المسند الصحيح"، كذا قال.
(1)
انظر: "بدائع الصنائع" 2/ 30، و"المبدع" 2/ 311، 312.
(2)
انظر: "روضة الطالبين" 2/ 190.
39 - باب لَا تُؤْخَذُ فِي الصَّدَقَةِ هَرِمَةٌ وَلَا ذَاتُ عَوَارٍ وَلَا تَيْسٌ إِلاَّ مَا شَاءَ المُصَدِّقُ
1455 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي ثُمَامَةُ، أَنَّ أَنَسًا رضي الله عنه حَدَّثَهُ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه كَتَبَ لَهُ الصَّدَقَةَ التِي أَمَرَ اللهُ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم:"وَلَا يُخْرَجُ فِي الصَّدَقَةِ هَرِمَةٌ، وَلَا ذَاتُ عَوَارٍ، وَلَا تَيْسٌ، إِلاَّ مَا شَاءَ المُصَدِّقُ". [انظر: 1448 - فتح 3/ 321]
ذكر فيه بالإسناد السالف إلى ثمامة أَنَّ أَنَسًا حَدَّثَة، أَن أَبَا بَكْرٍ كَتَبَ لَهُ [الصَّدَقَةَ] التِي أَمَرَ اللهُ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم:"وَلَا يُخْرَجُ فِي الصَّدَقَةِ هَرِمَةٌ، وَلَا ذَاتُ عَوَارٍ، وَلَا تَيْسٌ، إِلَّا مَا شَاءَ المُصَدَّقُ".
الشرح:
الهرمة: الكبيرة التي سقطت أسنانها، كذا قاله ابن التين، وعبارة أبي زيد والأصمعي فيما حكاه عنهما أبو غالب في "المؤعَب" الهرم: الذي بلغ أقصى السنن، والعوار -بالفتح- العيب، وعن أبي زيد: قد يضم، حكاه الجوهري
(1)
.
وقال ابن التين: بالفتح: العيب مع العجاف، وبخط الدمياطي بالفتح: العيب كله، وبضمها: عور العين، كما أوضحه ابن بطال
(2)
.
والتيس: الفحل، وقيده ابن التين من (المعز)
(3)
.
وهذا الحديث عامة الفقهاء على العمل به والمأخوذ في الصدقات العدل، كما قال عمر بن الخطاب
(4)
: وذاك عدل بين (غذاء المال
(1)
"الصحاح" 5/ 2057.
(2)
"شرح ابن بطال" 3/ 471.
(3)
ورد في هامش الأصل ما نصه: وكذا قال غيره.
(4)
سيأتي تخريجه قريبًا.
وخياره)
(1)
.
قال أبو عبيد: غذاء الإبل السخال الصغار، وقال غيره: هو ولد الضائنة إذا وضعته أمه وتبعته، قال مالك: والتيس من ذوات العوار وهو دون الفحل
(2)
.
قُلْتُ: وإنما لم يؤخذ؛ لرداءة لحمه، وإنما لم تؤخذ الهرمة؛ لنقصها، وذات العوار كذلك أيضًا. فإن كان المال كله معيبًا أخذ من الوسط عند الشافعي
(3)
، وكلف صحيحه عند مالك في مشهور مذهبه في الذكورات، وفي الصغيرة التي تبلغ سن الجذع، وكذلك المراض وكذا عنده إن كانت كلها رُبّى أو مواخض لم يأخذ منها شيئًا إلا أن يشاء ربها
(4)
.
وعند الشافعي وأبي حنيفة إن كانت كلها صغارًا أو مراضًا أخذ منها ونحا إليه محمد بن عبد الحكم والمخزومي وابن الماجشون وأبو يوسف ومحمد بن الحسن، وقال مطرف: إن كانت عجافًا أو ذوات عوار أو تيوسًا أخذ منها، وإن كانت رُبّى أو مواخض أو أكولة أو سخالًا لم يأخذ منها، وقال عبد الملك: يأخذ من ذَلِكَ كله إذا لم يكن فيها جذعة أو ثنية إلا أن تكون سخالًا فلا يؤخذ منها فهذِه أربعة أقوال
(5)
،
(1)
ورد في هامش الأصل ما نصه: قوله: غذاء المال وخياره، غذاء المال: رديئه وصغاره، واحده: غذي.
(2)
انظر: "النوادر والزيادات" 2/ 221.
(3)
انظر: "العزيز" 2/ 493.
(4)
انظر: "المنتقى" 2/ 131.
(5)
انظر: "مختصر اختلاف الفقهاء" 1/ 419، و"الاستذكار" 9/ 181 - 185، و"الذخيرة" 3/ 109، و"عقد الجواهر الثمينة" 1/ 202، و"المجموع" 5/ 394.
أما قوله عن محمد بن الحسن: إنه نحا إلى أنها إن كانت صغارًا أو مراضًا أخذ =
وقال محمد بن الحسن: إن السخال والعجاجيل لا شيء فيها
(1)
.
احتج لأبي حنيفة والشافعي بحديث معاذ: "إياك وكرائم أموالهم"
(2)
، فنهاه عن أخذ الكريمة إذا كان في المال جيد ورديء، فنبه بذلك على أن المال إذا كان رديئًا كله كان أولى بالمنع من أخذ الكريمة، وبحديثه أيضًا:"خذ الإبل من الإبل والشاء من الغنم"
(3)
فعم، وبقول الصديق: لو منعوني عناقًا إلى آخره، وقد سلف
(4)
.
فدل على أن العناق يؤخذ في الزكاوات، قال الشافعي: لأني إذا كلفته صحيحه فقد أوجبت عليه أكثر بما وجب عليه، ولم توضع الصدقة إلا رفقًا بالمساكين من حيث لا يضر بأرباب الأموال، دليل مالك هذا الخبر وفي كتاب عمرو بن حزم نحوه.
وقوله في الخبر السالف في سائمة الغنم إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة شاة فعم ولم يخص كونها صغارًا أو كبارًا، وهو قال على منع أخذ الصغيرة، والأخبار الأول تدل على منع المريض والمعيب. وأثر عمر في "الموطأ" الذي ذكرنا منه: وذلك عدل بين غذاء المال وخياره
(5)
، فالجواب عما احتجوا به من أنه لما كان في المال الجيد والرديء
= منها، فهو اضطراب، فقد عقب بعدها فقال: قال محمد بن الحسن: إن السخال والعجاجيل لا شيء فيها، وهذا لا يستقيم مع قوله الأول، وليس لمحمد بن الحسن روايتان، فالمعروف عنه قوله الثاني، وهو أنه لا شيء فيها.
(1)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 1/ 419، و"تحفة الفقهاء" 1/ 288 - 289، و"بدائع الصنائع" 2/ 31، و"البناية" 3/ 402.
(2)
قطعة من حديث سيأتي برقم (1496) باب: أخذ الصدقة من الأغنياء، ورواه مسلم برقم (19) كتاب: الإيمان، باب: الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام.
(3)
سبق تخريجه.
(4)
سلف برقم (1400) باب: وجوب الزكاة.
(5)
"الموطأ" 1/ 265.
نهى عن الكرائم ففي كون جميعه رديئًا أولى؛ لأن الكريمة الممنوع من أخذها هو ما لا يؤخذ بوجه إلا إن تطوع ربها كالحامل واللبون، ومعناه إذا كان المال كله جيدًا أو رديئًا نحن نقول به.
وإنما نكلفه الوسط، فكذلك إذا كانت صغارًا أو معيبة؛ لأن في أخذها ضرر بالفقراء وفي أخذها الجيد إضرارًا برب المواشي، وأما حديث معاذ:"خذ الإبل من الإبل" فقال عَقِبه: "والشاء من الغنم"، وهذا يوجب أن يؤخذ من أربعين سخلة شاة، وتقدم الانفصال عن حديث أبي بكر في العناق أن المراد به جذعة.
واحتج بعض المالكية بقوله تعالى: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة: 267] إلى قوله {إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} [البقرة: 267] وهذا لا يلزم؛ لأنا ذكرنا -فيما سلف- أن الآية نزلت فيمن كان يأتي بأردأ طعامه فيقصد به الفقراء، فنهوا عن ذَلِكَ، وقد أجمعنا أن من كان عنده تمر رديء لا يلزمه أن يخرج من غيره، وهذا هو المشهور عندهم بخلاف الماشية، وبالقياس على الضحايا
(1)
، وهو متجه على رأي ابن القصار عندهم أن ذات العيب لا تجزئ ولو كانت قيمتها أكثر من السليمة، واختلف عندهم في التيس، فروى ابن القاسم عن مالك أنه من ذوات العوار، وهو أدون من الفحل
(2)
.
قال غيره: وهو الذي لم يبلغ حَدَّ الفحولة، ولا منفعة فيه لضراب ولا لدر ولا نسل، وإنما يؤخذ بها ما كان فيه منفعة للنسل
(3)
.
(1)
هذا هو مشهور المذهب، وقال عبد الملك: إذا كان رديئًا كله لم يؤخذ منه وكلف صاحبه أن يخرج من غيره. انظر: "المعونة" 1/ 253.
(2)
انظر: "النوادر والزيادات" 2/ 221.
(3)
انظر: "المنتقى" 2/ 130 - 131.
وقال الداودي: والتيس الفحل من المعز إن كان كبيرًا للضراب، فهو فوق ما يجب، وإن كان دون ذَلِكَ ولم يثن فهو دون الفريضة وهو دون العوار، ويرد عليه قوله في الحديث: إلا ما شاء المصدق فيما فوق ما يجب إنما الخيار في ذَلِكَ لرب المال.
وقوله: "إلا ما شاء المصدق" هو بكسر الدال يريد: الساعي، وقد سلف ما فيه لأبي عبيد قريبًا في باب: العرض في الزكاة، قال ابن قدامة: قول أبي عبيد يكون الاستثناء في الحديث يرجع للتيس وحده
(1)
.
وقال ابن التين: المراد إن أعطى هرمة سمينة أو ذات عوار أو تيسًا فرأى أخذ ذَلِكَ غبطة للفقراء أخذه وأجزأ عن أربابها، وكذا قال ابن بطال: إن هذا معناه عند مالك والشافعي
(2)
.
قال أشهب: وربما كانت ذوات العوار والعيب الكثير أثمن وأسمن فلا ينبغي للساعي أن يردها إن أعطيها
(3)
، وقال ابن القصار: لا يجزئ ذَلِكَ. كما سلف، والحديث حجة عليه.
قال الطبري: جعل الشارع المشيئة إلى المصدق في أخذ ذَلِكَ وتركه، فالواجب عليه أن يعمل بما فيه الصلاح لأهل الصدقة ورب الماشية بما يكون عدلًا بالفريقين، فيأخذ ذَلِكَ إذا كان في تركه وتكليفه رب الماشية غيره مضرة عليه وذلك أن تكون الغنم كلها هرمة أو جرباء أو تيوسًا، ويكون في تكليف صاحبها غيرها مضرة عليه فيأخذ منها. وترك أخذ ذَلِكَ إذا كانت فتية سليمة إناثًا كلها أو أكثرها فيأخذ منها السليمة من العيوب، وذلك عدل عليهما.
(1)
"المغني" 4/ 40.
(2)
"شرح ابن بطال" 3/ 471.
(3)
انظر: "النوادر والزيادات" 2/ 221.
وذكر ابن المواز أن (عثمان بن الحكم)
(1)
سأل مالكًا عن الساعي يجدها عجافًا كلها قال: يأخذ منها
(2)
، ولو كانت ذات عوار كلها أو تيوسًا فليأت بغيرها
(3)
، قال الزهري: وقد بعث الخلفاء السعاة في الخصب والجدب.
(1)
في الأصل (عثمان بن عبد الحكم) وهو خطأ، والمثبت من ترجمته في "تهذيب الكمال" 19/ 352، 353، وهو الجذامي المصري قال عنه ابن وهب: أول من قدم مصر بمسائل مالك، توفي سنة ثلاث وستين ومائة.
(2)
انظر: "النوادر والزيادات" 2/ 221.
(3)
انظر: "المنتقى" 2/ 131.
40 - باب أَخْذِ العَنَاقِ فِي الصَّدَقَةِ
1456 -
حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ح. وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه: وَاللهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا. [انظر: 1400 - مسلم: 20 - فتح: 3/ 322]
1457 -
قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: فَمَا هُوَ إِلاَّ أَنْ رَأَيْتُ أَنَّ اللهَ شَرَحَ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه بِالقِتَالِ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الحَقُّ. [انظر: 1400 - مسلم: 20 - فتح: 3/ 322]
حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ، أنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ح. وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ، عَنِ ابن شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ: والله لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا .. الحديث.
وقد سلف في أول الزكاة تفسير العناق ونقلنا هناك عن ابن بطال أنه نقل عن أهل اللغة: أنها ولد المعز إذا أتى عليها أربعة أشهر وفصل عن أمه، وقوي على الرعي فهو جدي، والأنثى عناق، فإذا أتى عليه حول فالذكر تيس والأنثى عنز، ثم يكون التيس جذعًا في السنة الثانية ثم ثني في الثالثة
(1)
.
ونقل ابن التين عن القاضي أبي محمد أن المراد بالعناق: الجذعة من المعز، قال الداودي: واختلف في الجذع من المعز، فقيل: ابن سنة. وقيل: ودخل في الثانية
(2)
(1)
"شرح ابن بطال" 3/ 473.
(2)
قال ابن حبيب: الجذع من الضأن والمعز ابن سنة، وقال ابن نافع وأشهب، وروى ابن وهب أنه ابن عشرة أشهر، وروى سحنون عن علي بن زياد أنه ما استكمل ستة أشهر، وقاله ابن شعبان، وقيل ثمانية أشهر، ويروى عن مالك، والأول أشهر =
واختلف في الثني فقيل: إذا أسقط ثنية واحدة أو اثنتين أو ثناياه كلها فهو ثني وقيل: لا يكون ثنيًا إلا بسقوط ثنتين.
وأما الجذع من الضأن ففيه أربعة أقوال عند المالكية: ابن سنة، ابن عشرة أشهر، ثمانية، ستة، والأصح عندنا: ما استكمل سنة ودخل في الثانية
(1)
.
وانفرد الحسن والنخعي فقالا: لا تؤخذ الجذعة في الصدقة، وعامة العلماء على خلافه.
واختلفوا في أخذ العناق والسخال والبهم إذا كانت الغنم كذلك كلها أو كان في الإبل فصلان والبقر عجول، فقال مالك: عليه في الغنم شاة جذعة أو ثنية، وعليه في الإبل والبقر ما في الكبار منها، وهو قول زفر، وأبي ثور، وقال أبو يوسف، والأوزاعي، والشافعي: يؤخذ منها إذا كانت صغارًا من كل صنف واحدًا منها. وقال أبو حنيفة والثوري ومحمد: لا شيء في الفصلان والعجول ولا في صغار الغنم، لا منها ولا من غيرها
(2)
.
وذكر ابن المنذر: كان أبو حنيفة وأصحابه والثوري والشافعي وأحمد يقولون: في أربعين جملًا مسنة. وعلى هذا القول هم موافقون لقول مالك، والحجة له قوله: في كل أربعين شاةً شاةٌ، والشاة: اسم يختص بالكبيرة في غالب العرف، فدل أن الواجب منها شاة لا سخلة، وأيضًا قول عمر: اعدد عليهم بالسخلة ولا تأخذها منهم.
= وأرجح، انظر:"المنتقى" 3/ 85 - 86، "الفواكه الدواني" 1/ 379، "عقد الجواهر الثمينة" 1/ 200.
(1)
انظر "المجموع" 5/ 362.
(2)
سبقت الإشارة إلى مصادرهم.
وهذا يدل أنها تعد كانت أمهاتها باقية أو عدمت.
فإن قيل: لما لم يجز أخذ السخلة من أربعين شاة كذلك لا يؤخذ من أربعين سخلة. قيل: لا يلزم لأنا لا نأخذ سخلة من الكبار ولا من الصغار، وإنما نأخذ السنن المجعول، فكما نأخذ شاة من أربعين كبارًا، كذا نأخذ شاة من أربعين صغارًا، فإن احتج من جوز أخذ الصغار إذا كانت صغارًا كلها بقول الصدّيق: لو منعوني عناقًا كانوا يؤدونها، فدل أنها مأخوذة في الصدقة. قيل: تأويله يؤدون عنها ما يجوز أداؤه، ويشهد له قول عمر: اعدد عليهم السخلة ولا تأخذها.
وإنما خرج قول الصدّيق على التقليل والإغياء بدليل الرواية الأخرى: منعوني عقالًا، وقد سلف الخُلف في تفسيره هناك، ومذهب مالك أن نصاب الغنم يكمل بأولادها كربح المال سواء
(1)
.
وذلك مخالف عنده لما أفاد منها بشراءٍ أو هبة أو ميراث لا يكمل منه النصاب ويستأنف به حولًا، وإن كان عنده نصاب ثم استفاء بغير ولادة منه زَكَّاه مع النصاب
(2)
،
وهو قول أبي حنيفة
(3)
.
وقال الشافعي: لا يضم نتاج الماشية إلا إلى النصاب، ولا يكمل به النصاب
(4)
.
(1)
انظر: "التفريع" 1/ 283، و"المعونة" 1/ 233 - 234.
(2)
انظر: "المعونة" 1/ 283، و"عيون المجالس" 2/ 478.
(3)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 1/ 41، و"تحفة الفقهاء" 1/ 289.
(4)
انظر: "روضة الطالبين" 2/ 185.
41 - باب لَا تُؤْخَذُ كَرَائِمُ أَمْوَالِ النَّاسِ فِي الصَّدَقَةِ
1458 -
حَدَّثَنَا أُمَيَّةُ بْنُ بِسْطَامٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ القَاسِمِ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ صَيْفِيٍّ، عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا بَعَثَ مُعَاذًا رضي الله عنه عَلَى اليَمَنِ قَالَ:"إِنَّكَ تَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ أَهْلِ كِتَابٍ، فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ عِبَادَةُ اللهِ، فَإِذَا عَرَفُوا اللهَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِهِمْ وَلَيْلَتِهِمْ، فَإِذَا فَعَلُوا، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللهَ فَرَضَ عَلَيْهُمْ زَكَاةً [تُؤْخَذُ] مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإِذَا أَطَاعُوا بِهَا فَخُذْ مِنْهُمْ، وَتَوَقَّ كَرَائِمَ أَمْوَالِ النَّاسِ". [انظر: 1395 - مسلم: 19 - فتح: 3/ 322].
ذكر فيه حديث ابن عباس السالف في أول الزكاة، وزاد في آخره:"فَإِذَا أَطَاعُوا بِهَا فَخُذْ مِنْهُمْ، وَتَوَق كَرَائِمَ أَمْوَالِ النَّاسِ". وقد سلف شرحه.
وقوله: "فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله" هو الإقرار باللهِ وبرسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر فيه الصوم، وقد سلف جوابه هناك، ولا الجهاد لأنه لم يكن يومئذ فرض إلا على من يلي الكفار قاله ابن التين.
والكرائم: جمع كريمة، يقال: شاة كريمة أي غزيرة اللبن، ويدخل فيه الربي وهي حديثة العهد بالنتاج، والمسمنة للأكل، والحامل، والجياد اللهم إلا إذا رضي المالك.
وروى أحمد، وأبو داود من حديث أبي بن كعب أنه لما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقًا مرّ برجل فجمع له ماله، فلم يجد عليه فيه إلا ابنة مخاض، فقال الرجل: ذاك ما لا لبن فيه ولا ظهر، ولكن هذِه ناقة فتية سمينة فخذها، فأبى أُبي بن كعب، وترافعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذاك الذي عليك فإن تطوعت بخير آجرك الله فيه وقبلناه منك" فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبضها ودعا له في ماله بالبركة
(1)
.
حديث صحيح، وقد صححه ابن حبان والحاكم
(2)
، ووهم ابن حزم حيث أعله بجهالة من بان توثيقه
(3)
.
وهو دال على الجواز في باقي الصور، وأبعد بعض أصحابنا فقال: الرُّبَّى لا تؤخذ؛ لأنها لقرب عهدها بالولادة مهزولة
(4)
وهو عجيب وهو ساقط فقد لا تكون كذلك، وقد تكون غير الرُّبَّي مهزولة، والهزال الذي هو عيب، هو الظاهر البين، وأبعد منه عدم القبول عند التبرع؛ للنهي عن أخذها وهو عجيب، فإن النهي للإجحاف بالمالك فقط، ومنع داود أخذ الحامل؛ لأنه عيب، وهو عجيب؛ لأنه ليس عيبًا في البهائم
(5)
.
فرع:
لو كانت ماشيته سمينة كلها؛ طالبناه بسمينة، ونجعل ذَلِكَ كشرف
(1)
"المسند" 5/ 142، "سنن أبي داود"(1583).
(2)
"صحيح ابن حبان" 8/ 63 - 64 (3269)، "المستدرك" 1/ 399.
(3)
"المحلى" 6/ 26 حيث قال: هذا لا حجة فيه لوجوه:
أولها: أنه لا يصح؛ لأن يحيى بن عبد الله مجهول. وعمارة بن عمرو بن حزم غير معروف، وإنما المعروف عمارة بن حزم أخو عمرو رضي الله عنهما. اهـ
وتعقبه العلامة أحمد شاكر في تعليقه على "المحلى" 6/ 26 - 27 فقال: أما يحيى فإنه ليس مجهولًا، بل هو ثقة تابعي روى له مسلم وأبو داود. وأما عمارة فهو معروف أيضًا وتابعي ثقة. اهـ.
قلت: يحيى وعمارة أجمل الحافظ القول بتوثيقهما في "التقريب"(4855، 7586).
والحديث حسنه الألباني في "صحيح أبي داود"(1411).
(4)
انظر: "البيان" 3/ 205، "المجموع" 5/ 400.
(5)
انظر: "عيون المجالس" 2/ 491، و"المجموع" 5/ 400.
النوع بخلاف ما إذا كانت كلها ماخضة؛ لأن الحامل قد تتخيّل حيوانين.
وقد احتج الشافعي لمذهبه في أن السخال يؤخذ منها ما يؤخذ في الكبار بهذا الحديث، فإذا لم يملك كريم مال فلا يكلف شراءه.
قال ابن القصار: فيقال له: وكذلك أيضًا نهي عن أخذ الدون، وكلف الوسط، وليس إذا كلف الوسط كلف كريم ماله، ألا ترى أنا نرفه رب المال إذا كانت غنمه كرائمًا كلها رُبَّى ومواخض ولوابن وشاة اللحم والفحل؛ لئلا نأخذ منها، فكذلك نرفه الفقير؛ لئلا يأخذ الصغيرة، ويأخذ السنن المجعول، وهذا هو العدل بينهم وبين أرباب المواشي-كما قال عمر- رضي الله عنه.
قلت: مثل هذا لا يقال لمثل هذا الإمام الجبل، فإذا كانت كلها صغارًا فلا دون فيها حتَّى نلزم به هذا الإمام، وقوله: وليس إذا كلف الوسط كلف كريم ماله. عجيب، فإنه تكليف بما لا يجب عليه ولا ملكه البتة، وقوله: ألا ترى أنا نرفه رب المال إذا كانت غنمه كلها كرامًا؛ لئلا نأخذ منها ممنوعٌ، فإنا نأخذ منها واحدة -كما أسلفناه- وجعلناه لشرف النوع.
42 - باب لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ
1459 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ المَازِنِيِّ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنَ التَّمْرِ صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنَ الوَرِقِ صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ مِنَ الإِبِلِ صَدَقَةٌ". [انظر: 1405 - مسلم: 979 - فتح: 3/ 322]
ذكر فيه حديث أبي سعيد الخدري السالف في أول الزكاة
(1)
، وزكاة الورق
(2)
، وزاد هنا:"خمسة أوسق من التمر" زاد لفظ: "التمر" ولمسلم: "من تمر ولا حب"
(3)
، وقد سلف فقهه هناك.
(1)
سلف برقم (1405) باب: ما أُدي زكاته فليس بكنز.
(2)
سلف برقم (1447).
(3)
"صحيح مسلم"(979/ 4) كتاب: الزكاة.
43 - باب زَكَاةِ البَقَرِ
وَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لأَعْرِفَنَّ مَا جَاءَ اللهَ رَجُلٌ بِبَقَرَةٍ لَهَا خُوَارٌ". وَيُقَالَ: جُؤَارٌ {تَجْأَرُونَ} [النحل:53] تَرْفَعُونَ أَصْوَاتَكُمْ كَمَا تَجْأَرُ البَقَرَةُ.
1460 -
حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنِ المَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: انْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ -أَوْ وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، أَوْ كَمَا حَلَفَ- مَا مِنْ رَجُلٍ تَكُونُ لَهُ إِبِلٌ أَوْ بَقَرٌ أَوْ غَنَمٌ لَا يُؤَدِّي حَقَّهَا، إِلاَّ أُتِيَ بِهَا يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْظَمَ مَا تَكُونُ وَأَسْمَنَهُ، تَطَؤُهُ بِأَخْفَافِهَا، وَتَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا، كُلَّمَا جَازَتْ أُخْرَاهَا رُدَّتْ عَلَيْهِ أُولَاهَا، حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ". رَوَاهُ بُكَيْرٌ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. [6638 - مسلم: 990 - فتح: 3/ 323]
هي اسم جنس مشتقة من بقرت الشيء إذا شققته؛ لأنها تبقر الأرض بالحراثة. يكون للمذكر والمؤنث، كما قاله في "المحكم"
(1)
.
(قال البخاري)
(2)
: وَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لأَعْرِفَنَّ مَا جَاءَ اللهَ رَجُلٌ بِبَقَرَةٍ لَهَا خُوَارٌ". وَيُقَالَ: جُؤَارٌ {تَجْأَرُونَ} [النحل: 53] تَرْفَعُونَ أَصْوَاتكُمْ كَمَا تَجْأَرُ البَقَرَةُ.
ثم ذكر حديث أبي ذر: قَالَ: انْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فقَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ -أَوْ وَالَّذِي لَا إله غَيْرُهُ، أَوْ كَمَا حَلَفَ- مَا مِنْ رَجُلٍ تكُونُ لَهُ إِبِلٌ أَوْ بَقَرٌ أَوْ غَنَمٌ لَا يُؤَدِّي حَقَّهَا .. " الحديث. رَوَاهُ بُكَيْرٌ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
(1)
"المحكم" 6/ 241 - 242.
(2)
ليست في الأصل.
الشرح: أما حديث أبي حميد فهو قطعة من حديث ابن اللتبية، وقد أسنده فيما سيأتي
(1)
، وما ذكره في تفسير (جؤار) تبع فيه أبا عبيدة معمر بن المثنى، وعبارة ابن سيده: رفع صوته مع تضرع واستغاثة
(2)
.
قال ابن الأثير: المشهور بالخاء
(3)
، يعني: المعجمة، و (الخوار) غير مهموز و (الجؤار) مهموز وهما سواء. كما قال القزاز: اللفظتان تقالان في البقرة إذا صاحت ومنه {لَهُ خُوَارٌ} [طه: 88]، وكذلك جؤار الثور بالجيم، والعرب تستعيره في الرجل، وأصله في البقر قال تعالى:{فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [النحل: 53] أي: ترفعون أصواتكم بالدعاء.
وحديث أبي ذر أخرجه مسلم أيضًا، وسيأتي في الأيمان والنذور أيضًا، وحديث بكير أخرجه مسلم من حديث ابن وهب، عن عمرو ابن الحارث، عنه، وهو: بكير بن عبد الله بن الأشج، عن ذكوان وهو: أبو صالح، عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إذا لم يؤد المرء حق الله أو الصدقة في إبله" وساق الحديث بنحو حديث سهيل عن أبيه -يعني المذكور عنده-: "ما من صاحب إبل
…
" إلى آخره. وفي آخره: قال سهيل: فلا أدري أذكر البقر أم لا، وذكر فيه الكنز والخيل
(4)
.
وذكره البيهقي من هذا الوجه بذكر البقر ثم قال: رواه مسلم وأشار إليه البخاري
(5)
.
(1)
سيأتي برقم (1500) كتاب: الزكاة، باب: قول الله تعالى: {وَالعَامِلِينَ عَلَيْهَا} ، و (2597) كتاب: الهبة، باب: من لم يقبل الهدية لعلة، و (6979) كتاب: الحيل، باب: احتيال العامل ليهدى له.
(2)
"المحكم" 7/ 336.
(3)
"النهاية في غريب الحديث والأثر" 1/ 232.
(4)
"صحيح مسلم"(987) كتاب: الزكاة، باب: إثم مانع الزكاة.
(5)
"السنن الكبرى" 4/ 98 كتاب: الزكاة.
وهو أصح الأحاديث الواردة في زكاة البقر، وجاء في أحاديث أخر منها: حديث معاذ: لما بعثه إلى اليمن أمره أن يأخذ من كل أربعين بقرة مسنةً، ومن كل ثلاثين تبيعًا. حسنه الترمذي، وصححه الحاكم على شرط الشيخين
(1)
.
وحديث عمرو بن حزم أيضًا في كل أربعين باقورة بقرة
(2)
. وقد سلف أيضًا حديث: "ليس في البقر العوامل شيء"
(3)
.
إذا تقرر ذلك: فالحديث دال على وجوب زكاتها من أجل الوعيد الذي جاء إن لم يؤد زكاتها، ومقدار نُصبها في حديث معاذ السالف، وكذا ما يؤخذ منها وغيره من الأحاديث السالفة.
قال ابن بطال: وكذا في كتاب الصدقات لأبي بكر وعمر، وعلى ذَلِكَ مضى الخلفاء، وعليه عامة الفقهاء.
قال ابن المنذر: ولا أعلم الناس يختلفون فيه اليوم، وفيه شذوذ لا يلتفت إليه، روي عن ابن المسيب، والزهري، وأبي قلابة أن في كل خمس من البقر شاة، وفي عشر شاتين، وفي خمسة عشر ثلاثًا، وفي عشرين أربع شياه، وفي خمس وعشرين بقرة إلى خمس وسبعين، فإذا زادت فبقرتان إلى عشرين ومائة، فإذا زادت ففي كل أربعين بقرة بقرة. وروي عن أبي قلابة أنه قال: في كل خمس شاة
(1)
"سنن الترمذي"(623)، "المستدرك" 1/ 398، ورواه أيضًا أبو داود (1578)، والنسائي 5/ 26، وابن ماجه (1803).
والحديث صححه ابن عبد البر في "التمهيد" 2/ 130. وللألباني في "صحيح أبي داود" (1408)، وفي "الإرواء" (795).
(2)
تقدم تخريجه قريبًا.
(3)
تقدم تخريجه أيضًا.
إلى أن تبلغ ثلاثين، فإذا بلغت ثلاثين ففيها تبيع.
واعتل قائلو هذِه المقالة بحديث لا أصل له رواه حبيب بن أبي حبيب
(1)
، عن عمرو بن هرم أنه في كتاب عمرو بن حزم. [وحجتهم]
(2)
من طريق النظر أن الشارع قد عدلها بالإبل إذ جعل الواحد منها يجزئ عن سبعة في الهدايا والضحايا كما في الإبل، فزكاتها زكاتها، قالوا: وخبر معاذ منسوخ بكتابه صلى الله عليه وسلم إلى عماله، الذي رواه عمرو بن حزم.
قال الطبري: وهذا الحديث أراه غير متصل ولا يجوز الاحتجاج به في الدين، والمعروف في كتابه صلى الله عليه وسلم في الصدقة لآل عمرو بن حزم خلاف ذَلِكَ
(3)
.
قُلْتُ: فيه: وفي كل أربعين باقورة بقرة. كما أسلفناه.
قُلْتُ: وأما ابن حزم فإنه صححه مستدلًا به، أخرجه من طريق أبي عبيد بن سلام: نا يزيد، عن حبيب بن أبي حبيب، عن عمرو بن هرم، عن محمد بن عبد الرحمن قال: كان في كتاب عمرو أن البقر يؤخذ منها كما يؤخذ من الإبل
(4)
.
وجماعة الفقهاء على أنه لا شيء فيما زاد على الأربعين حتَّى تبلغ ستين، فإذا بلغتها ففيها تبيعان فإذا بلغت سبعين، فتبيع ومسنة، وبهذا قال ابن أبي ليلى وأبو يوسف ومحمد
(5)
.
(1)
جاء في هامش الأصل ما نصه: حبيب بن أبي حبيب الجرمي عن عمرو بن هرم غمزه أحمد ونهى ابن معين عن كتابة حديثه، وقدح فيه يحيى بن سعيد القطان.
(2)
ليست بالأصل، ومثبتة من "شرح ابن بطال" والسياق يقتضيها.
(3)
"شرح ابن بطال" 3/ 477 - 478.
(4)
"المحلى" 4/ 6.
(5)
انظر: "الأصل" 2/ 62 - 63، "مختصر اختلاف العلماء" 1/ 413.
وسئل أبو حنيفة، فقال: ما زاد على الأربعين من البقر فبحسابه، ففي كل خمسة وأربعين مسنة وثُمن، وفي خمسين مسنة وربع، وعلى هذا كل ما زاد قل أو كثر. هذا هو المشهور عنه، وقد روى أسد بن عمرو عن أبي حنيفة مثل قول الجماعة
(1)
، ولا قول إلا قولهم؛ لأنهم الحجة على من خالفهم، وفي حديث معاذ أنه قال: لم يأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأوقاص بشيء. وعند أهل الظاهر لا زكاة في أقل من خمسين منها، فإذا ملك خمسين منها عامًا قمريًا متصلًا ففيها بقرة، وفي المائة بقرتان، ثم في كل خمسين بقرة بقرةٌ، ولا شيء في الزيادة حتَّى تبلغ الخمسين.
وقال إبراهيم فيما رواه ابن حزم: ليس فيما دون ثلاثين شيء فإذا بلغتها فتبيع، ثم لا شيء فيها حتَّى تبلغ أربعين فإذا بلغتها
(2)
فبقرة ثم لا شيء فيها حتَّى تبلغ خمسين، فإذا بلغتها فبقرة وربع، ثم لا شيء فيها حتَّى تبلغ سبعين فتبيع ومسنة. قال: وهي رواية غير مشهورة عن أبي حنيفة، قال: وقالت طائفة: ليس فيما دون الثلاثين من البقر شيء فإذا بلغتها ففيها بقرة مسنة، فإذا زادت واحدة ففيها بقرة وجزء من أربعين جزءًا من بقرة، وهكذا في كل واحد يزيد فيها جزءًا آخر من أربعين جزءًا من بقرة، هكذا إلى الستين، فإذا بلغتها ففيها تبيعان، ثم لا شيء فيها إلا في كل عشر زائد كما ذكرنا.
قال: وقيل: المشهور عن أبي حنيفة
(3)
: ليس في أقل من ثلاثين من
(1)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 1/ 413.
(2)
كذا بالأصل، وتتمة الكلام كما في "المحلى" 7/ 6: ففيها تبيع، ثم لا شيء فيها حتى تبلغ أربعين، فإذا بلغتها.
(3)
"المحلى" 6/ 7.
البقر صدقة، فإذا بلغتها سائمة وحال عليها الحول ففيها تبيع أو تبيعة وهي التي طعنت في الثالثة، فإذا زادت على الأربعين ففي الزيادة بقدر ذَلِكَ إلى الستين عند أبي حنيفة، ففي الواحدة الزائدة ربع عشر المسنة، وفي الثنتين نصف عشر مسنة.
وقال أبو يوسف ومحمد: لا شيء في الزيادة حتَّى تبلغ ستين، فيكون فيها تبيعان أو تبيعتان، وهي رواية عن أبي حنيفة، وفي سبعين مسنة وتبيع، وفي ثمانين مسنتان، وفي تسعين ثلاثة أتبعة، وفي المائة تبيعان ومسنة، على هذا يتغير الفرض في كل عشرة من تبيع إلى مسنة
(1)
.
وفي "مصنف ابن أبي شيبة" من حديث ابن أرطاة، عن حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم قال: يحاسب صاحب البقر بما فوق الفريضة.
قال: وحَدَّثَنَا زيد بن حباب، عن معاوية بن صالح، عن العلاء بن الحارث، عن مكحول أنه قال في صدقة البقر: ما زاد فبالحساب
(2)
.
وروى ابن حزم بإسناد جيد إلى الزهري وقتادة، عن جابر بن عبد الله قال: في كل خمس من البقر شاة
(3)
كالإبل في عشرين أربع.
قال الزهري: فرائض البقر مثل فرائض الإبل غير أنه لا أسنان فيها، قال: وبلغنا أن قولهم: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "في كل ثلاثين تبيع، وفي كل أربعين بقرة"
(4)
. أن ذَلِكَ كان خفيفًا لأجل اليمن، ثم كان هذا بعد ذَلِكَ.
(1)
انظر: "الأصل" 2/ 61 - 62، و"مختصر اختلاف العلماء" 1/ 413، و"المبسوط" 2/ 187، و"الهداية" 1/ 106 - 107.
(2)
"المصنف" 2/ 364 (9946 - 9947) كتاب: الزكاة، في الزيادة في الفريضة.
(3)
كذا بالأصل، وتتمة الكلام كما في "المحلى" 6/ 2: وفي عشر شاتان وفي خمس عشرة ثلاث شياه.
(4)
رواه النسائي 5/ 26 كتاب: الزكاة، باب: زكاة البقرة، وأحمد 5/ 233، =
قال: وعن عكرمة بن خالد: اسْتُعملتُ على صدقات عك، فلقيت أشياخًا ممن صدق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاختلفوا، فمنهم من قال: اجعلها مثل صدقة الإبل. ومنهم من قال: في ثلاثين تبيع. ومنهم من قال: في أربعين مسنة
(1)
.
قُلْتُ: وروي عنه أن رجلًا حدثه عن مصدق أبي بكر أنه أخذ من كل عشر بقرات بقرة.
وروى ابن حزم أيضًا من طريق أبي عبيد إلى عمر بن عبد الرحمن بن خلدة الأنصاري أن صدقة البقر صدقة الإبل، غير أنه لا أسنان، وعن معمر أعطاني سماك بن الفضل كتابًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مالك [بن]
(2)
كفلافس والمصعبين، فقرأته فإذا فيه:"وفي البقر مثل الإبل".
قال ابن حزم: ما ذُكر عن الزهري من أنه قال: هذا هو آخر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الأمر بالتبيع في الثلاثين نُسخ بهذا، واحتجوا بعموم الخبر:"ما من صاحب بقر" الحديث.
فهذا عموم لكل بقر إلا ما خصه نص أو إجماع، ومن عمل مثل قولنا كان على يقين، فإنه قد أدى الفريضة، ومن خالف لم يكن على يقين من ذَلِكَ.
فإن احتجوا بالخبر الذي فيه: "في كل ثلاثين تبيع وفي كل أربعين
= وابن خزيمة في "صحيحه" 4/ 19 (2268) كتاب: الزكاة، باب: صدقة البقر، بذكر لفظ مجمل غير مفسر، والشاشي في "مسنده" 3/ 252 - 253 (1350 - 1352)، والطبراني 20/ 128 - 130، والبيهقي 4/ 98 كتاب: الزكاة، باب: كيف فرض صدقة البقر، 9/ 193 كتاب: الجزية، باب: كم الجزية.
(1)
"المحلى" 6/ 2 - 3.
(2)
ليست بالأصل وإنما هي من "المحلى" 6/ 4. وفيه: مالك بن كفلانس المصعبين.
مسنة"
(1)
. قلنا نحن بهذا، وليس فيه إسقاط الزكاة عما دون ذَلِكَ
(2)
.
ثم ساق بإسناده إلى عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار قال: كان عمال ابن الزبير وطلحة بن عبيد الله بن عوف يأخذون من كلٍ خمسين بقرة بقرة، ومن كل مائة بقرتين، فإذا كثرت ففي كل خمسين بقرة بقرةٌ
(3)
.
ثم قال ابن حزم: وجدنا الآثار الواردة فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منقطعة، ولا يصح في هذا من طريق إسناد الآحاد، ولا من طريق التواتر شيء، ولا عن أحد من الصحابة شيء لا يعارضه غيره، ولم يبق إلا ما رويناه من عمل ابن الزبير وطلحة بن أخي عبد الرحمن بن عوف بحضرة بقية الصحابة، ولم ينكروه، ووجدنا الإجماع المتيقن المقطوع به الذي لا خلاف فيه وحكم به من الصحابة ومن بعدهم أن في كل خمسين بقرة، وكل ما دون ذَلِكَ فمختلف فيه ولا نص في إيجابه، فلم يجز القول به
(4)
.
وحكى ابن التين مقابله أن في خمس وعشرين تبيعًا، وفي أربعين مسنة. وعن شهر بن حوشب في عشر شاة، وفي عشرين شاتان
(5)
، ثم نقل عن القاضي أبي محمد بعد أن حكى مقالة أبي قلابة وسعيد والزهري أيضًا أن كل هذا لا يلتفت إليه، والأصل في الباب الذي يجب أن يصار إليه حديث معاذ "خذ البقر من البقر" وحديثه في
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
"المحلى" 6/ 3 - 5.
(3)
"المصنف" 4/ 23 (2846) كتاب: الزكاة، باب: البقر.
(4)
"المحلى" 6/ 7 و 16.
(5)
رواه ابن أبي شبة في "المصنف" 2/ 433 (10747) كتاب: الزكاة، من قال: فيما دون ثلاثين من البقر زكاة.
"الموطأ" أن معاذًا أخذ من ثلاثين بقرة تبيعًا، ومن أربعين مسنة، وأُتي ما دون ذَلِكَ فأبى أن يأخذ، وقال: لم أسمع من النبي صلى الله عليه وسلم فيه شيئًا حتَّى ألقاه فأسأله، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يقدم معاذ
(1)
.
وفي حديث سليمان، عن الزهري، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده مرفوعًا:"وفي كل ثلاثين باقورة تبيع أو جذعة، وفي كل أربعين بقرة"
(2)
.
وقد تكلف بعض الناس إيراد شبهة لبعض ما تقدم من الأقاويل المختلفة فقالوا: يمكن أن يحتج لذلك بما روي في حديث عمرو بن حزم أنه صلى الله عليه وسلم ذكر صدقة الإبل، ثم عطف عليه فقال:"وكذلك البقر" وهذا غير محفوظ في نقل صحيح، وروينا صدقة البقر مفسرة من طريق عمرو بن حزم ونحوه، ويحتمل ذَلِكَ إن صح أن يكون عطفًا على وجوب الزكاة دون صفتها قالوا: ولما كانت البقر كالإبل في أن الواحد يجزئ في الأضحية عن سبعة كانت كذلك في صفة الزكاة، وهذا لا يصح على أصل المالكية؛ لأنهم لا يجيزون الاشتراك في الأضحية، فبطل قولهم.
فرع:
التبيع عندنا: ما له سنة، والمسنة: ما لها سنتان، وفي ذَلِكَ خلاف عندنا
(3)
، والتبيع والجذع عند المالكية: ما له سنتان، وقيل: سنة،
(1)
"الموطأ" 1/ 266 - 267 (681) كتاب: الزكاة، باب: صدقة الماشية.
(2)
رواه الحاكم 1/ 395 - 397 كتاب: الزكاة، والبيهقي 4/ 89 كتاب: الزكاة، باب: كيف فرض الزكاة، وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع" (2333) وانظر:"الإرواء"(122).
(3)
انظر: "العزيز" 2/ 472، و"روضة الطالبين" 2/ 152.
والمسنة: ما لها ثلاث، وقيل: سنتان
(1)
.
فرع:
لو أخرج تبيعة أجزأت عندنا
(2)
، بل هي أولى للأنوثة، وانفرد أبو حنيفة فجوز الذكر بدل المسنة وإن كانت بقره إناثًا
(3)
.
ونقل ابن التين عن بعض أصحابنا: إن كانت البقر ذكورًا كلها أخذ فيها مسنًّا ذكرًا، دليلنا حديث معاذ السالف "مسنة" ولم يفرق. وبيّن في حديث عمرو بن حزم أن التبيع يجوز أن يكون ذكرًا أو أنثى على ما سلف، ولم يذكر ذَلِكَ في مسنة، ولأن المأخوذ في فرائض الماشية الإناث، إلا من ضرورة اعتبارًا بالإبل والغنم.
(1)
انظر: "المنتقى" 2/ 131.
(2)
انظر: "الحاوي" 3/ 108، و"التهذيب" 3/ 27.
(3)
انظر: "المبسوط" 2/ 188، و"الفتاوى التاتارخانية" 2/ 221.
44 - باب الزَّكَاةِ عَلَى الأَقَارِبِ
وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لَهُ أَجْرَانِ أَجْرُ القَرَابَةِ، وَالصَّدَقَةِ". [انظر: 1466]
1461 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه يَقُولُ: كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ الأَنْصَارِ بِالمَدِينَةِ مَالًا مِنْ نَخْلٍ، وَكَانَ أَحَبَّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءَ، وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ المَسْجِدِ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ، قَالَ أَنَسٌ: فَلَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {لَنْ تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ. إِنَّ اللهَ تبارك وتعالى يَقُولُ {لَنْ تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَىَّ بَيْرُحَاءَ، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لله أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللهِ، فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللهِ حَيْثُ أَرَاكَ اللهُ. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "بَخْ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الأَقْرَبِينَ". فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللهِ. فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ.
تَابَعَهُ رَوْحٌ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى وَإِسْمَاعِيلُ عَنْ مَالِكٍ: "رَايِحٌ". [2318، 2752، 2758، 2769، 4554، 4555، 5611 - مسلم: 998 - فتح: 3/ 325]
1462 -
حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي زَيْدٌ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَضْحًى -أَوْ فِطْرٍ- إِلَى المُصَلَّى، ثُمَّ انْصَرَفَ فَوَعَظَ النَّاسَ وَأَمَرَهُمْ بِالصَّدَقَةِ فَقَالَ:"أَيُّهَا النَّاسُ، تَصَدَّقُوا". فَمَرَّ عَلَى النِّسَاءِ فَقَالَ: "يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ، تَصَدَّقْنَ، فَإِنِّي رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ". فَقُلْنَ: وَبِمَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: "تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ، وَتَكْفُرْنَ العَشِيرَ، مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الحَازِمِ مِنْ إِحْدَاكُنَّ يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ". ثُمَّ انْصَرَفَ، فَلَمَّا صَارَ إِلَى مَنْزِلِهِ جَاءَتْ زَيْنَبُ امْرَأَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ
تَسْتَأْذِنُ عَلَيْهِ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذِهِ زَيْنَبُ، فَقَالَ:"أَيُّ الزَّيَانِبِ؟ ". فَقِيلَ: امْرَأَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ. قَالَ: "نَعَمِ ائْذَنُوا لَهَا". فَأُذِنَ لَهَا، قَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللهِ، إِنَّكَ أَمَرْتَ اليَوْمَ بِالصَّدَقَةِ، وَكَانَ عِنْدِي حُلِيٌّ لِي، فَأَرَدْتُ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهِ، فَزَعَمَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّهُ وَوَلَدَهُ أَحَقُّ مَنْ تَصَدَّقْتُ بِهِ عَلَيْهِمْ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"صَدَقَ ابْنُ مَسْعُودٍ، زَوْجُكِ وَوَلَدُكِ أَحَقُّ مَنْ تَصَدَّقْتِ بِهِ عَلَيْهِمْ". [انظر: 304 - مسلم: 80 - فتح: 3/ 325]
ثم ذكر فيه حديث عبد الله بن يوسف، أَنَا مَالِكٌ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عن أَنَسَ: كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ الأَنْصَارِ بِالمَدِينَةِ مَالًا مِنْ نَخْلٍ، وَكَانَ أَحَبَّ أَمْوَالِهِ إِلَيهِ بَيْرُحَاءَ، وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ المَسْجِدِ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يدْخُلُهَا وَيشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّب، قَالَ أَنَسٌ: فَلَمَّا أُنْزِلَتْ هذه الأيَةُ: {لَنْ تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقَالَ: يَا رَسُول اللهِ، إِنَّ اللهَ تبارك وتعالى يَقُولُ:{لَنْ تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَى بَيْرُحَاءَ، وَإِنَّهَا صَدَقَة لله أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللهِ، فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللهِ حَيْثُ أَرَاكَ اللهُ. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "بَخْ، ذَلِكَ مالٌ رَابِحٌ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ، وَإِنِّي أَرى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الأقرَبِينَ". فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللهِ. فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ.
تَابَعَهُ رَوْحٌ. وَقَالَ يَحْييَ بْنُ يَحْيَى وإِسْمَاعِيلُ، عَنْ مَالِكٍ:"رَايحٌ".
ثم ذكر حديث أبي سعيد خَرَجَ علينا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في أَضْحًى -أَوْ فِطْرٍ- إِلَى المُصَلَّى، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَوَعَظَ النَّاسَ وَأَمَرَهُمْ بِالصَّدَقَةِ .. الحديث، وفي آخره:"زَوْجُكِ وَوَلَدُكِ أَحَقُّ مَنْ تَصَدَّقْتِ بِهِ عَلَيْهِمْ".
الشرح:
أما الحديث الأول المعلق فسيأتي مسندًا قريبًا في حديث زينب زوج
ابن مسعود بلفظ: "لها أجران أجر القرابة وأجر الصدقة"
(1)
وأخرجه مسلم أيضًا
(2)
، وأما حديث أنس فأخرجه مسلم أيضًا
(3)
، وكذا النسائي في التفسير
(4)
، وفي رواية للبخاري:"قبلناه منك ورددناه عليك، فاجعله في الأقربين". فتصدق به أبو طلحة على ذوي رحمه، قال: وكان منهم أُبي -يعني: ابن كعب- وحسان، فباع حسان حصته منه من معاوية، فعوتب فيه فقال: ألا نبيع صاعًا من تمر بصاع من دراهم! خرجه في الوصايا
(5)
.
وقال: قال الأنصاري: حَدَّثَني أبي عن ثمامة، عن أنس قال: اجعلها لفقراء قرابتك
(6)
. وهذا التعليق أسنده أبو نعيم والطحاوي من طريق إبراهيم بن مرزوق عنه
(7)
.
زاد ابن خزيمة: "أو في أهل بيتَك" وفي رواية: لما نزلت هذِه الآية: {لَنْ تَنَالُوا البِرَّ} [آل عمران: 92] قال أو: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة: 245] قال أبو طلحة: يا رسول الله.
الحديث
(8)
، وللترمذي: يا رسول الله حائطي لله، ولو استطعت أن
(1)
سيأتي برقم (1466) كتاب: الزكاة، باب: الزكاة على الزوج والأيتام في الحجر.
(2)
"صحيح مسلم"(1000) كتاب: الزكاة، باب: فضل النفقة والصدقة على الأقربين والزوج والأولاد والوالدين ولو كانوا مشركين.
(3)
"صحيح مسلم"(998).
(4)
"السنن الكبرى" 6/ 311 - 312 (11066).
(5)
سيأتي برقم (2758) باب: من تصدق إلى وكيله، ثم رد الوكيل إليه.
(6)
سيأتي في باب: إذا وقف أو أوصى لأقاربه، ومن الأقارب، كتاب: الوصايا.
(7)
"شرح معاني الآثار" 3/ 289، و 4/ 386.
(8)
"صحيح ابن خزيمة" 4/ 105 (2458) كتاب: الزكاة، باب: الأمر بإتيان القرابة بما يتقرب به الموالي ..
أسره لم أعلنه
(1)
. وسيأتي في الوقف والوكالة والأشربة والتفسير
(2)
، ووقع في "العباب" للصغاني عن أنس أنه قال: وكنت أقرب إليه منهما
(3)
. وليس كذلك فإنهما يجتمعان في حِرام، وهو الأب الثالث بخلافه، وقد ساق ابن بطال بإسناده قال أنس: وكانا أقرب إليه مني
(4)
، فصح.
وحديث يحيى بن يحيى أخرجه الدارقطني في أحاديث "الموطأ" من حديث موسى بن أبي خزيمة، ثنا يحيى به. وأما طريق إسماعيل، عن مالك فسيأتي في كلام الداني. وقال في باب: من تصدق على وكيله ثم رد وكيله عليه: وقال إسماعيل: أخبرني عبد العزيز بن أبي سلمة، عن إسحاق بن عبد الله قال: ولا أعلمه إلا عن أنس، ولفظه فيه:"قبلناه منك" إلى آخر ما أسلفناه قبل. وزعم أبو مسعود وخلف أنه إسماعيل بن جعفر، والصواب كما قال المزي: أنه ابن أبي أويس.
وحديث أبي سعيد أخرجه مسلم أيضًا وقال: مثل حديث ابن عمر
(5)
.
(1)
"سنن الترمذي"(2997) كتاب: تفسير القرآن، باب: ومن سورة آل عمران.
(2)
سيأتي برقم (2318) كتاب: الوكالة، باب: إذا قال الرجل لوكيله: ضعه حيث أراك الله وقال الوكيل: قد سمعت ما قلت، و (4554 - 4555) كتاب: التفسير، باب:{لَنْ تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} ، و (5611) كتاب: الأشربة، باب: استعذاب الماء.
(3)
في هامش الأصل ما نصه: وفي تفسير آل عمران من البخاري: فجعلها لحسان وأُبي، وأنا أقرب، ولم يجعل لي منها شيئًا، وفي الوصية: وكانا أقرب إليه مني.
(4)
"شرح ابن بطال" 3/ 482.
(5)
"صحيح مسلم"(80) كتاب: الإيمان، باب: بيان نقصان الإيمان بنقصان الطاعات، وبيان إطلاق لفظ الكفر على غير الكفر بالله ككفر النعمة والحقوق.
إذا تقرر ذَلِكَ فالكلام على ذَلِكَ من أوجه:
أحدها:
هذِه الأحاديث لا دلالة فيها على ما ترجم عليه، ويحتمل أن المراد بالصدقة التطوع كما ستعلمه، لا جرم اعترض الإسماعيلي حيث قال: هذا الحديث في قصة أبي طلحة ليس من الزكاة في شيء وإنما هو في الصدقة بحديقة، فإن أراد البخاري الاستدلال على أن الأقارب في الزكاة أحق بها إذ رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما ليس بزكاة من صدقة، صرفها إلى الأقارب أفضل، فذلك حينئذ له وجه، قال: ولا أعرف أحدًا منهم إلا قال: رابح بالباء، وقال ابن قعنب بالشك، ولم أذكره.
ثانيها:
تحصل في بيرحاء عشرة أوجه: فتح الباء وكسرها وتثليث الراء، إلا أن الكسر مع الجر، وبالجيم والحاء، والمد والقصر، وبَرِيحا، وبأريحاء، قال عياض
(1)
وغيره: رواية المغاربة بضم الراء وفتحها في النصب، وكسرها في الجر مع الإضافة أبدًا وحاء على حالها.
وذكر الباجي عن أبي ذر إنما هي بفتح الراء على كل حال، قال الباجي: وعليه أدركت أهل الحفظ والعلم بالمشرق. وقال أبو عبد الله الصوري: إنما هو بفتح الباء والراء على كل حال
(2)
، ومن رفع الراء وألزمها حكم الإعراب أخطأ.
قال القاضي: وبالرفع قرأناه على شيوخنا بالأندلس، قال: وعلى روايتهم عن (أبي جعفر)
(3)
في مسلم بكسر الباء وفتح الراء والقصر،
(1)
"مشارق الأنوار" 1/ 115 - 116.
(2)
"المنتقى" 7/ 319 - 320.
(3)
في "مشارق الأنوار": ابن أبي جعفر.
وفي "الموطأ"
(1)
عن ابن عتاب وغيره بضم الراء وفتحها معًا عن الأصيلي، وهو: موضع بقرب المسجد يعرف بقصر بني جديلة كما رواه البخاري في موضع آخر
(2)
، ورواه مسلم من طريق حماد بن سلمة: بريحا، ورواية الراوي في مسلم من حديث مالك بن أنس: بريحا
(3)
وهم، وإنما هذا في حديث حماد
(4)
.
وقال ابن الجوزي: أكثر المحدثين يروونه بالجيم، والصواب بالحاء المهملة. وقال المنذري: هو بضم الراء في الرفع والنصب، وكسرها في الجر مع الإضافة إلى حاء أبدًا، وقيل بفتحها في كل حال. وقال القرطبي: بكسر الباء وفتح الراء وضمها، وبمد حاء وقصرها
(5)
، لغتان. وفي "سنن أبي داود": بأريحاء
(6)
، وهذا يدل على أنها ليست ببئر، وقال ابن التين: قيل: حاء اسم امرأة، وقيل: اسم موضع، وهو ممدود ويجوز قصره.
وفي "المنتهى": أنه اسم رجل. قال ابن التين: والرواية أنه مبني غير مضاف بالقصر وبناؤه في ضبطهم على الفتح. وقال الزمخشري: هي فيعلى من البراح، وهي الأرض الظاهرة المنكشفة
(7)
.
وفي "معجم أبي عبيد": حاء على لفظ الهجاء: موضع بالشام، وحاء آخر موضع بالمدينة، وهو الذي ينسب إليه بيرحاء، وبعض الرواة يرويه
(1)
"الموطأ" 2/ 174 - 175 (2101).
(2)
سيأتي هذا الحديث برقم (2758).
(3)
"صحيح مسلم"(998).
(4)
انتهى كلام القاضي في "مشارق الأنوار" 1/ 115 - 116.
(5)
"المفهم" 3/ 41.
(6)
"سنن أبي داود"(1689) كتاب: الزكاة، باب: في صلة الرحم.
(7)
"الفائق" 1/ 93.
بيرحا جعله اسمًا واحدًا، والصحيح ما قدمته، ورواية حماد بن سلمة، عن ثابت أريحاء خرجه أبو داود
(1)
، ولا أعلم أريحا، إلا بالشام.
قُلْتُ: أخرج ابن خزيمة في "صحيحه" من حديث أنس: يا رسول الله، ليس لي أرض أحب إليّ من أرض أريحا، فقال عليه السلام:"أريحا خير رابح -أو- خير رايح"
(2)
شك الشيخ. قال البكري: وفي الحديث كما قال حسان:
أمسى الجلابُ وقد عزُّوا وقد كثروا
…
وابن الفريعة أمسى بيضة البلد.
اعترضه صفوان بن المعطل فضربه بالسيف، فقال صلى الله عليه وسلم لحسان:
"أحسن في الذي أصابك". قال: هي لك يا رسول الله، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم بيرحا قصر بني جديلة اليوم، كانت لأبي طلحة فتصدق بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعطاه سيرين
(3)
.
ويجوز أن حسان لما ضربه صفوان تصدق أبو طلحة بتلك الصدقة في تلك الأيام، فأشار صلى الله عليه وسلم بما أشار، فاعتقد الراوي أن ذَاكَ كان لأجل تلك الضربة، وقال بعضهم: سميت بيرحاء بزجر الإبل عنها، وذلك أن الإبل يقال لها إذا زجرت -وقد رويت-: حاحا. وقال بعضهم: بيرحاء من البرح، والباء زائدة، جمع ابن الأثير لغاته فقال: هي بفتح الباء وكسرها وبفتح الراء وضمها، والمد فيهما، وبفتحها والقصر، قال: وهو اسم مال، موضع بالمدينة
(4)
.
(1)
أبو داود (1689).
(2)
"صحيح ابن خزيمة" 4/ 103 - 104 (2455) كتاب: الزكاة، باب: فضل صدقة المرء بأحب ماله لله
…
(3)
"معجم ما استعجم" 1/ 414.
(4)
"النهاية في غريب الحديث والأثر" 1/ 113 - 114.
ثالثها:
قوله: "بخْ" هو بسكون الخاء وبتنوينها مكسورة، قال عياض: وبالكسر بلا تنوين، وروي بالرفع دون تنوين، وبالضم مع التنوين والتخفيف
(1)
.
وعن الخطابي: الاختيار إذا كررت: تنوين الأولى وتسكين الثانية
(2)
، وهكذا هو في كل كلام مبني كقولهم: صهٍ صه، وطابٍ طاب ونحوهما، ومعناها: تعظيم الأمر وتفخيمه. وعبارة ابن بطال: هي كلمة إعجاب
(3)
.
وعبارة ابن التين: تقولها العرب عند المدح والمحمدة. وكله متقارب، وعبارة القزاز: هي كلمة يقولها المفتخر عند ذكر الشيء العظيم، وتخففها العرب فتلحقها بالرباعي. وقال صاحب "الواعي": عن الأحمر في (بخ) أربع لغات: الجزم، والخفض، والتشديد، والتخفيف. وحكاها عنه ابن بطال بعد أن قال تخفف وتثقل
(4)
.
رابعها:
قوله: "ذَلِكَ مال رابح" أي: ذو ربح، وقيل: فاعل بمعنى مفعول أي: مال مربوح فيه كقوله {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} [البقرة: 16]. ومن رواه بالمثناة تحت فمعناه: يروح عليه أجره كلما أطعمت الثمار، قاله ابن بطال، قال: والرايح القريب المسافة الذي يروح خيره ولا يغرب نفعه
(5)
.
(1)
"مشارق الأنوار" 1/ 79.
(2)
"غريب الحديث" ص 610.
(3)
"شرح ابن بطال" 3/ 480.
(4)
السابق.
(5)
السابق.
وقيل: معناه قريب يروح خيره ليس بغارب، وذلك أنفس الأموال.
وقيل: يروح بالأجر ويغدو به، واكتفي بالرواح عن الغدو لعلم السامع.
وقال صاحب "المطالع": "رابح" بباء موحدة أي: ذو ربح أو رابح به، وروي بالياء المثناة من تحت من الرواح عليه بالأجر على الدوام ما بقيت أصوله.
وقال القاضي: هي رواية يحيى بن يحيى وجماعة، والأولى رواية أبي مصعب وغيره. وقال صاحب "المطالع": بل الذي رويناه ليحيى بالباء المفردة، وهو ما في مسلم
(1)
.
قُلْتُ: يحيى الذي أشار إليه هو: الليثي المغربي، ويحيى في البخاري هو: النيسابوري، قال الداني في "أطرافه": في رواية يحيى الأندلسي بالباء الموحدة، وتابعه روح بن عبادة وغيره وقال يحيى بن يحيى النيسابوري، وإسماعيل، وابن وهب وغيرهم:"رائح" بالهمز من الرواح. وشك القعنبي كما سلف، وقال الإسماعيلي: من قاله بالباء فقد صحف.
خامسها: في فوائده:
الأولى: حب الرجل الصالح المال، وقال أبو بكر لعائشة: ما أحد أحب إليّ غنى منك ولا أعز علي فقرًا منك
(2)
. وإيثار حب بعضه.
الثانية: دخول الشارع حوائط أصحابه ويشرب من مائها، والأكل من ثمارها بغير إذنهم، إذا علم أن نفس أصحابها تطيب بذلك، وكان بما لا يتشاح فيه.
(1)
مسلم (998).
(2)
رواه عبد الرزاق في "المصنف" 9/ 111 (16507)، وابن سعد 3/ 195.
الثالثة: تفويض الصدقة إلى الشارع.
الرابعة: إشارة الشارع لما هو أفضل.
الخامسة: فضل الكفاف على ما سواه؛ لأنه أمسك بعض ماله.
السادسة: اعتبارهم بالقرآن واتباعهم لما فيه.
السابعة: صحة الوقف وإن لم يذكر سبيله، ومصارف دخله، وهو ما بوب عليه البخاري في الوصايا
(1)
، وسيأتي الكلام فيه هناك إن شاء الله تعالى.
الثامنة: إعطاء الواحد من الصدقة فوق مائتي درهم؛ لأن هذا الحائط مشهور أمره أنَّ دخله يزيد عليه زيادة كثيرة، وقد جعله أبو طلحة بين نفسين كما سلف، وسواء صدقة الفرض ونفلها في مقدار ما يجوز إعطاؤه المتصدق عليه، قاله الخطابي
(2)
، يريد: إذا نذرت صدقة، وألا يبدأ الصدقة بها على أقاربه، لما كان حكمها حكم المفروضة.
التاسعة: {البِرَّ} في الآية الجنة، قاله ابن مسعود
(3)
، والتقدير على هذا ثواب البر، وقيل: العمل الصالح، والمراد بـ {حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} حتَّى تتصدقوا، وروي أن عمر كتب إلى أبي موسى الأشعري أن يشتري جارية حين فتحت مدائن كسرى، فاشتراها ووجه بها إليه، فلما رآها أعجب بها وأعتقها وقرأ الآية. قال مجاهد: وهو مثل قوله: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} [الإنسان: 8]
(4)
وذكر عن ابن عمر أنه كان ينفذ إلى
(1)
انظر ما سيأتي برقم (2752).
(2)
"أعلام الحديث" 2/ 788.
(3)
رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 3/ 703 (3808).
(4)
رواه الطبري في "تفسيره" 3/ 346 (7390 - 7391).
مصر فيأتيه السكر فيتصدق به، ويقول: إني أحبه ويتلو هذِه الآية
(1)
.
العاشرة: معنى (أرجو برها)، أي: ثو اب برها. (وذخرها) أي: أقدمه فأدخره؛ لأجده هناك.
الحادية عشرة: أن الصدقة إذا كانت جزلة مدح صاحبها بها وغبط؛ لقوله عليه السلام: "بخ ذَلِكَ مال رابح" فسلاه بما يناله من ربح الآخرة، وما عوضه الله فيها عما عجله في الدنيا الفانية.
الثانية عشرة: أن ما فوته الرجل من صميم ماله، وعبيط عقاره عن ورثته بالصدقة، يستحب له أن يرده إلى أقاربه غير الورثة؛ لئلا يفقد أهله نفع ما خوله الرب جل جلاله، وفي القرآن ما يؤيده قال تعالى:{وَإِذَا حَضَرَ القِسْمَةَ} إلى قوله: {فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} [النساء: 8] فثبت بهذا المعنى أن الصدقة على الأقارب وضعفاء الأهلين أفضل منها على سائر الناس، إذا كانت صدقة تطوع، ودل على ذَلِكَ حديث زينب امرأة ابن مسعود.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "لها أجران أجر القرابة وأجر الصدقة"
(2)
. وقال لميمونة عن أعتقت جارية لها: "أما إنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظمْ لأجرك" ذكره البخاري في الهبة كما سيأتي
(3)
.
واستعمل الفقهاء الصدقة في غير الأقارب؛ لئلا يصرفوها فيما يجري بين الأهلين في الحقوق والصلات والمرافق؛ لأنه إذا جعل الصدقة الفريضة في هذا المعتاد بين الأهلين، فكأنهم لم يخرجوها
(1)
ذكره السيوطي في "الدر المنثور" 2/ 91، وعزاه إلى ابن المنذر.
(2)
قطعة من حديث سيأتي قريبًا برقم (1466) كتاب: الزكاة، باب: على الزوج والأيتام في الحَجْر.
(3)
سيأتي برقم (2592) باب: هبة المرأة لغير زوجها وعتقها.
من أموالهم؛ لانتفاعهم بها وتوفير تلك الصلات بها، فإذا زال هذا المعنى جازت الزكاة للأقارب الذين لا يلزمه نفقتهم، وقد تقدم اختلاف العلماء في الزكاة على الأقارب في باب: إذا تصدق على ابنه وهو لا يشعر. فراجعه.
ولم يختلف العلماء -كما قال ابن بطال- أن قوله: في أقاربه وبني عمه، أنهم أقارب أبي طلحة لا أقاربه عليه السلام، وقد روى ذَلِكَ الثقات
(1)
، ثم ساق بإسناده ذَلِكَ إلى أنس، وهو في البخاري كما أسلفناه.
الثالثة عشرة: فيه استعمال عموم اللفظ، ألا ترى إلى فهم الصحابة لذلك؟ وأنهم يتوقفون حتَّى يتبين لهم بآية أخرى أو بسنة مبينة لمراد الله تعالى في الشيء الذي يجب أن ينفقه عباده؛ لأنهم يحبون أشياء كثيرة فبدر كل واحد منهم إلى نفقة أحب أمواله إليه، فتصدق أبو طلحة بحائطه، وكذلك فعل زيد بن حارثة.
وروي عن ابن عيينة، عن ابن المنكدر قال: لما نزلت {لَنْ تَنَالُوا البِرَّ} [آل عمران: 92] قال زيد: اللهم إنك تعلم أنه ليس لي مال أحب إلى من فرسي هذِه، وكان له فرس فجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هذا في سبيل الله، فقال لأسامة بن زيد:"اقبضها منه" فكأن زيدًا وجه في نفسه من ذَلِكَ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن الله قد قبلها منك"
(2)
.
وفعل مثل ذَلِكَ ابن عمر، روي أنه كان له جارية جميلة وكان يحبها، فأعتقها لهذِه الآية، ثم أتبعتها نفسه، فأراد تزويجها فمنعه بنوه، فكان
(1)
"شرح ابن بطال" 3/ 482.
(2)
رواه ابن أبي حاتم في "تفسير القرآن العظيم" 3/ 704 (3814)، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 2/ 89، وعزاه إلى سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر.
بعد ذَلِكَ يقرب بنيها من غيره لمكانها في نفسه
(1)
. وروى الثوري أن أم ولد الربيع قالت: كان إذا جاءنا السائل يقول: يا فلانة أعطي السائل سكرًا فإن الربيع يحبه، قال سفيان: يتأول {لَنْ تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}
(2)
(3)
.
الرابعة عشرة: فيه من معاني الصدقات والهبات كما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى.
الخامسة عشرة: في حديث أبي سعيد: "يكثرن اللعن" يعني: أكثر من الرجال، "ويكفرن العشير" أي: الزوج، وقد سلف تفسيره. ونقصان عقولهن، أنهن لا يذكرن عند الغضب ما أسدي إليهن من الخير، ودينهن مضى. واللب: العقل، يعني: أنهن إذا أردن شيئًا غالبن عليه والتوين حتَّى يفعله الرجال صوابًا كان أو خطأً.
السادسة عشرة: زينب هذِه زعم الطحاوي أنها رائطة، قال: ولا نعلم عبد الله تزوج غيرها في زمنه عليه السلام. وقال الكلاباذي: رائطة هي المعروفة بزينب
(4)
. وقال ابن طاهر وغيره: امرأة ابن مسعود زينب، ويقال: اسمها رائطة
(5)
. وكذا رواه أبو يوسف القاضي في كتاب "الزكاة" مصرحًا به.
(1)
رواه ابن أبي حاتم 3/ 704 (3814) بدون قوله: فمنعوه بثوه. وأبو نعيم في "حلية الأولياء" 1/ 295، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 2/ 89، وعزاه إلى ابن حميد والبزار في "المصنف".
(2)
رواه ابن أبي شيبة 7/ 160 (34852) كتاب: الزهد، كرم ربيع بن خيثم، وابن عبد البر في "التمهيد" 1/ 204.
(3)
ورد بهامش الأصل ما نصه: ثم بلغ في الخامس عشر، كتبه مؤلفه.
(4)
"رجال صحيح البخاري" للكلاباذي 2/ 850 (1432).
(5)
"إيضاح الإشكال" لابن طاهر المقدسي (203).
وأما ابن سعد
(1)
، والعسكري، والطبراني
(2)
، والبيهقي
(3)
، وابن عبد البر
(4)
، وأبو نعيم
(5)
، وابن منده، وأبو حاتم بن حبان
(6)
فجعلوهما ثنتين، والله أعلم.
السابعة عشرة: قوله: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "زوجك وولدك" إلى آخره ظاهره سماعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ورد مصرحًا في البزار فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم لما دخلت عليه:"صدق ابن مسعود" الحديث. قال ابن القطان عقبها: تبين أن زينب سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن لا ندري ممن تلقى ذَلِكَ أبو سعيد. وفي "صحيح ابن خزيمة" من حديث أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة:"تصدقي عليه وعلى بنيه فإنهم له موضع"
(7)
.
الثامنة عشرة: استئذان النساء على الرجل وهو مع أهله وسؤاله قبل الإذن عمن يستأذن، وأنه إذا لم ينسب إليه من يستأذن، سأل أن ينسب، والزيانب: جمع زينب.
التاسعة عشرة: فيه اتخاذ العلي، وفي الترمذي من حديث ابن
(1)
"الطبقات الكبرى" 8/ 290.
(2)
"المعجم الكبير" 24/ 263 حيث قال: رائطة بنت عبد الله؟؟؟ امرأة عبد الله بن مسعود. وأورد لها خمسة أحاديث، ثم ترجم في 24/ 283، فقال: زينت بنت أبي معاوية امرأة عبد الله بن مسعود. وأورد لها ستة عشر حديثًا.
(3)
انظر: "معرفة السنن والآثار" 6/ 206 - 207 (8503، 8505).
(4)
انظر: "الاستيعاب" 4/ 405 (3387) و 4/ 411 (3396).
(5)
انظر: "معرفة الصحابة" 6/ 3330 (3873) و 6/ 3338 (3885).
(6)
انظر: "صحيح ابن حبان" 5/ 590 (2212) و 5/ 593 (2215) و 10/ 56 - 59 (4246 - 4248).
(7)
"صحيح ابن خزيمة" 4/ 106 - 107 (2461) كتاب: الزكاة، باب: استحباب إتيان المرأة زوجها وولدها بصدقة التطوع ....
لهيعة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى في الحلي زكاة
(1)
. وفي إسناده مقال، ولا يصح في هذا الباب شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
(2)
، وقال بعض الصحابة، ابن عمر وجابر وعائشة وأنس:
(1)
"سنن الترمذي"(637).
ولفظه: إن امرأتين أتتا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي أيديهما سواران من ذهب فقال لهما: " أتؤديان زكاته"، قالتا: لا، قال: فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتحبان أن يسوركما الله بسوار من نار؟ " قالتا: لا، قال:"فأديا زكاته".
ورواه أبو داود (1563)، والنسائي 5/ 38 من طريق حسين المعلم، عن عمرو به بلفظ: أن امرأة [زاد النسائي من أهل اليمن] أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعها ابنة لها وفي يد ابنها مسكتان غليظتان من ذهب، فقال لها:"أتعطين زكاة هذا؟ " فقالت: لا، قال:"أيسرك ان يسورك الله بهما يوم القيامة سوارين من نار؟ " قال: فخلعتهما فألقتهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم: وقالت: هما لله عز وجل ولرسوله.
(2)
هذا قول الترمذي. قال ابن القطان: الترمذي إنما ضعف هذا الحديث؛ لأنه وقع له من وراية ابن لهيعة عن عمرو، لا بعمرو بن شعيب. وصحح إسناد أبي داود والنسائي:"بيان الوهم والإيهام" 5/ 365 - 366 (2539).
وقال النووي في "المجموع" 5/ 516: إسناد حسن، ورواه الترمذي من رواية ابن لهيعة، وهو ضعيف.
والحديث من طريق أبي داود والنسائي صححه أيضًا المصنف في "البدر المنير" 5/ 565 - 566.
وقال الحافظ في "بلوغ المرام"(641): رواه الثلاثة وإسناده قوي.
وقال الألباني في "صحيح أبي داود"(1396): إسناده حسن. وقال في "الإرواء" 3/ 296: إسناده إلى أبي داود والنسائي جيد.
والحديث رواه النسائي 5/ 38 عن عمرو بن شعيب، مرسل. وقال كما في "تحفة الأشراف" 6/ 309. وكما في "البدر المنير" 5/ 568، وفي "الدراية" 1/ 259: المرسل أولى بالصواب.
قال الحافظ: علة غير قادحة.
والحديث قد أعله بعض أهل العلم في مجمله تبعًا للترمذي، انظر ذلك مبينًا في "البدر المنير" 5/ 566 - 568.
ليس في الحلي زكاة
(1)
، وبه يقول الشافعي ومالك وأحمد وإسحاق
(2)
.
قُلْتُ: وأسماء وعبد الله بن يزيد كما ذكره أحمد
(3)
، وحديث أم سلمة أنها كانت تلبس أوضاحًا من ذهب فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكنز هو؟ قال: "لا إذا أديت زكاته فليس بكنز" حديث حسن، وصححه الحاكم على شرط الشيخين
(4)
، وعن عائشة مثله وقال: صحيح على شرطهما
(5)
، وقد سلفت المسألة.
(1)
انظر: "مصنف ابن أبي شيبة" 2/ 383 كتاب: الزكاة، من قال: ليس في الحلي زكاة، و"مصنف عبد الرزاق" 4/ 81 - 83 كتاب: الزكاة، باب: البر والحلي.
(2)
انتهى كلام الترمذي 3/ 20 - 21، وانظر:"عيون المجالس" 2/ 526، "روضة الطالبين" 2/ 260، "المبدع" 2/ 369.
(3)
هذِه العبارة فيها نظر؛ فليس لعبد الله بن يزيد في هذا الباب عند أحمد شيئًا، وإنما الحديث لأسماء بنت يزيد، رواه أحمد 6/ 461 من طريق شهر بن حوشب عنها، قالت: دخلت أنا وخالتي على النبي صلى الله عليه وسلم عليها أسورة من ذهب، فقال لنا:"أتعطيان زكاته؟ " قالت: فقلنا: لا، قال:"أما تخافا أن يسوركما الله أسورة من نار، أديا زكاته".
قال الحافظ في "الدراية" 1/ 259: في إسناده مقال.
(4)
"المستدرك" 1/ 390.
ورواه أبو داود (564). قال النووي في "المجموع" 5/ 516 - 517: إسناده حسن.
وقال الحافظ في "الدراية" 1/ 259: قواه ابن دقيق العيد.
وحسنه الألباني في "صحيح أبي داود" وانظر: "الصحيحة"(559).
(5)
"المستدرك" 1/ 389 - 390.
ورواه أبو داود (1565).
قال الحافظ: إسناده على شرط الصحيح. وقال في "الدراية" 1/ 259: قال ابن دقيق العيد: على شرط مسلم.
وأعله بعض أهل العلم. انظر: "البدر المنير" 5/ 583 - 584.
وقال الألباني في "صحيح أبي داود"(13998)، وفي "الإرواء" 3/ 297: إسناده صحيح على شرط الشيخين.
العشرون: فتوى العالم مع وجود أعلم منه، وأرادت التثبت مع قول ابن مسعود ممن هو أعلم منه.
الحادية بعد العشرين: قوله صلى الله عليه وسلم لها: "زوجك وولدك أحق من تصدقت به عليهم" قال ابن التين: لم يخص فرضًا من تطوع. قال ابن أبي ذئب وسفيان وأهل المشرق: تعطي المرأة زوجها الفقير من زكاتها
(1)
.
وقال ابن حبيب عن مالك: لا يجزئها. وقال أشهب: إن صرف ذَلِكَ في منافعها لم يجزئها، وإلا أجزأها، وبه قال ابن حبيب
(2)
.
الثانية بعد العشرين: قال أبو عبيد القاسم بن سلام في تفسير هذا الحديث في قولها: (فزعم ابن مسعود أنه وولده أحق من تصدقت به عليهم) أُراهم أولاد ابن مسعود من غيرها؛ لأنهم أجمعوا أن المرأة لا تعطي صدقتها بنيها، والذي زعم أنه إجماع ليس كذلك كما قال ابن التين؛ لأن مالكًا ومن اقتدى به يقولون: من لا تلزم نفقته إن أُعطِي من الصدقة أجزأ
(3)
.
والأم لا يلزمها نفقة الولد، ويرد عليه أيضًا قوله عليه السلام:"زوجك وولدك" إلى آخره، وخاطبها بذلك فدل على أنهم ولدها وكذلك في الحديث الآتي بعده: أيجزئ عني أن أنفق على زوجي وأيتام لي في حجري؟
وقال الإسماعيلي: حديث أبي سعيد هذا فيه نظر، فإن في حديث زينب: وأيتام في حجرها؟ وفي بعض الحديث: وولد ابن مسعود. كأنهم
(1)
انظر: "النوادر والزيادات" 2/ 295.
(2)
انظر: "المنتقى" 2/ 156.
(3)
انظر: "النوادر والزيادات" 2/ 294.
من غيرها، وفي الجملة: لا يجوز صرف الزكاة من سهم الفقراء من الرجل إلى ولده وهو يعلم، فإن كان معنى الخبر على ما روي:"ما أنفقه المسلم فهو له صدقة حتَّى اللقمة ترفعها إلى فيك"
(1)
فهذا محتمل ويحتمل أن تكون النفقة على أبي الصغار دون أنفسهم، فإذا كان الأب لا مال له ينفق عليهم، كان للأم أن تتصدق عليه وعليهم، أو تعطيه لينفق هو على نفسه وعليهم، يدل على ذَلِكَ حديث أم سلمة من عند البخاري: أُنفق على بني أبي سلمة إنما هم بني
(2)
؟
وفي "معجم الطبراني": أيجزئ أن أجعل صدقتي فيك وفي بني أخي أيتام؟ الحديث
(3)
، وفي رواية: يا رسول الله، هل لي من أجر أن أتصدق على ولد عبد الله من غيري. وإسنادهما جيد
(4)
، وللبيهقي: كنت أعول عبد الله ويتامى في حجري
(5)
.
وقال أبو طالب: سئل أبو عبد الله: أتعطي المرأة زوجها من الزكاة؟ قال: لا أحب أن تعطيه، قيل له: فامرأة ابن مسعود أليس أمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تعطيه؟! قال: ذاك صدقة ليس من الزكاة، ثم حسبته إن شاء
(1)
قال ابن رجب الحنبلي: هذا اللفظ غير معروف، إنما المعروف قول النبي صلى الله عليه وسلم:"إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أُجرْت عليها، حتى اللقمة ترفعها إلى في امرأتك". اهـ. "جامع العلوم والحكم" 2/ 65 بتصرف.
قلت: حديث سعد هذا سلف برقم (56) كتاب: الإيمان، باب: ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة، ولكل امرئ ما نوى، ورواه مسلم (1628) كتاب: الوصية، باب: الوصية بالثلث- مطولًا.
(2)
سيأتي برقم (1467) كتاب: الزكاة، باب: الزكاة على الزوج والأيتام في الحجر.
(3)
"المعجم الكبير" 24/ 285 (725).
(4)
"المعجم الكبير" 24/ 286 (728).
(5)
"السنن الكبرى" 4/ 178 كتاب: الزكاة، باب: الاختيار في الصدقة.
الله، قال: لم يروه إلا إبراهيم النخعي من الزكاة، وفي موضع آخر قال: وقد قال بعض الناس: فيه من الزكاة وما هو عندي بمحفوظ.
قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أنه لا يجوز لأحد دفع الزكاة إلى أبيه وجده وإن علا، ولا إلى ولده وولد ولده وإن سفل، ومن سواهم يجوز دفعها إليهم
(1)
، وهو أفضل، وأجمعوا أنه لا يعطي زوجته من الزكاة
(2)
، ولا تدفع المرأة لزوجها عند أبي حنيفة ومالك
(3)
، وقد أسلفنا قول أحمد.
وقال الشافعي وأبو يوسف ومحمد وأشهب وأبو ثور وأبو عبيد وابن المنذر وابن حزم: يجوز
(4)
، محتجين بحديث زينب، وبما رواه الجوزجاني عن عطاء قال: أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة فقالت: يا رسول الله، إن علي نذرًا أن أتصدق بعشرين درهمًا، وإن لي زوجًا فقيرًا أفيجزئ عني أن أعطيه؟ قال:"نعم لك كفلان من الأجر"، وحديث زينب في التطوع لقولها: وعندي حلي لي فأردت أن أتصدق به. ولا تجب الصدقة في الحلي عند بعض العلماء، ومن يجيزه لا يكون الحلي كله زكاة، إنما يجب جزء منه، وقال صلى الله عليه وسلم:"زوجك وولدك أحق من تصدقت عليهم" والولد لا تدفع إليه الزكاة إجماعًا. انتهى كلامه.
وقد أسلفنا كلام ابن التين عن مالك وأن الأم لا يلزمها نفقة الولد، أي: لقوله تعالى: {وَعَلَى المَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالمَعْرُوفِ} [البقرة: 233]
(1)
"الإجماع" لابن المنذر ص 57.
(2)
المصدر السابق ص 58.
(3)
انظر: "الأصل" 2/ 148، "الهداية" 1/ 122، "عيون المجالس" 2/ 595.
(4)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 1/ 480، "المنتقى" 2/ 156، "البيان" 3/ 444، "المحلى" 6/ 152.
وقد جاء أنهم أولاده من غيرها فنسبتهم إليها مجازًا؛ لأنهم في مؤنتها، واحتج من جوز ذَلِكَ بأنه داخل في جملة الفقراء الذين تحل لهم الصدقة، ولأن كل من لا يلزم الإنسان نفقته جائز أن يضع فيه الزكاة، والمرأة لا تلزمها النفقة على زوجها ولا على بنيه.
الثالثة بعد العشرين: فيه اتخاذ البساتين والعقار، قال ابن عبد البر: وفيه رد؛ لما يروى عن ابن مسعود أنه قال: لا تتخذوا الضيعة فترغبوا في الدنيا. قال: ولا خلاف أن كسب العقار مباح إذا كان حلالًا، ولم يكن بسبب ذل ولا صغار، فإن ابن عمر كره كسب أرض الخراج ولم ير شراءها، وقال: لا تجعل في عنقك صغارًا
(1)
.
الرابعة بعد العشرين: إباحة استعذاب الماء وتفضيل بعضه على بعض؛ لقوله: ويشرب من ماء فيها طيب.
الخامسة بعد العشرين: فيه دلالة للمذهب الصحيح أنه يجوز أن يقال: إن الله جل جلاله يقول، كما يقال: إن الله تعالى قال، خلافًا لما قاله مطرف بن عبد الله بن الشخير إذ قال: لا يقال: الله تعالى يقول، إنما يقال: قال، أو: الله عز وجل قال، كأنه ينحو إلى استئناف القول، وقول الله تعالى قديم، وكأنه ذهل عن قوله:{وَاللهُ يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ}
(2)
[الأحزاب: 4].
السادسة بعد العشرين: قوله: (ضعها حيث أراك الله). فيه: مشاورة أهل العلم والفضل في كيفية وجوه الطاعات وغيرها والإنفاق من المحبوب.
(1)
"التمهيد" 1/ 201.
(2)
انظر: "المجموع" 2/ 197.
السابعة بعد العشرين: قوله: "وقد سمعت ما قُلْت" بوب عليه البخاري في الوكالة باب: إذا قال الرجل لوكيله: ضعه حيث أراك الله، وقال الوكيل: قد سمعت
(1)
، قال المهلب: دل على قبوله صلى الله عليه وسلم ما جعل إليه أبو طلحة، ثم رد الوضع فيها إلى أبي طلحة بعد مشورته عليه في من يضعها.
وفيه: أن الوكالة لا تتم إلا بالقبول، وقد ذكر إسماعيل القاضي في "مبسوطه" عن القعنبي بسنده سواء.
وفيه: أنه صلى الله عليه وسلم قسمها في أقاربه وبني عمه، يعني: أقارب أبي طلحة لا خلاف في ذَلِكَ.
قال أبو عمر: وهو المحفوظ عند العلماء، وأضاف القسم في ذَلِكَ إلى الشارع؛ لأنه الآمر به
(2)
.
الثامنة بعد العشرين: قوله: (أفعل يا رسول الله) ضبطه ابن التين. في غير هذا الباب بضم اللام، قال: وهو فعل مستقبل مرفوع، ويحتمل كما قال النووي أن يكون: أفعل أنت ذاك فقد أمضيته على ما قُلْت فجعله أمرًا. واختلف الفقهاء إذا قال الرجل لآخر: خذ هذا المال فاجعله حيث أراك الله من وجوه الخير، قال مالك في "المدونة": لا يأخذ منه شيئًا، وإن كان فقيرًا. وقال آخرون: يأخذ منه كنصيب أحد الفقراء. وقال آخرون: جائز له أن يأخذه كله إذا كان فقيرًا.
(1)
سيأتي برقم (2318).
(2)
"التمهيد" 1/ 199.
45 - باب لَيْسَ عَلَى المُسْلِمِ فِي فَرَسِهِ صَدَقَةٌ
1463 -
حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ دِينَارٍ قَالَ: سَمِعْتُ سُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ عَلَى المُسْلِمِ فِي فَرَسِهِ وَغُلَامِهِ صَدَقَةٌ". [1464 - مسلم: 982 - فتح: 3/ 326]
ذكر فيه حديث عراك بن مالك، عن أبي هريرة: قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ عَلَى المُسْلِمِ فِي فَرَسِهِ وَلا غُلَامِهِ صَدَقَة".
46 - باب لَيْسَ عَلَى المُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ صَدَقَةٌ
1464 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ خُثَيْمِ بْنِ عِرَاكٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا وُهَيْبُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا خُثَيْمُ بْنُ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَيْسَ عَلَى المُسْلِمِ صَدَقَةٌ فِي عَبْدِهِ وَلَا فَرَسِهِ". [انظر: 1463 - مسلم: 182 - فتح: 3/ 327]
ذكر فيه الحديث المذكور
(1)
من طريقين بلفظ: "لَيْسَ عَلَى المُسْلِمِ صَدَقَة فِي عَبْدِهِ وَلَا فَرَسِهِ".
هذا الحديث أخرجه من حديث خثيم بن عراك عن أبيه، عن أبي هريرة به، وليس له عنده سواه -أعني خثيم-، عن أبيه عنه، وأخرجه مسلم والأربعة بلفظ:"ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة"
(2)
.
وفي لفظ له -وهو من أفراده-: "ليس في العبد صدقة إلا صدقة الفطر"
(3)
ولأبي داود: "إلَّا زكاة الفطر في الرقيق"
(4)
.
ولابن وهب: "لا صدقة على الرجل في خيله ولا في رقيقه"
(5)
.
ولابن أبي شيبة: "ولا وليدته"
(6)
.
(1)
بعدها في الأصل: (الشافعي مرفوعًا) وكتب فوقها: لا
…
إلى.
(2)
"صحيح مسلم"(982) كتاب: الزكاة، باب: لا زكاة على المسلم في عبده وفرسه.
(3)
"صحيح مسلم"(982) كتاب: الزكاة، باب: لا زكاة على المسلم في عبده وفرسه.
(4)
"سنن أبي داود"(1594) كتاب: الزكاة، باب: صدقة الرقيق.
(5)
"موطأ ابن وهب" ص 72 (189).
(6)
"المصنف" 2/ 380 (10139) كتاب: الزكاة، ما قالوا في زكاة الخيل.
وهو مُقتضٍ لنفي كل صدقة من هذا الجنس إلا ما دل الدليل عليه، وذهب مالك، والشافعي، وأحمد إلى أنه لا زكاة في الخيل
(1)
. ورُوي ذلك عن علي، وابن عمر، وهو قول النخعي، وسعيد بن المسيب، وعمر بن عبد العزيز، ومكحول، والشعبي -فيما ذكره ابن أبي شيبة-
(2)
وعطاء، والحسن البصري، والحكم، والثوري، والأوزاعي، والليث، وأبي يوسف، ومحمد، وأبي ثور
(3)
. وخالف الجماعةَ أبو حنيفة، وزفر فقالا: في كل فرس دينار إذا كانت ذكورًا وإناثًا سائمة، وإن شاء قوَّمها وأعطى عن كل مائتي درهم خمسة دراهم
(4)
.
دليل الجماعة هذا الحديث، وقد أخرجه مالك في "الموطأ"، والستة كما تقدم
(5)
.
وكذا خالف في العبد كما قال الداودي: خالف الكوفي سائر العلماء في الفرس والعبد وقال: فيهما الصدقة، وغيره قال: لا خلاف أنه ليس في رقاب العبيد زكاة.
(1)
انظر: "المعونة" 1/ 244، "الأم" 2/ 22، "المغني" 4/ 66.
(2)
"المصنف" 2/ 381 (10145 - 10148، 10150) كتاب: الزكاة، ما قالوا في زكاة الخيل.
(3)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 1/ 421، "المجموع" 5/ 311.
(4)
انظر: "تحفة الفقهاء" 1/ 290 - 291، "البناية" 3/ 396.
(5)
"الموطأ" 1/ 287 (734) كتاب: الزكاة، باب: صدقة الرقيق والعسل والخيل، وسلف برقم (1463)، ورواه مسلم (982)، وأبو داود (1595) كتاب: الزكاة، باب: صدقة الرقيق، والترمذي (628) كتاب: الزكاة، باب: ما جاء في الخيل والرقيق صدقة، والنسائي 5/ 36 كتاب الزكاة، باب: زكاة الرقيق، وابن ماجة (1812) كتاب: الزكاة، باب: صدقة الخيل والرقيق.
قال أبو عبد الملك: هذا الحديث أصل في المقتنيات كلها أنه لا صدقة فيها.
وأصل الحلي إذا اقتني لا زكاة فيه، واحتج به داود على أن العروض لا زكاة فيها وإن أريد بها التجارة، وكذلك استثنى في رواية زكاة الفطر؛ لما كانت واجبة، وفي "الأسرار" للدبوسي: لما سمع زيد ابن ثابت حديث أبي هريرة هذا قال: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه أراد فرس الغازي، وأما ما طلب نسْلها ورِسْلها، ففيها الزكاة في كل فرس دينار، أو عشرة دراهم. قال أبو زيد: ومثل هذا لا نعرفه قياسًا، فثبت أنه مرفوع. قُلْتُ حتَّى يثبت الأصل.
وقال ابن عبد البر في حديث أبي هريرة: رواه حبيب كاتب مالك، عن مالك، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، فأخطأ، وكان كثير الخطأ، وأخطأ فيه أيضًا يحيى بن يحيى -يعني: الأندلسي- فأسقط سليمان بين ابن دينار وعراك.
وأما حديث مالك
(1)
عن ابن شهاب، عن سليمان بن يسار أن عمر وأبا عبيدة أبيا عن ذَلِكَ، ففيه دلالة واضحة على المنع، وهذا يعارض ما روي عن عمر في زكاة الخيل، قال: ولا أعلم أحدًا من فقهاء الأمصار أوجبها في الخيل إلا أبا حنيفة.
وحجته ما رواه عبد الرزاق عن عمر
(2)
، وحديث مالك يرده ويعارضه فتسقط الحجة
(3)
.
قُلْتُ: وفي "مستدرك الحاكم" ما أخرجه أحمد أن عمر جاءه ناس
(1)
ورد في هامش الأصل ما نصه: منقطع.
(2)
"المصنف" 4/ 35 - 36 (6887 - 6889) كتاب: الزكاة، باب: الخيل.
(3)
"الاستذكار" 9/ 280 - 281.
من أهل الشام فقالوا: إنا أصبنا أموالًا وخيلًا ورقيقًا نحب أن يكون لنا فيها زكاة، فاستشار أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فقالوا: حسن وفيهم علي. فقال: هو حسن إن لم يكن جزية راتبة يؤخذون بها فعدل. ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد إلا أن الشيخين لم يخرجا عن حارثة بن مضرب -يعني: أحد رواته- وإنما ذكرته في هذا الموضع للمحدثات الراتبة التي فرضت في زماننا على المسلمين
(1)
.
وأما ما رواه البغوي في "معجمه" عن مرثد بن ربيعة (اليزني)
(2)
قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخيل فيها شيء؟ قال: "لا، إلا ما كان منها للتجارة"
(3)
فآفته الشاذكوني
(4)
. وأما حديث أبي يوسف، عن غورك ابن الحصرم، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر مرفوعًا:"في الخيل السائمة في كل فرس دينار"
(5)
قال الدارقطني: تفرد به غُورك،
(1)
"المستدرك" 1/ 400 - 401 كتاب: الزكاة، "المسند" 1/ 14.
(2)
كذا بالأصل، وفي مصادر الترجمة: العبدي.
(3)
"معجم الصحابة" 5/ 434.
(4)
وقال البغوي: وما بلغني هذا الحديث إلا من هذا الوجه الذي رواه سليمان بن داود الشاذكوني، وقد رماه الأئمة بالكذب.
(5)
روه الطبراني في "الأوسط" 7/ 338 (7665)، الدارقطني في "سننه" 2/ 125 - 126 كتاب: الزكاة، باب: زكاة مال التجارة وسقوطها عن الخيل والرقيق، والبيهقي في "سننه" 4/ 119 كتاب: الزكاة، باب: من رأى في الخيل صدقة، وفي "معرفة السنن والآثار" 6/ 95 (8119) كتاب: الزكاة، باب: لا صدقة في الخيل، والخطيب في "تاريخ بغداد" 7/ 397 - 398، وابن الجوزي في "العلل المتناهية" 2/ 5 (819) وقال: هذا حديث لا يصح، وغورك ليس بشيء، وقال الدارقطني: هو ضعيف جدًا.
وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 3/ 69 وعزاه للطبراني وقال: فيه: الليث بن حماد وغورك، وكلاهما ضعيف، وقال ابن حجر في "تلخيص الحبير" إسناده ضعيف جدًا، وانظر:"الضعيفة" 9/ 18 (4014).
وهو ضعيف جدًّا
(1)
.
قال البيهقي: ولو كان صحيحًا عند أبي يوسف لم يخالفه
(2)
. وقد قال بقول أبي حنيفة زفر، وقبلهما حماد بن أبي سليمان، وفي "الروضة"، وإبراهيم النخعي.
وحديث علي مرفوعًا: "عفوت عن صدقة الخيل والرقيق" صححه البخاري من طريقيه فيما سأله الترمذي
(3)
. وحديث عمرو بن حزم
(4)
، عن أبيه، عن جده مرفوعًا:"ليس في عبد مسلم ولا في فرسه شيء"
(5)
دالَّان للجماعة.
واحتج لأبي حنيفة أيضًا بحديث أبي هريرة: "الخيل لثلاثة: لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر، فأما التي هي له ستر يتخذها تكرمًا وتجملًا، ولم ينس حق الله في ظهورها وبطونها وعسرها ويسرها"
(6)
.
وقد أنصف الطحاوي فقال: كل ما سلف أن ما أخذ عمر منهم لم يكن زكاة، ألم تر أن اللذين كانا قبل -يعني: رسول الله والصديق- لم يأخذا منها صدقة ولم ينكر على عمر ما قال من ذَلِكَ أحدٌ من الصحابة،
(1)
"سنن الدارقطني" 2/ 126.
(2)
"سنن البيهقي" 4/ 119.
(3)
"سنن الترمذي"(620) كتاب: الزكاة، باب: ما جاء في زكاة الذهب والورق، وقد تقدم تخريجه والكلام عليه.
(4)
ورد في هامش الأصل ما نصه: صوابه: أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم.
(5)
رواه الحاكم في "المستدرك" 1/ 395 - 397 كتاب: الزكاة، والبيهقي في "سننه" 4/ 89 كتاب: الزكاة، باب: كيف فرض الصدقة، و 4/ 118 كتاب: الزكاة، باب: لا صدقة في الخيل، وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع"(2333).
(6)
سيأتي برقم (2860) كتاب: الجهاد والسير، باب: الخيل لثلاثة، ورواه مسلم (987) كتاب: الزكاة، باب: إثم مانع الزكاة.
وذكر قول عمر السالف أنه إنما أخذ ذَلِكَ بسؤالهم إياه، وأن لهم منع ذَلِكَ متى أحبوا، ثم سلك عمر بالعبيد في ذَلِكَ مسلك الخيل، ولم يدل ذَلِكَ أن العبيد الذين لغير التجارة تجب فيهم الصدقة، وإنما كان ذَلِكَ على التبرع من مواليهم لإعطاء ذَلِكَ
(1)
.
والأمة مجمعة على أنه لا زكاة في العبيد غير زكاة الفطر إذا كانوا للقنية، فإن كانوا للتجارة فالزكاة في أثمانهم، ويلزم تقويمهم كالعروض.
وأما حديث أبي هريرة: "ولم ينس حق الله"
(2)
فإنه يجوز أن يكون ذَلِكَ الحق حقًّا سوى الزكاة، فإنه روي ذَلِكَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"في المال حق سوى الزكاة"
(3)
لكنه ضعيف كما تقدم، وأيضًا الحديث في الخيل المرتبطة لا السائمة.
وأيضًا حديث جابر مرفوعًا: "إن حق الإبل إطراق فحلها، وإعارة دلوها ومنحة سمينها"
(4)
فيحتمل أن يكون كذلك في الخيل، ومن جهة النظر أن من أوجبها لا يوجبونها حتَّى تكون ذكورًا وإناثًا، ويلتمس صاحبها نسلها، ولا يجب في ذكورها خاصة، ولا في إناثها خاصة.
وكانت الزكاوات المتفق عليها في المواشي تجب في الإبل، والبقر، والغنم ذكورًا كانت كلها أو إناثًا، فلما استوى حكم الذكور خاصة في ذَلِكَ، وحكم الإناث خاصة، وحكم المجموع، وكانت الذكور من الخيل خاصة، والإناث منها خاصة لا تجب فيها زكاة.
(1)
"شرح معاني الآثار" 2/ 28.
(2)
سبق تخريجه.
(3)
سبق تخريجه.
(4)
رواه مسلم (988) كتاب: الزكاة، باب: إثم مانع الزكاة.
قال الطحاوي والطبري: والنظر أن الخيل في معنى البغال والحمير التي قد أجمع الجميع أن لا صدقة فيها، ورد المختلف في ذَلِكَ إلى المتفق عليه إذا اتفق في المعنى أولى
(1)
.
فرع:
في الحديث جواز قول: غلام فلان. وجواز قول: عبد فلان. وفي البخاري: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول الرجل عبدي وأمتي، وليقل: فتاي وفتاتي
(2)
(3)
.
(1)
انظر: "شرح معاني الآثار" 2/ 29 - 30.
(2)
ورد في هامش الأصل ما نصه: آخر 7 من 8 من تجزئة المصنف.
(3)
سيأتي برقم (2552) كتاب: العتق، باب: كراهية التطاول على الرقيق.
47 - باب الصَّدَقَةِ عَلَى اليَتَامَى
1465 -
حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ هِلَالِ بْنِ أَبِي مَيْمُونَةَ، حَدَّثَنَا عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ رضي الله عنه يُحَدِّثُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَلَسَ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى المِنْبَرِ وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ فَقَالَ:"إِنِّي مِمَّا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِي مَا يُفْتَحُ عَلَيْكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا". فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ أَوَ يَأْتِي الخَيْرُ بِالشَّرِّ فَسَكَتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقِيلَ لَهُ: مَا شَأْنُكَ تُكَلِّمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَلَا يُكَلِّمُكَ؟ فَرَأَيْنَا أَنَّهُ يُنْزَلُ عَلَيْهِ. قَالَ: فَمَسَحَ عَنْهُ الرُّحَضَاءَ، فَقَالَ:"أَيْنَ السَّائِلُ؟ " وَكَأَنَّهُ حَمِدَهُ. فَقَالَ: "إِنَّهُ لَا يَأْتِي الخَيْرُ بِالشَّرِّ، وَإِنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ يَقْتُلُ أَوْ يُلِمُّ، إِلاَّ آكِلَةَ الخَضْرَاءِ، أَكَلَتْ حَتَّى إِذَا امْتَدَّتْ خَاصِرَتَاهَا اسْتَقْبَلَتْ عَيْنَ الشَّمْسِ، فَثَلَطَتْ وَبَالَتْ وَرَتَعَتْ، وَإِنَّ هَذَا المَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَنِعْمَ صَاحِبُ المُسْلِمِ مَا أَعْطَى مِنْهُ المِسْكِينَ وَاليَتِيمَ وَابْنَ السَّبِيلِ -أَوْ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَإِنَّهُ مَنْ يَأْخُذُهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ، وَيَكُونُ شَهِيدًا عَلَيْهِ يَوْمَ القِيَامَةِ". [انظر: 921 - مسلم: 1052 - فتح: 3/ 327].
ذكر فيه حديث أَبَي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ أَنَّه عليه السلام جَلَسَ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى المِنْبَرِ ..
وذكر الحديث: "وَإِنَّ هذا المَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَنِعْمَ صَاحِبُ المُسْلِم مَا أَعْطَى مِنْهُ المِسْكِينَ وَاليَتِيمَ وَابْنَ السَّبِيلِ -أَوْ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَإِنَّه مَنْ يَأْخُذُهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ كَالَّذِي يَأكلُ وَلَا يَشْبَعُ، وَيَكُونُ شَهِيدًا عَلَيْهِ يَوْمَ القِيَامَةِ".
الشرح:
هذا الحديث ذكره البخاري في موضع آخر بلفظ: "أخوفُ ما أخافُ عليكم ما يخرج الله لكم من زهرةِ الدنيا" قالوا: وما زهرةُ الدنيا يا رسول
الله؟ قال: "بركاتُ الأرض" وفي آخره: "فمَنْ أخَذَهُ بحقِهِ ودفعه في حقه فنعم المعونة هو، ومن أخذه .. " الحديث
(1)
. وفي لفظ: "أين السائل آنفًا؟ أو خير هو -ثلاثًا- إن الخير لا يأتي إلا بالخير"
(2)
.
إذا تقرر ذَلِكَ فالكلام عليه من وجهين:
أولهما: في ألفاظه: "زَهْرَةِ الدُّنْيَا": يقال لحسن الدنيا وبهجتها
الزهرة والزهراء مأخوذ من زهرة الأشجار، وهو ما يصفر من نوارها، قاله في "الموعب"، والنور: قال ابن الأعرابي: هو الأبيض منها.
وقال أبو حنيفة: الزهر والنور سواء. وفي "مجمع الغرائب": هو ما يزهر منها من أنواع المتاع والعين، والثياب، والزرع، وغيرها بما يغتر الخلق بحسنها مع قلة بقائها.
وفي "المحكم": زَهْرَة الدنيا وزَهَرَتُها
(3)
.
و (الرُّحَضَاءَ): العرق الشديد، قال ابن بطال: عرق الحمى، وقد رحض ورحضت الثوب: غسلته
(4)
. ورحض الرجل إذا أصابه ذَلِكَ فهو رحيض ومرحوض. وعبارة الخطابي: الرحضاء: عرق يرحض الجلد لكثرته
(5)
.
وقوله: ("أَوَيَأتِي الخَيْرُ بِالشَّرِّ؟ ") هو بهمزة الاستفهام، وواو العطف -الواقعة بعدها- المفتوحة على الرواية الصحيحة، مُنكرًا على
(1)
هذا اللفظ عند مسلم (1052) كتاب: الزكاة، باب: تخوف ما يخرج من زهرة الدنيا -أما لفظ البخاري: "إن أكثر ما أخاف عليكم .. " الحديث سيأتي برقم (6427) كتاب: الرقاق، باب: ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافي فيها.
(2)
سيأتي برقم (2842) كتاب: الجهاد والسير، باب: فضل النفقة في سبيل الله.
(3)
"المحكم" 4/ 164.
(4)
"شرح ابن بطال" 3/ 488.
(5)
"أعلام الحديث" 2/ 793.
من توهم أنه لا يحصل منه شر أصلًا لا بالذات ولا بالعرض، نعم قد يعرض له ما يجعله شرًا إذا أسرف فيه ومنع من حقه.
وقوله: ("وَإِنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ") قال القزاز: هذا حديث جرى فيه البخاري على عادته في الاختصار والحذف؛ لأن قوله: فرأينا يُنْزَل عليه، يريد: الوحي.
وقوله: ("وَإِنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ يَقْتُلُ أَوْ يُلِمُّ") حذف (ما) قبل يقتل وحذف حبطا، والحديث:"إن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا أو يلم" فحذف حبطا، وحذف (ما). قال القزاز: وقد رويناه بها.
قال ابن دريد في "وشاحه": هذا من الكلام الفرد الموجز الذي لم يسبق إليه، وهو أكثر من سبعين لفظة، ذكرها مفصلة، وروايته فيه (لما) بلام وما.
وقوله: ("إِلَّا آكِلَةَ الخَضْرَ") يعني: التي تخرج مما جمعت منه ورعت، وما ينفعها إخراجه مما لو أمسكه؛ لضره إثمه كما يضر التي رعت لو أمسكت البول والغائط ولم تخرجه. ويبين هذا المعنى قوله عليه السلام في المال:"فنعم صاحب المسلم ما أعطى منه المسكين وابن السبيل" وفي هذا تفضيل المال.
وقال الخطابي: الخضر ليس من أحرار البقول التي تستكثر منه الماشية فتنهكه أكلًا، ولكنه من الجنْبَة التي ترعاها بعد هيج العشب ويبسه، وأكثر ما رأيت العرب تقول: الخضر لما اخضر من الكلأ الذي لم يصفر، والماشية من الإبل ترتع منه شيئًا فشيئًا فلا تستكثر منه فلا تحبط بطونها عليه. وقد ذكره طرفة وبين أنه نبت في الصيف فقال:
إذا أنبتا الصيف عساليج الخضر.
والخضر من كلأ الصيف وليس من أحرار بقول الربيع، والنعم لا تستوكله ولا تحبط بطونها عليه
(1)
.
وقال أبو عبد الملك: يريد لو استوفت نبت الربيع ربما قتلها، وهو خير، وكذلك المال إذا منع منه فإنه يهلكه وهو خير أيضًا. وقال غيره: أراد بآكلة الخضر المقتصد على قدر الكفاية من الدنيا، فضربه عليه السلام مثلًا لمن يقتصد في أخذ الدنيا وجمعها، ولا يحمله الحرص على أخذها بغير حقها، فهو ناج من وبالها كما نجت آكلة الخضر، ألا تراه قال:"أكلت حتَّى امتدت خاصرتاها استقبلت عين الشمس؛ فثلطت وبالت" أراد أنها شبعت منه بركت مستقبلة الشمس؛ تستمرئ بذلك ما أكلت وتجتر وتثلط، فإذا ثلطته فقد زال عنها الحبط وهو انتفاخ البطن من داءٍ يصيب الآكل، وإنما يحبط الماشية؛ لأنها لا تثلط، ولا تبول، ومنه قوله تعالى:{حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} [المائدة: 53] أي: بطلت.
ووقع في رواية العذري: "إِلَّا آكِلَةَ الخَضْرَة" على الإفراد، وعند الطبري:"الخُضْرة""وثلطت" بفتح اللام، وبه صرح الجوهري وغيره
(2)
، قال ابن التين: وهو ما سمعناه. وضبطه بعضهم بكسرها.
قال الجوهري: ثلط البعير إذا ألقى بعره رقيقًا وكذا قال ابن فارس
(3)
وصاحب "المحكم" حيث قال: ثلط الثور والبعير والصبي يثلط ثلطًا سلح سلحًا
(4)
رقيقًا. وفي "مجمع الغرائب" خرج رجيعها -يعني: آكلة الخضر- عفوًا من غير مشقة؛ لاسترخاءِ ذات بطنها فيبقى
(1)
"أعلام الحديث" 2/ 793.
(2)
"الصحاح" 3/ 1118.
(3)
"مجمل اللغة" 1/ 162.
(4)
"المحكم" 9/ 120.
نفعها وتخرج فضولها ولا تتأذى. وفي "المغيث": وأكثر ما يقال للبعير والفيل
(1)
.
و"الربيع": جزء من أجزاء السنة، فمن العرب من يجعله الفصل الذي يدرك فيه الثمار، وهو الخريف، ومنهم من يسمي الفصل الذي تدرك فيه الثمار وهو الخريف الربيع الأول، ويسمي الفصل الذي يتلو الشتاء، وتأتي فيه الكمأة والنور: الربيع الثاني، وكلهم مجمعون على أن الخريف هو الربيع.
قال أبو حنيفة في كتاب "الأنواء": يسمى قسما الشتاء ربيعين: الأول منهما: ربيع الماء والأمطار، والثاني: ربيع النبات؛ لأن فيه ينتهي النبات منتهاه. قال: والشتاء كله ربيع عند العرب من أجل الندى، قال: والمطر عندهم ربيع متى جاء، والجمع: أربعة ورباع، وربما سمي الكلأ والعشب ربيعًا، والربيع أيضًا: المطر الذي يكون بعد الوسمي، والربيع: ما تعتلفه الدواب من الخضر، والجمع من كل ذَلِكَ: أربعة.
وقوله: ("أو يلم") أي: يقرب من الهلاك، يقال: ألم الشيء: قرب. "ورتعت" رعت، أرتع إبله: رعاها في الربيع، أرتع وارتبع الفرس وتربع: أكل الربيع. وقال الداودي: رتعت افتعل من الرعي، وليس كذلك. ورتعت عند أهل اللغة: اتسعت في المرعى، وإنما استقبلت عين الشمس؛ لأنه الحين الذي تشتهى فيه الشمس، فإذا ألقته مجتمعًا ليس ببعر اشتهت المرعى فرتعت، فجعل هذا مثلًا لمن يأخذ البعر، ووجه المثل من الحديث أن يقول: نبات الربيع خير،
(1)
"المجموع المغيث" 1/ 271.
ولكن ربما قتل بهذا الداء -يعني: الحبط- أو قارب القتل. قال الأزهري: هذا الحديث فيه مثلان:
أحدهما: للمفرط في جمع الدنيا ومنعها من حقها، فهي آكلة الربيع؛ لأنه ينبت أحرار البقول، والعشب فتستكثر منه الماشية؛ فيشق أمعاءها.
والثاني: ضربه مثلًا للمقتصد، وهو قوله:"إلا آكلة الخضر". وقد سلف.
وقوله: ("وإن هذا المال خضرة حلوة") يريد أن صورة الدنيا ومتاعها حسنة مؤنقة، والعرب تسمي الشيء الحسن المشرق الناضر خضرًا؛ تشبيهًا له بالنبات الأخضر الغض. ويقال: سمي الخضر خضرًا لحسن وجهه وإشراقه، قال تعالى:{فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا} [الأنعام: 99] ومنه قولهم: اختضر الرجل إذا مات شابًا؛ لأنه يؤخذ في وقت الحسن والإشراق. يقول: إن المال يعجب الناظرين إليه، ويحلو في أعينهم فيدعوهم حسنه إلى الاستكثار منه، فماذا فعلوا ذَلِكَ تضرروا به كالماشية إذا استكثرت من المرعى ثلطت أي: سلحت سلحًا رقيقًا.
وقال ابن الأنباري: قوله: "خضرة": حلوة لم يأت على الصفة، وإنما أتى على التمثيل والتشبيه كأنه قال: إن هذا المال كالبقلة الخضرة الحلوة، ويقول: إن هذا السجود حسنة، والسجود مذكر، فكأنه قال: السجود فعلة حسنة.
وقوله: ("نعم صاحب المسلم ما أعطى منه المسكين واليتيم وابن السبيل") يقول: إن من أُعطي مالًا وسلط على هلكته في الحق، فأعطى
من فضله المسكين وغيره، فهذا المال المرغوب فيه.
وقوله: "وإنه من يأخذه بغير حقه كالذي يأكل ولا يشبع" يعني: إنه كلما نال منه شيئًا ازدادت رغبته، واستقل ما في يده، ونظر إلى من فوقه فنافسه.
وقوله: "ويكون شهيدًا عليه يوم القيامة" يجوز أن يكون على ظاهره، وأنه يجاء بماله يوم القيامة فينطق الصامت بما فعل فيه، أو يمثل له بمثال حيوان كما سلف، أو يشهد عليه الموكلون بكتب السبب والإنفاق.
الوجه الثاني: في فوائده:
الأولى: جلوس الإمام على المنبر عند الموعظة وجلوس الناس حوله.
الثانية: خوف المنافسة؛ لقوله: "إن مما أخاف عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا".
الثالثة: استفهامهم بضرب المثل، وقول الرجل: أو يأتي الخير بالشر؟ يريد المال، وقد سمى الله تعالى المال خيرًا في قوله:{إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} [البقرة: 180] وضربه صلى الله عليه وسلم مثلًا.
الرابعة: سكوت العالم عند السؤال وتأخر جوابه طلبًا لليقين، فقد سكت عليه السلام عند ذَلِكَ.
الخامسة: اللوم عند خوف كراهة المسألة والاعتراض، إذا لم يكن موضعه بينًا ينكر على المعترض به، ألا تراهم أنكروا على السائل. وقالوا: إن من سأل العالم وبَاحَثَه عما ينتفع به ويفيد، حكمه أنه
محمود مَنْ فَعَله.
السادسة: معرفتهم حالة نزول الوحي عليه عليه السلام؛ لقوله: (فرأينا أنه ينزل عليه).
السابعة: مسح الرحضاء؛ لشدة الوحي عليه، وهو شدة العرق الذي أدركه عند نزوله عليه.
الثامنة: دعاء السائل؛ لقوله: "أين السائل؟ " سأل عنه؛ ليجيبه.
التاسعة: ظهور البشرى؛ لقوله: (وكأنه حمده) أي: لما رأوا فيه من البشرى؛ لأنه كان إذا سرَّ برقت أسارير وجهه.
العاشرة: احتج به قوم على تفضيل الفقر على الغنى، وليس كما تأولوه؛ لأنه عليه السلام لم يخش عليهم ما يفتح عليهم من زهرة الدنيا إلا إذا ضيعوا ما أمرهم الله تعالى به في إنفاقه في حقه إذا كسبوه من غير وجهه.
الحادية عشرة: ضرب الأمثال بالأشياء التافهة.
الثانية عشرة: جواز عرض التلميذ على العالم الأشياء المجملة؛ ليبينها.
الثالثة عشرة: الحض على إعطاء هذِه الأصناف: المسكين، واليتيم، وابن السبيل، وقد ورد في الحديث أن الصدقة على اليتيم تذهب قساوة القلب، وسيأتي في الأدب -إن شاء الله تعالى- في فضل من يعول يتيمًا
(1)
.
الرابعة عشرة: أن المكتسب للمال من غير حله غير مبارك فيه؛ لقوله "كالذي يأكل ولا يشبع"؛ لأن الله تعالى قد رفع عنه البركة، وأبقى في قلوب آكليه ومكتسبيه الفاقة، وقلة القناعة، ويشهد لهذا
(1)
سيأتي برقم (6005).
قول الله جل جلاله: {يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276] فالمحق أبدًا في المال: المكتسب من غير وجهه.
الخامسة عشرة: أن للعالم أن يحذر من يجالسه من فتنة المال وغيره، وتنبيههم على مواضع الخوف من الافتتان به كما قال صلى الله عليه وسلم:"إن مما أخاف عليكم" فوصف لهم ما يخاف عليهم، ثم عرفهم بمداواة تلك الفتنة وهي إطعام هؤلاء الثلاثة.
48 - باب الزَّكَاةِ عَلَى الزَّوْجِ وَالأَيْتَامِ فِي الحَجْرِ
قَالَهُ أَبُو سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. [انظر: 304]
1466 -
حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ: حَدَّثَنِي شَقِيقٌ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الحَارِثِ، عَنْ زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما. قَالَ: فَذَكَرْتُهُ لإِبْرَاهِيمَ، فَحَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الحَارِثِ، عَنْ زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللهِ بِمِثْلِهِ سَوَاءً، قَالَتْ: كُنْتُ فِي المَسْجِدِ فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"تَصَدَّقْنَ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ". وَكَانَتْ زَيْنَبُ تُنْفِقُ عَلَى عَبْدِ اللهِ وَأَيْتَامٍ فِي حَجْرِهَا، قَالَ: فَقَالَتْ لِعَبْدِ اللهِ: سَلْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَيَجْزِي عَنِّي أَنْ أُنْفِقَ عَلَيْكَ وَعَلَى أَيْتَامِي فِي حَجْرِي مِنَ الصَّدَقَةِ؟ فَقَالَ: سَلِي أَنْتِ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم. فَانْطَلَقْتُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. فَوَجَدْتُ امْرَأَةً مِنَ الأَنْصَارِ عَلَى البَابِ، حَاجَتُهَا مِثْلُ حَاجَتِي، فَمَرَّ عَلَيْنَا بِلَالٌ فَقُلْنَا: سَلِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: أَيَجْزِي عَنِّي أَنْ أُنْفِقَ عَلَى زَوْجِي وَأَيْتَامٍ لِي فِي حَجْرِي؟ وَقُلْنَا: لَا تُخْبِرْ بِنَا. فَدَخَلَ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ:"مَنْ هُمَا". قَالَ: زَيْنَبُ قَالَ: "أَيُّ الزَّيَانِبِ؟ ". قَالَ: امْرَأَةُ عَبْدِ اللهِ. قَالَ: "نَعَمْ لَهَا أَجْرَانِ: أَجْرُ القَرَابَةِ، وَأَجْرُ الصَّدَقَةِ". [مسلم: 1000 - فتح: 3/ 328]
1467 -
حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ زَيْنَبَ ابْنَةِ [أُمِّ سَلَمَةَ]، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلِيَ أَجْرٌ أَنْ أُنْفِقَ عَلَى بَنِي أَبِي سَلَمَةَ؟ إِنَّمَا هُمْ بَنِيَّ. فَقَالَ:"أَنْفِقِي عَلَيْهِمْ، فَلَكِ أَجْرُ مَا أَنْفَقْتِ عَلَيْهِمْ". [5369 - مسلم: 1001 - فتح: 3/ 328].
قاله أبو سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم ذكر فيه حديث الأَعْمَشُ عن شَقِيقٌ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الحَارِثِ، عَنْ زَيْنَبَ
امْرَأَةِ عَبْدِ. قَالَ: فَذَكَرْتهُ لإِبْرَاهِيمَ، فَحَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ
(1)
، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الحَارِثِ، عَنْ زَيْنَبَ بِمِثْلِهِ سَوَاءً، قَال: كُنْتُ فِي المَسْجِدِ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"تَصَدَّقْنَ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ" .. الحديث.
(1)
في هامش الأصل تعليق نصه: في السند تابعي عن تابعي، الصحابي، عن صحابية.
ثم ذكر حديث أُمِّ سَلَمَةَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلِيَ أَجْرٌ أَنْ أُنْفِقَ عَلَى بَنِي أَبِي سَلَمَةَ؟ إِنَّمَا هُمْ بَنِيَّ. فَقَالَ:"أَنْفِقِي عَلَيْهِمْ، فَلَكِ أَجْرُ مَا أَنْفَقْتِ عَلَيْهِمْ".
الشرح:
تعليق أبي سعيد سلف قريبًا في الزكاة على الأقارب
(1)
.
وحديث زينب أخرجه مسلم
(2)
، وحديث أم سلمة أخرجه مسلم أيضًا
(3)
، وحديث زينب أخرجه النسائي بإدخال ابن أخي زينب امرأة عبد الله
(4)
، وهو وهم كما نبه عليه الترمذي ونقله في "علله"
(5)
عن البخاري، وأباهُ ابنُ القطان
(6)
.
وذكر الإسماعيلي أن رواية إبراهيم، عن أبي عبيدة، عن زينب تصحح رواية من لم يدخل بين عمرو وزينب ابن أخيها، والمرأة التي وجدتها تسأل عن مثل ذَلِكَ اسمها زينب، وهي امرأة أبي مسعود الأنصاري. أخرجه النسائي
(7)
، وطَرَّقَهُ الدارقطني، وقد سلف فقهه قريبًا في باب: الزكاة على الأقارب، فراجعه
(8)
.
وقولها: (فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم) كذا هنا، وفي مسلم: فرآني النبي صلى الله عليه وسلم.
وهو صحيح أيضًا
(9)
، وبخط الدمياطي أنه الوجه.
(1)
سلف برقم (1462).
(2)
"صحيح مسلم"(1000) كتاب: الزكاة، باب: فضل النفقة والصدقة على الأقربين والزوج والأولاد والوالدَين ولو كانوا مشركَين.
(3)
"صحيح مسلم"(1001).
(4)
"سنن النسائي" 5/ 92 - 93 كتاب: الزكاة، الصدقة على الأقارب.
(5)
"علل الترمذي"
(6)
"بيان الوهم والإيهام"
(7)
النسائي 5/ 92 - 93.
(8)
راجع حديث (1462).
(9)
"صحيح مسلم"(1000/ 46).
49 - باب قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 60]
وَيُذْكَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: يُعْتِقُ مِنْ زَكَاةِ مَالِهِ، وَيُعْطِي فِي الحَجِّ. وَقَالَ الحَسَنُ: إِنِ اشْتَرَى أَبَاهُ مِنَ الزَّكَاةِ جَازَ، وَيُعْطِي فِي المُجَاهِدِينَ وَالَّذِي لَمْ يَحُجَّ. ثُمَّ تَلَا:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 60] الآيَةَ، فِي أَيِّهَا أَعْطَيْتَ أَجْزَأَتْ. وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ خَالِدًا احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ". وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي لَاسٍ: حَمَلَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى إِبِلِ الصَّدَقَةِ لِلْحَجِّ.
1468 -
حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالصَّدَقَةِ فَقِيلَ: مَنَعَ ابْنُ جَمِيلٍ، وَخَالِدُ بْنُ الوَلِيدِ، وَعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"مَا يَنْقِمُ ابْنُ جَمِيلٍ إِلاَّ أَنَّهُ كَانَ فَقِيرًا فَأَغْنَاهُ اللهُ وَرَسُولُهُ، وَأَمَّا خَالِدٌ فَإِنَّكُمْ تَظْلِمُونَ خَالِدًا، قَدِ احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ وَأَعْتُدَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَأَمَّا العَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ فَعَمُّ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَهْيَ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ وَمِثْلُهَا مَعَهَا".
تَابَعَهُ ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِيهِ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ:"هِيَ عَلَيْهِ وَمِثْلُهَا مَعَهَا". وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: حُدِّثْتُ عَنِ الأَعْرَجِ بِمِثْلِهِ. [مسلم: 983 - فتح: 3/ 331]
ويذكر عن ابن عباس: يعتق من زكاة ماله، ويعطي في الحج. وقال الحسن: إن اشترى أباه من الزكاة جاز، ويعطي في المجاهدين والذي لم يحج، ثم تلا:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} الآية في أيها أعطيت أجزأت.
وقال النبي عليه السلام: "إن خالدًا احتبس أدراعه في سبيل الله".
ويذكر عن أبي لاسٍ الخزاعي: حَمَلَنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم على إبل الصدقة للحج.
ثم ذكر حديث أبي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أَمَرَ رَسُولُ اللهِ عليه السلام بِالصَّدقةِ، فَقِيلَ: مَنَعَ ابن جَمِيلٍ، "مَا يَنْقِمُ ابن جَمِيلٍ .. " الحديث.
تَابَعَهُ ابن أبي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ:"هِيَ عَلَيْهِ وَمِثْلُهَا مَعَهَا". وَقَالَ ابن جُرَيْجٍ: حُدَّثْتُ عَنِ الأَعْرَجِ مِثْلَهُ.
الشرح:
أثر ابن عباس المعلق أسنده ابن أبي شيبة، عن أبي جعفر، عن
الأعمش، عن حسان، عن مجاهد، عنه أنه كان لا يرى بأسًا أن يعطي الرجل من زكاته في الحج، وأن يعتق النسمة منها
(1)
.
وفي "علل عبد الله بن أحمد"، عن أبيه، حَدَّثَنَا أبو بكر بن عياش، ثنا الأعمش، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال ابن عباس: أعتق من زكاتك. وقال الميموني: قيل لأبي عبد الله: يشتري الرجل من زكاة ماله الرقاب، فيعتق ويجعل في ابن السبيل؟ قال: نعم، ابن عباس يقول ذَلِكَ ولا أعلم شيئًا يدفعه، وهو ظاهر الكتاب.
قال الخلال في "علله": هذا قوله الأول، والعمل على ما بيّن عنه الجماعة في ضعف الحديث إلى أحمد بن هاشم الأنطاكي. قال: قال أحمد: كنت أرى أن يعتق من الزكاة ثم كففت عن ذَلِكَ؛ لأني لم أرَ إسنادًا يصح. قال حرب: فاحتج عليه بحديث ابن عباس، فقال: هو مضطرب.
(1)
"المصنف" 2/ 403 (10424) كتاب: الزكاة، من رخص أن يعتق من الزكاة.
وأثر الحسن روى ابن أبي شيبة بعضه، عن حفص، عن أشعث بن سوار قال: سُئل الحسن عن رجل اشترى أباه من الزكاة فأعتقه. قال: اشترى خير الرقاب
(1)
.
وتعليق حديث خالد قد أسنده في نفس الباب.
وحديث أبي لاسٍ المعلق أخرجه الطبراني عن عبيد بن غنام، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وحَدَّثَنَا أبو خليفة، ثنا ابن المديني، ثنا محمد بن عبيد الطنافسي، ثنا محمد بن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث، عن عمر بن الحكم بن ثوبان، عن أبي لاسٍ قال: حملنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على إبل من إبل الصدقة ضعاف للحج؛ فقلنا: يا رسول الله، ما نَرى أن تحملنا هذِه. فقال:"ما من بعير إلا وفي ذروته شيطان، فإذا ركبتموها فاذكروا نعمة الله عليكم كما أمركم الله ثم امتهنوها لأنفسكم فإنما يحمل الله"
(2)
.
وعزاه ابن المنذر إلى رواية ابن إسحاق كما سقناه وتوقف في ثبوته كما سيأتي.
فائدة: أبو لاس هذا خزاعي، ويقال: حارثي، عبد الله بن غنمة، وقيل محمد بن الأسود
(3)
قاله أبو القاسم وقيل: زياد مدني له صحبة، وحدثت له حديثان وليس لهم أبو لاس غيره، فهو فرد، وهو بالمهملة
(4)
.
(1)
"المصنف" 2/ 403 (10423).
(2)
"المعجم الكبير" 22/ 334 (837).
(3)
في هامش الأصل تعليق نصه: قاله الذهبي في "التجريد" 2/ 54 محمد بن أسود بن خلف بن أسعد الخزاعي، قال شباب روى على ذروة كل بعير شيطان
…
) والتعليق طويل غير مقروء.
(4)
انظر: "الاستيعاب" 4/ 303 (3178)، و"أسد الغابة" 6/ 265 (6196)، و"الإصابة" 4/ 168 (980).
وحديث أبي هريرة أخرجه مسلم أيضًا
(1)
. ومتابعة ابن أبي الزناد، وابن إسحاق خرجهما الدارقطني
(2)
.
وقوله: "وأعبده" بالباء، والصحيح ما قاله عبد الحق بالمثناة فوق، ولمسلم "أعتاده"
(3)
.
إذا تقرر ذَلِكَ:
فاختلف العلماء في المراد بالرقاب في الآية أي: ملاكها على قولين:
أحدهما: أن يشتري رقبة سليمة فيعتق، قاله ابن القاسم، وأصبغ
(4)
.
والثاني: المكاتبون، قاله الشافعي، وابن وهب، وروى مطرف عن مالك: لا بأس أن يعطى زكاة للمكاتب ما يتم به عتقه. وعنه كراهة ذَلِكَ؛ لأنه عبد ما بقي عليه درهم فربما عجز فصار عبدًا
(5)
.
وعلى الأول الولاء للمسلمين، ويشترط فيها الإسلام على المشهور. وفي إجزاء المعيبة قولان. وفي المكاتب والمدبر قولان، والمعتق بعضه.
ثالثها: إن كمل عتقه أجزأ وإلا فلا. والمشهور لا يعطي الأسير لعدم الولاء، ولو اشترى بها وأعتق عن ثفسه لم يجزِئْه على المشهور، وعلى الآخر الولاء للمسلمين.
وما قاله الشافعي مروي عن علي، والنخعي، وسعيد بن جبير،
(1)
"صحيح مسلم"(983) كتاب: الزكاة، باب: في تقديم الزكاة ومنعها.
(2)
"سنن الدارقطني" 2/ 123 باب: تعجيل الصدقة قبل الحلول.
(3)
مسلم (983).
(4)
انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 8/ 183.
(5)
انظر: "النوادر والزيادات" 2/ 285، "الجامع لأحكام القرآن" 8/ 183.
والزهري، والثوري، وأبي حنيفة، والليث، ورواية ابن نافع وابن القاسم عن مالك
(1)
، قال ابن قدامة: وإليه ذهب أحمد، وقد أسلفنا الاختلاف عنه. والأول سلف عن ابن عباس، وبه قال إسحاق، وأبو ثور، والحسن، ورواية عن أحمد سلفت
(2)
.
احتج الثاني بأن كل صنف أعطاهم الله الصدقة بلام التمليك، فكذا الرقاب يجب أن يكون المراد به من يملكها، والعبد لا يملكها، ولأن الله تعالى ذكر الأصناف الثمانية، وجمع بين كل صنفين متقاربين في المعنى، فجمع بين الفقراء والمساكين، وجمع بين العاملين والمؤلفة قلوبهم، لأنهما يستعان بهما إما في جباية الصدقة، وإما في معاونة المسلمين.
وجمع بين ابن السبيل وسبيل الله لتقاربهما في المعنى، وهو قطع المسافة، وجمع بين الرقاب، والغارمين، وأخذ المكاتب لغرم كتابته كأخذ الغارمين للديون.
وفي الدارقطني من حديث البراء قال رجل: يا رسول الله، دُلَّني على عمل يقربني من الجنة ويباعدني من النار. قال:"أعتق النسمة، وفك الرقبة" قال: يا رسول الله، أو ليسا واحدًا قال:"لا، عتق النسمة أن ينفرد بعتقها، وفك الرقبة أن يعين في ثمنها"
(3)
وفي الترمذي عن أبي هريرة
(1)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 1/ 482، "النوادر والزيادات" 2/ 284.
(2)
"المغني" 4/ 320.
(3)
"سنن الدارقطني" 2/ 135.
ورواه أحمد 4/ 299. وصححه ابن حبان 2/ 91 - 92 (374)، والحاكم 2/ 217، والحافظ في "الفتح" 5/ 146.
وقال الهيثمي 4/ 240: رواه أحمد ورجاله ثقات. وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(3976).
مرفوعًا: "ثلاثة كلهم حق على الله عونه: الغازي في سبيل الله، والمكاتب يريد الأداء، والناكح المتعفف"
(1)
احتج لمالك بعموم {وَفِي الرِّقَابِ} [التوبة: 60] وإطلاقها يقتضي عتق الرقاب في كل موضع أطلق ذكرها مثل كفارة الظهار قال الله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادله: 3] وكذلك في اليمين، ولو أراد المكاتبين لاكتفي بذكر الغارمين لأنه غارم.
قالوا: وشراء العبد ابتداء أولى من المكاتب؛ لأن المكاتب حصل له سبب العتق بمكاتبة سيده له، والعبد لم يحصل له سبب عتق.
قالوا: ولو أعطينا المكاتب، فإن تم عتقه كان الولاء لسيده فيحصل، له المال والولاء. وإذا اشترينا عبدًا فأعتقناه كان ولاؤه للمسلمين، فكان أولى لظاهر الآية. ولا نسلم لهم ما ذكروه. وقول الحسن:(إن اشترى أباه من الزكاة جاز).
قال ابن التين: لم يقل به مالك. وقال ابن بطال: ينبغي أن يجوز على أصل مالك؛ لأنه يجيز عتق الرقاب من الزكاة، إلا أنه يكرهه، لما فيه من انتفاعه بالثناء عليه بأنه ابن حر، ولا يجوز عند أبي حنيفة، والشافعي
(2)
.
وقوله قبل ذَلِكَ عن ابن عباس: (ويعطى) قال به ابن عمر أيضًا، وأحمد، وقال: معنى قوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللهِ} [التوبة: 60]
(1)
"سنن الترمذي"(1655) ورواه النسائي 6/ 15 - 16 و 61 وابن ماجه (2518).
وصححه ابن حبان 9/ 369 (3218)، والحاكم 2/ 160 و 217.
وقال الداقطني في "العلل" 10/ 350 - 351: اختلف في رفعه ووقفه، ورفعه صحيح.
وحسنه الألباني في "صحيح ابن ماجه"(2041)، وفي "غاية المرام"(210).
(2)
"شرح ابن بطال" 3/ 496 - 497.
الحج
(1)
. وقال مالك، والشافعي، وجمهور الفقهاء: هو الغزو والجهاد
(2)
. دليلهم أن هذا اللفظ إذا أطلق كان ظاهره الغزو ولذلك قال تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ} [البقرة: 190] ولا خلاف أن المراد به الغزو والجهاد وقال: {الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا} [الصف: 4] وقال: {وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ} [البقرة: 218] وقيل: المراد به المجاهدون والحجاج. وقال أبو يوسف: هم منقطعو الغزاة. وقال محمد بن الحسن: فقراء الحاج، كذا في "المبسوط" وغيره
(3)
.
وعند ابن المنذر قولهما، وقول أبي حنيفة أنه المغازي، وحكى أبو ثور، عن أبي حنيفة أنه الغازي دون الحاج
(4)
.
وزعم ابن بطال أيضًا أن هذا قول أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وإسحاق، وأبي ثور. قال: إلا أن أبا حنيفة، وأصحابه قالوا: لا يعطي الغازي إلا أن يكون محتاجًا. وقال مالك، والشافعي: يعطى وإن كان غنيًا
(5)
.
(1)
قال ابن قدامة رحمه الله: ولا خلاف في أنهم الغزاة في سبيل الله لأن سبيل الله عند الإطلاق وهو الغزو وللإمام أحمد في دفع الزكاة في الحج روايتان:
الأولى: أنه يعطى من الصدقة، والثانية: لا يصرف منها في الحج؛ لأن سبيل الله عند الإطلاق إنما ينصرف إلى الجهاد؛ ولأنه لا مصلحة للمسلمين في حج الفقير ولا حاجة به إلى إيجاب الحج عليه، وهو ما رجحه ابن قدامة لقوله: وهو أصح.
"المغني" 9/ 328 - 329.
(2)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 1/ 483، "عقد الجواهر الثمينة" 1/ 245، "روضة الطالبين" 2/ 321.
(3)
"المبسوط" 3/ 10.
(4)
انظر: "البناية" 3/ 534.
(5)
انظر: "المعونة" 1/ 270، "روضة الطالبين" 2/ 321.
وقال محمد بن الحسن: من أوصى بثلث ماله في سبيل الله، فللوصي أن يجعله في الحاج المنقطع به.
واحتجوا بأن رجلًا وقف ناقة له في سبيل الله، فأرادت امرأته أن تحج وتركبها، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"اركبيها فإن الحج من سبيل الله" فدل أن سبيل الله كلها داخلة في عموم اللفظ، رواه شعبة، عن إبراهيم بن مهاجر، عن أبي بكر بن عبد الرحمن قال: أرسل مروان إلى (أم معقل)
(1)
يسألها عن هذا الحديث
(2)
. وإلى هذا ذهب البخاري، وكذلك ذكر حديث أبي لاس أن النبي صلى الله عليه وسلم حملهم على إبل الصدقة للحج. وتأول قوله:"إن خالدًا احتبس أدراعه وأعبده في سبيل الله" أنه يجوز أن يدخل فيه كل سبيل الله الحج والجهاد وغيره
(3)
.
وذكر قول الحسن السالف. وأغرب ما رأيت أنهم طلبة العلم حكاه شارح "الهداية" من الحنفية. وقال أبو عبيد: لا أعلم أحدًا أفتى أن تصرف الزكاة إلى الحج.
وقال ابن المنذر: لا يعطى منها في الحج؛ لأن الله تعالى قد بين من يعطاها إلا أن يثبت حديث أبي لاس، فإن ثبت وجب القول به في مثل ما جاء الحديث خاصة. وأما قول أبي حنيفة: لا يعطى الغازي من الزكاة إلا أن يكون محتاجًا
(4)
.
(1)
في الأصل: أم الفضل، والصواب ما أثبتناه كما سيأتي في تخريج الحديث.
(2)
رواه أحمد 6/ 405 - 406، وابن خزيمة في "صحيحه" 4/ 360 (3075) كتاب: الزكاة، باب: الرخصة في العمرة على الدواب المحبسة في سبيل الله، والحاكم في "المستدرك" 1/ 482 كتاب: المناسك، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.
(3)
"شرح ابن بطال" 3/ 497.
(4)
انظر: "الهداية" 1/ 121، "الفتاوى التاتارخانية" 2/ 270.
فهو خلاف ظاهر الكتاب والسنة. فأما الكتاب: فقوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللهِ} [التوبة: 60] فإذا غزا الغني فأعطي كان ذَلِكَ في سبيل الله.
وأما السنة: فروى عبد الرزاق، عن معمر، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: لعامل عليها، أو لغاز في سبيل الله، أو غني اشتراها بماله، أو فقير تصدق عليه فأهدى لغني، أو غارم"
(1)
.
وأخرجه أبو داود، وابن ماجه، والحاكم، وقال: صحيح على شرط الشيخين
(2)
. ورواه أبو داود مرة مرسلًا
(3)
. ولأنه يأخذ ذَلِكَ لحاجتنا إليه، فجاز له أخذها مع الغنى كالعامل.
وقوله: في أيها أُعطيت أجزأت. كذا بخط الدمياطي، والألف ملحقة، وذكره ابن التين بلفظ: أجزت وقال: معناه: قضت عنه.
والمشهور في هذا جزأ فعل ثلاثي، فإذا كان رباعيًا همز لغة بني تميم، وقيل جزأ وأجزأ بمعنًى، أي: قضى، مثل وفي وأوفي. وقد سلف ذَلِكَ ويتعلق بهذا مالك، وأبو حنيفة في الاقتصار على صنف واحد من الأصناف الثمانية
(4)
، خلافًا للشافعي فإنه لا يجزئ مع
(1)
"المصنف" 4/ 109 (7151) باب: كم الكنز؟ ولمن الزكاة؟.
(2)
"سنن أبي داود"(1636) باب: من يجوز له أخذ الصدقة وهو غني، "سنن ابن ماجه" (1841) باب: من تحل له الصدقة، "المستدرك" 1/ 407 - 408 كتاب: الزكاة، وقال: على شرط الشيخين ولم يخرجاه؛ لإرسال مالك بن أنس إياه عن زيد بن أسلم.
(3)
"سنن أبي داود"(1635) انظر "صحيح أبي داود"(1445).
(4)
انظر: "تبين الحقائق" 1/ 299، "الكافي" ص 115.
وجود الأصناف الدفع إلى بعضهم
(1)
.
وأما حديث أبي هريرة: فالكلام عليه من أوجه:
أحدها:
المراد بالصدقة: الفرض، وأبعد من قال: التطوع. وفي مسلم: بعث عمر على الصدقة
(2)
. وهو دال للأول. وكذا قوله منع. وهو قول الجمهور إذ البعث إنما يكون على الفرض، وادعى ابن القصار أن الأليق أن يكون في التطوع؛ لأنا لا نظن بأحد منهم منع الواجب. فعذر خالد أنه لما أخرج أكثر ماله حبسًا في سبيل الله، لم يحتمل التطوع، فعذر لذلك، أو حسب له ذَلِكَ عوضًا عن الواجب وخاصة بها، وابن جميل شح في التطوع فعتب عليه الشارع. وأخبر عن العباس أنه سمح بما طلب منه ومثله معه، وأنه مما لا يمتنع بما حضه عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل يعده كاللازم، وهو عجيب منه، ففي البيهقي من حديث أبي البختري
(3)
عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنا كنا احتجنا فاستلفنا للعباس صدقة عامين" وفيه: إرسال بين أبي البختري وعلي
(4)
.
قُلْتُ: وروي من حديث موسى بن طلحة، عن طلحة أيضًا، ومن حديث سليمان الأحول عن أبي رافع، أخرجهما الدارقطني
(5)
.
(1)
انظر: "روضة الطالبين" 2/ 329.
(2)
"صحيح مسلم"(983).
(3)
ورد بهامش الأصل ما نصه: أبو البختري اسمه سعيد بن فيروز الطائي يروي عن علي وابن مسعود مرسلًا.
(4)
"السنن الكبرى" 4/ 111 باب: تعجيل الصدقة.
(5)
"سنن الدارقطني" 2/ 124 - 125 باب: تعجيل الصدقة قبل الحول وقال الدارقطني عن حديث طلحة: اختلفوا عن الحكم في إسناده، والصحيح عن الحسن بن مسلم، مرسل.
ثانيها:
ابن جميل. قال ابن منده وغيره: لا يعرف اسمه. وقال ابن بزيزة: اسمه حميد، ووقع في "تعليق" القاضي الحسيني، و"بحر الروياني" في متن الحديث عبد الله بن جميل. ووقع في "غريب أبي عبيد": منع أبو جهم، ولم يذكر أباه
(1)
.
قال المهلب: وكان منافقًا فمنع الزكاة تربصًا، فاستتابه الله في كتابه فقال:{وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ} [التوبة: 74] فقال: استتابني ربي. فتاب وصلحت حاله.
وذكر غيره أنها نزلت في ثعلبة. و (ينقم) فيه
(2)
بفتح أوله وكسر ثانيه، ويجوز فتحه أيضًا، ومعناه: ينكر، أو يكره، أو يعيب، أي: لا عذر له في المنع إذ لم يكن موجبه إلا أن كان فقيرًا فأغناه الله. وذلك ليس بموجب له، فلا موجب ألبتة.
ثالثها:
نص رواية البخاري أنه تركها له ومثلها معها، وذلك لأن العباس كان استدان في مفاداة نفسه، ومفاداة عقيل، وكان من الغارمين الذين لا تلزمهم الزكاة، وإليه يرد قوله:"فهي له ومثلها معها" وذكره ابن بطال أيضًا
(3)
.
وقال أبو عبيد في رواية ابن إسحاق: "هي عليه ومثلها معها". نرى -والله أعلم- أنه أخر عنه الصدقة عامين من أجل حاجة العباس، وأنه
(1)
"غريب الحديث":
(2)
فوقها في الأصل علق بقوله: (أي في الحديث).
(3)
"شرح ابن بطال" 3/ 499.
يجوز للإمام أن يؤخرها على وجه النظر ثم يأخذها منه بعد، كما أخر عمر صدقته عام الرمادة، فلما حيي الناس في العام المقبل أخذ منهم صدقة عامين
(1)
.
وأما الحديث الذي يروى "إنا قد تعجلنا منه صدقة عامين"
(2)
فهو عندي من هذا أيضًا، إنما تعجل منه أنه أوجبها عليه وضمنها إياه، ولم يقبضها منه، فكانت دينًا على العباس ألا ترى قوله:"هي عليه، ومثلها معها". وحديث حجيّة، عن علي: أن العباس سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعجل صدقته للمساكين قبل أن تحل، فأذن له أخرجه أبو داود والترمذي، وابن ماجه، والحاكم. وقال: صحيح الإسناد
(3)
. وخالف الدارقطني وغيره فقال: إرساله أصح
(4)
. فيكون معنى قوله: ("فهي عليه صدقة، ومثلها معها") أي: فهي عليه واجبة فأداها قبل محلها.
و"مثلها معها" أي: قد أداها أيضًا لعام آخر كما سلف، وهذا أيضًا معنى رواية مَنْ روى:"فهي عليه" ولم يذكر: صدقة
(5)
. وفي رواية لعبد الرزاق، عن ابن جريج، عن (يزيد أبي خالد)
(6)
، أن عمر قال للعباس:
(1)
رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" 3/ 323.
(2)
هذا الحديث رواه ابن سعد في "طبقاته" 4/ 26، والطبراني في "الكبير" 10/ 72 (9985)، وفي "الأوسط" 1/ 299 (1000) وانظر:"الإرواء" 3/ 349.
(3)
"سنن أبي داود"(1624) كتاب: الزكاة، باب: في تعجيل الزكاة، "سنن الترمذي" (678) كتاب: الزكاة، باب: ما جاء في تعجيل الزكاة، "سنن ابن ماجه" (1795) كتاب: الزكاة، باب: تعجيل الزكاة قبل محلها، "المستدرك" 3/ 332 والحديث حسنه الألباني في "صحيح أبي داود"(1436)، وفي "الإرواء"(857).
(4)
"علل الدارقطني" 3/ 187 - 189.
(5)
رواه مسلم (983).
(6)
في الأصل: زيد بن خالد، والمثبت من "مصنف عبد الرزاق" 4/ 86.
(لإِبَّان)
(1)
الزكاة: أد زكاة مالك. فقال: قد أديتها قبل ذَلِكَ، فذكر ذَلِكَ عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"صدق قد أداها قبل"
(2)
.
وروى ورقاء، عن أبي الزناد:"فهي علي"
(3)
. فالمعنى أنه أراد أن يؤديها عنه برأيه، لقوله:"أما علمت أن عم الرجل صنو أبيه"
(4)
. ومن حمله على التطوع. قال: المعنى: "فهي عليه صدقة ومثلها معها" أي أنه سيتصدق بمثلها؛ لأنه لا يمتنع من شيء ألزمه إياه من التطوع، بل يعده كاللازم
(5)
.
وطعن جماعات في هذِه اللفظة أعني قوله: "فهي عليه صدقة ومثلها معها" قال البيهقي: رواية شعيب هذِه، عن أبي الزناد يبعد أن تكون محفوظة؛ لأن العباس كان من صلبية بني هاشم ممن تحرم عليه الصدقة، فكيف يجعل عليه السلام ما عليه من صدقة عامين صدقة عليه؟
(6)
وأجاب المنذري بأنه لعل ذَلِكَ قبل تحريم الصدقة على الآل فرأى إسقاط الزكاة عنه لوجه رآه.
وقال الخطابي: هذِه لفظة لم يتابع عليها شعيب بن أبي حمزة. وليس
ذَلِكَ بجيد، ففي البخاري متابعة أبي الزناد عليها، لكن بحذف لفظة "صدقة" وتابعه موسى بن عقبة أيضًا عن أبي الزناد في النسائي
(7)
.
(1)
كذا في الأصل والمصنف.
(2)
"المصنف" 4/ 86 - 87 (7067) كتاب: الزكاة، باب: وقت الصدقة.
(3)
مسلم (983).
(4)
رواه مسلم (983) كتاب الزكاة، باب في تقديم الزكاة ومنعها، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(5)
وقع هنا في الأصل ثلاثة أسطر مكانها يأتي بعد، وعلم عليها (زائد في. إلى).
(6)
"السنن الكبرى" 4/ 111 - 112.
(7)
"أعلام الحديث" 2/ 796 - 797.
وقال ابن الجوزي: قال لنا ابن ناصر: يجوز أن يكون قد قال: "هي علية" بتشديد الياء ولم يبين الراوي، وأما رواية من روى "فهي له، ومثلها معها" فهي رواية موسى بن عقبة والمراد: عليه، وهما بمعنى قال تعالى:{وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ} [غافر: 52] وقال: {وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} [فصلت: 16] ويحتمل أن يكون "فهي له" أي عليّ. ويحتمل أنها كانت له عليه إذ كان قد قدمها كما سلف، وبه احتج من رأى تقديمها، وسيأتي.
وأما رواية من روى "فهي عليَّ ومثلها معها" فقيل فيه أنه عليه السلام كان تعجلها كما سلف. فالمعنى على النبي صلى الله عليه وسلم ويحتمل أن يكون عليّ أن أؤديها عنه؛ لما له علي من الحق خصوصًا له؛ ولهذا قال: "أما علمت أن عم الرجل صنو أبيه" أي: أصله وأصل أبيه واحد. وأصل ذَلِكَ أن طلع النخلات من عرقٍ واحدٍ.
قال البيهقي: وهذِه الرواية أولى بالصحة لموافقتها الروايات الصحيحة بالاستسلاف والتعجيل
(1)
.
وقال الداودي: المحفوظ: "هي له" أي: إنه قد تصدق بصدقته ومثلها معها، وهي أولى؛ لأنه رجل في صلب بني هاشم لا تحل له الصدقة، وقد رواه ورقاء، عن أبي الزناد:"فهي علي ومثلها معها" كأنه قال: كان يسلف منه صدقة عامين: ذَلِكَ العام وعام قبله كذا قال.
ورواية "فهي له" هي رواية موسى بن عقبة يمكن حملها على هذا أيضًا، وقد يحمل على التأويل الأول؛ لأن "له" بمعنى عليه كما سلف. قال ابن التين: والصحيح أن معنى هذِه الرواية أنه قدم صدقة عامين كما سلف.
(1)
"السنن الكبرى" 4/ 112.
رابعها:
اختلف أهل العلم في تعجيل الزكاة قبل محلها، فرأي طائفة منهم أنها لا تعجل، وبه قالت عائشة، وسفيان، والحسن، وابن سيرين.
وقال أكثر أهل العلم: تجوز، وبه قال عطاء، وسعيد بن جبير، وإبراهيم، والحسن، والضحاك، والحكم، وابن سيرين، والنخعي، والأوزاعي، والزهري، وأبو حنيفة، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور
(1)
. وعند مالك في إخراجها قبل الحول بيسير قولان، وحد القليل بشهر، ونصف شهر، وخمسة أيام، وثلاثة
(2)
.
وقال ابن المنذر: كره مالك والليث إخراجها قبل وقتها، قال: ولا يجزئه أن يعجل. قالوا: وهو كالذي يصلي ويصوم قبل الوقت.
قال الطبري: والذي شبه الزكاة بالصلاة والصيام فليس بمشبه، وذلك أنه لا خلاف بين السلف والخلف في أن الصدقة لو وجبت في ماشيته، فهرب بها من المتصدق، فظهر عليه المصدق فأخذ زكاتها وربها كاره أنها تجزئ عنه، ولا خلاف بينهم أنه لو امتنع من أداء صلاة مكتوبة فأخذ بأدائها كرهًا، فصلاها وهو غير مريد قضاءها، أنها غير مجزئة عنه، فاختلفا.
والعجب ممن زعم عدم الإجزاء لأنه تطوع به، ولا يقع عن الفرض، وليس كما ظن؛ لأن الذي تعجله، لا يعطيه بمعنى الزكاة، وإنما يعطيه من يعطيه دينًا له عليه، على أن يحتبسه عند محله زكاة
(1)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 1/ 455 - 456، و"البناية" 3/ 426، و"روضة الطالبين" 2/ 212، و"المغني" 4/ 79، و"نيل الأوطار" 3/ 55.
(2)
انظر: "الذخيرة" 3/ 137.
من ماله. وعلى هذا الوجه كان استسلاف الشارع من العباس صدقته قبل وجوبها في ماله، ومن قاس ذَلِكَ على الصلاة والصوم فقد أفحش الخطأ؛ لأنهما عبادة بدنية بخلافها، وبدليل أخذها من مال المجنون واليتيم.
فإن قلت: فحديث أبي هريرة في التطوع. قُلْتُ: صح في التعجيل كما سلف.
فرع:
رجح الرافعي أنه لا يجوز تعجيل صدقة عامين
(1)
، والأصح خلافه كما قررته في الفروع، وتؤيده الرواية السالفة.
خامِسهُا: قد أسلفنا أن قوله: (وأَعْتُدَه) بالتاء المثناة فوق على الصحيح، وأَعْبُد: جمع عبد. وأعتده: بالتاء جمع: عند وهو الفرس.
وقد أسلفنا أن عند مسلم "أعتاده"
(2)
وهو رواية أبي داود
(3)
، وهو شاهد لصحة رواية:"أعتده"، جمعه. والمعروف من عادة الناس في كل زمان تحبيس الخيل والسلاح في سبيل الله. وقال صاحب "العين": فرس عتد وعتيد أي: معد للركوب، وبذلك سُميت عتيدة الطيب
(4)
. وقال غيره: الذكر والأنثى فيه سواء. ومما يدل على أنه عند بفتح التاء مجيئه للذكر والأنثى بلفظ واحد هذا حكم المصادر.
سادسها:
اعتذر عن خالد بقوله: "احتبس أدراعه وأعتده في سبيل الله " أي:
(1)
"العزيز" 3/ 16.
(2)
مسلم (983).
(3)
أبو داود (1624).
(4)
"العين" 2/ 29 - 30.
تبررًا وذلك غير واجب عليه، فكيف يجوز أن يمنع واجبًا، وقيل: إنه طولب بالزكاة عن أثمان الأدراع والأعتد على معنى أنها كانت للتجارة، فأخبر أنه لا زكاة عليه فيها إذ قد جعلها حبسًا في سبيل الله.
وفي ذَلِكَ إثبات زكاة التجارة. وبه قال جميع الفقهاء إلا داود، وبعض المتأخرين
(1)
.
وقيل: إنه احتبسها أي جعلها في سبيل الله ليحاسب بها، ولو كان حبسها ولم ينو الزكاة للزمته الزكاة. وإنما أجزأه ذَلِكَ؛ لأن أحد الأصناف المستحقين للزكاة: في سبيل الله، وهم المجاهدون، فصرفها في الحال إليهم كصرفها في المآل فعلى هذا يكون دليلًا على إخراج القيم في الزكاة، وعلى جواز إخراج الزكاة. قبل محلها، وقد سلف. وعلى وضع الزكاة في جنس واحد من الثمانية، خلافًا للشافعي في غير الإمام وقد سلف أيضًا.
وفيه: تحبيس آلات الحرب، والثياب، وكل ما ينتفع به مع بقاء عينه، والخيل والإبل كالأعبد. وفي تحبيس غير العقار ثلاثة أقوال للمالكية: المنع المطلق، ومقاتلة الخيل فقط. وقيل: يكره في الرقيق خاصة؛ وجه المنع أن الوقف ورد في العقار دون غيره، فلم يجز تعديه. ووجه الجواز حديث خالد هذا
(2)
.
وروي أن أبا معقل وقف بعيرًا له، فقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم ينكره
(3)
. وقال أبو حنيفة: لا يلزم الوقف في شيء إلا أن يحكم به
(1)
انظر: "عيون المجالس" 2/ 527، "المغني" 4/ 248، "الإجماع لابن المنذر" ص 57.
(2)
انظر: "الذخيرة" 6/ 313.
(3)
سبق تخريجه.
حاكم، أو يكون الوقف مسجدًا، أو سقاية، أو وصية من الثلث
(1)
.
سابعها: فيه: بعث الإمام العمال بجباية الزكاوات، وأن يكونوا فقهاء أمناء ثقات عارفين، حيث بعث عليها عمر، وتعريف الإمام بمانعيها ليعينهم على أخذها منهم، أو يبين لهم وجوه أعذارهم في منعها، وتعريف الفقير نعمة الله عليه في الغني؛ ليقوم بحق الله فيه. وعتب الإمام على من منع الخير، وإن كان منعه مندوبًا في غيبته وحضوره، وصحة الوقف، وصحة وقف المنقول، وبه قالت الأمة بأسرها إلا أبا حنيفة، وبعض الكوفيين
(2)
، وأنه لا زكاة في الوقف، ووجوب زكاة التجارة على ما سلف، والتصريح باسم القريب، وفيه غير ذَلِكَ مما أوضحته في "شرح العمدة" فراجعه منه تجدْ نفائسَ
(3)
.
(1)
انظر: "الهداية" 3/ 15 - 16.
(2)
انظر: "بدائع الصنائع" 6/ 220.
(3)
في هامش الأصل تعليق: ثم بلغ في السادس عشر كتبه مؤلفه.
وانظر: "الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 5/ 71 - 94.
50 - باب الاِسْتِعْفَافِ عَنِ المَسْأَلَةِ
1469 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ نَاسًا مِنَ الأَنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ، حَتَّى نَفِدَ مَا عِنْدَهُ فَقَالَ:"مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللهُ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ". [6470 - مسلم: 1053 - فتح: 3/ 335]
1470 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَحْتَطِبَ عَلَى ظَهْرِهِ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ رَجُلًا، فَيَسْأَلَهُ، أَعْطَاهُ أَوْ مَنَعَهُ". [1480، 2074، 2374 - مسلم 1042 - فتح: 3/ 335]
1471 -
حَدَّثَنَا مُوسَى، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ أَبِيهِ عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ العَوَّامِ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ، فَيَأْتِيَ بِحُزْمَةِ الحَطَبِ عَلَى ظَهْرِهِ فَيَبِيعَهَا، فَيَكُفَّ اللهُ بِهَا وَجْهَهُ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ، أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ". [2057 - 2373 - فتح: 3/ 335]
1472 -
وَحَدَّثَنَا عَبْدَانُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ، أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ رضي الله عنه قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي ثُمَّ قَالَ:"يَا حَكِيمُ، إِنَّ هَذَا المَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ، اليَدُ العُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى".
قَالَ حَكِيمٌ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ، لَا أَرْزَأُ أَحَدًا بَعْدَكَ شَيْئًا حَتَّى أُفَارِقَ الدُّنْيَا، فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه يَدْعُو حَكِيمًا إِلَى العَطَاءِ فَيَأْبَى أَنْ يَقْبَلَهُ مِنْهُ، ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ رضي الله عنه دَعَاهُ لِيُعْطِيَهُ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ شَيْئًا. فَقَالَ عُمَرُ: إِنِّي أُشْهِدُكُمْ يَا مَعْشَرَ
المُسْلِمِينَ عَلَى حَكِيمٍ، أَنِّي أَعْرِضُ عَلَيْهِ حَقَّهُ مِنْ هَذَا الفَيْءِ فَيَأْبَى أَنْ يَأْخُذَهُ. فَلَمْ يَرْزَأْ حَكِيمٌ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى تُوُفِّيَ. [2750، 3143، 6441 - مسلم: 1035 - فتح: 3/ 335]
ذكر فيه حديث أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ: أَنَّ نَاسًا مِنَ الأَنْصَارِ سَألُوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَعْطَاهُمْ .. الحديث. وفيه: "وَمَنْ يَسْتَعِفَّ يُعِفَّهُ الله".
وحديث أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَحْتَطِبَ عَلَى ظَهْرِهِ، خيرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ رَجُلًا فَيَسْأَلهُ، أَعْطَاهُ أَوْ مَنَعَهُ". الحديث.
وحديث الزُّبَيْرِ بْنِ العَوَّام مرفوعًا مثله. وحديث حَكِيم بنِ حِزَامٍ "يا حكيم إِنَّ هذا المَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَة .. " الحديث.
الشرح:
هذِه الأحاديث أخرجها مسلم خلا حديث (ابن الزبير)
(1)
فهو من أفراد البخاري
(2)
، واستغرب الترمذي حديث أبي هريرة
(3)
.
وحديث حكيم خرجه البخاري أيضًا في الوصايا
(4)
، وسلف "لا صدقة إلا عن ظهر غنى"
(5)
.
إذا تقرر ذَلِكَ فالكلام عليها من وجوه:
(1)
في الأصل علق تحتها بقوله: يعني: عروة.
(2)
حديث أبي سعيد الأول رواه مسلم (1053) كتاب: الزكاة، باب: فضل التعفف والصبر، حديث أبي هريرة الثاني رواه مسلم (1042) كتاب: الزكاة، باب: كراهة المسألة للناس، حديث حكيم الرابع رواه مسلم (1035) كتاب: الزكاة، باب: بيان أن اليد العليا خير من اليد السفلى.
(3)
"سنن الترمذي"(680) كتاب: الزكاة، باب: ما جاء في النهي عن المسألة.
(4)
سيأتي برقم (2750) باب تأويل قول الله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} .
(5)
انظر ما سلف برقم (1426).
أحدها:
"نفِد" في الحديث الأول بكسر الفاء ثم دال مهملة أي: فرغ وفني. ذكره الجوهري
(1)
.
ثانيها:
قوله فيه: " (فلن أدخره عنكم" قال الترمذي: روي عن مالك: "فلن"، ويروى عنه:"فلم" أي: لن أحبسه عنكم، وقوله: قبله: (فقال: "ما يكون عندي من خير") بخط الدمياطي صوابه: "يكن" أي: من حيث الرواية.
ثالثها:
قوله: "لأن يأخذ" كذا هنا، وفي "الموطأ""ليأخذ"
(2)
وعند الإسماعيلي من رواية قتيبة ومعن والتنيسي "ليأخذ" ثم قال معن والتنيسي: "لأن يأخذ".
واعلم أن مدار هذِه الأحاديث على كراهية المسألة، ولا شك أنها على ثلاثة أوجه: حرام، ومكروه، ومباح. فمن سأل وهو غني من زكاة، وأظهر من الفقر فوق ما هو به فهذا لا يحل له. ومن سأل من تطوع ولم يظهر من الفقر فوق ما هو به فهذا مكروه. والاحتطاب خير منه. والمباح: أن يسأل بالمعروف قريبًا أو صديقًا أو ليكافيء. أما السؤال عند الضرورة فواجب لإحياء النفس، وأدخله الداودي في المباح. وأما الأخذ من غير مسألة ولا إشراف نفس فلا بأس به.
(1)
"الصحاح" 2/ 544.
(2)
"الموطأ"
رابعها:
قوله: "إن هذا المال خضرة حلوة" سلف معناه في باب: الصدقة على اليتامى. ومعنى "فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه": أي: بغير شدة ولا إلحاح ولا بمسكنة، وفي رواية "بطيب نفس"
(1)
.
قال القاضي: فيه احتمالان:
أحدهما: أنه عائد على الآخذ، يعني: من أخذه بغير سؤال ولا إشراف نفس بورك فيه.
والثاني: أنه عائد إلى الدافع، ومعناه: فمن أخذه ممن يدفعه منشرحًا يدفعه إليه طيب النفس من غير سؤال اضطره إليه أو نحوه مما لا تطيب معه نفس الدافع.
خامسها:
قوله: "ومن أخذه بإشراف نفس كان كالذي يأكل ولا يشبع"؛ لأنه يأكل من سقم وآفة، فكلما أكل ازداد سقما ولا يجد شبعًا فينجع فيه الطعام، ويزعم أهل الطب أن ذَلِكَ من علة السوداء، ويقال: إنها صفة دائه وأهل الطب يسمونها الشهوة الكلبة والكلبية لمن يأكل ولا يشبع قيل: إنه لا يبقي شيئًا ولا يسد لها مسدًّا. وقيل: معنى بإشراف نفس أن المسئول يعطيه عن تكرر. وقيل: يريد به شدة حرص السائل وإشرافه على المسألة. ومعنى: "لم يبارك له فيه" أي إذا أتبع نفسه المسألة، ولم يصن وجهه فلم يبارك له فيما أخذ وأنفق.
سادسها:
معنى "لا أرزأ أحدًا بعدك" أي: لا آخذ من أحد شيئًا؛ لأنه إذا أخذ
(1)
ستأتي برقم (6441) في الرقاق، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "هذا المال خضرة حلوة".
من مال أحد فقد نقص ذَلِكَ من ماله وصارت كلمة فاشية. ولما ولي عمر ابن عبد العزيز، قدم عليه وفد العراق، فأمر لهم بعطاء، فقالوا: لا نرزؤك، وترك حكيم أخذ العطاء، وهو حق له؛ لأنه خشي أن يفعل خلاف ما قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم، واتقى أن يكون بما يعطى، فترك ما يريبه لما لا يريبه.
وفي بعض حديثه: ولا منك يا رسول الله؟ قال: "ولا مني" وإنما قال له ذَلِكَ لما كان وقع منه من الحرص والإشراف في المسألة ورأى أن قطع ذَلِكَ كله عن نفسه خير له؛ لئلا تشرف نفسه إلى شيء فيتجاوز به القصد.
سابعها:
فيه تشبيه الرغبة في المال، والميل إليه، وحرص النفوس عليه بالفاكهة الخضراء المستلذة، فإن الأخضر مرغوب فيه على انفراده والحلو كذلك فاجتماعهما أشد.
وفيه: أيضًا إشارة إلى عدم بقائه؛ لأن الخضراوات لا تبقى ولا تراد للبقاء.
ثامنها:
في حديث أبي سعيد من الفقه: إعطاء السائل مرتين من مال واحد من الصدقة. قال ابن بطال
(1)
: ومثله عندهم الوصايا، يجيزون لمن أوصي له بشيء إذا قبضه أن يعطى مع المساكين، وإن كان ذَلِكَ الشيء لا يخرجه عن حد المسكنة، وأبى ذَلِكَ ابن القاسم وطائفة من الكوفيين.
وفيه: أيضًا ما كان عليه السلام من الكرم والسخاء والإيثار على نفسه.
(1)
"شرح ابن بطال" 3/ 504 - 506.
وفيه: الاعتذار للسائل إذا لم يجد ما يعطيه.
وفيه: الحض على الاستغناء عن الناس بالصبر، والتوكل على الله، وانتظار رزق الله، وأن الصبر أفضل ما أعطيه المؤمن، وكذلك الجزاء عليه غير مقدور، ولا محدود. قال الله تعالى:{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10].
تاسعها:
في حديث أبي هريرة الحض على التعفف عن المسألة، والتنزه عنها، وأن يمتهن المرء نفسه في طلب الرزق، وإن ركب المشقة في ذَلِكَ، ولا يكون عيالًا على الناس، ولا كَلاًّ، وذلك لما يدخل على السائل من الذل في سؤاله وفي الرد إذا رد خائبًا، ولما يدخل على المسئول من الضيق في ماله إن هو أعطى لكل سائل، ولهذا المعنى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اليد العليا خير من اليد السفلى".
وكان مالك يرى ترك ما أعطى الرجل على جهة الصدقة أحب إليه من أخذه وإن لم يسأله.
عاشرها:
في حديث حكيم من الفقه أن سؤال السلطان الأعلى ليس بعار، وأن السائل إذا ألحف لا بأس برده، وموعظته، وأمره بالتعفف، وترك الحرص على (أخذه)
(1)
؛ كما فعل الشارع بحكيم فأنجح الله موعظته ومحا بها حرصه، فلم يرزأ أحدًا بعده، والقناعة وطلب الكفاية والإجمال في الطلب مقرون بالبركة. وأن من طلبه بالشرَهِ والحرص فلم يأخذه من حقه لم يبارك له فيه، وعوقب بأن حرم بركة ما جمع،
(1)
في الأصل: (أحد)، ولعل المثبت هو الصحيح.
وفضل المال والغنى إذا أنفق في الطاعة عملًا بقوله: "اليد العليا خير من اليد السفلى" وأن الإنسان لا يسأل شيئًا إلا عند الحاجة؛ لأنه إذا كان يده السفلى مع إباحة المسألة فهو أحرى أن يمتنع من ذَلِكَ عند غيرها. وأن من كان له عند أحد حق من معاملة وغيرها، فإنه يجبره على أخذه إذا أبي. وإن كان بما لا يستحقه إلا ببسط اليد إليه فلا يجبر على أخذه. وإنما أشهد عمر على إباء حكيم من أخذ ماله في بيت المال؛ لأنه خشي سوء التأويل، فأراد تبرئة ساحته بالإشهاد عليه، وأنه لا يستحق أحد من بيت المال شيئًا بعد أن يعطيه الإمام إياه، وأما قبل ذَلِكَ فليس مستحق له، ولو كان مستحقًّا له لقضى عمر على حكيم بأخذه، وعلى ذَلِكَ يدل قوله تعالى حين ذكر قسم الصدقات وفي أي الأصناف تقسم {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} آية [الحشر: 7] فإنما هو لمن أوتيه لا لغيره وإنما قال العلماء في إثبات الحقوق في بيت المال تشددًا على غير المرَضِيِّ من السلاطين؛ ليغلقوا باب الامتداد إلى أموال المسلمين والتسبب إليها بالباطل. ويدل على ذَلِكَ فتيا مالك فيمن سرق من بيت المال أنه يقطع
(1)
، ومن زنى بجارية من الفيء أنه يحد، ولو استحق في بيت المال أو في الفيء شيئًا على الحقيقة قبل إعطاء السلطان له ذَلِكَ لكانت شبهة يُدرأ عنه الحد بها. وجمهور الأمة على أن للمسلمين حقًّا في بيت المال، والفيء يقسمه الإمام على اجتهاده، وسيأتي ذَلِكَ في الجهاد إن شاء الله ذَلِكَ وقدره
(2)
.
(1)
انظر: "المدونة" 4/ 427.
(2)
انتهى كلام ابن بطال بتصرف.
51 - باب مَنْ أَعْطَاهُ اللهُ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ وَلَا إِشْرَافِ نَفْسٍ
1473 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُعْطِينِي العَطَاءَ، فَأَقُولُ: أَعْطِهِ مَنْ هُوَ أَفْقَرُ إِلَيْهِ مِنِّي فَقَالَ: "خُذْهُ، إِذَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا المَالِ شَيْءٌ -وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلَا سَائِلٍ- فَخُذْهُ، وَمَا لَا فَلَا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ". [7163، 7164 - مسلم: 1045 - فتح: 3/ 337]
ذكر فيه حديث سَالِمٍ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُعْطِينِي العَطَاءَ، فَأَقُولُ: أَعْطِهِ مَنْ هُوَ أَفْقَرُ إِلَيهِ مِنِّي فَقَالَ: "خُذْهُ، إِذَا جَاءَكَ مِنْ هذا المَالِ شَيٌ -وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلَا سَائِلٍ- فَخُذْهُ، وَمَا لَا فَلَا تتبِعْهُ نَفْسَكَ".
الشرح:
هذا الحديث أخرجه مسلم أيضًا عن سالم، عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعطي عمر بزيادة. قال سالم: فمن أجل ذَلِكَ كان ابن عمر لا يسأل أحدًا شيئًا، ولا يرد شيئًا أعطيه، وأخرجه عن عمر أيضًا
(1)
.
ومعنى غير مشرف: غير متعرض، ولا حريص عليه بشره وطمع، وأصله من قولهم: أشرف فلان على كذا، إذا تطاول له ورماه ببصره. ومنه قيل للمكان المرتفع: شرف، وللشريف من الرجال: شريف؛ لارتفاعه عمن دونه بمكارم الأخلاق. ومعنى ("فلا تتبعه نفسك"): ما لم يأتك من غير مسألة فلا تحرص عليه.
(1)
"صحيح مسلم"(1045) كتاب: الزكاة، باب: إباحة الأخذ لمن أعطي من غير مسألة ولا إشراف.
قال الطحاوي: ليس معنى هذا الحديث في الصدقات، وإنما هو في الأموال التي يقسمها الإمام على أغنياء الناس وفقرائهم، فكانت تلك الأموال يعطاها الناس لا من جهة (الفقر)
(1)
، ولكن من حقوقهم فيها، فكره الشارع لعمر حين أعطاه قوله: أعطه من هو أفقر إليه مني. لأنه إنما أعطاه لمعنى غير الفقر، ثم قال له:"خذه فتموله"
(2)
هكذا رواه شعيب عن الزهري، فدل أن ذَلِكَ ليس من أموال الصدقات؛ لأن الفقير لا ينبغي أن يأخذ من الصدقات ما يتخذه مالًا كان عن غير مسألة أو عن مسألة. ثم قال:"إذا جاءك من هذا المال الذي هذا حكمه فخذه"
(3)
.
قال الطبري: واختلف العلماء في قوله: "فخذه" بعد إجماعهم على أنه أمر ندب وإرشاد، فقال بعضهم: هو ندب لكل من أعطي عطية أبي قبولها كائنًا من كان معطيها إمامًا أو غيره، صالحًا كان أو فاسقًا، بعد أن يكون ممن تجوز عطيته. روي عن أبي هريرة أنه قال: ما أحد يهدي إليَّ هدية إلا قبلتها، فأما أن أسأل فلا. وعن أبي الدرداء مثله. وقبلت عائشة من معاوية.
وقال حبيب بن أبي ثابت: رأيت هدايا المختار تأتي ابن عمر، وابن عباس فيقبلانها. وقال عثمان بن عفان: جوائز السلطان لحم ظبي ذكي.
وبعث سعيد بن العاصي إلى علي بهدايا فقبلها وقال: خذ ما أعطوك.
وأجاز معاوية الحسين بأربعمائة ألف. وسئل أبو جعفر محمد بن علي ابن الحسين عن هدايا السلطان فقال: إن علمت أنه من غصب أو
(1)
في الأصل: (الفقراء) بالمد ولعل المثبت أصح.
(2)
سيأتي في رواية (7163) كتاب الأحكام، باب رزق الحكام والعاملين عليها.
(3)
"شرح معاني الآثار" 2/ 22.
سحت فلا تقبله، وإن لم تعرف ذَلِكَ فاقبله، ثم ذكر قصة بريرة. وقول الشارع:"هو لنا هدية"، وقال: ما كان من مأثم فهو عليهم وما كان من مهنأ فهو لك، وقبلها علقمة، والأسود، والنخعي، والحسن، والشعبي.
وقال آخرون: بل ذَلِكَ ندب منه أُمَّتَه إلى قبول عطية غير ذي سلطان، فأما السلطان، فإن بعضهم كان يقول: حرام قبول عطيته، وبعضهم كرهها، روي أن خالد بن أسيد أعطى مسروقًا ثلاثين ألفًا فأبى أن يقبلها، فقيل له: لو أخذتها فوصلت بها رحمك. فقال: أرأيت لو أن لصًّا نقب بيتا، ما أبالي أخذتها أو أخذت ذَلِكَ. ولم يقبل ابن سيرين ولا ابن رزين ولا ابن محيريز من السلطان. وقال هشام بن عروة: بعث إليَّ عبد الله بن الزبير وإلى أخي بخمسمائة دينار. قال أخي: رُدَّها، فما أكلها أحد وهو غني عنها إلا أحوجه الله إليها.
وقال ابن المنذر: كره جوائز السلطان محمد بن واسع، والثوري وابن المبارك وأحمد. وقال آخرون: بل ذَلِكَ ندب إلى قبول هدية السلطان دون غيره. وروي عن عكرمة: إنا لا نقبل إلا من الأمراء.
قال الطبري: والصواب عندي أنه ندب منه إلى قبول عطية كل معطٍ جائزة عطيته، سلطانًا كان أو غيره، لحديث عمر، فندبه إلى قبول كل ما آتاه الله من المال من جميع وجوهه من غير تخصيص سوى ما استثناه، وذلك ما جاء من وجه حرام عليه وعلم به، ووجه من رد أنه كان على من كان الأغلب من أمره أنه لا يأخذ المال من وجهه، فرأى أن الأسلم لدينه والأبرأ لعرضه تركه، ولا يدخل في ذَلِكَ ما إذا علم حرمته، ووجه من
قبل ممن لم يبال من أين أخذ المال، ولا فيما وضعه أنه ينقسم ثلاثة أقسام: ما علم يقينًا فلا يستحب رده. وعكسه: فيحرم قبوله.
وما لا فلا يكلف البحث عنه. وهو في الظاهر أولى به من غيره ما لم يستحق. وأما مبايعة من يخالط ماله الحرام وقبول هداياه فكره ذَلِكَ قوم، وأجازه آخرون. فممن كرهه: عبد الله بن يزيد وأبو وائل والقاسم وسالم، وروي أنه توفيت مولاة لسالم كانت تبيع الخمر بمصرَ فنزك ميراثها أيضًا، وقال مالك: قال عبد الله بن يزيد بن هرمز: إني لأعجب ممن يرزق الحلال ويرغب في الربح فيه الشيء اليسير الحرام فيفسد المال كله. وكره الثوري المال الذي يخالطه الحرام. وممن أجازه ابن مسعود. روي عنه أن رجلًا سأله فقال: لي جار لا يتورع مِن أكل الربا، ولا مِن أخذ ما لا يصلح، وهو يدعونا إلى طعامه، ويكون لنا الحاجة فنستقرضه. فقال: أجبه إلى طعامه، واستقرضه فلك المهنأ وعليه المأثم
(1)
. وسئل ابن عمر عن أكل طعام من يأكل الربا، فأجازه
(2)
.
وسئل النخعي عن الرجل يرث المال منه الحلال والحرام. قال: لا يحرم عليه إلا حرام بعينه. وعن سعيد بن جبير أنه مرَّ بالعشَّارين وفي أيديهم شماريخ، فقال: ناولنيها من سحتكم هذا، إنه عليكم حرام، وعلينا حلال. وأجاز البصري طعام العشار، والصراف، والعامل. وعن مكحول والزهري: إذا اختلط الحلال بالحرام فلا بأس
(1)
رواه عبد الرزاق في "مصنفه" 8/ 150 (14675 - 14676) كتاب: البيوع، باب: طعام الأمراء وأكل الربا، وابن حزم في "المحلى" 9/ 156.
(2)
رواه البيهقي في "سننه" 5/ 335 كتاب: البيوع، باب: كراهية مبايعة من أكثر ماله من الربا أو ثمن المحرم.
به، وإنما يكره من ذَلِكَ الشيء يعرف بعينه. وأجازه ابن أبي ذئب.
قال ابن المنذر: واحتج من رخص فيه بأن الله تعالى ذكر اليهود فقال: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة: 42].
وقد رهن الشارع درعه عند يهودي على طعام أخذه
(1)
.
وقال الطبري: في إباحة الله تعالى أخذ الجزية من أهل الكتاب مع علمه بأن أكثر أموالهم أثمان الخمور والخنازير، وهم يتعاملون بالربا أبين الدلالة على من كان من أهل الإسلام بيده مال لا يدري أمن حرام كسبه أو من حلال فإنه لا يحرم قبوله لمن أُعطِيَه، وإن كان ممن لا يبالي اكتسبه من غير حله بعد أن لا يعلم أنه حرام بعينه، وبنحو ذَلِكَ قالت الأئمة من الصحابة والتابعين. ومن كرهه فإنما ركب في ذَلِكَ طريق الورع وتجنب الشبهات، والاستبراء لدينه؛ لأن الحرام لا يكون إلا بَيِّنًا غير مشكل.
وفي الحديث: من الفقه:
أن للإمام أن يعطي الرجل العطاء وغيره أحوج إليه منه إذا رأى لذلك وجهًا لسابقة، أو خير، أو غنًى عن المسلمين، وأن ما جاء من المال الحلال الطيب من غير مسألة فإنَّ أَخْذَه خير من تركه، إذا كان ممن يُجْمُل الأخذ منه. وأنَّ رد عطاء الإمام ليس من الأدب؛ لأنه داخل تحت عموم قوله تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7] فإذا لم يأخذه فكأنه لم يأتمر.
(1)
سيأتي برقم (268)، ورواه مسلم (2508).
باب في قوله تعالى:
{وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالمَحْرُومِ (19)} [الذاريات: 19]
المحروم: المحارف، قال ابن عمر: الحق هنا سوى الصدقة المفروضة
(1)
. وقاله مجاهد
(2)
. وهذا الباب في بعض النسخ، ونبه عليه ابن التين. وقال: إنه ليس في رواية أبي ذر
(3)
، فلذا حذفه ابن بطال وشيخنا. والمحروم من حرم الرزق، وكذلك المحارف.
واختلف أهل اللغة من أين أخذ هذا للمحارف، فقيل له: حورف كسبه: ميل به عنه، كتحريف الكلام يعدل عن جهته.
وزعم ناس أنه أخذ من المحراف وهو حديدة يعالج بها الجراحة، أي: قدر رزقه كما تعقل الجراحة بالمنشار. وقال الحسن بن محمد: المحروم من لا سهم له في الغنيمة. وقال زيد بن أسلم: إنه الذي لحقته الجائحة فأذهبت زرعه وماشيته.
وقال الشعبي: أنا منذ احتلمت أسأل عن المحروم، وما أنا الساعة بأعلم به مني ذَلِكَ الوقت ولي سبعون سنة.
وقال محمد بن الحنفية: بعث الشارع سرية فغنمت، فجاء قوم لم يشهدوا الحرب فأنزل الله الآية المذكورة
(4)
.
(1)
ذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 135 وعزاه إلى عبد بن حميد.
(2)
رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" 2/ 411 - 412 (10524) كتاب: الزكاة، من قال: في المال حق سوى الزكاة، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 135 وعزاه إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر.
(3)
كذا ذكر المصنف نقلًا عن ابن التين وفي حاشية السلطانية 2/ 123 أنها من رواية أبي ذر والمستملي.
(4)
انظر: هذِه الآثار في "الجامع لأحكام القرآن" 17/ 38 - 39.
52 - باب مَنْ سَأَلَ النَّاسَ تَكثُّرًا
1474 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ قَالَ: سَمِعْتُ حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَسْأَلُ النَّاسَ حَتَّى يَأْتِىَ يَوْمَ القِيَامَةِ لَيْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ". [1475 - مسلم: 1040 - فتح: 3/ 338]
1475 -
وَقَالَ: "إِنَّ الشَّمْسَ تَدْنُو يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يَبْلُغَ العَرَقُ نِصْفَ الأُذُنِ، فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ اسْتَغَاثُوا بِآدَمَ، ثُمَّ بِمُوسَى، ثُمَّ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم". وَزَادَ عَبْدُ اللهِ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ:"فَيَشْفَعُ لِيُقْضَى بَيْنَ الخَلْقِ، فَيَمْشِي حَتَّى يَأْخُذَ بِحَلْقَةِ البَابِ، فَيَوْمَئِذٍ يَبْعَثُهُ اللهُ مَقَامًا مَحْمُودًا، يَحْمَدُهُ أَهْلُ الجَمْعِ كُلُّهُمْ". [4718]
وَقَالَ مُعَلّى: حدثَنَا وُهَيْبٌ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ رَاشِدِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُسْلِمِ أَخِي الزُّهْرِيِّ، عَنْ حَمْزَةَ، سَمِعَ ابن عُمَرَ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الَمسْأَلةِ. [انظر: 1474 - مسلم: 1040 - فتح: 3/ 338]
حَدَّثَنَا يَحْييَ بْنُ بُكَيْرٍ، ثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ: سَمِعْتُ حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لا يَزَالُ الرَّجُلُ يَسْأل النَّاسَ حَتَّى يَأْتيَ يَوْمَ القِيَامَةِ لَيْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ .. " الحديث.
وَزَادَ عَبْدُ اللهِ: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ:"فَيَشْفَعُ لِيُقْضَى بَيْنَ الخَلْقِ .. " الحديث.
وَقَالَ مُعَلًّى: ثَنَا وُهَيْبٌ، عَنِ النُّعمانِ بْنِ رَاشِدِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُسْلِم أَخِي الزُّهْرِيِّ، عَنْ حَمْزَةَ، سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي المَسْألَةِ.
الشرح:
هذا الحديث أخرجه مسلم أيضًا إلى قوله "مزعة لحم" ولم يذكره في رواية أخرى: أعني: "مزعة"
(1)
.
وقوله: (قال: مُعَلَّى) أسنده البيهقي، عن أبي الحسين القطان، ثنا (ابن أبي درستويه)
(2)
، ثنا يعقوب بن سفيان، ثنا مُعَلَّى به:"ما تزال المسألة بالرجل حتَّى يلقى الله وما في وجهه مزعة لحم"
(3)
.
وقوله: (وزاد عبد الله) يعني: ابن صالح كاتب الليث بن سعد. قاله أبو نعيم وخلف في "أطرافه". ووقع أيضًا في بعض الأصول منسوبًا، وتابع يحيى عبدُ الله بن عبد الحكم، وشعيبُ بن الليث فروياه عن الليث. ورواية عبد الله أسندها البزار، عن أبي بكر بن إسحاق، ثنا عبد الله بن صالح، ثنا الليث، عن عبيد الله بن أبي جعفر، عن صفوان بن سليم، عن حمزة، ورأيته في موضع آخر عن عبيد الله بن أبي جعفر قال: حَدَّثَني حمزة، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. فذكره مطولًا.
إذا تقرر ذَلِكَ:
فالمُزعة -بضم الميم- القطعة من اللحم، ويقال بكسرها، قاله ابن فارس
(4)
.
(1)
"صحيح مسلم"(1040) كتاب: الزكاة، باب: كراهة المسألة للناس.
(2)
في الأصل: ابن درستويه، ولعل الصواب ما أثبتناه كما في "سنن البيهقي" 3/ 196 (7870).
(3)
"السنن الكبرى" 4/ 196 كتاب: الزكاة، باب: كراهية السؤال والترغيب في تركه.
(4)
"مجمل اللغة" 3/ 829.
واقتصر عليه القزاز في "جامعه"، وابن سيده
(1)
: الضم فقط، وكذا الجوهري، قال: وبالكسر من الريش والقطن
(2)
.
سوَّى ابنُ سيده بين الكل بالضم. قال ابن التين: وضبطه أبو الحسن بفتح الميم والزاي، وقال: الذي أحفظ عن المحدثين ضمها. ومزعت اللحم: قطعته قطعة قطعة، ويقال: أطعمه مزعة من لحم أي: قطعة وثيقة منه.
قال الخطابي: هذا يحتمل وجوهًا: منها أنه يأتي يوم القيامة ساقطًا لا جاه له ولا قدر، ومنها أن يكون وجهه عَظْمًا لا لحم عليه، بأن يكون قد عذب في وجهه حتَّى سقط لحمه، على معنى مشاكلة العقوبة في مواضع الجناية من الأعضاء
(3)
.
كما روي من قرض شفاه الخطباء
(4)
، وتخبط آكلة الربا
(5)
، ويكون ذَلِكَ شعاره يعرف به. وقد جاء في رواية أنه يأتي يوم القيامة ووجهه عظم كله. قال المهلب: وفيه ذم السؤال وتقبيحه.
وفهم البخاري أن الذي يأتي يوم القيامة ولا لحم في وجهه من كثرة السؤال أنه السائل تكثرًا لغير ضرورة إلى السؤال. ومن سأل تكثرًا فهو غني لا تحل له الصدقة، فعوقب في الآخرة، فإذا جاء لا لحم في وجهه فتؤذيه الشمس أكثر من غيره، ألا ترى قوله في الحديث:
(1)
"المحكم" 1/ 337.
(2)
"الصحاح" 3/ 1284.
(3)
"أعلام الحديث" 2/ 802.
(4)
رواه أحمد 3/ 120 و 180 و 231 و 239 من حديث أنس.
وله عنه طرق عدة جمعها الألباني مصححًا للحديث في "الصحيحة"(291).
(5)
يشير إلى قوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ} الآية [البقرة: 275].
"إن الشمس تدنو من رءوسهم يوم القيامة حتَّى يبلغ العرق نصف الأذن" وفي رواية: "يبلغ عرق الكافر" فحذر صلى الله عليه وسلم من الإلحاف لغير حاجة في المسألة.
وأما من سأل مضطرًا فقيرًا فمباح له المسألة، ويرجى له أن يؤجر عليها إذا لم يجد عنها بدًّا، ورضي بما قسم الله له، ولم يسخط قدره.
وفي حديث سمرة مرفوعًا: "المسائل كدوح يكدح بها الرجل وجهه، فمن شاء أبقى على وجهه، وما شاء ترك إلا أن يسأل الرجل ذا سلطان، أو في أمر لا يجد منه بدًّا"
(1)
.
قُلْتُ: ولا يحل للفقير أن يظهر من المسألة أكثر مما به.
(1)
رواه أبو داود (1639) كتاب: الزكاة، باب: ما تجوز فيه المسألة، والترمذي (681) كتاب: الزكاة، باب: ما جاء في النهي عن المسألة، والنسائي 5/ 100 كتاب: الزكاة، مسألة الرجل في أمر لا بد له منه، وأحمد 5/ 10، 5/ 19، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود"(1447)، وفي "صحيح الجامع"(6695)، و"صحيح الترغيب والترهيب" 1/ 486 (792).
53 - باب قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة: 273]
وَكَمِ الغِنَى، وَقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:"وَلَا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ". [لقول الله تعالى:]{لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ} إِلَى قَوُلِهِ: {فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة: 273].
1476 -
حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَيْسَ المِسْكِينُ الذِي تَرُدُّهُ الأُكْلَةُ وَالأُكْلَتَانِ، وَلَكِنِ المِسْكِينُ الذِي لَيْسَ لَهُ غِنًى وَيَسْتَحْيِي أَوْ لَا يَسْأَلُ النَّاسَ إِلْحَافًا". [1479، 4539 - مسلم: 1039 - فتح: 3/ 340]
1477 -
حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ الحَذَّاءُ، عَنِ ابْنِ أَشْوَعَ عَنِ الشَّعْبِيِّ، حَدَّثَنِي كَاتِبُ المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: كَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنِ اكْتُبْ إِلَيَّ بِشَيْءٍ سَمِعْتَهُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. فَكَتَبَ إِلَيْهِ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ اللهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا: قِيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةَ المَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ". [انظر: 844 - مسلم: 593 سيأتي بعد الحديث 1715 - فتح: 3/ 340]
1478 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ غُرَيْرٍ الزُّهْرِيُّ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَعْطَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَهْطًا وَأَنَا جَالِسٌ فِيهِمْ، قَالَ: فَتَرَكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْهُمْ رَجُلًا لَمْ يُعْطِهِ، وَهُوَ أَعْجَبُهُمْ إِلَى، فَقُمْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَسَارَرْتُهُ فَقُلْتُ: مَا لَكَ عَنْ فُلَانٍ؟ وَاللهِ إِنِّي لأُرَاهُ مُؤْمِنًا. أو قَالَ: مُسْلِمًا. قَالَ: فَسَكَتُّ قَلِيلًا، ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَعْلَمُ فِيهِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ. مَا لَكَ عَنْ فُلَانٍ؟ وَاللهِ إِنِّي لأُرَاهُ مُؤْمِنًا. أَوْ قَالَ: مُسْلِمًا. قَالَ: فَسَكَتُّ قَلِيلًا، ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَعْلَمُ فِيهِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا لَكَ عَنْ فُلَانٍ؟ وَاللهِ إِنِّي لأُرَاهُ مُؤْمِنًا. أَوْ قَالَ: مُسْلِمًا. يَعْنِي: فَقَالَ: "إِنِّي لأُعْطِي الرَّجُلَ وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ، خَشْيَةَ أَنْ يُكَبَّ فِي النَّارِ عَلَى وَجْهِهِ". وَعَنْ أَبِيهِ عَنْ صَالِحٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ
ابْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ هَذَا، فَقَالَ فِي حَدِيثِهِ: فَضَرَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ فَجَمَعَ بَيْنَ عُنُقِي وَكَتِفِي، ثُمَّ قَالَ:"أَقْبِلْ أَيْ سَعْدُ، إِنِّي لأُعْطِي الرَّجُلَ". [انظر: 27 - مسلم: 150 - فتح: 3/ 340] قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: {فَكُبْكِبُوا} [الشعراء: 94] قُلِبُوا {مُكِبًّا} [الملك: 52] أَكَبَّ الرَّجُلُ إِذَا كَانَ فِعْلُهُ غَيْرَ وَاقِعٍ عَلَى أَحَدٍ، فَإِذَا وَقَعَ الفِعْلُ قُلْتَ: كَبَّهُ اللهُ لِوَجْهِهِ، وَكَبَبْتُهُ أَنَا.
1479 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللهِ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَيْسَ المِسْكِينُ الذِي يَطُوفُ عَلَى النَّاسِ تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ، وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ، وَلَكِنِ المِسْكِينُ الذِي لَا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ، وَلَا يُفْطَنُ بِهِ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ، وَلَا يَقُومُ فَيَسْأَلُ النَّاسَ". [انظر: 1476 - مسلم: 1039 - فتح: 3/ 341]
1480 -
حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ، ثُمَّ يَغْدُوَ -أَحْسِبُهُ قَالَ: إِلَى الجَبَلِ- فَيَحْتَطِبَ، فَيَبِيعَ فَيَأْكُلَ وَيَتَصَدَّقَ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ". قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ أَكْبَرُ مِنَ الزُّهْرِيِّ، وَهُوَ قَدْ أَدْرَكَ ابْنَ عُمَرَ. [انظر: 1470 - مسلم: 1042 - فتح: 3/ 341]
ذكر خمسة أحاديث:
أحدها: حديث أبي هريرة "لَيْسَ المِسْكِينُ الذِي تَرُدُّهُ الأُكلَةُ وَالأُكلَتَانِ، ولكنِ المِسْكِينُ الذِي لَيْسَ لَهُ غِنًى وَيَسْتَحْيِي أَوْ لَا يَسْألُ النَّاسَ إِلْحَافًا".
ثانيها: حديث ابن أشوع -وهو سعيد بن عمرو بن أشوع الهمداني الكوفي قاضيها مات في ولاية خالد بن عبد الله- عَنِ الشَّعْبِيِّ، حَدَّثَنِي كَاتِبُ المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: كَتَبَ مُعَاوِيَةُ إلى المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنِ اكْتُبْ إِلَى بِشَيءٍ سَمِعْتَهُ مِنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم. فَكَتَبَ إِلَيهِ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ
- صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ اللهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلًاثا: قِيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةَ المَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ".
ثالثها: حديث محمد بن غُرَيْرٍ عن يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ صَالِحِ، عَنِ ابن شِهَابٍ عن عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَعْطَى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم رَهْطًا .. الحديث.
وفي آخره: "إِنِّي لأُعْطِي الرَّجُلَ وَغيرُهُ أَحَبُّ إِلَى مِنْهُ، خَشْيَةَ أَنْ يُكَبَّ فِي النَّارِ عَلَى وَجْهِهِ". وَعَنْ أَبِيهِ، عَنْ صَالِحِ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدِ عن أبيه، فَقَالَ فِي حَدِيثِهِ: فَضَرَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ فَجَمَعَ بَيْنَ عُنُقِي وَكتِفِي، ثُمَّ قَالَ:"أَقْبِلْ أَيْ سَعْدُ، إِنِّي لأُعْطِي الرَّجُلَ".
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: {فَكُبْكِبُوا} [الشعراء: 94]: قُلِبُوا، {مُكِبًّا} [الملك: 52]: أَكَبَّ الرَّجُلُ إِذَا كَانَ فِعْلُهُ غَيْرَ وَاقِعٍ عَلَى أَحَدٍ، فَإِذَا وَقَعَ الفِعْلُ قُلْتَ: كَبَّهُ اللهُ لِوَجْهِهِ، وَكَبَبْتُهُ أَنَا.
رابعها: حديث أبي هريرة: "لَيْسَ المِسْكِينُ الذِي يَطُوفُ عَلَى النَّاسِ تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ .. " الحديث.
خامسها: حديث أبي هريرة أيضًا: "لأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ"
الشرح:
أما قوله: "لا يجد غنًى يغنيه" فقد أسنده في الباب من حديث أبي هريرة، وهو الحديث الرابع.
وأما الحديثان الأولان فأخرجهما مسلم أيضًا
(1)
، وسلف قطعة من
(1)
حديث أبي هريرة الأول رواه مسلم (1039) كتاب: الزكاة، باب: المسكين الذي لا يجد غنًى، ولا يفطن له فيتصدق عليه.
والحديث الثاني رواه برقم (593) كتاب: المساجد، باب: استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته.
أول الحديث الثاني في باب: الذكر بعد الصلاة
(1)
.
وكاتب المغيرة: هو ورَّاد كما سلف هناك
(2)
.
وأما الثالث: فالسند الأخير أخرجه مسلم عن الحسن بن علي الحلواني، عن يعقوب، عن أبيه، عن صالح، عن إسماعيل بن محمد قال: سمعت محمد بن سعد يحدث بهذا يعني: حديث الزهري المذكور فقال في حديثه: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده بين عنقي وكتفي ثم قال: "أَقِتَالًا أي سعد؟ إني لأعطي الرجل"
(3)
وفي "الجمع" للحميدي في أفراد مسلم عن إسماعيل بن محمد بن سعد
(4)
، عن أبيه، عن جده بنحو حديث الزهري عن عامر بن سعد.
وزعم خلف أن طريق إسماعيل بن محمد هذا في البخاري في كتاب الزكاة عن محمد بن غرير كما سقناه، لكن زاد بعد: صالح عن إسماعيل بن محمد، عن أبيه، عن سعد.
وقال أبو نعيم: وساقه من حديث الدوري، عن يعقوب بن إبراهيم ابن سعد، حَدَّثَني أبي، عن صالح، عن إسماعيل بن محمد، سمعت محمد بن سعد يحدث بهذا يعني: حديث الزهري عن عامر .. الحديث
ثم قال: رواه يعني: البخاري، عن محمد بن غُرَير، عن يعقوب. وقد سلف الحديث في كتاب الإيمان.
(1)
سلف برقم (844) كتاب: الأذان.
(2)
راجع شرح حديث (844).
(3)
"صحيح مسلم"(150) كتاب: الإيمان، باب: تألف قلب من يخاف على إيمانه لضعفه والنهي عن القطع بالإيمان من غير دليل قاطع.
(4)
"الجمع بين الصحيحين" 1/ 188.
وأما حديث أبي هريرة الرابع: فأخرجه مسلم أيضًا
(1)
، وأما حديثه الأخير فسلف في باب: الاستعفاف عن المسألة
(2)
.
إذا تقرر ذَلِكَ: فالآية الأولى اختلف المفسرون في تأويلها فقيل: يسألون ولا يلحفون في المسألة، وقيل: إنهم لا يسألون الناس أصلًا أي: لا يكون منهم سؤال فيكون منهم إلحاف؛ وألحف وأحفى وألح بمعنًى، والدليل على أنهم لا يسألون وصف الرب جل جلاله بالتعفف، ولو كانوا أهل مسألة لما كان التعفف من صفتهم. ويشهد له حديثا أبي هريرة في الباب الأول والرابع.
واحتج بالحديث الأول، قالوا: والمسألة بغير إلحاف مباحة للمضطر إليها، يدل على ذَلِكَ ما رواه مالك، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن رجل من بني أسد له صحبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من سأل وله أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافًا"
(3)
فدل ذَلِكَ أن من لم تكن له أوقية فهو غير ملحف ولا ملوم في المسألة. ومن لم يكن ملومًا في مسألته، فهو ممن يليق به اسم التعفف.
وليس قول من قال: لو كانوا أهل مسألة لما كان التعفف من صفتهم. بصحيح؛ لأن السؤال المذموم إنما هو لمن كان غنيًّا عنه بوجود أوقية أو عدلها، فالحديثان مختلفان في المعنى لاختلاف ظاهر ألفاظهما.
والأول نفي الإلحاف ودل على السؤال، والثاني نفي فيه السؤال أصلًا، وانتفي فيه الإلحاف بنفي السؤال، وإنما اختلفا لاختلاف أحوال السائل؛ لأن الناس يختلفون في هذا المعنى، فمنهم من يصبر عن السؤال
(1)
"صحيح مسلم"(1039).
(2)
سلف برقم (1470).
(3)
"الموطأ" 2/ 179 (2111) باب: التعفف عن المسألة، وصححه الألباني في "الصحيحة" 4/ 296 (1719).
عند الحاجة ويتعفف، ويدافع حاله، وينتظر الفرج من خالقه، ومنهم من لا يصبر ويسأل بحسب حاجته، وكفايته، ومنهم من يسأل وهو يحب الاستكثار، وهذا هو الملحف الذي لا تنبغي له المسألة.
ويحتمل أن يكون معناهما واحدًا في نفي السؤال أصلًا. ويحتمل أن يكونا متفقي المعنى في إثبات السؤال، ونفي الإلحاف. فإن قُلْتَ: فكيف قال: "ولا يقوم فيسأل الناس" قيل: في أكثر أمره وغالب حاله يلزم نفسه التعفف عن المسألة، حتىَّ تغلبه الحاجة والفقر ويقع سؤاله نادرًا، كما قال صلى الله عليه وسلم:"لا يضع عصاه عن عاتقه"
(1)
أي غالبًا، وكما قال:"لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سَوي"
(2)
.
وقد تحل لهم في بعض الأوقات. ومن كان سؤاله عند الضرورة وفي النادر فليس بملحف، واسم التعفف أولى به، بدليل حديث عطاء بن يسار السالف. وقال قتادة: ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تعالى يبغض الغني الفاحش البذيء والسائل الملحف"
(3)
وقال أبو هريرة:
(1)
رواه مسلم (1480) كتاب: الطلاق، باب: المطلقة ثلاثًا لا نفقة لها، من حديث فاطمة بنت قيس.
(2)
روي من حديث أبي هريرة وعبد الله بن عمرو، فحديث أبي هريرة رواة النسائي 5/ 99 كتاب: الزكاة، باب: إذا لم يكن له دراهم وكان له عدلها، وابن ماجه (1839) كتاب: الزكاة، باب: من سأل عن ظهر غنًى، وأحمد 2/ 377 - 389، والحاكم في "المستدرك" 1/ 407 كتاب: الزكاة. وحديث عبد الله بن عمرو، رواه أبو داود (1634) كتاب: الزكاة، باب: من يعطى من الصدقة وحد الغنى، والترمذي (652) كتاب: الزكاة، باب: ما جاء من لا تحل له الصدقة، وأحمد 2/ 164، 192، والحاكم في "المستدرك" 1/ 407 كتاب: الزكاة، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود"(1444). وصحح الحديثين معًا في "الإرواء"(877).
(3)
رواه الطبري في "تفسيره" 3/ 100 (6229)، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 1/ 634 وعزاه إلى ابن جرير وابن المنذر.
المسكين: هو المتعفف في بيته، لا يسأل الناس شيئًا حتَّى تصيبه الحاجة، اقرءوا إن شئتم:{لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا}
(1)
.
وأما قول البخاري: وكم الغنى؟ أي: كم حده؟ وقد سلف فيه حديث عطاء. وروى ابن مسعود: يا رسول الله، ما الغنى؟ قال:"خمسون درهمًا"
(2)
وفي حديث أبي سعيد: "من سأل وله قيمة أوقية فقد ألحف"
(3)
.
وفي حديث سهل بن الحنظلية عند أبي داود: يا رسول الله، ما الغنى الذي لا ينبغي معه المسألة؟ قال:"قدر ما يغديه ويعشيه" وفي لفظ: "أن يكون له شبع يوم وليلة"
(4)
.
وحديث عليًّ: ما ظهر غنًى يا رسول الله؟ قال: "عشاء ليلة"
(5)
.
وسيأتي في الباب أيضًا إيضاح الخلاف فيه. وأما الآية الثانية وهي
(1)
ذكره ابن كثير في "تفسيره" 2/ 479 وعزاه إلى ابن جرير.
(2)
رواه أبو داود (1626) كتاب: الزكاة، باب: من يعطى من الصدقة وحد الغنى، والترمذي (650) كتاب: الزكاة، باب: ما جاء من تحل له الزكاة، والنسائي 5/ 97 كتاب: الزكاة، حد الغنى، وابن ماجه (1840) كتاب: الزكاة، باب: كراهية المسألة، أحمد 1/ 388، 1/ 441، 1/ 466، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود"(1438) وفي "الصحيحة"(499).
(3)
رواه أبو داود (1628) كتاب: الزكاة، باب: من يعطى من الصدقة وحد الغنى، والنسائي 5/ 98 كتاب: الزكاة، من الملحف؟، وأحمد 3/ 7، 9 وصححه الألباني في "صحيح أبي داود"(1440)، و"الصحيحة"(1719).
(4)
سنن أبي داود (1629) وصححه الألباني في "صحيح أبي داود"(1441).
(5)
رواه أحمد 1/ 147، والعقيلي في "الضعفاء الكبير" 1/ 224، والطبراني في "الأوسط" 7/ 132 (7078)، و 8/ 138 (8205)، وابن عدي في "الكامل" 6/ 220، والدارقطني في "سننه" 2/ 121 كتاب: الزكاة، باب: الغنى التي يحرم السؤال، وقال الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب" 1/ 490 (804): صحيح لغيره.
قوله: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ} [البقرة: 273]، هم فقراء المهاجرين خاصة، قاله مجاهد
(1)
، وابن أبي جعفر عن أبيه، والسدي
(2)
.
ومعنى {أُحْصِرُوا} : منعهم فرض الجهاد عن التصرف، وقيل: أحصرهم عدوهم؛ لأن الله شغلهم بجهادهم، وقيل: شغلهم عدوهم بالقتال عن التصرف، واللغة توجب أن أحصر من المرض إلا أن يكون المعنى صودفوا في هذا الحال.
وقوله: {لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ} أي: تصرفًا عن المدنية. وقيل: ألزموا أنفسهم الجهاد، كما يقال: لا أستطيع أن أعصيك أي: قد ألزمت نفسي طاعتك.
وقوله: {يَحْسَبُهُمُ الجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ} ليس الجهل هنا ضد العلم، وإنما هو ضد الخبرة. أي الجاهل بحالهم بما يرى بهم من التعفف؛ لأنهم لا يسألون.
وقوله: {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ} يعني: ما بهم من الخصاصة، كان أحدهم يلبس البردة إلى نصف الساق والآخر يتزرها. وقوله:{فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} أي يعلمه ويجازي على ما أريد به وجهه.
وأما حديث أبي هريرة الأول: فقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس المسكين" أي ليس الشديد المسكنة. قاله ابن التين.
(1)
"تفسير مجاهد" 1/ 117، ورواه ابن جرير في "تفسيره" 3/ 96 (6210)، وابن أبي حاتم في "تفسير القرآن العظيم" 2/ 540 (2865)، وذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 327، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 1/ 633 وعزاه إلى سفيان، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(2)
رواه ابن جرير في "تفسيره" 3/ 96 (6211 - 6212).
وقال ابن بطال: يريد ليس المسكين المتكامل أسباب المسكنة؛ لأنه بمسألته يأتيه الكفاف والزيادة عليه فيزول عنه اسم المبالغة في المسكنة.
"وإنما المسكين" المتكامل أسباب المسكنة من لا يجد غِنًى ولا يتصدق كقوله تعالى: {لَيْسَ البِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ} [البقرة: 177] أي: ليس ذَلِكَ غاية البر لأنه لا يبلغ بر {مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ} البقرة: 177. الآية
(1)
.
وقوله: "الأُكله والأُكلتان" قال ابن التين: ضبطه بعضهم بضم الهمزة بمعنى اللقمة، فإذا فتحها كانت المرة الواحدة. قال الكسائي: يقال في كل شيء: فعلت فعلة إلا في شيئين حججت حجة ورأيت رؤية.
ذكره الهروي. وفي "الفصيح": الأكلة: اللقمة، والأكلة بالفتح: الغداء والعشاء.
وقال صاحب "المطالع" أيضًا: هما في الحديث بالضم؛ لأنه بمعنى اللقمة، فإذا كانت بمعنى المرة الواحدة فهي بالفتح، إلا أن يكون فيها فاء فيكون مضمومًا بمعنى المأكول.
واختلف أهل اللغة في الفقير والمسكين، من هو أسوأ منهما؟
فقال ابن السكيت، وابن قتيبة: المسكين أسوأ حالًا من الفقير؛ لأنه مشتق من السكون. وهو عدم الحركة، فكأنه كالميت، فالمسكين: الذي سكن وخشع، والفقير له بعض ما يقيمه، واحتجوا بقول الراعي:
أَمَّا الفَقِيُر الذي كانَتْ حَلُوبَتُه
…
وَفْق العِيالِ فلم يُتْرَك له سَبَدُ
(2)
(1)
"شرح ابن بطال" 3/ 516 - 517.
(2)
"غريب ابن قتيبة" 1/ 191.
فجعل له حلوبة، وجعلها وفق عياله أي: قدر قوتهم. وقال ابن سيده: المِسْكين والمَسْكين، الأخيرة نادرة؛ لأنه ليس في الكلام مَفْعيل: الذي لا شيء له. وقيل: الذي لا شيء له يكفي عياله.
وقال أبو إسحاق: هو الذي أسكنه الفقر فخرجه إلى معنى مفعول
(1)
، والفقر ضد الغنى. وقدر ذَلِكَ أن يكون له ما يكفي عياله. وقد فقر فهو فقير والجمع: فقراء. والأنثى: فقيرة من نسوة فقائر.
وحكى اللحياني نسوة فقراء، ولا أدري كيف هذا. وقال القزاز: أصل الفقر في اللغة: من فقار الظهر، كأن الفقر كسر فقار ظهره، فبقي له من جسمه بقية يدل عليه الشعر السالف. والفَقر والفُقر، والفتح أكثر. وأما ابن عديس فسوى بينهما.
قال القزاز: والناس يجعلون المِسْكِين هو الذي معه شيء، وليس كذلك، ذاك الفقير. وأما المسكين: فالذي لا شيء معه، والفرق في الاشتقاق، لأن المْسِكين مِفْعِيل من السكون، وإذا انقطعت حركة الإنسان لم يبق له شيء. واحتج من جعل المسكين من له شيء بقوله تعالى:{أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ} [الكهف: 79] فجعل لهم سفينة، ومعنى هذا عند قوم أنه لم يرد فقرهم، ولكن جرى الخطاب على معنى الترحم كما تقول: ما تصنع ها هنا يا مسكين؟ على معنى الترحم. وكما قال صلى الله عليه وسلم لقيلة: "يا مسكينة عليك بالسكينة"
(2)
.
(1)
"المحكم" 6/ 449.
(2)
رواه ابن سعد في "طبقاته" 1/ 317 - 320 مطولًا، والطبراني في "الكبير" 25/ 7 - 11 (1)، وابن عبد البر في "التمهيد" 19/ 152 - 153 مختصرًا، وذكره الهيثمي في "المجمع" 6/ 10 - 12 وقال: رواه الطبراني ورجاله ثقات.
وقال قوم: لم تكن السفينة لهم وإنما كانوا فيها على سبيل الأجرة للعمل، وقال الجوهري: المسكين: الفقير، وقد يكون بمعنى: الذلة والضعف، يقال: سكن الرجل وتمسكن وهو شاذ، وكان يونس يقول: المسكين أشد حالًا من الفقير قال: وقلت لأعرابي أفقير أنت؟ قال: لا والله، بل مسكين. والمرأة مسكينة، وقوم مساكين، ومسكينون، والإناث مسكينات
(1)
.
وقال الأخفش: الفقير مشتق من قولهم: فقرت له فقرة من مالي.
وقال نفطويه: الفقير عند العرب: المحتاج، والمسكين: الذي قد أذله الفقر.
إذا عرفت ذَلِكَ: فقد اختلف العلماء فيهما بناءً على ذَلِكَ:
فقال مالك وأبو حنيفة: المسكين أسوأ حالًا من الفقير
(2)
. وعكس الأصمعي وابن الأنباري والشافعي
(3)
، احتج الأولون بهذا الحديث، واحتج الآخرون بالآية السالفة {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ} [البقرة: 273]. وبالآية السالفة: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ} [الكهف: 79] قالوا: والفقر هو استئصال الشيء يقال: فقرتهم الفاقرة إذا أصابتهم داهية أهلكتهم، والفقير عند العرب الذي قد انكسر فقار ظهره كما سلف، ومن صار هكذا فقد حل به الموت. وقد يقال: مسكين لغير الفقير، ولكن لمن نقصت حاله عن الكمال في بعض الأمور كما قال صلى الله عليه وسلم: "مسكين مسكين من لا زوجة
(1)
"الصحاح" 5/ 2137.
(2)
انظر: "الهداية" 1/ 120، "المعونة" 1/ 268 - 269.
(3)
انظر: "الاستذكار" 9/ 209 - 210، "روضة الطالبين" 2/ 308.
له، ومسكينة مسكينة من لا زوج لها"
(1)
قالوا: وقد قال الشارع: "اللهم أحيني مسكينًا وأمتني مسكينًا واحشرني في زمرة المساكين" رواه الحاكم من حديث أبي سعيد الخدري، وقال: صحيح الإسناد
(2)
. وتعوذ بالله من الفقر، فعُلم أنه أسوأ حالًا وأشد من المسكنة. قال ابن التين: وأهل اللغة جميعًا على هذا القول.
وقالت طائفة من السلف: الفقير الذي لا يسأل، والمسكين الذي يسأل، روي عن ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وجابر بن زيد، والزهري، وروي عن علي بن زياد، عن مالك أن الفقير الذي لا عيال له ويتعفف عن المسألة، والمسكين: الذي لا عيال له ويسأل
(3)
.
واختلفوا أيضًا كم الغنى الذي لا يجوز لصاحبه أخذ الصدقة، وتحرم عليه المسألة فقال بعضهم: هو بوجود المرء قوت يومه لغدائه وعشائه. وهذا قول بعض المتصوفة الذين زعموا أنه ليس لأحد ادخار شيء لغد. وهو مردود بما ثبت عن الشارع وأصحابه أنهم كانوا يدخرون.
وقال آخرون: لا تجوز المسألة إلا عند الضرورة وأحلوا ذَلِكَ بحل الميتة للمضطر.
(1)
حديث مرسل، رواه الطبراني في "الأوسط" 6/ 348 (6589)، والبيهقي في "الشعب" 4/ 382 (5483)، وذكره الديلمي في "الفردوس" 4/ 165 (6515)، وذكره الهيثمي في "المجمع" 4/ 252 وقال: رواه الطبراني في "الأوسط" ورجاله ثقات إلا أن أبا نجيح لا صحبة له، وذكره الهندي في "كنز العمال" 16/ 278 - 279 (44455)، وعزاه للبيهقي في "الشعب" عن أبي نجيح مرسلًا، وقال الألباني في "الضعيفة" (5177): منكر.
(2)
"المستدرك" 4/ 322 كتاب: الرقائق، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(1261)، وانظر:"الإرواء" 3/ 358 (861).
(3)
انظر: "النوادر والزيادات" 2/ 281 - 282.
وقال آخرون: لا تحل المسألة بكل حال. واحتجوا بما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال أبي ذر: "لا تسأل الناس شيئًا"
(1)
وجعلوا ذَلِكَ نهيًا عامًّا عن كل مسألة. وبما رواه ابن أبي ذئب، عن محمد بن قيس، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن معاوية، عن ثوبان مرفوعًا:"من تكفل لي بواحدة تكفلت له بالجنة" قال ثوبان: أنا. قال: "لا تسأل الناس شيئًا" وكان سوطه يقع فما يقول لأحدٍ: ناولنيه، فينزل فيأخذه
(2)
. وقال قيس بن عاصم لبنيه: إياكم والمسألة، فإنها آخر كسب المرء، فإن أحدًا لن يسأل إلا ترك كسبه
(3)
.
وقالت طائفة: لا يأخذ الصدقة من له أربعون درهمًا، لقوله صلى الله عليه وسلم:"من سأل وله أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافًا" وقد سلف
(4)
. وممن قال بذلك أبو عبيد.
وقالت طائفة: لا تحل لمن له خمسون درهمًا. وهو قول النخعي، والثوري، وأحمد، وإسحاق
(5)
. واحتجوا بحديث يروى عن ابن مسعود
(1)
رواه أحمد 5/ 172، والبيهقي في "شعب الإيمان" 3/ 240 (3430)، وذكره المنذري في "الترغيب والترهيب" وصححه الألباني في "صحيح الترغيب"(810) و"صحيح الجامع"(7307).
(2)
رواه ابن ماجه (1837) كتاب: الزكاة، باب: كراهة المسألة، وأحمد 5/ 275، 277، وأبو نعيم في "الحلية" 1/ 181، والبيهقي في "شعب الإيمان" 3/ 272 - 273 (3520 - 3521) ورواه أبو داود (1643) من طريق آخر. وصححه الألباني في "صحيح أبي داود"(1450).
(3)
رواه البخاري في "الأدب المفرد"(953)، وابن سعد في "طبقاته" 7/ 36 - 37 مختصرًا، والطبراني في "الكبير" 18/ 339 - 340 (869 - 870)، والحاكم. في "المستدرك" 3/ 612 كتاب: معرفة الصحابة، وحسنه الألباني في "الأدب المفرد"(953).
(4)
سلف تخريجه.
(5)
انظر: "المغني" 4/ 118 - 119، "المبدع" 2/ 417.
مرفوعًا بذلك
(1)
. وأعله يحيى بن سعيد وشعبة فقالا: يرويه حكيم بن جبير، وهو ضعيف
(2)
.
وقالت طائفة: من ملك مائتي درهم حرم عليه الصدقة المفروضة.
وهو قول أبي حنيفة، وأصحابه، ورواه المغيرة عن مالك
(3)
.
وقال المغيرة: لا بأس أن يعطى أقل ما تجب فيه الزكاة.
وروي عن مالك: يعطى من له أربعون درهمًا إذا كان له عيال
(4)
.
واحتج أصحاب أبي حنيفة بقوله صلى الله عليه وسلم "أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردها في (فقرائهم)
(5)
" فجعل المأخوذ منه غير المردود عليه، ومن معه مائتا درهم تؤخذ منه الزكاة فلم تجز أن ترد عليه لما فيه من إبطال الفرق بين الجنسين، بين الغني والفقير.
وقال الطحاوي: قوله صلى الله عليه وسلم: "أما وجد عنها مندوحة" بما يقيم به رمقه من عيش وإن ضاق، "وأما من سأل وله أوقية أو عدلها" منسوخ بقوله صلى الله عليه وسلم:"من سأل وله خمس أواق فقد سأل إلحافًا"
(6)
، فجعل هذا حدًّا
(1)
رواه أبو داود (1626) كتاب: الزكاة، باب: من يُعطى من الصدقة وحد الغنى، والترمذي (650 - 651) كتاب: الزكاة، باب: من تحل له الزكاة، والنسائي 5/ 97 كتاب: الزكاة، حد الغنى، وابن ماجه (1840) كتاب: الزكاة، من سأل عن ظهر غِنًى، وأحمد 1/ 388.
(2)
والحديث صححه الألباني في: "صحيح أبي داود"(1438)، "الصحيحة" (499). وقال: هذا إسناد صحيح من طريق زبيد، لا من طريق حكيم بن جبير فإنه ضعيف.
(3)
انظر: "الاختيار" 1/ 158، " المنتقى" 2/ 152.
(4)
انظر: "التاج والإكليل" 3/ 220.
(5)
عليها في الأصل كلمة (كذا)
(6)
رواه أحمد 4/ 138، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" 4/ 372، وأورده الهيثمي في "المجمع" 3/ 95، وقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(6022)، وانظر:"الصحيحة" 5/ 399 (2314).
لمن لا تحل له الصدقة، قال بعضهم: وكل من حد من الفقهاء في الغنى حدًّا أو لم يحد فإنما هو بعد ما لا غنًى به عنه من دار تحمله ولا تفضل عنه، وخادم هو محتاج إليها، ولا فضل له من مال يتصرف فيه، ومن كان هكذا، فأجمع الفقهاء أنه يجوز له أن يأخذ من الصدقة ما يحتاج إليه.
قال الطبري: والصواب عندنا. في ذَلِكَ أن المسألة مكروهة لكل أحد إلا لمضطر يخاف على نفسه التلف بتركها، ومن بلغ حد الخوف على نفسه من الجوع، ولا سبيل إلى ما يرد به رمقه، ويقيم به نفسه إلا بالمسألة فالمسألة عليه فرض واجب؛ لأنه لا يحل له إتلاف نفسه وهو يجد السبيل إلى حياتها.
والمسألة مباحة لمن كان ذا فاقة وإن كرهناها ما وَجدَ عنها مندوحة بما يقيم به رمقه من عيش وإن ضاق، وإنما كرهناها له لقوله صلى الله عليه وسلم:"اليد العليا خير من اليد السفلى"
(1)
، ولا مأثم عليه إلا على سائل سأل عن غنًى متكثرًا بها فالمسألة عليه حرام.
قُلْت: وقد أسلفنا فيما مضى أقسام المسألة، فراجعه.
وأما حديث المغيرة ففيه الكتاب بالسؤال عن العلم، والجواب عنه.
وفيه: قبول خبر الواحد، وقبول الكتابة، وهو حجة في الإجازة.
وفيه: أخذ بعض الصحابة عن بعض. والمراد بـ (قيل وقال) هنا: حكايته شيء لا يعلم صحته، وأن الحاكي له يقول: قيل وقال. قاله ابن الجوزي. وعن مالك: هو الإكثار من الكلام والإرجاف نحو قول
(1)
سلف برقم (1429) كتاب: الزكاة، باب: لا صدقة إلا عن ظهر قلب، ورواه مسلم (1033) كتاب: الزكاة، باب: بيان أن اليد العليا خير من اليد السفلى.
القائل: أُعطِي فلان كذا ومنع من كذا والخوض فيما لا يعني
(1)
.
وقال ابن التين: له تأويلان:
أحدهما: أن يراد به حكايته أقوال الناس وأحاديثهم والبحث عنها لينمي، فيقول: قال فلان كذا وفلان كذا بما لا يجر خبرًا، إنما هو ولوع وشغف، وهو من التجسس المنهي عنه.
والثاني: أن يكون في أمر الدين فيقول: قيل فيه كذا، وقال فلان، فيقلد ولا يحتاط لموضع الإخبار بالحجج. وفي لفظ آخر: نهى عن قيل وقال
(2)
.
قال أبو عبيد: فيه تجوز، وذلك أنه جعل القال مصدرًا كأنه قال عن قيل وقول، يقال: قلت قولًا وقيلًا وقالا. فعلى هذا يكون: إن الله كره لكم قيلا وقالا منونًا؛ لأنهما مصدران وقال ابن السكيت: هما اسمان لا مصدران وقال غيره: من روى غير منون قال: إنهما فعلان. والأول على أنهما اسمان. وفي حرف عبد الله (ذلك عيسى بن مريم قالُ الحق الذي فيه تمترون)
(3)
.
وقوله: و"إضاعة المال" هذا على وجوه جماعها الإسراف، ووضعه في غير موضعه كالأبنية، واللباس، والفُرُش، وتمويه الأبنية بالذهب،
(1)
انظر: "المنتقى" 7/ 315.
(2)
سيأتي برقم (7292) كتاب: الاعتصام، باب: ما يكره من كثرة السؤال وتكلف ما لا يعنيه، ورواه مسلم (593/ 14) كتاب: الأقضية، باب: النهي عن كثرة المسائل بغير حاجة والنهي
…
(3)
هذِه قراءة شاذة قرأ بها ابن مسعود بضم اللام، قال ابن خالويه: يقال: قلت قولًا وقيلًا وقالًا وقولة. كل ذلك مصادر، وانظر "مختصر في شواذ القرآن" من كتاب "البديع" لابن خالويه ص 87.
وتطريز الثياب به أو سقوف البيت فإنه من التضييع والتصنع، ولا يمكن تخليصه منه وإعادته إلى أصله حتَّى يكون أصلًا قائمًا. ومن إضاعته: تسليمه لغير رشيد.
وفيه: دلالة على إثبات الحجر على المفسد لماله، ومن الحجر احتمال الغبن في البياعات
(1)
، وقسمة ما لا ينتفع بقسمته كاللؤلؤة، وتركه من غير حفظ فيضيع، أو يتركه حتَّى يفسد، أو يرميه إذا كان يسيرًا كبرًا عن تناوله، أو يسرف في النفقة أو ينفقه في المعاصي، وأن يتخلى الرجل من ماله بالصدقات وعليه دين لا يرجو له وفاء، ولا صبر له على التفسير والإضاقة، ولا يرد على فعل الصديق حيث تصدق بماله كله لغناه بقوة صبره، ومن في الأمة مثله يقاس به؟! وانظر من أنفقه عليه.
ويحتمل أن يتأول معنى: "إضاعة المال" على العكس مما سلف أن إضاعته حبسه عن حقه، والبخل به على أهله، كما قال:
وما ضاع مال أورث المجد أهله
…
ولكن أموال البخيل تضيع
(2)
وقال الداودي: إضاعة المال تؤدي إلى الفقر الذي يخشى منه الفتنة. وكان الشارع يتعوذ من الفقر وفتنته.
قال: وفيه دليل على فضل الكفاف على الفقر والغنى؛ لأن ضياع المال يؤدي إلى الفتنة بالفقر وكثرة السؤال، وربما خشي من الغنى الفتنة، قال تعالى:{كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7)} [العلق: 6 - 7] قال: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا} [الفرقان: 67]
(1)
هي الأشياء التي يتبايع بها في التجارة، "لسان العرب" 1/ 402.
(2)
وقد قيل أيضًا:
وما ضاع مال ورث الحمد أهله
…
ولكن أموال البخيل تضيع
فنهى عما يؤدي إلى الحالتين، وألف قوم في تفضيل الغنى على الفقر، وعكس قوم، واحتج كلٌ، وسكتوا عن الحال التي هي أفضل منهما وهي التي دعا الله ورسوله إليها، وإنما الفقر والغنى محنتان وبليتان كان الشارع يتعوذ منهما، ولا يتعوذ من حالة فيها الفضل غير أن الغنى أضر من الفقر على أكثر الناس، وإنما توصف الأشياء بأكثرها.
وقال المهلب في "إضاعة المال": يريد السرف في إنفاقه وإن كان فيما يحل، ألا ترى أنه صلى الله عليه وسلم رد تدبير المعدم؛ لأنه أسرف على ماله فيما يحل ويؤجر فيه لكنه أضاع نفسه، وأجره في نفسه آكد من أجره في غيره.
ومن هنا اختلف العلماء في وجوب الحجر على البالغ المضيع لماله، فجمهور العلماء يوجب عليه الحجر صغيرًا كان أو كبيرًا. روي ذَلِكَ عن علي، وابن عباس، وابن الزبير، وعائشة، وهو قول مالك، والأوزاعي، وأبي يوسف، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور
(1)
.
وقال النخعي، وابن سيرين، وبعدهما أبو حنيفة، وزفر: لا حجر عليه
(2)
يدل لهم حديث الذي يخدع في البيوع ولم يمنعه الشارع من التصرف، وللأولين حديث معاذ. ولعل يكون لنا عودة إليه في موضعه إن شاء الله تعالى.
وأما "كثرة السؤال" ففيه وجهان ذكرا عن مالك:
الأول: سؤال الشارع فإنه قال: "ذروني ما تركتكم"
(3)
.
(1)
انظر: "الهداية" 3/ 315، "المعونة" 2/ 159، "روضة الطالبين" 4/ 181، "المغني" 6/ 595.
(2)
انظر: "مختصر الطحاوي" ص 97، "مختصر اختلاف العلماء" 5/ 215.
(3)
رواه مسلم (1337) كتاب: الحج، باب: فرض الحج مرة في العمر.
الثاني: سؤال الناس
(1)
، وهو ما فهمه البخاري وبوب عليه وقال ابن التين فيه وجوه:
أحدها: التعرض لما في أيدي الناس من الحطام بالحرص والشره وهو تأويل البخاري.
ثانيها: أن يكون في سؤال المرء ما نهي عنه من متشابه الأمور على مذهب أهل الزيغ والشك وابتغاء الفتنة، أو يكون على ما كانوا يسألون الشارع عن الشيء من الأمور من غير حاجة بهم إليه، فتنزل البلوى بهم كالسائل عمن يجد مع امرأته رجلًا. وأشد الناس جرمًا في الإسلام من سأل عن أمر لم يكن حرامًا فحرم من أجل مسألته، كما روي
(2)
.
وجاءت المسائل في القرآن على ضربين: محمودة: مثل {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ} [الأنفال: 1]{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المَحِيضِ} [البقرة: 222] ونحوه وبذلك أمر الرب جل جلاله {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: 7] ومذمومة: مثل {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} [الإسراء: 85]{يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42)} [النازعات: 42] وإليه يرجع قوله: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ} [المائدة: 101].
وأما حديث سعد فتقدم بفوائده في كتاب الإيمان، في باب: إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة
(3)
. وأسلفنا هناك أن (أراه) بفتح الهمزة، وأنه ضبط بضمها، وعليه اقتصر ابن التين هنا، أي: أظنه.
(1)
انظر: "المنتقى" 7/ 315.
(2)
يشير المصنف رحمه الله إلى حديث سيأتي برقم (7289) كتاب: الاعتصام، باب: ما يكره من كثرة السؤال وتكلف ما لا يعنيه، ورواه مسلم (2358) كتاب: الفضائل، باب: توقيره صلى الله عليه وسلم وترك كثرة سؤاله.
(3)
سلف برقم (27).
وقوله: "أو مسلمًا" إنما نهاه أن يقطع بما لا يعلم غيبه. ومعنى "مسلمًا": مستسلمًا يظهر بلسانه ما لا يعتقده بقلبه، وليس هذا المسلم الذي في قوله تعالى:{مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ} [الحج: 78] والنبي صلى الله عليه وسلم مع هبوط الوحي عليه لم يكن يعلم بحقيقة إيمان أحد إلا بوحي، وقد خفي عليه بعض المنافقين قال تعالى:{لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} [التوبة: 101]
وقوله: (فضرب بيده فجمع بين عنقي وكتفي) سببه؛ لينبهه لاستماع ما يقول له، وأسلفنا أن (يكُبّه) بضم الكاف لأنه ثلاثي متعد، وإذا كان رباعيًّا كان غير متعد
(1)
، وهو شاذ؛ لأن سائر الأفعال إنما يؤتى بالهمزة فيها والتضعيف للتعدية.
وقوله تعالى: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا} ، أي: كبوا على رءوسهم. وقال أبو عبيد: طرح بعضهم على بعض، والأصل كببوا، قلب من الباء كافًا استثقالًا للتضعيف. وقيل معناه: فجمعوا مشتق من الكبكبة وهي الجماعة. وقد أسلفنا هناك أن فيه فوائد: الشفاعة للرجل من غير أن يسألها ثلاثًا لما في الصدقات وغيرها.
وفيه: أن العالم يحب له أن يدعو الناس إلى ما عنده وإلى الحق والعلم بكل شيء حتَّى بالعطاء.
وفيه: أن الحرص على هداية غير المهتدي آكد من الإحسان إلى المهتدي.
وفيه: أنه يعطي من المال أهل النفاق، ومن على غير حقيقة الإسلام على وجه التألف، إذا طمع بإسلامه. وفي أحاديث الباب كلها الأمر بالمعروف، والاستفتاء، وترك السؤال. وفي الآية الثانية وهي قوله:
(1)
في هامش الأصل: وله إخوة نحو ستة أو أكثر.
{لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ} [البقرة: 273] ودليل قوله: "لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب" الحديث، بيان قوله:"لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي" رواه ابن عمر وأبو هريرة
(1)
، وأن معناه خصوص لقوله تعالى:{لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ} الآية [البقرة: 273] فدل على أنه لو زال عنهم الإحصار لقدروا على الضرب في الأرض، ودل ذَلِكَ على أنهم ذووا مِرة أقوياء، وقد أباح لهم تعالى أخذ الصدقة بالفقر خاصة. وكذلك قوله:"لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب" يدل على هذا المعنى؛ لأنه لا يقدر على ذَلِكَ إلا ذو المرة السوي، ولم تحرم عليه المسألة.
فذهب قوم إلى الأخذ بالحديث السالف: "لا تحل الصدقة لغني"
إلى آخره وقالوا: لا تحل لذي مرة سوي كالغني، هذا قول الشافعي، وإسحاق، وأبي ثور، وأبي عبيدة، ذكره ابن المنذر، وخالفهم آخرون فقالوا: كل فقير من قوى زمن فالصدقة له حلال، وتأولوا الحديث أن معناه: الخصوص هذا قول الطبري؛ لأنه لا خلاف بين جميع الأمة أن الصدقة المحرمة التي يكون أصلها محبوسًا وغلتها صدقة على الغني والفقير أنه يجوز للأغنياء أخذها وتملكها. فالحديث في الفرض لا في التطوع. وكذا أجمعوا على أن غنيًّا في بلده، لو كان في سفر
(1)
حديث ابن عمر رواه ابن عدي في "الكامل" 7/ 381، وحديث أبي هريرة رواه النسائي 5/ 99 كتاب: الزكاة، إذا لم يكن له دراهم وكان له عدلها، وابن ماجه (1839) كتاب: الزكاة، باب: من سأل عن ظهر غنى، وأحمد 2/ 377، 389.
وفي الباب من حديث عبد الله بن عمرو، وحبشي بن جنادة وطلحة، وجابر، وعبد الرحمن بن أبي بكر، فمن شاء الوقوف عليها فليراجع "نصب الراية" 2/ 399 - 410، و"الإرواء" 3/ 381 - 385 (788).
فذهبت نفقته، له أن يأخذ من الصدقة المفروضة ما يحمله إلى بلده. فالحديث مخصوص إذن، وأنه معني به بعض المفروضة؛ ولأن الله تعالى جعل في المفروضة حقًّا لصنوف من الأغنياء كالمجاهد، والعامل، وابن السبيل العاجز حالًا، وإن كان غنيًّا ببلده. وكذا ذو المرة السوي في حال تعذر الكسب عليه جائز له الصدقة المفروضة. وأما التطوع منها ففي كل الأحوال.
وقال الطحاوي: لا تحرم الصدقة بالصحة إذا أراد بها سد فقره، وإنما تحرم عليه إذا أراد بها التكثر والاستغناء
(1)
. يدل على ذَلِكَ حديث سمرة السالف: "المسائل كدوح" إلى آخره فأباح فيه المسألة في كل أمر لا بد من المسألة فيه. وذلك إباحة المسألة في الحاجة لا بالزمانة. وروى يحيى بن سعيد، عن مجالد، عن الشعبي، عن وهب بن خنبش قال: جاء [رجل]
(2)
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف بعرفة، فسأله رداءه، فأعطاه إياه فذهب. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن المسألة لا تحل إلا من فقر مدقع، أو غرم مفظع
(3)
، ومن سأل الناس ليثرى به، فإنه خموش في وجهه، ورضف يأكله من جهنم، إن قليل فقليل، وإن كثير فكثير"
(4)
.
فأخبر في هذا الحديث أن المسألة تحل بالفقر والعدم، ولا تختلف في حال الزَّمِن والصحيح. وكانت المسألة التي أباها هي للفقير لا لغيره.
وكان بصحيح الأخبار عندنا يوجب أن من قصده صلى الله عليه وسلم بقوله: "لا تحل
(1)
"شرح معاني الآثار" 2/ 18.
(2)
زيادة مسند "شرح ابن بطال" نسيها المصنف.
(3)
في الأصل: مفضع، ولعل الصواب ما أثبتناه.
(4)
رواه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" 2/ 19.
الصدقة لذي مرة سوي" هو غير من استثناه في هذِه الآثار، وأن الذي تحرم عليه الصدقة من الأصحاء: هو الذي يريد أن يتكثر ماله بالصدقة، حتَّى تصح هذِه الآثار وتتفق معانيها، ولا تتضاد، وتوافق معنى الآية المحكمة وهي قوله تعالى:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالمَسَاكِينِ} الآية [التوبة: 101]؛ لأن كل من وقع عليه اسم صنف من تلك الأصناف فهو من أهل الصدقة التي جلعها الله تعالى لهم في كتابه، وسنة رسوله، زَمِنًا كان أو صحيحًا.
فهذا الذي حملنا عليه وجوه هذِه الآثار، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف، ومحمد. قال ابن بطال: وهو قول مالك أيضًا فيما رواه المغيرة عنه أنه يعطى القوي البدن من الزكاة، ولا يمنع لقوة بدنه
(1)
.
خاتمة:
في بعض نسخ البخاري عقب الحديث الأخير
(2)
، وقال أبو عبد الله: صالح بن كيسان أكبر من الزهري، وهو قد أدرك ابن عمر.
ومشى عليها ابن التين فقط. فقال: قول البخاري: صالح: إلى آخره هو كما قال. وقد ذكر أن الزهري أدرك ابن عمر وروى عنه.
قُلْتُ: وجماعات غيره، ذكرتهم في "المقنع في علوم الحديث"، وذِكْرها عقب الثالث أنسب
(3)
.
والزهري اسمه: محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب إمام جليل، أعلم أهل زمانه بهذا الفن.
(1)
"شرح ابن بطال" 3/ 523.
(2)
في هامش الأصل ما نصه: في نسختي هذِه الزيادة بعد الحديث الثالث وهي أوجه.
(3)
"المقنع في علوم الحديث" 1/ 131.
54 - باب خَرْصِ التَّمْرِ
1481 -
حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ بَكَّارٍ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى، عَنْ عَبَّاسٍ السَّاعِدِيِّ، عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم غَزْوَةَ تَبُوكَ، فَلَمَّا جَاءَ وَادِيَ القُرَى، إِذَا امْرَأَةٌ فِي حَدِيقَةٍ لَهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لأَصْحَابِهِ:"اخْرُصُوا". وَخَرَصَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَشَرَةَ أَوْسُقٍ، فَقَالَ لَهَا:"أَحْصِي مَا يَخْرُجُ مِنْهَا". فَلَمَّا أَتَيْنَا تَبُوكَ قَالَ: "أَمَا إِنَّهَا سَتَهُبُّ اللَّيْلَةَ رِيحٌ شَدِيدَةٌ فَلَا يَقُومَنَّ أَحَدٌ، وَمَنْ كَانَ مَعَهُ بَعِيرٌ فَلْيَعْقِلْهُ". فَعَقَلْنَاهَا، وَهَبَّتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ، فَقَامَ رَجُلٌ فَأَلْقَتْهُ بِجَبَلِ طَيِّئٍ، وَأَهْدَى مَلِكُ أَيْلَةَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَغْلَةً بَيْضَاءَ، وَكَسَاهُ بُرْدًا وَكَتَبَ لَهُ بِبَحْرِهِمْ، فَلَمَّا أَتَى وَادِيَ القُرَى قَالَ لِلْمَرْأَةِ:"كَمْ جَاءَ حَدِيقَتُكِ؟ ". قَالَتْ: عَشَرَةَ أَوْسُقٍ خَرْصَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي مُتَعَجِّلٌ إِلَى المَدِينَةِ، فَمَنْ أَرَادَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَعَجَّلَ مَعِي فَلْيَتَعَجَّلْ". فَلَمَّا -قَالَ ابْنُ بَكَّارٍ كَلِمَةً مَعْنَاهَا- أَشْرَفَ عَلَى المَدِينَةِ قَالَ: "هَذِهِ طَابَةُ". فَلَمَّا رَأَى أُحُدًا قَالَ: "هَذَا جُبَيْلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ، أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ دُورِ الأَنْصَارِ؟ ". قَالُوا: بَلَى. قَالَ: " دُورُ بَنِي النَّجَّارِ، ثُمَّ دُورُ بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ، ثُمَّ دُورُ بَنِي سَاعِدَةَ، أَوْ دُورُ بَنِي الحَارِثِ بْنِ الخَزْرَجِ، وَفِي كُلِّ دُورِ الأَنْصَارِ" يَعْنِي: خَيْرًا. [1872، 3161، 3791، 4422 - مسلم: 1392 (كتاب الفضائل- باب (3) بعد حديث 706 - فتح: 3/ 343]
1482 -
وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ حَدَّثَنِي عَمْرٌو: "ثُمَّ دَارُ بَنِي الحَارِثِ، ثُمَّ بَنِي سَاعِدَةَ". وَقَالَ سُلَيْمَانُ، عَنْ سَعْدِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيَّةَ، عَنْ عَبَّاسٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"أُحُدٌ جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ". قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: كُلُّ بُسْتَانٍ عَلَيْهِ حَائِطٌ فَهْوَ حَدِيقَةٌ، وَمَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حَائِطٌ لَمْ يَقُلْ: حَدِيقَةٌ. [فتح: 3/ 344]
ذكر فيه حديث عَمْرِو بْنِ يَحْيَى، عَنْ عَبَّاسٍ السَّاعِدِيِّ، عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم غَزْوَةَ تبوكَ، فَلَمَّا جَاءَ وَادِيَ القُرى، إِذَا امْرَأَةٌ فِي حَدِيقَةٍ لَهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم لأصْحَابِهِ:"اخْرُجوا". وَخَرَصَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عشَرَةَ أَوْسُقٍ، فَقَالَ لَهَا:"أَحْصِي مَا يَخْرُجُ مِنْهَا" .. الحديث.
وفي آخره: فَلَمَّا رَأى أُحُدًا قَالَ: "هذا جُبْلٌ يُحِبُّنا وَنُحِبُّهُ، أَلا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ دُورِ الأنصَارِ؟ ". قَالُوا: بَلَى. فذكره.
وقًالَ سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ حَدَّثَنِي عَمْروٌ: "ثُمَّ دَارُ بَنِي الحَارِثِ، ثُمَّ بَنِي سَاعِدَةَ". وَقَالَ سُلَيْمَانُ، عَنْ سَعْدِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غزيَّةَ، عَنْ عَبَّاسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"أُحُدٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ". قَالَ أَبُو عَبْدِ الله: كُلُّ بُسْتَانٍ عَلَيْهِ حَائِطٌ فَهْوَ حَدِيقَةٌ، وَمَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حَائِطٌ لَمْ يَقُلْ: حَدِيقَةٌ.
الشرح:
الكلام عليه من أوجه: (قال البزار: ولا نعلمه يروى بهذا اللفظ إلا عن أبي حميد وحده)
(1)
.
أحدها:
غزوة تبوك تسمى: العسرة، والفاضحة، وهي من المدينة على أربع عشرة مرحلة وبينها وبين دمشق إحدى عشرة مرحلة في رجب يوم الخميس سنة تسع
(2)
.
قال الداودي: وهي آخر غزواته، ولم يعذر أحدًا تخلف عنها، وكانت في شدة الحر، وإقبال الثمار، ولم يكن فيها قتال. قال ابن التين: لعله يريد آخر غزواته بنفسه، وإلا فقد ذكر الشيخ أبو محمد أنها في سنة تسع، خرج إليها في أول يوم من رجب، واستخلف عليًّا على المدينة. ومكرت في هذِه الغزوة برسول الله صلى الله عليه وسلم طائفة من المنافقين أرادوأ أن يلقوه من العقبة، فنزل فيهم ما في براءة
(3)
. ورجع في سلخ شوال منها.
(1)
هكذا جاءت في الأصل وكأنها مقحمة على النص.
(2)
انظر: "معجم ما استعجم" 1/ 303، و"معجم البلدان" 2/ 14 - 15.
(3)
رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 6/ 1844، والبيهقي في "دلائله" 5/ 256 - 257، =
قُلْتُ: وقيل في رمضان. قال: وبعث عليًّا في سنة عشر إلى اليمن
(1)
وبعث فيها أسامة بن زيد إلى الداروم
(2)
من أرض مصر
(3)
فغنم وسلم
(4)
.
وبعث أيضًا في سنة عشر عيينة بن حصن إلى بني العنبر يدعوهم فلم يجيبوا، فقتل منهم وسبى
(5)
.
وبعث جريرًا إلى ذي الكلاع سنة إحدى عشرة يدعوه إلى الإسلام، فأسلم
(6)
. ولم تأت غزوة إلا ورى النبي صلى الله عليه وسلم بغيرها إلا تبوك. وقال ابن سيده: تبوك: اسم أرض، وقد تكون تبوك تفعل
(7)
. وزعم ابن قتيبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء في غزوة تبوك وهم يبوكون حسيها بقدح، فقال:"ما زلتم تبوكونها بعد" فسميت تبوك. ومعنى تبوكون: تدخلون فيه السهم، وتحركونه ليخرج ماؤه
(8)
.
= وذكره الواحدي في "أسباب النزول" ص 257 (516)، البغوي في "معالم التنزيل" 4/ 75، السيوطي في "الدر" 3/ 466 وعزاه للبيهقي في "دلائله".
(1)
رواه ابن سعد في "طبقاته" 2/ 169، 337، وانظر:"البداية والنهاية" 5/ 229، وسيرة ابن هشام 4/ 273 - 274.
(2)
ورد في هامش الأصل ما نصه: قوله (الداروم) كذا صواب النطق به، أعني: بالميم، وقوله من أرض مصر فيه نظر، إذ الشام من العريش إلى الفرات .. والعريش بعدها، فهي شاميَّة.
(3)
الداروم تقع في أرض الشام وليست في أرض مصر، انظر:"معجم البلدان" 2/ 424، وسيرة ابن هشام 4/ 278.
(4)
انظر: سيرة ابن هشام 4/ 278.
(5)
رواه البخاري معلقًا عن ابن إسحاق كتاب: المغازي، باب: 68، وانظر:"تاريخ الطبري" 2/ 209، و"الإصابة" 1/ 55 و 3/ 54 و 201.
(6)
انظر: "الطبقات الكبرى" 1/ 265 - 266، و"تاريخ الطبري" 2/ 226، و"الاستيعاب" 1/ 309 - 310، 2/ 53، و"الإصابة" 1/ 382.
(7)
"المحكم" 6/ 484 وفيه: تبوك تفعول، لا كما ذكر هنا: تفعل.
(8)
انظر: "تفسير القرطبي" 8/ 280، و"معجم ما استعجم" 1/ 303.
ثانيها:
وادي القرى، ذكر السمعاني أنها مدينة قديمة بالحجاز مما يلي الشام. وذكر صاحب "المطالع" أنها من أعمال المدينة.
ثالثها:
الحديقة: الأرض ذات الشجر. قاله ابن فارس
(1)
وقال الهروي: إنها كل ما أحاط به البناء. وكذلك قال البخاري وغيرهما.
وقال ابن سيده: هي من الرياض كل أرض استدارت، وقيل: كل أرض ذات شجر مثمر ونخل، وقيل: البستان والحائط، وخص به بعضهم الجنة من النخل والعنب، وقيل: حفرة تكون في الوادي يحبس الماء فيه، وإن لم يكن الماء في بطنه فهو حديقة. والحديقة: أعمق من الغدير، والحديقة: القطعة من الزرع. وكله في معنى الاستدارة
(2)
.
وفي "الغريبين" يقال للقطع من النخل: حديقة.
رابعها:
الخرص: الحزر لما على النخل تمرًا يقال: خرصت تمر النخل خرصًا، وكم خرص أرضك بالكسر والفتح، كما قاله المازني. قال ابن سيده: وهو بالفتح المصدر، وبالكسر الاسم
(3)
والخراص: الحزار، خرص العدد يخرصه -بكسر الراء وضمها- خرصًا -بفتح الخاء وكسرها- حزره.
(1)
"مجمل اللغة" 1/ 222.
(2)
انتهى من "المحكم" 2/ 396 بتصرف.
(3)
"المحكم" 5/ 35.
خامسها:
كيفية الخرص أن يطوف النخيل، ويحزر عناقيدها رطبًا، ثم تمرًا.
ويتعين إفراد كل نخلة بالنظر لتفاوت الأرطاب إن اتحد النوع. فإن اختلف جاز أيضًا، وأن يطوف بالجميع، ثم يخرص الجميع دفعة. وعبارة ابن الحاجب: ويخرص نخلة نخلة ويسقط سقطه
(1)
.
سادسها:
فيه حجة على أبي حنيفة وصاحبيه في منع الخرص، وأنه يؤدي عشر ما يحصل بيده زاد الخرص أو نقص، إذ فعله الشارع وأصحابه، فهو حجة للجمهور منهم: أبو بكر، وعمر، والزهري، وعطاء، وأبو ثور، ومالك، والشافعي، وأحمد
(2)
.
وروى أبو داود، والترمذي، والنسائي، من حديث سعيد بن المسيب، عن عتاب
(3)
بن أسيد: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرص العنب كما يخرص النخل، وتؤخذ زكاته زبيبًا كما تؤخذ صدقة النخل تمرًا، حسنه الترمذي، وصححه ابن حبان
(4)
(5)
.
وقال أبو داود: لم يسمع سعيد من عتاب
(6)
.
(1)
"مختصر ابن الحاجب" ص 82. (157).
(2)
انظر: "المعونة" 1/ 255، "العزيز" 3/ 78، "الكافي" 2/ 141.
(3)
ورد في هامش الأصل ما نصه: لا خلاف أنّ سعيدا ولد في خلافة عمر، ولم يسمع من عمر على الصحيح، وعتاب توفي يوم توفي الصديق.
(4)
"صحيح ابن حبان" 8/ 73 - 74 (3278 - 3279) كتاب: الزكاة، باب: العشر.
(5)
رواه أبو داود (1603 - 1604)، الترمذي (644)، النسائي 5/ 19، ابن حبان 8/ 73 - 74 (3278 - 3279)، ابن ماجة (1819) وابن نافع في "معجم الصحابة" 2/ 270، والبيهقي 4/ 122.
(6)
وقال ابن قانع: لم يدرك سعيد بن المسيب عتاب بن أسيد والحديث ضعفه ابن =
وهو حجة على إلحاق العنب بالنخل. وهو حجة على داود حيث قال: لا خرص إلا في النخيل فقط
(1)
، وإنما يخرص إذا بدا صلاحه، ولا يخرص الحب لاستتاره. وقول الشعبي: الخرص بدعة
(2)
. والثوري: خرص الثمار لا يجوز لا تحل حكايته عندي.
قال ابن قدامة: وممن كان يرى الخرص سهل بن أبي حثمة، ومروان، والقاسم بن محمد، والحسن، وعمرو بن دينار، وعبد الكريم بن أبي المخارق، وأبو عبيد بن سلام، وأكثر أهل العلم
(3)
.
= حزم وقال: سعيد لم يولد إلا بعد موت عتاب بسنتين. وعتاب لم يوله النبي صلى الله عليه وسلم إلا مكة ولا زرع بها ولا عنب "المحلى" 5/ 223. ونقل ابن عبد البر في "الاستذكار" 9/ 246 عن داود الظاهري قال: إنه منقطع. لم يسمع سعيد من عتاب.
وقال هو في موضع لاحق 21/ 213: حديث ليس بمتصل عند أهل العلم؛ لأن عتاب بن أسيد مات بمكة في اليوم الذي مات فيه أبو بكر الصديق، أو في اليوم الذي ورد النعي بموته، وسعيد بن المسيب إنما ولد لسنتين مضتا لخلافة عمر، فالحديث مرسل على كل حال.
وممن أعله بذلك وضعف الحديث أيضًا، المنذري في "مختصرالسنن" 2/ 211، وعبد الحق في "أحكامه" 2/ 178. والنووي في "مجموعه" 5/ 430 - 431 فقال: هو مرسل، والإمام تقي الدين ابن دقيق العيد في "الإمام" فيما نقله عنه المصنف في "البدر المنير" 5/ 540، والمصنف في نفس الموضع مؤكدًا ذلك.
وكذا الألباني فقال في "ضعيف أبي داود"(280): إسناده ضعيف. وضعفه في "الإرواء"(807).
وخالف ذلك كله الحافظ ابن كثير فقال في "الإرشاد" 1/ 253: إسناده حسن!
ذكره مرة أخرى 1/ 254 ونقل كلام أبي داود وتحسين الترمذي، وسكت!
(1)
انظر: "بداية المجتهد" 2/ 525.
(2)
رواه عبد الرزاق في "المصنف" 4/ 127 (7211) كتاب: الزكاة، باب: الخرص.
(3)
"المغني" 4/ 173 - 174.
وكذا عدد ابن المنذر جماعة، ثم قال: وعامة أهل العلم. قال: وخالف ذَلِكَ أبو حنيفة وأصحابه.
فرع:
المشهور عن الشافعي إدخال جميعه في الخرص، ولا يترك للمالك نخلة أو نخلات يأكلها أهلها، خلافًا لنصه في البويطي
(1)
، وعند أحمد يلزم الخارص أن يترك الثلث أو الربع في الخرص توسعة على أرباب الأموال. وبه قال إسحاق، والليث
(2)
.
وقال ابن حبيب: يخفف عن ربه، ويوسع عليه، وهو خلاف مشهور في مذهب مالك
(3)
،
وفيه حديث جيد من طريق سهل بن أبي حثمة، صححه ابن حبان والحاكم
(4)
.
(1)
انظر: "المجموع" 5/ 460.
(2)
انظر: "المغني" 3/ 177، "الفروع" 2/ 433.
(3)
قال أبو الوليد الباجي رحمه الله في "المنتقى" 2/ 160: وهل يخفف في الخرص على أرباب الأموال أم لا؟ المشهور من مذهب مالك أنه لا يُلْغَى له شيء، وقال ابن حبيب: يخفف عنهم، ويوسع عليهم. وقال الشيخ أبو محمد: هذا خلاف مذهب مالك، وحكى القاضي أبو محمد الروايتين عن مالك، انظر: في "النوادر والزيادات" 2/ 266، "الذخيرة" 2/ 91.
(4)
"صحيح ابن حبان" 8/ 75 (3280)، "المستدرك" 1/ 402.
ورواه أيضًا أبو داود (1605)، والترمذي (643)، والنسائي 5/ 42.
وصححه كذلك ابن الجارود 2/ 15 - 16 (348)، عبد الحق 2/ 178 - 179، والنووي في "المجموع" 5/ 460، والمصنف هنا، وفي "البدر المنير" 5/ 545 - 547 إشارة. لكن أعله ابن القطان في "بيانه" 4/ 215 بعبد الرحمن بن مسعود بن نيار -قلت: هو راويه عن سهل بن أبي حثمة.
وقال النووي 5/ 460 - بعد أن قال: إسناده صحيح-: إلا عبد الرحمن فلم يتكلموا فيه بجرح ولا تعديل ولا هو مشهور، ولم يضعفه أبو داود، والله تعالى =
وقال الشافعي في قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] يدل على أنه لا يحتسب بالمأكول قبل الحصاد
(1)
. وتحمل الآية على العموم أي: آتوا جميع حق المأكول والباقي.
فرع:
لو كانت هذِه الثمرة لا يجيء منها تمر ولا زبيب فيخرصها على ما يكون فيها لو أثمرت. ذكره ابن التين. ومن يقول بالقيمة التخريص عنده لأجل النصاب. وأغرب ابن العربي فقال في "مسالكه": لم يصح حديث عتاب، ولا حديث سهل
(2)
.
فرع:
يكفي خارص واحد على الأصح عندنا وبه قال مالك
(3)
.
سَابِعُها:
اعتذر من منع من الخرص بجن حديث الباب أراد به معرفة مقدار ما
في نخلها خاصة، ثم يأخذ منها الزكاة وقت الصرام على حسب ما يجب
= أعلم. أهـ. وكذا ضعفه الإمام ابن دقيق العيد في "إلمامه" ص 221 - 222، وفي "إمامه" كما نقله عنه المصنف في "البدر" 5/ 547. وضعفه الألباني في "ضعيف أبي داود" (281)، وفي الضعيفة (2556).
(1)
انظر: "مختصر المزني" 1/ 229 - 230، "الحاوي" 3/ 238.
(2)
قلت: حديث عتاب أعله أكثرهم، وحديث سهل أعله غير واحد. والله أعلم.
(3)
انظر: "المنتقى" 2/ 160، وقال النووي رحمه الله: وهل يكفي خارص واحد أم يشترط اثنان؟ فيه طريقان:
أحدهما: القطع بخارص، كما يجوز حاكم واحد، وبهذا الطريق قال ابن سريج والإصطخري، وقطع به جماعة من المصنفين. وأصحهما وأشهرهما، وبه قطع "المصنف" والأكثرون فيه قولان. قال الماوردي: وبهذا الطريق قال أبو إسحاق، وابن أبي هريرة وجمهور أصحابنا المتقدمين، أصحهما باتفاقهم خارص.=
فيها. وأيضًا فقد خرص حديقتها، وأمر أن تحصى، وليس فيه أنه جعل زكاتها في ذمتها، وأمرها أن تتصرف في ثمرها كيف شاءت. وإنما كان يفعل ذَلِكَ تخفيفا لئلا يخونوا، وإن لم يعرفوا مقدار ما في النخيل ليأخذوا الزكاة وقت الصرام هذا معنى الخرص.
قال الطحاوي: ولم يأت في هذِه الآثار أن الثمرة كانت رطبًا حينئذٍ
(1)
. وقال ابن العربي: لا يصح في الخرص إلا حديث الباب.
ويليه حديث ابن رواحة في الخرص على اليهود.
وهذِه المسألة عسرة جدًّا؛ لأنه ثبت عنه خرص العنب، ولم يثبت عنه خرص الزبيب، وكان موجودًا في حياته وكثيرًا في بلاده. ولم يثبت عنه خرص النخل إلا على اليهود؛ لأنهم كانوا شركاء وكانوا غير أمناء، وأما المسلمون فلم يخرص عليهم.
قال الماوردي: واحتج أبو حنيفة بما رواه جابر مرفوعًا: "نهي عن الخرص"
(2)
وبما رواه جابر بن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع كل ذي ثمرة بخرص
(3)
. وبأنه تخمين وقد يخطئ، ولو جوزنا لجوزنا خرص الزرع وخرص الثمار بعد جدادها، وهي أقرب إلى الأبصار من خرص ما على الأشجار، فلما لم يجز في القريب، لم يجز في البعيد. ولأن تضمين رب المال قدر الصدقة. وذلك غير جائز لأنه بيع رطب بتمر.
والثاني: بيع حاضر بغائب
(4)
.
= والثاني: يشترط اثنان كما يشترط في التقويم اثنان، "المجموع" 5/ 460.
(1)
"شرح معاني الآثار" 2/ 39.
(2)
رواه أحمد 3/ 394، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" 2/ 41.
(3)
"سنن الدارقطني" 2/ 133.
(4)
"الحاوي" 3/ 221.
وأيضًا فهو من المزابنة المنهي عنها، وهو بيع الثمرة على رءوس النخل بالتمر كيلًا.
وأيضًا فهو من باب بيع الرطب بالتمر نسيئة، فيدخله المنع من التفاضل، ومن النسيئة. وقالوا: الخرص منسوخ بنسخ الربا.
واستدل من رآه بحديث ابن عباس في بعث النبي صلى الله عليه وسلم ابن رواحة إلى خيبر حين كان يصرم النخل، فحزر النخل وهو الذي يسميه أهل المدينة الخرص. أخرجه أبو داود
(1)
وأخرج أيضًا من حديث عائشة مثله. قال الدارقطني: وروي مرسلًا ومسندًا
(2)
.
وبحديث جابر قال: أفاء الله تعالى خيبر على رسوله، فبعث ابن رواحة فخرصها عليهم عشرين ألف وسق، أخرجه الدارقطني كذلك
(3)
، وابن أبي شيبة في "مصنفه". وقال: بأربعين ألف وسق
(4)
.
(1)
"أبو داود"(3410) ورواه أيضًا ابن ماجه (1820). قال الألباني في "الإرواء" 3/ 282: إسناده جيد. وحسنه في "صحيح ابن ماجه"(1473).
(2)
"سنن أبي داود"(1606 و 3413). وقال الحافظ ابن كثير في "الإرشاد" 1/ 255: رجال إسناده على شرطهما، ولكن قال البخاري: ليس بمحفوظ. والحديث يرويه حجاج عن ابن جريج قال: أخبرت عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة.
لذا قال المصنف في "البدر المنير" 5/ 543: فيه جهالة المخبر لابن جريج. وقال الحافظ في "التلخيص" 2/ 171: فيه جهالة الواسطة.
وقال الألباني في "ضعيف أبي داود"(282): إسناده ضعيف، لجهالة المخبر.
وقال في "الإرواء" 3/ 281: رجاله ثقات كلهم غير أنه منقطع.
(3)
"سنن الدارقطني" 2/ 133 - 134. قال المصنف في "البدر المنير" 5/ 535 - 536: قال المنذري: رجال إسناده. كلهم ثقات. وقال الألباني في "الإرواء" 3/ 281: إسناده رجاله ثقات كلهم لولا أن أبا الزبير مدلس وقد عنعنه.
(4)
"المصنف" 2/ 415 (10561) كتاب الزكاة، ما ذكر في خرص النخل، و 7/ 293 (36199) كتاب: الرد على أبي حنيفة.
وبحديث البيهقي، عن [الصلت بن زُييد]
(1)
، عن أبيه، عن جده أنه صلى الله عليه وسلم استعمله على الخرص فقال: أثبت لنا النصف، وأبق لهم النصف، فإنهم يسرقون، ولا يصل إليهم .. الحديث.
وفيه قال محمد: فَحَدَّثْتُ بهذا الحديث عبيد الله بن عمر، فقال: قد ثبت عندنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أبق لنا الثلثين" قال الحافظ أبو بكر: هذا إسناد مجهول
(2)
.
قال الماوردي: فمن خراصين رسول الله صلى الله عليه وسلم حويصة، ومحيصة، (وبردة بن عمر)
(3)
، وعمر بن الخطاب. وروي عن أبي بكر أنه بعث ابنه (عبد الله)
(4)
خارصًا على أهل خيبر
(5)
.
قال: وليس لأبي بكر، وعمر في ذَلِكَ مخالف، فثبت أنه إجماع.
وقال ابن القصار: ما هرب منه أبو حنيفة من تضمين أرباب الأموال حق الفقراء، فإن أصحاب الشافعي لا يضمنون أرباب الأموال؛ لأن الثمرة لو تلفت بعد الخرص لم يضمنهم شيئًا.
قال ابن المنذر: أجمع من يحفظ عنه العلم أن الخارص إذا خرص
(1)
في الأصل: (الصلت عن ابن زييد)، والمثبت كما في كتب التراجم و"سنن البيهقي"، و"التاريخ الكبير" 4/ 301، و"الثقات" 6/ 472 وتصحف عندهم إلى (زبيد) وذكره ابن ناصر في "توضيح المشتبه" 4/ 270 على الصواب وذكر الحديث.
(2)
"السنن الكبرى" 4/ 123 - 124 كتاب: الزكاة.
(3)
كذا بالأصل، والصواب كما جاء في كلام الماوردي في "الحاوي" 3/ 222، وأبي بردة وابن عمر.
(4)
كذا بالأصل، والصواب عبد الرحمن كما في كلام الماوردي.
(5)
"الحاوي" 3/ 221 - 222 و 223.
الثمر، ثم أصابه جائحة أنه لا شيء عليه إذا كان ذَلِكَ قبل الجداد، ولأنا نخرصها لنعرفهم لئلا يشق عليهم، ويضمنون حق الفقراء، فرفقنا بالفريقين. ودعواهم أنه منسوخ بنسخ الربا جوابه أن بعض آية الربا منسوخة بالخرص، ومخصوصة كما خصت الحوالة من بيع الدين بالدين، والقرض من بيع الذهب والفضة بمثلهما إلى أجل، والإقالة، والشركة من بيع الطعام قبل قبضه، وكذلك العرية والخرص ليس بربا، وإنما هو ليعرف حق المساكين. وقولهم: أنه ظن فالشريعة وردت بالعمل بغلبة الظن كثيرًا، ومحل الجواب عن الشبه كتب الخلافيات، وقد أشرنا إليها.
ثامنها: قوله صلى الله عليه وسلم: "ستهُب الليلة ريح" هو بضم الهاء مثل كب يكب.
وهذا باب المضعف؛ لأنه مع عينه إذا كان متعديًا أن يكون مضمومًا إلا حبَّه يحبُّه خاصة، فإنه مكسور. وأحرف نادرة جاء فيها الوجهان إذا كان لازمًا مثل عد يعد، وضل يضل.
وفيه: أنه صلى الله عليه وسلم كان يخبر ببعض ما يكون قبل كونه، وإنما يقول عن الوحي، وهو من أعلام نبوته.
تاسعها
(1)
:
قوله: وأهدى ملك أيلة .. إلخ. فيه قبول هدية طاغية الكفار، وسيأتي بسط الكلام فيه في كتاب الهبة إن شاء الله. واسم ملك أيلة يوحنا بن رؤبة. وأيلة: مدينة على شاطئ البحر في منتصف ما بين مصر ومكة على وزن فعلة. هذا قول أبي عبيدة. وقال محمد بن حبيب: أيلة: شعبة من رضوى، وهو جبل ينبع. وقال البكري: الذي
(1)
وقعت في الأصل ثالثها، والصواب: تاسعها.
ذكر أبو عبيدة صحيح، وقال الأحول: سميت بأيلة بنت مدين بن إبراهيم صلى الله عليه وسلم. وقد روي أن أيلة: هي القرية التي كانت حاضرة البحر
(1)
.
وقوله: وكساه بُردًا: يريد أنه صلى الله عليه وسلم كسا طاغيتهم بردًا.
وقوله: وكتب لهم ببحرهم، وفي نسخة: ببحيرهم أمنهم يريد أهل البحر. وقال الخطابي بحرتهم: أرضهم وبلدهم
(2)
.
وقوله: قال للمرأة: "كم جاء حديقتك" قالت: عشرة أوسق.
فيه: تصديق المرأة، وأنها مؤمنة، ذكره الداودي. ويحتمل كما قال ابن التين أن يكون إنما صدقها لتوافق خرصه.
وقد اختلف إذا زاد أو نقص على ما خرصه، فثلاثة أقوال عند المالكية. قال ابن نافع: تؤدى الزيادة، خرصه عالم أو غيره، ويرد في النقص إلى ما ظهر. وهذا هو القياس؛ لأن الزكاة في أوسق معلومة، وخطأ الخارص لا يوجب أن يكون حكمًا. وقيل: إن خرصه عالم فلا شيء عليه في الزيادة، وإن خرصه غير عالم زكى الزيادة. والذي في "المدونة" أنه إذا خرص عليه أربعة فجدَّ خمسة أحب أن يؤدى زكاتها
(3)
.
وفيه: تدريب الإمام أصحابه، وتعليمهم أمور الدنيا، كما يعلمهم أمور الآخرة؛ لأنه قال لهم:"اخرصوا" وقوله: "إني متعجل إلى المدينة فمن أراد منكم أن يتعجل معي فليتعجل" إنما أذن لهم؛ لئلا يستأثر دونهم بذلك، وأذن لمن شاء؛ لأنه لا يمكن لجميعهم التعجيل.
وقوله: "هذه طابة" هو اسم من أسمائها، ويقال: طيبة ومعناه:
(1)
انظر: "معجم ما استعجم" 1/ 217، "معجم البلدان" 1/ 292 - 293.
(2)
"أعلام الحديث" 2/ 812.
(3)
انظر: "المدونة" 1/ 284، "النوادر والزيادات" 2/ 267، "المنتقى" 2/ 162.
طيِّبة، يقال: طيب وطاب
(1)
.
وقوله: "هذا جبل يحبنا ونحبه" لا منع من حمله على الحقيقة، ولا حاجة إلى إضمار فيه أي: أهله وهم الأنصار. فقد ثبت أن حراء ارتج تحته، وكلمه، وقال:"اثبت فلبس عليك إلا نبي، وصديق، وشهيدان "
(2)
.
وحن الجذع اليابس إليه حتَّى نزل وضمه، وقال:"لو لم أضمه لحن إلى يوم القيامة"
(3)
، وكلمه الذئب
(4)
، وسجد له البعير
(5)
، وأقبل إليه
(1)
انظر: "معجم ما استعجم" 3/ 900، و"معجم البلدان" 4/ 52/ 53.
(2)
سيأتي برقم (3675) كتاب: "فضائل الصحابة" باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لو كنت متخذًا خليلًا".، وبرقم (3686) باب: مناقب عمر بن الخطاب، وبرقم (3697) باب: مناقب عثمان بن عفان.
(3)
رواه ابن ماجه (1415) كتاب: إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: ما جاء في بدء شأن المنبر، وأحمد 1/ 249، 266، 363، والبخاري في "التاريخ الكبير" 7/ 26، وابن سعد في "طبقاته" 1/ 252، وأبو يعلى 6/ 114 (3384)، والطبراني 12/ 187 (12841)، والضياء في "المختارة" 5/ 37 - 38، وصححه الألباني في "الصحيحة" 5/ 206 (2174)، وهذا الحديث سيأتي برقم (3583) في المناقب، باب: علامات النبوة في الإسلام، بلفظ آخر.
(4)
رواه البيهقي في "دلائل النبوة" 6/ 39 - 40.
(5)
رواه أحمد 3/ 158 - 159 من حديث أنس بن مالك، وأبو نعيم في "دلائل النبوة" 2/ 385 (287)، والضياء في "الأحاديث المختارة" 5/ 265 - 266 (1895)، والبزار كما في "كشف الأستار" 3/ 151 - 152 (2454)، وذكره الهيثمي في "المجمع" 9/ 9 وقال: رواه أحمد والبزار، ورجاله رجال الصحيح غير حفص بن أخي أنس، وهو ثقة. وفي الباب من حديث: عصمة بن مالك الخطمي رواه الطبراني 12/ 183 (468)، وذكره الهيثمي في "المجمع" 4/ 310 - 311، وقال: رواه الطبراني، وفيه: الفضل بن المختار، وهو ضعيف.
ومن حديث عبد الله بن مسعود، رواه الطبراني في "الأوسط" 9/ 81 - 82 (9189)، ومن حديث عبد الله بن أبي أوفى، رواه أبو نعيم في "دلائل النبوة" 2/ 384 - 385 (286)، والبيهقي في "دلائل النبوة" 6/ 29.
الثعبان
(1)
، وسلم عليه الحجر
(2)
، وكلمه اللحم المسموم أنه مسموم
(3)
، فلا ينكر حب الجبل له. قال تعالى:{فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ} [الدخان: 29] يعني: المواضع التي كانوا يصلون عليها، وأبواب السماء التي كان يصعد منها عملهم. وحبُّ النبي صلى الله عليه وسلم الجبل؛ لأن به قبور الشهداء، ولأنهم لجأوا إليه يوم أحد فامتنعوا.
(1)
رواه السهمي في "تاريخ جرجان" ص 615 - 616.
(2)
رواه مسلم (2277) كتاب: الفضائل، باب: فضل نسب النبي صلى الله عليه وسلم وتسليم الحجر عليه قبل النبوة.
(3)
روي هذا الحديث موصولًا من حديث أبي هريرة، وأبي سعيد الخدري، وأنس بن مالك، وكذلك مرسلًا.
حديث أبي هريرة رواه الطبراني 2/ 34 (1202)، وذكره الهيثمي في "المجمع" 6/ 291 وقال: رواه الطبراني، وفيه: سعيد بن محمد الوراق، وهو ضعيف.
وحديث أبي سعيد الخدري: رواه البزار كما في "كشف الأستار" 3/ 141 (2424)، وقال البزار: لا نعلم يروى عن أبي سعيد إلا من هذا الوجه، والحاكم في "المستدرك" 4/ 109 كتاب: الأطعمة، وقال: هذا حديث صحيح ولم يخرجاه وذكره الهيثمي في "المجمع" 8/ 295 وقال: رواه البزار، ورجاله ثقات.
وحديث أنس: رواه البزار كما في "كشف الأستار" 3/ 140 - 141 (2423)، وقال البزار: تفرد به أنس، ولا نعلم رواه إلا يزيد عن مبارك.
وذكره الهيثمي في "المجمع" 8/ 295 وقال: رواه البزار ورجاله رجال الصحيح غير مبارك بن فضالة، وهو ثقة، وفيه ضعيف.
أما المرسل: فرواه أبو داود (4512) كتاب: الديات، باب: فيمن سقى رجلًا سمًّا أو أطعمه فمات، أيقاد منه؟ وقال الألباني: حسن صحيح.
ورواه ابن سعد في "طبقاته" 1/ 172، والدارمي في "مسنده" 1/ 207 - 208 (68).
وأصل هذا الحديث سيأتي برقم (2617) كتاب: الهبة، باب: قبول الهدية من المشركين، ورواه مسلم (2190) كتاب: السلام، باب: السم، من حديث أنس: أن يهودية أتت النبي- صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة فأكل منها، فجيء بها، فقيل .. الحديث.
وقوله: "ألا أخبركم بخير دور الأنصار؟ " يروى
(1)
أن سعد بن عبادة لحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أجعلتنا من آخرهم. قال: "أما ترضى أن تكون من الأخيار"
(2)
.
وقوله: -قبل ذَلِكَ- (فقام رجل فألقته بجبل طيِّئ). وفي نسخة بجبلي طيِّئ. قال الكلبي في كتابه "أسماء البلدان": هما: أجا وسلمئ، وذلك أن سلمى بنت حام بن حُمَّى بن نزاوة من بني عمليق، كانت لها حاضنة يقال لها: العوجاء، وكانت الرسول بينها وبين أجا بن عبد الحي من العماليق فعشمقها وهرب بها وبحاضنتها إلى موضع جبلي طيِّئ، وبالجبلين قوم من عاد. وكان لسلمى إخوة، وهي أول من تسمى بسلمى، فجاءوا في طلبها فلحقوهم بموضع الجبلين، فأخذوا سلمى فنزعوا عينها ووضعوها على الجبل وكتف أجا، وكان أول من كتف ووضع على الجبل الآخر فسمي بهما الجبلان أجا وسلمى.
قال ابن الكلبي: وفي حديث آخر عن الشرقي: أن زوج سلمى هو الذي قتلها. وقال البكري: أجا: بفتح أوله وثانيه على وزن فعل يهمز ولا يهمز، ويذكر ويؤنث، وهو مقصور في كلا الوجهين من همزه وترك همزه
(3)
(4)
.
(1)
جاء في هامش الأصل ما نصه: ذا في الصحيح يأتي.
(2)
سيأتي برقم (3791) كتاب: مناقب الأنصار، باب: اتباع الأنصار.
(3)
"معجم ما استعجم" 1/ 109.
(4)
ورد في هامش الأصل ما نصه: ثم بلغ في الثامن عشر. كتبه مؤلفه غفر الله له.
55 - باب أَخْذِ صَدَقَةِ التَّمْرِ عِنْدَ صِرَامِ النَّخْلِ
وَهَلْ يُتْرَكُ الصَّبِيُّ فَيَمَسُّ تَمْرَ الصَّدَقَةِ؟
1485 -
حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الحَسَنِ الأَسَدِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُؤْتَى بِالتَّمْرِ عِنْدَ صِرَامِ النَّخْلِ، فَيَجِيءُ هَذَا بِتَمْرِهِ، وَهَذَا مِنْ تَمْرِهِ، حَتَّى يَصِيرَ عِنْدَهُ كَوْمًا مِنْ تَمْرٍ، فَجَعَلَ الحَسَنُ وَالحُسَيْنُ رضي الله عنهما يَلْعَبَانِ بِذَلِكَ التَّمْرِ، فَأَخَذَ أَحَدُهُمَا تَمْرَةً، فَجَعَلَهَا فِي فِيهِ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْرَجَهَا مِنْ فِيهِ فَقَالَ:"أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ آلَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لَا يَأْكُلُونَ الصَّدَقَةَ". [1491، 3072 - مسلم: 1069 - فتح: 3/ 350]
ذكر فيه حديث أبي هريرة: قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُؤتَى بِالتَّمْرِ عِنْدَ صِرَامِ النَّخْلِ .. الحديث.
وفيه: فَجَعَلَ الحَسَنُ وَالحُسَيْنُ يَلْعَبَانِ بِذَلِكَ التَمْرِ، فَأخَذَ أَحَدُهُمَا تَمْرَةً، فَجَعَلَها فِي فِيهِ، فَنَظَرَ إِلَيهِ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فَأَخْرَجَهَا مِنْ فِيهِ فَقَالَ:"أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ آلَ مُحمدٍ لَا يَأْكلُونَ الصَّدَقَةَ".
هذا الحديث أخرجه أيضًا قريبًا في باب: ما يذكر من الصدقة للنبي صلى الله عليه وسلم وآله بلفظ: أخذ الحسن بن علي تمرة. فقال: "كِخْ كِخْ"؛ ليطرحها ثم قال: "أما شعرت أنا لا نأكل صدقة؟ "
(1)
.
وأخرجه مسلم كذلك. وفي رواية: "أما علمت أنا لا تحل لنا الصدقة؟ "
(2)
وله عندهما طريق آخر غير هذا
(3)
. ومن حديث أنس
(1)
سيأتي برقم (1491).
(2)
"صحيح مسلم"(1069) كتاب: الزكاة، باب: تحريم الزكاة على الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى آله وهم بنو هاشم وبنو المطلب دون غيرهم.
(3)
سيأتي برقم (3072) كتاب: الجهاد والسير، باب: من تكلم بالفارسية والرطانة، رواه مسلم (1069).
أيضًا، وله طرق أخر
(1)
.
والصرام: هو الجداد والقطاف، ويقال ذَلِكَ كله بالفتح والكسر، وكان الفعال بهما مطردان في كل ما كان فيه معنى وقت الفعل، مشبهان في معاقبتهما بالأوان فالأوان، والمصدر من ذَلِكَ: الصرم والجد والقطف.
وعبارة ابن سيده: الصِرام والصُرام أوان إدراكه. وأصرم: حان صرامه. والصُرامة: ما صرم من النخل. ونخل صريح: مصروم.
(2)
وفي "المغيث": قد يكون الصرام النخل. لأنه يصرم أي: يجتنى ثمره. ومنه حديث ابن عباس: يرسل ابن رواحة إلى يهود حين يصرِم النخل
(3)
بكسر الراء أي: بلغ وقت صرامه. والصرام: التمر بعينه أيضًا؛ لأنه يصرم فسمي بالمصدر. وفي "الجامع": ربما سموا النخل صرامًا؛ لأنه يصرم ويجتنى ثمره.
وقال الإسماعيلي: قول البخاري: (عند صرام النخل) يريد بعد أن تصير تمرًا؛ لأنه يصرم النخل وهو رطب، فيتمر في المربد، ولكن ذَلِكَ لا يتطاول فحسن أن ينسب إليه، كما قال تعالى:{وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] فمن رآه في الزكاة فإنما هو بعد أن يداس وينقى. والكوم -بفتح الكاف- والكومة: العُرمة، وهو هنا التمر المجتمع كالكدية.
(1)
سيأتي برقم (2055) كتاب: البيوع، باب: ما يتنزه من الشبهات، (2431 - 2432) كتاب: في اللقطة، باب: إذا وجد تمرة في الطريق، ورواه مسلم (1071) باب: تحريم الزكاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وهم بنو هاشم وبنو المطلب دون غيرهم.
(2)
"المحكم" 8/ 213.
(3)
تقدم تخريجه في الباب السالف.
وقوله: (أخذ أحدهما تمرة). هوْ الحسن كما علمته في رواية (البخاري)
(1)
، ومسلم.
وقوله: "أنَّ آل محمد لا يأكلون الصدقة". وفي لفظ آخر سلف: "أنَّا لا نأكل الصدقة"
(2)
قال الداودي: إما أن يكون قالهما أو روى بعضهم معنى الكلمة.
وفيه دلالة واضحة على تحريم الصدقة على آله صلى الله عليه وسلم، وبه قال أبو حنيفة، والشافعي
(3)
، وللمالكية في إعطائهم من الصدقة أربعة أقوال: الجواز، والمنع، ثالثها: يعطون من التطوع دون الواجب.
رابعها: عكسه لأن المنّة قد تقع فيها
(4)
. والمنع: أولاها كما قال ابن التين للحديث، وعندنا: لا يحرم عليهم التطوع، وآله عندنا: بنو هاشم، وبنو المطلب
(5)
. وقالت المالكية: بنو هاشم آل، وما فوق غالب ليس بآل، وفيما بينهما قولان
(6)
.
وعند أبي حنيفة أن آله بنو هاشم خاصة (لا استثنى بني)
(7)
(1)
سقطت من الأصل.
(2)
هذا اللفظ ليس كما قال المصنف رحمه الله أنه سلف، وإنما هو في سيأتي برقم (1491)، و (3072) كتاب: الجهاد والسير، باب: من تكلم بالفارسية والرطانة.
(3)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 1/ 477 - 478، "تحفة الفقهاء" 1/ 301، "البيان" 3/ 438.
(4)
انظر: "المنتقى" 2/ 152، "عقد الجواهر الثمينة" 1/ 246.
(5)
انظر: "البيان" 3/ 438 - 439.
(6)
انظر: "عقد الجواهر الثمينة" 1/ 246.
(7)
ورد بهامش المخطوط: هذا افتراء على أبي حنيفة رضي الله عنه ولعله غلط من الكاتب، والأصل: إلا أنه استثنى بني أبي لهب.
أبي لهب
(1)
. وقال أصبغ: هم عشيرته الأقربون الذين ناداهم حين أنزل الله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ (214)} [الشعراء: 214] وهم: آل عبد المطلب، وهاشم، عبد مناف وقصي وغالب قال: وقيل: هم قريش كلها، قال ابن حبيب: لا يدخل في آله من كان فوق بني هاشم من بني عبد مناف، أو بني قصي، أو غيرهم. وكذا فسر ابن الماجشون ومطرف
(2)
. وحكاه الطحاوي عن أبي حنيفة.
قال ابن التين: والأظهر ما قاله ابن القاسم أنهم بنو هاشم خاصة؛ لأن الأول إذا وقع على الأقارب إنما يتناول الأدنَين، فعلى هذا يأخذها من آل العشيرة من عدا عليا. وعلى قول أصبغ: لا يأخذها الخلفاء الثلاثة الأول، ولا عبد الرحمن، ولا سعد بن أبي وقاص، ولا طلحة، ولا الزبير، ولا سعيد. ويأخذها أبو عبيدة؛ لأنه يجتمع معه في فهر وهو أبو غالب فيجتمع معه فيه وفي علي، ويحتمل أن يذكر بعض من لا يحل له. وسكت عن بعض لعلم السامع أن آله لا يأخذونها. واختلف فيمن عداهما.
وذكر عبد الرزاق، عن الثوري، عن يزيد بن حبان التيمي قال: سمعت زيد بن أرقم، وقيل له: من آل محمد الذين لا تحل لهم الصدقة؟ قال: آل علي، وآل عَقِيل، وآل جعفر، وآل العباس
(3)
.
فرع:
الأصح عندنا إلحاق مواليهم بهم، وبه قال الكوفيون، والثوري
(4)
.
(1)
انظر: "تبين الحقائق" 1/ 303، "الفتاوى التاتارخانية" 2/ 275.
(2)
انظر: "المنتقى" 2/ 153، "البيان والتحصيل" 2/ 382.
(3)
"المصنف" 4/ 52 (6943) كتاب: الزكاة، باب: لا تحل الصدقة لآل محمد صلى الله عليه وسلم.
(4)
انظر: "تحفة الفقهاء" 1/ 302، "تبيين الحقائق" 1/ 303، وقال النووي رحمه =
وعند المالكية قولان لابن القاسم، وأصبغ. قال أصبغ: احتججت على ابن القاسم بالحديث: "مولى القوم منهم"
(1)
فقال: قد جاء حديث آخر: "ابن أخت القوم منهم"
(2)
فكذلك حديث المولى وإنما يفسر: "مولي القوم منهم" في الحرمة والبر، كما في حديث:"أنت ومالك لأبيك"
(3)
أي: في البر لا في القضاء واللزوم
(4)
. ونقل ابن بطال
(5)
عن مالك، والشافعي، وابن القاسم الحِل، وما حكاه عن الشافعي غريب.
فرع:
أما سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فصدقة الفرض والتطوع حرام عليه لشرفه، فإنها أوساخ الناس، قال المهلب: ولأنها منزلة ذل، والأنبياء منزهون
= الله: الزكاة حرام على بني هاشم، وبني المطلب بلا خلاف، إلا ما سبق فيما إذا كان أحدهم عاملًا، والصحيح تحريمه، وفي مواليهم وجهان أصحهما التحريم.
"المجموع" 6/ 220.
(1)
سيأتي برقم (6761) كتاب: الفرائض، باب: مولى القوم من أنفسهم، وابن الأخت منهم. بلفظ:"مولى القوم من أنفسهم".
(2)
سيأتي برقم (3528) كتاب: المناقب، باب: ابن أخت القوم منهم ومولى القوم منهم، و (6762) كتاب: الفرائض، ورواه مسلم (1059/ 133) كتاب: الزكاة، باب: إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام وتصبر من قوي إيمانه.
(3)
رواه ابن ماجه (2291) كتاب: التجارات، باب: ما للرجل من مال ولده. من حديث جابر، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" 4/ 158، والطبراني في "الأوسط" 4/ 31 (3534) و 7/ 19 (6728)، وفي الباب من حديث: عبد الله بن عمرو، وابن مسعود، وعائشة، وسمرة بن جندب، وابن عمر، وأبي بكر الصديق، وأنس بن مالك، وعمر بن الخطاب. والحديث صححه الألباني في "الإرواء" 3/ 323 (838) فانظره.
(4)
انظر: "المنتقى" 2/ 153.
(5)
"شرح ابن بطال" 3/ 544.
عن الذل، والخضوع، والافتقار لغير الله تعالى. وقد فرض الله عليه وعلى الأنبياء قبله ألا يطلبوا على شيء من الرسالة أجرًا، قال تعالى:{قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الأنعام: 90] فلو أخذها لكانت كالأجرة. وكذلك لو أخذها آله؛ لأنه كالواصل إليه وأيضًا فلو حلت له لقالوا: إنما دعانا إلى ذَلِكَ. وادعى القرافي في "ذخيرته" فيه الإجماع
(1)
.
وقال ابن قدامة: إنه الظاهر؛ لأن اجتنابها كان من دلائل نبوته كما في حديث سلمان الصحيح: يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة
(2)
وهو عام. وعن أحمد: حل التطوع له
(3)
.
ويجوز أن يراد بالآل هنا: نفسه، كما جاء في الحديث:"لقد أوتي مزمارًا من مزامير آل داود"
(4)
يريد داود. ونقل الطحاوي عن أبي يوسف، ومحمد أن التطوع يحرم على بني هاشم أيضًا
(5)
وكره أصبغ لهم فيما بينهم وبين الله تعالى أن يأخذوا من التطوع
(6)
.
(1)
"الذخيرة" 3/ 142.
(2)
"المغني" 4/ 115، وحديث سلمان المذكور هو قطعة من حديث طويل رواه أحمد 5/ 441 - 445، وابن سعد في "طبقاته" 4/ 75 - 80، والبزار في "مسنده" 6/ 462 - 468 (2500)، وابن حبان في "صحيحه" 16/ 64 - 66 (7124) كتاب: إخباره صلى الله عليه وسلم عن مناقب الصحابة، والبيهقي في "دلائله" 2/ 92 - 97، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(4881).
(3)
انظر: "المغني" 4/ 117.
(4)
سيأتي برقم (5048) في فضائل القرآن، باب حسن الصوت بالقراءة للقرآن، ورواه مسلم (793) صلاة المسافرين، باب استحباب تحسين الصوت بالقرآن.
(5)
"شرح معاني الآثار" 2/ 11.
(6)
انظر: "النوادر والزيادات" 2/ 297، "البيان والتحصيل" 2/ 381.
واختلف في ذَلِكَ قول أبي حنيفة، فروي عنه مثل هذا القول. وروي عنه أن الفرض والتطوع حلال لبني هاشم
(1)
.
وذكر الطبري عن أبي يوسف أنه يحل لبني هاشم الصدقة من بعضهم لبعض، ولا يحل لهم من غيرهم، وعن أبي حنيفة أن الصدقة إنما كانت محرمة عليهم من أجل ما جعل الله لهم من الخمس من سهم ذوي القربى، فلما انقطع ذَلِكَ عنهم رجع إلى غيرهم بموته صلى الله عليه وسلم حل لهم بذلك ما كان حرم عليهم
(2)
.
وقال ابن العربي: الكتب طافحة بتحريمها عليهم
(3)
.
وقيل: إنما حرما عليه صلى الله عليه وسلم لأنه كان له الخمس والصفي من المغنم، وأهل بيته دونه في الشرف، فلهم خمس الخمس وحده، فحرموا أحد نوعيها وهو الفرض دون التطوع.
وقال ابن بطال: حرمت الصدقة عليه وعلى آله بنص القرآن، قال تعالى:{قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى} [الشورى: 23] فلو حلت له الصدقة وجد القوم السبيل إلى أن يقولوا: إنما يدعو إلى ما يدعونا إليه ليأخذ أموالنا، ويعطيها أهل بيته
(4)
.
وقال الطبري في مقالة أبي يوسف السالفة: لا القياس أصابوا، ولا الخبر اتبعوا، وذلك أن كل صدقة وزكاة أوساخ الناس، وغسالة ذنوب من أخذت منه هاشميًّا أو مطلبيًّا، ولم يفرق الله ورسوله بين شيء منها بافتراق حال المأخوذ ذَلِكَ منه. قال: وصاحبهم أشذ قولًا
(1)
انظر: "شرح معاني الآثار" 2/ 11.
(2)
انظر ما سبق.
(3)
"عارضة الأحوذي" 3/ 161.
(4)
"شرح ابن بطال" 3/ 541.
منهم؛ لأنه لزم ظاهر التنزيل، وهو {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} الآية وأنكر الأخبار الواردة بتحريمها على بني هاشم، فلا ظاهر التنزيل لزموا، ولا بالخبر قالوا.
فرع:
عند الحنفية والمالكية يجوز أن يكون العامل غنيًّا لا هاشميًّا
(1)
، وهو الأصح عند الشافعية
(2)
، لحديث أبي رافع في السنن، وصححه الترمذي
(3)
.
فائدة:
الآل له معنيان: القرابة والأهل، وأولاد العم. وقال مالك لعبد الملك بن صالح: آله: أمته. ولابن دحية: الأزواج، والذرية، والأتباع، وكل تقي، واختلف أهل اللغة في الآل والأهل، فقالوا: الآل يقع على ذات الشيء، وعلى ما ينضاف إليه، بخلاف الأهل.
فائدة:
قال بعض أهل العلم: السنة أخذ صدقة التمر عند جداده لقوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] فإن أخرجها عند محلها فسرقت أو سقطت، فقال مالك، وأبو حنيفة: يجزئ عنه
(4)
،
(1)
انظر: "تبيين الحقائق" 1/ 297، "الاختيار" 1/ 153، "عيون المجالس" 2/ 575، "الذخيرة" 3/ 146.
(2)
انظر: "الأم" 2/ 61.
(3)
"سنن أبي داود"(1650) كتاب: الزكاة، باب: الصدقة على بني هاشم، "سنن الترمذي" (657) كتاب: الزكاة، باب: ما جاء في كراهية الصدقة للنبي صلى الله عليه وسلم "سنن النسائي" 5/ 107 كتاب: الزكاة، باب: مولى القوم منهم، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود"(1456).
(4)
انظر: "الاختيار" 1/ 134، "المنتقى" 2/ 162، "مواهب الجليل" 3/ 136.
وهو قول الحسن.
وقال الزهري، والثوري، وأحمد: هو ضامن لها حتىَّ يضعها مواضعها
(1)
.
وقال الشافعي: إن كان بقي له من ماله ما فيه زكاة زكاه
(2)
.
حجة الأول أن إخراجها موكول إليه وهو مؤتمن على إخراجها، وإذا أخرجها، من ماله وجعلت في يده جعلت كيد الساعي، وقد اتفقنا أن يد الساعي يد أمانة، فإذا قبضها ولم يفرط في دفعها، وتلفت بغير صنعة، فلا ضمان، فكذا رب المال؛ لأن الزكاة ليست متعلقة بذمته، بل في ماله.
وأما إذا أخر إخراجها حتَّى هلكت، فقال مالك، وأبو حنيفة، والشافعي: إذا أمكن الأداء بعد حلول الحول وفرط حتَّى هلك المال فعليه الضمان
(3)
.
خاتمة في فوائده:
فيه من الفقه: دفع الصدقات إلى السلطان.
وفيه: أن المسجد قد ينتفع به في أمر جماعة المسلمين في غير الصلاة، ألا ترى أنه صلى الله عليه وسلم جمع فيه الصدقات، وجعله مخزنًا لها.
(1)
انظر: "مسائل أحمد برواية عبد الله" ص 155، "الفروع" 2/ 570، "كشاف القناع" 2/ 269.
(2)
انظر: "الحاوي" 3/ 229.
(3)
انظر: "تبيين الحقائق" 1/ 270، "شرح فتح القدير" 2/ 202 - 203، "الكافي" ص 99، "المنتقى" 2/ 162، "روضة الطالبين" 2/ 252، وللأحناف قول آخر، وهو أنه يضمن، وهو قول العراقيين واختيار الكرخي؛ لأنها أمانة فتضمن بالهلاك بعد الطلب كالوديعة.
وكذلك أمران يوضع فيه مال البحرين، وأن يبات عليه حتَّى قسمه فيه.
وكذلك كان يقعد فيه للوفود، والحكم بين الناس ومثل ذَلِكَ بما هو أبين لعب الحبشة بالحراب، وتعلم المثاقفة. وكل ذَلِكَ إذا كان شاملًا لجماعة المسلمين، أما إذا كان العمل لخاصة الناس فيكره، مثل الخياط والخرازة، وقد كره قوم التأديب فيه؛ لأنه خاص، ورخص فيه آخرون؛ لما يرجى من نفع تعلم القرآن.
وفيه: جواز دخول الأطفال فيه واللعب فيه بغير ما يسقط حرمته إذا كان الأطفال إذا نهوا انتهوا.
وفيه: أنه ينبغي أن يجنب الأطفال ما يتجنب الكبار من المحرمات.
وفيه: أن الأطفال إذا نهوا عن الشيء يجب أن يعرفوا لأي شيء نهوا عنه؛ ليكبروا على العلم ليأتي عليهم وقت التكليف وهم على علم من الشريعة.
وفيه: كما قال الطبري: الدليل على أن لأولياء الصغار المعاتبة، وتجنبهم التقدم على ما يجب على البالغين الانزجار عنه، والحول بينهم وبين ما حرم الله على عباده فعله، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم استخرج التمرة من الصدقة من في الحسن وهو طفل لا يلزمه الفرائض، ولم تجر عليه الأقلام ولا شك أنه لو أكل جميع تمر الصدقة، لم تلزمه تبعة عند الله، وإن لزم ماله غرمه من ضمان ذَلِكَ، ولكن من أجل أنه كان مما حرم على أهل التكليف من أهل بيته، فبان بذلك أن الواجب على ولي الطفل والمعتوه إن رآه يتناول خمرًا يشربها، أو لحم خنزير يأكله، أو مالًا لغيره ليتلفه أن يمنعه من فعله، ويحول بينه وبين ذَلِكَ.
وفيه: الدليل الواضح على صحة قول القائل: إن على ولي الصغيرة المتوفى عنها زوجها أن يجنبها الطيب، والزينة، والمبيت عن المسكن الذي يسكنه، والنكاح، وجميع ما يجب على البوالغ المعتدات اجتنابه.
وخطأ قول من قال: ليس ذَلِكَ على الصغيرة؛ اعتلالًا منهم بأنها غير متعبدة بشيء من الفرائض؛ لأن الحسن كان لا تلزمه الفرائض، فلم يكن لإخراج التمرة من فيه معنًى إلا من أجل ما كان على النبي صلى الله عليه وسلم من منعه ما على المكلفين منه من أجل أنه وليه.
56 - باب العُشْرِ فِيمَا يُسْقَى مِنْ مَاءِ السَّمَاءِ وَبِالمَاءِ الجَارِي
وَلَمْ يَرَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ فِي العَسَلِ شَيْئًا.
1483 -
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ وَالعُيُونُ أَوْ كَانَ عَثَرِيًّا العُشْرُ، وَمَا سُقِىَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ العُشْرِ". قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: هَذَا تَفْسِيرُ الأَوَّلِ، لأَنَّهُ لَمْ يُوَقِّتْ فِي الأَوَّلِ، يَعْنِي: حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ "وَفِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ العُشْرُ" وَبَيَّنَ فِي هَذَا وَوَقَّتَ، وَالزِّيَادَةُ مَقْبُولَةٌ، وَالمُفَسَّرُ يَقْضِي عَلَى المُبْهَمِ إِذَا رَوَاهُ أَهْلُ الثَّبَتِ، كَمَا رَوَى الفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُصَلِّ فِي الكَعْبَةِ. وَقَالَ بِلَالٌ: قَدْ صَلَّى [1599] فَأُخِذَ بِقَوْلِ بِلَالٍ، وَتُرِكَ قَوْلُ الفَضْلِ. [فتح: 3/ 347]
ذكر فيه عن الزهري عَنْ سَالِمِ، عَنْ أَبِيهِ وهو ابن عمر، عَنِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ وَالعُيُونُ أَوْ كَانَ عَثَرِيًّا العُشْرُ، وَمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ العُشْرِ"
(1)
.
الشرح:
تعليق عمر بن عبد العزيز أخرجه ابن أبي شيبة، عن وكيع، عن سفيان، عن عبيد الله، عن نافع قال: بعثني عمر بن عبد العزيز على اليمن، فأردت أن آخذ من العسل العشر، فقال مغيرة بن حكيم الصنعاني: ليس فيه شيء، فكتبت إلى عمر بن عبد العزيز، فقال:
(1)
وقع في هامش الأصل ما نصه: في نسختي زيادة من كلام البخاري، وقد ذكرها الشيخ في الباب الذي بعد هذا. وبعدها علامة انتهاء التعليق، ثم كتب الناسخ: وبمثل ما ذكر هنا الشيخ ذكر الدمياطي في نسخته.
صدق، وهو عدل رَضِي. وحَدَّثنَا أبو أسامة، عن عبيد الله، عن نافع قال: سألني عمر بن عبد العزيز عن صدقة العسل، فقلت: أخبرني المغيرة بن حكيم أنه ليس فيه صدقة. فقال عمر: عدل مصدق
(1)
.
وقال الربيع بن سليمان، أنا الشافعي، أنا مالك، عن عبد الله بن أبي بكر قال: جاء كتاب عمر بن عبد العزيز إلى أبي وهو بمنًى أن لا يؤخذ من الخيل ولا من العسل صدقة
(2)
.
وفي بعض نسخ الترمذي من حديث عبيد الله بن عمر عن نافع قال: سألني عمر بن عبد العزيز عن صدقة العسل، قال: قلت: ما عندنا عسل، ولكن أخبرنا المغيرة بن حكيم أنه ليس في العسل صدقة، قال عمر: عدل مرضي، فكتب إلى الناس أن يوضع عنه، رواه ابن بشار عن عبد الوهاب الثقفي عنه
(3)
.
وقال البيهقي: قال الشافعي في القديم: الحديث في أن العسل يعشر ضعيف، وفي أنه لا يؤخذ منه العشر ضعيف إلا عن عمر بن عبد العزيز، قال: واختياري أن لا يؤخذ منه؛ لأن السنن والآثار ثابتة فيما يؤخذ منه، وليست فيه ثابتة، فكأنه عفو
(4)
.
لكن لابن حزم من طريق منقطعة ما يخالفه قال: روينا من طريق ابن
(1)
"المصنف" 2/ 373 (10056 - 10057) كتاب: الزكاة، من قال: ليس في العسل زكاة.
(2)
رواه البيهقي في "سننه" 4/ 127 كتاب: الزكاة، باب: ما ورد في العسل، وفي "معرفة السنن والآثار" 6/ 124 (8227) كتاب: الزكاة، ما ورد في العسل.
(3)
"سنن الترمذي"(630) كتاب: الزكاة، باب: ما جاء في زكاة العسل، وصححه الألباني.
(4)
"السنن الكبرى" 4/ 127.
جريج: كتبت إلى إبراهيم بن ميسرة أسأله عن زكاة العسل، فقال: أخبرني من لا أتهم من أهلي أن عروة بن محمد السعدي قال له: إنه كتب إلى عمر بن عبد العزيز يسأله عن صدقة العسل، فرد إليه عمر: قد وجدنا بيان صدقة العسل بأرض الطائف فخذ منه العشر.
وقال أبو محمد: ومن طريق ابن أبي شيبة، عن طاوس أن معاذًا لما أتى اليمن أتي بالعسل وأوقاص الغنم فقال: لم أؤمر فيها بشيء. قال: وبأن لا زكاة في العسل يقول مالك، والثوري، وابن حي، والشافعي، وأبو سليمان، وأصحابه
(1)
. زاد ابن قدامة: وابن أبي ليلى، وابن المنذر، قال ابن المنذر: ليس في وجوب الصدقة فيه خبر يثبت، ولا إجماع، فلا زكاة فيه، قال: وروينا ذَلِكَ عن ابن عمر، وعن عمر بن عبد العزيز
(2)
.
وفي "الحاوي" للماوردي: أما العسل فقد علق الشافعي في القديم القول به، فجعل ذَلِكَ قولًا له في إيجاب عشره، ثم قال: والصحيح على القديم، وصرح قوله في الجديد أنه لا زكاة فيه، قال: وبإيجاب عشره قال الأوزاعي، وأبو حنيفة، وأحمد، وإسحاق فيما أخذ من غير أرض الخراج
(3)
.
(1)
"المحلى" 5/ 232 - 233.
(2)
"المغني" 4/ 183.
(3)
هذِه العبارة غير مستقيمة؛ لأن أحمد وإسحاق لم يشترطا أن تكون الأرض أرض عشر أو أرض خراج، بل قالا بإطلاق أن في العسل العشر إذا بلغ النصاب، وقال أبو حنيفة وأصحابه، إن كان في أرض العشر فيه الزكاة، وإلا فلا زكاة، والصحيح كما قال الماوردي نفسه في كتابه: وهو قول الأوزاعي وأحمد وإسحاق، وبه قال أبو حنيفة فيما أخذ من غير أرض الخراج. "الحاوي" 3/ 236.
قال ابن قدامة. وبه قال مكحول، والزهري، وسليمان بن موسى
(1)
.
وفي "شرح الهداية": وربيعة، ويحيى بن سعيد، وأبو عبيد بن سلام، وابن وهب صاحب مالك. كأنهم استدلوا بما رواه عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أنه صلى الله عليه وسلم أخذ العشر فيه، أخرجه ابن ماجه بإسناد جيد
(2)
، وحسنه ابن عبد البر في "استذكاره"
(3)
.
وأما البخاري وغيره فقال: لا يصح في زكاة العسل حديث
(4)
. وقال ابن المنذر: ليس في وجوب الزكاة فيه خبر يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا إجماع، فلا زكاة فيه.
قُلْتُ: وعلى تقديره فيحمل على أخذه بتطوعهم به، أو على أن ما دفعوه مقابلة لما حصل لهم من الاختصاص بالحمى، ولهذا امتنعوا من دفعه إلى عمر رضي الله عنه حين طالبهم بتخلية الحمى لسائر الناس. وعند الحنفية أن محل الوجوب فيه إذا كان في أرض العشر، فإن كان في أرض الخراج فلا شيء فيه كالثمرة
(5)
كما قدمته.
وهذا على قاعدتهم كما ستعلمه. وذكر البخاري هذا الأثر للتنبيه على أن حديث الباب ينفي العشر فيه؛ لأنه خص العشر أو نصفه بما سقي، فأفهم ذَلِكَ أن ما لا يسقى لا يعشر. ويقوي المفهوم فيه تقديم الخبر على المبتدأ في حصر إيجاب العشر فيه. وإن كان قد يتخيل أن النحل يرعى مما لا مؤنة فيه، ولا تعب.
(1)
"المغني" 4/ 183.
(2)
"ابن ماجه"(1824) في الزكاة، باب زكاة العسل، وقال الألباني: حسن صحيح.
(3)
"الاستذكار" 9/ 286. وصححه الألباني في "الإرواء" (810).
(4)
نقله عن البخاري الترمذي في "العلل الكبير" 1/ 312.
(5)
انظر: "المبسوط" 2/ 216، "مختصر اختلاف العلماء"1/ 456.
وأما حديث ابن عمر فهو من أفراده، كما أن حديث جابر في مسلم من أفراده أيضًا
(1)
، ولأبي داود "ما سقت السماء، والأنهار، والعيون، أو كان بعلا العشر. وفيما يسقى بالسواني أو النضح نصف العشر"
(2)
.
وفي الدارقطني
(3)
: فرض فيما سقت السماء، إلى آخره، وقال من رواية نافع، عن ابن عمر، عن عمر.
قوله: واختلف سالم ونافع عن ابن عمر في ثلاثة أحاديث: هذا أحدها.
وثانيها: "من باع عبدًا وله مال" قال سالم، عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال نافع، عن ابن عمر، عن عمر قوله. قال: وسالم أجل من نافع وأنبل. وحديث نافع (الثالث)
(4)
أولى بالصواب. ولهذا الحديث وجوه عن ابن عمر.
قُلْتُ: قال الدارقطني: رواه أيوب، عن ابن عقبة، والليث، وابن جريج، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعًا- كما رواه سالم. قال: ووهم في موضعين في قوله: عن ابن جريج، عن نافع. وإنما رواه ابن جريج عن موسى بن عقبة. وفي رفعه، وإنما هو موقوف. ورواه أيضًا من جهة عبد الله بن نافع، عن عاصم بن عمر، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر مرفوعًا. وله غير ذَلِكَ من الطرق.
(1)
"صحيح مسلم"(981) كتاب: الزكاة، باب: ما فيه العشر أو نصف العشر.
(2)
"سنن أبي داود"(1596) كتاب: الزكاة، باب: صدقة الزرع. وأصله حديث الباب.
(3)
"سنن الدارقطني"
(4)
وقع في الأصل: الثلاثة، وما أثبتناه أنسب للسياق.
إذا تقرر ذَلِكَ فالكلام عليه من وجوه:
أحدها:
العثري بعين مهملة ثم شاء مثلثة مخففة- ويجوز تشديدها كما قاله الهجري في "نوادره"، وحكاه ابن سيده في "محكمه"
(1)
عن ابن الأعرابي، ورده ثعلب- ثم راء، ثم ياء مثناة من تحت.
قال ابن سيده: العثر والعثري: ما سقته السماء من النخل، وقيل: هو العذي من النخل والزرع
(2)
. وفي "المثنى والمثلث" لابن عديس ضم العين وفتحها، وإسكان الثاء فيهما. قال أبو عبيد: العثري والعذي ما سقته السماء، وما سقته الأنهار والعيون فهو سيح وغيل. والبعل ما شرب بعروقه من الأرض من غير سقي سماء ولا غيرها، والنضح ما سقي بالسواني ونحوه. وقال ابن فارس: العثري: ما سقى من النخل سيحًا
(3)
.
ويرد على أبي عبيد، وابن فارس، وكذا الجوهري
(4)
، وصاحب "الجامع"، و"المنتهى" الحديث، فإن لفظه:"فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريا" وهو دال على أن العثري غير ما سقته السماء والعيون. والصواب ما قاله الخطابي أن العثري ما شرب بعروقه من غير سقي
(5)
.
وعبارة الداودي "مما سقت السماء" أي: اكتفي بسقي ماء السماء.
(1)
"المحكم" 2/ 64.
(2)
السابق.
(3)
"مجمل اللغة" 3/ 647.
(4)
"الصحاح" 2/ 736 - 737.
(5)
"أعلام الحديث" 2/ 814.
والعثري: ما يسيل إليه ماء المطر، وتحمله إليه الأنهار، سمي بذلك؛ لأنه تكسر حوله الأرض، ويعثر جريه إلى أصول النخل بتراب يرتفع هناك، قاله القرطبي
(1)
.
وقال صاحب "المطالع": قيل له ذَلِكَ؛ لأنه يصنع له شبه الساقية يجمع فيه الماء من المطر إلى أصوله، وُيسمى ذَلِكَ العاثور.
وحكى ابن المرابط إسكان الثاء، وقد سلف، والأول أعرف.
وفي "المغيث"
(2)
لأبي موسى: هو الذي يشرب بعروقه من ماء يجتمع في حفير، وسمي به لأن الماشي يتعثر به. وقيل: إنه ما ليس له حمل. قال والأول أشهر وأصح؛ لأن ما لا حمل له لا زكاة فيه. وقد أوجب الشرع فيه الزكاة. وما أسلفناه في تفسير البعل في "الموعب" لابن التياني خلافه حيث قال: قيل للنخل إذا كان يشرب ماء السماء بعل؛ لأن الغيث يأتيه من علٍ.
وفي "البارع" لأبي علي القالي كما سلف. وكذا قاله يعقوب.
وخالف أبو عبيدة فقال: البعل من النخل: ما سقته السماء. وعن الكسائي، وأبي عمرو: البعل: العذي. وفي "العين" البعل: الذكر من النخل، وهي أيضًا المرتفعة التي لا يصيبها المطر إلا مرة واحدة في السنة
(3)
.
وقال أبو حنيفة: كل شجر أو زرع لا يسقى فهو بعل. والعشر بضم العين، ويجوز إسكان ثانيه وضمه. والعشور بضم العين وبفتح أيضًا، قاله ابن بزيزة.
(1)
"المفهم" 3/ 13.
(2)
"المغيث"
(3)
"العين" 2/ 149 - 150.
وقال القرطبي: أكثر الرواة على فتح العين، وهو اسم القدر المخرج، وقال الطبري: العشر بضم العين وسكون الشين. ويكون العشور جمع عشر. قال: والحكمة في فرض العشر أن يكتب بعشرة أمثاله، فكأن المخرج للعشر تصدق بكل ماله.
ثانيها:
هذا الحديث أصل في أن لشدة النفقة وخفتها تأثيرًا في الزكاة، فما لا مؤنة فيه أو كانت خفيفة العشرُ. وفيما فيه مؤنة نصفهُ.
واختلف أهل العلم في هذا على تسعة أقوال:
أحدها: ذهب أبو حنيفة إلى أن العشر يجب في قليل ما أخرجته الأرض وكثيرها، ولا يعتبر النصاب
(1)
، لعموم الحديث، وعموم قوله تعالى:{وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} وقوله تعالى: {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ} [الأنعام: 141] وقوله: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] إلا الحطب والقصب والحشيش. وهو مذهب النخعي، ومجاهد، وحماد، وزفر. وبه قال عمر بن عبد العزيز. وروي عن ابن عباس. وهو قول داود، وأصحابه فيما لا يوسق
(2)
.
وحكاه يحيى بن آدم عن عطاءٍ. وقاله أيضًا حفص بن غياث، عن أشعث، عن الحكم، عن أبي بردة: في الرطبة صدقة. وقال بعضهم: في (دستجة)
(3)
من بقل.
وعن الزهري قال: ما كان سوى القمح، والشعير، والنخل، والعنب، والسُلت، والزيتون فإني أرى أن يخرج صدقته من أثمانه.
(1)
انظر: "تحفة الفقهاء" 1/ 322، "الهداية" 1/ 117.
(2)
انظر: "المحلى" 5/ 212.
(3)
في الأصل: وشدجة، والصواب ما أثبتناه، انظر:"لسان العرب" 8/ 4827.
وحديث الباب بعده يرد عليه ويقضي، وهو مقيد له، كما سيأتي عن البخاري. وهو قول مالك، والثوري، والأوزاعي، والليث، وأبي يوسف، ومحمد، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور
(1)
.
قال ابن بطال: وقول أبي حنيفة خلاف السنة والعلماء، قال: وقد تناقض فيها؛ لأنه استعمل المجمل والمفسر في قوله صلى الله عليه وسلم: "في الرقة ربع العشر"
(2)
مع قوله: "ليس فيما دون خمس أواق صدقة"
(3)
ولم يستعمله في الباب مع ما بعده. وكان يلزمه القول به
(4)
.
قُلْتُ: وفي حديث جابر: "لا زكاة في شيء من الحرث حتىَّ يبلغ خمسة أوسق، فإذا بلغها ففيه الزكاة"
(5)
. ذكره بن التين، وقال: هي زيادة من ثقة فقبلت. وفي مسلم من حديث جابر: "وليس فيما دون خمسة أوساق من التمر صدقة"
(6)
.
وفي رواية له من حديث أبي سعيد: "ليس فيما دون خمسة أوساق من تمر، ولا حب صدقة"
(7)
.
وفي رواية: "ليس في حب ولا تمر صدقة حتَّى يبلغ خمسة أوسق"
(8)
.
(1)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 1/ 453، "عيون المجالس" 2/ 515، "البيان" 3/ 256، "المغني" 4/ 161، "نيل الأوطار" 3/ 42.
(2)
سلف برقم (1454) باب: زكاة الغنم، وهو من أفراده.
(3)
سلف برقم (1405) باب ما أدي زكاته فليس بكنز، ورواه مسلم (979) الزكاة.
(4)
"شرح ابن بطال" 3/ 530.
(5)
رواه الدارقطني في "سننه" 2/ 98 كتاب: الزكاة، باب: ليس في الخضروات صدقة.
(6)
"صحيح مسلم"(980) كتاب: الزكاة.
(7)
"صحيح مسلم"(979) كتاب: الزكاة.
(8)
مسلم (979).
وأيضًا حديث الباب بيان للقدر المأخوذ دون المأخوذ منه. وحديث أبان بن أبي عياش، عن أنس أنه عليه السلام قال:"فيما سقت السماء العشر في قليله وكثيره" غير محفوظ، وفيه رجل مجهول، وليس هو عن أنس، رواه أبو مطيع البلخي
(1)
-وهو مجهول- عن أبي حنيفة، عن أبان، وهو متروك، عن رجل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
(2)
.
المذهب الثاني: يجب فيما له ثمرة باقية إذا بلغ خمسة أوسق عند الصاحبين ولا يجب في الخضر ولا في البطيخ، والقثاء، والخيار. ونص محمد على أنه لا عشر في السفرجل، ولا في التين، والتفاح، والكمثرى، والخوخ، والمشمش، والإجاص
(3)
وتجب في كل ثمرة تبقى سنة كالجوز، واللوز، والبندق، والفستق، على قول أبي يوسف، وعلى قول أبي محمد: لا تجب
(4)
.
الثالث: يجب فيما يدخر ويقتات اختيارًا كالحنطة، والشعير، والدخن، والذرة، ونحوها من المقتنيات. وهو قول الشافعي، ولا زكاة عنده في التين، والتفاح، والسفرجل، والرمان، والخوخ، واللوز، والموز، وسائر الثمار، سوى الرطب والعنب. ولا يجب عنده في الزيتون، والورس في الجديد، ولا يجب في الترمس، ولا في
(1)
في هامش الأصل ما نصه: قال الذهبي في "المغني" الحكم بن عبيد الله البلخي أبو مطيع عن ابن جريج، وغيره، تركوه. فهو عند الذهبي متروك لا مجهول، ومنهم أبو مطيع آخر أنصاري ذاك مجهول.
(2)
انظر: "التحقيق في أحاديث الخلاف" 2/ 36، و"نصب الراية" 2/ 385، وقال الألباني: موضوع بهذِه الزيادة: "في قليله وكثيره". "الضعيفة" 1/ 676 (463).
(3)
في هامش الأصل ما نصه: الإجاص دخيل لأن الجيم والصاد لا يجتمعان في كلمة واحدة من كلام العرب. الواحدة إجاصة قاله يعقوب. ولا يقل: إنجاص.
(4)
انظر: "الأصل" 2/ 163، "المبسوط" 3/ 2 - 3.
الخضراوات
(1)
، لحديث:"ليس في الخضر والبقول صدقة" له طرق لا تصح، وليس في هذا الباب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يروى عن موسى ابن طلحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرسلًا
(2)
.
الرابع: قول مالك مثل قول الشافعي بزيادة: تجب في الترمس، والسمسم، والزيتون، وبزر الكتان، وبزر السلجم لعموم نفعها بمصر والعراق
(3)
.
الخامس: قول أحمد يجب فيما له البقاء واليبس والكيل من الجوز والثمار، سواء كان قوتًا: كالحنطة، والشعير، والسلت، والأرز والدخن، ونحوه، أو كان من المقتنيات كالعدس، والباقلاء، أو من الأبازير: كالكزبرة، والكمون، والكراويا، أو من البزور كبزر الكتان، والقثاء، والخيار، ونحوه، أو من حب البقول: كالرشاد، والفجل، والقرطم، وسائر الحبوب. ويجب عنده في التمر، والزبيب، واللوز، والبندق، والجوز، والفستق، والتين، والمشمس، والتفاح، والكمثرى، والخوخ، والإجاص، والباذنجان، والقثاء، والخيار والجزر، ولا يجب في ورق السدر، والخطمي، والأشنان، ولا في ثمره، ولا الأزهار كالزعفران، والعصفر، ولا في القطن
(4)
.
(1)
انظر: "البيان" 3/ 255 - 256، "التهذيب" 3/ 88 - 90، "روضة الطالبين" 2/ 231.
(2)
رواه الترمذي (638) كتاب: الزكاة، باب: ما جاء في زكاة الخصروات- من حديث عيسى بن طلحة عن معاذ مرفوعًا، وصححه الألباني. وانظر طرقه في "نصب الراية" 2/ 386 - 389، و"التلخيص الحبير" 2/ 165 - 167، و"الإرواء" 3/ 276 (801).
(3)
انظر: "المعونة" 1/ 246 - 247، "الذخيرة" 3/ 73 - 75.
(4)
انظر: "المستوعب" 3/ 249 - 255، "المغني" 4/ 155 - 158، "الواضح" 2/ 53، "الإقناع" 1/ 411 - 415، أما قوله: ويجب عنده في الجوز زكاة ففيه نظر، فقد نص =
السادس: تجب في الحبوب، والبقول، والثمار. قاله حماد بن أبي سليمان.
السابع: ليس في شيء من الزرع زكاة إلا في التمر، والزبيب، والحنطة، والشعير. حكاه العبدري عن الثوري، وابن أبي ليلى، وابنُ العربي عن الأوزاعي، وزاد: الزيتون.
ثامنها: تؤخذ من الخضراوات إذا بلغت مائتي درهم. وهو قول الزهري والحسن.
تاسعها: أن ما يوسق يجب في خمسة أوسق منه، وما لا يوسق يجب في قليله وكثيره وهو قول
(1)
داود
(2)
.
= الحنابلة على أنه لا يجب في الجوز زكاة، انظر:"المستوعب" 3/ 253، "المغني" 4/ 156، "الواضح" 2/ 53، "الإقناع" 1/ 413، "كشاف القناع" 2/ 204، أما قوله: والباذنجان، والقثاء، والخيار، والجزر ففيه نظر، فقد ذهب الحنا بلة إلى أنه لا تجب الزكاة في الخُضَر، بخلاف حب القثاء، والخيار، والباذنجان، وغيرهم، فإن فيها الزكاة، أما قوله: والتين، والمشمش، والتفاح، والكمثرى، والخوخ، والإجَّاص ففيه نظر، فقد قال ابن قدامة: وتجب الزكاة فيما جمع هذِه الأوصاف -الكيل والبقاء واليُبس- من الثمار، كالتمر، والزبيب، والمشمش، واللوز، والفستق، والبندق، ولا زكاة في سائر الفواكه كالخوخ، والإجاص، والكمثرى، والتفاح، والمشمش، والتين، والجوز. وكذلك قال الحجاوي والبهوتي إلا أنهما قالا: والأظهر وجوبها في العُنَّاب، والتين، والمشمش، والتوت.
انظر: "المستوعب" 3/ 253، "المغني" 4/ 155 - 156، "الواضح" 2/ 53، "الإقناع" 1/ 413 - 414، "كشاف القناع" 2/ 204.
(1)
انظر: "المحلى" 5/ 212.
(2)
ورد في هامش الأصل ما نصه: ثم بلغ التاسع عشر إلى آخر هذا الثاني. كتبه مؤلفه.
57 - باب لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ
1484 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا مَالِكٌ قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَيْسَ فِيمَا أَقَلُّ مِنْ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ، وَلَا فِي أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةٍ مِنَ الإِبِلِ الذَّوْدِ صَدَقَةٌ، وَلَا فِي أَقَلَّ مِنْ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنَ الوَرِقِ صَدَقَةٌ". [انظر: 1405 - مسلم: 979 - فتح: 3/ 350]
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: هَذَا تَفْسِيرُ الأَوَّلِ إِذَا قَالَ: "لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ". وَيُؤْخَذُ أَبَدًا فِي العِلْمِ بِمَا زَادَ أَهْلُ الثَّبَتِ أَوْ بَيَّنُوا.
ذكر فيه حديث أَبِي سَعِيدٍ "لَيْسَ فِيمَا أقَلُّ مِنْ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ، وَلَا فِي أقلَّ مِنْ خَمْسَه مِنَ الإِبِلِ الذَّوْدِ صدَقَةٌ" الحديث.
وقد سلف قبل زكاة البقر
(1)
.
وفي نسخة: (قال أبو عبد الله: هذا تفسير الأول؛ لأنه لم يوقِّت في
الأول، يعني: حديث ابن عمر: "فيما سقت السماء العشر"
(2)
. وبيَّن في هذا ووقَّت، والزيادة مقبولة، والمفسر يقضي على المبهم إذا رواه أهل الثبت -كما قال الفضل بن العباس- أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل في الكعبة.
وقال بلال: قد صلى
(3)
. فأخذ بقول بلال، وترك قول الفضل)
(4)
.
وهذا الذي قاله البخاري عليه أئمة الفتوى بالأمصار. وإن الخمسة الأوسق هو بيان المقدار المأخوذ فيه كما أسلفناه في الباب قبله. وشذ أبو حنيفة، وزفر في ذَلِكَ.
(1)
سلف برقم (1405) كتاب: الزكاة، باب: ما أدي زكاته ليس بكنز.
(2)
سلف برقم (1483).
(3)
سيأتي برقم (1599).
(4)
هذه القطعة هي التي أشار إليها الناسخ في الباب السابق ص 549.
قال ابن بطال: وقيل: إنهما خالفا الإجماع فأوجبا في قليل ما تخرج الأرض وكثيره، وخالفه صاحباه في ذَلِكَ، قال ابن القصار: والحجة عليه أن ما طريقه المواساة في الصدقة يقتضي أوله حدًّا ونصابًا، كالذهب، والماشية، والنصاب إنما وضع في المال لمبلغ الجزء الذي يحمل المواساة بغير إجحاف برب المال، ولا يعذر عليه.
قال: تألف
(1)
أبو حنيفة معنًى آخر من الحديث فأوجب العشر أو نصفه في البقول، والرياحين، والفواكه، وما لا يوسق كالرمان، والتفاح، والخوخ وشبه ذَلِكَ
(2)
. والجمهور على خلافه لا يوجبون الزكاة إلا فيما يوسق، ويقتات، ويدخر.
قال مالك: السنة عندنا في الحبوب التي يدخرها الناس، ويأكلونها أنها يؤخذ منها العشر أو نصفه إذا بلغ ذَلِكَ خمسة أوسق بصاع رسول الله صلى الله عليه وسلم وما زاد على ذَلِكَ فبحسابه.
قال: والحبوب التي فيها زكاة الحنطة، والشعير، والسلت، والذرة، والدُّخن، والأرز، والحمص، والعدس، والجلْبَان، واللوبيا، والجلجلان، وما أشبه ذَلِكَ من الحبوب التي تفسير طعامًا. وتؤخذ منها الزكاة بعد أن تفسير حبًّا يحصد. والناس مصدقون فيما دفعوه من ذَلِكَ. ولا زكاة في البقول، والخضر كلها، والتوابل
(3)
.
(1)
في (ج): خالف.
(2)
"المبسوط" 3/ 3.
(3)
انظر: "النوادر والزيادات" 2/ 261 - 262، "الاستذكار" 9/ 255، "المنتقى" 2/ 164 - 165.
قال ابن القصار: لم ينقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد بالحجاز أنه أخذ من البقول والفواكه الزكاة. ومعلوم أنها كانت عندهم بالمدينة وأهل المدينة متفقون على ذَلِكَ عاملون به إلى وقتنا، ومحال أن يكون في ذَلِكَ زكاة ولا يؤخذ مع وجود هذِه الأشياء عندهم، وحاجتهم إليها ولو أخذ منها مرة واحدة لم يجز أن يذهب عليهم، حتَّى يطبقوا على خلافه إلى هذِه الغاية
(1)
.
(1)
انظر "شرح ابن بطال" 3/ 531 - 532.
ورد في هامش الأصل: آخر 8 من 4 من تجزئه المصنف.
58 - باب مَنْ بَاعَ ثِمَارَهُ أَوْ نَخْلَهُ أَوْ أَرْضَهُ أَوْ زَرْعَهُ، وَقَدْ وَجَبَ فِيهِ العُشْرُ أَوِ الصَّدَقَةُ فَأَدَّى الزَّكَاةَ مِنْ غَيْرِهِ، أَوْ بَاعَ ثِمَارَهُ وَلَمْ تَجِبْ فِيهِ الصَّدَقَةُ
وَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَبِيعُوا الثَّمَرَةَ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا". فَلَمْ يَحْظُرِ البَيْعَ بَعْدَ الصَّلَاحِ عَلَى أَحَدٍ، وَلَمْ يَخُصَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ مِمَّنْ لَمْ تَجِبْ
(1)
.
1486 -
حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ دِينَارٍ، سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا. وَكَانَ إِذَا سُئِلَ عَنْ صَلَاحِهَا قَالَ: حَتَّى تَذْهَبَ عَاهَتُهُ. [2183، 2194، 2199، 2247، 2249 - مسلم: 1534 - فتح: 3/ 351]
1487 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنِي اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا. [2189، 2196، 2381، 2340، 2632 - مسلم: 1536 - فتح: 3/ 351]
1488 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى تُزْهِيَ، قَالَ: حَتَّى تَحْمَارَّ. [2195، 2197، 2198، 2208 - مسلم: 1555 - فتح: 3/ 352]
ثم ساق حديث ابن عمر: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الثمَرَةِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا. وَكَانَ إِذَا سُئِلَ عَنْ صَلَاحِهَا قَالَ: حَتَّى تَذهَبَ عَاهَتها.
وحديث جابر: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا.
(1)
ورد في الأصل بعد هذِه الكلمة: قال أبو عبد الله: لم يحظر: لم يمنع، وبه سمى الحظيرة. وعليها (لا
…
إلى).
وحديث أنس: أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى تُزْهِيَ، قَالَ: تَحْمَارَّ.
أما قوله عليه السلام: "لا تبيعوا الثمرة" فقد أسنده في الباب.
وحديث ابن عمر أخرجه مسلم والأربعة
(1)
. وأخرجه النسائي عن ابن عمر وجابر جمع بينهما
(2)
. وحديث جابر أخرجه مسلم
(3)
.
وحديث أنس أخرجه مسلم والنسائي أيضًا
(4)
، ويأتي في البيوع
(5)
.
وأخرجه مسلم أيضًا من حديث أبي هريرة وهو من أفراده
(6)
. وسيأتي في البيوع من حديث أنس، وهو من أفراده عن مسلم
(7)
، وأخرجه الطحاوي من حديث عائشة، فيه: جواز بيع الثمرة التي وجبت زكاتها قبل أداء الزكاة ويتعين حينئذٍ أن تؤدى الزكاة من غيرها، خلافًا لمن أفسد البيع
(8)
.
وقد اختلف العلماء في هذِه المسألة، فقال مالك: من باع أصل
(1)
"صحيح مسلم"(1534) كتاب: البيوع، باب: النهي عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها .. ، أبو داود (3368)، الترمذي (1226)، النسائي 7/ 262، ابن ماجه (2214).
(2)
سنن النسائي 7/ 262 - 264 كتاب: البيوع، بيع الثمر قبل أن يبدو صلاحه.
(3)
"صحيح مسلم"(1536) كتاب: البيوع، باب: النهي عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها.
(4)
"صحيح مسلم"(1555) كتاب: المساقاة، باب: وضع الحوائج، "سنن النسائي" 7/ 264.
(5)
سيأتي برقم (2195) باب: بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها.
(6)
"صحيح مسلم"(1538) كتاب: البيوع، باب: النهي عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها، و"النسائي" 7/ 264.
(7)
سبق تخريجه.
(8)
"شرح معاني الآثار" 4/ 23.
حائطه أو أرضه، وفي ذَلِكَ زرع أو ثمر قد بدا صلاحه، وحل بيعه، فزكاة ذَلِكَ الثمر على البائع إلا أن يشترطها على المبتاع.
ووجه قوله أن المراعاة في الزكاة إنما تجب بطيب الثمرة، فإذا باعها ربها وقد طاب أولها فقد باع ماله، وحصة المساكين معه، فيحمل على أنه ضمن ذَلِكَ ويلزمه
(1)
.
وقال أبو حنيفة: المشتري بالخيار بين إنفاذ البيع ورده
(2)
. والعشر مأخوذ من الثمرة من يد المشتري ويرجع على البائع بعد ذلك. ووجه قوله أن العشر مأخوذ من الثمرة لأن سنة الساعي أن يأخذها من كل ثمرة يجدها، فوجب الرجوع على البائع بقدر ذَلِكَ كالعيب الذي يرجع بقيمته.
وقال الشافعي في أحد قوليه: إن البيع فاسد؛ لأنه باع ما يملكه، وما لا يملكه، وهو نصيب المساكين، فقدم الضعفة
(3)
.
وعلى هذا القول رد البخاري بقوله في الباب: (فلم يحظر البيع بعد الصلاح على أحد، ولم يخص من وجبت عليها الزكاة ممن لم تجب). والشافعي منع البيع بعد الصلاح، فخالف إباحة الشارع لبيعها إذا بدا صلاحها، واتفق مالك، وأبو حنيفة، والشافعي أنه إذا باع أصل الثمرة، وفيها ثمر لم يبد صلاحه، أن البيع جائز، والزكاة على المشتري؛ لقوله تعالى:{وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] وإنما الذي ورد فيه النهي عن بيع الثمرة حتَّى يبدو صلاحها، وهو بيع
(1)
انظر: "الكافي" ص 101، "المعونة" 1/ 254، "الذخيرة" 3/ 88، "الاستذكار" 9/ 259.
(2)
"المبسوط" 13/ 169.
(3)
"الأم" 2/ 20، "البيان" 3/ 268 - 269.
الثمرة دون الأصل؛ لأنه يخشى عليه العاهة، فيذهب مال المشتري من غير عوض.
فإذا ابتاع رقبة الثمرة، وإن كان فيها ثمر لم يبد صلاحه، فهو جائز؛ لأن البيع إنما وقع على الرقبة لا على ثمرتها التي لم تظهر بعد، فهذا الفرق بينهما.
وقال ابن التين: قوله: ولم يخص من وجبت إلى آخره. هذا الأمر مترقب عند ابن القاسم إن أعطى البائع الزكاة، وإلا أخذت من المشتري.
وقال أشهب: لا شيء على المشتري، ويطلب الساعي ذمة البائع
(1)
.
وهذا القول أولى لظاهر الحديث.
ونهيه عن بيع الثمار حتى تزهي أي: تحمار. أزهت النخلة إذا صارت زهوا تبدو فيها العمرة وإنما نهى عن بيعها قبل الزهو للبقاء، فأما للقطع فجائز إذا كان المقطوع منتفعًا به، كالكمثرى
(2)
. واختلف إذا لم يذكر قطعًا ولا بقاء فعند البغداديين من المالكية أنه بيع فاسد. وقيل: هو جائز. وهو مذهب أبي حنيفة ويقطعها. ومن باع حائطه قبل أن يزهي فذلك جائز. والصدقة على المشتري كما سلف.
(1)
انظر "المعونة" 1/ 254.
(2)
رسمت في الأصل: لا ككمثرى. ولعل ما أثبتناه هو الصواب حتى يستقيم المعنى.
59 - باب هَلْ يَشْتَرِى صَدَقَتَهُ
؟
وَلَا بَأْسَ أَنْ يَشْتَرِىَ صَدَقَتَهُ غَيْرُهُ؛ لأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا نَهَى المُتَصَدِّقَ خَاصَّةً عَنِ الشِّرَاءِ وَلَمْ يَنْهَ غَيْرَهُ.
1489 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمٍ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ تَصَدَّقَ بِفَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللهِ فَوَجَدَهُ يُبَاعُ، فَأَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَهُ، ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَأْمَرَهُ، فَقَالَ:"لَا تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ". فَبِذَلِكَ كَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما لَا يَتْرُكُ أَنْ يَبْتَاعَ شَيْئًا تَصَدَّقَ بِهِ إِلاَّ جَعَلَهُ صَدَقَةً. [2775، 2971، 3002 - مسلم: 1621 - فتح: 3/ 352]
1490 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ رضي الله عنه يَقُولُ: حَمَلْتُ عَلَى فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَأَضَاعَهُ الذِي كَانَ عِنْدَهُ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِيَهُ، وَظَنَنْتُ أَنَّهُ يَبِيعُهُ بِرُخْصٍ، فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:"لَا تَشْتَرِ وَلَا تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ، وَإِنْ أَعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ، فَإِنَّ العَائِدَ فِي صَدَقَتِهِ كَالعَائِدِ فِي قَيْئِهِ". [2623، 2636، 2970، 3003 - مسلم: 1620 - فتح: 3/ 253]
ثم ذكر فيه حديث ابن عُمَرَ عن عُمَر أنه تَصَدَّقَ بِفَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللهِ فَوَجَدَهُ يُبَاعُ، فَأَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَهُ، ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَأْمَرَهُ، فَقَالَ:"لَا تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ"
(1)
. فَبِذَلِكَ كَانَ ابن عُمَرَ لَا يَتْرُكُ أَنْ يَبْتَاعَ شَيْئًا تَصَدَّقَ بِهِ إِلَّا جَعَلَهُ صَدَقَةً.
وحديث عمر: حَمَلْتُ عَلَى فَرَسِ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَأضَاعَهُ الذِي كَانَ عِنْدَهُ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِيَهُ، وَظَنَنْتُ أنَّهُ يَبِيعُهُ بِرُخْصٍ، فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم،
(1)
ورد في هامش الأصل ما نصه: الفرس الذي تصدق به عمر يقال له: الورد، أعطاه للنبي صلى الله عليه وسلم تميم الداري فأعطاه عمر، فحمل عليه في سبيل الله. كذا قاله ابن سيد الناس في "سيرته" وغيره.
فَقَالَ: "لَا تَشْتَرِ وَلَا تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ، وَإِنْ أَعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ، فَإِنَّ العَائِدَ فِي صَدَقَتِهِ كَالعَائِدِ فِي قَيْئِهِ".
الشرح:
الحديثان أخرجهما مسلم أيضًا
(1)
، وفي بعض طرق البخاري عن ابن عمر أن عمر حمل على فرس له في سبيل الله أعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحمل عليها فحمل عليها رجلًا، الحديث
(2)
.
وفي رواية له: "وإن أعطاكه بدرهم واحد"
(3)
وسيأتي حديث عمر في الجهاد في باب: إذا حمل على فرس في سبيل الله فرآها تباع وفي الأوقاف وفي الهبات إن شاء الله
(4)
.
قال الدارقطني: والأشبه بالصواب قول من قال: عن ابن عمر
(5)
أن عمر
(6)
وفي رواية لابن عبد البر: "لا تشتره ولا شيئًا من نتاجه"
(7)
.
قال ابن عيينة: حضرت مالكًا يسأل زيد بن أسلم عن هذا الحديث، ويتلطفه مالك ويسأله عن الكلمة بعد الكلمة. قال ابن التين: ورواه مالك عن عمرو بن دينار، عن ثابت، عن الأحنف، عن ابن عمر، ولم يدخله في "موطئه". قال قتادة: والقيء حرام.
(1)
الحديث الأول رواه مسلم (1621) كتاب: الهبات، والثاني رواه برقم (1620).
(2)
سيأتي برقم (2775) في الوصايا، باب وقف الدواب والكراع والعروض ..
(3)
سيأتي برقم (2623) في الهبة، باب: لا يحل لأحد أن يرجع في هبته وصدقته.
(4)
سيأتي برقم (2623) كتاب الهبة، وبرقم (3003) كتاب الجهاد.
(5)
ورد بهامش الأصل ما نصه: من خط الشيخ ذكره القرافي في "السنن المأثورة" عن سفيان عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر.
(6)
"علل الدارقطني" 2/ 17.
(7)
"التمهيد" 7/ 113.
إذا تقرر ذَلِكَ فالكلام عليه من أوجه:
أحدها:
كره أكثر العلماء -كما حكاه عنهم ابن بطال- شراء الرجل صدقته لحديث الباب، وهو قول مالك والليث والكوفيين والشافعي
(1)
، وسواء عندهم صدقة الفرض والتطوع، فإن اشترى أحد صدقته لم يفسخ بيعه، وأولى به التنزه عنها، وكذلك قولهم فيما يخرجه المكفر في كفارة اليمين مثل الصدقة سواء.
قال ابن المنذر: ورخص في شرائها الحسن، وعكرمة، وربيعة، والأوزاعي، وقال قوم فيما حكاه ابن القصار: لا يجوز لأحد أن يشتري صدقته ويفسخ البيع، ولم يذكر قائل ذَلِكَ ويشبه -كما قال ابن بطال- أن يكونوا أهل الظاهر
(2)
.
وحكاه ابن التين عن ابن شعبان من المالكية. وخرجه من الخلاف في المدبر أو غيره في زكاته عرضًا؛ لأنه يجزئه عند ابن القاسم، ويجزئه عند أشهب إذا لم يحاب نفسه ما صنع
(3)
.
وحجة من لم ير الفسخ أن الصدقة راجعة إليه بمعنًى غير معنى الصدقة، كما خرج لحم بريرة، وانتقل عن معنى الصدقة المحرمة على الشارع إلى الهدية المباحة له، وقد قال عليه السلام في الحديث السالف فيما مضى:"لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة" وذكر منهم الرجل اشتراها بماله
(4)
، ولم يفرق بين أن يكون المشتري لها صاحبها أو غيره.
(1)
انظر: "المدونة" 1/ 266، "التمهيد" 7/ 115، "مختصر المزني" 1/ 250، "طرح التثريب" 4/ 88.
(2)
"شرح ابن بطال" 3/ 537.
(3)
انظر: "المنتقى" 2/ 181.
(4)
رواه أبو داود (1635 - 1636) كتاب: الزكاة، باب: من يجوز له أخذ الصدقة =
وأجمعوا أن من تصدق بصدقة ثم ورثها أنها حلال له
(1)
، وقد جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إني تصدقت على أمي بجارية وإنها ماتت، قال:"وجب أجرك وردها عليك الميراث"
(2)
.
قال ابن التين: وشذت فرقة من أهل الظاهر فكرهت أخذها بالميراث. ورأوه من باب الرجوع في الصدقة وهو سهو؛ لأنها تدخل قهرًا، وإنما كره شراؤها لئلا يحابيه المتصدق بها عليه فيصير عائدًا في بعض صدقته؛ لأن العادة: التي تصدق عليه بها يسامحه إذا باعها وقد أخبر الشارع في لحم بريرة أنها إذا كانت الجهة التي يأخذ بها الإنسان غير جهة الصدقة جاز ذَلِكَ، ومن ملكها بماله لم يأخذها من جهة الصدقة، فدل هذا المعنى أن النهي في حديث عمر في الفرس محمول على وجه التنزيه لا التحريم لها؛ لأن المتصدق عليه بالفرس لما ملك بيعه من سائر الأجانب وجب أن يملكه من المتصدق عليه، دليله: إن وهب له جاز أن يشتريه الواهب.
وقال الطبري: معنى: حديث عمر في النهي عن شراء صدقة التطوع خاصة؛ لأنه لا صدقة في الخيل، فيقال: إن الفرس الذي تصدق به عمر كان من الواجب، وصح أنه لم يكن حبسًا؛ لأنه لو كان حبسًا لم يكن ليباع فعلم أنه كان بما تطوع به عمر، قال غيره: ولا يكون الحبس إلا أن
= وهو غني، وابن ماجه (1841) كتاب: الزكاة، باب: من تحل له الصدقة، وأحمد 3/ 56، والحاكم في "المستدرك" 1/ 407 - 408 كتاب: الزكاة، وصححه الحاكم، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود"(1445)، وانظر:"الإرواء" 3/ 377 (870).
(1)
انظر: "التمهيد" 7/ 115.
(2)
رواه مسلم (1149) كتاب: الصيام، باب: قضاء الصيام عن الميت.
ينفق عليه المحبس من ماله، وإذا خرج خارج إلى الغزو دفعه إليه مع نفقته على أن يغزو به، ويصرفه إليه، فيكون موقوفًا على مثل ذَلِكَ، فهذا لا يجوز بيعه بإجماع، وأما إذا جعله في سبيل الله وملكه الذي دفعه إليه فهذا يجوز بيعه.
قال الطبري: والدليل على جواز شراء صدقة الفرض وصحة البيع ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن وجبت عليه سن من الإبل فلم تكن عنده وكان عنده دونها أو فوقها أن يأخذ ما وجد
(1)
، ويرد إن كان أخذ أفضل من الذي له دراهم أو غنمًا، وهذا لا شك أخذ عوض، وبدل من الواجب على رب المال، وإذا جاز تملك الصدقة بالشراء قبل خروجها من يد المتصدق بعوض فحكمها بعد القبض كذلك، وبنحو ذَلِكَ قال جماعة من العلماء. وكان عمر لا يكره أن يشتري الرجل صدقته إذا خرجت من يد صاحبها إلى غيره، رواه الحسن عنه وقال به هو وابن سيرين
(2)
، فأما إن كان رجعت إلى المتصدق صدقته بميراث أو هبة من المتصدق عليه، فإنه لا يكره له تملكها، ولا يكون عائدًا؛ لحديث بريرة.
قال ابن التين: وليس ذَلِكَ عند مالك بالحرام البين؛ لأن الحديث إنما جاء في صدقة التطوع، قال في "الموطأ"
(3)
: ترك شرائها أحب إلي، وهو ما في "المدونة"
(4)
أيضًا، والذي فعل ابن عمر من ترك شراء ما
(1)
دل على ذلك حديث سيأتي برقم (2305). كتاب: الوكالة، باب: وكالة الشاهد والغائب جائزة.
(2)
روى ذلك ابن أبي شيبة 2/ 411 (10513).
(3)
"الموطأ" ص 190.
(4)
"المدونة" 1/ 266.
تصدق به إلا أن يشتريه؛ ليجعله صدقة، وكان ابن عمر لا ينتفع من شيء تصدق به وركب مرة راحلة كان حبسها، وفيما نقل عن الداودي رهنها فصرع عنها فرأى ذَلِكَ عقوبة لركوبه إياها، فإن أراد البخاري صدقة التطوع فلائح، وإن أراد الفرض فهو يروي عن معاذ أنه قال لأهل اليمن: ائتوني (بخميص)
(1)
، أو لبيس مكان الذرة والحب
(2)
وقد سلف.
وقوله: (لا بأس أن يشتري صدقة غيره) صحيح يوضحه حديث بريرة: "هو لها صدقة ولنا هدية"
(3)
فإذا كان هذا بغير عوض فالعوض أجوز.
ثانيها:
معنى (حملت عليها في سبيل الله) أي: دفعته إلى من هو مواظب على الجهاد في سبيل الله على وجه التحبيس له، ويحتمل هبته وتمليكه للجهاد، فعلى هذا له بيعه ويتصرف فيه بما أراد بخلاف الأول؛ لأنه موقوف في ذَلِكَ الوجه فلا يزيله مع السلامة، وهذا مثل الحديث السالف:"إن خالدًا احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله"
(4)
.
ومعنى إضاعته له: إما عدم حسن القيام عليه، ويبعد مثل هذا على الصحابة إلا أن يوجبه عذر، أو في استعماله فيما حبس له فصيره ضائعًا من الهزال المفرط مباشرة الجهاد وإبقائه له في سبيل الله، فإن كان حبسًا فيحتمل أن عمر ظن أنه يجوز له هذا ويباح له شراء الحبس، غير أن منعه من شرائه وتعليله بالرجوع دليل على أنه لم يكن حبسًا، إلا أن يكون هذا
(1)
في الأصول: (بخميس) والمثبت من اليونينية.
(2)
سلف قبل الرواية (1448) كتاب: الزكاة، باب: العرض في الزكاة.
(3)
يأتي برقم (1495) باب: إذا تحولت الصدقة.
(4)
سلف برقم (1468).
الضياع قد بلغ به إلى عدم الانتفاع فيما حبس له، فيجوز بيعه عند من يراه ويحتمل أنه لما وهبه إياه على ما سلف وأراد شراءه لضياعه.
فرع:
ضياع الخيل الموقوفة إذا رجي صلاحها والنفع بها في الجهاد كالضعف المرجو برؤه منع ابن الماجشون بيعه، واختاره ابن القاسم ويوضع ثمنه في ذَلِكَ الوجه.
ثالثها:
قال ابن عبد البر: في إجازة تحبيس الخيل: وإن من حمل على فرس وغزا به فله أن يفعل فيه ما يشاء في سائر أمواله. قال ابن عمر: إذا بلغت به وادي القرى فشأنك به. وقال ابن المسيب: إذا بلغ رأس مغزاته فهو له. قال: ويحتمل أن يكون هذا الفرس ضاع حتَّى عجز عن اللحاق بالخيل، وضعف عن ذَلِكَ، فأجيز له بيعه لذلك، ومن أهل العلم من يقول: يضع ثمنه ذَلِكَ في فرس عتيق أي فاره إن وجده وإلا أعان به في مثل ذَلِكَ، ومنهم من يقول: إنه كسائر أمواله إذا غزا عليه
(1)
.
رابعها:
قوله: ("فَإِنَّ العَائِدَ فِي صَدَقَتِهِ كَالعَائِدِ فِي قَيْئِهِ") وفي رواية أخرى: "كالكلب يعود في قيئه"
(2)
يريد أنه من القبح في الكراهة بمنزلة العائد في أكل ما قاءه، بعد أن تغير من حال الطعام إلى القيء، وكذلك هذا لما أخرج صدقته فلا يرتجعها بعدما تغيرت وتغير ما في ماله من الفساد فيه،
(1)
انتهى من كلام ابن عبد البر بتصرف "الاستذكار" 9/ 324 - 326.
(2)
سيأتي برقم (2623) في الهبة، باب: لا يحل لأحد أن يرجع في هبته وصدقته.
فإن ذَلِكَ من أفعال الكلب وأخلاقه التي ينفرد بها، فإذا تصدق على أجنبي فلا رجوع له كالفرض؛ لهذا الحديث.
قال مالك: لا يركبه وإن كان أمرًا قريبًا، وذكر ركوب ابن عمر ناقة وهبها، وقال القاضي أبو محمد: لا بأس أن يركب الفرس الذي جعله في سبيل الله، ويشتري من ألبان الغنم اليسير.
حجة مالك أنه من الرجوع في الصدقة، ووجه الآخر أن اليسير معفو عنه، فإن أعطى على غير وجه الصدقة ففي "الموازية" فيمن حمل على فرس لا للمسكنة ولا للسبيل، قال مالك: لا بأس أن يشتريه ولو تصدق (بمنفعة)
(1)
أو غلة، فقال محمد: لم يختلف مالك وأصحابه في إجازة شراء ذَلِكَ للمتصدق إلا عند الملك، واحتج بهذا الحديث، ووجه قول مالك أنه عليه السلام أرخص لصاحب العرية أن يشتريها وهي صدقته، وعندنا للأب والجد أن يرجع فيما وهبه لولد، وعند المالكية ما قصد به المودة والمحبة، فلا رجوع إلا للأبوين.
وفي إلحاق الجد والجدة بهما روايتان، وما قصد به التقرب إلى الله من صلة رحم أو لفقير أو ليتيم أو نحوه، فلا رجوع فيه لأحد؛ لأنه صدقة، ولا ينبغي أن يتملكها بوجه إلا بميراث، ولا يأكل من ثمرها ولا يركبها، وفي "الموازية": من تصدق على ابنه الفقير في حجره بجارية فيبيعها من نفسه له أن يشتريها بخلاف الأجنبي.
وقال مالك: من تصدق على ابنه بغنم لا بأس أن يأكل من لحمها و (يشرب)
(2)
من لبنها ويكتسي من صوفها، وإن كان حائطًا أكل من
(1)
في الأصل: (بمنفعته)، والمثبت من (ج).
(2)
في الأصل: (يشتري)، والمثبت من (ج).
ثمرته، وعنه لا يكتسي ولا يشرب.
وفي "الموازية" عن مالك: إنما ذَلِكَ في الابن الكبير دون الصغير.
وقال ابن القاسم: في الصغير، ولو تصدق على غاز بدراهم ثم ترافقا فأخرج المتصدَّق عليه منها جاز ذَلِكَ عند مالك لقصة بريرة
(1)
.
(1)
انظر: "النوادر والزيادات" 12/ 199.
60 - باب مَا يُذْكَرُ فِي الصَّدَقَةِ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
-
1491 -
حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: أَخَذَ الحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ رضي الله عنهما تَمْرَةً مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ، فَجَعَلَهَا فِي فِيهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"كِخٍ كِخٍ" لِيَطْرَحَهَا، ثُمَّ قَالَ:"أَمَا شَعَرْتَ أَنَّا لَا نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ". [انظر: 1485 - مسلم: 1069 - فتح: 3/ 354]
ذكر فيه حديث أبي هريرة في قصة الحسن. وقد سلف في باب: أخذ صدقة التمر عند صرام النخل واضحًا
(1)
.
وقوله للحسن: "كِخْ كِخْ" هو ردع للصغار وزجر. وقال الداودي: هي معربة، ومعناها: بئس، وفيها ثلاثة أوجه: فتح الكاف وتنوين الخاء كذا في رواية أبي الحسن، ثانيها: بكسر الكاف وإسكان الخاء في رواية أبي ذر، ثالثها: كسر الكاف وتشديد الخاء في بعض نسخ الهروي
(2)
.
قال المهلب: وفيه أن قليل الصدقة لا يحل لآل محمد بخلاف اللقطة التي لا يحرم منها ما لا قيمة له، لقوله عليه السلام في التمرة الملقاة:"لولا أني أخشى أن تكون من الصدقة لأكلتها"
(3)
.
(1)
برقم (1485).
(2)
ورد بهامش الأصل ما نصه: في "المطالع" فيها لغات أكثر من ذلك، وليس منها تشديد الخاء، وقد ذكرها في "القاموس".
(3)
سيأتي برقم (2431)، ورواه مسلم (1071).
61 - باب الصَّدَقَةِ عَلَى مَوَالِي أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
-
1492 -
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنِ ابْنِ عَبِّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: وَجَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم شَاةً مَيِّتَةً أُعْطِيَتْهَا مَوْلَاةٌ لِمَيْمُونَةَ مِنَ الصَّدَقَةِ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"هَلاَّ انْتَفَعْتُمْ بِجِلْدِهَا؟ ". قَالُوا: إِنَّهَا مَيْتَةٌ. قَالَ: "إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا". [2221، 5531، 5532 - مسلم: 363 - فتح: 3/ 355]
1493 -
حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا الحَكَمُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا أَرَادَتْ أَنْ تَشْتَرِيَ بَرِيرَةَ لِلْعِتْقِ، وَأَرَادَ مَوَالِيهَا أَنْ يَشْتَرِطُوا وَلَاءَهَا، فَذَكَرَتْ عَائِشَةُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"اشْتَرِيهَا، فَإِنَّمَا الوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ". قَالَتْ: وَأُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِلَحْمٍ، فَقُلْتُ: هَذَا مَا تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ. فَقَالَ: "هُوَ لَهَا صَدَقَةٌ، وَلَنَا هَدِيَّةٌ". [انظر: 456 - مسلم: 1075، 1504 - فتح: 3/ 355]
ذكر فيه حديث ابن عَبَّاسٍ قَالَ: وَجَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم شَاةً مَيِّتَةً أُعْطِيَتْهَا مَوْلَاةٌ لِمَيْمُونَةَ مِنَ الصَّدَقَةِ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"هَلَّا انْتَفَعْتُمْ بِجِلْدِهَا؟ ". قَالُوا: إِنَّها مَيْتَةٌ. قَالَ: "إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا".
وحديث عَائِشَةَ: أَرَادَتْ أَنْ تَشْتَرِيَ بَرِيرَةَ لِلْعِتْقِ، وَأَرَادَ مَوَالِيهَا أَنْ يَشْتَرِطُوا وَلَاءَهَا، فَذَكَرَتْ عَائِشَةُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لَهَا:"اشْتَرِيهَا، فَإِنَّمَا الوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ". قَالَتْ: وَأُتِيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بِلَحْمٍ، فَقُلْتُ: هذا ممَا تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ. فَقَالَ: "هُوَ لَهَا صَدَقَة، وَلنَا هَدِيَّةٌ".
الشرح:
أما حديث عائشة: فسلف في أحكام المساجد
(1)
، ويأتي قريبًا
(2)
.
(1)
برقم (456) كتاب: الصلاة، باب: ذكر البيع والشراء على المنبر في المسجد.
(2)
برقم (2155) كتاب: البيوع، باب: البيع والشراء مع النساء.
وأما حديث ابن عباس فأخرجه مسلم بلفظ: تصُدق على مولاة لميمونة بشاة، فمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به؟ ". فقالوا: إنما هي ميتة. فقال: "إنما حرم أكلها"
(1)
. وفي لفظ له: "هلا انتفعتم بجلدها؟ "
(2)
، وفي أخرى:"ألا انتفعتم بإهابها؟ "
(3)
وفي أخرى عن ابن عباس: أن ميمونة
…
(4)
يعني بهذا: الحديث، وفي رواية للبخاري:"ما على أهلها لو انتفعوا بإهابها"
(5)
ولم يقل في شيء من طرقه: فدبغتموه. وفي بعض طرقه (بعير) مكان: (شاة).
وذكر في الأيمان والنذور في باب: إن حلف لا يشرب نبيذًا فشرب الطلاء أو سكرًا أو عصيرًا: عن ابن عباس عن سودة أم المؤمنين قالت: ماتت لنا شاة، فدبغنا مسكها، ثم مازلنا ننتبذ فيه حتَّى صار شنًّا. وهو من أفراده
(6)
.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مسنده" عن ابن عباس قال: ماتت لنا شاة لسودة أم المؤمنين- فأتاها النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال:"ألا انتفعتم بمسكها؟ "، فقالت: يا رسول الله، مسك ميتة! فقال:" {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} "[الأنعام: 145] الآية، "إنكم لستم تأكلونها".
فبعث بها فسلخت، قال ابن عباس: فجعلوا مسكها قربة ثم رأيته بعد شَنَّةً.
(1)
"صحيح مسلم"(363) كتاب: الحيض، باب: طهارة جلود الميتة بالدباغ.
(2)
"صحيح مسلم"(363/ 101).
(3)
رواه مسلم (365).
(4)
رواه مسلم (364).
(5)
ستأتي برقم (5532) كتاب: الذباح والصيد، باب: جلود الميتة.
(6)
سيأتي برقم (6686).
ولأحمد فقال: "إنكم لا تطعمونه، إن تدبغوه تنتفعوا به"
(1)
، وللحاكم في "تاريخ نيسابور": مرّ النبي صلى الله عليه وسلم بشاة ميتة لأم سلمة أو لسودة .. الحديث. وللدارقطني: كان أعطاها مولًى لميمونة
(2)
.
قال ابن عبد البر: رواه غير واحد بإسقاط ابن عباس، والصحيح اتصاله وكان ابن عيينة يقول مرارًا كذلك، ومرارًا: عن ابن عباس عن ميمونة بزيادة: "دباغ إهابها طهورها" واتفق معمر ومالك وبونس على قوله: "إنما حرم كلها" إلا أن معمرًا قال: "لحمها" ولم يذكر واحد منهم الدباغ، وكان ابن عيينة يقول: لم أسمع أحدًا يقول: "إنما حرم أكلها" إلا الزهري، واتفق عقيل وجماعات على ذكر الدباغ فيه عن الزهري؛ وكان ابن عيينة مرة يذكره، ومرة لا يذكره، قال محمد بن يحيى النيسابوري: لست أعتمد في هذا الحديث على ابن عيينة لاضطرابه فيه
(3)
.
وأما ذكر الدباغ فلا يؤخذ إلا عن يحيى بن أيوب، عن عُقَيل، ومن رواية بقية عن الزبيدي، ويحيى وبقية ليسا بالقويين، ولم يذكر مالك ولا يونس الدباغ، وهو الصحيح في حديث الزهري وبه كان يفتي وأما من غير رواية الزهري فصحيح محفوظ عن ابن عباس.
وأما حديث عبد الله بن عكيم قال: كتب إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته بشهر أن "لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب" فحسنه الترمذي مع اضطرابه، وصححه ابن حبان
(4)
، ومنهم من ادعى نسخه، وضعفه
(1)
"مسند أحمد" 1/ 327.
(2)
"سنن الدارقطني" 1/ 42.
(3)
"التمهيد" 9/ 50 - 51 بتصرف.
(4)
"سنن الترمذي"(1729)، "صحيح ابن حبان" 4/ 93 (1277).
يحيى وقال ابن عبد البر: لم يثبت
(1)
.
وقال النسائي: أصح ما في الباب في جلود الميتة حديث ابن عباس
(2)
.
وقال الدوري: قُلْتُ ليحيى بن معين: أيما أعجب إليك من هذين الحديثين؟ قال: "دباغها طهورها" أعجب إليَّ.
وحكى الحازمي بإسناده إلى إسحاق بن راهويه أنه ناظر الشافعي وأحمد بن حنبل حاضر في جلود الميتة، فقال الشافعي: دباغها طهورها. فقال له إسحاق: ما الدليل؟ قال: حديث ابن عباس، قال إسحاق: حديث ابن عكيم: كتب إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته بشهر أن "لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب"، فهذا أشبه أن يكون ناسخًا لحديث ميمونة، فقال الشافعي: هذا كتاب وذاك سماع. فقال إسحاق: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى كسرى وقيصر وكانت حجة بينهم عند الله، فسكت الشافعي، فلما سمع ذَلِكَ أحمد ذهب إلى حديث ابن عكيم وأفتى به ورجع إسحاق إلى حديث الشافعي
(3)
.
وقوله: (أعطيتها مولاة) هو بالرفع.
إذا تقرر ذَلِكَ: فاتفق كافة الفقهاء على أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لا يدخلن في آله الذين تحرم عليهم الصدقة، ومواليهن أحرى بالصدقة، على ما ثبت في شاة ميمونة ولحم بريرة وإنما اختلف العلماء في موالي بني هاشم، وقد سلف ما فيه في باب: أخذ صدقة التمر فراجعه
(4)
،
(1)
"التمهيد" 10/ 374.
(2)
"سنن النسائي" 7/ 175.
(3)
"الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار" ص 46 - 47.
(4)
سلف حديث يدل على ذلك برقم (1485).
وما نقلناه من الاتفاق هو ما ذكره ابن بطال
(1)
، لكن في "مصنف ابن أبي شيبة"، حَدَّثَنَا وكيع، عن شريك، عن ابن أبي مليكة أن خالد بن سعيد بن العاصي أرسل إلى عائشة شيئًا من الصدقة فردته، وقالت: إنا آل محمد لا تحل لنا الصدقة
(2)
.
واعلم أن أكثر أهل العلم -فيما حكاه الحازمي- على جواز الانتفاع بجلد الميتة بعد الدباغ- منهم الأئمة الثلاثة، ومن الصحابة عبد الله بن مسعود وإلى المنع ذهب عمر وابنه عبد الله وعائشة
(3)
وادعى ابن شاهين أن هذِه الأحاديث لا يمكن ادعاء نسخ شيء منها بالآخر، والمنع على ما قبل الدباغ، والإباحة على ما بعده
(4)
.
وقد قال الخليل: لا يقع على الجلد اسم الإهاب إلا قبل الدباغ فأما بعده فلا يسمى إهابًا بل أديمًا وجلدًا وجرابًا، وكذا في "المنتهى": الإهاب: الجلد قبل أن يدبغ، وفي "المحكم": الإهاب: الجلد
(5)
.
قال أبو عمر: ومعلوم أن المقصود بالحديث ما لم يكن طاهرًا؛ لأن الطاهر لا يحتاج إلى دباغ فبطل قول من قال: إنه لا ينتفع به بعد الدباغ، وكذا قول من قال: إن جلد الميتة ينتفع به وإن لم يدبغ، وهو قول مروي عن الزهري والليث، وهو مشهور عنهما وروي عنهما خلافه، وهو من أفراد الزهري وانفرد هو والليث بجواز بيعه قبل الدباغ، وعن مالك ما يشبهه، وظاهر مذهبه خلافه
(6)
.
(1)
"شرح ابن بطال" 3/ 543 - 544.
(2)
"المصنف" 2/ 429 (10708)، و 7/ 326 (36517).
(3)
"الاعتبار في الناسخ والمنسوخ" ص 45 - 46.
(4)
"ناسخ الحديث منسوخه" ص 160.
(5)
"المحكم" 4/ 261.
(6)
"التمهيد" 4/ 152 - 154 "والاستذكار" 15/ 338 - 341 بتصرف.
قُلْتُ: ومعنى الحديث عند كافة الفقهاء: هلا انتفعتم بجلدها بعد الدباغ.
ومجموع ما في دباغ جلود الميتة وطهارتها سبعة أقوال:
أحدها: أنه تطهير به جميع جلود الميتة إلا الكلب والخنزير والفرع ظاهرًا وباطنًا ويستعمل في اليابس والمائع وسواء مأكول اللحم وغيره، وبه قال علي وابن مسعود، وهو مذهب الشافعي
(1)
.
ثانيها: لا يطهر منها شيء به، روي عن جماعة سلف ذكرهم، وهي أشهر الروايتين عن أحمد ورواية عن مالك
(2)
.
ثالثها: يطهر به جلد مأكول اللحم دون غيره، وهو مذهب الأوزاعي وابن المبارك وأبي ثورج وإسحاق
(3)
.
رابعها: تطهير جميعها إلا الخنزير، وهو مذهب أبي حنيفة
(4)
.
خامسها: يطهر الجميع، إلا أنه يطهر ظاهره فقط دون باطنه، ويستعمل في اليابسات دون المائعات، ويصلى عليه لا فيه، وهو مشهور مذهب مالك فيما حكاه أصحابه عنه
(5)
.
سادسها: يطهر الجميع والكلب والخنزير ظاهرًا وباطنًا وهو مذهب داود وأهل الظاهر وحكي عن أبي يوسف
(6)
.
سابعها: أنه ينتفع بجلود الميتة وإن لم تدبغ، ويجوز استعمالها في المائعات واليابسات، وهو وجه شاذ لبعض أصحابنا.
ومحل بسط المسألة كتب الخلاف وسيكون لنا عودة إلى المسأله في
(1)
"الأم" 1/ 7 - 8.
(2)
"عيون المجالس" 1/ 178، "المغني" 1/ 89.
(3)
"المغني" 1/ 89.
(4)
"بدائع الصنائع" 1/ 85.
(5)
"عيون المجالس" 1/ 178.
(6)
"المحلى" 1/ 118.
أواخر الصيد والذبائح حيث ذكرها البخاري هناك
(1)
.
واحتج بعض المالكية بحديث بريرة على أن التصرف في البيع الفاسد يفسده وهو مذهب مالك، وقال الشافعي: لا تأثير للقبض فيه بملك ولا شبهة ملك، وقال سحنون في الحرام البين (
…
) عندهم العيوب والقبض والنماء المنفصل والمتصل. وقال أبو حنيفة مثله إلا أنه قال: يرد مع النماء وإذا وطئ غرم الأرش، واحتج بعض المالكية بحديث بريرة على أن عائشة اشترتها شراء فاسدًا فأنفذ الشارع عتقها، ومعلوم أن شرط الولاء لغير المعتق يوجب فساد العقد، ثم أنفذ الشارع العقد واستدل به أصحاب أبي حنيفة على أنها ملكت بالقبض ملكًا تامًّا، وهو بعيد؛ لأنه عليه السلام في هذا الحديث وغيره أمر عائشة بالشراء ولم يكن ليأمر بفاسد، وأجاب بعضهم بأنها خصت بذلك كما خص غيرها بخصائص، وهو بعيد؛ لأن ذَلِكَ لو وقع لنقل، وعد ابن التين من ذَلِكَ: تخصيص البراء بن عازب تختم الذهب، وطلحة والزبير بجواز لبس الحرير لحكة كانت بهما
(2)
، وحسان بن ثابت بجواز إنشاد الشعر في المسجد
(3)
، وكله غريب.
وزيادة: "اشتريها واشترطي لهم الولاء" ما رواها إلا هشام بن عروة
(4)
ساء حفظه، وادعى ابن القطان أنه خلط في آخر عمره، وسيأتي الكلام على ذَلِكَ في موضعه، فهو أمس به.
(1)
سيأتي برقم (5531 - 5532) باب: جلود الميتة.
(2)
سيأتي هذا الحديث برقم (2919 - 2920) ورواه مسلم (2076) من حديث أنس.
وفيه أنهما عبد الرحمن بن عون والزبير بن العوام.
(3)
انظر ما سيأتي برقم (3212) ورواه مسلم (2485)، وسيأتي برقم (3213). ورواه مسلم (2486).
(4)
رواها من طريقه مسلم (1504/ 8).
62 - باب إِذَا تَحَوَّلَتِ الصَّدَقَةُ
1494 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ الأَنْصَارِيَّةِ رضي الله عنها قَالَتْ: دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى عَائِشَةَ رضي الله عنها فَقَالَ: "هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟ ". فَقَالَتْ: لَا، إِلَّا شَيْءٌ بَعَثَتْ بِهِ إِلَيْنَا نُسَيْبَةُ مِنَ الشَّاةِ التِي بَعَثْتَ بِهَا مِنَ الصَّدَقَةِ. فَقَالَ:"إِنَّهَا قَدْ بَلَغَتْ مَحِلَّهَا". [انظر: 1446 - مسلم: 1076 - فتح: 3/ 356]
1495 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِلَحْمٍ تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ، فَقَالَ:"هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ، وَهُوَ لَنَا هَدِيَّةٌ".
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: أَنْبَأَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، سَمِعَ أَنَسًا، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. [2577 - مسلم: 1074 - فتح: 3/ 356]
ذكر فيه حديث حفصة بنت سيرين، عن أم عطية الأنصارية: قَالَتْ: دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى عَائِشَةَ فَقَالَ: "هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ". فَقَالَتْ: لَا، إِلَّا شَيءٌ بَعَثَتْ بِهِ إِلَينَا نُسَيْبَةُ مِنَ الشَّاةِ التِي بَعَثْتَ بِهَا مِنَ الصَّدَقَةِ. فَقَالَ:"إِنَّهَا قَدْ بَلَغَتْ مَحِلَّهَا".
وحديث شعبة، عن قتادة، عن أنس أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِلَحْمٍ تُصُدّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ، فَقَالَ:"هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ، وَهُوَ لنَا هَدِيَّةٌ".
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: أَنْبَأَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، سَمِعَ أَنَسًا، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
الشرح:
حديث أم عطية أخرجه الشيخان
(1)
.
(1)
"صحيح مسلم"(1076) في الزكاة، باب: إباحة الهدية للنبي صلى الله عليه وسلم وبني هاشم.
ونسيبة هي أم عطية وقد صرح به البخاري في بعض نسخة
(1)
ولمسلم: لحم بقر
(2)
.
والتعليق أسنده أبو نعيم في "مستخرجه" فقال: حدثنا عبد الله، ثنا يونس، ثنا أبو داود -يعني الطيالسي- أنبأنا شعبة، فذكره.
وفائدته تصريح قتادة بسماعه إياه من أنس، قال ابن التين: وكان البخاري لا يسند عن أبي داود هذا في "صحيحه": وقال ما كان أحفظه!
إذا تقرر ذَلِكَ:
ففيهما دلالة، كما قال الطحاوي، على جواز استعمال الهاشمي، ويأخذ جعله على ذَلِك
(3)
، وقد كان أبو يوسف يكره ذَلِكَ إذا كانت جعالتهم منها، قال: لأن الصدقة تخرج من ملك المتصدق إلى غير الأصناف التي سماها الله تعالى، فيملك المتصدق بعضها وهي لا تحل له، واحتج بحديث أبي رافع في ذَلِك
(4)
.
وخالفه آخرون فقالوا: لا بأس أن يجتعل منها الهاشمي؛ لأنه إنما يجتعل على عمله، وذلك قد يحل للأغنياء، فلما كان هذا لا يحرم على الأغنياء الذين يحرم عليهم غناهم الصدقة كان ذَلِكَ أيضًا في النظر
(1)
جاء في الأصل بعد كلمة نسخه: وحديث أم عطية أخرجه الشيخان فلعله تكرار.
(2)
"صحيح مسلم" برقم (1075).
(3)
"شرح معاني الآثار" 2/ 13.
(4)
رواه أبو داود (1650)، والترمذي (657)، والنسائي 5/ 107 عن ابن أبي رافع، عن أبي رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رجلًا من بني مخزوم على الصدقة، فقال لأبي رافع: اصحبني كيما تصيب منها، فقال: لا، حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسأله، فانطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله، فقال:"إن الصدقة لا تحل لنا، وإن موالي القوم من أنفسهم". والحديث صححه ابن خزيمة (2344)، والألباني في "صحيح أبي داود"(1456) وانظر "الإرواء"(862).
لا يحرم ذَلِكَ على بني هاشم الذين يحرم عليهم سهم الصدقة، فلما كان ما تصدق به على بريرة جائزًا للشارع أكله؛ لأنه أكله بالهدية جاز أيضًا للهاشمي أن يجتعل الصدقة؛ لأنه إنما يملكها بعمله لا بالصدقة، هذا هو النظر عندنا، وهو أصح مما ذهب إليه أبو يوسف.
قال بعض العلماء: لما كانت الصدقة يجوز فيها التصرف للفقير بالبيع والهبة لصحة ملكه لها وأهدتها نسيبة وبريرة إلى عائشة، حكم لها بحكم الهبة وتحولت عن معنى الصدقة بملك المصدق عليه بها، وانقلبت إلى معنى الهدية الحلال لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما كان يأكل الهدية دون الصدقة
(1)
لما في الهبة من التآلف والدعاء إلى المحبة، وجائز أن يثيب عليها بمثلها
(2)
وأفضل منها فيرفع الذلة والمنة، بخلاف الصدقة.
وقال سحنون: لا بأس أن يشتري الرجل كسور السؤال منهم، دليله حديث بريرة. قال ابن التين: وفيه دليل على أصبغ ومن نحا نحوه؛ لأنه يقول: موالي القوم منهم لا تحل لهم الصدقة ويقول: إن آل أبي بكر لا يأكلونها إلا أن يصح ما ذكره الداودي أن نسيبة بعثت إلى بريرة، لكن سائر الأخبار فيها:"بلحم تصدق به على بريرة". وإن كان يحتمل صدقة التطوع فأصبغ أيضًا يرى أنها لا تحل لهم في أحد قوليه وفي الآخر مكروهة.
(1)
انظر ما سيأتي برقم (2576)، وراه مسلم (1077).
(2)
انظر ما سيأتي برقم (2585).
63 - باب أَخْذِ الصَّدَقَةِ مِنَ الأَغْنِيَاءِ وَتُرَدَّ فِي الفُقَرَاءِ حَيْثُ كَانُوا
1496 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، أَخْبَرَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ صَيْفِيٍّ، عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ -مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى اليَمَنِ: "إِنَّكَ سَتَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ، فَإِذَا جِئْتَهُمْ فَادْعُهُمْ إِلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً، تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ، فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ حِجَابٌ". [انظر: 1395 - مسلم: 19 - فتح: 3/ 357]
ذكر فيه حديث معاذ، وسلف في أول الزكاة أكثره وبعضه في أثنائه
(1)
وقد سلف هناك الاختلاف في نقل الصدقة من بلدها وهو حجة للمانع؛ لأنه أخبر أنها تفرد في فقراء اليمن إذا أخذت من أغنيائهم.
واحتج المجيز بأثر معاذ السالف: ائتوني بعرض ثياب خميص أو لبيس في الصدقة
(2)
؛ فإنها أنفع لأهل المدينة فأعلمهم أنه ينقلها إلى المدينة. وكان عدي بن حاتم ينقل صدقة قومه إلى الصديق بالمدينة فلم ينكر عليه
(3)
وفية: أيضًا كما سلف هناك أن الزكاة تعطى لصنف واحد خلافًا للشافعي.
(1)
برقم (1395) باب: وجوب الزكاة.
(2)
سلف قبل حديث (1448) باب العرض في الزكاة.
(3)
انظر: "سنن البيهقي" 7/ 10، 19 - 20.
وقد اختلف العلماء في الصدقات هل هي مقسومة على من سمى الله تعالى في قوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} الآية؟ فقال مالك والثوري وأبو حنيفة وأصحابه: يجوز أن توضع في صنف واحد من الأصناف المذكورة على قدر اجتهاد الإمام، وهو قول عطاء والنخعي والحسن البصري، وقال الشافعي: هي مقسومة على ثمانية أصناف لا يصرف منها سهم عن أهله ما وجدوا، وهو قول عكرمة، وأخذ بظاهر الآية
(1)
.
قال: وأجمعوا لو أن رجلًا أوصى بثلاثة لثمانية أصناف لم يجز أن يجعل ذَلِكَ في صنف واحد وكان ما أمر الله بقسمته على ثمانية أصناف أولى ألا يجعل في واحد، ومعنى الآية عند مالك والكوفيين إعلام من الله تعالى لمن تحل له الصدقة بدليل إجماع العلماء أن العامل عليها لا يستحق ثمنها وإنما له بقدر عمله، فدل ذَلِكَ على أنها ليست مقسومة على ثمانية أصناف بالسواء
واحتجوا بما روي عن حذيفة وابن عباس أنهما قالا: إذا وضعتها في صنف واحد أجزأك
(2)
ولا مخالف لهما من الصحابة، فهو كالإجماع. وقال مالك والكوفيون: المؤلفة قلوبهم قد بطلوا ولا مؤلفة اليوم وليس لأهل الذمة في بيت المال حق. وقال الشافعي: المؤلفة قلوبهم من دخل في الإسلام ولا يعطى مشرك يتألف على الإسلام.
(1)
"المبسوط" 3/ 8، "مختصر اختلاف العلماء" 1/ 482، "بدائع الصنائع" 2/ 44،
"المعونة" 1/ 268، "الأم" 2/ 89، "عبد الرزاق" 4/ 105 (7135)، "ابن أبي
شيبة" 2/ 405 (10452،10454).
(2)
رواه ابن أبي شيبة 2/ 405 (10445 - 10447) عن حذيفة، ورواه الطبري في "تفسيره" 6/ 404 (16902 - 16903 - 16907) عنهما.
وقوله: ("اتق دعوة المظلوم") فيه عظة الإمام من ولاه النظر في أمور رعيته، ويأمره بالعدل بينهم، ويخوفه عاقبة الظلم ويحذره وباله، قال تعالى:{أَلَا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18] ولعنة الله: الإبعاد من رحمته. والظلم محرم في كل شريعة، وقد جاء أن دعوة المظلوم لا ترد، وإن كانت من كافر
(1)
ومعنى ذَلِكَ أن الرب تعالى لا يرضى ظلم الكافر كما لا يرضى ظلم المؤمن، وأخبر تعالى أنه لا يظلم الناس شيئًا، فدخل في عموم هذا اللفظ جميع الناس من مؤمن وكافر. وحذر معاذًا من الظلم مع علمه بفضله وورعه، وأنه من أهل بدر وقد شهد له بالجنة، غير أنه لا يأمن أحد بل يشعر نفسه بالخوف.
(1)
رواه أحمد 2/ 367، والطيالسي 4/ 92 (2450)، وابن أبي شيبة 6/ 49 (29365)، والقضاعي في "مسند الشهاب" 1/ 208 (315) من طريق أبي معشر عن سعيد المقبري عن أبي هريرة مرفوعًا:"دعوة المظلوم مستجابة، وإن كان فاجرًا ففجوره على نفسه".
قال المنذري في "الترغيب والترهيب" 3/ 130 (3372)، والحافظ في "الفتح" 3/ 360، والهيثمي في "المجمع" (17227): إسناده حسن.
وله شاهد من حديث أنس؛ رواه أحمد 3/ 153 عنه مرفوعًا: "اتقوا دعوة المظلوم وإن كان كافرًا فإنه ليس دونها حجاب".
وقال الهيثمي في "المجمع"10 (17235) فيه: أبو عبد الله الأسدي، لم أعرفه، وبقية رجاله رجال الصحيح والحديثين صححهما الألباني في "الصحيحة"(767).
64 - باب صَلَاةِ الإِمَامِ وَدُعَائِهِ لِصَاحِبِ الصَّدَقَةِ
وَقَوْلِهِ تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} إلى قوله {سَكَنٌ لَهُمْ} [التو بة: 103]
1497 -
حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرٍو، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَتَاهُ قَوْمٌ بِصَدَقَتِهِمْ قَالَ: "اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ فُلَانٍ". فَأَتَاهُ أَبِي بِصَدَقَتِهِ، فَقَالَ:"اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى". [4166، 6332، 6359 - مسلم: 1078 - فتح: 3/ 361]
ذكر فيه حديث عبد الله بن أبي أَوْفَى قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَتَاهُ قَوْمٌ بِصَدَقَتِهِمْ قَالَ: "اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ فُلَانٍ". فَأَتَاهُ أَبِي بِصَدَقَتِهِ، فَقَالَ:"اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى".
هذا الحديث ذكره في غزوة الحديبية عن عمرو سمعت ابن أبي أوفي، وكان من أصحاب الشجرة
(1)
ولأبي داود، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن أبي أوفي قال: كان أبي من أصحاب الشجرة
(2)
.
وهما صحيحان، هو ووالده من أصحابها، وأخرجه مسلم أيضًا
(3)
.
وهذِه الآية نزلت -فيما قاله الضحاك- في قوم تخلفوا عن غزوة تبوك منهم: أبو لبابة فندموا وربطوا أنفسهم إلى سواري المسجد
(4)
فقال عليه السلام: "لا أعذرهم" فأنزل الله تعالى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ}
(1)
سيأتي برقم (4166) كتاب: المغازي.
(2)
"سنن أبي داود"(1590).
(3)
"صحيح مسلم"(1078) كتاب: الزكاة، باب: الدعاء لمن أتى بصدقته.
(4)
ورد في هامش الأصل ما نصه: إنما ربط أبو لبابة نفسه حين طلبه بنو قريظة فاستشاروه أينزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشار إلى حلقه، فجاء إلى المسجد ولم يجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم، وربط نفسه بساريته. الحديث.
[التوبة: 102] الآية، فأتي النبي صلى الله عليه وسلم بأموالهم فأبى أن يقبلها فقال تعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً}
(1)
الآية [التوبة: 103]. ومعنى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} أي: ادع لهم إن دعاءك سكون وتثبيت.
فيه: الأمر بالدعاء لصاحبها، وأوجبه أهل الظاهر عملًا بالأمر وبفعل الشارع، وخالفهم جميع العلماء وأنه مستحب؛ لأنها تقع الموقع وإن لم يدع له ولم يأمر به معاذًا، ولو كان واجبًا لعلمه ولأمر به السُعاة، ولم ينقل. والمراد بأنها سكن بعد الموت وهو خاص به؛ لأن صلاته سكن لنا؛ ولأن كل حق لله أو لآدمي استوفاه الإمام لا يجب عليه الدعاء لمن استوفاه منه كالحدود والكفارات والديون،
وفيه: الصلاة على غير الأنبياء، وقد منعه مالك، والحديث حجة عليه، وكذا حديث "الموطأ":"اللهم صل على محمد وعلى آل محمد"
(2)
ولكن هذا من باب التبع. وفيه: أن يقال: آل فلان، يريد فلانًا وآله، وذكر بعض أهل اللغة أنها لا تقال إلا للرجل العظيم كآل أبي بكر وعمر.
وقال الشافعي: الصلاة عليهم: الدعاء لهم فيستحب للإمام إذا أخذها أن يدعو لمن أخذها منه، وأحب أن يقول: أجرك الله فيما أعطيت، وجعله لك طهورًا، وبارك لك فيما أبقيت
(3)
. وللنسائي من حديث وائل بن حجر قال عليه السلام لرجل بعث بناقته -يعني في الزكاة- فذكر من حسنها: "اللهم بارك فيه وفي آله"
(4)
.
(1)
رواه الطبري في "تفسيره" 6/ 461، 464 (17158)، (17172).
(2)
"الموطأ" ص 120.
(3)
"الأم" 2/ 51.
(4)
"سنن النسائي" 5/ 30. والحديث صححه ابن خزيمة 4/ 22 - 23 (2274)، والحاكم في "المستدرك" 1/ 400 على شرط مسلم.
65 - باب مَا يُسْتَخْرَجُ مِنَ البَحْرِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَيْسَ العَنْبَرُ بِرِكَازٍ إنما هُوَ شَيْءٌ دَسَرَهُ البَحْرُ. وَقَالَ الحَسَنُ فِي العَنْبَرِ وَاللُّؤْلُؤِ: الخُمُسُ، فَإِنَّمَا جَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الرِّكَازِ الخُمُسَ، لَيْسَ فِي الَّذِى يُصَابُ فِي المَاءِ.
1498 -
وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:"أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَأَلَ بَعْضَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، بِأَنْ يُسْلِفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ، فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ، فَخَرَجَ فِي البَحْرِ، فَلَمْ يَجِدْ مَرْكَبًا، فَأَخَذَ خَشَبَةً فَنَقَرَهَا، فَأَدْخَلَ فِيهَا أَلْفَ دِينَارٍ، فَرَمَى بِهَا فِي البَحْرِ، فَخَرَجَ الرَّجُلُ الذِي كَانَ أَسْلَفَهُ، فَإِذَا بِالخَشَبَةِ فَأَخَذَهَا لأَهْلِهِ حَطَبًا -فَذَكَرَ الحَدِيثَ- فَلَمَّا نَشَرَهَا وَجَدَ المَالَ". [2063، 2291، 2404، 2430، 2734، 6261 - فتح: 3/ 362]
وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَأَلَ بَعْضَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، بِأَنْ يُسْلِفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ، فَدَفَعَهَا أِلَيهِ، فَخَرَجَ فِي البَحْرِ، فَلَمْ يَجِدْ مَرْكَبًا، فَأَخَدَ خَشَبَةً فنَقَرَهَا، فَأَدْخَلَ فيهَا أَلْفَ دِينَارٍ، فَرَمَى بِهَا فِي البَحْرِ، فخَرجَ الرَّجُلُ الذِي كَانَ أسلَفَة، فإذَا بِالخَشَبَةِ فَأَخَدَهَا لأَهْلِهِ حَطَبًا -فَذَكَرَ الحَدِيثَ- فَلَمَّا نَشَرَهَا وَجَدَ المَالَ".
الشرح:
أما أثر ابن عباس فأخرجه الشافعي من حديث سفيان عن عمرو بن دينار عن أذينة قال: سمعت ابن عباس، فذكره
(1)
.
(1)
"مسند الشافعي" 1/ 229 (630).
قال البيهقي: ورواه عمرو بن دينار، عن ابن جريج
(1)
. وأخرجه ابن أبي شيبة، عن وكيع، عن سفيان بن سعيد، عن عمرو به: ليس في العنبر زكاة إنما هو شيء دسره البحر. ثم رواه عن ابن عيينة، عن ابن طاوس، عن أبيه قال: سأل إبراهيم بن سعد ابن عباس، عن العنبر فقال: إن كان فيه شيء ففيه الخمس، قال: وحَدَّثَنَا وكيع، عن الثوري، عن ابن طاوس، عن أبيه أن ابن عباس سئل عن العنبر فقال: إن كان فيه شيء ففيه الخمس
(2)
.
وقال البيهقي: ابن عباس علق القول فيه في هذِه الرواية، وقطع بأن لا زكاة فيه في الأولى، والقطع أولى
(3)
.
وأما أثر الحسن فأخرجه ابن أبي شيبة، عن معاذ بن معاذ، عن أشعث عنه أنه كان يقول: في العنبر الخمس. وكذلك كان يقول في اللؤلؤ
(4)
.
ومعنى (دسره البحر): دفعه ورمى به، قاله ابن فارس
(5)
.
واختلف العلماء في العنبر واللؤلؤ إذا أخرجا من البحر هل فيهما خمس أم لا؟ وكذلك المرجان ونحوه فجمهور العلماء على أنه لا شيء فيهما وأنها كسائر العروض، وبه قال أهل المدينة والكوفيون والليث والشافعي وأحمد وأبو ثور، وقال أبو يوسف: اللؤلؤ والعنبر
(1)
"السنن الكبرى" 4/ 146، وقد انقلبت العبارة هنا على المصنف رحمه الله فقول البيهقي: ورواه ابن جريج، عن عمرو بن دينار، وهو الصواب قطعًا.
(2)
"المصنف" 2/ 374 (10059، 10064، 10065).
(3)
"السنن الكبرى" 4/ 146.
(4)
"المصنف" 2/ 374 (10063).
(5)
"المجمل" 2/ 326.
وكل حلية تخرج من البحر فيه الخمس، وهو قول عمر بن عبد العزيز والحسن البصري وابن شهاب وإسحاق
(1)
.
وحكى ابن قدامة أن ظاهر قول الخرقي واختيار أبي بكر الأول، قال: وروي نحوه عن ابن عباس، قال: وبه قال عمر بن عبد العزيز وعطاء ومالك والثوري وابن أبي ليلى والحسن بن صالح وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن وأبو عبيد.
وعن أحمد رواية أخرى بالوجوب؛ لأنه خارج من معدن فأشبه الخارج من معدن البحر، قال: ويحكى عن عمر بن عبد العزيز أنه أخذ من العنبر الخمس
(2)
، وهو ما قدمناه أولا تبعًا لابن بطال
(3)
، وهو ما في "المصنف" لابن أبي شيبة حَدَّثَنَا ابن عيينة، عن معمر أن عروة بن محمد كتب إلى عمر بن عبد العزيز في عنبرة زِنتها سبعمائة رطل فقال: فيها الخمس. وحَدَّثَنَا وكيع، عن سفيان، عن ليث أن عمر بن عبد العزيز خمس العنبر
(4)
.
حجة المانع أثر ابن عباس السالف، وروى أبو بكر، عن وكيع، عن إبراهيم بن إسماعيل، عن أبي الزبير، عن جابر قال: ليس في العنبر زكاة، إنما هو غنيمة لمن أخذه
(5)
. قال ابن القصار في قول الوجوب: إنه غلط؛ لأنه عليه السلام قال: "وفي الركاز الخمس"
(6)
فدل أن
(1)
"المبسوط" 2/ 212، "المدونة" 1/ 251، "الأم" 2/ 33، "المغني" 4/ 244، وقول عمر رواه ابن أبي شيبة 2/ 374 (10062، 10063).
(2)
"المغني" 4/ 244.
(3)
"شرح ابن بطال" 3/ 550.
(4)
"المصنف" 2/ 374 (10061 - 10062).
(5)
"مصنف ابن أبي شيبة" 2/ 374 (10060)
(6)
سيأتي قريبًا برقم (1499)، ورواه مسلم (1710).
غير الركاز لا خمس فيه، والبحر لا ينطلق عليه اسم ركاز، واللؤلؤ والعنبر متولدان من حيوان البحر فأشبه السمك والصدف
(1)
.
واحتج غيره بأن الله تعالى قد فرض الزكاة فقال: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] فأخذ الشارع من بعض الأموال دون بعض، فعلمنا أن الله تعالى لم يُرد جميع الأموال، فلا سبيل إلى إيجاب زكاة إلا فيما أخذه الشارع ووقف عليه أصحابه.
وقال ابن التين: وقول ابن عباس هو قول أكثر العلماء، ثم نقل عن عمر بن عبد العزيز والحسن إيجاب الخمس فيه. وقال الأوزاعي: إن وجده على ضفة
(2)
النهر خمسه، وإن غاص عليها في مثل بحر الهند فلا شيء فيها خمس ولا نفل ولا غيره.
فائدة: روى الشيرازي في "ألقابه" من حديث حذيفة مرفوعًا: "لما أهبط آدم من الجنة بأرض الهند وعليه ذَلِكَ الورق الذي كان لباسه في الجنة يبس فتطاير فعبق منه شجر الهند فلقح، فهذا العود والصندل
(3)
والمسك والعنبر من ذَلِكَ الورق" قيل: يا رسول الله، إنما المسك من الدواب، قال: "أجل هي دابَّة تشبه الغزال رعت من ذَلِكَ الشجر فصير الله المسك في سررها، فإذا رعت الربيع جعله الله مسكًا يتساقط، وقال لي جبريل: لا يكون إلا في ثلاث كور فقط: الهند والصين وتبت " قالوا: يا رسول الله، والعنبر إنما هي دابَّة في البحر، قال: "أجل كانت هذِه الدابَّة بأرض الهند ترعى في البر يومئذ"
(1)
"شرح ابن بطال" 3/ 550.
(2)
ورد في هامش الأصل ما نصه: في "الصحاح" بالكسر: الجانب أشهر. وفي "النهاية" الفتح والكسر.
(3)
ورد في هامشج الأصل ما نصه: الصندل شجر طيب الرائحة.
وقيل: إن العنبر ينبت في البحر بمنزلة الحشيش في البر. رواه ابن رستم عن محمد بن الحسن.
وقيل: إنه شجر تتكسر فيصيبها الموج فيلقيها إلى الساحل. وقيل: إنه جُشاء دابة. وقيل: يخرج من عين.
والصواب أنه يخرج من دابَّة بحرية صرح به ابن البيطار
(1)
- ينبت في قعر البحر فتأكله بعض دوابِّه فإذا امتلأت منه قذفته رجيعًا وهو في خلقه كالعظام من الخشب، وهو دسم خوار دهني يطفو على الماء، ومنه ما لونه إلى السواد.
وقال ابن سينا
(2)
: فيما نظن نبع عين في البحر.
(1)
هو العلامة ضياء الدين عبد الله بن أحمد، الأندلس، المالقي، والبناني، ابن البيطار، مصنف كتاب "الأدوية النباتية" وما صنف في معناه مثله، كان ثقة فيما ينقله، حجة، انتهت إليه معرفة الحشائش والنبات وتحقيقه وصفته وأسمائه وأماكنه، كان لا يجارى في ذلك، وسافر إلى بلاد الأغارقة وأقصى بلاد الروم، وأخذ فن النبات عن جماعة. وكان ذكيًّا فطنًا.
توفي بدمشق سنة ست وأربعين وستمائة.
وانظر تمام ترجمته في: "سير أعلام النبلاء" 23/ 256 (168)، "تاريخ الإسلام" 47/ 311 (416)، "الوافي بالوفيات" 17/ 51 (47)"شذرات الذهب" 5/ 234.
(2)
هو العلامة الشهير الفيلسوف- أبو علي، الحسين بن عبد الله بن الحسن بن علي ابن سينا، البلخي ثم البخاري، صاحب التصانيف في الطب والفسلفة والمنطق.
صنف "الإنصاف" عشرين مجلدًا. و"البر والإثم" مجلدين، "القانون" مجلدين.
قال الذهبي: هو رأس الفلاسفة الإسلامية لم يأتي بعد الفارابي مثله، فالحمد لله على الإسلام والسنة، وله كتاب "الشفاء" وغيره، وأشياء لا تحتمل، وقد كفره الغزالي في كتاب "المنقذ من الضلال" وكفر الفارابي. اهـ من "السير" 17/ 535. توفي سنة ثمان وعشرين وأربعمائة.
انظر ترجمته في: "وفيات الأعيان" 2/ 157، "وسير أعلام النبلاء" 17/ 531 (356) و"تاريخ الإسلام" 29/ 218 (262)، و"الوافي بالوفيات" 12/ 391.
وأبعد من قال: إنه زبد البحر أو روث دابَّة. وهو أشهب وأزرق وأصفر وأسود، وفي "الحيوان" لأرسطو: الدابَّة التي تلقي العنبر من بطنها تشبه البقرة.
وجمعه عنابر على ما قال ابن جني، والعنبر
(1)
: الزعفران وقيل: الورس، قاله ابن سيده
(2)
، وفي "الجامع" أحسب النون فيه زائدة، وذكره أكثرهم في الرباعي، والعرب تقوله بالباء والميم ومن أسمائه: الذكي، كما قاله المفضل، (الإبليم)
(3)
كما ذكره العسكري في "تلخيصه".
فائدة ثانية:
اللؤلؤ أصله: مطر الربيع يقع في الصدف، فأصله ماء ولا زكاة فيه، وقيل: إن الصدف حيوان يخلق الله فيه اللؤلؤ، والدر كباره.
وأما حديث أبي هريرة فأخرجه البخاري في سبعة مواضع: هنا والبيوع والكفالة والاستقراض والملازمة والشروط والاستئذان
(4)
(1)
"سر صناعة الإعراب" 1/ 421.
وابن جني هو إمام العربية. أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي، صاحب التصانيف منها:"سر صناعة الإعراب" و"اللمع"، و"التصريف" و"الخصائص" و"المقصور والممدود". و"المحتسب في الشواذ" توفي سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة.
انظر ترجمته في: "تاريخ بغداد" 11/ 311، "معجم الأدباء" 12/ 81، "تاريخ الإسلام" 27/ 270، "سير أعلام النبلاء" 17/ 17 (9).
(2)
"المحكم" 2/ 328.
(3)
رسمت هكذا في الأصل.
(4)
سيأتي برقم (2063) كتاب: البيوع، باب: التجارة في البحر، وبرقم (2291) كتاب: الكفالة، باب: الكفالة في القرض والديون بالأبدان وغيرها، وبرقم (2404) كتاب: الاستقراض، باب: إذا أقرضه إلى أجل مسمًى .. ، وبرقم (2430) كتاب: اللقطة، باب: إذا وجد خشبة في البحر أو سوطًا، وبرقم =
وما علقه هنا وقع في بعض نسخ البخاري عقبه: حَدَّثَني بذلك عبد الله بن صالح، حَدَّثَني الليث. ذكره الحافظ المزي قال: وهو ثابت في عدة أصول من كتاب البيوع من "الجامع"، من رواية أبي الوقت، عن الداودي، عن ابن حمويه، عن الفربري عنه
(1)
. وقال الطرقي: أخرجه محمد في خمسة مواضع من الكتاب فقال: وقال الليث.
قُلْتُ: بل في سبعة كما مضى، ورواه النسائي عن علي بن محمد، عن داود بن منصور، عن الليث
(2)
، وذكر ابن أبي أحد عشر في "جمعه" أن أبا خلدة حدثه به متصلًا فساقه من حديث عمر بن الخطاب السجستاني، ثنا عبد الله بن صالح، عن الليث به.
وذكره أبو نعيم في "مستخرجه" من حديث عاصم بن علي حدثنا به الليث، ورواه الإسماعيلي من هذا الوجه أيضًا ومن حديث آدم بن أبي إياس عن الليث ثم قال: ليس في هذا الحديث الذي ذكره شيء يتصل به هذا الباب رجل أقرض قرضًا فارتجع قرضه. وأعله ابن حزم بعبد الله بن صالح وقال: إنه ضعيف جدًّا وذكره من حديث عبد الرحمن بن هرمز عن أبيه عن أبي هريرة، قال: وأخرجه البخاري منقطعًا غير متصل
(3)
هذا لفظه.
وقد أسلفت أن عاصم بن علي، وداود بن منصور، وآدم بن أبي إياس تابعوا عبد الله بن صالح، وقد روى عنه ابن معين والبخاري،
= (2734) كتاب: الشروط، باب: الشروط في القرض، وبرقم (6261) كتاب: الاستئذان، باب: بمن يبدأ في الكتاب.
(1)
"تحفة الأشراف" 10/ 156.
(2)
عزاه المزي في "تحفة الأشراف" للنسائي 10/ 156.
(3)
"المحلي" 8/ 119.
قال أبو زرعة: حسن الحديث، وسيأتي (متابع آخر له وشاهد
(1)
) وقال ابن التين: لم يسند البخاري إلى الليث، وقد أسنده عاصم بن علي، عن الليث، والبخاري حدث عن عاصم بن علي، ولعله لم يسمعه منه، أو لعله لم يتواطأ في روايته عن الليث، وإن كان قد رواه محمد بن رمح بن مهاجر أيضًا عن الليث.
وروي من طريق آخر إلى أبي هريرة ذكره محمد بن سعدون العبدري بإسناده من حديث أبي عوانة عن عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة، فذكره، وقال الداودي: مثل قول الإسماعيلي السالف: حديث الخشبة ليس من هذا الباب في شيء.
وقال أبو عبد الملك: إنما أدخله البخاري هنا لبيان أن كل ما ألقاه البحر جاز التقاطه ولا خمس فيه، كالعنبر إذا لم يعلم أنه من مال المسلمين، وأما إذا علم أنه منها فلا يجوز أخذه وإن مات أهل المركب عطشًا، أو لعله كان كاللقطة؛ لأن الرجل إنما أخذ خشبة على الإباحة لتملكها فوجد فيها المال ولو وقع هذا اليوم لكان كاللقطة؛ لأنه معلوم أن الله تعالى لا يخلق الدنانير المضروبة في الخشب، ونحا نحو ذَلِكَ ابن المنير فقال: موضع الاستشهاد إنما هو أخذ الخشبة على أنها حطب فدل على إباحة مثل ذَلِكَ مما يلفظه البحر، أما ما ينشأ فيه كالعنبر أو مما سبق فيه ملك وعطب وانقطع ملك صاحبه منه على اختلاف بين العلماء في تمليك هذا مطلقًا أو مفصلًا، وإذا جاء تمليك الخشبة وقد تقدم عليها ملك فتمليك نحو العنبر الذي لم يتقدم عليه ملك أولى
(2)
.
(1)
في (ج): منافع أخر وشواهد.
(2)
"المتواري" ص 129.
وهذا أخذه من قول المهلب، وفي أخذ الرجل الخشبة حطبًا دلالة على أن ما يوجد في البحر من متاع البحر وغيره أنه لا شيء فيه، وهو لمن وجده حتى يستحق ما ليس من متاع البحر من الأموال كالدنانير والثياب، وشبه ذَلِكَ، فإذا استحق رد إلى مستحقه وما ليس له طالب، ولم يكن له كبير قيمة، وحكم بغلبة الظن بانقطاعه كان لمن وجده ينتفع به ولا يلزمه فيه تعريف، إلا أن يوجد فيه دليل يستدل به على مالكه كاسم رجل معلوم أو علامة فيجتهد فيه الفقهاء في أمر التعريف
(1)
.
وفيه أيضًا فوائد أخر منها: أن الله تعالى يجازي أهل الإرفاق بالمال يحفظه عليهم مع الأجر المدخر لهم في الآخرة كما حفظه على المسلف حين رده الله إليه، وهذان فضلان كبيران لأهل المواساة والثقة بالله والحرص على أداء الأمانة.
ومنها: جواز ركوب البحر بأموال الناس والتجارة فيه وغير ذَلِكَ
(2)
.
(1)
"شرح ابن بطال" 3/ 551.
(2)
ورد في هامش الأصل: ثم بلغ في العشرين كتبه مؤلفه.
66 - باب فِي الرِّكَازِ الخُمُسُ
وَقَالَ مَالِكٌ وَابْنُ إِدْرِيسَ: الرِّكَازُ دِفْنُ الجَاهِلِيَّةِ، فِي قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ الخُمُسُ. وَلَيْسَ المَعْدِنُ بِرِكَازٍ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي المَعْدِنِ:"جُبَارٌ، وَفِى الرِّكَازِ الخُمُسُ". وَأَخَذَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ مِنَ المَعَادِنِ مِنْ كُلِّ مِائَتَيْنِ خَمْسَةً. وَقَالَ الحَسَنُ: مَا كَانَ مِنْ رِكَازٍ فِي أَرْضِ الحَرْبِ فَفِيهِ الخُمُسُ، وَمَا كَانَ مِنْ أَرْضِ السِّلْمِ فَفِيهِ الزَّكَاةُ، وَإِنْ وَجَدْتَ اللُّقَطَةَ فِي أَرْضِ العَدُوِّ فَعَرِّفْهَا، وَإِنْ كَانَتْ مِنَ العَدُوِّ فَفِيهَا الخُمُسُ. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: المَعْدِنُ رِكَازٌ مِثْلُ دِفْنِ الجَاهِلِيَّةِ؛ لأَنَّهُ يُقَالُ: أَرْكَزَ المَعْدِنُ. إِذَا خَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ. قِيلَ لَهُ: قَدْ يُقَالُ لِمَنْ وُهِبَ لَهُ شَيْءٌ، أَوْ رَبِحَ رِبْحًا كَثِيرًا، أَوْ كَثُرَ ثَمَرُهُ: أَرْكَزْتَ. ثُمَّ نَاقَضَ وَقَالَ: لَا بَأْسَ أَنْ يَكْتُمَهُ فَلَا يُؤَدِّيَ الخُمُسَ.
1499 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ، وَعَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"العَجْمَاءُ جُبَارٌ، وَالبِئْرُ جُبَارٌ، وَالمَعْدِنُ جُبَارٌ، وَفِي الرِّكَازِ الخُمُسُ". [2355، 6912، 6913 - مسلم: 171 - فتح: 3/ 364]
ثم ساق حديث أبي هريرة: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "العَجْمَاءُ جُبَارٌ، وَالبِئْرُ جُبَارٌ، وَالمَعْدِنُ جُبَارٌ، وَفِي الرِّكَازِ الخُمُسُ".
الشرح:
أما قول مالك فأخرجه البيهقي من حديث (ابن مسلمة)
(1)
ثنا مالك
(1)
كذا بالأصول، والصواب: ابن بكير. انظر: "السنن الكبرى" 4/ 155.
أنه سمع بعض أهل العلم يقولون في الركاز. إنما هو دفن الجاهلية ما لم يطلب بمال، ولم يتكلف فيه كبير عمل، فأما ما طلب بمال أوكلف فيه كبير عمل فأصيب مرة وأخطئ مرة فليس بركاز
(1)
، ورواه أيضًا الشافعي في القديم عن مالك.
(وابن إدريس) الظاهر أنه الإمام الشافعي المطلبي حيث قرنه بمالك، وكذا قال الحافظ المزي، ونقل ابن التين عن أبي ذر أنه يقال: ابن إدريس الشافعي، وقيل: هو عبد الله بن إدريس الأودي الكوفي، وهو أشبه.
وأما قوله: ("وَالمَعْدِنُ جُبَارٌ"). فقد أسنده آخر الباب.
وأثر عمر بن عبد العزيز أخرجه البيهقي من حديث قتادة أن عمر بن عبد العزيز جعل المعدن بمنزلة الركاز يؤخذ منه الخمس، ثم عقب بكتاب آخر فجعل فيه الزكاة، قال: وروينا عن عبد الله أبي بكر أن عمر بن عبد العزيز أخذ من المعادن من كل مائتي درهم خمسة دراهم. وعن أبي الزناد قال: جعل عمر بن عبد العزيز في المعادن أرباع العشور إلا أن تكون ركزة فإذا كانت ركزة ففيها الخمس
(2)
.
وأما أثر الحسن فأخرجه ابن أبي شيبة عن عباد بن العوام، عن هشام، عن الحسن قال: الركاز الكنز العادي وفيه الخمس
(3)
.
وحدثنا أبو معاوية عن عاصم، عن الحسن قال: إذا وجد الكنز في أرض العدو فيه الخمس، وإذا وجد في أرض العرب ففيه الزكاة
(4)
.
(1)
"السنن الكبرى" 4/ 155.
(2)
"السنن الكبرى" 4/ 152.
(3)
"المصنف" 6/ 438 (32695).
(4)
رواه ابن أبي شيبة 2/ 436 (10777)، 6/ 437 (32686).
قال ابن التين: وقول الحسن لم يتابع عليه، وقال مرة: أجمع أهل العلم على خلافه. وكذا قال ابن المنذر: لا خلاف بين العلماء أن في الركاز الخمس، ولا نعلم أحدًا خالف في ذَلِكَ إلا الحسن ففصل. قال غيره: وهو غلط؛ لأن الشارع لم يخص أرضًا دون أرض.
وقوله: (وقال بعض الناس) هو: أبو حنيفة كما صرحوا به ومنهم ابن التين، قال: وذلك؛ لأن العلة التي ذكرها البخاري هي كالعلة المروية عن أبي حنيفة، ونقل ابن بطال عن أبي حنيفة والثوري والأوزاعي أن المعدن كالركاز
(1)
، وفيه الخمس في قليله وكثيره على ظاهر قوله:"وفي الركاز الخمس" احتج أبو حنيفة بقول العرب: أركز الرجل إذا أصاب ركازًا وهو قطع من الذهب تخرج من المعادن، قاله في "العين"
(2)
، وألحق ابن سيده الفضة به
(3)
، وفي "التهذيب": قطعٌ عظامٌ كالجلاميد
(4)
.
وفي الترمذي أنه ما وُجد من دفن الجاهلية
(5)
.
وقال الزهري وأبو عبيد فيما حكاه ابن المنذر: إنه المال المدفون، وكذا المعدن وفيها الخمس. وفي "الجامع": ليس الركاز من الكنوز؛ لأن أصله ما ركز في الأرض إذا ثبت أصله، وأما المعدن فهو: شيء مركوز الأصل لا تنقطع مادته، والكنز متى استخرج انقطع؛ لأنه لا أصل له، ومن جعل الكنز ركازًا قال: هو من ركزت الرمح، سمي
(1)
ورد بهامش الأصل: وسيأتي عن علي رضي الله عنه وعن الزهري أيضًا مثل ذَلِكَ.
(2)
"شرح ابن بطال" 3/ 555 وانظر: "العين" 5/ 320.
(3)
"المحكم" 6/ 460.
(4)
"تهذيب اللغة" 2/ 1460.
(5)
"سنن الترمذي" عقب الرواية (1377).
بذلك؛ لأنه مركوز في الأرض. وأنكر بعضهم أن يكون الركاز المعدن، قال في "المحكم": المعدن منبت الجواهر
(1)
من الحديد والفضة والذهب ونحوها؛ لأن أهلها يقيمون فيه لا يبرحون عنه شتاء ولا صيفًا، ومعدن كل شيء أصله من ذلك، قال الجوهري: وهو بكسر الدال
(2)
، وقال في "المغيث": هو مركز كل شيء
(3)
.
وما ألزمه البخاري أبا حنيفة حجة قاطعة كما قال ابن بطال
(4)
؛ لأنه لا يدل اشتراك المسميات في الأسماء على اشتراكها في المعاني والأحكام، إلا أن يوجب ذَلِكَ ما يجب التسليم له، وقد أجمعوا أن من وهب له مال أو كثر ربحه أو ثمره فإنما يلزمه في ذَلِكَ الزكاة خاصة على سببها، ولا يلزمه في شيء منه الخمس، وإن كان يقال فيه: أركز. كما يلزمه في الركاز الذي هو دفن الجاهلية إذا أصابه فاختلف الحكم وإن اتفقت التسمية، ومما يدل على ذَلِكَ حديث مالك، عن ربيعة، عن غير واحد
(5)
من علمائهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقطع لبلال بن الحارث المعادن القبلية ولا يؤخذ منها إلى اليوم إلا الزكاة، فلما لم يؤخذ منها غير الزكاة في عهده وفي عصر الصحابة (دل)
(6)
على أن الذي يجب في المعادن هو الزكاة
(7)
.
(1)
"المحكم" 2/ 14.
(2)
"الصحاح" 6/ 2162.
(3)
"المجموع المغيث" 2/ 412.
(4)
"شرح ابن بطال" 3/ 555.
(5)
ورد في هامش الأصل ما نصه: بخط الشيخ في الهامش: معناه: عن ربيعة وغير واحد، كذا عنه ابن وضاح.
(6)
زيادة ليس في الأصول، والسياق يقتضيها ليستقيم المعنى.
(7)
وراه مالك ص 169، والشافعي في "الأم" 2/ 36، والبيهقي 4/ 152، وأيضًا 6/ 151.
وقول البخاري: (ثم ناقض فقال: لا بأس أن يكتمه ولا يؤدي منه الخمس). فالطحاوي حكى عن أبي حنيفة قال: من وجد ركازًا فلا بأس أن يعطي الخمس للمساكين وإن كان محتاجًا جاز له أن يأخذه لنفسه أي: متأولًا أن له حقًّا في بيت المال، وله نصيب في الفيء، فلذلك أجاز أن يأخذ الخمس لنفسه عوضًا من ذَلِكَ؛ لأن أبا حنيفة أسقط الخمس من المعدن بعد ما أوجبه فيه.
وأما حديث أبي هريرة فأخرجه مسلم والأربعة
(1)
.
والكلام عليه من أوجه:
أحدُها:
العجماء: البهيمة تنفلت من يد صاحبها وعجمها: عدم نطقها، والجبار: الهدر الذي لا شيء فيه، يريد إذا جنت لا غرامة فيه. وهو محمول على ما إذا أتلفت شيئًا بالنهار، أو انفلتت بالليل من غير تفريط من مالكها، أو أتلفت ولم يكن معها أحد، لكن الحديث محتمل لإرادة الجناية على الأبدان فقط، وهو أقرب إلى حقيقة الجرح، فإنه قد ثبت في بعض طرقه في مسلم
(2)
وفي البخاري في الديات: "المعجماء جرحها جبار"
(3)
وفي لفظ: "عقلها جبار"
(4)
وعلى كل تقدير فلم يقولوا بالعموم في إهدار كل متلف من بدن أو مال،
(1)
"صحيح مسلم"(1710) كتاب: الحدود، باب: جرح العجماء والمعدن والبئر جبار، أبو داود (4593)، "الترمذي" 642، "النسائي" 5/ 45 - 46، "ابن ماجه"(2673).
(2)
"صحيح مسلم"(1710).
(3)
ستأتي برقم (6912) باب: المعدن جبار والبئر جبار.
(4)
سيأتي برقم (6913) كتاب: الديات، باب: العجماء جبار.
والمراد بجرج العجماء إتلافها سواء كان بجرح أو بغيره. قال القاضي عياض: أجمع العلماء على أن جناية البهائم بالنهار لا ضمان فيها إذا لم يكن معها أحد، فإن كان معها راكب أو سائق أو قائد فجمهور العلماء على ضمان ما أتلفت
(1)
.
وقال داود وأهل الظاهر: لا ضمان بكل حال كان برجل أو بمقدم؛ لأن الشارع جعل جرحها جبارًا، ولم يخص حالًا من حال إلا أن يحملها الذي هو معها على ذَلِكَ أو يقصده، فتكون حينئذ كالآلة، وكذا إذا تعدى في ربطها، أو إرسالها في موضع لا يجب ربطها أو إرسالها فيه، وأما من لم يقصد إلى ذَلِكَ فلا يضمن إلا الفاعل المقاصد.
قال أصحابنا: وسواء كان إتلافها بيدها أو رجلها أو فمها ونحوه فإنه يجب ضمانه في مال الذي هو معها، سواء كان مالكها أو مستأجرًا أو مستعيرًا أو غاصبًا أو مودعًا أو وكيلًا أو غيره، إلا أن تتلف آدميًّا فتجب ديته على عاقلة الذي معها، والكفارة في ماله.
وقال مالك والليث والأوزاعي: لا ضمان فيما إذا أصابت بيدها أو رجلها، ونقل ابن بزيزة عن أبي حنيفة أنه لا ضمان فيما لفحت برجلها دون يدها لإمكان التحفظ من اليد دون الرجل.
قال: وتحصيل مذهب مالك أنه لا ضمان على راكبها ولا على سائسها إلا أن تؤثر أثرًا، أو يفعل بها فعلًا غير معتاد، أو يوقفها في موضع لم تجر العادة بإيقافها فيه، فهو حينئذ ضامن، أما إذا أتلفت بالنهار، وكانت معروفة بالإفساد، ولم يكن معها أحد فإن مالكها
(1)
"إكمال المعلم" 5/ 553.
يضمن؛ لأن عليه ربطها والحالة هذِه، وأما جنايتها بالليل فقال مالك: يضمن صاحبها ما أتلفته، وقال الشافعي وأصحابه: إن فرط في حفظها ضمن وإلا فلا. وقال أبو حنيفة: لا ضمان فيما رعته نهارًا.
وقال الليث وسحنون: يضمن. وقد ورد حديث مرفوع في إتلافها بالليل دون النهار في المزارع وأنه يضمن -كما قاله مالك- أخرجه أبو داود والنسائي من حديث حرام بن محيصة عن البراء
(1)
، ومن حديث حرام عن أبيه أن ناقة للبراء
(2)
. وصحح ابن حبان الثاني
(3)
والحاكم الأول وقال: صحيح الإسناد
(4)
.
ثانيها:
البئر مؤنثة مشتقة من بارت إذا حفرت، والمراد هنا: ما يحفره الإنسان حيث يجوز له، فما هلك فيها فهو هدر، وكذا إذا حفر بئرًا فانهارت على الحافر أيضًا، وأَبْعَدَ من قال: المراد بالبئر هنا البئر القديمة.
ثالثها:
المعدِن بكسر الدال: ما عدن فيه شيء من جواهر الأرض، سمي معدنًا لعدون ما أثبته الله فيه لإقامته وإقامة الناس فيه، أو لطول بقائه في الأرض
(5)
، ومعنى كونه جبارًا: أن من حفره في ملكه أو موات
(1)
"سنن أبي داود"(3570)، "السنن الكبرى" 3/ 411 - 412 (5785).
(2)
رواه أبو داود (3569)، والنسائي في "الكبرى" 3/ 411 (5784).
(3)
"صحيح ابن حبان" 13/ 354 - 355 (6008).
(4)
"المستدرك" 2/ 47 - 48، والحديث صححه الألباني في "الإرواء"(1527) وانظر "الصحيحة"(238).
(5)
انظر: "الصحاح" 6/ 2162، "لسان العرب" 5/ 2843 - 2844.
ومرّ به مارٌ أو استأجر أجيرًا يعمل فيه فوقع عليه فمات فلا شيء عليه، وسيأتي تكملة لما نحن فيه في كتاب الديات إن شاء الله وقدره.
رابعها:
الركاز بكسر الراء: المركوز أي: النابت أو المختفي، ومنه:{أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} [مريم: 89] وهو في الشرع: الموجود الجاهلي عند جمهور العلماء، وقد سلف بسطه قريبًا، ومنهم مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور، والحديث قال على المغايرة بينه وبين المعدن، وهو مذهب أهل الحجاز، ومذهب أهل العراق أنه المعدن كما سلف، والحديث يرد عليهم وفيه وجوب الخمس، وبه قال جميع العلماء، ولا أعلم أحدًا خالف فيه إلا الحسن، فإنه فصل كما سلف، ويصرف عندنا مصرف الزكاة لا لأهل الخمس على المشهور، وفاقًا لمالك، وخلافًا لأبي حنيفة.
وفيه: أن الركاز لا يختص بالذهب والفضة لعمومه، وهو أحد قولي الشافعي، ونقله ابن المنذر عن جمهور العلماء، قال: وبه أقول، وأصحهما عنده اختصاصه بالنقد كالمعدن.
وفيه: أنه لا فرق بين قليله وكثيره في وجوب الخمس لعموم الحديث، وهو أحد قوليه.
قال ابن المنذر: وبه قال جل أهل العلم، وهو أولى، وأصحهما عنده اختصاصه بالنصاب، ونقل عن مالك وأحمد وداود وإسحاق، والأصح عند المالكية الأول، ونقل ابن التين عن ابن الجلاب أنه حكى فيه رواية بوجوب الخمس فيه وأخرى بمقابله قال: ويشبه أن يكون حد القليل ما دون النصاب، والكثير النصاب فما فوقه.
وفيه: عدم اعتبار الحول في إخراج زكاته، وهو إجماع بخلاف المعدن -على رأي- للمشقة فيه.
وفيه: إطلاق اعتبار الخمس فيه من غير اعتبار الأراضي، لكن الفقهاء فصلوا فيه كما أوضحته في "شرح العمدة" فراجعه منه
(1)
.
تنبيهات:
أحدها: قسم بعض الحنفية المعدن ثلاثة أقسام: بما يدرك بالنار ولا ينقطع، كالنورة والكحل والفيروز ونحوها، ومما يدرك بالنار وينطبع كالذهب والفضة والحديد والرصاص والنحاس، وما يكون مائعًا كالقار والنفط والملح المائي ونحوها، والوجوب يختص بالنوع الثاني دون الآخرين عند الحنفية وأوجبه أحمد في الجميع، ومالك والشافعي في الذهب والفضة خاصة
(2)
.
ثانيها: أوجب الشافعي وأحمد في المعدن ربع العشر، وفي الركاز الخمس، وقال مالك في البدرة تصاب بغير كبير تعب: يجب فيها الخمس، وإن لحقته كلفة ففيه ربع العشر، وفي الكنز الخمس
(3)
.
وفي كتاب "الأموال" لابن زنجويه: عن علي أنه جعل المعدن ركازًا، وأوجب فيه الخمس
(4)
، ومثله عن الزهري
(5)
، وقد سلف حديث مالك عن ربيعة، قال ابن عبد البر: وهو عند سائر الرواة مرسل، وقد أسنده البزار من حديث الحارث بن بلال بن الحارث،
(1)
راجع "الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 5/ 60 - 70.
(2)
"المبسوط" 2/ 211، "عيون المجالس" 2/ 548، "الأم" 2/ 36، "المغني" 4/ 244.
(3)
"المدونة" 2/ 247، "الأم" 2/ 37، "المغني" 4/ 232، 239.
(4)
"الأموال" 2/ 743.
(5)
المصدر السابق 2/ 745.
عن أبيه
(1)
، ورواه أبو سبرة المدني، عن مطرف، عن مالك، عن محمد بن علقمة، عن أبيه عن بلال مثله
(2)
، ولم يتابع أبو سبرة عليه، ورواه كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف، عن أبيه عن جده مرفوعًا، وهذا في أبي داود
(3)
وكثير مجمع على ضعفه، وإسناد ربيعة فيه صالح حسن
(4)
.
قُلْتُ: وأخرجه الحاكم من حديث بلال، عن أبيه، ثم قال: صحيح الإسناد، ولعله علم حال الحارث
(5)
.
ثالثها: قال ابن حزم: كل من عدا عليه حيوان من بعير أو فرس أو بغل وشبهها، فلم يقدر على دفعه عن نفسه إلا بقتله فقتله، فلا ضمان عليه فيه، وهو قول مالك والشافعي وداود وقال الحنفيون: يضمن؛ واحتجوا بحديث: "العجماء جرحها جبار"، وبخبر رويناه عن عبد الكريم: أن إنسانًا عدا عليه فحل ليقتله فضربه بالسيف فقتله، فأغرمه أبو بكر الصديق إياه وقال: هو بهيمة لا يعقل وعن علي نحوه، ومن طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن همام، عن أبي هريرة قال: من أصاب العجماء غرم
(6)
. ومن طريق الثوري عن الأسود بن قيس عن أشياخ لهم أن غلامًا لهم دخل دار زيد بن صوحان فضربته ناقة لزيد فقتلته، فعمد أولياء الغلام المقتول فقتلوها فأبطل عمر دم الغلام، وأغرم والد الغلام ثمن الناقة، وعن شريح مثله، قال: وحديث العجماء في غاية الصحة وبه نقول، ولا حجة لهم فيه؛ لأنه
(1)
"مسند البزار" 8/ 322 (3395).
(2)
"الموطأ" ص 169 - 170.
(3)
أبو داود (3062). والحديث صححه الألباني في "صحيح أبي داود"(2692).
(4)
"التمهيد" 3/ 236 - 238.
(5)
"المستدرك" 1/ 404.
(6)
"مصنف عبد الرزاق" 10/ 67 (18378).
ليس فيه غير أن ما جرحته العجماء لا يغرم، وليس فيه غيره، وهو حجة عليهم في تضمينهم السائق والراكب والقائد ما أصابت العجماء مما لم يحملها عليه، وأما الرواية عن أبي بكر وعلي فمنقطعة
(1)
.
رابعها: قال ابن حبيب: الركاز: دفن الجاهلية خاصة، والكنز: دفن الإسلام، فدفن الإسلام فيه التعريف، ودفن الجاهلية فيه الخمس، وما فيه لمن وجده مطلقًا، وجده في أرض العرب أو غيرها، أو صلح، قاله جماعة من أصحاب مالك، ورواه ابن وهب عن علي وعمر بن عبد العزيز ومكحول والليث.
قال: وهو قول أبي حنيفة والشافعي، وعن مالك أنه فرق بين أرض العنوة والصلح في ذَلِكَ فقال: من أصابه في الأول فليس لمن وجده، وفيه الخمس وأربعة أخماسه لمن افتتحها، ولورثتهم بعدهم ويتصدق به عنهم إن لم يعرفوا، وقد رد عمر السفطين الذين وجدوا بعد الفتح، وسكنى البلاد، ومن أصابه في الثاني فهو كله لهم، لا خمس فيه، إذا عرف أنه من أموالهم، وإن عرف أنه ليس من أموال أهل تلك الذمة، ولم يرثه عنهم أهل هذِه الذمة فهو لمن وجده، وكذلك إن وجد رجل في دار صلح ممن صالح عليها فهو لرب الدار لا شيء فيه؛ لأن من تملك شيئًا من أرض الصلح ملك ما تحتها.
وقال سحنون: وإن لم يعرف عنوة أو صلحًا فهو لمن أصابه بعد أن يخمسه.
قال الأبهري: إنما جعل في الركاز الخمس؛ لأنه مال كافر لم يملكه مسلم فأنزل واجده بمنزلة القائم من مال الكافر، وكان له أربعة أخماسه.
(1)
"المحلي" 8/ 145 بتصرف.
وقال الطحاوي: لا فرق بين أرض العنوة والصلح؛ لأن الغانمين لم يملكوا الركاز، كأن من ملك أرض العرب لا يملك ما فيها من الركاز، وهو للواجد دون المالك بإجماع
(1)
، فوجب رد ما اختلفوا فيه من أرض الصلح إلى ما أجمعوا عليه من أرض العرب، واختلف قول مالك فيما وجد من دفنهم سوى العين من جوهر وحديد ونحاس ومسك وغيره، قال: ليس بركاز، ثم رجع فقال: له حكمه وأخذ ابن القاسم بالأول، وهو أبين كما قاله ابن أبي زيد؛ لأنه لا خمس فيما أوجب عليه، وإنما أخذ من الذهب والفضة؛ لأنه الركاز نفسه الذي جاء فيه النص.
وقال مطرف وغيره: إنه ركاز إلا النحاس والرصاص ومن جعل ذَلِكَ كله ركازًا شبَّهه بالغنيمة يؤخذ منها الخمس، سواء كانت عينًا أو عرضًا، ونقل ابن التين القولين عن مالك، ثم قال: واختار أبو محمد عدم تخميسه، وقال القاضي أبو محمد: الصحيح أنه يخمس.
واختلفوا في من وجد ركازًا في منزل اشتراه، فروي عن علي بن زياد، عن مالك أنه لرب الدار دون من أصابه، وفيه الخمس. وهو قول أبي حنيفة ومحمد، وقال ابن نافع: هو لمن وجده دون صاحب المنزل. وهو قول الثوري وأبي يوسف، قال مالك: لما كان ما يخرج من المعدن يعتمل وينبت كالزرع كان مثله في تعجيل زكاته يوم حصاده، ولا يسقط الدين زكاة المعدن كالزرع، وما كان في المعدن من الندرة تؤخذ بغير تعب ولا عمل فهو ركاز، وفيه الخمس.
ونقل ابن بطال عن الشافعي أنه اختلف قوله في الندرة توجد فيه فمرة قال: فيها الخمس كقول مالك، ومرة قال: فيها الزكاة ربع العشر على
(1)
"مختصر اختلاف العلماء" 1/ 460.
كل حال
(1)
، وهل يصرف هذا الخمس مصرفه أو مصرف الزكاة؟ قال ابن القصار بالثاني كالعشر ونصف العشر، قال عبد الحق: والمذهب خلافه.
قال ابن حبيب: والشركاء في المعدن كالواحد، والعبد كالحر، والذمي كالمسلم، والمديان كمن لا دين عليه. وقال المغيرة وسحنون: فيه الزكاة كسائر الزكاوات، ولا زكاة على أحد ممن ذكر.
(1)
"شرح ابن بطال" 3/ 555.
67 - باب قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَالعَامِلِينَ عَلَيْهَا} [التوبة: 60] وَمُحَاسَبَةِ المُصَدِّقِينَ مَعَ الإِمَامِ
.
1500 -
حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ رضي الله عنه قَالَ: اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا مِنَ الأَسْدِ عَلَى صَدَقَاتِ بَنِي سُلَيْمٍ يُدْعَى: ابْنَ اللُّتْبِيَّةِ، فَلَمَّا جَاءَ حَاسَبَهُ. [انظر: 925 - مسلم: 1832 - فتح: 3/ 365]
ذكر فيه حديث أبي حميد الساعدي: اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا مِنَ الأَزد عَلَى صَدَقَاتِ بَنِي سُلَيْمِ يُدْعَى: ابن اللُّتْبِيَّةِ، فَلَمَّا جَاءَ حَاسَبَهُ.
هذا الحديث سلف طرف منه في الجمعة في باب: أما بعد
(1)
، وإن البخاري كرره في مواضع
(2)
.
وابن اللُّتْبِيَّة
(3)
بضم اللام ويقال فيه: ابن الأتبية أيضًا واسمه فيما ذكره أبو منصور الباوردي في كتابه: عبد الله. وقال ابن دريد: بنو لُتب بطن من الأزد اللتب: الاشتداد وهو اللصوق أيضًا.
فإذا تقرر ذَلِكَ: فالعلماء متفقون على أن العامل عليها: هم السعاة
(1)
برقم (925).
(2)
سيأتي برقم (2597) كتاب: الهبة، باب: من لم يقبل الهدية لعلة، وبرقم (6636) كتاب: الأيمان والنذور، باب: كيف كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم، وبرقم (6979) كتاب: الحيل باب: احتيال العامل ليهدى له.
(3)
في هامش الأصل ما نصه: اللتْبيَّة بضم اللام وإسكان المثناة فوق. ويقال فيه: بفتح المثناة المذكورة، ويقال: ابن الأتبية بالهمز. وإسكان المثناة فوق، قال الشيخ محيي الدين في "التهذيب" وليسا بصحيحين، والصواب ما قدمته يعني به الضبط الأول، وكذلك يشعر كلام صاحب "المطالع". قال في "المطالع": واسمه عبد الله، وقال الذهبي في "التجريد": اسمه عبد الله.
المتولون لقبض الصدقة، وأنهم لا يستحقون على قبضها جزاءً منها معلومًا سُبعا أو ثُمنا، وإنما له أجرة عمله على حسب اجتهاد الإمام.
ودلت الآية على أن لمن شغل بشيء من أعمال المسلمين أخذ الرزق على عمله ذَلِكَ كالولاة والقضاة وشبههم، وسيأتي قول من كره ذَلِكَ من السلف في باب: رزق الحكام
(1)
إن شاء الله تعالى.
وفيه من الفقه: جواز محاسبة المؤتمن، وأن المحاسبة تصحح أمانته، وهو أصل فعل عمر في مقاسمة العمال، وإنما فعل ذَلِكَ لما رأى ما قالوه من كثرة الأرباح، وعلم أن ذَلِكَ من أجل سلطانهم، وسلطانهم إنما كان بالمسلمين، فرأى مقاسمة أموالهم نظرًا لهم واقتداء بقوله عليه السلام:"أولا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وأُمَّهِ، فَيرى أيُهْدى لَهُ شيءٌ أَمْ لَا؟! "
(2)
.
ومعناه أنه لولا الإمارة لم يهد إليه شيء، وهذا اجتهاد من عمر، وإنما أخذ منهم ما أخذ لبيت مال المسلمين لا لنفسه.
وفيه أيضًا: أن العالم إذا رأى متاولًا أخطأ في تأويله خطأً يعم الناس ضرره، أن يعلم الناس كافة بموضع خطئه، ويعرفهم بالحجة القاطعة لتأويله، كما فعل الشارع بابن اللتبية في خطبته للناس كما أسلفناه في الجمعة. وتوبيخ المخطئ وتقديم (الأدون)
(3)
إلى الإمارة والأمانة والعمل، وثمَّ من هو أعلى منه وأفقر؛ لأنه عليه السلام قدم ابن اللتبية، وثم من صحابته من هو أفضل منه.
(1)
برقم (7163 - 7164) كتاب: الأحكام.
(2)
سيأتي برقم (2597) من حديث أبي حميد الساعدي.
(3)
في الأصل: الأدنونت. والمثبت من (ج).
68 - باب اسْتِعْمَالِ إِبِلِ الصَّدَقَةِ وَأَلْبَانِهَا لأَبْنَاءِ السَّبِيلِ
1501 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ شُعْبَةَ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ نَاسًا مِنْ عُرَيْنَةَ اجْتَوَوُا المَدِينَةَ، فَرَخَّصَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَأْتُوا إِبِلَ الصَّدَقَةِ فَيَشْرَبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا، فَقَتَلُوا الرَّاعِيَ وَاسْتَاقُوا الذَّوْدَ، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأُتِيَ بِهِمْ، فَقَطَّعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَسَمَرَ أَعْيُنَهُمْ، وَتَرَكَهُمْ بِالحَرَّةِ يَعَضُّونَ الحِجَارَةَ. تَابَعَهُ أَبُو قِلَابَةَ وَحُمَيْدٌ وَثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ. [انظر: 233 - فتح: 3/ 366]
ذكر حديث أنس في العُرنيين، ثم قال: تَابَعَهُ أَبُو قِلَابَةَ وَثَابِتٌ وَحُمَيْدٌ، عَنْ أَنَسٍ.
وقد سلف في الطهارة في باب أبوال الإبل
(1)
.
وغرضه هنا -والله أعلم- إثباته وضع الصدقات في صنف واحد ممن ذكر في آية الصدقة، وقد سلف ما فيه.
قال ابن بطال: والحجة في هذا الحديث قاطعة؛ لأنه عليه السلام أفرد أبناء السبيل بالانتفاع بإبل الصدقة وألبانها دون غيرهم
(2)
.
قُلْتُ: جواب هذا أن للإمام أن يعطي زكاة واحد لواحد إذا رآه -كما أسلفته هناك- وأباحها لهم؛ لأنهم أبناء سبيل.
وكره العرنيون المدينة لما أصابهم من الداء في أجوافهم.
وفيه: إقامة الحد في حرم المدينة كما قال ابن التين، قال: وقوله: (يعضون الحجارة). هو بالفتح -يعني: بفتح العين- لأن أصله عضِض مثل مس يمس قال: وفيه لغة بضم العين، والقرآن مثل الأول:{وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} [الفرقان: 27].
(1)
برقم (233) كتاب: الوضوء.
(2)
"شرح ابن بطال" 3/ 558.
69 - باب وَسْمِ الإِمَامِ إِبِلَ الصَّدَقَةِ بِيَدِهِ
1502 -
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ المُنْذِرِ، حَدَّثَنَا الوَلِيدُ، حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرٍو الأَوْزَاعِيُّ، حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: غَدَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِعَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ لِيُحَنِّكَهُ، فَوَافَيْتُهُ فِي يَدِهِ المِيسَمُ يَسِمُ إِبِلَ الصَّدَقَةِ. [5470، 5542، 5824 - مَسلم 2119 (112) - فتح: 3/ 366]
ذكر فيه حديث أنس: غَدَوْتُ إِلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم بِعَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ ليُحَنِّكَهُ
(1)
، فَوَافَيْتُهُ فِي يَدِهِ المِيسَمُ يَسِمُ إبلَ الصَّدَقَةِ.
الشرح:
هذا الحديث سلف قطعة منه في الجنائز لما توفي أبو عمير بن أبي طلحة في باب: من لم يظهر حزنه عند المصيبة
(2)
وفي لفظ: فإذا هو في مربد الغنم يسمها
(3)
قال شعبة: وأكثر علمي أنه قال: "في آذانها"، وأخرجه مسلم أيضًا في اللباس
(4)
، وفي رواية لأحمد وابن ماجه:"يسم غنمًا في آذانها"
(5)
.
والميسم مفعل بكسر الميم وفتح السين المهملة: الآلة، والاسم منه: الوسم؛ لأن ياءه واو إلا أنها لما سكنت وكسر ما قبلها قلبت ياء. قال عياض: كذا ضبطناه بالمهملة، وقال بعضهم: بالمعجمة
(1)
ورد بهامش الأصل ما نصه: يقال بتشديد النون وتخفيفها حكاهما الهروي. قاله في "المطالع".
(2)
سلف برقم (1301).
(3)
رواه مسلم (2119) كتاب: اللباس والزينة، باب: جواز وسم الحيوان غير الآدمي في غير الوجه
…
(4)
"صحيح مسلم"(2119).
(5)
"سنن ابن ماجه"(3565)، و"مسند أحمد" 3/ 169، 171، 259.
أيضًا، وبعضهم فرق فقال: بالمهملة في الوجه، وبالمعجمة في سائر الجسد
(1)
، وفي "الجامع": الميسم: الحديدة التي يوسم بها، والجمع: مواسم.
وأما أحكامه وفوائده:
ففيه: أنه صلى الله عليه وسلم كان يحنك أولاد الأنصار بتمرة يمضغها فيجعلها في حنك الطفل يمصها؛ فيكون أول ما يدخل جوفه ريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتمر.
والصبي: محنك ومحنوك أيضًا، وعبد الله هذا حملت به أمه في ليلة موت أخيه كما سلف هناك.
وفيه: وسم إبل الصدقة، وكذا الجزية، وهو ما عقد له الباب، وفعله الصحابة والتابعون أيضًا والحكمة فيه تمييزها من المِلك وليردها من أخذها ولا يلتقطها، وليعرفها متصدقها فلا يشتريها بعد؛ لئلا يكون عائدًا في صدقته، والغنم ملحق بها كما سلف وكذا البقر.
ولا يسم في الوجه فملعون فاعله، كما أخرجه مسلم من حديث جابر
(2)
. ويسم من البغال والحمير جاعرتيها ومن الغنم آذانها، ووسم عمر بن عبد العزيز الخيل التي حمل عليها في سبيل الله في أفخاذها
(3)
وروي أنه عليه السلام أمر بوسم الإبل في أفخاذها، في إسناده نظر
(4)
.
أما وسم الآدمي فحرام.
(1)
"إكمال المعلم" 6/ 645.
(2)
مسلم (2116 - 2117).
(3)
رواه عنه سعيد بن منصور في "سننه" 2/ 170 (2447)، وبنحوه البيهقي 7/ 36.
(4)
رواه ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" 2/ 455 (1256)، وابن قانع في "المعجم" 1/ 155، والطبراني 2/ 283 (2179)، والدارقطني في "المؤتلف =
ْوفيه: أن النهي عن المثلة وتعذيب الحيوان مخصوص بهذا، وهذا ألم لا يجحف به.
وفيه: أن للإمام أن يتناول ذَلِكَ بنفسه.
وفيه: أن للإمام أن يتخذ ميسمًا لخيله ولخيل السبيل، وليس للناس أن يتخذوا مثل خاتمه وميسمه لينفرد السلطان بعلامة لا يشارك فيها، قاله المهلب.
وفيه: قصد الطفل أهل الخير والصلاح للتحنيك والدعاء بالبركة، وتلك كانت عادة الناس بأبنائهم في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم تبركًا بريقه ودعوته ويده.
فرع:
يستحب أن يكتب في ماشية الزكاة زكاة أو صدقة بإجماع الصحابة، كما نقله ابن الصباغ.
خاتمة:
انفرد أبو حنيفة فقال: إن الوسم مكروه؛ لأنه تعذيب ومثلة، وقد نهي عن ذَلِكَ، حجة الجمهور هذا الحديث، وغيره من الأحاديث، وأن الشارع باشر فعله.
= والمختلف" 4/ 1874 - 1875، وأبو نعيم في "المعرفة" 2/ 615 (1666) والبيهقي 7/ 36.
قال الحافظ في "الإصابة" 1/ 246 قال ابن السكن: لا أعلم له رواية غيره وإسناده غير معروف وقال الهيثمي في "المجمع" 8/ 109: رواه الطبراني، وفيه من لم أعرفهم.
بسم الله الرحمن الرحيم
70 - باب:
(1)
فَرْضِ صَدَقَةِ الفِطْرِ
وَرَأَى أَبُو العَالِيَةِ وَعَطَاءٌ وَابْنُ سِيرِينَ صَدَقَةَ الفِطْرِ فَرِيضَةً.
1503 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ السَّكَنِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَهْضَمٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ نَافِعٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: فَرَضَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى العَبْدِ وَالحُرِّ، وَالذَّكَرِ وَالأُنْثَى، وَالصَّغِيرِ وَالكَبِيرِ مِنَ المُسْلِمِينَ، وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلَاةِ. [1504، 1507، 1509، 1511، 1512 - مسلم: 984، 986 - فتح: 3/ 367]
ثم ذكر حديث عُمَرَ بْنِ نَافِعٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابن عُمَرَ قال: فَرَضَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى العَبْدِ وَالحُرِّ، وَالذَّكَرِ وَالأُنْثَى، وَالصَّغِيرِ وَالكَبِيرِ مِنَ المُسْلِمِينَ، وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إلى الصَّلَاةِ.
الشرح:
أما أثر أبي العالية وابن سيرين فأخرجهما ابن أبي شيبة من حديث وكيع، عن سفيان، عن عاصم، عن أبي العالية- يعني: رفيعا وابن سيرين أنهما قالا: صدقة الفطر فريضة
(2)
.
وأما أثر عطاء فحكاه البيهقي
(3)
، وحكاه ابن حزم عن أبي قلابة
(4)
، وبه قال جمهور العلماء، وحكى فيه ابن المنذر وغيره الإجماع
(5)
عملًا
(1)
ليست في الأصول.
(2)
"المصنف" 2/ 435 (10757).
(3)
"السنن الكبرى" 4/ 159.
(4)
"المحلى" 6/ 119.
(5)
"الإجماع" ص 55.
بقول الراوي: (فرض)، (أمر) ثم لم ينه عنه، فبقي فرضًا لازمًا وفي "صحيح الحاكم" وصحح إسناده من حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر صارخًا ببطن مكة ينادي:"إن صدقة الفطر حق واجب على كل مسلم"
(1)
.
وفي الدارقطني من حديث علي: "هي على كل مسلم"
(2)
وهو الصحيح عندنا والمشهور عند المالكية. وحكى أصحاب داود خلافًا فيها.
وحديث قيس بن عبادة: كنا نصوم عاشوراء ونؤدي زكاة الفطر، فلما نزل رمضان ونزلت الزكاة لم نؤمر به، ولم ننه عنه، ونحن نفعله، رواه أبو داود والحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين
(3)
.
لا يدل على سقوط فرضها؛ لأن نزول فرض لا يوجب سقوط آخر لا يقال: على
(4)
بمعنى (عن)؛ لأن الموجب عليه غير الموجب عنه.
وسماها أبو حنيفة واجبة على قاعدته في الفرق بين الواجب والفرض، قيل: وخالف أصله فجعل زكاة الخيل فريضة، والتجارة فريضة، والخلاف فيه أظهر من هذا، فالإجماع إذن على وجوبها، وإن اختلفوا في تسميتها، وأغرب من قال بأنها نسخت بالزكاة، قاله
(1)
"المستدرك" 1/ 410.
(2)
"سنن الدارقطني" 2/ 138.
(3)
قلت: بل رواه النسائي 5/ 49، وابن ماجه (1828)، والحاكم 1/ 410، من حديث قيس بن سعد بن عبادة.
وصححه ابن خزيمة (2394)، وقال الحافظ في "الفتح" 3/ 267: إسناده صحيح رجاله رجال الصحيح، إلا أبا عمار الراوي له عن قيس بن سعد، وقد وثقه وابن معين.
(4)
في هامش الأصل: يعني في الحديث الذي ساقه البخاري.
بعض أهل العراق، وتأول قول الراوي:(فرض) أي: قدر كما في قوله: {فَرِيضَةً مِنَ اللهِ} [التوبة: 60] بعد آيات الصدقات، وجعلها مالك وغيره داخلة في آية الزكاة، ومن جعلها خارجة عنها يرده قوله:"أمرت أن آخذ صدقة الفطر من أغنيائكم" فصدقة الفطر تجب على غير الأغنياء، والإجماع قائم على لزومها عن الزوجة والخادم وولده الفقراء، ولا زكاة عليهم، فكأنها خارجة عن ذَلِكَ، وعند أبي حنيفة: لا تسمى زكاة، والحديث يرده.
واختلف العلماء في وجوبها على الفقير، ومشهور مذهب مالك وجوبها على من عنده قوت يومه معها. وقيل: على من لا تجحف به.
وقيل: إنما تجب على من لا يحل له أخذها وقيل: آخذ الزكاة قال ابن وهب: ومن وجد من يسلفه فليستسلف، وخالفه ابن حبيب، وعن مالك: إذا أدى الفقير زكاة الفطر فلا أرى أن يأخذ منها، ثم رجع فأجازه عند الحاجة
(1)
.
وقال الشافعي: إذا فضل عن قوته وقوت ممونه مقدار زكاة الفطر، وهو قول أحمد، وقال أبو حنيفة وأصحابه: ليس على من يحل له أخذها حتَّى يملك مائتي درهم
(2)
، واحتج بقوله عليه السلام:"أمرتُ أنْ آخذَ الصَّدقةَ مِنْ أغنيائكُم، وأردّها في فقرائِكُم" وهذا فقير، فوجب صرفها إليه، ولا تؤخذ منه، وقال:"خيرُ الصَّدقةِ ما كانَ عن ظهرِ غِنى"
(3)
، فنفاها عن الفقير، حجة الأول: إطلاق الأحاديث ولم يخص من له نصاب،
(1)
"المدونة" 2/ 289، "النوادر والزيادات" 2/ 203 - 204، "عيون المجالس" 2/ 568
(2)
"المبسوط" 3/ 102، "الأم" 2/ 54، "المغني" 4/ 307.
(3)
سلف من حديث حكيم بن حزام برقم (1427) باب: لا صدقة إلا عن ظهر غنى.
وقال: "أغنُوهم عن طوافِ هذا اليوم"
(1)
والمخاطب غني بفوت يومه، ولم يفرق بين أن يكون المأمور غنيًا أو فقيرًا، وأيضًا فإن زكاة الفطر حق في المال لا يزداد بزيادة المال، ولا يفتقر إلى نصاب أصله الكفارة، وفي "فضائل رمضان" لابن شاهين، وقال: غريب جيد الإسناد من حديث جرير مرفوعًا: "شهر رمضان معلق بين السماء والأرض فلا يرفع إلى الله عز وجل إلا بزكاة الفطر"
(2)
، وروينا عن وكيع بن الجراح: صدقة الفطر لرمضان كسجدتي السهو للصلاة لجبر النقصان.
(1)
رواه الدارقطني 2/ 153، والبيهقي 4/ 175 من طريق أبي معشر عن نافع عن ابن عمر.
وأشار البيهقي إلى تضعيفه بأبي معشر وضعفه ابن حزم في "المحلى" 6/ 121، والنووي في "المجموع" 6/ 85، والمصنف في "البدر المنير" 5/ 620 - 621، والحافظ في "الفتح" 3/ 375، وفي "بلوغ المرام"(648)، والألباني في "الإرواء"(844).
(2)
قلت: كذا عزاه المنذري في "الترغيب والترهيب" 2/ 97 (1653) ويبدو -والله أعلم- أن المصنف قد تبعه في هذا العزو، قال العلامة الألباني رحمه الله: في ثبوت هذا النص في كتاب ابن شاهين المذكور نظر؛ فإني قد راجعت "فضائل رمضان" له في نسخة خطية جيدة في المكتبة الظاهرية بدمشق فلم أجد الحديث فيه مطلقًا.
ثم عزا الحديث إلى أحمد بن عيس المقدسي في "فضائل جرير" ونقل عنه أنه قال: رواه أبو حفص بن شاهين. فلعل ابن شاهين ذكر ذلك في غير "فضائل رمضان" أو في نسخة أخرى منه، فيها زيادات على التي وقفت عليها. اهـ "الضعيفة" 1/ 117 - 118.
قلت: لعله في "الترغيب والترهيب" لابن شاهين؛ هذا عزاه السيوطي في "الجامع الصغير"(4925)، والهندي في "كنز العمال " 8/ 466 (23687)، 8/ 551 (24124)، والحديث رواه ابن الجوزي في "العلل المتناهية" 2/ 8 (824) وقال: حديث لا يصح. وضعفه الألباني في "الضعيفة"(43).
فائدة:
المشهور أنها فرضت في السنة الثانية من الهجرة عام فرض رمضان، وهل وجبت لعموم آي الزكاة أم لغيرها؟ وذلك الغير هل هو الكتاب، وهو قوله تعالى:{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14)} [الأعلى: 14] أو السنة؟ فيه خلاف لأصحابنا، حكاه الماوردي
(1)
.
وأما حديث ابن عمر فأخرجه البخاري هنا، وترجم عليه بعده باب: صدقة الفطر على العبد وغيره من المسلمين
(2)
.
ثم ساقه من حديث مالك، عن نافع، عن ابن عمر به، وترجم عليه بعدُ باب: صدقة الفطر صاعًا من تمر، ثم ساقه من حديث الليث، عن نافع عنه: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بزكاة الفطر صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير قال عبد الله: فجعل الناس عدله مدَّين من حنطة
(3)
ثم ترجم عليه بعدُ بابُ: الصدقة قبل العيد، ثم ساقه من حديث موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بزكاة الفطر قبل خروج الناس إلى الصلاة
(4)
.
ثم ترجم عليه بعدُ باب: صدقة الفطر على الحر والمملوك من حديث حماد بن زيد عن أيوب عن نافع عنه
(5)
.
ثم ترجم عليه بعدُ باب: صدقة الفطر على الصغير والكبير، ثم ساقه من حديث يحيى، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر
(6)
، وهو حديث
(1)
"الحاوي" 3/ 348.
(2)
سيأتي برقم (1504).
(3)
سيأتي برقم (1507).
(4)
سيأتي برقم (1509).
(5)
سيأتي برقم (1509).
(6)
سيأتي برقم (1512).
صحيح أخرجه مسلم والأربعة
(1)
، وأخرجه البيهقي من حديث مسدد عن يحيى، وقال: عن الصغير والكبير قال: وكذا قاله عباس النرسي، عن يحيى
(2)
. ولم ينفرد مالك بقوله في الحديث: "من المسلمين" كما قاله أبو قلابة عبد الملك بن محمد، والترمذي وغيرهما
(3)
بل تابعه عليها جماعات بعضها في البخاري وبعضها في مسلم وبعضها في غيرهما.
وقد أوضحت الكل في تخريجي لأحاديث الرافعي
(4)
و"المقنع في علوم الحديث"
(5)
فراجعه من ثم، فإن بعضهم ذكر اثنين من ذَلِكَ وأهمل الباقي، ولو انفرد به مالك لكان حجة عند أهل العلم، فكيف ولم ينفرد به؟ وهناك: من تابعه عمر بن نافع في الباب، الضحاك بن عثمان في مسلم، عبيد الله بن عمر صحح الحاكم إسناده
(6)
، وقال أحمد في رواية صالح: والعمل عليه. وعبد الله بن عمر في الدارقطني
(7)
، وابن الجارود في "منتقاه". وكثير
(8)
بن فرقد، وصححه الحاكم على شرط الشيخين. والمعلى بن إسماعيل في الدارقطني، وصححه
(1)
"صحيح المسلم"(984) كتاب: الزكاة، باب: زكاة الفطر على المسلمين من التمر والشعير، "سنن أبي داود"(1611، 1613 - 1614)، "سنن الترمذي"(675)، "سنن النسائي" 5/ 50، "سنن ابن ماجه"(1825 - 1826).
(2)
"السنن الكبرى" 4/ 160.
(3)
"سنن الترمذي"(676). وورد في هامش الأصل ما نصه: وقد رواه الترمذي في "العلل" آخر كتابه ولم يصرح بتفرد مالك بها مطلقًا كما قاله ابن الصلاح.
(4)
"البدر المنير" 5/ 614 - 618.
(5)
"المقنع" 1/ 196 - 208.
(6)
"المستدرك" 1/ 410.
(7)
"سنن الدارقطني" 2/ 139.
(8)
ورد في هامش الأصل ما نصه: وأخرج متابعا كثير الدارقطني وقتيبة أيضًا.
ابن حبان
(1)
، وأيوب في "صحيح ابن خزيمة"
(2)
.
وقال ابن عبد البر: رواه حماد بن زيد والمحفوظ من روايته ورواية غيره
(3)
: صدقتها، ويونس بن يزيد عند الطحاوي في "مشكله"
(4)
من حديث يحيى بن أيوب عنه، وابن أبي ليلى في الدارقطني
(5)
.
وفيه رد على قول ابن عبد البر أن ابن أبي ليلى رواه عن نافع بدونها، ويحيى بن سعيد، وموسى بن عقبة، وأيوب بن موسى في البيهقي
(6)
. فهؤلاء اثنا عشر تابعوه فلله الحمد.
ومن ضعيف الباب عند الدارقطني من حديث ابن عباس: "يهودي أو نصراني نصف صاعٍ من برٍّ، أو صاع من تمر، أو صاع من شَعير" ومن حديث ابن عمر مثَله
(7)
، وللطحاوي في "المشكل" عن أبي هريرة بإسناد فيه ابن لهيعة أنه كان يخرجها عن كل إنسان يعول ولو كان نصرانيًّا
(8)
.
وللدارقطني من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده:
(1)
"صحيح ابن حبان" 8/ 94 - 95.
(2)
"صحيح ابن خزيمة" 4/ 81 (2393).
(3)
"التمهيد" 7/ 119 - 120.
(4)
"مشكل الآثار" 9/ 21 (3398).
(5)
"سنن الدارقطني" 2/ 139.
(6)
قال الحافظ في "الفتح" 3/ 370: وذكر شيخنا سراج الدين ابن الملقن في شرحه تبعًا لمغلطاي أن البيهقي أخرجه من طريق أيوب بن موسى، وموسى بن عقبة، ويحيى بن سعيد، ثلاثتهم عن نافع، وفيه الزيادة، وقد تتبعت تصانيف البيهقي فلم أجد فيها هذِه الزيادة من رواية أحد من هؤلاء الثلاثة. انتهى.
(7)
"سنن الدارقطني" 2/ 150، وقال: سلام الطويل متروك الحديث ولم يسنده غيره.
(8)
رواه الطحاوي في "مشكل الآثار" كما في "تحفة الأخيار" 3/ 103 (1545)، 3/ 121 (1574).
"مدان من قمح أو صاع مما سواه من الطعام"
(1)
. وقال الترمذي: حسن غريب
(2)
.
ومن حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف، عن أبيه، عن جده:"أو صاع من زبيب، أو صاع من أقط" وأخرجه ابن خزيمة في "صحيحه"
(3)
، ومن حديث جابر:"مُدّان من قمحٍ أو صاع من تمرٍ أو شعيرٍ"
(4)
.
وللحاكم في "تاريخه" من حديث مالك بن أوس بن الحدثان، عن أبيه مرفوعًا:"أعطوا صدقةَ الفطرِ صاعًا من طعام" ثم قال: وطعامهم يومئذ الحنطة والشعير والزبيب والأقط. وله في "مستدركه"، وقال: صحيح على شرط الشيخين
(5)
.
ولابن خزيمة في "صحيحه" أيضًا عن أسماء أنهم كانوا يخرجون زكاة الفطر في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمد الذي يقتات به أهل البيت، أو الصالح الذي يقتاتون به ينقل ذَلِكَ أهل المدينة كلهم
(6)
.
إذا تقرر ذَلِكَ فالكلام في مواضع:
الأول:
أضيفت هذِه الزكاة إلى الفطر؛ لأنها تجب بالفطر من رمضان وزكاة
(1)
"سنن الدارقطني" 2/ 141.
(2)
"سنن الترمذي" عقب الرواية (674).
(3)
"صحيح ابن خزيمة" 4/ 87.
(4)
رواه عبد الرزاق 3/ 315 (5772) باب: زكاة الفطر والدارقطني: 2/ 151 كتاب: زكاة الفطر.
(5)
"المستدرك" 1/ 410.
(6)
"صحيح ابن خزيمة" 84/ 4 (2401) باب: ذكر الدليل على أن زكاة رمضان بصاع النبي صلى الله عليه وسلم ....
الفطرة أي: الخلقة، قال الله تعالى:{فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30] فكأنه يريد: الصدقة عن البدن والنفس، شرعت تزكية للنفس وتطهيرًا لها وتنمية لعملها، فيزول الرفث واللغو ولإغناء الفقراء.
الثاني:
متى تجب؟ عندنا ثلاثة أقوال: أصحها بأول ليلة العيد. وثانيها: بطلوع الفجر. وثالثها: بهما. وعند المالكية أربعة أقوال: مشهورها: ليلة الفطر، وطلوع الفجر يومه، وطلوع الشمس، وما بين الغروبين
(1)
، وفائدته فيمن ولد أو مات أو أسلم أو بيع فيما بين ذَلِكَ.
وعبارة ابن بزيزة: تجب بالغروب. وقيل: بطلوع فجر يوم الفطر، وقيل: تجب وجوبًا موسعًا بين الوقتين المذكورين وعند الحنفية: تجب وقت طلوع الفجر الثاني من يوم الفطر
(2)
ومعرفة وقت أدائها يوم الفطر من أوله إلى آخره، وبعده يجب القضاء عند بعضهم، والأصح عندهم أن تكون أداء وتجب وجوبًا موسعًا، وفي "الذخيرة": لا يسقط بالتأخير ولا بالافتقار بعد وجوبها، وقال عبد الملك المالكي: آخر وقتها زوال يوم الفطر
(3)
.
الثالث:
اختلف في تقديمها، فعندنا: يجوز في كل رمضان. وقيل: وقبله.
وقيل: بطلوع فجر أول رمضان وعن أبي حنيفة: يجوز لسنة وسنتين.
وعن خلف بن أيوب: تجوز لشهر.
وفي "الذخيرة": لا تجوز بأكثر من يوم أو يومين كمذهب أحمد
(4)
.
(1)
"النوادر والزيادات" 2/ 307.
(2)
"بدائع الصنائع" 2/ 74.
(3)
انظر "الذخيرة" 3/ 157 - 160.
(4)
الموضع السابق.
وقيل: بنصف الشهر كتعجيل أذان الفجر من نصف الليل. وقال الحسن بن زياد: يجوز تعجيلها قبل وقت وجوبها. وعند المالكية في جواز تقديمها بيوم إلى ثلاثة حكايته قولين.
الرابع:
صاع رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة أرطال وثلث بالبغدادي تقريبًا، وذهب أبو حنيفة إلى أنه ثمانية أرطال، وفيه حديث في الدارقطني من حديث أنس
(1)
وعائشة
(2)
وهما ضعيفان، ورجع أبو يوسف إلى الأول وهو قول الشافعي والجمهور.
الخامس:
جنس المخرج: القوت المعشر، وهو: البر والشعير والتمر
والزبيب، وما أشبهها، بعضها بالنص وبعضها بالقياس بجامع القوت، وأبعد من قال: لا يجزئ البر ولا الزبيب ولا يلتفت إليه، والمنصوص عليه في حديث ابن عمر الذي ذكرناه: التمر والشعير.
وفي حديث أبي سعيد فيه: الأقط يأتي، والزبيب يأتي أيضًا
(3)
، وفي أبي داود: الحنطة ثم قال: وليس بمحفوظ
(4)
. وقال الحاكم: صحيح
(5)
، وكذا ابن حبان قال: وهي تفسر الطعام فيه
(6)
.
وفي الحاكم: السلت. ثم صححه
(7)
، وخالفه ابن عبد البر، قال
(1)
"سنن الدارقطني" 1/ 94، 2/ 153.
(2)
"سنن الدارقطني" 2/ 128.
(3)
سيأتي برقم (1506) باب: صدقة الفطر صاعًا من تمر.
(4)
"سنن أبي داود"(1616).
(5)
"المستدرك" 1/ 410 - 411.
(6)
"صحيح ابن حبان" 8/ 96 (3303).
(7)
"المستدرك" 1/ 409.
أبو داود: ووَهِم سفيان بن عيينة في ذكره الدقيق
(1)
والمشهور عند المالكية إجزاء القطاني والتين والسويق واللحم واللبن، وفي الدقيق يزكى به قولان لهم، والجمهور على إجزاء الأقط، وبه قال مالك خلافًا للحسن، وانفرد أبو حنيفة بإجزاء القيمة.
السادس:
أجمع العلماء كما قال أبو عمر على أن الشعير والتمر لا يجزئ من أحدهما إلا صاع كامل.
السابع:
ضابط من يؤدي عند الشافعي كما سلف والجمهور: من ملك فاضلًا عن قوته وقوت عياله يوم العيد. واعتبر أبو حنيفة النصاب. وقال سفيان: من له خمسون درهمًا وجبت عليه، وقال بعضهم: من له أربعون، ومشهور مذهب مالك وجوبها على من عنده قوت يومه معها، وقيل: إنما تجب على من لا يجحف به إخراجها، وقيل غير ذَلِكَ مما أسلفناه.
وقوله: (على العبد) تعلق به داود في وجوبها عليه، وأن السيد يجب عليه أن يمكنه من كسبه كما يمكنه مق صلاة الفرض، ومذهب الجماعة وجوبها على السيد حتَّى لو كان للتجارة، وهو مذهب مالك والليث والأوزاعي والشافعي وإسحاق وابن المنذر وقال عطاء والنخعي والثوري والحنفيون: إذا كان للتجارة لا تلزمه فطرته.
فرع:
لا تجب على المكاتب عند الجمهور، وعن مالك قولان: قيل: في كسبه، وقيل: يخرجها سيده، وهو خلاف للشافعية أيضًا، ولا يجب
(1)
"سنن أبي داود" عقب الرواية (1618).
على السيد عند أبي حنيفة والشافعي وأحمد، وقال ميمون بن مهران وعطاء وأبو ثور: يؤدي عنه سيده. وكان ابن عمر له مكاتب لا يؤدي عنه، وفي رواية مكاتبان أخرجهما البيهقي
(1)
.
الثامن:
ضابط من يؤدي عنه كل من وجبت عليه نفقته، هذا هو الأصل الممهد ويستثنى منه مسائل محل بسطها كتب الفروع، فالزوج تجب نفقة الزوجة عليه وكذا فطرتها وفاقًا لمالك في أصح قوليه وإسحاق، وخالف أبو حنيفة والثوري وابن المنذر عملًا بقوله: على كل ذكر وأنثى.
حجة الأول: حديث ابن عمر: أنه عليه السلام أمر بصدقة الفطر عن الصغير والكبير، الحر والعبد ممن تمونون. أخرجه البيهقي من هذا الوجه
(2)
والشافعي عن إبراهيم بن محمد عن جعفر بن محمد، عن أبيه
(3)
، والدارقطني من حديث علي بن موسى الرضا، عن أبيه، عن جده، عن آبائه
(4)
. ورواه حاتم بن إسماعيل عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي، كلهم رفعوه
(5)
.
وانفرد داود فقال: لا يخرج أحد زكاة الفطر عن أحد غيره لا ولد، ولا غيره. وظاهر الحديث وجوب إخراجها عمن ذكر وإن كان لفظة (على) تقتضي الوجوب عليهم، تفهم
(6)
ظاهرًا، واختلف أصحابنا هل
(1)
"السنن الكبرى" 4/ 161.
(2)
"السنن الكبرى" 4/ 161، وقال إسناده غير قوي، وقال الذهبي في "المهذب" 3/ 1522 (6757) إسناده لين.
(3)
"مسند الشافعي" 1/ 251 (676).
(4)
"سنن الدارقطني" 2/ 140.
(5)
رواه البيهقي 4/ 161.
(6)
كلمة غير واضحة بالأصل، ولعل ما أثبتناه يوافق السياق.
وجبت على المخرج أصالة أو تحملًا؟ والأصح ثانيهما.
فرع:
يخرج عن البادي كالحاضر خلافًا للزهري ومن وافقه في اختصاصها بالحاضرة وأهل القرى.
التاسع:
الجمهور على وجوبها على الصغير وإن كان يتيمًا، خلافًا لمحمد بن الحسن وزفر، وإن كان له مال كما حكاه عنهما ابن بزيزة قالا: فإن أخرجها عنه ضمن. وأصل مذهب مالك وجوب الزكاة على اليتيم مطلقًا، وفي "الهداية" للحنفية: يخرج عن أولاده الصغار، فإن كان لهم مال أدى من مالهم عند أبي حنيفة وأبي يوسف خلافًا لمحمد، وقال الحسن فيما حكاه ابن بزيزة: هي على الأب فإن أعطاها من مال الابن فهو ضامن، قال: والجمهور أنها غير واجبة على الجنين، ومن شواذ الأقوال وجوبها عنه، روينا ذَلِكَ عن عثمان بن عفان وسليمان بن يسار.
قُلْتُ: وبه قال أحمد، وفي "المصنف": حَدَّثَنَا عبد الوهاب الثقفي، عن أيوب، عن أبي قلابة قال: كانوا يعطون حتَّى عن الحمل
(1)
.
قال ابن بزيزة: وقال قوم من سلف العلماء: إذا كمل الجنين في بطن أمه مائة وعشرين يومًا قبل انصداع الفجر من ليلة الفطر وجب إخراجها عنه، كأنه اعتمد على حديث ابن مسعود:"إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يومًا"
(2)
.
(1)
"المصنف" 2/ 432 (10738).
(2)
سيأتي برقم (3208) كتاب: بدء الخلق، باب: ذكر الملائكة.
العاشر:
قوله: (من المسلمين) أخذ بها الشافعي ومالك وأحمد وأبو ثور وابن المنذر، وقبلهم سعيد بن المسيب والحسن فقالوا: لا تؤدى إلا عن مسلم؛ لأنها طهرة وبركة. والكافر ليس من أهلها.
وقال أبو حنيفة وإسحاق وجماعة من السلف، منهم النخعي ومجاهد وسعيد بن جبير والثوري وسائر الكوفيين: يجب على السيد إخراج الفطرة عن عبده الكافر.
وتأول الطحاوي قوله: (من المسلمين) على أن المراد بالمسلمين: السادة دون العبيد، وما أبعده
(1)
، وقد أسلفنا أن مالكًا لم ينفرد بها، وأبعد بعضهم فقال: إنها زيادة مضطربة وقد خولف فيها نافع عن ابن عمر، وقول ابن بزيزة: لا شك أنها زيادة مضطربة من جهة الإسناد والمعنى؛ لأن ابن عمر راويه كان من مذهبه إخراج الزكاة عن العبد الكافر، والراوي إذا خالف ما روى كان تضعيفًا لروايته، كذا قال علماؤنا. عجيب فلا اضطراب، والعبرة عند الجمهور بما روى لا بما رأى، وغير ابن عمر رواها أيضًا كما سلف، ولعل ما أعطاه ابن عمر عنهم كان تطوعًا وممن قال: يؤدي عن عبيده الكفار: عطاء، أخرجه ابن أبي شيبة بإسناد جيد
(2)
.
(1)
ورد بهامش الأصل: قوله: وما أبعده. بل ما أقربه؛ لأن العبيد لا يملكون شيئًّا، ولا يجب عليهم شيء عند جماهير الأئمة، إلى وصفهم بالإسلام الذي هو مناط التكليف، والأحاديث عامة على الإطلاق الشامل للمسلمين من العبيد وغيرهم، وقد صرح بذلك في بعض الأحاديث.
(2)
"المصنف" 2/ 399 (10375).
وأخرج أيضًا بسنده عن إسماعيل بن عياش ثنا عمرو بن المهاجر، عن عمر بن عبد العزيز قال: يعطي الرجل عن مملوكه ولو كان نصرانيًّا زكاة الفطر
(1)
. والأصح عندنا أنه لا يلزم المسلم فطرة العبد والقريب والزوجة الكفار.
الحادي عشر:
قوله: (وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة). قيس أن ذَلِكَ هو السنة، والبدار بها أول النهار أولى، وروي عن ابن عباس وابن عمر وعطاء
(2)
، وهو قول مالك والكوفيين.
قال سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز في قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15)} [الأعلى:14، 15] قال: هي صدقة الفطر
(3)
، وقال ابن مسعود: من إذا خرج إلى الصلاة تصدق بشيء
(4)
.
وقال عطاء: الصدقات كلها
(5)
. وقال ابن عباس: تزكى من الشرك
(6)
.
وقال: معناه قد أفلح من قال لا إله إلا الله.
وتأخيرها عن الصلاة مكروه عند أبي الطيب تارك للأفضل عند البندنيجي من أصحابنا غير مجزئ عند بعض العلماء حكاه ابن التين، ويحرم تأخيرها عن يومه.
وقد ورد في الدارقطني والبيهقي من حديث ابن عمر مرفوعًا:
(1)
"المصنف" 2/ 399 (10373).
(2)
رواه عنهم ابن أبي شيبة 2/ 395 (10323 - 10324).
(3)
"السنن الكبرى" للبيهقي 4/ 159 عن سعيد، 4/ 175 عن عمر.
(4)
ذكره ابن أبي حاتم في "تفسير القرآن العظيم" 10/ 3418 (19241).
(5)
رواه ابن أبي شيبة 3/ 321 (5796).
(6)
رواه الطبري في "تفسيره" 12/ 546 (36984).
"أغنوهم عن الطلب في هذا اليوم"
(1)
ويلزمه قضاؤها مع ذلك لإخراجها عن الوقت، نعم لو أخرت لانتظار قريب أو جار لم أكرهه كما قالوه في زكاة المال ما لم يخرج الوقت.
وقيل لأحمد فيما حكاه في "المغني": إن أخرجها ولم يعطها؟ قال: نعم، إذا أعدها لقوم. وحكاه ابن المنذر أيضًا عن أحمد قال: واتباع السنة أولى. ولو تلف المؤدى عنه قبل إمكان الأداء، فالأصح بقاء الوجوب بخلاف تلف المال قبله على الأصح، كزكاة المال. وقال ابن المواز: لو هلكت ضمنها.
وروى ابن عمر أنه عليه السلام كان إذا انصرف من الصلاة قسمها بينهم، وعن ابن سيرين والنخعي الرخصة في تأخيرها عن يوم العيد، وقال أحمد: أرجو أن لا يكون به بأس. وصح من حديث ابن عباس: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين، من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات. رواه أبو داود وابن ماجه والحاكم وقال: صحيح على شرط البخاري
(2)
.
(1)
تقدم تخريجه قريبًا.
(2)
"سنن أبي داود"(1609)، "سنن ابن ماجه"(1827)، "المستدرك" 1/ 409، وحسنه الألباني في "صحيح أبي داود"(1427).
71 - باب صَدَقَةِ الفِطْرِ عَلَى العَبْدِ وَغَيْرِهِ مِنَ المُسْلِمِينَ
1504 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَرَضَ زَكَاةَ الفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، عَلَى كُلِّ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ، ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، مِنَ المُسْلِمِينَ. [انظر: 1503 - مسلم: 984، 986 - فتح: 3/ 369]
ذكر فيه حديث ابن عمر، وقد سلفَ، وادعى ابن بطال أن ظاهره إيراد لزومها على العبد
(1)
، وقد سلف ما فيه.
(1)
"شرح ابن بطال" 3/ 563.
72 - باب صدقة الفطر صَاعٍ مِنْ شَعِيرٍ
1505 -
حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا نُطْعِمُ الصَّدَقَةَ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ. [1506، 1508، 1510 - مسلم: 985 - فتح: 3/ 371]
ذكر فيه حديث سفيان عن زيد بن أسلم عن عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ عن أبي سعيد: كُنَّا نُطْعِمُ الصَّدَقَةَ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ.
هذا الحديث كرره في الباب، أخرجه مرة من حديث سفيان، عن زيد، ومرة عن مالك عن زيد، ومرة عن أبي عمرو وحفص بن ميسرة، وكل ذلك يأتي، وأخرجه مسلم والأربعة
(1)
، وإجزاء الشعير مُجمع عليه.
(1)
مسلم (985)، أبو داود (1618، 1616)، الترمذي (673)، النسائي 5/ 51 - 52، ابن ماجه (1829).
73 - باب صَدَقَةِ الفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ
1506 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ العَامِرِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ رضي الله عنه يَقُولُ كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ. [انظر: 1505 - مسلم: 985 - فتح: 3/ 371]
ذكر فيه حديث مَالِك، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عِيَاضِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ يَقُولُ: كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ.
هذا الحديث أخرجه مسلم والأربعة أيضًا
(1)
، وهو ملحق بالمسند عند المحققين من الأصوليين؛ لأن هذا لا يخفي عنه صلى الله عليه وسلم، ولا يذكره الصحابي في معرض الاحتجاج إلا وهو مرفوع، وفي مسلم: كنا نخرج إذ كان فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر فذكره فصرح برفعه، والطعام هنا البر كما سلف والأقط بفتح الهمزة وكسر القاف ويجوز إسكان القاف مع فتح الهمزة وكسرها
(2)
كنظائره وهو لبن يابس غير منزوع الزبد.
وفيه: إجزاء الأقط، وهو قول الجمهور كما سلف وطَعنُ ابن حزم في الحديث لا يقبل كما أوضحته في "تخريج أحاديث الوسيط" فراجعه منه.
ولا فرق في إجزائه بين أهل الحاضرة والبادية، وعنده -أعني: ابن
(1)
تقدم تخريجه في الحديث السالف.
(2)
ورد بهامش الأصل: وذكر في القاموس أيضًا: أقَطَ، وأقُط، وأقِطِ، وأقُطْ، فهي سبع لغات.
حزم- لا يجزئ إلا التمر والشعير خاصة قال: لا يخرج في زكاة الفطر إلا التمر والشعير خاصة
(1)
، ورد الأحاديث التي فيها زيادة على هذين الجنسين فقال: احتجوا بأخبار فاسدة لا تصح، منها: حديث أبي سعيد هذا، ومنها حديث ثعلبة بن صُعير عن أبيه: "صاعًا من بر
(2)
"، ثم ضعفه بالنعمان بن راشد واضطرابه.
وقد رواه مرة فلم يذكر البر، وذكر التمر والشعير، وهو أحسن حديث في الباب، ولا يحتج به لجهالة عبد الله بن ثعلبة بن صعير، ثم ادعى أنه ليس له صحبة، وهو غريب فقد ذكره في الصحابة أبو عمر
(3)
وغيره، وروى عنه سعد بن إبراهيم وغيره، فلا جهالة إذن، ثم روي من طريق عمرو بن شعيب وفيه: "مدان من حنطة
(1)
"المحلى" 6/ 118.
(2)
رواه أبو داود (1619) باب: من روى نصف صاع من قمح، وأحمد 5/ 432، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" 1/ 451 (628)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" 2/ 45، والدارقطني 2/ 147 - 148، والبيهقي 4/ 167، وابن الأثير في "أسد الغابة" 1/ 289 (604). روي هذا الحديث على اختلاف في اسم صحابيه، لذا قال الحافظ في "الدراية" 1/ 269: وحاصله الاختلاف في اسم صحابيه، فمنهم من قال: عبد الله بن ثعلبة، فقيل عبد الله بن ثعلبة بن صُعير، وقيل: ابن أبي صُعير، وقيل: ثعلبة، وقيل: ثعلبة بن عبد الله بن أبي صُعير.
انظر: "أسد الغابة" 1/ 288 - 289 (604)، "تهذيب الكمال" 4/ 394 - 395 (843)، "تهذيب الكمال" 1/ 272، "تقريب التهذيب" ص 134 (842).
ضعفه الألباني من طريق النعمان بن راشد، وقال: والنعمان بن راشد فيه ضعف، لكنه صححه من طريق آخر في "السلسلة الصحيحة" 3/ 170 - 172 (1177).
وضعفه أيضًا في "ضعيف أبي داود" برقم (287) قائلًا: إسناده ضعيف؛ لسوء حفظ النعمان بن راشد، والشطر الأول منه قد توبع عليه ولذلك أوردته في "الصحيحة".
(3)
"الاستيعاب" 3/ 12 (1496).
أو صاع مما سوى ذَلِكَ من الطعام"، ثم قال: وهذا مرسل
(1)
.
قُلْتُ: ووصله الدارقطني، عن أبيه، عن جده، وكذا الترمذي، وقال: حسن غريب
(2)
.
(1)
"المحلي" 6/ 121.
(2)
"سنن الترمذي"(674)، "سنن الدارقطني" 2/ 141، وضعفه الألباني في "ضعيف الترمذي"(107).
74 - باب صَدَقَةِ الفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ
1507 -
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ قَالَ: أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِزَكَاةِ الفِطْرِ، صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ. قَالَ عَبْدُ اللهِ رضي الله عنه: فَجَعَلَ النَّاسُ عِدْلَهُ مُدَّيْنِ مِنْ حِنْطَةٍ. [انظر: 1503 - مسلم: 984 - فتح: 3/ 371]
ذكر فيه حديث ابن عمر: أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِزَكَاةِ الفِطْرِ، صَاعًا مِنْ تَمْرِ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ. وقَالَ عَبْدُ الله: فَجَعَلَ النَّاسُ عِدْلَهُ مُدَّيْنِ مِنْ حِنْطَةٍ.
وقد سلف، والذي عدل بذلك هو معاوية كما ستعلمه في الباب بعده لا كبار الصحابة كما قال ابن بطال
(1)
.
وقال ابن عبد البر: روي أن عمر هو فاعل ذَلِكَ، وقيل: كان في زمن معاوية ولئن كان كذلك فكان إذ ذاك الصحابة متوافرين، ولا يجوز عليهم الغلط في مثل ذَلِكَ
(2)
، ولم يقل به معاوية في كل بُرٍّ، وإنما قاله في سمراء الشام؛ لما فيها من الريع، كما نبه عليه القاضي
(3)
، وأخذ به أبو حنيفة والثوري وجماعة من السلف من الصحابة والتابعين أنه يخرج نصف صاع بر؛ لأحاديث فيه ضعيفة، وأنكرها مالك
(4)
.
قال ابن المنذر: وروي عن أبي بكر وعثمان ولا يثبت عنهما، وروي عن علي وابن عباس وابن مسعود وجابر وأبى هريرة وابن الزبير ومعاوية وأسماء، وبه قال سعيد بن المسيب وعطاء وطاوس ومجاهد وعمر بن
(1)
انظر: "شرح ابن بطال" 3/ 565.
(2)
"التمهيد" 4/ 136.
(3)
"إكمال المعلم" 3/ 482.
(4)
"المبسوط" 3/ 101.
عبد العزيز، وروي ذَلِكَ عن سعيد بن جبير وعروة وأبي سلمة وابن المبارك وأبي قلابة وعبد الله بن شداد ومصعب بن سعد.
قُلْتُ: والليث والأوزاعي، واختلف عن علي وابن عباس فروي عنهما القولان جميعًا.
قُلْتُ: ورواه أبو داود عن عمر وَوُهِّيَ
(1)
، وذهب الجمهور
(2)
إلى إخراج صاع كامل فيه، ولهذا قال أبو سعيد: أما أنا فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه. وممن ذهب إليه الحسن البصري وأبو العالية وجابر بن زيد ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق.
فرع: يتعين عندنا غالب قوت البلد، وقيل: قوته، وقيل: يتخير بين الأقوات لظاهر (أو) المذكورة، وأجاب الأول بأنها للتنويع كما في قوله تعالى:{أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} [المائدة: 33] الآية، ويجزئ الأعلى عن الأدنى، والاعتبار بزيادة الاقتيات لا القيمة في الأصح، وكان صلى الله عليه وسلم لا يخرج إلا التمر؛ لأنه غالب قوت المدينة. قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين
(3)
.
ولا يجزئ ببلدنا مصر إلا البر؛ لأنه غالب قوتهم، وذكر عبد الرزاق، عن ابن عباس قال: من أدى تمرًا قبل منه، ومن أدى شعيرًا قبل منه، ومن أدى سلتًا قبل منه صاع صاع
(4)
.
(1)
"سنن أبي داود"(1614)، وقال الألباني في "ضعيف أبي داود" برقم (283): رجاله ثقات، لكن ذكر عمر فيه منهم من أبي رواد .. ، الصواب: أنه معاوية بن أبي سفيان.
(2)
ورد بهامش (م): بل الجمهور هم الذين قد سلف ذكرهم رضي الله عنهم دون غيرهم فتأمل.
(3)
"المستدرك" 1/ 409 - 410. وصححه ابن خزيمة 4/ 80 (2392).
(4)
"مصنف عبد الرزاق" 3/ 313 (5767).
75 - باب صَاعٍ مِنْ زَبِيبٍ
1508 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُنِيرٍ، سَمِعَ يَزِيدَ العَدَنِيَّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: حَدَّثَنِي عِيَاضُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا نُعْطِيهَا فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ، فَلَمَّا جَاءَ مُعَاوِيَةُ وَجَاءَتِ السَّمْرَاءُ قَالَ: أُرَى مُدًّا مِنْ هَذَا يَعْدِلُ مُدَّيْنِ. [انظر: 1505 - مسلم: 985 - فتح: 3/ 372]
ذكر فيه حديث سُفْيَانَ، عَنْ زيدِ [عن عِيَاض]
(1)
، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: كُنَّا نُعْطِيهَا فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم صَاعًا مِنْ طَعَام، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرِ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرِ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ، فَلَمَّا جَاءَ مُعَاوَيةُ وَجَاءَتِ السَّمْرَاءُ قَالَ: أُرى مُدًّا مِنْ هذا يَعْدِلُ مُدَّيْنِ.
هذا الحديث أسلفناه بطرقه، والسمراء: الحنطة الشامية، وهذا قاله معاوية على المنبر كما أخرجه مسلم
(2)
، وهو معتمد أبي حنيفة ومن وافقه في جواز نصف صاع بر، وقدموه على خبر الواحد، وخالفه الجمهور في ذَلِكَ كما سلف، ويجيبون بأنه قول صحابي قد خالفه أبو سعيد الخدري وغيره ممن هو أطول صحبة منه وأعلم بأحوال الشارع، وإذا اختلف الصحابة لم يكن بعضهم أولى من بعض فيرجع إلى دليل آخر.
وظاهر الأحاديث والقياس متفقة على اشتراط الصالح من الحنطة كغيرها، فوجب اعتماده، وقد صرَّح معاوية بأنه رأي رآه لا أنه سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان عند أحد من حاضري مجلسه مع
(1)
ليست بالأصول، وقد تقدمت الطرق كلها: زيد عن عياض عن أبي سعيد.
(2)
مسلم (985).
كثرتهم
(1)
تلك اللحظة علم في موافقة معاوية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لذكره كما جرى في غير هذِه القصة.
وفيه: الرجوع إلى النص وطرح الاجتهاد، وقد أسلفنا عن أبي حنيفة أنه انفرد بإخراج القيمة، وقال أبو يوسف ومحمد: ما سوى التمر والزبيب والشعير يخرج بالقيمة
(2)
، قيمة نصف صاع من بر، أو قيمة صاع من شعير أو تمر، وعن أبي حنيفة: لو أعطيت في زكاة الفطر (إهليجا)
(3)
أجزأ. والمراد: قيمته، وفيه دلالة أن الصالح لا يبعض، وهو كذلك عندنا.
قال ابن التين: يجزئ في مذهبنا في ذَلِكَ قولان قياسًا على كفارة اليمين، فقد ذكر ابن القاسم عن محمد يجزئ أن يكسو خمسة، ويطعم خمسة.
وفيه: دلالة على أبي حنيفة في تجويزه السويق والدقيق.
(1)
ورد بهامش الأصل: بل الصواب أن يقال: لو كان عند من حضره من جموع الصحابة والتابعين علم بمخالفته لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لوجب عليهم الرد عليه، وحيث لم ير عليه أحد؛ فقد صار إجماعًا.
(2)
"المبسوط" 3/ 107، "مختصر اختلاف العلماء" 1/ 475.
(3)
رسمت هكذا في الأصل.
76 - باب الصَّدَقَةِ قَبْلَ العِيدِ
1509 -
حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِزَكَاةِ الفِطْرِ قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلَاةِ. [انظر: 1503 - مسلم: 986 - فتح: 3/ 375]
1510 -
حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو عُمَرَ، عَنْ زَيْدٍ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا نُخْرِجُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ. وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: وَكَانَ طَعَامَنَا الشَّعِيرُ وَالزَّبِيبُ وَالأَقِطُ وَالتَّمْرُ. [انظر: 1505 - مسلم: 985 - فتح: 3/ 375]
ذكر فيه حديث ابن عمر: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِزَكَاةِ الفِطْرِ قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى المصلى، وقد سلف فقهه.
وحديث حفص بن ميسرة عن زيد، عن عياض، عن أبي سعيد الخدري: كُنَّا نُخْرِجُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ. وَقَالَ أَبُو سعيد: وَكَانَ طَعَامَنَا الشَّعِيرُ وَالزَّبِيبُ وَالأَقِطُ وَالتَّمْرُ. وقد أسلفناه.
وقوله: (كنا نخرج يوم الفطر) ليس صريحًا في كونه قبل الصلاة، واحتج بهذا الحديث من قال: الطعام يقع على الشعير وما ذكر معه. وصوابه أن ذَلِكَ كان غالب قوتهم في ذَلِكَ الزمان، وليس فيه دلالة على أن اسم الطعام يقع عليه؛ لأن التخيير والتقسيم لا يقعان بين الشيء ونفسه.
77 - باب صَدَقَةِ الفِطْرِ عَلَى الحُرِّ وَالمَمْلُوكِ
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ فِي المَمْلُوكِينَ لِلتِّجَارَةِ: يُزَكَّى فِي التِّجَارَةِ، وَيُزَكَّى فِي الفِطْرِ.
1511 -
حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: فَرَضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صَدَقَةَ الفِطْرِ -أَوْ قَالَ: رَمَضَانَ- عَلَى الذَّكَرِ وَالأُنْثَى، وَالحُرِّ وَالمَمْلُوكِ، صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، فَعَدَلَ النَّاسُ بِهِ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ. فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يُعْطِى التَّمْرَ، فَأَعْوَزَ أَهْلُ المَدِينَةِ مِنَ التَّمْرِ، فَأَعْطَى شَعِيرًا، فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُعْطِي عَنِ الصَّغِيرِ وَالكَبِيرِ، حَتَّى إِنْ كَانَ يُعْطِي عَنْ بَنِيَّ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يُعْطِيهَا الذِينَ يَقْبَلُونَهَا، وَكَانُوا يُعْطُونَ قَبْلَ الفِطْرِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ. [انظر: 1503 - مسلم: 984 - فتح: 3/ 375]
ذكر فيه حديث ابن عمر: فَرَضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صَدَقَةَ الفِطْرِ .. الحديث، وقد سلف. وفي آخره: فَكَانَ ابن عُمَرَ رضي الله عنهما يُعْطِي التَّمْرَ، فَأَعْوَزَ أَهْلُ المَدِينَةِ مِنَ التَمْرِ، فَأَعْطَى شَعِيرًا، فَكَانَ ابن عُمَرَ يُعْطِي عَنِ الصَّغِيرِ وَالكَبِيرِ، حَتَّى إِنْ كَانَ يُعْطِي
(1)
عَنْ بَنِيَّ، وَكَانَ ابن عُمَرَ يُعْطِيهَا الذِينَ يَقْبَلُونَهَا، وَكَانُوا يُعْطُونَ قَبْلَ الفِطْرِ بِيَوْمِ أَوْ يَوْمَيْنِ.
قال أبو عبد الله: (عن بني) يعني عن بني نافع، يعني: يعطون فيجمعون، فإذا كان يوم الفطر أخرجوه حينئذ إليهم يعطون قبل الفطر حتى تصل إلى الفقراء. وهكذا في بعض نسخ البخاري قال مالك: أحسن ما سمعت إن الرجل تلزمه زكاة الفطر عمن تلزمه نفقته. ولا بد أن ينفق عليه وعن مكاتبه ومدبره ورقيقه، غائبهم وشاهدهم، للتجارة كانوا أو لغير التجارة
(2)
إذا
(1)
في حاشية الأصل بخط الدمياطي: صوابه: ليعطي.
(2)
ورد بهامش (م): لئلا يجتمع عليه زكاتان فيصير عليه إجحاف وحرج.
كان مسلمًا، وهو قول جمهور العلماء. وقال أبو حنيفة والثوري: لا يلزمه زكاة الفطر عن عبيد التجارة، وهو قول عطاء والنخعي
(1)
.
حجة الموجب: الحديث لم يخص عبد الخدمة من عبد التجارة، وكذلك خالف أبو حنيفة والثوري الجمهور فقالا: ليس على الزوج فطرة زوجته
(2)
كما سلف ولا خادمها
(3)
.
وقوله: (فَأَعْوَزَ أَهْلُ المَدِينَةِ مِنَ التَّمْرِ، فَأعْطَى شَعِيرًا). يدل على أنه لا يجوز أن يعطي في زكاة الفطر إلا من قوته؛ لأن التمر كان من جل عيشهم فأعطى شعيرًا حين لم يجد التمر.
وقوله: (كَانَ ابن عُمَرَ يُعْطِيهَا الذِينَ يَقْبَلُونَهَا، قَبْلَ الفِطْرِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ). يريد الذين يجتمع عندهم، ويكون تفريقها صبيحة يوم العيد؛ لأنها السنة، وكان كثير الاتباع للسنة.
وقال ابن جريج: أخبرني ابن عمر قال: أدركت سالم بن عبد الله وغير من علمائنا فلم يكونوا يخرجونها إلا حين يغدون، وقال عكرمة وأبو سلمة: كانوا يخرجونها ويأكلون قبل أن يخرجوا إلى المصلى
(4)
.
وقضية ما فعله ابن عمر أن الإمام ينصب لها من يقبلها، وصرح به في "الموطأ" قال مالك: إذا كان الإمام عدلًا فأرسلها إليه أحب إليَّ، وذلك أن أهل الحاجة إنما يقصدون الإمام، وقال أيضًا: أحب إلى أن يفرقها أربابها.
(1)
"مختصر اختلاف العلماء" 1/ 474، "مصنف عبد الرزاق" 4/ 71 (7002).
(2)
"المبسوط" 3/ 105.
(3)
ورد بهامش (م): وعند أبي حنيفة: يجب على الزوجة فطرة نفسها بنص قوله عليه السلام: "على الذكر والأنثى" في الحديث المذكور.
(4)
رواه عن ثلاثتهم، ابن أبي شيبة 3/ 327، 330 (5847، 5843، 5840)
78 - باب صَدَقَةِ الفِطْرِ عَلَى الصَّغِيرِ وَالكَبِيرِ
1512 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ قَالَ: حَدَّثَنِي نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: فَرَضَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم صَدَقَةَ الفِطْرِ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ عَلَى الصَّغِيرِ وَالكَبِيرِ وَالحُرِّ وَالمَمْلُوكِ. [انظر: 1503 - مسلم: 984 - فتح: 3/ 377]
ذكر فيه حديث ابن عمر: فَرَضَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم صَدَقَةَ الفِطْرِ .. الحديث.
فرع:
العبد المشترك تجب فطرته وفاقًا لمالك، وخلافًا لأبي حنيفة وخالفه صاحباه، ومشهور مذهب مالك أنها على الأجزاء لا على العد، وعندهم في المعتق بعضه ثلاثة أقوال: مشهورها على السيد حصته وعليهما وعلى السيد الجميع، وعندنا وعند أحمد بالقسط، وعندنا المشترك كالمبعض.
خاتمة:
مصرف الفطرة عندنا مصرف الزكاة، وهو مذهب مالك وقيل: الفقير الذي لم يأخذ منها. وعلى الأول يعطي الواحد عن متعدد عند المالكية.
وقال في "المدونة": لا بأس أن يعطي عنه وعن عياله مسكينًا واحدًا
(1)
، وقال أبو يوسف: لا يعطي مسكين أكثر من زكاة إنسان ولا يعطى من أخذ
(2)
.
(1)
"المدونة" 1/ 294.
(2)
في الأصل: ثم بلغ في الحادي بعد العشرين. كتبه مؤلفه.