المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌25 - كتاب الحجِ ‌ ‌1 - باب وُجُوبِ الحَجِّ وَفَضلِهِ وقَولِ اللهِ - التوضيح لشرح الجامع الصحيح - جـ ١١

[ابن الملقن]

فهرس الكتاب

‌25 - كتاب الحجِ

‌1 - باب وُجُوبِ الحَجِّ وَفَضلِهِ

وقَولِ اللهِ تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ} [آل عمران: 97].

1513 -

حَدَّثَنَا عبد اللهِ بْن يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنِ ابن شِهَابٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عَبدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ الفَضْل رَدِيفَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ، فَجَعَلَ الفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَتَنْطرُ إِلَيْهِ، وَجَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَصْرِفُ وَجْهَ الفَضْلِ إِلَى الشِّقِّ الآخَرِ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ فَرِيضَةَ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الَحجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا، لَا يَثبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ، أَفأَحجُّ عَنْة؟ قَالَ:"نَعَمْ". وَذَلِكَ فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ. [1854، 1855، 4399، 6228 - مسلم: 1334 - فتح: 3/ 378]

ذكر فيه حديث الزهري: عَنْ سُلَيْمَانَ عَنِ يَسَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ الفَضْلُ رَدِيفَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ مِنْ خَثعَمَ، فَجَعَلَ الفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَتَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَجَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَصْرِفُ وَجْهَ الفَضْلِ إِلَى الشِّقِّ الآخَرِ، فَقَالَتْ: يَا رَسولَ اللهِ، إِنَّ فَرِيضَةَ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا، لَا يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ،

ص: 9

أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: "نَعَمْ". وَذَلِكَ في حَجَّةِ الوَدَاعِ.

الشرح:

هذا الباب كذا هو هنا في الأصول، وقدم ابن بطال عليه كتاب الصوم وهو قريب فلنقتد بالجم الغفير، فنقول: قرئ في السبعة {حِجُّ البَيْتِ} بالفتح والكسر، فقيل: لغتان، وقيل: بالفتح المصدر وبالكسر الاسم، وقيل: عكسه وقال ابن السكيت: بالفتح القصد، وبالكسر القوم الحجاج، والحجة المرة الواحدة، وبالكسر التلبية والإجابة، وقيدها الجوهري بالكسر

(1)

، قال أبو موسى الحافظ: وهو من النوادر.

قُلْتُ: وأنكره قوم، وحكي عن الكسائي أنه قال: يقال في كل شيء فعلت فعلة إلا في شيئين حججت حجة رويته روية يعني إلى الغزو

(2)

وقال أبو إسحاق: والحج بفتح الحاء الأصل تقول: حججت الشيء أحجه حجا إذا قصدته، والفتح والكسر اسم للعمل

(3)

.

قُلْتُ: وأكثر القراء على الفتح، وفي "أمالي الهجري": الحج أكثر العرب يكسرون الحاء فقط. قُلْتُ: ويجمع على حجج.

وقوله: {وَمَن كَفَرَ} أي: من أهل الملك أو: بفرضه، ونقله ابن التين عن أكثر المفسرين، أو هو من إن حج لم يره برًّا وإن حبس لم يره إثمًا، وفي حديث:"من حج لا يرجو ثوابه ولا يخاف عقابه فقد كفر"

(4)

. قال

(1)

"الصحاح" 1/ 303.

(2)

علق عليها في هامش الأصل بقوله: كذا نقله في موضع آخر ورأيت رؤية وهذا التصنيف مني لا من المؤلف.

(3)

"تهذيب اللغة" 1/ 744.

(4)

رواه عبد بن حميد عن أبي داود نفيع بن الحارث كما في "الدر المنثور" 2/ 101 - 102، ورواه الطبري في "تفسيره" 3/ 368 بنحوه.

ص: 10

سعيد بن جبير، عن عمر: لو أن الناس تركوا الحج لقاتلناهم عليه كما نقاتلهم على الصلاة والزكاة

(1)

.

وأصله في اللغة: القصد

(2)

. وفي الشرع: قصد الكعبة للنسك الآتي بيانه، وقام الإجماع ودلائل الكتاب والسنة على فرضتيه، واختلفوا متى فرض على آراء: أغربها قبل الهجرة، وأقربها قولان: سنة خمس أو سنة ست، وقيل: سنة ثمان، وقيل: سنة تسع، وصححه القاضي عياض

(3)

.

وقيل: سنة سبع، وقيل: سنة عشر، وهما غريبان، فصارت ستة أقوال غير الأول مرتبة على السنين، وسنة ست هو ما ذكره البيهقي

(4)

.

وفي حديث ضمام بن ثعلبة ذكر الحج

(5)

، وقدومه سنة تسع كما قاله الطرطوسي، لكن قال محمد بن حبيب: سنة خمس، وقام الإجماع على أنه لا يتكرر إلا لعارض كنذر

(6)

.

فرع:

يجب الحج عندنا على التراخي خلافًا للمزني

(7)

، ووفاقًا للأوزاعي والثوري ومحمد بن الحسن وابن عباس وأنس وجابر وعطاء وطاوس.

وقال مالك في روايةٍ: وأبو يوسف على الفور، وهو قول جمهور أصحاب أبي حنيفة، ولا نص لأبي حنيفة في ذَلِكَ، قال أبو يوسف: مذهبه يقتضي أنه على الفور، وهو الصحيح عندهم، وقال ابن خواز

(1)

رواه الخلال في "السنة"(1573).

(2)

"تهذيب اللغة" 1/ 744.

(3)

"إكمال المعلم" 4/ 438.

(4)

"السنن الكبرى" 4/ 431.

(5)

رواه أحمد 1/ 250، 264 - 265، وابن عبد البر في "التمهيد" 16/ 176.

ورواه أبو داود (487) مختصرًا. وصححه الحاكم في "المستدرك" 3/ 54 - 55، والألباني في "صحيح أبي داود"(505).

(6)

"الإجماع" لابن المنذر ص 61.

(7)

"الإفصاح" 3/ 235.

ص: 11

منداد: واختلف في هذِه المسألة أصحاب مالك وأصحاب أبي حنيفة وأصحاب الشافعي على قولين

(1)

.

وفي "مستدرك الحاكم" من حديث ابن عباس مرفوعًا: "من أراد الحج فليتعجل" ثم قال: صحيح الإسناد

(2)

.

حجة من لم يوجبه على الفور أنه فرض سنة خمس أو ست كما سلف، وفتحت مكة سنة ثمان فأقامه عَتَّاب

(3)

بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم،

(1)

"الإفصاح" 3/ 234.

(2)

"المستدرك" 1/ 448. ورواه أيضًا أبو داود (1732)، والبيهقي 4/ 339 - 340 من طريق الحسن بن عمرو عن مهران أبي صفوان عن ابن عباس، مرفوعًا به.

وصححه عبد الحق الإشبيلي في "أحكامه" 2/ 258، وحسنه الألباني في "صحيح أبي داود" (1522). وقال ابن القطان في "بيان الوهم والإيهام" 4/ 273 - 274: حديث لا يصح، وأعله بمهران. وقال النووي في "المجموع" 7/ 86: مهران هذا مجهول، قال ابن أبي حاتم: سئل أبو زرعة عنه فقال: لا أعرفه إلا من هذا الحديث. اهـ ثم أطلق القول بضعفه في موضع آخر، انظر:"المجموع" 7/ 91.

وأعله الذهبي في "المهذب" 4/ 1720 (7451) بمهران، فقال: هذا التابعي مجهول.

والحديث رواه ابن ماجه (2883)، وأحمد 1/ 214، 323، 355 من طريق إسماعيل بن خليفة، عن فضيل بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس عن الفضل أو أحدهما عن الآخر، مرفوعًا بزيادة:"فإنه قد يمرض المريض وتضل الضالة وتعرض الحاجة". هذا لفظ ابن ماجه. وصححه أيضًا عبد الحق 2/ 258. واعترض عليه ابن القطان في "البيان" 4/ 274 - 275 فقال: لا يصح -وأعله بإسماعيل بن خليفة فأورد أقوال من جرحه- ثم قال: فالحديث من أجله لا يقال فيه صحيح، فاعلمه اهـ وذكره أيضًا ابن كثير في "الإرشاد" 1/ 306 وأعله أيضًا بإسماعيل بن خليفة. وقال الألباني: هذا سند ضعيف. لكن حسن الحديث بمجموع طريقيه "الإرواء"(990).

(3)

هو عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أبي أمية، يقال: أبو عبد الرحمن، ويقال: أبو محمد المكي، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: سعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح. قال ابن عبد البر: استعمله النبي صلى الله عليه وسلم على مكة عام الفتح في خروجه إلى =

ص: 12

وحج الصديق في التاسعة، وحج صلى الله عليه وسلم في العاشرة، وأما حديث الباب فأخرجه أيضًا مسلم في "صحيحه"

(1)

، وأخرجه البخاري في الاستئذان أيضًا وقال: وأعجبه حسنها -يعني: الفضل- فأخذ بذقن الفضل فعدل وجهه عن النظر إليها، وأخرجه بلفظ: هل يقضي أن أحج عنه؟

(2)

، وذكره في الاعتصام أيضًا عنه: إن أمي نذرت الحج فماتت قبل أن تحج، أفأحج عنها؟ قال:"حجي عنها"

(3)

وسيأتي في الباب وقال: امرأة من جهينة

(4)

.

وذكر في النذور: أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: إن أختي نذرت.

بمثله، وقال:"فاقضوا الله فهو أحق بالقضاء"

(5)

.

قال أبو العباس الطرقي: مدار هذا الحديث على الزهري، وقد اختلف عليه في إسناده، رواه ابن جريج عنه، عن سليمان بن يسار، عن ابن عباس، عن الفضل بن عباس وهو الصحيح عندي، والحديث حديث الفضل؛ لأنه كان رديف سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة النحر من مزدلفة إلى مني، وابن عباس قدمه أن عليه السلام في ضعفة أهله من جمع بليل، فقد دل عن شاهد واحد أن ابن عباس لم يحضر في تلك الحال، وإنما سمع ذَلِكَ من الفضل كما جاء في حديث ابن عباس

= حنين فحج بالناس سنة ثمان. انظر ترجمته في "طبقات ابن سعد" 5/ 446، "تهذيب الكمال" 19/ 282.

(1)

"صحيح مسلم"(1334) كتاب: الحج، باب: الحج عن العاجز لزمانه ..

(2)

سيأتي برقم (6228) باب: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا} [النور: 27].

(3)

سيأتي برقم (7315) باب: من شبه أصلًا معلومًا بأصل مبين ..

(4)

سيأتي برقم (1852) كتاب: جزاء الصيد، باب: الحج والنذور عن الميت.

(5)

سيأتي برقم (6699) باب: من مات وعليه نذر.

ص: 13

حين دفعوا عشية عرفة: "عليكم بالسكينة"

(1)

.

قال عبد الله: وأخبرني الفضل أنه عليه السلام لم يزل يلبي حتَّى رمى جمرة العقبة

(2)

، وكذا قال البخاري فيما حكاه الترمذي عنه أنه أصح ما روى عبد الله، عن الفضل قال: ويحتمل أن عبد الله سمعه من الفضل وغيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم روى هذا فأرسله ولم يذكر الذي سمعه منه

(3)

.

وعند ابن حزم صحيحًا من حديث عبيد الله بن عباس قال: كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه رجل فقال: يا رسول الله إن أمي عجوز كبيرة، إن حزمتها خشيت أن يقتلها، وإن لم أحزمها لم تستمسك فأمره أن يحج عنها

(4)

. قال أبو حاتم في "علله": عبيد الله عن رسول الله مرسل

(5)

.

إذا تقرر ذَلِكَ؛ فالكلام عليه من أوجه:

أحدها:

فيه جواز الإرداف على الدابة إذا كانت مطيقة، وهو إجماع، وقد جمع ابن منده الإرداف في جزء فزاد على الثلاثين، وقد تقدم ذكر ذَلِكَ ويحتمل الزيادة، فالارتداف للسادة الرؤساء سائغ ولا سيما في الحج لتزاحم الناس ومشقة الرحالة؛ ولأن الراكب فيه أفضل كما ستعلمه.

(1)

سيأتي برقم (1671) كتاب: الحج، باب: أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالسكينة عند الإفاضة.

(2)

يأتي برقم (1544).

(3)

"علل الترمذي الكبير" 1/ 390 - 392.

(4)

رواه ابن حزم في كتاب "حجة الوداع"(532 - 533) من طريق يزيد بن إبراهيم عن محمد بن سيرين عن عبيد الله بن عباس، به.

ووقع في المطبوع من "حجة الوداع": عبد الله بن عباس بدل عبيد الله. وهو خطأ.

(5)

"علل ابن أبي حاتم" 1/ 294 - 295 (8881).

ص: 14

ثانيها:

قوله: (فجاءت امرأة من خثعم) وأسلفنا رواية أخرى: من جهينة، وهاتان القبيلتان لا يجتمعان؛ لأن جهينة هو: ابن زيد بن ليث بن سود بن أسلم بن الحافي بن قضاعة. وخثعم هو: ابن أغار بن أراش بن عمرو بن الغوث بن نبت بن زيد بن لهلان.

ثالثها:

هذِه المرأة يجوز أن تكون غاثية أو غائثة، لكن فيه أنها سألت عن أمها ففي كتاب "الصحابة" لابن مسنده وأبي نعيم في باب الغين المعجمة غائثة أو غاثية أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمي ماتت وعليها نذر أن تمشي إلى الكعبة، فقال:"اقضي عنها"

(1)

.

رابعها:

فيه دلالة أن المرأة تكشف وجهها في الإحرام، وهو إجماع كما حكاه ابن عبد البر

(2)

، ويحتمل كما قال ابن التين أنها سدلت ثوبًا على وجهها.

خامسها:

في نظر الفضل إلى المرأة مغالبة طباع البشر لابن آدم وضعفه عما ركب فيه من الشهوات.

سادسها:

أن العالم يغير من المنكر ما يمكنه إذا رآه، وأسند ابن المنذر من حديث ابن عباس قال: كان الفضل رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عرفة

(1)

"معرفة الصحابة" لأبي نعيم 6/ 3407 (3968).

(2)

"التمهيد" 15/ 104.

ص: 15

فجعل الفتى يلاحظ النساء وينظر إليهن فقال: "يا ابن أخي، هذا يوم من ملك فيه سمعه وبصره ولسانه غفر له"

(1)

ولم ينقل أنه نهى المرأة عن النظر إليه، وكان الفضل وسيمًا أي: جميلًا، ويحتمل أن يكون الشارع اجتزى بمنع الفضل لما رأى أنها تعلم بذلك منع نظرها إليه؛ لأن حكمهما واحد، أو تنبهت لذلك أو كان ذَلِكَ الموضع هو محل نظره الكريم فلم يصرف نظرها.

وقال الداودي: فيه احتمال أن ليس على النساء غض أبصارهن عن وجوه الرجال، إنما يغضضن عورتهن، وقال بعض المالكية: ليس على المرأة تغطية وجهها لهذا الحديث، وإنما على الرجل غض بصره، وقيل: إنما لم يأمرها بتغطية وجهها، لأنه محل إحرامها، وصَرْفُ وجه الفضل بالفعل أقرب من الأمر، وذهب ابن عباس وابن عمر إلى أن المراد في قوله تعالى:{وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] أنه الوجه والكفان

(2)

، وبه قال مجاهد وعطاء وأكثر الفقهاء

(3)

. وقال ابن مسعود: الثياب

(4)

.

سابعها:

فيه أن النيابة في الحج سائغة بأجرة وبغيرها، وهو أن يكون عاجزًا

(1)

رواه أحمد 1/ 329، 356، وأبو يعلى 4/ 330 (2441)، وابن خزيمة 4/ 260 (2832)، والطبراني 18/ 288 - 289 (741)، والبيهقي في "شعب الإيمان" 3/ 461 - 462 (4071)، وقال الهيثمي في "المجمع" 3/ 251: رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني في "الكبير"، وقال أيضًا: كان الفضل بن عباس رديف، ورجال أحمد ثقات. وضعفه الألباني في "الضعيفة"(5960).

(2)

ورد بهامش الأصل: حكى القاضي عياض اتفاق العلماء.

(3)

رواه الطبري في "تفسيره" 9/ 304 (25963 - 25965).

(4)

الطبري 9/ 304 (25953).

ص: 16

عن المباشرة بنفسه، إما بزمانة لا يرجى زوالها وسببها، فله أن يستنيب، وبه قال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه والشافعي وأحمد وإسحاق، وقال مالك والليث والحسن بن صالح: لا يحج أحد عن أحد إلا عن ميت لم يحج حجة الإسلام.

وحاصل ما في مذهب مالك ثلاثة أقوال: مشهورها لا تجوز النيابة، ثالثها: تجوز في الولد، وقال: يتطوع عنه بغير هذا، يهدي عنه أو يتصدق أو يعتق، وتنفذ الوصية به على المشهور عندهم ويكون لمن حج أحب إلي، فإن لم يوص لم يجز، وإن كان فلا ضرورة على الأصح، ويكره للمرء إجارة نفسه على المشهور وتلزم.

قال ابن المنذر: وأجمع أهل العلم على أن من عليه حجة الإسلام وهو قادر على أن يحج لا يجزئه إلا أن يحج بنفسه، لا يجزئ أن يحج غيره عنه

(1)

، وقد روينا عن علي أنه قال لرجل كبير لم يحج: إن شئت فجهز رجلًا يحج عنك

(2)

.

وعن النخعي وبعض السلف: لا يصح الحج عن ميت ولا عن غيره

(3)

، وهي رواية عن مالك وإن أوصى به، وفي "مصنف ابن أبي شيبة" عن ابن عمر أنه قال: لا يحج أحد عن أحد، ولا يصم أحد عن أحد، وكذا قال إبراهيم النخعي

(4)

.

وقال الشافعي والجمهور: يجوز الحج عن الميت عن فرضه ونذره سواء أوصى به أم لا، وهو واجب في تركته، وعندنا تجوز الاستنابة في

(1)

"الإجماع" لابن المنذر (242).

(2)

رواه ابن أبي شيبة 3/ 350 (15005).

(3)

رواه ابن أبي شيبة 3/ 361 (15120).

(4)

"المصنف" 3/ 361 (15117).

ص: 17

حج التطوع على أصح القولين، والحديث حجة على الحسن بن حي في قوله: إن المرأة لا يجوز أن تحج عن الرجل، وهو حجة لمن أجازه.

وقال صاحب "الهداية": الأصل أن الإنسان له أن يجعل ثواب عمله لغيره صلاة أو صدقة أو صومًا أو غيرها عند أهل السنة والجماعة، لما روي أنه عليه السلام ضحى بكبشين أحدهما عن نفسه والآخر عن أمته، والعبادات أنواع مالية محصنة كالزكاة، وبدنية كالصلاة، ومركب منها كالحج، والنيابة تجزئ في النوع الأول ولا الثاني، وتجزئ في الثالث عند العجز دون القدرة، والشرط العجز الدائم إلى وقت الموت، وظاهر مذهبهم أن الحج يقع عن المحجوج عنه؛ لحديث الخثعمية، وعند محمد أنه يقع عن الحاج وللآخر ثواب النفقة.

قال الخطابي: العجب من مالك كيف روى هذا الحديث ولم يقل به، قال: وقد تأول بعضهم أن معنى (أدركت أبي شيخًا كبيرًا) أي أسلم وهو شيخ بهذِه الصفة

(1)

.

وقال ابن عبد البر: اختلف أهل العلم في معنى هذا الحديث، فذهب جماعة منهم إلى أنه مخصوص به أبو الخثعمية: لا يجوز أن يتعدى به إلى غيره، بدليل الآية السالفة {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} وكان أبوها ممن لا يستطيع فلم يكن عليه الحج فلما لم يكن عليه لعدم استطاعته كانت ابنته مخصوصة بذلك الجواب، وممن قال ذَلِكَ مالك وأصحابه

(2)

؛ لأن الحج عندهم من عمل البدن فلا ينوب فيه أحد عن أحد كالصلاة.

(1)

"أعلام الحديث" 2/ 831 - 832.

(2)

"التمهيد" 9/ 124 - 125.

ص: 18

وذكر ابن حزم من حديث إبراهيم بن محمد (العبدوي) أن امرأة قالت: إن أبي شيخ كبير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"حجي عنه، وليس لأحد بعده" وكذا رواه محمد بن حبان (الإخباري)

(1)

أن امرأة قالت، الحديث

(2)

، وهو ضعيف بالإرسال وغيره، ويحتمل أن يكون معنى (أدركت أبي) أي: أن الحج فُرض وأبوها على تلك الحالة، ويبعده قولها: عليه فريضة الحج، والشارع أنما أجابها بالإحجاج عنه لما رأى من حرصها على إيصال الخير له، كما أجاب الأخرى في النذر وشبهه بالدين، والإجماع على أنه لا يجب على وليه قضاء الدين عنه، وجعله بعض المالكية خاصًّا بالابن عن أبيه، حكاه القرطبي

(3)

وحكاه ابن حزم مرسلًا، وضعفه عن محمد بن الحارث التيمي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا يحج أحد عن أحد إلا ولد عن والد"

(4)

.

قال الطرطوسي في "الحج" تأليفه في هذا الحديث أربعة: أوله وجوب الحج على المعضوب لإقرارها عليه تشبيهه بالدين، وهو واجب جواز فعلها عنه وأنه ينفعه، ويحتمل أن تريد: أحج عنه؛ أي: بعد موته، أو يكون أوصى به.

فرع:

بذل الولد الطاعة يصير مستطيعًا به على الأصح.

(1)

كذا في الأصل وفي "المحلى" الأنصاري.

(2)

"المحلى" 7/ 59.

(3)

"المفهم" 442/ 3 - 443.

(4)

"المحلى" 7/ 60.

ص: 19

فرع:

لو صح المعضوب بعد ذَلِكَ أعاده عندنا وفاقًا للكوفيين وأبي ثور، وخلافًا لأحمد وإسحاق.

فرع:

لولي الصبي أن يحرم عن الصبي الذي لا يميز والمجنون.

فرع غريب: عن ابن سيرين: كانوا يرون أن المرأة إذا حجت وفي بطنها ولد، أن له حجًا، وعن طاوس يجزئ عن الصغير حجة حتَّى يكبر

(1)

.

ثامنها:

أجمع العلماء على أن الاستطاعة شرط في إيجاب الحج. واختلفوا في تفسيرها على قولين:

أحدهما: أن من قدر على الوصول ببدنه فقد لزمه، وإن لم يجد راحلة، وهو بمنزلة من يجدها ويعجز عن المشي، وهو قول ابن الزبير وعكرمة والضحاك، وبه قال مالك.

ثانيها: أنها الزاد والراحلة، وهو قول الحسن ومجاهد وسعيد بن جبير

(2)

، وبه قال أبو حنيفة والشافعي وأحمد وإسحق وعبد العزيز بن أبي سلمة وسحنون وظاهر قول ابن حبيب، وأثبته الطرطوسي قولًا وادعى أن ذكر الراحلة لم يذكر في حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، وليس كما ذكر، فهي فيه في الدارقطني

(3)

.

(1)

رواه عنهما ابن أبي شيبة 3/ 338 (14873)، (14876).

(2)

رواه عنه الطبري في "تفسيره" 3/ 364 (7479 - 7480).

(3)

"سنن الدارقطني" 2/ 215.

ص: 20

وأخذ المهلب من حديث الباب ما نحا إليه مالك فقال فيه: إن الاستطاعة لا تكون الزاد والراحلة، ألا ترى أن ما اعتذرت به هذِه المرأة عن أبيها ليس بهما، وإنما كان ضعف جسمه، فثبت أن الاستطاعة شائعة كيفما وقعت وتمكنت، وقال غيره: إنها في لسان العرب: القدرة، فإن جعلناها عمومًا في كل قادر جاز سواء قدر ببدنه أو به وبماله أو بماله إلا أن تقوم دلالة، وإن قلنا: إن حقيقتها أن تكون صفة قائمة في المستطيع كالقدرة والكلام والقيام والقعود فينبغي أن تكون الاستطاعة صفة فيه تخصه، وهذا لا يكون إلا لمن هو مستطيع ببدنه دون ماله، وقد سلم المخالف أن المريض ليس بمستطيع وإن وجدهما، وأهل الحرم والمواقيت فما دونهم لا يعتبر فيهم زاد ولا راحلة

(1)

.

فاحتج الشافعي ومن وافقه أنه عليه السلام لما سئل عن السبيل في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] قال: "الزاد والراحلة" أخرجه الحاكم -أبو عبد الله- في "مستدركه" من حديث أنس، قال: صحيح على شرط الشيخين، ثم ذكر له متابعًا على شرط مسلم

(2)

، وضعفه البيهقي بلا دليل

(3)

.

وحكى القاضي حسين وجهًا أنه لا يشترط وجود الزاد في حق من هو على دون مسافة القصر؛ لأنه كالحاضر. وحكى ابن كج عن أبي علي الطبري أنه إذا كان في الحرم يلزمه الحج إذا كان صحيحًا ولم يكن له مال ولا كسب قال: وهذا فاسد إذ لا يكلف المسألة في الطريق.

(1)

انظر "شرح ابن بطال" 4/ 186.

(2)

"المستدرك" 1/ 441 - 442.

(3)

"السنن الكبرى" 4/ 337.

ص: 21

وقول ابن بطال: فإن احتجوا بحديث: "السبيل الزاد والراحلة"، فإن ابن معين وغيره قالوا: راويه إبراهيم الخوزي، وهو ضعيف

(1)

عجيب منه في اقتصاره على طريق ضعيف، وطرحه لما صح كما أسلفناه على أن الترمذي حسنه من الوجه المذكور، قال: وإبراهيم يُضعف

(2)

، وقد رواه الدارقطني بإسقاطه

(3)

، ثم نقل عن ابن المنذر أنه قال: لا يثبت الحديث الذي فيه ذكر الزاد والراحلة وليس بمتصل

(4)

.

قُلْتُ: ما ذكرناه ثابت متصل فقدم على الطريقة الضعيفة، ثم قال: والآية عامة ليست مجملة لا تفتقر إلى بيان فكأنه تعالى كلف كل مستطيع على أي وجه قدر بمال أو بدن، قال: والدليل على ذَلِكَ حديث: "لا تحل الصدقة لغني، ولا لذي مرة سوي"

(5)

فجعل صحة الجسم مساوية للغنى، فسقط قول من اعتبر الراحلة.

قُلْتُ: لا يسقط فإن الحديث مفسر للاستطاعة في الآية، وهو المبين عن الله، وقال إسماعيل بن إسحاق: لو أن رجلًا كان في موضع يمكنه

(1)

"شرح ابن بطال" 4/ 186.

(2)

"سنن الترمذي" من حديث ابن عمر 3/ 8، وأيضًا برقم (2998)، وضعفه الألباني الأول في "ضعيف الترمذي" قائلًا: ضعيف جدًا، وضعف الثاني مثل الأول، ولكن دون لفظ: العج والثج، فإنها وردت في حديث آخر.

(3)

"سنن الدارقطني" من حديث ابن عمر 2/ 216 - 218.

(4)

والحديث أشار النووي في "المجموع" 7/ 53 لضعفه، وضعفه الألباني في "الإرواء"(988). وانظر لزامًا "البدر المنير" 6/ 19 - 30، و"التلخيص" 2/ 221.

(5)

رواه أبو داود من حديث عبد الله بن عمرو (1634)، والترمذي (652) وقال: حديث عبد الله بن عمرو حديث حسن، وعبد الرزاق 4/ 110 (7155)، وأحمد 2/ 164، 192، والدارقطني 2/ 119، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" 2/ 14، والحاكم 1/ 407، والبيهقي 7/ 13، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود"(1444).

ص: 22

المشي إلى الحج وهو لا يملك راحلة لوجب عليه الحج؛ لأنه مستطيع إليه سبيلًا

(1)

.

قُلْتُ: لا نسلم له ثم قال: وما رووه عن السلف في ذَلِكَ أن السبيل الزاد والراحلة، فإنما أرادوا التغليظ على من ملك هذا المقدار ولم يحج؛ لأنهم ذكروا أقل الأملاك التي يبلغ بها الإنسان إلى الحج.

قُلْتُ: لا نسلمه بل أرادوا التشريع، فإن قيل: فإنها عبادة تتعلق بقطع مسافة بعيدة فوجبت فيها الراحلة أصله الجهاد، قيل: لا فرق بينهما، ومن تعين عليه فرض الجهاد وهو قادر ببدنه على المشي فليست الراحلة شرطًا في وجوبه عليه

(2)

.

فرع:

انفرد أبو محمد بن حزم حيث قال: الحج واجب على العبد أيضًا؛ احتجاجًا بقول جابر وابن عمر: ما من مسلم. وقال الآخر: ما من أحد من خلق الله إلا وعليه عمرة وحجة معًا، ولم يخصا إنسيًّا من جني ولا حرًّا من عبد، وسئل القاسم وسلمان بن يسار عن العبد يحج بإذن سيده فقالا: يجزئ عنه من حجة الإسلام، فإذا حج بغير إذنه لم يُجْزِهِ

(1)

جاء في هامش الأصل ما نصه: من خط الشيخ في الهامش قال ابن حزم: الأخبار في ذلك في أحدها الخوزي وهو ساقط مطرح، وفي الثاني الحارث الأعور وهو كذاب والثالث مرسل ولا حجة في مرسل، والروايات في ذلك عن الصحابة واهية كلها [المحلى 7/ 55]، وتبعه ابن العربي وغيره. وقال ابن عبد البر: روي ذلك من أوجه منها مرسلة ومنها ضعيفة. وقال عبد الرحمن: سألت أبي عن حديث رواه سعيد بن سلام عن ابن عمر العمري عن نافع عن ابن عمر مرفوعًا: "الزاد والراحلة" فقال: باطل [علل ابن أبي حاتم 1/ 296 (891)]. وقال ابن دحية في "علمه": قال البخاري ومسلم: لا يصح في هذا الباب حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(2)

"شرح ابن بطال" 4/ 186 - 187.

ص: 23

وقال مجاهد: إذا حج العبد وهو فحل أجزأت عنه حجة الإسلام، قال: وأما خبر محمد بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم فمرسل لا يعرف، وحديث ابن عباس وقفه جماعة

(1)

.

فإن صح وقفه فهو منسوخ؛ لأنه كان قبل الفتح، ومن قال: إنه عليه السلام لم يحج بأم ولده فكذب شنيع لا يوجد.

تاسعها: ادعى الطحاوي والطرطوسي، أن في هذِه الأحاديث ما يدل على أنه جائز للرجل أن يحج عن غيره، وإن لم يكن حج عن نفسه لإطلاقها ولم يسألها أحججت أم لا، ويدل عليه تشبيهه بالدين ويجوز قضاؤه بغير إذن من عليه، قال: والذي يدل عليه أن من حج تطوعًا ولم يحج الفرض أنها تكون تطوعًا -كما قاله من قاله من أهل المدينة يعني: المالكيين والكوفة ولا يكون من حجة الإسلام كما قاله من قاله- ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أول ما يحاسب به العبدُ يوم القيامة صلاته، فإن كان أكملها كتبت كاملة، وإن لم يكن أكملها قال الله جل وعلا لملائكته: انظروا هل تجدون لعبدي من تطوع فأكملوا ما ضيع به من فريضته"

(2)

.

والزكاة مثل ذَلِكَ ثم تؤخذ الأعمال على مثل ذَلِكَ، فدل أنه جائز للرجل أن يحج تطوعًا، وإن لم يكن حج الفرض، وأنه جائز أن يحج عن

(1)

انظر: "المحلى" 7/ 42 - 44.

(2)

رواه أبو داود من حديث أبي هريرة برقم (864)، والترمذي (413)، وقال: حديث أبي هريرة حديث حسن غريب من هذا الوجه، والنسائي 1/ 233 - 234، وابن ماجه (1425)، وأحمد 2/ 290، 425، والبخاري في "التاريخ الكبير" 2/ 33 - 34، والحاكم 1/ 262، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وله شاهد بإسناد صحيح على شرط مسلم، والبيهقي 2/ 386، وابن عبد البر في "تمهيده" 24/ 80، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود" برقم (810).

ص: 24

غيره قبل نفسه، قال: وأما حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلًا يقول: لبيك عن شبرمة، فقال:"من شبرمة" قال: أخ لي -أو قريب لي- قال: "أحججت عن نفسك؟ " قال: لا، قال:"اجعل هذِه عن نفسك ثم حج عن شبرمة"

(1)

. فلا حجة فيه لمن تعلق به، وهو حديث معلول.

والصحيح أنه موقوف على ابن عباس، وكذا قال أحمد: الصواب وقفه عليه، وأعله بعضهم بالإرسال، والذي يصح في هذا المعنى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من رواية ابن عباس أنه سئل عن رجل لم يحج، أيحج عن غيره؟ فقال:"دين الله جل وعز أحق أن يقضيه" وليس فيه أنه لو أحرم عن غيره كان ذَلِكَ الإحرام عن نفسه.

وقال الطرطوسي: وهو حجة على من قال به؛ لأن قوله: "حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة" وفي لفظ: "اجعل هذِه عن نفسك ثم حج عن شبرمة" دليل على أنه كان انعقد عن شبرمة، فلو كان قد وقع هذا عن نفسه كما زعمتم كيف يقول له:"حج عن نفسك؟! " غير أن هذا كان في عام الفتح

(2)

؛ لأنه عليه السلام فسخ حجهم إلى عمرة، وإن خالف الشافعي في الفسخ، فقد رده عليه المتقدمون والمتأخرون والفقهاء

(1)

رواه أبو داود (1811)، وابن ماجه (2903)، وابن الجارود في "المنتقى" 2/ 113 - 114 (499)، وأبو يعلى 4/ 329 (2440)، وابن خزيمة 4/ 345 (3039)، وابن حبان 9/ 299 (3988)، والطبراني 12/ 42 - 43 (12419)، والدارقطني 2/ 268 - 269، والبيهقي 4/ 336، وقال: هذا إسناد صحيح، ليس في الباب أصح منه، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود" (1589) قائلًا: إسناده صحيح على شرط مسلم.

(2)

في هامش الأصل تعليق نصه: قوله في عام الفتح فيه نظر كبير، وما أظن ذلك وقع إلا من النساخ وإلا فعالم لا يقول ذلك والله أعلم.

ص: 25

والمحدثون، والجماعة مطبقون على أن هذا كان عام الفتح، فلما جاز فسخ الحج إلى العمرة جاز فسخه من شخص إلى شخص.

فإن قُلْتَ: أراد بقوله: "اجعل هذِه عن نفسك" التلبية لا الإحرام.

قُلْتُ: هذا غلط؛ لأنه قال: "أحججت عن نفسك؟ " وهو صريح في الحج دونها.

قُلْتُ: الحديث أخرجه أبو داود وابن ماجه بإسناد على شرط الصحيح بلفظ: "حج عن نفسك"

(1)

، ورواية ابن حبان في "صحيحه":"فاجعل هذِه عن نفسك، ثم حج عن شبرمة"

(2)

قال البيهقي: إسناده صحيح ليس في الباب أصح منه

(3)

، وصححه ابن القطان أيضًا عنه

(4)

وحمله بعضهم على الندب عملًا بقوله: "ابدأ بنفسك ثم بمن تعول" وفي رواية للدارقطني: وها هنا بدل شبرمة نبيشة، والصواب شبرمة

(5)

.

وما سلف من الجواز هو قول الحسن وإبراهيم وأيوب وجعفر بن محمد وأبي حنيفة ومالك، وحكي عن أحمد أيضًا مثله. وقال الأوزاعي والشافعي وإسحاق: لا يجوز، ويقع إحرامه عن حجة الإسلام، وعن ابن عباس يقع الحج باطلًا ولا يصح عنه ولا عن غيره، ونقل عن بعض الحنابلة كما في "المغني".

(1)

سبق تخريجهما.

(2)

سبق تخريجه.

(3)

"السنن الكبرى" 4/ 336.

(4)

"بيان الوهم والإيهام" 5/ 450 - 452 (2528).

(5)

"سنن الدارقطني" 2/ 268.

ص: 26

وقال الشافعي في "مسنده": حَدَّثَنَا سعيد بن سالم، عن سفيان بن سعيد، عن طاوس بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن أبي أوفي قال: سألته عن الرجل لم يحج أيستقرض الحج؟ قال: لا

(1)

. وقال الثوري: إن كان يقدر على الحج عن نفسه يحج عن نفسه، وإلا حج عن غيره، وحكاه النووي عن أبي ثور وداود أيضًا محتجين بأن الحج بما تدخله النيابة فجاز أن يؤديه عن غيره ممن لم يسقط فرضه عن نفسه كالزكاة. وروى ابن أبي شيبة في "مصنفه" عن وكيع، عن عمر بن ذر، عن مجاهد في الرجل يحج عن الرجل ولم يكن حج قط قال: يجزئ عنه وعن صاحبه الأول. وعن يزيد بن هارون، حدثنا حميد بن الأسود، عن جعفر، عن أبيه أن عليًّا كان لا يرى بأسًا أن يحج الصرورة عن الرجل. وحَدَّثَنَا يزيد بن هشام، عن الحسن، أنه كان لا يرى بأسًا أن يحج الضرورة عن الرجل. وعن ابن المسيب بإسناد جيد إن الله واسع لهما

(2)

.

فرع:

لو كان عليه قضاء ونذر قدم القضاء ثم النذر، فإن خبّط ترتب، وعند أبي حنيفة ومالك يقع عما نواه

(3)

.

(1)

"مسند الشافعي" 1/ 284 (745).

(2)

"المصنف" 3/ 188 (13370 - 13373).

(3)

وقع في هامش الأصل: آخر 9 من 4 من تجزئة المصنف.

ص: 27

‌2 - باب قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج: 28]

{فِجَاجًا} [نوح: 20]: الطُّرُقُ الوَاسِعَةُ.

1514 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنَا ابن وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابن شِهَابٍ، أَنَّ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللهِ أَخْبَرَهُ، أَنَّ ابن عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَرْكَبُ رَاحِلَتَهُ بِذِي الُحلَيْفَةِ، ثُمَّ يُهِلُّ حَتَّى تَسْتَوِيَ بِهِ قَائِمَةً. [انظر: 166 - مسلم: 1187 - فتح: 3/ 379]

1515 -

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم، أَخْبَرَنَا الوَلِيدُ، حَدَّثَنَا الأوزَاعِيُّ، سَمِعَ عَطَاءً يُحَدِّثُ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما، أَنَّ إِهْلَالَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ ذِي الحلَيْفَةِ حِينَ اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتهُ.

رَوَاهُ أَنَسٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم. [فتح: 3/ 379]

ذكر فيه عن ابن عمر: قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَرْكَبُ رَاحِلَتَهُ بِذِي الحُلَيْفَةِ، ثُمَّ يُهِلُّ حَتَّى تَسْتَوِيَ بِهِ قَائِمَةً.

وعن عطاء، عن جابر بن عبد الله: أَنَّ إِهْلَالَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ ذِي الحُلَيْفَةِ حِينَ اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ.

رَوَاهُ أَنَسٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم.

الشرح:

معنى {يَأْتُوكَ رِجَالًا} أي: رجالة كما قاله ابن عباس

(1)

، وقرأه عكرمة مشددًا، وقرأ مجاهد رجالًا مخففًا، ويجوز رجلة ورجل

(1)

رواه الطبري في "تفسيره" 9/ 135 - 136 (25051 - 25054).

ص: 28

ورجالًا، فهذِه ستة أوجه في جمع راجل، إلا أن ما روي عن مجاهد غير معروف، قال ابن عباس فيما ذكره ابن المنذر في الآية: هم المشاة والركبان على كل ضامر من الإبل. وروى محمد بن كعب، عن ابن عباس قال: ما فاتني من شيء أشد علي إلا أن أكون حججت ماشيًا؛ لأن الله تعالى يقول: {يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} أي: ركبانًا، فبدأ بالرجال قبل الركبان

(1)

.

وذكر إسماعيل بن إسحاق، عن مجاهد قال: أهبط آدم بالهند فحج على قدميه البيت أربعين حجة. وعن ابن أبي نجيح، عن مجاهد أن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام حجا ماشيين

(2)

، وحج الحسن بن علي خمسة وعشرين حجة ماشيًا، وإن النجائب لتقاد بين يديه

(3)

.

وفعله ابن جريج والثوري، وحج رسول الله صلى الله عليه وسلم راكبًا، وكذلك حديث ابن عمر وجابر في هذا الباب، وذلك كله مباح لكن الأظهر عندنا أن الركوب أفضل وفاقًا لمالك للاتباع ولفضل النفقة؛ فإن النفقة فيه كالنفقة في سبيل الله سبعمائة ضعف، كما أخرجه أحمد من حديث بريدة

(4)

.

وقال المروذي: قرئ على أبي عبد الله، ثنا وكيع، ثنا فضيل -يعني: ابن عياض- عن ليث عن طاوس قال: حج الأبرار على الرحال

(5)

.

(1)

ذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" 8/ 2488 (13885)، ورواه الخطيب في "تاريخه" 74/ 404 - 405.

(2)

رواه ابن أبي شيبة 3/ 422 (15754).

(3)

رواه الحاكم في "المستدرك" 3/ 169، وذكره البيهقي 4/ 331.

(4)

"مسند أحمد" 5/ 354 - 355.

(5)

رواه ابن أبي شيبة 3/ 427 (15799)، وأحمد في "الزهد" ص 451.

ص: 29

وصحح جماعة أن المشي أفضل، وبه قال إسحاق؛ لأنه أشق على النفس، ولذلك بدأ به في الآية. وفي حديث صححه الحاكم من حديث ابن عباس مرفوعًا:"من حج إلى مكة ماشيًا حتَّى يرجع كتب له بكل خطوة سبعمائة حسنة من حسنات الحرم" فقيل: وما حسنات الحرم؟ قال: "كل حسنة بمائة ألف حسنة"

(1)

.

ولأبي موسى المديني بإسناده: "الحاج الراكب له بكل خف يضعه بعيره حسنة، والماشي له بكل خطوة يخطوها سبعون حسنة من حسنات الحرم" وفيه القدامي

(2)

.

وفي "مستدرك الحاكم" من حديث أبي سعيد الخدري قال: حج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مشاة من المدينة إلى مكة فقال: "اربطوا على أوساطكم مآزركلم وامشوا مشيًا خلط الهرولة" ثم قال: صحيح الإسناد

(3)

.

قُلْتُ: ينظر هذا أو يبدأ بأصحابه

(4)

.

(1)

"المستدرك" 1/ 460 - 461.

ورواه البيهقي 4/ 331 وأشار لضعفه، 10/ 78.

وضعفه العلامة النووي في "المجموع" 7/ 74، والألباني في "الضعيفة"(495).

(2)

ورواه الديلمي كما في "الضعيفة" 7/ 496 عن عبد الله بن محمد بن ربيعة: حدثنا محمد بن مسلم الطائفي عن إبراهيم بن ميسرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مرفوعًا والحديث قال عنه الألباني 7/ 496 (3499): ضعيف جدًّا.

والقدامي الذي ذكره المصنف هو عبد الله بن محمد بن ربيعة، ضعيف جدًا؛ قال الذهبي في "الميزان" 3/ 202 (4544): أحد الضعفاء، أتى عن مالك بمصائب.

(3)

"المستدرك" 1/ 442 - 443.

والحديث رواه ابن ماجه (3119) وضعف إسناده البوصيري في "الزوائد"(1026)، وضعفه الألباني في "الضعيفة"(2734).

(4)

وقع في هامش الأصل تعليق يُقرأ: يعني أن يكون أصحابه مبتدأ ومنتهاه فسره.؟

ص: 30

قال ابن القصار: في قوله: {يَأْتُوكَ رِجَالًا} دليل قاطع لمالك أن الراحلة ليست من شرط السبيل، والمخالفون يزعمون أن الحج لا يجب على الرجالة، وهذا خلاف الآية. ولا نسلم له ما ذكره وأين القطع.

وقول البخاري: ({فِجَاجًا}: الطرق الواسعة) اعترض عليه الإسماعيلي فقال: الفج: الطريق في الجبل بين الجبلين، فإذا لم يكن كذلك لم يسم الطريق فجًا. وليس بجيد منه؛ فقد قال ابن سيده: الفج: الطريق الواسع في جبل أو قبل جبل، وهو أوسع من الشعب، وقال ثعلب: هو ما انخفض من الطرق، وجمعه فجاج، وأفجة نادرة

(1)

. وقال صاحب "المنتهى": فجاج الأرض: نواحيها. وقال القزاز، وابن فارس

(2)

، والفارسي في "مجمعه": الفج: الطريق الواسع.

وفي "التهذيب": {مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} أي: واسع غامض

(3)

. وكذا ذكره أبو عبيد.

وقال الطبري: يأتين من كل طريق ومكان ومسلك بعيد، وقال: ابن عباس، وقتادة: من كل مكان بعيد

(4)

، والعميق في اللغة: البعيد، بئر عميق أي: بعيدة القعر.

وقال الزجاج: {يَأْتِينَ} على معنى الإبل وعلى كل بعير {ضَامِرٍ} يعني: الجماعة.

وقال الفراء: وقرئ (يأتون) فذهب إلى الركبان

(5)

.

(1)

"المحكم" 7/ 161.

(2)

انظر: "المجمل" 3/ 701.

(3)

انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري 3/ 2742 - 2743.

(4)

روى عنهما الطبري في "تفسيره" 9/ 136 (25058 - 25061).

(5)

"معاني القرآن" للفراء 2/ 224.

ص: 31

وعزيت إلى ابن مسعود، وذكر بعضهم أنه يقال: ناقة ضامر فيجيء {يَأتينَ} مستقيمًا عليه وقيل: الضامرة: ما اتصف بذلك من جمل وناقة وغير ذَلِكَ، وهو الأظهر لكنه يتضمن معنى الجماعات أو الرفاق، فيحسن لذلك قوله:{يَأْتِينَ} وذكر أن العميق البعيد في المسافة، وذكر عن الفراء.

وأما في الحفير في الأرض وشبهه، فهو بغين معجمة.

وقوله: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} فقال ابن عباس وسعيد بن جبير: التجارة

(1)

. زاد مجاهد وعطاء: ما يرضي الله من أمر الدنيا والآخرة

(2)

.

وقال أبو جعفر: المغفرة

(3)

، واختاره إسماعيل بن إسحاق.

وسيأتي الاختلاف في بدءِ إهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد في موضعه إن شاء الله.

وأحمد بن عيسى شيخ البخاري في حديث ابن عمر هو: التستري، وأخرجه البخاري عن شيخه هذا، عن ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أخيه.

والذي في "مسند ابن وهب" عبد الله، رواية يونس بن عبد الأعلى عنه، أنا يونس، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يهل ملبدًا. وعطاء في حديث جابر هو ابن أبي رباح، وإن كان أيضًا ابن يسار روى عن جابر، لكن الأوزاعي لم يرو إلا عن ابن أبي رباح. والحديث من رواية الأوزاعي عنه.

(1)

رواه الطبري 9/ 136 - 137 (25063)، (25065 - 25067).

(2)

رواه الطبري عن مجاهد 9/ 137 (25069 - 25071).

(3)

رواه الطبري 9/ 137 (25074).

ص: 32

واعترض الإسماعيلي فقال: ليس في الحديثين شيء بما ترجم الباب به.

قُلْتُ: قد أسلفنا مناسبته، ولا شك أن ذا الحليفة فج عميق، وركوبه تفسير للضامر في الآية، وحديث أنس يأتي مسندًا في باب: من بات بذي الحليفة

(1)

. وحديث ابن عباس أسنده في باب ما يلبس المحرم

(2)

.

(1)

برقم (1546).

(2)

برقم (1545).

ص: 33

‌3 - باب الحَجِّ عَلَى الرَّحْلِ

1516 -

وَقَالَ أَبَانُ: حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ دِينَارِ، عَنِ القَاسِمِ عنِ مُحَمَّدِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ مَعَهَا أَخَاهَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ، فَأَعْمَرَهَا مِنَ التَّنْعِيمِ، وَحَمَلَهَا عَلَى قَتَبٍ.

وَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: شُدُّوا الرِّحَالَ فِي الَحجِّ، فَإنَّهُ أَحَدُ الجِهَادَيْنِ. [انظر: 294 - مسلم: 1211 - فتح: 3/ 380]

1517 -

وَقَالَ مُحَمَّدُ بن أَبِي بَكْرٍ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا عَزْرَةُ بْنُ ثَابِتٍ، عَنْ ثُمَامَةَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ: حَجَّ أَنَسً عَلَى رَحْلٍ، وَلم يَكُنْ شَحِيحًا، وَحَدَّثَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَجَّ عَلَى رحْلٍ وَكَانَتْ زَامِلَتَهُ. [فتح: 3/ 380]

1518 -

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمِ، حَدَّثَنَا أَيْمَنُ بْنُ نَابِلٍ، حَدَّثَنَا القَاسِمُ بن مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، اعْتَمَرْتُمْ وَلم أَعْتَمِرْ. فَقَالَ:"يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ، اذْهَبْ بِأُخْتِكَ فَأَعْمِرْهَا مِنَ التَّنْعِيمِ". فَأَحْقَبَهَا عَلَى نَاقَةٍ، فَاعْتَمَرَتْ. [انظر: 294 - مسلم: 1211 - فتح: 3/ 380]

وَقَالَ أَبَانُ: ثَنَا مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ، عَنِ القَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ مَعَهَا أَخَاهَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ، فَأَعْمَرَهَا مِنَ التَّنْعِيمِ، وَحَمَلَهَا عَلَى قَتَب.

وَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: شُدُّوا الرِّحَالَ فِي الحَجِّ، فَإِنَّهُ أَحَدُ الجِهَادَيْنِ.

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ: ثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، ثَنَا عَزْرَةُ بْنُ ثَابِتٍ، عَنْ

ثُمَامَةَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ: حَجَّ أَنَسٌ عَلَى رَحْلٍ، وَلَمْ يَكُنْ شَحِيحًا، وَحَدَّثَ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم حَجَّ عَلَى رَحْلٍ وَكَانَتْ زَامِلَتَهُ.

ثم قال: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، ثَنَا أَيْمَنُ بْنُ نَابِلٍ وهو بالباء الموحدة قبل اللام، ثنَا القَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، اعْتَمَرْتُمْ وَلَمْ أَعْتَمِرْ. فَقَالَ: "يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ، اذْهَبْ بِأُخْتِكَ

ص: 34

فَأَعْمِرْهَا مِنَ التَنْعِيمِ". فَأَحْقَبَهَا عَلَى نَاقَةٍ، فَاعْتَمَرَتْ.

الشرح:

التعليق الأول أخرجه أبو نعيم في "مستخرجه" من حديث عبدة بن عبد الله، نا حَرَمي بن عمارة، ثنا أبان، يعني: ابن يزيد العطار فذكره.

والتعليق الثاني: وهو قوله. وقال محمد بن أبي بكر -وهو: المقدمي شيخ البخاري- ووقع في بعض النسخ: حَدَّثَنَا محمد بن أبي بكر، وقد وصله أيضًا الإسماعيلي فرواه عن يوسف القاضي وغيره عنه. وقال أبو نعيم: حَدَّثَنَا علي بن هارون وأبو الفرج النسائي، ثنا يوسف القاضي، ثنا محمد فذكره، ورَوى حجَّه على رَحْلٍ ابن أبي شيبة، ثنا وكيع، ثنا روح، عن يزيد بن أبان، عن أنس قال: حج رسول الله صلى الله عليه وسلم على رحل وقطيفة لتساويان -أو قال لا تسوي- إلا أربعة دراهم

(1)

.

زاد ابن ماجه "اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعة"

(2)

قال ابن أبي شيبة: وحَدَّثَنَا وكيع، عن سفيان، عن أبي سنان، عن عبد الله بن الحارث أن النبي صلى الله عليه وسلم حج على رحل فاهتز -وقال مرة: فاجتيح- فقال: "لا عيش إلا عيش الآخرة"

(3)

.

وحديث عائشة أخرجه الإسماعيلي أيضًا، ومستخرجه عن القاسم بن زكريا، عن محمد بن عبد الأعلى، ثنا المعتمر، عن أيمن به، وصريح إيراد البخاري أنه أخرج لأيمن استقلالًا كما قال المزي أنه متابعة.

والرحل: مركب للبعير لا غير، والرحال جمع رحل

(4)

.

(1)

"المصنف" 3/ 427 (15800).

(2)

"سنن ابن ماجه"(2890).

(3)

"المصنف" 3/ 427 (15801).

(4)

انظر: "الصحاح" 4/ 1707، "لسان العرب" 3/ 1608.

ص: 35

والقتب -بالتحريك- رحل صغير على قدر السنام، قاله في "المنتهى"، والجمع أقتاب، ويجوز تأنيثه عند الخليل

(1)

، وغيره يرى أن قتيبة تصغير قتب وهو المعاء، وحكى ابن سيده كسر القاف وإسكان التاء أيضًا وقال هو أكاف البعير قال: وقيل: هو الأكاف الصغير على قدر سنام البعير

(2)

، وقال في "المخصص": وقيل: القَتَب لبعير الحمل، والقِتب لبعير السانية

(3)

.

والزاملة: الدابة التي يحمل عليها من الإبل وغيرها

(4)

. قال القزاز: وهي بعير يستظهر به أي يحمل متاعه وطعامه عليه. وجزم به ابن التين وهذا الباب معقود لفضل الحج على الرواحل، وفعله الشارع تواضعًا لربه تعالى وإتعابًا لنفسه وضنًّا لبدنه شكرًا ويضحي يصيبه الحر والبرد ولئلا يتعجل شيئًا من حسناته وتتأسى به أمته.

ومعنى أحقبها: أردفها

(5)

. والتنعيم: موضع بقرب مكة من جهة المدينة، وهو أول الحل

(6)

.

وقول عمر: (فإنه أحد الجهادين) يعني: الحج سماه جهادًا؛ لأنه يجاهد فيه نفسه بالصبر على مشقة السفر، وترك الملاذ، ودرء الشيطان عن الشهوات.

(1)

"العين" 5/ 131.

(2)

"المحكم" 6/ 209.

(3)

"المخصص" 2/ 209.

(4)

انظر: "الصحاح" 4/ 1718 "النهاية في غريب الحديث" 2/ 313، "لسان العرب" 3/ 1864.

(5)

انظر: "الصحاح" 1/ 114، "النهاية في غريب الحديث" 1/ 412، "لسان العرب" 2/ 937.

(6)

انظر: "معجم ما استعجم" 1/ 321، "معجم البلدان" 2/ 49.

ص: 36

‌4 - باب فَضْلِ الحَجِّ المَبُرْورِ

1519 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الُمسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سُئِلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الأَعمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "إِيمَانٌ باللهِ وَرَسُولِهِ". قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: "جِهَادٌ فِي سَبِيلِ اللهِ". قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: "حَجٌّ مَبْرُورٌ".

1520 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الُمبَارَكِ، حَدّثَنَا خَالِدٌ، أَخْبَرَنَا حَبِيبُ بْن أَبِي عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أمِّ الُمؤْمِنِينَ رضي الله عنها أنَهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، نَرى الجِهَادَ أَفْضَلَ العَمَلِ، أفَلَا نُجَاهِدُ؟ قَالَ:"لَا، لكن أَفْضَلَ الجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ". [1861، 2784، 2875، 2876 - فتح: 3/ 381]

1521 -

حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا سَيَّارٌ أَبُو الَحكَمِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا حَازِمِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ حَجَّ لله، فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أمّهُ". [1819، 1820 - مسلم: 1350 - فتح: 3/ 382]

ذكر فيه ثلاثة أحاديث:

أحدها: حديث أبي هريرة: قَالَ: سُئِلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "إِيمَانٌ باللهِ وَرَسُولِهِ". قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: "جِهَادٌ فِي سَبِيلِ اللهِ". قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: "حَجٌّ مَبرورٌ".

وهذا الحديث سلف واضحًا في باب من قال: إن الإيمان هو: العمل، "والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة"

(1)

، كما أخرجاه من حديث أبي هريرة بزيادة في أوله: "العمرة إلى العمرة كفارة لما

(1)

برقم (26) كتاب: الإيمان.

ص: 37

بينهما"

(1)

ولأحمد من حديث جابر قالوا: يا رسول الله، ما الحج المبرور؟ قال: "إطعام الطعام، وإفشاء السلام،

(2)

علقه محمد بن ثابت، قال أبو حاتم: حديث منكر شبه الموضوع

(3)

.

وفي رواية للجُوزي: ما بره؟ قال: "العج والثج" قال: فإن لم يكن. قال: "طيب الكلام"، وللحاكم:"طيب الكلام" بدل "إفشاء السلام" ثم قال: صحيح الإسناد ولم يحتجا بأيوب بن سويد، لكن له شواهد كثيرة

(4)

، وروى سعيد بن المسيب مرفوعًا:"ما من عمل بين السماء والأرض بعد الجهاد أفضل من حجة مبرورة، لا رفث فيها ولا فسوق ولا جدال".

وقوله: "مبرور" قال ابن التين: يحتمل أن صاحبه أوقعه على وجه البر، وأصله أن لا يتعدى بغير حرف جر، ونقل عن بعضهم أنه قال: لعله يريد بمبرور وصف المصدر فتعدى إليه بغير حرف فجعله متعديًا، قال: وحديث: "المبرور ليس له جزاء إلا الجنة"

(5)

قيل: يريد به النافلة؛ لأنه سبق على الحج الجهاد، وليس فرضه كفرض الحج فيدل ذَلِكَ على أن هذا الحج نافلة.

ثانيها: حديث عائشة: يَا رَسُولَ اللهِ، نَرى الجِهَادَ أَفْضَلَ العَمَلِ، أَفَلَا نُجَاهِدُ؟ قَالَ:"لَا، لكن أَفْضَلَ الجِهَادِ حَجٌّ مَبرورٌ".

(1)

سيأتي برقم (1773) كتاب: العمرة، باب: وجوب العمرة وفضلها، ورواه مسلم (1349) كتاب: الحج، باب: في فضل الحج والعمرة ويوم عرفة.

(2)

"مسند أحمد" 3/ 325.

(3)

"علل ابن أبي حاتم" 2/ 118 - 119 (892).

(4)

"المستدرك" 1/ 483.

(5)

سيأتي برقم (1773).

ص: 38

وهو من أفراده وأخرجه في موضع آخر بلفظ: استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجهاد فقال: "جهادكن الحج"

(1)

وله عنها: "لكن أحسن الجهاد وأجمله الحج حج مبرور" قالت: فلا أدع الحج بعد إذ سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم

(2)

.

وذكره في الجهاد عنها بلفظ: سأله نساؤه عن الجهاد، قال:"نعم الجهاد الحج"

(3)

وفي آخر: واستأذنته عائشة، فقال:"جهادكن الحج"

(4)

ولابن ماجه بإسناد على شرط الصحيح عنها قُلْتُ: يا رسول الله، على النساء جهاد؟ قال:"نعم جهاد لا قتال فيه، الحج والعمرة"

(5)

.

وضبطه

(6)

الأصيلي بضم الكاف وتشديد النون، وكذا في أصل الدمياطي أيضًا، قال الشيخ أبو الحسن: وهو الذي تميل إليه نفسي، وسماه جهادًا لما أسلفنا في الباب قبله.

قال ابن بطال: وإنما جعل الجهاد في حديث أبي هريرة أفضل من الحج؛ لأن ذَلِكَ كان في أول الإسلام، وقلت: وكان الجهاد فرضًا متعينًا على كل أحد، فأما إذا ظهر الإسلام وفشى، صار الجهاد من فروض الكفاية على من قام به، فالحج حينئذ أفضل ألا ترى قوله عليه السلام لعائشة:"أفضل جهادكن الحج" لما لم تكن من أهل (القتال)

(7)

والجهاد

(1)

سيأتي برقم (2875) كتاب: الجهاد والسير، باب: جهاد النساء.

(2)

سيأتي برقم (1861) كتاب: جزاء الصيد، باب: حج النساء.

(3)

سيأتي برقم (2876).

(4)

سبق تخريجه برقم (1875).

(5)

"سنن ابن ماجه"(2901)، وصححه الألباني في "صحيح ابن ماجه".

(6)

كتب فوقها في الأصل: أي ضبط لكنَّ.

(7)

في الأصل يقارب رسمها: الفنا، والمثبت من ابن بطال، وفي إحدى نسخه كما في الأصل، على ما أشار محققوه.

ص: 39

للمشركين، فإن حل العدو ببلدة واحتيج إلى دفعه وكان له ظهور وقوة وخيف منه توجه فرض الجهاد على الأعيان وصار أفضل من الحج

(1)

.

وكذا قال ابن التين الحج أفضل، وقال المهلب: وقوله: "لكن أفضل الجهاد حج مبرور" يفسر قوله: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ} [الأحزاب: 33] أنة ليس على الفرض لملازمة البيوت، كما زعم من أراد تنقيص أم المؤمنين في خروجها إلى العراق للإصلاح بين المسلمين، وهذا الحديث يخرج الآية عما تأولوها؛ لأنه قال:"لكن أفضل الجهاد حج مبرور" فدل أن لهن جهادًا غير الحج، والحج أفضل منه، فإن قيل: النساء لا يحل لهن الجهاد قيل: قالت حفصة: قدمت علينا امرأة غزت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ست غزوات، وقالت: كنا نداوي الكلمى ونقوم على المرضى. وهو في الصحيح

(2)

، وكان عليه السلام إذا أراد الغزو أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها غزا بها

(3)

.

قال: في هذا وفي إذن عمر لهن بالحج إبطال إفك المشغبين، وكذب الرافضة فيما اختلقوه من الكذب من أنه عليه السلام قال لأزواجه:"هذِه ثم ظهور الحصر"

(4)

، وهذا ظاهر لا خلاف؛ لأنه حضهن على الحج وبشرهن أنه أفضل جهادهن، وأذن عمر لهن، وسير عثمان معهن. يعني الحديث المذكور آخر كتاب الحج حجة قاطعة على

(1)

"شرح ابن بطال" 4/ 190.

(2)

سيأتي برقم (1652) كتاب: الحج، باب: تقصير الحائض المناسك كلها إلا الطواف.

(3)

سيأتي برقم (2661) كتاب: الشهادة، باب: تعديل النساء بعضهن بعضًا، ورواه مسلم برقم (2770) كتاب: التوبة، باب: في حديث الإفك، وقبول توبة القاذف. وانظر:"شرح ابن بطال"4/ 191.

(4)

سيأتي تخريجه قريبًا.

ص: 40

ما كذب به عليه في أمر أم المؤمنين، وكذا قولهم عنه أنه قال لها:"تقاتلي عليًّا وأنت له ظالمة" فإنه لا يصح.

قُلْتُ: حديث "ثم ظهور الحصر" أخرجه أبو داود في "سننه" من حديث أبي واقد الليثي، عن أبيه بإسناد جيد

(1)

، وأما حديث:"تقاتلي عليًّا وأنت له ظالمة" فليس بمعروف، والمعروف أن هذا قاله للزبير بن العوام مع ضعفه.

الحديث الثالث:

حديث أبي هريرة: سَمِعْتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ حَجَّ لله، فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ". هذا الحديث أخرجه مسلم بألفاظ ليس فيه لفظة (لله) منها: "من أتى هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كما ولدته أمه"

(2)

. ومنها: "من حج فلم يرفث ولم يفسق". وهذا الحديث من قوله تعالى: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ} [البقرة: 197] والرفث: الجماع أو التعريض به أو القبيح من القول. والفسوق: المعاصي كلها أو الذبح لغير الله أو إتيان المعاصي في الحرم أو السباب، أقوال. وقال ربيعة: هو قول الزور. وقرئ (فلا رفوث ولا فسوق) وكذا هو في مصحف عبد الله، وزعم ابن حزم أنه لا يحرم على المحرم إلا الإيلاج فقط، ويباح له أن يقبلها ويباشرها قال: لأن الله تعالى لم ينه إلا عن الرفث، وهو الجماع فقط ولا عجب أعجب ممن نهى عن ذَلِكَ، ولم ينه الله تعالى ولا رسوله عن ذَلِكَ

(3)

.

(1)

"سنن أبي داود" برقم (1722). وصححه الألباني في "صحيح أبي داود"(1515).

(2)

مسلم (1350).

(3)

"المحلى" 7/ 254 - 255.

ص: 41

‌5 - باب فَرْضِ مَوَاقِيتِ الحَجِّ وَالعُمْرَةِ

1522 -

حَدَّثَنَا مَالِكٌ بنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ قَالَ: حَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ جُبَيْرِ: أنَهُ أَتَى عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما فِي مَنْزِلهِ -وَلَهُ فُسْطَاطٌ وَسُرَادِقٌ- فَسَأَلْتُهُ: مِنْ أَيْنَ يَجُوزُ أَنْ أَعْتَمِرَ؟ قَالَ: فَرَضَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لأهلِ نَجْدٍ قَرْنَا، وَلأهلِ الَمدِينَةِ ذَا الُحلَيفَةِ، وَلأهْلِ الشاْمِ الجُحْفَةَ.

ذكر فيه حديث زيد بن جبير أَنَّهُ أَتَى عَبْدَ الله بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما فِي مَنْزِلِهِ -وَلَهُ فُسْطَاطٌ وَسُرَادِقٌ- فَسَأَلْتُهُ: مِنْ أَيْنَ يَجُوزُ أَنْ أَعْتَمِرَ؟ قَالَ: فَرَضَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنَا، وَلأَهْلِ المَدِينَةِ ذَا الحُلَيْفَةِ، وَلأَهْلِ الشَّأْمِ الجُحْفَةَ.

هذا الحديث من أفراد البخاري من هذا الوجه. وزيد بن جُبير -بضم الجيم- ثقة

(1)

، وهو غير زيد بن جَبيرة (ت. ق) -بالفتح- الواهي

(2)

.

(1)

زيد بن جبير بن حرمل، الطائي، الكوفي، من بني جشم بن معاوية، قال عبد الله بن أحمد بن حنبل، عن أبيه: صالح الحديث، وقال العجلي: ثقة ليس بتابعي في عداد الشيوخ، وقال النسائي: ليس به بأس، ووثقه ابن معين، وذكره ابن حبان في "الثقات". انظر:"التاريخ الكبير" 3/ 390 (1298)، "معرفة الثقات" 1/ 377 (524)، "الجرح والتعديل" 3/ 558 - 559 (2527)، "تهذيب الكمال" 10/ 32 - 33 (2092).

(2)

زيد بن جبيرة بن محمود بن أبي جبيرة بن الضحاك الأنصاري، أبو جبيرة المدني قال ابن معين: لا شيء، وقال البخاري: منكر الحديث. وقال في موضع آخر: متروك. وقال النسائي: ليس بثقة، وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث منكر الحديث جدًّا، متروك الحديث، لا يكتب حديثه روى له الترمذي وابن ماجه. انظر ترجمته في:"التاريخ الكبير" 3/ 390 (1299)، "الجرح والتعديل" 3/ 559 (2528)، "تهذيب الكمال" 10/ 34 - 35 (2093).

ص: 42

ومعنى فرضها: وقتها وبينها، فمن تعداه وأحرم بعده صح حجه وعليه دم، إلا أن يعود إليه قبل الطواف.

والنجد: اسم للمكان المرتفع، ويسمى المنخفض: غورًا، وقيل: سمي به لصلابة الأرض وكثرة حجارته وصعوبته

(1)

، حكاه القزاز قال: وقيل: سمي لاستيحاش داخله، وحُكي ضم نون نجد. قال الكلبي: وهو ما بين الحجاز إلى الشام إلى العذيب إلى الطائف، فالطائف من نجد، وكذا المدينة وأرض اليمامة والبحرين إلى عمان، ونجد تسعة مواضع نبه عليه ياقوت

(2)

.

و (قرن) هو موضع معروف كانت فيه وقعة لغطفان على بني عامر يقال له يوم قرن، وهو بفتح الراء وإسكانها، والإسكان أعرف فمن سكن أراد الموضع ومن فتح أراد به اقتران رءوس الجبلين

(3)

. قال ابن التين: رويناه بالسكون. وعن الشيخ أبي الحسن أن الصواب فتحها، وعن الشيخ أبي بكر بن عبد الرحمن: إن قلت: قرن المنازل أسكنت، وإن قلت: قرنًا فتحت، وهو على يوم وليلة من مكة.

وذو الحليفة: ماء من مياه بني جُشَم على ستة أميال، وقيل: سبعة، وقيل: أربعة من المدينة، ووقع في "الشامل" و"البحر" و"الرافعي": أن بينها وبين المدينة ميلًا، وهو غريب.

و (الشأم) مهموز ويجوز تخفيفه بحذفها.

و (الجحفة) قرية جامعة بين مكة والمدينة، سميت بذلك؛ لأن السيل أجحفها أي: استأصلها، وذلك أن العماليق أخرجوا إخوة عابد من

(1)

انظر: "معجم البلدان" 5/ 261.

(2)

انظر: "معجم البلدان" 5/ 261 - 262.

(3)

انظر: "معجم البلدان" 4/ 332.

ص: 43

يثرب فنزلوها، فجاء سيل فأجحفهم، وهي على ثمان مراحل من المدينة، ومصر والمغرب كالشام كما سيأتي في المواقيت

(1)

.

و (الفسطاط) -بضم الفاء وكسرها- الخباء

(2)

. والسرادق: ما يجعل حول الخباء بينه وبينه فسحة كالحائط

(3)

، وظاهره أن ابن عمر كان معه أهله وأراد سترهن بذلك لا للتفاخر.

وأما حكم الباب فإجماع أئمة الفتوى قائم على أن المواقيت في الحج والعمرة واجبة، وهي توسعة ورخصة يتمتع المرء بحلها حتَّى يبلغها.

قال ابن بطال: ولا أعلم أحدًا قال: إن المواقيت من فروض الحج، وهذا الباب رد على عطاء والنخعي والحسن فإنهم زعموا أنه لا شيء على من ترك الميقات ولم يحرم وهو يريد الحج والعمرة، وهو شاذ، ونقل ابن بطال عن مالك وأبي حنيفة والشافعي أنه يرجع من مكة إلى الميقات.

واختلفوا إذا رجع هل عليه دم أم لا؟ فقال مالك ورواية عن الثوري: لا يسقط عنه الدم برجوعه إليه محرمًا، وهو قول ابن المبارك. وقال أبو حنيفة: إن رجع إليه فلبّى فلا دم عليه، وإن لم يلب فعليه الدم. وقال الثوري وأبو يوسف ومحمد والشافعي: لا دم عليه إذا رجع إلى الميقات بعد إحرامه على كل وجه

(4)

. أي: قبل أن يطوف بالبيت، فإن طاف فالدم باق ولو رجع عندنا.

(1)

انظر: "معجم البلدان" 2/ 111.

(2)

انظر: "معجم البلدان" 4/ 263.

(3)

انظر: "لسان العرب" 4/ 1988.

(4)

"شرح ابن بطال" 4/ 192.

ص: 44

‌6 - باب قَوْلِ الله تَعَالَى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197]

1523 -

حَدَّثَنَا يحيى بْنُ بِشْرٍ، حَدَّثَنَا شَبَابَةُ، عَنْ وَرْقَاءَ، عَنْ عَمْرٍو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ أَهْلُ اليَمَنِ يَحُجُونَ وَلَا يَتَزَوَّدُونَ وَيقُولُونَ: نَحْنُ الُمتَوَكِّلُونَ. فَإِذَا قَدِمُوا مَكَةَ سَأَلُوا النَّاسَ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى:{وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197].

رَوَاهُ ابن عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ عِكْرِمَةَ مُرْسَلًا.

فيه: ورقاء عَنْ عَمْرٍو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ أَهْلُ اليَمَنِ يَحُجُّونَ وَلَا يَتَزَوَّدُونَ وَيَقُولُونَ: نَحْنُ المُتَوَكِّلُونَ. فَإذَا قَدِمُوا مَكَّةَ سَأَلُوا النَّاسَ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى:{وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197].

رَوَاهُ ابن عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ عِكْرِمَةَ مُرْسَلًا.

الشرح:

رواية ابن عيينة هذِه أخرجها الإسماعيلي عن يحيى بن محمد بن صاعد، ثنا سعيد بن عبد الرحمن أبو عبيد الله المخزومي، ثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس في قول الله تعالى، الحديث.

قال ابن صاعد: هكذا أنبأنا به أبو عبيد الله في كتاب المناسك فقال فيه: عن ابن عباس، قال: وثنا به في حديث عمرو فلم يجاوز عكرمة، مرسلًا.

واختلف في المراد بالتقوى فقال ابن عباس: إن من التقوى أن

ص: 45

لا يتعرض الرجل إلى ما يحرم عليه من المسألة، وهذا هو المعني عليه دون قول عكرمة: إن التقوى السويق والكعك، وكذا قاله سعيد بن جبير.

قال ابن بطال عقبه: وليس هذا من سعيد، على أن هذِه الأصناف من الأزواد هي التي أبيحت في الحج دون ما سواها، ولكنه على إفهام السائل أن المراد هو: الزاد الذي هو قوام الأبدان لا على التزود من الأعمال، ثم أتبع ذَلِكَ بقوله:{فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197] وكأن هذا أن من التقوى ترك التعرض بحال من الأحوال التي تحوج أهلها إلى المسألة المحرمة عليهم.

وفيه -كما قال المهلب- من الفقه: أن ترك سؤال الناس من التقوى، ألا ترى أن الله تعالى مدح قومًا فقال:{لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة: 273] وكذلك معنى آية الباب أي: تزودوا فلا تؤذوا الناس بسؤالكم إياهم، واتقوا الإثم في أذاهم بذلك.

وفيه: أن التوكل لا يكون مع السؤال؛ وإنما التوكل على الله تعالى دون استعانة بأحد في شيء؛ ويبين ذَلِكَ قوله: "يدخل الجنة سبعون ألفًا بغير حساب، وهم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون"

(1)

فهذِه أسباب التوكل وصفاته.

وقال الطحاوي: لما كان التزود فيه ترك المسألة المنهي عنها في غير الحج، وكانت حرامًا على الأغنياء قبل الحج كانت في الحج أوكد حرمة

(2)

.

(1)

سيأتي برقم (5705) كتاب: الطب، باب: من اكتوى أو كوى غيره وفضل من لم يكتو.

(2)

"شرح ابن بطال" 4/ 192 - 193.

ص: 46

وقوله: فإذا قدموا المدينة، كذا في أصل الدمياطي، وفي ابن بطال: مكة بدل المدينة

(1)

، وكذا هو في شرح شيخنا علاء الدين، وفي بعض النسخ أيضًا.

(1)

المصدر السابق.

ص: 47

‌7 - باب مُهَلِّ أَهْلِ مَكَّةَ لِلْحَجِّ وَالعُمْرَةِ

1524 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْن إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا ابن طَاوُسِ، عن أَبِيهِ، عَنِ ابن عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وقَّتَ لأهلِ الَمدِينَةِ ذَا الحلَيْفَةِ، وَلأهلِ الشَّأْمِ الجُحْفَةَ، وَلأهلِ نَجْدٍ قَرْنَ الَمنَازِلِ، وَلأهلِ اليَمَنِ يَلَمْلَمَ، هُنَّ لَهنَّ وَلمِنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِهِنَّ مِمَّنْ أَرَادَ الَحجَّ وَالعُمْرَةَ، وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ، حَتى أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ.

ذكر فيه حديث ابن عباس أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَقَّتَ لأَهْلِ المَدِينَةِ ذَا الحُلَيْفَةِ، وَلأَهْلِ الشَّأْمِ الجُحْفَةَ، وَلأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ المَنَازِلِ، وَلأَهْلِ اليَمَنِ يَلَمْلَمَ، هُن لَهُنَّ وَلمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِهِن مِمَّنْ أَرَادَ الحَجَّ وَالعُمْرَةَ، وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ، حَتَّى أَهْلُ مَكةَ مِنْ مَكةَ.

ثم ترجم عليه:

ص: 48

‌8 - باب مِيقَاتِ أَهْلِ المَدِينَةِ، وَلَا يُهِلُّوا قَبلَ ذِي الحُلَيْفَةِ

1525 -

حَدّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِك، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"يُهِلُّ أَهْلُ المَدِينَةِ مِنْ ذِي الحُلَيْفَةِ، وَأَهْلُ الشَّامِ مِنَ الجُحْفَةِ، وَأَهْلُ نَجْدٍ مِنْ قَرْنٍ". قَالَ عَبْدُ اللهِ: وَبَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "وَيُهِلُّ أَهْلُ اليَمَنِ مِنْ يَلَمْلَمَ". [انظر: 133 - مسلم: 1182 - فتح: 3/ 387]

وذكر من حديث نافع عن ابن عمر: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يُهِلُّ أَهْلُ المَدِينَةِ مِنْ ذِي الحُلَيْفَةِ، وَأَهْلُ الشَّأْمِ مِنَ الجُحْفَةِ، وَأَهْلُ نَجْدٍ مِنْ قَرْنٍ". قَالَ عَبْدُ الله: وَبَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "وَيُهِلُّ أَهْلُ اليَمَنِ مِنْ يَلَمْلَمَ ".

ثم قال:

ص: 49

‌9 - باب مُهَلِّ أَهْلِ الشَّاْمِ

1526 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدّ، حَدَّثَنَا حَمَّادْ، عَنْ عَمْرٍو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: وَقَّتَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لأهلِ الَمدِينَةِ ذَا الُحلَيْفَةِ، وَلأهلِ الشَّأْمِ الجُحْفَةَ، وَلأهلِ نَجْدٍ قَرْنَ الَمنَازِلِ، وَلأهلِ اليَمَنِ يَلَمْلَمَ، فَهُنُّ لَهُنَّ وَلَمِنْ أَتَى عَلَيهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِن، لَمِنْ كانَ يُرِيدُ الَحجَّ وَالعُمْرَةَ، فَمَنْ كَانَ دُونَهُنَّ فَمُهَلُّهُ مِنْ أَهْلِهِ، وَكَذَاكَ حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ يُهِلُّونَ مِنْهَا.

وذكر فيه حديث ابن عباس السالف، وقال: فَهُنَّ لَهُنَّ وَلمَنْ أَتَى عَلَيْهنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ، لِمَنْ كَانَ يُرِيدُ الحَجَّ وَالعُمْرَةَ، فَمَنْ كَانَ دُونَهُنَّ فَمُهَلُّهُ مِنْ أَهْلِهِ، وَكَذَاكَ حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ يُهِلُّونَ مِنْهَا.

ثم قال:

ص: 50

‌10 - باب مُهَلِّ أَهْلِ نَجْدٍ

1527 -

حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَفِظْنَاهُ مِنَ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالمٍ، عَنْ أَبِيهِ: وَقَّتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.

1528 -

وحَدثني أَحْمَدُ ثنا، حَدَّثَنَا ابن وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ الزهري به، "مُهَلُّ أَهْلِ المَدِينَةِ ذُو الحُلَيْفَةِ، وَمُهَلُّ أَهْلِ الشَّامِ مَهْيَعَةُ وَهِيَ الجُحْفَةُ، وَأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنٌ". قَالَ ابن عُمَرَ رضي الله عنهما: وزَعَمُوا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ-وَلَمْ أَسْمَعْهُ-: "وَمُهَلُّ أَهْلِ اليَمَنِ يَلَمْلَمُ".

وذكر فيه حديث سفيان قال: حَفِظْنَاهُ مِنَ الزهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ: وَقَّتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.

ثم قال: وحَدَّثَنِي أَحْمَدُ، ثَنَا ابن وَهْب قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ الزهري به:"مُهَلُّ أَهْلِ المَدِينَةِ ذُو الحُلَيْفًةِ، وَمُهَلُّ أَهْلِ الشَّأْمِ مَهْيَعَةُ وَهِيَ الجُحْفَةُ، وَأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنٌ". قَالَ ابن عُمَرَ رضي الله عنهما: وزَعَمُوا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ -وَلَمْ أَسْمَعْهُ-: "وَمُهَلُّ أَهْلِ اليَمَنِ يَلَمْلَمُ".

ص: 51

‌11 - باب مُهَلِّ مَنْ كَانَ دُونَ المَوَاقِيتِ

1529 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَقَّتَ لأهلِ الَمدِينَةِ ذَا الُحلَيْفَةِ، وَلأهلِ الشَّامِ الجُحْفَةَ، وَلأهلِ اليَمَنِ يَلَمْلَمَ، وَلأهلِ نَجْدٍ قَرْنًا، فَهُنَّ لَهُنَّ وَلَمِنْ أَتَى عَلَيهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ مِمَّنْ كَانَ يُرِيدُ الَحجَّ وَالعُمْرَةَ، فَمَنْ كَانَ دُونَهُنَّ فَمِنْ أَهْلِهِ، حَتَّى إِنَّ أَهْلَ مَكَّةَ يُهِلُّونَ مِنْهَا. [انظر: 1524 - مسلم: 1181 - فتح: 3/ 388]

فذكر فيه حديث ابن عباس السالف وفيه: وَلأَهْلِ نَجْدٍ قَرْن وقال: فَمَنْ كَانَ دُونَهُنَّ فَمِنْ أَهْلِهِ، حَتَّى إِنَّ أَهْلَ مَكَّةَ يُهِلُّونَ مِنْهَا.

ثم قال:

ص: 52

‌12 - باب مُهَلِّ أَهْلِ اليَمَنِ

1530 -

حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَقَّتَ لأهلِ الَمدِينَةِ ذَا الحلَيْفَةِ، وَلأهلِ الشَّامِ الجُحْفَةَ، وَلأهلِ نَجْدٍ قَرْنَ الَمنَازِلِ، وَلأهلِ اليَمَنِ يَلَمْلَمَ، هُنَّ لأهلِهِنَّ وَلكُلِّ آتٍ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِهِم مِمَّنْ أَرَادَ الَحجَّ وَالعُمْرَةَ، فَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ، حَتَّى أَهْلُ مَكةَ مِنْ مَكةَ. [انظر: 1524 - مسلم: 1181 - فتح: 3/ 388]

وذكر فيه حديث ابن عباس المذكور: (وَلِكُلِّ آتٍ أَتَى عَلَيْهِنَّ)

الشرح:

حديث ابن عباس وابن عمر أخرجهما مسلم أيضًا

(1)

، وعليهما مدار المواقيت، وأخرجه مسلم من حديث أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يُسأل عن المهل فقال: سمعت -أحسبه- رفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يهل أهل المدينة من ذي الحليفة والطريق الآخر الجحفة، ومهل أهل العراق من ذات عرق، ومهل أهل نجد من قرن، ومهل أهل اليمن من يلملم"

(2)

وهو من أفراده، وانفرد البخاري بحديث ابن عمر، عن عمر، وترجم عليه:

(1)

حديث ابن عباس أخرجه مسلم برقم (1181) كتاب: الحج، باب: مواقيت الحج والعمرة، حديث ابن عمر أخرجه برقم (1182).

(2)

مسلم (1183).

ص: 53

‌13 - باب ذَاتُ عِرْقٍ لأَهْلِ العِرَاقِ

1531 -

حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ، عَنْ نَافِع، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: لَمَّا فُتِحَ هَذَانِ المِصْرَانِ أَتَوْا عُمَرَ فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَدَّ لأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنًا، وَهُوَ جَوْرٌ عَنْ طَرِيقِنَا، وَإِنَّا إِنْ أَرَدْنَا قَرْنًا شَقَّ عَلَيْنَا. قَالَ فَانْظُرُوا حَذْوَهَا مِنْ طَرِيقِكُمْ. فَحَدَّ لَهُمْ ذَاتَ عِرْقٍ. [فتح: 3/ 389]

ولفظه عن ابن عمر: لَمَّا فُتِحَ هَذَانِ المِصْرَانِ أَتَوْا عُمَرَ فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَدَّ لأَهْلِ نَجْدٍ قَرْن، وَهُوَ جَوْرٌ عَنْ طَرِيقِنَا، وَإِنَّا إِنْ أَرَدْنَا قَرْنًا شَقَّ عَلَيْنَا. قَالَ فَانْظُرُوا حَذْوَهَا مِنْ طَرِيقِكُمْ. فَحَدَّ لَهُمْ ذَاتَ عِرْقٍ.

إذا عرفت؛ ذَلِكَ فالكلام عليه من أوجه:

أحدها:

في بيان الأماكن الواقعة فيه غير ما سلف، اليمن: إقليم معروف.

ويلملم ويقال: ألملم، بالهمز بدلًا من الياء، يصرف ولا يصرف: جبل من جبال تهامة على ليلتين من مكة، ويقال: يرمرم، بالراء

(1)

.

وذات عرق على مرحلتين من مكة وهي الحد بين نجد وتهامة

(2)

.

و (مَهْيَعَة) -بفتح الميم والياء، وبعضهم كسر الياء، حكاه القرطبي

(3)

وصححه ابن التين، والأول ما في "الصحاح"

(4)

.

(1)

انظر: "معجم البلدان" 5/ 441.

(2)

انظر: "معجم البلدان" 4/ 107 - 108.

(3)

"المفهم" 3/ 262.

(4)

"الصحاح" 3/ 1309 وانظر تفصيل هذِه الأقوال في "معجم البلدان" 5/ 235.

ص: 54

قال ابن الصباغ والروياني: وأبعد المواقيت ذو الحليفة فإنها على عشرة مراحل من مكة، ويليه في البعد الجحفة أي: فإنها على ثلاث مراحل من مكة، والمواقيت الثلاثة على مسافة واحدة، بينها وبين مكة ليلتان قاصدتان.

والمُهل -بضم الميم، وإنما يفتحها من لا يعرف، كما نبه عليه ابن الجوزي- والإهلال: رفع الصوت بالتلبية.

وقولهم لعمر: (وهو جور عن طريقنا)، يعنون وهو: منحرف ومنعدل عنه، ومنه قوله تعالى:{وَمِنْهَا جَائِرٌ} [النحل: 9] أي: غير قاصد، ومنه: جار السلطان إذا عدل في حكمه عن الحق إلى الباطل.

والمصران: البصرة والكوفة، وإنما فتح البلد الذي هما به ولم تكونا مُصِّرَتا بعد، إنما مَصَّرهما عمر بعد ذَلِكَ.

الثاني:

في النسائي من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل الشام ومصر الجحفة، ولأهل العراق ذات العرق

(1)

. وفي إسناده أحمد بن حميد المدني، احتج به الشيخان، ووثقه يحيى بن معين وغيره، وعن أحمد إنكار روايته له هذا الحديث، وأما ابن حزم فصححه

(2)

.

وروى الشافعي في "الأم" عن سعيد بن سالم، عن ابن جريج، عن عطاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المغرب الجحفة الحديث

(3)

، وهذا

(1)

"سنن النسائي" 5/ 123 كتاب: مناسك الحج، باب: المواقيت، ميقات أهل مصر، وصححه الألباني في "صحيح النسائي".

(2)

"المحلى" 7/ 71.

(3)

"الأم" 2/ 137 كتاب: الحج، باب: الخلاف فيمن أهل بحجتين أو عمرتين.

ص: 55

مرسل يعتضد بقيام الإجماع على مقتضاه، وأيضًا فرواه الشافعي متصلًا من حديث جابر، لكن مع الشك في رفعه، ففي ذَلِكَ زيادة مصر والمغرب

(1)

، وحديث جابر السالف من عند مسلم

(2)

أخرجه ابن ماجه من غير شك قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الحديث، وفي إسناده إبراهيم بن يزيد الخُوزي ضُعِّف

(3)

.

ورواه ابن وهب في "مسنده" عن ابن لهيعة، عن أبي الزبير عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول، فذكره. وقال البيهقي: الصحيح رواية ابن جريج، قال: وكقول ابن لهيعة قيل: عن أبي الزناد، عن موسى بن عقبة، عن أبي الزبير، قال: ويحتمل أن يكون جابر سمع ذَلِكَ من عمر بن الخطاب

(4)

.

ولأحمد من حديث جابر وعبد الله بن عمرو قالا: وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل اليمن وأهل تهامة يلملم، ولأهل الطائف -وهي: نجد- قرن، ولأهل العراق ذات عرق

(5)

.

وفي إسناده الحجاج بن أرطأة، وأخرجه الطبراني في "الأوسط" بدونه من طريق جعفر بن برقان، عن ميمون بن مهران، عن ابن (عمر)

(6)

وقال: لم يروه عن ميمون إلا ابن برقان

(7)

.

(1)

"مسند الشافعي" 1/ 290 (756) كتاب: الحج، باب: في مواقيت الحج والعمرة الزمانية والمكانية.

(2)

مسلم (1183/ 18) كتاب: الحج، باب: مواقيت الحج والمعمرة.

(3)

"سنن ابن ماجه"(2915) كتاب: المناسك، باب: مواقيت أهل الآفاق.

(4)

"السنن الكبرى" 5/ 40 كتاب: الحج، باب: ميقات أهل العراق.

(5)

حديث جابر أخرجه أحمد 2/ 181، وحديث ابن عمر أخرجه 2/ 11.

(6)

في الأصل: عمرو، والصواب ما أثبتناه كما في مصادر التخريج.

(7)

"الأوسط" 5/ 165 (4958).

ص: 56

وله من حديث جعفر، ثنا عمرو بن دينار، عن طاوس، عن ابن عباس يرفعه:"ولأهل الطائف قرنًا" وقال: لم يروه عن جعفر إلا أبو نعيم

(1)

.

وللترمذي محسنًا من حديث ابن عباس: وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المشرق العقيق

(2)

. وقال البيهقي: تفرد به يزيد بن أبي زياد

(3)

.

ولأحمد من طريقه: ولأهل العراق ذات عرق. ولابن أبي أسامة ذكر الطائف والعراق. ولأبي داود من حديث الحارث بن عمرو السهمي: وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات عرق لأهل العراق. الحديث

(4)

.

قال البيهقي: فيه من هو غير معروف

(5)

.

وللشافعي أخبرنا مسلم (و)

(6)

سعيد، عن ابن جريج، أخبرني عطاء أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المشرق ذات عرق، قال: فراجعت عطاء فقلت: زعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوقت ذات عرق، ولم يكن أهل مشرق حينئذ قال: كذلك سمعناه أنه وقت ذات عرق أو العقيق لأهل المشرق، ولم يكن يومئذ عراق، ولم يعزه لأحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه يأبى إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم وقته

(7)

.

(1)

"الأوسط" 5/ 165 (4960).

(2)

"سنن الترمذي"(832) كتاب: الحج، باب: ما جاء في مواقيت الإحرام لأهل الآفاق.

(3)

"السنن الكبرى" 5/ 28.

(4)

"سنن أبي داود"(1742) كتاب: المناسك، باب: في المواقيت، وحسنه الألباني في "صحيح أبي داود" 5/ 422 (1529).

(5)

"معرفة السنن" 7/ 96.

(6)

في الأصل: بن. والمثبت من "مسند الشافعي".

(7)

"مسند الشافعي" 1/ 291 (758).

ص: 57

وحكى ابن عبد البر في "تمهيده" عن صدقة بن يسار قال: قيل لابن عمر: والعراق قال: لا عراق يومئذ

(1)

.

ولأبي داود من حديث أم سلمة أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أهل بحجة أو عمرة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ووجبت له الجنة"

(2)

وأخرجه ابن ماجه أيضًا، وصححه ابن حبان

(3)

، وخالف ابن حزم فأعله

(4)

بما بينت غلطه في تخريجي لأحاديث الرافعي

(5)

.

وفي "مراسيل أبي داود" عن ابن سيرين قال: وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل مكة التنعيم قال: وقال سفيان هذا الحديث لا يكاد يعرف

(6)

.

الثالث: شيخ البخاري أحمد المذكور في باب مهل أهل نجد، قال أبو نعيم: هو ابن عيسى التستري، قال الجياني: وكذا نسبه أبو ذر في هذا الموضع.

وقال الكلاباذي: قال لي أبو أحمد محمد بن إسحاق الحافظ أحمد عن ابن وهب في "جامع البخاري" هو ابن أخي ابن وهب، وغلطه الحاكم أبو عبد الله، قال الكلاباذي: قال لي ابن مسنده أبو عبد الله: كل ما قال البخاري في "الجامع": حَدَّثَنَا أحمد عن ابن وهب فهو:

(1)

"التمهيد" 8/ 69.

(2)

رواه أبو داود (1741) كتاب: المناسك، باب: في المواقيت، وضعفه الألباني في "ضعيف أبي داود" 10/ 144 (307).

(3)

"سنن ابن ماجه"(3001) كتاب: المناسك، باب: من أهل بعمرة من بيت المقدس، وصححه ابن حبان في "صحيحه" 9/ 14 (701)، وضعفه الألباني.

(4)

"المحلى" 7/ 76.

(5)

"البدر المنير" 6/ 92 - 978، وضعفه الألباني في "ضعيف أبي داود"(307).

(6)

"مراسيل أبي داود" ص 145 (135 - 136).

ص: 58

ابن صالح ولم يخرج عن ابن أخي ابن وهب شيئًا في "الصحيح"، وإذا حدَّث عن أحمد بن عيسى نسبه، فتحصلنا على ثلاثة أقوال

(1)

.

الرابع:

معنى توقيته صلى الله عليه وسلم هذِه المواقيت لكل بلد لا يجوز تأخير الإحرام لمريد النسك عنها، ثم كلها ثابتة بالنص ومجمع عليها، نعم اختلف في ذات عرق هل هي ميقات بالنص أو باجتهاد عمر، واضطرب الترجيح عندنا فيه، والمنصوص عليه في "الأم" الثاني

(2)

، كما هو مبين في حديث الباب، وقد أسلفناه مرفوعًا أيضًا، وهو قول ابن عباس وابن عمر وعطاء، وقال جابر بالأول

(3)

.

واعتل من قال به؛ لأن العراق فتحت في زمانه، ولم تكن العراق على عهده عليه السلام، وجوابه: أنه قد وقت لأهل الشام الجحفة، وهي يومئذ ذات كفر، وكذا مصر؛ لأنه علم أنها ستفتح على أمته، يؤيده:"منعت العراق دينارها ودرهمها، ومنعت الشام مديها"

(4)

يعني: ستفتح، وحديث:"سيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها"

(5)

.

قال أبو بكر بن المنذر: أجمع عوام أهل العلم على القول بظاهر الحديث

(6)

. يعني: حديث ابن عمر وابن عباس، واختلفوا فيما يفعل

(1)

"تقييد المهمل" 3/ 944 - 956.

وورد بهامش الأصل ما نصه: ثم بلغ في الثاني بعد العشرين، كتبه مؤلفه.

(2)

"الأم" 2/ 117 - 118.

(3)

سبق تخريجها.

(4)

رواه مسلم (2896) كتاب: الفتن، باب: لا تقوم الساعة حتى يحسر الفرات عن جبل من ذهب.

(5)

رواه مسلم (2889) كتاب: الفتن، باب: هلاك هذِه الأمة.

(6)

"الإجماع" لابن المنذر ص 61.

ص: 59

من مرّ بذات عرق، فثبت أن عمر وقته لأهل العراق، ولا يثبت فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم سنده.

وقال ابن حزم: الخبر بيَّنا ضعفه وإنما حد عمر ما حده لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورواية من سمع وعلم أتم من رواية من لم يسمع، وكان أنس يحرم من العقيق، واستحب ذَلِكَ الشافعي والثوري

(1)

.

وهو: وادٍ وراء ذات عرق بما يلي المشرق يقرب منها

(2)

؛ لأن من أحرم منه كان محرمًا منها ولا عكس، وكان مالك والشافعي وأبو حنيفة وأحمد والثوري وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي يرون الإحرام من ذات عرق

(3)

.

قال أبو بكر: الإحرام من ذات عرق يجزئ، وهو من العقيق أحوط، وقد كان الحسن بن صالح يحرم من الربذة، وروي ذَلِكَ عن خصيف والقاسم بن عبد الرحمن، ولولا سنة عمر لكان هو أشبه بالنظر؛ لأن المعنى عندهم في ذات عرق أنه بإزاء قرن والربذة بإزاء ذي الحليفة قال أبو بكر: وقول عمر بن الخطاب أولى أن يهلوا من المواقيت التي ذكرناها، وأحرم الشارع من الميقات الذي سنه لأهل المدينة، وترك أن يحرم من سواه، وتبعه عليه أصحابه وعوام أهل العلم.

قال الطحاوي: وأخذ قوم بحديث ابن عمر وابن عباس وذهبوا إلى أن أهل العراق لا ميقات لهم في الإحرام كميقات سائر أهل البلدان،

(1)

"الأم" 2/ 118.

(2)

انظر: "معجم البلدان" 4/ 139 - 140.

(3)

انظر: "تحفة الفقهاء" 1/ 394، "الكافي لابن عبد البر" ص 148، "الأم" 2/ 118، "المغني" 5/ 56 - 57.

ص: 60

وإنما يهلون من حيث مروا عليه من هذِه المواقيت

(1)

.

وأجمع أهل العلم على أن من أحرم قبل أن يأتي الميقات أنه يحرم

(2)

.

واختلفت الأخبار عن الأوائل في هذا الباب، فثبت أن ابن عمر أهل من إيلياء -يعني: بيت المقدس- كما سيأتي

(3)

، وكان عبد الرحمن والأسود وعلقمة وأبو إسحاق يحرمون من بيوتهم

(4)

، ورخص فيه الشافعي

(5)

.

وقد روينا عن عمر أنه أنكر على عمران بن حصين إحرامه من البصرة

(6)

، وكره الحسن وعطاء ومالك الإحرام من المكان البعيد

(7)

، وكان الشافعي يقول: إذا مر بذي الحليفة وهو يريد الحج والعمرة فلم يحرم فعليه دم، وبه قال الليث والثوري

(8)

.

واختلف فيه أصحاب مالك: فمنهم من أوجبه، ومنهم من لم يوجبه

(9)

. وكره أحمد وإسحاق مجاوزة ذي الحليفة إلى الجحفة

(10)

.

(1)

"شرح معاني الآثار" 2/ 117 - 118.

(2)

انظر: "الإجماع لابن المنذر" ص 48.

(3)

رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" 3/ 121 كتاب: الحج، باب: تعجيل الإحرام من رخص أن يحرم من الموضع البعيد.

(4)

رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" 3/ 122 عن الأسود.

(5)

"الأم" 2/ 119.

(6)

رواه ابن أبي شيبة 3/ 123 - 124.

(7)

انظر: "النوادر والزيادات" 2/ 336، "الكافي لابن عبد البر" ص 148.

(8)

انظر: "الاستذكار" 11/ 84، "الأم" 2/ 119.

(9)

انظر: "الاستذكار" 11/ 83.

(10)

انظر: "المغني" 5/ 64.

ص: 61

وقال ابن المسيب وغيره: يهل من مهل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أبو ثور يرخص أن يجاوز من مر بذي الحليفة إلى الجحفة، وبه قال أصحاب الرأي، غير أن الوقت أحب إليهم

(1)

، وبهذا نقول، وكانت عائشة إذا أرادت الحج أحرمت من ذي الحليفة، وإذا أرادت العمرة أحرمت من الجحفة، ووقع في "شرح ابن التين" أن الأفضل في حق أهل الشام ومصر والمغرب أن يهلوا من ذي الحليفة، وهو عجيب.

واختلفوا فيمن جاوز الميقات غير محرم، فقال الثوري والشافعي وأبو ثور ويعقوب ومحمد: يرجع إلى الميقات، فإن لم يفعل إهراق دمًا

(2)

.

وكان جابر بن زيد والحسن وسعيد بن جبير يرون أن يرجع إلى الميقات إذا تركه، وفي قول الشافعي والثوري وأبي ثور ومحمد ويعقوب: إن جاوزه فأحرم ثم رجع فلا شيء عليه وإلا قدم

(3)

. كما أسلفناه في بادٍ فرض مواقيت الحج والعمرة. وقال مالك كقول هؤلاء: إذا لم يرجع عليه دم، وإن جاوزه فأحرم ثم رجع إليه لم ينفعه الرجوع والدم عليه

(4)

.

وقال ابن المبارك: لا يسعه الرجوع والدم عليه. وقال النعمان: إن جاوزه وأحرم فان رجع ملبيًّا سقط وإلا فلا، وقد سلف أيضًا.

وفي المسألة أقاويل غير هذا:

أحدها: أنه لا شيء على من ترك الميقات، هذا أحد قولي عطاء،

(1)

انظر: "تبيين الحقائق" 2/ 7.

(2)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 2/ 65، "البيان" 4/ 113 - 114.

(3)

انظر: المصادر السابقة.

(4)

انظر: "الاستذكار" 11/ 84، "بداية المجتهد" 2/ 632.

ص: 62

وروينا ذَلِكَ عن الحسن وإبراهيم.

ثانيها: روينا عن ابن الزبير أنه يقضي حجه، ثم يرجع إلى الميقات فيهل بعمرة.

ثالثها: أنه لا حج له، كذا قاله سعيد بن جبير.

واختلفوا فيمن مرّ به لا يريد نسكًا، ثم بدا له إرادته فكان مالك والثوري والشافعي وأبو ثور ويعقوب ومحمد بن الحسن يقولون: يحرم من مكانه الذي بدا له أن يحرم فيه ولا شيء عليه، روي ذَلِكَ عن عطاء

(1)

.

وقال أحمد في الرجل يخرج لحاجته وهو لا يريد الحج فجاز ذا الحليفة، ثم أراد الحج قال: يرجع إلى ذي الحليفة فيحرم وبنحوه قال إسحاق

(2)

.

قال ابن المنذر: فظاهر الحديث أولى، وقد أحرم ابن عمر من الفرع، وهو بعد الميقات، وهو راوي حديث المواقيت، وحمله الشافعي على ذَلِكَ إذ جاء إلى الفرع من مكة أو غيرها، ثم بدا له في الإحرام

(3)

.

واختلفوا في من أراد الإحرام، وموضعه دون المواقيت إلى مكة، فكان طاوس ومالك والشافعي وأحمد وأبو ثور يقولون: يحرم من موضعه وهو ميقاته

(4)

. ونقله ابن بطال عن جمهور الفقهاء

(5)

.

(1)

انظر: "المدونة" 1/ 301، "الاستذكار" 11/ 86، "الأم" 2/ 120.

(2)

انظر: "المغني" 5/ 70.

(3)

"الأم" 2/ 120.

(4)

انظر: "المعونة" 1/ 327، "روضة الطالبين" 3/ 40، "المغني" 5/ 73.

(5)

"شرح ابن بطال" 4/ 198.

ص: 63

وقال أصحاب الرأي: يحرم من موضعه فإن لم يفعل لم يدخل الحرم إلا حرامًا، فإن دخله غير حرام فليخرج من الحرم فليهل من حيث شاء

(1)

.

وقد روينا عن مجاهد أنه قال: إذا كان الرجل أهله بين مكة وبين الميقات، أهل من مكة، قال أبو بكر: وبقول الشافعي ومالك أقول.

قُلْتُ: لقوله: "ومن كان دون ذَلِكَ فمن حيث أنشأ" فإن ترك الميقات فأحرم بعد أن جاوزه ثَمَّ أَفْسَد حجه.

قال الثوري وأصحاب الرأي: يمضي في حجه وعليه حج قابل، وليس عليه دم لتركه الميقات؛ لأن عليه القضاء. وقال الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور عليه دم؛ لترك الميقات وما يلزم المفسد، قال: وبقول الشافعي أقول.

فرع:

قال ابن المنذر وقال الشافعي بمصر -يعني: في الجديد-: إذا بلغ صبي، أو عتق عبد، أو أسلم كافر بعرفة أو بمزدلفة فأحرم أيُّ هؤلاء صار إلى هذِه الحال بالحج، ثم وافوا عرفة قبل طلوع فجر ليلة العيد فقد أدرك الحج وعليه دم لترك الميقات ولو أحرم الكافر من ميقاته، ثم أسلم بعرفة لم يكن بدّ من دم يهريقه، وليس ذَلِكَ على العبد والغلام، يحرمان من الميقات، ثم يبلغ الغلام ويعتق العبد قبل وقوفه بعرفة، وكان أبو ثور يقول في النصراني يسلم بمكة والصبي يبلغ والعبد يعتق بها: يحرمون منها ولا شيء عليهم، وكذلك قال عطاء والثوري وأحمد وإسحاق في النصراني يسلم بمكة، وقال مالك في

(1)

انظر: "مختصر الطحاوي" ص 61، "تبيين الحقائق" 2/ 73، "البناية" 4/ 369.

ص: 64

النصراني يسلم عشية عرفة والعبد يعتق: يحرمان، والغلام يدخل مكة ثم يحتلم: يحرمان وليس عليهما شيء، وفي العبد يدخل مكة بغير إحرام ثم أذن له مولاه فأحرم بالحج عليه دم إذا عتق لترك الوقت.

الخامس:

قوله: "هن لهن" أي: هذِه المواقيت جعلت لهذِه البلاد، والمراد: أهلها والأصل أن يقال: هن لهم؛ لأن المراد الأهل، وقد سلف رواية البخاري:"هن لأهلهن" وقال القرطبي: "هن" ضمير جماعة المؤنث العاقل في الأصل، وقد يعاد على ما لا يعقل، وأكثر ذَلِكَ في العشرة فما دونها، فإذا جاوزوها قالوه بهاءِ المؤنث كما قال تعالى:{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا} [التوبة: 36] ثم قال: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} أي: من الاثنى عشر، ثم قال:{فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ}

(1)

أي: في هذِه الأربعة، وقد قيل في الجميع وهو شاذ.

قال ابن المنذر: العلماء متفقون على أن يهل أهل مكة للحج من مكة؛ عملًا بالحديث المذكور فلا يخرج أهلها عن بيوتها إلا بالإحرام، وسنتهم أن لا طواف قدوم عليهم، وإنما هو سنة الغرباء.

واختلف العلماء هل الأفضل أن يحرم من دويرة أهله أم من الميقات؟ على قولين:

أحدهما: من دويرة أهله، وهو قول أبي حنيفة والثوري في آخرين

(2)

.

(1)

"المفهم" 3/ 263 - 264.

(2)

انظر: "تبيين الحقائق" 2/ 7، "الاختيار" 1/ 183.

ص: 65

وثانيهما: من الميقات، وهو قول مالك، وأحمد وإسحاق

(1)

، ونقله ابن التين عن أبي حنيفة أيضًا وللشافعي قولان، واضطرب أصحابه في الترجيح، والموافق للأحاديث الصحيحة الثاني

(2)

.

(1)

قال أبو الوليد الباجي في "المنتقى" 2/ 206: وقد روى ابن المواز عن مالك جواز ذلك وكراهية فيما قرب من الميقات، وروى العراقيون كراهيته على الإطلاق اهـ.

انظر: "المغني" 5/ 65 - 66، "المبدع" 3/ 112، 113.

(2)

قال النووي رحمه الله في "المجموع" 7/ 205 - 206: وللشافعي قولان:

أحدهما: الإحرام من الميقات أفضل والثاني: مما فوقه أفضل. وهذان القولان مشهوران في طريقتي العراق وخراسان، وفي المسألة طريق آخر: وهو أن الإحرام أفضل من دويرة أهله قولًا واحدًا، وهي قول القفال، وهي مشهورة في كتب الخراسانيين، وهي ضعيفة غريبة، والصحيح المشهور أن المسألة على القولين، ثم إن هذين القولين منصوصان في الجديد نقلهما الأصحاب عن الجديد أحدهما: الأفضل أن يحرم من دويرة أهله نص عليه في "الإملاء".

والثاني: الأفضل الإحرام من الميقات نص عليه البويطي، و"الجامع الكبير" للمزني، وأما: الغزالي فقال في "الوسيط": لو أحرم قبل الميقات فهو أفضل، قطع به في القديم، وقال في الجديد: هو مكروه، وهو متأول، ومعناه أن يتوقى المخيط والطيب من غير إحرام، وكذا نقل الفوراني في "الإبانة" أنه كره في الجديد الإحرام قبل الميقات، وكأن الغزالي تابع الفوراني في هذا النقل، وهو نقل ضعيف غريب لا يعرف لغيرهما، ونسبه صاحب "البحر" إلى بعض أصحابنا بخراسان، والظاهر أنه أراد الفوراني، ثم قال صاحب "البحر": هذا النقل غلط ظاهر، وهذا الذي قاله صاحب "البحر" من التغليط هو الصواب، فإن الذي كرهه الشافعي في الجديد أنه هو التجرد عن المخيط لا الإحرام قبل الميقات، بل نص في الجديد على الإنكار على من كره الإحرام قبل الميقات.

واختلف أصحابنا في الأصح من هذين القولين فصححت طائفة الإحرام من دويرة أهله، ممن صرح بتصحيحه القاضي أبو الطيب في كتابه "المجرد" والروياني في "البحر" والغزالي والرافعي في كتابيه وصحح الأكثرون والمحققون تفضيل الإحرام من الميقات ممن صححه المصنف في "التنبيه" وآخرون، وقطع به كثيرون من أصحاب المختصرات، منهم أبو الفتح سليم الرازي في "الكفاية"، والماوردي في =

ص: 66

وفي "مسند أبي يعلى" من حديث أبي أيوب مرفوعًا: "ليستمتع أحدكم بحله ما استطاع، فإنه لا يدري ما يعرض له في إحرامه"

(1)

وعمل بذلك أصحابه وعوام أهل العلم. وغير جائز أن يكون فعل أعلى من فعله أو عمل أفضل من عمله. وسئل مالك عن ذَلِكَ فتلا قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 63]

(2)

.

والأولون اعتمدوا فعل الصحابة فإنهم أحرموا من قبلها: ابن عباس وابن مسعود وابن عمر وغيرهم، وهم أعرف بالسنة، وأصول أهل الظاهر تقتضي أنه لا يجوز الإحرام إلا من الميقات إلا أن يصح إجماع على خلافه.

= "الإقناع"، والمحاملي في "المقنع"، وأبو الفتح نصر المقدسي في "الكافي"، وغيرهم، وهو الصحيح المختار، وقال الرافعي: في المسألة ثلاث طرق (أصحها) على قولين والثاني: القطع باستحبابه من دويرة أهله والثالث: إن من خشي على نفسه من ارتكاب محظورات الإحرام فدويرة أهله أفضل، وإلا فالميقات.

والأصح: على الجملة أن الإحرام من الميقات أفضل.

(1)

رواه البيهقي 5/ 30 - 31 كتاب: الحج، باب: من استحب الإحرام من دويرة أهله ومن استحب التأخير إلى الميقات خوفًا من أن لا ينضبط، وقال: هذا إسناد ضعيف، واصل بن السائب: منكر الحديث، قاله البخاري وغيره. وضعفه الألباني في "الضعيفة"(212).

(2)

قال الحطاب في "مواهب الجليل" 4/ 54: قال ابن مسدي في خطبة منسكه: وعن سفيان بن عيينة قال: قال رجل لمالك بن أنس: من أين أحرم؟ قال: أحرم من حيث أحرم صلى الله عليه وسلم. فأعاد عليه مرارًا وقال: فإن زدت على ذلك؟ قال: فلا تفعل فإني أخاف عليك الفتنة. قال: وما في هذِه من الفتنة إنما هي أميال أزيدها. فقال مالك: قال الله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] قال: وأي فتنة في هذا؟ قال: وأي فتنة أعظم من أن ترى أنك أصبت فضلًا قصر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو ترى أن اختيارك لنفسك في هذا خيرًا من اختيار الله لك واختيار رسول الله صلى الله عليه وسلم ا. هـ.

ص: 67

قال ابن حزم: لا يحل لأحد أن يحرم بالحج ولا بالعمرة قبل المواقيت، فإن أحرم أحد قبلها وهو يمر عليها فلا إحرام له ولا حج ولا عمرة إلا أن ينوي إذا صار في الميقات تجديد إحرام، فذلك جائز وإحرامه حينئذ تام

(1)

.

وكره مالك كما حكاه أبو عُمر أن يحرم أحد قبله

(2)

، وقد سلف، وروي عن عمر أنه أنكر على عمران بن حصين إحرامه من البصرة

(3)

. وأنكر عثمان على عبد الله بن عامر إحرامه قبل الميقات

(4)

.

وفي تعليقات البخاري كره عثمان أن يحرم من خراسان أو كرمان

(5)

، وكره الحسن وعطاء الإحرام من الموضع البعيد.

قال إسماعيل القاضي: وإنما كرهوا ذَلِكَ والله أعلم؛ لئلا يضيق المرء على نفسه ما وسع الله تعالى عليه، وأن يتعرض لما لا يأمن أن يحدث في إحرامه وكلهم ألزمه الإحرام؛ لأنه زاد ولم ينقص. والدليل على ذَلِكَ قوله: أن ابن عمر روى المواقيت ثم أجاز الإحرام من قبلها من موضع بعيد، والذين أحرموا قبله كثير من التابعين أيضًا كما سلف عن الصحابة.

قال الطحاوي: وأخذ قوم بحديث ابن عمر وابن عباس وذهبوا إلى أن أهل العراق لا ميقات لهم في الإحرام كميقات سائر البلدان، وإنما يهلون من حيث مروا عليه من هذِه المواقيت المذكورة

(6)

.

(1)

"المحلى" 7/ 70.

(2)

"التمهيد" 8/ 73.

(3)

رواه ابن أبي شيبة 3/ 123 - 124.

(4)

رواه ابن أبي شيبة 3/ 123.

(5)

رواه معلقا قبل الرواية (1560) باب: قول الله تعالى: {الحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} .

(6)

"شرح معاني الآثار" 2/ 117 - 118.

ص: 68

وحاصل الخلاف ثلاثة أقوال كما جمعها ابن بزيزة: منهم من أجازه مطلقًا، ومنهم من كرهه مطلقًا، ومنهم من أجازه في البعيد دون القريب؛ لأنه إذا أحرم من غير الميقات مع قربه ليس فيه إلا مخالفة السنة لغير فائدة بخلاف البعيد، ثم نقل عن أبي حنيفة والشافعي أن ما قبل الميقات أفضل لمن قوي على ذَلِكَ، وقد صح أن عليًّا وعمران بن حصين وابن عباس أحرموا من المواضع البعيدة، وكذا من أسلفناه من الصحابة. وقال ابن عباس: لا يحرم بالحج إلا في أشهر الحج، فإن من سنة الحج أن يحرم بالحج في أشهر الحج. أخرجه الحاكم وصححه على شرط الشيخين

(1)

.

وعند ابن أبي شيبة أن عثمان بن أبي العاصي أحرم من المَنْجَشانِيَّة، وهي قريبة من البصرة. وعن ابن سيرين أنه أحرم هو وحميد بن عبد الرحمن ومسلم بن يسار من الدارات. وإسنادهما جيد، وأحرم (ابن مسعود من السَيْلحين)

(2)

(3)

، وفي إسناده مجهول.

وقال إبراهيم: كانوا يحبون للرجل أول ما يحج أن يهل من بيته، وكان الأسود يحرم من بيته، وكان علقمة يحرم من النجف، وعن هلال بن خباب قال: خرجت مع سعيد بن جبير محرمًا من الكوفة.

وعن الحارث بن قيس قال: خرجت في نفر من أصحاب ابن مسعود نريد مكة فلما خرجنا من البيوت أهلوا، فأهللت معهم. وعن الحكم بن عطية أخبرني من رأى قيس بن عُباد أحرم من مريد البصرة.

وعن إبراهيم: كان المسور يحرم من القادسية، وأحرم الحارث بن

(1)

"المستدرك" 1/ 448.

(2)

في "المصنف" أبا مسعود من التلحين.

(3)

"المصنف" 3/ 121 - 122.

ص: 69

سويد وعمرو بن ميمون من الكوفة

(1)

.

وقد أسلفنا حديث أم سلمة في فضل الإحرام من بيت المقدس. وتضعيف ابن قدامة بابن إسحاق، وإضرابه عن أم حكيم الراوية، عن أم سلمة ليس بجيد، قال: ويحتمل تخصيصه ببيت المقدس دون غيره؛ ليجمع بين الصلاة في المسجدين في إحرام واحد، ولذلك أحرم ابن عمر منه لا من غيره إلا من الميقات

(2)

. وأحرم ابن سيرين مع أنس من العقيق، ومعاذ من الشام ومعه كعب الحبر، ولأبي داود عن الصُّبَي بن معبد قال: أهللت بالحج والعمرة، فلما أتيت العذيب لقيني سلمان بن ربيعة وزيد بن صوحان وأنا أهل بهما فعابا ذَلِكَ. وفيه: فقال لي عمر: هديت لسنة نبيك

(3)

.

وحمله بعض العلماء على القران، وأما ما روي عن عمر وعلي: إتمام الحج والعمرة أن تحرم بهما من دويرة أهلك، وحكاه ابن بطال عن ابن مسعود وعلي

(4)

، فمعناه أنه ينشئ لهما سفرًا تقصد له من بلدك، كما فسره سفيان. وقال ابن قدامة: وكانا لا يحرمان إلا من الميقات

(5)

.

وقد أسلفنا خلافه، قال: ولا يصح أن يفسر الإتمام بنفس الإحرام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه [ما]

(6)

أحرموا بها من بيوتهم، وقد أمر الله

(1)

"المصنف" 3/ 122 - 123.

(2)

"المغني" 5/ 68.

(3)

"سنن أبي داود"(1798) كتاب: المناسك، باب: في الإقران.

(4)

"شرح ابن بطال" 4/ 198.

(5)

"المغني" 5/ 68.

(6)

زيادة من "المغني".

ص: 70

بإتمام العمرة فلو حمل قولهم على ذَلِكَ لكان قولًا غير جيد

(1)

.

قال ابن بطال: وأجاز الإحرام قبل الميقات علقمة والأسود، وهو قول أبي حنيفة والثوري والشافعي

(2)

.

السادس:

قوله: "ولمن أتى عليهن" يعني: قاصدًا دخول مكة قصد الحج والعمرة أو لم يقصد عند أبي حنيفة

(3)

، وعندنا أن من قصد مكة لا لنسك استحب له أن يحرم بحج أو عمرة، وفي قول: يجب إلا أن يتكرر دخوله كحطاب وصياد

(4)

، وعند المالكية الخلاف أيضًا، قالوا: وإن لم يلزمه فهو مستحب، ثم إذا لم يفعله هل يلزمه دم أم لا؟ فيه خلاف عندهم

(5)

، وظاهر الحديث اللزوم على المقاصد لأداء النسك خاصة، وهو مذهب الزهري وأبي مصعب في آخرين

(6)

.

وقال ابن قدامة الحنبلي: من لا يريد النسك قسمان: يريد حاجة فيما سواها فلا يلزمه الإحرام قطعًا؛ لأن الشارع أتى بدرًا مرتين، (ولم)

(7)

يحرم ولا أحد من أصحابه، فإن بدا له أحرم من موضعه

(1)

المصدر السابق.

(2)

"شرح ابن بطال" 4/ 198.

(3)

انظر: "الهداية" 1/ 147، "تبيين الحقائق" 2/ 7.

(4)

انظر: "البيان" 4/ 14 - 16، "المجموع" 7/ 15.

(5)

ذهب المالكية إلى أن لا يجوز دخول مكة بغير إحرام، فمن دخلها بغير إحرام فقد عصى ولا دم عليه.

انظر: "المنتقى" 2/ 205، "التاج والإكليل" 4/ 57 - 58، "مواهب الجليل" 4/ 57 - 58، "الخرشي على مختصر خليل" 2/ 305.

(6)

انظر: "الذخيرة" 3/ 210.

(7)

في الأصل: ولا، وما أثبتناه من "المغني" هو ما يستقيم به السياق.

ص: 71

ولا شيء عليه، وبه يقول مالك والثوري والشافعي وصاحبا أبي حنيفة، وحكى ابن المنذر عن أحمد في الرجل يخرج لحاجة وهو لا يريد الحج فجاوز ذا الحليفة، ثم أراد الحج يرجع إلى ذي الحليفة فيحرم، وبه قال إسحاق.

القسم الثاني: من يريد دخول الحرم إما إلى مكة أو غيرها كمن يدخلها لقتال مباح أو من خوف أو لحاجة متكررة كالحَشَّاش والحطاب وناقل الميرة، ومن كان له ضيعة يتكرر دخوله وخروجه إليها فهؤلاء لا إحرام عليهم؛ لأن الشارع دخل يوم فتح مكة حلالًا وعلى رأسه المغفر وكذا أصحابه، ولا نعلم أنَّ أحدًا منهم أحرم يومئذ، ولو أُوْجِبَ الإحرام على من يتكرر دخوله أفضى إلى أن يكون جميع زمنه محرمًا، وبهذا قال الشافعي

(1)

وظاهر قوله: ممن أراد الحج والعمرة أن من لم يردهما لا إحرام عليه.

السابع:

قال ابن المنذر: يجمع هذا الحديث أبوابًا من السنن: منها: أن هذِه المواقيت لكل من أتى عليها من غير أهلها، فإذا جاء المدني من الشام على طريق الساحل أحرم من الجحفة، وإذا أتى اليماني على ذي الحليفة أحرم منها، وإذا أتى النجدي من تهامة أحرم من يلملم، وكل من مر بميقات بلده أحرم منه.

ومنها: أن ميقات كل من منزله دون الميقات مما يلي مكة من منزله ذَلِكَ.

ومنها: أن أهل مكة ميقاتهم مكة.

(1)

"المجموع" 7/ 14 - 15، وانظر "المغني" 5/ 70 - 71.

ص: 72

ومنها: أن هذِه المواقيت إنما يلزم الإحرام منها من يريد حجًّا أو عمرة دون من لم يرده ولو مدني بذي الحليفة ولا يريدهما ثم أرادهما قبل الحرم فميقاته موضعه ولا شيء عليه، وعليه عامة العلماء إلا أحمد وإسحاق كما سلف.

الثامن:

مكة ليست ميقات عمرة؛ لأنه عليه السلام أمر عبد الرحمن أن يعمر عائشة من التنعيم

(1)

، وهو خارج الحرم، وهو ظاهر أنها ليست ميقات عمرة بل ميقات حج، وهو اتفاق من أئمة الفتوى أن المكي إذا أراد العمرة لا بد له من الخروج إلى الحل يهل منه

(2)

؛ لأنه لا بد له في عمرته من الجمع بين الحل والحرم وليس ذَلِكَ على الحاج المكي؛ لأنه خارج في حجه إلى عرفات، وهي الحل، وشذ ابن الماجشون في قوله: لا يقرن المكي من مكة كالمعتمر، وخالفه مالك وجميع أصحابه فقالوا: إنه يقرن منها؛ لأنه خارج في حجه إلى حل عرفة

(3)

، وقد ذكر ابن المواز عن مالك أنه لا يقرن من الحل، كقول ابن الماجشون

(4)

. فإن اعتمر من مكة ولم

(1)

سلف برقم (316) كتاب: الحيض، باب: امتشاط عن غسلها من المحيض.

(2)

انظر: "الاستذكار" 11/ 256، "الإقناع في مسائل الإجماع" 2/ 850.

(3)

هذا قول ابن القاسم كما جاء في "التفريع" 1/ 319، "المعونة" 1/ 328، "المنتقى" 2/ 221، "الذخيرة" 3/ 290، أما قوله: وشذ، ففيه نظر، فقد قال القاضي عبد الوهاب: اختلف أصحابنا في القارن ..

وقال أبو الوليد الباجي: فإن كان قارنًا فهل يهل من الحرم أم لا؟ اختلف أصحابنا في ذلك. أما قوله وخالفه مالك وجميع أصحابه، فقد علمت أن في المسألة خلاف بين المالكية.

(4)

هذا القول فيه نظر، فهو مخالف لقول ابن الماجشون، والصواب أنه لا يقرن من مكة، حتى يكون موافقًا لقول ابن الماجشون.

ص: 73

يخرج إلى الحل للإحرام حتى طاف وسعى ففيهما قولان: أحدهما: أن عليه دمًا، لترك الميقات وعمرته تامة، وبه قال الكوفيون وأبو ثور واحد قولي الشافعي

(1)

.

وثانيهما: أن ذَلِكَ لا يجزئه حتى يخرج من الحرم، ثم يطوف ويسعى ويقصر أو يحلق ولا شيء عليه، ولو كان حلق أراق دمًا، وهو قول الشافعي الآخر، وهو الصحيح، فإن خرج إلى الحل بعد إحرامه سقط الدم على الأصح

(2)

، وبالثاني قال مالك وأصحابه

(3)

.

قال مالك: ما رأيت أحدًا أحرم بعمرة من الحرم ولا يحرم أحد بعمرة من مكة ولا تصح العمرة عند جميع العلماء إلا من الحل لمكي وغيره

(4)

.

قال ابن المنذر: وهذا أشبه، وحكى الثوري عن عطاء أنه من أهل بعمرة من مكة أنَّه لا شيء عليه، قال سفيان: ونحن نقول: إذا أهل بها لزمته ويخرج إلى الميقات. وقال ابن المنذر: المحرم بعمرة من مكة تارك لميقاته فعليه أن يخرج من الحرم؛ ليكون قد رجع إلى ميقاته، كما نأمر من جاز ميقاته أن يرجع ما لم يطف بالبيت، فإن لم يخرج إلى الحِل حتى يفرغ من نسكه فعليه دم، كما يكون ذَلِكَ على من ترك ميقاته حتى فرغ من نسكه.

التاسع:

في حديث ابن عباس إثبات يلملم لأهل اليمن، وابن عمر قال: يزعمون ذَلِكَ، والمسند مقدم.

(1)

انظر: "أحكام القرآن" للجصاص 1/ 394، "المجموع" 7/ 216 - 217.

(2)

انظر: "البيان" 4/ 117 - 118، "المجموع" 7/ 216 - 217.

(3)

انظر: "عقد الجواهر الثمينة" 1/ 271.

(4)

انظر: "الاستذكار" 11/ 256.

ص: 74

وفي قول عمر: (فانظروا حذوها من طريقكم) إباحة القياس على السنن المعروفة الحكم بالتشبيه والتمثيل، يدل على ذَلِكَ ما رواه عبد العزيز بن أبي رواد، عن نافع، عن ابن عمر قال: لما وقت قرن

لأهل نجد قال عمر: قيسوا من نحو العراق لنحو قرن.

واختلفوا في القياس فقال بعضهم: ذات عرق. وقال بعضهم: بطن العقيق، قال ابن عمر: فقاس الناس ذَلِكَ، والناس يومئذ هم علماء الصحابة الذين هم حجة على من خالفهم

(1)

.

(1)

انظر: "شرح ابن بطال" 4/ 200.

ص: 75

‌14 - باب الصلاة بذي الحليفة

1532 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَاخَ بِالبَطْحَاءِ بِذِي الحُلَيْفَةِ فَصَلَّى بِهَا. وَكَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يَفْعَلُ ذَلِكَ. [انظر: 484 - مسلم: 1257 - فتح: 3/ 391]

ذكر فيه حديث ابن عمر أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم أَنَاخَ بِالبَطْحَاءِ بِذِي الحُلَيْفَةِ فَصَلَّى بِهَا.

وَكَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يَفْعَلُه.

هذا الحديث أخرجه مسلم أيضًا

(1)

، وهو عند العلماء مستحب مستحسن مرغب فيه، ونقله ابن عبد البر عن مالك وغيره من أهل العلم، قال: وليس بسنة من سنن الحج ولا من المناسك التي تجب على تاركها دم أو فدية ولكنه حسن عند جميعهم؛ الإهلال منها لأهل المدينة، إلا ابن عمر فإنه جعله سنة

(2)

.

وهذِه البطحاء المذكورة هنا يعرفها أهل المدينة بالمعرس، وأناخ بها صلى الله عليه وسلم في رجوعه من مكة إلى المدينة، وبمكة أيضًا بطحاء، وكذا بذي قار، وبطحاء أزهر نزل به عليه السلام في بعض غزواته، وبه مسجد، فهذِه أماكن أربعة

(3)

.

وقد أُري صلى الله عليه وسلم في النوم وهو معرس في هذِه البطحاء أنه قيل له: إنك

(1)

"صحيح مسلم"(1257) كتاب: الحج، باب: استحباب المبيت بذي طوى عند إرادة دخول مكة.

(2)

"التمهيد" 9/ 185.

(3)

انظر: "معجم ما استعجم" 1/ 257 - 258، "معجم البلدان" 1/ 446.

ص: 76

ببطحاء مباركة، كما سيأتي قريبًا

(1)

.

فلذلك كان عليه السلام يصلي فيها تبركًا بها ويجعلها عندرجوعه من مكة موضع مبيته؛ ليبكر منها إلى المدينة، ويدخلها في صدر النهار، وتتقدم أخبار القادمين على أهليهم فتتهيأ المرأة وهو في معنى كراهية الطروق ليلًا من السفر.

(1)

سيأتي برقم (1535).

ص: 77

‌15 - باب خُرُوجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى طَرِيقِ الشَّجَرَةِ

1533 -

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ المُنْذِرِ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَخْرُجُ مِنْ طَرِيقِ الشَّجَرَةِ، وَيَدْخُلُ مِنْ طَرِيقِ المُعَرَّسِ، وَأَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ يُصَلِّي فِي مَسْجِدِ الشَّجَرَةِ، وَإِذَا رَجَعَ صَلَّى بِذِي الحُلَيْفَةِ بِبَطْنِ الوَادِي، وَبَاتَ حَتَّى يُصْبِحَ. [انظر: 484 - مسلم: 1257 - فتح: 3/ 391]

ذكر فيه حديث ابن عمر أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَخْرُجُ مِنْ طَرِيقِ الشَّجَرَةِ، وَيَدْخُلُ مِنْ طَرِيقِ المُعَرَّسِ، وَأَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ يُصَلِّي فِي مَسْجِدِ الشَّجَرَةِ، وَإِذَا رَجَعَ صَلَّى بِذِي الحُلَيْفَةِ بِبَطْنِ الوَادِي، وَبَاتَ حَتَّى يُصْبِحَ.

هذا الحديث من أفراده

(1)

، وطريق الشجرة على ستة أميال من المدينة، كما قال صاحب "المطالع" والمنذري، وعند البكري: هي من البقيع

(2)

، وإنما فعل صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ؛ ليكثر عدد المسلمين في أعين المنافقين والمشركين كما كان يفعل في العيدين يخرج من طريق

(1)

تابع المصنف المزيَّ في "أطرافه"(7801) على عد هذا الحديث من أفراد البخاري.

وأورده الحميدي في "جمعه" 2/ 208 (1320) في المتفق عليه من مسند ابن عمر، ثم قال: وقد جعل بعضهم هذِه الزيادة في ذكر الصلاة من أفراد البخاري. اهـ

والحديث رواه مسلم (1257) من طريق عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، مختصرًا.

(2)

"معجم ما استعجم" 3/ 782.

ص: 78

ويرجع من آخر

(1)

، فكان يخرج من المدينة فيمر بطريق الشجرة بذي الحليفة ويدخلها، وإذا رجع بعد أن يمر بالمعرس بذي الحليفة وليس ذَلِكَ من سنن الحج، كما قال ابن بطال

(2)

. يعني: المتعلقة به المجبورة.

(1)

سبق ما يدل على ذلك من حديث جابر برقم (986) كتاب: العيدين، باب: من خالف الطريق إذا رجع يوم العيد.

(2)

"شرح ابن بطال" 4/ 201.

ص: 79

‌16 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "العَقِيقُ وَادٍ مُبَارَكٌ

"

1534 -

حَدَّثَنَا الحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا الوَلِيدُ وَبِشْرُ بْنُ بَكْرٍ التِّنِّيسِيُّ قَالَا: حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى قَالَ: حَدَّثَنِي عِكْرِمَةُ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما يَقُولُ: إِنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ رضي الله عنه يَقُولُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِوَادِي العَقِيقِ يَقُولُ: "أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتٍ مِنْ رَبِّي فَقَالَ: صَلِّ فِي هَذَا الوَادِي المُبَارَكِ وَقُلْ: عُمْرَةً فِي حَجَّةٍ". [2337، 4373 - فتح: 3/ 392]

1535 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ رُئِيَ وَهُوَ فِي مُعَرَّسٍ بِذِي الحُلَيْفَةِ بِبَطْنِ الوَادِي، قِيلَ لَهُ: إِنَّكَ بِبَطْحَاءَ مُبَارَكَةٍ. وَقَدْ أَنَاخَ بِنَا سَالِمٌ، يَتَوَخَّى بِالمُنَاخِ الذِي كَانَ عَبْدُ اللهِ يُنِيخُ، يَتَحَرَّى مُعَرَّسَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ أَسْفَلُ مِنَ المَسْجِدِ الذِي بِبَطْنِ الوَادِي، بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الطَّرِيقِ وَسَطٌ مِنْ ذَلِكَ. [انظر: 483 - مسلم: 1346 - فتح: 3/ 392]

ذكر فيه حديث عمر قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِوَادِي العَقِيقِ يَقُولُ: "أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتٍ مِنْ رَبِّي فَقَالَ: صَلِّ فِي هَذَا الوَادِي المُبَارَكِ وَقُلْ: عُمْرَةً فِي حَجَّةٍ".

وحديث ابنه عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ رُئِيَ وَهُوَ فِي مُعَرَّسٍ بِذِي الحُلَيْفَةِ بِبَطْنِ الوَادِي قِيلَ لَهُ: إِنَّكَ بِبَطْحَاءَ مُبَارَكَةٍ. وَقَدْ أَنَاخَ بِنَا سَالِمٌ، يَتَوَخَّى بِالمُنَاخِ الذِي كَانَ عَبْدُ اللهِ يُنِيخُ، يَتَحَرَّى مُعَرَّسَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ أَسْفَلُ مِنَ المَسْجِدِ الذِي بِبَطْنِ الوَادِي، بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الطَّرِيقِ وَسَطٌ مِنْ ذَلِكَ.

ص: 80

الشرح:

الحديث الأول من أفراده، والثاني أخرجه مسلم

(1)

. وقال: أتى بدل: أرى، وقال: القبلة بدل: الطريق.

وقوله: باب قوله عليه السلام: "العقيق وادٍ مبارك"، لم يذكر حديثًا أنه قال، وإنما قيل له ذَلِكَ في المنام، نعم تلفظ به.

والعقيق -بفتح أوله وزنه فعيل- عقيقان، كما قال البكري عقيق بني عقيل على مقربة من عقيق المدينة الذي بقرب النقيع على ليلتين من المدينة.

وقال الخليل: العقيقان في ديار بني عامر بما يلي اليمن، وهما: عقيق (تمرة)

(2)

، وعقيق البياض، والرمل بينهما رمل الدبيل ورمل (يبرين)

(3)

، وسمي عقيق المدينة؛ لأنه عق في الحرة، وهما عقيقان،

وبها الأكبر، والأصغر، وبالأصغر بئر رومة، والأكبر فيه بئر عروة

(4)

.

وسبب تسميته ما في "تاريخ أبي الفرج الأموي"

(5)

: لما سار تبع من المدينة إلى اليمن انحدر في مكان العقيق فقال: هذا عقيق الأرض فسمي العقيق.

وقال ياقوت: العقيق عشرة مواضع وعقيقا المدينة أشهرها وأكثر ما ذكر في الأشعار فإياهما -والله أعلم- يعنون

(6)

.

(1)

"صحيح مسلم"(1346) كتاب: الحج، باب: التعريس بذي الحليفة.

(2)

بالأصل: تبرة، والمثبت من "معجم ما استعجم" 3/ 952.

(3)

بالأصل: بدن، والمثبت من "معجم ما استعجم" 3/ 52.

(4)

انظر: "معجم ما استعجم" 3/ 952 - 953.

(5)

في هامش الأصل: صاحب "الأغاني".

(6)

"معجم البلدان" 4/ 138 - 139.

ص: 81

والخليل وصاحب "الموعب" قال: الذي قال فيه الشعراء: بئر عروة السالف، وقال الحسن بن محمد المهلبي: بين العقيق والمدينة أربعة أميال.

وقال صاحب "التهذيب" أبو منصور: العرب تقول لكل مسيل ماء سقه ماء السيل في الأرض فأنهره ووسعه عقيق، وفي بلاد العرب أربع أعقة وهي أودية شقتها السيول عادية، فمنها عقيق عارض اليمامة وهو: واد واسع مما يلي الغرمة تتدفق فيه شعاب العارض، وفيه عيون عذبة الماء، ومنها عقيق بناحية المدينة، وفيه عيون ونخيل، ومنها عقيق آخر يدفق ماؤه في غوري تهامة، وهو الذي ذكره الشافعي وقال: ولو أهلوا من العقيق كان أحب إليّ

(1)

، ومنها عقيق القيان تجري إليه مياه قلل نجد وجباله. وقال الأصمعي: الأعقة الأودية، ثم ذكر حديث ابن عباس أنه عليه السلام وقت لأهل العراق بطن العقيق. قال الأزهري: أراد الذي بحذاء ذات عرق.

أما فقهه ففيه: مطلوبية الصلاة عند إرادة الإحرام لاسيما في هذا الوادي المبارك، وهو مذهب العلماء كافة إلا ما حُكي عن الحسن البصري فإنه استحب كونها بعد فرض؛ لأنه روي أن هذِه الصلاة كانت صلاة الصبح.

قال الطبري: ومعنى الحديث الإعلام بفضل المكان لا إيجاب الصلاة فيه لقيام الإجماع على أن الصلاة في هذا الوادي ليس بفرض، قال: فبان بذلك أن أمره بالصلاة فيه نظير حثه لأمته على الصلاة في مسجده ومسجد قباء.

(1)

"الأم" 2/ 118.

ص: 82

وقوله: "عمرة في حجة" يحتمل أن يقال كما أبداه الخطابي: (في) بمعنى: (مع) فيكون القرآن أفضل، وهو مذهب الكوفيين

(1)

، ويحتمل أن يريد عمرة مدرجة في حجة أي: عمل العمرة مضمن في عمل الحج يجزئ لهما طواف واحد وسعي واحد

(2)

.

ويحتمل أن يريد أن يحرم بها إذا فرغ من حجته قبل منزله، فكأنه قال: إذا خرجت وحججت فقل: لبيك بعمرة وتكون في حجتك التي تحج فيها، ويؤيده رواية البخاري في كتاب الاعتصام "وقيل عمرة وحجة"

(3)

ففصل بينهما بالواو، ويحتمل أن يراد به: قل عمرة في حجة أي: قال ذَلِكَ لأصحابه، أي أعلمهم أن القران جائز وأنه من سنن الحج، وهو نظير قوله عليه السلام "دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة"

(4)

وبهذه الرؤيا حكم عليه السلام بنسخ ما كان في الجاهلية من تحريم العمرة ممن لم يكن معه هدي أن يفسخوه في عمرة، فعظم ذَلِكَ عليهم لبقائه هو على حجه من أجل سوقه الهدي، وما كان استشعره من التلبيد لرأسه.

وفيه: أن السنن والفرائض قد يخبر عنها بخبر واحد فيما اتفقا فيه، وإن كان حكمها مختلف في غيره، فلما كان الإحرام بالحج والعمرة واحدًا أخبر الله عنها في هذِه الرؤيا بذلك فقال:"عمرة وحجة" أي: إحرامك تدخل فيه العمرة والحج متتاليًا ومفرقًا.

(1)

انظر: "مختصر الطحاوي" ص 61، "الهداية" 1/ 166.

(2)

انظر: "أعلام الحديث" 2/ 838.

(3)

سيأتي برقم (7343) باب: ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وحض على اتفاق أهل العلم.

(4)

قطعة من حديث رواه مسلم من حديث ابن عباس برقم (1241) كتاب: الحج، باب: جواز العمرة في أشهر الحج.

ص: 83

وفيه: فضل المدينة، وما قاربها؛ لكونه عليه السلام بها، فإن الله تعالى جعلها له مثوى في الدنيا والبرزخ، ولا شك في فضلها ولا ريب؛ لكنه قال في مكة:"والله إنك لأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أُخْرجت منك ما خرجت"

(1)

.

(1)

رواه الترمذي من حديث عبد الله بن عدي بن الحمراء برقم (3925) كتاب: المناقب، باب: في فضل مكة، وقال: حديث حسن غريب صحيح، وابن ماجه برقم (3108) كتاب: المناسك، باب: أجر بيوت مكة، والنسائي في "الكبرى" 2/ 479 (4252) كتاب: الحج، باب: فضائل مكة والمدينة، وأحمد 4/ 305، والدارمي في "السنن" 3/ 1632 (2552) كتاب: السير، باب: إخراج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة، والفاكهي في "أخبار مكة" 4/ 206 - 207 (2514)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" 1/ 448 (622)، وابن حبان 9/ 22 (3708) كتاب: الحج، باب: فضل مكة، وصححه الألباني في "صحيح الترمذي" و"صحيح الجامع"(7089)، وفي الباب: عن أبي هريرة.

ص: 84

‌17 - باب غَسْلِ الخَلُوقِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنَ الثِّيَابِ

1536 -

قَالَ أَبُو عَاصِمٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ، أَنَّ صَفْوَانَ بْنَ يَعْلَى أَخْبَرَهُ، أَنَّ يَعْلَى قَالَ لِعُمَرَ رضي الله عنه: أَرِنِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حِينَ يُوحَى إِلَيْهِ. قَالَ فَبَيْنَمَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالجِعْرَانَةِ وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ تَرَى فِي رَجُلٍ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وَهْوَ مُتَضَمِّخٌ بِطِيبٍ؟ فَسَكَتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَاعَةً، فَجَاءَهُ الوَحْيُ، فَأَشَارَ عُمَرُ رضي الله عنه إِلَى يَعْلَى، فَجَاءَ يَعْلَى، وَعَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ثَوْبٌ قَدْ أُظِلَّ بِهِ فَأَدْخَلَ رَأْسَهُ، فَإِذَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُحْمَرُّ الوَجْهِ وَهُوَ يَغِطُّ، ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ، فَقَالَ:"أَيْنَ الذِي سَأَلَ عَنِ العُمْرَةِ؟ " فَأُتِيَ بِرَجُلٍ، فَقَالَ:"اغْسِلِ الطِّيبَ الذِي بِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَانْزِعْ عَنْكَ الجُبَّةَ، وَاصْنَعْ فِي عُمْرَتِكَ كَمَا تَصْنَعُ فِي حَجَّتِكَ". قُلْتُ لِعَطَاءٍ: أَرَادَ الإِنْقَاءَ حِينَ أَمَرَهُ أَنْ يَغْسِلَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. [1789، 1847، 4329، 4985 - مسلم:1180 - فتح: 3/ 393]

قَالَ أَبُو عَاصِمٍ، أَنَا ابن جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ، أَنَّ صَفْوَانَ بْنَ يَعْلَى أَخْبَرَهُ، أَنَّ يَعْلَى قَالَ لِعُمَرَ رضي الله عنه: أَرنِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حِينَ يُوحَى إِلَيْهِ. قَالَ: فَبَيْنَمَا النَبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالجِعْرَانَةِ .. الحديث.

وفي آخره: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: أَرَادَ الإِنْقَاءَ حِينَ أَمَرَهُ أَنْ يَغْسِلَ ثَلَاثَ مَراتٍ؟ قَالَ: نَعَمْ

(1)

.

الشرح:

هذا الحديث أسنده البخاري في باب: يفعل في العمرة ما يفعل في الحج فقال: حَدَّثَنَا أبو نعيم، ثنا همام، ثنا عطاء

(2)

.

(1)

من قوله: قلت لعطاء. مثبت من هامش الأصل، وفي آخره قال: وهو ثابت في نسخة الدمياطي.

(2)

سيأتي برقم (1789).

ص: 85

وفي أواخر الحج في باب إذا أحرم جاهلًا وعليه قميص، فقال: حَدَّثَنَا أبو الوليد، ثنا همام ثنا عطاء، حَدَّثَني صفوان فذكره مختصرًا، وزاد في آخره قصة عض اليد

(1)

. وفي فضائل القرآن فقال: حَدّثَنَا أبو نعيم، ثنا همام

(2)

، وفي المغازي فقال: حَدّثَنَا يعقوب بن إبراهيم، ثنا إسماعيل، ثنا ابن جريج، أنا عطاء

(3)

. وأخرجه مسلم بألفاظ

(4)

، ولابن خزيمة:"ما كنت صانعًا في حجتك" فقال: كنت أنزع هذِه الثياب وأغسله فقال: "فاصنع في عمرتك ما كنت صانعًا في حجتك"

(5)

.

وروي أيضًا من طريق يعلى بن أمية أو صفوان بن يعلى بن أمية، ولم يقل: عن أبيه، نبه عليه ابن عساكر، وكان هذا بالجعرانة كما ثبت هنا، وفي غيره في منصرفه عليه السلام من غزوة حنين، وفي ذَلِكَ الموضع قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائمها، وذلك سنة ثمان كما ذكره ابن حزم

(6)

وغيره، وهما موضعان متقاربان، وهذا الرجل كان يعرف أمر الحج وظن أن العمرة ليست كهو؛ فلذلك سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذَلِكَ وأجابه، ولا يحال إلا على معلوم، والمراد من اجتناب المنهيات وإلا فقد أمره بنزع الجبة وغسل الطيب.

وهذا الرجل يجوز أن يكون عمرو بن سواد

(7)

؛ إذ في كتاب "الشفا"

(1)

سيأتي برقم (1847 - 1848) كتاب: جزاء الصيد.

(2)

سيأتي برقم (4985) باب: نزل القرآن بلسان قريش والعرب.

(3)

سيأتي برقم (4329) باب: غزوة الطائف.

(4)

"صحيح مسلم" برقم (1180) كتاب: الحج، باب: ما يباح للمحرم بحج أو عمرة.

(5)

"صحيح ابن خزيمة" 4/ 192 (2671) كتاب: المناسك.

(6)

"جوامع السيرة" لابن حزم ص 236 - 242.

(7)

ورد بهامش الأصل تعليق نصه: حاشية: في نسخة صحيحة "للشفا" قال فيها =

ص: 86

للقاضي عياض عنه قال: أتيت وأنا متخلق للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ورس ورس حط حط" وعشيني بقضيب في يده في بطني فأوجعني. الحديث

(1)

.

لكن عمرو هذا لا يدرك ذا، فإنه صاحب ابن وهب وشيخ مسلم والنسائي، وابن ماجه، وفي "صحيح ابن خزيمة" من حديث عمر بن عبد الله بن يعلى بن أمية الثقفي، عن أبيه، عن جده قال: شحيت يومًا فقال لي صاحب لي: اذهب بنا إلى المنزل قال: فذهبت فاغتسلت وتخلقت وكان النبي صلى الله عليه وسلم يمسح وجوهنا، فلما دنا مني جعل يجافي يده عن الخلوق، وقال:"يا يعلى ما حملك على هذا أتزوجت؟ " قُلْتُ: لا، قال:"اذهب فاغسله"

(2)

وفي البيهقي قال قتادة: فقلت لعطاء: كنا نسمع أنه قال شقها، قال: هو إفساد، والله لا يحب الفساد

(3)

. وفي أبي داود: فأمره أن ينزعها نزعًا

(4)

، وله: فخلعها من رأسه

(5)

.

وللنسائي: "ثم أحدث إحرامًا"، قال: ولا أحسبه بمحفوظ. يعني: هذِه الزيادة

(6)

.

= سواد بن عمرو، وهذِه هي الصواب في الحديث المذكور فيه.

(1)

"الشفا" 2/ 199 وفيه: سواد بن عمرو. وانظر تعليق العيني على كلام المؤلف في "عمدة القارئ" 9/ 151.

(2)

"صحيح ابن خزيمة" 4/ 194 (2675)، وضعفه الألباني في "ضعيف النسائي"(386 - 388).

(3)

"السنن الكبرى" 5/ 57 كتاب: الحج، باب: الرجل يحرم في قميص أو جبة.

(4)

"سنن أبي داود" برقم (1821) كتاب: المناسك، باب: الرجل يحرم في ثيابه.

(5)

المصدر السابق برقم (1820) وقال الألباني: قوله: (من رأسه): منكر. وانظر: "صحيح أبي داود"(1597).

(6)

النسائي في "السنن الكبرى" 2/ 332 - 333 (3648) كتاب: الحج، باب: الجبة في الإحرام.

ص: 87

وأغرب ابن حزم فصححه، وقال: الأخذ بهذِه الزيادة واجبة

(1)

.

إذا تقرر ذَلِكَ فالكلام عليه من وجوه:

أحدها:

اعترض الإسماعيلي فقال: شرط أبو عبد الله في الباب غسل الخلوق من الثياب، وليس في الخبر أن الخلوق كان على الثوب، وإنما الرجل متضمخ بطيب ولا يقال لمن طيب ثوبه أو صبغه بطيب أنه متضمخ بطيب، ولو كان على الجبة لكان في نزعها كفاية من جهة الإحرام، هذا كلامه. وترده رواية مسلم: عليه جبة بها أثر من خلوق

(2)

.

وللترمذي: جبة فيها ردع من زعفران

(3)

، وعادة البخاري أن يبوب لما في أطراف الحديث وإن لم يخرجه، والخلوق بفتح الخاء والخلاق واحد.

وقوله: ولا يقال لمن طيب ثوبه أو صبغه بطيب أنه متضمخ بطيب، فيه نظر، فإن حرمة الثوب كالبدن، وترجم البخاري عليه أيضًا باب نزل القرآن بلسان قريش والعرب

(4)

، واعترض عليه وأجاب ابن المنيِّر بأن البخاري قصد التنبيه بأن القرآن والسنة كلها بوحي واحد ولسان واحد، ففي الأول ضمنها نزول الوحي مطلقًا، وهذِه خصها بالقرآن العظيم

(5)

.

(1)

"المحلى" 7/ 80.

(2)

"صحيح مسلم" برقم (1180/ 10) كتاب: الحج، باب: ما يباح للمحرم بحج أو عمرة.

(3)

هذا لفظ أحمد كما في "المسند" 4/ 224 ورواه الترمذي مختصرًا دون ذكر الزعفران (835).

(4)

يأتي برقم (4985).

(5)

"المتواري" ص 388.

ص: 88

ثانيها:

حديث ابن عباس عند ابن أبي شيبة أنه عليه السلام رخص في الثوب المصبوغ للمحرم ما لم يكن (لعص)

(1)

ولا ردع

(2)

.

ولأبي داود أن امرأة جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم بثوب مشبع بعصفر فقالت: يا رسول الله، أحرم في هذا؟ قال:"لك غيره؟ " قالت: لا، قال:"فأحرمى فيه"

(3)

فلا يعارضان حديث يعلى؛ لأن الأول واهٍ بسبب الحجاج بن أرطاة، والثاني من مراسيل مكحول.

وحديث أبي جعفر: أحرم عقيل بن أبي طالب في ثوبين ورديين فقال له عمر: ما هذا؟ فقال له علي: إن أحدًا لا يعلمنا بالسنة

(4)

، منقطع.

وصح عن جابر أنه قال: لا بأس بالمضرّج للمحرم

(5)

، وفي لفظ: إذا لم يكن في الثوب المعصفر طيب فلا بأس به للمحرم أن يلبسه

(6)

.

وعن القاسم بن محمد أنه كان يلبس الثياب الموردة، وهو محرم، وعن عبد الله بن عبد الله قال: كان الفتيان يحرمون مع ابن عمر في الموردة فلا ينهاهم، وعن عمر بن محمد قال: رأيت على سالم ثوبًا موردًا، يعني: وهو محرم، وعن يزيد، عن مقسم، عن ابن عباس قال: لا بأس بالمورد للمحرم

(7)

، وقد يحمل ذَلِكَ على ما لا طيب

(1)

في الأصل: نفض، والمثبت من "المصنف".

(2)

"المصنف" 3/ 139 (12857) في المحرم يلبس المورد.

(3)

"مراسيل أبي داود" ص 157 (159).

(4)

رواه ابن أبي شيبة 3/ 139 (12858).

(5)

المصدر السابق (12859).

(6)

المصدر السابق 3/ 141 (12878) من رخص في المعصفر للمحرم.

(7)

المصدر السابق 3/ 139 (12860 - 12862).

ص: 89

به كما قاله جابر، وكذا قاله ابن عمر، وأنه لا ينفض كما قاله نافع بن جبير وغيره

(1)

.

ثالثها:

الجِعرَّانة بتشديد الراء على قول الأكثرين، قال البكري: كذا يقول العراقيون، والحجازيون يخففون، وكذلك الحديبية

(2)

.

وقال الأصمعي والخطابي: مخففة وهي: ماء بين الطائف ومكة، وهي إلى مكة أدنى.

وقال ياقوت: هذِه غير الجعرانة التي بأرض العراق، نزلها المسلمون لقتال الفرس، قاله سيف بن عمر

(3)

. قال يوسف بن ماهك: اعتمر منها ثلاثمائة نبي.

رابعها:

يعلى هو: ابن أمية، ويعرف بابن مُنية، وهي أمه، وقيل: جدته. ونظره إلى مشاهدة الوحي تقوية لإيمانه، ولعلمه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكره ذَلِكَ.

والغطيط: صوت النائم فمعنى: يغط: ينفخ، كما قال في حديث آخر: له غطيط أو خطيط، فكان ربما أخذه عند الوحي كالغشية فيضطجع لها، قاله ابن التين.

وسُرِّي عنه -هو بضم أوله وكسر الراء المشددة

(4)

- أي: كشف ما به وأزيل.

(1)

المصدر السابق 3/ 141 (12878 - 12881).

(2)

"معجم ما استعجم" 1/ 384.

(3)

"معجم البلدان" 2/ 142.

(4)

في هامش الأصل: حاشية: وتخفف أيضا، ذكره في "المطالع".

ص: 90

خامسها:

فيه أنه عليه السلام كان يحكم بالوحي ولا شك فيه، واستدل به من قال: إنما يحكم بالوحي لا بالاجتهاد، وقد يجاب بأنه لعله لم يظهر له ذَلِكَ بالاجتهاد، أو أن الوحي يقرره.

سادسها:

اختلف العلماء في استعمال الطيب عند الإحرام واستدامته بعده، فكرهه قوم، ومنعوه منهم: مالك ومحمد بن الحسن

(1)

(2)

، وسبقهما عمر وعثمان وابن عمر وعثمان بن أبي العاص وعطاء والزهري

(3)

.

وخالفهم في ذَلِكَ آخرون فأجازوه منهم: أبو حنيفة والشافعي

(4)

؛ تمسكًا بحديث عائشة: طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي لحرمه حين أحرم، ولحله حين أحل قبل أن يطوف بالبيت وسيأتي

(5)

. ولمسلم: بذريرة في حجة الوداع

(6)

. وللبخاري كما سيأتي: وطيبته بمنى قبل أن يفيض

(7)

. وعنها كأني انظر إلى وبيص المسك في مفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم وسيأتي

(8)

.

(1)

في هامش الأصل: من خط الشيخ نقل ابن التين عنه وعن أبي يوسف الجواز.

(2)

انظر: "الهداية" 1/ 148، "تبيين الحقائق" 2/ 9، "عيون المجالس" 2/ 791، "الذخيرة" 3/ 311.

(3)

روى ذلك ابن أبي شيبة 3/ 200 - 201 (13499، 13501، 13504، 13506)، باب: من كره الطيب للمحرم.

(4)

انظر: "الهداية" 1/ 148، "الاختيار" 1/ 185، "البيان" 4/ 122.

(5)

برقم (1539) باب: الطيب عند الإحرام.

(6)

"صحيح مسلم" برقم (1189)(35) باب: الطيب عند الإحرام.

(7)

سيأتي برقم (5922) كتاب: اللباس، باب: تطييب المرأة زوجها بيدها.

(8)

برقم (1538) باب: الطيب عند الإحرام.

ص: 91

والوبيص -بالصاد المهملة- البريق واللمعان، قالا: وحديث يعلى إنما أمره بغسل ما عليه؛ لأن ذَلِكَ الطيب كان زعفرانًا، وقد نُهيَ الرجال عن التزعفر مطلقًا، وهذا التأويل يأباه مساق الحديث، وتأول المخالفون حديث عائشة بتأويلات أقربها: إن ذَلِكَ الوبيص الذي أبصرته، إنما كان بقايا دهن ذَلِكَ الطيب تعذر قلعه فبقي بعد أن غسل، والتقدير: فيطوف على نسائه فينضح طيبًا، ثم يصبح محرمًا لقوله:{أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا} [الكهف: 1 - 2] أي أنزله قيمًا ولم يجعل له عوجًا.

ثانيها: إن ذَلِكَ كان من خواصه؛ لأن المحرم إنما يمنع من الطيب؛ لئلا يدعوه إلى الجماع، والشارع معصوم، وفيه بعد.

ثالثها: أنه مما لا تبقى رائحته بعد الإحرام وسيأتي بسط ذَلِكَ في الباب بعده، قالوا: وكما منع من استدامة اللبس يمنع من استدامة الطيب، قالوا: والنهي عن التزعفر إنما هو محمول عند أهل المدينة على حالة الإحرام فقط، وأنه مباح في الإحلال، وسيأتي إيضاحه في اللباس عند النهي عن التزعفر إن شاء الله تعالى. قال ابن جريج بشأن صاحب الجبة: كان قبل حجة الوداع، والآخر من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن يتبع

(1)

.

سابعها:

قوله: "ثلاث مرات"، وفي أبي داود:"يغتسل مرتين أو ثلًاثا"

(2)

إنما

(1)

رواه ابن الجارود في "المنتقى" 2/ 80 (448) عن ابن جريج قال: وكان عطاء يأخذ بشأن صاحب الجبة.

(2)

"سنن أبي داود"(1821) باب: الرجل يحرم في ثيابه، وقال الألباني: صحيح.

ص: 92

أمره بها للمبالغة في الإزالة، ولعل الطيب الذي كان عليه كان كثيرًا؛ يؤيده قوله:(متضمخ).

قال ابن التين: ويحتمل أنه كان استعمله بعد الإحرام فأمره بإزالته، أو أنه تطيب ثم اغتسل كما في حديث عائشة السالف: طيبته عند إحرامه، ثم دار على نسائه، ثم أصبح محرمًا. فظاهره إنما تطيب لمباشرة ثم زال بالغسل لاسيما، وكان يغتسل من كل واحدة فلا يبقى مع ذَلِكَ، ويكون قولها: ثم أصبح ينضخ طيبًا، أي: قبل غسله، وقد أسلفنا أنه كان ذريرة، وهو مما يذهبه الغسل، ووبيص الطيب: أثره لا جرمه. وقال القاضي: يحتمل الثلاث على قوله: "فاغسله" فكأنه قال: اغسله اغسله اغسله، يدل على صحته ما روي من عادته صلى الله عليه وسلم في كلامه أنه كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثًا

(1)

.

ثامنها:

ما أسلفناه عن قتادة عن عطاء في عدم شقها قاله أيضًا طاوس، خالفه محمد بن جعفر عن علي إذا أحرم وعليه قميص لا ينزعه من رأسه، يشقه ثم يخرج منه. وقال الشعبي والحسن وإبراهيم: يخرقه.

وقال أبو قلابة وأبو صالح وسالم: (يخلعه)

(2)

من قبل رجليه

(3)

، والأول أولى لما سلف من أن الله لا يحب الفساد.

(1)

سبق برقم (94) كتاب: العلم، باب: من أعاد الحديث ثلاثًا ليفهم عنه. انظر: "إكمال المعلم بفوائد مسلم" 4/ 168.

(2)

في الأصل: يجعله، والصواب ما أثبتناه.

(3)

رواه ابن أبي شيبة 3/ 283 (14351 - 14352، 14355 - 14356) باب: في الرجل يحرم وعليه قميص، ما يصنع؟.

ص: 93

تاسعها:

لم يأمره عليه السلام في هذا الحديث بالفدية، فأخذ به الشافعي وعطاء والثوري وإسحاق وداود وأحمد في إحدى روايتيه وقالوا: إن من لبس في إحرامه ما ليس له لبسه جاهلًا فلا فدية عليه، والناسي في معنا

(1)

.

وقال أبو حنيفة والمزني في رواية عنه: يلزمه إذا غطى وجهه ورأسه متعمدًا أو ناسيًا يومًا إلى الليل، فإن كان أقل من ذَلِكَ فعليه صدقة يتصدق بها

(2)

.

وعن مالك يلزمه إذا انتفع بذلك أو طال لبسه عليه، قال فيمن ابتاع خفين فجر بهما في رجليه: فإن كان شيئًا خفيفًا فلا شيء عليه، وإن تركها حتى منعه ذَلِكَ من حر، أو بردٍ، أو مطر افتدى

(3)

. لنا أن هذا الرجل كان قريب العهد بالإسلام لا يعرف أحكامه فعذره الشارع ولم يلزمه غرامة.

عاشرها: قوله- "واصنع في عمرتك كما تصنع في حجك" معناه: اجتنب فيها كُلَّ ما تجتنب فيها كما أسلفناه، ألا ترى قول ابن عمر ما أمرهما إلا واحد يعني: في الإحرام والحرمة، وكذلك كلُّ ما يستحسن من الدعاء والتلبية في الحج فهو مستحسن بها.

وقوله في آخر الحديث: (قُلْتُ لعطاء: أراد الإنقاء؟ قال: نعم).

قال ابن التين: أراد به بعض الإنقاء؛ لأن الثلاث لا تكاد تنقي كل

(1)

انظر: "الأم" 2/ 130، "المغني" 5/ 391 - 392.

(2)

انظر: "المبسوط" 4/ 127 - 128، "تبيين الحقائق" 2/ 53 - 54.

(3)

انظر: "المنتقى" 2/ 196.

ص: 94

الإنقاء، قال المهلب: وفيه من الفقه أن السنن قد تكون بوحي، كما كان غسل الطيب في هذا الحديث بالوحي. قال ابن بطال: ولم يقل أحد إنه فرض

(1)

.

وفيه: وجوب التثبت للعالم فيما يُسأل عنه، وإن لم يعرفه سأل من فوقه، كما فعل عليه السلام.

وفيه: المبالغة في الإنقاء من الطيب.

وفيه: أن غسل الطيب عند الإحرام ينبغي أن يبالغ في إزالته، ألا ترى أنه أمره بغسله ثلاثًا.

(1)

"شرح ابن بطال" 4/ 206.

ص: 95

‌18 - باب الطِّيبِ عِنْدَ الإِحْرَامِ وَمَا يَلْبَسُ إِذَا أَرَادَ أَن يُحْرِمَ وَيَتَرجَّلَ وَيَدَّهِنَ

وَقَالَ ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: يَشَمُّ المُحْرِمُ الرَّيْحَانَ وَيَنْظُرُ فِي المِرْآةِ، وَيَتَدَاوى بِمَا يَأْكُلُ الزَّيْتَ وَالسَّمْنَ. وَقَالَ عَطَاءٌ: يَتَخَتَّمُ وَيَلْبَسُ الهِمْيَانَ. وَطَافَ ابن عُمَرَ رضي الله عنهما وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَقَدْ حَزَمَ عَلَى بَطْنِهِ بِثَوْبٍ. وَلَمْ تَرَ عَائِشَةُ رضي الله عنها بِالتُّبَّانِ بَأْسًا لِلَّذِينَ يَرْحَلُونَ هَوْدَجَهَا.

1537 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَان، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يَدَّهِنُ بِالزَّيْتِ.

فَذَكَرْتُهُ لإِبْرَاهِيمَ، قَالَ: مَا تَصْنَعُ بِقَوْلِهِ. [فتح: 3/ 316]

1538 -

حَدَّثَنِي الأَسْوَدُ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ الطِّيبِ فِي مَفَارِقِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُحْرِمٌ. [انظر: 271 - مسلم: 1190 - فتح: 3/ 396]

1539 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ القَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها -زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لإِحْرَامِهِ حِينَ يُحْرِمُ، وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالبَيْتِ. [1754، 5922، 5928، 5930 - مسلم: 1189 - فتح: 3/ 396]

ثم أسند عن سعيد بن جبير قال: كَانَ ابن عُمَرَ رضي الله عنهما يَدَّهِنُ بِالزَّيْتِ. فَذَكَرْتُهُ لإِبْرَاهِيمَ، قَالَ: مَا تَصْنَعُ بِقَوْلِهِ.

حَدَّثَنِي الأَسْوَدُ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ الطِّيبِ فِي مَفَارِقِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُحْرِمٌ.

وعن القاسم عنها: كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لإِحْرَامِهِ حِينَ يُحْرِمُ،

ص: 96

وَلحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالبَيْتِ.

الشرح:

هذِه الترجمة بعض ألفاظها يأتي في باب: ما يلبس المحرم من الثياب قريبًا من حديث ابن عباس رضي الله عنه: انطلق النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة بعدما ترجل وادَّهن، ولبس إزاره ورداءه هو وأصحابه .. الحديث

(1)

.

وهو ردٌّ لما زعم بعضهم من أن حديثي الباب لا مطابقة فيهما؛ إذ لا ترجيل فيهما بل في قولها: مفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يرشد إليه، إذ الشعر لا ينفرق غالبًا إلا به.

وأما أثر ابن عباس؛ فأخرجه البيهقي بإسناد جيد من حديث أيوب، عن عكرمة، عنه أنه كان لا يرى بأسًا للمحرم أن يشم الريحان

(2)

، وكذا الدارقطني بلفظ: المحرم يشم الريحان، ويدخل الحمام، وينزع ضرسه، ويفقأ القرحة، وإن انكسر ظفره أماط عنه الأذى

(3)

.

وأخرجه ابن أبي شيبة من حديث هشام بن حسان، عن عكرمة عنه: لا بأس أن ينظر في المرآة وهو محرم

(4)

ومن حديث الضحاك، عنه: إذا تشققت يد المحرم أو رجلاه فليدهنهما بالزيت أو بالسمن. ومن حديث أشعث، عن عكرمة، عنه: يتداوى المحرم ما يأكل

(5)

. ثم أخرج من حديث عطاء لا بأس أن ينظر فيما يميط عنه الأذى، ومن حديث نافع أن ابن عمر لم ير باسًا أن ينظر المحرم في المرآة، وعن طاوس

(1)

سيأتي برقم (1545).

(2)

"السنن الكبرى" 5/ 57 كتاب: الحج، باب: من لم ير بشم الريحان بأسًا.

(3)

"سنن الدارقطني" 2/ 232 - 233 كتاب: الحج.

(4)

"المصنف" 3/ 137 (12837) في المحرم ينظر إلى المرآة من رخص في ذلك.

(5)

"المصنف" 3/ 144 (12919 - 12920) فيما يتداوى المحرم.

ص: 97

وعكرمة مثله

(1)

.

وعن ابن عمر يتداوى المحرم بأي دواء شاء إلا دواء فيه طيب

(2)

.

وكان الأسود يضمد رجله بالشحم وهو محرم.

وعن أشعث بن أبي الشعثاء: حَدَّثَني من سمع أبا ذر يقول: لا بأس أن يتداوى المحرم بما يأكل

وفي رواية: حَدَّثَني مرة

(3)

بن خالد عن أبي ذر، عن مغيث

(4)

البجلي قال: أصابني شقاق وأنا محرم فسألت أبا جعفر فقال: ادهنه بما تأكل، وكذا قاله ابن جبير، وإبراهيم، وجابر بن زيد، ونافع، والحسن، وعروة، وعن الحسن بن علي: أنه كان إذا أحرم ادَّهن بالزيت، ودهن أصحابه بالطيب أو يدهن بالطيب

(5)

.

وعن ابن عمر أنه كان يدهن بالزيت قبل أن يحرم، ورواه الترمذي عنه مرفوعًا، ثم قال: غريب لا نعرفه إلا من حديث فرقد، ولفظه بالزيت وهو محرم غير المقتت، قال أبو عيسى: هو المطيب

(6)

.

قُلْتُ: وقد روي عن بعض من أسلفناه ما قد يخالفه ففي البيهقي بإسناد جيد عن ابن عمر أنه كان يكره ثم الريحان للمحرم

(7)

.

(1)

"المصنف" 3/ 137 (12838، 12840 - 12841).

(2)

"المصنف" 3/ 144 (12918).

(3)

في الأصل: قرة بن خالد، والمثبت من "التاريخ الكبير" 8/ 5 ترجمة (1935).

(4)

في الأصل: معتب، والمثبت كما في "المصنف" لابن أبي شيبة.

(5)

انظر: "المصنف" 3/ 145 - 146 (12922 - 12929، 12931 - 12934) فيما يتداوى المحرم وما ذكر فيه.

(6)

رواه في "السنن" برقم (962) كتاب: الحج. وقال الألباني: ضعيف الإسناد.

(7)

"السنن الكبرى" 5/ 57 كتاب: الحج، باب: من كره شم الريحان للمحرم.

ص: 98

وعن أبي الزبير عن جابر سماعًا: فسأل عن الريحان: أيشمه المحرم والطيب والدهن؟ فقال: لا

(1)

.

ولابن أبي شيبة عن طاوس: لا ينظر المحرم في المرآة

(2)

، وعن مجاهد: إن تداوى بالسمن أو الزيت فعليه دم

(3)

، وعن ابن عمر أنه كره أن يداوي المحرم يده بالدسم

(4)

، وعن جابر إذا شم المحرم ريحانًا أو مس طيبًا أهراق لذلك دمًا. وعن إبراهيم: في الطيب الفدية. وعن عطاء إذا ثم طيبًا كفّر، وعنه إذا وضع المحرم على شيء منه دهنًا فيه طيب فعليه الكفارة

(5)

.

وقوله: يشم -الأفصح فيه فتح الشين، وفي لغة ضمها، وماضيه المتصل مكسور وفي لغةٍ فتحه- ومعناه: استنشاق الرائحة، وقد يستعار في غير ذَلِكَ في كل ما قارب شيئًا أو دنا منه، وجاء في مصدره على فعيلى

(6)

.

والريحان: ما طاب ريحه من النبات كله، الواحدة ريحانة.

وأما أثر عطاء فأخرجه ابن أبي شيبة من حديث هشام بن الغاز عنه: لا بأس بالخاتم للمحرم، ومن حديث العلاء عنه به، ومن حديث أبي إسحاق عنه، وأخرجه من حديث ابن عباس بمثله بإسناد جيد، وعن النخعي ومجاهد مثله

(7)

.

(1)

رواه ابن أبي شيبة 3/ 308 (14605) من كره للمحرم أن يشم الريحان.

(2)

"المصنف" 3/ 138 (12844) من كره للمحرم أن ينظر في المرآة.

(3)

سبق تخريجه.

(4)

"المصنف" 3/ 146 (12935) فيما يتداوى المحرم.

(5)

"المصنف" 3/ 308 (14607 - 14610) ما قالوا إذا شم الريحان.

(6)

كذا في الأصل.

(7)

"المصنف" 3/ 271 (14218 - 14220، 14223) في الخاتم للمحرمة.

ص: 99

وقال خالد بن أبي بكر: رأيت سالمًا يلبس خاتمه وهو محرم، وكذا قاله إسماعيل بن عبد الملك، عن سعيد بن جبير

(1)

.

ومعنى يتختم: يلبس الخاتم، وفيه ست لغات: فتح التاء وكسرها، وخاتام، وخيتام وختام وختم، حكى الأخيرتين ابن جني في "شرح المتنبي"، واختلف في قول الأعشى:

وصهباء طاف يَهوديُّها

وأبرزها وعليها ختم

فقيل: أراد الخاتم، وقيل: ختم فعل ماض، أي: وختم عليها والجمع خواتم وخياتيم وخياتم، وكان العجاج يهمز الخاتم. قال الصولي: إن كان الهمز من لغته في الخاتم والعالم فشعره مستوٍ وهو قوله:

وخندف هامة هذا العالم

مُبارَكٍ للأنبياء خاتم

والهميان يأتي، وأثر ابن عمر أخرجه الشافعي في "مسنده": أنا سعيد، عن ابن جريج، عن هشام بن حجير، عن طاوس قال: رأيت ابن عمر يسعى بالبيت، وقد حزم على بطنه بثوب.

وعن سعيد، عن إسماعيل بن أمية أن نافعًا أخبره أن ابن عمر لم يكن عقد الثوب عليه، إنما غرز طرفه على إزاره

(2)

.

وقال ابن أبي شيبة في "مصنفه": حَدَّثَنَا ابن فضيل، عن ليث، عن عطاء وطاوس قالا: رأينا ابن عمر وهو محرم وقد شد حقويه بعمامة.

وحدثنا ابن عيينة، عن هشام بن حجير قال: رأى طاوس ابن عمر يطوف وقد شد حقويه بعمامة. وحَدَّثَنَا وكيع عن ابن أبي ذئب، عن

(1)

"المصنف" 3/ 271 (14221 - 14222).

(2)

"مسند الشافعي" 1/ 311 (806 - 807).

ص: 100

مسلم بن جندب: سمعت ابن عمر يقول: لا تعقد عليك شيئًا وأنت محرم

(1)

.

وفي "صحيح الحاكم" وقال: صحيح من حديث أبي سعيد الخدري قال: حج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مشاة؛ فقال: "اربطوا على أوساطكم بأزركم" ومشينا خلط الهرولة

(2)

. سلف.

وأما حديث عائشة فأخرجه مسلم والأربعة

(3)

.

ومحمد بن يوسف في المسند الأول هو: الفريابي وسفيان هو ابن سعيد، وهو حديث لا يختلف في صحته وثبوته، وأنكر ابن حزم رواية عائشة: ثم أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمًا، وقال: هو لفظ منكر ولا خلاف أنه إنما أحرم بعد صلاة الظهر بذي الحليفة

(4)

كما قال جابر في حديثه الطويل، ولعل قولها إنما كان منه في عمرة القضاء أو الحديبيَة أو الجِعْرَانَة.

إذا تقرر ذَلِكَ فالكلام على ما في الباب من أوجهٍ:

أحدها:

أجاز الطيب قبل الإحرام من الصحابة سعد بن أبي وقاص ومعاوية وابن عباس وأبو سعيد الخدري وابن الزبير وعائشة وأم حبيبة، ومن

(1)

"المصنف" 3/ 392 (15432 - 15433، 15442) في المحرم يعقد على بطنه الثوب.

(2)

"المستدرك" 1/ 442 - 443 كتاب: المناسك. وضعفه الألباني في "الضعيفة"(2734) وتقدم تخريجه.

(3)

مسلم (1190)، وأبو داود (1746)، والترمذي (917)، والنسائي 5/ 138، وابن ماجه (2928).

(4)

"المحلى" 7/ 87.

ص: 101

التابعين عروة والقاسم بن محمد والشعبي والنخعي

(1)

.

وبه قال عمر بن عبد العزيز، وأبو حنيفة، وأبو يوسف، والثوري، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد، إسحاق، وأبو ثور، وابن المنذر، وإبراهيم في رواية

(2)

.

وحكاه ابن حزم عن البراء بن عازب، وأنس، وأبي ذر، والحسين بن علي، وابن الحنفية، والأسود، وسالم، وهشام بن عروة، وخارجة بن زيد، وابن جريج، وسعيد بن سعيد

(3)

.

واحتجوا بحديث عائشة في الباب، واعتل من لم يجزه بما سلف في الباب قبله أنه من خواصه، قاله ابن القصار والمهلب وأبو الفرج في "شرح اللمع"، زاد المهلب معنى آخر: أنه خص به؛ لمباشرته الملائكة بالوحي وغيره.

وفي الثوب عندنا وجهان، والأصح جوازه لا استحبابه، وقيل: يستحب

(4)

، وادعى بعضهم الإجماع على أنه لا يستحب في الثوب كما ستعلمه، والخلاف ثابت، وسواء فيه ما بقي لونه وغيره. وقال أشهب: لا فدية على من تطيب لإحرامه، وخالفه بعض القرويين

(5)

.

واختلف فيه الرواية عن محمد بن الحسن فيما حكاه الطرطوسي.

قال ابن حزم: وأما الرواية عن عمر في كراهته فقد روينا عنه أنه لما شمه

(1)

انظر: "مصنف ابن أبي شيبة" 3/ 198 - 200 باب: من رخص في الطيب عند الإحرام.

(2)

انظر: "البناية" 4/ 40، "الأم" 2/ 172، "المغني" 5/ 77 - 78.

(3)

"المحلى" 7/ 84 - 85.

(4)

انظر: "المجموع" 7/ 228 - 229.

(5)

انظر: "المنتقى" 2/ 201، "مواهب الجليل" 4/ 215.

ص: 102

من البراء لم ينهه عنه، وإنما قال: علمنا أن أمرأتك عطرة، وأما ابنه فقد رجع عنه فلم يبق إلا عثمان وحده، قال: وأما ما رووه في الحديث عن عائشة طيبته بطيب لا يشبه طيبكم، هذا يعني: ليس له بقاء، فليس من الحديث، إنما هو ظن ممن رواه عنها والظن أكذب الحديث

(1)

.

قُلْتُ: وعن ابن عمر: لا آمر به ولا أنهى عنه.

ثانيها:

الطيب بعد رمي جمرة العقبة رخص فيه ابن عباس وسعد بن أبي وقاص وابن الزبير وعائشة وابن جبير والخدري والنخعي وخارجة بن زيد، وهو قول الكوفيين والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور

(2)

؛ عملًا بحديث عائشة في الباب، وكرهه سالم ومالك، قال ابن القاسم: ولا فدية لما جاء في ذَلِكَ

(3)

.

قال الترمذي: والعمل على حديث عائشة عند أكثر أهل العلم والصحابة وغيرهم، وروي عن عمر منعه، وإليه ذهب بعض أهل العلم من الصحابة وغيرهم، وهو قول أهل الكوفة

(4)

.

وقال أبو عمر بن عبد البر: إن مذهب عمر وعثمان وابن عمر وعثمان بن أبي العاص أنه يحرم عليه الطيب حَتَّى يطوف بالبيت قال: وبه قال عطاء والزهري وسعيد بن جبير وابن سيرين والحسن، وإليه ذهب محمد بن الحسن وهو اختيار الطحاوي

(5)

.

(1)

"المحلى" 7/ 85 - 86.

(2)

انظر: "البناية" 4/ 140، "البيان" 4/ 346، "المغني" 5/ 308.

(3)

انظر: "الكافي" لابن عبد البر ص 166، "الاستذكار" 11/ 66، "التاج والإكليل" 4/ 179 - 180.

(4)

"سنن الترمذي" عقب حديث (917).

(5)

"الاستذكار" 11/ 58 - 59.

ص: 103

وعبارة الطرطوسي: يكره الطيب المؤنث كالمسك والزعفران ونحوهما، فإن تطيب وأحرم به فعليه الفدية، قال: فإن أكل طعامًا فيه طيب، فإن كانت النار مسّته فلا شيء عليه وإلا فوجهان، وأما غير المؤنث مثل الرياحين والياسمين والورد فليس من ذَلِكَ ولا فدية فيه أصلًا.

وذكر الهروي في "غريبه" في الهمزة مع النون في حديث إبراهيم: أنهم كانوا يكرهون المؤنث من الطيب ولا يرون بذكورته بأسًا. قال شمر: أراد بالمؤنث طيب النساء كالخلوق والزعفران، وذكورته ما لا يكون للنساء كالمسك والغالبة والكافور والعود وما أشبهها، ومثله ذكارة الطيب.

فرع:

الحناء عندنا ليس طيبًا

(1)

خلافًا لأبي حنيفة، وعند مالك وأحمد أن فيه الفدية

(2)

، قالت عائشة: وكان عليه السلام يكره ريحه. أخرجه

(1)

انظر: "حلية العلماء" 3/ 248، "مغني المحتاج" 1/ 480.

(2)

انظر: "بدائع الصنائع" 2/ 191، "تبيين الحقائق" 2/ 52، "المدونة" 1/ 343، "عيون المجالس" 2/ 785، وأما ما ذكره عن الإمام أحمد ففيه نظر، فقد قال السامُرِّي: وله أن يختضب بالحناء ما لم يغط به شيئًا مما يلزم كشفه ولا شيء عليه.

وقال ابن مفلح: ويستحب خضابها بحناء للإحرام. ثم قال: فأما الخضاب للرجل فذكر الشيخ أنه لا بأس به فيما لا تشبه فيه بالنساء؛ لأن الأصل بالإباحة، وأطلق في "المستوعب" له الخضاب بالحناء، وقال في مكان آخر: كرهه أحمد، قال أحمد: لأنه من الزينة.

وقال البهوتي: ويستحب لها -أي للمرأة- إذا أرادت الإحرام خضاب بحناء؛ لحديث ابن عمر؛ ولأنه من الزينة.

انظر: "المستوعب" 4/ 90، "الفروع" 3/ 453، 454، "تصحيح الفروع" 3/ 455، "كشاف القناع" 2/ 406.

ص: 104

ابن أبي عاصم في كتاب "الخضاب"، وكان يحب الطيب، فلو كان طيبًا لم يكرهه.

ثالثها: اختلف في شم الريحان الفارسي والمرزنجوش واللينوفر والنرجس على قولين عندنا: أحدهما: يجوز؛ لقول ابن عباس السالف، وروي عن عثمان أنه سُئِلَ عن المحرم يدخل البستان، قال: نعم، ويشم الريحان.

قال ابن التين: ولأنه ليس من مؤنث الطيب. وأصحهما: لا يجوز؛ لأنه يراد للرائحة، فهو كالورد والزعفران، ففيه الفدية

(1)

.

وبه قال ابن عمر وجابر والثوري ومالك وأبو حنيفة وأبو ثور، إلا أن مالكًا وأبا حنيفة يقولان: يحرم ولا فدية

(2)

.

واختلف في الفدية عن عطاء وأحمد كما قاله ابن المنذر.

وممن جوزه -وقال: هو حلال ولا فدية فيه- عثمان وابن عباس والحسن، ومجاهد وإسحاق ونقله العبدري عن أكثر العلماء.

رابعها:

النظر في المرآة جائز للمحرم، كما قاله ابن عباس، قال ابن بطال: وأجازه جمهور العلماء وكان أبو هريرة يفعله

(3)

، وقال مالك: لا ينظر فيها إلا من ضرورة

(4)

.

(1)

انظر: "المجموع" 7/ 289 - 290.

(2)

قوله: يحرم، فيه نظر، فقد قالا: يكره ولا فدية فيه، انظر:"بدائع الصنائع" 2/ 191، "الجوهرة النيرة" 1/ 152، "الفتاوى الهندية" 1/ 242، "المدونة" 1/ 343، "عقد الجواهر الثمينة" 1/ 295.

(3)

"شرح ابن بطال" 4/ 210.

(4)

انظر: "النوادر والزيادات" 2/ 353، "المنتقى" 2/ 265 - 266.

ص: 105

خامسها:

الأدهان غير المطيبة لا يحرم على المحرم استعمالها في بدنه، ويحرم عليه في شعر رأسه ولحيته؛ خلافًا للحسن بن حي وداود.

قال ابن المنذر: أجمع العلماء أن للمحرم أن يأكل الزيت والشحم والسمن والشيرج

(1)

، وأن له أن يستعمل ذَلِكَ في جميع بدنه سوى رأسه ولحيته، فإن استعمله فيهما افتدى.

وأجمعوا أن الطيب لا يجوز استعماله في بدنه

(2)

، ففرقوا بين الطيب والزيت في هذا الوجه، فقياس هذا أن يكون المحرم ممنوعًا من استعمال الطيب في رأسه كما منع في بدنه، وأن يجب له استعمال الزيت والسمن في رأسه كما أبيح له في بدنه، وكلهم أوجب في دهن البنفسج الفدية، إلا الشافعي فإنه قال: ليس بطيب، وإنما يستعمل للمنفعة

(3)

.

وقال مالك في الأدهان غير المطيبة: لا يجوز أن يدهن بها أعضاءه الظاهرة: كالوجه واليدين والرجلين ويجوز دهن الباطنة، وهو ما يوارى باللباس

(4)

.

وبه قال أبو حنيفة في السمن والبزر، وقال في الزيت والشيرج: يحرم استعماله في الرأس والبدن

(5)

.

(1)

"الإجماع لابن المنذر" ص 52، ونقله عنه النووي في "المجموع" 7/ 296.

(2)

انظر: "المجموع" 7/ 296.

(3)

انظر: "بدائع الصنائع" 2/ 190، "الفتاوى الهندية" 1/ 241، "المدونة" 1/ 341، "الأم" 2/ 129، "المغني" 5/ 149.

(4)

انظر: "النوادر والزيادات" 2/ 352.

(5)

انظر: "بدائع الصنائع" 2/ 190 - 191.

ص: 106

وقال أحمد: إذا دهن بزيت أو شيرج فلا شيء عليه في أصح الروايتين سواء دهن بدنه أو رأسه

(1)

.

وقال ابن التين: المحرم ممنوع من الأدهان المطيب وغيره. وذكر ابن حبيب عن الليث إباحة ذَلِكَ بما يجوز أكله من الأدهان، وهو قول عمر وعلي، قال: ودليل قول مالك أنه معنى ينافي الشعث، فمنع منه كالتطيب والتنظيف في الحمام، قال: وقيل: في معنى قول ابن عمر: يدهن بالزيت أي: بعد الغسل وقبل الإحرام؛ لأن الزيت بعد الإحرام يزيل الشعث، فإن فعل فقال مالك عند ابن حبيب: يفتدي، واختار ابن حبيب أن لا فدية عليه

(2)

.

سادسها:

قول عطاء: تختم. قال مالك مثله في "مختصر ما ليس في المختصر"، قال اللخمي في "تبصرته": والمعروف من قوله المنع

(3)

.

سابعها:

التبان لبسه حرام عندنا كالقميص والدراعة والخف والران ونحوها، فإن لبس شيئًا من ذَلِكَ مختارًا عامدًا أثم وأزاله وافتدى سواء قصر الزمان أو طال

(4)

.

وحمل ابن التين قول عائشة أنها تريد به النساء؛ لأنهن يلبسن المخيط، والتبان: سراويل قصر.

(1)

انظر: "المغني" 5/ 149، "الفروع" 3/ 379 - 380.

(2)

انظر: "المنتقى" 2/ 204.

(3)

انظر: "مواهب الجليل" 3/ 432، 4/ 204.

(4)

انظر: "المجموع" 7/ 269.

ص: 107

وله أن يتقلد المصحف وحمائل السيف، وأن يشد الهِميان والمنطقة

(1)

في وسطه، ويلبس الخاتم من غير اختلاف عنه، وقال ابن عمر في أصح الراويتين عنه بكراهة الهميان والمنطقة، وبه قال مولاه نافع، وهو ما في "الموطأ" فقيل: يحتمل أن يريد بذلك لبسها للترفه من فوق الثياب، وإن لبسها بذلك افتدى، لذا ذكره ابن التين، قال: واختلف في شد المنطقة في العضد هل يوجب فدية؟ فأوجبها أصبغ، وخالفه ابن القاسم، ومن شد منطقة لغير ضرورة يجري على الخلاف فيمن تقلد سيفًا لغير ضرورة هل يفتدى؟ قال: والصواب في الخاتم والسيف شبه ذَلِكَ أنه لا فدية؛ لأنه غير لابس.

وأجمع عوام أهل العلم على أن للمحرم أن يعقد الهميان على وسطه، روي ذَلِكَ عن ابن عباس، وسعيد بن المسيب، والقاسم، وعطاء وطاوس والنخعي، وهو قول مالك، والكوفيين، والشافعي، وأحمد، وأبي ثور، غير إسحاق فقال: لا يعقده، وقال:(يدخل)

(2)

السيور بعضها في بعض

(3)

.

وسُئلت عائشة عن المنطقة فقالت: أوثق عليك نفقتك. وقال ابن علية: قد أجمعوا أن للمحرم أن يعقد الهميان والإزار على وسطه، فكذلك المنطقة، وقول إسحاق لا يعد خلافًا ولاحظ له في النظر؛

(1)

كذا بالأصل وتتمة الكلام كما في "المجموع" 7/ 270: في وسطه ويلبس الخاتم، ولا خلاف في جواز هذا كله، وهذا الذي ذكرناه في المنطقة والهميان مذهبنا، وبه قال العلماء كافة إلا ابن عمر في أصح الروايتين عنه، فكرههما.

(2)

في الأصل: لا يدخل، والمثبت من مصادر التخريج.

(3)

انظر: "المبسوط" 4/ 127، "الاستذكار" 11/ 42 - 43، "المجموع" 7/ 270، "المغني" 5/ 125 - 126.

ص: 108

لأن الأصل النهي عن لباس المخيط، وليس هذا مثله فارتفع أن يكون له حكمه

(1)

. وفي ابن عدي من حديث ابن عباس: رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهميان للمحرم، ثم ضعفه

(2)

.

فائدة:

الهميان: معروف فارسي معرب، قاله القزاز وغيره بكسر الهاء، وهميان بن قحافة السعدي، يُكسر، ويُضم، وفي "المغيث" قيل: هو فعلان من همى بمعنى: سأل؛ لأنه إذا أفرغ همي ما فيه

(3)

، وفسر ابن التين الهميان: بالمنطقة قال: وإنما ذَلِكَ لتكون نفقته فيها، وأما نفقة غيره فلا، وإن جعلها في وسطه لنفقته ثم نفذت نفقته وكان معه وديعة ردها إلى صاحبها، فإن تركها افتدى، وإن كان صاحبها غاب بغير علمه فيبقيها ولا شيء عليه، وشد المنطقة من تحت الثياب.

فرع:

اختلف في الرداء الذي يلتحف به على مئزره، فكان مالك لا يرى عقده ويلزمه الفدية إن انتفع به

(4)

. ونهى عنه ابن عمر وعطاء وعروة، ورخص فيه سعيد بن المسيب، وكرهه الكوفيون وأبو ثور، وقالوا: لا شيء عليه إن فعل

(5)

، وحكي عن مالك أنه رخص للعامل أن يحزم الثوب على منطقته، وكرهه لغيره

(6)

.

(1)

انظر: "الاستذكار" 11/ 43.

(2)

رواه في "الكامل" 1/ 273. وقال: لا أعرفه.

(3)

"المجموع المغيث" 3/ 510.

(4)

انظر: "التاج والإكليل" 4/ 205.

(5)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 2/ 108.

(6)

انظر: "التاج والإكليل" 4/ 205.

ص: 109

وقوله: وحزم ابن عمر على بطنه بثوب إن أراد أنه شده فوق المئزر، فمالك يرى على من فعل ذَلِكَ الفدية، كما سلف وإن باشر به البطن ليجعل فيه نفقته فيكون كالهميان.

خاتمة:

قول إبراهيم -يعني: النخعي- لسعيد بن جبير: ما تصنع بقول ابن عمر -فيما سلف- أنه كان يدهن بالزيت؟ فيه حجة أن المفزع في النوازل إلى السنن، وأنها مستغنية عن آراء الرجال، وفيها المقنع والحجة البالغة، وأن من نزع بها عند الاختلاف فقد فلح وغلب خصمه.

قال ابن التين: وإنما قيل له: قال ابن عمر: لا يدهن المحرم إلا بالزيت، فاحتج بذلك، ولا حجة له فيه إن كان ابن عمر فعله وهو محرم؛ لأن الشارع فعل قبل إحرامه، فإن كان فعله وهو غير محرم كما سيأتي من التأويل فقد ينفصل عن ذَلِكَ أيضًا، فإنه عليه السلام ادهن بدهن لاطيب فيه، إذ يكون فعله مخالفًا لفعلنا كما سلف.

ص: 110

‌19 - باب مَنْ أَهَلَّ مُلَبِّدًا

1540 -

حَدَّثَنَا اصْبَغُ، أَخْبَرَنَا ابن وَهْبٍ، عَنْ يونُسَ، عَنِ ابن شِهَابٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أبِيهِ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُهِلُّ مُلَبِّدًا. [1549، 5914، 5915 - مسلم: 1184 - فتح: 3/ 400]

ذكر فيه حديث سالم: عَنْ أَبِيهِ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يُهِلُّ مُلَبِّدًا.

هذا الحديث سيأتي مثله في باب: من لبد رأسه عند الإحرام. من حديث حفصة أيضًا بلفظ: "إني لبدت رأسي" .. الحديث

(1)

.

ولأبي داود والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم، من حديث ابن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر أنه عليه السلام لبد رأسه بالعسل

(2)

.

ومعنى يهل: يرفع صوته بالتلبية.

وقوله: مُلبّدًا أي: سمعته يهل ورأيته ملبدًا.

أما حكم الباب فالتلبيد عند الإحرام مستحب لما ذكرناه، نص عليه الشافعي وأصحابنا للرفق، وهو أن يضفر رأسه ويجعل فيه شيئًا من صمغ وشبهه؛ ليجتمع ويتلبد فلا يتخلله الغبار ولا يصيبه الشعث ولا يحصل به القمل.

قال القزاز: وقيل: التلبيد: البقيا على الشعر؛ لئلا يتشعث، وحكاه الهروي أيضًا، وإنما يلبد من طول مكثه في الإحرام.

(1)

سيأتي برقم (1725).

(2)

"سنن أبي داود" برقم (1748) كتاب: المناسك، باب: التلبيد، و"المستدرك" 1/ 450 كتاب: المناسك.

وقد سقطت هذِه الرواية من نسخة "المستدرك" وأثبتناها من "تلخيص الذهبي" والحديث ضعفه الألباني في "ضعيف أبي داود" برقم (308).

ص: 111

قال ابن بطال: من لبد رأسه فعليه الحلاق؛ لأنه عليه السلام حلق

(1)

، وهذا فيه خلاف ستعلمه في باب من لبد رأسه عند الإحرام إن شاء الله.

وقوله: (بالغسل) قال ابن الصلاح: يحتمل من حيث المعنى أنه الغِسل -بكسر الغين المعجمة- وهو: ما يغسل به الرأس من خطمي أو غيره، ويحتمل أن يكون بالمهملة المفتوحة؛ لأن الرواية بذلك لم تضبط.

(1)

"شرح ابن بطال" 4/ 211.

ص: 112

‌20 - باب الإِهْلَالِ عِنْدَ مَسْجِدِ ذِي الحُلَيْفَةِ

1541 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، سَمِعْتُ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللهِ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما. وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ يَقُولُ: مَا أَهَلَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا مِنْ عِنْدِ المَسْجِدِ. يَعْنِي: مَسْجِدَ ذِي الحُلَيْفَةِ. [مسلم: 1186 - فتح: 3/ 400]

ذكر فيه من طريقين: حديث سالم أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ يَقُولُ: مَا أَهَلَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا مِنْ عِنْدِ المَسْجِدِ.

يَعْنِي: مَسْجِدَ ذِي الحُلَيْفَةِ.

هذا الحديث أخرجه مسلم أيضًا بلفظين عن ابن عمر:

أحدهما:

بات رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة مبدأه وصلى في مسجدها

(1)

.

ثانيهما:

كان إذا وضع رجله في الغرز، وانبعثت به راحلته قائمة، أهل من ذي الحليفة

(2)

.

وسيأتي باب: من أهل حين استوت به راحلته قائمة، ثم قال باب: الإهلال مستقبل القبلة، ثم ذكر حديث ابن عمر تعليقًا ومسندًا كما سيأتي

(3)

.

(1)

"صحيح مسلم" برقم (1188) كتاب: الحج، باب: الصلاة في مسجد ذي الحليفة.

(2)

"صحيح مسلم" برقم (1187) باب: الاهلال من حيث تنبعث الراحلة.

(3)

برقم (1553) معلقًا، وبرقم (1554) مسندًا، باب: الإهلال مستقبل القبلة.

ص: 113

وأخرجاه من حديثه أنه قيل له: رأيتك تصنع أربعًا فذكرهن، وفي آخره: وأما الإهلال فإني لم أرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يهلُّ حَتَّى تنبعث به راحلته، وقد سلف

(1)

.

وللبخاري من حديث جابر بن عبد الله: أن إهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذي الحليفة حين استوت به راحلته، ثم قال: رواه أنس وابن عباس

(2)

، ثم خرجه من حديث أنس

(3)

، وساقه مسلم من حديث جابر الطويل

(4)

.

وله ولمسلم -والسياق له- عن سالم أن ابن عمر سمع أباه يقول: بيداؤكم هذِه التي تكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، ما أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من عند المسجد يعني: ذا الحليفة

(5)

. ولمسلم عن سالم قال: كان ابن عمر إذا قيل له: الإحرام من البيداء. قال: البيداء التي تكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من عند الشجرة حَتَّى قام به بعيره

(6)

.

فإذا علمت ذَلِكَ فقد اختلف العلماء في الموضع الذي أحرم منه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال قوم: إنه أهل من مسجد ذي الحليفة. وقال آخرون: لم يهل إلا بعد أن استوت به راحلته بعد خروجه من المسجد، روي ذَلِكَ عن ابن عمر أيضًا وعن أنس، وابن عباس

(1)

سلف برقم (166) كتاب: الوضوء، باب: غسل الرجلين في النعلين .. ورواه مسلم برقم (1187).

(2)

سلف برقم (1515).

(3)

سيأتي برقم (1546) باب: من بات بذي الحليفة حتى أصبح.

(4)

مسلم برقم (1218) باب: حجة النبي صلى الله عليه وسلم.

(5)

حديث (1541)، ورواه مسلم برقم (1186) باب: أمر أهل المدينة بالإحرام من عند مسجد ذي الحليفة.

(6)

مسلم برقم (1186/ 24).

ص: 114

وجابر وقد سلفت.

وقال آخرون: بل أحرم حين أظل البيداء. وقال من خالفهم: قد يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أحرم منها، لا لأنه قصد أن يكون إحرامه منها لفضل في الإحرام منها على الإحرام مما سواها، وقد رأيناه فعل في حجه أشياء في مواضع لا لفضلها: كنزوله بالمحصب من منى، لم يكن ذَلِكَ لأنه سنة، فكذلك أحرم حين صار على البيداء، لا لأن ذَلِكَ سنة، وقد أنكر قوم أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أحرم من ذَلِكَ، وقد أسلفنا ذَلِكَ من رواية ابن عمر، وإنما كان ذَلِكَ بعدما ركب راحلته.

واحتجوا بحديث نافع عن ابن عمر السالف في الخصال الأربع.

ووجه الاختلاف في ذَلِكَ:

ما رواه ابن إسحاق قال: حَدَّثَني خصيف، عن سعيد بن جبير قال: قُلْتُ لابن عباس: عجبت لاختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في إهلاله فقال: إني لأعلم الناس بذلك، إنما كانت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة واحدة، فمن هناك اختلفوا، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجًّا فلما صلى في مسجد ذي الحليفة ركعتين أوجب في مجلسه، وأهل بالحج حين فرغ من ركعته، فسمع ذَلِكَ منه أقوام فحفظوه عنه، ثم ركب فلما استقلت به ناقته أهل، وأدرك ذَلِكَ منه أقوام لم يشهدوه في المرة الأولى؛ لأن الناس كانوا يأتون أرسالًا فسمعوه حين ذاك يهل فقالوا: إنما أهل حين استقلت به ناقته، ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما علا شرف البيداء أهل، وأدرك ذَلِكَ منه أقوام لم يشهدوه في المرتين، فنقل كل واحد منهم ما سمع، فإنما كان إهلاله في مصلاه وايم الله، ثم أهل ثانيًا ثم ثالثًا.

ص: 115

أخرجه الحاكم في "مستدركه" وغيره، ثم قال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم مفسر في الباب

(1)

.

ثم أخرج من حديث يعقوب بن عطاء، عن أبيه، عن ابن عباس قال: اغتسل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لبس ثيابه فلما أتى ذا الحليفة صلى ركعتين، ثم قعد على بعيره فلما استوى به على البيداء أحرم بالحج. ثم قال: صحيح الإسناد؛ فإن يعقوب بن عطاء ممن جمع أئمة (الإسناد)

(2)

حديثه

(3)

.

وله شاهد صحيح على شرطهما فذكره في الغسل، وعن سعد بن أبي وقاص قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أخذ طريق الفرع أهل إذا استقلت به راحلته، ثم قال: صحيح على شرط مسلم

(4)

.

فينبغي لمريد الإحرام بعد الاغتسال له أن يصلي ركعتين ثم يحرم في دبرهما كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قول جمهور العلماء

(5)

، لكن الأظهر في مذهبنا أنه حين انبعاث دابته، أو توجهه إذا كان ماشيًا

(6)

، ونقله ابن العربي عن مالك والشافعي وأكثر الفقهاء.

وقال أبو حنيفة: يهل عند السلام، وعند الحسن يصليهما بعد صلاة فرض، وكان ابن عمر يحرم في دبر صلاة مكتوبة، وهو قول ابن عباس،

(1)

"المستدرك" 1/ 451 كتاب: المناسك، وضعفه الألباني في "ضعيف أبي داود" برقم (312).

(2)

كذا في الأصل، وفي "المستدرك":(الإسلام) وهو أوجه.

(3)

"المستدرك" 1/ 447.

(4)

"المستدرك" 1/ 452، وضعفه الألباني في "ضعيف أبي داود" برقم (313).

(5)

انظر: "البناية" 4/ 44، "الكافي لابن عبد البر" ص 137، "المجموع" 7/ 232، "الإقناع" 1/ 558.

(6)

انظر: "المجموع" 7/ 232.

ص: 116

واستحب ذَلِكَ عطاء، والثوري، وطاوس، والشافعي

(1)

، وأحمد

(2)

، وإسحاق، وأبو ثور. واستحب مالك أن يكون بإثر صلاة نافلة؛ لأنه زيادة خير

(3)

.

وهو ظاهر حديث هشام عن أبيه. فإن كان في وقت لا يتنفل فيه كوقت الصبح والعصر أجزأه أن يكون بإثر الفريضة. فإن لم يكن وقتها انتظره، إلا أن يخاف فوات أصحابه فيحرم من غير صلاة.

قال ابن المنذر: وإن أحرم من غير صلاة تتقدم إحرامه أجزأه؛ لأمر الشارع أسماء بنت عميس وهي نفساء بالاغتسال والإحرام، وهي غير طاهر، ومحال أن تصلي في تلك الحال.

(1)

ويبتدئ بالتلبية إذا انبعثت به راحلته في قوله الجديد، وقال أبو حنيفة رحمه الله: المختار أن يبتدئ به في مجلس صلاته بعد فراغه من الركعتين، وهو قوله القديم.

انظر: "مختصر خلافيات البيهقي" 3/ 168، "الأم" 2/ 173، وفيه قول الشافعي: وإذا أراد الرجل أن يبتدئ الإحرام أحببت أن يصلي نافلة ثم يركب راحلته، فإذا استقلت به قائمة وتوجهت للقبلة سائرة أحرم، وإن كان ماشيًا فإذا توجه ماشيًا أحرم، وقال الرملي في "نهاية المحتاج": ويسن أن يصلي للإحرام قبله ركعتين لما رواه الشيخان أنه صلى الله عليه وسلم صلى بذي الحليفة ركعتين ثم أحرم، ويحرمان في وقت الكراهة في غير حرم منه، وتغنى عنهما فرضين أو نافلة كالتحية، ومانظر به في "المجموع" من كونها مقصورة فلا تندرج كسنة الظهر، رده السبكي وتبعه الزركشي وغيره بأنه إنما يتم إذا أثبتنا أنه صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين للإحرام خاصة ولم يثبت، بل الذي ثبت ودل عليه كلام الشافعي وقوع الإحرام إثر صلاة، "نهاية المحتاج" 3/ 272.

(2)

انظر: "المغني" 5/ 80، "المستوعب" 4/ 611، "شرح العمدة لشيخ الإسلام ابن تيمية" 417، "منهج السالك إلى بيت الله المبجل في أعمال المناسك" لأبي عياشة الدمنهوري 155.

(3)

انظر: "المنتقى" 2/ 207، "المعونة" 1/ 331، "النوادر والزيادات" 2/ 328.

ص: 117

ولنا وجه آخر يجمع هذا الاختلاف، وهو ما رواه ابن إسحاق، عن أبي الزناد، عن عائشة بنت سعد بن أبي وقاص قالت: قال (سعد)

(1)

: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أخذ طريق الفرع أَهَلَّ إذا استقلت به راحلته، وإذا أخذ طريق أحد أَهَلَّ إذا علا على شرف البيداء

(2)

.

فائدة:

قال الباجي في "المنتقى" كان إحرامه بعد صلاة الصبح

(3)

.

وسيأتي ما يخالفه في باب ما يلبس المحرم من الثياب

(4)

، وفي "الاستذكار": ركع ركعتين بعد طلوع الشمس ثم أحرم بإثرهما

(5)

.

وفي أبي داود أنه عليه السلام صلى في مسجد ذي الحليفة أربع ركعات ثم لبى دبر الصلاة.

فائدة:

الرواية السالفة أول الباب بيداؤكم هذِه التي تكذبون على رسول الله

(1)

في الأصل: سعيد، والصواب ما أثبتناه كما في مصادر التخريج.

(2)

رواه أبو داود (1775) كتاب: المناسك، باب: في وقت الإحرام، والبزار في "البحر الزخار" 4/ 37 (1198)، وأبو يعلى في "مسنده" 2/ 138 (818)، والحاكم 1/ 452 كتاب: المناسك، وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، والبيهقي 5/ 38 - 39، كتاب: الحج، باب: من قال: يهل إذا انبعث به راحلته. وابن عبد البر في "التمهيد" 13/ 17، 22/ 28، وضعفه الألباني في "ضعيف أبي داود" برقم (313) قائلًا: ضعيف لعنعنة ابن إسحاق.

(3)

قال الباجي: قوله كان يصلي في مسجد ذي الحليفة ركعتين. هذا اللفظ إذا أطلق في الشرع اقتضى ظاهره في عرف الاستعمال النافلة، وهو المفهوم من قولهم: صلى فلان ركعتين، وإن كان قد روي أن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة كانت صلاة الفجر، "المنتقى" 2/ 207.

(4)

برقم (1545) كتاب: الحج.

(5)

"الاستذكار" 11/ 99.

ص: 118

- صلى الله عليه وسلم فيها ما أَهَلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من عند المسجد، يعني: ذا الحليفة، يؤيد ما ذكره ابن عباس، وأنس في حديثهما.

ووصفه بالكذب؛ لأنه الإخبار بالشيء على خلاف ما ليس به، قصده المخبر أم لا. وقد ذكر عن أنس غير هذا وروي خلافه عن ابن عباس أنه أهل إثر السلام من الصلاة.

قال ابن التين: وأصح هذِه الروايات ما وافق رواية ابن عمر أنه لم تختلف روايته في ذَلِكَ، وهو أحفظ الناس للمناسك وابن عباس صغير في حجة الوداع؛ لأنه اختلفت روايته في هذا الحكم، ولم تختلف رواية ابن عمر؛ ولأن حديثه لم يختلف في صحته.

وحديث ابن عباس فيه ابن إسحاق وخصيف

(1)

.

وروى مالك عن نافع عن ابن عمر أنه كان إذا استوت به راحلته أحرم. وهو ممن يقتفي آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخالف ما رواه، فإن معنى: انبعثت من الأرض إلى القيام، وهذا يخالف فيه.

وفي "المدونة"

(2)

عن ابن نافع: أنكر مالك الإحرام من البيداء. وقال: ما البيداء؟ وقال الكرماني: البيداء فوق علمي ذي الحليفة إذا صعدت من الوادي، وفي أول البيداء بئر ماء.

فائدة أخرى: قوله: ما أَهَلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من عند المسجد -يعني: مسجد ذي الحليفة- مقتضاه أنه أفضل للاتباع، ومن أحرم من غير ذَلِكَ الموضع من ذي الحليفة أجزأه؛ لأنه يشق على الناس إحرامهم من مكان واحد.

(1)

تقدم تخريجه قريبًا.

(2)

انظر: "المنتقى" 2/ 208.

ص: 119

وقد سُئِلَ مالك: أيحرم من الجحفة من أول الوادي أو وسطه أو آخره؟ فقال: هو مهل كله

(1)

. وقال: سائر المواقيت كذلك واجبة إلى أن يحرم من أول الوادي حَتَّى يأتي على ذَلِكَ كله وهو محرم.

فالمواقيت ضربان: ميقات أحرم الشارع منه، فهو أفضله. وميقات لم يحرم منه، فأفضله أوله.

فائدة:

من غرائب ابن حزم أن الغسل عند الإحرام مستحب وليس بفرض إلا على النفساء وحدها. قال: ومن حيث أَهَلَّ أجزأه؛ لأنه عليه السلام فعل ولم يأمر

(2)

.

(1)

انظر: "النوادر والزيادات" 2/ 355.

(2)

"المحلى" 7/ 82.

ص: 120

‌21 - باب مَا لَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ

1542 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا يَلْبَسُ المُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"لَا يَلْبَسُ القُمُصَ وَلَا العَمَائِمَ وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ وَلَا البَرَانِسَ وَلَا الخِفَافَ، إِلاَّ أَحَدٌ لَا يَجِدُ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ، وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنَ الكَعْبَيْنِ، وَلَا تَلْبَسُوا مِنَ الثِّيَابِ شَيْئًا مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ أَوْ وَرْسٌ". [انظر: 134 - مسلم: 1177 - فتح: 3/ 401]

ذكر فيه حديث ابن عمر أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا يَلْبَسُ المُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ؟ قَالَ:"لَا يَلْبَسُ القُمُصَ وَلَا العَمَائِمَ وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ وَلَا البَرَانِسَ وَلَا الخِفَافَ، إِلاَّ أَحَدٌ لَا يَجِدُ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ، وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنَ الكَعْبَيْنِ، وَلَا تَلْبَسُوا مِنَ الثِّيَابِ شَيْئًا مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ أَوْ وَرْسٌ".

الشرح:

هذا الحديث سلف في آخر كتاب العلم

(1)

.

وكل ما ذكر فيه مجمع على عدم لبسه، ويدخل في معنى ما ذكر من القيمص والسراويلات المخيط كله، فلا يجوز لباس شيء منه عند الأمة قاطبة

(2)

.

ففي معنى ذَلِكَ الجباب، والفراء، والقلنسوة، وغيره، والمنسوج، والملبد. وفي معنى البرانس الغفارية. وذلك أن الترفه إنما يحصل بلبس

(1)

برقم (134) باب: من أجاب السائل بأكثر مما سأله.

(2)

انظر: "الاستذكار" 11/ 28، "الإجماع" لابن المنذر (50) و"الإقناع" للفاسي 2/ 793.

ص: 121

الثياب على الوجه المقصود بتلك الخياطة، والمحرم ممنوع من الترفه، ولذلك منع من الحلق وإلقاء التفث، بخلاف ستر العورة ودفع المضرة عن الجسد، ولا بأس بإلقاء الثوب، أو السراويل، أو البرنس على كتفه.

وكره مالك الارتداء بالسراويل

(1)

.

ووجَّه بقبح الزي كما كره لغير المحرم لبس السراويل مع الرداء دون قميص. ومن أدخل منكبه في القباء افتدى وفاقًا لمالك

(2)

، وخلافًا لأبي حنيفة حَتَّى يدخل يديه في كميه

(3)

.

والجواب في الحديث من بدائع خطابه حيث سُئِلَ عما يلبس فأجاب بما لا يلبس؛ لأن ما يلبس قد يشق حصره؛ لكثرته، فأجاب بالممنوع وعلم الجائز به.

ثم قام الإجماع على أن الخطاب المذكور للرجال دون النساء، وأنه لا بأس بلبس المخيط والخفاف لهن

(4)

.

وقام أيضًا على أن إحرام الرجل في رأسه، وأنه ليس له أن يغطيه؛ لنهيه عليه السلام عن لبس البرانس والعمائم

(5)

، زاد مالك: ووجهه.

وسيأتي الاختلاف في تخمير الوجه، واختلفوا في من لبس خفين غير مقطوعين وهو واجد للنعلين، أو لبسهما مقطوعين وهو واجد للنعلين، وستعلمه في أواخر الحج.

(1)

انظر: "النوادر والزيادات" 2/ 344، "الاستذكار" 11/ 28، "المعونة" 1/ 336.

(2)

انظر: "الاستذكار" 11/ 35، "المعونة" 1/ 337.

(3)

انظر: "البناية" 4/ 55، "مختصر اختلاف العلماء" 2/ 107، "الأصل" 2/ 480، "بدائع الصنائع" 2/ 184.

(4)

انظر: "الإقناع" لابن القطان 2/ 797، "الاستذكار" 11/ 28.

(5)

انظر: "الإجماع" لابن المنذر 50، "الاستذكار" 11/ 28.

ص: 122

والحديث دال على جواز لبسهما عند عدم النعلين مع قطعهما أسفل من الكعبين، ولا خلاف فيه بين جماعة الفقهاء.

وحكي عن عطاء، وأحمد، وقوم من أصحاب الحديث أنه إذا لم يجدهما يلبس الخفين تامين من غير قطع

(1)

.

والحديث حجة عليهم. وهو أمر، ومقتضاه الوجوب. وبالقياس على من وجد النعلين.

(1)

انظر: "المغني" 5/ 120، "المستوعب" 4/ 80، "الفروع" 3/ 370، وقال ابن مفلح في "المبدع": لا يلزمه قطع خفه في المنصوص والمختار، عملًا بإطلاق حديثي ابن عباس وجابر، فإنه لم يأمر فيهما بقطع، ولو وجب لبينه، يؤيده أن جماعة من الصحابة عملوا على ذلك، وقال أحمد: قطعهما فساد، واحتج المؤلف وغيره بالنهي عن إضاعة المال، ولأنه ملبوس أبيح لعدم غيره، أشبه السراويل؛ ولأن قطعه لا يخرجه عن حالة الحظر، فإن لبس المقطوع مع القدرة على النعلين كلبس الصحيح. وعنه: إن لم يقطعهما دون كعبيه فدى، وهي قول أكثر العلماء لخبر ابن عمر.

قال في المغني و"الشرح": وهي الأولى، عملًا بالحديث، الصحيح، وخروجًا من الاختلاف وأخذًا بالاحتياط، وأجيب بأن زيادة القطع لم يذكرها جماعة، وروي أنها من قول ابن عمر، ولو سلم صحة رفعها، فهي بالمدينة، وخبر ابن عباس بعرفات، فلو كان القطع واجبًا لبينه للجمع العظيم الذي لم يحضر كثير منهم كلامه في المسجد في موضع البيان ووقت الحاجة فلزم أن يكون الإطلاق ناسخًا للتقييد دفعًا لمحذور تأخير البيان عن وقت الحاجة، وحكى في "المغني" عن الخطابي أنه قال: العجب من أحمد في هذا، أي في قوله بعدم القطع، قال: فإنه لم يخالف سنة تبلغه، وقل سنة لم تبلغه، وفيه شيء، فإن أحمد لم يخالف السنة، ولم تخف عليه، قال المروزي: احتججت على أبي عبد الله بحديث ابن عمر وقلت: هو زيادة في الخبر، فقال: هذا حديث، وذاك حديث، فقد اطلع رضي الله عنه على السنة، وإنما نظر المتجرين الذين أمدهم الله بعونه، مع أن خبرنا فيه زيادة حكم، وهو جواز اللبس بلا قطع؛ لأن هذا الحكم لم يشرع بالسنة، قاله الشيخ تقي الدين، وهو أحسن من ادعاء النسخ. "المبدع" 3/ 142.

ص: 123

وأما حديث ابن عباس الذي لم يذكر فيه القطع، فخبر ابن عمر مقدم عليه؛ لأنه نقل صفة لبسه بخلاف خبر ابن عباس، فلو لبس الخفين عند عدم النعلين فلا فدية عليه عند الجماعة؛ خلافًا لأبي حنيفة. قيل: ونحا إليه ابن حبيب.

وقوله: ("فليقطعهما أسفل من الكعبين") اتفق الحفاظ من أصحاب نافع على لفظه هكذا، منهم مالك، والزهري، وخلق.

ووهم جعفر بن بُرقان فيه في موضعين، حيث جعله من قول نافع

(1)

، وزيادة:"ومن لم يجد إزارًا فليلبس سراويل"، وليس في حديث ابن عمر، وهذا أخذ به الشافعي

(2)

، وأنكره مالك في "الموطأ"، واحتج بأنه لم يستثن فيه كما استثنى في الخفين

(3)

.

وقال الأصيلي: انفرد بحديث السراويل جابر بن زيد، عن ابن عباس، وهو رجل بصري لا يُعرف، ولا يعرف الحديث بالمدينة.

قُلْتُ: لكن أخرجاه في الصحيحين من حديث ابن عباس، كما ذكر بلفظ: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب يقول: "السراويل لمن لم يجد الإزار، والخفاف لمن لم يجد النعلين"

(4)

يعني: المحرم. وفي رواية: يخطب بعرفات

(5)

.

وأخرجه مسلم من حديث جابر مرفوعًا: "من لم يجد نعلين فليلبس

(1)

رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" 3/ 310 (14634).

(2)

انظر: "حلية العلماء" 3/ 243، "العزيز" 3/ 462، "المجموع" 7/ 274.

(3)

"الموطأ" ص 216.

(4)

سيأتي برقم (1843) كتاب: جزاء الصيد، باب: إذا لم يجد الإزار فليلبس السراويل، ورواه مسلم (1178).

(5)

سيأتي برقم (1841).

ص: 124

خفين، ومن لم يجد إزارًا فليلبس سراويل"

(1)

وهو من أفراده.

وقال أبو حنيفة: يشق السراويل من أسفله ويلبسه، ولا فدية عليه

(2)

.

وقال ابن حبيب: إنما أرخص في القطع لقلة النعال، فأما اليوم فلا رخصة في ذَلِكَ. ووافقه ابن الماجشون

(3)

.

وأجمعت الأمة على أن المحرم لا يلبس ثوبًا مسه ورس أو زعفران

(4)

.

والورس نبات باليمن صبغه بين الحمرة والصفرة، ورائحته طيبة. وقيل: هو ضرب من الطيب كالزعفران، فإن غسل ذَلِكَ الثوب حَتَّى ذهب منه ريح الورس أو الزعفران فلا بأس به عند جميعهم. وكرهه مالك للمحرم إلا إذا لم يجد غيره

(5)

.

وسيأتي ذَلِكَ واضحًا في باب: ما ينهَى من الطيب للمحرم والمحرمة، وايراد حديث فيه إذا غُسِل. مع الكلام عليه.

وقال ابن التين: خص المنع ما صبغ منهما؛ لأنهما أطيب وأفضل لباس المحرم البياض؛ لقوله عليه السلام: "البسوا من ثيابكم البياض"

(6)

.

(1)

"صحيح مسلم"(1179) كتاب: الحج، باب: ما يباح للمحرم بحج أو عمرة.

(2)

انظر: "العناية" 4/ 54، "شرح معاني الآثار" 2/ 134، "بدائع الصنائع" 2/ 184.

(3)

انظر: "النوادر والزيادات" 2/ 345.

(4)

انظر: "الإجماع" لابن المنذر 50، "الإقناع" لابن القطان 2/ 793، "الاستذكار" 11/ 37.

(5)

انظر: "الاستذكار" 11/ 37.

(6)

رواه أبو داود (3878) كتاب: الطب، باب: في الأمر بالكحل، والترمذي (994) كتاب: الجنائز، باب: ما يستحب من الأكفان، والنسائي 4/ 34، كتاب: الجنائز، باب: أي الكفن خير؟ وأحمد 1/ 247، وابن حبان في "صحيحه" 12/ 242 (5423) كتاب: اللباس وآدابه، باب: ذكر الأمر بلبس البياض من الثياب. =

ص: 125

ويجتنب المصبوغ بهما الرجال والنساء، ويفتدي من لبسه منهم رجلًا كان أو امرأة. وادعى ابن أبي صفرة أن في هذا دلالة أن قول عائشة: طيبته لإحرامه

(1)

. خصوص له؛ لأنه تطيب، ونهى عن الطيب هنا، وقد أسلفنا ذَلِكَ.

= وسيأتي تخريجه باستفاضة.

(1)

سيأتي برقم (5922) كتاب: اللباس، باب: تطييب المرأة زوجها بيديها.

ص: 126

‌22 - باب الرُّكُوبِ وَالاِرْتِدَافِ فِي الحَجِّ

1543، 1544 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ يُونُسَ الأَيْلِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، أَنَّ أُسَامَةَ رضي الله عنه كَانَ رِدْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ عَرَفَةَ إِلَى المُزْدَلِفَةِ، ثُمَّ أَرْدَفَ الفَضْلَ مِنَ المُزْدَلِفَةِ إِلَى مِنًى، قَالَ: فَكِلَاهُمَا قَالَ: لَمْ يَزَلِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ العَقَبَةِ.

ذكر فيه حديث ابن عباس: أن أسامة كَانَ رِدْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ عَرَفَةَ إِلَى المُزْدَلِفَةِ، ثُمَّ أَرْدَفَ الفَضْلَ مِنَ المُزْدَلِفَةِ إِلَى مِنًى، قَالَ: فَكِلَاهُمَا قَالَ: لَمْ يَزَلِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ العَقَبَةِ.

هذا الحديث أخرجه البخاري هكذا، وأخرجه مسلم من حديث كريب مولى ابن عباس عن أسامة

(1)

.

ومن حديث الفضل أيضًا

(2)

.

أما فقهه:

ففيه: أن الحج راكبًا أفضل، وقد سلف الخلاف فيه في باب الحج على الرحل.

وفيه: إرداف العالم من يخدمه، وقد سلف الإرداف في أول الحج

(3)

.

(1)

سلف برقم (139) كتاب: الوضوء، باب: إسباغ الوضوء، وبرقم (181) كتاب: الوضوء، باب: الرجل يوضئ صاحبه، ورواه صحيح مسلم (1280، 1281) كتاب: الحج، باب: استحباب إدامة الحاج التلبية.

(2)

سيأتي برقم (1670) كتاب: الحج، باب: النزول من عرفة وجمع.

(3)

برقم (1513) باب: وجوب الحج وفضله.

ص: 127

ففيه: التواضع بالإرداف للرجل الكبير، والسلطان الجليل، قيل: ولم يبلغ هذا الحديث مالكًا؛ لأنه قال: يقطع التلبية إذا راح المصلى في رواية ابن القاسم، وإذا راح إلى موقف عرفة في قول أشهب.

وقال: إذا زالت الشمس. وفي كتاب محمد: إذا وقف بها

(1)

.

وفي "الإشراف" عن مالك طبق الحديث.

وبه قال الشافعي

(2)

وأبو حنيفة

(3)

.

واختاره المتأخرون من المالكية.

قال القاضي في "معونته": إنما قلنا: يقطعها بعد الزوال؛ لإجماع الصحابة.

وذكر مالك أنه إجماع دار الهجرة؛ ولأن التلبية إجابة للنداء بالحج.

وإذا انتهى إلى الموضع الذي دُعي إليه فقد انتهى إلى غاية ما أمر به، فلا معنى لاستدامتها

(4)

.

فقول من قال: لم يبلغ الحديث مالكًا غير صحيح؛ لأن عمل أهل المدينة عند مالك مقدم على الحديث.

وقال الباجي في "منتقاه": أكثر ما رأيت عمل الناس قطعها بعرفة، وما تضمنه الحديث أظهر عندي وأقوى في النظر.

وقال الشيخ أبو القاسم: فأكثر قول مالك في قطعها إلا أن يكون إحرام بالحج من عرفة فيلبي حَتَّى يرمي جمرة العقبة.

(1)

انظر: "النوادر والزيادات" 2/ 333.

(2)

انظر: "الأم" 2/ 187، "روضة الطالبين" 3/ 100، "حلية العلماء" 3/ 293، "مغني المحتاج" 3/ 303.

(3)

انظر: "الهداية" 1/ 157، "الاختيار" 1/ 198.

(4)

المعونة" 2/ 334.

ص: 128

فحمل الحديث على من هذا حكمه. ولعله تأول قول الراوي أنه عليه السلام لم يزل يلبي حَتَّى رمى جمرة العقبة أنه أمر بذلك

(1)

.

قُلْتُ: فيه بعدٌ.

(1)

"المنتقى" 2/ 216، وانظر قول ابن القاسم أيضًا في "النوادر والزيادات" 2/ 333.

ص: 129

‌23 - باب مَا يَلْبَسُ المُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ وَالأَرْدِيَةِ وَالأُزُرِ

وَلَبِسَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها الثِّيَابَ المُعَصْفَرَةَ وَهْيَ مُحْرِمَةٌ وَقَالَتْ: لَا تَلَثَّمْ وَلَا تَتَبَرْقَعْ وَلَا تَلْبَسْ ثَوْبًا بِوَرْسٍ وَلَا زَعْفَرَانٍ. وَقَالَ جَابِرٌ: لَا أَرَى المُعَصْفَرَ طِيبًا. وَلَمْ تَرَ عَائِشَةُ بَأْسًا بِالحُلِيِّ وَالثَّوْبِ الأَسْوَدِ وَالمُوَرَّدِ وَالخُفِّ لِلْمَرْأَةِ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: لَا بَأْسَ أَنْ يُبْدِلَ ثِيَابَهُ.

1545 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ المُقَدَّمِيُّ، حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ قَالَ: أَخْبَرَنِي كُرَيْبٌ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: انْطَلَقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ المَدِينَةِ بَعْدَ مَا تَرَجَّلَ وَادَّهَنَ وَلَبِسَ إِزَارَهُ وَرِدَاءَهُ، هُوَ وَأَصْحَابُهُ، فَلَمْ يَنْهَ عَنْ شَيْءٍ مِنَ الأَرْدِيَةِ وَالأُزْرِ تُلْبَسُ إِلاَّ المُزَعْفَرَةَ التِي تَرْدَعُ عَلَى الجِلْدِ، فَأَصْبَحَ بِذِي الحُلَيْفَةِ، رَكِبَ رَاحِلَتَهُ حَتَّى اسْتَوَى عَلَى البَيْدَاءِ، أَهَلَّ هُوَ وَأَصْحَابُهُ وَقَلَّدَ بَدَنَتَهُ، وَذَلِكَ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذِي القَعْدَةِ، فَقَدِمَ مَكَّةَ لأَرْبَعِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ ذِي الحَجَّةِ، فَطَافَ بِالبَيْتِ وَسَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ، وَلَمْ يَحِلَّ مِنْ أَجْلِ بُدْنِهِ لأَنَّهُ قَلَّدَهَا، ثُمَّ نَزَلَ بِأَعْلَى مَكَّةَ عِنْدَ الحَجُونِ، وَهْوَ مُهِلٌّ بِالحَجِّ، وَلَمْ يَقْرَبِ الكَعْبَةَ بَعْدَ طَوَافِهِ بِهَا حَتَّى رَجَعَ مِنْ عَرَفَةَ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَطَّوَّفُوا بِالبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ، ثُمَّ يُقَصِّرُوا مِنْ رُءُوسِهِمْ ثُمَّ يَحِلُّوا، وَذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ بَدَنَةٌ قَلَّدَهَا، وَمَنْ كَانَتْ مَعَهُ امْرَأَتُهُ فَهِيَ لَهُ حَلَالٌ، وَالطِّيبُ وَالثِّيَابُ. [1625، 1731 - فتح: 3/ 405]

ثم ذكر فيه حديث ابن عباس انْطَلَقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ المَدِينَةِ بَعْدَ مَا تَرَجَّلَ وَادَّهَنَ وَلَبِسَ إِزَارَهُ وَرِدَاءَهُ، هُوَ وَأصْحَابُهُ .. الحديث.

ص: 130

الشرح:

أما أثر عائشة فأخرجه ابن أبي شيبة من حديث إبراهيم عنها أنها قالت: يكره الثوب المصبوغ بالزعفران، أو (الصبغة)

(1)

بالعصفر للرجال والنساء إلا أن يكون ثوبًا غسيلًا

(2)

. وفي لفظ: تكره المشبعة بالعصفر للنساء

(3)

.

وبإسناد صحيح عنها أنها قالت: تلبس المحرمة ما شاءت إلا المهرود بالعصفر

(4)

، والمورد في أثرها الثاني: قيل هو المعصفر إذا غسل صار موردًا. أو قال بعض أهل اللغة: المورد المصبوغ بالورد

(5)

.

وأما أثر جابر فأخرجه ابن أبي شيبة أيضًا، عن حميد بن عبد الرحمن الرؤاسي، عن أبيه، عن أبي الزبير، عن جابر قال: إذا لم يكن في الثوب المعصفر طيب فلا بأس به للمحرم أن يلبسه

(6)

.

وأثر إبراهيم أخرجه ابن أبي شيبة، عن جرير، عن مغيرة، عنه قال: يغير المحرم ثيابه ما شاء بعد أن يلبس ثياب المحرم

(7)

.

(1)

في الأصل: السبغة، والمثبت من "مصنف ابن أبي شيبة" 3/ 139 - 140 (12864).

(2)

"المصنف" 3/ 139 - 140 (12864) كتاب: الحج، باب: من كره المصبوغ للمحرم.

(3)

"المصنف" 3/ 141 (12876) باب: من رخص في المعصفر.

(4)

ابن أبي شيبة 3/ 140 (12874) كتاب: الحج، باب: من رخص في المعصفر للمحرمة.

(5)

انظر: "الصحاح" 2/ 550، "لسان العرب" 8/ 4810.

(6)

"المصنف" 3/ 141 (12878) كتاب: الحج، باب: من رخص في المعصفر للمحرم.

(7)

"المصنف" 3/ 329 (14783)، (14786) باب: في المحرم يبدل ثيابه.

ص: 131

قال: وحَدَّثَنَا إسماعيل بن عياش، عن سعيد بن يوسف، عن يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة قال: غير النبي صلى الله عليه وسلم ثوبيه بالتنعيم

(1)

.

وحَدَّثَنَا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم، ويونس، عن الحسن وحجاج، عن عبد الملك وعطاء أنهم لم يروا بأسًا أن يبدل المحرم ثيابه

(2)

، وكذا قاله طاوس، وسعيد بن جبير سُئِلَ: أيبيع المحرم ثيابه؟. قال: نعم

(3)

.

وحديث ابن عباس من أفراده، ورواه مرة مختصرًا، وقال: يحلقوا أو يقصروا

(4)

.

والترجل حل الشعر ومشطه. ومعنى (تردع) بعين مهملة وفتح أوله؛ لأنه ثلاثي، أي: كثر فيها الزعفران حَتَّى تنفضه وتلطخه. قال صاحب "المطالع": وفتح الدال أوجه.

والردع: الأثر على الجلد وغيره. قال ابن سيده: شيء يسير في مواضع شتى

(5)

. وقال ابن التين: معناه: تلطخ الجلد. وقال ابن الجوزي: كذا وقع: تردع على الجلد. والصواب: تردع الجلد أي: تصبغه، وتنفض صبغها عليه.

وقال ابن بطال: من رواه بغين معجمة فهو من قولهم: أردغت الأرض: كثرت رداغها، وهي مناقع المياه، ومنه: أرزغت الأرض بالزاي، أي: كثرت رزاغها، جمع رزغة كالردفة، ذكره صاحب

(1)

"المصنف" 3/ 329 (14782).

(2)

"المصنف" 3/ 329 (14786).

(3)

"المصنف" 3/ 329 (14787).

(4)

سيأتي برقم (1731) كتاب: الحج، باب: تقصير التمتع بعد العمرة.

(5)

"المحكم" 2/ 8.

ص: 132

"الأفعال"

(1)

. وذكر أردع وأرزغ في باب أفعل خاصة

(2)

.

وقوله: (فأصبح بذي الحليفة، ركب راحلته حَتَّى استوى على البيداء، أهلَّ هو وأصحابه) كذا هنا وفي "صحيح مسلم" عنه أنه عليه السلام صلى الظهر بذي الحليفة، ثم دعا بناقته فأشعرها في صفحة سنامها الأيمن، وسلت الدم، وقلدها بنعلين، ثم ركب راحلته، فلما استوت به على البيداء، أهلَّ بالحج

(3)

.

قال ابن حزم: فهذا ابن عباس يذكر أنه صلى الظهر في ذي الحليفة، وأنس يذكر أنه صلاها بالمدينة، وكلا الطريقين في غاية الصحة

(4)

.

وأنس أثبت في هذا المكان؛ لأنه ذكر أنه حضر ذَلِكَ بقوله: صلى الظهر بالمدينة أربعًا، وبذي الحليفة العصر ركعتين، وابن عباس لم يذكر حضورًا، والحاضر أثبت، ثم ابن عباس لم يقل فيها أنها كانت يوم خروجه عليه السلام من المدينة، وإنما عني به اليوم الثاني، فلا تعارض إذن.

وعند النسائي عن أنس أنه عليه السلام صلى الظهر بالبيداء، ثم ركب وصعد جبل البيداء، وأهلَّ بالحج والعمرة

(5)

.

ولا تعارض فإن البيداء وذا الحليفة متصلتان بعضه مع بعض، فصلى الظهر في آخر ذي الحليفة، وهو أول البيداء، فصحا. فعلى هذا يكون قول من قال: إن أول إهلاله بالبيداء عقب صلاة الظهر.

(1)

"الأفعال" ص 169.

(2)

"شرح ابن بطال" 4/ 219.

(3)

"صحيح مسلم"(1243) كتاب: الحج، باب: تقليد الهدي وإشعاره عند الإحرام.

(4)

انظر: "حجة الوداع" لابن حزم 251.

(5)

"سنن النسائي" 5/ 127 كتاب: مناسك الحج، باب: البيداء، وضعفه الألباني في "ضعيف النسائي"(169).

ص: 133

وتقدم قول أنس أن إحرامه كان عقب صلاة الصبح، ومعلوم أن الإحرام عقب التهليل. وطريق الجمع كما ذكر ابن عباس، يعني في باب الإهلال السابق.

وقوله: (وذلك لخمس بقين من ذي القعدة)، فيحتمل أنه أراد الخروج، ويحتمل الإهلال. وفي "صحيح مسلم" عن عائشة: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لخمس بقين من ذي القعدة

(1)

.

وفي "الإكليل" بسند فيه الواقدي من حديث محمد بن جبير بن مطعم: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة يوم السبت لخمس ليال بقين من ذي القعدة سنة عشر، فصلى الظهر بذي الحليفة ركعتين.

وزعم ابن حزم أنه خرج يوم الخميس لست بقين من ذي القعدة نهارًا بعد أن تغدى وصلى الظهر بالمدينة، وصلى العصر من ذَلِكَ اليوم بذي الحليفة، وبات بذي الحليفة ليلة الجمعة، وطاف على نسائه، ثم اغتسل، ثم صلى بها الصبح، ثم طيبته عائشة، ثم أحرم ولم يغسل الطيب، وأهلَّ حين انبعثت به راحلته من عند مسجد ذي الحليفة بالقران العمرة والحج معًا، وذلك قبل الظهر بيسير، ثم لبى، ثم نهض وصلى الظهر بالبيداء، ثم تمادى واستهل هلال ذي الحجة

(2)

.

فإن قُلْتَ: كيف قال: إنه خرج من المدينة لست بقين من ذي القعدة وقد ذكر مسلم من حديث عمرة عن عائشة: لخمس بقين منها لا نرى إلا الحج؟

(3)

.

(1)

"صحيح مسلم"(1211/ 125) كتاب: الحج، باب: بيان وجوه الإحرام.

(2)

"حجة الوداع" ص 115 - 116 بتصرف.

(3)

مسلم (1211).

ص: 134

قُلْتُ: قد ذكر مسلم أيضًا من طريق عروة عنها: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم موافين لهلال ذي الحجة

(1)

.

فلما اضطربت الرواية عنها، رجعنا إلى من لم تضطرب عنه في ذلك، وهما عمر وابن عباس، فوجدنا ابن عباس ذكر اندفاع رسول الله إليك من ذي الحليفة بعد أن بات بها كان لخمس بقين من ذي القعدة.

وذكر أن يوم عرفة كان يوم جمعة

(2)

فوجب أن استهلال ذي الحجة يوم الخميس وأن آخر ذي القعدة الأربعاء فصح أن خروجه كان يوم الخميس لست بقين منها.

ويزيده وضوحًا حديث أنس: صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر بالمدينة أربعًا، والعصر بذي الحليفة ركعتين

(3)

، فلو كان خروجه لخمس بقين منها لكان بلا شك يوم الجمعة، والجمعة لا تصلى أربعًا، فصح أن ذَلِكَ كان يوم الخميس.

وعلمنا أن معنى قول عائشة: لخمس بقين من ذي القعدة، إنما عنت اندفاعه عليه السلام من ذي الحليفة، فلم تعد المرحلة القريبة، وكان عليه السلام إذا أراد أن يخرج لسفر لم يخرج إلا يوم الخميس

(4)

، فبطل خروجه يوم الجمعة، وبطل أن يكون يوم السبت؛ لأنه كان يكون حينئذ خارجًا من المدينة لأربع بقين من ذي القعدة، وصح أن خروجه كان لست بقين، واندفاعه من ذي الحليفة لخمس من ذي القعدة، وتآلفت

(1)

مسلم (1211/ 115).

(2)

"حجة الوداع" لابن حزم ص 119.

(3)

سلف برقم (1089).

(4)

سيأتي برقم (2949) كتاب الجهاد، باب: من أراد غزوة فوري بغير. من حديث كعب بن مالك.

ص: 135

الروايات

(1)

.

وقوله: (فقدم مكة -شرفها الله تعالى- لأربع ليال خلون من ذي الحجة). قال الواقدي: أخبرنا أفلح بن حميد، عن أبيه، عن ابن عمر رضي الله عنه أن هلال ذي الحجة كان ليلة الخميس اليوم الثاني من يوم خروجه صلى الله عليه وسلم من المدينة، ونزل بذي طوى فبات بها ليلة الأحد لأربع خلون من ذي الحجة، وصلى الصبح بها، ودخل مكة نهارًا من أعلاها صبيحة يوم الأحد.

قُلْتُ: وهذا يعضد قول ابن حزم قال: وأقام بمكة محرمًا من أجل هديه يوم الأحد المذكور إلى ليلة الخميس، ثم نهض ضحوة يوم الخميس، وهو يوم منى، والتروية مع الناس إلى منى. وفي ذَلِكَ الوقت أحرم بالحج من الأبطح، كذا ادعى، وقد أسلفنا أنه كان قارنًا.

وذو القعدة: بكسر القاف وفتحها، وكذا ذو الحجة: بفتح الحاء وكسرها، والفتح أشهر هنا. و (الحجون): بفتح الحاء موضع بمكة عند المحصب، وهو مقبرة أهل مكة

(2)

.

قال أبو حنيفة الدينوري في "الأنواء": الحجون: بلد، الواحد حجن. وفي "النقائض" الحجون مكان من البيت على ميل ونصف.

وقال البطليوسي: الحجون الذي ذكره زهير موضع آخر غير حجون مكة.

(1)

هذِه المسألة فيها نظر: فقد قال ابن الملقن في بداية المسألة: (وزعم ابن حزم أنه خرج يوم السبت لست بقين من ذي القعدة نهارًا .. إلخ) ثم نقل بعد ذلك قول ابن حزم نفسه: بأن خروجه كان يوم الخميس لست بقين من ذي القعدة سنة عشر نهارًا .. ، ويمكن للقارئ الرجوع لقول ابن حزم في "حجة الوداع"(115 - 116، 230 - 233).

(2)

انظر: "معجم ما استعجم" 2/ 427، "معجم البلدان" 2/ 225.

ص: 136

قوله: (ولم يقرب الكعبة بعد طوافه بها حتى رجع من عرفة) لعله شغله عن الطواف في هذِه المرة شاغل، وإلا فله أن يتطوع بالطواف ما شاء.

وقوله: (وأمر أصحابه أن يطوفوا .. ) إلى آخره، اختلف فيهم، فقيل: من أحرم بعمرة، وقيل من أحرم بحج أو بعمرة ولا هدي معه.

وقال لمن كان أهلَّ بالحج: "هي لكم خاصة". وضرب عمر رضي الله عنه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم مَنْ فعله؛ لأنها كانت خصوصًا لهم، وهو الصواب.

وأمر فيه بالتقصير لأجل الحلق بمنى، ورأى قوم أن ذَلِكَ لمن بعدهم ولم يحفظوا الخصوص، ومنهم أحمد، وداود. وأجازا فسخ الحج في العمرة، ولم يجز لمن كان معه هدي أن يحل لقوله تعالى:{وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196].

وقوله: (ثم يحلوا) أي: فيحل لهم المحرمات، كما ذكره بعد.

إذا تقرر ذَلِكَ فالكلام على مواضع:

أحدها:

قام الإجماع كما حكاه المهلب أن المحرم لا يلبس إلا الأزر والأردية، وما ليس بمخيط؛ لأن لبسه من الترفه

(1)

، فأراد الرب جل جلاله أن يأتوه شعثًا غبرًا عليهم آثار الذلة والخشوع، ولذلك نهى عن الثوب المصبوغ كما سلف؛ لأنه طيب. ولا خلاف بين العلماء أن لبسه له لا يجوز

(2)

.

(1)

ونقل الإجماع أيضًا: ابن المنذر في "الأوسط" ص 50، وابن عبد البر في "الاستذكار" 11/ 28، الفاسي في "الإقناع" 2/ 793.

(2)

انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر 11/ 37.

ص: 137

واختلفوا في الثوب المعصفر له. فأجازه جابر وابن عمر، وأسماء، وعائشة، وهو قول القاسم، وعطاء، وربيعة

(1)

.

وقال مالك: المعصفر ليس بطيب، وكرهه للمحرم؛ لأنه ينتفض على جلده، فإن فعل فقد أساء، ولا فدية عليه

(2)

.

وهو قول الشافعي

(3)

.

وقال أبو ثور: إنما كرهنا المعصفر؛ لأنه عليه السلام نهى عنه؛ لأنه طيب.

وكره عمر بن الخطاب لباس الثياب المصبغة

(4)

.

وقال أبو حنيفة والثوري: المعصفر طيب، وفيه الفدية

(5)

.

وقال ابن المنذر: إنما نهى عمر عن المصبغة في الإحرام تأديبًا؛ ولئلا يلبسه من يقتدي به فيغتر به الجاهل، ولا يميز بينه وبين الثوب المزعفر، فيكون ذريعة للجهال إلى لبس ما نهي عنه المحرم من

الورس والزعفران.

والدليل عليه أن عمر رأى على طلحة بن عبيد الله ثوبًا مصبوغًا، فقال: ما هذا يا طلحة؟ قال: يا أمير المؤمنين، إنما هو مدر. فقال عمر: إنكم أيها الرهط أئمة يقتدى بكم، لو أن رجلًا رأى هذا الثوب

(1)

روى عنهم هذِه الآثار ابن أبي شيبة 3/ 140 (12871)، (12876 - 12877) باب: من رخص في المعصفر للمحرمة، 3/ 141 (12878 - 12881) باب: من رخص في المعصفر للمحرم.

(2)

انظر: "الاستذكار" 11/ 38، "الذخيرة" 3/ 311، "النوادر والزيادات" 2/ 343، "المدونة" 1/ 295.

(3)

انظر: "المجموع" 7/ 295، "العزيز" 3/ 465، "نهاية المحتاج" 3/ 335.

(4)

رواه ابن أبي شيبة 3/ 140 (12865) باب: من كره المصبوغ للمحرم.

(5)

"المبسوط" 4/ 126، "بدائع الصنائع" 2/ 185.

ص: 138

قال: رأيت طلحة يلبس المصبغة في الإحرام، أخرجه مالك في "الموطأ"، عن نافع، عن أسلم مولى عمر

(1)

.

وإن كان أراد به التحريم فقد خالفه غيره من الصحابة. والصواب عند اختلافهم أن ينظر إلى أولاهم قولًا فيقال به. وإطلاق ذَلِكَ أولى من تحريمه؛ لأن الأشياء كانت على الإباحة قبل الإحرام، فلا يجب

التحريم إلا بيقين.

وقد روينا أن عمر أنكر على عقيل لبسه الموردتين. وأنكر على عبد الله بن جعفر ثوبين مضرجين، قال علي لعمر: دعنا منك فإنه ليس أحد يعلمنا السنة. قال عمر: صدقت

(2)

.

وقال ابن التين: لبس عائشة المعصفر كأنه غير المقدم؛ لأن المقدم الذي ينفض ممنوع للرجال والنساء وأما المورد بالعصفر والمصبوغ بالمغرة، وبغير الزعفران والورس، فلا يمنع منه المحرم. ويكره لمن

يقتدى به لبسه. وكره أشهب المعصفر، وإن كان لا ينتفض لمن يقتدى به.

قال: وحاصل مذهبنا أن الذي ينتفض من صبغه يمنع منه الرجال والنساء، وإلا فلا فيهما إلا من يقتدى به منهم، قاله ابن حبيب

(3)

.

وقال محمد: يكره لهما جميعًا. وقال أبو حنيفة: يكره المعصفر المقدم لهما، وأباحه الشافعي، فإن لبس معصفرًا ينفض فقياس المنع الفدية، وقياس قول أبي حنيفة لا.

وفي "المجموعة" نحوه عن أشهب

(4)

؛ لأنه لبس من الطيب

(1)

"الموطأ" ص 216.

(2)

رواه البيهقي 5/ 59.

(3)

"النوادر والزيادات" 2/ 342.

(4)

"المصدر السابق".

ص: 139

المؤنث، وإن غسل المعصفر فقيل: جائز أن يلبسه. وقال أشهب في "المجموعة": أكرهه، وإن غسل.

الثاني:

قولها: (لا تلثم)، أي لأن إحرامها في وجهها، وكذا لا (تبرقع)، نعم لها أن تسدل على وجهها شيئًا متجافيًا عنه.

وقام الإجماع على أن المرأة تلبس المخيط كله، والخمر، والخفاف، وأن إحرامها في وجهها، وأن لها أن تغطي رأسها، وتستر شعرها، وتسدل الثوب على وجهها سدلًا خفيفًا تستتر به عن نظر الرجال

(1)

، ولم يجيزوا لها تغطية وجهها إلا ما روي عن فاطمة بنت المنذر قالت: كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات مع أسماء بنت أبي بكر

(2)

.

قال ابن المنذر: ويحتمل أن يكون كنحو ما روي عن عائشة قالت: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن محرمات، فإذا مرَّ بنا راكب سدلنا الثوب من قبل رءوسنا، فإذا جاوز رفعناه

(3)

.

ولا يكون ذَلِكَ خلافًا. وثبت كراهة النقاب عن سعد، وابن عباس،

(1)

"الإجماع" لابن المنذر ص 64، "الإقناع" 2/ 796، "الاستذكار" 11/ 28.

(2)

رواه مالك ص 217، وإسحاق بن راهويه في "مسنده" 5/ 136 (2255).

(3)

رواه أبو داود (1833) كتاب: المناسك باب: في المحرمة تغطي وجهها، وابن ماجه (2935) كتاب: المناسك، باب: المحرمة تسدل الثوب على وجهها، وأحمد 6/ 30، وابن الجارود في "المنتقى" 2/ 60 (418)، وابن خزيمة في "صحيحه" 4/ 203 (2691) كتاب: المناسك، والدارقطني في "السنن" 2/ 294 - 295 كتاب: الحج، والبيهقي 5/ 48. والحديث ضعفه النووي في "المجموع" 7/ 266، والحافظ في "الدراية" 2/ 32، والألباني في "ضعيف أبي داود" (317)، وفي "الإرواء" (1024).

ص: 140

وابن عمر، وعائشة، ولا نعلم أحدًا من الصحابة رخص فيه. وكان ابن عمر ينهى عن القفازين، وهو قول النخعي

(1)

.

وقال مالك: إن لبست البرقع والقفازين افتدت كفدية الرجل؛ لأن إحرام المرأة عنده في وجهها ويديها

(2)

، وهو أظهر قولي الشافعي

(3)

.

وكرهت عائشة اللثام والنقاب، وأباحت لها القفازين، وهو قول عطاء

(4)

.

واختلفوا في تخمير وجه المحرم. فقال ابن عمر: لا يخمر وجهه

(5)

، وكرهه مالك، ومحمد بن الحسن. قيل لابن القاسم: أترى عليه الفدية؟ قال: لا أرى عليه الفدية، لما جاء عن عثمان

(6)

.

وقال في "المدونة" في موضع آخر: إن غطى وجهه ونزعه مكانه فلا شيء عليه، وإن لم ينزعه حَتَّى انتفع افتدى

(7)

.

وكذلك المرأة إلا إذا أرادت سترًا.

(1)

رواه ابن أبي شيبة 3/ 272 (14225، 14229 - 14230) باب: في القفازين للمحرمة.

(2)

"النوادر والزيادات" 2/ 342، "الاستذكار" 11/ 31، "الذخيرة" 3/ 304، "المعونة" 1/ 336.

(3)

"الأم" 2/ 172، "مختصر خلافيات البيهقي" 3/ 171، "المهذب" 2/ 710، "المجموع" 7/ 276، "مغني المحتاج" 3/ 333.

(4)

رواه ابن أبي شيبة 3/ 272 (14228، 14234).

(5)

رواه ابن أبي شيبة 3/ 273 (14243) كتاب: الحج، باب: في المحرم يغطي وجهه.

(6)

"الاستذكار" 11/ 45، "المدونة" 1/ 296، "المنتقى" 2/ 199، "المعونة" 1/ 335.

(7)

"المدونة" 1/ 344.

ص: 141

وروي عن ابن عباس، وابن الزبير، وزيد بن ثابت، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وجابر أنهم أجازوا للمحرم تغطية وجهه خلاف ابن عمر

(1)

، وبه قال الثوري، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور. وهذا يخرج على أن يكون إحرام الرجل عندهم في رأسه لا في وجهه

(2)

.

الثالث:

رخصت عائشة في الحلي للمحرمة كما أسلفناه، وكذا ابن المنذر، وهو قول أبي حنيفة، وأحمد. وكره ذَلِكَ عطاء والثوري، وأبو ثور

(3)

.

الرابع:

قول إبراهيم: (لا بأس أن يبدل ثيابه) هو مذهب مالك وأصحابه أنه يجوز له الترك للباس الثوب، ويجوز له بيعه. وقال سحنون: لا يجوز له ذَلِكَ؛ لأنه يعرض القمل للقتل بالبيع.

قال المهلب: وفي حديث ابن عباس إفراده عليه السلام للحج، وفسخ الحج لمن لم يكن معه هدي والبقاء على الإحرام الأول من كان معه هدي؛ لأن من قلد هديه فلا بد له أن يوقعه موقعه؛ لقوله تعالى:{حَتَّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196]، وسيأتي معاني ذَلِكَ في بابه إن شاء الله تعالى.

(1)

رواه ابن أبي شيبة 3/ 273 - 274 (14242)، (14249) باب: في المحرم يغطي وجهه، والبيهقي 5/ 54 كتاب: الحج، باب: لا يغطي المحرم رأسه.

(2)

"الاستذكار" 11/ 46، "الأم" 2/ 172، "حلية العلماء" 3/ 244، "المجموع" 7/ 280، "المغني" 5/ 153، "المستوعب" 4/ 76، "الفروع" 3/ 366.

(3)

"بدائع الصنائع" 2/ 186، "المغني" 5/ 159، "المبدع" 3/ 169.

ص: 142

‌24 - باب مَنْ بَاتَ بِذِي الحُلَيْفَةِ حَتَّى أَصْبَحَ

قَالَهُ ابن عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

1546 -

حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ المُنْكَدِرِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالمَدِينَةِ أَرْبَعًا، وَبِذِي الحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ بَاتَ حَتَّى أَصْبَحَ بِذِي الحُلَيْفَةِ، فَلَمَّا رَكِبَ رَاحِلَتَهُ وَاسْتَوَتْ بِهِ أَهَلَّ. [انظر: 1089 - مسلم: 690 - فتح: 3/ 407]

1547 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَهَّاب، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الظُّهْرَ بِالمَدِينَةِ أَرْبَعًا، وَصَلَّى العَصْرَ بِذِي الحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ، قَالَ: وَأَحْسِبُهُ بَاتَ بِهَا حَتَّى أَصْبَحَ. [انظر: 1089 - مسلم: 690 - فتح: 3/ 407]

ثم ذكر حديث أنس: قَالَ: صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالمَدِينَةِ أَرْبَعًا، وَبِذِي الحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ بَاتَ حَتَّى أَصْبَحَ بِذِي الحُلَيْفَةِ، فَلَمَّا رَكِبَ رَاحِلَتَهُ وَاسْتَوَتْ بِهِ أَهَلَّ.

وفيه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الظُّهْرَ بِالمَدِينَةِ أَرْبَعًا، وَصَلَّى العَصْرَ بِذِي الحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ، قَالَ وَأَحْسِبُهُ بَاتَ بِهَا حَتَّى أَصْبَحَ.

الشرح:

أما حديث ابن عمر فسلف في باب خروجه عليه السلام على طريق الشجرة مسندًا

(1)

.

وأما حديث أنس الأول فهو من طريق ابن جريج حَدَّثَني محمد بن المنكدر عنه

(1)

برقم (1533) كتاب: الحج.

ص: 143

قال الدارقطني في "علله": وقوله: ثم بات، إلى آخره، زيادة ليست بمحفوظة عن ابن المنكدر، ولم يذكرها غير ابن جريج. وقال يحيى القطان: إنه وهم. وأما رواية عيسى بن يونس، عن ابن جريج، عن الزهري، عن أنس فوهم في ذكر الزهري، والصحيح أنه من رواية ابن جريج عن ابن المنكدر

(1)

.

وحديثه الثاني من طريق عبد الوهاب، ثَنَا أيوب، عن أبي قلابة عنه.

وذكره بعد في باب: رفع الصوت بالإهلال من حديث حماد بن زيد، عن أيوب

(2)

.

وبعده في باب: التحميد من حديث وهيب ثَنَا أيوب به مطولًا، وفي آخره: قال أبو عبد الله: قال بعضهم: هذا عن أيوب، عن رجل، عن أنس

(3)

.

قال الإسماعيلي: لم يقع في حديث حماد بن زيد عن أيوب، وأحمد بن إسحاق الحضرمي، وسليمان بن عبد الجبار عن وهيب، وغيره ذكر التسبيح والتكبير، ورواه حماد بن سلمة عن أيوب به قال: وبات بها حَتَّى أصبح، فلما استوت به راحلته سبح وكبر حين استوت به راحلته.

والتعليق الذي أشار إليه البخاري ذكره مسندًا في باب نحر البدن قيامًا

(4)

.

والرجل القائل: (وأحسبه) هو أبو قلابة والله أعلم. وعند الحميدي،

(1)

"العلل" 12/ 212 - 213.

(2)

سيأتي برقم (1548).

(3)

سيأتي برقم (1551).

(4)

سيأتي برقم (1714).

ص: 144

وفي رواية عبد الوهاب، وعن أيوب: وأحسبه بات بها حَتَّى أصبح، يعني: المخرج عنه البخاري أيضًا في الحج والجهاد عن قتيبة حَدَّثَنَا عبد الوهاب به

(1)

.

قال الحميدي: وفي رواية حماد بن زيد عن أيوب: وسمعتهم يصرخون بها جميعًا

(2)

. وادعى المزي أن عند البخاري من حديث حماد عن أيوب: وأحسبه بات بها حَتَّى أصبح

(3)

. ثم إنه خرج هذا الحديث ها هنا، وفي الجهاد في باب: الخروج بعد الظهر من حديث حماد، عن أيوب، وليس فيهما ما ذكره المزي.

إذا تقرر ذَلِكَ فالكلام عليه من أوجه:

أحدها:

هذا المبيت ليس هو من سنن الحج، وإنما هو من جهة الرفق بأمته؛ ليلحق به من تأخر عنه في السير، ويدركه من لم يمكنه الخروج معه.

ثانيها:

قوله: (صلى بالمدينة أربعًا وبذي الحليفة ركعتين) يعني: العصر كما بينه في الحديث الآتي، وإنما قصر بها هنا؛ لأنه مسافر، وإن لم يبلغ إلى موضع المشقة منه. فإذا خرج عن مصره قصر.

وفيه: أن سنة الإهلال أن يكون بعد صلاة، كذا في "شرح ابن بطال"

(4)

. والحديث لا تعرض له لذلك، وكذا قال ابن التين.

(1)

سيأتي برقم (2986) كتاب: الجهاد، باب: الارتداف في الغزو والحج.

(2)

"الجمع بين الصحيحين" 2/ 527.

(3)

"تحفة الأشراف" 1/ 255 (947).

(4)

"شرح ابن بطال" 4/ 220.

ص: 145

قوله: (ثم بات بها حَتَّى أصبح بذي الحليفة، فلما ركب راحلته واستوت به أهل). ظاهره أنه أحرم إثر المكتوبة؛ لأنه إذا صلى الصبح لم يركع بعدها للإحرام؛ لأنه وقت كراهة.

ثالثها:

قوله: (فلما ركب راحلته واستوت به أهل). يريد أن تستقل قائمة، وهذا هو الاستواء، والانبعاث أخذها في القيام، واستواؤها هو كمال القيام، كذا في ابن التين. والظاهر أن المراد بالانبعاث أخذها في

السير، وقد سلف ما فيه في باب الإهلال.

ص: 146

‌25 - باب رَفْعِ الصَّوْتِ بِالإِهْلَالِ

1548 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالمَدِينَةِ الظُّهْرَ أَرْبَعًا، وَالعَصْرَ بِذِي الحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ، وَسَمِعْتُهُمْ يَصْرُخُونَ بِهِمَا جَمِيعًا. [انظر: 1089 - مسلم: 690 - فتح: 3/ 408]

ذكر فيه حديث أنس السالف في الباب قبله وفي آخره: وَسَمِعْتُهُمْ يَصْرُخُونَ بِهِمَا جَمِيعًا.

ولا شك أن الإهلال رفع الصوت بالتلبية، ومنه استهلال المولود وهو صياحه إذا سقط من بطن أمه، ومنه قوله تعالى:{وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ} [البقرة: 173] يعني: ما رفع فيه الصوت عند ذبحه للآلهة، وكل رافع صوته بشيء فهو يهل به، ومنه استهلال المطر والدمع، وهو صوت وقعه بالأرض.

ويقال: أهل القوم الهلال إذا رأوه، وأرى أن ذَلِكَ من الإهلال الذي هو الصوت؛ لأنه كان ترفع عن رؤيته الأصوات إما بدعاء أو غيره، ولما كانت من شعائر الحج أعلن بها كالأذان. وأوجب أهل

الظاهر رفع الصوت بالإهلال.

قال ابن حزم: يرفع الرجل والمرأة صوتهما بالإهلال ولابد، وهو فرض ولو مرة

(1)

.

واستدل بحديث خلاد بن السائب عن أبيه مرفوعًا: "جاءني جبريل فقال: يا محمد، مر أصحابك فليرفعوا أصواتهم بالتلبية". وفي لفظ: "فأمرني أن آمر أصحابي ومن معي أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية". قال:

(1)

"المحلى" 7/ 93.

ص: 147

وهذا أمر

(1)

.

والحديث أخرجه أصحاب السنن الأربعة، قال الترمذي: حديث حسن صحيح

(2)

. وقال الحاكم؛ هذا إسناد صحيح

(3)

. وصححه ابن حبان أيضًا

(4)

.

وقال ابن المنذر: ثابت. ولعبد الله بن وهب في "مسنده": بالإهلال والتلبية يريد أحدهما. زاد الكجي في "سننه": فإنها من شعائر الحج. وفي الترمذي والحاكم من حديث أبي بكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئِلَ: أي الأعمال أفضل؟ قال: "العج والثج". استغربه الترمذي وأعله بالانقطاع، وقال الحاكم: صحيح الإسناد

(5)

.

والعج: رفع الصوت بالتلبية

(6)

.

والثج: النحر

(7)

.

(1)

"المحلى" 7/ 196.

(2)

"سنن أبي داود"(1814) كتاب: المناسك، باب: كيف التلبية، "سنن الترمذي" (829) كتاب: الحج، باب: ما جاء في رفع الصوت بالتلبية، "سنن النسائي" 5/ 162 كتاب: مناسك الحج، باب: رفع الصوت بالإهلال، "سنن ابن ماجه" (2923) كتاب: المناسك، باب: رفع الصوت بالتلبية.

(3)

"المستدرك" 1/ 450 كتاب: الحج.

(4)

"صحيح ابن حبان" 9/ 111 - 112 (3802) كتاب: الحج، باب: الإحرام، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود"(1592).

(5)

"سنن الترمذي"(827) كتاب: الحج، باب: ما جاء في فضل التلبية والنحر، "المستدرك" 1/ 450 - 451 كتاب: المناسك، وصححه الألباني في "صحيح الترمذي"(661).

(6)

انظر: "لسان العرب" 5/ 2813.

(7)

انظر: "الصحاح" 1/ 302، "لسان العرب" 1/ 472.

ص: 148

وقد صح في فضلهما من طريق سهل بن سعد

(1)

، وَوَرَد من طريق عامر بن ربيعة وجابر.

وفي ابن أبي شيبة، عن المطلب بن عبد الله قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفعون أصواتهم بالتلبية حَتَّى تبح أصواتهما

(2)

.

وقال أبو حازم: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يبلغون الروحاء حَتَّى تبح حلوقهم من التلبية. وقال عبد الله بن عمر: ارفعوا أصواتكم بالتلبية، ورفع أيضًا، وعن ابن الزبير مثله

(3)

.

قُلْتُ: وليكن الرفع بحيث لا يجهده، ولا يقطع صوته. وأرى ما وقع للصحابة للإكثار لا للرفع الجهيد.

والجماعة كلهم على خلاف ما قاله أهل الظاهر، وإنما هو مستحب.

وكان ابن عباس يرفع صوته بها ويقول: هي قرينة الحج. وبه قال أبو حنيفة، والثوري، والشافعي

(4)

.

وعندنا أن التلبية المقترنة بالإحرام لا يجهر بها، صرح به الجويني من أصحابنا ثم قال: هذا في الرجل، أما المرأة فتخفض صوتها بحيث تقتصر على إسماع نفسها لما في الرفع من خشية الافتتان، وهو إجماع.

فإن رفعت فالأصح عدم التحريم. والخنثى ملحق بها.

واختلفت الرواية عن مالك فقال ابن القاسم: لا يرفع الصوت إلا في

(1)

رواه الترمذي (828)، وابن ماجه (2924).

(2)

"المصنف" 3/ 355 (15053) كتاب: الحج، باب: من كان يرفع صوته بالتلبية.

(3)

"مصنف ابن أبي شيبة" 3/ 354 - 355.

(4)

"مختصر اختلاف العلماء" 2/ 103، "تحفة الفقهاء" 1/ 401، "حاشية ابن عابدين" 2/ 484، "مختصر المزني" 2/ 63، "المهذب" 2/ 703، "نهاية المحتاج" 3/ 273.

ص: 149

المسجد الحرام، ومسجد منى

(1)

، زاد في "الموطأ": ولا يرفع صوته في مساجد جماعات

(2)

.

وروى ابن حزم عنه الكراهة

(3)

. وروى ابن نافع عنه أنه يرفع صوته في المساجد التي بين مكة والمدينة.

واحتج إسماعيل للقولين فقال: وجه الأول أن مساجد الجماعات إنما بنيت للصلاة خاصة، فَكُرِه رفع الصوت فيها، وليس كذلك المسجد الحرام، ومسجد منى؛ لأن المسجد الحرام جعل للحاج وغيره. وكان الملبي إنما يقصد إليه، فكان له فيه من الخصوص ما ليس في غيره. ومسجد منى هو للحاج خاصة.

ووجه الثاني أن المساجد التي بين مكة والمدينة إنما جعلت للمجتازين، وأكثرهم محرمون، فهم من النحو الذي وصفنا، وما أسلفناه من الإجماع في حق المرأة، وهو ما حكاه ابن بطال

(4)

ويعضده ما رواه ابن أبي شيبة عن ابن عباس: لا ترفع المرأة صوتها بالتلبية. وعن إبراهيم وعطاء كذلك. وعن ابن عمر: ليس على النساء أن يرفعن أصواتهن بالتلبية. وعن معاوية أنه سمع تلبية عائشة

(5)

.

وعن إبراهيم بن نافع قال: قدمت امرأة أعجمية فخرجت مع الناس ولم تهل، إلا أنها كانت تذكر الله. فقال عطاء: لا يجزئها

(6)

.

(1)

"المنتقى" 2/ 211، "الاستذكار" 11/ 120.

(2)

"الموطأ" ص 221.

(3)

"المحلى" 7/ 94.

(4)

"شرح ابن بطال" 4/ 221.

(5)

"المصنف" 3/ 313 (14659 - 14664).

(6)

رواه ابن أبي شيبة 3/ 396 (15478) باب: في الأعجمي يحج ولا يسمي شيئًا، وابن حزم في "المحلى" 7/ 94.

ص: 150

قال ابن المنذر في "إشرافه": وروينا عن ميمونة أم المؤمنين أنها كانت تجهر بها وأما حديث زينب الأحمسية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها في امرأة حجت معها مصمتة: "قولي لها تكلم فإنه لا حج لمن لم يتكلم" فلا تعرض فيه للتلبية.

قال ابن القطان: وليس هو خبر، إنما هو أثر عن الصديق، ومع ذَلِكَ ففيه مجهولان

(1)

.

وأما قوله: (يصرخون بهما جميعًا) فقد يستدل به على أنه عليه السلام كان قارنًا.

وقال المهلب: إنما سمع أنس من قرن خاصة؛ لثبوت الإفراد. وليس في حديثه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يصرخ بهما. وإنما أخبر بذلك عن قوم فعلوه، وقد يمكن أن يسمع قومًا يصرخون بحج، وقومًا يصرخون بعمرة.

وقد روى أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يرد روايته هذِه، وهو قوله:"لولا أن معي الهدي لأحللت" كما سيأتي بعد

(2)

.

وفيه رد قول أهل الظاهر في إجازتهم تقصير الصلاة في مقدار ما بين المدينة وذي الحليفة

(3)

، وفي أقل من ذَلِكَ؛ لأنه عليه السلام إنما قصر بها؛ لأنه كان خارجًا إلى مكة، فكذلك قصره بها بدليل قوله:(وسمعتهم يصرخون بهما جميعًا) يعني: بالحج والعمرة. وبين ذي الحليفة وبين المدينة ستة

أميال.

(1)

"بيان الوهم والإيهام في كتاب الأحكام" 2/ 272 - 275.

(2)

سيأتي برقم (1558) باب: من أهلَّ في زمن النبي، ومسلم (1250) باب: إهلال النبي.

(3)

"المحلى" 5/ 20.

ص: 151

فائدة:

قام الإجماع على مشروعية التلبية، ثم فيها ثلاثة مذاهب:

أحدها أنها سنة، قاله الشافعي، والحسن بن حي.

ثانيها: أنها واجبة يجب بتركها دم. قاله أصحاب مالك

(1)

؛ لأنها نسك، ومن ترك نسكًا أراق دمًا. وقال بعضهم: هي كالأول. حكاه ابن التين.

ثالثها: أنها من شروط الإحرام، لا يصح إلا بها، قاله الثوري، وأبو حنيفة. قال أبو حنيفة: لا يكون محرمًا حَتَّى يلبي أو يذكر، ويسوق هديه

(2)

. قالا: كالتكبير للصلاة

(3)

؛ لأن ابن عباس قال:

{فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ} [البقرة: 197] قال: الإهلال

(4)

. وعن عطاء، وعكرمة، وطاوس: هو التلبية

(5)

.

وعندنا قول أنه لا ينعقد إلا بها، لكن يقوم مقامها سوق الهدي، والتقليد، والتوجه معه. وحكي في الوجوب دون الاشتراط، فعليه دم إذا ترك. وقيل: لا بد من التلبية مع النية، وظاهره اشتراط المقارنة.

(1)

"المنتقى" 2/ 207.

(2)

انظر "المبسوط" 4/ 187 - 188، و"المدونة" 1/ 295، و"النوادر والزيادات" 2/ 330 - 333، و"الأم" 2/ 132 - 133، و"المغني" 5/ 100 - 101.

(3)

انظر: "الأصل" 2/ 550، "البناية" 4/ 66، "المنتقى" 2/ 207، "التفريع" 1/ 322، "النوادر والزيادات" 2/ 334، "الأم" 2/ 132، "المجموع" 7/ 237، "مغني المحتاج" 3/ 269.

(4)

عزاه السيوطي في "الدر المنثور" لابن المنذر 1/ 394.

(5)

رواه الطبري في "تفسيره" 2/ 271 - 272 (3558، 3564)، وذكره ابن أبي حاتم في "تفسير القرآن العظيم" 1/ 346 (1821).

ص: 152

وقول ابن الجلاب: إنها في الحج مسنونة غير مفروضة يريد أنها ليست من أركان الحج. واختلف إذا لبى حين أحرم ثم تركها فالمعروف من مذهب مالك أنه لا شيء عليه، وقيل: عليه دم، قاله ابن التين.

ص: 153

‌26 - باب التَّلْبِيَةِ

1549 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ تَلْبِيَةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ". [انظر: 1540 - مسلم: 1184 - فتح: 3/ 408]

1550 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي عَطِيَّةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: إِنِّي لأَعْلَمُ كَيْفَ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُلَبِّي: "لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ". تَابَعَهُ أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ.

وَقَالَ شُعْبَةُ: أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ، سَمِعْتُ خَيْثَمَةَ، عَنْ أَبِي عَطِيَّةَ، سَمِعْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها. [فتح: 3/ 408]

ذكر فيه حديث مَالِك، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ تَلْبِيَةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ".

وحديث سُفْيَان، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي عَطِيَّةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: إِنِّي لأَعْلَمُ كَيْفَ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُلَبِّي: "لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ". تَابَعَهُ أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ.

وَقَالَ شُعْبَةُ: أَنَا سُلَيْمَانُ، سَمِعْتُ خَيْثَمَةَ، عَنْ أَبِي عَطِيَّةَ، سَمِعْتُ عَائِشَةَ.

ص: 154

الشرح:

حديث ابن عمر أخرجه مسلم والأربعة

(1)

، وحديث عائشة من أفراده، زاد مسلم في الأول: وكان ابن عمر يزيد مع هذا لبيك وسعديك، والخير بيديك لبيك، والرغباء إليك، والعمل.

وله: وكان ابن عمر يقول: كان عمر يهل بإهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم من

هؤلاء الكلمات، ويقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك وسعديك، والخير في يديك لبيك. إلى آخره

(2)

.

وفي "مسند ابن وهب": وكان ابن عمر يزيد: لبيك لبيك لبيك، وسعديك

(3)

، وكذا ذكرها أبو قرة. زاد الدارمى بعد والعمل: لبيك لبيك

(4)

.

وأخرجه النسائي من حديث ابن مسعود إلى قوله: إن الحمد والنعمة لك

(5)

.

وكذا هو عن جابر عند مسلم

(6)

.

زاد أبو داود بسند مسلم: والناس يزيدون: ذا المعارج، ونحوه من الكلام، والنبي صلى الله عليه وسلم يسمع فلا يقول لهم شيئًا

(7)

.

(1)

مسلم (1184/ 19)، أبو داود (1812)، الترمذي (825 - 826)، النسائي 5/ 160، ابن ماجه (2918).

(2)

مسلم (1184/ 21).

(3)

رواه أبو داود (1812).

(4)

"مسند الدارمي" 2/ 1140 - 1141 (1849).

(5)

"سنن النسائي" 5/ 161.

(6)

مسلم (1218) كتاب: الحج، باب: حجة النبي صلى الله عليه وسلم.

(7)

"سنن أبي داود"(1813) وصححه الألباني في: "صحيح أبي داود"(1591).

ص: 155

ولأحمد: أن سعدًا سمع رجلًا يقول: لبيك ذا المعارج، فقال: إنه لذو المعارج، ولكنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نقول ذَلِكَ

(1)

؛ لأن هذا إخبار عن نفسه. وللحاكم من حديث أبي هريرة: "لبيك إله الحق". ثم صححه على شرط الشيخين

(2)

.

وأصل التلبية الاقتداء بإبراهيم صلى الله عليه وسلم حين قال له تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالحَجِّ} [الحج: 27].

وأصلها إما من ألب بالمكان: إذا أقام به، أو من الإجابة، أو من اللب، وهو الخالص، أو المحبة، أقوال إجابة لإبراهيم لما دعا الناس إلى الحج على أبي قبيس، أو على حجر المقام، أو ثنية كداء.

وقال ابن حزم: لا علة لها إلا {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}

(3)

[الملك: 2] و (إن الحمد) بكسر الهمزة على المختار على الاستئناف

(4)

.

قال ابن التين: وكذا هو في البخاري، والوجهان في "الموطأ"، ويجوز فتحها على معنى: لأن، والمشهور: نصب النعمة، ويجوز رفعها على الابتداء وحذف الخبر، وإن شئت جعلت خبر إن محذوفًا تقديره: إن الحمد لك والنعمة مستقرة لك. والرغباء: -ممدود مفتوح، ومقصور بفتح الراء وضمها-: اتساع الإرادة.

وقوله: والعمل أي: إليك القصد به؛ لتجازي عليه. ويحتمل: والعمل لك.

(1)

"المسند" 1/ 172.

(2)

"المستدرك" 1/ 449 - 450.

(3)

ورد بهامش الأصل ما نصه: نقل الزمخشري في آخر تفسير سورة يس أن الشافعية أخطأ والصحيح عن وأن أبا حنيفة كسر وما قاله الشيخ قاله النووي أن الكسر أصح وأشهر.

(4)

"المحلى" 7/ 135.

ص: 156

وقوله: والخير بيديك. هو من باب حسن المخاطبة.

وقوله: (إن تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا). أي: التي كان يواظب عليها.

قال الشافعي وأصحابنا: يستحب أن لا يزاد عليها، بل يكررها ثلاثًا نسقًا، وأن يقف وقفة لطيفة عند قوله: والملك، وقيل: تكره الزيادة، حكاه في "البيان"، وهو غلط فقد صح: لبيك إله الحق. كما تقدم

(1)

.

وعند الحنفية: ينبغي ألا يخل بشيء من هذه الكلمات، وإن زاد فحسن. وعند بعضهم: وإن نقص أجزأه ولا يضره، وهي مرة شرط وما زاد فسنة

(2)

.

قال أبو عمر: أجمع العلماء على القول بهذِه التلبية، واختلفوا في الزيادة فيها. فقال مالك: أكره الزيادة على تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قول الشافعي، وقد روي عن مالك أنه لا بأس أن يزاد فيها ما كان ابن عمر يزيده. وقال الثوري، وأبو حنيفة، وأصحابه، وأحمد، وأبو ثور: لا بأس بالزيادة؛ عملًا بزيادة ابن عمر، وحديث جابر السالف.

وكان عمر يقول بعدها: لبيك ذا النعماء والفضل والثناء الحسن، لبيك مرهوبًا منك، ومرغوبًا إليك

(3)

.

وكان أنس يقول: لبيك حقًا حقا، تعبدًا ورقا، وروي رفعه

(4)

.

(1)

"الأم" 2/ 132، "البيان" 4/ 142، "روضة الطالبين" 3/ 74.

(2)

"المبسوط" 2/ 187، "الفتاوى التاتارخانية" 2/ 442.

(3)

رواه ابن أبي شيبة 3/ 198 (13470) كتاب: الحج، باب: في التلبية كيف هي؟.

(4)

"الاستذكار" 11/ 90 وحديث أنس المرفوع رواه الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" 14/ 215 - 216، وحديثه الموقوف عزاه ابن حجر في "تلخيص الحبير" 2/ 240 إلى البزار [كشف الأستار 2/ 13]، والدارقطني في "علله"[12/ 3].

ص: 157

ويستحب للمحرم، وإن كان جنبًا أو حائضًا؛ لقوله عليه السلام لعائشة:"اصنعي كما يصنع الحاج، غير أن لا تطوفي بالبيت"

(1)

.

ونقل ابن القصار عن الشافعي: الاقتصار على تلبية سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يزيد عليها ثنتين: لبيك إله الحق؛ لأن أبا هريرة رواه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

والثاني: أن يقول إذا رأى شيئًا فأعجبه: إن العيش عيش الآخرة.

كما فعل عليه السلام حين رأى الناس يزدحمون في الطواف

(2)

.

قُلْتُ: لا، بل بعرفة

(3)

، لما أعجبه ما رأى، وإذا زاد هذين كان كمن اقتصر على تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم. واحتج بأثر سعد السالف

(4)

، وحكاه ابن التين أيضًا عن الشافعي

(5)

.

(1)

سبق برقم (1294) كتاب: الحج، باب: الأمر بالنفساء إذا نفس بلفظ: "فاقضي ما يقضي الحاج".

(2)

رواه البيهقي في "السنن" 5/ 45 من حديث الأعرج عن مجاهد.

(3)

من قول ابن جريج.

(4)

"مسند أحمد" 1/ 172.

(5)

ورد بهامش الأصل ما نصه: ثم بلغ في الرابع بعد العشرين، كتبه مؤلفه.

ص: 158

‌27 - باب التَّسبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّكبِيِر قَبْلَ الِإهْلَالِ عِنْدَ الرُّكُوبِ عَلَى الدَّابَّةِ

1551 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: صَلُّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ مَعَهُ بِالَمْدِينَةِ الظُّهْرَ أَرْبَعَا، وَالعَصْرَ بِذِي الحلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ بَاتَ بِهَا حَتَّى أَصْبَحَ، ثُمَّ رَكِبَ حَتَّى اسْتَوَتْ بِهِ عَلَى البَيْدَاءِ، حَمِدَ اللهَ وَسَبَّحَ وَكَبَّر، ثمَّ أَهَلَّ بِحَجِّ وعُمْرَةٍ، وَأَهَلَّ النَّاسُ بِهِمَا، فَلَمَّا قَدِمْنَا أَمَرَ النَّاسَ فَحَلُّوا، حَتَّى كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ أَهَلُّوا بِالَحْجِّ، قَالَ: وَنَحَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَدَنَاتٍ بِيَدِهِ قِيَامًا، وَذَبَحَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالَمْدِينَةِ كَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ. قَالَ أبو عَبْدِ اللهِ: قَالَ بَعْضُهُمْ: هذا عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ أَنَسٍ. [انظر: 1089 - مسلم: 690 - فتح: 3/ 411]

ذكر فيه حديث أنس مطولًا وقد أسلفناه قريبًا في باب: من بات بذي الحليفة ببيان متابعته أيضًا

(1)

. وغرض البخاري بهذِه الترجمة -والله أعلم- الرد على أبي حنيفة في قوله: أن من سبح أو كبر أو هلل أجزأه من إهلاله، فأثبت البخاري أن التسبيح والتحميد منه، إنما كان قبل الإهلال؛ لقوله في الحديث بعد أن سبح وكبر:(ثم أهل بحج وعمرة).

ويمكن أن يكون فعل تحميده وتكبيره عند ركوبه، أخذًا بقوله تعالى:{ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} [الزخرف: 13]، ويمكن أن يكون يعلمنا منه جواز الذكر والدعاء مع الإهلال وأن الزيادة عليه مستحبة بخلاف ما سلف، نبه عليه ابن بطال

(2)

.

(1)

برقم (1546).

(2)

"شرح ابن بطال" 4/ 225.

ص: 159

وقوله: (ثم أهل بحج وعمرة، وأهل الناس بهما). قد رد عليه ابن عمر هذا القول، وقال: كان أنس حينئذ يدخل على النساء وهن منكشفات، ينسب إليه الصغر وقلة الضبط، حَتَّى نسب إلى رسول الله

صلى الله عليه وسلم الإهلال بالقران، وفيه نظر ستعلمه في الباب بعده.

قال ابن بطال: ومما يدل على قلة ضبط أنس للقصة قوله في الحديث: (فلما قدمنا أمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس فحلوا، حَتَّى كان يوم التروية أهلوا بالحج)، وهذا لا معنى له، ولا يفهم إن كان النبي وأصحابه قارنين كما زعم أنس؛ لأن الأمة متفقة على أن القارن لا يجوز له الإحلال حَتَّى يفرغ من عمل الحج كله، كان معه الهدي أو لم يكن، فلذلك أنكر عليه ابن عمر، وإنما حل من كان أفرد الحج وفسخه في عمرة ثم تمتع

(1)

.

وقال ابن التين: إن صح فمعناه: أباح النبي صلى الله عليه وسلم أن يهل غيره بحج وعمرة، فتكون الإباحة هنا بمعنى الفعل كما يقال: كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم

(2)

، وقتل العرنين

(3)

، ونزح عثمان البئر

(4)

. وعلله البخاري بأنه عن أيوب، عن رجل، عن أنس، فأعله؛ لجهالة الرجل: قُلْتُ: لكنه أبو قلابة فيما يظهر.

(1)

"شرح ابن بطال" 4/ 226.

(2)

من ذلك ما سلف برقج (65) عن أنس، ومنه أيضًا ما سيأتي برقم (7192)، ورواه مسلم (1669)، ومنه ما رواه مسلم (1507).

ومن المعروف أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يقرأ ولا يكتب وإنما كان يكتب له.

(3)

راجع ما سلف برقم (233)، ورواه مسلم (524).

(4)

انظر ما سيأتي برقم (5879).

ص: 160

وقوله: (ونحر النبي صلى الله عليه وسلم بيده بدنات قيامًا) هذِه السنة في نحر الإبل قائمة؛ لأنه أمكن لنحرها؛ لأنه يطعن في لبتها وتكون معقولة اليد اليسرى. وحكى ابن التين عن مالك -فيما رواه محمد عنه- أن الشأن أن ينحر البدن قائمة، قد عقل يدها بالحبل، وقاله ابن حبيب وهو تفسير قوله تعالى:{صَوَافَّ} [الحج: 36]، قال: وروى أيضًا محمد عن مالك: لا يعقلها إلا من خاف أن يضعف عنها

(1)

.

والأفضل أن يتولى ذبحها بنفسه كما فعل صلى الله عليه وسلم، قال ابن التين: وفي غير هذا الموضع أنها كانت سبعين بدنة. وفي "الموطأ" عن علي أنه عليه السلام نحر بعض هديه، ونحر بعضه غيره

(2)

.

وروي أن عليًّا نحر باقيها، وفي الجمع بين هذِه الأحاديث الثلاثة تكلف.

قُلْتُ: لا تكلف ولله الحمد، فقد أهدى مائة بدنة فنحر ثلاثًا وستين بيده، كل واحدة عن سنة من عمره، وفيه إشارة إلى قدر عمره، وأعطى عليًّا فنحر الباقي؛ ليبين الجواز فيه.

وقوله: (ذبح بالمدينة كبشين أملحين) جاء في رواية أخرى: ذبح أحدهما عن أهل بيته، والآخر عمن لم يضحِّ من أمته، والأملح: الأغبر، وهو الذي فيه سواد وبياض.

(1)

"النوادر والزيادات" 2/ 448.

(2)

"الموطأ" ص 256 (190).

ص: 161

‌28 - باب مَنْ أَهَلَّ حِيَن اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ قَائِمَةً

1552 -

حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، أَخْبَرَنَا ابن جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي صَالِحُ بْنُ يسَانَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابن عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: أَهَلَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حِينَ اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ قَائِمَةً. [انظر: 166 - مسلم: 1187 - فتح: 3/ 412]

ذكر فيه حديث ابن عمر وقد سلف في باب: الإهلال عند مسجد ذي الحليفة فراجعه

(1)

.

قال الطبري: جعل الله ذا الحليفة ميقاتًا للمدني، وللمار به من سائر الناس فسواء في جواز الإحرام منه من أي مكان من المسجد أو فنائه، بعد ما استقلت به راحلته أو قبل أن تنهض به قائمة بعدما علا على شرف البيداء أو قبل ما لم يجاوز ذا الحليفة، إذ كل ذَلِكَ قد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه فعله، وليس شيء من ذَلِكَ بخلاف لغيره، وقد يمكن أن يفعل ذَلِكَ كله عليه السلام في عمرته التي اعتمر؛ إذ ذَلِكَ كله ميقات، ويمكن أن يكون ذَلِكَ على ما قاله ابن عباس كما سلف عنه.

(1)

برقم (1541) كتاب: الحج.

ص: 162

‌29 - باب الإِهْلَالِ مُسْتَقْبِلَ القِبْلَةِ

1553 -

وَقَالَ أَبُو مَعْمَرٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَارِثِ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ نَافِعٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما إِذَا صَلَّى بِالغَدَاةِ بِذِي الحُلَيْفَةِ أَمَرَ بِرَاحِلَتِهِ فَرُحِلَتْ ثُمَّ رَكِبَ، فَإِذَا اسْتَوَتْ بِهِ اسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ قَائِمًا، ثُمَّ يُلَبِّي حَتَّى يَبْلُغَ المَحْرَمَ، ثُمَّ يُمْسِكُ حَتَّى إِذَا جَاءَ ذَا طُوًى بَاتَ بِهِ حَتَّى يُصْبِحَ، فَإِذَا صَلَّى الغَدَاةَ اغْتَسَلَ، وَزَعَمَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَعَلَ ذَلِكَ. تَابَعَهُ إِسْمَاعِيلُ، عَنْ أَيُّوبَ فِي الغَسْلِ.

1554 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ أَبُو الرَّبِيعِ، حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ، عَنْ نَافِعٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما إِذَا أَرَادَ الخُرُوجَ إِلَى مَكَّةَ ادَّهَنَ بِدُهْنٍ لَيْسَ لَهُ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ، ثُمَّ يَأْتِي مَسْجِدَ الحُلَيْفَةِ فَيُصَلِّي ثُمَّ يَرْكَبُ، وَإِذَا اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ قَائِمَةً أَحْرَمَ، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُ.

سلف أيضًا حديثه المعلق والمسند هناك

(1)

.

والتعليق الذي علقه عن شيخه أبي معمر - عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج المنقري المقعد- ثنا عبد الوارث، ثنا أيوب، عن نافع، فذكره.

وصله أبو نعيم في "مستخرجه": حَدَّثَنَا إسحاق بن حمزة، حدثني أبو القاسم بن عبد الكريم، ثنا عباس الدوري، ثنا أبو معمر، فذكره.

ووصله أيضًا ابن خزيمة في "صحيحه"، حَدَّثَنَا عبد الوارث بن عبد الصمد، ثنا أبي عن أبيه، عن أيوب فذكره

(2)

.

(1)

برقم (491) كتاب: الصلاة، باب: المساجد التي على طرق المدينة والمواقع.

(2)

"صحيح ابن خزيمة" 4/ 169 (2614) كتاب: المناسك، باب: استحباب الاستقبال بالراحلة.

ص: 163

ووصله الإسماعيلي أيضًا من طريق ابن خزيمة: حَدَّثَني محمد بن أبي حامد النيسابوري، أنا ابن خزيمة. والبيهقي عن أبي عبد الله، عن أبي أحمد الحاكم، عن أبي بكر بن خزيمة.

وأخرجه مسلم، عن أبي الربيع، عن حماد، عن أيوب

(1)

.

وقوله: (تابعه إسماعيل، عن أيوب في الغسل)، أسنده في باب: الاغتسال عند دخول مكة: حَدَّثَنَا يعقوب بن إبراهيم، ثنا ابن علية، ثنا أيوب، فذكره كما سيأتي

(2)

.

ولما ذكر الحاكم حديث ابن عباس: اغتسل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لبس ثيابه فلما أتى ذا الحليفة صلى ركعتين، ثم قعد على بعيره، فلما استوى به على البيداء أحرم بالحج، وقال: صحيح الإسناد، قال: وله شاهد على شرطهما عن ابن عمر: من السنة أن يغتسل إذا أراد أن يحرم،

وإذا أراد أن يدخل مكة

(3)

.

وأما حديثه الثاني المسند فليس فيه استقبال القبلة عند الإهلال، نعم هو في الأول، وإنما استقبلها لاستقبال دعوة إبراهيم بمكة، فلذلك يلبي الداعي أبدًا بعد أن يستقبل بالوجه؛ لأنه لا يصلح أن يولي المجيب ظهره من يدعوه ثم يلبيه، بل يستقبله بالتلبية في موضعه الذي دعا منه، ويلبيه إذا ركب راحلته أراد به إجابة {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} [الحج: 27].

وقوله: (فرحلت) هو مخفف الحاء، لأنه ثلاثي.

وقوله: (ثم يلبي حَتَّى يبلغ الحرم) معلوم من مذهبه أنه كان لا يلبي

(1)

"صحيح مسلم"(1259) كتاب: الحج، باب: استحباب المبيت بذي طوى.

(2)

برقم (1573) كتاب: الحج، باب: الاغتسال عند دخول مكة.

(3)

"المستدرك" 1/ 447 كتاب: المناسك.

ص: 164

في طوافه، وقد كرهها مالك فيه، كذا نقله عن ابن عمر ابن بطال

(1)

، وفيه نظر يأتي.

قال ابن عيينة: ما رأيت أحدًا يقتدى به يلبي حول البيت إلا عطاء بن السائب، وسيأتي من أجازه ومن كرهه في باب: الاغتسال عند دخول مكة

(2)

، إن شاء الله. وإنما كان يدهن بغير الطيب؛ ليمنع بذلك القمل والدواب.

وقوله: (كان ابن عمر إذا صلى الغداة -يعني: الصبح- بذي الحليفة أمر براحلته فرحلت ثم ركب، فإذا استوت به استقبل القبلة قائمًا ثم يلبي). قال الداودي: يحتمل أن يكون في الكلام تقديم وتأخير، أي: يأمر بها ثم يصلي، ثم يركب، وإن كان هذا محفوظًا فلقرب ذَلِكَ من الصلاة وإنما قال ذَلِكَ لما سلف عن بعضهم أنه يستحب الإحرام عقب الصلاة.

وفيه؛ استقبال القبلة عند إلاهلال؛ لأنها أشرف الجهات.

وقوله: (قائمًا) يعني: إذا وقفت به راحلته. ومبيت ابن عمر بذي طوى للاتباع كما سيأتي، وهو ربض من أرباض مكة، وطاؤه مثلثة مع الصرف وعدمه والمد أيضًا، قال البكري: واد بمكة

(3)

، وعند السهيلي في أسفلها

(4)

.

وذو طواء ممدود موضع بطريق الطائف، وقيل وادٍ. ودخول مكة نهارًا أفضل. وقيل: الليل والنهار سواء، فقد دخلها عليه السلام في عمرة

(1)

"شرح ابن بطال" 4/ 227 - 228.

(2)

انظر شرح حديث (1573).

(3)

"معجم ما استعجم" 3/ 896.

(4)

"الروض الأنف" 2/ 227.

ص: 165

الجعرانة ليلا

(1)

، وهو المذكور في "الهداية"

(2)

.

وهذا الغسل لدخول مكة سنة، فإن عجز عنه تيمم يستوي فيه الحائض، والنفساء والصبي.

وقد أسلفنا كلام ابن حزم فيه، قال: لا يلزم الغسل فرضًا في الحج إلا المرأة تهل بعمرة تريد التمتع فتحيض قبل الطواف بالبيت، فهذِه تغتسل ولابد، والمرأة تلد قبل أن تهل بعمرة أو بالقران، ففرض

عليها أن تغتسل وتهل

(3)

.

وقال في الطهارة: الحيض والنفاس شيء واحد، وحكم واحد فأيتهما أرادت الحج أو العمرة ففرض عليها أن تغتسل

(4)

.

قال صاحب "الاستذكار": ولا أعلم أحدًا من المتقدمين أوجبه -يعني: الغسل للإحرام- إلا الحسن، وقد روي عن عكرمة إيجابه كقول أهل الظاهر، وروي عنه أن الوضوء يكفي منه، وهو سنة مؤكدة عند مالك وأصحابه ولا يرخصون في تركه إلا من عذر. وعن عبد الملك وهو لازم، إلا أنه ليس في تركه ناسيًا ولا عامدًا دم ولا فدية.

وقال ابن خويز منداد

(5)

: هو عند مالك آكد من غسل الجمعة. وقال

(1)

رواه الترمذي (935).

(2)

"الهداية" 1/ 151.

(3)

"المحلى" 7/ 168.

(4)

"السابق" 2/ 26.

(5)

هو محمد بن أحمد بن عبد الله، وقيل: علي، بدل: عبد الله، الفقيه، أبو بكر بن خويز منداد المالكي، صاحب أبي بكر الأبهري، من كبار المالكية العراقيين. صنف كتابًا كبيرًا في الخلاف، وآخر في أصول الفقه، وكتاب "أحكام القرآن".

انظر تمام ترجمته في "تاريخ الإسلام" 27/ 217، "الوافي بالوفيات" 2/ 52 (337).

ص: 166

أبو حنيفة، والثوري، والأوزاعي: يجزئه الوضوء، وهو قول إبراهيم، وهذا أول اغتسال الحج بعد الإحرام، وبعده الوقوف بعرفة ومزدلفة غداة النحر وأيام التشريق للرمي، واستحبه الشافعي في القديم في الطواف

(1)

.

وقوله: (حَتَّى يبلغ الحرم، ثم يمسك حَتَّى إذا جاء ذا طوى بات به) أي: يتابع إهلاله في أكثر أوقاته إلى أن يبلغه.

وقوله: (ثم يمسك) قال ابن التين: لعل معناه أنه محرم بعمرة؛ لأن الحاج لا يمسك حينئذ. وروي عن مالك يمسك حينئذ.

وقوله: (ادهن بدهن ليس له رائحة طيبة، ثم رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال ابن التين: يحتمل أن يعيد ذَلِكَ للاستواء على الراحلة أو يكون أراد به تطيبًا، ولم يعن بما لا رائحة له؛ لأن عائشة طيبته للإهلال بأطيب الطيب المسك.

ويحتمل أن يكون عليه السلام فعل ذَلِكَ بعد أن تطيب بالمسك، فلم يره ابن عمر حين تطيب به.

فائدة:

في "سنن سعيد بن منصور": حَدَّثَنَا جرير عن مغيرة قال: ذكر عند إبراهيم إذا قدم الحاج أمسك عن التلبية مادام يطوف بالبيت. وقال إبراهيم: لا، بل يلبي قبل الطواف، وفي الطواف، وبعد الطوف،

ولا يقطعها حَتَّى يرمي الجمرة

(2)

.

(1)

"الاستذكار" 11/ 12. وانظر "الهداية" 1/ 148، "المبسوط" 4/ 3، "البيان" 4/ 120.

(2)

ذكره ابن حزم في "المحلى" 7/ 136.

ص: 167

وقال الترمذي في "علله": سألت محمدًا عن أبي إسحاق قال: قال: سأل أبي عكرمة -وأنا أسمع- عن الإهلال متى يقطع؟ فقال: أهلَّ النبي صلى الله عليه وسلم حَتَّى رمى الجمرة، وأبو بكر، وعمر، وعثمان الحديث. فقال: هو حديث محفوظ

(1)

.

وهو قول أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وداود، إلا أن أبا حنيفة، والشافعي قالا: يقطع التلبية مع أول حصاة يرميها في الجمرة

(2)

. وقال ابن حزم: بل مع آخر حصاة منها، وقد قال ابن عباس وأسامة: لم يزل عليه السلام يلبي حَتَّى رمى جمرة العقبة. وهو خلاف ما قالاه، ولو كان كما قالاه لقالا: حَتَّى بدأ بجمرة العقبة. ومن حديث عبد الله بن إبراهيم بن حسين، عن أبيه، عن ابن عباس قال: سمعت عمر يهل وهو يرمي جمرة العقبة، فقيل له: ما الإهلال يا أمير المؤمنين؟ فقال: وهل قضينا نسكنا؟

(3)

.

وقال قوم منهم مالك: إن الحاج يقطعها إذا طاف، وبالصفا والمروة، وإذا أتم ذَلِكَ عاودها. وقال أبو حنيفة، والشافعي: لا يقطع. وقال قوم: يقطع المعتمر التلبية إذا دخل الحرم. وقال آخرون: لا يقطعها

حَتَّى يرى بيوت مكة. وقالت طائفة: حَتَّى يدخل بيوتها. وقال أبو حنيفة: لا يقطعها حَتَّى يستلم الحجر، ويعضد ما ذكره المروذي، عن أحمد، عن هشيم، ثنا الحجاج، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده:

(1)

"علل الترمذي الكبير" 1/ 387 (137).

(2)

انظر "المبسوط" 4/ 20، "روضة الطالبين" 3/ 102 - 103، "المغني" 5/ 297 - 298.

(3)

رواه ابن حزم في "المحلى" 7/ 136، والبيهقي 5/ 113 كتاب: الحج، باب: التلبية يوم عرفة وقبله وبعده

ص: 168

اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث عمر، كل ذَلِكَ في ذي القعدة، يلبي حَتَّى يستلم الحجر.

وقال الليث: إذا بلغ إلى الكعبة يقطع التلبية.

وقال الشافعي: لا يقطع حَتَّى يفسخ الطواف. وقال مالك: من أحرم من الميقات قطع التلبية إذا دخل أول الحرم، فإن أحرم من الجعرانة أو من التنعيم قطعها إذا دخل بيوت مكة أو المسجد. وروي عن ابن عباس: لا يقطع المعتمر التلبية حَتَّى يستلم الركن

(1)

، وكان ابن عمر يقطعها إذا رأى بيوت مكة

(2)

.

وكانت أم سلمة تأمر يوم عرفة بالشمس ترعى لها [رعية]

(3)

، فإذا زالت قطعت التلبية، ذكره ابن أبي حاتم في "علله"، عن موسى بن يعقوب، عن عمته، عنها

(4)

.

قال ابن حزم؛ والذي نقول به هو قول ابن مسعود أنه لا يقطعها، قال: فإن قالوا: فهل عندكم اعتراض فيما روي عن ابن عمر: أنه كان إذا دخل الحرم أمسك عن التلبية، ويرفع الحديث، قُلْتُ:

لا معترض فيه، وهو صحيح؛ إلا أنه لا حجة لكم فيه؛ أول ذَلِكَ أنه ليس فيه ما تذكرون من أن هذا كان في العمرة، فهو مخالف لما اختاره أبو حنيفة، والشافعي في الحج، ولما اختاره أبو حنيفة في العمرة أيضًا، نقول لمن ذهب إلى قول مالك: لا حجة لكم فيه؛ لأنه

(1)

رواه ابن أبي شيبة 3/ 249 (14001) كتاب: الحج، باب: في المحرم المعتمر متى يقطع التلبية.

(2)

"المحلى" 7/ 135 - 138 بتصرف.

(3)

ليست في الأصل، والمثبت من "العلل".

(4)

"علل ابن أبي حاتم" 1/ 289 (863).

ص: 169

قد يمكن أن ابن عمر إنما أشار بقوله: أنه عليه السلام كان يفعل ذَلِكَ، أي: إلى مبيته بذي طوى، وصلاة الصبح بها فقط، وكذا نقول: أو يكون أشار بذلك إلى قطع التلبية، كما نقول فإن كان هذا فخبر جابر، وأسامة، وابن عباس مرفوعًا، لزم التلبية ولم يقطعها حَتَّى رمي جمرة العقبة،

زائد على خبر ابن عمر، وزيادة العدل لا يجوز تركها

(1)

.

وما أسلفناه عن ابن مسعود أخرجه الحاكم بلفظ: والذي بعث محمدًا بالحق لقد خرجت معه من منى إلى عرفة، فما ترك التلبية حَتَّى رمى الجمرة؛ إلا أن يخلطها بتكبير أو تهليل، ثم قال: صحيح على شرط مسلم

(2)

.

وفي "علل ابن أبي حاتم": سُئِلَ أبو زرعة عن حديث يونس بن بكير، عن ابن إسحاق عن إبراهيم بن عقبة

(3)

عن غريب، عن ابن عباس قال: بعثني النبي عليه السلام مع ميمونة أقود بها بعيرها يوم النحر، ليست من جمرة العقبة بمنى، فما زلت أسمعها تلبي، فلما قذفت الجمرة بأول حصاة أمسكت. فقال أبو زرعة: إنما هو عن كريب قال: بعثني ابن عباس مع ميمونة، ويونس يهم فيه

(4)

.

فائدة: أقدمها هنا وأحيل عليها فيما بعد: اختلف العلماء في إهلاله صلى الله عليه وسلم، هل كان مطلقًا أو معينًا؟ وإذا كان معينًا، فهل كان إفرادًا، أو تمتعًا، أو قرانًا؟

(1)

"المحلى" 7/ 138 بتصرف.

(2)

"المستدرك" 1/ 461 - 462 كتاب: المناسك.

(3)

في الأصل: إبراهيم بن عقبة عن ابن عمر عن كريب، والمثبت من "العلل".

(4)

"علل ابن أبي حاتم" 1/ 295 (884).

ص: 170

فروى الشافعي من حديث طاوس الأول، وأنه كان ينتظر القضاء، فنزل عليه القضاء وهو بين الصفا والمروة، وأمر أصحابه من كان منهم أهلَّ وليس معه هدي أن يجعلها عمرة الحديث

(1)

.

ومن حديث جابر بن عبد الله قال: ما سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلبيته حجًّا ولا عمرة

(2)

.

وقال في كتاب "مختلف الحديث": إنه الأشبه أن يكون محفوظًا

(3)

.

وقال الطبري: إن جملة الحال أنه لم يكن متمتعًا؛ لأنه قال: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة"، ولا كان مفردًا؛ لأن الهدي كان معه واجبًا كما قال، وذلك لا يكون إلا للقارن، ولأن الروايات الصحيحة تواترت بأنه قد قرنهما جميعًا، فكان من زاد أولى. ووجه الاختلاف أنه عليه السلام لما عقد الإحرام جعل يلبي تارة بالحج، وتارة بالعمرة، وتارة بهما

(4)

.

وأما قول المهلب السالف: رد ابن عمر على أنس قوله: أهلَّ بحج وعمرة، وقال: كان أنس حينئذٍ يدخل على النساء وهن متكشفات، ينسبه إلى الصغر وقلة الضبط. زاد الطرطوسي في "كتاب الحج" له: روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم، وأبا بكر، وعمر، وابن عوف أفردوا الحج ولم يقرنوا، ولم يتمتعوا، قال: وهذا يدفع اعتراض من قال: سمع الحج ولم يسمع العمرة.

(1)

"مسند الشافعي" 1/ 372 (960).

(2)

"مسند الشافعي" 1/ 370 (957)، "الأم" 2/ 132.

(3)

"اختلاف الحديث" ص 229.

(4)

ورد بهامش الأصل: من خط الشيخ: مما يرجح القرآن أن رواة الإفراد اختلف فيهم بخلاف من رواه.

ص: 171

وسئل أيضًا: بم أهلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: بالحج مفردًا، فلما كان في العام القابل سأله ذَلِكَ الرجل، فقال ابن عمر: أليس قد سألت عام أول، فقلت لك: أهل بالحج مفردًا؛ فقال: إن أنسًا يقول: قرن

(1)

. فقال: كان أنس صغيرًا يتولج على النساء وهن متكشفات لا يستترن منه لصغره، وأنا آخذ بزمام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسني لعابها. وفي رواية: يسيل علي لعابها، سمعته يهل بالحج مفردًا، وأهللنا مع النبي بالحج خالصًا لا يشوبه شيء، ففيه نظر؛ لأن حجة الوداع كانت وسن أنس نحو العشرين.

وقد جاء في الصحيح أنه منع من الدخول على النساء حين بلغ عمره خمس عشرة سنة، وذلك قبل الحجة بنحو خمس سنين، وسنه نحو سن ابن عمر، ولعله لا يكون بينهما إلا نحو من سنة أو دونها.

قال ابن حزم: روي عن جميع من روى الإفراد القرآن، وهم عائشة، وجابر، وابن عمر، وابن عباس. ووجدنا عليًّا وعمران بن حصين روي عنهما التمتع والقران، ووجدنا أم المؤمنين حفصة، والبراء بن عازب، وأنس بن مالك لم تضطرب الرواية عنهم ولا اختلاف عنهم فيه، فنترك رواية كل من قد اضطربت الرواية عنه، ونرجع إلى رواية من لم تضطرب عنه، وهذا وجه العمل على قول من يرى إسقاط ما تعارض من الروايات، والأخذ بما لم يعارض منها.

وأما من ذهب إلى الأخذ بالزائد، وهو وجه يجب استعماله إذا كانت الألفاظ والأفعال كلها منسوبة إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تكن موقوفة على من دونه، ولا تنازعًا ممن سواه، فوجهه أنَّا وجدنا

(1)

رواه بنحوه ابن حزم في "حجة الوداع" ص 433.

ص: 172

من روى الإفراد إنما اقتصر على ذكر الإهلال بالحج وحده دون عمرة معه، ووجدنا من روى التمتع إنما اقتصر على ذكر الإهلال بعمرة وحدها دون حج معها، ووجدنا من روى القرآن قد جمع الأمرين معًا، فزاد على من ذكر الحج وحده عمرة، وزاد على من ذكر العمرة وحدها حجًّا، وكانت هذِه زيادتي علم يذكرهما الآخرون، وزيادة حفظ، ونقل على كلتي الطائفتين المتقدمتين، وزيادة العدل مقبولة، وواجب الأخذ بها

(1)

. سيما إذا روجع فيها فثبت عليها ولم يرجع، كما في "الصحيح" من حديث بكر عن أنس: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يلبي بالحج والعمرة، قال بكر: فحدثت بذلك ابن عمر، فقال: لبى بالحج. قال: فلقيت أنسًا، فحدثته بقول ابن عمر، فقال أنس: ما يعدوننا إلا صبيانا، سمعت رسول الله في يقول:"لبيك عمرة وحجا"

(2)

وفي لفظ: جمع بينهما -بين الحج والعمرة- وفي حديث يحيى بن أبي إسحاق وعبد العزيز بن صهيب، وحميد سمعوا أنسًا قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل بهما: "لبيك عمرة وحجا لبيك عمرة وحجًا"

(3)

.

وفي "الاستذكار" من رواية الحسن بإسناد جيد: وقرن القوم، فلما قدموا مكة قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم:"أحلوا" فهاب القوم فقال: "لولا أن معي هديًا لأحللت"

(4)

.

(1)

"حجة الوداع" ص 446 - 448 بتصرف.

(2)

رواه مسلم (1232).

(3)

رواه مسلم (1251) باب: إهلال النبي صلى الله عليه وسلم وهديه.

(4)

"الاستذكار" 11/ 149، وسيأتي بنحوه عن أنس برقم (1558).

ص: 173

وعند الحاكم على شرطهما أنه عليه السلام قال: "لبيك بحج وعمرة معًا"

(1)

وسيأتي عند الطحاوي اختلاف علي وعثمان، وقول علي: ما كنت لأدع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لقول أحدكم، أهل بهما:"لبيك بعمرة وحجة".

وسلف قول عمر: سمعت رسول الله: "أتاني الليلة آت من ربي عز وجل فقال: صل في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجة"

(2)

ولمسلم من حديث عمران بن حصين أنه عليه السلام جمع بين حجة وعمرة، ثم لم ينه عنه حَتَّى مات، ولم ينزل فيه قرآن يحرمه

(3)

.

ولأبي داود بإسناد جيد عن البراء، عن علي أنه عليه السلام لما قدم من اليمن قال:"إني قد سقت الهدي، وقرنت"

(4)

.

ومن حديث الصبي بن معبد بإسناد جيد في حديث قال: "أهللت بالحج والعمرة". قال لي عمر: هديت لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين

(5)

.

صححه الدارقطني في "علله"

(6)

، وقال أبو عمر: جيد الإسناد، رواه الثقات والأثبات، عن أبي وائل، عن الصبي، عن عمر. ومنهم من يجعله عن أبي وائل عن عمر، والأول مجود، ورواته أحفظ

(7)

.

وللحاكم -وقال: على شرطهما- عن أبي قتادة: إنما قرن عليه السلام

(1)

"المستدرك" 1/ 472 كتاب: المناسك.

(2)

برقم (1534) باب: العتيق وادٍ مبارك.

(3)

"صحيح مسلم"(1226/ 167) باب: جواز التمتع.

(4)

"سنن أبي داود"(1797) وصححه الألباني في "صحيح أبي داود" برقم (1577).

(5)

ابن ماجه (2970)، وأحمد 1/ 14، 25، 34، 37، 53، وابن خزيمة في:"صحيحه" 4/ 357 - 358 (3069)، وابن حبان 9/ 219 - 220 (3910 - 3911)، والبيهقي 5/ 16.

(6)

"علل الدارقطني" 2/ 165.

(7)

"التمهيد" 8/ 212 وصححه الألباني في "صحيح أبي داود"(1578).

ص: 174

بينهما؛ لأنه عليه السلام علم أنه ليس بحاج بعدها

(1)

.

وفي "الاستذكار" روى سفيان بن عيينة، عن إسماعيل بن أبي خالد: سمحت عبد الله بن أبي أوفي يقول بالكوفة: إنما جمع عليه السلام بينهما؛ لأنه علم أنه لا يحج بعدها

(2)

.

ولأحمد عن سراقة بإسناد صالح قال: قرن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع

(3)

.

وعن أبي طلحة أنه عليه السلام جمع بينهما. أخرجه ابن ماجه، وفيه الحجاج بن أرطاة

(4)

.

وللترمذي محسنًا عن جابر أنه عليه السلام قرن الحج والعمرة

(5)

.

وقال أبو حاتم الرازي: إنه منكر

(6)

.

وقال ابن حزم: صح عن عائشة وحفصة أنه عليه السلام كان قارنًا

(7)

، يريد بذلك رواية أبي داود عن عائشة:"طوافك بالبيت، وبين الصفا والمروة، يكفيك لحجك وعمرتك"

(8)

.

(1)

"المستدرك" 1/ 472.

(2)

"الاستذكار" 11/ 147.

وورد بهامش الأصل: حديث سراقة رواه ابن ماجه بلفظه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة" قال: وقرن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقوله في حجة الوداع ثبت فيه.

(3)

"مسند أحمد" 4/ 175.

(4)

"سنن ابن ماجه"(2971)، وصححه الألباني في "صحيح ابن ماجه"(2405).

(5)

"سنن الترمذي"(947).

(6)

"علل الحديث" لابن أبي حاتم 1/ 285 - 286.

(7)

"حجة الوداع" ص 422.

(8)

"سنن أبي داود"(1897)، ورواه مسلم (1211/ 133) بنحوه.

ص: 175

وقال أبو حاتم: عن عطاء مرسلًا أصح، قال: وأما رواية عمرو بن دينار، عن طاوس، عن ابن عباس أنه عليه السلام قال لعائشة:"طوافك الأول بين الصفا والمروة الحج والعمرة" فهو حديث منكر

(1)

.

قال ابن حزم: فصح أنها كانت قارنة

(2)

، وقال الطحاوي: قوله: "طوافك لحجك يكفيك لحجك وعمرتك" يبعد أن يكون من كلام النبي في القلوب؛ لأن الطواف وإن كان للحج فهو له دون العمرة، وإن كان لهما جميعًا لم يجز أن يضاف إلى أحدهما دون الآخر

(3)

.

وحديث حفصة رواه مالك، عن نافع، عن ابن عمر، عنها يرفعه: "لا أحل حَتَّى أحل

(4)

من الحج"

(5)

، ولأحمد بإسناد جيد: عن أم سلمة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أهلوا يا آل محمد بعمرة في حج"

(6)

.

ولأبي داود من حديث أبي خَيْوان شيخ الهنائي أن معاوية قال للصحابة: هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يقرن بين الحج والعمرة؟ قالوا: لا

(7)

.

(1)

"علل الحديث" لابن أبي حاتم 1/ 288.

(2)

"المحلى" 7/ 169، و"حجة الوداع" ص 318.

(3)

انظر "شرح معاني الآثار" 2/ 200.

(4)

في الأصل: أحلق، والصواب ما أثبتناه كما في "مسند أحمد" 6/ 283، وكثير من مصادر التخريج.

(5)

رواه مالك في "الموطأ" ص 256 بلفظ: "لا أحل حتى أنحر".

(6)

"مسند أحمد" 6/ 297 - 298. وورد بهامش الأصل: حديث أم سلمة مختصر هنا وكان الشيخ ذكر منه موضع كلامه والاقتصار على بعض الحديث جائز على الصحيح.

(7)

"سنن أبي داود"(1794) كتاب: المناسك، باب: في إفراد الحج، وقال الألباني في "صحيح أبي داود" (1574): حديث صحيح، إلا النهي عن القرن بين الحج والعمرة؛ فهو منكر؛ لمخالفة الأحاديث المتقدمة.

ص: 176

وقال المنذري: اختلف فيه اختلافًا كثيرًا، فذكره

(1)

.

ولابن أبي شيبة من حديث علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب قال: سمعت أصحاب محمد يهلون بحجة وعمرة معًا

(2)

.

ومن حديث عطاء بن السائب، عن كثير بن جمهان قال: سألنا ابن عمر عن رجل أهل بحج وعمرة معًا، وإنا عبنا ذَلِكَ عليه، ما كفارته؟ قال: كفارته أن يرجع بأجرين وترجعون بواحد

(3)

.

وللكجي عن الهرماس بن زياد قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم على ناقته قال: "لبيك حجة وعمرة معًا"

(4)

. قال ابن أبي حاتم، عن أبيه: فذكرته لأحمد فأنكره قال أبي: أرى دخل لعبد الله بن عمران حديث في حديث، وسرقه الشاذكوني؛ لأنه حدث به بعد عن يحيى بن الضريس

(5)

.

ولمسلم عن أبي هريرة مرفوعًا: "والذي نفسي بيده ليهلن ابن مريم بفج الروحاء حاجًّا أو معتمرًا، أو لَيَثْنينَّهما"

(6)

.

والظاهر أن هذا شك من صحابي أو ممن دونه ورجح أصحابنا الإفراد بأن رواته أكثر، ومجمع على عدم كراهته بخلاف التمتع والقران، ولعدم وجوب الدم فيه بخلافهما.

(1)

"مختصر سنن أبي داود" 2/ 318.

(2)

"المصنف" 3/ 278 (14295) كتاب: الحج، باب: فيمن قرن بين الحج والعمرة.

(3)

"المصنف" 3/ 278 (14296).

(4)

ورد بهامش الأصل: وحديث الهرماس رواه عبد الله في "المسند" ولفظه: قال: كنت ردف أبي فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم على بعير وهو يقول: "لبيك بحج وعمرة معًا".

(5)

"علل الحديث" 1/ 291 (872).

(6)

"صحيح مسلم"(1252) كتاب: الحج، باب: إهلال النبي صلى الله عليه وسلم وهديه.

ص: 177

وقال الخطابي: يحتمل أن يكون بعضهم سمعه يقول: لبيك بحج فحكي أنه أفرد، وخفي عليه قوله:"وعمرة". ولم يحك إلا ما سمع ولا منافاة. ويحتمل أن يكون سمعه على سبيل التعليم لغيره.

وأما من روى التمتع فأثبت ما حكته عائشة من إحرامه بالحج، وما رواه أنس من القرآن إلا أنه أفاد إيقاعهما في زمانين، وهو ما روته حفصة

(1)

.

ويحتمل أن يكون معنى قوله: "لأهللت بعمرة" أي: لتفردت بها يطيب به نفوس من تمتع، فتكون دلالته حينئذ على معنى الجواز، لا على معنى الاختيار، وسأذكر قريبًا من كلام إمامنا الشافعي في اختلاف الحديث ما يجمع به الشتات إن شاء الله، وسيأتي حجة من رجح التمتع مع المناقشة معه.

(1)

انظر: "معالم السنن" 2/ 139.

ص: 178

‌30 - باب التَّلْبِيَةِ إِذَا انْحَدَرَ فِي الوَادِي

1555 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ المُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فَذَكَرُوا الدَّجَّالَ، أَنَّهُ قَالَ:"مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَافِرٌ". فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمْ أَسْمَعْهُ وَلَكِنَّهُ قَالَ: "أَمَّا مُوسَى كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ إِذِ انْحَدَرَ فِي الوَادِي يُلَبِّي". [3355، 5913 - فتح: 3/ 414]

ذكر فيه عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ ابن عَبَّاسٍ فَذَكَرُوا الدَّجَّالَ، أَنَّهُ قَالَ:"مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كافِرٌ". فَقَالَ ابن عَبَّاسٍ: لَمْ أَسْمَعْهُ وَلَكِنَّهُ قَالَ: "أَمَّا مُوسَى كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ إِذِا انْحَدَرَ فِي الوَادِي يُلَبِّي".

هذا الحديث ذكره في باب: الجعد، من كتاب: اللباس بزيادة: "أما إبراهيم صلى الله عليه وسلم فانظروا إلى صاحبكم، وأما موسى صلى الله عليه وسلم فرجل آدم، جعد، على جمل أحمر مخطوم بخلبة"

(1)

.

ولمسلم: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي الأزرق، فقال:"أي وادٍ هذا؟ " قالوا: هذا وادي الأزرق. قال: "كأني أنظر إلى موسى صلى الله عليه وسلم هابطًا من الثنية، واضعًا أصبعيه في أذنيه مارًّا بهذا الوادي، وله جؤار إلى الله تعالى بالتلبية" ثم أتى على ثنية هَرْشَى، فقال:"أي ثنية هذِه؟ " قالوا: ثنية هَرْشَى. قال: "كأني أنظر إلى يونس بن متى صلى الله عليه وسلم على ناقة حمراء جعدة عليه جبة من صوف خطام ناقته خلبة، وهو يلبي"

(2)

.

قوله: (إذا انحدر). أنكر بعضهم إثبات الألف، وغلط رواته، وهو غلط منه. كما قال القاضي، إذ لا فرق بين إذا وإذ هنا؛ لأنه وصفه حالة

(1)

سيأتي برقم (5913).

(2)

"صحيح مسلم"(166) كتاب: الإيمان، باب: الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم.

ص: 179

انحداره فيما مضى

(1)

.

وفيه: أن التهليل في بطن الوادي من سنن المرسلين صلوات الله عليهم أجمعين. فإن قيل: فكيف يحجون، ويلبون، وهم في الدار الآخرة، وليست دار عمل؟ فالجواب: أنهم أحياء في هذِه الدار عند ربهم عز وجل؛ ولأن عمل الآخرة ذكر ودعاء، قال تعالى:{دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ} [يونس: 10] والتلبية دعاء، وحبب إليهم ذَلِكَ فيتعبدون بما يجدون من دواعي أنفسهم، لا بما يلزمون، كما يحمده، ويسبحه أهل الجنة.

قال عليه السلام: "يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس"

(2)

ويحتمل أن هذِه رؤية منام في غير ليلة الإسراء، أو في بعض ليلة الإسراء.

ويحتمل أنه أري أحوالهم التي كانت في حياتهم، ومثلوا له في حال حياتهم كيف كانوا، وكيف حجهم وتلبيتهم، كما قال:"كأني أنظر إلى موسى"

(3)

"كأني أنظر إلى عيسى" أو يكون أخبر عن الوحي في أمرهم، وما كان منهم، وإن لم يرهم رؤية عين.

وزعم الداودي أن قول من روى "موسى" وهم من الرواة؛ لأنه لم يأت أثر ولا خبر عن موسى أنه حي، وأنه سيحج، إنما ذَلِكَ عن عيسى، فاختلط على الراوي، فجعل فعل عيسى لموسى، بيانه قوله في حديث آخر:"ليهلن ابن مريم بفج الروحاء"

(4)

.

(1)

"إكمال المعلم" 1/ 518.

(2)

رواه مسلم من حديث جابر برقم (2835) كتاب: الجنة ونعيمها، باب: في صفات الجنة، وأحمد 3/ 349، وأبو يعلى في "مسنده" 3/ 418 (1906).

(3)

رواه مسلم (166).

(4)

رواه مسلم من حديث أبي هريرة (1252) كتاب: الحج، باب: إهلال النبي صلى الله عليه وسلم وهديه.

ص: 180

ونقله ابن بطال عن المهلب أيضًا، قال: وذلك على رواية من روى "إذا انحدر"؛ لأنه إخبار عما يكون.

وأما رواية من روى "إذ انحدر" يحكي عما مضى، فيصح عن موسى أن يراه عليه السلام في منامه، أو يوحى إليه بذلك، وأقره عليه

(1)

.

وكذا أقر ابن التين الداودي على مقالته، وهو عجيب؛ لما أسلفناه، وأنهم أحياء وشهداء، وإذا اختلط ذَلِكَ على الراوي في موسى، فكيف بعمل يونس بن متى، وغيره كما سلف.

(1)

"شرح ابن بطال" 4/ 228.

ص: 181

‌31 - باب كَيْفَ تُهِلُّ الحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ

أَهَلَّ: تَكَلَّمَ بِهِ، وَاسْتَهْلَلْنَا وَأَهْلَلْنَا الهِلَالَ كُلُّهُ مِنَ الظُّهُورِ، وَاسْتَهَلَّ المَطَرُ خَرَجَ مِنَ السَّحَابِ. {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ} [المائدة: 3] وَهْوَ مِنِ اسْتِهْلَالِ الصَّبِيِّ.

1556 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْن مَسْلَمَةَ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنِ ابن شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في حَجَّهِ الوَدَاعِ، فَأَهْلَلْنَا بِعُمْرَة، ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيُهِلَّ بِالحَجِّ مَعَ العُمْرَةِ، ثُمَّ لَا يَحِلَّ حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا". فَقَدِمْتُ مَكَّةَ وَأَنَا حَائِضٌ، وَلَمْ أَطُفْ بِالبَيْتِ وَلَا بَيْنَ الصَّفَا وَالَمْرْوَة، فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"انْقُضِي رَأْسَكِ وَامْتَشِطِي، وَأَهِلِّي بِالحَجِّ، وَدَعِي العُمْرَةَ". فَفَعَلْتُ، فَلَمَّا قَضَيْنَا الَحجَّ أَرْسَلَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَعَ عَبدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرِ إِلَى التَّنْعِيمِ، فَاعْتَمَرْتُ، فَقَالَ:"هذِه مَكَانَ عُمْرَتِكِ". قَالَتْ: فَطَافَ الذِينَ كَانُوا أَهَلُّوا بِالعُمْرَةِ بِالبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالَمرْوَة، ثُمَّ حَلُّوا، ثُمَّ طَافُوا طَوَافًا وَاحِدًا بَعْدَ أَنْ رَجَعُوا مِنْ مِنًى، وَأَمَّا الذِينَ جَمَعُوا الَحجَّ وَالعُمْرَةَ فَإِنَّمَا طَافُوا طَوَافًا وَاحِدًا. [انظر: 294 - مسلم: 1211 - فتح: 3/ 415]

ذكر فيه حديث عَائِشَةَ: خَرَجْنَا مَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ، فَأهْلَلْنَا بِعُمْرَةٍ، فَقَدِمْتُ مَكَّةَ وَأَنَا حَائِضٌ. فقال صلى الله عليه وسلم لها "أَهِلِّي بِالحَجِّ، وَدَعِي العُمْرَةَ

" الحديث بطوله.

وهذا الحديث أخرجه مسلم والأربعة

(1)

.

(1)

مسلم (1211)، أبو داود (1778، 1781)، الترمذي (945)، النسائي 5/ 156، 165 - 166، ابن ماجه (2963).

ص: 182

والكلام عليه من وجوه:

أحدها: قوله (أهل: تكلم به) قال ابن عرفة: الإهلال: رفع الذابح صوته بذكر الله. وقال ابن فارس: أهل الرجل إذا كبر عند نظره إلى الهلال أو غيره

(1)

.

وقوله: (كله من الظهور) اعترضه الداودي فقال: إن أراد أن يسمي الشيء بالشيء لما قاربه فيحتمل، وأما نفس اللفظ فهي من الصراخ، ألا ترى أن الصبي يظهر من بطن أمه فلا يقال: استهل حَتَّى يبكي.

قال: وقوله: (واستهل المطر خرج من السحاب) هو الصوت لا من الظهور.

وقوله: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ} [المائدة: 3] أي ذبح على الأصنام.

ثانيها:

خروجها كان في حجة الوداع سنة عشر من الهجرة، ولم يحج عليه السلام من المدينة بعد الهجرة غيرها، وأما قبلها -لما كان بمكة- حج حججًا لا يعلم عددها إلا الله، وسميت حجة الوداع؛ لأنه عليه السلام وعظهم فيها، وودعهم فسميت بذلك حجة الوداع.

ثالثها:

قوله: (فأهللنا بعمرة). اختلفت الروايات عن عائشة فيما أحرمت به اختلافًا كثيرًا -كما قال القاضي

(2)

- فهنا (فأهللنا بعمرة)، وفي أخرى: فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحج. قالت: ولم أهل إلا بعمرة. وفي أخرى: خرجنا لا نريد إلا الحج. وفي أخرى: لبينا بالحج. وفي أخرى:

(1)

"مجمل اللغة" 4/ 892.

(2)

"إكمال المعلم" 4/ 234 - 235.

ص: 183

مهلين بالحج. والكل صحيح

(1)

. وفي رواية: وكنت ممن تمتع، ولم يسق الهدي

(2)

.

قال مالك: ليس العمل عندنا على حديث عروة عنها قديمًا ولا حديثًا. وكذا قال أبو عمر: الأحاديث عن عائشة في هذا مضطربة جدًا

(3)

.

وفي "المشكل" للطحاوي: فلما جئنا سرفًا طمثت، فلما كان يوم النحو طهرت. وفي لفظ فقال لها:"انفري فإنه يكفيك"

(4)

فألحت، فأمرها أن تخرج إلى التنعيم. وفي لفظ قالت: يا رسول الله، إني حضت وقد حل الناس ولم أحل، ولم أطف بالبيت، والناس يذهبون إلى الحج الآن. قال:"اغتسلي ثم أهلي بالحج" ففعلت، وقفت المواقف حَتَّى إذا طهرت طافت بالكعبة، وبين الصفا والمروة، ثم قال:"قد حللت من حجك وعمرتك جميعا". فقلت: يا رسول الله، إني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت حين حججت قال:"اذهب بها يا عبد الرحمن فاعمرها"

(5)

وذلك ليلة الحصبة.

قال الطحاوي: لما اختلفت الرواية عن عطاء وجابر عنها، نظرنا

(1)

رواها مسلم برقم (1211) كتاب: الحج، باب: بيان وجوه الإحرام.

(2)

سيأتي برقم (316) كتاب: الحيض، باب: امتشاط المرأة عند غلسها من المحيض.

(3)

"الاستذكار" 11/ 129.

(4)

سيأتي برقم (1561) كتاب: الحج، باب: التمتع والإقران.

(5)

رواه مسلم من حديث جابر (1213) كتاب: الحج، باب: بيان وجوه الإحرام، وأنه يجوز إفراد الحج والتمتع والقران، وأبو داود (1785) كتاب: المناسك، باب: في إفراد الحج، والنسائي 4/ 165 كتاب: الحج، باب: في المهلة بالعمرة تحيض وتخاف فوت الحج.

ص: 184

إلى رواية غيرهما عنها، فوجدنا الأسود قد روى عنها: قالت: خرجنا، ولا نرى إلا الحج، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة طاف بالبيت ولم يحل، وكان معه الهدي، فحاضت هي، قالت: فقضينا مناسكنا من حجنا، فلما كانت ليلة الحصبة ليلة النفر، قالت: يا رسول الله، أيرجع أصحابك

كلهم بحجة وعمرة، وأرجع بالحج؟ قال:"أما كنت تطوفت بالبيت ليالي قدمنا؟ ": قُلْتُ: لا

(1)

.

وقال ابن حزم: حديث أبي الأسود عن عروة عنها، وحديث يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عنها، منكران وخطأ عند أهل العلم بالحديث. وقد سبقنا إلى تخطئة حديث أبي الأسود هذا أحمد بن حنبل

(2)

.

وقال ابن عبد البر في "تمهيده": دفع الأوزاعي، والشافعي، وأبو ثور، وابن علية حديث عروة هذا، وقالوا: هو غلط

(3)

.

ولم يتابع عروة على ذَلِكَ أحد من أصحاب عائشة، وقال إسماعيل بن إسحاق: قد اجتمع هؤلاء يعني القاسم، والأسود، وعمرة على أن أم المؤمنين كانت محرمة بحجة لا بعمرة، فعلمنا بذلك أن الرواية التي رويت عن عروة غلط. أي: لأن عروة قال في رواية حماد بن سلمة، عن هشام، عنه؛ حَدَّثَني غير واحد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها:"دعي عمرتك" فدل أنه لم يسمع الحديث منها.

وفي "المستدرك" صحيحًا على شرط مسلم عنها: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم على أنواع ثلاثة: منا من أهل بحجة وعمرة، فلم يحل مما حرم عليه

(1)

"شرح مشكل الآثار" كما في "تحفة الأخيار" 3/ 164 - 167.

(2)

"المحلى" 7/ 104 - 105.

(3)

"التمهيد" 8/ 217.

ص: 185

حَتَّى قضى مناسك الحج. ومنا من أهل بحج مفردًا لم يحل من شيء حَتَّى يقضي مناسك الحج، ومنا من أهل بعمرة فطاف بالبيت وبالصفا والمروة حل ثم استقبل الحج

(1)

.

وقال ابن حزم: الصحيح أنها كانت قارنة

(2)

، وقال: رواه وكيع فجعل قولها: ولم يكن في ذَلِكَ هدي ولا صوم. من قول هشام، لكنْ عبدُ الله بن نمير وعبدُة جعلاه من كلام عائشة، وأما ابن نمير دون وكيع في الحفظ والثقة، وكذلك عبدة.

وفي "الموطآت" للدارقطني: قال غندر في حديثه عن مالك: فليهل بالحج والعمرة. وقال: ولا بالصفا والمروة. وقال معن ولما رجعوا من منى طافوا طوافًا آخر لحجهم.

وقال أبو سعيد: كان الصحابة الذين ليسوا من مكة لم يطوفوا حَتَّى رجعوا من منى. وقال موسى بن داود: لم يطوفوا حَتَّى رموا الجمرة.

وقال أبو المطرف: فأما من أهل بالحج والعمرة، فإنه قدم فطاف طوافًا واحدًا، وسعى بين الصفا والمروة، ثم ثبت على إحرامه حَتَّى خرج إلى منى. ورواه مالك أيضًا عن ابن شهاب وهشام، عن عروة

(3)

.

ورواه ابن أبي أويس وغيره، عن مالك، عن هشام، عن أبيه. من غير ذكر ابن شهاب.

قال: ابن الحصار في "تقريبه": تفرد يحيى بروايته، عن مالك، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة. وقال أبو عمر في "تمهيده": لم يتابعه أحد من رواة "الموطأ"، ولا غيرهم عن مالك،

(1)

"المستدرك" 1/ 485 كتاب: المناسك.

(2)

"المحلى" 7/ 169.

(3)

"الموطأ" ص 265.

ص: 186

وليس بمحفوظ، ولا معروف بهذا الإسناد

(1)

.

وفي "الموطأ": مالك، عن أبي الأسود، عن عروة عنها، فذكر الحديث، وفيه: فأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج

(2)

، وفي لفظ: أفرد بالحج. وعن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه، عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد الحج

(3)

.

قال أبو عمر: وزاد يحيى بن يحيى: "حتى تطهري". وقد تابعه على هذِه اللفظة أكثرهم، وذكر ألفاظًا أخر

(4)

، وكذا قال المهلب: إهلالها بعمرة، يعارضه رواية عمرة عن عائشة أنها قالت: خرجنا لخمس بقين من ذي القعدة، ولا نرى إلا أنه الحج.

وقال أبو نعيم في حديثه: مهلين بالحج، فلما دنونا من مكة، قال عليه السلام لأصحابه:"من لم يكن معه هدي فأحب أن يجعلها عمرة فليفعل، ومن كان معه هدي فلا". والتوفيق بينهما أن يكون معنى قولها: (فأهللنا بعمرة). تريد: حين دنونا من مكة حين أمر النبي صلى الله عليه وسلم من لم يسق الهدي بفسخ الحج في العمرة فأهلوا بها. وبينت عمرةُ عن عائشة ابتداء القصة من أولها.

وعروة إنما ذكر ما آل إليه أمرهم حين دنوا من مكة، وفسخوا الحج في العمرة إلا من كان ساق الهدي من المفردين، فإنه مضى على إحرامه من أجل هديه، ولم يفسخه في عمرة، لقوله تعالى:{لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الحَرَامَ وَلَا الهَدْيَ}

(5)

[المائدة: 2]، وقال ابن التين: يحتمل أن تريد بذلك أزواجه صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن تريد به طائفة أشارت إليهم، ولا يصح

(1)

"التمهيد" 8/ 199.

(2)

"الموطأ" ص 221.

(3)

"الموطأ" ص 221.

(4)

"التمهيد" 19/ 261.

(5)

انظر "شرح ابن بطال" 4/ 229 - 230.

ص: 187

إرادتها جماعة من الصحابة؛ لأنها ذكرت أن منهم من أهل بحج، ومنهم من أهل بعمرة، ومنهم من أهل بهما.

الثالث:

قوله: ("من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة") الظاهر أنه قال ذَلِكَ لمن أحرم بالعمرة أولًا، لا كما قال القرطبي: أن ظاهره أمرهم بالقران. ويكون قوله ذَلِكَ لهم عند إحرامهم. ثم قال: ويحتمل، فأبدى ما فلناه، فيكون أمر بالإرداف ويؤيده قوله:"لا يحل حَتَّى يحل منهما جميعًا"؛ لأن هذا بيان حكم القارن، فإنه لا يحل إلا بفراغه من طواف الإفاضة

(1)

.

وقد اتفق العلماء -كما قال القاضي- على جواز إدخال الحج على العمرة

(2)

. وشذ بعض الناس فمنعه، وقال: لا يدخل إحرام على إحرام كما في الصلاة

(3)

. واختلفوا في عكسه، وهو إدخال العمرة على الحج. فجوزه أبو حنيفة

(4)

، والشافعي في القديم

(5)

، ومنعه آخرون، وقالوا: هذا كان خاصًّا بالنبي صلى الله عليه وسلم لضرورة الاعتمار

(1)

"المفهم" 3/ 299.

(2)

"الإجماع" لابن المنذر ص 54، "الاقناع" للفاس 2/ 783، 784، "المجموع" للنووي 4/ 157.

(3)

وهو قول أبي ثور نقله عنه ابن عبد البر في "الاستذكار" 11/ 140.

(4)

نسب الشافعية هذا القول إلى الأحناف وفيه نظر إذ أن مذهبهم عدم جواز إدخال العمرة على الحج وهذا بناء على ما جاء في كتبهم "الأصل" لمحمد بن الحسن 2/ 531: 533، "مختصر الطحاوي" ص 61، "مختصر اختلاف العلماء" للجصاص 2/ 101، "المبسوط" للسرخسي 3/ 180.

(5)

"البيان" للعمراني 4/ 73، "روضة الطالبين" للنووي 3/ 45، "المجموع" 7/ 157.

ص: 188

حينئذ في أشهر الحج

(1)

.

الرابع:

الهدي بإسكان الدال -وهو أفصح من كسرها- مع التشديد، وسوى بينهما ثعلب، وغيره، والتخفيف لغة أهل الحجاز، والتثقيل لغة تميم، وهو اسم لما يهدى إلى الحرم من الأنعام

(2)

، ثم عدي إلى ذبح جزاء ما يرتكبه من المحظورات.

قال اللحياني: وواحد الهدي: هدية. وقد قرئ بالوجهين جميعًا: {حَتَّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] قال: والتشديد قول الأكثرين.

وفي الحديث: "هلك الهدي، ومات الودي". قال الهروي: أي هلكت الإبل، ويبست النخل. والعرب تقول: كم هدي بني فلان؟ أي: كم إبلهم

(3)

؟

الخامس:

قوله: ("لا يحل حَتَّى يحل منهما جميعًا") استدل به بعض أصحاب أبي حنيفة على أن المتمتع إذا فرغ من أعمال العمرة لم يحل، ثم يحرم بالحج إن كان معه هدي عملًا بقوله:"ثم لا يحل"

(4)

إلى آخره.

(1)

وهو قول الشافعي في الجديد وقول المالكية والحنابلة. انظر: "البيان" للعمراني 4/ 73، "روضة الطالبين" للنووي 3/ 45، "المجموع" 7/ 157، "التفريع" لابن الجلاب 1/ 335، "عيون المجالس" 2/ 900، "الاستذكار" لابن عبد البر 11/ 138، "المستوعب" للسامري 4/ 53، 54، "المغني" لابن قدامة 5/ 371 - 372، "المبدع" لابن مفلح 3/ 123 - 124.

(2)

انظر: "النهاية في غريب الحديث" 5/ 254، "لسان العرب" 8/ 4642.

(3)

انظر: "النهاية في غريب الحديث" 5/ 254.

(4)

"الاختيار" للموصلي 1/ 158 - 159، "حاشية ابن عابدين" 2/ 538 - 539.

ص: 189

وجوابه: أنه يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون قاله عند الإهلال، فقال: من شاء فليقرن؛ ليبين جوازه، ويكون معنى من معه هدي الآن فليقلده بالقران؛ لأنه إن كان متمتعًا فلا يجب أن يقلد هديه؛ لتمتعه عند إحرامه بعمرة، وإنما يقلده إذا أحرم بحجة، فالفائدة الحض على الحج في ذَلِكَ العام لمن معه هدي، ولعله علم عزم بعضهم على ترك الحج والاقتصار على فعل العمرة؛ لأجل الهدي، فحض واجد

الهدي على القرآن؛ ليحج من عامه.

ويحتمل أنه أمر بذلك بعد الإحرام لما يأتي من قوله: (فقدمت مكة وأنا حائض) فأمر بذلك بعد الإحرام بالعمرة، وبعد تقليد الهدي، وإشعاره على أن ينحووا بمنى في حجتهم، وأن يحل من عمرته عند وصوله إلى مكة، ثم يبقى حلالًا وهديه مقلدًا مشعرًا حَتَّى يحرم بالحج يوم التروية، ثم ينحر هديه بمنى، فأمرهم بإرداف الحج على العمرة، ويعودوا قارنين.

ومعنى ذَلِكَ المنع لهم من التحلل مع بقاء الهدي، وذلك ممنوع لقوله تعالى:{وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196].

وادعى ابن التين أن هذا الاحتمال هو الأظهر. ويخدشه قوله أولًا: "ثم لايحل حَتَّى يحل منهما جميعًا".

فرع:

اختلف قول مالك فيمن قلد هديًا وأشعره، وأحرم بعمرة، ثم قرن، هل يجزئه ذَلِكَ الهدي عن قرانه؟ فقال: لا يجزئه؛ لأن أوله كان على التطوع، ثم قال بعد ذَلِكَ يجزئه، فقد فعله الصحابة، يريد هذا الحديث، فترك القياس؛ لأن أوله كان على التطوع.

ص: 190

السادس: قولها: (فقدمت مكة وأنا حائض، ولم أطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة) فيه دلالة على أن الحائض لا يجزئ طوافها بالبيت، قال ابن بطال: ولا خلاف بين العلماء أن الحائض لا تطوف بالبيت ولا تسعى بين الصفا والمروة؛ لأن السعي بينهما موصول بالطواف، والطواف موصول بالصلاة، ولا تجوز صلاة بغير طهارة

(1)

.

وقال ابن التين: إنما لم تطف ولم تسع؛ لأن الطواف من شرطه الطهارة، والسعي مرتب عليه، وإن كان ليس من شرطه الطهارة، بدليل أنها لو حاضت بعد أن فرغت الطواف وسعت لأجزأها، وهذِه العبادة أحسن من تلك.

وقال ابن الجوزي: فيه دلالة على أن طواف المحدث لا يجزئ، ولو كان ذَلِكَ لأجل المسجد لقال: لا يدخل المسجد.

وقد اختلفت الرواية عن أحمد في طواف المحدث والنجس، فروي عنه لا يصح، وروي عنه يصح، ويلزمه دم

(2)

.

ومذهب الجمهور -كما قاله في "شرح المهذب"- أن السعي يصح من المحدث، والجنب، والحائض

(3)

. وعن الحسن أنه إن كان قبل التحلل أعاد السعي، وإن كان بعده، فلا شيء عليه.

وعن أبي حنيفة أن الطهارة من الحدث والنجس ليس شرطًا للطواف، فلو طاف وعليه نجاسة، أو محدثًا، أو جنبًا صح طوافه.

واختلف أصحابه في كون الطهارة واجبة مع اتفاقهم على أنها ليست

(1)

"شرح ابن بطال" 4/ 230.

(2)

انظر: "المستوعب" للسامري 4/ 216، 217، "المغني" لابن قدامة 5/ 222، 223، "المبدع" لابن مفلح 3/ 221.

(3)

"المجموع" للنووي 8/ 23.

ص: 191

شرطًا، فمن أوجبها منهم قال: إن طاف محدثًا لزمه شاة، وإن كان جنبًا لزمه بدنة. قالوا: ويعيده ما دام بمكة، واستدلوا بقوله تعالى:{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالبَيْتِ العَتِيقِ} [الحج: 29]

(1)

وعن داود: الطهارة له واجبة، فإن طاف محدثًا أجزأه إلا الحائض

(2)

.

السابع:

كنت وعدت فيما مضى أن أذكر كلام إمامنا الشافعي في جمعه بين مختلف الروايات.

قال في "اختلاف الحديث ": ليس في هذِه الأحاديث المختلفة أحرى أن لا يكون متفقًا من وجهين مختلفين لا ينسب صاحب إلى الغلط من حديث أنس قال: قرن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم حديث من قال: كان ابتداء إحرامه حجًّا لا عمرة معه؛ لأنه عليه السلام لم يحج من المدينة إلا حجة واحدة ولم يختلف في شيء من السنن الاختلاف فيه أيسر من هذا من جهة أنه مبا، وإن كان الغلط فيه قبيحًا فيما حمل من الاختلاف، ومن فعل شيئًا مما قيل فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله كان له واسعًا؛ لأن الكتاب ثم السنة ثم ما لا نعلم فيه خلافًا يدل على أن التمتع بالعمرة إلى الحج والإفراد والقران واسع كله. وأشبه الروايات أن يكون محفوظًا في الحج ما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج لا يسمي حجًّا ولا عمر

(3)

، وقال طاوس: خرج محرمًا ينتظر

(1)

"مختصر الطحاوي" ص 64، "المبسوط" للسرخسي 4/ 38، 39، "بدائع الصنائع" للكاساني 2/ 129.

(2)

انظر: "المجموع" 8/ 23.

(3)

"مسند الشافعي" 1/ 370 (957) كتاب: الحج، باب: في الإفراد والقران والتمتع.

ص: 192

القضاء

(1)

؛ لأن رواية يحيى بن سعيد عن القاسم، وعمرة عن عائشة توافق روايته، وهؤلاء تقصَّوا الحديث، ومن قال: أفرد الحج فيشبه أن يكون قال على ما يعرف من أهل العلم الذين أدرك دون سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أحدًا لا يكون مقيمًا على حج إلا وقد ابتدأ إحرامه

بحج. وأحسب أن عروة حين حدث أن النبي صلى الله عليه وسلم أهل بحج، إنما ذهب إلى أنه سمع عائشة تقول: فعل النبي صلى الله عليه وسلم في حجه، وذكر أن عائشة أهلت بعمرة، إنما ذهب إلى أنها قالت: فعلت في عمرتي كذا إلا أنه خالف خلافًا بينًا لحديث جابر وأصحابه في قول عائشة: ومنا من جمع الحج والعمرة.

فإن قال قائل: فقد قرن الصبي بن معبد، وقال له عمر: هديت لسنة نبيك، قيل: حكي لعمر أن رجلين قالا: هذا أضل من جمل أهله، فقال: أي: هديت لسنة نبيك. أي: من سنة نبيك القرآن، والإفراد، والعمرة هدى لا ضلال. فإن قيل: فما دل على هذا؟ قيل: أمر عمر بأن يفصل بين الحج والعمرة، وهو لا يأمر إلا بما يسمع، ويجوز في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإفراده الحج.

فإن قيل: فما قول حفصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بال الناس حلوا ولم تحل من عمرتك؟ قيل: أكثر الناس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن معه هدي، وكانت حفصة معهم، فأمروا أن يجعلوا إحرامهم عمرة ويحلوا، فقالت: لم حل

(2)

الناس ولم تحل أنت من عمرتك؟ تعني من إحرامك الذي ابتدأته، وهم وهو بنية واحدة، قال: "لبدت رأسي وقلدت هديي،

(1)

"مسند الشافعي" 1/ 372 (960).

(2)

في الأصل: أحل.

ص: 193

فلا أحل حَتَّى أنحر هديي"

(1)

يعني والله أعلم حيث يحل الحاج؛ لأن القضاء نزل بأن يجعل من كان معه هدي إحرامه حجًّا، وهذا من سعة لسان العرب الذي تكاد تعرف بالجواب فيه. فإن قيل: من أين ثبت حديث عائشة، وجابر، وابن عمر، وطاوس دون حديث من قال: قرن؟ قيل: لتقدم صحبة جابر، وحسن سياقه ابتداء الحديث وآخره، وقرب عائشة من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفضل حفظها عنه، وقرب ابن عمر منه؛ ولأن من وصف انتظاره للقضاء، إذا لم يحج من المدينة بعد نزول فرض الحج قبل حجته -حجة الإسلام- طلب الاختيار فيما وسع له من الحج والعمرة يشبه أن يكون حفظ عنه؛ لأنه قد أتى في المتلاعنين فانتظر القضاء فيهما، وكذلك حفظه عنه في غيرهما، هذا آخر كلامه، ولا مزيد عليه

(2)

.

الثامن:

قولها: (فشكوت ذَلِكَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم)، يقال: شكوت وشكيت لغتان. وسبب شكواها أنها لم تسق هديًا ولا أمرت بإرداف الحج على العمرة، وكان من حقها التمادي إلى الفراغ من عمرتها، ثم تهل بالحج، فلما لم يمكنها إتمام عمرتها شكت ذَلِكَ.

التاسع:

قوله عليه السلام: ("انقضي رأسك، وامتشطي، وأهلي بالحج، ودعي العمرة") احتج به الكوفيون، فقالوا: إن المعتمرة إذا حاضت قبل الطواف وضاق عليها وقت الحج رفضت عمرتها وألقتها واستهلت

(1)

سيأتي برقم (1566) كتاب: الحج، باب: التمتع والإقران والإفراد بالحج.

(2)

انتهى من "اختلاف الحديث" ص 228 - 230.

ص: 194

بالحج، وعليها لرفض عمرتها دم، ثم تقضي عمرة بعد. ونقض الرأس والامتشاط دليل على رفضها؛ لأن القارنة لا تمتشط ولا تنقض رأسها، فجاوبهم مخالفوهم بما أسلفناه عن مالك أن حديث عروة عن عائشة ليس عليه العمل عندنا قديمًا ولا حديثًا، وأظنه وهمًا يعني ليس عليه العمل في رفض العمرة؛ لأن الله تعالى أمر بإتمام الحج والعمرة لمن دخل فيهما.

وقال تعالى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] ورفضها قبل إتمامها هو إبطالها، وكذا لو أحرمت بالحج، ثم حاضت قبل الطواف، لا ترفضه. فكذا العمرة بعلة أنه نسك يجب المضي في فاسده فلا يجوز تركه قبل إتمامه مع القدرة عليه.

والذي عليه العمل عند مالك، والأوزاعي، والشافعي، وأبي ثور في المعتمرة تحيض قبل الطواف، وتخشى فوات عرفة وهي حائض أنها تهل بالحج، وتكون كمن نوى الحج والعمرة ابتداء وعليها هدي القرآن، ولا يعرفون رفض العمرة ولا رفض الحج لأحد دخل فيهما أو في أحدهما. قالوا: وكذلك المعتمر يخاف فوات عرفة قبل أن يطوف لا يكون إهلاله رفضًا للعمرة بل يكون قارنًا بإدخاله الحج على العمرة

(1)

.

ودفعوا حديث عروة عن عائشة بضروب من الاعتلال منها: أن القاسم والأسود، وعمرة رووا عن عائشة ما دل أنها كانت محرمة بحج، فكيف يجوز أن يقال لها دعي العمرة، وقال إسماعيل بن إسحاق: حديث عروة غلط؛ لأن ثلاثة خالفوه، وقد أسلفنا هذا.

(1)

انظر: "المدونة" 1/ 328 - 329، "المنتقى" 2/ 224، "الاستذكار" 11/ 190 - 191، "عيون المجالس" 2/ 898 - 899، "التمهيد" 8/ 216 - 217.

ص: 195

وقال غيره: أقل الأحوال في ذَلِكَ سقوط الاحتجاج بما صح فيه التعارض، والرجوع إلى قوله عز وجل:{وَأَتِمُّوا الحَجَّ وَالعُمْرَةَ لِلَّهِ} وأجمعوا على الخائف لقرب عرفة أنه لا يحل له رفض العمرة، فكذلك من خاف فوت عرفة؛ لأنه يمكنه إدخال الحج على العمرة، ويكون قارنًا فلا وجه لرفض العمرة في شيء من النظر.

قال ابن أبي صفرة: ولو ثبت قوله: "دعي العمرة" لكان له تأويل سائغ، فيكون معنى قوله: أهلي بالحج الذي أنت فيه أي: استديمي ما أنت عليه، ودعي العمرة التي أردت أن تفسخ حجك فيها، لأنها إنما طهرت بمنى وقد رهقها الوقوف بعرفة.

وهذا أصل في المراهق أن له تأخير طواف الورود. ومما يوهن رواية عروة ما رواه حماد بن زيد عن هشام بن عروة عن أبيه قال: حَدَّثَني غير واحد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: "دعي عمرتك"، فدل أن عروة لم يسمعه من عائشة، وهذا قد أسلفناه. ولو ثبت قوله:"انقضي رأسك، وامتشطي" لما نافي ذَلِكَ إحرامها ولجبرته بالفدية كما أمر عليه السلام كعب بن عجرة بالحلق والفدية لما بلغ به أذى القمل، فيكون أمره لها بنقضها رأسها وامتشاطها؛ لضرورة كانت بها مع الفدية، هذا سائغ ومحتمل، فلا تعارض به الأصول.

وقد يمكن أن يكون أمره بغسل رأسها وإن كانت حائضًا لا يجب عليها غسله، ولا نقضه لتغتسل للإهلال بالحج، وذلك من سنة الحائض والنفساء كما أمر عليه السلام أسماء بنت عميس حين ولدت محمد بن أبي بكر بالبيداء بالاغتسال والإهلال

(1)

. لا سيما إن كانت

(1)

رواه مسلم (1209 - 1210، 1218).

ص: 196

لبدته، ولو أمرها بذلك لوجوب الغسل عليها لكانت قد طهرت فتطوف للعمرة التي تركت.

وقوله لها: "غير أن لا تطوفي بالبيت". يدل أنها لم تنقض رأسها إلا لمرض كان بها، أو لأهلال كما ذكرنا.

قال الشافعي: ليس معناها اتركيها وأخريها على القضاء، إنما هو أنه أمرها أن تدخل الحج على العمرة، فتصير قارنة. قال: وعلى هذا المذهب تكون عمرتها من التنعيم تطوعًا لا عن واجب، ولكن أراد أن تطيب نفسها فأعمرها، وكانت قد سألته ذَلِكَ. وقد روي ما يشبه هذا المعنى في حديث جابر

(1)

المذكور، يعني قبل. وقاله مالك أيضًا.

وقال الخطابي: أمره عائشة بالامتشاط مشكل جدًا، وكان الشافعي تأوله على أنه أمرها أن تدع العمرة وتدخل عليها الحج، فتكون قارنة، قال: وهذا لا يشاكل القصة

(2)

.

وقيل: يحتمل أن تكون مضطرة، وحمله غيره على ما أسلفناه من

أذى أو نحوه. وقيل: إنما أمرها بفسخ العمرة وإنشاء الحج مفردًا، وأبعد من قال: إنها لم تكن أوجبت حجًا ولا عمرة، وإنما نوت أن

تعتمر، ولم تطف حَتَّى حاضت، فقال لها ما قال، يؤيده: خرجنا لا نرى إلا الحج، وقيل: كان من مذهبها أن المعتمر إذا أحل استباح ما يستبيحه الحاج إذا رمى جمرة العقبة، ووهاه الخطابي

(3)

.

(1)

جاء في هامش الأصل ما نصه: حاشية من خط الشيخ: لما ذكر ابن أبي حاتم حديث جابر قال: قال أبي: إنه منكر بهذا الإسناد يعني رواته عباد بن العوام، عن حجاج، عن أبي الزبير، عنه أنه عليه السلام جمع الحج والعمرة فطاف لهما طوافا واحدًا.

(2)

"أعلام الحديث" 2/ 848.

(3)

التخريج السابق.

ص: 197

ومعنى "دعي العمرة" دعي العمل بها، أو دعي أعمالها حَتَّى تطوفي وتسعي للحج والعمرة طوافًا واحدًا.

ومذهب عطاء، ومجاهد، والحسن، وطاوس: أن الطواف الواحد والسعي الواحد يجزآن القارن عن حجه وعمرته

(1)

، كما جاء في حديث عائشة، وبه قال مالك، وأحمد والشافعي، وإسحاق، ومحمد بن سيرين، وسالم، والزهري، وداود، وإسحاق، وأبو ثور.

وعن الشعبي أن القارن يطوف طوافين، وهو قول أصحاب الرأي، وكذلك قال الثوري، وحكي أيضًا عن مجاهد، وجابر بن زيد، وشريح القاضي، والشعبي، ومحمد بن علي بن حسين، والنخعي، والثوري،

والأوزاعي، والأسود بن يزيد، والحسن بن حي، وحماد بن سلمة، وحماد بن أبي سليمان، والحكم بن عتيبة، وزياد بن مالك، وابن شبرمة، وابن أبي ليلى، وحكي عن عمر، وعلي، وابنيه الحسن والحسين وابن مسعود، وإحدى الروايتين عن أحمد.

وروى مجاهد، عن ابن عمر أنه جمع بين الحج والعمرة، وقال: سبيلهما واحد، وطاف طوافين، وسعى لهما سعيين، وقال: هكذا رأيت سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع كما صنعت.

قال الدارقطني: لم يروه عن الحكم غير الحسن بن عمارة، وهو متروك

(2)

، وعن علي أنه جمع بينهما، وفعل ذَلِكَ ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل، ثم ضعف سنده

(3)

.

(1)

رواها ابن أبي شيبة 3/ 280 (14317 - 14318، 14321، 14325)، كتاب: الحج، باب: من قال: يجزئ للقارن طواف.

(2)

"سنن الدارقطني" 2/ 258 كتاب: الحج، باب: المواقيت.

(3)

"سنن الدارقطني" 2/ 263، باب: المواقيت.

ص: 198

وكذا عن علقمة عن ابن مسعود قال: طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرته وحجته طوافين وسعى سعيين، وأبو بكر وعمر، وعلي، قال: علقمة، وابن مسعود. ورواه الدارقطني أيضًا من حديث عمران بن حصين وضعفه، وقال: الصواب بهذا الإسناد أنه عليه السلام قرن الحج والعمرة، وليس فيه ذكر الطواف ولا السعي

(1)

.

ثم ذكر عن علي مرفوعًا فيه أيضًا ذَلِكَ

(2)

. قال منصور: فذكرت ذَلِكَ لمجاهد، فقال: ما كنا نفتي إلا بطواف واحد، فأما الآن فلا نفعل

(3)

.

وحديث الصبي بن معبد الماضي أنه فعل ذَلِكَ، لكنها من رواية النخعي عنه، وهو منقطع، قال ابن حزم: لم يدركه

(4)

.

وفي "مصنف عبد الرزاق" مثله من حديث علي بإسناد ضعيف، ورواه عبد الرحمن بن أبي ليلى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقال ابن حزم: خبر ساقط لا يجوز الاحتجاج به، وكذا كل ما روي عنه في هذا، وكذا كل ما رووا عن الصحابة في ذَلِكَ لا يصح عنه ولا كلمة، ولكنه عن مجاهد، وجابر بن زيد، وشريح، والشعبي، ومحمد بن علي، والنخعي، وحماد بن أبي سليمان، والحكم بن عتيبة صحيح

(5)

، وكذا قال ابن المنذر: الرواية عن علي لا تثبت؛ لأن راويها عن علي أبو نصر، وهو مجهول.

ولو كان ثابتًا لكانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى. ثم قد أسلفنا رواية عبد الرزاق عنه، وهو خلاف رواية أهل العراق عنه.

(1)

"سنن الدارقطني" 2/ 264.

(2)

"سنن الدارقطني" 2/ 263.

(3)

المصدر السابق 2/ 265.

(4)

"المحلى" 7/ 176.

(5)

المصدر السابق، بتصرف.

ص: 199

العاشر:

قولها: (فلما قضينا الحج أرسلني مع عبد الرحمن إلى التنعيم فاعتمرت) إنما عبرت بقضاء الحج؛ لأنه أتم النسكين.

وفيه: أن الإحرام بالعمرة إنما يكون من الحل وأعمرها منه تطييبًا لنفسها يدل له "هذِه مكانُ عمرتك" برفع مكان على الخبر أي: عوض عمرتك الفائتة، وبالنصب على الظرف.

قال بعضهم: والنصب أوجه، ولا يجوز غيره، والعامل فيه محذوف تقديره هذِه كائنة مكان عمرتك أو مجعولة مكانها.

قال القاضي عياض: والرفع أوجه عندي إذ لم يرد به الظرف إنما أراد عوض عمرتك فمن قال: كانت قارنة، قال: مكان عمرتك التي أردت أن تأتي بها مفردة ومن قال: كانت مفردة. قال: مكان عمرتك التي فسخت الحج إليها، ولم تتمكني من الإتيان بها للحيض وكان ابتداء حيضها يوم السبت، لثلاث خلون من ذي الحجة بسرف وطهرت يوم السبت وهو يوم النحر

(1)

.

وقال ابن التين: يحتمل أن يريد أنها عمرة مفردة بالعمل مكان عمرتك التي أردت أن تفرديها به فلم تكمليها على ذَلِكَ.

الحادي عشر:

قولها: (فطاف الذين كانوا أهلوا بالعمرة بالبيت، وبين الصفا والمروة، ثم حلوا)، تريد: عند ورودهم للعمرة، قاله ابن التين.

وقولها: (وأما الذين جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافًا واحدًا) فيه دلالة على أنه لا يتكرر، وقد قدمنا ما فيه من الخلاف.

(1)

"إكمال المعلم" 4/ 234 - 235.

ص: 200

وفي "الموطأ": وأما الذين أهلوا بالحج أو جمعوهما يحتمل أن يريد أنهم لم يطوفوا غير طواف واحد للقدوم وآخر للإفاضة، إن كانوا قرنوا قبل دخول مكة، وإن كانوا أردفوا بمكة فلم يطوفوا غير طواف واحد وهو طواف الإفاضة، ويحتمل أن يريد أنهم سعوا إليهما سعيا واحدًا، والسعي يسمى طوافًا، ويحتمل أن يريد طوافهم على صفة واحدة لم يزد القارن فيه على طواف المفرد

(1)

.

وذلك أن القارن لم يفرد العمرة بطواف وسعي، بل طاف لهما كما طاف المفرد للحج، وهذا نص في أنه لا يتعدد وقد سلف ما فيه.

قال مالك في "الموطأ": إذا دخلت مكة بعمرة، وهي حائض وخشيت الفوات أهلت بالحج، وكانت قارنة

(2)

.

وذكر البخاري بعد هذا أن إذنه لعائشة بما ذكر كان في يوم عرفة.

(1)

"الموطأ" ص 265.

(2)

"الموطأ" ص 266.

ص: 201

‌32 - باب مَنْ أَهَلَّ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَإِهْلَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

-

قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

1557 -

حَدَّثَنَا المَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ عَطَاءٌ: قَالَ جَابِرٌ رضي الله عنه: أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلِيًّا رضي الله عنه أَنْ يُقِيمَ عَلَى إِحْرَامِهِ. وَذَكَرَ قَوْلَ سُرَاقَةَ. [1568، 1570، 1651، 1785، 2505، 4352، 7230، 7367 - مسلم: 1216 - فتح: 3/ 416]

1558 -

حَدَّثَنَا الحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الخَلاَّلُ الهُذَلِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا سَلِيمُ بْنُ حَيَّانَ قَالَ: سَمِعْتُ مَرْوَانَ الأَصْفَرَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَدِمَ عَلِيٌّ رضي الله عنه عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنَ اليَمَنِ، فَقَالَ:"بِمَا أَهْلَلْتَ؟ ". قَالَ: بِمَا أَهَلَّ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ "لَوْلَا أَنَّ مَعِي الهَدْىَ لأَحْلَلْتُ". وَزَادَ مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم "بِمَا أَهْلَلْتَ يَا عَلِيُّ؟ ". قَالَ: بِمَا أَهَلَّ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "فَأَهْدِ وَامْكُثْ حَرَامًا كَمَا أَنْتَ". [مسلم: 1250 - فتح: 3/ 416]

1559 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: بَعَثَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى قَوْمٍ بِاليَمَنِ فَجِئْتُ وَهْوَ بِالبَطْحَاءِ، فَقَالَ:"بِمَا أَهْلَلْتَ؟ ". قُلْتُ: أَهْلَلْتُ كَإِهْلَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "هَلْ مَعَكَ مِنْ هَدْيٍ؟ ". قُلْتُ: لَا. فَأَمَرَنِي فَطُفْتُ بِالبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالمَرْوَةِ، ثُمَّ أَمَرَنِي فَأَحْلَلْتُ فَأَتَيْتُ امْرَأَةً مِنْ قَوْمِي فَمَشَطَتْنِي، أَوْ غَسَلَتْ رَأْسِي، فَقَدِمَ عُمَرُ رضي الله عنه فَقَالَ: إِنْ نَأْخُذْ بِكِتَابِ اللهِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُنَا بِالتَّمَامِ، قَالَ اللهُ:{وَأَتِمُّوا الحَجَّ وَالعُمْرَةَ} [البقرة: 196] وَإِنْ نَأْخُذْ بِسُنَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ حَتَّى نَحَرَ الهَدْيَ. [1565، 1724، 1795، 4346، 4397 - مسلم: 1221 - فتح: 3/ 416]

ذكر فيه حديث ابن جُرَيْجٍ، قَالَ عَطَاءٌ: قَالَ جَابِرٌ: أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلِيًّا أَنْ يُقِيمَ عَلَى إِحْرَامِهِ. وَذَكَرَ قوْلَ سُرَاقَةَ.

ص: 202

وَزَادَ مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرِ، عَنِ ابن جُرَيْجٍ: قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "بِمَا أَهْلَلْتَ يَا عَلِيٍّ؟ ". قَالَ: بِمَا أَهَلَّ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. قَالَ: "فَأَهْدِ وَامْكُثْ حَرَامًا كَمَا أَنْتَ".

وحديث أنس قال: قدم علي على النبي صلى الله عليه وسلم من اليمن، فقال:"بما أهللت" قلت: بما أهل به النبي صلى الله عليه وسلم. قال: "لولا أن معي الهدي لأحللت".

وحديث أبي موسى أنه قدم من اليمن مهلًا بما أهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الشرح:

حديث ابن عمر المعلق أسنده في المغازي كما ستعلمه بعد

(1)

.

وحديث جابر أخرجه مسلم عن محمد بن حاتم، ثنا يحيى القطان، أنا ابن جريج، أخبرني عطاء سمعت جابرًا قال: قدم علي من سعايته فقال: "بم أهللت"؟ قال: بما أهل به النبي صلى الله عليه وسلم. قال له: "فامكث حرامًا" الحديث

(2)

.

وذكره البخاري أيضًا في باب: بعث النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب، وخالد بن الوليد من كتاب المغازي عن المكي بسنده

(3)

.

وذكره في باب: عمرة التنعيم من حديث حبيب المعلم عن عطاء، حَدَّثَني جابر الحديث

(4)

.

(1)

سيأتي برقم (4353) كتاب: المغازي، باب: بعث علي بن أبي طالب عليه السلام.

(2)

"صحيح مسلم"(1216) كتاب: الحج، باب: بيان وجوه الإحرام.

(3)

سيأتي برقم (4352).

(4)

سيأتي برقم (1785).

ص: 203

وزيادة محمد بن بكر البرساني رواها أبو نعيم عن محمد بن أحمد، ثنا عمران بن موسى، ثنا محمد بن بشار، ثنا محمد بن بكر، عن ابن جريج به.

وفي البخاري في كتاب الشركة من حديث حماد، عن ابن جريج، عن عطاء، عن جابر، وفيه: فجاء علي فقال أحدهما يقول: لبيك بما أهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال الآخر: لبيك بحجة رسول الله، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقيم على إحرامه وأشركه في الهدي

(1)

.

وذكر أصله من حديث ابن عباس بدون هذا، وخرجه في الباب السالف في المغازي من حديث بكر بن عبد الله المزني قال: ذكر لابن عمر، أن أنسًا حدثهم أن النبي صلى الله عليه وسلم أهل بعمرة وحجة، فقال: أهل النبي صلى الله عليه وسلم بالحج، وأهللنا به، فلما قدمنا مكة قال: "من لم يكن

معه هدي فليجعلها عمرة" وكان مع النبي صلى الله عليه وسلم هدي، فقدم علينا علي بن أبي طالب من اليمن حاجًّا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "بما أهللت، فإن معنا أهلك؟ " قال: أهللت بما أهل به النبي صلى الله عليه وسلم. قال: "فأمسك، فإن معنا هديًا"

(2)

وقد ذكره مسلم بمعناه

(3)

.

وقال الترمذي في حديث أنس: حسن غريب مشهور من حديث سليم -يعني بفتح السين- ابن حيان

(4)

.

(1)

سيأتي برقم (2505)، باب: الاشتراك في الهدي والبُدن.

(2)

سيأتي برقم (4354).

(3)

"صحيح مسلم"(1232) كتاب: الحج، باب: الإفراد بالحج.

(4)

"سنن الترمذي"(956) كتاب: الحج، باب: ما جاء في الرخصة للرعاء أن يرموا يومًا ويدعوا يومًا.

ص: 204

وحديث أبي موسى

(1)

رواه البخاري عن محمد بن يوسف، ثنا سفيان.

قال أبو مسعود الدمشقي: سفيان هذا هو الثوري، وإذا كان كذلك فمحمد هذا هو الفريابي، وكذا قاله أبو نعيم أيضًا، وأخرجه مسلم أيضًا

(2)

.

أما حكم الباب: فيجوز أن يهل كإهلال زيد لقصة علي وأبي موسى في ذَلِكَ، فإن كان زيد محرمًا انعقد إحرامه كإحرامه إن حجا فحج، وإن عمرة فعمرة، وإن قرانًا فقران. وإن كان أحرم بنية التمتع كان عمرو محرمًا بعمرة، ولا يلزمه التمتع، إن كان مطلقًا انعقد مطلقا، ويتخير كما يتخير زيد، ولا يلزمه الصرف إلى ما يصرفه إليه زيد على الأصح وإن كان زيد أحرم مطلقًا ثم عينه قبل إحرام عمرو فالأصح أنه ينعقد إحرام عمرو مطلقًا. وقيل: معينا، وإن لم يكن زيد محرمًا انعقد إحرامه مطلقًا، ولنا وجه أنه إن علم عدم إحرام زيد لم ينعقد كما لو علق فقال: إن كان زيد محرمًا فقد أحرمت، فلم يكن محرمًا، والأصح: الانعقاد، والفارق بأنه جازم بالإحرام في مسألتنا، بخلاف ما إذا علق.

وظاهر الحديث أنهما لم يعلما قبل بما أحرم به رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقال بعضهم: يحتمل الإعلام بذلك، وأنها حجة مفردة، ففعل علي كذلك.

(1)

ورد في هامش الأصل ما نصه: حديث أبي موسى أعاده في باب متى يحل المعتمر.

(2)

مسلم (1221).

ص: 205

وقال الخطابي: يحتمل أن يكون علي علم بأنه عليه السلام كان قارنًا؛ لأن الهدي لا يجب على غير القارن أو المتمتع، ولو كان متمتعًا لحل من إحرامه للعمرة، ثم استأنف إحرامًا للحج. فلما أمره أن يمكث حرامًا دل على أنه قارن

(1)

.

ويحتمل أن يكون على معنى الترقب، فلما وصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمضى له ذَلِكَ وكان أحرم بعمرة فلم يجز له أن يحل لمكان ما معه من الهدي، ذكره الداودي.

فرع:

قال الروياني في "بحره" عن والده: لو كان أحرم بإحرام زيد ثم تبين أنه كان ميتًا انعقد إحرامه، ويصرفه إلى ما أراد، وقيل: لا ينعقد.

فرع:

لو علق على إحرام زيد ولو في المستقبل، أو على طلوع الشمس فوجهان، والميل إلى الجواز.

ولم يقل بقصة علي وأبي موسى مالك والكوفيون؛ أخذًا بظاهر قوله: "إنما الأعمال بالنيات"

(2)

وقالوا: لا بد أن ينوي حجًا أو عمرة عند دخوله فيه، وقالوا: إذا نوى بحجته التطوع وعليه حجة الإسلام أنه لا يجزئه عنها، وبه قال الثوري، وإسحاق.

وقال الشافعي: يجزئه عن حجة الإسلام، وتعود النافلة فرضًا لمن لم يؤد فرضه في الحج خاصة، كما يعود الإحرام بالحج قبل وقته

(3)

، وإن نوى به الفريضة تطوعًا.

(1)

"أعلام الحديث" 2/ 850.

(2)

سلف برقم (1).

(3)

"الأم" 2/ 104، "البيان" 4/ 58.

ص: 206

قال ابن بطال: فيقال له: قد أجمعوا أن من صلى قبل الزوال أربعًا، إن نوى به الظهر أنها لا تجزئه، وهي تطوع، فكذا الحج

(1)

.

قُلْتُ: هذا لا يقال لمثل هذا الإمام، فإن الحج لا يقاس عليه.

وقال ابن المنير في "تراجمه": كأن البخاري لما لم ير إحرام التقليد ولا الإحرام المطلق ثم تعين بعد ذَلِكَ، أشار في الترجمة بقوله: باب: من أهل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كإهلاله، إلى أن هذا خاص بذلك الزمن، فليس لأحد أن يحرم بما أحرم به فلان، بل لا بد أن يعين العبادة التي نواها ودعت الحاجة إلى الإطلاق، والحوالة على إحرامه عليه السلام؛ لأن عليًّا وأبا موسى لم يكن عندهما أصل يرجعان إليه في كيفية الإحرام، فأحالا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما الآن فقد استقرت الأحكام، وعرفت مراتب كيفيات الإحرام، ومذهب مالك على الصحيح جواز ذَلِكَ، وأنه ليس خاصًا بذلك الزمن

(2)

.

ثم اعلم أن حديث أنس موافق لرأي الجماعة في إفراده عليه السلام.

قال المهلب: ويردُّ وهْمَ أنس أنه عليه السلام قرن، واتفاقه مع الجماعة أولى بالاتباع بما انفرد به وخالفهم فيه،. فتسويغ الشارع لنفسه:"لولا الهدي" يدل أنه كان مفردًا؛ لأنه لا يجوز للقارن الإهلال، حتى يفرغ من الحج؛ وأما قوله عليه السلام:"لولا أني سقت الهدي لأحللت" والمفرد لا يحل اليوم سواء كان معه هدي أو لم يكن، فإن معنى:"لأحللت": لفسخت الحج في العمرة؛ لأن الفسخ كان مباحًا حينئذ

(1)

"شرح ابن بطال" 4/ 234.

(2)

انتهى كلام ابن المنير من "المتواري على تراجم أبواب البخاري" ص 136.

وينظر لمذهب مالك: "التفريع" 1/ 315، و"عيون المجالس" 2/ 769، و"مواهب الجليل" 3/ 446.

ص: 207

لمن لا هدي له، فجاز لهم الإحلال ووطء النساء قبل الشروع في عمل

العمرة في وقت فسخهم الحج. فأما من كان معه هدي فلم يفسخ لقوله تعالى: {حَتَّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196].

وقوله: "بم أهللت؟ " قال ابن التين: ووقع في الأمهات بالألف، وصوابه بحذفها.

وقوله: "فأهل" هو بهمزة قطع؛ لأنه أمر من الرباعي، وقوله:"وامكث" أي لأجل سوق الهدي، فإن من ساقه لم يحل حَتَّى يتم الحج كما فعل صلى الله عليه وسلم.

وفيه: استعمال علي على اليمن، وفي غير هذا الحديث أنه استُعمل على الصدقات ويحتمل أن يكون ولِيَها احتسابًا وأعطى عطاءه من غيرها.

ومعنى قوله: "لولا أن معي الهدي لأحللت" حمله قوم على أن التمتع أفضل من الإفراد والقران، وهو قول الشافعي، وقاله أحمد، وإسحاق، وبعض متأخري المالكية

(1)

(1)

قال الإمام مالك: الإفراد بالحج أحب إلى، انظر:"المدونة" 1/ 295، "التفريع" 1/ 335، وانظر لأقوال متأخري المالكية "الذخيرة" 3/ 285، وقال النووي في "روضة الطالبين": وأفضلها: الافراد، ثم التمتع، ثم القرآن، هذا هو المذهب. والمنصوص في عامة كتبه. "الروضة" 3/ 44، وقال في "المجموع" 7/ 158: الأصح تفضيل الإفراد ورجحه الشافعي والأصحاب وغيرهم، وقال العمراني في "البيان": المشهور من المذهب: أن الإفراد والتمتع أفْضَلُ من القران. وفي الأفراد والتمتع قولان: أحدهما: أن الإفراد أفْضَلُ والثاني: أن التمتع أفضل. ثم ذكر العمراني قولًا ثالثًا للشافعي حكاه صاحب "الفروع" أن القرآن أفْضَلُ. ويقول العمراني: وإذا قلنا: إن الإفراد أفْضَلُ فإنما نريد به: إذا أتى بالحج، ثم أتى العمرة بعده، فأما إذا أتى بالحج دون العمرة

فالتمتع أفْضَلُ. وهذا هو الصحيح. "البيان" 4/ 66، وانظر قول الإمام أحمد في "المستوعب" 4/ 49، "المغني" 5/ 82، "المبدع" 3/ 119.

ص: 208

وقيل: إن الحديث خرج على سبب، وهو أن الجاهلية كانوا لا يرون العمرة في أشهر الحج، فأباح ذَلِكَ الإسلام، وقيل: قاله تطييبًا لقلب أصحابه، وليتأسى به غيره في الرخصة، ولا يضيق على أمته؛ لأن بعض أصحابه كانوا لا يحبون أن يفعلوا إلا كفعله.

وقوله: "لأحللت" يقال: أحل من إحرامه فهو محل، وحل أيضًا قال تعالى:{وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] وقوله في حديث أبي موسى: فأمرني فطفت بالبيت، ثم أمرني فأحللت. هذا يخالف ما أمر به عليًا، وذلك أنه عليه السلام كان معه الهدي، وكذا علي، فشاركه علي في عدم التحلل، وأبو موسى لم يكن معه هدي فصار له حكم النبي صلى الله عليه وسلم في الإحرام فقط؛ لأنه قال:"لولا الهدي لجعلتها عمرة وتحللت".

قال ابن التين: ويشبه أن يكون أراد كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم أي: كما سَنَّه وعَيَّنَه من أنواع ما يحرم له، ولم يكن معه هدي، ولا اتساعَ لثمن الهدي، فأمر أن يحل بعمل عمرة إذا كان إهلاله بها مضى وعلي كان معه الهدي.

وقيل: أمر أبا موسى بمنزلة ما أمر غيره ممن كان معه بفسخ العمرة إلى الحج إذ لا هدي معه.

وقول عمر: (أن نأخذ بكتاب الله

إلى آخره) ظاهره أن من أنشأ حجًّا ليس له فسخه في عمرة من أجل الهدي؛ تعظيمًا لحرمات الله، وتأول قوم أنه عليه السلام كان نهى عن التمتع بالعمرة إلى الحج. وهذا تأويل من لا يعرف؛ لأن التمتع ثابت بنص الكتاب والسنة، وروي عنه أن ذَلِكَ خاص بذلك العام كما سلف إباحته؛ ردًّا لقول الجاهلية إن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور.

ص: 209

وقوله: (فقدم عمر)، يعني: إذ حج بالناس في خلافته ومعنى الأمر بالتمام في الآية أن من أهل بشيء فليتم ما بدأ به ولا يفسخه، وفي أحاديث الباب دلالة لما ذهب إليه أبو حنيفة وأحمد من أن المعتمر المتمتع إذا كان معه هدي لا يتحلل من عمرته حَتَّى ينحر هديه يوم النحر. ومذهب الشافعي، ومالك أنه إذا طاف، وسعى، وحلق حل من عمرته وحل له كل شيء في الحال سواء كان ساق هديًا

أم لا

(1)

(2)

.

(1)

انظر: "مختصر الطحاوي"(72)، "الهداية" 1/ 201، "التفريع" 1/ 334، "عيون المجالس" 2/ 781، "روضة الطالبين" 3/ 52، "المجموع" 7/ 183، "البيان" 4/ 422، "المستوعب" 4/ 367، "المغني" 5/ 300، "المبدع " 3/ 241.

(2)

ورد بهامش الأصل ما نصه: ثم بلغ في الخامس بعد العشرين، كتبه مؤلفه.

ص: 210

‌33 - باب قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {الحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الحَجِّ} [البقرة: 197]. وقوله {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالحَجِّ} [البقرة: 89]

وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَشْهُرُ الحَجِّ: شَوَّالٌ، وَذُو القَعْدَةِ، وَعَشْرٌ مِنْ ذِى الحَجَّةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنَ السُّنَّةِ أَنْ لَا يُحْرِمَ بِالحَجِّ إِلاَّ فِي أَشْهُرِ الحَجِّ. وَكَرِهَ عُثْمَانُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ خُرَاسَانَ أَوْ كَرْمَانَ.

1560 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ الحَنَفِيُّ، حَدَّثَنَا أَفْلَحُ بْنُ حُمَيْدٍ، سَمِعْتُ القَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَشْهُرِ الحَجِّ، وَلَيَالِي الحَجِّ وَحُرُمِ الحَجِّ، فَنَزَلْنَا بِسَرِفَ، قَالَتْ: فَخَرَجَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: "مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْكُمْ مَعَهُ هَدْيٌ فَأَحَبَّ أَنْ يَجْعَلَهَا عُمْرَةً فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ كَانَ مَعَهُ الهَدْيُ فَلَا". قَالَتْ: فَالآخِذُ بِهَا وَالتَّارِكُ لَهَا مِنْ أَصْحَابِهِ، قَالَتْ: فَأَمَّا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَرِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَكَانُوا أَهْلَ قُوَّةٍ، وَكَانَ مَعَهُمُ الهَدْيُ، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى العُمْرَةِ قَالَتْ: فَدَخَلَ عَلَىَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا أَبْكِى فَقَالَ "مَا يُبْكِيكِ يَا هَنْتَاهْ؟ ". قُلْتُ سَمِعْتُ قَوْلَكَ لأَصْحَابِكَ فَمُنِعْتُ العُمْرَةَ. قَالَ "وَمَا شَأْنُكِ؟ ". قُلْتُ: لَا أُصَلِّي. قَالَ: "فَلَا يَضِيرُكِ، إِنَّمَا أَنْتِ امْرَأَةٌ مِنْ بَنَاتِ آدَمَ كَتَبَ اللهُ عَلَيْكِ مَا كَتَبَ عَلَيْهِنَّ، فَكُونِي فِي حَجَّتِكِ، فَعَسَى اللهُ أَنْ يَرْزُقَكِيهَا". قَالَتْ: فَخَرَجْنَا فِي حَجَّتِهِ حَتَّى قَدِمْنَا مِنًى فَطَهَرْتُ، ثُمَّ خَرَجْتُ مِنْ مِنًى فَأَفَضْتُ بِالبَيْتِ، قَالَتْ: ثُمَّ خَرَجَتْ مَعَهُ فِي النَّفْرِ الآخِرِ حَتَّى نَزَلَ المُحَصَّبَ، وَنَزَلْنَا مَعَهُ، فَدَعَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي

ص: 211

بَكْرٍ فَقَالَ: "اخْرُجْ بِأُخْتِكَ مِنَ الحَرَمِ، فَلْتُهِلَّ بِعُمْرَةٍ ثُمَّ افْرُغَا، ثُمَّ ائْتِيَا هَا هُنَا، فَإِنِّي أَنْظُرُكُمَا حَتَّى تَأْتِيَانِي". قَالَتْ: فَخَرَجْنَا حَتَّى إِذَا فَرَغْتُ، وَفَرَغْتُ مِنَ الطَّوَافِ ثُمَّ جِئْتُهُ بِسَحَرَ فَقَالَ:"هَلْ فَرَغْتُمْ؟ ". فَقُلْتُ: نَعَمْ. فَآذَنَ بِالرَّحِيلِ فِي أَصْحَابِهِ، فَارْتَحَلَ النَّاسُ فَمَرَّ مُتَوَجِّهًا إِلَى المَدِينَةِ. ضَيْرُ: مِنْ ضَارَ يَضِيرُ ضَيْرًا، وَيُقَالُ: ضَارَ يَضُورُ ضَوْرًا، وَضَرَّ يَضُرُّ ضَرًّا. [انظر: 294 - مسلم: 1211 - فتح: 3/ 418]

ثم ذكر حديث عائشة: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَشْهُرِ الحَجِّ، وَلَيَالِي الحَجَّ وَحُرُمِ الحَجِّ .. الحديث بطوله.

أما الآية الأولى فقال الفراء في "معانيه": معناها: وقت الحج هذِه الأشهر، فهي وإن كانت (في) تصلح فيها، فلا يقال إلا بالرفع، وكذلك كلام العرب، يقولون: البرد شهران، والحر شهران، لا ينصبون؛ لأنه

مقدار الحج.

ولو كانت الأشهر والشهر معرفة على هذا المعنى لصلح فيه النصب، ووجه الكلام الرفع، والمعلومات: شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، وإنما جاز أن يقال: أشهر، وإنما هما شهران وعشر من ثالث؛ لأن العرب إذا كان الوقت لشيء يكون فيه الحج وشبهه جعلوه في التسمية للثلاثة أو الاثنين، كما قال تعالى:{وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ} [البقرة: 203] وإنما يتعجل في يوم ونصف، وكذلك هو في اليوم الثالث من أيام التشريق ليس (معها)

(1)

شيء تام، وكذلك تقول العرب له اليوم يومان منذ لم أره، وإنما هو يوم وبعض آخر، وهذا ليس بجائز في غير المواقيت

(2)

.

(1)

كذا في الأصل، وفي "معاني القرآن": منها.

(2)

انتهى بتصرف من "معاني القرآن" للفراء 1/ 119.

ص: 212

قُلْتُ: ومثله ثلاثة قروء، وقد يطلقها في آخر الطهر فيكون قرءان، والطعن في الثالث من الحيض.

وقال ابن المنذر: كان الفراء يقول: معناه: وقت الحج أشهر معلومات. وقال غيره: تأويله أن الحج في أشهر معلومات.

وقال الزجاج في "معانيه": قال أكثر الناس: إن أشهر الحج شوال

وذو القعدة وعشر من ذي الحجة. وقال بعضهم: لو كانت المشهور التي هي أشهر الحج شوالًا، وذا القعدة لما جاز للذي منزله بينه وبين مكة مسافة أكثر من هذِه المشهور أن يفرض على نفسه الحج، وهذا حقيقته عندنا، أنه لا ينبغي للإنسان أن يبتدئ بعمل من أعمال الحج قبل هذا الوقت، نحو الإحرام؛ لأنه إذا ابتدأ قبل هذا الوقت أضر بنفسه، فأمر الله تعالى أن يكون أقصى الأوقات الذي ينبغي للمرء أن لا يتقدمها في عقد فرض الحج على نفسه شوالًا.

وقال بعض أهل العلم: معنى الحج إنما هو في السنة في وقت بعينه، وإنما هو في الأيام التي يأخذ الإنسان فيها في عمل الحج؛ لأن العمرة في طول السنة، فينبغي له في ذَلِكَ الوقت أن لا يرفث ولا يفسق.

وقوله: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ} [البقرة: 197] قال ابن عباس: التلبية

(1)

، وقد سلف بالخُلف فيه في بابها. وقال الضحاك: هو الإحرام. وقال عطاء: من أهل فيهن بالحج قال: والفرض: التلبية؛ وكذا قال الزهري وإبراهيم وطاوس وابن مسعود وابن الزبير كما سلف، ونقل ابن التين عن ابن مسعود وابن عمر معنى {فَرَضَ}: لبّى.

(1)

"أحكام القرآن" للجصاص 1/ 382.

ص: 213

وعن ابن عباس: أحرم

(1)

، وحقيقته أوجب فيهن.

والرفث: الجماع، والفسوق: المعاصي. والجدال: المراء حَتَّى يغضب صاحبه، قاله ابن عباس وابن عمر وعطاء.

وقال مجاهد: {وَلَا جِدَالَ} : لا شك فيه أنه في ذي الحجة

(2)

، بخلاف ما يعتقده من النسئ، وأن الحج في غير ذي الحجة، ويقف بعضهم -وهم قريش- بالمزدلفة، وبعضهم بعرفة، ويتمارون في ذَلِكَ، فقال عليه السلام:"إن الزمان قد استدار كيوم خلق الله السموات والأرض، وإن الحج في ذي الحجة"

(3)

.

وقال أبو عمر: وأراد: فلا يكون رفث ولا فسوق أي: حَتَّى يخرج من الحج. ثم ابتدأ فقال: {وَلَا جِدَالَ} ، وأما الآية الثانية وهي قوله تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ} [البقرة: 189] قال الواحدي

(4)

، عن معاذ: يا رسول الله، إن اليهود تغشانا، ويكثرون مسألتنا، فأنزل الله الآية. وقال قتادة: ذكر لنا أنهم سألوا نبي الله: لم خلقت هذِه الأهلة؟ فنزلت

(5)

.

وقال الكلبي: نزلت في معاذ وثعلبة بن عنمة الأنصاريين. قال: يا رسول الله، ما بال الهلال يبدو دقيقًا مثل الخيط ثم يزيد حَتَّى ينقص؛ فنزلت

(6)

.

(1)

روى هذِه الآثار الطبري في "تفسيره" 2/ 271 - 273، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 346.

(2)

رواها الطبري في "تفسيره" 2/ 273 - 286، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 346 - 349.

(3)

سيأتي برقم (4662) كتاب: التفسير، باب: قوله: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ} .

(4)

"أسباب النزول" ص 55.

(5)

المصدر السابق ص 55.

(6)

"أسباب النزول" ص 55 - 56.

ص: 214

وقال الزجاج: أخبرني من أثق به من رواة البصريين والكوفيين أن الهلال سمي هلالًا؛ لرفع الصوت بالإخبار عنه. وقال بعضهم: يسمى بذلك لليلتين من الشهر، ثم لا يسمى هلالًا إلى أن يعود في الشهر الثاني، وهو الأكثر. وقال بعضهم: يسمى هلالًا ثلاث ليال، ثم قمرًا. وقال بعضهم: يسمى هلالًا إلى أن يستدير. وقيل: إلى أن يبهر ضوؤه سواد الليل، ثم قمر، وهذا لا يكون إلا في الليلة السابعة. وجمعه أهلة لأدنى العدد وأكثره، ولا يقال: هلَّ. وحكي أيضًا

(1)

، وقيل: هلَّ: طلع.

وأما أثر ابن عمر، فأخرجه ابن أبي شيبة، عن وكيع، عن شريك، عن إبراهيم بن مهاجر، عنه

(2)

.

وأخرجه البيهقي من حديث عبيد الله بن عمر، عن نافع، عنه. قال البيهقي: وروي ذَلِكَ أيضًا عن ابن عمر عن أبيه

(3)

. وهو قول ابن مسعود وابن الزبير.

وقال ابن المنذر: اختلف عن ابن عمر وابن عباس في ذَلِكَ، فروي عنهما كما قال ابن مسعود، وروي عنهما أنها ثلاثة كاملة. قُلْتُ: وهو ما ذكره البخاري عن ابن عباس في باب قوله: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي المَسْجِدِ الحَرَامِ} [البقرة: 196] كما سيأتي

(4)

، وفي ليلة النحر عندنا وجه،

(1)

ورد في هامش الأصل ما نصه: قال ابن دريد في "الجمهرة": وقال أبو زيد: هلّ الهلال.

(2)

"المصنف" 3/ 214 كتاب: الحج، باب: قوله تعالى: {الحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} ما هذِه الأشهر.

(3)

"السنن الكبرى" 4/ 342 كتاب: الحج، باب: بيان أشهر الحج.

(4)

انظر ما سيأتي برقم (1572).

ص: 215

وفي قول أن ذا الحجة كله وقت للإحرام، وهو شاذ

(1)

، وحُكي عن مالك وعمر. وحكى ابن حبيب عنه كالأول، وحكى القرطبى عنه: آخر أيام التشريق

(2)

.

قال ابن القصار: والأول هو المشهور عنه

(3)

.

وقال أبو حنيفة والشافعي وأحمد في جماعة من الصحابة والتابعين بالأول

(4)

. فلو أحرم به في غير وقته انعقد عمرة على الصحيح، وبه قال عطاء وطاوس ومجاهد وأبو ثور

(5)

، ونقله الماوردي، عن عمر وابن مسعود وجابر وابن عباس. وقيل: لا ينعقد عمرة بل يتحلل بعملها

(6)

، ونقله ابن المنذر عن الأوزاعي وأحمد وإسحاق. وقال داود: لا ينعقد أصلًا

(7)

.

وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد والنخعي وأهل المدينة والثوري: يجوز قبله بكراهة

(8)

.

(1)

قال النووي رحمه الله: أما الميقات الزماني، فوقت الإحرام بالحج: شوال، وذو القعدة، وعشر ليال من ذي الحجة. آخرها آخر ليلة النحر، وفي وجه: لا يجوز الإحرام في ليلة النحر، وهو شاذ مردود، وحكى المحاملى قولًا عن "الإملاء": أنه يصح الإحرام به في جميع ذي الحجة، وهو أشذ وأبعد. "روضة الطالبين" 3/ 37.

(2)

انظر: "النوادر والزيادات" 2/ 340، "تفسير القرطبي" 2/ 382.

(3)

انظر: "شرح ابن بطال" 4/ 236.

(4)

انظر: "تبيين الحقائق" 2/ 49، "أحكام القرآن" للشافعي 1/ 114 - 115، "مختصر المزني" 2/ 46، "الإقناع" للحجاوي 1/ 555.

(5)

انظر: "البيان" 4/ 61 - 62، "المجموع" 7/ 131، 133.

(6)

وهو القول القديم للشافعي، انظر:"البيان" 4/ 62.

(7)

انظر: "المجموع" 7/ 133.

(8)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 2/ 59، "المدونة" 1/ 296، "المغني" 5/ 74.

ص: 216

وفائدة الخلاف تعلق الدم عن آخر طواف الإفاضة على الزمن الذي هو عنده آخر الأشهر. احتج من منع بقوله تعالى: {الحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] فلو انعقد الإحرام بالحج في غيرها لم يكن لتخصيصها فائدة، وبحديث الباب. واحتج من ألزم بأن ذكر الله في هذِه الأشهر إنما معناه عندهم على التوسعة والرفق بالناس، والإعلام بالوقت الذي فيه يتأدى الحج، فأخبرهم تعالى بما يقرب منه، وبين

ذَلِكَ نبيه بقوله: "الحج عرفة"

(1)

وبنحره يوم النحو، ورميه الجمار في ذَلِكَ اليوم، فمن ضيق على نفسه وأحرم به قبل أشهره فهو في معنى من أحرم من بلده قبل الميقات، ويعضده قوله تعالى:{وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] وقوله: {وَأَتِمُّوا الحَجَّ وَالعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]، ولم يخص محرمًا من محرم، ولا يمتنع أن يجعل الله الأشهر كلها وقتًا لجواز الإحرام فيها، ويجعل شهور الحج وقتًا للاختيار، وأثر ابن عباس أخرجه البيهقي من حديث يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، عن الحجاج، عن الحكم، عن أبي القاسم -يعني: مقسمًا مولى عبد الله بن الحارث بن نوفل- عن ابن عباس به

(2)

.

وأخرجه الحاكم في "مستدركه" بلفظ: لا يحرم بالحج إلا في أشهر الحج، فإن من سنة الحج أن يحرم بالحج في أشهر الحج ثم قال: صحيح على شرطهما ولم يخرجاه، وقد جرت فيه مناظرة بيني وبين

(1)

ذكره المصنف رحمه الله من حديث عبد الرحمن بن يعمر في شرح الحديث الآتي برقم (1665) باب: الوقوف بعرفة، وهناك يأتي تخريجه باستفاضة، فانظره غير مأمور.

(2)

"السنن الكبرى" 4/ 343 كتاب: الحج، باب: لا يعمل بالحج في غير أشهر الحج.

ص: 217

شيخنا أبي محمد السبيعي قال: فقال: إنما رواه الناس عن أبي خالد عن ابن أرطاة، عن الحكم فمن أين جاء به شيخكم علي بن حماد، ثَنَا محمد بن إسحاق بن خزيمة، ثنا أبو كريب، ثنا أبو خالد، عن

شعبة، عن الحكم؟! فقلت له: تأمل ما تقول، فإن شيخنا أتى بالإسنادين جميعًا، فكأنما ألقمته حجرًا

(1)

.

قُلْتُ: وهو قول جابر بن عبد الله كما سلف.

وقوله: (وكره عثمان أن يحرم من خراسان أو كرمان). روى ابن أبي شيبة، عن عبد الأعلى، عن يونس، عن الحسن أن ابن عباس: أحرم من خراسان، فعاب عليه عثمان وغيره، وكرهوه

(2)

، وبالكراهة قال مالك أيضًا، خلافًا للشافعي

(3)

.

وعن مالك: يكره لمن قرب؛ لأنه يتعمد مخالفة التوقيت، بخلاف من بَعُدَ لغرض استدامة الإحرام

(4)

، وهذا كتقدم رمضان بيوم أو يومين، بخلاف من صام شعبان كله.

وقولها: (في أشهر الحج، وليالي الحج، وحرم الحج). ذكرته تفخيمًا وتعظيمًا، ولذلك أتت بالظاهر مكان المضمر.

وقولها: (وحرم الحج)، قال صاحب "المطالع": هو بضمها كذا لهم، وضبطه الأصيلي بفتح الراء كأنه الأوقات والمواضع والأشياء والحالات، وضم الراء جمع حرمة، أي ممنوعات الشرع ومحرماته، وفي هذا الموضع بينت أن الأمر بالفسخ كان بسرف، وأنها أرادت

(1)

"المستدرك" 1/ 448 كتاب: المناسك.

(2)

"المصنف" 3/ 123 (12691) كتاب: الحج.

(3)

انظر: "المنتقى" 2/ 205، "البيان" 4/ 111.

(4)

انظر: "النوادر والزيادات" 2/ 336، "المنتقى" 2/ 205.

ص: 218

فسخ الحج فمنعت. قال عياض: والذي تدل عليه نصوص الأحاديث في الصحيحين وغيرهما إنما قال لهم عليه السلام بعد إحرامه بالحج، ويحتمل أنه كرر الأمر بذلك في موضعين، وأن العزيمة كانت آخرًا حين أمرهم بالفسخ إلى العمرة

(1)

.

وقال المهلب: إنما ذكرت عائشة المآل؛ لأن سرف أول حدود مكة، وكانوا أحرموا بالحج أولًا، فإنه قال:"من لم يكن معه هدي فأحب أن يجعلها عمرة" ولو كانت قرانًا لقال: فليجعلهما، وإنما أمر بالفسخ من أفرد لا من قرن، ولا من أهل بعمرة؛ لأنه أمرهم كلهم أن يجعلوها عمرة ليتمتعوا بالعمرة إلى الحج.

وقولها: (حَتَّى قدمنا منى فطهرت) تريد: ثاني يوم النحو؛ لأن أيام منى ثلاثة بعد النحو.

وقوله: ("يا هنتاه") أي: يا هذِه، قال صاحب "العين": إذا أدخلوا التاء في هن، فتحوا النون فقالوا: يا هنة، وإن زادوا التاء سكنوا النون فقالوا: يا هنتاه، ويا هنتوه. وقال أبو حاتم: يقال للمرأة: ياهنت أقبلي استخفافًا، فإذا ألحقت الزوائد قُلْتَ: يا هناه، للرجل، ويا هنتاه، للمرأة. وقال أبو زيد: تلقى الهاء في الدرج، فيقال: يا هناه

(2)

. وقال ابن التين: ضبط في زوائد أبي ذر بإسكان النون، وفي رواية أبي الحسن بفتحها، وهكذا هو في "الصحاح"

(3)

.

وقال: هو اسم يلزمه النداء مثل قوله: يا هذِه، من غير أن يراد به

(1)

انظر: "إكمال المعلم بفوائد مسلم" 4/ 237.

(2)

"تهذيب اللغة" 4/ 3802.

(3)

"الصحاح" 6/ 2536.

ص: 219

مدح ولا ذم، وقال ابن الأثير: تضم الهاء الأخيرة، وتسكن، وفي التثنية هنتان، وفي الجمع هنات، وفي المذكر هن وهنان وهنون، ولك أن تلحقها الهاء لبيان الحركة، فتقول: يا هذه، وأن تشبع الحركة فتصير ألفًا، فتقول: يا هناه، ولك ضم الهاء فتقول: يا هُناه أقبل

(1)

. وقال أبو نصر: هذِه اللفظة مختصة بالنداء، وقيل: معنى يا هنتاه: يا بلهاء. كأنها نُسبت إلى قلة المعرفة بمكائد الناس وشرورهم.

وقوله: ("من أحب أن يجعلها عمرة فعل") ظاهره التخيير، ولذلك كان منهم الآخذ والتارك، لكن لما ظهر منه عليه السلام العزم حين عصته، قالوا: تحللنا وسمعنا وأطعنا، وكان ترددهم لأنهم ما كانوا يرون العمرة في أشهر الحج جائزة، فبين لهم جواز ذَلِكَ.

وقولها: (فمنعت العمرة): كذا هنا وفي بعض روايات مسلم

(2)

، وفي بعضها: سمعت كلامك مع أصحابك فتمتعت بالعمرة. قال عياض: والأول هو الصواب

(3)

.

ومعنى: ("لا يضيرك"): لا يضرك، وفي بعض نسخ البخاري:"لا ضير" من ضار يضير ضيرًا، ويقال: ضار يضور ضورًا، وضر يضر ضرًّا.

وقولها: (حَتَّى نزل المُحَصب) هو بضم الميم وفتح الحاء، وفيه لغة أخرى: الحِصَاب بكسر الحاء. قال أبو عبيد: هو من حدود خيف بني كنانة، وحده من الحجون ذاهبًا إلى منى، وهو بطحاء مكة، وقال في

(1)

"النهاية في غريب الحديث والأثر" 5/ 277 - 278.

(2)

"صحيح مسلم" برقم (1211) - 123 كتاب: الحج، باب: بيان وجوه الإحرام.

(3)

"إكمال المعلم بفوائد مسلم" 4/ 247.

ص: 220

موضع آخر: هو الخيف، وهو إلى منى أقرب، وهو الأبطح وبطحاء مكة

(1)

، وقال غيره: هو اسم لما بين الجبلين إلى المقبرة. وقال ياقوت: هو غير المحصب، موضع رمي الجمار بمنى

(2)

، قالت عائشة: إنما نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان أسمح لخروجه. وسيأتي

(3)

.

زاد مسلم: وليس بسنة

(4)

، وفيه عن أبي رافع -وهو من أفراده-: لم يأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أنزله حين خرج من منى، ولكن ضربت قبة فجاء فنزل، وكان علي ثقل النبي صلى الله عليه وسلم

(5)

. وزعم ابن حبيب أن مالكًا كان يأمر بالتحصيب، ويستحبه

(6)

. وقال أبو حنيفة: سنة

(7)

، وبه قال النخعي وطاوس وابن جبير

(8)

. وقال ابن المنذر: كان ابن عمر يراه سنة، وقال نافع: حصب النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده، أخرجه مسلم

(9)

[و]

(10)

كما قال مالك قال الشافعي

(11)

.

(1)

انظر: "غريب الحديث" 2/ 108 بتصرف.

(2)

"معجم البلدان" 5/ 62.

(3)

برقم (1765) كتاب: الحج، باب: المحَصَّب.

(4)

"صحيح مسلم"(1311) كتاب: الحج، باب: استحباب النزول بالمحصب يوم النفر، والصلاة به.

(5)

"صحيح مسلم"(1313).

(6)

انظر: "المنتقى" 3/ 44.

(7)

انظر: "بدائع الصنائع" 2/ 160، "تبيين الحقائق" 2/ 36.

(8)

رواه ابن أبي شيبة 3/ 184 (13339 - 13341) كتاب: الحج، باب: في التحصيب، من كان يحصب.

(9)

"صحيح مسلم" 1310/ 338.

(10)

زيادة يقتضيها السياق.

(11)

انظر: "المنتقى" 3/ 44.

ص: 221

وقال عياض: هو مستحب عند جميع العلماء، وهو عند الحجازيين أوكد منه عند الكوفيين، وأجمعوا أنه ليس بواجب

(1)

، وعند الميموني: ثنا خالد عن ابن خداش، ثنا ابن وهب، أنا عمرو، عن قتادة عن أنس أن رسول الله - صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمحصب، ورقد رقدة، ثم نفذ إلى البيت وطاف به

(2)

، قال: فقلت لأحمد: لم كتبت هذا؟ قال: إسناد غريب.

(1)

"إكمال المعلم" 4/ 393.

(2)

سيأتي برقم (1756) كتاب: الحج، باب: طواف الوداع.

ص: 222

‌34 - باب التَّمَتُّعِ وَالإِقْرَانِ وَالإِفْرَادِ بِالحَجِّ، وَفَسْخِ الحَجِّ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ

1561 -

حَدَّثَنَا عُثْمَانُ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا نُرَى إِلاَّ أَنَّهُ الحَجُّ، فَلَمَّا قَدِمْنَا تَطَوَّفْنَا بِالبَيْتِ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَنْ لَمْ يَكُنْ سَاقَ الهَدْيَ أَنْ يَحِلَّ، فَحَلَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ سَاقَ الهَدْيَ، وَنِسَاؤُهُ لَمْ يَسُقْنَ فَأَحْلَلْنَ، قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: فَحِضْتُ فَلَمْ أَطُفْ بِالبَيْتِ. فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ الحَصْبَةِ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، يَرْجِعُ النَّاسُ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ وَأَرْجِعُ أَنَا بِحَجَّةٍ. قَالَ:"وَمَا طُفْتِ لَيَالِيَ قَدِمْنَا مَكَّةَ؟ ". قُلْتُ: لَا. قَالَ: "فَاذْهَبِي مَعَ أَخِيكِ إِلَى التَّنْعِيمِ، فَأَهِلِّي بِعُمْرَةٍ ثُمَّ مَوْعِدُكِ كَذَا وَكَذَا". قَالَتْ صَفِيَّةُ: مَا أُرَانِي إِلَّا حَابِسَتَهُمْ. قَالَ: "عَقْرَى حَلْقَى، أَوَمَا طُفْتِ يَوْمَ النَّحْرِ؟ ". قَالَتْ: قُلْتُ: بَلَى. قَالَ: "لَا بَأْسَ، انْفِرِي". قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: فَلَقِيَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُصْعِدٌ مِنْ مَكَّةَ، وَأَنَا مُنْهَبِطَةٌ عَلَيْهَا، أَوْ أَنَا مُصْعِدَةٌ وَهْوَ مُنْهَبِطٌ مِنْهَا. [انظر: 294 - مسلم: 1211 - فتح: 3/ 421]

1562 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَوْفَلٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ حَجَّةِ الوَدَاعِ، فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِالحَجِّ، وَأَهَلَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالحَجِّ، فَأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بِالحَجِّ أَوْ جَمَعَ الحَجَّ وَالعُمْرَةَ، لَمْ يَحِلُّوا حَتَّى كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ. [انظر: 294 - مسلم: 1211 - فتح: 3/ 421]

1563 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الحَكَمِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ، عَنْ مَرْوَانَ بْنِ الحَكَمِ قَالَ: شَهِدْتُ عُثْمَانَ وَعَلِيًّا رضي الله عنهما، وَعُثْمَانُ يَنْهَى عَنِ المُتْعَةِ، وَأَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا، فَلَمَّا رَأَى عَلِيٌّ، أَهَلَّ بِهِمَا: لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ، قَالَ: مَا كُنْتُ لأَدَعَ سُنَّةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِقَوْلِ أَحَدٍ. [1569 - فتح: 3/ 421]

1564 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ طَاوُسٍ، عَنْ

ص: 223

أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ العُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الحَجِّ مِنْ أَفْجَرِ الفُجُورِ فِي الأَرْضِ، وَيَجْعَلُونَ المُحَرَّمَ صَفَرًا، وَيَقُولُونَ: إِذَا بَرَأَ الدَّبَرْ، وَعَفَا الأَثَرْ، وَانْسَلَخَ صَفَرْ، حَلَّتِ العُمْرَةُ لِمَنِ اعْتَمَرْ، قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ صَبِيحَةَ رَابِعَةٍ مُهِلِّينَ بِالحَجِّ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً، فَتَعَاظَمَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ الحِلِّ؟ قَالَ:"حِلٌّ كُلُّهُ". [انظر: 1085 - مسلم: 1240 - فتح: 3/ 422]

1565 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ المُثَنَّى، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: قَدِمْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. فَأَمَرَهُ بِالحِلِّ. [انظر: 1559 - مسلم: 1221 - فتح: 3/ 422]

1566 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ. وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ حَفْصَةَ رضي الله عنهم زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا شَأْنُ النَّاسِ حَلُّوا بِعُمْرَةٍ وَلَمْ تَحْلِلْ أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِكَ؟ قَالَ:"إِنِّي لَبَّدْتُ رَأْسِي، وَقَلَّدْتُ هَدْيِي، فَلَا أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ". [1679، 1725، 4398، 5916 - مسلم: 1229 - فتح: 3/ 422]

1567 -

حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، أَخْبَرَنَا أَبُو جَمْرَةَ نَصْرُ بْنُ عِمْرَانَ الضُّبَعِيُّ قَالَ: تَمَتَّعْتُ فَنَهَانِي نَاسٌ، فَسَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، فَأَمَرَنِي، فَرَأَيْتُ فِي المَنَامِ كَأَنَّ رَجُلًا يَقُولُ لِي: حَجٌّ مَبْرُورٌ وَعُمْرَةٌ مُتَقَبَّلَةٌ. فَأَخْبَرْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: سُنَّةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لِي: أَقِمْ عِنْدِي، فَأَجْعَلَ لَكَ سَهْمًا مِنْ مَالِي. قَالَ شُعْبَةُ: فَقُلْتُ: لِمَ؟ فَقَالَ: لِلرُّؤْيَا الَّتِي رَأَيْتُ. [1688 - مسلم: 1242 - فتح: 3/ 422]

1568 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا أَبُو شِهَابٍ قَالَ: قَدِمْتُ مُتَمَتِّعًا مَكَّةَ بِعُمْرَةٍ، فَدَخَلْنَا قَبْلَ التَّرْوِيَةِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَقَالَ لِي أُنَاسٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ: تَصِيرُ الآنَ حَجَّتُكَ مَكِّيَّةً. فَدَخَلْتُ عَلَى عَطَاءٍ أَسْتَفْتِيهِ، فَقَالَ: حَدَّثَنِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما أَنَّهُ حَجَّ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ سَاقَ البُدْنَ مَعَهُ، وَقَدْ أَهَلُّوا بِالحَجِّ مُفْرَدًا، فَقَالَ لَهُمْ: "أَحِلُّوا مِنْ إِحْرَامِكُمْ بِطَوَافِ البَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ، وَقَصِّرُوا ثُمَّ أَقِيمُوا حَلَالًا، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ فَأَهِلُّوا بِالحَجِّ، وَاجْعَلُوا الَّتِي قَدِمْتُمْ بِهَا

ص: 224

مُتْعَةً". فَقَالُوا: كَيْفَ نَجْعَلُهَا مُتْعَةً وَقَدْ سَمَّيْنَا الحَجَّ؟ فَقَالَ: "افْعَلُوا مَا أَمَرْتُكُمْ، فَلَوْلَا أَنِّي سُقْتُ الهَدْيَ لَفَعَلْتُ مِثْلَ الذِي أَمَرْتُكُمْ، وَلَكِنْ لَا يَحِلُّ مِنِّي حَرَامٌ حَتَّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ". فَفَعَلُوا. [انظر: 1557 - مسلم: 1216 - فتح: 3/ 422]

1569 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ الأَعْوَرُ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ قَالَ: اخْتَلَفَ عَلِيٌّ وَعُثْمَانُ رضي الله عنهما وَهُمَا بِعُسْفَانَ فِي المُتْعَةِ، فَقَالَ عَلِيٌّ: مَا تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَنْهَى عَنْ أَمْرٍ فَعَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عَلِيٌّ أَهَلَّ بِهِمَا جَمِيعًا [انظر: 1563 - مسلم: 1223 - فتح: 3/ 423]

ذكر فيه تسعة أحاديث:

أحدها:

حديث الأسود، عَنْ عَائِشَةَ: خَرَجْنَا مَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وَلَا نُرى إِلَّا الحَجُّ، فَلَمَّا قَدِمْنَا تَطَوَّفْنَا بِالبَيْتِ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَنْ لَمْ يَكُنْ سَاقَ الهَدْيَ أَنْ يَحِلَّ .. الحديث.

وقوله في الترجمة: (والإقران) كذا في الأصول، وفي بعض النسخ:(والقران). قال ابن التين: والإقران غير ظاهر؛ لأن فعله ثلاثي، وصوابه: القرآن، وهو مصدر من قرن بين الحج والعمرة، إذا جمع بينهما بنية واحدة وتلبية واحدة، وهو قارن، ومضارعه بكسر الراء، وسيأتي في البيوع نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الإقران في التمر

(1)

. وفي "المحكم" و"الصحاح" في المضارع ضم الراء

(2)

، وفي "المشارق": لا يقال: أقرن، وكذا في قرآن التمر

(3)

. والتمتع هو أن يحرم الآفاقي

(1)

برقم (2489) كتاب: الشركة، باب: القرآن في التمر بين الشركاء.

(2)

"المحكم" 6/ 221، "الصحاح" 6/ 2181.

(3)

"مشارق الأنوار" 2/ 179.

ص: 225

بالعمرة، ويفرغ من أعمالها ثم ينشئ حجًّا من مكة. قال ابن سيده: المتعة -بضم الميم وكسرها-: العمرة إلى الحج، وقد تمتع واستمتع

(1)

.

وقال القزاز: المتعة، وفسرها كما ذكرناه أولًا، وهو معنى الآية، قال: والتمتع أيضًا: أن يضم الرجل عمرة إلى حجة، ومعنى (إلى) هنا بمعنى:(مع). وقال عياض: هي جمع غير المكي بينهما في أشهر الحج في سفر واحد

(2)

. وقال ابن الأثير: هي الترفق بأداء النسكين على وجه الصحة في سفرة واحدة من غير أن يلم بأهله إلمامًا صحيحًا، سمي بذلك لسقوط أحد السفرين عنه؛ ولهذا لم يتحقق من المكي إذ ليس من سائر الإحرام من الميقات ولا السفر. وقيل: سمي تمتعًا؛ لأنهم يتمتعون بالنساء والطيب بين الحج والعمرة، قاله عطاء وآخرون

(3)

، وهو جائز إلا ما روي عن عمر وعثمان أنهما كانا ينهيان عن التمتع

(4)

، وقيل: كان نهي تنزيه، وقيل: إنما نهيا عن فسخ الحج إلى العمرة؛ لأن ذَلِكَ كان خاصًّا بالصحابة، وكذا كان معتقد الصحابة أنه خاص بهم في تلك السنة، وذهب أحمد إلى جواز فسخ الحج إلى العمرة

(5)

.

وقال ابن حزم: كل من أحرم مفردًا أو قارنًا ولم يسق الهدي حل بعمرة شاء أو أبي

(6)

.

(1)

"المحكم" 2/ 47.

(2)

"إكمال المعلم" 4/ 263.

(3)

رواه ابن أبي شيبة 3/ 431 (15835) كتاب: الحج، باب: في المتعة؛ لأي شيء سميت المتعة.

(4)

رواه ابن أبي شيبة 3/ 155 (13033) كتاب: الحج، باب: العمرة في أشهر الحج.

(5)

انظر: "المغني" 5/ 251 - 255.

(6)

"المحلى" 7/ 99.

ص: 226

والإفراد: أن يحرم بالحج وحده ثم يفرغ من أعماله، ثم يحرم بالعمرة، ثم يفرغ منها. وفسخ الحج لمن لم يكن معه هدي أن يدخل العمرة على الحج كما ستعلمه.

وقولها: (لا نرى إلا الحج): ضبط بفتح النون، وضمها حكاه ابن التين. وقال القرطبي: أي نظن، وكان هذا قبل أن يعلمن بأحكام الإحرام وأنواعه

(1)

، وقيل: يحتمل أن ذَلِكَ كان اعتقادها من قبل أن تهل، ثم أهلت بعمرة، ويحتمل أن تريد بقولها:(لا نرى) حكاية عن فعل غيرها من الصحابة، وهم كانوا لا يعرفون إلا الحج، ولم يكونوا يعرفون العمرة في أشهر الحج، فخرجوا محرمين بالذي لا يعرفون غيره. وزعم عياض أنها كانت أحرمت بالحج ثم بالعمرة ثم بالحج

(2)

، ويدل على أن المراد بقولها:(لا نرى إلا الحج)، عن فعل غيرها.

وقولها: (فلما قدمنا تطوفنا بالبيت): تعني بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، والناس غيرها؛ لأنها لم تطف بالبيت ذَلِكَ الوقت؛ لأجل حيضها.

قال أبو عبد الملك: قولها: (فلما قدمنا تطوفنا بالبيت، فأمر النبي من لم يكن ساق الهدي). معناه: أمر النبي صلى الله عليه وسلم بسرف من لم يكن ساق الهدي أن يحل، فتطوفنا. وظاهر الحديث خلافه فإن العطف بالفاء يقتضي التعقيب فثبت أن الأمر كان بعد الطواف، وقيل: معناه: أمر المعتمر أن يحل من عمرته، ومن معه هدي أحرم بحج، فكذلك لم يحل من حجه. وسيأتي في رواية:(فأما من أهل بعمرة فقد حل).

(1)

"المفهم" 3/ 316.

(2)

"إكمال المعلم" 4/ 231.

ص: 227

وقيل: يحتمل أن يريد من ظن أنه سيؤمر أن يردف الحج على العمرة، ولا يحل حَتَّى يحل منهما جميعًا، أمر من لم يكن معه هدي من هذا الصنف من الناس أن يحل من عمرته ثم يحرم بالحج، فيكون متمتعًا، وخص بمن لا هدي معه؛ لأن من معه هدي مقلد لينحر بمنى في حجة لا يحل حَتَّى ينحر للآية، فمن معه هدي بقي على إحرامه، وأردف الحج عليها؛ لئلا يحل قبل بلوغ الهدي محله. وقيل: يحتمل أنه لما أمر بالقران من معه هدي أمر نساءه أن يهللن بعمرة، وأن يحللن منها وأخبر أنه لو لم يسق الهدي لحل؛ فدل هذا أنه أراد التيسير على أمته. وفي قولها:(لا نرى إلا الحج) تضعيف قول من قال: إنه أحرم إحرامًا مطلقًا ينتظر ما يؤمر به.

وقولها: (وقالت صفية: ما أراني إلا حابستكم). أي: حَتَّى أطهر من حيضتي وأطوف طواف الوداع؛ لأنها قد كانت طافت طواف الإفاضة المفترض وهي طاهر، قال مالك: والمرأة إذا حاضت بعد الإفاضة فلتنصرف إلى بلدها، فإنه قد بلغنا في ذَلِكَ رخصة من رسول الله صلى الله عليه وسلم للحائض

(1)

، يعني حديث صفية. وسيأتي مذاهب العلماء فيمن ترك طواف الوداع في باب: إذا حاضت المرأة بعد ما أفاضت.

وقوله: ("عَقْرى حلقى"): معناه: عقرها الله وأصابها في حلقها الوجع، وهذا مما جرى على ألسنتهم من غير قصد له. وقال الأصمعي: يقال ذَلِكَ للأمر يعجب منه. وقيل: معناه: مشؤمة مؤذية

(2)

. وقيل: دعاء عليها. أي: تصير عاقرًا. ويقال: امرأة حالق إذا

(1)

انظر: "المنتقى" 3/ 63.

(2)

"تهذيب اللغة" 3/ 2513 مادة (عقر).

ص: 228

حلقت قومها بشؤمها. وقال الأصمعي: العرب تقول في الدعاء على الإنسان: أصبحت أمه حالقًا. أي: ثاكلًا. وقال الداودي: يريد: أنت طويلة اللسان لمَّا كلمته بما يكره، وهو مأخوذ من الحلق الذي يخرج منه الكلام.

وعقرى من العقر: وهو الصوت، ومنه رفع عقيرته، وُيروى على وزن فعل، وقياسه عقرى حلقى، كما يقال: تعسا نكسا، وروي بالتنوين فيهما كما قاله القزاز جعلوهما مصدرين أي: عقرك الله عقرًا، وحلقك حلقًا كما يحلق الشعر، وقال ابن ولاد: هو دعاء على الرجل بحلق الرأس، يعني: حلقًا

(1)

، قال: ولا ننونه؛ لأن ألفه للتأنيث. وقد بوب لها البخاري بابًا في الأدب، كما سيأتي إن شاء الله تعالى

(2)

.

وقوله: ("أوما طفت يوم النحر؟ " قالت: قُلْتُ: بلى، قال: "لا بأس انفري") فيه: دلالة على أنها تقيم لطواف الإفاضة، ويحبس لها الولي والكريُّ.

وفيه: دلالة على وجوبه، وأن طواف الوداع ليس بركن لأن المكث لا يلزم لأجله، وسيأتي عن ابن عمر، وزِيْدَ بعد هذا: تمكث. ورجع ابن عمر عن ذَلِكَ.

وقولها: (فلقيني النبي صلى الله عليه وسلم وهو مصعد من مكة وأنا منهبطة عليها، أو أنا مصعدة وهو منهبط منها)، إنما حكت الأمر على وجهه، وشك المحدث أي الكلمتين قالت، وإنما لقيها وهو يريد المحصب، وهي

(1)

"المقصور والممدود" ص 74.

(2)

سيأتي برقم (6157) باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: تربت يمينك وعقرى وحلقى.

ص: 229

تهبط إلى مكة، والمصعد في اللغة: المبتدئ في السير، والصاعد الراقي إلى الأعلى من أسفل

(1)

.

وقد أسلفنا الخلاف في كيفية إحرامه عليه السلام في باب الإهلال مستقبل القبلة، واختلاف العلماء في الأفضل، ومذهب الإمام أحمد اختيار التمتع، قال ابن قدامة: وهو مذهب ابن عمر وابن عباس وابن الزبير وعائشة والحسن وعطاء وطاوس ومجاهد وجابر بن زيد وسالم والقاسم وعكرمة، وهو أحد قولي الشافعي، واستدل لهم بما رواه ابن عباس وجابر وأبو موسى وعائشة في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه لما طافوا أن يحلوا ويجعلوها عمرة فنقلهم من الإفراد والقران إلى التمتع، قال: ولا ينقلهم إلا إلى الأفضل

(2)

.

قُلْتُ: في "صحيح ابن حبان": "من شاء أن يجعلها عمرة"

(3)

على وجه التخيير، ثم قال: ولم يختلف أنه عليه السلام قال: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة" وذلك دليل فضل التمتع، وهو منصوص في الكتاب العزيز بقوله:{فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالعُمْرَةِ إِلَى الحَجِّ} [البقرة:196]، دون سائر الإنساك

(4)

.

قُلْتُ: ما ذكره عن الحسن وعطاء وطاوس ومجاهد وابن عباس حكاه ابن حزم عنهم في الوجوب لا الاختيار، ثم قال: وقال عبيد الله بن الحسن وأحمد بن حنبل: بإباحة فسخ الحج لا بإيجابه،

(1)

في هامش الأصل: في "المطالع" وصعد في الجبل: علا وصعد فيه وأصعد بمعنىً واحد.

(2)

"المغني" 5/ 82 - 84.

(3)

"صحيح ابن حبان " 9/ 104 (3794) كتاب: الحج، باب: الإحرام.

(4)

المصدر السابق 5/ 84 - 85.

ص: 230

ومنع منه أبو حنيفة ومالك والشافعي

(1)

.

وقال أبو عمر: ما أعرف من الصحابة من يجيز الفسخ ويأمر به، إلا ابن عباس. وتابعه أحمد وداود، وأما سائر الفقهاء فعلى أن فسخ الحج إلى العمرة خُص به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم

(2)

.

وقوله: ولأن التمتع منصوص في القرآن بقوله: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالعُمْرَةِ} ليس هو التمتع الذي ذكره، والذي فسره به ابن عمر فيما رواه مالك، عن عبد الله بن دينار عنه هو من اعتمر في أشهر الحج شوال أو ذي القعدة أو ذي الحجة قبل الحج، ثم أقام بمكة حَتَّى أدركه الحج

(3)

، فهو متمتع إن حج وعليه ما استيسر من الهدي {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} الآية.

قال أبو عمر: ما ذكره مالك عن ابن عمر لا خلاف بين العلماء أنه التمتع المراد بالآية

(4)

، ثم قال ابن قدامة: ولأن المتمتع يجتمع له الحج والعمرة في أشهر الحج مع كمالهما وكمال أفعالهما على وجه السهولة مع زيادة نسك

(5)

.

قُلْتُ: الإفراد مثله مع زيادة أن لا دم عليه بخلافه، ثم قال: وأما القرآن فإنما يؤتى فيه بأفعال الحج وحده، وإن اعتمر بعده من التنعيم فقد اختلف في إجزائها عن عمرة الإسلام، وكذلك اختلف في إجزاء عمرة القرآن، ولا خلاف في إجزاء التمتع عن الحج والعمرة جميعًا، فكان أولى

(6)

.

(1)

"المحلى" 7/ 101، 103.

(2)

"التمهيد" 8/ 178.

(3)

"الموطأ" ص 227.

(4)

"الاستذكار" 11/ 209.

(5)

"المغني" 5/ 85.

(6)

المصدر السابق 5/ 85.

ص: 231

قُلْتُ: يعارض بالإفراد كما أسلفناه، ثم قال: واختيارنا قولٌ، واختيار غيرنا فعل، وعند التعارض يجب تقديم القول لاحتمال اختصاصه دون غيره

(1)

.

قلتُ: القول ما دل لمصلحة سلفت، ثم قال: فإن قيل: فقد قال أبو ذر في "صحيح مسلم": كانت متعة الحج لأصحاب محمد خاصة

(2)

، قلنا: هذا قول صحابي يخالف الكتاب والسنة والإجماع، وقول من هو خير منه، أما الكتاب فقوله تعالى:{فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالعُمْرَةِ إِلَى الحَجِّ} [البقرة: 196] وهذا عام، وأجمع المسلمون على إباحة التمتع في جميع الأعصار، وإنما اختلفوا في فضله، وأما السنة فحديث سراقة: المتعة لنا خاصة أو هي للأبد؟ قال: "بل هي للأبد" وحديث جابر في مسلم في صفة الحج نحو هذا

(3)

، ومعناه، [أن]

(4)

أهل الجاهلية كانوا لا يجيزون التمتع ويرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور، فبين الشارع أن الله قد شرعها في أشهر الحج وجوز المتعة إلى يوم القيامة

(5)

رواه سعيد بن منصور من قول طاوس، وزاد فيه: فلما كان الإسلام أمر الناس أن يعتمروا في أشهر الحج، فدخلت العمرة في أشهر الحج إلى يوم القيامة.

قُلْتُ: كأنه أشار إلى تفرد أبي ذر بذلك، وليس كذلك، بل توبع عليه في حديث مرفوع صحيح أخرجه أبو داود من حديث الدراوردي، عن

(1)

المصدر السابق 5/ 88.

(2)

"صحيح مسلم"(1224) كتاب: الحج، باب: جواز التمتع.

(3)

مسلم (1218) كتاب: الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم.

(4)

في الأصل (و) والمثبت من "المغني" 5/ 89.

(5)

المصدر السابق 5/ 88 - 89.

ص: 232

ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن الحارث بن بلال، عن أبيه بلال ابن الحارث قُلْتُ: يا رسول الله، فسخ الحج إلى العمرة لنا خاصة أم للناس عامة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"بل لنا خاصة" إسناده صحيح

(1)

.

وقد صحح الحاكم حديثه في المعادن القبلية بهذا الإسناد

(2)

، وضعف أحمد حديث الحارث بن بلال، وقال: هو ليس بمعروف، ولم يرو عنه عمر بن ربيعة

(3)

. والأحاديث الصحاح لا ترد بمثل هذا، وقد تقدمت.

وفي كتاب "الصحابة" لابن البرقي: أخبرنا ابن أبي مريم، ثنا محمد بن جعفر، ثنا كثير بن عبد الله المزني، عن بكير بن عبد الله المزني، عن عبد الله بن هلال صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ليس لأحد بعدنا أن يحرم بالحج ثم يفسخ بعمرة. هذا إسناد حسن على شرط الترمذي في تحسينه حديث كثير

(4)

.

وعند البزار: حَدّثَنَا عمر بن الخطاب، ثنا الفريابي، ثنا أبان بن أبي حازم، حَدَّثَني أبو بكر بن حفص، عن ابن عمر أنه قال: يا أيها الناس، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحل لنا المتعة ثم حرمها علينا. وقال هذا

(1)

"سنن أبي داود"(1808) كتاب: المناسك، باب: الرجل يهل بالحج ثم يجعلها عمرة، وضعفه الألباني في "سلسلة الأحاديث الضعيفة" 3/ 49 (1003) قائلًا: هذا سنده ضعيف، فإن الحارث هذا لم يوثقه أحد. وكذا في "ضعيف أبي داود"(315) وذكر أنه ضعفه غير واحد.

(2)

"المستدرك" 1/ 404 كتاب: الزكاة.

(3)

انظر "بحر الدم" فيمن تكلم فيه الإمام أحمد بمدح أو ذم ص 102.

(4)

أخرج له الترمذي في "السنن" حديث رقم (490)، (536)، (1352)، (2630)، (2677).

ص: 233

الحديث لا نعلم له إسنادًا عن عمر أحسن من هذا الإسناد

(1)

.

قُلْتُ: قد يقال إن هذِه متعة النكاح. وفي "الاستذكار" قال عثمان بن عفان: متعة الحج كانت لنا. قال أبو عمر: يعني أمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة عام حجة الوداع بفسخ الحج

(2)

. قال أبو عمر: وقاله أيضًا ابن عباس. يعني: كقول عثمان.

ثم ما عزاه إلى "سنن سعيد بن منصور" من قوله: "فدخلت العمرة في أشهر الحج إلى يوم القيامة" هو في مسلم من حديث ابن عباس (د. س)

(3)

وجابر الطويل

(4)

، وإن كان أبو داود قال في حديث ابن عباس: منكر، إنما هو من قول ابن عباس

(5)

، فإن فيه نظرًا. ولابن ماجه من حديث سراقة

(6)

، ثم قال ابن قدامة: وقد خالف أبا ذر علي وسعد وابن عباس وابن عمر وعمران بن حصين، وسائر الصحابة، وسائر المسلمين. قال عمران: تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزل فيه القرآن، فلم ينهنا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم ينسخها شيء قال فيها رجل برأيه ما شاء. أخرجاه

(7)

. وقال سعد بن أبي وقاص: فعلناها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم -يعني المتعة- وهذا -يعني الذي نهى عنها- يومئذ

(1)

"مسند البزار" 1/ 286 - 287 (183).

(2)

"الاستذكار" 11/ 212.

(3)

"صحيح مسلم"(1241) كتاب: الحج، باب: جواز العمرة في أشهر الحج.

(4)

"صحيح مسلم"(1218) باب: حجة النبي- صلى الله عليه وسلم.

(5)

"سنن أبي داود"(1790) كتاب: المناسك، باب: في إفراد الحج.

(6)

"سنن ابن ماجه"(2977) كتاب: المناسك، باب: التمتع بالعمرة إلى الحج، وصححه الألباني في "صحيح ابن ماجه" 2/ 166 (2411).

(7)

سيأتي برقم (1571) باب: التمتع، ورواه مسلم (1226) كتاب: الحج، باب: جواز التمتع.

ص: 234

كافر بالعُرُش. يعني بيوت مكة

(1)

. أخرجه مسلم

(2)

. أي: مقيم في بيوت مكة، يقال: أكفر الرجل إذا لازم الكفور، وهي القرى، وإنما أوله بذلك؛ لأنه كان إذ ذاك مسلمًا، وكاتبًا للوحي، وحمله عياض وغيره على عمرة القضاء

(3)

، والصواب الأول، وهو ما أوله المازري

(4)

وغيره. ثم قال: فإن قيل: فقد روى أبو داود عن سعيد بن المسيب أن رجلًا من الصحابة أتى عمر فشهد عنده أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن [المتعة]

(5)

قبل الحج

(6)

، قلنا: هذِه حالة مخالفة للكتاب والسنة والإجماع كحديث أبي ذر، بل هو أدنى حالًا منه، فإن في إسناده مقالًا، ثم قال: فإن قيل: فقد نهى عنها عمر وعثمان ومعاوية

(7)

.

قلنا: قد أنكر عليهم علماء الصحابة، وخالفوهم في فعلها، والحق مع المنكرين عليهم دونهم، وقد سبق إنكار علي على عثمان، واعتراف عثمان له، وقول سعد وردهم عليهم بحجج لم يكن عنها جواب. قال عمر: إني لأنهاكم عنها، وإنها لفي كتاب الله، وصنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم

(8)

. وسئل سالم: أنهى عمر عن المتعة؟ قال: لا والله ما نهى عنها عمر، ولكن نهى عنها عثمان. وسئل ابن عمر عن متعة الحج، فأمر بها، فقيل: إنك تخالف أباك. فقال: إن عمر لم يقل

(1)

"المغني" 5/ 89 - 90.

(2)

"صحيح مسلم"(1225) باب: جواز المتعة.

(3)

"إكمال المعلم" 4/ 299.

(4)

"المعلم بفوائد مسلم" 1/ 346.

(5)

في "سنن أبي داود" و"المغني": العمرة.

(6)

"سنن أبي داود"(1793).

(7)

مسلم (1224، 1225) باب: جواز التمتع.

(8)

رواه النسائي 5/ 153 كتاب: مناسك الحج، باب: التمتع.

ص: 235

الذي يقولون

(1)

. هذا آخر كلامه، وما ذكره عن عمر فيه نظر، كيف ينهى عنها وهي في كتاب الله، وكان وقافًا عنده وعند السنة. وما حكاه عن سالم -إن كان صحيحًا عنه- فهو رد لما ذكره عن عمر، وكذا لما ذكره عن أبيه، وقد قال ابن حزم: إنَّ عمر رجع عن ذَلِكَ. يؤيده ما رواه الترمذي محَسّنًا عن ابن عباس: تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان، وأول من نهى عنها معاوية

(2)

. وفي "سنن الكجي" من حديث ليث عن طاوس: تمتع النبي صلى الله عليه وسلم حَتَّى مات، وأبو بكر حَتَّى مات، وعمر حَتَّى مات. فدل أن ما ورد عن عمر وعثمان في هذا محمول على غير متعة الحج.

قال ابن حزم: أما حديث نهي عمر، فإنما هو في متعة النساء بلا شك؛ لأنه صح عنه الرجوع إلى القول بهما في الحج

(3)

. وقال أبو عمر: إنما نهى عمر عند أكثر العلماء عن فسخ الحج في العمرة، هذِه هي التي نهى عنها

(4)

. وقوله: في إسناده مقال. ليس كذلك، وتبع فيه الخطابي

(5)

، فإن رجاله كلهم ثقات، وأبو عيسى الخراساني اسمه سليمان بن كيسان، وثقه ابن حبان وابن خلفون، وعبد الله بن القاسم وثقاه، فصيح قارئ

(6)

.

(1)

رواه البيهقي 5/ 21 كتاب: الحج، باب: كراهية من كره القران والتمتع، وذكره ابن قدامة في "المغني" 5/ 90.

(2)

الترمذي (822).

(3)

"المحلى" 7/ 107.

(4)

"الاستذكار" 11/ 211 - 212.

(5)

"معالم السنن" 2/ 143.

(6)

انظر: "الجرح والتعديل" 4/ 137 (602)، و"الثقات" 6/ 392، و"تهذيب الكمال" 34/ 167 - 168 (7559).

ص: 236

وقوله: (رجل من الصحابة): لا تضر جهالته، وادعى المنذري أن سعيد بن المسيب لم يصح سماعه من عمر

(1)

، وليس كذلك، فقد صح سماعه منه

(2)

ينعي النعمان

(3)

، وهذا الحديث لم يروه عنه إنما رواه بواسطة، ثم إنه اقتصر على أحاديث الفسخ على حديث أبي موسى وابن عباس وجابر وعائشة، وترك ما ذكره خطاب بن بشر الوراق في كتاب "المسائل عن أحمد" أنه قال: روى عشرة من الصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بفسخ الحج. قال أحمد: والخبر الذي روي أنه كان لهم خاصة ليس بالصحيح، وهذِه أخبار صحاح. وفي أبي داود من حديث فاطمة -ورآها علي قد لبست ثيابًا صبيغًا-: مالك؟ قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر أصحابه فأحلوا. رواه أبو داود

(4)

، وصححه ابن حزم

(5)

، وأخرج الشيخان عن ابن عمر: تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج. وفيه: قال للناس لما قدم مكة: "من لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة، وليحلل"

(6)

ولهما عن حفصة: يا رسول الله، ما شأن الناس حلوا بعمرة، ولم تحلل أنت؟ الحديث

(7)

.

(1)

"مختصر سنن أبي داود" 3/ 317.

(2)

ورد بهامش الأصل: أثبت سماعه منه أحمد، ونفاه يحيى بن سعيد القطان ويحيى بن معين وأبو حاتم الرازي، ورجح هذا.

(3)

ورد في الأصل أسفلها: يعني ابن مقرن.

(4)

"سنن أبي داود"(1797) كتاب: المناسك، باب: في الإقران.

(5)

"حجة الوداع" ص 432.

(6)

سيأتي برقم (1691) كتاب: الحج، باب: من ساق البدن معه، "صحيح مسلم" (1227) كتاب: الحج، باب: وجوب الدم على المتمتع.

(7)

سيأتي برقم (1725) باب: من لبد رأسه، "صحيح مسلم" (1229) كتاب: الحج، باب: بيان أن القارن لا يتحلل إلا في وقت تحلل الحاج المفرد.

ص: 237

ولأبي داود على شرط مسلم من حديث الربيع بن سبرة عن أبيه: قال سراقة: يا رسول الله، اقض لنا قضاء، وفيه: فقال: "إن الله عز وجل قد أدخل عليكم في حجكم عمرة، فإذا قدمتم فمن تطوف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة فقد حل، إلا من كان معه هدي"

(1)

ولمسلم عن أسماء قالت: خرجنا محرمين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"من لم يكن معه هدي فليحلل". الحديث

(2)

، وله أيضًا من حديث أبي سعيد الخدري: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قدمنا مكة أمرنا أن نجعلها عمرة

(3)

.

ولابن ماجه بإسناد على شرط الشيخين من حديث أبي إسحاق عن البراء بن عازب، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فأحرمنا بالحج، فلما قدمنا مكة قال:"اجعلوا حجكم عمرة"

(4)

قال الترمذي: سألت البخاري عنه فكأنه لم يعده محفوظًا، والصحيح عن أبي إسحاق عن سعيد (بن ذي حدان)

(5)

عن سهل بن حنيف

(6)

، وذكره ابن حزم من حديث معقل بن يسار، وسلف حديث سراقة، وحديث أنس وعلي السالف. قال

(1)

"سنن أبي داود"(1801) كتاب: المناسك، باب: في الإقران، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود" على شرط مسلم برقم (1580).

(2)

"صحيح مسلم"(1236) باب: ما يلزم من طاف بالبيت.

(3)

"صحيح مسلم"(1247) كتاب: الحج، باب: التقصير في العمرة.

(4)

"سنن ابن ماجه"(2982) كتاب: المناسك، باب: فسخ الحج، وضعفه الألباني في "الضعيفة"(4753).

(5)

في الأصل: سعيد بن حُدَّان، والصواب ما أثبتناه من مصادر التخريج، وهو: سعيد بن ذي حدان: كوفي، ذكره ابن حبان في "الثقات" وقال: ربما أخطأ، وقال ابن حجر في "تقريبه" كوفي مجهول من الثالثة.

انظر: "الثقات" 4/ 282، و"تهذيب الكمال" 10/ 424 (2266)، و"تقريب التهذيب" ص 235 (2300).

(6)

"علل الترمذي الكبير" 1/ 396.

ص: 238

أبو محمد بن حزم: خمسة عشر صحابيًّا رووه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأوكد أمر، ورواه عنهم نيف وعشرون من التابعين، ورواه عن هؤلاء من لا يحصيه إلا الله تعالى، فلم يسع أحد الخروج عن هذا

(1)

، وما ذكره عن عمران بن حصين، وقال في آخره: أخرجاه، يحتاج إلى تثبت؛ فإن لفظ مسلم عن مطرف بن عبد الله قال عمران: أحدثك بحديث عسى الله أن ينفعك به، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين حجة وعمرة، ثم لم ينه عنها حَتَّى مات، ولم ينزل فيه قرآن يحرمه

(2)

. وفي لفظ: قال فيها رجل برأيه ما شاء

(3)

.

وللبخاري: تمتعنا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ونزل القرآن، قال رجل برأيه ما شاء

(4)

. وروى ابن أبي شيبة من حديث أبي الضحى قال: سألت علقمة عن المتعة في الحج، فقال: ما شعرت أن أحدًا يفعلها. ومن حديث ابن سيرين أنه كان لا يرى المتعة قبل الحج، ويقول ابتدأ بالحج واعتمر.

ومن حديث هشام عن أبيه أنه قال: إنما المتعة للمحصر، وتلا قوله

تعالى: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ} الآية

(5)

[البقرة: 196]، وكذا ذكره أبو عمر عن ابن الزبير

(6)

، قال أبو عمر: ومن معنى التمتع أيضًا القرآن عند جماعة العلماء، والتمتع والقران يتفقان في سقوط سفره الثاني من

(1)

"المحلى" 7/ 103.

(2)

مسلم 1226/ 167.

(3)

مسلم 1226/ 168.

(4)

سيأتي برقم (1572).

(5)

"المصنف" 3/ 222 (13713 - 13714) كتاب: الحج، باب: من كره المتعة.

(6)

"الاستذكار" 11/ 211.

ص: 239

بلده، كما صنع المتمتع بحله من عمرة إذا حج من عامه، وكذلك يتفقان عند أكثر العلماء في الهدي لمن لم يجد هديًا

(1)

.

وقال ابن العربي في "مسالكه": التمتع على أربعة أوجه: المعروف عند عامة العلماء، وهو ما رواه مالك عن ابن دينار، والقران عند جماعة من العلماء، وفسخ الحج إلى العمرة، وجمهور العلماء يكرهونه، وما ذهب إليه ابن الزبير وهو المحصر.

وقال المهلب: أشكلت الأحاديث على الأئمة، وصعب تخليصها، ونفي التعارض عنها، وكلُّ ركب في توجيهها غير مذهب صاحبه، واختلفوا في الإفراد والتمتع والقران أيها أفضل؟ وفي الذي كان به النبي صلى الله عليه وسلم محرمًا من ذَلِكَ؟ فذهبت طائفة إلى أن إفراد الحج أفضل، هذا قول مالك وعبد العزيز بن أبي سلمة والأوزاعي وعبيد الله بن الحسن، وهو أحد أقوال الشافعي، وبه قال أبو ثور

(2)

، وممن روى أن النبي صلى الله عليه وسلم أفرد الحج جابر وابن عباس وعائشة، وبهذا عمل

الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعائشة وابن مسعود بعد النبي صلى الله عليه وسلم.

وقال أبو حنيفة والثوري: القران أفضل، وبه عمل النبي صلى الله عليه وسلم

(3)

، واحتجوا بحديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما استوت به راحلته على البيداء أهلّ بحج وعمرة

(4)

، وهو مذهب علي وطائفة من أهل الحديث، وأجازه الطبري. وقال أحمد بن حنبل: لا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان

(1)

"الاستذكار" 11/ 209.

(2)

انظر: "الاستذكار" 11/ 127 - 129، "المجموع" 7/ 143.

(3)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 2/ 103، "البناية" 4/ 183.

(4)

سبق تخريجه.

ص: 240

قارنًا، قال: والتمتع أحب إليَّ

(1)

؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة"

(2)

وقال آخرون: التمتع أفضل. وهو مذهب ابن عمر وابن عباس وابن الزبير، وبه قال عطاء، وهو أحد أقوال الشافعي، وإليه ذهب أحمد

(3)

، واحتجوا بحديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم تمتع في حجة الوداع

(4)

. وبقول حفصة: ما شأن الناس حلوا ولم تحل من عمرتك

(5)

؟

قال ابن بطال: وأما ما جاء من اختلاف ألفاظ حديث عائشة مما يوهم القرآن والتمتع، فليس ذَلِكَ بموهن للإفراد؛ لأن رواة حديث الحج عنها الأسود وعمرة والقاسم وعروة، فأما الأسود وعمرة فقالا عنها: خرجنا لا نرى إلا الحج. وقال أبو نعيم في حديثه: مهلين بالحج. وقال القاسم عنها: خرجنا في أشهر الحج، وليالي الحج، وحرم الحج. وفي رواية "الموطأ" عن القاسم، عن عروة، عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد الحج

(6)

. وكذلك صرح عروة عنها أنه أفرده، ويشهد لصحة روايتها بالإفراد أن جابرًا وابن عباس روياه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجب رد ما خالف الإفراد من حديث عائشة، إلى معنى الإفراد؛ لتواتر الرواية به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(1)

انظر: "الفروع" 3/ 301، "كشاف القناع" 2/ 376.

(2)

سيأتي برقم (7229) كتاب: التمني، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت".

(3)

انظر: "المغني" 5/ 82، "المبدع" 3/ 119.

(4)

سيأتي برقم (1691)، ورواه مسلم (1227).

(5)

يأتي برقم (1566)، ورواه مسلم (1229).

(6)

"الموطأ" ص 221.

ص: 241

قال الطحاوي: وروى مالك وجماعات عددهم عنها أن إحرامها كان بحجة. زاد حماد وغيره عن مالك: فأمرهم لما قدموا مكة أن يجعلوها عمرة. وكذلك في رواية عمرة والأسود موافقة القاسم عن

عائشة بالإفراد.

وقولها: (لا نرى إلا الحج). إنما هو على معنى لا نعرف إلا الحج؛ لأنهم لم يكونوا يعرفون العمرة في أشهر الحج، فخرجوا محرمين بالذي لا يعرفون غيره.

قال: والأشبه عندي أن يكون إحرامه كان بالحج خاصة، لا بهما؛ لأنه قد أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة، ولا يجوز أن يكون أمرهم بذلك وهم في حرمة عمرة أخرى؛ لأنهم يرجعون بذلك إلى أن يصيروا في حرمة عمرتين، وقد أجمع المسلمون على المنع من ذَلِكَ، ومحال عندنا أن يجمعوا على خلاف من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، مما لم يكن مخصوصًا به، وما لم يفسخ بعد فعله إياه. قال المهلب: وقد أشكل حديث عائشة على أئمة الفتوى، فمنهم من أوقف الاضطراب فيه عليها، ومنهم من جعل ذَلِكَ من قبل ضبط الرواة عنها، ومعناه يصح -إن شاء الله- بترتيبه على مواطنه، ووقت إخبارها عنه في المواضع التي ابتدأ الإحرام منها، ثم أعقب حين دنا من مكة بما أمر من لم يسق الهدي بالفسخ، فأما حديث الأسود عن عائشة فإنها ذكرت فيه البدأة، وأنها أهلَّت بحجة مفردة بذي الحليفة، وأهلَّ الناس كذلك، ثم لما دنوا من مكة أمر من لم يكن ساق الهدي أن يجعلها عمرة، إذ أوحى الله إليه بتجويز الاعتمار في أشهر الحج، فُسحة منه تعالى لهذِه الأمة، ورحمةً لهم بإسقاط أحد السفرين عنهم، وأمر من لم يكن معه هدي بالإحلال بعمرة؛ ليُري أمته جوازها، ويعرفهم بنعمة الله تعالى

ص: 242

عليهم عيانًا وعملًا بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم. وفي حديث عروة عن عائشة ذكرت أنهم كانوا في إهلالهم على ضروب: من مهل بحج، بعمرة، بهما، فأخبرت عما آل أمر المحرمين، واختصرت ما أهلوا به في ابتداء إحرامهم، ولم تأت بالحديث على تمامه كما جاء في حديث عمرة عنها، فإنها ذكرت إحرامهم في الموطنين، ولذلك قال القاسم: أتتك بالحديث على وجهه، يريد أنها ذكرت الابتداء بالإحرام والانتهاء إلى مكة، وأول حدودها سرف، وما أمر به من الفسخ بعمرة.

قال الطحاوي: ودل حديث عروة أنهم عرفوا العمرة في أشهر الحج بما عرفهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمرهم به بعد قدومه مكة.

واحتج من قال بالإفراد، بقول مالك: إذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثان مختلفان، وبلغنا أن أبا بكر وعمر عملا بأحدهما وتركا الآخر، فإن في ذَلِكَ دلالة على أن الحق فيما عملا به

(1)

. وقال الزهري: بلغنا أن عمر قال في قوله: {وَأَتِمُّوا الحَجَّ وَالعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]، أنه قال: من تمامها أن تفرد كل واحدة من الأخرى. وقال ابن حبيب: أخبرني ابن الماجشون قال: حدثني الثقات من علماء المدينة وغيرهم، أن أول ما أقيم للناس الحج سنة ثمان، مرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من حنين، فاستخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على مكة عتَّاب بن أسيد، وأفرد الحج، ثم حج أبو بكر بالناس سنة تسع فأفرد، ثم قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستخلف أبو بكر، فأفرد الحج خلافته سنتين، ثم ولي عمر، فلم يشك أحد أن عمر أفرده عشر سنين، وولي عثمان فأفرده اثنتى عشرة سنة

(2)

.

(1)

انظر: "التمهيد" 9/ 207.

(2)

رواه الدارقطني عن ابن عمر 2/ 239 كتاب: الحج، باب: المواقيت، والبيهقي 4/ 341 - 342 باب: تأخير الحج.

ص: 243

قال: وحَدَّثَني ابن أبي حازم، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر أن عليًّا أفرد الحج، وأفرد ابن عمر ثلاثين سنة متوالية، ما تمتع ولا قرن، إلا عامًا واحدًا. وأفردت عائشة كل عام حَتَّى توفيت. قال: فعلمنا أن الإفراد هو الذي فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم كاليقين؛ لأنا نعلم بفعل أصحابه بعده -وهم بطانته- أنهم لا يتركون ما فعل. وهكذا قال المدنيون والمصريون من أصحاب مالك. وأما نهي عثمان عن المتعة والقران، وإهلال علي بهما، فإن عثمان اختار ما أخذ به رسول الله صلى الله عليه وسلم في خاصة نفسه، وما أخذ به أبو بكر وعمر، ورأى أن الإفراد عنده أفضل من القران والتمتع.

والقران عند جماعة من العلماء في معنى التمتع؛ لاتفاقهما في المعنى، وذلك أن القارن يتمتع بسقوط سفره الثاني من بلده، كما يصنع المتمتع، وكذلك يتفقان في الهدي والصوم لمن لم يجد هديًا عند أكثر العلماء. قال المهلب: وأما قول من اختار القران؛ لأنه الذي فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه يفسر من وجهين:

أحدهما: توهين قول أنس فيما رواه عنه مروان الأصفر أنه عليه السلام قال لعلي: "لولا أن معي الهدي لأحللت"

(1)

فبان بهذا أنه عليه السلام لم يكن قارنًا؛ لأن القارن لا يجوز له الإحلال، كان معه هدي أو لم يكن، وهذا إجماع.

ثانيهما: أن التمتع والقران رخصتان، والإفراد أصل، ومحال أن تكون الرخصة أفضل من الأصل؛ لأن الدم الذي يدخل في التمتع والقران جبران، وهو يجب لإسقاط أحد السفرين، أو لترك شيء من

(1)

سلف برقم (1558) باب: من أهل في زمن النبي كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 244

الميقات؛ لأنه لو لم يقرن وأتى بكل منهما منفردًا بعد أن لا تكون العمرة فعلت في أشهر

(1)

الحج وأتى بكل واحدة من ميقاتها لما وجب عليه دم.

وقد أنكر القران على أنس عائشةُ وابنُ عمر وجعلاه من وهمه، وقد سلف.

وأما حجة من قال بالتمتع، وأنه عليه السلام كان متمتعًا: فحديث ابن عمر، فهي مردودة بما رواه البخاري في حديث ابن عمر بما يرد به على نفسه، وقد سلف من المغازي من البخاري. وأيضًا قوله عليه السلام في حديث عائشة:"لو استقبلت من أمري ما استدبرت، ما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة "

(2)

.

وهذا نص قاطع أنه لم يُهل بعمرة، وليس في قوله "استقبلت" إلى آخره: دليل على أن التمتع أفضل من القران كما زعم أحمد

(3)

، وإنما قال ذلك تطييبًا لقلبهم- كما سلف، وسيأتي ما روي عن عروة عن عائشة بما يوهم أنه عليه السلام تمتع، في باب: من ساق الهدي معه

(4)

-إن شاء الله- وبيان الشبهة فيه. وأما قول الناس لأبي شهاب حين قدم مكة متمتعًا: تصير حجتك الآن مكية

(5)

. فمعناه: أنه ينشئ حجة من مكة إذا فرغ من تمتعه، كما ينشئ أهل مكة الحج من مكة؛ لأنها ميقاتهم للحج، إلا أن غير أهل مكة إن حلوا من العمرة في أشهر الحج، أنشئوا الحج من عامهم دون أن يرجعوا إلى أفقهم، أو أفق مثل أفقهم في

(1)

في الأصل: شهر، وصوبه في الهامش: أشهر.

(2)

سيأتي برقم (1651) باب: تقضي الحائض المناسك كلها.

(3)

انظر: "المغني" 5/ 84.

(4)

سيأتي برقم (1692) باب: من ساق البدن معه.

(5)

سيأتي برقم (1568).

ص: 245

البعد، فعليهم في ترك ذلك الدّم، ولو خرج إلى الميقات بعد تمام العمرة؛ ليهل بالحج منه لم يسقط ذلك عنه الدم -عند مالك وأصحابه- إلا أن يكون الميقات أفقه، أو مثل أفقه

(1)

.

وأما حديث حفصة وقولها: (ما شأن الناس حلوا ولم تحل أنت من عمرتك؟) فإنه يوهم إهلاله بالعمرة وأنه تمتع؛ لأن الإحلال كان لمن تمتع، وهو وهم فاسد.

وذكر (عمرتك) في الحديث وتركها سواء؛ لأن المأمورين بالحل هم المحرمون بالحج؛ ليفسخوه في عمرة، ويستحيل أن يأمر بذلك المحرمين بعمرة؛ لأن المعتمر يحل بالطواف والسعي، والخلاف لا شك فيه عندهم، وقد اعتمروا معه عُمَرًا، وعرفوا حكمها في الشريعة، فلم يكن يعرفهم بشيء في علمهم، بل عرفهم بما أحله الله لهم في عامهم ذلك من فسخ الحج في عمرة، لما أنكروه من جواز العمرة في زمن الحج.

وللعلماء في قول حفصة: (ما شأن الناس حلوا ولم تحل من عمرتك؟) ضروب من التأويل، فقال بعضهم: إنما قالت ذلك؛ لأنها ظنت أنه عليه السلام فسخ حجه بعمرة، كما أمر بذلك من لا هدي له من أصحابه، وهم الأكثر، فذكر لها العلة المانعة من الفسخ، وهي سوقه الهدي، فبان أن الأمر ليس كما ظنت، وقيل: معناه: ما شأن الناس حلوا من إحرامهم ولم تحل أنت من إحرامك الذي ابتدأته معهم بنية واحدة. بدليل قوله "لو استقبلت من أمري ما استدبرت" الحديث

(2)

(1)

انظر: "التفريع" 1/ 319، "عيون المجالس" 2/ 790، "الذخيرة" 3/ 208.

(2)

سبق تخريجه قريبًا.

ص: 246

فعلم بهذا أنه لم يحرم بعمرة، وهو قول ابن القصار. وقيل معناه: لِمَ لمْ تحل من حجك بعمرة كما أمرت أصحابك؛ وقالوا: قد تأتي (من) بمعنى: الباء، كما قال تعالى:{يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ} [الرعد: 11]،

أي: بأمر الله. تريد ولم تحل أنت بعمرة من إحرامك الذي جئت به مفردًا في حجك.

وأما قول ابن عباس لأبي جمرة في المتعة: هي السنة. فمعناه: أن كل ما أمره النبي صلى الله عليه وسلم بفعله فهو سنة، وكذلك معنى قول علي لعثمان في القران: ما كنت أدع سنة النبي صلى الله عليه وسلم لقول أحد. يعني سنته التي أمر بها؛ لأنه عليه السلام فعل في خاصته غيرها وهو الإفراد.

وأما فسخ الحج في عمرة فهو في حديث عائشة وابن عباس وجابر وغيرهم. والجمهور على تركه، وأنه لا يجوز فعله بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس لأحد دخل في حجة أن يخرج منها إلا بتمامها، ولا يحله منها شيء قبل يوم النحر من طواف، ولا غيره، وإنما أمر به أصحابه؛ لينسخ ما كان عليه أهل الجاهلية بما سلف؛ لأنه خشي حلول أجله قبل حجة أخرى فيجعلها عمرة في أشهر الحج، فلما لم يتسع له العمر بما استدل عليه من كتاب الله من قرب أجله أمرهم بالفسخ، وأحل لهم ما كانت الجاهلية تحرمه من ذلك.

وقد قال أبو ذر: ما كان لأحدٍ بعدنا أن يحرم بالحج، ثم يفسخه في عمرة. وروي ذلك عن عثمان. وعن عمر أنه قال: إن الله يخص نبيه بما شاء، وإنه قد مات، فأتموا الحج والعمرة لله. وقال جابر: المتعتان فعلناهما على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم نهى عمر عنهما، فلن نعود إليهما -يعني: فسخ الحج ومتعة النساء- ثم ذكر حديث الحارث بن بلال السالف.

ص: 247

قال الطحاوي: لا يجوز للصحابة أن يقولوا هذا بآرائهم، وإنما قالوه من جهة ما وقفوا عليه؛ لأنهم لا يجوز لهم ترك ما فعلوه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفسخ إلا بتوقيف منه إياهم على الخصوصية بذلك، ومنع من سواهم منه، فثبت أن الناس جميعًا بعدهم ممنوعون من الخروج من الحج إلا بتمامه، إلا أن يصدوا

(1)

، ووجه ذلك من طريق النظر: أنه من أحرم بعمرة فطاف لها وسعى، أنه قد فرغ منها، وله أن يحلق ويحل إذا لم يكن ساق هديًا، ورأيناه إذا ساقه لمتعته، فطاف لعمرته وسعى لم يحل حتى يوم النحر، فيحل منها ومن حجته إحلالًا واحدًا، فكان الهدي الذي ساقه لمتعته التي لا يكون عليه فيها هدي إلا بأن يحج، يمنعه من أن يحل بالطواف إلا يوم النحر؛ لأن عقد إحرامه هكذا، كان، أن يدخل في عمرة فيتمها فلا يحل منها حتى يحرم بحجة، ثم يحل منها ومن العمرة التي قدمها قبلها معًا، وكانت العمرة لو أحرم منها منفردة حل منها بعد فراغه من تلك العمرة بقي على إحرامه إلى يوم النحر، فلما كان الهدي الذي هو من سبب الحج يمنعه الإحلال بالطواف بالبيت قبل يوم النحر، كان دخوله في الحج أولى وأحرى أن يمنعه من ذلك إلى يوم النحر.

(1)

انظر: "شرح معاني الآثار" 2/ 194 - 196، وحديث الحارث بن بلال رواه أيضًا أبو داود (1808) كتاب: المناسك، باب: الرجل يهل بالحج ثم يجعلها عمرة، والنسائي 5/ 179 كتاب: مناسك الحج، باب: إباحة فسخ الحج بعمرة لمن لم يسق الهدي، وابن ماجه (2984) كتاب: المناسك، باب: من قال كان فسخ الحج لهم خاصة، وأحمد 3/ 469، والطبرانى 1/ 370 (1138)، وضعفه الألباني في:"الضعيفة" 3/ 49 (1003) وقد تقدم.

ص: 248

قال ابن بطال: ولم يجز فسخ الحج أحد من الصحابة إلا ابن عباس، وتابعه أحمد وأهل الظاهر، وهو شذوذ من القول، والجمهور الذين لا يجوز عليهم تحريف التأويل هم الحجة التي يلزم اتباعها

(1)

.

الحديث الثاني:

حديث عائشة: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ حَجَّةِ الوَدَاعِ، فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ .. الحديث، وأخرجه مسلم أيضًا

(2)

، وسلف فقهه.

وقولها: (فمنا من أهلَّ بعمرة). قيل معناه: فسخ الحج، وقيل: على ظاهره.

وقولها: (وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج). هو صريح في الإفراد، وقد سلف الاختلاف فيه. قال ابن التين: وعائشة أقعد الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلمهم بما كان عليه، لا سيما وقسمته ثلاثة أقسام.

وقولها: (حتى كان يوم النحر). أي: لأنه أول وقت تحلل الحج.

الحديث الثالث:

حديث مروان بن الحكم: شَهِدْتُ عُثْمَانَ وَعَلِيًّا، وَعُثْمَانُ يَنْهَى عَنِ المُتْعَةِ، وَأَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا، فَلَمَّا رَأى عَلِيٌّ أَهَلَّ بِهِمَا: لَبَّيْكَ بِعُمْرَةِ وَحَجَّةٍ، قَالَ: مَا كُنْتُ لأَدَعَ سُنَّةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِقَوْلِ أَحَدٍ.

وهو من أفراده، وأخرجا من حديث سعيد بن المسيب قال: اجتمع عثمان وعلي بعسفان، فكان عثمان ينهي عن المتعة أو العمرة، فقال

(1)

"شرح ابن بطال" 4/ 242 - 251 بتصرف وانظر: "المغني" 5/ 98، "الفروع" 3/ 335، "المحلى" 7/ 99.

(2)

"صحيح مسلم"(1211) كتاب: الحج، باب: بيان وجوه الإحرام وأنه يجوز (118) إفراد الحج والتمتع والقران.

ص: 249

عليٌّ: ما تريد إلى أمر فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم تنهى عنه؛ (قال عثمان)

(1)

: دعنا منك، فقال: إني لا أستطيع أن أدعك، فلما رأى علي ذلك، أهل بهما جميعًا. لم (يقل)

(2)

البخاري: دعنا. إلى، أدعك

(3)

. ولهما

(4)

عن عبد الله بن شقيق قال: كان عثمان ينهى عن المتعة، وكان علي يأمر بها، فقال عثمان لعلي كلمة، فقال علي: لقد علمت أنا قد تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أجل، ولكنا كنا خائفين

(5)

، وقد سلف تأويل ذلك.

قال ابن التين: إنما نَهْيُ عثمان عن القرآن يحمل على ما سمع منه على إرداف الحج على العمرة. وقال أبو الوليد: لم يكن علي محرمًا بعمرة، وإنما قرن ابتداءً، وخالفه أيضًا في أنه لم ينه عن ذلك، وإنما أراد أن الإفراد أفضل فقط، وإظهار علي القران؛ ليظهر ما نواه منه، وقد اختلف العلماء في النطق بنفس النسك، فروي عن ابن عمر أنه كان يرى ترك التسمية، وقال: أليس الله يعلم ما في نفسك

(6)

؟ وروي عن عائشة التسمية، وعن عطاء: لا تجزئه النية

(7)

.

(1)

ليست في الأصل.

(2)

في (م): يخرج.

(3)

سيأتي برقم (1569)، ورواه مسلم (1223/ 159).

(4)

ورد بهامش الأصل ما نصه: إنما هو في مسلم فقط.

(5)

رواه مسلم (1223/ 158) كتاب: الحج، باب: جواز التمتع.

(6)

رواه البيهقي في "السنن الكبرى" 5/ 40 كتاب: الحج، باب: من قال: لا يسمي في إهلاله حجًّا ولا عمرة وأن النية تكفي منهما، وفي "معرفة السنن والآثار" 7/ 125 (9532) كتاب: المناسك، هل يسمي الحج أو العمرة عند الإهلال.

(7)

رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" 3/ 335 (14841) كتاب: المناسك، من كان يقول: إذا أردت الحج فلا تسم شيئًا؛ لكنه بلفظ: تجزئه النية.

ص: 250

وقوله: (ما كنت لأدع .. ) إلى آخره. يحتمل أن يريد ما فعله، وأن يريد ما أذن فيه؛ لأن من أمر بشيء كان كفاعله.

وفيه: ما كان عليه عثمان من الحكم أنه لا يلوم مخالفه.

وفيه: أن القوم لم يكونوا يسكتون عن قول يرون أن غيره أمثل منه إلا بينوه.

وفيه: أن طاعة الإمام إنما تجب في المعروف.

الحديث الرابع:

حديث ابن طاوس عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابن عَبَّاسٍ: كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ العُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الحَجِّ مِنْ أَفْجَرِ الفُجُورِ فِي الأَرْضِ، وَيجْعَلُونَ المُحَرَّمَ صَفَر، وَيَقُولُونَ: إِذَا بَرَأَ الدَّبَرْ، وَعَفَا الأَثَرْ، وَانْسَلَخَ صَفَرْ، حَلَّتِ العُمْرَةُ لِمَنِ اعْتَمَرْ. قَدِمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ صَبِيحَةَ رَابِعَةٍ مُهِلِّينَ بِالحَجِّ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً، فَتَعَاظَمَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ الحِلِّ؛ قَالَ:"حِلٌّ كُلُّهُ".

وأخرجه مسلم أيضًا

(1)

.

وفي بعض ألفاظ البخاري: يسمون المحرم صفر.

وابن طاوس: هو عبد الله، قاله أصحاب الأطراف، وقوله:(كانوا). يعني الجاهلية، وذلك من تحكماتهم المبتدعة.

ولأبي داود: قال ابن عباس: والله ما أعمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة في ذي الحجة؛ إلا ليقطع أمر أهل الشرك، فإن هذا الحي من قريش، ومن دان دينهم كانوا يقولون: إذا عفا الوبر، وبرأ الدَّبَر، ودخل صفر، فقد

(1)

"صحيح مسلم"(1240) كتاب: الحج، باب: جواز العمرة في أشهر الحج.

ص: 251

حلت العمرة لمن اعتمر

(1)

. فكانوا يحرمون العمرة حتى ينسلخ ذو الحجة والمحرم.

وقوله: (صفر) كذا هو بغير ألف، كذا هنا في أصل بخط الدمياطي وفي مسلم، والصواب صفرًا؛ لأنه مصروف قطعًا، وفي "المحكم" كان أبو عبيدة لا يصرفه، فقيل له: لم لا تصرفه؟ لأن النحويين قد أجمعوا على صرفه وقالوا: لا يمنع الحرف من الصرف إلا علتان، فأخبرنا بالعلتين فيه، فقال: نعم هما المعرفة والساعة، قال المطرز: يرى أن الأزمنة كلها ساعات، والساعات مؤنثة

(2)

.

قال عياض: وقيل: صفر: داء يكون في البطن، كالحيات إذا اشتد جوع الإنسان عضته

(3)

، وقال رؤبة: هي حية تلتوي في البطن، وهي أعدى من الجرب عند العرب

(4)

. وهذا إخبار عن النسيء الذي كانوا يفعلونه، كانوا يسمون المحرم صفرًا، ويحلونه، وينسئون المحرم أي: يؤخرون تحريمه إلى ما بعد صفر؛ لئلا يتوالى عليهم ثلاثة أشهر محرمة، فتضيق عليهم أمورهم من الإغارة وغيرها، فضللهم الله تعالى بذلك فقال:{إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} الآية [التوبة: 37]. وقال القرطبي: كانوا يحلون من الأشهر الحرم ما احتاجوا إليه، ويحرمون مكان ذلك غيره

(5)

.

(1)

"سنن أبي داود"(1987) كتاب: المناسك، باب: العمرة، وحسنه الألباني في "صحيح أبي داود" 6/ 227 (1734).

(2)

"المحكم" 8/ 204.

(3)

"مشارق الأنوار" 2/ 49.

(4)

انظر: "غريب الحديث" للهروي 1/ 26.

(5)

"المفهم" 3/ 363.

ص: 252

قال الكلبي: وأول من نسأ القلمس واسمه: حذيفة بن عبيد الكناني، ثم ابنه عباد، ثم ابنه قُلَع، ثم ابنه أمية بن قلع بن عوف بن أمية، ثم جنادة بن أمية، وعليه قام الإسلام، وقيل: أول من نسأ نعيم بن ثعلبة بن جنادة، وهو الذي أدركه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: مالك بن كنانة، وقيل: عمرو بن لحي.

(وبرأ): بفتح الباء، أي: أفاق، قال ابن فارس يقال: برأت من المرض وبرئت أيضًا

(1)

. والدبر: بفتحها جمع دبرة، يعني: الجرح الذي يكون في ظهر الدابة، وقيل: أن يقرح خف البعير. حكاه عياض

(2)

، (وعفا الأثر). أي: درس أثر الحاج من الطريق، وأمحي بعد رجوعهم بوقوع الأمطار وغيرها؛ لطول مرور الأيام. وقال الخطابي: أي: درس أثر الوبر المذكور

(3)

، وفي أبي داود: وعفا الوبر

(4)

أي: كثر وبرها الذي خلفته رحال الحاج، وعفا من الأضداد، ومنه قوله تعالى:{حَتَّى عَفَوْا} [الأعراف: 95]، أي: كثروا، وقال الداودي:(عفا الأثر). أي: آثار الحج، وما نالهم في حجهم من الشعث.

(وانسلخ صفر). أي: انقضى.

وقوله: (ويجعلون المحرم صفر): هو النسيء الذي قال تعالى فيه أنه زيادة في الكفر. يحلون الشهر الحرام. يعني: المحرم، يحرمون الحلال صفر. أي: يؤخرون حرمة الحرام إلى الحلال صفر.

(1)

"مجمل اللغة" 1/ 122.

(2)

"مشارق الأنوار" 1/ 253.

(3)

"أعلام الحديث" 2/ 857.

(4)

سبق تخريجه.

ص: 253

قال ابن فارس: كانوا إذا صدروا عن منى يقيم الرجل فيقول: أخرت عنكم حرمة المحرم، وأجعلها في صفر؛ لأنهم كانوا يكرهون أن يتوالى عليهم ثلاثة شهور لا يغيرون فيها؛ لأن معيشتهم كانت من الإغارة، فقال تعالى:{إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ}

(1)

[التوبة: 37]. وقال ابن دريد: الصفران: شهران من السنة سمي أحدهما في الإسلام المحرم

(2)

. وقال في "المحكم" عن بعضهم: قال بعضهم: سمي صفرًا؛ لأنهم كانوا يمتارون الطعام فيه من المواضع، وقال بعضهم: سمي بذلك لإصفار مكة من أهلها إذا سافروا. وروي عن رؤبة أنه قال: سموا الشهر صفرًا؛ لأنهم كانوا يغيرون فيه، فيتركون من لقوا صفرًا من المتاع، وذلك أن صفر بعد المحرم، فقالوا: صفر الناس منا صفرًا

(3)

.

وقال القزاز: قالوا: إنما سموه صفرًا؛ لأنهم كانوا يخلون البيوت منهم بخروجهم إلى بلدٍ يقال له الصفرية يمتارون وقيل: لأنهم كان يخرجون إلى الغارة فتبقى بيوتهم صفرًا. وقيل: لأن العرب كانوا يزيدون في كل أربع سنين شهرًا يسمونه؛ صفر الثاني، فتكون السنة ثلاثة عشر شهرًا كي تستقيم لهم الأزمان على موافقة اسمائها مع المشهور، وكانوا يتطيرون به، ويقولون: لأن الأمور فيه متعلقة، والآفات واقعة.

وقوله: (قدم صبيحة رابعة). فيه: دخولها نهارًا، وكان ابن عمر يستحبه، وكذا عطاء والنخعي وابن راهويه وابن المنذر، وهو أصح

(1)

"مجمل اللغة" 3/ 866.

(2)

"جمهرة اللغة" لابن دريد 2/ 740.

(3)

"المحكم" 8/ 204.

ص: 254

الوجهين عندنا، وقيل: دخولها ليلًا ونهارًا سواء، وهو قول طاوس والثوري، وعن عائشة وسعيد بن جبير وعمر بن عبد العزيز: دخولها ليلًا أفضل من النهار، وقال مالك: يستحب دخولها نهارًا، فمن جاءها ليلًا فلا بأس به. قال: وقد كان عمر بن عبد العزيز يدخلها لطواف الإفاضة ليلًا

(1)

، وسيأتي ترجمة البخاري دخولها ليلًا ونهارًا، ولم يأت في دخولها ليلًا شيء نعلمه.

وقوله: (تعاظم ذلك). أي: تعاظم مخالفة العادة التي كانوا عليها من تأخير العمرة عن أشهر الحج، نقلوه عن الإحلال فقالوا: أي الحل: إحلال الطيب والمخيط كما يحل من رمى جمرة العقبة وطاف للإفاضة، أم غيره؟ فأخبره أنه الحل كله بإصابة النساء.

الحديث الخامس:

حديث أَبِي مُوسَى: قَدِمْتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فَأَمَرَهُ بِالحِلِّ.

يريد: أمره بالفسخ لما لم يكن معه هدي، كما أمر أصحابه الذين لا هدي معهم.

الحديث السادس:

حديث

(2)

مالك عن نافع عَنِ ابن عُمَرَ، عَنْ حَفْصَةَ أَنَّهَا قَالَتْ؛ يَا رَسُولَ اللهِ، مَا شَأْنُ النَّاسِ حَلُّوا بِعُمْرَةٍ وَلَمْ تَحْلِلْ أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِكَ؛ قَالَ:"إِنِّي لَبَّدْتُ رَأْسِي، وَقَلَّدْتُ هَدْيِي، فَلَا أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ".

وقد أخرجه مسلم أيضًا

(3)

، وقد أسلفنا الكلام عليه واضحًا.

(1)

انظر: "الاستذكار" 11/ 24، "الذخيرة" 3/ 235، "كفاية الطالب" 1/ 463، "حاشية العدوي على كفاية الطالب" 1/ 463.

(2)

ورد فوقها كلام غير واضح في الأصل.

(3)

"صحيح مسلم"(696) كتاب: صلاة المسافرين، باب: قصر الصلاة بمنى.

ص: 255

قال أبو عمر: زعم بعض الناس أنه لم يقل أحد في هذا الحديث عن نافع: ولم تحل أنت من عمرتك؟ إلا مالك وحده، قال: وهذِه اللفظة قد قالها عن نافع جماعة منهم: عبيد الله بن عمر وأيوب بن أبي تميمة، وهما ومالك حفاظ أصحاب نافع، قال: ولما لم يكن لأحد من العلماء سبيل إلى الأخذ بكل ما تعارض وتدافع من الآثار في هذا الباب، ولم يكن بد من المصير إلى وجه واحد منها، صار كل واحد إلى ما صح عنده بمبلغ اجتهاده، فصار مالك (أي)

(1)

: والشافعي إلى تفضيل الإفراد لوجوه

(2)

منها: أنه روي عن عائشة أيضًا من وجوه، فكانت تلك الوجوه عنده أولى من حديث حفصة هذا. ومنها: أنه

الثابت في حديث جابر. ومنها: أنه اختيار أبي بكر وعمر وعثمان. ومنها: أنه أتم ولذلك لم يحتج فيه إلى جبر شيء بدم. وما أعلم أحدًا ردّ حديث حفصة هذا بأن قال: إن مالكًا تفرد بتلك اللفظة إلا هذا الرجل، والله يغفر لنا وله

(3)

.

قال أبو عمر: وهذا أمر مجمع عليه في القارن، أنه لا يحل حتى يحل منهما جميعًا

(4)

.

وقال ابن التين: قولها: ولم تحل أنت من عمرتك؛ يحتمل أن تريد من حجك؛ لأن معناهما متقارب بجامع القصد، وقيل: إنها إنما سمعته يأمر الناس بسرف بفسخ الحج في العمرة، ظنت أنه فسخ الحج فيها، وقيل: اعتقدت أنه كان معتمرًا. وقيل: يحتمل أن يكون قارنًا -كما ذكره الخطابي

(5)

- وقيل: يحتمل لمَ لمْ تهل بعمرة، وتتحلل بها؟

(1)

كذا بالأصل ولعلها زائدة.

(2)

سبق تخريج المسألة.

(3)

"التمهيد" 15/ 298 - 301 بتصرف.

(4)

"التمهيد" 15/ 302.

(5)

"أعلام الحديث" 2/ 862، "معالم السنن" 2/ 145.

ص: 256

قال: والصواب أن المراد: لمَ لمْ تفسخ حجك في عمرة كفعل غيرك؟ ولعلها لم تسمع قوله "من كان معه هدي فلا يحل"

(1)

.

وقال القرطبي: معنى قولها، وقول ابن عباس:(من عمرتك). أي: بعمرتك، كما قال تعالى:{يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ} [الرعد: 11] أي: بأمر الله، عبر بالإحرام بالعمرة عن القرآن؛ لأنها السابقة في إحرام القارن قولًا ونية، ولا سيما على ما ظهر من حديث ابن عمر أنه عليه السلام كان مفردًا

(2)

.

وقوله: "لبدت رأسي وقلدت هديي" قال الداودي: فيه أن من لبد وقلد لا يحل حتى يحلق ويفرغ من الحج كله، وقال غيره: لا يمنع ذلك من إحلاله من عمرته؛ لأن من فعل ذلك وأهل بعمرة ينحر ويحلق عند كمالها، ولا يجب عليه لأجل التلبيد والتقليد إرداف حجة عليها، وإنما معناه: أن في الكلام حذفًا، وذلك أن يعلمها أنه لبد رأسه وقلد هديه للحج، فلا يمكنه التحلل من ذلك قبل أن يبلغ الهدي محله وينحره بمنى بعد كمال حجه، وأما من أحرم بعمرة وأكملها فلا يردف ويحلق، ولا يقال كره الحلق؛ لقرب الحج على ما ذكره مالك أنه يكره لمن اعتمر أن يحلق إذا قرب من الموسم؛ لأن مالكًا كان يقصر ولو من شعره، بخلاف الحج فيجمع بين الأمرين، وحفصة لم تسأله عن ترك الحلاق، وإنما سألته عن ترك التحلل

(3)

.

(1)

سلف برقم (1638) باب: طواف القارن، ورواه مسلم (1211) كتاب: الحج، باب: بيان وجوه الإحرام وأنه

(2)

"المفهم" 3/ 355.

(3)

"المنتقى" 4/ 26.

ص: 257

الحديث السابع:

حديث أبي جمرة نصر بن عمران قَالَ: تَمَتَّعْتُ فَنَهَانِي نَاسٌ، فَسَأَلْتُ ابن عَبَّاسٍ، فَأَمَرَنِي، فَرَأَيْتُ فِي المَنَامِ كَأَنَّ رَجُلًا يَقُولُ لِي: حَجٌّ مَبْرُورٌ وَعُمْرَةٌ مُتَقبلَةٌ. فَأخْبَرْتُ ابن عَبَّاسٍ، فَقَالَ: سُنَّةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وقال لِي: أَقِمْ عِنْدِي، وأجعل لَكَ سَهْمًا مِنْ مَالِي. فقَالَ شُعْبَةُ؛ فَقُلْتُ: لِمَ؟ فَقَالَ: لِلرُّؤْيَا التِي رَأَيْتُ.

وأخرجه مسلم أيضًا بدون: أقم عندي، إلى آخره

(1)

، وسببه أن الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة

(2)

.

وفيه: ما كانوا عليه من التعاون على البر والتقوى، وحمدهم لمن يفعل الخير، فخشي أبو جمرة من تمتعه هبوط الأجر، ونقص الثواب؛ للجمع بينهما في سفر واحد وإحرام واحد، وكان الذين أمروا بالإفراد

إنما أمروه بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في خاصة نفسه؛ ليفرد الحج وحده، ويخلص عمله من الاشتراك فيه، فأراه الله الرؤيا؛ ليعرفه بها أن حجه مبرور، وعمرته متقبلة في حال الاشتراك؛ ولذلك قال له ابن عباس: أقم عندي. ليقص على الناس هذِه الرؤيا المثبتة لحال التمتع، ففيه دليل أن الرؤيا الصادقة شاهدة على أمور اليقظة، وكيف لا وهي جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة؟

وفي قوله: (أجعل لك سهمًا من مالي). أن العالم يجوز له أخذ الأجرة على العلم، وقد أسلفنا أن قوله لأبي جمرة: هي السنة. أن معناه: أن كل ما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بفعله فهو السنة، فراجعه.

(1)

"صحيح مسلم"(1242) كتاب: الحج، باب: جواز العمرة في أشهر الحج.

(2)

حديث سيأتي برقم (6989) كتاب: التعبير، باب: الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة.

ص: 258

الحديث الثامن:

حديث أبي شهاب قَالَ: قَدِمْتُ مُتَمَتِّعًا مَكَّةَ بِعُمْرَةٍ .. إلى آخره. الحديث بطوله.

قال أبو عبد الله: أبو شهاب ليس له مسند إلا هذا. قال ابن التين: كأنه يقول: من كان هكذا لا يجعل حديثه أصلا من أصول العلم، واسمه: موسى بن نافع الحفاظ، وقد سلف الكلام عليه، وهما اثنان: أبو شهاب (خ. م. س) الحناط الكبير

(1)

هذا، والصغير عبد ربه بن نافع (خ. م. ت. ق)، وكلاهما في الصحيحين.

وفيه تقديم وتأخير، التقدير: وقد أهلوا بالحج مفردًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اجعلوا إحرامكم عمرة، وتحللوا بعمل العمرة" وهذا معنى فسخ الحج إلى العمرة، وهو أبين ما في هذِه الأحاديث من فسخه الحج إلى العمرة، وفي حديث جابر هذا إنما فعل ذلك لأنهم كانوا يتحرجون من العمرة في أشهر الحج، كما سلف، فأبطله وحضّ عليه كما في نذر عمر في الجاهلية، فإنه حضه على الوفاء بالنذر

(2)

، وإن كان نذر الكافر لا يلزم إذا. أسلم.

وهذا الحديث طرف من حديث جابر بن عبد الله الطويل، وقد ساقه مسلم أحسن سياقة، وهو من أفراده

(3)

، والبخاري ذكر جله في مواضع متفرقة من حديث جابر، وابن عمر، وابن عباس وابن مسعود،

(1)

ورد بهامش الأصل ما نصه: أبو شهاب الكبير قال فيه أحمد: منكر الحديث. قال في "الكاشف" في ترجمة الصغير: صدوق. وكل منهما له ترجمة في "الكمال".

(2)

سيأتي برقم (2032) كتاب: الاعتكاف، باب: الاعتكاف ليلًا، ورواه مسلم (1656) كتاب: الإيمان، باب: نذر الكافر وما يفعل فيه إذا أسلم.

(3)

"صحيح مسلم"(1216) كتاب: الحج، باب: بيان وجوه الإحرام وأنه يجوز

ص: 259

وغيرهم

(1)

، وكذا فعل مسلم أيضًا

(2)

، وصنف ابن المنذر عليه مصنفًا سماه (التحبير"، استنبط منه مائة ونيفًا وخمسين نوعًا من وجوه العلم، وبين في كل وجه منها وجه استدلاله، من أغربها: كراهة الحل للمحرمة، وبه قال أحمد، ومن فوائد القطعة التي ساقها البخاري: التقصير للمعتمر؛ ليتوفر الشعر للحُلاّق يوم النحر.

الحديث التاسع:

حديث سعيد بن المسيب قَالَ: اخْتَلَفَ عَلِيٌّ وَعُثْمَانُ وَهُمَا بِعُسْفَانَ فِي المُتْعَةِ، فَقَالَ عَلِيٌّ: مَا تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَنْهَى عَنْ أَمْرٍ فَعَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. فَلَمَّا رَأى ذَلِكَ عَلِيٌّ أَهَل بِهِمَا جَمِيعًا.

وقد أسلفناه في الحديث الثالث

(3)

.

(1)

سلف برقم (1557) باب: من أهل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم، وسيأتي برقم (1570) باب: من لبى بالحج وسماه، و (1651) باب: تقضي الحائض المناسك كلها، و (1758) كتاب: العمرة، باب: عمرة التنعيم، و (2505 - 2506) كتاب: الشركة، باب: الاشتراك في الهدي والبدن، و (4352) كتاب: التمني، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت)، و (7367) كتاب: الاعتصام، باب: نهي النبي صلى الله عليه وسلم على التحريم إلا ما تعرف إباحته.

(2)

رواه مسلم (1216) كتاب: الحج.

(3)

ورد بهامش الأصل ما نصه: آخر الجزء الأول من الجزء السادس من تجزئة المصنف.

وبالجانب الآخر من الهامش كتب: ثم بلغ في السادس بعد العشرين كتبه مؤلفه.

ص: 260

‌باب: مَن لَبَّى بِالحَجِّ وَسَمَّاهُ

1570 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ قَالَ: سَمِعْتُ مُجَاهِدًا يَقُولُ: حَدَّثَنَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما: قَدِمْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ نَقُولُ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ بِالحَجِّ. فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَجَعَلْنَاهَا عُمْرَةً. [انظر: 1557 - مسلم: 1216 - فتح: 3/ 432]

ذكر فيه حديث جابر: قَدِمْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ نَقُولُ: لبَّيْكَ بِالحَجِّ. فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أن نجعلها عُمْرَةً.

وقد سلف الكلام على فقهه، ويؤخذ منه أن التعيين أفضل، وأن يسميه في تلبيته، وكذا في التمتع والقران.

ص: 261

‌باب:

1571 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي مُطَرِّفٌ عَنْ عِمْرَانَ رضي الله عنه قَالَ: تَمَتَّعْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَنَزَلَ القُرْآنُ، قَالَ رَجُلٌ بِرَأْيِهِ مَا شَاءَ. [4518 - مسلم: 1226 - فتح: 3/ 432]

ذكر فيه حديث عمران -يعني: ابن الحصين- تَمَتَّعْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ونزل القُرْآنُ، قَالَ رَجُلٌ بِرَأْيِهِ مَا شَاءَ.

في بعض نسخ البخاري: باب التمتع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد أدرجه ابن بطال في الباب الأول

(1)

؛ لأنه كمعنى حديث جابر في التسمية لما أحرم به، ولا شك أن عمران لم يكن ليقدم على القول عن نفسه، وعن أصحابه أنهم تمتعوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا وأنهم قد أسمع بعضهم بعضًا تلبيتهم للحج وتسميتهم له، ولولا ما تقدم لهم قبل تمتعهم من تسميتهم الحج والإهلال به لم يعلم عمران إن كانوا قصدوا مكة بحج أو عمرة، إذ عملهما واحد إلى موضع الفسخ، والفسخ لم يكن حينئذٍ إلا للمفردين بالحج، وهم الذين تمتعوا بالعمرة ثم حلوا، ثم أحرموا بالحج، فدل هذا كله على أنه لا بد من تعيين الحج أو العمرة عند الإهلال، وأن هذا مفتقر إلى النية عند الدخول فيه. وقول عمران:(تَمَتَّعْنَا علي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل القرآن)، يريد أن التمتع والقران معمول به على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينسخه شيء، ونزل القرآن بإباحة العمرة في أشهر الحج في قوله:{فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ} الآية [البقرة: 196].

(1)

"شرح ابن بطال" 4/ 253.

ص: 262

وقوله: (قال رجل برأيه ما شاء): يعني من تركه، أو الأخذ به، وأن الرأي بعد النبي صلى الله عليه وسلم باختيار الإفراد لا ينسخ ما سَنَّهُ من التمتع والقران.

قال ابن الجوزي: كأنه يريد عثمان.

وقال النووي والقرطبي: يريد عمر

(1)

، زاد ابن التين: يحتمل أن يكون أراد أبا بكر أو عمر أو عثمان. وقد ذكر البخاري في التفسير حديث عمران قال: أنزلت آية المتعة في كتاب الله، ففعلناها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينزل قرآن يحرمه، ولم ينه عنها حتى مات، قال رجل برأيه ما شاء، قال محمد: يقال: إنه عمر

(2)

.

وفي "الموطأ" عن الضحاك بن قيس قال: ما يعقلها إلا من جهل أمر الله

(3)

. وروي نحو ذلك عن ابن الزبير ومعاوية، وفسر ذلك ابن عمر، وذلك أنه سئل عن متعة فأمر بها، فقيل له: تخالف أباك؟! فقال: إن عمر لم يقل الذي تقولون، إنما قال: أفردوا الحج عن العمرة، فإنه أتم؛ لأن العمرة لا تتم إلا في أشهر الحج إلا بهدي، فأراد أن يزار البيت في غير أشهر الحج، فجعلتموها أنتم حرامًا، وعاقبتم الناس عليها، وأحلها الله وعمل بها رسوله

(4)

.

وهذا هو الصحيح، وابنه أعلم الناس بمقالة أبيه، ولعله يرى أن اعتقاد تفضيل المتعة خطأ، وكان ينهى عن ذلك.

(1)

"مسلم بشرح النووي" 8/ 205، و"المفهم" 3/ 350.

(2)

سيأتي برقم (4518) باب: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالعُمْرَةِ إِلَى الحَجِّ} .

(3)

"الموطأ" ص 226.

(4)

رواه أحمد 2/ 95، وابن حزم في "حجة الوداع" ص 398، والبيهقي في "سننه" 5/ 21 كتاب: الحج، باب: كراهية من كره القران والتمتع، والذهبي في "تذكرة الحفاظ" 3/ 1005.

ص: 263

وذكر الهروي عن عمر أنه قال: إن اعتمرتم في أشهر الحج رأيتموها مجزئة من حجكم، وكانت فائتة فوت عامها. ضربه عمر مثلًا لخلاء مكة من المعتمرين سائر السنة.

ص: 264

‌37 - باب قَوْلِ الله تَعَالَى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي المَسْجِدِ الحَرَامِ} [البقرة: 196]

1572 -

وَقَالَ أَبُو كَامِلٍ فُضَيْلُ بْنُ حُسَيْنٍ البَصْرِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو مَعْشَرٍ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ مُتْعَةِ الحَجِّ، فَقَالَ: أَهَلَّ المُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ وَأَزْوَاجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ وَأَهْلَلْنَا، فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"اجْعَلُوا إِهْلَالَكُمْ بِالحَجِّ عُمْرَةً إِلاَّ مَنْ قَلَّدَ الهَدْيَ". فَطُفْنَا بِالبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالمَرْوَةِ وَأَتَيْنَا النِّسَاءَ، وَلَبِسْنَا الثِّيَابَ، وَقَالَ:"مَنْ قَلَّدَ الهَدْيَ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ حَتَّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ". ثُمَّ أَمَرَنَا عَشِيَّةَ التَّرْوِيَةِ أَنْ نُهِلَّ بِالحَجِّ، فَإِذَا فَرَغْنَا مِنَ المَنَاسِكِ جِئْنَا فَطُفْنَا بِالبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالمَرْوَةِ فَقَدْ تَمَّ حَجُّنَا، وَعَلَيْنَا الهَدْىُ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى:{فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196] إِلَى أَمْصَارِكُمْ. الشَّاةُ تَجْزِي، فَجَمَعُوا نُسُكَيْنِ فِي عَامٍ بَيْنَ الحَجِّ وَالعُمْرَةِ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى أَنْزَلَهُ فِي كِتَابِهِ وَسَنَّهُ نَبِيُّهُ صلى الله عليه وسلم وَأَبَاحَهُ لِلنَّاسِ غَيْرَ أَهْلِ مَكَّةَ، قَالَ اللهُ:{ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196] وَأَشْهُرُ الحَجِّ التِي ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى: شَوَّالٌ، وَذُو القَعْدَةِ، وَذُو الحَجَّةِ، فَمَنْ تَمَتَّعَ فِي هَذِهِ الأَشْهُرِ فَعَلَيْهِ دَمٌ أَوْ صَوْمٌ، وَالرَّفَثُ الجِمَاعُ، وَالفُسُوقُ المَعَاصِى، وَالجِدَالُ المِرَاءُ. [فتح: 3/ 433]

أصل حاضري: حاضرين، سقطت النون للإضافة، والياء سقطت وصلًا؛ لسكونها، وسكون اللام في المسجد، وإذا وقعت عند الاضطرار إليه فأثبت الياء.

ثم قال البخاري: وَقَالَ أَبُو كَامِلٍ البَصْرِيُّ فُضَيلُ بْنُ حُسَيْنٍ، ثَنَا أَبُو مَعْشَرٍ، ثَنَا عُثْمَانُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابن عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ مُتْعَةِ الحَجِّ .. الحديث.

ص: 265

وهو من أفراده، وقد وصله الإسماعيلي فقال: ثنا القاسم بن زكريا المطرز، ثنا أحمد بن سنان، ثنا أبو كامل، ثنا أبو معشر البراء، ثنا عثمان بن سعيد، عن عكرمة .. الحديث. وقال: هكذا قال القاسم: عثمان بن سعيد. وكذا رواه أبو نعيم الحافظ عن أبي أحمد، ثنا القاسم المطرز به. وقال ذكره البخاري بلا رواية عن أبي كامل، وقال أبو كامل: عثمان بن غياث، وقال المطرز: ابن سعيد. وقال أبو مسعود الدمشقي: هذا حديث (غريب)

(1)

، ولم أره عند أحدٍ إلا عند مسلم بن الحجاج، ومسلم لم يذكره في "صحيحه" من أجل عكرمة، وعندي أن البخاري أخذه عن مسلم

(2)

.

قلت: ويجوز أن يكون البخاري أخذه عن أبي كامل بغير واسطة، فإنه غالبًا يستعمل مثل ذلك فيما أخذه عرضًا أو مناولة، وهما صحيحان عند جماعة، يجب العمل بهما

(3)

.

(1)

كذا في الأصل، وفي "الجمع بين الصحيحين" عزيز.

(2)

انظر "الجمع بين الصحيحين" 2/ 111 - 112 (1173).

(3)

العرض أو القراءة على الشيخ هي: طريقة من طرق تحمل الحديث وفيها يقرأ الطالب على الشيخ، والشيخ يسمع، سواء قرأ من حفظه أو كتابه، وسواء قرأ هو أو غيره، وسواء تابعه الشيخ من حفظه أو من كتابه، وصفة أداء العرض أن يقول: قرأت على فلان كذا، أو قرئ عليه وأنا أسمع كذا، واللفظ المستعمل هو: أخبرنا، أما المناولة فهي: أن يناول الشيخ الطالب كتابًا أو سماعًا له ويحيز له أن يرويه عنه أو لا يجيز له، فمنها مناولة مقرونة بالإجازة، ومناولة غير مقرونة بالإجازة، وصغية أداء المناولة أن يقول: ناولني فلان كذا، أو ناولني وأجاز لي كذا.

انظر: "علوم الحديث" لابن الصلاح ص 137 - 150، 165 - 173، و"المقنع" للمصنف 1/ 297 - 314، 325 - 330، "فتح المغيث" للسخاوي 2/ 27، 111.

ص: 266

وقوله: (فلما قدمنا مكة قال عليه السلام: "اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة").

يريد قرب مكة، وهو سرف، كما سلف، وبين في هذا الحديث أنهم لما حلوا أتوا النساء، ولبسوا الثياب.

وقد اختلف العلماء في حاضري المسجد من هم؟ فذهب طاوس ومجاهد إلى أنهم أهل الحرم

(1)

، وبه قال داود. وذهب طائفة إلى أنهم أهل مكة بعينها. روي هذا عن نافع مولى ابن عمر، وعن عبد الرحمن الأعرج

(2)

، وهو قول مالك، قال: هم أهل مكة وذي طوى، وشبهها، وأما أهل منى وعرفة المناهل مثل: قديد وعسفان، ومر الظهران فعليهم الدم

(3)

.

وذهب أبو حنيفة إلى أنهم أهل المواقيت فمن دونهم إلى مكة

(4)

، وقال مكحول: من كان منزله دون المواقيت إلى مكة فهو من حاضري المسجد الحرام، وأما أهل المواقيت فهم كسائر أهل الآفاق

(5)

.

روي هذا عن عطاء

(6)

، وبه قال الشافعي بالعراق، وقال الشافعي وأحمد: من كان من الحرم على مسافة لا تقصر في مثلها الصلاة، فهو من حاضري المسجد الحرام

(7)

. وعند الشافعي ومالك وأحمد

(1)

رواه الطبري في "تفسيره" 2/ 265، وابن أبي حاتم في "تفسير القرآن العظيم" 1/ 344، وذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 208.

(2)

انظر: "أحكام القرآن" 1/ 360.

(3)

انظر: "الاستذكار" 11/ 215، "المنتقى" 2/ 229.

(4)

انظر: "المبسوط" 4/ 169، "بدائع الصنائع" 2/ 169.

(5)

رواه الطبري 2/ 266. وانظر: "الاستذكار" 11/ 215.

(6)

المصدر السابق.

(7)

انظر: "البيان" 4/ 81، "روضة الطالبين" 3/ 461، "العزيز" 3/ 348، "المستوعب" 4/ 56، "المبدع" 3/ 125، "مسائل الإمام برواية الكوسج" 1/ 525.

ص: 267

وداود، أن المكي لا يكره له التمتع ولا القران؛ فإن تمتع لم يلزمه دم

(1)

.

وقال أبو حنيفة: يكرهان له، فإن خالف فعليه دم جبرًا، وهما في حق الآفقي مستحبان، ويلزمه الدم شكرًا

(2)

.

وقال الدوادي: وقول ابن عباس، وإباحته للناس غير أهل مكة أولى بظاهر الآية، وقال ابن عمر والحسن وطاوس: ليس لأهل مكة تمتع. حكاه ابن المنذر.

وجه قول أبي حنيفة أنهم كأهل مكة في عدم وجوب الإحرام عليهم.

وروى مالك عن نافع عن ابن عمر أنه أقبل من مكة، حتى إذا كان بقديد بلغه خبر من المدينة، فرجع، فدخل مكة حلالًا

(3)

.

فدل على أن أهل قديد كأهل مكة، وقد روي عن ابن عباس خلاف هذا، روى عنه عطاء أنه كان يقول: لا يدخل أحد مكة إلا محرمًا.

وقال ابن عباس: لا عمرة على المكي إلا أن يخرج من الحرم، فلا يدخله إلا حرامًا، وإن خرج قريبًا من مكة

(4)

.

فهذا ابن عباس قد منع الناس جميعًا من دخول مكة بغير إحرام، فدل هذا أن من كان من غير أهل مكة فهو عنده مخالف لحكم أهل

(1)

انظر: "الاستذكار" 11/ 216، "المنتقى" 2/ 229، "روضة الطالبين" 3/ 46، "العزيز" 3/ 354، "المستوعب" 4/ 57، "المبدع" 3/ 127.

(2)

انظر: "المبسوط" 4/ 169، "بدائع الصنائع" 2/ 169.

(3)

رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" 3/ 203 (13524) كتاب: الحج، من رخص أن يدخل مكة بغير إحرام، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" 2/ 263، والبيهقي في "سننه" 5/ 178 كتاب: الحج، باب: من رخص في دخولها بغير إحرام وإن لم يكن محاربًا.

(4)

انظر: "شرح معاني الآثار" 2/ 263.

ص: 268

مكة، يوضحه قوله عليه السلام:"إن الله حرم مكة"

(1)

. أفلا ترى أنه قصد بالحرمة إلى مكة دون ما سواها، فدل ذلك أن سائر الناس سوى أهلها في حرمة دخولهم إياها سواء، فثبت بذلك قول ابن عباس، وفي ثبوت ذلك ما يجب به أن حاضري المسجد الحرام هم أهل مكة خاصة، كما قال نافع والأعرج، لا كما قال أبو حنيفة وأصحابه. ومن الحجة لمالك: أنهم أهل القرية التي فيها المسجد، وليس أهل الحرم كذلك؛ لأنه لو كان كذلك لما جاز لأهل مكة إذا أرادوا سفرًا أن يقصروا حتى يخرجوا عن الحرم كله، فلما جاز لهم القصر إذا خرجوا عن بيوت مكة، دل ذلك على أن حاضري المسجد هم أهل مكة دون الحرم. وأما قول من قال: من كان أهله دون المواقيت، فإن المواقيت ليس من هذا الباب في شيء؛ لأنها لم تجعل للناس؛ لأنها حاضرة المسجد الحرام، ألا ترى أن بعض المواقيت بينها وبين مكة مسيرة ثمان ليال، وبعضها ليلتين، فيكون من كان دون ذي الحليفة حاضري المسجد الحرام، وبينه وبين مكة ثمان ليال، ومن كان منزله من وراء قرن بما يلي نجدًا لا يكون من حاضريه، وإنما بينه وبينها مسيرة ليلتين، وبعض أخرى، وإنما الحاضر للشيء من كان معه، ويجعل من هو أبعد حاضرًا، ومن هو أقرب ليس بحاضر. وأيضًا فقوله تعالى:{هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ المَسْجِدِ الحَرَامِ} [الفتح: 25] دال أنه المسجد الحرام بعينه، والصد إنما وقع عنه وعن البيت، فأما الحرم فلم يكن ممنوعًا منه؛ لأن الحديبية تلي الحرم، وهذا قاطع، قاله طاوس ومجاهد.

(1)

سيأتي برقم (1833) من حديث ابن عباس كتاب: جزاء الصيد، باب: لا ينفر صيد الحرم.

ص: 269

وأما قول ابن عباس في التمتع: فإن الله أنزله في كتابه وسنة نبيه، وأباحه للناس، غير أهل مكة، فإن مذهبه أن أهل مكة لا متعة لهم، وذلك -والله أعلم- لأن العمرة لا بد في الإحرام بها الخروج إلى الحل، ومن كان من أهل مكة فهي داره لا يمكنه الخروج عنها، وهي ميقاته للحج، وقد صرح بذلك ابن عباس فقال: يا أهل مكة، لا متعة لكم، إنما يجعل أحدكم بينه وبين مكة بطنًا واحدًا ويهل

(1)

. وهذا مذهب أبي حنيفة، وأصحابه قالوا: ليس لأهل مكة تمتع ولا قران، فإن فعلوا فعليهم الدم، كما سلف

(2)

.

وأوجب ابن الماجشون الدم للقران دون التمتع

(3)

، واعتل بأن القارن، قارن من حيثما حج، والمتمتع إنما هو المعتمر من بلده في أشهر الحج، المقيم بمكة حتى يحج، ومن كان من أهلها، فهي داره لا يمكنه الخروج منها إلى غير داره، وقد وضع الله ذلك عنه، ولم يذكر القارن وهو خطأ؛ لأنه إذا أجاز التمتع لأهل مكة فقد أجاز لهم القران، إذ لا فرق بينهما، واحتج أبو حنيفة بأن الاستثناء عنده في الآية راجع إلى الجملة، لا إلى الدم، قال: ولو رجع إلى الدم لقال ذلك على من لم يكن أهله. وقول القائل: لفلان كذا، يفيد نفي الإيجاب عليه، ولهذا لا يقال له الصلاة والصوم، وإنما يقال عليه الصلاة والصوم. واحتج لمالك بقوله تعالى:{فَمَنْ تَمَتَّعَ} [البقرة: 196] لفظه يقتضي إباحة التمتع، ثم علق عليه حكمًا وهو الهدي، ثم استثنى في آخرها أهل مكة، والاستثناء إذا وقع بعد فعل علق عليه

(1)

رواه الطبري في "تفسيره" 2/ 265 (3509).

(2)

سبق تخريج قولهم.

(3)

"الاستذكار" 11/ 216.

ص: 270

حكم انصرف إلى الحكم المعلق على الفعل، لا إلى الفعل نفسه، فأهل مكة وغيرهم في إباحة التمتع الذي هو الفعل سواء، والفرق بينهم في الاستثناء يعود إلى الدم؛ لأنه الحكم المعلق على التمتع، وهذا بمنزلة قوله عليه السلام "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل منزله فهو آمن"

(1)

فلو وصله بقوله ذلك لمن لم يكن من أهل القينتين، أو لغير ابن خطل، لم يكن ذلك الاستثناء عائدًا إلا إلى الأمر، لا إلى الدخول، ولا يكون سائر الناس ممنوعين من دخول منازلهم، ومنزل أبي سفيان، بل إن دخلوا فلهم الأمان كلهم، إلا من استثنى.

وقوله {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالعُمْرَةِ إِلَى الحَجِّ} [البقرة: 196] لو تجرد من تمامه لم يعد، كقولك: زيد. لا يفيد بانفراده حتى تخبر عنه بقائم أو قاعد أو غيره، فكذلك قوله:{فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالعُمْرَةِ إِلَى الحَجِّ} لا يفيد شيئًا حتى تخبر عن حكمه.

وقوله {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ} [البقرة: 196] هو الحكم الذي به تتم الفائدة، والفوائد إنما هي في الأحكام المعلقة على أفعال العباد، لا على أسمائهم، ومثله {فَسَجَدَ المَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ} معناه: فإنه لم يسجد، فلم تكن الفائدة في الاستثناء راجعة إلا إلى نفي السجود الذي به يتم الكلام، وإنما أوجب الله الدم على المتمتع غير المكي؛ لأنه كان عليه أن يأتي محرمًا بالحج من داره في سفره، والعمرة في سفرتان، فلما تمتع بإسقاط أحد السفرين، أوجب الله عليه الهدي، فكذلك القارن

هو في معناه لإسقاط أحد السفرين، ودلت الآية على أن أهل مكة بخلاف هذا المعنى؛ لأن إهلالهم بالحج خاصة من مكة، ولا خروج

(1)

رواه مسلم (1780) كتاب: الجهاد والسير، باب: فتح مكة.

ص: 271

لهم إلى الحل للإهلال إلا بالعمرة خاصة، فإذا فعلوا ذلك، لم يسقطوا سفرًا لزمهم، فلا دم عليهم، ففارقوا سائر أهل الآفاق في هذا، وقد أسلفنا اختلافهم فيمن أحرم من مكة بالعمرة ولم يخرج إلى الحل في باب مهل أهل مكة للحج والعمرة.

وقوله: {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196]: إلى أمصاركم. هو أصح أقوال الشافعي فيه، أن المراد بالرجوع: الرجوع إلى أهله، كما سيأتي مصرحًا به في باب: من ساق البدن

(1)

، وثانيها: الأخذ فيه، وثالثها: من منى إلى مكة، ورابعها: الفراغ من أعمال الحج، والثلاثة تكون في الحج، فيستحب الإحرام بالحج في السادس؛ لتقع الثلاثة في الحج. والثامن الأولى للحاج عدم صومه، واستحب مالك وأبو حنيفة الإهلال من المسجد لهلال ذي الحجة. وعند أبي حنيفة: الأفضل أن يصوم السابع والثامن والتاسع من ذي الحجة؛ رجاء أن يقدر على الهدي الذي هو الأصل، وعنده: إن صام السبعة بمكة بعد فراغه من الحج جاز إذا مضت أيام التشريق

(2)

، وفي "شرح الهداية": المستحب في السبعة أن يكون صومها بعد رجوعه إلى أهله، إذ جواز ذلك مجمع عليه

(3)

، ويجوز إذا رجع إلى مكة بعد أيام التشريق في مكة، وفي الطريق، وهو محكي عن مجاهد وعطاء

(4)

، وهو قول وجوزه أيضًا في أيام التشريق، وهو قول ابن عمر،

(1)

سيأتي برقم (1691).

(2)

انظر: "تحفة الفقهاء" 1/ 412، "المبسوط" 4/ 181.

(3)

"الهداية" 1/ 168.

(4)

رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" 3/ 151 كتاب: الحج، في قضاء السبعة الفرق أو الوصل.

ص: 272

وعائشة

(1)

، والأوزاعي، والزهري، والشافعي في القديم، وهو المختار في حق فاقد الهدي، ولم يجوزه عليٌّ للنهي عن ذلك

(2)

.

وقال أحمد: أرجو أن لا يكون به بأس. وقال إسحاق: يصومها في الطريق

(3)

، فإن فاته الثلاثة في الحج لم يجزه عند أبي حنيفة إلا الدم، روي ذلك عن علي، وابن عباس، وسعيد بن جبير، وطاوس، ومجاهد، والحسن، وعطاء

(4)

، وجوز صومها بعد أيام التشريق حماد، والثوري، والأظهر من أقوال الشافعي: أنه يفرق بينها وبين السبعة، بقدر مسافة الطريق

(5)

.

(1)

"المصنف" 3/ 151 (12991 - 12992) من رخص في الصوم ولم ير عليه هديًا.

(2)

انظر: "البيان" 4/ 94، "روضة الطالبين" 3/ 53، "مختصر خلافيات البيهقي" 3/ 165.

(3)

انظر: "مسائل الإمام برواية الكوسج" 1/ 569. "المغني" 5/ 362.

(4)

"المصنف" 3/ 150 - 151 في المتمتع إذا فاته الصوم.

(5)

انظر: "البيان" 4/ 99، "روضة الطالبين" 3/ 55.

ص: 273

‌38 - باب الاغتِسَالِ عِنْدَ دُخُولِ مَكَّةَ

1573 -

حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، أَخْبَرَنَا أَيُّوبُ، عَنْ نَافِعٍ قَالَ كَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما إِذَا دَخَلَ أَدْنَى الحَرَمِ أَمْسَكَ عَنِ التَّلْبِيَةِ، ثُمَّ يَبِيتُ بِذِي طُوًى، ثُمَّ يُصَلِّي بِهِ الصُّبْحَ وَيَغْتَسِلُ، وَيُحَدِّثُ أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ. [انظر: 491 - مسلم: 1259 - فتح: 3/ 435]

ذكر فيه، عَنْ نَافِعٍ كَانَ ابن عُمَرَ إِذَا دَخَلَ أَدْنَى الحَرَمِ أَمْسَكَ عَنِ التَّلْبِيَةِ، ثُمَّ يَبِيتُ بِذِي طُوى، ثمَّ يُصَلِّي بِهِ الصُّبْحَ وَيَغْتَسِلُ، وَيُحَدِّثُ أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ.

هذا الباب سلف فقهه في باب: الإهلال مستقبل القبلة.

قال ابن المنذر: الاغتسال لدخول مكة مستحب عند جميع العلماء؛ إلا أنه ليس في تركه عامدًا عندهم فدية

(1)

.

وقال أكثرهم: الوضوء يجزئ منه، وكان ابن عمر يتوضأ أحيانًا، ويغتسل أحيانًا، وروى ابن نافع عن مالك أنه استحب الأخذ بقول ابن عمر في الغسل؛ للإهلال بذي الحليفة وبذي طوى لدخول مكة،

وعند الرواح إلى عرفة، قال: ولو تركه تارك من عذر لم أر عليه شيئًا. وقال ابن القاسم عن مالك: إن اغتسل بالمدينة وهو يريد الإحرام، ثم مضى في فوره إلى ذي الحليفة، فأحرم فإن غسله يجزئ عنه، قال: وإن اغتسل بالمدينة غدوة، وأقام إلى العشي، ثم راح إلى ذي الحليفة (فأحرم)

(2)

فلا يجزئه

(3)

، وأوجبه أهل الظاهر فرضًا على

(1)

سبق تخريج المسألة.

(2)

ليست في الأصل.

(3)

انظر "المدونة" 1/ 295.

ص: 274

مريدي الإحرام

(1)

، والأمة على خلافهم.

وروي عن الحسن: إذا نسي الغسل للإحرام يغتسل إذا ذكره

(2)

، واختلف فيه عن عطاء، فقال مرة: يكفي منه الوضوء، وقال مرة غير ذلك

(3)

.

ومن الفوائد الجليلة أن الغسل لدخول مكة ليس لكونه محرمًا، وإنما هو لحرمتها، حتى يستحب لمن كان حلالًا أيضًا، وقد اغتسل لها عليه السلام عام الفتح، وكان حلالًا، كما أفاده الشافعي في "الأم".

فرع:

لو خرج من مكة فأحرم بالعمرة واغتسل ثم أراد دخولها، فإن كان أحرم من بعد كالجعرانة أعاد، وإلا فلا.

فرع:

يكون الغسل بذي طوى للاتباع، ويسمى اليوم أبيار الزاهر

(4)

، وإنما أمسك ابن عمر عن التلبية في أول الحرم، وكان محرمًا بالحج كما في "الموطأ"

(5)

؛ لأنه تأول أنه قد بلغ إلى الموضع الذي دُعي إليه، ورأى أن يكبر الله ويعظمه ويسبحه، إذ سقط عنه معنى التلبية بالبلوغ، وكره مالك التلبية حول البيت

(6)

.

(1)

انظر: "المحلي" 7/ 82، "الإجماع" لابن المنذر ص 61.

(2)

رواه ابن أبي شيبة 3/ 407 (15593).

(3)

المصدر السابق 3/ 407 (15596).

(4)

في الأصل: الزاهد، وفي هامش الأصل: صوابه الزاهر.

(5)

"الموطأ" 1/ 432 (1092) كتاب: المناسك، باب: قطع التلبية.

(6)

"المدونة" 1/ 297، "النوادر والزيادات" 2/ 333، "الاستذكار" 11/ 203، "المنتقى" 2/ 217.

ص: 275

وقال ابن عيينة: ما رأيت أحدًا يفتدى به يلبي حول البيت إلا عطاء بن السائب

(1)

. وروي عن سالم أنه كان يلبي في طوافه، وبه قال ربيعة، وأحمد، وإسحاق، وكلٌ واسع

(2)

.

وعندنا: لا يستحب في طواف القدوم؛ لأن له أذكارًا تخصه، وفي القديم: يستحب فيه بلا جهر، والخلاف جار في السعي بعده.

أما طواف الإفاضة: فلا يستحب فيه جزمًا؛ لأنه قد أخذ في أسباب التحلل، وكذا الطواف المتطوع به في أثناء الإحرام ولا يبعد، جرى خلاف فيه

(3)

. وحكى ابن التين خلافًا عن مالك هل يقطعها أول الحرم، أو إذا دخل مكة؟ وخلافًا متى يعود إليها، هل هو بعد الطواف؟ أو بعد فراغه من السعي؟ وكان ابن عمر إن كان معتمرًا قطعها إذا دخل الحرم.

قال مالك: فإن أحرم من الجعرانة قطعها عند الدخول، وإن كان من التنعيم قطعها عند رؤية البيت. قال ابن التين: وأصحابنا ذكروا الغسل في الحج في ثلاثة مواضع: للإحرام، والطواف، والوقوف. وأضاف البخاري في تبويبه لدخول مكة، وكذا فسره نافع في "الموطأ"

(4)

، وإنما ذلك يفعل عند دخول مكة، فالغسل في الحقيقة للطواف، وعبارة الجلاب يغتسل لأركان الحج

(5)

، وظاهره الغسل للسعي، وعن عائشة أنها كانت تغتسل لرمي الجمار.

(1)

انظر "التمهيد" 13/ 85، "الاستذكار" 11/ 164.

(2)

انظر: "المغني" 5/ 107، "الفروع" 3/ 348.

(3)

"البيان" 4/ 139، "روضة الطالبين" 3/ 73.

(4)

"الموطأ" ص 214.

(5)

انظر "التفريع" 1/ 320.

ص: 276

وفي "الموطأ" عن ابن عمر أنه كان لا يغسل رأسه وهو محرم إلا من احتلام

(1)

، وظاهره أن غسله لدخول مكة، ووقوف عرفة يختص بجسده دون رأسه.

وقال ابن حبيب: إذا اغتسل المحرم لدخولها يغسل جسده دون رأسه، واحتج بذلك. وقال الشيخ أبو محمد: لعل ابن عمر كان لا يغسل رأسه إلا من جنابة، يعني: في غير هذِه المواطن الثلاثة

(2)

، كأنه خصص ذلك. وحكى محمد عن مالك أن المحرم لا يتدلك في غسل دخول مكة، ولا الوقوف بعرفة، ولا يغسل رأسه إلا بالماء وحده يصبه صبًّ، ولا يغيب رأسه في الماء

(3)

.

(1)

"الموطأ" ص 215.

(2)

انظر "النوادر والزيادات" 2/ 325 - 326.

(3)

المصدر السابق 2/ 324.

ص: 277

‌39 - باب دُخُولِ مَكَّةَ نَهَارًا أَوْ لَيْلًا

بَاتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِذِي طُوى حَتَّى أَصْبَحَ، ثُمَّ دَخَلَ مَكَّةَ، وَكَانَ ابن عُمَرَ رضي الله عنه يَفْعَلُهُ.

1574 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ قَالَ: حَدَّثَنِي نَافِعٌ، عَنِ ابن عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: بَاتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِذِي طُوى حَتَّى أَصْبَحَ، ثُمَّ دَخَلَ مَكَّةَ. وَكَانَ ابن عُمَرَ رضي الله عنهما يَفْعَلُهُ. [انظر: 491 - مسلم: 1259 - فتح: 3/ 436]

ذكر فيه حديث ابن عمر قال بَاتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِذِي طُوى حَتَّى أَصْبَحَ، ثُمَّ دَخَلَ مَكَّةَ، وَكَانَ ابن عُمَرَ رضي الله عنه يَفْعَلُهُ.

وقد سلف فقهه في باب: التمتع والقران في الحديث الرابع منه، وذكرنا هناك لغات طوى، واقتصر ابن بطال فقال: ذو طوى -بضم الطاء- موضع بمكة، مقصور، وذو طواء -بفتح الطاء- موضع باليمن ممدود ولم يذكر غيره. قال: وليس دخوله مكة إذا أصبح بأمرٍ لازم لا يجوز تركه، ودخولها في كل وقت واسع

(1)

.

(1)

"شرح ابن بطال" 4/ 261.

ص: 278

‌40 - باب مِنْ أَيْنَ يدخلُ مَكَّةَ

1575 -

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ المُنْذِرِ قَالَ: حَدَّثَنِي مَعْنٌ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَدْخُلُ مِنَ الثَّنِيَّةِ العُلْيَا، وَيَخْرُجُ مِنَ الثَّنِيَّةِ السُّفْلَى. [انظر: 484 - مسلم: 1257 - فتح: 3/ 436]

ذكر فيه حديث ابن عمر أيضًا: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَدْخُلُ مِنَ الثَّنِيَّةِ العُلْيَا، وَيَخْرُجُ مِنَ الثَّنِيَّةِ السُّفْلَى.

ص: 279

‌41 - باب مِنْ أَيْنَ يَخْرُجُ مِنْ مَكَّةَ

1576 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدُ بْنُ مُسَرْهَدٍ البَصْرِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ مَكَّةَ مِنْ كَدَاءٍ مِنَ الثَّنِيَّةِ العُلْيَا التِي بِالبَطْحَاءِ، وَيَخْرُجُ مِنَ الثَّنِيَّةِ السُّفْلَى. [انظر: 484 - مسلم: 1257 - فتح: 3/ 436]

قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: كَانَ يُقَالُ هُوَ مُسَدَّدُ كَاسْمِهِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ مَعِينِ يَقُولُ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ مُسَدَّدَا أَتَيْتُهُ فِي بَيتِهِ فَحَدَّثْتُهُ لَاسْتَحَقَّ ذَلِكَ، وَمَا أُبَالِي كُتُبِي كَانَتْ عِنْدِي أَو عِنْدَ مُسَدَّدٍ.

1577 -

حَدَّثَنَا الحُمَيْدِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ المُثَنَّى قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا جَاءَ إِلَى مَكَّةَ دَخَلَ مِنْ أَعْلَاهَا وَخَرَجَ مِنْ أَسْفَلِهَا. [1578، 1579، 1580، 1581، 4290، 4291 - مسلم 1258 - فتح: 3/ 437]

1578 -

حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ المَرْوَزِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَامَ الفَتْحِ مِنْ كَدَاءٍ، وَخَرَجَ مِنْ كُدًا مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ. [انظر: 1577 - مسلم: 1258 - فتح: 3/ 437]

1579 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنَا عَمْرٌو، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَامَ الفَتْحِ مِنْ كَدَاءٍ أَعْلَى مَكَّةَ. قَالَ هِشَامٌ: وَكَانَ عُرْوَةُ يَدْخُلُ عَلَى كِلْتَيْهِمَا مِنْ كَدَاءٍ وَكُدًا، وَأَكْثَرُ مَا يَدْخُلُ مِنْ كَدَاءٍ، وَكَانَتْ أَقْرَبَهُمَا إِلَى مَنْزِلِهِ. [انظر: 1577 - مسلم: 1258 - فتح: 3/ 437]

1580 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الوَهَّابِ، حَدَّثَنَا حَاتِمٌ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ عُرْوَةَ دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَامَ الفَتْحِ مِنْ كَدَاءٍ مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ. وَكَانَ عُرْوَةُ أَكْثَرَ مَا يَدْخُلُ مِنْ كَدَاءٍ وَكَانَ أَقْرَبَهُمَا إِلَى مَنْزِلِهِ. [انظر: 1577 - مسلم: 1258 - فتح: 3/ 437]

1581 -

حَدَّثَنَا مُوسَى، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ أَبِيهِ: دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم -

ص: 280

عَامَ الفَتْحِ مِنْ كَدَاءٍ. وَكَانَ عُرْوَةُ يَدْخُلُ مِنْهُمَا كِلَيْهِمَا، وَأَكْثَرُ مَا يَدْخُلُ مِنْ كَدَاءٍ أَقْرَبِهِمَا إِلَى مَنْزِلِهِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: كَدَاءٌ وَكُدًا مَوْضِعَانِ. [انظر: 1577 - مسلم: 1258 - فتح: 3/ 437]

ذكر فيه حديث ابن عمر أيضًا:

أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ مَكَّةَ مِنْ كَدَاءٍ مِنَ الثَّنِيَّةِ العُلْيَا التِي بِالبَطْحَاءِ، وخَرَجَ مِنَ الثَّنِيَّةِ السُّفْلَى.

وحديث عائشة أَنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا جَاءَ مَكَّةَ دَخَلَ مِنْ أَعْلَاهَا وَخَرَجَ مِنْ أَسْفَلِهَا.

وفي رواية عنها: دَخَلَ عَامَ الفَتْحِ مِنْ كُدًا، وَخَرَجَ مِنْ كَدَاءٍ مِنْ أَعْلى مَكَّةَ.

وفي رواية عنها: دَخَلَ مكة عَامَ الفَتْحِ مِنْ كَدَاءٍ أَعْلَى مَكَّةَ.

قَالَ هِشَامٌ: وَكَانَ عُرْوَةُ يَدْخُلُ من كِلْتَيْهِمَا مِنْ كَدَاءٍ وَكُدى، وَأَكْثَرُ مَا يدخلُ مِنْ كَدى، وَكَانَتْ أَقْرَبَهُمَا إِلَى مَنْزِلِهِ.

وعَنْ عُرْوَةَ

(1)

: دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَامَ الفَتْحِ مِنْ كَدَاءٍ مِنْ أَعْلى مَكَّةَ.

وَكَانَ عُرْوَةُ أَكْثَرَ مَا يدخلُ مِنْ كَدى وَكَانَ أَقْرَبَهُمَا إِلَى مَنْزِلِهِ.

وعنه

(2)

: دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَامَ الفتْحِ مِنْ كداء. وَكَانَ عُرْوَةُ يدخلُ مِنْهُمَا كلاهما، وَأَكْثَرُ مَا يدخلُ مِنْ كَدى أَقْرَبِهِمَا إِلَى مَنْزِلِهِ.

وفي بعض النسخ: كداء وكدى: موضعان. قاله أبو عبد الله، وفي بعض النسخ الثناء على مسدد، شيخه: (وكان يقال له: مسدد كاسمه، سمعت يحيى بن معين يقول: سمعت يحيى بن سعيد يقول: لو أن مسددًا

(1)

في الأصل كُتب فوق عروة: مرسل.

(2)

انظر الهامش السابق.

ص: 281

أتيته في بيته فحدثته لاستحق ذلك، ولا أبالي كتبي كانت عندي، أو عند مسدد). وحاصل ما ذكره البخاري أن أكثر روايته في كداء في الابتداء الفتح والمد، وفي الخروج الضم والقصر، مسندًا ومرسلًا، وأن في رواية بالعكس: الضم في الدخول، والفتح والمد في الخروج؛ ولهذا قال عبد الحق في "جمعه": إنه مقلوب. وكدى بالضم إنما هي السفلى، ولفظ مسلم في حديث ابن عمر: كان إذا دخل مكة دخل من الثنية العليا، ويخرج من الثنية السفلى

(1)

، وفي أخرى العليا التي بالبطحاء

(2)

.

وفي حديث عائشة: لما جاء إلى مكة دخلها من أعلاها، وخرج من أسفلها. وفي أخرى: دخل مكة عام الفتح من كداء من أعلى مكة. قال هشام: فكان أبي يدخل منهما كلتيهما، وكان أبي أكثر ما يدخل من كداء. والمراد بالثنية العليا: التي ينزل منها إلى المعلى مقبرة مكة.

قال أبو عبيد: لا يصرف؛ لأنه مؤنث.

قيل: هو جبل بمكة، وقيل: هو عرفة بعينها. قلت: هذا بعيد، والسفلى: هي التي أسفل مكة عند باب شبيكة بقرب شعب الشاميين، وشعب ابن الزبير عند قعيقعان. وقال ابن المواز: كداء العليا هي العقبة الصغرى بأعلى مكة التي يهبط منها إلى الأبطح، والمقبرة منها على يسارك. وكدى التي خرج منها: هي العقبة الوسطى التي بأسفل مكة.

(1)

"صحيح مسلم"(1257) كتاب: الحج، باب: استحباب دخول مكة من الثنية العليا والخروج منها من الثنية السفلى.

(2)

المصدر السابق.

ص: 282

وفي حديث الهيثم بن خارجة أن العليا بالضم والقصر

(1)

، وتابعه على ذلك وهيب وأبو أسامة. وقال عبيد بن إسماعيل: دخل من كداء -بالمد والفتح- في المغازي، ودخل من كدى بالضم والقصر، وقال ابن قرقول: وكذا عند عامتهم في حديث عبيد بالفتح، وهو الصواب، إلا أن الأصيلي ذكره عن أبي زيد بالعكس: دخل من كدى، وخالد بن الوليد: من كداء، وهو مقلوب، وفي حديث ابن عمر: دخل من كداء ممدود مصروف، وكذا في حديث عائشة، وعند الأصيلي: هو الموضع مهمل في هذا الموضع، وعند أبي ذر: القصر في الأول مع الضم، وفي الثاني: الفتح مع المد.

وعن عروة من حديث عبد الوهاب: أكثر ما يدخل من كُدى. مضموم مقصور، للأصيلي والحموي وأبي الهيثم، ومفتوح مقصور للقابسي والمستملي، وعند محمود: دخل من كدى، وخرج من كداء، كذا لكافتهم، وللمستملي عكس ذلك، وهو أشهر، وعند مسلم: دخل يوم الفتح من كداء من أعلاها بالمد للرواة، إلا السمرقندي، فعنده: كدى بالضم والقصر، وفيه قال هشام: أكثر ما كان أبي يدخل من كدى بالضم، كذا رويناه، ورواه غيري بالمد والفتح

(2)

.

وقال القرطبي: اختلف في ضبط هاتين الكلمتين، والأكثر منهم على أن العليا بالفتح والمد، والسفلى بالضم والقصر، وقيل: بالعكس

(3)

.

(1)

سيأتي برقم (4290) كتاب: المغازي، باب: دخول النبي صلى الله عليه وسلم من أعلى مكة.

(2)

في الكلام اضطراب، وجاء في "معجم البلدان" 4/ 440 - 441 وعند الأصيلي مهمل في هذا الموضع.

(3)

"المفهم" 3/ 371.

ص: 283

وقال ابن التين: العليا بفتح الكاف، وضبطت في بعض الأمهات بالمد من غير صرف، والسفلى بالضم. وقال الخطابي: الرواة قلما يقيمون هذين الاسمين، وإنما هو كداء وكُدى

(1)

. وذكر ابن ولاد أن كداء ممدود: جبل أو موضع، وكدى بالضم والقصر جمع، قال: وهو الموضع الغليظ الصلب

(2)

، ورواية: دخل من كداء وخرج من كدى من أعلى مكة. فيه تقديم وتأخير، وإنما أراد أنه دخل من أعلاها من كداء، وخرج من أسفلها من كدى، وما روي عن عروة أنه كان يدخل من كلتيهما، فإنما أراد أن يعرف أن ذلك ليس بفرض، وإنما هو سنة. واقتصر ابن بطال من هذا الاختلاف على قوله: إذا فتحت الكاف مددت، وإذا ضممتها قصرت، وقد قيل: كدى بالضم وهو أعلى مكة، وقيل: بل بالفتح وهو أصح

(3)

.

وقال ابن حزم: الممدود عند المحصب، وبضم الكاف وتنوين الدال عند ذي طوى، وهي الثنية السفلى، قال الحازمي وغيره: تقول الثنية السفلى هي كدى مصغر.

وقوله: (كلاهما). كذا في الأصل، وفي نسخة: كليهما. وقوله قبله: (وكان عروة يدخل على كلتيهما) هو الصواب. وقال ابن التين: في "الأمهات": كلتاهما، والصواب كلتيهما، والحكمة في الدخول من العليا، والخروج من السفلى أن نداء أبينا إبراهيم كان من جهة العلو، وأيضًا فالعلو مناسب للمكان العالي الذي قصده، والسفل مناسب لمكانه الذي يذهب إليه؛ لأنه سفل بالنسبة إليه. وقيل: إن من جاء

(1)

"أعلام الحديث" 2/ 864.

(2)

"المقصور والممدود" ص 93.

(3)

"شرح ابن بطال" 4/ 262.

ص: 284

هذِه الجهة كان مستقبلًا البيت، وقيل: لأنه عليه السلام لمَّا خرج مختفيًا أراد أن يدخلها ظاهرًا عاليًا. وقال المهلب: إنما فعله؛ ليعلم الناس السعة في ذلك، وأن ما يمكن له منه فمجزئ عنهم، ألا ترى أن عروة كان يفعل ذلك. وقال غيره: ليتبرك به الطريقان، أو ليغيظ المنافقين بظهور الدين وعز الإسلام، أو تفاؤلًا بتغير الحال، أو ليشهد له الطريقان كما في العيد

(1)

.

قلت: وروى الطبراني في "الأوسط" عن العباس أنه عليه السلام لما بعث، قال العباس لأبي سفيان بن حرب: أسلم بنا. فقال: لا والله حتى أرى الخيل تطلع من كداء. قال العباس: قلت له: ما هذا؟ قال: شيء يطلع بقلبي؛ لعلمي أن الله لا يطلع الخيل هناك أبدًا. قال: فلما طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم من هناك ذكرت أبا سفيان به، فذكره.

وروى البيهقي من حديث ابن عمر أنه عليه السلام قال لأبي بكر: "كيف قال حسان بن ثابت؟ " فأنشد:

عدمت بنيتي إن لم يروها

تسير النقع عن كنفي كداء

فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ادخلوها من حيث قال حسان"

(2)

، ومن حديث عروة نحوه، وأجاب كعب بن مالك أبا سفيان بقوله:

فلا تعجل أبا سفيان وارقب

جياد الخيل تطلع من كداء

(1)

دل على ذلك حديث سبق برقم (986) كتاب: العيدين، باب: من خالف الطريق إذا رجع يوم العيد.

(2)

"دلائل النبوة" 5/ 48 - 49.

ص: 285

‌42 - باب فَضْلِ مَكَّةَ وَبُنْيَانِهَا

وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذْ جَعَلْنَا البَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا} إلى قوله: {التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 126 - 128]. [فتح: 3/ 438]

1582 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما قَالَ: لَمَّا بُنِيَتِ الكَعْبَةُ ذَهَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَعَبَّاسٌ يَنْقُلَانِ الحِجَارَةَ، فَقَالَ العَبَّاسُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: اجْعَلْ إِزَارَكَ عَلَى رَقَبَتِكَ. فَخَرَّ إِلَى الأَرْضِ، وَطَمَحَتْ عَيْنَاهُ إِلَى السَّمَاءِ، فَقَالَ:"أَرِنِي إِزَارِي". فَشَدَّهُ عَلَيْهِ. [انظر: 364 - مسلم: 340 - فتح: 3/ 439]

1583 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ أَخْبَرَ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنهم -زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم- أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهَا:"أَلَمْ تَرَىْ أَنَّ قَوْمَكِ لَمَّا بَنَوُا الكَعْبَةَ اقْتَصَرُوا عَنْ قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ؟ ". فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَا تَرُدُّهَا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ؟ قَالَ:"لَوْلَا حِدْثَانُ قَوْمِكِ بِالكُفْرِ لَفَعَلْتُ". فَقَالَ عَبْدُ اللهِ رضي الله عنه: لَئِنْ كَانَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: سَمِعَتْ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَا أُرَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَرَكَ اسْتِلَامَ الرُّكْنَيْنِ اللَّذَيْنِ يَلِيَانِ الحِجْرَ، إِلَّا أَنَّ البَيْتَ لَمْ يُتَمَّمْ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ. [انظر: 126 - مسلم: 1333 - فتح: 3/ 439]

1584 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ، حَدَّثَنَا أَشْعَثُ، عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الجَدْرِ أَمِنَ البَيْتِ هُوَ؟ قَالَ: "نَعَمْ". قُلْتُ: فَمَا لَهُمْ لَمْ يُدْخِلُوهُ فِي البَيْتِ؟ قَالَ: "إِنَّ قَوْمَكِ قَصَّرَتْ بِهِمُ النَّفَقَةُ". قُلْتُ: فَمَا شَأْنُ بَابِهِ مُرْتَفِعًا؟ قَالَ: "فَعَلَ ذَلِكِ قَوْمُكِ لِيُدْخِلُوا مَنْ شَاءُوا، وَيَمْنَعُوا مَنْ شَاءُوا، وَلَوْلَا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِالجَاهِلِيَّةِ فَأَخَافُ أَنْ تُنْكِرَ قُلُوبُهُمْ، أَنْ أُدْخِلَ الجَدْرَ فِي البَيْتِ، وَأَنْ أُلْصِقَ بَابَهُ بِالأَرْضِ". [انظر: 126 - مسلم: 1333 - فتح: 3/ 439]

ص: 286

1585 -

حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَوْلَا حَدَاثَةُ قَوْمِكِ بِالكُفْرِ لَنَقَضْتُ البَيْتَ، ثُمَّ لَبَنَيْتُهُ عَلَى أَسَاسِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام، فَإِنَّ قُرَيْشًا اسْتَقْصَرَتْ بِنَاءَهُ، وَجَعَلْتُ لَهُ خَلْفًا". قَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ: خَلْفًا يَعْنِي: بَابًا. [انظر: 126 - مسلم: 1333 - فتح: 3/ 439]

1586 -

حَدَّثَنَا بَيَانُ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا يَزِيدُ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهَا:"يَا عَائِشَةُ لَوْلَا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ لأَمَرْتُ بِالبَيْتِ فَهُدِمَ، فَأَدْخَلْتُ فِيهِ مَا أُخْرِجَ مِنْهُ وَأَلْزَقْتُهُ بِالأَرْضِ، وَجَعَلْتُ لَهُ بَابَيْنِ: بَابًا شَرْقِيًّا، وَبَابًا غَرْبِيًّا، فَبَلَغْتُ بِهِ أَسَاسَ إِبْرَاهِيمَ". فَذَلِكَ الذيِ حَمَلَ ابْنَ الزُّبَيْرِ رضي الله عنهما عَلَى هَدْمِهِ. قَالَ يَزِيدُ: وَشَهِدْتُ ابْنَ الزُّبَيْرِ حِينَ هَدَمَهُ وَبَنَاهُ وَأَدْخَلَ فِيهِ مِنَ الحِجْرِ، وَقَدْ رَأَيْتُ أَسَاسَ إِبْرَاهِيمَ حِجَارَةً كَأَسْنِمَةِ الإِبِلِ. قَالَ جَرِيرٌ: فَقُلْتُ لَهُ: أَيْنَ مَوْضِعُهُ؟ قَالَ أُرِيكَهُ الآنَ. فَدَخَلْتُ مَعَهُ الحِجْرَ فَأَشَارَ إِلَى مَكَانٍ فَقَالَ: هَا هُنَا. قَالَ جَرِيرٌ: فَحَزَرْتُ مِنَ الحِجْرِ سِتَّةَ أَذْرُعٍ أَوْ نَحْوَهَا. [انظر: 126 - مسلم: 1333 - فتح: 3/ 439]

{مَثَابَةً} : مجمعًا، أو من الثواب، أو مرجعًا، أو لا يقضون فيه وطرًا، وأصلها؛ مثوبة، وقرئ (مثابات). {وَأَمْنًا} أي؛ يأمن من دخله، وكان معاذًا له. قال تعالى:{وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97] وكان الرجل منهم لو لقي قاتل أبيه أو أخيه لم يهجه، ولم يعرض له حتى يخرج منه. قال تعالى:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: 67] وحديث: "إن إبراهيم حرم مكة"

(1)

المراد:

(1)

سيأتي برقم (2129) كتاب: البيوع، باب: بركة صاع النبي صلى الله عليه وسلم ومده.

ورواه مسلم (1360) كتاب: الحج، باب: فضل المدينة ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم فيها بالبركة.

ص: 287

أظهر حرمتها، وإلا فهي حرام منذ خلق الله السموات والأرض كما ستعلم، فهو آمن من عقوبة الله، وعقوبة الجبابرة، وسأل إبراهيم أن يؤمنه من الجدب والقحط، دليله:{عِنْدَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ} [إبراهيم: 37] وقيل: بل كانت حلالًا قبل دعائه، وهو حرمها كما حرم نبينا المدينة.

وقوله: ({وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى})[البقرة: 125] قيل: هو المقام الذي يصلي فيه الأئمة اليوم، وقيل: الحج كله مقام إبراهيم. قاله ابن عباس وعطاء

(1)

. ومصلى أي: مدعى، قاله مجاهد

(2)

، والأظهر: الصلاة. {وَعَهِدْنَا} أمرنا وأوحينا. {طَهِّرَا بَيْتِيَ} أي: من الآفات والريبة، أو من الأوثان، أو من الشرك. {لِلطَّائِفِينَ} ببيتي، {وَالعَاكِفِينَ}: المجاورين، أو أهل البلد. و {القَوَاعِدَ}: الأساس، والجدر. {مَنَاسِكَنَا}: ذبائحنا أو متعبداتنا. {وَأَرِنَا} : بكسر الراء وإسكانها.

ثم ذكر فيه خمسة أحاديث:

أحدها:

حديث جابر بن عبد الله: لَمَّا بُنيَتِ الكَعْبَةُ ذَهَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم والعباس يَنْقُلَانِ الحِجَارَةَ، فَقَالَ العَبَّاسُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: اجْعَلْ إِزَارَكَ عَلَى رَقَبَتِكَ. فَخَرَّ إِلَي الأَرْضِ، وَطَمَحَتْ عَيْنَاهُ إِلَى السَّمَاءِ، فَقَالَ:"أرِنِي إِزَارِي". فَشَدَّهُ عَلَيْهِ.

(1)

رواه الطبري في "تفسيره" 1/ 584 - 585 (1992، 1994)، وابن أبي حاتم في "تفسير القرآن العظيم" 1/ 226 (1197 - 1198).

(2)

رواه الطبري في "تفسيره" 1/ 586، وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" 1/ 224 إلى "سنن بن منصور".

ص: 288

ولفظ زكريا بن إسحاق في أول كتاب الصلاة: فقال له العباس: ابن أخي لو حللت إزارك فجعلته على منكبيك دون الحجارة. قال: فعله، فجعله على منكبه، فسقط مغشيًّا عليه، فما رُئي بعد ذلك عريانًا. وسلف شرحه هناك في باب: كراهة التعري في الصلاة وغيرها

(1)

، ورواه الإسماعيلي بلفظ: لما بنت قريش الكعبة ذهب النبي صلى الله عليه وسلم وعباس ينقلان الحجارة، فقال عباس لرسول الله صلى الله عليه وسلم: اجعل إزارك على رقبتك

(2)

من الحجارة، ففعل، فخر إلى الأرض، وطمحت عيناه. الحديث.

ثم قال: قد جعل عبد الرزاق وضع الإزار على رقبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعه أبو عاصم

(3)

، وجعل البرساني الإزار على رقبة العباس.

قلت: أخرجه مسلم من طريق محمد بن بكر كرواية عبد الرزاق

(4)

.

فإن قلت: هذا الحديث مرسل صحابي؛ لأنه من المعلوم أنه لم يكن

ثم، ولا قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله. قلت: مرسله حجة إلا من شذ كما سلف هناك، وقد رواه سماك عن عكرمة عن مولاه، حدثني أبي العباس، فذكره. أخرجه البيهقي في "دلائله"، وفيه:"نهيت أن أمشي عريانًا"

(5)

، وأخرجه ابن جرير في "تهذيبه" أيضًا. ولابن إسحاق حدثني والدي عمن حدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال فيما يذكر من حفظ الله تعالى إياه: "إني لمع غلمان هم أسناني قد جعلنا أزرنا على

(1)

سلف برقم (364) كتاب: الصلاة.

(2)

في (م) والأصل: رقبتي، ولعل الصحيح ما أثبتناه.

(3)

"المصنف" 1/ 286 (1103) كتاب: الطهارة، باب: ستر الرجل إذا اغتسل.

(4)

"صحيح مسلم"(340) كتاب: الحيض، باب: الاعتناء بحفظ العورة.

(5)

"دلائل النبوة" 2/ 32 - 33.

ص: 289

أعناقنا لحجارة ننقلها

(1)

إذ لكمني لاكم لكمة شديدة" ثم قال: "اشدد عليك إزارك"

(2)

. ويجوز أن يكون المراد بقول ابن عباس: أول شيء رآه من النبوة أن قيل له: استتر، وهو غلام

(3)

. هذا وفي خبر آخر ذكره السهيلي

(4)

أنه لما سقط ضمه العباس إلى نفسه، وسأله عن نفسه، فأخبره أنه نودي من السماء: أن اشدد عليك إزارك يا محمد. قال: وإنه لأول ما نودي.

وفي "طبقات محمد بن سعد" من حديث ابن عباس وغيره، قالوا: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل معهم الحجارة -يعني للبيت- وهو يومئذ ابن خمس وثلاثين سنة، وكانوا يضعون أزرهم على عواتقهم، ويحملون الحجارة، ففعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلبط -أي: سقط من قيام- ونودي: عورتك. وكان ذلك أول ما نودي، فقال له أبو طالب: يا ابن أخي، اجعل إزارك على رأسك. فقال:"ما أصابني ما أصابني إلا في تعدّيّ"

(5)

. وليس في الحديث- كما قال ابن الجوزي- دلالة على كشف عورة، وإنما فيه كشف الجسد، وهو الظاهر، وفي رواية: أن الملك نزل فشد عليه إزاره.

(1)

في الأصل: الحجارة نلفها، وفي (م) تكفنها الحجارة والمثبت من سيرة ابن إسحاق 1/ 57.

(2)

"سيرة ابن إسحاق" ص 57 - 58.

(3)

روه ابن سعد في "طبقاته" 1/ 157، والطبراني 11/ 253 (11651)، وابن عدي في "الكامل" 8/ 260، والحاكم في "المستدرك" 4/ 179 كتاب: اللباس، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الذهبي: النضر ضعفوه اهـ، وأورده الهيثمي في "المجمع" 2/ 52 وقال: رواه الطبراني في "الكبير". وفيه: النضر، وقد أجمعوا على ضعفه.

(4)

"الروض الأنف" 1/ 208 - 209.

(5)

"الطبقات الكبرى" 1/ 145.

ص: 290

وطمحت عيناه: شخصت وارتفعت. قال ابن سيده: طمح ببصره يطمح طمحًا: شخص، وقيل: رمى به إلى الشيء، ورجل طماح: بعيد الطرف

(1)

.

وقوله: ("أرني إزاري")، قال ابن التين: ضبط بإسكان الراء وبكسرها، والإسكان أحسن عند بعض أهل اللغة؛ لأن معناه أعطني، وليس معناه الرؤيا، وإنما قال: ناولني إزاري. ووقع في "شرح ابن

بطال": إزاري، إزاري مكررًا

(2)

. ومعناه صحيح إن ساعدت الرواية ولم نره.

قال ابن بطال في الصلاة: لو كان نهي عن التعري مطلقًا لكان نهيًا عن التعري للغسل في الموضع الذي أمن أن يراه فيه أحد إلا الله تعالى، ولكنه نهي عن التعري حيث يراه أحد، ولذلك نهى عن دخول الحمام بغير مئزر

(3)

.

وحديث القاسم عن أبي أمامة مرفوعًا "لو أستطيع أن أواري عورتي من شعاري لواريتها"

(4)

إن صح فمحمول على الندب، وكذا قول علي: إذا كشف الرجل عورته أعرض عنه الملك

(5)

، وكذا قول أبي موسى الأشعري: إني لأغتسل في البيت المظلم، فما أقيم صلبي حياءً من

(1)

"المحكم" 3/ 186.

(2)

"شرح ابن بطال" 4/ 262.

(3)

"شرح ابن بطال" 2/ 27 - 28.

(4)

رواه ابن عدي في "الكامل" 2/ 363، وأورده الديلمي في "الفردوس" 3/ 363 (5098).

(5)

رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" 1/ 104 (1174) كتاب: الطهارات من كان يقول: إذا دخلته فادخله بمئزر.

ص: 291

ربي

(1)

. فمحمولان أيضًا على الندب، والمبالغة في الحياء والستر، وكل هذا أسلفناه هناك، وأعدناه لبعد العهد به.

ثم أعلم أن الرب جل جلاله ذكر فضل مكة في غير موضع من كتابه، ومن أعظم فضلها أنه جل جلاله فرض على عباده حجها، وألزمهم قصدها، أو لم يقبل من أحد صلاة إلا باستقبالها، وهي قبلة أهل دينه أحياءً وأمواتًا. وفي حديث عائشة معرفة بنيان قريش للكعبة، وقد بناها إبراهيم قبل ذلك، وبنته الملائكة قبل آدم، وحجه آدم ثم الأنبياء، ما من نبي إلا حجه، وفي "الروض" أول من بناه شيث، وكانت قبل أن يبنيها خيمة من ياقوتة حمراء، يطوف بها آدم ويأنس بها؛ لأنها أنزلت من الجنة

(2)

، وقيل: إنه بني في أيام جرهم مرة أو مرتين؛ لأن السيل كان قد صدَّعَ حائطه. قال: وقيل: لم يكن بنيانًا إنما كان إصلاحًا لما وَهى منه، وجدارًا بني بينه وبين السيل، بناه عامر الجادر.

وفي "أنساب الزبير": لما بني قصي الكعبة بنيانًا لم يَبْنِ مثله أحد؛ ذكر شعرًا، وبناها عبد الله بن الزبير لما كانت عائشة ترويه؛ ولأنه لما نصب عليها المنجنيق الحصين بن بشر وهت جدرانها، وقيل: بل طارت شررة من مجمره في أستارها فاحترقت، فلمَّا أمر عبد الملك بهدمها وبناها الحجاج على البناء الأوَّل، أخبر عبدَ الملك أبو سلمة وغيره عن عائشة ما كان عمدة ابن الزبير في هدمها، فندم لذلك، وقال: ليتنا تركناه وما تولى، فلمَّا ولي أبو جعفر أراد أن يهدمها ويردها إلى بناء ابن الزبير، فناشده مالك في ذلك فتركه، وفي

(1)

رواه ابن سعد في "طبقاته" 4/ 114، والمروزي في "تعظيم قدر الصلاة" 2/ 829 - 830 (829)، وأبو نعيم في "الحلية" 1/ 260.

(2)

"الروض الأنف" 1/ 222.

ص: 292

"صحيح الحاكم"، وقال: صحيح على شرط الشيخين من حديث ابن عمر مرفوعًا: "استمتعوا من هذا البيت، فإنه هدم مرتين ويرفع في الثالثة"

(1)

.

وقال عطاء -فيما حكاه ابن جريج-: إن آدم قال: أي ربِّ، إني لا أسمع أصوات الملائكة. فقال: اهبط إلى الأرض فابن لي بيتًا ثم احفف به، كما رأيت الملائكة تحف ببيتي الذي في السماءِ، قال: فيزعم الناس أنه بناه من خمسة أجبل: من حراء، وطور سيناء، وطور زيتا، والجودي، ولبنان

(2)

.

فكان هذا بناء آدم حتى بناه إبراهيم، وعن عبد الله بن عمرو: لما أهبط آدم قال: إني مهبط معك أو مُنزل معك بيتًا يطاف حوله كما يطاف حول عرشي، ويصلى عليه كما يصلى عند عرشي. فلما كان زمن الطوفان رُفعَ، فكانت الأنبياء يحجون ولا يعلمون مكانه، حتى بوأه الله لإبراهيم وأعلمه بمكانه، فبناه من خمسة أجبل: حراء، وثبير، ولبنان، والطور، وجبل الخمر

(3)

، قال الطبري: هو جبل الشام، وعن قتادة: ذكر لنا أنه بني من خمسة أجبل: من طور سيناء، وطور زيتا، ولبنان، وجودي، وحراء. وذكر لنا أن قواعده من حراء

(4)

. وعن عطاء: لمَّا أهبط آدم كان رجلاه في الأرض ورأسه في السماء، يسمع كلام أهل السماء ودعاء هم، يانس إليهم، فهابته الملائكة حتى شكت إلى الله، فخفضه

(1)

"المستدرك" 1/ 441 كتاب: المناسك، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(955)، وانظر:"الصحيحة" 3/ 434 (1451).

(2)

رواه الطبري في "تفسيره" 1/ 596 (2039).

(3)

"تفسير الطبري" 1/ 596 (2041).

(4)

رواه الأزرقي في "أخبار مكة" 1/ 63.

ص: 293

إلى الأرض، فلمَّا بعد ما كان يسمع منهم استوحش، فشكى إلى الله، فوجه إلى مكة، وأنزل الله ياقوتة من ياقوت الجنة، فكانت على موضع البيت الآن، فلم يزل يطوف به، فلمَّا كان الطوفان رفع الله تلك الياقوتة حتَّى بعث الله إبراهيم فبناه

(1)

، وعن أبان: أن البيت أُهبط ياقوتة أو درة واحدة

(2)

. وقال مجاهد: كان موضع البيت على الماء قبل خلق السماوات والأرض مثل الزبدة البيضاء، ومن تحته دحيت الأرض

(3)

.

وقال عمرو بن دينار: بعث الله رياحًا، فصفقت الماء، فأبرزت موضع البيت عن حشفة كأنها القبة، فهذا البيت منها، فلذلك هي أم القرى

(4)

.

وعن ابن عباس، قال: وضع البيت على أركان الماء، على أربعة أركان قبل خلق الدنيا بألفي عامٍ

(5)

، وعن ابن أبي نجيح عن مجاهد وغيره من أهل العلم أن الله لمَّا بوأ لإبراهيم مكان البيت خرج إليه من الشام، ومعه إسماعيل وأمه، وهو طفل يرضع، وحملوا على البراق، ومعه جبريل يدله على مواضع البيت ومعالم الحرم، فكان لا يمر بقرية إلا قال: بهذِه أمرت يا جبريل؟ فيقول جبريل: امضه حتى قدم به مكة، وهي إذ ذاك عِضَاه سلمٍ وسمر، وبها أناس يقال: لهم العماليق خارج مكة وما حولها، والبيت يومئذٍ ربوة حمراء مدرة،

(1)

رواه عبد الرزاق في "مصنفه" 5/ 91 (9090) كتاب: الحج، باب: بنيان الكعبة، والطبري في "تفسيره" 1/ 596 (2043).

(2)

رواه الطبري في "تفسيره" 1/ 597 (2045)، وفي "تاريخه" 1/ 84 - 85.

(3)

"تفسير الطبري" 1/ 597 (2046).

(4)

"تفسير الطبري" 1/ 597 (2047).

(5)

رواه الطبري 1/ 597 (2048)، وأبو الشيخ الأصبهاني في "العظمة" ص 367 - 368 (902)، وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" 1/ 236 إليهما.

ص: 294

فقال إبراهيم لجبريل: أها هنا أمرت أن أضعهما؟ قال: نعم، فعمد بهما إلى موضع الحجر فأنزلهما فيه، وأمر هاجر أن تتخذ فيه عريشًا

(1)

.

قال ابن إسحاق: ويزعمون -والله أعلم- أن ملكًا من الملائكة أتى هاجر قبل أن يرفع إبراهيم وإسماعيل القواعد من البيت فأشار لهما إلى البيت، وهو ربوة حمراء، فقال لهما: هذا أول بيت وضع في الأرض، وهو بيت الله العتيق، واعلمي أن إبراهيم وإسماعيل يرفعانه

(2)

.

قال مجاهد: خلق الله موضع البيت قبل أن يخلق شيئًا من الأرض بألفي سنة، وأركانه في الأرض السابعة

(3)

. وقال كعب: كان البيت غثاءً على الماء قبل أن تخلق الأرض بأربعين سنة

(4)

.

وعن عليٍّ أن إبراهيم أقبل من أرمينية ومعه السكينة تدله حتى تبوأ البيت، كما تبوأ العنكبوت بيتًا، فرفعت من أحجار يطيقه أولًا يطيقه ثلاثون رجلًا، قيل لابن المسيب رواية عنه: فإن الله تعالى يقول: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ} [البقرة: 127] قال: كان ذلك بعد

(5)

.

(1)

رواه الأزرقي في "أخبار مكة" 1/ 54، ورواه الطبري في "تفسيره" 1/ 597 - 598 (2050)، وفي "تاريخه" 1/ 153 - 154.

(2)

رواه عنه الأزرقي في "أخبار مكة" 1/ 56.

(3)

رواه عبد الرزاق في "المصنف" 5/ 94 - 95 (9097) كتاب: الحج، باب: بنيان الكعبة، والأزرقي في "تاريخ مكة" 1/ 32، وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" 1/ 236 إلى عبد الرزاق والأزرقي والجندي.

(4)

رواه عبد الرزاق في "المصنف" 5/ 195 (9098) كتاب: الحج، باب: بنيان الكعبة، والأزرقي في "أخبار مكة" 1/ 31.

(5)

رواه الطبري 1/ 597 (2052)، وابن أبي حاتم 1/ 232 (1236)، والحاكم في "المستدرك" 2/ 267 كتاب: التفسير، وابن عبد البر في "التمهيد" 10/ 32 - 33.

ص: 295

وفي كتاب "التيجان": لما عتت قوم نوح وهدموا الكعبة، قال تعالى له: انتظر الآن هلاكهم إذا فار التنور. وقال ابن عبَّاس: كان إبراهيم يبني، وإسماعيل يحمل الحجارة على رقبته

(1)

. وعن السدي: أخذا المعاول لا يدريان أين البيت، فبعث الله ريحًا يقال لها: الخجوج لها جناحان ورأس، في صورة حية، فكنست لهما ما حول الكعبة، وعن أساس البيت الأول، واتبعاها بالمعاول يحفران حتى وضعا الأساس، فلمَّا بنت القواعد، وبلغا مكان الركن، قال: يا إسماعيل، اطلب لي حجرًا حسنًا أضعه هنا، قال: يا أبت إني لَغِبٌ، قال: عليَّ ذلك، وانطلق يطلب حجرًا، فجاء جبريل بالحجر الأسود من الهند،

وكان ياقوتة بيضاء مثل الثغامة، وكان آدم هبط به من الجنة، ولما جاءه إسماعيلُ بحجر قال: يا أبتِ من جاء بهذا؟ قال: من هو أنشط منك

(2)

.

وقال عليٌّ: لمِّا أمر إبراهيم ببناء البيت خرج معه إسماعيل وهاجر، فلمَّا قدم رأى على رأسه في موضع البيت مثل الغمامة فيه مثل الرأس، فكلمه فقال: يا إبراهيم، ابن على ظلي، أو على قدري، ولا تزد ولا تنقص، فلمَّا بني خرج وخلف إسماعيل مع أمه، فقالت: يا إبراهيم، إلى من تكلنا؟ قال: إلى الله. قالت: انطلق؛ فإنه لا يضيعنا. قال: فعطش إسماعيل عطشًا شديدًا. قال: فصعدت هاجر الصفا فنظرت، فلم تر شيئًا، ثم أتت المروة فلم تر شيئًا، ثم رجعت إلى الصفا ففعلت ذلك سبعًا، فقالت لولدها: مُتْ حيث لا أراك، فناداها جبريل: من أنت؟ قالت: هاجر أمُّ ولد إبراهيم، قال: إلى من

(1)

قطعة من حديث سيأتي برقم (3364) كتاب: أحاديث الأنبياء.

(2)

روه الطبري في "تفسيره" 1/ 599 (2055)، وفي "تاريخه" 1/ 153.

ص: 296

وكلكما؟ قالت: إلى الله. قال: وكلكما إلى كافٍ، ففحص الأرض بإصبعه؛ فنبعت زمزم، فجعلت تحبس الماء، فقال: دعيه، فإنها رواءٌ

(1)

.

وقال ابن هشام في "التيجان": كان إبراهيم وإسماعيل يبنيان، وهاجر تسقي لهما الماء من زمزم، وتعجن لهما الطين وتعينهما، قال: وإن إبراهيم سار إلى القدس بإسماعيل وهاجر؛ ليسكنهما فيه، فإذا كان وقت الحج يحجون من بيت المقدس إلى البيت الذي بناه. فلمَّا نزل بالقدس أُريَ أن يذبح إسماعيل، فخرج به إلى الطور، وهاجر تقول: أحدٌ أحدٌ صمد لم يلد ولم يولد، رب ولدي كبدي اربط على قلبي بالصبر، فلمَّا فُديَ بالكبش، قال لها إبراهيم: كلي من كبده يهدئ روعك، فأول من أكل منه هاجر، ثم إبراهيم وإسماعيل. قال وهب: الذبيح إسماعيل، ثم ولد بعده إسحاق، على ما في القرآن العظيم، فلما كان وقت الحج حج إبراهيم من بيت المقدس، ومعه إسماعيل وهاجر، وأمر الله أن يؤذن في الناس بالحج، فأذن ثم صار إلى بابل. وذكر الواقدي، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله: أن إبراهيم نصب أنصاب الحرم، يريه جبريل، ثم جددها إسماعيل، ثم قصي، ثم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث عام الفتح رجلًا من خزاعة فجددها، ثم عمر.

وعن ابن عباس: أن جبريل أرى إبراهيم موضع أنصاب الحرم، فنصبها ثم جددها إسماعيل إلى آخره

(2)

.

(1)

رواه الطبري 1/ 600 (2059)، والحاكم في "المستدرك" 2/ 551 مختصرًا، كتاب: التاريخ، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

(2)

رواه الأزرقي في "أخبار مكة" 2/ 127، والفاكهي في "أخبار مكة" 2/ 273 (1512).

ص: 297

وروى الجندي من طريق ميمون بن مهران، عن ابن عباس رفعه:"كان البيت قبل هبوط آدم ياقوتة من ياقوت الجنة، له بابان من زمرد أخضر: باب شرقي، وباب غربي، وفيه قناديل من الجنة، والبيت المعمور الذي في السماء يدخله كلَّ يوم سبعون ألف ملك، لا يعودون منه إلى يوم القيامة حذاء البيت الحرام، ولما أهبط آدم إلى موضع الكعبة، وهو مثل الفلك من شدة رعدته، وأنزل عليه الحجر الأسود يتلألأ كأنه لؤلؤة بيضاء، فأخذه آدم فضمه إليه استئناسًا به، ثم أخذ الله تعالى من بني آدم ميثاقهم، فجعله في الحجر ثم أنزل على آدم العصا، ثم قال: يا آدم، تخطَّ فتخطى، فإذا هو بأرض الهند، فمكث ما شاء الله، ثم استوحش إلى البيت، فقيل له: احجج يا آدم، فلمَّا قدم مكة تلقته الملائكة، فقالت: برَّ حِجَّك يا آدمُ، لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام، فقال: ما كنتم تقولون حوله؟ قالوا: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلَّا الله، والله كبر. فكان آدم إذا طاف قالهنَّ وكان يطوفُ سبعة أسابيع بالليل، وخمسة أسابيع بالنهار، وقال: ربِّ اجعل لهذا البيت عُمَّارًا يعمرونه من ذريتي، فأوحى الله جلَّ وعز أني معمره نبيًّا من ذريتك اسمه إبراهيم، أقضي على يده عمارته، وأنيط له سقايته، وأريه مواقفه، وأعلمه مناسكه"

(1)

.

وفي "الدلائل" للبيهقي من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعًا: "بعث

الله جبريل إلى آدم وحواء، فقال لهما: ابنيا لي بيتًا فخطه لهما جبريل، فجعل آدم يحفر وحواء تنقل، حتى أصابه الماء فنودي من تحت: حسبك يا آدم، فلمَّا بنيا أوحى الله إليه أن يطوف به، وقيل له: أنت أول الناس،

(1)

أورده الديلمي في "الفردوس" 3/ 272 (4815) مختصرًا، وكذا السيوطي في "الدر المنثور" 1/ 245 مطولًا، وعزاه إلى الجندي والديلمي.

ص: 298

وهذا أوَّل بيت"

(1)

. ثم تناسخت القرون حتَّى حجه نوح، ثم تناسخت القرون حتى رفع إبراهيم القواعد منه.

قال البيهقي: تفرد به ابن لهيعة هكذا مرفوعًا

(2)

، وقال أبو الطفيل:

كانت الكعبة قبل أن تبنيها قريش برضم يابس ليس بمدر تنزوه العناق، وتوضع الكسوة على الجُدر، ثم تدلى، ثم إن سفينة للروم انكسرت بالشعبية، فأخذت قريش خشبها، وروميًّا -يقال له: باقوم- نجار، بأن يبنيها، ونقلوا الحجارة من أجياد

(3)

.

وعن عليٍّ: فلمَّا بناه إبراهيم مرَّ عليه الدهُر فانهدم، فبنته العمالقة، فمَّر عليه الدهرُ فانهدم، فبنته جرهم، فمرَّ عليه الدهرُ فانهدم، فبنته قريش، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ شابٌّ. صحح الحاكم أصل هذا الحديث

(4)

.

وقال ابن شهاب: لمَّا بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم الحُلُمَ أجمرت امرأة الكعبة فطارت شرارة من مجمرتها في ثياب الكعبة فاحترقت فهدموها، فلمَّا اختلفوا في وضع الركن دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم هو غلام عليه وشاح نمرة، فحكَّموه، فأمر بثوبٍ .. الحديث. وفيه: فوضعه هو في مكانه،

(1)

"دلائل النبوة" 2/ 45.

(2)

المصدر السابق.

(3)

رواه عبد الرزاق في "المصنف" 5/ 102 (9106) كتاب: الحج، باب: بنيان الكعبة، وإسحاق بن راهويه في "مسنده" 3/ 993 (1720)، والأزرقي في "أخبار مكة" 1/ 157 - 158، وابن خزيمة في "صحيحه" 4/ 337 (3022)، والضياء في المختارة 8/ 227 (272)، وأورده الهيثمي في "المجمع" 3/ 289 وقال: رواه الطبراني في "الكبير" بطوله، وروى أحمد طرفًا منه، ورجالهما رجال

الصحيح. اهـ.

(4)

"المستدرك " 1/ 458.

ص: 299

ثم طفق لا يزداد على السر إلا رضي حتى دعوه الأمين

(1)

. ولموسى بن عقبة: كان بنيانها قبل النبوة بخمس عشرة سنة

(2)

، وكذا روي عن مجاهد

(3)

وجماعات

(4)

.

وفي "الطبقات": كانت الجرف مظلةً على الكعبة، وكان السيلُ يدخلُ من أعلاها حتى يدخل البيت، فانصدع فخافوا أن ينهدم، وسرق منه حية وغزالٌ من ذهب كان عليه درٌّ وجوهر، فأقبلت سفينة فيها رومٌ رأسهم باقوم، وكان بانيًا، فخرج الوليد بن المغيرة في نفر فابتاعوا خشبها، وكلَّموا باقوم فقدم معهم

(5)

.

وفي كتاب الأزرقي: جعل إبراهيم طول بناء الكعبة في السماء تسعة أذرع، وطولها في الأرض ثلاثين ذراعًا، وعرضها في الأرض اثنين وعشرين ذراعًا، وكانت بغير سقف، ولمَّا بنتها قريش جعلوا طولها ثماني عشرة ذراعًا في السماء، ونقصوا من طولها في الأرض ستة أذرع وشبرًا تركوها في الحجر، ولما بناها ابن الزبير جعل طولها في السماء سبعًا وعشرين ذراعًا، فلم يغير الحجاج طولها حين هدمها، وهو إلى الآن

(6)

.

وذكر أهل السير أن قريشًا لمَّا ابتنت الكعبة وبلغت موضع الركن اختصمت في الركن: أي القبائل تلي رفعه؟ قالوا: تعالوا نحكِّم أوَّلَ

(1)

رواه عبد الرزاق في "المصنف" 5/ 100 (9104) كتاب: الحج، باب: بنيان الكعبة.

(2)

انظر "البداية والنهاية" لابن كثير 2/ 705.

(3)

رواه عبد الرزاق 5/ 98 (9103).

(4)

انظر "تاريخ الإسلام" 1/ 69، "البداية والنهاية" 2/ 705.

(5)

"الطبقات الكبرى" 1/ 145.

(6)

"أخبار مكة" 1/ 288 - 289.

ص: 300

رجلٍ يطلع علينا، فطلع رسول الله صلى الله عليه وسلم فحكموه وسموه الأمين، وكان في ذلك الوقت ابن خمس وثلاثين فيما ذكر ابن إسحاق. فأمر بالركن فوضع في ثوب، ثم أمر سيد كل قبيلة فأعطاه ناحية من الثوب، ثم ارتقى هو فرفعوا إليه الركن فوضعه عليه السلام بيده، فعجبت قريش من سداد رأيه، وكان الذي أشار بتحكيم أول رجل يطلع عليهم أبو أمية بن المغيرة والد أمِّ سلمة أمِّ المؤمنين، وكان عامئذٍ أسنَّ قريش كلها

(1)

.

وقد روي أن هارون الرشيد ذكر لمالك بن أنس أنه يريد هدم ما بناه الحجاج من الكعبة، وأن يرده إلى بناءِ ابن الزبير، فقال له: ناشدتك الله يا أمير المؤمنين أن (لا)

(2)

تجعل هذا البيت ملعبة للملوك لا يشاء أحدٌ منهم إلَّا نقض البيت وبناه، فتذهب هيبته من صدور الناس

(3)

.

الحديث الثاني: حديث عائشة أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهَا: "أَلمْ تَرَيْ أَنَّ قَوْمَكِ لَمَّا بَنَوُا الكَعْبَةَ اقْتَصَرُوا عَنْ قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ؟ ". فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، ألَا تَرُدُّهَا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ؛ قَالَ:"لَوْلَا حِدْثَانُ قَوْمِكِ بِالكُفْرِ لَفَعَلتُ". فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: لَئنْ كَانَتْ عَائِشَةُ: سَمِعَتْ هذا مِنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم مَا أُرى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَرَكَ استِلَامَ الرُّكْنَيْنِ اللَّذَيْنِ يَلِيَانِ الحِجْرَ، إِلَّا أَنَّ البَيْتَ لَمْ يُتمَّمْ عَلَى قَوَاعِدِ إِبرَاهِيمَ.

هذا الحديث ذكره كذلك في التفسير

(4)

، واختلف في إسناده كما

(1)

رواه عبد الرزاق في "المصنف" 5/ 313 - 321 (9718) كتاب: المغازي، باب: ما جاء في حفر زمزم وقد دخل في الحج أو ما ذكر من عبد المطلب، وانظر:"سيرة النبي" لابن هشام 209/ 1 - 214، و"تاريخ الطبري" 1/ 526.

(2)

ليست في الأصل، وإنما هي زيادة ليستقيم المعنى.

(3)

انظر: "التمهيد" 10/ 49 - 50، و"تفسير القرآن العظيم" لابن كثير 2/ 92.

(4)

سيأتي برقم (4484) باب: قوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ

}.

ص: 301

قال ابن الحذاء فقال بعضهم: عن سالم، عن عائشة، وقال بعضهم: عبد الله بن أبي بكر. ورواه ابن وهب، عن مخرمة، عن أبيه، عن نافع: سمعت عبيد الله بن أبي بكر يحدث ابن عمر، عن عائشة، والصحيح رواية مالك، عن محمد يعني المذكور هنا وهناك.

ومعنى ("اقتصروا"): لم يستوعبوا. يعني: قريشًا حين بنوا البيت الذي كان لها، وهذا البناء شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سلف، ووضعت قريش الحجر الأسود في حائطه بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم بذلك البنيان الذي اقتصرت فيه قريش على بعض القواعد وتركت شيئًا منها خارجًا عن بنيانها، وسبب ذلك قصر النفقة الحلال بهم كما ستعلمه بعد.

وقوله: ("لولا حدثان قومك بالكفر لفعلت"): يريد أنهم لقرب عهدهم بالجاهلية فربما أنكرت نفوسهم خراب الكعبة، ونفرت قلوبهم، فيوسوس لهم الشيطان ما يقيض شيئًا في دينهم، وهو كان يريد ائتلافهم وتثبيتهم على الإسلام، وقد بَوَّب عليه البخاري باب: من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس فيقعوا في أشد منه

(1)

، فرأى ترك ذلك، وأمر باستيعاب البيت بالطواف؛ لقربه إلى سلامة أحوال الناس، وإصلاح أديانهم؛ لأنَّ استيعاب بنيانه ليس من الفروض، ولا من أركان الشريعة التي لا تقام إلَّا به، وهو ممكن مع بقائه على حالته. ومن طاف ببعض البيت لم يجزئه عند مالك والشافعيِّ

(2)

.

(1)

سلف برقم (126) كتاب: العلم.

(2)

"المنتقى" 2/ 283، "الاستذكار" 12/ 118، "عيون المجالس" 2/ 811، "البيان" 4/ 280، "روضة الطالبين" 3/ 81، "مختصر خلافيات البيهقي" 3/ 195.

ص: 302

وقال أبو حنيفة: إن كان بمكة أعاد طوافه

(1)

. وقال ابن بطال عنه: قضى ما بقي عليه، وإن تباعد ورجع إلى بلده جبره بالدم

(2)

. وأجزأه إذا طاف بالحجر طوافًا واحدًا، دليلنا: قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالبَيْتِ العَتِيقِ} [الحج: 29] وهذا يقتضي الطواف بجميعه ومن طاف بالحجر فإنما يطوف بالبعض.

وقول ابن عمر: (لئن كانت عائشة سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد إن كان عبد الله بن محمد بن أبي بكر سلم من السهو في نقله عن عائشة وكانت عائشة سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك ذلك .. ) إلى آخره، فأخبر ابن عمر أنه عليه السلام ترك استلامها، ومقتضاه: أنه قصد تركهما، وإلَّا فلا يسمى تاركًا في عرف الاستعمال من أراد شيئًا فمنعه منه مانع فكأن ابن عمر علم ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعلم علته، فلمَّا أخبره عبد الله بن محمد بخبر عائشة هذا عرف علَّة ذلك، وهو كونهما ليسا على القواعد، بل أخرج منه بعض الحجر، فلم يبلغ به ركن البيت الذي في تلك الجهة، فالركنان اللذان اليوم من جهة الحجر لا يستلمان كما لا يستلم سائر الجدر؛ لأنه حكم يختصُّ بالأركان، وسيأتي عن عروة ومعاوية استلام الكل، وأنه ليس من البيت شيءٌ مهجورًا

(3)

.

وعن ابن الزبير أيضًا

(4)

، وذكر ذلك عن جابر، وابن عباس،

(1)

انظر: "بدائع الصنائع" 2/ 132، "الهداية" 1/ 152، "حاشية ابن عابدين" 2/ 522.

(2)

"شرح ابن بطال" 4/ 265.

(3)

سيأتي برقم (1608) باب: من لم يستلم إلا الركنين اليمانيين.

(4)

سيأتي معلقًا برقم (1608)، ورواه عبد الرزاق في "المصنف" 5/ 46 (8947) كتاب: الحج، باب: الاستلام في غير طواف، وهل يستلم غير متوضئ؟، وابن أبي شيبة في "المصنف" 3/ 348 (14991) كتاب الحج، فيما يستلم من الأركان.

ص: 303

والحسن، والحسين.

وقال أبو حنيفة: لا يستلم إلا الركن الأسود خاصة ولا يستلم اليماني؛ لأنه ليس بسنة فإن استلمه فلا بأس، دليلنا ما في الكتاب. وسيأتي

(1)

ذكر استلام الأركان في موضعه إن شاء الله تعالى.

الحديث الثالث:

حديثها أيضًا: سَأَلْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عَنِ الجَدْرِ أَمِنَ البَيْتِ هُو؟ قَالَ: "نَعَمْ". قُمتُ: فَمَا لَهُمْ لَمْ يُدْخِلُوهُ فِي البَيْتِ؟ قَالَ: "إِنَّ قَوْمَكِ قَصَّرَتْ بِهِمُ النفَقَةُ". قُلْتُ: فَمَا شَأْنُ بَابِهِ مُرْتَفِعَا؟ قَالَ: "فَعَلَ ذَلِكِ قَوْمُكِ لِيُدْخِلُوا مَنْ شَاءُوا، وَيَمْنَعُوا مَنْ شَاءُوا، وَلَوْلَا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيث عَهْدُهُمْ بالجَاهِلِيَّةِ فَأَخَافُ أَنْ تُنْكِرَ قُلُوبُهُمْ، أَنْ أُدْخِلَ الجَدْرَ فِي البَيْتِ، وَأَنْ ألصِقَ بَابَهُ بِالأَرْضِ".

وقد سلف ما فيه قبله، والجدر: الجدار، وأرادت الحجر: بكسر الحاءِ. قال الخطابي: وضبطه بفتح الدال في البخاري، والذي ذكر أهل اللغة سكونها، وكذا في بعض روايات البخاري، وكذا قال الجوهري: الجدر والجدار: الحائط

(2)

.

وقال ابن فارس: الجدار: الحائط، والجدر أصل الحائط والجدرة: حيٌّ من الأزد بنوا جدار الكعبة

(3)

.

وقولها: (فما شأن بابه مرتفعًا) .. إلى آخره، وروى عبد الرزاق، عن ابن جريج، قال: سمعت الوليد بن عطاء يحدث عن الحارث، عن ابن

(1)

انظر: "الهداية" 1/ 152، "البناية" 4/ 78.

(2)

"الصحاح" 2/ 609.

(3)

"مجمل اللغة" 1/ 178.

ص: 304

عبد الله بن ربيعة، عن عائشة: أنه عليه السلام قال لها: "وهل تدرين لم كان قومك رفعوا بابها؟ " قالت: لا. قال: "تعززًا؛ لئلَّا يدخلها إلَّا من أرادوا، وكان الرجل إذا كرهو اأن يدخلها يدعوه حتى يرتقي، حتى إذا كاد أن يدخلها دفعوه فسقط"

(1)

.

وفيه: أن الناس غير محجوبين عن البيت، متى شاءوا دخلوه، ولكنه تركه على ما كان وسلم مفتاحه لبني عبد الدار، وقال:"خذوها خالدة تالدة"

(2)

، فأمَّا ما يأخذه حُجَّابه من جُعْلٍ على فتح بابه ورؤية الحجر الذي قام عليه إبراهيم ونحوه، فليس بسائغ، وإنما أجرهم في تحصينه وتجميره، وتطييبه، وقد روي في قوله تعالى:{فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] أنه للكعبة

(3)

والجمهور أنه ذكر للتبرك.

الحديث الرابع: حديثها أيضًا، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها:"لولا حداثة قومك بالكفر لنقضت البيت ثم لبنيته على أساس إبراهيم، فإن قريشًا استقصرت بناءه وجعلت له خلفا" وقال أبو معاوية: ثنا هشام: خلفًا يعني: بابًا.

(1)

"المصنف" 5/ 127 - 128 (9150) في الحج، باب: الحجر وبعضه من الكعبة.

(2)

رواه الطبراني 11/ 120 (11234)، وفي "الأوسط" 1/ 155 - 156 (488)، وابن عدي في "الكامل" 5/ 224، وذكره الهيثمي في "المجمع" 3/ 285 وقال: رواه الطبراني في "الكبير" و"الأوسط"، وفيه: عبد الله بن المؤمل، وثقه ابن حبان، وقال: يخطئ، ووثقه ابن معين في راوية، وضعفه جماعة، وقال السخاوي في "كشف الخفاء" ص 374 (1197): رواه الطبراني في "الكبير" و"الأوسط" عن ابن عباس رضي الله عنهما رفعه بسند فيه: عبد الله بن المؤمل، وثقه ابن معين في رواية، وابن حبان وقال: يخطئ وضعفه آخرون اهـ.

(3)

رواه الطبراني في "تفسيره" 6/ 250 (16116، 16117) وابن أبي حاتم 5/ 1703 (9086) عن أبي العالية.

ص: 305

الحديث الخامس: حديثها أيضًا، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها:"يا عائشة، لولا أن قومك حديث عهد بجاهلية لأمرت بالبيت فهدم وأدخلت فيه ما أخرج منه .. " الحديث بطوله.

تعليق أبي معاوية أسنده مسلم عن يحيى بن يحيى، عن أبي معاوية

(1)

. والحديث الثاني: هو من رواية جرير بن حازم، ثنا يزيد بن رومان، عن عروة، عنها. أخرجه الإسماعيلي من حديث أحمد بن الأزهر، ثنا وهب بن جرير، ثنا أبي قال: سمعت يزيد بن رومان يحدث عن عبد الله بن الزبير، عن عائشة، فذكره، ثم قال: كان يزيد بن رومان رواه عن عبد الله وعروة ابني الزبير إن كان ابن الأزهر حفظه.

قال ابن التين: ولم يضبط "أساس" بفتح الهمزة، ولا بكسرها، ويحتمل أن يكون بفتحها، ويكون واحدًا، وهو أصل البناء كما قاله ابن فارس

(2)

، وعن صاحب "الصحاح ": أنه جمع أس

(3)

. ويحتمل أن يكون بكسرها، وهو جمع إس، عن صاحب "الصحاح".

وقال ابن بطال: الجدر: واحد الجدور وهي الحواجز التي بين السواقي التي تمسك الماء

(4)

.

وقوله: "بابًا"، يريد أي: من خلفه، يدخل الناس من وجهه، ويخرجون من خلفه، وخلفًا، بإسكان اللام. "وجعلت له" بضم التاء.

وقال ابن التين: في كتاب أبي الحسن بفتح اللام وسكون التاء عطفًا

(1)

"صحيح مسلم"(1233) كتاب: الحج، باب: نقض الكعبة وبنائها.

(2)

"مجمل اللغة" 1/ 79.

(3)

"الصحاح" 3/ 903.

(4)

"شرج ابن بطال" 4/ 267.

ص: 306

على فعل قريش، وليس ببين، والصحيح: سكونها مع ضم التاء، على أنه فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، معطوفا على "لبنيت".

وقول عروة: (حجارة كأسنمة الإبل). قد أسلفنا عن قتادة أن قواعده من حراء.

وقوله: (قال جرير: فحزرت من الحجر ستة أذرع أو نحوها). قد اختلفت الروايات فيه، وسيأتي إن شاء الله ما فيه.

وفيه: أن الحجر من البيت، وإذا كان كذلك فإدخاله واجب في الطواف. وقد اختلف العلماء فيمنْ سلك في الحجر في طوافه، فكان عطاء ومالك والشافعي وأحمد وأبو ثور يقولون: يبني على ما طاف قبل أنْ يسلك فيه، ولا يعتد بما طاف في الحجر

(1)

. وفصَّل أبو حنيفة كما سلف

(2)

.

واحتج المهلب وأخوه له فقالا: إنما عليه أن يطوف بما بُني من البيت؛ لأنَّ الحكم للبنيان لا للبقعة؛ لقوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا} الآية [الحج: 29] فأشار إلى البناء، والبقعة دون البناء لا تسمى بيتًا. والشارع إنما طاف بالبيت ولم يكن على الحجر علامة، وإنما علمها عمر إرادة استكمال البيت، ذكره عبيد الله بن أبي يزيد

(3)

وعمرو بن دينار في باب: بنيان الكعبة في آخر مناقب الصحابة

(4)

، كما ستعلمه.

(1)

انظر: "المنتقى" 2/ 283، "الاستذكار" 12/ 118، "عيون المجالس" 2/ 811، "البيان" 4/ 280، "روض الطالبين" 3/ 81، 195، "مختصر خلافيات البيهقي" 3/ 195، "المغني" 5/ 229.

(2)

انظر: "بدائع الصنائع" 2/ 132، "الهداية" 1/ 152، "حاشية ابن عابدين" 2/ 522.

(3)

في الأصل: عبد الله بن أبي زيد، والصواب ما أثبتناه.

(4)

سيأتي برقم (3830).

ص: 307

قالا: ولم يكن حول البيت حائط إنما كانوا يصلّون حول البيت حتى كان عمر، فبنى حوله حائطًا جدره قصير، فبناه ابن الزبير؛ ولذلك كان الطواف قبل تحجير عمر حول البيت الذي قصرته قريش عن القواعد، كما قال تعالى:{وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} [البقرة: 125] والطواف فرضه البيت المبني، ولو كان ذراعًا منه، وقد حج الناس من زمن الشارع إلى زمن عمر فلم يأمر أحدًا بالرجوع من بلده إلى استكمال البيت. وقد قال مالك: من حلف أن لا يدخل دار فلان فهدمت فدخلها أنه لا يحنث. فهذا دال أنَّ الدار والبيت إنما يختص بالبنيان لا بالبقعة.

قال المهلب: ومعنى ما سلف أنه لم يكن حول البيت حائط أي حائط يحجز الحجر من سائر المسجد، حتى حجزه عمر بالبنيان، ولم يبنه على الجدر الذي كان علامة للناس، بل زاد ووسع قطعًا للشك أنَّ الجدر على آخر قواعد إبراهيم، فلمَّا لم يكن عند عمر أن ذلك الجدر هو آخر قواعد إبراهيم التي رفعها إبراهيم وإسماعيل على يقين ونقلٍ كافة، مع معرفته أن قريشًا كانت قد هدمت البيت وبنته على غير القواعد، خشي أن يكون الجدر من بنيان قريش القديم، فزاد في الفسحة استبراءً للشك، ووسع الحجر حتى صار الجدر في داخل الحجر.

وقد بان هذا في حديث جرير، وهو قوله:(فحزرت من الحجر ستة أذرع أو نحوها)، والحائط الذي بناه عمر حول الحجر ليس بحائط مرتفع، هو من ناحية الحجر نحو ذراعين، ومن الجرف خارجه نحو أربعة أذرع إلى صدر الواقف من خارجه، ولم يكن الجدر الذي ظهر من الأساس مرتفعًا، إنما كان علامة كالنجم والهدف لا بنيانا. والحجة لمالك ومنْ تبعه كما سلف، وإخبار الشارع أن البيت قصر به

ص: 308

عن القواعد ولم يتم عليها لمن طاف في الحجر جعل طائفًا ببعضه؛ لأن البيت يضم ما خط آدم، وبناه إبراهيم. وقد قال عمر وابنه عبد الله: لولا أن الحجر من البيت ما طفت به. وقال ابن عباس: الحجر من البيت، قال تعالى:{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالبَيْتِ العَتِيقِ} [الحج: 29] ورأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف من وراء الحجر

(1)

. يدل على أنه إجماع.

ومن لم يستوف الطواف بالبيت وجب أن لا يجزئه كما لو فتح بابًا في البيت فطاف وخرج منه

(2)

.

(1)

رواه عبد الرزاق في "المصنف" 5/ 127 (4149) كتاب: الحج، باب: الحجر وبعضه من الكعبة، وابن خزيمة 4/ 222 - 223 (2740) كتاب.: المناسك، باب: الطواف من وراء الحجر، والطبراني 11/ 44 (10988)، والبيهقي في "السنن الكبرى" 5/ 90 كتاب: الحج، باب: موضع الطواف، وفي "معرفة السنن والآثار" 7/ 238 (9918) كتاب: المناسك، كمال الطواف وموضعه.

(2)

ورد في هامش الأصل: ثم بلغ في السابع بعد العشرين، كتبه مؤلفه غفر الله له.

ص: 309

‌43 - باب فَضْلِ الحَرَمِ

وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ البَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا} [النمل: 91]، وَقَوْلِهِ:{أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا} الآية [القصص: 57].

1587 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْن عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الَحمِيدِ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ فَتحِ مَكَّةَ: "إِنَّ هذا البَلَدَ حَرَّمَهُ اللهُ، لَا يُعْضَدُ شَوْكُهُ، وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، وَلَا يُلْتَقِطُ لُقَطَتَهُ إِلا مَنْ عَرَّفَهَا". [انظر: 1349 - مسلم: 1353 - فتح: 3/ 449]

ثم ذكر فيه حديث ابن عباس قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَوْمَ فَتْح مَكَّةَ: "إِنَّ هذا البَلَدَ حَرَّمَهُ اللهُ، لَا يُعْضَدُ شَوْكُهُ، وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، وَلَا يُلْتَقِط لُقَطَتَهُ إِلَّا مَنْ عَرَّفَهَا".

أما الآية الأولى فقال الزجاج: قرئ {الَّتِى} وهي قليلة و {الَّذِى} في موضع نصب من صفة ورَلمحث هَد، {وَالَّتِي} في موضع خفض من نعت البلدة.

وقال ابن التين: وقع في رواية أبي الحسن {الَّتِى}

(1)

وقال: {الَّذِى} قرأنا في السبعة.

وروي أنَّ ابن عباس قرأها كذلك، وذلك غير بعيد جعله نعتا للبلدة.

وأمَّا الآية الثانية فكانوا آمنين قبل الإسلام، فلو أسلموا لكان أوكد، قال قتادة: وكان أهل الحرم آمنين يخرج أحدهم فإذا عرض له قال: أنا

(1)

انظر: "مختصر شواذ القرآن" ص 162.

ص: 310

من أهل الحرم فيترك، وغيرهم يُقتل ويُسلب

(1)

.

وقال الفراء: قال بعض قريش: يا محمد، ما منعنا أنْ نؤمن بك ونصدقك إلا أنَّ العرب على ديننا فنخاف أن نصطلم

(2)

إذا آمنا بك. فأنزل الله هذِه الآية. يعني: ألم نسكنهم حرمًا آمنا لا يخاف من دخله أن يقام عليه حدّ ولا قصاص، فكيف يخافون أن تستحل العرب قتالهم فيه؟!

(3)

.

وقوله: {يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} ، ذكرت {يُجْبَىَ} وإنْ كانت الثمرات مؤنثة، لأنك فرقت بينهما بالنية.

قال الشاعر:

إنَّ الذي غره منكن واحدة

بعدي وبعدك في الدنيا لمغرور

قال ابن عباس: {يُجْبَى إِلَيْهِ} ثمرات الأرضين

(4)

.

وقد قيل: إنَّ البلدة اسم خاص بمكة، ولها أسماء كثيرة، ذكرتها في "لغات المنهاج" نحو الأربعين، فلتراجع منه.

وفيه: التصريح بتحريم الله عز وجل مكة والحرم، وتخصيصها بذلك من بين البلاد. وقد اعترض قوم من أهل البدع وقالوا: قد قتل خلق بالحرم والبيت من الأفاضل كعبد الله بن الزبير ومن جرى مجراه، ولا تعلق لهم بذلك؛ لأنه خرج مخرج الخبر، والمراد به الأمر بأمان من دخل البيت، وأن لا يقتل، ولم يرد الإخبار بأن كل داخل إليه آمن، وعلى مثل هذا

(1)

رواه الطبري في "تفسيره" 10/ 89 - 90 (27535).

(2)

الاصطلام: الاستئصال، واصطُلم القوم: أبيدوا من أصلهم، انظر:"لسان العرب" 4/ 2489.

(3)

"معاني القرآن" للفراء 2/ 308.

(4)

رواه الطبري 10/ 90 (27537).

ص: 311

خرج قوله عليه السلام"من ألقى سلاحه فهو آمن، ومن دخل الكعبة أو دار أبي سفيان فهو آمن"

(1)

فإنما قصد الأمر بأمان من ألقى سلاحه ودخل في ذلك، ولم يرد بذلك الخبر، ومثل قوله تعالى:{وَالمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] يعني بذلك الأمر لهن بالتربص دون الخبر عن تربص كل مطلقة؛ لأنها قد تعصي الله ولا تتربص، فلذلك قال:{وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97] أي أمنوا من دخله، فهو داخل على صفة من يجب أنْ يؤمن، فمن لم يفعل ذلك عصى وخالف، ومتى جعلنا هذا القول أمرًا بطل تمويههم.

قال القاضي أبو بكر بن الطيب: وقد يجوز أن يكون أراد تعالى كان آمنا يوم الفتح، وقت قوله:"من ألقى سلاحه فهو آمن .. " إلى آخره فلا يناقض عدم الأمن في غير ذلك الوقت وجوده فيه، فيكون الأمن في بعض الأوقات دون جميعها، وسيأتي في باب: لا يحل القتال بمكة

(2)

، زيادة في هذا المعنى.

وأما حديث الباب فذكره في اللقطة معلقًا فقال: وقال طاوس عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يلتقط لقطتها إلا من عرفها"

(3)

وقد أسنده هنا كما تراه وسيأتي حكمه -إن شاء الله- وفي الحج أيضًا.

(1)

رواه مسلم (1780) كتاب: الجهاد والسير، باب: فتح مكة.

(2)

انظر ما سيأتي برقم (1834).

(3)

سيأتي قبل حديث (2423) باب: كيف تعرف لقطة أهل مكة.

ص: 312

‌44 - باب تَوْرِيد دُورِ مَكَّةَ وَبَيْعِهَا وَشِرَائِهَا

وَأَنَّ النَّاسَ فِي مَسْجِدِ الحَرَامِ سَوَاءٌ خَاصَّةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالمَسْجِدِ الحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً العَاكِفُ فِيهِ وَالبَادِ} الآية [الحج: 25].

البَادِي: الطَّارِي، مَعْكُوفًا: مَحْبُوسًا.

1588 -

حَدَّثَنَا أَصْبَغُ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيْنَ تَنْزِلُ فِي دَارِكَ بِمَكَّةَ؟ فَقَالَ:"وَهَلْ تَرَكَ عَقِيلٌ مِنْ رِبَاعٍ أَوْ دُورٍ؟ ". وَكَانَ عَقِيلٌ وَرِثَ أَبَا طَالِبٍ هُوَ وَطَالِبٌ، وَلَمْ يَرِثْهُ جَعْفَرٌ وَلَا عَلِيٌّ رضي الله عنهما شَيْئًا؛ لأَنَّهُمَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ، وَكَانَ عَقِيلٌ وَطَالِبٌ كَافِرَيْنِ، فَكَانَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رضي الله عنه يَقُولُ: لَا يَرِثُ المُؤْمِنُ الكَافِرَ. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَكَانُوا يَتَأَوَّلُونَ قَوْلَ اللهِ تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 72] الآيَةَ. [3058، 4282، 6764 - مسلم: 1351 - فتح: 3/ 450]

ثم ذكر حديث ابن شهاب، عَنْ عَلِيٍّ بْنِ حُسَيْنِ، عَنْ عَمْرٍو بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ أُسَامَةَ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيْنَ تَنْزِلُ في دَارِكَ بِمَكَّةَ؟ فَقَالَ:"وَهَلْ تَرَكَ لنا عَقِيل مِنْ رِبَاعٍ" .. الحديث.

أما الآية: فخبر {إِنَّ} محذوف، المعنى: هلكوا، أي: وعن المسجد الحرام، واختلف في العاكف والبادي، فقال مجاهد: العاكف: النازل، والبادي: الجائي

(1)

.

(1)

رواه الطبري في "تفسيره" 9/ 129 (25012 - 25013).

ص: 313

وقال الحسن وعطاء: العاكف: من كان من أهل مكة، والبادي: من كان بغيرها

(1)

. قال مجاهد: أي هما في تعظيمها وحرمتها سواء

(2)

.

وقال عطاء: ليس أحد أحق به من الآخر، ونحوه عن ابن عباس، وقيل: هما في إقامة المناسك سواء، وقيل: لا فضل لأحد على الآخر، وتأوله عمر بن عبد العزيز على أن بيوت مكة لا تكرى

(3)

، وروي عن عمر أنه كان ينهى أن تغلق دور مكة في زمن الحج، وأن الناس كانوا ينزلون فيها وحيث وجدوه فارغًا

(4)

. وقيل: إنَّ المراد بالآية المسجد الحرام خاصة دون الدور؛ لأنهم كانوا يمنعون منه، ويدّعون أنهم أربابه.

وأما حديث أسامة فأخرجه مسلم أيضًا إلى قوله: وكان طالب وعقيل كافرين

(5)

، والباقي بما زاده البخاري عليه، وفي موضع آخر "لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم"

(6)

وفي رواية لمسلم: وذلك في حجته حين دنوا من مكة، وفي لفظ آخر له: وذلك زمن الفتح

(7)

.

وقال البخاري: لم يقل يونس: حجته، ولا زمن الفتح. وهو ما ساقه في الكتاب من طريقه.

(1)

"تفسير الطبري" 9/ 129 (25014).

(2)

السابق.

(3)

رواه عبد الرزاق في "المصنف" 5/ 147 (9212) كتاب: الحج، باب: الكراء في الحرم.

(4)

"مصنف عبد الرزاق " 5/ 146 (9210).

(5)

"صحيح مسلم"(1351) كتاب: الحج، باب: النزول بمكة للحاج.

(6)

سيأتي برقم (6764) كتاب: الفرائض، باب: لا يرث المسلم الكافر.

(7)

"صحيح مسلم"(1351).

ص: 314

وقال الطرقي: رواية الأكثرين من أصحاب الزهري: زمن الفتح،

ويحتمل كما قال القرطبي: تكرر السؤال والجواب

(1)

، وفيه بُعد.

وقد ترجم البخاري أيضًا، وأخرجه مع البخاري مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه

(2)

.

(1)

"المفهم" 3/ 466.

(2)

"صحيح مسلم"(1351) كتاب: الحج، باب: النزول بمكة للحاج، "سنن أبي داود" (2909) كتاب: الفرائض، باب: هل يرث المسلم الكافر؟، "السنن الكبرى" للنسائي 2/ 480 (4255) كتاب: الحج، باب: دور مكة، "سنن ابن ماجه" (2730) كتاب: الفرائض، باب: ميراث أهل الإسلام من أهل الشرك.

ص: 315

‌45 - باب نُزُولِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ

1589 -

حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ أَرَادَ قُدُومَ مَكَّةَ: "مَنْزِلُنَا غَدًا -إِنْ شَاءَ اللهُ- بِخَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى الكُفْرِ". [1590، 3882، 4284، 4285، 7479 - مسلم: 1314 - فتح: 3/ 452]

1590 -

حَدَّثَنَا الحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا الوَلِيدُ، حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الغَدِ يَوْمَ النَّحْرِ وَهُوَ بِمِنًى: "نَحْنُ نَازِلُونَ غَدًا بِخَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى الكُفْرِ". يَعْنِي: ذَلِكَ المُحَصَّبَ، وَذَلِكَ أَنَّ قُرَيْشًا وَكِنَانَةَ تَحَالَفَتْ عَلَى بَنِى هَاشِمٍ وَبَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ -أَوْ بَنِي المُطَّلِبِ- أَنْ لَا يُنَاكِحُوهُمْ، وَلَا يُبَايِعُوهُمْ حَتَّى يُسْلِمُوا إِلَيْهِمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم.

وَقَالَ سَلَامَةُ عَنْ عُقَيْلٍ وَيَحْيَى بْنُ الضَّحَّاكِ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ: أَخْبَرَنِي ابْنُ شِهَابٍ. وَقَالَا: بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي المُطَّلِبِ.

قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: بَنِي المُطَّلِبِ أَشْبَهُ. [انظر: 1589 - مسلم: 1314 - فتح: 3/ 453]

ثم ساق من حديث الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم حِينَ أرَادَ قُدُومَ مَكَّةَ: "مَنْزِلُنَا غَدًا -إِنْ شَاءَ اللهُ- بِخَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى الكُفْرِ". وبه قال

(1)

قال: النبي صلى الله عليه وسلم من الغد يوم النحر وهو بمنى: "نحن نازلون غدًا بخيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر". يعني بذلك: المحصَّب، وذلك أن قريشًا وكنانة تحالفت على بني هاشم وبني عبد المطلب أو بني المطلب .. الحديث. وقال سلامة: عن عقيل ويحيى بن الضحاك، عن الأوزاعي، أخبرني ابن

(1)

فوقها في الأصل: يعني: زيد السند من الزهري لا من أوله.

ص: 316

شهاب، وقالا: بني هاشم وبني المطلب.

قال أبو عبد الله: بني المطلب أشبه. قلت: ويحيى بن الضحاك هو يحيى بن عبد الله بن الضحاك

(1)

البابلتي، مات سنة ثماني عشرة ومائتين

(2)

، وسلامة هو ابن روح بن خالد بن أخي عقيل، كنيته أبو خربق بالخاء المعجمة، ثم راء، ثم باء موحدة، ولم يسمع من عقيل، ومات سنة ثمان وتسعين ومائة

(3)

، ولم يسمع يحيى من الأوزاعي كما قاله يحيى بن معين

(4)

، لكنه كان في حجره، لا جرم قال أبو عبد الرحمن: حديث الأوزاعي غير محفوظ، وخرج طرفًا منه عن مالك عن الزهري

(5)

-أي: عن علي بن الحسين، عن عمرو، عن

(1)

ورد في هامش الأصل ما نصه: قال في "الكاشف" وهو لين، وقال في "الضعفاء" واهٍ، قال ابن عدي الضعف على حديثه بيِّن، وأما سلامة فقال في "الكاشف" و"المغني": قال أبو زرعة: منكر الحديث، زاد في "الكاشف" وقواه ابن حبان وكونه لم يسمع من عقيل قاله الدمياطي في حاشية نسخته .....

(2)

هو يحيى بن عبد الله بن الضحاك بن بابلت البابلتي، أبو سعيد الحراني، مولى بني أمية، أصله من الري، وهو ابن امرأة الأوزاعي. قال ابن أبي حاتم: سألت أبا زرعة عنه، فقال: لا أحدث عنه، ولم يقرأ علينا حديثه، وذكره ابن حبان في "المجروحين" وقال: يأتي عن الثقات بأشياء معضلات يهم فيها، فهو ساقط الاحتجاج فيما انفرد به، وقال ابن عدي: وليحبى البابلتي عن الأوزاعي أحاديث صالحة، وأثر الضعف على حديثه بيِّن، انظر:"التاريخ الكبير" 8/ 288 (3027)، "الجرح والتعديل" 9/ 164 (681)، و"المجروحين" لابن حبان 3/ 127، "الكامل" 9/ 118 (2151)، "تهذيب الكمال" 31/ 409 (6862).

(3)

قال عنه أبو حاتم: ليس بالقوي، محله عندي محل الغفلة، وقال أبو زرعة: أيلي ضعيف منكر الحديث، وسئل: هل يكتب حديثه؟ قال: نعم يكتب على الاعتبار، انظر:"الجرح والتعديل" 4/ 301 - 302 (1311)، و"الكامل" 4/ 329 (773).

(4)

انظر: "الكامل" لابن عدي 9/ 118.

(5)

في (م): (الترمذي) وهو خطأ.

ص: 317

أسامة- قلت: يا رسول الله، أين تنزل غدًا؟ في حجته فقال:"وهل ترك لنا عقيل منزلًا"

(1)

أخرجه في الجهاد عن محمود، عن عبد الرزاق، أنا معمر والأوزاعي، عن الزهري به، وقلادة ثم قال: قال الزهري: والَخيْف: الوادي

(2)

، وقال

(3)

: الصواب من حديث مالك: عمرو وقال البخاري: عمُر وهم

(4)

.

قلت: وقال الدارقطني في "موطآته": رواه روح بن عبادة وخالد بن مخلد ومكي بن إبراهيم عن مالك فسماه عَمرًا. وفي رواية القعنبي ويحيى بن بكير، عن مالك: عُمر، أو عَمرو على الشك.

وفي رواية إسحاق الطباع: قال مالك: أنا أعرف به، كان عمر بن عثمان جاري، وقد أخطأ من سماه عمرًا.

وقال أبو حاتم الرازي فيما ذكره عنه ابنه في "علله ": تفرد الزهري برواية هذا الحديث

(5)

.

إذا تقرر ذلك فالكلام على البابين من أوجه:

أحدها: ظاهر الإضافة في قوله: (أين تنزل غدًا؟) من دارك. وفي أخرى ذكرها ابن التين: من ربع آبائك وأجدادك الملكية، يؤيده "هل ترك لنا عقيل من رباع"

(6)

؟ فأضافها إلى نفسه وظاهرها يقتضي

(1)

"السنن الكبرى" 2/ 480 عن يونس بن عبد الأعلى، عن ابن وهب عن يونس بن يزيد عن ابن شهاب.

(2)

سيأتي برقم (3058) باب: إذا أسلم قوم في دار الحرب.

(3)

ورد أعلى كلمة قال في الأصل: يعني أبا عبد الرحمن.

(4)

"التاريخ الكبير" 6/ 353 - 354.

(5)

"علل الحديث" 1/ 288 (860).

(6)

الرواية السابقة.

ص: 318

الملك، فيحتمل أن يكون عقيل أخذها وتصرف فيها كما فعل أبو سفيان بدور المهاجرين.

قال الداودي: كان (عقيل باع)

(1)

ما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم لمن هاجر من بني عبد المطلب، فعلى هذا يكون قوله عليه السلام ذلك تحرجًا أنْ يرجع في شيء خرج منه لأجل الله، ولفظه يقتضي الاستفهام، ومعناه النفي، أي: ما ترك لنا شيئًا. وأبعد من قال: يحتمل أنه حكم لها بحكم الدار، فإنها خرجت عن ملكه لمَّا ملكها المسلمون، كما يقوله مالك والليث في هذِه المسألة لا في هذا الحديث، وسبب بُعده أنه يكون تعليله بأخذ عقيل لا يوافق، ويخرج عن أن يكون جوابًا لما سأله. وقيل: كان أصلها لأبي طالب فأمسكه عليه السلام مدة حياته إياها، فلما مات أبو طالب ورثه عقيل وطالب

(2)

، واستولى عليها عقيل لما هاجر عليه السلام بحكم ميراثه من أبيه.

وعلى هذا فتكون إضافتها إليه مجازية؛ لأنه كان يسكنها لا أنه ملكها، والقول الأول أولى كما قاله القرطبي

(3)

.

وقال عياض: احتواء أبي طالب على أملاك عبد المطلب لأنه كان أكبر ولده حين وفاته على عادة أهل الجاهلية

(4)

.

الثاني: فيه دلالة على أن مكة -شرفها الله- فتحت صلحًا، وقد اختلف العلماء في ذلك، فذهب الشافعي وأصحابه إلى ذلك، وذهب

(1)

كذا في الأصل، وفي (م): يجعلها حجة.

(2)

ورد في هامش (م): ولعله لما فقد طالب يوم بدر اختص بها عقيل، وقد أسل عقيل قبل الفتح بعد الحديبية، ولم يسلم طالب.

(3)

"المفهم" 3/ 413.

(4)

"إكمال المعلم" 4/ 463.

ص: 319

أبو حنيفة والأوزاعي ومالك وغيرهم إلى أنها فتحت عنوة

(1)

.

قال ابن بزيزة: وهو الصحيح، ونقله غيره عن الأكثرين. وفي حديث أبي شريح الكعبي دلالة على ذلك أيضًا

(2)

. وقيل: إن أسفلها دخله خالد بن الوليد عنوة، وأعلاها صلحًا، كفوا عن الزبير والتزموا شرط أبي سفيان، فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم التزم أمان من لم يقاتل واستأنف أمان من قاتل، فلذلك استجار بأم هانئ رجلان، فلو كان الأمان عامًّا لم يحتاجا إلى ذلك، ولو لم يكن أمان لكان كل الناس كذلك. وفي "الإكليل" لأبي عبد الله الحاكم: والأخبار تدل أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل يوم الفتح في بيت أم هانئ ابنة عمه، وكان عمر بن الخطاب يأمر بنزع أبواب دور مكة إذا قدم الحاج، وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عامله بمكة فيما حكاه السهيلي أن ينهى أهلها عن كراء دورها إذا جاء الحاج، فإنَّ ذلك لا يحل لهم، وعن مالك: إن كان الناس ليضربون فساطيطهم بدور مكة لا ينهاهم أحد.

ولابن ماجه من حديث علقمة بن نضلة: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر، وإنَّ دور مكة كانت تدعى السوائب، من احتاج سكن

(3)

، ومن استغنى أسكن. وإسناده على شرطهما، ورماه البيهقي بالانقطاع

(4)

.

(1)

انظر: "شرح معاني الآثار" 3/ 311، "الهداية" 2/ 450، "البحر الرائق" 5/ 139، "عيون المجالس" 2/ 706، "المنتقى" 3/ 220، "نهاية المحتاج" 8/ 78، "الفروع" 6/ 243، "نيل الأوطار" 5/ 182.

(2)

سلف برقم (104) كتاب: العلم، باب: ليبلغ العلم الشاهد الغائب.

(3)

"سنن ابن ماجه"(3107) كتاب: المناسك، باب: أجر بيوت مكة. وضعفه الألباني. في "ضعيف ابن ماجه"(663).

(4)

"السنن الكبرى" 6/ 35 كتاب: البيوع، باب: ما جاء في بيع دور مكة وكرائها =

ص: 320

وللدارقطني من حديث عبد الله بن عمرو يرفعه: "من كل كراء بيوت مكة أكل نارًا" رواه عنه ابن أبي نجيح عبد الله بن يسار، ولم يدركه

(1)

.

وفي "المصنف" عن مجاهد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مكة حرم حرمها الله لا يحل بيع رباعها ولا إجارة بيوتها"

(2)

. وكان عطاء يكره إجارة بيوتها، والقاسم، وعبد الله بن عمرو

(3)

، وروي عن (محمد)

(4)

بن علي: لم يكن لدور مكة أبواب

(5)

. قال السهيلي: وهذا كله منتزع من أصلين، أحدهما: قوله تعالى: {وَالمَسْجِدِ الحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً العَاكِفُ فِيهِ وَالبَادِ} [الحج: 25] وقال ابن عباس وابن عمر: الحرم كله مسجد

(6)

.

الثاني: أنه عليه السلام دخلها عنوة، غير أنه مَنَّ على أهلها بأنفسهم وأموالهم، ولا يقاس عليها غيرها من البلاد كما ظن بعض الفقهاء،

= وجريان الإرث فيها.

(1)

"سنن الدارقطني" 2/ 299 - 300 كتاب: الحج، باب: المواقيت من حديث المعتمر بن سليمان عن أبي إسرائيل عن عبيد الله بن أبي زياد عن ابن أبي نجيح عن عبد الله بن عمرو .. الحديث.

ضعفه الألباني في "الضعيفة" 5/ 208 (2186).

(2)

"المصنف" 3/ 314 (14676) كتاب: الحج، من كان يكره كراء بيوت مكة وما جاء في ذلك.

(3)

"المصنف" 3/ 314 - 315 (14678، 14679، 14681).

(4)

في (م): مجاهد.

(5)

"المصنف" 3/ 315 (14683) من حديث جعفر عن أبيه قال: ثم يكن لدور مكة أبواب

(6)

انظر: "زاد المسير" 5/ 419، وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 631 إلى عبد بن حميد.

ص: 321

لأنها مخالفة لغيرها من وجهين:

أولهما: ما خص الله به رسوله حيث قال: {قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: 1].

ثانيهما: ما خصَّ الله به مكة من أنه لا تحل غنائمها، ولا تلتقط لقطتها، وهي حرم الله وأمنه، فكيف تكون أرضها أرض خراج؟ فليس لأحد افتتح بلدًا أن يسلك بها سبيل مكة، فأرضها إذًا ودورها لأهلها، ولكن أوجب الله تعالى عليهم أن يوسعوا على الحجاج إذا قدموها من غير كراء فهذا حكمها، فلا عليك بعد هذا فتحت عنوة أو صلحًا، وإن كان ظواهر الأحاديث أنها فتحت عنوة. وقال ابن شعبان: أجمعوا أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يجعلها فيئًا كغيرها.

وقال الطحاوي: عن أبي يوسف لا بأس ببيع أرضها وإجارتها كسائر البلدان، ذكر ذلك بعد أن قال: اختلف العلماء في بيعها وكرائها. فروي عن عطاء ومجاهد وطاوس أنه لا يحل بيع أرض مكة، ولا كراؤها، وهو قول أبي حنيفة، والثوري، ومحمد

(1)

. وكره مالك بيعها وكراءها، وخالفهم آخرون فقالوا: لا بأس ببيع أرضها وإجارتها، وجعلوها كسائر البلدان، هذا قول أبي يوسف، وذكره ابن المنذر عن الشافعي، وعن طاوس إباحة الكراء

(2)

، وقال مجاهد: لا أرى به بأسًا. ذكره ابن أبي شيبة

(3)

، وحكي عن عثمان أنه قال: رباعي التي بمكة يسكنها بني ويسكنها من

(1)

"شرح معاني الآثار" 4/ 49.

(2)

رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" 3/ 315 (14684) كتاب: الحج، من رخص في كرائها.

(3)

"المصنف" 3/ 315 (14685).

ص: 322

أحبوا

(1)

. وكان أحمد بن حنبل يتوقى الكراء في الموسم، ولا يرى بأسًا بالشراء، واحتج بأن عمر اشترى دار السجن بأربعة آلاف درهم

(2)

.

واحتج من أجاز بيعها وكراءها بحديث أسامة، لأنه

(3)

ذكر ميراث عقيل لما تركه أبو طالب فيها من رباع ودور

(4)

. وقال الشافعي: فأضاف الملك إليه وإلى من ابتاعها منه

(5)

.

قال الطحاوي: واعتبرنا ذلك فرأينا المسجد الحرام الذي كل الناس فيه سواء، لا يجوز لأحد أن يبني فيه بناء، ولا يحتجر منه موضعًا، وكذلك حكم جميع المواضع التي لا يقع لأحد فيها ملك، وجميع الناس فيها سواء، ألا ترى أنَّ عرفة لو أراد [رجل]

(6)

أن يبني في الموقف بناءً لم يكن له ذلك، وكذا منى، وقد قال عليه السلام لمَّا قيل له: ألا تتخذ لك بمنى بيتًا تستظل به؟ "لا، منى مُناخُ من سبق" حسنه الترمذي وصححه الحاكم على شرط مسلم

(7)

. وكذا فعلت عائشة لمَّا

(1)

"المصنف" 3/ 315 (14686).

(2)

رواه البخاري معلقًا قبل حديث رقم (2423) كتاب: الحضومات، باب: الربط والحبس في الحرم، وأسنده ابن أبي شيبة في "المصنف" 5/ 7 (23191) كتاب: البيوع، والفاكهي في "أخبار مكة" 3/ 254 (2076).

(3)

في (م): (أنه).

(4)

سبق برقم (1588).

(5)

انظر: تفصيل المسألة في "مختصر الطحاوي"(439: 440)، "الهداية" 4/ 429، "المقدمات" المطبوع مع "المدونة" 3/ 464، "عيون المجالس" 3/ 1520، "أنوار البروق" 4/ 91، "روضة الطالبين" 3/ 413، "المجموع" 9/ 248، "مختصر خلافيات البيهقي" 3/ 346، "نهاية المحتاج" 8/ 78، "المغني" 6/ 364، "الفروع" 6/ 243، "شرح منتهى الإرادات" 3/ 120.

(6)

ليست في (م) ولا الأصل وأثبتناها من "شرح معاني الآثار" 5/ 5.

(7)

"سنن الترمذي"(881) كتاب: الحج، "المستدرك" 1/ 466 - 467 كتاب: =

ص: 323

سُئلت في ذلك

(1)

.

وفي كتاب ابن أبي حاتم من حديث منصور بن شيبة عن أمه عن عائشة أنها قالت: لا يوضع حجر على حجر بمنى إلا أن يتخذ الرجل كنيفًا. قال أبي: هو بلا عائشة، وهو منصور عن أبيه أشبه عندي، ومتن الكلام مشهور عن عائشة

(2)

. ورأينا مكة على غير ذلك قد أُجيز البناء فيها.

وقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم يوم دخلها: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن"

(3)

فأثبت لهم أملاكهم، فصفتها إذًا صفة المواضع التي تجرى فيها الأملاك، وشراء عمر سبق، وقد اشتراه من صفوان، ومحال أن يشتري منه ما لا يجوز له ملكه، وقد ثبت عن الصحابة أنهم كانت لهم الدور بمكة، منهم الصديق، والزبير، وحكيم بن حزام، وعمرو بن العاصي، وصفوان بن أمية وغيرهم، وتبايع أهل مكة لدورهم قديمًا أشهر من أن يخفي. واحتج من كره ذلك بحديث علقمة بن نضلة السالف.

قال إسماعيل بن إسحاق: وما تأول مجاهد في الآية وظاهر القرآن يدل على أنه المسجد الذي يكون فيه النسك والصلاة لا سائر في دورها، قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالمَسْجِدِ الحَرَامِ} [الحج: 25]، وقال:{وَكُفْرٌ بِهِ وَالمَسْجِدِ الحَرَامِ} : أي: وعن المسجد

= المناسك، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" (6620) وانظر:"شرح معاني الآثار" 4/ 50.

(1)

انظر: "شرح معاني الآثار" 4/ 50.

(2)

"علل الحديث" 1/ 273 (808).

(3)

تقدم تخريجه.

ص: 324

الحرام، فدل ذلك كله على أنَّ الذي كان المشركون يفعلونه هو التملك عن المسجد الحرام، وادعاؤهم أنهم أربابه وولاته، وأنهم يمنعون منه من أرادوا ظلمًا، وأنَّ الناس كلهم فيه سواء، فأمَّا المنازل والدور فلم تزل لأهل مكة غير أنَّ المواساة تجب عند الضرورة، ولعل عمر فعل هذا على سبيل المواساة عندها. ومناظرة الشافعي مع إسحاق بن راهويه في ذلك مشهور.

واعلم أنَّ الروياني في "بحره" قال في باب بيع الكلاب: لا يكره بيع شيء من الملك المطلق إلَّا أرض مكة، فإنه يكره بيعها وإجارتها للخلاف. وتورع فيه، واستغربت الكراهة، والأحسن أن يقال خلاف الأولى؛ لأن المكروه ما ثبت فيه نهي مقصود، ولم يثبت في هذا شيء، والحصر المذكور غير صحيح، فإنَّ بيع المصحف مكروه خلافًا له، وكذا الشطرنج.

قال الروياني وغيره: ومحل الخلاف بين العلماء في بيع دور مكة وغيرها من الحرم، وهو في بيع نفس الأرض، وأمَّا البناء فهو مملوك، فيجوز بيعه بلا خلاف.

الثالث:

قال ابن أبي صفرة: هذا الحديث حجة في أن من خرج من بلده مسلمًا وبقي أهله وولده في دار الكفر، ثم غزا مع المسلمين بلده، أنَّ أهله وماله وولده على حكم البلد، كما كانت دار النبي صلى الله عليه وسلم على حكم البلد، ولم ير عليه السلام نفسه أحق بها. وهذا قول مالك والليث، وقد سلف.

وقال أشهب: ليس بفيء. وقيل: إن ضمه إليهم أهل الحرب ففيء

ص: 325

وإلَّا فلا. وسيأتي اختلاف العلماء فيه في الجهاد، في باب: إذا غنم المشركون مال المسلم

(1)

، وبيان مذاهبهم فيها.

الرابع:

فيه: أنَّ المسلم لا يرث الكافر وهو قول كافة الفقهاء حاشا معاذ بن جبل، ومعاوية بن أبي سفيان، ومحمد بن الحنيفية، وإبراهيم النخعي. فإنهم قالوا: يرثه كالنكاح، كما حكاه ابن التين عنهم. وقال في "شرح المهذب": وهو قول العلماء كافة، إلَّا ما روي عن إسحاق بن راهويه وبعض السلف أنَّ المسلم يرثه

(2)

، وأجمعوا أنَّ الكافر لا يرث المسلم

(3)

.

وعن أحمد: أنَّ اختلاف الدين لا يمنع الإرث بالولاء. وحكاه الإمام عن علي، وقال: هو غريب لا أصل له

(4)

. قلت: بل له أصل أصيل، وهو حديث جابر رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا يرث المسلم النصراني، إلَّا أن يكون عبده أو أمته" أخرجه النسائي وصححه

(1)

انظر الأحاديث الآتية برقم (3067 - 3069).

(2)

انظر: "مختصر الطحاوي"(142)، "تكملة البحر الرائق" 9/ 386، "التفريع" 2/ 335، "عيون المجالس" 4/ 1900، "الاستذكار" 15/ 492، "المنتقى" 6/ 250، "الأم" 4/ 73، "البيان" 9/ 16، "المغني" 9/ 154، "المبدع" 6/ 231، "المحلى" 9/ 304.

(3)

انظر: "الاستذكار" 15/ 490.

(4)

هل يرث السيد مولاه مع اختلاف الدين، فيه روايتان عن الإمام أحمد: إحدهما: يرثه، روي ذلك عن علي، وعمر بن عبد العزيز وبه قال أهل الظاهر، واحتج الإمام أحمد يقول الإمام علي رضي الله عنه: الولاء شعبة من الرق. وجمهور الفقهاء على أنه لا يرثه مع اختلاف دينها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم".

وهذا أصح في الأثر والنظر كما يقول ابن قدامة انظر: "المغني" 9/ 217.

ص: 326

الحاكم

(1)

، وسيأتي -إن شاء الله- في الفرائض مبسوطًا.

واحتجاج ابن شهاب في الكتاب بالآية مراده أنهم لا يتوارثون مع كافر، ومعنى {هَاجَرُوا} في الآية إمَّا هجروا قومهم، أو راحوا إلى الحبشة، ثم إلى مكة ثم لا هجرة منها إذ صارت دار أمان.

الخامس:

قوله إثر حديث أبي هريرة: (وقال سلامة) إلى أنْ قال: (وقالا: بني هاشم وبني المطلب) إنما أتى به لعدم التشكيك في بني عبد المطلب أو بني المطلب كما أسلفته قبل، ولهذا قال إثره: بنو المطلب أشبه.

وقال الداودي: قوله بني عبد المطلب وهم.

وقوله: (وذلك أنَّ قريشًا وكنانة تحالفت). لو قال تحالفتا أو تحالفا لكان أوضح، وكان حصر بني هاشم لمَّا بلغ قريشًا فعل النجاشي بجعفر وأصحابه وإكرامه إياهم، كبر ذلك عليهم وغضبوا وأجمعوا على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكتبوا كتابًا على بني هاشم أن لا يناكحوهم ولا يبايعوهم ولا يخالطوهم، وكان الذي كتب الصحيفة منصور بن عكرمة العبدري فشلت يده، قاله في "الطبقات"

(2)

، وهو ما في ابن إسحاق أنَّه منصور بن عكرمة بن هاشم بن عبد العُزى

(3)

.

وقال الزبير في "أنسابه": اسمه بغيض بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار.

(1)

"السنن الكبرى" 4/ 83 - 84 (6389) كتاب: الفرائض، باب: الصبي يسلم أحد أبويه، "المستدرك" 4/ 345 كتاب: الفرائض، وضعفه الألباني في "الإرواء" 6/ 155 (1715).

(2)

"الطبقات الكبرى" 1/ 208 - 210.

(3)

"سيرة ابن إسحاق" ص 137 (203).

ص: 327

وقال الكلبي: هو منصور بن عامر بن هاشم أخو عكرمة بن عامر بن هاشم.

وعلقوا الصحيفة في جوف الكعبة. وقيل: بل كانت عند أم الجلاس بنت الخربة الخطلية

(1)

خالة أبي جهل، وحصروا بني هاشم في شِعب أبي طالب ليلة هلال المحرم سنة سبع من حين النبوة، وانحاز بنو المطلب بن عبد مناف إلى أبي طالب في شِعبه، وخرج أبو لهب إلى قريش فظاهرهم على بني هاشم وبني المطلب، وقطعوا عنهم الميرة والمادة، فكانوا لا يخرجون إلَّا من موسم إلى موسم حتى بلغهم الجهد، فأقاموا فيه ثلاث سنين، ثم أطلع الله رسوله على أمر صحيفتهم، وأنَّ الأرضة قد أكلت ما كان فيها من جور وظلم، وبقي ما فيها من ذكر الله.

وفي لفظ: ختموا على الكفر ثلاثة خواتم، وفي لفظ: سنتين، وآخر: سنين، فذكر ذلك سيدنا رسول صلى الله عليه وسلم لأبي طالب، فقال أبو طالب لكفار قريش: إن ابن أخي أخبرني -ولم يكذبني قط- أنَّ الله قد سلط على صحيفتكم الأرضة، فلحست ما كان فيها من جور وظلم، وبقى فيها كل ما ذكر به الله

(2)

، فإن كان ابن أخي صادقًا نزعتم عن سوء رأيكم، وإن كان كاذبًا دفعته لكم فقتلتموه أو استحييتموه، قالوا: قد أنصفتنا، فأرسلوا إلى الصحيفة، فإذا هي كما قال عليه السلام، فسقط في أيديهم، ونكثوا على رءوسهم، فقال

(1)

كذا بالأصل، وفي "الطبقات الكبرى" 1/ 209: أم الجلاس بنت مخرِّبة الحنظلية.

(2)

ورد في هامش الأصل ما نصه: من خط الشيخ: وقع في ابن بطال عكس ذلك: روينا عن أهل السير: لم يترك فيها اسما لله إلا لحسته، وتركت فيها غدركم وظلمكم لنا. وصدق، أهل السير ذكروا القولين.

ص: 328

أبو طالب: علام نحبس ونحصر وقد بان الأمر، فتلاوم رجال من قريش على ما صنعوا ببني هاشم، منهم: مطعم بن عدي، وعدي بن قيس، وربيعة بن الأسود، وأبو البختري بن هاشم

(1)

وزهير بن أمية، ولبسوا السلاح لهم، ثم خرجوا إلى بني هاشم وبني المطلب، فأمروهم بالخروج إلى مساكنهم، ففعلوا، فلمَّا رأت قريش ذلك سقط في أيديهم، وعرفوا أن لن يُسلموهم، وكان خروجهم في الشعب في السنة العاشرة، ثم أذن عليه السلام بالخروج بالهجرة إلى المدينة

(2)

.

والخيف: ما انحدر عن الجبل وارتفع عن السبيل وبه سُمى مسجد الخيف، ويقال: هو وادٍ بعينه وسيأتي في البخاري في الجهاد عن الزهري أنه قال: الخيف: الوادي

(3)

، وقيل: هو المحصَّب.

(1)

كذا في (م) والأصل وفي مصادر التخريج: أبو البختري بن هشام.

(2)

انظر: و"الطبقات الكبرى" 1/ 208 - 210، "السيرة النبوية" لابن هشام 1/ 371 - 407، و"البداية والنهاية" 3/ 91 - 110.

(3)

سيأتي عقب حديث (3058) باب: إذا أسلم قوم في دار الحرب، ولهم مال وأرضون فهي لهم.

ص: 329

‌46 - باب قَوْلِ اللِّه تَعَالَى:

{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا البَلَدَ آمِنًا} إلى قوله: {يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 35 - 37] الآيَةَ. [فتح: 3/ 454]

هذا الباب حذفه شيخنا علاء الدين من شرحه، وأدخله ابن بطال في الباب بعده وجعلهما بابًا واحدًا

(1)

، وتقدم تفسير الأمن.

{وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ} قرأه الجحدري بقطع الألف، معناه: اجعلني جانبًا وثبتنا على توحيدك، كقوله:{وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} ، {إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} أي: بسببهن، وهن لا يعقلن.

{بَيْتِكَ} : الذي لا يملكه غيرك {المُحَرَّمِ} ؛ لأنه يحرم فيه ما يباح في غيره {أَفْئِدَةً} جمع فؤاد، وهو القلب، أو جمع وفود {تَهْوِي}: تحن، أو تهواهم وتنزل عليهم، طلب ذلك ليميلوا إلى سكناها فيصير

بلدًا محرمًا أو ليحجوا.

قال ابن عباس: لو أن إبراهيم قال: أفئدة الناس لغلبكم عليه الترك والديلم

(2)

، {مِنَ الثَّمَرَاتِ} أجابه بما في الطائف من الثمار، ويجلب إليهم من الأمصار.

(1)

"شرح ابن بطال" 4/ 274.

(2)

عزاه السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 161 لابن المنذر.

ص: 330

‌47 - باب قَوْلِ اللِّه تَعَالَى: {جَعَلَ اللهُ الكَعْبَةَ البَيْتَ الحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الحَرَامَ وَالهَدْيَ وَالقَلَائِدَ} الآيه [المائدة: 97]

1591 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"يُخَرِّبُ الكَعْبَةَ ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ مِنَ الحَبَشَةِ". [1596 - مسلم: 2909 - فتح 3/ 454]

1592 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها.

وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللهِ -هُوَ: ابْنُ المُبَارَكِ- قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانُوا يَصُومُونَ عَاشُورَاءَ قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ رَمَضَانُ، وَكَانَ يَوْمًا تُسْتَرُ فِيهِ الكَعْبَةُ، فَلَمَّا فَرَضَ اللهُ رَمَضَانَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"مَنْ شَاءَ أَنْ يَصُومَهُ فَلْيَصُمْهُ، وَمَنْ شَاءَ أَنْ يَتْرُكَهُ فَلْيَتْرُكْهُ". [1893، 2001، 2002، 3831، 4502، 4504 - مسلم: 1125 - فتح: 3/ 454]

1593 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ، عَنِ الحَجَّاجِ بْنِ حَجَّاجٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي عُتْبَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَيُحَجَّنَّ البَيْتُ، وَلَيُعْتَمَرَنَّ بَعْدَ خُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ". تَابَعَهُ أَبَانُ وَعِمْرَانُ عَنْ قَتَادَةَ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: عَنْ شُعْبَةَ قَالَ: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لَا يُحَجَّ البَيْتُ". وَالأَوَّلُ أَكْثَرُ، سَمِعَ قَتَادَةُ عَبْدَ اللهِ وَعَبْدُ اللهِ أَبَا سَعِيدٍ. [فتح: 3/ 454]

ثم ذكر حديث أبي هريرة: "يُخَرِّبُ الكَعْبَةَ ذُو السُّويقَتَيْنِ مِنَ الحَبَشَة".

وحديث عائشة من طريقين: كَانُوا يَصُومُونَ عَاشُورَاءَ قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ

ص: 331

رَمَضَانُ، وَكَانَ يَوْمًا تُسْتَرُ فِيهِ الكَعْبَةُ، فَلَمَّا فَرَضَ اللهُ رَمَضَانَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"مَنْ شَاءَ أَنْ يَصُومَهُ فَلْيَصُمْهُ، وَمَنْ شَاءَ أَنْ يَتْرُكَهُ فَلْيَتْرُكْهُ".

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ، ثَنَا أَبي، ثَنَا إِبْرَاهِيمُ، عَنِ الحَجَّاجِ بْنِ الحَجَّاجٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَبدِ اللهِ بْنِ أَبِي عُتْبَةَ، عَنْ أبِي سَعِيدِ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَيُحَجَّنَّ البَيْتُ، وَلَيُعْتَمَرَنَّ بَعْدَ خُرُوج يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ" قال أبو عبد الله: سمع قتادة عبد الله، وعبد الله أَبا سعيد، تَابَعَهُ أَبَانُ وَعِمْرَانُ، عَنْ قَتَادَةَ. وَقَالَ عَبْدُ الرحْمَنِ، عَنْ شُعْبَةَ:"لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لَا يُحَجَّ البَيْتُ". وَالأَوَّلُ أكْثَرُ.

الشرح:

أما الآية فقوله: ({قِيَامًا}) أي: قوامًا لدينهم، وعصمة لهم، وقيامًا للناس لو تركوه عامًا لم ينظروا أن يهلكوا أو يقومون بشرائعها {وَالشَّهْرَ الحَرَامَ} لا يقاتلون فيه وهو: رجب أو ذو القعدة، أو الأشهر الحرم، {وَالهَدْيَ} كل ما يهدى للبيت من شيء، أو ما يقلد من النعم، وقد جعل على نفسه أن يهديه ويقلده، {وَالقَلَائِدَ} قلائد الهدي، أو كانوا إذا حجوا تقلدوا من (لحاء)

(1)

الشجر ليأمنوا في ذهابهم وإيابهم، أو كانوا يأخذون لحاء سمر الشجر إذا خرجوا فيتقلدونه، ليأمنوا فنهوا عن نزع شجر الحرم.

وقوله: {ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} الآية، ومجانسته هذا للأول أن الذي ألهمهم هذا يعلم ذلك.

وأما حديث أبي هريرة فأخرجه مسلم أيضًا

(2)

.

(1)

ورد بهامش الأصل ما نصه: اللحاء بالمد والكسر: القشر

(2)

"صحيح مسلم"(2909) كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: لا تقوم الساعة =

ص: 332

وحديث أبي سعيد من أفراده، وله من حديث ابن عباس يأتي بعد أيضًا:"كأني به أسود أفحج ينقلها حجرًا حجرًا"

(1)

.

وأحمد (خ. د. س) السالف هو ابن حفص بن عبد الله بن راشد السلمي مولاهم، قاضي نيسابور، مات سنة ستين، كذا بخط الدمياطي

(2)

.

وقال غيره؛ ثماني وخمسين ومائتين، وهو ما في "الكاشف"

(3)

.

وإبراهيم هو ابن طهمان، وحجاج هو الأحول الثقة مات سنة إحدى وثلاثين ومائة، وله ألقاب: الأسود، وزق العسل، والعسلي، وقيل: هما اثنان، وعبد الله هو مولى أنس مصري صدوق، ولأبي داود الطيالسي من حديث أبي هريرة بإسناد جيد:"يبايع لرجل بين الركن والمقام، وأول من يستحل هذا البيت أهله، فإذا استحلوه فلا تسأل عن هلكة العرب، ثم يجيء الحبشة فيخربونه خرابًا لا يعمر بعده، وهم الذين يستخرجون كنزه"

(4)

. ولأبي نعيم بسند فيه مجهول: "كأني انظر إلى أصيلع أفدع أفحج على ظهر الكعبة يهدمها بالكرزنة".

ولأحمد من حديث ابن عمرو: "يسبيها

(5)

حليها ويجردها من

= حتى يمر الرجل بقبر الرجل، فيتمنى أن يكون مكان الميت من النبلاء.

(1)

سيأتي قريبًا برقم (1595) باب: هدم الكعبة.

(2)

ورد بهامش الأصل ما نصه: ما قاله الدمياطي قاله الكلاباذي وأبو علي الغساني وابن خلفون ومحمد بن طاهر وقيل توفي سنة 255 وما قاله في "الكاشف" أصح، والله أعلم وبه جزم الذهبي في "الوفيات" وقال النسائي ومسلمة ثقة وقال النسائي صدوق لا بأس به. وقد روى له مسلم في غير الصحيح.

(3)

"الكاشف" 1/ 192 (22)

(4)

"مسند أبي داود الطيالسي" 4/ 127 (2494).

(5)

كذا في الأصل، وفي "المسند": يسلبها.

ص: 333

كسوتها وكأني انظر إليه أصيلع أفيدع يضرب عليها بمسحاته ومعوله"

(1)

.

ولابن الجوزي من حديث حذيفة مرفوعًا: "خراب مكة من الحبشة على يد حبشي، أفحج الساقين، أزرق العينين، أفطس الأنف، كبير البطن، معه أصحابه، ينقضونها حجرًا حجرًا، ويتناولونها حتى يرموا

بها البحر -يعني الكعبة- وخراب المدينة من الجوع، وخراب اليمن من الجراد".

وفي "غريب أبي عبيد" عن علي: "استكثروا من الطواف بهذا البيت قبل أن يُحال بينكم وبينه، فكأني برجل من الحبشة أصلع أو أصمع

(2)

حمش الساقين قاعد عليها، وهي تهدم"

(3)

. ورفعه الحاكم، وفيه:"أصمع أفدع، بيده معول، وهو يهدمها حجرًا حجرًا"

(4)

.

وذكر الحُليمي: أنَّ ذلك يكون زمن عيسى، وأنَّ الصريخ يأتيه بأن ذا السويقتين قد سار إلى البيت يهدمه، فيبعث عيسى عليه السلام طائفة بين الثمان إلى التسع.

وفي "منسك الغزالي" وحكاه ابن التين عن بعضهم: لا تغرب الشمس في يوم إلَّا ويطوف بهذا البيت رجل من الأبدال، ولا يطلع الفجر من ليلة إلَّا طاف بهذا البيت واحد من الأوتاد، وإذا انقطع

(1)

"المسند" 2/ 220.

(2)

كذا بالأصل، وفي "غريب أبي عبيد": أصعلٍ أصمع.

(3)

"غريب الحديث" 2/ 140.

(4)

"المستدرك" 1/ 448، 449 كتاب: المناسك، وقال الألباني في "الضعيفة" 2/ 23 (544): موضوع، رواه الحاكم وسكت عليه وتعقبه الذهبي قائلًا: حصين واه، ويحيى الحماني ليس بعمدة، وأقول -أي: الألباني-: حصين كذاب كما قال ابن خراش وغيره، وقال ابن حبان: يروي الموضوعات عن الأثبات، اهـ.

ص: 334

ذلك كان سبب رفعه من الأرض، فيصبح الناس وقد رفعت الكعبة ليس فيها أثر، وهذا إذا أتى عليها سبع سنين لم يحجها أحد، ثم يرفع القرآن من المصاحف ثم من القلوب، ثم يرجع الناس إلى الأشعار والأغاني وأخبار الجاهلية، ثم يخرج الدجال، ثم ينزل عيسى فيقتله، والساعة عند ذلك كالحامل المقرب ولادتها.

وفي كتاب "الفتن" لنعيم بن حمَّاد: حدثنا بقية، عن صفوان، عن شريح، عن كعب: يخرج الحبشة خرجةً يهبون فيها إلى البيت، ثم يفزع إليهم أهل الشام فيجدونهم قد افترشوا الأرض في أودية بني علي، وهي قريبة من المدينة حتى إنَّ الحبشي يباع بالشملة. قال صفوان: وحدثني أبو اليمان، عن كعب قال؛ يخربون البيت وليأخذن المقام فيدركون على ذلك فيقتلهم الله

(1)

.

وفيه: يخرجون بعد يأجوج (ومأجوج)

(2)

. وعن عبد الله بن عمرو: تخرج الحبشة بعد نزول عيسى، فيبعث عيسى طليعة فيهزمون

(3)

، وفي رواية: تهدم مرتين، ويرفع الحجر في المرة الثالثة

(4)

، وفي رواية: ويرفع في الثالثة

(5)

، وفي رواية: ويستخرجون كنز فرعون يمنعه من الفسطاط، ويقتلون بوسيم

(6)

.

(1)

رواه نعيم بن حماد في "الفتن" 2/ 670 (1878)، 2/ 672 (1886).

(2)

ساقطة من الأصل والمثبت من مصادر التخريج.

(3)

"الفتن" 2/ 670 (1879).

(4)

رواه الفاكهي في "أخبار مكة" 1/ 359 (748)، ونعيم بن حماد في "الفتن "2/ 671 (1884).

(5)

رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" 7/ 461 (37222)، كتاب: الفتن، من كره الخروج في الفتنة وتعوذ منها.

(6)

"الفتن" 2/ 672 (1887).

ص: 335

وفي لفظ: فيأتون في ثلاثمائة ألف عليهم أسيس أو أسبس

(1)

، وقيل: خرابه يكون بعد رفع القرآن من الصدور والمصاحف، وذلك بعد موت عيسى، وصححه القرطبي قال: ولا تعارض بين هذا وبين كون الحرم آمنًا؛ لأنِّ تخريبها إنما يكون عند خراب الدنيا، ولعله لا يبقى إلَّا شرار الخلق، فيكون آمنا مع بقاء الدين وأهله، فإذا ذهبوا ارتفع ذلك المعنى. وتحقيقه أنه لا يلزم من الأمن الدوام، بل إذا حصلت له حرمة وأمن في وقت ما فقد صدق ذلك. وأما حديث: "ثم عادت حرمتها إلى يوم القيامةج فالحكم بالحرمة والأمن لم يرتفع، ولا يرتفع إلى يوم القيامة، وأما وقوع الخوف فيها وترك حرمتها فقد وُجد من ذلك في أيام يزيد وغيره كثيرًا

(2)

.

وقال عياض: {حَرَمًا آمِنًا} [القصص: 57] أي: إلى قرب القيامة

(3)

.

وقيل: يخص منه قصة ذي السويقتين. فإنْ قلت: ما السر في حراسة الكعبة من الفيل، ولم تحرس في الإسلام بما صنع بها الحَجاج والقرامطة وذو السويقتين؟

قلت: الجواب ما ذكره ابن الجوزي أن حبس الفيل كان من أعلام نبوته ودلائل رسالته، ولتتأكد الحجة عليهم، بالأدلة التي شوهدت بالبصر قبل الأدلة التي ترى بالبصائر، وكان حكم الجيش أيضًا دلالة على وجود الناصر.

(1)

"الفتن" 2/ 672 (1888)، 2/ 674 (1893).

(2)

"المفهم" 7/ 246.

(3)

"إكمال المعلم" 8/ 454.

ص: 336

وقال ابن المنير: دخول هذا الحديث تحت ما ترجم له؛ ليبين أن الأمر المذكور مخصوص بالزمن الذي شاء الله فيه بالأمان، وأنه إذا شاء الله رفعه عند خروج ذي السويقتين، ثم إذا شاء أعاده بعد

(1)

.

وقال ابن بطال: حديث أبي هريرة مبين لقوله تعالى: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا البَلَدَ آمِنًا} [البقرة: 126] أي: غير وقت تخريبه؛ لأنَّ ذلك لا يكون إلَّا باستباحة حرمتها. وتغلبه عليها، ثم تعود حرمتها ويعود الحج كما أخبر خليله إبراهيم فقال:{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج: 27] فهذا شرط الله عز وجل لا ينخرم ولا يحول، وإن كان في خلاله وقت يكون فيه خوف فلا يدوم، ولا بدَّ من ارتفاعه، ورجوع حرمتها وأمنها وحج العباد إليها، كما كان إجابة لدعوة خليله عليه السلام، يدل عليه حديث أبي سعيد في الكتاب.

وعلى ذلك لا تضاد، ولو صح ما ذكره قتادة: لا يحج البيت، لكان ذلك وقتًا من الدهر، ويحتمل أنْ يكون ذلك وقت تخريبها بدليل حديث أبي سعيد

(2)

.

وقال ابن التين: قيل: هذا ليس باختلاف قد ينقطع ثم يعود، قال: وفي حديث آخر: "لا تزول مكة حتى تزول أخشباها" يعني: جبليها، أي: لا يزول الحج، ومعنى خرابه له في وقت يدعه الله إلى ذلك، ابتلاءً منه شقوة له وليسود وجهه، وليعلم من يرتاب من ذلك، ولعله هو الذي يخسف بجيشه، وكأنه مفهوم البخاري فيما ترجمه بعد من

(1)

"المتواري" ص 137.

(2)

"شرح ابن بطال" 4/ 275.

ص: 337

باب: هدم الكعبة، وذكر عن عائشة رفعته "يغزو جيش الكعبة فيخسف بهم"

(1)

.

وروي عن علي مرفوعًا: "قال الله عز وجل: إذا أردت أن أخرب الدنيا، بدأت ببيتي فخربته، ثم أخرب الدنيا على أثره"

(2)

. ويخرب رباعي بضم الياء.

قال تعالى: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ} [الحشر: 2] وقد منع الله صاحب الفيل في الوقت الذي شاء كما سلف. ويغزوه جيش كما ذكرناه، ويأذن في هذا الوقت الذي شاء ثم يعود، ولا فرق بين هذا وبين إدالة المشركين على المؤمنين، وقتل الأنبياء، وكلٌ ابتلاء.

والحبش: جنس من السودان، وهم الأحباش والحبشان، وقد قالوا: الحبشة، وليس بصحيح في القياس؛ لأنه لا واحد له على مثال فاعل، فيكون مكسرًا على فعلة، والأحبوش: جماعة الحبش، وقيل: هم الجماعة أيّا كانوا؛ لأنهم إذا تجمعوا اسودوا.

قال الجوهري: الحبش والحبشة جنس من السودان

(3)

.

وقال ابن دريد: الحبشة على غير قياس، وقد قالوا: حبشان أيضًا، ولا أدري كيف هو

(4)

.

(1)

سيأتي برقم (2118) كتاب: البيوع، باب: ما ذكر في الأسواق، ورواه مسلم (2884) كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: الخسف بالجيش الذي يؤم البيت. بلفظ مختلف.

(2)

أورده العجلوني في: "كشف الخفاء" 1/ 79 (193) وقال: رواه في "الإحياء"، قال العراقي في تخريجه: لا أصل له.

(3)

"الصحاح" 3/ 999.

(4)

"جمهرة اللغة" 1/ 278.

ص: 338

وقال الرشاطي: هم من ولد كوش بن حام، وهم أكثر ملوك السودان، وجميع ممالك السودان يعطون الطاعة للحبش.

روى سفيان بن عيينة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا خير في الحبش، إنْ جاعوا سرقوا، وإنْ شبعوا زنوا، وإنَّ فيهم حسنتين: إطعام الطعام، والبأس يوم البأس"

(1)

.

وقال ابن هشام في "تيجانه": أول من جرى لسان الحبشة على لسانه سُحلب بن أداد بن ناهس بن سرعان بن كوش بن حام بن نوح، ثم تولدت من هذِه اللسان ألسن استخرجت منه، وهذا هو الأصل.

وقوله في حديث ابن عباس الذي سقناه من عند البخاري: "كأني به أسود أفحج ينقلها حجرًا حجرًا" يعني: الكعبة.

والأفحج بحاء ثم جيم: البعيد ما بين الرجلين، وذلك من نعوت الحبشان، ولذلك قال: ذو السويقتين؛ لأن في سوقهم حموشة أي: دقة، وصغرهما لدقتهما ونقصهما، وأتى بالتاء لأنّ الساق مؤنثة، وذكره أبو المعالي في "المنتهى" في الحاء والجيم كما أسلفناه، وقال: هو تداني صدور القدمين، وتباعد العقبين، وفتح الساقين.

قال: وهو عيب في الخيل، وقال في الجيم والحاء: الفجح بالتحريك تباعد ما بين الساقين، ومن الدواب ما بين العرقوبين، وهو أقبح من الفحج أي من الأول، وذكره في "المحكم" في الحاء والجيم

(1)

رواه الفاكهي في "أخبار مكة" 323 - 324 (2150) من حديث سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عوسجة مولى بن عباس رضي الله عنه، عن ابن عباس مرفوعًا، والبزار كما في "كشف الأستار" 3/ 316 (2836)، والطبراني 11/ 428 (12213)، وابن عدي في "الكامل" 7/ 103، وقال الألباني في "الضعيفة" 2/ 158 (728): موضوع.

ص: 339

أيضًا، وقال في الثاني: هو تباعد ما بين القدمين

(1)

، وفي "المخصص": هو تباعد ما بين الفخذين رجل أفحج وامرأة فحجاء. وعن أبي حاتم فخذ فخجاء بخاء معجمة: وهي التي بانت من صاحبتها، والمصدر، الفخج، وقد يكون في إحدى الفخذين

(2)

.

وفي "الجامع": الجمع فحج.

وقال ابن دريد: هو تباعد بين الرجلين

(3)

.

وفي "المجمل" و"المغرب": هو تباعد ما بين أوساط الساقين في الإنسان والدابة

(4)

، واقتصر عليه ابن بطال

(5)

.

وأما حديث عائشة فهو مصدق للآية، ومعناه: أن المشركين كانوا يعظمون الكعبة قديمًا بالستور والكسوة، ويقدمون إليها كلما يفعل المسلمون.

وقال الإسماعيلي: جمع أبو عبد الله فيه بين حديث عقيل وابن أبي حفصة في المتن، ولم يبين، وحديث ستر الكعبة في حديث ابن أبي حفصة وحده ثم ساقه، وحديث عقيل ليس فيه ذكر الستر ثم ساقه

بدونه.

قال: فإن كان أراد بيان اسم الكعبة التي تذكر في الآية فذاك، وإلَّا فليس ما في الباب من الترجمة في شيء.

(1)

"المحكم" 3/ 65.

(2)

"المخصص" 1/ 172 - 173.

(3)

"جمهرة اللغة" 1/ 439.

(4)

"مجمل اللغة" 3/ 713.

(5)

"شرح ابن بطال" 4/ 278.

ص: 340

قلتُ: لعل البخاري أراد أصل الحديث على عادته، وإن كان ظاهره غير مطابق للترجمة.

وادعى بعضهم أنه أراد من حديث عقيل التصريح بسماع ابن شهاب من عروة، وليس كما ذكر، فإنه لم يأت به. نعم هو عند الإسماعيلي وأبي نعيم.

ص: 341

‌48 - باب

(1)

كِسْوَةِ الكَعْبَةِ

1594 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الوَهَّابِ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الحَارِثِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا وَاصِلٌ الأَحْدَبُ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: جِئْتُ إِلَى شَيْبَةَ.

وَحَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ وَاصِلٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: جَلَسْتُ مَعَ شَيْبَةَ عَلَى الكُرْسِيِّ فِي الكَعْبَةِ فَقَالَ: لَقَدْ جَلَسَ هَذَا المَجْلِسَ عُمَرُ رضي الله عنه فَقَالَ: لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ لَا أَدَعَ فِيهَا صَفْرَاءَ وَلَا بَيْضَاءَ إِلَّا قَسَمْتُهُ. قُلْتُ: إِنَّ صَاحِبَيْكَ لَمْ يَفْعَلَا. قَالَ: هُمَا المَرْآنِ أَقْتَدِى بِهِمَا. [7275 - فتح: 3/ 456]

ذكر فيه حديث أبي وائل من طريقين: جِئْتُ إِلَى شَيْبَةَ. وفي لفظ: جَلَسْتُ مَعَ شَيْبَةَ عَلَى الكُرْسِيِّ فِي الكَعْبَةِ فَقَالَ: لَقَدْ جَلَسَ هذا المَجْلِسَ عُمَر رضي الله عنه فَقَالَ: لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ لَا أَدَعَ فِيهَا صَفْرَاءَ وَلَا بَيْضَاءَ إِلَّا قَسَمْتُهُ. قُلْتُ: إِنَّ صَاحِبَيْكَ لَمْ يَفْعَلَا. قَالَ: هُمَا المَرْآنِ أَقْتَدِي بِهِمَا.

هذا الحديث أخرجه أيضًا في الاعتصام في باب الاقتداء بالسنة، وفيه: ما أنت بفاعل؟ قال: لم؟ قلتُ: لم يفعله صاحباك، فقال: هما المرآن يقتدي بهما

(2)

، وهذا الحديث جعله الحميدي

(3)

وأبو مسعود

الدمشقي وقبلهما الطبراني من مسند شيبة

(4)

، وهو ابن عثمان بن أبي طلحلة الحجبي، أسلم يوم الفتح، ومات سنة تسع وخمسين

(5)

،

(1)

ورد بهامش الأصل ما نصه: ثم بلغ في الثامن بعد العشرين كتبه مؤلفه.

(2)

سيأتي برقم (7275).

(3)

"الجمع بين الصحيحين" 3/ 485 (3037).

(4)

"المعجم الكبير" 7/ 300 (7196).

(5)

انظر ترجمته في: "الاستيعاب" 2/ 269 (1210)، و"أسد الغابة" 2/ 534 (2466)، و"الإصابة" 2/ 161 (3945).

ص: 342

وخالف ذلك خلف فذكره في مسند عمر بن الخطاب.

وتقديم البخاري الإسناد الأول لمعنيين:

أولهما: تصريح سفيان فيه -وهو ابن سعيد- بالسماع.

ثانيهما: من عادة الأئمة غالبًا الابتداء بالنازل، ثم العالي

(1)

، وهو كذلك في الأول إلى أبي وائل أربعة، وفي الثاني: ثلاثة.

وعند ابن ماجه عن أبي وائل قال: بعث رجل معي بدراهم هدية إلى البيت، فدخلت البيت، وشيبة جالس على كرسي فناولته إياها فقال: ألك هذِه؟ قلتُ: لا، ولو كانت لي لم آتك بها. قال: أما لئن قلت ذاك، لقد جلس عمر مجلسك الذي أنت فيه، وقال: لا أخرج حتى أقسم مال الكعبة، الحديث. وفيه: فقلت: لأنه عليه السلام قد رأى مكانه، وأبو بكر وهما أحوج منك إلى المال، فلم يحركاه، فقام كما هو فخرج

(2)

.

وقال الإسماعيلي: ليس في الخبر لكسوة الكعبة ذكر.

(1)

الإسناد العالي هو: الإسناد الذي قلَّ عدد رجاله بالنسبة إلى إسناد آخر لنفس الحديث أو نفس المتن كثر عدد رجاله.

والإسناد النازل هو: الإسناد الذي كثر عدد رجاله بالنسبة إلى إسناد آخر لنفس الحديث أو نفس المتن قل عدد رجاله.

والإسناد العالي أفضل من النازل؛ لأن عدد رجاله أو وسائطه أقل وكلما قلت الوسائط أو الرجال قلَّ احتمال وقوع الخطأ، والعكس. والإسناد النازل قد يكون أفضل في حالة واحدة، إذا كان رجاله أوثق وأضبط وأتقن من الإسناد العالي، وقد شغف المتقدمون بالإسناد العالي وبذلوا في طلبه الرحلات الطويلة الشاقة. انظر:"علوم الحديث" لابن الصلاح ص: 255 - 264، و"المقنع في علوم الحديث" للمصنف 2/ 421 - 426، و"فتح المغيث" للسخاوي 3/ 2 - 27.

(2)

"سنن ابن ماجه"(3116) وصححه الألباني في "صحيح ابن ماجه"(2529).

ص: 343

قلتُ: الجواب -كما أفاده ابن بطال-: لأنَّ منْ المعلوم أنَّ الملوك في كل سنة كانوا يتفاخرون بتسبيل الأموال لها، فأراد البخاري أنَّ عمر لمَّا أراد قسمة الذهب والفضة الموقوفين بها على أهل الحاجة صوابًا، كان حكم الكسوة حكم المال يجوز قسمتها، بل ما فضل من كسوتها أولى بالقسمة على أهل الحاجة من قسمة المال، إذ قد يمكن نفقة المال فيما تحتاج إليه الكعبة في إصلاح ما وَهَى منها، وفي (وقيد)

(1)

وأجرة قيم، والكسوة لا تدعو إليها ضرورة، ويكفي منها بعضها

(2)

.

ونحا نحوه ابن المنير فقال: يحتمل أنْ يكون مقصوده بالترجمة التنبيه على أنَّ كسوة الكعبة مشروعة ومأثورة، ولم تزل تقصد بمال يوضع فيها على معنى الزينة والجمال؛ إعظامًا لحرمتها في الجاهلية والإسلام، والكسوة من هذا القبيل.

ويحتمل أن يريد التنبيه على حكم الكسوة، وهل يجوز التصرف فيما عتق منها كما يصنع الآن؟ فنبَّه على أنه موضع اجتهاد، وأنَّ مقتضى رأي عمر أن يقسم في المصالح، وأنَّ رأي الشارع والصديق يخالف رأيه.

قال: والظاهر جواز قسمة الكسوة العتيقة إذ بقاؤها تعريض لفسادها بخلاف النقدين، وإذ لا جمال في كسوة عتيقة مطوية، ويؤخذ من قول عمر أن صرف المال في الفقراء والمساكين آكد من صرفه في كسوة الكعبة، لكن الكسوة في هذِه الأزمنة أهم؛ إذ الأمور المتقادمة تتأكد حرمتها في النفوس، وقد صار تركها في العرف غضا في الإسلام،

(1)

كذا صورتها في الأصل، وفي "شرح ابن بطال" وهو المصدر المنقول منه وضع محقق الكتاب مكانها بياضًا بين قوسين وعلق قائلًا: كلمة لم أستطع قراءتها في الأصل.

(2)

"شرح ابن بطال" 4/ 276 - 277.

ص: 344

واضعًا لقلوب المسلمين

(1)

.

ولك أن تقول: لعل البخاري أراد أصل الحديث على عادته في الاستنباط وهو قوله عند ابن ماجه: "مال الكعبة"

(2)

وهي داخلة فيه.

يؤيده قوله عليه السلام: "وهل لك من مالك إلا ما لبست فأبليت"

(3)

. فجعل اللبس وهو الكسوة مالًا.

قال صاحب "التلخيص": لا يجوز بيع أستارها، وكذا قال أبو الفضيل بن عبدان: لا يجوز قطع أستارها ولا قطع شيء من ذلك، ولا يجوز نقله ولا بيعه ولا شراؤه، قال: ومن عمل شيئًا من ذلك كما تفعله العامة يشترونه من بني شيبة لزمه رده، ووافقه الرافعي.

وقال ابن الصلاح: الأمر فيها إلى الإمام يصرفه في بعض مصارف بيت المال بيعًا وعطاء. واحتج بما ذكره الأزرقي: أنَّ عمر كان ينزع كسوة البيت كل سنة فيقسمها على الحاج

(4)

.

وعند الأزرقي عن ابن عباس وعائشة أنهما قالا: تباع كسوتها، ويجعل منها في سبيل الفقراء والمساكين وابن السبيل، قالا: ولا بأس أن يلبس كسوتها من صارت إليه من حائض وجُنب وغيرهما، وكذا قالته أم سلمة

(5)

.

وذكر ابن أبي شيبة عن ابن أبي ليلى -وسُئل عن رجل سرق من الكعبة- فقال: ليس عليه قطع

(6)

.

(1)

"المتواري" ص: 138 - 139.

(2)

ابن ماجه (3116).

(3)

رواه مسلم (2958).

(4)

"أخبار مكة" 1/ 258 - 259.

(5)

"أخبار مكة" 1/ 261 - 262.

(6)

"المصنف" 6/ 3 (29001).

ص: 345

وذكر محمد بن إسحاق في "سيره" تبان أسعد كرب، وهو تُبَّعُ الآخر، وجده تُبَّع الأول، ثم ساق نسبه إلى يعرب بن قحطان، قال: كان هو وقومه أصحاب أوثان يعبدونها، وجه إلى مكة حتى إذا كان بين عسفان وأمجَ أتاه نفر من هذيل بن مدركة فقالوا: ألا ندلك على بيت مال داثر؟ قال: بلى، قالوا: مكة. وإنما أراد الهذليون هلاكه؛ ما عرفوا هلاك من أراده من الملوك، فقال له حبران كانا معه: إنما

أراد هؤلاء هلاكك، قال: فبماذا تأمراني؟

قالا: تصنع عنده ما يصنع أهله، تحلق وتطوف وتنحو، ففعل، وأقام بمكة ستة أيام ينحر للناس ويطعمهم، فَأُرِيَ في المنام أنْ يكسو البيت، فكساه الخصف، ثم أُرِيَ أن يكسوه أحسن من ذلك، فكساه المعافر، ثم أُريَ أنْ يكسوه أحسن من ذلك، فكساه الملاء والوصائل، فكان تبع فيما يزعمون أول من كسا البيت.

وقال في موضع آخر عن ابن إسحاق: أول من كساها الديباج الحجاج، وذكر ابن قتيبة أنَّ هذِه القصة كانت قبل الإسلام بسبعمائة سنة.

وفي "معجم الطبراني" من حديث ابن لهيعة ثنا أبو زرعة بن عمرو سمعت سهل بن سعد رفعه: "لا تسبوا تبعًا فإنه قد أسلم". وقال: لا يروى عن سهل إلَّا بهذا الإسناد، تفرَّد به ابن لهيعة

(1)

.

وفي "مغائص الجوهر في أنساب حمير": كان يدين بالزبور.

وذكر ابن أبي الأزهر في "تاريخه": أول من كساها عدنان بن أدد، وفي كتاب الكلبي: تبع بن حسان بن تبع بن ملكيكرب، وهو تبع

(1)

"المعجم الأوسط" 3/ 323 (3290)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(7319)، وانظر:"الصحيحة" 5/ 548 (2423).

ص: 346

الأصغر، وآخر التبابعة، أتى مكة وطاف بها وحلق كالذي فعل جده تبع الأوسط، وكسا البيت الملاء والخز والديباج، وهو القائل:

كسونا البيت الذي حرَّم الله

....................

وقيل: بل قائله تبع الأوسط، والأول أصح وأكثر، وهو الذي عليه العلماء باليمن.

وزعم الزبير أنَّ أول من كساها الديباج عبد الله بن الزبير، زاد أبو بكر التاريخي وغيره جوفها أجمع، وكان يصب الطيب فيما بين أضعاف البنيان.

وذكر بعض الحجبة أنه وجد قطعة ديباج من ديباج الكعبة فيها بما أمر به أبو بكر أمير المؤمنين، وكان ينقل بنفسه الحجارة لبنائها، قال عامر ابنه: رأيته يشرب الماء وهو نائم من اللغب.

قال أبو بكر بإسناده إلى عمر أنه كان ينزع كسوة الكعبة كل عام يقسمها في الحاج، فيستترون بها ويستظلون بها على الشجر، وهذا سلف في "أخبار مكة وفتوحها" للفاكهي

(1)

، ويقال: أول من كساها الديباج عبد الملك بن مروان.

وفي "الأوائل" لأبي عروبة الحراني من حديث الأشعث، عن الحسن قال: أول شيء كسية الكعبة أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كساها قباطي. وذكر الدارقطني أنَّ نتيلة بنت جناب أم العباس بن عبد المطلب كانت قد أضلت العباس صغيرًا فنذرت إن وجدته أن تكسو الكعبة

الديباج، ففعلت ذلك حين وجدته، وكانت من بيت مملكة

(2)

.

(1)

"أخبار مكة" 5/ 232 (212).

(2)

رواه الدارقطني في "المؤتلف والمختلف" 1/ 466.

ص: 347

وللأزرقي عن ابن جريج: كان تبع أول من كسا البيت كسوة كاملة، أُرِيَ في المنام أن يكسوها، فكساها الأنطاع، ثم أُرِي أن يكسوها ثياب حبرة من عصب اليمن

(1)

. ثم كساها الناس بعده في الجاهلية، ثم ذكر أيضًا أن النبي صلى الله عليه وسلم كساها، ثم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ومعاوية بن أبي سفيان وابن الزبير الديباج، وكانت تُكسى يوم عاشوراء ثم صار معاوية يكسوها مرتين، والمأمون كان يكسوها ثلاثًا: الديباج الأحمر يوم التروية، والقباطي هلال رجب، والديباج الأبيض يوم سبع وعشرين من رمضان

(2)

.

وذكر الماوردي أن أول من كساها الديباج خالد بن جعفر بن كلاب، أخذ لطيمة

(3)

تحمل البر ووجد فيها أنماطًا فعلقها على الكعبة.

وذكر الجاحظ أن أول من خلَّقها عبد الله بن الزبير.

وفي كتاب ابن اسحاق أول من جلاها عبد المطلب بن عبد مناف، لمَّا حفرها بالغزالين اللذين وجدهما من ذهب

(4)

.

وفي ابن أبي شيبة، عن عبد الأعلى، عن محمد بن إسحاق، عن عجوز من أهل مكة قالت: أُصيب ابن عفان وأنا ابنة أربع عشرة سنة، قالت: ولقد رأيت البيت وما عليه كسوة إلا ما يكسوه الناس

الكساء الأحمر يطرح عليه، والثوب الأصفر والكساء الصوف، وما كسي من شيء علق عليه، ولقد رأيته وما عليه ذهب ولا فضة، قال

(1)

"أخبار مكة" 1/ 249 - 250.

(2)

"أخبار مكة" للأزرقي 1/ 252 - 256.

(3)

ورد بهامش الأصل ما نصه: اللطيمة: العير التي تحمل الطيب وبز التجار، وربما قيل لسوق العطارين: لطيمة.

(4)

"سيرة ابن إسحاق" ص 6 (12).

ص: 348

محمد: لم يُكسَ البيت على عهد أبي بكر ولا عمر، وأن عمر بن عبد العزيز كساه الوصائل والقباطي.

وعن ليث بن أبي سليم قال: كانت كسوة الكعبة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنطاع والمسوح

(1)

.

وقال ابن دحية: كساها المهدي القباطي والخز والديباج، وطلى جدرانها بالمسك والعنبر من أسفلها إلى أعلاها

(2)

.

وفي ابن بطال: قال ابن جريج: زعم بعض علمائنا أن أول من كساها إسماعيل، قال: وبلغني أن تبعًا أول من كساها، ولم تزل الملوك في كل زمن يكسونها بالثياب الرقيقة، ويقومون بما تحتاج إليه من المؤنة؛ تبركا بذلك، فرأى عمر أن ما فيها من الذهب والفضة لا تحتاج إليه الكعبة لكثرته، فأراد أن يصرفه في منافع المسلمين؛ نظرًا لهم، فلمَّا أخبره شيبة بأنه عليه السلام وأبا بكر لم يتعرضا لذلك

أمسك، وصوب فعلهما، وإنما تركا ذلك والله أعلم؛ لأن ما جعل في الكعبة وسبل لها يجري مجرى الأوقاف، ولا يجوز تغيير الأوقاف عن وجوهها، ولا صرفها عن طرقها، وفي ذلك أيضًا تعظيم للإسلام وحرماته، وترهيب على العدو

(3)

.

وقد روى ابن عيينة، عن عمرو، عن الحسن قال: قال عمر بن الخطاب: لو أخذنا ما في هذا البيت -يعني الكعبة- فقسمناه، فقال له أُبي بن كعب: والله ما ذلك لك. قال: ولم؟ قال: لأن الله بين

(1)

"المصنف" 3/ 428 - 429 (15812، 15814).

(2)

انظر: "أخبار مكة للأزرقي" 1/ 262 - 263.

(3)

"شرح ابن بطال" 4/ 276.

ص: 349

موضع كل مال، وأقره رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: صدقت

(1)

.

وفي الحديث حجة لمن قال: إنه يجوز صرف ما جعل سبيل من سبل الله في سبيل آخر من سُبل الله، إذا كان ذلك صوابًا، وفي فعله عليه السلام وفعل أبي بكر حجة لمن رأى بقاء الأموال على ما سبلت عليه، وترك تغييرها عما جُعلت له.

وفي قوله: (هُمَا المَرْآنِ أَقْتَدِي بهما)، من الفقه ترك خلاف كبار الأئمة، وفضل الاقتداء بهما، وأن ذلك فعل السلف.

وقوله: (الْمَرْآنِ): يقال هذا مرء صالح، وفيه لغة بالضم، ولا يجمع على لفظه، وبعضهم يقول: المرءون.

فإن جئت بألف الوصل كان فيه ثلاث لغات: فتح الراء على كل حال، وإعرابها على كل حال، حكاهما الفراء، وضم الراء على كل حال، وإعرابها على كل حال، تقول: هذا امرؤٌ، ورأيت امرأً، ومررت بامرئ، ولا جمع له من لفظه، وهذِه امرأة، مفتوحة الراء على كل حال.

(1)

رواه عبد الرزاق في "المصنف" 5/ 88 (9084).

ص: 350

‌49 - باب هَدمِ الكَعْبَةِ

قَالَتْ عَائِشَةُ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "يَغْزُو جَيْشٌ الكَعْبَةَ، فَيُخْسَفُ بِهِمْ". [انظر: 2118]

1595 -

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ الأَخْنَسِ، حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"كَأَنِّي بِهِ أَسْوَدَ أَفْحَجَ، يَقْلَعُهَا حَجَرًا حَجَرًا". [فتح: 3/ 460]

1596 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يُخَرِّبُ الكَعْبَةَ ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ مِنَ الحَبَشَةِ". [انظر: 1591 - مسلم: 2909 - فتح: 3/ 460]

ثم ذكر حديث ابن عباس السالف، وحديث أبي هريرة السالف أيضًا، وقد سبقا.

والتعليق الأول عنده مسند وكذا عند مسلم

(1)

.

وفيه: إخبار عما يكون من الحدثان والأشراط؛ وذلك يكون في أوقات مختلفة، فحديث عائشة هو في وقت غير هدمها، ويمكن أن يكون هدمه لها عند اقتراب الساعة، ولا يدل ذلك على انقطاع الحج، فقد سلف من حديث أبي سعيد أنه يحج بعد خروج يأجوج ومأجوج، وعيسى يحج ويعتمر بعد ذلك

(2)

.

(1)

سيأتي مسندًا برقم (2118) في البيوع، باب: ما ذكر في الأسواق، ورواه مسلم (2884) كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: الخسف بالجيش الذي يؤم البيت.

(2)

سلف برقم (1593).

ص: 351

‌50 - باب مَا ذُكِرَ فِي الحَجَرِ الأَسْوَدِ

1597 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَابِسِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ جَاءَ إِلَى الحَجَرِ الأَسْوَدِ فَقَبَّلَهُ، فَقَالَ: إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ. [1605، 1610 - مسلم: 1270 - فتح: 3/ 462]

ذكر فيه حديث عابس بن ربيعة، عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ جَاءَ إِلَى الحَجَرِ الأَسْوَدِ فَقبَّلَهُ، فَقَالَ: إِنَّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ.

هذا الحديث أخرجه مسلم أيضًا من حديث عبد الله بن عمر وعبد الله ابن سرجس عن عمر

(1)

، والنسائي من حديث ابن عباس عنه، وعنده: قبله ثلاثًا

(2)

، وعند الحاكم: وسجد عليه، ثم صحح إسناده

(3)

، وعند الترمذي عنه:"نزل الحجر الأسود من الجنة أشد بياضا من اللبن، فسودته خطايا بني آدم" ثم قال: حسن صحيح

(4)

، وعنده عنه:"إن لهذا الحجر لسانًا وشفتين يشهد لمن استلمه يوم القيامة بحق" وقال: حسن

(5)

.

(1)

"صحيح مسلم"(1270) كتاب: الحج، باب: استحباب تقبيل الحجر الأسود في الطواف.

(2)

"سنن النسائي" 5/ 227.

(3)

"المستدرك" 1/ 455.

(4)

"سنن الترمذي"(877). وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(6756)، وانظر:"الصحيحة" 6/ 230 (2618).

(5)

"سنن الترمذي (961). بلفظ: "والله ليبعثنه الله يوم القيامة له عينان يبصر بهما ولسان ينطق به، يشهد على من استلمه بحق". وصححه الألباني في "صحيح =

ص: 352

والحاكم وقال: صحيح الإسناد

(1)

، وله شاهد صحيح عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا:"يأتي الركن والمقام يوم القيامة أعظم من أبي قبيس، له لسان وشفتان، يكلم عمن استلمه بالنية، وهو يمين الله التي يصافح بها عباده"

(2)

.

قال: وقد روي لهذا الحديث شاهد مفسر غير أنه ليس من شرطهما، فذكره من حديث أبي سعيد الخدري

(3)

. وذكر على شرط مسلم من حديث جابر: بدأ بالحجر فاستلمه، وفاضت عيناه بالبكاء وقبَّله ووضع يده عليه، ومسح بها وجهه

(4)

.

وفي "فضائل مكة" للجندي من حديث ابن جريج، عن محمد بن عباد بن جعفر، عن ابن عباس: إن هذا الركن الأسود يمين الله في الأرض يصافح به عباده مصافحة الرجل أخاه.

ومن حديث الحكم بن أبان، عن عكرمة عنه زيادة: فمن لم يدرك بيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم استلم الحجر فقد بايع الله ورسوله.

وللطبراني من حديث إبراهيم بن يزيد المكي زيادة: ما حادى به عبد مسلم يسال الله خيرا إلا أعطاه إياه.

= الجامع" (7098)، وانظر: "صحيح الترغيب والترهيب" 2/ 28 (1144).

(1)

"المستدرك" 1/ 457، باللفظ الذي ذكره المصنف، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(2184).

(2)

"المستدرك" 1/ 457 وقال الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب" 2/ 29 (1145): حسن لغيره.

(3)

"المستدرك" 1/ 457 - 458.

(4)

"المستدرك" 1/ 454 - 455، وقال الألباني في "ضعيف الترغيب والترهيب" 1/ 363 (731): منكر.

ص: 353

ومن حديث معمر، عن رجل، عن المنهال بن عمرو، عن مجاهد أنه قال: يأتي الحجر والمقام يوم القيامة كل واحد منهما مثل أُحد، فيناديان بأعلى صوتهما، يشهدان لمن وافاهما بالوفاء.

وعن أنس رفعه: "الركن والصفا يقوتتان من ياقوت الجنة". قال الحاكم: صحيح الإسناد

(1)

.

وعن ابن عمرو مرفوعًا: "الركن والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة، طمس الله نورهما، ولولا ذلك لأضاء ما بين المشرق والمغرب" ذكره شاهدًا

(2)

، وأخرجه البيهقي بإسناد جيد بزيادة "ولولا ما مسهما من خطايا بني آدم، وما مسهما من ذي عاهة إلا شفي، وما على الأرض من الجنة غيره"

(3)

.

قال ابن أبي حاتم عن أبيه: وقفه أشبه على عبد الله بن عمرو، ورجاء بن صبيح الذي رفعه ليس بقوي

(4)

.

وعن عبد الله بن السائب: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم فيما بين ركن بني جُمح والركن الأسود يقول: "ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار". قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم

(5)

.

وعن ابن عباس يرفعه كان يدعو بين الركن: "رب قنعني بما رزقتني،

(1)

"المستدرك" 1/ 456، بلفظ:(الركن والمقام ياقوتتان من يواقيت الجنة) وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(3559).

(2)

"المستدرك" 1/ 456، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(1633)، وانظر:"صحيح الترغيب والترهيب" 2/ 29 - 30 (1147).

(3)

"السنن الكبرى" 5/ 75.

(4)

"علل الحديث" 1/ 299 (899).

(5)

"المستدرك" 1/ 455.

ص: 354

وبارك لي فيه، واختلف علي كل غائبة لي بخير" وقال: صحيح الإسناد

(1)

.

وعن أبي هريرة يرفعه: "وُكِّلَ بالحجر الأسود ملكًا فمن قال: اللهم

إني أسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. قالوا آمين" رواه ابن ماجه بإسناد فيه: إسماعيل بن عياش، بلفظ "من فاوضه -يعني الركن الأسود- فإنما يفاوض يد الرحمن"

(2)

.

وعن ابن عباس مرفوعًا "ما مزرت على الركن إلَّا رأيت عليه ملكًا يقول: آمين، فإذا مررتم عليه فقولو ا: ربنا آتنا في الدنيا حسنة" الحديث.

ذكره ابن مردويه في "تفسيره"

(3)

، وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا طاف بالبيت مسح أو قال: استلم الحجر والركن في كل طواف. صحيح الإسناد

(4)

.

وعند الجندي عن سعيد بن المسيب: الركن والمقام حجران من حجارة الجنة.

(1)

"المستدرك" 1/ 455، وقال الألباني: إسناده ضعيف، وقد استغربه الحافظ؛ لأن عطاء بن السائب كان اختلط، وسعيد بن زيد سمع منه آخرًا، على ضعف في حفظه، ورواه غيره عنه موقوفًا ا. هـ. "صحيح ابن خزيمة" 4/ 217 (2728).

(2)

"سنن ابن ماجه"(2957)، وضعفه الألباني في "ضعيف الترغيب والترهيب" 1/ 359 (721).

(3)

ذكره السيوطي في "الدر المنثور" 1/ 418، وعزاه لابن مردويه.

(4)

رواه ابن خزيمة 4/ 216 (2723)، والحاكم في "المستدرك" 1/ 456 وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(4751)، وانظر:"الصحيحة" 5/ 108 (2078). والحديث رواه أبو داود (1876) بلفظ: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدع أن يستلم الركن اليماني والحجر في كل طوفة، قال: وكان عبد الله بن عمر يفعله. وكذا رواه النسائي 5/ 231، أحمد 2/ 18.

ص: 355

وعن ابن عمر أنه عليه السلام أتى الحجر الأسود فاستلمه، ووضع شفتيه عليه وبكى بكاءً طويلًا ثم التفت فإذا عمر يبكي خلفه فقال:"يا أبا حفص ها هنا تسكب العبرات"، قال الحاكم فيه: صحيح الإسناد

(1)

.

وعنده -أعني: الجندي- عن مجاهد: الركن من الجنة ولو لم يكن منها لغني.

وعن ابن عباس رفعه: "لولا ما طبع الله الركن من أنجاس الجاهلية وأوساخها وأيدي الظلمة والأثمة؛ لاستشفي به من كل عاهة، ولألفاه اليوم كهيئة يوم خلقه الله تعالى وإنما غيَّره الله بالسواد؛ لئلا ينظر أهل الدنيا إلى زينة الجنة، وإنه لياقوتة من ياقوت الجنة بيضاء وضعه لآدم حيث أنزله في موضع الكعبة قبل أن تكون الكعبة والأرض يومئذ طاهرة، لم يعمل فيها بشيء من المعاصي، وليس لها أهل ينجسونها، ووضع لها صفًا من الملائكة على أطراف الحرم يحرسونه من جان الأرض، وسكانها يومئذ الجن، وليس ينبغي لهم أن ينظروا إليه؛ لأنه شيء من الجنة، ومن نظر إلى الجنة دخلها فهم على أطراف الحرم حيث أعلامه اليوم، محدقون به من كل جانب بينه وبين الحرم"

(2)

.

وللطبراني عن عائشة مرفوعًا "استمتعوا من هذا الحجر الأسود قبل أن يرفع فإنه خرج من الجنة وإنه لا ينبغي لشيء خرج منها أن لا يرجع إليها قبل يوم القيامة".

(1)

"المستدرك" 1/ 454، وقال الألباني في "الضعيفة" 3/ 91 (1022): ضعيف جدًا.

(2)

رواه الفاكهي في "أخبار مكة" 1/ 81 - 82، والطبراني 11/ 55 - 56 (11028)، وفي "الأوسط" 6/ 229 - 230 (6263) مختصرًا، وأورده الهيثمي في "المجمع" 3/ 242 - 243، وقال: رواه الطبراني في "الأوسط"، وفيه: جماعة لم أجد من ترجمهم ثم أتبعه بالحديث الذي في "الكبير" وقال: رواه الطبراني في "الكبير" وفيه: من لم أعرفه ولا له ذكر. وضعفه الألباني في "الضعيفة" 1/ 615 (426).

ص: 356

ولأحمد عن عمر أنه عليه صلى الله عليه وسلم قال": "إنك رسول قوى فلا تزاحم على الحجر فتؤذي الضعيف، إن وجدت خلوة فاستلمه وإلا فاستقبل وكبر وهلل"

(1)

.

وللدارقطني عن عطاء قال: رأيت أبا سعيد وأبا هريرة وابن عمر وجابرًا إذا استلموا الحجر قبَّلوا أيديهم

(2)

.

ولمسلم عن ابن عباس يرفعه "يستلم الركن بمحجن، ويقبل المحجن"

(3)

.

وللطبراني: أن ابن عمر كان إذا استلم الركن قال: بسم الله، والله أكبر

(4)

.

وعنده من حديث الحارث عن علي أنه كان إذا استلم الحجر قال: اللهم إيمانًا بك وتصديقًا بكتابك وسُنة نبيك صلى الله عليه وسلم

(5)

.

إذا تقرر ذلك: فإنما قال ذلك عمر؛ لأن الناس كانوا حديث عهد بعبادة الأصنام.

(1)

"المسند" 1/ 28.

(2)

"سنن الدارقطني" 2/ 290.

(3)

حديث ابن عباس هذا رواه مسلم (1272) لكن بدون ذكر: (ويقبل المحجن)، كتاب: الحج، باب: جواز الطواف على بعير وغيره واستلام الحجر بمحجن ونحوه للراكب. واللفظ الذي ذكره المصنف رواه مسلم (1275) من حديث أبي الطفيل.

(4)

"الدعاء" 2/ 1201 (862).

(5)

"المعجم الأوسط" 1/ 157 (492)، وذكره الهيثمي في "المجمع" 3/ 240 وقال: رواه الطبراني في "الأوسط"، وفيه: الحارث، وهو ضعيف وقد وثق، وضعفه الألباني في "الضعيفة" 3/ 156 (1049).

ص: 357

‌54 - باب مَن كَبَّرَ فِي نَوَاحِي الكَعْبَةِ

1601 -

حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَارِثِ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا قَدِمَ أَبَى أَنْ يَدْخُلَ البَيْتَ وَفِيهِ الآلِهَةُ، فَأَمَرَ بِهَا فَأُخْرِجَتْ، فَأَخْرَجُوا صُورَةَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ فِي أَيْدِيهِمَا الأَزْلَامُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"قَاتَلَهُمُ اللهُ، أَمَا وَاللهِ قَدْ عَلِمُوا أَنَّهُمَا لَمْ يَسْتَقْسِمَا بِهَا قَطُّ". فَدَخَلَ البَيْتَ، فَكَبَّرَ فِي نَوَاحِيهِ، وَلَمْ يُصَلِّ فِيهِ. [انظر: 398 - مسلم: 1331 - فتح: 3/ 468]

ذكر فيه حديث ابن عباس: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا قَدِمَ أَبَى أَنْ يَدْخُلَ البَيْتَ، وَفِيهِ الآلِهَةُ، فَأَمَرَ بِهَا فَأُخْرِجَتْ، فَأَخْرَجُوا صُورَةَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ فِي أَيْدِيهِمَا الأَزْلَامُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"قَاتَلَهُمُ اللهُ، أَمَا وَاللهِ قَدْ عَلِمُوا أَنَّهُمَا لَمْ يَسْتَقْسِمَا بِهَا قَطُّ". فَدَخَلَ البَيْتَ، فَكَبَّرَ فِي نَوَاحِيهِ، وَلَمْ يُصَلِّ فِيهِ. هذا الحديث من أفراد البخاري.

وفي رواية: حتى أمر بها فمحيت، خرجهُ في الأنبياء في باب قول الله تعالى:{وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء: 125]، وخرج فيه أيضًا عن ابن عباس: دَخَل النبي صلى الله عليه وسلم البيت فَوجَد صورة إبراهيم وصورة مريم فقال "أما هم فقد سمعوا أنَّ الملائكة لا تَدخل بيتًا فيه صورة، هذا إبراهيم مُصور، فما له يستقسم؟ "

(1)

.

وأخرجه أيضًا من طريق وهيب: حَدَّثَنَا أيوب، عن عكرمة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرسلًا

(2)

. وسَلف في الصَّلاة عن إسحاق بن نصر، ثَنَا

(1)

سيأتي برقم (3351).

(2)

ستأتي عقب حديث رقم (4288).

ص: 358

عبد الرزاق، أنا ابن جريج، عن عطاء: سَمعْتُ ابن عباس لما دَخل النبي صلى الله عليه وسلم البيت. الحديث

(1)

.

قَالَ الإسماعيلي: هذا أحسبه وقع غلطًا لا من الكتَّاب، فإني نقلتهُ من كتاب مسموع مُصحح ممن سمع منهُ، ووجدتهُ كذلك في غير نسخة، والحديث إنما هو عن ابن عباس، عن أسامة، وكان هذا في فتح مكة سنة ثمان.

وفي أبي داود، عن عبد الرحمن بن صفوان: لمَّا فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، انطلقت فوافقته قد خرج من الكعبة، وكان قد دخلها بالسيف، فأخرجت الآلهة وهي الأنصاب التي كانت قُريش تعبد، ثم دخل البيت بعد ذَلِكَ، وكبَّر في نواحيه، وكان دَخل مكة حلالًا، ثم اعتمر في ذَلِكَ العام بعد رجوعه من الطائف

(2)

.

إذا تقرر ذَلِكَ فالكلام عليه من أوجه:

أحدها:

الأزلام: جمع زُلم وزَلم، وهي: الأقداح أيضًا، واحدها قِدْح، وسُميت بذلك؛ لأنها تُقلم أي: تُبرى، ذكرهُ ابن قُتيبة في كتاب "القداح"، كانت الجاهلية يتخذونها، ويكتبون على بعضها: نهاني ربِّي، وعلى بعضها: أمرني ربي، وعلى بعضها: نعم، وعلى بعضها: لا، فإذا أراد أحدهم سفرًا، أو غيره دفعوها إلى بعضهم حَتَّى يقبضها، فإن خرج القدح الذي عليه: أمرني ربي مضى، أو نهاني كف.

(1)

برقم (398) باب: قول الله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} .

(2)

"سنن أبي داود"(1898) كتاب: المناسك، باب: الملتزم. وضعفه الألباني في "ضعيف أبي داود" برقم (329).

ص: 359

والاستقسام: ما قسم له من أَمر يزعمه، وقيل: كان إذا أراد أحدهم أمرًا أدخل يده في الوعاء الذي فيه الأزلام، فأخرج منها زلمًا وعمل بما عليه

(1)

، وقيل: الأزلام: حصى أبيض كما نوا يضربون بها

(2)

، والاستقسام استفعال من قسم الرزق والحاجات، وذلك طلب أحدهم بالأزلام عَلَى ما قَسم له في حاجته التي يلتمسها من نجاح أو حرمان، فأبطل الرب تعالى ذَلِكَ من فعلهم، وأخبر أنه فسق؛ لأنهم كانوا يستقسمون عند آلهتهم التي يعبدونها، ويقولون: يا إلهنا، أخرج الحق في ذَلِكَ، ثم يعملون بِمَا خرج فيه، فكان ذَلِكَ كُفرًا بالله تعالى؛ لإضافتهم ما يكون من ذَلِكَ من صَواب، أو خطأ إلى أنهُ قسم آلهتهم

(3)

.

فأخبر الشارع عن إبراهيم، وإسماعيل أنهما لم يكونا يستقسمان بالأزلام، وإِنَّما كانا يفوضان أمورهما إلى الله الذي لا يخفَى عليه علم ما كان وما هو كائن؛ لأن الآلهة لا تضر ولا تنفع، ولذلك قَالَ صلى الله عليه وسلم:"لقدْ علموا أنهما لم يستقسما بها قط"؛ لأنهم قد علموا أنَّ آباءهم أحدثوها، وكان فيهم بقية من دين إبراهيم، منهُ: الخِتان، وتحريم ذوات المحارم، إلا امرأة الأب، والجمع بين الأختين.

وقال ابن التين: الأزلام: قداح، وهي أعواد نحتوها، وكتبوا في

إحديهما: افعل، وفي الأخرى: لا تفعل، ولا شيء في الآخر. فإن خرجا فقد سلف، وإِنْ خرج الثالث أعاد الضرب حَتَّى يخرج له افعل، أو لا تفعل.

(1)

انظر: "الصحاح" 5/ 2012. و"النهاية في غريب الحديث" 4/ 63.

(2)

انظر: "الصحاح" 5/ 1943. "لسان العرب" 6/ 1857 - 1858.

(3)

"النهاية في غريب الحديث" 4/ 63. و"لسان العرب" 6/ 3629.

ص: 360

قَالَ: وكانت سبعة عَلَى صيغة واحدة مكتوب عليها: لا، نعم، منهم، من غيرهم، ملصق، العقل، فضل العقل. وكانت بيد قيم الأصنام، وهو السادن، وكانوا إذا أرادوا خروجًا، أو تزويجًا، أو حاجة أتى المُريد بمائة درهم فدفعها إلى السادن، فيسأل الصنم أن يوضح لهم ما يعمل عليه مِنْ مَقام أو خروج، فيضرب له بذينك السهمين الذين عليهما: نعم، ولا، فإِن خرج نعم ذَهب لحاجته، وإِنْ خرج لا كفَّ عنها، وإِنْ شكُّوا في نسب رجل أتوا به دار الأصنام، فضرب عليها بتلك الثلاثة التي هي: منهم، من غيرهم، ملصق. فما خرج فحكمه عَلَى السهم، فإِنْ خرج: منهم. كان من أوسطهم نسبًا،

وإن خرج: من غيرهم. كان حليفًا، وإن خرج: مُلصق. لَمْ يكن له نسب، ولا حلف.

وكانوا، إذا جنى أحدهم جناية فاختلفوا عَلَى من العقل، ضربوا عليه. فإن خرج العقل عَلَى مَنْ ضرب عليه، عَقَل وبرئ الآخرون.

وكانوا إذا عَقلوا العقل، وفضل الشيء منهُ واختلفوا فيه، فأتوا السادن فضرب، فعلى مَنْ وَجب أداه، فهذا هو الاستقسام.

وفي "الجامع": أتى المُريد لحاجته بمائة درهم يدفعها إلى السادن إلى آخر ما سَلف.

قَالَ: فأما ما تفعله العرب من رمي السِّهام عَلَى الشيء الذي يتشاح عليه، فليس من هذا، وهو مُباح.

قَالَ تعالى: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} [آل عمران: 44] لأنهم تشاحوا عليها، فألقوا عَلَى ذَلِكَ سهامًا، فخرج سهم زكريا، فهذا وأمثاله مُباح، والمحظور ما كانوا يرون من فعل الصَّنم.

ص: 361

الثاني: في الحديث من الفقه، أنَّهُ يجب عَلَى العالم، والرجل الفاضل اجتناب مواضع الباطل، وأن لا يشهد مجالس الزور، وُينزه نفسه عن ذَلِكَ.

الثَّالث: فيه أيضًا من الفقه: الإبانة عن كراهة النبي صلى الله عليه وسلم دخوله بيتًا فيه صورة، وذلك أَنَّ الآلهة التي كانت في البيت. يومئذٍ إنَّما كانت تماثيل وصورًا، وقد تظاهرت الأخبار عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يَكره دخول بيت [فيه]

(1)

صورة، مع أنَّه يُكره دخول البيت الذي فيه ذَلِكَ، ولا يُحرم، وسيأتي ذَلِكَ في كتاب اللباس، والزينة مبسوطًا في باب. من كره القعود عَلَى الصورة

(2)

، وفي باب: لا تدخل الملائكة بيتًا فيه صورة

(3)

، إن شاء الله تعالى.

الرَّابع: فيه التكبير في نواحي البيت، كما ترجم له.

فائدة:

سيأتي في الفتح أنَّه كان حول الكعبة ثلاثمائة صنم وستون، وسببه أنهم كانوا يعظمون كل يوم صنمًا، ويخصون أعظمها بيومين

(4)

.

(1)

زيادة ليست في الأصل ولا يستقيم المعنى بدونها.

(2)

انظر ما سيأتي برقم (5957 - 5958).

(3)

انظر ما سيأتي برقم (5960).

(4)

برقم (4287) كتاب: المغازي، باب: أين ركز النبي صلى الله عليه وسلم الراية يوم الفتح.

ص: 362

‌55 - بَاب كَيْفَ كَانَ بَدْءُ الرَّمَلِ

1602 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ -هُوَ ابْنُ زَيْدٍ- عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ، فَقَالَ المُشْرِكُونَ: إِنَّهُ يَقْدَمُ عَلَيْكُمْ، وَقَدْ وَهَنَهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ. فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَرْمُلُوا الأَشْوَاطَ الثَّلَاثَةَ، وَأَنْ يَمْشُوا مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ، وَلَمْ يَمْنَعْهُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ أَنْ يَرْمُلُوا الأَشْوَاطَ كُلَّهَا إِلاَّ الإِبْقَاءُ عَلَيْهِمْ. [4256، 1649، 4257 - مسلم: 1266 - فتح: 3/ 469]

ذكر فيه حديث ابن عباس: قَدِمَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ، فَقَالَ المُشْرِكُونَ: إِنَّهُ يَقْدُمُ عَلَيْكُمْ، وَقَدْ وهنتهم حُمَّى يَثْرِبَ. فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَرْمُلُوا الأَشْوَاطَ الثَّلَاثَةَ، وَأَنْ يَمْشُوا مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ، وَلَمْ يَمْنَعْهُ أَنْ يَأمُرَهُمْ أَنْ يَرْمُلُوا الأَشْوَاطَ كُلَّهَا إِلا الإِبْقَاءُ عَلَيْهِمْ.

وهو حديث صحيح أخرجه مسلم أيضًا بزيادة: فقال المشركون: هؤلاء الذين زعمتم أنَّ الحُمَّى وهنتهم، هؤلاء أجلد من كذا وكذا

(1)

، وفي لفظ لهما: إنَّما سعى

(2)

.

ورمل بالبيت، ليُري المشركين قوته.

وللبخاري في عمرة القضاء: والمشركون من قبل قعيقعان

(3)

.

ولمسلم: وكانوا يحسدونه

(4)

. وفي لفظ: وكان أهل مكة قومًا حسدًا

(5)

.

(1)

"مسلم"(1266/ 240) في الحج، باب: استحباب الرمل في الطواف والعمرة.

(2)

سيأتي برقم (1649) باب: ما جاء في السعي بين الصفا والمروة. ورواه مسلم برقم (1266/ 241)

(3)

سيأتي برقم (4256) كتاب: المغازي.

(4)

"صحيح مسلم"(1264/ 237).

(5)

انظر: المصدر السابق.

ص: 363

وللإسماعيلي: يقدم عليكم قوم عُراة، فأطلع الله نبيه عَلَى ما قالوا، فأمرهم أنْ يرملوا وأَنْ يمشوا. ولابن ماجه: قَالَ صلى الله عليه وسلم لأصحابه حين أرادوا دخول مكة في عمرته بعد الحُديبية: "إن قومكم غدًا سيرونكم، فليروكم جلدًا"، فلمَّا دخلوا المسجد استلموا الركن، ورملوا وهو معهم

(1)

.

وللطبراني عن عطاء، عن ابن عباس قَالَ: من شاء فليرمل، ومنْ شاء فلا رمل، إنما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرمل؛ ليري المشركين قوته

(2)

.

وللطبري في "تهذيبه": لمَّا اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه أن أهل مكة يقولون: إن بأصحابه هزلًا. فقال لهم حين قَدِموا: "شدوا مآزركم وأعضادكم، وأرملوا حَتَّى يرى قومكم أن بكم قوة".

قَالَ: ثم حج رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرملْ، قالوا: وإِنَّما رَمل في عمرة القضية. في إسناده: حجاج بن أرطاة، ولأبي داود أنه صلى الله عليه وسلم وأصحابه اعتمروا من جعرانة -يعني في عمرة القضاء- فرملوا بالبيت، وجعلوا أرديتهم تحت آباطهم، ثم قذفوه عَلَى عواتقهم اليسرى

(3)

، وفي لفظ: كانوا إذا بلغوا الركن اليماني، وتغيبوا من قريش مَشوا، ثم اطلعوا عليهم يرملون، تقول قُريش: كأنهم الغُزلان.

قَالَ ابن عباس: كانت سُنَّة

(4)

.

(1)

"سنن ابن ماجه"(2953) كتاب: المناسك، باب: الرَّمَلِ حول البيت.

(2)

"المعجم الأوسط" 5/ 191 - 192 (5048).

(3)

"سنن أبي داود"(1884) كتاب: المناسك، باب: الاضطباع في الطواف. من حديث ابن عباس، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود"(1646).

(4)

"سنن أبي داود"(1889) باب: في الرمل.

ص: 364

وفي لفظ: أنه لم يرمل في السبع الذي أفاض فيه

(1)

، صححه الحاكم عَلَى شرط الشيخين

(2)

، مِنْ حديث أبي سعيد، وله عَلَى شرطهما أيضًا من حديث أبي سعيد، وابن عباس: رمل رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته، وفي عمره كلها، وأبو بكر، وعمر، والخُلفاء.

إذا تقرر ذَلِكَ:

فالرمل هو: الإسراع، وحقيقتهُ إسراع المشي مع تقارب الخطى.

قَالَ صاحب "الأفعال": رمل رملًا: أسرع في الرمل

(3)

، وقال صاحب "العين": الرمل ضرب من المشي

(4)

، وقال ابن سيده: يرمل رملًا، ورملانًا: إذا مشى دون العدو

(5)

، وقال القزاز: هو العدو الشديد، وقال ابن دريد: هو شبيه بالهرولة

(6)

، وقال الجوهري: هو الهرولة

(7)

. وقال في "المغيث": هو الخبب

(8)

. وقيل: هو أن يهز منكبيه، ولا يسرع العدو.

وقَالَ ابن العربي في "مسالكه": هو مأخوذ من التحريك، وهو أن يُحرك الماشي منكبيه؛ لشدة الحركة في مشيه.

والشوط جري مرة إلى الغاية، والجمع أشواط

(9)

، قاله صاحب

(1)

"سنن أبي داود"(2001) باب: الإفاضة في الحج.

وصححه الألباني في "صحيح أبي داود" برقم (1746).

(2)

"المستدرك" 1/ 475 كتاب المناسك.

(3)

"الأفعال" ص 99.

(4)

"العين" 8/ 267.

(5)

"المحكم" 11/ 227.

(6)

"جمهرة اللغة" 2/ 801.

(7)

"الصحاح" 4/ 1713.

(8)

"المغيث" لأبي موسى المديني 1/ 805.

(9)

"العين" 6/ 275.

ص: 365

"العين" مأخوذ من قولهم: جرى الفرس شوطًا، إذا بلغ مجراه ثم عَاد، فكل مَنْ أتى موضعًا ثم انصرف عنهُ فهو شوط. وقال الطبري: يُقال: شاط يشوط شوطًا إذا عدا غلوة بعيدة.

و (وهنتهم) بتخفيف الهاء المفتوحة أي: أضعفتهم، وحكى التياني وهن بالكسر. وقال صاحب "العين": الوهن لغة في الوهن.

وقوله: (إلا الإبقاء). هو بكسر الهمزة، ثم باء موحدة ممدود أي: للرفق بهم. قَالَ القرطبي: رويناه بالرفع عَلَى أنَّه فاعل يمنعهم، ويجوز النصب عَلَى أن يكون مفعولًا من أجله، قَالَ: ويكون في (منعهم) ضمير عائد عَلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو فاعله

(1)

وقالوه استهزاءً بهم.

ويثرب: المدينة شرفها الله تعالى.

قوله: وأَنْ يمشوا ما بين الركنين. يُريد اليماني، والحجر الأسود.

وقوله: وقد هو بالفاء.

قَالَ صاحب "المطالع": عند ابن السكن بالقاف وللكافة بالفاء وهو الصواب، واختلف في الرمل هل هو سنة من سنن الحج، أم لا؛ لأنه كان لعلة ذهبت وزالت فمن شاء فعله اختيارًا.

فروي عن أبي بكر وعمر وابن مسعود وابن عمر الأول، وهو قول الأربعة والثوري وإسحاق

(2)

، وقال آخرون: ليس بسنة فمن شاء فعل ومن شاء تركه.

(1)

"المفهم" 3/ 376.

(2)

انظر "المبسوط" 4/ 46، "بدائع الصنائع" 2/ 131، "الهداية" 1/ 152، "التفريع" 1/ 337، "المعونة" 1/ 369، "الاستذكار" 12/ 126، "الأم" 2/ 149، "البيان" 4/ 292، "روضة الطالبين" 3/ 86، "العزيز" 3/ 402، "مسائل الإمام أحمد برواية إسحاق بن منصور" 1/ 529، "المستوعب" 4/ 209، "المغني" 5/ 217.

ص: 366

روي ذَلِكَ عن ابن عباس وجماعة من التابعين: طاوس وعطاء

(1)

والحسن والقاسم وسالم، والأول هو ما عليه الجمهور فإن تركه كره. نص عليه الشافعي، ثم الجمهور عَلَى أنه يستوعب البيت بالرمل

(2)

.

وفي قول: لا يرمل بين الركنين اليمانيين بل بين الشاميين؛ لأن فيه كانوا ينكشفون للكفار فيرون جلدهم، إذ سبب الرمل، والاضطباع إظهار القوة للكفار لما قالوا: وهنتهم حمى يثرب كما سلف.

لكنه في عمرة القضاء سنة سبع، وحديث جابر الطويل في مسلم

(3)

، وكذا حديث ابن عمر فيه: كانا في حجة الوداع سنة عشر، فكان العمل بهما أولى؛ لتأخرهما، وابن عباس لم يكن عام القضية، بخلاف جابر فإنه شاهد، والحكمة فيه مع زوال المعنى الذي شرع لأجله قد قالها الفاروق وهو الاتباع كما سيأتي، وأيضًا الفاعل له يستحضر مسببه، وهو ظهور أمر الكفار خصوصًا في ذَلِكَ المكان الشريف، فيتذكر نعمة الله عَلَى إعزاز الإسلام وأهله.

فرع:

لا فرق في استحباب الرمل بين الراكب والمحمول وغيرهما عَلَى الأظهر، فيرمل به الحامل ويحرك هو الدابة

(4)

. وعند المالكية أن طواف الإفاضة ونحوه، وطواف المحرم من التنعيم، وشبهه في

(1)

رواه ابن أبي شيبة 3/ 265 (14160، 14162) كتاب: الحج، باب: من رخص في ترك الرمل.

(2)

انظر "روضة الطالبين" 3/ 86.

(3)

"صحيح مسلم"(1218/ 147) كتاب: الحج، باب: حجة النبي.

(4)

انظر "الأم" 2/ 149، "البيان" 4/ 293، "المجموع" 8/ 59.

ص: 367

مشروعية الرمل ثلاثة أقوال فيها، ثالثها المشهور مشروع دونه

(1)

. وفي الرمل بالمريض والصبي قولان

(2)

. وعند الحنفية أنه إذا طاف للركن رمل إن لم يسع ولم يرمل في طواف سالف فيه

(3)

.

فرع:

لو ترك الرمل في الطوفات الثلاثة لم يقضه في الأربع الأخيرة؛ لأن هيئتها السكينة فلا تتغير، ولو تذكر عن قرب ففي الإعادة قولان عن مالك، والمشهور عندهم أنه لا دم عليه

(4)

. وعند أحمد: من نسي

الرمل لا إعادة عليه

(5)

.

فرع:

يختص الرمل بطواف يعقبه سعي

(6)

، وفي قول: يختص بطواف القدوم، وبه قَالَ أحمد

(7)

.

(1)

انظر "الاستذكار" 12/ 186، "الذخيرة" 3/ 245، 246.

(2)

انظر "الأم" 2/ 149، "المجموع" 8/ 58.

(3)

انظر "الأصل" 2/ 393، "بدائع الصنائع" 2/ 147، "الهداية" 1/ 152.

(4)

انظر "الاستذكار" 12/ 138، "الذخيرة" 3/ 245.

(5)

انظر "مسائل الإمام أحمد برواية الكوسج" 1/ 529، "المستوعب" 4/ 209، "المغني" 5/ 222، "المبدع" 3/ 216.

(6)

قال الكاساني: "وهو قول عامة الصحابة""بدائع الصنائع" 2/ 131.

وقال النووي في "المجموع": وقد اضطربت طريق الأصحاب فيه، ولخصها الرافعي متفقة فقال: لا خلاف أن الرمل لا يُسن في كل طواف؛ بل إنما يسن في طواف واحد، وفي ذلك الطواف قولان مشهوران أصحهما عند الأكثرين أنه يُسن في طواف يستعقب السعي والثاني: يُسن في طواف القدوم مطلقًا، فعلى القولين لا رمل في طواف الوداع بلا خلاف، "المجموع" 8/ 58.

(7)

قال ابن قدامة في "المغني": "ولا يُسن الرمل والضطباع في طواف سوى ما ذكرناه -طواف القدوم أو طواف العمرة- لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إنما رملوا واضطبعوا =

ص: 368

فائدة: المختار أنه لا يكره تسمية الطواف شوطًا كما نطق به ابن عباس، كما سلف، ولأن الكراهة إنما تثبت بنهي الشرع ولم تثبت، وأمَّا الشافعي والأصحاب فقالوا بالكراهة، وسببها كما قَالَ القاضي: أن الشوط هو الهلاك. قَالَ الشافعي في "الأم": لا يقال: شوط ولا دور، وكره مجاهد ذَلِكَ، قَالَ: وأنا أكره ما كره مجاهد. وعن مجاهد: لا تقولوا شوطًا ولا شوطين، ولكن قولوا: دورًا أو دورين

(1)

.

فائدة أخرى:

قَالَ المهلب: فيه من الفقه أن إظهار القوة للعدو في الأجسام والعدة والسلاح. ومفارقة الهدوء والوقار في ذَلِكَ من السنة، كما أمر الشارع بالرمل في الثلاثة الأول. قَالَ: ومثله إباحته اللعب للحبشة في المسجد بالحراب لهذا المعنى، والمسجد ليس بموضع لعب بل هو موضع وقار وخشوع لله؛ لما كان من باب القوة والعدة والرهبة عَلَى المنافقين وأهل الكتاب المجاورين لهم أباحه في المسجد؛ لأنه أمر من أمر جماعة المسلمين، والمسجد لجماعتهم.

فرع:

المرأة لا ترمل بالإجماع؛ لأنه يقدح في الستر وليست من أهل الجلد، ولا هرولة أيضًا في السعي

(2)

، ورواه الشافعي عن ابن عمر وعائشة وعطاء.

= في ذلك". "المغني" 5/ 221، وانظر "كشاف القناع" 2/ 480.

(1)

"الأم" 2/ 150.

(2)

"الاستذكار" 12/ 139، "الإجماع" لابن المنذر (52)"المجموع" 8/ 62.

ص: 369

‌56 - باب اسْتِلَامِ الحَجَرِ الأَسْوَدِ حِيَن يَقْدَمُ مَكَّةَ أَوَّلَ مَا يَطُوفُ وَيَرْمُلُ ثَلَاثًا

1603 -

حَدَّثَنَا أَصْبَغُ بْنُ الفَرَجِ، أَخْبَرَنِي ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ يَقْدَمُ مَكَّةَ، إِذَا اسْتَلَمَ الرُّكْنَ الأَسْوَدَ أَوَّلَ مَا يَطُوفُ يَخُبُّ ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ مِنَ السَّبْعِ. [1604، 1616، 1617، 1644 - مسلم: 1261 - فتح: 3/ 470]

ذكر فيه حديث سالم عن أبيه: قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ يَقْدَمُ مَكَّةَ، إِذَا اسْتَلَمَ الرُّكْنَ الأَسْوَدَ أَوَّلَ مَا يَطُوفُ يَخُبُّ ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ مِنَ السَّبْعِ.

وقد أخرجه مسلم أيضًا

(1)

.

ولا شك أن سنة الداخل إلى المسجد الحرام أن يبدأ بالحجر الأسود فيقبله إن قدر، فإن عجز أشار، ثم يمضي عَلَى يمينه إلى أن يأتي إليه، فهذِه واحدة، ثم ثانية، ثم ثالثة كذلك بالرمل، والأربعة الأخيرة لا رمل فيها، ثم الخب وهو الرمل إنما يشرع في طواف يعقبه سعي كما سلف، ولا يتصور في طواف الوداع؛ لأن شرطه أن يكون طاف للإفاضة، فإن طاف للقدوم وعزمه السعي بعده رمل وإلا فلا،

بل يرمل في طواف الإفاضة. وثم قول آخر أنه يرمل في طواف القدوم وإن لم يرد السعي بعده، وقد سلف.

وقد أسلفنا أنه صلى الله عليه وسلم لم يرمل في السبع الذي أفاض فيه. وقال عطاء: لا رمل فيه.

(1)

"صحيح مسلم"(1261) كتاب: الحج، باب: استحباب الرمل.

ص: 370

فرع:

لو خالف وجعل البيت عَلَى يمينه لم يصح عندنا، وبه قَالَ مالك وأبو ثور؛ لأنه خالف الاتباع

(1)

.

وقال أبو حنيفة وأصحابه: يعيد الطواف ما كان بمكة فإذا بلغ الكوفة وأبعد كان عليه دم ويجزئه، واحتجوا بأن الله تعالى لم يفرق بين طواف منكوس أو غيره، فوجب أن يجزئه

(2)

.

فائدة:

الخب: ضرب من العدو، يقال: خبت الدابة تخب خبًا إذا أسرعت المشي وراوحت بين قدميها، وكذا الخيل، أما إذا رفعت يديها معًا ووضعتهما معًا فذلك التقريب لا الخب، وقيل: خب الفرس إذا نقل أيامنه وأياسره جميعًا

(3)

.

فائدة ثانية:

الاستلام افتعال من السلام وهو: التحية كما قَالَ الأزهري، أو من السِّلام -بكسر السين- وهي: الحجارة، كما قَالَ ابن قتيبة، تقول: استلمت الحجر إذا لمسته. كما تقول؛ اكتحلت من الكحل، وحكى في "الجامع" أنه استفعل من اللأمة وهي الدرع والسلاح؛ لأنه إذا لمس الحجر تحصن من العذاب كما يتحصن باللأمة من الأعداء.

(1)

انظر "التفريع" 1/ 337، "عيون المجالس" 2/ 812، "الاستذكار" 12/ 125، "البيان" 4/ 283، "روضة الطالبين" 3/ 79، "مغني المحتاج" 1/ 486.

(2)

انظر "المبسوط" 4/ 44، "الفتاوى التاتارخانية" 2/ 514.

(3)

انظر: "الصحاح" 1/ 117، و"لسان العرب" 2/ 1085.

ص: 371

وقال ابن سيده

(1)

: استلم الحجر واستلأمه -بالهمز -أي: قبله أو اعتنقه، وليس أصله الهمز وبخط الدمياطي: الاستلام افتعال من السِّلام وهي الحجارة، وبضم السين: ظاهر عروق الكف.

(1)

"المحكم" 8/ 338.

ص: 372

‌57 - باب الرَّمَلِ فِي الحَجِّ وَالعُمْرَةِ

1604 -

حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ، حَدَّثَنَا سُرَيْجُ بْنُ النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: سَعَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ، وَمَشَى أَرْبَعَةً فِي الحَجِّ وَالعُمْرَةِ.

تَابَعَهُ اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي كَثِيرُ بْنُ فَرْقَدٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابن عُمَرَ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم. [انظر: 1603 - مسلم: 1261 - فتح: 3/ 470]

1605 -

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ لِلرُّكْنِ: أَمَا وَاللهِ إِنِّي لأَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَلَمَكَ مَا اسْتَلَمْتُكَ. فَاسْتَلَمَهُ، ثُمَّ قَالَ: فَمَا لَنَا وَلِلرَّمَلِ إِنَّمَا كُنَّا رَاءَيْنَا بِهِ المُشْرِكِينَ، وَقَدْ أَهْلَكَهُمُ اللهُ. ثُمَّ قَالَ: شَيْءٌ صَنَعَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَلَا نُحِبُّ أَنْ نَتْرُكَهُ. [انظر: 1597 - مسلم: 1270 - فتح: 3/ 471]

1606 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: مَا تَرَكْتُ اسْتِلَامَ هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ فِي شِدَّةٍ وَلَا رَخَاءٍ مُنْذُ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَلِمُهُمَا.

قُلْتُ لِنَافِعٍ: أَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَمْشِي بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ؟ قَالَ: إِنَّمَا كَانَ يَمْشِي لِيَكُونَ أَيْسَرَ لاِسْتِلَامِهِ. [1611 - مسلم: 1268 - فتح: 3/ 471]

ذكر فيه ثلاثة أحاديث:

أحدها:

حَدَّثَنا مُحَمَّدٌ، ثَنَا سُرَيْجُ بْنُ النُّعمانِ، ثَنَا فُلَيْحٌ، عَنْ نَافِع، عَنِ ابن عُمَرَ قَالَ: سَعَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ، وَمَشَى أَرْبَعَةً فِي الحَجِّ وَالعُمْرَةِ.

تَابَعَهُ اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي كَثيرُ بْنُ فَرْقَدٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابن عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

ص: 373

محمد شيخ البخاري هو ابن يحيى الذهلي كما قاله الحاكم، وقيل: ابن رافع، حكاه الجياني، ونسبه ابن السكن: ابن سلام

(1)

. ويقال: محمد بن عبد الله بن نمير، حكاه أبو نعيم في "مستخرجه"، فهذِه أربعة أقوال فيه. وقال المزي: محمد بن رافع عن سريح

(2)

. روى عنه البخاري وروى عن محمد -غير منسوب- عن سريج

(3)

ولم يذكر ابن سلام ولا الذهلي فيمن روى عن سريج.

وهذِه المتابعة أخرجها النسائي من حديث شعيب بن الليث بن سعد، عن أبيه، عن كثير بن فرقد، عن نافع، عن ابن عمر: كان يخب في طوافه حين يقدم في حج أو عمرة ثلاثًا ويمشي أربعًا. وقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذَلِكَ

(4)

. ورواه البيهقي من حديث يحيى بن بكير: ثَنَا الليث، ثَنَا كثير بن فرقد

(5)

.

الحديث الثاني:

حديث زيد بن أسلم عن أبيه أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّاب قَالَ لِلرُّكْنِ: أَمَا والله إِنِّي لأَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَلَمَكَ مَا اسْتَلَمْتُكَ. فَاسْتَلَمَهُ، ثُمَّ قَالَ: فَمَا لَنَا وَللرَّمَلِ إِنَّمَا كُنَّا رَاءَيْنَا بِهِ المُشْرِكِينَ، وَقَدْ أَهْلَكَهُمُ اللهُ، ثُمَّ قَالَ: شَيْءٌ صَنَعَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَلَا نُحِبُّ أَنْ نَتْرُكَهُ.

(1)

"تقييد المهمل" 3/ 1036 - 1037.

(2)

"تهذيب الكمال" 25/ 192 (5209).

(3)

"تهذيب الكمال" 10/ 220 (2190).

(4)

"سنن النسائي" 5/ 230 كتاب: مناسك الحج، باب: الرمل في الحج والعمرة.

(5)

"السنن الكبرى" 5/ 81 كتاب: الحج، باب: الرمل في الطواف في الحج والعمرة.

ص: 374

وهو من أفراده، وكذلك قول عمر.

الثالث: حديث ابن عمر: مَا تَرَكْتُ اسْتِلَامَ هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ فِي شِدَّةٍ وَلَا رَخَاءٍ مُنْذ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَلِمُهُمَا.

قُلْتُ لِنَافِعٍ: أَكَانَ ابن عُمَرَ يَمْشِي بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ؟ قَالَ: إِنَّمَا كَانَ يَمْشِي ليَكُونَ أَيْسَرَ لاِسْتِلَامِهِ.

واعترض الإسماعيلي فقال: هذا الحديث ليس من هذا الباب في شيء. قلتُ: لا فإن مشيه بين الركنين يؤذن أنه يرمل فيما عداه، وقد أسلفنا اختلاف العلماء في مشروعية الرمل الآن، ونقلنا أن المشهور عن المالكية أنه لا دم بتركه، وهو المشهور عن ابن عباس، وبه قَالَ عطاء وأبو حنيفة والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور، وبوجوبه قَالَ الحسن والثوري. قَالَ ابن القاسم: ورجع عنه مالك

(1)

.

وروى ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون وابن القاسم أن عليه الدم في قليل ذَلِكَ وكثيره. واحتج بقول ابن عباس: من ترك من نسكه شيئًا فعليه دم، وفيه نظر؛ لأن المشهور عن ابن عباس أن من شاء

رمل، ومن شاء لم يرمل، ومذهبه أنه لا شيء عليه في تركه.

وقال الطبري: قد ثبت أن الشارع رمل، ولا مُشرك يومئذٍ بمكة يراءى الرمل، فكان معلومًا أنه من مناسك الحج، غير أنا لا نرى عَلَى من تركه عامدًا ولا ساهيًا قضاءً ولا فدية؛ لأن من تركه فليس بتارك لعمل، وإنما هو تارك منه لهيئة وصفة كالتلبية التي فيها الحج، ورفع الصوت، فإن خفض صوته بها كان غير مضيع لها ولا تاركها، وإنما ضيع صفة من صفاتها، ولا شيء عليه.

(1)

سبق تخريج المسألة.

ص: 375

فرع:

قام الإجماع عَلَى أنه لا رمل عَلَى من أحرم بالحج من مكة من غير أهلها؛ لأنهم رملوا حين دخولهم مكة حين طافوا للقدوم

(1)

، واختلفوا في أهل مكة هل عليهم رمل؟

فكان ابن عمر لا يراه عليهم، وبه قَالَ أحمد

(2)

، واستحبه مالك

والشافعي للمكي

(3)

، وعلة الأول أنه من سنة القادم، وليس المكي بقادم، وعلة من استحبه للمكي في طواف الإفاضة؛ لأنه طواف ينوب عن طواف القدوم والإفاضة، فاستحب له؛ ليأتى بسنة هي في أحد الطوافين، فتتم له السنة في ذَلِكَ، كما أنه يسعى فيه، وغيره لا يسعى، إلا في طواف القدوم، كذا وقع في ابن بطال

(4)

، ولم نسلم له.

(1)

انظر "الاستذكار" 12/ 140، "الإقناع" لابن القطان 2/ 827.

(2)

انظر "المستو عب" 4/ 223، "المغني" 5/ 221، "المبدع" 3/ 218.

(3)

انظر "النوادر والزيا دات" 2/ 376، "الاستذكار" 12/ 140، "روضة الطالبين" 3/ 86، "العزيز" 3/ 403.

(4)

"شرح ابن بطال" 4/ 288 - 289.

ص: 376

‌58 - باب اسْتِلَامِ الرُّكْنِ بِالمِحْجَنِ

1607 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، وَيَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: طَافَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ عَلَى بَعِيرٍ، يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنٍ. تَابَعَهُ الدَّرَاوَرْدِيُّ، عَنِ ابْنِ أَخِي الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَمِّهِ. [1612، 1613، 1632، 5293 - مسلم: 1272 - فتح: 3/ 472]

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، وَيَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَا: ثَنَا ابن وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابن شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنِ ابن عَبَّاسٍ قَالَ: طَافَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ عَلَى بَعِيرٍ، يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنٍ. تَابَعَهُ الدَّرَاوَرْديُّ، عَنِ ابن أَخِي الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَمِّهِ.

هذا الحديث رواه مسلم عن أبي الطاهر وحرملة عن ابن وهب به

(1)

، وخالف ابن وهب الليثَ وأسامةَ، وزمعة، فرووه عن الزهري.

قَالَ: بلغني عن ابن عباس. والمتابعة أخرجها الإسماعيلي عن الحسن، ثَنَا محمد بن عباد المكي، ثَنَا عبد العزيز بن محمد، عن ابن أخي الزهري، عن عمه، عن عبيد الله، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت؛ يستلم الركن بمحجن معه.

وأخرجه مسلم من حديث أبي الطفيل

(2)

وجابر

(3)

وعائشة

(4)

،

(1)

"صحيح مسلم"(1272) كتاب: الحج، باب: جواز الطواف على بعير وغيره واستلام الحجر بمحجن ونحوه للراكب.

(2)

"صحيح مسلم"(1275) كتاب: الحج، باب: جواز الطواف على بعير وغيره واستلام الحجر بمحجن ونحوه للراكب.

(3)

"صحيح مسلم"(1273).

(4)

"صحيح مسلم"(1274).

ص: 377

وأبو داود من حديث صفية بنت شيبة

(1)

.

وأخرجه الحاكم من حديث قدامة بن عبد الله وقال: صحيح عَلَى شرط البخاري

(2)

.

وأما حكم الباب فإذا عجز عن تقبيل الحجر استلمه بيده أو بعصا كما ذكر في الحديث، ثم قبل ما استلم به كما في صحيح مسلم من حديث أبي الطفيل السالف.

قَالَ القاضي عياض: وانفرد مالك عن الجمهور فقال: لا يقبل يده

(3)

. وأصح الأوجه عندنا أن التقبيل بعد الاستلام، وثانيها: قبله، وكأنه ينقل القبلة إليه، وثالثها: يتخير، فإن عجز عن الاستلام أشار بيده

(4)

؛ لما سيأتي من حديث ابن عباس، وكذا بما في يده، ولا يشير إلى القبلة بالفم؛ لأنه لم يُنْقَل ويراعي ذَلِكَ في كل طوفة، فإن لم يفعل فلا شيء عليه.

والمحجن: عصا محنية الرأس أي: معوجة، وكل معطوف معوج كذلك، وهو شبيه الصولجان

(5)

.

وقوله: يستلم. يعني: يصيب السلم، والسلام الحجر، وإنما يستلم يستفعل منه.

(1)

"سنن أبي داود"(1878) كتاب: المناسك، باب: الطواف الواجب.

وحسنه الألباني في "صحيح أبي داود" برقم (1641).

(2)

"المستدرك" 1/ 466.

(3)

"إكمال المعلم" 4/ 344 وانظر: "النوادر والزيادات" 2/ 374، "المعونة" 1/ 367، "الذخيرة" 3/ 236.

(4)

انظر "الأم" 2/ 146، "البيان" 4/ 284، "روضة الطالبين" 3/ 85.

(5)

انظر: "النهاية في غريب الحديث" 1/ 347، و"لسان العرب" 2/ 791.

ص: 378

قَالَ ابن بطال: واستلامه بالمحجن يحتمل أن يكون لشكوى به

(1)

.

وقد أخرجه أبو داود، وفي مسلم من حديث عائشة مُعَلِلًا كراهة أن يصرف عنه الناس فيؤذيهم بالمزاحمة

(2)

، ويحتمل أيضًا غيره مما ستعلمه.

قلتُ: والظاهر أنه للعجز عن التقبيل. قَالَ المهلب: واستلامه به يدل عَلَى أن استلام الركن ليس بفرض، وإنما هو سنة، ألا ترى قول عمر: لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبَّلك ما قبلتك. وأما طوافه راكبًا؛ لبيان الجواز وللاستفتاء، وقد ترجم البخاري كما سيأتي قريبا: الطواف راكبًا، وذكر حديث ابن عباس وزينب بنت أم سلمة

(3)

، ولأبي داود: أنه قدم مكة وهو مشتك فطاف عَلَى راحلته

(4)

، وفي إسناده يزيد بن أبي زياد

(5)

. وقال عبدان: الوجه في طوافه راكبًا أنه كان في طواف الإفاضة. وعن طاوس: أنه صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن يهجروا بالإفاضة، وأفاض في نسائه ليلًا فطاف عَلَى راحلته

(6)

.

وقال أصحابنا: والأفضل أن يطوف ماشيًا ولا يركب إلا لعذر بمرض أو نحوه، أو كان ممن يحتاج إلى ظهوره، ليستفتى ويقتدى، فإن كان لعذر جاز بلا كراهة، لكنه خلاف الأولى. وقال إمام

(1)

"شرح ابن بطال" 4/ 289.

(2)

سبق تخريجهما.

(3)

يأتيا برقم (1632 - 1633).

(4)

"سنن أبي داود"(1881) كتاب: المناسك، باب: الطواف الواجب.

(5)

لذا ضعفه الألباني في "ضعيف أبي داود"(327) قائلًا: يزيد بن أبي زياد مولاهم، لا يحتج به.

(6)

رواه البيهقي 5/ 101 كتاب: الحج، باب: الطواف راكبًا.

ص: 379

الحرمين: في النفس من إدخال البهيمة التي لا يؤمن تلويثها المسجد شيء، فإن أمكن الاستيثاق فذاك، وإلا فإدخالها المسجد مكروه

(1)

.

وجزم جماعة من أصحابنا بكراهة الطواف راكبًا من غير عذر، ومنهم: الماوردي، والبندنيجي، وأبو الطيب، والعبدري، والمشهور الأول

(2)

. والمرأة والرجل في ذَلِكَ سواء، والمحمول عَلَى الأكتاف كالراكب، وبه قَالَ أحمد وداود وابن المنذر

(3)

. وطوافه زحفًا عندنا مكروه

(4)

. وقال أبو حنيفة ومالك والليث: إن طاف راكبًا لعذر أجزأه ولا شيء عليه، وإن كان لغير عذر فعليه دم، وإن كان بمكة أعاد الطواف، واعتذر عن ركوب النبي صلى الله عليه وسلم بما سلف

(5)

.

وفي مسلم من حديث جابر: طاف النبي صلى الله عليه وسلم بالبيت في حجة الوداع عَلَى راحلته يستلم الركن بمحجنه؛ لأن يراه الناس، وليشرف وليسألوه، فإن الناس غشوه

(6)

.

وفيه من حديث ابن عباس: كثر عليه الناس، يقولون: هذا محمد، حتى خرج العواتق من الخدور وكان عليه السلام لا يعرف، فلمَّا كثر عليه ركب

(7)

.

(1)

انظر: "المجموع" 8/ 37.

(2)

انظر "الأم" 2/ 148، "البيان" 4/ 281، "روضة الطالبين" 3/ 84.

(3)

انظر "المستوعب" 4/ 213، "المغني" 5/ 250، "المبدع" 3/ 218.

(4)

انظر "المجموع" 8/ 38، "نهاية المحتاج" 3/ 283 "طرح التثريب" 5/ 100.

(5)

انظر "المبسوط" 4/ 44، "الفتاوى التاتارخانية" 2/ 514، "الاستذكار" 12/ 186، "الذخيرة" 3/ 246.

(6)

"صحيح مسلم"(1273).

(7)

مسلم (1264).

ص: 380

وفيه من حديث عائشة طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع حول الكعبة عَلَى بعيره، ليستلم الناس كراهية أن يصرف عنه الناس

(1)

.

فرع:

ينبغي للراكب أن يبعد بحيث لا يؤذى، فإن أُمن قرب كما فعل صلى الله عليه وسلم.

فائدة:

في الحديث رد عَلَى من كره تسمية حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، والمنكر غالط

(2)

، واستدل به من يرى بطهارة بول وروث ما يؤكل لحمه. خلافًا للشافعي وأبي حنيفة

(3)

.

قَالَ المهلب: وفيه أنه لا يجب أن يطوف أحد في وقت صلاة الجماعة إلا من وراء الناس، ولا يطوف بين المصلين وبين البيت فيشغل الإمام والناس ويؤذيهم كما في حديث أم سلمة. وأن ترك أذى المسلم أفضل من صلاة الجماعة، كما قَالَ:"من أكل هذِه الشجرة فلا يقربن مساجدنا"

(4)

(5)

.

(1)

مسلم (1274).

(2)

انظر "المجموع" 8/ 268.

(3)

انظر "شرح معاني الآثار" 1/ 108، "المبسوط" 6/ 47، "بدائع الصنائع" 1/ 61، "إحكام الأحكام" 3/ 48، "نيل الأوطار" 3/ 383.

(4)

سلف برقم (853) كتاب: الأذان، باب: ما جاء في الثوم النيئ والبصل والكراث، ورواه مسلم (563) كتاب: المساجد، نهى من أكل ثومًا أو بصلًا.

(5)

ورد بهامش الأصل ما نصه: ثم بلغ في التاسع بعد العشرين، كتبه مؤلفه.

ص: 381

‌59 - باب مَنْ لَمْ يَسْتَلِمْ إِلَّا الرُّكْنَين اليَمَانِيَين

1608 -

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ أَنَّهُ قَالَ: وَمَنْ يَتَّقِي شَيْئًا مِنَ البَيْتِ؟ وَكَانَ مُعَاوِيَةُ يَسْتَلِمُ الأَرْكَانَ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: إِنَّهُ لَا يُسْتَلَمُ هَذَانِ الرُّكْنَانِ. فَقَالَ: لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ البَيْتِ مَهْجُورًا، وَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ رضي الله عنهما يَسْتَلِمُهُنَّ كُلَّهُنَّ. [فتح: 3/ 473]

1609 -

حَدَّثَنَا أَبُو الوَلِيدِ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنهما قَالَ: لَمْ أَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَلِمُ مِنَ البَيْتِ إِلاَّ الرُّكْنَيْنِ اليَمَانِيَيْنِ.

[انظر: 166 - مسلم: 1187 - فتح: 3/ 473]

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ

(1)

: أَنَا ابن جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ أَنَّهُ قَالَ: وَمَنْ يَتَّقِي شَيْئًا مِنَ البَيْتِ؟ وَكَانَ مُعَاوِيَةُ يَسْتَلِمُ الأَرْكَانَ كلها، فَقَالَ لَهُ ابن عَباسٍ: إِنَّهُ لَا يُسْتَلَمُ هَذَانِ الرُّكْنَانِ. فَقَالَ: لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ البَيْتِ مَهْجُورًا، وَكَانَ ابن الزُّبَيْرِ رضي الله عنهما يَسْتَلِمُهُنَّ كُلَّهُنَّ.

ثم ذكر حديث سالم عن أبيه قال: لَمْ أَرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَلِمُ مِنَ البَيْتِ إِلَّا الرُّكْنَيْنِ اليَمَانيِيْنِ

الشرح:

هذا التعليق أسنده الإمام أحمد من وجه آخر فقال: حَدَّثَنَا عبد الرازق، ثَنَا معمر والثوري ح. وحَدَّثنَا روح، ثَنَا الثوري، عن ابن

(1)

وقع في الأصل في المتن: زكرياء، وبالهامش تعليق: كذا، صوابه محمد بن بكر، وكذا هو في أصلنا وهو البرساني.

ص: 382

خثيم، عن أبي الطفيل قَالَ: كنت مع ابن عباس ومعاوية، فكان معاوية لا يمر بركن إلا استلمه، فقال له عبد الله، الحديث

(1)

، وحَدَّثَنَا روح، ثَنَا سعيد وعبد الوهاب، عن شعبة، عن قتادة، عن أبي الطفيل

(2)

. وحَدَّثَنَا مروان بن شجاع، حَدَّثَني خصيف، عن مجاهد، عن ابن عباس فذكره

(3)

. وأخرجه مسلم من حديث عمرو بن الحارث، عن قتادة، دون قصة معاوية، بلفظ: لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلم غير الركنين اليمانيين

(4)

. وفي "سؤالات عبد الله بن أحمد": ثَنَا أبي، ثَنَا يحيى بن سعيد، عن شعبة، حَدَّثَني قتادة، عن أبي الطفيل قَالَ: حج معاوية وابن عباس، فجعل ابن عباس يستلم الأركان كلها، فقال معاوية: إنما استلم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذين الركنين الأيمنين، فقال ابن عباس: ليس من أركانه شيء مهجور. وقال حنبل: سمعتُ أبا عبد الله يقول: شعبة قلب حديث معاوية وابن عباس، قلب الفعل والكلام قَالَ: وقال شعبة: الناس يخالفوني في هذا الحديث، ولكني سمعته من قتادة هكذا.

وأما أثر ابن الزبير فأخرجه ابن أبي شيبة، عن عبد الأعلى، عن ابن إسحاق، عن يحيى بن عباد، عن أبيه أنه رأى ابن الزبير استلم الأركان كلها، وقال: إنه ليس شيء منه مهجور

(5)

.

ورواه الشافعي في "مسنده": أخبرنا سعيد، أنا موسى الربذي، عن

(1)

"المسند" 1/ 372.

(2)

"مسند أحمد" 1/ 372.

(3)

"مسند أحمد" 1/ 217.

(4)

"صحيح مسلم"(1269) باب: استحباب استلام الركنين اليمانيين .....

(5)

"المصنف" 3/ 348 (14991) كتاب: المناسك، باب: فيما يستلم من الأركان.

ص: 383

محمد بن كعب، أن ابن عباس كان يمسح عَلَى الركنين: اليماني والحجر، وكان ابن الزبير يمسح الأركان كلها ويقول: لا ينبغي لبيت الله أن يكون شيء منه مهجورًا، وكان ابن عباس يقول: لقد كان لكم في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة

(1)

.

وأما حديث ابن عمر فأخرجه مسلم أيضًا

(2)

. ولابن أبي شيبة من حديث ابن أبي ليلى، عن عطاء، عن يعلق بن أمية، ورآه عمر يستلم الأركان كلها: يا يعلى ما تفعل؟ قَالَ: أستلمها كلها؛ لأنه ليس شيء من البيت يهجر. فقال عمر: أما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلم منها إلا الحجر؟ قَالَ يعلى: بلى. قَالَ: فما لك به أسوة؟ قَالَ: بلى، ثم روى عن مجاهد قَالَ: الركنان اللذان يليان الحجر لا يستلمان

(3)

.

وعن عطاء قَالَ: أدركت مشيختنا: ابن عباس وجابر وأبا هريرة وعبيد بن عمير، لا يستلمون غيرهما من الأركان، يعني: الأسود واليماني، وممن كان يستلم الأركان كلها بإسناد جيد: سويد بن غفلة، وجابر بن زيد، وعروة بن الزبير

(4)

، زاد ابن المنذر: وجابر بن عبد الله والحسن والحسين وأنس. قَالَ: وقال أكثر أهل العلم: لا يسن استلامها، يعني: الركنين الشاميين.

(1)

"مسند الشافعي" 1/ 344 (888) كتاب: الحج، باب: فيما يلزم الحاج بعد دخول مكة.

(2)

"صحيح مسلم"(1267) كتاب: الحج، باب: استحباب استلام الركنين اليمانيين.

(3)

"المصنف" 3/ 348 (14987، 14991) كتاب: الحج، باب: فيما يستلم من الأركان.

(4)

"المصنف" 3/ 348 - 349 (14985 - 14986، 14992 - 14993).

ص: 384

وقال الشافعي: إذا استلم الحجر واليماني استحب له أن يقبله بعد استلامهما، وقد سلف ما فيه

(1)

.

وفي البيهقي مضعفًا من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم استلم الحجر وقبله، واستلم الركن اليماني وقبل يده. ومن حديث ابن عباس: كان صلى الله عليه وسلم إذا استلم الركن اليماني قبله ووضع خده عليه. وقال: لا يثبت مثله. تفرد به عبد الله بن مسلم بن هرمز، وهو ضعيف

(2)

.

وقال الشافعي في "مسنده": أنا سعيد، عن ابن جريج: قلتُ لعطاء: هل رأيت أحدًا من الصحابة إذا استلموا قبلوا أيديهم؟ فقَالَ: نعم رأيت جابر بن عبد الله وابن عمر وأبا سعيد وأبا هريرة إذا استلموا قبلوا أيديهم، قلتُ: وابن عباس؟ قَالَ: نعم، قلت: هل تدع أنت إذا استلمت لأن تُقبل يدك؟ قال: فلم أستلمه إذًا

(3)

؟!

وأجاب الشافعي عن قول معاوية فقال: لم يدع أحد استلامهما هجرًا للبيت، ولكنا نستلم ما استلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونمسك عما أمسك عنه، وجمهور الصحابة عَلَى أنهما لا يستلمان ولا يُقبلان، وأما اليماني الذي لا حجر فيه، فيستلم ولا يُقبل

(4)

.

(1)

فيه نظر؛ فقد قال الشافعي في "الأم": "وأحب أن يقبل الحجر الأسود وإن استلمه بيده قبل يده وأحب أن يستلم الركن اليماني بيده ويقبلها ولا يقبله لأني لم أعلم أحدا روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قبل إلا الحجر الأسود وإن قبله فلا بأس به". "الأم" 2/ 145.

(2)

"السنن الكبرى" 5/ 76 كتاب: الحج، باب: استلام الركن اليماني بيده.

(3)

"مسند الشافعي" 1/ 343 (886) كتاب: الحج، باب: فيما يلزم الحاج بعد دخول مكة إلى فراغه من مناسكه.

(4)

"الأم" 2/ 147.

ص: 385

وروى الدارقطني من حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم كان يُقبل اليماني ويضع خدَّه عليه

(1)

. ورواه الحاكم أيضًا في "مستدركه" بلفظ: أنه قبَّله ووضع خده عليه، ثم قَالَ: هذا حديث صحيح الإسناد

(2)

. ورواه البخاري في "تاريخه" بلفظ: أنه كان إذا استلم الركن اليماني قبله

(3)

.

وأما البيهقي فضعفه كما سلف، ثم قَالَ: والأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ابن عباس في تقبيل الحجر الأسود والسجود عليه، إلا أن يكون أراد بالركن اليماني الحجر الأسود، فإنه أيضًا يسمى بذلك فيكون موافقًا لغيره

(4)

.

وفي "البدائع" من كتب الحنفية: لا خلاف أن تقبيل الركن اليماني ليس بسنة

(5)

، وقال في "الأصل": إن استلمه فحسن، وإن تركه لا يضره، هذا عند أبي حنفية، وقال محمد: يستلمه ولا يتركه

(6)

، وفي "المحيط": يستلمه ولا يقبله، وعن محمد: يستلمه ويقبله، وعنه: يُقبل يده ولا يستلم الركنين الباقيين عند أئمة الحنفية؛ لأن الأولين عَلَى القواعد.

وقال الخرقي: الصحيح عن أحمد أنه لا يقبل الركن اليماني. قَالَ ابن قدامة: وهو قول أكثر أهل العلم

(7)

.

وزعم ابن المنير أن اختصاص الركن مرجح بالسنة، ومستند التعميم الرأي والقياس، وهو قول معاوية السالف، وهذا يُقال بموجبه وليس

(1)

"سنن الدارقطني" 2/ 290 كتاب: الحج، باب: المواقيت.

(2)

"المستدرك" 1/ 456 كتاب: الحج.

(3)

"التاريخ الكبير" 1/ 290 ترجمة (930).

(4)

"السنن الكبرى" 5/ 76.

(5)

"بدائع الصنائع" 2/ 147.

(6)

"الأصل" 2/ 405.

(7)

انظر: "المغني" 5/ 226، وذكر قول الخرقي.

ص: 386

ترك الاستلام هجرانًا، وكيف يهجرها وهو يطوف، فالحجة مع ابن عمر وغيره

(1)

.

وفي كتاب الحميدي من حديث النخعي عن عائشة مرفوعًا: "ما مررت بالركن اليماني قط إلا وجدت جبريل قائمًا عنده" ومن حديث الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس مثله بزيادة:"فيقول: يا محمد، ادن فاستلم" وفي حديث أبي هريرة: "وكَّل الله به سبعين ألف ملك" وفي حديث ابن عمر مرفوعًا: "مسحهما كفارة للخطايا". رواه الحاكم، وقال: صحيح الإسناد عَلَى ما بينته من حال عطاء بن السائب

(2)

، وكذا قَالَ الطحاوي: إنما لم يستلم إلا اليمانيين؛ لأنهما مبنيان عَلَى منتهى البيت مما يليهما بخلاف الآخرين؛ لأن الحجر وراءهما وهو من البيت، وقام الإجماع عَلَى الأولين

(3)

، ومنهم الأربعة وإسحاق، وقد نزع ابن عمر بذلك، حيث قالت له عائشة كما سلف في باب فضل مكة.

وروي عن أنس وجابر ومعاوية وابن الزبير وعروة: أنهم كانوا يستلمون الأركان كلها كما سلف والحجة عند الاختلاف في السنة وكذلك قال ابن عباس لمعاوية حين قال له معاوية: ليس شيءٌ من البيت مهجورًا قال ابن عباس: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة وقال ابن التين: إنما كان ابن الزبير يستلمهن كلهن

(4)

؛ لأنه

(1)

"المتواري" ص 140 - 141.

(2)

"المستدرك" 1/ 489 كتاب: المناسك.

(3)

"شرح معاني الآثار" 2/ 184.

(4)

رواه ابن أبي شيبة 3/ 348 - 349 (14990 - 14993)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" 2/ 183 - 184.

ص: 387

استوفي القواعد، والذي في "الموطأ" أنه عروة بن الزبير

(1)

.

وقال الداودي: جعلهما عوضًا من الركنين الذين بقيا في الحجر،

قَالَ: وظن معاوية أنهما هما ركنا البيت الذي وضع عليه من أول.

(1)

"الموطأ" ص 240 كتاب: المناسك، باب: الاستلام في الطواف بالبيت.

ص: 388

‌60 - باب تَقْبِيلِ الحَجَرِ

1610 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سِنَانٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا وَرْقَاءُ، أَخْبَرَنَا زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: رَأَيْتُ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رضي الله عنه قَبَّلَ الحَجَرَ وَقَالَ: لَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَبَّلَكَ مَا قَبَّلْتُكَ. [انظر: 1597 - مسلم: 1270 - فتح: 3/ 475]

1611 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَرَبِيٍّ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنِ اسْتِلَامِ الحَجَرِ. فَقَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَلِمُهُ وَيُقَبِّلُهُ. قَالَ: قُلْتُ: أَرَأَيْتَ إِنْ زُحِمْتُ؟ أَرَأَيْتَ إِنْ غُلِبْتُ؟ قَالَ: اجْعَلْ أَرَأَيْتَ بِاليَمَنِ، رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَلِمُهُ وَيُقَبِّلُهُ. [انظر: 1606 - مسلم: 1268 - فتح: 3/ 475]

ذكر فيه حديث زيد بن أسلم عن أَبِيهِ قَالَ: رَأَيْتُ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ قَبَّلَ الحَجَرَ وَقَالَ: لَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَبَّلَكَ مَا قَبَّلْتُكَ.

وحديث حماد عن الزبير بن عربي سَأَلَ رَجُلٌ ابن عُمَرَ عَنِ اسْتِلَامِ الحَجَرِ. فَقَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَلِمُهُ وَيُقَبِّلُهُ. قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ زُحِمْتُ؟ أَرَأَيْتَ إِنْ غُلِبْتُ؟ قَالَ: اجْعَلْ أَرَأَيْتَ بِاليَمَنِ، رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَلِمُهُ وَيُقَبِّلُهُ.

الشرح:

الحديث الأول أخرجه مسلم من طريق ابن عمر أيضًا

(1)

، والثاني من أفراد البخاري، وروى الزبير هذا الحديث فقط، وفي بعض نسخه: قَالَ الفربري وجدت في كتاب أبي جعفر: قَالَ أبو عبد الله: الزبير بن عربي بصري، والزبير بن عدي كوفي وعند الترمذي من غير رواية الكروخي: الزبير هذا هو ابن عربي روى عنه حماد بن زيد،

(1)

"صحيح مسلم"(1270) باب: استحباب تقبيل الحجر الأسود في الطواف.

ص: 389

والزبير بن عدي كوفي يكنى أبا سلمة قلت: يروي عن أنس وذكر البخاري وابن أبي حاتم وغيرهما أن أبا سلمة كنية الزبير بن عربي، والزبير بن عدي كنيته أبو عدي

(1)

، ولمَّا. ذكر أبو داود هذا الحديث من رواية، حماد ثَنَا الزبير بن عربي. الحديث وفيه: اجعل أرأيت مع ذَلِكَ الكوكب

(2)

. وقال الجياني: وقع في نسخة الأصيلي عن أبي أحمد: الزبير بن عدي -بدال مهملة- وهو وهم، وصوابه: عربي -بباء موحدة- وكذا رواه سائر الرواة عن الفربري

(3)

.

وفقه الباب سلف.

(1)

"التاريخ الكبير" 3/ 410 (1361، 1363)، "الجرح والتعديل" 3/ 579 - 580 (2632 - 2633)، وانظر:"تهذيب الكمال" 9/ 315، 318 (1969 - 1970).

(2)

"مسند أبي داود الطيالسي" 3/ 390 (1976).

(3)

"تقييد المهمل" 2/ 608.

ص: 390

‌61 - باب مَنْ أَشَارَ إِلَى الرُّكْنِ إِذَا أَتَى عَلَيْهِ

1612 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ المُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَهَّابِ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: طَافَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالبَيْتِ عَلَى بَعِيرٍ، كُلَّمَا أَتَى عَلَى الرُّكْنِ أَشَارَ إِلَيْهِ. [انظر: 1607 - مسلم: 1272 - فتح: 3/ 476]

ذكر فيه حديث ابن عباس: طَافَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالبَيْتِ عَلَى بَعِيرٍ، كُلَّمَا أَتَى عَلَى الرُّكْنِ أَشَارَ إِلَيْهِ.

وقد سلف بفقهه.

ص: 391

‌62 - باب التَّكْبِيرِ عِنْدَ الرُّكْنِ

1613 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ الحَذَّاءُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: طَافَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالبَيْتِ عَلَى بَعِيرٍ، كُلَّمَا أَتَى الرُّكْنَ أَشَارَ إِلَيْهِ بِشَيْءٍ كَانَ عِنْدَهُ وَكَبَّرَ. تَابَعَهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، عَنْ خَالِدٍ الحَذَّاءِ. [انظر: 1607 - مسلم: 1272 - فتح: 3/ 476]

ذكر فيه حديث مسدد: ثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، ثَنَا خَالِدٌ الحَذَّاءُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: طَافَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالبَيْتِ عَلَى بَعِيرٍ، كُلَّمَا أَتَى الرُّكْنَ أَشَارَ إِلَيْهِ بِشَيْءٍ كَانَ عِنْدَهُ وَكَبَّرَ. تَابَعَهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، عَنْ خَالِدٍ الحَذَّاءِ.

هذا الحديث من أفراده، وُيستحب أن يقول أول طوافه وهو حالة استلام الحجر: باسم الله والله أكبر. ويُستحب أيضًا في كل طوفة. نعم، في الأولى آكد.

وقال ابن بطال: التكبير عند الركن دون استلام لا يُفعل اختيارًا، وإنما يفعل؛ لعذر مرض أو زحام الناس عند الحجر

(1)

. وسلف حكم الطواف راكبًا.

(1)

"شرح ابن بطال" 4/ 293.

ص: 392

‌63 - باب مَنْ طَافَ بِالبَيْتِ إِذَا قَدِمَ مَكَّةَ، قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى بَيْتِهِ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّفَا

.

1614 و 1615 - حَدَّثَنَا أَصْبَغُ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرٌو، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، ذَكَرْتُ لِعُرْوَةَ، قَالَ: فَأَخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ رضي الله عنها أَنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ حِينَ قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ تَوَضَّأَ، ثُمَّ طَافَ، ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةً، ثُمَّ حَجَّ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رضي الله عنهما مِثْلَهُ، ثُمَّ حَجَجْتُ مَعَ أَبِي الزُّبَيْرِ رضي الله عنه فَأَوَّلُ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ الطَّوَافُ، ثُمَّ رَأَيْتُ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارَ يَفْعَلُونَهُ، وَقَدْ أَخْبَرَتْنِي أُمِّي أَنَّهَا أَهَلَّتْ هِيَ وَأُخْتُهَا وَالزُّبَيْرُ وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ بِعُمْرَةٍ، فَلَمَّا مَسَحُوا الرُّكْنَ حَلُّوا.

الحديث 1614 - [1641 - مسلم: 1235 - فتح: 3/ 477]

الحديث 1615 - [1642، 1796 - مسلم: 1235 - فتح: 3/ 477]

1616 -

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ المُنْذِرِ، حَدَّثَنَأ أَبُو ضَمْرَةَ أَنَسٌ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا طَافَ فِي الحَجِّ أَوِ العُمْرَةِ أَوَّلَ مَا يَقْدَمُ سَعَى ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ، وَمَشَى أَرْبَعَةً، ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ يَطُوفُ بَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ. [انظر: 1603 - مسلم: 1621 - فتح: 3/ 477]

1617 -

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ المُنْذِرِ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا طَافَ بِالبَيْتِ الطَّوَافَ الأَوَّلَ يَخُبُّ ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ، وَيَمْشِي أَرْبَعَةً، وَأَنَّهُ كَانَ يَسْعَى بَطْنَ المَسِيلِ إِذَا طَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ. [انظر: 1603 - مسلم: 1261 - فتح: 3/ 477]

ذكر فيه حديث محمد بن عبد الرحمن: ذَكَرْتُ لِعُرْوَةَ، قَالَ: فَأَخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ أَنَّ أَوَّلَ شَيءٍ يدأه بِهِ حِينَ قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ تَوَضَّأَ، ثُمَّ طَافَ .. الحديث.

ص: 393

وحديث ابن عمر: أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم كَانَ إذا طَافَ فِي الحَجِّ أَوِ العُمْرَة أَوَّلَ ما يَقْدَمْ سَعَى ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ، وَمَشَى أَرْبَعَةً، ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ يَطوُفُ بَيْنَ الصَفَا وَالمَرْوَةِ.

وحديثه أيضًا: كَانَ إِذَا طَافَ بِالبَيْتِ الطَّوَافَ الأَوَّلَ يَخُبُّ ثَلَاثَةَ أَشواط، وَيَمْشِى أَرْبَعَةً، وَأَنَّهُ كَانَ يَسْعَى بَطْنَ المَسِيلِ إِذَا طَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ.

الشرح:

أما الحديث الأول: فقوله: (ذكرته لعروة)، فالبخاري اختصره من حديث طويل، وأخرجه مسلم من حديث عمرو، عن محمد بن عبد الرحمن، أن رجلًا من أهل العراق قَالَ له: سل عروة عن رجل مهل بالحج، فإذا طاف بالبيت أيحل أم لا؟ فإن قَالَ: لا يحل، فقل له: إن رجلًا يقول ذَلِكَ. ثم ساقه بطوله

(1)

.

وأما حديث ابن عمر فقد سلف بعضه

(2)

، وهو في مسلم أيضًا

(3)

.

إذا تقرر ذَلِكَ فالكلام عليه من أوجه:

أحدها:

أول الحديث قول عائشة إلى قوله: (ثم حج أبو بكر وعمر مثله)، وقوله:(ثم حَججت مع أبي الزبير) إلى آخره. لعروة بن الزبير ومذهبه الإفراد؛ لأنه قَالَ عن عائشة: إنها لم تكن عمرة، ففيه حجة (علي)

(4)

عليها، فيما ذكرت أنه صلى الله عليه وسلم فسخ، إلا أن يؤول أنه أمر به أو يكون

(1)

"صحيح مسلم"(1235) باب: ما يلزم من طاف بالبيت

(2)

برقم (1616).

(3)

"صحيح مسلم"(1261) باب: استحباب الرمل في الطواف والعمرة ..

(4)

كذا صورتها في الأصل ولعلها زائدة.

ص: 394

وهمًا من المحدث عنها.

وقوله: (ثم حججت مع أبي الزبير) كذا لأبي الحسن، ولأبي ذر: مع ابن الزبير. والصواب الأول، والضمير عائد إلى عروة، أي: أنه حج مع والده الزبير، فافهمه.

ثانيها:

غرض البخاري في هذا الباب: أن يبين أن سنة من قدم مكة حاجًّا أو معتمرًا، أن يطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة، فإن كان معتمرًا حل وحلق، وإن كان حاجًّا ثبت عَلَى إحرامه، حَتَّى يخرج إلى منى يوم التروية لعمل حجه، وكذلك قَالَ العلماء: إذا دخل مكة فلا يبدأ بشيء قبل الطواف للاتباع، أو لأنه تحية المسجد الحرام

(1)

.

واستثنى الشافعي من هذا، المرأة الجميلة والشريفة التي لا تبرز للرجال، فيُستحب لها تأخيره ودخول المسجد ليلًا؛ لأنه أستر لها وأسلم من الفتنة

(2)

.

فرع:

الابتداء بالطواف مستحب لكل داخل وإن لم يكن محرمًا، إلا إذا خاف فوت مكتوبة أو سنة راتبة أو مؤكدة أو جماعة مكتوبة، وإن وسع الوقت أو كان عليه فائتة، فإنه يقدم ذَلِكَ كله عَلَى الطواف، ثم يطوف.

(1)

"تبيين الحقائق" 2/ 15، "حاشية رد المحتار" 2/ 492، 493، "المدونة" 1/ 313، "الفروع" 3/ 495، 496، "المبدع" 3/ 213، "كشاف القناع" 2/ 477.

(2)

"الأم" 2/ 145، انظر "البيان" 4/ 273، "المجموع" 8/ 14، 15.

ص: 395

الثالث:

فيه مطلوبية الوضوء للطواف، واختلفوا هل هو واجب أو شرط؟ فعند أبي حنيفة أنه ليس بشرط، فلو طاف عَلَى غير وضوء صح طوافه، فإن كان ذَلِكَ للقدوم فعليه صدقة، وإن كان طواف الزيارة فعليه شاة

(1)

.

الرابع:

قوله: (ثم لم تكن عمرة).

كذا هو في البخاري بعين مهملة من الاعتمار قالوا: وهذا هو الصحيح، ووقع في جميع روايات مسلم:(غيره) بالغين المعجمة ثم ياء وهو تصحيف كما قاله القاضي

(2)

، وكأن السائل إنما سأله عن فسخ الحج إلى العمرة عَلَى مذهب من يراه، واحتج بأمر النبي صلى الله عليه وسلم لهم في حجة الوداع. فأعلمه عروة أنه لم يفعل ذَلِكَ بنفسه ولا من جاء بعده. قَالَ: ويدل عَلَى صحة ذَلِكَ قوله في الحديث نفسه: وآخر من فعل ذَلِكَ ابن عمر ولم ينقضها بعمرة.

وأما النووي فقال: (غيره) صحيحة وليست تصحيفًا؛ لأن قوله: غيره يتناول العمرة وغيرها، والتقدير: ثم حج أبو بكر. فكان أول ما بدأ به الطواف بالبيت، ثم لم يكن غيره أي: لم يغير الحج، ولم ينقله، ولم يفسخه إلى غيره، لا عمرة ولا قران

(3)

.

قَالَ القرطبي: وأفادهم ذَلِكَ أن طوافهم الأول لم يكن للعمرة بل للقدوم

(4)

.

(1)

"مختصر الطحاوي" ص 64، "المبسوط" 4/ 38، 39، "بدائع الصنائع" 2/ 129.

(2)

"كمال المعلم" 4/ 314.

(3)

"صحيح مسلم بشرح النووي" 221/ 8.

(4)

"المفهم" 3/ 362.

ص: 396

وقال ابن بطال: قوله: ثم لم تكن عمرة يعني: أنه صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت، ثم لم يحل من حجه بعمرة من أجل الهدي، وكذلك أبو بكر وعمر افردا الحج، وقال ابن المنذر: سنَّ الشارع للقادمين المحرمين بالحج تعجيل الطواف، والسعي بين الصفا والمروة عند دخولهم، وفعل هو ذَلِكَ عَلَى ما روته عائشة وأمر من حل من أصحابه أن يحرموا إذا انطلقوا إلى منى، فإذا أحرم من هو منطلق إلى منى، فغير جائز أن يكون طائفًا وهو منطلق إلى منى. فدل هذا الحديث عَلَى أن من أحرم من مكة من أهلها أو غيرهم أن يؤخروا طوافهم وسعيهم إلى يوم النحر، بخلاف فعل القادمين؛ لتفريق السنة بين الفريقين، وأيضًا فإن هذا هو طواف القدوم، وليس من إنشاء الحج من مكة، واردًا بحجه عليها، فسقط بذلك عنهم تعجيله.

وكان ابن عباس يقول: يا أهل مكة، إنما طوافكم بالبيت وبين الصفا والمروة يوم النحر، وأما أهل الأمصار فإذا قدموا، وكان يقول: لا أرى لأهل مكة أن يحرموا بالحج حَتَّى يخرجوا، ولا أن يطوفوا بين الصفا والمروة حَتَّى يرجعوا، هذا قول ابن عمر وجابر. وقالوا: من أنشا الحج من مكة فحكمه حكم أهل مكة.

قَالَ ابن المنذر: هذا قول مالك وأهل المدينة وطاوس، وبه قَالَ أحمد وإسحاق، واختلف قول مالك فيمن طاف وسعى قبل خروجه، فكان يقول: يعيد إذا رجع ولا يجزئه طوافه الأول ولا سعيه، وقال أيضًا: إن رجع إلى بلاده قبل أن يعيد فعليه دم

(1)

، ورخصت طائفة في ذَلِكَ، ورأت المكي ومن دخل مكة إن طافا وسعيا قبل خروجهما، أن ذَلِكَ جائز، هذا قول عطاء والشافعي، غير أن عطاء كان يرى

(1)

"المدونة" 1/ 302.

ص: 397

تأخيره أفضل، وقد فعل ذَلِكَ ابن الزبير، أهلَّ لما أهلَّ هلال ذي الحجة، ثم طاف وسعى وخرج، وأجازه القاسم بن محمد، وقال عطاء: منزلة من جاور بمنزله أهل مكة إن أحرم أول العشر، طاف حين يحرم، وإن أخَّرَ إلى يوم التروية أَخَّر الطواف إلى يوم النحر.

واختلفوا فيمن قَدم مكة فلم يطف حَتَّى أتى منى، فقالت طائفة: عليه دم، هذا قول أبي ثور، واحتج بقول ابن عباس: من ترك من نسكه شيئًا فليهرق لذلك دمًا. وحكى أبو ثور عن مالك أنه يجزئه طواف الزيارة لطواف الدخول والزيارة والصدر

(1)

، وحكى غيره عن مالك أنه إن كان مراهقًا فلا شيء عليه، فإن دخل غير مراهق فلم يطف حَتَّى مضى إلى عرفات، فإنه يهريق دمًا؛ لأنه فرط في الطواف حين قدم حَتَّى أتى إلى عرفات

(2)

، وقال أبو حنيفة والشافعي وأشهب: لا شيء عليه إن ترك طواف القدوم

(3)

.

قَالَ ابن المنذر: أجمع أهل العلم عَلَى أن من ترك طواف القدوم وطاف للزيارة، ثم رجع إلى بلده، أن حجه تام، ولم يوجبوا عليه الرجوع كما أوجبوه عليه في طواف الإفاضة، فدل إجماعهم عَلَى ذَلِكَ أن طواف القدوم ليس بفرض، وفي وجهٍ بعيد عندنا: أنه يلزمه بتركه دم، فإن آخره ففي فواته وجهان حكاهما إمام الحرمين؛ لأنه يشبه تحية المسجد، وكان ابن عمر، وسعيد بن جبير ومجاهد والقاسم بن محمد لا يرون باسًا إذا طاف الرجل أول النهار أن يؤخر

(1)

"المدونة" 1/ 317.

(2)

"المدونة" 1/ 298.

(3)

"المبسوط" 4/ 34، "البناية" 4/ 81، "البيان" 2/ 273، "المجموع" 8/ 15، 16.

ص: 398

السعي حَتَّى يبرد

(1)

، وكذا قَالَ أحمد

(2)

وإسحاق: إذا كانت به علة، وقال الثوري: لا بأس إذا طاف أن يدخل الكعبة، فإذا خرج سعى.

خامسها:

قوله: (وأخبرتني أمي أنها أهلت هي وأختها)، يُريد بأختها: عائشة، وأمه: أسماء رضي الله عنهما.

وقوله: (فلما مسحوا الركن حلوا)، يريد: بعد أن سعوا بين الصفا والمروة؛ لأن العمرة إنما هي الطواف والسعي، ولا يحل من قدم مكة بأقل من هذا، فخشي البخاري أن يتوهم متوهم أن قوله: لما مسحوا الركن حلوا أن العمرة إنما هي الطواف بالبيت فقط، فإن المعتمر يحل به دون السعي، وهو مذهب ابن عباس، وروي عنه أنه قَالَ: العمرة الطواف، وقال به إسحاق بن راهويه، ويمكن أن يحتج من قَالَ هذا بقراءة ابن مسعود:(وأتموا الحج والعمرة إلى البيت). أي: أن العمرة لا يجاوز بها البيت، فأراد البخاري بيان فساد هذا التأويل بما أردف في آخر الباب من حديث ابن عمر: أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا قدم مكة للحج أو العمرة طاف بالبيت وسعى. وعلى هذا جماعة فقهاء الأمصار

(3)

.

وقال ابن التين: يُريد بالركن ركن المروة، وأما ركن البيت فلا يحل بمسحه حتى يسعى، ولا بأس بما ذكره، ثم قَالَ: إن كان يريد أنها أخبرته عن حجة الوداع فغلط؛ لأن عائشة لم تدخل بعمرة، وكان

(1)

رواه ابن أبي شيبة 3/ 241 (13922) كتاب: الحج، باب: في التفريق بين الطواف والسعي.

(2)

انظر "المغني" 5/ 240.

(3)

انتهى من "شرح ابن بطال" 4/ 295 - 297.

ص: 399

الزبير وأسماء ممن فسخ الحج في عمرة ذَلِكَ العام، وإن كان غيَّرها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلعلة، وهذا قليل.

سادسها:

في حديث ابن عمر: أنه بعد أن سجد سجدتين سعى بين الصفا والمروة.

وثبت في "صحيح مسلم" من حديث جابر الطويل: أنه صلى الله عليه وسلم لما فرغ من ركعتي الطواف رجع إلى الركن فاستلمه، ثم خرج إلى الصفا والسعي بينهما سبعًا، ذهابه من الصفا إلى المروة مرة، وعوده منها إلى الصفا أخرى، وهكذا سبعًا يبدأ بالصفا ويختم بالمروة

(1)

، وقيل إن الذهاب والإياب مرة واحدة، قَالَه ابن بنت الشافعي، وأبو بكر الصيرفي من أصحابنا.

وقوله: وكان يسعى ببطن المسيل إذا طاف بين الصفا والمروة، هذا هو المشهور من فعله صلى الله عليه وسلم وعليه جماعة الفقهاء.

وروي عن ابن عمر التخيير في ذَلِكَ وقال: إن مشيتهُ فقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يمشي، وروي عنه: طفت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أره يسعى ورأيتهم سعوا، ولا أراهم سعوا إلا لسعيه

(2)

. ويحتمل أن يكون ذَلِكَ في موطن.

فرع:

موضع السعي بينهما معروف، وقد عملت الخلفاء ذَلِكَ حَتَّى صار إجماعًا، وصفة السعي أن يكون سعيًا بين سعيين وهو الخبب.

(1)

"صحيح مسلم"(1218) كتاب: الحج، باب: حجة النبي صلى الله عليه وسلم.

(2)

رواه ابن عبد البر في "تمهيده" 2/ 103.

ص: 400

فرع:

لو تركه فقال مالك مرة: عليه الدم. ثم رجع.

فرع:

المرأة لا تسعى بل تمشي؛ لأنه أستر لها، وقيل: إن سعت في الخلوة بالليل سعت كالرجل، وفروع السعي محلها الفروع.

ص: 401

‌64 - باب طَوَافِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ

1618 -

وَقَالَ [لِي] عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنَا قَالَ: أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ -إِذْ مَنَعَ ابْنُ هِشَامٍ النِّسَاءَ الطَّوَافَ مَعَ الرِّجَالِ- قَالَ: كَيْفَ يَمْنَعُهُنَّ، وَقَدْ طَافَ نِسَاءُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَعَ الرِّجَالِ؟! قُلْتُ: أَبَعْدَ الحِجَابِ أَوْ قَبْلُ؟ قَالَ: إِي لَعَمْرِي، لَقَدْ أَدْرَكْتُهُ بَعْدَ الحِجَابِ. قُلْتُ: كَيْفَ يُخَالِطْنَ الرِّجَالَ؟ قَالَ: لَمْ يَكُنَّ يُخَالِطْنَ، كَانَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها تَطُوفُ حَجْرَةً مِنَ الرِّجَالِ لَا تُخَالِطُهُمْ، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ: انْطَلِقِي نَسْتَلِمْ يَا أُمَّ المُؤْمِنِينَ. قَالَتْ: [انْطَلِقِي] عَنْكِ. وَأَبَتْ. [وَكُنَّ] يَخْرُجْنَ مُتَنَكِّرَاتٍ بِاللَّيْلِ، فَيَطُفْنَ مَعَ الرِّجَالِ، وَلَكِنَّهُنَّ كُنَّ إِذَا دَخَلْنَ البَيْتَ قُمْنَ حَتَّى يَدْخُلْنَ وَأُخْرِجَ الرِّجَالُ، وَكُنْتُ آتِي عَائِشَةَ أَنَا وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَهِيَ مُجَاوِرَةٌ فِي جَوْفِ ثَبِيرٍ، قُلْتُ: وَمَا حِجَابُهَا؟ قَالَ: هِىَ فِي قُبَّةٍ تُرْكِيَّةٍ لَهَا غِشَاءٌ، وَمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهَا غَيْرُ ذَلِكَ، وَرَأَيْتُ عَلَيْهَا دِرْعًا مُوَرَّدًا. [فتح: 3/ 479]

1619 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَوْفَلٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: شَكَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنِّي أَشْتَكِي. فَقَالَ: "طُوفِي مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ، وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ". فَطُفْتُ وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَئِذٍ يُصَلِّي إِلَى جَنْبِ البَيْتِ، وَهْوَ يَقْرَأُ {وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2)} [الطور: 1، 2]. [انظر: 464 - مسلم: 1276 - فتح: 3/ 480]

- وَقَالَ [لِي] عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: نَا قَالَ: أَنَا قَالَ: أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ -إِذْ مَنَعَ ابْنُ هِشَامٍ النِّسَاءَ الطَّوَافَ مَعَ الرِّجَالِ- قَالَ: كَيْفَ يَمْنَعُهُنَّ، وَقَدْ طَافَ نِسَاءُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَعَ الرِّجَالِ؟! قُلْتُ: أَبَعْدَ الحِجَابِ أَوْ قَبْلُ؟ .. الحديث.

وهو من أفراده، وهو من باب العرض والمذاكرة أعني قوله: وقال

ص: 402

لي عمرو. وفي بعض النسخ إسقاطها، والأول هو ما في الأصول و"أطراف خلف"، وكذا ذكره البيهقي

(1)

، وصاحبا المستخرجين، زاد أبو نعيم: وهو حديث عزيز ضيق، ثم قَالَ: وحَدَّثَنَا محمد بن إبراهيم، ثَنَا الحميدي، ثَنَا أبو حميد، ثَنَا أبو قرة قَالَ: ذكر ابن جريج: أخبرني عطاء: إذ منع ابن هشام النساء الطواف، فذكره عن قصة الخروج مع عبيد بن عمير، ورواه عبد الرزاق عن ابن جريج وفيه: إذا دخلن البيت سترن حين يدخلن مكان قمن حتى يدخلن، وابن جريج هو راويه عن عطاء وهو السائل عن هذِه القصة وبينهما جرى الخطاب، وعطاء هو القائل: وكنت آتي عائشة أنا وعبيد بن عمير.

وابن هشام هو إبراهيم بن هشام بن إسماعيل بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، خال هشام بن عبد الملك بن مروان ووالي المدينة، كما قاله الكلبي وأخو محمد بن هشام، وكانا خاملين قبل الولاية، وفي إبراهيم يقول أبو زيد الأسلمي: وكان قصده بمدحٍ أوله: يا ابن هشام يا أخا الكرام، فقال إبراهيم: وإنما أنا أخوهم، وكأني لست منهم، ثم أمر به فضرب بالسياط، فقال يهجوه ويذكر حاله وخموله، فيما ذكره المبرد في "كامله".

قَالَ الأصمعي: ما رويت للعرب في الهجاء مثلها. قَالَ خليفة بن خياط في "تاريخه": وفي سنة خمس وعشرين ومائة كتب الوليد بن يزيد إلى يوسف بن عمر يقدم عليه خالد بن عبد الله القسري ومحمدًا وإبراهيم ابني هشام بن إسماعيل المخزوميين، وأمره بقتلهم فعذبهم حَتَّى ماتوا

(2)

.

(1)

"السنن الكبرى" 5/ 78 كتاب: الحج، باب: طواف النساء مع الرجال.

(2)

"تاريخ خليفة بن خياط" 1/ 101.

ص: 403

وقول عطاء: (قد طاف نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الرجال)

(1)

، يريد: أنهم طافوا في وقت واحد غير مختلطات بالرجال؛ لأن سنتهن أن يطفن ويصلين من وراء الرجال ويستترن عنهم كما في حديث أم سلمة الآتي.

وفيه: أنَّ السنة إذا أراد النساء دخول البيت أن يخرج الرجال عنه بخلاف الطواف.

وفيه: طوافهن متنكرات.

وفيه: طواف الليل.

وفيه: سفر نسائه بعده وحجهن.

وفيه: رواية المرأة عن المرأة.

وفيه: كما قَالَ الداودي: النقاب للنساء في الإحرام.

وفيه: المجاورة بمكة، وهو نوع من الاعتكاف، وهو ضربان: مجاورة ليلًا ونهارًا، ومجاورة نهارًا فقط.

وفيه: جواز المجاورة في الحرم كله، وإن لم يكن في المسجد الحرام، كذا قَالَ ابن بطال، قَالَ: لأن ثبيرا خارج مكة وهو في طريق منى

(2)

.

قلتُ: ذكر ياقوت أنَّ بمكة شرفها الله سبعة أجبل كل منها يُسمى ثبيرًا بفتح المثلثة ثم باء موحدة ثم ياء مثناة تحت ثم راء.

أولها: أعظم جبالها بينها وبين عرفة

(3)

، وهو المراد بقولهم: أشرق ثبير كيما نغير، وسيأتي في بابه، قَالَ البكري: ويُقال: ثبير الأثبرة، وقال

(1)

"مصنف عبد الرزاق" 5/ 66 - 67 (9018) كتاب: المناسك، باب: طواف الرجال والنساء معًا.

(2)

"شرح ابن بطال" 4/ 299.

(3)

"معجم البلدان" 2/ 72 - 73.

ص: 404

الأصمعي: هو ثبير حراء

(1)

.

ثانيها: ثبير الزنج؛ لأن الزنج كانوا يلعبون عنده.

ثالثها: ثبير الأعرج.

رابعها: ثبير الخضراء.

خامسها: ثبير النصع، وهو جبل المزدلفة عَلَى يسار الذاهب إلى منى.

سادسها: ثبير غينى

(2)

.

سابعها: ثبير الأحدب. قَالَ البكري: وهو عَلَى الإضافة وكذا ضبطناه، وحكاه ابن الأنباري عَلَى النعت

(3)

، وقال الزمخشري: ثبير جبلان متفرقان تصب بينهما أفاعية، وهي واد يصب من منى يُقال لأحدهما: ثبير عيناء، وللآخر: ثبير الأعرج.

وقوله: وكانت عائشة تطوف حَجْرَةً من الرجال. أي: ناحية أخرى.

كما قَالَ الفراء من قولهم: نزل فلان حجرة من الناس أي: معتزلًا ناحية وهو بفتح الحاء وسكون الجيم. قَالَ صاحب "المطالع": لا غير. قلتُ: لا. فقد قَالَ ابن سيده: وقعد حجرة. وحجرة أي: ناحية وجمعها: حواجر عَلَى غير قياس

(4)

. وبخط الدمياطي: الجمع: حجرات، وحكى الضم أيضًا: حجرة ابن عديس في "مثناه"، وفي ابن بطال، وقال عبد الرزاق: يعني محجورًا بينها وبين الناس بثوب

(5)

.

(1)

"معجم ما استعجم" 1/ 336.

(2)

ذكرهم ياقوت في "معجم البلدان" 2/ 72 - 73.

(3)

انظر: التخريج السابق.

(4)

"المحكم" 3/ 48.

(5)

"شرح ابن بطال" 4/ 300.

ص: 405

والتركية: قبة صغيرة من لبود.

وذكر فيه أيضًا حديث أم سلمة أم المؤمنين قالت: شَكَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنِّي أَشْتَكِي. فَقَالَ: "طُوفِي مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ وَأَنْتِ رَاكبَةٌ". فَطُفْتُ وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَئِذٍ يُصَلِّي إِلَى جَنْبِ البَيْتِ، وَهْوَ يَقْرَأ {وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2)}

وهذا الحديث سلف في الصلاة في القراءة في الفجر

(1)

. فإن قراءته بالطور كانت في الفجر، وذكره بعد هذا في باب من صلى ركعتي الطواف خارجًا من المسجد أنه صلى الله عليه وسلم قَالَ لها:"إذا أقيمت صلاة الصبح فطوفي عَلَى بعيرك والناس يصلون"

(2)

ففعلت ذَلِكَ فلم يصل حَتَّى خرجت ولما شكت إليه أنها لا تُطيق الطواف ماشية لضعفها، فقال:"طوفي راكبة". ففيه: إشعار بوجوب المشي لغير المعذور، وقد سلف ما فيه، وعند المالكية تركب بعيرًا غير جلالة لطهارة بوله

عندهم، إذ لا يؤمن أن يكون ذَلِكَ منه في المسجد. قالوا: وإن كان محمولًا فيكون حامله لا طواف عليه، وعللوه بأن الطواف صلاة فلا يُصلي عن نفسه وغيره

(3)

، وعندنا فيه تفصيل محله كتب الفروع، وفيه: طواف النساء من وراء الرجال.

قَالَ ابن التين: ويحتمل أن يكون طوافها طوافًا واجبًا وهو الأظهر.

قَالَ: ويحتمل أن يكون طواف الوداع. قَالَ: وفيه: الصلاة بجنب البيت والجهر بالقراءة، وعن سحنون أنها كانت نافلة، وحديث البخاري أنه في الصبح يردّه.

(1)

سلف معلقًا قبل الرواية (771).

(2)

سيأتي برقم (1626).

(3)

"المنتقى" 2/ 295.

ص: 406

‌65 - باب: الكَلَامِ فِي الطَّوَافِ

1620 -

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ: أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ الأَحْوَلُ، أَنَّ طَاوُسًا أَخْبَرَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَرَّ وَهُوَ يَطُوفُ بِالكَعْبَةِ بِإِنْسَانٍ رَبَطَ يَدَهُ إِلَى إِنْسَانٍ بِسَيْرٍ، أَوْ بِخَيْطٍ، أَوْ بِشَيْءٍ غَيْرِ ذَلِكَ، فَقَطَعَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ:"قُدْهُ بِيَدِهِ". [1621، 6702، 6703 - فتح: 3/ 482]

ذكر فيه حديث ابن عباس: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَرَّ وَهُوَ يَطُوفُ بِالكَعْبَةِ بِإِنْسَانٍ رَبَطَ يَدَهُ إِلَى إِنْسَانٍ بِسَيْرٍ، أَوْ خَيْطٍ، أَوْ بِشَيءٍ غَيْرِ ذَلِكَ، فَقَطَعَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ:"قُدْهُ بِيَدِهِ" هذا الحديث من أفراده.

وترجم له بعد:

ص: 407

‌66 - باب إِذَا رَأَى سَيْرًا أَوْ شَيْئًا يُكْرَهُ فِي الطَّوَافِ قَطَعَهُ

1621 -

حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ الأَحْوَلِ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلًا يَطُوفُ بِالكَعْبَةِ بِزِمَامٍ أَوْ غَيْرِهِ فَقَطَعَهُ. [انظر: 1620 - فتح: 3/ 483]

وذكره بلفظ: أنه رأى رجلًا يطوف بالكعبة بزمام، أو غيره، فقطعه.

وخرجه في كتاب الأيمان والنذور بلفظ: بإنسان يقول إنسانًا بخزامة في أنفه فقطعها النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أمره أن يقوده بيده

(1)

.

وفي رواية للحاكم مصححة: مرَّ برجل قد رُبق بسير، أو خيط أو بشيء غير ذَلِكَ، فقطعه وقال:"قده بيدك"

(2)

.

وكأن البخاري أشار أيضًا إلى حديث ابن عباس مرفوعًا: "الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله قد أحل لكم فيه الكلام، فمن تكلم فلا يتكلم إلا بخير".

صححه الحاكم، وابن حبان، والبيهقيُّ صحح وقفه

(3)

، وقد

(1)

سيأتي برقم (6703) باب: النذر فيما لا يملك.

(2)

"المستدرك" 1/ 460 كتاب: المناسك، قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

(3)

"المستدرك" 1/ 459 كتاب: المناسك، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقد أوقفه جماعة.

"صحيح ابن حبان" 9/ 143 - 144 (3836) كتاب: الحج، باب: دخول مكة.

"السنن الكبرى" 5/ 87 كتاب: الحج، باب: الطواف على طهارة، وقال البيهقي: ووقفه عبد الله بن طاوس، وإبراهيم بن ميسرة في الرواية الصحيحة.

ص: 408

أوضحت طرقه في تخريجي لأحاديث الرافعي، فليراجع منه

(1)

. وروى الشافعي، عن سعيد بن سالم، عن حنظلة، عن طاوس، عن ابن عمر أنه قَالَ: أقلوا الكلام في الطواف؛ فإنما أنتم في صلاة

(2)

. وعن إبراهيم بن نافع قَالَ: كلمت طاوسًا في الطواف فكلمني

(3)

.

وفي كتاب الجندي من حديث إسماعيل بن عياش، ثَنَا حميد بن أبي سويد، سمعتُ أبا هاشم يسأل عطاء بن أبي رباح عن الطواف، فقال: أخبرني أبو هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ:"من طاف بالبيت سبعًا ما يتكلم إلا: بسبحان الله، والحمدُ لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، مُحيت عنه عشر سيئات، وكتبت له عشر حسنات، ورفع له عشر درجات"

(4)

.

قلتُ: لا جرم كان عطاء يكره الكلام فيه، إلا الشيء اليسير فيما حكاه ابن عبد البر، وعن مجاهد أنه كان يقرأ عليه القرآن في الطواف

(5)

، وقال مالك: لا أرى ذَلِكَ، وليقبل عَلَى طوافه

(6)

.

(1)

"البدر المنير" 2/ 487 - 498 والحديث صححه الألباني في "الإرواء"(121).

(2)

"الأم" 2/ 173، و"المسند" 1/ 348 (988).

(3)

"الأم" 2/ 173.

(4)

هذا الحديث رواه ابن ماجه (2957) كتاب: المناسك، باب: فضل الطواف، والطبراني في "الأوسط" 8/ 201 - 202 (8400)، وابن عدي في "الكامل" 3/ 78، وذكره العجلوني في "كشف الخفاء" 2/ 260 وقال: أخرجه الطبراني في "الأوسط" وابن ماجه بسند ضعيف.

وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع"(5683)، وانظر:"ضعيف الترغيب والترهيب" 1/ 359 (721).

(5)

رواه عبد الرزاق في "المصنف" 5/ 495 (9785) كتاب: الحج، باب: القراءة في الطواف والحديث، والفاكهي في "أخبار مكة" 1/ 207 (347).

(6)

"الاستذكار" 12/ 197.

ص: 409

ورواه الحليمي من أصحابنا أيضًا. وقال الشافعي: أنا أحب القراءة في الطواف، وهو أفضل ما تكلم به الإنسان

(1)

. والأصح عند أصحابه أن الإقبال عَلَى مأثور الدعاء أفضل للتأسي، وهو أفضل من غير مأثوره

(2)

. وعن الجويني أنه يحرص عَلَى أن يختم أيام الموسم في طوافه ختمة.

فرع:

يكره له الأكل والشرب، والشرب أخف حالًا؛ لأنه صلى الله عليه وسلم شرب ماءً فيه. رواه الحاكم من حديث ابن عباس، وقال: غريب صحيح

(3)

.

تتمة لما مضى.

قَالَ ابن المنذر: أولى ما شغل به المرء نفسه في الطواف: ذكر الله، وقراءة القرآن، ولا يشتغل فيه بما لا يجدي عليه نفعه في الآخرة، مع أنا لا نحرم الكلام المباح فيه، غير أن الذكر أسلم؛ لأن من تخطى الذكر إلى غيره لم يأمن أن يخرجه ذَلِكَ إلى ما لا تحمد عاقبته.

وقد قَالَ ابن عباس: الطواف صلاة، ولكن الله قد أذن لكم فيه بالكلام، فمن نطق فلا ينطق إلا بخير

(4)

، وقال عطاء: كانوا يطوفون ويتحدثون

(5)

.

(1)

"الأم" 2/ 147.

(2)

انظر "البيان" 4/ 287، "روضة الطالبين" 3/ 85.

(3)

"المستدرك" 1/ 460 كتاب: المناسك.

(4)

رواه عبد الرزاق في "المصنف" 5/ 496 (9791) كتاب: الحج، باب: القراءة في الطواف والحديث، وابن أبي شيبة في "المصنف" 3/ 134 (12806) كتاب: الحج، في الكلام من كرهه في الطواف.

(5)

رواه عبد الرزاق في "المصنف" 5/ 495 (9784)، والفاكهي في "أخبار مكة" 1/ 209 (354).

ص: 410

قَالَ: وقال مالك: لا بأس بالكلام فيه، فأما الحديث فاكرهه في الواجب

(1)

، كذا قيده ابن التين به بعد أن حكى خلافًا عن أصحابهم في الكراهة فيه، وعن "الموطأ": لا أحب الحديث فيه

(2)

.

وعن ابن حبيب: الوقوف للحديث في السعي والطواف أشد بغير وقوف، وهو في الطواف الواجب أشد، ثم حكى خلافًا في الكلام فيه بغير ذكر ولا حاجة

(3)

.

قَالَ ابن المنذر: واختلفوا في قراءة القرآن، فقال ابن المبارك: ليس شيء أفضل من قراءة القرآن، واستحبه الشافعى وأبو ثور، وقال الكوفيون: إذا قرأ في نفسه.

وكرهت طائفة قراءة القرآن، وروي ذَلِكَ عن عروة والحسن ومالك، وقال مالك: وما القراءة فيه من عمل الناس القديم، ولا بأس به إذا أخفاه ولا يُكثر منه

(4)

. وقال عطاء: قراءة القرآن في الطواف مُحدَث

(5)

.

قَالَ ابن المنذر: والقراءة أحب إليَّ من التسبيح، وكل حسن.

ومن أباح القراءة في الطُّرق والبوادي، ومنعه الطائف متحكم مدع لا حجة له به.

فائدة:

ينبغي أن يفتتح الطواف بالتوحيد، كما تفتتح الصلاة بالتكبير، ويخشع لربه، ويعقل بيت مَن يطوف، ولمعروف مَن يتعرض، وليسأل

(1)

انظر "النوادر والزيادات" 2/ 375.

(2)

"الموطأ" 1/ 507 (1309) كتاب: المناسك، جامع ما جاء في الطواف.

(3)

المصدر السابق.

(4)

المصدر السابق وانظر "المدونة" 1/ 318.

(5)

رواه عبد الرزاق في "المصنف" 5/ 495 (9784).

ص: 411

غفران ذنوبه، والتجاوز عن سيئاته، ويشغل نفسه بذلك وخواطره، ويترك أمور الدنيا، كما فعل ابن عمر حين خطب إليه عروة بن الزبير ابنته في الطواف، فلم يرد عليه كلامًا، فلما جاء إلى المدينة لقيه عروة، فقال له ابن عمر: أدركتني في الطواف، ونحن بمرأى من الله بين أعيننا؛ فذلك الذي منعني أن أرد عليك. ثم زوَّجه

(1)

.

والذي سأل عروة باب من أبواب المباح فأبى ابن عمر أن يجيبه تعظيمًا لله، إذ هو طائف ببيته الحرام.

تنبيه: في قطعه عليه السلام السير من يد الطائف من الفقه أنه يجوز للطائف فعل ما خف من الأفعال، وأنه إذا رأى منكرًا فله أن يغيره بيده، وإنما قطعه -والله أعلم- لأن القَوْد بالأزِمَّة إنما يفعل بالبهائم، وهو مُثلةٌ.

وفيه: أن من نذر ما لا طاعة فيه، لا يلزمه. ذكره الداودي، واعترضه ابن التين فقال: ليس هنا نذر ذلك، وغفل أنه ذكره في النذور، كما أسلفناه، قَالَ: وظاهره أنه كان ضرير البصر، وأنه فعله لذلك؛ لأنه قَالَ:"قده بيده". والسير: الشراك.

فرع:

يجوز له إنشاد الشعر والرجز في الطواف إذا كان مباحًا، قاله الماوردي، واستشهد له بشواهد، وتبعه صاحب "البحر".

فرع:

يُكره له أيضًا البيع والشراء فيه إلا لحاجة.

(1)

رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" 4/ 167 - 168، والفاكهي في "أخبار مكة" 1/ 204 (339).

ص: 412

فرع:

يُكره أن يبصق فيه أو يتنخم أو يغتاب أو يشتم ولا يفسد طوافه بشيء من ذَلِكَ وإن أثم، صرح به الماوردي.

فرع:

قيل: لا يكره التعليم فيه كما في الاعتكاف، قاله الروياني هناك.

فرع:

يكره أن يضع يده عَلَى فيه كما في الصلاة، قاله الروياني هنا، نعم لو احتاج إليه في التثاؤب، فلا كراهة كما في الصلاة.

فرع:

لو طافت منتقبة وهي غير محرمة، فمقتضى مذهبنا كراهته كما في الصلاة

(1)

، وحكى ابن المنذر عن عائشة أنها كانت تطوف منتقبة

(2)

، وبه قَالَ أحمد وابن المنذر

(3)

، وكرهه طاوس، وغيره

(4)

.

(1)

انظر "أسنى المطالب" 1/ 483، "مغني المحتاج" 1/ 491، "نهاية المحتاج" 3/ 288.

(2)

رواه عبد الرزاق في "المصنف" 5/ 24 - 25 (8859) كتاب: الحج، باب: طواف المرأة منتقبة، والأزرقي في "أخبار مكة" 2/ 14، والفاكهي في "أخبار مكة" 1/ 233 (428).

(3)

انظر "المجموع" 8/ 83.

(4)

رواه عبد الرزاق 5/ 25 (8861) كتاب: الحج، باب: طواف المرأة منتقبة، والأزرقي في "أخبار مكة" 2/ 14، والفاكهي في "أخبار مكة" 1/ 233 - 234 (429 - 432) وانظر:"النوادر والزيادات" 2/ 375.

ص: 413

‌67 - باب لَا يَطُوفُ بِالبَيْتِ عُرْيَانٌ، [وَلَا يَحُجُّ مُشْرِكٌ]

(1)

1622 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، قَالَ يُونُسُ: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: حَدَّثَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَخْبَرَهُ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رضي الله عنه بَعَثَهُ فِي الحَجَّةِ التِي أَمَّرَهُ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ حَجَّةِ الوَدَاعِ يَوْمَ النَّحْرِ فِي رَهْطٍ، يُؤَذِّنُ فِي النَّاسِ:"أَلَا لَا يَحُجُّ بَعْدَ العَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفُ بِالبَيْتِ عُرْيَانٌ". [انظر: 369 - مسلم: 1347 - فتح: 3/ 483]

ذكر فيه حديث أبي هريرة:

اُّنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ بَعَثَهُ فِي الحَجَّةِ التِي أَمَّرَهُ عَلَيْهِا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ حَجَّةِ الوَدَاعِ يَوْمَ النَّحْرِ فِي رَهْطٍ، يُؤَذِّنُ فِي النَّاسِ أن:"لَا يَحُجُّ بَعْدَ العَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفُ بِالبَيْتِ عُرْيَانٌ".

هذا الحديث ذكره في أوائل الصلاة كما سلف، وفي آخره. قَالَ حميد بن عبد الرحمن: ثم أردف رسول الله صلى الله عليه وسلم عليًّا، فأمرهُ أن يؤذن ببراءة. قَالَ أبو هريرة: فأذن معنا عليّ .. الحديث

(2)

.

وفي المغازي قَالَ أبو عبد الله: وذلك في سنة تسع

(3)

، وفي لفظ: قَالَ الزهري: فكان حميد بن عبد الرحمن يقول: يوم النحر يوم الحج الأكبر، من أجل حديث أبي هريرة

(4)

.

وفي الجزية فنبذ أبو بكر إلى الناس في ذَلِكَ العام، فلم يحج في العام

(1)

ليست في الأصل وهي في اليونينية 2/ 153، ولم يعلق عليها.

(2)

سلف هذا الحديث برقم (369) باب: ما يستر من العورة.

(3)

سيأتي برقم (4363) باب: حج أبي بكر بالناس في سنة تسع.

(4)

سيأتي برقم (4657) كتاب: التفسير، باب:{إلاَّ اَلذِينَ عَهَدتُم مِنَ اَلمُشركِينَ} .

ص: 414

المقبل مشرك

(1)

، فأنزل الله تعالى:{إِنَّمَا اَلمُشرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28]، وكان المشركون يوافون بالتجارة، فقال تعالى:{وَإِن خِفتُم عَيْلَة} [التوبة: 28] الآية، ثم أحل في الآية التي فيها تتبعنا الجزية، ولم تؤخذ قبل ذَلِكَ فجعله عوضًا مما منعهم من موافاة المشركين بتجاراتهم فقال:{قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِاليَوْمِ الآخِرِ} [التوبة: 29] الآية، فلما أحل الله ذَلِكَ للمسلمين علموا أنه قد عاضهم أفضل مما خافوا، ووجدوا عليه مما كان المشركون يوافون به من التجارة. وقد سلف فقه الباب هناك، وأنه حجة لاشتراط ستر العورة في الطواف.

قَالَ السهيلي: كان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم من تبوك أراد الحج، فذكر مخالطة المشركين للناس في حجهم، وتلبيتهم بالشرك، وطوافهم عراة بالبيت. وكانوا يقصدون بذلك أن يطوفوا كما وُلدِوا بغير الثياب التي أذنبوا فيها وظلموا، فأمسك عن الحج في ذَلِكَ العام، وبعث أبا بكر بسورة براءة لينبذ إلى كل ذي عهد عهده من المشركين إلا بعض بني بكر الذين كان لهم عهد إلى أجل خاص، ثم أردف بعلي فرجع أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هل أُنزل في قرآن؟ قَالَ: "لا، ولكن أردت أن يبلغ عني من هو من أهل بيتي". قَالَ أبو هريرة: فأمرني علي أن أطوف في المنازل من منى ببراءة، فكنتُ أصيح حَتَّى ضحل حلقي فقلتُ له: بم كنت تنادي؟ قَالَ: بأربع: أن لا يدخل الجنة إلا مؤمن، وأن لا يحج بعد العام مشرك، وأن لا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عهد فله أجل أربعة أشهر، ثم لا عهد له، وكان المشركون إذا سمعوا النداء ببراءة يقولون لعلي:

(1)

سيأتي برقم (3177) باب: كيف ينبذ إلى أهل العهد.

ص: 415

سترون بعد الأربعة الأشهر أنه لا عهد بيننا وبين ابن عمك إلا الطعن والضرب، ثم إن الناس في تلك المدة رغبوا في الإسلام حَتَّى دخلوا فيه طوعًا وكرهًا

(1)

.

وكانوا بالبيت عَلَى أصناف ثلاثة فالحمس فيما ذكر ابن إسحاق أن قريشًا ابتدعت بعد الفيل -أو قبله- أن لا يطوفوا بالبيت إذا قدموا أول طوافهم إلا في ثياب الحُمْسِ، فإن لم يجدوا منها شيئًا طافوا عراة، فإن تلوم منهم متلوم من رجل أو امرأة ولم يجد ثياب أحمس فطاف في ثيابه التي جاء بها من الحل ألقاها إذا فرغ من طوافه، ثم لم ينتفع بها، ولم يمسها.

أما الرجال فيطوفون عراة، وأما النساء فتضع إحداهن ثيابها، إلا درعًا مفرجًا عليها، ثم تطوف فيه. فقالت امرأة وهي تطوف:

اليوم يبدو بعضه أو كله

وما بدا منه فلا أحله

(2)

والحلة: وهم ما عدا الحمس، كانوا يطوفون عراة إن لم يجدوا ثياب أحمس. والطلس: كانوا يأتون من أقصى اليمن طلسًا من الغبار، فيطوفون بالبيت في تلك الثياب الطلس قَالَ ابن حبيب: فسموا بذلك، وروى المطلب بن أبي وداعة أن قائلة هذا البيت:

(1)

انظر: "الروض الأنف" 4/ 200.

(2)

انظر: "سيرة ابن أسحاق" ص: 80 - 82.

قلت: وقد روى مسلم في "صحيحه"(3028) كتاب: التفسير، باب: في قوله تعالى {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} من حديث ابن عباس قال: كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة، فتقول: من يعيرني تطوفا؟ تجعله على فرجها، وتقول:

اليوم يبدو بعضه أو كله

فما بدا منه فلا أحله

فنزلت هذِه الآية {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} .

ص: 416

ضباعة بنت عامر، وأنها طافت عريانة واضعة يديها عَلَى فخذيها، وقريش قد أحدقت بها. وعند الرياشي زيادة فيه:

كم من لبيب لبه يضله

وناظر ينظر ما يمله

جهم من الجسم عظيم ظله

فطافت أسبوعًا.

وفي "تاريخ ابن عساكر": كانت تغطي جسدها بشعرها، وكانت إذا جلست أخذت من الأرض شيئًا كثيرًا لعظم خلقها

(1)

.

وقد أسلفنا أن هذِه الحجة كانت سنة تسع، وحج صلى الله عليه وسلم في العاشرة.

وسيأتي في البخاري في باب الخطبة أيام منى أنه صلى الله عليه وسلم لما وقف يوم النحر بين الجمرات في حجته وقال: "هذا يوم الحج الأكبر"

(2)

.

وهو نص أخذ به مالك، وهو قول علي

(3)

، والمغيرة

(4)

، وابن عباس

(5)

وابن عمر

(6)

.

(1)

"تاريخ دمشق" 3/ 244 - 245.

(2)

سيأتي برقم (1742) كتاب: الحج، باب: الخطبة أيام منى.

(3)

رواه الترمذي (3089) كتاب: تفسير القرآن، باب: ومن سورة التوبة، وابن جرير في "تفسيره" 6/ 314 (16450، 16455)، وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" 3/ 381 إلى ابن أبي شيبة والترمذي وأبي الشيخ، وصححه الترمذي وصححه الألباني في "صحيح الترمذي".

(4)

رواه ابن جرير في "تفسيره" 6/ 312 (16425 - 16427)، وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" 3/ 381 إلى سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وابن جرير.

(5)

رواه ابن جرير في "تفسيره" 6/ 312، 314 (16428، 16447 - 16449).

وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" 3/ 381 إلى ابن أبي شيبة، وابن جرير.

(6)

رواه الطبري 6/ 315 (16466).

ص: 417

وروي عن ابن عباس أنه قَالَ: هو يوم عرفة

(1)

. وقاله طاوس

(2)

ومجاهد

(3)

، وقال ابن سيرين: الحج الأكبر: العام الذي حج فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم اتفق فيه جميع الملل

(4)

، وأراد صلى الله عليه وسلم أن ينظف البيت من المشركين والعراة، ويكون حجه له عَلَى نظافة من هذين الطائفتين، فبعث الصديق أولًا وأردفه بعلي يؤذن ببراءة، ثم حج.

وقد اختلف الناس في حجة أبي بكر هذِه إن كانت حجة الإسلام بعد نزول فرضه، وإن كانت عَلَى حج الجاهلية ومواسمها، والذي يعطيه النظرُ الأولَ؛ لأن وقوفه كان بعرفة مع الناس كافة، وإنما كان الحمس -وهم قريش- يقفون بالمشعر الحرام، فلمَّا خالف أبو بكر العادة لقريش وأخرجهم من الحرم إلى عرفات، دل أنه إنما وقف بأمره، وأنه صلى الله عليه وسلم امتثل قوله:{ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)} [البقرة: 199] يعني: العربَ كافة، وقوله تعالى هذا هو متقدم بفرض الحج، ووصف لشرائعه كلها، فثبت بهذا ما ذكرناه مع أنه أيضًا حج في ذي الحجة، وكانت العرب لا تتوخى بحجها إلا ما كانت عليه من النسيء، يحلونه عامًا ويحرمونه عامًا آخر، وقد اختلف الناس في الحج هل هو عَلَى الفور أم لا؟ كما سلف في أول الحج.

(1)

رواه الطبري 6/ 311، 315 (16405، 16466)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 6/ 1748 (9230)، وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" 3/ 382 إلى أبي عبيد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ.

(2)

انظر: "تفسير القرآن العظيم" لابن أبي حاتم 6/ 1748 (9230)، و"معالم التنزيل" للبغوي 4/ 11.

(3)

رواه الطبري في "تفسيره" 6/ 310 (16404)، وانظر:"معالم التنزيل" 4/ 12.

(4)

ذكره السيوطي في "الدر المنثور" 3/ 382 وعزاه إلى ابن أبي شيبة.

ص: 418

‌68 - باب إِذَا وَقَفَ فِي الطَّوَافِ

وَقَالَ عَطَاءٌ فِيمَنْ يَطُوفُ فَتُقَامُ الصَّلَاةُ، أَوْ يُدْفَعُ عَنْ مَكَانِهِ: إِذَا سَلَّمَ يَرْجِعُ إِلَى حَيْثُ قُطِعَ فيبني عَلَيْهِ. وَيُذْكَرُ نَحْوُهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ.

قال المروذي: قرئ عَلَى أبي عبد الله، عن عبد الرزاق، أنا معمر، حَدَّثَني يزيد بن أبي مريم السلولي قَالَ: رأيت ابن عمر يطوف بين الصفا والمروة فأعجله البول، فتنحى فبال، ثم دعا بماء، فتوضأ ولم يغسل أثر البول، فاجتمع عليه الناس، فقال سالم: إن الناس يرون أن هذِه سنة، فقال ابن عمر: كلا إنما أعجلني البول. ثم قام فأتم عَلَى ما مضى، فقال أبو عبد الله: ما أحسنه وأتمه

(1)

.

قَالَ مالك: لا ينبغي الوقوف ولا الجلوس في الطواف، فإن فعل منه شيئًا بنى فيما خف ولم يتطاول، وأجزأه

(2)

.

وقال نافع: ما رأيت ابن عمر قائمًا قط إلا عند الركن

(3)

.

وقال عمرو بن دينار: رأيت ابن الزبير يطوف فيسرع

(4)

.

قَالَ نافع: ويُقال: القيام في الطواف بدعة

(5)

، وأجاز عطاء أن

(1)

انظر: "تغليق التعليق" 3/ 75.

(2)

"المدونة" 1/ 319، وانظر "المنتقى" 2/ 298، "الذخيرة" 3/ 251.

(3)

رواه عبد الرزاق في "المصنف" 5/ 56 (8981) كتاب: المناسك، باب: الجلوس في الطواف والقيام فيه.

(4)

رواه عبد الرزاق في "المصنف" 5/ 56 (8982)، وابن أبي شيبة في "المصنف" 3/ 293 (14454) كتاب: الحج، في السرعة والتؤدة في الطواف.

(5)

"مصنف عبد الرزاق" 5/ 56 (8983).

ص: 419

يجلس، ويستريح في الطواف

(1)

.

وابن بطال خلط هذا الباب بالباب الذي بعده، ثم أبدى سؤالًا فقال: فإن قيل: فما معنى ذكره صلى الله عليه وسلم طاف أسبوعًا وصلى ركعتين في هذا الباب والبخاري لم يذكره فيه، وإنما ذكره فيما بعده كما ستعلمه؟ قيل: معناه -والله أعلم- أنه صلى حين طاف وركع بإثره ركعتين لم يحفظ عنه أنه وقف ولا جلس في طوافه؛ ولذلك قَالَ نافع: إن القيام فيه بدعة، إلا أن يضعف فلا بأس بالوقوف والقعود اليسير فيه للراحة، ويبني عليه.

وإنما كره العلماء الوقوف والقعود فيه لغير عذر؛ لأن من أجاب دعوة أبيه إبراهيم عَلَى بعد الشقة وشدة المشقة لا يصلح إذا بلغ العمل أن يتوانى فيه بوقوف أو قعود لغير عذر، ولهذا المعنى كان ابن الزبير يسرع في طوافه

(2)

.

وجمهور العلماء يرون لمن أقيمت عليه الصلاة البناء عَلَى طوافه إذا فرغ من صلاته، روي ذَلِكَ عن ابن عمر

(3)

وعطاء

(4)

والنخعي

(5)

وابن المسيب

(6)

وطاوس

(7)

.

(1)

رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" 3/ 346 (14967 - 14969) كتاب: الحج، في الاستراحة في الطواف.

(2)

روى ذلك عبد الرزاق في "المصنف" 5/ 56 (8982).

(3)

رواه ابن أبي شيبة 3/ 384 (15348).

(4)

رواه عبد الرزاق 5/ 54 - 55 (8975) باب: القراءة في الطواف والحديث، وابن أبي شيبة 3/ 383 (15346) في الرجل يبتدئ الطواف تطوعًا.

(5)

رواه ابن أبي شيبة 3/ 383 (15345).

(6)

رواه عبد الرزاق 5/ 55 (8978).

(7)

رواه عبد الرزاق 5/ 54 (8974)، وابن أبي شيبة 3/ 383 (15346).

ص: 420

وبه قَالَ الأربعة

(1)

، وإسحاق، وأبو ثور، إلا الحسن فإنه قَالَ: يبتدئ الطواف. وحجة الجماعة قيام العذر وغير جائز أن يبطل عمله بغير حجة.

وفي المسألة خلاف آخر ذكره عبد الرزاق، عن أبي الشعثاء، أنه أقيمت عليه الصلاة وطاف خمسة أطواف فلم يتم ما بقي

(2)

، وعن سعيد بن جبير مثله

(3)

.

وعن عطاء: إن كان الطواف تطوعًا وخرج في وتر، فإنه يجزئ عنه، وكذلك إن عرضت له حاجة فخرج فيها

(4)

.

وعن ابن عباس: من بدت له حاجة فخرج لها، فليخرج عَلَى وتر من طوافه، ويركع ركعتين ولا يعد لبقيته

(5)

.

وقال مالك: من طاف بعد طوافه ثم خرج لصلاة عَلَى جنازة، أو خرج لنفقة نسيها فليبتدئ الطواف ولا يبني، ولا يخرج من طوافه لشيء إلا لصلاة الفريضة.

وهو قول الشافعي وأبى ثور

(6)

.

وقال أشهب: يبني إذا صلى عَلَى جنازة. وهو قول أبي حنيفة

(7)

.

(1)

انظر "الأصل" 2/ 403، و"مختصر اختلاف العلماء" 2/ 133، و"المدونة" 1/ 318، 319، "المنتقى" 2/ 303، و"المجموع" 8/ 65، و"نهاية المحتاج" 3/ 289، و"المستوعب" 4/ 217، و"المغني" 5/ 246.

(2)

"المصنف" 5/ 53 (8970).

(3)

"مصنف عبد الرزاق" 5/ 52 (8969).

(4)

المصدر السابق 5/ 54 (8969).

(5)

المصدر السابق 5/ 55 (8977).

(6)

انظر "المدونة" 1/ 318، و"الأم" 2/ 152، و"المجموع" 8/ 65.

(7)

"النوادر والزيادات" 2/ 378، و"الأصل" 2/ 403، و"بدائع الصنائع" 2/ 130.

ص: 421

وقال ابن المنذر: لا يخرج من بِرٍّ هو فيه إلى بِرٍّ وَلْيُتِمَّ طوافه

(1)

.

وقال النووي في "شرح المهذب" فيمن حضرته جنازة في أثناء الطواف: إن مذهب الشافعي، ومالك أن إتمام الطواف أولى، وبه قَالَ عطاء وعمرو بن دينار. وقال أبو ثور: لا يخرج، وإن خرج استأنف. وقال أبو حنيفة والحسن بن صالح: يخرج لها

(2)

.

(1)

انتهى من "شرح ابن بطال" 4/ 305 - 306.

(2)

"المجموع" 8/ 83.

ص: 422

‌69 - باب صَلاة

(1)

النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِسُبُوعِهِ رَكْعَتَيْنِ

.

وَقَالَ نَافِعٌ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُصَلِّي لِكُلِّ سُبُوعٍ رَكْعَتَيْنِ. وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ: قُلْتُ لِلزُّهْرِيِّ: إِنَّ عَطَاءً يَقُولُ: تُجْزِئُهُ المَكْتُوبَةُ مِنْ رَكْعَتَي الطَّوَافِ. فَقَالَ: السُّنَّةُ أَفْضَلُ، لَمْ يَطُفِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سُبُوعًا قَطُّ إِلَّا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ.

1623 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو: سَأَلْنَا ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَيَقَعُ الرَّجُلُ عَلَى امْرَأَتِهِ فِي العُمْرَةِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ؟ قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَطَافَ بِالبَيْتِ سَبْعًا، ثُمَّ صَلَّى خَلْفَ المَقَامِ رَكْعَتَيْنِ، وَطَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ، وَقَالَ:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} . [الأحزاب: 21]. [انظر: 395 - مسلم: 1234 - فتح: 3/ 484]

1624 -

قَالَ: وَسَأَلْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما فَقَالَ: لَا يَقْرَبِ امْرَأَتَهُ حَتَّى يَطُوفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ. [انظر: 396 - فتح: 3/ 485]

ثم ذكر حديث سفيان عن عمرو، سألنا ابن عمر: أيقع الرجل على امرأته في العمرة .. الحديث.

وقد سلف بطوله في الصلاة في باب قوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125]

(2)

.

وترجم له أيضًا بعد باب: من صلى ركعتي الطواف خلف المقام

(3)

.

والسنة أن يصلي بعد فراغه من طوافه ركعتين؛ للاتباع كما قررناه،

(1)

كذا في الأصل وفي اليونينة 2/ 154: (صلى) ولم يعلق عليها.

(2)

برقم (395).

(3)

سيأتي برقم (1627).

ص: 423

فإن تعدد طوافه فلكل طواف كذلك، فإن تعدد من غير صلاة، ثم صلى لكل طواف ركعتيه جاز، لكنه تارك للأفضل، ولا يكره، فقد رُوِي عن عائشة رضي الله عنها، والمسور بن مخرمة

(1)

، حَتَّى قَالَ الضميري من أصحابنا: لوطاف أسابيع متصلة ثم صلى ركعتين جاز. وحكى ابن التين عن بعض أصحابنا أنه صلى الله عليه وسلم طاف أسابيع وركع لها ركعتين، وقال ابن الجلاب: يُكره أن يطوف أسابيع، ويؤخر ركوعها حَتَّى يركعه في موضع واحد، وليركع لكل أسبوع ركعتين إن فعل ذَلِكَ، هذا هو المشهور من مذهبه

(2)

.

وقَالَ ابن القاسم: يصلي ركعتين فقط كسائر الأسابيع

(3)

، وقيل: يجوز أن يُصلي أسابيع عَلَى الوتر، كالثلاثة والخمسة والسبعة، ولا يجوز عَلَى الشفع، وقيل: يجوز واحد وثلاثة، ولا يجوز أكثر من ذَلِكَ، حكاها ابن التين، قَالَ: وهذِه أقاويل ليس منها شيء في مذهب مالك، ولو صلى فريضة أخرى أجزأت عندنا عنهما، كتحية المسجد، نص عليه الشافعي في القديم

(4)

، واستبعده الإمام، وهو غلط، نعم هي مسأله خلافية، فمن طاف أسبوعًا ثم وافق صلاة مكتوبة، هل تجزئه من ركعتي الطواف؟ فروي عن ابن عمر: إجازته

(5)

خلاف ما ذكره البخاري عنه أنه كان يفعله، وروي مثله عن

(1)

سيأتي تخريجه قريبًا.

(2)

"التفريع" 1/ 339.

(3)

"المدونة" 1/ 318.

(4)

"المجموع" 8/ 73.

(5)

رواه عبد الرزاق في "المصنف" 5/ 58 (8991) باب: هل تجزئ المكتوبة من وراء السبع.

ص: 424

سالم وعطاء وأبي الشعثاء

(1)

. قَالَ أبو الشعثاء: ولو طاف خمسة. وقال الزهري ومالك وأبو حنيفة: لا يجزئه

(2)

.

قَالَ ابن المنذر: ويشبه مذهب الشافعي، وهو قول أبي ثور، واحتجاج ابن شهاب عَلَى عطاء في هذا الباب أنه عليه السلام لم يطف سبعًا قط إلا صلى ركعتين، في أنه لا تجزئه المكتوبة منهما. وكان طاوس يُصلي لكل أسبوع أربع ركعات، فذكر لابن جريج فقال: حدثنا عطاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي كل سبوع ركعتين

(3)

، وعلى هذا مذاهب الفقهاء.

وقال ابن المنذر: ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت سبعًا وصلى ركعتين، وأجمعوا أن من فعل فعلته صلى الله عليه وسلم فهو مُتبع للسنة

(4)

.

ورخصت طائفة أن يجمع أسابيع، ثم يركع لها كلها. رُوِي ذَلِكَ عن عائشة كما سلف وعطاء وطاوس

(5)

، وبه قَالَ أبو يوسف، وأحمد، وإسحاق

(6)

.

وكره ذَلِكَ ابن عمر، والحسن البصري، وعروة، والزهري، وهو قول مالك، والكوفيين، وأبي ثور، وهذا القول أولى؛ لأن فاعلهم متبع للسنة

(7)

.

(1)

رواه عبد الرزاق 5/ 57 - 58 (8987 - 9888، 8992).

(2)

انظر "الأصل" 2/ 402، "حاشية ابن عابدين" 2/ 499، "الذخيرة" 3/ 243.

(3)

رواه عبد الرزاق 5/ 60 - 61 (9002).

(4)

انظر "الاستذكار" 12/ 166، "المجموع" 8/ 71.

(5)

رواه عبد الرزاق 5/ 64 (9014 - 9016) باب: قرن الطواف.

(6)

انظر "المبسوط" 4/ 47، "المغني" 5/ 233، "المبدع" 3/ 224.

(7)

انظر "الاستذكار" 12/ 166.

ص: 425

قَالَ ابن المنذر: وأرجو أن يجزئ القول الأول، وهو كمن صلى وعليه صلاة ثم صلاها بعد طوافه. قَالَ: وثبت أنه صلى الله عليه وسلم صلى ركعتي الطواف عند المقام، وأجمع العلماء أن الطائف يجزئه أن يركعها حيث شاء، إلا مالكًا، فإنه كره أن يركعهما في الحجر

(1)

، وقد صلى ابن عمر ركعتي الطواف في البيت

(2)

وصلاها ابن الزبير في الحجر. قَالَ مالك: ومن صلى ركعتي الطواف الواجب في الحجر أعاد الطواف والسعي بين الصفا والمروة، وإن لم يركعهما حَتَّى بلغ بلده أهراق دمًا، ولا إعادة عليه

(3)

.

والهدي للتفرقة بين الطواف وصلاته. قَالَ ابن المنذر: ولا يخلو من

صلى في الحجر ركوع الطواف أن يكون قد صلاهما، فلا إعادة عليه، أو يكون في معنى من لم يصلهما فعليه أن يعيد أبدًا، فأما أن يكون بمكة في معنى من لم يصلهما، وإن رجع إلى بلاده في معنى من قد صلاهما، فلا أعلم لقائله حجة في التفريق بين ذَلِكَ، ولا أعلم الدم يجب في شيء من أبواب الطواف، وقول عمرو: وسألنا ابن عمرو: أيقع الرجل عَلَى امرأته في العمرة قبل أن يطوف بين الصفا والمروة؟ قَالَ: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره، وأنه لا بد من السعي، قال: وسألت جابرًا فذكر مثله، وفيه خلاف للعلماء، والأظهر عندنا: أنه ركن فيها

(4)

، فإذا وطئ قبله فسدت، وتقضى كالحج، وخالف داود فقال: لا يُقضى فاسد الحج والعمرة.

(1)

انظر: "الإجماع" 53، و"الاستذكار" 12/ 120، 166، و"المجموع" 8/ 86.

(2)

رواه عبد الرزاق 5/ 60 (9000) باب: هل تجزئ المكتوبة من وراء السبع.

(3)

"الاستذكار" 12/ 121.

(4)

انظر "البيان" 4/ 302، "المجموع" 8/ 103.

ص: 426

وفي إرداف الحج عَلَى العمرة قولان في مذهب مالك أجازه ابن الماجشون، ومنعه ابن القاسم.

ص: 427

‌70 - باب: مَنْ لَمْ يَقْرَبِ الكَعْبَةَ، وَلَمْ يَطُفْ حَتَّى يَخْرُجَ إِلَى عَرَفَةَ، وَيَرْجِعَ بَعْدَ الطَّوَافِ الأَوَّلِ

1625 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، حَدَّثَنَا فُضَيْلٌ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، أَخْبَرَنِي كُرَيْبٌ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ، فَطَافَ وَسَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ، وَلَمْ يَقْرَبِ الكَعْبَةَ بَعْدَ طَوَافِهِ بِهَا حَتَّى رَجَعَ مِنْ عَرَفَةَ. [انظر: 1545 - فتح: 3/ 485]

ذكر فيه حديث ابن عباس: قَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ، فَطَافَ وَسَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ، وَلَمْ يَقْرَبِ الكَعْبَةَ بَعْدَ طَوَافِهِ بِهَا حَتَّى رَجَعَ مِنْ عَرَفَةَ.

هذا الحديث من أفراده، ومعنى الترجمة: من لم يطف طوافًا آخر غير طواف القدوم؛ لأنه إذا فعله ليس بين يديه طواف غير الإفاضة والوداع، فإذا وقف ومضى نصف ليلة النحر دخل وقت أسباب التحلل، ومنها طواف الإفاضة، وهو معنى حديث الباب، وهو اختيار مالك أن لا يتنفل بطواف بعد طواف القدوم حتى يتم حجه، وقد جعل الله له في ذلك سعة، فمن أراد أن يطوف بعد فله ذَلِكَ ليلًا كان أو نهارًا، لا سيما إن كان من أقاصي البلدان، ولا عهد له بالطواف، وقد قَالَ مالك: الطواف بالبيت أفضل من النافلة لمن كان من البلاد البعيدة؛ لقلة وجود السبيل إلى البيت

(1)

.

(1)

انظر "مواهب الجليل" 4/ 165.

ص: 428

وروي عن عطاء والحسن: إذا أقام الغريب بمكة أربعين يومًا كانت الصلاة له أفضل من الطواف

(1)

. وقال أنس: الصلاة للغرباء أفضل

(2)

.

وقال الماوردي: الطواف أفضل من الصلاة. وظاهر كلام غيره أن الصلاة أفضل، وقال ابن عباس وغيره: الصلاة لأهل مكة أفضل والطواف للغرباء أفضل

(3)

.

وأما الاعتمار أو الطواف أيهما أفضل؟ فحكى بعض المتأخرين هنا ثلاثة أوجه: ثالثها: إن استغرق الطواف وقت العمرة كان أفضل، وإلا فهي أفضل. وادعى الداودي أن الطواف الذي طافه صلى الله عليه وسلم حين قدم مكة من فروض الحج، ولا يكون إلا السعي بعده إلا أنه يجوز للمراهق والمتمتع أن يجعلا مكانه طواف الإفاضة، وما قاله غير صحيح، فإنه صلى الله عليه وسلم كان عندنا مفردًا، والمفرد لا يجب طواف القدوم عليه، بل لا يجب أصلًا، فمن لم يكن مراهقًا طاف لقدومه، ومن كان مراهقًا سقط عنه عند المالكية

(4)

، وأجزأه طواف الإفاضة، والسعي بعده، قالوا: وإن لم يكن مراهقًا ولم يطف ولم يسع عند قدومه طاف للإفاضة، وأجزأه ذَلِكَ من الطوافين، ويهدي، وبئس ما صنع، ولو كان من فروض الحج ما أجزأه الهدي عنه.

(1)

رواه عبد الرزاق 5/ 71 (9030) باب: الطواف أفضل أم الصلاة؟ وطواف المجزوم.

(2)

رواه عبد الرزاق 5/ 70 - 71 (9028).

(3)

رواه ابن أبي شيبة 3/ 353 - 354 (15038 - 15040) في الطواف للغرباء أفضل أم الصلاة؟

(4)

انظر "المدونة" 1/ 317، و"المعونة" 1/ 374، و"المنتقى" 2/ 296، 297.

ص: 429

‌71 - باب: مَنْ صَلَّى رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ خَارِجًا مِنَ المَسْجِدِ

وَصَلَّى عُمَرُ رضي الله عنه خَارِجًا مِنَ الحَرَمِ.

1626 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ زَيْنَبَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها: شَكَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.

وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مَرْوَانَ يَحْيَى بْنُ أَبِي زَكَرِيَّاءَ الغَسَّانِيُّ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها -زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم- أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ وَهْوَ بِمَكَّةَ، وَأَرَادَ الخُرُوجَ، وَلَمْ تَكُنْ أُمُّ سَلَمَةَ طَافَتْ بِالبَيْتِ وَأَرَادَتِ الخُرُوجَ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"إِذَا أُقِيمَتْ صَلَاةُ الصُّبْحِ فَطُوفِي عَلَى بَعِيرِكِ، وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ". فَفَعَلَتْ ذَلِكَ، فَلَمْ تُصَلِّ حَتَّى خَرَجَتْ. [انظر: 464 - مسلم: 1276 - فتح: 3/ 486]

ذكر فيه حديث أم سلمة: في طوافها راكبة وهي شاكية.

وقد سلف

(1)

، وانفرد به من حديث عروة عنها. قَالَ أبو نعيم: حديث عزيز جدًّا. وأخرجه مسلم

(2)

وغيره من طريق زينب -بنتها- عنها

(3)

.

ويحيى ابن أبي زكريا الغساني

(4)

-هو بغين معجمة ثم سين مهملة ثم

(1)

برقم (464) كتاب: الصلاة، باب: إدخال البعير في المسجد.

(2)

ورد فوقها في الأصل (د. س. ق)

(3)

رواه مسلم (1276) كتاب: الحج، باب: جواز الطواف على بعير وغيره واستلام الحجر بمحجن ونحوه للراكب، وأبو داود (1882) كتاب: المناسك، باب: الطواف الواجب، والنسائي 5/ 223 كتاب: مناسك الحج، كيف طواف المريض، وابن ماجه (2961) كتاب: المناسك، باب: المريض يطوف راكبًا، وأحمد 6/ 290، 319.

(4)

ورد في هامش الأصل ما نصه: توفي يحيى سنة 188 قاله في "الكاشف"، وحكى تضعيفه عن أبي داود كذلك في "السير".

ص: 430

ألف، ثم نون ثم ياء النسب- ضعفه أبو داود، وقال أبو علي الجياني: وقع لأبي الحسن القابسي في إسناد هذا الحديث تصحيف في نسب يحيى بن أبي زكريا، قَالَ: العُشاني -بعين مهملة مضمومة ثم شين معجمة- والصواب: الغساني -بغين معجمة وسين مهملة- وقال فيه في موضع آخر: العثماني، والصواب ما قلناه

(1)

.

وقيل: العشايي -بالياء- منسوب إلى بني عشاة- حكاه ابن التين.

قَالَ الدارقطني في كتاب "التتبع": هذا الحديث مرسل أعني طريق عروة عنها، وقد رواه حفص بن غياث، عن هشام، عن أبيه، عن زينب، عن أم سلمة، ووصله مالك عن أبي الأسود

(2)

.

وقال (الغساني)

(3)

: هكذا رواه أبو علي بن السكن، عن الفربري مرسلًا، لم يذكر بين عروة وأم سلمة زينب، وكذا هو في نسخة عبدوس الطليطلي، عن أبي زيد المروزي، ووقع في نسخة الأصيلي: عروة عن زينب، عنها متصلًا، ورواية ابن السكن المرسلة أصح في هذا الإسناد، وهو المحفوظ

(4)

.

قلت: وسماع عروة لأم سلمة ممكن؛ لأن مولده سنة ثلاث وعشرين، ووفاتها قرب الستين

(5)

، وهو قطين بلدها، فيجوز أن يكون سمعه مرة عن زينب عنها، ومرة عنها، يؤيده أنه روى البخاري: أخبرتني أم سلمة، كما ستعلمه.

(1)

"تقييد المهمل" 2/ 610.

(2)

"الإلزامات والتتبع" ص: 247، ووصله مالك في "الموطأ".

(3)

كذا في الأصل وهو خطأ -أظنه من سبق القلم- وصوابه: الجياني.

(4)

"تقييد المهمل" 2/ 609.

(5)

ورد في هامش الأصل ما نصه: قال الواقدي سنة 59.

ص: 431

وقال الأثرم: قَالَ لي أبو عبد الله: حَدَّثَنَا معاوية، عن هشام، عن أبيه، عن زينب، عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن توافيه يوم النحر بمكة قال: لم يسنده غيره، وهو خطأ، وقال وكيع: عن أبيه مرسل أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن توافيه صلاة الصبح يوم النحر بمكة، أو نحو هذا. قال: وهذا أيضًا عجيب، النبي يوم النحر ما يصنع بمكة؟! ينكر ذلك. قال: فجئت إلى يحيى بن سعيد فسألته فقال: عن هشام، عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن توافي ليس توافيه.

قَالَ: وبين هذين فرق، يوم النحر صلاة الفجر بالأبطح. قَالَ: وقال لي يحيى: سل عبد الرحمن، فسأله، فقال: هكذا توافي، قَالَ الخلال: يرى الأثرم في حكايته عن وكيع: توافيه، وإنما قَالَ وكيع: توافي بمنى، وأصاب في قوله: توافي كما قَالَ أصحابه، وأخطأ وكيع أيضًا في قوله: بمنى.

أخبرنا علي بن حرب: ثَنَا هارون بن عمران، عن سليمان بن أبي داود، عن هشام، عن أبيه قَالَ: أخبرتني أم سلمة قالت: قدمني النبي صلى الله عليه وسلم فيمن قدم من أهل مكة ليلة المزدلفة، قالت: فرميت بليل، ومضيت إلى مكة فصليت بها الصبح، ثم رجعت قبل الفجر، ثم مضت فأفاضت

(1)

، وكان ذَلِكَ اليوم الثاني الذي يكون عندها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأما أثر عمر: فأخرجه البيهقي من حديث ابن بكير: ثَنَا مالك، عن ابن شهاب، عن حميد بن عبد الرحمن: أن عبد الرحمن بن عبدٍ القاري

(1)

رواه الطبراني 23/ 268 (570) بهذا الإسناد، قال: حدثنا سعيد بن عبد الرحمن ثنا على بن حرب .. الحديث. وأورده الهيثمي في "المجمع" 3/ 257 وقال: رواه الطبراني في "الكبير"، وفيه: سليمان بن أبي داود، قال ابن القطان: لا يعرف.

ص: 432

أخبره: أنه طاف مع عمر بن الخطاب بعد صلاة الصبح بالكعبة، فلما قضى طوافه نظر، فلم ير الشمس، فركب حَتَّى أناخ بذي طوى، فسبح ركعتين

(1)

.

وأخرجه ابن أبي شيبة: حَدَّثَنَا علي بن مسهر ثنا ابن أبي ليلى، عن عطاء قَالَ: طاف عمر بعد الفجر، وفيه: فلما طلعت الشمس وارتفعت صلى ركعتين، ثم قَالَ: ركعتان مكان ركعتين

(2)

.

قَالَ ابن المنذر: اختلفوا فيمن نسي ركعتي الطواف، حَتَّى خرج من الحرم أو رجع إلى بلاده، فقال عطاء والحسن البصري: يركعهما حيثما ذكر من حل، أو حرم

(3)

، وبهذا قَالَ أبو حنيفة، والشافعي

(4)

.

وهو موافق لحديث أم سلمة؛ لأنه ليس في الحديث أنها جعلتهما في الحل، أو في الحرم، وقال الثوري: يركعهما حيث شاء، ما لم يخرج من الحرم

(5)

.

وقال في "المدونة": من طاف في غير إبان صلاة أجزأ الركعتين، وإن خرج إلى الحل ركعهما فيه ويجزئانه ما لم ينتقض وضوؤه، وإن انتقض قبل أن يركعهما، وكان طوافه ذَلِكَ واجبًا، فابتدأ الطواف

(1)

"السنن الكبرى" 2/ 463 كتاب: الصلاة، باب: ذكر البيان أن هذا النهي مخصوص ببعض الأمكنة دون بعض.

(2)

"المصنف" 3/ 176 - 177 (13258) من كان يكره إذا طاف بالبيت بعد العصر وبعد الفجر أن يصلي حتى تغيب أو تطلع.

(3)

روى ذلك ابن أبي شيبة 3/ 303 (14559 - 14560)

(4)

انظر "الأصل" 2/ 403، "مختصر اختلاف العلماء" 2/ 135، "البناية" 4/ 80، "البيان" 4/ 301، "المجموع" 8/ 75.

(5)

انظر "الاستذكار" 12/ 170.

ص: 433

بالبيت وركع، لأن الركعتين من الطواف يوصلان به، إلا أن تتباعد فليركعهما ويهدي ولا يرجع

(1)

.

قَالَ ابن المنذر: ليس ذَلِكَ أكثر من صلاة مكتوبة، وليس عَلَى من تركهما إلا قضاؤهما حيث ذكرهما.

(1)

"المدونة" 1/ 318.

ص: 434

‌72 - باب: مَنْ صَلَّى رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ خَلْفَ المَقَامِ

1627 -

حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما يَقُولُ: قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَطَافَ بِالبَيْتِ سَبْعًا، وَصَلَّى خَلْفَ المَقَامِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّفَا، وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]. [انظر: 395 - مسلم: 1234 - فتح: 3/ 487].

حديثه فيها سلف في باب: صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لسبوعه ركعتين

(1)

.

وأسلفنا فقهه هناك، وهما عندنا مستحبتان، لا واجبتان عَلَى الأصح، خلافًا لمالك، وأبي حنيفة، فإن نسيهما في الحج، أو العمرة أعاده عند مالك ثم ركعهما

(2)

.

وقال ابن القاسم: لا يُعيد الطواف، ولا السعي، ويركعهما، ولو أعاده كان أحب

(3)

.

فائدة:

(المقام) حجر. قَالَ مالك في "العتبية": سمعتُ أهل العلم يقولون: إن إبراهيم قام هذا المقام، فيزعمون أن ذَلِكَ أثر مقامه، فأوحى الله إلى الجبال أن تفرج عنه حَتَّى يرى أثر المناسك.

وقال ابن حبيب: نداء إبراهيم كان عليه فتطأطأ له كل شيء

(4)

.

(1)

برقم (1623).

(2)

انظر "تحفة الفقهاء" 1/ 402، "البناية" 4/ 79، "عيون المجالس" 2/ 813، "المنتقى" 2/ 287، "البيان" 4/ 298، "روضة الطالبين" 3/ 83.

(3)

انظر "المنتقى" 2/ 287.

(4)

المصدر السابق.

ص: 435

‌73 - باب: الطَّوَافِ بَعْدَ الصُّبْحِ وَالعَصْرِ

وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُصَلِّي رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ مَا لَمْ تَطْلُعِ الشَّمْسُ. وَطَافَ عُمَرُ بَعْدَ الصُّبْحِ، فَرَكِبَ حَتَّى صَلَّى الرَّكْعَتَيْنِ بِذِي طُوًى.

1628 -

حَدَّثَنَا الحَسَنُ بْنُ عُمَرَ البَصْرِيُّ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ حَبِيبٍ، عَنْ عَطَاءٍ عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، أَنَّ نَاسًا طَافُوا بِالبَيْتِ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ، ثُمَّ قَعَدُوا إِلَى المُذَكِّرِ، حَتَّى إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ قَامُوا يُصَلُّونَ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: قَعَدُوا حَتَّى إِذَا كَانَتِ السَّاعَةُ التِي تُكْرَهُ فِيهَا الصَّلَاةُ قَامُوا يُصَلُّونَ. [فتح: 3/ 488]

1629 -

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ المُنْذِرِ، حَدَّثَنَا أَبُو ضَمْرَةَ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَنْهَى عَنِ الصَّلَاةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَعِنْدَ غُرُوبِهَا. [مسلم: 828 - فتح: 3/ 488]

1630 -

حَدَّثَنِي الحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ -هُوَ: الزَّعْفَرَانِيُّ- حَدَّثَنَا عَبِيدَةُ بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنِي عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ رُفَيْعٍ قَالَ: رَأَيْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ الزُّبَيْرِ رضي الله عنهما يَطُوفُ بَعْدَ الفَجْرِ، وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ. [فتح: 3/ 488]

1631 -

قَالَ عَبْدُ العَزِيزِ: وَرَأَيْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ الزُّبَيْرِ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ العَصْرِ، وَيُخْبِرُ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها حَدَّثَتْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَدْخُلْ بَيْتَهَا إِلَّا صَلاَّهُمَا. [انظر: 590 - مسلم: 835 - فتح: 3/ 488]

ثم ذكر أثر عائشة مسندًا أنَّ نَاسًا طَافُوا بِالبَيْتِ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ، ثُمَّ قَعَدُوا إِلَى المُذَكِّرِ، حَتَّى إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ قَامُوا يُصَلُّونَ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ قَعَدُوا حَتَّى إِذَا كَانَتِ السَّاعةُ التِي تُكْرَهُ فِيهَا الصَّلاةُ قَامُوا يُصَلُّونَ.

ص: 436

ثم ذكر حديث عبد الله -يعني: ابن عمر- قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، وعن عبد العزيز بن رفيع، قال: رأيت عبد الله بن الزبير يطوف بعد الفجر ويصلي ركعتين ركعتين، قال عبد العزيز: ورأيت عبد الله بن الزبير يصلي ركعتين بعد العصر ويخبر أن عائشة حدثته أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدخل بيتها إلاصلاهما.

أما أثر ابن عمر فقد أسنده ابن أبي شيبة، عن يعلى، عن الأجلح عن عطاء قَالَ: رأيتُ ابن عمر وابن الزبير طافا بالبيت قبل صلاة الفجر، ثم صليا ركعتين قبل طلوع الشمس.

وحَدَّثَنَا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن عطاء قَالَ: رأيت ابن عمر طاف بالبيت بعد الفجر، وصلى الركعتين قبل طلوع الشمس.

وحَدَّثَنَا أبو الأحوص، عن ليث، عن عطاء رأيتُ ابن عمر وابن عباس طافا بعد العصر وصليا.

وحَدَّثَنَا ابن فضيل عن ليث، عن أبي سعيد أنه رأى الحسن الحسين طافا بالبيت بعد العصر وصليا. وحدثنا ابن فضيل عن الوليد بن جميع عن أبي الطفيل: أنه كان يطوف بعد العصر ويصلي حين تصفر الشمس

(1)

.

قلتُ: وقد رُوِي عن ابن عمر خلاف هذا، بإسناد صحيح، أخرجه الطحاوي، عن ابن خزيمة: حَدَّثَنَا حجاج ثنا همام، ثنا نافع أن ابن عمر: قَدم عند صلاة الصبح فطاف، ولم يصل إلا بعد ما طلعت الشمس

(2)

.

(1)

مصنف ابن أبي شيبة 3/ 175 - 176 (13243 - 13244، 13249 - 13250) و 7/ 317 (36432 - 36433، 36435 - 36436).

(2)

"شرح معاني الآثار" 2/ 187.

ص: 437

ولما ذكر ابن أبي شيبة الآثار السالفة، شرع يعيب أبا حنيفة بأنه خالفها، وقال: لا يصلى حَتَّى تغيب، أو تطلع، وتمكن الصلاة!

(1)

.

وأما أثر عمر: فذكره مالك في "الموطأ"، عن ابن شهاب

(2)

، وقد سلف في الباب قبله، ورواه سفيان، عن الزهري، عن عروة، عن عبد الرحمن بن عبدٍ القاري

(3)

.

قَالَ أحمد: أخطأ سفيان، وقد خالفوه فقالوا: الزهري، عن حميد.

قَالَ الأثرم: هذا من وهم سفيان، يقول فيه: عن عروة، فقيل له: هذا نوح بن يزيد، رواه، عن إبراهيم بن سعد، عن صالح بن كيسان، عن الزهري عن عروة أيضًا، فأنكره فرجعتُ إلى نوح فأخرجه لي من أصل كتابه فإذا هو عن عروة، وإذا صالح أيضًا يرويه عن عروة، قَالَ أبو عبد الله: ذاك -يعني: نوحًا- ونوح لم يكن به بأس، كان مستثبتًا

(4)

.

ولعل إبراهيم أن يكون حدَّث من حفظه، وكان ربما حدث بالشيء من حفظه، وكتاب صالح عندي، ما أدري كيف قَالَ فيه؟!

وقال أبو حاتم: حديث سفيان خطأ

(5)

.

وأثر عائشة وحديثها من أفراده. وحديث ابن عمر سلف في الصلاة

(6)

. وعبيدة بن حُميد في حديث عائشة بفتح العين.

(1)

انظر: "المصنف" 7/ 317.

(2)

"الموطأ"241.

(3)

رواه الفاكهي في "أخبار مكة" 1/ 264 (520)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" 2/ 187، والبيهقي في "سننه" 2/ 463 كتاب: الصلاة، باب: ذكر البيان أن هذا النهي مخصوص ببعض الأمكنة دون بعض.

(4)

انظر: "تاريخ بغداد" 13/ 319.

(5)

"علل ابن أبي حاتم" 1/ 282.

(6)

سلف برقم (590 - 593) باب: ما يصلى بعد العصر من الفوائت ونحوها.

ص: 438

أمَّا حكم الباب: فقد ذكر البخاري الخلاف فيه عن الصحابة، وكان مذهبه فيه التوسعة، إن صلى فلا حرج، وإن أخرها عَلَى ما فعله عمر فلا حرج، وكان ابن عباس يُصلي بعد الصبح والعصر ركعتي

الطواف، وهو قول عطاء وطاوس والقاسم وعروة، وإليه ذهب الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور

(1)

.

وحجتهم حديث جبير بن مطعم

(2)

يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يا بني عبد مناف، لا تمنعوا أحدًا طاف بهذا البيت وصلى أيَّ ساعة شاء من ليل أو نهار"، رواه أصحاب السنن الأربعة، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وصححه ابن حبان والحاكم، وزاد: عَلَى شرط مسلم

(3)

. فعم الأوقات كلها.

وروي عن أبي سعيد الخدري مثل قول عمر: لا بأس بالطواف بعد الصبح والعصر، ويؤخر الركعتين إلى بعد طلوع الشمس، وبعد غروبها،

(1)

انظر "الاستذكار" 12/ 176، "المجموع" 8/ 79، "روضة الطالبين" 1/ 193، "مسائل الإمام أحمد برواية الكوسج" 1/ 561، "المبدع" 2/ 37.

(2)

في هامش الأصل: من خط الشيخ: رواه ابن عباس أيضًا، ذكره في كتاب "الإمام" من وراية سليم بن مسلم.

(3)

"سنن أبي داود"(1894) كتاب: المناسك، باب: الطواف بعد العصر، "سنن الترمذي" (868) كتاب: الحج، باب: ما جاء في الصلاة بعد العصر وبعد الصبح لمن يطوف، و"سنن النسائي" 1/ 284 كتاب: المواقيت، إباحة الصلاة في الساعات كلها بمكة، "سنن ابن ماجه" (1254) كتاب: إقامة الصلاة، باب: ما جاء في الرخصة في الصلاة بمكة في كل وقت، "صحيح ابن حبان" 4/ 420 (1552) كتاب: الطهارة، فصل في الأوقات المنهي عنها، "المستدرك" 1/ 448 كتاب: المناسك، والحديث صححه الألباني في "صحيح الجامع"(7900)، وانظر:"الإرواء" 2/ 238 (481).

ص: 439

وهو قول مالك، وأبي حنيفة والثوري

(1)

.

قَالَ الطحاوي: فهذا عمر لم يركع حين طاف؛ لأنه لم يكن عنده وقت صلاة، وأخَّر ذَلِكَ إلى أن دخل عليه وقت الصلاة، وهذا بحضرة جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم ينكره عليه منهم أحد، ولو كان ذَلِكَ الوقت عنده وقت صلاة الطواف لصلى وما أخر ذَلِكَ؛ لأنه لا ينبغي لأحد طاف بالبيت إلا أن يُصلي حينئذٍ إلا من عذر، وقد رُوِي ذَلِكَ عن معاذ

(2)

بن عفراء، وعن ابن عمر

(3)

.

قَالَ المهلب: وما ذكره البخاري عن ابن عمر أنه كان يركعهما ما لم تطلع الشمس، وهو يروي نهيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، فيدل أن النهي عنده عن ذَلِكَ إنما هو موافقتهما، وأما إذا أمن أن يوافق ذَلِكَ فله أن يصليهما؛ لأن الوقت لهما واسع، ومن سنتهما الاتصال بالطواف.

وقد بين ذَلِكَ ما رواه الطحاوي: حَدَّثَنَا يعقوب بن حميد، حَدَّثَنَا ابن أبي غنية، عن عمر بن ذر، عن مجاهد قَالَ: كان ابن عمر يطوف بعد العصر، ويصلي ما كانت الشمس بيضاء حية، فإذا اصفرت وتغيرت طاف طوافًا واحدًا حَتَّى يُصلي المغرب، ثم يُصلي ويطوف بعد الصبح ما كان في غلس، فإذا أسفر طاف طوافًا واحدًا، ثم يجلس حَتَّى ترتفع الشمس ويمكن الركوع، وهذا قول مجاهد والنخعي وعطاء، وهو قول ثالث في المسألة ذكره الطحاوي

(4)

.

(1)

انظر "الأصل" 2/ 402، "مختصر الطحاوي" 63، "عيون المجالس" 2/ 903، "الاستذكار" 12/ 176.

(2)

في هامش الأصل من خط الشيخ: أخرجه ابن أبي شيبة بإسناد جيد.

(3)

"شرح معاني الآثار" 2/ 187.

(4)

السابق 2/ 188.

ص: 440

وفي "مسند أحمد" بإسناد جيد

(1)

عن أبي الزبير قَالَ: سألتُ جابرًا قَالَ: كنا نطوف فنمسح الركن الفاتحة والخاتمة، ولم نكن نطوف بعد صلاة الصبح حَتَّى تطلع الشمس، ولا بعد العصر حَتَّى تغرب. وقال:

سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "تطلع الشمس في قرني شيطان"

(2)

.

وقد سلف حديث أم سلمة أنها طافت ولم تصل حَتَّى خرجت

(3)

.

وفي "سنن سعيد بن منصور" و"مصنف ابن أبي شيبة" عن أبي سعيد الخدري أنه طاف بعد الصبح، فلما فرغ، جلس حَتَّى طلعت الشمس

(4)

.

قَالَ سعيد بن منصور: وكان سعيد بن جبير والحسن ومجاهد يكرهون ذَلِكَ أيضًا.

قَالَ ابن عبد البر: وهو قول مالك وأصحابه

(5)

، ولابن أبي شيبة بإسناد جيد أن المسور بن مخرمة كان يطوف بعد الغداة ثلاثة أسابيع، فإذا طلعت الشمس صلى لكل سبوع ركعتين، وبعد العصر يفعل ذَلِكَ، فإذا غابت الشمس صلى لكل أسبوع ركعتين، وله عن أيوب قَالَ: رأيتُ سعيد بن جبير ومجاهدًا يطوفان بالبيت حَتَّى تصفر الشمس ويجلسان.

وعن عائشة أنها قالت: إذا أردت الطواف بالبيت بعد صلاة الفجر، أو بعد صلاة العصر فطف وأخر الصلاة حَتَّى تغيب الشمس، أو حَتَّى

(1)

في هامش الأصل: في سنده ابن لهيعة والعمل على تضعيف حديثه.

(2)

"مسند أحمد" 3/ 393.

(3)

سلف برقم (1626).

(4)

"المصنف" 3/ 177 (13259) من كان يكره إذا طاف بالبيت بعد العصر وبعد الفجر أن يصلي حتى تغيب أو تطلع.

(5)

"الاستذكار" 12/ 176.

ص: 441

تطلع، فصل لكل أسبوع ركعتين

(1)

، وأبعد من أَوَّلَ الصلاة في حديث جبير السالف بالدعاء؛ لأنه خلاف الحقيقة، وكذا من حمله عَلَى غير أوقات النهي؛ لأنه عام في الإباحة. وحديث النهي خاص في التحريم فيحمل عَلَى ما عداه، ولأن الإباحة والتحريم إذا اجتمعتا عمل بالثاني؛ لأنه مقتضى الاحتياط، وما فعله ابن الزبير من صلاة ركعتين بعد العصر تبع فيه رواية عائشة.

لكن الصحيح أن المداومة عليهما في هذِه الحالة كانت من خصائصه. وقال ابن التين: انفرد داود من بين الفقهاء، فقال: لا بأس بالنافلة بعد العصر حَتَّى تغرب الشمس، والنصوص ترده

(2)

.

(1)

"المصنف" 3/ 176 (13254 - 13256) كتاب: الحج، من كان يكره إذا طاف بالبيت بعد العصر وبعد الفجر أن يصلي حتى تغيب، أو تطلع.

(2)

ورد بهامش الأصل: ثم بلغ في الثلاثين، كتبه مؤلفه.

ص: 442

‌74 - باب: المَرِيضِ يَطُوفُ رَاكِبًا

1632 -

حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ الوَاسِطِيُّ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ خَالِدٍ الحَذَّاءِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم طَافَ بِالبَيْتِ، وَهْوَ عَلَى بَعِيرٍ، كُلَّمَا أَتَى عَلَى الرُّكْنِ أَشَارَ إِلَيْهِ بِشَيْءٍ فِي يَدِهِ وَكَبَّرَ. [انظر: 1607 - مسلم: 1272 - فتح: 3/ 490]

1633 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَوْفَلٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ زَيْنَبَ ابْنَةِ أُمِّ سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: شَكَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنِّي أَشْتَكِي. فَقَالَ: "طُوفِي مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ". فَطُفْتُ وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي إِلَى جَنْبِ البَيْتِ، وَهْوَ يَقْرَأُ بِـ {وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} [الطور: 1، 2] [انظر: 464 - مسلم: 1276 - فتح: 3/ 490]

ذكر فيه حديث ابن عباس

(1)

: والسالف في باب التكبير عند الركن.

وحديث أم سلمة في طوافها راكبة

(2)

وقد سلف تحريره، وسلف فقهه أيضًا.

قَالَ ابن المنذر: أجمع أهل العلم عَلَى جواز طواف المريض عَلَى الدابة، ومحمولًا، إلا عطاء فروي عنه فيها قولان: أحدهما: أن يطاف به، والثاني: أن يستأجر من يطوف عنه

(3)

.

(1)

ورد بهامش الأصل: جاء في أبي داود أنه صلى الله عليه وسلم كان في طوافه هذا مريضًا، وهذا المعنى الذي أفاده البخاري بترجمته عليه.

(2)

برقم (1613).

(3)

"الإجماع" لابن المنذر 53.

ص: 443

‌75 - باب سِقَايَةِ الحَاجِّ

1634 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي الأَسْوَدِ، حَدَّثَنَا أَبُو ضَمْرَةَ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: اسْتَأْذَنَ العَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ رضي الله عنه رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَبِيتَ بِمَكَّةَ لَيَالِيَ مِنًى مِنْ أَجْلِ سِقَايَتِهِ، فَأَذِنَ لَهُ. [1743، 1744، 1745 - مسلم: 1315 - فتح: 3/ 490]

1635 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ خَالِدٍ الحَذَّاءِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم جَاءَ إِلَى السِّقَايَةِ، فَاسْتَسْقَى، فَقَالَ العَبَّاسُ: يَا فَضْلُ، اذْهَبْ إِلَى أُمِّكَ، فَأْتِ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِشَرَابٍ مِنْ عِنْدِهَا. فَقَالَ:"اسْقِنِي". قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ أَيْدِيَهُمْ فِيهِ. قَالَ:"اسْقِنِي". فَشَرِبَ مِنْهُ، ثُمَّ أَتَى زَمْزَمَ، وَهُمْ يَسْقُونَ وَيَعْمَلُونَ فِيهَا، فَقَالَ:"اعْمَلُوا، فَإِنَّكُمْ عَلَى عَمَلٍ صَالِحٍ -ثُمَّ قَالَ:- لَوْلَا أَنْ تُغْلَبُوا لَنَزَلْتُ حَتَّى أَضَعَ الحَبْلَ عَلَى هَذِهِ". - يَعْنِي: عَاتِقَهُ، وَأَشَارَ إِلَى عَاتِقِهِ. [فتح: 3/ 491]

ذكرْ فيه حديث ابن عمر: اسْتَأْذَنَ العَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ رضي الله عنه رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَبِيتَ بِمَكَّةَ لَيَالِيَ مِنًى مِنْ أَجْلِ سِقَايَتِهِ، فَأَذِنَ لَهُ.

وحديث ابن عباس أن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم جَاءَ إِلَى السِّقَايَةِ، فَاسْتَسْقَى، فَقَالَ العَبَّاسُ: يَا فَضْلُ، اذْهَبْ إِلَى أُمِّكَ، فَأْتِ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِشَرَابٍ مِنْ عِنْدِهَا .. الحديث.

أما حديث ابن عمر فأخرجه مسلم

(1)

، وأما حديث ابن عباس فهو من أفراده، وانفرد مسلم من وجه آخر عن ابن عباس يأتي

(2)

.

(1)

"صحيح مسلم"(1315) كتاب: الحج، باب: وجوب المبيت بمنى ليالي أيام التشريق، والترخيص في تركه لأهل السقاية.

(2)

"صحيح مسلم"(1316).

ص: 444

ومن حديث جابر: "انزعوا بني عبد المطلب، فلولا أن يغلبكم الناس عَلَى سقايتكم لنزعت معهم"

(1)

.

والثاني:

(2)

رواه البخاري، عن إسحاق: حَدَّثَنَا خالد، عن خالد، عن عكرمة، وإسحاق (خ، س) هو ابن شاهين أبو بشر الواسطي، ذكره أبو نعيم، وخالد هو ابن عبد الله الطحان، وخالد الثاني هو ابن مهران الحذاء.

إذا عرفت ذَلِكَ:

فالسقاية كانت للعباس مكرمة يسقي الناس نبيذ التمر، فأقرها عليه السلام في الإسلام، وموضوعها من باب إكرام الضيف، واصطناع المعروف.

قَالَ ابن إسحاق في "سيره": لما ولي قصي بن كلاب البيت كانت إليه الحجابة، والسقاية، والرفادة، والندوة، واللواء، فأعطى ابنه عبد الدار بن قصي ذَلِكَ كله، فلما هلك قصي نازعتْ بنو عبد مناف بني عبد الدار ذَلِكَ، فتصالحوا عَلَى أن يكون لبني عبد مناف السقاية والرفادة، ولأولئك الحجابة واللواء والندوة

(3)

.

قَالَ طاوس: والشرب من سقاية العباس من تمام الحج

(4)

.

قَالَ عطاء: لقد أدركتُ هذا الشراب، وإن الرجل ليشرب فتلتزق شفتاه، من حلاوته، فلما ذهبت الحرية ووليه العبيد، تهاونوا بالشراب واستخفوا به

(5)

.

(1)

"صحيح مسلم"(1218) كتاب: الحج، باب: حجة النبي صلى الله عليه وسلم.

(2)

في الأصل فوقها: يعني: حديث ابن عباس.

(3)

"سيرة ابن هشام" 1/ 142 - 244.

(4)

رواه الأزرقي في "أخبار مكة" 2/ 55، 57 مطولًا، الفاكهي كذلك في "أخبار مكة" 2/ 60 (1148).

(5)

رواه الفاكهي 2/ 61 - 62 (1151)، والبيهقي في "سننه" 8/ 305 كتاب: الأشربة، باب: ما جاء في الكسر بالماء.

ص: 445

وروى ابن أبي شيبة عن السائب بن عبد الله أنه أمر مجاهدًا مولاه بأن يشرب من سقاية العباس، ويقول: إنه من تمام السنة. وفي لفظ: فقد شرب منها المسلمون.

وقال الربيع بن سعد: أتى أبو جعفر السقاية فشرب وأعطى جعفرًا فضله.

وقال بكر بن عبد الله: أحب للرجل أن يشرب من نبيذها. وممن شرب منها سعيد بن جبير، وأمر به سويد بن غفلة.

وروى ابن جريج، عن نافع أن ابن عمر لم يكن يشرب من النبيذ في الحج، وكذا روى خالد بن أبي بكر، أنه حج مع سالم ما لا يحصى، فلم يره يشرب من نبيذ السقاية

(1)

.

وروى الطبري من حديث ابن عباس في قصة السقاية أتم مما ذكره البخاري: حَدَّثَنَا أبو بكر بن عياش، عن يزيد بن أبي زياد، عن عكرمة، عن ابن عباس قَالَ: لما طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى العباس وهو في السقاية فقال: "اسقوني". فقال العباس: إن هذا قد مُرت -يعني: مُرس- أفلا أسقيك مما في بيوتنا؟ قَالَ: "لا، ولكن اسقوني مما يشرب الناس". فأتى به، فذاقه فقطب، ثم دعا بماءٍ فكسره، ثم قَالَ:"إذا اشتد نبيذكم فاكسروه بالماء". وتقطيبه منه إنما كان لحموضته فقط

(2)

.

وكسره قيل: بغيره ليهون عليه شربه، ومثل ذَلِكَ يحمل عَلَى ما رُوِي عن عمر وعلي فيه لا غير، وإنما أذن للعباس في المغيب عن منى وهو

(1)

"المصنف" 3/ 182 (13311، 13313 - 13315، 13319 - 13320) في الشرب في نبيذ السقاية.

(2)

رواه الطبري في "تهذيب الآثار" السفر الأول من مسند ابن عباس ص: 55 - 56.

ص: 446

واجب، ولم يوجب عليه الهدي من أجل السقاية؛ لأنها عمل من أعمال الحج. ألا ترى قوله إذ ورد زمزم وهم يسقون:("اعملوا فإنكم عَلَى عمل صالح").

وقوله: ("لولا أن تغلبوا لنزلت") -أي: لاستقاء الماء- فهذِه ولاية للعباس وآله السقاية، وإنما خشي أن يتخذها الملوك سنة يغلبون عليها من وليها من ذرية العباس، ولا تختص رخصة السقي للعباسية عَلَى الأصح؛ لأن المعنى عام، وقيل: يختص ببني هاشم من آل عباس وغيرهم، وقيل: بآل العباس، ولا تختص أيضًا بتلك السقاية عَلَى الأصح بل ما حدث للحاج كذلك.

فوائد: الأولى: هذا الحديث أصل في أن المبيت بمنى ليالي منى مأمور به، وإلا فكان يجوز للعباس ذَلِكَ ولغيره دون إرخاص له، وإذا ترك -غير من رخص له الثلاث ليال فدم واحد عَلَى الأصح.

وفي قول: لكل ليلة دم، وإن ترك ليلة فالأظهر أنه يجبر بدم، وفي قول: بدرهم. ونقل عن عطاء، وفي قول: بثلاث دم، وإن ترك ليلتين فعلى هذا القياس

(1)

.

وقال أبو حنيفة: لا شيء عليه

(2)

، وقال ابن عباس: المبيت بمكة مباح ليالي منى، وعن عكرمة نحوه، ومنع عمر في "الموطأ" أن يبيت وراء العقبة

(3)

.

(1)

رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" 3/ 285 (14376) من كره أن يبيت ليالي منى بمكة.

(2)

انظر "بدائع الصنائع" 2/ 135، "تبيين الحقائق" 2/ 35، "البناية" 4/ 123.

(3)

"الموطأ" 1/ 542 (1409 - 1410) كتاب: المناسك، باب: البيتوتة بمنى ليالي منى.

ص: 447

وهو إجماع لعدم الخلاف فيه إلا شيئًا عن ابن عباس وعكرمة.

الثانية: لا يحصل المبيت إلا بمعظم الليل، وفي قول: أن الاعتبار بوقت طلوع الفجر، وفي "المدونة": من بات عنها جل الليل فعليه دم.

الثالثة: الجمرة الأولى التي تلي مسجد الخيف، والثانية الوسطى، وهما بمنى، وثالثها جمرة العقبة، وليست من منى، فمنى من بطن مُحَسِّر إلى العقبة.

وقال ابن التين: المبيت بمنى هو أن يبيت من جمرة العقبة إليها.

وقال مالك: من بات وراء الجمرة عليه الفدية؛ لأنه بات بغير منى

(1)

.

وروى ابن أبي شيبة من حديث ليث، عن طاوس، عن ابن عباس أنه قَالَ: لا يبيتن أحد من وراء العقبة ليلًا بمنى أيام التشريق.

ومن حديث عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر أن عمر كان ينهى أن يبيت أحد من وراء العقبة، وكان يأمرهم أن يدخلوا منى.

وعن عروة: لا يبيتن أحد من وراء العقبة أيام التشريق.

وقال إبراهيم: إذا بات دون العقبة أهراق لذلك دمًا.

وعن عطاء: يتصدق بدرهم أو نحوه

(2)

، وعن سالم: يتصدق بدرهم

(3)

.

الرابعة: قَالَ ابن عباس: من كان له متاع بمكة يخشى عليه ضياعه بات بها

(4)

، ومقتضاه إباحته للعذر وعليه دم، عَلَى مقتضى قول ابن نافع

(1)

انظر "المنتقى" 3/ 45.

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة" 3/ 285 (14368 - 14369، 14374 - 14376).

(3)

"المصنف" 3/ 285 (14378) من حديث بكير بن مسمار عن سالم قال: يتصدق بدينار، يعني إذا بات عن منى.

(4)

رواه الفاكهي في "أخبار مكة" 2/ 65 (1160).

ص: 448

في "مبسوطه": من زار البيت فمرض وبات بمكة فعليه هدي يسوقه من الحل إلى الحرم، وإن بات الليالي كلها بمكة.

قَالَ الداودي: فقيل: عليه شاة، وقيل: بدنة. وروى ابن المغلس في "موضَّحه" عن ابن عباس: أنه كان لا يرى بأسًا إن بات بمكة وقفل إذا رمى. وعن سعيد، عن قتادة أنه كان يكره إذا زار البيت أن يبيت بمكة.

قلتُ: فإن بات بها. قَالَ: ما علمتُ عليه شيئًا.

وروى ابن أبي شيبة، عن ابن عباس قَالَ: إذا رميت الجمار بن حيث شئت. وعن عطاء: لا بأس أن يبيت الرجل بمكة ليالي منى إذا كان في ضيعته.

وعن ابن عمر: أنه كان يكره أن ينام أحد أيام منى بمكة.

ومن حديث ليث، عن مجاهد: لا بأس أن يكون أول النهار بمكة وآخره بمنى. ولا بأس أن يكون أول الليل بمنى وآخره بمكة. وعنه أنه كره أن يبيت ليلة تامة عن منى.

وعن محمد بن كعب: من السنة إذا زرت البيت أن لا تبيت إلا بمنى.

وعن أبي قلابة: اجعلوا أيام منى بمنى

(1)

.

الخامسة: هذا الماء مرصد لمصالح المسلمين أرصده العباس للمارة وابن السبيل، لا يُقال: إنه من الصدقات، فإنها محرمة عليه الفرض والتطوع.

وفيه: أنه لا يكره الاستسقاء، وقد استسقى اللبن في مخرجه إلى المدينة

(2)

.

(1)

"المصنف" 3/ 285 - 286 (14370 - 14373، 14377، 14380 - 14381).

(2)

يشير المصنف رحمه الله استسقاء أبي بكر اللبن له -في مهاجره عليه السلام- من الراعي، =

ص: 449

وفيه: استعمال التواضع فإنهم كانوا يجعلون أيديهم فيه، وشرب منه ولم يخص بماء، كما أشار إليه العباس تسهيلًا للناس.

وفيه: رد ما قد يهدى له.

وفيه: حرص أصحابه وقرابته عَلَى إبراره.

وفيه: من التواضع أيضًا قوله: "لولا أن تغلبوا لنزلت حَتَّى أضع الحبل عَلَى هذِه" يعني: عاتقه.

وفيه: أن أفعاله للوجوب فتركه مع الرغبة في الفضل شفقة أن تتخذ واجبًا للاقتداء. نبه عليه الخطَّابي

(1)

.

وقال الداودي: يريد إنكم لا تدعوني إلى الاستقاء، ولا أحب أن أفعل بكم ما تكرهون، وهذا إنما يجيء إذا كان "تغلبوا" مبنيًا للفاعل، والرواية المعروفة مبنيًا للمفعول الذي لم يسم فاعله.

قَالَ ابن بزيزة: وأراد بقوله: " (لولا أن تغلبوا") قصر السقاية عليهم، وأن لا يشاركوا فيها.

وقوله: (يعني: عاتقه) أي: ما قاربه.

قَالَ ابن سيرين: خرج عليُّ من مكة إلى المدينة فقال للعباس: يا عم، ألا تهاجر؟ ألا تمضي لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أنا أعمر البيت

= ويأتي برقم (2439) كتاب: في اللقطة، باب لم يسم ومواضع أخر.

أو ما في حديث أم معبد وهو في "المستدرك" 2/ 9 عن هشام بن حبيش قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

والطبراني 4/ 48 من حديث حبيش بن خالد الخزاعي والد هشام.

قال الهيثمي في "المجمع" 6/ 56 - 58، رواه الطبراني وفي إسناده جماعة لم أعرفهم.

(1)

"أعلام الحديث" 2/ 883.

ص: 450

وأحجبه، فنزلت {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحَاجِّ}

(1)

[التوبة: 19] الآية. أي: هم أرفع منزلة من ذَلِكَ، وهم مشركون، أولئك الذين وصيناهم بالإيمان والهجرة والجهاد، هم الفائزون بالجنة من النار.

السادسة: في "شرح الهداية": يُكره أن لا يبيت بمنى ليالي الرمي؛ لأن الشارع بات بها، وكذا عمر وكان يؤدب عَلَى تركه، فلو بات في غيره متعمدًا لا يلزمه شيء، وقال بعض الشيوخ: المبيت في هذِه

الليالي سنة عندنا، وبه قَالَ أهل الظاهر

(2)

.

قَالَ القرطبي: وروي نحوه عن ابن عباس

(3)

والحسن البصري قَالَ: والمبيت بمنى ليالي التشريق من سنن الحج بلا خلاف، إلا لذوي السقاية، أو الرعاة، ومن تعجل بالنفر في ترك ذَلِكَ في ليلة واحدة، أو جميع الليالي، كان عليه دم عند مالك

(4)

، وللشافعي فيه قولان: أصحهما وجوبه

(5)

، وبه قَالَ أحمد

(6)

.

السابعة: من المعذورين عن المبيت:

من له مال يخاف ضياعه إن اشتغل بالمبيت، أو يخاف عَلَى نفسه، أو كان به مرض، أو له مريض، أو يطلب آبقًا، وشبه ذَلِكَ ففي هؤلاء وجهان عندنا أصحهما وهو المنصوص: يجوز لهم ترك المبيت ولا شيء

(1)

ذكره السيوطي في "الدر المنثور" 3/ 395 وعزاه إلى الفريابي.

(2)

انظر: "المحلى" 7/ 184.

(3)

في هامش الأصل: من خط الشيخ: رواه ابن عيينة عن عمرو عنه، قاله ابن بطال.

(4)

انظر "التفريع" 1/ 342، "عيون المجالس" 2/ 824.

(5)

انظر "البيان" 4/ 356، "المجموع" 8/ 111، "روضة الطالبين" 3/ 99، 104.

وانظر "المستوعب" 4/ 257، "المغني" 5/ 325.

(6)

انتهى من "المفهم" 3/ 414.

ص: 451

عليهم بسببه

(1)

.

وقد أسلفنا نحو ذَلِكَ عن ابن عباس، ولهم النفر بعد الغروب، ولو ترك البيات ناسيًا كان كتركه عامدًا.

الثامنة: في مسلم -من أفراده- من حديث بكر بن عبد الله المزني قَالَ: كنتُ جالسًا مع ابن عباس عند الكعبة، فأتاني أعرابي فقال: ما لي أرى بني عمكم يسقون العسل واللبن وأنتم تسقون النبيذ؟ أومن حاجة بكم أم من بخل؟ فقال ابن عباس: الحمد لله ما بنا من حاجة ولا بخل، قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم عَلَى راحلته وخلفه أسامة فاستسقى، فأتيناه بإناء من نبيذ فشرب، وسقى فضله أسامة وقال:"أحسنتم وأجملتم، كذا فاصنعوا". فلا نُريد تغيير ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم

(2)

.

التاسعة: في أفراد مسلم أيضًا: من حديث جابر: أتى النبي صلى الله عليه وسلم بني عبد المطلب وهم يسقون عَلَى زمزم، فقال:"انزعوا بني عبد المطلب، فلولا أن يغلبكم الناس عَلَى سقايتكم لنزعت معكم" فناولوه دلوًا فشرب منه

(3)

، وأفاد ابن السكن أن الذي ناوله الدلو العباس بن عبد المطلب.

(1)

انظر "البيان" 4/ 357، "روضة الطالبين" 3/ 105.

(2)

مسلم (1316).

(3)

مسلم (1218).

ص: 452

‌76 - باب مَا جَاءَ فِي زَمْزَمَ

1636 -

وَقَالَ عَبْدَانُ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: كَانَ أَبُو ذَرٍّ رضي الله عنه يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "فُرِجَ سَقْفِي وَأَنَا بِمَكَّةَ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عليه السلام فَفَرَجَ صَدْرِي، ثُمَّ غَسَلَهُ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا، فَأَفْرَغَهَا فِي صَدْرِي، ثُمَّ أَطْبَقَهُ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فَعَرَجَ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، قَالَ جِبْرِيلُ لِخَازِنِ السَّمَاءِ الدُّنْيَا: افْتَحْ. قَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ". [انظر: 349 - مسلم: 163 - فتح: 3/ 492]

1637 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ -هُوَ: ابْنُ سَلَامٍ -، أَخْبَرَنَا الفَزَارِيُّ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما حَدَّثَهُ قَالَ: سَقَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ زَمْزَمَ فَشَرِبَ وَهُوَ قَائِمٌ. قَالَ عَاصِمٌ: فَحَلَفَ عِكْرِمَةُ مَا كَانَ يَوْمَئِذٍ إِلاَّ عَلَى بَعِيرٍ. [5617 - مسلم: 2027 - فتح: 3/ 492]

وَقَالَ عَبْدَانُ: أَنَا عَبْدُ الله، أَنَا يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: كَانَ أَبُو ذَرٍّ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "فُرِجَ سَقْفِي وَأَنَا بِمَكَّةَ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ فَفَرَجَ صَدْرِي، ثُمَّ غَسَلَهُ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا، فَأفْرَغَهَا فِي صَدْرِي، ثُمَّ أَطْبَقَهُ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي .. الحديث.

ثم ذكر حديث ابن عباس: سَقَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ زَمْزَمَ فَشَرِبَ وَهُوَ قَائِمٌ، قَالَ عَاصِمٌ: فَحَلَفَ عِكْرِمَةُ: مَا كَانَ يَوْمَئِذٍ إِلَّا عَلَى بَعِيرِ.

الشرح:

أما الحديث المعلق فقد أسنده في أوائل الصلاة مطولًا

(1)

، وذكر

(1)

سبق برقم (349) باب: كيف فرضت الصلاة في الإسراء.

ص: 453

حديث المعراج، ورواه الإسماعيلي، عن الحسن بن سفيان، ثَنَا حرملة بن يحيى، أنا عبد الله بن وهب، أنا يونس، قَالَ: وأخبرنيه موسى: ثَنَا أحمد، ثَنَا ابن وهب، أنا يونس، فذكرهُ.

وأما حديث ابن عباس، فأخرجهُ مسلم أيضًا، بلفظ: استسقى، فأتيته بدلو وهو عند البيت

(1)

. ولابن ماجه: سقيتهُ من زمزم فشرب قائمًا

(2)

.

إذا عرفت ذَلِكَ: فمقصود البخاري بالحديث الأول قوله: ("ثُمَّ غَسَلَهُ بِمَاءِ زَمْزَمَ"). وقد سلف الكلام عليه في أول الصلاة واستشكاله، وجاء في فضل مائها عدة أحاديث لكنها ليست عَلَى شرطه، وبعضها عَلَى شرط مسلم، ذكرتها في تخريجي لأحاديث الرافعي

(3)

وغيره، وصححنا "ماء زمزم لما شرب له"

(4)

ويكفي أن

(1)

"صحيح مسلم" 2027/ 120 كتاب الأشربة، باب: في الشرب من زمزم قائمًا.

(2)

"سنن ابن ماجه"(3422) كتاب: الأشربة، باب: الشرب قائمًا.

(3)

انظر: "البدر المنير" 6/ 299 - 303.

(4)

انظر تصحيحه للحديث في المصدر السابق.

والحديث رواه ابن ماجه (3062) كتاب: المناسك، باب: الشرب من زمزم، وأحمد 3/ 357، 372، وابن أبي شيبة 5/ 62 (23713) كتاب: الطب، من كان يقول: ماء زمزم فيه شفاء، والأزرقي في "أخبار مكة" 2/ 52، والعقيلي في "الضعفاء" 2/ 203، والطبراني في "الأوسط" 1/ 259 (849)، 9/ 26 (9027)، وابن عدي في "الكامل" 5/ 221 - 222 في ترجمة عبد الله بن المؤمل (974)، وأبو نعيم في "أخبار أصبهان" 2/ 37، والبيهقي في "سننه" 5/ 148 كتاب: الحج، باب: سقاية الحاج والشرب منها ومن ماء زمزم، والخطيب في "تاريخ بغداد" 3/ 179 من طريق عبد الله بن المؤمل، عن أبي الزبير، عن جابر مرفوعًا.

قال العقيلي: عبد الله بن المؤمل لا يتابع على هذا الحديث، وكذا قال ابن حبان =

ص: 454

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= في "المجروحين" 2/ 28، وقال البيهقي: تفرد به عبد الله بن المؤمل، وقال ابن التركماني: لم ينفرد به، بل تابعه إبراهيم بن طهمان عن أبي الزبير، كذا أورده البيهقي نفسه فيما بعد اهـ، وضعفه من هذا الطريق أيضًا ابن القطان في "بيان الوهم والإيهام" 3/ 477 - 478 فقال: وذكر من طريق عبد الله بن المؤمل، عن أبي الزبير، عن جابر مرفوعًا -قلت: يقصد عبد الحق الإشبيلي في "الأحكام الوسطى" 2/ 338 - ثم قال: ويظهر من أمره من حيث ذكر هذِه القطعة من إسناده أنه مضعف له، ويجب أن يكون كذلك، فإن عبد الله بن المؤمل سيئ الحفظ، وتدليس أبي الزبير معلوم. كذا قال ابن القطان.

قلت: ويظهر من أمر عبد الحق تصحيح الحديث، وإن كان قد أورد قطعة من إسناده، وذلك لأنه قد صرح في مقدمة كتابه، أن كل حديث يسكت عنه فهو تصحيح له، ولم يفصل بين ما يذكر فيه قطعة من إسناده، وبين ما لا يذكر فيه.

قال الحافظ في "تلخيص الحبير" 2/ 268: أعله ابن القطان بعنعنة أبي الزبير -قلت: لأنه مدلس-وهو مردود؛ ففي رواية ابن ماجه التصريح بالسماع، وضعفه أيضًا النووي فقال في "المجموع" 8/ 246: رواه البيهقي بإسناده ضعيف، وكذا البوصيري فقال في "زوائد ابن ماجه" ص 403: هذا إسناد ضعيف؛ لضعف عبد الله بن المؤمل.

والحديث رواه الطبراني في "الأوسط" 4/ 139 - 140 (3815)، وابن عدي في "الكامل" 5/ 223 من طريق حمزة الزيات، عن أبي الزبير، عن جابر، مرفوعًا به.

ورواه البيهقي في "سننه" 5/ 202 من طريق إبراهيم بن طهمان عن أبي الزبير: كنا عند جابر بن عبد الله فتحدثنا فحضرت صلاة العصر، فقام فصلى بنا في ثوب واحد قد تلبب به ورداؤه موضوع، ثم أتى بماء من زمزم فشرب ثم شرب، فقالوا: ما هذا، قال: ماء زمزم، وقال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ماء زمزم لما شرب له

" الحديث.

ورواه البيهقي في "شعب الإيمان" 3/ 481 - 482 (4128)، والخطيب "تاريخ بغداد" 10/ 166 من طريق سويد بن سعيد قال: رأيت عبد الله بن المبارك بمكة أتى زمزم فاستقى منه شربة، ثم استقبل الكعبة، ثم قال: اللهم إن ابن أبي الموال حدثنا عن محمد بن المنكدر، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ماء زمزم لما =

ص: 455

الإمام أبا محمد سفيان بن عيينة سئل عنه فقال: حديث صحيح. كما أخرجه عنه (الدينوري)

(1)

في "المجالسة"، وابن الجوزي في

= شرب له"، وهذا أشربه لعطش القيامة، ثم شربه.

قال البيهقي: غريب من حديث ابن أبي الموال، عن ابن المنكدر، تفرد به سويد، عن ابن المبارك من هذا الوجه. قال الحافظ في "تلخيص الجبير" 2/ 268: قال البيهقي: غريب تفرد به سويد، قلت: وهو ضعيف جدًا، وإن كان مسلم قد أخرج له في المتابعات، وأيضًا فكان أخذ عنه قبل أن يعمى ويفسد حديثه، وقد خلط في هذا الإسناد وأخطأ فيه عن ابن المبارك، وإنما رواه ابن المبارك، عن ابن المؤمل، عن أبي الزبير، كذا رويناه في "فوائد أبي بكر بن المقري" من طريق صحيحة، واغتر الدمياطي بظاهر هذا الإسناد، فحكم عليه بأنه على رسم الصحيح؛ لأن ابن أبي الموال انفرد به البخاري، وسويدًا انفرد به مسلم، وغفل عن أن مسلمًا إنما أخرج لسويد ما توبع عليه اهـ بتصرف. وقال في "الفتح" 3/ 493: المحفوظ عن ابن المبارك عن ابن المؤمل.

والحديث في الجملة صححه جمع من الأئمة، فحسنه ابن القيم في "زاد المعاد" 4/ 393، والمنذري في "الترغيب والترهيب" 2/ 210، وصححه أيضا المصنف كما ذكر في "البدر المنير" 6/ 299، وكذا في "خلاصة البدر" 2/ 26 - 27، وقال الحافظ في "الفتح" 3/ 493: رجاله ثقات إلا عبد الله بن المؤمل، وقال السخاوي في "كشف الخفاء" 2/ 176 (2168) سنده جيد، وصححه الألباني في "الإرواء"(1123) وفيه فوائد غير ما ذكرنا فراجعه.

قال ابن القيم في "زاد المعاد" 4/ 393: قد جربت أنا وغيري من الاستشفاء بماء زمزم أمورًا عجيبة، واستشفيت به من عدة أمراض، فبرأت بإذن الله اهـ.

وفي الباب عن عبد الله بن عمرو، رواه البيهقي في "شعب الإيمان" 3/ 481 (4127) من طريق عبد الله بن المؤمل، عن ابن جريج، عن عطاء، عن عبد الله به عمرو مرفوعًا:"ماء زمزم لما شرب له" وفي الباب أيضًا عن جماعة من الصحابة سوف يذكرها المصنف تباعًا.

(1)

ورد في هامش الأصل: الدينوري اسمه أحمد بن مروان المالكي اتهمه الدارقطني ومشاه غيره، ذكره الذهبي في "ميزانه" برقم (620).

ص: 456

"الأذكياء"

(1)

، وقد شربه العلماء لمقاصد، كالشافعي، والخطيب البغدادي وغيرهما، لمقاصد نالوها والحمد لله

(2)

.

وفي "صحيح مسلم": "إنها طعام طعم"

(3)

، زاد الطيالسي:"وشفاء سقم"

(4)

، وفي الدارقطني من حديث ابن عباس مرفوعًا:"وهي هزمة جبريل، وسقيا إسماعيل"

(5)

.

(1)

"الأذكياء" ص 98.

(2)

قلت: روى الحافظ ابن عساكر في "تاريخ دمشق" 5/ 34 في ترجمة الخطيب البغدادى، أنه لما حج شرب من ماء زمزم ثلاث شربات، وسأل الله ثلاث حاجات، أن يحدث بـ "تاريخ بغداد" بها، وأن يملي الحديث بجامع المنصور، وأن يدفن عند بشر الحافي، فقضيت له الثلاث، وكذا ذكره ابن الجوزي في "المنتظم" 8/ 269، والسبكي في "طبقات الشافعية" 35، والذهبي في "السير" 18/ 279، وفي "تذكرة الحفاظ" 3/ 1139.

وأورد الذهبي في ترجمة ابن خزيمة في "تذكرة الحفاظ" 2/ 721 (734) قال: قال أبو بكر محمد بن جعفر، سمعت ابن خزيمة، وسئل: من أين أوتيت هذا العلم؟ فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ماء زمزم لما شرب له"، وإني لما شربت ماء زمزم سألت الله علمًا نافعًا.

وأورد الذهبي كذلك في ترجمة الحاكم في "سير أعلام النبلاء" 17/ 171، "تذكرة الحفاظ" 3/ 1044 قال: قال الحافظ أبو حازم العبدوي: سمعت الحاكم يقول: شربت ماء زمزم وسألت الله أن يرزقني حسن التصنيف.

وقال السيوطي في "ذيل طبقات الحفاظ" ص: 381: حكي عن الحافظ ابن حجر العسقلاني أنه شرب ماء زمزم ليصل إلى مرتبة الذهبي في الحفظ، فبلغها وزاد عليها.

(3)

"صحيح مسلم"(2473) كتاب: "فضائل الصحابة، باب: من فضائل أبي ذر رضي الله عنه.

(4)

"مسند الطيالسي" 1/ 364 (459).

(5)

"سنن الدارقطني" 2/ 289، ورواه الحاكم في "المستدرك" 1/ 473 من طريق محمد بن هشام المروزي عن محمد بن حبيب الجارودي، عن سفيان بن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس مرفوعًا. =

ص: 457

ولابن ماجه بإسناد جيد أن ابن عباس قَالَ لرجل: إذا شربت من زمزم فاستقبل الكعبة، واذكر اسم الله، وتنفس ثلاثًا، وتضلع منها، فإذا فرغت فاحمد الله عز وجل، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ:"آية ما بيننا وبين المنافقين أنهم لا يتضلعون من زمزم"

(1)

.

= وقال الحاكم: حديث صحيح الإسناد إن سلم من الجارودي ولم يخرجاه.

ورواه عبد الرزاق في "المصنف" 5/ 118 (9124)، والأزرقي في "أخبار مكة" 2/ 50، والفاكهي في "أخبار مكة" 2/ 10 (1056) من طريق سفيان بن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله.

قال الذهبي في "الميزان" 4/ 105 في ترجمة عمر بن الحسن الأشناني (6071) وقد أورد الحديث من طريق الدارقطني: محمد بن حبيب صدوق، فآفة الحديث هو عمر -قلت: يعني شيخ الدارقطني عمر بن الحسن بن علي- فلقد أثم الدارقطني بسكوته عنه، فإنه بهذا الإسناد باطل، ما رواه ابن عيينة قط اهـ.

وقال الحافظ في "لسان الميزان" 4/ 291 رادًّا على الذهبي: إن الذهبي هو الذي أثم بتأثيمه الدارقطني، فإن الأشناني لم ينفرد بهذا، بل تابعه عليه في "مستدركه" الحاكم، ولقد عجبت من قول المؤلف: ما رواه ابن عيينة قط، مع أنه رواه ابن أبي عمرو سعيد بن منصور، وغيرهم، إلا أنهم وقفوه على مجاهد، فغايته أن يكون محمد بن حبيب وهم في رفعه اهـ بتصرف. وقال في "التلخيص" 2/ 268: الجارودي صدوق إلا أن روايته شاذة، فقد رواه حفاظ أصحاب ابن عيينة عن مجاهد، قوله، وقال في "الفتح" 3/ 493: رجاله موثقون، إلا أنه اختلف في إرساله ووصله، وإرساله أصح. وقال السخاوي في "المقاصد الحسنة" (928): الجارودي صدوق؛ إلا أنه تفرد عن ابن عيينة بوصله، ومثله إذا انفرد لا يحتج به، فكيف إذا خالف، فقد رواه الحفاظ عن ابن عيينة بدون ابن عباس، فهو مرسل، وإن لم يصرح فيه أكثرهم بالرفع لكن مثله لا يقال بالرأى. اهـ

وقال الألباني في "الإرواء"(1126): باطل موضوع، والصواب وقفه على مجاهد اهـ. والحديث أعله الشيخ رحمه الله بثلاث علل فراجعه.

(1)

"سنن ابن ماجه"(3061) كتاب: المناسك، باب: الشرب من زمزم، ورواه عبد الرزاق في "المصنف" 5/ 112 - 113 (9111)، والفاكهي في "أخبار مكة" =

ص: 458

وللدارقطني: كان عبد الله إذا شرب منها قَالَ: اللَّهُمَّ إني أسألك علمًا نافعًا، ورزقًا واسعًا، وشفاء من كل داء

(1)

.

ولأحمد -بإسناد جيد- من حديث جابر في ذكر حجته صلى الله عليه وسلم: ثم عاد إلى الحجر، ثم ذهب إلى زمزم فشرب منها، وصبّ عَلَى رأسه، ثم رجع فاستلم الركن، الحديث

(2)

.

وفي "شرف المصطفي" -المصنف الكبير- عن أم أيمن قالتْ: ما رأيتُ النبي صلى الله عليه وسلم شكى جوعًا قط، ولا عطشًا، كان يغدو إذا أصبح، فيشرب من ماء زمزم شربة، فربما عرضنا عليه الطعام فيقول:"لا أنا شبعان"

(3)

.

= 2/ 28 (1079)، 2/ 41 - 42 (1107)، والطبراني 11/ 124 (11246)، والدارقطني 2/ 288، والحاكم 1/ 472 - 473 وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، إن كان عثمان بن الأسود سمع من ابن عباس، وقال الذهبي: لا والله ما لحقه، توفي عام خمسين ومائة، وأكبر مشيخته سعيد بن جبير، والبيهقي 5/ 147 كتاب: الحج، باب: سقاية الحاج والشرب منها ومن ماء زمزم. من طريق عثمان بن الأسود، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر قال: كنت عند ابن عباس فجاءه رجل .. الحديث. قال البوصيري في "زوائده" ص 403 (1008): هذا إسناد صحيح رجاله موثقون، وضعفه الألباني في "الإرواء"(1125)، وفيه تعقيب على توثيق البوصيري وتصحيح إسناده.

(1)

"سنن الدراقطني" 2/ 288 من طريق حفص بن عمر العدني، عن الحكم، عن عكرمة، عن ابن عباس، قوله.

قال الألباني في "الإرواء" 4/ 333: هذا إسناد ضعيف من أجل العدني، والحكم وهو ابن أبان العدني، صدوق له أوهام كما في "التقريب" اهـ.

(2)

"مسند أحمد" 3/ 394.

(3)

أورده ابن سعد في "طبقاته" 1/ 168.

قلت: وقد جاء في فضلها أحاديث أخرى أكثرها ضعاف، منها ما رواه الديلمي كما في "الفردوس" 4/ 152 (6471) عن صفية مرفوعًا: "ماء زمزم شفاء من كل =

ص: 459

وعن عقيل بن أبي طالب قَالَ: كنا إذا أصبحنا وليس عندنا طعام، قَالَ لنا أبي: ائتوا زمزم، فنأتيها، فنشرب منها فنجتزئ.

وروى ابن إسحاق، عن عليٍّ: قَالَ عبد المطلب: إني لنائم في الحجر إذ أتاني آت، فقال: احفر طيبة، قلت: وما طيبة؟ قَالَ: ثم ذهب عني، فلما كان الغد نمتُ فيه، فجاءني فقال لي: احفر بَرَّة، قَالَ: قلت: وما بَرَّة؟ قَالَ: ثم ذهب عني، فلمَّا كان الغد رجعتُ إلى مضجعي، فنمتُ فيه، فجاءني فقال لي: احفر المضنونة، قَالَ: قلتُ: وما المضنونة؟ قَالَ: ثم ذهب عني، فلمَّا كان الغد رجعتُ إلى مضجعي، فنمتُ فيه، فجاءني فقال: احفر زمزم، قَالَ: قلتُ: وما زمزم؟ قَالَ: لا تنزف أبدًا ولا تذم، تسقي الحجيج الأعظم، وهي بين الفرث والدم، عند نقرة الغراب الأعصم

(1)

عند قرية النمل

(2)

.

= داء" لكنه حديث ضعيف؛ قال المناوي في "الفيض": قال ابن حجر: سنده ضعيف جدًا. وقال السخاوي في "المقاصد الحسنة" ص 422: إسناده واهٍ، وكذا قال العجلوني في "الكشف" 2/ 176، وضعفه الألباني في "الضعيفة" (4407). ومنها ما عزاه السيوطي في "الجامع الصغير" (7761) للمستغفري في "الطب" عن جابر مرفوعًا: "ماء زمزم لما شرب له، من شربه لمرض شفاه الله، أو لجوع أشبعه الله، أو لحاجة قضاها الله".

وأشار السيوطي لحسنه، لكن ضعفه الألباني في "ضعيف الجامع"(4973).

ولمزيد من الاطلاع على هذِه الأحاديث ينظر: "المقاصد الحسنة"(928)، و"كشف الخفاء"(2168)، وكتاب "إزالة الدهش والوله عن المتحير في صحة حديث ماء زمزم لما شرب له" للعلامة القادري، بتخريج الشيخ ناصر الدين الألباني، وهو من أجود ما صُنف في هذا الباب.

(1)

ورد في هامش (م): الأعصم هو الذي في جناحيه ريشة بيضاء.

(2)

"سيرة ابن إسحاق" ص 3 - 4، ورواه الفاكهي في "أخبار مكة" 2/ 16 عن علي بن أبي طالب.

ورواه أبو نعيم في "الحلية" 10/ 115 عن ابن عباس.

ص: 460

وذكر الزمخشري في "ربيعه"

(1)

: أن جبريل أنبط بئر زمزم مرتين، لآدم (حين)

(2)

انقطعتْ زمن الطوفان، ومرة لإسماعيل.

قَالَ السهيلي: كان الحارث بن مضاض الجرهمي لما أخرج من مكة عفي أثرها، فلم تزل دارسة إلى أيام عبد المطلب. وسُميت طيبة؛ لأنها للطيبين والطيبات.

وفي إنباط جبريل إياها بعقبه دون يده إشارة أنها لعقبه وراثة.

وسميت بَرةَّ؛ لأنها فاضت للأبرار عن الأشرار. والمضنونة، لأنها ضن بها عَلَى غير المؤمنين، فلا يتضلع منها منافق، قاله وهب بن منبه.

وفي كتاب الزبير: قيل لعبد المطلب: احفر المضنونة، ضننت بها عن الناس لا عليك. وقوله: عند نقرة الغراب، الغراب عند أهل التعبير: فاسق وهو أسود، فدلت نقرته عند الكعبة عَلَى نقرة الأسود الحبشي بمعوله يهدمها حجرًا حجرًا في آخر الزمان، ونعت (ذَلِكَ)

(3)

بذي السويقتين

(4)

، كما نعت الغراب بصفة في ساقيه، وكونها عند الفرث

(1)

هو كتاب: "ربيع الأبرار ونصوص الأخبار" لأبي القاسم محمود بن عمر الزمخشري، قال: هذا كتاب قصدت به إحجام خواطر الناظرين في "الكشاف" وترويح قلوبهم المتعبة بإحالة الفكر في استخراج ودائع علمه وخباياه، وقد اختصر هذا الكتاب في كتاب آخر سمي "أنوار الربيع". انظر:"كشف الظنون" 1/ 832 - 833.

(2)

في هامش الأصل: لعله أو البتُّ: حتى.

قلت: وبها يستقيم المعنى. والله أعلم.

(3)

من (م).

(4)

سلف برقم (1595) كتاب: الحج، باب: هدم الكعبة، من حديث ابن عباس مرفوعًا:"كأني به أسود أفحج يقلعها حجرًا حجرًا".

وسلف أيضًا برقم (1591) باب: قول الله تعالى: جعل الله الكعبة البيت، وروى مسلم (2909) كتاب: الفتن وأشراط الساعة، من حديث أبي هريرة مرفوعًا:"يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة".

ص: 461

والدم؛ لأن ماءها طعام طعم وشفاء سقم، ولما شرب له كما سلف، فهي كاللبن الخارج من بين فرب ودم خالصًا سائغًا لشاربه، وكونها عند قرية النمل؛ لأنها هي عين مكة التي يردها الحاج من كل جانب، فيحملون إليها البر والشعير وغير ذَلِكَ، وهي لا تحرث ولا تزرع، وكذلك قرية النمل تجلب الحبوب إلى قريتها من كل جانب

(1)

.

وسميت زمزم لما ذكر الكلبي في "بلاده" عن الشرقي؛ لأن بابل بن ساسان حيث سار إلى اليمن دفن سيوف قلعته وحلي الزمازمة في موضع بئر زمزم، فلما احتفرها عبد المطلب أصاب السيوف والحلي، فيه سميت زمزم.

وفي "الاشتقاق" للنحاس، عن أبي زيد:(الزمزة)

(2)

من الناس: خمسون ونحوهم.

وقال ابن عباس: سميت زمزم؛ لأنها زمت بالتراب؛ لئلا يأخذ الماء يمينًا وشمالًا، ولو تركت لساحت عَلَى وجه الأرض حَتَّى تملأ كل شيء.

وعن ابن هشام: الزمزمة عند العرب: الكثرة والاجتماع. وذكر المسعودي أن الفرس كانت تحج إليها في الزمن الأول، والزمزم صوت يخرجه الفرس من خياشيمها.

وقال الحربي: سميتْ بزمزمة

(3)

الماء حولها، وهو حركته.

(1)

"الروض الأنف" 1/ 166 - 169 بتصرف.

(2)

كذا الأصل، والصحيح (الزِّمْزِمة).

انظر: "تهذيب اللغة" 2/ 1559، مادة (زمزم)، "المخصص" 1/ 314.

(3)

ورد في هامش النسخة (م) ما نصه:

قال ابن هبيرة في آخر مصنف فتاوى له: خاتمةٌ: أخبرني بعض مشايخنا -رحمه =

ص: 462

وفي كتاب أبي عبيد قَالَ بعضهم: إنها مشتقة من قولهم: ماء زمزوم وزمزام، أي: كثير، وهو ما في "الموعب": زمزم وزمازم

(1)

، وهو الكثير.

قَالَ البكري في "معجمه": وهو بفتح الأول وسكون الثاني وفتح الزاي الثانية، ويُقال: بضم الأول، وبفتح الثاني مخففًا ومشددًا وكسر الزاي الثانية

(2)

، فهذِه ثلاثة أوجه. وقال الأزهري في "تهذيبه"، عن ابن الأعرابي: زَمْزَم، وَزَمَّم، وَزُمَّزم. قلتُ: ولها أسماء أخر: رَكْضَة جبريل، وهزمة الملك، والشَّبَّاعة

(3)

. وحكى الزمخشري ضم الشين

(4)

، وهمزة جبريل بتقديم الميم وتأخيرها بعد الزاي، وتكتم،

ذكره صاعد في "الفصوص" وغير ذَلِكَ.

ومقصود البخاري: أن شرب ماء زمزم من سنن الحج، لفضله

= الله تعالى- قال: وزنت ماء زمزم بماء عين مكة، فوجدت زمزم أثقل، من ثم اعتبرتها بميزان الطب فوجدتها تفضل مياه الأرض كلها طبًّا وشرعًا، لا جرم أن فيها معنى زائدًا على المياه، وهو أنها طعام طعم وشفاء سقم، وفيها للأبدان ما في الأمراق من التغذية والتقوية وإطفاء نار الحُمِّيَّات، وقد روي:"الحمى من فيح جهنم فأبردوها بماء زمزم" قال: ومن خواصها أن البيت المشرف لما اتصف بصفة من صفات الله تعالى، وهي: الأولية، قال تعالى {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ} شاركته زمزم في هذِه الصفة فكانت أول رزق استجيب في دعوة إبراهيم عليه السلام {وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ} فهي أول ثمرة، كذا قال. اهـ.

شفيت يا زمزم داء السقيم

فالله أضفى ما تعالجي النديم

أصبح للأشواق إليك بعد

الشيب مثل الفطيمِ

يا زمزم الطبيبة المخبر

يا من غلت بمور أعطى المشتري

رضيع أخلاقك أشتهي

فكأنه إلا لدى الكوثر.

(1)

في (ج): زمزام.

(2)

"معجم ما استعجم" 2/ 700 - 701.

(3)

"تهذيب اللغة" 2/ 1559.

(4)

"الفائق" 2/ 220.

ص: 463

وبركته، وقد نص أصحابنا عَلَى شربه.

قَالَ وهب بن منبه: نجدها في كتاب الله، شراب الأبرار، وطعام طعم، وشفاء سقم، لا تنزح ولا تزم، من شرب منها حَتَّى يتضلع أحدثت له شفاء وأخرجت منه داء.

وروى ابن جريج، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان لا يشرب منها في الحج

(1)

، ولعله لئلا يظن أن شربه من الفرض اللازم، وقد فعله أولًا مع أنه كان شديد الاتباع للآثار بل لم يكن أحد أتبع لها منه.

قَالَ معمر، عن الزهري: إن عبد المطلب لما أنبط ماء زمزم بنى عليه حوضًا فطفق هو وابنه الحارث ينزعان فيملآن ذَلِكَ الحوض، فيشرب منه الحاج، فيكسره الناس من حسدة قريش بالليل، ويصلحه عبد المطلب حين يصبح، فلما أكثروا إفساده دعا عبد المطلب ربه، فأُرِي في المنام فقيل له: قل: اللَّهُمَّ إني لا أحلها لمغتسل، ولكن هي للشارب حل وبل، ثم كفيتهم، فقام فنادى بالذي أري، فلم يكن أحد يفسد عليه حوضه ليلًا إلا رُمي بداء في جسده، ثم تركوا له حوضه وسقايته. قَالَ سفيان: بل حل محل.

وفيه: الشرب قائمًا كما سلف، وحلف عكرمة عَلَى نفيه، وقد ثبت شربه قائمًا

(2)

.

وقوله: "فُرِجَ سَقْفِي وَأَنَا بِمَكَّةَ". وفي رواية أخرى: "في المسجد الحرام" ومحل الخوض فيه الإسراء، وقد سلف.

(1)

رواه الفاكهي في "أخبار مكة" 2/ 61 (1150).

(2)

سيأتي برقم (5615 - 5617) كتاب: الأشربة، باب: الشرب قائمًا من حديث علي وابن عباس ما يثبت أنه صلى الله عليه وسلم شرب قائمًا.

ص: 464

فرع:

يُكره أن يستعمل ماء زمزم في نجاسة. وقال الماوردي: يحرم الاستنجاء به. وفي غسل الميت به قولان عند المالكية

(1)

، قَالَ ابن شعبان منهم: لا يستعمل في مرحاض، ولا يخلط بنجس، ولا يُزال به نجس، ويتوضأ به، ويتطهر من ليس باعضائه نجس، ولا يغسل به ميت -بناء عَلَى أصله في نجاسة الميت- ولا يقرب ماء زمزم بنجاسة، ولا يستنجى به.

وذُكر أن بعض الناس استعمله في ذَلِكَ فحدث به الباسور، والناس وأهل مكة وغيرهم عَلَى إبقاء ذَلِكَ إلى اليوم.

(1)

انظر: "المنتقى" 2/ 4، "حاشية الدسوقي" 1/ 407.

ص: 465

‌77 - باب طَوَافِ القَارِنِ

1638 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ، فَأَهْلَلْنَا بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ قَالَ:"مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيُهِلَّ بِالحَجِّ وَالعُمْرَةِ، ثُمَّ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا". فَقَدِمْتُ مَكَّةَ وَأَنَا حَائِضٌ، فَلَمَّا قَضَيْنَا حَجَّنَا أَرْسَلَنِي مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِلَى التَّنْعِيمِ، فَاعْتَمَرْتُ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم:"هَذِهِ مَكَانَ عُمْرَتِكِ". فَطَافَ الَّذِينَ أَهَلُّوا بِالعُمْرَةِ، ثُمَّ حَلُّوا، ثُمَّ طَافُوا طَوَافًا آخَرَ بَعْدَ أَنْ رَجَعُوا مِنْ مِنًى، وَأَمَّا الَّذِينَ جَمَعُوا بَيْنَ الحَجِّ وَالعُمْرَةِ طَافُوا طَوَافًا وَاحِدًا. [انظر: 294 - مسلم: 1211 - فتح: 3/ 493]

1639 -

حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما دَخَلَ ابْنُهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ وَظَهْرُهُ فِي الدَّارِ، فَقَالَ: إِنِّي لَا آمَنُ أَنْ يَكُونَ العَامَ بَيْنَ النَّاسِ قِتَالٌ، فَيَصُدُّوكَ عَنِ البَيْتِ، فَلَوْ أَقَمْتَ. فَقَالَ: قَدْ خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَحَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ البَيْتِ، فَإِنْ حِيلَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ أَفْعَلُ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] ثُمَّ قَالَ: أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَوْجَبْتُ مَعَ عُمْرَتِي حَجًّا. قَالَ: ثُمَّ قَدِمَ فَطَافَ لَهُمَا طَوَافًا وَاحِدًا. [1640، 1693، 1708، 1729، 1806، 1807، 1808، 1810، 1812، 1813، 4183، 4184، 4185 - مسلم: 1230 - فتح: 3/ 494]

1640 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما أَرَادَ الحَجَّ عَامَ نَزَلَ الحَجَّاجُ بِابْنِ الزُّبَيْرِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ النَّاسَ كَائِنٌ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ، وَإِنَّا نَخَافُ أَنْ يَصُدُّوكَ. فَقَالَ:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] إِذًا أَصْنَعَ كَمَا صَنَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، إِنِّي أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَوْجَبْتُ عُمْرَةً. ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِظَاهِرِ البَيْدَاءِ قَالَ: مَا شَأْنُ الحَجِّ وَالعُمْرَةِ إِلاَّ وَاحِدٌ، أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَوْجَبْتُ حَجًّا مَعَ عُمْرَتِي. وَأَهْدَى هَدْيًا اشْتَرَاهُ بِقُدَيْدٍ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ، فَلَمْ يَنْحَرْ، وَلَمْ يَحِلَّ مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ، وَلَمْ يَحْلِقْ وَلَمْ يُقَصِّرْ حَتَّى كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ، فَنَحَرَ وَحَلَقَ، وَرَأَى

ص: 466

أَنْ قَدْ قَضَى طَوَافَ الَحجِّ وَالعُمْرَةِ بِطَوَافِهِ الأَوَّلِ. وَقَالَ ابن عُمَرَ رضي الله عنهما: كَذَلِكَ فَعَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم. [انظر: 1639 - مسلم: 1230 - فتح: 3/ 494]

ذكر فيه ثلاثة أحاديث:

أحدها: حديث عائشة:

خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ .. الحديث بطوله. كما سلف في باب: كيف تهل الحائض والنفساء

(1)

.

ثانيها: حديث نافع:

أَنَّ ابن عُمَرَ دَخَلَ ابنهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ .. ، فذكر إيجابه الحج والعمرة والإحصار، وقد سلف أيضًا، إلا الإحصار.

ثالثها:

حديثه أيضًا عن ابن عمر أنه أَرَادَ الحَجَّ عَامَ نَزَلَ الحَجَّاجُ بِابْنِ الزُّبَيْرِ .. الحديث بطوله.

وأخرجه والذي قبله مسلم أيضًا

(2)

، وأسلفنا هناك اختلاف العلماء في حكم طواف القارن، وأن الثلاثة قالوا: يكفيه طواف واحد، وسعي واحد، وبه قَالَ ابن عمر، وجابر بن عبد الله اعتمادًا عَلَى أحاديث الباب خلافًا، لأصحاب الرأي.

قَالَ ابن بطال: وروي ذَلِكَ عن الشافعي أيضًا وهذا غريب عنه

(3)

، واحتجوا بأن العمرة إذا أفردها لزمته أفعالها.

(1)

سلف برقم (1556).

(2)

مسلم (1230) كتاب: الحج، باب: بيان جواز التحلل بالإحصار.

(3)

انظر: "البيان" 4/ 371، "أسنى المطالب" 1/ 462، "نهاية المحتاج" 3/ 323.

ص: 467

فلم يكن ضمها إلى الحج موجبًا لسقوط جميع أفعالها، دليله التمتع، وهو منتقض بالحلق؛ لما كان عليه حلاقتان كان عليه طوافان.

ولما كان القارن يكفيه حلق واحد، كفاه طواف واحد، فإن قيل: القياس منتقض؛ لأن المستحق في الحلق عن كل إحرام مقدار الربع، فمتى حلق جميع رأسه فقد أتى بما يقع عليه لكل واحد منهما، ولأنه يجري الموسى عَلَى رأسه بعد الحلق، فيقوم مقام الحلق الآخر عند العجز.

وجوابه: ما يقولون: إذا اقتصر القارن عَلَى حلق ربع رأسه، ولم يتجاوزه، ولم يجر الموسى عَلَى رأسه، هل يجزئه أو يحتاج إلى زيادة ربع آخر؟

فإن قلتم به فليس مذهبكم، وإن كفاه واحد فقد ثبت ما قلناه، وأيضًا فإن القارن إذا قتل صيدًا واحدًا فعليه جزاء، والحجة لهم لازمة؛ بحديث عائشة وابن عمر؛ لأنهم يأخذون بحديث عائشة في رفض العمرة مع احتماله في ذَلِكَ للتأويل، ويتركونه في طواف القارن، وهو لا يحتمل التأويل.

وقول ابن عمر: (إذن أصنع كلما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم) يعني: حين صُدَّ عام الحديبية فحلق، ونحر، وحل، فلم يُصد ابن عمر، فقرن الحج إلى العمرة، وكان عمله لهما واحدًا، وطوافًا واحدًا.

وقد احتج أبو ثور لذلك فقال: لما لم يجز أن يجمع بين عملين إلا الحج والعمرة فأجزنا ومن خالفنا لهما سفرًا واحدًا وإحرامًا واحدًا وكذلك التلبية كان كذلك يجزئ عنهما طواف واحد، وسعي

ص: 468

واحد

(1)

، وابن عمر رضي الله عنه لما أحرم علم بالعدو ولم يعلم هل يصده أم لا.

ومنصوص مذهب مالك: أن من أحرم بعد علمه بالعدو أنه لا يحل بحال لأنه ابتدأه بعد علمه به، ولا يحل دون البيت، قاله ابن الماجشون

(2)

ويبينه أنه صلى الله عليه وسلم لم يتيقن الصد؛ لأنه لم يأتهم محاربًا، وإنما قصد العمرة، ولم تكن قريش تمنع من قصدها.

وذكر عروة، عن عائشة: أنها أهلتْ بعمرة، وقد سلف، وأنها لم تتمادى عليها؛ لأنها حاضت، وقد تريد بهذا: أهل غيري، وتريد أنه صلى الله عليه وسلم لم يهل بها، إذ لو أهل بها لبدأت بذكره.

وقوله: (وَأَمَّا الذِينَ جَمَعُوا بَيْنَ الحَجِّ وَالعُمْرَةِ طَافُوا طَوَافًا وَاحِدًا).

روي أنهم طافوا طوافين، وسعوا سعيين، والأول أثبت، وعليه عوام العلماء، وقد سلف.

وقوله: (وَظَهْرُهُ فِي الدَّارِ) يعني: بعيره.

وقوله: (فقال: إِنِّي لَا آمَنُ أَنْ يَكُونَ العَامَ بَيْنَ النَّاسِ).

قَالَ ابن التين: بعد أن ذكره بلفظ: لا إيمن، أصله: لا أمن بفتح الألف، فكسروها؛ لأن الماضي عَلَى فعل بالكسر، والعرب تكسر أول مستقبل فعل، إلا أن يكون ياء، نحو: أنت تعلم، وأنا إعهد، وإخاف ربي، وإخال، ولا يكسرون أول مستقبل فعَل بالفتح، إلا أن يكون فيه حرف حلق، فيقولون: أنا إذهب، وإلحق، وهي لغة تميم، وقيل أنه أمال، وفي بعض الكتب: إني لا أيمن، بفتح الهمزة، ولا أعلم له وجهًا.

(1)

"شرح ابن بطال" 4/ 318 - 320.

(2)

انظر: "النوادر والزيادات" 2/ 433.

ص: 469

وقوله في الحديث الثالث: (أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَوْجَبْتُ عُمْرَةَ) إلى أن قَالَ: (حَتَّى كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ، فَنَحَرَ وَحَلَقَ، وَرَأى أَنْ قَدْ قَضَى طَوَافَ الحَجِّ وَالعُمْرَةِ بِطَوَافِهِ الأَوَّلِ. وَقَالَ ابن عُمَرَ: كَذَلِكَ فَعَلَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم).

لعله يريد بطوافه الأول أنه لما قدم طاف وسعى مرة واحدة، وذلك الطواف ليس من أركان الحج، وإنما هو طواف القدوم، وإنما الواجب لهما طواف الإفاضة الذي يفعله يوم النحر أو بعده، ومخرج هذا الإشكال ما ذكره الداودي، قَالَ: يعني قضى طواف الحج والعمرة بطوافه الأول يعني: الذي معه سعي.

وقوله: (كَذَلِكَ صنع رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) يُحتمل أنه يريد أنه قرن، ويحتمل أن يريد صنعنا كما صنعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقوله: (ولم يزد عَلَى ذَلِكَ) يعني: ولم يزد عَلَى السعي، ولكن طاف طواف الإفاضة.

وأما الصد المذكور في حديث ابن عمر، فلنتكلم عليه هنا؛ ليُحالَ فيما بعدُ عليه، فنقول: اختلف العلماء في المحصر في الآية الكريمة، بالعدوِّ أو بالمرض؟ فمن قَالَ بالأول احتج بذكر المرض فيه، فلو كان المحصر هو المحصر بمرض، لما كان لذكر المرض بعد ذَلِكَ فائدة، واحتجوا بقوله تعالى:{فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالعُمْرَةِ إِلَى الحَجِّ} [البقرة: 196] ومن قَالَ بالثاني قَالَ: لا يُقال: أحصر في العدو، وإنما يقال: حصره العدو، وأحصره المرض، وإنما ذكر المرض بعد ذَلِكَ؛ لأنه صنفان: صنف محصر، وغير محصر، وقال:{فَإِذَا أَمِنْتُمْ} أي: من المرض، وعكس ذَلِكَ، فأحصر بالعدو، وحصر بالمرض؛ لأن العدو إنما عرض للإحصار، والمرض فاعله.

وعند الحنفية: أن كل مانع يمنع المحرم من الوصول إلى الحرم

ص: 470

لإتمام حج أو عمرة من خوف أو مرض أو سلطان فهو محصر، أي: ممنوع

(1)

.

والإحصار لغة: المنع، وإليه ذهب ابن حزم

(2)

، حيث قَالَ: اختلف الصحابة فمن بعدهم في الإحصار، فرُوِّينا عن ابن عمر أنه قَالَ: لا إحصار إلا من عدو

(3)

، وفي مسلم عن البراء: لما أحصر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البيت .. الحديث

(4)

.

وقال إبراهيم النخعي: الإحصار من الخوف والمرض والكسر، وقال عطاء: من كل شيء يحبسه، وسيأتي في البخاري في بابه

(5)

.

وقال ابن مسعود: هو المرض والكسر وشبهه. وعن ابن عباس: لا حصر إلا من حبس عدو

(6)

، وقال طاوس: لا حصر إلا أن (يذهب)

(7)

الحصر.

(1)

انظر: "مختصر الطحاوي" ص 71، "بدائع الصنائع" 2/ 175، "حاشية ابن عابدين" 2/ 590.

(2)

"المحلى" 7/ 203 - 204.

(3)

رواه ابن أبي شيبة 3/ 206 (13553) كتاب: الحج، في الإحصار في الحج ما يكون.

(4)

مسلم (1783) كتاب: الجهاد، باب: صلح الحديبية.

(5)

سيأتي معلقًا في أول كتاب المحصر، ووصله ابن أبي شيبة 3/ 206 (13552) كتاب: الحج، في الإحصار في الحج ما يكون. عن عطاء قال: لا إحصار إلا من مرض أو عدو أو أمر حابس.

(6)

رواه الطبراني 2/ 221 (3240 - 3242) وابن أبي حاتم 1/ 336 (1768)، والبيهقي 5/ 219، وفي "معرفة السنن والآثار" 7/ 491 (10795)، وعزاه في "الدر المنثور" 1/ 384 لسفيان بن عيينة، والشافعي في "الأم" وعبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.

(7)

عليها في الأصل: كذا.

ص: 471

وعن علقمة: الحصر: الخوف والمرض

(1)

، وعن عروة: الحصر ما حبسه من وجع، أو خوف، أو ابتغاء ضالة

(2)

.

وعن الزهري: الحصر ما حصره من وجع أو عدو حَتَّى يفوته الحج.

قَالَ: وقد فرق قوم بين الإحصار والحصر، فروينا عن الكسائي: أنه قال: ما كان من المرض فإنه يقال فيه: أحصر فهو محصر، وما كان من حبس قيل: حُصِر. وعن أبي عبيدة: ما كان من مرض أو ذهاب نفقة قيل فيه أحصر فهو محصر، وما كان من حبس قيل: حصر، وبه قَالَ أبو عبيد.

قَالَ ابن حزم: هذا لا معنى له، وقول ربنا هو الحجة؛ قال تعالى:{فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196]، وإنما نزلت في الحديبية، إذ منعه الكفار من إتمام عمرته، فسماه تعالى: إحصارًا، وكذلك قَالَ البراء وابن عمر والنخعي، وهو في اللغة قول أبي عبيدة، وأبي عبيد، والكسائي، وقال تعالى:{لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة: 273] فهذا هو منع العدو بلا شك؛ لأن المهاجرين إنما منعهم في الأرض الكفار، وبيَّن ذَلِكَ -جل وعز- بقوله:{فِي سَبِيلِ اللَّهِ} فصحَّ أن الإحصار والحصر بمعنى واحد، وأنهما اسمان يقعان عَلَى كل مانع من عدو أو مرض أو غير ذَلِكَ

(3)

.

وقال الفراء: لو نويت بقهر السلطان أنها علة مانعة، ولم يذهب إلى فعل الفاعل جاز أحصر، ولو قلت في أحصر من المرض وشبهه أنه حصره، جاز حصر.

(1)

رواه الطحاوي 2/ 251.

(2)

رواه ابن أبي شيبة 3/ 206 (13554)، وابن جرير 2/ 220 (3237).

(3)

انتهى من "المحلى" 7/ 203 - 204.

ص: 472

وقوله: {وَسَيِّدًا وَحَصُورًا} [آل عمران: 39] ويُقال: إنه المحصر عن النساء لأنها علة، وليس بممنوع محبوس، وعلى هذا فابنِ. قَالَ الرماني

(1)

في "اشتقاقه": الأصل فيه الحبس، ومعنى {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ}: منعتم من علة أو عائق. وذكر الزجاج في "معانيه": أن الرواية عن أهل اللغة أنه يُقال للذي يمنعه خوف أو مرض من التصرف: أحصر فهو محصر، وللرجل الذي حبس: حصر فهو محصور.

ورد كلام الفراء وقال: الحق فيه ما عليه أهل اللغة؛ لأن الممنوع من التصرف حبس نفسه، فكأن المرض أحبسه أي: جعله يحبس نفسه، وتقول: حصرتُ فلانًا، إنما هو حبسته لا أنه حبس نفسه، فلا يجوز فيه أحصر، والتي هذا ذهب ثعلب وشراحه، وفي "نوادر اليزيدي": حصرني الشيء، وأحصرني: حبسني، لغة بني أسد.

وقال أبو عبيدة، عن يونس: حصرته وأحصرته لغتان، قَالَ: ولم نجد أحصرته.

وكان أبو عمرو بن العلاء يقول: إذا حبسته عن الذهاب في كل وجهٍ فقد حصرته، وإن حبسته عن المتقدم خاصةً فقد أحصرته.

(1)

هو العلامة أبو الحسن، علي بن عيسى الرماني النحوي المعتزلي، أخذ عن الزجاج وابن دريد، صنف في التفسير واللغة والنحو والكلام، وشرح "كتاب سيبويه" شرحًا كبيرًا، وله كتاب "الاشتقاق"، وكتاب "التصريف"، وكان مع اعتزاله يتشيع ويقول: علي أفضل الصحابة.

كان أبو حيان التوحيدي يبالغ في تعظيم الرماني حتى قال: إنه لم ير مثله قط علمًا بالنحو وغزارة في الكلام توفي -غفر الله له- في جمادى الأولى من سنة أربع وثمانين وثلاثمائة، عن ثمان وثمانين سنة.

انظر ترجمته في: "تاريخ بغداد" 12/ 16، "وفيات الأعيان" 3/ 299، "تاريخ الإسلام" 27/ 82، "سير أعلام النبلاء" 16/ 533 (390).

ص: 473

وقال النحاس: جميع أهل اللغة عَلَى أن الإحصار إنما هو بالمرض ومن العدوِّ، لا يُقال: إلا حصر

(1)

.

والمحصر لا يتحلل إلا بالذبح عند الحنفية والحنابلة

(2)

، وعندنا به وبنية التحلل، وكذا الحلق إن جعلناه نسكًا.

وقال مالك: لا هدي عليه إلا أن يكون معه هدي ساقه

(3)

.

وذهب أبو حنيفة في جماعة إلى أن الإحصار يكون في العمرة أيضًا

(4)

.

وقال ابن القاسم: ليس للعمرة حد بل يتحلل، وإن لم يخش، الفوات

(5)

. ولا يجوز ذبح الإحصار إلا في الحرم في الحج والعمرة، قاله أبو حنيفة

(6)

.

قَالَ الرازي في "أحكامه": وهو قول ابن مسعود وابن عباس -إن قدر عليه- وعطاء وطاوس ومجاهد والحسن والنخعي والثوري.

وقال الشافعي ومالك وأحمد: يذبح في العمرة هديه حيث أحصر

(7)

.

(1)

"معاني القرآن" للنحاس 1/ 117.

(2)

انظر "البناية" 4/ 386، "البحر الرائق" 3/ 95، "حاشية ابن عابدين" 2/ 591، "البيان" 4/ 393، "روضة الطالبين" 3/ 174، "المستوعب" 4/ 301، "كشاف القناع" 2/ 525 - 526.

(3)

"التاج والإكليل" 4/ 292، وانظر:"المنتقى" 2/ 273، "الاستذكار" 12/ 79.

(4)

"الأصل" 2/ 462.

(5)

"شرح منح الجليل" 1/ 558.

(6)

"البناية" 4/ 387، "الفتاوى التاتارخانية" 2/ 535.

(7)

"الاستذكار" 2/ 83، "الذخيرة" 3/ 187، "البيان" 4/ 394، "المجموع" 8/ 319، "المستوعب" 4/ 308، "المغني" 5/ 198.

ص: 474

وعن أحمد في الحج روايتان: الأولى: تختص بيوم النحر

(1)

، وعندنا إذا أمكنه ذبحه في الحرم لا يجوز ذبحه في غيره في أحد الوجهين

(2)

.

وأجمعوا أنه لو أحصر في الحرم لا يجوز ذبحه في الحل، وبالعكس يجوز بلا خلاف، واستدلوا بأنه صلى الله عليه وسلم وأصحابه عام الحديبية لما أحصروا في ذي القعدة سنة ست نحروا هداياهم بها، وهي من الحل.

والحنفية استدلوا بقوله تعالى: {حَتَّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] فلو كان محله حيث أحصر لم يكن لقوله: {مَحَلَّهُ} ومعنى؛ لأنه يكون قد بلغ محله في كل موضع أحصر فيه، ويدل عليه قوله تعالى:{ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى البَيْتِ العَتِيقِ} [الحج: 33] وهو عام في كل هدي، وهو بيان المحل المجمل.

وقال في جزاء الصيد: {هَدْيًا بَالِغَ الكَعْبَةِ} [المائدة: 95] وقوله: (أن يبلغ الهدي محله)

(3)

أي: وصدوا الهدي أن يبلغ محله.

وفي النسائي بإسناد جيد أنه صلى الله عليه وسلم قَالَ له ناجية بن جندب الأسلمي حين صد الهدي: يا رسول الله، ابعث به معي أنا أنحره، قَالَ:"وكيف؟ " قَالَ: آخذ به في أودية لا يقدر عليه، فدفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق به حَتَّى نحره في الحرم

(4)

.

(1)

"المسائل الفقهية" 1/ 296.

(2)

"البيان" 4/ 394، "روضة الطالبين" 3/ 175.

(3)

كذا في الأصل و (م)، والتلاوة:{حَتَّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ} .

(4)

"السنن الكبرى" 2/ 453 (4135) كتاب: الحج، باب: هدي المحصر، ورواه الطحاوي "شرح معاني الآثار" 2/ 242.

ص: 475

وذكر الطحاوي، عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم، أنهما ذكرا أن خباء رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في الحل، ومصلاه في الحرم، وقال مالك: الحديبية من الحرم، حكاه صاحب "لمطالع" عنه، وقال ابن القصار: بعضها الحل.

وذكر علي بن الجعد، عن أبي يوسف: سألتُ أبا حنيفة عن الحصر في الحرم، قَالَ: لا يكون محصرًا، قلتُ: فرسول الله صلى الله عليه وسلم أحصر بالحديبية وهي من الحرم. فقال: إن مكة كانت دار حرب والآن دار إسلام

(1)

.

ويجوز ذبحه قبل يوم النحر في العمرة بالاتفاق، وكذا في الحج عند أبي حنيفة، وخالفه صاحباه والثوري وأحمد في رواية الأثرم وحنبل، فقالوا: لا يجوز قبل يوم النحر، ولا يحتاج إلى الحلق، بل يتحلل بالذبح عند أبي حنيفة، وقال أبو يوسف: يحلق، فإن لم يحلق فلا شيء عليه. وروي عنه دم

(2)

.

وعن أحمد روايتان، وكذا عن مالك والشافعي، ولا بدل له عند الحنفية

(3)

، والأظهر عند الشافعي: نعم، وأنه طعام بقيمة الشاة

(4)

، ومالك في أحد قوليه، وفي الآخر: يصوم عشرة أيام كالمتمتع، وهو

قول أحمد

(5)

.

(1)

"المبسوط" 4/ 114، "شرح فتح القدير" 3/ 134 - 135.

(2)

"مختصر الطحاوي" ص 72، "البناية" 4/ 387، "المستوعب" 4/ 303، "المغني" 5/ 198.

(3)

"شرح فتح القدير" 3/ 134.

(4)

"البيان" 4/ 396، "روضة الطالبين" 3/ 186.

(5)

"الذخيرة" 3/ 189، "المغني" 5/ 200، "الفروع" 3/ 533.

ص: 476

وكان عطاء يقول: إذا عجز عن الهدي ينظر إلى قيمته فيطعم به لكل مسكين نصف صاع من برٍ أو يصوم

(1)

.

قَالَ أبو يوسف: وهذا أحبُّ إليَّ

(2)

. وقال الزهري وعروة: لا إحصار عَلَى أهل مكة

(3)

. قَالَ أبو يوسف: إن غلب العدو فحال بينه وبين البيت فهو محصور

(4)

.

وفي "شرح الهداية": الأصح أنه إن مُنع من الوقوف والطواف فهو محصر، وإن لم يمنع من أحدهما فلا

(5)

.

وذهب بعضهم إلى أنه لا إحصار اليوم؛ لزوال الشرك عن جزيرة العرب، وهذا شذوذ فإن العدو لم يزل، فإن حبسه السلطان تحلل عند الجماعة، خلافًا لمالك

(6)

.

والحاج عن غيره إذا أحصر يجب عَلَى الآمر دم للإحصار عند أبي حنيفة ومحمد، وعند أبي يوسف عَلَى الحاج

(7)

.

وقال عبد الله وعروة ابنا الزبير بن العوام: إن العدوَّ والمرض سواء، لا يحل المحصر منهما إلا بالطواف.

قَالَ الرازي: لا نعلم لهما موافقًا من فقهاء الأمصار، ويتحقق الإحصار عند أبي حنيفة بعد الإحرام.

(1)

"المبسوط" 4/ 113.

(2)

انظر: "البناية" 4/ 387.

(3)

"البناية" 4/ 388.

(4)

"المسبوط" 4/ 114، "شرح فتح القدير" 3/ 135.

(5)

"شرح العناية على الهداية" 3/ 135.

(6)

"البناية" 4/ 389.

(7)

"البناية" 4/ 390.

ص: 477

وقال مالك: لا يكون محصرًا حَتَّى يفوته الحج، إلا أن يدركه فيما بقي فيتحلل في مكانه

(1)

.

وفي "شرح الموطأ" لأبي عبد الله القرطبي: من أحصر بمرض أو كسر أو عرج فقد حل في موضعه ولا هدي، وعليه القضاء، وعزاه إلى أبي ثور تعلقًا بحديث الحجاج بن عمرو، وخالف بذلك الجماعة.

وحديث الحجاج حسَّنه الترمذي، وصححه الحاكم عَلَى شرط البخاري بلفظ:"من كسر أو عرج فقد حل، وعليه الحج من قابل". وفي لفظ أبي داود: "أو مرض".

قال عكرمة: فسألت ابن عباس وأبا هريرة عن ذَلِكَ فقالا: صدق

(2)

.

وقال بعضهم فيما حكاه المنذري: ثبت عن ابن عباس أنه قَالَ: لا حصر إلا حصر العدو

(3)

، فكيف بهذِه الرواية؟! وتأوله بعضهم إنما يحل بالكسر إذا كان قد اشترط ذَلِكَ في عقد الإحرام عَلَى معنى حديث ضباعة المشهور

(4)

، قالوا: ولو كان الكسر عذرًا لم يكن لاشتراطها معنى

(5)

(6)

.

(1)

"مواهب الجليل" 3/ 197.

(2)

سيأتي تخريج هذا الحديث بإستيفاء في باب: إذا أحصر المعتمر، من كتاب المحصر، حديث (1806 - 1809) فانظره.

(3)

تقدم تخريجه، وسيأتي أيضًا.

(4)

سيأتي برقم (5089) كتاب: النكاح، باب: الأكفاء في الدين، ورواه مسلم (1207 - 1208) كتاب: الحج، باب: جواز اشتراط المحرم التحلل بعذر المرض ونحوه.

(5)

في هامش الأصل تعليق نصه: آخر 3 من 7 من تجزئة الشيخ.

(6)

"مختصر سنن أبي داود" للمنذري 2/ 368.

ص: 478

‌78 - باب الطَّوَافِ عَلَى وُضُوءٍ

1641 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الحَارِثِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَوْفَلٍ القُرَشِيِّ أَنَّهُ سَأَلَ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ: قَدْ حَجَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ رضي الله عنها أَنَّهُ أَوَّلُ شَىْءٍ بَدَأَ بِهِ حِينَ قَدِمَ أَنَّهُ تَوَضَّأَ، ثُمَّ طَافَ بِالبَيْتِ، ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةً، ثُمَّ حَجَّ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه فَكَانَ أَوَّلَ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ الطَّوَافُ بِالبَيْتِ، ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةً. ثُمَّ عُمَرُ رضي الله عنه مِثْلُ ذَلِكَ، ثُمَّ حَجَّ عُثْمَانُ رضي الله عنه فَرَأَيْتُهُ أَوَّلُ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ الطَّوَافُ بِالبَيْتِ، ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةٌ، ثُمَّ مُعَاوِيَةُ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ، ثُمَّ حَجَجْتُ مَعَ أَبِي -الزُّبَيْرِ بْنِ العَوَّامِ- فَكَانَ أَوَّلَ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ الطَّوَافُ بِالبَيْتِ، ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةٌ، ثُمَّ رَأَيْتُ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارَ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةٌ، ثُمَّ آخِرُ مَنْ رَأَيْتُ فَعَلَ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ، ثُمَّ لَمْ يَنْقُضْهَا عُمْرَةً، وَهَذَا ابْنُ عُمَرَ عِنْدَهُمْ فَلَا يَسْأَلُونَهُ، وَلَا أَحَدٌ مِمَّنْ مَضَى مَا كَانُوا يَبْدَءُونَ بِشَيْءٍ حَتَّى يَضَعُوا أَقْدَامَهُمْ مِنَ الطَّوَافِ بِالبَيْتِ، ثُمَّ لَا يَحِلُّونَ، وَقَدْ رَأَيْتُ أُمِّي وَخَالَتِي، حِينَ تَقْدَمَانِ لَا تَبْتَدِئَانِ بِشَيْءٍ أَوَّلَ مِنَ البَيْتِ، تَطُوفَانِ بِهِ، ثُمَّ لَا تَحِلاَّنِ. [انظر: 1614 - مسلم: 1235 - فتح: 3/ 496]

1642 -

وَقَدْ أَخْبَرَتْنِي أُمِّي أَنَّهَا أَهَلَّتْ هِيَ وَأُخْتُهَا وَالزُّبَيْرُ وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ بِعُمْرَةٍ، فَلَمَّا مَسَحُوا الرُّكْنَ حَلُّوا. [انظر: 1615 - مسلم: 1235 - فتح: 3/ 497]

ذكر فيه حديث مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَوْفَلِ القُرَشِيِّ أَنَّهُ سَأَلَ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ: قَدْ حَجَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ أَنَّهُ أَوَّلُ شَيءٍ بَدَأَ بِهِ حِينَ قَدِمَ أَنَّهُ تَوَضَّأ، ثُمَّ طَافَ بِالبَيْتِ. الحديث.

وقد سلف في باب: من طاف بالبيت إذا قدم مكة

(1)

.

وفيه: ما ترجم به أن سنة الطواف أن يكون عَلَى طهارة.

(1)

برقم (1614 - 1615).

ص: 479

واتفق جمهور العلماء عَلَى أنه لا يجزئ بغير طهارة كالصلاة

(1)

، وخالف ذَلِكَ أبو حنيفة كما أسلفته هناك، فقال: إن طاف بغير طهارة فإن أمكنه إعادة الطواف أعاده، وإن رجع إلى بلده جبره بالدم

(2)

، وحجة الجماعة هذا الحديث، وفعله للوجوب إلا أن تقوم دلالة، وأيضًا فإن فعله خرج مخرج البيان لقوله تعالى:{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالبَيْتِ العَتِيقِ} [الحج: 29]؛ لأن الطواف مجمل يحتاج إلى بيان صفته؛ لأنه يقتضي طوفة واحدة، وقد تقدم تسميته صلاة، وقد يكون في الشرع صلاة لا ركوع فيها ولا سجود كصلاة الجنازة، لا يقال: فينبغي أن يكون لها تحريم وتسليم، لأنه ليس كل ما كان صلاة يحتاج إلى ذَلِكَ؛ لأن كثيرًا من الناس من يقول في سجود السهو أنه صلاة ولا يحتاج إلى ذَلِكَ، وكذلك سجود التلاوة إذا كان في صلاة.

وحديث صفية لما حاضت فقال: "أحابستنا هي؟ " فقيل: قد أفاضت، فقال:"فلا إذًا"

(3)

حجة لنا؛ فلو كان الدم يقوم مقام طوافها بغير طهارة لكان صلى الله عليه وسلم لا يحتاج أن يقيم هو وأصحابه إلى أن تطهير ثم تطوف.

فإن قلت: إن الطواف -أعني: طواف الزيارة- لا يصح الحج إلا به، فلا يحتاج إلى طهارة كالوقوف بعرفة.

(1)

انظر: "الا ستذكار" 12/ 171.

(2)

"المبسوط" 4/ 38، "بدائع الصنائع" 2/ 38.

(3)

سيأتي برقم (1757) كتاب: الحج، باب: إذا حاضت المرأة بعد ما أفاضت،

ورواه ومسلم (1211) كتاب: الحج، باب: وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض.

ص: 480

قلتُ: لما كان بعقب كل أسبوع من الطواف ركعتان، لا فصل بينه وبينها، وجب أن يكون الطائف متوضئًا؛ ليصلّ صلاته بطوافه، والوقوف بعرفة لا صلاة بإثره فافترقا، واختلفوا فيمن انتقض وضوؤه وهو في

الطواف.

فقال عطاء ومالك: يتوضأ ويستأنف الطواف

(1)

. قَالَ مالك: بخلاف السعي لا يقطع ذَلِكَ عليه ما أصابه من انتقاض وضوئه

(2)

.

وقال النخعي: يبني، وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق، إلا أن الشافعي قَالَ: إن تطاول استأنف

(3)

، وقال مالك: إن كان تطوَّع فأراد إتمامه توضأ واستأنف، وإن لم يرد إتمامه تركه

(4)

.

وفيه: حجة لمن اختار الإفراد، وأن ذَلِكَ كان عمل النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه بعده لم يعدل أحد منهم إلى تمتع ولا قران؛ لقولها:(ثم لَمْ تَكُنْ عُمْرَةٌ) وهو يبين لك أن ما وقع لعائشة أنه اعتمر أو فسخ وَهْم، أو يكون عَلَى تأويل الأمر.

وقوله: (ثمَّ لَمْ يكُنْ عُمْرَةٌ). هذا آخر كلام عائشة، وما بعده لعروة، قاله أبو عبد الملك، وقال الداودي: ما ذكر من حج عثمان من كلام عروة، وما قبله لعائشة، قَالَ: وما احتج به عروة لا مزيد فوقه، وإنما كان الفسخ في تلك الحجة خاصة.

(1)

"المنتقى" 2/ 289.

(2)

"المنتقى" 2/ 290.

(3)

"الأم" 2/ 178، "مغني المحتاج" 1/ 485، "مسائل الإمام أحمد برواية الكوسج" 1/ 532.

(4)

"النوادر والزيادات" 2/ 379.

ص: 481

‌79 - باب وُجُوبِ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ وَجُعِلَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ

1643 -

حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ عُرْوَةُ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها فَقُلْتُ لَهَا: أَرَأَيْتِ قَوْلَ اللهِ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّفَا وَالمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ البَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158] فَوَاللهِ مَا عَلَى أَحَدٍ جُنَاحٌ أَنْ لَا يَطُوفَ بِالصَّفَا وَالمَرْوَةِ. قَالَتْ: بِئْسَ مَا قُلْتَ يَا ابْنَ أُخْتِي، إِنَّ هَذِهِ لَوْ كَانَتْ كَمَا أَوَّلْتَهَا عَلَيْهِ، كَانَتْ لَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَتَطَوَّفَ بِهِمَا، وَلَكِنَّهَا أُنْزِلَتْ فِي الأَنْصَارِ، كَانُوا قَبْلَ أَنْ يُسْلِمُوا يُهِلُّونَ لِمَنَاةَ الطَّاغِيَةِ التِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا عِنْدَ المُشَلَّلِ، فَكَانَ مَنْ أَهَلَّ يَتَحَرَّجُ أَنْ يَطُوفَ بِالصَّفَا وَالمَرْوَةِ، فَلَمَّا أَسْلَمُوا سَأَلُوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا كُنَّا نَتَحَرَّجُ أَنْ نَطُوفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى {إِنَّ الصَّفَا وَالمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ} [البقرة: 158] الآيَةَ. قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: وَقَدْ سَنَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا، فَلَيْسَ لأَحَدٍ أَنْ يَتْرُكَ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا. ثُمَّ أَخْبَرْتُ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا لَعِلْمٌ مَا كُنْتُ سَمِعْتُهُ، وَلَقَدْ سَمِعْتُ رِجَالًا مِنْ أَهْلِ العِلْمِ، يَذْكُرُونَ أَنَّ النَّاسَ -إِلاَّ مَنْ ذَكَرَتْ عَائِشَةُ مِمَّنْ كَانَ يُهِلُّ بِمَنَاةَ- كَانُوا يَطُوفُونَ كُلُّهُمْ بِالصَّفَا وَالمَرْوَةِ، فَلَمَّا ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى الطَّوَافَ بِالبَيْتِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الصَّفَا وَالمَرْوَةَ فِي القُرْآنِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، كُنَّا نَطُوفُ بِالصَّفَا وَالمَرْوَةِ، وَإِنَّ اللهَ أَنْزَلَ الطَّوَافَ بِالبَيْتِ، فَلَمْ يَذْكُرِ الصَّفَا، فَهَلْ عَلَيْنَا مِنْ حَرَجٍ أَنْ نَطَّوَّفَ بِالصَّفَا وَالمَرْوَةِ؟ فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى:{إِنَّ الصَّفَا وَالمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ} [البقرة: 158] الآيَةَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَأَسْمَعُ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِي الفَرِيقَيْنِ كِلَيْهِمَا: فِي الَّذِينَ كَانُوا يَتَحَرَّجُونَ أَنْ يَطُوفُوا بِالجَاهِلِيَّةِ بِالصَّفَا وَالمَرْوَةِ، وَالَّذِينَ يَطُوفُونَ ثُمَّ تَحَرَّجُوا أَنْ يَطُوفُوا بِهِمَا فِي الإِسْلَامِ مِنْ أَجْلِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالطَّوَافِ بِالبَيْتِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الصَّفَا حَتَّى ذَكَرَ ذَلِكَ بَعْدَ مَا ذَكَرَ الطَّوَافَ بِالبَيْتِ. [1790، 4495، 4861 - مسلم: 1277 - فتح: 3/ 497]

ص: 482

ذكر فيه عن (عروة)

(1)

قال: سَألْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها فَقُلْتُ لَهَا: أَرَأَيْتِ قَوْلَ اللهِ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّفَا وَالمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ البَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158] .. الحديث بطوله، وقد أخرجه مسلم والأربعة أيضًا

(2)

.

وقوله: (حَتَّى أَخْبَرْتُ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ): قائل هذا هو الزهري، كما صرح به مسلم

(3)

، وزعم الحميدي أن أبا معاوية الضرير تفرد عن هشام بقوله: إن الأنصار كانوا يطوفون بين الصفا

والمروة. وسائر الروايات عن هشام أنه قَالَ: أنهم كانوا لا يطوفون بينهما

(4)

.

وما ذكرته عائشة رضي الله عنها من بديع فقهها، ومعرفتها بأحكام الألفاظ؛ لأن الآية الكريمة إنما اقتضى ظاهرها رفع الحرج عمن طاف بين الصفا والمروة، وليس بنص في سقوط الوجوب، فأخبرته أن ذَلِكَ محتمل، ولو كان نصًّا في ذَلِكَ لكان يقول: فلا جناح عليه أن لا يطَّوَّف بهما؛ لأن هذا يتضمن سقوط الإثم عمن ترك الطواف، ثم أخبرته أن ذَلِكَ إنما كان بسبب الأنصار، وقد يكون الفعل واجبًا ويعتقد المعتقد أنه قد منع من إيقاعه عَلَى صفة، وهذا كمن عليه صلاة ظهر فيظن أن

(1)

فوقها في الأصل: مسند.

(2)

مسلم (1277) كتاب: الحج، باب: بيان أن السعي بين الصفا والمروة ركن لا يصح الحج إلا به، أبو داود (19010) كتاب: المناسك، باب: أمر الصفا والمروة، الترمذي (2965) كتاب: تفسير القرآن سورة البقرة، النسائي 5/ 237 - 238، ابن ماجه (2986) كتاب: المناسك، باب: السعي بين الصفا والمروة.

(3)

مسلم (1277) كتاب: الحج، باب: بيان أن السعي بين الصفا والمروة ركن لا يصح الحج إلا به.

(4)

"الجمع بين الصحيحين" للحميدي 4/ 57.

ص: 483

لا يسوغ له إيقاعها بعد المغرب، فيسأل فيقال: لا حرج عليك إن صليت، فيكون الجواب صحيحًا، ولا يقتضي نفي وجوب الظهر عليه، وقد جاء أن الأنصار قالوا: إنما أمرنا بالطواف ولم نؤمر بين الصفا والمروة، فنزلت الآية، وعروة أَوَّلَ الآية بأن لا شيء عليه في تركه؛ لأن هذا اللفظ أكثر ما يستعمل في المباح دون الواجب، ولكن سببه أنه خوطب به من رأى الحرج فيه.

وجاء أن من العرب من كان يقول: إن طوافنا بين هذين الحجرين من أمر الجاهلية، فقال أبو بكر بن عبد الرحمن: أراها نزلت في هؤلاء وهؤلاء.

وفي "أسباب النزول" للواحدي: قَالَ ابن عباس: كان عَلَى الصفا صنم عَلَى صورة رجل، يقال له إساف، وعلى المروة صنم عَلَى صورة امرأة تدعى نائلة، يزعم أهل الكتاب أنهما زنيا في الكعبة، فمُسخا حجرين، فوضعا عَلَى الصفا؛ ليُعتبر بهما، فلما طالت المدة عُبدا، فكان أهل الجاهلية إذا طافوا بينهما مسحوا الوثنين، فلما جاء الإسلام، وكُسرت الأصنام، كره المسلمون الطواف بينهما؛ لأجل الصنمين، فنزلت هذِه الآية

(1)

.

وقَالَ السدي: كان في الجاهلية تعزف الشياطينُ في الليل بين الصفا والمروة، وكانت بينهما آلهة، فلما ظهر الإسلام قَالَ المسلمون: يا رسول الله، لا نطوف بينهما فإنه شرك، كنا نصنعه في الجاهلية، فنزلت الآية

(2)

.

(1)

"أسباب النزول" ص 49.

(2)

رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره" 2/ 50 (2348).

ص: 484

وقال الفراء: فيما نقله الأزهري: كانت العرب عامة لا يرون الصفا والمروة من الشعائر، فلا يطوفون بينهما، فأنزل الله تعالى:{لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ} [المائدة: 2] أي: لا تستحلوا ترك ذَلِكَ

(1)

.

وفي "معانيه": كره المسلمون الطواف بينهما لصنمين كانا عليهما، فكرهوا أن يكون ذَلِكَ تعظيمًا لهما

(2)

.

وقال أبو عبيدة: شعائر الله واحدها شعيرة

(3)

. وقيل: شعاره، حكاه في "الموعب" و"المطالع"، وهو ما أشعر الهدي إلى الله تعالى.

وقال الزجاج: هي جميع متعبدات الله التي أشعرها الله، أي: جعلها أعلامًا لنا، وهي كل ما كان من موقف أو سعي وذبح، وإنما قيل: شعائر لكل علم مما تعبد به.

وقال الحسن: شعائره: دينه. وقال السجستاني في "مصاحفه": وجدت في مصحف أُبي بن كعب: فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما

(4)

.

وقال الزمخشري: هي قراءة ابن مسعود

(5)

، زاد غيره: وابن عباس.

وقال الزجاج: يجوز أن يطوف، وأن يطوف ويتطوف، فالثاني عَلَى الإدغام، لقرب مخرج التاء من الطاء، ومَنْ ضم أوله، فهو من طوّف إذا أكثر التطواف.

إذا تقرر ذَلِكَ: فاختلف العلماء في السعي بينهما، فروي عن ابن مسعود وأُبي بن كعب وابن عباس أنه غير واجب، ولا دم في تركه.

(1)

"تهذيب اللغة" 2/ 1884.

(2)

"معاني القرآن" 1/ 95.

(3)

"مجاز القرآن" لأبي عبيدة 1/ 62، 146.

(4)

"المصاحف" ص 53.

(5)

"الكشاف" للزمخشري 1/ 191.

ص: 485

وحكي أيضًا عن أنس وابن الزبير وابن سيرين، وقال عطاء والحسن وقتادة والثوري: هو واجب، يجبر بدم

(1)

.

وعن عطاء: سنة لا شيء فيه

(2)

، وبه قَالَ الكوفيون، وقالتْ عائشة: هو فرض لا يصح الحج إلا به

(3)

.

وبه قَالَ مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وداود، ويأمرون من بقي عليه منه شيء بالرجوع إليه من بلده، فإذا كان وطئ النساء قبل أن يرجع كان عليه إتمام حجه أو عمرته، وحج قابل والهدي

(4)

، كذا حكاه ابن بطال عنهم

(5)

، ونقل المروذي عن أحمد أنه مستحب، واختيار القاضي وجوبه وانجباره بالدم

(6)

.

قَالَ ابن قدامة: وهو أقرب إلى الحق

(7)

. وعن طاوس: من ترك منه أربعة أشواط لزمه دم، وإن ترك دونها لزمه لكل شوط نصف صاع، وليس هو بركن.

وذكر ابن القصار، عن القاضي إسماعيل: أنه ذكر عن مالك فيمن تركه حَتَّى تباعد فأصاب النساء أنه يجزئه ويهدي.

(1)

رواه عن الحسن وعطاء: ابن أبي شيبة 3/ 269 (14200 - 14201)، وانظر:"المجموع" 8/ 104.

(2)

رواه ابن أبي شيبة 3/ 270 (14204).

(3)

رواه ابن أبي شيبة 3/ 270 (14205).

(4)

"المبسوط" 4/ 50، "التفريع" 1/ 338، "عيون المجالس" 2/ 816، "الاستذكار" 12/ 201، "البيان" 4/ 203، "المجموع" 8/ 76، "المستوعب" 4/ 221، "المبدع" 3/ 224.

(5)

"شرح ابن بطال" 4/ 323.

(6)

"الروايتين والوجهين" 1/ 284.

(7)

"المغني" 5/ 238.

ص: 486

احتج من لم يره واجبًا بقراءة من قرأ: (فلا جُنَاحَ عليه أن لا يَطَّوَّفَ بهما)

(1)

فعلى هذا لا جناح عليه في تركه، كما قالته عائشة.

واحتج بعضهم بقراءة الجماعة وقالوا: الآية تقتضي أن يكون السعي مباحًا لا واجبًا؛ كقوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء: 101] والقصر مباح لا واجب، وبقول عائشة في هذا الحديث:(وقد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما).

والجواب: أن عائشة قد رَدَّتْ عَلَى عروة تأويل المخالف في الآية وقالت: (بئس ما قلت يا ابن أختي، إن الآية لو كانت كما أولتها لكان: فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما، وإنما نزلت في الأنصار الذين كانوا يتحرجون في الجاهلية أن يطوفوا بينهما، وفي الذين كانوا يطوفون في الجاهلية، ثم تحرجوا أن يطوفوا في الإسلام)، وهذا يبطل تأويلهم؛ لأن عائشة علمتْ سبب الآية، وضبطته، وتفسير الراوي مقدم عَلَى غيره، والمراد بقولها: أنه صلى الله عليه وسلم سنَّه، أي: جعله طريقة، لا كما تحرجوا منه، وقد صح من مذهبها أنه فرض، كما قاله ابن بطال

(2)

، وإن حكى الخطابي عنها: أنه تطوع

(3)

، وأما القراءة الأولى فشاذة، وقد يجوز أن ترجع إلى معنى المشهورة؛ لأن العرب تصل بلا وتزيدها كقوله تعالى:{لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ القِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2)} [القيامة: 1 - 2]، وكقوله: {

(1)

هي قراءة علي وابن مسعود وأنس بن مالك وابن عباس، وهي شاذة كما سيشير المصنف. انظر:"مختصر في شواذ القرآن" ص 18.

(2)

"شرح ابن بطال" 4/ 324.

(3)

"معالم السنن" للخطابي 2/ 169، والذي فيه أنه قال: كانت عائشة ترى أن السعي بين الصفا والمروة فرض.

ص: 487

فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75)} [الواقعة: 75]، و {فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ المَشَارِقِ وَالمَغَارِبِ} [المعارج: 40] أقسم بيوم القيامة، وأقسم بكل ما ذكر و {ما منعك ألا تسجد} [الأعراف: 12] أي: ما منعك أن تسجد، فيحتمل قول عائشة لعروة:(كلا لو كانت كما تقول كانت فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما) عَلَى معنى الصلة التي رجع بها إلى معنى قوله: {أَن يَطَّوَّفَ بِهمَا} ، وقد جعلهما من شعائره: وهي العلامات، وقد قَالَ تعالى:{وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى القُلُوبِ} .

وقال الشارع لما طاف بهما: "نبدأ بما بدأ الله به"

(1)

وقال: "خذوا عني مناسككم"

(2)

وطاف بينهما.

ودلَّ حديث حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أنها قالتْ: ما تمتْ حجة أحد ولا عمرته، لم يطف بين الصفا والمروة

(3)

- أن ذَلِكَ مما لا يكون مأخوذًا من جهة الرأي، وإنما يُؤخذ من جهة التوقيف، وقولها ذَلِكَ يدل عَلَى وجوب السعي بينهما في الحج والعمرة جميعًا.

قَالَ ابن المنذر: إن ثبت حديث بنت أبي تجراة

(4)

: "اسعوا فإن الله

(1)

رواه مسلم (1218) كتاب: الحج، باب: حجة النبي صلى الله عليه وسلم.

(2)

رواه مسلم (1297) كتاب: الحج، باب: استحباب رمي جمرة العقبة، بنحوه.

(3)

رواه مسلم (1277) كتاب: الحج، باب: بيان أن السعي بين الصفا والمروة ركن لا يصح الحج إلا به. من حديث أبي معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة به.

(4)

قال الدارقطني: هي حبيبة بنت أبي تجراة -بالتاء- ووهم أبو نعيم الفضل بن دكين، فقال: هي بنت أبي بجراة -بالباء- وثبت على ذلك، والصواب بالتاء. اهـ. "المؤتلف والمختلف" 1/ 315.

ص: 488

كتب عليكم السعي"

(1)

فالسعي ركن، كما قَالَ الشافعي وإلا فهو

(1)

هذا الحديث اختلف في إسناده، فرواه أحمد 6/ 421، والشافعي في "مسنده" 2/ 263 - 264 (981)(سنجر)، وابن سعد 8/ 247، وابن عدي في "الكامل" 5/ 226 في ترجمة عبد الله بن المؤمل (974)، والدارقطني في سننه" 2/ 256، وفي "المؤتلف والمختلف" 1/ 316 - 317، والحاكم 4/ 70 وسكت عليه، وقال الذهبي: لم يصح، وأبو نعيم في "الحلية" 9/ 159، والبيهقي 5/ 98، وابن عبد البر في "التمهيد" 2/ 101، والبغوي في "شرح السنة" 7/ 140 - 141 (1921)، وفي "معالم التنزيل" 1/ 173 - 174، وابن الأثير في "أسد الغابة" 7/ 59 من طريق عبد الله بن المؤمل عن عمر بن عبد الرحمن بن محيصن، عن عطاء بن أبي رباح، عن صفية بنت شيبة قالت: أخبرتني حبيبة بنت أبي تجراة -إحدى نساء بني عبد الدار- قالت: دخلنا دار أبي حسين في نسوة من قريش، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بين الصفا والمروة، ورأيته يسعى، وإن مئزره ليدور من شدة السعي، حتى لأقول: إني لأرى ركبتيه، وسمعته يقول: "اسعوا، فإن الله كتب عليكم السعي".

قلت: وقع في بعض المصادر عن بنت أبي تجراة، بدون ذكر حبيبة، وفي "الكامل": عن فلانة بنت أبي تجراة، وسقط في بعض المصادر أيضًا قوله: إحدى نساء بني عبد الدار.

ورواه أحمد 6/ 421 - 422، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" 6/ 3296 (7571)، وابن عبد البر في "التمهيد" 2/ 99 - 100، وابن الجوزي في "التحقيق" 2/ 145 - 146 (1306) من طريق عبد الله بن المؤمل، عن عطاء بن أبي رباح، عن صفية بنت شيبة، عن حبيبة بنت أبي تجراة قالت: الحديث. هكذا منقطعًا؛ فبين عطاء وعبد الله بن المؤمل عمر بن عبد الرحمن بن محيصن، كما في الرواية

السابقة.

ورواه ابن أبي شيبة كما في "نصب الراية" 3/ 56، وعنه ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" 6/ 83 - 84 (3296)، والطبراني 24/ 226 - 227 (575)، وابن عبد البر في "التمهيد" 2/ 101 من طريق ابن أبي شيبة عن محمد بن بشر، عن عبد الله بن المؤمل، عن عبد الله بن أبي حسين عن عطاء عن حبيبة بنت أبي تجراة قالت: الحديث. =

ص: 489

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= ورواه الدارقطني 2/ 255 من طريق ابن المؤمل عن عبد الله بن محيصن، عن عطاء، عن صفية بنت شيبة عن حبيبة بنت أبي تجراة قالت: .. الحديث.

ورواه الطبراني 24/ 225 (572) من طريق عبد الله بن المؤمل، عن عمر بن عبد الرحمن بن محيصن، عن صفية بنت شيبة قالت: حدثتنا حبيبة بنت أبي تجراة قالت: الحديث، هكذا بإسقاط عطاء.

ورواه ابن عبد البر في "التمهيد" 2/ 100 من طريق أبي نعيم الفضل بن دكين، عن ابن المؤمل، عن عمر بن عبد الرحمن السهمي، عن عطاء، عن صفية، عن حبيبة بنت أبي تجراة- امرأة من أهل اليمن قالت: .. الحديث.

قال ابن عبد البر: رواية ابن أبي شيبة -السابقة- أخطأ فيها إما هو وإما محمد بن بشر، أخطأ في موضعين من الإسناد، أحدهما: أنه جعل في موضع عمر بن عبد الرحمن، عبد الله بن أبي حسين، والآخر: أنه أسقط صفية من الإسناد، فأفسد إسناد هذا الحديث، ولا أدري ممن هذا، أمن أبي بكر؟ أم من محمد بن بشر؟ ومن أيهما كان فهو خطأ لا شك فيه. اهـ

قال ابن القطان في "بيان الوهم والإيهام" 5/ 158 - 159 متعقبًا ابن عبد البر: وعندي أن الخطأ فيه إنما هو من عبد الله بن المؤمل فإن محمد بن بشر راويه عنه ثقة، وابن أبي شيبة إمام، وعبد الله بن المؤمل، يحتمل سوء حفظه أن يحمل عليه، وقد ظهر اضطرابه في هذا الحديث. اهـ.

ثم قال ابن عبد البر: والصحيح في إسناد هذا الحديث ومتنه ما ذكره الشافعي وأبو نعيم، إلا أن قول أبي نعيم: امرأة من أهل اليمن ليس بشيء، والصواب ما قال الشافعي والله أعلم، فإن قال قائل: إن عبد الله بن المؤمل ليس ممن احتج بحديثه لضعفه، وقد انفرد بهذا الحديث، قيل له: هو سيئ الحفظ، فلذلك اضطربت الرواية عنه، وما علمنا له خربة تسقط عدالته، وقد روى عنه جماعة من جلة العلماء، وهذا يرفع من حاله، والاضطراب عنه لا يسقط حديثه؛ لأن الاختلاف على الأئمة كثير، ولم يقدح ذلك في روايتهم، وقد اتفق شاهدان عدلان عليه وهما الشافعي وأبو نعيم، وليس من لم يحفظ ولم يقم، حجة على من أقام وحفظ. اهـ.

بتصرف.

ثم قال ابن القطان 5/ 159: هذا الاضطراب بإسقاط عطاء تارة، وابن محيصن أخرى، وصفية بنت شيبة أخرى، وإبدال ابن محيصن بابن أبي حسين أخرى، =

ص: 490

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= وجعل المرأة عبدرية تارة، ومن أهل اليمن أخرى، من أبي محمد، هو رد روايات ابن المؤمل. اهـ

قلت: يقصد عبد الحق الأشبيلي.

وقد روى كذلك أحمد 6/ 437، وابن خزيمة 4/ 233 (2765) من طريق معمر، عن واصل مولى أبي عيينة، عن موسى بن عبيدة، عن صفية بنت شبة أن امرأة أخبرتها أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة يقول:"كتب عليكم السعي فاسعوا".

ورواه ابن خزيمة 4/ 232 (2764)، والطبراني 24/ 227 (576)، والحاكم 4/ 70 من طريق عبد الله بن نبيه، عن جدته صفية بنت شبة، عن حبيبة بنت أبي تجراة قالت: الحديث.

وسكت عليه الحاكم، وقال الذهبي: لم يصح.

وروى الدارقطني 2/ 255، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" 6/ 3275 (7537)، والخطيب في "موضح أوهام الجمع والتفريق" 2/ 468 من طريق الواقدي عن علي بن محمد العمري، عن منصور الحجبي، عن أمه، عن برة بنت أبي تجراة قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انتهي إلى المسعى قال: "اسعوا فإن الله كتب عليك السعي .. " الحديث.

ومما يشهد لهذا الحديث أيضًا ما رواه الدارقطني 2/ 255، والبيهقي 2/ 97، وابن الجوزي في "التحقيق" 2/ 146 (1307) من طريق ابن المبارك، عن معروف بن مشكان، عن منصور بن عبد الرحمن، عن أمه صفية قالت: أخبرني نسوة من بني عبد الدار اللاتي أدركن رسول الله صلى الله عليه وسلم قلن: .. الحديث، وفيه: فقال: "يا أيها الناس، اسعوا فإن السعي قد كتب عليكم".

قال ابن الجوزي: فإن قيل: قد قال أبو حاتم: لا يحتج بمنصور، قلنا: قد قال ابن معين: هو ثقة. وقال الذهبي في "التنقيح" 6/ 20: إسناده صحيح، وقال الألباني في "الإرواء" 4/ 270: وهذا إسناد جيد، رجاله كلهم ثقات معروفون غير ابن مشكان.

والحديث في الجملة أشار الحافظ في "الفتح" 3/ 498 إلى تصحيحه، وصححه الألباني في "الإرواء"(1072).

ص: 491

تطوع

(1)

.

قَالَ ابن عبد البر: تفرد به عبد الله بن المؤمل، وكان سيئ الحفظ، ولا نعلم له خربة تسقط عدالته

(2)

.

وزعم بعض الشافعية: أن الآية الكريمة تم الكلام فيها عند قوله: {فَلَا جُنَاحَ} ، ثم ابتدأ فقال:{عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا} .

والجواب: أن الأمر يقتضي رفع الجناح والحرج عمن تطوف بهما، والكلام فيمن سعى بينهما.

فائدة:

مناة: صنم كان نصبه عمرو بن لحي لجهة البحر. قَالَ ابن الكلبي: وقيل: هي صخرة لهذيل بقديد، سميت مناة لأن النسائك كانت تجبى بها أي: تراق.

وقال الحازمي: هي عَلَى سبعة أميال من المدينة، وإليه نسبوا زيد مناة، والمُشلل: -بضم الميم وفتح الشين المعجمة ولامين الأولى مفتوحة- الجبل الذي يهبط منه إلى قديد من ناحية البحر.

(1)

"الأم" 2/ 178.

(2)

"الاستذكار" 12/ 207. وعبد الله بن المؤمل، هو ابن وهب الله القرشيُّ، المخزوميُّ، العائذيُّ، المدَنيُّ، ويقال المكيُّ.

قال أحمد: أحاديثه مناكير، وعن يحيى بن معين قال: ضعيف.

وقال في موضع آخر: صالح الحديث، وقال مرة: ليس به بأس.

وضعفه النسائي: وقال أبو داود: منكر الحديث. ومات بمكة عام قتل الحسين بفخ.

"التاريخ الكبير" 5/ 209 (664)، "الجرح والتعديل" 5/ 175 (821)، "تهذيب الكمال" 16/ 187 (3599). وقال الحافظ في "التقريب" (3648): ضعيف الحديث.

ص: 492

وقال البكري: هي ثنية مشرفة عَلَى قديد

(1)

. وقال ابن التين: هي عند الجحفة. وفي رواية أبي معاوية: أن الأنصار كانوا يهلون لصنمين عَلَى شط البحر يُقال لهما: إساف ونائلة

(2)

، وإساف بن بغي، ونائلة بنت ديك، قاله ابن إسحاق وغيره

(3)

، ووقع في كلام القرطبي: ابن بغا، ويُقال: عمرو، ونائلة بنت سهيل، ويُقال: ذئب، والمعروف ما قدمناه.

قَالَ: ولم يكونا قط عَلَى شاطئ البحر، وإنما كانا -فيما يقال- من جرهم زنيا في الحرم داخل الكعبة فمُسخا حجرين فنصبا عند الكعبة.

وقيل: عَلَى الصفا والمروة؛ ليعتبر بهما الناس، ثم حولهما قصي بن كلاب فجعل أحدهما ملاصق الكعبة والآخر بزمزم.

وقيل: جعلهما بزمزم ونحر عندهما، وأمر بعبادتهما

(4)

. وما ذكره من أن قصيًّا هو الذي نحر عندهما خلاف ما ذكره الأزرقي أن فاعل ذَلِكَ عمرو بن لحي الذي ابتدع عبادة الأوثان

(5)

.

وذكر الواقدي أن نائلة حين أمر الشارع بكسرها عام الفتح خرجت منها سوداء شمطاء تخمش وجهها، وتنادي بالويل والثبور، وهادمها أبو سفيان فيما ذكره ابن هشام، ويقال: علي بن أبي طالب.

فائدة أخرى: قوله: (قَالَ أبُو بَكْرٍ -يعني: ابن عبد الرحمن- فأسْمَعُ هذِه الآيَةَ نَزَلَتْ فِي الفَرِيقَيْنِ كلاهما فِي الذِينَ كَانُوا يَتَحَرَّجُونَ أَنْ يَطُوفُوا

(1)

"معجم ما استعجم" 4/ 1233.

(2)

رواه مسلم (1277).

(3)

انظر: "سيرة ابن هشام" 1/ 86.

(4)

"المفهم" 3/ 384.

(5)

"أخبار مكة" ص 120.

ص: 493

في الجَاهِلِيَّةِ بِالصَّفَا وَالمَرْوَةِ، وَالَّذِينَ يَطُوفُونَ ثُمَّ تَحَرَّجُوا فِي الإِسْلَامِ)، يحتمل أن يكون:(فاسمع) أمرًا.

قال ابن التين: وكذلك هو مضبوط في الأصل، ويحتمل أن يكون خبرًا عن نفسه. قلت: وهو ما ضبطه الدمياطي بخطه. وعلى الوجهين فإن الآية نزلت فيمن خاف الحرج إذا طاف بينهما.

ص: 494

‌80 - باب مَا جَاءَ فِي السَّعْىِ بَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ

وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: السَّعْيُ مِنْ دَارِ بَنِي عَبَّادٍ إِلَى زُقَاقِ بَنِي أَبِي حُسَيْنِ.

1644 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ مَيْمُونٍ، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا طَافَ الطَّوَافَ الأَوَّلَ خَبَّ ثَلَاثًا وَمَشَى أَرْبَعًا، وَكَانَ يَسْعَى بَطْنَ المَسِيلِ إِذَا طَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ. فَقُلْتُ لِنَافِعٍ: أَكَانَ عَبْدُ اللهِ يَمْشِي إِذَا بَلَغَ الرُّكْنَ اليَمَانِيَ؟ قَالَ: لَا. إِلاَّ، أَنْ يُزَاحَمَ عَلَى الرُّكْنِ، فَإِنَّهُ كَانَ لَا يَدَعُهُ حَتَّى يَسْتَلِمَهُ. [انظر: 1603 - مسلم: 1261 - فتح: 3/ 502]

1645 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: سَأَلْنَا ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنه عَنْ رَجُلٍ طَافَ بِالبَيْتِ فِي عُمْرَةٍ، وَلَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ، أَيَأْتِي امْرَأَتَهُ؟ فَقَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَطَافَ بِالبَيْتِ سَبْعًا، وَصَلَّى خَلْفَ المَقَامِ رَكْعَتَيْنِ، فَطَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ سَبْعًا {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}. [الأحزاب: 21] [انظر: 395 - مسلم: 1234 - فتح: 3/ 502]

1646 -

وَسَأَلْنَا جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما، فَقَالَ: لَا يَقْرَبَنَّهَا حَتَّى يَطُوفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ. [انظر: 396 - فتح: 3/ 502]

1647 -

حَدَّثَنَا المَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ، فَطَافَ بِالبَيْتِ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ، ثُمَّ تَلَا {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}. [الأحزاب: 21]. [انظر: 395 - مسلم: 1234 - فتح: 3/ 502]

1648 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، أَخْبَرَنَا عَاصِمٌ قَالَ: قُلْتُ لأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه: أَكُنْتُمْ تَكْرَهُونَ السَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ؟ قَالَ: نَعَمْ؛ لأَنَّهَا كَانَتْ مِنْ شَعَائِرِ الجَاهِلِيَّةِ، حَتَّى أَنْزَلَ اللهُ: {إِنَّ الصَّفَا وَالمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ البَيْتَ

ص: 495

أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}. [البقرة: 158][4496 - مسلم: 1278 - فتح: 3/ 502]

1649 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: إِنَّمَا سَعَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ لِيُرِيَ المُشْرِكِينَ قُوَّتَهُ.

زَادَ الُحمَيدِيُّ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو، سَمِعْتُ عَطَاءً، عَنِ ابن عَبَّاسٍ مِثلَهُ. [انظر: 1602 - مسلم: 1266 - فتح: 3/ 502]

ثم ساق خمسة أحاديث:

أحدها: حديث ابن عمر: كَانَ النبي صلى الله عليه وسلم إِذَا طَافَ الطَّوَافَ الأَوَّلَ خَبَّ ثَلَاثًا وَمَشَى أَرْبَعًا .. الحديث.

وسلف في باب: من طاف إذا قدم مكة

(1)

، وهنا أتم من ذاك، وشيخ البخاري فيه محمد بن عبيد بن ميمون. وقال الجياني في نسخة خلف: ابن حاتم بدل: ابن ميمون

(2)

. وخب: هرول، وكذا السعي.

ثانيها: حديث ابن عمر أيضًا، وقد سلف في باب صلاة النبي صلى الله عليه وسلم لسبوعه ركعتين

(3)

.

ثالثها: حديثه أيضًا: قال: قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ

إلى آخره.

وسلف في باب من صلى ركعتي الطواف خلف المقام

(4)

.

رابعها: حديث عاصم: قُلْتُ لأَنَسِ: أَكُنْتُمْ تَكْرَهُونَ السَّعْيَ بَيْنَ

(1)

برقم (1616 - 1617).

(2)

"تقييد المهمل" 2/ 611.

(3)

سلف برقم (1623).

(4)

برقم (1627).

ص: 496

الصَّفَا وَالمَرْوَةِ؟ فقَالَ: نَعَمْ؛ لأَنَّهَا كَانَتْ مِنْ شَعَائِرِ الجَاهِلِيَّةِ، حَتَّى أَنْزَلَ اللهُ:{إِنَّ الصَّفَا وَالمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ} الآية [البقرة: 158].

وهو في مسلم (ت. س) أيضًا

(1)

، ويأتي في التفسير

(2)

.

وشيخ البخاري فيه أحمد بن محمد، ثَنَا عبد الله، قَالَ الحاكم: هو أحمد بن محمد بن موسى مردويه، وقال الدارقطني: هو أحمد بن محمد بن ثابت شبويه

(3)

.

خامسها: حديث سفيان، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَطَاءٍ، أن ابن عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّما سَعَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ ليُرِيَ المُشْرِكِينَ قُوَّتَهُ.

وهو في مسلم أيضًا

(4)

، ثم قَالَ

(5)

: زاد الحميدي، ثَنَا سفيان، ثَنَا عمرو، سمعت عطاء، عن ابن عباس مثله.

وظاهر هذا أنه لم يروه عن شيخه الحميدي، لكن أبو نعيم الحافظ لما رواه عن أبي علي محمد بن أحمد، ثَنَا بشر بن موسى، ثَنَا الحميدي، ثَنَا سفيان، فذكره. ثم قَالَ: رواه -يعني البخاري- عن الحميدي- وعلي بن عبد الله جميعًا، عن سفيان. إذا عرفت ذَلِكَ فمعنى هذا الباب كالذي قبله.

(1)

مسلم (1278) كتاب: الحج، باب: بيان أن السعي بين الصفا والمروة ركن، الترمذي (2966) والنسائي في "الكبرى" 2/ 410 (3959).

(2)

سيأتي برقم (4496) كتاب: التفسير، باب: قوله: {إِنَّ الصَّفَا وَالمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ} .

(3)

انظر: "تهذيب الكمال" 1/ 436 (94).

(4)

مسلم (1266) كتاب: الحج، باب: استحباب الرمل في الطواف والعمرة.

(5)

ورد في الأصل: أعلاها. يعني البخاري.

ص: 497

وفيه: بيان صفة السعي، وأنه شيء معمول به، غير مرخّص فيه، ألا ترى ابن عمر حين ذكره قَالَ: وقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة.

والأثر المصدَّر به الباب أخرجه ابن أبي شيبة، عن أبي خالد الأحمر، عن عثمان بن الأسود، عن مجاهد وعطاء قَالَ: رأيتهما يسعيان من خوخة بني عباد، إلى زقاق ابن أبي حسين، فقلتُ لمجاهد، فقال: هذا بطن المسيل الأول، ولكن الناس انتقصوا منه

(1)

.

وفي نسخة: عزو ذَلِكَ إلى ابن عمر، وذكر ابن عباس في الباب سبب مشروعية السعي في الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة؛ ليري المشركين قوته؛ لأنهم قالوا: إن حمى يثرب أنهكتهم، فكان صلى الله عليه وسلم يرمل في طوافه بالبيت، مقابل المسجد ومقابل السوق، موضع جلوسهم، فإذا توارى عنهم مشى كما سلف، فالسنة التزام الخبب في الأشواط الثلاثة الأول في الطواف تبركًا بفعله وسنته، وإن كانت العلة قد ارتفعت بذلك من تعليم شعائر الله، وسيأتي في "الصحيح" في كتاب الأنبياء علة أخرى للسعي والهرولة بين الصفا والمروة، في قصة هاجر مع ولدها إسماعيل ترقب الماء حَتَّى كملت سبعًا

(2)

.

قَالَ صلى الله عليه وسلم: "فلذلك سعى الناس بينهما"

(3)

، فبين فيه أن سبب ذَلِكَ فعل هاجر عليها السلام، وقد روى مسلم

(4)

من حديث أبي الطفيل

(1)

"المصنف" 3/ 242 (13936).

(2)

سيأتي برقم (3365) باب: {يَزِفُّونَ} .

(3)

سيأتي برقم (3364) باب: {يَزِفُّونَ} .

(4)

ورد في هامش الأصل ما نصه:- من خط الشيخ: عزاه ابن بطال لابن أبي شيبة [قلت (المحقق): وهو كما قال، انظر: "شرح ابن بطال" 4/ 327 - 328].

ص: 498

أنه صلى الله عليه وسلم إنما ركب فيه لما كثر عليه الناس

(1)

، وقد اختلف الناس في ذَلِكَ، فكرهتْ عائشة الركوب فيه، وكذا عروة، وهو قول أحمد وإسحاق

(2)

.

وقال أبو ثور: لا يجزئه وعليه أن يُعيد

(3)

، وقال الكوفيون: إن كان بمكة أعاد ولا دم عليه، وإن رجع إلى الكوفة فعليه دم

(4)

، ورخصت طائفة فيه، وروي عن أنس أنه طاف عَلَى حمار

(5)

، وعن عطاء ومجاهد مثله

(6)

.

وقال الشافعي: يجزئه، ولا إعادة عليه إن فعل

(7)

، وحجة من أجاز ذَلِكَ فعله صلى الله عليه وسلم، وحجة من كرهه أنه ينبغي امتثال فعل هاجر في ذَلِكَ، وركوبه صلى الله عليه وسلم لمعنى كما سلف.

وأما قول أنس: إنهم كانوا يكرهون الطواف بهما لأنهما من شعائر الجاهلية حَتَّى نزلت الآية، فقد كان ما سواهما من الوقوف بعرفة والمزدلفة، والطواف من شعائر الحج في الجاهلية، فلما جاء

(1)

مسلم (1264) كتاب: الحج، باب: استحباب الرمل في الطواف والعمرة وفي الطواف الأول في الحج.

(2)

"مسائل الإمام أحمد برواية الكوسج"(1/ 530).

(3)

"التمهيد" 2/ 95.

(4)

"مختصر اختلاف العلماء" 2/ 143.

(5)

رواه الشافعي في "المسند" 2/ 261 (973 - سنجر) كتاب: الحج، باب: الطواف على الراحلة واستلام الركن بالمحجن، وابن أبي شيبة 3/ 166 (13143) كتاب: الحج، في السعي بين الصفا والمروة، والفاكهي في "أخبار مكة" 2/ 238 (1431).

(6)

رواه ابن أبي شيبة 3/ 166 (13147).

(7)

"الأم" 2/ 148.

ص: 499

الإسلام، وذكر الله ذَلِكَ في كتابه صار من شعائر الحج في الإسلام، فإن قلت: فما تقول في قوله آخر الآية: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا} إلى آخره؟

قلتُ: يلزمك التطوع به مفردًا ولا قائل به إجماعًا، وهذا راجع إلى أول الآية، لا إلى هذا، أي: من تطوع بحج أو غيره فإن الله شاكر عليم.

ثم اعلم أن واجبات السعي عندنا أربعة:

أحدها: قطع جميع المسافة بين الصفا والمروة، فلو بقي منها بعض خطوة لم يصح سعيه، ولو كان راكبًا اشترط أن يسير دابته حَتَّى تضع حافرها عَلَى الجبل، وإن صعد عَلَى الصفا والمروة فهو أكمل، وكذا فعله سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة بعده، وليس هذا الصعود شرطًا ولا واجبًا، بل هو سنة متأكدة، وبعض الدرج مستحدث، فالحذر من أن يخلفها وراءه، فلا يصح سعيه حينئذٍ، وينبغي أن يصعد عَلَى الدرج حَتَّى يستيقن، ولنا وجه شاذ: أنه يجب الصعود عَلَى الصفا والمروة قدرًا يسيرًا، ولا يصح سعيه إلا بذلك ليستيقن قطع جميع المسافة، كما يلزمه غسل جزء من الرأس في غسل الوجه ليستيقن.

ثانيها: الترتيب: فلو بدأ بالمروة لم يجزئه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قَالَ: "ابدءوا مما بدأ الله به"

(1)

. قَالَ في "المحيط" من كتب الحنفية: لو بدأ بالمروة وختم بالصفا أعاد شوطًا

(2)

. ولا يجزئه ذَلِكَ، والبداءة بالصفا شرط، ولا أصل لما ذكره الكرماني

(3)

من أن الترتيب في السعي ليس

(1)

رواه مسلم (1218) كتاب: الحج، باب: حجة النبي صلى الله عليه وسلم، والنسائي 5/ 239، كتاب: الحج، باب: ذكر الصفا والمروة، وأحمد 3/ 394، من حديث جابر.

(2)

"المحيط البرهاني" 3/ 449.

(3)

جاء في هامش النسخة (م): هذا الكرماني من أئمة الحنفية وليس هو: شمس الدين الكرماني شارح البخاري، فافهم ذلك.

ص: 500

بشرط، حَتَّى لو (بدأ)

(1)

بالمروة وأتى بالصفا جاز، وهو مكروه لترك السنة، فيستحب إعادة الشوط.

الثالث: يحسب من الصفا إلى المروة مرة، ومن المروة إلى الصفا مرة، حَتَّى يتم سبعًا، هذا هو الصحيح، وفيه وجه سلف.

الرابع: يشترط أن يكون السعي بعد طواف صحيح، سواء كان بعد طواف قدوم أو إفاضة، ولا يتصور وقوعه بعد طواف الوداع، فلو طاف وسعى أعاده، وعند غيرنا يعيده إن كان بمكة، وإن رجع إلى أهله بعث بدم.

وشذ إمام الحرمين فقال: قَالَ بعض أئمتنا: لو قدَّم السعي عَلَى الطواف اعتد بالسعي، وهذا غلط. ونقل الماوردي وغيره الإجماع في اشتراط ذَلِكَ

(2)

. وقال عطاء: يجوز السعي من غير تقدم طواف، وهو غريب.

فرع:

الموالاة بين مرات السعي سنة، فلو تخلل يسير أو طويل بينهنّ لم يضر، وكذا بينه وبين الطواف الأول، وفيه قول.

فرع:

يستحب السعي عَلَى طهارة من الحدث والنجس ساترًا عورته.

فرع:

المرأة تمشي ولا تسعى؛ لأنه أستر لها، وقيل: إن سعت في الخلوة بالليل سعت كالرجل.

(1)

في الأصل: أتى.

(2)

انظر: "الاستذكار" 12/ 228، "الإقناع" للفاسي 2/ 815.

ص: 501

فرع:

موضع المشي والعدو معروف، والعدو: يكون قبل وصوله إلى الميل الأخضر، وهو العمود المبني في ركن المسجد بقدر ستة أذرع إلى أن يتوسط بين العمودين المعروفين، وما عدا ذَلِكَ فهو محل المشي، فلو هرول في الكل لا شيء عليه، وكذا لو مشى عَلَى هينته، وعن سعيد بن جبير قَالَ: رأيتُ ابن عمر يمشي بين الصفا والمروة ثم قَالَ: إن مشيت فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي، وإن سعيت فقد رأيته يسعى، وأنا شيخ كبير. أخرجه أبو داود

(1)

.

(1)

أخرجه أبو داود (1904) كتاب: المناسك، باب: أمر الصفا والمروة، من طريق عطاء بن السائب عن كثير بن جمهان بلفظ: أن رجلًا قال لعبد الله بن عمر -بين الصفا والمروة-: يا أبا عبد الرحمن إني أراك تمشي والناس يسعون، قال: إن أمش، فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي، وإن أسع فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسعى، وأنا شيخ كبير. هكذا لفظ أبي داود.

وكذا رواه الترمذي (864) كتاب: الحج، باب: ما جاء في السعي بين الصفا والمروة، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وروي عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر نحوه. قلت: وهو الذي أشار إليه المصنف، وسيأتي تخريجه- والنسائي 5/ 241 - 242، وابن ماجه (2988) كتاب: المناسك، باب: السعي بين الصفا والمروة، وأحمد 2/ 60، 61، 120، والفاكهي في أخبار مكة" 2/ 217 - 218 (1389)، والنسائي في "الكبرى" 2/ 414 (3971) كتاب: الحج، المشي بين الصفا والمروة، وابن خزيمة 4/ 236 - 237 (2770 - 2771)، والبيهقي 5/ 99 كتاب: الحج، باب: بدء السعي بين الصفا والمروة، والمزي في "تهذيب الكمال" 24/ 107 - 108.

قال المنذري في "مختصر سنن أبي داود" 2/ 387: في إسناده عطاء بن السائب، وقد أخرج له البخاري حديثًا مقرونًا، قال أيوب: هو ثقة، وتكلم فيه غير واحد. اهـ. وصححه الألباني في "صحيح أبي داود"(1662).

وأما الحديث الذي ذكره المصنف، فرواه النسائي 5/ 242، وأحمد 2/ 151 - =

ص: 502

وفي رواية: كان يقول لأصحابه ارملوا، فلو استطعت الرمل لرملت، وعنه قَالَ: رأيتُ عمر يمشي، أخرجها سعيد بن منصور.

فرع:

يخرج من باب الصفا للسعي للاتباع، ولم يجد مالك له بابًا، ومعناه: أنه ليس من المناسك الخروج من باب الصفا، غير أنَّ من خرج إليه من غير بابه تكلف زيادة.

فرع:

قَالَ ابن التين: يكره للرجل أن يقعد على الصفا إلا لعذر.

فرع:

ضعف ابن القاسم في روايته عن مالك رفع يديه عَلَى الصفا والمروة

(1)

.

وقال ابن حبيب: يرفع، وإذا قلنا: يرفع. فقال ابن حبيب: يرفعها حذو منكبيه وبطونها إلى الأرض، ثم يكبر ويهلل ويدعو

(2)

، وقال غيره من المتأخرين: الدعاء والتضرع إنما يكون وبطونهما إلى السماء

(3)

. وما ذكره ابن حبيب إنما يكون عند الذكر والتعظيم، ولعله هو الذي ضعفه مالك.

= 152، وعبد بن حميد 2/ 34 (798)، والفاكهي 2/ 218 (1390) والنسائي في "الكبرى" 2/ 414 (3970) وابن ماجه 4/ 237 (2772) من طريق عبد الكريم الجزري عن سعيد بن جبير قال: رأيت ابن عمر .. الحديث. وصححه الألباني في "صحيح النسائي"(2977).

(1)

"المنتقى" 2/ 300.

(2)

"النوادر والزيادات" 2/ 377، "المنتقى" 2/ 300.

(3)

"المنتقى" 2/ 300.

ص: 503

فرع:

لو ترك السعي ببطن المسيل، ففي وجوب الدم قولان عن مالك

(1)

.

(1)

"المنتقى" 2/ 306.

ص: 504

‌81 - باب تَقْضِي الحَائِضُ المَنَاسِكَ كُلَّهَا إِلَّا الطَّوَافَ بِالبَيْتِ، وَإِذَا سَعَى عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ بَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ

1650 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ القَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، أَنَّهَا قَالَتْ: قَدِمْتُ مَكَّةَ وَأَنَا حَائِضٌ، وَلَمْ أَطُفْ بِالبَيْتِ، وَلَا بَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ، قَالَتْ: فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "افْعَلِي كَمَا يَفْعَلُ الحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي"[انظر: 294 - مسلم: 1211 - فتح: 3/ 504]

1651 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ المُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَهَّابِ. قَالَ: وَقَالَ لِي خَلِيفَةُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَهَّابِ، حَدَّثَنَا حَبِيبٌ المُعَلِّمُ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما قَالَ: أَهَلَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هُوَ وَأَصْحَابُهُ بِالحَجِّ، وَلَيْسَ مَعَ أَحَدٍ مِنْهُمْ هَدْيٌ،، غَيْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَطَلْحَةَ، وَقَدِمَ عَلِيٌّ مِنَ اليَمَنِ وَمَعَهُ هَدْيٌ، فَقَالَ: أَهْلَلْتُ بِمَا أَهَلَّ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً، وَيَطُوفُوا، ثُمَّ يُقَصِّرُوا وَيَحِلُّوا، إِلاَّ مَنْ كَانَ مَعَهُ الهَدْيُ، فَقَالُوا: نَنْطَلِقُ إِلَى مِنًى، وَذَكَرُ أَحَدِنَا يَقْطُرُ، فَبَلَغَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:"لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا أَهْدَيْتُ، وَلَوْلَا أَنَّ مَعِي الهَدْيَ لأَحْلَلْتُ". وَحَاضَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها فَنَسَكَتِ المَنَاسِكَ كُلَّهَا، غَيْرَ أَنَّهَا لَمْ تَطُفْ بِالبَيْتِ، فَلَمَّا طَهُرَتْ طَافَتْ بِالبَيْتِ. قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، تَنْطَلِقُونَ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ، وَأَنْطَلِقُ بِحَجٍّ؟ فَأَمَرَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهَا إِلَى التَّنْعِيمِ، فَاعْتَمَرَتْ بَعْدَ الحَجِّ. [انظر: 1557 - فتح: 3/ 504]

1652 -

حَدَّثَنَا مُؤَمَّلُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ حَفْصَةَ قَالَتْ: كُنَّا نَمْنَعُ عَوَاتِقَنَا أَنْ يَخْرُجْنَ، فَقَدِمَتِ امْرَأَةٌ فَنَزَلَتْ قَصْرَ بَنِي خَلَفٍ، فَحَدَّثَتْ: أَنْ أُخْتَهَا كَانَتْ تَحْتَ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ غَزَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم -

ص: 505

ثِنْتَيْ عَشْرَةَ غَزْوَةً، وَكَانَتْ أُخْتِي مَعَهُ فِي سِتِّ غَزَوَاتٍ، قَالَتْ: كُنَّا نُدَاوِي الكَلْمَى وَنَقُومُ عَلَى المَرْضَى، فَسَأَلَتْ أُخْتِي رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: هَلْ عَلَى إِحْدَانَا بَأْسٌ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا جِلْبَابٌ أَنْ لَا تَخْرُجَ؟ قَالَ: "لِتُلْبِسْهَا صَاحِبَتُهَا مِنْ جِلْبَابِهَا، وَلْتَشْهَدِ الخَيْرَ، وَدَعْوَةَ المُؤْمِنِينَ". فَلَمَّا قَدِمَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ رضي الله عنها سَأَلْنَهَا -أَوْ قَالَتْ: سَأَلْنَاهَا- فَقَالَتْ: وَكَانَتْ لَا تَذْكُرُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا قَالَتْ: بِأَبِي. فَقُلْنَا: أَسَمِعْتِ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ كَذَا وَكَذَا؟ قَالَتْ: نَعَمْ، بِأَبِي. فَقَالَ:"لِتَخْرُجِ العَوَاتِقُ ذَوَاتُ الخُدُورِ -أَوِ العَوَاتِقُ وَذَوَاتُ الخُدُورِ- وَالحُيَّضُ، فَيَشْهَدْنَ الخَيْرَ، وَدَعْوَةَ المُسْلِمِينَ، وَيَعْتَزِلُ الحُيَّضُ المُصَلَّى". فَقُلْتُ: الحَائِضُ؟. فَقَالَتْ أَوَ لَيْسَ تَشْهَدُ عَرَفَةَ، وَتَشْهَدُ كَذَا وَتَشْهَدُ كَذَا؟!

ذكر فيه ثلاثة أحاديث:

أحدها: حديث عائشة: "افْعَلِي كما يَفْعَلُ الحَاجُّ

" إلى آخره.

وقد سلف

(1)

. وكذا حديث جابر وحديث حفصة. سلف في أبواب الحيض

(2)

، وفي أبواب العيد

(3)

.

وقولها: (لَمْ أَطُفْ بِالبَيْتِ، وَلَا بَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ). تريد أن طواف العمرة منعها منه حيضها، وقوله لها:"افْعَلِي مَا يَفْعَلُ الحَاجُّ" لا يكون إلا بأن تردف الحج عَلَى العمرة، وأبعد من قَالَ: إنها كانت حاجة، وإنما لم تسع لأن من شرط صحته سبق طواف، كما سلف في باب: كيف تهل الحائض؟ وانظر تبويب البخاري عليه، وإذا سعى عَلَى غير وضوء، كأنه فهم من قوله:("غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي") أنها تسعى.

(1)

برقم (294) كتاب: الحيض، باب: الأمر بالنفساء إذا نفسن.

(2)

برقم (324) باب: شهود الحائض العيدين.

(3)

و (971) باب: التكبير أيام منى.

ص: 506

وروى البيهقي من حديث ابن أبي الزناد، عن أبيه، عن الفقهاء من أهل المدينة أنهم كانوا يقولون: أيما امرأة طافت بالبيت، ثم توجهت لتطوف بالصفا والمروة فحاضت فلتطف بالصفا والمروة وهي

حائض، وكذلك الذي يحدث بعد أن تطوف بالبيت وقبل أن تسعى

(1)

.

وقوله: ("لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ"). فيه دليل عَلَى أن إحرامه صلى الله عليه وسلم لم يكن بتوقيف، واستدل به بعض من يرى تفضيل التمتع والقران، ويتأول قوله:("لَوِ اسْتَقْبَلْتُ") إلى آخره، لفسخت الحج في العمرة كما أمر به أصحابه، ويستحب لمن أصابه ما أصاب عائشة أن يعتمر لهذا الحديث، قاله القاضي أبو محمد من المالكية.

وقول أم عطية: (بِيَبَا)، هي لغة كما يقال: بأبي تبدل الهمزة بياء، وروي: بأبا- وهي رواية أبي ذر هنا

(2)

. والعلماء مجمعون أن الحائض تشهد المناسك كلها غير الطواف بالبيت عَلَى طبق الحديث

(3)

.

وفي حكمها كل من ليس عَلَى طهارة من جنب وغير متوضئ؛ لأن ركوع الطواف متصل به لا فصل بينه وبينه، هذِه سنة، وإنما منعت الحائض الطواف تنزيهًا للمسجد عن النجاسات.

قال تعالى: {إِنَّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ} وقد أمر الشارع الحيَّض في العيدين بالاعتزال، فوجب تنزيهه عن الحائض والجنب ومن عليه نجاسة، وأما السعي بين الصفا والمروة فلا أعلم أحدًا شرط فيه الطهارة إلا الحسن البصري فقال: إن ذكر أنه سعى عَلَى غير طهارة

(1)

"سنن البيهقي" 5/ 96 كتاب: الحج، باب: جواز السعي بين الصفا والمروة.

(2)

انظر: "اليونينية" 2/ 160.

(3)

"الإقناع" للفاسي 2/ 821، "المجموع" 8/ 17.

ص: 507

قبل أن يحل فليعد، وإن ذكر ذَلِكَ بعد ما حل فلا شيء عليه

(1)

.

وذكر ابن وهب عن ابن عمر: أنه كان يكره أن يطوف بينهما عَلَى غير طهارة، وحديث الباب دال عَلَى جوازه.

(1)

انظر: "الاستذكار" 13/ 259، "الإقناع" للفاسي 2/ 818.

ص: 508

‌82 - باب الإِهْلَالِ مِنَ البَطْحَاءِ، وَغَيْرِهَا لِلْمَكِّيِّ وَلِلْحَاجِّ إِذَا خَرَجَ إِلَى مِنًى

قال: وَسُئِلَ عَطَاءٌ عَنِ المُجَاوِرِ يُلَبِّي بِالحَجِّ، قَالَ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُلَبِّي يَوْمَ التَّرْوِيَةِ إِذَا صَلَّى الظُّهْرَ، وَاسْتَوَى عَلَى رَاحِلَتِهِ. وَقَالَ عَبْدُ المَلِكِ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ: قَدِمْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَحْلَلْنَا حَتَّى يَوْمِ التَّرْوِيَةِ وَجَعَلْنَا مَكَّةَ بِظَهْرٍ لَبَّيْنَا بِالحَجِّ. وَقَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ: عَنْ جَابِرٍ: أَهْلَلْنَا مِنَ البَطْحَاءِ. وَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ جُرَيْجٍ لاِبْنِ عُمَرَ: رَأَيْتُكَ إِذَا كُنْتَ بِمَكَّةَ أَهَلَّ النَّاسُ إِذَا رَأَوُا الهِلَالَ وَلَمْ تُهِلَّ أَنْتَ حَتَّى يَوْمَ التَّرْوِيَةِ. فَقَالَ: لَمْ أَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُهِلُّ حَتَّى تَنْبَعِثَ بِهِ رَاحِلَتُهُ.

الشرح:

تعليق عطاء عن جابر أخرجه مسلم، عن محمد بن عبد الله بن نمير، عن أبيه، عن عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي، عن عطاء بن أبي رباح بلفظ: أهللنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بالحج، فلما قدمنا مكة أمرنا أن نحل، ونجعلها عمرة،

وفيه: حَتَّى إذا كان يوم التروية، وجعلنا مكة بظهر أهللنا بالحج

(1)

.

وتعليق أبي الزبير عنه أخرجه مسلم أيضًا بلفظ: فأهللنا من الأبطح

(2)

.

وتعليق عبيد: سبق مسندًا في الطهارة وغيرها

(3)

، ومراد جابر بالبطحاء:

(1)

مسلم (1216) كتاب: الحج، باب: بيان وجوه الإحرام.

(2)

مسلم (1214).

(3)

برقم (166) كتاب: الوضوء، باب: غسل الرجلين، وبرقم (1514) كتاب: الحج، باب قول الله تعالى:{يَأتُوكَ رِجَالًا} .

ص: 509

الأبطح. قاله ابن التين. والإحرام منه مباح لهذا الحديث.

قَالَ الداودي: والأولى أن يحرم من خارج المسجد، ورواه ابن حبيب عن مالك: أنه يحرم من باب المسجد، ولم يُقل أنه أولى

(1)

.

لكن في "الموطأ": إنما يهل أهل مكة، أو المقيم من جوفها لا يُحرم إلا من الحرم

(2)

. وروى أشهب عنه: يُحرم من داخل المسجد

(3)

. وما سقناه عن مسلم: حَتَّى إذا كان يوم التروية، وجعلنا مكة بظهر أهللنا.

وفي حديث ابن عمر: أنه كان يهل يوم التروية، حين تنبعث به راحلته للاتباع

(4)

، يريد أنه أخر الإحرام حَتَّى يعقبه بأعمال الحج، ورأى أن هذا أولى من تقدمه عليه.

وروى ابن وهب في "موطئه" عن مالك: أنه لا ينبغي لأحد أن يهل بحج أو عمرة، حَتَّى يقيم بأرض يهل بها، حَتَّى يخرج. ورواه ابن عبد الحكم عن مالك؛ لأن الإهلال إجابة.

قَالَ ابن التين: وهذا لغير المكي، أما من كان بها، فاختار أكثر الصحابة والعلماء الإهلال أول ذي الحجة.

ورواه ابن القاسم وابن عبد الملك، عن مالك: ليستديم المحرم الإحرام، ويأخذ بحظ من (الشعث)

(5)

عَلَى حسب ما فعله صلى الله عليه وسلم حين أحرم من ميقاته.

(1)

"المنتقى" 2/ 220.

(2)

"الموطأ" 1/ 429 (1085).

(3)

السابق.

(4)

سبق برقم (166) كتاب: الوضوء، باب: غسل الرجلين في النعلين ولا يمسح النعلين، ورواه مسلم (1187) كتاب: الحج، باب: الإهلال من حيث تنبعث الراحلة، مطولًا.

(5)

في الأصل: الشعب.

ص: 510

وقد قَالَ الفاروق في "الموطأ": يا أهل مكة، ما بال الناس يأتون شعثًا وأنتم مدَّهِنُون، أهلوا إذا رأيتم الهلال. وأقام ابن الزبير بمكة تسع سنين. يهل بهلال ذي الحجة. وعروة أخوه معه يفعل ذَلِكَ

(1)

، وفعل ذَلِكَ بحضرة الصحابة والتابعين، ولم ينكر ولا يداوم إلا عَلَى الأفضل.

وعلى هذا أمر جمهور الصحابة، ولذلك قَالَ عبيد لابن عمر: أهل الناس ولم تهل أنت، حَتَّى يوم التروية)

(2)

فيفعل ذَلِكَ من بمكة، ليستدرك ما فاته من شقة المسافة، والمراد بالانبعاث سلف.

قَالَ ابن التين: وتأوله بعض أصحابنا عَلَى معنى تنبعث به أي: من الأرض للقيام.

وفي رواية عبد الله بن إدريس: في هذا الحديث في "الموطأ": حَتَّى تستوي به، وأكثر الرواة عَلَى خلافه. وقال المهلب: من أنشا الحج من مكة فله أن يهل من بيته، ومن المسجد الحرام، أو من البطحاء، وهي طرف من مكة، ومن حيث أحب مما دون عرفة، ذَلِكَ كله واسع؛ لأن ميقات أهل مكة منها، وليس عليه أن يخرج إلى الحل؛ لأنه خارج في حجته إلى عرفة؛ فيحصل له بذلك الجمع بين الحل والحرم، وهو بخلاف منشأ العمرة من مكة، وقد سلف في بابه، ويستحب للمكي والمتمتع إذا أنشأ الحج من مكة أن يهلا من حيث أهل ابن عمر من البطحاء، وكذلك قَالَ جابر. قَالَ غيره: وأما وجه احتجاج ابن عمر

(1)

"الموطأ" 1/ 429 (1083 - 1084) كتاب: المناسك، باب: إهلال أهل مكة ومن كان بها من غيرها.

(2)

"المنتقى" 2/ 219.

ص: 511

بإهلاله صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة وهو غير مكي، عَلَى من أنشأ الحج من مكة، أنه يجب أن يهل يوم التروية، وهي في قصة أخرى، فوجهه [أنه]صلى الله عليه وسلم أهل من ميقاته، في حين ابتدائه في عمل حجته، واتصل به عمله، ولم يكن بينهما مكث ينقطع به العمل؛ فكذلك المكي لا يهل إلا يوم التروية، الذي هو أول عمله للحج؛ ليتصل له عمله، تأسِّيًا به في ذَلِكَ، وقد تابع ابن عمر عَلَى ذَلِكَ ابن عباس قَالَ: لا يهل أحد من مكة بالحج حَتَّى يريد الرواح إلى منى، وبه قَالَ عطاء

(1)

. واحتج بأن الصحابة إذ دخلوا في حجتهم معه صلى الله عليه وسلم أهلوا عشية التروية حين توجهوا إلى منى.

وأما قول عبيد لابن عمر: إن أهل مكة يهلون إذا رأوا الهلال، فهو مذهب عمر وابن الزبير. وروى مالك، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه: أن عمر قَالَ: يا أهل مكة، إلى آخر ما سلف، فهو عَلَى وجه الاستحباب؛ لأن الإهلال إنما يجب عَلَى من اتصل عمله، وليس من السنة أن يقيم المحرم في أهله.

وقد روى ابن عمر ما يوافق مذهب عمر. ذكر مالك في "الموطأ" أن ابن عمر كان يهل بهلال ذي الحجة، ويؤخر الطواف بالبيت والسعي حَتَّى يرجع من منى

(2)

.

وقال نافع: أهل ابن عمر مرة بالحج حين رأى الهلال، ومرة أخرى بعد الهلال من جوف الكعبة، ومرة أخرى حين راح إلى منى

(3)

.

(1)

ذكرهما ابن عبد البر في "التمهيد" 21/ 88 وعزاهما لعبد الرزاق.

(2)

"الموطأ" 1/ 429 - 430 (1086).

(3)

ذكره ابن عبد البر في "التمهيد" 21/ 90 وعزاه لعبد الرزاق.

ص: 512

قَالَ مجاهد: فقلتُ لابن عمر: أهللت فينا إهلالًا مختلفًا، قَالَ: أما أول عام فأخذت بأخذ أهل بلدي -يعني: المدينة- ثم نظرت فإذا أنا أدخل عَلَى أهلي حرامًا وأخرج حرامًا، وليس كذلك كنا نصنع، إنما

كنا نهل ثم نقبل عَلَى شأننا، قلتُ: فبأي شيء نأخذ، قَالَ: تحرم يوم التروية

(1)

.

فرع:

مذهب أبي حنيفة: أن أهل مكة ميقاتهم في الحج الحرم، ومن المسجد أفضل

(2)

، وفي "مناسك الحصيري" الأفضل لهم أن يحرموا من منزلهم، ويسمعهم التأخير إلى آخر الحرم، بشرط أن يدخلوا الحل محرمين، فلو دخلوا من غير إحرام لزمهم دم (كالآفاقي)

(3)

، وعند الشافعي ميقاته نفس مكة. وقال بعض أصحابه: كل الحرم

(4)

.

فائدة:

يوم التروية ثامن ذي الحجة، سُميَّ بذلك؛ لأنهم يتروون فيه من الماء لأجل الوقوف، أو لأن آدم رأى فيه حواء، أو لأن جبريل أرى إبراهيم فيه المناسك، أو لأنهم كانوا يروون إبلهم فيه، أو لأن إبراهيم رأى تلك الليلة في منامه ذبح ولده بأمره تعالى، فلما أصبح

(1)

السابق.

(2)

"تبيين الحقائق" 2/ 46، "البناية" 4/ 35.

(3)

ورد في هامش الأصل تعليق نصه: الآفاق: النواحي، الواحد أُفقُ بضم الهمزة، والفاء، وأُفْق بإسكان الفاء، قالوا: إن النسبة إليه أُفقي بضم الهمزة والفاء وبفتحهما لغتان مشهورتان، وأما قول الغزالي وغيره في كتاب الحج: الحاج الآفاقي فمنكر، فإن الجمع إذا لم يسم به لا ينسب إليه إنما ينسب إلى واحده- قاله النووي في "التهذيب".

(4)

"المجموع" 7/ 199.

ص: 513

كان يروى -من الرؤى وهو مهموز- في النهار كله أي: يتفكر، وقيل: هو من الرواية لأن الإمام يروي للناس مناسكهم.

فائدة ثانية: كان خروجه يوم التروية ضحى. ذكره أبو سعيد النيسابوري في كتاب "شرف المصطفي"، وفي "سيرة الملا" أنه خرج إلى منى بعدما زاغت الشمس، وفي "شرح الموطأ" لأبي عبد الله القرطبي: خرج إلى منى عشية يوم التروية، ويكون خروجهم بعد صلاة الصبح بمكة بحيث يصلون الظهر أول وقتها. هذا هو الصحيح عندنا

(1)

. وفي قول: يخرجون بعد صلاة الظهر بمكة

(2)

.

(1)

"الأم" 2/ 179، "أسنى المطالب" 1/ 485، "نهاية المحتاج" 3/ 295.

(2)

ورد في هامش الأصل تعليق: ثم بلغ في الحادي بعد الثمانين كتبه مؤلفه.

ص: 514

‌83 - باب: أَيْنَ يُصَلِّي الظُّهْرَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ

؟

1653 -

حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ الأَزْرَقُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ العَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه قُلْتُ: أَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ عَقَلْتَهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَيْنَ صَلَّى الظُّهْرَ وَالعَصْرَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ؟ قَالَ: بِمِنًى. قُلْتُ: فَأَيْنَ صَلَّى العَصْرَ يَوْمَ النَّفْرِ؟ قَالَ: بِالأَبْطَحِ. ثُمَّ قَالَ: افْعَلْ كَمَا يَفْعَلُ أُمَرَاؤُكَ. [1654، 1763 - مسلم: 1309 - فتح: 3/ 507]

1654 -

حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، سَمِعَ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَيَّاشٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ العَزِيزِ: لَقِيتُ أَنَسًا. وَحَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ، عَنْ عَبْدِ العَزِيزِ قَالَ: خَرَجْتُ إِلَى مِنًى يَوْمَ التَّرْوِيَةِ فَلَقِيتُ أَنَسًا رضي الله عنه ذَاهِبًا عَلَى حِمَارٍ، فَقُلْتُ: أَيْنَ صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هَذَا اليَوْمَ الظُّهْرَ؟ فَقَالَ: انْظُرْ حَيْثُ يُصَلِّي أُمَرَاؤُكَ فَصَلِّ. [انظر: 1653 - مسلم: 1309 - فتح: 3/ 507]

ذكر فيه حديث إسحاق الأزرق، ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ العَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قُلْتُ: أَخْبِرْنِي بِشَيءٍ عَقَلْتَهُ عَنِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، أَيْنَ صَلَّى الظُّهْرَ وَالعَصْرَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ؟ قَالَ: بِمِنًى. قُلْتُ: فَأَيْنَ صَلَّى العَصْرَ يَوْمَ النَّفْرِ؟ قَالَ: بِالأَبْطَحِ. ثُمَّ قَالَ: افْعَلْ كَمَا يَفْعَلُ أُمَرَاؤُكَ.

ثم ساقه من حديث علي، سَمِعَ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَيَّاشٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ العَزِيزِ: لَقِيتُ أَنَسًا. وَأخبرني إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبَانَ، ثَنَا أَبُو بَكْرٍ، عَنْ عَبْدِ العَزِيزِ قَالَ: خَرَجْتُ إِلَى مِنًى يَوْمَ التَّرْوِيَةِ فَلَقِيتُ أَنَسًا ذَاهِبًا عَلَى حِمَارٍ، فَقُلْتُ: أَيْنَ صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هذا اليَوْمَ الظُّهْرَ؟ فَقَالَ: انْظُرْ حَيْثُ يُصَلِّي أُمَرَاؤُكَ فَصَلِّ.

هذا الحديث أخرجه (مسلم) وأبو داود والترمذي والنسائي أيضًا،

ص: 515

إلى قوله: (أمراؤك)

(1)

. واستغربه الترمذي من حديث الأزرق، عن الثوري

(2)

، وللحاكم من حديث ابن عباس: أنه صلى الله عليه وسلم صلى خمس صلوات بمنى

(3)

.

(1)

مسلم (1309) كتاب: الحج، باب: استحباب طواف الإفاضة يوم النحر، أبو داود (1912)، الترمذي (964)، النسائي 5/ 249 - 250.

(2)

"سنن الترمذي" 3/ 287 (964) كتاب: الحج، قال: حديث حسن صحيح يستغرب من حديث إسحاق بن يونس الأزرق عن الثوري.

قال الحافظ في "الفتح" 3/ 507 - 508 بعد أن ساق قول الترمذي، قال: يعني أن إسحاق تفرد به، وأظن أن لهذِه النكتة أردفه البخاري بطريق أبي بكر بن عياش عن عبد العزيز، ورواية أبي بكر -الثانية- وإن كان قصر فيها، لكنها متابعة قوية لطريق إسحاق -أي: الحديث الأول- وقد وجدنا له شواهد -ثم ساق له عدة شواهد- ثم قال: قوله: حدثنا علي، لم أره منسوبًا في شيء من الروايات، والذي يظهر لي أنه ابن المديني. اهـ. بتصرف.

قال العيني في "عمدة القاري" 8/ 151 منتقدًا ابن حجر: وقال بعضهم -يقصد ابن حجر-: والذي يظهر لي أنه ابن المديني، قلت: أخذه من الكرماني ثم نسبه إلى نفسه. اهـ.

ورد الحافظ ابن حجر على العيني فقال في "الانتقاض" 1/ 420 بعدما أورد انتقاض العيني: أخذ العيني غالب هذا الفصل من كلامي ولم ينسبه، وفي أكثره ما لم يتوارد فيه مع من سبقه، فانظروا كيف يؤاخذ بموضع واحد مع احتمال التوارد، ثم يقع هو في أكثر من عشرين موضعًا يسلبها ويصرح بنسبتها إلى نفسه، حتى يقول في بعضها: قلت، وهو كلامي، وبعضها لا يحتمل التوارد والله المستعان. اهـ. بتصرف.

(3)

"المستدرك" 1/ 461.

ورواه أبو داود (1911) كتاب: المناسك، باب: الخروج إلى منى، والترمذي (880) كتاب: الحج، باب: ما جاء في الخروج إلى منى والمقام بها، وأحمد 1/ 297، 303، والدارمي 2/ 1190 (1913) كتاب: المناسك، باب: كم صلاة يصلي بمنى حتى يغدو إلى عرفات، وابن خزيمة 4/ 247 (2799) كتاب: المناسك، باب: ذكر عدد الصلوات التي يصلي الإمام والناس بمنى قبل الغدو =

ص: 516

وقال القاسم عن عبد الله بن الزبير: من السنة في الحج أن يُصلي الإمام الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة والصبح بمنى، ثم يغدو إلى عرفة

(1)

.

وفي مسلم من حديث جابر: أنه صلى الله عليه وسلم صلى بها الخمس

(2)

. وقد أسلفنا قريبًا الخلاف في ذَلِكَ في الآثار وعندنا.

وقال المهلب: الناس في سعة من هذا، يخرجون متى أحبوا، ويصلون حيث أمكنهم، ولذلك قَالَ أنس:(صل حيث يصلي أمراؤك)،

= إلى عرفة، والطبراني 11/ 399 - 400 (12126) من طريق سليمان بن مهران الأعمش، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، قوله.

ولفظ أبي داود: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر يوم التروية والفجر يوم عرفة بمنى.

ولفظ الترمذي: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بمنى الظهر والفجر ثم غدا إلى عرفات.

قال الترمذي: حديث مقسم عن ابن عباس، قال ابن المديني: قال يحيى: قال شعبة: لم يسمع الحكم من مقسم إلا خمسة أحاديث، وعدَّها، وليس هذا الحديث فيما عد شعبة.

قال الحاكم: صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه، وذكر المنذري في "مختصر سنن أبي داود" 2/ 395 كلام الترمذي وزاد قائلًا: فعلى هذا يكون هذا منقطعًا، والله عز وجل أعلم. اهـ. وقال الألباني في "صحيح أبي داود" (1669): إسناده صحيح، ورجاله ثقات رجال الصحيح، وقد أعل بما لا يقدح عندي وأورد كلام الترمذي وقال: أعله به، وقد قال أحمد: وأما غير ذلك فأخذها من كتاب. قلت: وما أظن الكتاب في ذلك الزمان إلا موقوفًا، على أن للحديث طريقًا آخر من رواية إسماعيل بن مسلم، عن عطاء، عن ابن عباس

نحوه.

رواه الترمذي (879)، وابن ماجه (3004) وسنده حسن في المتابعات والشواهد. اهـ. بتصرف.

(1)

"المستدرك" 1/ 461، ورواه ابن خزيمة 4/ 246 - 247 (2798)، قال الحاكم: صحيح على شرط الشخين ولم يخرجاه.

(2)

مسلم (1218) كتاب: الحج، باب: حجة النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 517

والمستحب من ذَلِكَ ما فعله الشارع، صلى الظهر والعصر بمنى، وهو قول مالك والثوري وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور

(1)

.

وقال ابن حبيب: إذا مالت الشمس يطوف سبعًا ويركع ويخرج، فإن خرج قبل فلا حرج

(2)

، وعادة أهل مكة أن يخرجوا إلى منى بعد صلاة العشاء، وكانت عائشة تخرج ثلث الليل، وهذا يدل عَلَى التوسعة، وكذلك المبيت في منى ليلة عرفة ليس فيه حرج، إذا وافى عرفة الوقت الذي يجب (فيه)

(3)

ولا فيه جبر كما يجبر ترك المبيت بها بعد الوقوف أيام رمي الجمار، وبه قَالَ مالك وأبو حنيفة والشافعي وأبو ثور

(4)

.

والمستحب في ذَلِكَ أن يُصلي الظهر والعصر بمنى، وكذا المغرب والعشاء والصبح ثم يدفع بعد طلوع الشمس إلى نمرة، بقرب عرفات حَتَّى تزول الشمس، ثم يُصلي الظهر والعصر جميعًا، ثم يدفع إلى الموقف فيدعو بجبال الرحمة إلى الغروب، فإذا غربت دفع مع الإمام فصلى المغرب والعشاء بالمزدلفة جمعًا، ثم يبيت بها ويأخذ منها حصى جمرة العقبة فقط، ثم يُصلي الصبح بها مغلسًا، ثم يدفع إلى منى لرمي جمرة العقبة، ثم يحل له باثنتين من أشياء ثلاثة: الرمي، والحلق، والطواف، جُميع المحرمات إلا النساء، وبالثالث: النساءُ. وعند مالك إلحاق الصيد والطيب بالنساء، ثم يرجع إلى منى فيبيت

(1)

"الأصل" 2/ 409، "مختصر الطحاوي" ص 64، "البيان" 4/ 362، "روضة الطالبين" 3/ 115، "المغني" 5/ 262، "المبدع" 3/ 230.

(2)

"المنتقى" 3/ 37، "النوادر والزيادات" 2/ 389.

(3)

من (ج).

(4)

سبق بيان المسألة.

ص: 518

بها، ويرمي أيام التشريق بعد الزوال إلا أن يتعجل في يومين وقد تم حجه، وكان منزله صلى الله عليه وسلم من منى بالخيف.

وكره مالك المقام بمكة يوم التروية، حَتَّى يمسي إلا أن يدركه وقت الجمعة قبل أن يخرج، فعليه أن يُصلي الجمعة إلا أن يكون مسافرًا، فهو بالخيار، وأحب أن يصلوا؛ لفضيلة المسجد، قاله أصبغ.

وقال محمد: أحب إلى خروجهم إلى منى؛ ليدركوا بها الظهر فما بعدها، وإنما تكلم مالك عَلَى من لم يفعل حَتَّى أدركه الوقت

(1)

. وكره مالك أن يتقدم الناس إلى منى قبل يوم التروية، وإلى عرفة قبل يوم عرفة، واختلف في تقدمة الأثقال، فكرهه مالك، كما يتقدم الناس ولأنه لا بد أن يكون معها من يحفظها، وأجازه أشهب في "المجموعة"

(2)

.

وقوله: (فَلَقِيتُ أَنَسًا. فَقُلْتُ: أَيْنَ صَلَّى النبي صلى الله عليه وسلم هذا اليَوْمَ الظُّهْرَ؟).

قَالَ الداودي: هو وهم وإنما سأله عن صلاة العصر يوم النفر فأخبره: أنه صلى بالأبطح.

وقوله: (ثُمَّ قَالَ: افْعَلْ: كَمَا يَفْعَلُ أُمَرَاؤُكَ). يعني: أنهم لا ينزلون بالأبطح، وليس من فروضه، واستحب مالك لمن يقتدى به أن لا يترك النزول به

(3)

.

(1)

"المنتقى" 3/ 37، "النوادر والزيادات" 2/ 390.

(2)

انظر: "النوادر والزيادات" 2/ 391.

(3)

"المدونة الكبرى" 1/ 421.

ص: 519

‌84 - باب الصَّلَاةِ بِمِنًى

1655 -

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ المُنْذِرِ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ، وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ صَدْرًا مِنْ خِلَافَتِهِ. [انظر: 1082 - مسلم: 694 - فتح: 3/ 509]

1656 -

حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الهَمْدَانِيِّ، عَنْ حَارِثَةَ بْنِ وَهْبٍ الخُزَاعِيِّ رضي الله عنه قَالَ: صَلَّى بِنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم -وَنَحْنُ أَكْثَرُ مَا كُنَّا قَطُّ وَآمَنُهُ- بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ. [انظر: 1083 - مسلم: 696 - فتح 3/ 509]

1657 -

حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ بْنُ عُقْبَةَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَكْعَتَيْنِ، وَمَعَ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه رَكْعَتَيْنِ، وَمَعَ عُمَرَ رضي الله عنه رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ تَفَرَّقَتْ بِكُمُ الطُّرُقُ، فَيَا لَيْتَ حَظِّي مِنْ أَرْبَعٍ رَكْعَتَانِ مُتَقَبَّلَتَانِ. [انظر: 1084 - مسلم: 695 - فتح: 3/ 509]

ذكر فيه أحاديث ثلاثة.

أحدها: حديث ابن عمر: (صَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ، وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ صَدْرًا مِنْ خِلَافَتِهِ).

ثانيها: حديث حارثة بن وهب الخزاعي قَالَ: (صَلَّى بِنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ أَكْثَرُ مَا كُنَّا قَطُّ وَآمَنُهُ- بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ).

ثالثها: حديث (عبد الله)

(1)

قال: (صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَكْعَتَيْنِ، وَمَعَ أَبِي بَكْرٍ رَكْعَتَيْنِ، وَمَعَ عُمَرَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ تَفَرَّقَتْ بِكُمُ الطُّرُقُ، فَيَا لَيْتَ حَظِّي مِنْ أَرْبَعٍ (ركعتين متقبلتين)

(2)

.

(1)

فوقها في الأصل: ابن مسعود.

(2)

في هامش الأصل: ج: ركعتان متقبلتان.

ص: 520

وقد سلف ذَلِكَ في قصر الصلاة

(1)

واضحًا بمذاهب العلماء فيمن يلزمه القصر بمنى، وبما نزع به كل فريق منهم، ونذكر نبذة منه؛ لبعد العهد به، فنقول: ذهب مالك والأوزاعي وإسحاق إلى أن أهل مكة ومن أقام بها من غيرها يقصرون بمنى وعرفة، وأن القصر سنة الموضع، وإنما يتم بها من كان مقيمًا فيها

(2)

.

وذهب الثوري وأبو حنيفة والشافعي وأحمد وأبو ثور إلى أنهم يتمون الصلاة بها، وقالوا: إن من لم يكن سفره سفرًا تقصر فيه الصلاة فحكمه حكم المقيم، وكذا تقدم هناك معنى إتمام عثمان وعائشة الصلاة في السفر، وما للعلماء في ذَلِكَ من التأويلات

(3)

.

وقول ابن مسعود: (تفرقت بكم الطرق) أي: ذهبتم إلى التأويلات.

وقوله: (لَيْتَ حَظِّي .. ) إلى آخره يريد أنه لو صلى أربعًا تكلفها فليتها تتقبل كما تتقبل الركعتان.

وقال الداودي: خشي ابن مسعود أن لا تجزئ الأربع فاعلها، وتبع عثمان؛ كراهةً لخلافه، وأخبر بما في نفسه.

(1)

سلف برقم (1084) كتاب: تقصير الصلاة، باب: الصلاة بمني.

(2)

سبق بيان المسألة.

(3)

سبق بيان المسألة.

ص: 521

‌85 - باب صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ

1658 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، حَدَّثَنَا سَالِمٌ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَيْرًا -مَوْلَى أُمِّ الفَضْلِ- عَنْ أُمِّ الفَضْلِ: شَكَّ النَّاسُ يَوْمَ عَرَفَةَ فِي صَوْمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَبَعَثْتُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِشَرَابٍ فَشَرِبَهُ. [1661، 1988، 5604، 5618، 5636 - مسلم: 1123 - فتح: 3/ 510]

ذكر فيه حديث أم الفضل: (شَكَّ النَّاسُ يَوْمَ عَرَفَةَ فِي صَوْمِه صلى الله عليه وسلم، فَبَعَثْتُ إِلَى النَّبِيِّ بِشَرَابِ فَشَرِبَهُ).

هذا الحديث أخرجه مسلم أيضًا

(1)

.

وذكره في باب الصيام بهذِه الترجمة

(2)

، وزاد حديثًا آخر، كما تقف عليه هناك

(3)

.

فثبت أنه أفطر يوم عرفة بعرفة، وصح في مسلم أن صومه يكفر سنتين أخرجه من حديث أبي قتادة

(4)

، وهو من أفراده، وهذا في غير الحجيج.

أما الحجيج فينبغي لهم أن لا يصوموا؛ كيلا يضعفوا عن الدعاء وأعمال الحج اقتداءً بالشارع.

وأطلق كثيرون من أئمة أصحابنا كونه مكروهًا لهم؛ لحديث أبي داود وغيره، وفي سنده جهالة

(5)

فإن كان الشخص بحيث لا يضعف بسبب

(1)

مسلم (1123) كتاب: الصيام، باب: استحباب الفطر للحاج يوم عرفة.

(2)

سيأتي برقم (1988).

(3)

هو حديث ميمونة (1989).

(4)

مسلم (1162) كتاب: الصيام، باب: استجاب صيام ثلاثة أيام من كل شهر.

(5)

أبو داود (2440) كتاب: الصوم، باب: في صوم يوم عرفة بعرفه، ورواه ابن ماجه (1732) كتاب: الصيام، باب: صيام يوم عرفة، وأحمد 2/ 304، 446، والبخاري في "التاريخ الكبير" 7/ 424 - 425، والنسائي في "الكبرى" 2/ 155 - =

ص: 522

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= 156 (2830 - 2831) كتاب: الصيام، النهي عن صوم يوم عرفة، وابن خزيمة 3/ 292 (2101)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" 2/ 71 - 72 كتاب: الصيام، باب: صوم يوم عرفة، والعقيلي في "الضعفاء" 1/ 298، وابن عدي في "الكامل" 3/ 386 في ترجمة حوشب بن عقيل (560)، والحاكم 1/ 434، والبيهقي 4/ 284 كتاب: الصيام، باب: الاختيار للحاج في ترك صوم يوم عرفه بعرفات، والخطيب 9/ 34، وابن عبد البر في "التمهيد" 21/ 160 - 161، والمزي في "تهذيب الكمال" 28/ 586 - 587 من طريق حوشب بن عقيل عن مهدي بن حرب العبدي -أو ابن أبي مهدي الهجري- عن عكرمة، قال: كنا عند أبي هريرة في بيته فحدثنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة وهذا لفظ أبي داود.

قلت: حوشب وثقه وكيع وأحمد وابن معين، وقال مرة: ليس به بأس. وقال أبو حاتم: صالح الحديث، ووثقه كذلك أبو داود والنسائي، وضعفه الأزدي وابن حزم في "المحلى" 7/ 18، ومعروف أن الأزدي متعنت في الحكم على الرجال، فلا يقبل منه مثل هذا التضعيف، خاصة أن الأزدي نفسه قد ضعف، وخولف هنا، فقد وثق حوشب من هو أوثق من الأزدي.

لكن علة الحديث الحقيقة هو مهدي الهجري، فهو مجهول كما أشار المصنف رحمه الله قال ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" 8/ 337 (1549): عن ابن معين أنه سئل عنه فقال: لا أعرفه، وقال الذهبي في "الميزان" 5/ 320 (8824): قال أبو حاتم: لا أعرفه، وقال ابن حزم 7/ 18: مجهول، وقال عبد الحق في "أحكامه" 2/ 246: مهدي ليس بمعروف.

قال الحاكم: صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه! وقال الذهبي في "السير" 10/ 683: إسناده لا بأس به!! قال الألباني متعقبًا لهما: هذا من أوهامهما الفاحشة، فإن حوشب بن عقيل وشيخه مهدي لم يخرج لهما البخاري، بل إن الهجري مجهول، فأنى للحديث الصحة، وفيه هذا الرجل المجهول؟! اهـ "الضعيفة" 1/ 581 بتصرف.

والحديث ضعفه ابن حزم في "المحلى" 7/ 18 فقال: مثل هذا لا يحتج به، وكذا ضعفه عبد الحق الأشبيلي كما ذكرنا، وقال العقيلي بعد روايته الحديث في ترجمة =

ص: 523

الصوم فقد قَالَ المتولي: الأولى أن يصوم؛ حيازةً للفضيلتين، ونسب غيره هذا إلى المذهب، وقال: الأولى عندنا أن لا يصوم بحال.

وقال الروياني في "الحلية": إن كان قويًا وفي الشتاء ولا يضعف بالصوم عن الدعاء، فالصوم أفضل له، وبه قالت عائشة وجماعة من أصحابنا.

وقال البيهقي في "المعرفة": قَالَ الشافعي في القديم: لو علم الرجل أن الصوم بعرفة لا يضعفه فصامه كان حسنًا

(1)

، واختار الخطابي هذا

(2)

، والمذهب عندنا استحباب الفطر مطلقًا. وبه قَالَ جمهور أصحابنا وصرحوا بأنه لا فرق، ولم يذكر الجمهور الكراهة، بل قالوا: يستحب فطره، كما قَالَه الشافعي

(3)

. ونقل الماوردي وغيره: استحباب الفطر عن أكثر العلماء. وحكى ابن المنذر عن جماعة

منهم: استحباب صومه. وحكى صاحب "البيان" عن يحيى بن سعيد الأنصاري: أنه يجب عليه الفطر بعرفة

(4)

.

= حوشب (372): لا يتابع عليه، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم بأسانيد جياد أنه لم يصم يوم عرفة ولا يصح عنه أنه نهى عن صومه اهـ.

وقال ابن القيم في "زاد المعاد" 1/ 61: في إسناده نظر، فإن مهدي ليس بمعروف، ومداره عليه، وقال الحافظ في "التلخيص" 2/ 213: فيه مهدي الهجرى مجهول، وضعفه الألباني في "ضعيف أبي داود"، (421)، وفي "الضعيفة"(404) وفيها فوائد غير ما ذكرنا عن الحديث فليراجع.

(1)

"معرفة السنن والآثار" 6/ 348.

(2)

"معالم السنن" 2/ 112.

(3)

"مختصر المزني" 2/ 27، "المجموع" 6/ 428 - 429، "أسنى المطالب" 1/ 430، "نهاية المحتاج" 3/ 207.

(4)

"البيان" 3/ 549.

ص: 524

وقال ابن بطال: اختلف العلماء في صومه، فقال ابن عمر: لم يصمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أبو بكر، ولا عمر، ولا عثمان، وأنا لا أصومه

(1)

.

وقال ابن عباس يوم عرفة: لا يصحبنا أحد يريد الصيام، فإنه يوم تكبير وأكل وشرب

(2)

، واختار مالك وأبو حنيفة والثوري: الفطر

(3)

.

وقال عطاء: من أفطر يوم عرفة؛ ليتقوى به عَلَى الذكر كان له مثل أجر الصائم

(4)

. وكان ابن الزبير وعائشة يصومان يوم عرفة

(5)

، وروي أيضًا عن عمر، وكان إسحاق يميل إليه، وكان الحسن يعجبه صومه ويأمر به الحاج، وقال: رأيتُ عثمان بعرفات في يوم شديد الحر صائمًا، وهم يروحون عنه، وكان أسامة بن زيد وعروة بن الزبير والقاسم بن محمد وسعيد بن جبير: يصومون بعرفات. وقال قتادة: لا بأس بذلك إذا لم يضعف عن الدعاء

(6)

، وبه قَالَ الداودي.

(1)

رواه الترمذي (751) كتاب: الصوم، باب: كراهية صوم عرفة بعرفة، وقال: حسن وعبد الرزاق في "المصنف" 4/ 285 (7829) كتاب: المناسك، باب: صيام يوم عرفة، وابن أبي شيبة 3/ 189 (3379) كتاب: الحج، في صوم يوم عرفة بمكة، والنسائي في "الكبرى" 2/ 154 - 155 (2825) كتاب: الصيام، في إفطار يوم عرفة بعرفة، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" 2/ 72 كتاب: الصيام، باب: صوم يوم عرفة. وصححه الألباني في "صحيح الترمذي"(599).

(2)

رواه عبد الرزاق 4/ 283 - 284 (7820).

(3)

"شرح معاني الآثار" 2/ 73، "الفتاوى التاتارخانية" 2/ 389، "الاستذكار" 12/ 234، "المنتقى" 2/ 306.

(4)

رواه عبد الرزاق 4/ 284 (7821).

(5)

رواه عن عائشة ابن أبي شيبة 3/ 190 (13393).

(6)

رواه عبد الرزاق 4/ 284 (7824).

ص: 525

وقال الشافعي: أحب صيامه لغير الحاج، أما من حج فأحب أن يفطر، ليقويه عَلَى الدعاء

(1)

. وقال عطاء: أصومه في الشتاء ولا أصومه في الصيف

(2)

.

وقال الطبري: إنما أفطر صلى الله عليه وسلم بعرفة ليدل عَلَى أن الاختيار في ذَلِكَ الموضع للحاج الإفطار دون الصوم؛ كيلا يضعف عن الدعاء، وقضاء ما لزمه من المناسك، وكذلك من كره صومه من السلف؛ وإنما كان لما بيناه من إيثارهم الأفضل من ثقل الأعمال عَلَى ما هو دونه، وإبقاءً عَلَى نفسه؛ ليقوى بالإفطار عَلَى الاجتهاد في العبادة، ومن آثر صومه أراد أن يفوز بثوابه، ويدخل من باب الريان

(3)

.

وقال المهلب: في شربه اللبن يوم عرفة أن العيان أقطع للحجج وأنه فوق الخبر، وقد قَالَ صلى الله عليه وسلم:"ليس الخبر كالعيان"

(4)

.

(1)

"مختصر المزني" 2/ 27.

(2)

رواه عبد الرزاق 4/ 284 (7822).

(3)

يدل على ذلك حديث سيأتي برقم (1896) كتاب: الصوم، باب: الريان للصائمين، ورواه مسلم (1152) كتاب: الصيام، باب: فضل الصيام، عن سهل بن سعد مرفوعًا:"إن في الجنة بابًا يقال له: الريان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة .. " الحديث.

(4)

رواه أحمد 1/ 215، 271، وأحمد بن منيع في "مسنده" كما في "إتحاف الخيرة المهرة" 5/ 416 (4930)، وابن حبان 14/ 96 (6213) كتاب: التاريخ، باب: بدء الخلق، والطبراني في "الأوسط" 1/ 12 (25)، وابن عدي في "الكامل" 8/ 453، والحاكم 2/ 321، والقضاعي في "مسند الشهاب" 2/ 201 - 202 (1182 - 1184)، والخطيب في "تاريخ بغداد" 6/ 56، وفي "موضح الأوهام" 1/ 530، والضياء في "المختارة" 10/ 80 - 82 (73 - 76) من طريق هشيم بن بشير، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن عبد الله بن عباس مرفوعًا به.

ورواه البزار كما في "الكشف"(200)، وابن حبان 14/ 97 (6214)، والطبراني =

ص: 526

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= 12/ 54 (12451)، وابن عدي 8/ 453، والخطيب في "الموضح" 1/ 530 من طريق أبي عوانة، عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس به.

وعن الطريق الأول قال ابن عدي: يقال: إن هشيمًا لم يسمع الحديث من أبي بشر، إنما سمعه من أبي عوانة عن أبي بشر فدلسه، وكذا قال الضياء، وقال القضاعي: قال يحيى: لم يسمعه هشيم. قلت: يحيى هذا هو أحد رواة الحديث عن هشيم.

وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وقال الهيثمي في "المجمع" 1/ 153: رجاله رجال الصحيح، وصححه ابن حبان. وأورده السخاوي في "المقاصد الحسنة"(915) وذكر قول ابن عدي، ثم قال: وهذا لا يمنع صحته، لا سيما وقد رواه الطبراني وابن عدي وأبو يعلى الخليلي في "الإرشاد" من حديث ثمامة عن أنس. اهـ.

قلت: سيأتي تخريج هذا الحديث.

وقال العجلوني في "كشف الخفاء" 2/ 169: قال في "اللآلئ": فإن قيل: هو معلول بما قال ابن عدي في "الكامل" من أن هشيمًا لم يسمع هذا الحديث من أبي بشر، وإنما سمعه من أبي عوانة عن أبي بشر فدلسه، قلت: قال ابن حبان في "صحيحه" لم ينفرد به هشيم، فقد رواه أبو عوانه عن أبي بشر أيضًا. اهـ.

قلت: لم أقف على قول ابن حبان هذا في "صحيحه".

والحديث أشار السيوطي لصحته في "الجامع الصغير"(7575)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(5374).

قال ابن عبد البر في "التمهيد" 4/ 334: "ليس الخبر كالمعاينة"، رواه ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يروه غيره، والله أعلم. اهـ. ونقله عنه القرطبي في "تفسيره" 3/ 1298.

قلت: في الباب من حديث أنس وأبي هريرة وابن عمر.

حديث أنس رواه الطبراني في "الأوسط" 1/ 90 (6943)، وابن عدي في "الكامل" 7/ 551، والخطيب في "تاريخه" 3/ 200، والضياء 5/ 202 (1827 - 1828) من طريق محمد بن محمد بن مرزوق الباهلي، عن محمد بن عبد الله الأنصاري، عن أبيه، عن عمه ثمامة، عن أنس بن مالك مرفوعًا به. =

ص: 527

وفيه: أن الأكل والشرب في المحافل مباح، إذا كان لتبيين معنى، أو دعت إليه ضرورة كما فعل يوم الكديد إذا علم مما يريد بيانه من سنته.

= قال الطبراني: لا يروى هذا الحديث عن أنس إلا بهذا الإسناد، تفرد به محمد بن مرزوق، وقال نحوه الخطيب، وقال الهيثمي في "المجمع" 1/ 153: رواه الطبراني في "الأوسط" ورجاله ثقات، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(5373).

وحديث أبي هريرة رواه الخطيب في "تاريخه" 8/ 28 من طريق مالك بن أنس، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة مرفوعًا به.

وعزاه السيوطي في "الجامع"(7574) للخطيب، وأشار إلى حسنه، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(5373).

وحديث ابن عمر رواه ابن عدي 8/ 269 في ترجمة النضر بن طاهر أبو الحجاج البصري (1967)، من طريقه عن هشيم، عن يونس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر مرفوعًا به.

قال ابن عدي: قال لنا حمزة: فأنكر عليه أهل المعرفة بالحديث وقالوا: الحديث عن ابن عباس، فأخرج الأصل فكان فيه عن ابن عمر. اهـ

قلت: الظاهر أن الحديث محفوظ من رواية ابن عباس وأنس وأبي هريرة فقط والله أعلم.

وهذا الحديث مذكور في نوع المشهور من الأحاديث كما هو مقرر في مصطلح الحديث، وهو الذي يسمى عندهم بالمشهور غير الاصطلاحي وهو: ما اشتهر على الألسنة من غير شروط تعتبر، فمنه الصحيح ومنه الحسن ومنه الضعيف والموضوع، وهو أنواع، وهذا الحديث من المشهور بين العامة، هكذا ذكر السيوطي في "تدريب الراوي" 2/ 253.

وكذا هو مذكور في الكتب التي صنفت في هذا النوع من أنواع الحديث، وعنيت بذكر هذِه الأحاديث، انظر:"المقاصد الحسنة"(915)، و"الدرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة" للسيوطي (352)، "وتمييز الطيب من الخبيث فيما يدور على ألسنته من الحديث" لابن الديبع (1132)، و"كشف الخفاء"(2137).

ص: 528

وفيه: جواز قبول الهدية من النساء

(1)

، ولم يسألها إن كان من مالها أو من مال زوجها إذ كان مثل هذا القدر لا يتشاحُّ الناس فيه.

وقال ابن التين: كان صلى الله عليه وسلم يترك العمل يحب أن يعمل به لئلا يضيق عَلَى أمته.

فرع:

يستحب أيضًا صوم ثامن ذي الحجة وهو يوم التروية؛ احتياطًا لعرفة.

(1)

انتهى من "شرح ابن بطال" 4/ 133 - 134.

ص: 529

‌86 - باب: التَّلْبِيَةِ وَالتَّكْبِيرِ إِذَا غَدَا مِنْ مِنى إِلَى عَرَفَةَ

1659 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الثَّقَفِيِّ أَنَّهُ سَأَلَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ وَهُمَا غَادِيَانِ مِنْ مِنًى إِلَى عَرَفَةَ: كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ فِي هَذَا اليَوْمِ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ: كَانَ يُهِلُّ مِنَّا المُهِلُّ فَلَا يُنْكِرُ عَلَيْهِ، وَيُكَبِّرُ مِنَّا المُكَبِّرُ فَلَا يُنْكِرُ عَلَيْهِ. [انظر: 970 - مسلم: 1285 - فتح: 3/ 510]

ذكر فيه حديث مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الثَّقَفِيِّ: أَنَّهُ سَأَلَ أَنسًا وَهُمَا غَادِيَانِ مِنْ مِنًى إِلَى عَرَفَةَ: كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ فِي هذا اليَوْمِ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: كَانَ يُهِلُّ مِنَّا المُهِلُّ فَلَا يُنْكِرُ عَلَيْهِ، وَيُكَبِّرُ المُكَبِّرُ مِنَّا فَلَا يُنْكِرُ عَلَيْهِ.

هذا الحديث سلف في العيد

(1)

(2)

، وفي الحديث ابتداء قطع التلبية من الغدو من منى، وآخرها رمي جمرة العقبة في حديث الفضل وأسامة بن زيد وابن مسعود، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

(3)

(قَالَ: كان يهل

(1)

في هامش الأصل تعليق نصه: شيخه هنا عبد الله بن يوسف وهناك أبو نعيم.

(2)

برقم (970).

(3)

حديث الفضل بن عباس رواه النسائي 5/ 276 كتاب: مناسك الحج، قطع المحرم التلبية إذا رمى الجمرة، وابن ماجه (3040) كتاب: المناسك، باب: متى يقطع التلبية، وأحمد 1/ 214.

وأصله في الصحيحين، دون ذكر لفظ التلبية، وفيه: أنه لم يزل يلبي حتى بلغ جمرة العقبة، سلف برقم (1544) كتاب: الحج، باب: الركوب والإرداف في الحج، ورواه مسلم (1282) كتاب: الحج، باب: استحباب إدامة الحاج التلبية حتى

وأما حديث أسامة بن زيد فسلف برقم (1543 - 1544).

وحديث ابن مسعود سيأتي برقم (1683).

ص: 530

منا المهل فلا ينكر عليه ويكبر المكبر منا فلا ينكر عليه)

(1)

.

والذي مضى عليه جمهور العلماء من الصحابة وأهل المدينة اختيار قطعها عند الرواح إلى عرفة، كما حكاه ابن أبي صفرة؛ لأنهم فهموا

(2)

أن تعجيل قطعها وتأخيرها عَلَى الإباحة، يدل عَلَى ذَلِكَ ترك إنكار بعضهم عَلَى بعض، وهم فهموا السنن وتلقوها

(3)

، فوجب الاقتداء بهم في اختيارهم لأنا أمرنا باتباعهم.

وقال الطحاوي: لا حجة لكم في هذا الحديث؛ لأن بعضهم كان يهل، وبعضهم كان يكبر، ولا يمنع أن يكونوا فعلوا ذَلِكَ ولهم أن يلبوا؛ لأن الحاج فيما قبل يوم عرفة له أن يكبر، وله أن يهل، وله أن يُلبي فلم يكن تكبيره وإهلاله يمنعانه من التلبية

(4)

. وقال المهلب: وجه قطع التلبية عند الرواح إلى الموقف من يوم عرفة؛ لأنه آخر السفر، وإليه منتهى الحاج وما بعد ذَلِكَ فهو رجوع. فالتكبير فيه أولى، لقوله تعالى:{فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ} إلى قوله: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ} ، وقال تعالى:{وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} فدل هذا عَلَى أن التكبير والدعاء لله عند المشعر الحرام وأيام منى أولى من التلبية؛ لأن معناها الإجابة، وإذا بلغ موضع النداء قطع التلبية، وأخذ في الدعاء، وسأل حاجاته، وسيأتي اختلافهم في قطع

(1)

من (ج).

(2)

في (ج): (زعموا).

(3)

في (ج): (نقلوها).

(4)

القول ليس للطحاوي رحمه الله بل نقله عن آخرين. يقول الطحاوي: واختلفوا في قطعه للتلبية متى ينبغي أن يكون؛ فقال قوم:

، وقالوا: لا حجة لكم في هذِه الآثار التي احتججتم بها علينا

إلخ. "شرح معاني الآثار" 2/ 223 - 224.

ص: 531

التلبية في حديث الفضل وأسامة بعد هذا قريبًا. والحديث دالٌ عَلَى إباحة التكبير والتهليل، ورواه محمد، عن مالك واحتج بهذا قَالَ: كان القوم يكبرون ويلبون.

فائدة:

الغدو: السير، وهو السنة أن يسير إذا طلعت الشمس كما أسلفناه، واستثنى مالك من كان ضعيفًا أو بدابته علة، فلا بأس أن يغدو قبل طلوعها. قَالَ: ويكره أن يمر إلى عرفة من غير طريق المازنين، فإن

مر عَلَى غيره فلا شيء عليه.

ص: 532

‌87 - باب التَّهْجِيرِ بِالرَّوَاحِ يَوْمَ عَرَفَةَ

1660 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمٍ قَالَ: كَتَبَ عَبْدُ المَلِكِ إِلَى الحَجَّاجِ أَنْ لَا يُخَالِفَ ابْنَ عُمَرَ فِي الحَجِّ. فَجَاءَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنه وَأَنَا مَعَهُ يَوْمَ عَرَفَةَ حِينَ زَالَتِ الشَّمْسُ، فَصَاحَ عِنْدَ سُرَادِقِ الحَجَّاجِ، فَخَرَجَ وَعَلَيْهِ مِلْحَفَةٌ مُعَصْفَرَةٌ فَقَالَ: مَا لَكَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ فَقَالَ الرَّوَاحَ إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ السُّنَّةَ. قَالَ: هَذِهِ السَّاعَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَأَنْظِرْنِي حَتَّى أُفِيضَ عَلَى رَأْسِي ثُمَّ أَخْرُجَ. فَنَزَلَ حَتَّى خَرَجَ الحَجَّاجُ، فَسَارَ بَيْنِي وَبَيْنَ أَبِي، فَقُلْتُ: إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ السُّنَّةَ فَاقْصُرِ الخُطْبَةَ وَعَجِّلِ الوُقُوفَ. فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى عَبْدِ اللهِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عَبْدُ اللهِ قَالَ: صَدَقَ.

[1662، 1663 - فتح: 3/ 511]

ذكر فيه:

عن عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمٍ قَالَ: كَتَبَ عَبْدُ المَلِكِ إِلَى الحَجَّاجِ أَنْ لَا يُخَالِفَ ابْنَ عُمَرَ فِي الحَجِّ. فَجَاءَ ابْنُ عُمَرَ وَأَنَا مَعَهُ يَوْمَ عَرَفَةَ حِينَ زَالَتِ الشَّمْسُ، فَصَاحَ عِنْدَ سُرَادِقِ الحَجَّاجِ، فَخَرَجَ وَعَلَيْهِ مِلْحَفَةٌ مُعَصْفَرَةٌ فَقَالَ: مَا لَكَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ فَقَالَ: الرَّوَاحَ إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ السُّنَّةَ. قَالَ: هَذِهِ السَّاعَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ. وفي آخره: فَاقْصُرِ الخُطْبَةَ وَعَجِّلِ الوُقُوفَ. فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى عَبْدِ اللهِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عَبْدُ اللهِ قَالَ: صَدَقَ.

هذا الحديث ذكره في باب: الجمع بين الصلاتين بعرفة معلقًا، فقال: وقال الليث: حَدَّثَني عقيل، عن ابن شهاب قَالَ: أخْبرَنِي سالم أن الحجاج عام نزل بابن الزبير سأل عبد الله: كيف تصنع في الموقف يوم عرفة؟ فقال سالم: إن كنت تريد السنة فهجر بالصلاة يوم

ص: 533

عرفة إلى آخره

(1)

. وكأنه أراد بيان تصريح ابن شهاب بسماعه له من سالم، وقال معمر: إن الزهري سمعه من ابن عمر

(2)

؛ لأنه شهد تلك القصة وحضرها. وسمع منه حديثًا آخر.

وفي "التمهيد": روى معمر، عن الزهري أنه كان شاهدًا مع سالم وأبيه هذِه القصة مع الحجاج، ووهم معمر فيه، قَالَ يحيى بن معين: وهم فيه معمر، وابن شهاب لم ير ابن عمر ولم يسمع منه شيئًا

(3)

. وعند الإسماعيلي من حديث أبي مصعب والتنيسي، عن مالك: إن كنت تريد أن تصيب السنة اليوم في الموضعين، وعنده: فاقصر الخطبة وعجل الصلاة.

وروى حديث الليث في "صحيحه" عن أبي عمران إبراهيم بن هانئ، حدثَنَا الرمادي، ثَنَا ابن بكير، وأبو صالح، أن الليث حدثهما: ثَنَا عقيل، عن ابن شهاب، أنا سالم، فذكره.

إذا تقرر ذَلِكَ: فهذا الحديث يدخل في السنة؛ لقوله: (إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ السُّنَّةَ)، والمراد سنة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك إذا أطلقها غيره ما لم تضف إلى صاحبها، كقولهم: سنة العمرين وما أشبهه.

وقد أسلفنا توهيم معمر عن الزهري في شهوده القصة. وقال أحمد بن عبد الله بن صالح: قد روى الزهري عن ابن عمر نحو ثلاثة أحاديث.

(1)

سيأتي برقم (1662).

(2)

ورد بهامش الأصل ما نصه: قال العلائي في "المراسيل": قال أحمد بن حنبل، وابن معين: لم يسمع من ابن عمر شيئًا، وقال ابن المديني: سمع الزهري من ابن عمر حديثين فقط، حدثنا به عبد الرزاق: انظر: "جامع التحصيل في أحكام المراسيل" للعلائي ص 269 (712).

(3)

"التمهيد" 10/ 7.

ص: 534

قَالَ ابن عبد البر: هذا لا يصححه أحد سماعًا، وليس لابن شهاب سماع من ابن عمر، وأما محمد بن يحيى الذهلي فقال: ممكن أن يكون قد شاهد ابن عمر مع سالم في قصة الحجاج، واحتج برواية معمر، وفيها: ركب هو وسالم وأنا معهما حين زاغت الشمس، وفيها: قَالَ الزهري: وكنت يومئذٍ صائمًا فلقيت من الحر شدة، قَالَ محمد بن يحيى: وقد روى ابن وهب، عن عبيد الله

(1)

بن عمر العمري، عن ابن شهاب نحو رواية معمر، وفي حديثه قَالَ ابن شهاب: وأصاب الناس في تلك الحجة شيء لم يصبنا مثله، واحتج أيضًا بأن عنبسة روى عن يونس، عن ابن شهاب قَالَ: وفدت إلى مروان وأنا محتلم قَالَ: ومروان مات سنة خمس وستين، ومات ابن عمر سنة ثلاث وسبعين، قَالَ: وأظن مولد الزهري في سنة خمسين أو نحو هذا، وموته سنة أربع وعشرين ومائة، فممكن أن يكون شاهد ابن عمر في تلك الحجة، فلست أدفع رواية معمر، هذا آخر كلام الذهلي.

وذكر الحلواني قَالَ: سمعتُ أحمد بن صالح يقول: قد أدرك الزهري الحرة وهو بالغ وعقلها -أظنه قَالَ: وشهدها- وكانت الحرة أول خلافة يزيد بن معاوية، وذلك سنة إحدى وستين، قَالَ عبد الرزاق: فقلتُ لمعمر: ورأى الزهري ابن عمر؟ قَالَ: نعم، وسمع منه حديثين، فسلني عنهما أحدثكهما

(2)

.

(1)

في "التمهيد" 10/ 8: عبد الله، وما ذكره المصنف رحمه الله هو الصواب.

(2)

"التمهيد" 10/ 7 - 9 بتصرف.

ص: 535

ثم ها هنا أمور:

أحدها: قَالَ أبو عمر: رواية يحيى وابن القاسم وابن وهب ومطرف: (وعجل الصلاة). وقَالَ القعنبي وأشهب: (فأقم الخطبة وعجل الوقوف، جعلا موضع الصلاة الوقوف)، قَالَ أبو عمر: وهو عندي غلط؛ لأن أكثر الرواة عن مالك عَلَى خلافه

(1)

.

ثانيها: تعجيل الصلاة يوم عرفة، سنة مجمع عليها في أول وقت الظهر، ثم يُصلي العصر بإثر السلام.

قَالَ أبو عمر: وقد يحتمل ما قاله القعنبي أيضًا؛ لأن تعجيل الوقوف بعد تعجيل الصلاة والفراغ منها سنة

(2)

. وقد أسلفنا رواية مصعب وغيره عن مالك وفيها: وعجل الصلاة، كما رواه الجماعة.

ثالثها: فيه أن إقامة الحج إلى الخلفاء، ومن جعلوا ذَلِكَ إليه، وهو واجب عليهم، فيقيمون من كان عالمًا به.

رابعها: في فوائده:

فيه: الصلاة خلف الفاجر من الولاة ما لم تخرجه بدعته عن الإسلام.

وفيه: أن الرجل الفاضل لا يؤخذ عليه في مشيه إلى السلطان الجائر فيما يحتاج إليه.

وفيه: أن تعجيل الرواح للإمام للجمع بين الظهر والعصر بعرفة في أول وقت الظهر سنة، وقد رُوِي عن مالك في هذا الحديث: وعجل الصلاة مكان الوقوف، كما سلف، وهو صحيح المعنى؛ لأن تعجيل الرواح إنما يراد لتعجيل الصلاتين والجمع بينهما، فدل عَلَى أن

(1)

و

(2)

المرجع السابق 10/ 20.

ص: 536

تعجيل الصلاة بعرفة سنة، ورواية: وعجل الوقوف في البخاري صحيح أيضًا كما سلف.

وفيه: الغسل للوقوف بعرفة لقول الحجاج لعبد الله: (أَنْظِرْنِي حَتَّى أُفِيضَ عَلَي ماء)، وأهل العلم يستحبونه.

وفيه: خروج الحجاج وهو محرم وعليه ملحفة معصفرة، ولم ينكر ذَلِكَ عليه ابن عمر، ففيه حجة لمن أجاز المعصفر للمحرم، وقد سلف في بابه

(1)

.

وفيه: جواز تأمير الأدون عَلَى الأفضل والأعلم.

وفيه: أن الأمير يجب أن يعمل في الدين بقول أهل العلم ويصير إلى رأيهم.

وفيه: ابتداء العالم بالفتيا قبل أن يسأل عنه.

وفيه: الفهم بالإشارة والنظر.

وفيه: أن اتباع الشارع هي السنة، وإن كان في المسألة أوجه جائز غيرها.

وفيه: فتوى التلميذ بحضرة أستاذه عند السلطان وغيره.

واختلف العلماء في وقت أذان المؤذن بعرفة للظهر والعصر، وفي جلوس الإمام للخطبة قبلهما، فقال مالك: يخطب الإمام طويلًا، ثم يؤذن وهو يخطب، ثم يصلي، ومعنى ذَلِكَ: أن يخطب الإمام صدرًا من خطبته، ثم يؤذن المؤذن ويقيم، فيكون فراغه مع فراغ الإمام من الخطبة، ثم ينزل فيقيم

(2)

.

(1)

باب: ما يلبس المحرم من الثياب والأردية والأزر، حديث (1545).

(2)

انظر: "التمهيد" 9/ 147.

ص: 537

وحكى ابن نافع أنه قَالَ: الأذان بعرفة بعد جلوس الإمام للخطبة (قبلهما)

(1)

(2)

. وقال الشافعي: يأخذ المؤذن في الأذان إذا قام الإمام للخطبة الثانية، فيكون فراغه من الأذان بفراغ الإمام من الخطبة ويقيم

(3)

. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: إذا صعد الإمام المنبر أخذ المؤذن في الأذان كما في الجمعة

(4)

.

وسُئل مالك: إذا صعد الإمام عَلَى المنبر يوم عرفة أيجلس قبل أن يخطب؟ قَالَ: نعم، ثم يقوم فيخطب طويلًا، ثم يؤذن المؤذن وهو يخطب ثم يُصلي، قَالَ: ويخطب خطبتين

(5)

.

وأجمع العلماء عَلَى أنه صلى الله عليه وسلم إنما صلى بعرفة صلاة المسافر لا صلاة جمعة، ولم يجهر بالقراءة، وكذلك أجمعوا أن الجمع بينهما يوم عرفة مع الإمام سنة مجمع عليها

(6)

، واختلفوا فيمن فاتته الصلاة يوم عرفة مع الإمام، هل له أن يجمع بينهما أم لا؟ فقال مالك: نعم، وكذا بالمزدلفة

(7)

، وقال أبو حنيفة: لا، إلا من صلاها مع الإمام

(8)

.

واختلف العلماء في الأذان للجمع بينهما: فقال مالك: يصليهما بأذانين وإقامتين، وقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما وأبو ثور

(1)

من (ج).

(2)

"المدونة الكبرى" 1/ 249.

(3)

"المجموع" 8/ 114.

(4)

"المبسوط" 4/ 15، "شرح فتح القدير" 2/ 470.

(5)

"التمهيد" 9/ 147، وينظر رأي الإمام أبي حنيفة وأبي يوسف في:"المبسوط" 4/ 15.

(6)

انظر: "التمهيد" 9/ 147، "الاستذكار" 3/ 137، "المغني" 5/ 265.

(7)

"الاستذكار" 13/ 137.

(8)

انظر: "المبسوط" 4/ 15 - 16.

ص: 538

والطبري: يجمع بينهما بأذان واحد وإقامتين، وقد روي عن مالك مثله، والأول أشهر

(1)

.

وقال أحمد وإسحاق: يجمع بينهما بإقامة إقامة، أو باذان وإقامتين إن شاء

(2)

، وإن لم يخطب ويسر بالقراءة فيهما؛ لأنهما ظهر وعصر قصرا من أجل السفر، وقال أبو حنيفة: يجهر. وفي "شرح الهداية ": يسر.

وأجمعوا أن الخطبة قبل الصلاة يوم عرفة

(3)

، وقد أسلفنا أنه لا يدخل عرفة إلا وقت الوقوف بعد فعل الظهر والعصر جمعًا بنمرة بقرب عرفات خارج الحرم من طرف الحرم إلى عرفات، وأما ما يفعله معظم الناس في هذِه الأزمان من دخولهم عرفة قبل وقت الوقوف فخطأ وبدعة، والصواب الأول، ويغتسل بنمرة للوقوف.

قَالَ جابر: ضرب النبي صلى الله عليه وسلم قبة بنمرة فنزل بها، حَتَّى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحِّلت له، فأتى بطن الوادي فخطب الناس،

(1)

انظر: "الاستذكار" 13/ 138، وينظر "شرح معاني الآثار" 2/ 214، "المبسوط" 4/ 15.

(2)

المنصوص في رواية الكوسج: قلت: الجمع بين الصلاتين بعرفة أو يجمع بأذانٍ وإقامة، (أو بإقامة؟)

قال: لا، ولكن بإقامة إقامة، لكل صلاةٍ إقامة.

وهو خلاف ما روي عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر رضي الله عنهما، هذا سالم، عن ابن عمر رضي الله عنهما.

قال: إسحاق: كما قال، ولكن إن كان الإمام يتبع رواية سعيد بن جبير إقامة

واحدة كان أفضل لما لا ينبغي لكل من يجمع بين الصلاتين إلا أن يحدث بينهما عملًا فالإقامة، وإن كان مفتاح الصلاة فتركه أفضل. "مسائل الإمام أحمد برواية الكوسج" 1/ 533.

(3)

انظر: "الاستذكار" 12/ 141، "الإقناع" للفاسي 2/ 836.

ص: 539

أخرجه مسلم في حديثه الطويل

(1)

.

قَالَ عطاء ومجاهد والزهري وابن جريج والثوري ويحيى القطان وأبو ثور وأحمد وابن المنذر وعامة الفقهاء وأهل الحديث: قصر الصلاة غير جائز لأهل مكة بعرفات

(2)

. وقال القاسم بن محمد وسالم والأوزاعي ومالك: لهم قصرها

(3)

، ومن صلى العصر في رحله وحده صلاه في وقته عند أبي حنيفة

(4)

، وخالفاه فقالا: يجمع المنفرد.

وقوله: (فَأَنْظِرْنِي) أي: أخرني للغسل، فأنظره رفقًا به وعونًا، وهي بألف قطع فيما ضبطه بعضهم، وضبطه غيره بضم الظاء ووصل الهمزة، ذكرهما ابن التين.

وقوله: (حَتَّى أُفِيضَ) قَالَ: صوابه أُفِضْ؛ لأنه جواب الأمر.

وقول عبد الملك للحجاج: (لا تخالف ابن عمر في الحج)، إقرار بدينه وعلمه وبأنه القدوة في زمانه الذي يجب أن يقتدي به أهل وقته.

ومضي ابن عمر إلى الحجاج حين الزوال؛ مسارعة إلى الخير ومعونةً؛ وحرصًا عَلَى إثبات ما عنده من العلم ونشره وانتفاع الناس به، وتوجهه إليه حين زالت الشمس هو السنة، لما يلزم من تعجيل الصلاة ذَلِكَ اليوم، وصياحه عند سرادق الحجاج -وهو فسطاطه- ليكون أسرع لخروجه من إدخال الإذن عليه، وخروجه وعليه ملحفة معصفرة.

(1)

مسلم (1218) كتاب: الحج، باب: حجة النبي صلى الله عليه وسلم.

(2)

"المبسوط" 1/ 236، "بدائع الصنائع" 2/ 152، "الأم" 1/ 163 "روضة الطالبين" 3/ 93، "المجموع" 8/ 116، "المستوعب" 4/ 227، "المغني" 5/ 265.

(3)

"عيون المجالس" 2/ 820، "الاستذكار" 13/ 164، "المنتقى" 3/ 41.

(4)

"العناية" 2/ 471.

ص: 540

قَالَ ابن التين: يحتمل أن يكون غير مفدمة، وإن كان المصبوغ كله مكروهًا للآية، لكن ليس الحجاج ممن يقتدى به فيقال: مفدم من غيره.

وقوله: (هذِه السَّاعَةَ؟ قَالَ: نعم) فيه إعلام له بالسنة وأنه التعجيل؛ لأنه حج مع الشارع ورأى أفعاله.

وقوله: (فَسَارَ بَيْنِي وَبَيْنَ أَبِي) يحتمل أن يكونوا ركبانًا؛ لأن السنة الركوب حينئذٍ لمن له راحلة.

وقوله: (فَنَزَلَ حَتَّى خَرَجَ الحَجَّاجُ) يدل عَلَى أنه كان راكبًا.

وقوله: (فَقُلْتُ: إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ السُّنَّةَ فَاقْصُرِ الخُطْبَةَ) يدل له أيضًا حديث عمار "اقصروا الخطبة"، أخرجه مسلم

(1)

، وكذا حديث جابر

(2)

، وبه قَالَ ابن التين

(3)

، والعراقيون من أصحابنا يطلقون أنه لا يخطب الإمام يوم عرفة، ومعناه: أنه ليس لما يأتي به من الخطبة تعلق بالصلاة كخطبة الجمعة؛ لأنها لا تغير حكم الصلاة، وبه قَالَ أبو حنيفة

(4)

.

وقال الشافعي: يخطب

(5)

، وهو قول جميع أصحابنا المغاربة، والمدنيون يقولون: يخطب إلا أنهم لا يجعلون للخطبة حكم الخطبة بالصلاة، وإنما يجعلون لها حكم التعليم

(6)

.

(1)

مسلم (869) كتاب: الجمعة، باب: تخفيف الصلاة والخطبة.

(2)

مسلم (866) من حديث جابر بن سمرة، و (867) من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري.

(3)

انظر قول ابن التين في "المنتقى" 3/ 36.

(4)

"المبسوط" 2/ 130، "بدائع الصنائع" 2/ 152.

(5)

"روضة الطالبين" 3/ 93، "أسنى المطالب" 1/ 485، "مغني المحتاج" 1/ 496.

(6)

"التفريع" 1/ 355، "عيون المجالس" 2/ 845، "المنتقى" 3/ 36.

ص: 541

وقد قَالَ ابن حبيب: يخطب قبل الزوال. وقال أبو محمد: فيه نظر.

وقال أشهب: إن خطب قبل الزوال لم يجزه ويعيدها، إلا أن يكون صلى الظهر بعد الزوال فيجزئه

(1)

.

وقال مالك: كل صلاة يخطب لها، فإنه يجهر فيها بالقراءة، قيل له: فعرفة يخطب فيها ولا يجهر بالقراءة؟ فقال: إنما تلك للتعليم

(2)

.

فائدة:

خطب الحج أربع:

الأولى: سابع ذي الحجة بعد الزوال فردة، والمالكية: خطبتين يجلس بينهما خلافًا لمحمد، وقيل: قبل الزوال، حكاه محمد، وقال عطاء: أدركتهم يخرجون ولا يخطبون، وأدركتهم يخطبون بمكة.

ثانيها: ببطن عُرنة من عرفة يجلس بينهما.

ثالثها: يوم النحر.

رابعها: أوسط أيام التشريق، وهو يوم الرءوس

(3)

.

(1)

"النوادر والزيادات" 2/ 396.

(2)

"المدونة" 1/ 157.

(3)

روى أبو داود (1953) كتاب: المناسك، باب: أيُّ يوم يخطب بمنى؟ والبخاري في "التاريخ" 3/ 287، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" 6/ 92 (3305)، وابن خزيمة 4/ 318 (2973)، والطبراني في "الأوسط" 3/ 47 (2430)، والبيهقي 5/ 151 - 152 كتاب: الحج، باب: خطبة الإمام بمنى أوسط أيام التشريق، والمزي في "تهذيب الكمال" 9/ 122 من طريق أبي عاصم، عن ربيعة بن عبد الرحمن بن حصين: حدثتني جدتي سراء بنت نبهان -وكانت ربة بيت في الجاهلية- قالت: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الرءوس، فقال:"أي يوم هذا؟ "، قلنا: الله ورسوله أعلم، قال:"أليس أوسط أيام التشريق؟ ". وهذا لفظ أبي داود.

قال الألباني في "ضعيف أبي داود"(335): إسناده ضعيف، ربيعة فيه جهالة. =

ص: 542

قَالَ ابن حزم: خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحد ثاني يوم النحر

(1)

.

وهو مذهب أبي حنيفة أيضًا

(2)

، وهو يوم القر.

وفيه حديث في أبي داود

(3)

، وآخر في "مسند أحمد"

(4)

، وآخر في

= وروى أيضًا أبو داود (1952)، والبيهقي 5/ 151 من طريق ابن المبارك، عن إبراهيم بن نافع، عن ابن أبي نجيح، عن أبيه، عن رجلين من بني بكر قالا: رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب بين أوسط أيام التشريق ونحن عند راحلته، وهي خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي خطب بمنى.

وصححه الألباني في "صحيح أبي داود"(1706).

(1)

"حجة الوداع" لابن حزم ص 205.

(2)

"مختصر اختلاف العلماء" 2/ 185.

(3)

أبو داود (1765) كتاب: المناسك، باب: في الهدي إذا عطب قبل أن يبلغ. ورواه أحمد 4/ 350، والبخاري في "التاريخ" 5/ 34 - 35، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" 4/ 367 (2407)، والنسائي في "الكبرى" 2/ 444 (4098) كتاب: الحج، فضل يوم النحر، وابن خزيمة 4/ 273 - 274 (2866)، 4/ 294 (2917)، 4/ 315 (2966)، وابن حبان 7/ 51 (2811) كتاب: الصلاة، باب: العيدين، والطبراني في "الأوسط" 3/ 44 (2421)، وفي "مسند الشاميين" 1/ 272 - 273 (475)، والحاكم 4/ 221، والبيهقي 5/ 237، 7/ 288، وابن الأثير في "أسد الغابة" 3/ 364 - 365، والمزي في "تهذيب الكمال" 15/ 445 من طريق ثور بن يزيد، عن راشد بن سعد، عن عبد الله بن عامر بن لحي، عن عبد الله بن قرط، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن أعظم الأيام عند الله تعالى يوم النحر ثم يوم القر، قال عيسى: قال ثور: وهو اليوم الثاني، وقال: .. الحديث. هذا لفظ أبي داود.

قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الألباني في "صحيح أبي داود" (1549): إسناده صحيح.

(4)

"المسند" 5/ 73 من طريق حماد بن سلمة عن علي بن زيد، عن أبي حرة الرقاشي، عن عمه قال: كنت آخذًا بزمام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوسط أيام التشريق، أذود

عنه الناس فقال: .. الحديث مطولًا.

ومن هذا الطريق رواه الدارمي 3/ 1649 - 1650 (2576) كتاب: البيوع، باب: =

ص: 543

الدارقطني

(1)

.

= في الربا الذي كان في الجاهلية، وأبو يعلى 3/ 139 (1569)، والطبراني 4/ 53 (3609)، وابن الأثير في "أسد الغابة" 6/ 366.

وذكره أبو داود معلقًا بعد حديث (1953) كتاب: المناسك، باب: أي يوم يخطب بمنى؟ فقال: وكذلك قال عم أبي حرة الرقاشي: إنه خطب أواسط أيام التشريق.

وفي "علل ابن أبي حاتم" 2/ 324 - 325 (2493) سئل أبو زرعة عن هذا الحديث قيل: هل يسمى أبو حرة، ويسمى عمه؟ فقال: لا يسمى أبو حرة ولا عمه، ولا أعرف له إلا هذا الحديث الواحد. وقال المنذري: أبو حرة الرقاشي: اسمه حنيفة، وقال أبو الفضل محمد بن طاهر: عمه حنيفة، ويقال: حكيم بن أبي زيد، وقيل: عامر بن عبدة الرقاشي، وقال عبد الله البغوي: عم أبي حرة بلغني أن اسمه حذلم بن حنيفة، وعلى بن زيد هذا هو ابن جدعان، لا يحتج بحديثه اهـ "مختصر أبي داود" 3/ 69، وتعقبه الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على "المختصر"، فقال: علي بن زيد: اختلف فيه، والراجح عندنا أنه ثقة، ومن فقه ترجمته أيقن أن كلام من تكلم فيه لا يضر. اهـ. وقال الهيثمي في "المجمع" 3/ 265 - 266: أبو حرة الرقاشي وثَّقه أبو داود، وضعَّفه ابن معين، وفيه: علي بن زيد، وفيه كلام، وقال في 4/ 116: فيه: علي بن زيد، وهو ضعيف، وقد وثق.

وقال الألباني في "ضعيف أبي داود"(336) وصله الإمام أحمد بسند فيه علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف.

(1)

"سنن الدارقطني" 2/ 245.

ورواه الروياني في "مسنده" 2/ 498 - 499 (1530)، والبغوي في "معجم الصحابة" 5/ 113 (2014)، والطبراني 19/ 175 - 176 (400 - 401) من طريق كرامة بنت الحسين بن جعفر بن الحارث قالت: سمعت أبي يحدث، عن أبي عياش، عن جابر بن عبد الله الأنصاري، عن كعب بن عاصم الأشعري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب بمنى أوسط أيام الأضحى -يعني الغد من يوم النحر- وهذا لفظ الدارقطني، وعند بعضهم: أوسط أيام التشريق.

وقال البغوي: هذا حديث غريب، وقال الحافظ في "الإصابة" 3/ 297: أخرجه البغوي وقال: غريب، وأخرجه ابن السكن. اهـ. وقال الهيثمي في "المجمع" 3/ 272: فيه كرامة بنت الحسين، ولم أجد من ذكرها.

ص: 544

قَالَ ابن حزم: وقد روي أيضًا أنه خطبهم يوم الاثنين، وهو يوم الأكارع، وأوصى بذوي الأرحام خيرًا

(1)

.

قَالَ ابن قدامة: وروي عن أبي هريرة أنه كان يخطب العشر كله، وفي "المصنف": وكذا ابن الزبير

(2)

.

(1)

"حجة الوداع" ص 205.

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة" 3/ 246 (13971) كتاب: الحج، في خطبة النبي صلى الله عليه وسلم أي يوم يخطب؟

ص: 545

‌88 - باب الوُقُوفِ عَلَى الدَّابَّةِ بِعَرَفَةَ

1661 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ عُمَيْرٍ -مَوْلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ العَبَّاسِ- عَنْ أُمِّ الفَضْلِ بِنْتِ الحَارِثِ، أَنَّ نَاسًا اخْتَلَفُوا عِنْدَهَا يَوْمَ عَرَفَةَ فِي صَوْمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ صَائِمٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ بِصَائِمٍ. فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ بِقَدَحِ لَبَنٍ وَهْوَ وَاقِفٌ عَلَى بَعِيرِهِ فَشَرِبَهُ. [انظر: 1658 - مسلم: 1123 - فتح: 3/ 513]

ذكر فيه حديث أم الفضل السالف قريبًا في باب صوم يوم عرفة، وفي آخره: وَهْوَ وَاقِفٌ عَلَى بَعِيرِهِ فَشَرِبَهُ

(1)

.

والوقوف راكبًا أفضل من الترجل للاتباع.

وفيه: قوة عَلَى الدعاء والتضرع والتعظيم لشعائر الله، وهو ما اختاره مالك والشافعي وجماعة، وعنه قول: إنهما سواء

(2)

.

وقد سلف هذا المعنى.

وفيه: أن الوقوف عَلَى ظهر الدواب مباح، إذا كان بالمعروف ولم يجحف بالدابة، وأن النهي الوارد ألا تتخذ ظهورها منابر، معناه الأغلب الأكثر، بدليل هذا الحديث.

وإرسالا أم الفضل إلى الشارع؛ لتختبر صومه كما سلف وهو دال عليه، وإن كان قد تركه لغيره كشبع.

وذكر بعضهم فيما حكاه ابن التين: أن من سهل عليه بذل المال

(1)

برقم (1658).

(2)

"الاستذكار" 13/ 23، "المنتقى" 3/ 19، "البيان" 4/ 317، "مغني المحتاج" 1/ 497.

ص: 546

وشق عليه المشي، فمشيه أكثر أجرًا له، ومن شق عليه بذله وسهل عليه المشي فركوبه أكثر أجرًا له، وهذا على اعتبار المشقة في الأجور، قَالَ: وذلك غير بعيد.

ص: 547

‌89 - باب الجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بِعَرَفَةَ

وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ مَعَ الإِمَامِ جَمَعَ بَيْنَهُمَا.

1662 -

وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَالِمٌ، أَنَّ الحَجَّاجَ بْنَ يُوسُفَ -عَامَ نَزَلَ بِابْنِ الزُّبَيْرِ رضي الله عنهما سَأَلَ عَبْدَ اللهِ رضي الله عنه: كَيْفَ تَصْنَعُ فِي المَوْقِفِ يَوْمَ عَرَفَةَ؟ فَقَالَ سَالِمٌ: إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ السُّنَّةَ فَهَجِّرْ بِالصَّلَاةِ يَوْمَ عَرَفَةَ. فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ: صَدَقَ، إِنَّهُمْ كَانُوا يَجْمَعُونَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالعَصْرِ فِي السُّنَّةِ. فَقُلْتُ لِسَالِمٍ: أَفَعَلَ ذَلِكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ سَالِمٌ: وَهَلْ تَتَّبِعُونَ فِي ذَلِكَ إِلاَّ سُنَّتَهُ؟! [انظر: 1660 - فتح: 3/ 513]

ثم ذكر معلقًا حديث ابن عمر السالف قريبًا في التهجير

(1)

، وقد سلف مسندًا

(2)

، وحكمة الجمع أول الوقت امتداد الوقوف والدعاء والتضرع والإنابة، وقد أسلفنا في باب: التهجير، اختلاف العلماء فيمن فاتته الصلاة بعرفة مع الإمام، فكان ابن عمر يجمع بينهما، كما حكاه البخاري، وهو قول عطاء ومالك وأحمد وإسحاق وأبي ثور، وحكاه أبو ثور عن يعقوب ومحمد والشافعي

(3)

.

قال النخعي وأبو حنيفة والثوري: إذا فاتته مع الإمام صلى كل صلاة لوقتها، ولا يجوز الجمع إلا مع الإمام للاتباع. ووجه الدلالة عَلَى الكوفيين قول سالم للحجاج:(إن كنت تريد السنة فهجر بالصلاة يوم عرفة)، وهذا خطاب يتوجه إلى كل أحد مأمومًا كان أو منفردًا أن سنة الصلاة ذَلِكَ الوقت، وكذلك قول ابن عمر: كانوا يجمعون

(1)

في هامش الأصل: بالرواح يوم عرفة.

(2)

برقم (1660).

(3)

سبق بيان المسألة.

ص: 548

بينهما، فالسنة لفظ عام يدخل فيه كل مصلِّ، فمن زعم أنه لبعض المصلين فعليه الدليل.

قَالَ الطحاوي: وقد رُوِي عن ابن عمر وعائشة مثل قول الصاحبين من غير خلاف من الصحابة، وقال ابن القصار: قول (الكوفيين)

(1)

ليس بشيء؛ لقوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي"

(2)

وهذا خطاب لكل واحد في نفسه أن يُصلي الصلاتين في وقت إحداهما بعرفة كما فعل صلى الله عليه وسلم؛ لأن الخطاب إنما يتوجه إلى هيئة الصلاة ووقتها لا إلى الإمامة.

واتفق مالك وأبو حنيفة والشافعي عَلَى أنه إذا وافق يوم عرفة يوم جمعة لم يصل بهم الإمام الجمعة، وكذلك قال الطحاوي

(3)

.

قَالَ أبو حنيفة وأبو يوسف: يجمع بمنى من له ولاية الصلاة هناك.

وقال محمد ومالك والشافعي: لا يجمع، وإنما يصلي بعرفة الظهر ركعتين سواء، هذا إن كان الإمام من غير أهل عرفة. وقال أبو يوسف: يجمع بها، وسأل أبو يوسف مالكًا عن هذِه المسألة

(1)

ورد بهامش (م) تعليق على هذِه الكلمة وهو: المراد بالكوفيين: الإمام إبراهيم النخعي والإمام سفيان الثوري والإمام أبو حنيفة رضي الله عنه، يقول ابن القصار: إن قولهم: ليس بشيء، لعمري إنه ليس بشيء؛ لأن قولهم رضي الله عنهم جارٍ على القاعدة الأصولية، وبين أن الشيء إذا ورد على غير القياس يقتصر فيه على مورده ولا يتعدى إلى غيره، وتقديم الصلاة على وقتها على غير القياس. وقد ورد مع الجماعة والإمام، فيقتصر على مورده ألا يتعدى إلى حالة الانفراد.

وبقية الهامش غير واضح ثم بعد ذلك: إنه بخلاف الجمع في مزدلفة فإن الجمع فيها على كل حال بعدم تقديم الصلاة على وقتها

والله أعلم.

(2)

سبق برقم (631) كتاب: الأذان، باب: الأذان للمسافر، إذا كانوا جماعة والإقامة، وكذلك بعرفة وجمع. من حديث مالك بن الحويرث.

(3)

"المبسوط" 4/ 55، "المدونة" 1/ 239، "المجموع" 8/ 117 - 118.

ص: 549

بحضرة الرشيد فقال مالك: سبايانا بالمدينة يعلمون ألا جمعة بعرفة، وعلى هذا أهل الحرمين مكة والمدينة، وهم أعلم بذلك من غيرهم، وقد جمع الشارع بين الصلاتين بعرفة، وصادف ذَلِكَ يوم جمعة، ولم ينقل أنه جهر بالقراءة، فدلَّ أنه صلى الله عليه وسلم صلى الظهر (بغير)

(1)

جهر، ولو جهر لنقل، وأيضًا فإن من شرط الجمعة الاستيطان، وليست عرفة بوطن لأهل مكة، فلم يجز لهم أن يصلوها.

وروى ابن وهب عن مالك: أنه إذا وافق يوم جمعة يوم التروية أو يوم عرفة أو يوم النحر أو أيام التشريق لا جمعة عليهم، من كان من أهل مكة أو من أهل الآفاق، قَالَ: ولا صلاة عيد يوم النحر.

(1)

في (ج): (لغير).

ص: 550

‌90 - باب قَصْرِ الخُطْبَةِ بِعَرَفَةَ

1663 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، أَنَّ عَبْدَ المَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ كَتَبَ إِلَى الحَجَّاجِ أَنْ يَأْتَمَّ بِعَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ فِي الحَجِّ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ عَرَفَةَ جَاءَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما وَأَنَا مَعَهُ حِينَ زَاغَتِ الشَّمْسُ -أَوْ زَالَتْ- فَصَاحَ عِنْدَ فُسْطَاطِهِ أَيْنَ هَذَا؟ فَخَرَحَ إِلَيْهِ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: الرَّوَاحَ. فَقَالَ: الآنَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ أَنْظِرْنِي أُفِيضُ عَلَيَّ مَاءً. فَنَزَلَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما حَتَّى خَرَجَ، فَسَارَ بَيْنِي وَبَيْنَ أَبِي. فَقُلْتُ: إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ أَنْ تُصِيبَ السُّنَّةَ اليَوْمَ فَاقْصُرِ الخُطْبَةَ وَعَجِّلِ الوُقُوفَ. فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: صَدَقَ. [انظر: 1660 - فتح 3/ 514]

ذكر فيه حديث ابن عمر مع الحجاج السالف

(1)

وقصر الخطبة بعرفة وغيرها سنة، وقد أسلفناه.

(1)

سلف برقم (1660).

ص: 551

‌91 - باب الوُقُوفِ بِعَرَفَةَ

1664 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ: كُنْتُ أَطْلُبُ بَعِيرًا لِي. وَحَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، سَمِعَ مُحَمَّدَ بْنَ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: أَضْلَلْتُ بَعِيرًا لِي، فَذَهَبْتُ أَطْلُبُهُ يَوْمَ عَرَفَةَ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَاقِفًا بِعَرَفَةَ، فَقُلْتُ: هَذَا وَاللهِ مِنَ الحُمْسِ، فَمَا شَأْنُهُ هَا هُنَا؟ [مسلم: 1220 - فتح: 3/ 515]

1665 -

حَدَّثَنَا فَرْوَةُ بْنُ أَبِي المَغْرَاءِ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ قَالَ عُرْوَةُ: كَانَ النَّاسُ يَطُوفُونَ فِي الجَاهِلِيَّةِ عُرَاةً إِلاَّ الحُمْسَ -وَالحُمْسُ: قُرَيْشٌ وَمَا وَلَدَتْ- وَكَانَتِ الحُمْسُ يَحْتَسِبُونَ عَلَى النَّاسِ، يُعْطِي الرَّجُلُ الرَّجُلَ الثِّيَابَ يَطُوفُ فِيهَا، وَتُعْطِي المَرْأَةُ المَرْأَةَ الثِّيَابَ تَطُوفُ فِيهَا، فَمَنْ لَمْ يُعْطِهِ الحُمْسُ طَافَ بِالبَيْتِ عُرْيَانًا، وَكَانَ يُفِيضُ جَمَاعَةُ النَّاسِ مِنْ عَرَفَاتٍ، وَيُفِيضُ الحُمْسُ مِنْ جَمْعٍ. قَالَ: وَأَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِي الحُمْسِ {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199] قَالَ: كَانُوا يُفِيضُونَ مِنْ جَمْعٍ، فَدُفِعُوا إِلَى عَرَفَاتٍ. [4520 - مسلم: 1219 - فتح: 3/ 515]

ذكر فيه حديث مُحَمَّدٍ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ: كُنْتُ أَطْلُبُ بَعِيرًا لِي، وفي لفظ: أَضْلَلْتُ بَعِيرًا لِي، فَذهَبْتُ أَطْلُبُهُ يَوْمَ عَرَفَةَ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَاقِفًا بِعَرَفَةَ، فَقُلْتُ: هذا والله مِنَ الحُمْسِ، فَمَا شَأْنُهُ هَا هُنَا؟

هذا الحديث زاد فيه الإسماعيلي في "صحيحه" والبرقاني فيما ذكره الحميدي. قَالَ سفيان: -يعني قريشًا- وكانت تسمى الحمس، وكانت قريش لا تجاوز الحرم، ويقولون: نحن أهل الله فلا نخرج من

الحرم، وكان سائر الناس يقفون بعرفة، وذلك قوله: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ

ص: 552

حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199] قَالَ سفيان: الأحمس: الشديد في دينه

(1)

. زاد أبو نعيم في "مستخرجه": وكان الشيطان قد استهواهم فقال لهم: إن عظمتم غير حرمكم استخف الناس بحرمكم، فكانوا لا يخرجون من الحرم، وقيل: كانت قريش تتكبر أن تقف مع الناس.

ولابن إسحاق: حَدَّثَني عبد الله بن أبي بكر، عن عثمان بن أبي سليمان بن جبير بن مطعم، عن عمه نافع، عن أبيه جبير قَالَ: رأيتُ النبي صلى الله عليه وسلم قائمًا مع الناس قبل أن ينزل عليه الوحي توفيقًا من الله تعالى له

(2)

. وهذا يزيل شبهة من زعم أن رؤية جبير كانت بعد النبوة.

قَالَ ابن التين: وروي هذا الحديث، عن سفيان، عن عمرو، عن محمد، عن أبيه -مثل ما في البخاري- قَالَ فيه: رأيته صلى الله عليه وسلم قائمًا مع الناس قبل أن يبعث. فمن ها هنا قَالَ بعضهم: إنه صلى الله عليه وسلم حج في الجاهلية

(3)

، أما بعد الهجرة فواحدة، وأحاطت قريش به.

ثم ذكر البخاري من حديث هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ قَالَ عُرْوَةُ: كَانَ النَّاسُ يَطُوفُونَ فِي الجَاهِلِيَّةِ عُرَاةً إِلَّا الحُمْسَ- وَالحُمْسُ: قُرَيْشٌ وَمَا وَلَدَتْ .. الحديث، وفي آخره قالت عائشة: إِنَّ هذِه الآيَةَ نَزَلَتْ فِي الحُمْسِ {ثُمَّ أَفِيضُوا} [البقرة: 199] قَالَ: كَانُوا يُفِيضُونَ مِنْ جَمْعٍ، فَدُفِعُوا إِلَى عَرَفَاتٍ.

(1)

"الجمع بين الصحيحين" للحميدي 3/ 368 وقول سفيان رواه مسندًا، البيهقي في "سننه" 5/ 114، كتاب: الحج، باب: الوقوف بعرفة.

(2)

"سيرة ابن إسحاق" ص 76.

(3)

ورد بهامش النسخة "م" ما نصه: قوله هذا هو الحج الأكبر يحمد له يكون الإشارة إلى يوم النحر ويؤيده رواية أبي داود عن ابن عمر أنه جعله وهو يوم النحر من الحمد له فقال: أي يوم هذا؟ قالوا: يوم النحر، قال:"هذا يوم الحج الأكبر" وإليه ذهب مالك، ويحمد له يكون إشارة أي يوم النحر الذي حج فيه النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 553

وقد اختلف المفسرون في هذِه الآية:

فقال الضحاك: يريد إبراهيم عليه السلام

(1)

. ويؤيده ما أخرجه الترمذي وحسنه، عن يزيد بن سفيان قَالَ: كنا وقوفًا مكانًا بعيدًا من الموقف فأتانا ابن مربع فقال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم يقول لكم: "كونوا عَلَى مشاعركم، فإنكم عَلَى إرث من إرث إبراهيم"

(2)

.

وروي عن الضحاك أنه الإمام

(3)

، وقيل: آدم

(4)

، وقد قرئ:(الناسي)

(5)

وقيل: سائر الناس.

قَالَ ابن التين: وهو الصحيح بدليل حديث جبير (غير الحمس) وهم قريش، ومن ولدت من غيرها، وقيل: قريش ومن ولدت وأحلافها، وقيل: قريش ومن ولدت من قريش وكنانة وجديلة قيس، وكانوا إذا أنكحوا امرأة منهم غريبًا اشترطوا عليه أن ولدها عَلَى دينهم، ودخل في هذا الاسم من غير قريش ثقيف وليث بن بكر وخزاعة وبنو عامر بن صعصعة.

وقوله: (وَالحُمْسُ: قُرَيْش وَمَا وَلَدَتْ) قَالَ الداودي: يعني من مسه

(1)

رواه الطبري في "تفسيره" 2/ 305 (3845)، وابن أبي حاتم في "تفسير القرآن العظيم" 2/ 354 (1861).

(2)

"سنن الترمذي"(883) وقال الترمذي: حديث حسن صحيح لا نعرفه إلا من حديث ابن عيينة عن عمرو بن دينار، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(4586).

(3)

رواه ابن أبي حاتم 2/ 354 (1862).

(4)

قاله الزهري، كذا ذكره البغوي في "معالم التنزيل" 1/ 231، وابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 214.

(5)

هي قراءة سعيد بن جبير، وهي شاذة. قال ابن خالويه: يعني: آدم عُهد إليه فنسي.

اهـ "مختصر شواذ القرآن" ص 20.

ص: 554

ولادة قريش من نسل البنات، والأحمس والحمس: الشديد، وتحامس القوم تحامسًا وحماسًا: تنادوا واقتتلوا، والأحمس: المشدد عَلَى نفسه في الدين، والحماسة: الشدة في كل شيء، ذكره ابن سيده

(1)

، وتحامس عنيِّ: من غلط العامة، وحمس بالكسر، وأحمس: بين الحمس، وقيل: والحمسة: الحرمة، ذكره ابن فارس

(2)

.

قال الحربي عن بعضهم: سموا حمسًا بالكعبة؛ لأنها حمساء، وحجرها أبيض يضرب إلى السواد، وذكره الهروي.

قَالَ ابن إسحاق: وكانت قريش -لا أدري بعد الفيل أو قبله- ابتدعت أمر الحمس رأيًا رأوه، فتركوا الوقوف عَلَى عرفة والإفاضة منها، وهم يعرفون ويقرون أنها من المشاعر والحج، إلا أنهم قالوا: نحن أهل الحرم، نحن الحمس، والحمس أهل الحرم، قالوا: ولا ينبغي للحمس أن يأتقطوا الأقط، ولا يسلوا السمن وهم حرم، ولا يدخلوا بيتًا من شعر، ولا يستظلوا -إن استظلوا- إلا في بيوت الأدم ما كانوا حرمًا، ثم قالوا: لا ينبغي لأهل الحل أن يأكلوا من طعام جاءوا به معهم من (الحل إلى الحرم)

(3)

إذا جاءوا حجاجًا أو عمارًا، ولا يطوفوا بالبيت إذا قدموا أول طوافهم إلا في ثياب الحمس، ومما أحدثوه أن لا يطوفوا بالبيت عراة، ولا يطوفوا بين الصفا والمروة، وما سواهم من العرب يقال لهم: الحلة، كانوا إذا حجوا طافوا بالبيت عراة ورموا ثيابهم التي قدموا فيها، وقالوا: نكرم البيت أن نطوف به في ثيابنا التي جرحنا بها الآثام، فما طرحوا من

(1)

"المحكم" 3/ 157.

(2)

"مجمل اللغة" 1/ 251.

(3)

في الأصل: (الحلال الحرم).

ص: 555

ثوب لم يمسه أحد

(1)

. وسُمَّي النسيء واللقاء والحريم، ذكره الكلبي.

وقال السهيلي: كانوا ذهبوا في ذَلِكَ مذهب الترهب والتأله، وكانت نساؤهم لا ينسجن الشعر ولا الوبر

(2)

، وكذا قَالَ المهلب: إنما كان وقوف قريش -وهم الحمس- عند المشعر الحرام من أجل أنها كانت عزتها في الجاهلية- بالحرم وسكناها فيه، ويقولون: نحن جيران الله، فكانوا لا يرون الخروج عنه إلى الحل عند وقوفهم في الحج، ويقولون: نحن لا نفارق عزنا وما حرم الله به أموالنا ودماءنا،

وكانت طوائف العرب تقف في موقف إبراهيم من عرفة، وكان وقوف النبي صلى الله عليه وسلم وطوائف العرب بعرفة ليدعوهم إلى الإسلام وما افترض الله تعالى عليه من تبليغ الدعوة وإفشاء الرسالة، وأمر الناس كلهم بالإفاضة من حيث أفاض الناس من عرفة، وقيل: كانت قريش تستكبر أن تقف مع الناس، وكذلك جبير، وقال: ما شأنه وقف في الحل؟ وانظر كيف أنكر جبير ذَلِكَ، وقد حج قبله عتَّاب سنة ثمان وأبو بكر سنة تسع

(3)

، فإما أن يكونا وقفا بجمع عَلَى ما كانت قريش تفعل، أو لم يكن جبير شهد معهما الموسم، قاله ابن التين. وإنما كان ذَلِكَ في الجاهلية كما سلف، وجبير أسلم عام الفتح

(4)

.

(1)

"سيرة ابن إسحاق" ص 80 - 81.

(2)

"الروض الأنف" 1/ 229.

(3)

انظر: "السيرة النبوية" لابن هشام 4/ 149، 201.

(4)

انظر ترجمته في: "الاستيعاب" 1/ 303 (315)، "أسد الغابة" 1/ 323 (698)، "الإصابة" 1/ 225 (1091).

وورد في هامش الأصل ما نصه: قال الذهبي في "التجريد": أسلم هو بعد الحديبية، انتهى. =

ص: 556

وقال الخطابي: قوله: {مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199] في ضمنه الأمر بالوقوف بعرفة؛ لأن الإفاضة والانتشار إنما يكون عن اجتماع قبله بها

(1)

.

وكذا قَالَ ابن بطال: في الآية دليل أنه قد أمرهم بوقوف عرفة قبل إفاضتهم منها، غير أنا لم نجده، ذكر لنا ابتداء ذَلِكَ الوقوف، وبينه الشارع كما سيأتي.

فإن قلت: ثم يفيض (المهملة)

(2)

: وقال تعالى: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ المَشْعَرِ الحَرَامِ} [البقرة: 198]، ثم قَالَ:{ثُمَّ أَفِيضُوا} [البقرة: 199] وإنما الإفاضة من عرفات قبل المجيء إلى المشعر الحرام فالجواب أن (ثم) بمعنى الواو، والمختار أنها عَلَى بابها، والمعنى: ثم آمركم بالإفاضة من عرفات من حيث أفاض الناس، وفيه معنى التوكيد؛ لأنهم أمروا بالذكر عند المشعر الحرام إذا أفاضوا من عرفات، ثم أكد عليهم الإفاضة من حيث أفاض الناس لا من حيث كانت قريش تفيض.

وزعم الطحاوي أن ظاهر الآية: فإذا أفضتم من عرفات، وقوله:{مِنْ حَيثُ أفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199]، والإفاضة الأولى من عرفات، والثانية من المشعر الحرام؛ لأنه قَالَ:{فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ المَشْعَرِ الحَرَامِ} [البقرة: 198]، إلى {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيثُ أفَاضَ

= والحديبية سنة ست، وفي تهذيب النووي: أسلم عام خيبر، انتهى.

وخيبر سنة سبع، قال النووي: وقيل: أسلم عام الفتح، انتهى.

والفتح في السنة الثامنة في رمضان.

(1)

"أعلام الحديث" 2/ 887.

(2)

كذا في الأصل ولعلها: (المهلة).

ص: 557

النَّاسُ} [البقرة: 199] غير أنا وجدنا قوله: {مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199] في معنى: وأفيضوا، وتجعل ثم في موضع الواو كما قَالَ تعالى:{وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} ثم قَالَ: {ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ} [يونس: 46] عَلَى معنى: والله شهيد

(1)

.

واختلفوا إذا دفع من عرفة قبل الغروب ولم يقف بها ليلًا، فذهب مالك إلى أن الاعتماد في الوقوف بعرفة عَلَى الليل من ليلة النحر والنهار من يوم عرفة تبع، فإن وقف جزءًا من النهار وحده ودفع قبل الغروب لم يجزئه، وإن وقف جزءًا من الليل أي جزء كان قبل طلوع الفجر من يوم النحر أجزأه؛ وأخذ في ذَلِكَ مما رواه عن نافع، عن ابن عمر أنه قَالَ: من لم يقف بعرفة ليلة المزدلفة قبل أن يطلع الفجر فقد فاته الحج

(2)

. وعن عروة بن الزبير مثله

(3)

، ورفعه ابن عمر مرة:"من فاته عرفات بليل فقد فاته الحج"

(4)

. وعن عطاء يرفعه "من أدرك عرنة بليل فقد أدرك الحج ومن فاته عرفات بليل فقد فاته الحج" وعن عمرو بن شعيب رفعه قَالَ: "من أجاز بطن عرفة قبل أن تغيب الشمس فلا حج له"

(5)

.

(1)

"شرح ابن بطال" 4/ 344.

(2)

رواه مالك في "الموطأ" 1/ 520 (1343) كتاب: المناسك، باب: وقوف من فاته الحج بعرفة، "عيون المجالس" 2/ 822، 823.

(3)

رواه مالك في "الموطأ" 1/ 520 - 521 (1344).

(4)

رواه ابن عدي في "الكامل" 7/ 393، والدارقطني في "سننه" 2/ 241 كتاب: الحج، باب: المواقيت، وابن حزم في "حجة الوداع" ص 475 (540).

قال الزيلعي في "نصب الراية" 3/ 145: فيه رحمة بن مصعب، قال الدارقطني: ضعيف، وقد تفرد به، ورواه ابن عدي في "الكامل" وأعله بمحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وضعفه جماعة اهـ.

(5)

رواه ابن وهب كما في "التمهيد" 24/ 419.

ص: 558

وعن معمر عن رجل عن سعيد بن جبير رفعه: "إنا لا ندفع حَتَّى تغرب الشمس"

(1)

يعني: من عرفات. ضعفها كلها ابن حزم

(2)

.

وقال أبو حنيفة والشافعي والثوري: الاعتماد عَلَى النهار من يوم عرفة من وقت الزوال، والليل كله تبع

(3)

.

وحديث عروة بن مضرس الطائي مرفوعًا: "من أدرك معنا هذِه الصلاة وأتى عرفات قبل ذَلِكَ ليلًا أو نهارًا فقد تم حجه وقضى تفثه"، رواه أصحاب السنن الأربعة، وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم

(4)

.

وفيها من حديث عبد الرحمن بن يعمر الديلي أنه صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الحج عرفة، من جاء ليلة جمع قبل صلاة الصبح فقد أدرك حجة". وصححه ابن حبان والحاكم

(5)

.

(1)

ذكره ابن حزم في "المحلى" 7/ 123 من طريق عبد الرزاق.

(2)

"المحلى" 7/ 123.

(3)

انظر: "المبسوط" 4/ 55، "بدائع الصنائع" 2/ 126، "روضة الطالبين" 3/ 97.

(4)

"سنن أبي داود"(1950) كتاب: المناسك، باب: من لم يدرك عرفه، "سنن الترمذي" (891) كتاب: الحج، باب: ما جاء فيمن أدرك الإمام بجمع فقد أدرك الحج، "سنن النسائي" 5/ 263 - 264 كتاب: مناسك الحج، فيمن لم يدرك صلاة الصبح مع الإمام بالمزدلفة، "سنن ابن ماجه" (3016) كتاب: المناسك، باب: من أتى عرفة قبل الفجر ليلة جمع، "صحيح ابن حبان" 9/ 162 (3851) كتاب: الحج، باب: الوقوف بعرفة والمزدلفة والدفع منها، "المستدرك" 1/ 463 وقال الحاكم: حديث صحيح على شرط أئمة الحديث وهي قاعدة من قواعد الإسلام، وقد أمسك عن إخراجه الشيخان على أصلهما أن عروة بن مضرس لم يحدث عنه غير عامر الشعبي، وقد وجدنا عروة بن الزبير بن العوام حدث عنه، وصححه الألباني في "الإرواء"(1066).

(5)

أبو داود (1949)، الترمذي (889 - 890، 2975)، النسائي 5/ 256، 264 - 265، ابن ماجه (3015). =

ص: 559

قالوا: فإن وقف جزءًا من النهار أجزأه، وإن وقف جزءًا من الليل أجزأه، إلا إنهم يقولون: إن وقف جزءًا من النهار بعد الزوال دون الليل كان عليه دم، والأظهر عند الشافعي: لا دم عليه، وإن وقف جزءًا من الليل دون النهار لم يجب عليه دم، أخذوا بحديث عروة بن مضرس إلا في إيجاب الدم لمن وقف نهارًا ودون الليل، وتفريقهم في وقت النهار بين بعد الزوال وقبله، فإنه من حين طلوع الفجر من يوم عرفة إلى طلوع الفجر من ليلة النحر؛ تمسكًا بحديث عروة بن مضرس السالف، فسوى بين أجزاء الليل وأجزاء النهار.

قال ابن قدامة: وعلى من دفع قبل الغروب دم في قول أكثر أهل العلم، منهم عطاء والثوري والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي

(1)

.

وقال ابن جريج: عليه بدنة. وقال الحسن بن أبي الحسن: عليه هدي من الإبل، فإن دفع قبل الغروب ثم عاد نهارًا فوقف حَتَّى غربت فلا دم عليه، وبه قَالَ مالك والشافعي. وقال الكوفيون وأبو ثور:

عليه دم

(2)

.

= وهو حديث مشهور -كما قال النووي في "شرح مسلم" 9/ 116 - صححه ابن حبان 9/ 203 (3892)، والحاكم 1/ 463 - 464 و 2/ 278 - كما ذكر المصنف- وصححه أيضًا ابن خزيمة 4/ 257 (2822)، وابن الجارود 2/ 92 (468)، وعبد الحق الإشبيلي في "أحكامه" 2/ 294 - 295، والنووي -قدس الله روحه- في "المجموع" 8/ 124، 129، والحافظ ابن كثير -طيب الله ثراه- في "التفسير" 2/ 253 - 254، وفي "الإرشاد" 1/ 338، والمصنف رحمه الله في "البدر المنير" 6/ 230 والألباني في "الإرواء"(1064)، وفي "صحيح أبي داود"(1703).

(1)

انظر: "المغني" 5/ 273.

(2)

انظر: "بدائع الصنائع" 2/ 127، "روضة الطالبين" 3/ 97، "المغني" 5/ 273 - 274.

ص: 560

والذي يظهر من المذاهب مذهب أحمد أنه يدخل إلا بالزوال، ومضي خطبتين وأربع ركعات اتباعًا للدليل القولي والفعلي.

وأجاب ابن القصار عن حديث عروة فقال: نحن نعلم أنه صلى الله عليه وسلم وقف وقفة واحدة جمع فيها بين الليل والنهار، فصار معناه من ليل ونهار، واستفدنا من فعله أن المقصود آخر النهار، وهو الوقت الذي وقته، وعقلنا بذلك أن المراد جزء من النهار مع جزء من الليل؛ لأنه لم يقتصر عَلَى جزء من النهار دون الليل، ولو تجرد هذا من فعله لجاز أن يكون (أو) بمعنى الواو كقوله تعالى:{وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان: 24] معناه: وكفورًا. فإن قيل: فأنتم لا توجبون الجمع بين الليل والنهار في الوقوف. قيل: لما قَالَ: "فقد تم حجه" علمنا أن التمام نقيض الكمال والفضل فيجمع فيه بين السنة والفرض، فالسنة الوقوف بالنهار، والفرض هو الليل؛ لأنه هو انتهاء الوقوف، فهو الوقت المقصود، وهو أخص به من النهار؛ لأنه لو انفرد وقوفه في هذا الجزء لأجزأه بالإجماع، ولو وقف هذا القدر من النهار لكان فيه خلاف، ووجب عليه الدم، فكيف يكون النهار أخص من الليل؟!

فائدة: سُميت عرفة؛ لأن الله تعالى بعث جبريل إلى إبراهيم فحج به، فلما أتى عرفة قَالَ: قد عرفت، وكان قد أتاها مرة قبل ذَلِكَ

(1)

، أو لأن جبريل يقول لإبراهيم: هذا موضع كذا وهذا موضع كذا، فيقول: قد عرفت قد عرفت. وقيل غير ذَلِكَ

(2)

.

(1)

رواه الطبري في "تفسيره" 2/ 298 (3797) من قول علي بن أبي طالب، وكذا عزاه السيوطي في "الدر المنثور" 1/ 402 لعبد الرزاق وابن جرير.

(2)

رواه الطبري في "تفسيره" 2/ 298 (3798) من قول ابن عباس، وكذا عزاه السيوطي في "الدر المنثور" 1/ 401 لوكيع وابن جرير وابن المنذر.

ص: 561

‌92 - باب السَّيْرِ إِذَا دَفَعَ مِنْ عَرَفَةَ

1666 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ سُئِلَ أُسَامَةُ وَأَنَا جَالِسٌ: كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَسِيرُ فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ حِينَ دَفَعَ؟ قَالَ: كَانَ يَسِيرُ العَنَقَ، فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً نَصَّ. قَالَ هِشَامٌ: وَالنَّصُّ فَوْقَ العَنَقِ. [قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ]: فَجْوَةٌ: مُتَّسَعٌ، وَالجَمِيعُ فَجَوَاتٌ وَفِجَاءٌ، وَكَذَلِكَ رَكْوَةٌ وَرِكَاءٌ. مَنَاصٌ: لَيْسَ حِينَ فِرَارٍ. [2999، 4413 - مسلم: 1286 - فتح: 3/ 518]

ذكر فيه عن أسامة أنه سُئِلَ: كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَسِيرُ فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ حِينَ دَفَعَ؟ قَالَ: كَانَ يَسِيرُ العَنَقَ، فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً نَصَّ. قَالَ هِشَامٌ: وَالنَّصُّ فَوْقَ العَنَقِ.

فَجْوَةٌ: مُتَّسَعٌ، وَالجَمعُ فَجَوَاتٌ وَفِجَاءٌ، وَكَذَلِكَ رَكْوَةٌ وَرِكَاءٌ. مَنَاصٌ: لَيْسَ حِينَ فِرَارٍ.

الشرح:

هذا الحديث أخرجه مسلم أيضًا والأربعة خلا الترمذي

(1)

ويأتي في الجهاد والمغازي

(2)

. والعنق -بفتح العين المهملة والنون- سير فوق المشي، أو أدنى المشي، أو أوله، أو المشي السريع الذي يتحرك فيه عنق البعير، أو سير سهل دون الإسراع، أقوال متقاربة.

والفجوة -بفتح الفاء، وحكي ضمها-: الفرجة المتسعة، ومنه قوله تعالى:{وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ} [الكهف: 17]، وقيل: ما اتسع منها وانخفض،

(1)

مسلم (1286)، أبو داود (1923)، النسائي 5/ 258، ابن ماجه (3017).

(2)

سيأتي برقم (2999) كتاب: الجهاد، باب: السرعة في السير، و (4413) كتاب: المغازي، باب: حجة الوداع.

ص: 562

حكاه ابن سيده

(1)

.

والنص: أرفع السير، ومنه قيل لمنصة العروس: منصة؛ لارتفاعها، فإذا ارتفع عن ذَلِكَ وصار إلى العدو فهو الخبب، فإذا ارتفع عن ذَلِكَ فهو الوضع والإيضاع. وقال أبو عبيد: النص أصله منتهى الأشياء وغايتها ومبلغ أقصاها

(2)

، ومنه حديث علي: إذا بلغ النساء نص الحقاق فالعصبة أولى

(3)

. ونص الحقاق: غاية البلوغ.

وقال ابن المبارك: هو بلوغ العقل. وقال ابن أبي خالد في كتابه "الاحتفال": النص والنصيص: السير، أن تسار الدابة، والبعير سيرًا شديدًا حَتَّى يستخرج أقصى ما عنده، والحاصل أنهما ضربان من السير.

إذا تقرر ذَلِكَ: فتعجيل الدفع من عرفة إنما هو لضيق الوقت؛ لأنهم إنما يدفعون من عرفة إلى المزدلفة عند سقوط الشمس، ومن عرفة إلى مزدلفة نحو ثلاثة أميال، وعليهم أن يجمعوا المغرب والعشاء بالمزدلفة، وذلك سببها، فتعجلوا السير لاستعجال الصلاة.

قَالَ الطبري: وبهذا قَالَ العلماء في صفة سيره صلى الله عليه وسلم من عرفة إلى المزدلفة ومنها إلى منى

(4)

، وبذلك عمل السلف. قَالَ الأسود: شهدتُ مع عمر الإفاضتين جميعًا، لا يزيد عَلَى العنق، لم يوضع في واحدة منهما. وكان ابن عمر سيره العنق. وعن ابن عباس مثله. وقال آخرون: الإفاضة من عرفات وجمع إيضاع دون العنق.

(1)

"المحكم" 7/ 390.

(2)

"غريب الحديث" 2/ 142.

(3)

رواه البيهقي في "سننه" 7/ 121 كتاب: النكاح، باب: ما جاء في إنكاح اليتيمة، وانظر:"الإرواء"(1847).

(4)

"تفسير الطبري" 125/ 670.

ص: 563

وروى معرور قَالَ: رأيت عمر بن الخطاب رجلًا أصلع عَلَى بعير يقول: يا أيها الناس أوضعوا فإنا وجدنا الإفاضة للإيضاع

(1)

.

وروي عن الصديق: أنه وقف عَلَى قُزَح وقال: أيها الناس أصبحوا أصبحوا، ثم دفع كأني انظر إلى فخذه قد انكشف مما يخرش بعيره بمحجنه

(2)

. ومعنى يخرش بعيره: يخدشه بالمحجن، ومنه تخارش السنانير والكلاب.

قَالَ الطبري: والصواب في صفة السير في الإفاضتين جميعًا ما صحت به الآثار أنه كان يسير العنق إلا في وادي محسر، فإنه يوضع فيه، ولو أوضع أحد في الموضع الذي ينبغي أن يعنق فيه أو عكس لم يلزمه شيء؛ لإجماع الجميع عَلَى ذَلِكَ، غير أنه يكون مخطئًا سبيل الصواب، وما ذكره من تفسير {فَجَوةٍ} و {مَنَاصٍ} هو كذلك في بعض النسخ. وقال ابن التين: فجوة: متسع لا أحد فيه.

فرع: قررنا أن السنة الإسراع، وإنما يميل عن بعضه لمانع زحام أو غيره، وأما ما رُوِي عنه صلى الله عليه وسلم أنه أمر بالسكينة والوقار

(3)

، فمعناه: لا تخرجوا من حدهما بالزجر والإيضاع. وأما سرعة لا تخرج عن حد الوقار فغير ممنوع بل هو سنة.

(1)

ذكره ابن كثير في "تفسيره" 2/ 256 قال: قال وكيع: عن شعبة، عن إسماعيل بن رجاء الزبيدي، عن المعرور بن سويد، فذكره.

(2)

رواه الفاكهي في "أخبار مكة" 4/ 323 - 324 (2710)، وابن أبي شيبة 3/ 237 (13881) كتاب: الحج، من قال: المزدلفة كلها موقف إلا بطن محسر، والطبري في "تفسيره" 2/ 302 (3832)، والبيهقي 5/ 125 كتاب: الحج، باب: الدفع من المزدلفة قبل طلوع الشمس.

(3)

انظر ما سيأتي برقم (1671).

ص: 564

فائدة:

سُميت حجة الوداع؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ودع الناس فيها، وقال:"لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا"

(1)

.

وغلط من كره تسميتها بذلك، وقد سلف، وتسمى البلاغ أيضًا؛ لأنه قَالَ فيها:"هل بلغت؟ "

(2)

وحجة الإسلام؛ لأنها التي حج فيها بأهل الإسلام، ليس فيها مشرك.

(1)

قطعة من حديث رواه أبو يعلى 4/ 111 (2147)، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" 8/ 310، وابن عدي في "الكامل" 1/ 305، والبيهقي في "دلائل النبوة" 5/ 448، والمزي في "تهذيب الكمال" 9/ 122، من حديث جابر، والحديث رواه مسلم (1297) بلفظ:"لعلي لا أحج بعد حجتي هذِه".

(2)

سلف برقم (105) كتاب: العلم، باب: ليبلغ العلم الشاهد الغائب، ورواه مسلم (1679) كتاب: القسامة، باب: تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال.

ص: 565

‌93 - باب النُّزُولِ بَيْنَ عَرَفَةَ وَجَمْعٍ

1667 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ كُرَيْبٍ -مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ- عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَيْثُ أَفَاضَ مِنْ عَرَفَةَ مَالَ إِلَى الشِّعْبِ فَقَضَى حَاجَتَهُ، فَتَوَضَّأَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَتُصَلِّي؟ فَقَالَ:"الصَّلَاةُ أَمَامَكَ". [انظر: 139 - مسلم: 1280 - فتح: 3/ 519]

1668 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ، عَنْ نَافِعٍ قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يَجْمَعُ بَيْنَ المَغْرِبِ وَالعِشَاءِ بِجَمْعٍ، غَيْرَ أَنَّهُ يَمُرُّ بِالشِّعْبِ الذِي أَخَذَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَيَدْخُلُ فَيَنْتَفِضُ وَيَتَوَضَّأُ، وَلَا يُصَلِّي حَتَّى يُصَلِّيَ بِجَمْعٍ.

1669 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَرْمَلَةَ، عَنْ كُرَيْبٍ -مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ- عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ: رَدِفْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ عَرَفَاتٍ، فَلَمَّا بَلَغَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الشِّعْبَ الأَيْسَرَ الذِي دُونَ المُزْدَلِفَةِ أَنَاخَ فَبَالَ ثُمَّ جَاءَ، فَصَبَبْتُ عَلَيْهِ الوَضُوءَ، فَتَوَضَّأَ وُضُوءًا خَفِيفًا، فَقُلْتُ: الصَّلَاةَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "الصَّلَاةُ أَمَامَكَ". فَرَكِبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَتَى المُزْدَلِفَةَ، فَصَلَّى، ثُمَّ رَدِفَ الفَضْلُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم غَدَاةَ جَمْعٍ. [انظر: 139 - مسلم: 1280 - فتح: 3/ 519]

1670 -

قَالَ كُرَيْبٌ: فَأَخْبَرَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، عَنِ الفَضْلِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى بَلَغَ الجَمْرَةَ. [انظر: 1544 - مسلم: 1281 - فتح: 3/ 519]

فيه أسامة

(1)

: أن النبي صلى الله عليه وسلم حَيْثُ أَفَاضَ مِنْ عَرَفَةَ مَالَ إِلَى الشعْبِ فَقَضَى حَاجَتَهُ .. الحديث.

(1)

فوقها في الأصل: أي حديث أسامة.

ص: 566

وفيه نافع

(1)

: كَانَ ابن عُمَرَ يَجْمَعُ بَيْنَ المَغْرِبِ وَالعِشَاءِ بِجَمْع، غَيْرَ أَنَّهُ يَمُرُّ بِالشِّعْبِ الذِي أَخَذَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَيَدْخُلُ فَيَنْتَفِضُ وَيتَوَضَّأُ، وَلَا يُصَلِّي حَتَّى يُصَلِّيَ بِجَمْعٍ.

وفيه أسامة

(2)

: مثل الأول وزيادة عن الفضل: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى بَلَغَ الجَمْرَةَ.

وحديث أسامة في مسلم (د. ت)

(3)

، وقصة ابن عمر من أفراد البخاري.

والشِّعْب: الطريق في الجبل، بكسر الشين وفتحها: الجمع بين الشيئين، ونزوله الشعب إنما كان لأجل إزالة الحاجة، وليس ذَلِكَ من سنته، وهو مباح لمن أراد امتثال أفعاله، ويدير ناقته حيثما أدار ناقته، ويقتفي آثاره وحركاته، وليس ذَلِكَ بلازم إلا فيما تعلق منها بالشريعة.

قَالَ عكرمة: الشِّعْب: الذي كانت الأمراء تنزله، اتخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم مبالًا، واتخذتموه مصلى

(4)

.

وقوله: (فَبَالَ ثُمَّ جَاءَ فَصَبَبْتُ عَلَيْهِ الوَضُوءَ، فتوضأ وضوءًا خفيفًا، فقلتُ: الصلاة، قَالَ: (الصلاة)

(5)

أمامك" فركب حَتَّى أتى المزدلفة، فصلى) ظاهره الوضوء الشرعي لا الاستنجاء، وقال عيسى بن دينار: إنه استنجاء لا وضوء، قال: وفيه دليل أن الاستنجاء يسمى وضوءًا،

(1)

فوقها في الأصل: أي حديث نافع.

(2)

فوقها في الأصل: أي حديث أسامة.

(3)

"صحيح مسلم"(1280) كتاب: الحج، باب: استحباب إدامة الحاج التلبية، وأبو داود (1921)، ولم أجده في الترمذي.

(4)

رواه الفاكهي في "أخبار مكة" 5/ 45 (2811).

(5)

ساقطة من الأصل.

ص: 567

ودليل ذَلِكَ قوله فيما سيأتي: (ولم يسبغ الوضوء)

(1)

، ولذلك قَالَ له أسامة: الصلاة، فذكره لما رأى من تركه الاستعداد لها في الوضوء.

وقيل معنى: (ولم يسبغ (الوضوء)

(2)

أي: لم يبالغ فيه مبالغته إذا أراد به الصلاة، وقد سلف ذَلِكَ في الحديث في الطهارة في باب: إسباغ الوضوء أيضًا

(3)

.

وقوله: ("الصَّلَاةُ أَمَامَكَ"). مقتضاه أنه ليس بوقتها، أو أن ذَلِكَ ليس بموضعها أو هما، ومقتضاه أن موضعها المزدلفة.

وبه احتج مالك لذلك، أو تؤوّل عَلَى أن الصلاة الفاضلة أمامك.

ومن صلى قبل أن يأتيها دون عذر، فقال ابن حبيب: يعيد متى ما علم بمنزل المصلي قبل الزوال لقوله: "الصَّلَاةُ أَمَامَكَ" وبه قَالَ أبو حنيفة.

وقال جابر بن عبد الله: لا صلاة إلا بجمع

(4)

، وإليه ذهب محمد والثوري.

وقال مالك: لا يصليان إلا بها إلا من عذر به أو بدابته، قَالَ: فإن صلاهما بعذر لم يجمع بينهما حَتَّى يغيب الشفق.

وقال أشهب: بئس ما صنعه، ولا يعيد إلا أن يصليها قبل مغيب الشفق فيعيد العشاء وحدها أبدًا، وبه قَالَ الشافعي، ونصره القاضي أبو الحسن، واحتج عليه بأن ذَلِكَ -أعني: الجمع- سنة، فلم يكن شرطًا في صحتها، وإنما كان عَلَى معنى الاستحباب، كالجمع بعرفة.

(1)

سيأتي قريبًا برقم (1672).

(2)

ساقطة من الأصل.

(3)

سلف برقم (193).

(4)

رواه ابن أبي شيبة 3/ 251 (14022).

ص: 568

ومن أسرع وأتى المزدلفة قبل مغيب الشفق. قَالَ ابن حبيب: لا يُصلي حَتَّى يغيب الشفق. ووجهه قوله: "الصَّلاةُ أَمَامَكَ" ثم صلاها بمزدلفة بعد مغيب الشفق

(1)

.

وقال أشهب: يجمع حينئذٍ، وإن قضاهما قبل المغيب. وهو خلاف ما في "المدونة" وجمع هي: المزدلفة والمشعر الحرام.

وعند الفقهاء: أن المشعر جبل في آخر المزدلفة يُقال له: قُزح، سمي جمعًا؛ لأنها محل الجمع، أو لاجتماع آدم وحواء.

وقوله: (فَيَنْتَفِضُ) هو كناية عن البول. وقال الداودي: يعني يتنظف فيصير كالفضة. قَالَ: ويحتمل أنه يكون يتنصل مما به من ثقل ذَلِكَ، قَالَ: وقوله: "الصَّلَاةُ أَمَامَكَ" ولم يسم موضعها.

فيه: تأخير البيان ما لم تدعُ الحاجة إليه.

وفيه: فضل أسامة وخصوصه بالشارع. والوضوء بفتح الواو عَلَى الأشهر، وقوله:(وُضُوءًا خَفِيفًا). هو بضم الواو وفتحها.

وقوله: (لَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى رمى جمرة العقبة) سلف الكلام فيه.

ومعنى قوله: (رَدِفْتُ): صوت له رديفًا، وكذلك:(ردف الفضل رسول الله).

قَالَ ابن التين: وضبط في بعض الكتب: (ردف الفضلَ)، بنصب اللام وضم اللام من (رسولُ الله صلى الله عليه وسلم) وليس بصحيح؛ لأنه إنما يقال: أردف فلانًا: إذا جعله خلفه، كذلك فسره في حديث أسامة، والغرض أنه صلى الله عليه وسلم أردفهما به، وردِف بكسر الدال، يقال: ردفه وردف له: إذا جاء بعده أو تبعه.

(1)

"المنتقى" 3/ 39.

ص: 569

فائدة:

سميت جمرة؛ لأنها حجارة مجتمعة، وكل شيء مجتمع فهو عند العرب جمرة وجمار، ومنه قولهم: أجمر السلطان جيشه في الثغر، بمعنى: جمعهم فيه، ومنه قيل لأحياء من العرب تجمعت: جمار وجمرات، ومنه قيل للمرأة إذا أمرت أن تجمع شعرها بعضه إلى بعض: أجمري شعرك.

ص: 570

‌94 - باب أَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالسَّكِينَةِ عِنْدَ الإِفَاضَةِ، وَإِشَارَتِهِ إِلَيْهِمْ بِالسَّوْطِ

1671 -

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سُوَيْدٍ، حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو -مَوْلَى المُطَّلِبِ- أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ -مَوْلَى وَالِبَةَ الكُوفِيُّ- حَدَّثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ دَفَعَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ عَرَفَةَ، فَسَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَرَاءَهُ زَجْرًا شَدِيدًا وَضَرْبًا وَصَوْتًا لِلإِبِلِ، فَأَشَارَ بِسَوْطِهِ إِلَيْهِمْ وَقَالَ:"أَيُّهَا النَّاسُ، عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ، فَإِنَّ البِرَّ لَيْسَ بِالإِيضَاعِ". أَوْضَعُوا: أَسْرَعُوا. {خِلَالَكُمْ} [التوبة: 47] مِنَ التَّخَلُّلِ: بَيْنَكُمْ، {وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا}:[الكهف: 33]: بَيْنَهُمَا. [فتح: 3/ 522]

ذكر فيه حديث ابن عباس: أَنَّهُ دَفَعَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ عَرَفَةَ، فَسَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَرَاءَهُ زَجْرًا شَدِيدًا وَضَرْبًا لِلإِبِلِ، فَأَشَارَ بِسَوْطِهِ إِلَيْهِمْ وَقَالَ:"أَيُّهَا النَّاسُ، عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ، فَإِنَّ البِرَّ لَيْسَ بِالايضَاعِ". (أَوْضَعُوا: أَسْرَعُوا. {خِلَلَكُم} [التوبة: 47] مِنَ التَّخَلُّلِ: بَيْنَكُمْ، {وَفَجَّرنَا خِلَلَهُمَا}: {الكهف: 33} بَيْنَهُمَا)

(1)

.

هذا الحديث من أفراده.

قَالَ الداودي: السكينة في المشي هي السرعة ليس بالإبطاء ولا بالاشتداد ولا بالخبب، واحتج بالحديث السالف: فإذا وجد فجوةً نصَّ، والنص فوق العَنَق، كما سلف

(2)

.

وقوله: ("فَإِنَّ البِرَّ لَيْسَ بِالإِيضَاعِ") أوضعوا إبلهم: أسرعوا بها، والإيضاع: العدو السريع، يقال: وضع البعير و (أوضع)

(3)

: ركبه، ذكره

(1)

من الأصل وعليها (لا .. إلى).

(2)

برقم (1666).

(3)

كذا في الأصل، وفي (ج): واضعه.

ص: 571

الهروي

(1)

. وقال ابن فارس: هو سير سهل سريع يقال: إنها لحسنة الوضع

(2)

.

قَالَ الخطابي: الإيضاع: سير حثيث

(3)

. زاد الهروي: ويقال هو سير مثل الخبب

(4)

. وإنما نهاهم عن الإيضاع والجري إبقاء عليهم، ولئلا يجحفوا بأنفسهم بالتسابق من أجل بعد المسافة؛ لأنها كانت تبهرهم فيفشلوا وتذهب ريحهم، وقد نهينا عن البلوغ إلى مثل هذِه الحال، فكان في معنى قوله قبله:("عليكم بالسكينة") إلا في بطن وادي مُحِسَر فقد كان ابن مسعود وابن عباس وابن عمر وابن الزبير يوضعون في وادي محسر

(5)

، وتبعهم عَلَى ذَلِكَ كثير من العلماء.

وقال النخعي: لما رأى عمر سرعة الناس في الإفاضة من عرفة وبجمع قَالَ: والله لأعلم إنّي أن البر ليس برفعها أذرعها، ولكن البر شيء تصبر عليه القلوب. وقال عكرمة: سأل رجل ابن عباس عن الإيجاف فقال: إن (حَلْ حَلْ)

(6)

تشغل عن ذكر الله وتوطئ وتؤذي.

قَالَ ابن المنذر: وحديث أسامة يدل عَلَى أن أمره بالسكينة إنما كان في الوقت الذي لم يجد فجوة، وأنه حين وجدها سار سيرًا فوق ذَلِكَ،

(1)

"غريب الحديث" 1/ 460.

(2)

"مجمل اللغة" 4/ 928.

(3)

"أعلام الحديث" 2/ 889.

(4)

"غريب الحديث" 1/ 460.

(5)

روى ذلك ابن أبي شيبة 3/ 411 - 412 (15636 - 15638 - 15640) كتاب: الحج، في الإيضاع في وادى محسر.

(6)

هي كلمة تقال للناقة، قال ابن سيده في "المحكم" 2/ 372: حلحل بالإبل: قال: حل حل. وقال الجوهري في "الصحاح" 4/ 1675: حَلْحَلْتُ بالناقة، إذا قلت لها: حَبْ بالتسكين، وهو زجر للناقة، وانظر:"لسان العرب" 2/ 979.

ص: 572

وإنما أراد بها في وقت الزحام، وقد أسلفنا ذَلِكَ فيما مضى.

وقال عمر بن عبد العزيز في خطبته في يوم عرفة: إنكم شخصتم من القريب والبعيد وتكلفتم من المؤنة ما شاء الله، وليس السابق من سبق بعيره وفرسه، ولكن السابق من غفر له

(1)

.

(1)

رواه ابن أبي شيبة 3/ 251 (14028).

ص: 573

‌95 - باب الجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بِالمُزْدَلِفَةِ

1672 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ كُرَيْبٍ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنهما، أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ دَفَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ عَرَفَةَ، فَنَزَلَ الشِّعْبَ، فَبَالَ، ثُمَّ تَوَضَّأَ وَلَمْ يُسْبِغِ الوُضُوءَ. فَقُلْتُ لَهُ: الصَّلَاةُ. فَقَالَ: "الصَّلَاةُ أَمَامَكَ". فَجَاءَ المُزْدَلِفَةَ، فَتَوَضَّأَ، فَأَسْبَغَ، ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَصَلَّى المَغْرِبَ، ثُمَّ أَنَاخَ كُلُّ إِنْسَانٍ بَعِيرَهُ فِي مَنْزِلِهِ، ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَصَلَّى، وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا. [انظر: 139 - مسلم: 1280 - فتح: 3/ 523]

ذكر فيه حديث أسامة: أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: دَفَعَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مِنْ عَرَفَةَ، فَنَزَلَ الشِّعْبَ .. الحديث، وسلف قريبًا، وهنا أتم.

وقوله: (دَفَعَ مِنْ عَرَفَةَ) يريد: بعد الغروب، كما جاء مبينًا في حديث آخر.

قَالَ ابن حبيب: إذا دفع الإمام من عرفة، فارفع يديك بالدعاء، وادفع بالسكينة، فإن كنت راجلًا فامشِ الهوينا

(1)

، وإن كنت راكبًا فافعل السنة كما سلف، ويستحب أن يأخذ في طريق المازمين، فإن خالف فلا شيء عليه؛ لأنه ليس فيه إخلال بنسك يجبر.

وقوله: (ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَصَلَّى المَغْرِبَ) يريد أنه بدأ بها ولم يؤخرها؛ لأنه وصل موضعه، وقد سئل مالك فيمن أتاها: أيبدأ بالصلاة أو بحط رحله؟ فقال: إن كان خفيفًا فلا بأس به، دون المحامل والزوامل فلا أراه قبلها، وليبدأ بالصلاتين ثم يحط. وقال أشهب: له حط رحله قبلها، وحطه بعد المغرب أحبُّ ما لم يضطر

(1)

"النوادر والزيادات" 2/ 394.

ص: 574

إلى دابته لما بدابته من الثقل أو لغيره من العدو

(1)

.

وقوله: (فَصَلَّى المَغْرِبَ، ثُمَّ أَنَاخَ كُلُّ إِنْسَانٍ بَعِيرَهُ فِي مَنْزِلِهِ، ثُمَّ أقِيمتِ الصَّلَاةُ). يريد تعجيل المغرب أولًا، فلما صلاها اتسع الوقت للعشاء فأناخ، وقد صلى ابن مسعود بعدها ركعتين ثم تعشى ثم أذن،

كما سيأتي قريبًا.

وقوله: (وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا) يريد: لم يتنفل، وهو خلاف ما فعله ابن مسعود. وقال أشهب: لا يتعشَّى قبل أن يصلي المغرب، وإن خفف، وليصل المغرب ثم يتعشَّى قبل أن يُصلي، فإن كان عشاؤه خفيفًا، وإن كان فيه طولٌ أخَّره حَتَّى يُصلي العشاء فيما أحب

(2)

، ويحتمل هذا أن يكون الجمع هنا ليس مقصودًا في نفسه، وإنما المقصود تأخير المغرب إلى مغيب الشفق، ويحتمل أن يكون هذا العمل اليسير

ليس بفاصل، ولا مانع من حكم الجمع وتقدم التنفل.

قَالَ ابن الجلاب: وعندنا: لا يضر الفصل في جمع التأخير وإن طال.

وفيه: أن السنة من أيام الحاج الجمع بمزدلفة وهو إجماع، وقد أسلفنا في باب: النزول بين عرفة وجمع، اختلاف العلماء فيما إذا صلى قبل أن يأتي المؤدلفة، وفيها قول ثالث: أنه يجزئ إمامًا كان أو غيره، روي ذَلِكَ عن عمر وابن عباس وابن الزبير وعطاء وعروة والقاسم، وبه قَالَ الأوزاعي وأبو يوسف والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور

(3)

.

(1)

"النوادر والزيادات" 2/ 398.

(2)

"النوادر والزيادات" 2/ 398.

(3)

"البيان" 4/ 323، "المغني" 5/ 281.

ص: 575

وحجة من أجاز ذَلِكَ أنه صلى الله عليه وسلم جعل وقت هاتين الصلاتين من حين تغيب الشمس إلى آخر وقت العشاء، وجعل له أن يجمع تقديمًا وتأخيرًا، وأوقات الصلاة إنما هي محدودة بالساعات والزمان، فمن صلاها بعد الغروب بعرفة أو دون المزدلفة فقد أصاب الوقت، وإن ترك الاختيار لنفسه في الموضع، والصلاة لا تبطل بالخطأ في الموضع إذا لم يكن نجسًا، ألا ترى أن من صلاها بعد خروج وقتها بالمزدلفة، فمن لم يصل إلى المزدلفة إلا بعد طلوع الفجر أنه قد فاته وقتها، فلا اعتبار بالمكان.

ويشبه هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة"

(1)

. فأدرك وقت الصلاة القوم في بعض الطريق، فمنهم من صلى، ومنهم من أخَّر إلى بني قريظة، فلم يعنف أحدًا منهم.

واحتج الطحاوي لأبي يوسف فقال: لا يختلفون في الصلاتين اللتين تصليان بعرفة أنهما لو صليتا دونهما كل واحدة منهما في وقتها في سائر الأيام كانتا مجزئتين. فالصلاة بمزدلفة أحرى أن تكونا كذلك؛ لأن أمر عرفة لما كان آكد من أمر مزدلفة كان ما يفعل في عرفة آكد مما يفعل في مزدلفة، فثبت ما قَالَ أبو يوسف وانتفي ما قاله الآخرون

(2)

.

فائدة:

سميت المزدلفة لاقترابهم إلى منى، والازدلاف: التقرب، ومنه {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90)} [الشعراء: 90] أو لاجتماع الناس بها،

(1)

سلف برقم (946) كتاب: صلاة الخوف، باب: صلاة الطالب والمطلوب، راكبًا وإيماءً.

(2)

"شرح معاني الآثار" 2/ 214.

ص: 576

والاجتماع: الازدلاف، ومنه {وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ (64)} [الشعراء: 64] أي: جمعناهم أو قربناهم من الهلاك

(1)

، قولان.

وقال ثعلب: لأنها منزلة وقربة من الله تعالى، ومنه:{فَلَمَّا رَأَوهُ زُلفَةً} [الملك: 27] أي: رأوا العذاب قربة.

وقال الطبري: لازدلاف آدم إلى حواء

(2)

، وكان كل واحد منهما لما أهبط إلى الأرض أهبط إلى مكان غير مكان صاحبه، فازدلف كل منهما إلى الآخر فتلاقيا بالمزدلفة.

وقيل: للنزول بها في زلفة من الليل. وقال الكلبي: لدفع الناس منها زلفة جميعًا يزدلفون منها إلى موضع آخر.

وقال الخطابي: اللام بعد الدال مكسورة، قَالَ: وآخرها مُحسر،

وأول منى بطن محسر الذي يستحب الإسراع فيه؛ لأنه كان موقف النصارى.

(1)

انظر: "مجمل اللغة" 2/ 438 - 439، "النهاية في غريب الحديث والأثر" 2/ 309 - 310، "لسان العرب" 3/ 1853 - 1854، "معجم البلدان" 5/ 120 - 121.

(2)

انظر: "تفسير الطبري" 7/ 126.

ص: 577

‌96 - باب مَنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا وَلَمْ يَتَطَوَّعْ

1673 -

حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْب، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: جَمَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ المَغْرِبِ وَالعِشَاءِ بِجَمْعٍ، كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِإِقَامَةٍ، وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا، وَلَا عَلَى إِثْرِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا. [انظر: 1091 - مسلم: 703 - فتح: 3/ 523]

1674 -

حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ يَزِيدَ الخَطْمِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو أَيُّوبَ الأَنْصَارِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم جَمَعَ فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ المَغْرِبَ وَالعِشَاءَ بِالمُزْدَلِفَةِ. [4414 - مسلم: 1287 - فتح: 3/ 523]

ذكر فيه حديث ابن عمر: جَمَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ المَغْرِبِ وَالعِشَاءِ بِجَمْعٍ، كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِإِقَامَةٍ، وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا، وَلَا عَلَى إِثْرِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا.

وحديث أبي أيوب الأنصاري: أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم جَمَعَ فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ المَغْرِبَ وَالعِشَاءَ بِالمُزْدَلِفَةِ.

وأخرجهما مسلم

(1)

، زاد البخاري في المغازي في الثاني: جميعًا

(2)

، وقد سلف حكمه فيما مضى.

(1)

مسلم (703) كتاب: صلاة المسافرين، باب: جواز الجمع بين الصلاتين في السفر، وسيأتي فيه كذلك بعد حديث (1287) كتاب: الحج، باب: الإفاضة من عرفات إلى المزدلفة واستحباب صلاتي المغرب والعشاء جمعًا بالمزدلفة في هذِه الليلة، أما الحديث الثاني حديث أبي أيوب الأنصاري، فرواه مسلم برقم (1287).

(2)

سيأتي برقم (4414) باب: حجة الوداع.

ص: 578

‌97 - باب مَنْ أَذَّنَ وَأَقَامَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا

1675 -

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ يَزِيدَ يَقُولُ: حَجَّ عَبْدُ اللهِ رضي الله عنه، فَأَتَيْنَا المُزْدَلِفَةَ حِينَ الأَذَانِ بِالعَتَمَةِ، أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ، فَأَمَرَ رَجُلًا، فَأَذَّنَ وَأَقَامَ، ثُمَّ صَلَّى المَغْرِبَ، وَصَلَّى بَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ دَعَا بِعَشَائِهِ فَتَعَشَّى، ثُمَّ أَمَرَ -أُرَى- فَأَذَّنَ وَأَقَامَ -قَالَ عَمْرٌو: لَا أَعْلَمُ الشَّكَّ إِلَّا مِنْ زُهَيْرٍ- ثُمَّ صَلَّى العِشَاءَ رَكْعَتَيْنِ، فَلَمَّا طَلَعَ الفَجْرُ قَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ لَا يُصَلِّي هَذِهِ السَّاعَةَ إِلَّا هَذِهِ الصَّلَاةَ، فِي هَذَا المَكَانِ، مِنْ هَذَا اليَوْمِ. قَالَ عَبْدُ اللهِ: هُمَا صَلَاتَانِ تُحَوَّلَانِ عَنْ وَقْتِهِمَا: صَلَاةُ المَغْرِبِ بَعْدَ مَا يَأْتِي النَّاسُ المُزْدَلِفَةَ، وَالفَجْرُ حِينَ يَبْزُغُ الفَجْرُ. قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُهُ. [1682، 1683 - مسلم: 1289 - فتح: 3/ 524]

ذكر فيه حديث عبد الرحمن بن يزيد: حَجَّ عَبْدُ اللهِ، فَأَتَيْنَا المُزْدَلِفَةَ حِينَ الأَذَانِ بِالعَتَمَةِ، أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ، فَأَمَرَ رَجُلًا، فَأَذَّنَ وَأَقَامَ، ثُمَّ صَلَّى المَغْرِبَ، وَصَلَّى بَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ دَعَا بِعَشَائِهِ فَتَعَشَّى، ثُمَّ أَمَرَ -أُرى- فَأَذنَ وَأَقَامَ -قَالَ عَمْرٌو: لَا أَعْلَمُ الشَّكَّ إِلَّا مِنْ زُهَيْرٍ- ثُمَّ صَلَّى العِشَاءَ رَكْعَتَيْنِ، فَلَمَّا طَلَعَ الفَجْرُ قَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ لَا يُصَلَّي هذِه السَّاعَةَ إِلَّا هذِه الصَّلاةَ، فِي هذا المَكَانِ مِنْ هذا اليَوْمِ. قَالَ عَبْدُ اللهِ: هُمَا صَلَاتَانِ تُحَوَّلَانِ عَنْ وَقْتِهِمَا: صَلَاةُ المَغْرِبِ بَعْدَ مَا يَأتِي النَّاسُ المُزْدَلِفَةَ، وَالفَجْرُ حِينَ يَبْزُغُ الفَجْرُ. قَالَ: ورَأَيْتُ النَبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُهُ.

الشرح:

روى مالك عن ابن شهاب حديث ابن عمر أول الباب قبله، ولم يذكر فيه أنه أقام لكل صلاة، وزاد الإقامة فيه عن ابن شهاب ابن أبي ذئب هنا والليث وهما ثقتان حافظان، وزيادة الثقة مقبولة.

ص: 579

وقوله: (قَالَ عَمْرٌو) أي: ابن خالد شيخ البخاري، وكذا ذكره البيهقي، وإنما لم يتطوع بينهما لأجل التخفيف.

وقال ابن بطال: إنما لم يتطوع -والله أعلم-؛ لأنه لم يكن بينهما أذان، ففرغ من المغرب ثم قام إلى العشاء، ولم يكن بينهما مهلة في الوقت يمكن فيها التنفل.

وأما من روى أنه يؤذن لكل صلاة؛ لأنه لا يمنع التنفل لمن أراد، وقد فعل ذَلِكَ ابن مسعود كما سلف، وإن كان قد رُوِي عن مالك أنه لا يتنفل بينهما، وكل ذَلِكَ واسع لا حرج فيه.

قَالَ الطبري: ولأنهما صلاتان تصليان لأوقاتهما، ولم يفت وقتهما للحاج حتى يطلع الفجر، ففيه حجة للشافعي أن صلاة المغرب والعشاء بالمزدلفة بإقامة إقامة وكذلك في حديث أسامة السالف،

(1)

كما سلف.

وقد اختلف العلماء في الأذان والإقامة لهما، فروى ابن القاسم، عن مالك: أنه يؤذن ويقيم لكل منهما

(2)

عَلَى ظاهر حديث ابن مسعود. وقد روى مالك عن عمر بن الخطاب وابن مسعود ذَلِكَ

(3)

.

وذهب أحمد وأبو ثور وابن الماجشون إلى أنه يجمع بينهما بأذان واحد (وإقامة واحدة، خلاف قولهم في الجمع بعرفة)

(4)

. وذهبت طائفة إلى أنه يصليهما بإقامة واحدة لا أذان معها. واحتج الطحاوي بحديث حاتم بن إسماعيل، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بينهما بأذان واحد (وإقامتين)

(5)

.

(1)

"شرح ابن بطال" 4/ 354.

(2)

انظر: "النوادر والزيادات" 2/ 392.

(3)

"شرح ابن بطال" 4/ 355.

(4)

انظر: "المغني" 5/ 278 - 280.

(5)

من (ج).

ص: 580

قَالَ: وأجمعوا أن الأولى من الصلاتين بعرفة يؤذن لها ويقام، فالنظر عَلَى ذَلِكَ أن تكون المزدلفة كذلك. وأخذ الطحاوي بحديث أهل المدينة

(1)

. واحتج لأبي حنيفة بما رواه شعبة، عن الحكم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم أذن للمغرب بجمع وأقام، ثم صلى العشاء بالإقامة الأولى

(2)

.

وحجتنا حديث ابن شهاب السالف، ولم يذكره مالك في حديثه كما سلف، وهذِه الرواية أصح عن ابن عمر مما خالفها.

وحديث ابن عباس عن أسامة أنه صلى الله عليه وسلم عدل إلى الشعب فتوضأ، وفي آخره: أقام لكل واحدة منهما.

واحتج الثوري بما رواه عن سلمة بن كهيل، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم جمع بين المغرب والعشاء بالمزدلفة بإقامة واحدة

(3)

.

وكان أحمد بن حنبل يحجب من مالك إذ أخذ بحديث ابن مسعود ولم يروه، وهو من رواية أهل الكوفة وترك ما روى أهل المدينة في ذَلِكَ من غير ما طريق، وكذلك أخذ أهل الكوفة بما رواه أهل المدينة في ذَلِكَ وتركوا روايتهم عن ابن مسعود.

وقال ابن حزم: حديث ابن عمر وأبي أيوب ليس فيهما ذكر أذان ولا إقامة

(4)

.

(1)

"شرح معاني الآثار" 2/ 213 - 214.

(2)

"شرح معاني الآثار" 2/ 212.

(3)

رواه مسلم (1288) كتاب: الحج، باب: الإفاضة من عرفات إلى المزدلفة، والنسائي 1/ 239 كتاب: الصلاة، باب: صلاة المغرب.

(4)

انظر: "حجة الوداع" ص 285، 293 - 294.

ص: 581

قلتُ: (بلى)

(1)

في حديث ابن عمر الإقامة كما سلف. قَالَ: وكذا رواية طلق بن حبيب وابن سيرين ونافع عن ابن عمر من فعله

(2)

.

وفي حديث الزهري عن سالم عنه أنه صلى الله عليه وسلم بجمع بإقامة واحدة

(3)

، وكذا رواه ابن عباس مرفوعًا من عند مسلم

(4)

.

قَالَ: وإلى هذا ذهب محمد بن داود وسفيان وأحمد.

وفيه أيضًا من حديث أسامة: إقامة للمغرب وإقامة للعشاء، وفعله عمر، وذهب الشافعي في رواية أهل مصر، وقال به أحمد وسفيان. وعند مسلم من حديث ابن عمر: أذَّن وأقام وصلَّى المغرب، ثم التفت إلينا، فصلى بنا العشاء ركعتين

(5)

. ورويناه عن عمر، وبه أخذ أبو حنيفة وأصحابه.

فهذِه الأحاديث التي رويت مسندة، وأشد الاضطراب في ذَلِكَ عن ابن عمر، فإنه رُوِي عنه من عمله الجمع بينهما بلا أذان ولا إقامة، وروي عنه أيضًا: بإقامة واحدة. وروي عنه: بأذان واحد وإقامة واحدة، وروي عنه مسندًا: الجمع بإقامتين وبأذان واحد وإقامة واحدة. قَالَ: وهنا قول سادس لم نجده مرويًّا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ما رويناه عن ابن مسعود. -أي: وهو ما في البخاري كما سلف-: كل واحدة منهما بأذان وإقامة.

(1)

في (ج): (بل).

(2)

"حجة الوداع" ص 285 - 286 (284 - 286).

(3)

سبق برقم (1091) أبواب تقصير الصلاة، باب: يصلي المغرب ثلاثًا في السفر، ررواه مسلم (703) كتاب: صلاة المسافرين، باب: جواز الجمع بين الصلاتين في السفر.

(4)

مسلم (1286) كتاب: الحج، باب: الإفاضة من عرفات إلى مزدلفة.

(5)

مسلم (1288) الموضع السابق.

ص: 582

قَالَ أبو الحسن: فذكرتُ ذَلِكَ لمحمد بن علي، فقال: أما نحن أهل البيت فهكذا نصنع. قَالَ: وروي أيضًا عن عمر من فعله، وروي عن علي مرسلًا

(1)

، وبه يأخذ مالك، والعجب منه كيف أخذ بهذا وهو من رواية الكوفيين وترك ما روى أهل المدينة الذي اعتمده الكوفيون؟!

وقال ابن التين: ذكر في حديث ابن عمر الجمع بإقامتين، وهو قول ابن الجلاب، والذي في "المدونة" أنه يؤذن ويقيم لكل صلاة مثل فعل ابن مسعود

(2)

. وقيل: بأذان للأولى وإقامة للثانية فقط. وفي فعل ابن مسعود من الفقه جواز التنفل بين هاتين الصلاتين كما سلف، وإنما تعشَّى بينهما عَلَى سبيل السعة فيه، لا عَلَى أن يدخل بين المغرب والعشاء عملًا أو شغلًا. وقد قَالَ أصبغ: إذا صلى أهل المسجد المغرب فوقع مطر شديد وهم يتنفلون فأرادوا أن يعجلوا العشاء فلا بأس بذلك.

وقوله: (هُمَا صَلَاتَانِ تُحَوَّلَانِ عَنْ وَقْتِهِمَا) أي: عن الوقت المستحب المعتاد إلى ما قبل الوقت، إلا أن تحويلهما قبل دخول وقتهما المحدود في كتاب الله تعالى، وقاله الداودي أيضًا.

وقوله: (يَبْزُغُ) -هو بياء مثناة تحت ثم باء موحدة، ثم زاي، ثم غين معجمة- أي: يطلع.

(1)

رواه ابن أبي شيبة 3/ 253 (14046) كتاب: الحج، من كان يجمع بين الصلاتين بجمع، وابن حزم في "حجة الوداع" ص 290 (297) قال: حدثنا حمام، حدثنا الباجي، حدثنا أحمد بن خالد عن الكشوري عن الحذافي، حدثنا عبد الرزاق، قال: حدثنا بعض أصحابنا حدثنا شريك عن أبي إسحاق، عن أبي جعفر .. الحديث، وسنده ضعيف؛ لأن شيخ عبد الرزاق مبهم.

(2)

"المدونة" 1/ 320.

ص: 583

‌98 - باب مَنْ قَدَّمَ ضَعَفَةَ أَهْلِهِ بِلَيْلٍ، فَيَقِفُونَ بِالمُزْدَلِفَةِ وَيَدْعُونَ وَيُقَدِّمُ إِذَا غَابَ القَمَرُ

1676 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ سَالِمٌ: وَكَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يُقَدِّمُ ضَعَفَةَ أَهْلِهِ، فَيَقِفُونَ عِنْدَ المَشْعَرِ الحَرَامِ بِالمُزْدَلِفَةِ بِلَيْلٍ، فَيَذْكُرُونَ اللهَ مَا بَدَا لَهُمْ، ثُمَّ يَرْجِعُونَ قَبْلَ أَنْ يَقِفَ الإِمَامُ، وَقَبْلَ أَنْ يَدْفَعَ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقْدَمُ مِنًى لِصَلَاةِ الفَجْرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْدَمُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِذَا قَدِمُوا رَمَوُا الجَمْرَةَ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يَقُولُ أَرْخَصَ فِي أُولَئِكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم. [مسلم: 1295 - فتح: 3/ 526]

1677 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابن عَبَّاسِ رضي الله عنهما قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ جَمعٍ بِلَيْلٍ. [1678، 1856 - مسلم: 1293، 1294 - فتح: 3/ 526]

1678 -

حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ أَبِي يَزِيدَ، سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما يَقُولُ: أَنَا مِمَّنْ قَدَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ المُزْدَلِفَةِ فِي ضَعَفَةِ أَهْلِهِ. [انظر: 1677 - مسلم: 1293، 1294 - فتح: 3/ 526]

1679 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، عَنْ يَحْيَى، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ -مَوْلَى أَسْمَاءَ- عَنْ أَسْمَاءَ أَنَّهَا نَزَلَتْ لَيْلَةَ جَمْعٍ عِنْدَ المُزْدَلِفَةِ، فَقَامَتْ تُصَلِّي، فَصَلَّتْ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَتْ: يَا بُنَيَّ، هَلْ غَابَ القَمَرُ؟ قُلْتُ: لَا. فَصَلَّتْ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَتْ: هَلْ غَابَ القَمَرُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَتْ: فَارْتَحِلُوا. فَارْتَحَلْنَا، وَمَضَيْنَا حَتَّى رَمَتِ الجَمْرَةَ، ثُمَّ رَجَعَتْ فَصَلَّتِ الصُّبْحَ فِي مَنْزِلِهَا. فَقُلْتُ لَهَا يَا: هَنْتَاهْ، مَا أُرَانَا إِلاَّ قَدْ غَلَّسْنَا. قَالَتْ: يَا بُنَىَّ، إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَذِنَ لِلظُّعُنِ. [مسلم: 1291 - فتح: 3/ 526]

1680 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ -هُوَ: ابْنُ القَاسِمِ-، عَنِ القَاسِمِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتِ: اسْتَأْذَنَتْ سَوْدَةُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ جَمْعٍ -وَكَانَتْ ثَقِيلَةً ثَبْطَةً- فَأَذِنَ لَهَا. [1681 - مسلم: 1290 - فتح: 3/ 526]

ص: 584

1681 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا أَفْلَحُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنِ القَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: نَزَلْنَا المُزْدَلِفَةَ، فَاسْتَأْذَنَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَوْدَةُ أَنْ تَدْفَعَ قَبْلَ حَطْمَةِ النَّاسِ، -وَكَانَتِ امْرَأَةً بَطِيئَةً-، فَأَذِنَ لَهَا، فَدَفَعَتْ قَبْلَ حَطْمَةِ النَّاسِ، وَأَقَمْنَا حَتَّى أَصْبَحْنَا نَحْنُ، ثُمَّ دَفَعْنَا بِدَفْعِهِ، فَلأَنْ أَكُونَ اسْتَأْذَنْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا اسْتَأْذَنَتْ سَوْدَةُ أَحَبُّ إِلَىَّ مِنْ مَفْرُوحٍ بِهِ. [انظر: 1680 - مسلم: 1290 - فتح: 3/ 527]

ذكر فيه خمسة أحاديث:

أحدها: عن ابن عمر أنه كان يُقَدِّمُ ضَعَفَةَ أَهْلِهِ، فَيَقِفُونَ عِنْدَ المَشْعَرِ الحَرَامِ بِالمُزْدَلِفَةِ بِلَيْلٍ، فَيَذْكُرُونَ اللهَ مَا بَدَا لَهُمْ، ثُمَّ يَرْجِعُونَ قَبْلَ أَنْ يَقِفَ الإِمَامُ، وَقَبْلَ أَنْ يَدْفَعَ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقْدَمُ مِنًى لِصَلَاةِ الفَجْرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْدَمُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِذَا قَدِمُوا رَمَوُا الجَمْرَةَ، وَكَانَ ابن عُمَرَ يَقُولُ: أَرْخَصَ فِي أُولَئِكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم.

ثانيها: حديث ابن عباس

(1)

قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ جَمْعٍ بِلَيْلٍ.

وفي رواية: أَنَا مِمَّنْ قَدَّمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ليْلَةَ المُزْدَلِفَةِ فِي ضَعَفَةِ أَهْلِهِ.

ثالثها: حديث أَسْمَاءَ أَنَّهَا نَزَلَتْ لَيْلَةَ جَمْعٍ عِنْدَ المُزْدَلِفَةِ، فَقَامَتْ تُصَلِّي، فَصَلَّتْ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَتْ: يَا بُنَيَّ، هَلْ غَابَ القَمَرُ؟ قُلْتُ: لَا. فَصَلَّتْ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَتْ: هَلْ غَابَ القَمَرُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَتْ: فَارْتَحِلُوا. فَارْتَحَلْنَا، وَمَضَيْنَا حَتَّى رَمَتِ الجَمْرَةَ، ثُمَّ رَجَعَتْ فَصَلَّتِ الصُّبْحَ فِي مَنْزِلِهَا. فَقُلْتُ لَهَا: يَا هَنْتَاهْ، مَا أُرَانَا إِلَّا قَدْ غَلَّسْنَا. قَالَتْ: يَا بُنَيَّ، إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَذِنَ لِلظُّعُنِ.

(1)

في هامش الأصل: حديث ابن عباس أي في باب الضعفان.

ص: 585

رابعها: حديث عائشة: اسْتَأْذَنَتْ سَوْدَةُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ جَمْعٍ -وَكَانَتْ ثَقِيلَةً ثَبِطَةً- فَأَذِنَ لَهَا.

الخامس: حديثها أيضًا: نَزَلْنَا المُزْدَلِفَةَ، فَاسْتَأْذَنَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَوْدَةُ أَنْ تَدْفَعَ قَبْلَ حَطْمَةِ النَّاسِ -وَكَانَتِ امْرَأَةً بَطِيئَةً- فَأَذِنَ لَهَا، فَدَفَعَتْ قَبْلَ حَطْمَةِ النَّاسِ، فَأَقَمْنَا حَتَّى أَصْبَحْنَا نَحْنُ، ثُمَّ دَفَعْنَا بِدَفْعِهِ، فَلأَنْ أَكُونَ اسْتَأْذَنْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا اسْتَأْذَنَتْ سَوْدَةُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ مَفْرُوحٍ بِهِ.

الشرح:

هذِه الأحاديث كلها أخرجها مسلم بزيادة أم حبيبة

(1)

. وحديث أسماء أخرجه البخاري من حديث ابن جريج: حَدَّثَني عبد الله مولى أسماء، عن أسماء.

وأخرجه أبو داود، عن محمد بن خلاد، عن يحيى، عن ابن جريج،

أخبرني عطاء، أخْبرَنِي مخبر، عن أسماء أنها رمتْ الجمرة، قلتُ: إنا رمينا الجمرة بليل، فقالتْ: إنا كنا نصنع هذا عَلَى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم

(2)

.

وأخرجه النسائي من حديث مالك، عن يحيى، عن عطاء أن مولى لأسماء بنت أبي بكر أخبره، فذكره

(3)

.

(1)

حديث ابن عمر الأول رواه مسلم (1295) كتاب: الحج، باب: استحباب تقديم دفع الضعفة من النساء ..

وحديثا ابن عباس رواهما مسلم (1293 - 1294).

وحديث أسماء رواه مسلم (1291).

وحديثا عائشة رواهما مسلم (1290).

وحديث أم حبيبة رواه مسلم (1292).

(2)

أبو داود (1943) كتاب: المناسك، باب: التعجيل.

(3)

النسائي 5/ 266 - 267 كتاب: المناسك، باب: الرخصة للضعفة أن يصلوا يوم النحر الصبح بمنى.

ص: 586

وجعل الطرقي هذا وحديث البخاري واحدًا.

وقال الداني في "أطراف الموطأ": قَالَ يحيى بن يحيى في سنده: عن مولاة بهاءٍ، عَلَى التأنيث، وعند ابن بكير وغيره: مولى، وهو الصحيح

(1)

.

و (المشعر) بفتح الميم، وفي لغة كسرها، ونقل ابن التين، عن الكسائي أن عليها أكثر العرب، وادَّعى القتبي أنه لم يقرأ به أحد، وذكر الهذلي أنها قراءة.

وقال صاحب "المطالع": بكسر الميم لغة لا رواية، وحكى ابن التياني في "الموعب" عن قطرب لغة ثالثة بفتح الميم وكسر العين.

و (الحرام)

(2)

معناه: المحرم لا من الحل، وقيل: ذو الحرمة، وسُمي مشعرًا لما فيه من الشعار، وهي معالم الدين، وحده ما بين مأزمي عرفة، وقرن محسر يمينًا وشمالًا. و (ثَبِطة) -بفتح الثاء المثلثة ثم باء موحدة مكسورة- بطيئة، قَالَ صاحب "المطالع": كذا ضبطناه، وضبطه الجياني، عن ابن سراج بالكسر والإسكان. وقال الخطابي أيضًا: الثبطة: البطيئة، وقد تثبط الرجل عن أمره، ومنه قوله تعالى:

{فَثَبَّطَهُم}

(3)

[التوبة: 46].

والظُّعن -بضم الظاء المعجمة ثم عين مهملة- جمع ظعينة، وهن النساء، وفي "المحكم": هو جمع ظاعن، والظاعن اسم للجمع، والظعون من الإبل: الذي تركبه المرأة خاصة. والظعينة أيضًا: الجمل يظعن عليه. والظعينة: الهودج تكون فيه المرأة، وقيل: هو الهودج،

(1)

"الإيماء إلى أطراف أحاديث كتاب الموطأ" 4/ 242.

(2)

في الأصل: (الحرم) والمثبت من (ج).

(3)

"أعلام الحديث" 2/ 890.

ص: 587

كانت فيه امرأة أو لم تكن. والظعينة: المرأة في الهودج سميت به عَلَى حد تسمية الشيء باسم ما يجاوره، وقيل: لأنها تظعن مع زوجها، ولا تسمى ظعينة إلا وهي في هودج، وقيل الظعن: الجماعة من النساء والرجال

(1)

.

أما فقه الباب: فيسن تقديم النساء والضعفة بعد نصف الليل إلى منى؛ ليرموا جمرة العقبة قبل زحمة الناس، ويبقى غيرهم حَتَّى يصلوا الصبح مغلِّسين اقتداء به.

والمعنى فيه: اتساع الوقت للدعاء، والتغليس هنا أشد استحبابًا من باقي الأيام. ولهذا قَالَ ابن مسعود فيما مضى: أنها حولت عن وقتها، أي: المعتاد، وينبغي أن يحرص عَلَى صلاة الصبح هناك. فقد صح فيه حديث عروة بن مضرس السالف

(2)

.

وقال ابن حزم: فرض عَلَى الرجال أن يصلوا الصبح مع الإمام الذي يقيم الحج بمزدلفة، قَالَ: فمن لم يفعل ذَلِكَ فلا حج له

(3)

.

وانفرد أبو حنيفة حيث قَالَ: لا يجوز لغير الضعفة النفر قبل الفجر، قَالَ: فإن نفر لزمه دم، وسيأتي إيضاحه. والوقت المستحب لرمي جمرة العقبة بعد طلوع شمس يوم النحر اقتداءً بالشارع.

واختلف العلماء هل يجوز رميها قبل ذَلِكَ؟ فقال مالك وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق وأبو ثور: يجوز رميها بعد طلوع الفجر وقبل طلوع الشمس، وإن رماها قبل الفجر أعاد، ونُقِل عن أكثر العلماء

(4)

.

(1)

"المحكم" 2/ 49 - 50.

(2)

تقدم تخريجه قريبًا.

(3)

"المحلى" 7/ 118، "حجة الوداع" ص 447.

(4)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 2/ 154، "عيون المجالس" 2/ 847 - 848، "المغني" 5/ 284 - 285.

ص: 588

ورخصت طائفة في الرمي قبل طلوع الفجر، رُوِي ذَلِكَ عن عطاء وطاوس والشعبي، وبه قَالَ الشافعي: بعد نصف الليل

(1)

. وحكي عنه مثل الأول، حكاه عنه ابن التين.

وقال النخعي ومجاهد: لا يرميهما حَتَّى تطلع الشمس، وبه قَالَ الثوري وأبو ثور وإسحاق، وهو خلاف قول الأكثرين، منهم الأربعة.

فهذِه مذاهب ثلاثة: حجة الأول: حديث ابن عمر السالف أول الباب، وحجة الثاني: حديث أسماء في الباب لكن لم يذكر البخاري فيه الرمي قبل الفجر، ورواه غيره. و (غلَّس) محتملة للتأويل لا يقطع بها؛ لأنه يجوز أن يُسمى ما بعد الفجر غلسًا. واعترض ابن القصار فقال: لو صح: رمينا قبل الفجر لكان ظنًّا منه؛ لأنه لما رآها صلت الصبح في دارها ظن أن الرمي كان قبل الفجر (والرمي كان بعد الفجر)

(2)

، فأخرت صلاة الصبح إلى دارها.

وقولها فيه: (هكذا كنا نفعل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم) إشارة إلى فعلها، وفعلها يجوز أن يكون بعد الفجر؛ لأنها لم تقل هي: رمينا قبله، ولا قالت: كنا نرمي معه قبله؛ لأنه لم يقل أحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رمى قبله، وفيه ما لا يخفي.

واحتج الشافعي أيضًا بحديث أم سلمة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن تصبح بمكة يوم النحر

(3)

. وهذا لا يكون إلا وقد رمت الجمرة بمنى

(1)

روى ذلك ابن أبي شيبة 3/ 306 (14584 - 14585) كتاب: الحج، من رخص أن يرميها قبل طلوع الشمس، "البيان" 4/ 331.

(2)

من الأصل.

(3)

رواه الشافعي في "مسنده" 1/ 357 (924) كتاب: الحج، باب: من أجاز رميها بعد نصف الليل، وأورد هذا الحديث ابن القيم في "زاد معاد" 2/ 258 وقال: فيه =

ص: 589

ليلًا قبل الفجر؛ لأنه غير جائز أن يوافي أحد صلاة الصبح بمكة وقد رمى جمرة العقبة إلا وقد رماها ليلًا؛ لأن من أصبح بمنى وكان بها بعد طلوع الفجر فإنه لا يمكنه إدراك الصبح بمكة.

وقد ضعف أحمد حديث أم سلمة ودفعه، وقال: لا يصح، رواه أبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن زينب بنت أبي سلمة، عن أم سلمة: أمرها أن توافي معه صلاة الصبح يوم النحر بمكة، ولم

يسنده غيره، وهو خطأ.

قَالَ وكيع: عن هشام، عن أبيه -مرسل- أنه صلى الله عليه وسلم أمرها أن توافي صلاة الصبح يوم النحر بمكة. قَالَ أحمد: هذا أيضًا عجب، وما يصنع النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر بمكة ينكر ذَلِكَ، قَالَ: فجئت إلى يحيى بن سعيد فسألته، فقال: عن هشام، عن أبيه: أمرها أن توافي، وليس أن توافيه، قَالَ: وبين هذين. فرق، يوم النحر صلاة الصبح بالأبطح، وقال لي يحيى بن سعيد: سل عبد الرحمن بن مهدي، فسألته فقال: هكذا قَالَ سفيان- عن هشام، عن أبيه: توافي.

قَالَ أحمد: رحم الله يحيى ما أضبطه وأشد تفقده

(1)

. واحتج الثوري بحديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قدَّم أغيلمة بني عبد المطلب وضعفتهم، وقال:"يا بني لا ترموا الجمرة حَتَّى تطلع الشمس". رواه شعبة، عن

= سلمان بن أبي داود، قال أبو زرعة، عن أحمد: رجل من أهل الجزيرة ليس بشيء، وقال عثمان بن سعيد: ضعيف، ومما يدل على بطلانه ما ثبت في الصحيحين عن القاسم بن محمد، عن عائشة وذكر حديث سودة، وكذا ضعفه الحافظ فقال في "تلخيص الحبير" 2/ 258: قال البيهقي: هكذا رواه جماعة عن أبي معاوية وهو في آخر حديث الشافعي المرسل، وقد أنكره أحمد.

(1)

انظر: "العلل ومعرفة الرجال" 2/ 368، و"شرح معاني الآثار" 2/ 221.

ص: 590

الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، به

(1)

، ورواه سفيان ومسعر، عن سلمة بن كهيل، عن الحسن العرني، عن أبيه، عن ابن عباس: قدمنا من المزدلفة بليل، فقال صلى الله عليه وسلم:"أبينية عبد المطلب لا ترجموا جمرة العقبة حَتَّى تطلع الشمس"

(2)

. وهذا إسناده وإن كان ظاهره الحسن، فإن حديث ابن عمر وأسماء يعارضانه، فلذلك لم يخرجه البخاري مع أنه قد روى مولى ابن عباس، عن ابن عباس قَالَ: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهله، وأمرني أن أرمي مع الفجر

(3)

. فخالف حديث مقسم عنه. وصوَّب الطبري القول الأول؛ لأن حينئذٍ يحل الحاج، وذلك أن بطلوع الفجر من تلك الليلة انقضى وقت الحج، وفي انقضائه انقضاء وقت التلبية ودخول الرمي، غير أنه لا ينبغي لمن كان محرمًا أن

(1)

رواه من هذا الطريق الترمذي (893) كتاب: الحج، باب: ما جاء في تقديم الضعفة من جمع بليل، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" 2/ 217 كتاب: مناسك الحج، باب: وقت رمي جمرة العقبة، والطبراني 11/ 385 (12073).

(2)

رواه أبو داود (1940) كتاب: المناسك، باب: التعجيل من جمع، والنسائي في "المجتبى" 5/ 270 - 271، كتاب: مناسك الحج، النهي عن رمي جمرة العقبة قبل طلوع الشمس، وفي "الكبرى" 2/ 437 (4070)، وأحمد 1/ 234، وابن حبان 9/ 181 (3869) كتاب: الحج، باب: رمي جمرة العقبة، والبيهقي 5/ 131 - 132 كتاب: الحج، باب: الوقت المختار لرمي جمرة العقبة، عن سفيان ومسعر عن سلمة

به، قال الحافظ في "الفتح" 3/ 528: هذِه الطرق يقوي بعضها بعضًا. وانظر: "صحيح أبي داود"(1696).

(3)

رواه أحمد 1/ 320، 352، والطيالسي في "مسنده" 4/ 448 (2852)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" 2/ 215 كتاب: مناسك الحج، باب: وقت رمي جمرة العقبة للضعفاء الذين يرخص لهم في ترك الوقوف بالمزدلفة، والطبراني 11/ 430 (12220)، وابن عدي في "الكامل" 5/ 38، والخطيب في "موضح أوهام الجمع والتفريق" 2/ 429 - 430، قال الهيثمي في "المجمع" 3/ 258: فيه: شعبة مولى ابن عباس وثقه أحمد وغيره، وفيه كلام.

ص: 591

يلبس أو يتطيب أو يعمل شيئًا مما كان حرامًا عليه قبل طلوع الفجر يوم النحر، حَتَّى يرمي جمرة العقبة استحسانًا، واتباعًا في ذَلِكَ السنة، فإذا رمى الجمرة فقد حل من كل شيء حرم عليه إلا الوطء، حَتَّى يطوف للإفاضة.

قلتُ: كأنه لم ير الحلق من أسبابه.

وقال ابن المنذر: السنة أن لا يرمي إلا بعد طلوع الشمس للاتباع، ومن رمى بعد طلوع الفجر قبل طلوع الشمس فلا إعادة عليه، إذ لا أعلم أحدًا قال: لا يجزئه.

وقال الطبري: الدليل الواضح أن لأهل الضعف في أبدانهم ترك الوقوف بالمشعر الحرام والتقدم من جمع.

وقد اختلف السلف في ذَلِكَ، فقالت طائفة: يجوز، فمن تقدم بليل من أهل القوة فلم يقف بها مع الإمام فقد ضيع نسكًا وعليه دم، وهو قول مجاهد وعطاء، وقتادة، والزهري، والثوري، وأبي حنيفة، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور، وكان مالك يقول: إن من مر بها فلم ينزل بها فعليه دم، ومن نزل ثم دفع أول الليل أو وسطه أو آخره ولم يقف مع الإمام أجزأه، ولا دم عليه، وهو قول النخعي؛ وحجته الاتباع، فمن خالف فعليه دم، وإنما أجزنا له المتقدم ليلًا إذا بات بها لتقديمه صلى الله عليه وسلم أهله ليلًا، فكان ذَلِكَ رخصة لكل أحد بات بها. وقال الشافعي: إن دفع منها بعد نصف الليل فلا شيء عليه، وإن خرج منها قبله ولم يعد إليها افتدى، والفدية شاة

(1)

.

(1)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 2/ 152، "الذخيرة" 3/ 263، "الحاوي الكبير" 2/ 688، 690 - 691، "المغني" 5/ 284.

ص: 592

وقال آخرون: جائز ذَلِكَ لكل أحد، للضعيف والقوي، وكانوا يقولون: إنما هو منزل نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم كبعض منازل السفر، فمن شاء فعل، ومن شاء تركه.

وروي ذَلِكَ عن عطاء والزهري، وحكي أيضًا عن الأوزاعي، وسيأتي ما يخالفه. واحتجوا بحديث ابن عمر مرفوعًا:"إنما جمع منزل لذبح المسلمين"

(1)

.

وذهب قوم على أن المبيت بها فرض لا يجوز الحج إلا به، وبه قَالَ ابن بنت الشافعي وابن خزيمة، وأشار ابن المنذر إلى ترجيحه، وفيه: قوة، وبه قَالَ خمسة من التابعين، وقال به ابن حزم والشعبي والنخعي وعلقمة والأوزاعي أيضًا، وحماد بن أبي سليمان، ويروى عن ابن الزبير والحسن وأبي عبيد القاسم بن سلام: ويجعل إحرامه عمرة.

وحكاه ابن التين عن علقمة والنخعي والشعبي في الوقوف بالمشعر الحرام، وأنه إن لم يقف به فاته الحج للآية.

قَالَ الطحاوي: والحجة عليهم أن قوله تعالى: {فَاَذْكُرُوا اللهَ عِندَ اَلمَشْعَرِ اَلحَرَامِ} [البقرة: 198] ليس فيه دليل أن ذَلِكَ عَلَى الوجوب، ولأن الله تعالى إنما ذكر الذكر ولم يذكر الوقوف، وكل قد أجمع أنه لو وقف بالمزدلفة ولم يذكر الله تعالى أن حجه تام، فإذا كان الذكر المذكور في الكتاب ليس من صلب الحج، فالموطن الذي يكون الذكر فيه الذي لم يذكر في الكتاب أحرى أن لا يكون فرضًا، وقد ذكر الله تعالى في كتابه أشياء في الحج لم يرد بذكرها إيجابها في

(1)

لم أقف عليه بهذا اللفظ، وقد عزاه الحافظ في "الفتح" 3/ 529. للطبري بسند ضعيف بلفظ:"إنما جمع منزل لدلج المسلمين" وقال: سنده ضعيف. والله أعلم.

ص: 593

قول أحد من الأئمة، من ذَلِكَ قوله تعالى:{إِنَّ الصَّفَا وَالمَرْوَةَ} الآية [البقرة: 158]. وكل قد أجمع النظر أنه لو حج ولم يسع أن حجه قد تم، وعليه دم، فكان ما ترك من ذَلِكَ، فكذلك ذكر الله في المشعر الحرام

(1)

.

قلتُ: لا يسلم له الإجماع، فمذهب الشافعي أنه ركن لا يصح الحج إلا به، ولا يجبر بدم، وأما حديث عروة بن مضرس السالف

(2)

، فلا حجة فيه لإجماعهم عَلَى أنه لو بات بها ووقف ونام عن الصلاة، فلم يصلها مع الإمام حَتَّى فاتته أن حجه تام، فلما كان الحضور مع الإمام ليس من صلب الحج الذي لا يجزئ إلا به كان الموطن الذي تكون فيه تلك الصلاة التي لم تذكر في الحديث أحرى، إلا أن يكون كذلك فلم يتحقق بهذا الحديث ذكر الفرض إلا بعرفة.

قلتُ: وخلاف ابن حزم الذي قدمته لا يقدح في هذا الإجماع.

قَالَ الطحاوي: وفي حديث سودة ترك الوقوف أصلًا

(3)

، وكذلك في حديث ابن عباس وأسماء، وفي إباحة الشارع لهم ذَلِكَ للضعيف دليل عَلَى أن الوقوف بها ليس من صلب الحج كالوقوف بعرفة، ألا ترى أن رجلًا لو ضعف عن الوقوف بعرفة، وترك ذَلِكَ لضعفه حَتَّى طلع الفجر يوم النحر أن حجه قد فسد، ولو وقف بها بعد الزوال ثم نفر منها قبل الغروب أن أهل العلم مجمعون عَلَى أنه غير معذور للضعف الذي به، وأن طائفة منهم تقول: عليه دم، لتركه بقية الوقوف بعرفة، وطائفة منهم تقول: قد فسد حجه، ومزدلفة ليست

(1)

انظر: "شرح معاني الآثار" 2/ 209.

(2)

تقدم تخريجه.

(3)

انظر: "شرح معاني الآثار" 2/ 210.

ص: 594

كذلك؛ لأن من أوجب الوقوف بها يجيزون النفور عنها بعد وقوفه بها قبل فراغ وقتها، وهو قبل طلوع الشمس من يوم النحر لعذر الضعف، فلما ثبت أن عرفة لا يسقط فرض الوقوف بها للعذر، ولا يحل النفور عنها قبل وقته للعذر، وكانت مزدلفة ما يباح ذَلِكَ منها بالعذر، وثبت أن حكم مزدلفة ليس في حكم عرفة؛ لأن الذي يسقط للعذر ليس بواجب، والذي لا يسقط بالعذر هو الواجب.

وفي "شرح الهداية": لو ترك الوقوف بها بعد الصبح من غير عذر فعليه دم، وإن كان بعذر الزحام فتعجل السير إلى منى فلا شيء عليه.

فرع:

يحصل المبيت بساعة من النصف الثاني من الليل دون الأول عَلَى الأصح.

وقال ابن التين: الشروع من المبيت فيها النزول فيها والمقام بمقدار ما يرى أنه مقام، فإن منعه من النزول مانع، فقال محمد: عليه بدنة، وقال مالك: إن نزل بها ثم ارتحل عنها أول الليل عامدًا أو جاهلًا فلا شيء عليه، ومن جاءها بعد الفجر، قَالَ أشهب: في كتاب محمد: عليه الدم، وخالف ابن القاسم

(1)

.

فرع:

وقت الوقوف بالمشعر بعد صلاة صبح النحر إلى الإسفار. وعن مالك: لا يقفون إلى الإسفار ويدفعون قبله، وقال محمد: لا يجوز أن يؤخر حَتَّى يطلع، وأخَّر ابن الزبير الوقوف حَتَّى كادت الشمس تطلع؛ فقال ابن عمر: إني لأراه يريد أن يصنع كما صنع أهل

(1)

انظر: "النوادر والزيادات" 2/ 399.

ص: 595

الجاهلية، فدفع ابن عمر ودفع الناس بدفعه

(1)

، وفعله صلى الله عليه وسلم لمخالفة المشركين؛ لأنهم كانوا لا يفيضون حَتَّى تطلع الشمس. وقيل: الدفع بعد الإسفار الأول وقيل الإسفار الثاني، حكاهما ابن التين.

فائدة:

قوله: (فَمِنْهُمْ مَنْ يَقْدَمُ مِنًى لِصَلَاةِ الفَجْرِ) مقتضاه أن المتقدم كان قبل الصبح، وخصَّهم بذلك للضعف عن زحمة الناس، ومقتضاه الوقوف قبل الفجر؛ لأن الوقوف يسقط جملة. واختلفت المالكية: هل عليهم دم؟ فقال القاضي في "معونته": الظاهر أن لا دم

(2)

.

فائدة أخرى:

(الحطمة) في حديث عائشة: الزحمة، وحطمة السيل: دفاع معظمه.

وقولها: (مِنْ مَفْرُوحٍ بِهِ) أي: من شيء أفرح به. و (هنتاه): أي: يا هذِه، وقد سلف الكلام عليه في باب قوله تعالى:{الحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197]

(3)

.

(1)

"مصنف ابن أبي شيبة" 3/ 281 (15323) كتاب: الحج، باب: في وقت الدفعة من المزدلفة.

(2)

"المعونة" 1/ 378.

(3)

راجع شرح حديث (1560).

ص: 596