المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم   ‌ ‌36 - كِتَابُ الشُّفْعَةُ هي بضم الشين وإسكان - التوضيح لشرح الجامع الصحيح - جـ ١٥

[ابن الملقن]

فهرس الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

‌36 - كِتَابُ الشُّفْعَةُ

هي بضم الشين وإسكان الفاء، وممن ضبطه كذلك ابن التياني حيث قال: الشفعة على مثال ركبة. ونقل ابن التين عن بعضهم أنه لا يجوز غيره، قال صاحب "تثقيف اللسان": والفقهاء يضمون الفاء، والصواب الإسكان، وذكر بعض العلماء أن كل فعل يجوز تثقيله وتخفيفه إذا لم يكن مسموعًا.

قال ابن حزم: وهي لفظة شرعية لم تعرف العرب معناها قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما لم يعرف معنى الصلاة، والزكاة، والصيام، والكفارة، والنسل، وشبهها حتى بينها الشارع

(1)

.

واختلف في اشتقاقها في اللغة على أقوال، إما من الضم أو الزيادة أو التقوية والإعانة أو من الشفاعة، قال ابن دريد: لأنه يشفع ماله بها، والشافع: الطالب لغيره، يستشفع به إلى المطلوب منه

(2)

.

(1)

"المحلى" 9/ 89.

(2)

"جمهرة اللغة" 2/ 869.

ص: 9

وقال أبو العباس: الزيادة، وهو أن يشفعك فيما يطلب

(1)

. وقال ابن سيده: الشفعة في الشيء القضاء به لصاحبه

(2)

.

وهي في الشرع حق تملك قهري يثبت للشريك القديم على الحادث بسبب الشركة الذي تملك به؛ لدفع الضرر.

(1)

ذكر قول أبو العباس صاحب "لسان العرب" 4/ 229.

(2)

"المحكم" 1/ 233.

ص: 10

‌1 - باب الشُّفْعَةُ مَا لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا وَقَعَتِ الحُدُودُ فَلَا شُفْعَةَ

2257 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَاحِدِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما قَالَ: قَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا وَقَعَتِ الحُدُودُ وَصُرِّفَتِ الطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ. [انظر: 3313 - مسلم: 1608 - فتح: 4/ 436]

ذكر فيه حديث جَابِرِ: قَضى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا وَقَعَتِ الحُدُودُ وَصُرِّفَتِ الطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ.

وقد سلف في باب: بيع الشريك من شريكه واضحًا

(1)

.

وقام الإجماع على القول بهذا الحديث، وأوجبوا الشفعة للشريك في المشاع من الرباع، وكل ما تأخذه الحدود، ويحتمل القسمة، وإنما اختلفوا في غير الشريك كما سبق هناك، وأوجبها بعضهم إذا كانت الطرق واحدة، وفي هذا الحديث ما ينفي الشفعة للجار؛ لأن ضرب الحدود إذا نفي الشفعة كان الجار أبعد منه.

وفيه أيضًا:

نفيها في كل ما لا يحتمل القسمة ولا تضرب فيه الحدود، وذلك ينفيها في العروض والحيوان، والمروي عن عطاء شاذ كما سلف، والسنة المجمع عليها بالمدينة لا شفعة إلا في الأرضين والرباع.

واتفق مالك وأبو حنيفة والشافعي أن المسلم والذمي في أخذ

(1)

سلف برقم (2213) كتاب: البيوع.

ص: 11

الشفعة سواء

(1)

. وعن الشعبي أنه لا شفعة لذمي؛

(2)

لأنه صاغر، وهو قول الثوري وأحمد

(3)

.

حجة الأولين عموم الحديث، ولم يفرق بين مسلم وذمي، وأيضًا فإنما تجب بالشركة، لا يختلف فيه المسلم والذمي كالعتق، ألا ترى أنه لو أعتق شقصًا من عبد بينهما قُوِّم عليه كما يقوم على شريكه المسلم. والشفعة حق من حقوق الآدميين كسائر الحقوق التي هي لهم، مثل البيع والإجارة وغيرهما، والشفعة حق يتعلق بالمال، وضع لإزالة الضرر، كالرد بالعيب، فما وجب للمسلم فيه وجب للذمي مثله، وليس الصغار مما يدل على بطلان حقه؛ لأنه لا فرق بين المسلم والذمي في الحقوق المتعلقة بالأموال، كخيار الشرط في الأجل وإمساك الرهن.

تنبيهات:

أحدها: زعم بعضهم أن قوله: (فَإِذَا وَقَعَتِ الحُدُودُ إلى آخره) ليس مرفوعًا، إنما هو من كلام الراوي، وفيه نظر

(4)

.

ثانيها: خُصَّ العقار بالشفعة؛ لأنه أكثر الأنواع ضررًا، واتفقوا على

(1)

انظر "المدونة" 4/ 205، "ومختصر اختلاف العلماء" 4/ 244، "والإشراف" لابن المنذر 2/ 8.

(2)

رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" 4/ 521 (22728).

(3)

انظر "المغني" لابن قدامة 7/ 524.

(4)

روى هذا القول ابن أبي حاتم عن أبيه في "العلل" 1/ 478 واستدل على ذلك بقوله: لو كان الكلام: (فإذا وقعت الحدود .. ) من كلام النبي؛ لقال الراوي: وقال النبي: إذا وقعت الحدود

فلما لم نجد ذكر الحكاية عن النبي في الكلام الأخير استدللنا أن ذلك من كلام الراوي؛ وعقب ابن حجر على ذلك في "الفتح" 4/ 437 بقوله: الأصل أن كل ما ذكر في الحديث فهو منه حتى يثبت الإدراج بدليل.

ص: 12

أن لا شفعة في الحيوان والثياب والأمتعة إلا ما سلف عن عطاء، وفي رواية عن أحمد بثبوتها في الحيوان والبناء المفرد.

وفي "مصنف ابن أبي شيبة" عن ابن أبي مليكة: وسئل عن الشفعة فقال: قضى النبي صلى الله عليه وسلم في كل شيء: الأرض، والدار، والخادم، والجارية

(1)

.

قال ابن حزم: وإلى هذا رجع عطاء، وهو عنهما بأصح سند

(2)

.

وروي عن عمر بن هارون، عن سعيد، عن ابن جبير، عن ابن عباس مرفوعًا:"الشفعة في العبد وفي كل شيء" رده ابن عدي بعمر هذا،

(3)

. وروى الطحاوي عن ابن خزيمة، عن يوسف

(4)

بن عدي، ثنا أبو إدريس الأودي، عن ابن جريج، عن عطاء، عن جابر: قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل شيء

(5)

.

وعند ابن حزم أن الشفعة واجبة في كل جزء بيغ مشاعًا بين اثنين فصاعدًا، من أي شيء كان، مما يقسم ومما لا ينقسم، من أرض أو شجرة واحدة فأكثر، ومن عبد أو أمة أو ثوب أو سيف، أو من طعام أو حيوان أو أي شيء بيع. ورُفع إلى عبد الملك بن يعلى رجل باع نصيبًا له غير مقسوم، فلم يجزه.

(1)

"المصنف" 4/ 523 (22747).

(2)

"المحلى" 9/ 84.

(3)

رواه ابن عدي في "الكامل" 6/ 58 ورده يعمر بن هارون ثم قال: وهذا الحديث يعرف بعضان البلخي، عن عمرو بن هارون عن شعبة ووثب عليه ابن حميد رواه عن عمر بن هارون وكان كذابًا. ورواه البيهقي في "سننه" 6/ 110 وقال: تفرد به عمر بن هارون عن شعبة، وهو ضعيف لا يحتج به. ورواه الخطيب في "تاريخه" 11/ 190 وقال: عمر بن هارون متروك الحديث، والحديث باطل.

(4)

غدا في "شرح معاني الآثار" وفي "المحلى"، وفي الأصل يونس، وهو تحريف.

(5)

"شرح معاني الآثار" 4/ 126 (6015).

ص: 13

وقال ابن سيرين: لا بأس بالشريكين بينهما الشيء الذي لا يكال ولا يوزن أن يبيعه قبل أن يقاسمه. وقال الحسن: لا بيع فيه ولا في غيره حتى يقاسمه، إلا أن يكون لؤلؤة أو ما لا يقدر على قسمته. ولم

يرَ عثمان البتي شفعة لشريك

(1)

.

ورأى ابن شبرمة الشفعة في الماء، ورأى مالك الشفعة في التين والعنب والزيتون والفواكه في رءوس الشجر

(2)

.

وفي "الاستذكار" لابن عبد البر عن معمر: قلت لأيوب: أتعلم أحدًا كان يجعل في الحيوان شفعة؟ قال: لا. قال معمر: ولا أنا أعلم أحدًا جعل فيه شفعة.

وقال ابن شهاب: ليس في الحيوان شفعة

(3)

، وعن إبراهيم: لا شفعة إلا في دار أو أرض.

وعن عمر بن عبد العزيز أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة في الدين

(4)

.

وفي لفظ: "من ابتاع دينًا على رجل فصاحب الدين أولى إذا أدى مثل الذي أدى صاحبه".

(5)

.

ثالثها: قد أسلفت الكلام على حديث: "الجار أحق بصقبه" في

الباب المشار إليه قريبًا، وأخرجه ابن حزم من حديث عبد الله بن

(1)

"المحلى" 9/ 82 - 83.

(2)

السابق 9/ 87.

(3)

"الاستذكار" 21/ 309 وأثر معمر رواه عبد الرزاق في "المصنف" 8/ 86 (14423) وأثر ابن شهاب رواه عبد الرزاق أيضًا 8/ 89 (14434) من طريق ابن شهاب عن ابن المسيب.

(4)

رواه عبد الرزاق 8/ 88 (14433).

(5)

رواه عبد الرزاق في "المصنف" 8/ 88 (14431).

ص: 14

عمرو، ووهاه

(1)

، وأبو داود من حديث جابر بزيادة:"ينتظر به وإن كان غائبًا إذا كان طريقهما واحدًا"

(2)

، حسنه الترمذي مع الغرابة

(3)

، ووهاه أحمد

(4)

.

وأما حديث الحسن، عن سمرة رفعه:"جار الدار أحق بالدار" فصححه الترمذي، وذكر مثله عن أنس، وقال: الصحيح الأول

(5)

وخطأ النسائي رفعه

(6)

، وكذا الدارقطني، وابن حزم

(7)

.

(1)

"المحلى" 9/ 101، 103.

(2)

أبو داود (3518).

(3)

الترمذي (1369).

(4)

قال عبد الله ابن أحمد في "علل أبيه" 2/ 281 (2256): هذا حديث منكر وقال مرة: قال أبي: قال شعبة فيه: أَخِّر مثل هذا ودمر، وقال مرة أخرى: ليس هو في كتاب غندر. انظر "العلل" الإمام أحمد 1/ 545 (1292)، 1/ 333 (599) على الترتيب.

(5)

الترمذي (1368).

(6)

رواه النسائي كما في "تحفة الأشراف" 1/ 318 (1222).

(7)

"المحلى" 9/ 102 - 103.

ص: 15

‌2 - باب عَرْضِ الشُّفْعَةِ عَلَى صَاحِبِهَا قَبْلَ البَيْعِ

وَقَالَ الحَكَمُ: إِذَا أَذِنَ لَهُ قَبْلَ البَيْعِ فَلَا شُفْعَةَ لَهُ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: مَنْ بِيعَتْ شُفْعَتُهُ وَهْوَ شَاهِدٌ لَا يُغَيِّرُهَا فَلَا شُفْعَةَ لَهُ.

2258 -

حَدَّثَنَا المَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَيْسَرَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ قَالَ: وَقَفْتُ عَلَى سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، فَجَاءَ المِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى إِحْدَى مَنْكِبَيَّ، إِذْ جَاءَ أَبُو رَافِعٍ -مَوْلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا سَعْدُ، ابْتَعْ مِنِّي بَيْتَيَّ فِي دَارِكَ. فَقَالَ سَعْدٌ: وَاللهِ مَا أَبْتَاعُهُمَا. فَقَالَ المِسْوَرُ: وَاللهِ لَتَبْتَاعَنَّهُمَا. فَقَالَ سَعْدٌ: وَاللهِ لَا أَزِيدُكَ عَلَى أَرْبَعَةِ آلَافٍ مُنَجَّمَةٍ -أَوْ مُقَطَّعَةٍ-. قَالَ أَبُو رَافِعٍ: لَقَدْ أُعْطِيتُ بِهَا خَمْسَمِائَةِ دِينَارٍ، وَلَوْلَا أَنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"الجَارُ أَحَقُّ بِسَقَبِهِ". مَا أَعْطَيْتُكَهَا بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ، وَأَنَا أُعْطَى بِهَا خَمْسَمِائَةِ دِينَارٍ. فَأَعْطَاهَا إِيَّاهُ. [6977، 6178، 6980، 6981 - فتح: 4/ 437]

ثم ساق حديث عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ قَالَ: وَقَفْتُ عَلَى سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ .. الحديث. وذكر عرض أبي رافع بيته عليه. وقال أبو رافع: لقد أعطيت بها خمسائة دينار، ولولا أن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"الجار أحق بسقبه" ما أعطيتكها بأربعة الآف، وأنا أعطي بها خمسمائة دينار فأعطاها إياه.

الشرح:

تعليق الحكم رواه وكيع، عن سفيان، عن أشعث عنه: إذا أذن الشفيع للمشتري في الشراء فلا شفعة له

(1)

.

(1)

رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" 4/ 523 (22752) عن وكيع وبه.

ص: 16

وأثر الشعبي رواه ابن أبي شيبة عن وكيع، ثنا يونس بن أبي إسحاق، قال: سمعت الشعبي به. وفيه لا ينكر بدل: يغير

(1)

.

وحديث أبي رافع من أفراده، ويأتي في الحيل أيضًا

(2)

.

إذا تقرر ذلك فعرض الشفعة على الشريك قبل البيع فأبى إليه كما فعل أبو رافع، ألا ترى أنه حط من ثمن البيتين كثيرًا، رغبة في العمل بالسنة.

وفيه: ما كانوا عليه من الحرص على موافقة السنن والعمل بها، والسماحة بأموالهم في جنب ذلك، فإن عرض عليه الشفعة وأذن له الشريك في بيع نصيبه، ثم رجع فطالبه بالشفعة، فقالت طائفة: لا شفعة له، هذا قول الحكم، والثوري، وأبي عبيد وطائفة من أهل الحديث، واحتجوا بحديث جابر الذي أسلفناه هناك: لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه، فإن شاء أخذ، وإن شاء ترك، فإن باع ولم يؤذنه فهو أحق به، وهو دال على أن تركه تنقطع به شفعته، ومحال أن يقول صلى الله عليه وسلم إن شاء أخذ وإن شاء ترك!! فإذا ترك لا يكون لتركه معنى.

وقالت طائفة: إن عرض عليه الأخذ بالشفعة قبل البيع فأبى أن يأخذ، ثم باع فأراد أن يأخذ بشفعته، فذلك له، هذا قول مالك والكوفيين، ورواية عن أحمد، ويشبه مذهب الشافعي، كما ذكره ابن بطال، وهو مذهبه، وحكي أيضًا عن عثمان البتي، وابن أبي ليلى

(3)

.

واحتج أحمد وقال: لا تجب له الشفعة حتى يقع البيع، فإن شاء

(1)

"المصنف" 4/ 523 (22749).

(2)

سيأتي برقمي (6977 - 6978) باب: في الهبة والشفعة.

(3)

في الأصل الشافعي، وفي هامشها بخط ناسخها: صوابه الشعبي.

ص: 17

أخذ، وإن شاء ترك. واحتج بمثله ابن أبي ليلى.

واختلفوا في المسألة التي ذكرها الشعبي في الباب، فقال مالك: إذا

باع المشتري نصيبه من أجنبي وشريكه حاضر يعلم بيعه، فله المطالبة بالشفعة متى شاء، ولا تنقطع شفعته إلا بمضي مدة يعلم أنه في مثلها تارك.

واختلف في المدة، فقيل: سنة، وقيل: فوقها، وقيل: فوق ثلاث، وقيل: فوق خمس، حكاها ابن الحاجب.

وقال أبو حنيفة: إذا وقع البيع فعلم الشفيع به، فإن أشهد مكانه أنه على شفعته وإلا بطلت شفعته، وبه قال الشافعي. قال: إلا أن يكون له عذر مانع من طلبها، من حبس أو غيره فهو على شفعته.

حجة أبي حنيفة بأن سكوته رضا بإسقاط حقه، قياسًا على خيار البكر أنه على الفور. حجة مالك القياس على عتق الأمة تحت عبد عنده.

واستدل أهل العراق على شفعة الجوار بحديث الباب، غير أنهم جعلوا الشريك في المنزل أحق بها من الجار، فإن سلم الشفعة الشريك في الدار فالجار الملاصق أحقُّ بها من غيره، فإن كان بينهما طريق نافذ فلا حق له فيها، هذا قول أبي حنيفة وأصحابه، وتعلقوا بلفظ:"الجَارُ أَحَقُّ بِسَقَبِهِ"، وقالوا: لا يراد به الشريك؛ لأن الجار لا يقع إلا على غير الشريك، وزعموا أنه لا يوجد في اللغة أن الشريك يسمى جارًا، فخالفوا نص الحديث وتركوا أوله؛ لتأويل تأولوه في آخره، أما مخالفتهم نصه فهو أن أبا رافع كان شريك سعد في البيتين في داره؛ ولذلك دعاه إلى الشراء بأقل مما أعطاه غيره ممن ليس بشريك.

ص: 18

وفيه: أن أبا رافع سمى شريكه جارًا حين صرف معنى الحديث إلى الشريك، وهو راويه وأعلم بمعناه، ولو كان المراد غيره كما زعم أهل العراق ما سلم سعد لأبي رافع احتجاجه بالحديث، ولا استدلاله به، ولقال له سعد: ليس معناه كما تأولته، وإنما الجار المراد به غير الشريك، فلما لم يرد عليه تأويله، ولا أنكره المسور وهم الفصحاء وأهل اللسان المرجوع إليهم على أن معنى الحديث ما تأوله أبو رافع، وأن الجار فيه يراد به الشريك، وأما بيع أبي رافع من سعد بأقل مما أعطاه غيره فهو من باب الإحسان بالإجماع، وكل من قارب بدنه بدن صاحبه قيل له: جار في لسان العرب؛ ولذلك قالوا لامرأة الرجل:

جارة: لما بينهما من الاختلاط بالزوجية.

وقد جاء في حديث دية الجنين: أن حمل بن مالك قال: كنت بين جارتين لي -يريد امرأتيه- ومنه قول الأعشى لامرأته:

أجارتنا بيني فإنك طالقة.

فكذلك الشريك يسمى جارًا؛ لما بينهما من الاختلاط بالشركة.

وتأويل الحديث عند أهل الحجاز على وجهين:

أحدهما: أن يراد به الشريك، ويكون حقه الأخذ بالشفعة دون غيره، وهو الأولى لما تقرر.

ثانيهما: يحتمل أن يراد به الجار غير الشريك، ويكون حقه غير الشفعة، فيكون جارًا لرحبة يريد الارتفاق بها، ويريد مثل ذلك غير الجار، فيكون الجار أحق بصقبه، فإن لم يكن هذا فيكون ذلك فيما يجب للجيران بعضهم على بعض من حق الجوار، ومما للأجنبين من الكرامة والبر، وسائر الحقوق التي إذا اجتمع فيها الجار ومن ليس

ص: 19

بجار وجب إيثار الجار على من ليس بجار، من طريق مكارم الأخلاق وحسن الجوار، لا من طريق الفرض اللازم، فقد أوصى الرب جل جلاله بالجار فقال:{وَالجَارِ ذِي القُرْبَى وَالجَارِ الجُنُبِ} [النساء: 36] وقال رسوله صلى الله عليه وسلم: "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه"

(1)

وهذا الاحتمال ذكره ابن المنذر عن الشافعي وإذا احتمل هذا كله الحديث المجمل، ثم فسره حديث آخر بقوله:"فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة" كان المفسر أولى من المجمل.

تنبيهات:

أحدها: الصقب، بفتح الصاد والقاف، وهو بالصاد أكثر من السين كما قاله في "الجامع"، وهو: القرب، يقال: قد أصقب فلان فلانًا إذا قربه منه، فهو يصقبه وقد تصاقبا إذا تقاربا، قال ابن دريد: سقبت الدار سقوبًا، وأسقبت لغتان فصيحتان: قربت. وأبياتهم متساقبة. أي: متدانية

(2)

.

وقال ابن الأنباري في "زاهره": الصقب: الملاصقة. كأنه أراد ما يليه ويقرب منه، وفي "الغريبين" أراد بالجار الملاصق من غير شركة.

وفيه حديث علي: إذا وجد قتيل بين قريتين حمل على أصقبهما إليه

(3)

.

ثانيها: قال ابن التين قول الحكم قال به سفيان، وخالفهما مالك وقال: لا يلزم إذنه بذلك واستقرأ بعضهم إلزامه قياسًا على قوله: إن اشتريت عبد فلان فهو حر، أو تزوجت فلانة فهي طالق. قال: وهو

(1)

سيأتي برقم (6014، 6015) كتاب: الأدب، باب: الوصاءة بالجار. من حديث عائشة وابن عمر.

(2)

"جمهرة اللغة" 1/ 338 (ب س ق).

(3)

رواه عبد الرزاق 10/ 35 (18269).

ص: 20

في الشفعة أبين؛ لأنه لولا ذلك لم يشتر. قال: وقول الشعبي هو قول أبي حنيفة والشافعي وابن وهب، وقال مالك: هو على شفعته وإن جاوز السنة والسنة؛ لحديث قاله في "المدونة". وقد سلف الخلاف فيه في الباب وعن مالك هو على حقه أبدًا ما لم يوقف.

ثالثها: قوله (أحدَ مَنْكِبَيَّ) كذا بخط الدمياطي وذكره ابن التين بلفظ: إحدى. ثم قال: هكذا: إحدى، مؤنثًا. وأنكره بعضهم، وقال: المنكب: مذكر، والمنكب مجتمع ما بين العضد والكتف. وثبه ابن التين -أيضًا- أن بيع أبي رافع بدون ما أُعطي من باب الاشفاق دون اللزوم، وكذا تأويله في السقب لأجل الجوار.

قال الخطابي: وفيه: دليل على أن الشفعة ثابتة في الطرق كهي في البناء إذا كانت واسعة تحتمل القسمة، وقد أضاف البائع بيته إلى داره في قوله لسعد:(ابتع مني بيتي في دارك). وطريقهما لا محالة شائعة في العرصة وهي جزء من الدار، ولذلك استحق به الشفعة

(1)

.

وعن أحمد روايتان فيما حكاه ابن الجوزي في الطرق والعرصة، هل يجب فيهما الشفعة بانفرادهما؟

رابعها: ذهب ابن حزم إلى الأخذ بالشفعة متى شاء ولو بعد ثمانين سنة أو أكثر أو تلّفظ بالترك

(2)

، وعن أبي حنيفة: ثلاثة أيام، وبه يقول البتي، وابن شبرمة، والأوزاعي، وقال عبيد الله بن الحسن: لا يمهل إلا ساعة واحدة

(3)

، وعن الشعبي: يوم واحد، وعن عمر بن عبد العزيز: بضع عشرة سنة.

(1)

"أعلام الحديث" 2/ 1116.

(2)

"المحلى" 9/ 89.

(3)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 4/ 241 - 242.

ص: 21

قال ابن عبد البر: قضى عمر بن عبد العزيز بالشفعة بعد أربع عشرة سنة -يعني- للغائب

(1)

، قال: وأهل العلم مجمعون على أن الغائب إذا لم يعلم بالبيع ثم قدم فله الشفعة مع طول غيبته، واختلفوا إذا علم في سفره فقيل: يشهد، وإلا فلا شفعة له، وقيل: على شفعته

(2)

.

ومن الأحاديث الضعيفة -بسبب ابن البيلماني- حديث ابن عمر مرفوعًا: "لا شفعة لغائب ولا لصغير، ولا لشريك على شريكه إذا سبقه بالشراء"، و"الشفعة كحل العقال"

(3)

.

خامسها: الخلاف السالف في إسقاط الشفعة قبل ثبوتها جار فيمن أسقط شيئًا قبل وجوبه كإسقاط المواريث قبل الموت وإجازة الوارث الوصية قبل الموت، وإسقاط المرأة ما يجب لها من نفقة أو كسوة في السنة القابلة، ففي كل واحدة من هذِه المسائل خلاف.

سادسها: الشفعة ثابتة للبدوي والقروي والغائب والصغير إذا بلغ، والمجنون إذا أفاق والذمي.

وقال قوم من السلف: لا شفعة لمن لم يسكن المصر ولا للذمي.

قاله الشعبي والحارث

(4)

العكلي والبتي، وهو قول أحمد وقد تقدم.

زاد الشعبي: ولا لغائب.

(1)

"الاستذكار" 21/ 277 (31350)، ورواه عبد الرزاق في "المصنف" 8/ 81 (14397).

(2)

"الاستذكار" 21/ 276 (31344 - 31347).

(3)

رواهما ابن ماجه (2500 - 2501)، ورواهما ابن عدي في "الكامل" 7/ 384 حديثًا واحدًا في ترجمة ابن البيلماني وقال: وكل ما روي عن ابن البيلماني فالبلاء فيه من ابن البيلماني، وإذا روى عن محمد بن الحارث فهما ضعيفان.

(4)

رواها ابن أبي شيبة في "المصنف" 4/ 521 (22724).

ص: 22

وقال ابن أبي ليلى: لا شفعة لصغير

(1)

. "ولا تورث الشفعة". وهو قول ابن سيرين.

وعن الشعبي: لا تباع ولا توهب ولا تورث ولا تعار هي لصاحبها التي وقعت له

(2)

، وقال إبراهيم -فيما نقله الأثرم- لا تورث.

قال ابن حزم: قال عبد الرزاق: وهو قول الثوري

(3)

. وأبي حنيفة

وأحمد وإسحاق والحسن بن حي وأبي سليمان وقال مالك والشافعي: تورث

(4)

.

سابعها: الشفعة هل هي على عدد الرءوس أو على عدد الأنصباء إذا كانوا شركاء؟

فيه خلاف للعلماء، توقف في ذلك أحمد -كما حكاه الأثرم عنه- وقال: ما أدري.

وعندنا قولان أيضًا -رجح المتأخرون الثاني، وبه قال مالك والحسن بن حي وشريح وعطاء، ولما حكاهما الشافعي في "الأم" قال: بالأول أقول

(5)

.

ثامنها: قال أبو حنيفة: الهبة بلا ثواب لا شفعة فيها؛ لأنها عنده هبة ليست بيعًا، وكذا لا شفعة عنده في صراف ولا أجرة ولا جعل ولا خلع

(1)

انظر "المغني" 7/ 470، وقال مالك في "المدونة" 4/ 208: الشفعة لوليه فإن لم يكن فهو على شفعته إذا بلغ.

(2)

رواه عنه عبد الرزاق في "المصنف" 8/ 83 (14407).

(3)

"المصنف" 8/ 83.

(4)

"المحلى" 9/ 96، وانظر "المدونة" 4/ 216، "ومختصر اختلاف العلماء" 4/ 248 "والمغني" 7/ 510.

(5)

"الأم" 3/ 231.

ص: 23

ولا في شيء صولح عليه من دم عمد، وعندنا: تثبت في الهبة ذات الثواب لأنها معاوضة.

وهل يأخذ قبل قبض الموهوب؛ لأنه صار بيعًا أو لا؛ لأن الهبة لا تتم إلا بالقبض؟ فيه وجهان: أصحهما أولهما، وأشار الشافعي والماوردي إلى توقف الأخذ على دفع المتهب الثواب.

قال ابن عبد البر: وكان مالك يرى أولًا أن في الهبة الشفعة، وإن كانت بغير ثواب، ثم رجع عنه

(1)

.

(1)

"الاستذكار" 21/ 271 (31321).

ص: 24

‌3 - باب: أَيُّ الجِوَارِ أَقْرَبُ

؟

2259 -

حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ ح. وَحَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا شَبَابَةُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا أَبُو عِمْرَانَ قَالَ: سَمِعْتُ طَلْحَةَ بْنَ عَبْدِ اللهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضى الله عنها: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ لِي جَارَيْنِ، فَإِلَى أَيِّهِمَا أُهْدِي؟ قَالَ:"إِلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْكِ بَابًا". [2595، 6020 - فتح: 4/ 438]

حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، ثَنَا شُعْبَةُ ح وَحَدَّثَنِي عَلِيُّ، ثَنَا شَبَابَةُ، ثَنَا شُعْبَةُ، ثَنَا أَبُو عِمْرَانَ قَالَ: سَمِعْتُ طَلْحَةَ بْنَ عَبْدِ اللهِ، عَنْ عَائِشَةَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ لِي جَارَيْنِ، فَإِلَى أَيِّهِمَا أُهْدِي؟ قَالَ:"إِلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْكِ بَابًا".

هذا الحديث من أفراده، وحجاج هو ابن منهال السلمي مولاهم البصري الأنماطي أبو محمد مات سنة سبع عشرة ومائتين

(1)

، وعليُّ قيل: هو ابن سلمة بن عقبة أبو الحسن القرشي اللبقي مات سنة اثنتين وخمسين ومائتين. كذا بخط الدمياطي وسبقه به ابن طلحة فقال: يقال: هو ابن سلمة، وكذا قاله الكلاباذي وغيره، وقال الجياني: نسبه ابن السكن: ابن عبد الله. وهو ضعيف عندي

(2)

.

وشبابة: هو ابن موَّار مات سنة ست ومائتين

(3)

.

(1)

انظر ترجمته في "الجرح والتعديل" 3/ 167 ترجمة (711)، "ثقات ابن شاهين" ص 69 ترجمة (260) و"تهذيب الكمال" 5/ 457 (1128).

(2)

"تقييد المهمل" 3/ 1003، وقال الحافظ في "الفتح" 4/ 438: إن البخاري لم ينسبه وإنما نسبه من نسبه من الرواة بحسب ما ظهر له، ولذا رجح الحافظ أنه ابن المديني لأن العادة أن الإطلاق إنما ينصرف لمن يكون أشهر وابن المديني أشهر من اللبقي، ومن عادة البخاري إذا أطلق الرواية عن علي إنما يقصد به علي بن المديني.

(3)

انظر ترجمته في "ثقات ابن شاهين" ص 114 ترجمته (558)، و"تهذيب الكمال" 12/ 343 ترجمة (2684).

ص: 25

وأبو عمران: هو عبد الملك بن حبيب الجوني البصري، مات سنة ثماني وعشرين ومائة.

قال الدارقطني: في رواية سليمان بن حرب، عن شعبة: طلحة بن عبيد الله الخزاعي، وقال الحارث بن عبيد عن أبي عمران الجوني عن طلحة، ولم ينسبه. وقال أبو داود، سليمان بن الأشعث: قال شعبة

في هذا الحديث: عن طلحة رجل من قريش

(1)

.

وقال الإسماعيلي: قال يحيى بن يونس: عن شعبة أخبرني أبو عمران سمع طلحة عن عائشة. قال شعبة: وأظنه سمعه من عائشة، ولم يقل: سمعته منها.

وقولها: (أُهْدِي) هو بضم الهمزة من أهديت الهدية، وإنما أمر بالهدية إلى من قرب بابه؛ لأنه ينظر ما يدخل دار جاره وما يخرج منها، فإذا رأى ذلك أحب أن يشاركه فيه، وأنه أسرع إجابة لجاره

عندما ينوبه من حاجة إليه في أوقات الغفلة والغرة، فلذلك بدُئ به على من بعد بابه وإن كانت داره أقرب.

وهذا الحديث دال على أن اسم الجار يقع على غير الملاصق لأنه قد يكون له جار ملاصق، وبابه من سكة غير سكته وله جار بينه وبين بابه قدر ذراعين وليس بملاصق وهو أدناهما بابًا، وقد خرج أبو حنيفة عن ظاهر الحديث، فقال: إن الجار اللزيق إذا ترك الشفعة وطلبها الذي بجنبه وليس له حد إلى الدار ولا طريق لا شفعة له.

وعوام العلماء يقولون: إذا أوصى الرجل بجيرانه أُعطي اللزيق وغيره، إلا أبا حنيفة فإنه فارق عوام العلماء، وقال: لا يعطى

(1)

"سنن أبي داود"(5155).

ص: 26

إلا اللزيق وحده، وكان الأوزاعي يقول: الجار أربعون دارًا من كل جانب وقاله ابن شهاب وأصحابنا والحسن وأبو قلابة، وقال علي: من سمع النداء فهو جار.

ولابن حزم من حديث عائشة أنها قالت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حق الجوار؟ قال: "أربعون ذراعًا". ثم قال: ساقط

(1)

.

وفي "مراسيل أبي داود" عن ابن شهاب رفعه: "أربعون دارًا جار".

قال يونس: قلت لابن شهاب وكيف أربعون دارًا؟ قال: أربعون عن يمينه وعن يساره وخلفه وبين يديه

(2)

.

وقال آخرون -فيما حكاه ابن حزم-: هو كل من صلى معكم صلاة الصبح في المسجد. وقال بعضهم: هم أهل المدينة كلهم جيران

(3)

، ولا حجة في حديث الباب لمن أوجب الشفعة بالجوار؛ لأن عائشة إنما سألت عمن تبدأ به من جيرانها في الهدية، فأخبرها أنه من قرب بابه أولى بها من غيره، فدل بهذا أنه أولى بحقوق الجوار وكرم العشرة والبر ممن هو أبعد منه بابًا.

(1)

"المحلى" 9/ 102 - 103.

(2)

"المراسيل" ص 257 حديث رقم (350).

(3)

"المحلى" 9/ 100 - 101.

ص: 27

37

كتاب الإجارات

ص: 29

بسم الله الرحمن الرحيم

‌37 - كتاب الإجارات

‌1 - باب اسْتِئْجَارِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ

وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ القَوِىُّ الأَمِينُ} [القصص: 26] وَالخَازِنِ الأَمِينِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَعْمِلْ مَنْ أَرَادَهُ.

2260 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ قَالَ: أَخْبَرَنِي جَدِّي أَبُو بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: "الخَازِنُ الأَمِينُ الذِي يُؤَدِّي مَا أُمِرَ بِهِ طَيِّبَةً نَفْسُهُ أَحَدُ المُتَصَدِّقَيْنِ". [انظر: 1438 - مسلم: 1023 - فتح: 4/ 439]

2261 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ قُرَّةَ بْنِ خَالِدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي حُمَيْدُ بْنُ هِلَالٍ، حَدَّثَنَا أَبُو بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: أَقْبَلْتُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمَعِي رَجُلَانِ مِنَ الأَشْعَرِيِّينَ، فَقُلْتُ: مَا عَلِمْتُ أَنَّهُمَا يَطْلُبَانِ العَمَلَ. فَقَالَ: "لَنْ -أَوْ لَا- نَسْتَعْمِلُ عَلَى عَمَلِنَا مَنْ أَرَادَهُ". [3038، 4341، 4342، 4343، 4344، 4345، 6124، 6923، 7149، 7156، 7157، 7172 - مسلم: 1733 - فتح: 4/ 439]

ص: 31

ثم ساق حديث: أَبِي مُوسَى: "الخَازِنُ الأَمِينُ الذِي يُؤَدِّي مَا أُمِرَ بِهِ طيَبَةً نَفْسُهُ أَحَدُ المُتَصَدِّقَيْنِ".

وحديث أبي موسى أيضًا: "إنا لا نَسْتَعْمِلُ عَلَى عَمَلِنَا مَنْ أَرَادَهُ".

أما الآية فهي من قول ابنة شعيب صفوراء، وقيل: ابنة أخيه، وكان شعيب غيورًا فقال لها: من أين عرفت قوته وأمانته؟ قالت: أما قوته: فإنه قلَّ حجرًا لا يحمله إلا عشرة، أو أربعون، أو جملة من الناس، فئام منهم، أو لم أر رجلًا أقوى في السقاء منه، وأما أمانته: فإنه لما جاء معي مررت بين يديه، فقال: كوني خلفي ودليني على الطريق؛ لئلا تصفك الريح، وقيل: قال ذلك لما رأى عجزها، أو لم يرفع رأسه

(1)

.

قال مقاتل: ولدت صفوراء، ثم بعد نصف يوم ولدت غيراء، فهما توأم، وكان بين المكان الذي سقى فيه الغنم وبين شعيب ثلاثة أميال.

وذكر السهيلي أن شعيبًا هو ابن يثرون بن صيفون بن مدين بن إبراهيم، ويقال: شعيب بن ملكاين، وقيل: لم يكن من مدين، وإنما هو من القوم الذين آمنوا بإبراهيم حين نجا من النار. وابنتاه كياء وصفوراء، وأكثر الناس على أنهم ابن بنتا شعيب، وقيل: إن شعيبًا من عنزة بن أسد بن ربيعة بن نزار.

وروي أن سلمة بن سعد لما انتسب للنبي صلى الله عليه وسلم إلى عنزة قال عليه السلام:

"نعم الحي عنزة، رهط شعيب، وأختان موسى"

(2)

فإن صح فعنزة إذًا ليس هو ابن أسد بن ربيعة، فإن معدًّا كان بعد شعيب بنحو من ألف سنة.

(1)

رواه الطبري في "تفسيره" 10/ 62، 61 (27376)، (27389).

(2)

قطعة من حديث رواه البزار كما في "كشف الأستار"(2828)، الطبري في "الكبير" 7/ 55 (6364) وقال الهيثمي في "المجمع" 10/ 51 فيه من لم أعرفه.

ص: 32

قلت: وقيل اسم إحداهما شرفا، وقيل: صفيراء بنتا يثرون، والتي تزوجها الصغرى.

وقولها: ({اسْتَأْجِرْهُ}) أي: لرعي غنمك، والقيام عليها؛ {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ القَوِيُّ} على حرزماشيتك وإصلاحها، {الأَمِينُ} عليها فلا يخاف منه فيها خيانة

(1)

، وسيأتي -إن شاء الله تعالى- في الشهادات من أفراده عن ابن عباس أن موسى صلى الله عليه وسلم قضى أقصى الأجلين.

وقول البخاري: (والخازن الأمين، ومن لم يستعمل من أراده)، قد ساقهما بعد، وسلف في الزكاة بعضه مع حديث أبي موسى واعترض الإسماعيلي فقال: ليس في هذا معنى الإجارة.

وقال الداودي: ذكره للخازن ليس من هذا الباب؛ لأنه لم يذكر فيه إجارة، وإنما أراد أن الخازن لا شيء له في المال، وإنما هو أجير، فلذا أدخله هنا.

وقال ابن بطال: إنما أدخله فيه؛ لأن من استؤجر على شيء فهو

أمين فيه، وليس عليه في شيء منه ضمان إن فسد أو تلف، إلا أن يضيع تضييعًا معلومًا، فعليه الضمان.

قال مالك: لا يضمن المستأجر ما يعاب عليه، والقول قوله في ذلك مع يمينه. وروى أشهب عنه فيمن استأجر جفنة أنه لها ضامن إلا أن يقيم بينة على الضياع.

قال المهلب: ولما كان طلب العمالة دليلًا على الحرص وجب أن يحترس من الحريص عليها، وقد أخبر عليه السلام أنه لا يعان من طلب العمل على ما يطلبه، وإنما يعان عليه من طلب به، وإذا كان هذا في علم الله

(1)

قاله الطبري في "التفسير" 10/ 61.

ص: 33

معروفًا وعلى لسان نبيه، وجب ألا يستعمل من علم أنه لا يعان عليه ممن طلبه، فوجب على العاقل ألا يدخل في ذلك إلا بضم السلطان له إليه، إذا علم أنه سيطلع به

(1)

.

وقوله: ("أَحَدُ المُتَصَدِّقَيْنِ") روي بالتثنية والجمع، قال ابن التين: والأول أبين.

وقوله: ("إنا لَا نَسْتَعْمِلُ") وفي بعض النسخ "إنا إن نستعمل" وفي أخرى: "إن أو لا نستعمل" وصحح عليها الدمياطي.

قال ابن التين: "أو لا" ضبط في بعض النسخ بضم الهمزة وفتح الواو وتشديد (اللام)

(2)

، فعل مستقبل من ولَّى، وفي بعضها بفتح الهمزة وسكون الواو، كأنه شك هل قال: إن، أو لا.

وحديث أبي موسى دال لما ترجم له قال تعالى: {وَالعاملِينَ عَلَيهاَ} [التوبة: 60].

وفيه: أنه لا يؤمر مريد الإمارة من وال أو قاض أو غيرهما، وهي نهي، وظاهره التحريم كما قال القرطبي، لما قال: لا يسأل الإمارة، وإنا والله لا نولي على عملنا هذا أحدًا يسأله ويحرص عليه

(3)

.

(1)

"شرح ابن بطال" 6/ 385.

(2)

في الأصل: الواو. ولعل المثبت هو الصحيح.

(3)

"المفهم" 4/ 16.

ص: 34

‌2 - باب رَعْيِ الغَنَمِ عَلَى قَرَارِيطَ

2262 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ المَكِّيُّ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَا بَعَثَ اللهُ نَبِيًّا إِلَّا رَعَى الغَنَمَ". فَقَالَ: أَصْحَابُهُ: وَأَنْتَ؟ فَقَالَ: "نَعَمْ، كُنْتُ أَرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لأَهْلِ مَكَّةَ". [فتح: 4/ 441]

ذكر فيه حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَا بَعَثَ اللهُ نَبِيًّا إِلَّا رَعَى الغَنَمَ" فَقَالَ أَصْحَابُهُ: وَأَنْتَ؟ قَالَ: "نَعَمْ، كُنْتُ أَرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لأَهْلِ مَكَّةَ" هذا الحديث من أفراده.

ومعناه: أن ذلك تقدمة وتوطئة في تعريف سياسة العباد، واعتبار بأحوال رعاة الغنم وما يجب على راعيها من اختيار الكلأ لها وإيرادها أفضل مواردها، واختيار المسرح والمراح لها، وجبر كسرها، والرفق بضعيفها ومعرفة أعيانها، وحسن تعاهدها، فإذا وقف على هذِه الأمور كانت مثالًا لرعاية العباد حكمة بالغة، وخصت بالغنم لأنها أسرع انقيادًا، وهي من دواب الجنة. وقام الإجماع على

جواز الاستئجار للرعي مدة معلومة بأجرة معلومة، ولا ضمان عليه إذا لم يفرط كالوكيل.

وهل القراريط في الحديث اسم مكان أو نقد؟ قولان:

أحدهما: اسم مكان بقرب جياد، قاله الحربي، ويدل له أن العرب لم تكن تعرف القيراط، وأخبر أن مصر تفتح ويذكر فيها القيراط؛ ولهذا لم يبوب البخاري على الاستئجار لرعيها؛ لأنه لم يذكر الأجرة، ويجوز أن يكون تركه إعظامًا لجنابه، ولما رواه ابن ماجه قال:"كنت أرعاها لأهل مكة بالقراريط" ثم قال: قال سويد بن سعيد: يعني كلَّ شاة

ص: 35

بقيراط

(1)

، وهو دليل القول الثاني.

قال ابن الجوزي: والذي قاله الحربي أصح، وصححه ابن ناصر الحافظ أيضًا قال: وأخطأ سويد في تفسيره، وكان ذلك منه وسِنُّه نحو العشرين فيما استقرئ من كلام ابن إسحاق والواقدي وغيرهما.

(1)

ابن ماجه (2149).

ص: 36

‌3 - باب اسْتِئْجَارِ المُشْرِكِينَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ أَوْ لَمْ يُوجَدْ أَهْلُ الإِسْلَامِ

وَعَامَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَهُودَ خَيْبَرَ.

2263 -

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا هِشَامٌ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: وَاسْتَأْجَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ رَجُلًا مِنْ بَنِي الدِّيلِ ثُمَّ مِنْ بَنِي عَبْدِ بْنِ عَدِيٍّ هَادِيًا خِرِّيتًا -الخِرِّيتُ: المَاهِرُ بِالهِدَايَةِ-، قَدْ غَمَسَ يَمِينَ حِلْفٍ فِي آلِ العَاصِ بْنِ وَائِلٍ، وَهْوَ عَلَى دِينِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، فَأَمِنَاهُ فَدَفَعَا إِلَيْهِ رَاحِلَتَيْهِمَا، وَوَعَدَاهُ غَارَ ثَوْرٍ بَعْدَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، فَأَتَاهُمَا بِرَاحِلَتَيْهِمَا، صَبِيحَةَ لَيَالٍ ثَلَاثٍ، فَارْتَحَلَا، وَانْطَلَقَ مَعَهُمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ، وَالدَّلِيلُ الدِّيلِيُّ فَأَخَذَ بِهِمْ أَسْفَلَ مَكَّةَ وَهْوَ طَرِيقُ السَّاحِلِ. [انظر: 476 - فتح: 4/ 242]

ثم ساق حديث عَائِشَةَ: اسْتَأْجَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ رَجُلًا مِنْ بَنِي الدِّيلِ ثُمَّ مِنْ بَنِي عَبْدِ بْنِ عَدِيٍّ هَادِيًا خِرِّيتًا -الخِرِّيتُ: المَاهِرُ بِالهِدَايَةِ- وَهْوَ عَلَى دِينِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ

الحديث.

ثم ترجم عليه:

ص: 37

‌4 - باب إِذَا اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا لِيَعْمَلَ لَهُ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أَوْ بَعْدَ شَهْرٍ أَوْ بَعْدَ سَنَةٍ جَازَ، وَهُمَا عَلَى شَرْطِهِمَا الَّذِي اشْتَرَطَاهُ إِذَا جَاءَ الأَجَلُ

2264 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها -زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم- قَالَتْ: وَاسْتَأْجَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ رَجُلًا مِنْ بَنِي الدِّيلِ، هَادِيًا خِرِّيتًا وَهْوَ عَلَى دِينِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، فَدَفَعَا إِلَيْهِ رَاحِلَتَيْهِمَا، وَوَاعَدَاهُ غَارَ ثَوْرٍ بَعْدَ ثَلَاثِ لَيَالٍ بِرَاحِلَتَيْهِمَا صُبْحَ ثَلَاثٍ. [انظر: 476 - فتح 4/ 443]

وساق بعضه، وهو حديث الهجرة السالف

(1)

واستئجار المشركين جائز عند الضرورة وغيرها عند عامة الفقهاء؛ لأن ذلك ذلة وصغار لهم، وتقييد البخاري في ترجمة ذلك بما إذا لم يوجد أهل الإسلام؛ لأن العرض كان كذلك، فإنما عامل أهل خيبر على العمل في أرضها إذ لم يوجد من المسلمين من ينوب منابهم في عمل الأرض، حتى قوي الإسلام واستغنى عنهم، فأجلاهم عمر بن الخطاب، ويجوز أن يكون أراد على وجه الاستحباب، نعم يحرم على المسلم إجارته نفسه للكافر؛ لأن فيه ذلةً وصغارًا.

وفيه: ائتمان أهل الشرك على السر والمال إذا عهد منهم وفاء ومروءة كما استامن رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الدليل المشرك؛ لما كانوا عليه من بقية دين إبراهيم، وإن كان من الأعداء، لكنه علم منه

(1)

سلف برقم (476) كتاب الصلاة، باب: المسجد يكون في الطريق غير ضرر بالناس، وفي مواضع أخرى.

ص: 38

مروءة، ائتمنه من أجلها على سره في الخروج من مكة، وعلى الناقتين اللتين دفعهما إليه ليوافيهما بهما بعد ثلاث في غار ثور.

وقوله: (فأمناه)، أي: ائتمناه، ثلاثي.

وفيه: استئجار المسلم الكافر على هداية الطريق واستئجار الرجلين الواحد على عمل واحد لهما.

وعامر بن فهيرة المذكور في الحديث هو مولى الصديق، ويقال: إنه من العرب استرق وهو غلام فاشتراه الصديق فأعتقه، ويقال: إنه من الأزد، وكان فيمن يعذب بمكة في الله، شهد بدرًا وأحدًا، وقتل يوم بئر معونة سنة أربع من الهجرة، وهو الذي حكت عائشة عنه أنه كان إذا أخذته الحمى يقول:

قد رأيت الموت قبل ذوقه

إن الجبان حتفه من فوقه

(1)

واسم الدليل عبد الله فيما ذكره ابن إسحاق

(2)

. وقال مالك في "العتبية" اسمه أريقط.

وفيه: إباحة استئجار الرجل على أن يدخل في العمل بعد أيام معلومة فيصح عقدها قبل العمل، وقياسه أن يستأجر منزلًا معلومًا عدة معلومة قبل مجئ السنة بأيام، وأجاز مالك وأصحابه استئجار الأجير على أن يعمل بعد يوم أو يومين أو ما قرب هذا إذا أنقده الأجرة.

واختلفوا فيما إذا استأجره ليعمل إلى بعد شهر ولم ينقده، فأجازه مالك وابن القاسم. وقال أشهب: لا يجوز، ووجهه أنه لا يدري أيعيش

(1)

انظر ترجمته في "الثقات" لابن حبان 3/ 292، و"تهذيب التهذيب" 2/ 270.

(2)

رواه ابن هشام في "السيرة" 2/ 98.

ص: 39

المتسأجر أو الدابة، وهو من باب منع التصرف في الراحلة والأجير، واتفقا على أنه لا يجوز ذلك في البيع، وهو عندهم في الأجير المعين والراحلة المعينة، وأما إذا كان كثيرًا مضمونًا فيجوز فيه ضرب الأجل البعيد وتقديم رأس المال، ولا يجوز أن يتأخر رأس المال إلا اليومين والثلاثة؛ لأنه إذا تأخر كان من باب بيع الدين بالدين، وتفسير الكراء المضمون أن يستأجره على حمولة بعينها على غير دابة معينة، والإجارة المضمونة أن يستأجره علي بناء بيت لا يشترط عليه عمل يده ويصف له طوله وعرضه وجمع آلته على أن المؤنة فيه كلها على العامل مضمونًا عليه حتى يتمه، فإن مات قبل تمامه كان ذلك

في ماله، ولا يضره بعد الأجل.

فإن قلت: من أين أن العمل يقع بعد مدة؟

قلت: اعترض الإسماعيلي فقال: ترجم عليه البخاري ظن ظنًّا فعمل عليه من أين في الخبر أنهما استأجراه على أن لا يعمل إلا بعد ثلاث، بل في الخبر أنهما استاجراه وابتدأ في العمل من وقته بتسليمهما إليه راحلتيهما يرعاهما ويحفظهما، فكان خروجه خروجهما بعد ثلاث على الراحلتين اللتين قام بأمرهما إلى ذلك الوقت.

وأجاب ابن المنير فقال: قاس البخاري الأجل البعيد على القريب بطريقة لا قائل بالفصل، فجعل الحديث دليلًا على الجواز مطلقًا. وعند مالك يفصل بين الأجل الذي لا تتغير السلعة في مثله، وبين الأجل الذي تتغير السلعة في مثله فيمتنع

(1)

.

وكذا اعترض ابن التين فقال: لم يأت في الحديث ما ترجم له، وهو

(1)

"المتواري" ص 253.

ص: 40

ممنوع أن يستأجر رجلًا ليبتدئ في عمل بعد شهر أو سنة للغرر في ذلك، ولا ندري هل يعيش الرجل، واغتفر الأمد اليسير، لأن العطب فيه نادر والغالب السلامة. وأخذ الداودي إجازة ذلك من معاملة أهل خيبر، وهو فاسد؛ لأن العمل وقته لا من وقتٍ بعده.

فائدة: قد فسر (الخريت) في الحديث (بالماهر بالهداية) أي: الحاذق من فوقها كما قال صاحب "العين" قيل: سمى بذلك؛ لأنه يهتدي لمثل خرت الإبرة -أي ثقبها- وقيل: كشفة المفازة

(1)

وحكى الكسائي: خرتنا الأرض: إذا عرفناها ولم تخف علينا طرقها.

ثانيه: قوله: (قد غمس يمين حلف في آل العاصي بن وائل) أي: دخل في حلفهم وغمس نفسه في ذلك، وآل العاصي هم بنو سهم رهط من قريش.

(1)

"العين" 4/ 237.

ص: 41

‌5 - باب الأَجِيرِ فِي الغَزْوِ

2265 -

حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَعْلَى، عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ رضي الله عنه قَالَ: غَزَوْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم جَيْشَ العُسْرَةِ فَكَانَ مِنْ أَوْثَقِ أَعْمَالِي فِي نَفْسِي، فَكَانَ لِي أَجِيرٌ، فَقَاتَلَ إِنْسَانًا، فَعَضَّ أَحَدُهُمَا إِصْبَعَ صَاحِبِهِ، فَانْتَزَعَ إِصْبَعَهُ، فَأَنْدَرَ ثَنِيَّتَهُ فَسَقَطَتْ، فَانْطَلَقَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَهْدَرَ ثَنِيَّتَهُ وَقَالَ:"أَفَيَدَعُ إِصْبَعَهُ فِي فِيكَ تَقْضَمُهَا -قَالَ: أَحْسِبُهُ قَالَ:- كَمَا يَقْضَمُ الفَحْلُ؟ ". [انظر: 1848 - مسلم: 1674 - فتح: 4/ 443]

2266 -

قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ؛ وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ جَدِّهِ بِمِثْلِ هَذِهِ الصِّفَةِ، أَنَّ رَجُلًا عَضَّ يَدَ رَجُلٍ، فَأَنْدَرَ ثَنِيَّتَهُ، فَأَهْدَرَهَا أَبُو بَكْرٍ رضى الله عنه. [فتح: 4/ 443]

ذكر فيه حديث يَعْلَى بْنِ أمَيَّةَ قَالَ: غَزَوْتُ مَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم جَيْشَ العُسْرَةِ فَكَانَ مِنْ أَوْثَقِ أَعْمَالِي فِي نَفْسِي، فَكَانَ لِي أَجِيرٌ، فَقَاتَلَ إِنْسَانًا، فَعَضَّ أَحَدُهُمَا إِصْبَعَ صَاحِبِهِ، فَانْتَزَعَ إِصْبَعَهُ، فَأَنْدَرَ ثَنِيَّتَهُ فَسَقَطَتْ، فَانْطَلَقَ إِلَى النَّبِيِّ فَأَهْدَرَ ثَنِيَّتَهُ

الحديث.

قَالَ

(1)

ابن جُرَيْجٍ؛ وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ جَدِّهِ بِمِثْلِ هذِه القصة، أَنَّ رَجُلًا عَضَّ يَدَ رَجُلٍ، فَأنْدَرَ ثَنِيَّتَهُ، فَأهْدَرَهَا أَبُو بَكْرٍ.

الكلام عليه من أوجه:

أحدها: هذا الحديث أخرجه مسلم كما سيأتي

(2)

، وهذا التعليق

(1)

فوقها في الأصل: سند معلق.

(2)

مسلم برقم (1674) كتاب: القسامة والمحاربين، باب: الصائل على نفس الأسنان أو عضوه ..

ص: 42

أسنده الحاكم أبو أحمد في "كناه" وابن عبد البر من حديث أبي عاصم، عن ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، عن أبيه، عن حده، عن أبي بكر أن رجلًا .. فذكره

(1)

.

وعبد الله بن أبي مليكة هو عبد الله بن عبيد الله بن عبد الله بن أبي مليكة زهير بن عبد الله بن جدعان قاضي الطائف لابن الزبير، توفي بمكة سنة سبع عشرة ومائة. وقد خالف البخاري ابن منده وأبو نعيم وأبو عمر فرووه في كتب الصحابة في ترجمة أبي مليكة زهير بن عبد الله من حديث ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، عن أبيه عن جده، عن أبي بكر كما أسلفناه.

قال أبو عمر: أبو مليكة اسمه زهير، وهو جد ابن أبي مليكة، له صحبة، يعد في أهل الحجاز.

ثم ساقه كما ذكرناه عن ابن جريج، عن ابن أبي مليكة عن أبيه عن جده

(2)

، قال: وكذا ذكره الزبير بن أبي بكر، هل المراد الصحبة في جده عبد الله أو زهير؟ فإن كان زهيرًا فمتصل أو غيره فمنقطع فيما بينه وبين أبي بكر. وعلى كل حال فما رواه البخاري منقطع في موضعين كما بيناه

(3)

.

ثانيها: وقع هنا أن القصة لأجير يعلق كما قدمناه. وفي مسلم أن يعلق قاتل رجلًا. وصحح الحفاظ ما في البخاري. قال النووي: ويحتمل أنهما. قضيتان جرتا ليعلى ولأجيره في وقت أو وقتين

(4)

،

(1)

"الاستيعاب" 4/ 324 ترجمة (3216).

(2)

المصدر السابق.

(3)

قول المصنف أن البخاري أخرجه منقطعًا قد ذكره مغلطاي قبل، وقال الحافظ في "الفتح" 4/ 444: وليس كما زعم.

(4)

"مسلم بشرح النووي" 11/ 160.

ص: 43

ويروى: يده، ويروى: ذراعه. وقال القرطبي: رواية البخاري أولى إذ لا يليق بيعلى ذلك مع جلالته وفضله

(1)

. قلت: ويجوز ان يكون قتال يعلق للرجل، أي: الأجير وكنى يعلى عن نفسه.

ثالثها: (جيش العسرة) يريد: تبوك، ويعرف أيضًا بالفاضحة، وقيل لها العسرة؛ لأن الحر كان شديدًا، والجدب كثير، وكانت في رجب.

قال ابن سعد: في يوم الخميس

(2)

، وعن ابن التين: خرج في أول يوم منه، ورجع في سلخ شوال، وقيل: في رمضان.

رابعها: معنى (أندر ثنيته) سقطت بجذب، والثنية مقدم الأسنان، وللإنسان أربع ثنايا، ثنتان فوق وثنتان أسفل، والعض بالأسنان، والقضم بالقاف ثم ضاد معجمة الأكل بأطراف الأسنان، قاله ابن

سيده

(3)

.

وفي "الواعي": أصل القضم

(4)

: الدق والكسر، ولا يكون إلا في الشيء الصلب وماضيه على ما ذكر ثعلب بكسر العين، وحكى ثابت وغيره فتحها، وقيل: هو الأكل بأدنى الأضراس، والفحل فحل

الإبل. وأهدرها: أسقطها وأبطلها، يقال: أهدر السلطان دم فلان هدرا أباحه، وهدر أيضًا: هدر الدم نفسه.

خامسها: الحديث صريح في إهدار ثنية العاض، وبه قال الشافعي

(1)

"المفهم" 5/ 32.

(2)

رواها ابن سعد في "الطبقات" 2/ 167.

(3)

"المحكم" 6/ 114.

(4)

ورد بهامش الأصل: قال الشيخ محيي الدين في "شرح مسلم": في هذا الحديث: يقضمها كما يقضم الفحل بفتح الضاد فيهما على اللغة الفصيحة. فمفهومه أن فيها لغة أخرى وهي الكسر في المضارع، والله أعلم. وهو هنا الذي حكاه الشيخ عن ثابت وغيره.

ص: 44

وأبو حنيفة وجماعة؛ لأنه صائل، وبه قال ابن وهب وخالف مالك ولعله لم يبلغه، وأغرب أبو عبد الملك فقال: كأنه لم يصح الحديث عنده؛ لأنه أتى من المشرق. وقيل: لفساد الزمان. ولم يقل أحد بالقصاص فيه فيما أعلم.

ونقل القرطبي عن بعض أصحابهم إسقاط الضمان، ثم قال: وضمنه الشافعي، وهو مشهور مذهب مالك وما ذكره غريب عن الشافعين ثم قال: وترك بعض أصحابنا القول بالضمان عما إذا أمكنه نزع يده برفق فانتزعها بعنف، قال: وحمل بعض أصحابنا الحديث على أنه كان متحرك الثنايا وستكون لنا عودة إليه في بابه إن شاء الله تعالى.

سادسها: استئجار الأجير للخدمة، وكفاية مؤنة العمل في الغزو وغيره سواء، وأما القتال فلا يستأجر عليه؛ لأن على كل مسلم أن يقاتل حتى تكون كلمة الله هي العليا، وسيأتي هل يسهم للأجير أم لا في موضعه، وذكر البخاري الباب. هنا؛ لأن عمل الجهاد كله بر فلا بأس أن يؤاجر الرجل نفسه في سبب منه كالخدمة أو ما يتعلق به.

وفيه: ذكر الرجل بصالح عمله لقوله: (فكان من أوثق أعمالي في نفسي).

ص: 45

‌6 - باب مَنِ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَبَيَّنَ لَهُ الأَجَلَ وَلَمْ يُبَيِّنِ العَمَلَ

لِقَوْلِهِ: {إِنِّى أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَىَّ هَاتَيْنِ} إِلَى قَوْلِهِ: {عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [القصص: 27 - 28] فُلَان يَأْجُرُ فُلَانًا: يُعْطِيهِ أَجْرًا

(1)

، وَمِنْهُ فِي التَّعْزِيَةِ أَجَرَكَ اللهُ. [فتح: 4/ 444]

الشرح:

قال الإسماعيلي: المعنى {عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي} : تكون لي أجيرًا هذِه المدة، أو تأجرني نفسك هذِه المدة، فأما أن تعطيني أجرًا من حيث لا يعلمه الآجر فلا.

واعترض المهلب فقال: ليس كما ترجم البخاري؛ لأن العمل عندهم معلوم من سقي وحرث ورعي واحتطاب وما شاكل أعمال البادية ومهنة أهلها، فهذا متعارف وإن لم يبين له أشخاص الأعمال ولا مقاديرها، مثل أن يقول له: إنك تحرث كذا من السنة، وترعى كذا من السنة، فهذا إنما هو على المعهود من خدمة البادية، والذي عليه المدار في هذا أنه قد عرفه بالمدة وسماها له، وإنما الذي لا يجوز عند الجميع أن تكون المدة مجهولة والعمل مجهول غير معهود، لا يجوز حتى يعلم.

قال: والنكاح على أعمال البدن لا يجوز عند أهل المدينة؛ لأنه غرر، وما وقع من النكاح على مثل هذا الصداق لا نأمر به اليوم؛ لظهور الغرر في طول المدة، وهو مخصوص لموسى عليه السلام عند أكثر

(1)

"لسان العرب" 1/ 31 مادة: (أجر).

ص: 46

العلماء؛ لأنه قال: {إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ} ولم يعينها، وهذا لا يجوز إلا بالتعيين، وقد اختلف العلماء في ذلك فقال مالك: إذا تزوجه على أن يؤاجرها نفسه سنة أو أكثر يفسخ النكاح إن لم يكن دخل بها، فإن دخل ثبت النكاح بمهر المثل.

وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: إن كان حرًّا فلها مهر مثلها، وإن كان عبدًا فلها خدمة سنة.

وقال الشافعي: النكاح جائز على خدمته إذا كان وقتًا معلومًا. وعُلِّل قول مالك بأنه لم يبلغه أن أحدًا من السلف فعل ذلك، والنكاح موضوع على الاتباع والاقتداء.

وقال الداودي: هو جائز؛ لأنَّ من أبي أن يجيزه يجيز النكاح بما هو أبعد منه، يجيزه على العبد الذي ليس معين ولا موصوف، وعن يحيى: كراهته.

قال ابن المنير: ظن المهلب بالبخاري أنه أجاز أن يكون العمل مجهولًا، وليس كما ظن، إنما أراد البخاري: أن التنصيص على العمل باللفظ غير مشترط، وأن المتبع المقاصد لا الألفاظ، فيكفي دلالة العموم عليها كدلالة النطق، خلافًا لمن غلب التعبد على العقود فراعى اللفظ

(1)

.

فائدة: قوله تعالى: {أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ} [القصص: 28] أي: ذلك واجب لك عليَّ في تزويجي إحدى ابنتيك، فما قضيت من هذين الأجلين فليس لك علي مطالبة بأكثر منه، والله على ما أوجبه كل واحد منا على نفسه شهيد وحفيظ.

(1)

"المتواري" ص 253.

ص: 47

وروي عن ابن عباس مرفوعًا: "سألت جبريل: أي الأجلين قضى موسى؟ فقال: أتمهما وأكملهما". يعني: عشر سنين، وقد أسلفت ذلك عن رواية البخاري في الشهادات

(1)

. والعدوان: المجاوزة في الظلم، ونحوه الظلم الصراح.

(1)

في هامش الأصل: يعني يأتي الحديث في الشهادات.

ص: 48

‌7 - باب إِذَا اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا عَلَى أَنْ يُقِيمَ حَائِطًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ جَازَ

2267 -

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ، أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ: أَخْبَرَنِي يَعْلَى بْنُ مُسْلِمٍ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ -يَزِيدُ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ- وَغَيْرُهُمَا قَالَ: قَدْ سَمِعْتُهُ يُحَدِّثُهُ عَنْ سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: حَدَّثَنِي أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "فَانْطَلَقَا فَوَجَدَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ". قَالَ سَعِيدٌ بِيَدِهِ هَكَذَا، وَرَفَعَ يَدَيْهِ فَاسْتَقَامَ، قَالَ يَعْلَى: حَسِبْتُ أَنَّ سَعِيدًا قَالَ: فَمَسَحَهُ بِيَدِهِ فَاسْتَقَامَ، قَالَ:{لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الكهف: 77]. قَالَ سَعِيدٌ: أَجْرًا نَأْكُلُهُ. [انظر: 74 - مسلم: 2380 - فتح: 4/ 445]

ذكر حديث أُبَيِّ بْنِ كَعْب في قوله تعالى: {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} . قَالَ سَعِيدٌ بِيَدِهِ هَكَذا، وَرَفَعَ يَدَيْهِ فَاسْتَقَامَ، قَالَ يَعْلَى: حَسِبْتُ أَنَ سَعِيدًا قَالَ: فَمَسَحَهُ بِيَدِهِ فَاسْتَقَامَ، قَالَ:{لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الكهف: 77]. قَالَ سَعِيدٌ: أَجْرًا نَأْكُلُهُ.

معني "يَنْقَضَّ": يسقط وينهدم، وقرئ:(ينقاض)، أي: ينقطع من أصله، ويقال للبئر إذا انهارت: انقاضت -بالضاد المعجمة، وقرئ بالمهملة مع الألف- أي: ينشق طولًا

(1)

، وإرادته: ميله، وهو من

فصيح كلامهم.

ومنه الحديث: "لاتتراءى ناراهما"

(2)

أي: لا يكون بموضع لو وقف

(1)

انظر "مختصر شواذ القرآن" ص 84.

(2)

قطعة من حديث رواه أبو داود (2646)، والترمذي (1604) وغيرهم وصححه الألباني في "الإرواء"(1207).

ص: 49

فيه إنسان لرأى النار الأخرى، ومنه:{وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} [الأعراف: 198] وفي قوله: {يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} [الكهف: 77] حجة على من أنكر المجاز، وتبويب البخاري قال أن هذا جائز لجميع الناس.

قال ابن التين: إنما كان ذلك للخضر. ولعلَّ البخاري أراد أنه يبني له حائطًا من الأصل، أو يصلح له حائطًا.

وقال المهلب: إنما جاز الاستئجار عليه؛ لقول موسى عليه السلام: {لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الكهف: 77] والأجر لا يتخذ إلا على عمل معلوم، وإنما يكون له الأجر لو عامله عليه قبل عمل عمله، وأما بعد أن أقامه من غير إذن صاحبه فلا يجبر صاحبه على غرم شيء.

قال ابن المنذر: وفيه: جواز الإجارة على البناء. وفي قوله: حملونا بغير نول: جواز أخذ الأجرة من الركبان في البحر.

ص: 50

‌8 - باب الإِجَارَةِ إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ

2268 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَثَلُكُمْ وَمَثَلُ أَهْلِ الكِتَابَيْنِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ أُجَرَاءَ فَقَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ غُدْوَةَ إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ عَلَى قِيرَاطٍ؟ فَعَمِلَتِ اليَهُودُ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ إِلَى صَلَاةِ العَصْرِ عَلَى قِيرَاطٍ؟ فَعَمِلَتِ النَّصَارَى ثُمَّ، قَالَ مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنَ العَصْرِ إِلَى أَنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ عَلَى قِيرَاطَيْنِ؟ فَأَنْتُمْ هُمْ، فَغَضِبَتِ اليَهُودُ وَالنَّصَارَى، فَقَالُوا: مَا لَنَا أَكْثَرَ عَمَلًا، وَأَقَلَّ عَطَاءً؟ قَالَ: هَلْ نَقَصْتُكُمْ مِنْ حَقِّكُمْ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَذَلِكَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ". [انظر: 557 - فتح: 4/ 445]

ذكر فيه حديث ابن عمر: "مَثَلُكُمْ وَمَثَلُ أَهْلِ الكِتَابَيْنِ

" الحديث بطوله.

وقد سلف في الصلاة

(1)

، وترجم عليه أيضًا:

(1)

سلف برقم (557) كتاب مواقيت الصلاة، باب من أدرك ركعة من العصر قبل الغروب.

ص: 51

‌9 - باب الإِجَارَةِ إِلَى صَلَاةِ العَصْرِ

2269 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل بْنُ أَبِي أُوَيسٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِك، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ -مَوْلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ- عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِنَّمَا مَثَلُكُمْ وَاليَهُودُ وَالنَّصَارى كَرَجُلِ اسْتَعْمَلَ عُمَّالًا فَقَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ؟ فَعَمِلَتِ اليَهُودُ عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ، ثُمَّ عَمِلَتِ النَّصَارى عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ، ثُمَّ أَنْتُمُ الذِينَ تَعْمَلُونَ مِنْ صَلَاةِ العَصْرِ إِلَى مَغَارِبِ الشَّمْسِ عَلَى قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ، فَغَضِبَتِ اليَهُودُ وَالنَّصَارى وَقَالُوا: نَحْنُ أَكْثَرُ عَمَلًا وَأقَلُّ عَطَاءً. قَالَ: هَلْ ظَلَمْتُكُمْ مِنْ حَقِّكُمْ شَيْئًا؟ قَالُوا: لَا. فَقَالَ: فَذَلِكَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ". [انظر: 557 - فتح: 4/ 446]

ثم قال:

ص: 52

‌10 - باب الإِجَارَةِ مِنَ العَصْرِ إِلَى اللَّيْلِ

2271 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ العَلَاءِ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَثَلُ المُسْلِمِينَ وَاليَهُودِ وَالنَّصَارَى كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ قَوْمًا يَعْمَلُونَ لَهُ عَمَلًا يَوْمًا إِلَى اللَّيْلِ عَلَى أَجْرٍ مَعْلُومٍ، فَعَمِلُوا لَهُ إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ، فَقَالُوا: لَا حَاجَةَ لَنَا إِلَى أَجْرِكَ الَّذِي شَرَطْتَ لَنَا، وَمَا عَمِلْنَا بَاطِلٌ، فَقَالَ لَهُمْ: لَا تَفْعَلُوا، أَكْمِلُوا بَقِيَّةَ عَمَلِكُمْ، وَخُذُوا أَجْرَكُمْ كَامِلًا، فَأَبَوْا وَتَرَكُوا، وَاسْتَأْجَرَ أَجِيرَيْنِ بَعْدَهُمْ فَقَالَ لَهُمَا: أَكْمِلَا بَقِيَّةَ يَوْمِكُمَا هَذَا، وَلَكُمَا الَّذِى شَرَطْتُ لَهُمْ مِنَ الأَجْرِ. فَعَمِلُوا حَتَّى إِذَا كَانَ حِينُ صَلَاةِ العَصْرِ قَالَا: لَكَ مَا عَمِلْنَا بَاطِلٌ، وَلَكَ الأَجْرُ الَّذِي جَعَلْتَ لَنَا فِيهِ. فَقَالَ لَهُمَا: أَكْمِلَا بَقِيَّةَ عَمَلِكُمَا، فَإِنَّ مَا بَقِيَ مِنَ النَّهَارِ شَيْءٌ يَسِيرٌ. فَأَبَيَا، وَاسْتَأْجَرَ قَوْمًا أَنْ يَعْمَلُوا لَهُ بَقِيَّةَ يَوْمِهِمْ، فَعَمِلُوا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمْ حَتَّى غَابَتِ الشَّمْسُ، وَاسْتَكْمَلُوا أَجْرَ الفَرِيقَيْنِ كِلَيْهِمَا، فَذَلِكَ مَثَلُهُمْ وَمَثَلُ مَا قَبِلُوا مِنْ هَذَا النُّورِ". [انظر: 558 - فتح: 4/ 447]

وساق فيه حديث أبي موسى مثله: وراجع ذلك من ثم.

ولنذكر هنا بعض فوائد لطول العهد به فنقول:

فيه: ذكر الإجارة الصحيحة بالأجر المعلوم إلى الوقت المعلوم، ولولا جوازه ما ضرب به الشارع المثل.

وقال المهلب: إنما هو مثل ضربه الشارع لمن خلق لعبادته، فشرع له دين موسى؛ ليعملوا الدهر كله بما يأمرهم به وينهاهم عنه، فعملوا إلى بعث عيسى، فأمرهم باتباعه، فأبوا وتبرءوا مما جاء به عيسى، وعمل آخرون به على أن يعملوا باقي الدهر بما يؤمرون به وينهون عنه، فعملوا حتى بعث الله نبينا، فدعاهم إلى العمل بما جاء فعصوا وأبوا وقطعوا العمل، فعمل المسلمون بما جاء به، ويعملون به إلى يوم

ص: 53

القيامة، فلهم أجر عمل الدهر كله؛ لأنهم أتموه بالعبادة كإتمام النهار الذي كان استؤجر عليه كله أول طبقة.

وقوله: ("مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ غُدْوَةَ إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ") قدر لهم مدة إعمال اليهود، ولهم أجرهم عليه إلى أن نسخ الله شريعتهم بعيسى، ثم قدر عمل مدة هذا الشرع، وله أجر قيراط، فعملت إلى أن نسخ نبينا، فتفضل على المسلمين فقال:"من يعمل بقية النهار إلى الليل، وله قيراطان" فقال المسلمون: نحن نعمل إلى انقطاع الدهر بشريعة محمد، فهذا الحديث وجه العمل بمدد الشرائع، والحديث الثاني وجه العمل الدهر كله.

وبقي أن من عمل [من]

(1)

اليهود إلى أن نسخ دين موسى، ثم أنتقل وآمن بعيسى، وعمل بشريعته أن له أجره مرتين، وكذلك من عمل من النصارى بدين عيسى مدة شرعه، ثم آمن بمحمد وعمل بشريعته كان له أجره مرتين كما أن للمسلمين أجرهم مرتين، يعني: كأجر اليهود والنصارى قبلهم؛ لأنهم أعطوا قيراطين على أجر النهار، كما أعطي اليهود والنصارى قيراطين على أكثره، وإنما ذلك من أجل إيمان المسلمين بموسى وعيسى، وإن لم يعملوا بشريعتهما؛ لأن التصديق عمل.

فإن قلت: فما معنى قول اليهود والنصارى: "نحن أكثر عملًا وأقل عطاء"، وبين نصف النهار إلى العصر ثلاث ساعات، كما بين العصر إلى الغروب، وإنما كان يكون معنى الحديث ظاهرًا لو قال ذلك اليهود

خاصة؛ لأنهم عملوا نصف النهار على قيراط، وذلك ست ساعات،

(1)

زيادة يقتضيها السياق.

ص: 54

وعملت النصارى ثلاثًا على قيراط.

قلت: فيه أجوبة:

أحدها: أن يكون قوله: "نحن أكثر عملًا وأقل عطاء" من قول اليهود خاصة، ويكون من قول النصارى:"نحن أقل عطاء"، وإن كانوا متقاربين مع المسلمين في العمل، فيكون الحديث على العموم في اليهود، وعلى الخصوص في النصارى.

وقد يأتي في الكلام إخبار عن جملة، والمراد بعضها، كقوله تعالى:{يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22)} [الرحمن: 22] وإنما يخرج من الملح خاصة، ومثله:{فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا} [الكهف: 61]، والناسي كان يوشع وحده، يدل على ذلك قوله لموسى:{فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ} [الكهف: 63]

ثانيهما: أنه عام فيهما على أن كل طائفة منهما أكثر عملًا وأقل عطاءً، فعملت النصارى إلى صلاة العصر، وليس فيه أنه إلى أول وقته، فنحمله على أنها عملت إلى آخر وقته، قاله ابن القصار.

ثالثها: أن نصف النهار وقت الزوال، وهو في آخر السادسة، والعصر في أول العاشرة، بعد مضي شيء يسير منها، فزادت المدة التي بين الظهر إلى العصر على المدة التي بين العصر إلى الليل بمقدار ما بين آخر الساعة التاسعة وأول العاشرة، وإن كان ذلك القدر لا يتبينه كثير من الناس، وهي زيادة معلومة بالعمل.

واستدل به أبو حنيفة على أن آخر وقت الظهر يمتد إلى مصير الظل مثليه؛ لأنه جعل زمننا قدر ما بين العصر إلى الغروب، وهو أقل من الربع؛ لأنه لم يبق من الدين ربع الزمان، وقد قال عليه السلام: "بعثت أنا

ص: 55

والساعة كهاتين"

(1)

وأشار بالسبابة والوسطى، والتفاوت بينهما أقل من الربع، وأيضًا فقد عملت النصارى الربع، وكانوا أكثر عملًا، فاقتضى أن يكون ذلك أكثر زمنًا؛ لأن كثرة العمل تقتضي طول الزمن.

وأجاب أصحابنا بأن الحديث إنما قصد به بيان ذكر الأعمال لا الأوقات، وحديث الوقتين قصد به بيان الأوقات، وما قصد به بيان الحكم مقدم، وأيضًا فالمراد: أن هذِه الأمة تلي قيام الساعة، ولا نبي بعد نبيها، فهي تليها كما تلي صلاة العصر الغروب، وكما تلي السبابة الوسطى، ولم يرد بيان ما بقي من الدنيا؛ لأن الله تعالى قد استأثر بعلم ذلك، وما بين السبابة والوسطى نصف سبع.

وقوله في حديث أبي موسى: ("قالوا لك: ما عملنا باطل") هو في حق من بدل، وحديث ابن عمر فيمن لم يبدل.

وقوله: ("فَغَضِبَتِ اليَهُودُ وَالنَّصَارى") يعني: كفارهم؛ لأن مؤمنهم لا يغضب من حكم الله.

قال الداودي: وحديث أبي موسى أبين وأوضح في المعنى.

وقوله: ("إِنَّمَا مَثَلُكُمْ وَاليَهُودِ وَالنَّصَارى") كذا هو بالعطف على المضمر المخفوض بغير إعادة.

وقوله: ("وَاسْتَكْمَلُوا أَجْرَ الفَرِيقَيْنِ كلاهما"). قال ابن التين: صوابه كليهما؛ لأنه تأكيد لمجرور.

(1)

سيأتي برقم (6504) كتاب الرقاق، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"بعثت أنا والساعة كهاتين".

ص: 56

‌11 - باب إِثْمِ مَنْ مَنَعَ أَجْرَ الأَجِيرِ

2270 -

حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ سَعِيدِ، بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"قَالَ اللهُ تَعَالَى: ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِهِ أَجْرَهُ". [انظر: 2227 - فتح: 4/ 447]

ذكر فيه حديث أبي هريرة السالف قريبًا في باب: إثم من باع حرًّا

(1)

: ومصداقه في كتاب الله تعالى: {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} [الفتح: 10] وقد وبخ الله من عاهد ثم نكث، ومن باع حرًّا فقد ألزمه الذلة والصغار، ومنعه التصرف فيما أباح الله له، وهذا ذنب عظيم ينازع الله به في عباده.

ومن منع أجيرًا أجره فقد ظلمه حين استخدمه، واستحل عرقه بغير أجر، وخالف سيرة الله تعالى في عباده؛ لأنه استعملهم، ووعدهم على عبادته جزيل الثواب وعظيم الأجر، وهو خالقهم.

وهذا الباب آخره ابن بطال بعد الباب الآتي، ولعله أنسب من ذكره بين الإجارة

(2)

إلى صلاة العصر والإجارة من العصر إلى الليل، ويبقي الكل على نسق.

(1)

سلف برقم (2227) كتاب: البيوع.

(2)

"شرح ابن بطال" 6/ 398 أتى به ابن بطال بعد باب: من استاجر أجيرًا فترك الأجير. وأتى به المصنف هنا بعد باب: الإجارة من العصر إلى الليل. وهذا الباب في "اليونينية" بعد باب: الإجارة إلى صلاة العصر، وقبل باب: الإجارة من العصر إلى الليل فلينتبه لذلك.

ص: 57

‌12 - باب مَنِ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَتَرَكَ أَجْرَهُ، فَعَمِلَ فِيهِ المُسْتَأْجِرُ فَزَادَ، وْمَنْ عَمِلَ فِي مَالِ غَيْرِهِ فَاسْتَفْضَلَ

2272 -

حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، حَدَّثَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "انْطَلَقَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَتَّى أَوَوُا المَبِيتَ إِلَى غَارٍ فَدَخَلُوهُ، فَانْحَدَرَتْ صَخْرَةٌ مِنَ الجَبَلِ فَسَدَّتْ عَلَيْهِمُ الغَارَ، فَقَالُوا: إِنَّهُ لَا يُنْجِيكُمْ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ إِلَّا أَنْ تَدْعُوا اللهَ بِصَالِحِ أَعْمَالِكُمْ. فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمُ: اللَّهُمَّ كَانَ لِي أَبَوَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ، وَكُنْتُ لَا أَغْبِقُ قَبْلَهُمَا أَهْلًا وَلَا مَالًا، فَنَأَى بِي فِي طَلَبِ شَيْءٍ يَوْمًا، فَلَمْ أُرِحْ عَلَيْهِمَا حَتَّى نَامَا، فَحَلَبْتُ لَهُمَا غَبُوقَهُمَا فَوَجَدْتُهُمَا نَائِمَيْنِ وَكَرِهْتُ أَنْ أَغْبِقَ قَبْلَهُمَا أَهْلًا أَوْ مَالًا، فَلَبِثْتُ وَالقَدَحُ عَلَى يَدَيَّ أَنْتَظِرُ اسْتِيقَاظَهُمَا حَتَّى بَرَقَ الفَجْرُ، فَاسْتَيْقَظَا فَشَرِبَا غَبُوقَهُمَا، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَفَرِّجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ. فَانْفَرَجَتْ شَيْئًا لَا يَسْتَطِيعُونَ الخُرُوجَ". قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "وَقَالَ الآخَرُ: اللَّهُمَّ كَانَتْ لِي بِنْتُ عَمٍّ كَانَتْ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَيَّ، فَأَرَدْتُهَا عَنْ نَفْسِهَا، فَامْتَنَعَتْ مِنِّي حَتَّى أَلَمَّتْ بِهَا سَنَةٌ مِنَ السِّنِينَ، فَجَاءَتْنِي فَأَعْطَيْتُهَا عِشْرِينَ وَمِائَةَ دِينَارٍ عَلَى أَنْ تُخَلِّيَ بَيْنِي وَبَيْنَ نَفْسِهَا، فَفَعَلَتْ حَتَّى إِذَا قَدَرْتُ عَلَيْهَا قَالَتْ: لَا أُحِلُّ لَكَ أَنْ تَفُضَّ الخَاتَمَ إِلَّا بِحَقِّهِ. فَتَحَرَّجْتُ مِنَ الوُقُوعِ عَلَيْهَا، فَانْصَرَفْتُ عَنْهَا وَهْيَ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ وَتَرَكْتُ الذَّهَبَ الَّذِي أَعْطَيْتُهَا، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ. فَانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ، غَيْرَ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ الخُرُوجَ مِنْهَا". قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "وَقَالَ الثَّالِثُ: اللَّهُمَّ إِنِّي اسْتَأْجَرْتُ أُجَرَاءَ، فَأَعْطَيْتُهُمْ أَجْرَهُمْ، غَيْرَ رَجُلٍ وَاحِدٍ تَرَكَ الَّذِي لَهُ وَذَهَبَ، فَثَمَّرْتُ أَجْرَهُ حَتَّى كَثُرَتْ مِنْهُ

ص: 58

الأَمْوَالُ، فَجَاءَنِي بَعْدَ حِينٍ فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللهِ، أَدِّ إِلَيَّ أَجْرِي. فَقُلْتُ لَهُ: كُلُّ مَا تَرَى مِنْ أَجْرِكَ مِنَ الإِبِلِ وَالبَقَرِ وَالغَنَمِ وَالرَّقِيقِ. فَقَالَ يَا عَبْدَ اللهِ، لَا تَسْتَهْزِئْ بِي. فَقُلْتُ: إِنِّي لَا أَسْتَهْزِئُ بِكَ. فَأَخَذَهُ كُلَّهُ فَاسْتَاقَهُ فَلَمْ يَتْرُكْ مِنْهُ شَيْئًا، اللَّهُمَّ فَإِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ. فَانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ فَخَرَجُوا يَمْشُونَ".

ذكر فيه حديث ابن عمر في قصة الصخرة، وقد سلف قريبًا في باب إذا اشترى شيئًا لغيره بغير إذنه فرضي

(1)

.

وقوله هنا: ("فَشَرِبَا غَبُوقَهُمَا") قال الداودي: أي عشاءهما. قال: والغبوق: العشاء. واعترض ابن التين فقال: الذي ذكره أهل اللغة أن الغبوق شرب العشي

(2)

، تقول منه: غبقت القوم غبقًا. قلت: واسم الشراب: الغبيق. قال صاحب "الأفعال": غبقت الرجل، ولا يقال: أغبقته

(3)

.

وقوله: ("فكَرِهْتُ أَنْ أَغْبِقَ قَبْلَهُمَا أَهْلًا أَوْ مَالًا") الأهل: زوجاته وبنوه، والمال: الرقيق والدواب، ذكره الداودي. قال ابن التين: وليس للدواب هنا معني يذكر به.

(1)

سلف برقم (2215) كتاب: البيوع.

(2)

"مقاييس اللغة" مادة: غبق.

(3)

في هامش الأصل:

قال النووي في "شرح مسلم": أغبق -بفتح الهمزة وضم الباء- يقال: غبقت الرجل بفتح الباء أغبقه بضمها مع فتح الهمزة، ثم قال وهذا الذي ذكرته من ضبطه متفق عليه في كتب اللغة والغريب والشروح وقد يصحفه بعض من لا أنس له فيقول: أغبق بضم الهمزة وكسر الباء وهذا غلط انتهى. وقال في "المطالع" يقال: غبقت الضيف إذا أسقيته الغبوق أغبقه ثلاثي. وضبطه الأصيلي رباعيا بضم الهمزة والصواب ثلاثي.

ص: 59

ومعنى "بَرَقَ الفَجْرُ" ظهر الضياء.

وقوله: ("فَفَرِّجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ") وقال فيما مضى: "فافرج عنا فرجة" فإن يكن هذا محفوظًا فاستجيب بعض دعائه، وأبقى الله للآخر عوض ما منع، ويحتمل أن يكون تأخر بعض الإجابة، ذكره ابن التين.

و ("أَلَمَّتْ بِهَا سَنَةٌ") أي: أتت عليها سنة شديدة أحوجتها، ووقع هنا عشرون ومائة، وهناك مائة وتركه لها صدقة، فحصل أجر الصدقة والعفة.

وقوله: ("وَتَرَكْتُ الذَّهَبَ الذِي أَعْطَيْتُهَا") وفي رواية أبي ذر "التي" وهي لغة في تأنيث الذهب.

وفيه: خوفها مقام ربها.

وقوله في أوله: "فَنَأى بِي طَلَبِ شَيْءٍ يَوْمًا" النَّأْي: البعد، ومنه {وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} ويقلب أنى.

وقوله: ("فَلَمْ أُرحْ

(1)

عَلَيْهِمَا") قيل هو من أراح، رباعي، أي: لم آتهما في الرواح وهو العشي بشيء، وتجره في أجرة الأجير على الإحسان منه، وإن كان عليه مقدار العمل خاصة، فلما أنماه له وقبل ذلك الأجير، راعى الله له حق تفضله، فعجل له المكافأة في الدنيا بأن خلصه الله بذلك من هلكة الغار، والله تعالى يأجره على ذلك في الدار الآخرة، قاله المهلب.

(1)

في هامش الأصل تعليق نصه: قال في "المطالع": أرح بضم الهمزة للأصيلي ولغيره: "ولم أرُح" أي: أرجع بالماشية، قال القاضي: هما سواء يقال: راح إبله وأراحها. قلت: وليس كما قال؛ لأنه ضم الراء، فلو كسرها لكان كما قال، انتهى معناه.

ص: 60

وقد أسلفنا الخلاف فيمن اتجر في مال غيره، وأن طائفة قالوا: يطيب له الربح إذا رد رأس المال إلى صاحبه، وسواء كان غاصبًا للمال أو وديعة عنده متعديًا فيه، وهو قول عطاء وربيعة ومالك والليث والثوري والأوزاعي وأبي يوسف، واستحب مالك والثوري والأوزاعي تنزهه عنه، ويتصدق به.

وطائفة قالت: يرد المال، ويتصدق بالربح كله، ولا يطيب له منه شيء، وهو قول أبي حنيفة وزفر ومحمد بن الحسن.

وطائفة قالت: الربح لرب المال وهو ضامن لما تعدى فيه، وهو قول ابن عمر وأبي قلابة، وبه قال أحمد وإسحاق

(1)

. وقال الشافعي: إن اشترى السلعة بالمال بعينه فالربح ورأس المال لرب المال، وإن اشتراها بمال بغير عينه قبل أن يستوجبها بثمن معروف المقدار غير معروف بالعين، ثم نقد المال المغصوب منه أو الوديعة، فالربح له، وهو ضامن لما استهلك من مال غيره.

وادعى ابن بطال أن أصح هذِه الأقوال قول من رأى أن الربح للغاصب والمتعدي، قال: والحجة له أن العين قد صارت في ذمته، وهو وغيره في ماله سواء إذ لا غرض للناس في أعيان الدراهم والدنانير، وإنما غرضهم في تصرفهم فيها، ولو غصبها من رجل وأراد أن يدفع إليه غيرها مثلها وهي قائمة في يده لكان له ذلك على أصل قول مالك، وإن كان ذلك فربحها له. وحديث الباب حجة له، ألا ترى أن الأجير لما رأى ذلك قال: أتستهزئ بي؛ فدل أن السنة

(1)

انظر: "الهداية" 3/ 338، "المنتقى" 5/ 181، "الإشراف" 2/ 137 - 139، "الشرح الكبير" 15/ 286، "الإنصاف" 15/ 286 - 287.

ص: 61

كانت عندهم أن الربح للمعتدي، وأنه لا حق فيه لرب المال، وأخبر بذلك الشارع، فأقره ولم ينسخه

(1)

.

قلت: تعجبه من كثرة ما رأى مع قلة أجرته، وقد روي عن عمر ما يدل على أن الربح بالضمان، روى مالك في "الموطأ" أن أبا موسى أسلف عبد الله وعبيد الله ابني عمر بن الخطاب من بيت المال، فاشتريا به متاعًا وحملاه إلى المدينة فربما فيه، فقال عمر: أديا المال وربحه. فقال عبيد الله: ما ينبغي لك هذا، لو هلك أو نقص ضمناه. فقال رجل: لو جعلته قرضًا يا أمير المؤمنين؛ قال نعم، فأخذ منهما نصف الربح

(2)

، فلم ينكر عمر قول ابنه: لو هلك المال أو نقص ضمناه، فلذلك طاب له ربحه، ولا أنكره أحد من الصحابة بحضرته.

(1)

"شرح ابن بطال" 6/ 396 - 397.

(2)

"الموطأ" ص 427.

ص: 62

‌13 - باب مَنْ آجَرَ نَفْسَهُ لِيَحْمِلَ عَلَى ظَهْرِهِ، ثُمَّ تَصَدَّقَ بِهِ وَأُجْرَةِ الحَمَّالِ

2273 -

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَمَرَ بِالصَّدَقَةِ انْطَلَقَ أَحَدُنَا إِلَى السُّوقِ، فَيُحَامِلُ فَيُصِيبُ المُدَّ، وَإِنَّ لِبَعْضِهِمْ لَمِائَةَ أَلْفٍ، قَالَ: مَا نُرَاهُ إِلَّا نَفْسَهُ. [انظر: 1415 - مسلم: 1018 - فتح: 4/ 450]

ذكر حديث أَبِي مَسْعُودٍ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَمَرَنا بِالصَّدَقَةِ انْطَلَقَ أَحَدُنَا إِلَى السُّوقِ، فَيُحَامِلُ فَيُصِيبُ المُدَّ، وَإِنَّ لِبَعْضِهِمْ لَمِائَةَ أَلْفٍ، قَالَ: مَا تَرَا إِلَّا نَفْسَهُ.

هذا الحديث تقدم في الزكاة

(1)

، وأبو مسعود هو عقبة بن عمرو البدري.

وفيه: صدقة المقل، والصدقة من الكسب بالعمل، وذم المال الذي لا ينفق منه.

وإنما الحديث على الترغيب في الصدقة، لقوله:{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا} [الإنسان: 8] الآية، وقوله:{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9].

وفيه: ما كان عليه سلف هذِه الأمة من الحرص على اتباع أوامر الشارع، والمبادرة إلى ما ندب إليه وحض عليه من الطاعة، وما كانوا عليه من التواضع والمهنة لأنفسهم في الأعمال الشاقة عليهم؛ لينالوا بذلك رضا ربهم، ولذلك وصفهم الله أنهم {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} ، وكل هذا كان في أول الإسلام قبل الفتوح.

(1)

سلف برقم (1416) باب: اتقوا النار ولو بشق تمرة.

ص: 63

فكان إذا حدث به أبو مسعود قال: قد وسع الله عليهم لقوله: (وَإِنَّ لِبَعْضِهِمْ لَمِائَةَ أَلْفٍ).

فأدرك الحالتين معًا وقد ظن المحدث أن أبا مسعود أراد بذلك نفسه، وقد سلف في الزكاة: وإن لبعضهم اليوم لمائة ألف

(1)

.

(1)

سبق تخريجه.

ص: 64

‌14 - باب أَجْرِ السَّمْسَرَةِ

وَلَمْ يَرَ ابْنُ سِيرِينَ وَعَطَاءٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَالحَسَنُ بِأَجْرِ السِّمْسَارِ بَأْسًا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا بَأْسَ أَنْ يَقُولَ: بِعْ هَذَا الثَّوْبَ فَمَا زَادَ عَلَى كَذَا وَكَذَا فَهُوَ لَكَ. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: إِذَا قَالَ: بِعْهُ بِكَذَا فَمَا كَانَ مِنْ رِبْحٍ فَهْوَ لَكَ، أَوْ بَيْنِي وَبَيْنَكَ، فَلَا بَأْسَ بِهِ. وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم "المُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ".

2274 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَاحِدِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُتَلَقَّى الرُّكْبَانُ، وَلَا يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ. قُلْتُ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، مَا قَوْلُهُ:"لَا يَبِيعُ حَاضِرٌ لِبَادٍ"؟ قَالَ: لَا يَكُونُ لَهُ سِمْسَارًا.

ثم أسند حديث ابن عباس: نَهَى النبي صلى الله عليه وسلم أَنْ يُتَلَقَّى الرُّكْبَانُ، وَلَا يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ. قُلْتُ: يَا ابن عَبَّاسٍ، مَا قَوْلُهُ:"لَا يَبِيعُ حَاضِرٌ لِبَادٍ"؟ قَالَ: لَا يَكُونُ لَهُ سِمْسَارًا.

الشرح:

أثر ابن سيرين وعطاء إبراهيم أخرجه ابن أبي شيبة، حدثنا حفص، عن أشعث، عن الحكم وحماد، عن إبراهيم ومحمد بن سيرين قالا: لا بأس بأجر السمسار إذا اشترى يدًا بيد.

وحدثنا وكيع، ثنا ليث أبو عبد العزيز قال: سألت عطاء عن السمسرة، فقال: لا بأس بها

(1)

(1)

"المصنف" 4/ 457 (22059، 2260).

ص: 65

وكان حماد يكره أجر السمسار، إلا بأجر معلوم، وكان سُفيان يكره السمسرة

(1)

.

وأثره الأخير

(2)

أخرجه ابن أبي شيبة أيضًا عن هشيم، عن يونس، عنه

(3)

.

وأثر ابن عباس أخرجه أيضًا، عن هشيم، عن عمرو بن دينار، عن عطاء، عنه، وكان شريح لا يرى أيضًا بذلك بأسًا، وكذا الشعبي ومحمد بن شهاب والحكم وعطاء، وكرهه إبراهيم والحسن وطاوس

في رواية

(4)

، وفي أخرى: لا بأس به

(5)

.

وحديث: "المسلمون على شروطهم" أسلفنا فيما مضى أنه في أبي داود

(6)

وفي "مصنف ابن أبي شيبة"، عن عطاء: بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المؤمنون عند شروطهم"

(7)

وأخرجه الدارقطني من طرق من حديث أبي هريرة مرفوعًا بلفظ البخاري

(8)

، ومن حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن

(1)

السابق 4/ 457 (22057، 22061).

(2)

تحتها في الأصل: يعني ابن سيرين.

(3)

"المصنف" 4/ 307 (20391).

(4)

"المصنف" 4/ 457.

(5)

السابق 4/ 307 (20390 - 20398) عنهم جميعًا.

(6)

روى أبو داود (3594) من طريق سليمان بن بلال أو عبد العزيز بن محمد -شك الشيخ- عن كثير بن زيد، عن الوليد بن رباح، عن أبي هريرة. وللحديث طرق أخر عن أبي هريرة سيأتي ذكرها إن شاء الله تعالى.

(7)

"المصنف" 4/ 453 (22016)، قال الحافظ في "التغليق" 3/ 283: مرسل قوي الإسناد. وقال عنه الألباني في "الصحيحة" 6/ 993: بلاغ مرسل صحيح، رجاله كلهم ثقات رجال مسلم، وكذا قال في "الإرواء" 5/ 146.

(8)

"سنن الدارقطني" 3/ 27. ورواه أيضًا أحمد 2/ 366، والحاكم 2/ 49، وابن حزم في "الإحكام" 5/ 11 - 12، والبيهقي 6/ 79، 166، 7/ 249، من طريق =

ص: 66

عوف المزني، عن أبيه، عن جده مثله، بزيادة:"إلا شرطًا حرم حلالًا أو حلل حرامًا"

(1)

.

= كثير بن زيد، عن الوليد بن رباح، عن أبي هريرة، به. بلفظ:"المسلمون".

قال الحاكم: رواة هذا الحديث مدنيون، ولم يخرجاه، وهذا أصل في الكتاب.

والحديث أعله ابن التركماني في "الجوهر النقي" 7/ 249 بكثير بن زيد؛ فقال: ضعفه النسائي وغيره.

وتعقب الحافظ الذهبي في "التلخيص"؛ فقال: لم يصححه الحاكم، وكثير ضعفه النسائي، وقواه غيره.

وبكثيرٍ أعل الحديث أيضًا عبد الحق الإشبيلي في "الأحكام" 3/ 275، وقال شيخ الإسلام كما في "مجموع الفتاوى" 29/ 147: وكثير بن زيد، قال ابن معين في روايته: هو ثقة، وضعفه في رواية أخرى. وقال المصنف رحمه الله في "البدر" 6/ 552: كثير بن زيد فيه مقال؛ لكن حديث أبي هريرة هذا قال عنه النووي في "المجموع" 9/ 464: إسناده حسن أو صحيح.

وقال الحافظ ابن كثير في "الإرشاد" 2/ 54: إسناد حسن. وكذا قال المصنف رحمه الله في "خلاصة البدر المنير" 2/ 69.

وقال الحافظ في "التغليق" 3/ 282: كثير بن زيد، أسلمي، لينه ابن معين، وأبو زرعة، والنسائي؛ وقال أحمد: ما أرى به بأسا، وحديثه حسن في الجملة.

وقال العلامة الألباني في "الإرواء" 5/ 143: كثير حسن الحديث.

(1)

"سنن الدارقطني" 3/ 27.

ورواه أيضًا الترمذي (1352)، والحاكم 4/ 101، وابن حزم في "الأحكام" 5/ 22، والبيهقي 6/ 79، 7/ 249، من الطريق الذي ذكره المصنف.

قال الترمذي: حديث حسن صحيح.

والحديث أعله ابن حزم في "الأحكام" 5/ 22 بكثير، وكذا شيخ الإسلام كما في "مجموع الفتاوى" 29/ 147، وقال الحافظ الذهبي في "التلخيص" 4/ 101: حديث واهٍ.

وقال الحافظ ابن كثير في "الإرشاد" 2/ 54: قد نوقش الترمذي في تصحيحه هذا الحديث، وما شاكله من الأحاديث الضعاف؛ فإن كثيرًا هذا كذبه الشافعي، وتركه أحمد وغير واحد من الأئمة.

ص: 67

ومن حديث خُصيف، عن عائشة مرفوعًا "المسلمون على شروطهم ما وافق الحق"

(1)

، ومن حديث أنس مثله

(2)

.

وقال المصنف رحمه الله في "البدر المنير" 6/ 688: حديث واهٍ بمرة، بسبب كثير هذا. وكذا ضعفه في "الخلاصة" 2/ 87.

وقال الحافظ في "بلوغ المرام"(895): رواه الترمذي وصححه، وأنكروا عليه؛ لأن راويه كثير بن عبد الله ضعيف، وكأنه اعتبره بكثرة طرقه.

وأطلق القول بضعفه في "التلخيص الحبير" 3/ 23، وكذا ضعفه الشوكاني في "النيل" 3/ 682، وابن التركماني في "الجوهر النقي" 7/ 249، والألباني في "الإرواء" 5/ 144.

(1)

"سنن الدارقطني" 3/ 27.

ورواه أيضًا الحاكم 2/ 49 - 50، والبيهقي 7/ 249 من طريق إسماعيل بن عبد الله بن زرارة، عن عبد العزيز بن عبد الرحمن الجزري، عن خصيف، عن عروة، عن عائشة، مرفوعًا، به.

وسقط هنا عروة فجعله عن خصيف، عن عائشة، وهو خطأ؛ فلعله سقط من الناسخ، والله أعلم.

والحديث ضعف إسناده البيهقي 7/ 249، وعبد الحق في "الأحكام" 3/ 276، وقال الحافظ في "التلخيص" 3/ 23: حديث واهٍ. قال الألباني في "الإرواء" 5/ 144: إسناد ضعيف جدًّا.

(2)

"سنن الدارقطني" 3/ 27 - 28. ورواه أيضًا الحاكم 2/ 49 - 50، والبيهقي 7/ 249 من طريق عبد العزيز بن عبد الرحمن الجزري، عن خصيف، عن عطاء بن أبي رباح، عن أنس بن مالك، مرفوعًا، به.

والحديث ضعف البيهقي إسناده أيضًا، وكذا عبد الحق 3/ 276، وقال الحافظ في "التلخيص" 3/ 23: إسناده واهٍ.

وقال الألباني في "الإرواء" 5/ 144: إسناده ضعيف جدا.

قلت: وفي الباب: عن رافع بن خديج، وابن عمر.

فحديث رافع بن خديج رواه الطبراني 4/ 275 (4404)، وابن عدي في "الكامل" 7/ 162، والإسماعيلي في "المعجم" 3/ 749 من طريق قيس بن الربيع، عن حكيم بن جبير، عن عباية بن رفاعة، عن رافع بن خديج، مرفوعًا، به. =

ص: 68

إذا تقرر ذلك: فقد اختلف العلماء في أجرة السمسار، فأجازه غير من ذكرهم البخاري، منهم الأربعة، قال مالك: يجوز أن يستأجره على بيع سلعته إذا ضرب لذلك أجلًا، قال: وكذلك إذا قال له: بع هذا الثوب ولك درهم، أنه جائز وإن لم يؤقت له ثمنًا، وهو جعل،

وكذلك إن جعل في كل مائة دينار شيئًا وهو جُعْل.

= قال الهيثمي في "المجمع" 4/ 205: فيه حكيم بن جبير، وهو متروك، وقال: أبو زرعة محله الصدق، إن شاء الله.

وأما حديث ابن عمر فرواه البزار كما في "كشف الأستار"(1296)، والعقيلي في "الضعفاء" 4/ 48، وابن حزم في "الإحكام" 5/ 22، من طريق محمد بن الحارث، عن محمد بن عبد الرحمن بن البيلماني، عن أبيه، عن ابن عمر، مرفوعًا، بنحوه.

قال البزار: عبد الرحمن له مناكير، وهو ضعيف عند أهل العلم.

وقال العقيلي: هذا يروى بإسناد أصلح من هذا: بخلاف هذا اللفظ.

وقال ابن حزم: لا يصح؛ لأنه من طريق محمد بن عبد الرحمن بن البيلماني، وهو ضعيف. وقال الهيثمي 4/ 86: محمد بن عبد الرحمن ضعيف جدًّا.

وبعد: فالحديث تغالى فيه ابن حزم رحمه الله فضعفه تارة ووهاه ثانية، وقال: إنه مكذوب. ثالثة.

انظر: "المحلى" 7/ 370، 8/ 81، 161، 163، 358، 375، 408، 414 - 415، 9/ 44، 119، 116، 170، 230.

وفي المقابل: فإن الأكثر على تصحيحه أو تحسينه.

قال شيخ الإسلام كما في "مجموع الفتاوى" 29/ 147: هذِه الأسانيد، وإن كان الواحد منها ضعيفًا، فاجتماعها من طرق يشد بعضها بعضًا، وقال الشوكاني في "النيل" 3/ 683: الأحاديث المذكورة والطرق يشهد بعضها لبعض، فأقل أحوالها أن يكون المتن الذي اجتمعت عليه حسنا.

والحديث صححه الألباني في "الإرواء"(1303)، ثم قال: وجملة القول: أن الحديث بمجموع هذِه الطرق يرتقي إلى درجة الصحيح لغيره.

وقال في "الصحيحة"(2915): حديث صحيح بمجموع طرقه.

ص: 69

وقال أحمد: لا بأس أن يعطيه من الألف شيئًا معلومًا. وذكر ابن المنذر عن حماد والثوري أنهما كرها أجره.

وقال أبو حنيفة: إن دفع إليه ألف ألف درهم يشتري له بها بزًّا بأجر عشرة دراهم فهو فاسد، وكذلك لو قال: اشتر مائة ثوب، فهو فاسد، فإن اشترى فله أجر مثله، ولا يجاوز له ما سمى من الأجر.

وقال أبو ثور: إذا جعل له في كل ألف شيئًا معلومًا لم يجز، وإذا جعل له في كل ثوب شيئًا معلومًا لم يجز؛ لأن ذلك غير معلوم، فإن عمل على ذلك فله أجر مثله، وإن اكتراه شهرًا على أن يشتري له

ويبيع، فذلك جائز.

وحجة من كرهه أنها إجارة في أمد غير

(1)

محصور، والإجارة مفتقرة إلى أجل معلوم.

وحجة من أجازه أنه إذا سمى له ما على المائة فقد عرفت أجرة كل ثوب واستغني عن الأجل فيه، لأنه عندهم من باب الجعل، وليس على المشتري إذا لم يطلب الشراء شيء من أجل السمسار عند من أجازه وإنما عليه أجره إذا طلب الشراء أو طلب البيع

(2)

.

وقوله: (لَا يَكُونُ لَهُ سِمْسَارًا): يعني: من أجل الضرر الداخل على التجار لا من أجل أجرته؛ لأن السمسار أجير، وقد أمر الشارع بإعطاء الأجير أجره قبل أن يجف عرقه، من حديث زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة

(3)

.

(1)

تكررت (غير) في الأصل قبل كلمة (أمد) وبعدها. وقال الذي الهامش: لعل إحداهما زائدة.

(2)

انظر: "المدونة" 3/ 419، "الإشراف" 2/ 127 - 128، "المغني" 8/ 42.

(3)

لم أقف عليه من هذِه الطريق، وقال ابن حجر في "الدراية" 2/ 186: ذكر ابن =

ص: 70

وأما قول ابن عباس: بع هذا الثوب، فما زاد على كذا فهو لك.

وقول ابن سِيرِينَ: بعْهُ بِكَذَا، فَمَا كَانَ مِنْ رِبْحٍ فَهْوَ لَكَ، أَوْ بَيْنِي وَبَيْنَكَ، فإن العلماء

(1)

لا يجيزون هذا البيع، وممن كرهه: النخعي والحسن والثوري والكوفيون. وقال مالك والشافعي: لا يجوز، فإن باع فله أجر مثله. وأجازه أحمد وإسحاق، قالا: وهو من باب القراض، وقد لا يربح المقارض

(2)

.

وحجة الجماعة أنه قد يمكن أن لا يبيعه بالثمن الذي سمى له، فيذهب عمله باطلًا، وهو من باب الغرر، وهي أجرة مجهولة أو جُعْل مجهول، فلا يجوز.

وأما حجة من أجازه فحديث "المسلمون على شروطهم" ولا حجة

لهم فيه، عملًا ببقية الحديث:"إلا شرطًا حرم حلالًا أو حلل حرامًا" ومعنى الحديث: الشروط الجائزة بينهم.

وقال ابن التين: أجرة السمسار ضربان: إجارة وجعالة، فالأول يكون مدة معلومة فيجتهد في بيعه، فإن باع قبل ذلك أخذ بحسابه، وإن انقضى الأجل أخذ كامل الإجارة. والثاني: لا تضرب فيها الآجال، هذا هو المشهور من المذهب، ولكن لا تكون الإجارة والجعالة

= طاهر في الكلام على أحاديث الشبهات أن أبا إسحاق الكوري أحد الضعفاء رواه عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة.

والحديث مروي عن أبي هريرة من طرق أخرى، وروي عن صحابة آخرين وانظر:

"البدر المنير" 7/ 37 - 38، و"نصب الراية" 4/ 129 - 130 و"الدراية" الموضع المشار إليه.

(1)

في "شرح ابن بطال" 6/ 402: فإن أكثر العلماء. والمصنف ينقل عنه هذِه الفقرات.

ولفظة ابن بطال أضبط.

(2)

انظر: "الإشراف" 2/ 128، "المغني" 7/ 261.

ص: 71

إلا معلومتين، ولا يستحق في الجعالة شيئًا إلا بتمام العمل، وهو البيع.

والجعالة الصحيحة، أن يسمي له ثمنًا إن بلغه باع، أو يفوض إليه، فإن بلغ القيمة باع، وإن قال الجاعل: لا تبع إلا بأمري فهو فاسد. وقال أبو عبد الملك: أجرة السمسار محمولة على العرف تقلُّ من قوم وتكثر من قوم، لكن جوزت لما مضى من عمل الناس عليه على أنها مجهولة، قال: ومثل ذلك أجرة الحجام والسقاء. قال ابن التين: وهذا الذي ذكره غير جار على أصول مالك وإنما يجوز من ذلك عنده ما كان ثمنه معلومًا لا غرر فيه، وقول ابن عباس وابن سيرين لما يتابعا عليه، والدليل عليهما قوله عليه السلام:"من استأجر أجيرًا فليعلمه أجره"

(1)

.

قلت: أخرجه البيهقي. وتوبعا كما سلف قال: واحتجاج ابن سيرين بالحديث

(2)

يريد فيما يجوز من الشروط، بدليل قوله في قصة بريرة: "ما كان

(3)

من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل"

(4)

.

قلت: الظاهر أن البخاري هو الذي أورد هذا الحديث لا ابن سيرين

(5)

، والحديث لا بد من تأويله، والاستثناء السالف فيه مهم،

(1)

"السنن الكبرى" 6/ 120 (11651) من طريق أبي حنيفة عن حماد عن إبراهيم عن الأسود عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: لا يساوم الرجل .. وفي آخره هذا اللفظ.

قال البيهقي: وقيل من وجه آخر ضعيف عن ابن مسعود.

وانظر للمصنف "البدر المنير" 7/ 38 - 39. و"التلخيص" لابن حجر 3/ 60.

والحديث ضعفه الألباني في "الضعيفة"(2316).

(2)

يعني حديث: "المسلمون شروطهم". علقه البخاري بعد كلام ابن سيرين.

(3)

في الأصل: كل والمثبت من "صحيح البخاري"(2168).

(4)

سلف برقم (2168) كتاب: البيوع، باب: إذا اشترط شروطًا في البيع لا تحل.

(5)

يشير المصنف إلن حديث المسلمون عند شروطهم وأن البخاري هو الذي علقه لا ابن سيرين كي لا يظن أحد أنه منسوب لابن سيرين.

ص: 72

وإلا لو أخذ بظاهره لاستحلت المحرمات، قال: فإن ترك ذلك رد إلى أجرة مثله إن باع أو بلغ القيمة بالإشهار، وإن لم يبلغ ذلك فاختلف هل له أجر أم لا؟ وإن قال: لك من كل دينار تبيعها به حبة أو حبتان لم يجز ذلك، وإن قال: إن بعتها بكذا ذلك من كل دينار حبتان أو درهم أو ما سمى جاز، وكأنه جاعله به، فإن باع بأكثر لم يكن له إلا ما سمَّى، إذ لو ازداد ذلك لفسد؛ لجهل ما يبيع به، قال: وقد قيل: ما ذكره ابن عباس وابن سيرين يجوز على وجه إذا كان الناس يعلمون أن السلعة (تسوى)

(1)

أكثر مما سماه له من الثمن، ومن قيمة إجارته على بيعها بالشيء البين، وهذا غير ظاهر؛ لأنه جاعله بشيء غير معلوم، ولا اعتبار بأنها تسوى أكثر؛ لأن الحاصل في الجعل غير معلوم، والمغابنة في بياعات الناس موجودة.

ومن اشترط في إجارته فوق ما يسوى لا بأس به إذا كان معلومًا، وإنما يصح ما ذكره لو وجبت الإجارة فأعطي أقل فحينئذٍ يكون أداء الفاضل تفضلًا لا معاوضة في مقابلته، وأما ابتداءً فهو مقصود

مراعى. فلا بد أن يكون معلومًا.

(1)

كذا في الأصل وأعلاها (كذا) وقال ابن منظور في "لسان العرب" 4/ 2161: قال الليث: يسوى نادرة ثم قال: وقد روي عن الشافعي: وأما لا يُسوى فليس بعربي.

ص: 73

‌15 - باب هَلْ يُؤَاجِرُ الرَّجُلُ نَفْسَهُ مِنْ مُشْرِكٍ فِي دار الحَرْبِ

؟

2275 -

حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ مُسْلِمٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، حَدَّثَنَا خَبَّابٌ قَالَ: كُنْتُ رَجُلًا قَيْنًا، فَعَمِلْتُ لِلْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ، فَاجْتَمَعَ لِي عِنْدَهُ، فَأَتَيْتُهُ أَتَقَاضَاهُ فَقَالَ: لَا وَاللهِ لَا أَقْضِيكَ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ. فَقُلْتُ: أَمَا وَاللهِ حَتَّى تَمُوتَ ثُمَّ تُبْعَثَ فَلَا. قَالَ: وَإِنِّي لَمَيِّتٌ ثُمَّ مَبْعُوثٌ؟! قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: فَإِنَّهُ سَيَكُونُ لِي ثَمَّ مَالٌ وَوَلَدٌ فَأَقْضِيكَ. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77)} [مريم: 77]. [انظر: 2091 - مسلم: 2795 - فتح: 4/ 452]

ذكر فيه حديث خَبَّابٍ قَالَ: كُنْتُ رَجُلًا قَيْنًا، فَعَمِلْتُ لِلْعَاصِي بْنِ وَائِلٍ، فَاجْتَمَعَ لِي عِنْدَهُ، فَأَتَيْتُهُ أَتَقَاضَاهُ فَقَالَ: لَا وَاللهِ لَا أَقْضِيكَ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ. فَقُلْتُ: وَاللهِ حَتَّى تَمُوتَ ثُمَّ تُبْعَثَ فَلَا. قَالَ: وَإِنِّي لَمَيِّتٌ ثُمَّ مَبْعُوثٌ؟! قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: فَإِنَّهُ سَيَكُونُ لِي ثَمَّ مَالٌ وَوَلَدٌ فَأَقْضِيكَ. فَأَنْزَلَ اللهُ عز وجل: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77)} [مريم: 77].

الشرح:

هذا الحديث سلف في باب القين والحداد

(1)

.

وكره العلماء أن يؤاجر الرجل المسلم نفسه من مشرك في دار الحرب أو دار الإسلام، وقد أسلفت أنه حرام

(2)

؛ لأن في ذلك ذلة وصغار إلا أن تدعو إلى ذلك ضرورة، فلا نحرمه، فيما لا يعود على

(1)

سلف برقم (2091).

(2)

سلف في باب استئجار المشركين عند الضرورة، وباب: إذا استأجر .. في شرح حديث عائشة: استأجر النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلًا من الديل (2263 - 2264).

ص: 74

المسلم بضر ولا فيما لا يحل مثل عصير خمر ورعي خنزير، أو عمل سلاح أو شبه ذلك.

وأما في دار الإسلام فقد أغنى الله بالمسلمين وبخدمتهم عن الاضطرار إلى خدمة المشركين، وقد أمر الله عباده المؤمنين بالترؤس على المشركين فقال تعالى:{فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ} [محمد: 35] فلا يصلح لمسلم أن يهين نفسه بالخدمة لمشرك إلا عند الضرورة، فإن وقع ذلك فهو جائز؛ لأنه لما جاز لنا أن نأخذ أموالهم بالمعاوضة منهم في أثمان ما بيع منهم كان كذلك المنافع الطارئة منا، ألا ترى أن خبابًا عمل للعاصي بن وائل وهو كافر، وجاز له ذلك.

والقين سلف في البيوع قريبًا وأنه الحداد.

واختلف أصحابنا فيما إذا أجر المسلم نفسه لكافر إجارة عين، والأصح عندنا صحتها، نعم يؤمر بإزالة الملك عنها على الأصح.

ص: 75

‌16 - باب مَا يُعْطَى فِي الرُّقْيَةِ عَلَى أَحْيَاءِ العَرَبِ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:"أَحَقُّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللهِ". وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: لَا يَشْتَرِطُ المُعَلِّمُ إِلَّا أَنْ يُعْطَى شَيْئًا فَلْيَقْبَلْهُ. وَقَالَ الحَكَمُ: لَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا كَرِهَ أَجْرَ المُعَلِّمِ. وَأَعْطَى الحَسَنُ دَرَاهِمَ عَشَرَةً. وَلَمْ يَرَ ابْنُ سِيرِينَ بِأَجْرِ القَسَّامِ بَأْسًا. وَقَالَ: كَانَ يُقَالُ: السُّحْتُ الرِّشْوَةُ فِي الحُكْمِ. وَكَانُوا يُعْطَوْنَ عَلَى الخَرْصِ.

2276 -

حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ أَبِي المُتَوَكِّلِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه قَالَ: انْطَلَقَ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفْرَةٍ سَافَرُوهَا، حَتَّى نَزَلُوا عَلَى حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ العَرَبِ فَاسْتَضَافُوهُمْ، فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمْ، فَلُدِغَ سَيِّدُ ذَلِكَ الحَيِّ، فَسَعَوْا لَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ، لَا يَنْفَعُهُ شَيْءٌ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَوْ أَتَيْتُمْ هَؤُلَاءِ الرَّهْطَ الَّذِينَ نَزَلُوا لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ شَيْءٌ، فَأَتَوْهُمْ، فَقَالُوا: يَا أَيُّهَا الرَّهْطُ، إِنَّ سَيِّدَنَا لُدِغَ، وَسَعَيْنَا لَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ لَا يَنْفَعُهُ، فَهَلْ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْكُمْ مِنْ شَيءٍ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَعَمْ، وَاللهِ إِنِّي لأَرْقِي، وَلَكِنْ وَاللهِ لَقَدِ اسْتَضَفْنَاكُمْ فَلَمْ تُضِيِّفُونَا، فَمَا أَنَا بِرَاقٍ لَكُمْ حَتَّى تَجْعَلُوا لَنَا جُعْلًا. فَصَالَحُوهُمْ عَلَى قَطِيعٍ مِنَ الغَنَمِ، فَانْطَلَقَ يَتْفِلُ عَلَيْهِ وَيَقْرَأُ:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)} [الفاتحة: 2] فَكَأَنَّمَا نُشِطَ مِنْ عِقَالٍ، فَانْطَلَقَ يَمْشِي وَمَا بِهِ قَلَبَةٌ، قَالَ: فَأَوْفَوْهُمْ جُعْلَهُمُ الَّذِي صَالَحُوهُمْ عَلَيْهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمُ: اقْسِمُوا. فَقَالَ: الَّذِي رَقَى لَا تَفْعَلُوا، حَتَّى نَأْتِيَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَنَذْكُرَ لَهُ الَّذِي كَانَ، فَنَنْظُرَ مَا يَأْمُرُنَا. فَقَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرُوا لَهُ، فَقَالَ:"وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ" ثُمَّ قَالَ: "قَدْ أَصَبْتُمُ، اقْسِمُوا وَاضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ سَهْمًا". فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم. وَقَالَ شُعْبَةُ: حَدَّثَنَا أَبُو بِشْرٍ: سَمِعْتُ أَبَا المُتَوَكِّلِ بِهَذَا. [5007، 5736، 5749 - مسلم: 2201 - فتح: 4/ 453]

ص: 76

ثم ساق حديث أبي سعيدٍ في الرقية بالفاتحة وقال: "اقْسِمُوا وَاضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ سَهْمًا". وَقَالَ شُعْبَةُ: ثَنَا أَبُو بِشْرٍ: سَمِعْتُ أَبَا المُتَوَكِّلِ بهذا.

الشرح:

سقط في بعض النسخ من هذِه الترجمة لفظ: على أحياء العرب

(1)

؛ لأن الحكم لا يختص به، وعلى إثباتها سببه أن الواقعة وقعت فيهم. وتعليق ابن عباس يأتي مسندًا

(2)

، وهو حجة على الحنفية والزهري وابن إسحاق والحسن بن حي في عدم الأخذ، وادعى بعضهم نسخَهُ بحديث القوس المهداة الآتي

(3)

، وهو عجيب.

وأثر الشعبي رواه ابن أبي شيبة، عن مروان بن معاوية، عن عثمان بن الحارث عنه، قال: وحدثنا وكيع، ثنا سفيان، عن أيوب بن عائذ الطائي عنه به

(4)

.

وأثر الحكم رواه ابن أبي شيبة: حدثنا يزيد بن هارون، أنا شعبة عنه به.

(1)

جاء في هامش اليونينة 3/ 92: قوله: على أحياء العرب. هذِه الجملة مضروب عليها في اليونينية وفرعها، وهي ثابتة في أصول كثيرة، بل قال ابن حجر: هي ثابتة عند الجميع. اهـ.

قلت: كلام الحافظ في "الفتح" 4/ 453: كذا ثبتت هذِه الترجمة للجميع. هذا نص عبارته إلا أن ابن بطال أسقطها في "شرحه" 6/ 404 مما يعني أن كلام الحافظ ليس على إطلاقه.

(2)

سيأتي مسندًا مطولًا بمثل حديث أبي سعيد برقم (5737) كتاب: الطب، باب: الشروط في الرقية بقطيع من الغنم.

(3)

في هامش الأصل: أي في كلام المصنف لا في البخاري.

(4)

"المصنف" 4/ 346 (20826، 20834).

ص: 77

وأثر الحسن قال ابن أبي شيبة: حدثنا حفص، عن أشعث عنه: لا بأس أن يأخذ على الكتاب أجرًا، وكره الشرط

(1)

.

وأثر ابن سيرين قال أيضًا: حدثنا وكيع، ثنا همام، عن قتادة، عن يزيد الرشك، عن القاسم قال: قلت لابن المسيب ما ترى في كسب القسام، فكرهه قلت: إني أعمل فيه حتى يعرق جبيني، فلم يرخص لي. قال قتادة: وكان الحسن يكره كسبه. قال قتادة وقال ابن سيرين: إن لم يكن خبيثًا فلا أدري ما هو؟

(2)

.

وحديث أبي سعيد أخرجه مسلم

(3)

والأربعة

(4)

.

والتعليق الأخير أسنده الترمذي عن محمد بن المثنى، عن عبد الصمد بن عبد الوارث، عن شعبة به. ثم قال: صحيح وهو أصح من حديث الأعمش، عن أبي بشر، عن أبي نضرة

(5)

؛ ورواه النسائي عن زياد بن (ميمون)

(6)

، عن هشيم. وعن بندار، عن غندر، عن شعبة، جميعًا عن أبي بشر به

(7)

. وفي ابن ماجه: بعثنا النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاثين راكبًا

(8)

، وفي النسائي، وذلك ليلًا

(9)

.

(1)

"المصنف" 4/ 346 (20831).

(2)

"المصنف" 4/ 478 (2258).

(3)

مسلم (2201) كتاب: السلام، باب: جواز أخذ الأجرة على الرقية بالقرآن.

(4)

رواه أبو داود (3418)، (3900)، والترمذي (2063) والنسائي في "الكبرى" 4/ 364 - 365 (7532، 7533) وابن ماجه (2156).

(5)

الترمذي (2064).

(6)

في النسائي: أيوب. وهو الصواب فهو الذي يروي عن هشيم، انظر:"تهذيب الكمال" 30/ 275 - الرواة عن هشيم.

(7)

النسائي في "الكبرى" 4/ 364 (7533)، و 4/ 367 (7547).

(8)

ابن ماجه (2156).

(9)

"السنن الكبرى" 4/ 364 (7533).

ص: 78

وسيأتي عند البخاري عن ابن عباس: فانطلق رجل منهم فقرأ بفاتحة الكتاب على شاء، فجاء بالشاء إلى أصحابه فكرهوا ذلك، وقالوا: أخذت على كتاب الله أجرًا

(1)

!

وادعى ابن العربي اضطرابه، ففي رواية: أن أبا سعيد قرأ ورقى، وفي أخرى: أن غيره الراقي

(2)

.

قلت: الذي فيه أنه الراقى. وفي رواية أن رجلًا رقى، كنى به عن نفسه، فلا اضطراب

(3)

.

ويعارض هذا بحديث القوس التي أهديت لعبادة لما علمه سورة.

وقوله له: إن كنت تحب أن تطوق بها طوقًا من نار فاقبلها، أخرجه أبو داود من حديث المغيرة بن زياد، عن عبادة عن الأسود بن ثعلبة، عن عبادة

(4)

. وأين هو من هذا؟! المغيرة ضعيف.

وكذا قوله لأبي بن كعب: إن كان شيء يتحفك به فلا خير فيه، أخرجه ابن أبي شيبة

(5)

.

قال الجورقاني في "موضوعاته": إنه باطل بسبب عبد الرحمن بن أبي مسلم، وأبي عبيدة بن فضيل بن عياض. وهما ضعيفان، قال:

(1)

سيأتي برقم (5737) وسبق تخريجه.

(2)

"عارضة الأحوذي" 8/ 319.

(3)

في هامش الأصل ما نصه: في بعض طرق مسلم من حديث أبي سعيد: فقام رجل منا ما كنا نظنه يحسن رقية .. الحديث.

وفيه: فقلنا: أكنت تحسن رقية؟ فقال: ما رقيته إلا بفاتحة الكتاب. وفي رواية له: ما كنا نأبنه برقية. وهذا ظاهر في أنه غيره إلا أن يقال: إنه وقع مرتين.

(4)

أبو داود (3416).

(5)

"المصنف" 4/ 347 (20838).

ص: 79

وكذا حديث عبادة حديث باطل بسبب ابن المغيرة، فإنه منكر الحديث

(1)

.

قلت: وكذا حديث أبي الدرداء مرفوعًا: "من أخذ على تعليم القرآن قوسًا قلده الله مكانها قوسًا من نار" أخرجه سمويه في "فوائده".

وقد أخرجها ابن الجوزي في "علله"

(2)

.

وكذا قول عبد الله بن شقيق فكره أرش المعلم، فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يكرهونه ويرونه شديدًا. وقول إبراهيم النخعي: كانوا يكرهون أن يأخذوا على الغلمان في الكتاب أجرًا.

وروى أحمد والطحاوي من حديث عبد الرحمن بن شبل الأنصاري مرفوعًا: "تعلموا القرآن، ولا تغلوا فيه، ولا تأكلوا به ولا تستكثروا به"

(3)

.

وروى الترمذي من حديث عمران بن حصين مرفوعًا: "اقرءوا القرآن وسلوا الله به فإن بعدكم قوم يقرون القرآن يسألون به الناس"

(4)

، ولابن بطال (أنهم احتجوا بحديث)

(5)

ابن مسعود مرفوعًا: "اقرءوا القرآن

(1)

"الأباطيل والمناكير" 2/ 128 - 131 (522، 523)

(2)

"العلل المتناهية" 1/ 74 - 75 (91 - 92) روى حديثي أُبي بن كعب، وعبادة بن الصامت. وليس حديث أبي الدرداء كما يوهم عطف المصنف عليه، فانتبه.

(3)

"المسند" 3/ 428 (15529)، و"شرح معاني الآثار" 3/ 18 (4296 - 4297).

(4)

رواه الترمذي (2917) وقال: حسن، ووقع في بعض نسخه: ليس إسناده بذاك، ورواه الطبري 18/ 167 ووقع في المطبوع منه حثمة بن أبي حثمة عن الحسن عن عمران وهو خطأ وصوابه خيثمة بن أبي خيثمة البصري عن الحسن به، ورواه جماعة آخرون غير من ذكرنا وحسنه الألباني، كما في "الصحيحة"(257).

(5)

في الأصل: (من حديث) والمثبت من "شرح ابن بطال" 6/ 405 وهو الأليق للسياق.

ص: 80

ولا تأكلوا به"

(1)

وهو حديث ضعيف وبحديث حماد بن سلمة عن أبي جرهم، عن أبي هريرة قلت: يا رسول الله، ما تقول في المعلمين؟ قال:"أجرهم حرام"

(2)

.

وقال الجورقاني: حديث أنس: " أجر المعلم، والمؤذن والإمام حرام" موضوع

(3)

.

قلت: وأين هذا كله من حديث ابن عباس السالف وحديث أبي سعيد؟ وصح: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه"

(4)

وأبو جرهم غير معروف.

ولأبي داود من حديث خارجة بن الصلت، عن عمه يعني: علاقة بن صحار (د. ت) أنه رقى مجنونًا موثقًا بالحديد بفاتحة الكتاب ثلاثة أيام، كل يوم مرتين فبرأ، فأعطوني مائتي شاة فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال:"خذها فلعمري من أكل برقية باطل، فقد أكلت برقية حق"

(5)

، وهذا والذي قبله صريح في أنها شفاء ولهذا من أسمائها الشافية.

(1)

لم أقف عليه عن ابن مسعود ورواه أحمد 3/ 428 ابن أبي شيبة 2/ 171 (7742)، والطحاوي في شرح معاني الآثار 2/ 10 وغيرهم وصححه الألباني في "الصحيحة"(260)، (3057).

وفي الباب عن أبي هريرة.

(2)

ذكره ابن عبد البر في "التمهيد" 21/ 113، 114. وقال: وأبو جرهم مجهول لا يعرف، ولم يرو حماد بن سلمة عن أحد يقال له: أبو جرهم، وإنما رواه عن أبي المهزم وهو متروك أيضًا.

(3)

"الأباطيل والمناكير" 2/ 126 - 127 (520).

(4)

سيأتي عند البخاري برقم (5027) كتاب فضائل القرآن، باب: خيركم من تعلم القرآن وعلمه. من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه.

(5)

أبو داود (3896).

ص: 81

وفي الترمذي من حديث أبي سعيد مرفوعًا: "فاتحة الكتاب شفاء من كل سم"

(1)

، ولأبي داود من حديث ابن مسعود: مرض الحسن أو الحسين فنزل جبريل فأمره أن يقرأ الفاتحة على إناء من الماء

أربعين مرة فيغسل به يديه ورجليه ورأسه

(2)

.

إذا تقرر ذلك؛ فالراوي، عن أبي سعيد هو: أبو المتوكل واسمه علي بن دؤاد

(3)

القرشي الشامي الناجي البصري. والنفر: ما بين العشرة إلى الثلاثة.

وقوله: (فاسْتَضَافُوهُمْ) قال ثعلب: ضفت الرجل إذا نزلت به، وأضفته إذا أنزلته.

وقوله: (فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمْ) قال ابن التين: ضبط في بعض الكتب بفتح الياء والوجه ضمها.

والقِرى والضيافة متقاربان، والمعنى واحد؛ لأن بناء قرى جمع الشيء إلى الشيء.

(1)

لم أقف عليه في "الترمذي" ورواه سعيد بن منصور في "سننه" 2/ 535 (178)، ومن طريقه البيهقي في "الشعب" 2/ 450 (2368). وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" 1/ 22 إليهما، ثم قال: وأخرج أبو الشيخ ابن حيان في كتاب "الثواب" من وجه آخر عن أبي سعيد وأبي هريرة مرفوعًا مثله.

(2)

لم أقف عليه عند أبي داود، ولا غيره، غير أن ابن حجر قال في "اللسان" 3/ 389 في ترجمة سليمان بن شعيب بن الليث بن سعد المصري: وقد أورد له أبو القاسم الملاحي في كتاب: فضائل القرآن له من طريق أبي بكر عبد الله بن أبي داود، عنه، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مرض الحسن أو الحسين .. فذكر حديثًا في فضل التداوي بفاتحة الكتاب لا يشك من له أدنى معرفة بأنه موضوع. اهـ.

(3)

في هامش الأصل تعليق نصه: وقيل ابن داود، وقدمه الذهبي، وفي "المشتيه" عكس.

ص: 82

وبناء ضيف الميل، فكأن النازل يميل إلى المنزول عليه.

وقوله: (فَلُدِغَ) أي: من حية أو عقرب، وقد بين في الترمذي أنها عقرب

(1)

.

وفي رواية أخرى: (سليم)

(2)

أي: لديغ. قيل له ذلك تفاؤلًا بالسلامة، وقيل: لاستسلامه لما نزل به. وعند النسائي (أو مصاب)

(3)

.

وقوله: (فَسَعَوْا لَهُ بِكُلِّ شَيءٍ) أي: (أتوه)

(4)

بالسعي - (بالعين)

(5)

-.

قال ابن التين: هكذا هو في الكتب والرواية.

وقال الخطابي: يعني عالجوا طلبًا للشفاء. يقال: سعى له الطبيب: عالجه بما يشفيه أو وصف له الشفاء

(6)

.

و (الرَّهْط): دون العشرة. وقيل لا ينطلق على أكثر من ذلك. وقيل: يصل إلى الأربعين. وقد سلف.

وقوله: (صَالَحُوهُمْ) أي: وافقوهم على قطيع هو ثلاثون شاة. أخرجه النسائي

(7)

.

قال ابن التين: والقطيع: الطائفة من الغنم قال: وقوله (مِنَ الغَنَمِ) تأكيد.

(1)

الترمذي (2063).

(2)

سيأتي برقم (5007) كتاب: فضائل القرآن، باب: فضل فاتحة الكتاب.

(3)

بل هي عند مسلم (2201) كتاب: السلام، باب: جواز أخذ الأجرة على الرقية.

(4)

في الأصل: باتوه والمثبت من (ف).

(5)

في هامش الأصل: إحدى حروف الهجاء.

(6)

"أعلام الحديث" 2/ 120. وقد وقع عنده في الحديث: (فشفوا له بكل شيء).

(7)

"السنن الكبرى" 4/ 364 (7532).

ص: 83

قلت: قد قال صاحب "المطالع" وغيره، القطيع: الطائفة من الغنم والمواشي.

قال الداودي: ويقع على ما قلّ وكثُر.

وقوله: (يَتْفِلُ) هو بمثناة تحت مفتوحة، ثم مثناة فوق ساكنة، ثم فاء مكسورة وروي بضمها، وهو خفيف الريق.

قال ابن بطال: التفل البصاق، يقال: تفل تفلًا: بصق

(1)

. وفي الترمذي: (قرأ عليه: {الحَمدُ لِلَّهِ} سبع مرات

(2)

.

وقوله: (نُشِطَ مِنْ عِقَالٍ) أي: أقيم بسرعة. قال الخطابي: وفي بعض اللغات بمعنى: حل عقاله. وفي أكثرها نشطته إذا عقدته، وأنشطته إذا حللته وفككته

(3)

.

وعند الهروي: (فَكَأَنَّمَا أنُشِطَ مِنْ عِقَالٍ). قال ابن التين: وكذا هو في بعض روايات البخاري هنا.

وقال صاحب "الأفعال": أنشطت العقدة: حللتها

(4)

(5)

، وقيل: الإنشاط: الحل، والنشيط: العقد.

وقيل: معناه أقيم بسرعة، ومنه: رجل نشيط، ومنه:{وَالنَّاشِطَاتِ} أي: تجذب الأنفس بسرعة.

وقوله: (وَمَا بِهِ قَلَبَةٌ) هو بفتح القاف واللام. أي: داء، ويسمى الداء

(1)

"شرح ابن بطال" 6/ 408.

(2)

الترمذي (2063).

(3)

"أعلام الحديث" 2/ 1120.

(4)

في هامش الأصل: كذا هو في "المطالع"، أي: نشطت وأنشطت بمعنى حللت، هذا معناه.

(5)

"الأفعال" لابن القوطية ص 112.

ص: 84

قلبة؛ لأن صاحبه يقلب من أجله ليعلم موضع الداء منه، وبخط الدمياطي: داء مأخوذ من القلاب يأخذ البعير، فيشتكي منه قلبه فيموت من يومه. قال النمر:

وقد برئت فما بالقلب من قلبَهْ.

أي: برئت من داء الحب. وقال ابن الأعرابي: معناه: ليست به علة يقلب عليها

(1)

. فينظر إليه ولما قال له عليه السلام: "وَمَا يُدْرِيكَ أَيها رُقْيَةٌ؟! " وللدارقطني: "وما علمك أنها رقية؟! " قال: شيء ألقي في روعي

(2)

. وقال الداودي: "وما أدراك" .. ؟! هو المحفوظ.

وقال ابن عيينة: ما قيل فيه: مَا يُدْرِيكَ فلم يدره، وما قيل فيه: وما أدراك .. ؟ فقد علمه. وإنما قال ذلك لما في القرآن، وأما اللغة فهما سواء. وأخذ الدوادي ذلك أصلًا. ويدل عليه قوله لعمر: "وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: (واعملوا ما شئتم).

وقوله: ("وَاضْرِبُوا لِي بسَهْم") دلالة على جواز أخذ الأجر على الرقية بالفاتحة وهو موضع الترجمة.

وقد اختلف العلماء فيه وفي أخذه على التعليم.

فأجازه عطاء وأبو قلابة. وهو قول الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد، وأبي ثور، ونقله القرطبي عن أبي حنيفة في الرقية أيضًا، وإسحاق وجماعة من السلف والخلف

(3)

، وحجتهم حديث ابن عباس،

وحديث أبي سعيد في الباب.

(1)

ذكر نحوه ابن سيده في "المحكم" 6/ 265.

(2)

"سنن الدارقطني" 3/ 64.

(3)

"المفهم" 5/ 588.

ص: 85

وكره تعليم القرآن بالأجر الزهري. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يجوز أن يأخذ على تعليمه أجرًا كما سلف.

قال الطحاوي: وتجوز الأجرة على الرقى وإن كان يدخل في بعضه

القرآن؛ لأنه ليس على الناس أن يرقي بعضهم بعضًا، وتعليم الناس بعضهم بعضًا القرآن واجب؛ لأن في ذلك التبليغ عن الله تعالى إلا أن من علمه منهم أجزأ عن بقيتهم، وذلك كتعليم الصلاة لا يجوز أخذ الأجرة عليه، ولا يجوز على الأذان على وجه

(1)

.

واحتجوا بأحاديث ضعاف سلفت: حديث ابن مسعود وأبي هريرة وعبادة وغيرها، وقد بينا ضعفها قبل.

وكيف تعارض هذِه حديث ابن عباس وأبي سعيد، والتعارض إنما يكون عند تساوي طرقها في النقل والعدالة، والصحيح مقدم، وأما قول الطحاوي: إن تعليم الناس القرآن بعضهم بعضًا فرض

(2)

، فغلط فيه؛ لأن تعلمه ليس بفرض، فكيف تعليمه؟ وإنما الفرض المتعين منه على كل أحد ما تقوم به الصلاة، وغير ذلك فضيلة ونافلة، وكذلك تعليم الناس بعضهم بعضًا الصلاة ليس بفرض معين عليهم، وإنما هو على الكفاية، ولا فرق بين الأجرة في الرقى وعلى تعليم القرآن؛ لأن ذلك كله منفعة.

وقوله عليه السلام: ("إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله") هو عام يدخل فيه إباحة التعليم وغيره، فسقط قولهم.

(1)

"شرح معاني الآثار" 4/ 127.

(2)

"شرح معاني الآثار" 4/ 127. والحق أن الطحاوي لم يقل أنه فرض عين بل قال: إلا أن من علمه منهم أجزأ ذلك عن بقيتهم كالصلاة على الجنائز. اهـ وهذا يعني أنه فرض على الكفاية عنده.

ص: 86

وقد أجاز مالك أجر المؤذن، وكره أجر الإمام.

وصحح أصحابنا جواز أخذ الأجرة على الأذان، حجة الشافعي

حديث ابن عباس، وحديث أبي سعيد، ومما يدل على جواز أخذ الأجرة على ذلك أن الذين أخذوا الغنم تحرجوا من قسمتها وأكلها ححى سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأعلمهم أنها حلال لهم أخذ الأجرة عليه، وآكد لأنفسهم، وطيب نفوسهم بأن قال:"اضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ بسَهْم".

وأما أجر القسام فإن أكثر الفقهاء أجازوه

(1)

، وأما ما روي عن مالك من الكراهية فيه فإنما هو؛ لأن القسام كانوا يرزقون من بيت المال، فإذا لم يكن ذلك فلا بأس باستئجارهم على القسمة عنده، والقسمة مثل عقد الوثائق، كل ذلك جائز عنده

(2)

. وعقد الوثائق فرض على الكفاية؛ لقوله تعالى {وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالعَدْلِ} [البقرة: 282] فلما لم يتعين الفرض جاز فيه أخذ الأجرة.

وقال ابن المنذر: وأبو حنيفة سيكره تعليم القرآن بالأجر، ويجيز أن يستأجر الرجل يكتب له لوحًا أو شعرًا أو غناءً معلومًا بأجر معلوم. فيجيز الإجارة فيما هو معصية ويبطلها فيما هو طاعة لله؛ وقد دلت السنة على إجازته

(3)

.

وفيه: من الفقه وجوب التضيُّف على العادة المعروفة بين الناس قديمًا.

(1)

انظر: "الإشراف" 3/ 285.

(2)

انظر: "المدونة" 4/ 77، 271.

(3)

انظر: "الإشراف" 2/ 112.

ص: 87

وفيه: دليل أنهم فاوضوهم في منع معروفهم بأن منعوهم هؤلاء معروفهم في الرقية إلا بعوض؛ لقوله: (قد استضفناكم فلم تضيفونا)، فهذا يدل على أن ترك الضيافة ليس من مكارم الأخلاق.

وقوله ("وما يدريك أنها رقية؟! ") أي: إن في القرآن ما يخص الرقى، وإن فيه ما لا يخصها، وإن كان القرآن كله مرجو البركة والنفع، من أجل أنه كلام الله الحق؛ إذا كان في الآية التعوذ بالله أو دعاء كان أخص بالرقية مما ليس فيه ذلك.

وإنما أراد بقوله: ("وَمَا يُدْرِيكَ أَيها رُقْيَة؟! ") أن يختبر علمه بذلك؛ لأنه ربما خفي موضعها في: {الْحَمْدُ} ، وهو قوله:{وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} [الفاتحة: 5] هو الموضع الذي فيه الرقية؛ لأن الاستعانة بالله على كشف الضر، وسؤال الفرج، والتبرؤ إليه من الطاقة، والإقرار بالحاجة إليه وإلى عونه هو في معنى الدعاء. ويحتمل أن يكون الراقي إنما رقى بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ} لما علم أنها ثناء على الله، فاستفتح رقيته بالثناء رجاء الفرج كما ترجى في الاستفتاح به في الدعاء الإجابة، ولذلك قال إبراهيم التيمي: إذا بدأ الرجل بالثناء قبل الدعاء فقد استوجب، وإذا بدأ بالدعاء قبل الثناء كان على الرجاء

(1)

.

تنبيهات:

أحدها: للحنفية أن يفرقوا بين الرقية وتعليم القرآن، فإن أولئك القوم كانوا كفارًا يجوز أخذ أموالهم مطلقًا، أو تقول: إن حق الضيف لازم لهم ولم يضيفوهم، أو أن الرقى ليست بقربة محضة كسائر العلاجات، وإن كنا نعلم أن المستأجر على الرقى يدخل في رقاه القرآن؛ إذ ليس

(1)

نقله من "شرح ابن بطال" 6/ 406 - 408 بتصرف يسير.

ص: 88

على الناس أن يرقي بعضهم بعضًا، بخلاف تعليم القرآن لوجوب تعليمه؛ لأن فيه التبليغ عن الله، فمن علم منهم أجزأ عن بقيتهم، فإذا استأجر بعضهم بعضًا على تعليم كذلك كان إجارته باطلة؛ لأنه إنما استأجر على أن يؤدي فرضًا هو لله عليه، فإذا استؤجروا على أن يعملوا ما ليس عليهم أن يعملوه جاز أخذ الأجرة عليه.

ثانيها: قد أسلفنا، عن ابن بطال أن موصغ الرقية:{وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}

(1)

وعبارة القرطبي موضعها {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} . قال: ويظهر لي أن السورة كلها موضع الرقية؛ لقوله: "وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَة؟! " ولم يقل: فيها رقية

(2)

.

فيستحب قراءتها على اللديغ والمريض وصاحب العاهة.

وقال ابن العربي: إنما خصها؛ لأنه رآها سميت أم الكتاب فتحقق شرفها وتقدمها

(3)

.

ثالثها: قال ابن درستويه: كل كلام استشفي به من وجع أو خوف أو شيطان أو سحر فهو رقية. قال الزمخشري: وقد يقال الذي: استرقيته بمعنى رقيته، قال: وعن الكسائي: ارتقيت بهذا المعنى. وفي "الموعب": رقاه رقيًا ورقية ورقيًا فهو راقٍ إذا عوذه، وصاحبه رقاء. وقسمها ابن الجوزي ضربين: رقية لا تفهم، فربما كانت كفرًا، فنهى عليه السلام عنها لذلك، وفي الصحيح:"لا بأس بالرقى إذا لم تكن شركًا"

(4)

، ورقية جائزة وهي ضربان: رقية يعتقد فيها أنها ترفع ما سيعرض فهذِه

(1)

"شرح ابن بطال" 6/ 408.

(2)

"المفهم" 5/ 586.

(3)

"عارضة الأحوذي" 8/ 220.

(4)

مسلم (2200) كتاب: السلام، باب: لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك. من حديث عوف بن مالك الأشجعي.

ص: 89

منهي عنها لأجل هذا المعنى، ورقية لما قد حدث في هذِه رخص فيها.

قال أحمد: لا بأس بالرقية من العين

(1)

، وسأله مهنا عن الرجل تأتيه المرأة مسحورة فيطلق عنها السحر، فقال: لا بأس

(2)

.

والاستشفاء بالقرآن والدعاء في معنى الرقية، فلا يكره بحال، وسيكون لنا عودة إليه -إن شاء الله- في كتاب الطب.

رابعها: وقع في "شرح ابن التين" أن حديث ابن عباس دليل على منع أخذ الأجر على التعليم، وهو مذهب الشعبي هنا إلا أنه مرسل.

وهذا كلام غير مستقيم، والحديث دال على الأخذ، وأبو حنيفة هو الذاهب إلى المنع لما قدمناه. قال الداودي: ويدل عليه قوله تعالى: {خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ القَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص: 26] ولا دليل فيه؛ لأنه لم يمنع الإجارة، وإنما منع أخذ الأجرة على فعل الخير يتلو القرآن ويعلمه. قال ابن التين: وقول ابن سيرين في القسام صحيح إذا كان برضاهم، وكره في "المدونة" ذلك

(3)

. قال سحنون: لأنهم كانوا يرزقون من بيت المال فنهي عنه، وهو من الرشوة في الحكم، والرشوة بتثليث الراء، وقيل: بالفتح المصدر، وبالكسر الاسم، وترشيت الرجل إذا لينته. والسحت بإسكان الحاء وضمها هو كل

طعام يلزم لآكله العار.

(1)

"مسائل أبي داود"(1671).

(2)

انظر: "الفروع" 6/ 187، "بدائع الفوائد" 4/ 105.

(3)

"المدونة الكبرى" 4/ 271. ونصه في "المدونة": قلت: لم كره مالك أرزاق القسام وجوز أرزاق العمال؟ قال: لأن أرزاق القسام إنما يؤخذ ذلك من أموال اليتامى، وأرزاق العمال إنما تؤخذ من بيت المال. قلت: أفرأيت إن جعل القسام رزقًا من بيت المال؟ قال: .. لا بأس.

ص: 90

قال ابن التين: وفيه: جواز بيع المصحف، والإجارة على كتابته، وأخذ الجعل على قراءة القرآن، ما لم يتعين عليه الفرض كصلاة الفريضة، وذلك أنه إذا كان بين قوم لا يحسنون من القرآن ما يصلون به ما جاز له أخذ الأجرة في ذلك، وإن كان اختلف مذهب مالك في ذلك في الفرض والنفل

(1)

.

(1)

ورد في هامش الأصل: ثم بلغ في الثاني بعد السبعين، كتبه مؤلفه.

ص: 91

‌17 - باب ضَرِيبَةِ العَبْدِ، وَتَعَهُّدِ ضَرَائِبِ الإِمَاءِ

2277 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: حَجَمَ أَبُو طَيْبَةَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَرَ لَهُ بِصَاعٍ أَوْ صَاعَيْنِ مِنْ طَعَامٍ، وَكَلَّمَ مَوَالِيَهُ فَخَفَّفَ عَنْ غَلَّتِهِ أَوْ ضَرِيبَتِهِ. [انظر: 2102 - مسلم: 1577 - فتح: 4/ 458]

ذكر فيه حديث سُفْيَانَ -وهو الثوري- عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ

(1)

، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: حَجَمَ أَبُو طَيْبَةَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَ لَهُ بِصَاعٍ أَوْ صَاعَيْنِ مِنْ طَعَامٍ، وَكَلَّمَ مَوَاليَهُ فَخَفَّفَ عَنْ غَفَتِهِ أَوْ ضَرِيبَتِهِ.

ثم ترجم:

(1)

في هامش الأصل: من خط الشيخ: سفيان عن حميد من أفراد البخاري.

ص: 92

‌18 - باب خَرَاجِ الحَجَّامِ

2278 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: احْتَجَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَأَعْطَى الحَجَّامَ أَجْرَهُ. [انظر: 1835 - مسلم: 1202 - فتح: 4/ 458]

2279 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ خَالِدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضى الله عنهما قَالَ احْتَجَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَعْطَى الحَجَّامَ أَجْرَهُ، وَلَوْ عَلِمَ كَرَاهِيَةً لَمْ يُعْطِهِ. [انظر: 1835 - مسلم: 1202 - فتح: 4/ 458]

2280 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا رضي الله عنه يَقُولُ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَحْتَجِمُ، وَلَمْ يَكُنْ يَظْلِمُ أَحَدًا أَجْرَهُ. [انظر: 2102 - مسلم: 1577 - فتح: 4/ 458]

وساق فيه حديث طَاوُسٍ، عَنِ ابن عَبَّاسٍ قَالَ: احْتَجَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَأَعْطَى الحَجَّامَ أَجْرَهُ. وفي رواية من طريق عكرمة عنه مثله وزاد: وَلَوْ عَلِمَ كَرَاهِيَةً لَمْ يُعْطِهِ.

ثم ذكر حديث أنس السالف: كَانَ يَحْتَجِمُ، وَلَمْ يَكُنْ يَظْلِمُ أَحَدًا أَجْرَهُ.

ثم ترجم:

ص: 93

‌19 - باب مَنْ كَلَّمَ مَوَالِيَ العَبْدِ أَنْ يُخَفِّفُوا عَنْهُ مِنْ خَرَاجِهِ

2281 -

حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضى الله عنه قَالَ: دَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم غُلَامًا حَجَّامًا فَحَجَمَهُ، وَأَمَرَ لَهُ بِصَاعٍ أَوْ صَاعَيْنِ، أَوْ مُدٍّ أَوْ مُدَّيْنِ، وَكَلَّمَ فِيهِ فَخُفِّفَ مِنْ ضَرِيبَتِهِ. [انظر: 2102 - مسلم: 1577 - فتح: 4/ 459]

ثم ذكر حديث أنس السالف: دَعَا رسول الله صلى الله عليه وسلم غُلَامًا فَحَجَمَهُ، وَأَمَرَ لَهُ بِصَاعٍ أَوْ صَاعَيْنِ، أَوْ مُدٍّ أَوْ مُدَّيْنِ، وَكَلَّمَ فِيهِ فَخُفِّفَ مِنْ ضَرِيبَتِهِ.

وقد أسلفنا ذلك في باب ذكر الحجام

(1)

، وباب: موكل الربا

(2)

، فراجعه.

وفيه: أنه لا بأس أن يضرب الإنسان على عبده خراجًا معلومًا في الشهر، وأن يبلغ في ذلك وسع العبيد وطاقتهم، ولا يثقل عليهم؛ لأن التخفيف لا يكون إلا عن ثقل.

وفيه: الشفاعة للمديان في الوضيعة، وللعبد في الضريبة وإن كان ليس بالدين الثابت لكنه مطالب به مستعمل فيه.

وفيه: استعمال العبد بغير إذن سيده إذا كان معرضًا لذلك ومعروفًا به.

وفيه: الحكم بالدليل؛ لأنه استدل على أنه مأذون له في العمل؛ لانتصابه له وعرض نفسه عليه.

(1)

سلف برقم (2102) كتاب: البيوع.

(2)

عند حديث (2086) كتاب: البيوع ففي حديث أبي جحيفة هناك النهي عن ثمن الدم.

ص: 94

ويجوز للحجام أن يأكل من كسبه، وكذا سيده، وقد سلفت مذاهب العلماء فيه، وإن كنا لا نحبه؛ لأنها صنعة رذيلة؛ قال الطحاوي: وفي إباحة الشارع أن يطعمه رقيقه وناضحه دليل أنه ليس بحرام، ألا ترى أن المال الحرام الذي لا يحل للرجل أكله لا يحل له أن يطعمه رقيقه ولا ناضحه، فثبت بذلك نسخ ما تقدم من نهيه، وهو النظر عندنا؛ لأنا رأينا الرجل يستأجر الرجل يقصد له عرقًا أو ينزع له ضرسًا، فيجوز ذلك، فكذلك تجوز الحجامة

(1)

.

وقال غيره: والدليل عليه قوله تعالى: {قُوَا أَنفُسَكُم وَأَهلِيكُو نَارًا} [التحريم: 6] أي: جنبوهم ما يقول إليها مما يؤدي إلى سخطه، وذلك فُرِضَ على المخاطبين بهذِه الآية، وقولهم: إنها صنعة رذيلة، فليست بأدنى من صنعة الكناس الذي ينقل الحش. وليست بحرام، فكذا هو، ولا نسلم أن الخبيث هو الحرام، بل قد يقع على الحلال قال تعالى:{وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267] وكانوا يتصدقون بالحشف ورديء التمر فنزلت الآية.

(1)

"شرح معاني الآثار" 4/ 132.

ص: 95

‌20 - باب كَسْبِ البَغِيِّ وَالإِمَاءِ

وَكَرِهَ إِبْرَاهِيمُ أَجْرَ النَّائِحَةِ وَالمُغَنِّيَةِ. وَقَوْلُ اللهِ تَعَالَى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى البِغَاءِ} [النور: 33].

[وَقَالَ مُجَاهِدٌ:]{فَتَيَاتِكُمْ} : إِمَاؤُكُمْ.

2282 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ ثَمَنِ الكَلْبِ، وَمَهْرِ البَغِيِّ، وَحُلْوَانِ الكَاهِنِ. [انظر: 2237 - مسلم: 1567 - فتح 4/ 460]

2283 -

حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُحَادَةَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ كَسْبِ الإِمَاءِ. [5348 - فتح: 4/ 460]

ثم ساق حديث أبي مسعود الأنصاري أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ ثَمَنِ الكَلْبِ، وَمَهْرِ البَغِيِّ، وَحُلْوَانِ الكَاهِنِ.

وحديث أبي هريرة: نَهَى عَنْ كَسْبِ الإِمَاءِ.

الشرح:

أثر إبراهيم أخرجه ابن أبي شيبة، عن وكيع، ثنا سفيان، عن أبي هاشم عنه أنه كره أجر النائحة والمغنية والكاهن، وكرهه أيضًا الشعبي والحسن. وقال عبد الله بن هبيرة {وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ} [المائدة: 62] قال: مهر البغي

(1)

، وأما الآية فذكر مقاتل في "تفسيره" فيما ساقه الواحدي في "أسباب نزوله" عنه: إنها نزلت في ست جوارٍ لعبد الله بن

(1)

"المصنف" 4/ 467 - 468 (22155 - 22158).

ص: 96

أُبي ابن سلول كان يكرههن على البغاء ويأخذ أجورهن، وهن معاذة ومُسَيْكة، وأميمة، وعَمْرَة، وأروى، وقتيلة، فجاءته إحدا هن يومًا بدينار وجاءت أخرى ببرد فقال لهما: ارجعا فازنيا، فقالتا: والله لا نفعل قد جاء الله بالإِسلام وحرم الزنا، فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكيا إليه فأنزل الله الآية، كذا ساقه عنه

(1)

.

والذي في "تفسيره" في الآية: أنها نزلت في عبد الله بن أبي المنافق، وفي جاريته أميمة، وفي عبد الله بن (نبتل)

(2)

المنافق وفي جاريته مسيكة، وهي ابنة أميمة، ومنهن أيضًا: معاذة، وأروى، وعمرة، وقتيلة، وأتت أميمة وابنتها مُسَيْكَة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالتا: إنا نكره على الزنا فنزلت. وفي مسلم كان ابن أبي يقول لجارية له: اذهبي فأبغينا شيئًا فنزلت

(3)

.

وعن الزهري: أن رجلًا من قريش أسر يوم بدر

(4)

، وكان عند عبد الله بن أبي أسيرًا، وكانت لعبد الله جارية يقال لها: معاذة فكان القرشي الأسير يراودها عن نفسها، وكانت تمتنع لإسلامها. وكان ابن

أبي يكرهها ويضربها على ذلك رجاء أن تحمل من القرشي، فيطلب فداء ولده، فنزلت

(5)

.

(1)

"أسباب النزول" ص 336 - 337 (643).

(2)

في هامش الأصل: نبتل بنون مضمونة ثم موحدة ساكنة ثم مثناه فوق مفتوحة.

(3)

مسلم (3029) كتاب: التفسير، باب: في قوله تعالى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى البِغَاءِ} .

(4)

في هامش الأصل: هو العباس ذكره ابن بشكوال وقيل: غيره.

(5)

رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 50 (2041)، ومن طريقه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 8/ 2589 (14527)، وابن جرير في "تفسيره" 9/ 319 (26076)، والواحدي في "أسباب النزول" ص 337 (644).

ص: 97

قال مجاهد: نزلت في عبد الله بن أبي أيضًا

(1)

، وقاله ابن عباس أيضًا

(2)

، ونقل ابن بطال عن أهل التفسير أنهم ذكروا في هذِه الآية أنه كانت لعبد الله بن أبي جارية يكرهها على الزنا، فلما حرمه الله قال لها: ألا تزني قالت: والله لا أزني أبدًا فنزلت إلى قوله: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} لهن وإثمهن على من أكرههن

(3)

.

وحديث أبي مسعود سلف

(4)

.

وحديث أبي هريرة من أفراده، وفي "مصنف ابن أبي شيبة" عن عباية بن رفاعة أنه عليه السلام كره كسب الأمة وقال: "لعلها لا تكد

(5)

فتبغي بنفسها" وعن عثمان بن عفان: لا تكلفوا الصغير الكسب فيسرق، ولا تكلفوا الجارية غير ذات الصنع فتكسب بفرجها. وعن جابر: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خراج الأمة إلا أن تكون في عمل واصب

(6)

.

و (البَغِي): الفاجرة

(7)

والاسم: البغاء. قال إسماعيل بن إسحاق: دلت الآية السالفة أن المكرهة على الزنا والمغتصبة بوطء أنه لا حد عليهن. قال غيره: حرم الله عز وجل كسب البغي بفرجها وقام

الإجماع على إبطال أجر النائحة والمغنية، وهو عندهم من أكل المال بالباطل.

(1)

"تفسير مجاهد" 2/ 442، رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 8/ 2589 (14526)،

والطبري في "تفسيره" 9/ 319 (26080، 26081).

(2)

رواه عنه ابن أبي حاتم 8/ 2589 (14523).

(3)

"شرح ابن بطال" 6/ 411.

(4)

سلف برقم (2237) كتاب: البيوع، باب: ثمن الكلب.

(5)

في "المصنف": تجد.

(6)

"المصنف" 4/ 476 (22241، 22243، 22244).

(7)

"تهذيب اللغة" 1/ 367.

ص: 98

وقوله: (قال مجاهد {فَتَيَاتِكُمْ} [النور: 33]: إماءكم). قال ابن التين: في بعض الروايات إمائكم وصوابه إماءكم، وفي بعضها: إماؤكم، وهذا جاء به على المبتدأ والخبر لم يأت به على الحكاية.

وقوله: ({إِنْ أَرَدن تَحَصُّنًا})[النور: 33] متعلق بقوله: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32]{إِنْ أَرَدن تَحَصُّنًا} وقيل: في الآية تقديم وتأخير، والمعنى: فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم إن أردن تحصنًا، أي: تطلبوا أجورهن فيما يكتسبن. قال مجاهد: فإن الله للمكرهات من بعد إكراههن غفور رحيم

(1)

.

(1)

"تفسير مجاهد" 2/ 442.

ص: 99

‌21 - باب عَسْبِ الفَحْلِ

2284 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَارِثِ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الحَكَمِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ عَسْبِ الفَحْلِ. [فتح: 4/ 461]

ذكر فيه حديث ابن عمر: نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عَنْ عَسْبِ الفَحْلِ.

هذا الحديث من أفراده، وأغرب الحاكم فاستدركه وقال: إنه صحيح على شرطه

(1)

، وانفرد مسلم بإخراجه من حديث جابر: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع ضراب الجمل

(2)

. وهو ماؤه، ويقال: ضرابه، ويقال: أجرة مائه فيحرم ثمن مائه.

وفي أجرته وجهان: أصحهما نعم.

وقال ابن بطال: اختلف العلماء في تأويل هذا الحديث فكرهت طائفة أن يستأجر الفحل لينزيه مدة معلومة بأجر معلوم، ذكر ذلك عن أبي سعيد والبراء، وذهب الكوفيون والشافعي وأبو ثور إلى أنه

لا يجوز عسب الفحل، واحتجوا بحديث الباب، وقالوا: هو شيء مجهول لا يدرى أينتفع به أم لا، وقد لا ينزل. وقال عطاء: لا تأخذ عليه أجرًا ولا بأس أن تعطي الأجر إذا لم تجد من يطرقك

(3)

.

وفي الترمذي عن أنس أن رجلًا من كلاب سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عسب الفحل فنهاه؛ فقال: يا رسول الله، إنا نطرق الفحل فنكرم،

(1)

"المستدرك" 2/ 42.

(2)

مسلم 1565/ 35 كتاب: المساقاة، باب: تحريم بيع فضل الماء ..

(3)

"شرح ابن بطال" 6/ 412، وانظر:"المغني" 8/ 130 - 131، "الشرح الكبير" 14/ 328.

ص: 100

فرخص له في الكرامة. ثم قال: حسن غريب

(1)

.

وعن أبي عامر الهوزنيِّ، عن أبي كبشة الأنماري أنه أتاه فقال: أطرقني فرسك، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"من أطرق فرسًا فعقب له كان له كأجر سبعين فرسًا حمل عليها في سبيل الله، وإن لم يعقب له كان له كأجر فرس حمل عليها في سبيل الله" رواه ابن حبان في "صحيحه"

(2)

ومعنى أطرقني: أعرني فرسك للإنزاء، ورخص فيه الحسن وابن سيرين، وأجازه مالك مدة معلومة.

واحتج الأبهري بأنها بيع منفعة، وكل ما جاز للإنسان أن ينتفع به جاز أن يهبه ويعاوض عليه، غير الوطء خاصة. وأما الذي لا يجوز أخذ العوض عليه ما لا يجوز فعله مما هو منهي عنه، كبيع الخمر وشبهه من الأعيان المحرمة والمنافع الممنوعة، قال: ومعنى نهيه عن عسب الفحل هو أن يكريه للعلوق؛ لأن ذلك مجهول لا يدرى متى يعلق، ولا يجوز إجارة المجهول، كما لا يجوز بيعه، قال: فأما إذا كان إلى أجل معلوم أو نزوات معلومة فلا بأس بذلك.

قال صاحب "الأفعال": (أعسب)

(3)

الرجل عسبًا: أكرى منه فحلًا ينزيه

(4)

.

قال أبو علي، عن أبي ليلى: ولا يتصرف منه فعل يقال: قطع الله عسبه، أي: ماءه ونسله. ونقل ابن التين عن أصحاب مالك أن معنى عسب الفحل: أن يتعدى عليه بغير أجر، وقالوا: ليس بمعقول أن

(1)

الترمذي (1274).

(2)

"صحيح ابن حبان" 10/ 533 (4679).

(3)

كذا بالأصل، وفي "الأفعال" لابن القوطية وابن القطاع:(عسب).

(4)

"الأفعال" لابن القوطية ص 89، "الأفعال" لابن القطاع 2/ 360.

ص: 101

يسمى الكراء عسبًا؛ والنهي عن إجارته؛ لأنه ليس من مكارم الأخلاق، قاله ابن حبيب وغيره.

وقال الخطابي: نهى عنه؛ لأنه لا يدرى أيلقح أم لا؟ وقيل: هو نهي كراهة، مثل نهيه عن ثمن الدم، أراد أن لا يكون في صحابته حجام ولا فحال، ومالك أجازه، واحتج بفعل أبناء الصحابة في ذلك.

ص: 102

‌22 - باب إِذَا اسْتَأْجَرَ أَرْضًا فَمَاتَ أَحَدُهُمَا

وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: لَيْسَ لأَهْلِهِ أَنْ يُخْرِجُوهُ إِلَى تَمَامِ الأَجَلِ. وَقَالَ الحَكَمُ وَالحَسَنُ وَإِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ: تُمْضَى الإِجَارَةُ إِلَى أَجَلِهَا. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَعْطَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ بِالشَّطْرِ، فَكَانَ ذَلِكَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ، وَلَمْ يُذْكَرْ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ جَدَّدَا الإِجَارَةَ بَعْدَ مَا قُبِضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.

2285 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ بْنُ أَسْمَاءَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه قَالَ: أَعْطَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ أَنْ يَعْمَلُوهَا وَيَزْرَعُوهَا وَلَهُمْ شَطْرُ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا، وَأَنَّ ابْنَ عُمَرَ حَدَّثَهُ أَنَّ المَزَارِعَ كَانَتْ تُكْرَى عَلَى شَيْءٍ، سَمَّاهُ نَافِعٌ لَا أَحْفَظُهُ. [2328، 2329، 2331، 2338، 2499، 2343، 2345، 2720، 3152، 4248 - مسلم: 1551 - فتح: 4/ 462]

2286 -

وَأَنَّ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ حَدَّثَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ كِرَاءِ المَزَارِعِ. وَقَالَ عُبَيْدُ اللهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: حَتَّى أَجْلَاهُمْ عُمَرُ. [2327، 2332، 2344، 2722 - مسلم: 1547 - فتح 4/ 462]

ثم ساق حديث ابن عمر: أَعْطَى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ اليَهْودَ أَنْ يَعْمَلُوهَا وَيزْرَعُوهَا وَلَهُمْ شَطْرُ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا، وَأَنَّ ابن عُمَرَ حَدَّثَهُ أَنَّ المَزَارعَ كَانَتْ تُكْرى عَلَى شَيءٍ، سماهُ نَافِعٌ لَا أَحْفَظُهُ.

وَأَنَّ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ حَدَّثَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ كِرَاءِ المَزَارعِ.

وَقَالَ

(1)

عُبَيْدُ اللهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابن عُمَرَ: حَتَّى أَجْلَاهُمْ عُمَرُ.

(1)

فوقها في الأصل: معلق.

ص: 103

الشرح:

قال ابن أبي شيبة: حدثنا عبد الصمد، ثنا حماد بن سلمة، عن حميد، عن الحكم في الرجل يؤاجر داره عشر سنين فيموت قبل ذلك قال: تنتقل

(1)

الإجارة، وتبطل العارية. وقال إياس بن معاوية: يمضيان إلى تمامها. وقال أيوب، عن ابن سيرين: إنما يرثون من ذلك ما كان يملك في حياته

(2)

.

وتعليق ابن عمر: أجره بالشطر، والبقية للبخاري، والمذكور عن ابن عمر أخرجه مسلم

(3)

.

وتعليق عبيد الله أخرجه مسلم أيضًا

(4)

.

وحديث الباب فيه جواز المساقاة، وعليه جماعة العلماء إلا أبا حنيفة وتأول أن فتح خيبر كان عنوة، رواه ابن اسحاق، عن الزهري وقال: ما أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم فهو له، وما تركه فهو له

(5)

.

واختلف العلماء في مسألة الباب فقالت طائفة: لا تنفسخ الإجارة بموت أحدهما ولا بموتهما، بل يقوم الوارث منهما مقام الميت، هذا قول ابن سيرين ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور ومن حجتهم ما ذكره البخاري في الباب.

(1)

كذا في الأصل، وفي "المصنف": تنتقض. ونقلها ابن حزم في "المحلى" 8/ 184 كما في "المصنف" فلعل ما هنا تحريف.

(2)

"المصنف" 4/ 557 (23094).

(3)

مسلم (1551).

(4)

مسلم (1551/ 6) ولكن ليس من طريق عبيد الله. ورواه مسلم من طريق عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر (1551/ 2) بلفظ: أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر بشطر ما يخرج من ثمر أو زرع .. فلما ولي عمر قسم خيبر ..

(5)

انظر: "الهداية" 4/ 389، "المعونة" 2/ 131، "الذخيرة" 6/ 93 - 94، "الإشراف" 2/ 80، "الشرح الكبير" 14/ 181 - 182.

ص: 104

وقال الكوفيون والثوري والليث: تنفسخ بموت أيهما مات، واحتجوا بأنا لو قلنا ببقائها لم يَخْلُ المكتري إما أن يستوفي المنافع من ملك المكري، أو من ملك الوارث، فبطل أن يستوفيها من ملك المكري؛ لأنه إذا مات لا ملك له، ولا يجوز أن يستوفيها من ملك الوارث؛ لأنه لم يملكها ولا عقد له معه فلا يجوز أن يستوفي المنافع من ملك واحد منهما.

وجوابه: أنه يستوفيها من ملك نفسه؛ لأن المكري كان يملك الرقبة وما يحدث من المنافع، فلما عقد على منافعها مدةً زال ملكه عنها إلى المكتري، فإذا مات قبل انقضائها لم تنتقل إلى الوارث عنه ملك المنافع؛ لأنها ليست في ملكه، وإنما انتقلت إليه بالعين دون المنافع، فالمكتري إذا استوفي المنافع فإنه لا يستوفي شيئًا ملكه الوارث، بل يستوفي ملك نفسه، وأيضًا فإن مذهب أبي حنيفة: أن الرجل إذا وقف دارًا أو ضيعة على غيره وجعل (إليه)

(1)

النظر في ذلك فأكرى الموقف على يديه ذلك من غيره فإجارته لا تنفسخ فيما نقول نحن

(2)

.

تنبيهات:

أحدها: قال ابن التين: قول ابن عمر ليس مما بوب عليه؛ لأن خيبر مساقاة -وهو الراوي- والمساقاة: سنة على حيالها. قلت: هي إجارة، قال: وما ذكر من حديث رافع ليس من ذلك أيضًا؛ لأنه قال: كنا نكري الأرض بالثلث والربع وعلى الماذيانات وإقبال الجداول فنهينا عن ذلك،

(1)

في هامش الأصل: حاشية أي: إلى الواقف.

(2)

انظر: "المبسوط" 15/ 125 - 126، 134 - 135، "بدائع الصنائع" 4/ 224، "المدونة" 3/ 428 - 429، "الأم" 3/ 255، "المغني" 8/ 43 - 45. وما أورده نقله عن ابن بطال بتصرف يسير. "شرح ابن بطال" 6/ 413 - 415.

ص: 105

وفيه غير وجه من الفساد. قال: وقول البخاري: ولم يذكر أن أبا بكر وعمر جددا الإجارة ليس مما بوب عليه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال لهم: "نقركم على ذلك ما شئنا". فمات عليه السلام وهم على ذلك، فإما أن يكونوا شرعوا في عمل سنة فيتربص إلى آخرها، وإما لا، فسكوتهم وسكوت الشيخين بعده رضا بالتمادي.

ثانيها: أجاز الشافعي المزارعة تبعًا للمساقاة ولم يقدره بحد

(1)

، وحده مالك بالثلث فما دونه

(2)

، وكلٌّ نزع إلى حديث رافع هذا، قال ابن التين: وأول ذلك ما ذكره مالك عن الثقات الأجلاء أنهم قالوا: كان البياض بين السواد، قضية خيبر قضية عين لا يدعى فيها العموم.

ثالثها: قال الداودي: وإنما أعطى عمر الثمر ولم يعطه عليه السلام؛ لأن أصحاب عمر كان لهم ذلك بخلاف أولئك.

فائدة:

إياس (خت، س) بن معاوية بن قرة، كنيته أبو واثلة، قاضي البصرة

(3)

، وأخرجا لأبيه معاوية، الأربعة لقرة وله صحبة.

ورافع بن خديج أوسي حارثي، مات قبل ابن عمر بيسير

(4)

.

(1)

انظر: "الأم" 3/ 239، "الإشراف" 2/ 71 - 73.

(2)

انظر: "القوانين" ص 277، وما بعدها.

(3)

انظر: ترجمته في "تهذيب الكمال" 3/ 407 (594).

(4)

في هامش الأصل: سنة أربعة وسبعين وفيها ابن عمر.

ص: 106

38

كتاب الحوالات

ص: 107

بسم الله الرحمن الرحيم

‌38 - كتاب الحوالات

هي بفتح الحاء وكسرها، مشتقة من التحويل والانتقال

(1)

.

وفي الشرع: نقل حق من ذمة إلى ذمة

(2)

، فكأن المال حول من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه وهي مجمع عليها

(3)

، والأصح عندنا: أنها بيع دين بدين استثني للحاجة

(4)

.

قال ثعلب: تقول: أحلت فلانا على فلان بالدين إحالة. قال ابن طريف: معناه أتبعته على غريم ليأخذه.

وقال ابن درستويه: يعني أزال عن نفسه الدين إلى غيره وحوله تحويلًا. وفي "نوادر اللحياني": أحيله إحالة وإحالًا.

(1)

انظر: "الصحاح" 4/ 1680، "لسان العرب" 2/ 1056، مادة:(حول).

(2)

انظر: "البيان" 6/ 279.

(3)

انظر: "الإفصاح" 6/ 83، "مراتب الإجماع" ص 62.

(4)

انظر: "البهجة مع شرحها" 3/ 143.

ص: 109

‌1 - باب فِي الحَوَالَةِ، وَهَلْ يَرْجِعُ فِي الحَوَالَةِ

؟

وَقَالَ الحَسَنُ وَقَتَادَةُ: إِذَا كَانَ يَوْمَ أَحَالَ عَلَيْهِ مَلِيًّا جَازَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَتَخَارَجُ الشَّرِيكَانِ وَأَهْلُ المِيرَاثِ، فَيَأْخُذُ هَذَا عَيْنًا وَهَذَا دَيْنًا، فَإِنْ تَوِيَ لأَحَدِهِمَا لَمْ يَرْجِعْ عَلَى صَاحِبِهِ.

2287 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي، هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَطْلُ الغَنِيِّ ظُلْمٌ، فَإِذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيٍّ فَلْيَتْبَعْ". [2288 - 2400 - مسلم: 1564 - فتح: 4/ 464]

ثم ساق حديث أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَطْلُ الغَنِيِّ ظُلْمٌ، فَإِذَا أُتْبعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيٍّ فَلْيَتْبَعْ ".

الشرح:

تعليق الحسن وقتادة أخرجه ابن أبي شيبة، عن عبدة بن سليمان عن ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن قال: إذا احتال على ملي ثم أفلس بعد جاز. قال: وحدثنا معاذ بن معاذ، عن أشعث، عن الحسن أنه كان لا يرى الحوالة ببرءاة إلا أن يبرئه، فإذا أبرأه فقد برئ وقال النخعي: كل حوالة ترجع إلا أن يقول الرجل للرجل: أبيعك ما على فلان وفلان بكذا وكذا، فأما إذا باعه فلا يرجع.

وقال الحكم: لا يرجع في الحوالة إلى صاحبه حتى يفلس أو يموت ولا يدع وفاء.

وعن أبي إياس، عن عثمان في الحوالة: يرجع على مسلم توي.

وقال خطاب العصفري: أحالني رجل على يهودي فتوانى، فسألت الشعبي فقال: ارجع إلى الأول.

ص: 110

وعن شريح في الرجل يحيل الرجل فيتوي قال: يرجع إلى الأول

(1)

.

وأثر ابن عباس: قال ابن التين: يريد بالتراضي بغير قرعة مع استواء الدين وإقرار من عليه وحضوره.

وقوله: (وأهل الميراث) قال أبو عبيد: إذا كان بين ورثة أو شركاء وهو في يد بعضهم دون بعض فلا بأس أن يبتاعوه، وإن لم يعرف كل واحد منهم نصيبه بعينه، ولو أراد أجنبي أن يشتري نصيب بعضهم لم يجز حتى يقبضه البائع

(2)

.

قال: وتوي ضبطناه بفتح الواو وسكون الياء، والصواب كسر الواو وفتح الياء على وزن غوي، والتواء ممدود وقد يقصر. وقال صاحب "المغيث"، عن أبي بكر في قوله: ذاك الذي لا توي عليه. أي: لا ضياع ولا خسارة، من قولهم توي المال إذا هلك يتوي، وتوي حق فلان على غريمه إذا ذهب تويًا وتواء، والقصر أجود فهو توٍ وتاوٍ

(3)

. قال الجياني قيل: إنه من التو بمعنى: المنفرد، ولم يذكر ابن ولاد والقزاز وابن سيده وغيرهم فيه غير القصر.

وقال أبو علي الفارسي: طيء تقول: توى. قال ابن المنير: أدخل قسمة الديون والعين تحت الترجمة إذا كان هذا عين وهذا دين، فتوى الدين لم تنقض القسمة؛ لأنه رضي بالدين عوضًا فتوي في ضمانه،

وقاس الحوالة عليه

(4)

.

(1)

"المصنف" 4/ 336 (20715 - 20723).

(2)

"غريب الحديث" 2/ 299.

(3)

"المجموع المغيث" مادة (توى) 1/ 249.

(4)

"المتواري" ص 254.

ص: 111

وحديث أبي هريرة أخرجه مسلم أيضًا

(1)

، وفي رواية لأحمد:"فإذا أحيل أحدكم على ملي فليحتل"

(2)

. وذكر أبو مسعود أن البخاري رواه عن محمد بن يوسف في الحوالة، وكذا ذكره خلف والطرقي

(3)

، ومن طريقه خرجه الترمذي عن الثوري، والذي في البخاري هنا عبد الله بن يوسف لا محمد

(4)

.

ولابن ماجه من حديث ابن عمر: "وإذا أحلت على ملي فاتبعه"

(5)

.

ولأبي داود من حديث عمرو بن الشريد، عن أبيه مرفوعًا:"لي الواجد يحل عرضه وعقوبته"

(6)

وسيأتي في الكتاب في باب: لصاحب الحق مقال. معلقًا من كتاب الاستقراض بلفظٍ: ويذكر عن

النبي صلى الله عليه وسلم.

(1)

مسلم (1564) كتاب: المساقاة، باب تحريم مطل الغني، وصحة الحوالة.

(2)

"المسند" 2/ 463.

(3)

كلام المصنف رحمه الله هنا مشكل فهو -فيما يظهر- يستغرب قول أبي مسعود وخلف والطرقي في كون البخاري رواه في الحوالة عن محمد بن يوسف. وهو عنده بالفعل عن محمد بن يوسف في الطريق التالي مباشرة لحديث الباب، وقد بوب عليه البخاري: باب إذا أحال على ملي فليس له رد.

وهذا الباب وإن كان قد ثبت في بعض النسخ وسقط من بعضها -فيكون عذرًا للمؤلف- إلا أنه أورد الباب بعدُ، وذكر أن البخاري ذكر فيه الحديث مما يعني أنه ثبت عنده في نسخته، فيبقى استغرابه غير معروف السبب.

(4)

سبق بيان أنه عند البخاري عن كليهما: حديث الباب (2287) من طريق عبد الله بن يوسف عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج به، وكرره في الباب التالي برقم (2288) من طريق محمد بن يوسف عن سفيان عن ابن ذكوان عن الأعرج به.

وأما قوله: ومن طريقه -أي محمد بن يوسف- خرجه الترمذي عن الثوري. فالذي في الترمذي (1308) عن محمد بن بشار (بندار)، عن عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن أبي الزناد عن الأعرج به. وليس من طريق محمد بن يوسف. والله أعلم.

(5)

ابن ماجه (2404).

(6)

أبو داود (3628).

ص: 112

قال سفيان: عرضه: ويقول: مطلتني، وعقوبته: الحبس

(1)

.

وقال ابن المبارك: يحل عرضه: يغلظ عليه، وعقوبته: يحبس له.

وأخرجه ابن أبي شيبة بلفظ: يحل دينه وعقوبته

(2)

.

وأخرجه الطبراني من حديث وبر بن أبي دُلَيْلة (خ م د س ق)، عن محمد بن عبد الله بن ميمون، عن عمرو بن الشريد، عن أبيه فذكره من طريقين بلفظ البخاري قال: سفيان يحل عرضه أن تشكوه. قال الطبراني: والصواب وبر بن أبي دُليلة بضم الدال، ورواه النعمان بن عبد السلام عن سفيان فقال بنصب الدال

(3)

.

قلت: والوبره دويبة -بالسكون- أصغر من السنور لا ذنب لها، والجمع وبر ووبار وبه سمى الرجل، قاله الجوهري

(4)

.

وقوله: ("ليُّ") هو بفتح اللام وتشديد الياء أي -مَطْله- يقال: لوى بذنبه ليًّا وليانًا، وأصل لي: لوي إلا أنه لما اجتمع حرفا علة وسبق الأول بالسكون قلبت ياء وأدغم في الياء الثانية، مثل: عيشة مرضية.

والواجد بالجيم. وعرضه: لومه وعقوبته كما سلف من تفسير سفيان وغيره.

والواجد: الغني الذي يجد ما يقضي به دينه وحل حبسه إذا أخفي المال، فإن كان ظاهرًا قضى به لغريمه.

وفيه: دليل على أن المعسر لا يحبس لعدم وجدانه.

(1)

سيأتي قبل حديث (2401).

(2)

"المصنف" 4/ 491 (22395) وفيه: يحل عرضه وعقوبته. وليس في دينه.

(3)

"المعجم الكبير" 7/ 318 (7249، 7250).

(4)

"الصحاح" 2/ 841 مادة: (وبر).

ص: 113

والعرض: موضع المدح والذم من الإنسان، سواء أكان في نفسه أو سلف أو من يلزمه أمره، وقيل: هو جانبه الذي يصونه من نفسه وحسبه ويحامي عنه أن ينتقص ويثلب.

وقال ابن قتيبة: عرض الرجل نفسه وبدنه لا غير

(1)

. وفي "الفصيح": هو ريح الرجل الطيبة أو الخبيثة. ويقال: هو نقي العرض. أي: بريء من أن يشتم أو يعاب

(2)

.

وعن ابن السِّيْدِ: في الحديث أوضح حجة لمن قال: إن عرض الرجل ذاته؛ لأنه لم يبح له أن يقول في آبائه وأسلافه، إنما أباح له أن يقول فيه نفسه. وقال ابن خالويه: العرض: الجلد يقال: هو نقى العرض أي: لا يغلب بشيء وقال التدميري: هو جسد الإنسان، وقد سلف أيضًا في الحج.

إذا تقرر ذلك؛ فالكلام في مواضع:

أحدها:

المطل أصله فيما ذكره ابن فارس من قولهم: مطلت الحديدة أمطلها مطلًا إذا مددتها لتطول

(3)

. وقال ابن سيده: المطل: التسويف بالعدة والدين، مطله حقه يمطله مطلًا فأمطل

(4)

.

قال القزاز: والفاعل ماطل ومماطل، والمفعول ممطول، ومماطل، وتقول: ماطلني ومطلني حقي.

(1)

"أدب الكاتب" 1/ 27

(2)

"الفصيح" ص 285.

(3)

"المجمل" ص 833 مادة: (مطل).

(4)

"المحكم" 9/ 150 (مطل).

ص: 114

وقوله تعالى: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء: 148] في مطل الدين كما قاله ابن التين، وقيل فيمن يستضيف فلا يضاف. وقيل: يريد المكره على الكفر فهو مظلوم. وعن مجاهد أن رجلًا نزل بقوم فأساءوا قراه فشكاهم، فنزلت هذِه الآية رخصة في أن يشكو

(1)

.

وعبارة القرطبي: المطل: عدم قضاء ما استحق أداؤه مع التمكن منه وطلب المستحق حقه، وللإمام أدبه وتعزيره حتى يرتدع عن ذلك، حكي معناه عن سفيان

(2)

.

ثانيها:

الظلم: وضع الشيء في غير موضعه له، وشرعًا محرم مذموم، ووجهه هنا أنه وضع المنع موضع ما يجب عليه من البذل، فحاق به الذم والعقاب، والذي أضيف المطل إليه هو الذي عليه الحق؛ بدليل

"لي الواجد" ولا يلتفت لقول من قال: إنه صاحب الحق؛ لبعده وعدم ما يدل عليه

(3)

.

وعن أصبغ وسحنون: ترد شهادة الملي إذا مطل؛ لكونه سمي ظالمًا

(4)

، وعند الشافعي بشرط التكرار، وقيل: المعنى أن مطل الغني بدينه، فيكون المطل على هذا من الغريم الذي عليه الدين فمع الفقر أحرى وأولى، حكاه ابن التين. قال: والجمهور على القول الأول.

(1)

انظر أقوال مجاهد في هذِه الآية "تفسير الطبري" 4/ 340 - 341 (10758 - 10766).

(2)

"المفهم" 4/ 438.

(3)

نقله عن القرطبي في "المفهم" 4/ 439.

(4)

انظر: "مواهب الجليل" 8/ 200.

ص: 115

ثالثها:

قوله: ("فليتبع") هو بإسكان التاء في أتبع، وهو الصواب المشهور في الروايات والمعروف في كتب اللغة والغريب، وعن بعضهم أنه بالتشديد في الثانية. ومن الأول قوله تعالى:{ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا} [الإسراء: 69] قال الخطابي: أكثر المحدثين يقولونه بالتشديد والصواب التخفيف

(1)

.

رابعها:

مذهب الشافعي وغيره أنه إذا أحيل على ملي استحب له قبول الحوالة وحملوا الحديث على الندب؛ لأنه من باب التيسير على المعسر، وقيل: واجب. وقيل: مباح. وإلى الوجوب ذهب داود وغيره، وعن أحمد روايتان: الوجوب، والندب ولما سأل ابن وهب مالكًا عنه قال: هذا أمر ترغيب وليس بإلزام، وينبغي له أن يطيع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، بشرط أن يكون بدين وإلا فلا حوالة؛ لاستحالة حقيقتها إذ ذاك وإنما تكون حَمالة

(2)

.

خامسها:

من شرطها أيضًا تساوي الدينين قدرًا وجنسًا وصفةً، كالحلول والتأجيل والصحة والكسر، ومن العلماء من أجازها في النقدين فقط ومنعوها في الطعام؛ لأنه بيع طعام قبل أن يستوفى، وأجازه مالك إذا كان الطعامان كلاهما من قرض إذا كان دين المحال حالًّا، وأما إذا

(1)

"معالم السنن" 3/ 640.

(2)

انظر: "مختصر الطحاوي" ص 102، "الاختيار" 3/ 3، "عيون المجالس" 4/ 1659 - 1661، "المعونة" 2/ 199، "البيان" 6/ 286، "روضة الطالبين" 4/ 228، "المغني" 7/ 62 - 63، "الشرح الكبير" 13/ 89 - 90، "المحلى" 8/ 108.

ص: 116

كان أحدهما من سلم فإنه لا يجوز، إلا أن يكون الدينان حالين.

وعند ابن القاسم وغيره من أصحاب مالك: يجوز ذلك إذا كان الدين المحال به حالًّا.

ولم يفرق الشافعي؛ لأنه كالبيع في ضمان المستقرض وأما أبو حنيفة فأجازها بالطعام وشبهه بالدراهم، وجعلها خارجة عن الأصول؛ لخروج الحوالة بالدراهم. ولها عند مالك ثلاثة شروط: أن يكون دين المحال حالًّا، وإلا كان دينًا بدين، وأن يكون الدين الذي يحيله به مثل الذي يحيله عليه فيما سلف؛ لأنه إذا اختلف كان بيعًا لا حوالة يخرج من باب الرخصة إلى باب البيع، فيدخل الدين بالدين، وأن لا يكون الدينان طعامين من سلف أو أحدهما ولم يحل الدين المحال به على مذهب ابن القاسم

(1)

.

سادسها:

جمهور العلماء على أن الحوالة ضد الحمالة في أنه إذا أفلس المحال عليه لا يرجع صاحب الدين على المحيل بشيء. وقال أبو حنيفة: يرجع صاحب الدين على المحيل إذا مات المحال عليه مفلسًا، أو حكم بإفلاسه، أو جحد الحوالة ولم يكن له بينة، وبه قال شريح وعثمان البتي والشعبي والنخعي وأبو يوسف ومحمد وجماعة.

وقال الحكم: لا يرجع ما دام حيًّا حتى يموت، ولا يترك شيئًا، فإن الرجل يوسر مرة ويعسر أخرى، ويشترط عندنا رضا المحيل والمحتال لا المحال عليه في الأصح وفاقًا لمالك. وعند أبي حنيفة وداود مقابله.

(1)

انظر: "بداية المجتهد" 4/ 1478، "البيان" 6/ 281 - 284، "الكافي" 3/ 287 - 290، "المغني" 7/ 56 - 57.

ص: 117

وقال الشافعي وأحمد وأبو عبيد والليث وأبو ثور: لا يرجع عليه وإن توي وسواء غره بالفلس أو طول عليه أو أنكره. وقال مالك: لا يرجع على الذي أحاله إلا أن يغره بفلس

(1)

.

سابعها:

استنبط بعضهم من قوله: "مطل الغني ظلم" أن الحوالة إنما تكون بعد حلول أجل الدين؛ لأن المطل لا يكون إلا بعد الحلول.

تنبيهات:

أحدها: قال ابن المنذر: هذا الخبر يدل على معان منها: أن من الظلم دفع الغني صاحب المال عن ماله بالمواعيد، ومن لا يقدر على القضاء غير داخل في هذا المعنى؛ لأن الله جل ذكره قد أنظره بقوله:{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280]. وفيه ما دل على تحصين الأموال، وذلك أمره باتباع المليِّ دون المعدم؛ لأنه خص بقوله:"وإذا أتبع أحدكم على مليٍّ فليتبع" فدل أن من أتبع على غير مليٍّ فلا يتبع.

ثانيها: تحصلنا على أربعة أقوال: قول الحسن، وقتادة، وقول مالك فيمن غرَّه، والشافعي لم يغره، وقول أبي حنيفة السالف.

وذكر عن الحسن وشريح وزفر أن الحوالة كالضمان، وأنه يرجع على أيهما شاء فهذا ضامن

(2)

.

(1)

انظر: "مختصر الطحاوي" ص 102 - 103، "عيون المجالس" 4/ 1662 - 1664، "القوانين الفقهية" ص 322، "الإشراف" 2/ 51 - 52، "روضة الطالبين" 4/ 232، "الكافي" 3/ 290 - 291، "المغني" 7/ 60 - 61.

(2)

انظر: "الإشراف" 2/ 51.

ص: 118

ثالثها: الحديث دال على أبي حنيفة في قوله: إن المحيل لا يبرأ؛ لأنه شرط الملاءة، فدل على أن لا رجوع وإلا لما كان لاشتراطها معنى.

قال ابن التين: وفيه: دليل على الشافعي في قوله: يبرأ المحيل وإن غر بفلس المحال عليه؛ لاشتراط الملاءة وهو غير مليٍّ. قلت: لا فهو مقصر.

ص: 119

‌2 - باب إِذَا أَحَالَ عَلَى مَلِيٍّ فَلَيْسَ لَهُ رَدٌّ

2288 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ ذَكْوَانَ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَطْلُ الغَنِيِّ ظُلْمٌ، وَمَنْ أُتْبِعَ عَلَى مَلِيٍّ فَلْيَتَّبِعْ". [انظر: 2287 - مسلم: 1564 - فتح: 4/ 466]

ذكر فيه حديث أَبِي هُرَيْرَةَ المذكور في الباب قبله: "وَمَنْ أُتْبعَ عَلَى مَلِيٍّ فَلْيَتَبعْ".

وقد فرغنا منه آنفًا.

ص: 120

‌3 - باب إِنْ أَحَالَ دَيْنَ المَيِّتِ عَلَى رَجُلٍ جَازَ

2289 -

حَدَّثَنَا المَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذْ أُتِيَ بِجَنَازَةٍ، فَقَالُوا: صَلِّ عَلَيْهَا. فَقَالَ: "هَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؟ ". قَالُوا: لَا. قَالَ: "فَهَلْ تَرَكَ شَيْئًا؟ ". قَالُوا: لَا. فَصَلَّى عَلَيْهِ، ثُمَّ أُتِيَ بِجَنَازَةٍ أُخْرَى، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، صَلِّ عَلَيْهَا. قَالَ:"هَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؟ ". قِيلَ: نَعَمْ. قَالَ: "فَهَلْ تَرَكَ شَيْئًا؟ ". قَالُوا: ثَلَاثَةَ دَنَانِيرَ. فَصَلَّى عَلَيْهَا، ثُمَّ أُتِيَ بِالثَّالِثَةِ، فَقَالُوا: صَلِّ عَلَيْهَا. قَالَ: "هَلْ تَرَكَ شَيْئًا؟ ". قَالُوا: لَا. قَالَ: "فَهَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؟ ". قَالُوا: ثَلَاثَةُ دَنَانِيرَ. قَالَ: "صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ". قَالَ أَبُو قَتَادَةَ: صَلِّ عَلَيْهِ يَا رَسُولَ اللهِ، وَعَلَيَّ دَيْنُهُ. فَصَلَّى عَلَيْهِ. [2295 - فتح: 4/ 466]

ذكر فيه حديث سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ: كُنَّا عِنْدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذْ أُتِيَ بِجَنَازَةٍ، فَقَالُوا: صَلِّ عَلَيْهَا. فَقَالَ: "هَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؟ ". قَالُوا: لَا .. إلى أَن قال: ثُمَّ أُتِيَ بِالثَّالِثَةِ، فَقَالُوا: صَلِّ عَلَيْهَا. قَالَ: "هَلْ تَرَكَ شَيْئًا؟ ". قَالُوا: لَا. قَالَ: "فَهَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؟ ". قَالُوا: ثَلَاثَةُ دَنَانِيرَ. قَالَ: "صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ". قَالَ أَبُو قَتَادَةَ: صَلِّ عَلَيْهِا يَا رَسُولَ اللهِ، وَعَلَيَّ دَيْنُهُ. فَصَلَّى عَلَيْهِ.

هذا الحديث من أفراده، وهو أحد ثلاثياته، وللترمذي مصححًا عن أبي قتادة لما قال: هو علي يا رسول الله، قال:"بالوفاء؟ " قال: بالوفاء

(1)

. ولابن ماجه: فقال أبو قتادة: أنا أتكفل به

(2)

. ولأبي داود من حديث جابر: قال أبو قتادة: هما علي يا رسول الله

(3)

.

(1)

الترمذي (1069).

(2)

ابن ماجه (2407).

(3)

أبو داود (3343).

ص: 121

وفي الحاكم وقال: صحيح الإسناد عن جابر فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "هما عليك وفي مالك، والميت منهما بريء" قال: نعم، فصلى عليه، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لقي أبا قتادة يقول:"ما صنعت الديناران" حتى كان آخر ذلك قال: قد قضيتهما يا رسول الله قال: "الآن حين بردت عليه جلده"

(1)

وللطحاوي مثله، وفيه: فقال أبو اليسر أو غيره: هو عليَّ

(2)

.

وللطبراني من حديث أسماء فقال أبو قتادة: أنا بدينه يا رسول الله

(3)

وللدارقطني من حديث عليٍّ نحوه

(4)

.

إذا تقرر ذلك؛ فالكلام عليه من أوجه:

أحدها:

ترجم البخاري على الحوالة وذكر حديثًا في الضمان؛ لأن الحوالة والحمالة عند بعض العلماء معناهما متقارب، وهو قول ابن أبي ليلى، وإليه ذهب أبو ثور؛ فلهذا أجاز أن يعبر عن الضمان بما حال؛ لأنه كله نقل ذمة رجل إلى ذمة آخر، ونقل ما على رجل من دين إلى آخر.

والحمالة في حديث أبي قتادة براءة لذمة الميت فصار كالحوالة سواء.

وقد اختلف العلماء في الرجل يضمن دينًا معلومًا عن ميت بعد موته ولم يترك الميت وفاء، فقالت طائفة: إن الضمان له لازم، ترك الميت شيئًا أم لا، هذا قول ابن أبي ليلى، وبه قال مالك والشافعي.

(1)

"المستدرك" 2/ 58.

(2)

"شرح مشكل الآثار" 10/ 334 (4145).

(3)

"المعجم الكبير" 24/ 184 (466).

(4)

"السنن" 3/ 46 - 47.

ص: 122

وقال أبو حنيفة: لا ضمان على الكفيل؛ لأن الدين قد توي، فإن ترك شيئًا ضمن الكفيل بقدر ما ترك، فإن ترك وفاء فهو ضامن لجميع ما تكفل به. قال ابن المنذر: فخالف الحديث، وفي امتناعه عليه السلام أن يصلي عليه قبل ضمان أبي قتادة وصلاته عليه بعده البيان الواضح على صحة ضمانه، وأن من ضمن عن ميت دينًا فهو له لازم ترك الميت شيئًا أم لا؛ لأنهم قالوا له: ما ترك وفاء

(1)

.

ثانيها:

فيه حجة على أبي حنيفة أيضًا في قوله أنه لا تصح الكفالة بغير قبول الطالب، وخالفه أبو يوسف فقال: الكفالة جائزة كان له مخاطب أو لم يكن. وقال ابن القاسم: لا أحفظ عن مالك فيه شيئًا، وأراه لازمًا. وأجازه الشافعي إذا عرف مقدار ما تكفل به.

وقال الطحاوي: قد أجاز عليه السلام ضمان أبي قتادة من غير قبول المضمون له، فدل على صحة قول أبي يوسف

(2)

.

ثالثها:

اختلفوا إذا تكفل عن رجل بمال هل للطالب أن يأخذ ممن شاء منهما. فقال الثوري والكوفيون والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق: يأخذ أيهما شاء من المطلوب أو من الكفيل حتى يستوفي حقه، وهذا كان قول مالك ثم رجع عنه فقال: لا يأخذ الكفيل إلا أن

(1)

انظر: "الهداية" 3/ 97، "بدائع الصنائع" 6/ 3، "المعونة" 2/ 202 - 203، "القوانين الفقهية" ص 320، "البيان" 6/ 304 - 305، "روضة الطالبين" 4/ 140، "المغني" 7/ 83 - 84.

(2)

انظر: "مختصر الطحاوي" ص 104، "مختصر اختلاف العلماء" 4/ 259، "الروضة" 4/ 259، "المغني" 7/ 104 - 105.

ص: 123

يفلس الغريم أو يغيب. وقالت طائفة: الكفالة والحوالة والضمان سواء، ولا يجوز أن يكون شيء واحد عن اثنين على كل واحد منهما، هذا قول أبي ثور.

وقال ابن أبي ليلى: إذا ضمن الرجل عن صاحبه مالًا تحول على الكفيل وبرئ صاحب الأصل إلا أن يشترط المكفول له عليهما أن يأخذ أيهما شاء، واحتج ببراءة الميت من الدين بضمان أبي قتادة؛ ولذلك صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وحجة مالك أن يأخذ الذي عليه الحق فإن وفَّى بالدين وإلا أُخذ ما نقصه من الحميل، فلأن الذي عليه الحق قد أخذ عوض ما يؤخذ منه ولم يأخذ الحميل عوض ما يؤخذ منه، وإنما دخل على وجه

المكرمة والثواب فكافت التبدئة بالذي عليه الحق أولى إلا أن يكون الذي عليه الحق غائبًا أو معدمًا فإنه يؤخذ من الحميل، فإنه معذور في أخذه في هذِه الحال

(1)

.

قال ابن بطال: وهذا قول حسن، والقياس أن للرجل مطالبة أي الرجلين شاء، وحجة هذا القول الحديث السالف عن رواية الطحاوي، فإن فيه: فجاءَهُ من الغد يتقاضاه فقال: إنما كان ذلك أمس، ثم أتاه من بعد الغد فأعطاه، فدل أن المطلوب لا يبرأ بكفالة الكفيل عنه، وأن للطالب أن يأخذ بعد الكفالة أيهما شاء، ولما كان الضامن يلزمه إذا ضمن كما يلزم المديان أداء ما عليه كان صاحب الحق مخيرًا أن يأخذ ممن شاء منهما

(2)

.

(1)

انظر: "مختصر الطحاوي" ص 103، "المعونة" 2/ 202، "عيون المجالس" 4/ 1671 - 1672، "الإشراف" 2/ 50، "الروضة" 4/ 264، "المغني" 7/ 86.

(2)

"شرح ابن بطال" 6/ 420.

ص: 124

رابعها:

تركه عليه السلام الصلاة على المديان إنما هو أدب للأحياء لئلا يستأكلوا أموال الناس فتذهب، وكان هذا في أول الإسلام قبل الفتوح الذي جعل الله منه نصيبًا لقضاء دين المسلم فلما فتحت قال:"أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن تُوفي وعليه دين فعليَّ قضاؤه، ومن ترك مالًا فهو لورثته" أخرجاه من حديث أبي هريرة

(1)

.

وهذِه عقوبة في أمور الدين أصلها المال، فلما جاز أن يعاقب في طريق دينه على سبب المال جاز أن يعاقب في المال على سبيل الدين، كما توعد عليه السلام من لم يخرج إلى المسجد أن يحرق بيته، وسيأتي ناسخه في آخر باب من تكفل عن ميت دينًا إن شاء الله

(2)

.

فرع:

لا رجوع إذا ضمن عن الميت في التركة لتطوعه، خلافًا لمالك إن ادعى الرجوع.

خامسها:

فيه إشعار بصعوبة أمر الدين وأنه لا ينبغي تحمله إلا من ضرورة وأبعد بعضهم فقال: إنما كان يمتنع من دين غير جائز، والصواب ما قدمناه.

سادسها:

حديث أبي هريرة السالف صريح في نسخ المنع، وفي رواية

(1)

سيأتي عند البخاري برقم (2298) كتاب: الكفالة، باب: الدين، ومسلم (1619) كتاب: الفرائض، باب: من ترك مالًا فلورثته.

(2)

سيأتي برقم (2295) كتاب: الكفالة.

ص: 125

للحازمي وإن قال: إنها غير محفوظة إلا أنه جيد في باب المتابعات من حديث ابن عباس أنه لما امتنع من الصلاة جاءه جبريل فنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن الله عز وجل يقول إنما الظالم عندي في الديون التي حملت في البغي والإسراف والمعصية، وأما المتعفف ذو العيال فأنا ضامن أن أؤدي عنه، فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وقال بعد ذلك:"من ترك ضياعًا .. "

(1)

الحديث، وقيل: نسخه قوله تعالى: {وَالْغَارِمِينَ} [التوبة: 60] ذكر أن ذلك في الأحياء، وقيل: فيهما، قاله ابن حبيب.

سابعها:

قضاء دين الميت المعسر كان من خصائصه وفي الإمام بعده وجه لسد رمقه، وإن كان يحتمل -كما قال القرطبي- أنه يكون تبرعًا من مكارم أخلاقه

(2)

، وقيل: كان يقضيه من ماله.

قال ابن بطال في باب من تكفل عن ميت دينًا: فإن لم يعط الإمام

عنه شيئًا وقع القصاص منه في الآخرة ولم يحبس الميت عن الجنة بدين له مثله في بيت المال؛ إلا أن يكون دينه أكثر مما له بيت المال، وإن لم يتعين عنده مال فمن ماله، يعلمه الذي أحصى كل شيء عددًا، ومحال أن يحبس عن الجنة من له الحسنات عند من ظلمه ولا يقدر على الانتصاف منه في الدنيا مما يفي بدينه

(3)

.

(1)

رواه الحازمي في "الاعتبار" ص 99. وقال: هذا الحديث بهذا السياق غير محفوظ وهو جيد في باب المتابعات.

(2)

"المفهم" 4/ 575.

(3)

"شرح ابن بطال" 6/ 428.

ص: 126

خاتمة:

الجنازة. بالكسر للسرير، وبالفتح للميت وقيل: عكسه، وقيل: لغتان كما سلف في موضعه.

وقوله في الأولى: ("هل ترك شيئًا؟ ") قال الداودي: لا أراه محفوظًا؛ لأنه إذا لم يكن عليه دين لا يسأل عما ترك.

وفيه: أن ضمان الدين عن الميت يبرأ به؛ لأنه صلى عليه إذ ذاك.

قال الخطابي: وفيه فساد قول من قال: إن المؤدي عنه يملكه أولًا على الضامن؛ لأن الميت المضمون عنه الدين لا يصح له ملك، وهذا نسب إلى مالك.

ص: 127

39

كتاب الكفالة

ص: 129

بسم الله الرحمن الرحيم

‌39 - كتاب الكفالة

‌1 - باب الكَفَالَةِ

(1)

فِي القَرْضِ وَالدُّيُونِ بِالأَبْدَانِ وَغَيْرِهَا

2290 -

وَقَالَ أَبُو الزِّنَادِ: عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو الأَسْلَمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه بَعَثَهُ مُصَدِّقًا، فَوَقَعَ رَجُلٌ عَلَى جَارِيَةِ امْرَأَتِهِ، فَأَخَذَ حَمْزَةُ مِنَ الرَّجُلِ كَفِيلًا حَتَّى قَدِمَ عَلَى عُمَرَ، وَكَانَ عُمَرُ قَدْ جَلَدَهُ مِائَةَ جَلْدَةٍ، فَصَدَّقَهُمْ، وَعَذَرَهُ بِالجَهَالَةِ. وَقَالَ جَرِيرٌ وَالأَشْعَثُ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ فِي المُرْتَدِّينَ: اسْتَتِبْهُمْ، وَكَفِّلْهُمْ. فَتَابُوا وَكَفَلَهُمْ عَشَائِرُهُمْ. وَقَالَ حَمَّادٌ: إِذَا تَكَفَّلَ بِنَفْسٍ فَمَاتَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَقَالَ الحَكَمُ: يَضْمَنُ. [فتح: 4/ 469]

2291 -

قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضى الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلًا مِنْ بَنِي

(1)

في هامش (س): في نسخة: كفارة.

ص: 131

إِسْرَائِيلَ: "سَأَلَ بَعْضَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يُسْلِفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ، فَقَالَ: ائْتِنِى بِالشُّهَدَاءِ أُشْهِدُهُمْ. فَقَالَ: كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا. قَالَ: فَأْتِنِي بِالكَفِيلِ. قَالَ: كَفَى بِاللهِ كَفِيلًا. قَالَ: صَدَقْتَ. فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، فَخَرَجَ فِي البَحْرِ، فَقَضَى حَاجَتَهُ، ثُمَّ التَمَسَ مَرْكَبًا يَرْكَبُهَا، يَقْدَمُ عَلَيْهِ لِلأَجَلِ الَّذِي أَجَّلَهُ، فَلَمْ يَجِدْ مَرْكَبًا، فَأَخَذَ خَشَبَةً، فَنَقَرَهَا فَأَدْخَلَ فِيهَا أَلْفَ دِينَارٍ، وَصَحِيفَةً مِنْهُ إِلَى صَاحِبِهِ، ثُمَّ زَجَّجَ مَوْضِعَهَا، ثُمَّ أَتَى بِهَا إِلَى البَحْرِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ تَسَلَّفْتُ فُلَانًا أَلْفَ دِينَارٍ، فَسَأَلَنِي كَفِيلًا، فَقُلْتُ: كَفَى بِاللهِ كَفِيلًا، فَرَضِيَ بِكَ، وَسَأَلَنِي شَهِيدًا، فَقُلْتُ: كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا، فَرَضِيَ بِكَ، وَأَنِّي جَهَدْتُ أَنْ أَجِدَ مَرْكَبًا، أَبْعَثُ إِلَيْهِ الَّذِي لَهُ فَلَمْ أَقْدِرْ، وَإِنِّي أَسْتَوْدِعُكَهَا. فَرَمَى بِهَا فِي البَحْرِ حَتَّى وَلَجَتْ فِيهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ، وَهْوَ فِي ذَلِكَ يَلْتَمِسُ مَرْكَبًا، يَخْرُجُ إِلَى بَلَدِهِ، فَخَرَجَ الرَّجُلُ الَّذِى كَانَ أَسْلَفَهُ، يَنْظُرُ لَعَلَّ مَرْكَبًا قَدْ جَاءَ بِمَالِهِ، فَإِذَا بِالخَشَبَةِ التِي فِيهَا المَالُ، فَأَخَذَهَا لأَهْلِهِ حَطَبًا، فَلَمَّا نَشَرَهَا وَجَدَ المَالَ وَالصَّحِيفَةَ، ثُمَّ قَدِمَ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ، فَأَتَى بِالأَلْفِ دِينَارٍ، فَقَالَ وَاللهِ مَا زِلْتُ جَاهِدًا فِي طَلَبِ مَرْكَبٍ لآتِيَكَ بِمَالِكَ، فَمَا وَجَدْتُ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي أَتَيْتُ فِيهِ. قَالَ: هَلْ كُنْتَ بَعَثْتَ إِلَيَّ بِشَىْءٍ؟ قَالَ: أُخْبِرُكَ أَنِّي لَمْ أَجِدْ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي جِئْتُ فِيهِ. قَالَ فَإِنَّ اللهَ قَدْ أَدَّى عَنْكَ الَّذِي بَعَثْتَ فِي الخَشَبَةِ. فَانْصَرِفْ بِالأَلْفِ الدِّينَارِ رَاشِدًا". [انظر: 1498 - فتح: 4/ 469]

كذا في أكثر النسخ، وفي بعضها: القروض بدل (القرض).

وَقَالَ أَبُو الزِّنَادِ: عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو الأَسْلَمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ عُمَرَ بَعَثَهُ مُصَدِّقًا، فَوَقَعَ رَجُلٌ عَلَى جَارِيَةِ امْرَأَتِهِ، فَأَخَذَ حَمْزَةُ مِنَ الرجل (كفلاء)

(1)

حَتَّى قَدِمَ عَلَى عُمَرَ، وَكَانَ عُمَرُ قَدْ جَلَدَهُ مِائَةَ جَلْدَةٍ، فَصدَّقَهُمْ، وَعَذَرَهُ بِالجَهَالَةِ.

(1)

كذا بالأصل.

ص: 132

وَقَالَ جَرِيرٌ وَالأَشْعَثُ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ فِي المُرْتَدِّينَ: اسْتَتِبْهُمْ وَكَفِّلْهُمْ. فَتَابُوا وَكَفَلَهُمْ عَشَائِرُهُمْ. وَقَالَ حَمَّادٌ: إِذَا تَكَفَّلَ بِنَفْسٍ فَمَاتَ فَلَا شَئ عَلَيْهِ. وَقَالَ الحَكَمُ: يَضْمَنُ.

وَقَالَ اللَّيْثُ .. فساق حديث الخشبة التي فيها ألف دينار، وقد سلف

(1)

.

أما أثر أبي الزناد فذكره مختصرًا، وقد طوله ابن وهب في "موطئه" عن ابن أبي الزناد، عن أبيه، وساقه الطحاوي أيضًا من طريقه: حدثني محمد، عن أبيه حمزة أن عمر بن الخطاب بعثه مصدقًا على بني سعد بن هذيم فأتى حمزة بمال ليصدقه فإذا رجل يقول لامرأة: صدقي مال مولاك. وإذا المرأة تقول: بل أنت أدِّ صدقة مال ابنك. فسأل حمزة عن أمرهما فأخبر أن ذلك الرجل زوج تلك المرأة، وأنه وقع على جارية لها فولدت ولدًا فأعتقته امرأته، فقالوا: هذا المال لابنه من جاريتها. فقال حمزة: لأرجمنك بحجارتك، فقال له أهل الماء: أصلحك الله إن أمره رفع إلى عمر بن الخطاب فجلده مائة ولم ير عليه رجمًا، فأخذ حمزة بالرجل كفلاء حتى قدم على عمر فسأله عما ذكر أهل الماء من جلد عمر إياه مائة جلدة وأنه لم ير عليه رجمًا، قال: فصدقهم عمر بذلك من قولهم، وإنما درأ عنه (عبد الرحمن)

(2)

؛

لأنه عذره بالجهالة

(3)

.

وعند الطحاوي أيضًا من حديث جون بن قتادة عن سلمة بن المحبق أن رجلًا زنى بجارية امرأته فقال صلى الله عليه وسلم: "إن كان استكرهها فهي حرة

(1)

فوقها في (س): اختصرها المصنف.

(2)

كذا بالأصل، وفي الهامش: صوابه: عمر.

(3)

"شرح معاني الآثار" 3/ 147 (4876).

ص: 133

وعليه مثلها، وإن كانت طاوعته فعليه مثلها" زاد في حديث قبيصة بن حريث، عن سلمة ولم يقم عليه حدًّا.

قال أبو جعفر: فذهب قوم إلى هذا وقالوا: هذا هو الحكم فيمن زنى بجارية امرأته، قالوا: وقد عمل بذلك ابن مسعود.

وخالفهم فيه آخرون، فقالوا: بل نرى عليه الرجم إن كان محصنًا والجلد إن لم يكن. وروى حديث هشام عن أبي بشر، عن حبيب بن سالم أن رجلًا وقع بجارية امرأته، فأتت امرأته النعمان بن بشير فأخبرته؛ فقال: أما إن لك عندي في ذلك خبرًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كنت أذنت له جلدته مائة، وإن كنت لم تأذني له رجمته. قال: قوله: (جلدناه مائة) هي عندنا تعزير، كأنه درأ عنه الحد بوطء الشبهة، وعزره بركوبه ما لا يحل له، فإن قيل: أفيعزر الحاكم مائة؟ قلنا: نعم

قد عزر رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة.

حديث النعمان عندنا ناسخ لما رواه ابن المحبق، وذلك أن الحكم كان في أول الإسلام يوجب عقوبات في أموال وأبدان لقوله: إنا آخذوها وشطر ماله. وحديث أبي هريرة: في ضالة الإبل: غرامتها ومثلها معها. وفي حديث عمرو بن العاصي: في مراح الماشية ففيه غرامة مثله وجلدات نكال حتى نسخ بتحريم الزنا.

وأما ما ذكر عن ابن مسعود فقد خولف فيه، روى عبد الرحمن السلمي عن علي أنه قال: لا أوتى برجل وقع على جارية امرأته إلا رجمته.

وحمزة بن عمرو أيضًا لم ينكر عليه عمر قوله: لأرجمنه، فوافق عليًّا، وما رواه النعمان قد أنكر على ابن مسعود إذ لم ير عليه حدًّا

ص: 134

لما بلغه: لو أتاني صاحب ابن أم عبد لرضخت رأسه بالحجارة، فلم يدر ابن أم عبد ما حدث بعده. قد أفتى علقمة بخلاف قول صاحبه ابن مسعود، وهو قول أبي حنيفة وصاحبيه

(1)

.

وقال الداودي: لعل حمزة أخذ الكفيل، يجب عليه من نقص الجارية.

وقال ابن المنير: أخذ البخاري من الكفالة بالأبدان في الحدود الكفالة بالأبدان في الديون من طريق أولى، فمن هنا وقعت المطابقة.

وقوله في الترجمة: (وغيرها) يعني: غير الأبدان. أي: ظاهر بالحقوق المالية لحديث الخشبة

(2)

، وهو أصل في الكفالة بالديون من قرض كانت أو بيع، والكفالة في القرض الذي هو السالف بالأموال كلها جائزة، والكفالة بالأبدان في الحدود غير صحيحة ويسجن المدعى عليه في الحد حتى ينظر في أمره، إلا أن جمهور الفقهاء قد أجازوا الكفالة بالنفس، وهو قول مالك والليث والثوري والأوزاعي وأبي حنيفة ومحمد، واختلف عن الشافعي فمرة أجازها ومرة ضعفها، وقالت طائفة: لا تجوز الكفالة بالنفس

(3)

.

ولم يختلف الذين أجازوها في النفس أن المطلوب إن غاب أو مات لا يلزم الكفيل قصاص، فصارت الكفالة بالنفس عندهم غير موجبة الحكم في البدن، وشذ أبو يوسف ومحمد فأجازا الكفالة في الحدود

(1)

من قول المصنف (وعند الطحاوي) في هذا الموضع في "شرح معاني الآثار" 3/ 144 - 148، وفيه تصرف كثير يوهم أنه من كلام المصنف.

(2)

"المتواري" ص 256.

(3)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 4/ 253 - 255، "المبسوط" 19/ 162، "عيون المجالس" 4/ 1669 - 1670، "الإشراف" 2/ 55، "البيان" 6/ 342 - 344، "المغني" 7/ 96 - 97.

ص: 135

والقصاص وقالا: إذا قال المقذوف أو المدعي للقصاص: بينتي حاضرة، كفلته ثلاثة أيام.

واحتج لهما الطحاوي بما روى حمزة عن عمر

(1)

، وابن مسعود، وجرير، والأشعث أنهم حكموا بالكفالة في النفس بمحضر من الصحابة حتى كتب إلى عمر في ذلك

(2)

، ولا حجة فيه؛ لأن ذاك إنما كان على سبيل الترهيب على المطلوب والاستيثاق، لا أن ذلك لازم لمن تكفل إذا زال المتكفل به؛ لأنه يؤدي ما ضمن في ذمته عمن تكفل عنه، وإنما تصح الكفالة في الأموال؛ لأنه يؤدي ما ضمن

في ذمته عمن تكفل عنه.

وأصل الكفالة في المال قوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72]. أي: كفيل وضامن.

واختلف الفقهاء فيمن تكفل بالنفس أو بالوجه هل يلزمه ضمان المال؟ فقال الكوفيون: لا، وهو أحد قولي الشافعي، وقال مالك والليث والأوزاعي: نعم ويرجع به على المطلوب، فإن نفاه فلا. حجة المانع أنه تكفل بالنفس فقط فكيف يلزم ما لم يتكفل به

(3)

.

وفي حديث الخشبة أن من صح منه التوكيل على الله فإنه مليّ بنصره وعونه، قال الله تعالى:{وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3].

فالناقر توكل عليه ووثق به في تبليغها وحفظها، والذي سلف وطلب الكفيل صح منه التوكل على الله أيضًا؛ لأنه قنع به كفيلًا فوصل الله إليه

(1)

سبق تخريجه.

(2)

"مختصر اختلاف العلماء" 4/ 255.

(3)

انظر: "بدائع الصنائع" 6/ 4، "الكافي" لابن عبد البر ص 398، "البيان" 6/ 346، "المغني" 7/ 97.

ص: 136

ماله، وسيأتي حكم أخذ الخشبة حطبًا لأهله في اللقطة إن شاء الله تعالى.

وقوله: (فعَذَرَهُ بِالجَهَالَةِ)، أي: فلم يرجمه وضربه المائة تعزيرًا.

وفيه: دليل على مانع وصول التعزير إلى الحد، ومذهب مالك مجاوزته بحسب اجتهاد الإمام

(1)

.

وفي حديث الخشبة جواز الأجل في القرض.

ومعنى: ("زَجَّجَ مَوْضِعَهَا") أصلح موضع النقر وسواه.

قال الخطابي: ولعله من تزجج الحواجب وهو: لقطه شعره الزائد عن حد منبته، وإن أخذ من الزج فيكون النقر قد وقع في طرف من الخشبة فشد عليه زجًّا ليمسكه ويحفظ ما في بطنه

(2)

.

وفيه: أن ما يقذفه البحر لواجده.

قال الداودي: وفيه تبدئة الكاتب بنفسه.

ولعله أخذه من قوله: "وصَحِيفَةً مِنْهُ إِلَى صَاحِبِهِ" وليس ببين.

وفيه: طلب الكفيل في القرض.

و ("جَهَدْتُ") بفتح الهاء من المشقة ويقال: أجهدت.

(1)

"المنتقى" 7/ 143.

(2)

"أعلام الحديث" 2/ 1133.

ص: 137

‌2 - باب قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ

(1)

أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) [النساء: 33]

2292 -

حَدَّثَنَا الصَّلْتُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ إِدْرِيسَ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما:{وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِىَ} [النساء: 33] قَالَ: وَرَثَةً {وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 33] قَالَ: كَانَ المُهَاجِرُونَ لَمَّا قَدِمُوا المَدِينَةَ يَرِثُ المُهَاجِرُ الأَنْصَارِيَّ دُونَ ذَوِي رَحِمِهِ لِلأُخُوَّةِ الَّتِي آخَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُمْ، فَلَمَّا نَزَلَتْ {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِىَ} نَسَخَتْ، ثُمَّ قَالَ:{وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 33] إِلَّا النَّصْرَ وَالرِّفَادَةَ وَالنَّصِيحَةَ، وَقَدْ ذَهَبَ المِيرَاثُ وَيُوصِي لَهُ. [4580، 6747 - فتح: 4/ 472]

2293 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَدِمَ عَلَيْنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، فَآخَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ. [انظر: 2049 - مسلم: 1724 - فتح: 4/ 472]

2294 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ، حَدَّثَنَا عَاصِمٌ قَالَ: قُلْتُ لأَنَسٍ رضي الله عنه: أَبَلَغَكَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا حِلْفَ فِي الإِسْلَامِ؟ ". فَقَالَ: قَدْ حَالَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ قُرَيْشٍ وَالأَنْصَارِ فِي دَارِي. [6083، 7340 - مسلم: 2529 - فتح: 4/ 472]

ذكر فيه عَنِ ابن عَبَّاسٍ: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} [النساء: 33] قَالَ: وَرَثَةً (وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُم) قَالَ: كَانَ المُهَاجِرُونَ لَمَّا قَدِمُوا المَدِينَةَ يَرِثُ المُهَاجِرُ الأَنْصَارِيَّ دُونَ ذَوِي رَحِمِهِ، لِلأُخُوَّةِ التِي آخَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُمْ،

(1)

هي قراءة ابن كثير وأبي عمر ونافع وابن عامر، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي:(عقدت) بغير ألف. وانظر "الحجة للقراء السبعة" 3/ 156، "الكشف عن وجوه القراءات السبع" 1/ 388 - 389.

ص: 138

فَلَمَّا نَزَلَتْ {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} نَسَخَتْ، ثُمَّ قَالَ:(وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ) إِلَّا النَّصْرَ وَالرِّفَادَةَ وَالنَّصِيحَةَ، وَقَدْ ذَهَبَ المِيرَاثُ وُيوصِي لَهُ.

وعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَدِمَ عَلَيْنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، فَآخَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ.

وعن عَاصمٍ: قُلْتُ لأَنَسٍ: أَبَلَغَكَ أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا حِلْفَ فِي الإِسْلَامِ"؟ فَقَالَ: قَدْ حَالَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ قُرَيْشٍ وَالأَنْصَارِ فِي دَارِي.

الشرح:

هذا الحديث

(1)

يأتي في الاعتصام

(2)

أيضًا، وأخرجه مسلم في الفضائل

(3)

، وأبو داود في الفرائض

(4)

.

وأما الموالي في الآية فالأشبه الوارث، وقيل: العاصب.

والآية الأولى (عاقدت) مفاعلة من عقد الحلف، وقرئ {عَقَدَت} هو حلف الجاهلية توارثوا به نسخ بآية الأرحام أو الأخوة التي آخاها الشارع بين المهاجرين والأنصار توار توابها ثم نسخت بقوله {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} [النساء: 33] أو نزلت في أهل العقد بالحلف يرثون نصيبهم من النصر والنصيحة دون الإرث، ومنه حديث:"لا حلف في الإسلام، وما كان من حلف الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة"

(5)

.

أو نزلت في ابن التبني أمروا أن يوصوا لهم عند الموت، أو فيمن أوصى بشيء ثم هلكوا أمروا أن يدفعوا نصيبهم إلى ورثتهم، أقوال.

(1)

ورد بهامش الأصل تعليق نصه: يعني الأخير.

(2)

برقم (7340) باب: ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وحضَّ على اتفاق أهل العلم.

(3)

مسلم (2529) باب: من فضائل نساء قريش.

(4)

أبو داود (2926) باب: في الحلف.

(5)

مسلم (2530) باب: من فضائل نساء قريش.

ص: 139

وقد قال البخاري في التفسير: (عَاقَدَتْ) هو: مولى اليمين وهو الحليف

(1)

.

وذكره ابن أبي حاتم عن جماعة عدتهم ثلاثة عشر نفسًا منهم مجاهد

(2)

، وأسنده عبد الرزاق عنه

(3)

.

وفي "تفسير عبد بن حميد" من حديث موسى بن عبيدة، عن عبد الله بن عبيدة: العقد خمسة: النكاح، والشريك لا يخونه ولا يظلمه، والبيع، والعهد، قال تعالى {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] والحلف. وذكر الآية

(4)

.

وقال مقاتل في "تفسيره": كان الرجل يرغب في الرجل فيحالفه ويعاقده على أن يكون معه وله من ميراثه كبعض ولده، فلما نزلت آية الميراث جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك فنزلت:(وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُم) يقول: أعطوهم الذي سميتم لهم من الميراث

(5)

.

ولما ذكر البخاري في المفسير حديث ابن عباس قال: سمع أبو أسامة إدريس، وإدريس طلحة -يعني ابن مصرف الراوي- عن سعيد بن جبير عن ابن عباس

(6)

.

وكذا صرح به غير واحد منهم: الحاكم في "مستدركه"، وقال:

(1)

سيأتي قبل رقم (4580) باب: قوله: {وَلِكُلٍ جَعَلنَا مَوَلِىَ} .

(2)

"تفسير بن أبي حاتم" 3/ 938.

(3)

"تفسير عبد الرزاق" 1/ 155 (565).

(4)

ذكره السيوطي في الدر، 2/ 448 وعزاه لعبد بن حميد.

(5)

"تفسير مقاتل" آية (33) النساء.

(6)

برقم (4580) باب: قوله: {وَلِكُلٍ جَعَلنَا مَوَلِىَ} .

ص: 140

صحيح على شرطهما

(1)

. وذكر أبو داود في "ناسخه ومنسوخه" عن عكرمة نسخ الحلف بذوي الأرحام، وعن الضحاك نحوه.

وقال النحاس: الذي يجب أن يحمل عليه الحديث -يعني حديث ابن عباس- أن يكون {وَلِكُلٍ جَعَلنَا مَوَلِىَ} [النساء: 33] ناسخًا لما كانوا يفعلونه وإن كان (وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُم) غير ناسخ ولا منسوخ

(2)

. وقال الحسن وقتادة: إنها منسوخة

(3)

.

وممن قال أنها محكمة مجاهد وابن جبير، وبه قال أبو حنيفة، وجعل أولي الأرحام أولَى من أولياء المعاقدة، فإذا فقد ذوو الأرحام ورث المعاقدون وكانوا أحق به من بيت المال، وهو أولى ما قيل في الآية كما قال النحاس. وقد بسطت هذا الموضع في "شرحي لفرائض الوسيط" وكتب الفروع.

قال الطبري: حديث "لا حلف في الإسلام"

(4)

يعارضه حديث أنس السالف، وكان هذا في أول الإسلام، كان آخى بين المهاجرين والأنصار فكانوا يتوارثون بذلك العقد، وعاقد أبو بكر مولى له فورثه

(5)

، وكانت الجاهلية تفعل ذلك، ثم نسخ بذوي الأرحام، ورد المواريث إلى القرابات بالأرحام والحرمة بآية الوصية، وإنما قوله:"ما كان من حلف الجاهلية فلن يزيده الإسلام إلا شدة" فهو ما لم ينسخه الإسلام ولم يبطله حكم القرآن، وهو التعاون على الحق والنصرة على الأخذ

(1)

"المستدرك" 2/ 306.

(2)

"الناسخ والمنسوخ" 2/ 202.

(3)

"تفسير الطبري" 4/ 54 (9267)، 4/ 55 (927)، (9271)، (9272).

(4)

سبق تخريجه.

(5)

رواه سعيد في "سننه" 4/ 1240 (625)، الطبري في "تفسيره" 4/ 54 (9268).

ص: 141

على يد الظالم الباغي، وهو معنى قول ابن عباس: إلا النصرة والرفادة.

إنها مستثناة مما ذكر نسخه من مواريث المعاقدين، وزعم الداودي أنهم في الجاهلية إذا تعاقدوا فإن كان له ورثة سواه فله السدس وإلا ورثه وهذا من قول ابن عباس السالف.

وقول البخاري في التفسير: ({مَوَلِىَ}: أولياء). وفي بعض النسخ (وقال معمر: أولياء: موالي ورثة)

(1)

.

وروى ابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال: الموالي: العصبة -يعني: الورثة- وروى عن مجاهد وجماعات نحوه

(2)

.

وقوله أيضًا: والمولى أيضًا ابن العم، والمولى: المنعم، والمولى: المعتق والمليك، ومولى في الدين.

قلت: هو لفظ مشترك يطلق على أكثر من ذلك. قال الزجاج: المولى: كل من يليك، وكل من والاك في محبة فهو مولى، وذكر أبو موسى المدينى من ذلك المعتق والمحب، والجار، والناصر، والمأوى، والصهر. زاد ابن الأثير: الرب والتابع

(3)

.

زاد ابن الباقلاني في "مناقب الأئمة": المكان، والقرار. وأما بمعنى

المولى فكثير، ولا يعرف في اللغة بمعنى الإمام، فإن قلت: فما وجه دخول حديث ابن عباس ونحوه في الكفالات؟

قلت: أجاب عنه ابن المنير بأن الكفيل والغريم الذي وقعت الحوالة

(1)

ورد بهامش اليونينة 6/ 44: أنها في نسختي: أبي الوقت وأبي ذر الهروي.

(2)

"تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 937.

(3)

"النهاية في غريب الحديث والأثر" 5/ 228.

ص: 142

عليه فينتقل الحق عليه، كما ينتقل هنا حق الوارث عنه إلى الحليف، فشبه انتقال الحق عن المكلف بانتقاله عنه وله.

وفيه: القياس على أصل قد نسخ، وهي قاعدة اختلاف

(1)

.

فائدة:

الحلف: -بكسر الحاء وإسكان اللام كما ضبطه ابن التين- العهد؛ لأنه لا يعقد إلا بحلف، قاله ابن سيده

(2)

.

فمعنى ("لَا حِلْفَ فِي الإِسْلَامِ") أي: لا تعاهدوني على فعل شيء كما كانوا في الجاهلية يتعاهدون؛ أرثني وأرثك، والمحالفة في حديث أنس هو الإخاء، كما نقله ابن التين عن تفسير العلماء، قال: وذلك أن الحلف في الجاهلية هو بمعنى: النصرة في الإسلام.

(1)

"المتواري" ص 257.

(2)

"المحكم" 3/ 221.

ص: 143

‌3 - باب مَنْ تَكَفَّلَ عَنْ مَيِّتٍ دَيْنًا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ

وَبِهِ قَالَ الحَسَنُ.

2295 -

حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِجَنَازَةٍ، لِيُصَلِّيَ عَلَيْهَا، فَقَالَ:"هَلْ عَلَيْهِ مِنْ دَيْنٍ؟ ". قَالُوا: لَا. فَصَلَّى عَلَيْهِ، ثُمَّ أُتِيَ بِجَنَازَةٍ أُخْرَى، فَقَالَ:"هَلْ عَلَيْهِ مَنْ دَيْنٍ؟ ". قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: "صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ". قَالَ أَبُو قَتَادَةَ: عَلَيَّ دَيْنُهُ يَا رَسُولَ اللهِ. فَصَلَّى عَلَيْهِ. [انظر: 2289 - فتح: 4/ 474]

2296 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو، سَمِعَ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهم قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لَوْ قَدْ جَاءَ مَالُ البَحْرَيْنِ، قَدْ أَعْطَيْتُكَ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا". فَلَمْ يَجِئْ مَالُ البَحْرَيْنِ حَتَّى قُبِضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا جَاءَ مَالُ البَحْرَيْنِ أَمَرَ أَبُو بَكْرٍ فَنَادَى: مَنْ كَانَ لَهُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عِدَةٌ أَوْ دَيْنٌ فَلْيَأْتِنَا. فَأَتَيْتُهُ، فَقُلْتُ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِي كَذَا وَكَذَا، فَحَثَى لِي حَثْيَةً فَعَدَدْتُهَا فَإِذَا هِيَ خَمْسُمِائَةٍ، وَقَالَ: خُذْ مِثْلَيْهَا. [2598، 2683، 3137، 3164، 3383 - مسلم: 2314 - فتح: 4/ 474]

ثم ساق حديث سلمة بن الأكوع السالف

(1)

قريبًا مختصرًا.

وحديث جَابِرٍ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لَوْ قَدْ جَاءَ مَالُ البَحْرَيْنِ، أَعْطَيْتُكَ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا". فَلَمْ يَجِئْ مَالُ البَحْرَيْنِ حَتَّى قُبِضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا جَاءَ مَالُ البَحْرَيْنِ أَمَرَ أَبُو بَكْرٍ فَنَادى: مَنْ كَانَ لَهُ عِنْدَ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم عِدَةٌ أَوْ دَيْنٌ فَلْيَأْتِنَا. فَأتَيْتُهُ فَقُلْتُ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِي كَذَا وَكَذَا، فَحَثَى لِي حَثْيَةً فَعَدَدْتُهَا فَإِذَا هِيَ خَمْسُمِائَةٍ، فقَالَ: خُذْ مِثْلَيْهَا.

(1)

برقم (289) كتاب: الحوالات، باب: إن أحال دين الميت على رجل جاز.

ص: 144

هذا الحديث يأتي في الخمس والمغازي أيضًا

(1)

.

وفيه: جواز هبة المجهول، ولمالك قولان، والمشهور جوازه

(2)

.

وفي بعض الروايات أن مال البحرين هذا كان أرسله العلاء بن الحضرمي

(3)

.

وفيه: دلالة على سخائه، ولا شك فيه إذا كان المال لا يعده ولا يقدره بمقدار عند بذله.

وكذا عند أخذه، وهذا كان منه وعدًا لجابر، وكان من خلقه الوفاء بالوعد، وقد قال تعالى في حقه {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم: 4] وأثنى على إسماعيل بأنه كان صادق الوعد؛ ولذلك نقده الصديق بعده بقوله من غير بينة؛ لأنه عدل بالنص، ولا يظن بمسلم الكذب فضلًا عن صحابي تعمد ذلك، وعند الشافعي والجمهور أن إنجاز الوعد مستحب، وخالف الحسن وبعض المالكية فأوجبوه

(4)

.

و (الحَثْيَة): ملء الكف، قال ابن قتيبة: وهي الحفنة، وقال ابن فارس: هي ملء الكفين

(5)

وفقه الباب سلف واضحًا.

واختلف فيما إذا تكفل عن حي بغير إذنه؛ فقال الكوفيون والشافعي: لا رجوع به إذا أداه؛ لتبرعه. وعن مالك: له الرجوع لقيامه بواجب

(6)

.

(1)

في الخمس برقم (3137) باب: ومن الدليل على أن الخمس النوائب المسلمين، وفي المغازي برقم (4383) باب: قصة عمان والبحرين.

(2)

انظر: "المدونة" 4/ 370.

(3)

ستأتي برقم (2683) كتاب: الشهادات، باب: من أمر بإنجاز الوعد.

(4)

انظر: "بريقة محمودية" 2/ 285، "الزواجر عن اقتراف الكبائر" 1/ 182.

(5)

"مقاييس اللغة" مادة: (حثا).

(6)

انظر: "اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى" ص 55، "مختصر الطحاوي" ص 104، =

ص: 145

‌4 - باب جِوَارِ أَبِي بَكْرٍ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَقْدِهِ

2297 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها -زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم- قَالَتْ: لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ إِلَّا وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ. وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ قَطُّ، إِلَّا وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ، وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْنَا يَوْمٌ إِلَّا يَأْتِينَا فِيهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم طَرَفَيِ النَّهَارِ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً، فَلَمَّا ابْتُلِيَ المُسْلِمُونَ خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا قِبَلَ الحَبَشَةِ، حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَرْكَ الغِمَادِ لَقِيَهُ ابْنُ الدَّغِنَةِ -وَهْوَ: سَيِّدُ القَارَةِ- فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ يَا أَبَا بَكْرٍ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَخْرَجَنِي قَوْمِي فَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَسِيحَ فِي الأَرْضِ فَأَعْبُدَ رَبِّي. قَالَ ابْنُ الدَّغِنَةِ: إِنَّ مِثْلَكَ لَا يَخْرُجُ وَلَا يُخْرَجُ، فَإِنَّكَ تَكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ، وَأَنَا لَكَ جَارٌ فَارْجِعْ فَاعْبُدْ رَبَّكَ بِبِلَادِكَ. فَارْتَحَلَ ابْنُ الدَّغِنَةِ، فَرَجَعَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ، فَطَافَ فِي أَشْرَافِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ لَا يَخْرُجُ مِثْلُهُ، وَلَا يُخْرَجُ، أَتُخْرِجُونَ رَجُلًا يُكْسِبُ المَعْدُومَ، وَيَصِلُ الرَّحِمَ، وَيَحْمِلُ الكَلَّ، وَيَقْرِى الضَّيْفَ، وَيُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ؟ فَأَنْفَذَتْ قُرَيْشٌ جِوَارَ ابْنِ الدَّغِنَةِ وَآمَنُوا أَبَا بَكْرٍ، وَقَالُوا لاِبْنِ الدَّغِنَةِ: مُرْ أَبَا بَكْرٍ فَلْيَعْبُدْ رَبَّهُ فِي دَارِهِ، فَلْيُصَلِّ وَلْيَقْرَأْ مَا شَاءَ، وَلَا يُؤْذِينَا بِذَلِكَ، وَلَا يَسْتَعْلِنْ بِهِ، فَإِنَّا قَدْ خَشِينَا أَنْ يَفْتِنَ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا. قَالَ ذَلِكَ ابْنُ الدَّغِنَةِ لأَبِي بَكْرٍ، فَطَفِقَ أَبُو بَكْرٍ يَعْبُدُ رَبَّهُ فِي دَارِهِ، وَلَا يَسْتَعْلِنُ بِالصَّلَاةِ وَلَا القِرَاءَةِ فِي غَيْرِ دَارِهِ، ثُمَّ بَدَا لأَبِي بَكْرٍ فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ، وَبَرَزَ فَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ، وَيَقْرَأُ القُرْآنَ، فَيَتَقَصَّفُ عَلَيْهِ نِسَاءُ المُشْرِكِينَ وَأَبْنَاؤُهُمْ، يَعْجَبُونَ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلًا بَكَّاءً لَا يَمْلِكُ دَمْعَهُ حِينَ يَقْرَأُ القُرْآنَ، فَأَفْزَعَ ذَلِكَ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ مِنَ المُشْرِكِينَ، فَأَرْسَلُوا إِلَى ابْنِ الدَّغِنَةِ فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا لَهُ: إِنَّا كُنَّا أَجَرْنَا أَبَا بَكْرٍ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دَارِهِ، وَإِنَّهُ جَاوَزَ ذَلِكَ، فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ، وَأَعْلَنَ الصَّلَاةَ

= "مختصر اختلاف العلماء" 4/ 261، "الكافي" لابن عبد البر ص 339، "المدونة" 3/ 150، "مختصر المزني" ص 154.

ص: 146

وَالقِرَاءَةَ، وَقَدْ خَشِينَا أَنْ يَفْتِنَ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا، فَأْتِهِ فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دَارِهِ فَعَلَ، وَإِنْ أَبَى إِلَّا أَنْ يُعْلِنَ ذَلِكَ فَسَلْهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْكَ ذِمَّتَكَ، فَإِنَّا كَرِهْنَا أَنْ نُخْفِرَكَ، وَلَسْنَا مُقِرِّينَ لأَبِي بَكْرٍ الاِسْتِعْلَانَ. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَأَتَى ابْنُ الدَّغِنَةِ أَبَا بَكْرٍ، فَقَالَ: قَدْ عَلِمْتَ الَّذِي عَقَدْتُ لَكَ عَلَيْهِ، فَإِمَّا أَنْ تَقْتَصِرَ عَلَى ذَلِكَ وَإِمَّا أَنْ تَرُدَّ إِلَيَّ ذِمَّتِي، فَإِنِّي لَا أُحِبُّ أَنْ تَسْمَعَ العَرَبُ أَنِّي أُخْفِرْتُ فِي رَجُلٍ عَقَدْتُ لَهُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنِّي أَرُدُّ إِلَيْكَ جِوَارَكَ، وَأَرْضَى بِجِوَارِ اللهِ وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَئِذٍ بِمَكَّةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"قَدْ أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ، رَأَيْتُ سَبْخَةً ذَاتَ نَخْلٍ بَيْنَ لَابَتَيْنِ". وَهُمَا الحَرَّتَانِ، فَهَاجَرَ مَنْ هَاجَرَ قِبَلَ المَدِينَةِ حِينَ ذَكَرَ ذَلِكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَرَجَعَ إِلَى المَدِينَةِ بَعْضُ مَنْ كَانَ هَاجَرَ إِلَى أَرْضِ الحَبَشَةِ، وَتَجَهَّزَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"عَلَى رِسْلِكَ، فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ يُؤْذَنَ لِي". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَلْ تَرْجُو ذَلِكَ بِأَبِي أَنْتَ؟ قَالَ: "نَعَمْ". فَحَبَسَ أَبُو بَكْرٍ نَفْسَهُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِيَصْحَبَهُ وَعَلَفَ رَاحِلَتَيْنِ كَانَتَا عِنْدَهُ وَرَقَ السَّمُرِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ. [انظر: 476 - فتح: 4/ 475]

ذكر فيه حديث عَائِشَة

(1)

: لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ إِلَّا وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ

(2)

.

وذكر جوار ابن الدَّغِنَةِ .. إلى آخره.

وقد سلف بعضه في المساجد

(3)

.

وهذا الجوار كان معروفًا بين العرب يجيرون من لجأ إليهم واستجار بهم، وقد أجار أبو طالب رسول الله صلى الله عليه وسلم

(4)

، ولا يكون الجوار إلا من الظلم والعِدا.

(1)

فوقها في (س): من طريقين.

(2)

ورد بهامش الأصل: تقدم بعضه في باب المسجد يكون في الطريق من غير ضرر بالناس، أسنده هنا وعزاه هناك لأمكنة ليس منها هذا.

(3)

برقم (486) باب: المسجد يكون في الطريق من غير ضرر بالناس.

(4)

ورد في هامش الأصل: وقد أجار المطعم بن عدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن خرج للطائف وحين دخل مكة في صحبه.

ص: 147

فيه: أنه إذا خشي المؤمن على نفسه من ظالم أنه يباح له وجائز أن يستجير بمن يمنعه ويحميه من الظلم، وإن كان مجيره كافرًا إن أراد الأخذ بالرخصة، وإن أراد الأخذ بالشدة على نفسه فله ذلك، كما رد الصديق الجوار ورضي بجوار الله ورسوله، والصديق يومئذ كان من المستضعفين، فآثر الصبر على ما يناله من الأذى محتسبًا على الله واثقًا به، فوفَّى الله له بما وثق به منه ولم ينله مكروه حتى أذن في الهجرة فخرج مع حبيبه، ونجاهما الله من كيد أعدائهما حتى بلغ مراده عز وجل من إظهار النبوة وإعلاء الدين وكان للصديق في ذلك من الفضل والصدق في نصر رسوله وبذله نفسه وماله في ذلك ما لم يخف مكانه ولا جهل موضعه.

وقط -بالتشديد والضم- وهي الأبد الماضي، تقول: ما رأيته قط، قال أبو علي: قط تجزم إذا كانت بمعنى القليل، وتضم وتثقل إذا كانت في معنى الزمن والحين من الدهر تقول: لم أر هذا قط، وليس عندي إلا هذا قط.

وقولها: (وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ)، أي: يطيعان الله، وذلك أن مولدها بعد البعث بسنتين، وقيل: بخمس، وقيل: بسبع، ولا وجه له؛ لإجماعهم أنها كانت حين هاجر بنت ثمانٍ، وأكثر ما قيل: أن مقامه بمكة بعد البعث ثلاث عشرة، وإنما يصح خمس على قول من يقول: أقام ثلاث عشرة بمكة، وسنتين على قول من يقول: أقام عشرًا بها. وتزوجه بنت ست، وقيل: سبع، وبنى به بنت تسع، ومات عنها وهي بنت ثماني عشرة، وعاشت بعده ثمانيًا وأربعين سنة.

وقولها: (فَلَمَّا ابْتُلِيَ المُسْلِمُونَ) تريد بأذى المشركين.

ص: 148

وقولها: (خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا) قال الأزهري: أصل المهاجرة عند العرب: خروج البدوي من البادية إلى المدن، يقال: هاجر البدوي: إذا حضر وأقام كأنه ترك الأولى للثانية

(1)

.

و (الغِمَادِ) -بكسر الغين المعجمة في الأصل وضبطه عند ابن فارس بضمها- قال: وهي أرض

(2)

.

و (الدَّغِنَة): بفتح الدال وكسر الغين المعجمة وتخفيف النون، قال أبو الحسن: كذا يرويه جميع الناس، وأهل العربية يضمون الدال والغين ويشددون النون، وعند المروزي بفتح الغين. قال الأصيلي: كذا قرأه لنا. وقيل: إنما كان ذلك؛ لأنه كان في لسانه استرخاء لا يملكه، والصواب الأول، يقال: الدثنة، والدغن: الدجن، والدثنة: المسترخية اللحم، والدغنة أمه وقيل: رايته.

و (القَارَةِ) حي من العرب، وهم أرمى الناس بالنبل، ومنه المثل: قد أنصف القارة من راماها.

(أَسِيحَ): أذهب، لا يريد موضعًا بعينه حتى يجد موضعًا فيستقر به.

وقوله: (تَكْسِبُ المَعْدُومَ) إلى آخره سلف في الإيمان

(3)

.

وقول ابن الدَّغِنَةِ: (إِنَّ أبا بكر لَا يَخْرُجُ مثله، وَلَا يُخْرَجُ)، أي: إن رغب فيه، وكذا ينبغي أن كل من ينتفع بإقامته لا يخرج ويمنع منه إن أراده، حتى قال محمد بن مسلمة في الفقيه: ليس له أن يغزو؛ لأن

ثم من ينوب عنه فيه، وليس يوجد من يقوم مقامه في التعليم، ويمنع

(1)

"تهذيب اللغة" 4/ 3717 (هجر).

(2)

"المجمل" مادة: (غمد).

(3)

في بدء الوحي برقم (3) باب منه.

ص: 149

من الجروج إن أراده، واحتج بقوله تعالى:{وَمَا كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} [التوبة: 122].

وقوله: (وأنا لك جار)، أي مجير؛ لقوله تعالى:{وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ} [الأنفال: 48] والجار يكون المجير والمستجير أي: أنا مؤَمِّنُك ممن أخافك منهم.

و (الأَشْرَاف) جمع شريف.

وقوله: (فطَفِقَ أَبُو بَكْرٍ)، هو بكسر الفاء تقول: طفق يفعل كذا مثل ظلّ مثله، قال صاحب "الأفعال": طفق بالشيء طفوقًا: إذا أدام فعله ليلًا ونهارًا

(1)

، ومنه قوله تعالى:{فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ} [ص: 33].

وقوله: (ثُمَّ بَدَا لأَبِي بَكْرٍ)، أي: ظهر له غير ما كان يفعله.

فابتنى مسجدًا بفناء داره، وهو أول مسجد بني في الإسلام، قاله أبو الحسن. قال الداودي: بهذا يقول مالك وفريق من العلماء أن من كانت لداره طريق متسع له أن يرتفق منها بما لا يضر بالطريق

(2)

.

ومعنى (يَتَقَصَّفُ عَلَيْهِ): يزدحمون حتى يسقط بعضهم على بعض، وأصله التكسر، ومنه ريح قاصفة: شديدة تكسر الشجر.

وقوله: (أَنْ نُخْفِرَكَ)، هو بضم النون رباعي من أخفر إذا عاهد ثم غدر، وخفرته: منعته وحميته، وأخفرته: نقضت عهده، وأخفرته أيضًا جعلت منه خفيرًا، وأخفرت القوم أيضًا: إذا وصلوا إلى عدوهم، وهي في خفارتك.

وقول الصديق: (أَرْضَى بِجِوَارِ اللهِ)، أي: حماه.

(1)

"الأفعال" لابن القوطية ص 270.

(2)

انظر: "الشرح الكبير" 13/ 183.

ص: 150

وفيه: جوار المشرك للمسلم والرجوع إلى ما هو أفضل كما سلف.

و (السبخة) بفتح الباء وصفها بالنخل والسبخة، وكان قبل ذلك رآها بصفة تجمع الحبشة والمدينة، فظنت الحبشة فهاجر بعضهم إليها، ثم أري تمام الصفة فانصرفوا إلى المدينة.

و"رِسْلِكَ" بكسر الراء هيئتك كما أنت وهو السير الرفيق، أما الرَّسْل -بفتح الراء- فهو السير السهل، وضبطه في الأصل بكسر الراء، وفي بعض الروايات بفتحها.

وقول البخاري: (وقال أبو صالح: حدثني عبد الله .. ) إلى آخره، رواه الإسماعيلي في "صحيحه" من حديث أبي الطاهر أحمد بن عمرو بن السرح، أنا عبد الله بن وهب، أنا يونس، عن الزهري. ومن

حديث يونس، أنا ابن وهب، ثم قال: ذكر أبو عبد الله -يعني البخاري- من هذا الحديث: لم أعقل أبوي إلا وهما يدينان الدين، فقط من حديث الليث، عن عقيل، عن الزهري. واقتص باقيه من غير ذكر خبر عن عبد الله بن صالح، أنا عبد الله، عن يونس به. وهو غير ابن وهب، وقد ذكرته بإسناده، عن أبي الطاهر ويونس، عن ابن وهب، وجوده معمر، ولما ذكره أبو نعيم من حديث ابن السرح عن ابن وهب قال: روى -يعني: البخاري- حديث يونس، عن أبي صالح المروزي، عن عبد الله بن المبارك، عن يونس.

وقال الجياني: في رواية ابن السكن، قال. أبو صالح سلمويه: ثنا عبد الله بن المبارك.

قال: وأبو صالح هذا اسمه سليمان بن صالح مروزي، روى

ص: 151

البخاري عن ابن أبي رزمة عنه

(1)

، وحكى أيضًا عن الأصيلي، وتبعه المزي

(2)

.

وأما الدمياطي فقال في "حاشية الصحيح" عند أبي صالح: محبوب (د. س) بن موسى الأنطاكي الفراء، عنه، وأبو داود والنسائي

(3)

عن رجل عنه، قال أحمد بن عبد الله: ثقة صاحب سنة

(4)

، مات سنة ثنتين أو إحدى وثمانين ومائتين.

خاتمة:

إن قلت: ما وجه هذا الحديث في الكفالة؟ أجاب ابن المنير بأن قال: أدخله في الكفالة، وينبغي أن يناسب كفالة الأداء

(5)

كما ناسب {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 33] كفالة الأموال.

ووجهه: أن مجير الصديق كأنه تكفل للجار ألا يضام من جهة من أجاره منهم، وضحى لمن أجاره عمن أجاره منهم لا يؤذيه فتكون العهدة عليه

(6)

.

(1)

"تقييد المهمل" 2/ 619 - 620.

(2)

كما في "تحفة الأشراف" 12/ 113.

(3)

قال الحافظ في "النكت" 12/ 113: وقال أبو نعيم لما استخرج طريق الليث قلت: خالف الجميع الحافظ شرف الدين الدمياطي فكتب في حواشي نسخته: أبو صالح هذا هو محبوب بن موسى ولم أر له فيه سلف، فإنه لم يذكره أحد ممن صنف في رجال البخاري ولا في شيوخه، ولا رأيت له ترجمة في "تاريخه الكبير" والله أعلم.

(4)

"الثقات" للعجلي أحمد بن عبد الله 2/ 266.

(5)

كذا في الأصول: وفي هامش الأصل: لعلها: الأبدان.

(6)

"المتواري" ص 258.

ص: 152

‌5 - باب الدَّيْنِ

2298 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُؤْتَى بِالرَّجُلِ المُتَوَفَّى عَلَيْهِ الدَّيْنُ فَيَسْأَلُ:"هَلْ تَرَكَ لِدَيْنِهِ فَضْلًا؟ ". فَإِنْ حُدِّثَ أَنَّهُ تَرَكَ لِدَيْنِهِ وَفَاءً صَلَّى، وَإِلَّا قَالَ لِلْمُسْلِمِينَ:"صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ". فَلَمَّا فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ الفُتُوحَ قَالَ: "أَنَا أَوْلَى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَمَنْ تُوُفِّيَ مِنَ المُؤْمِنِينَ فَتَرَكَ دَيْنًا فَعَلَيَّ قَضَاؤُهُ، وَمَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ". [2398، 2399، 4781، 5731، 6745، 6763 - مسلم: 1619 - فتح: 4/ 477]

ذكر فيه حديث أَبِي هريرَةَ أنه عليه السلام كَانَ يُؤْتَى بِالرَّجُلِ المُتَوَفَّى عَلَيْهِ الدَّيْنُ فَيَسْأَلُ: "هَلْ تَرَكَ لِدَيْنِهِ فَضْلًا؟ .. " الحديث. فَلَمَّا فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ الفُتُوحَ .. إلى آخره.

وقد سلف قبل الكفالة واضحًا

(1)

، وأدخله ابن بطال في باب من تكفل عن الميت دينًا، وقال فيه: تكفل الشارع بدين من مات من أمته معدمًا وتحمل كل دينهم وضياع عيالهم، وقد جاء بهذا اللفظ "من

ترك كلًّا أو ضياعًا فعليَّ"

(2)

(3)

.

وقوله: ("فَعَلَيَّ قَضَاؤُهُ") أي: مما يفيء الله عليه الغنائم والصدقات

(1)

سلف ذكره في شرح حديث (2289) ص 125.

(2)

سيأتي برقم (6745) كتاب: الفرائض، باب: ابني عم أحدهما أخ الأم والآخر زوج. من حديث أبي هريرة.

ومسلم من حديثه أيضًا (1619) كتاب: الفرائض، باب: من ترك مالًا فلورثته، بمعناه وله من حديث جابر (867) كتاب: الجمعة، باب: تخفيف الصلاة والخطبة.

(3)

"شرح ابن بطال" 6/ 426، 427.

ص: 153

التي أمر الله بقسمتها على الغارمين والفقراء، وجعل للذرية نصيبًا في الفيء وقضى منه دين المسلم، وهكذا يلزم السلطان أن يفعله لمن مات وعليه دين على ما سلف، فإن لم يفعله وقع القصاص منهم في الآخرة.

ص: 154

40

كتاب الوكالة

ص: 155

بسم الله الرحمن الرحيم

‌40 - كتاب الوكالة

‌1 - باب وَكَالَةُ الشَّرِيكِ الشَّرِيكَ فِي القِسْمَةِ وَغَيْرِهَا

وَقَدْ أَشْرَكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلِيًّا فِي هَدْيِهِ ثُمَّ أَمَرَهُ بِقِسْمَتِهَا.

2299 -

حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه، قَالَ: أَمَرَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ أَتَصَدَّقَ بِجِلَالِ البُدْنِ الَّتِي نُحِرَتْ وَبِجُلُودِهَا. [انظر: 1707 - مسلم: 1317 - فتح: 4/ 479]

2300 -

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي الخَيْرِ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَعْطَاهُ غَنَمًا يَقْسِمُهَا عَلَى صَحَابَتِهِ، فَبَقِيَ عَتُودٌ فَذَكَرَهُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:"ضَحِّ أَنْتَ". [2500، 5547، 5555 - مسلم: 1965 - فتح: 4/ 479]

ثم ساقه من حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى عنه قَالَ: أَمَرَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ أَتَصَدَّقَ بِجِلَالِ البُدْنِ التِي نُحِرَتْ وَبِجُلُودِهَا.

وحديث عقبة بن عامر أنه صلى الله عليه وسلم أَعْطَاهُ غَنَمًا يَقْسِمُهَا عَلَى صَحَابَتِهِ، فَبَقِيَ عَتُودٌ فَذَكَرَهُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقَالَ:"ضَحِّ بِهِ أَنْتَ".

ص: 157

الشرح:

التعليق الأول سلف عنده مسندًا

(1)

، وحديث جلال البدن سلف أيضًا

(2)

، وحديث عقبة يأتي في الضحايا

(3)

.

والوكالة -بفتح الواو وكسرها - التفويض ويقع على الحفظ أيضًا، ومنه {حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ} [آل عمران: 173] وهي في الشرع إقامة الوكيل مقام الموكل في العمل المأذون فيه، وهي مندوب إليها بقوله تعالى:{وَتَعَاوَنُوا} [المائدة: 2].

إذا تقرر ذلك فوكالة الشريك جائزة كما تجوز شركة الوكيل، وهو بمنزلة الأجنبي في أن ذلك مباح منه.

وحديث علي بين في الترجمة، وأما حديث عقبة فليس فيه وكالة الشريك؛ لكنه وكله عليه السلام على قسمة الأضاحي، وهو شريك للموهوب لهم، فتوكيله عليه السلام على ذلك كتوكيل شركائه الذين قسم بينهم الضحايا.

وفيه: الشركة في الهدي، واختلف قول مالك إذا كان تطوعًا

(4)

.

وفيه: الوكالة على الصدقة بالهدي.

وفيه: التفويض إلى الوكيل كما ذكره الداودي، ويحتمل أن يكون عَيّن له ما يعطيه ومن يعطيه فلا يكون في ذلك تفويض.

(1)

سلف برقم (1716) كتاب: الحج، باب: لا يعطى الجزار من الهدي شيئًا.

(2)

سلف برقم (1707) كتاب: الحج، باب: الجلال للبدن.

(3)

برقم (5547) باب: قسمة الإمام الأضاحي بين الناس.

(4)

انظر: "الذخيرة" 3/ 354.

ص: 158

وفيه: الأضحية بما يعطي.

وفيه: الاختصاص بالأضحية بالجذع من المعز؛ لأن العتود من أولاد المعز، وجمعه أعتدة وعدَّان وعتدان، وفي "الصحاح": العتود: ما رعى وقوي وأتى عليه حول

(1)

.

(1)

"الصحاح" 2/ 505 (عتد).

ص: 159

‌2 - باب إِذَا وَكَّلَ المُسْلِمُ حَرْبِيًّا فِي دَارِ الحَرْبِ أَوْ فِي دَارِ الإِسْلَامِ، جَازَ

2301 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللهِ قَالَ: حَدَّثَنِي يُوسُفُ بْنُ المَاجِشُونِ، عَنْ صَالِحِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رضي الله عنه قَالَ: كَاتَبْتُ أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ كِتَابًا بِأَنْ يَحْفَظَنِي فِي صَاغِيَتِي بِمَكَّةَ، وَأَحْفَظَهُ فِي صَاغِيَتِهِ بِالمَدِينَةِ، فَلَمَّا ذَكَرْتُ: الرَّحْمَنَ قَالَ: لَا أَعْرِفُ الرَّحْمَنَ، كَاتِبْنِي بِاسْمِكَ الَّذِي كَانَ فِي الجَاهِلِيَّةِ. فَكَاتَبْتُهُ: عَبْدُ عَمْرٍو، فَلَمَّا كَانَ فِي يَوْمِ بَدْرٍ خَرَجْتُ إِلَى جَبَلٍ لأُحْرِزَهُ حِينَ نَامَ النَّاسُ، فَأَبْصَرَهُ بِلَالٌ، فَخَرَجَ حَتَّى وَقَفَ عَلَى مَجْلِسٍ مِنَ الأَنْصَارِ فَقَالَ: أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، لَا نَجَوْتُ إِنْ نَجَا أُمَيَّةُ. فَخَرَجَ مَعَهُ فَرِيقٌ مِنَ الأَنْصَارِ فِي آثَارِنَا، فَلَمَّا خَشِيتُ أَنْ يَلْحَقُونَا خَلَّفْتُ لَهُمُ ابْنَهُ، لأَشْغَلَهُمْ فَقَتَلُوهُ ثُمَّ أَبَوْا حَتَّى يَتْبَعُونَا -وَكَانَ رَجُلًا ثَقِيلًا- فَلَمَّا أَدْرَكُونَا قُلْتُ لَهُ: ابْرُكْ. فَبَرَكَ، فَأَلْقَيْتُ عَلَيْهِ نَفْسِي لأَمْنَعَهُ، فَتَخَلَّلُوهُ بِالسُّيُوفِ مِنْ تَحْتِي، حَتَّى قَتَلُوهُ، وَأَصَابَ أَحَدُهُمْ رِجْلِي بِسَيْفِهِ. وَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ يُرِينَا ذَلِكَ الأَثَرَ فِي ظَهْرِ قَدَمِهِ. قَالَ أَبُو عَبدِ اللهِ: سَمِعَ يُوسُفُ صَالًحِا وَإبرَاهِيمُ أبَاهُ. [3971 - فتح: 4/ 480]

ذكر فيه حديث عبد الرحمن بن عوف. قَالَ: كَاتَبْتُ أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ

كِتَابًا بِأَنْ يَحْفَظَنِي فِي صَاغِيَتِي بِمَكَّةَ، وَأَحْفَظهُ فِي صَاغِيَتِهِ بِالمَدِينَةِ، فَلَمَّا ذَكَرْتُ: الرَّحْمَنَ قَالَ: لَا أَعْرِفً الرَّحْمَنَ

الحديث. وفي آخره في بعض النسخ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: سَمِعَ يُوسُفُ صَالِحًا وَإبْرَاهِيمُ بن عبد الرحمن بن عوف أَبَاهُ.

الشرح:

هذا الحديث ليس مطابقًا للتبويب، إذ ليس فيه وكالة، إنما تعاقدا أن يجير كل واحد منهما صاغية صاحبه، كذا قال ابن التين، وقد يقال: هو

ص: 160

في معنى التوكيل؛ لأن الوكالة: إرصاد شخص لمصالحه، وهذا منه.

والصاغية: المال والأهل، وغير ذلك، وقيل: هم حاشية الرجل، ومن يصغى إليه: أي: يميل، ومنه: أصغيت إلى فلان: أي: ملت بسمعي إليه، ومنه:{وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} [الأنعام: 113]، وكل مائل إلى شيء أو معه فقد صغى إليه وأصغى. ورواه الداودي في ظاعنته، وقال: والظاعنة: ما ظعن له إلى حيث سمى، يقال للمسافر وللجماعة: ظَاعنة، ولم يذكر أحد هذِه الرواية غيره.

قال ابن سيده: وأراهم إنما أنثوا على معنى الجماعة

(1)

. وقال الهروي: خالصته.

وقوله: (لا أحفظ الرحمن). أي: لا أعيذ من يعبده، وهذِه حمية الجاهلية التي ذكرت، حين لم يقرءوا كتابه يوم الحديبية، لما كتب بسم الله الرحمن الرحيم، قالوا: لا نعرف الرحمن، اكتب: باسمك اللهم.

وقوله: (خرجت إلى جبل لأُحرزه). أي: لأحفظه، وهو بضم الهمزة، رباعي؛ لأن ماضيه أحرز.

وفيه: أن قريشًا لم يكن لهم يوم بدر ما لغيرهم من الأمان، إذ لم يجز بلال وأصحابه أمان عبد الرحمن.

وفيه: الوفاء بالعهد.

وفيه: أن من أصيب حين يتقى عن مشرك، أنه لا شيء فيه.

وفيه: ذكر عبد الرحمن لذلك فخرًا ببلال، والأنصار.

(1)

"المحكم" 6/ 24 باب الغين والصاد والواو.

ص: 161

وابن أمية المقتول اسمه علي كما ستعلمه. وقول بلال: لا نجوت إن نجا أمية، هو الذي كان يعذبه ويضع على صدره الصخور.

وما ترجم به البخاري لائح، وهو جواز توكيل المسلم الحربي المستأمن، وكذا توكيل الحربي المستأمن المسلم، وصرح به ابن المنذر، ألا ترى أن عبد الرحمن بن عوف وكَّل أمية بن خلف بأهله وحاشيته بمكة أن يحفظهم وأمية مشرك، والتزم عبد الرحمن لأمية من حفظ حاشيته بالمدينة، مثل ذلك؛ مجازاة لصنعه، وترك عبد الرحمن بن عوف أن يكتب إليه عبد الرحمن؛ لأن التسمية علامة كما في عام الحديبية، ولم يضره محوه، ولا تشاحح فيه، إذ ما محي من الكتاب ليس بمحو من الصدور، وإذ التشاحح في مثل هذا ربما آل إلى فساد ما أحكموه في المقاضاة.

وقوله: (فألقيت عليه نفسي لأمنعه، فلم يُمنَعْ بذلك أمية بن خلف من القتل)، هو منسوخ بخبر حديث "يجير على المسلمين أدناهم"

(1)

؛ لأن حديث أم هانئ كان يوم فتح مكة

(2)

.

وفيه: مجازاة المسلم الكافر على البر يكون منه للمسلم، والإحسان إليه ومعاوضته على جميل فعله، والسعي له في تخليصه من القتل وشبهه.

(1)

رواه ابن ماجه (2685) من طريق حاتم بن إسماعيل، عن عبد الرحمن بن عياش، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده.

قال البوصيري في "الزوائد" ص (363) هذا إسناد حسن، عبد الرحمن لم أر من تكلم فيه، وعمرو بن شعيب مختلف فيه.

والحديث صححه الألباني في: "صحيح ابن ماجه"(2174).

(2)

سيأتي برقم (3171) كتاب: الجزية والموادعة، باب: أمان النساء وجِوارهن.

ص: 162

وفيه أيضًا:

المجازاة على سوء الفعل بمثله، والانتقام من الظالم، وإنما سعى

بل الذي قتل أمية بن خلف، واستصراخ الأنصار عليه، وأغراهم به في ندائه: أمية لا نجوت إن نجا أمية؛ لأنه كان عذَّب بلالًا بمكة على ترك الإسلام، وكان يخرجه إلى الرمضاء بمكة إذا حميت، فيضجعه على ظهره، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره -كما سلف- ويقول: لا تزال هكذا أو تفارق دين محمد، فيقول بلال: أحد أحد.

قال عبد الرحمن بن عوف: فكنت بين أمية وابنه آخذًا بأيديهما، فلما رآه بلال صرخ بأعلى صوته: يا أنصار الله رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا، فأحاطوا بنا وأنا أذنب عنه، فضرب رجل أمية بالسيف فوقع، وصاح أمية صيحة ما سمعت مثلها قط.

قلت: انج بنفسك -ولا نجاء به- فوالله لا أغني عنك شيئًا، فهزموهما بأسيافهم حتى فرغوا منهما، ذكره ابن إسحاق، وذكر في حديث آخر عن عبد الله بن أبي بكر وغيره، عن عبد الرحمن بن عوف: كان أمية بن خلف لي صديقًا بمكة، وكان اسمي عبد عمرو، فتسميت حين أسلمت عبد الرحمن، ونحن بمكة، فكان يلقاني بمكة فيقول: يا عبد عمرو، أرغبت عن اسم سماكه أبوك؟! فأقول: نعم. فيقول: فإني لا أعرف الرحمن، فاجعل بيني وبينك شيئًا أدعوك به، فسماه: عبد الإله، فلما كان يوم بدر مررت به وهو واقف مع ابنه عَلِيّ بن أمية ومعي أسلبة، فأنا أحملها، فلما رآني قال: يا عبد عمرو.

فلم أجبه، قال: يا عبد الإله.

ص: 163

قلت: نعم. قال: هل لك فيّ، فأنا خير لك من هذِه الأدراع التي معك؟ قلت: نعم، فطرحت الأدرع

(1)

من يدي وأخذت بيده ويد ابنه، وهو يقول ما رأيت كاليوم قط

(2)

. فرآهما بلال، فكان من حديثه ما تقدم، فكان عبد الرحمن يقول: رحم الله بلالًا، ذهبت أدرعي، وفجعني بأسيري

(3)

.

وقول بلال: أمية بن خلف. أي: عليكم به، ونصبه على الإغراء، ويجوز فيه الرفع على أن يكون خبر ابتداء مضمر تقديره هذا أمية بن خلف

(4)

.

(1)

كذا في وفي "سيرة ابن هشام": الأدراع.

(2)

انظر: "سيرة ابن هشام" 2/ 271 - 272.

(3)

قول عبد الرحمن رواه الطبري في "تاريخه" 2/ 35.

(4)

ورد بهامش الأصل: ثم بلغ في الثالث بعد الستين، كتبه مؤلفه.

ص: 164

‌3 - باب الوَكَالَةِ فِي الصَّرْفِ وَالمِيزَانِ

وَقَدْ وَكَّلَ عُمَرُ وَابْنُ عُمَرَ فِي الصَّرْفِ.

2302 و 2303 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ المَجِيدِ بْنِ سُهَيْلِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَعْمَلَ رَجُلًا عَلَى خَيْبَرَ، فَجَاءَهُمْ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ فَقَالَ:"أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا؟ ". فَقَالَ: إِنَّا لَنَأْخُذُ الصَّاعَ مِنْ هَذَا بِالصَّاعَيْنِ، وَالصَّاعَيْنِ بِالثَّلَاثَةِ. فَقَالَ:"لَا تَفْعَلْ، بِعِ الجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا". وَقَالَ فِي المِيزَانِ مِثْلَ ذَلِكَ. [انظر: 2201، 2202 - مسلم: 1593 - فتح: 4/ 481]

ثم ساق حديث أبي سعيد وأبي هريرة السالف في باب إذا أراد بيع تمر بتمر خير منه

(1)

.

وفي آخره: وَقَالَ فِي المِيزَانِ مِثْلَ ذَلِكَ. وما ترجم عليه واضح، وبيع الطعام يدًا بيدٍ مثل الصرف سواء، وهو شبيهه في المعنى؛ ولذلك ترجم له بذلك، وإنما صحت الوكالة في هذا الحديث؛ لقوله عليه السلام لعامل خيبر:"بع الجمع بالدراهم" بعد أن كان باع على غير السنة، فلو لم يجز البيع الوكيل والناظر في المال لعرفه بذلك، وأعلمه أن بيعه مردود وإن وقع على السنة، فلما لم ينهه عليه السلام إلا عن الربا الذي واقعه في بيعه الصاع بالصاعين، دل ذلك أنه إذا باع على السنة لا مانع منه.

قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن الوكالة في الصرف جائزة، فلو وكل رجل رجلًا يصرف له دراهم، ووكل آخر

(1)

سلف برقم (2201، 2202).

ص: 165

يصرف له دنانير، فالتقيا وتصارفا صرفًا جائزًا، أنه جائز وإن لم يحضر الموكلان أو أحدهما، وكذلك إذا وكل رجل لرجلين يصرفان دراهم فليس لأحدهما أن يصرف ذلك دون صاحبه، فإن قام أحدهما عن المجلس الذي تصارفا فيه قبل تمام الصرف انتقض الصرف؛ للحديث السالف "الذهب بالفضة ربا إلا هاء وهاء"

(1)

.

وقال أصحاب الرأي: إن قام أحدهما قبل أن يقبض انتقض حصة الذي ذهب، وحصة الثاني جائزة.

وقال ابن المنذر: لم يجعل الموكل إلى أحدهما شيئًا دون الآخر، ولهذا أصل في كتاب الله، قال تعالى:{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} الآية [النساء: 35]، ولا يجوز لأحد من الحكمين الأمر إلا مع صاحبه

(2)

.

وقوله: (في الميزان مثل ذلك) يعني: أن الموزونات حكمها في

الربا حكم المكيلات، وهذا عند أهل الحجاز في المطعومات التي يجري فيها الكيل والوزن، والكوفيون يجعلون علة الربا الكيل والوزن فيه وفي غيره؛ لقوله في الذهب والورق "وزنًا بوزن" وقوله في الطعام، في حديث عبادة "مدي بمدي، وكيل بكيل"

(3)

.

(1)

سلف برقم (2182) كتاب البيوع، باب الذهب بالفضة يدًا بيد ولفظه: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الفضة بالفضة والذهب بالذهب إلا سواء بسواء وأمرنا أن نبتاع الذهب بالفضة كيف شئنا، والفضة بالذهب كيف شئنا.

(2)

"الإشراف على مذاهب أهل العلم" 3/ 312 - 313.

(3)

رواه أبو داود (3349)، والنسائي 7/ 276، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" 4/ 4 والبيهقي في "السنن" 5/ 291. والحديث صححه الألباني في "الإرواء" 5/ 195 ثم قال: ورواية الطحاوي سندها صحيح.

ص: 166

وقال الداودي: يعني أنه لا يجوز التمر بالتمر إلا وزنًا بوزن، أو كيلًا بكيل، وليس بشيء؛ لأن التمر لا يوزن، وإنما هو فيما حكمه أن يوزن، كما سلف.

ص: 167

‌4 - باب إِذَا أَبْصَرَ الرَّاعِي أَوِ الوَكِيلُ شَاةً تَمُوتُ أَوْ شَيْئًا يَفْسُدُ وَأَصْلَحَ مَا يَخَافُ عَلَيْهِ الفَسَادَ

2304 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، سَمِعَ المُعْتَمِرَ، أَنْبَأَنَا عُبَيْدُ اللهِ، عَنْ نَافِعٍ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ يُحَدِّثُ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَتْ لَهُمْ غَنَمٌ تَرْعَى بِسَلْعٍ، فَأَبْصَرَتْ جَارِيَةٌ لَنَا بِشَاةٍ مِنْ غَنَمِنَا مَوْتًا، فَكَسَرَتْ حَجَرًا فَذَبَحَتْهَا بِهِ، فَقَالَ لَهُمْ لَا تَأْكُلُوا حَتَّى أَسْأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، أَوْ أُرْسِلَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَنْ يَسْأَلُهُ. وَأَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَاكَ، أَوْ أَرْسَلَ، فَأَمَرَهُ بِأَكْلِهَا. قَالَ عُبَيْدُ اللهِ: فَيُعْجِبُنِي أَنَّهَا أَمَةٌ، وَأَنَّهَا ذَبَحَتْ. تَابَعَهُ عَبْدَةُ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ. [5501، 5502، 5504 - فتح: 4/ 482]

ذكر فيه حديث ابن كعب بن مالك عن أبيه. أَنَّهُ كَانَتْ لَهُمْ غَنَم تَرْعَى بِسَلْعٍ، فَأَبْصَرَتْ جَارِيَةٌ لَنَا بِشَاةٍ مِنْ غَنَمِنَا مَوْتًا، فَكَسَرَتْ حَجَرًا فَذَبَحَتْهَا بِهِ، فقَالَ لَهُمْ لَا تَأْكُلُوا حَتَّى أَسْأَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، أَوْ أُرْسِلَ إِلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم مَنْ يَسْأَلُهُ. وَأَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، أَوْ أَرْسَلَ إليه فَأمَرَهُ بِأَكْلِهَا. قَالَ عُبَيْدُ اللهِ: فأعْجبنِي أَنَّهَا أَمَةٌ، وَأَنَّهَا ذَبَحَتْ. تَابَعَهُ -يعني: المعتمر- عَبْدَةُ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ.

هذِه المتابعة أخرجها البخاري في الذبائح مسندة عن صدقة ابن الفضل

(1)

.

واختلف في ابن كعب هذا، فذكر في الأطراف في ترجمة عبد الله ابن كعب

(2)

.

(1)

سيأتي برقم (5504) باب: ذبيحة المرأة والأمة.

(2)

"تحفة الأشراف" 8/ 314 (11134) وقال الحافظ في "الفتح" 4/ 482 جزم المزي في الأطراف بأنه عبد الله لكن روى ابن وهب عن أسامة بن زيد عن ابن شهاب عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه طرفًا من الحديث فالظاهر أنه عبد الرحمن.

ص: 168

وذكره البخاري أيضًا في موضع آخر، فسماه: عبد الرحمن

(1)

.

وعند الإسماعيلي من رواية ابن عبد الأعلى: ثنا المعتمر، سمعت عبيد الله، عن نافع أنه سمع ابن كعب يخبر عبد الله بن عمر، عن أبيه بهذا الحديث، ثم قال: وقال ابن المبارك عن نافع سمع رجلًا من الأنصار، عن ابن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. لم يقل عن أبيه.

قال: وكذلك قال موسى بن عقبة، عن نافع، وعبيدة بن حميد، عن عبيد الله، عن نافع أنه سمع ابن كعب يخبر عبد الله: كانت لنا جارية. لم يذكر أباه.

وفي كتاب الذبائح من البخاري. وقال الليث: ثنا نافع، سمع رجلًا من الأنصار، عن ابن عمر يخبر عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

(2)

.

وعن إسماعيل بن عبد الله، عن مالك -يعني: المذكور في "الموطأ"

(3)

- عن نافع، عن رجل من الأنصار، عن معاذ بن سعد، أو سعد بن معاذ أن جارية لكعب بهذا

(4)

وقال أبو عمر: قد روي هذا الحديث عن نافع، عن ابن عمر، وليس بشيء، وهو خطأ، والصواب رواية مالك ومن تابعه -يعني: المذكور قبل- قال: ورواه موسى بن عقبة، وجرير بن حازم، ومحمد بن إسحاق، والليث، كلهم عن نافع أنه سمع رجلًا من الأنصار يحدث ابن عمر أن جارية -أو أمة- لكعب. قال: ورواه

(1)

سماه البخاري في صحيحه في حديث (2949)، (2950) كتاب الجهاد والسير، باب: من أراد غزوة فورى بغيرها

(2)

سبق تخريجه.

(3)

"الموطأ" ص 302.

(4)

سيأتي برقم (5505).

ص: 169

عبيد الله بن عمر، عن نافع أن كعب بن مالك سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مملوكة ذبحت شاة بمروة. قال: ورواه يحيى بن سعيد الأنصاري، وصخر بن جويرية، جميعًا عن نافع، عن ابن عمر، وهو وهم عند أهل الحديث، والحديث لنافع عن رجل من الأنصار لا عن ابن عمر

(1)

.

إذا تقرر ذلك فترجمته أن الذبيحة إذا قصد إصلاحها في محل يخاف عليها الفساد لم يكن الفاعل لذلك متعديًا، ثم أتى بحديث الجارية وما فيه، تعرض بحكم فعلها ابتداء، هل هو حكم بأنه تعدٍ أم لا؟ وغايته أنه أباح أكل الشاة لمالكها، لكن ذكره في موضع آخر: من ذبح متعديًا فذبيحته ميتة، فمن هنا يؤخذ أنها غير متعدية بذبحها؛ لأنه حللها، وأما إذ ابنينا على حلها فما فيه دليل على الترجمة.

وفيه من الفقه: تصديق الراعي والوكيل على ما اؤتمن عليه، حتى يظهر عليه دليل الخيانة والكذب، وهو قول مالك وجماعة

(2)

.

وقال ابن القاسم: إذا خاف الموت على شاة فذبحها لم يضمن، ويصدق إن جاء بها مذبوحة

(3)

. وقال غيره: يضمن حتى يتبين ما قال.

واختلف ابن القاسم وأشهب إذا أنزى على إناث الماشية بغير أمر أربابها فهلكت، فقال ابن القاسم: لا ضمان عليه؛ لأنه من صلاح المال وتمامه. وقال أشهب: عليه الضمان

(4)

.

وقول ابن القاسم أشبه بدليل هذا الحديث؛ لأنه عليه السلام لما أجاز ذبح الأمة الراعية للشاة وأمرهم بأكلها، وقد كان يجوز أن لا تموت لو بقيت،

(1)

"التمهيد" 16/ 126 - 127.

(2)

انظر: "النوادر والزيادات" 7/ 53.

(3)

انظر: "المدونة" 3/ 409، "النوادر والزيادات" 7/ 53.

(4)

انظر: "النوادر والزيادات" 10/ 447.

ص: 170

دل على أن الراعي والوكيل يجوز له الاجتهاد فيما استرعي عليه ووكل به، وأنه لا ضمان عليه فيما تلف باجتهاده إذا كان من أهل الصلاح، وممن يعلم إشفاقه على المال والنية في إصلاحه، وأما إن كان من أهل الفسوق والفساد وأراد صاحب المال أن يضمنه فعل؛ لأنه لا يصدق أنه رأى بالشاة موتًا؛ لما عرف من فسقه، وإن صدقه لم يضمنه.

فائدة:

سلع: جبل بالمدينة. وقال ابن فارس: سلع: مكان

(1)

.

وعبارة صاحب "المطالع": سلع -بسكون اللام- جبل بسوق المدينة.

وعند ابن سهل بفتح اللام وسكونها، وذكر أنه رواه بعضهم بغين معجمة، وكله خطأ.

فائدة:

قال ابن التين: اشتمل هذا الحديث على خمس فوائد: جواز ذكاة النساء والإماء، والذكاة بالحجر، وذكاة ما أشرف على الموت، وذكاة غير المالك بغير وكالة.

قال الداودي: وفيه دليل أن الراعي إذا ذبح لم يضمن، وهو قول ابن القاسم، ولا دليل فيه؛ لأن الجارية ملك لرب الغنم ولو لم تكن ملكًا له ما كان في الحديث دليل؛ لأنه لم يذكر أنه أراد تضمينها، فلم يمكن ذلك. وقال أشهب يضمن.

(1)

"المجمل" 1/ 471 مادة [سلع].

ص: 171

قال: وفيه الإرسال بالسؤال والجواب، وهو في البخاري على الشك: أرسل أو أسال، ولا حجة فيما شك فيه.

قلت: ورواية "الموطأ" صريحة في السؤال، وكذا ما روي عن ابن وهب.

فائدة:

قال ابن عبد البر: على إجازة ذبيحة المرأة بغير ضرورة إذا أحسنت الذبح، وكذا الصبي إذا أطاقه، أبو حنيفة والشافعي ومالك وأصحابه والثوري والليث وأحمد وإسحاق وأبو ثور والحسن بن حي، وروي

عن ابن عباس وجابر وعطاء، وطاوس ومجاهد والنخعي

(1)

.

أخرى: التذكية بالمروة مجمع عليها أيضًا إذا أفرى الأوداج وأنهر الدم.

أخرى: استدل جماعة من أهل العلم بهذا الحديث على صحة ما ذهب إليه فقهاء الأمصار: أبو حنيفة والشافعي ومالك والأوزاعي والثوري من جواز أكل ما ذبح بغير إذن مالكه

(2)

، وردوا به على من أبي من أكل ذبيحة السارق والغاصب، وهم: داود وأصحابه وإسحاق، وتقدمهم عكرمة، وهو قول شاذ.

وقد ذكر ابن وهب في "موطئه": أخبرني أسامة بن زيد، عن ابن شهاب، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن أبيه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها -يعني الشاة- فلم ير بها بأسًا.

(1)

"التمهيد" 16/ 128.

(2)

انظر: "المغني" 7/ 387.

ص: 172

ومما يؤكد هذا المذهب حديث عاصم بن كليب الجرمي، عن أبيه، عن رجل من الأنصار، عن النبي صلى الله عليه وسلم الشاة التي ذبحت بغير إذن ربها فقال عليه السلام:"أطعموها الأسرى"

(1)

فهم ممن تجوز عليهم الصدقة بمثلها، فلو لم تكن ذكية ما أطعمهم إياها. وحمله ابن الجوزي على أن هذِه الذبيحة كانت بها حياة مستقرة، ولولا ذلك لما حلت.

(1)

رواه أبو داود (3332) وأحمد 5/ 293، 294 والطحاوي في "شرح معاني الآثار" 4/ 208، والبيهقي في "الدلائل" 6/ 310.

قال الحافظ العراقي في "تخريج الإحياء" 2/ 130: إسناده جيد.

وقال الزيلعي في "نصب الراية" 4/ 168: وهذا سند الصحيح، إلا أن كليب بن شهاب والد عاصم لم يخرجا له في "الصحيح" والحديث صححه الألباني في "الصحيحة" برقم (754) وقال: وهذا سند صحيح.

ص: 173

‌5 - باب وَكَالَةُ الشَّاهِدِ وَالغَائِبِ جَائِزَةٌ

وَكَتَبَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو إِلَى قَهْرَمَانِهِ وَهُوَ غَائِبٌ عَنْهُ أَنْ يُزَكِّيَ عَنْ أَهْلِهِ الصَّغِيرِ وَالكَبِيرِ.

2305 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سِنٌّ مِنَ الإِبِلِ فَجَاءَهُ يَتَقَاضَاهُ، فَقَالَ:"أَعْطُوهُ". فَطَلَبُوا سِنَّهُ فَلَمْ يَجِدُوا لَهُ إِلَّا سِنًّا فَوْقَهَا. فَقَالَ: "أَعْطُوهُ". فَقَالَ: أَوْفَيْتَنِي أَوْفَى اللهُ بِكَ. قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ خِيَارَكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً". [2306، 2390، 2392، 2401، 2606، 2609 - مسلم: 1601 - فتح: 4/ 482]

ثم ساق حديث أبي هريرة: قَالَ: كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سِنٌّ مِنَ الإِبِلِ فَجَاءَهُ يَتَقَاضَاهُ، فَقَالَ:"أَعْطُوهُ". فَطَلَبُوا سِنَّهُ فَلَمْ يَجِدُوا إِلَّا سِنًّا فَوْقَهَا. فَقَالَ: "أَعْطُوهُ". فَقَالَ: أَوْفَيْتَنِي أَوْفَى اللهُ بِكَ. قَالَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ خِيَارَكُمْ أَحْسَنكُمْ قَضَاءً".

هذا الحديث أخرجه مسلم

(1)

، وانفرد به من طريق أبي رافع

(2)

.

وقال الترمذي لما صححه: العمل عليه عند بعض أهل العلم، لم يروا بأسًا باستقراض السن من الإبل، وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق، وكرهه بعضهم

(3)

.

وهذا الحديث حجة على أبي حنيفة في قوله: إنه لا يجوز توكيل الحاضر بالبلد الصحيح البَدَن إلا برضا من خصمه، أو عذر من مرض، أو سفر ثلاثة أيام

(4)

.

(1)

"صحيح مسلم" برقم (1601) كتاب: المساقاة.

(2)

المصدر السابق برقم (1600).

(3)

"جامع الترمذي" برقم (1316).

(4)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 4/ 67.

ص: 174

وهذا الحديث خلاف قوله؛ لأنه عليه السلام أمر أصحابه أن يقضوا عنه السنن التي كانت عليه، وذلك توكيل منه لهم على ذلك، ولم يكن عليه السلام غائبًا، ولا مريضًا، ولا مسافرًا.

وعامة الفقهاء يجيزون توكيل الحاضر الصحيح وإن لم يرض خصمه بذلك على ما دل عليه هذا الحديث، وهو قول ابن أبي ليلى والشافعي

(1)

ومالك وأبي يوسف ومحمد، إلا أن مالكًا قال: يجوز ذلك وإن لم يرض خصمه إذا لم يكن الوكيل عدوًّا للخصم، وقال سائرهم: يجوز ذلك وإن كان عدوًّا للخصم.

وعن أبي حنيفة أن الوكالة في الخصومة لا تقبل من خاصم في المصر صحيح إلا أن يرضى خصمه، وقالا: التوكيل صحيح بدون رضا الخصم، وأما المريض الذي لا يقدر على الحضور والخصومة فيجوز توكيله وكذا الغائب على مسافة القصر، والمرأة كالرجل، بكرًا كانت أو ثيبًا وبعض شيوخ الحنفية استحسن أنها توكل إذا كانت غير برزة

(2)

.

ونقل الطحاوي اتفاق الصحابة على جواز ما سلف، فروى أن علي بن أبي طالب وكل عقيلًا عند أبي بكر، فلما أسن عقيل، وذكر عبد الله بن جعفر، فخاصم عبد الرحمن بن جعفر طلحة في ضفيرة أحدثها عليّ عند عثمان، وأقر ذلك عثمان، فصار إجماعًا. وقال

(1)

انظر: "المجموع" 14/ 166.

(2)

انظر: "مختصر الطحاوي" ص 108، "البحر الرائق" 7/ 243 - 246، "الكافي" 394، "عيون المجالس" 4/ 1683 - 1684، "القوانين الفقهية" ص 322، "روضة الطالبين" 4/ 293، "الشرح الكبير" 13/ 529، "الفروع" 7/ 47.

ص: 175

- عليه السلام: لعبد الله بن سهل الأنصاري لما خاصم إليه في دم أخيه عبد الله بن سهل المقتول بخيبر بمحضر من عليه: حويصة، ومحيصة "كبِّر كبِّر" يريد: ولّي الكلام في ذلك الكبير منهما فتكلم حويصة، ثم محيصة، وكان الوارث عبد الله دونهما، وكانا وكيلين

(1)

.

وأما إذا وكل وكيلًا غائبًا على طلب حقه فإن ذلك يفتقر إلى قبول الوكيل الوكالة عند الفقهاء، وإذا كانت الوكالة مفتقرة إلى قبول الوكيل فحكم الحاضر والغائب فيها سواء.

فإن قلت: أين القبول في الحديث؟ قلت: عملهم بأمره عليه السلام من توفية صاحب الحق حقه قبول منهم لأمره.

تنبيهات:

أحدها: الحديث دال على جواز الأخذ بالدين، ولا يختلف العلماء في جوازه عند الحاجة، ولا يتعين على طالبه

(2)

.

ثانيها: هو دال أيضًا على جواز قرض الحيوان، وقيل بمنعه، حكاه الطحاوي

(3)

. ويحمل الحديث على أنه كان قبل تحريم الربا ثم حرم بعد، وحرم كل قرض جر منفعة، وردت الأشياء المستقرضة إلى أمثالها فلم يجز القرض إلا فيما له مثل، وقد كان أيضًا قبل نسخ الربا يجوز بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، وهو قول أبي حنيفة

(4)

.

(1)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 4/ 67 - 68.

(2)

انظر: "المعونة" 2/ 34، "الكافي" لابن قدامة 3/ 171، "مراتب الإجماع" لابن حزم ص 94.

(3)

"شرح معاني الآثار" 4/ 60.

(4)

السابق.

ص: 176

وحاصل الخلاف في استقراض الحيوان ثلاثة أقوال:

مذهبنا ومذهب مالك وجماهير العلماء جوازه، إلا الجارية التي تحل للمستقرض، فإنه لا يجوز، ويجوز قرضها لمن لا يحل له وطؤها -كمحرمها- وللمرأة، والخنثى.

ثانيها: مذهب المزني، وابن جرير، وداود: يجوز قرض الجارية وسائر الحيوان لكل أحد.

ثالثها: مذهب أبي حنيفة والكوفيين والثوري والحسن بن صالح، وروي عن ابن مسعود وعبد الرحمن بن عمرة منعه، وادعى بعضهم نسخه بما قضى به عليه السلام في المُعْتِقِ نصيبَهُ مِن عبدٍ بينه وبين آخر، إذا وجب عليه قيمة نصيب شريكه ولم يوجب عليه بنصف عبد مثله

(1)

.

ثالثها: إعطاؤه من إبل الصدقة يحمل على أنه كان اقترض لنفسه، فلما جاءت إبل الصدقة اشترى منها بعيرًا ممن استحقه، فملكه بثمنه وأوفاه متبرعًا بالزيادة من ماله، يدل عليه رواية:"اشتروا له"

(2)

.

وقيل: إن المقترض كان بعض المحتاجين اقترض لنفسه فأعطاه من الصدقة حين جاءت، وهذا يرد قول من قال: كان يهوديًّا أو أنه اقترضه لبعض نوائب المسلمين، لا أنه اقترضه لحاجة نفسه، وعبر الراوي عن ذلك مجازًا، إذ كان هو الآمر.

وأما على قول من ادعى أن ذلك قبل تحريم الصدقة عليه ففاسد؛ لأنها لم تزل محرمة عليه، وذلك من خصائصه وعلامة نبوته المذكورة في

(1)

انظر: "مختصر الطحاوي" ص 86، "الاختيار" 2/ 44 - 45، "المعونة" 2/ 34،

"البيان" 5/ 460 - 462، "الإفصاح" 5/ 301، "الكافي" 3/ 172.

(2)

سيأتي برقم (2390) كتاب: في الاستقراض، باب: استقراض الإبل.

ص: 177

الكتب القديمة، بدليل قصة سلمان. وقيل: يحمل على أن الذي استقرض منه كان من أهل الصدقة، فدفع إليه الرباعي لوجهين: وجه القرض، ووجه الاستحقاق، وهو أحسنها أن يكون استقرض البكر على ذمته فدفعه لمستحق، وكان غارمًا، فلما جاءت إبل الصدقة أخذ منها بما هو غارم، فدفعه فيما كان عليه أداء في ذمته وحسن قضاء ما يملكه، وهذا كله كما يروى أنه عليه السلام أمر ابن عمرو أن يجهز جيشًا، فنفدت الإبل، فأمره أن يأخذ على قلائص الصدقة

(1)

، فظاهره أنه أخذ على ذمته.

فإن قلت: كيف يجوز أن يؤدي ديته ويبرئ ذمته بما لا يجوز له أخذه؟

قلت: لما لم يأخذه ابن عمرو لنفسه صار بمنزلة من ضمنه في ذمته إلى وقت مجيء الصدقة، فلو لم يجيء منها شيء لضمنه لقرضه من ماله.

(1)

رواه أبو داود (3357) والحاكم 2/ 56 - 57 والبيهقي في "السنن" 5/ 287 من طرق عن حماد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن مسلم بن جبير، عن أبي سفيان، عن عمرو بن حريش، عن عبد الله بن عمرو

الحديث.

قال البيهقي: اختلفوا على محمد بن إسحاق في إسناده وحماد بن سلمة أحسنهم سياقة له، وله شاهد صحيح.

وقال ابن القطان كما في "نصب الراية" 4/ 47: حديث ضعيف، مضطرب الإسناد، ومع هذا الاضطراب فعمرو بن حريش مجهول الحال.

وقال الزيلعي: وقد يعترض على هذا الحديث بحديث النهي عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة.

والحديث ضعفه الألباني في تعليقه على "المشكاة" 2/ 858 (2823) وقال: وإسناده ضعيف.

ص: 178

رابعها: قوله ("أحسنكم قضاء") ورد أيضًا "أحاسنكم" وهو جمع أحسن، وورد "محاسنكم" بالميم. قال عياض: جمع محسن بفتح الميم

(1)

. كمطلع، ومطالع، والأول أكثر.

خامسها: ليس فعله في الزيادة من القرض الذي يجر المنفعة؛ لأن المنهي عنه ما كان مشروطًا في عقد القرض، ومذهبنا أنه تستحب الزيادة في الأداء، ويجوز للمقرض أخذها سواء زاد في الصفة، أو العدد

(2)

. ومذهب مالك أن الزيادة في العدد منهي عنها

(3)

.

سادسها: من آذى السلطان بجفاء وشبهه، فإن لأصحابه أن يعاقبوه وينكروا عليه وإن لم يأمرهم بذلك، إذ في الحديث الآتي بعد أنه أغلظ له وهَمّ به أصحابه فقال "إن لصاحب الحق مقالًا" أي: صولة الطلب، وقوة الحجة، لكن على من يمطل أو يسيء المعاملة، وأما من أنصف من نفسه فبذل ما عنده واعتذر عما ليس عنده، فلا يجوز الاستطالة عليه بحال.

(1)

"إكمال المعلم بفوائد مسلم" 5/ 300.

(2)

انظر: "البيان" 5/ 464 - 465.

(3)

انظر: "المدونة" 3/ 199، "المعونة" 2/ 35.

ص: 179

‌6 - باب الوَكَالَةِ فِي قَضَاءِ الدُّيُونِ

2306 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَتَقَاضَاهُ، فَأَغْلَظَ، فَهَمَّ بِهِ أَصْحَابُهُ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"دَعُوهُ، فَإِنَّ لِصَاحِبِ الحَقِّ مَقَالًا". ثُمَّ قَالَ: "أَعْطُوهُ سِنًّا مِثْلَ سِنِّهِ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، لَا نَجِدُ إِلَّا أَمْثَلَ مِنْ سِنِّهِ. فَقَالَ:"أَعْطُوهُ فَإِنَّ مِنْ خَيْرِكُمْ أَحْسَنَكُمْ قَضَاءً". [انظر: 2305 - مسلم: 1601 - فتح: 4/ 483]

ذكر فيه حديث أبي هريرة: أَنَّ رَجُلًا أَتَى رسول الله صلى الله عليه وسلم يَتَقَاضَاهُ، فَأَغْلَظَ، فَهَمَّ بِهِ أَصْحَابُهُ، فَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم:"دَعُوهُ فَإِنَّ لِصَاحِبِ الحَقِّ مَقَالًا". ثُمَّ قَالَ: "أَعْطُوهُ، سِنًّا مِثْلَ سِنِّهِ". قَالُوا: لَا نَجِدُ إِلَّا أَمْثَلَ مِنْ سِنِّهِ. فَقَالَ: "أَعْطُوهُ فَإِنَّ مِنْ خَيْرِكُمْ أَحْسَنَكُمْ قَضَاءً".

وقد أسلفناه في الباب قبله، ومعنى "أمثل من سنه": خيرًا منه.

وما ترجم له ظاهر، فالوكالة في قضاء الديون وجميع الحقوق جائزة ونهيه عما هموا به من استعمال مكارم الأخلاق، وقصة المغيرة مع الشاب الأنصاري الذي جفا على الصديق، فكسر المغيرة أنفه، فاستعدى عليه الأنصاري ليقيده الصديق من المغيرة، فقال الصديق: والله لخروجهم من دارهم أقرب إليهم من ذلك أقيد من وزعة الله

(1)

.

(1)

رواه الطبراني في "المعجم الكبير" 20/ 403. وقال الهيثمي في "المجمع" 9/ 361: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح، والكلام الأخير لم أعرف معناه.

ص: 180

وكذا فعل المغيرة برسول أهل مكة يوم المقاضاة، إذ كان يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم يشير بيده نحو لحيته الكريمة فضربه المغيرة بسيفه مغمدًا، فقال: اقبض يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن لا ترجع إليك، فلم ينكر ذلك عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

.

(1)

هذِه قطعة من حديث مطول سيأتي برقم (2731، 2732) كتاب: الشروط، باب: الشروط في الجهاد.

ص: 181

‌7 - باب إِذَا وَهَبَ شَيْئًا لِوَكِيلٍ أَوْ شَفِيعِ قَوْمٍ جَازَ

لِقَوْلِه صلى الله عليه وسلم لِوَفْدِ هَوَازِنَ حِينَ سَأَلُوهُ المَغَانِمَ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم:"نَصِيبِي لَكُمْ".

2307، 2308 - حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ وَزَعَمَ عُرْوَةُ أَنَّ مَرْوَانَ بْنَ الحَكَمِ وَالمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ أَخْبَرَاهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ حِينَ جَاءَهُ وَفْدُ هَوَازِنَ مُسْلِمِينَ، فَسَأَلُوهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَسَبْيَهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"أَحَبُّ الحَدِيثِ إِلَيَّ أَصْدَقُهُ. فَاخْتَارُوا إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ: إِمَّا السَّبْىَ، وَإِمَّا المَالَ، وَقَدْ كُنْتُ اسْتَأْنَيْتُ بِهِمْ". وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم انْتَظَرَهُمْ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، حِينَ قَفَلَ مِنَ الطَّائِفِ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم غَيْرُ رَادٍّ إِلَيْهِمْ إِلَّا إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ قَالُوا فَإِنَّا نَخْتَارُ سَبْيَنَا. فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي المُسْلِمِينَ، فَأَثْنَى عَلَى اللهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ:"أَمَّا بَعْدُ. فَإِنَّ إِخْوَانَكُمْ هَؤُلَاءِ قَدْ جَاءُونَا تَائِبِينَ، وَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ أَنْ أَرُدَّ إِلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ، فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يُطَيِّبَ بِذَلِكَ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَظِّهِ حَتَّى نُعْطِيَهُ إِيَّاهُ مِنْ أَوَّلِ مَا يُفِيءُ اللهُ عَلَيْنَا فَلْيَفْعَلْ". فَقَالَ النَّاسُ: قَدْ طَيَّبْنَا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لهم. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّا لَا نَدْرِي مَنْ أَذِنَ مِنْكُمْ فِي ذَلِكَ مِمَّنْ لَمْ يَأْذَنْ، فَارْجِعُوا حَتَّى يَرْفَعُوا إِلَيْنَا عُرَفَاؤُكُمْ أَمْرَكُمْ". فَرَجَعَ النَّاسُ فَكَلَّمَهُمْ عُرَفَاؤُهُمْ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُمْ قَدْ طَيَّبُوا وَأَذِنُوا.

الحديثا 2307 - [2539، 2584، 2607، 3131، 4318، 7176 - فتح: 4/ 483]

الحديثا 2308 - [2540، 2583، 2608، 3132، 4319، 7177 - فتح: 4/ 483]

ثم ساقه من حديث مروان بن الحكم، ومسور بن مخرمة ولأبي داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده في هذِه القصة: فقال عليه السلام: "ردوا عليهم نساءهم وأبناءهم فمن أمسك شيئًا من هذا الفيء

ص: 182

فإن له به علينا ست فرائض" ثم دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعيرٍ فأخذ وبرة من سنامه، ثم قال: "يأيها الناس إنه ليس لي من هذا الفيء شيء ولا هذا -ورفع إصبعه- إلا الخُمُس، والخُمُس مردود عليكم، فأدوا الخيط والمِخْيَط" فقام رجل في يده كُبّة من شعر فقال: أخذت هذِه لأصلح برذعة لي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو فيء لك" فقال: أما إذا بلغت ما أرى فلا إرب لي فيها، ونبذها

(1)

.

إذا تقرر ذلك فالوفد: القوم يفدون.

وفيه: جواز سبي العرب واسترقاقهم كالعجم، وفيه قول للشافعي، والأفضل عتقهم للرحم ومراعاتها، كذا فعله عمر في خلافته حين ملك المرتدين، وهو على وجه الاستحباب.

ومعنى "استأنيت بهم" انتظرتهم. قال الداودي: وإنما انتظرهم بشيء أوجب لأصحابه؛ لأن ترك ما لم يقبض أهون من ترك ما قبض، واستدل بعضهم به أن الغنيمة إنما تملك بالقسمة، وكذا الشافعي وأبو حنيفة إنما تملك بها.

وقوله (قفل) رجع، ولما قسم صلى الله عليه وسلم غنائم حنين بالجعرانة لخمس ليال خلون من ذي القعدة سنة ثمان، وكان قدم سبي هوازن إلى الجعرانة، وأخر القسمة رجاء أن يسلموا ويرجعوا إليه، وكانوا ستة آلاف من الذراري والنساء، ومن الإبل أربعة وعشرين ألف، ومن الغنم أكثر من

أربعين ألف شاة، وأربعة آلاف أوقية فضة، فقسمها بالجعرانة.

وذكر ابن فارس في كتاب "المُنْبي في أسماء النبي" أن الذي أعطاه

(1)

"سنن أبي داود"(2694)، وقال الألباني في "صحيح أبي داود" (2413) و"الإرواء" 5/ 37: إسناده حسن.

ص: 183

النبي صلى الله عليه وسلم في هذا اليوم قُوِّمَ خمس مائة ألف ألف.

وقوله: "حتى نعطيه إياه من أول ما يفيء الله علينا" أي: يرد، مثل قوله: ما أفاء الله.

فيه: القرض إلى أجل مجهول، إذ لا يدري متى يفاء. قال ابن التين عن بعضهم: يمكن أن يقاس عليه من أكره على بيع ماله في حق غيره.

ونقل ابن بطال عن بعضهم أن فيه من الفقه أن بيع المكره في الحق جائز؛ لأنه عليه السلام حكم برد السبي، ثم قال:"من أحب أن يكون على حظه حتى نعطيه إياه" إلى آخره، ولم يجعل لهم الخيار في إمساك السبي أصلًا، وإنما خيرهم في أن يعوضهم من مغانم أخر، ولم يخيرهم في أعيان السبي؛ لأنه قال لهم هذا بعد أن رد إليهم أهليهم، وإنما خيرهم في إحدى الطائفتين؛ لئلا يجحف بالمسلمين في مغانمهم فيخليهم منه كله ويحبسهم ما غنموا وتعبوا فيه، وفي دفعه أملاك الناس عن الرقيق، ولم يجعل إلى تمليك أعيانهم سبيلًا دلالة على أن للإمام أن يستعين على مصالح المسلمين بأخذ بعض ما في أيديهم

ما لم يجحف بهم، ويعد من لم تطب نفسه مما يؤخذ منه بالعوض، ألا ترى قوله عليه السلام "من أحب أن يطيب بذلك" فأراد أن يطيب نفوس المسلمين لأهل هوازن بما أخذ منهم من العيال؛ ليرفع الشحناء والعداوة، ولا يبقي إحنة الغلبة لهم في انتزاع السبي منهم في قلوبهم، فيولد ذلك اختلاف الكلمة.

وفيه: أنه يجوز للإمام إذا جاءه أهل الحرب مسلمين، بعد أن غنم أهليهم وأموالهم أن يرد عليهم عيالهم إذا رأى ذلك صوابًا، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن العيال ألصق بنفوس الرجال من المال، والعار

ص: 184

عليهم فيه أشد

(1)

.

وقوله ("حتى برفع إلينا عرفاؤكم أمركم") إنما هذا تقصّي من رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصل السبي في استطابة النفوس رجلًا رجلًا، وليعرف الحاضر منهم الغائب.

والعرفاء: جمع عريف، وهو القيم بأمر القبيلة، والمحلة على أمرهم، ويعرف الأمير حالهم، وهو مبالغة في اسم من يعرف الجند ونحوهم، فعيل بمعنى فاعل، والعرافة عمله.

وعن أبي نصر: هو النقيب الذي دون الرئيس. وعن غيره: النقيب فوق التعريف، وقيل: هو الأمير.

وفيه: اتخاذ العرفاء، وأنهم كانوا ثقات.

وفيه: قبول خبر الواحد، واستدل به من رأى قبول إقرار الوكيل على موكله؛ لأن العرفاء كانوا كالوكلاء فيما أقيموا له من أمرهم، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالة العرفاء أنفذ ذلك ولم يسألهم عما قالوه، وكان في ذلك تحريم فروج السبايا على ما كانت حلالًا (إليه)

(2)

، وإليه ذهب أبو يوسف ونفر من أهل العلم، وقال أبو حنيفة: إقرار الوكيل جائز عند الحاكم، ولا يجوز عند غيره

(3)

.

وقال مالك: لا يقبل إقراره ولا إنكاره إلا أن يجعل ذلك إليه موكله

(4)

.

وقول الشافعي: لا يقبل إقراره عليه

(5)

.

(1)

"شرح ابن بطال" 6/ 442 - 443.

(2)

كذا في الأصل، وأعلاها كلمة (كذا)، وفي الحاشية تعليقًا عليها: لعله عليه.

(3)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 4/ 69، "المبسوط" 19/ 4، 5.

(4)

"الكافي" ص 395.

(5)

"مختصر المزني"157.

ص: 185

‌8 - باب إِذَا وَكَّلَ رَجُلٌ أَنْ يُعْطِيَ شَيْئًا وَلَمْ يُبَيِّنْ كَمْ يُعْطِي، فَأَعْطَى عَلَى مَا يَتَعَارَفُهُ النَّاسُ

2309 -

حَدَّثَنَا المَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَغَيْرِهِ، يَزِيدُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَلَمْ يُبَلِّغْهُ كُلُّهُمْ رَجُلٌ وَاحِدٌ مِنْهُمْ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ، فَكُنْتُ عَلَى جَمَلٍ ثَفَالٍ، إِنَّمَا هُوَ فِي آخِرِ القَوْمِ، فَمَرَّ بِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:"مَنْ هَذَا؟ ". قُلْتُ: جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ. قَالَ: "مَا لَكَ؟ ". قُلْتُ: إِنِّي عَلَى جَمَلٍ ثَفَالٍ. قَالَ: "أَمَعَكَ قَضِيبٌ؟ ". قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: "أَعْطِنِيهِ". فَأَعْطَيْتُهُ، فَضَرَبَهُ فَزَجَرَهُ، فَكَانَ مِنْ ذَلِكَ المَكَانِ مِنْ أَوَّلِ القَوْمِ، قَالَ:"بِعْنِيهِ". فَقُلْتُ: بَلْ هُوَ لَكَ يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: "بِعْنِيهِ، قَدْ أَخَذْتُهُ بِأَرْبَعَةِ دَنَانِيرَ، وَلَكَ ظَهْرُهُ إِلَى المَدِينَةِ". فَلَمَّا دَنَوْنَا مِنَ المَدِينَةِ أَخَذْتُ أَرْتَحِلُ. قَالَ: "أَيْنَ تُرِيدُ؟ ". قُلْتُ: تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً قَدْ خَلَا مِنْهَا. قَالَ: "فَهَلاَّ جَارِيَةً تُلَاعِبُهَا وَتُلَاعِبُكَ". قُلْتُ: إِنَّ أَبِي تُوُفِّيَ وَتَرَكَ بَنَاتٍ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَنْكِحَ امْرَأَةً قَدْ جَرَّبَتْ خَلَا مِنْهَا. قَالَ:"فَذَلِكَ". فَلَمَّا قَدِمْنَا المَدِينَةَ قَالَ: "يَا بِلَالُ اقْضِهِ وَزِدْهُ". فَأَعْطَاهُ أَرْبَعَةَ دَنَانِيرَ، وَزَادَهُ قِيرَاطًا. قَالَ جَابِرٌ: لَا تُفَارِقُنِي زِيَادَةُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. فَلَمْ يَكُنِ القِيرَاطُ يُفَارِقُ جِرَابَ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ. [انظر: 443 - مسلم: 715 - فتح: 4/ 485]

ذكر فيه حديث ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح وَغَيْرِهِ يَزِيدُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَلَمْ يُبَلِّغهُ كُلُّهُمْ رَجُلٌ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ، فَكُنْتُ عَلَى جَمَلٍ ثَفَالٍ فذكر بيع الجمل.

وقد سلف

(1)

.

(1)

سلف برقم (2097) كتاب: البيوع، باب: شراء الدواب والحمير.

ص: 186

وقوله: (كلهم رجل واحد منهم). كذا في نسخ البخاري، وفي

الإسماعيلي: لم يبلغه كل رجل منهم، عن جابر. وقال: هذا لفظ حديث حرملة، عن ابن وهب، أنا ابن جريج؛ وعند أبي نعيم، لم يبلغهم كلهم إلا رجلٌ واحد عن جابر. وكذا في أطراف أبي مسعود، وتبعه المزي

(1)

، وبخط الدمياطي: لم يُبلِّغه، بضم أوله وكسر ثالثه مشددًا.

وقال ابن التين: معناه أن بعضهم بينه وبين جابر غيره، ثم ذكر أن في رواية: وكل. بدل: رجل.

والثفال -بفتح الثاء المثلثة-: بطيء السير، وبكسر الثاء: جلد أو (كساء)

(2)

يوضع تحت الرحا يقع عليه الدقيق. وقال ابن التين: وصوب كسر الثاء هنا، ذكره ابن فارس

(3)

.

قوله: بل هو لك يا رسول الله. أي: بغير ثمن، فقال "بل بعنيه" فيه رد العطية. وقوله "قد أخذته بأربعة دنانير" فيه ابتداء المشتري بذكر الثمن، كذا هو بخط الدمياطي، وذكره ابن التين بلفظ:"بأربع الدنانير" قال الداودي: سقط التاء لما دخلت الألف واللام، وذلك فيما دون العشرة، ثم قال: وهذا قول لم يوافقه أحد عليه.

وقوله: "ولك ظهره إلى المدينة" قال مالك: إذا كان على قرب، مثل تلك المسافة، وإن كان روي عنه كراهة ذلك، ولا يجوز فيما بعد عنه. وقال قوم: ذلك جائز وإن بعد. وقالت فرقة: لا يجوز ذلك وإن

قرب.

(1)

"تحفة الأشراف" 2/ 235 (2455).

(2)

ورد بهامش الأصل ما نصه: وفي "الصحاح".

(3)

"مقاييس اللغة" ص 184 مادة: [ثفل].

ص: 187

وقوله في آخره: (فلم يكن القيراط يفارق قراب جابر بن عبد الله).

هو بكسر القاف، وعدم مفارقته؛ لأجل البركة.

واختلف في مقدار الثمن على روايات، وذلك لا يوهن الحديث؛ لإجماعهم على البيع، وشرط ظهره.

وفيه: رد على من يقول: تفارق عقد البيع يفسد البيع.

قال ابن بطال: والمأمور بالصدقة إذا أعطى ما يتعارفه الناس، ويصلح للمعطى، ولا يخرج عن حال المعطي جاز ونفذ، فإن أعطى أكثر مما يتعارف الناس تعلق ذلك برضا صاحب المال، فإن أجاز ذلك وإلا رجع عليه بمقدار ذلك، والدليل على ذلك أنه لو أمره أن يعطيه قفيزًا فأعطاه قفيزين ضمن الزيادة بإجماع، فدل أن المتعارف يقوم مقام الشيء المعين

(1)

.

وهذا الحديث كما قال المهلب: يبين أن من روى الاشتراط في حديث جابر أن معناه أنه عليه السلام شرط له ذلك شرط تفضل؛ لأن القصة كلها جرت منه على جهة التفضل والرفق بجابر؛ لأنه وهبه الجمل بعد أن أعطاه ثمنه وزاده، وجابر قال أيضًا حين سأله بيعه: هو لك يا رسول الله: أي بلا ثمن كما سلف، وسيأتي إيضاح ذلك بمذاهب العلماء في الشروط إن شاء الله تعالى.

وفيه: بركته عليه السلام.

وقوله في كتاب الصلح: وقال عطاء وغيره: لك ظهره

(2)

. هو قال على أن هذِه اللفظة محققة عن عطاء وغيره.

(1)

"شرح ابن بطال" 6/ 444.

(2)

قلت بل هو في الشروط، باب إذا اشترط البائع ظهر الدابة برقم (2718).

ص: 188

‌9 - باب وَكَالَةِ المَرْأَةِ الإِمَامَ فِي النِّكَاحِ

2310 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي قَدْ وَهَبْتُ لَكَ مِنْ نَفْسِي. فَقَالَ رَجُلٌ: زَوِّجْنِيهَا. قَالَ: "قَدْ زَوَّجْنَاكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ". [5029، 5030، 5087، 5121، 5126، 5132، 5135، 5141، 5149، 5150، 5871، 7417 - مسلم: 1425 - فتح: 4/ 486]

ذكر فيه حديث سهل جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي قَدْ وَهَبْتُ لَكَ مِنْ نَفْسِي. فَقَالَ رَجُلٌ: زَوِّجْنِيهَا. قَالَ: "قَدْ زَوَّجْنَاكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ".

هذا الحديث ذكره في النكاح وغيره ففي لفظ له: "فقد ملكتكها بما معك من القرآن" وفي لفظ: "أملكناكها بما معك من القرآن"

(1)

.

وفي مسلم: "فقد زوجتكها بما معك من القرآن"

(2)

قال الطرقي: "أملكناكها" رواية محمد بن مطرف، ولم يقل أحد منهم "ملكتها" إلا ابن أبي حازم ويعقوب بن عبد الرحمن

(3)

.

وقال ابن عيينة "أنكحتكها" والباقون قالوا "زوجتكها".

وقال الدارقطني: رواية من روى "ملكتكها" وهم، ومن روى "زوجتكها" الصواب.

(1)

سيأتي برقم (5121) كتاب: النكاح، باب عرض المرأة نفسها على الرجل الصالح.

(2)

"صحيح مسلم" برقم (1425) كتاب: النكاح، باب: الصداق وجواز كونه تعليم قرآن وخاتم حديد.

(3)

المصدر السابق.

ص: 189

إذا تقرر ذلك فليس في الباب ما بوب عليه كما نبه عليه الداودي، وليس فيه أنه استأذنها، ولا أنها وكلته، وقد قال تعالى:{النَّبِيُّ أَوْلَى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6].

وقال ابن بطال: وجه الاستنباط من الحديث هو أنه عليه السلام لما قالت له المرأة: قد وهبت نفسي لك، كان ذلك كالوكالة على تزويجها من نفسه، أو ممن رأى تزويجها منه، فكان كل ولي للمرأة بهذِه المنزلة أنه لا ينكحها حتى تأذن له في ذلك، إلا الأب في البكر، والسيد في الأمة، فإذا أذنت له وافتقر الولي إلى إباحتها ورضاها وكالة، وليست هذِه الوكالة من جنس سائر الوكالات التي لا يفعل الوكيل شيئًا إلا والموكل يفعل مثله؛ من أجل أنه عليه السلام قد خص النكاح أنه لا يتم إلا بهذِه الوكالة بقوله "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل"

(1)

وجمهور العلماء على أنه لا تلي المرأة عقد نكاح بحال، لا نفسها ولا غيرها -وسيأتي في النكاح أنها جعلت أمرها إليه صريحًا

(2)

- هذا قول مالك وابن أبي ليلى والثوري والليث والشافعي. قال مالك: ويفسخ وإن ولدت منه.

وقال الأوزاعي: إذا زوجت نفسها يحسن أن لا يتعرض لها الولي، إلا أن تكون عربية تزوجت مولى فيفسخ. وقال أبو حنيفة وزفر: يجوز عقدها على نفسها، وأن تزوج نفسها كفؤًا

(3)

.

(1)

رواه أبو داود (2083)، والترمذي (1102) وابن ماجه (1879)، وأحمد 6/ 66 وصححه الألباني في "الإرواء" 1840 وأطال فيه النفس وأجاد فراجعه فإن فيه فوائد جمة.

(2)

سيأتي برقم (5087، 5121، 5126).

(3)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 2/ 250، "المبسوط" 5/ 11، "المدونة" =

ص: 190

واختلفوا إذا لم يكن لها ولي فجعلت عقد نكاحها إلى رجل ليس بولي، ولم ترفع أمرها إلى السلطان، فعن مالك أن للسلطان أن ينظر فيه فيجيزه أو يرده، كما كان ذلك للولي، وعنه فيمن تزوجت بغير ولاية من يجوز له ولايتها، ودخل بها، والزوج كفؤ، فلا يفسخ. وقال سحنون: قال غير ابن القاسم: لا يجوز وإن أجازه السلطان والولي؛ لأنه نكاح عقد بغير ولي، وهو قول ابن الماجشون، وحجتهم الحديث السالف

(1)

.

تنبيهات:

أحدها: لا يصح النكاح عندنا إلا بلفظ الإنكاح أو التزويج

(2)

، وخالف أبو حنيفة فقال: يصح بلفظ الهبة

(3)

، كما سيأتي، واعترض القرطبي

(4)

برواية "ملكتكها" وقد علمت ما فيها. ويحتمل كما قال النووي صحة اللفظين -أعني: هذِه، و"أملكناكها"- ويجوز جرى لفظ التزويج أولًا فتملكها، ثم قال: اذهب فقد ملكتكها بالتزويج السابق

(5)

.

ثانيها: من خصائصه إباحة عقد النكاح بغير عوض، لا حالًا ولا مآلًا وهو معنى قوله تعالى {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} [الأحزاب: 50] وينعقد عندنا نكاحه بلا شهود ولا ولي وبلفظ الهبة؛ لأنه لم ينكر عليها.

= 2/ 152، "الذخيرة" 4/ 201 - 203، "مختصر المزني" ص 32، "البيان" 9/ 161، "الشرح الكبير" 2/ 155 - 157.

(1)

"شرح ابن بطال" 6/ 445 - 446، وانظر:"المدونة" 2/ 152، "المنتقى" 3/ 270.

(2)

انظر: "البيان" 9/ 232.

(3)

انظر: "الهداية" 1/ 206.

(4)

"المفهم" 4/ 133.

(5)

"مسلم بشرح النووي" 9/ 214.

ص: 191

ثالثها: ادعى ابن حبيب أن خبر سهل هذا منسوخ بقوله: "لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل"

(1)

وهو عجيب، ويحتمل أن يكون حضره الصحابة، وهو الظاهر؛ لأن سهلًا كان حاضرًا، ويحتمل أن يكون معه غيره، وكلهم عدول، والشارع هو الولي، ولعله لم يكن لها ولي خاص.

(1)

هذا الحديث روي عن جماعة من الصحابة، منهم: عائشة وأبو هريرة وابن عمر وعمران بن حصين وغيرهم.

أما حديث عائشة فرواه ابن حبان في "صحيحه" 9/ 386 (4075)، والدارقطني 3/ 224، والبيهقي 7/ 125 من طرق عن ابن جريج، عن سليمان بن موسى، عن الزهري، عن عروة عنها مرفوعًا ورواه ابن ماجه (1880) من حديث عائشة وابن عباس بلفظ:"لا نكاح إلا بولي". وفي حديث عائشة: "والسلطان ولي من لا ولي له".

وأما حديث أبي هريرة فرواه البيهقي 7/ 125 من طريق المغيرة بن موسى عن هشام عن ابن سيرين عنه وزاد فيه: وخاطب وقال: قال ابن عدي: قال البخاري: مغيرة بن موسى بصري منكر الحديث وقال أبو أحمد ابن عدي: المغيرة بن موسى في نفسه ثقة.

وأما حديث ابن عمر فرواه الدارقطني في "السنن" 3/ 223 من طريق زهير، عن نافع، عنه وذكره الزيلعي في "نصب الراية" 3/ 189 وقال: ثابت بن زهير: قال البخاري فيه: منكر الحديث، قاله ابن عدي.

وأما حديث عمران بن حصين فرواه عبد الرزاق في " المصنف " 6/ 196،

والطبراني في " الكبير " 18/ 142، والبيهقي في "الكبرى" 7/ 125 وذكره الهيثمي

في "المجمع" 4/ 287 وقال: وفيه عبد الله بن محرر، وهو متروك.

وفي الباب عن علي بن أبي طالب، ومعاذ بن جبل، وأبي ذر الغفاري، والمقداد بن الأسود وجابر بن عبد الله وغيرهم قال الزيلعي في "نصب الراية" 3/ 184: وأكثرها صحيحة، وقد صحت الرواية عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عائشة وأم سلمة وزينب بن جحش.

والحديث صححه الألباني في "الإرواء" 1858 وقال: حديث عائشة صحيح بالمتابعات وبما يأتي له من الشواهد.

ص: 192

رابعها: ادعى ابن أبي زيد أن هذا خاص لرسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الرجل، قال: وشيء آخر أنه زوجها ولم يستأمرها، ولم يظهر من الحديث رغبتها في نكاح غيره.

خامسها: فيه دليل على عقد النكاح بالإجارة، وفيه ثلاثة أقوال لأصحاب مالك: الإباحة، والكراهة، والمنع

(1)

.

وقال أبو حنيفة: يجوز للعبد أن يتزوج امرأة على أن يخدمها، ولا يجوز على تعليم القرآن؛ لأن الأجرة عنده عليه لا تجوز، وأما الحر فلا يجوز له أن يتزوج بخدمة

(2)

.

سادسها: فيه دليل على الانعقاد بقوله: زوجني، فقال: زوجتك، وإن لم يقل الزوج ثانيًا: قبلت، وهو قول فقهاء الأمصار

(3)

. وكذلك البيع عند مالك والشافعي

(4)

.

وقال أبو حنيفة: لا يصح حتى يقول: قبلت

(5)

.

سابعها: فيه دليل على صحة عقد النكاح وإن لم تتقدمه خطبة، خلافًا لداود في إيجابه ذلك.

خاتمة: قال أبو عمر: أجمع العلماء على أنه لا يجوز لأحدٍ أن يطأ فرجًا وهب له وطؤه دون رقبته بغير صداق

(6)

.

(1)

انظر: "النوادر والزيادات" 4/ 465 - 466.

(2)

"الهداية" 1/ 224.

(3)

انظر: "الهداية" 1/ 206، "أحكام القرآن" لابن العربي 3/ 1469 - 1470، "تقويم النظر" 4/ 96 - 99.

(4)

انظر: "مواهب الجليل" 6/ 13، "التهذيب" 5/ 314.

(5)

انظر: "بدائع الصنائع" 5/ 133.

(6)

"التمهيد" 21/ 111.

ص: 193

أخرى: وافق الشافعي في اقتصاره على التزويج أو الإنكاح ربيعة، وأبو ثور، وأبو عبيد، وداود، وغيرهم، وذلك على اختلاف عنه، وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن صالح: ينعقد بلفظ الهبة، ولها المهر المسمى، وإن لم يسم مهرًا فلها مهر مثلها

(1)

.

أخرى: لا حدَّ للصداق عندنا إلا أن ينتهي إلى ما لا يتمول فيفسد، ويجب مهر المثل، ونحوه عن ابن عباس، وبه قال ربيعة، وأبو الزناد، وابن أبي ذئب، ويحيى بن سعيد، والليث، والثوري والأوزاعي،

والزنجي، وابن أبي ليلى، وداود، وابن وهب.

وقال مالك: أقله ربع دينار، وهو من أفراده، كما قال عياض

(2)

.

وقال أبو حنيفة: أقله عشرة دراهم. وقال ابن شبرمة: خمسة

(3)

.

وقال النخعي: أربعة

(4)

. وعن الأوزاعي وابن وهب: درهم. وعن ربيعة: قيراط. وقال ابن حزم: يجوز كل ما له نصف وثمن أو أكثر، ولو أنه حبة برٍّ أو شعير

(5)

. وعن ابن جبير: خمسون درهمًا

(6)

.

أخرى: جاء في الصحيح "ولو خاتم من حديد" وهو قال على جواز لبسه، وفيه خلاف عندنا في كراهته

(7)

، وحديث النهي ضعيف.

(1)

انظر: "الهداية" 1/ 206، "أحكام القرآن" لابن العربي 3/ 1468، "بداية المجتهد" 3/ 940، "التهذيب" 5/ 311.

(2)

"إكمال المعلم" 4/ 579.

(3)

"إكمال المعلم" 4/ 580.

(4)

"مصنف ابن أبي شيبة" 3/ 482 - 483.

(5)

"المحلى" 9/ 494.

(6)

"تفسير القرطبي" 5/ 129.

(7)

ورد بهامش الأصل: والصحيح عدم الكراهة لما رجحه النووي في "شرح مسلم" له.

ص: 194

‌10 - باب إِذَا وَكَّلَ رَجُلًا، فَتَرَكَ الوَكِيلُ شَيْئًا، فَأَجَازَهُ المُوَكِّلُ، فَهُوَ جَائِزٌ، وَإِنْ أَقْرَضَهُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى جَازَ

2311 -

وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ الهَيْثَمِ أَبُو عَمْرٍو حَدَّثَنَا عَوْفٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: وَكَّلَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ، فَأَتَانِي آتٍ فَجَعَلَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ، فَأَخَذْتُهُ، وَقُلْتُ: وَاللهِ لأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ: إِنِّي مُحْتَاجٌ، وَعَلَيَّ عِيَالٌ، وَلِي حَاجَةٌ شَدِيدَةٌ. قَالَ: فَخَلَّيْتُ عَنْهُ فَأَصْبَحْتُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ البَارِحَةَ؟ ". قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ شَكَا حَاجَةً شَدِيدَةً وَعِيَالًا، فَرَحِمْتُهُ، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ. قَالَ:"أَمَا إِنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ وَسَيَعُودُ". فَعَرَفْتُ أَنَّهُ سَيَعُودُ لِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّهُ سَيَعُودُ". فَرَصَدْتُهُ، فَجَاءَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ، فَأَخَذْتُهُ فَقُلْتُ: لأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ: دَعْنِي فَإِنِّي مُحْتَاجٌ، وَعَلَيَّ عِيَالٌ لَا أَعُودُ، فَرَحِمْتُهُ، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ فَأَصْبَحْتُ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ؟ ". قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ شَكَا حَاجَةً شَدِيدَةً وَعِيَالًا، فَرَحِمْتُهُ فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ.

قَالَ: "أَمَا إِنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ وَسَيَعُودُ". فَرَصَدْتُهُ الثَّالِثَةَ فَجَاءَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ، فَأَخَذْتُهُ فَقُلْتُ: لأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهَذَا آخِرُ ثَلَاثِ مَرَّاتٍ أَنَّكَ تَزْعُمُ لَا تَعُودُ ثُمَّ تَعُودُ. قَالَ: دَعْنِي أُعَلِّمْكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللهُ بِهَا. قُلْتُ: مَا هُوَ؟ قَالَ: إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الكُرْسِيِّ: {اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الحَىُّ القَيُّومُ} [البقرة: 255] حَتَّى تَخْتِمَ الآيَةَ، فَإِنَّكَ لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللهِ حَافِظٌ وَلَا يَقْرَبَنَّكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ. فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ فَأَصْبَحْتُ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ البَارِحَةَ؟ ". قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، زَعَمَ أَنَّهُ يُعَلِّمُنِي كَلِمَاتٍ، يَنْفَعُنِي اللهُ بِهَا، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ. قَالَ:"مَا هِيَ؟ ".

ص: 195

قُلْتُ: قَالَ لِي: إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الكُرْسِيِّ مِنْ أَوَّلِهَا حَتَّى تَخْتِمَ: {اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الحَىُّ القَيُّومُ} [البقرة: 255] وَقَالَ لِي: لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللهِ حَافِظٌ وَلَا يَقْرَبَكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ، وَكَانُوا أَحْرَصَ شَيْءٍ عَلَى الخَيْرِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"أَمَا إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ، تَعْلَمُ مَنْ تُخَاطِبُ مُنْذُ ثَلَاثِ لَيَالٍ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ ". قَالَ: لَا. قَالَ: "ذَاكَ شَيْطَانٌ". [3275، 5010 - فتح: 4/ 487]

وقال عثمان بن الهيثم: ثنا عوف، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة قال: وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آتٍ، فجعل يحثو من الطعام. فذكر حديثًا فيه: دعني فإني محتاج. وفيه: أنه علمه آية الكرسي، وأنها حرز من الشيطان. كذا علقه هنا

(1)

، وفي صفة إبليس

(2)

وفضائل القرآن

(3)

ووصله النسائي عن إبراهيم بن يعقوب، ثنا عثمان، فذكره

(4)

.

ووصله الإسماعيلي من حديث الحسن بن السكن، وعبد العزيز بن سلام، عنه. وأبو نعيم من حديث هلال بن بشر، عنه.

وللترمذي نحوه من حديث أبي أيوب، وقال: حسن غريب

(5)

.

وزعم ابن العربي أن البخاري رواه مقطوعًا، قال: وقد صححه قوم وضعفه آخرون. وعثمان هذا مؤذن البصرة، مات بعد المائتين

(6)

،

(1)

ورد بهامش الأصل: بخط الشيخ في الهامش: زعم الضياء أن البخاري قال: وقال عياش عن أبي أيوب أن الغول كانت تجيء فتأخذ .. الحديث.

(2)

سيأتي برقم (3275) كتاب: بدء الخلق.

(3)

سيأتي برقم (5010) باب: فضل سورة البقرة.

(4)

"السنن الكبرى" 6/ 238.

(5)

"سنن الترمذي" برقم (2880).

(6)

ورد بهامش الأصل ما نصه: في "الكاشف" توفي سنة 318 وفي الليل "لابن =

ص: 196

وعوف

(1)

هو ابن أبي جميلة رزينة، عاش سبعًا وثمانين سنة

(2)

.

إذا تقرر ذلك فقوله في الترجمة: فترك الوكيل شيئًا. يريد أن أبا هريرة ترك الذي حثا الطعام حين شكى الحاجة، فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجاز فعله ولم يرده، ففهم منه أن من وكل على حفظ شيء، أو اؤتمن على مال فأعطى منه شيئًا لآخر أنه لا يجوز دهان كان بالمعروف؛ لأنه إنما جاز فعل أبي هريرة لإجازة الشارع له؛ لأنه لم يوكل أبا هريرة على عطاء، ولا أباح له إمضاء ما انتهب منه، وإنما وكله بحفظه خاصة، والدليل على صحة هذا التأويل أنه ليس لمن اؤتمن على شيء أن يتلف منه شيئًا، وأنه إذا أتلفه ضمنه، إلا أن يجيزه رب المال. وفي تعلق جواز ذلك بإجازة رب المال دليل على صحة الضمان لو لم يجزه.

قال ابن بطال: ولا أعلم فيه خلافًا بين الفقهاء، وأما قوله: وإن أقرضه إلى أجل مسمى جاز، فلا أعلم خلافًا بين الفقهاء أن أحدًا لا يجوز له أن يقرض من وديعة عنده أو مال يستحفظه لأحدٍ شيئًا، لا حالًّا ولا إلى أجل، ولكنه إن فعل كان رب المال مخيرًا بين إجازة فعله، أو تضمينه، أو طلب الذي قبض المال، ويخرج قوله: وإن أقرضه إلى آخره. من أن الطعام كان مجموعًا للصدقة، فلما أخذ

= عساكر مات لإحدى عشرة خلت من رجب سنة 230، وفي "الكاشف" أنه ثقة ثبت أيضًا روى عن رجل عنه، قال الذهبي في "المغني" قال أبو حاتم: كان بآخره يُلقن، قال الدارقطني صدوق كبير الخطأ. ["الكاشف":(3746)، "المغني" 2/ 429].

(1)

فوقها في الأصل: هو الأعرابي.

(2)

في هامش الأصل: في "الكاشف": قال: هو ثقة ثبت مات سنة 147 وفي "المغني": ثقة مشهور، قال بندار: قدري رافضي. [الكاشف: 4309، "المغني": 2/ 429].

ص: 197

السارق، وقد حثا من الطعام وقال له: دعني فإني محتاج، فتركه، فكأنه سلفه ذلك الطعام إلى أجل، وهو وقت قسمته وتفرقته على المساكين؛ لأنهم كانوا يجمعونه قبل الفطر بثلاثة أيام للتفرقة، فكأنه سلفه إلى ذلك الأجل.

وفيه: أن السارق لا يقطع في مجاعة، وأنه يجوز أن يعفي عنه قبل أن يبلغ الإمام، وأنه قد يعلم الشيطان علمًا ينتفع به إذا صدقه.

وفيه: أن الكذاب قد يصدق في الندرة.

وفيه: علامات النبوة لقوله "ما فعل أسيرك البارحة" وفيه تفسير لقوله تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف: 27]-يعني الشياطين- أن المراد بذلك ما هم عليه من خلقتهم الروحانية، فإذا شخصوا في صورة الأجسام المدركة بالعين جازت رؤيتهم كما تشخص الشيطان في هذا الحديث لأبي هريرة في صورة سارق

(1)

.

وفي الترمذي في الحديث السالف: غول

(2)

.

وقوله: (يحثو)، هو بالواو، ويقال بالياء، وهي أعلى اللغتين، وكله بمعنى الغرف، وفيه أن الجن يأكلون الطعام، وهو موافق لقوله عليه السلام:"سألوني الزاد" وإن كان في شعر العرب أنهم لا يأكلون، كما حكاه ابن التين، فإن قيل: أخذه متمردًا، فالظاهر خلافه؛ لأنه لو كان متمردًا غير محتاج إلى طعام ما علمه آية الكرسي.

وفيه: ظهور الجن، وتكلمهم بكلام الإنس، وسرقتهم.

(1)

"شرح ابن بطال" 6/ 448 - 449.

(2)

"سنن الترمذي" برقم (2880).

ص: 198

وفيه: قبول عذر السارق.

وقوله: (وعلى عيال) -أي: نفقة عيال، مثل {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] ويحتمل أن يكون بمعنى: لي. والأول أبين.

وعن الداودي: قيل له أسير؛ لأنه كان ربطه يسير، وهو الحبل من الجلد، وهذِه عادة العرب كانوا يربطون الأسير بالقد، وهو الأسر بفتح الهمزة، واعترض ابن التين فقال: قول الداودي: إن السير: الحبل من الجلد لم يذكره غيره، وإنما السير: الجلد، فلو كان مأخوذًا مما ذكره لكان تصغيره يسير، ولم تكن الهمزة فاءه.

وفي "الصحاح": شدَّ الإسار، وهو القد

(1)

(2)

. وفي بعض روايات هذا الحديث: فقال الشيطان: أعلمك آية، فلا يقربك شيطان.

قلت: وما هي؟ قال: لا أستطيع أن أتكلم بها، آية الكرسي

(3)

.

ومعنى: رصدته: أعددته.

وفيه: وعيد أبي هريرة برفعه إليه، وخدعة الشيطان.

وفيه: أن الثالثة بلاغ في الإعذار.

وفيه: فضل آية الكرسي.

وقال ابن مسعود: إنها أعظم آية نزلت

(4)

، ولم ينكر عليه عمر،

(1)

ورد بهامش الأصل: في "الصحاح" الإسار: النقد.

(2)

"الصحاح" 2/ 578 مادة: أسر.

(3)

ذكرها المنذري في "الترغيب والترهيب" 1/ 237 وقال: رواه الترمذي وغيره من حديث أبي أيوب. والذي عند الترمذي (2880) ليس بهذا اللفظ وإنما هو عند أحمد 5/ 423 بنحوه دون قوله: لا أستطيع أن أتكلم بها.

(4)

رواه الترمذي برقم (2884) من طريق الحميدي قال: قال سفيان بن عيينة في تفسير حديث ابن مسعود: ما خلق الله من سماء ولا أرض أعظم من آية الكرسي. =

ص: 199

-يعني: أعظم ثوابًا-.

وفيه: أن للشيطان نصيبًا من ترك ذكر الله عند المنام، وحفظ الشياطين لبعض القرآن.

وقوله: (فاقرأ آية الكرسي حتى خاتمتها). أي: العلي العظيم.

= وله طريق رواه الطبراني في "المعجم الكبير" 9/ 133 (8659) بلفظ مقارب وفيه: إن أعظم اية في كتاب الله {اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ} . قال الهيثمي في "المجمع" 7/ 126: ورجاله رجال الصحيح.

ص: 200

‌11 - باب إِذَا بَاعَ الوَكِيلُ شَيْئًا فَاسِدًا فَبَيْعُهُ مَرْدُودٌ

2312 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ -هُوَ ابْنُ سَلاَّمٍ- عَنْ يَحْيَى قَالَ: سَمِعْتُ عُقْبَةَ بْنَ عَبْدِ الغَافِرِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ بِلَالٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِتَمْرٍ بَرْنِيٍّ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"مِنْ أَيْنَ هَذَا؟ ". قَالَ بِلَالٌ: كَانَ عِنْدَنَا تَمْرٌ رَدِيٌّ، فَبِعْتُ مِنْهُ صَاعَيْنِ بِصَاعٍ؛ لِنُطْعِمَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ ذَلِكَ:"أَوَّهْ أَوَّهْ، عَيْنُ الرِّبَا عَيْنُ الرِّبَا، لَا تَفْعَلْ، وَلَكِنْ إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَشْتَرِيَ فَبِعِ التَّمْرَ بِبَيْعٍ آخَرَ ثُمَّ اشْتَرِهِ". [مسلم: 1594 - فتح: 4/ 490]

ذكر فيه حديث أبي سعيد الخدري: جَاءَ بِلَالٌ إِلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم بِتَمْرٍ بَرْنِيٍّ، فَقَالَ لَهُ:"مِنْ أَيْنَ هَذَا؟ ". قَالَ: كَانَ عِنْدَنَا تَمْرٌ رَدِيٌّ، فَبِعْتُ مِنْهُ صَاعَيْنِ بِصَاعٍ؛ لِنُطْعِمَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ:"أَوَّهْ، عَيْنُ الرِّبَا، عَيْنُ الرِّبَا، لَا تَفْعَلْ، وَلَكِنْ إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَشْتَرِيَ فَبِعِ التَّمْرَ بِبَيْعٍ آخَرَ ثُمَّ اشْتَرِهِ".

وقد سلف في باب: إذا أراد بيع تمر بتمر خير منه

(1)

، والبخاري رواه هنا عن إسحاق.

قال الجياني: لم ينسبه أحد من شيوخنا فيما بلغني، قال: ويشبه أن يكون ابن منصور، فقد روى مسلم

(2)

، عنه، عن يحيى بن صالح هذا الحديث. وقال في الكسوف

(3)

(4)

، وهنا، والأيمان والنذور

(5)

، وعمرة

(1)

سلف برقم (2201، 2202) كتاب: البيوع.

(2)

"صحيح مسلم" رقم (1594/ 96) كتاب: المساقاة، باب: بيع الطعام مثلًا بمثل.

(3)

سلف برقم (1045) باب: النداء بـ (الصلاة جامعة في الكسوف).

(4)

ورد بهامش الأصل: في باب: النداء بالصلاة جامعة.

(5)

سيأتي برقم (6626) باب: قول الله تعالى {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ} .

ص: 201

الحديبية

(1)

: حدثنا إسحاق، ثنا يحيى بن صالح، ثنا معاوية بن سلام

(2)

.

والبرني -بفتح الباء- من أطيب التمر. وقوله: "أوه" قال في "المطالع": هي بالقصر والتشديد وسكون الهاء، كذا رويناه، وقيل بالمد، ولا معنى لمدها إلا بعد الصوت، وقيل: بسكون الواو وكسر الهاء، ومن العرب من يمد الهمزة ويجعل مدها واوين فيقول: آووه، وكله بمعنى التحزن، وعبرَّ بأوه ليكون أبلغ في الموعظة. وقال صاحب "العين": تأوه الرجل آهة إذا توجع، ويقال: أوهة لك، في موضع مشتقة وهم، ويقال: أوه من كذا، على معنى التذكر والتحزن

(3)

.

وقوله: "عين الربا" أي: نفس الربا، ولا خلاف أن من باع بيعًا فاسدًا أن بيعه مردود.

وقوله "أوه" دليل على فسخه؛ لأن الله تعالى قد أمر في كتابه وقضى برد رأس المال بقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَ} [البقرة: 278] إلى قوله {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} [البقرة: 279] وقد روي في هذا الحديث عن بلال أنه عليه السلام قال: "اردده" وفي رواية عنه: "انطلق فرده على صاحبه، وخذ تمرك فبعه بحنطة أو شعير، ثم اشتر من هذا التمر، ثم جئني" وساق الحديث

(4)

، وإنما الغرض في بيع الطعام من صنف واحد مثلًا بمثل التوسعة على الناس، ولئلا يستولي أهل الجدة على الطيِّب.

(1)

سيأتي برقم (4171) كتاب: المغازي.

(2)

"تقييد المهمل" 3/ 968.

(3)

"العين" 4/ 104 بنحوه.

(4)

رواه الطبراني 1/ 339 من طريق قيس بن الربيع عن أبي حمزة عن سعيد بن المسيب، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن بلال رضي الله عنه به.

ورواه البزار في "مسنده" 4/ 200 (1362) والروياني في "مسنده" 2/ 18 (755) من طريق منصور عن أي حمزة به بإسقاط عمر رضي الله عنه وأعله الدارقطني بأبي =

ص: 202

‌12 - باب الوَكَالَةِ فِي الوَقْفِ وَنَفَقَتِهِ، وَأَنْ يُطْعِمَ صَدِيقًا لَهُ وَيَأْكُلَ بِالمَعْرُوفِ

2313 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو قَالَ فِي صَدَقَةِ عُمَرَ رضي الله عنه لَيْسَ عَلَى الوَلِيِّ جُنَاحٌ أَنْ يَأْكُلَ وَيُؤْكِلَ صَدِيقًا [لَهُ] غَيْرَ مُتَأَثِّلٍ مَالًا، فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ هُوَ يَلِي صَدَقَةَ عُمَرَ يُهْدِي لِلنَّاسِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، كَانَ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ. [2737، 2764، 2772، 2773، 2777 - مسلم: 1632 - فتح: 4/ 491]

ثم ساق حديث سفيان، عَنْ عَمْرٍو قَالَ فِي صَدَقَةِ عُمَرَ لَيْسَ عَلَى الوَلِيِّ جُنَاحٌ أَنْ يَأكُلَ وُيؤْكِلَ صَدِيقًا غَيْرَ مُتَأَثِّلٍ مَالًا، فَكَانَ ابن عُمَرَ هُوَ يَلِي صَدَقَةَ عُمَرَ يُهْدِي لِلنَّاسِ مِنْ مَكةَ، كَانَ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ.

هذا الحديث كرره البخاري، وفي رواية: كان يقال للمال: ثمغ، وكان نخلا

(1)

، ولأبي داود: فما عما من تمره فهو للسائل والمحروم، وإن شاء وَلِيُّ ثَمْغٍ اشترى من ثمره رقيقًا لعمله. وفي لفظ: هذا ما أوصى به ابن عمر إن حدث لي حدث أن ثمغًا. وصرمة بن الأكوع، والعبد الذي فيه، والمائة سهم التي بخيبر، ورقيقه الذي فيه، والمائة التي أطعمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوادي، الحديث

(2)

.

= حمزة وقال: أبو حمزة مضطرب الحديث، والاضطراب في الإسناد من قبله. والله أعلم. ا. هـ من "العلل" 2/ 158 - 159.

(1)

سيأتي برقم (2764) كتاب: الوصايا، باب: وما للوصي أن يعمل في مال اليتيم، وما يأكل منه بقدر عمالته.

(2)

"سنن أبي داود"(2879)، ورواه عبد الرزاق في "المصنف" 10/ 377 والبيهقي في "السنن" 6/ 160 من طريق أخرى عن ابن وهب، وذكره الألباني في "صحيح أبي دواد" وقال: هذِه وجادة ثبتت من طرق جيدة، وسكت عنها الحافظ في "الفتح" 5/ 402 والله أعلم.

ص: 203

وثمغ -بالثاء المثلثة، ثم ميم ساكنة، ثم غين معجمة- موضع تلقاء المدينة

(1)

، كان فيه مال لعمر، فخرج إليه يومًا ففاتته صلاة العصر، فقال شغلني ثَمْغ عن الصلاة، أشهدكم أنها صدقة.

ذكره الإسماعيلي عن عمر، وقال: كان ابن عمر إذا قدم مكة أهدى إلى آل عبد الله بن خلد بن أسيد من صدقة عمر. ولأبي نعيم من حديث أيوب، عن نافع: أوصى عمر، الحديث من حديث أيوب أنه أخذ هذا الحديث عن عمرو بن دينار في صدقة عمر لا حرج عليه -يعني على وليه في تمره- أن يأكل منه أو يؤاكل صديقًا غير متمول منه مالًا. وهذا لفظ معمر، وهذا إنما أخذه عمر من كتاب الله تعالى في ولي اليتيم، في قوله تعالى {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالمَعْرُوفِ} [النساء: 6].

والمعروف: ما يتعارفه الناس بينهم غير مكتسب مالا، فهذا مباح عند الحاجة، وهذا سنة الوقف أن يأكل منه الولي له ويؤكل؛ لأن الحبس لهذا حبس، وليس هو مثل من اؤتمن على مال غيره لغير الصدقة فأعطى منه بغير إذن ربه شيئًا فإنه لا يجوز ذلك بالإجماع.

وفيه: أن الناس في أوقافهم على شروطهم.

ومعنى (غير متأثل) جامع مالًا.

وفيه: دليل على أبي حنيفة في منعه الحبس وأن كان ربعًا

(2)

، وأهدى ابن عمر للشرط الذي في الوقف أن يؤكل صديقًا له -أي: يطعم- وأنه كان ينزل على الذين يهدى إليهم مكافأة عن طعامه،

فكأنه هو أكله.

وفيه: الاستضافة ومكافأة الضيف.

(1)

انظر: "معجم البلدان" 1/ 346.

(2)

انظر: "مختصر الطحاوي" 136 - 137.

ص: 204

‌13 - باب الوَكَالَةِ فِي الحُدُودِ

2314 -

2315 - حَدَّثَنَا أَبُو الوَلِيدِ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رضى الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ إِلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا".

الحديث 2314 - [2649، 2696، 2725، 6634، 6828، 6831، 6836، 6843، 6860، 7194، 7259، 7279 - فتح: 4/ 491]

الحديث 2315 - [2695، 2724، 6633، 6827، 6833، 6835، 6842، 6859، 7193، 7258، 7260، 7278 - مسلم: 1697، 1698 - فتح: 4/ 491]

2316 -

حَدَّثَنَا ابْنُ سَلَامٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ أَبِي، مُلَيْكَةَ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الحَارِثِ قَالَ: جِيءَ بِالنُّعَيْمَانِ -أَوِ ابْنِ النُّعَيْمَانِ- شَارِبًا، فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ كَانَ فِي البَيْتِ أَنْ يَضْرِبُوا، قَالَ: فَكُنْتُ أَنَا فِيمَنْ ضَرَبَهُ، فَضَرَبْنَاهُ بِالنِّعَالِ وَالجَرِيدِ. [6774، 6775 - فتح: 4/ 492]

ذكر فيه حديث زيد بن خالد وأبي هريرة عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ إِلَى امْرَأَةِ هذا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا".

وحديث عُقْبَةَ بْنِ الحَارِثِ قَالَ: جِيءَ بِالنُّعَيْمَانِ -أَوِ بابْنِ النُّعَيْمَانِ- شَارِبًا، فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ كَانَ فِي البَيْتِ فليَضْرِبُوا، قَالَ: كُنْتُ أَنَا فِيمَنْ ضَرَبَهُ، فَضَرَبْنَاهُ بِالنعَالِ وَالجَرِيدِ.

الشرح:

الحديث الأول سيأتي في النذور

(1)

، والمحاربين

(2)

، والصلح

(3)

،

(1)

رقم (6633، 6634) باب: كيف كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم.

(2)

رقم (6827، 6828) باب: الاعتراف بالزنا.

(3)

رقم (2695، 2696) باب: إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود.

ص: 205

والشروط

(1)

، والأحكام

(2)

، والشهادات

(3)

، والاعتصام

(4)

، وخبر الواحد

(5)

، وله قصة. وحديث عقبة، يأتي في بابه

(6)

.

وأنيس هو ابن الضحاك الأسلمي، ويقال مكبرًا، ذكر له أبو عمر حديثًا. والنعيمان

(7)

هو ابن عمرو بن رفاعة البخاري، يقال له: نعمان، بدري مزاح، توفي في خلافة معاوية.

وفي حديث أنيس من الفقه أنه يجوز للإمام أن يبعث في إنفاذ الحكم من يقوم مقامه فيه كالوكيل للموكل.

واختلف العلماء في الوكالة في الحدود والقصاص، فذهب أبو حنيفة وأبو يوسف إلى أنه لا يجوز قبولها في ذلك، ولا يقيم الحد والقصاص حتى يحضر المدعي، وهو قول الشافعي. وقال ابن أبي ليلى وجماعة: تقبل الوكالة في ذلك، وقالوا: لا فرق بين الحدود والقصاص والديون إلا أن يدعي الخصم أن صاحبه قد عفا، فيوقف عن النظر فيه حتى يحضر

(8)

.

(1)

رقم (2724، 2725) باب: الشروط التي لا تحل في الحدود.

(2)

رقم (7193، 7194) باب: هل يجوز للحاكم أن يبعث رجلًا وحده للنظر في الأمور.

(3)

رقم (2649) باب: شهادة القاذف والسارق والزاني.

(4)

رقم (7278، 7279) باب: الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(5)

رقم (7258، 7259) باب: ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق.

(6)

سيأتي برقم (6774، 6775) كتاب: الحدود، باب: من أمر بضرب الحد في البيت، باب: الضرب بالجريد والنعال.

(7)

ورد بهامش الأصل: جعله غير واحد في الكبير قال: وهو الذي يقال له: نعيمان، وكونه توفي في أيام معاوية، عزاه النووي في "تهذيبه" لابن عساكر.

(8)

انظر: "الهداية" 3/ 152 - 153، "البيان" 6/ 400.

ص: 206

وقول من أجاز الوكالة في ذلك تشهد له الأحاديث الثابتة. فإن قلت: حديث ابن النعيمان أقيم الحد بحضرته. قلت: معناه متحد؛ لأنه كله عن أمره، فتارة أرسل، وتارة فعل بحضرته؛ لأنه لا يتولاه بنفسه. ويجيء على مذهب مالك أن الحد يقام على المقرِّ دون حضور المدعي، خلاف قول أبي حنيفة والشافعي؛ لأنه حق قد وجب عليه، وليس دعواه على المدعي بما يسقط الحد مما يجب أن يلتفت إليه بمجرد دعواه، إلا أن يقيم بينة على ما ادعى من ذلك، ففيه: جواز استنابة الحاكم في بعض القضايا من يحكم فيها -كما أسلفناه- مع تمكنه من مباشرتها، وسيأتي واضحًا في الصلح

(1)

.

وفيه: إقامة الحدود والضرب بالنعال والجريد كان في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم رتبه عمر ثمانين.

وفيه: أن حد الخمر لا يستأنى به الإفاقة كحد الحامل لوضع حملها.

(1)

انظر: "شرح ابن بطال" 6/ 452.

ص: 207

‌14 - باب الوَكَالَةِ فِي البُدْنِ وَتَعَاهُدِهَا

2317 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللهِ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ: قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: أَنَا فَتَلْتُ قَلَائِدَ هَدْيِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدَيَّ، ثُمَّ قَلَّدَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدَيْهِ، ثُمَّ بَعَثَ بِهَا مَعَ أَبِي، فَلَمْ يَحْرُمْ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم شَيْءٌ أَحَلَّهُ اللهُ لَهُ حَتَّى نُحِرَ الهَدْيُ. [انظر: 1696 - مسلم: 1321 - فتح: 4/ 492]

ذكر فيه حديث عائشة: أَنَا فَتَلْتُ قَلَائِدَ هَدْيِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم .. الحديث. سلف في الحج

(1)

. والوكالة في البدن، وفي كل ما يجوز للإنسان أن ينوب غيره فيه منابه من الأعمال جائزة لا خلاف في شيء من ذلك.

وفي قولها: (لم يحرم عليه شيء أحله الله حتى نحر الهدي). رد على ابن عباس: من قلد هديه صار محرمًا بنفس تقليده، وقيل: لأن ناسًا يقولون: إذا أهل ذو الحجة تشبه بهم.

(1)

رقم (1696) باب: من أشعر وقلد بذي الحليفة ثم أحرم.

ص: 208

‌15 - باب إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِوَكِيلِهِ: ضَعْهُ حَيْثُ أَرَاكَ اللهُ. وَقَالَ الوَكِيلُ: قَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ

.

2318 -

حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ يَحْيَى قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ، أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه يَقُولُ: كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ الأَنْصَارِ بِالمَدِينَةِ مَالًا، وَكَانَ أَحَبَّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بِيْرُ حَاءَ وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ المَسْجِدَ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ، فَلَمَّا نَزَلَتْ:{لَنْ تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ:{لَنْ تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَىَّ بِيْرُحَاءَ، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ للهِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللهِ، فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللهِ حَيْثُ شِئْتَ، فَقَالَ:"بَخٍ، ذَلِكَ مَالٌ رَائِحٌ، ذَلِكَ مَالٌ رَائِحٌ. قَدْ سَمِعْتُ 3/ 135 مَا قُلْتَ فِيهَا، وَأَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الأَقْرَبِينَ". قَالَ: أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللهِ. فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ.

تَابَعَهُ إِسْمَاعِيلُ، عَنْ مَالِكٍ. وَقَالَ رَوْحٌ، عَنْ مَالِكٍ:"رَابِحٌ". [انظر: 1461 - مسلم: 998 - فتح: 4/ 493]

ذكر فيه: حَدَّثَنِا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ، أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ أَنْصَارِي بِالمَدِينَةِ مَالًا، وَكَانَ أَحَبَّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بِيْرُحَا .. الحديث بطوله. وقد سلف في الزكاة

(1)

، تابعه إسماعيل عن مالك.

وقال روح عن مالك: رابح. ويحيى (خ م ت س) هذا هو الخراساني

(2)

،

(1)

سلف برقم (1461) باب: الزكاة على الأقارب.

(2)

ورد بهامش الأصل: هو الحمصي، ثبت فقيه صاحب حديث، وليس بالكثير جدًّا، مات سنة 226 هـ[انظر: الكاشف: (6264)].

ص: 209

وهو من جلة أهل الحديث، وَثَمَّ آخر غساني وأندلسي صاحب مالك وغير ذلك. وأبو طلحة جد إسحاق اسمه زيد بن سهل الصحابي، مات سنة أربع وثلاثين.

ووقع في كتاب ابن التين أن اسمه خالد، فاحذره.

وقوله: (قد سمعتُ ما قلت) يدل على قبوله عليه السلام لما جعل إليه أبو طلحة من الرأي في وضعها، ثم رد رسول الله صلى الله عليه وسلم الوضع فيها إلى أبي طلحة بعد أن أشار عليه في من يضعها.

وفيه: أن للوكيل أن يقبل ما وكل عليه وله أن يرد، وأن الوكالة لا تتم إلا بقبول الوكيل، ألا ترى أن أبا طلحة قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: فضعها يا رسول الله حيث أراك الله. فأشار عليه بالرأي، ورد عليه العمل، وقال "أرى أن تجعلها في الأقربين" فتولى أبو طلحة قسمتها.

وفيه: أن من أخرج شيئًا من ماله لله ولم يُمَلِّكه أحدًا، فجائز أن يضعه حيث أراه الله من سبل الخير، وجائز أن يشاور فيه من يشق برأيه من إخوانه، وليس لذلك وجه معلوم لا يتعدى، كما قال بعض الناس: يعني قول الرجل: لله، وفي سبيل الله. في وجه دون وجه، ألا ترى هذِه الصدقة الموقوفة رجعت إلى قرابة أبي طلحة، ولو سبلها في وجه من الوجوه لم تصرف إلى غيره.

واختلف الفقهاء إذا قال الرجل: خذ هذا المال فاجعله حيث أراك الله من وجوه الخير، هل يأخذ منه لنفسه إن كان فقيرًا أم لا؟

فقالت طائفة: لا يأخذ منه شيئًا؛ لأنه إنما أمر بوضعه عند غيره، وهذا يشبه مذهب مالك في "المدونة"، كما قاله ابن بطال: سئل مالك عن رجل أوصى بثلث ماله لرجل أن يجعله حيث رأى، فأعطاه

ص: 210

ولد نفسه -يعني ولد الوصي- أو أحدًا من ذوي قرابته؟ قال: مالك: لا أرى ذلك جائزًا.

وقال آخرون: يأخذ منه كنصيب أحد الفقراء. وقال آخرون: جائز أن يأخذه لنفسه كله إن كان فقيرًا. ووجه من قال: لا يأخذ منه شيئًا لنفسه؛ لأن ربه وضعه في الفقراء، ولم يأذن له أن يأخذه لنفسه، ولو شاء أن يعطيه له لم يأمره أن يضعه في غيره، وكأنه أقامه مقام نفسه، ولو فرقه ربه لم يحبس منه شيئًا. ووجه قول من قال: يأخذ منه كنصيب أحد الفقراء، فهو أن ربه وضعه في الفقراء، وهو أحدهم، فلم يتعد ما قيل له.

ووجه قول من قال: إنه يأخذه كله لنفسه. أن ربه أمره أن يضعه في الفقراء، ومعلوم أنه لا يحيط بجماعتهم، وأن المال إنما يوضع في بعضهم، وإذا كان فقيرًا فهو بعضهم؛ لأنه من الصفة التي أمره أن

يضعه فيهم

(1)

.

وفيه، وفي الآية دليل على فضل الكفاف على الغنى والفقر؛ لقوله تعالى {مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] ولم يقل ما تحبون.

وفيه: دخول الشارع حوائط أصحابه، وشربه من الماء العذب.

والذخر: ما يعتد به.

وبيرحاء يمد ويقصر، وقد سلف ما فيه بزيادة.

وبخ: كلمة تقولها العرب عند قبول فعل من تخاطبه، يقال عند مدح الشيء، وتبخبخ فلان إذا قال ذلك

(2)

.

(1)

"شرح ابن بطال" 6/ 454 - 455، وقول مالك في "المدونة" 4/ 399.

(2)

"المجمل" 1/ 111 مادة: [بخ].

ص: 211

ورائح. أي: يروح لصاحبه بالأجر إلى يوم القيامة أو يروح عليه في الآخرة بالأجر العظيم. ومن رواه بالباء أي: مربوح فيه، وقيل: وضعه صاحب موضع الربح.

وتقول العرب: متجر رابح، ويقال: مربح.

وفيه رواية الحديث بالمعنى؛ لأنه إنما قال إحدى الكلمتين، نبه عليه الداودي، وليس ببين، وإنما هي رواية بالياء وأخرى بالباء.

وقوله: ("إني أرى أن تجعلها في الأقربين") مع قولها: فضعها يا رسول الله حيث شئت.

وفيه: أن للوكيل أن لا يقبل الوكالة كما سلف، وأن الصدقة على الأقارب لها فضل.

وفي حديث آخر أنه قسمها بين أُبي وحسان

(1)

.

وقوله: (أفعل يا رسول الله). هو فعل مستقبل مرفوع. وقال الداودي يحتمل أن افْعل أنت ذاك، قد أمضيته على ما قلت فجعله أمرًا، والأول أولى؛ لقوله: فقسمها أبو طلحة.

وفيه: الرجل إذا تصدق بمعين يخرجه كله، بخلاف قوله: مالي صدقة أنه يخرج الثلث، فهذا أصل لمن عين شيئًا من ماله، ولو عين ماله كله وجب عليه إخراجه، وليس في الحديث في ذلك بيان، بل فيه أن ذلك كان يسيرًا من مال أبي طلحة؛ لأنه كان أكثر أنصاري بالمدينة مالًا.

(1)

سيأتي برقم (2758) كتاب: الوصايا، باب: من تصدق إلى وكيله، ثم رد الوكيل إليه.

ص: 212

واختلفت المالكية إذا عين شيئًا من ماله، هل يخرج ثلثه أو جميعه؟ وكذلك إذا كان أكثر من ثلثه، هل يخرج جميعه أو يقتصر على ما حمل الثلث منه كالوصايا؟ ذكره ابن الجلاب.

وليس في الحديث بيان لشيء من ذلك، بل قال: كان أحب أموالي إليَّ. فدل أن له أموالًا غيره.

ص: 213

‌16 - باب وَكَالَةِ الأَمِينِ فِي الخِزَانَةِ وَنَحْوِهَا

2319 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ العَلَاءِ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"الخَازِنُ الأَمِينُ الذِي يُنْفِقُ -وَرُبَّمَا قَالَ: الَّذِى يُعْطِي- مَا أُمِرَ بِهِ كَامِلًا مُوَفَّرًا طَيِّبٌ نَفْسُهُ إِلَى الذِي أُمِرَ بِهِ أَحَدُ المُتَصَدِّقَيْنِ". [انظر: 1438 - مسلم: 1023 - فتح: 4/ 493]

ذكر حديث أبي موسى عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "الخَازِنُ الأَمِينُ الذِي يُنْفِقُ -وَرُبَّمَا قَالَ: الذِي يُعْطِي- مَا أُمِرَ بِهِ كَامِلًا طَيِّباً نَفْسُهُ إِلَى الذِي أُمِرَ بِهِ أَحَدُ المُتَصَدِّقَيْنِ".

وقد سلف

(1)

، وإنما كان أحد المتصدقين؛ لأنه معين على إنفاذ الحسبة، وأما إذا أعطاه كارهًا غير مريد لإعطائه لم يؤجر على ذلك؛ لأنه لا نية له مع فعله، وقد أخبر الشارع أن الأعمال بالنيات، فدل

ذلك على أنها إذا لم تصحبها نية، أنه لا يؤجر بها، ألا ترى أن المنافقين لم تقبل منهم صلاة ولا صيام ولا غيرهما إذ عريت أعمالهم عن النيات.

(1)

سلف برقم (1438) كتاب: الزكاة، باب: أجر الخادم إذا تصدق بأمر صاحبه غير مفسدٍ.

ص: 214

41

الحرث والمزارعة

ص: 215

بسم الله الرحمن الرحيم

‌41 - الحرث والمزارعة

‌1 - باب: فَضْلِ الزَّرْعِ وَالغَرْسِ إِذَا أُكِلَ مِنْهُ

وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا} [الواقعة: 63 - 65].

2320 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ ح. وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ المُبَارَكِ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا، أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا، فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ، إِلَّا كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ".

وَقَالَ لَنَا مُسْلِم: حَدَّثَنَا أَبَانُ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، حَدَّثَنَا أَنَس، عَنِ النَّبِيِّ. [6012، - مسلم: 1553 - فتح: 5/ 3]

ذكر فيه حديث أنس، فقال: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ المُبَارَكِ، ثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا، أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا،

ص: 217

فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ، إِلَّا كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ".

وَقَالَ لَنَا مُسْلِمٌ: ثَنَا أَبَانُ، ثَنَا قَتَادَةُ، ثَنَا أَنَسٌ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

الشرح:

كذا ذكره بلفظ: (وقال لنا مسلم) وهو شيخه بلفظ التحديث، حتى جعله بعضهم معلقًا. وأباه أبو نعيم فقال: روى البخاري هذا الحديث وأتى به لتصريح قتادة فيه بسماعه من أنس ليسلم من تدليس قتادة.

وأخرجه أيضًا مسلم، عن عبد بن حميد، ثنا مسلم بن إبراهيم، ثنا

أبان بن يزيد العطار، ثنا قتادة عن أنس

(1)

، وعنده أيضًا: عن جابر، عن أم مبشر أنه عليه السلام دخل نخلًا لها، فسأل:"مَنْ غرس هذا النخل أمسلم أم كافر؟ " قالوا: مسلم .. الحديث، وفي رواية: دخل على أم معبد أو أم مبشر الأنصارية

(2)

، وفي رواية له: عن جابر، عن امرأة زيد بن حارثة، بدل:(أم مبشر)

(3)

. وفي بعض نسخ مسلم: أم بشر، وهو من أفراده.

قلت: ورأيت من قال من شيوخنا: إن أم معبد هي أم مبشر وأم بشير، واسمها: خليدة

(4)

.

قال ابن عبد البر: هي بنت البراء بن معرور الأنصارية

(5)

. وفي الباب عن أبي أيوب، ذكره الطبراني

(6)

وأبي سعيد.

(1)

"صحيح مسلم" برقم (1553/ 13) كتاب: المساقاة، باب: فضل الغرس والزرع.

(2)

المصدر السابق رقم (1552).

(3)

المصدر السابق (1552/ 11).

(4)

ذكره النووي في "شرح مسلم" 10/ 214، ولم يصححه.

(5)

"الاستيعاب" 4/ 511.

(6)

"المعجم الكبير" 4/ 148 (3968).

ص: 218

وخص المسلم بالذكر؛ لأنه ينوي عند الغرس غالبًا أن يتقوى به على العبادة؛ ولأنه الذي يُحصِّل الثواب -بخلاف الكافر- وغايته أن يخفف العذاب عنه فيمن خص به

(1)

، وقد يطعم في الدنيا ويعطى بذلك، ويعني بالصدقة ثوابها مضاعفًا، كما قال تعالى {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} الآية [البقرة: 261].

وفيه: أن الغراس واتخاذ الضياع مباح وغير قادح في الزهد، وقد فعله كثير من الصحابة وغيرهم، وذهب قوم من المتزهدة إلى أن ذلك مكروه وقادح في الزهد، ولعلهم تمسكوا في ذلك بحديث الترمذي محسنًا، وابن حبان من حديث ابن مسعود مرفوعا:"لا تتخذوا الضيعة فتركنوا إلى الدنيا"

(2)

.

ويجاب بأن النهي محمول على الاستكثار من الضياع، والانصراف إليها بالقلب الذي يفضي بصاحبه إلى الركون في الدنيا، وأما إذا اتخذها غير مستكثر، وقلل منها، وكانت له كفافًا وعفافًا فهي مباحة غير قادحة في الزهد، وسبيلها كسبيل المال الذي استثناه الشارع بقوله:"إلا من أخذه بحقه ووضعه في حقه"

(3)

فإن نوى بما غرس معونة المسلمين ورجاء ثواب ما يؤكل وشبهه، فذلك من أفضل الأعمال وأكمل الأحوال.

(1)

ورد بهامش الأصل ما نصه: وأما الكافر فإنه يطعم بحسناته في الدنيا ولا يخفف عنه في الآخرة من العذاب، إلا فيمن ورد فيه النص منهم مثل أبي طالب، وكما يسقى أبو لهب بعتقه فيه ثويبة.

(2)

"سنن الترمذي" رقم (2328)، و"صحيح ابن حبان" 2/ 487 (710)، وصححه الحاكم 4/ 322 والألباني في "الصحيحة":(12).

(3)

جزء من حديث: "إن أكثر ما أخاف عليكم .. " ويأتي في الرقاق (6427) باب: ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها، ورواه مسلم (1052/ 122) كتاب: الزكاة، باب: تخوف ما يخرج من زهرة الدنيا.

ص: 219

ولا يبعد أن يقال: إن أجر ذلك يعود عليه دائمًا أبدًا وإن مات وانتقلت إلى غيره، ما دام ذلك الغرس أو الضيعة وما تولد منهما إلى يوم القيامة: لما في مسلم "إلا كان له صدقة إلى يوم القيامة"

(1)

ولو كان كما زعم أولئك لما كان لمن يزرع زرعًا وأكل منه إنسان أو بهيمة أجر؛ لأنه لا يؤجر أحد على ما لا يجوز فعله، وقد أسلفنا اختلاف الناس في أفضل المكاسب أهو التجارة أو الصنعة باليد

أو الزراعة، فراجعه.

ويرجح الثالث: بأن الشخص يثاب على ما سرق من ماله أو أتلفته دابة أو طائر ونحوهما؛ لما في "صحيح مسلم" من حديث جابر: "وما سرق منه له صدقة، وما أكله السبع فهو له صدقة، وما أكلت الطير فهو له صدقة، ولا يرزؤه أحد إلا كان له صدقة"

(2)

.

وفي رواية له: "فيأكل منه إنسان ولا دابة ولا شيء إلا كان له صدقة يوم القيامة"

(3)

قال المهلب: وهذا يدل على أن الصدقة على جميع الحيوان، وكل ذي كبد رطبة فيه أجر، لكن المشركين لا يؤمر بإعطائهم من الزكاة الواجبة: لقوله عليه السلام: "فترد على فقرائهم"

(4)

.

وفيه من الفقه: أن من زرع في أرض غيره أن الزرع للزارع، ولرب الأرض عليه كراء أرضه؛ لحديث الباب، فجعل الصدقة للزارع والثواب له خاصة دون رب الأرض، فعلمنا أنه ليس لرب الأرض حق في الزرع الذي أخرجته الأرض.

(1)

مسلم رقم (1552/ 10).

(2)

مسلم (1552) كتاب: المساقاة، باب: فضل الغرس والزرع.

(3)

السابق.

(4)

سلف برقم (1395) كتاب: الزكاة، باب: وجوب الزكاة.

ص: 220

وفيه: الحض على عمارة الأرض ليعيش نفسه أو من يأتي بعده ممن يؤجر فيه، وذلك يدل على جواز اتخاذ الضياع، وأن الله تعالى أباح ذلك لعباده المؤمنين لأقواتهم وأقوات أهليهم طلب الغنى بها عن الناس، وفساد قول من أنكر ذلك، ولو كان كما زعموا ما كان لمن زرع زرعًا وأكل منه إنسان أو بهيمة أجر؛ لأنه لا يؤجر أحد فيما لا يجوز فعله، وقد سلف بيان ذلك بأوضح في باب: نفقة نسائه صلى الله عليه وسلم

(1)

.

(1)

"شرح ابن بطال" 6/ 456 - 457، وسلف بيان ذلك في كتاب: الخمس.

ص: 221

‌2 - باب مَا يُحْذَرُ مِنْ عَوَاقِبِ الاِشْتِغَالِ بِآلَةِ الزَّرْعِ أَوْ مُجَاوَزَةِ الحَدِّ الَّذِي أُمِرَ بِهِ

2321 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ سَالِمٍ الحِمْصِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ الأَلْهَانِيُّ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ البَاهِلِيِّ، قَالَ: -وَرَأَى سِكَّةً وَشَيْئًا مِنْ آلَةِ الحَرْثِ، فَقَالَ:- سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا يَدْخُلُ هَذَا بَيْتَ قَوْمٍ إِلَّا أُدْخِلَهُ الذُّلُّ". قال مُحَمَّد: واسْمُ أبَي أُمَامَة: صُدَيُّ بنُ عَجْلَانَ [فتح: 5/ 4]

ذكر فيه حديث محمد بن زياد الألهاني، عن أبي أمامة الباهلي قَالَ: -وَرَأى سِكَّةً وَشَيْئًا مِنْ آلَةِ الحَرْثِ فَقَالَ: سَمِعْتُ النَّبِي صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا يدخلُ هذا بَيْتَ قَوْمٍ إِلَّا دَخَلَهُ الذُّلُّ".

هذا الحديث من أفراده، وأبو أمامة اسمه صُدي بن عجلان السهمي، بصري ثم حمصي، آخر الصحابة موتًا بالشام. وفي إسناده عبد الله بن سالم الحمصي، مات -هو ومالك- سنة تسع وسبعين ومائة

(1)

.

ومراده بقوله: (أو مجاوزة الحد الذي أمر به). معناه: الذي أبيح له، وذلك إذا لم يكن منقطعًا إليه، أما إذا انقطع فيحذر مما قاله أبو أمامة.

والسكة: الحديدة التي يحرث بها

(2)

، ووجه الذل ما يلزم الزارع من حقوق الأرض فيطالبهم السلطان بذلك، وقيل: إن المسلمين إذا أقبلوا على الزراعة شغلوا عن العدو، وفي ترك الجهاد نوع ذل.

(1)

ورد بهامش الأصل: قال في الكاشف [1/ 555 (2736)] قال يحيى بن حسان في حق عبد الله بن سالم الحمصي: ما رأيت بالشام مثله صدوق ناصبي.

(2)

انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري 2/ 1722.

ص: 222

ومعنى الحديث: الحض على معالي الأمور، وطلب الرزق من أشرف الصناعات، لما خشي عليه السلام على أمته من الاشتغال بالحرث، وتضييع ركوب الخيل، والجهاد في سبيل الله؛ لأنهم إن اشتغلوا بالحرث غلبتهم الأمم الراكبة للخيل المتعيشة من مكاسبها، فحضهم على التعيش من الجهاد لا من الخلود إلى عمارة الأرض، ولزوم المهنة، والوقوع بذلك تحت أيدي السلاطين وركاب الخيل، ألا ترى أن عمر قال: تمعددوا، واخشوشنوا، واقطعوا الركب، وثبوا على الخيل وثبًا لا يغلبكم عليها رعاة الإبل

(1)

. أي: دعوا التملك والتدلل بالنعمة، وخذوا خشن العيش؛ لتتعلموا الصبر فيه، فأمرهم بملازمة الخيل والتدرب عليها والفروسية؛ لئلا يملكهم الرعاة الذين شأنهم خشونة العيش، ورياضة أبدانهم بالوثوب على الخيل، فليحذر من الميل إلى الراحة والنعمة، فمن لزم الحرث وغلب عليه، وضيع ما هو أشرف منه؛ لزمه الذل، كما قال عليه السلام، ويلزمه الجفاء في خلقه

لمخالطته، وهو كذلك.

وقد جاء في الحديث "من لزم البادية فقد جفا"

(2)

.

وجاء: "من بدا فقد جفا"

(3)

.

(1)

رواه عبد الرزاق في "المصنف" 11/ 85 - 86 (19994).

(2)

رواه أبو داود (2859) والترمذي (2257) وأحمد 1/ 357 من حديث ابن عباس، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح غريب وصححه الألباني في "صحيح أبي داود"(2547).

(3)

رواه أحمد 2/ 371 عن إسماعيل بن زكريا، عن الحسن بن الحكم، عن عدي ابن ثابت، عن أبي حازم، عن أبي هريرة مرفوعًا، والحديث ذكره الألباني في "الصحيحة" (1272) وقال: وهذا إسناد حسن فإن بقية رجال الإسناد ثقات كلهم.

ص: 223

وقد أخبرنا بما يقوي هذا المعنى حيث قال: "السكينة في أهل الغنم، والخيلاء في أصحاب الخيل، والقسوة في الفدادين أهل الوبر"

(1)

.

وكأنه قال: والذل في أهل الحرث، أي: من شأن ملازمة هذِه المهن توليد ما ذكر من هذِه الصفات، ومن الذل الذي يلزم من اشتغل بالحرث ما ينوبه من المؤنة لخراج الأرضين، كما سلف.

وفيه: علامة النبوة، وذلك أنه عليه السلام علم أنه من يأتي في آخر الزمان من الولاة يجورون في أخذ الصدقات والعشور، ويأخذون من ذلك أكثر مما يجب لهم؛ لأنه لا ذل لمن أخذ منه الحق الذي عليه، وإنما يصح الذل بالتعدي وترك الحق في الأخذ.

وفيه: أن الأموال الظاهرة يخرج حقوقها إلى السلطان.

وقال الداودي: هذا لمن يقرب من العدو واشتغل بالحرث، وأما يخرهم فالحرث محمود، قال تعالى {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60]. ومن القوة: الطعام، والخيل لا تقوم إلا بالزراعة. ومن هو في الثغور المقاربة للعدو لا يشتغل بالحرث، وعلى المسلمين والإمام مدهم بما يحتاجون إليه

(2)

.

(1)

سيأتي من حديث أبي هريرة (3301) كتاب: بدء الخلق، باب: خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال.

(2)

ورد بهامش الأصل: ثم بلغ في الرابع بعد السبعين كتبه مؤلفه.

ص: 224

‌3 - باب اقْتِنَاءِ الكَلْبِ لِلْحَرْثِ

2322 -

حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَمْسَكَ كَلْبًا فَإِنَّهُ يَنْقُصُ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ عَمَلِهِ قِيرَاطٌ، إِلَّا كَلْبَ حَرْثٍ أَوْ مَاشِيَةٍ". قَالَ ابْنُ سِيرِينَ وَأَبُو صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:"إِلَّا كَلْبَ غَنَمٍ أَوْ حَرْثٍ أَوْ صَيْدٍ". وَقَالَ أَبُو حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:"كَلْبَ صَيْدٍ أَوْ مَاشِيَةٍ". [انظر: 3324 - مسلم: 1575 - فتح: 5/ 5]

2323 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ خُصَيْفَةَ، أَنَّ السَّائِبَ بْنَ يَزِيدَ حَدَّثَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ سُفْيَانَ بْنَ أَبِي زُهَيْرٍ -رَجُلًا مِنْ أَزْدِ شَنُوءَةَ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنِ اقْتَنَى كَلْبًا لَا يُغْنِي عَنْهُ زَرْعًا وَلَا ضَرْعًا، نَقَصَ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ عَمَلِهِ قِيرَاطٌ". قُلْتُ: أَنْتَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: إِي وَرَبِّ هَذَا المَسْجِدِ. [3325 - مسلم: 1576 - فتح: 5/ 5]

ذكر فيه حديث أبي سلمة عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رفعه: "مَنْ أَمْسَكَ كَلْبًا فَإِنَّهُ يَنْقُصُ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ عَمَلِهِ قِيرَاطٌ، إِلَّا كَلْبَ حَرْثٍ أَوْ مَاشِيَةٍ". قَالَ ابْنُ سِيرِينَ وَأَبُو صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إِلَّا كَلْبَ غَنَمٍ أَوْ حَرْثٍ أَوْ صَيْدٍ". وَقَالَ أَبُو حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ رسول الله صلى الله عليه وسلم:"كَلْبَ صَيْدٍ أَوْ مَاشِيَةٍ".

وحديث سفيان بن أبي زهير -رَجُل مِنْ أَزْدِ شَنُوءَةَ، صحابي- قَالَ: سمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنِ اقْتَنَى كَلْبًا لَا يُغْنِي عَنْهُ زَرْعًا وَلَا ضَرْعًا، نَقَصَ كُلَّ يَوْم مِنْ عَمَلِهِ قِيرَاطٌ". قُلْتُ: أَنْتَ سَمِعْتَ هذا مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: إِيً وَرَبِّ هذا المَسْجِدِ.

ص: 225

الشرح:

أخرجهما مسلم أيضًا

(1)

، وفي الباب عن ابن عمر أخرجاه

(2)

، ويأتي في باب: إذا وقع الذباب في إناء أحدكم

(3)

. وعبد الله بن مغفل صححه الترمذي

(4)

، وأصله في مسلم

(5)

وجابر أخرجه الترمذي

(6)

وبريدة

(7)

.

قال عبد الحق: ولم يذكر البخاري الصيد في حديث أبي هريرة إلا في طريق منقطعة.

قال الترمذي: ويروى عن عطاء بن أبي رباح أنه رخص في إمساك الكلب وإن كان للرجل شاة واحدة

(8)

، قال: ويروى في بعض الحديث: "إن الكلب الأسود البهيم شيطان"

(9)

والبهيم: الذي لا يكون فيه شيء من البياض. وقد كره بعض أهل العلم صيد الكلب الأسود البهيم

(10)

.

(1)

"صحيح مسلم" برقم (1575، 1576) كتاب: المساقاة، باب: الأمر بقتل الكلاب.

(2)

سيأتي برقم (5480) كتاب: الذبائح والصيد، باب: من اقتنى كلبًا ليس بكلب صيد أو ماشية، ورواه مسلم (1574) كتاب: المساقاة.

(3)

سيأتي برقم (5782) كتاب: الطب.

(4)

" سنن الترمذي" رقم (1486).

(5)

مسلم برقم (280) كتاب: الطهارة، باب: حكم ولوغ الكلب.

(6)

"سنن الترمذي"(1466)، وقال الترمذي: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.

(7)

رواه أحمد 5/ 353 بلفظ: احتبس جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال له: "ما حبسك؟ " قال: إنا لا ندخل بيتا فيه كلب. وروي عند غيره بلفظ: "لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب".

(8)

"سنن الترمذي" رقم (1489).

(9)

رواه أحمد 6/ 157 عن عائشة رضي الله عنها.

(10)

"سنن الترمذي" بعد حديث (1486).

ص: 226

أما فقه الباب:

فالأحاديث دالة على إباحة اتخاذ الكلب للزرع والماشية والصيد،

وفي معناها اتخاذها لحفظ الدروب، وهو الأصح عندنا عملًا بالعلة، وهي الحاجة لاتخاذ جرو، لذلك على الأصح.

وأما حديث النهي عن ثمن الكلب والهرة، إلا الكلب المعلم فواهٍ؛ كما بينه ابن حبان

(1)

.

فائدة:

شنوءة: اسم للحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر الأزدي، والنسب إليهم: شنوئي وشنائي. وقال ابن فارس: الشنوءة: التغير

(2)

، ومنه: أزد شنوءة، والشنائي بالهمز، وفي بعض النسخ

بالواو، وهو صحيح على إرادة التسهيل، ورواه بعضهم بضم الشين على إرادة الأصل.

والاقتناء: الاتخاذ لنفسه لا للتجارة، قال الداودي: معناه: كسب،

من قوله: {أغنى وأقنى} [النجم: 48] قال غيره: معنى {أقنى} : أعطى وأرضى. و (الضرع) يقال للشاة وغيرها

(3)

، والقيراط قيل: هو من التمثيل، مثل جبل أحد.

(1)

"المجروحين" 1/ 237. قال: هذا خبر بهذا اللفظ لا أصل له، ولا يجوز ثمن الكلب المعلم ولا غيره.

قلت: وكذا ضعفه الدارقطني في "سننه" 3/ 73، والحديث رواه أحمد 3/ 317.

(2)

كذا بالأصل، وجاء في "مقاييس اللغة" مادة [شنأ]: التقزز.

(3)

ورد بهامش الأصل: قاله في "المطالع" في قولنا: يا أهل ضرع، أي: ماشية، ومن العرب من يجعل الضرع لكل أنثى، ومنهم من يخص الضرع بالشاة والبقر، والحلث بالناقة، والثدي بالمرأة.

ص: 227

وقوله: (أي ورب هذا المسجد). أقسم ليؤكد ما ذكره؛ ليتحققوه وينقلوه، والمراد -والله أعلم- بنقص العمل في المستقبل لا في الماضي، وأراد أن عمله في الكمال ليس كعمل من لم يتخذ، فنهى أولًا عن اتخاذها، وغلظ في ولوغها، ثم نهى عن ثمنها، ثم ذكر نقص عملها، ثم أمر بقتلها، وأراد نقص ثواب العمل.

ص: 228

‌4 - باب اسْتِعْمَالِ البَقَرِ لِلْحِرَاثَةِ

2324 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سَعْدٍ، سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضى الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"بَيْنَمَا رَجُلٌ رَاكِبٌ عَلَى بَقَرَةٍ التَفَتَتْ إِلَيْهِ. فَقَالَتْ: لَمْ أُخْلَقْ لِهَذَا، خُلِقْتُ لِلْحِرَاثَةِ" قَالَ: "آمَنْتُ بِهِ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَأَخَذَ الذِّئْبُ شَاةً فَتَبِعَهَا الرَّاعِى، فَقَالَ [لَهُ] الذِّئْبُ: مَنْ لَهَا يَوْمَ السَّبُعِ، يَوْمَ لَا رَاعِيَ لَهَا غَيْرِي؟ " قَالَ: "آمَنْتُ بِهِ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ". قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: وَمَا هُمَا يَوْمَئِذٍ فِي القَوْمِ. [3471، 3663، 3690 - مسلم: 2388 - فتح: 5/ 8]

ذكر فيه حديث أبي هريرة عَنِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ: "بَيْنَمَا رَجُلٌ رَاكِبٌ عَلَى بَقَرَةٍ التَفَتَتْ إِلَيْهِ. فَقَالَتْ: لَمْ أُخْلَقْ لِهَذَا، خُلِقْتُ لِلْحِرَاثَةِ" قَالَ: "آمَنْتُ بِهِ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَأَخَذَ الذِّئْبُ شَاةً فَتَبِعَهَا الرَّاعِي، فَقَالَ الذِّئْبُ: مَنْ لَهَا يَوْمَ السَّبُعِ، يَوْمَ لَا رَاعِيَ لَهَا غَيْرِي؟ " قَالَ: "آمَنْتُ بِهِ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ". قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: وَمَا هُمَا يَوْمَئِذٍ فِي القَوْمِ.

الشرح:

هذا الحديث أخرجه هنا من طريق شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، وذكره في: بني إسرائيل من حديث الأعرج، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة

(1)

. وأخرجه مسلم من هذا الوجه

(2)

.

قال الدمياطي: وأخرج مسلم بهذا السند حديثًا آخر "أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم" الحديث

(3)

، لا ثالث لترجمة الأعرج عن أبي سلمة

(4)

.

(1)

سيأتي برقم (3471) كتاب: أحاديث الأنبياء.

(2)

مسلم رقم (2388) كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل أبي بكر الصديق.

(3)

المصدر السابق برقم (2365).

(4)

يقصد الدمياطي أن مسلمًا لم يرو -بهذا الإسناد- إلا هذين الحديثين، وليس عنده عن الأعرج، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة أحاديث أخر.

ص: 229

وذكر ابن التين عن الهروي أن هذا كان في المبعث، ونقل عن الداودي: عن أبي هريرة: "بينا رجل يسوق بقرة إذ ركبها فضربها". وفي رواية: "حملها فالتفتت إليه".

وفيه: علم من أعلام النبوة.

وفيه: فضل الشيخين؛ لأنه نزلهما منزلة نفسه، وهي من أعظم الخصائص.

وفيه: بيان أن كلام البهائم من الخصائص التي خصت بها بنو إسرائيل، وهو مما فهمه البخاري إذ خرجه في باب: ذكر بني إسرائيل

(1)

. وذكر ابن الأثير أن قصة الذئب كانت أيضًا في المبعث، والذي كلمه الذئب اسمه أهبان بن أوس الأسلمي أبو عقبة، سكن الكوفة

(2)

، وقيل: أهبان بن عقبة، وهو عم سلمة بن الأكوع، وكان من أصحاب الشجرة.

وعن الكلبي: هو أهبان بن الأكوع، واسمه: سنان بن عياذ بن ربيعة

(3)

.

وعند السهيلى: هو رافع بن ربيعة

(4)

، وقيل: سلمة بن الأكوع.

وروي عن ابن وهب أن أبا سفيان بن الحارث

(5)

وصفوان بن أمية وجدا ذئبًا أخذ ظبيًا، فاستنقذاه منه، فقال لهما: طعمة أطعمنيها الله .. الحديث. وروي مثل هذا أيضًا أنه جرى لأبي جهل وأصحاب له.

(1)

سيأتي برقم (3471) كتاب: أحاديث الأنبياء.

(2)

رواه البخاري في "التاريخ الكبير" 2/ 45.

(3)

"أسد الغابة" 1/ 161 - 162.

(4)

"الروض الأنف" 4/ 252، وفيه: رافع بن أبي رافع.

(5)

ورد بهامش الأصل: حرب في "الشفا".

[قلت: هو الصواب، انظر: "الشفا" للقاضي عياض 1/ 310 - 311].

ص: 230

وعند أبي القاسم عن أنس: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فشردت عليَّ غنمي، فجاء الذئب فأخذ منها شاة، فاشتدت الرعاء خلفه، فقال الذئب: طعمة أطعمنيها الله تنزعونها مني، فبهت القوم فقال: مما تعجبون؟ الحديث

(1)

.

و (يوم السبع) بإسكان الباء، قال ابن الجوزي: كذا هو بإسكان الباء، والمحدثون يروونه بضمها، والمعنى على هذا أي: إذا أخذها السبع لم تقدر على خلاصها، فلا يرعاها حينئذ غيري.

أي: إنك تهرب وأكون أنا قريبًا منها، انظر ما يفضل لي منها، كأنه يشير إلى حديث أبي هريرة مرفوعًا "يتركون المدينة على خير ما كانت، لا يغشاها إلا العوافي"

(2)

. يريد: عوافي السباع والطير، وهذا لم يُسمع به إلى الآن، ولابد من وقوعه. وقال ابن العربي: قراءة الناس بضم الباء، وإنما هو بإسكانها، والضم تصحيف، ويريد بالساكن الباء للإهمال، والمعنى: من لها يوم يهملها أربابها؛ لعظم ما هم فيه من الكرب، إما ما يحدث من فتنة، أو يريد به يوم الصيحة

(3)

.

ونقل الأزهري في "تهذيبه" عن ابن الأعرابي أنه بسكون الباء: الموضع الذي فيه المحشر

(4)

، فكأنه قال: من لها يوم القيامة؟ قلت: وضم الباء لغة في السبع.

(1)

"دلائل النبوة" للأصبهاني 2/ 467 (45).

(2)

سلف برقم (1874) كتاب: فضائل المدينة، باب: من رغب عن المدينة، ورواه مسلم (1389) بلفظ: مذللة للعوافي، كتاب: الحج، باب: في المدينة حين يتركها أهلها.

(3)

"عارضة الأحوذي" 13/ 150.

(4)

"تهذيب اللغة" 2/ 1617 مادة (سبع).

ص: 231

قال ابن سيده: كلام سيبويه يشعر أن السبع لغة، وليس بتخفيف- كما ذهب إليه أهل اللغة؛ ولا يمتنع أيضًا، وقد جاء كثيرًا في أشعارهم

(1)

.

قال صاحب "المطالع": الساكن الباء: عيد كان لهم في الجاهلية، يشتغلون فيه بلعبهم فيأكل الذئب غنمهم، ذكره إسماعيل عن أبي عبيدة

(2)

، قال: وليس بالسبع الذي يأكل الناس.

وذكر أبو موسى في "مغيثه": أن أبا عامر العبدري الحافظ أملاه علينا بسنده إلى إسماعيل: بضم الباء، قال: وكان من العلم والإتقان بمكان، وبعضهم يفتح الباء، وليس بشيء. وقال محمد بن عمرو بن

علقمة -راويه- يعني: يوم القيامة. وقيل: إنه بالسكون: يوم (الفزع)

(3)

، يقال: سبعه الأسد. أي: ذكره

(4)

.

وقال بعضهم فيما حكاه صاحب "المطالع": إنما هو (السيع) بالياء المثناة تحت. أي: يوم الضياع، يقال: أسيعت وأضعت بمعنى، ولم يحك ابن التين غير الإسكان، وقال: المعنى إذا طردك عنها السبع ثم أخذ منها ما شاء، وانفردت أنا بها. ونقله عن الداودي.

وهذا الحديث حجة على من جعل علة المنع من أكل الخيل والبغال والحمير أنها خلقت للزينة والركوب؛ لقوله تعالى {لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8] وقد خلقت البقر للحراثة، كما أنطقها تعالى به، وهو

(1)

"المحكم" 1/ 315 مادة (عسب). يقصد أن (السبْع) بالسكون لغة في (السبُع) بالضم، وليس هو من تخفيف العرب لها.

(2)

رواه عن أبي عبيدة البكريُّ في "معجم ما استعجم" 3/ 719.

(3)

في الأصل: الجوع، والمثبت من "المجموع المغيث".

(4)

"المجموع المغيث" 2/ 54 - 55.

ص: 232

زيادة في الآية المعجزة، ولم يمنع ذلك من أكل لحومها، لا في بني إسرائيل، ولا في الإسلام.

وفيه: الثقة بما يعلم من صحة إيمان المرء، وثاقب علمه، والقضاء عليه بالعادة المعلومة منه، كما قضى عليه السلام على أبي بكر وعمر بتصديق كلام البقرة والذئب الذي توقف الناس عن الإقرار به حتى احتاج أن يقول: إن هذا يقر به أبو بكر وعمر، وناهيك بذلك فضيلةً لهما ورفعةً؛ لشهادته لهما الذي لا ينطق عن الهوى

(1)

، كما سلف، وذاك دال على قوة إيمانهما، وكان الناس حديثي عهد في الإسلام، وهو من عجائب بني إسرائيل، وقد قال:"حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج"

(2)

ومعناه: فيما صح عندكم، ولا تتحرجوا من سماع عجائبهم. وقد كانت فيهم عجائب.

وفيه: أن البهائم يستعمل كل شيء منها فيما خلق له- كما ترجم له.

(1)

"شرح ابن بطال" 6/ 459، 460، وعزاه إلى المهلب.

(2)

سيأتي برقم (3461) كتاب: أحاديث الأنبياء باب: ما ذكر عن بني إسرائيل.

ص: 233

‌5 - باب إِذَا قَالَ: اكْفِنِي مَئُونَةَ النَّخْلِ أَوْ غَيْرِهِ، وَتُشْرِكُنِي فِي الثَّمَرِ

2325 -

حَدَّثَنَا الحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَتِ الأَنْصَارُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: اقْسِمْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ إِخْوَانِنَا النَّخِيلَ. قَالَ: "لَا". فَقَالُوا: تَكْفُونَا المَئُونَةَ وَنُشْرِكُكُمْ فِي الثَّمَرَةِ. قَالُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا. [2719، 3783 - فتح: 5/ 8]

ذكر فيه حديث أبي هريرة قَالَ: قَالَتِ الأَنْصَارُ لِرسول الله صلى الله عليه وسلم: اقْسِمْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ إِخْوَانِنَا النَّخِيلَ. قَالَ: "لَا". فَقَالُوا: تَكْفُونَا المَئُونَةَ وَنُشْرِكُكُمْ فِي الثَّمَرَةِ. قَالُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا.

هذا الحديث من أفراده، وخرجه في الشروط أيضًا

(1)

، وهذا القول كان من الأنصار حين قدم عليهم المهاجرون المدينة ومنحوهم المنائح، فلما فتحت خيبر أعادوا منائحهم عليهم، كما ذكره البخاري في العارية من رواية أنس قال: وكانت أم سليم أعطت رسول الله صلى الله عليه وسلم عذاقًا، فأعطاهن أم أيمن، فلما رد المهاجرون ما كان بأيديهم رد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أم سليم عذاقها، وأعطى أم أيمن مكانهن من حائطه وكانت الأنصار أرادوا أن يشركهم المهاجرون في أموالهم ونخيلهم، فأشركهم عليه السلام في الثمرة على أن يكفوهم المؤنة

(2)

.

فظاهر الحديث يقتضي عملهم على النصف مما تخرج الثمرة؛ لأن الشركة إذا أبهمت ولم يكن فيها حد معلوم كانت نصفين، وهذِه هي المساقاة.

(1)

سيأتي برقم (2719) باب: الشروط في المعاملة.

(2)

سيأتي برقم (2630) كتاب: الهبة، فضل المنيحة.

ص: 234

قال ابن التين: لما بايع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار ليلة العقبة اشترط عليهم مواساة من هاجر إليهم، فلما قدم المهاجرون قالت الأنصار: اقسم بيننا وبين إخواننا ويعمل كل واحد سهمه.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنهم لا علم لهم بعمل النخل" فقالوا: يكفونا المؤنة. وهذا من قول المهاجرين. وقال بعضهم: إنه من قول الأنصار، وإن فيه حجة على جواز المساقاة. وليس كذلك، لأنه يصح أن يحتج به على جوازها وإن كان من قول المهاجرين؛ لأنهم ملكوا معهم نصيبًا باشتراطه عليه السلام ذاك كما مضى، وتطوعهم بذلك ولم يرجعوا عنه.

فكأنهم جعلوا لهم نصيبًا من الثمرة فيما صار إليهم منهم على أن

يكفوهم المؤنة، فلما جلا بني النضير، وأراد قسم ما سوى الرباع من ما لهم قال للأنصار:"إن شئتم نقسم على ما كنتم عليه في أموالكم، وإن شئتم رجعت إليكم أموالكم، وقسمت لهم دونكم". فاختاروا أخذ أموالهم، وقسم ما سوى الرباع من أموال بني النضير على المهاجرين وثلاثة من الأنصار كانت بهم حاجة وهم: أبو دجانة، وسهل بن حنيف، والحارث بن الصمة.

وقال ابن المنير: أشار البخاري في الترجمة إلى حجة المساقاة، وليس في الحديث حقيقتها؛ لأن الرقاب كانت ملكًا للأنصار، وهم أيضًا العمال عليها، فليس فيه إلا مجرد تمليكهم لإخوانهم نصف الثمر بلا عوض، غير أنهم عرضوا عليهم الملك ثم القسمة، فنزلوا عن الملك المتعلق بالثمرة، وكانوا ساقوا نصيبهم المعروض عليهم بجزء من الثمرة، وكان الجزء مبينًا إما بالنص، أو العرف، أو بإطلاق

ص: 235

الشركة منزل على النصف، وهو مشهور مذهب مالك، والجزء المنسوب إلى الأصل هنا هو الكل بالنسبة إلى النصيب المعروف، قال: ومذهبنا أن المساقاة على أن كل الثمرة للمالك جائزة

(1)

.

وقال المهلب: إنما أراد الأنصار مشاركة المهاجرين بأن يقاسموهم

أموالهم، فكره عليه السلام أن يخرج شيئًا من عقارهم، وعلم أن الله سيفتح عليهم البلاد حتى يستغني جميعهم، فأشركهم كما سلف، وهذِه هي المساقاة بعينها.

قال غيره: فإن وجد في بعض طرق الحديث مقدار الشركة في الثمرة

صير إليه، وإلا فظاهر اللفظ النصف؛ لأن الشركة إذا أبهمت ولم يذكر فيها جزء معلوم حملت على المساقاة. وعن مالك في رجلين اشتريا سلعة فأشركا فيها ثالثًا، ولم يسميا له جزءًا: أن السلعة بينهم أثلاثًا

(2)

. فهذا يدل من قوله أنه لو كان المشرك واحدًا كانت بينهما نصفين.

واختلف أهل العلم في الرجل يدفع المال قراضًا على أن للعامل شركا في الربح. فقال الكوفيون: له ذلك في أجر مثله، والربح والوضيعة على رب المال، وهو قول أحمد، وإسحاق، وأبي ثور.

وقال ابن القاسم: يرد في ذلك إلى قراض مثله. وقال الحسن البصري، وابن سيرين: له النصف، وهو قول الأوزاعي وبعض أصحاب مالك

(3)

.

(1)

"المتواري على تراجم أبواب البخاري"(260).

(2)

"المدونة" 3/ 163.

(3)

"الإشراف" لابن المنذر 2/ 39.

ص: 236

وحديث الباب يدل على صحته؛ لأن من رد القرض في ذلك إلى أجر مثله أو إلى قراض مثله فَعِلَّتُه أنه فاسد إذا لم يعلم مقدار الشركة في الربح.

ولو كان كما قالوا لكان مساقاة المهاجرين للأنصار فاسدة حين لم يسموا لهم مقدار ما يعملون عليه.

والقراض عند أهل العلم أشبه شيء بالمساقاة. ومحال أن تكون مساقاة المهاجرين للأنصار عن أمره عليه السلام ورأيه الموفق فاسدة.

فائدة: النخيل جمع نخل، ونخل جمع نخلة، ولا يجمع فعل على فعيل إلا في القليل من كلامهم نحو: عبد وعبيد، وكلب وكليب.

ص: 237

‌6 - باب قَطْعِ الشَّجَرِ وَالنَّخْلِ

وَقَالَ أَنَسٌ: أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالنَّخْلِ فَقُطِعَ.

2326 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ حَرَّقَ نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ وَقَطَعَ، وَهْيَ البُوَيْرَةُ، وَلَهَا يَقُولُ حَسَّانُ:

وَهَانَ عَلَى سَرَاةِ بَنِي لُؤَيٍّ

حَرِيقٌ بِالبُوَيْرَةِ مُسْتَطِيرٌ

[3021، 4031، 4032، 4884 - مسلم: 1746 - فتح: 5/ 9].

هذا قد أسنده في الصلاة كما مضى

(1)

.

ثم ساق حديث عبد الله، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ حَرَّقَ نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ وَقَطَعَ، وَهْيَ البُوَيْرَةُ، وَلَهَا يَقُولُ حَسَّانُ:

وَهَانَ عَلَى سَرَاةِ بَنِي لُؤَيٍّ

حَرِيقٌ بِالبُوَيْرَةِ مُسْتَطِيرٌ

زاد في كتاب المغازي: فأجابه أبو سفيان بن الحارث:

أدام الله ذلك من صنيع

وحرق في نواحيها السعير

ستعلم أينا منها بنزه

وتعلم أي أرضينا تضير

(2)

.

وزاد في لفظ: فأنزل الله عز وجل: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ} الآية

(3)

[الحشر: 5].

وقوله: (وهان). كذا وقع لأبي ذر، ووقع لأبي الحسن: وهَن. مخرومًا

(4)

.

(1)

سلف برقم (428) باب: هل تنبش قبور مشركي الجاهلية ويتخذ مكانها مساجد.

(2)

سيأتي برقم (4032) باب: حديث بني النضير.

(3)

سيأتي برقم (4884) كتاب: التفسير، باب: قوله:؟ ما قطعتم من لينة؟.

(4)

كذا وقعت بالأصول (وهن) بحذف الألف وعزاه المصنف كما ترى لأبي الحسن =

ص: 238

وللترمذي من حديث ابن عباس في هذِه الآية. قال: النخلة. {وَلِيُخْزِيَ الفَاسِقِينَ} [الحشر: 5] قال: استنزلوهم من حصونهم وأمروا بقطع النخيل، فحك في صدورهم، فقال المسلمون: قد تركنا بعضها وقطعنا بعضها، فلنسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل لنا فيما قطعنا من أجر، وهل علينا فيما تركنا من وزر؟ فأنزل الله الآية. ثم قال: حديث حسن غريب، وقد روي عن سعيد بن جبير مرسلًاَ

(1)

.

ولأبي داود من حديث أسامة بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عهد إليه فقال: "أغر على أُبْنَى صباحًا، وحرق"

(2)

.

واختلف في اللينة: فقيل: النخلة كما سلف. وقيل: كل الأشجار للينها، وقيل: اللينة واللون: الأخلاط من التمر، وقيل: النخيل ما سوى البَرْني، والعجوة يسميها أهل المدينة الألوان، وقيل العجوة. وقيل: العسيل. وقيل: أغصان الشجر، للينها. وقيل: النخلة القريبة

= القابسي. قلت: وقع في "عمدة القاري" للعيني 10/ 164، وفي "فتح الباري" لابن حجر 5/ 9 هان بحذف (و) وعزياه للقابسي أيضًا؛ وقالا: وقع البيت مخرومًا بحذف الواو من أوله. اهـ وفي "اليونينية" 3/ 104 وقع (هان) وبهامشها: (لهان) معزوا إلى الحموي والمستملي وأبي ذر عنهما.

قلت: قوله: مخرومًا، أي: سقط منه الحرف الأول من التفعيلة الأولى للبيت، وهو مصطلح عروضي، يتمثل في إسقاط الحركة الأولى من الوتد المجموع (يتكون من متحركين ثم ساكن) قال ابن رشيق في "العمدة" 1/ 140 - 141: وقد يأتون بالخرم كثيرًا

وأكثر ما يقع في البيت الأول، وقد يقع قليلا في أول عجز البيت .. وإنما كانت العرب تأتي به لأن أحدهم يتكلم بالكلام على أنه غير شعر ثم يرى فيه رأيا فيصرفه إلى جهة الشعر.

(1)

"سنن الترمذي" رقم (3303).

(2)

"سنن أبي داود"(2616)، وضعفه الألباني في "ضعيف أبي داود" (451) وقال: إسناده ضعيف لضعف صالح بن أبي الأخضر.

ص: 239

من الأرض، فهذِه ثمانية أقوال.

قال الترمذي: وقد ذهب قوم من أهل العلم إلى هذا، ولم يروا بأسًا بقطع الأشجار وتخريب الحصون، وكره بعضهم ذلك، وهو قول الأوزاعي. ونهى الصديق أن يقطع شجر مثمر أو يخرب عامر وعمل

بذلك المسلمون بعده.

وقال الشافعي: لا بأس بالتحريق في أرض العدو، وقطع الأشجار والثمار. وقال أحمد: وقد تكون في مواضع لا يجدون منه بدًّا، فأما للعبث فلا يحرق. وقال إسحاق: التحريق سنة إذا كان إنكاءً لهم

(1)

.

وقال: بقطع شجر الكفار وإحراقه عبد الرحمن بن القاسم، ونافع مولى ابن عمر، ومالك، والثوري، وأبو حنيفة، والجمهور. وقال الليث بن سعد، وأبو ثور: لا يجوز

(2)

.

قال الطحاوي: والجز عن الصديق مرسل، رواه سعيد بن المسيب، ولم يولد في أيامه

(3)

، واعتذر لهم بأن الشارع إنما قطع تلك النخيل، ليوسع موضع جولان الخيل للقتال، ويمكن أن يحمل ما روي عن الصديق من المنع إذا كان في قطعها نكاية أو أن يرجى عودها على المسلمين.

وذهبت طائفة إلى أنه إذا رجى عودها لنا فلا بأس بالترك، وليس بصحيح؛ لأن الله تعالى كان أعلم نبيه أنه سيفتح عليه تلك البلاد وغيرها، وبشر أمته بذلك، ثم قطعها، فدل ذلك على إباحة الوجهين:

(1)

الترمذي بعد حديث (1552).

(2)

"شرح مسلم" للنووي 12/ 50.

(3)

"مختصر اختلاف العلماء" 3/ 433.

ص: 240

التحريق، والترك، وفي قطعها خزي للمشركين ومضرة لهم، والصديق أمران لا يقطع ولم يجهل ما فعله الشارع بنخل بني النضير؛ لأنه علم مصيرها إلينا، فيجوزان.

وفي النسائي من حديث عبد الله بن حبشي مرفوعًا "من قطع سدرة صوب الله رأسه في النار"

(1)

وعن عروة مرفوعًا بنحوه مرسلًا، وكان عروة يقطعه من أرضه

(2)

.

وحمل الحديث على تقدير صحته أنه أراد سدر مكة، وقيل: سدر

المدينة؛ لأنه أنس وظل لمن جاءها؛ ولهذا قال في الحديث: إن عروة كان يقطعه من أرضه. لا من الأماكن التي يونس بها، ولا يستظل الغريب بها هو وبهيمته، وستأتي له تتمة في المغازي إن شاء الله تعالى.

قال المهلب: يجوز قطع الشجر والنخل لخشب يتخذ منه أو ليخلى مكانها لزرع أو غيره مما هو أنفع منه يعود على المسلمين من نفعه أكثر مما يعود من بقاء الشجر؛ لأنه عليه السلام قطع النخل بالمدينة وبنى في موضعه مسجده الذي كان منزل الوحي ومحل الإيمان، وقيل: إن الشارع قطعه

إضعافًا للعدو، فقال المنافقون: هذا الفساد بعينه. فبلغه، فأنزل الله الآية، حكاه ابن التين.

(1)

"السنن الكبرى" 5/ 182 والحديث صححه الألباني في "الصحيحة"(614).

(2)

رواه أبو داود (5240، 5241).

ص: 241

‌7 - باب

2327 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ قَيْسٍ الأَنْصَارِيِّ، سَمِعَ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ قَالَ: كُنَّا أَكْثَرَ أَهْلِ المَدِينَةِ مُزْدَرَعًا، كُنَّا نُكْرِي الأَرْضَ بِالنَّاحِيَةِ مِنْهَا مُسَمًّى لِسَيِّدِ الأَرْضِ، قَالَ: فَمِمَّا يُصَابُ ذَلِكَ وَتَسْلَمُ الأَرْضُ، وَمِمَّا يُصَابُ الأَرْضُ وَيَسْلَمُ ذَلِكَ، فَنُهِينَا، وَأَمَّا الذَّهَبُ وَالوَرِقُ فَلَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ. [مسلم: 1547 - فتح: 5/ 9]

ذكر فيه حديث رافع بن خديج قَالَ: كُنَّا أَكْثَرَ أَهْلِ المَدِينَةِ مُزْدَرَعًا، كُنَّا نُكْرِي الأَرْضَ بِالنَّاحِيَةِ مِنْهَا مُسَمًّى لِسَيِّدِ الأَرْضِ، فَربما يُصَابُ ذَلِكَ وَتَسْلَمُ الأَرْضُ، وربما تصَابُ الأَرْضُ وَيَسْلَمُ ذَلِكَ، فَنُهِينَا، فَأَمَّا الذَّهَبُ وَالوَرِقُ فَلَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ.

هذا الحديث أخرجه مسلم

(1)

.

وشيخ البخاري محمد هو: ابن مقاتل

(2)

، وقد وقع كذلك مصرحًا به في أصل الدمياطي

(3)

، وشيخه عبد الله هو: ابن المبارك، وهذا الباب كذا في الأصول من غير بيان له.

قال ابن بطال بعد أن ذكره في الباب قبله: لا أعلم وجهه في هذا الباب، ولعل الناسخ غلط فكتبه في غير موضعه، وفي رواية النسفي قبله باب فصل بينه وبين حديث ابن عمر، وسيأتي الكلام فيه في موضعه إن شاء الله. وسألت المهلب عنه، فقال لي: قد يمكن أن يكون له فيه وجه، وهو أن من اكترى أرضًا لسنين فله أن يزرع فيها ما شاء، ويغرس فيها

(1)

مسلم رقم (1547/ 117) كتاب: البيوع، باب: كراء الأرض بالذهب والورق.

(2)

سبقت ترجمته في حديث رقم (65).

(3)

ورد بهامش الأصل: وكذا في نسختي.

ص: 242

الشجر وغيرها مما لا يضر بها، وإذا تمت الإجارة قال صاحب الأرض: احصد زرعك واقلع شجرك عن أرضي. فذلك لازم لمكتريها حتى يخلي له أرضه مما شغلها به، لقوله عليه السلام "ليس لعرق ظالم حق" فهو من باب إباحة قطع الشجر

(1)

.

وقال ابن التين هذا بين الفساد -يعني: المعاملة- وداخل في النهي عن الغرر، ولم يجزه أحد.

(1)

"شرح ابن بطال" 6/ 463.

ص: 243

‌8 - باب المُزَارَعَةِ بِالشَّطْرِ وَنَحْوِهِ

وَقَالَ قَيْسُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ قَالَ: مَا بِالمَدِينَةِ أَهْلُ بَيْتِ هِجْرَةٍ إِلَّا يَزْرَعُونَ عَلَى الثُّلُثِ وَالرُّبُعِ. وَزَارَعَ عَلِيٌّ، وَسَعْدُ بْنُ مَالِكٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ، وَالقَاسِمُ، وَعُرْوَةُ، وَآلُ أَبِي بَكْرٍ، وَآلُ عُمَرَ، وَآلُ عَلِيٍّ وَابْنُ سِيرِينَ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الأَسْوَدِ: كُنْتُ أُشَارِكُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ يَزِيدَ فِي الزَّرْعِ. وَعَامَلَ عُمَرُ النَّاسَ عَلَى إِنْ جَاءَ عُمَرُ بِالبَذْرِ مِنْ عِنْدِهِ فَلَهُ الشَّطْرُ، وَإِنْ جَاءُوا بِالبَذْرِ فَلَهُمْ كَذَا. وَقَالَ الحَسَنُ: لَا بَأْسَ أَنْ تَكُونَ الأَرْضُ لأَحَدِهِمَا فَيُنْفِقَانِ جَمِيعًا، فَمَا خَرَجَ فَهْوَ بَيْنَهُمَا، وَرَأَى ذَلِكَ الزُّهْرِيُّ. وَقَالَ الحَسَنُ: لَا بَأْسَ أَنْ يُجْتَنَى القُطْنُ عَلَى النِّصْفِ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ وَابْنُ سِيرِينَ وَعَطَاءٌ وَالحَكَمُ وَالزُّهْرِيُّ وَقَتَادَةُ: لَا بَأْسَ أَنْ يُعْطِيَ (الثَّوْرَ)

(1)

بِالثُّلُثِ أَوِ الرُّبُعِ وَنَحْوِهِ. وَقَالَ مَعْمَرٌ: لَا بَأْسَ أَنْ تَكُونَ المَاشِيَةُ عَلَى الثُّلُثِ وَالرُّبُعِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى.

2328 -

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ المُنْذِرِ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما أَخْبَرَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَامَلَ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ أَوْ زَرْعٍ، فَكَانَ يُعْطِي أَزْوَاجَهُ مِائَةَ وَسْقٍ ثَمَانُونَ وَسْقَ تَمْرٍ، وَعِشْرُونَ وَسْقَ شَعِيرٍ، فَقَسَمَ عُمَرُ خَيْبَرَ، فَخَيَّرَ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُقْطِعَ لَهُنَّ مِنَ المَاءِ وَالأَرْضِ، أَوْ يُمْضِيَ لَهُنَّ، فَمِنْهُنَّ مَنِ اخْتَارَ الأَرْضَ، وَمِنْهُنَّ مَنِ اخْتَارَ الوَسْقَ، وَكَانَتْ عَائِشَةُ اخْتَارَتِ الأَرْضَ. [انظر: 2285 - مسلم: 1551 - فتح: 5/ 10]

(1)

كذا بالأصل، وعلم عليها الناسخ، وكتب في الهامش: الثوب. وأشار إلى أنها نسخة.

ص: 244

ثم ساق حديث ابن عمر أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَامَلَ أَهْلَ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ أَوْ زَرْعٍ، فَكَانَ يُعْطِي أَزْوَاجَهُ مِائَةَ وَسْقٍ ثَمَانُونَ وَسْقًا تَمْرًا، وَعِشْرُونَ وَسْقًا شَعِيرًا، فَقَسَمَ عُمَرُ خَيْبَرَ، فَخَيَّرَ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُقْطِعَ لَهُنَّ مِنَ المَاءِ وَالأَرْضِ أَوْ يُمْضِيَ لَهُنَّ قِسْمَتُهُنَّ، فَمِنْهُنَّ مَنِ اخْتَارَ الأَرْضَ، وَمِنْهُنَّ مَنِ اخْتَارَ الوَسْقَ، وَكَانَتْ عَائِشَةُ اخْتَارَتِ الأَرْضَ.

الشرح:

أما أثر قيس، عن أبي جعفر فأخرجه عبد الرزاق، عن الثوري، أخبرني قيس بن مسلم، عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي قال: ما بالمدينة أهل بيت هجرة إلا وهم يعطون أرضهم بالثلث والربع. وأخبرنا وكيع

(1)

، أنا عمرو بن على بن موهب، سمعت أبا جعفر محمد بن علي يقول: آل أبي بكر، وآل عمر، وآل علي يدفعون أرضهم بالثلث والربع

(2)

.

وقال ابن أبي شيبة: حدثنا ابن أبي زائدة، عن حجاج، عن أبي جعفر محمد بن علي، قال: عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشطر، ثم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي

(3)

.

فائدة:

قال الشيخ أبو الحسن: إنما ذكر البخاري هذا؛ ليُعْلم أنه لم يصح في المزارعة على الجزء حديث مسند

(4)

، وقال متعجبًا: كيف يروى مثل

(1)

في "المصنف": أبو سفيان. وهي كنية وكيع.

(2)

"مصنف عبد الرزاق" 8/ 100 - 101 (14476 - 14477) ورواهما أيضًا ابن أبي شيبة في "المصنف" 4/ 382 - 383 (21239 - 21225).

(3)

"المصنف" 4/ 382 (21224).

(4)

قال الحافظ في "الفتح" معلقًا على قول القابسي هذا 5/ 11: كأنه غفل عن آخر =

ص: 245

هذا عن أبي جعفر، وقيس هذا كوفي، وأبو جعفر مدني، ولم يرو عن قيس مالك ولا غيره من المدنيين. قلت: فعلى هذا يكون قيس هذا أبا عمرو الجدلي العدواني.

وقد روي عن جماعة من الصحابة منع ذلك إلا أن سند قيس على شرطه، ومالك، والشافعي يمنعون كراء الأرض بالجزء، وأجازه أبو حنيفة، وأكثر الصحابة والتابعين على جوازه. قال الخطابي: والأصل في إجازة ذلك قصة خيبر

(1)

. ومنع أبو حنيفة كراء الأرض بمنافع أخرى، ومنع طاوس كراءها جملة، وأجازه ربيعة بالعين خاصة.

وقوله: (وزارع علي .. إلى آخره)، قال الطحاوي: حدثنا فهد، ثنا أبو نعيم، ثنا إسماعيل بن إبراهيم بن المهاجر، سمعت أبي يذكر، عن موسى بن طلحة، قال: أقطع عثمان نفرًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، الزبير وابن مسعود وسعد بن مالك وأسامة، فكان جاري منهم سعد بن

مالك وابن مسعود، فزرعا أرضهما بالثلث والربع.

وحدثنا فهد، ثنا محمد بن سعد، أنا شريك عن إبراهيم بن مهاجر، سألت موسى بن طلحة عن المزارعة، فقال: أقطع عثمان عبد الله أرضًا، وأقطع سعدًا أرضًا، وأقطع (حسانًا)

(2)

، وأقطع صهيبًا، فكلٌّ جاري؛ فكانا يزارعان بالثلث والربع

(3)

.

= حديث في الباب وهو حديث ابن عمر في ذلك وهو معتمد من قال بالجواز، والحق أن البخاري إنما أراد بسياق هذِه الآثار الإشارة إلى أن الصحابة لم ينقل عنهم خلاف في الجواز، خصوصًا أهل المدينة فيلزم من يُقدِّم عملَهم على الأخبار المرفوعة أن يقولوا بالجواز على قاعدتهم.

(1)

"أعلام الحديث" 2/ 1126.

(2)

كذا في المخطوط وفي المطبوع من "شرح معاني الآثار" خبابًا.

(3)

"شرح معاني الآثار" 4/ 114، وابن أبي شيبة في "المصنف" 4/ 382 (1279).

ص: 246

وقد سلف ذكر آل أبي بكر وعمر وعلي.

وأثر عبد الرحمن بن الأسود أخرجه ابن أبي شيبة، حدثنا أبو نعيم، عن بكر بن عامر، عن عبد الرحمن بن الأسود قال: كنت أزارع بالثلث والربع وأحمله إلى علقمة والأسود، فلو رأيا به بأسًا لنهياني عنه

(1)

.

وقوله: (وعامل عمر .. ) إلى آخره. رواه الطحاوي من طريق منقطعة

(2)

عن أبي بكرة، حدثنا أبو عمر الضرير، أنا حماد بن سلمة، أن يحيى بن سعيد أخبرهم، عن إسماعيل بن أبي حكيم، عن عمر بن عبد العزيز أن عمر بن الخطاب بعث يعلى بن منية إلى اليمن، فأمره أن يعطيهم الأرض البيضاء على: إن كان البقر والحديد والبذر من عمر فله الثلثان ولهم الثلث، وإن كان ذلك منهم فلهم الشطر وله الشطر. وأمره أن يعطيهم النخل والكرم على أن لهم الثلثين وله الثلث

(3)

.

وقوله: (وقال الحسن)، إلى آخره. لعله يريد أنها أرض لا خطب لها من الإجارة، فإن كان لها خطب فتكون زيادة من أحدهما، وذلك غير جائز، نبه عليه ابن التين.

(1)

"المصنف" 4/ 383 (1232).

(2)

ورد بهامش الأصل ما نصه: الانقطاع بين عمر وعمر، وذلك أن عمر بن عبد العزيز ولد بمصر سنة 61 هـ، وعاش تسعًا وثلاثين سنة وستة أشهر رحمة الله عليه.

(3)

"شرح معاني الآثار" 4/ 114، ورواه ابن أبي شيبة في "المصنف" بنحوه موقوفًا على يحيى بن سعيد 7/ 427 (37007) والبيهقي في "سننه" 6/ 135 وقال الحافظ في "الفتح" 5/ 12 مرسلان جيدان يتقوى أحدهما بالآخر.

ص: 247

وقول الحسن -ثانيًا- في القطن هو قول مالك؛ ولذلك جاز أن يقول: فما جنيت ذلك نصفه.

ومنع بعض المالكية، ولذلك اختلف إذا قال: ما جنيت اليوم ذلك نصفه.

وأثر إبراهيم فمن بعده، لم يقل به مالك، فإن ترك كراء الأرض بالجزء وكانت ترمي البذر، كان عليه كراء الأرض، والزرع له دون رب الأرض. واختلف هل يفوت بتقليب الأرض؛ فقال ابن القاسم:

هو فوت. وقال ابن سحنون: لا.

وحديث ابن عمر أخرجه مسلم وزاد مع عائشة حفصة أنها ممن اختارت الأرض

(1)

.

وروى يحيى بن ادم في "الخراج": أو يضمن لهم الوسوق كل عام، فاختلفن، فكانت عائشة وحفصة ممن اختار الوسوق. وفي رواية له: فجعل عمر لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم منها -تعنى: خيبر- نصيبًا، وقال: أيتكن شاءت أخذت الضيعة، فهي لها ولعقبها

(2)

.

قال ابن التين: قيل: إن الوسق -بضم الواو- جمع وسن مثل رهن ورهن.

وقيل: كان عمر يعطيهن اثني عشر ألفًا سوى هذِه الأوسق، وما يجري عليهن سائر السنة.

(1)

"صحيح مسلم" رقم (1551/ 2) كتاب: المساقاة، باب: المساقاة والمعاملة بجزء من الثمر والزرع.

(2)

"الخراج" ص 40 - 41.

ص: 248

واختلف العلماء في كراء الأرض بالشطر، والثلث، والربع، فأجازه علي، وابن مسعود، وسعد، والزبير، وأسامة، وابن عمر، ومعاذ بن جبل، وخباب، وهو قول سعيد بن المسيب، وطاوس، وابن أبي

ليلى

(1)

.

قال ابن المنذر: وروينا عن أبي جعفر قال: عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر بالشطر، ثم أبو بكر وعمر، ثم عثمان، ثم علي، ثم أهله، هم إلى اليوم يعطون بالثلث والربع

(2)

، وهو قول الأوزاعي، والثوري، وأبي يوسف، ومحمد، وأحمد، هؤلاء أجازوا المزارعة والمساقاة.

وكرهت ذلك طائفة، روي عن ابن عباس، وابن عمر، والنخعي

(3)

، وهو قول مالك، وأبي حنيفة، والليث، والشافعي، وأبي ثور، قالوا: لا تجوز المزارعة وهو كراء الأرض بجزء منها، وتجوز عندهم المساقاة.

ومنعهما -أعني المزارعة والمساقاة- أبو حنيفة وزفر فقالا: لا يجوزان بوجه من الوجوه، والمزارعة منسوخة بالنهي عن كراء الأرض بما يخرج منها، وهي إجارة مجهولة؛ لأنه قد لا تخرج الأرض شيئًا، وادعوا نسخ المساقاة بحديث المزابنة، وروى رافع النهي عن المزارعة والمخابرة

(4)

، ومثله: نهى عن كراء الأرض

(5)

.

(1)

روى ابن أبي شيبة هذِه الآثار كلها في "المصنف" 4/ 382 - 383.

(2)

"الإشراف على مذاهب أهل العلم" 2/ 72.

(3)

روى ابن أبي شيبة هذِه الآثار في "المصنف" 4/ 384 - 385.

(4)

سلف برقم (1286) كتاب: الإجارة.

(5)

"صحيح مسلم" برقم (1536/ 87) كتاب: البيوع، باب: كراء الأرض من حديث جابر بن عبد الله.

ص: 249

وفي أفراد مسلم عن ثابت بن الضحاك أنه عليه السلام نهى عن المزارعة وأمر بالمؤاجرة، وقال:"لا بأس بها"

(1)

.

وعن جابر مرفوعًا "من كان له أرض فليزرعها أو يزرعها أخاه، ولا يؤجرها"

(2)

.

وفي لفظ "من لم ياع المخابرة فليؤذن بحرب الله"

(3)

فذهب قوم إلى هذِه الآثار، وكرهوا إجارة الأرض بجزء مما يخرج منها، وهذِه الآثار -كما قال الطحاوي- قد جاءت على معان مختلفة، فحديث ثابت لم يبين أي المزارعة إن كانت على جزء معلوم، فهذا موضع الخلاف، وإن كانت على الثلث والربع ونحوهما مما يخرج من الأرض، فهو مما اتفقوا على فساده، وليس فيه ما ينفي إرادة معنى منهما دون الآخر.

وأما حديث جابر فخرج على سبب، وهو أنه كان لهم فضول أرضين، فكانوا يؤجرونها على النصف والثلث والربع، فقال لهم عليه السلام ذلك، فيجوز أن يكون النهي عن إجارة الأرض.

(1)

مسلم رقم (1549) كتاب: البيوع، باب: في المزارعة والمؤاجرة.

(2)

المصدر السابق برقم (1536/ 88).

(3)

رواه أبو داود (3406) والترمذي في "العلل" 1/ 526 والطحاوي 4/ 107 وابن حبان 11/ 611 من طرق عن عبد الله بن عثمان بن خيثم، عن أبي الزبير، عن جابر. قال أبو نعيم في "الحلية" 9/ 236: غريب من حديث أبي الزبير تفرد به ابن خيثم بهذا اللفظ.

والحديث ضعفه الألباني في "الضعيفة" رقم (990) وقال: قد صح النهي عن المخابرة من طرق عن جابر عند مسلم برقم (1536) كتاب: البيوع، باب: النهي عن المحاقلة والمزابنة.

ص: 250

وقد ذهب قوم إلى كراهة إجارتها بالذهب والفضة: طاوس، وكان لا يرى بأسًا بدفعها ببعض ما يخرج منها، فإن كان النهي وقع عن الكراء أصلًا بشيء مما يخرج وبغيره، فهذا معنى يخالفه الفريقان، وقد يحتمل أن يكون النهي وقع لمعنى غير ذلك، وهو ما كانوا يصنعونه في الإجارة بما سبق وبالماذيانات، وكأن النهي من قِبَل ذلك جاء.

وحديث رافع جاء بألفاظ مختلفة اضطرب من أجلها. وحديث ابن عمر هو مثل حديث ثابت، وكذا من رواه نحو حديث جابر، نحو حديث أبي رافع لا لإجارة الأرض بجزء مما يخرج منها، وقد أنكر آخرون على رافع ما روى، وأخبروا أنه لم يحفظ أوله، أنكره عليه زيد بن ثابت

(1)

.

وقال ابن عباس: إنما أراد الرفق

(2)

.

وقال أحمد: إنه كثير الألوان مضطرب؛ مرة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومرة يقول حدثني عمومتي وأحسنها طريق يعلى بن حكيم، عن سليمان بن يسار

(3)

. وأعل ابن خزيمة الأحاديث التي وردت فيها المزارعة على النصف والربع

(4)

.

وقال الطبري: لم يثبت النهي عن إجارة الأرض ببعض ما يخرج منها إذا كان معلومًا، والنهي على غير ذلك.

(1)

يشير إلى ما رواه أبو داود (3390)، وابن ماجه (2461)، وأحمد 5/ 182، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" 4/ 110 والحديث ضعفه الألباني رحمه الله في "غاية المرام"(366)، "ضعيف ابن ماجه"(537).

(2)

"شرح معاني الآثار" 4/ 107 - 110.

(3)

انظر: "التمهيد" 2/ 320، 3/ 38، و"المغني" 7/ 528، 555، وانظر تعليق البيهقي عليه في "سننه" 6/ 136.

(4)

لعل ابن خزيمة أعل هذِه الأحاديث في كتابه "المزارعة" الذي أشار إليه النووي في "شرح مسلم".

ص: 251

واحتج من جوز بحديث الباب، والأرض أصل مال، فيجوز أن يعطيها لمن يعمل فيها كالثمر سواء وكالقراض، واحتج مانع المزارعة بأنها كراء الأرض بما يخرج منها، وهو من باب الطعام بالطعام نسيئة، وقد نهى الشارع عن المخابرة والمحاقلة: وهي كراء الأرض ببعض ما يخرج منها. وقالوا: لا حجة لكم في المساقاة الواقعة؛ لأن المزارعة كانت تبعًا لها، وأما الأرض المفردة فلا يجوز؛ لأنه يمكن إجارتها ولا تدعو إلى مزارعتها ضرورة كما تدعو إلى المساقاة، ألا ترى أن بيع الثمر الذي لم يبدُ صلاحه مع أصل النخل جائز بلا شرط القطع؛ لأنه تبع لها، ولا يجوز بيعها مفردة إلا بشرط قطعه: لأنها مقصودة. وقياسهم المزارعة على القراض والمساقاة باطل؛ لأن منفعتها لا تحصل إلا بالعمل بخلافها لجواز إجارتها. فإن قيل: ما أخذ من يهود خيبر إنما كان بحق الجزية لا المساقاة.

قلت: فتحت خيبر عنوة، كما رواه أنس

(1)

، وخمست، كما رواه ابن شهاب

(2)

، ولا يخمس إلا ما أخذ عنوة، وقد قسمها عليه السلام بين الغانمين، فأعطى (ابن)

(3)

الزبير وقفه من خيبر، ووقف عمر سهمه، وأجلاهم منها عمر إلى الشام لما فدعوا ابنه، وأخبرت عائشة أنه عليه السلام بعث ابن رواحة ليخرصها ويعلن مقدار الزكاة في مال المسلمين.

(1)

سلف برقم (371) كتاب: الصلاة، باب: ما يذكر في الفخذ والحديث في "صحيح مسلم" برقم (1365) كتاب: الجهاد، باب: غزوة خيبر.

(2)

رواه أبو داود (3019) من طريق ابن وهب عن يونس بن يزيد عن ابن شهاب مرسلًا وحسنه الألباني في "صحيح أبي داود" 8/ 358 (2668) وقال: حديث حسن على إرساله.

(3)

كذا بالأصل، ولعلها زائدة. والله أعلم.

ص: 252

قال الطحاوي: وثبت أنه عليه السلام لم يقسم خيبر بكمالها ولكنه قسم منها طائفة على ما ذكره ابن عمر، وترك منها طائفة لم يقسمها على ما روى جابر

(1)

.

قلت: والمختار صحة المزارعة، والمخابرة كالمساقاة.

وأما معاملة أهل خيبر فاختلف العلماء فيمن يخرج البذر. فروي عن ابن مسعود وسعد بن أبي وقاص وابن عمر أنهم قالوا يكون البذر من عند العامل. وروي عن بعض أهل الحديث أنه قال من أخرج البذر منها فهو جائز؛ لأنه عليه السلام دفع خيبر معاملة، وفي تركه اشتراط البذر من عند

أحدهما دليل على أن ذلك يجوز من أيهما كان.

وقال أحمد وإسحاق: البذر يكون من عند صاحب الأرض والعمل من الداخل

(2)

.

وقال محمد بن الحسن وأصحابه: المزارعة على ثلاثة أوجه جائزة، ورابع لا يجوز.

فالأول: أن يكون البذر من المالك والعمل من العامل.

والثاني: أن يكون البذر والآلة كلها من قبل رب الأرض والعمل من العامل.

ثالثها: البذر من العامل والعمل والآلة كلها من قبله.

والرابع: أن يكون البذر من العامل والباقي من المالك

(3)

.

(1)

انظر: "شرح معاني الآثار" 4/ 11.

(2)

انظر: "الإشراف" لابن المنذر 2/ 73، "المغني" لابن قدامة 7/ 562.

(3)

انظر: "بدائع الصنائع" 6/ 179.

ص: 253

قاسوا الأول على القراض، والأخير على بيع البذر من رب المال بمجهول من الطعام نسيئة، ولا يجوز عند جميع العلماء.

وذهب مالك إلى أنه لا يجوز البذر إلا من عندهما جميعًا وتكون الأرض من أحدهما والعمل من الآخر، وتكون قيمة العمل توازي قيمة كراء الأرض، والعلماء متفقون على جواز هذا الوجه؛ لأن أحدهما لا يفضل صاحبه بشيء. وإن كان البذر من أحدهما والأرض من الآخر فلا يجوز عند مالك كأنه أكراه نصف أرضه بنصف بذره.

ولا يجوز عنده كراء الأرض بشيء من الطعام، ويجوز عنده وجه آخر من المزارعة أن يكتريا جميعًا الأرض، ويخرج أحدهما البذر، ويخرج الآخر البقر وجميع العمل، وتكون قيمة البقر والعمل مثل قيمة البذر، فلا بأس بذلك؛ لأنهما سلما من كراء الأرض بالطعام وتكافئا في سائر ذلك.

وأما تخيير عمر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بين الأوسق والأرض -يعني ذلك- أن أرض خيبر لم تكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ملكًا ورثت بعده؛ لأنَّه عليه السلام قال: "لا نُورث، ما تركنا صدقة"

(1)

فإنما خيرهن بين أخذ الأوسق وبين أنْ يقطعهن من الأرض من غير تمليك ما يجد منه مثل تلك الأوسق لأنَّ الرطب قد يشتهى أيضًا كما يشتهى التمر، فاختارت عائشة ذلك لتأكله رطبًا وتمرًا، فإذا ماتت عادت الأرض والنخل على أصلها وقفًا مسبلة فيما يسبل فيه الفيء.

(1)

سيأتي من حديث أبي بكر برقم (3093) كتاب: فرض الخمس، باب: فرض الخمس. من حديث عمر برقم (6728) كتاب: الفرائض، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا نورث، ما تركنا صدقة".

ص: 254

وأمَّا اجتناء القطن والعصفر ولقاط الزيتون والحصاد كل ذلك بجزءٍ معلوم فأجازه جماعة من التابعين، وهو قول أحمد قاسوه على القراض؛ لأنه يعمل بالمال على جزء منه معلوم لا يدري مبلغه وكذا إعطاء الثوب للصائغ، والغنم للراعي عند من أجازها قاسها على القراض، ومنع ذلك كله مالك والكوفيون والشافعي، لأنها عندهم إجارة بثمن مجهول لا يعرف. وأجاز عطاء وابن سيرين والزهري وقتادة أنْ يدفع الثوب إلى النساج ينسجه بالثلث والربع

(1)

. واحتج أحمد بإعطائه عليه السلام خيبر

على الشطر.

وقال ابن المنذر: اختلفت ألفاظ حديث رافع.

واختلف في العلة التي من أجلها نهى عن كراء الأرض وعن المخابرة، فقيل: اشتراط لرب المال ناحية منها، أو اشتراطهم على الإجارة بما يسقي الماذيانات والربيع لنا وما سقت الجداول فلكم، أو إعطائهم الأرض على الثلث ونحوه، أو كانوا يكرونها بالطعام المسمى من التمر أو أنَّ النهي كان لخصيصة كانت بينهم، أو النهي للتأديب. فوجب التوقف عنه ووجب القول بحديث ابن عمر لثبوته وأن لا علة فيه

(2)

.

وقد قال سالم: أكثر رافع ولو كانت لي مزارع أكريتها

(3)

.

وأغرب ابن حزم فقال: لا يجوز كراء الأرض بشيء أصلًا لا بنقد ولا عرض ولا طعام ولا بشيء أصلًا ولا يحل زرع الأرض إلَّا لأحد

(1)

رواها ابن أبي شيبة 4/ 411 (21546 - 21549).

(2)

"الإشراف على مذاهب أهل العلم" 2/ 71 - 72

(3)

رواه مالك في "الموطأ" ص 443، وعبد الرزاق في "مصنفه" 8/ 93 - 94 (14455)، والبيهقي في "سننه" 6/ 131.

ص: 255

ثلاثة: إمَّا ببذره وماله وحيوانه، وإمَّا أن يبيح لغيره زرعها مجانًا، فإن اشتركا في البذر والآلات دون أن يأخذ منه أجرة فحسن، وإمَّا أنْ يعطي أرضه لمن يزرعها بحيوانه وبذره وآلته بجزء يكون لصاحب الأرض، مما يخرج الله منها مسمى، إما نصف، أو ثلث، أو ربع، أو نحو ذلك، ولا يشترط على صاحب الأرض شيء البتة من كل ذلك، ويكون الباقي للزارع قل ما أصاب أو كثر، فإن لم يصب شيئًا فلا شيء له ولا عليه

(1)

.

وكان ابن سيرين يكره كراء الأرض بالذهب والفضة

(2)

، وروي عن الأوزاعي وعن عطاء ومكحول ومجاهد والحسن أنهم كانوا يقولون: لا تصلح الأرض البيضاء بالدراهم والدنانير ولا معاملة، إلَّا أنْ يزرع الرجل أرضه أو يمنحها أخاه

(3)

.

ومعاملة أهل خيبر ناسخة للنهي؛ لأنه قد صح أنَّه عليه السلام مات على هذا العمل فهو نسخ صحيح لا شك فيه، وبقي النهي عن الإجارة لم يأتِ شيء ينسخه ولا يخصصه، ولم يصح كراء الأرض بنقد عن أحد من الصحابة إلَّا عن سعد وابن عباس، وصح عن رافع وابن عمر، ثم صح رجوع ابن عمر، وصح عن رافع المنع منه أيضًا، وذكر الطحاوي [في]

(4)

"اختلاف العلماء" عن أبي يوسف أنَّه قال: وإذا أعطى الرجلُ الرجل أرضًا مزارعة بالثلث أو النصف أو بالربع، أو أعطى نخلًا معاملة بالنصف أو أقل منه أو أكثر، فإنَّ أبا حنيفة يقول: هذا كله باطل؛ لأنَّه استأجره بشيء مجهول.

(1)

"المحلى" 8/ 211.

(2)

رواه ابن حزم في "المحلى" 8/ 213.

(3)

السابق.

(4)

زيادة يقتضيها السياق.

ص: 256

قال أبو يوسف: وكان ابن أبي ليلى يقول: ذلك كله جائز، وبه نأخذ.

قال الحسن بن زياد: وبه نأخذ. وقال الثوري: لا بأس به، وكذا روي عن ابن حي

(1)

.

فرع: اختلف العلماء في المزارعة من غير أجل، فكرهها مالك والثوري والشافعي وأبو ثور حتى يسمي أجلًا معلومًا.

وقال ابن المنذر: قال أبو ثور: إذا لم يسمي سنين معلومة، فهو

على سنة واحدة، وقال ابن المنذر: وحكي عن بعضهم أنه قال: أجيز ذلك استحسانًا وأدع القياس

(2)

.

وقال بعض أصحابنا: ذلك جائز؛ لحديث: "نقركم ما شئنا"

(3)

فيكون لصاحب النخل والأرض أنْ يخرج المساقي والمزارع من الأرض والنخل متى شاء، وفي ذلك دلالة أنَّ المزارعة تخالف الكراء، لا يجوز في الكراء أن يقول: أخرجك عن أرضي متى شئت، ولا خلاف بين أهل العلم أنَّ الكراء في الدور والأرضين لا يجوز إلَّا وقتًا معلومًا

(4)

(5)

.

(1)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 4/ 21 - 22.

(2)

انظر: "الإشراف" لابن المنذر 2/ 81.

(3)

سيأتي من حديث ابن عمر برقم (2338) كتاب: المزارعة، باب: إذا قال رب الأرض: أقرك ما أقرك الله ..

(4)

ورد بهامش الأصل: آخر 10 من 7، وبه كمل الجزء المذكور.

(5)

ورد بهامش الأصل: ثم بلغ في الخامس بعد الستين، كتبه مؤلفه.

ص: 257

‌9 - باب إِذَا لَمْ يَشْتَرِطِ السِّنِينَ فِي المُزَارَعَةِ

2329 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، حَدَّثَنِي نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: عَامَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ أَوْ زَرْعٍ. [انظر: 2285 - مسلم: 1551 - فتح: 5/ 13]

ذكر فيه حدثنا ابن عمر: عَامَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أهل خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ أَوْ زَرْعٍ.

ثم قال:

ص: 258

‌10 - باب

2330 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ عَمْرٌو: قُلْتُ لِطَاوُسٍ: لَوْ تَرَكْتَ المُخَابَرَةَ فَإِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْهُ. قَالَ: أَيْ عَمْرُو، إِنِّي أُعْطِيهِمْ وَأُغْنِيهِمْ، وَإِنَّ أَعْلَمَهُمْ، أَخْبَرَنِي -يَعْنِي: ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما- أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَنْهَ عَنْهُ، وَلَكِنْ قَالَ:"أَنْ يَمْنَحَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهِ خَرْجًا مَعْلُومًا"." [2342، 2634 - مسلم: 1550 - فتح: 5/ 14]

حدثنا علي بن عبد الله: ثنا سفيان، قال عمرو: قلت لطاوس: لو تركت المخابرة فإنهم يزعمون أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه قال: أيْ عمرو! إني أعطيهم وأغنيهم وإن أعلمهم أخبرني -يعني ابن عباس-: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم ينه عنه ولكن قال: "أنْ يمنح أحدكم أخاه خيرٌ له من أن يأخذ عليه خرجًا معلومًا".

ثم قال:

ص: 259

‌11 - باب المُزَارَعَةِ مَعَ اليَهُودِ

2331 -

حَدَّثَنَا ابْنُ مُقَاتِلٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللهِ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَعْطَى خَيْبَرَ اليَهُودَ عَلَى أَنْ يَعْمَلُوهَا وَيَزْرَعُوهَا، وَلَهُمْ شَطْرُ مَا خَرَجَ مِنْهَا. [انظر: 2285 - مسلم: 1551 - فتح: 5/ 15]

ثم ساق حديث ابن عمر: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَعْطَى خَيْبَرَ اليَهُودَ عَلَى أَنْ يَعْمَلُوهَا وَيزْرَعُوهَا، وَلَهُمْ شَطْرُ مَا خَرَجَ مِنْهَا.

وقد أسلفنا في الباب اختلاف العلماء في المزارعة بغير أجل، وذكرنا حديث:"نقركم ما شئنا"

(1)

وفي ذلك دليل على إجازة دفع النخل مساقاة، والأرض مزارعة من غير ذكر سنين معلومة، فيكون

لصاحب النخل والأرض.

وقول أبي ثور السالف حسن

(2)

؛ لأنَّ معاملته عليه السلام اليهود بشطر ما يخرج منها يقتضي سنة واحدة حتى يبين أكثر منها، فلم تقع المدة إلا معلومة، وسيأتى له تتمة في باب: إذا قال رب الأرض: أقرك ما أقرك الله. بعد

(3)

.

والمساقاة جائزة عند الأئمة خلافًا لأبي حنيفة، وتجوز بشرط أنْ تكون المدة معلومة ونصيب العامل معلومًا، ومالك يجيزها إذا قال بالنصف أو بالربع كل عام، وكذلك في أكرية الدور وغيرها خلافًا

للشافعي

(4)

.

(1)

السابق.

(2)

يشير إلى قول أبي ثور أنها على سنة واحدة إذا لم يحدد أجلا معلومًا.

(3)

سيأتي برقم (2338).

(4)

انظر: "المدونة" 4/ 2، "الأم" 3/ 244.

ص: 260

واختلف قول مالك في "المدونة" إذا قال: احصد زرعي بنصفه. هل يلزمه ذلك وتكون إجارة أو جعالة؟

وقول عمرو لطاوس: لو تركت المخابرة، وقد أسلفناها وهو ظاهر في جوازها، وأن المختار جوازها، وهي: كراء الأرض ببعض ما يخرج منها.

قال ابن الأعرابي: أصلها من معاملة خيبر؛ لأنه عليه السلام كان أقرها في أيدي أهلها على النصف فقيل: خابرهم، أي: عاملهم في خيبر وتنازعوا فنهي عن ذلك، ثم جازت بعد.

وقوله: "أن يمنح أحدكم أخاه" هو بفتح النون وكسرها

(1)

كما شاهدته بخط الدمياطي وقال: معًا، وهما في "الصحاح"

(2)

.

وقوله: "خرجًا" أي: أجرًا مثل قوله تعالى: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا} [المؤمنون: 72].

وقال الأزهري: الخراج يقع على الضريبة، وعلى مال الفيء والجزية، وعلى الغلة

(3)

.

والخراج: اسم لما يخرج في الفرائض في الأموال والخرج: المصدر.

(1)

ورد بهامش الأصل: الوجهان في "الصحاح" واقتصر في "المحكم" على الكسر.

(2)

"الصحاح" 1/ 408 مادة: (منح).

(3)

"تهذيب اللغة" 1/ 1003 مادة: (خرج).

ص: 261

‌12 - باب مَا يُكْرَهُ مِنَ الشُّرُوطِ فِي المُزَارَعَةِ

2332 -

حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الفَضْلِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ يَحْيَى، سَمِعَ حَنْظَلَةَ الزُّرَقِيَّ، عَنْ رَافِعٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا أَكْثَرَ أَهْلِ المَدِينَةِ حَقْلًا، وَكَانَ أَحَدُنَا يُكْرِي أَرْضَهُ، فَيَقُولُ هَذِهِ القِطْعَةُ لِي وَهَذِهِ لَكَ، فَرُبَّمَا أَخْرَجَتْ ذِهِ وَلَمْ تُخْرِجْ ذِهِ، فَنَهَاهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. [انظر: 2286 - مسلم: 1547 - فتح: 5/ 15]

ذكر فيه حديث رافع: قَالَ: كُنَّا أَكْثَرَ أَهْلِ المَدِينَةِ حَقْلًا، وَكَانَ أَحَدُنَا يُكْرِي أَرْضَهُ، فَيَقُولُ هذِه القِطْعَةُ لِي وهذِه لَكَ، فَرُبَّمَا أَخْرَجَتْ ذِهِ وَلَمْ تُخْرِجْ ذِهِ، فَنَهَاهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.

هذا الحديث أخرجه مسلم أيضًا

(1)

.

والحقل -بفتح الحاء-: القراح

(2)

الطيب، وقيل: هو الزرع إذا أينعت ثمرته، عن ابن فارس: زاد الخليل: من قبل أن تغلظ سوقه

(3)

.

وهذا الوجه المنهي عنه في هذا الحديث لا خلاف بين العلماء أنه لا يجوز؛ لأن ذلك غرر مجهول، وهذِه المزارعة المنهي عنها.

وإنما اختلفوا في المزارعة بالثلث والربع مما تخرج الأرض على ما تقدَّم قبل هذا.

قال ابن المنذر: وجاء في الحديث العلة التي نهى الشارع من أجلها عن كراء الأرض وعن المخابرة وهي اشتراطهم أن لرب الأرض ناحية

(1)

مسلم (1547، 1547/ 115) كتاب: البيوع، باب: كراء الأرض، باب: كراء الأرض بالذهب والورق.

(2)

ورد بهامش الأصل ما نصه: "صحاح": القراح: المزرعة التي ليس عليها بناء ولا فيها شجر، الجمع: أقرحة.

(3)

"المجمل" 1/ 245 مادة: (حقل)، وانظر:"العين" 3/ 45.

ص: 262

منها

(1)

.

ومما لا يجوز في المزارعة عند مالك أن يجتمع معنيان في جملة واحدة، وهو أنْ يخرج صاحب الأرض البذر فيجتمع له بذره وأرضه، فلا يجوز، فيكون للعامل أجرة عمله وروحه، ويكون الزرع لصاحب الأرض والبذر، ولذلك لو اجتمع للعامل البذر والعمل كانت المزارعة فاسدة، وكان عليه كراء الأرض لصاحب الأرض والزرع كله للعامل

(2)

.

(1)

"الإشراف على مذاهب الأشراف" 2/ 71.

(2)

"المدونة" 2/ 12.

ص: 263

‌13 - باب إِذَا زَرَعَ بِمَالِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ وَكَانَ فِي ذَلِكَ صَلَاحٌ لَهُمْ

2333 -

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ المُنْذِرِ، حَدَّثَنَا أَبُو ضَمْرَةَ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"بَيْنَمَا ثَلَاثَةُ نَفَرٍ يَمْشُونَ أَخَذَهُمُ المَطَرُ، فَأَوَوْا إِلَى غَارٍ فِي جَبَلٍ، فَانْحَطَّتْ عَلَى فَمِ غَارِهِمْ صَخْرَةٌ مِنَ الجَبَلِ فَانْطَبَقَتْ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: انْظُرُوا أَعْمَالًا عَمِلْتُمُوهَا صَالِحَةً للهِ، فَادْعُوا اللهَ بِهَا لَعَلَّهُ يُفَرِّجُهَا عَنْكُمْ. قَالَ أَحَدُهُمُ: اللَّهُمَّ إِنَّهُ كَانَ لِي وَالِدَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ، وَلِي صِبْيَةٌ صِغَارٌ كُنْتُ أَرْعَى عَلَيْهِمْ، فَإِذَا رُحْتُ عَلَيْهِمْ حَلَبْتُ، فَبَدَأْتُ بِوَالِدَيَّ أَسْقِيهِمَا قَبْلَ بَنِيَّ، وَإِنِّي اسْتَأْخَرْتُ ذَاتَ يَوْمٍ فَلَمْ آتِ حَتَّى أَمْسَيْتُ، فَوَجَدْتُهُمَا نَامَا، فَحَلَبْتُ كَمَا كُنْتُ أَحْلُبُ، فَقُمْتُ عِنْدَ رُءُوسِهِمَا، أَكْرَهُ أَنْ أُوقِظَهُمَا، وَأَكْرَهُ أَنْ أَسْقِيَ الصِّبْيَةَ، وَالصِّبْيَةُ يَتَضَاغَوْنَ عِنْدَ قَدَمَى، حَتَّى طَلَعَ الفَجْرُ، فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُهُ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ لَنَا فَرْجَةً نَرَى مِنْهَا السَّمَاءَ. فَفَرَجَ اللهُ فَرَأَوُا السَّمَاءَ. وَقَالَ الآخَرُ: اللَّهُمَّ إِنَّهَا كَانَتْ لِي بِنْتُ عَمٍّ أَحْبَبْتُهَا كَأَشَدِّ مَا يُحِبُّ الرِّجَالُ النِّسَاءَ، فَطَلَبْتُ مِنْهَا فَأَبَتْ حَتَّى أَتَيْتُهَا بِمِائَةِ دِينَارٍ، فَبَغَيْتُ حَتَّى جَمَعْتُهَا، فَلَمَّا وَقَعْتُ بَيْنَ رِجْلَيْهَا قَالَتْ: يَا عَبْدَ اللهِ، اتَّقِ اللهَ، وَلَا تَفْتَحِ الخَاتَمَ إِلَّا بِحَقِّهِ، فَقُمْتُ، فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُهُ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ عَنَّا فَرْجَةً. فَفَرَجَ. وَقَالَ الثَّالِثُ: اللَّهُمَّ إِنِّي اسْتَأْجَرْتُ أَجِيرًا بِفَرَقِ أَرُزٍّ، فَلَمَّا قَضَى عَمَلَهُ قَالَ أَعْطِنِي حَقِّي. فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ، فَرَغِبَ عَنْهُ، فَلَمْ أَزَلْ أَزْرَعُهُ حَتَّى جَمَعْتُ مِنْهُ بَقَرًا وَرَاعِيهَا، فَجَاءَنِي فَقَالَ: اتَّقِ اللهَ. فَقُلْتُ: اذْهَبْ إِلَى ذَلِكَ البَقَرِ وَرُعَاتِهَا فَخُذْ. فَقَالَ: اتَّقِ اللهَ وَلَا تَسْتَهْزِئْ بِي. فَقُلْتُ: إِنِّي لَا أَسْتَهْزِئُ بِكَ فَخُذْ. فَأَخَذَهُ، فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ مَا بَقِيَ، فَفَرَجَ اللهُ". قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: وَقَالَ ابْنُ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ:"فَسَعَيْتُ". [انظر: 2215 - مسلم: 2743 - فتح: 5/ 16]

ص: 264

ذكر فيه حديث ابن عمر في قصة الثلاثة الذين أووا إلى الغار وقد سلف غير مرة، وفي آخره: وَقَالَ إسماعيل (خ م س) بن عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ:"فَسَعَيْتُ"

(1)

.

قلت: وعقبه جده، ووالده إبراهيم وهو (أي: إبراهيم)

(2)

أكبر من أخويه: موسى ومحمد ابني عقبة بن أبي عياش.

قال الجيِّاني: وقع في نسخة أبي ذر: إسماعيل عن عقبة. وهو وهم

(3)

. وهذا التعليق أسنده البخاري في الأدب في باب: إجابة دعاء من برَّ والديه

(4)

، وقد أخرج ابن حبان هذا الحديث من طريق أبي

هريرة أيضًا

(5)

.

قال المهلب: لا تصح هذِه الترجمة: إلَّا بأن يكون الزارع متطوعًا إذ لا خسارة على صاحب المال؛ لأنه لو هلك الزرع أو ما ابتاع له بغير إذنه كان الهلاك من الزارع، وإنما يصح هذا على سبيل التفضل بالربح وضمان رأس المال لا على أن من تعدى في مال غيره فاشترى منه بغير إذنه أو زرع به أنه يلزم صاحبه فعله؛ لأنَّ ما في ذمته من الدين لا يتعين إلَّا بقبض الأجير له وبرضاه بعمله فيه، وقد سلف في الإجارة حكم من تجر في مال غيره بغير إذنه فربح، ومذاهب العلماء فيه

(6)

.

وأجاب ابن المنير بمطابقة الترجمة، لأنه قد عين له حقه ومكنه منه

(1)

سلف برقم (2215) كتاب: البيوع، باب: إذا اشترى شيئًا لغيره بغير إذنه فرضي.

(2)

كتبت في الأصل بين السطرين.

(3)

"تقيد المهمل" 2/ 621.

(4)

سيأتي برقم (5974).

(5)

"صحيح ابن حبان" 1/ 253 - 252 (971).

(6)

عبارة المهلب، ونقلها ابن بطال في "شرحه" 6/ 472، وعنه المصنف.

ص: 265

وبرئت ذمته منه، فلما ترك القبض ووضع المستأجر يده ثانيًا على الفَرَقِ فهو وضعٌ مستأنف على ملك الغير، ثم تصرفه فيه إصلاح لا تضييع فاغتفر ذلك، ولم يعد تعديًا، ومع ذلك فلو هلك الفَرَقُ لكان الزارع ضامنًا له؛ إذ لم يؤذن له في زراعته، فمقصود الترجمة إنما هو خلاص الزارع من المعصية، وإنْ تعرض للضمان، ويدل على أن فعله كان غير معصية أنه توسل به إلى الله جل وعز بناءً على أنه أفضل الأعمال، وأقر على ذلك، ووقعت الإجابة له به، أو يقال: إنَّ توسله إنما كان بوفاء الحق عند حضور المستحق مضاعفًا من قبيل حسن القضاء؛ لا بكونه زَرَعَ الفَرَقَ المُسْتَحَق، كما أنَّ الذي جلس بين شعب المرأة توسل بما ذكره من القيام عنها خوفًا من الله تعالى لا بجلوسه الأول، فإنه معصية اتفاقًا

(1)

.

وقوله: "فتعبت حتى جمعتها" وفي نسخة "فبغيت" وعليها اقتصر ابن التين، وقال: أي: كسبتُ وطلبتُ، وقيل ما تستعمل في الخير، وقد جاء في الحديث في شهر رمضان:"يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر".

وقال زيد بن عمرو: البر أبغي لا محالة.

وقال ابن فارس: بغيت الشي أبغيه: إذا طلبته

(2)

.

ووقع هنا: "بِفَرَقٍ مِنْ أرز" وسلف "من ذرة"

(3)

وراجعه مما سلف.

(1)

"المتواري" ص 261 - 262.

(2)

"المجمل" 1/ 129 مادة: (بغي).

(3)

سلف برقم (2215) كتاب: البيوع، باب: إذا اشترى شيئًا لغيره بغير إذنه نرضي.

ص: 266

‌14 - باب أَوْقَافِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَرْضِ الخَرَاجِ وَمُزَارَعَتِهِمْ وَمُعَامَلَتِهِمْ

وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِعُمَرَ: "تَصَدَّقْ بِأَصْلِهِ لَا يُبَاعُ ثمره، وَلَكِنْ يُنْفَقُ ثَمَرُهُ"[انظر: 2313]. فَتَصَدَّقَ بِهِ.

2334 -

حَدَّثَنَا صَدَقَةُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: لَوْلَا آخِرُ المُسْلِمِينَ مَا فَتَحْتُ قَرْيَةً إِلَّا قَسَمْتُهَا بَيْنَ أَهْلِهَا كَمَا قَسَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ. [3125، 4235، 4236 - فتح: 5/ 17]

ثم ساق عن مَالِكٍ، عَنْ زيدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ عُمَرُ: لَوْلَا آخِرُ المُسْلِمِينَ مَا فَتَحْتُ قَرْيَةً إِلا قَسَمْتُهَا بَيْنَ أَهْلِهَا كَمَا قَسَمَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ.

الشرح:

التعليق الأول سلف مسندًا بمعناه

(1)

، وهو قوله لعمر:"إن شئت حبست أصلها وتصدَّقت بها"

(2)

وقال ابن التين عن الداودي: إنَّ قوله: "تصدق بأصله" ما أراه محفوظًا وإنما أمره أنْ يتصدَّق بثمره

ويوقف أصله.

وقول عمر أخرجه البخاري في موضع آخر بلفظ: لولا أنْ أترك الناس ببانًا ليس لهم شيء ما فتحت عليَّ قرية

إلى آخره

(3)

.

(1)

سلف برقم (2313) كتاب: الوكالة، باب: الوكالة في الوقف ونفقته وأن يطعم صديقًا له ويأكل بالمعروف.

(2)

سيأتي برقم (2737) كتاب: الشروط، باب: الشروط في الوقف.

(3)

سيأتي برقم (4235) كتاب: المغازي، باب: غزوة خيبر.

ص: 267

ولأحمد: لئن عشت إلى هذا العام المقبل لا يفتح الناس قرية إلَّا قسمتها بينكم

(1)

.

وذهب الكوفيون فيما حكاه أبو عبيد إلى أنَّ عمر حدَّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قسَّم خيبر، ولولا آخر الناس لفعلت ذلك.

وقال ابن التين: كان عمر يرى هذا الرأي لآخر المسلمين تحريًا لمصلحتهم ويتأول فيه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} الآية [الحشر: 10]، ويعطفه على قوله {لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ} [الحشر: 8] ويرى للآخرين فيه أسوة الأولين، فقد كان يعلم أنَّ المال يعز، وأنَّ الشُّح يغلب، وأن لا ملك بعد كسرى، فأشفق أن يبقى آخر المسلمين لا شيء لهم فرأى أنْ يحبس الأرض ولا يقسمها، بل يضرب عليها تدوم لسائر المسلمين، وبهذا قال مالك في مشهور قوليه أنَّ الأرض لا تقسم

(2)

.

فائدة: قوله فيما أوردناه: (ببانًا) -هو ببائين موحدتين وبعد الألف نون- أي: شيئًا واحدًا، قال أبو عبيد: وذلك الذي أراد، ولا أحسبها عربية، ولم أسمعها في غير هذا الحديث

(3)

.

وصوب غيره بيانًا وأصلها أنَّ العرب إذا ذكرت من لا تعرف تقول: هيَّان بن بيان. أي: لأسوين بينهم في العطاء، وصوب الأزهري الأول وأوضحه في "تهذيبه"

(4)

(5)

.

(1)

"مسند أحمد" 1/ 31 - 32 من طريق زيد بن أسلم، عن أبيه، قال: سمعت عمر يقول.

(2)

"المدونة" 1/ 386.

(3)

"غريب الحديث" 2/ 37.

(4)

"تهذيب اللغة" 1/ 268 مادة: (ببب).

(5)

ورد بهامش الأصل: في "المطالع" وكذلك صححها صاحب "العين".

ص: 268

وقال الليث: (ببان) على تقدير فعلان (فالنون أصلية)

(1)

، ويقال: على تقدير فعَّال، والنون زائدة، ولا يصرف منه فعل.

وكان رأي عمر في أعطية الناس التفضيل على السوابق، وكان رأي الصديق التسوية، فرجع إليه عمر.

قال الأزهري: وكأنها لغة يمانية لم تفش في كلام معدٍ. وقال صاحب "المنتهى": ما أراه محفوظًا عن العرب وبنحوه، قال الجوهري وغيره

(2)

.

(1)

كتبت في الأصل بين السطور.

(2)

انظر: "الصحاح" 1/ 89 مادة (ببب).

ص: 269

‌15 - باب مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَوَاتًا

وَرَأَى ذَلِكَ عَلِيٌّ فِي أَرْضِ الخَرَابِ بِالكُوفَةِ (مَوَاتٌ)

(1)

. وَقَالَ عُمَرُ: مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهْيَ لَهُ. وَيُرْوَى عَنْ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ:"فِي غَيْرِ حَقِّ مُسْلِمٍ، وَلَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ فِيهِ حَقٌّ". وَيُرْوَى فِيهِ، عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

2335 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَنْ أَعْمَرَ أَرْضًا لَيْسَتْ لأَحَدٍ فَهْوَ أَحَقُّ". قَالَ عُرْوَةُ: قَضَى بِهِ عُمَرُ رضي الله عنه فِي خِلَافَتِهِ. [فتح: 5/ 18]

ثمِ ساق حديث عائشة: عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ أَعْمَرَ أَرْضًا لَيْسَتْ لأَحَدٍ فهْوَ أَحَقُّ ". قَالَ عُرْوَةُ

(2)

: قَضَى بِهِ عُمَرُ فِي خِلَافَتِهِ.

الشرح:

الموات -بفتح الميم والواو - الأرض التي لم تعمر قط، ويُقال لها: موتان

(3)

بفتح الواو وسكونها

(4)

.

وأثر عمر أخرجه أبو عبيد في "أمواله"

(5)

.

وحديث سالم عن أبيه، عنه كان يخطب على المنبر فقال: "يا أيها

(1)

ليست بالأصل.

(2)

فوقها في الأصل: معلق.

(3)

ورد بهامش الأصل: في "المطالع": الواو تفتح وتسكن والميم مفتوحة لا غير.

(4)

انظر: "لسان العرب" 7/ 4296 مادة: (موت).

(5)

"الأموال" 1/ 303.

ص: 270

الناس من أحيا .. " إلى آخره

(1)

.

وطرقه يحي بن آدم في "خراجه"، وزاد في بعضها:"ليس في يد مسلم ولا معاهد"

(2)

.

وحديث عمرو حديث محفوظ كما قال الجياني ثم ساقه

(3)

. وقال ابن بطال: حسن السند

(4)

.

وحديث جابر صححه الترمذي

(5)

، وروي عن هشام، عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرسلًا

(6)

، ورواه النسائي مسندًا بلفظ:"من أحيا أرضًا ميتة فله فيها أجر، وما أكلت العوافي منها فهو له صدقة" وصححه ابن حبان، وقال: طلاب الرزق يسمون العوافي، قال: وفيه دليل على أنَّ الذمي إذا أحيا أرضًا لم تكن له؛ لأنَّ الصدقة لا تكون إلَّا للمسلم

(7)

.

(1)

المصدر السابق.

(2)

"الخراج" ص 89.

(3)

"تقييد المهمل" 2/ 621 - 622.

(4)

"شرح ابن بطال" 6/ 474.

(5)

الترمذي (1379)، وصححه الألباني في "صحيح الترمذي"(1114).

(6)

رواه مالك في "الموطأ" ص 463 عن يحيى، عن هشام به ومن طريقه الشافعي في "سننه" 4/ 227 (1497) والنسائي في الكبرى 3/ 405 (5762)، ورواه وكيع، عن يحيى، عن هشام به كما عند ابن أبي شيبة في "المصنف" 4/ 489 (22375).

ورواه أبو داود (3074) والدارقطني في "سننه" 3/ 35 - 36 من طريق محمد بن إسحاق، عن يحيى بن عروة، عن أبيه به مطولًا وفيه قصة.

وقال الدارقطني في "العلل" 4/ 415 - 416: والمرسل عن عروة أصح.

وقال الحافظ في "بلوغ المرام" 1/ 188 (920): رواه أبو داود وإسناده حسن، وحسنه الألباني في "الإرواء" 5/ 355، وفي "صحيح أبي داود"(2699).

(7)

رواه النسائي في "الكبرى" 3/ 404 من طرق عنه وكذا أحمد في "المسند" 3/ 313، وابن حبان في "صحيحه" 11/ 613 - 617. وقال المصنف في "البدر المنير" 7/ 57: حديث صحيح.

ص: 271

ولأبي داود: "من أحاط حائطًا على أرض فهي له"

(1)

.

قلت: وفي الباب عن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل أخرجه الترمذي وقال: حسن غريب

(2)

، وسمرة بن جندب أخرجه أبو داود

(3)

، وأبي سعيد فيما يظن أبو داود

(4)

، وأسمر بن مضرس عنده

(5)

وغير

(1)

رواه أبو داود (3077) بهذا اللفظ من طريق أحمد بن حنبل قال: ثنا محمد بن بشر، ثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة وهو في "المسند" 5/ 12، 21 ورواه الطيالسي في "مسنده" (948) وابن الجارود في "المنتقى" (1015) وغيرهم. وقال ابن حجر في "التلخيص" 3/ 62: رواه أحمد وأبو داود عنه والطبراني والبيهقي من حديث الحسن، عن سمرة وفي صحة سماعه منه خلاف، عن جابر، وقال الألباني في "ضعيف أبي داود"(551) إسناده ضعيف لعنعنة الحسن البصري، فإنه كان يدلس.

وقال في "الإرواء" 5/ 355: علته عنعنة الحسن البصري.

وقال الشيخ أبو إسحاق الحويني في "غوث المكدود" 3/ 267: وهذا سند ضعيف لعنعنة الحسن البصري، ولكن لمعنى الحديث شواهد. اهـ.

(2)

رواه أبو داود (3073)، والترمذي (1378) والنسائي في "سنن الكبرى" 3/ 405، وقال ابن الملقن في "البدر المنير" 6/ 766: رواه أبو داود في "سننه" بإسناد صحيح. وقال الألباني في "صحيح أبي داود"(2698): إسناده صحيح وحسنه الترمذي وقواه الحافظ.

(3)

سبق تخريجه في الهامش قبل السابق.

(4)

رواه أبو داود (3071) وحسن إسناده الحافظ في "بلوغ المرام" 1/ 188، وقال الألباني في "الإرواء" 5/ 355: إسناد رجاله ثقات لولا أن ابن إسحاق مدلس، وقد عنعنه ومع ذلك فإن الحافظ حسنه.

(5)

رواه أبو داود (3075)، ومن طريقه البيهقي في "السنن" 6/ 142 والطبراني في "الكبير" 1/ 280 (814)، ومن طريقه الضياء في "المختارة" 4/ 227 - 228.

وتعقب الألباني رحمه الله الحافظ والضياء في تصحيحهما للحديث فقال في "إرواء الغليل" 6/ 9: قلت: هذا إسناد ضعيف، مظلم، ليس في رجاله من يعرف سوى الأول منه الصحابي والأخير ابن بشار شيخ أبي داود، وما بين ذلك مجاهيل =

ص: 272

ذلك، وظاهرها أنَّه لا يتوقف على إذن الإمام خلافًا لمن زعمه ولمن قال: إذا لم يعلم به الإمام حتى أحياها فهي له، كما ستعلمه.

وحديث عائشة من أفراده، كذا فيه:"منْ أعمر" بالألف، وصوابه كما قال في "المطالع" وغيره:"عمر" ثلاثي، قال تعالى:{وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} [الروم: 9] قال ابن بطال: ويحتمل أن يكون (اعتمر) وسقطت التاء

(1)

، وذكر صاحب "العين": أعمرت الأرض: وجدتها عامرة

(2)

، وليس مرادًا هنا.

وقد اختلف العلماء في إحياء الموات، فقال مالك: من أحيا أرضًا ميتة فيما قرب من العمران فلابد في ذلك من إذن الإمام، وإن كان في فيافي المسلمين والصحاري، وحيث لا يتشاح الناس فيه، فهي له بغير إذن الإمام

(3)

.

وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي: من أحيا أرضًا ميتة فهي له، ولا يحتاج إلى إذن الإمام مطلقًا قرب منه أو بعد

(4)

.

وقال أشهب وأصبغ: إنْ أحيا فيما قرب بغير إذنه أمضيت ولم يعنف

(5)

.

= لم يوثق أحدًا منهم أحد فالعجب من الضياء كيف أورده في "المختارة" وأقره الحافظ في "التلخيص"، وأعجب منه قوله في ترجمة أسمر هذا من "الإصابة" قلت: وأخرج حديثه أبو داود بإسناد حسن! يعني هذا وقد ذكر في "التلخيص" عن البغوي أنه قال: لا أعلم بهذا الإسناد غير هذا الحديث.

(1)

"شرح ابن بطال" 6/ 478.

(2)

"العين" 2/ 137 مادة: (عمر).

(3)

"المدونة" 4/ 377.

(4)

"الأم" 3/ 264 - 265، "بدائع الصنائع" 6/ 194.

(5)

"النوادر والزيادات" 10/ 501.

ص: 273

وقال مطرف وابن الماجشون: الإمام بالخيار بين أربعة أوجه: إنْ شاء أن يقره له فعل، أو للمسلمين ويعطيه قيمته منقوصًا، أو يأمره بقلعه، أو يعطيه غيره فيكون للأول قيمته منقوصًا

(1)

.

والبعيد ما كان خارجًا عما يحتاجه أهل ذلك العمران من محتطب ومرعى، مما العادة أن الرعاة يبلغونه ثم يبيتون في منازلهم، ويحتطب المحتطب ويعود إلى موضعه، وما كان من الإحياء في المحتطب وللرعاء فهو القريب من العمران فيمنع، وعند أبي يوسف: حد الموات ما إذا وقف المرء في أدنى المصر ثم صاح لم يُسمع، وما سمع فيه الصوت فلا يكون إلَّا بإذن الإمام

(2)

.

وقال أبو حنيفة: ليس لأحد أن يحيى مواتًا إلَّا بإذن الإمام فيما قرب وبعد، فإنْ أحيا بغير إذنه لم يملكه

(3)

.

حجة الشافعي ومن وافقه إطلاق الحديث حيث جعله إلى من أحب من غير أمر الإمام في ذلك، وقد دلت على ذلك شواهد من النظر منها الماء في البحر والنهر من أخذ منه شيئًا يملكه بنفس الأخذ، ولا يحتاج إلى إذن الإمام، ومنها: الصيد؛ لأنَّ الناس فيه سواء الإمام وغيره، فكذا الأرض.

حجة المتوقف على الإذن أنَّ معنى الحديث: من أحياها على شرائط الإحياء فهي له، وذلك تحظيرها وإذن الإمام له فيها، يؤيده الحديث الآتي:"لا حمى إلَّا لله ولرسوله"

(4)

.

(1)

"النوادر والزيادات" 10/ 500.

(2)

"المبسوط" 23/ 166، "البناية" 11/ 316.

(3)

"المبسوط" 23/ 167.

(4)

سيأتي برقم (2370) كتاب: المساقاة، باب: لا حمى إلا لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عباس.

ص: 274

والحمى: ما حمي من الأرض، فدل على أنَّ حكم الأرضين إلى الأئمة لا إلى غيرهم، وأنَّ حكم ذلك غير حكم الصيد والماء، والفرق بينهما أنَّ الإمام لا يملك من الأنهار شيئًا بخلاف الأرض، ولو احتاج الإمام إلى بيعها في نائبة المسلمين جاز بيعه لها، ولا يجوز ذلك في ماء نهر ولا صيد بر ولا بحر، بل هو كآحاد الناس.

حجة مالك: أنه عليه السلام أقطع بلال بن الحارث المعادن القبلية

(1)

ولم يقطعه حق مسلم

(2)

، وهذا فيما قرب، فوجب استعمال الحديثين جميعًا، فما وقع فيه التشاح والتنافس لم يكن لأحد عمارته بغير إذن

(1)

رواه مالك في "الموطأ" ص 169 - 170 من طريق ربيعة ابن أبي عبد الرحمن، عن غير واحد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع لبلال بن الحارث المزني معادن القبلية، وهي من ناحية الفرع. فتلك المعادن لا يؤخذ منها إلى اليوم إلا الزكاة. ومن طريقه رواه الشافعي في "الأم" 2/ 36 ومن طريقه أخرجه البيهقي في "السنن" 4/ 152.

ورواه أبو داود من طريق مالك أيضًا (3061) وقال الشافعي في "الأم" بعد رواية الحديث: ليس هذا مما يثبته أهل الحديث رواية ولو أثبتوه لم يكن فيه رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا إقطاعه. فأما الزكاة في المعادن دون الخمس فليست مروية عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه اهـ. وقال ابن عبد البر في "التمهيد" 3/ 237: هكذا هو مرسل في جميع الموطآت ولم يختلف فيه عن مالك.

ورواه موصولًا الحاكم في "المستدرك" 1/ 404 من طريق الدراوردي، عن ربيعة، عن الحارث بن بلال، عن أبيه به مطولًا.

ورواه البزار كما في "كشف الأستار"(1739)، عن عمرو بن عوف. قال الهيثمي في "المجمع" 6/ 8: رواه البزار وفيه: كثير بن عبد الله وهو ضعيف جدًا وقد حسن الترمذي حديثه.

والحديث ضعفه الألباني في "الإرواء"(830) وقال: وبالجملة فالحديث بمجموع طرقه ثابت في إقطاع، لا في أخذ الزكاة من المعادن والله أعلم.

(2)

هذِه الزيادة جاءت في "التمهيد" 3/ 237 وعزاه للبزار ولم يذكرها صاحب "المجمع".

ص: 275

الإمام، وأمَّا ما تباعد عن العمران ولم يتشاح فيه جاز أن يعمر بغير إذنه، والإذن منه معناه الإقطاع، وقد أقطع عمر العقيق وهو قرب المدينة.

قال سحنون: ومسافة يوم عن العمارة بعيد فإن قاس المانع ذلك على الغنيمة بجامع الموات من مصالح المسلم؛ لأنَّ الأرض مغلوب عليها، فوجب أن لا تملك إلَّا بإذن الإمام كالغنيمة

(1)

فيُقال: الموات في الفيافي من المباح، كالصيد وطلب الركاز والمعادن لا يفتقر شيء منها إلى إذن الإمام، وإنْ كانت في الأرض التي عليها يد الإمام، فكذا الموات.

وإحياء الموات عند مالك إجراء العيون وحفر الآبار والبنيان والحرث وغرس الأشجار

(2)

، وهو قول الشافعي. قال ابن القاسم: ولا يعرف مالك التحجر إحياء

(3)

، والحجة له ما روى الزهري، عن سالم، عن ابن عمر: كان الناس (يتحجرون)

(4)

على عهدهم التي ليست لأحد. قال عمر: من أحيا أرضًا ميتة فهي له

(5)

، وهذا يدل على أنَّ التحجير غير الإحياء.

قوله: ("وليس لعرق ظالم حق") قال ابن حبيب: وبلغني عن ربيعة أنه قال: العرق الظالم عرقان: ظاهر وباطن، فالباطن ما احتفره الرجل من الآبار أو غرسه، والظاهر ما بني في أرض غيره. وعنه العروق أربعة:

(1)

"النوادر والزيادات" 10/ 502.

(2)

"المدونة" 4/ 377، و"النوادر والزيادات" 10/ 504 - 505.

(3)

المصدران السابقان.

(4)

في الأصل: يتحرجون، والمثبت من مصادر التخريج.

(5)

رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" 4/ 489 (22372) والطحاوي في "شرح معاني الآثار" 3/ 270.

ولفظه: كان الناس يتحجرون على عهد عمر، فقال: من أحيا أرضا فهي له.

ص: 276

عرقان فوق الأرض، وهما: الغراس والبناء، وعرقان في جوفها: المياه والمعادن

(1)

.

وفي رواية ابن التين: المياه والعين، وقال: هكذا وقع فيه في نفس الحديث، وهو يصح على رواية من رواه منونًا غير مضاف، ومن لم يضفه ونون عرقًا احتج به في أنَّ غلات المغصوب لربه، وليس للغاصب منها شيء، يريد: أنَّ الظالم هو الغاصب، ولا حق له في المغصوب لا في غلته ولا في غيرها.

قال ابن حبيب: والحكم فيه أن يكون صاحب الأرض مخيرًا على الظالم، إنَّ شاء حبس ذلك في أرضه بقيمته مقلوعًا، وإنْ شاء نزعه من أرضه، وقال غيره: معنى الحديث يريد ليس له حق كحق من غرس أو بني بشبهة، فإذا غرس أو بني بشبهة فله حق إن شاء رب الأرض أن يدفع إليه قيمته قائمًا، وإن أبي قيل للذي بني وغرس: ادفع إليه قيمة أرضه براحًا فإنْ أبيا كانا شريكين في الأرض والعمارة: هذا بقيمة أرضه، وهذا بقدر قيمة العمارة

(2)

.

قال ابن حبيب: لا خيار للذي بني وغرس إذا أبي رب الأرض، ولكن يشرك فيما بينهما مكانه هذا بقيمة أرضه براحًا والآخر بقيمة عمارته قائمة.

وقال ابن الماجشون: وتفسير اشتراكهما أن تُقوَّم الأرض براحًا ثم تُقوَّم بعمارتها فما زادت قيمتها بالعمارة على قيمتها براحًا كان العامر شريكًا لرب الأرض فيها إن أحبا قسما أو حبسا

(3)

.

(1)

"النوادر والزيادات" 10/ 500 بتصرف.

(2)

السابق 10/ 507 بتصرف.

(3)

السابق 10/ 407.

ص: 277

قال ابن الجهم: فإذا دفع رب الأرض قيمة العمارة وأخذ أرضه كان له كراؤها في ماضي السنين.

وقال الشافعي فيما نقله البيهقي في "المعرفة": جماع العرق الظالم: كل ما حفر أو غرس أو بني ظلمًا في حق امرئ بغير خروجه منه

(1)

.

وروى يحيى بن ادم في كتاب "الخراج" عن الثوري وسُئل عن العرق الظالم، فقال: هو المنتزي

(2)

.

وللنسائي عن عروة بن الزبير: وهو الرجل يعمر الأرض الخربة وهي للناس، وقد عجزوا عنها فتركوها حتى خربت

(3)

.

تنبيهات:

أحدها: روى ابن أبي شيبة: حدثنا جرير، عن ليث عن أبي بكر بن حفص مرفوعًا:"من أحيا أرضًا من المصر على دعوة فله رقبتها إلى ما يصيب فيها من الأجر".

وعن الشعبي رفعه: "من ترك دابة مهلكة فهي للذي أحياها".

وقال الحسن إذا سُئل عن ذلك: لمن أحياها

(4)

.

ثانيها: حكى ابن التين عن أصحاب مالك ثلاثة أقوال في الإحياء: يجوز فيما بعد من العمران، يجوز في الجميع، لا يجوز مطلقًا إلَّا بإذن الإمام.

ثالثها: حديث معاذ المرفوع: "إنما للمرء ما طابت به نفس إمامه"

(1)

"معرفة السنن والآثار" 9/ 18.

(2)

"الخراج" ص 86 (273).

(3)

"السنن الكبرى" 3/ 405.

(4)

"المصنف" 4/ 489 - 490 باب من قال: إذا أحيا أرضًا فهي له.

ص: 278

لا يصح كما بينه البيهقي، وبين انقطاعه وجهالة أحد رواته

(1)

.

وأعله ابن خزيمة أيضًا

(2)

.

رابعها: قال الشافعي: أخبرنا عبد الرحمن بن الحسن الأزرقي، عن أبيه، عن علقمة بن نضلة أنَّ عمر بن الخطاب قال: ليس لأحد -يعني: من إحياء الموات- إلا ما أحاطت عليه جدرانه

(3)

.

خامسها: قد يحتج بالحديث من يرى إجازة إحياء الذمي في دار الإسلام، واختلف فيه عند المالكية

(4)

، ونص إمامنا على عدم جوازه

(5)

، واختلف عندهم أيضًا أنَّ الإذن واجب أو مستحب، وفائدته: إذا بني بغير إذنه هل يهدمه الإمام إذا رأى ذلك أو يمضيه؟

قال من قال: يحيي فيما بعد دون ما قرب من العمران، قيل: حده أنْ يقف الرجل في طرف العمران ويصيح فلا يسمعه من يكون في تلك الأرض، وقيل: ذلك قدر سرح مواشيهم في غدوها ورواحها، وهذا مما لم يكن في الأرض نشزًا، وأما ما درس وكان مشترى فهو لمالكه.

واختلف فيما دثر مما أصله الإحياء ولم يكن نشزًا.

(1)

رواه البيهقي في "معرفة السنن والآثار" 9/ 8 وقال: هذا منقطع بين مكحول، ومن فوقه، وراويه عن مكحول مجهول ولا حجة في هذا الإسناد.

(2)

لم أقف عليه عند ابن خزيمة في "صحيحه". وقال العيني في "عمدة القاري" 10/ 179. رواه ابن خزيمة من حديث عمرو بن واقد، عن موسى بن يسار، عن مكحول، عن جنادة بن أبي أمية، عن معاذ. قلت -أي العيني-: عمرو متروك باتفاق. ولعله عند ابن خزيمة في "المزارعة".

(3)

"الأم" 3/ 269.

(4)

انظر: "النوادر والزيادات" 10/ 504.

(5)

انظر: "الأم" 4/ 133.

ص: 279

‌16 - باب

2336 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُرِيَ وَهْوَ فِي مُعَرَّسِهِ مِنْ ذِي الحُلَيْفَةِ فِي بَطْنِ الوَادِي، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّكَ بِبَطْحَاءَ مُبَارَكَةٍ. فَقَالَ مُوسَى: وَقَدْ أَنَاخَ بِنَا سَالِمٌ بِالمُنَاخِ الَّذِي كَانَ عَبْدُ اللهِ يُنِيخُ بِهِ، يَتَحَرَّى مُعَرَّسَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهْوَ أَسْفَلُ مِنَ المَسْجِدِ الَّذِي بِبَطْنِ الوَادِي، بَيْنَهُ وَبَيْنَ الطَّرِيقِ وَسَطٌ مِنْ ذَلِكَ. [انظر: 483 - مسلم: 1346 - فتح: 5/ 20]

2337 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنِ الأَوْزَاعِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"اللَّيْلَةَ أَتَانِي آتٍ مِنْ رَبِّي وَهْوَ بِالعَقِيقِ، أَنْ صَلِّ فِي هَذَا الوَادِي المُبَارَكِ وَقُلْ: عُمْرَةٌ فِي حَجَّةٍ". [انظر: 1534 - فتح: 5/ 20]

كذا ذكره ولم يترجمه

(1)

ثم ساق حديث ابن عمر: أَنَّه عليه السلام أُرِيَ فِي مُعَرَّسِهِ مِنْ ذِي الحُلَيْفَةِ فِي بَطْنِ الوَادِي، فَقِيلَ: إِنَّكَ بِبَطْحَاءَ مُبَارَكَةٍ .. الحديث.

وحديث عمر

(2)

بعده: "صَلِّ فِي هذا الوَادِي" السالف في الحج

(3)

.

قال المهلب: هذا المعنى [الذي]

(4)

حاول البخاري من أنه جعل موضع معرس رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلاته موقوفًا له ومتملكًا له؛ لصلاته وتعريسه فيه لا يقوم على ساق، لأنه قال:"جعلت لي الأرض مسجدًا" وقد يصلي في أرض متملكة، فلم تكن صلاته فيها بمبيحة

(1)

يقصد الباب.

(2)

ورد بهامش الأصل ما نصه: في الثاني صحابي عن صحابي.

(3)

سلف برقم (1534) باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "العقيق واد مبارك".

(4)

ليست في الأصول، وأثبتناه من "شرح ابن بطال".

ص: 280

للصلاة فيها للناس إلى يوم القيامة، وقد صلَّى في دار أبي طلحة وعتبان فلم يبح للناس أنْ يتخذوا ذلك الموضع مسجدًا، وإنما أدخله البخاري؛ من أجل أنه نسب المعرس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(1)

وأبدى له ابن المنير مناسبة ذكرها هنا، وهي أنه لمَّا ذكر إحياء الموات والخلاف في إذن الإمام فيه نبه على أن البطحاء التي عرس فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر بالصلاة فيها، وأعلم أنها مباركة لا تدخل في الموات الذي يحيى ويملك؛ لما ثبت لها من خصوص التعريس فيها فصارت كأنها وقف على أن يقتدى فيها به، فلو ملكت بالإحياء لمنع مالكها الناس من التعريس بها

(2)

.

(1)

انظر: "شرح ابن بطال" 6/ 478 - 479.

(2)

"المتواري" ص 263.

ص: 281

‌17 - باب إِذَا قَالَ رَبُّ الأَرْضِ: أُقِرُّكَ مَا أَقَرَّكَ اللهُ وَلَمْ يَذْكُرْ أَجَلًا مَعْلُومًا، فَهُمَا عَلَى تَرَاضِيهِمَا

2338 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ المِقْدَامِ، حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا مُوسَى، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رضي الله عنهما أَجْلَى اليَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ أَرْضِ الحِجَازِ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا ظَهَرَ عَلَى خَيْبَرَ أَرَادَ إِخْرَاجَ اليَهُودِ مِنْهَا، وَكَانَتِ الأَرْضُ حِينَ ظَهَرَ عَلَيْهَا للهِ وَلِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَلِلْمُسْلِمِينَ، وَأَرَادَ إِخْرَاجَ اليَهُودِ، مِنْهَا فَسَأَلَتِ اليَهُودُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِيُقِرَّهُمْ بِهَا أَنْ يَكْفُوا عَمَلَهَا وَلَهُمْ نِصْفُ الثَّمَرِ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"نُقِرُّكُمْ بِهَا عَلَى ذَلِكَ مَا شِئْنَا". فَقَرُّوا بِهَا حَتَّى أَجْلَاهُمْ عُمَرُ إِلَى تَيْمَاءَ وَأَرِيحَاءَ. [انظر: 2285 - مسلم: 1551 - فتح: 5/ 21]

ذكر فيه حديث ابن عمر: قَالَ: كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم.

وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَاقِ

(1)

:

أَخْبَرَنَا ابن جُرَيْجٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِع، عَنِ ابن عُمَرَ، أَنَّ عُمَرَ أَجْلَى اليَهُودَ وَالنَّصَارى مِنْ أَرْضِ الحِجَازِ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَما ظَهَرَ عَلَى خَيْبَرَ أَرَادَ إِخْرَاجَ اليَهُودِ مِنْهَا، الحديث إلى أن قال:"نُقِرُّكُمْ بِهَا عَلَى ذَلِكَ مَا شِئْنَا". فَقَرُّوا بِهَا حَتَّى أَجْلَاهُمْ عُمَرُ إِلَى تَيْمَاءَ وَأَرِيحَاءَ.

وهذا التعليق أسنده في كتاب الخمس من وجه آخر؛ فقال: حدثنا

(1)

فوقها بهامش الأصل: معلق.

ص: 282

أحمد بن المقدام ثنا (الفضيل)

(1)

بن سليمان، ثنا موسى بن عقبة

(2)

وأسنده مسلم عن محمد بن رافع وإسحاق بن رافع كلاهما، عن عبد الرزاق به

(3)

.

إذا عرفت ذلك فقد تمسك بعض أهل الظاهر على جواز المساقاة إلى أجل مجهول بقوله: "نقركم ما شئنا" والجمهور على المنع إلَّا إلى أجل معلوم، وهذا الكلام جرى جوابًا لما طلبوه حتى إذا أراد إخراجهم منها، فقالوا: نعمل فيها ولكم النصف ونكفيكم مؤنة العمل، فلما فهمت المصلحة أجابهم إلى الإبقاء ووقفه على مشيئته، وبعد ذلك عاملهم على المساقاة، وقد دل على ذلك قول ابن عمر:

عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر على شطر ما يخرج منها

(4)

.

فأفرد العقد بالذكر دون ذكر الصلح على الإبقاء، وزعم النووي: أنَّ المساقاة جازت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة في أول الإسلام، يعني: بغير أجل معلوم

(5)

.

وقد أسلفنا مقالة أبي ثور، وهو قول محمد بن الحسن.

وفي الموطأ: "أقرُّكم ما أقرَّكم الله"

(6)

.

(1)

ورد بالأصل: الفضل، وبهامشها: وصوابه: فضيل. فأثبتناه.

(2)

سيأتي برقم (3152) باب: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس ونحوه.

(3)

مسلم (1551/ 6) كتاب: المساقاة، باب: المساقاة والمعاملة بجزء من الثمر والزرع.

(4)

سلف برقم (2328) باب: المزارعة بالشطر ونحوه.

(5)

"مسلم بشرح النووي" 10/ 211

(6)

رواه مالك في "الموطأ" ص 438 عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرسلًا.

ص: 283

وقال ابن بطال: اعتل من دفع المساقاة بأنها كانت من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غير أجل معلوم لهذا الحديث، وكل من أجاز المساقاة فإنما أجازها إلى أجل معلوم، إلَّا ما ذكره ابن المنذر عن بعضهم، أنَّه تأول الحديث على جوازها بغير أجل كما سلف، وأئمة الفتوى على خلافه، وأنها

لا تجوز إلَّا بأجل معلوم

(1)

.

قال مالك: الأمر عندنا في النخل: أنها تساقى السنتين والثلاث والأربع والأقل والأكثر

(2)

، وأجازها أصحاب مالك في عشر سنين فما دونها

(3)

.

وما سلف عن أبي ثور ومحمد بن الحسن يشبه قول ابن الماجشون فيمن اكترى دارًا مشاهرة أنه يلزمه شهر؛ لأنَّه عليه السلام أقرَّ اليهود على أنَّ لهم النصف، ومقتضاه سنة واحدة حتى يتبين أكثر منها، ولا حجة لمن دفع المساقاة في قوله:"أقرُّكم ما أقرَّكم الله" ولم يذكر أجلًا؛ لأنه كان يرجو أن يحقق الله رغبته في إبعاد اليهود من جواره؛ لأنه امتحن معهم في شأن القبلة، وكان مرتقبًا للوحي فيهم فقال لهم:"أقرُّكم ما أقرَّكم الله" منتظرًا للقضاء فيهم فلم يوح إليه بشيء في ذلك حتى حضرته الوفاة فقال: "لا يبقين دينان بأرض العرب"

(4)

.

(1)

"شرح ابن بطال" 6/ 479.

(2)

"الموطأ" ص 441.

(3)

"المدونة" 4/ 8.

(4)

رواه أحمد 6/ 274 من حديث عائشة بلفظ: "لا يترك بجزيرة العرب دينان" وكذا الطبراني في "الأوسط" 2/ 12 (1066) وقال الهيثمي في "المجمع" 5/ 325: رجال أحمد رجال الصحيح. وأخرجه مالك في "الموطأ" ص 556 عن عمر بن عبد العزيز يقول: كان آخر ما تكلم به رسول صلى الله عليه وسلم:

=

ص: 284

فقوله: "أقرُّكم ما أقرَّكم الله" لا يوجب فساد عقد ويوجب فساد عقد غيره بعده؛ لأنه كان ينزل عليه الوحي بتقرير الأحكام ونسخها، وكان بقاء حكمه موقوفًا على تقرير الله تعالى له، وكان استثناؤه "ما أقرَّكم الله" وزواله إذا نسخه من مقتضى العقد، فإذا اشترط ذلك في عقده لم يوجب فساده، وليس كذلك صورته من غيره؛ لأنَّ الأحكام قد تبينت وتقررت.

ومساقاته عليه السلام على نصف الثمر تقتضي عموم الثمر، ففيه حجة لمن أجازها في الأصول كلها، وهو قول ابن أبي ليلى ومالك والثوري والأوزاعي وأبي يوسف ومحمد، وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثور، وقال الشافعي: لا تجوز إلَّا في النخل والكرم خاصة، وجوَّزها القديم في سائر الأشجار المثمرة

(1)

، نعم يجوز على الأصح تبعًا لهما.

فإنْ قلت: لم ينص ابن عمر ولا غيره على مدة معلومة ممن روى هذِه القصة، فمن أين لكم اشتراط الأجل؟

= قال ابن عبد البر في "التمهيد" 1/ 165 - 166: هكذا جاء الحديث عن مالك في الموطآت كلها مقطوعًا، وهو يتصل من وجوه حسان عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة وعائشة ومن حديث علي بن أبي طالب وأسامة. قلت: وله طرق أخرى مرسلة وشواهد.

تنبيه: جاء الحديث في "الجامع الصغير" للسيوطي موصولًا من حديث أبي عبيدة بن الجراح، وعزاه للبيهقي في "سننه" بلفظ: كان آخر ما تكلم به

الحديث.

وفيه: "لا يبقين دينان بأرض العرب". قلت: وقع الحديث في المطبوع من "سنن البيهقي" دون هذِه الزيادة ولم ينبه عليها المناوي أو الألباني رحمهما الله. وقد صححه الألباني في "صحيح الجامع"(4617).

(1)

انظر: "المغني" 7/ 530.

ص: 285

قلت: الإجماع قد انعقد على منع الإجارة المجهولة، وإنما أجلى عمر من الحجاز أهل الكتاب؛ لأنَّه لم يكن لهم عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم على بقائهم في الحجاز دائمًا؛ بل كان ذلك موقوفًا على مشيئته، ولما عهد عند موته بإخراجهم من جزيرة العرب، وانتهت النوبة إلى عمر أخرجهم إلى تيماء وأريحاء بالشام، ولما قال بعضهم: تلك كانت هزيلة منه رُدَّ عليه.

تنبيهات:

أحدها: احتج أصحاب مالك بقوله: "ما شئنا" أنه يجوز عقد الإجارة مشاهرة ومساناة كما نقله ابن التين عنهم قال: إلَّا أنَّه إذا دخل في السنة الثانية من المساقاة لزمه تمام السنة، لما في ترك ذلك بعد العمل من الضرر، ويجوز ذلك في الدور وغيرها، ولكل واحد من المتكاريين الخيار

(1)

.

وقال عبد الملك: يلزمهما، وأخذ ما سمياه، فإنْ قالا: كل شهر.

لزمه شهر واحد، وكانا بالخيار فيما بعد، وإن سمَّيا كل سنة لزمهما سنة وكانا في الخيار فيما بعده

(2)

.

وابن القاسم يقول: هما بالخيار ولا يلزمهما شيء مما عقدا عليه

(3)

، ومنع الشافعي هذا العقد وقال: لا يجوز إلَّا لأجل معلوم، وقد سلف

(4)

.

(1)

"المنتقى" 5/ 144.

(2)

انظر: "المنتقى" 5/ 119.

(3)

انظر "المنتقى" 5/ 144.

(4)

انظر: "الأم" 3/ 240 - 241.

ص: 286

ثانيها: قوله: (وكانت الأرض لما ظهر عليها لله ولرسوله وللمسلمين) كذا في الأصول، وعند ابن السكن عن الفربري أيضًا.

وفي بعضها: لليهود ولرسوله وللمسلمين

(1)

، وصححه المهلب

(2)

.

وكذا روي عن الفربري، ومعنى هذا: ظهر عليهم في الرجاء؛ لأنَّه كان (أخذ)

(3)

أعظمها حصنًا، فاستولى عليهم رعبا. ألا ترى أنهم لجئوا إلى مصالحته؛ لما رأوا من ظهوره، فتركوا الأرض وسلَّموها لحقن دِمائهم، فكان حكم ذلك الصلح وما انجلى عنه أهله بالرعب حكم الفيء لم يجر فيه خمس، وإنما استخلص منه رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه، وكان باقيه لنوائب المسلمين وما يحتاجون إليه

(4)

.

ثالثها: قال الطحاوي: إقطاع أرض المدينة لا أدري كيف يصح؟ لأنَّ أهل المدينة أسلموا راغبين في الدين، وكل من أسلم كذلك أحرز داره وملكه، إلَّا أنْ يكون على الوجه الذي جاء فيه الأثر عن

ابن عباس أنَّ الأنصار جعلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يبلغه الماء من أرضيهم.

رابعها: معنى قوله: (لما ظهر على خيبر)، أي: على أكثرها قبل أن تسأله اليهود الصلح، فلمَّا صالحهم كانت الأرض لله ولرسوله ولم يكن

(1)

ستأتي هذِه الرواية برقم (3152) كتاب: فرض الخمس.

(2)

قال العيني في "عمدة القاري" 10/ 182: ووفق المهلب بين الروايتين بأن رواية ابن جريج محمولة على الحال التي آل إليها الأمر بعد الصلح، ورواية الفضيل محمولة عى الحال التي كانت قبل، وذلك أن خيبر فتح بعضها صلحًا وبعضها عنوة.

(3)

وقع في الأصل: آخر. وبه لا تفهم العبارة، وما أثبتناه من "شرح ابن بطال" 6/ 482، ومنه نقل المصنف.

(4)

انتهى نقله من "شرح ابن بطال" 6/ 481 - 482.

ص: 287

لليهود فيها شيء، لخروجهم عنها بالصلح، والدليل على ذلك أنَّ عمر إنما أعطاهم قيمة الثمرة لا قيمة الأصول، فصح أنهم كانوا مساقين فيها بعد أن صولحوا على أنفسهم، ثم لما قسمت كانت لله ولرسوله الصلح وخمس العنوة، وللمسلمين أربعة أخماس العنوة.

ص: 288

‌18 - باب مَا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُوَاسِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي الزِّرَاعَةِ وَالثَّمَرَةِ

2339 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، أَخْبَرَنَا الأَوْزَاعِيُّ، عَنْ أَبِي النَّجَاشِيِّ -مَوْلَى رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ- سَمِعْتُ رَافِعَ بْنَ خَدِيجِ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ عَمِّهِ ظُهَيْرِ بْنِ رَافِعٍ، قَالَ ظُهَيْرٌ: لَقَدْ نَهَانَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَمْرٍ كَانَ بِنَا رَافِقًا. قُلْتُ: مَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَهْوَ حَقٌّ. قَالَ: دَعَانِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَا تَصْنَعُونَ بِمَحَاقِلِكُمْ؟ ". قُلْتُ: نُؤَاجِرُهَا عَلَى الرُّبُعِ وَعَلَى الأَوْسُقِ مِنَ التَّمْرِ وَالشَّعِيرِ. قَالَ: "لا تَفْعَلُوا، ازْرَعُوهَا، أَوْ أَزْرِعُوهَا أَوْ أَمْسِكُوهَا". قَالَ رَافِعٌ: قُلْتُ: سَمْعًا وَطَاعَةً. [2346، 2347، 4012، 4013 - مسلم: 1547، 1548 - فتح: 5/ 22]

2340 -

حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا الأَوْزَاعِيُّ عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانُوا يَزْرَعُونَهَا بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ وَالنِّصْفِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ لِيَمْنَحْهَا، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلْيُمْسِكْ أَرْضَهُ". [مسلم: 1536 - فتح: 5/ 22]

2341 -

وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ نَافِعٍ أَبُو تَوْبَةَ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ لِيَمْنَحْهَا أَخَاهُ، فَإِنْ أَبَى فَلْيُمْسِكْ أَرْضَهُ". [مسلم: 1544 - فتح: 5/ 22]

2342 -

حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو قَالَ: ذَكَرْتُهُ لِطَاوُسٍ فَقَالَ: يُزْرِعُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَنْهَ عَنْهُ وَلَكِنْ قَالَ: "أَنْ يَمْنَحَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا مَعْلُومًا". [انظر: 2330 - مسلم: 1550 - فتح: 5/ 22]

2343 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما كَانَ يُكْرِي مَزَارِعَهُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَصَدْرًا مِنْ إِمَارَةِ مُعَاوِيَةَ. [انظر: 2285 - مسلم: 1547، 1551 - فتح 5/ 23]

ص: 289

2344 -

ثُمَّ حُدِّثَ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ كِرَاءِ المَزَارِعِ، فَذَهَبَ ابْنُ عُمَرَ إِلَى رَافِعٍ، فَذَهَبْتُ مَعَهُ، فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ كِرَاءِ 3/ 142 المَزَارِعِ. فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: قَدْ عَلِمْتَ أَنَّا كُنَّا نُكْرِي مَزَارِعَنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمَا عَلَى الأَرْبِعَاءِ وَبِشَيْءٍ مِنَ التِّبْنِ. [انظر: 2286 - مسلم: 1547 - فتح: 5/ 23]

2345 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي سَالِمٌ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: كُنْتُ أَعْلَمُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ الأَرْضَ تُكْرَى. ثُمَّ خَشِيَ عَبْدُ اللهِ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَحْدَثَ فِي ذَلِكَ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهُ، فَتَرَكَ كِرَاءَ الأَرْضِ. [انظر: 2285 - مسلم: 1547، 1551 - فتح: 15/ 23]

ذكر فيه حديث أَبِي النَّجَاشِيِّ -مَوْلَى رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ- قال: سَمِعْتُ رَافِعَ بْنَ خَدِيجِ، عَنْ عَمِّهِ ظُهَيْرِ بْنِ رَافِعٍ، قَالَ ظُهَيْرٌ: لَقَدْ نَهَانَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَمْرٍ كَانَ بِنَا رَافِقًا. قُلْتُ: مَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَهْوَ حَقٌّ، دَعَانِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَا تَصْنَعُونَ بِمَحَاقِلِكُمْ؟ ". قُلْتُ: نُؤَاجِرُهَا عَلَى الرُّبُعِ وَعَلَى الأَوْسُقِ مِنَ التَّمْرِ وَالشَّعِيرِ. فَقَالَ: "لا تَفْعَلُوا، ازْرَعُوهَا، أَوْ أَزْرِعُوهَا، أَوْ أَمْسِكُوهَا". قَالَ رَافِعٌ: قُلْتُ: سَمْعًا وَطَاعَةً.

وحديث عطاء عن جابر: كَانُوا يَزْرَعُونَهَا بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ وَالنِّصْفِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ لِيَمْنَحْهَا، فَإِنْ أَبَى فَلْيُمْسِكْ أَرْضَهُ".

وَقَالَ الرَّبِيعُ (خ. م. د. س. ق) بْنُ نَافِعٍ أَبُو تَوْبَةَ: حَدَّثنَا مُعَاوِيَةُ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ لِيَمْنَحْهَا أَخَاهُ، فَإِنْ أَبَى فَلْيُمْسِكْ أَرْضَهُ".

حَدّثَنَا قَبِيصَةُ، ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو قَالَ: ذَكَرْتُهُ لِطَاوُس فَقَالَ: يُزْرعُ، قَالَ ابن عَبَّاسٍ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَنْهَ عَنْهُ وَإنما قَالَ: "أنْ بَمْنَحَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا مَعْلُومًا".

ص: 290

وحديث نافع أَنَّ ابن عُمَرَ كَانَ يُكْرِي مَزَارِعَهُ عَلَى عَهْدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَصَدْرًا مِنْ إِمَارَةِ مُعَاوَيةَ، ثُمَّ حُدَّثَ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ كِرَاءِ المَزَارعِ، فَذَهَبَ ابن عُمَرَ إِلَى رَافِعٍ، فَذَهَبْتُ مَعَهُ، فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ كِرَاءِ المَزَارعِ. فَقَالَ ابن عُمَرَ: قَدْ عَلِمْتَ أَنَّا كُنَّا نُكْرِي مَزَارِعَنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمَا عَلَى الأَرْبِعَاءِ وَبِشَيءٍ مِنَ التِّبْنِ.

وحديث ابن عمر: كُنْتُ أَعْلَمُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ الأَرْضَ تُكْرى. ثُمّ خَشِيَ عَبْدُ اللهِ أَنْ يَكُونَ رسول الله صلى الله عليه وسلم قدْ أَحْدَثَ فِي ذَلِكَ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهُ، فَتَرَكَ كِرَاءَ الأَرْضِ.

الشرح:

هذِه الأحاديث أخرجها كلها مسلم

(1)

وقد سلف الكلام عليها، وتعليق الربيع بن نافع أسنده مسلم أيضًا فقال: حدثنا حسن الحلواني، ثنا أبو توبة. فذكره

(2)

. وقوله: (رافقًا) أي: ذا رفق، كقوله: ناصب: أي: ذو نصب، وقد يكون بمعنى: مرفق كما ذكره ابن التين.

(1)

حديث رافع بن خديج عن عمه أخرجه مسلم (1547/ 122، 1548/ 144) كتاب: البيوع، باب: كراء الأرض.

- وحديث عطاء عن جابر أخرجه مسلم (1536/ 89) كتاب: البيوع، باب: كراء الأرض.

- وحديث ابن عباس أخرجه مسلم (1550/ 120) كتاب: البيوع، باب: الأرض تمنح.

- وحديث ابن عمر أخرجه مسلم أيضًا (1547) كتاب: البيوع، باب: كراء الأرض.

(2)

مسلم (1544) كتاب: البيوع، باب: كراء الأرض.

ص: 291

وفي الحديث: "من باع بالدراهم سلط الله عليه تالفًا" أي: متلفًا

(1)

.

و (المحاقل): المزارع كما سلف. و (الربيع): الساقية. قاله الخطابي

(2)

. وقال ابن فارس: هو النهر

(3)

. وقال الجوهري: الجدول

(4)

، وقيل: النهر الصغير، و (الأربعاء): جمع ربيع، وهو النهر الصغير.

قال الداودي: قد تبين أنَّ النهي عن الكراء بالربع مما يخرج منها؛ لأنه مجهول. قال: وذكر التبن والشعير معه فصار مجهولًا ومعلومًا فلا يجوز. وكأن الداودي حمل النهي على أنه جزء من الأرض، والصحيح أنَّ معناه: أنَّ ما جاءت به الساقية وهو الربيع، فهو خاص لرب الأرض، وفي بعض الروايات: على الربيع والأوسق، وهو نحو قول الداودي.

(1)

لم أقف عليه بهذا اللفظ، وإنما وجدته عند أحمد 4/ 445 بلفظ "من باع عقدة مال سلط الله عليها تالفًا يتلفها" والبخاري في "التاريخ الكبير" 5/ 437، وقال الهيثمي في "المجمع" 4/ 110: رواه أحمد وفيه: رجل لم يسم، ورواه الطحاوي في "المشكل" 4/ 196 (2495) بلفظ:"ما من عبد يبيع تالف إلا سلط الله عليه تالفًا" وكذا رواه الطبراني في "الكبير" 18/ 222 (555) وقال الهيثمي في "المجمع" 4/ 110: رواه الطبراني في "الكبير" وفيه: بشير بن شريح وهو ضعيف.

وعن معقل بن يسار يرفعه بلفظ: "أيما رجل باع عقدة من غير حاجة بعث الله له تالفًا".

وقال الهيثمي في "المجمع" 4/ 111: رواه الطبراني في "الأوسط" وفيه: جماعة لم أعرفهم، منهم عبد الله بن يعلى الليثي، وضعف الألباني الروايتين في "الضعيفة"(4577)"ضعيف الجامع"(5200).

(2)

"أعلام الحديث" 2/ 1157.

(3)

"أعلام الحديث" 2/ 1158، "المجمل" 1/ 415 مادة:(ريع).

(4)

"الصحاح" 3/ 1212.

ص: 292

وقوله: "أزرعوها" أي: امنحوها من يزرعها لنفسه، يقال: أزرعته أرضًا إذا جعلتها له مزرعة.

وأرعيته: جعلت له مرعى، وأسقيته بئرًا: جعلت له سقياها.

وحديث جابر: "فليزرعها أو ليمنحها فإن أبي فليمسك أرضه"، قد بينه بقوله:(كانوا يزرعونها بالثلث والربع والماذيانات)، فانتهى ابن عمر عن ذلك، وخشي أن يكون حدث ما لم يعلم.

واحتج من جوَّز المزارعة بحديث ابن عمر في معاملته عليه السلام مع أهل خيبر بالشطر.

واحتج من منع بحديث رافع عن عمه، وبحديث جابر، وبترك ابن عمر إجارة الأرض من أجل ما جاء في ذلك، وقد سلف واضحًا.

وذكرنا ثم اختلاف العلماء في كرائها بالطعام، فعند الأئمة -خلافًا لمالك-: جوازه، وبه قال الأوزاعي والثوري وأبو ثور، وروي عن النخعي وعكرمة وسعيد بن جبير

(1)

.

(1)

انظر: "المبسوط" 2/ 38 - 39، "المدونة" 3/ 470، "الأم" 3/ 240، "المغني" 7/ 570.

ص: 293

‌19 - باب كِرَاءِ الأَرْضِ بِالذَّهَبِ وَالفِضَّةِ

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ أَمْثَلَ مَا أَنْتُمْ صَانِعُونَ أَنْ تَسْتَأْجِرُوا الأَرْضَ البَيْضَاءَ مِنَ السَّنَةِ إِلَى السَّنَةِ.

2346، 2347 - حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عَمَّايَ، أَنَّهُمْ كَانُوا يُكْرُونَ الأَرْضَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمَا يَنْبُتُ عَلَى الأَرْبِعَاءِ أَوْ شَيْءٍ يَسْتَثْنِيهِ صَاحِبُ الأَرْضِ، فَنَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ. فَقُلْتُ لِرَافِعٍ: فَكَيْفَ هِيَ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ؟ فَقَالَ رَافِعٌ: لَيْسَ بِهَا بَأْسٌ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ. وَقَالَ اللَّيْثُ وَكَانَ الَّذِي نُهِيَ عَنْ ذَلِكَ مَا لَوْ نَظَرَ فِيهِ ذَوُو الفَهْمِ بِالحَلَالِ وَالحَرَامِ لَمْ يُجِيزُوهُ، لِمَا فِيهِ مِنَ المُخَاطَرَةِ. [انظر: 2339 - مسلم: 1547، 1548 - فتح: 5/ 25]

ثم ساق حديث رافع بن خديج: حَدَّثَنِي عَمَّايَ، أَنَّهُمْ كَانُوا يُكْرُونَ الارْضَ عَلَى عَهْدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم بِمَا يَنْبُتُ عَلَى الأَرْبِعَاءِ أَوْ بِشَيءٍ يَسْتَثْييهِ صَاحِبُ الأَرْضِ، فَنَهَانَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ. فَقُلْتُ لِرَافِع: فَكَيْفَ هِيَ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ؟ فَقَالَ رَافِع بن خديج: لَيْسَ بِهَا بًاسٌ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: من ها هنا. وَقَالَ اللَّيْثُ: أُرَاهُ وَكَانَ الذِي نُهِيَ عَنْ ذَلِكَ مَا لَوْ نَظَرَ فِيهِ ذَوُو الفَهْمِ بِالحَلَالِ وَالحَرَامِ لَمْ يُجِيزُوهُ، لِمَا فِيهِ مِنَ المُخَاطَرَةِ.

انفرد البخاري بزيادة كلام الليث إلى آخره.

وأثر ابن عباس رواه وكيع في "مصنفه" عن سفيان، عن عبد الكريم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:

ص: 294

إنَّ أمثل ما أنتم صانعون أنْ تستاجروا الأرض البيضاء بالذهب

والفضة

(1)

.

وفي "مصنف ابن أبي شيبة": حُكي جواز ذلك عن سعد بن أبي وقاص، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، وسالم، وعروة، والزهري، وإبراهيم، وأبي جعفر محمد بن علي بن الحسين، وذكر حديث رافع مرفوعًا في جواز ذلك

(2)

.

وفي حديث سعيد (بن يزيد)

(3)

: وأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نكريها بالذهب والورق

(4)

.

وعمَّا رافع ستعلمهما في غزاة بدر.

وأمَّا حكم الباب: وهو كراء الأرض بالذهب والفضة فإجماع إلَّا من شذَّ كما أسلفته، قال ابن المنذر: أجمع الصحابة على جوازه

(5)

، وذهب ربيعة إلى أنَّ الأرض لا يجوز أنْ تكرى بغيره.

وقال طاوس: لا تكرى بالذهب ولا بالفضة، وتكرى بالثلث والربع.

(1)

هذا الأثر رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" عن وكيع به 4/ 494 (22429).

(2)

روى ابن أبي شيبة هذِه الآثار والحديث في "المصنف" 4/ 493 - 494.

(3)

كذا في الأصل والصواب ابن المسيب كما في تخريج الحديث عند أحمد وغيره وسيأتي ذكره في التخريج التالي.

(4)

رواه أبو داود (3391)، والنسائي 7/ 41، وأحمد 1/ 176، 182 والبزار 3/ 288 - 289 (1081)، وابن حبان في "صحيحه" 11/ 612 (5201) كلهم من طريق محمد بن عكرمة بن عبد الرحمن عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي لبيبة عن سعيد بن المسيب عن سعد بن أبي وقاص به، وقال الحافظ في "الفتح" 5/ 25: رجاله ثقات إلا أن محمد بن عكرمة المخزومي لم يرو عنه إلا إبراهيم بن سعد.

(5)

انظر: "الإجماع" ص 143، و"الإشراف" 2/ 73.

ص: 295

وقال الحسن البصري: لا يجوز أن تكرى الأرض بشيء لا بذهب ولا فضة

(1)

ولا غيرهما، حجته حديث رافع عن النهي عن كرائها مطلقًا، وقال: إذا استؤجرت وحرث فيها لعله أنْ يحترق زرعه فيردها وقد زادت بحرثه لها، فينتفع رب الأرض بتلك الزيادة دون المستأجر. وليس بشيء لأنَّ سائر البيوع لا تخلو من شيء من الغرر، والسلامة منها أكثر، ولو روعي في البيوع ما يجوز أن يحدث لم يصح بيع، ولا وجه لأجل خشية ما يحدث، وقد ثبت عن رافع في هذا الباب أنَّ كراء الأرض بالنقدين جائز، وذلك مضاف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو خاص يقضي على العام، الذي فيه النهي عن كري الأرض بغير استثناء ذهب ولا فضة، والزائد من الأخبار أولى أنْ يؤخذ به، لئلا تتعارض الأخبار ويسقط شيء منها.

وقال الخطابي: لا خلاف في الصحة إذا كان نقدًا

(2)

.

(1)

هذان الأثران رواهما ابن حزم في "المحلى" 8/ 213 عن ابن أبي شيبة بسنده عنهما.

(2)

"أعلام الحديث" 2/ 1158.

ص: 296

‌20 - باب

2348 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ، حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ، حَدَّثَنَا هِلَالٌ وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ، حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ، عَنْ هِلَالِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَوْمًا يُحَدِّثُ، وَعِنْدَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ البَادِيَةِ:"أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ اسْتَأْذَنَ رَبَّهُ فِي الزَّرْعِ فَقَالَ لَهُ: أَلَسْتَ فِيمَا شِئْتَ؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَزْرَعَ. قَالَ: فَبَذَرَ فَبَادَرَ الطَّرْفَ نَبَاتُهُ وَاسْتِوَاؤُهُ وَاسْتِحْصَادُهُ، فَكَانَ أَمْثَالَ الجِبَالِ، فَيَقُولُ اللهُ: دُونَكَ يَا ابْنَ آدَمَ، فَإِنَّهُ لَا يُشْبِعُكَ شَيْءٌ". فَقَالَ الأَعْرَابِيُّ: وَاللهِ لَا تَجِدُهُ إِلَّا قُرَشِيًّا أَوْ أَنْصَارِيًّا، فَإِنَّهُمْ أَصْحَابُ زَرْعٍ، وَأَمَّا نَحْنُ فَلَسْنَا بِأَصْحَابِ زَرْعٍ. فَضَحِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. [7519 - فتح: 5/ 27]

ذكر فيه حديث أبي هريرة أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَوْمًا يُحَدِّثُ، وَعِنْدَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ البَادِيَةِ:"أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ اسْتَأْذَنَ رَبَّهُ فِي الزَّرْعِ فَقَالَ لَهُ: أَلَسْتَ فِيمَا شِئْتَ؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَزْرَعَ. قَالَ: فَبَذَرَ فَبَادَرَ الطَّرْفَ نَبَاتُهُ وَاسْتِوَاؤُهُ وَاسْتِحْصَادُهُ، فَكَانَ أَمْثَالَ الجِبَالِ، فَيَقُولُ اللهُ تعالى: دُونَكَ يَا ابْنَ آدَمَ، فَإِنَّهُ لَا يُشْبِعُكَ شَيْءٌ". فَقَالَ الأَعْرَابِيُّ: وَاللهِ لَا تَجِدُهُ إِلَّا قُرَشِيًّا أَوْ أَنْصَارِيًّا، فَإِنَّهُمْ أَصْحَابُ زَرْعٍ، وَأَمَّا نَحْنُ فَلَسْنَا بِأَصْحَابِ زَرْعٍ. فَضَحِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.

أخرجه أبو يعلى في "مسنده" موقوفًا، وفيه:"فبذر حبه"

(1)

.

والحديث دال أنَّ كل ما اشتهي في الجنة من أعمال الدنيا ولذاتها فممكن فيها؛ لقوله تعالى {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ} [الزخرف: 71] والطرف بفتح الطاء وإسكان الراء هو امتداد لَحْظِ الإنسان حيث أدرك، وقيل: طرف العين: حركتها، أي: تحرك أجفانها.

(1)

لم أقف عليه.

ص: 297

و (البادية)

(1)

وفي رواية: (البدو) وهما بغير همز؛ لأنَّه من: بدا الرجل يبدو إذا خرج إلى البادية فنزلها، والاسم البداوة بفتح الباء وكسرها هذا هو المشهور، وحكي بدأ بالهمز يبدؤ وهو قليل.

وفيه: من لزم طريقة أو حالة من الخير أو الشر أنه يجوز وصفه بها، ولا حرج على واصفه بالشر إن لزم طريقته.

وفيه: ما جبل الله نفوس بني آدم عليه من الاستكثار والرغبة في متاع الدنيا؛ لأنَّ الله تعالى أغنى أهل الجنة عن نصب الدنيا وتعبها فقال تعالى: {وَقَالُوا الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الحَزَنَ} [فاطر: 34].

وقوله: ("دونك يا ابن آدم") فيه فضل القناعة والاقتصار على البلغة، وذم الشَّرَهِ والرغبة.

(1)

ورد بهامش الأصل: هذا كلام صاحبا "المطالع" ورقمه.

ص: 298

‌21 - باب مَا جَاءَ فِي الغَرْسِ

2349 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: إِنَّا كُنَّا نَفْرَحُ بِيَوْمِ الجُمُعَةِ، كَانَتْ لَنَا عَجُوزٌ تَأْخُذُ مِنْ أُصُولِ سِلْقٍ لَنَا كُنَّا نَغْرِسُهُ فِي أَرْبِعَائِنَا فَتَجْعَلُهُ فِي قِدْرٍ لَهَا فَتَجْعَلُ فِيهِ حَبَّاتٍ مِنْ شَعِيرٍ -لَا أَعْلَمُ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ فِيهِ شَحْمٌ وَلَا وَدَكٌ -، فَإِذَا صَلَّيْنَا الجُمُعَةَ زُرْنَاهَا فَقَرَّبَتْهُ إِلَيْنَا، فَكُنَّا نَفْرَحُ بِيَوْمِ الجُمُعَةِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ، وَمَا كُنَّا نَتَغَدَّى وَلَا نَقِيلُ إِلَّا بَعْدَ الجُمُعَةَ. [انظر: 938 - مسلم: 859 - فتح: 5/ 27]

2350 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: يَقُولُونَ: إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يُكْثِرُ الحَدِيثَ. وَاللهُ المَوْعِدُ، وَيَقُولُونَ: مَا لِلْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ لَا يُحَدِّثُونَ مِثْلَ أَحَادِيثِهِ. وَإِنَّ إِخْوَتِي مِنَ المُهَاجِرِينَ كَانَ يَشْغَلُهُمُ الصَّفْقُ بِالأَسْوَاقِ، وَإِنَّ إِخْوَتِي مِنَ الأَنْصَارِ كَانَ يَشْغَلُهُمْ عَمَلُ أَمْوَالِهِمْ، وَكُنْتُ امْرَأً مِسْكِينًا أَلْزَمُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى مِلْءِ بَطْنِي، فَأَحْضُرُ حِينَ يَغِيبُونَ وَأَعِي حِينَ يَنْسَوْنَ، وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا:"لَنْ يَبْسُطَ أَحَدٌ مِنْكُمْ ثَوْبَهُ حَتَّى أَقْضِيَ مَقَالَتِي هَذِهِ، ثُمَّ يَجْمَعَهُ إِلَى صَدْرِهِ، فَيَنْسَى مِنْ مَقَالَتِي شَيْئًا أَبَدًا". فَبَسَطْتُ نَمِرَةً لَيْسَ عَلَيَّ ثَوْبٌ غَيْرَهَا، حَتَّى قَضَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَقَالَتَهُ، ثُمَّ جَمَعْتُهَا إِلَى صَدْرِي، فَوَالَّذِي بَعَثَهُ بِالحَقِّ مَا نَسِيتُ مِنْ مَقَالَتِهِ تِلْكَ إِلَى يَوْمِي هَذَا، وَاللهِ لَوْلَا آيَتَانِ فِي كِتَابِ اللهِ مَا حَدَّثْتُكُمْ شَيْئًا أَبَدًا {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ} إِلَى قَوْلِهِ:{الرَّحِيمُ} [البقرة: 159 - 160][انظر: 118 - مسلم: 2492 - فتح: 5/ 28]

ذكر حديث سهل بن سعد: قَالَ: لنَفْرَح يَوْم الجُمُعَةِ، كَانَتْ لَنَا عَجُوز تَأْخُذُ مِنْ أصُولِ سِلْقٍ .. الحديث.

وحديث أبي هريرة: قَالَ: يَقُولُونَ: إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يُكْثِرُ الحَدِيثَ. والله المَوْعِدُ .. إلى آخره.

ص: 299

تقدَّما: الأول في الصلاة

(1)

، والثاني في البيع

(2)

. و (الموعد): بفتح الميم، أي: حسيب من يقول، وهناك يعلم صدقي ويجازيني.

وفيه: عمل الصحابة في الحرث والزرع بأيديهم وخدمة ذلك بأنفسهم، ألا ترى قول أبي هريرة: وإنَّ إخواني من الأنصار كان يشغلهم عمل أموالهم، وكذلك المرأة العجوز كانت تغرس السلق لرسول الله وأصحابه، ففي هذا أنَّ الامتهان في طلب المعاش للرجال والنساء من فعل الصالحين، وأنه لا عار فيه ولا نقيصة على أهل الفضل.

وفيه: إجابة المرأة الصالحة إلى الطعام.

وفيه: دليل على التهجير بالجمعة والمبادرة إليها عند أول الزوال.

وإنما كانوا يشتغلون بالغسل ومراعاة التهجير عن قائلتهم المعروفة في سائر الأيام، فلا يجدون السبيل إليها إلَّا بعد الصلاة، لا أنهم كانوا يصلونها قبل الزوال كما ظن بعضهم وخالف قوله تعالى:{أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78]

(3)

.

(1)

سلف برقم (938) باب: قول الله تعالى {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ} .

(2)

سلف في البيع برقم (2047) باب: ما جاء في قول الله تعالى {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ} وقد سلف قبل في العلم برقم (118) باب: حفظ العلم.

(3)

"شرح ابن بطال" 6/ 490 بتصرف.

ص: 300

42

كتاب المساقاة

ص: 301

بسم الله الرحمن الرحيم

‌42 - كتاب المساقاة

‌باب فِي الشُّرْبِ

وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَىْءٍ حَىٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} [الأنبياء: 30]. وَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68)} إلى قوله: {فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ} . [الواقعة: 68 - 70].

الأُجَاجُ: المُرُّ، المُزْنُ: السَّحَابُ. [فتح: 5/ 29]

الشرح:

(الشرب) بكسر الشين: النصيب والحظ من الماء، قاله ابن التين؛ قال: ومنْ ضبطه بضم الشين

(1)

أراد المصدر، وسبقه إلى ذلك أبو المعالي في "المنتهى" فقال: الشرب بالكسر: النصيب والحظ من

الماء، يقال: كم شرب أرضك، وفي المثل: آخرها شربًا أقلها شربًا

(2)

.

(1)

ورد بهامش الأصل: والضم والكسر في "المطالع"، ونقل الضم الأصيلي.

(2)

انظر: "جمهرة الأمثال" 1/ 81، "مجمع الأمثال" ص 43.

ص: 303

وأصله في سقي الماء لأنَّ آخر الإبل ترد وقد نزف الحوض، وقد سمع الكسائي عن العرب أقلها شربًا على الوجوه الثلاثة: يعني: الفتح، والضم، والكسر، قال: وسمعهم أيضًا يقولون: أعذب الله شربكم بالكسر، أي: ماءكم، وقيل: الشرب أيضًا وقت الشرب، وعن أبي عبيدة: الشرب بالفتح المصدر وبالضم والكسر

(1)

يقال: شرب يشرب شربًا.

بالحركات الثلاثة، وقرئ:(فشاربون شرب الهيم) بالوجوه الثلاث

(2)

.

وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30].

قال قتادة: مخلوق من الماء

(3)

، فإنْ قلت: قد رأينا مخلوقًا من الماء غير حي. قلت: أجاب عنه قطرب أنه لم يقل: لم يخلق من الماء إلَّا حيًّا، وقيل: معناه أنَّ كل حيوان أرضي لا يعيش إلَّا بالماء، وقال الربيع بن أنس: من الماء، أي: من النطفة

(4)

.

قال ابن بطال: أراد به حياة جميع الحيوان الذي يعيش في الماء. قال: ومن قرأ: {حَيًّا}

(5)

يدخل فيه الحيوان والجماد؛ لأنَّ الزرع والشجر لهما موت، إذا جفت ويبست، وحياتها: خضرتها ونضرتها.

(1)

"مجاز القرآن" 2/ 89.

(2)

ذكره العكبري في "التبيان" ص 738.

(3)

رواه الطبري في "تفسيره" 9/ 21.

(4)

رواه الربيع عن أبي العالية كما عند مجاهد في "تفسيره" 1/ 409.

(5)

ذكرها ابن الجوزي في "زاد المسير" 5/ 348 وقال: قرأ بها ابن أبي عبلة، ومعاذ القارئ، وحميد بن قيس.

ص: 304

والمزن: السحاب

(1)

كما سلف قاله مجاهد وقتادة

(2)

، والقطعة منها: مزنة، ويقال للهلال: ابن مزنة. و (الأجاج): المرّ كذا فسره البخاري، وهو قول أبي عبيدة

(3)

، وفي بعض النسخ بدله: الملح، وقال ابن سيده: الأجاج: الملح، وقيل: الشديد المرارة، وقيل: الشديد الحرارة

(4)

، وقال ابن فارس: هو الملح، ويقال: الحار

(5)

.

عدَّد الله تعالى على عباده نعمه في خلقه لهم الماء عذبًا يتلذذون بشربه وتنمو به ثمارهم، ولو شاء لجعله مالحًا فلا يشربون منه ولا ينتفعون به في زروعهم وثمارهم {فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ} [الواقعة: 70]

أي: فهلا تشكرون الله على ما فعل بكم.

(1)

"شرح ابن بطال" 6/ 491.

(2)

"تفسير مجاهد" 2/ 651، ورواهما الطبري في "تفسيره" 11/ 655.

(3)

ذكر نحوه في "مجاز القرآن" 2/ 77.

(4)

"المحكم" 7/ 330 - 331.

(5)

"مقاييس اللغة" ص 26 (أجَّ).

ص: 305

‌1 - باب فِي الشُّرْبِ، وَمَنْ رَأَى

(1)

صَدَقَةَ المَاءِ وَهِبَتَهُ وَوَصِيَّتَهُ جَائِزَةً، مَقْسُومًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَقْسُومٍ

(فراتًا: عذبًا، ثجَّاجًا: منصبًا)

(2)

وَقَالَ عُثْمَانُ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ يَشْتَرِي بِئْرَ رُومَةَ فَيَكُونُ دَلْوُهُ فِيهَا كَدِلَاءِ المُسْلِمِينَ". فَاشْتَرَاهَا عُثْمَانُ.

2351 -

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه قَالَ: أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَدَحٍ فَشَرِبَ مِنْهُ، وَعَنْ يَمِينِهِ غُلَامٌ أَصْغَرُ القَوْمِ، وَالأَشْيَاخُ عَنْ يَسَارِهِ، فَقَالَ:"يَا غُلَامُ، أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَهُ الأَشْيَاخَ؟ ". قَالَ: مَا كُنْتُ لأُوثِرَ بِفَضْلِي مِنْكَ أَحَدًا يَا رَسُولَ اللهِ. فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ. [2366، 2451، 2602، 2605، 5620 - مسلم: 2030 - فتح: 5/ 29]

2352 -

حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّهَا حُلِبَتْ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم شَاةٌ دَاجِنٌ وَهْيَ فِي دَارِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَشِيبَ لَبَنُهَا بِمَاءٍ مِنَ البِئْرِ التِي فِي دَارِ أَنَسٍ، فَأَعْطَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم القَدَحَ

(1)

ورد بهامش الأصل: من خط الشيخ في ابن بطال: باب من رأى إلى آخره، انتهى وكذا في نسختي أنا.

(2)

كذا في الأصل، وعلم عليها (لا .. إلى).

قلت: وقوله: (ثجَّاجًا منصبًا) من رواية أبي ذر، وقوله:(فراتًا: عذبًا) من رواية المستملي؛ كلاهما في الباب السابق، كذا في هامش اليونينية 3/ 109. وهذِه العلامة أشار ابن الصلاح رحمه الله إلى أنها تحسن لما يصح في رواية ويسقط في أخرى، النوع الخامس والعشرون، من "المقدمة".

قلت: وكذا شرحه هنا المصنف وكان حقه الباب السابق أن يشرحه في السابق. والله أعلم.

ص: 306

فَشَرِبَ مِنْهُ، حَتَّى إِذَا نَزَعَ القَدَحَ مِنْ فِيهِ، وَعَلَى يَسَارِهِ أَبُو بَكْرٍ، وَعَنْ يَمِينِهِ أَعْرَابِيٌّ، فَقَالَ عُمَرُ، وَخَافَ أَنْ يُعْطِيَهُ الأَعْرَابِيَّ: أَعْطِ أَبَا بَكْرٍ يَا رَسُولَ اللهِ عِنْدَكَ. فَأَعْطَاهُ الأَعْرَابِيَّ الذِي عَلَى يَمِينِهِ، ثُمَّ قَالَ:"الأَيْمَنَ فَالأَيْمَنَ". [2571، 5612، 5619 - مسلم: 2029 - فتح: 5/ 30]

ثم ساق حديث أبي حازم عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَدَحٍ فَشَرِبَ مِنْهُ، وَعَنْ يَمِينِهِ غُلَامٌ أَصْغَرُ القَوْمِ، وَالأَشْيَاخُ عَنْ يَسَارِهِ، فَقَالَ:"يَا غُلَامُ، أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِي الأَشْيَاخَ؟ ". قَالَ: مَا كُنْتُ لأُوثِرَ بِفَضْلِي مِنْكَ أَحَدًا يَا رَسُولَ اللهِ. فَأعْطَاهُ إِياهُ.

وحديث أنس أَنَّهَا حُلِبَتْ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم شَاةٌ دَاجِنٌ وَهْيَ فِي دَارِ أَنَسِ ابْنِ مَالِكٍ، وَشِيبَ لَبَنُهَا بِمَاءٍ مِنَ البِئْرِ التِي فِي دَارِ أَنَسٍ، فَأَعْطَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم القَدَحَ فَشَرِبَ وشرب معه، حَتَّى إِذَا نَزَعَ القَدَحَ مِنْ فِيهِ، وَعَلَى يَسَارِهِ أَبُو بَكْرٍ، وَعَنْ يَمِينِهِ أَعْرَابِيٌّ، فَقَالَ عُمَرُ، وَخَافَ أَنْ يُعْطِيَهُ الأَعْرَابِيَّ: أَعْطِ أَبَا بَكْرٍ يَا رَسُولَ اللهِ عِنْدَكَ. فَأَعْطَى الأَعْرَابِيَّ الذِي

عَلَى يَمِينِهِ، ثُمّ قَالَ:"الأَيْمَنَ فَالأَيْمَنَ".

الشرح:

قوله: (فراتًا: عذبًا)، يُقال: ماءٌ فرات ومياه فرات، وقوله:(ثجاجًا) صبَّابًا، وقال مجاهد: منصبًا

(1)

كما ذكره في الأصل، وقيل: متدفقًا، وقيل: سيالًا، وهو متقارب.

والماء في الحقيقة منصب أو مصبوب.

وتعليق عثمان أسنده في باب: إذا وقف أرضًا أو بئرًا واشترط لنفسه مثل دِلَاء المسلمين فقال:

(1)

"تفسير مجاهد" 2/ 719 - 720.

ص: 307

وقال عبدان

(1)

: أخبرني أبي، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن أبي عبد الرحمن: أنَّ عثمان حين حوصر أشرف عليهم فقال: أنشدكم ولا أنشد إلَّا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ألستم تعلمون أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من حفر بئر رومة فله الجنة" فحفرتها، الحديث

(2)

.

وأسنده الإسماعيلي بلفظه من حديث أحمد بن سنان والقاسم بن محمد: ثنا عبدان عبد الله بن عثمان به. وأبو نعيم من حديث القاسم المروزي، ثنا عبدان فذكره، ولعل المراد بالحفر الشراء. وفي الترمذي من حديث أبي عبد الرحمن السُلمي: لما حصر عثمان، الحديث: أذكركم بالله، هل تعلمون أن رومة لم يكن يشرب منها أحد إلَّا بثمن فابتعتها فجعلتها للغني والفقير وابن السبيل؟ قالوا: اللهم نعم. ثم قال: حسن صحيح غريب

(3)

.

ثم رواه من حديث ثمامة بن حزن القشيري: شهدت الدار حين أشرف عليهم عثمان فقال: ائتوني بصاحبيكم اللذين ألَّباكم علي؟ فجيء بهما، كأنهما جملان أو كأنهما حماران، فقال: أنشدكم بالله والإِسلام، هل تعلمون أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وليس بها ماء يستعذب غير بئر رومة؟ فقال:"من يشتريها فيجعل دلوه فيها مع دلاء المسلمين بخير له منها في الجنة؟ ". فاشتريتها من صلب مالي .. الحديث. ثم قال: حسن، وقد رُوي من غير وجه عن عثمان

(4)

.

(1)

ورد بهامش الأصل: هذا محمول على أنه حدث به في المذاكرة وأخذ من هذِه العبارة، (قال لي) ويسميه قوم تعليقًا.

(2)

سيأتي برقم (2778) كتاب: الوصايا.

(3)

"سنن الترمذي"(3699).

(4)

الترمذي (3703).

ص: 308

ورواه النسائي من طرق أيضًا بلفظ: "من يشتري بئر رومة؟ "

(1)

.

قال ابن بطال: ورواه معتمر، عن أبي نضرة عن أبي سعيد -مولى ابن أسد- عنه

(2)

.

وزعم الكلبي أنه كان قبل أن يشتريها عثمان يُشترى منها كل قربة بدرهم.

وزعم الإسماعيلي أنَّ البخاري بوَّب: دلوه فيها كدِلاء المسلمين

(3)

، قال: ولم يذكر فيه حديثًا وكذا قاله ابن المنير

(4)

، وقد علمت أنَّه مذكور هنا.

قال ابن التين: وفي رواية أخرى: "وله الجنة" وقد أسلفتها لك، ثم نقل عن الشيخ أبي الحسن: أنَّ أصل آبار الصدقة التي تبنى في الطريق للمشقة فكل بئر للصدقة، فإنما دلوه مع دلاء المسلمين.

وأمَّا ابن بطال فذكره في الباب قبله أيضًا.

وقال: بئر رومة كانت ليهودي، وكان يقفل عليها بقفل ويغيب، فيأتي المسلمون ليشربوا منها الماء فلا يجدونه حاضرًا فيرجعون بغير ماء، فشكا المسلمون ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم من يشتريها ويبيحها للمسلمين،

(1)

النسائي 6/ 234 - 237 وقال الألباني في "الإرواء"(1594) حسن. وقد علقه البخاري بصيغة الجزم.

(2)

"شرح ابن بطال" 8/ 203.

قلت: هكذا ذكره عن ابن بطال فقال عن معتمر ووقع في المطبوع منه: معمر بن سليمان عن أبي نضرة وهو خطأ؛ لأن معتمرًا إنما رواه عن أبيه -سليمان التيمي- عن أبي نضرة كما عند ابن خزيمة في "صحيحه" 4/ 122 (2493) وابن حبان في "صحيحه" 15/ 357.

(3)

ورد بهامش الأصل ما نصه: يعني الباب الآتي في الوقف.

(4)

"المتواري" ص 264. وليس فيه ما ذكره المصنف.

ص: 309

ويكون نصيبه فيها كنصيب أحدهم وله الجنة فاشتراها عثمان.

قال: وهو حجة لمالك ومن وافقه أنه لا بأس ببيع الآبار والعيون في الحضر إذا احتفرها لنفسه لا للصدقة، فلا بأس ببيع مائها، وكره بيع ما حفر من الآبار في الصحراء من غير أنْ يحرِّمه

(1)

. وقوله: "فيكون دلوه فيها كدلاء المسلمين" يعني: يوقفها ويكون حظه منها كحظ غيره من غير مزية، وظاهره أنَّ له الانتفاع إذا شرطه، قال: ولا شك أنَّه إذا جعلها للسقاة أنَّ له الشرب إن لم يشرطه، لدخوله في جملتهم، بخلاف العقار، فلابد في الانتفاع به من الشرط، أنْ يكون نصيبه فيه كنصيب أحد المسلمين، وإلَّا فلا ينتفع به؛ لأنه أخرجه لله فلا رجوع فيه، قال: والفرق بين البئر والعقار: أنَّ سائر الغلات تنقطع في أوقات ما، وإذا أخذ منها المحبس فقد حرم ذلك الشيء أهل الحاجة، وانفرد به وماء الآبار لا ينقطع أبدًا لأنها نابعة، فلا يحرم أحدًا من أهل الحاجة ما أخذ منها محبسها، وسيأتي ما يجوز انتفاع المحبس به من حبسه في الوقف في باب: هل ينتفع الواقف (بوقفه)

(2)

.

وحديث سهل بن سعد، روى (أبو حازم)

(3)

هذا الحديث عن أبيه؛ فقال فيه: وعن يساره أبو بكر، وذكر أبي بكر فيه عندهم خطأ وإنما هو محفوظ من حديث الزهري

(4)

.

(1)

انظر "المدونة" 3/ 289.

(2)

في الأصل: بنفسه والمثبت هو الصواب، وانظر:"شرح ابن بطال" 6/ 491 - 493.

(3)

كذا بالأصل، وذكر ابن عبد البر في "التمهيد" 21/ 121 أن اسمه ابن أبي حازم، حيث قال: روى ابن أبي حازم هذا الحديث عن أبيه، فقال فيه: وعن يساره أبو بكر، ثم ساق معنى حديث مالك سواء. اهـ.

(4)

قاله ابن عبد البر في "التمهد" 21/ 121. ويقصد بحديث ابن شهاب الحديث الذي رواه مالك في "موطئه" عنه عن أنس بن مالك.

ص: 310

(و)

(1)

عن (عمرو بن حرملة)

(2)

، عن ابن عباس قال: دخلت أنا وخالد بن الوليد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على ميمونة، فجاءتنا بإناء من لبن فشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا معه، وخالد عن شماله فقال لي:"الشربة لك وإن شئت آثرت خالدًا" فقال: ما كنت لأوثر بسؤرك أحدًا ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أطعمه الله طعامًا فليقل: اللهم بارك لنا فيه وأطعمنا خيرًا منه" ثم ذكر مثله في اللبن بزيادة: "وزدنا منه"

(3)

.

وروي من طريق إسماعيل بن جعفر: أخبرني أبو حازم، عن سهل بن سعد قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدح من لبن وغلام عن يمينه والأشياخ أمامه وعن يساره

الحديث

(4)

.

والغلام هنا هو: ابن عباس كما سلف، والأشياخ: خالد بن الوليد أو منهم خالد.

وقال ابن بطال: يقال إنَّ الغلام هو الفضل بن العباس

(5)

، وكذا حكاه ابن التين، وقال في باب: من رأى أنَّ صاحب الحوض أحق بمائه: هو عبد الله بن عباس، وقيل: الفضل.

(1)

زيادة يقتضيها السياق.

(2)

كذا بالأصل، والصواب عمر بن حرملة كما في "تهذيب الكمال" 21/ 296، ورواه الترمذي فقال: عمر بن أبي حرملة، وعقب الرواية، قال: وقد روى بعضهم هذا الحديث عن علي بن زيد، فقال: عن عمر بن حرملة، وقال بعضهم: عمرو بن حرملة ولا يصح.

(3)

رواه أبو داود (3730)، والترمذي (3455)، وقال الترمذي: حديث حسن.

وحسنه الألباني في "السلسلة الصحيحة "(2320).

(4)

رواه ابن عبد البر في "التمهيد" 21/ 122.

(5)

"شرح ابن بطال" 6/ 494.

ص: 311

قال ابن عبد البر: وروى الحميدي عن سفيان، عن على بن زيد، عن ابن حرملة، عن ابن عباس قال: دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على خالتي ميمونة ومعنا خالد بن الوليد (فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم)

(1)

باناء فيه لبن .. الحديث

(2)

.

وحديث أنس أخرجه مسلم والأربعة

(3)

.

وقال الإسماعيلي بدل (فقال عمر): (فقال عبد الرحمن بن عوف: أعط أبا بكر، فأعطاه لأعرابي).

ولمسلم: عن عبد الله بن بسر قال: نزل بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرب أبي إليه شرابًا فشربه، ثم ناوله الذي عن يمينه

(4)

.

وقال أبو عمر: رواه ابن مهدي، عن مالك عن ابن شهاب عنه بزيادة:"الأيمن فالأيمن"

(5)

. فمضت السنة قال: وفيه دلالة أنَّ من وجب له شيء من الأشياء لم يدفع عنه ولم يتسور عليه صغيرًا كان

أو كبيرًا إذا كان ممن يجوز إذنه.

وفيه أيضًا: أنَّ الجلساء شركاء في الهدية، وذلك على جهة الأدب والمروءة والفضل والإخوة لا على الوجوب؛ لإجماعهم على أنَّ

(1)

ورد فوق العبارة: يعني: عبد الله بن الزبير.

(2)

"التمهيد" 21/ 123.

(3)

مسلم (2029) كتاب: الأشربة، باب: استحباب إدارة الماء واللبن ونحوهما عن يمين المبتدئ، وأبو داود (3726)، والترمذي (1893)، وابن ماجه (3425)، والنسائي في "الكبرى" 4/ 193.

(4)

مسلم (2042) كتاب: الأشربة، باب: استحباب وضع النوى خارج التمر واستحباب دعاء الضيف لأهل الطعام وطلب الدعاء من الضيف الصالح وإجابته لذلك.

(5)

"التمهيد" 6/ 152.

ص: 312

المطالبة بذلك غير واجبة لأحد.

قال: وقد روي أنه عليه السلام قال: "جلساؤكم شركاؤكم في الهدية"

(1)

بإسناد فيه لين

(2)

، وقال الخطابي: العادة من الملوك والرؤساء في الجاهلية أيضًا تقديم الأيمن في مناولة الطيب والتحف وغيرهما.

قال عمرو بن كلثوم:

صددت الكأس عنا أمَّ عمرو

وكان الكأس مجراها اليمينا

(3)

.

ويشبه أن يكون المعنى فيه أن اليمين مفضلة على اليسار مقدمة عليها وقد أمرنا بالشرب بها والمعاطاة دون اليسار، وللعادة خشى عمر أن يناوله الأعرابي ويدع الصديق فاستحق الأعرابي دون الصديق ذلك لذلك كالشفعة للأقرب ونحوه.

وفي إعرابها وجهان: نصب النون بإضمار ناولوا الأيمن، ورفعها بالابتداء أي: الأيمن أولى.

فإذا قلت: استأذن الغلام ولم يستأذن الأعرابي.

قلت: كان من المشيخة أيضًا ولا علم له بالشرائع بعد، فلم يستأذنه استئلافًا وتشريفًا له ولم يجعل للغلام ذلك؛ لأنه من أقربائه، وسنه دون

(1)

ورد بهامش الأصل ما نصه: قلت: قد علقه البخاري في الهدية عن ابن عباس بصيغة تمريض بلفظ: ويذكر عن ابن عباس: أن جلساءه شركاؤه، ولم يصح. انتهى.

(2)

لم أقف عليه مسندًا بهذا اللفظ وروى البيهقي نحوه في "السنن" 6/ 183. وعلقه البخاري في "صحيحه" بصيغة التمريض قبل حديث (2609)، وقال: ولم يصح.

وذكره الألباني في "الضعيفة"(5254): وقال: ضعيف، روي عن ابن عباس وعائشة والحسن بن علي: وسيأتي في الشرح عند حديث (5613)، انظر:"التمهيد" 21/ 123 - 124.

(3)

"أعلام الحديث" 2/ 1161 - 1162.

ص: 313

سن الأشياخ الذين كانوا على يساره، فاستأذن فيه أن يعطيهم؛ لئلا يوحشهم بإعطاء ابن عمه وهو صبي ويقدمه عليهم حتى أعلمهم أن ذلك يجب له بالتيامن في الجلوس.

وهل تجري هذِه السنة في غير المشروب كالملبوس والمأكول وغيرهما من جميع الأشياء؟ قال المهلب وغيره: نعم.

وعن مالك أن ذلك في الشراب خاصة. قال أبو عمر: ولا يصح ذلك عنه

(1)

، قال عياض في بعض الروايات: عمك أو ابن عمك أتأذن لي

(2)

. وعند أصحابنا لا يجوز الإيثار بالقرب، وإنما الإيثار المحمود ما كان من حظ النفوس دون الطاعات، فيكره أن يؤثر غيره بموضعه من الصف الأول وكذا نظائره

(3)

.

وفيه: دلالة أن من قدم إليه شيء يأكله أو يشربه فليس عليه أن يسأل من أين هو وما أصله إذا علم طيب مكسب صاحبه في الأغلب.

وفيه: إجازة خلط اللبن بالماء لمن أراد شربه ولم يرد بيعه، وأن من سبق من مجلس العالم إلى مكان كان أولى به من غيره كائنًا من كان، ولا يقام أحد من مجلس جلسه لأحد وإن كان أفضل منه. فلو كان من

(1)

"التمهيد" 6/ 156 (تنبيه) ذكر الحافظ في "الفتح" 5/ 31: أن البعض ألحق بتقديم الأيمن في المشروب تقديمه في المأكول قال: ونسب لمالك. اهـ. بتصرف. قلت: بل قال القرطبي في "المفهم" 5/ 291: قال مالك: إن ذلك في الشراب خاصة.

وقال القاضي عياض في "إكمال المعلم" 6/ 499: يشبه أن يكون قول مالك: إن ذلك في الشراب خاصة -يعني أن فيه جاءت السنة مثبتة بتقديم الأيمن فالأيمن- وغير ذلك إنما هو بالاجتهاد والقياس عليه، والبداية باليمين إنما جاءت في فعل الإنسان بنفسه وتقديمه يمينه من أعضائه في أعماله على شماله. اهـ.

(2)

"إكمال المعلم" 6/ 497.

(3)

"مسلم بشرح النووي" 13/ 201.

ص: 314

على اليمين كافرًا كان من أدب جليسه إيثاره على من كان على يساره.

فإن قلت ما وجه دخول حديث سهل هنا؟

قلت: بينه ابن المنير وقال: وجه دخوله أن الماء يملك ولهذا استأذن الشارع بعض الشركاء فيه، ورتب قسمته يمنة ويسرة ولو كان مباحًا لم يدخله ملك ولا ترتب قسمته.

والحديث الثاني مطابق لقوله "شيب بماء" والاستدلال به ضعيف.

ولعل هذا الترتيب؛ لأن اللبن هو الذي ملكه لا الماء

(1)

.

قال الداودي: وإنما أتى هنا بهذا الباب لأن الأرض وما عليها من النبات إنما جعل لبني آدم يكفيهم أحياء وأمواتًا وجعل فيها معايش لهم.

قلت: وجميع ما يوهب للجماعة من الأشياء كلها هم فيه متشاركون وحقوقهم فيه متساوية لا فضل لأحد منهم على صاحبه، وإنما جازت هبة الماء واللبن غير مقسومين؛ لقلة التشاح فيهما ولأن العادة قد جرت من الجماعة إذا أكلت أو شربت معًا أنها تجري في ذلك على المكارمة، ولا يتقصى بعضهم على بعض؛ لأن ذلك إنما يوضع للناس قدر نهمتهم فمنهم من يكفيه اليسير، ومنهم من يكفيه أكثر منه، (إلا)

(2)

من استعمل أدب المؤاكلة والمشاربة أولى، وأن لا يستأثر أحد منهم بأكثر من نصيب صاحبه. ألا ترى أن مالكًا

(3)

قال: لا يقرن أحد بين تمرتين إلا أن يستأذن أصحابه في ذلك؛ لما كان التمر مما يتشاح فيه أكثر من التشاح من الماء واللبن

(4)

.

(1)

"المتواري" ص 264.

(2)

في "شرح ابن بطال": إلا أن.

(3)

ورد بهامش الأصل: ما نقله هنا عن مالك جاء في حديث النهي عن الإقران، وإلى آخره إلا أن يستأذن الرجل أخاه. والظاهر أنه مدرج من قول ابن عمر.

(4)

"شرح ابن بطال" 6/ 494.

ص: 315

فائدة:

الداجن: الشاة المقيمة في الدار لا تخرج إلى المرعى. من الشاء، وكذلك الوحش والطير وغير ذلك إذا ألفت البيت. وشيب: خلط وإذا خلط أطفأ ما فيه من حرارة

(1)

.

(1)

ورد بهامش الأصل: ثم بلغ في السادس بعد الستين، كتبه مؤلفه.

ص: 316

‌2 - باب مَنْ قَالَ: إِنَّ صَاحِبَ المَاءِ أَحَقُّ بِالمَاءِ حَتَّى يَرْوَى

لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "لا يُمْنَعُ فَضْلُ المَاءِ".

2353 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَا يُمْنَعُ فَضْلُ المَاءِ لِيُمْنَعَ بِهِ الكَلأُ". [2354، 6962 - مسلم: 1566 - فتح: 5/ 31]

2354 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنِ ابْنِ المُسَيَّبِ وَأَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَا تَمْنَعُوا فَضْلَ المَاءِ لِتَمْنَعُوا بِهِ فَضْلَ الكَلإِ". [انظر: 2353 - مسلم: 1566 - فتح: 5/ 31]

ثم ساق من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: "لَا يُمْنَعُ فَضْلُ المَاءِ لِيُمْنَعَ بِهِ الكَلأُ".

ثم ساق من حديثه أيضًا

(1)

بلفظ: "لَا تَمْنَعُوا فَضْلَ المَاءِ لِتَمْنَعُوا بِهِ الكَلأ".

هذا الحديث أخرجه مسلم والأربعة

(2)

، وفي النهي عن بيع الماء حديث إياس بن عبدٍ المزني، صححه الترمذي

(3)

.

وفي مسلم عن جابر: نهى عن بيع فضل الماء

(4)

، زاد الحاكم

(1)

ورد بهامش الأصل: من طريق غير الطريق الأولى.

(2)

رواه مسلم (1566) كتاب: المساقاة، باب: تحريم بيع فضل الماء الذي يكون بالفلاة

، وأبو داود (3473)، والترمذي (1272)، وابن ماجه (2478)، والنسائي في "الكبرى" 3/ 407.

(3)

الترمذي (1271)، وصححه الألباني في "صحيح الترمذي"(1021).

(4)

مسلم (1565) كتاب: المساقاة، باب: تحريم بيع فضل الماء

ص: 317

صحيحًا، وأن يبيع الرجل أرضه وماءه

(1)

.

وفي أبي داود من حديث رجل من المهاجرين: غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثًا أسمعه يقول: "الناس شركاء في ثلاث في الكلأ والماء والنار"

(2)

، وفي إسناده حبان

(3)

بن زيد، وفيه جهالة.

(1)

"المستدرك" 2/ 44.

(2)

رواه أبو داود (3477) من طريق ابن الجعد، عن حريز بن عثمان عن حبان بن زيد، عن رجل من قرن، ثم رواه من طريق آخر عن حريز بن عثمان وفيه: عن رجل من المهاجرين بلفظ: "المسلمون شركاء .. " الحديث.

قال عبد الحق في "أحكامه" 3/ 298: حبان بن زيد لا أعلم روى عنه إلا حريز ابن عثمان وقد قيل فيه مجهول، وفي "علل ابن أبي حاتم" 1/ 322 - 323: سألت أبي عن حديث أبي عثمان عن أبي خداش قال: كنا في غزاة فنزل الناس منزلًا فقطع الناس الطريق ومدوا الحبال على الكلأ فلما رأى ما صنعوا قال: سبحان الله! لقد غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوات فسمعته يقول: "الناس شركاء في ثلاث الماء والكلأ والنار". قال أبي: أبو عثمان هو عندي حريز بن عثمان، وأبو خداش لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم إنما حكى عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقال المناوي: رمز لحسنه ولم بسم الرجل ولا يضر، فإنه صحابي وهم عدول. "فيض القدير" 6/ 353.

وقال الحافظ في "التلخيص" 3/ 65: سماه أبو داود في روايته: حبان بن زيد وهو الشرعبي، وهو تابعي معروف. وفهم المناوي من قول الحافظ أن الحديث مرسل. وتعقبه الألباني في "الإرواء" 6/ 8 فقال: يعني -فهو- ليس بصحابي ولا يعني أن الحديث مرسل، كما فسر كلامه به المناوي، في "فيض القدير"، كيف وهو قد رواه -في جميع الطرق عنه- عن الرجل؟ وهو صحابي؛ فالحديث صحيح.

(3)

ورد بهامش الأصل ما نصه: قال الذهبي في ترجمته: شيخ، وهو موثق في الدرجة الرابعة على ما بعده في الطبراني، وهو في الدرجة الثالثة عند ابن أبي حاتم، وقد اقتصر عليها، وقال: هو بالمنزلة التي قبلها يكتب حديثه وينظر فيه إلا أنه دونها.

ص: 318

وفيه: [عن]

(1)

والد بهيسة: "لا يحل منع الماء والملح"

(2)

.

وأخرج الأول ابن عدي من حديث ابن عباس، ورده بعبد الله بن خراش

(3)

، وللحاكم وقال: صحيح الإسناد من حديث عائشة: "لا يمنع نقع البئر، وهو الرهو"، قال عبد الرحمن بن أبي الرحال، عن أبيه: الرهو: أن تكون البئر بين شركاء فيها الماء، فيكون للرجل فيها فضل فلا يمنع صاحبه

(4)

.

وقال ابن بريدة: منع الماء بعد الري من الكبائر، ذكره يحيى في "خراجه"

(5)

ولا خلاف بين العلماء أنَّ صاحب الماء أحق بالماء حتى يروى؛ لأنه عليه السلام إنما نهى عن منع فضل الماء، فأمَّا من لا يفضل له

(1)

زيادة يقتضيها السياق.

(2)

رواه أبو داود (3476)، وأحمد 3/ 480 والبيهقي 6/ 150، من طريق سيار بن منظور عن أبيه عن امرأة يقال بهيسة عن أبيها به.

قال عبد الحق في "أحكامه" 3/ 299: بهيسة مجهولة وكذلك الذي قبلها وصدقه ابن القطان في "بيان الوهم والإبهام" 3/ 262 ثم قال: بقى عليه أن يبين أن منظورًا أيضًا لا تعرف حاله وكذلك أيضًا أبوها فاعلم ذلك.

وقال الحافظ في "التلخيص" 3/ 65: وأعله عبد الحق وابن القطان بأن بهيسة لا تعرف، لكن ذكرها ابن حبان وغيره في الصحابة، ولكن الحافظ تعقب قول ابن حبان في "تهذيب التهذيب" 4/ 666؛ فقال: وقال ابن القطان: قال عبد الحق: مجهولة، وهي كذلك. وضعفه الألباني في "الإرواء" (1552)؛ وقال: وهذا سند ضعيف؛ سيار بن منظور وبهيسة مجهولان لا يعرفان.

(3)

أخرجه ابن عدي في "الكامل" 5/ 348 - 349؛ وقال: وعامة ما يرويه غير محفوظ، وقال الحافظ في "التلخيص" 3/ 65: وفيه عبد الله بن خراش متروك.

وقال البوصيري في "الزوائد": هذا إسناد ضعيف؛ عبد الله بن خراش، ضعفه أبو زرعة والبخاري والنسائي وابن حبان وغيرهم.

(4)

"المستدرك" 2/ 61 - 62.

(5)

"الخراج" ص 102 (317).

ص: 319

ماء فلا يدخل في هذا النهي؛ لأنَّ صاحب الشيء أولى به.

وتأويل المنع عند مالك في "المدونة" وغيره معناه: في آبار الماشية في الصحراء يحفرها المرء ويقربها كلأ أي: مباح، فإذا منع الماء اختص بالكلأ فأمر أن لا يمنع فضل الماء لئلا يكون مانعًا للكلأ

(1)

.

والنهي فيه على التحريم عند مالك

(2)

والأوزاعي، ونقله الخطابي

(3)

وابن التين عن الشافعي، واستحبه بعضهم وحمله على الندب، والأصح عندنا أنَّه يجب بذله للماشية

(4)

لا للزرع

(5)

(6)

.

وعند المالكية إذا أجبر هل يأخذه بالقيمة أم لا؟

قولان سببهما معارضة عموم النهي عن بيع فضل الماء لأصل (الملكية)

(7)

، وقياس الماء على الطعام إذا احتاج إليه.

قال القاضي في "إشرافه" في حافر البئر في الموات: لا يجوز له منع ما زاد على قدر حاجته لغيره بغير عوض، وقال قوم: يلزمه بالعوض.

(1)

انظر: "المدونة" 4/ 374.

(2)

"المنتقى" 6/ 35؛ وقال الباجي: فظاهر ما في المدونة أنه على الكراهية، وظاهر ما في "المجموعة التحريم"، وقال ابن بطال: وكره مالك منع ما عمل من ذلك في الصحاري من غير أن يحرمه. اهـ. في "شرحه" 6/ 495.

(3)

"أعلام الحديث" 2/ 1164 وذكر فيه أن النهي في هذا على التحريم عند مالك والأوزاعي والشافعي. وانظر: "طرح التثريب" 6/ 180.

(4)

ورد بهامش الأصل: على الصحيح.

(5)

انظر: "مختصر المزني على الأم" 3/ 114 وفيه قال الشافعي: وليس له منع الماشية من فضل مائه وله أن يمنع ما يسقى به الزرع أو الشجر إلا بإذنه. وانظر "الحاوي الكبير" 7/ 507 - 508، و"العزيز" 6/ 240.

(6)

ورد بهامش الأصل: وفي الزرع وجه.

(7)

وفي الأصل: (المكية) والصحيح ما أثبته.

ص: 320

أمَّا حافرها في ملكه فله منع فضله، وكره مالك منع ما عمل من ذلك في الصحاري من غير أنْ يحرمه، قال: ويكون أحق بمائها حتى يروي ويكون للناس ما فضل إلَّا من مرَّ بهم لشفاههم ودوابهم، فإنهم لا يمنعون كما يمنع من سواهم

(1)

.

وقال الكوفيون: له أن يمنع من دخول أرضه وأخذ مائه إلَّا أن يكون لشفاههم وحيوانهم ماء فيسقيهم، وليس عليه سقي زرعهم

(2)

.

وقال عيسى بن دينار في تفسير قوله عليه السلام: "لا يمنع نقع بئر" يقول: من كان له جار انقطع ماؤه، وله عليه زرع أو أصل فلم يجد ما يسقي به زرعه أو حائطه وله بئر فيها فضل عن سقي زرعه أو حائطه فلا يمنع جاره أنْ يسقي بفضل مائه، قلت: أفنحكم عليه بذلك؟ قال: لا، وكان يؤمر

بذلك، فإن أبي منه لم يقض عليه

(3)

.

وقال ابن القاسم: يقضي بذلك عليه لجاره بالثمن

(4)

.

وقال مالك: بغير ثمن

(5)

.

قال عيسى: فإن باعه فجاره أولى به

(6)

.

وفيه من الفقه:

سد الذرائع؛ لأنه إذا منعه منع الكلأ.

وقال الكوفيون: لا تجوز إجارة المراعي ولا بيعها، ولا يملك

(1)

انظر: "المدونة" 3/ 289.

(2)

"بدائع الصنائع" 6/ 189، "الهداية" 4/ 441.

(3)

انظر: "المنتقى" 6/ 40 بتصرف.

(4)

انظر: "المدونة" 4/ 374.

(5)

المرجع السابق.

(6)

انظر: "المنتقى" 6/ 40.

ص: 321

الكلأ صاحب الأرض حتى يأخذه فيحوزه

(1)

وهو قول الشافعي

(2)

.

وقال مالك: لا بأس أن يبيع مراعي أرضه سنة واحدة، ولا يبيعها سنتين ولا ثلاثا، ولا يبيعها حتى تطيب وتبلغ الخصب إلى أن يرعى

(3)

.

وقال الثوري: لا بأس أن يحمي الكلأ للبيع والشجر للحطب أو البيع

(4)

.

وقوله: (ليمنع به الكلأ)، هذِه اللام وإن سماها النحويون لام كي فهي لبيان العاقبة، كما قال تعالى:{فَالتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8] وفي حكم الكلأ حجة لمالك في القول بسد الذرائع

(5)

، وخالفه الشافعي وجماعة

(6)

.

والكلا: بالفتح مخفف من الكلأ المهموز، وهو اسم يقع على النبات كله أخضره ويابسه.

قال في "المحكم": وهو اسم للنوع ولا واحد له

(7)

.

وقال الداودي: هو الحشيش.

(1)

انظر: "بدائع الصنائع" 4/ 175 - 176، "فتح القدير" 6/ 418، و"تبيين الحقائق" 4/ 48.

(2)

انظر: "طرح التثريب" 6/ 183، وقال أبو زرعة: وحكى ابن بطال عن الكوفيين والشافعي: أن صاحب الأرض لا يملك الكلأ حتى يأخذه فيحوزه، وما حكاه عن الشافعي مردود. اهـ.

(3)

انظر: "المدونة" 3/ 474.

(4)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 3/ 139.

(5)

"المنتقى" 6/ 37.

(6)

"الأم" 4/ 51، تكلمة "المجموع" 10/ 147 - 148.

(7)

"المحكم" 7/ 66.

ص: 322

وقال ابن فارس: الكلأ: العشب

(1)

، والعشب: الكلأ أول الربيع، لا يقال حشيش حتى يهيج، وإنما الحشيش: النبات اليابس.

وقال الترمذي: العمل على هذا عند أهل العلم كرهوا بيع الماء، وهو قول ابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق، وقد رخص قوم في بيع الماء منهم: الحسن

(2)

، ومذهبنا أنَّ من نبع في ملكه ماء صار مملوكًا له، وأبعد من قال: لا يملكه، بل يكون أخص به

(3)

، أما إذا أخذه في إناء من المباح فيملكه على الصواب

(4)

، ونقل بعضهم الإجماع عليه

(5)

، ونهى عن بيع الماء عطاء، كما أسنده يحيى في "خراجه" قال: فذكرت ذلك لقتادة، فقال: إنما ذلك ماء نهر أو ماء بئر، وأمَّا من استسقى وباع فلا بأس به

(6)

.

وزعم القرطبي أنَّ السابق إلى الفهم من قوله: نهى عن بيع الماء، أنه الذي يشرب، وقد حمله بعض العلماء على ماء الفحل، وفيه بعد، قال: والأرجح إنْ شاء الله حمل الخبر على عمومه، فيجب بذل الفضل بغير قيمة، ويفرق بينه وبين الطعام بكثرته غالبًا، وعدم التشاح فيه، وقلة الطعام غالبًا ووجود المشاحة فيه

(7)

.

(1)

"مقاييس اللغة" ص 874 مادة: (كلأ)، و"مجمل اللغة" 3/ 769.

(2)

"سنن الترمذي" عقب حديث (1271) كتاب: البيوع، باب: ما جاء في بيع فضل الماء، "مصنف ابن أبي شيبة" 5/ 110.

(3)

هذا من قول النووي في "شرح صحيح مسلم" 10/ 228 - 229. وانظر: "الحاوي الكبير" 7/ 509، و"العزيز" 6/ 240.

(4)

انظر: "الحاوي الكبير" 7/ 508 - 509، "العزيز" 6/ 240.

(5)

وممن نقل الإجماع على ذلك النووي في "شرح مسلم" 10/ 228 - 229.

(6)

"الخراج" ص 109 (343).

(7)

انظر: "المفهم" 4/ 441.

ص: 323

‌3 - باب مَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي مِلْكِهِ لَمْ يَضْمَنْ

2355 -

حَدَّثَنَا مَحْمُودٌ، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللهِ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي حَصِينٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "المَعْدِنُ جُبَارٌ، وَالبِئْرُ جُبَارٌ، وَالعَجْمَاءُ جُبَارٌ، وَفِي الرِّكَازِ الخُمُسُ". [انظر: 1499 - مسلم: 1710 - فتح: 5/ 33]

ذكر فيه حديث أبي هريرة: "المَعْدِنُ جُبَارٌ، وَالبِئْرُ جُبَارٌ، وَالعَجْمَاءُ جُبَارٌ".

سلف في الزكاة من طريق آخر إلى أبي هريرة به

(1)

، وعبيد الله المذكور في إسناده هو: ابن موسى العبسي مولاهم. وأبو حصين هو: عثمان بن عاصم الأسدي.

زاد الإسماعيلي: "لا عدوى ولا طيرة ولا صفر ولا هامة" زاد الخطيب: "والرجل جبار" وقال: إنها مدرجة

(2)

.

واعترض ابن المنير. فقال: الحديث مطلق، والترجمة مقيدة بالملك، وإذا كان الحديث تحته صور: أحدها: الملك، وهو: أقعد الصور بسقوط الضمان، كان دخولها في الحديث محققًا، فاستقام الاستدلال

(3)

.

قلت: وأسلفنا هناك أن الجبار: الهدر الذي لا شيء فيه، والمعدن: ما يخرج منه تبر الذهب والفضة وغيرهما، ومعنى جبار البئر: إذا حفرها في موضع يسوغ له حفرها، وهو تأويل البخاري، وقيل: هو أن يستأجر من يحفر له بئرًا فتنهار عليه.

(1)

سلف برقم (1499) باب: في الركاز الخمس.

(2)

"الفصل للوصل المدرج في النقل" 2/ 723 - 730.

(3)

"المتواري" ص 264.

ص: 324

والعجماء: الدابة التي لا تنطق.

وفيه دليل على أبي حنيفة في قوله: إن المعدن: يسمى ركازًا

(1)

.

قال ابن بطال: اختلف العلماء في مسألة الباب، فقال مالك: من حفر بئرًا أو أوقف دابة في موضع يجوز له أن يصنع ذلك فيه، فسقط أحد في البئر أو ضربت الدابة أحدًا أنه لا ضمان عليه ولا دية، وإنما يضمن من ذلك ما حفره في طريق المسلمين، أو صنع من ذلك ما لا يجوز له أن يصنعه فيه

(2)

، وهذا بمنزلة الإمام إذا حدَّ حدًّا فمات المحدود فلا شيء على الإمام؛ لأنه فعل ما يجوز له، إنما يلزمه الضمان إذا تعدى في الحفر، وبمثله كله قال الشافعي

(3)

.

وقال أبو حنيفة: من حفر بئرًا أو أوقف دابة في موضع يجوز له ذلك، فليس يبرئه من الضمان ما أجاز إحداثه له

(4)

.

واختلفوا في رجل حفر في داره بئرًا لسارق يرصده، أو وضع حبالات له فعطب به السارق أو غيره، فقال مالك: هو ضامن

(5)

، وقال الليث: لا ضمان عليه، وحجته هذا الحديث.

وحجة مالك أنه لا يجوز له أن يقصد بذلك الفعل أن يهلك به أحدًا؛ لأنه متعد بهذا القصد، وقد يمكنه التحرز بغيره، وإن حفر الحفير في حائطه للسباع فسقط به إنسان فلا ضمان عليه عند مالك

(6)

؛ لأنه فعل

(1)

انظر: "بدائع الصنائع" 2/ 67، "الهداية" 1/ 116.

(2)

انظر: "الموطأ" ص 542، "المدونة" 4/ 506.

(3)

"الإشراف على مذاهب أهل العلم" 3/ 124.

(4)

انظر: "المبسوط" 27/ 14 - 15.

(5)

انظر: "المدونة" 4/ 506.

(6)

انظر: "النوادر والزيادات" 13/ 520، "المنتقى" 7/ 111.

ص: 325

ما يجوز له ولا غنى به عنه، ولم يقصد بالحفر تلف إنسان فيكون متعديًا، وسيكون لنا عودة إلى تفسير "العجماء جبار" في الديات

(1)

إن شاء الله تعالى

(2)

.

(1)

سيأتي برقم (6912) باب: المعدن جبار والبئر جبار.

(2)

انظر: "شرح ابن بطال" 6/ 497 - 498.

ص: 326

‌4 - باب الخُصُومَةِ فِي البِئْرِ وَالقَضَاءِ فِيهَا

2356، 2357 - حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ [مُسْلِم] هُوَ عَلَيْهَا فَاجِرٌ، لَقِيَ اللهَ وَهْوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ"، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى:{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} [آل عمران: 77] الآيَةَ.

فَجَاءَ الأَشْعَثُ فَقَالَ: مَا حَدَّثَكُمْ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ فِيَّ أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ، كَانَتْ لِي بِئْرٌ فِي أَرْضِ ابْنِ عَمٍّ لِي فَقَالَ لِي:"شُهُودَكَ". قُلْتُ: مَا لِي شُهُودٌ. قَالَ: "فَيَمِينَهُ". قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ إِذًا يَحْلِفَ. فَذَكَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هَذَا الحَدِيثَ، فَأَنْزَلَ اللهُ ذَلِكَ تَصْدِيقًا لَهُ. [2416 - 2417، 2515 - 2516، 2666 - 2667، 2669 - 2670، 2673، 2676 - 2677، 4549 - 4550، 6659 - 6660، 6676 - 6677، 7183 - 7184 - مسلم: 138 - فتح: 5/ 33]

ذكر فيه حديث شَقِيقٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ هُوَ عَلَيْهَا فَاجِرٌ، لَقِيَ اللهَ وَهْوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ"، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى:{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} الآيَةَ. فَجَاءَ الأَشْعَثُ فَقَالَ: مَا حَدَّثَكُمْ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ فِيَّ أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ .. الحديث.

هذا الحديث أخرجه البخاري في عدة أبواب: هنا عن عبدان عن أبي حمزة، والإشخاص

(1)

، والشهادات

(2)

عن محمد -هو ابن سلام- عن أبي معاوية

(3)

، وفي الإشخاص أيضًا: عن بشر بن خالد،

(1)

ورد بهامش الأصل: في باب: كلام الخصوم بعضهم في بعض.

(2)

ورد بهامش الأصل: وفي الشهادات في: سؤال الحاكم المدعي هل

(3)

سيأتي في الإشخاص (الخصومات) برقم (2416)، باب: كلام الخصوم بعضهم في بعض، وفي الشهادات برقم (2666) باب: سؤال الحاكم المدعي: هل لك بينة قبل اليمين.

ص: 327

عن غندر، عن شعبة

(1)

.

وفي النذور: عن موسى

(2)

، وفي التفسير: عن حجاج بن المنهال، كلاهما عن أبي عوانة أربعتهم عن الأعمش

(3)

، وفي الشركة أيضًا: عن قتيبة، عن جرير، عن منصور

(4)

، وفي النذور أيضًا: عن بندار عن ابن أبي عدي، عن شعبة

(5)

، وفي الأحكام: عن إسحاق بن نصر، عن عبد الرزاق، عن سفيان

(6)

كلاهما عن الأعمش ومنصور كلاهما، عن أبي وائل عنه به.

وأخرجه مسلم في الإيمان عن أبي بكر وإسحاق وابن نمير ثلاثتهم عن وكيع

(7)

، وعن ابن نمير، عن أبيه

(8)

كلاهما عن الأعمش به. وعن

(1)

لم أقف عليه في الإشخاص وإنما هو في الشهادات برقم (2676)، وقال الحافظ في "النكت الظراف" 1/ 77: قلت هو في الشهادات لا في الإشخاص.

(2)

سيأتي برقم (6676) باب: قول الله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} .

(3)

سيأتي برقم (4549) باب: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} .

(4)

لم أقف عليه في الشركة، وقال الحافظ في "النكت الظراف" 1/ 76: لم يخرج هذا الحديث في الشركة أصلًا. ورواية قتيبة أخرجها في الرهن. اهـ. قلت: وستأتي برقم (2515) باب: إذا اختلف الراهن والمرتهن.

(5)

سيأتي برقم (6659) باب: عهد الله عز وجل.

(6)

سيأتي برقم (7183) باب: الحكم في البئر ونحوها.

(7)

مسلم (138/ 220) باب: وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة بالنار.

(8)

لم أقف على هذِه الطريق عند مسلم وإنما رواه عن ابن نمير عن أبي معاوية، وقد تابع المصنف المزي في "التحفة" ولم يعلق الحافظ على قول المزي في "نكته" لكن محقق "تحفة الأشراف" ذكر أن الإسناد جاء هكذا في جميع النسخ ثم قال: والصواب عن أبي معاوية كما في مسلم. وهكذا هو في حاشية (ك) ولفظها بخط المؤلف (م) وعن ابن نمير، عن أبي معاوية، ذكره خلف وحده. انظر:"التحفة" 1/ 77.

ص: 328

إسحاق عن جرير

(1)

.

وأخرجه أبو داود في الأيمان والنذور

(2)

، والترمذي في البيوع والتفسير

(3)

، والنسائي في القضاء والتفسير

(4)

، وابن ماجه في الأحكام

(5)

، قال الإسماعيلي: أخرجه البخاري عن أبي حمزة، عن الأعمش، يعني: عن عبدان، عن أبي حمزة به: كانت بيني وبين رجل خصومة في بئر في أرض، قال: ولا أعلم في جماعة من رواه عن الأعمش إلا قال: في أرض.

وحكم الخصومة في البئر وفي الأرض واحد في هذا الخبر، وأورد لذكر البئر بابًا والخبر واحد، والأكثرون أولى بالحفظ من أبي حمزة، فإن أبا معاوية ووكيعًا وابن نمير وأبا أسامة وغيرهم ممن رواه وذكر قصة الأشعث بتمامها ذكر الأرض، فيحتمل أن تكون الأرض فيها بئر، فيصح اللفظان في التأويلين على هذا المعنى، ولكن كان ربما يقصد إلى ما تفرد به الواحد من لفظه فيفرد له بابًا إذا غمض ذلك، ولا وجه له وفيه نظر؛ لأن أبا عوانة رواه عن الأعمش في كتاب الإيمان والتفسير من الصحيح عن أبي وائل، عن عبد الله، وفيه قال: قال الأعمش: كانت لي بئر في أرض ابن عمٍّ لي

(6)

.

(1)

مسلم (138/ 221).

(2)

"سنن أبي داود"(3243).

(3)

"سنن الترمذي"(1269) كتاب: البيوع، باب: ما جاء في اليمين الفاجرة يقتطع بها مال مسلم، وبرقم (2996) كتاب: التفسير، باب: ومن سورة آل عمران.

(4)

"السنن الكبرى" 3/ 484 - 485 كتاب: القضاء، و 6/ 294 كتاب: التفسير.

(5)

"سنن ابن ماجه"(2323).

(6)

سيأتي برقم (4549، 4550) كتاب: التفسير، باب:{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ} ، وفي الإيمان برقم (6676).

ص: 329

وفي كتاب الأيمان كذلك: نزلت في وفي صاحب لي في بئر كانت بيننا عن شعبة عن سليمان ومنصور عن أبي وائل، وفي آخره قال سليمان عن الأشعث

(1)

، فذكره.

وفي الأحكام من حديث سفيان، عن منصور والأعمش، عن أبي وائل الحديث

(2)

.

كذا رواه أبو نعيم الحافظ من حديث عليِّ بن مسهر، عن الأعمش.

وقال الطرقي: رواه عن أبي وائل منصور والأعمش، فمنصور لم يرفع قول عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والأعمش يقول: قال عبد الله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذا ذكره المزي في "أطرافه"

(3)

.

وقد أسلفنا لك رواية منصور، عن أبي وائل مرفوعة من عند البخاري، قال الطرقي: رواه عبد الملك بن أعين، وجامع بن أبي راشد

(4)

، ومسلم البطين

(5)

، عن أبي وائل، عن عبد الله مرفوعًا، وليس فيه ذكر الأشعث، ورواه كردوس التغلبي

(6)

، عن الأشعث بن قيس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس فيه ذكر ابن مسعود

(7)

.

قلت: وفي اليمين الفاجرة عن: ابن عمرو (خ م)، وأبي أمامة (م)

(1)

سيأتي برقم (6659).

(2)

سيأتي برقم (7183).

(3)

"تحفة الأشراف" 1/ 76 - 77.

(4)

سيأتي برقم (7445) كتاب: التوحيد، ورواه مسلم (138).

(5)

رواه النسائي في "الكبرى" 6/ 309 (11063).

(6)

ورد بهامش الأصل: يقال الثعلبي، ويقال: التغلبي، كذا قاله الذهبي في "الكاشف" وجعله في الحسبة الثعلبي

(7)

رواه أبو داود (3244)، والنسائي في "الكبرى" 3/ 488 (6002).

ص: 330

و (إياس)

(1)

بن ثعلبة، ووائل بن حجر (م)، وعمران بن حصين (د)، وعدي بن عميرة (س)، وأبي موسى (أحمد)، ومعقل بن يسار، وأبي هريرة (أحمد)

(2)

.

وفي "تفسير ابن جرير الطبري"، عن ابن جريج: اختصم الأشعث هو ورجل في أرض كانت في يده لذلك الرجل أخذها لتعززه في الجاهلية، وفيه: فقام الأشعث يحلف فأنزل الله الآية فنكل الأشعث، فقال: إني أشهد الله وأشهدكم أن خصمي صادق، وأعطاه أرضه، وزاده من أرض نفسه زيادة كثيرة؛ مخافة أن يبقى في يده شيء من

(1)

كذا بالأصل، والصواب (إياس) بدون (الواو) وذلك لأن أبا أمامة هو إياس بن ثعلبة. والله أعلم. انظر:"الاستيعاب" 1/ 216 (130)، "الإصابة" 1/ 89.

(2)

حديث ابن عمرو: سيأتي برقم (6920).

وأما حديث إياس بنِ ثعلبة (أبي أمامة الحارثي): فأخرجه مسلم (137) كتاب: الإيمان، باب: وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة بالنار، وأما حديث وائل بن حجر فأخرجه مسلم أيضًا (139) كتاب: الإيمان، باب: وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة بالنار.

وأما حديث عمران بن حصين فأخرجه أبو داود (3242)، وأحمد 4/ 436 وصححه الألباني في "الصحيحة"(2332).

وأما حديث عدي بن عميرة فأخرجه النسائي في "الكبرى" 3/ 486 وأحمد 4/ 191 - 192.

وأما حديث أبو موسى فأخرجه أحمد 4/ 394، والبزار في "مسنده" 8/ 144 (3163)، وأبو يعلى 13/ 257 - 258 (7274).

وقال الهيثمي في "المجمع" 4/ 178: رواه أحمد والبزار وأبو يعلى والطبراني في "الكبير" و"الأوسط" إسناده حسن.

وأما حديث معقل بن يسار فأخرجه النسائي في "الكبرى" 3/ 492 (6021) وأحمد 5/ 25.

وأما حديث أبو هريرة؛ فسيأتي برقم (2369) باب: من رأى صاحب الحوض.

ص: 331

حقه، فهي لعقب ذلك الرجل من بعده

(1)

.

وفي كتاب: "إدارة الأحكام" لأبي طاهر إسماعيل بن علي بن إبراهيم بن أبي القاسم الجنزوي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة الكندي والحضرمي حين قال له المقضى عليه: قضيت عليَّ والحق لي، "إنما أقضي بالظاهر والله يتولى السرائر". وهذِه الرواية عزيزة تتبعناها فلم نجدها دهرًا فاستفدها.

وذكر البخاري لسبب نزول هذا الآية عن عبد الله بن أبي أوفي أن رجلًا أقام سلعة في السوق فحلف: لقد أعطي بها ما لم يعطه؛ ليوقع فيها رجلًا من المسلمين فنزل: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ} [آل عمران: 77] الآية، وهو من أفراده، وقد سلف في أوائل البيوع

(2)

، ويحتمل أن يكونا في وقت فنزلت فيهما.

وحديث عبد الواحد بن زياد عن الأعمش عن أبي صالح، عن أبي هريرة:"ثلاثة لا ينظر الله إليهم". ذكره عقب هذا الباب، ثم قرأ هذِه الآية:{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا}

(3)

[آل عمران: 77].

قال الدارقطني: ورواه كذلك جماعة، وخالفهم صالح بن أبي الأسود؛ فرواه عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن أبي هريرة، والصحيح الأول

(4)

، ولما رواه الإسماعيلي عن ابن خزيمة: حدثنا سعيد بن عبد الرحمن، ثنا سفيان، عن عمرو، عن أبي صالح، قال: تابعه عبد الرحمن بن يونس، فوصلوه عن ابن عيينة وجودوه، قال: وأرسله علي، وعبد الجبار بن العلاء، وغيرهما.

(1)

"تفسير الطبري" 3/ 320 (7278).

(2)

سلف برقم (2088) باب: ما يكره من الحلف في البيع.

(3)

سياتى برقم (2358).

(4)

"علل الدارقطني" 10/ 170.

ص: 332

وذكر الواحدي أن الكلبي قال: إن ناسًا من علماء اليهود أولي فاقة اقتحموا إلى كعب بن الأشرف فسألهم كيف تعلمون هذا الرجل يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتابكم؟ قالوا: وما تعلمه أنت؟ قال: لا. قالوا: نشهد أنه عبد الله ورسوله. فقال كعب بن الأشرف: لقد حرمكم الله خيرًا كثيرًا. فقالوا: (رويد)

(1)

فإنه شبه علينا، وليس هو بالنعت الذي نعت لنا، ففرح كعب فمارهم وأنفق عليهم، فأنزل الله هذِه الآية.

وقال عكرمة: نزلت في أبي رافع وكنانة بن أبي الحقيق، وحيي بن أخطب، وغيرهم من رءوس اليهود، كتموا ما عهد الله إليهم في التوراة في شأن محمد، وبدلوه وكتبوا بأيديهم غيره، (وجعلوا)

(2)

أنه من عند الله لئلَّا تفوتهم الرشا والمآكل التي كانت لهم على أتباعهم

(3)

إذا تقرر ذلك، فالوعيد المذكور يخشى إنفاذه على كل يمين غموس يقتطع بها مال أحدٍ بغير حقٍّ.

وفيه: الترجمة.

وفيه: أن البينة على المدعي واليمين على من أنكر.

وفيه: جواز تولي الخصوم بعضهم بعضًا مما عرف من أحوالهم؛ لقوله: إذن يحلف ويذهب بحقي؛ لأنه كان معروفًا بقلة التقوى.

وقد قيل: إنه كان يهوديًّا، فإن كان كذلك فليس بين المسلم والذمي قصاصٌ ولا حدٌّ، وإن كان غير ذمي فلأنه كان معروفًا بالمجاهرة بالباطل، والدليل على هذا نزول الآية بصدقه لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

كذا بالأصل، والذي في "أسباب النزول" للواحدي:(رويدًا).

(2)

كذا بالأصل، والذي في "أسباب النزول":(وحلفوا).

(3)

"أسباب النزول"؟ ص 115.

ص: 333

وليس لمعلوم بالأحوال الدنية من الحرمة ما لصالح المسلمين.

فائدة:

قال ابن الطلاع في "الأقضية": الرجل الكندي هو خال أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وأم أبي سلمة: تماضر، واسم الحضرمي: جرير بن معدان، ويعرف بالجفشيش بالجيم والحاء والخاء، وقال هشام بن محمد بن السائب الكلبي: هو الجفشيش، واسمه: معدان بن الأسود بن معدي كرب الكندي، فعلى هذا يصح قوله: ابن عم لي.

وقال ابن الأثير: الحفشيش: اسم أبيه النعمان كندي، ويقال: حضرمي يكنى أبا الخير، له وفادة مع الأشعث في وفد كندة سنة عشر

(1)

.

قلت: قد جاء في رواية في البخاري: أنه كان يهوديًّا

(2)

. والرجل الحضرمي اسمه ربيعة بن عَيْدان بفتح العين المهملة وسكون المثناة تحت، ويقال: بكسر العين المهملة وبباء موحدة بدلها، له صحبه وشهد فتح مصر.

(1)

"أسد الغابة" 1/ 345.

(2)

سيأتي برقم (2416) كتاب: الخصومات، باب: كلام الخصوم بعضهم في بعض.

ص: 334

‌5 - باب إِثْمِ مَنْ مَنَعَ ابْنَ السَّبِيلِ مِنَ المَاءِ

2358 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ، عَنِ الأَعْمَشِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا صَالِحٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "ثَلَاثَةٌ لَا يَنْظُرُ اللهُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَلَا يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: رَجُلٌ كَانَ لَهُ فَضْلُ مَاءٍ بِالطَّرِيقِ، فَمَنَعَهُ مِنِ ابْنِ السَّبِيلِ، وَرَجُلٌ بَايَعَ إِمَامًا لَا يُبَايِعُهُ إِلَّا لِدُنْيَا، فَإِنْ أَعْطَاهُ مِنْهَا رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطِهِ مِنْهَا سَخِطَ، وَرَجُلٌ أَقَامَ سِلْعَتَهُ بَعْدَ العَصْرِ، فَقَالَ: وَاللهِ الذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، لَقَدْ أَعْطَيْتُ بِهَا كَذَا وَكَذَا، فَصَدَّقَهُ رَجُلٌ" ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} [آل عمران: 77].

[2369، 2672، 2712، 7446 - مسلم: 108 - فتح: 5/ 34].

ذكر فيه حديث أبي هريرة وقد أسلفناه في الباب

(1)

قبله واضحًا، وهو وعيد للمسلمين أيضًا، فهو تحت المشيئة، إن شاء عما عنه بفضله، وإن شاء أنقذه بعدله ولا خلود؛ فإنه قد رفع عن أهل التوحيد.

وقوله: "منع فضل" يدل أن صاحب البئر أولى من ابن السبيل عند الحاجة، فهذا أخذ صاحب البئر حاجته خلَّاها لابن السبيل ولم يجز له منعه، وابن السبيل: المسافر، فإذا كان الماء مما يحل منعه منع إلا بالثمن، إلا أن لا يكون معهم، وإن منعوه إلى أن يبلغوا ماءً غيره فلا، فإن منعوهم جاهدوهم، وأما بئر المواشي والسقاة التي لا يحل منع مائها فلا يمنعون، فإن منعوا قوتلوا وكان هدرًا وإن أصيب طالب الماء كانت ديته على صاحب الماء، مع العقوبة والسجن، كذا قاله الداودي، وصوب ابن التين أنها على العاقلة إن ماتوا عطشًا كما نصَّ

(1)

ورد أسفل العبارة: يعني: في كلامه، لا في الباب قبله من الصحيح.

ص: 335

عليه في "المدونة"

(1)

، وإن أصيب أحد من المسافرين أخذ به جميع مانعي الماء وقتلوا به.

وقوله: ("ورجل بايع إماما") هو في معنى قوله عليه السلام: "ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها" الحديث. والرب تعالى لا يقبل في كل الأعمال إلا ما أريد به وجهه وإلَّا فهو وبال على صاحبه، وهو من أعظم الذنوب.

وقوله: ("بعد العصر") يدل أنه وقت تعظم فيه المعاصي؛ لارتفاع الملائكة بالأعمال إلى الرب تعالى فيعظم أن يرتفعوا بالمعاصي، ويكون آخر عمله المرفوع والخواتم هي المرجوة، وإن كانت اليمين الفاجرة محرمة كل وقت، وقد قيل في قوله تعالى:{تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ} [المائدة: 106]: إنها العصر؛ ولأنه كان وقت اجتماع الناس، وذكره فيما سيأتي قريبًا

(2)

بزيادة: {وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ}

(3)

[البقرة: 174] يعني وقتًا دون وقت، وليس على الاستمرار والخلود، هذا مذهب أهل السنة والجماعة.

(1)

"المدونة" 4/ 374.

(2)

ورد بهامش الأصل: في باب من رأى أن صاحب الحوض والقربة أولى بمائه.

(3)

سيأتي برقم (2369).

ص: 336

‌6 - باب سَكْرِ الأَنْهَارِ

2359، 2360 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رضي الله عنهما أَنَّهُ حَدَّثَهُ، أَنَّ رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ خَاصَمَ الزُّبَيْرَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي شِرَاجِ الحَرَّةِ الَّتِى يَسْقُونَ بِهَا النَّخْلَ فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ: سَرِّحِ المَاءَ يَمُرُّ فَأَبَى عَلَيْهِ، فَاخْتَصَمَا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِلزُّبَيْرِ:"أسْقِ يَا زُبَيْرُ، ثُمَّ أَرْسِلِ المَاء إِلَى جَارِكَ". فَغَضِبَ الأَنْصَارِيُّ، فَقَالَ: أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ. فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قَالَ: "اسْقِ يَا زُبَيْرُ، ثُمَّ احْبِسِ المَاءَ، حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الجَدْرِ". فَقَالَ الزُّبَيْرُ: وَاللهِ إِنِّي لأَحْسِبُ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65]

[قَالَ مُحَّمدُ بْن العَبَّاسِ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: لَيْسَ أَحَد يَذْكُرُ عُرْوَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ، إِلَّا اللَّيثُ فَقَطْ]. [2361، 2362، 2708، 4585 - مسلم: 2357 - فتح: 5/ 34]

هو بفتح السين وإسكان الكاف: حبس الماء، قاله ابن التين، وكذا قال ابن السكيت: سكرت النهر أسكره سكرًا: سددته

(1)

.

قال صاحب العين: والسكر: اسم ذلك السِّداد، أن يجعل سد (العين)

(2)

ونحوه

(3)

.

ومنه قوله: {سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا} [الحجر: 15].

وقال ابن دريد: أصله من سكرت الريح: سكن هبوبها

(4)

.

(1)

انظر: "إصلاح المنطق" ص 194 باب: ما جاء مفتوحًا فيكون له معنى فإذا كسر كان له معنى آخر.

(2)

كذا بالأصل، وفي "العين": البثق.

(3)

انظر: "العين" 5/ 309، باب: الكاف والسين والراء معهما.

(4)

انظر: "جمهرة اللغة" 2/ 719، باب: الراء والسين مع ما بعدهما من الحروف.

ص: 337

قال البخاري: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أنا اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي ابن شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ حَدَّثَهُ، أَنَّ رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ خَاصَمَ الزُّبَيْرَ عِنْدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي شِرَاجِ الحَرَّةِ التِي يَسْقُونَ بِهَا النَّخْلَ، فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ: سَرِّحِ المَاءَ يَمُرُّ. فَأَبَى عَلَيْهِ، فَاخْتَصَمَا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ لِلزُّبَيْرِ: "اسْقِ يَا زُبَيْرُ

الحديث". قَالَ الزُّبَيْرُ: والله إِنِّي لأَحْسِبُ هذِه الآيةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65]

قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ العَبَّاسِ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: لَيْسَ أَحَدٌ يَذْكُرُ عُرْوَةَ، عَنْ عَبْدِ الله، إِلَّا اللَّيْثُ فَقَطْ.

ص: 338

‌7 - باب شُرْبِ الأَعْلَى قَبْلَ الأَسْفَلِ

2361 -

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: خَاصَمَ الزُّبَيْرَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"يَا زُبَيْرُ، اسْقِ ثُمَّ أَرْسِلْ". فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ: إِنَّهُ ابْنُ عَمَّتِكَ. فَقَالَ عليه السلام: "اسْقِ يَا زُبَيْرُ، ثُمَّ يَبْلُغُ المَاءُ الجَدْرَ، ثُمَّ أَمْسِكْ". فَقَالَ الزُّبَيْرُ: فَأَحْسِبُ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65]. [انظر: 2359 - فتح: 5/ 38]

حَدَّثنَا عَبْدَانُ، أَنا عَبْدُ اللهِ، أنا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: خَاصَمَ الزُّبَيْرَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"يَا زُبَيْرُ، اسْقِ ثُمَّ أَرْسِلْ". فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ: إِنَّهُ ابن عَمَّتِكَ. فَقَالَ عليه السلام: "اسْقِ يَا زُبَيْرُ، ثُمَّ يَبْلُغُ المَاءُ

الحديث". قَالَ الزُّبَيْرُ: فَأَحْسِبُ هذِه الآيةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} .

ص: 339

‌8 - باب شِرْبِ الأَعْلَى إِلَى الكَعْبَيْنِ

2362 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، ثنا مَخْلَدٌ: أَخْبَرَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ: قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ حَدَّثَهُ، أَنَّ رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ خَاصَمَ الزُّبَيْرَ فِي شِرَاجٍ مِنَ الحَرَّةِ .. الحديث. فَقَالَ الزُّبَيْرُ: وَاللهِ إِنَّ هَذِهِ الآيَةَ أُنْزِلَتْ فِي ذَلِكَ {فَلَا وَرَبِّكِ

} الآية [النساء: 65]. قَالَ لِي ابْنُ شِهَابٍ: فَقَدَّرَتِ الأَنْصَارُ وَالنَّاسُ قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "اسْقِ، ثُمَّ احْبِسْ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الجَدْرِ". وَكَانَ ذَلِكَ إِلَى الكَعْبَيْنِ.

الشرح:

حديث ابن الزبير هذا يأتي في التفسير أيضًا

(1)

، وأخرجه مسلم أيضًا

(2)

. وقوله: إن الليث تفرد بذكر عبد الله، فيه نظر فقد ذكر الدارقطني أن ابن أخي الزهري رواه كذلك أيضًا عن الزهري، قال ذلك ضرار بن صرد عن الدراوردي عنه، قال: وكذلك قال ابن وهب، عن يونس بن يزيد، عن الزهري.

ورواه شعيب بن أبي حمزة، ومحمد بن أبي عتيق، وابن جريج، ومعمر، وعمر بن (سعد)

(3)

، عن الزهري، عن عروة، عن الزبير، لم يذكروا عبد الله. وكذلك قال شبيب بن سعيد عن يونس، وتابعه أحمد بن صالح وحرملة عن ابن وهب، عن يونس: وهو المحفوظ عن الزهري

(4)

.

(1)

سيأتي برقم (4585) باب: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} .

(2)

مسلم (2357) كتاب: الفضائل، باب: وجوب اتباعه صلى الله عليه وسلم.

(3)

كذا بالأصل: سعد، والذي في "العلل"(سعيد).

(4)

"علل الدارقطني" 4/ 227 - 229.

ص: 340

وروى أبو بكر بن المقرئ في "معجمه" الحديث من طريق الليث عن الزهري، عن عروة: أن حميدًا رجلًا من الأنصار خاصم الزبير في شراج الحرة فذكره

(1)

، قال أبو موسى: هذا حديث صحيح له طرق لا أعلم في شيء منها ذكر حميد إلا في هذِه الطريق، قال: وحميد بضمِّ الحاء وآخره دال. ورواه ابن عيينة في "تفسيره" عن عمرو بن دينار، عن رجل من ولد أم سلمة عنها أنها قالت: كان بين الزبير وبين رجل خصومة، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى للزبير، فقال رجلٌ: إنما قضى له

لأنه ابن عمته، فنزلت الآية

(2)

.

إذا تقرر ذلك فالكلام عليه من أوجه:

أحدها:

اختلف في اسم الأنصاري المذكور: هل هو حاطب بن أبي بلتعة، أو ثعلبة بن حاطب، أو حميد؟ والأول واهٍ؛ لأنَّه ليس أنصاريًّا، وقد ثبت في البخاري: أنه كان بدريًّا

(3)

، وحكى الأول المهدوي ومكي في تفسيرهما

(4)

.

(1)

لم أقف عليه في المطبوع من "معجم ابن المقرئ"، ولم أقف على من أخرجه من طريقه.

(2)

رواه هكذا موصولًا عن أم سلمة الطبري في "تفسيره" 4/ 162 من طريق عبد الله بن عمير عن الحميدي عن سفيان به، والمروزي في "تعظيم قدر الصلاة" 2/ 656 (708) من طريق هارون بن عبدة عن الحميدي عن سفيان به. قلت: بل أخرجه الحميدي في "مسنده" 1/ 310 (302) مرسلًا. فقال: ثنا سفيان قال: ثنا عمرو بن دينار قال أخبرني سلمة -رجل من ولد أم سلمة- أن الزبير .. فذكره.

(3)

سيأتي برقم (2708) كتاب: الصلح، باب: إذا أشار الإمام بالصلح فأبى.

(4)

رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 3/ 994 (5559) عن سعيد بن المسيب، وقال الحافظ في "الفتح" 5/ 35: وإسناده قوي مع إرساله. وقاله البغوي في "تفسيره" 2/ 245.

ص: 341

قال الثعلبي

(1)

: فلما خرجا مرَّا على المقداد، فقال: لمن كان القضاء يا أبا ثعلبة؟ فقال: قضى لابن عمته، وَلَوى شدقه، ففطن إليه يهودي كان مع المقداد، فقال: قاتل الله هؤلاء يشهدون أنه رسول الله، ثم يتهمونه في قضاء يقضى بينهم، وايم الله لقد أذنبنا مرة في حياة موسى، فدعانا موسى إلى التوبة منه فقال: اقتلوا أنفسكم. فقتلنا فبلغ قتلانا سبعين ألفًا في ربنا، حتَّى رضي عنا.

ونقل عن مجاهد والشعبي: أنها نزلت في بشر المنافق والذين اختصموا إلى عمر بن الخطاب

(2)

.

وحكى الثاني الواحدي في "أسباب نزوله"

(3)

، وهو الذي سأل المال وامتنع من أداء زكاته

(4)

.

(1)

ذكر الحافظ في "الفتح" 5/ 36 أن الثعلبي ذكره بغير سند.

(2)

ذكره البغوي في "تفسيره" 2/ 245.

(3)

انظر: "أسباب النزول" ص 167.

(4)

يشير المؤلف إلى الحديث الذي روته كتب التفاسير وكتب الصحابة فقد روى ابن جرير في "تفسيره" 6/ 425 - 426، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 6/ 1847 - 1849، والطبراني في "الكبير" 8/ 218 - 219 (7873) وابن قانع في "معجم الصحابة" 1/ 124، وابن عبد البر في "الاستيعاب" 1/ 284، والبيهقي في "الشعب" 4/ 79 - 80 (4357)، والبغوي في "معالم التنزيل" 4/ 76 - 77 كلهم من طريق معان بن رفاعة، عن علي بن يزيد الألهاني، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبي أمامة أن ثعلبة بن حاطب

الحديث وعزاه ابن حجر في "الإصابة" 1/ 189 (928) للباوردي وابن السكن وابن شاهين من الطريق المذكور. ولما ذكر القرطبي هذِه القصة في "تفسيره"؛ قال: ثعلبة بدري أنصاري وممن شهد له الله ورسوله بالإيمان، فما روي عنه غير صحيح. ثم قال: وقال أبو عمر: لعل قول من قال في ثعلبة أنه مانع الزكاة الذي نزلت فيه الآية غير صحيح، والله أعلم. وقال الضحاك: إن الآية نزلت في رجل من المنافقين نبتل بن الحارث، وجد بن قيس، ومعتب بن قشير؛ ثم قال القرطبي: وهذا أشبه بنزول الآية فيهم. اهـ =

ص: 342

وذكر ابن بشكوال: أنه ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري، وقال: قاله شيخنا أبو الحسن بن مغيث

(1)

.

قلت: ثابت ليس بدريًّا، وقد سلف أن المخاصم بدريٌّ.

قال الزجاج: كان منافقًا، يعني: أنه كان من قبيلة الأنصار لا من الأنصار المسلمين فلا تخالف.

وقال ابن التين: قائل هذا الكلام رجل جاهل أو منافق.

وقيل: كان بدريًّا، ذكره الداودي، وهو غريب، فذا في البخاري كما أسلفناه، ثم قال: فإن كان فيه أنزلت فيحتمل أن يكون معنى الآية: إن كان منه ذلك بعد هذا إلا أن النفاق منتف عن أهل بدر؛

لشهوده عليه السلام لهم بالجنة.

وقال في الصلح: قد ذكر أن الرجل بدري فإن يكن أنزلت فيه فمعناه لا يكون مستكمل الإيمان؛ لشهوده- عليه السلام لأهل بدر بالجنة، أو يريد من فعله بعد نزولها.

= "تفسير القرطبي" 8/ 209 - 210.

وقال البيهقي بعدما ذكره "الشعب" 4/ 80 - 81: وفي إسناد هذا الحديث نظر، وهو مشهور فيما بين أهل التفسير.

وقال الهيثمي في "المجمع" 7/ 31 - 32: رواه الطبراني، وفيه: على بن يزيد الألهاني، وهو متروك.

وقال العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء" 2/ 919: رواه الطبراني بسند ضعيف. وضعفه الألباني في موضعين من "الضعيفة" الأول برقم (1607)، وقال: هذا الحديث منكر على شهرته، والثاني برقم (4081) ثم نبه قائلًا: هذا الحديث من الأحاديث التي ساقها ابن كثير في "تفسيره" ساكتًا عليه؛ لأنه ذكره بسند معان بن رفاعة .. به مشيرًا بذلك إلى علته الواضحة لدى أهل العلم بهذا الفن .. الخ. اهـ.

(1)

"غوامض الأسماء المبهمة" 2/ 573.

ص: 343

قال: وروي أنها نزلت في رجل منافق خاصم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا، فقال له: رد قضاءنا إلى عمر، فقال الآخر: أجل يا رسول الله. فقال: "افعلا". فذهبا إلى عمر فحكيا له، فقال: امكثا حتى أقضي بينكما، فاشتمل على سيف فخرج وعلا به القائل وفر الآخر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"هناك عمر ضرب ضربة فرق بها بين الحق والباطل" فسمي من يومئذ الفاروق

(1)

. وفي رواية أخرى: "ما كان لابن الخطاب أن يقتل نفسًا بغير حقٍّ" أو قال: "بغير نفس" فنزلت.

ثانيها:

قول البخاري عن عروة: (خاصم الزبير رجل من الأنصار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ) الحديث، قال الإسماعيلي: كذا جاء به البخاري مرسلًا. وقوله: (حدثنا محمد)، قال أبو نعيم، والجياني: هو ابن سلام

(2)

.

ومخلد هو: ابن يزيد، مات سنة ثلاث وسبعين ومائة.

وقوله في بعض الروايات: (فلما أحفظه الأنصاري)

(3)

، يشبه كما قال الخطابي أن يكون من كلام ابن شهاب دون نفس الحديث، وقد كان من عادته أن يصل بعض الكلام بالحديث إذا رواه، ولذلك قال له موسى بن عقبة: من قولك أو من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ومعنى أحفظه: أغضبه

(4)

.

(1)

ذكره الواحدي في "أسباب النزول" 1/ 166، والبغوي في "معالم التنزيل" 2/ 242 عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس.

(2)

انظر: "تقييد المهمل" 3/ 1028.

(3)

سيأتي برقم (2708) كتاب: الصلح، باب: إذا أشار الإمام بالصلح فأبى.

(4)

"أعلام الحديث" 2/ 1171.

ص: 344

ثالثها:

الشراج: بكسر الشين المعجمة، وتخفيف الراء، قيل: هو واحد، وقيل: جمع، مثل: رهن ورهان، وهو: مجرى الماء من الحرة إلى السهل. قال الداودي: وهي نهر عند الحرة بالمدينة

(1)

. وقال أبو المعالي

(2)

في "المنتهى": الشرج: مسيل الماء من الحزن إلى السهل، والجمع: شراج وشروج وشُرج. وقيل: الشرج جمع شراج، والشراج جمع شرح، ثم قالوا: شرح.

وقال ابن سيده: ويجمع على أشراج

(3)

وفي رواية للبخاري: (شريج الحرة). وقال أبو عبيد: الشرج: نهر صغير، قال: والشروج والشراج: مسايل الماء من (انحدار)

(4)

إلى سهوله، واحدها شرح

(5)

. وقال غيره: شرح.

وقال أبو حنيفة: تسمى الحواجز التي بين الديار التي تمسك الماء: الجدور، واحدها جدر.

(1)

قال العيني في "عمدة القاري" 10/ 207 معقبًا على كلام الداودي: وهذا غريب وليس بالمدينة نهر. اهـ.

(2)

هو محمد بن تميم البرمكي اللغوي، له كتاب "المنتهى في اللغة" منقول من كتاب "صحاح الجوهري" وزاد فيه أشياء قليلة، وأغرب في ترتيبه، وكان هو والجوهري متعاصرين فإن صاحب "الصحاح" فرغ منه سنة 369 أو 393، وذكر البرمكي أنه صنفه في آخر سنة 397 وتوفي سنة 411 هـ.

وانظر ترجمته في: "معجم الأدباء" 6/ 419، "الوافي بالوفيات" 2/ 280، "كشف الظنون" 2/ 1858، "معجم المؤلفين" 3/ 185.

(3)

انظر: "المحكم" 7/ 175 مادة: الجيم والشين والراء.

(4)

كذا بالأصل، وفي "غريب الحديث":(الحرار).

(5)

"غريب الحديث" 2/ 160 مادة: (شرج).

ص: 345

وقال ابن التين: الشراج والشرج مجرى الماء من الحرة إلى السهولة، قال: وقيل: شجار جمع شجر، كبحر وبحار.

رابعها:

الحرَّة من الأرضين: الصلبة الغليظة التي لبستها كلها حجارة سود نخرة كلها، والجمع حرات وحرار

(1)

، قال سيبويه: وزعم يونس أنهم يقولون حَرَّةٌ، وإحَرُّونَ يعنون (الحراء)

(2)

كأنه جمع إحرَّه، ولكن لا يُتكلم بها

(3)

.

وفي "مثلث ابن السيد": ويجمع أيضًا على حرون

(4)

.

فائدة:

بالمدينة حرتان: حرة واقم وليلى، زاد ابن عديس في "المثنى والمثلث": حرة الحوض بين المدينة والعقيق، وحرة قباء في قبلة المدينة. زاد يا قوت: وحرة الوبرة -بالتحريك- على أميال من المدينة، وحرة النار قرب المدينة

(5)

.

وقوله: ("اسق يا زبير") قال ابن التين: يقرأ بفتح الهمزة

(6)

رباعي، وبكسرها من الثلاثي. ومعنى (تلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم): تغير. قال ابن فارس: تلون: اختلفت أخلاقه

(7)

.

(1)

"لسان العرب" 2/ 828 مادة: (حرر).

(2)

كذا بالأصل: والذي في "الكتاب": (الحرار).

(3)

انظر: "الكتاب" 3/ 600.

(4)

"المثلث" 1/ 458.

(5)

انظر: "معجم البلدان" 2/ 245 - 250.

(6)

ورد بهامش الأصل: يعني مشددة، وكذا قاله في "المطالع".

(7)

انظر: "مجمل اللغة" 4/ 799 مادة: (لون).

ص: 346

خامسها:

قوله: (أن كان ابن عمتك؟) هو بفتح الهمزة من أن مفعول من أجله، معناه: من أجل أنه ابن عمتك، كقوله تعالى:{أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14)} [القلم: 14] لأن أم الزبير: صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قوله: (إنه ابن عمتك)، يجوز فتح الهمزة وكسرها.

و (الجدر): بفتح الجيم

(1)

وكسرها، ورواه بعضهم بضمها، حكاه أبو موسى المديني، ثم دال مهملة، وحكي إعجامها: الحائط، وقيل: أصل الجدار، وقيل: أصل الشجر، وقيل: المسناة، وقيل: جدور المشارب التي يجتمع فيها الماء في أصول النخل.

قال الخطابي: هكذا الرواية الجدر، والمتقنون من أهل الرواية يقولون: يعني: بالذال المعجمة، وهو مبلغ تمام الشرب، ومنه جذر الحساب

(2)

، وهو أصله تقول: عشرة في عشرة بمائة وعبارة ابن التين: الجدر أكثر الروايات بفتح الدال، وفي بعضها بالإسكان، وهو كذلك عند أهل اللغة.

وقول الزهري بعد ذلك: (وكان ذلك إلى الكعبين)، قال الداودي: ليس بمحفوظ، والمحفوظ أنه قال له أول مرة:"أمسك إلى الكعبين" فلما أغضبه قال: "احبس حتى يرجع إلى الجدر" وقوله تعالى:

{فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65] أي: فيما اختلفوا فيه، ومنه: تشاجر القوم، وأصله من الشجر؛ لاختلاف أغصانه، ومنه: شجره

(1)

ورد بهامش الأصل: في "المطالع" بفتح الجيم وسكون الدال فقط.

(2)

"أعلام الحديث" 2/ 1169.

ص: 347

بالرمح، أي: جعله فيه بمنزلة الغصن في الشجر.

"واستوعى": استوفى واستكمل، من الوعاء، وأبعد من قال: أمره ثانيًا أن يستوفي أكثر من حقه عقوبة للأنصاري، حكاه ابن الصباغ، والأشبه: أنه أمره أن يستوفي حقه ويستقصي فيه تغليظًا على الأنصاري بعد أن سهل عليه. وقوله: يأمره بالمعروف فيه إشارة إلى العادة التي كانت جرت بينهم مقدار الشرب، والشريعة إذا صادفت شيئًا معهودًا فلم تغيره فقد قررته ووجب حمل الناس عليه.

سادسها:

قال العلماء فيما حكاه النووي عنهم: لو صدر مثل الكلام السالف: (أن كان ابن عمتك)، اليوم من إنسان جرت على قائله أحكام المرتدين فيجب قتله بشرطه، وإنما تركه الشارع؛ لأنه كان في أول الإسلام يتألف الناس، ويدفع بالتي هي أحسن، ويصبر على أذى المنافقين والذين في قلوبهم مرض

(1)

.

سابعها:

فيه: أن أصل مياه الأودية، والسيول التي لا تملك منافعها، ولم تستنبط بعمل فيها من الحفر ونحوه مباح، وأن من سبق إليه وأحرزه كان أحق به.

وفيه: أن أهل الشرب الأعلى يقدم على من هو أسفل.

وفيه: دليل أن ليس للأعلى إذا أخذ حاجته أن يحبسه عن الأسفل.

وقد ذهب بعضهم إلى أنه نسخ حكمه الأول بحكمه الثاني، وقد كان له في الأصل أن يحكم بأيهما شاء إلا أنه قدم الأخف؛ مسامحةً وإيثارًا

(1)

"مسلم بشرح النووي" 15/ 108.

ص: 348

لحكم حسن الجوار، فلما رأى الأنصاري يجهل موضع حقه نسخ الأول بالآخر، حين رآه أصلح، وفي الزجر أبلغ، وقيل: إنما كان القول الأول منه على وجه المشورة للزبير على سبيل المسامحة لجاره ببعض حقه، لا على وجه الحكم منه عليه، فلما خالفه الأنصاري استقضى للزبير حقه وأمره باستيفائه منه.

وفيه: دليل أن للإمام أن يعفو عن التعزير، كما له أن يقيمه، وقد قيل: إن عقوبته وقعت في ماله، وكانت العقوبات قد تقع في الأموال.

وفيه: الإشارة بالصلح والأمر به، قاله المهلب

(1)

، وقال ابن التين: مذهب الجمهور: أن القاضي يشير بالصلح إذا رآه مصلحة، ومنع ذلك مالك، وعن الشافعي في ذلك خلاف، والصحيح جوازه.

وفيه: أن للحاكم أن يستوفي لكلِّ واحدٍ من المتخاصمين حقه، إذا لم ير قبولًا منهما للصلح ولا رضي بما أشار به، كما فعل عليه السلام.

وفيه: توبيخ من جفا على الإمام والحاكم، ومعاقبته؛ لأنه عاقبه عليه بما قال: بأن استوفى للزبير حقه، ووبخه تعالى في كتابه بأن نفي عنهم الإيمان حتى يرضوا بحكمه، فقال:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ} [النساء: 65] الآية.

وفيه: أنه لا يلزم الصلح إلا لمن التزمه.

ثامنها:

إنما حكم على الأنصاري في حال غضبه مع نهيه أن يحكم الحاكم وهو غضبان؛ لأنه مفارق غيره من البشر؛ إذ العصمة قائمة في حقِّه في حال الرضى والسخط. أن لا يقول إلا حقًّا.

(1)

"شرح ابن بطال" 6/ 501.

ص: 349

تاسعها:

اختلف أصحاب مالك في صحة إرسال الماء الأعلى إلى الأسفل.

قال ابن حبيب: يُدْخِل صاحب الأعلى جميع الماء في حائطه ويسقي به حتى إذا بلغ الماء من قائمة الحائط إلى الكعبين القائم فيه أغلق مغلق (الماء)

(1)

وصرف مقدار ما زاد من الماء على مقدار الكعبين إلى من يليه، فيصنع به مثل ذلك حتى يبلغ ماء السيل إلى أقصى الحوائط وهكذا فسر لي مطرف وابن الماجشون، وقاله ابن وهب

(2)

، وقال ابن القاسم: إذا انتهى الماء في الحائط إلى مقدار الكعبين أرسله كله إلى من تحته ولم يحبس منه شيئًا في حائطه.

قال: والأول أحب إلى، وهم أعلم بذلك لأن المدينة دارهما وبها كانت القضية، وبها جرى العمل فيها. وحكى عن ابن القاسم أيضًا.

وقال ابن كنانة: يمسك من أعلى الشجر إلى الكعبين، وفي الزرع إلى شراك النعلين، والجماعة على أن الحكم الآن أن يمسك إلى الكعبين

(3)

، قاله ابن التين.

قال ابن حبيب: وما كان من الخلج والسواقي التي يجتمع أهل القرى على إنشائها وإجراء الماء فيها لمنافعهم، يقل الماء فيها ونضب عنها في أوقات نضوبه فالأعلى والأسفل فيها بالسواء، يقسم على قدر حقوقهم فيها استوت حاجاتهم أو اختلفت، قاله ابن القاسم وغيره

(4)

.

(1)

ليست في (س).

(2)

انظر: "المنتقى" 6/ 34.

(3)

انظر: "المنتقى" 6/ 34، "النوادر والزيادات" 11/ 26.

(4)

انظر: "النوادر والزيادات" 11/ 79.

ص: 350

وقال الطبري: الأراضي مختلفة فيمسك لكل أرض بقدر ما يكفيها، ورأى أن الجواب للزبير قصة عين.

وقال القرطبي في حديث الباب: أن الأولى بالماء البخاري الأول فالأول حتى يستوفي حاجته، وهذا ما لم يكن أصله ملكًا للأسفل مختصًا به، فإن كان ملكه فليس للأعلى أن يشرب منه شيئًا، وإن كان

يمر عليه.

وفيه: الاكتفاء للخصوم بما يفهم عنهم مقصودهم وأن لا يكلفوا النص على الدعاوى ولا تحرير المدعى فيه ولا حصره بجميع صفاته.

وفيه: إرشاد الحاكم إلى الإصلاح

(1)

.

(1)

"المفهم" 6/ 156.

ص: 351

‌9 - باب فَضْلِ سَقْيِ المَاءِ

2363 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ سُمَيٍّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"بَيْنَا رَجُلٌ يَمْشِي فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ العَطَشُ، فَنَزَلَ بِئْرًا فَشَرِبَ مِنْهَا، ثُمَّ خَرَجَ فَإِذَا هُوَ بِكَلْبٍ يَلْهَثُ، يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ العَطَشِ، فَقَالَ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا مِثْلُ الذِي بَلَغَ بِي فَمَلأَ خُفَّهُ، ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ، ثُمَّ رَقِيَ، فَسَقَى الكَلْبَ، فَشَكَرَ اللهُ لَهُ، فَغَفَرَ لَهُ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَإِنَّ لَنَا فِي البَهَائِمِ أَجْرًا؟ قَالَ:"فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ". تَابَعَهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، وَالرَّبِيعُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ. [انظر: 173 - مسلم: 2244 - فتح: 5/ 40]

2364 -

حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ عُمَرَ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى صَلَاةَ الكُسُوفِ، فَقَالَ:"دَنَتْ مِنِّي النَّارُ حَتَّى قُلْتُ: أَيْ رَبِّ، وَأَنَا مَعَهُمْ؟! فَإِذَا امْرَأَةٌ -حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ:- تَخْدِشُهَا هِرَّةٌ، قَالَ: مَا شَأْنُ هَذِهِ؟ قَالُوا: حَبَسَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ جُوعًا". [انظر: 745 - فتح 5/ 41]

2365 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ حَبَسَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ جُوعًا، فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ -قَالَ: فَقَالَ وَاللهُ أَعْلَمُ-: لَا أَنْتِ أَطْعَمْتِهَا وَلَا سَقَيْتِهَا حِينَ حَبَسْتِيهَا، وَلَا أَنْتِ أَرْسَلْتِيهَا فَأَكَلَتْ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ". [3318، 3482 - مسلم: 2242 - فتح: 5/ 41]

ذكر فيه ثلاثة أحاديث:

أحدها: عن أبي هريرة أن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "بَيْنَا رَجُلٌ يَمْشِي فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ العَطَشُ، فَنَزَلَ بِئْرًا فَشَرِبَ مِنْهَا، ثُمَّ خَرَجَ فَإِذَا هُوَ بِكَلْبٍ يَلْهَثُ، يَأكُلُ الثَّرى مِنَ العَطَش .. " الحديث.

ثانيها: حديث أسماء بنت أبي بكر في الكسوف، وذكر الهرة.

ص: 352

ثالثها: حديث ابن عمر في الهرة أيضًا.

الشرح:

حديث أبي هريرة سبق في الطهارة مختصرًا في باب: الماء الذي يغسل به شعر الإنسان

(1)

. وسقي الماء من أعظم القربات، قال بعض التابعين: من كثرت ذنوبه فعليه بسقي الماء. وإذا غفرت ذنوب الذي سقى كلب فما ظنكم بمن سقى مؤمنًا موحدًا وأحياه بذلك.

قال ابن التين: وقد روي عنه مرفوعًا أنه دخل على رجل في السياق

(2)

فقال له: "ماذا ترى؟ " فقال: أرى ملكين يستأخران وأسودان يدنوان وأرى الشر ينمى والخير يضمحل فأغثني منك بدعوة يا نبي الله. فقال: "اللهم أشكر له اليسير واعفُ عنه الكثير". ثم قال له: "ماذا ترى؟ " فقال: أرى المبكين يدنوان والأسودان يستأخران وأرى الخير ينمى والشر يضمحل. قال: "فما وجدت أفضل عملك؟ " قال: سقي الماء.

وفي حديث: سئل: أي الصدقة أفضل؟ قال: "سقي الماء"

(3)

.

قال الذي "الروضة" وجاءت أحاديث كثيرة بالحث على الصدقة بالماء

(4)

، وقد احتج بهذا الحديث من أجاز صدقة التطوع على المشركين لعموم قوله آخر الحديث:"في كل كبد رطبة أجر".

(1)

سلف برقم (173).

(2)

السياق: نزع الروح. "الصحاح" 4/ 1500.

(3)

روى أبو داود مختصرًا (1679) من حديث سعد بن عبادة بلفظ أن سعدًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أي الصدقة أعجب إليك؟ قال: "الماء". قال الألباني في "صحيح سنن أبي داود"(1474): إسناده مرسل صحيح.

(4)

"روضة الطالبين" 2/ 343.

ص: 353

وفيه: أن المجازاة على الخير والشر قد يكون يوم القيامة من جنس الأعمال، كما قال عليه السلام:"من قتل نفسه بحديدة عذب بها في نار جهنم"

(1)

.

وقوله: (يلهث). قال صاحب "الأفعال": لهث الكلب -بفتح الهاء وكسرها-: إذا دلع لسانه عطشًا، ولهث الإنسان إذا اشتد عطشه

(2)

، وقال صاحب "المطالع":(لِهُث)

(3)

[لهثًا]

(4)

إذا خرج لسانُه من العطش أو الحر، واللُّهاث -بضم اللام- حرُّ العطش، وقال ابن التين: يلهث أي يخرج لسانه من العطش، وكذلك الطائر ولهث الرجل إذا أعيى، وقيل معناه يبحث بيديه ورجليه في الأرض، وفي "المنتهى" هو ارتفاع النفس. يلهث لهثًا ولهاثًا، ولهث يلهث لهثًا ولهاثًا إذا عطش، واللهَثَان بالتحريك العطش.

وقوله: ("من العطش") كذا رأيناه في الأصول وذكره ابن التين: العطاش، ثم قال: وصوابه العطش قال: وكذا عند أبي ذر، وإنما العطاش داء يصيب الصبي فيشرب فلا يروى، وقيل يصح على تقدير أن العطش يحدث منه داء فيكون العطاش اسمًا للداء كالزكام.

وقوله ("يأكل الثرى") مقصور يكتب بالياء إذا كان من الندى يقال: كان مطر التقى منه الثريان: أي: الباطن والظاهر، أي: ترشح الأرض لكثرة المطر حتى يلتقي هو وندى الأرض.

(1)

سلف برقم (1363) من حديث ثابت بن الضحاك كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في قاتل النفس.

(2)

كتاب: "الأفعال" ص 250.

(3)

وردت في الأصل وعليها كلمة (كذا).

(4)

في الأصل: (بها)، ولعل الصواب ما أثبتناه.

ص: 354

وقوله: ("بلغ هذا مثل الذي بلغ بي") قال ابن التين: ضبط بنصب لام مثل على تقدير أن الكلب بلغ مبلغًا مثل الذي بلغ بي، وهو ما ضبطه الدمياطي بخطه.

وقوله: ("في كل كبد رطبة أجر") قال الداودي: يعني: كبد كل حي من ذوات الأنفس.

وقال أبو عبد الملك: هذا الحديث من أحاديث بني إسرائيل، فأما الإسلام فقد أمر الشارع بقتل الكلاب، والحديث خصوص لبعض البهائم، والخنزير والسبع وسائر الوحوش لها كبد رطبة لا يستعمل هذا الحديث فيها؛ لأنها تقوى على الضرر، ولا يستعمل الحديث إلا فيما لا يضر من البهائم.

و (الكبد) مؤنثة، ولذلك قال:"رطبة". وفيها لغتان: كَبِد وكِبِد ذكره ابن التين

(1)

، وأهمل ثالثة كِبْد بالتخفيف حكاها في "المنتهى" كما في فخذ، وقال أبو حاتم: كما نقله في "المخصص": الكبد يذكر،

والجمع أكباد وأكبد وكبود

(2)

.

وقوله: ("ثم رقي فسقى الكلب") كذا هو في الأصول بالياء، وقال ابن التين: كذا وقع: رقى، وصوابه: رقي، أي: صعد. قال تعالى: {أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ} [الإسراء: 93] وأما رقى -بفتح القاف- فمن الرقية، وليس هذا موضعه، وذكر أن لغة طيء: رقى بمعنى صعد، ويفعلون كذلك في

(1)

والذي عليه أهل اللغة فتح الأول وكسر الثاني، فتح الأول وتسكين الثاني، كسر الأول وتسكين الثاني، وليس فيها كسر الأول والثاني على ما حكاه ابن التين إلا إذا كان الوسط حرف حلق. انظر:"شذور الذهب" ص 12.

(2)

"المخصص" 5/ 186، قلت: والذي فيه: (الكبد مؤنثة، فيها ثلاث لغات: كَبِد وكَبْد وكِبْد، وجمعه أكباد وأكبد وكبود).

ص: 355

كل ما كان من الأفعال معتل اللام نحو: عمي ورقي يفتحون العين منه، وقوله في حديث أسماء:"دنت منِّي النار" أي: مثلت له في القبلة.

وقوله: "حبستها حتَّى ماتت جوعًا" فيه: أنه ليس على الشخص إطعام ما يعيش بصيده، والممنوع حبسها وتركها من غير طعام.

"وخشاش الأرض" بتثليث الخاء: الدَّواب، واقتصر ابن فارس على الفتح

(1)

، وأبو عبيد على الكسر. قال: إلا الطير الصغير فإنه ثبت بالفتح، قال في "الغريب المصنف": وهي شرار الطير، وحكى

صاحب "المطالع": الضم أيضًا، وتبعه القرطبي، وهي: الهوام

(2)

.

وقال الجوهري: هي بالكسر الحشرات وقد تفتح

(3)

.

قلت: والرجل الخشاش: الصغير الرأس، بالفتح والكسر، والخشاش: الحية الصغيرة، قال الداودي: وذكر البخاري قصة الهرة؛ لذكر الكبد، وعندي: إنما ذكرها لقوله: "ولا سقتها" ففي سقي الماء فضل كما سلف، وظاهر الحديث: يدلُّ على تملك الهر، وفيه خلاف، وهو الأصح؛ لأنه أضافها للمرأة بلا لام التي هي ظاهرة في الملك.

(1)

"مقاييس اللغة" 1/ 303 مادة: (خشش).

(2)

"المفهم" 5/ 544.

(3)

"الصحاح" 3/ 1004 مادة: (خشش).

ص: 356

‌10 - باب مَنْ رَأَى أَنَّ صَاحِبَ الحَوْضِ وَالقِرْبَةِ أَحَقُّ بِمَائِهِ

2366 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ العَزِيزِ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه قَالَ: أُتِيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِقَدَحٍ فَشَرِبَ وَعَنْ يَمِينِهِ غُلَامٌ، هُوَ أَحْدَثُ القَوْمِ، وَالأَشْيَاخُ عَنْ يَسَارِهِ قَالَ:"يَا غُلَامُ، أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَ الأَشْيَاخَ؟ ". فَقَالَ: مَا كُنْتُ لأُوثِرَ بِنَصِيبِي مِنْكَ أَحَدًا يَا رَسُولَ اللهِ. فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ. [انظر: 2351 - مسلم: 2030 - فتح: 5/ 42]

2367 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"وَالذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لأَذُودَنَّ رِجَالًا عَنْ حَوْضِي كَمَا تُذَادُ الغَرِيبَةُ مِنَ الإِبِلِ عَنِ الحَوْضِ". [مسلم: 2302 - فتح: 5/ 42]

2368 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوبَ، وَكَثِيرِ بْنِ كَثِيرٍ -يَزِيدُ أَحَدُهُمَا عَلَى الآخَرِ - عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضى الله عنهما: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "يَرْحَمُ اللهُ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ، لَوْ تَرَكَتْ زَمْزَمَ -أَوْ قَالَ: لَوْ لَمْ تَغْرِفْ مِنَ المَاءِ- لَكَانَتْ عَيْنًا مَعِينًا، وَأَقْبَلَ جُرْهُمُ فَقَالُوا: أَتَأْذَنِينَ أَنْ نَنْزِلَ عِنْدَكِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، وَلَا حَقَّ لَكُمْ فِي المَاءِ. قَالُوا: نَعَمْ". [3362، 3363، 3364، 3365 - فتح: 5/ 42]

2369 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ: رَجُلٌ حَلَفَ عَلَى سِلْعَةٍ لَقَدْ أَعْطَى بِهَا أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَى وَهْوَ كَاذِبٌ، وَرَجُلٌ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ كَاذِبَةٍ بَعْدَ العَصْرِ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ رَجُلٍ مُسْلِمٍ، وَرَجُلٌ مَنَعَ فَضْلَ مَاءٍ، فَيَقُولُ اللهُ: اليَوْمَ أَمْنَعُكَ فَضْلِي كَمَا مَنَعْتَ فَضْلَ مَا لَمْ تَعْمَلْ يَدَاكَ". قَالَ عَلِيٌّ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ -غَيْرَ مَرَّةٍ- عَنْ عَمْرٍو، سَمِعَ أَبَا صَالِحٍ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم. [انظر: 2358 - مسلم: 108 - فتح: 5/ 43]

ص: 357

ذكر فيه أربعة أحاديث:

أحدها: حديث سهل بن سعد الساعدي قَالَ: أُتِيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِقَدَحٍ .. الحديث. وقد سلف قريبا

(1)

.

ثانيها: حديث أبي هريرة، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لأذودَنَّ رِجَالًا عَنْ حَوْضِي كَمَا تُذَادُ الغَرِيبَةُ مِنَ الإِبِلِ عَنِ الحَوْضِ".

ثالثها: حديث ابن عباس، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"يَرْحَمُ اللهُ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ، لَوْ تَرَكَتْ زَمْزَمَ -أَوْ قَالَ: لَوْ لَمْ تَغْرِفْ مِنَ المَاءِ- لَكَانَتْ عَيْنًا مَعِينًا، وَأَقْبَلَ جُرْهُمُ فَقَالُوا: أَتأْذَنِينَ أَنْ نَنْزِلَ عِنْدَكِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، وَلَا حَقَّ لَكُمْ فِي المَاءِ. قَالُوا: نَعَمْ".

رابعها: حديث أبي هريرة: عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "ثَلَاَثةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ .. " الحديث، وقد سلف قريبًا

(2)

، وفيه: ورجل منع فضل ماء، فيقول الله تعالى:"اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمل يداك"، وقال علي: ثنا سفيان غير مرة، عن عمرو، سمع أبا صالح يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم.

الشرح: لا خلاف فيما ترجم له، وهو أن صاحب الحوض أحقُّ بمائه؛ لقوله:"لأذودن رجالًا عن حوضي".

أما حديث سهل في الغلام والأشياخ: فصاحب الماء واللبن أحقُّ به أيضًا أولًا ثم يستحقه المتيامن منه. وكان بين الحوض والقربة والقدح فرق لأنه لو كان صاحب القدح أحق به أبدًا لما استأذن الشارع

الغلام الذي كان عن يمينه أن يعطي الأشياخ، وإنما تصح الترجمة في

(1)

سلف برقم (2351) باب في الشرب ومن رأى صدقة الماء ..

(2)

سلف برقم (2358) باب إثم من منع ابن السبيل من الماء ..

ص: 358

الابتداء أن صاحب الماء أولى به، ثم الأيمن فالأيمن أولى من صاحب الماء أن يعطيه غيره.

وإنما هذا فيما يؤكل أو يشرب من الموضع بين يدي الجماعة. وأما في المياه والآبار والجباب والعيون فصاحبها أولى بها في أن يعطي من شاء آخرًا بخلاف حديث الغلام، وكذلك في مسألة أم إسماعيل أحق بمائها أولًا وآخرًا، وسيأتي في أحاديث الأنبياء

(1)

، وهو مطابق للتبويب؛ لقولها:"ولا حقَّ لكم في الماء".

وقال ابن المنير: استدلال البخاري به ألطف من ذلك؛ لأنه إذا استحقه الأيمن في هذِه الحالة بالجلوس واختص، فكيف لا يختص صاحب اليد والمتسبب في تحصيله

(2)

؟

والمراد بالرجال الذين يذادون عن حوضه هم المرتدون الذين بدلوا كما ذكره البخاري في "صحيحه" عن قبيصة فيما سيأتي

(3)

، وقال ابن التين: هم المنافقون. وقال ابن الجوزي: هم المبتدعون. وقال القرطبي: هم الذين لا سيما لهم من غير هذِه الأمة.

فإن قلت: كيف يأتون غُرًّا محجلين والمرتد لا غرة له ولا تحجيل؟

فالجواب: أنه عليه السلام قال: "تأتي كل أمة فيها منافقوها"

(4)

، وقد قال تعالى:{انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد: 13] فصحَّ أن المؤمنين يحشرون وفيهم المنافقون الذين كانوا معهم في الدنيا حتى يضرب

(1)

سيأتي برقم (3362).

(2)

"المتواري" ص 265.

(3)

سيأتي بعد حديث (3447) كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: قول الله {وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ مَرْيَمَ} الآية.

(4)

سلف برقم (806) كتاب الأذان، باب فضل السجود.

ص: 359

بينهم بسور، والمنافق لا غرة له ولا تحجيل، لكن المؤمنون سموا غرًّا محجلين بالجملة، وإن كان المنافق في خلالهم.

وقال ابن المنير: ظن المهلب أن وجه الدليل من حديث الحوض اختصاص صاحب الحوض بمائه، وهو وهم فإن تنزيل أحكام التكاليف على وقائع الآخرة غير ممكن، وأما استدلاله بقوله:"كما تذاد الغريبة من الإبل عن الحوض" فما شبه بذودها في الدنيا إلا ولصاحب الحوض منع غير إبله من مائه، ولو كان المنع في الدنيا تعديًا لما شبه به ذلك المنع الذي هو حق

(1)

، وأخذه أيضًا ابن التين من ذلك.

فإن قلت: كيف خفي حالهم على صاحب الشريعة؟ وقد قال: "تعرض عليَّ أعمال أمتي"

(2)

.

فالجواب: إنما يعرض عليه أعمال الموحدين لا المنافقين والكافرين، نبه عليه ابن الجوزي، وقد يقال: إنهما ليسا من أمته.

وحديث أبي هريرة

(3)

قال ابن التين: ليس هو ما يشبه الباب في شيء، وقال الخطابي: معناه: إذا كنت تمنع فضل الماء الذي لم تعطه بكدك وكدحك إنما هو رزق ساقه الله إليك فما الذي تسمح به بعد

(4)

؟

(1)

"المتواري" ص 265 - 266.

(2)

رواه مسلم (553) كتاب المساجد، باب النهي عن البصاق في المسجد في الصلاة وغيرها.

(3)

ورد بهامش الأصل ما نصه: الظاهر أن البخاري أخذه من إضافة الماء إليه.

(4)

"أعلام الحديث" 2/ 1179.

ص: 360

خاتمة:

لما أعاد البخاري حديث أبي هريرة في ذكر الحوض ذكره معلقًا من طريق عبيد الله بن أبي رافع، عن أبي هريرة

(1)

، وهذا الحديث مما كاد أن يبلغ مبلغ القطع والتواتر على رأى جماعة من العلماء يجب الإيمان به، فيما حكاه غير واحد، رواه عنه الجم الغفير منهم في "الصحيح": ابن عمر

(2)

، وابن مسعود، وجابر بن سمرة، وجندب بن عبد الله، وزيد بن أرقم، وعبد الله بن عمرو، وأنس بن مالك، وحذيفة

(3)

.

وأخرجه أبو القاسم اللالكائي من طريق ثوبان، وأبي بردة، وجابر بن عبد الله، وأبي سعيد الخدري، وبريدة

(4)

، وأخرجه القاضي أبو الفضل من طريق عقبة بن عامر، وحارثة بن وهب، والمستورد، وأبي برزة، وأبي أمامة، وعبد الله بن زيد، وسهل بن سعد، وسويد بن جبلة، والصديق، والفاروق، والبراء، وعائشة، وأسماء أختها، وأبي بكرة، وخولة بنت قيس، وأبي ذر، والصنابحي في آخرين

(5)

.

(1)

سيأتي عقب حديث (6586) كتاب: الرقاق، باب: في الحوض.

(2)

ورد بهامش الأصل ما نصه: وله في المسند حديث غير حديثه في "الصحيح".

(3)

روى هذِه الأحاديث البخاري في كتاب: الرقاق، باب: في الحوض، ورواها مسلم في كتاب: الفضائل، باب: إثبات حوض نبينًا صلى الله عليه وسلم وصفاته.

(4)

"شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة" 6/ 1191 - 1198.

(5)

وقع بالأصل: قال الذهبي: سويد لا تصح له صحبة. سيأتي حديثه مرسل، وبعضهم يقول: له صحبة. وفي "المسند" من حديث خولة بنت حكيم، وحديث بنت قيس في "المسند" للحميدي أيضًا، ومن حديث ابن عباس، وحديث جابر بن عبد الله في "المسند" وعزاه المصنف للَّالكائي، ويحتمل أن يكون غير الحديث الذي في "المسند"، ولأبي أمامة في "المسند" حديث فيه، وبعضه في الترمذي وابن ماجه، وقد عقبه عبد الله، فقال: وجدت هذا الحديث في كتاب أبي بخط يده =

ص: 361

فائدة:

معنى (لأذودن) لأطردن، وفي رواية:"ليذادن رجال" أي: يطردون، قال صاحب "المطالع": كذا رواه أكثر الرواة عن مالك في "الموطأ"، ورواه يحيى ومطرف وابن نافع:"فلا يذادن"

(1)

ورده ابن وضاح على الرواية الأولى، وكلاهما صحيح المعنى، والنافية أفصح وأعرف، ومعناه: فلا تفعلوا فعلًا يوجب ذلك كما قال عليه السلام: "لا ألفين أحدكم على رقبته بعير"

(2)

أي: لا تفعلوا ما يوجب ذلك.

فائدة: قوله: "اليوم أمنعك فضلي" إلى آخره إشارة إلى قوله تعالى: {أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ المُزْنِ أَمْ نَحْنُ المُنْزِلُونَ (69)} [الواقعة: 69] وفيه: أنه من باب المعروف لا الوجوب، وقال عبد الملك: هذا يخفي معناه، ولعله يريد أن البئر ليست من حفر هذا الرجل، وهو للسبيل وإنما هو في منعه ماءه غاصب ظالم، وهذا ليس يريد فيما حازه وعمله، ويحتمل أن يكون هو حفرها ومنع من صاحب الشنة، ويكون معنى:"ما لم تعمل يداك" أي بنبع ولا إخراج.

= وضرب عليه، فظننتُ: إنه ضرب عليه؛ لأنه خطأ، إنما هو عن زيد عن أبي سلام، عن أبي أمامة. (

) فيه حديث.

(1)

رواه يحيى في "الموطأ" 1/ 44.

(2)

سيأتي برقم (3073) كتاب الجهاد والسير، باب الغلول.

ص: 362

‌11 - باب لَا حِمَى إِلَّا للهِ وَلِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم

-

2370 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ الصَّعْبَ بْنَ جَثَّامَةَ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا حِمَى إِلَّا للهِ وَلِرَسُولِهِ". وَقَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَمَى النَّقِيعَ، وَأَنَّ عُمَرَ حَمَى السَّرَفَ وَالرَّبَذَةَ. [3013 - فتح: 5/ 44]

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ الصَّعْبَ بْنَ جَثَّامَةَ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا حِمَى إِلَّا للهِ وَلِرَسُولِهِ". وَقَالَ: بَلَغَنَا

(1)

أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَمَى النَّقِيعَ، وَأَنَّ عُمَرَ حَمَى السَّرَفَ وَالرَّبَذَةَ.

هذا الحديث من أفراده، ووقع في "الإلمام" للشيخ تقي الدين القشيري أنه من المتفق عليه وهو من الناسخ، فقد قال هو في "الاقتراح": إنه على شرطهما وإنهما لم يخرجاه

(2)

.

وهذا البلاغ من قول الزهري، كما نص عليه أبو داود

(3)

وجعله عبد الحق من قول البخاري، وقد أسنده أبو داود والحاكم من حديث ابن عباس، وقال الحاكم: صحيح الإسناد

(4)

، وبخط الدمياطي

(5)

(1)

ورد بهامش الأصل: في نسختي قال أبو عبد الله: وبلغنا .. إلى آخره وعليها صورة (

).

(2)

"الاقتراح" ص 97.

(3)

رواه أبو داود (3083).

(4)

أبو داود (3084) والحاكم 2/ 61 ووقع في المطبوع منه: البقيع بدلًا من النقيع، وقال الخطابي في "إصلاح غلط المحدثين" ص 155: النقيع موضع وليس البقيع الذي هو مدفن الموتى بالمدينة.

(5)

في هامش الأصل: وما كتبه الدمياطي بخطه قال وحكاه في "المطالع" فقال ما نصه: وأما عن حمى عمر بالمدينة فجاء فيها أنه حمى السرف والربذة كذا عنده

ص: 363

كذا عند البخاري: (السرَف) بسين مهملة وهو خطأ، والصواب بالشين المعجمة وفتح الراء، كذا رواه ابن وهب في "موطئه" وهو من عمل المدينة.

وقال ابن التين: إنه بين مكة والمدينة، وأما سَرِف فمن عمل مكة على ستة أميال منها، وقيل: سبعة، وقيل: تسعة، وقيل: اثني عشر، ولا يدخله الألف واللام

(1)

.

وقال ابن التين: وقع في بعض روايات البخاري: وقال أبو عبد الله: وبلغنا. فجعله من قول البخاري، وذكره ابن وهب في "موطئه" عن يونس.

(والنقيع) بنون قطعًا، ومن قاله بالباء فقد صحفه، كما نبه عليه الخطابي

(2)

، وهو على عشرين فرسخًا من المدينة، وقيل: على عشرين ميلًا، ومساحته بريد في بريد. قال ياقوت: وهو غير نقيع الخَضِمَات الذي كان عمر حماه

(3)

، وكذا ذكره الحازمى وعكس ذلك أبو عبيد البكري

(4)

.

والأصل في النقيع: أنه كل موضع يستنقع فيه الماء، فإذا نضب نبت فيه الكلأ. وزعم ابن الجوزي أن بعضهم ذهب إلى أنهما واحد، قال: والأول أصح وذكره الأصمعي بالباء خطأ، فقال: البقيع: القاع، يقال: انزل بذاك البقيع أي: القاع والجمع: البقعان.

= بسين مهملة كالأول وفي "موطأ ابن وهب" الشرف بالمعجمة وفتح الراء وهكذا رواه بعض رواة البخاري وأصلحه وهو الصواب، انتهى وقد أعاد ذكره في المعجمة وقال تقدم.

(1)

انظر: "معجم البلدان" 3/ 212.

(2)

"إصلاح غلط المحدثين" ص 155.

(3)

"معجم البلدان" 5/ 301 - 302.

(4)

"معجم ما استعجم" 1/ 265، 4/ 1323 - 1324.

ص: 364

وزعم ابن التين وابن الأثير أن الشريف كان في الجاهلية إذا نزل أرضًا في حيه استعوى كلبًا (فحمى)

(1)

مدى عوي الكلب لا يشركه فيه غيره، وهو يشارك القوم في سائر ما يرعون، فنهى الشارع عن ذلك وأضاف الحمى إلى الله ورسوله، أي: إلا ما حمى للخيل المرصدة للجهاد والإبل المعدة للحمل في سبيل الله ولإبل الزكاة وغيرها، كما حمى عمر النقيع لإبل الصدقة

(2)

، وحماها بالكلب عجيب، فإنهم يحمون بما شاءوا، نعم كان وائل بن ربيعة التغلبي فعل ذلك فغلب عليه اسم كليب؛ لأنه حمى الحمى بعوي كلب كان يقطع يديه ويدعه وسط مكان يريده، فأي موضع بلغ عواه لا يقربه أحد، وبسببه كانت حرب البسوس المشهورة.

وأصل الحمى في اللغة: المنع، يعني: لا منع لما لا مالك له من الناس من أرضٍ أو كلأ إلا لله ورسوله. وذكر ابن وهب أن النقيع الذي حماه الشارع قدره ميل في ثمانية أميال حماه لخيل المهاجرين، وقد أسلفنا أن مساحته بريد في بريد، وحمى أبو بكر الربذة لما يحمل عليه في سبيل الله نحو خمسة أميال في مثلها، وحمى ذلك عمر لإبل الصدقة وحمى أيضًا السرف وهو مثل الربذة.

وزاد عثمان في الحمى لما كثرت الإبل والبقر في أيامه من الصدقات. أصل فعلهم ذلك من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمعنى قوله:("لا حمى إلا لله ولرسوله") أي: أنه لا حمى لأحد يخص نفسه يرعى فيه ماشيته دون سائر الناس، وإنما هو لله ولرسوله ولمن ورث

(1)

كذا في الأصل وفي (ف): فحوى.

(2)

"النهاية في غريب الحديث" 1/ 447.

ص: 365

ذلك عنه من الخلفاء بعده إذا احتاج إلى ذلك لمصلحة المسلمين، كما فعل الصديق والفاروق وعثمان لما احتاجوا إلى ذلك.

وقد عاتب رجل من العرب عمر، فقال له: بلاد الله حميت لمال الله، وأُنْكِرَ أيضًا على عثمان أنه زاد في الحمى، وليس لأحد أن ينكر ذلك؛ لأنه عليه السلام قد تقدم إليه ولخلفائه الاقتداء به والاهتداء، وإنما يحمي الإمام ما ليس بملك لأحد مثل: بطون الأودية والجبال والموات، وإن كان قد ينتفع المسلمون بتلك المواضع فمنافعهم في حماية الإمام لها أكثر.

وقال ابن التين: معنى الحديث: لا حمى إلا على ما أذن الله لرسوله أن يحميه لا ما كان يحميه العزيز في الجاهلية كما سلف.

ص: 366

‌12 - باب شُرْبِ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ مِنَ الأَنْهَارِ

2371 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"الخَيْلُ لِرَجُلٍ أَجْرٌ، وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ، وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ، فَأَمَّا الَّذِي لَهُ أَجْرٌ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ، فَأَطَالَ بِهَا فِي مَرْجٍ أَوْ رَوْضَةٍ، فَمَا أَصَابَتْ فِي طِيَلِهَا ذَلِكَ مِنَ المَرْجِ أَوِ الرَّوْضَةِ كَانَتْ لَهُ حَسَنَاتٍ، وَلَوْ أَنَّهُ انْقَطَعَ طِيَلُهَا فَاسْتَنَّتْ شَرَفًا أَوْ شَرَفَيْنِ كَانَتْ آثَارُهَا وَأَرْوَاثُهَا حَسَنَاتٍ لَهُ، وَلَوْ أَنَّهَا مَرَّتْ بِنَهَرٍ فَشَرِبَتْ مِنْهُ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَسْقِيَ كَانَ ذَلِكَ حَسَنَاتٍ لَهُ، فَهِيَ لِذَلِكَ أَجْرٌ، وَرَجُلٌ رَبَطَهَا تَغَنِّيًا وَتَعَفُّفًا ثُمَّ لَمْ يَنْسَ حَقَّ اللهِ فِي رِقَابِهَا وَلَا ظُهُورِهَا، فَهِيَ لِذَلِكَ سِتْرٌ، وَرَجُلٌ رَبَطَهَا فَخْرًا وَرِيَاءً وَنِوَاءً لأَهْلِ الإِسْلَامِ، فَهِيَ عَلَى ذَلِكَ وِزْرٌ". وَسُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الحُمُرِ، فَقَالَ: "مَا أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهَا شَيْءٌ إِلَّا هَذِهِ الآيَةُ الجَامِعَةُ الفَاذَّةُ {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} [الزلزلة 7 - 8]. [2860، 3646، 4962، 4963، 7356، 1402، 1403، 2378، 3073، 4565، 4659، 6957، 6958، 7356 - مسلم: 987 - فتح: 5/ 45]

2372 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ يَزِيدَ -مَوْلَى المُنْبَعِثِ- عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَهُ عَنِ اللُّقَطَةِ، فَقَالَ:"اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا، ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَشَأْنَكَ بِهَا". قَالَ: فَضَالَّةُ الغَنَمِ؟ قَالَ: "هِيَ لَكَ، أَوْ لأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ". قَالَ: فَضَالَّةُ الإِبِلِ؟ قَالَ: "مَالَكَ وَلَهَا؟ مَعَهَا سِقَاؤُهَا وَحِذَاؤُهَا، تَرِدُ المَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا". [انظر: 91 - مسلم: 1722 - فتح: 5/ 46]

ذكر حديث أبي هريرة أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الخَيْلُ لثلاثة: لِرَجُلٍ أَجْرٌ، وَلرَجُلٍ سِتْرٌ، وَعَلَى رَجُل وِزْرٌ .. " الحديث بطوله وفيه: "ولو أنها مرت بنهر فشربت منه ولم يرد أن يسقي كان ذلك حسنات له".

ص: 367

وحديث زيد بن خالد في اللقطة قال: فضالة الإبل، قال:"مالك ولها معها سقاؤها وغذاؤها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها".

وسيأتي في بابه

(1)

وموضع الترجمة "ترد الماء"، وقام الإجماع على جواز الشرب من الأنهار دون استئذان أحد؛ لأن الله خلقها للناس والبهائم، وأنه لا مالك لها غير الله، وقام أيضًا على أنه لا يجوز لأحد بيع الماء في النهر؛ لأنه لا يتعين لأحد فيه حق، فإذا أخذه في وعائه أو آنيته جاز له بيعه كما سلف. وقال مالك: لا بأس ببيع الماء بالماء متفاضلًا وإلى أجل

(2)

، وهو قول أبي حنيفة. وقال محمد: هو مما يكال أو يوزن، كما صح أنه كان يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع، وعلى هذا لا يجوز عنده فيه التفاضل والنسيئة؛ لأن علته في الربا الكيل والوزن. وقال الشافعي: لا يجوز بيعه متفاضلًا ولا إلى أجل؛

لأن علته في الربا أن يكون مأكولًا جنسًا. ومعنى: ("ولرجل سِتر") أي: تكفه عن المسألة وتغنيه عن الناس.

ومعنى ("ربطها"): أعدها للجهاد، وأصله من الربط، ومنه الرباط، وهو حبس الرجل نفسه في الثغور وإعداده الأهبة لذلك. وقيل: من ربط صاحبه عن المعاصي وعقله عنها فمنَّ كمن ربط وعقل.

وقوله: (فأطال) أي: شدها في طِوَله، وهو حبل يشد أحد طرفيه في خية ووتد، ثم يعلق به الفرس من الطرف الآخر فيه ليدور فيه، ولا يعثر فيذهب على وجهه.

وقوله: ("في مرج")، المرج: الأرض الواسعة.

(1)

سيأتي في كتاب اللقطة برقم (2427) باب: ضالة الإبل، وبرقم (2428)، باب: ضالة الغنم، وبرقم (2429) باب: إذا لم يوجد صاحب اللقطة.

(2)

انظر: "المدونة" 3/ 165.

ص: 368

قال أبو المعالي: تجمع الكلأ الكثير والماء تمرج فيها الدواب حيث شاءت، والجمع: مروج.

والروضة: الموضع الذي يستنقع فيه الماء ويكون فيه نبات مجتمع.

قال أبو عبيد: ولا يكون إلا في ارتفاع

(1)

. وقال الداودي: المكان المرتفع أعلاه يكون فيه الكلأ.

وقال الجوهري: الروضة من البقل والعشب

(2)

.

وقال ابن مزين: المرج: المهمل في المرج، والروضة: ما في طيلة ذلك. والطيل والطول والطَّوِيْلَةُ والتطول كله حبل طويل تشد به قائمة الدابة. وقيل: هو الحبل تشد به ويمسك صاحبه بطرفه ويرسلها ترعى. وفي "الجامع": ومنهم من يشدد فيقول: الطِّوَلُّ.

وقال الجوهري: لم يسمع في الطِّوَل الذي هو الحبل إلا بكسر الأول وفتح الثاني، وشدده الراجز منظور بن مرثد الأسدي ضرورة، وقد يفعلون مثل ذلك كثيرًا، ويزيدون في الحرف من بعض حروفه

(3)

.

وقال ابن وهب فيما حكاه عياض: هو الرسَن، وهو بالياء هنا للكافة

(4)

، ووقع عند البخاري في موضع بالواو بدلها، وأنكر يعقوب الياء، وقال: لا يقال إلا بالواو، وعن الأخفش هما سواء، وهو

منتهى رسن الدابة. وعبارة يعقوب: أما الحبل فلم أسمعه إلا بكسر أوله وفتح الثاني كقولك: أرخ للفرس من طوله، وزعم الخضراوي أن بعضهم أجاز فيه طوال، كما تقوله العامة، وأنكر ذلك الزبيدي وقال: لا أعرفه صحيحًا.

(1)

"غريب الحديث" 1/ 15.

(2)

"الصحاح" 3/ 1081 مادة: (روض).

(3)

"الصحاح" 5/ 1754 مادة: طول.

(4)

"مشارق الأنوار" 1/ 322.

ص: 369

وقوله: ("فاستنت شرفًا أو شرفين") أي: أفلتت فمرحت، والاستنان تفعل من السنن وهو القصد، وقيل: معناه: لجت في عدوها إقبا لًا وإدبارًا. وقيل: إنه يختص بالجري إلى فوق. وقيل: هو النشاط والمرح. وفي "البارع": هو كالرقص. وقيل: استنت: رعت، وقيل: الجري بغير فارس.

وقال الداودي: استنت: علت وهذا لم يقله غيره، والشرف بفتح الشين المعجمة والراء: ما أشرف من الأرض وارتفع.

وقوله: ("فشربت منه ولم يرد أن يسقي")، هذا من باب التنبيه؛ لأنه إذا كان تحصل له هذِه الحسنات من غير أن يقصد سقيها، فإذا قصد وأوفى بأضعافها، ولا يريد به أن يمنعها من شرب يضرُّ بها أو به إذا

احتسبت للشرب بفوته ما يؤمله أو إدراك ما يخافه

(1)

: أو لأنه كره أنها تشرب من ماء غيره بغير إذن.

قال الداودي: فيه دلالة أن يسقي إذا أراد. (والنهر) بفتح الهاء وإسكانها لغتان فصيحتان ذكرهما ثعلب في "فصيحه"

(2)

، والفتح أفصح كما قاله القزاز والهروي. قال ابن خالويه: والأصل فيه التسكين، وإنما جاز فتحه؛ لأن فيه حرفًا من حروف الحلق قال وحروف الحلق إذا وقعت آخر الكلام فتح وسطها، وإذا وقعت وسطًا فتحت نفسها. وعند اللبلي

(3)

قال بعضهم: لأنه حرف استعلاء وفتح

(1)

هكذا في الأصل، والكلام غير مستقيم، وانظر:"المفهم" 3/ 29، "عمدة القاري" 10/ 226.

(2)

"فصيح ثعلب" ص 45.

(3)

هو أبو جعفر أحمد بن يوسف الفهري، توفي بتونس سنة 691 ص، وله "تحفة المجد الصريح في شرح كتاب الفصيح". قال ابن الحنائي: لم تكتحل عين الزمان بمثله في تحقيقه وغزارة فوائده. انظر: "نفح الطيب" 2/ 208، "كشف الظنون" 2/ 1273.

ص: 370

لاستعلائه. وفي "الموعب": نَهَر ونهور، وقال أبو حاتم: نَهْر وأنهار ولا يقال: نهر، وأصله الفسحة، وقوله:("تغنيًا وتعففًا") يعني: يستغني به عما في أيدي الناس، ويتعفف عن سؤالهم بما يعمله عليها

ويكتسبه على ظهورها.

وقوله: ("ولم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها") هو ما للخيل على أربابها في ركوبهم عليها وقودهم إياها بأعناقها بغير تعسف ولا حمل ما لا تطيقه، وقد أمر الشارع بالرفق بها وقيل: هو أن يغيث بها الملهوف ومن تجب معونته. وقال أصحاب أبي حنيفة: يريد وجوب الزكاة فيها، وعلى هذا الحديث اعتمد أصحابه في زكاة الخيل السائمة.

وقوله: ("ونِواء لأهل الإسلام") النواء: بكسر النون والمد: المعاداة، وهو أن ينوي إليك، وينوي إليه أي: ينهض. وقال الداودي: هو بفتح النون والقصر منونًا. كذا روى، والأول قول جماعة أهل اللغة من نوأته نواء إذا عاديته.

قال صاحب "المطالع": والقصر

(1)

مع فتح النون وهم، وعند الإسماعيلي قال ابن أبي الحجاج عن أبي المصعب:(بواء) بالباء. و (الوزر) بكسر الواو و (الإثم) يريد باعتقاده وإن لم يقاتلهم عليها. و (الحُمُرُ) بضم الميم جمع حمار، و (الفاذة) بالذال المعجمة أي: المنفردة القليلة النظير في معناها، وجمعت على انفرادها حكم الحسنات والسيئات المتناولة لكل خير ومعروف، ومعناه: أن من أحسن إليها أو أساء رآه في الآخرة إذا كلفها فوق الطاقة.

(1)

ورد بهامش الأصل: يعني مع القصر فإنه كذا عزاه الداودي ووهمه.

ص: 371

وقال ابن مسعود: هذِه أعدل آية في القرآن

(1)

، ولم ينكر عليه عمر، وقد يحتج به من رأى أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن مجتهدًا وإنما كان يحكم بالوحي، وأجيب: بأنه لم يظهر له أو (يفسر)

(2)

الله من أحكامها وأحوالها ما قاله في الخيل وغيرها، وإنما لم يسأله عن البغال لقلتها عندهم أو لأنها بمنزلة الحمار، وفي الحديث إشارة إلى التمسك بالعموم وهو تنبيه الآية على الاستنباط والقياس وكيف يفهم معنى التنزيل؛ لأنه نبه بما لم يذكر الله في كتابه وهي الحمر بما ذكر "من عمل مثقال ذرة خيرًا" إذ كان معناهما واحدًا، وهذا نفس القياس الذي ينكره من لا تحصيل له.

وحديث اللقطة فيه العفاص والوكاء وهما بكسر أولهما، والأول: الوعاء، والثاني: الربط

(3)

، يقال: أوكيته إيكاءً فهو موكى بغير همز. قال ابن القاسم: (العفاص): الخرقة، و (الوكاء): الخيط وعكسه أشهب. قال ابن التين: وأهل اللغة على الأول، و (سقاؤها): جوفها فتستغني به حتى ترد الماء، و (حذاؤها): خفها، وأصل الحذاء: النعال التي تحذى فقيل لأخفافها: حذاء من ذلك، وكذلك يقال لحوافر الخيل. قال المازري: أعناقها.

(1)

وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 1/ 573 - 574 عن ابن مسعود أنه قال "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أعظم آية في القرآن {اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ} وأعدل آية في القرآن {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} وأخوف آية في القرآن {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} وأرجى آية في القرآن {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ} وعزاه لابن مردويه والشيرازي في "الألقاب"، والهروي في "فضائله".

(2)

كذا في الأصل وفي (ف): يعين.

(3)

انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير 3/ 263 مادة (عفص)، "لسان العرب" 5/ 3014 مادة (عفص)، 8/ 4904، مادة (وكأ)، "تاج العروس" 9/ 308 (عفص)، "غريب الحديث" لابن سلام 1/ 317.

ص: 372

‌13 - باب بَيْعِ الحَطَبِ وَالكَلإِ

2373 -

حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ العَوَّامِ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ أَحْبُلًا، فَيَأْخُذَ حُزْمَةً مِنْ حَطَبٍ فَيَبِيعَ، فَيَكُفَّ اللهُ بِهِ وَجْهَهُ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أُعْطِيَ أَمْ مُنِعَ". [انظر: 1471 - فتح: 5/ 46]

2374 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ -مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ- أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لأَنْ يَحْتَطِبَ أَحَدُكُمْ حُزْمَةً عَلَى ظَهْرِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ أَحَدًا فَيُعْطِيَهُ أَوْ يَمْنَعَهُ". [انظر: 1470 - مسلم: 1042 - فتح: 5/ 46]

2375 -

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا هِشَامٌ، أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِيهِ حُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنهم أَنَّهُ قَالَ: أَصَبْتُ شَارِفًا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَغْنَمٍ يَوْمَ بَدْرٍ قَالَ: وَأَعْطَانِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم شَارِفًا أُخْرَى، فَأَنَخْتُهُمَا يَوْمًا عِنْدَ بَابِ رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ، وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَحْمِلَ عَلَيْهِمَا إِذْخِرًا لأَبِيعَهُ، وَمَعِي صَائِغٌ مِنْ بَنِي قَيْنُقَاعَ فَأَسْتَعِينَ بِهِ عَلَى وَلِيمَةِ فَاطِمَةَ، وَحَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ يَشْرَبُ فِي ذَلِكَ البَيْتِ مَعَهُ قَيْنَةٌ، فَقَالَتْ: أَلَا يَا حَمْزَ لِلشُّرُفِ النِّوَاءِ. فَثَارَ إِلَيْهِمَا حَمْزَةُ بِالسَّيْفِ، فَجَبَّ أَسْنِمَتَهُمَا، وَبَقَرَ خَوَاصِرَهُمَا، ثُمَّ أَخَذَ مِنْ أَكْبَادِهِمَا -قُلْتُ لاِبْنِ شِهَابٍ: وَمِنَ السَّنَامِ؟ قَالَ: قَدْ جَبَّ أَسْنِمَتَهُمَا فَذَهَبَ بِهَا- قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: قَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه: فَنَظَرْتُ إِلَى مَنْظَرٍ أَفْظَعَنِي فَأَتَيْتُ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَعِنْدَهُ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ فَأَخْبَرْتُهُ الخَبَرَ، فَخَرَجَ وَمَعَهُ زَيْدٌ، فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ، فَدَخَلَ عَلَى حَمْزَةَ فَتَغَيَّظَ عَلَيْهِ فَرَفَعَ حَمْزَةُ بَصَرَهُ وَقَالَ: هَلْ أَنْتُمْ إِلَّا عَبِيدٌ لآبَائِي فَرَجَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُقَهْقِرُ حَتَّى خَرَجَ عَنْهُمْ، وَذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الخَمْرِ. [انظر: 2089 - مسلم: 1979 - فتح: 5/ 46]

ص: 373

ذكر فيه ثلاثة أحاديث:

أحدها:

حديث الزبير بن العوام، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ أَحْبُلًا، فَيَأْخُذَ حُزْمَةً مِنْ حَطَبٍ فَيَبِيعَ، فَيَكُفَّ اللهُ بِهِ وَجْهَهُ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَسْأَل النَّاس أُعْطِيَ أو مُنِعَ".

ثانيها:

حديث أبي عبيد مولى عبد الرحمن بن عوف، أنه سمع أبا هريرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره خيرٌ له من أن يسال أحدًا فيعطيه أو يمنعه".

وقد سلفا في باب الاستعفاف عن المسألة

(1)

(2)

، وأبو عبيد (ع) هذا اسمه سعد بن عبيد مولى عبد الرحمن بن الأزهر بن عبد عوف بن عبد بن الحارث بن زهرة، وينسب أيضًا إلى عبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف؛ لأنهما ابنا عم، القرشي الزهري الذي مات سنة ثمانٍ وتسعين، تابعي.

ثالثها:

حديث علي: أَصَبْتُ شَارِفًا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَغْنَمٍ يَوْمَ بَدْرٍ قَالَ: وَأَعْطَانِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم شَارِفًا أُخْرى فأنختهما يومًا عند باب رجل من الأنصار، وأنا أريد أن أحمل عليهما إذخرا لأبيعه، ومعي صائغ من بني قينقاع فأستعين به على وليمة عرس فاطمة، وحمزة بن عبد المطلب

(1)

سلف برقم (1470 - 1471) كتاب: الزكاة.

(2)

ورد بهامش الأصل: في الزكاة.

ص: 374

يشرب في ذلك البيت .. الحديث، وسلف بعضه في باب: ما قيل في الصواغ

(1)

.

في الباب: إباحة الاحتطاب في المباحات والاختلاء من نبات الأرض، كل ذلك مباح حتى يقع الحظر من مالك الأرض فترتفع الإباحة، وعن مالك: من كانت له أرض يملكها ليست بأرض جزية فأراد أن يبيع ما ينبت فيها من المرعى بعد (طيبه)

(2)

أنه لا بأس به.

وقال أشهب: لا يجوز ذلك؛ لأنه رزق من رزق الله، ولا يحل لرب الأرض أن يمنع منه أحدًا للحديث السالف:"لا يمنع فضل الماء؛ ليمنع به الكلأ"

(3)

ولو كان النبات في حائط إنسان لما حلَّ له أن يمنع منه أحدًا للحديث السالف. "لا حمى إلا لله ولرسوله". وقال الكوفيون كقول أشهب

(4)

.

وفيه: أن تضمين الجنايات بين ذوي الأرحام العادة فيها أن تهدر من أجل القرابة، كما هدر علي قيمة الناقتين، والجناية فيهما مع وكيد الحاجة إليهما، وإلى ما كان يستقبله من الإنفاق في وليمة عرسه.

وفيه: أن للإمام أن يمضي إلى أهل بيت بلغه أنهم على منكر فيغيره.

وفيه: علة تحريم الخمر. ومعنى قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ فِي الخَمْرِ} [المائدة: 91] الآية، من أجل ما جفي به حمزة على الشارع من هُجْر القول

(5)

.

(1)

سلف برقم (2089) كتاب: البيوع.

(2)

كذا في الأصل وفي (ف): جنيه.

(3)

سلف برقم (2353) باب: من قال إن صاحب الماء أحق بالماء.

(4)

"النوادر والزيادات" 10/ 509.

(5)

"شرح ابن بطال" 6/ 508 وعزاه إلى المهلب في شرحه.

ص: 375

قوله: (ومعي رجل صائغ) كذا في الأصول، وعند أبي ذر وأبي الحسن. (طالع) أي: يدله على الطريق. و (قينقاع): مثلث النون كما سلف. و (القينة): المغنية وتطلق على الماشطة والأمة. قال ابن فارس: والعامة تسمي المغنية: قينة

(1)

.

وقوله: (فقالت: يا حمز للشرف النواء) حمز مرخم، فإن شئت ضممت الزاي أو فتحتها. (والشُّرُف): جمع شارف وهي المسنة من النوق. قال الداودي: والشرب القوم يجتمعون على الشراب. و (النواء) جمع ناوية، والناوية: السمينة، وقد نوت نياءً ونواية. قال أبو حنيفة: أنوينا إبلنا أسمناها

(2)

، وقال الخطابي: الني: السمين

(3)

، والنيّ: اللحم الطري، وقال الداودي: النواء: الحباء والكرامة

(4)

، جعل الفاء ياء توهمًا فعكس المعنى ولم يروه أحد بالباء، وكذلك تصحف عليه النواء والبيت معروف مشهور وآخره: فهن معقلات بالفِناء، وإنما أخذ حمزة السنام والكبد؛ لأن العرب تقول: أطايب الجزور السنام والكبد. (وثار): وثب. (وجَبَّ) قطع. وقيل: للخصي مجبوب أي: مقطوع، (وبقر): شق، (وأفظعني): هالني، قال ابن فارس: أفظع الأمر وفظع: اشتد وهو مفظع وفظيع

(5)

، ودخول علي على رسول الله صلى الله عليه وسلم وزيد بن حارثة عنده فيه خصوصيته به، وكانوا يلجئون إليه في نوائبهم.

(1)

"المجمل" 2/ 739.

(2)

انظر: "المخصص" لابن سيده 2/ 164.

(3)

"أعلام الحديث" 2/ 1182، "معالم السنن" 3/ 22.

(4)

انظر "مشارق الأنوار" 2/ 33.

(5)

"المجمل" 2/ 723 مادة (فظع).

ص: 376

وقوله: (هل أنتم إلا عبيد لأبي). قال الداودي: يعني: لأن أباه جدهم، وهو أب، والجد كالسيد، وظاهره بخلاف ذلك؛ لأن حمزة كان ثملًا، فقال ما ليس بحق، وكذلك قال:(هل أنتم إلا عبيد لآبائي).

وقيل فيه: إن السكران إذا نطق وافترى لا شيء عليه، وعورض بأن الشارع وعليًّا تركا حقوقهما، وأيضًا فالخمر كانت حلالًا إذ ذاك بخلاف الآن فيلزم بذلك؛ لأنه أدخله على نفسه.

ومعنى: (يقهقر): يرجع وراءه. وقوله: (وذلك قبل تحريم الخمر)، سببه أن حمزة توفي يوم أحد

(1)

وحرمت بعد، ولذلك عذره. قال الخطابي: ومن قال بعده لم يعذر

(2)

.

(1)

ورد بهامش الأصل: أي: في السنة الثالثة.

(2)

"أعلام الحديث" 2/ 1182.

ص: 377

‌14 - باب القَطَائِعِ

2376 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ بن زيد، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَس بن مالك قَالَ: أَرَادَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُقْطِعَ مِنَ البَحْرَيْنِ، فَقَالَتِ الأَنْصَارُ: حَتَّى تُقْطِعَ لإِخْوَانِنَا مِنَ المُهَاجِرِينَ مِثْلَ الذِي تُقْطِعُ لَنَا قَالَ: "سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي". [2377، 3163، 3794 - فتح: 5/ 47]

حدثنا سليمان بن حرب، ثنا حماد بن زيد، عن يحيى بن سعيد قال: سمعمت أنس بن مالك قال: أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع من البحرين، فقالت الأنصار: حتى تقطع لإخواننا من المهاجرين مثل الذي تقطع لنا، فقال:"سترون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني".

ص: 378

‌15 - باب كِتَابَةِ القَطَائِعِ

2377 -

وَقَالَ اللَّيْثُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَنَسٍ رضى الله عنه: دَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الأَنْصَارَ لِيُقْطِعَ لَهُمْ بِالبَحْرَيْنِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنْ فَعَلْتَ فَاكْتُبْ لإِخْوَانِنَا مِنْ قُرَيْشٍ بِمِثْلِهَا، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:"إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي". [انظر: 2376 - فتح: 5/ 48]

وقالَ اللَّيْثُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَنَسٍ: دَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الأَنْصَارَ ليُقْطِعَ لَهُمْ بِالبَحْرَيْنِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنْ فَعَلْتَ فَاكْتُبْ لإِخْوَانِنَا مِنْ قُرَيْشِ بِمِثْلِهَا، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِي .. " الحديث.

الشرح:

قال أبو نعيم: ذكر البخاري حديث الليث بلا رواية، وأراه أنه كان عنده عن عبد الله بن صالح فلذلك أرسله.

وعند الإسماعيلي: أقطع الأنصار البحرين أو أراد أن يعطيهم أو دعاهم ليقطعهم. قالوا: لا، حتى تقطع إخواننا من المهاجرين مثل الذي أقطعتنا، وفي لفظ: دعا الأنصار ليقطعهم البحرين أو طائفة منها.

قال حماد بن زيد: قال يحيى: فمن لهم في هذا الأمر ما للأنصار أمرهم أن يصبروا حتى يلقوه، فمن لم يكن له من الحق ما للأنصار أن يصبر.

قال الإسماعيلي: ذكر الكتاب الثوري وابن عيينة وأبو بكر بن عياش والثقفي وجرير والقاسم بن معن وغيرهم عن يحيى، ولفظه:"ستلقون بعدي أثرة" للأنصار، رواها البخاري، عن أسيد بن حضير في مناقب

ص: 379

الأنصار

(1)

. وعن عبد الله بن زيد بن عاصم في غزوة الطائف

(2)

، وعن أنس بن مالك بزيادة:"أثرة شديدة فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله فإني على الخوض"

(3)

.

إذا تقرر ذلك، فالكلام عليه من أوجه:

أحدها:

(ليقطع لهم) بضم الياء من أقطع، يقال: استقطع فلان الإمام إذا سأله أن يعطيه شيئًا وهو تسويغ الإمام من مال الله شيئًا لمن يراه أهلًا لذلك، وأكثر ما يستعمل في إقطاع الأرض، وهو أن يخرج منها شيئًا يحوزه إما أن يملكه إياه فيعمره أو يجعل له غلته مدة. وفي الحديث: لما قدم المدينة أقطع الناس الدور

(4)

، أي: أنزلهم في دور الأنصار.

قال صاحب "المطالع": والذي في هذا الحديث ليس من هذا، فإن البحرين كانت صلحًا فلم يكن لهم في أرضها شيء وإنما هم أهل جزية، وإنما معناه عند علمائنا: إقطاع مال من جزيتهم يأخذونه فقال: منه أقطع بالألف وأصله من القطع كأنه قطعه له من جملة المال. وقد جاء في

(1)

البخاري (3792) المناقب: قول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار: "اصبروا حتى تلقوني على الحوض".

(2)

سيأتي برقم (4330) كتاب المغازي.

(3)

سيأتي برقم (3147) كتاب فرض الخمس، باب: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس ونحوه.

(4)

رواه الطبراني 10/ 222 (10534)، وفي "الأوسط" 5/ 162 (4949)، وأبو نعيم في "الحلية" 7/ 315، عن يحيى بن جعدة، عن ابن مسعود، مرفوعًا، ورواه الشافعي في "مسنده" بترتيب السندي 2/ 133 (435)، والبيهقي في "الكبرى" 6/ 145 (11801)، عن يحيى بن جعدة، موقوفا. قال الهيثمي في "المجمع" 4/ 197: رواه الطبراني في "الكبير" و"الأوسط" ورجاله ثقات.

ص: 380

حديث بلال بن الحارث أنه عليه السلام أقطعه معادن القبلية، رواه أحمد

(1)

.

وقال الخطابي: إقطاعه من البحرين كان على أحد وجهين إما من الموات الذي لم يملكه أحد فيملك بالإحياء، وإما أن يكون من العمارة من حقه في الخمس، فقد روي أنه افتتح البحرين فترك أرضها فلم يقسمها كما فتح أرض بني النضير فتركها ولم يقسمها كما قسم خيبر.

قال: وذهب أكثر أهل العلم إلى أن العامر من الأرض للحاضر النفع، والأصول من الشجر كالنخل وغيرها، وأما المياه التي في العيون والمعادن الظاهرة كالملح والقار والنفط ونحوها لا يجوز إقطاعها، وذلك أن الناس كلهم شركاء في الماء والملح، وما في معناهما مما يستحقه الآخذ له بالسبق إليه، فليس لأحد أن يحتجزها لنفسه أو يحظر منافعها على أحد من شركائه المسلمين.

وقد روي أنه عليه السلام أقطع أبيض بن حمال المازني ملح مأرب، فقال رجل: يا رسول الله، إنه كالماء العدّ؛ قال:"فلا إذًا"

(2)

رواه أصحاب السنن الأربعة واستغربه الترمذي، وفي بعض نسخه تحسينه

(3)

، وصححه ابن حبان

(4)

.

(1)

"مسند أحمد" 1/ 306، وحسنه الألباني في "صحيح أبي داود"(2692).

(2)

"أعلام الحديث" 2/ 1189 - 1190.

(3)

رواه أبو داود (3064)، والترمذي (1380) وقال: حديث غريب، وابن ماجه (2475)، والنسائي في "الكبرى" واللفظ له 3/ 405، 406.

وقال الحافظ في "التلخيص" 3/ 64: وصححه ابن حبان وضعفه ابن القطان.

وقال الألباني في "صحيح سنن أبي داود"(2694): حسن دون جملة الخفاف وصححه ابن حبان.

(4)

"صحيح ابن حبان" 10/ 351 (4499).

ص: 381

وخالف ابن القطان

(1)

.

ولابن ماجه أنه صلى الله عليه وسلم لما استقاله أقطع له أرضًا بالجرف، جرف مراد مكانه حين أقاله منه

(2)

، وللترمذي مصححًا أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن حمى الآراك فقال:"لا حمى فيه"

(3)

، فأما المعادن التي لا يتوصل إلى نيلها ونفعها إلا بكدوح واعتمال واستخراج لما في بطونها، فإن ذلك لا يوجب الملك الباتَّ، ومن أقطع شيئًا منها كان له ما دام يعمل فيه، فإذا قطع العمل عاد إلى أصله، فكان للإمام إقطاعه غيره

(4)

.

ونقل ابن بطال عن إسماعيل بن إسحاق: أن مال البحرين كان من الجزية -وقد أسلفناه-؛ لأن المجوس كانوا فيها كثيرًا في ذلك الوقت بسبب سلطان كسرى كان بها وكان فيها أيضًا من أهل الذمة سوى

المجوس، وكان عامله عليها أبان بن سعيد بن العاص.

قال ابن بطال: فهذا يدل أن الذي أراد أن يقطع النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار من البحرين لم تكن نفس الأرض؛ لأنها كانت أرض صلح يؤدي أهلها الجزية عليها، وإنما أراد أن يقطع لهم مالًا يأخذونه من جزية البحرين؛ لأن الجزية تجري مجرى الخراج والخمس، يجوز أخذها للأغنياء، وليست تجري مجرى الصدقة.

(1)

"بيان الوهم والإيهام" 5/ 80 (2323). وقال فيه: وسكت عنه -يعني: عبد الحق-[يعني عبد الحق]، وكل من دون أبيض بن حمال مجهول، وهم خمسة، ما منهم من يعرف له حال، ومنهم من لم يرو عنه شيء من العلم إلا هذا، وهم الأربعة يستثنى منهم محمد بن يحيي بن قيس، فإنه قد روى عنه جماعة.

(2)

"سنن ابن ماجه"(2475).

(3)

رواه الترمذي (1380) بلفظ مقارب.

(4)

"أعلام الحديث" 2/ 1190.

ص: 382

ثانيها:

قوله: (فلم يكن ذلك عند رسول الله صلى الله عليه وسلم) يعني: فلم يرده؛ لأنه كان أقطع المهاجرين أرض بني النضير حين جلوا عنها فاستغنوا عن (زبد)

(1)

الأنصار ومشاركتهم وردوا إليهم منائحهم.

ثالثها:

قوله للأنصار: ("إنكم سترون بعدي أثرة") يدل أن الخلافة لا تكون فيهم، ألا ترى أنهم جعلهم تحت الصبر إلى يوم يلقونه، والصبر لا يكون إلا من مغلوب محكوم عليه

(2)

.

رابعها:

(الأثرة): بضم الهمزة وإسكان الثاء، ويروى بفتحهما. قال صاحب "المطالع": وبهما قيده الجياني وهما صحيحان، ويقال أيضًا: بكسر الهمزة وإسكان الثاء. قال الأزهري: وهو الاستئثار

(3)

أي: يستأثر عليكم بأمور الدنيا ويفضل عليكم غيركم. وعن أبي علي القالي. الأُثْرة: الشدة، وفي "الواعي" عن ثعلب: إنها بالضم خاصة: الجدب والحال غير المرضية، وعن غيره: التفضيل في العطاء، وجمع الأُثرة: أُثر، والإِثرة: إِثر. وقال ابن التين: الأثرة: ما يؤثر به الرجل، أي: يفضل. قال: وقيل معناه: سترون استئثارًا عليكم واستبدادًا بالحظ دونكم فلم يبن من يؤثر عن نفسه في الخصاصة وبين من يستأثر بحق غيره.

(1)

كذا بالأصل، وفي المطبوع من ابن بطال: رفد.

(2)

"شرح ابن بطال" 6/ 509 - 510.

(3)

"معجم تهذيب اللغة" 1/ 120 مادة (أثر).

ص: 383

خامسها:

روي في الإقطاعات أحاديث منها: حديث أسماء بنت أبي بكر عند الشيخين: كنت أنقل النوى من أرض الزبير -التي أقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأسي وهو على (ثلاثة فراسخ)

(1)

.

ولأبي داود: أقطعه نخلًا

(2)

.

وعن ابن عمر من رواية العمري: أقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير حُضْرَ فرسه

(3)

.

وفي "الأموال" لأحمد بن عمرو (ق) بن أبي عاصم (ع) النبيل من حديث علقمة بن وائل عن أبيه أنه صلى الله عليه وسلم أقطعه أرضًا فأرسل معي معاوية وقال: أعلمها إياه

(4)

، ومن حديث زياد

(5)

بن أبي هند الداري: سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن ستة إخوة أن يقطعنا أرضًا من الشام وهو يومئذٍ بمكة فكتب لنا ببيت عين وجبرين وبيت إبراهيم لنا ولأعقابنا

(6)

.

وعن مجاعة اليمامي قال: أقطعني النبي صلى الله عليه وسلم الغورة وعوانة والخبل

(7)

.

ولأبي داود عن عمرو بن حريث قال: خطَّ لي رسول الله صلى الله عليه وسلم دارًا

(1)

كذا بالأصل وفي البخاري ومسلم (ثلثي فرسخ)، البخاري (3151)، ومسلم (2182).

(2)

أبو داود (3069).

(3)

أبو داود (3072) وقال الألباني في "ضعيف سنن أبي داود"(550): إسناده ضعيف.

(4)

رواه الطبراني في "الكبير" 22/ 13 (13) والبيهقي في "سننه" 6/ 144.

(5)

ورد بهامش الأصل: زياد تابعي هذا الصحيح.

(6)

رواه ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" 5/ 11 - 12 مطولًا، والطبراني 22/ 320 (806)، وقال الهيثمي في "المجمع" 6/ 8: وفيه: زياد بن سعيد وهو متروك.

(7)

رواه ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" 3/ 309.

ص: 384

بالمدينة بقوسه

(1)

.

وعن ربيعة بن كعب الأسلمي قال: أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم أرضًا وأعطى أبا بكر .. الحديث

(2)

. وعن عثمان بن أبي حكيم عن أبيه، عن جده صخر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا ثقيفًا .. الحديث.

وفيه: قلت: يا رسول الله، إنهم هربوا عن الماء فأنزلنيه أنا وقومي فأنزله .. الحديث

(3)

.

(1)

رواه أبو داود (3060)، بلفظ: خط لي رسول الله صلى الله عليه وسلم دارا بالمدينة بقوس، وقال ابن القطان في "بيان الوهم والإيهام" 4/ 424 (2001): يرويه فطر بن خليفة عن أبيه عن عمرو بن حريث. وفطر ثقة، لكن أبوه لا تعرف حاله ولا من روى عنه غير ابنه وأيضًا فإن عمرو بن حريث لم يدرك سنه هذا المعنى فإنه إما أنه كان يوم بدر حملًا، حسب ما روى شريك عن أبي إسحاق، وإما قبض النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن اثنتي عشرة سنة في قول ابن إسحاق. وقال الذهبي في "ميزان الاعتدال" 2/ 189: خبره عن عمرو بن حريث منكر، وقال ابن حجر في "التهذيب" 1/ 552: وهذا الكلام تلقفه الذهبي من ابن القطان فإنه ضعف هذا الحديث به لما تعقبه على عبد الحق وأعله بأن خليفة مجهول الحال. وضعفه الألباني في "ضعيف سنن أبي داود"(545).

(2)

رواه أحمد مطولًا 4/ 58 والطيالسي 2/ 493 (1270) والطبراني 5/ 58 (4577) والحاكم في "المستدرك " 2/ 172 - 174 وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. وتعقبه الذهبي فقال في "التلخيص" 2/ 174: ولم يحتج مسلم بمبارك.

وقال الهيثمي في "المجمع" 9/ 45: رواه الطبراني وأحمد بنحوه في حديث طويل تقدم في النكاح وفيه مبارك بن فضالة، وحديثه حسن، وبقية رجاله ثقات.

(3)

رواه أبو داود (3067)، البيهقي في "سننه" 9/ 114 وقال: وإسناده ليس بقوي.

وقال عبد الحق في "أحكامه الوسطي" 3/ 75: والحديث معروف وليس طرقه بقوية. ا. هـ. وقال أيضًا: عثمان بن أبي حازم لا أعلم روى عنه إلا أبان بن عبد الله.

وقال ابن القطان في "بيان الوهم والإيهام" 3/ 260: أبو حازم بن صخر لا يعرف روى عنه إلا ابنه عثمان ولا يعرف بغير هذا الحديث. وضعفه الألباني في "ضعيف سنن أبي داود"(547).

ص: 385

وعن قيلة بنت مخرمة قالت: سأل حريث بن حسان رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتب بينه وبين تميم بالدهناء لا يجاوزها منهم إلينا أحد؛ فقال: "اكتب يا غلام بالدهناء"، قلت: يا رسول الله، الدهناء مقيل الجمل ومرعى الغنم ونساء تميم وأبناؤها وراء ذلك فقال:"أمسك يا غلام صدقة المسكينة، المسلم أخو المسلم يسعهما الماء والشجر"

(1)

.

وعن سبرة بن عبد العزيز بن الربيع الجهني، عن أبيه، عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من أهل ذوي المروءة؟ " فقالوا: (بني)

(2)

رفاعة من جهينة فقال: "قد أقطعتها لبني رفاعة"

(3)

(4)

.

(1)

رواه أبو داود (3070)، والبيهقي في "سننه" 6/ 150، والطبراني 25/ 7، وقال الهيثمي في "المجمع" 6/ 12: رواه الطبراني ورجاله ثقات. وحسنه الألباني في "صحيح سنن أبي داود"(2697).

(2)

فوق هذِه الكلمة في (س، ف) كلمة: (كذا).

(3)

رواه أبو داود (3068)، والبيهقي 6/ 149، وضعفه الألباني في "ضعيف أبي داود"(548).

(4)

ورد بهامش الأصل: وبلغ في السابع بعد الستين، كتبه مؤلفه.

ص: 386

‌16 - باب حَلَبِ الإِبِلِ عَلَى المَاءِ

2378 -

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ المُنْذِرِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ هِلَالِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مِنْ حَقِّ الإِبِلِ أَنْ تُحْلَبَ عَلَى المَاءِ". [انظر: 2371 - مسلم: 987 - فتح: 5/ 49]

الحلب

(1)

: بفتح اللام، قاله: الخليل

(2)

، وقال ابن فارس: الحلب: حلب اللبن، الاسم والمصدر صورة واحدة

(3)

.

ذكر فيه حديث أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مِنْ حَقِّ الإبِلِ أَنْ تُحْلَبَ عَلَى المَاءِ".

يعني: الحق المعهود والمتعارف بين العرب من التصدق باللبن علي المياه إذا كانت طوائف الضعفاء والمساكين ترتصد يوم ورود الإبل على الماء لتنال من رسلها وتشرب من لبنها، وهذا حق حلبها على الماء؛ لا أنه فرض لازم عليهم، وقد تأول بعض السلف في قوله:{وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141]، هو أن يعطى المساكين عند الجذاذ والحصاد ما تيسر من غير الزكاة، وهذا مذهب ابن عمر، وبه قال عطاء ومجاهد وسعيد بن جبير، وجمهور الفقهاء على أن المراد

(1)

ورد بهامش الأصل: قال في "المطالع": وبالفتح ضبطناه في ترجمة الباب في البخاري وهو الذي خطه النحاة (

) في حلبها يوم وردها بالسكون وبالفتح وقال: كلاهما صحيح، وفي "الجمهرة" الحلب يعني: بالفتح المصدر وفي القاموس ( .... ) الحلب بالفتح والسكون: استخراج ما في الضرع من اللبن.

(2)

"العين" 3/ 237.

(3)

انظر: "العين" 3/ 237، "مجمل اللغة" 1/ 248.

ص: 387

بالآية الزكاة المفروضة، وهو تأويل ابن عباس وغيره، وقد سلف إيضاح ذلك في باب: إثم مانع الزكاة

(1)

، وهذا كما نهي عن جذاذ الليل؛ لأجل حضور المساكين، وأجازه مالك ليلًا، وأغرب الداودي فضبط تجلب بالجيم، وقال: أراد تجلب لموضع سقيها فيأتيه المصدق، ولو كان كما ذكره لكان أن تجلب إلى الماء ولم يقل: على الماء.

(1)

سلف برقم (1402) كتاب: الزكاة.

ص: 388

‌17 - باب الرَّجُلِ يَكُونُ لَهُ مَمَرٌّ، أَوْ شِرْبٌ فِي حَائِطٍ أَوْ فِي نَخْلٍ

قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ بَاعَ نَخْلًا بَعْدَ أَنْ تُؤَبَّرَ فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ". فَلِلْبَائِعِ المَمَرُّ وَالسَّقْيُ حَتَّى يَرْفَعَ، وَكَذَلِكَ رَبُّ العَرِيَّةِ.

2379 -

أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنِ ابْتَاعَ نَخْلًا بَعْدَ أَنْ تُؤَبَّرَ فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ المُبْتَاعُ، وَمَنِ ابْتَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَمَالُهُ لِلَّذِي بَاعَهُ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ المُبْتَاعُ". [انظر: 2203 - مسلم: 1543 - فتح: 5/ 49] وَعَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ: فِي العَبْدِ.

2380 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنهم قَالَ: رَخَّصَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُبَاعَ العَرَايَا بِخَرْصِهَا تَمْرًا. [انظر: 2173 - مسلم: 1539 - فتح: 5/ 50]

2381 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ المُخَابَرَةِ، وَالمُحَاقَلَةِ، وَعَنِ المُزَابَنَةِ، وَعَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا، وَأَنْ لَا تُبَاعَ إِلَّا بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ، إِلَّا العَرَايَا. [انظر: 1487 - مسلم: 1536 - فتح: 5/ 50]

2382 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ حُصَيْنٍ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ -مَوْلَى أَبِي أَحْمَدَ- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: رَخَّصَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْعِ العَرَايَا بِخَرْصِهَا مِنَ التَّمْرِ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ، أَوْ فِي خَمْسَةِ أَوْسُقٍ. شَكَّ دَاوُدُ فِي ذَلِكَ. [انظر: 2190 - مسلم: 1541 - فتح: 5/ 50]

2383، 2384 - حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا أَبُو أُسَامَةَ قَالَ: أَخْبَرَنِي الوَلِيدُ بْنُ كَثِيرٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي بُشَيْرُ بْنُ يَسَارٍ -مَوْلَى بَنِي حَارِثَةَ- أَنَّ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ، وَسَهْلَ بْنَ أَبِي حَثْمَةَ حَدَّثَاهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ المُزَابَنَةِ بَيْعِ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ، إِلَّا أَصْحَابَ

ص: 389

العَرَايَا فَإِنَّهُ أَذِنَ لَهُمْ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي بُشَيْرٌ مِثْلَهُ. [انظر:

2191 -

مسلم: 1540 - فتح: 5/ 50]

ذكر فيه حديث ابن شِهَابٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنِ ابْتَاعَ نَخْلًا بَعْدَ أَنْ تُؤَبَّرَ فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ المُبْتَاعُ، وَمَنِ ابْتَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَال فَمَالُهُ لِلَّذِي بَاعَهُ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ المُبْتَاعُ".

وَعَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابن عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ: فِي العَبْدِ.

وحديث زيد بن ثابت: رَخَّصَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُبَاعَ العَرَايَا بِخَرْصِهَا تَمْرًا.

وحديث جابر في النهي عن المخابرة والمحاقلة والمزابنة، وعن بيع الثمر حتى يبدو صلاحها، وأن لا يباع إلا بالدينار والدرهم إلا العرايا.

وحديث أبي هريرة: رَخَّصَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْعِ العَرَايَا بِخَرْصِهَا مِنَ التَّمْرِ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ، أَوْ فِي خَمْسَةِ أَوْسُقٍ. شَك دَاوُدُ فِي ذَلِكَ.

وحديث بشير بن يسار، عن رَافِع بْنِ خَدِيجٍ، وَسَهْل بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، أنه صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ المُزَابَنَةِ بَيْع الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ، إِلَّا أصْحَابَ العَرَايَا فَإِنَّهُ أَذِنَ لَهُمْ. وَقَالَ ابن إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي بُشَيْرٌ مِثْلَهُ.

وقد سلفت هذِه الأحاديث مفرقة في مواطنها، وشيخ البخاري في الأخير: زكريا (خ. ت) بن يحيى هو: البلخي الحافظ، روى في العيد، عن زكري بن يحيى، وهو: الطائي الكوفي

(1)

، وفي طبقتهما آخر قاض

(1)

ذكر المصنف أن زكري ابن يحيى هنا هو البلخي وخالفه العيني في "عمدة القاري" 10/ 233 فقال: وهنا أخرجه عن زكرياء بن يحيى الطائي الكوفي، وقال الجياني في:"تقييد المهمل" 2/ 517 - 518: كلاهما حدث عنه البخاري. فالأول: زكرياء بن يحيى بن صالح أبو صالح البلخي الحافظ، وكناه المزي في "التهذيب" =

ص: 390

شيخ مسلم

(1)

، ورابع -يعرف بخياط (س) السنة- شيخ النسائي

(2)

.

وأراد البخاري أن يستدل من حديث ابن عمر وحديث زيد بن ثابت على تصحيح ما ترجم به، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما جعل لبائع أصول النخل الثمرة بعد أن تؤبر كان له أن يدخل في الحائط لسقيها وتعهدها حتى

= أبا يحيى عن أبي أسامة وعبد الله بن نمير حدث عنه في الوضوء والتيمم والمغازي في باب مرجع النبي، والثاني: زكري ابن يحيى أبو السكين الطائي يحدث عن ابن نمير وعبد الرحمن المحاربي في كتاب: "العيدين". وذكر الدارقطني في "تسمية رجال البخاري": زكرياء بن يحيى الكوفي؛ ولعله يريد أبا السُّكين، وذكر أبو أحمد بن عدي في باب من حدث عنه البخاري: زكرياء بن يحيى بن زكرياء بن أبي زائدة الكوفي، وقال: يروى عن ابن نمير. ولم يذكره أبو نصر الكلاباذي إنما ذكر زكريا بن يحيى البلخي وزكرياء بن يحيى أبا السكين لا غير. اهـ.

قلت: لم أجد زكري ابن يحيى بن زكرياء بن أبي زائدة هذا ولعله وهم، وقال المصنف في كتابه "المقنع في علوم الحديث" 2/ 614 باب معرفة المتفق والمفترق من الأسماء والأنساب ونحوها: هو متفق لفظًا وخطًّا -مع تباين الأشخاص- وهذا من قبيل ما يسمى في أصول الفقه: (المشترك). وزلق بسببه غير واحد من الأكابر ولم يزل الاشتراك من مظان الغلط في كل علم.

(1)

هو زكريا بن يحيى بن صالح بن يعقوب القضاعي أبو يحيى المصري الحرس كاتب العمري القاضي واسمه عبد الرحمن بن عبد الله روى عن رشدين بن سعد وعبد الله بن وهب، روى عنه مسلم وأحمد بن محمد بن الحجاج بن رشدين، وإسماعيل بن داود وغيرهم. انظر ترجمته في "تهذيب الكمال" 9/ 380 (200) و"الكاشف" 1/ 406.

(2)

هو زكريا بن يحيى بن إياس بن سلمة بن حنظلة بن قرة السجزي أبو عبد الرحمن المعروف بخياط السنة سكن دمشق. روى عن إبراهيم بن إسحاق البصري، وإبراهيم بن سعيد الجوهري، وأحمد بن السكن الأبلى روى عنه النسائي وهو من أقرانه وأبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن سنان.

وقال النسائي: ثقة وقال عبد الغني بن سعيد حافظ ثقة وانظر ترجمته في "تهذيب الكمال" 9/ 374، "سير أعلام النبلاء" 13/ 507 و"تهذيب التهذيب" 1/ 633.

ص: 391

يجذها، ولم يجز لمشتري أصول النخل أن يمنعه الطريق والممر إليها، وكذلك يجوز لصاحب العرية أن يدخل في حائط المعرى لتعهد عريته وإصلاحها وسقيها، ولا خلاف في هذا بين الفقهاء، وأما من له طريق مملوكة في أرض غيره، فقال مالك: ليس للذي له الطريق أن يدخل فيها بماشيته وغنمه؛ لأنه يفسد زرع صاحبه.

وقال الكوفيون والشافعي: ليس لصاحب الأرض أن يزرع في موضع الطريق.

وفي قوله: "وله مال" أن العبد يملك لإضافة المال إليه بلام التمليك، وإن كان يحتمل الاختصاص والنسبة، لا جرم تردد قول الشافعي فيما إذا ملك مالًا، والأظهر أنه لا يملك وفاقًا لأبي حنيفة، ومعنى قوله:"إلا أن يشترط المبتاع" أنه لمن كان له قبل البيع.

وقوله: "يشترط" كذا وقع هنا بغير هاء، وذكره الإسماعيلي بهاء وبغير هاء، واستدل به من استثنى بعض الثمرة وبعض مال العبد وهي رواية أشهب، ومنعه مالك.

وفي رواية ابن حبيب: وهذا إذا كان العبد جميعه للبائع وإن كان له بعضه فضربان أحدهما: أن يكون الباقي عبدًا أو حرًا فالأول إن باع نصيبه من شريكه لم يجز البيع على الإطلاق؛ لأن الإطلاق يقتضي

أن يكون له من مال العبد بقدر نصيبه، ولا يجوز انتزاعه إلا بإذن الشريك والإذن معدوم.

والثاني: يجوز بيعه مطلقًا، ولا يشترط كون المال للبائع؛ لأنه لا يملك انتزاع من فيه جزء من الجزية ويجوز بيعه بشرط تبقية المال في يد العبد.

ص: 392

خاتمة

وقوله: (وعَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابن عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ: فِي العَبْدِ)، قال الداودي: حديث مالك عن نافع، عن ابن عمر في الثمرة إنما رواه عن عمر وهو وهم من نافع؟ والصحيح ما رواه ابن شهاب عن سالم، عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في العبد والثمرة، واعترض ابن التين فقال: لا أدري من أين أدخل الداودي الوهم على نافع وما المانع من أن يكون عمر قال ما تقدم من قوله عليه السلام!

ص: 393

43

كتاب الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس

ص: 395

بسم الله الرحمن الرحيم

‌43 - كتاب الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس

‌1 - باب مَنِ اشْتَرَى بِالدَّيْنِ وَلَيْسَ عِنْدَهُ ثَمَنُهُ، أَوْ لَيْسَ بِحَضْرَتِهِ

2385 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، عَنِ المُغِيرَةِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما قَالَ: غَزَوْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"كَيْفَ تَرَى بَعِيرَكَ؟ أَتَبِيعُنِيهِ". قُلْتُ: نَعَمْ. فَبِعْتُهُ إِيَّاهُ، فَلَمَّا قَدِمَ المَدِينَةَ غَدَوْتُ إِلَيْهِ بِالبَعِيرِ، فَأَعْطَانِي ثَمَنَهُ. [انظر: 443 - مسلم: 715 - فتح 5/ 53]

2386 -

حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَاحِدِ، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ: تَذَاكَرْنَا عِنْدَ إِبْرَاهِيمَ الرَّهْنَ فِي السَّلَمِ، فَقَالَ: حَدَّثَنِي الأَسْوَدُ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اشْتَرَى طَعَامًا مِنْ يَهُودِيٍّ إِلَى أَجَلٍ، وَرَهَنَهُ دِرْعًا مِنْ حَدِيدٍ. [انظر: 2068 - مسلم: 1603 - فتح 5/ 53]

ص: 397

ذكر فيه حديث جَابِر: غَزَوْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"كَيْفَ تَرى بَعِيرَكَ؟ أتبيعُنِيهِ؟ ". قُلْتُ: نَعَمْ. فَبِعْتُهُ إِيَّاهُ، فَلَمَّا قَدِمَ المَدِينَةَ غَدَوْتُ إِلَيْهِ بِالبَعِيرِ، فَأعْطَانِي ثَمَنَهُ.

وحديث عَائِشَةَ أَنَّه صلى الله عليه وسلم اشْتَرى طَعَامًا مِنْ يَهُودِيٍّ إِلَى أَجَلٍ، وَرَهَنَهُ دِرْعًا مِنْ حَدِيدٍ.

وقد سلفا. وقام الإجماع على أن استقراض (النقدين)

(1)

والمطعوم جائز

(2)

، والشراء بالدين مباح؛ لقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282]. وقد اشترى الشارع الجمل من جابر في سفره ولم يقضه ثمنه إلا بالمدينة، وكذا شراؤه من اليهودي الطعام إلى أجل، فصار ذلك كله سنة متبعة لا محيص عنها.

فائدة:

قول البخاري في حديث جابر: (حدثنا محمد) هو ابن سلام البيكندي وليس محمد بن يوسف البيكندي كما ذكر بعضهم.

قال الجياني: نسبه ابن السكن: ابن سلام، وفي نسخة أبي ذر عن أبي الهيثم

(3)

: حدثنا محمد بن يوسف، ثنا جرير، فذكر حديث بريرة. قال أبو علي: هو ابن سلام إن شاء الله

(4)

.

(1)

كذا في الأصل، وفي (ف): البدن.

(2)

انظر: "شرح ابن بطال" 6/ 512.

(3)

ورد بهامش الأصل: في نسختي كذلك عن أبي الهيثم.

(4)

"تقييد المهمل" 3/ 1029 - 1030.

ص: 398

فائدة ثانية:

اعترض ابن المنير فقال: في الترجمة حيف؛ لأن مضمونها جواز الاستقراض والانتفاع بالدين لمن لا عنده وفاء، ويدخل في ذلك من لا قدرة له على الوفاء إذا لم يعلم البائع أو المقرض حاله، وهذا تدليس، والذي في الحديث غير هذا؛ لتحقيق قدرته عليه السلام على الوفاء بما عقد عليه

(1)

.

قلت: مع أنه قال: "لا أشتري ما ليس عندي ثمنه"، أخرجه الحاكم من حديث ابن عباس وصححه

(2)

، وعند الحاكم أيضًا عن عائشة أنها كانت تدان؛ فقيل لها: مالك والدين وليس عندك قضاء؟ قالت: إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من عبد كانت له نية في أداء دينه إلا كان له من الله عز وجل عون" فأنا ألتمس ذلك العون

(3)

.

(1)

"المتواري" ص 267.

(2)

"المستدرك" 2/ 24، من طريق سعيد بن سليمان الواسطي، ثنا شريك، عن سماك، عن عكرمة عن ابن عباس، به. ورواه أبو داود (3344) مرسلًا وموصولًا، وأحمد 1/ 235 والطبراني 11/ 282 (11743).

قال الهيثمي في "المجمع" 4/ 110: رواه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات. وقال ابن حجر في "الفتح" 5/ 53: قوله: (باب من اشترى بالدين وليس عنده أو بحضرته) أي: فهو جائز، وكأنه -أي: البخاري- يشير إلى ضعف ما جاء عن ابن عباس، مرفوعًا:"لا أشتري ما ليس عندي ثمنه". وضعفه الألباني في "السلسلة الضعيفة" 10/ 309 (4766) وقال: هو ضعيف موصولا ومرسلا.

(3)

"المستدرك" 2/ 22، من طريق حجاج بن منهال، عن القاسم بن الفضل، عن محمد بن علي، عن عائشة به. ورواه أحمد 6/ 72، وابن راهويه في "مسنده" 2/ 529 (1111) ومن طريقه الطحاوي في "شرح مشكل الآثار" 4/ 391 (2768)، والبيهقي في "سننه" 5/ 354.

وصححه الألباني في "صحيح الترغيب"(1801)، "صحيح الجامع"(5734).

ص: 399

وعن ميمونة بنت الحارث

(1)

وابن جعفر مثله

(2)

.

وعن أبي أمامة مرفوعًا: "من تداين وفي نفسه وفاؤه، ثم مات تجاوز الله عنه وأرضى غريمه بما شاء، ومن تداين بدينٍ وليس في نفسه وفاؤه، ثم مات اقتص الله لغريمه منه يوم القيامة"

(3)

.

وقد صح ما يقتضي التشديد فيه، فأخرج على شرط مسلم من حديث ابن عمر مرفوعًا:

(1)

"المستدرك" 2/ 23، ورواه النسائي 7/ 315، وابن ماجه (2408) وأحمد 6/ 332، وإسحاق بن راهويه في "مسنده" 4/ 214 (2020)، وأبو يعلى في "مسنده" 12/ 514 - 515 (7083) والطبراني 24/ 24 - 25، والبيهقي في "سننه" 5/ 354، وقال الألباني في "الصحيحية" (1029): صحيح بمجموع طرقه.

(2)

"المستدرك" 2/ 23، ورواه ابن ماجه (2409)، والدارمي في "مسنده" 3/ 1690 (2637)، والبخاري في "التاريخ الكبير" 3/ 475 - 476، والبزار في "مسنده" 6/ 202 (2243)، وأبو نعيم في "الحلية" 3/ 204، والبيهقي في "سننه" 5/ 355، والمزي في "تهذيب الكمال" 10/ 475، من طريق محمد بن إسماعيل بن أبي فديك، عن سعيد بن سفيان، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن عبد الله بن جعفر به.

قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

وقال أبو نعيم في "الحلية" 3/ 204: حديث غريب من حديث جعفر وأبيه.

وقال البوصيري في "زوائده" 1/ 327: هذا إسناد صحيح.

وقال الحافظ في "الفتح" 5/ 54: إسناده حسن، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" برقم (1000).

(3)

"المستدرك" 2/ 23، والطبراني 8/ 240 (7937)؛ كلاهما من طريق بشير بن نمير، عن القاسم، عن أبي أمامة، به. قال الذهبي في "التلخيص": بشر متروك، وكذا قال المنذري في "الترغيب والترهيب" 4/ 53.

ثم رواه الطبراني 8/ 243 (7949) من طريق جعفر بن الزبير عن القاسم عن أبي أمامة مطولًا.

وقال الهيثمي في "المجمع" 4/ 132: وفيه جعفر بن الزبير وهو كذاب.

وقال الألباني في "ضعيف الترغيب والترهيب"(1124): ضعيف جدًّا.

ص: 400

"الدين راية الله في الأرض، فإذا أراد أن يذل عبدًا وضعها في عنقه"

(1)

.

وأخرج من حديث محمد بن جحش وقال: صحيح الإسناد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سبحان الله! ما أنزل الله من التشديد"، فسئل عن ذلك التشديد قال: "الدَّيْن، والذي نفس محمد بيده (لو)

(2)

قتل رجل في سبيل الله، ثم عاش وعليه دين ما دخل الجنة حتى يقضى دينه"

(3)

.

وأخرج أيضًا من حديث عقبة بن عامر وقال: صحيح الإسناد مرفوعًا: "لا تخيفوا أنفسكم" قيل: يا رسول الله، وما يخيف أنفسنا؟ قال:"الدين"

(4)

.

(1)

"المستدرك" 2/ 24، من طريق بشر بن عبيد، عن حماد بن سلمة، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، به. وتعقبه الذهبي فقال: بشر واهٍ.

وكذا رواه الديلمي كما في "الفردوس بمأثور الخطاب" 2/ 227 (3097) وأورده السيوطي في "الجامع الصغير" ورمز له بالصحة وتعقبه المناوي في "فيض القدير" 3/ 743 (4304): فقال: ورده الذهبي؛ فقال: بشر واهٍ، فالصحة من أين؟ وقال الألباني في "السلسلة الضعيفة" (743): موضوع.

(2)

في الأصل: ولو، والمثبت اللائق بالسياق.

(3)

"المستدرك" 2/ 25، من طريق العلاء بن عبد الرحمن، عن أبي كثير مولى محمد بن جحش، عن محمد بن جحش، به. ورواه النسائي 7/ 314، وأحمد 5/ 289، وعبد بن حميد في "مسنده" 1/ 325 (367)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" 2/ 184 (928) والطبراني 19/ 248 (560)، والبيهقي في "الشعب" 4/ 398 - 399 (5536)، والمزي في "تهذيب الكمال" 25/ 460، وصححه الألباني كما في "أحكام الجنائز" ص 136، "صحيح الترغيب والترهيب"(1804).

(4)

"المستدرك" 2/ 26، ورواه أحمد 4/ 146، والبيهقي في "السنن" 5/ 355، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة"(2420).

ص: 401

ومن حديث ثوبان وقال: على شرطهما مرفوعًا: "من مات وهو بريء من ثلاث: الكبر

(1)

والغلول، والدين دخل الجنة"

(2)

.

وقد أسلفنا حديث أبي هريرة مرفوعًا: "نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى دينه". قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين

(3)

.

(1)

ورد بهامش الأصل تعليق نصه: الكبر بالباء الموحدة والراء، قال شيخنا المؤلف: وقال ابن الحسين عن الدارقطني: إنما هو الكنز بالنون والزاي.

(2)

"المستدرك" 2/ 26، ورواه الترمذي (1572)، (1573)، والنسائي في "الكبرى" 5/ 232 (8764)، وابن ماجه (2412) وأحمد 5/ 276، وابن حبان في "صحيحه" 1/ 427 (198).

وصححه الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب"(1351)، "صحيح الجامع الصغير"(6411).

(3)

"المستدرك" 2/ 26 - 27، والحديث سبق تخريجه.

ص: 402

‌2 - باب مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَوْ إِتْلَافَهَا

2387 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللهِ الأُوَيْسِيُّ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي الغَيْثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّى اللهُ عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذَ يُرِيدُ إِتْلَافَهَا أَتْلَفَهُ اللهُ". [فتح 5/ 53]

ذكر فيه حديث أبي الغيث -واسمه سالم

(1)

- عن أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّاها اللهُ عَنْهُ، وَمَنْ أخذها يُرِيدُ إِتْلَافَهَا أتلَفَهُ اللهُ".

هذا الحديث شريف. ومعناه: الحض على ترك استئكال أموال الناس، والتنزه عنها، وحسن التأدية إليهم عند المداينة، وقد حرم الله تعالى في كتابه أكل أموال الناس بالباطل وخطب به عليه السلام في حجة الوداع، فقال:"إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام"

(2)

، يعني: من بعضكم على بعض.

وفيه: أن الثواب قد يكون من جنس الحسنة، وأن العقوبة قد تكون من جنس الذنوب؛ لأنه جعل مكان أداء الإنسان أداء الله عنه، ومكان إتلافه إتلاف الله له.

(1)

ورد بهامش الأصل تعليق نصه: وأبو الغيث سالم مولى عبد الله بن مطيع، ثقة.

(2)

سلف برقم (105) كتاب: العلم، باب: ليبلغ العلم الشاهد الغائب، ورواه مسلم (1679) كتاب: القسامة، باب: تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال، من حديث أبي بكرة.

ص: 403

قال الداودي: وفيه: أن من عليه دين لا يعتق ولا يتصدق، وإن فعل ردَّ.

قلت: هو مذهب مالك

(1)

.

وفيه: أن من كان عليه دين يريد قضاءه، فإن الله معه حتى يقضيه

(2)

.

(1)

انظر: "النوادر والزيادات" 10/ 6 - 7.

(2)

ورد بهامش الأصل: آخر 1 من 8 من تجزئة المصنف.

ص: 404

‌3 - باب أَدَاءِ الدُّيُونِ

وَقَالَ اللهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} إلى قوله {إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} . [النساء: 58].

2388 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا أَبُو شِهَابٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا أَبْصَرَ -يَعْنِي: أُحُدًا- قَالَ: "مَا أُحِبُّ أَنَّهُ يُحَوَّلُ لِي ذَهَبًا يَمْكُثُ عِنْدِي مِنْهُ دِينَارٌ فَوْقَ ثَلَاثٍ، إِلَّا دِينَارًا أُرْصِدُهُ لِدَيْنٍ". ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ الأَكْثَرِينَ هُمُ الأَقَلُّونَ، إِلَّا مَنْ قَالَ بِالمَالِ هَكَذَا وَهَكَذَا -وَأَشَارَ أَبُو شِهَابٍ بَيْنَ يَدَيْهِ وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ- وَقَلِيلٌ مَا هُمْ" وَقَالَ: "مَكَانَكَ". وَتَقَدَّمَ غَيْرَ بَعِيدٍ، فَسَمِعْتُ صَوْتًا، فَأَرَدْتُ أَنْ آتِيَهُ، ثُمَّ ذَكَرْتُ قَوْلَهُ:"مَكَانَكَ حَتَّى آتِيَكَ". فَلَمَّا جَاءَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، الَّذِي سَمِعْتُ؟ أَوْ قَالَ: الصَّوْتُ الَّذِي سَمِعْتُ؟ قَالَ: "وَهَلْ سَمِعْتَ؟ ". قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: "أَتَانِي جِبْرِيلُ عليه السلام فَقَالَ: مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِكَ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا دَخَلَ الجَنَّةَ". قُلْتُ: وَإِنْ فَعَلَ كَذَا وَكَذَا؟ قَالَ: "نَعَمْ". [انظر: 1237 - مسلم: 94 - فتح 5/ 54]

2389 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ شَبِيبِ بْنِ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ يُونُسَ، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَوْ كَانَ لِي مِثْلُ أُحُدٍ ذَهَبًا، مَا يَسُرُّنِي أَنْ لَا يَمُرَّ عَلَيَّ ثَلَاثٌ وَعِنْدِي مِنْهُ شَيْءٌ، إِلَّا شَيْءٌ أُرْصِدُهُ لِدَيْنٍ"

رَوَاهُ صَالِحٌ وَعُقَيْلٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ. [6445، 7228 - مسلم: 991 - فتح 5/ 55]

ثم ذكر فيه حديث أَبِي ذَرٍّ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا أَبْصَرَ -يَعْنِي: أُحُدًا- قَالَ: "مَا أُحِبُّ أَنْ يُحَوَّلَ لِي ذَهَبًا يَمْكُثُ عِنْدِي مِنْهُ دِينَارٌ فَوْقَ ثَلَاثٍ، إِلَّا دِينَارًا أُرْصِدُهُ لِدَيْنٍ" .. الحديث بطوله.

وحديث يُونُسَ، عن ابن شِهَابٍ، عن عُبَيْدِ الله بْنِ عَبْدِ الله بْنِ عُتْبَةَ

ص: 405

قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: " لَوْ كَانَ عِنْدِي مِثْلُ أُحُدٍ ذَهَبًا، مَا يَسُرُّنِي أَنْ لَا يَمُرَّ عَلَيَّ ثَلَاث وَعِنْدِي مِنْهُ شَيء، إِلَّا شَيءٌ أُرْصِدُهُ لِدَيْنٍ".

رَوَا صَالِح وَعُقَيْلٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ.

حديث أبي ذر سلف في الزكاة

(1)

، والآية المذكورة أصل في أداء الأمانات وحفظها، ألا ترى أنه عليه السلام لم يحب أن يبقى عنده من مثل أحد ذهبًا فوق ثلاث إلا دينارًا يرصده لدين، ونزلت في عثمان بن طلحة الحجبي العبدري سادن الكعبة حين أخذ عليّ منه المفتاح يوم الفتح، ذكره ابن سعد

(2)

وغيره

(3)

. وقال ابن زيد: هم الولاة أمروا بأداء الأمانات إلى من ولوا أمرهم

(4)

. وقيل: نزلت في السلطان يعظ النساء

(5)

، والحديث دال على ما دلت عليه الآية من تأكيد أمر الدين والحض على أدائه.

قال ابن عباس: الآية عامة. وقال شريح لأحد الخصمين: أعط حقه، فإن الله تعالى قال:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58]. قال شريح: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] إنما هذا في الربا خاصة، وربط المِدْيان إلى سارية

(6)

. ومذهب الفقهاء أن الآية عامة في الربا وغيره، واحتج سيبويه بأن

(1)

سلف برقم (1408) باب: ما أدى زكاته فليس بكنز.

(2)

"الطبقات الكبرى" 2/ 136 - 137.

(3)

رواه الطبري في "تفسيره" 4/ 148 من طريق الحسين، عن الحجاج، عن ابن جريج، به. والواحدي في "أسباب النزول" ص 162.

(4)

رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره" 4/ 148، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 3/ 986، وهذا ما رجحه الطبري واختاره.

(5)

روى ذلك الأثر الطبري 4/ 148 من طريق علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس.

(6)

رواه ابن جرير في "تفسيره" 3/ 110.

ص: 406

القراءة: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} [البقرة: 280] بمعنى: حضر ووقع.

قال: ولو كان كما قال شريح لكان: ذا عسرة. وقيل: يحتمل أن يكون شريح فعل ذلك بمن تبين لَدَدُهُ، وحبس سحنون رجلًا التوى بدين، فكان يخرجه في كل جمعة يومًا إلى صحن المسجد فيضربه،

فكان ذلك حتى مات في السجن، ذكره الداودي.

ومعنى "أرصده": أهيئه، من أرصد يرصد، وضبط في بعض الأمهات بفتح الهمزة من رصد. وقال الأصمعي والكسائي رصدته: ترقبته، وأرصدته: أعددت له

(1)

.

وفيه: الاستدانة بيسير الدين اقتداءً بالشارع في إرصاده دينارًا لِدَيْنِه، ولو كان عليه مائة دينار أو أكثر لم يرصد لأدائها دينارًا؛ لأنه كان أحسن الناس قضاء. وبان بهذا الحديث أنه ينبغي للمؤمن أن لا يستغرق في كثير الدين خشية الاهتمام به والعجز عن أدائه، وقد استعاذ الشارع من ضلع الدين

(2)

(3)

، واستعاذ من المأثم والمغرم وقال:"إن الرجل إذا غرم حدث فكذب ووعد فأخلف"

(4)

.

وقد جاء في خيانة الأمانة من الوعيد ما رواه إسماعيل بن إسحاق من حديث زاذان عن عبد الله بن مسعود قال: إن القتل في سبيل الله يكفر كل ذنب إلا الدين والأمانة. قال: وأعظم ذلك الأمانة تكون عند الرجل فيخونها، فيقال له يوم القيامة: أدّ أمانتك، فيقول: من أين

(1)

انظر: "لسان العرب" 3/ 1654 مادة (رصد).

(2)

ورد بهامش الأصل تعليق نصه: ضلع الدين بالضاد قال في "المطالع": وروي في موضع عن الأصمعي بالظاء ووهمه بعضهم والذي (

) بالضاد.

(3)

سيأتي برقم (2893) كتاب: الجهاد والسير، باب: من غزا بصبي للخدمة.

(4)

سيأتي برقم (2397) كتاب: الاستقراض، باب: من استعاذ من الدين.

ص: 407

وقد ذهبت الدنيا؟ فيقول له: نحن نريكها؛ فتمثل له في قعر جهنم، فيقال: انزل فأخرجها، فينزل فيحملها على عنقه حتى إذا كاد زلت، فهوت وهوى في إثرها أبد الأبد قال: والأمانة في كل شيء حتى في الصلاة والصيام والوضوء والغسل من الجنابة والأمانة في الكيل والوزن

(1)

.

وقال الربيع: الأمانة ما أمروا به وما نهوا عنه

(2)

.

فائدة: في إسناد حديث أبي ذر أبو شهاب (خ. م. د. س. ق) واسمه عبد ربه بن نافع الحناط

(3)

.

(1)

رواه البيهقي في "السنن" 6/ 288، من طريق الثوري، عن عبد الله بن السائب، عن زاذان، عن ابن مسعود، موقوفًا: وفي "شعب الإيمان" 4/ 323 (5266) من طريق عبد الله بن بشر، عن الأعمش، عن عبد الله بن السائب، به.

قال المنذري في "الترغيب والترهيب": الموقوف أشبه. قال الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب"(1763): إسناده حسن بخلاف المرفوع، فهو ضعيف. اهـ.

قلت: المرفوع أخرجه الطبراني 10/ 219 (10527)، وأبو نعيم في "الحلية" 4/ 201 من طريق شريك، عن الأعمش، عن عبد الله بن السائب، عن زاذان، عن عبد الله بن مسعود مرفوعًا، قال الألباني في "السلسلة الضعيفة" (4071): هذا إسناد ضعيف؛ لسوء حفظ شريك.

(2)

رواه المروزي في "تعظيم قدر الصلاة" 1/ 477 من طريق الربيع بن أنس، عن أبي العالية، به.

(3)

هو عبد ربه بن نافع الكناني، أبو شهاب الحفاظ الكوفي، نزيل المدائن، وهو الأصغر، روى عن سفيان الثوري، وسليمان الأعمش، وشعبة بن الحجاج، وعاصم بن بهدلة، روى عنه: سعيد بن منصور، وخلف بن هشام، وأبو داود الطيالسي، والفضل بن دكين، وغيرهم.

قال علي بن المديني: سمعت يحيى القطان يقول: لم يكن أبو شهاب الحفاظ بالحافظ، وقال الإمام أحمد: كان كوفيًّا، يقال: رجلا صالحا، ما علمت إلا خيرا، رحمه الله. =

ص: 408

وقوله: ("إن الأكثرين هم الأقلون") أي: في الحسنات والحظ.

وقوله: ("إلا من قال بالمال هكذا وهكذا") يعني: أنفقه في وجهه.

وقوله: ("وقليل ما هم") أي: قليل فاعله من أهل الأموال، وفيه: ذم الغنى، بينه قوله: "والله ما الفقر أخشى عليكم

" الحديث

(1)

.

وقوله: ("من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة") أي: وإن قدر دخوله النار بإصرارٍ على الكبائر.

وقوله: "من أمتك" فيه تفضيلها.

= ووثقه ابن معين، وقال العجلي: لا بأس به، ووثقه في موضع آخر.

روى له الجماعة، سوى الترمذي، مات سنة 171 هـ بالموصل.

وانظر ترجمته في: "طبقات ابن سعد" 6/ 391، "التاريخ الكبير" 6/ 81 (1773)، "الجرح والتعديل" 6/ 42 (217)، "ثقات ابن حبان" 7/ 154، "تهذيب الكمال" 16/ 485 (3744)، "سير أعلام النبلاء" 8/ 201.

(1)

سيأتي برقم (3158) كتاب: الجزية والموادعة، باب: الجزية والموادعة، مع أهل الذمة والحرب، مسلم (2961) كتاب: الزهد والرقائق من حديث عمرو بن عوف.

ص: 409

‌4 - باب اسْتِقْرَاضِ الإِبِلِ

2390 -

حَدَّثَنَا أَبُو الوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، أَخْبَرَنَا سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ بِبَيْتِنَا يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَجُلًا تَقَاضَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَغْلَظَ لَهُ، فَهَمَّ أَصْحَابُهُ، فَقَالَ:"دَعُوهُ، فَإِنَّ لِصَاحِبِ الحَقِّ مَقَالًا، وَاشْتَرُوا لَهُ بَعِيرًا، فَأَعْطُوهُ إِيَّاهُ". وَقَالُوا: لَا نَجِدُ إِلَّا أَفْضَلَ مِنْ سِنِّهِ. قَالَ: "اشْتَرُوهُ فَأَعْطُوهُ إِيَّاهُ، فَإِنَّ خَيْرَكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً". [انظر: 2305 - مسلم: 1601 - فتح 5/ 56]

ذكر فيه حديث أبي هريرة السالف في الوكالة

(1)

. ثم ترجم عليه باب: هل يعطى أكبر من سنه، وباب: حسن القضاء، وذكرنا هناك اختلاف العلماء في استقراض الحيوان ولا بأس بإعادته، أجازه الأئمة: مالك والشافعي وأحمد وإسحاق، واحتجوا بهذا الحديث

(2)

،

ولا يحل عندنا وعند مالك وأهل المدينة استقراض الإماء

(3)

؛ لأن ذلك ذريعة إلى استحلال الفروج.

ومنع ذلك الكوفيون -أعني: استقراض الحيوان- وقالوا: لا يجوز استقراضه؛ لأن وجود مثله متعذر غير موقوف عليه

(4)

. وقالوا: يحتمل أن يكون حديث أبي هريرة قبل تحريم الربا ثم حرم الربا بعد ذلك وحرم كل قرض جرَّ منفعة، وردت الأشياء المستقرضة إلى مثالها فلم يجز القرض إلا فيما له مثل.

(1)

سلف برقم (2305) باب: وكالة الشاهد والغائب جائزة.

(2)

انظر: "الاستذكار" 20/ 92، "النوادر والزيادات" 6/ 131، "المغني" 6/ 433، "مراتب الإجماع" ص 165.

(3)

انظر: "البيان" 5/ 461.

(4)

انظر: "المبسوط" 14/ 32.

ص: 410

وحجة المجيز: محال أن يستقرض الشارع شيئًا لا يقدر على أداء مثله، ولا يوصف ذلك بصفة، ولو لم يكن إلى رد مثله سبيل لم يقترضه إذ كان أبعد الخلق من الظلم.

واحتج من فرق بينه وبين الإماء بأنه يتخذ ذريعة إلى استباحة الأبضاع بذلك، والشرع قد احتاط فيه.

وقال الأولون: رد الزيادة من غير شرط من باب المعروف، وهو قول ابن عمر وابن المسيب والنخعي والشعبي وعطاء والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وجماعة

(1)

.

وقد اختلف أصحاب مالك فيه، فقال ابن حبيب: لا بأس أن يرد أفضل مما استقرض في العدد والجودة؛ لأن الآثار جاءت بأنه صلى الله عليه وسلم رد أكثر عددًا في طعام وإبل، وأجاز أشهب أن يزيده في العدد إذا طابت نفسه.

وقال ابن نافع: لا بأس أن يعطي أكثر عددًا إذا لم يكن له عادة.

وقال مالك: لا يجوز أن يكون زيادة في العدد، وإنما يصلح أن يكون في الجودة.

وقال ابن القاسم: لا يعجبني أن يعطيه أكثر في العدد ولا في الذهب والورق إلا اليسير مثل: الرجحان في الوزن والكيل، ولو زاده بعد ذلك لم يكن به بأس، وهو قول مالك وإنما لم يجز أن يشترط أن يأخذ

أفضل؛ لأنه يخرج من باب المعروف ويصير ربا، ولا خلاف بين العلماء أن اشتراط الزيادة في ذلك ربا لا يحل

(2)

.

(1)

انظر: "المغني" 6/ 438.

(2)

انظر: "شرح ابن بطال" 6/ 516 - 517.

ص: 411

والحاصل من الخلاف السالف عند المالكية ثلاثة أقوال في زيادة العدد، المشهور: منعه.

ثالثها: يغتفر القليل، والقليل إردبان في مائة.

وفيه: للغريم التجاوزُ عن إغلاظ الطالب.

وقوله: (أوفيتني أوفاك الله). يقال: أوفى ووفى.

وذكر في آخر باب: حسن القضاء حديث جابر بن عبد الله قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد، قال مسعر: أراه ضحًى، فقال: صلى ركعتين وكان لي عليه دين، فقضاني وزادني

(1)

. وهو وافٍ بما ترجم له.

(1)

سيأتي برقم (2394).

ص: 412

‌5 - باب حُسْنِ التَّقَاضِي

2391 -

حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ المَلِكِ، عَنْ رِبْعِيٍّ، عَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَاتَ رَجُلٌ، فَقِيلَ لَهُ: مَا كُنْتَ تقول؟ قَالَ: كُنْتُ أُبَايِعُ النَّاسَ، فَأَتَجَوَّزُ عَنِ المُوسِرِ، وَأُخَفِّفُ عَنِ المُعْسِرِ. فَغُفِرَ لَهُ". قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ: سَمِعْتُهُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. [انظر: 2077 - مسلم: 1560 - فتح 5/ 58]

ذكر فيه حديث حُذَيْفَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَاتَ رَجُلٌ، فَقِيلَ لَهُ، فقَالَ: كُنْتُ أُبَايعُ النَّاسَ، فَأتَجَوَّزُ عَنِ المُوسِرِ، وَأُخَفِّفُ عَنِ المُعْسِرِ. فَغُفِرَ لَهُ". قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ: سَمِعْتُهُ مِنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وفي نسخة: "فأتجوز عن المعسر وأخفف على الموسر" وقد سلف في باب: من أنظر موسرًا

(1)

، وفيه ترغيب عظيم في حسن التقاضي، وأن ذلك مما يدخل الله به الجنة، وهذا المعنى نظير:"خيركم قضاء" فجاء الترغيب في كلا الوجهين في حسن التقاضي لرب الدين، وفي حسن القضاء للذي عليه الدين، كل قد رغب في الأخذ بأرفع الأحوال، وترك المشاحة في القضاء والاقتضاء واستعمال مكارم الأخلاق في البيع والشراء والأخذ والعطاء، وقد جاء هذا كله في الحديث السالف في أول البيوع "رحم الله رجلًا سمحًا إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى"

(2)

.

(1)

سلف برقم (2077) كتاب: البيوع.

(2)

سلف برقم (2076) باب: السهولة والسماحة في البيع والشراء.

ص: 413

‌6 - باب هَلْ يُعْطَى أَكْبَرَ مِنْ سِنِّهِ

؟

(1)

2392 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ سُفْيَانَ قَالَ: حَدَّثَنِي سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَتَقَاضَاهُ بَعِيرًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"أَعْطُوهُ". فَقَالُوا: مَا نَجِدُ إِلَّا سِنًّا أَفْضَلَ مِنْ سِنِّهِ. فَقَالَ الرَّجُلُ: أَوْفَيْتَنِي أَوْفَاكَ اللهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَعْطُوهُ، فَإِنَّ مِنْ خِيَارِ النَّاسِ أَحْسَنَهُمْ قَضَاءً". [انظر: 2305 - مسلم: 1601 - فتح 5/ 58]

(1)

هذا الباب وما بعده ليسا في نسخة المصنف، وقد أشار إليهما فيما سبق ص 410.

ص: 414

‌7 - باب حُسْنِ القَضَاءِ

2393 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سِنٌّ مِنَ الإِبِلِ فَجَاءَهُ يَتَقَاضَاهُ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم:"أَعْطُوهُ". فَطَلَبُوا سِنَّهُ، فَلَمْ يَجِدُوا لَهُ إِلَّا سِنًّا فَوْقَهَا. فَقَالَ:"أَعْطُوهُ". فَقَالَ: أَوْفَيْتَنِي، وَفَّى اللهُ بِكَ. قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ خِيَارَكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً". [انظر: 2305 - مسلم: 1601 - فتح 5/ 58]

2394 -

حَدَّثَنَا خَلاَّدٌ، حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ، حَدَّثَنَا مُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهْوَ فِي المَسْجِدِ -قَالَ مِسْعَرٌ: أُرَاهُ قَالَ: ضُحًى- فَقَالَ: "صَلِّ رَكْعَتَيْنِ". وَكَانَ لِي عَلَيْهِ دَيْنٌ، فَقَضَانِي وَزَادَنِي. [انظر: 443 - مسلم: 715 - فتح 5/ 59]

ص: 415

‌8 - باب إِذَا قَضَى دُونَ حَقِّهِ أَوْ حَلَّلَهُ فَهْوَ جَائِزٌ

2395 -

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما أَخْبَرَهُ، أَنَّ أَبَاهُ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ شَهِيدًا وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، فَاشْتَدَّ الغُرَمَاءُ فِي حُقُوقِهِمْ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَهُمْ أَنْ يَقْبَلُوا تَمْرَ حَائِطِي وَيُحَلِّلُوا أَبِي فَأَبَوْا، فَلَمْ يُعْطِهِمِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَائِطِي، وَقَالَ:"سَنَغْدُو عَلَيْكَ". فَغَدَا عَلَيْنَا حِينَ أَصْبَحَ، فَطَافَ فِي النَّخْلِ وَدَعَا فِي ثَمَرِهَا بِالبَرَكَةِ، فَجَدَدْتُهَا فَقَضَيْتُهُمْ، وَبَقِيَ لَنَا مِنْ تَمْرِهَا. [انظر: 2127 - فتح 5/ 59]

ذكر فيه حديث ابْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ -وهو عبد الله الرحمن بن عبد الله بن كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ

(1)

- أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ أَخْبَرَهُ، أَنَّ أَبَاهُ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ شَهِيدًا وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، فَاشْتَدَّ الغُرَمَاءُ فِي حُقُوقِهِمْ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَهُمْ أَنْ يَقْبَلُوا تَمْرَ حَائِطِي وَيُحَلِّلُوا أَبِي فَأَبَوْا، فَلَمْ يُعْطِهِمِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَائِطِي، وَقَالَ:"سَنَغْدُو عَلَيْكَ". فَغَدَا عَلَيْنَا حِينَ أَصْبَحَ، فَطَافَ فِي النَّخْلِ، وَدَعَا فِي ثَمَرِهَا بِالبَرَكَةِ، فَجَدَدْتُهَا فَقَضَيْتُهُمْ، وَبَقِيَ لَنَا مِنْ تَمْرِهَا.

وترجم عليه فيما سيأتي باب: من أخر الغريم إلى الغد أو نحوه ولم ير ذلك مَطْلًا. وذكره معلقًا بلفظ: وقال جابر: اشتد الغرماء

(2)

.

وقوله في الترجمة: (أو حلله) صوابه إسقاط الألف كما هو ثابت بخط الدمياطي، وذكر الآخر نسخة.

وكذا ترجم عليه أبو نعيم والإسماعيلي؛ لأنه لا يجوز أن يقضي رب الدين دون حقه وتسقط مطالبته بباقيه إلا إن تحلل منه، كذا قال

(1)

انظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" 5/ 303 (991)، "الثقات" لابن حبان 5/ 80، "تهذيب الكمال" 17/ 238 (3876).

(2)

سيأتي بعد حديث رقم (2402).

ص: 416

ابن بطال

(1)

، وأما ابن المنير فصوبه، والمقصود: أو حلله من جميعه، وأخذ البخاري هذا من جواز قضاء البعض والتحلل من البعض

(2)

.

قلت: عرض ذلك عليه السلام فأبوا، ولا خلاف بين العلماء أنه لو حلله من جميع الدين وأبرأ ذمته أنه جائز، فكذلك إذا حلله من بعضه، وأما تأخير الغريم الواحد إلى الغد فهو مرتبط بالعذر، وأما من قدر على الأداء فلا مطل؛ لأنه ظلم، وإنما أخر جابر غرماءه رجاء بركته عليه السلام؛ لأنه كان وعده أن يمشي معه على التمر ويبارك فيها؛ فحقق الله رجاءه وظهرت بركة نبيه وذلك من أعلام نبوته.

وفيه: مشي الإمام في حوائج الناس واستشفاعه في الديون وقد ترجم لذلك

(3)

.

وقوله: (فسألهم أن يقبلوا)، وذكره بعده في باب الشفاعة في وضع الدين كذلك، وذكر بعد أيضًا على الأثر في باب: إذا قاصَّ أو جازف، أن الدين كان ثلاثين وسقًا لرجل من اليهود؛ وفيه: فكلم جابر رسول الله ليشفع إليه فكلمه فأبى اليهودي

(4)

، وإنما شفع لقوله:"اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء"

(5)

.

قال الحسن: مصداقه قوله: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً} أي: من

(1)

"شرح ابن بطال" 6/ 518.

(2)

"المتواري" ص 268.

(3)

أشار الشارح هنا إلى باب: الشفاعة في وضع الدين حديث رقم (2405).

(4)

ورد في الأصل فوق هذِه الكلمة كلام نصه: أي بعد هذا الباب الذي نشرحه.

(5)

سلف برقم (1432) كتاب: الزكاة، باب: التحريض على الصدقة والشفاعة فيها، ورواه مسلم (2627) كتاب: البر والصلة والآداب، باب: استحباب الشفاعة فيما ليس بحرام.

ص: 417

يشفع أثيب وإن لم يشفَّع

(1)

، وإنما سألهم في قبول تمر الحائط؛ لأنه كان أقل من حقوقهم بالأمر البين فسلموا من المزابنة.

وفيه: تأخير الغريم ما لا مضرة فيه على الطالب.

وفيه: ظهور بركته عليه السلام كما سلف، وتكثير القليل، وأجاز قوم تكثير القليل ولم يجيزوا في الكرامة إيجاد معدوم، ولا فرق بينهما في التحقيق.

وقوله: (فقال: "أخبر ذلك ابن الخطاب")

(2)

، أي: ليزداد يقينًا.

فائدة:

قد أسلفت أن ابن كعب بن مالك هو عبد الرحمن (خ. م. د. س) بن عبد الله بن كعب بن مالك وهو ما رأيته بخط الدمياطي والإسماعيلي لما ساقه من حديث ابن شهاب قال: عن عبد الله بن كعب بن مالك، عن كعب بن مالك أن جابرًا فذكره، ثم قال: كذا قال: عن كعب بن مالك، وذكر الحميدي أن البخاري خرجه من حديث عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن جابر

(3)

، وكذا ذكره خلف وأبو مسعود والطرقي، وصوب المزي عبد الله ولم يستدل

(4)

.

(1)

رواه ابن جرير في "تفسيره" 4/ 188 - 189، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 3/ 1018.

(2)

انظر: الحديث الآتي.

(3)

"الجمع بين الصحيحين" 2/ 367.

(4)

"تحفة الأشراف" 2/ 210، قال الحافظ في "الفتح" 5/ 59: وذكر المزي أنه عبد الله واستدل بأن ابن وهب روى الحديث عن يونس بالسند الذي في هذا الباب فسماه عبد الله. اهـ.

ورد بهامش الأصل: والحديث صحيح على كل تقدير وعبد الرحمن سمع من عبد الله بن كعب ومن كعب، وعبد الله سمع من كعب والزهري سمع منهما، لكن قال أحمد بن صالح المصري: إنه لم يسمع من عبد الله بن كعب بن مالك شيئًا، والمشهور عنه هو المصري: عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك.

ص: 418

واعلم أن البخاري أيضًا ذكر حديث جابر هذا في الصلح وترجم عليه الصلح بين الغرماء، وفيه: فعرضت على غرمائه أن يأخذوا التمر بما عليه فأبوا فلم يروا أن فيه وفاء

(1)

، ورأيت بخط الدمياطي على ترجمة الباب: قيل ترجمة هذا الباب لا يصح استنباطها؛ لأن بيع التمر بالتمر مجازفة حرام لا يجوز لعدم المماثلة، وإنما يجوز أن يأخذ مجازفة إذا علم أنه أقل من دينه، وقد جاء في الصلح صريحًا فذكر ما أوردناه، وهذا هو قول المهلب كما ستعلمه على الأثر.

(1)

سيأتي برقم (2709).

ص: 419

‌9 - باب إِذَا قَاصَّ أَوْ جَازَفَهُ فِي الدَّيْنِ تَمْرًا بِتَمْرٍ أَوْ غَيْرِهِ

(1)

2396 -

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ المُنْذِرِ، حَدَّثَنَا أَنَسٌ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما أَنَّهُ أَخْبَرَهُ، أَنَّ أَبَاهُ تُوُفِّيَ وَتَرَكَ عَلَيْهِ ثَلَاثِينَ وَسْقًا لِرَجُلٍ مِنَ اليَهُودِ، فَاسْتَنْظَرَهُ جَابِرٌ، فَأَبَى أَنْ يُنْظِرَهُ، فَكَلَّمَ جَابِرٌ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِيَشْفَعَ لَهُ إِلَيْهِ، فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَكَلَّمَ اليَهُودِيَّ لِيَأْخُذَ ثَمَرَ نَخْلِهِ بِالَّذِي لَهُ فَأَبَى، فَدَخَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم النَّخْلَ، فَمَشَى فِيهَا ثُمَّ قَالَ لِجَابِرٍ:"جُدَّ لَهُ فَأَوْفِ لَهُ الَّذِي لَهُ". فَجَدَّهُ بَعْدَ مَا رَجَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَوْفَاهُ ثَلَاثِينَ وَسْقًا، وَفَضَلَتْ لَهُ سَبْعَةَ عَشَرَ وَسْقًا، فَجَاءَ جَابِرٌ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِيُخْبِرَهُ بِالَّذِي كَانَ، فَوَجَدَهُ يُصَلِّي العَصْرَ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَخْبَرَهُ بِالفَضْلِ، فَقَالَ:"أَخْبِرْ ذَلِكَ ابْنَ الخَطَّابِ". فَذَهَبَ جَابِرٌ إِلَى عُمَرَ فَأَخْبَرَهُ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: لَقَدْ عَلِمْتُ حِينَ مَشَى فِيهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَيُبَارَكَنَّ فِيهَا. [انظر: 2127 - فتح 5/ 60]

ثم ذكر حديث جابر بطوله.

قال المهلب: لا يجوز عند العلماء أن يأخذ من له دين من تمر على أحد تمرًا مجازفة في دينه؛ لأن ذلك من الغرر والمجهول، وذلك حرام فيما أمر فيه بالمماثلة، وإنما يجوز أن يأخذ مجازفة في حقه أقل من دينه إذا علم ذلك وتجاوز له

(2)

، وهذا المعنى بين في حديث جابر؛ لأنه عليه السلام حين كلم اليهودي أن يأخذ تمر النخل بالذي على أبي جابر، وأبى اليهودي من ذلك، ثبت أن تمر النخل لا يفي بالدين، وأنه أقل مما

(1)

ورد في الأصل على قوله: تمرًا بتمر أو غيره علامة (لا .. إلى) وورد بالهامش تعليق: هذِه الزيادة من نسختي من قوله: (تمرًا) إلى آخرها وهي أصل فيها.

(2)

انظر: "شرح ابن بطال" 6/ 520.

ص: 420

كان يلزمه غرمه، وقد جاء هذا منصوصًا في الصلح

(1)

، فساقه كما أسلفناه، وقد يجوز في باب حسن القضاء أن يزيده من صنفه، وإنما تحرم الزيادة بالشرط. وقال في باب: الشفاعة في وضع الدين:

فأزحف الجمل

(2)

، يقال: أزحف البعير إذا أعيا فجر فِرْسِنَه وزحف أيضًا

(3)

.

(1)

سيأتي برقم (2709) كتاب: الصلح، باب: الصلح بين الغرماء وأصحاب الميراث.

(2)

سيأتي برقم (2406).

(3)

انظر: "أعلام الحديث" للخطابي 2/ 1202.

ص: 421

‌10 - باب مَنِ اسْتَعَاذَ مِنَ الدَّيْنِ

2397 -

حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ح. وَحَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي أَخِي عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَتِيقٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَخْبَرَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَدْعُو فِي الصَّلَاةِ وَيَقُولُ:"اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ المَأْثَمِ وَالمَغْرَمِ". فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: مَا أَكْثَرَ مَا تَسْتَعِيذُ يَا رَسُولَ اللهِ مِنَ المَغْرَمِ؟ قَالَ: "إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَرِمَ حَدَّثَ فَكَذَبَ وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ". [انظر: 832 - مسلم: 589 - فتح 5/ 60]

ذكر حديث عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم كَانَ يَدْعُو فِي الصَّلَاةِ وَيقُولُ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ المَأْثَم وَالمَغْرَمِ". فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: مَا أَكْثَرَ مَا تَسْتَعِيذُ من المغرم يَا رَسُولَ اللهِ؟ قالً: "إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَرِمَ حَدَّثَ فَكَذَبَ وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ".

فيه: الدعاء في الصلاة بما ليس في القرآن خلافًا لأبي حنيفة

(1)

، واستعاذته من الدين الذي لا يطيق قضاءه، وقد توفي ودرعه مرهونة عند يهودي

(2)

. (والمأثم): كل إثم، وخص المغرم لما يخشى فيه من

الإثم مما ذكره من الكذب وإخلاف الوعد، وهما خصلتان من النفاق وما يبقى أيضًا من ذلك.

و (المغرم): ما يلزم الإنسان نفسه ويلزمه غيره وليس بواجبٍ عليه وهو الغرم، و (المغرم): المثقل دينًا، ومنه:{فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ} [القلم: 46] وسمي الغريم لإلحاحه؛ لأن الغريم: الملازم.

(1)

انظر: "الهداية" 1/ 56، "شرح فتح القدير" 1/ 277.

(2)

سلف برقم (2068) كتاب: البيوع، باب: شراء النبي صلى الله عليه وسلم بالنسيئة، ورواه مسلم (1603) كتاب: المساقاة، باب: الرهن وجوازه في الحضر والسفر، من حديث عائشة.

ص: 422

وفيه: قطع الذرائع؛ لأن استعاذته من الدين ذريعة إلى ما أسلفناه من الكذب والخلف في الوعد مع ما يقع للمديان تحته من الذلة وما لصاحب الدين عليه من المقال.

فإن قلت: فالأحاديث التي سقتها في باب: من اشترى بالدين قريبًا، وكذا حديث جعفر بن محمد عن أبيه، عن عبد الله بن جعفر مرفوعًا:"إن الله مع الدائن حتى يقضي دينه ما لم يكن فيه ما يكره الله". وكان عبد الله بن جعفر يقول لجاره: اذهب فخذ لي بدين فأنا أكره أن أبيت الليلة إلا والله معي

(1)

.

قلت: لا تنافي بينهما؛ فأحاديث النهي لمن استدان فيما يكره الرب جل جلاله ولا يريد قضاءه والإباحة فيما يرضيه ويريد قضاءه، وعنده في الأغلب ما يؤديه منه، فالله تعالى في عونه على قضائه.

والمغرم الذي استعاذ منه؛ إما لكونه فيما يكره الرب ولا يجد سبيلًا إلى قضائه، وإما فيما لا يكرهه ولكن لا سبيل إلى قضائه فهو متعرض لهلاك مال أخيه ومتلف له، أو له يُسره ونوى ترك قضائه وجحده فهو عاص لربه ظالم لنفسه. فكل هؤلاء لوعدهم إن وعدوا من استدانوا منه القضاء مخلفون، وفي حديثهم كاذبون لوعودهم، وقد صحت الأخبار عنه أنه استدان في بعض الأحوال كما أسلفناه،

فكان معلومًا بذلك أن الحالة التي كره فيها غير الحال التي رخص لنفسه فيها.

وقد استدان السلف: استدان عمر وهو خليفة وقال لما طعن: انظروا كم عليَّ من الدين، فحسبوه فوجدوه ثمانين ألفًا وأكثر، وكان

(1)

سيأتي تخريج هذا الحديث في شرح حديث (2835).

ص: 423

على الزبير دين عظيم، ذكرهما البخاري كما ستعلمه في موضعه

(1)

. فما ثبت عن الشارع وأصحابه والسلف من استدانتهم الدين مع تكريرهم له إلى غيرهم الدليل الواضح على أن اختلاف الأمر في ذلك كان على قدر اختلاف حال المستدينين.

(1)

قصة دَين عمر تأتي برقم (3700) كتاب: فضائل الصحابة، باب: قصة البيعة، أما قصة دين الزبير فستأتي برقم (3129) كتاب: فرض الخمس، باب: بركة المغازي في ماله حيا وميتا مع النبي صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر.

ص: 424

‌11 - باب الصَّلَاةِ عَلَى مَنْ تَرَكَ دَيْنًا

2398 -

حَدَّثَنَا أَبُو الوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ، وَمَنْ تَرَكَ كَلاًّ فَإِلَيْنَا". [انظر: 2298 - مسلم: 1619 - فتح 5/ 61]

2399 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ، حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ، عَنْ هِلَالِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إِلَّا وَأَنَا أَوْلَى بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6]. فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ مَاتَ وَتَرَكَ مَالًا فَلْيَرِثْهُ عَصَبَتُهُ مَنْ كَانُوا، وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا فَلْيَأْتِنِي فَأَنَا مَوْلَاهُ". [2298 - مسلم: 1619 - فتح 5/ 61]

ذكر فيه حديث أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"منْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ، وَمَنْ تَرَكَ كَلًّا فَإِلَيْنَا".

وحديثه أيضًا: "مَا مِنْ مُؤْمِنِ إِلَّا وَأَنَا أَوْلَى بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ:{النَّبِيُّ أَوْلَى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6]. فَأيُّمَا مُؤْمِنٍ مَاتَ وَتَرَكَ مَالًا فَلْيَرِثْهُ عَصَبَتُهُ مَنْ كَانُوا، وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا فَلْيَأْتِني فَأنا وليه

(1)

".

هذا الحديث ناسخ لترك الصلاة على من مات وعليه دين كما سلف واضحًا في الحوالة

(2)

.

قال الداودي: وقوله: ("اقرءوا إن شئتم") أحسبه من كلام

(1)

في الأصل فوقها: مولاه.

(2)

سلف برقم (2289) باب: إن أحال دين الميت على رجل جاز. من حديث سلمة بن الأكوع.

ص: 425

أبي هريرة، واعترضه ابن التين فقال: ليس كما ظن؛ فقد روى جابر أن

النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم "

(1)

. قال: وقيل: معنى

الآية أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أمر بشيء أو نهى عنه كان أمره أولى بأن يتبع من

النفس وإن كان هواها في غيره.

و (الضياع) بفتح الضاد المعجمة: مصدر ضاع يضيع ضيعة وضياعًا، ثم جُعل اسمًا لكل ما هو مرصد أن يضيع من ولد أو عيال لا كافلَ لهم مثل قوله:("ومن ترك كَلًّا") أي: عيالًا، فمن ترك شيئًا ضائعًا كالأطفال ونحوهم فليأتني ذلك الضائع. ("فأنا مولاه") أي: وليه، مثل قوله:{وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ} .

وقوله: "أيما امرأة تزوجت بغير إذن وليها فنكاحها باطل"

(2)

، ورواه بعضهم بالكسر جمع ضائع كجائع وجياع

(3)

، والأول أصح، وكذا قال ابن الجوزي

(4)

.

وقوله: ("فلترثه عصبته") قال الداودي: هو هنا الورثة من كانوا ليس من يرث بالتعصيب وهو كما قال، فإن العاصب مخصوص بمن ليس له سهم مقدر من المجمع على توريثهم، فيرث كل المال عند

(1)

رواه مسلم (768) كتاب: الجمعة، باب: تخفيف الصلاة والخطبة. بلفظ: "أنا أولى بكل مؤمن من نفسه".

(2)

رواه أبو داود (2083)، والترمذي (1102)، وابن ماجه (1879)، وأحمد 6/ 165 - 166، والحاكم 2/ 168، من طرق عن ابن جريج، عن سليمان بن موسى، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة، به.

قال الترمذي: هذا حديث حسن. وصححه الحاكم والذهبي، وذكره الألباني في "الإرواء"(1840)، وقال: صحيح.

(3)

"النهاية في غريب الحديث" 3/ 107.

(4)

"غريب الحديث" 2/ 22.

ص: 426

الانفراد، وما فضل بعد الفروض. وقيل: العصبة: قرابة الرجل لأبيه سموا بذلك من قولهم: عصب القوم بفلان، أي: أحاطوا به وهم كل من يلتقي مع الميت في أبٍ واحد. وعند ابن سحنون: الابن عصبة

وهذا صحيح في الرجال، وأما المرأة فلا تسمى عصبة على الإطلاق، والواحد عاصب قياسًا، قاله الأزهري

(1)

وغيره.

(1)

"تهذيب اللغة" 3/ 2455 مادة "عصب".

ص: 427

‌12 - باب مَطْلُ الغَنِيِّ ظُلْمٌ

2400 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ -أَخِي وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ- أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَطْلُ الغَنِيِّ ظُلْمٌ". [انظر: 2287 - مسلم: 1564 - فتح 5/ 61]

ذكر فيه حديث أبي هُرَيْرَةَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَطْلُ الغَنيِّ ظُلْمٌ".

هذا الحديث تقدم في الحوالة

(1)

واضحًا، ومفهوم الحديث أن مطل غير الغني ليس بظلم ولا مطالبة عليه إذًا، وإذا سقطت المطالبة زالت الملازمة، قال تعالى:{فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] وهو يوجب تأخيره فصار كالدين المؤجل، فيمنع من لزومه.

وفيه: أن من وجب عليه زكاة ففرط فيها أنه يغرمها إذا بلغت المال خلافًا لأبي حنيفة

(2)

.

(1)

سلف برقم (2287) باب: في الحوالة وهل يرجع في الحوالة؟

(2)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 4/ 245.

ص: 428

‌13 - باب لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالٌ

وَيُذْكَرُ

(1)

عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "لَيُّ الوَاجِدِ يُحِلُّ عُقُوبَتَهُ وَعِرْضَهُ". قَالَ سُفْيَانُ: عِرْضُهُ: يَقُولُ مَطَلْتَنِي. وَعُقُوبَتُهُ: الحَبْسُ.

2401 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ يَتَقَاضَاهُ فَأَغْلَظَ لَهُ، فَهَمَّ بِهِ أَصْحَابُهُ. فَقَالَ:"دَعُوهُ فَإِنَّ لِصَاحِبِ الحَقِّ مَقَالًا". [انظر: 2305 - مسلم: 1601 - فتح 5/ 62]

ذكر حديث أَبِي هُرَيْرَةَ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ يَتَقَاضَاهُ فَأَغْلَظَ لَهُ، فَهَمَّ بِهِ أَصْحَابُهُ. فَقَالَ:"دَعُوهُ، فَإِنَّ لِصَاحِبِ الحَقِّ مَقَالًا". هذا قد سلف في باب: الحوالة

(2)

، ولا شك أنه إذا مطله وهو غني، فقد ظلمه والظلم محرم وإن قل. وفسر الفقهاء الحديث كما فسره سفيان وهو كقوله:"إن لصاحب الحق مقالًا" أي: بصفة المطل، وقد جاء في التنزيل مصداقه، قال تعالى:{لَا يُحِبُّ اللهُ الجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ القَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء: 148] وهذِه الآية نزلت في مانع الضيافة، فأبيح له أن يقول في المانع له أنه لئيم وأنه لم يقره، وشبه هذا، وقيل: نزلت في مطل الدين -وقيل: في المكره على الكفر؛ لأنه مظلوم- وعقوبته بالحبس إذا رجي له مال أو وفاء بما عليه، فإن ثبت إعساره وجب نظرته

(1)

ورد بهامش الأصل: حديث "ليُّ الواجدِ" رواه الطبراني في "المعجم الكبير" بإسناده إلى عمرو بن الشريد، عن أبيه قال: قال رسول الله: "ليُّ الواجد، يحل عرضه وعقوبته"، وفي هذا السند سفيان، فقال سفيان: يحل عرضه أي: يشكوه، وعقوبته: حبسه، نقله من خط الدمياطي .. وقد عزاه المؤلف في باب: الحوالة. [انظر: "المعجم الكبير" 7/ 318]

(2)

سلف برقم (2287).

ص: 429

وحرم حبسه لزوال العلة الموجبة لحبسه وهي الوجدان.

واختلف في ثابت العسرة وأطلق من السجن هل يلازمه غريمه؟ فقال مالك والشافعي: لا، حتى يثبت له مال آخر

(1)

.

وقال أبو حنيفة: لا يمنع الحاكم الغرماء من لزومه

(2)

.

(1)

انظر: "المنتقى" 5/ 83، "الإشراف" 2/ 66.

(2)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 4/ 281.

ص: 430

‌14 - باب إِذَا وَجَدَ مَالَهُ عِنْدَ مُفْلِسٍ فِي البَيْعِ وَالقَرْضِ وَالوَدِيعَةِ، فَهْوَ أَحَقُّ بِهِ

وَقَالَ الحَسَنُ: إِذَا أَفْلَسَ وَتَبَيَّنَ لَمْ يَجُزْ عِتْقُهُ وَلَا بَيْعُهُ وَلَا شِرَاؤُهُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ المُسَيَّبِ: قَضَى عُثْمَانُ مَنِ اقْتَضَى مِنْ حَقِّهِ قَبْلَ أَنْ يُفْلِسَ فَهْوَ لَهُ، وَمَنْ عَرَفَ مَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ فَهْوَ أَحَقُّ بِهِ.

2402 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ العَزِيزِ أَخْبَرَهُ، أَنَّ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم -أَوْ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ-: "مَنْ أَدْرَكَ مَالَهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ رَجُلٍ أَوْ إِنْسَانٍ قَدْ أَفْلَسَ، فَهْوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ". [مسلم: 1559 - فتح 5/ 62]

ثم ساق حديث أبي هريرة

(1)

من طريق يحيى بن سعيد: أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدٍ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ العَزِيزِ أَخْبَرَهُ، أَنَّ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الحَارِثِ، أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم -أَوْ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ-: "منْ أَدْرَكَ مَالَهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ رَجُلٍ أَوْ إِنْسَانٍ قَدْ أَفْلَسَ، فَهْوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ".

(1)

ورد بهامش الأصل: وحديث أبي هريرة في "المسند" بزيادة: ولم يكن اقتضى من ماله شيئًا وفيه الحسن عن أبي هريرة و

واحد لم يسمع منه

[انظر "المسند" 2/ 525]

ص: 431

الشرح:

أثر الحسن الذي يحضرني منه ما رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" عن حفص، عن الأشعث، عن الحسن قال: هو أسوة الغرماء

(1)

، وهذِه صفة من استسلم للفلس فكل ذلك (

)

(2)

عندنا إذا حجر عليه نعم لو باع في ذمته صح وعند المالكية من أحاط به الدين منع من العتق والهبة دون البيع والشراء، واختلف في قضائه ورهنه، والمشهور جوازه والقياس منعه، وكذلك اختلف في إقراره، والمشهور إجازته خلافًا لابن نافع

(3)

، ولا وجه له إلا أن يكون لمن اتهم عليه ففيه قولان، والشراء يمد ويقصر.

قال ابن التين: ووقع ولا نراه مقصورًا وهي لغة فيه غير مشهورة.

وأثر عثمان رواه أبو عبيد في "أمواله" عن إسماعيل بن جعفر، ثنا محمد بن أبي حرملة، عن سعيد بن المسيب قال: أفلس مولى لأم حبيب فاختصم فيه إلى عثمان، فقضى أن من كان اقتضى من حقه شيئًا قبل أن يتبين إفلاسه فهو له، ومن عرف متاعه بعينه فهو له.

وحديث أبي هريرة أخرجه مسلم والأربعة

(4)

، وهذا التردد في:(سمعت) أو (قال) هو من الراوي عن أبي هريرة وهو أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام. وقال مرة أخرى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم

(1)

"مصنف ابن أبي شيبة" 4/ 284 (20103).

(2)

غير واضحة بالأصل.

(3)

انظر: "المنتقى" 5/ 83.

(4)

مسلم (1559) كتاب: المساقاة، باب: من أدرك ما باعه عند المشتري وقد أفلس فله الرجوع فيه، وأبو داود (3519)، والترمذي (1262)، والنسائي 7/ 311، وابن ماجه (2358).

ص: 432

أخرجه مسلم

(1)

، ورواه عراك بن مالك، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبشير بن نهيك، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخرجهما مسلم

(2)

.

وفيه من اللطائف:

رواية أربعة من التابعين بعضهم عن بعض يحيى بن سعيد فمن بعده، ورواه مالك في "موطئه" عن الزهري، عن أبي بكر بن عبد الرحمن، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرسلًا

(3)

. وقال أبو داود: هو أصح ممن رواه عن مالك مسندًا

(4)

. وقال الدارقطني: لا يثبت عن الزهري مسندًا وإنما هو مرسل

(5)

. وقال أبو عمر: كذا هو مرسل في جميع الموطآت، وكذلك رواه جماعة الرواة عن مالك مرسلًا إلا عبد الرزاق؛ فإن رواه عن مالك عن الزهري، عن أبي بكر، عن أبي هريرة فأسنده

(6)

، وقد اختلف فيه عن عبد الرزاق، قال (الدارقطني)

(7)

: وتابع عبد الرزاق على إسناده عن مالك: أحمد بن موسى، وأحمد بن أبي طيبة.

واختلف أصحاب ابن شهاب عليه في إسناده وإرساله وهو محفوظ لأبي هريرة لا يرويه غيره

(8)

.

(1)

مسلم (1559/ 23) كتاب: المساقاة.

(2)

مسلم (1559/ 24 - 25).

(3)

"الموطأ" ص 420 - 421.

(4)

"سنن أبي داود" 3/ 793.

(5)

"علل الدارقطني" 11/ 166.

(6)

"المصنف" 8/ 264 (15160).

(7)

في الأصل: عبد الرزاق، ولعل الصواب ما أثبتناه، وهو الموافق لما حكاه ابن عبد البر في "التمهيد" 8/ 407 حيث قال: وذكر الدارقطني أنه قد تابع عبد الرزاق على إسناده عن مالك أحمد بن موسى وأحمد بن أبي طيبة. اهـ.

(8)

"التمهيد" 8/ 406 - 407.

ص: 433

وفي الباب عن الحسن عن سمرة أخرجه أبو داود والنسائي وأعله الذهلي

(1)

. وابن عمر ذكره الترمذي

(2)

.

إذا تقرر ذلك؛ فالكلام عليه من أوجه:

أحدها:

قوله: ("عند رجل أو إنسان") الظاهر أنه شك من الراوي، ومعنى أفلس: صار مفلسًا، أي: صارت دراهمه فلوسًا، ويجوز أن يراد به أنه صار إلى حال يقال فيها ليس معه فلس، وهو في الشرع حجر الحاكم على المديون والمفلس المحجور عليه بالديون.

ثانيها:

فيه رجوع البائع إلى عين ماله عند تعذر الثمن بالفلس، وهو مذهب الشافعي ومالك وأحمد وإسحاق والأكثرين، وألحقوا الموت به -وخالف فيه مالك وأحمد فقالا: يكون فيه أسوة الغرماء

(3)

- وخالف

(1)

رواه أبو داود (3531)، والنسائي 7/ 313 - 314، وذكر المزي في "تحفة الأشراف"(4595) قول الذهلي في الحديث.

وقال المنذري في "مختصره" 5/ 184: وأخرجه النسائي. وقد تقدم الكلام على الاختلاف في سماع الحسن من سمرة. وحسنه الحافظ في "الفتح" 5/ 64، وتعقبه العلامة صديق خان في "الروضة الندية" 3/ 192 فقال: لكن سماع الحسن عن سمرة فيه مقال معروف. وقال الألباني في "السلسلة الضعيفة"(2061): منكر بهذا اللفظ.

(2)

"جامع الترمذي" عقب حديث (1262)، وقد رواه ابن حبان في "صحيحه" 11/ 415 (5039) من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا عدم الرجل

فوجد البائع متاعه بعينه فهو أحق به".

قال الشوكاني في "نيل الأوطار" 3/ 666: أخرجه ابن حبان بإسناد صحيح.

(3)

انظر: "التمهيد" 8/ 410 - 415، "الإشراف على مذاهب أهل العلم" 2/ 62، "المغني" 6/ 589.

ص: 434

أبو حنيفة، فقال: لا يرجع فيهما بل يضارب مع الغرماء

(1)

. وعزي إلى النخعي والحسن البصري.

حجة الأكثرين في الفلس هذا الحديث، وفي الموت حديث في "سنن أبي داود" وابن ماجه من حديث أبي هريرة أيضًا. وقال الحاكم: إنه صحيح الإسناد، ولفظه:"أيما رجل مات أو أفلس فصاحب المتاع أحق بمتاعه إذا وجده بعينه"

(2)

، وحمل أبو حنيفة الحديث على الغصب والوديعة؛ لأنه لم يذكر البيع فيه أو على ما قبل القبض، وأول الحديث بتأويلات ضعيفة مردودة وتعلق بشيء يروى عن علي وابن مسعود وليس بثابت عنهما، ودفعوا الحديث بالقياس بأن يده قد زالت كيد الراهن، وحجة مالك ما رواه في "موطئه" عن ابن شهاب عن أبي بكر بن عبد الرحمن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"أيما رجل باع متاعًا فأفلس الذي ابتاعه ولم يقبض من ثمنه شيئًا فوجده بعينه فهو أحق به، وإن مات الذي ابتاعه فصاحب المتاع أسوة الغرماء"

(3)

، وقد سلف أنه أسند أيضًا ولا يصح كما سلف.

قال ابن عبد البر: أجمع فقهاء الحجاز وأهل الأثر على القول بجملة حديث أبي هريرة وإن اختلفوا في أشياء من فروعه، ودفعه من

(1)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 3/ 397.

(2)

رواه أبو داود (3523)، وابن ماجه (2360) واللفظ له والحاكم في "مستدركه" 2/ 50 - 51 من طريق ابن أبي ذئب، عن أبي المعتمر، عن ابن خلدة، عن أبي هريرة، به. وقال المنذري في "مختصره" 5/ 177: وحكي عن أبي داود أنه قال: من يأخذ بهذا؟ وأبو المعتمر من هو؟ لا يعرف. وذكره الحافظ في "الفتح" 5/ 64؛ وقال: هو حديث حسن يحتج بمثله. وضعفه الألباني في "الإرواء" 5/ 271 - 272، و"ضعيف سنن ابن ماجه"(517).

(3)

سبق تخريجه قريبًا.

ص: 435

أهل العراق أبو حنيفة وأصحابه وسائر الكوفيين، وأولوا الحديث على الودائع والأمانات، وروى قتادة، عن خلاس بن عمرو، عن علي أنه قال: هو فيها أسوة الغرماء إذا وجدها بعينها. وروى الثوري عن مغيرة، عن إبراهيم قال: هو والغرماء خاصة شرع سواء

(1)

.

وحكاه ابن التين عن ابن شبرمة وأسنده ابن أبي شيبة عن الشعبي

(2)

، وقد أسلفنا عدم ثبوت ذلك.

قال ابن المنذر: قضى عثمان وعلي أن صاحبها أحق بها ولا نعلم لهما مخالفًا من الصحابة

(3)

.

قلت: وابن مسعود وأبو هريرة وتابعهم عروة بن الزبير، وأما أبو محمد بن حزم فقال: صحَّ عن عمر بن عبد العزيز: أن من اقتضى من ثمن سلعته شيئًا، ثم أفلس فهو أسوة الغرماء، قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قول ابن شهاب ومالك: بعد الموت، وكذا قاله أحمد

(4)

. ورواه ابن ماجه أيضًا من طريق اليمان بن عدي الحمصي

(5)

، وتكلم فيه أحمد بكلام فظيع.

قلت: وتأويل الحديث على المودع والمقرض دون البائع فاسد؛ لأن المودع أحق بعين ماله سواء كان على صفته أو تغير عنها بخلاف البائع، فإنه إذا تغير ماله لا يرجع، وتفرقة مالك بين الفلس والموت بأن المفلس

(1)

"التمهيد" 8/ 410 - 412؛ بتصرف، وروى أثر عليٍّ وإبراهيمَ عبدُ الرزاق 8/ 266 (15170، 15171).

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة" 4/ 283 - 284 (20099).

(3)

"الإشراف" 2/ 61.

(4)

"المحلى" 8/ 177.

(5)

"سنن ابن ماجه"(2361) وصححه الألباني في "الإرواء" 5/ 271.

ص: 436

ذمته باقية بخلاف الموت. ونقل ابن التين عن الشافعي أنه ليس له المضاربة مع الغرماء وليس له إلا عين متاعه، وهو غريب عنه.

ثالثها:

مقتضى الحديث رجوعه أيضًا ولو قبض بعض الثمن؛ لإطلاق الحديث، وهو الجديد من قولي الشافعي، وخالف في القديم فقال: يضارب بباقي الثمن فقط

(1)

، وفي الحديث السالف وقد علمت حاله، ورجوع المقرض إلى عين ماله إذا كان باقيًا بعينه وأفلس بعد قبضه، كما ترجم عليه البخاري فيما سلف، ووجهه أن لفظ الحديث أعم من أن يكون المال أو المباع لبائع أو لمقرض، والفقهاء قاسوه عليه لجامع أنه مملوك تعذر تحصيله فأشبه البيع ولا حاجة إليه؛ لاندراجه تحته، وبهذا قال الشافعي وأبو محمد الأصيلي من المالكية، وخالف غيره، فقال: لا يكون القرض كالبيع.

رابعها:

فيه الحجر على المفلس، وبه قال الجمهور منهم مالك والشافعي وأحمد، وهو قول عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وعروة والأوزاعي، وخالف فيه أبو حنيفة

(2)

، وهو قول إبراهيم والحسن بن أبي الحسن، ولابد في الحديث من إضمار أمور تحمل عليه، مثل كون السلعة مقبوضة موجودة عند المشتري دون غيره والثمن غير مقبوض ومال المفلس لا يفي بالديون أو كان مساويًا، وقلنا بالحجر عليه فيها، فلو مات أو كاتب العبد فلا رجوع، ولو زال من يد المشتري وعاد إليه

(1)

"الإشراف" 2/ 61.

(2)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 5/ 215، "المنتقى" 5/ 81، "المغني" 6/ 538.

ص: 437

فيجوز الرجوع على الأصح خلاف ما وقع في "الروضة"

(1)

، وللرجوع شروط محلها كتب الفروع وقد أوضحناها فيها.

وصح من حديث كعب بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم حجر على معاذ ماله وباعه في دين كان عليه. استدركه الحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين وقال مرة: صحيح الإسناد

(2)

، ورواه الطبراني عن عبد الله بن أحمد، عن أبيه، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن ابن كعب بن مالك أن معاذًا أغلق ماله في الدين، فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكلم غرماءه، ففعل فلم يضعوا له شيئًا، فلو ترك لأحد بكلام لترك لمعاذ بكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم فلم يبرح حتى باع ماله وقسمه بين غرمائه، فقام معاذ لا مال له

(3)

.

وفي أفراد مسلم من حديث أبي سعيد الخدري قال: أصيب رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمار ابتاعها فأكثر دينه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"تصدقوا عليه"؛ فتصدق الناس عليه، فلم يبلغ ذلك وفاء دينه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك"

(4)

.

(1)

"روضة الطالبين" 4/ 155 - 156.

(2)

"المستدرك" 2/ 58، 4/ 101، ووافقه الذهبي، ورواه العقيلي في "الضعفاء" 1/ 68، والدارقطني 4/ 330، والبيهقي 6/ 48، من طريق إبراهيم بن معاوية الزيادي، عن هشام بن يوسف، عن معمر، عن الزهري، عن ابن كعب بن مالك، عن أبيه.

قال العقيلي: إبراهيم بن معاوية، بصري لا يتابع على حديثه.

وضعفه الألباني في "الإرواء" 5/ 260 (1435) وذكر قول الحاكم والذهبي، ثم قال: وذلك منهما خطأ فاحش، وخصوصا الذهبي؛ نقد أورد إبراهيم هذا في "الميزان"، وقال: ضعفه زكريا الساجي وغيره. اهـ.

(3)

"المعجم الكبير" 20/ 30 - 31 (44).

(4)

مسلم (1556) كتاب: المساقاة، باب: استحباب الوضع من الدين.

ص: 438

وأثر أسيفع في "الموطأ" عن عمر: فليأتنا بالغداة نقسم ماله بين غرمائه

(1)

.

واحتج المخالف بحديث جابر في دين أبيه السالف. وروي أن أسيد بن حضير كان عليه دين، فدعا عمر غرماءه فسلم إليهم أرضه أربع سنين بما لهم عليه

(2)

، وبالحديث السالف "ليُّ الواجد يحل عرضه وعقوبته" وهي الحبس كما سلف.

روى أبو بكر بن عياش عن أنس أنه عليه الصلاة والسلام حبس في تهمة

(3)

.

(1)

"الموطأ" ص 481، من طريق عمر بن عبد الرحمن بن دلاف المزني، عن أبيه، وذكره الألباني في "الإرواء" (1436) وقال: ضعيف.

(2)

رواه ابن سعد في "الطبقات" 3/ 606، من طريق خالد بن مخلد البجلي، عن عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، ورواه المزي في "تهذيب الكمال" 3/ 253، من طريق عبد الأعلي بن حماد، عن حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن عروة أن أسيد بن حضير، به ..

قلت: عروة لم يسمع من أسيد فهو منقطع، وفي سند ابن سعد: عبد الله بن عمر العمري، وهو ضعيف، وترجمته في "تهذيب الكمال" 15/ 327 - 331.

(3)

رواه العقيلي في "الضعفاء الكبير" 1/ 53 - 54، وابن عدي في "الكامل" 1/ 412، من طريق إبراهيم بن زكريا الواسطي، عن أبي بكر بن عياش، عن يحيى بن سعيد، عن أنس، به. قال العقيلي: إبراهيم بن زكريا الواسطي مجهول وحديثه خطأ. وقال ابن عدي: هذا باطل. وقال ابن حبان في "المجروحين" 1/ 116: وليس هذا من حديث أنس ولا من حديث يحيى بن سعيد الأنصاري، وليس يحفظ هذا المتن إلا من رواية بهز بن حكيم عن أبيه عن جده وهو مما تفرد به معمر، وقال ابن حزم في "المحلى" 8/ 169: واحتجوا بآثار واهية منها رواية من طريق أبي بكر بن عياش عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حبس في تهمة. وفيه أبو بكر بن عياش، وهو ضعيف، وانفرد عنه أيضًا

إبراهيم بن زكريا الواسطى، ولا يدرى من هو. اهـ. بتصرف.

قلت: اعترض المصنف على كلام ابن حزم كما سيأتي في الصفحات القادمة.

ص: 439

وروى عبد الرزاق في "مصنفه" عن بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة، عن أبيه، عن جده أنه عليه السلام حبس في تهمة

(1)

. قال ابن الطلاع: وذكره في غير "المصنف" -أنه عليه السلام حبس في تهمة ساعة من نهار، ثم خلى عنه

(2)

.

وروى ابن حزم من حديث أبي مجلز أن غلامين من جهينة كان بينهما غلام فأعتقه أحدهما فحبسه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى باع غنيمة له.

وعن الحسن أن قومًا قتل بينهم قتيل، فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وحبسهم -قلت: والجواب عن ذلك: أما حديث جابر فالاستدلال أنه من العجائب؛ لأن الدين كان على أبيه لا عليه- وأما أثر عمر فرأى أن لا حجر عليه وحجر على الأسيفع، وحديث أنس رده ابن حزم بابن عياش

(3)

قال: وهو ضعيف -قلت: لا بل ثقة- قال: وانفرد به أيضًا إبراهيم بن زكريا الواسطي ولا ندري من هو

(4)

.

قلت: قد عُرف ووهاه ابن عدي والترمذي وابن حبان والحاكم

(5)

، ولو أعله بانقطاع ما بينه وبين أنس كان أولى، فإن مولده سنة خمس

(1)

رواه عبد الرزاق في "المصنف" 8/ 306 (15313) والحديث أخرجه أبو داود (3630)، والترمذي (1417) والنسائي 8/ 67، ورواه أحمد مطولًا 5/ 2. قال الترمذي: حديث حسن. وقال ابن حزم في "المحلى" 8/ 169 وحديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده ضعيف. وقال الألباني في تعليقه على "المشكاة"(3785)، و"الإرواء" (2397): إسناده حسن.

(2)

سبق تخريجه.

(3)

ورد بهامش الأصل تعليق نصه: قال الذهبي في "الكاشف" توفي سنة 193 في جمادى الأولى، وله 96 سنة.

(4)

"المحلى" 8/ 169.

(5)

انظر: "المجروحين" 1/ 115، "الكامل في ضعفاء الرجال" 1/ 412. قلت: فرق ابن حبان بين إبراهيم بن زكريا الواسطي، وبين إبراهيم بن زكريا العجلي، أبي =

ص: 440

وتسعين. قال ابن حزم: وحديث بهز ضعيف وما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم سجن قط، قلت: وكذا حبس ثمامة في المسجد.

قال: وروينا من طريق عبد بن سلام، ثنا أحمد بن خالد الوهبي، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن علي بن حسين قال: قال علي: حبس الرجل في السجن بعدما يعرف بما عليه من الدين ظلم. وروي عن عبيد الله بن أبي جعفر في الفلس قال: لا يحبس ولكن يرسل يسعى في دينه، وهو قول الليث، وبه يقول داود وأصحابه

(1)

، قلت: الوهبي

(2)

(الأربعة) اتهمه أحمد في ابن إسحاق، ومحمد بن علي ولد بعد أبوه. وذكر ابن بطال عن وكيع بن الجراح أن عليًّا كان يحبس في الدين. وروى معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين: كان شريح إذا لم يعط الرجل حق الرجل أمر به إلى السجن

(3)

. وذكر ابن الطلاع في "أحكامه" ثبت عن عمر أنه كان له سجن

(4)

ولعثمان، وسجن علي بالكوفة. وبنى علي بعد نافع مخيسًا، وهما سجنان له وقال:

بنيت بعد نافع مخيسًا

حصنًا حصينًا وأمينًا كيسًا

(5)

= إسحاق، فذكر الأخير في "الثقات" 8/ 70، وذكر الأول في "المجروحين" ولم يفرق بينهما ابن عدي، وقد فرق بينهما غير واحد، منهم العقيلي في "الضعفاء" 1/ 53 - 54، وابن حجر في "لسان الميزان" 1/ 86.

(1)

"المحلى" 8/ 169 - 172.

(2)

بهامش الأصل: وثقه ابن معين لم يذكر في "الكاشف" فيه غير التوثيق، ولا في "التذهيب"، ولا ذكر في "المغني" ولا في "الميزان"، قال بعض أشياخي فيما بوب عليه وذكره ابن حبان في "الثقات" واحتج به ابن خزيمة في "صحيحه" وقال الدارقطني: لا بأس به.

(3)

"شرح ابن بطال" 6/ 542، وسيأتي تخريج هذِه الآثار عند حديث (2422).

(4)

رواه ابن أبي شيبة 5/ 7 (23191).

(5)

رواه ابن أبي شيبة 5/ 276 (26025).

ص: 441

وفي "النوادر": كان يحبس فيه المديونين

(1)

، وحديث هرماس بن حبيب عن أبيه عن جده في أبي داود: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بغريم لي، فقال لي:"الزمه"، ثم قال: "يا أخا بني تميم ما تريد أن تفعل بأسيرك

" الحديث

(2)

لا يدل على نفي الحبس؛ لأن الملازمة مثله.

خامسها:

الأحاديث المذكورة في الفلس تدل على أن جميع ما عليه من الدين تدخل فيه المحاصة ما حلَّ منها وما لم يحل، وهو قول الجمهور، كما نقله عنهم القرطبي

(3)

، وللشافعي قولان أظهرهما أن المؤجل لا يحل به

(4)

؛ لأن الأجل حق مقصود له، فلا يفوت، ووجه الأول القياس على الموت والجديد فرق بأن ذمة الميت خربت بخلافه، والخلاف مبني على أن حجر الفلس حجر سفه فيحل أو مرض فلا، ومن فروع مذهبنا: لو جن وعليه دين فالمشهور أنه يحل. وصحح ابن يونس في "تنبيهه" المنع، وانتصر القرطبي لمذهبه وقاسه على الموت

(5)

، وقد عرفت الفرق. ويحكى عن الحسن أنه قال: لا يحل الدين

بالموت

(6)

؛ وهو محجوج بالأدلة.

(1)

"النوادر والزيادات" 10/ 15.

(2)

رواه أبو داود (3629)، وابن ماجه (2428) وضعفه الألباني في "ضعيف ابن ماجه"(526).

(3)

"المفهم" 4/ 435.

(4)

"الإشراف على مذاهب أهل العلم" 2/ 68.

(5)

انظر: "المفهم" 4/ 435.

(6)

رواه عبد الرزاق 8/ 3 (14054)، وابن أبي شيبة 4/ 369 (21082): بلفظ: إذا أفلس أو مات حل دينه.

ص: 442

سادسها:

المؤجر كالبائع على الأصح عندنا، وهو قول المالكية

(1)

، وقد سلف حكم القرض.

قال ابن التين: واختلف في المحال عليه إذا أفلس، فقال محمد: يكون المحال أحق بالسلعة. وذكر عن أصبغ أنه لا يكون أحق بها، وأما من وجد عين ماله من العواري والودائع واللقطات، فلا خلاف أنه أحق بها وجدها عند مفلس أو غيره.

قال الخطابي: فتأويل الحديث على ذلك غير بين إذ الإجماع أغنى عنه، وما ذكره إذا قامت البينة على عينه، واختلف إذا لم تقم بينة على عينه، هل يقبل قوله

(2)

؟

وقال ابن المنير: إدخال البخاري القرض والوديعة مع الدين إما لأن الحديث مطلق وإما لأنه وارد في البيع، والحكم في القرض والوديعة أولى، أما الوديعة فملك ربها لم تنتقل، وأما القرض فانتقال ملكه عنه معروف وهو أضعف من تمليك المعاوضة، فإذا بطل التفليس ملك المعاوضة القوي بشرطه فالضعيف أولى

(3)

.

فرع: توقف مالك في إبقاء كسوة زوجته، وقال سحنون: لا يترك لها كسوة، وفي رواية ابن نافع عن مالك لا يترك إلا ما يواريه، وبه قال ابن كنانة

(4)

، واختلف في بيع كتب العلم على قولين، وهذا ينبني على كراهة بيع كتب الفقه أو جوازه.

(1)

انظر: "النوادر والزيادات" 10/ 73.

(2)

"معالم السنن" 2/ 1198.

(3)

"المتواري" ص 270.

(4)

انظر: "النوادر والزيادات" 10/ 8، "المنتقى" 5/ 84.

ص: 443

فرع:

للغرماء دفع ثمنها من مال المفلس، وفي دفعه من عندهم أجازه عبد الملك ومنعه ابن كنانة، وقال أشهب: ليس له أخذها بالثمن حتى يزيدوا على الثمن زيادة يحطونها من المفلس من دينهم، ذكره ابن التين.

ص: 444

‌15 - باب مَنْ أَخَّرَ الغَرِيمَ إِلَى الغَدِ أَوْ نَحْوِهِ، وَلَمْ يَرَ ذَلِكَ مَطْلًا

(1)

وَقَالَ جَابِرٌ: اشْتَدَّ الغُرَمَاءُ فِي حُقُوقِهِمْ فِي دَيْنِ أَبِي فَسَأَلَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَقْبَلُوا ثَمَرَ حَائِطِي فَأَبَوْا، فَلَمْ يُعْطِهِمِ الحَائِطَ وَلَمْ يَكْسِرْهُ لَهُمْ، قَالَ:"سَأَغْدُو عَلَيْكَ غَدًا". فَغَدَا عَلَيْنَا حِينَ أَصْبَحَ فَدَعَا فِي ثَمَرِهَا بِالبَرَكَةِ، فَقَضَيْتُهُمْ. [انظر: 2127 - فتح 5/ 65]

(1)

لم يذكر المصنف هذا الباب في شرحه، وكذا ابن بطال، فلعل المصنف قد تابعه في ذلك.

ص: 445

‌16 - باب مَنْ بَاعَ مَالَ المُفْلِسِ أَوِ المُعْدِمِ فَقَسَمَهُ بَيْنَ الغُرَمَاءِ، أَوْ أَعْطَاهُ حَتَّى يُنْفِقَ عَلَى نَفْسِهِ

2403 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ المُعَلِّمُ، حَدَّثَنَا عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما قَالَ: أَعْتَقَ رَجُلٌ غُلَامًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّي؟ ". فَاشْتَرَاهُ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، فَأَخَذَ ثَمَنَهُ، فَدَفَعَهُ إِلَيْهِ. [انظر: 2141 - مسلم: 997 - فتح 5/ 65]

ذكر فيه حديث جابر في بيع المدبر، وقد سلف في باب: بيع المدبر

(1)

، ولا يفهم من الحديث معنى قوله في الترجمة: فقسمه بين الغرماء؛ لأن الذي باع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم مدبره لم يكن له مال غيره، وذكره في الأحكام

(2)

، ولم يذكر فيه أنه كان عليه دين، وإنما باع عليه مدبرًا لم يكن له مال غيره؛ لأن من سننه أن لا يتصدق المرء بماله كله ويبقى فقيرًا فيتعرض لفتنة الفقر، ولذلك قال عليه السلام:"خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، وابدأ بمن تعول"

(3)

وعوله لنفسه أوكد من الصدقة.

وأما قسمة مال المفلس بين الغرماء فهو أصل مجمع عليه إذا قام عليه غرماؤه، وحال الحاكم بينه وبين ماله ووقفه لهم، ولا يخرج هذا المعنى من حديث جابر أصلًا، قاله ابن بطال

(4)

.

(1)

سلف برقم (2230) كتاب: البيوع.

(2)

سيأتي برقم (7186) باب: بيع الإمام على الناس أموالهم وضياعهم.

(3)

سلف برقم (1426) كتاب الزكاة، باب: لا صدقة إلا عن ظهر غنى، ورواه مسلم (1034) كتاب: الزكاة، باب: بيان أن اليد العليا خير من اليد السفلى.

(4)

"شرح ابن بطال" 6/ 526.

ص: 446

وقال ابن المنير: احتمل عند البخاري دفع الثمن إليه أن يكون باعه عليه؛ لأنه لم يكن يملك سواه فلما أجحف بنفسه تولى بيعه بنفسه لأجل تعلق حق التدبير، والحقوق إذا بطلت احتيج في فسخها إلى الحكم، فعلى هذا التأويل يكون دفع الثمن إليه حتى ينفقه على نفسه، واحتمل عنده أن يكون باعه عليه؛ لأنه مديان؛ ومال المديان يقسم بين الغرماء ويكون سلمه إليه ليقسمه بين غرمائه، ولهذا ترجم على التقديرين

(1)

.

قلت: الحديث صريح في الثاني، وقد قال عليه السلام في رواية:"اقض دينك"

(2)

، وبيعه هو مذهب الشافعي وأحمد، وعند مالك: يرده الدين الذي قبله

(3)

.

(1)

"المتواري" ص 271.

(2)

رواها النسائي في "المجتبى" 8/ 246.

(3)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 3/ 186، "النوادر والزيادات" 10/ 11، "الإشراف" 2/ 205.

ص: 447

‌17 - باب إِذَا أَقْرَضَهُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى أَوْ أَجَّلَهُ فِي البَيْعِ

قَالَ ابْنُ عُمَرَ فِي القَرْضِ إِلَى أَجَلٍ: لَا بَأْسَ بِهِ، وَإِنْ أُعْطِيَ أَفْضَلَ مِنْ دَرَاهِمِهِ، مَا لَمْ يَشْتَرِطْ. وَقَالَ عَطَاءٌ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: هُوَ إِلَى أَجَلِهِ فِي القَرْضِ.

2404 -

وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضى الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلًا مِنْ بَنِى إِسْرَائِيلَ، سَأَلَ بَعْضَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يُسْلِفَهُ، فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، فَذَكَرَ الحَدِيثَ. [انظر: 1498 - فتح 5/ 66]

وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ رَبيعَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، سألَ بَعْضَ بَنِي إِسْرَائيلَ أَنْ يُسْلِفَهُ، فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، فَذَكَرَ الحَدِيثَ.

الشرح:

تعليق ابن عمر أسنده ابن أبي شيبة عن وكيع ثنا حماد بن سلمة: سمعت شيخا يقال له: المغيرة قال لابن عمر: إني أسلف جيراني إلى العطاء فيقضوني أجود من دراهمي، قال: لا بأس ما لم تشترط.

قال وكيع: وحدثنا هشام الدستوائي، عن القاسم بن أبي بزة، عن عطاء بن يعقوب قال: استسلف مني ابن عمر ألف درهم فقضاني دراهم أجود من دراهمي، وقال: ما كان فيها من فضل فهو نائل مني إليك

ص: 448

أتقبله؟ قلت: نعم

(1)

، وأثر عطاء وعمرو

(2)

. قال ابن التين: قال به أبو حنيفة ومالك، وقال الشافعي: له أن يأخذ بالقرض قبل حلول أجله. وعند ابن عمر: يعطي أفضل من دراهمه، وهو قولنا وقول مالك.

وحديث الخشبة سلف غير مرة

(3)

، وقد اختلف العلماء فيما إذا أقرض إلى أجل، فهل له المطالبة به قبله؟ فقال مالك وأصحابه: من أقرض رجلًا دنانير أو دراهم أو شيئًا مما يُكَال أو يوزن أو غير ذلك حالًّا ثم طاع له فأخره به إلى أجل، ثم أراد الانصراف عن ذلك وأخذه قبل الأجل لم يكن ذلك له؛ لأن هذا مما يتقرب به إلى الله عز وجل وهو من باب الحِسْبَة

(4)

.

وقال أبو حنيفة: سواء كان القرض إلى أجل أو غير أجل له أن يأخذه متى أحب، وكذلك العارية؛ لأنه من باب العدة والهبة غير مقبوضة، وهو قول الحارث العكلي وأصحابه وإبراهيم النخعي. قال ابن أبي شيبة: وبه نأخذ

(5)

. ولا يجوز عندهم تأخير القرض البتة، ويجوز تأخير المغصوب وقيم المتلفات. وقال الشافعي: إذا أخره بدين حال فله أن يرجع فيه متى شاء، وسواء كان ذلك من قرض أو غيره، وكذلك العارية وغيرها؛ لأن ذلك عندهم من باب العدة والهبة غير المقبوضة وهبة ما لم يخلق، وهذا كله لازم عند مالك في

(1)

"المصنف" 4/ 524 (22762، 22765).

(2)

عزاه ابن حجر في "الفتح" 5/ 66 إلى عبد الرزاق، ولم أجده في المطبوع من "المصنف".

(3)

سلف برقم (1498، 2063، 2291).

(4)

انظر: "التمهيد" 3/ 207 - 208.

(5)

"المصنف" 4/ 413 (21566).

ص: 449

تأجيل القرض، وفي عارية المنفعة للسكنى وغيرها

(1)

، ويحمل ذلك على العرف فيما يستعار الشيء لمثله من العمل والسكنى، وكل ذلك عنده من أعمال البر التي أوجبها على نفسه فيلزمه الوفاء بها. وحديث أبي هريرة يشهد لقول مالك؛ لأن القرض فيه إلى أجل مسمى ولا يجوز فيه تَعَدِّيهِ والاقتضاء قبله، ولو جاز ذلك لكان ضرب الأجل وتركه سواء، ولم يكن لضرب الأجل معنى وبطل معنى قوله:{وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالحِسَابَ} [الإسراء: 12] وإنما فائدتها معرفة الآجال، وأما إذا أجله في البيع فلا خلاف بين العلماء في جواز الآجال فيه؛ لأنه من باب المعاوضات ولا يأخذه قبل محله.

(1)

انظر: "التمهيد" 3/ 209.

ص: 450

‌18 - باب الشَّفَاعَةِ فِي وَضْعِ الدَّيْنِ

2405 -

حَدَّثَنَا مُوسَى، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: أُصِيبَ عَبْدُ اللهِ وَتَرَكَ عِيَالًا وَدَيْنًا، فَطَلَبْتُ إِلَى أَصْحَابِ الدَّيْنِ أَنْ يَضَعُوا بَعْضًا مِنْ دَيْنِهِ فَأَبَوْا، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَشْفَعْتُ بِهِ عَلَيْهِمْ فَأَبَوْا، فَقَالَ:"صَنِّفْ تَمْرَكَ كُلَّ شَيْءٍ مِنْهُ عَلَى حِدَتِهِ، عِذْقَ ابْنِ زَيْدٍ عَلَى حِدَةٍ، وَاللِّينَ عَلَى حِدَةٍ، وَالعَجْوَةَ عَلَى حِدَةٍ، ثُمَّ أَحْضِرْهُمْ حَتَّى آتِيَكَ". فَفَعَلْتُ، ثُمَّ جَاءَ صلى الله عليه وسلم فَقَعَدَ عَلَيْهِ، وَكَالَ لِكُلِّ رَجُلٍ حَتَّى اسْتَوْفَى، وَبَقِيَ التَّمْرُ كَمَا هُوَ كَأَنَّهُ لَمْ يُمَسَّ. [انظر: 2127 - فتح 5/ 67]

2406 -

وَغَزَوْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى نَاضِحٍ لَنَا، فَأَزْحَفَ الجَمَلُ، فَتَخَلَّفَ عَلَيَّ، فَوَكَزَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ خَلْفِهِ، قَالَ:"بِعْنِيهِ وَلَكَ ظَهْرُهُ إِلَى المَدِينَةِ". فَلَمَّا دَنَوْنَا اسْتَأْذَنْتُ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي حَدِيثُ عَهْدٍ بِعُرْسٍ. قَالَ صلى الله عليه وسلم: "فَمَا تَزَوَّجْتَ بِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا؟ ". قُلْتُ: ثَيِّبًا، أُصِيبَ عَبْدُ اللهِ وَتَرَكَ جَوَارِيَ صِغَارًا، فَتَزَوَّجْتُ ثَيِّبًا تُعَلِّمُهُنَّ وَتُؤَدِّبُهُنَّ، ثُمَّ قَالَ:"ائْتِ أَهْلَكَ". فَقَدِمْتُ فَأَخْبَرْتُ خَالِي بِبَيْعِ الجَمَلِ فَلَامَنِي، فَأَخْبَرْتُهُ بِإِعْيَاءِ الجَمَلِ، وَبِالَّذِي كَانَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَوَكْزِهِ إِيَّاهُ، فَلَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم غَدَوْتُ إِلَيْهِ بِالجَمَلِ، فَأَعْطَانِي ثَمَنَ الجَمَلِ وَالجَمَلَ وَسَهْمِي مَعَ القَوْمِ. [انظر: 443 - مسلم:715 - فتح 5/ 67]

ذكر حديث جابر في قضاء دين والده. وقد سلف

(1)

، وموضع الشاهد منه:(فَاسْتَشْفَعْتُ بِهِ عَلَيْهِمْ فَأَبَوْا).

وقوله: ("عذق ابن زيد"

(2)

): نوع من التمر وهو بفتح العين وبكسرها، حكاهما ابن التين عن النسخ، وهو بالفتح: النخلة،

(1)

سلف برقم (2127).

(2)

ورد بهامش الأصل: لم يذكر في "المطالع" في عذق زيد سوى الفتح وهو المعروف.

ص: 451

وبالكسر: الكباسة كما سلف. وبخط الدمياطي المعروف: عذق زيد.

وقوله: ("واللين على حدة") اللين: جمع لينة وهي: النخلة، قاله ابن عباس

(1)

، والنخل كله ما خلا البرني

(2)

و ("العجوة") يسميها أهل المدينة الألوان، وهي أجود التمر، وأصل لينة: لونة فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها، ذكره ابن فارس

(3)

، وقيل: اللين: الدقل.

و (الناضح): الذي يسقى عليه النخل. (فأزحف)

(4)

أي: أعيا وكَلَّ، يقال: أزحفه السير فزحف وهو أن يجر فرسنه من الإعياء. قال ابن التين: وصوابه: فزحف ثلاثي، قال: إلا أنه ضبط بضم الهمزة وكسر الحاء في أكثر النسخ وفي بعضها بفتحهما والأول أبين.

وقوله: (وبقي التمر كما هو لم يمس منه شيء)، كذا هنا. وفي رواية أخرى: بقي منه بقية، وفي أخرى: بقي منه أوسق. قال ابن التين: وكله من رواة الحديث، وفي رواية أخرى: بقي منه سبعة عشر وسقًا

(5)

، وفي رواية: كان الدين لواحد

(6)

، وفي أخرى: شفع إليهم فأبوا

(7)

، فدل أنهم جماعة.

وقوله: (فوكزه) أي: ضربه بالعصا من خلفه ليسرع في مشيه، كذا هو بالواو.

(1)

رواه الطبري في "تفسيره" 12/ 32.

(2)

"أعلام الحديث" 2/ 1202.

(3)

"مجمل اللغة" 2/ 799 مادة: لين.

(4)

ورد بهامش الأصل: هو رباعي وثلاثي في "المطالع".

(5)

سلف رقم (2396) باب: إذا قاص أو جازفه في الدين تمرا بتمر أو غيره.

(6)

المصدر السابق.

(7)

انظر: حديث الباب.

ص: 452

وذكره ابن التين بالراء

(1)

بدل الواو، وقال: يقال: ركزت الرمح ركزًا أي: ضربه بالرمح من خلفه، ثم قال: ورواه الخطابي بالواو فوكزه وهو: الضرب بالعصا ويكون بجمع الكف، كقوله تعالى:{فَوكًزَهُ مُوسَى}

(2)

[القصص: 15] وقال غيره: (الوكز): الدفع، وكذا عند أبي ذر.

قال الخطابي: وفيه: الشفاعة في وضع الشطر، والذي في الحديث بعضًا من دينه

(3)

.

(1)

ورد بهامش الأصل: قال في "المطالع" فركزه يعني: بالراء

في الكلمتين، وعند ابن القاسم فوكزه يعني: بالواو قال: وهو الصواب، وعند النسفي فزجره.

(2)

"أعلام الحديث" 2/ 1202.

(3)

"أعلام الحديث" 2/ 1201.

ص: 453

‌19 - باب مَا يُنْهَى (من)

(1)

إِضَاعَةِ المَالِ

وَقَوْلِ اللهِ عز وجل: {وَاللهُ لَا يُحِبُّ الفَسَادَ} [البقرة: 205]. {إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ المُفْسِدِينَ} [يونس: 81]. وَقَالَ تَعَالى: {أَصَلَوَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} [هود: 87]. وَقَالَ تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ} [النساء: 5] وَالحَجْرِ فِي ذَلِكَ، وَمَا يُنْهَى (عَنِ)

(2)

الخِدَاعِ.

2407 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ، سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِنِّي أُخْدَعُ فِي البُيُوعِ. فَقَالَ: "إِذَا بَايَعْتَ فَقُلْ: لَا خِلَابَةَ". فَكَانَ الرَّجُلُ يَقُولُهُ. [انظر: 2117 - مسلم: 1533 - فتح 5/ 68]

2408 -

حَدَّثَنَا عُثْمَانُ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ وَرَّادٍ -مَوْلَى المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ- عَنِ المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ عُقُوقَ الأُمَّهَاتِ، وَوَأْدَ البَنَاتِ، وَمَنَعَ وَهَاتِ، وَكَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ المَالِ". [انظر: 844 - مسلم: 593 - فتح 5/ 68]

ثم ساق حديث ابن عمر: قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِنِّي أُخْدَعُ فِي البُيُوعِ. فَقَالَ: "إِذَا بَايَعْتَ فَقُلْ: لَا خِلَابَةَ". فَكَانَ الرَّجُلُ يَقُولُهُ.

وحديث المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ عُقُوقَ الأُمَّهَاتِ، وَوَأْدَ البَنَاتِ، وَمَنَعَ وَهَاتِ، وَكرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ المَالِ".

(1)

فوقها في الأصل: عن، وعلام عليها أنها في نسخة.

(2)

فوقها في الأصل: من.

ص: 454

الشرح:

الآية الأولى وقع في بعض النسخ، و"شرح ابن بطال"

(1)

: (إن الله لَا يُحِبُّ الفَسَادَ) و {لَا يُصْلِحُ عَمَلَ المُفْسِدِينَ} .

وفي كتاب ابن التين: {وَاللهُ لَا يُحِبُّ الفَسَادَ} [البقرة: 205] والتلاوة ما قدمناه وأصلحته.

قال مقاتل: نزلت الآية الأولى في الأخنس بن شَرِيق وكان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فيخبره أنه يحبه ويحلف له على ذلك، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه ذلك في المجلس وفي قلبه غير ذلك، فأخبر الله نبيه بأنه إذا توارى عنَك -وكان رجلًا جريئًا على القتل- يسعى في الأرض بالمعاصي ليفسد فيها، يعني: في الأرض. وقوله تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5] قال: يعني: الجهال بموضع الحق في الأموال، يعني: لا تعطوا نساءكم ولا أولادكم أموالكم فإنهم سفهاء، وهو فيهم أكثر، وأصله: الخفة، يقال: ثوب سفيه إذا كان خفيفًا فإذا أعطيتموهم فوق حاجتهم أفسدوه. جعل الله شرط دفع أموالهم إليهم وجود الرشد، وهذِه الآية محكمة غير منسوخة كما سيأتي.

وقوله: {أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} [هود: 87]. قال زيد بن أسلم: كان ما نهي عنه حذف الدراهم أي: كسرها

(2)

.

وحديث ابن عمر سلف، مع الخلف في بيان الرجل

(3)

وبوب عليه

(1)

"شرح ابن بطال" 6/ 528، وفي مطبوعه بلفظ:{وَاللهُ لَا يُحِبُّ الفَسَادَ} . قلت: ذكر ابن حجر في "الفتح" 5/ 68 ذلك الخلاف قائلا: وقع في رواية النسفي (إن الله لا يحب الفساد) والأول هو الذي وقع في التلاوة. اهـ.

(2)

رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره" 7/ 100، والحاكم في "المستدرك" 2/ 569.

(3)

سلف برقم (2117) كتاب: البيوع، باب: ما يكره من الخداع في البيع.

ص: 455

باب: الحجر

(1)

، وليس فيه ذلك، بل فيه أنه مطلق لقوله:"إذا بايعت فقل: لا خلابة". وحديث المغيرة سلف في الزكاة في باب: قول الله تعالى: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة: 273] القطعة الثانية منه

(2)

.

واختلف العلماء في إضاعة المال، فقال سعيد بن جبير: إضاعة المال أن يرزقك الله رزقًا فتنفقه فيما حرم الله عليك

(3)

، وكذلك قال مالك

(4)

، وقيل: إضاعته السرف في إنفاقه وإن كان فيما يحل، ألا ترى أنه عليه السلام ردَّ تدبير المعدم؛ لأنه أسرف على ماله فيما يحل له ويؤجر فيه، لكنه أضاع نفسه، وأجره في نفسه أوكد عليه من أجره في غيره.

واختلف العلماء في وجوب الحجر على البالغ المضيع لماله، فقال جمهور العلماء: يجب الحجر على كل مضيع لماله صغيرًا كان أو كبيرًا؛ روي ذلك عن علي وابن عباس وابن الزبير وعائشة، وهو قول مالك والأوزاعي وأبي يوسف ومحمد والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور.

وقالت طائفة: لا يحجر على الحر البالغ، هذا قول النخعي وابن سيرين وبه قال أبو حنيفة وزفر. قال أبو حنيفة: فإن حجر عليه القاضي ثم أقر بدين أو تصرف في ماله جاز ذلك كله، واحتج بحديث الذي يخدع في البيوع فقال له عليه السلام:"إذا بايعت فقل: لا خلابة".

(1)

كتاب: الخصومات، قبل حديث (2414).

(2)

سلف برقم (1477).

(3)

رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" 5/ 331 (26593)، وأبو نعيم في "الحلية" 4/ 281، والبيهقي في "سننه" 6/ 63 وفي "الشعب" 5/ 250.

(4)

انظر: "التمهيد" 21/ 293.

ص: 456

قال: ففي هذا الحديث وقوف النبي صلى الله عليه وسلم على أنه كان يغبن في البيوع، فلم يمنعه من التصرف ولا حَجَرَ عليه

(1)

.

وحجة الجماعة الآية التي ذكرها البخاري وهي قوله تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء: 5] فنهى عن دفع الأموال إلى السفهاء، وقال تعالى:{فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] فجعل شرط دفع أموالهم إليهم وجود الرشد، وهذِه الآية محكمة غير منسوخة، ومن كان مبذرًا لماله فهو غير رشيد. وقوله تعالى:{أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} [هود: 87]. وقال تعالى: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128)} [الشعراء: 128] فخبر عز وجل أن أنبياء منعوا قومهم من إضاعة الأموال والعبث، والأنبياء لا تأمر إلا بأمر الله.

واحتجوا بحديث المغيرة: "إن الله كره لكم قيل وقال وإضاعة المال"

(2)

وما كره الله لنا فمحرم علينا فعله، وقوله:{إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ المُفْسِدِينَ} [يونس: 81]، {وَاللهُ لَا يُحِبُّ الفَسَادَ} [البقرة: 205]. فالمبذر لماله داخل في النهي ممنوع منه.

واحتج الطحاوي على أبي حنيفة، فقال: لما قال له عليه السلام: "إذا بايعت فقل: لا خلابة" أي: لا شيء عليَّ من خلابتك إياي، جعل بيوعه معتبرة، فإن كان فيها خلابة لم يجز وليس في هذا الحديث دفع الحجر إنما فيه اعتبار عقود المحجور عليه

(3)

.

(1)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 5/ 215، "مواهب الجليل" 5/ 74، "البيان" 6/ 228 - 229، "المغني" 6/ 609 - 610.

(2)

سلف برقم (1477).

(3)

قاله الطحاوي في "شرح مشكل الآثار" 12/ 335.

ص: 457

قال غيره: ويحتمل أن يكون الرجل يغبن بما لا تنفك التجارة منه، فجعل له رسول الله صلى الله عليه وسلم الخيار ثلاثًا ليستدرك الغبن في مدة الخيار ولو أوجبت الضرورة الحجر عليه لفعل. ألا ترى أنه قد شعر لما يمكر به فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس من شكى مثل هذا مضيعًا لماله وإنما هو حريص على ضبطه والنظر فيه، فخصه عليه السلام أن جعل له إذا بايع أن يقول: لا خلابة أي: لا تخدعوني فإن خديعتي لا تحل. قال الطحاوي: ولم أجد عن أحد من الصحابة والتابعين أنه قال: لا حجر كما قال أبو حنيفة إلا عن النخعي وابن سيرين

(1)

.

وأما عقوق الأمهات اقتصاره عليه لا أن عقوق الآباء غير محرم ولكنه دلَّ بأحدهما عن الآخر.

واختلف العلماء في تقديم حق الأبوين فوقف مالك في ذلك، وذُكر عنه أن رجلًا قال له: أبي في بلاد السودان وكتب إليَّ أبي: أن اقْدم؛ وأمي تمنعني، فقال له: أطع أباك ولا تعص أمك. وذكر أن الليث

أمره بطاعة الأم؛ لأن لها ثلثي البر

(2)

.

وقال الخطابي: برُّها مقدم في باب النهي وبر الأب مقدم في الطاعة وحسن البياعة لرأيه والنفوذ لأمره

(3)

، وأصل العقوق القطع من قولهم: عقَّ الشيء: قطعه فكأن العاق لأمه قطع ما بينه وبينها من أصل الرحم. وقيل: أصل العق: الشق، يقال: شق ثوبه وعقه.

(1)

المصدر السابق.

(2)

ورد بهامش الأصل: كأنه يشير إلى أنه جاء في الحديث من أبر؟: قال: "أمك" قال: ثم من؟ قال: "أمك"، قال: ثم من؟ قال: "أباك". فجعل لها الثلثين.

(3)

"أعلام الحديث" 2/ 1203.

ص: 458

وقوله: ("الأمهات"): جمع أمهة، والفرق بين أمهة وأم: أن أمهة إنما يقع غالبًا على من يعقل بخلاف أم.

قال ابن فارس: وجدت بخط سلمة: أمات للبهائم وأمهات للناس

(1)

، وخص الأمهات بالذكر كما تقدم؛ لأن حقهن مقدم على حق الأب، كذا قاله ابن الجوزي، أو لضعف الأم وقوة الأب وشدته

على الولد.

وقوله: ("ووأد البنات") هو: مصدر وأدت الوليدة ابنتها: تئدها إذا دفنتها حية، وأْدًا: بإسكان الهمزة وضبط عند ابن فارس بفتحها

(2)

وهو من قوله تعالى: {وَإِذَا المَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9)} [التكوير: 8، 9]. قال أبو عبيد: كان أحدهم في الجاهلية إذا جاءته البنت يدفنها حية حين تولد. ويقولون: القبر صهر ونعم الصهر

(3)

، وكانوا يفعلونه غيرة وأنفة، وبعضهم يفعله تخفيفًا للمؤنة. قلت: وقد قال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} [الإسراء: 31] ومنهم من خاف السبي والاسترقاق، وسميت موءودة لثقل ما عليها من التراب.

وقوله: ("ومنع وهات") أي: منع الواجب من الحقوق وأخذ ما لا يحل. وقيل: الأخذ مطلقًا.

وقال ابن بطال: أي يمنع الناس خيره ورفده ويأخذ منهم رفدهم

(4)

.

قال ابن التين: وضبط منع بغير ألف، وصوابه منعًا بالألف؛ لأنه مفعول حرم.

(1)

"مجمل اللغة" 1/ 81.

(2)

"مجمل اللغة" 1/ 79 مادة (أد).

(3)

"غريب الحديث" 1/ 235.

(4)

"شرح ابن بطال" 6/ 531.

ص: 459

وقال إسحاق بن منصور: قلت لأحمد بن حنبل: ما معنى منع وهات، قال: أن تمنع ما عندك فلا تتصدق ولا تعطي وتمد يدك فتأخذ من الناس، وقد أسلفنا الكلام على:"قيل وقال" إلى آخر الحديث.

قال مالك في: "قيل وقال": هو الإكثار في الكلام والإرجاف نحو قول الناس: أعطى فلان كذا ومنع كذا، والخوض فيما لا يعني.

وقال أبو عبيد: كناية عن قيل وقول

(1)

، يقال: قلت قولًا وقيلًا وقالا، وقرأ ابن مسعود:(ذَلِكَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ قَالَ الحَقَّ)[مريم: 34] يعني: قول الحق

(2)

.

وقال ابن السكيت: هما اسمان لا مصدران

(3)

. وقيل: هما فعلان، وقال مالك في:"كثرة السؤال": لا أدري أهو ما أنهاكم عنه -فقد كره عليه السلام المسائل وعابها- أم هو مسألة الناس أموالهم

(4)

.

(1)

"غريب الحديث" 1/ 236.

(2)

ذكره الطبري في "تفسيره" 8/ 340 وقال: والصواب من القراءة في ذلك عندنا: الرفع لإجماع الحجة من القراء عليه.

(3)

"إصلاح المنطق" ص 89.

(4)

انظر: "التمهيد" 21/ 290.

ص: 460

‌20 - باب العَبْدُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَلَا يَعْمَلُ إِلَّا بِإِذْنِهِ

2409 -

حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالإِمَامُ رَاعٍ، وَهْوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ فِي أَهْلِهِ رَاعٍ، وَهْوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالمَرْأَةُ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ، وَهْيَ مَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالخَادِمُ فِي مَالِ سَيِّدِهِ رَاعٍ، وَهْوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ قَالَ: فَسَمِعْتُ هَؤُلَاءِ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَحْسِبُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "وَالرَّجُلُ فِي مَالِ أَبِيهِ رَاعٍ، وَهْوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَكُلُّكُمْ رَاعٍ -وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ". [انظر: 893 - مسلم: 1829 - فتح 5/ 69]

ذكر فيه حديث ابن عُمَرَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ" إلى أن قال: "وَالخَادِمُ فِي مَالِ سَيِّدِهِ رَاعٍ، وَهْوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ".

معنى كون العبد راع في مال سيده أنه يلزمه ما يلزم سائر الرعاة من حفظ ما استرعي عليه ولا يعمل في معظم الأمور إلا بإذن سيده وما كان من المعروف (المعتاد)

(1)

أن يعفى عنه مثل الصدقة بالكِسْرة والقطعة فلا يحتاج فيه إلى إذن سيده، وقد سلف أن الخازن أحد المتصدقين، ولم يشترط إذن السيد إلا في الكثير لقوله:"يعطي ما أمر به كاملًا موفرًا إلى الذي أمر له"

(2)

فهذا يدل على العطاء الجزل؛ لأن اشتراط الكمال فيه دليل على الكثرة.

(1)

في الأصل: (المتعاد) ولعل المثبت هو الصواب.

(2)

سلف برقم (1438) كتاب: الزكاة، باب: أجر الخادم إذا تصدق بأمر صاحبه غير مفسد.

ص: 461

44

كتاب الخصومات

ص: 463

بسم الله الرحمن الرحيم

‌44 - كتاب الخصومات

‌1 - باب مَا يُذْكَرُ فِي الإِشْخَاصِ وَالخُصُومَةِ بَيْنَ المُسْلِمِ وَاليَهُودِ

(1)

2410 -

حَدَّثَنَا أَبُو الوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ عَبْدُ المَلِكِ بْنُ مَيْسَرَةَ: أَخْبَرَنِي قَالَ: سَمِعْتُ النَّزَّالَ، سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَجُلًا قَرَأَ آيَةً، سَمِعْتُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خِلَافَهَا، فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ، فَأَتَيْتُ بِهِ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:"كِلَاكُمَا مُحْسِنٌ". قَالَ شُعْبَةُ: أَظُنُّهُ قَالَ: "لَا تَخْتَلِفُوا، فَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ اخْتَلَفُوا فَهَلَكُوا". [2476، 5062 - فتح 5/ 70]

2411 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: اسْتَبَّ رَجُلَانِ: رَجُلٌ مِنَ المُسْلِمِينَ، وَرَجُلٌ مِنَ اليَهُودِ، قَالَ المُسْلِمُ: وَالَّذِي اصْطَفَى مُحَمَّدًا عَلَى العَالَمِينَ. فَقَالَ اليَهُودِيُّ: وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى العَالَمِينَ. فَرَفَعَ المُسْلِمُ يَدَهُ عِنْدَ ذَلِكَ فَلَطَمَ

(1)

ورد بهامش الأصل: ثم بلغ في الثامن بعد الستين، كتبه مؤلفه.

ص: 465

وَجْهَ اليَهُودِيِّ، فَذَهَبَ اليَهُودِيُّ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ وَأَمْرِ المُسْلِمِ، فَدَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم المُسْلِمَ فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"لَا تُخَيِّرُونِي عَلَى مُوسَى، فَإِنَّ النَّاسَ يَصْعَقُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَأَصْعَقُ مَعَهُمْ، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ، فَإِذَا مُوسَى بَاطِشٌ جَانِبَ العَرْشِ، فَلَا أَدْرِي أَكَانَ فِيمَنْ صَعِقَ فَأَفَاقَ قَبْلِي، أَوْ كَانَ مِمَّنِ اسْتَثْنَى اللهُ". [3408، 3414، 4813، 6517، 6518، 7428 - مسلم: 2373 - فتح 5/ 70]

2412 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ جَاءَ يَهُودِيٌّ، فَقَالَ يَا أَبَا القَاسِمِ، ضَرَبَ وَجْهِي رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِكَ. فَقَالَ:"مَنْ؟ ". قَالَ: رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ. قَالَ: "ادْعُوهُ". فَقَالَ: "أَضَرَبْتَهُ؟ ". قَالَ: 3/ 159 سَمِعْتُهُ بِالسُّوقِ يَحْلِفُ: وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى البَشَرِ. قُلْتُ: أَيْ خَبِيثُ، عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم؟! فَأَخَذَتْنِي غَضْبَةٌ ضَرَبْتُ وَجْهَهُ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"لَا تُخَيِّرُوا بَيْنَ الأَنْبِيَاءِ، فَإِنَّ النَّاسَ يَصْعَقُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الأَرْضُ، فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى آخِذٌ بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِ العَرْشِ، فَلَا أَدْرِي أَكَانَ فِيمَنْ صَعِقَ، أَمْ حُوسِبَ بِصَعْقَةِ الأُولَى". [3398 - 4638، 6916، 6917، 7427 - مسلم: 2374 - فتح 5/ 70]

2413 -

حَدَّثَنَا مُوسَى، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، أَنَّ يَهُودِيًّا رَضَّ رَأْسَ جَارِيَةٍ بَيْنَ حَجَرَيْنِ، قِيلَ: مَنْ فَعَلَ هَذَا بِكِ أَفُلَانٌ، أَفُلَانٌ؟ حَتَّى سُمِّيَ اليَهُودِيُّ، فَأَوْمَتْ بِرَأْسِهَا، فَأُخِذَ اليَهُودِيُّ فَاعْتَرَفَ، فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَرُضَّ رَأْسُهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ. [2746، 5295، 6876، 6877، 6879، 6884، 6885 - مسلم: 1672 - فتح 5/ 71]

يقال: شخص -بفتح الخاء- من بلد إلى بلد، أي: ذهب، والمصدر: شخوصًا، وأشخصه غيره، وشخص التاجر: خرج من

ص: 466

المنزل، وشخص بكسر الخاء: رجع

(1)

.

ذكر فيه أربعة أحاديث:

أحدها:

حديث النزال بن سبرة: قال: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَجُلًا قَرَأَ آيَةً، سَمِعْتُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خِلَافَهَا، فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ، فَأَتَيْتُ بِهِ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقَالَ:"كلَاكُمَا مُحْسِنٌ". قَالَ شُعْبَةُ: أَظُنُّهُ قَالَ: "لَا تَخْتَلِفُوا، فَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ اخْتَلَفُوا فَهَلَكُوا".

ثانيها:

حديث أَبِي هُرَيْرَةَ: اسْتَبَّ رَجُلَانِ: رَجُلٌ مِنَ المُسْلِمِينَ، وَرَجُل مِنَ اليَهُودِ، فقَالَ المُسْلِمُ: وَالَّذِي اصْطَفَى مُحَمَّدًا عَلَى العَالَمِينَ .. الحديث. وفيه: فَلَطَمَ وَجْهَ اليَهُودِيِّ وفيه: فَدَعَا المُسْلِمَ فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ.

ثالثها:

حديث أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ جَاءَ يَهُودِيٌّ، فَقَالَ: يَا أَبَا القَاسِم، ضَرَبَ وَجْهِي رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِكَ. فَقَالَ:"مَنْ؟ ". فقَالَ: رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ. قَالَ: "ادْعُوه" .. الحديث.

رابعها:

حديث قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ يَهُودِيًّا رَضَّ رَأْسَ جَارِيَةٍ بَيْنَ حَجَرَيْنِ، فقِيلَ: مَنْ فَعَلَ بِكِ؟ أَفُلَانٌ؟ حَتَّى سُمِّيَ اليَهُودِيُّ، فَأَوْمَتْ بِرَأسِهَا، فَأُخِذَ اليَهُودِيُّ فَاعْتَرَفَ، فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَرُضَّ رَأسُهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ.

(1)

انظر: "تهذيب اللغة" 2/ 1840، و"لسان العرب" 4/ 2211 - 2212 (شخص).

ص: 467

الشرح:

اختلف العلماء في إشخاص المدَّعَى عليه، فقال ابن القاسم -في معنى قول مالك- إن كان المدَّعَى عليه غائبًا إلى مثل ما يسافر الناس فيه ويقدمون، كتب إلى والي الموضع في أخذ المدعى عليه بالاستحلاف أو القدوم للخصومة، وإن كان غيبة بعيدة فيسمع من بينة المدعي ويقضى له. وقياس قول الشافعي -كما قال ابن بطال- أنه يجلب بدعوى المدعي. وقال الليث: لا يجلب المدعى عليه حتى تشهد بينة على الحق. قال الطحاوي: وليس عند أصحابنا المتقدمين فيه شيء، والقياس أنه لا يجلب ببينة ولا غيرها. قال غيره: إنما يريد أن يكتب إلى حاكم الجهة

(1)

.

وفي الحديث الأخير: الإشخاص إذا قويت شبهة الدعوى والتوفيق والملازمة في الجواب عن الدعوى؛ لأن الجارية ادعت بإشارة، فأشخص اليهودي ووقف وألزم الجواب وشدد عليه فيه، واستدل على كذبه حتى أقر واعترف وإن كان الخصم في موضع يخاف فواته منه، فلا بأس بإشخاصه وملازمته وإن كان في موضع لا يخاف فواته فليس له إشخاصه إلا برفع من السلطان إلا أن يكون في شيء من أمور الدين، فإن من الإنكار على أهل الباطل أن يشخصوا ويرفعوا كما فعل ابن مسعود بالرجل، وكما فعل عمر بهشام بن حكيم حين تأول عليه أنه مخطئ.

وأما الملازمة فأوجبها من لم ير السجن على مدعي العدم حتى يثبت عدمه، وهم الكوفيون

(2)

، وأما مالك وأصحابه فيرون أنه يسجن حتى

(1)

انظر "مختصر اختلاف العلماء" 3/ 387، و"شرح ابن بطال" 6/ 533.

(2)

"شرح ابن بطال" 6/ 533 - 534.

ص: 468

يثبت العدم. وفرق الكوفيون بين الذي يكون أصله من معاوضة فيجب سجن من ادعى العدم، فإنه قد حصل بيده العوض ويدعي العدم، وأما إن كانت معاملة بغير معاوضة كالهبة وشبهها فلا يسجن؛ لأن أصل الناس عندهم على الفقر حتى يثبت الغنى. وإذا وجدت المعاوضة، فقد صح عنده ما ينفي الفقر.

والأصح عندنا أنه إن لزمه الدين في معاملة مال كشراء أو قرض فعليه البينة، وإلا كالصداق فيصدق يمينه؛ لأن الأصل العدم، ولم يفرق مالك بين شيء من ذلك وهم عنده على الغنى حتى يثبت العدم؛ فلذلك يلزمه السجن

(1)

.

تنبيهات:

أحدها: في حديث أبي هريرة أنه لا قصاص بين المسلم والذمي؛ لأنه عليه السلام لم يقد اليهودي من المسلم في اللطمة، وقد ترجم في الديات باب: إذا لطم المسلم يهوديًّا عند الغضب

(2)

.

وفي "جامع سفيان" عن عمرو بن دينار: أن اللاطم هو الصديق يعني: الأول؛ لأن الثاني من الأنصار.

وفي تفسير ابن إسحاق أن اليهودي اسمه فنحاص، وفيه نزل قوله تعالى:{لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران: 181] وفيه: تأدبه مع موسى عليهما الصلاة والسلام.

وإقراره لموسى بما خصه الله تعالى من الفضيلة به، فإن قلت: حديث الباب: "لا تخيروني على موسى ولا تخيروا بين الأنبياء"، وكذا

(1)

التخريج السابق.

(2)

سيأتي قبل حديث (6916) كتاب، الديات.

ص: 469

حديث: "لا ينبغي لأحد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى"

(1)

، يعارض حديث:"أنا أول من تنشق عنه الأرض"، وحديث:"أنا سيد ولد آدم ولا فخر"

(2)

قلت: لا، فعنه خمسة أجوبة:

أحدها: أنه نهى قبل أن يعلم أنه أفضلهم، فلما علم قال:"أنا سيد ولد آدم ولا فخر".

ثانيها: أنه نهى عن تفضيل يؤدي إلى الخصومة كما في الحديث مِنْ لطم المسلم اليهودي.

ثالثها: قاله تواضعًا ونفي الكبر والعجب كما قال الصديق: وليتكم ولست بخيركم

(3)

.

رابعها: أنه نهى عن تفضيل يؤدي إلى تنقيص بعضهم فإنه كفر.

خامسها: أنه نهى عن التفضيل في نفس النبوة لا في ذوات الأنبياء، وعموم رسالتهم وزيادة خصائصهم، وقد قال الله تعالى:{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة: 253].

وقال ابن التين: معنى: "لا تخيروا بين الأنبياء" معناه: من غير علم وإلا فقد قال تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ} الآية.

(1)

سيأتي برقم (3395) عن ابن عباس.

(2)

رواه الترمذي (3148) وفي (3615) وقال: حسن صحيح، وابن ماجه (4308) وأحمد 3/ 2 وصححه الألباني في "صحيح الترمذي".

وفي الباب عن عائشة وابن عباس وأبي هريرة وواثلة بن الأسقع.

(3)

أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" 11/ 336، والطبراني في "الأوسط" 8/ 267، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 5/ 183: رواه الطبراني في "الأوسط" وفيه: عيسى بن سليمان وهو ضعيف، وعيسى بن عطية لم أعرفه.

ص: 470

وأغرب ابن قتيبة فأجاب: بأنه أراد أنه سيد ولد آدم يوم القيامة؛ لأنه الشافع يومئذٍ وله لواء الحمد والحوض

(1)

.

فإن قلت: كيف خص يونس؟ قلت: لأنه دون غيره من الأنبياء كإبراهيم وموسى وعيسى، فهذا كنت لا أحب أن أفضل على يونس فكيف بمن فوقه، وقد قال تعالى:{فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الحُوتِ} [القلم: 48] أراد به يونس أنه لم يكن له صبر غيره من الأنبياء، وفي هذِه الآية ما يدل على أنه أفضل منه حيث قال:{وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الحُوتِ} [القلم: 48]. ذكره ابن بطال، قال: ويجوز أن يريد: لا تفضلوني عليه في العمل، فلعله أفضل عملًا مني ولا في البلوى والامتحان، فإنه أعظم محنة مني، وليس ما أعطى الله نبينا محمدًا من السؤدد والفضل يوم القيامة على جميع الأنبياء والرسل بعمله بل بتفضيل الله تعالى إياه واختصاصه له، وكذا أمته أسهل الأمم محنة، بعثه الله إليها بالحنيفية السمحة، ووضع عنها الإصر والأغلال التي كانت على بني إسرائيل في فرائضهم، وهي مع هذا خير أمة أخرجت للناس تفضلًا منه، ثم قال: هذا تأويل ابن قتيبة، واختاره المهلب.

وقوله: ("أو حوسب بصعقة الطور") فيه: دليل على أن المحن في الدنيا والهموم والآلام يرجى أن يخفف الله بها يوم القيامة كثيرًا عن أهلها، وأما كفارة الذنوب بها فمنصوص عليه بقوله: "حتى الشوكة

يشاكها"

(2)

.

(1)

"تأويل مختلف الحديث" ص 182.

(2)

متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها، فقد رواه البخاري (5640) كتاب: المرضى، باب: ما جاء في كفارة المرضى. ومسلم. (2572) كتاب: البر والصلة والآداب، باب: ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن أو نحو ذلك حتى ..

ص: 471

وفيه: رد قول سعيد بن جبير الذي ذكره البخاري في تفسير القرآن أن الكرسي العلم

(1)

؛ لأن العلم ليس له جانب ولا قائمة يقع اليد عليها؛ لأن اليد لا تقع إلا على ما له جسم والعلم ليس بجسم

(2)

. وسيأتي زيادة إيضاح له في الديات إن شاء الله تعالى.

ثانيها: قال الداودي في حديث عبد الله: "إن القرآن أنزل على سبعة أحرف"

(3)

، وفي حديث آخر:"نزل على سبعة" وليس بالبين بل هما سواء لقوله: "كلاكما محسن".

وقوله: "لا تختلفوا" أي: في القرآن، والاختلاف فيه كفر إذا نفي إنزاله إذا كان يقرأ على خلاف ذلك، ولا تمييز بين القراءتين؛ لأنهما كلاهما كلامه قديم غير مخلوق، وإنما التفضيل في الثواب.

قال: وقوله: (استب رجلان) ليس بمحفوظ والمحفوظ حديث أبي سعيد إلا قوله: "أكان ممن صعق

" إلى آخره. ومعنى (يصعقون): يخرون صراعًا بصوت يسمعونه يوجب فيهم ذلك. و (الصعق): الغشيان أو الموت، وقيل: الإغماء من الفزع.

وقوله: ("فإذا موسى باطش جانب العرش") أي: قابض عليه بيده.

وقوله: ("أو كان ممن استثنى") يريد قوله: إلا من شاء الله، أي: لا يصعق.

وقال الداودي: معنى ("أو كان ممن استثنى الله")، أي: كان لي

(1)

سيأتى بعد حديث (4534) كتاب: التفسير، باب: قوله عز وجل {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} .

(2)

"شرح ابن بطال" 6/ 535، 536.

(3)

سيأتي برقم (2419) عن عمر بن الخطاب.

ص: 472

ثانيًا

(1)

في الإفاقة، وحمل بعض الناس أن الصعقة في الموقف، ومن استثنى هم الشهداء وهو بعيد أن يصعق الرسل في الموقف، والله تعالى أمنهم فيه حيث قال:{وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} [النمل: 89] ويستحيل أن يصعق الأنبياء ولا يصعق الشهداء.

وقال عبد الملك في قوله: "أو كان ممن استثنى الله" إشكال ولا يدرى ممن قال الله أم لا؛ لأن هذا هو الصعق الأول وهو الذي استثنى الله فيه، وأما صعق البعث فلا استثناء فيه والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه صعق البعث.

وقوله: صعق البعث غير بين؛ لأن النفخة الثانية لا تسمى صعقة وإنما تسمى صعقة الأولى.

(1)

قال الحافظ في "الفتح" 6/ 445: وأغرب الداودي الشارح فقال: معنى قوله "استثنى الله" أي جعله ثانيًا، كذا قال، وهو غلط شنيع. وقد وقع في مرسل الحسن في "كتاب البعث" لابن أبي الدنيا في هذا الحديث فلا أدري أكان ممن استثنى الله أن لا تصيبه النفخة أو بعث قبلي وزعم ابن القيم في "كتاب الروح" أن هذِه الرواية وهو قوله "أكان ممن استثنى الله" وهم من بعض الرواة، والمحفوظ "أو جوزي بصعقة الطور" قال: لأن الذين استثنى الله قد ماتوا من صعقة النفخة لا من الصعقة الأخرى، فظن بعض الرواة أن هذِه صعقة النفخة وأن موسى داخل فيمن استثنى الله، قال: وهذا لا يلتئم على سياق الحديث، فإن الإقامة حينئذ هي إفاقة البعث فلا يحسن التردد فيها، وأما الصعقة العامة فإنها تقع إذا جمعهم الله تعالى لفصل القضاء فيصعق الخلق حينئذ جميعًا إلا من شاء الله، ووقع التردد في موسى- عليه السلام. قال: ويدل على ذلك قوله "وأكون أول من يفيق" وهذا دال على أنه ممن صعق، وتردد في موسى هل صعق فأفاق قبله أم لم يصعق؟ قال: ولو كان المراد الصعقة الأولى للزم أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم جزم بأنه مات، وتردد في موسى هل مات أم لا، والواقع أن موسى قد كان مات لما تقدم من الأدلة، فدل على أنها صعقة فزع لا صعقة موت، والله أعلم.

ص: 473

وقوله: ("فلا أدري كان فيمن صعق أو حوسب بصعقته الأولى")، أنكره الداودي كما سلف، واستدل بهذا الحديث. قال: فأخبر فيه أن الصعقة قبل انشقاق الأرض عنه وهي النفخة الأولى في الصور، فيصعق من في السموات والأرض إلا من شاء الله وهو جبريل وإسرافيل وميكائيل وعزرائيل، وزاد كعب: حملة العرش

(1)

.

ورواه أنس مرفوعًا: "ثم يموت الثلاثة الأول، ثم ملك الموت بعدهم وملك الموت يقبضهم، ثم يميته الله"

(2)

فكيف يصعق موسى بتلك الصعقة وقد مات قبل ذلك؟ قال: واعلم أنه أول من تنشق عنه الأرض وأنه لم يعلم حين أفاق هل أفاق قبل موسى أو كان له ثانيًا؟ قال: وإن كان المحفوظ أم جوزي بصعقة طور سيناء يريد فلم يصعق، وعوفي لأجلها.

وروى أنس مرفوعًا: "آخرهم موتًا جبريل" وقال سعيد بن جبير: إلا من شاء الله، الشهداء مقلدين بالسيوف

(3)

حول العرش، والصعق والصعقة: الهلاك والموت، يقال منه: صعق الإنسان -بفتح الصاد وضمها- وأنكر بعضهم الضم.

وقال ابن عباس فيما حكاه ابن جرير: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} [الأعراف: 143]: ترابًا، {وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} [الأعراف: 143]

(1)

رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 9/ 3028 (17216) عن كعب الأحبار وقال الحافظ في "الفتح" 11/ 371: وعن كعب الأحبار نحوه، وقال: هم اثنا عشر ووجدته في المطبوع من التفسير قال: هم ثلاثة عشر.

(2)

رواه الطبري في "التفسير" 11/ 27 - 28، وقال الحافظ في "الفتح" 11/ 371: وله طريق أخرى عن أنس ضعيفة. وعزاه الحافظ للبيهقي وابن مردويه ولم أجده.

(3)

رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" 4/ 212 (19336) والطبري في "التفسير" 11/ 28.

ص: 474

مغشيًّا عليه. وفي رواية: "فلم يزل صعقًا ما شاء الله"

(1)

. وهو في حديث أبي سعيد بالموت أشبه كما قال ابن الجوزي، ويؤيده قول قتادة وابن جريج فيما حكاه ابن جرير: صعقًا: ميتًا

(2)

. وقال الأزهري: في قوله: {فَلَمَّآ أفَاقَ} دليل على الغشي؛ لأنه يقال للذي غشي عليه والذي يذهب عقله: قد أفاق، وفي الميت: بعث ونشر، قال تعالى:{ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ}

(3)

[البقرة: 56]. وكذا قاله ابن سيده

(4)

وغيره. قال القزاز: ولا يقال: صعق، ولا: وهو مصعوق.

وقوله: ("فأكون أول من يفيق")، وفي لفظ:"أول من تنشق عنه الأرض" هو مشكل، كما قال القرطبي بالمعلوم من الأحاديث الدالة على أن موسى قد توفي وأنه عليه السلام رآه في قبره.

ووجه الإشكال أن نفخة الصعق إنما يموت بها من كان حيًّا في هذِه الدار، وأما من مات فيستحيل أن يموت ثانيًا، وإنما ينفخ في الموتى نفخة البعث، وموسى قد مات، فلا يصح أن يموت مرة أخرى، ولا يصح أن يكون مستثنى من نفخة الصعق؛ لأن الأنبياء أحياء لم يموتوا ولا يموتون، ولا يصح استثناءهم من الموتى، وقد قال بعضهم: يحتمل أن يكون موسى ممن لم يمت من الأنبياء وهو باطل

(5)

.

ويحتمل كما قال القاضي: أن يكون المراد بهذِه الصعقة صعقة فزع بعد النشر حين تنشق السموات والأرض

(6)

، ويحتمل كما قال النووي:

(1)

رواه ابن جرير في "التفسير" 6/ 53.

(2)

المصدر السابق.

(3)

"تهذيب اللغة" 2/ 2018 مادة: (صعق).

(4)

"المحكم" 1/ 81.

(5)

"المفهم" 6/ 232 - 233.

(6)

"إكمال المعلم" 7/ 357.

ص: 475

أنه عليه السلام قال هذا قبل أن يعلم أنه أول من تنشق عنه الأرض إن كان هذا اللفظ على ظاهره، وإن كان نبينا أول من تنشق عنه الأرض فيكون موسى من تلك الزمرة وهي -والله أعلم- زمرة الأنبياء

(1)

.

فإن قلت: إذا جعلت له تلك عوضًا من الصعقة فيكون حيًّا حالة الصعق وحينئذ لم يصعق.

فالجواب: أن الموت ليس بعدم، إنما هو انتقال من دار إلى دار، بيانه أن الشهداء بعد قتلهم ودفنهم أحياء عند ربهم، وإذا كان هذا للشهداء، كان الأنبياء بذلك أحق وأولى مع أنه قد صحَّ عنه عليه السلام أن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء، وأنه اجتمع بهم ليلة الإسراء ببيت المقدس والسماء خصوصًا موسى

(2)

، فتحصل من جملة هذا القطع، بأنهم غيبوا عنا بحيث لا ندركهم وإن كانوا موجودين أحياء، وذلك كالحال في الملائكة، فإنهم موجودون أحياءً ولا يراهم أحد من نوعنا إلا من خصه الله بكرامته، فإذا تقرر أنهم أحياء فيما بين السموات والأرض، وإذا نفخ في الصور نفخة الصعق صعق من في السموات والأرض إلا من شاء الله، وأما صعق غير الأنبياء فموت، وأما صعق الأنبياء فالأظهر أنه غشي، فإذا نفخ ثانيًا، فمن مات حَيي ومن غشي عليه أفاق، ويحصل من هذا أن نبينا تحقق أنه أول من يُفِيق، وأول من يخرج من قبره قبل الناس كلهم الأنبياء وغيرهم إلا موسى، فإنه حصل له فيه تردد، هل بعث قبله أو بقي على الحالة التي كان عليها؟ وعلى أي الحالتين فهي فضيلة عظيمة لموسى ليست لغيره.

(1)

"صحيح مسلم بشرح النووي" 15/ 131 - 132 وهو نص كلام القاضي كما نقله النووي عنه رحمه الله.

(2)

"الروح" ص (23).

ص: 476

قلت: وقد يقال: إن نبينا لما يرفع بصره حين الإفاقة يكون إلى جهة من جهات العرش، ثم يرفع ثانيًا إلى جهة أخرى منه فيجد موسى وبه يلتئم:"أنا أول من تنشق عنه الأرض" وإن قدر الله الوصول إلى كتاب: الحشر نزيد ذلك إيضاحًا مع أن هذا كاف.

فائدة:

روينا من طريق علي بن معبد في كتاب "الطاعة" من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "إن الله عز وجل خلق الصور وأعطاه إسرافيل" قلت: يا رسول الله، وما الصور؟ قال:"عظيم والذي نفسي بيده إن عظم داره كعرض السماء والأرض، فينفغ فيه ثلاث نفخات أول نفخة الفزع، والثانية: نفخة الصعق، والثالثة: نفخة القيام، يقول له في الأولى: انفخ نفخة الفزع ويأمره فيمدها يطولها". وذكر الحديث بطوله.

وأخرجه الطبري لكن فيه رجل وهو مجهول

(1)

ثم قال: وهذا القول

(1)

رواه إسحاق بن راهويه في "مسنده" مطولًا، 1/ 84 - 95، والطبري في "تفسيره" 9/ 105 رواه الطبراني في "الأحاديث الطوال" ص 94 - 101 حديث (36) وأبو الشيخ في "العظمة" ص 177 - 184 (338)، والمروزي في "تعظيم قدر الصلاة" 1/ 283 - 288 (273) والبيهقي في "البعث والنشور" 325 - 334 (669).

وقال: البخاري في "تاريخه الكبير" 1/ 260 في ترجمة محمد بن يزيد بن أبي زياد: حديث الصور، مرسل ولا يصح.

وقال ابن عدي في "الكامل" 7/ 518 في ترجمة محمد بن يزيد: روى عنه إسماعيل بن رافع حديث الصور مرسل ولم يصلح ثم قال: وهذا الذي قال البخاري: إنه لا يصح لأنه ذكر في إسناده رجلًا.

وقال ابن كثير في "تفسيره" 6/ 92 هذا حديث مشهور، وهو غريب جدًا، ولبعضه شواهد الأحاديث المتفرقة، وفي بعض ألفاظه نكارة.

وقال البوصيري في "الإتحاف" 1/ 187: هذا إسناد ضعيف.

ص: 477

الذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، أعني: المستثنى في الفزع الشهداء

وفي الصعق جبريل وملك الموت وحملة العرش أولى بالصيحة.

ثالثها: روى ابن حبان في "صحيحه" عن عبد الله: أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة الرحمن فخرجت إلى المسجد عشية، فجلست إلى رهط، فقلت لرجل: اقرأ علي، فإذا هو يقرأ أحرفًا لا أقرأ بها

الحديث

(1)

.

وفي "مبهمات الخطيب الحافظ": أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة من الثلاثين (إلى)

(2)

{حم (1)} يعني: الأحقاف، قال: وكانت السورة إذا (تكن)

(3)

ثلاثين آية سميت ثلاثين فخرجت إلى المسجد، فإذا رجل يقرأ على غير ما أقرأ، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده رجل، فقال الرجل الذي عنده: ليقرأ كل منكما ما سمع .. الحديث. قال الخطيب: القائل: ليقرأ كل رجل منكما، هو علي

(4)

.

وفي حديث أبي بن كعب في "صحيح ابن حبان": قرأ رجل آية وقرأتها على غير قراءته، فقلت: من أقرأك هذِه؟ قال: رسول الله. فانطلقت، فقلت: يا رسول الله، أقرأتني آية كذا وكذا؟ قال:"نعم"، فقال الرجل: أقرأتني آية كذا وكذا؟ قال: "نعم، إن جبريل وميكائيل أتياني فجلس جبريل عن يميني وميكائيل عن يساري، فقال جبريل: يا محمد، اقرأ القرآن على حرف. فقال ميكائيل: استزده. فقلت:

زدني، فقال: اقرأه على حرفين. فقال ميكائيل: استزده. حتى بلغ سبعة أحرف وقال: كل كاف شاف"

(5)

.

(1)

رواه ابن حبان 3/ 22 - 23.

(2)

كذا بالأصل، وفي "الأسماء المبهمة": من آل.

(3)

كذا بالأصل، وفي "الأسماء المبهمة": فاتت.

(4)

"الأسماء المبهمة" ص 202 (102).

(5)

ابن حبان 3/ 11 - 12 (737).

ص: 478

وفي لفظ: "أنزل القرآن على سبعة أحرف"

(1)

.

وللترمذي: "يا جبريل، إني بعثت إلى أمة أمية منهم العجوز والشيخ الكبير والغلام والجارية والرجل الذي لم يقرأ كتابًا قط، قال: يا محمد، إن القرآن أنزل على سبعة أحرف"

(2)

.

وعن أبي هريرة مرفوعًا: "أنزل القرآن على سبعة أحرف: حليمًا عليمًا غفورًا رحيمًا".

ثم قال: قال أبو حاتم: آخر الحديث عند قوله: "حليمًا عليمًا" والباقي قول: محمد بن عمرو، أدرجه في الخبر والخبر إلى سبعة أحرف فقط

(3)

.

ولأحمد من حديث زِرِّ عن حذيفة مرفوعًا: "لقيت جبريل عند أحجار (المراء)

(4)

فقلت: يا جبريل، إني أرسلت إلى أمة أمية، فقال: إن القرآن أنزل على سبعة أحرف"

(5)

.

وفي لفظ من حديث ربعي عنه: "فمن قرأ من أمتك على حرف واحد، فليقرأ كما علم ولا يرجع عنه"

(6)

.

(1)

المصدر السابق 3/ 17، 18.

(2)

رواه الترمذي (2943) وقال: حسن صحيح، وأشار أبو بكر بن العربي في "عارضة الأحوذي" 11/ 62 - 63. إلى صحته.

(3)

رواه ابن حبان 3/ 18 - 19.

(4)

رسمت في الأصل كلمة غير مقروءة ولعلها: الزيت، وما أثبتناه من مصادر التخريج.

(5)

"مسند أحمد" 5/ 400.

(6)

رواه أحمد 5/ 385، وقال الحافظ ابن كثير في "فضائل القرآن" 1/ 107: هذا إسناد صحيح ولم يخرجوه.

ص: 479

وفي لفظ: "إن من أمتك الضعيف، فمن قرأ على حرف، فلا يتحول عنه إلى غيره رغبة عنه"

(1)

.

وله من حديث أم أيوب امرأة أبي أيوب الأنصاري مرفوعًا: "نزل القرآن على سبعة أحرف، أيها قرأت أجزأك"

(2)

. ومن حديث الحسن بن سمرة مرفوعًا: "أنزل القرآن على ثلاثة أحرف"

(3)

.

ومن حديث أبي الجهيم بن الحارث بن الصمة مرفوعًا: "إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فلا تماروا في القرآن فإن المراء فيه كفر"

(4)

. ورواه أبو عبيد في "القراءات" تأليفه أيضًا، وعند البخاري في: فضائل القرآن حديث عمر وابن عباس ستعرفهما

(5)

.

رابعها: حديث أنس أخرجه مسلم والأربعة

(6)

.

(1)

رواه أحمد 5/ 401.

(2)

رواه أحمد 6/ 433، وقال ابن كثير في "فضائل القرآن" 1/ 117: إسناد صحيح ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة.

(3)

رواه أحمد 5/ 22، وأبو عبيد في "فضائل القرآن" ص 339، والطحاوي في "مشكل الآثار" 8/ 135 والحاكم 2/ 223، وضعفه الألباني في "السلسلة الضعيفة"(2958).

(4)

رواه أحمد 4/ 169 - 170، والطحاوي في "المشكل" 8/ 111، وابن عبد البر في "التمهيد" 8/ 282 من طريق سليمان بن بلال عن يزيد بن خصيفة، عن بشر بن سعيد عن أبي جهيم به. وقال الحافظ بن كثير في "فضائل القرآن" ص 118: هذا إسناد صحيح ولم يخرجوه.

(5)

سيأتي الكلام عليهما عند حديث (4991)، (4992) كتاب: فضائل القرآن، باب: أنزل القرآن على سبعة أحرف.

(6)

رواه مسلم (1672) كتاب: القسامة، باب: ثبوت القصاص في القتل بالحجر وغيره من المحددات والمثقلات وقتل الرجل بالمرأة. وأبو داود (4527)، والترمذي (1394)، والنسائي 8/ 22، وابن ماجه (2665).

ص: 480

وفي لفظ: "فلم يزل به حتى أقر"

(1)

، قال الترمذي: والعمل عليه عند بعض أهل العلم وهو قول أحمد وإسحاق، وقال بعض أهل العلم: لا قود إلا بالسيف

(2)

.

خامسها: قام الإجماع على أن القتل صنفان: عمد وخطأ، واختلفوا هل بينهما وسط أم لا؟ وهو الذي يسمونه شبه العمد، وبه قال جمهور فقهاء الأمصار، قالوا: وذلك راجع في الأغلب إلى الآلات التي يقع بها القتل وإلى الأحوال التي كانت من أجلها الضرب، فقال أبو حنيفة: كل ما عدا الحديد من القصب أو النار أو ما يشبه ذلك فهو شبه العمد. وقال صاحباه: شبه العمد ما لا يقتل مثله

(3)

وقال الشافعي: هو ما كان عمدًا في الضرب خطأ في القتل أو ما كان ضربًا لم يقصد به القتل، فتولد عنه القتل.

والخطأ ما كان خطأ فيهما جميعًا، والعمد ما كان عمدًا فيهما جميعًا، وعمدة من نفي شبه العمد أنه لا واسطة بين الخطأ والعمد، أعني: بين أن يقصد القتل أو لا يقصده، وعمدة من أثبته أن النيات لا يطلع عليها إلا الله وإنما الحكم لما ظهر، فمن قصد ضرب آخر بآلة تقتل غالبًا كان حكمه حكم العامد.

سادسها: قال الطحاوي: يحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى أن اليهودي يجب قتله لله بذلك، فإن كان دم اليهودي قد وجب لله كما يجب دم قاطع الطريق لله، فكان له أن يقتله كيف يرى بسيفٍ أو بغيره، والمثلة

(1)

سيأتي برقم (6876) كتاب: الديات، باب: سؤال القاتل حتى يقر، والإقرار في الحدود.

(2)

"جامع الترمذي"(1394).

(3)

"مختصر اختلاف العلماء" 5/ 85 - 86.

ص: 481

حينئذٍ مباحة كما فعل الشارع بالعرنيين

(1)

، ثم نسخت بعد ذلك المثلة ونهي عنها، أو يحتمل أن يكون رأى ما فعل باليهودي واجبًا لأولياء الجارية، فقتله لهم فاحتمل أن يكون قتله كما فعل؛ لأن ذلك هو الذي وجب عليه؛ لأنه وجب عليه سفك الدم بأي طريق شاءه الولي، فاختاروا الرضخ، ففعل ذلك به. وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قتل ذلك اليهودي بخلاف ما قتل به الجارية

(2)

، ففي مسلم من حديث أنس أنه أمر به أن يرجم حتى يموت، فرجم حتى مات

(3)

. والرجم قد يصيب الرأس وغيره.

سابعها: اختلف العلماء في إشارة المريض، فذهب الشافعي ومالك والليث إلى أنه إذا ثبتت إشارته على ما يعرف من يحضره جازت وصيته. وقال أبو حنيفة والثوري والأوزاعي: إذا سُئل المريض عن شيء فأومأ برأسه أو بيده، فليس بشيء حتى يتكلم. قال أبو حنيفة: وإنما تجوز إشارة الأخرس أو من لحقته سكتة لا يتكلم، وأما من اعتقل لسانه ولم يدم به ذلك فلا تجوز إشارته

(4)

.

قلت: الحديث حجة عليه لا جرم. قال الطحاوي: جعل الشارع إشارتها بمنزلة دعواها بلسانها من غير اعتبار دوام ذلك عليها مدة من الزمان، فدل على أن من اعتقل لسانه بمنزلة الأخرس في جواز إقراره

(1)

سبق الحديث برقم (233) كتاب: الوضوء، باب: أبوال الإبل والدواب والغنم.

(2)

"شرح معاني الآثار" 3/ 179، 181.

(3)

مسلم (1672) كتاب: القسامة، باب: ثبوت القصاص في القتل بالحجر وغيره ..

(4)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 5/ 65 - 66، "الأشباه والنظائر" لابن نجيم ص 344، "الفروق" 4/ 160، "الأشباه والنظائر" للسيوطي ص 314، "المغني" 8/ 511.

ص: 482

بالإيماء والإشارة

(1)

.

وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى قاعدًا وأشار إليهم فقعدوا، واحتج الشافعي بأن أمامة بنت أبي العاصى أصمتت، فقيل لها: لفلان كذا فأشارت أي: نعم فنفذت وصيتها.

قال المهلب: أصل الإشارة في كتاب الله {فَأَشَارَت إِليهِ} يعني: سلوه، وقوله:{أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا} [آل عمران: 41]

وقال الإسماعيلي: من أطاق الإبانة عن نفسه لم تكن إشارته فيما له أو عليه واقعة موقع الكلام، لكن يقع موقع الدلالة على ما يراد لا فيما يؤدي إلى الحكم على إنسان بإشارة غيره، ولو كان كذلك لقبلت شهادة الشاهدين بالإشارة والإيماء، وهذِه القضية أشارت إشارة وهي تعقل إشارة لم نفض البحث عن صحتها، فلما بحث عنها اعترف. كأنه ردَّ بهذا تبويب البخاري في باب: إذا أومأ المريض برأسه إشارة بينة جاز، من كتاب: الوصايا وستعلمه فيه

(2)

وفي: الديات

(3)

إن شاء الله تعالى.

ثامنها: معنى رضَّ: دق

(4)

. وقوله: (فأومأت) كذا في الأصول مصلحًا. وذكره ابن التين: فأومت وقال: صوابه فأومأت.

وفيه: القود بالمثقل خلافًا لأبي حنيفة وهو نص في موضع الخلاف

(5)

.

(1)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 5/ 66.

(2)

سيأتي برقم (2746) كتاب: الوصايا، باب: إذا أومأ المريض ..

(3)

سيأتي برقم (6879) كتاب: الديات، باب: من أقاد بالحجر.

(4)

"مجمل اللغة" 1/ 367، مادة [رض].

(5)

انظر: "المبسوط" 26/ 122، "الأم" 6/ 4 - 5، "أسنى المطالب" 4/ 3 - 4.

ص: 483

وفيه: قتل الرجل بالمرأة، ولا ترداد بينهما عند مالك. وقال قوم: يرد أولياء المرأة نصف دية الرجل

(1)

.

وفيه: (قتل المسلم بالكافر)

(2)

. واختلف عند المالكية إذا جرحه هل له الدية أو يقتص كالقتل أو يجتهد السلطان أقوال، وكذلك إذا قطع كافر طرف مسلم

(3)

.

(1)

انظر: "المنتقى" 7/ 121، "الأم" 6/ 18.

(2)

هذا الكلام يخالف كلام المصنف المتقدم في أول تنبيهاته ص 469، ولعله سقط (عدم) من أول الجملة.

(3)

انظر: "الذخيرة" 12/ 334.

ص: 484

‌2 - باب مَنْ رَدَّ أَمْرَ السَّفِيهِ وَالضَّعِيفِ العَقْلِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَجَرَ عَلَيْهِ الإِمَامُ

وَيُذْكَرُ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَدَّ عَلَى المُتَصَدِّقِ قَبْلَ النَّهْيِ ثُمَّ نَهَاهُ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ مَالٌ، وَلَهُ عَبْدٌ لَا شَىْءَ لَهُ غَيْرُهُ، فَأَعْتَقَهُ، لَمْ يَجُزْ عِتْقُهُ. [فتح 5/ 71]

ص: 485

‌3 - باب ومَنْ بَاعَ عَلَى الضَّعِيفِ وَنَحْوِهِ

وَدَفَعَ إِلَيْهِ ثَمَنَهُ، وَأَمَرَهُ بِالإِصْلَاحِ وَالقِيَامِ بِشَأْنِهِ، فَإِنْ أَفْسَدَ بَعْدُ مَنَعَهُ؛ لأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ إِضَاعَةِ المَالِ، وَقَالَ لِلَّذِي يُخْدَعُ فِي البَيْعِ:"إِذَا بَايَعْتَ فَقُلْ: لَا خِلَابَةَ". وَلَمْ يَأْخُذِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَالَهُ.

2414 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ دِينَارٍ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ رَجُلٌ يُخْدَعُ فِي البَيْعِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"إِذَا بَايَعْتَ فَقُلْ: لَا خِلَابَةَ". فَكَانَ يَقُولُهُ. [انظر: 2117 - مسلم: 1533 - فتح 5/ 72]

2415 -

حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ المُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه، أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ عَبْدًا لَهُ، لَيْسَ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ، فَرَدَّهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَابْتَاعَهُ مِنْهُ نُعَيْمُ بْنُ النَّحَّامِ. [انظر: 2141 - مسلم: 997 - فتح 5/ 72]

ثم ساق حديث ابن عُمَرَ

(1)

.

وحديث جابر في بيع المدبر، وفي آخره: فَابْتَاعَهُ مِنْهُ نُعَيْمُ بْنُ النَّحَّامِ.

الشرح:

هذان الحديثان سلفا

(2)

.

والتعليق الأول: هو حديث جابر الذي أسنده بعد.

وهذا التعليق ذكر بغير صيغة جزم، وهو صحيح لا كما قاله

(1)

ورد بهامش الأصل: هو قوله: "إذا بايعت

" إلى آخره.

(2)

حديث ابن عمر سلف برقم (2117) كتاب: البيوع، باب: ما يكره من الخداع في البيع، وأما حديث جابر فسلف برقم (2141) كتاب: البيوع، باب: بيع المزايدة.

ص: 486

ابن الصلاح

(1)

ومن تبعه، وكلام مالك هذا ذكره ابن وهب في "موطئه" إلى قوله:(لم يجز عتقه)، وما بعده من كلام البخاري، وليس في أكثر الأصول ذكر (باب) إثر ذلك.

وقوله: (ومن باع على الضعيف .. ) إلى آخره. المراد به حديث جابر المذكور.

وقوله: (ونهى عن إضاعة المال) قد سلف من حديث المغيرة قريبًا

(2)

، وهذِه الترجمة وسياقه فيها حديث المدبر، وحديث الذي يخدع في البيوع من محاسن البخاري اللطيفة كما نبه عليه ابن المنير؛ لأن العلماء اختلفوا في سفيه الحال قبل الحكم هل ترد عقوده، فاختار البخاري ردها واستدل بحديث المدبر، وذكر قول مالك في رد عتق المديان قبل الحجر إذا أحاط الدين بماله، ويلزم مالكًا رد أفعال سفيه الحال؛ لأن الحجر في السفيه والمديان مطرد، ثم فهم البخاري أنه يرد عليه حديث الذي يخدع في البيوع، فإنه صلى الله عليه وسلم اطلع على أنه يخدع، وأمضى أفعاله الماضية والمستقبلة، فنبه على أن الذي ترد أفعاله هو الظاهر السفه البين الإضاعة كإضاعة صاحب المدبر.

والتفصيل بين الظاهر السفه والخفي السفه أحد أقوال مالك، وأن المخدوع في البيوع يمكنه الاحتراز، ثم فهم البخاري أنه يرد عليه

(1)

ورد بهامش الأصل: لكن استدرك ابن الصلاح في "العلوم" فقال: ومع ذلك فإراده له في أثناء الصحيح مشعر بصحة أصله إشعارًا يؤنس به ويركن إليه انتهى، فالذي يظهر لي في قوله: يذكر. لعله ذكره بصيغة تمريض أن الحديث الذي ساقه ليس هو لفظ الحديث وإنما هو معناه، وقد اختلف الناس في رواية الحديث بالمعنى، فلهذا ذكره بصيغة تمريض وهذا يصنعه كثيرًا فيما إذا اختصره أو ذكر معناه.

(2)

سلف برقم (1477) كتاب الزكاة، باب: قول الله تعالى {لَا يَسْأَلُونَ} .

ص: 487

كون النبي صلى الله عليه وسلم أعطى صاحب المدبر ثمنه، فلو كان مَنْعُهُ لأجل السفه لما سلم إليه الثمن، فنبه على أنه إنما أعطاه بعد أن علمه طريق الرشد وأمره بالإصلاح والقيام بشأنه وما كان السفه حينئذٍ فسقًا، وإنما نشأ من الغفلة وعدم البصيرة بمواقع المصالح، فلما بينها له كفاه ذلك، ولو ظهر له بعد ذلك من حاله أنه لم يتنبه ولم يرشد لمنعه التصرف مطلقًا وحجر عليه حجرًا مطردًا

(1)

، والأقوال الثلاثة التي أشرنا إليها.

أحدها: قول مالك وأصحابه غير ابن القاسم: أن فعل السفيه وأمره كله جائز حتى يضرب الإمام على يديه وهو قول الشافعي

(2)

.

ثانيها: لابن القاسم أن أفعاله غير جائزة وإن لم يضرب عليه الإمام.

ثالثها: لأصبغ إن كان ظاهر السفه فأفعاله مردودة، وإن كان غير ظاهر السفه، فلا ترد عليه أفعاله حتى يحجر عليه الإمام.

واحتج سُحنون لقول مالك بأن قال: لو كانت أفعاله مردودة قبل الحجر ما احتاج السلطان أن يحجر على أحد، واحتج غيره بأن الشارع أجاز بيع الذي كان يخدع في البيوع، ولم يذكر في الحديث أنه فسخ ما تقدم من بيوعه.

وحجة ابن القاسم حديث جابر أنه عليه السلام ردَّ عتق الذي أعتق عبده ولم

(1)

"المتواري" ص 272.

(2)

انظر: "النوادر والزيادات" 10/ 92 - 93، "تبصرة الحكام" 1/ 44، واعلم أن السفيه عند الإمام الشافعي هو المبذر، والتبذير، على ما نقله معظم الأصحاب محصور في التضييعات والإنفاق في المحرمات "الشرح الكبير" 5/ 67، 72.

قال النووي في "منهاجه" ولا يصح من المحجور عليه لسفه بيع ولا شراء ولا إعتاق وهبة ونكاح بغير إذن وليه .. ، ولا بعد فك الحجر، ويصح بإذن الولي نكاحه، لا التصرف المالي في الأصح. "المنهاج مع شرحه" للدميري 4/ 414 - 416.

ص: 488

يكن حجر عليه قبل ذلك، ولما تنوع حكم الشارع في السفيهين نظر بعض الفقهاء في ذلك فاستعمل الحديثين جميعًا، فقال: ما كان من السفه اليسير والخداع الذي لا يكاد يسلم منه مع تنبه المخدوع إليه والشكوى به، فإنه لا يوجب الضرب على اليد، ولا رد ما دفع له قبل ذلك من البيع، ولا انتزاع ماله كما لم يرد صلى الله عليه وسلم بيع الذي قال له:"لا خلابة" ولا انتزاع ماله وما كان من البيع فاحشًا في السفه، فإنه يرد كما رد الشارع تدبير العبد المذكور؛ لأنه لم يكن أبقى لنفسه سيدُه مالًا يعيش به، فرد عتقه وصرف إليه ماله الذي فوته بالعتق؛ ليقوم به على نفسه ويؤدي منه دينه، وإنما ذلك على قدر اجتهاد الإمام في ذلك وما يراه.

وقد سلف الكلام فيمن باع وغبن في حديث ابن عمر فراجعه.

وقوله: (فاشتراه نعيم بن النحام) صوابه: حذف (ابن)، وإنما هو: نعيم النحام، ووقع في "شرح ابن بطال" أيضًا: ابن النحام، وقد عرفت صوابه

(1)

.

(1)

"شرح ابن بطال" 6/ 538. تتمة: قال القاضي عياض في "إكمال المعلم" 5/ 446: نعيم نفسه هو النحام. وهو نعيم بن عبد الله بن أسد قرشي عدوى وهو النحام سمي بذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم له: "دخلت الجنة فسمعت فيها نحمة لنعيم" وذكره مثله النووي في "شرح مسلم" 11/ 142.

وقال الحافظ في "الفتح" 5/ 166: والنحام بالنون والحاء المهملة الثقيلة عند الجمهور وضبطه ابن الكلبي بضم النون وتخفيف الحاء، ومنعه الصغاني وهو لقب نعيم وظاهر الرواية أنه لقب أبيه، ثم ذكر كلام النووي المذكور آنفًا ثم قال: وكذا قال ابن العربي وعياض وغير واحد ثم عقب على قولهم بقوله: ولكن الحديث المذكور من رواية الواقدي وهو ضعيف، ولا ترد الروايات الصحيحة بمثل هذا فلعل أباه أيضًا كان يفال له النحام. وروى الحارث في "مسنده" بإسناد حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم سماه صالحًا، وكان اسمه الذي يعرف به نعيمًا. اهـ من "الفتح" بتصرف.

ص: 489

‌4 - باب كَلَامِ الخُصُومِ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ

2416، 2417 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ وَهْوَ فِيهَا فَاجِرٌ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، لَقِيَ اللهَ وَهْوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ".

قَالَ: فَقَالَ الأَشْعَثُ: فِيَّ وَاللهِ كَانَ ذَلِكَ، كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنَ اليَهُودِ أَرْضٌ فَجَحَدَنِي، فَقَدَّمْتُهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ ". قُلْتُ: لَا. قَالَ: فَقَالَ لِلْيَهُودِيِّ: "احْلِفْ". قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِذًا يَحْلِفَ وَيَذْهَبَ بِمَالِي، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى:{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} [آل عمران: 77] إِلَى آخِرِ الآيَةِ. [انظر: 2356، 2357 - مسلم: 138 - فتح 5/ 73]

2418 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ كَعْبٍ رضي الله عنه أَنَّهُ تَقَاضَى ابْنَ أَبِي حَدْرَدٍ دَيْنًا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ فِي المَسْجِدِ، فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا حَتَّى سَمِعَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهْوَ فِي بَيْتِهِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا، حَتَّى كَشَفَ سِجْفَ حُجْرَتِهِ فَنَادَى:"يَا كَعْبُ". قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: "ضَعْ مِنْ دَيْنِكَ هَذَا". فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ -أَىِ الشَّطْرَ- قَالَ: لَقَدْ فَعَلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: "قُمْ فَاقْضِهِ". [انظر: 457 - مسلم: 1558 - فتح 5/ 73]

2419 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ القَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رضي الله عنه يَقُولُ: سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ يَقْرَأُ سُورَةَ الفُرْقَانِ عَلَى غَيْرِ مَا أَقْرَؤُهَا، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَقْرَأَنِيهَا، وَكِدْتُ أَنْ أَعْجَلَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَمْهَلْتُهُ حَتَّى انْصَرَفَ، ثُمَّ لَبَّبْتُهُ بِرِدَائِهِ فَجِئْتُ بِهِ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: إِنِّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ عَلَى غَيْرِ مَا أَقْرَأْتَنِيهَا، فَقَالَ لِي:"أَرْسِلْهُ". ثُمَّ قَالَ لَهُ: "اقْرَأْ". فَقَرَأَ. قَالَ: "هَكَذَا أُنْزِلَتْ". ثُمَّ قَالَ لِي: "اقْرَأْ". فَقَرَأْتُ فَقَالَ: "هَكَذَا أُنْزِلَتْ، إِنَّ القُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَاقْرَءُوا مِنْهُ مَا تَيَسَّرَ". [4992، 5041، 6936، 7550 - مسلم: 818 - فتح 5/ 73]

ص: 490

ذكر فيه ثلاثة أحاديث:

أحدها:

حديث شَقِيقٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ وَهْوَ فِيهَا فَاجِرٌ .. " الحديث.

وقد سلف في باب: الخصومة في البئر والقضاء فيها

(1)

وهو هنا أتم.

وشيخ البخاري فيه حدثنا محمد وهو: ابن سلام، كما صرح به أبو نعيم وخلف.

ثانيها:

حديث كَعْبٍ أَنَّهُ تَقَاضَى ابن أَبِي حَدْرَدٍ دَيْنًا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ فِي المَسْجِدِ، إلى آخره، وقد سلف في: أبواب المساجد

(2)

.

و (سجف الحجرة) بفتح السين وكسرها. ومعنى: (حتى كشف سجف حجرته): أرسله. وقال الذي رواية: أمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولعله عند وقوفه عند كشف السجف.

وقوله هنا: (تقاضاه في المسجد)، وكذا سلف هناك، وقال في رواية أخرى: لقيه، فإما أن تكون إحداهما وهمًا أو لقيه، ثم سارا إلى المسجد، قاله ابن التين.

ثالثها:

حديث عَبْدِ اللهِ بْنِ يُوسُفَ، عن مَالِك، عَنِ ابن شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ القَارِيِّ سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الخَطَّاب يَقُولُ: سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ يَقْرَأُ سُورَةَ الفُرْقَانِ عَلَى غَيْرِ مَا أَقْرَؤُهَا،

(1)

سلف برقم (2356، 2357) كتاب: المساقاة.

(2)

سلف برقم (457) باب: التقاضي والملازمة في المسجد.

ص: 491

وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَقْرَأَنِيهَا، وَكِدْتُ أَنْ أَعْجَلَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَمْهَلْتُهُ حَتَّى انْصَرَفَ، ثُم لَبَّبْتُهُ بِرِدَائِهِ فَجِئْتُ بهِ النبي صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: إِنِّي سَمِعْتُ هذا يَقْرَأُ سورة الفرقان عَلَى غَيْرِ مَا أًقْرَأتَنِيهَا، فَقَالَ لِي:"أَرْسِلْهُ". ثُم قَالَ لَهُ: "اقْرَأْ". فَقَرَأَ، قَالَ:"هَكَذَا أنزِلَتْ". ثُم قَالَ لِي: "اقْرَأْ". فَقَرَأْتُ فَقَالَ: "هَكَذَا أنزِلَتْ، إِنَّ القُرْانَ أنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَاقْرَءُوا مِنْهُ مَا تَيَسَّرَ". وتقدم عليه أنه لا يجوز من كلام الخصوم بعضهم لبعض إلا ما يجوز من كلام غيرهم مما لا يوجب أدبًا ولا حدًا.

ورواه في: فضائل القرآن من حديث عقيل عن ابن شهاب، عن عروة، عن المسور وعبد الرحمن بن عبد القاري عن عمر به

(1)

.

قال الدارقطني: رواه عبد الأعلي بن عبد الأعلى، عن معمر، عن ابن شهاب، عن عروة، عن المسور، عن عمر. ورواه مالك بإسقاط المسور، وكلها صحاح عن الزهري، ورواه يحيى بن بكير، عن مالك، فقال: عن هشام وهم، والصحيح ابن شهاب

(2)

.

ومعنى الترجمة من حديث ابن مسعود قول الأشعث: إذًا والله يحلف فيذهب بحقي، فمثل هذا الكلام مباح فيمن عرف فسقه، كما عرف فسق اليهودي الذي خاصم الأشعث، وقلة مراقبته لله. فحينئذٍ يسمح الحكم للقائل لخصمه ذلك، وأما إن قال ذلك في رجل صالح أو من لا يعرف له فسق؛ فيجب أن ينكر عليه ويؤخذ له بالحق، ولا يبيح له النيل من عرضه.

وحديث عمر مع هشام في تولي الخصوم بعضهم بعضًا سديد في

(1)

سيأتي برقم (4992) باب: أنزل القرآن على سبعة أحرف.

(2)

"العلل" 2/ 213 - 214 (229).

ص: 492

هذا الباب؛ لأن فيه امتدادًا باليد فهو أقوى من القول، وإنما جاز له ذلك. والله أعلم؛ لأنه أنكر عليه في أمر الدين.

وفي حديث كعب جواز ارتفاع الأصوات بين الخصوم؛ لما في خلائق الناس من ذلك، ولو قصر الناس عن أخلاقهم لكان ذلك من المشقة عليهم بل يسمح لهم فيما جبلهم الله عليه؛ لأن الشارع سمعهما ولم ينههما عن رفع أصواتهما.

وفيه: أن الحكم إذا سمع قول الخصوم واستعجم عليه أمرهما أشار عليهما بالصلح وأمرهما به، وإذا رأى مديانًا غير مستطيع بدينه ولا مَلِيء به وثبتت عسرته أنه لا بأس للحكم أن يأمر صاحب الدين بالوضيعة؛ لقطع الخصام لما في تماديه من قطع ذات البين وفساد النيات. قال ابن التين: واختلف الناس في حديث عمر مع هشام قديمًا وحديثًا، ولم يعين أحد الخلاف الذي وقع بينهما.

واختلف في معنى الحرف على عشرة أقوال:

فقال الخليل: هو هنا القراءة، وقال أبو عبيد وأبو العباس أحمد بن

يحيى هي سبع لغات من لغات العرب قريش ونزار

(1)

وغير ذلك.

وقيل: كلها لمضر لا لغيرها وهي مفترقة في القرآن غير مجتمعة في الكلمة الواحدة

(2)

.

وقيل: تصح في الكلمة الواحدة، ومنهم من جعلها في صورة التلاوة كالإدغام وغيره مما يأتي.

(1)

ورد بهامش الأصل: النمر ومعَد.

(2)

"فضائل القرآن" لأبي عبيد ص 339 - 340 و"غريب الحديث" 3/ 159، "المفهم" 2/ 447 - 450.

ص: 493

وقيل: سبعة أنحاء: زاجر وآمر وحلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال. وقيل: أحكام وأمثال وقصص إلى غير ذلك، وفيه نظر؛ لأن الشارع أجاز القراءة بكل حرف منها وإبدال حرف بحرف آخر منها، وتقرر الإجماع على أنه لا يحل إبدال آية أمثال بآية أحكام، قال تعالى:{مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي} [يونس: 15].

وقيل: الحرف هنا الإعراب؛ لأنه يقع في آخر الكلمة. وذكر عن مالك أن المراد به إبدال خواتم الآي فيجعل مكان (غفور رحيم)(سميع بصير) ما لم يبدل آية رحمة بعذاب أو عكسه.

وقيل: الحروف: الأسماء والأفعال المؤلفة من الحروف التي تنتظم منها الكلمة؛ فيقرأ على سبعة أوجه نحو: {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ}

(1)

[المائدة: 60] و {يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ}

(2)

[يوسف: 12] قرئا على سبعة أوجه.

وقال أكثر العلماء

(3)

: أي: سبعة أوجه من المعاني المتفقة المتقاربة

(1)

قرأ حمزة بضم الباء وبجر التاء (وعَبُدَ الطاغوتِ)، يقال عبْد وعبُد، قال الشاعر:

أبني لُبَيْنَى إن أمكم

أمة وإن أباكم عبُد

قال الفراء: الباء تضمها العرب للمبالغة في المدح والذم نحو: رجل حذُر ويقظ أي مبالغ في الحذر، فتأويل عَبُد على ذلك أنه بلغ الغاية في طاعة الشيطان. "السبعة في القراءات" لابن مجاهد ص 246، "حجة القراءات" لابن زنجلة ص 231 - 232.

(2)

بالنون قراءة ابن كثير وأبي عمرو وابن عامر. وحجتهم قوله تعالى بعدها: {إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ} فأسندوا جميع ذلك إلى جماعتهم. وقرأ أهل المدينة والكوفة: {يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ} بالياء إخبارًا عن يوسف. وحجتهم في ذلك أن القوم إنما كان قولهم ذلك ليعقوب اختداعًا منهم إياه عن يوسف إذ سألوه أن يرسله معهم لينشط يوسف لخروجه إلى الصحراء ويلعب هناك.

(3)

ورد بهامش الأصل تعليق نصه: من خط الشيخ: نقله القرطبي أيضًا.

ص: 494

نحو: أقبل وتعال وهلم. وعن مالك: إجازة القراءة بما ذكر عن عمر: (فامضوا إلى ذكر الله)

(1)

قيل: أراد أنه لا بأس بقراءته على المنبر كما فعل عمر ليبين {فَاسْعَوْا} أن لا يراد به الجري. وقيل: المراد بها: الإمالة والفتح والترقيق والتفخيم والهمز والتسهيل والإدغام والإظهار

(2)

وعاشرها لبعض المتأخرين قال: تدبرت وجوه الاختلاف في القراءات فوجدتها سبعة منها يتغير حركته ويبقى معناه وصورته مثل: {هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} [هود: 78] و (أطهرَ)

(3)

ومنها ما يتغير معناه ويزول بالإعراب ولا تتغير صورته مثل: {رَبَّنَا بَاعِدْ} و (بعد)

(4)

ومنها ما يتغير بالحروف واختلافها بالإعراب ولا تتغير صورته نحو: {نُنشِزُهَا}

(5)

(1)

الموطأ ص 87 (14).

(2)

ورد بها مثل الأصل: والمد.

(3)

قرأ العامة برفع الراء، وقرأ الحسن وعيسى بن عمرو (هن أطهرَ) بالنصب على الحال و (هن) عماد ولا يجيز الخليل وسيبويه والأخفش أن يكون (هن) ها هنا ضميرًا للعماد، وإنما يكون عمادا فيما لا يتم الكلام إلا بما بعدها، نحو: كان زيد هو أخاك، لتدل بها على أن الأخ ليس بنعت. وقال الزجاج: ويدل بها على أن كان تحتاج إلى خبر. وقال غيره: يدل بها على أن الخبر معرفة أو ما قاربها.

"أحكام القرآن" للقرطبي 9/ 76 - 77 وقال أبو جعفر الطبري: والقراءة التي لا أستجيز خلافها في ذلك الرفع؛ لإجماع الحجة من قرأة الأمصار عليه مع صحته في العربية، وبُعد النصب فيه من الصحة. "تفسير الطبري" 7/ 84.

(4)

قرأ ابن كثير وأبو عمرو: (فقالوا ربنا بعد) بالتشديد، وقرأ الباقون {بَاعِدْ} بالألف.

قال سيبويه: إن (فاعل وفعَّل) يجيئان بمعنى، كقولهم (ضاعف وضعّف) واللفظان جميعًا على معنى الطلب والدعاء ولفظهما أمر. "حجة القراءات" ص 588.

(5)

قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو: "ننشرها" بالراء. أي كيف نحييها. وحجتهم قوله قبلها {أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} . والزاي يعني بها: (كيف نرفعها من الأرض إلى الجسد). وقرأ الباقون: "كيف ننشزها" بالزاي أي نرفعها .. اهـ.

وانظر "حجة القراءات" 144، و"الحجة للقراء السبعة" 2/ 379.

ص: 495

[البقرة: 259] و (نَنْشُزُهَا) ومنها ما يتغير صورته دون معناه {كَالعِهْنِ المَنْفُوشِ} [القارعة: 5].

وقرأ سعيد بن جبير: (كالصوف) ومنها ما تتغير صورته ومعناه مثل: {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29)} [الواقعة: 29] قرأ عليُّ: (وطلع)

(1)

، ومنها التقديم {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ المَوْتِ بِالحَقِّ} [ق: 19] قرأ أبو بكر وطلحة: (وجاءت سكرت الحق بالموت)

(2)

. ومنها: الزيادة والنقصان: {تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} [ص: 23](أنثى) في قراءة ابن مسعود.

واختلف الأصوليون هل يقرأ اليوم على سبعة أحرف؟ فمنعه الطبري

(3)

وغيره وقال: إنما يجوز بحرف واحد اليوم وهو حرف زيد، ونحا إليه القاضي أبو بكر.

وقال الشيخ أبو الحسن الأشعري: أجمع المسلمون على أنه لا يجوز حظر ما وسعه الله من القراءات بالأحرف التي أنزلها، ولا يسوغ للأمة أن تمنع ما يطلقه، بل هي موجودة في قراءتنا اليوم وهي مفرقة في القرآن غير معلومة بأعيانها، فيجوز على هذا، وبه قال القاضي أن يقرأ بكل ما نقله أهل التواتر من غير تمييز حرف من حرف، فيخلط حرف نافع بحرف الكسائي وحمزة ولا حرج في ذلك؛ لأن الله تعالى أنزلها تيسيرًا على عباده ورفقًا

(4)

.

(1)

ذكره الطبري في "تفسيره" 11/ 636.

(2)

ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 8/ 12.

(3)

"تفسير الطبري" 1/ 50 - 51.

(4)

"إكمال المعلم" 3/ 186 - 193، "المفهم" 2/ 447 - 450. "عارضة الأحوذي" 11/ 60 - 63.

ص: 496

فائدة:

معنى (لببته بردائه) جمعت عليه ثوبه الذي (لابسه)

(1)

وقبض عليه نحره.

وقوله: ("أرسله") أي: أزل يدك من لبته.

وفيه: انقياد هشام لعلمه أن عمر لم يرد إلا خيرًا.

وفيه: ما كان عمر عليه من الصلابة، وكان هشام من أصلب الناس بعده، كان عمر إذا كره شيئًا يقول: لا يكون هذا ما بقيت أنا وهشام بن حكيم

(2)

.

وقوله: ("فاقرؤوا منه ما تيسر")

(3)

أي: تيسر لكم حفظه.

(1)

كذا بالأصل.

(2)

ذكره ابن عبد البر في "الاستيعاب" في ترجمة هشام بن حكيم 4/ 99 - 100 (2710) وفي "التمهيد" 8/ 315، وفي "الاستذكار" 8/ 54. وذكره أيضًا ابن الأثير في "أسد الغابة" 5/ 398 - 399.

(3)

في الأصل: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} ، والمثبت هو الموافق لليوينية ولما ساقه المصنف في متنه آنفًا.

ص: 497

‌5 - باب إِخْرَاجِ أَهْلِ المَعَاصِي وَالخُصُومِ مِنَ البُيُوتِ بَعْدَ المَعْرِفَةِ

وَقَدْ أَخْرَجَ عُمَرُ أُخْتَ أَبِي بَكْرٍ حِينَ نَاحَتْ.

2420 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِالصَّلَاةِ فَتُقَامَ، ثُمَّ أُخَالِفَ إِلَى مَنَازِلِ قَوْمٍ لَا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ، فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ". [انظر: 644 - مسلم: 651 - فتح 5/ 74]

ثم ساق حديث أَبِي هُرَيْرَةَ: "لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِالصَّلَاةِ فَتُقَامَ، ثُمَّ أُخَالِفَ إِلَى مَنَازِلِ قَوْمِ لَا يَشْهَدُونَ الصَّلاةَ، فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ".

وقد سلف هذا في باب: فضل العشاء

(1)

، والأثر أخرجه ابن سعد في "طبقاته" من طريق سعيد بن المسيب قال: لما توفي أبو بكر أقامت عليه أخته، فبلغ عمر فنهاهن فأبين أن ينتهين، فقال لهشام بن الوليد: اخرج إلى ابنة أبي قحافة، يعني: أم فروة فعلاها بالدرة ضربات فتفرق النوائح حين سمعن ذلك

(2)

.

قلت: وهو منقطع فيما بين سعيد وعمر

(3)

(4)

فينظر في جزم البخاري

(1)

سلف برقم (657) كتاب: الأذان.

(2)

"الطبقات" 3/ 208 وفيه: أقامت عائشة عليه النوح

إلخ.

(3)

ورد بهامش الأصل تعليق نصه: قال الإمام أحمد فيما نقله عنه المزي في "تهذيبه" رأى سعيد عمر وسمع منه وإذا لم يقبل سعيد عن عمر، فمن يقبل! انتهى وقد ولد سعيد لسنتين مضتا من خلافة عمر وقال ابن أبي حاتم: لا يصح له سماع منه إلا رؤية رآه على المنبر ينعى النعمان بن مقرن، وحديثه عنه في مسلم، وإن كان كما قال الإمام أحمد فيمكن أن عمر حدثه بذلك بعد الواقعة أو يكون للبخاري طريق غير هذا، والله أعلم.

(4)

رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" 3/ 208 - 209 بسنده إلى سعيد بن المسيب =

ص: 498

به، وفيه: أن من ترك سنة من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم المجتمع عليها في الإقامة أنه يعاقب في نفسه وماله؛ لأن حرق المنازل عقوبة في المال على عمل الأبدان، فإذا كانت العقوبة تتعدى إلى المال عن البدن، فهي أحرى أن تقع في البدن.

وفيه: أن العقوبات على أمور الدين التي لا حدود فيها موكولة إلى اجتهاد الإمام لقوله: ("لقد هممت")، فهذا نظر واجتهاد. وقد قيل: إنه كان في المنافقين وليس كذلك؛ لأنه عليه السلام (لم)

(1)

يعن بإخراجهم إلى الصلاة ولا التفت إلى شيء من أمرهم. وقيل فيه: إنه في المؤمنين، وقد سلف القولان في بابه وسيكون لنا عودة إليه في الأحكام

(2)

إن شاء الله.

= إلا أنه قال: "أقامت عليه عائشة" بدلًا من "أقامت أخته" ورواه عبد الرزاق أيضًا في "المصنف" 3/ 556 - 557 (6680) مطولًا وفيه فقال عمر: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الميت يعذب ببكاء الحي". وذكره البوصيري في "الإتحاف" 2/ 504، والحافظ في "المطالب العالية": 1/ 338 وعزياه لإسحاق بن راهويه ولم أجده، ولعله في المفقود منه وقالا: المرفوع منه مخرج عندهم. ورواه أحمد عن عبد الرزاق بهذا الإسناد 1/ 47 - إسناد عبد الرزاق- خاصة دون باقي القصة. وقال الحافظ في "الفتح" 5/ 74: وصله ابن سعد في "الطبقات" بإسناد صحيح من طريق الزهري عن ابن المسيب.

(1)

في الأصل لمن ولعل الصحيح ما أثبتناه.

(2)

سيأتي برقم (7224) باب: إخراج الخصوم وأهل الريب من البيوت بعد المعرفة.

ص: 499

‌6 - باب دَعْوَى الوَصِيِّ لِلْمَيِّتِ

2421 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، أَنَّ عَبْدَ بْنَ زَمْعَةَ وَسَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ اخْتَصَمَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي ابْنِ أَمَةِ زَمْعَةَ، فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَوْصَانِي أَخِي إِذَا قَدِمْتُ أَنْ أَنْظُرَ ابْنَ أَمَةِ زَمْعَةَ فَأَقْبِضَهُ، فَإِنَّهُ ابْنِي. وَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ: أَخِي وَابْنُ أَمَةِ أَبِي، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أَبِي. فَرَأَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم شَبَهًا بَيِّنًا فَقَالَ:"هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ، الوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَاحْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ". [انظر: 2053 - مسلم: 1457 - فتح 5/ 74]

ذكر فيه حديث عائشة في الاختصام في ابن أمة زمعة بطوله.

وقد سلف

(1)

وترجم له في: الوصايا: ما يجوز (للموصى)

(2)

إليه من الدعوى

(3)

، وهي هذِه الترجمة، وستأتي ضروب تأويله في باب: أمر الولد أيضًا.

وقوله: "هو لك يا عبد بن زمعة" يجوز رفع عبد ونصبه

(4)

.

(1)

سلف برقم (2053) كتاب: البيوع، باب: تفسير المشبهات.

(2)

سيأتي برقم (2745).

(3)

قال ابن مالك في ألفيته:

ونحو (زيدٍ) ضم وافتحن، مِنْ

نحو "أزيد بن سعيد" لا تَهِن

وقال ابن عقيل في شرحه لهذا البيت: إذا كان المنادى مفردًا علمًا، ووصف بـ "ابن" مضاف إلى علم، ولم يُفصل بين المنادى وبين "ابن" -جاز لك في المنادى وجهان: البناء على الضم، نحو:"يا زيدُ بن عمرو" والفتح إتباعًا، نحو:"يا زيد ابن عمرو" 3/ 261.

(4)

في الأصل: (للمواصي)، والمثبت الصواب؛ علمًا بأن الذي في اليونينية مكانها: للوصي.

ص: 500

‌7 - باب التَّوَثُّقِ مِمَّنْ تُخْشَى مَعَرَّتُهُ

وَقَيَّدَ ابْنُ عَبَّاسٍ عِكْرِمَةَ عَلَى تَعْلِيمِ القُرْآنِ وَالسُّنَنِ وَالفَرَائِضِ.

2422 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنهما يَقُولُ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَيْلًا قِبَلَ نَجْدٍ، فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ يُقَالُ لَهُ: ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ، سَيِّدُ أَهْلِ اليَمَامَةِ، فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي المَسْجِدِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟ ". قَالَ عِنْدِي: يَا مُحَمَّدُ خَيْرٌ -فَذَكَرَ الحَدِيثَ- قَالَ: "أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ". [انظر: 462 - مسلم: 1764 - فتح 5/ 75]

ثم ساق حديث أبي هريرة في ربط ثمامة في المسجد، وقد سلف في أبواب المساجد في موضعين منه

(1)

، ووقع في كتاب ابن بطال: أن البخاري ترجم له في كتاب: الصلاة، باب: الأسير والغريم يربط في المسجد

(2)

وليس كذلك، بل ذكر فيه حديثًا آخر

(3)

، نعم. ذكره عقبه في باب آخر.

وفعل ابن عباس أخرجه ابن سعد من طريق الزبير بن الخريت عن عكرمة قال: كان ابن عباس يجعل في رجلي الكبل يعلمني الكتاب والسنة

(4)

.

(1)

سبق برقم (462) كتاب الصلاة، باب: الاغتسال إذا أسلم، وربط الأسير في المسجد، وسلف أيضًا برقم (469) كتاب الصلاة باب: دخول المشرك المسجد.

(2)

"شرح ابن بطال" 6/ 542.

(3)

ورد بهامش الأصل تعليق نصه: وهو حديث "أن عفريتًا"، لكن الباب الذي بعده قال فيه: باب: الاغتسال إذا أسلم، وربط الأسير أيضًا في المسجد. كذا في نسختي وأما لفظ الأسير والغريم فالترجمة التي قبله.

(4)

"الطبقات الكبرى" 2/ 386، 5/ 287.

ص: 501

وأهل العلم يوجبون التوثق بالسجن والضامن وما أشبهه، فمن وجب عليه حق لغيره فأبى أن يخرج منه وادعى تحرجًا لم يحضره في الوقت.

وقد روي عن وكيع أن عليًّا كان يحبس في الدين

(1)

. وروى معمر عن أيوب، عن ابن سيرين قال: كان شريح إذا قضى على رجل بحق أمر بحبسه في المسجد إلى أن يقوم، فإن أعطى حقه وإلا أمر به إلى

السجن

(2)

.

وقال طاوس: إذا لم يقر الرجل بالحكم حبس

(3)

. وروى معمر عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حبس رجلًا في تهمة

(4)

.

وحديث ثمامة أصل في ذلك؛ لأنه كان قد حلَّ دمه بالكفر، والسنة في مثله أن يقتل أو يستعبد أو يفادى به أو يمن عليه، فحبسه الشارع حتى يرى فيه رأيه، وأي الوجوه أصلح للمسلمين في أمره.

قال ابن التين: وربطه بسارية من سواري المسجد يحتمل أن يكون قبل نزول {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللهِ} الآية [التوبة: 17].

وفيه: رفقه بمن أحسن إسلامه وإطلاقه.

(1)

رواه عبد الرزاق في "المصنف" 8/ 306 (15312).

(2)

رواه عبد الرزاق في "المصنف" 8/ 306 (15310).

(3)

رواه عبد الرزاق في "المصنف" 8/ 306 (15314).

(4)

سبق تخريجه قريبًا عند حديث (2402) باب: إذا وجد ماله عند مفلس

ص: 502

‌8 - باب الرَّبْطِ وَالحَبْسِ فِي الحَرَمِ

وَاشْتَرَى نَافِعُ بْنُ عَبْدِ الحَارِثِ دَارًا لِلسِّجْنِ بِمَكَّةَ مِنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ

(1)

عَلَى أَنَّ عُمَرَ إِنْ رَضِيَ فَالبَيْعُ بَيْعُهُ، وَإِنْ لَمْ يَرْضَ عُمَرُ فَلِصَفْوَانَ أَرْبَعُمِائَةٍ. وَسَجَنَ ابْنُ الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ.

2423 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ، سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَيْلًا قِبَلَ نَجْدٍ، فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ يُقَالُ لَهُ ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ، فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي المَسْجِدِ. [انظر: 462 - مسلم: 1764 - فتح 5/ 75]

ثم ساق حديث أبي هريرة في ربط ثمامة بسارية من سواري المسجد، وقد سلف آنفًا.

وأثر نافع سلف قريبًا، واشتراه نافع من مال المسلمين كما سيأتي.

وأثر ابن الزبير أخرجه ابن سعد من طريق ضعيفة عن محمد بن

(1)

ورد بهامش الأصل: نافع (م. د. س. ق وأحمد) بن عبد الحارث بن جبالة بفتح الجيم وكسرها ابن عمر الخزاعي، كان من فضلاء الصحابة. قيل: أسلم يوم الفتح وأقام بمكة واستعمله عمر عليها وعلى الطائف، وفيهما سادات قريش وثقيف وله عند مسلم وأبي داود والنسائي وابن ماجه وأحمد، روى عنه أبو الفضيل وأبو سلمة بن عبد الرحمن وفي "التهذيب" أن عمر أمره بشراء دار بمكة للسجن، ذكره الأزرقي وغيره، كذا عزاه النووي، وقد أنكر الواقدي صحبته، وقال: هو تابعي والصحيح الأول.

وصفوان بن أمية الجمحي: ابن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح القرشي الجمحي أسلم بعد أن شهد حُنينًا مع النبي صلى الله عليه وسلم كافرًا وكان من المؤلفة، وشهد اليرموك توفي بمكة سنة 43 هـ، وقيل: في خلافة عثمان، وقيل: عام الجمل سنة 36 هـ وكنيته أبو وهب. وقيل: أبو أمية.

ص: 503

عمر، ثنا ربيعة بن عثمان وغيره، عن سعد بن محمد بن جبير والحسين بن الحسن بن عطية العَوْفي، عن أبيه، عن جده فذكره

(1)

.

قال المهلب: اشتراء نافع الدار للسجن بمكة من مال المسلمين؛ لأن عمر كان يومئذٍ أمير المؤمنين، فاشترى نافع الدار من صفوان، وشرط عليه إن رضي عمر الابتياع فهي لعمر وإن لم يرض ذلك بالثمن المذكور، فالدار لنافع بأربعمائة، قال: وهذا بيع جائز فابتياع الدار يكون سجنًا بمكة يدل أن الحبس في الحرم والربط والأسر فيه جائز، بخلاف قول من قال من التابعين: إن من فرَّ إلى الحرم بحد أو جرم أنه لا يقاد منه في الحرم. واحتجوا بقوله تعالى {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97] وأئمة الفتوى بالأمصار لا يمنع عندهم الحرم إقامة الحدود والقود فيه على من وجب عليه في غير الحرم، وكلهم يقول: إن من قَتَل في الحرم قُتل فيه. وقال الداودي: ما فعله نافع هو بيع العُربان المنهي عنه ويدخله شرطان في شرط وأكل المال بالباطل، وليس فيه أن عمر علم.

(1)

"الطبقات الكبرى" 5/ 100 - 102 وفيه: سعيد بن محمد بدلًا من سعد.

ص: 504

‌9 - باب المُلَازَمَةِ

2424 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ -وَقَالَ غَيْرُهُ: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ- عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّهُ كَانَ لَهُ عَلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي حَدْرَدٍ الأَسْلَمِيِّ دَيْنٌ، فَلَقِيَهُ فَلَزِمَهُ، فَتَكَلَّمَا حَتَّى ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا، فَمَرَّ بِهِمَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:"يَا كَعْبُ". وَأَشَارَ بِيَدِهِ كَأَنَّهُ يَقُولُ النِّصْفَ، فَأَخَذَ نِصْفَ مَا عَلَيْهِ وَتَرَكَ نِصْفًا. [انظر: 457 - مسلم: 1558 - فتح 5/ 76]

ذكر فيه حديث كعب مع ابن أبي حدرد، وقد لازمه كعب

وقد سلف في الصلاة

(1)

وهو حجة للكوفيين في قولهم بالملازمة للغريم؛ لعدم إنكار الشارع الملازمة، وأشار عليه بالصلح، وسائر الفقهاء لا ينكرون على صاحب الدين أن يطلب دينه كيف أمكنه بإلحاح عليه أو ملازمته أو غير ذلك، وإنما اختلفوا في الغريم المعدم، هل يلازمه غريمه بعد ثبوت الأعذار وإطلاقه من السجن أم لا؟ وقد سلف ذلك في حديث:"مطل الغني ظلم"

(2)

.

(1)

سلف برقم (457) باب: التقاضي والملازمة في المسجد.

(2)

سلف برقم (2400) كتاب: الاستقراض، باب: مطل الغني ظلم.

ص: 505

‌10 - باب التَّقَاضِي

2425 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ خَبَّابٍ قَالَ: كُنْتُ قَيْنًا فِي الجَاهِلِيَّةِ وَكَانَ لِي عَلَى العَاصِ بْنِ وَائِلٍ دَرَاهِمُ، فَأَتَيْتُهُ أَتَقَاضَاهُ، فَقَالَ: لَا أَقْضِيكَ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ. فَقُلْتُ: لَا وَاللهِ لَا أَكْفُرُ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم حَتَّى يُمِيتَكَ اللهُ ثُمَّ يَبْعَثَكَ. قَالَ: فَدَعْنِي حَتَّى أَمُوتَ ثُمَّ أُبْعَثَ فَأُوتَى مَالًا وَوَلَدًا، ثُمَّ أَقْضِيَكَ. فَنَزَلَتْ:{أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77)} [مريم: 77] الآيَةَ. [انظر: 2091 مسلم: 2795 - فتح 5/ 77]

ذكر فيه حديث خَبَّابٍ قَالَ: كُنْتُ قَيْنًا فِي الجَاهِلِيَّةِ.

وقد سلف قريبًا في باب: القين

(1)

، وشيخ البخاري فيه حدثنا إسحاق، ثنا وهب بن جرير بن حازم ذكر الكلاباذي أن إسحاق بن راهويه يروي عن وهب بن جرير.

وفيه من الفقه: أن الرجل الفاضل إذا كان له دين عند الفاسق والكافر أنه لا بأس أن يطلبه ويشخص فيه بنفسه، ولا نقيصة عليه في ذلك؛ لأنه عليه السلام قد نهى عن إضاعة المال.

(1)

سلف برقم (2091) كتاب البيوع، باب: ذكر القين والحداد.

ص: 506

45

كتاب في اللقطة

ص: 507

بسم الله الرحمن الرحيم

‌45 - كتاب في اللقطة

‌1 - وإِذَا أَخْبَرَهُ رَبُّ اللُّقَطَةِ بِالعَلَامَةِ دَفَعَ إِلَيْهِ

2426 -

حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ. وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سَلَمَةَ، سَمِعْتُ سُوَيْدَ بْنَ غَفَلَةَ قَالَ: لَقِيتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ رضي الله عنه فَقَالَ: أَخَذْتُ صُرَّةً مِائَةَ دِينَارٍ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:"عَرِّفْهَا حَوْلًا". فَعَرَّفْتُهَا حَوْلَهَا فَلَمْ أَجِدْ مَنْ يَعْرِفُهَا، ثُمَّ أَتَيْتُهُ فَقَالَ:"عَرِّفْهَا حَوْلًا" فَعَرَّفْتُهَا فَلَمْ أَجِدْ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ ثَلَاثًا، فَقَالَ:"احْفَظْ وِعَاءَهَا وَعَدَدَهَا وَوِكَاءَهَا، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا، وَإِلاَّ فَاسْتَمْتِعْ بِهَا". فَاسْتَمْتَعْتُ، فَلَقِيتُهُ بَعْدُ بِمَكَّةَ فَقَالَ: لَا أَدْرِي ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ أَوْ حَوْلًا وَاحِدًا. [2437 - مسلم: 1723 - فتح 5/ 78]

كذا في الأصول وهو ما في كتاب ابن التين، وفي كتاب ابن بطال: كتاب اللقطة باب: إذا أخبر رب اللقطه بالعلامة دفع إليه

(1)

، وتابعه شيخنا علاء الدين.

(1)

"شرح ابن بطال" 6/ 545.

ص: 509

وفي اللقطة لغات جمعها ابن مالك في بيت فقال:

ولُقْطَةٌ لقَاطة ولُقَطَة

ولَقَطٌ ما لاقطٌ قد لقطه.

والثلاث الأول، حكاهن ابن سيده

(1)

.

قال صاحب "الجامع": اللقطة: ما التقطه الإنسان فاحتاج إلى تعريفه محركة.

وقيل: هو الرجل الذي يلتقط، واسم الموجود: لقطة، يعني: بالإسكان. وعن الأصمعي وابن الأعرابي والفراء: الفتح: اسم المال.

وعن الخليل كذلك كسائر ما جاء على هذا الوزن يكون اسم الفاعل كـ {هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الهمزة: 1]. وسكون القاف: اسم المال الملقوط.

قال الأزهري: هذا قياس اللغة إلا أن كلام العرب في اللغة على غير القياس؛ لأن الرواة أجمعوا على أن اللُقَطَة يعني -بالفتح-: اسم للشيء الملتقط

(2)

.

والالتقاط: العثور على الشيء من غير قصد وطلب، وفي "أدب الكاتب" تسكينها من لحن العامة

(3)

، ورد عليه بأن فعله بإسكان العين من صفة المفعول وبتحريكها للفاعل، وردَّ بأن اللغة موقوفة على السماع والمسموع بالفتح، كذا ضبطها ثعلب عن ابن الأعرابي وغيره، ونقله ابن درستويه عن عامة اللغويين

(4)

.

وعبارة ابن التين هي بضم اللام وفتح القاف. وقال الداودي بسكونها ولم يزد عليه.

(1)

"المحكم" 6/ 170.

(2)

"تهذيب اللغة" 4/ 3286 مادة: (لقط).

(3)

"أدب الكاتب" ص 296.

(4)

"شرح تصحيح الفصيح" ص 350.

ص: 510

ذكر البخاري في الباب حديث

(1)

شعبة عن سلمة -يعني: ابن كهيل- سَمِعْتُ سُوَيْدَ بْنَ غَفَلَةَ قَالَ: لَقِيتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ فَقَالَ: وجدت صُرَّةً فيها مِائَةَ دِينَارٍ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"عَرِّفْهَا حَوْلًا". فَلَمْ أَجِدْ مَنْ يَعْرِفُهَا، ثُمَّ أَتَيْتُهُ فَقَالَ:"عَرِّفْهَا حَوْلًا". فَعَرَّفْتُهَا فَلَمْ أَجِدْ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ ثَلَاثا، فَقَالَ:"احْفَظْ وِعَاءَهَا وَعَدَدَهَا وَوِكَاءَهَا، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا، وَإِلَّا فَاسْتَمْتِعْ بِهَا". فَاسْتَمْتَعْتُ بها، فَلَقِيتُهُ بَعْدُ بِمَكَةَ. فَقَالَ: لَا أَدْرِي ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ أَوْ حَوْلًا وَاحِدًا.

هذا الحديث أخرجه مسلم

(2)

والأربعة

(3)

(4)

.

والقائل (فلقيته بعد) هو شعبة يريد بذلك سلمة بن كهيل، وذلك أن أبا داود الطيالسي قال الذي هذا الحديث: قال شعبة: فلقيت سلمة بعد ذلك فقال: لا أدري، وساقه

(5)

. وفي لفظ ذكره بعد: ثم أتيته الرابعة

(6)

.

قال ابن حزم: هو حديث ظاهره صحة السند إلا أن سلمة أخطأ فيه بلا شك

(7)

.

قلت: سيأتي الكلام بعد. وقال الداودي: الشك من سلمة. قلت: لا، من أُبي كما سيأتي، وإنما قال له أولًا:("عرفها حولًا") ثم أتاه

(1)

ورد بهامش الأصل: من طريقين إلى شعبة، الأولى أعلى برجل وهي: آدم عنه.

(2)

مسلم (1723) كتاب: اللقطة.

(3)

أبو داود (1701 - 1703)، والترمذي (1372)، وابن ماجه (2506) والنسائي في "السنن الكبرى" 3/ 421 - 423 (5820 - 5825).

(4)

ورد بهامش الأصل إشارة إلى أنه في نسخة: ابن ماجه والترمذي في الأحكام.

(5)

"مسند الطيالسي" 1/ 447 (554).

(6)

يأتي برقم (2437)، كتاب اللقطة، باب: هل يأخذ اللقطة ولا يدعها ..

(7)

"المحلى" 8/ 262.

ص: 511

فقال: ("عرفها") ثم أتاه في الآخر، فقال:("عرفها حولًا").

وفي الباب عن جماعة من الصحابة: زيد بن خالد ساقه البخاري بعد من طرق كما ستعلمه في موضعها، يقول (يزيد)

(1)

: إن لم تعرف استنفق بها صاحبها وكانت وديعة عندك.

قال يحيى -يعني: ابن سعيد-: فهذا الذي لا أدري أفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أم شيء من عنده؟ قال ابن حزم: قطع يحيى بن سعيد مرة أخرى أنه من قول (يزيد)

(2)

ولم يشك ربيعة أنه من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذا لم يشك بُسر بن سعيد عن زيد بن خالد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

(3)

.

وفي رواية ربيعة وعبد الله بن عمر أخرجه الترمذي وحسنه

(4)

، والحاكم

(5)

والدارقطني

(6)

، وأبي ثعلبة الخشني أخرجه النسائي

(7)

(1)

في الأصل: سويد، والمثبت هو الصواب كما في البخاري (2428).

(2)

في الأصل: زيد، والمثبت هو الصواب كما في "المحلى" 8/ 269، ولأنه قائل هذِه العبارة كما في البخاري.

(3)

"المحلى" 8/ 269. بتصرف.

(4)

لعله يقصد عبد الله بن عمرو، وإلا فليس لابن عمر أحاديث في باب اللقطة؛ فإن كان كذلك فحديث ابن عمرو أخرجه الترمذي -مختصرًا- (1289) أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الثمر المعلق فقال: .. الحديث، وإنما قلنا: يقصد ابن عمرو؛ لأن حديث ابن عمرو يُروى مطولًا وفيه السؤال عن اللقطة والضوال.

وأيضًا؛ لأنه عزاه بعدُ إلى الحاكم والدارقطني، وقد أخرجا حديث ابن عمرو بالشاهد المشار إليه.

(5)

"المستدرك" 2/ 65 عن ابن عمرو.

(6)

"سنن الدارقطني" 3/ 124 عن ابن عمرو.

(7)

"السنن الكبرى" 3/ 433 (5829).

ص: 512

وابن الجارود. وعبد الله بن الشخير أخرجه

(1)

(

)

(2)

وكذا الجارود

(3)

ولفظهما: "ضالة المسلم حَرقُ النار"، وعياض بن حمار بالراء في آخره أخرجه أيضًا أبو داود

(4)

وفيه: "فليُشْهد عليها ذا عدل أو ذوي عدل"، وخرجه الحاكم من حديث أبي هريرة وقال: صحيح على شرط مسلم

(5)

.

قال أبو إسحاق فيما حكاه أبو عبيد في كتاب القضاء قال: أجاز شريح شهادتي وحدي

(6)

، (وكذا فعل أبو مجلز بزرارة بن أوفى)

(7)

.

وجرير أخرجه أبو داود

(8)

ولفظه: "لا يأوي الضالة إلا ضال"

(9)

. وأبي هريرة أخرجه الحاكم كما سلف والبزار

(10)

.

(1)

هو عند ابن ماجه (2502)، وأحمد 4/ 25 وعند النسائي في "الكبرى" 3/ 414 (5790) وغيرهم.

(2)

بياض في الأصل بمقدار كلمة، وفي الهامش تعليق نصه: وكذا الجارود ليس في أبي داود حديثه وإنما هو في النسائي.

(3)

أخرجه أحمد 5/ 80، وهو عند النسائي في "الكبرى" 3/ 414 (5792 - 5798) وغيرهما.

(4)

أبو داود (1709).

(5)

"المستدرك" 2/ 64.

(6)

رواه ابن أبي شيبة 4/ 539 (22925).

(7)

كذا بالأصل وهو خطأ، والصواب ما جاء عند عبد الرزاق 8/ 337 (15442)، وابن أبي شيبة 4/ 539 (22924) عن عمران بن حدير عن أبي مجلز قال: شهدت عند زرارة بن أوفى على شهادة وحدي فأجاز شهادتي وبئس ما صنع.

(8)

أبو داود (1720).

(9)

ورد بهامش الأصل: زاد مسلم ما لم يعرفها من طريق زيد بن خالد.

(10)

"كشف الأستار" 2/ 131 (1367)، وقال البزار: لا نعلم أسند مطرف عن أبي هريرة إلا هذا.

ص: 513

قال ابن حزم: فيها مجهولان

(1)

، وعمر أخرجه النسائي

(2)

، وعليّ أخرجه أبو داود

(3)

، ولابن حزم فيه:"عرفه -يعني: الدينار- ثلاثًا". فعرفه فلم يجد أحدًا يعرفه، فقال:"كله"، وضعفه. وفي آخره: فجعل أجل الدينار وشبهه ثلاثة أيام لهذا الحديث.

قال ابن حزم: لا ندري مِنْ كلام مَنْ هذِه الزيادة

(4)

. وجابر أخرجه أبو داود

(5)

، ولابن ماجه أن المقداد دخل خربة، فخرج جرذ ومعه دينار، ثم آخر، حتى أخرج سبعة عشر دينارًا فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم خبرها، فقال:"لا صدقة فيها، بارك الله لك فيها"

(6)

وسويد الجهني أخرجه ابن بنت منيع

(7)

. قال البغوي: لا أعلم لسويد غيره

(8)

. وصحابي آخر أخرجه النسائي

(9)

.

ووالد حكيمة أخرجه ابن حزم بلفظ: "من التقط لقطة يسيرة درهمًا

أو حبلًا أو شبه ذلك، فليعرفه ثلاثة أيام، فإن كان فوق ذلك فليعرفه ستة أيام"، ثم قال: هذا لا شيء، إسرائيل ضعيف، وعمر مجهول، وحكيمة عن أبيها أنكر وأنكر ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ

(10)

.

(1)

"المحلى" 8/ 266.

(2)

"السنن الكبرى" 3/ 420 - 421 (5818، 5819).

(3)

أبو داود (1715، 1716).

(4)

"المحلى" 8/ 263.

(5)

أبو داود (1717).

(6)

ابن ماجه (2508).

(7)

هو أبو القاسم البغوي.

(8)

"معجم الصحابة" 3/ 225 - 226.

(9)

"السنن الكبرى" 3/ 420 (5816).

(10)

"المحلى" 8/ 263 - 264.

ص: 514

قلت: إسرائيل احتج به الشيخان ووثق، وعمر ليس بمجهول؛ بل ضعيف

(1)

، وحكيمة بنت غيلان الثقفي امرأة يعلى بن مرة ذكرها وأباها جماعة في الصحابة

(2)

.

إذا تقرر ذلك فزعم بعضهم أن الاختلاف في حديث أبي بن كعب "عرفها ثلاثًا"، وفي أخرى: أو "حولًا واحدًا"، وفي أخرى: في سنة أو في ثلاث، وفي أخرى عامين أو ثلاثة يقتضي تعدد الواقعة الأولى لأعرابي أفتاه بما يجوز له بعد عام، والثانية لأُبي أفتاه بالكف عنها والتربص بحكم الورع ثلاثة أعوام، وقد يكون ذلك لحاجة الأول وغنى الثاني.

وقد رجع أُبي إلى عام آخر وترك الشك.

(1)

هو عمر بن عبد الله بن يعلى بن مرة الثقفي، الكوفي، وقد ينسب إلى جده.

روى عن: أنس بن مالك، وسعيد بن جبير، وأبيه عبد الله بن يعلى، وجدته حُكيمة امرأة يعلى بن مرة.

روى عنه: إسرائيل بن يونس، وجرير بن عبد الحميد، وزياد بن عبد الله البكائي، وسفيان الثوري.

قال عبد الله بن أحمد بن حنبل، عن أبيه: ضعيف الحديث.؟ وكذلك قال عباس الدوري عن يحيى بن معين، وأبو حاتم، والنسائي. زاد أبو حاتم: منكر الحديث.

انظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" 6/ 170 (2065)، و"الجرح والتعديل" 6/ 118 (638)، "تهذيب الكمال" 21/ 417 (4270)، "ميزان الاعتدال" 4/ 131 (6156)،.

(2)

هي حُكيمة بالتصغير. قال ابن عبد البر: روت عن زوجها يعلى بن مرة، ما أدري

أسمعت من النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا أم لا. قال ابن الأثير: انفرد بإخراجها- يعني ابن عبد البر.

انظر ترجمتها في "الاستيعاب" 4/ 374 (3335)، و"أسد الغابة" 7/ 67 (6847)، و"الإصابة" 4/ 274 (298).

ص: 515

ثم هذا الحديث لم يقل بظاهره أحد من أئمة الفتوى كما قال ابن بطال

(1)

ثم المنذري أن اللقطة تعرف ثلاثة أعوام؛ لأن سويد بن غفلة قد وقف عليه أبي بن كعب مرة أخرى من لقيه بمكة، فقال: لا أدري ثلاثة أحوال أو حولًا واحدًا، وهذا الشك يوجب سقوط التعريف ثلاثة أحوال، ولا يحفظ عن أحد ذلك إلا رواية جاءت عن عمر بن الخطاب ذكرها عبد الرزاق عن ابن جريج قال: قال مجاهد: وجد سفيان بن عبد الله عبية فيها مال عظيم فجاء بها عمر، فقال: عرفها سنة. فعرفها سنة، ثم جاءه، فقال: عرفها سنة. فعرفها، ثم جاءه، فقال: عرفها سنة. فعرفها سنة، ثم جاءه بها فجعلها عمر في بيت مال المسلمين

(2)

، وأخرجه النسائي بنحوه كما أسلفناه، ويحتمل أن يكون الذي قال له عمر ذلك كان موسرًا على من يرى ذلك، وقد روي عن عمر أيضًا أن اللقطة تعرف سنة

(3)

مثل قول الجماعة. وفي "الحاوي" عن شواذ من الفقهاء أنها تعرف ثلاثة أحوال

(4)

. ونقل ابن المنذر عن عمر: تعرف ثلاثة أشهر. قال: وروينا عنه: يذكرها ثلاثة أيام، ثم يعرفها سنة.

وزعم ابن الجوزي أن رواية "ثلاثة أحوال" إما أن تكون غلطًا من بعض الرواة وإما أن يكون المعرف عرفها تعريفًا غير جيد

(5)

كما قال للمسيء صلاته: "ارجع فصل فإنك لم تصل"

(6)

.

(1)

"شرح ابن بطال" 6/ 545.

(2)

"المصنف" 10/ 135، 136 (18618).

(3)

"الموطأ" ص 472. ومن طريقه البيهقي 6/ 193. وفي "المصنف" لعبد الرزاق 10/ 136 (18619).

(4)

"الحاوي" 8/ 12.

(5)

"التحقيق" 7/ 43 - 44.

(6)

سلف برقم (757) كتاب الأذان، باب: وجوب القراءة ..

ص: 516

وذكر ابن حزم عن عمر رواية: ثلاثة أشهر، وأخرى: أربعة. وعن الثوري: الدرهم يعرف أربعة أيام

(1)

.

وفي "الهداية": إن كانت أقل من عشرة دراهم عرفها أيامًا وإن كانت عشرة فصاعدًا عرفها حولًا، وهذِه رواية عن أبي حنيفة، وقدر محمد بالحول. (بَيَّن تفصيل)

(2)

بين القليل والكثير

(3)

، وهو ظاهر المذهب كما قاله أبو إسحاق في "تنبيهه"، والمذهب الفرق، فالكبير يعرف سنة والقليل يعرف مدة يغلب على الظن قلة أسف صاحبه عليه.

وممن روي عنه تعريف سنة علي

(4)

وابن عباس

(5)

وسعيد بن المسيب

(6)

والشعبي

(7)

وإليه ذهب مالك

(8)

والكوفيون والشافعي

(9)

وأحمد

(10)

.

ونقل الخطابي فيه إجماع العلماء واحتجوا بحديث زيد بن خالد الجهني

(11)

.

(1)

"المحلى" 8/ 264.

(2)

كذا بالأصل وكُتِبَ تحت هذِه الكلمة (لعله: لم يفصل).

ووقع في "الهداية" 2/ 470: من غير.

(3)

"الهداية" 2/ 470.

(4)

"مصنف ابن أبي شيبة" 4/ 418.

(5)

"مصنف ابن أبي شيبة" 4/ 418.

(6)

"مصنف عبد الرزاق" 10/ 137.

(7)

"مصنف ابن أبي شيبة" 4/ 419.

(8)

"المدونة" 4/ 366.

(9)

"الأم" 7/ 165.

(10)

"مختصر الخرقي" ص 67.

(11)

"أعلام الحديث" 2/ 1215. ولفظ الخطابي: وفي سائر الروايات إنما هو حول واحد، وعليه العمل عند عامة العلماء.

ص: 517

وقد سلف في حديث زيد بن خالد تفسير العفاص والوكاء في باب: شرب الناس والدواب من الأنهار قريبًا

(1)

. وأمر بحفظ هذِه الأشياء لوجوه من المصالح منها: أن العادة جارية بإلقاء الوكاء والوعاء إذا فرغ من النفقة، فأمر بمعرفته وحفظه لذلك. ومنها: أنه إذا أمر بحفظ هذين فحفظ ما فيهما أولى، ومنها: أن يتميز عن ماله فلا يختلط به. ومنها: أن صاحبها إذا جاء نعته، فربما غلب على ظنه صدقه، فيجوز له الدفع إليه. ومنها: أنه إذا حفظ ذلك وعرفه أمكنه التعريف بها والإشهاد عليه، وأمره عليه السلام بحفظ هذِه الأوصاف الثلاثة، هو على قول من يقول بمعرفة الأوصاف تدفع إليه بغير بينة.

وقال ابن القاسم: لا بد من ذكر جميعها ولم يعتبر أصبغ العدد

(2)

، وقول ابن القاسم أوضح.

فإذا أتى بجميع الأوصاف هل يحلف مع ذلك أو لا؟ قولان: النفي لابن القاسم، وتحليفه لأشهب

(3)

. ولا يلزمه بينة عند مالك وأصحابه

(4)

وأحمد وداود

(5)

وهو قول البخاري، وبوب عليه بقوله. وإذا أخبر رب اللقطة بالعلامة دفع إليه. حجة الأولين إطلاق الحديث بتسليمها إليه، ولم يذكر إقامة البينة، ولو لم يجب الدفع لم يكن لمعرفة صفتها معنى، ولو كلف البينة لتعذر عليه؛ لأنه لا يعلم متى تسقط فيشهد عليها من

(1)

سلف برقم (2372)، كتاب: المساقاة.

(2)

"النوادر والزيادات" 10/ 471 - 472.

(3)

"المدونة" 4/ 366.

(4)

السابق.

(5)

"الإنصاف" 16/ 251 وقال: نص عليه، وجزم في "المغني" وانظر ذلك في "المغني" 8/ 309.

ص: 518

أجل ذلك. حجة النافي أنه مدع، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"البينة على المدعي"

(1)

وأجاب الأولون: بأن ذلك إذا لم يكن فيه ذكر صفة وكان يدعيه لنفسه، واختلفوا إذا جاء يصفها ودفعها إليه، ثم جاء آخر فأقام بينة أنها له، فقال ابن القاسم: لا يضمن الملتقط شيئًا

(2)

؛ لأنه فعل ما وجب عليه وهو أمين، فتقسم بينهما كما يحكم في نفسين ادعيا شيئًا وأقاما بينة. وقال أشهب: إذا أقام الثاني البينة حكم له بها على الذي أخذها بالعلامة

(3)

.

وقال أبو حنيفة والشافعي: إذا أقام الثاني البينة فعلى الملتقط الضمان، وقول ابن القاسم أولى كما قال ابن بطال؛ لأن الضمان لا يلزم فيما سبيله الأمانة، ولا خلاف عن مالك وأصحابه أن الثاني إذا أتي بعلامتها بلا بينة أنه لا شيء عليه

(4)

.

وقوله: "فإن جاء صاحبها وإلا فاستمتع بها". تمسك به جماعة وقالوا: يجوز للغني والفقير إذا عرفها حولًا أن يستمتع بها، وقد أخذها علي وهو يجوز له أخذ النفل دون الفرض. وأبي بن كعب وهو من مياسير المدينة. وقال أبو حنيفة: إن كان غنيًا لم يجز له الانتفاع بها، وله أن يستمتع بها إن كان فقيرًا، ولا يتصدق بها على غني ويتصدق بها على فقير، فإن جاء صاحبها وأمضى الصدقة، وإلا فله أن يضمنه إياها؛ لما روى الطحاوي أن ابن مسعود اشترى خادمًا بتسعمائة درهم، فطلب صاحبها فلم يجده، فعرفها حولًا فلم يجده، فجمع المساكين وجعل يعطيهم ويقول: اللهم عن صاحبها فإن أبي

(1)

الترمذي (1341).

(2)

"النوادر والزيادات" 10/ 473.

(3)

"النوادر والزيادات" 10/ 473.

(4)

"شرح ابن بطال" 6/ 547.

ص: 519

ذلك فمني وعليَّ الثمن ثم هكذا يفعل بالضال

(1)

.

فرع:

إذا ذكر بعض الصفات؟ فقيل: لا يدفع بصفة واحدة، وقيل: يدفع بصفة الوعاء والوكاء، وقيل: حتى يصف ما وعى العفاص واشتمل عليه الوكاء، ذكره ابن التين.

فرع:

إذا جاء رب اللقطة بعد الحول لزم الملتقط ردها له أو بدلًا بإجماع أئمة الفتوى، وليس قوله: فشأنك بها بمبيح له أخذها ويسقط عنه ضمانها لما ثبت عنه في الحديث، "فإن جاء صاحبها بعد السنة أدها إليه"؛ لأنها وديعة عند ملتقطها. وزعم بعض من نسب نفسه إلى العلم أنها لا تؤدى إليه بعد الحول استدلالًا بقوله عليه السلام:"فشأنك بها" وهو يدل على ملكها.

قال: وهذا القول يؤدي إلى تناقض السنن إذا قال: فأدها إليه. قال: ولا يجب عند جماعة العلماء على الملتقط إن لم تكن ضالة من الحيوان أن يدفعها للسلطان، فإن كان الملتقط غير مأمون فهل للسلطان أخذها منه أو لا؟ قال ابن بطال: وخرق الإجماع رجل ينسب إلى العلم يعرف بداود بن علي، فقال: .. ، فذكر ما أسلفناه عنه، ولا سلف له في ذلك إلا اتباع الهوى والجرأة على مخالفة الجماعة، التي لا يجوز عليها تحريف التأويل ولا الخطأ فيه. أعاذنا الله من اتباع الهوى والابتداع في دينه بما لم يأذن به تعالى

(2)

.

(1)

"شرح معاني الآثار" 4/ 139.

(2)

"شرح ابن بطال" 6/ 552.

ص: 520

ونقل ابن التين عن جميع فقهاء الأمصار أنه ليس له أن يتملكها قبل السنة، ثم نقل عن داود أنه يأكلها ويضمنها إذا جاء ربها. واختلف الجمهور ما يفعل بعد السنة، قال مالك في "المدونة": أحب إليَّ أن يتصدق بها ويخير إذا جاء صاحبها في غرامتها

(1)

.

وعنه: يخير بين ثلاثة أشياء: الصدقة بشرط الضمان، أو تركها أمانة في يده، أو تملكها وتكون في ذمته على كراهية في ذلك. وقال الشافعي: ليس له أن يتصدق بها

(2)

. حجة الجمهور قوله صلى الله عليه وسلم: "عرفها سنة فإن لم تعرف فاستنفقها ولتكن وديعة عندك، فإن جاء طالبها يومًا من الدهر فأدها إليه"

(3)

.

فرع:

نقل ابن التين عن أبي الحسن الجزري ابتداء الحول من يوم التعريف لا من يوم الوجود لقوله: "عرفها حولًا" وقال بعده: "من يوم أخذها".

فرع:

لو ضاعت قبل الحول فلا ضمان. وقال أبو حنيفة: إن كان حين أخذها أشهد عليها ليردها لم يضمن، وإلا ضمن لحديث عياض بن حمار

(4)

: "وليشهد ذا عدل أو ذوي عدل"

(5)

. واختلف أيضًا في ضياعها بعد الحول من غير تفريط، والجمهور على عدم الضمان. ونقل ابن التين عن أصحابنا: إذا نوى تملكها ثم ضاعت ضمنها. وقال بعضهم: لا ضمان.

(1)

"المدونة" 4/ 366.

(2)

"الأم" 3/ 289.

(3)

مسلم (1722) كتاب اللقطة، باب: استحباب إصلاح الحاكم.

(4)

"مختصر اختلاف العلماء" 4/ 344.

(5)

أبو داود (1709)، ابن ماجه (2505).

ص: 521

‌2 - باب ضَالَّةِ الإِبِلِ

2427 -

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَبَّاسٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ رَبِيعَةَ، حَدَّثَنِي يَزِيدُ -مَوْلَى المُنْبَعِثِ- عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الجُهَنِيِّ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَهُ عَمَّا يَلْتَقِطُهُ، فَقَالَ:"عَرِّفْهَا سَنَةً، ثُمَّ احْفَظْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا، فَإِنْ جَاءَ أَحَدٌ يُخْبِرُكَ بِهَا، وَإِلاَّ فَاسْتَنْفِقْهَا". قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَضَالَّةُ الغَنَمِ؟ قَالَ:"لَكَ، أَوْ لأَخِيكَ، أَوْ لِلذِّئْبِ". قَالَ: ضَالَّةُ الإِبِلِ؟ فَتَمَعَّرَ وَجْهُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"مَا لَكَ وَلَهَا؟ مَعَهَا حِذَاؤُهَا وَسِقَاؤُهَا، تَرِدُ المَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ".

ذكر فيه حديث زيد بن خالد الجهني بطوله، وقد أخرجه مسلم

(1)

والأربعة

(2)

.

(1)

مسلم (1722) كتاب: اللقطة، باب: استحباب إصلاح الحاكم.

(2)

أبو داود (1704)، الترمذي (1373)، النسائي في "السنن الكبرى" 3/ 416، ابن ماجه (2507).

ص: 522

‌3 - باب ضَالَّةِ الغَنَمِ

2428 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللهِ قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ يَزِيدَ -مَوْلَى المُنْبَعِثِ- أَنَّهُ سَمِعَ زَيْدَ بْنَ خَالِدٍ رضي الله عنه يَقُولُ: سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ اللُّقَطَةِ، فَزَعَمَ أَنَّهُ قَالَ:"اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا، ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً". يَقُولُ يَزِيدُ: إِنْ لَمْ تُعْتَرَفِ اسْتَنْفَقَ بِهَا صَاحِبُهَا وَكَانَتْ وَدِيعَةً عِنْدَهُ -قَالَ يَحْيَى: فَهَذَا الَّذِي لَا أَدْرِي أَفِي حَدِيثِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ أَمْ شَيْءٌ مِنْ عِنْدِهِ؟ - ثُمَّ قَالَ: كَيْفَ تَرَى فِي ضَالَّةِ الغَنَمِ؟ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "خُذْهَا، فَإِنَّمَا هِىَ لَكَ، أَوْ لأَخِيكَ، أَوْ لِلذِّئْبِ". قَالَ يَزِيدُ: وَهْيَ تُعَرَّفُ أَيْضًا. ثُمَّ قَالَ: كَيْفَ تَرَى فِي ضَالَّةِ الإِبِلِ؟ قَالَ: فَقَالَ: "دَعْهَا، فَإِنَّ مَعَهَا حِذَاءَهَا وَسِقَاءَهَا، تَرِدُ المَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ، حَتَّى يَجِدَهَا رَبُّهَا". [انظر: 91 - مسلم: 1722 - فتح 5/ 83]

ذكر فيه حديث زيد بن خالد الجهني ثم ترجم عليه أيضًا:

ص: 523

‌4 - باب إِذَا لَمْ يُوجَدْ صَاحِبُ اللُّقَطَةِ بَعْدَ سَنَةٍ فَهْيَ لِمَنْ وَجَدَهَا

2429 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ يَزِيدَ -مَوْلَى المُنْبَعِثِ- عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَهُ عَنِ اللُّقَطَةِ، فَقَالَ:"اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا، ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا، وَإِلاَّ فَشَأْنَكَ بِهَا". قَالَ: فَضَالَّةُ الغَنَمِ؟ قَالَ: "هِيَ لَكَ، أَوْ لأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ". قَالَ: فَضَالَّةُ الإِبِلِ؟ قَالَ: "مَا لَكَ وَلَهَا؟ مَعَهَا سِقَاؤُهَا وَحِذَاؤُهَا، تَرِدُ المَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ، حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا". [انظر: 91 - مسلم: 1722 - فتح 5/ 84].

واختلف العلماء في ضالة الإبل هل تؤخذ؟ على قولين:

أحدهما: لا يأخذها ولا يعرفها، قاله مالك والأوزاعي والشافعي لنهيه عليه السلام عن ضالة الإبل

(1)

.

الثاني: أخذها وتعريفها أفضل، قاله الكوفيون

(2)

؛ لأن تركها سبب لضياعها.

وفيها قول ثالث: إن وجدها في القرى عرفها وفي الصحراء لا يقربها، والأصح عندنا أنه إن وجده بمفازة فللقاضي التقاطه للحفظ، وكذا لغيره، ويحرم التقاطه للتملك وإن وجده بقرية فيجوز للتملك.

وأمر عمر بتعريف البعير؛ ليدل على جواز ذلك، وإنما النهي عن أخذها لمن يأكلها، وهو قول عمر بن الخطاب: لا يأوي الضالة إلا ضال

(3)

.

(1)

"الإشراف على مذاهب أهل العلم" 2/ 158.

(2)

"مختصر اختلاف العلماء" 4/ 347.

(3)

رواه مالك ص 473، وعبد الرزاق 10/ 133 (18611، 18612).

ص: 524

وقد أسلفناه حديثًا من طريق جرير

(1)

.

وباع عثمان ضوال الإبل وحبس أثمانها على أربابها

(2)

ورأى ذلك أقرب إلى جمعها عليهم؛ لفساد الزمان، وترك عمر لضوال الإبل أشبه لمعنى قوله:"معها حذاؤها وسقاؤها" الحديث، وذلك أقرب إلى جمعها على صاحبها مع جور الأئمة؛ لأن صاحبها لا يستطيع أن يخاصم فيها الإمام الجائر ولا يجد من يحكم له عليه، ويستطيع أن يخاصم فيها الرعية فيقضي عليه السلطان.

وظاهر الحديث على تركها حيث وجدها، والنهي عن أخذها.

قال ابن المنذر: وممن رأى أن ضالة البقر كضالة الإبل طاوس والأوزاعي والشافعي، وبعض أصحاب مالك

(3)

.

وقال مالك والشافعي في ضالة البقر: إن وجدت في موضع يخاف عليها فهي بمنزلة الشاة وإلا فكالبعير. وقيل: إن كان لها قرون تمتنع بها فكالبعير وإلا فكالشاة، حكاه ابن التين.

وقال القرطبي: عندنا في البقر والغنم قولان، ورأى مالك إلحاقها بالغنم، ورأى ابن القاسم إلحاقها بالإبل إذا كانت بموضع لا يخاف عليها من السباع

(4)

، وكأن هذا تفصيل أحوال لا اختلاف أقوال، ومثله جار في الإبل، والأولى إلحاقها بها. واختلف في التقاط الخيل والبغال والحمير، وظاهر قول ابن القاسم الجواز (4)، ومنعه أشهب وابن كنانة.

(1)

سلف ص 513.

(2)

رواه مالك ص 473، وعبد الرزاق 10/ 132 (18607).

(3)

"الإشراف على مذهب أهل العلم" 2/ 159.

(4)

"المدونة" 4/ 367.

ص: 525

وقال ابن حبيب: والخيل والبغال والعبيد، وكل ما يستقل بنفسه ويذهب، هو داخل في اسم الضالة، وقد شدد الشارع في أخذ كل ما رجا أن يصل إليه صاحبه، فمن أخذ شيئًا من ذلك في غير الفيافي فهو كاللقطة، ومن أخذ شيئًا مجمعًا على أخذه، ثم أرسله فهو له ضامن إلا أن يأخذ غير مجمع على أخذه مثل أن يمر رجل من آخر الركب أو آخر الرفقة فيجد شيئًا ساقطًا، فيأخذه وينادي عليه من أمامه: ألكم هذا: فيقال: لا ثم يخليه في مكانه فلا شيء عليه، فهذا قول مالك، قال غيره: فأما إذا وجد عرضًا فأخذه وعرفه فلم يجد صاحبه، فلا يجوز له رده إلى الموضع الذي وجده فيه، فإن فعل

وتلف ضمنه لصاحبه.

وذكر ابن المنذر عن الشافعي إن أخذ بعيرًا ضالًا، ثم أرسله فتلف فعليه الضمان

(1)

.

وقال ابن الجوزي: الخيل والإبل والبقر والبغال والحمير والشاء والظباء لا يجوز عندنا التقاطه إلا أن يأخذها الإمام للحفظ. قال: وهو قول مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة: يجوز التقاطها.

أما ضالة الغنم -وهو الباب الثاني-. فقال ابن المنذر: روينا عن عائشة أنها منعت من ضالة الغنم ومن ذبحها. وقال الليث: الأحب أن تعرف ضالة الغنم إلا أن تحرزها لصاحبها.

وقال أبو حنيفة والشافعي: إن أكلها فعليه الضمان إذا جاء صاحبها وهو قول عبد العزيز بن أبي سلمة وسحنون.

وقال مالك: من وجد شاة في أرض فلاة وخاف عليها فهو مخير في

(1)

"شرح ابن بطال" 6/ 548 - 549.

ص: 526

أكلها وتركها ولا ضمان عليه. حجة مالك أن الشارع أذن في أكل الشاة وأقام الذي وجدها مقام ربها، فقال:"هي لك أو لأخيك أو للذئب" فإذا أكلها بإذن الشارع لم يجز أن يغرم في حال ثانٍ إلا بحجة من كتاب الله أو سنة أو إجماع. قالوا: وهذا أصل في كل ما يؤخذ من الطعام الذي لا يبقى ويسرع إليه الفساد، فلمن وجده أكله إذا لم يمكنه تعريفه ولا يضمنه؛ لأنه في معنى الشاة، والشاة في حكم المباح الذي لا قيمة له، ألا ترى أنه عليه السلام وجه تمرة، فقال:"لولا أني أخشى أن تكون من الصدقة لأكلتها"

(1)

فإنما نبه أنه يجوز أكلها من ملك الغير لو لم تكن من الصدقة؛ لأنها في معنى التافه، فكذلك الشاة في الفلاة لا قيمة لها.

واحتج الطحاوي للكوفيين، فقال: ليس قوله: "هي لأخيك" إلى آخره في معنى التمليك عملًا بقوله: "أو للذئب" لانتفاء الملك منه، إنما يأكلها على ملك صاحبها وينزل على آخر قصتها، فكذلك الواجد إن أكلها أكلها على ملك صاحبها فإن جاء ضمنها له.

وقد روى ابن وهب عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن رجلًا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: كيف ترى في ضالة الغنم؟ قال: "طعام مأكول لك أو لأخيك أو للذئب فاحبس على أخيك ضالته"

(2)

.

فهذا دليل أن الشاة على ملك صاحبها، وأجمع العلماء أن صاحبها لو جاء قبل أن يأكلها الواجد لها أخذها منه، وكذلك لو ذبحها أخذها منه مذبوحة، وكذلك لو أكل بعضها أخذ ما وجد منها، فدل على أنها

(1)

سيأتي برقم (2431) كتاب اللقطة، باب: إذا وجد تمرة في الطريق.

(2)

رواه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" 4/ 135 (6071)، والدارقطني 4/ 236 والبيهقي 4/ 152 - 153 من طرق عن ابن وهب.

ص: 527

ملك صاحبها في الفلوات وغيرها ولا يزول ملكه عنها إلا بإجماع، ولا فرق بين قوله في الشاة:"هي لك أو لأخيك أو للذئب" وبين قوله في اللقطة: "فشأنك بها"، بل هذا أشبه بالتمليك؛ لأنه لم يشرك معه في التمليك ذئبًا ولا غيره.

تنبيهات

(1)

:

أحدها: الضالة المراد هنا بها: ما يحمي نفسه ويقدر على الإبعاد في طلب المرعى والماء. وقيل: هي الضائعة من كل ما يقتنى من الحيوان وغيره. يقال: ضلَّ الشيء إذا ضاع وضل عن الطريق إذا جار، وهي في الأصل فاعلة، ثم اتسع فيها فصارت من الصفات الغالبة، ويقع على الذكر والأنثى والاثنين والجمع ويجمع على ضوال.

ثانيها: روى القعنبي، عن مالك، عن يحيى بن سعيد، عن سليمان بن يسار أن ثابت بن الضحاك وجد بعيرًا ضالًا بالحرة، فقال له عمر: عرفه فعرفه ثلاث مرات، ثم جاء إلى عمر، فقال: قد شغلني عن ضيعتي، فقال له عمر: ألق خطامه ثم أرسله حيث وجدته

(2)

. وروى همام، عن نافع وابن سيرين أن رجلًا سأل ابن عمر، فقال: إني قد أصبت ناقة، فقال: عرفها، فقال: عرفتها فلم تعرف، فقال: ادفعها إلى الوالي

(3)

.

(1)

ورد بهامش الأصل: السائل عن اللقطة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أعرف عفاصها" هو بلال، كذا قاله ابن بشكوال في "مبهماته" وساق شاهده، والظاهر أنه في أبي داود.

(2)

هو في "الموطأ" رواية يحيى ص 472 - 473 ورواه عبد الرزاق في "المصنف" 10/ 133 (18609) عن معمر عن أيوب، عن سليمان بن يسار به.

(3)

"شرح معاني الآثار" 4/ 139.

ص: 528

وقال مالك: سمعت ابن شهاب يقول: كانت ضوال الإبل في زمان عمر إبلًا مؤبلة تناكح لا يمسها أحد حتى إذا كان زمن عثمان أمر بتعريفها ثم تباع، فإذا جاء صاحبها أعطي ثمنها

(1)

.

وأما حديث زيد، فقيل: إن فيه إشارة أنه يجوز أخذها إذا خيف عليها، وأن أخذها لصاحبها وحفظها عليه أولى من تركها، والمعني فيه إنما هو لمن يأخذها ليأكلها وهو معنى الحديث السالف:"لا يأوي الضالة إلا ضال"

(2)

. كذا كان في أول الإسلام واستمر زمن أبي بكر وعمر، فلما كان زمن عثمان وعلي وكثر الفساد رأيا التقاطها، وهذا كله منهم وفاء بمقصود الحديث في التقاط الإبل، فإن مقصوده أنها إذا أمن عليها الهلاك وبقيت حيث تتمكن مما يعيشها فلا يتعرض لها أحد، فلو تعذر شيء من ذلك وخيف عليها الهلاك التقطت لتحفظ؛ لأنها مال مسلم.

ثالثها: إذا عرف المال وشبهه وانقضى الحول أو قبله وجاء صاحبه أخذه بزيادتها المتصلة، وكذا المنفصلة إن حدثت قبل التملك، وإن حدثت بعده رجع فيها دون الزيادة.

رابعها: إذا عرفها سنة لم يملكها حتى يحتازه بلفظة كـ: تملكت، وقيل: تكفي النية، وقيل: تملك بمضي السنة وإن لم يرض به لرواية مسلم: "فإن جاء صاحبها فأعطها وإلا فهي لك"

(3)

. وقيل: لا تملك ما لم تتصرف تخريجًا من الفرض. وقيل: تحصل بالنية والتصرف،

(1)

"الموطأ" رواية يحيى ص 473.

(2)

أبو داود (1720).

(3)

مسلم (1722/ 6).

ص: 529

وقيل: تحصل بمجرد التصرف، وقيل: تحصل بالنية واللفظ والتصرف، فهذِه سبعة أوجه لأصحابنا.

خامسها: إذا تملك ولم يظهر لها صاحب فلا شيء عليه ولا مطالبة في الآخرة، فإن تلفت بعد التملك وجاء مالكها لزم الملتقط بدلها عندنا وعند الجمهور كما سبق مخالفة لداود، والنص يدفعه حيث قال:"فإن جاء صاحبها يومًا من الدهر فأدها إليه"

(1)

.

سادسها: قوله: "إنما هي لك أو لأخيك أو للذئب".

(أو): فيه للتقسيم والتنويع، ويفيد هذا أن الغنم إذا كانت في موضع

يخاف عليها فيه الهلاك؛ جاز لملتقطها أكلها ولا ضمان عليه، إذ سوى بينه وبين الذئب، والذئب لا ضمان عليه. وكذا الملتقط وهو مذهب مالك وأصحابه

(2)

، وضمنه الشافعي

(3)

وأبو حنيفة تمسكًا ببقاء ملك ربها عليها.

قال ابن التين: ومشهور مذهب مالك أنه إذا وجدها بفلاة لا يعرفها ويأكلها ولا ضمان عليه، وعنه أيضًا: أنه يعرفها لربها قال: وهو قول أبي حنيفة والشافعي.

سابعها: قوله في ضالة الإبل: (فتمعر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم). في بعض النسخ: (فتغير)، وهو معناه، أي: تغير لون وجهه غضبًا، وسيأتي تبويب البخاري عليه: الغضب والشدة لأمر الله

(4)

.

(1)

مسلم (1722/ 5).

(2)

"المدونة" 4/ 367، "مختصر أختلاف العلماء" 4/ 347.

(3)

"الأم" 3/ 291، "الإشراف" 2/ 160، "مختصر اختلاف العلماء" 4/ 346.

(4)

سيأتي برقم (6112) كتاب: الأدب.

ص: 530

وقوله: "مالك ولها .. " إلى آخره أخذ به الثلاثة وخالف أبو حنيفة فمكن منها

(1)

.

(1)

ورد بهامش الأصل: آخر 4 من 8 من تجزئه المصنف، ثم بلغ في التاسع بعد الخمسين، كتبه مؤلفه.

ص: 531

‌5 - باب إِذَا وَجَدَ خَشَبَةً فِي البَحْرِ أَوْ سَوْطًا أَوْ نَحْوَهُ

2430 -

وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَسَاقَ الحَدِيثَ:"فَخَرَجَ يَنْظُرُ لَعَلَّ مَرْكَبًا قَدْ جَاءَ بِمَالِهِ، فَإِذَا هُوَ بِالخَشَبَةِ فَأَخَذَهَا لأَهْلِهِ حَطَبًا، فَلَمَّا نَشَرَهَا وَجَدَ المَالَ وَالصَّحِيفَةَ". [انظر: 1498 - فتح 5/ 85].

وقال الليث

(1)

، فذكر حديث الخشبة من حديث أبي هريرة ولم يذكر للسوط سندًا، وكأنه قاسه عليها. وحكم هذِه الخشبة حكم اللقطة كما صرح به ابن بطال

(2)

، وإنما أخذها حطبًا لأهله؛ لأنه قوي عنده انقطاعها من صاحبها لغلبة العطب على صاحبها وانكسار سفينته. وروى ابن عبد الحكم عن مالك إذا ألقى البحر خشبة فترك أخذها أفضل، وفيه قول: إن وجدها يأخذها، فإن جاء ربها غرم له قيمتها.

واختلف العلماء فيما يفعل باللقطة اليسيرة على أقوال:

رخصت طائفة في أخذها والانتفاع بها وترك تعريفها وممن روي ذلك عنه عمر وعلي وابن عمر

(3)

وعائشة، وهو قول عطاء والنخعي وطاوس

(4)

.

(1)

ورد فوقها بالأصل: معلق.

(2)

"شرح ابن بطال" 6/ 553.

(3)

عن عمر وعلي وابن عمر رواه عبد الرزاق في "المصنف" 10/ 143، 144 (18639، 18640، 18641، 18643).

(4)

عن عطاء، والنخعي، وطاوس رواه عبد الرزاق في "المصنف" 10/ 144 - 145 (18645، 18646، 18648).

ص: 532

قال ابن المنذر: روينا عن عائشة في اللقطة لا بأس بما دون الدرهم أن يستمتع به

(1)

. وعن جابر بن عبد الله: كانوا يرخصون في السوط والحبل ونحوه أن ينتفع به

(2)

.

وقال عطاء: لا بأس للمسافر إذا وجد السوط والسقاء والنعلين أن يستمتع بها

(3)

.

وحديث الباب حجة لهذِه المقالة؛ لأنه عليه السلام أخبر أنه أخذها حطبًا لأهله ولم يأخذها ليعرفها، وأقر الشارع ذلك ولم يذكر أنه فعل ما لا ينبغي. وفي "الهداية": وإن كانت اللقطة مما يعلم أن صاحبها لا يطلبها كالنواة وقشور الرمان، فإلقاؤه إباحة أخذه فيجوز الانتفاع به من غير تعريف، ولكنه يبقى على ملك مالكه؛ لأن التمليك من المجهول لا يصح

(4)

.

واحتج له ابن رشد بحديث التمرة الآتي ولم يذكر فيها تعريفًا، وهذا مثل العصا والسوط، وإن كان أشهب قد استحب تعريف ذلك

(5)

فإن كان يسيرًا إلا أن له قدرًا ومنفعة فلا خلاف في تعريفه سنة. وقيل: أيامًا وإن كان مما لا يبقى في يد ملتقطه ويخشى عليه التلف، فإنه يأكله الملتقط فقيرًا كان أو غنيًا، وهل يضمن؟ فيه روايتان أشهرهما: لا، فإن كان مما يسرع إليه الفساد في الحاضرة، فقيل: لا ضمان عليه، وقيل: نعم، وقيل: بالفرق أن يتصدق به

(1)

"الإشراف" 2/ 151 بمعناه.

(2)

أبو داود (1717).

(3)

"المصنف" لعبد الرزاق 10/ 144 (18645).

(4)

"الهداية" 2/ 471.

(5)

"بداية المجتهد" 4/ 1493.

ص: 533

أو يأكله، أعني: أنه يضمن في الأكل دونها. وأوجبت طائفة تعريف قليل اللقطة وكبيرها حولًا إلا ما لا قيمة له.

قال ابن المنذر: روينا ذلك عن أبي هريرة أنه قال الذي لقطة الحبل والزمام ونحوه عرفه، فإن وجدت صاحبه رددته عليه وإلا استمتعت به، وهو قول مالك والشافعي وأحمد. قال مالك: ومن وجد لقطة دينارًا أو درهمًا أو أقل من ذلك، فليعرفه سنة إلا الشيء اليسير مثل: القرص أو الفلس أو الجوزة أو نحو ذلك فإنه يتصدق به من يومه

(1)

، ولا أرى أن يأكله ولا يأكل التمرات والكسرة إلا المحتاج، وأما النعلان والسوط وشبه ذلك فإنه يعرفه، فإن لم يجد له صاحبًا تصدق به، فإن جاء صاحبه غرمه وهو قول الكوفيين إلا في مدة التعريف، فإنهم قالوا: ما كان عشرة دراهم فصاعدًا عرفه حولًا، وما كان دونه عرفه بقدر ما يراه.

وقال الثوري: يعرف الدرهم أربعة أيام. وقال أحمد: سنة. وقال

إسحاق: ما دون الدينار يعرف جمعة أو نحوها

(2)

. وحجة هذِه المقالة إطلاق الحديث، فإنه لم يخص قليلها من كثيرها فيجب على ظاهر

حديث زيد بن خالد أن يستوي حكم قليلها وكثيرها في ذلك.

قال ابن المنذر: ولا نعلم شيئًا استثني من جملة هذا الخبر إلا التمرة التي منعه من أكلها؛ خشية كونها من الصدقة

(3)

فما له بقاء مما زاد على التمرة، وله قيمة يجب تعريفه.

(1)

"الإشراف" 2/ 152.

(2)

"الإشراف" 2/ 152، "المغني" 8/ 293.

(3)

"الإشراف" 2/ 152، "الإقناع" ص 410.

ص: 534

واختلفوا فيما لا يبقى إلى مدة التعريف، فقال مالك: يتصدق به أعجب إليَّ. قيل لابن القاسم: فإن أكله أو تصدق به، فأتى صاحبه قال: لا يضمنه في قياس قول مالك على الشاة يجدها في فيافي الأرض

(1)

. وفي قول الكوفيين ما لا يبقى إذا أتى عليه يومان أو يوم فسد. قالوا: يعرفه فإن خاف فساده تصدق به، فإن جاء ربه ضمنه وهو قول الشافعي

(2)

، وحجتهم أن ما كان له رب فلا يملكه عليه

أحد إلا بتمليكه إياه قل أو كثر.

(1)

"المدونة" 4/ 367.

(2)

"الأم" 3/ 290، "الإشراف" 2/ 152.

ص: 535

‌6 - باب إِذَا وَجَدَ تَمْرَةً فِي الطَّرِيقِ

2431 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِتَمْرَةٍ فِي الطَّرِيقِ قَالَ: "لَوْلَا أَنِّي أَخَافُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الصَّدَقَةِ لأَكَلْتُهَا". [انظر: 2055 - مسلم: 1071 - فتح 5/ 86]

2432 -

وَقَالَ يَحْيَى: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنِي مَنْصُور.

وَقَالَ زَائِدَة، عَنْ مَنْصُورِ، عَنْ طَلْحَةَ: حَدَّثَنَا أَنَس وَحَدَّثَنَا مُحَمَّد بْنُ مُقَاتِلِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّام بْنِ منَبِّهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِنِّي لأَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِي، فَأَجِدُ التَّمْرَةَ سَاقِطَةً عَلَى فِرَاشِي فَأَرْفَعُهَا لآكُلَهَا، ثُمَّ أَخْشَى أَنْ تَكُونَ صَدَقَةً فَأُلقِيَهَا". [انظر: 2055 - مسلم: 1070 - فتح 5/ 86]

ذكر فيه حديثي أنس وأبي هريرة، وقد سلفا في البيوع في باب: ما يتنزه من الشبهات

(1)

، ولا شك أن ما لا بال له، ولا يتشاح الناس فيه، ولا يطلبونه كالتمرة والجوزة والحبة من الفضة ونحو ذلك يباح تناوله، ولا شيء في تعريفه.

وقد قال سيد الأمة في التمرة الساقطة: "لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها" فالصدقة محرمة عليه قليلها وكثيرها، فالشيء التافه الملتقط معفو عنه وخارج من حكم اللقطة؛ لأن صاحبه لا يطلبه

فلذلك استحل أكلها لولا شبهة الصدقة.

وقد روى عبد الرزاق أن عليًا التقط حبًا أو حبة من رمان الأرض فأكلها

(2)

.

(1)

سلف برقم (2055).

(2)

"المصنف" 10/ 144 (18643).

ص: 536

وعن ابن عمر أنه وجد تمرة في الطريق فأخذها فأكل نصفها، ثم لقيه مسكين فأعطاه النصف الآخر

(1)

.

وفيه: إسقاط الغرم عن أكل الطعام الملتقط. وقيل: يضمنه وإن أكله محتاجًا إليه، ذكره ابن الجلاب.

فائدة:

قوله في حديث أنس: (حدثنا محمد بن يوسف) هو الفريابي، (ثنا سفيان) هو الثوري، صرح به أبو نعيم وغيره. وقوله فيه:(وقال زائدة عن منصور، عن طلحة، عن أنس) هذا أخرجه مسلم عن أبي كريب، عن أبي أسامة، عن زائدة، عن منصور به

(2)

(3)

.

(1)

"المصنف" 10/ 143 (18640).

(2)

مسلم (10712) كتاب: الزكاة، باب: تحريم الزكاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله.

(3)

ورد بهامش الأصل: وقال يحيى: حدثني سفيان، ثنا منصور، كذا في نسختي قبل ما وصله [قلت هو كذلك، وانظر المتن].

ص: 537

‌7 - باب كَيْفَ تُعَرَّفُ لُقَطَةُ أَهْلِ مَكَّةَ

؟

وَقَالَ طَاوُسٌ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم "لا يَلتَقِطُ لُقَطَتَهَا إلَّا مَنْ عَرَّفَهَا". وَقَالَ خَالِد: عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم "لَا تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهَا إِلَّا لِمُعَرِّفٍ".

2433 -

وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ: ثَنَا رَوْحٌ، ثَنَا زَكَرِيَّاءُ، ثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ به. [انظر: 1349 - مسلم: 1353 - فتح 5/ 87]

2434 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا الوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ رضى الله عنه قَالَ: لَمَّا فَتَحَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ قَامَ فِي النَّاسِ، فَحَمِدَ اللهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ:"إِنَّ اللهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الفِيلَ، وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّهَا لَا تَحِلُّ لأَحَدٍ كَانَ قَبْلِي، وَإِنَّهَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وَإِنَّهَا لَا تَحِلُّ لأَحَدٍ بَعْدِي، فَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا وَلَا يُخْتَلَى شَوْكُهَا، وَلَا تَحِلُّ سَاقِطَتُهَا إِلَّا لِمُنْشِدٍ، وَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهْوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُفْدَى، وَإِمَّا أَنْ يُقِيدَ". فَقَالَ العَبَّاسُ: إِلَّا الإِذْخِرَ، فَإِنَّا نَجْعَلُهُ لِقُبُورِنَا وَبُيُوتِنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"إِلَّا الإِذْخِرَ". فَقَامَ أَبُو شَاهٍ -رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ اليَمَنِ- فَقَالَ: اكْتُبُوا لِي يَا رَسُولَ اللهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "اكْتُبُوا لأَبِي شَاهٍ". قُلْتُ لِلأَوْزَاعِيِّ: مَا قَوْلُهُ: اكْتُبُوا لِي يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ هَذِهِ الخُطْبَةَ الَّتِي سَمِعَهَا مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. [انظر: 112 - مسلم: 1355 - فتح 5/ 87].

وقال أحمد بن سعيد، ثنا روح، ثنا زكريا، ثنا عمرو بن دينار، عن عكرمة به

(1)

.

ثم ساق حديث أبي هريرة في ذلك مطولًا.

(1)

ورد بهامش الأصل تعليق نصه: أي: بالسند والحديث الذي ساقه البخاري مطولًا.

ص: 538

والتعليق الأول سبق مسندًا في الحج

(1)

وكذا الثاني عن ابن المثنى ثنا عبد الوهاب، ثنا خالد به

(2)

، والثالث أسنده النسائي

(3)

.

قال أبو مسعود: وقال لي ابن منده: رواه -يعني: البخاري- في موضع آخر من الصحيح عن رجل آخر عن أبي عاصم، عن زكرياء قال أبو مسعود: ولم أره في كتاب البخاري من حديث أبي عاصم أصلًا

(4)

. واختلف في أحمد بن سعيد هذا، فذكر ابن طاهر أنه أبو عبد الله أحمد بن سعيد الرباطي

(5)

، ورواه أبو نعيم من جهة خلف بن سالم، عن روح، ثنا زكريا، وقال آخره: ذكره البخاري، عن أحمد بن سعيد وهو الدارمي -فيما أرى- عن روح.

واختلف العلماء في لقطة مكة، فقالت طائفة: حكم لقطتها حكم لقطة سائر البلدان. قال ابن المنذر: رويناه عن عمر وابن عباس وعائشة وسعيد بن المسيب

(6)

، وبه قال مالك

(7)

وأبو حنيفة وأحمد

(8)

. وقالت طائفة: إن لقطتها لا تحل البتة، وليس لواجدها إلا إنشادها، هذا قول الشافعي وابن مهدي وأبي عبيد، قال ابن مهدي: معنى قوله: "إلا لمنشد لا تحل لقطتها" كأنه يريد البتة، فقيل له: إلا لمنشد؟

(1)

سلف برقم (1587) باب: فضل الحرم.

(2)

سلف برقم (1832) باب: لا يعضد شجر الحرم. وسلف قبله في كتاب: الجنائز، باب: الإذخر والحشيش في القبر. برقم (1349).

(3)

النسائي 5/ 211 من طريق سفيان عن عمرو بن دينار به.

(4)

نقله ابن القيسراني في "الجمع بين رجال الصحيحين" 1/ 6.

(5)

السابق.

(6)

"الإشراف" 2/ 157.

(7)

"الهداية" 2/ 472.

(8)

"المغني" 8/ 305 - 307.

ص: 539

فقال: "إلا لمنشد" وهو يريد المعنى الأول

(1)

كما يقول الرجل: والله لا فعلت كذا وكذا، ثم يقول: إن شاء الله وهو لا يريد الرجوع عن يمينه، فمعناه أنه ليس يحل منها إلا إنشادها، وأما الانتفاع بها فلا يجوز، وفيها قول ثالث قاله جرير بن عبد الحميد. قوله:"إلا لمنشد" يعني: إلا من سمع ناشدًا يقول: من أصاب كذا فحينئذٍ يجوز للملتقط أن يرفعها إذا رآها لكي يردها على صاحبها

(2)

.

ومال إسحاق بن راهويه إلى هذا القول، وقاله النضر بن شميل

(3)

.

قال الطحاوي: وجاء في حديث يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد، عن ابن عباس مرفوعًا ووصف مكة قال:"ولا ترفع لقطتها إلا لمنشدها". ومن حديث أبي هريرة مرفوعًا: "ولا يرفع لقطتها إلا منشد"

(4)

.

وفيها قول رابع- يعني: لا تحل إلا لربها الذي يطلبها. قال أبو عبيد: وهو جيد في المعنى، ولكن لا يجوز في العربية أن يقال للطالب: منشد، إنما المنشد المعرف والطالب هو الناشد، يدل على ذلك أنه عليه السلام سمع رجلًا ينشد ضالة في المسجد فقال:"أيها الناشد غيرك الواجد"

(5)

.

قال أبو عبيد: وليس للحديث وجه إلا ما قاله ابن مهدي

(6)

.

قال ابن بطال: ولو كان حكم لقطة مكة حكم غيرها ما كان لقوله:

(1)

"الإشراف" 2/ 157، "المغني" 8/ 306.

(2)

"الإشراف" 2/ 157.

(3)

"شرح معاني الآثار" 4/ 140.

(4)

"شرح معاني الآثار" 4/ 140.

(5)

رواه عبد الرزاق 1/ 440 (1723).

(6)

"غريب الحديث" 1/ 279.

ص: 540

"لا تحل لقطتها إلا لمنشد" معني تختص به مكة دون غيرها كما تختص سائرِ ما ذكر في الحديث؛ لأن لقطة غيرها كذلك يحل لمنشدها بعد الحول الانتفاع بها، فدل مساق هذا الحديث كله على تخصيص مكة، ومخالفة لقطتها غيرها من البلدان، كما خالفتها في كل ما ذكر في الحديث، من أنها حرام لا تحل لأحد ساعة من نهار بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى غير ذلك مما خصت به، من أنه لم يستبح دماءهم ولا أموالهم ولا جرى فيهم الرق كغيرهم.

ومن الحجة أيضًا لذلك: أن الملتقط إنما يتملك اللقطة في غير مكة بعد الحول؛ حفظًا لها على ربها وحرزًا لها؛ لأنه لا يقدر على إيصالها إليه، ويخشى تلفها فيتملكها وتتعلق قيمتها بذمته. ولقطة مكة يمكن إيصالها إلى ربها؛ لأنه إن كان من أهل مكة فإن معرفته تقرب، وإن كان غريبًا لا يقيم بها. فإنه يعود إليها بنفسه أو يقدر على من يسير إلى مكة من أهل بلده فيتعرف له ذلك؛ لأنها تقصد في كل عام من أقطار الأرض، فإذا كانت اللقطة فيها معرضة للإنشاد أبدًا أوشك أن يجدها باغيها ويصل إليها ربها، فهذا الفرق بين مكة وسائر البلاد

(1)

.

قال الطحاوي: رواية ابن عباس وأبي هريرة السالفتين تمنع أخذها إلا للإنشاد بها، وقد أباح الحديث أخذ لقطة الحرم لتعرف؛ فاحتمل أن يكون ذلك أن تنشد ثم ترد مكانها، واحتمل أن يكون لغيرها. وسئلت عائشة عن ضالة الحرم بعد تعريفها، فقالت لملتقطتها: استنفقي بها

(2)

، رواه عنها معاذة.

(1)

"شرح ابن بطال" 6/ 557 - 558.

(2)

"شرح معاني الآثار" 4/ 140. بتصرف يسير.

ص: 541

وأما النهي عن لقطة الحاج؛ فلأن الحاج يجمع أهل البلدان، ثم عسى أن لا يلتقوا بعد ذلك، فإذا أخذها لا يقدر على صاحبها بخلاف غيرها.

فائدة:

قوله: (فقام أبو شاه)

(1)

. قال القاضي عياض: مصروفًا ضبطه -يعني: بعضهم-، وقرأته أنا معرفة ونكرة، وكذا هو في "المطالع". وعن ابن دحية أنه بالتاء منصوبة. وقال النووي: هو بهاء في آخره تكون هاء في الدرج كما تكون في الوقف

(2)

لا خلاف في ذلك.

(1)

هو: أبو شاه اليماني، يقال: إنه كلبي، ويقال: فارسي من الأبناء الذين قدموا اليمن في نصرة سيف بن ذي يزن. قيل: إن هاءه أصلية، وهو بالفارسية معناه: الملك. قال ابن حجر: ومن ظن أنه باسم أحد الشياه، فقد وهم.

انظر: ترجمته في "الاستيعاب" 4/ 249 (3058) و"أسد الغابة" 6/ 162 (5989)، و"الإصابة" 4/ 100 (606).

(2)

"صحيح مسلم بشرح النووي" 9/ 129.

ص: 542

‌8 - باب لَا تُحْتَلَبُ مَاشِيَةُ أَحَدٍ بِغَيْرِ بإِذْنه

2435 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَا يَحْلُبَنَّ أَحَدٌ مَاشِيَةَ امْرِئٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تُؤْتَى مَشْرُبَتُهُ فَتُكْسَرَ خِزَانَتُهُ، فَيُنْتَقَلَ طَعَامُهُ؟ فَإِنَّمَا تَخْزُنُ لَهُمْ ضُرُوعُ مَوَاشِيهِمْ أَطْعِمَاتِهِمْ، فَلَا يَحْلُبَنَّ أَحَدٌ مَاشِيَةَ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِهِ". [مسلم: 1726 - فتح 5/ 88]

ذكر فيه حديث ابن عمر أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَحْلُبَنَّ أَحَدٌ مَاشِيَةَ امْرِئٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تُؤْتَى مَشْرُبَتُهُ فَتُكْسَرَ خِزَانَتُهُ، فَيُنْتَقَلَ طَعَامُهُ؟ فَإِنَّمَا تَخْزُنُ لَهُمْ ضُرُوعُ مَوَاشِيهِمْ أَطْعِمَاتِهِمْ، فَلَا يَحْلُبَنَّ أَحَدٌ مَاشِيَةَ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِهِ".

هذا الحديث أخرجه مسلم أيضًا

(1)

.

ويحمل هذا الحديث على ما لا تطيب به النفس لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه"

(2)

وقال أيضًا: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام"

(3)

.

وإن اختص اللبن بالذكر لتساهل الناس في تناوله، ولا فرق بين اللبن والتمر وغيرهما في ذلك إلا المضطر الذي لا يجد ميتة ويجد

(1)

مسلم (1726) كتاب: اللقطة، باب: تحريم حلب الماشية بغير إذن مالكها.

(2)

أخرجه أحمد 5/ 72 - 73، وأبو يعلى 3/ 140 (1570)، والبيهقي في "الكبرى" 6/ 100 من طريق علي بن زيد عن أبي حرة الرقاشي عن عمه، وأخرجه أحمد 5/ 113، والدارقطني 3/ 26 من طريق عبد الملك بن حسن البخاري، عن عمارة بن حارثة، عن عمرو بن يثربي، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" 4/ 241 من طريق أصبغ بن الفرج، عن حاتم بن إسماعيل، به.

(3)

سلف برقم (1739) كتاب الحج، باب: الخطبة أيام منًى.

ص: 543

طعام غيره فيأكل الطعام للضرورة ويلزمه بدله لمالكه. وذهب الجمهور إلى أنه لا يحل شيء من لبن الماشية ولا من التمر إلا إذا علم طيب نفس صاحبه.

وذهب بعض المحدثين إلى أن ذلك يحل وإن لم يعلم حال صاحبه؛ لأن ذلك حق جعله الشارع، يريد حديث أبي داود من طريق الحسن عن سمرة مرفوعًا:"إذا أتى أحدكم على ماشية، فإن كان فيها صاحبها فليستأذنه فإن أذن له وإلا فليحتلب ويشرب وإن لم يكن فيها فليصوت ثلاثًا، فإن أجاب فليستأذنه فإن أذن له وإلا فليحتلب ويشرب ولا يحمل"

(1)

.

وفي الترمذي من حديث يحيى بن سليم عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر أنه عليه السلام سئل عن الثمر المعلق، فقال:"من أصاب بفيه من ذي حاجة غير متخذ خبنة فلا شيء عليه"

(2)

، ثم قال: غريب لا نعرفه إلا من حديث يحيى بن سليم.

ومن حديث عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده سئل رسول الله عن الثمر المعلق فذكر مثله

(3)

، ثم حسنه ورده القرطبي، فقال: لا حجة فيه لأوجه:

أحدها: أن التمسك بالقاعدة المعلومة أولى.

(1)

أبو داود (2619)، والترمذي (1296) وقال: حسن صحيح غريب والعمل على هذا الحديث عند بعض أهل العلم وبه يقول أحمد وإسحاق. وصححه الألباني في "صحيح أبي داود".

(2)

الترمذي (1287) وليس هذا المتن لحديث ابن عمر وإنما متن حديث ابن عمر: "من دخل حائطًا فليأكل ولا يتخذ خبنة" والمتن المذكور إنما هو لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل .. الحديث.

وقد حسنه الترمذي. انظر التخريج التالي.

(3)

الترمذي (1289).

ص: 544

ثانيها: أن حديث النهي أصح.

ثالثها: أن ذلك محمول على ما إذا علم طيب نفوس أرباب الأموال بالعادة أو بغيرها.

رابعها: أن ذلك محمول على أوقات الضرورات كما كان في أول الإسلام

(1)

. ونقل ابن بطال إجماع العلماء على أنه لا يجوز كسر قفل مسلم ولا ذمي ولا أخذ شيء من ماله بغير إذنه، يشبه الشارع اللبن في الضرع بالطعام المخزون تحت الأقفال، وهذا هو قياس الأشياء على نظائرها وأشباهها أرانا به قياس الأمور إذا تشابهت معانيها، فوجب امتثال ذلك واستعماله؛ خلافًا لقول من أبطل القياس

(2)

ولا يتشاغل به.

ومعنى قوله: "أيحب أحدكم أن تؤتى مشربته فتكسر خزانته" أن يكره المسلم لأخيه المسلم ما يكرهه لنفسه، وهذا في معنى قوله:"لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه"

(3)

.

وأكثر العلماء على إجازة أكل مال الصديق إذا كان تافهًا لا يتشاح في مثله. وإن كان ذلك بغير إذنه ما لم يكن تحت قفله. و (المشربة) بضم الراء وفتحها وهي الموضع المصون لما يخزن فيه كالغرفة يخزن الرجل فيها متاعه فشبه ضروع الغنم بها. وقال ابن قتيبة: كالصفة بين يدي الغرفة.

والخزانة: -بكسر الخاء المعجمة-: الموضع أو الوعاء الذي يخزن فيه الشيء، أي: يغيب، وسمي الوعاء خزانة؛ لأنه يخزن فيه.

(1)

"المفهم" 5/ 195.

(2)

"شرح ابن بطال" 6/ 558.

(3)

سبق تخريجه قريبًا.

ص: 545

وقوله: (فينتثل) هو بمثناة ثم نون ثم مثناة فوق ثم مثلثة، وبخط الدمياطي بالقاف بدلها ثم لام، أي: ينتثر، يقال: نثلت الشيء بمعنى: نثرته مرة واحدة، يقال: نثل ما في كنانته إذا صبها ونثرها، ولما حكى النووي المقالة السالفة عن بعض المحدثين عزاها لبعض السلف أيضًا، وحكاها في أنه لا يلزمه البدل ثم ضعفه.

فإن قلت: كيف شرب الصديق من غنم الراعي حين الهجرة وأعطاه الشارع أيضًا كما سيأتي؟

قلت: ذاك من باب الإدلال على صاحبها لمعرفته إياه، أو أنه كان يعلم أنه أذن للراعى أنه يسقي منه من مرَّ به، أو أنه كان عرفه أنه أباح ذلك، أو أنه مال حربي لا أمان له

(1)

.

وقال ابن أبي صفرة: حديث الهجرة في زمن المكارمة وهذا في زمن التشاح لما عَلم عليه السلام من تغير الأحوال بعده، أو أن هذا الحديث محمول على التسور والاختلاس.

وحديث الهجرة لم يتسور الشارع ولا الصديق، وإنما سأل الصديق الراعي هل أنت حالب لنا؟ والراعي في المال له عادة العرب، فلذلك أجاز عليه السلام شرب ما حلبه. وكذلك عادة العرب في الحلب على الماء، ولابن السبيل مباحة، وكل مسترعى له مثل ذلك في الذي استُرعي، كالمرأة في بيت زوجها تعطي اللقمة من ماله والتمرات والكف، وقال عليه السلام:"إنها أحد المتصدقين"

(2)

.

وقال أشهب: خرجنا مرابطين للإسكندرية فمررنا بجنان الليث بن

(1)

"صحيح مسلم بشرح النووي" 12/ 29.

(2)

سلف برقم (2260) كتاب الإجارة، باب: استئجار الرجل الصالح.

ص: 546

سعد فأكلنا من التمر، فلما رجعت دعتني نفسي أن أستحل ذلك من الليث، فدخلت إليه فأخبرته بذلك، فقال: يا ابن أخي لقد نسكت نسكًا أعجميًّا، أما سمعت الله يقول:{أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا} [النور: 61]. فلا بأس أن يأكل الرجل من مال أخيه الشيء التافه يسره بذلك

(1)

. وروى ابن وهب، عن مالك في الرجل يدخل الحائط فيجد التمر ساقطًا، قال: لا يأكل منه إلا أن يعلم أن صاحب الحائط طيب النفس به أو يكون محتاجًا إلى ذلك فأرجو أن لا يكون به بأس.

ومن فوائده: إباحة خزن الطعام واحتكاره؛ خلافًا لغلاة المتزهدة حيث يقولون: لا يجوز الادخار مطلقًا.

وأن اللبن يسمى طعامًا فيحنث به من حلف لا يتناول طعامًا إلا أن

يكون له نية تخرج اللبن. وأن من حلب من ضرع شاة أو بقرة أو ناقة بعد أن تكون في حرزها ما يبلغ قيمته ما يجب فيه القطع أن عليه القطع؛ لأن الحديث أفصح بأن ضروع الأنعام خزائن الطعام، ومعلوم أن من فتح خزانة غيره أو كسرها فاستخرج منها من المال أو الطعام أو غيره شيئًا يجب فيه القطع، قطع بلا خلاف إلا على قول من لا يرى القطع في الأطعمة الرطبة والفواكه.

وبيع الشاة اللبون بالطعام عملًا بقوله: "فإنما تخزن لهم ضروع مواشيهم أطعماتهم"، فجعل اللبن طعامًا، وقد اختلف الفقهاء في بيع الشاة اللبون باللبن وسائر الطعام نقدًا أو إلى أجل، فذهب مالك

وأصحابه إلى أنه لا بأس بالشاة اللبون باللبن يدًا بيد ما لم يكن في

(1)

رواه ابن عبد البر في "التمهيد" 14/ 209.

ص: 547

ضرعها لبن، فإن كان في ضرعها لبن لم يجز يدًا بيد باللبن من أجل المزابنة، فإن كانت الشاة غير لبون جاز في ذلك الأجل وفي غير الأجل

(1)

.

وقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما: لا يجوز بيع الشاة اللبون بالطعام إلى أجل، ولا يجوز عند الشافعي بيع شاة في ضرعها لبن بشيء من اللبن يدًا بيد ولا إلى أجل.

خاتمة:

قال الداودي: إنما شرب الشارع والصديق؛ لأنهما ابنا سبيل ولهما شرب ذلك إذا احتاجا إليه، وهذا قد أسلفته، قال: وإنما أتى بهذا الحديث والآتي لما في الأموال من الحقوق غير الزكاة.

(1)

"النوادر والزيادات" 6/ 18.

ص: 548

‌9 - باب إِذَا جَاءَ صَاحِبُ اللُّقَطَةِ بَعْدَ سَنَةٍ رَدَّهَا عَلَيْهِ؛ لأَنَّهَا وَدِيعَةٌ عِنْدَهُ

2436 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ يَزِيدَ -مَوْلَى المُنْبَعِثِ- عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الجُهَنِيِّ رضي الله عنه، أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ اللُّقَطَةِ، قَالَ:"عَرِّفْهَا سَنَةً، ثُمَّ اعْرِفْ وِكَاءَهَا وَعِفَاصَهَا، ثُمَّ اسْتَنْفِقْ بِهَا، فَإِنْ جَاءَ رَبُّهَا فَأَدِّهَا إِلَيْهِ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، فَضَالَّةُ الغَنَمِ؟ قَالَ:"خُذْهَا، فَإِنَّمَا هِيَ لَكَ، أَوْ لأَخِيكَ، أَوْ لِلذِّئْبِ". قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَضَالَّةُ الإِبِلِ؟ قَالَ: فَغَضِبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى احْمَرَّتْ وَجْنَتَاهُ -أَوِ احْمَرَّ وَجْهُهُ- ثُمَّ قَالَ: "مَا لَكَ وَلَهَا؟ مَعَهَا حِذَاؤُهَا وَسِقَاؤُهَا، حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا". [انظر: 91 - مسلم: 1722 - فتح: 5/ 91]

ذكر فيه حديث زيد بن خالد الجهني أيضًا. وفيه: "ثُمَّ اسْتَنْفِقْ بِهَا، فَإِنْ جَاءَ رَبُّهَا فَأَدِّهَا إِلَيْهِ".

وقد أجمع أئمة الفتوى على أن صاحب اللقطة إذا جاء بعد الحول أن الذي وجدها يلزمه ردها إليه لقوله: "فأدها إليه". وقد أسلفنا أن بعض من ينسب إلى العلم وحقه منه أن يوسم منه مخالفة الأئمة خالف إجماعهم في اتباع هذا الحديث، وخالف قوله:("فأدها إليه") وقال: لا يؤدي إليه شيئًا بعد الحول؛ استدلالًا منه بما سلف من قوله: ("فشأنك بها")؛ لأن هذا إطلاق منه على ملكها ولا يلزمه تأديتها، وهذا قول يؤدي إلى تناقض السنن، وقد جلَّ الشارع أن تتناقض سننه.

وقوله: ("فأدها إليه") فيه بيان وتفسير لقوله: ("فشأنك بها") ولو كان المراد بقوله: "فشأنك بها" انطلاق يده عليها وسقوط ضمانها عنه لبطلت فائدة قولِه: ("فأدها إليه") واستعمال الحديثين لفائدتين أولى

ص: 549

من إسقاط إحداهما، هذِه طريقة العلماء في التأليف بين الآثار والقضاء بالمجمل على المفسر.

واختلفوا هل للواجد بعد الحول أن يأكلها أو يتصدق بها. فروي عن

علي وابن عباس

(1)

أنه يتصدق بها ولا يأكلها وهو قول سعيد بن المسيب والحسن والشعبي، وإليه ذهب الثوري

(2)

، وقال أبو حنيفة: لا يأكلها الغني، والفقير يأكلها بشرط الضمان

(3)

.

وروى ابن القاسم عن مالك أنه استحب له أن يتصدق بها، وقد أسلفنا هذا عنه

(4)

. وروى ابن وهب عنه: إن شاء أمسكها وإن شاء استنفقها، وإن شاء تصدق بها فإن جاء صاحبها أداها إليه.

وروي مثل هذا عن عمر وابن مسعود وابن عمر وعائشة وهو قول عطاء

(5)

، وبه قال الشافعي

(6)

وأحمد وإسحاق.

وقوله: ("ثم استنفق بها") حجة لمن قال: يصنع بها ما شاء من صدقة بها أو أكل أو غيره لعمومه، ولم يخص وجهًا يستنفقها فيه من غيره، وأيضًا فإنه لما قال:"استنفق بها" لم يفرق بين الغني والفقير دلَّ على رد قول أبي حنيفة.

تنبيهان:

الأول: إنما لم يذكر البخاري في هذا الباب رواية سليمان بن بلال

(1)

رواه عنهما عبد الرزاق في "المصنف" 10/ 138 - 140 (18628، 18632).

(2)

رواه عنه عبد الرزاق في "المصنف" 10/ 140.

(3)

"مختصر اختلاف العلماء" 4/ 335.

(4)

"المدونة" 4/ 366.

(5)

رواه -قريبًا منه- عنهم عبد الرزاق في "المصنف" 10/ 139 - 140 (18630،

18631، 18634).

(6)

"الأم" 3/ 287.

ص: 550

عن يحيى بن سعيد: "وكانت وديعة عنده"، وذكرها في باب: ضالة الغنم

(1)

؛ لأنه قد بين سليمان في الحديث: أن يحيى بن سعيد قال عن يزيد مولى المنبعث: لا أدري أفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أم شيء من عنده؟ فاستراب البخاري بهذا الشك، وترجم بالمعنى ولم يذكره في الحديث؛ لأنه استغنى بقوله:"فأدها إليه" عن قوله: "وكانت وديعة عنده".

ثانيهما: ترجمة البخاري السالفة إذا لم يوجد صاحب اللقطة بعد سنة فهي لمن وجدها، اعترض عليها ابن التين، فقال: ليس هو بقول مالك ولا أحد من فقهاء الأمصار. واحتج البخاري بقوله: "فشأنك بها" أي: خذها بشرط الضمان إن جاء صاحبها بدليل رواية الباب، وحينئذٍ فلا تنافي بينهما، وتأويل ذلك مناف، فما سمعنا به هو الصواب.

فائدة:

في الحديث: (حتى احمرت وجنتاه، أو احمر وجهه)، الظاهر أنه من الراوي.

والوجنة: مثلثة الواو، ووجنة: بفتح الجيم وكسرها، قاله كراع. زاد غيره: أجنة

(2)

بضم الألف: وهي أعلى الخد والعظم المشرف عليه، والجمع: وجنات

(3)

.

(1)

سلف برقم (2428) كتاب، اللقطة.

(2)

ورد بهامش الأصل: أي: مع سكون الجيم، هذِه اللغات في "المطالع".

(3)

انظر: "لسان العرب" 8/ 4774 (وجن).

ص: 551

‌10 - باب هَلْ يَأْخُذُ اللُّقَطَةَ وَلَا يَدَعُهَا تَضِيعُ حَتَّى لَا يَأْخُذَهَا مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ

؟

2437 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ قَالَ: سَمِعْتُ سُوَيْدَ بْنَ غَفَلَةَ قَالَ: كُنْتُ مَعَ سَلْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَزَيْدِ بْنِ صُوحَانَ فِي غَزَاةٍ، فَوَجَدْتُ سَوْطًا. فَقَالَ لِي: أَلْقِهِ. قُلْتُ: لَا، وَلَكِنْ إِنْ وَجَدْتُ صَاحِبَهُ، وَإِلَّا اسْتَمْتَعْتُ بِهِ. فَلَمَّا رَجَعْنَا حَجَجْنَا، فَمَرَرْتُ بِالمَدِينَةِ، فَسَأَلْتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ رضى الله عنه، فَقَالَ: وَجَدْتُ صُرَّةً عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيهَا مِائَةُ دِينَارٍ، فَأَتَيْتُ بِهَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"عَرِّفْهَا حَوْلًا". فَعَرَّفْتُهَا حَوْلًا ثُمَّ أَتَيْتُ، فَقَالَ:"عَرِّفْهَا حَوْلًا". فَعَرَّفْتُهَا حَوْلًا ثُمَّ أَتَيْتُهُ، فَقَالَ:"عَرِّفْهَا حَوْلًا". فَعَرَّفْتُهَا حَوْلًا ثُمَّ أَتَيْتُهُ الرَّابِعَةَ، فَقَالَ:"اعْرِفْ عِدَّتَهَا وَوِكَاءَهَا وَوِعَاءَهَا، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا، وَإِلَّا اسْتَمْتِعْ بِهَا". [انظر: 2426 - مسلم: 1723 - فتح 5/ 91]

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سَلَمَةَ بهذا قَالَ: فَلَقِيتُهُ بَعْدُ بِمَكَّةَ، فَقَالَ: لَا أَدْرِي أَثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ أَوْ حَوْلًا وَاحِدًا.

ذكر فيه حديث أبي بن كعب السالف أول الباب

(1)

بزيادة.

واختلف العلماء في اللقطة هل أخذها أفضل أم تركها؟ فكرهت طائفة أخذها ورأوا تركها أفضل، روي ذلك عن ابن عمر

(2)

وابن عباس

(3)

وهو قول عطاء. وروى ابن القاسم عن مالك أنه كره أخذها والآبق

(4)

، فإن أخذ ذلك وضاعت وأبق من غير تضييعه لم يضمن،

(1)

سلف برقم (2437).

(2)

رواه عبد الرزاق في "المصنف" 10/ 137 (18623)، والبيهقي 6/ 188.

(3)

رواه عبد الرزاق في "المصنف" 10/ 137 - 138 (18624)، والبيهقي 6/ 192.

(4)

"النوادر والزيادات" 10/ 467، "بداية المجتهد" 4/ 1487.

ص: 552

وكره أحمد أخذها أيضًا

(1)

وقالت طائفة: أخذها وتعريفها أفضل من تركها، هذا قول سعيد بن المسيب

(2)

.

وقال أبو حنيفة: تركها سبب لإضاعتها

(3)

، وبه قال الشافعي، وعن مالك: إن كان شيء له بال فأخذه وتعريفه أحب إليَّ

(4)

.

حجة الأول الحديث السالف: "ضالة المؤمن حرق النار"

(5)

، و"لا يأوي الضالة إلا ضال"

(6)

.

حجة الثاني: أمر الشارع بتعريفها ولم يقل له: لم أخذتها: وذلك دليل على أن الفضل في أخذها وتعريفها؛ لأن تركها عون على ضياعها، ومن الحق النصيحة للمسلم وأن يحوطه في ماله بما أمكنه. وتأولوا ما سلف أن المراد به: من لم يعرفها وأراد الانتفاع بها حتى لا تتضاد الأخبار، ويدل على ذلك رواية زيد بن خالد الجهني مرفوعًا:"من آوى ضالة فهو ضال ما لم يعرفها"

(7)

.

وروى الجارود قال: أتينا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن على إبل عجاف، فقلنا: يا رسول الله، إنا نمر بالجرف فنجد إبلًا فنركبها، فقال:"ضالة المؤمن حرق النار" وكان سؤالهم عن أخذها إنما هو لأن يركبوها، فأجاب بذلك، أي: ضالة المسلم حكمها أن تحفظ

(1)

"المغني" 8/ 291.

(2)

"الإشراف" 2/ 151.

(3)

"مختصر اختلاف العلماء" 4/ 347.

(4)

"النوادر والزيادات" 10/ 467.

(5)

الترمذي (1881) عن الجارود، وابن ماجه (2502) عن عبد الله بن الشخير عن أبيه والبيهقي 6/ 190.

(6)

أبو داود (1720).

(7)

مسلم برقم (1725) كتاب اللقطة، باب: لقطة الحاج.

ص: 553

على صاحبها حتى تؤدي إليه، لا لأن ينتفع بها لركوب ولا لغيره.

فائدة: قول سويد: (كنت مع سلمان بن ربيعة وزيد بن صوحان في غزاة فوجدت سوطًا فقال لي: ألقه) قال الداودي: قول سويد صواب، وقد أدرك الجاهلية والإسلام. وقيل: له صحبة وصحب عليًّا وابن مسعود، وتوفي سنة ست وعشرين ومائة

(1)

. وسلمان باهلي كان عمر يوليه على الجيوش، وزيد بن صوحان كان عمر يرحِّل رحله بيده إكرامًا له لفضله. قطعت رجله يوم الجمل وهو مع علي.

قال الشيخ أبو إسحاق في "زاهيه": خالف سعيد بن المسيب أهل مكة والمدينة وقال: تؤخذ اللقطة وتعرف؛ لأنه مال يجمع على ربه، وأحسب أنه أراد أن حرمته كحرمة اللقيط، وبه قال الحسن بن صالح.

(1)

ورد بهامش الأصل: قال الذهبي في "تجريده" ولد عام الفيل وكذا قال في "الكاشف" وفي "الكاشف" أنه توفي سنة 81 وكذا في وفاته، قال النووي: قال هشيم: بلغ سويد مائة وثمانيًا وعشرين سنة، قال ذلك ابن نمير. توفي سنة 81 وله مائة وعشرون سنة، وقيل: توفي ابن مائة وإحدى وثلاثين، وقال الفلاس: توفي سنة 83 وهو ابن 136.

ص: 554

‌11 - باب مَنْ عَرَّفَ اللُّقَطَةَ وَلَمْ يَدْفَعْهَا إِلَى السُّلْطَانِ

2438 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ رَبِيعَةَ، عَنْ يَزِيدَ -مَوْلَى المُنْبَعِثِ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ- رضي الله عنه، أَنَّ أَعْرَابِيًّا سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنِ اللُّقَطَةِ، قَالَ:"عَرِّفْهَا سَنَةً، فَإِنْ جَاءَ أَحَدٌ يُخْبِرُكَ بِعِفَاصِهَا وَوِكَائِهَا، وَإِلَّا فَاسْتَنْفِقْ بِهَا". وَسَأَلَهُ عَنْ ضَالَّةِ الإِبِلِ، فَتَمَعَّرَ وَجْهُهُ قَالَ:"مَا لَكَ وَلَهَا؟ مَعَهَا سِقَاؤُهَا وَحِذَاؤُهَا، تَرِدُ المَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ، دَعْهَا حَتَّى يَجِدَهَا رَبُّهَا". وَسَأَلَهُ عَنْ ضَالَّةِ الغَنَمِ، فَقَالَ:"هِيَ لَكَ أَوْ لأَخِيكَ، أَوْ لِلذِّئْبِ". [انظر 91 - مسلم: 1722 - فتح 5/ 93]

ذكر فيه حديث زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ أيضًا، أَنَّ أَعْرَابِيًّا سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنِ اللُّقَطَةِ، قَالَ:"عَرِّفْهَا سَنَةً" .. الحديث.

ولا يجب عند جماعة العلماء على الملتقط -إن لم يكن من ضالة الحيوان- أن يدفعها إلى السلطان، وإنما معنى هذِه الترجمة: أن السنة وردت بأن واجد اللقطة هو الذي يعرفها دون غيره لقوله: "عرفها" إلا أنهم اختلفوا في الملتقط إذا كان غير مأمون عليها، على قولين:

أحدهما: أنه يعرفها وليس للسلطان أخذها منه.

والثاني: أن له أخذها منه ودفعها إلى ثقة يعرفها، والقولان للشافعي أيضًا

(1)

.

وأما حكم الضوال فإنها تحتاج إلى حرز ومؤنة، وهذا لا يكون إلا بحكم حاكم، ولهذا كانت ترفع ضوال الإبل إلى عمر وعثمان وسائر الخلفاء بعدهما.

(1)

"الأم" 3/ 287.

ص: 555

واختلفوا إذا التقط لقطة فضاعت عنده، فقال أبو حنيفة وزفر: إن أشهد أنه أخذها ليعرفها لم يضمنها إن هلكت وإلا ضمنها

(1)

وقد سلف.

واحتج بحديث عياض السالف فيه الإشهاد.

وقال مالك

(2)

وأبو يوسف ومحمد

(3)

والشافعي: لا ضمان عليه إلا أن يفرط، وحجتهم إجماع العلماء أن المغصوبات لو أشهد الغاصب على نفسه أنه غصبها لم يدخلها إشهاد ذلك في حكم الأمانات، فلذلك ترك الإشهاد على الأمانات لا يدخلها في حكم المغصوبات، ولا خلاف أن الملتقط أمين لا يضمن إلا ما يضمن به الأمانات من التعدي والتضييع.

وأما حديث عياض فمعناه أن الملتقط إذا لم يعرف اللقطة ولم ينشدها وكتمها، ثم قامت عليه بينة أنه وجد لقطة وضمها إلى ماله، ثم ادعى تلفها أنه لا يصدق ويضمن؛ لأنه بفعله ذلك خارج عن الأمانة، إلا أن تقوم البينة على تلفها، وأما إذا عرفها في المحافل وإن لم يشهد فلا ضمان عليه.

وقوله: "وإلا فهو مال الله يؤتيه من يشاء" فإنه يريد انطلاق يد الملتقط عليها بعد الحول ثم يضمنها لصاحبها إن جاء بإجماع.

(1)

"مختصر اختلاف العلماء" 4/ 344.

(2)

"بداية المجتهد" 4/ 1494.

(3)

"مختصر اختلاف العلماء" 4/ 344.

ص: 556

‌12 - باب

(1)

2439 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا النَّضْرُ، أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: أَخْبَرَنِي البَرَاءُ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما. حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ رَجَاءٍ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ البَرَاءِ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما قَالَ: انْطَلَقْتُ، فَإِذَا أَنَا بِرَاعِي غَنَمٍ يَسُوقُ غَنَمَهُ فَقُلْتُ: لِمَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: لِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ. فَسَمَّاهُ فَعَرَفْتُهُ. فَقُلْتُ: هَلْ فِي غَنَمِكَ مِنْ لَبَنٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. فَقُلْتُ: هَلْ أَنْتَ حَالِبٌ لِي؟ قَالَ: نَعَمْ. فَأَمَرْتُهُ، فَاعْتَقَلَ شَاةً مِنْ غَنَمِهِ، ثُمَّ أَمَرْتُهُ أَنْ يَنْفُضَ ضَرْعَهَا مِنَ الغُبَارِ، ثُمَّ أَمَرْتُهُ أَنْ يَنْفُضَ كَفَّيْهِ، فَقَالَ هَكَذَا -ضَرَبَ إِحْدَى كَفَّيْهِ بِالأُخْرَى- فَحَلَبَ كُثْبَةً مِنْ لَبَنٍ، وَقَدْ جَعَلْتُ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِدَاوَةً عَلَى فَمِهَا خِرْقَةٌ، فَصَبَبْتُ عَلَى اللَّبَنِ، حَتَّى بَرَدَ أَسْفَلُهُ، فَانْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: اشْرَبْ يَا رَسُولَ اللهِ. فَشَرِبَ حَتَّى رَضِيتُ. [3615، 3652، 3908، 3917، 5607 - مسلم: 2009 - فتح 5/ 93]

ذكر فيه حديث أبي بكر في الهجرة قَالَ: انْطَلَقْتُ، فَإِذا أَنَا بِرَاعِي غَنَمٍ يَسُوقُ غَنَمَهُ فَقُلْتُ: لِمَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: لِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ. فَسَمَّاهُ فَعَرَفتُهُ. فَقُلْتُ: هَلْ فِي غَنَمِكَ مِنْ لَبَنٍ؟

الحديث بطوله، وقد أسلفناه في باب: لا يحتلب أحد ماشية أحد إلا بإذنه، وذكرنا الجواب عن شربه، وشرب الصديق من اللبن فراجعه.

قال ابن بطال: سألت بعض شيوخي عن وجه استجازة الصديق لشرب اللبن من ذلك الراعي، فقال لي: يحتمل أن يكون الشارع قد كان أذن له في الحرب، وكانت أموال المشركين له حلالًا. فعرضته على المهلب، فقال لي: ليس هذا بشيء؛ لأن الحرب والجهاد إنما

(1)

ورد بهامش الأصل: في نسختي بعد، حديث زيد حديث أبي بكر قال: انطلقت فهذا أنا براعي غنم .. الحديث مختصرًا ولم يفصل بباب.

ص: 557

فرض بالمدينة، وكذلك المغانم إنما نزل تحليلها يوم بدر بنص القرآن قال: وإنما شرباه بالمعنى المتعارف عندهم في ذلك الزمن من المكارمات، وبما استفهم به الصديق الراعي من أنه حالب أو غير حالب، ولو كان بمعنى الغنيمة ما استفهمه، ولحلب على ما أراد الراعي أو كره، ولساق الغنم غنيمة، وقتل الراعي إن شاء أو أخذه أسيرًا.

يبين أن ذلك كان على وجه العادة عندهم ما رواه الثوري عن أبي عبيدة قال: مر رجل من أهل الشام بامرأة من كلب، فقال لها: هل من لبن يباع؟ فقالت: إنك للئيم، أو حديث عهد بقوم لئام هل يبيع الرِّسْل كريم أو يمنعه إلا اللئيم؟ إنا لندع الكوم لأضيافنا، تكوس، إذا عكف الزمن الضروس ونُغْلِي اللحم غريضًا ونُهِينه نضيجًا.

قال أبو علي: (الرسل) اللبن، و (تكوس): تمشي على ثلاث، و (نغلي) من الغلاء

(1)

.

قال المهلب: وقد قال أخي أبو عبد الله: إنه لا معارضة بينهما؛ لأن هذا (قوله)

(2)

عليه السلام لما علم أنه سيكون من التشاح وقلة المواساة، والحديث معناه: لا يهجمن أحدكم على ماشية غيره، فيحتلبها بغير إذنه أو غير إذن راعيها الذي له حكم العادات فيما استرعى فيه من المعروف، وكان بين الحديثين فرق يمنع من التعارض.

وفي حديث أبي بكر من الأدب والتنظف ما صنعه بنفض يد الراعي وبنفض الضرع، وخدمته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإلطافه به ما يجب أن يمتثل في كل عالم وإمام

(3)

، وسيأتي هذا الحديث أيضًا في باب: اللبن من

(1)

"الأمالي" 1/ 206 - 207.

(2)

كذا بالأصل، وفي "شرح ابن بطال": قاله.

(3)

"شرح ابن بطال" 6/ 566 - 567.

ص: 558

كتاب: الأشربة

(1)

.

وقوله: (هَلْ فِي غَنَمِكَ مِنْ لَبَنِ): هو بفتح اللام والباء. قال القاضي: وروي بضم اللام وتشديد الباء

(2)

. و (الكثبة): بالضم، قال ابن فارس: هي القطعة من اللبن ومن التمر، سميت بذلك لاجتماعها

(3)

، وكذا قال الهروي: إنها القليل من اللبن ومن غيره، وكل ما جمعت من طعام أو غيره بعد أن يكون قليلًا فهو كثبة، وقد كثبته أكثبه: إذا جمعته

(4)

.

وقوله: (فَمِها خِرقة)، كذا هو (فمها) بالميم وهي لغة غير مشهورة يشهد لها قوله: يصبح ظمآن وفي البحر فمه.

وصوابه بالمثناة تحت بدل الميم وهو الأشهر

(5)

.

(1)

سيأتي برقم (5607).

(2)

قال في "المشارق": وقال ابن مكي في كتابه: إن ذكر اللبن لبنات آدم خطأ إنما هو لغيرهن، وللمرأة لبان. ثم قال القاضي: وهذا الحديث يرد عليه- يقصد حديث الرضاعة. "المشارق" 1/ 354.

(3)

"مجمل اللغة" 2/ 779.

(4)

"غريب الحديث" 1/ 273 - 274.

(5)

ورد بهامش الأصل تعليق نصه: وكذا في "المطالع" أن الأشهر: (فيها).

ص: 559

46

كتاب المظالم

ص: 561

بسم الله الرحمن الرحيم

‌46 - كِتَابُ المظَالِم والغَصْبِ

وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} إلى قوله: {عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [إبراهيم: 42 - 47]{مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ} : رَافِعِي رُؤوسِهِم، المُقْنِعُ والمُقْمِحُ وَاحِدٌ.

وَقَالَ مُجَاهِد: {مُهطِعِينَ} [إبراهيم: 43]: مُدِيمِين النَّظَرَ. وَيُقَالُ: مُسْرِعِينَ. {لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} [إبراهيم: 43] يَعْنِي: جُوفًا لَا عُقُولَ لَهُمْ.

الشرح:

قوله: (ويقال: (مسرعين)) هو قول قتادة

(1)

.

(1)

رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 297 (1417)، والطبري 7/ 468 (20896).

ص: 563

وقال ابن التين: وهو المعروف في اللغة. قال أبو عبيد: وقد يكون الوجهان جميعًا، يعني: الإسراع كما قال قتادة يعني: مع إدامة النظر كقول مجاهد. وقال أحمد بن يحيى: المهطع: الذي ينظر في ذل وخشوع لا يقلع بصره

(1)

.

وقيل: (مُهْطِعِينَ): مسرعين في خوف، وما فسره في (مُقْنِعِي) بمعنى: رافعي هو قول أكثر أهل اللغة والتفسير. يقال: أقنع: إذا رفع رأسه، وأقنع: إذا طأطأه ذلًا وخضوعًا.

وقيل: في الآية القولان، وقيل: يجوز أن يريدهما أن يرفع رأسه يديم النظر ثم يطأطئه ذلًّا وخضوعًا، وقيل: أقنع رأسه: إذا نصبه لا يلتفت يمينًا ولا شمالًا وجعل طرفه موازيًا لما بين يديه، وكذلك الإقناع في الصلاة. وقال ابن فارس: الإقناع: الإقبال بالوجه على الشيء

(2)

، ومنه المقنع: الرافع رأسه مع غض بصره، وهذا تفسير المقمح.

وقيل: المقمح: الذي حدب ذقنه إلى صدره ورفع رأسه. وأصل أقنع: إذا رفع، ومنه: المقنعة لأنها تجعل في الأعلى، ومنه: قَنِعَ بالكسر: رفع رأسه عن السؤال. ويروى أنهم لا يزالون يرفعون رءوسهم ينظرون ما يأتي من عند الله. وقيل: مقنعي: ناكسى بلغة قريش، الطرف: البصر، وبه سميت العين؛ لأنه بها يكون.

وقوله: ({وَأَفئدَتُهُم هَوَآءٌ} [إبراهيم: 43] يعني: جُوفًا لا عقول لهم) أي: من الخوف.

(1)

"مجالس ثعلب" 1/ 20.

(2)

"مجمل اللغة" 3/ 735.

ص: 564

وقيل: نزعت أفئدتهم من أجوافهم فلا تنفصل ولا تعود.

تنبيه: قوله تعالى: {إِذِ القُلُوبُ لَدَى الحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ} [غافر: 18] فهذا

إعلام أن القلوب فارقت الأفئدة. وقيل: خالية من الخير. وقيل: تتردد في أجوافهم ليس لها مكان تستقر به فكأنها تهوي، وأنذر: خَوِّف.

وقوله: {أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ} [إبراهيم: 44] الآية. قال مجاهد: هم قريش أقسموا أنهم لا يموتون

(1)

. وقال الداودي: يريد إنكارهم البعث. وقيل: مَا لَهم من زَوَال عن العذاب {مَكرُهُمْ} : الشرك

أو بالعتو والتجبر.

{وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ} [إبراهيم: 46] يحفظه ليجازيهم عليه أو يعلمه، فلا يخفي عليه.

وقوله: {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ} [إبراهيم: 46] الآية: أي: ما كان مكرهم ليزول منه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ونبوته احتقارًا لمكرهم.

وقرأ الكسائي "لَتَزُولُ" بفتح اللام الأولى ورفع الثانية

(2)

أي: إن كان مكرهم لو بلغ إلى الجبال ولم يبلغوا هذا ما قدروا على إزالة الإسلام حين دعوا لله ولدًا.

قال الداودي: المعنى: وإن كان مكرهم ليكاد تزول منه الجبال، أي: تعظيمًا لمكرهم، وقرئ:(كاد) بالدال بدل النون

(3)

.

(1)

"تفسير مجاهد" 1/ 336، ورواه أيضًا الطبري في "تفسيره" 7/ 473 (20913).

(2)

انظر: "الحجة للقراء السبعة " للفارسي 5/ 31، "الكشف" لمكي 2/ 27.

(3)

رواه الطبري في "تفسيره" 7/ 475 - 476 عن مجاهد، وعمر، وأنس، وابن مسعود.

ص: 565

وقال علي: إن نمروذًا لما طلعت به النسور بعد أن علق لها اللحم في الرماح استعلى، قيل له: أين تريد أيها الفاسق فأهبط وهو قوله: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ} [مريم: 90] الآية

(1)

، و (الجبال): جبال الأرض أو الإسلام والقرآن؛ لأنه في ثبوته كالجبال.

(1)

رواه أيضًا الطبري في "تفسيره" 7/ 474 - 475، وهو في تفسير قوله تعالى {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجِبَالُ} . وذكرها ابن عطية في "المحرر الوجيز" 8/ 265، وقال: وذلك عندي لا يصح عن علي، وفي هذِه القصة، كلها ضعف من طريق المعنى، وذلك أنه غير ممكن أن تصعد الأنسر كما وصف، وبعيد أن يغرر أحد بنفسه في مثل هذا.

ص: 566

‌1 - باب قِصَاصِ المَظَالِمِ

2440 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي المُتَوَكِّلِ النَّاجِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِذَا خَلَصَ المُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ حُبِسُوا بِقَنْطَرَةٍ بَيْنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيَتَقَاصُّونَ مَظَالِمَ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا نُقُّوا وَهُذِّبُوا أُذِنَ لَهُمْ بِدُخُولِ الجَنَّةِ، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ لأَحَدُهُمْ بِمَسْكَنِهِ فِي الجَنَّةِ أَدَلُّ بِمَنْزِلِهِ كَانَ فِي الدُّنْيَا". وَقَالَ يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ: حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ قَتَادَةَ حَدَّثَنَا أَبُو المُتَوَكِّلِ. [6535 - فتح 5/ 96]

حَدّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، ثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامِ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي المُتَوَكِّلِ النَّاجِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِذَا خَلَصَ المُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ حُبِسُوا بِقَنْطَرَةٍ بَيْنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيَتَقَاصُّونَ مَظَالِمَ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا نُقُّوا وَهُذِّبُوا أُذِنَ لَهُمْ بِدُخُولِ الجَنَّةِ، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحمدٍ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ لأَحَدُهُمْ بِمَسْكَنِهِ فِي الجَنَّةِ أَدَلُّ بِمَنْزِلِهِ كَانَ بِهِ فِي الدُّنْيَا". وَقَالَ يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ: ثَنَا شَيْبَانُ، عَنْ قَتَادَةَ، ثَنَا أَبُو المُتَوَكِّلِ.

الشرح:

يريد البخاري بهذا التعليق بيان سماع قتادة لهذا الحديث من أبي المتوكل.

ورواه أبو نعيم الحافظ، عن أبي علي محمد بن أحمد، ثنا إسحاق بن الحسن بن ميمون، ثنا يونس بن محمد المروزي، ثنا شيبان، عن قتادة، ثنا أبو المتوكل فذكره وهو من أفراد البخاري، ومعاذ (ع) المذكور سكن اليمن مات سنة مائتين، ووالده هو هشام

ص: 567

(ع) الدستوائي مات بعد الخمسين سنة إحدى أو ثلاث أو أربع

(1)

.

وقيل: في زمن أبي جعفر.

وأبو المتوكل (ع)

(2)

اسمه علي بن دُؤاد الناجي، أما أبو الصديق الناجي فاسمه: بكر بن عمرو. وقيل: ابن قيس، وأبو سعيد الخدري سعد بن مالك. وهذِه المقاصة كما قال ابن بطال: هي لقوم دون قوم وهم قوم لا تستغرق مظالمهم جميع حسناتهم إذ لو استغرقتها كانوا ممن وجب لهم العذاب، ولما جاز أن يقال فيهم: خلصوا من النار، فمعنى الحديث -والله أعلم- على الخصوص لمن يكون له تبعات يسيرة؛ إذ المقاصة أصلها في كلام العرب مقاصصة وهي مفاعلة وهي لا تكون غالبًا إلا من اثنين كالمشاتمة والمقاتلة، وكأن كل واحد منهم له على أخيه مظلمة وعليه له مظلمة، ولم يكن في شيء منها ما يستحق عليه النار، فيتقاصون بالحسنات والسيئات، فمن كانت مظلمته أكثر من مظلمة أخيه أخذ من حسناته فيدخلون الجنة، ويقتطعون فيها المنازل على قدر ما بقي لكل واحد منهم من الحسنات؛ فلهذا يتقاصون بعد خلاصهم من النار -والله أعلم- لأن أحدًا لا يدخل الجنة ولأحدٍ عليه تباعة وإن قلت. فإذا نقوا وهذبوا دخلوا الجنة. وإنما عرفوا منازلهم بها لتكرر عرضها عليهم بالغداة والعشي، فيقال له: هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة.

وقال المهلب: هذِه المقاصة إنما تكون في المظالم في الأبدان من اللطمة وشبهها، مما يمكن فيه أداء القصاص بحضور بدنه، فيقال

(1)

وقع بهامش الأصل: في "الكاشف" مخرومًا يشبه: أربع وخمسين ومائة، ولعله في "الوفيات" في سنة 52.

(2)

ورد بهامش الأصل: الراجح في اسم أبي المتوكل داود.

ص: 568

للمظلوم: إن شئت أن تنتصف وإن شئت أن تعفو.

وقال غيره: الآثار تدل على أنه لا قصاص في الآخرة في العرض والمال وغيره إلا بالحسنات والسيئات، فمن ظلم غيره وكانت له حسنات أخذ منها وزيد في حسنات المظلوم، فإن لم يكن للظالم حسنات أخذ من سيئات المظلوم وردت على الظالم

(1)

.

قلت: قد روى أبو الفضل في "ترغيبه"

(2)

من حديث سعيد بن المسيب أنه عليه السلام قال: "إذا فرغ الله من القضاء أقبل على البهائم حتى أنه ليجعل للجماء التي تنطحها القرناء قرنين تنطح بهما الأخرى".

وقال ابن التين: القنطرة: كل شيء ينصب على عين أو وادٍ أو شيء له عين، ويحتمل أن يكون طرف الصراط، قاله الداودي.

وقال الهروي: سمي البناء قنطرة؛ لتكاتف بعض البناء على بعض، والقناطر عند العرب: الملأ الكبير، وسماها القرطبي: الصراط الثاني

(3)

. والأول لأهل المحشر كلهم إلا من دخل الجنة بغير حساب أو تلتقطه عنق النار، فإذا خلص من خلص من الأكثر - ولا يخلص منه إلا المؤمنون حبسوا على صراط خاص بهم، ولا يرجع إلى النار من هذا أحد، وهو معنى قوله:"يخلص المؤمنون من النار"، أي: من الصراط المضروب على النار.

(1)

"شرح ابن بطال" 6/ 568 - 569.

(2)

هو محمد بن أبي القاسم، أبو الفضل البقالي الحنفي الخوارزمي المعروف

بالآدمي، توفي سنة 576 هـ، وكتابه هو "ترغيب العلم" انظر:"كشف الظنون" 1/ 400، "هدية العارفين" 1/ 497.

(3)

"التذكر" ص 392.

ص: 569

قال مقاتل: إذا قطعوا جسر جهنم حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار، فإذا هذبوا قال لهم رضوان: سلام عليكم.

وذكر القرطبي حديثًا أن الجنة بعد الصراط، فلعله بعد الثاني، هذا بدليل حديث البخاري أو يكون ذلك في حق من يدخل النار ويخرج بالشفاعة، فهؤلاء لا يحبسون بل إذا خرجوا بثوا على أنهار الجنة.

وقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أصحاب الجسر محبوسون بين الجنة والنار يسئلون عن فضول أموال كانت بأيديهم"

(1)

، ولا تعارض بين هذا وحديث الباب؛ لأن معناهما مختلف لاختلاف أحوال الناس، وكذا لا تعارض بين قوله:"لأحدهم أهدى بمنزله كان في الدنيا" وبين قول عبد الله بن سلام: إن الملائكة تدلهم على طريق الجنة. فإن هذا يكون ممن لم يحبس على قنطرة ولم يدخل النار، فيخرج منها فيطرح على باب الجنة. وقد يحتمل أن يكون ذلك في الجمع، فإذا وصلت بهم الملائكة كان كل واحد أعرف بمنزله، وهو معنى قوله تعالى:{وَيُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6)} [محمد: 6] وقال أكثر المفسرين: إذا دخل أهل الجنة الجنة يقال لهم: تفرقوا إلى منازلكم فهم أعرف بها من أهل (الجمعة)

(2)

إذا انصرفوا. وقيل: إن هذا التعريف إلى المنازل بدليل وهو الملك الموكل بعمل العبد يمشي بين يديه

(3)

. وفيه بعد.

(1)

كذا ساقه المصنف وتابعه العيني في "عمدة القاري"، ولم أقف عليه بهذا اللفظ وهو عند البخاري كما سيأتي (5196) بلفظ:"قمت على باب الجنة فكان عامة من دخلها من المساكين، وأصحاب الجد محبوسون غير أن أصحاب النار قد أمر بهم إلى النار .. ".

(2)

في الأصل: الجنة، والمثبت من "التذكرة".

(3)

"التذكر" ص 392 - 394.

ص: 570

وقوله: ("يتقاصون") أي: يتتاركون؛ لأنه ليس موضع مقاصة ولا حساب؛ لكن يلقي الرب جل جلاله في قلوبهم العفو لبعضهم عن بعض، فيتتاركون أو يعوض الله بعضهم من بعض. قال صاحب "المطالع": قوله: ("نقوا وهذبوا") لكافتهم، وعند المستملي: حتى إذا نقصوا وهدأوا. والتنقية: إفراد الجيد من الرديء، وسيأتي له تكملة في الرقاق والحشر إن شاء الله تعالى.

ص: 571

‌2 - باب قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {أَلَا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18]

2441 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ قَالَ: أَخْبَرَنِي قَتَادَةُ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ المَازِنِيِّ قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا أَمْشِي مَعَ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما آخِذٌ بِيَدِهِ إِذْ عَرَضَ رَجُلٌ، فَقَالَ: كَيْفَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي النَّجْوَى؟ فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ اللهَ يُدْنِي المُؤْمِنَ فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ، وَيَسْتُرُهُ فَيَقُولُ: أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ أَيْ رَبِّ. حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلَكَ قَالَ: سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ اليَوْمَ. فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ، وَأَمَّا الكَافِرُ وَالمُنَافِقُونَ، فَيَقُولُ الأَشْهَادُ: {هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} ". [هود: 18]. [4685، 6070، 7514 - مسلم: 2768 - فتح 5/ 96]

ذكر فيه حديث ابن عُمَرَ فِي النَّجْوَى؟ فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ اللهَ لَيُدْنِي المُؤْمِنَ فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ، وَيَسْتُرُهُ فَيَقُولُ: أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ أَيْ رَبِّ. حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلَكَ قَالَ: سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ اليَوْمَ. فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ، وَأَمَّا الكَافِرُ وَالمُنَافِقُ، فَيَقُولُ الأَشْهَادُ: {هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} ".

الشرح:

(النجوى): ما يكلمه به ولا يسمعه غيره.

و (كنفه) ستره.

و (الأشهاد): الأنبياء أو الملائكة أو الخلائق، أو الأنبياء والمرسلون والملائكة والمؤمنون والأجساد.

ص: 572

يؤيد الأول قوله: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ} [النساء: 41] الآية.

و (الأشهاد): جمع شهيد كشريف وأشراف أو شاهد كصاحب وأصحاب.

قال المهلب: فيه عظيم تفضل الله تعالى على عباده وستره لذنوبهم

يوم القيامة، وأنه يغفر ذنوب من شاء منهم، بخلاف قول من أنفذ الوعيد على أهل الإيمان؛ لأنه لم يستثن في هذا الحديث ممن يضع عليه كنفه وستره أحدًا إلا الكفار والمنافقين، وأنهم الذين ينادى عليهم على رءوس الأشهاد باللعنة لهم.

وسيأتي في كتاب: الأدب في باب: ستر المؤمن على نفسه

(1)

حديث الباب والاستقصاء فيه.

وفي كتاب التوحيد في باب: كلام الرب تعالى يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم

(2)

، ويأتي أيضًا في: تفسير سورة هود

(3)

، وهو حجة أيضًا لأهل السنة أن أهل الذنوب من المؤمنين لا يكفرون بالمعاصي

كما زعمت الخوارج.

والمراد بالظلم في الآية: الكفر والنفاق، كما ذكر في الحديث: وليس كل ظلم يدخل في معنى الآية ويستحق اللعنة؛ لأنه لا تكون عقوبة الكفر عند الله كعقوبة صغائر الذنوب، واللعن: الإبعاد، فدلت

هذِه الآية أن الكلام ليس على العموم وأنه يفتقر إلى ما يبين معناه.

(1)

سيأتي برقم (6070).

(2)

سيأتي برقم (7514).

(3)

سيأتي برقم (4685) باب: قوله: {وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ} .

ص: 573

وهذا الحديث يبين أن قوله تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)} [التكاثر: 8] أن السؤال عن النعيم الحلال، إنما هو سؤال تقرير وتوقيف له على نعمه التي أنعم بها عليه، ألا ترى أنه تعالى يوقفه على ذنوبه التي عصاه فيها ثم يغفرها له، وإذا كان ذلك فسؤاله تعالى عباده عن النعيم الحلال أولى أن يكون سؤال تقرير، لا سؤال حساب وانتقام.

ص: 574

‌3 - باب لَا يَظْلِمُ المُسْلِمُ المُسْلِمَ وَلَا يُسْلِمُهُ

2442 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ سَالِمًا أَخْبَرَهُ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ القِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ". [6951 - مسلم: 2580 - فتح 5/ 97]

ذكر فيه حديث ابن عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِم كُرْبَةً فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبِ يَوْمِ القِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ".

هذا الحديث أخرجه مسلم أيضًا. قال الترمذي: غريب

(1)

.

وأخرجه من حديث أبي هريرة وهو في مسلم أيضًا، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب الآخرة، ومن ستر على مسلم ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه"

(2)

.

ولمسلم عن عقبة بن عامر مرفوعًا: "المؤمن أخو المؤمن" الحديث

(3)

. وهو حديث شريف يحتوي على كثير من آداب الإسلام.

(1)

الترمذي (1426)، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب.

(2)

مسلم (2699) كتاب: الذكر، باب: فضل الاجتماع على تلاوة القرآن، والترمذي (1425).

(3)

مسلم (1414) كتاب: النكاح، باب: تحريم الخطبة على خطبة أخيه.

ص: 575

ومعنى ("لا يسلمه"): لا يتركه مع من يؤذيه، بل ينصره ويدفع عنه، ونصره فرض كما سيأتي. قال ابن التين: كونه لا يظلمه فرض عليه.

("ولا يسلمه") قال أبو عبد الملك: هو مستحب.

وظاهر كلام الداودي أنه كظلمه، وهو يحتاج إلى تفصيل إما أن يفجأه عدو أو نحوه فيجب عليه نصره، وأما أن يعينه في أمر دنياه فمستحب.

وقوله: ("المسلم أخو المسلم") هو من قول الله تعالى: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] والله تعالى حرم كثير الظلم وقليله.

وقوله: ("ولا يسلمه") هو مثل قوله عليه السلام: "انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا"

(1)

.

وباقي الحديث حض على التعاون وحسن المعاشرة والألفة والستر على المؤمن وترك التسمع به والإشهار لذنوبه، وقال تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2].

وفيه: أن المجازاة في الآخرة قد تكون من جنس الطاعة في الدنيا.

وقال ابن المنذر: ويستحب لمن اطلع من أخيه على عورة أو زلة توجب حدًّا أو تعزيرًا أو يلحقه في ذلك عيب أو عار أن يستر عليه رجاء الثواب، ويجب لمن بُلِيَ بذلك أن يستتر بستر الله، فإن لم يفعل ذلك الذي أصاب الحد، وأبدى ذلك للإمام وأقر بالحد لم يكن آثمًا؛ لأنا لم نجد في الأخبار الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن ذلك؛ بل الأخبار دالة على أن من أصاب حدًا أقيم عليه فهو كفارته

(2)

.

(1)

سيأتي في الباب الذي بعده.

(2)

"الإشراف" 3/ 55 - 56.

ص: 576

قلت: والستر عليه لا يدفع الإنكار عليه خفية، وهذا في غير المجاهر بل الذي وقع ذلك فلتة أو زلة، أما المجاهر فخارج عنه ولا غيبة له لحديث:"أترعون عن ذكر الفاجر اذكروه بما فيه يحذره الناس"

(1)

لكنه ضعيف. ومعنى (فرج كربة): غمة.

وقولى: ("من كرب"). وفي رواية: "من كربات"، وعليها اقتصر ابن التين قال: وضبط بضم الراء، ويجوز فتحها وإسكانها.

(1)

رواه ابن أبي الدنيا في "الصمت" ص 141 (220)، وابن حبان في "المجروحين" 1/ 220، والطبراني 19/ 418 (1010)، وابن عدي في "الكامل" 2/ 430؛ كلهم من حديث معاوية بن حيدة، وروى ابن عدي عن الإمام أحمد أنه قال: هذا حديث منكر.

ص: 577

‌4 - باب أَعِنْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا

2443 -

حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَنَسٍ، وَحُمَيْدٌ الطَّوِيلُ سَمِعَا أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم "انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا". [2444، 6952 - فتح 5/ 98]

2444 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا نَنْصُرُهُ مَظْلُومًا، فَكَيْفَ نَنْصُرُهُ ظَالِمًا؟ قَالَ:"تَأْخُذُ فَوْقَ يَدَيْهِ". [انظر: 2443 - فتح 5/ 98]

ذكر فيه حديث أَنَسٍ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا".

وفي رواية

(1)

: قَالَ يَا رَسُولَ اللهِ، هذا نَنْصُره مَظْلُومًا، فَكَيْفَ نَنْصُرُهُ ظَالِمًا؟ قَالَ:"تَأْخُذُ فَوْقَ بَدَيْهِ".

النصرة عند العرب: الإعانة والتأييد، وقد فسر الشارع أن نصر الظالم منعه من الظلم؛ لأنه إذا تركه على ظلمه ولم يكفه عنه أداه إلى أن يقتص منه، فمنعك له ما يوجب عليه القصاص نصرة له، وهذا من باب الحكم للشيء، وتسميته بما يئول إليه وهو من عجيب الفصاحة ووجيز البلاغة، وسيأتي إيضاحه في الباب بعده.

واعلم أن البخاري روى هذا الحديث عن شيخين أحدهما: عثمان بن أبي شيبة، والثاني: مسدد.

(1)

ورد بهامش الأصل: ساقها البخاري بسنده إلى حميد، عن أنس أيضًا وأولها أول الحديث الذي قبلها.

ص: 578

وأبو بكر بن أبي شيبة رواه مطولًا، والبخاري رواه عن عثمان مختصرًا، ولفظ ابن أبي شيبة

(1)

قيل: يا رسول الله، هذا أنصره مظلومًا فكيف أنصره ظالمًا؟ قال:"تمنعه من الظلم وتحجزه".

ثم إن البخاري بوب بلفظ: أَعِنْ. وأورد لفظ: "انصر" ولا شك أنه أعانه، وعثمان شيخ البخاري رواه كتبويبه، كما ساقه أبو نعيم، فيجوز أن يكون قصر به.

وزعم المفضل بن سلمة في كتاب "الفاخر" أن أول من قال: أنصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا جندب بن العنبر بن عمرو بن تميم بن مري بن أُدّ بقوله لسعيد بن زيد مناة لما أسر:

يا أيها المرء الكريم المكسوم

انصر أخاك ظالمًا أو مظلوم

وأنشد التاريخي للأسلع بن عبد الله النعامي:

إذا أنا لم أنصر أخي وهو ظالمُ

على القوم لم أنصر أخي حين يُظْلَمُ

(1)

ورد بهامش الأصل: يعني: أبا بكر.

ص: 579

‌5 - باب نَصْرِ المَظْلُومِ

2445 -

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ الرَّبِيعِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الأَشْعَثِ بْنِ سُلَيْمٍ قَالَ: سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ بْنَ سُوَيْدٍ، سَمِعْتُ البَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ رضي الله عنهما قَالَ: أَمَرَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِسَبْعٍ، وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ. فَذَكَرَ: عِيَادَةَ المَرِيضِ، وَاتِّبَاعَ الجَنَائِزِ، وَتَشْمِيتَ العَاطِسِ، وَرَدَّ السَّلَامِ، وَنَصْرَ المَظْلُومِ، وَإِجَابَةَ الدَّاعِى، وَإِبْرَارَ المُقْسِمِ. [انظر: 1239 - مسلم: 2066 - فتح 5/ 99]

2446 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ العَلَاءِ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"المُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا". وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ. [انظر: 481 - مسلم: 2585 - فتح 5/ 99]

ذكر فيه حديث البَرَاءِ: أَمَرَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِسَبْعٍ، وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ. فَذَكَرَ: عِيَادَةَ المَرِيضِ، وَاتِّباعَ الجَنَائِزِ، وَتَشْمِيتَ العَاطِسِ، وَرَدَّ السَّلَامِ، وَنَصْرَ المَظْلُومِ، وإِجَابَةَ الدَّاعِي، وإِبْرَارَ المُقْسِمِ.

وحديث أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"المُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا". وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ.

هذان الحديثان سلفا، الأول: في الجنائز، والثاني: في باب تشبيك الأصابع في المسجد.

ونصر المظلوم فرض واجب على المؤمنين على الكفاية، فمن قام به سقط عن الباقين، ويتعين فرض ذلك على السلطان، ثم على كل من له قدرة على نصرته إذا لم يكن هناك من ينصره غيره من سلطان وشبهه.

وأما عيادة المريض فهي سنة مرغب فيها مندوب إليها.

واتباع الجنائز من فروض الكفايات لمن قام بها.

ص: 580

وتشميت العاطس سنة

(1)

. وقيل: فرض كفاية. حكاه ابن بطال

(2)

، وبه قال ابن سراقة -من أصحابنا- في كتاب "الدرة" أنه واجب كرد السلام، وإجابة الداعي سنة أيضًا إلا إنه في الوليمة فرض عين، وقيل: فرض كفاية، وقيل: سنة.

وقال ابن بطال: هو في الوليمة آكد، وإبرار المقسم مندوب إليه إذا أقسم عليه في مباح يستطيع فعله، فإن أقسم على ما لا يجوز أو يشق على صاحبه لم يندب إلى الوفاء به، وسيأتي كلام الطبري في حديث البراء في إفشاء السلام من الاستئذان بعد تقصي القول في معانيه -إن شاء الله تعالى- وفي النكاح في إجابة دعوة الوليمة، وقد سلف جملة منه في الجنائز

(3)

.

(1)

ورد بهامش الأصل: أو على الكفاية كما صرح به بعض أصحابنا في عدة مسائل معها.

(2)

"شرح ابن بطال" 6/ 573.

(3)

"شرح ابن بطال" 6/ 573 - 574.

ص: 581

‌6 - باب الاِنْتِصَارِ مِنَ الظَّالِمِ

لِقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ: {لَا يُحِبُّ اللهُ الجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ القَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا عَلِيمًا} [النساء: 148]. {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ البَغْىُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [الشورى: 39]. قَالَ إِبْرَاهِيمُ: كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يُسْتَذَلُّوا، فَإِذَا قَدَرُوا عَفَوْا. [فتح: 5/ 99]

الشرح:

الانتصار من الظالم مباح بهذِه الآية.

روى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: نزلت هذِه الآية في الرجل يمر بالرجل فلا يضيفه فرخص له أن يقول فيه: إنه لم يحسن ضيافته ويؤذيه بما فعل به

(1)

.

وقيل {إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} الآية [النساء: 148] يدعو على ظالمه أو يخبر بظلمه إياه أو يستنصر منه.

وقيل: إنه الصديق شتمه رجل فسكت، ثم أعاد فردَّ عليه.

وقال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ البَغْيُ} الآية [الشورى: 39] أي: بغي المشركين عليهم، في الذين انتصروا منهم بالسيف. أو إذا بغى عليهم باغ كره أن يستذلوا لئلا يجترئ عليهم الفساق، فإذا قدروا عفوا كما ذكر عن إبراهيم، وقد أخرجه عبد بن حميد في "تفسيره" عن قبيصة، ثنا سفيان، عن منصور عنه -كما ذكره البخاري، وفي رواية أخرى كما ذكرنا- ولفظه: قال منصور: سألته عن الآية قال: كانوا يكرهون للمؤمنين أن يذلوا أنفسهم فيتجرأ الفساق عليهم، هذا يرد قول ابن التين: قول

(1)

"تفسير مجاهد" 1/ 179، ورواه الطبري 4/ 340 - 341.

ص: 582

إبراهيم كانوا يكرهون أن يذلوا، زاد غيره: فيجترئ عليهم الفساق. وقد علمت أنه زادها لا غيره.

وقيل: معنى الآية: إذا بُغي عليهم تناصروا وأزالوه، وقال تعالى:{وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41)} [الشورى: 41] أي: استوفى حقه، فأباح الانتصار بهذِه الآيات.

و (البغي): الظلم، فينتصر المظلوم ممن ظلمه، فيقتص منه جزاء سيئة سيئة مثلها، وقراءة العامة:(ظُلم) بضم الظاء، أي: فإنه يذكر ما فُعل به كما أسلفناه.

قال الحسن: لا ينبغي أن يدعو عليه وليقل: اللهم أعني عليه

(1)

.

وقال قطرب: يريد المكره عليه فإنه موضوع عنه وإن كفر

(2)

.

وقرئ بفتح الظاء، قال الضحاك: فإنه يجهر فيه اعتداء

(3)

.

وقيل: {إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء: 148] فقال سوءًا، فإنه ينبغي أن يأخذوا على يديه ويكون استثناء ليس من الأول

(4)

.

وأما قول إبراهيم: إنهم كانوا يكرهون أن يُستذلوا فإنه عليه السلام قد روي عنه هذا المعنى في استعاذته من غلبة الرجال ومن شماتة الأعداء

(5)

.

(1)

رواه الطبري 4/ 339 - 340 (10757).

(2)

انظر: "معاني القرآن" للنحاس 2/ 226 - 227.

(3)

ذكره النحاس في "معاني القرآن" 2/ 226، عقب قول الضحاك، ولم ينسبه إليه.

(4)

انظر: "معاني القرآن" للنحاس 2/ 225 - 226.

(5)

استعاذته صلى الله عليه وسلم من غلبة الرجال، سيأتي برقم (2893) كتاب: الجهاد، باب من غزا بصبي للخدمة، من حديث أنس، واستعاذته صلى الله عليه وسلم من شماتة الأعداء، ستأتي برقم (6347) كتاب: الدعوات، باب: التعوذ من جهد النبلاء، من حديث أبي هريرة؛ ورواه النسائي 8/ 265، وأحمد 2/ 173 من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، بلفظ:"غلبة العدو وشماتة الأعداء".

ص: 583

وقوله: (فإذا قدروا عفوا)، فإن العفو أجمل وأفضل لما جاء في ثوابه وعظيم أجره، وقد أثنى الله على من فعل ذلك فقال:{وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ (43)} [الشورى: 43] وهذِه السبيل امتثل الشارع في خاصة نفسه، فكان لا ينتقم لنفسه ولا يقتص ممن جفا عليه ولم يوقره، وقد جفا عليه كثير من الأعراب وقال له القائل

(1)

: إنك ما عدلت منذ اليوم

(2)

. فآثر الأخذ بالعفو وليسن لأمته.

وقال الداودي لما ذكر قول إبراهيم: سببه أنه قد تنتهك حرمته ويؤخذ ماله ويضيع حقه.

قال: ولما ولي الحجاج العراق قال: لا يؤم مولى. فقال أهل مسجد ليحيى بن وثاب (خ م ت س ق) وكان يؤمهم: قد أمر الأمير أن لا يؤم مولى وأنت مولى. فقال: ليس عن مثلي نهى. وكان أحد القراء واحد العلماء فمضى إلى قرب قصر الحجاج فجلس يقرأ، فقال الحجاج ماله؟ قيل له: هو مولى وأنت نهيت لا يؤم مولى فقال: ليس عن مثل هذا نهيت، فرجع يحيى فصلى بهم صلاة يؤم ثم قال: إنما كرهت أن تذلوني، فهذا صار إليَّ فوالله الذي لا إله إلا هو لا أصلي بكم أبدًا

(3)

.

(1)

ورد بهامش الأصل: القائل ذو الخويصرة.

(2)

رواه أحمد 3/ 65، وسيأتي برقم (3610) كتاب: المناقب، باب: علامات النبوة، بلفظ: يا رسول الله اعدل؛ كلاهما من حديث أبي سعيد الخدري.

(3)

رواها العجلي في "ثقاته" 2/ 358 ترجمة (1999)، وانظر في ترجمته "الطبقات" 6/ 299، و"تهذيب الكمال" 32/ 26.

ص: 584

‌7 - باب عَفْوِ المَظْلُومِ

لِقَوْلِهِ تَعَالَى عز وجل: {إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} [النساء: 149]، {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} إلى قوله:{إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى: 40 - 44][فتح 5/ 100]

التفسير:

معنى {إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا} [النساء: 149] بدلًا من السوء أو تخفوا السوء، وإن لم تبدوا خيرًا عفوًا عن السوء كان أولى، وإن كان ترك العفو جائزًا.

وقال الثعلبي: الخير هنا: المال، وقيل: الحسنة. وقوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] يريد به القصاص في الجراح المتماثلة أو في الجراح.

وإذا قال: أخزاه الله أو لعنه الله قابله بمثله، ولا يقابل القذف بالقذف ولا الكذب بالكذب. وأصلح العمل، أي: بينه وبين أخيه فأجره على رب العفو. وسميت الثانية سيئة لازدواج الكلام، ليعلم أنه

جزاء على الأول.

وقوله: ({وَلَمَنِ انْتَصَرَ})[الشورى: 41] سلف تفسيرها في الباب قبله. قال قتادة: هذا في القصاص، وأما من ظلمك فلا يحل لك أن تظلمه

(1)

.

(1)

رواه عبد الرزاق في "التفسير" 2/ 157 - 158 (2746)، والطبري 11/ 157 (30731).

ص: 585

وروي عن الحسن قال: إذا لُعن لَعن، وإذا سُب دسَب ما لم يكن حدًّا أو كلمة لا تصلح

(1)

. وقيل: المستحب العفو بدليل: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ} [الشورى: 43].

والصحيح لا كراهة فيه وأنه مخير، نعم الأفضل العفو من غير كراهة في الآخَر، ومن كانت له زلة وعلم أنه لا يعود إلى ظلمه كان الصبر أولى، ومن كان متماديًا على جرأته فالصبر فيه ليس بمحمود.

وقوله: ({إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ})[الشورى: 42] أي: بعداوتهم، أي: بالشرك المخالف لدينهم، {وَيَبغُونَ} [الشورى: 42] يعملون المعاصي، أو نزلت في النفوس والأموال، أو ما ترجوه قريش من أن يكون بمكة غير الإسلام.

{عَزم الأُمُورِ} [الشورى: 43] العزائم التي أمر الله بها أو عزائم الصواب التي وفق لها، نزلت مع ثلاث آيات قبلها في أبي بكر، شتمه بعض الأنصار فرد عليه ثم سكت عنه، وقد سلف.

وما أسلفناه من أن العفو أولى وجهه ما جاء فيه من الترغيب.

وروي عن أحمد بن حنبل قال: قد جعلت المعتصم بالله في حل من ضربي ومحنتي؛ لأنه حدثني هاشم بن القاسم عن ابن المبارك: حدثني من سمع الحسن البصري يقول: إذا جثت الأمم بين يدي رب العالمين يوم القيامة ينادي منادٍ: ليقم من أجره على الله. فلا يقوم إلا من عفا في الدنيا، ويصدق هذا الحديث قوله تعالى:{فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ} [الشورى: 40] وكان أحمد يقول: ما أحب أن يعذب الله بسببي أحدًا

(2)

.

(1)

انظر: "معاني القرآن" للنحاس 2/ 323.

(2)

انظر: "حلية الأولياء" 9/ 203 - 204، "محنة الإمام أحمد" للمقدسي ص 98 - 99.

ص: 586

وقال ابن الأنباري: كان الحسن البصري يدعو ذات ليلة: اللهم اعف عمن ظلمني. وأكثر في ذلك فقال له رجل: يا أبا سعيد، لقد سمعتك الليلة تدعو لمن ظلمك حتى تمنيت أن أكون أنا فيمن ظلمك، فما دعاك إلى ذلك: قال: قوله تعالى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ} .

ص: 587

‌8 - باب الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ القِيَامَةِ

2447 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ العَزِيزِ المَاجِشُونُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ القِيَامَةِ". [مسلم: 2579 - فتح 5/ 100]

ذكر فيه حديث ابن عُمَرَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ القِيَامَةِ".

وقد أخرجه مسلم أيضًا وأخرجاه من حديث جابر أيضًا بلفظ: "اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا

محارمهم"

(1)

.

وقال الترمذي في الأول حديث حسن غريب من حديث ابن عمر

(2)

.

قلت: وروي، من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعًا:"إياكم والظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، وإياكم والفحش فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش"

(3)

.

والظلم يشتمل على معصيتين أخذ مال الغير بغير حق، ومبارزة الآمر بالعدل بالمخالفة، وهذِه أدهى؛ لأنه لا يكاد يقع الظلم إلا للضعيف الذي لا ناصر له غير الله تعالى، وإنما ينشأ من ظلمة القلب؛ لأنه لو استنار بنور الهدى لنظر في العواقب، نبه عليه ابن الجوزي.

(1)

مسلم (2578) كتاب: البر والصلة، باب: تحريم الظلم، ولم يخرجه البخاري في "الصحيح"، وإنما أخرجه في "الأدب المفرد" برقم (483).

(2)

الترمذي (2030).

(3)

رواه أبو داود (1698)، وأحمد 2/ 159 - 160، واللفظ لأحمد.

ص: 588

وقال القزاز: الظلم هنا هو الشرك، أي: هو عليهم ظلام وعمى، ومن هذا زعم بعض اللغويين أن اشتقاق الظلم من الظلام كأن ما عليه في ظلام عن الحق، والذي عليه الأكثرون أنه وضع الشيء في غير موضعه.

قال المهلب: وهذِه الظلمات لا نعرف كيف هي؟ إن كانت من عمى القلب أو هي ظلمات على البصر، والذي يدل عليه القرآن أنها ظلمات على البصر حتى لا يهتدي سبيلًا، قال الله تعالى:{يَوْمَ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ} [الحديد: 13] فدلت هذِه الآية أنهم حين منعوا النور بقوا في ظلمة غشيت لأبصارهم، كما كانت أبصارهم في الدنيا عليها غشاوة من الكفر، وقال تعالى في المؤمنين:{يَسْعَى نُورُهُمْ} [الحديد: 12][فأثاب]

(1)

المؤمنين بلزوم نور الإيمان لهم ولذذهم بالنظر إليه وقوى

به أبصارهم، وعاقب الكفار والمنافقين بأن أظلم عليهم ومنعهم لذة النظر إليه تعالى، وهذا حديث مجمل بينه دليل القرآن.

(1)

في الأصل: (فأثابت)، والمثبت من "شرح ابن بطال" 6/ 576.

ص: 589

‌9 - باب الاِتِّقَاءِ وَالحَذَرِ مِنْ دَعْوَةِ المَظْلُومِ

2448 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ إِسْحَاقَ المَكِّيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ صَيْفِيٍّ، عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ -مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى اليَمَنِ، فَقَالَ:"اتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ، فَإِنَّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللهِ حِجَابٌ". [انظر: 1395 - مسلم: 19 - فتح 5/ 100]

ذكر فيه حديث ابن عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى اليَمَنِ، فَقَالَ:"اتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ، فَإِنَّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللهِ حِجَاب".

هذا الحديث تقدم في الزكاة، ويريد به أنه لا يردها، ولو كانت من كافر لم ينجح بظلمه. وقد فسر ذلك عمر في حديث الحمى فقال: اتق دعوة المظلوم فإنها مجابة

(1)

.

وقد روى ابن أبي شيبة من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "دعوة المظلوم مجابة، وإن كان فاجرًا فجوره على نفسه"

(2)

.

وقال عون بن عبد الله: أربع دعوات لا تُرد ولا يحجبن عن الله: دعوة والد راض، وإمام مقسط، ودعوة مظلوم، ودعوة رجل دعا لأخيه بظهر الغيب

(3)

.

(1)

سيأتي برقم (3059) كتاب: الجهاد والسير، باب: إذا أسلم قوم في دار الحرب.

(2)

"المصنف" 6/ 49 (29365).

(3)

"مصنف ابن أبي شيبة" 6/ 49 (29364).

ص: 590

‌10 - باب مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ عِنْدَ الرَّجُلِ فَحَلَّلَهَا لَهُ، هَلْ يُبَيِّنُ مَظْلَمَتَهُ

؟

2449 -

حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ المَقْبُرِيُّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لأَحَدٍ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَىْءٍ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ اليَوْمَ، قَبْلَ أَنْ لَا يَكُونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ". قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: قَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ: إِنَّمَا سُمِّيَ المَقْبُرِيَّ، لأَنَّهُ كَانَ نَزَلَ نَاحِيَةَ المَقَابِرِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: وَسَعِيدٌ المَقْبُرِيُّ هُوَ مَوْلَى بَنِى لَيْثٍ، وَهُوَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ، وَاسْمُ أَبِي سَعِيدٍ كَيْسَانُ. [6534 - فتح 5/ 101]

ذكر فيه حديث سعيد المقبري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لأَحَدٍ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ اليَوْمَ، قَبْلَ أَنْ لَا يَكُونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، إِنْ كانَ لَهُ عَمَل صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ نَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ". قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: قَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ: إِنَّمَا سُمِّيَ المَقْبُرِيُّ، لأَنَّهُ كَانَ ينْزِلُ نَاحِيَةَ المَقَابِرِ. قَالَ أبُو عَبْدِ اللهِ: وَسَعِيدٌ المَقْبُرِيُّ هُوَ مَوْلَى بَني لَيْثٍ، وَهُوَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ كَيْسَانَ.

الشرح:

قام الإجماع على أنه إذا بين ما ظلمه به فأبرأه فهو نافذ.

واختلفوا فيمن بينهما ملابسة أو معاملة، ثم حلل بعضهم بعضا من كل ما جرى بينهما من ذلك، فقال قوم: إن ذلك براءة له في الدنيا والآخرة وإن لم يبين مقداره.

ص: 591

وقال آخرون: إنما تصح البراءة إذا بين له وعرف ماله عنده أو قارب ذلك بما لا مشاحة في مثله، وهذا الحديث حجة لهذا؛ لأن قوله عليه السلام:"أخذ منه بقدر مظلمته" يدل أنه يجب أن يكون معلوم القدر مشارًا إليه.

وكان ابن المسيب لا يحلل أحدًا، وكان ابن يسار يحلل من العرض والمال.

قال مالك: أما من المال فنعم، وأما من العرض فإنما السبيل على الذين يظلمون الناس.

قال الداودي: أحسب مالكًا أراد إن أصاب من عرض رجل لم يجز لوارثه أن يحلله.

قال ابن التين: وأراه خلافًا لقول مالك؛ لأنه قال: إن مات ولا وفاء عنده فالأفضل أن يحلله، وأما من ظلم أو اغتاب فلا، وذكر الآية. وكان بعضهم يحلل من ظلمه، ويتأول:(الحسنة بعشر أمثالها)، وكان القاسم يحلل من ظلمه.

وجاء رجل إلى ابن سيرين فقال له: يا أبا بكر، اجعلني في حل فقد اغتبتك. فقال: لا أحل ما حرم الله، ولكن ما كان من قبلي فأنت في حل

(1)

.

وقال الخطابي: إذا اغتاب رجل رجلًا فإن كان بلغ المقول فيه ذلك فلابد أن يستحله، وإن لم يبلغه استغفر الله ولا يخبره، وأما التحلل في المال فإنما يصح ذلك في أمر معلوم، وقال بعض أهل العلم: إنما يصح ذلك في المنافع التي هي أعراض مثل أن يكون قد غصبه دارًا فسكنها أو دابة فركبها أو ثوبًا فلبسه أو تكون أعيانًا فتلفت، فإذا تحلل منها

(1)

رواه ابن سعد في "الطبقات" 7/ 200، وأبو نعيم في "الحلية" 2/ 263، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" 35/ 212 - 213.

ص: 592

صح التحلل، وإن كانت الدار قائمة والدراهم في يده حاصلة لم يصح التحلل منها إلا أن يهب أعيانها منه فتكون هبة مستأنفة

(1)

.

تنبيهات:

أحدها: "مظلمة": بضم اللام وكسرها، قاله القزاز، وفي "أدب الكاتب" لابن قتيبة: بفتح اللام، ونقل ابن التين عن ابن قتيبة: بفتح اللام وكسرها، قال: وضبط عن صاحب "الصحاح" ضمها، وهو كما

قال خطأ.

ثانيها: جاء في حديث آخر: "أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم كان إذا خرج من منزله قال: اللهم إني تصدقت بعرضي على الناس"

(2)

وهو دال على البراءة قبل الوقوع، وهذا الحديث أخرجه البخاري في "الضعفاء"، وكذا ابن عدي من حديث العمي عن ثابت، عن أنس وهو علته

(3)

.

ورواه البخاري في "الضعفاء" من حديث حماد بن سلمة، عن ثابت، عن عبد الرحمن بن عجلان مرفوعًا

(4)

، وهذا مرسل، وكذا أخرجه أبو داود في "مراسيله"، ثم قال: إنه أصح من رواية العمي

(5)

.

(1)

"أعلام الحديث" 2/ 1216 - 1217.

(2)

رواه أبو داود (4887) عن حماد، عن ثابت، عن عبد الرحمن بن عجلان، عن النبي صلى الله عليه وسلم. مرسلًا قال أبو داود: رواه هاشم بن القاسم، قال: عن محمد بن عبد الله العمي، عن ثابت قال: حدثنا أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم. بمعناه، وحديث حماد أصح. اهـ. وانظر: كلام المصنف عليه بعد.

(3)

رواه البخاري في "التاريخ الكبير" 1/ 137، ومن طريقه ابن عدي في "الكامل" 7/ 447.

(4)

ذكره البخاري في "التاريخ الكبير" 1/ 137، وفي "الصغير" 2/ 81 وقال: وهذا بإرساله أولى.

(5)

لم أقف عليه في مطبوع "المراسيل" وهو في "السنن" كما سبق تخريجه.

ص: 593

وظن ابن عبد البر أنه صحابي

(1)

، وتبعه الذهبي، وليس كذلك، فإنه من الأمم قبلنا كما وقع في رواية البخاري في "الضعفاء" وغيره

(2)

.

ثالثها: قوله: ("فليتحلله") يقال: تحللته واستحللته إذا سألته أن يجعلك في حل.

ومعنى أخذ الحسنات والسيئات أن يجعل ثوابها لصاحب المظلمة، ويجعل على الظالم عقوبة سبابه بدل حقه. وقال في الحديث السالف:"يتقاصون مظالم كانت بينهم"

(3)

وهي مواقف ومظالم.

(1)

"الاستيعاب" 4/ 257 (3080).

(2)

ورد بهامش الأصل: غير البخاري.

(3)

سلف برقم (2440).

ص: 594

‌11 - باب إِذَا حَلَّلَهُ مِنْ ظُلْمِهِ

(1)

فَلَا رُجُوعَ فِيهِ

2450 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها:{وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} [النساء: 128] قَالَتِ: الرَّجُلُ تَكُونُ عِنْدَهُ المَرْأَةُ، لَيْسَ بِمُسْتَكْثِرٍ مِنْهَا، يُرِيدُ أَنْ يُفَارِقَهَا، فَتَقُولُ: أَجْعَلُكَ مِنْ شَأْنِي فِي حِلٍّ. فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي ذَلِكَ. [2694، 4601، 5206 - مسلم: 3021 - فتح 5/ 102]

ذكر فيه حديث عائشة في هذِه الآية: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} [النساء: 128]، قَالَتِ: الرَّجُلُ تَكُونُ عِنْدَهُ المَرْأَةُ، لَيْسَ بِمُسْتَكْثِرِ مِنْهَا، يُرِيدُ أَنْ يُفَارِقَهَا، فَتَقُولُ: أَجْعَلُكَ مِنْ شَأنِي فِي حِلٍّ. فَنَزَلَتْ هذِه الآيَةُ فِي ذَلِكَ.

قوله في الترجمة: (فلا رجوع فيه) يريد كما قال ابن التين: ليس للمرأة رجوع فيما مضى، ولها عند مالك أن ترجع فيما يستقبل.

وقال الداودي: ليس الاسم بموافق للحديث؛ لأن هذا فيما يأتي وليس بظلم. والنشوز من الزوج: أن يسيء عشرتها ويمنعها النفقة.

وروى عكرمة عن ابن عباس قال: خشيت سودة بنت زمعة أن يطلقها النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، لا تطلقني وأمسكني واجعل يومي لعائشة. ففعل فأنزل الله:"أَن يَصَّالحَا بَيْنَهُمَا صُلْحَا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ"

(2)

[النساء: 128]، فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز

(3)

، فلم يكن

(1)

بالأصل فوقها: مظلمته. وأشار إلى أنها نسخة.

(2)

قرأها كذلك ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر. وقرأ عاصم، وحمزة والكسائي:{أَن يُصلِحَا} انظر: "الحجة" للفارسي 3/ 183، "الكشف" لمكي 1/ 398.

(3)

رواه الترمذي (3040)، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب.

ص: 595

لسودة الرجوع في يومها الذي وهبته لعائشة، كذا قاله ابن بطال

(1)

.

وروى الشافعي عن ابن [عيينة]

(2)

، عن الزهري، عن ابن المسيب أن ابنة محمد بن مسلمة كانت عند رافع بن خديج فكره منها أمرًا إما كبرًا وإما غيره، فأراد طلاقها، فقالت: لا تطلقني وأمسكني [واقسم لي]

(3)

ما بدا لك فأنزل الله: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا} الآية

(4)

[النساء: 128].

وفي "الموطأ" عن ابن شهاب، عن رافع أنه تزوج بنت محمد بن

مسلمة حتى كبرت، فتزوج عليها شابة فآثر الشابة عليها، فطلقها، ثم راجعها، ثم طلقها، ثم راجعها، ثم رضيت باستقرارها على الأثرة ولم ير رافع عليه إثمًا

(5)

.

ولأبي داود نزولها في سودة أيضًا وأشباهها فوهبت يومها لعائشة، وصححه الحاكم على شرط مسلم

(6)

.

وذكر ابن أبي حاتم أنها نزلت بسبب أبي السنابل بن بعكك وامرأته

(7)

.

وفي "تفسير مقاتل" أنها نزلت في خويلة بنت معمر بن مسلمة حين أراد زوجها رافع بن خديج طلاقها.

(1)

"شرح ابن بطال" 6/ 578.

(2)

في الأصل: علية. والمثبت من "مسند الشافعي".

(3)

زيادة من "مسند الشافعي".

(4)

"مسند الشافعي بترتيب سنجر" 3/ 83 (1215).

(5)

"الموطأ" ص 339 (57).

(6)

أبو داود (2135)، والحاكم 2/ 186 وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ورواه أيضًا مختصرًا 2/ 60 وقال: صحيح على شرط مسلم.

(7)

"تفسير ابن أبي حاتم" 4/ 1079 (6038).

ص: 596

وفي كتاب عبد الرزاق خولة. وقيل إن زوجها سعد بن الربيع.

وفي "تفسير الثعلبي": هي عمرة بنت محمد بن مسلمة.

واعلم أن ما قدمناه من اعتراض الداودي على الترجمة خالفه ابن المنير فقال: [ما]

(1)

الترجمة في الظاهر مطابقة؛ لأنها تتناول إسقاط الحق المستقبل حتى لا يكون عدم الوفاء به مظلمة لسقوطه، وأما البخاري فتلطف في الاستدلال وكأنه يقول: إذا نفذ الإسقاط في الحق المتوقع فلأن ينفذ في الحق المحقق أولى، ولهذا اختلف العلماء في إسقاط الحق قبل وجوبه هل ينفذ أم لا؟ وما اختُلف في نفوذه بعد الوجوب

(2)

.

ثم اعلم أيضًا أن البخاري ذكر حديث الباب في باب: المرأة تهب (يومها)

(3)

من زوجها لضرتها، وكيف يقسم ذلك

(4)

؟

زاد مسلم: قالت عائشة: وكانت سودة أول امرأة تزوجها من بعدي

(5)

.

وفيه إشكال؛ لأنه تزوجها قبلها إلا أن يكون عقد

(6)

عليها قبل عائشة ولم يدخل بها إلا بعدها نبه عليه ابن الجوزي.

(1)

من "المتواري" ص 276.

(2)

"المتواري" ص 276.

(3)

بالأصل: نفسها.

(4)

سيأتي برقم (5212) كتاب: النكاح.

(5)

مسلم (1463/ 48) كتاب: الرضاع، باب: جواز هبتها نوبتها لضرتها.

(6)

ورد بهامش الأصل تعليق، نصه:

قال أحمد في "المسند"[6/ 210 - 211]: حدثنا محمد بن بشر، ثنا محمد بن عمرو، ثنا أبو سلمة ويحيى قالا: لما هلكت خديجة جاءت خولة بنت حكيم. إلى أن قال: ادعي لي رسول الله. فدعته، فزوجها إياه -تعني: عائشة- وعائشة يومئذٍ =

ص: 597

وقول البخاري: (كيف يقسم ذلك) يريد أن يكون فيه الموهوبة بمنزلة الواهبة في رتبة القسمة، فإن كان يوم سودة ثالثًا ليوم عائشة أو رابعًا أو خامسًا استحقت عائشة على حسب القسمة التي كانت لسودة، ولا تتأخر عن ذلك اليوم ولا تتقدم ولا يكون تاليًا ليوم عائشة إلا أن يكون يوم سودة بعد يوم عائشة، وعندنا أنها إن وهبت لمعينة بات عندها ليلتيهما، وقيل: يواليهما أَوْ لَهُنَّ سوى. أَوْ لَهُ فَلَه التخصيص على الأصح. وقيل: يسوي، وأجراه الشارع مجرى الحقوق الواجبة، ولم يجره على أصل المسألة من الحكم فيما جعله الله له من ذلك، قال تعالى:{تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} فأجراه مجرى الحقوق وتفضلًا منه عليه السلام ليكون أبلغ في رضاهن كما قال تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ} [الأحزاب: 51] الآية، أي: لا يحزنَّ إذا كان هذا منزلًا عليك من الله ويرضين بما أعطيتهن من تقريب وإرجاء.

قال قتادة في قوله: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} إنه شيء خص الله به نبيه وليس لأحد غيره، كان يدع المرأة من نسائه ما بدا له بغير طلاق وإذا شاء راجعها.

قال غيره: وكان ممن آوى إليه عائشة وأم سلمة وزينب وحفصة، وكان قسمه من نفسه وماله فيهن سواء، وكان ممن أرجأ سودة وجويرية وصفية وأم حبيبة وميمونة، وكان يقسم لهن ما شاء.

= بنت ست سنين، ثم خرجت فدخلت على سودة بنت زمعة. إلى أن قال: ادعيه لي.

فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوجها إياه. وظاهر هذا أنه عقد على عائشة قبل سودة، وهو مخالف لما جمع به ابن الجوزي، فالظاهر أنه عقد على عائشة قبل ودخل على سودة قبل عائشة، وبه يحصل الجمع، إن شاء الله تعالى.

ص: 598

واختلفوا في كم يقسم لكل واحدة من نسائه، فقيل: يوم.

قال ابن القاسم: لم أسمع مالكًا يقول إلا يومًا لهذِه ويومًا لهذِه

(1)

.

وقيل: ليلة. وهو أفضل، ويجوز ثلاثًا ولا زيادة، وهو مذهبنا.

قال ابن المنذر: ولا أرى مجاوزة يوم إذ لا حجة مع من تخطى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غيرها، ألا ترى قوله في الحديث أن سودة وهبت يومها لعائشة ولم يحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قسمته لأزواجه أكثر من يوم وليلة، ولو جاز ثلاثة أيام لجاز خمسة وشهرًا ثم تخطى بالقول إلى ما لا نهاية له، ولا يجوز معارضة السنة، وكان مالك يقول: لا بأس أن يقيم الرجل عند أم ولده اليوم واليومين والثلاثة، ولا يقيم عند الحرة إلا يومًا من غير أن يكون مضارًا، وكذلك قال الشافعي: يأتي الإماء ما شاء أكثر مما يأتي الحرائر الأيام والليالي، فهذا صار إلى الحرائر عدل بينهن

(2)

، وهذا موضعه كتاب النكاح، لكنا تعجلناه.

وفي الحديث أيضًا جواز هبة بعض الزوجات يومها لبعضهن، ولا يكون ذلك إلا برضا الزوج، والتسوية بينهن كان غير واجب عليه

(3)

على أحد الوجهين عندنا، وإنما كان يفعله تفضلًا.

قال الداودي: وإذا رضيت بترك القسم والإنفاق عليها ثم سألته العدل فلها ذلك.

وفي "المدونة": النفقة تلزمها إذا تركها؛ لأن المغيرة لا تملكها بخلاف النفقة.

(1)

"المدونة" 2/ 197.

(2)

"الإشراف" 1/ 117، وانظر:"المدونة" 199/ 2، "الأم" 5/ 174.

(3)

ورد بهامش الأصل: قال الإصطخري: لا يجب عليه. والأصح عند الشيخ أبي حامد والعراقيين والبغوي الوجوب.

ص: 599

‌12 - باب إِذَا أَذِنَ لَهُ أَوْ أَحَلَّلُهُ وَلَمْ يُبَيِّنْ كَمْ هُوَ

2451 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي حَازِمِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِشَرَابٍ، فَشَرِبَ مِنْهُ، وَعَنْ يَمِينِهِ غُلَامٌ، وَعَنْ يَسَارِهِ الأَشْيَاخُ، فَقَالَ لِلْغُلَامِ:"أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَ هَؤُلَاءِ؟ ". فَقَالَ الغُلَامُ: لَا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، لَا أُوثِرُ بِنَصِيبِي مِنْكَ أَحَدًا. قَالَ: فَتَلَّهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي يَدِهِ. [انظر: 2351 - مسلم: 2030 - فتح 5/ 102]

ذكر فيه حديث سهل بن سعد السالف: أَنَّه عليه السلام أُتِيَ بِشَرَابٍ، فَشَرِبَ مِنْهُ، وَعَنْ يَمِينِهِ غُلَامٌ، وَعَنْ يَسَارِهِ الأَشْيَاخُ. وفي آخره: فَتَلَّهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي يَدهِ.

قال المهلب: لو حلل الغلام من نصيبه الأشياخ وأذن في إعطائه لهم: لكان ما حلل منه غير معلوم؛ لأنه لا يعرف مقدار ما كانوا يشربون ولا مقدار ما كان يشرب هو، ولا شك أن سبيل ما يوضع للناس للأكل والشرب سبيله المكارمة وقلة التشاح، وقد طابت نفوس أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبي هوازن جملة. وقبل ذلك التطييب، ولم يعرف مقدار ما كان بيد كل واحد منهم، وسيأتي في كتاب: الهبات، في باب: الهبة المقسومة الخلاف في ذلك واضحًا، والمعروف من مذهب مالك أن هبة المجهول جائزة مثل أن يهب رجل نصيبه من ميراث رجل أو من دار لا يعرف مقداره، وكذلك كل ما لا يؤخذ عليه عوض فهبته عنده جائزة.

ومذهب مالك وأبي يوسف ومحمد والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور جواز هبة المشاع، ويأتي فيها القبض كما يجوز فيها البيع، وسواء أكان المشاع مما يقسم كالدور والأرض أو مما لا يقسم كالعبيد والثياب

ص: 600

والجواهر، وسواء كان مما يقبض بالتخلية أو مما يقبض بالتحويل.

وقال أبو حنيفة: إن كان المشاع مما يقسم لم يجز هبة شيء منه مشاعًا، وإن كان مما لا يقسم يجوز هبته

(1)

.

فائدة:

معنى: (تلَّه): دفعه إليه بعنف وقوة. قاله الخطابي

(2)

.

وقال غيره: تله: وضعه في يده، وأنكر مقالته هذِه، واستدل بقوله تعالى:{وَتَلَهُ للجَبِينِ} [الصافات: 103] أي: صرعه ولكن برفق لا بعنف.

قال ابن التين: ومن قال: الغلام ابن عباس يؤخذ منه أن الصبي يسمى غلامًا، ومن قال: إنه الفضل، أخذ منه أن البالغ يسمى غلامًا.

فائدة ثانية:

حديث هذا الباب مثل حديث أبي هريرة السالف في باب: من كانت له مظلمة فحللها له هل يبين مظلمته

(3)

، إلا أن تلك كبائر وواجبات، وهذا ضرب من الاستحباب وليس فيه بيان لما بوب عليه، كما نبه عليه ابن التين

(4)

.

(1)

انظر: "الاستذكار" 22/ 304، "بداية المجتهد" 4/ 1536، "مختصر اختلاف العلماء" 4/ 139، "المغني" 8/ 247، "بدائع الصنائع" 6/ 121.

(2)

"أعلام الحديث" 2/ 1218.

(3)

سلف برقم (2449).

(4)

ورد بهامش الأصل: ثم بلغ في السبعين. كتبه مؤلفه.

ص: 601

‌13 - باب إِثْمِ مَنْ ظَلَمَ شَيْئًا مِنَ الأَرْضِ

2452 -

حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي طَلْحَةُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَمْرِو بْنِ سَهْلٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّ سَعِيدَ بْنَ زَيْدٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ ظَلَمَ مِنَ الأَرْضِ شَيْئًا طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ". [3198 - مسلم: 1610 - فتح 5/ 103]

2453 -

حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَارِثِ، حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ حَدَّثَهُ أَنَّهُ كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أُنَاسٍ خُصُومَةٌ، فَذَكَرَ لِعَائِشَةَ رضي الله عنها، فَقَالَتْ: يَا أَبَا سَلَمَةَ، اجْتَنِبِ الأَرْضَ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَنْ ظَلَمَ قِيدَ شِبْرٍ مِنَ الأَرْضِ طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ". [3195 - مسلم: 1612 - فتح 5/ 103]

2454 -

حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ المُبَارَكِ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَخَذَ مِنَ الأَرْضِ شَيْئًا بِغَيْرِ حَقِّهِ خُسِفَ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ إِلَى سَبْعِ أَرَضِينَ". قال الفِرَبْريُّ: قَالَ أَبُو جَعْرِ بنُ أَبي حَاتم: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ هَذَا الحَدِيثُ لَيْسَ بِخُرَاسَانَ فِي كِتَابِ ابْنِ المُبَارَكِ، أَمْلَاهُ عَلَيْهِمْ بِالبَصْرَةِ. [3196 - فتح 5/ 103]

ذكر فيه ثلاثة أحاديث:

أحدها:

حديث سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ ظَلَمَ مِنَ الأَرْضِ شَيْئًا طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ".

ثانيها:

حديث أبي سَلَمَةَ حدثهُ أَنَّهُ كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أُنَاسٍ خُصُومَة، فَذَكَرَ لِعَائِشَةَ؛ فَقَالَتْ: يَا أَبَا سَلَمَةَ، اجْتَنِبِ الأَرْضَ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَنْ ظَلَمَ قِيدَ شِبْرٍ مِنَ الأَرْضِ طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ".

ص: 602

ثالثها:

حديث ابن عمر قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَخَذَ مِنَ الأَرْضِ شَيْئًا بِغَيْرِ حَقِّهِ خُسِفَ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ إِلَى سَبْعِ أَرَضِينَ". قَالَ أَبُو عَبْدِ الله: هذا الحَدِيثُ لَيْسَ بِخُرَاسَانِي فِي كِتَابِ ابن المُبَارَكِ، أَمْلَاهُ عَلَيْهِمْ بِالبَصْرَةِ.

الشرح: حديث سعيد بن زيد أخرجه مسلم أيضًا، وكذا حديث عائشة وحديث ابن عمر من أفراده، وخرجه في بدء الخلق أيضًا، وانفرد به مسلم من حديث أبي هريرة

(1)

.

قال الدارقطني في حديث سعيد بن زيد: تابع شعيبًا -يعني: شيخ شيخ البخاري- مالك

وعدَّد جماعات

(2)

.

ورواه يحيى بن معين، عن هشام بن يوسف، عن معمر، عن الزهري، عن طلحة بن عبد الله، عن عبد الرحمن بن عمرو بن سهل الراوي، عن سعيد بن زيد قوله.

ورواه ابن عيينة عن الزهري، عن طلحة، عن سعيد نفسه

(3)

، ولم يذكر عبد الرحمن.

وكذا رواه ابن خزيمة عن محمد بن يحيى، عن يزيد بن هارون، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن طلحة.

قال ابن خزيمة: إن كان ابن إسحاق سمع هذا الخبر من الزهري ففيه دلالة واضحة على صحة رواية ابن عيينة، وأن طلحة سمع من سعيد بن زيد.

(1)

مسلم (1611) كتاب: المساقاة، باب: تحريم الظلم وغصب الأرض وغيرها.

(2)

"العلل" 4/ 424.

(3)

رواه النسائي 7/ 115، وابن ماجه (2580)، وأحمد 1/ 187.

ص: 603

وكذا رواه أحمد بن حنبل عن يزيد بن هارون

(1)

، ورواه سعيد بن الصلت عن عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، عن الزهري، عن طلحة، عن عمرو بن سهل، عن سعيد.

ورواه سعيد بن عبد الرحمن عن الزهري، عن سعيد لم يذكر بينهما أحدًا، وكذا قال أبو جعفر الرازي، عن سليمان بن كثير، عن الزهري، عن سعيد، وقال سعيد بن سليمان: عن سليمان بن كثير، عن الزهري، عن سعيد. وقال سعيد بن سليمان، مرة به وأبدل سعيدًا بطلحة، وزاد بعده عن سعيد. ورواه سفيان بن حسين، عن الزهري قال: ابن المسيب، عن سعيد بن زيد، وهو وهم.

قال الدارقطني: وأحبها إليَّ من قال الزهري، عن طلحة، عن عبد الرحمن

(2)

.

قال الخطابي: قوله: ("طوقه من سبع أرضين") له وجهان:

أحدهما: أنه يكلف نقل ما ظلم منها في القيامة إلى المحشر، فيكون كالطوق في عنقه.

وروي معناه في بعض الأحاديث.

والآخر: أن يعاقب بالخسف إلى سبع أرضين كما في حديث ابن عمر

(3)

.

وقال ابن بطال: قد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم كيف صورة هذا التطويق، رواه الطبري، حدثنا سفيان بن وكيع، ثنا حسين بن علي، عن زائدة،

(1)

أحمد 1/ 189.

(2)

"العلل" 4/ 427.

(3)

"أعلام الحديث" 2/ 1219.

ص: 604

عن الربيع، (عن أيمن وابن أبي ثابت)

(1)

، حدثني يعلى بن مرة الثقفي سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:"أيما رجل ظلم شبرًا من الأرض كلفه الله أن يحفره حتى يبلغ سبع أرضين، ثم يطوقه يوم القيامة حتى يقضي بين الناس".

رواه الشعبي عن أيمن، عن يعلى، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال فيه:"من سرق شبرًا من أرض أو غله جاء يحمله يوم القيامة على عنقه إلى سبع أرضين".

ورواه مروان بن معاوية الفزاري حدثنا أبو يعفور، ثنا أيمن (عن)

(2)

يعلى بن مرة

(3)

قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من أخذ أرضًا بغير حقها كلف أن يحمل ترابها إلى المحشر"

(4)

.

قلت: الصواب: أيمن عن يعلى، وظن ابن منده وأبو نعيم صحبة أيمن بن يعلى فوهما

(5)

.

وقال ابن الجوزي: هذا من تطويق التكليف لا من التقليد.

(1)

كذا بالأصل، والصواب كما وقع في "تهذيب الآثار"(عن أيمن أبي ثابت أو ابن أبي ثابت).

انظر: "تهذيب الآثار" مسند علي ص 181 (289).

(2)

كذا بالأصل وهي صواب، غير أن كلام المصنف بعدُ يشير أنها بأصله (ابن) وكذا تعليق الناسخ بالهامش. والنص منقول من "شرح ابن بطال" وقد أشار محققه أن في بعض أصوله المخطوطة وقع (ابن) فكأن منشأ الخطأ منه؛ لأنها في "تهذيب الآثار" المصدر الأصلي المنقول منه على الصواب (حدثني يعلى).

(3)

ورد بهامش الأصل: كذا في ابن بطال: أبو يعفور: ثنا أيمن بن يعلى.

(4)

"شرح ابن بطال" 6/ 580، وانظر:"تهذيب الآثار" مسند علي ص 179 - 181.

(5)

"معرفة الصحابة" 1/ 320 (199)، وانظر:"أسد الغابة" 1/ 189 (354).

ص: 605

قال: وليس ذلك بممتنع فإنه صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا ألفين أحدكم يأتي على رقبته بعير أو شاة"

(1)

وأما الخسف أن تخسف به الأرض بعد موته أو في حشره.

وقال المهلب: معنى الخسف به: أن يلج في سبع أرضين فتكون كلها على عنقه، فهذا تطويق له.

وعبارة غيره: يتجلجل فيما بينها. أي: يهوي، كقوله في قارون:{فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ} [القصص: 81].

قال الخطابي: وفيه دليل أن من ملك أرضًا ملك أسفلها إلى منتهاها، وله أن يمنع من حفر تحتها سردابًا أو بئرًا سواء ضرَّ ذلك بأرضه أم لا

(2)

؛ لأن حكم أسفلها تبع أعلاها كما قال ابن الجوزي.

واختلف فيما إذا حفر أرضه فوجد فيها معدِنًا أو شبهه:

فقيل: هو له. وقيل: بل للمسلمين. حكاهما القرطبي.

قال: وعلى ذلك فله أن ينزل بالحفر ما شاء ما لم يضر بمن يجاوره، وكذلك له أن يرفع في الهواء المقابل لذلك القدر من الأرض من البناء ما شاء ما لم يضر بأحد.

واستدل الداودي على أن السبع الأرضين بعضها على بعض لم يفتق بعضها من بعض؛ لأنه لو فتقت لم يطوق منها ما ينتفع به غيره.

(1)

سيأتي برقم (3073) كتاب: الجهاد، باب: الغلول، ورواه مسلم (1831) كتاب: الإمارة، باب: غلظ تحريم الغلول. من حديث أبي هريرة بلفظ: "لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء

لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء".

(2)

"أعلام الحديث" 2/ 1220

ص: 606

وقيل: بين كل أرض وأرض خمسمائة عام مثل ما بين كل سماء وسماء وغلظ كل سماء، كذلك قيل في خبر فيه معارضة السند

(1)

، قال: وقيل: معنى يطوَّق: يحتمل أن يقوم بها كما غصبها فهو يعذب ليقوم وهو لا يقوم

(2)

، وهذا سلف وقيد الشيء: قدره.

(1)

رواه الترمذي (3298) من حديث أبي هريرة، وقال: هذا حديث غريب من هذا الوجه.

وانظر: "كشف الخفاء" 1/ 114 - 115.

(2)

"المفهم" 4/ 534 - 535.

ص: 607

‌14 - باب إِذَا أَذِنَ إِنْسَانٌ لآخَرَ شَيْئًا جَازَ

(1)

2455 -

حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ جَبَلَةَ: كُنَّا بِالمَدِينَةِ فِي بَعْضِ أَهْلِ العِرَاقِ، فَأَصَابَنَا سَنَةٌ، فَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يَرْزُقُنَا التَّمْرَ، فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يَمُرُّ بِنَا فَيَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الإِقْرَانِ، إِلَّا أَنْ يَسْتَأْذِنَ الرَّجُلُ مِنْكُمْ أَخَاهُ. [2489، 2490، 5446 - مسلم: 2045 - فتح 5/ 106]

2456 -

حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ، أَنَّ رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ أَبُو شُعَيْبٍ كَانَ لَهُ غُلَامٌ لَحَّامٌ، فَقَالَ لَهُ أَبُو شُعَيْبٍ: اصْنَعْ لِي طَعَامَ خَمْسَةٍ لَعَلِّي أَدْعُو النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَامِسَ خَمْسَةٍ. وَأَبْصَرَ فِي وَجْهِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الجُوعَ، فَدَعَاهُ، فَتَبِعَهُمْ رَجُلٌ لَمْ يُدْعَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ هَذَا قَدِ اتَّبَعَنَا أَتَأْذَنُ لَهُ؟ ". قَالَ: نَعَمْ. [2081 - مسلم: 2036 - فتح 5/ 106]

تقدير ذلك كما قال ابن التين: إذا أذن إنسان لآخر في شيء، فلما سقط حرف الجر تعدى الفعل فنصب مثل:{وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا} [الأعراف: 155].

ثم ساق حديث جَبَلَةَ: كُنَّا بالمَدِينَةِ فِي بَعْضِ أَهْلِ العِرَاقِ، فَأصَابَتْنَا سَنَةٌ، فَكَانَ ابن الزُّبَيْرِ يَرْزُقُنَا التَّمْرَ، فَكَانَ ابن عُمَرَ يَمُرُّ بِنَا فَيَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الإِقْرَانِ، إِلَّا أَنْ يَسْتَأْذِنَ الرَّجُلُ مِنْكُمْ أَخَاهُ.

وحديث أَبِي مَسْعُودٍ، أَنَّ رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ أَبُو شُعَيْبِ كَانَ لَهُ غُلَامٌ لَحَّامٌ، فَقَالَ لَهُ أَبُو شُعَيْبٍ: اصْنَعْ لِي طَعَامَ خَمْسَةِ لَعَلِّي أَدْعُو النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَامِسَ خَمْسَةٍ. وَأَبْصَرَ فِي وَجْهِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الجُوعَ، فَدَعَاهُ، فَتَبِعَهُمْ رَجُل لَمْ يُدْعَ .. لحديث.

(1)

ورد بهامش الأصل: أذن لازم، فلا يجوز تعديه، والظاهر أن أذن معناها أمضى أو ما شابهها، ويستقيم الكلام.

ص: 608

وقد سلف بطوله في باب: ما قيل في اللحام والجزار من البيوع، وانفرد به مسلم من طريق جابر

(1)

، وأخرج الأول مسلم أيضًا والأربعة

(2)

.

قال شعبة: لا أرى هذِه الكلمة إلا كلمة ابن عمر. يعني: الاستئذان، كذا في مسلم، وفي البخاري عن شعبة: الإذن من قول ابن عمر

(3)

.

وذكر الحافظ الخطيب في كتابه "الفصل والوصل" أن قوله: (إلا أن يستأذن الرجل منكم أخاه) من قول ابن عمر وليس من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، بيَّن ذلك آدم بن أبي إياس وشبابة بن سوار عن شعبة، وقال عاصم بن علي عن شعبة: أرى الإذن من قول ابن عمر

(4)

.

قلت: قد أخرجا من حديث جبلة بن سحيم: سمعت ابن عمر يقول: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرن الرجل بين التمرتين جميعًا حتى يستأذن أصحابه، وهذا ظاهر في رفعه.

ولأحمد من حديث الحسن عن سعد مولى أبي بكر قال: قدمت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم تمرًا، فجعلوا يقرنون فقال عليه السلام:"لا تقرنوا"

(5)

.

ولابن شاهين في "ناسخه" من حديث عطاء الخراساني عن ابن بريدة، عن أبيه مرفوعًا:"إني كنت نهيتكم عن الإقران في التمر، وإن الله عز وجل قد أوسع الخير فأقرنوا".

(1)

مسلم (2036) كتاب: الأشربة، باب: ما يفعل الضيف إذا تبعه غير من دعاه.

(2)

أبو داود (3834)، والترمذي (1814)، وابن ماجه (3331)، والنسائي في "الكبرى" 4/ 167 (6728).

(3)

سيأتي برقم (5446) كتابْ الأطعمة، باب: القران في التمر.

(4)

"الفصل للوصل" 1/ 182.

(5)

"مسند أحمد" 1/ 199.

ص: 609

ثم قال: الحديث الذي فيه النهي صحيح الإسناد، والذي فيه الإباحة ليس بذاك القوي؛ لأن في سنده اضطرابًا، وإن صح فيحتمل نسخه للنهي

(1)

.

وقال الحازمي -وقد ذكرهما-: الإسناد الأول أصح وأشهر من الثاني، غير أن الخطب في هذا الباب يسير؛ لأنه ليس من باب العبادات والتكاليف، وإنما هو من قبيل المصالح الدنياوية فيكفي في ذلك الحديث الثاني، ثم يشيده إجماع الأمة على خلاف ذلك، ثم قيل: إن النهي كان حيث كان العيش زهيدًا والقوت متعذرًا؛ مراعاة لجانب الضعفاء والمساكين؛ حثًّا على الإيثار والمواساة ورغبة في تعاطي أسباب المعدلة حالة الاجتماع والاشتراك، فلما اتسع الحال قال: فشأنكم إذًا

(2)

.

إذا تقرر ذلك، فالإذن لا يكون إلا فيما يملكه الذي أذن فيه كما أذن صاحب اللحم للرجل الذي جاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاز له الأكل من ذلك الطعام، وكما أجاز عليه السلام القرآن في التمر -إذا أذن فيه أصحابه- الذي وضع بين أيديهم؛ لأنهم متساوون في الاشتراك في أكله، فهذا استأثر أحدهم بأكثر من صاحبه لم يجز له ذلك من الاستئثار بما لا تطيب عليه نفس صاحب الطعام، ولا أنفس الذين بين أيديهم إلا ما وضع للناس، فسبيله سبيل المكارمة لا سبيل التشاح وإن تفاضلوا في الأكل.

وقوله: (نهى عن الإقران): كذا في البخاري، والمعروف خلافه.

(1)

"ناسخ الحديث ومنسوخه" ص 438 - 439.

(2)

"الاعتبار" ص 188.

ص: 610

قال ابن التين: وقع رباعيًّا، والذي في اللغة: قرن ثلاثي.

قال القرطبي: كذا لجميع رواة مسلم الإقران

(1)

، وليست معروفة، والصواب: القرآن ثلاثي.

قال الفراء: لا يقال: أقرن. وقال غيره: إنما يقال: أقرن على الشيء إذا قوي عليه وأطاقه، ومنه قوله تعالى:{وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} [الزخرف: 13] أي: مطيقين. قال: وقد جاء في "الصحاح": أقرن الدم العرق، واستقرن أي: كثر

(2)

، فيحتمل أن الإقران في هذا الحديث على ذلك، ويكون معناه النهي عن الإكثار من أكل التمر إذا كان مع غيره، ويرجع معناه إلى القرآن المذكور في الرواية الأخرى

(3)

.

ونقل المنذري عن أبي محمد المعافري أنه يقال: قرن بين الشيئين وأقرن: إذا جمع بينهما. والنهي عن القران وجهان ذكرهما أبو موسى في "مغيثه" أحدهما: ذهبت عائشة وجابر إلى أنه قبيح وفيه شره وهلع وهو يزري بصاحبه. الثاني: أن التمر كان من جهة ابن الزبير وكان ملكهم فيه سواء، فيصير الذي يقرن أكثر أكلًا من غيره، فأما إذا كان ملكًا له فله أن يأكل، كما روي أن سالمًا كان يأكل التمر كفًّا كفًّا.

وقيل: إذا كان الطعام بحيث يكون شبعًا للجميع كان مباحًا له لو أكله، وجاز أن يأكل كما شاء

(4)

(5)

.

(1)

ورد بهامش الأصل تعليق، نصه: وكونه ثلاثيًّا كذا صوبه في "المطالع" في موضع، وقال: إنه المعروف. في آخر.

(2)

"الصحاح" 6/ 2181.

(3)

"المفهم" 5/ 318.

(4)

ورد بهامش الأصل: تأول بعموم اللفظ.

(5)

"المجموع المغيث" 2/ 695.

ص: 611

وحمل أهل الظاهر النهي على التحريم مطلقًا، وهو منهم ذهول عن مساق الحديث ومعناه، وحمله جمهور العلماء على حالة المشاركة بدليل مساق الحديث، وقد اختلف العلماء فيما يملك من الطعام حين وضعه، فإن قلنا: إنهم يملكونه بوضعه بين أيديهم فيحرم أن يأكل أحد أكثر من الآخر، وإن قلنا إنما يملك كل واحد منهم ما رفع إلى فيه فهو سوء أدب وشَرَهٍ ودناءة وكان مكروهًا.

وحمله ابن التين على ما إذا استوت أثمانهم فيه، مثل أن يتخارجوا في ثمنه أو يهبه لهم رجل أو يوصي لهم به، وأما إن أطعمهم هو فروى ابن نافع عن مالك: لا بأس به.

وفي رواية ابن وهب: ليس بجميل أن يأكل تمرتين أو ثلاثًا في لقمة دونهم.

وقال النووي: اختلفوا في أن هذا النهي على التحريم أو على الكراهة والأدب، والصواب التفصيل

(1)

-كما سبق- وستأتي له تكملة في كتاب: الأطعمة، إن شاء الله.

وقوله في حديث أبي مسعود: (وأبصر في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع) إنما ذلك ليعظم، وتتأسى أمته به.

وفيه: أنهم كانوا يرصدون أحواله.

وقوله: ("إن هذا تبعنا") كذا في الأصول. قال ابن التين: كذا وقع عند أبي ذر، ووقع عند أبي الحسن (اتبعنا) بالألف. قال الداودي: معنى اتَّبعنا: سار معنا، وتَبِعَهم: لحقهم. واحتج بقول الشاعر:

مازلت أتبعهم حتى تبعتهم

(1)

"شرح مسلم" 13/ 228.

ص: 612

وقال ابن فارس: تبعت فلانًا: إذا تلوته، واتبعته: إذا لحقته

(1)

، وبنحوه ذكره الجوهري: تبعت القوم: إذا تلوتهم وقفوني فسرت معهم. وقال الأخفش: تبع وأتبع سواء مثل ردف وأردف

(2)

.

قال ابن التين: والصواب: أن يُقرأ اتَّبعنا بتشديد التاء على بناء افتعل من تبع، فمعناه مثل معنى تبع. وعلى قول الداودي: إنه رباعي يتوهم أنه يناقض الحديث؛ لأنه قال في رواية في أوله: فتبعهم رجل. وقوله: (تبعهم): لحقهم. لم يقله أحد غير الفراء قال: تبعهم: لحقهم، وأتبعهم: ألحقهم، والشعر الذي ذكره ليس بشعر، وإنما هو مثل كما نص عليه الهروي، وهو صحيح؛ لأن معناه لا يستقيم على ما توهمه أبو جعفر؛ لأنه على قوله مازلت أسير معهم حتى لحقتهم، وهو كلام غير صحيح.

(1)

"مجمل اللغة" 1/ 153.

(2)

"الصحاح" 3/ 1189 - 1190.

ص: 613

‌15 - باب قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَهُوَ أَلَدُّ الخِصَامِ} [البقرة: 204]

2457

- حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إِلَى اللهِ الأَلَدُّ الخَصِمُ". [4523، 7188 - مسلم: 2668 - فتح 5/ 106]

ذكر فيه حديث عَائِشَةَ أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إِلَى اللهِ الأَلدُّ الخَصِمُ".

الشرح:

أسلفنا فيما مضى أن هذِه الآية نزلت في الأخنس بن شَريِق، وقال ابن عباس فيما حكاه ابن أبي حاتم في "تفسيره": لما أصيب أصحاب الرجيع: قال المنافقون: يا ويح هؤلاء لا هم قعدوا في أهليس ولا هم أدوا رسالة صاحبهم، فنزلت

(1)

.

وهذا الحديث أدخله العلماء في تفسير هذِه الآية.

قال أهل اللغة: والألد: هو العسر الخصومة، الشديد الحرب مشتق من اللدتين وهما صفحتا العنق، أي في جانب أخذ من الخصومة غلب. وقيل: هو من لديدي الوادي، أي: جانباه، فصاحب الصفة يأخذ في جانب ويدع الاستقامة.

وقيل: معناه إذا منع من جانب جاء من آخر، يزيد في الحجة، يقال: لددته ألده: إذا جادلته فغلبته.

(1)

"تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 363 (1910).

ص: 614

وقال ابن سيده: لَدِدْتُ لدًّا: صرت ألد. وَلَدَدْتُهُ أَلُدُّهُ: إذا خصمته، وقوله تعالى:{قومًا لُّدًّا} [مريم: 97] قيل: معناه: خصماء، عوج عن الحق. وقيل: صُمٌّ عنه

(1)

.

وفي "الجامع": اللدد: مصدر الألد، ورجل ألد: إذا اشتد في الخصومة، والأنثى: لداء، وقد ذمه الله تعالى لمدافعته عن الحق ما يعلمه ويشهد به نفسه.

قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الخِصَامِ (204)} [البقرة: 204].

وقد ترجم بهذِه الترجمة في كتاب: الأحكام. وفي "تفسير ابن أبي حاتم" عن ابن عباس: ألد الخصام. أي: ذو (ضلال)

(2)

إذا كلمك وراجعك. وعن الحسن: كاذب القول. وعن مجاهد: ظالم لا يستقيم.

وعن قتادة: شديد القسوة في معصية الله جدل بالباطل

(3)

.

والخَصِم: المولع بالخصومة الماهر فيها.

قال الزجاج: الخصام: جمع خصم. وقيل: هو مصدر خاصمته.

(1)

"المحكم" 9/ 222.

(2)

في "التفسير": جدال.

(3)

"تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 365.

ص: 615

‌16 - باب إِثْمِ مَنْ خَاصَمَ فِي بَاطِلٍ وَهْوَ يَعْلَمُهُ

2458 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللهِ قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ أَخْبَرَتْهُ، أَنَّ أُمَّهَا أُمَّ سَلَمَةَ رضي الله عنها -زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم- أَخْبَرَتْهَا عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ سَمِعَ خُصُومَةً بِبَابِ حُجْرَتِهِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ:"إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّهُ يَأْتِينِي الخَصْمُ، فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَبْلَغَ مِنْ بَعْضٍ، فَأَحْسِبُ أَنَّهُ صَدَقَ، فَأَقْضِيَ لَهُ بِذَلِكَ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْلِمٍ فَإِنَّمَا هِيَ قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ، فَلْيَأْخُذْهَا أَوْ فَلْيَتْرُكْهَا". [2680، 6967، 7169، 7181، 7185 - مسلم: 1713 - فتح 7/ 105]

ذكر فيه حديث أم سلمة أنه صلى الله عليه وسلم سَمِعَ خُصُومَةً بِبَابِ حُجْرَتِهِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ:"إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّهُ يَأْتِينِي الخَصْمُ، فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَبْلَغَ مِنْ بَعْضٍ، فَأَحْسِبُ أَنَّهُ صَدَقَ، فَأقضِيَ لَهُ بِذَلِكَ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْلِمِ فَإِنَّمَا هِيَ قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ، فَلْيَأْخُذْهَا أَوْ فَلْيَتْرُكهَا".

اَلشرح: الحديث دال على أن [القوي على]

(1)

البيان البليغ في تأدية الحجة قد يغلب بالباطل من أجل بيانه فيقضي له على خصمه، وليس ذلك يحل ما حرم عليه لقوله:"فإنما هي قطعة من النار" أي: يوجبها في الآخرة إلا أن يقتص لصاحبها منه أو يعوضه الله منه، وهذا هو معنى قوله تعالى:{وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 188] وسيأتي بسط ذلك وما ينتزع منه في كتاب الأحكام، إن شاء الله.

ونذكر لك منه أمورًا منها قوله: ("فليأخذها"): خرج بلفظ الخبر، والمراد به النهي والتهديد والوعيد كقوله:{اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40]

(1)

ليست بالأصل، والمثبت من "شرح ابن بطال" 6/ 582.

ص: 616

ومنها الحكم بالظاهر تشريعًا للأمة وهو كقوله: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله"

(1)

، وقوله في حديث المتلاعنين:"لولا الإيمان لكان لي ولها شأن"

(2)

.

وحكم الحاكم لا يبيح محظورًا؛ خلافًا لأبي حنيفة إذا شهدا بزور أن فلانًا طلق زوجته أن للشاهد تزوجها، كما ستعلمه في موضعه.

ومنها: أن كل مجتهد ليس مصيبًا وأن إثم الخطأ مرفوع عنه إذا اجتهد ووقع الاجتهاد موضعه، وقام الإجماع على أن حكم الحاكم في المال لا يبيح محظورًا، واختلفوا في النكاح والطلاق

(3)

.

ومنها: حكمه بالاجتهاد وهو قول المحققين كما نقله القاضي

(4)

.

ومنها: أنه روي في هذا: "إنما أحكم بما أسمع" و (إنما) للحصر، فكأنه قال: لا أحكم إلا بما أسمع.

وقد اختلف في هذا، فقال مالك في المشهور عنه: إن الحاكم لا يحكم بعلمه في شيء، وبه قال أحمد وإسحاق وأبو عبيد والشعبي، وروي عن شريح. وذهبت فرقة أخرى إلى أنه (يقضي)

(5)

بعلمه في كل شيء من الأموال والحدود، وبه قال أبو ثور والشافعي في أحد قوليه، والأصح عنده أنه يقضي بعلمه إلا في الحدود.

(1)

سلف برقم (25) كتاب: الإيمان، باب:{فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} من حديث ابن عمر.

(2)

رواه أبو داود (2256)، وأحمد 1/ 238 - 239، من حديث ابن عباس، وسيأتي برقم (4747) كتاب: التفسير، باب:{وَيَدْرَأُ عَنْهَا العَذَابَ} من حديث ابن عباس بلفظ: "لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن".

(3)

انظر: "الاستذكار" 22/ 16 - 17.

(4)

"إكمال المعلم" 5/ 561.

(5)

في الأصل: قضى، وما أثبتناه هو الملائم للسياق.

ص: 617

وذهبت فرقة ثالثة إلى التفريق، فمنهم من قال يقضي بما سمعه في مجلس قضائه خاصة، لا قبله ولا في غيره إذا لم يحضر مجلسه بينة في الأموال خاصة، وهو قول الأوزاعي وجماعة من أصحاب مالك، وحكوه عنه أيضًا، ومنهم من قال: يحكم بما سمعه في مجلس قضائه وفي غيره، لا قبل قضائه ولا في غير مصره في الأموال خاصة؛ سواء سمع ذلك في مجلس قضائه أو في غيره قبل ولايته أو بعدها، وبه قال أبو يوسف ومحمد والشافعي في أحد قوليه.

وذهب بعض أصحابهم إلى أنه يقضي بعلمه في الأموال والقذف خاصة ولم يشترط مجلس القضاء

(1)

.

واتفقوا على أنه يحكم بعلمه في الجرح والتعديل؛ لأن ذلك ضروري في حقه

(2)

.

ومنها: أن البينة مسموعة بعد اليمين وهو الذي فهمه البخاري وبوب له بَعْدُ: من أقام البينة بعد اليمين؛ وإن كان الإسماعيلي أنكر ذلك وقال: ليس في الخبر الذي ذكره دلالة على قبول البينة بعد يمين المسلم.

ومنها: معنى ("أبلغ من بعض")، ولابن أبي شيبة من حديث أبي هريرة:"ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض"

(3)

.

قال الزجاج: بلغ الرجل يبلغ بلاغة فهو بليغ: إذا كان يبلغ بعبارة لسانه كنه ما في قلبه.

(1)

انظر: "إكمال المعلم" 5/ 562، "الأم" 7/ 103، "الاستذكار" 22/ 13 - 15، "المغني" 14/ 30 - 31، "عيون المجالس" 4/ 1535 - 1537.

(2)

"المغني" 14/ 33.

(3)

"المصنف" 4/ 542 (22965)، 7/ 321 (36479).

ص: 618

وقال غيره: البلاغة: إيصال المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ، ولهم عبارات أخر، قيل: الإيجاز مع الإفهام والتصرف من غير إضمار.

وذكر ابن رشيق في "عمدته" أنها قليل يفهم وكثير لا يسأم.

وقيل: إجاعة اللفظ وإشباع المعنى، أو معان كثيرة في ألفاظ قليلة، أو إصابة المعنى وحسن الإيجاز، أو سهولة اللفظ مع حسن البديهة، أو لمحة دالة، أو كلمة تكشف عن البغية أو الإيجاز من غير عجز

والإطناب من غير خطأ.

وجعل ابن المقفع من السكوت بلاغة رغبة في الإيجاز، ولبعض الكلبيين: واعلم بأن من السكوت إبانة ومن التكلم ما يكون خبالًا. وقيل: أنها معرفة الفصل و (الوصل)

(1)

أو يكون أول الكلام يدل على

آخره وعكسه.

وأما اللحن، فقال أبو زيد: لحنت له بالقول ألحن لحنًا إذا قلت له قولًا يفهمه عنك ويخفى على غيره، واللحن بالتحريك كما قال الخطابي: الفطنة، وقد لحن

(2)

بالكسر يلحن لحنًا بسكون الحاء: الزيغ في الإعراب، والمصدر من الأول بفتح حائه وتسكن

(3)

.

قال مالك بن أسماء الفزاري من أبيات:

منطق صائب وتلحن أحيا

نًا وخير الحديث ما كان لحنًا

(1)

في الأصل: الوصول، والصواب ما أثبتناه، وانظر:"البيان" 1/ 61.

(2)

ورد بهامش الأصل: لحن بفتح الحاء: أخطأ، وبكسرها: فطن، وقد ذكره بعد ذلك على الصواب.

(3)

"أعلام الحديث" 2/ 1313.

ص: 619

وما ذكره الجاحظ في "تبيانه" من أن الجارية يستحسن منها اللحن، واستشهد بقول مالك

(1)

، فقد رُدَّ عليهِ.

ومنها: وهو ينعطف على ما مضى- قال الطحاوي: ذهب قوم إلى أن كل ما يقضي به الحاكم من تمليك مال أو إزالة ملك أو إثبات نكاح أو طلاق وما أشبه ذلك، أن ذلك كله إن كان في الباطن كهو في الظاهر وجب ذلك على ما علم، وإن كان في الباطن على خلاف ما شهد به الشاهدان، وعلى خلاف ما حكم بشهادتهما على الحكم بالظاهر لم يكن قضاء القاضي موجبًا شيئًا من تمليك ولا تحليل ولا تحريم، وممن قال ذلك أبو يوسف، وخالفهم آخرون، فقالوا: ما كان من ذلك من تمليك مال فهو على حكم الباطن، كما قال عليه السلام:"فمن قضيت له شيئًا" الحديث. وما كان من ذلك قضاء بطلاق أو نكاح بشهودٍ ظاهرهم العدالة وباطنهم الجرح، فحكم الحاكم بشهادتهم على ظاهرهم، فإنه ينفذ ظاهرًا وباطنًا.

واستدل بأنه عليه السلام فرق بين المتلاعنين

(2)

، ولو علم صدق المرأة لحد الزوج لها بقذفه إياها، ولو علم أن الزوج صادق لحد المرأة للزنا، ولم يفرق بينهما، فلما خفي عليه الصادق منهما وجب حكم آخر، وهو حرمة الفرج على الزوج ظاهرًا وباطنًا، ولم يرد ذلك إلى حكم الباطن، فلما ثبت هذا في المتلاعنين ثبت أن يكون كل قضاء ليس فيه تمليك أموال أنه على الظاهر لا على حكم الباطن، وأن حكم القاضي يحدث في ذلك التحريم، والتحليل في الظاهر والباطن جميعًا، وأنه خلاف الأموال

(1)

"البيان" 1/ 92.

(2)

سيأتي برقم (4748) كتاب: التفسير، باب: قوله {وَالخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْهَا} .

ص: 620

التي يقضى بها على حكم الظاهر، وهي في الباطن على خلاف ذلك، فيكون حديث الباب على القضاء في الأموال، وأن حديث المتلاعنين على القضاء بغير الأموال حتى تتفق معاني الأخبار، وقد حكم الشارع في المتبايعين إذا اختلفا في الثمن والسلعة قائمة أنهما يتحالفان ويترادان، فتعود الجارية إلى البائع ويحل له فرجها وتحرم على المشتري، ولو علم الكاذب منهما بعينه إذًا لقضى بما قال الصادق منهما ولم يقض بفسخ بيع، ولا بوجوب حرمة فرج الجارية المبيعة على المشتري، فلما كان ذلك على ما وصفنا كان ذلك كل قضاء بتحريم أو تحليل أو عقد نكاح على ما حكم القاضي فيه في الظاهر لا على حكمه في الباطن، وهذا قول أبي حنيفة ومحمد بن الحسن، وأجاب ابن رشد عن اللعان بأن الفرقة فيه إنما وقعت؛ عقوبة للعلم بأن أحدهما كاذب.

ومنها: العمل بالظن حيث قال: فأحسب أنه (صادق)

(1)

وهو أمر لم يختلف فيه في حق الحاكم، ومنها مخرج الغالب حيث قال:("من حق أخيه") فإنه خرج مخرج الغالب؛ لأن مال الذمي والمعاهد والمرتد في هذا كمال المسلم.

(1)

ورد في الأصل فوق هذِه الكلمة (صدق).

ص: 621

‌17 - باب إِذَا خَاصَمَ فَجَرَ

2459 -

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدٌ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا، أَوْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ، حَتَّى يَدَعَهَا إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ". [انظر: 34 - مسلم: 58 - فتح 5/ 107]

ذكر فيه حديث عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو السالف في الإيمان، وقال هنا:"وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ".

والمراد: تعظيم ذنبه وقربه من النفاق لا حقيقة، فيخشى على مرتكبها ذلك أو أنه منافق في تلك الخصلة دون غيرها مما صح فيه اعتقاده.

والفجور: الكذب والريبة، وذلك حرام، ألا ترى أنه عليه السلام قد جعل ذلك خصلة من النفاق، وأطلق اسم النفاق على صاحب هذِه الخصال وعلى بعضها؛ لأنها تغلب على أحوال المرء وتستولي على أكثر الأفعال، فاستحق هذِه التسمية بما غلب عليه من قبيح أفعاله ومشابهته فيها المنافقين والكفار، فوصف بصفتهم تقبيحًا لحاله، ولا شيء أقبح على المرء من ملازمته أفعال الكفار ومجانبته أفعال المؤمنين، أعاذنا الله من ذلك.

ص: 622

‌18 - باب قِصَاصِ المَظْلُومِ إِذَا وَجَدَ مَالَ ظَالِمِهِ

وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ يُقَاصُّهُ. وَقَرَأَ: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} . [النحل: 126].

2460 -

حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، حَدَّثَنِي عُرْوَةُ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: جَاءَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ مِسِّيكٌ، فَهَلْ عَلَيَّ حَرَجٌ أَنْ أُطْعِمَ مِنَ الَّذِي لَهُ عِيَالَنَا؟ فَقَالَ:"لَا حَرَجَ عَلَيْكِ أَنْ تُطْعِمِيهِمْ بِالمَعْرُوفِ". [انظر: 2211 - مسلم: 1714 - فتح 5/ 107]

2461 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ، عَنْ أَبِي الخَيْرِ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قُلْنَا لِلنَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّكَ تَبْعَثُنَا فَنَنْزِلُ بِقَوْمٍ لَا يَقْرُونَا، فَمَا تَرَى فِيهِ؟ فَقَالَ لَنَا:"إِنْ نَزَلْتُمْ بِقَوْمٍ، فَأُمِرَ لَكُمْ بِمَا يَنْبَغِي لِلضَّيْفِ فَاقْبَلُوا، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا فَخُذُوا مِنْهُمْ حَقَّ الضَّيْفِ". [6137 - مسلم: 1727 - فتح 7/ 105]

ثم ساق حديث عائشة في قصة هند: "لَا حَرَجَ عَلَيْكِ أَنْ تُطْعِمِيهِمْ بِالمَعْرُوفِ".

وحديث عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قُلْنَا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إِنَّكَ تَبْعَثنا فَنَنْزِلُ بِقَوْمٍ لَا يَقْرُونَا، فَمَا تَرى فِيهِ؟ فَقَالَ لنَا:"إِنْ نَزَلْتُمْ بِقَوْم، فَأُمِرَ لَكُمْ بِمَا يَنْبَغِي لِلضَّيْفِ فَاقْبَلُوا، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا فَخُذُوا مِنْهُمْ حَقَّ الًضَّيْفِ".

الشرح:

أثر ابن سيرين قال به الحسن، وحديث عقبة رواه من حديث يزيد، عن أبي الخير، عنه، به. أخرجه الترمذي من حديث ابن لهيعة، عن يزيد، وحسنه. ولفظه: إنا نمر بقوم فلا هم (يضيفونا)

(1)

ولا هم

(1)

في الأصل فوق هذِه الكلمة لفظة: كذا.

ص: 623

يؤدون ما لنا عليهم من الحق ولا نحن نأخذ منهم، فقال عليه السلام:"إن أبوا إلا أن تأخذوا كرهًا فخذوا" ثم قال: معناه أنهم كانوا يخرجون في الغزو، فيمرون بقوم ولا يجدون من الطعام ما يشترونه بالثمن؛ فقال عليه السلام:"إن أبوا إلا أن تأخذوا كرهًا فخذوا". قال: هكذا روي في بعض الحديث مفسرًا. قال: وروي عن عمر أنه كان يأمر بنحو من هذا

(1)

.

واختلف العلماء في الذي يجحد وديعة غيره، ثم المودع يجد له مالًا هل يأخذه عوضًا من حقه أم لا؟ وفيه خلاف عن مالك أيضًا. فروى ابن القاسم عنه أنه لا يفعل واحتج بحديث:"أدَّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك"

(2)

، وروي عنه أن له أن يأخذ حقه إذا وجده من ماله إذا لم يكن فيه شيء من الزيادة، وهو قول الشافعي، واحتج بحديث هند، وعندنا أن من له حق على شخص وعجز عن استيفائه يجوز له أن يأخذ من ماله قدر حقه بغير إذنه

(3)

.

وروى ابن وهب عن مالك أنه إذا لم يكن على الجاحد للمال دين، فله أن يأخذ مما يظفر له به من المال حقه، وإن كان على الجاحد للمال دين فليس له أن يأخذ إلا بمقدار ما يكون فيه أسوة الغرماء

(4)

.

وقال أبو حنيفة: يأخذ من الذهب الذهب، ومن الفضة الفضة، ومن المكيل المكيل، ومن الموزون الموزون، ولا يأخذ غير ذلك. وحكي

(1)

الترمذي (1589).

(2)

رواه أبو داود (3535)، والترمذي (1264)، من حديث أبي هريرة، وقال: هذا حديث حسن غريب.

(3)

"مختصر المزني" بهامش "الأم" 5/ 267.

(4)

"النوادر والزيادات" 10/ 454.

ص: 624

عنه المنع المطلق. وقال زفر: له أن يأخذ العرض بالقيمة.

وأولى الأقوال في ذلك قول من أجاز الانتصاف من حقه إذا وجد مال من ظلمه بدلالة الآية، ودلالة حديث هند، ألا ترى أنه أجاز لها أن تطعم عياله من ماله بالمعروف عوض ما قصر فيه من طعامهم، فدخل في معنى ذلك كل من وجب عليه حق لم يوفه أو جحده أنه يجوز له الاقتصاص منه.

وليس حديث "أدِّ الأمانة" مخالف لهذا المعنى؛ لأن من أخذ حقه فلا يسمى خائنًا، فمعناه الخصوص، فكأنه قال: أدها إن لم يكن غاصبًا لمالكَ ولا جاحدًا له، وأما من غصبك حقك وجحدك فليس يدخل فيمن أُمِرَ بأداء الأمانة إليه؛ لقوله تعالى:{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] ولدلالة حديث هند، وهذا التأويل ينفي التضاد ودليل القرآن.

وتبويب البخاري دال عليه، وإذا سرق من غريمه فأراد قطع يده فادعى أنه اقتص من حقه لم يقطع كما قال الخطابي؛ للشبهة فيه إذا قامت له بينة بما ادعاه من الحق وإلا قطع

(1)

.

وفي "الهداية" من له على آخر دراهم فسرق مثلها لم يقطع؛ لأنه استيفاء لحقه، والحال والمؤجل فيه سواء؛ لأن التأخير لتأخر المطالبة، وكذا لو سرق زيادة على حقه؛ لأنه بمقدار حقه يصير شريكًا فيه، وإن سرق عروضًا قطع؛ لأنه ليس له ولاية الاستيفاء منه إلا بالتراضي، وعن أبي يوسف لا يقطع؛ لأن له أن يأخذه عند بعض العلماء قضاء من حقه أو رهنًا بحقه

(2)

.

(1)

"أعلام الحديث" 2/ 1223.

(2)

"الهداية" 2/ 412.

ص: 625

قال الخبازي

(1)

في "حواشيه": أراد ببعض العلماء الشافعي في أخذه العروض، وقوله: أو رهنًا عند بشر المريسي.

وأما حديث عقبة، فقال أكثر العلماء كما حكاه ابن بطال عنهم أنه كان في أول الإسلام حين كانت المواساة واجبة، وهو منسوخ بقوله عليه السلام:"جائزته يوم وليلة"

(2)

، والجائزة تفضل وليست بواجبة

(3)

.

وقال ابن التين: قيل: نسخها: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالبَاطِلِ} [البقرة: 188] قال: وقيل: كان ذلك في أهل العمود والمواطن التي لا أسواق فيها. وسيأتي مذاهب العلماء في الضيافة في باب: إكرام

الضيف من كتاب الأدب إن شاء الله تعالى.

قال الخطابي: وهؤلاء المبعوثون في حديث عقبة إنما يأخذون ممن نزلوا بهم بحق الضيافة على معنى أنهم أبناء سبيل، وحق الضيافة من المعروف الذي يكره تركه ولا يجبر عليها أحد ويقبض من ماله إلا عند الضرورة ولو كانوا عمالًا كان على المبعوث إليهم طعامهم وما يصلحهم، وإنما كان يلزم ذلك لمن كان عليه السلام يبعثهم في زمانه وليس إذ ذاك للمسلمين بيت مال، وأما اليوم فيعطَون أرزاقهم، فليس لهم حق في أموال المسلمين، وإلى نحو منه ذهب أبو يوسف فيما كان شرط من أمر الضيافة على أهل نجران، فزعم أنها كانت خاصًّا

(1)

هو جلال الدين، عمر بن محمد بن عمر الخبازي، توفي سنة 691 هـ، عن اثنتين وستين سنة، وله حاشية على "الهداية"، وكتاب:"المغني في أصول الفقه". انظر: "تاج التراجم في من صنف من الحنفية" لابن قطلوبغا ص 164 (185).

(2)

سيأتي برقم (6018) كتاب: الأدب، باب:"من كان يؤمن بالله واليوم الآخر" من حديث أبي هريرة.

(3)

"شرح ابن بطال" 6/ 585.

ص: 626

بأيامه ليس لأحد بعده، وقد كان عمر حين ضرب الجزية على نصارى الشام جعل عليهم الضيافة لمن نزل بهم، فإذا كانت الضيافة مشروطة على قوم من أهل الذمة مع الجزية فمنعوها كان للضيف أن يأخذ حقه من عرض أموالهم

(1)

.

تنبيهات:

أحدها: لما ذكر ابن التين عن الداودي أن المراد بحديث: "لا تخن من خانك" لا تأخذ أكثر من حقك، قال: وهذا أحد قولي مالك؛ لأنه ائتمنه، فإن لم يكن ائتمنه واختفي فله الأخذ، وأما من ائتمنه ففي "المدونة": لا يأخذ، واحتج بهذا الحديث

(2)

، والآخر أنه يأخذ قدر حقه ويحلف ما دفعت لي شيئًا. يعني: يجب عليَّ رده عليك. وقيل: ينوي إلا ولي عليك مثله، وكأنه كالمكره على اليمين. وقيل: يحرك لسانه بما تقدم. وقيل: واسع أن لا يحركه. وقيل: إن أمن أن يحلف جاز له أن يأخذ، ويجزئ الحلِف بقوله: مالك عندي حق.

قال: وهذا إذا كان الظالم لا دين عليه، فإن كان عليه دين؛ فقيل: يأخذ قدر ما يقع له في المخاصمة. وقيل: يأخذ جميع ماله؛ لأنه لم يفلس بعد، قاله محمد بن عبد الحكم.

ثانيها: معنى (ممسك) وفي نسخة: (مسيك)

(3)

في حديث هند هو بكسر الميم وتشديد السين: بخيل شديد التمسك بما في يديه.

(1)

"أعلام الحديث" 2/ 1224 - 1225.

(2)

"المدونة" 4/ 360.

(3)

ورد بهامش الأصل: قال في "المطالع" كذا رواية أكثر المحدثين -يعني: ما هو مبسوط هنا- قال ورواية المتقنين بفتح الميم وتخفيف السين وكذا للمستملي عن أبي بحر فبالوجهين وجدته على ابن الحسن وكذا ذكره أهل اللغة؛ لأن أمسك لا يبنى منه فعيل، إنما يبنى من الثلاثي وقد يقال: مسك لغة قليلة. انتهى.

ص: 627

وفعيل: من أبنية المبالغة كشريب وسكير وخمير.

وقولها: (من الذي له) أي: من ماله الذي في يدي أو بيدي.

قال الخطابي: وفيه: أن من له حقٌّ على رجل، وفي يده مال له استوفاه، وإن كان من غير حقه؛ لأن معلومًا أن بيت الرجل الشحيح لا يجمع كل ما يحتاج إليه عياله على مر الأيام حتى يستغني به عما سواه

(1)

.

قال ابن التين: وهذا غير ظاهر من الحديث، بل يحتمل أن يكون تحت يدها ما تريد أو تبيع منه ما تشتري ما تحتاج إليه.

قال الشيخ أبو إسحاق في "زاهيه": من أصحابنا من منع من ذلك أن يأخذه أو يبيعه بمثل ما له عليه؛ لأنه لم يوكل في ذلك، وبه أقول.

قال الخطابي: وفيه جواز الحكم على الغائب. قلت: فيه نظر فإنه كان بالمدينة

(2)

، قال: وفيه حكم الحاكم بعلمه

(3)

.

وفيه: أن السارق إذا سرق من غريمه لا يقطع.

وقوله: ("بالمعروف")، أي: بقدر حاله وما يجب عليه.

ثالثها: قد أسلفنا نسخ حديث عقبة وقيل: إنه المراد بقوله: {لَا يُحِبُّ اللهُ الجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ القَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء: 148] وحق الضيف معروف لا يمنعه إلا عند الضرورة.

(1)

"أعلام الحديث" 2/ 1223.

(2)

ورد بهامش الأصل -يعني: بمكة-: بل قال السهيلي أنه كان حاضرًا السؤال فاعلمه، وقد ساقه في "روضه" رواية، وذلك في مكة لا في المدينة.

(3)

"أعلام الحديث" 2/ 1223.

ص: 628

واختلف هل يؤخذ من مانعه قيمته إذا كان المضطر غير حاضر، ذكره ابن التين، قال: وأما من بعثهم الإمام، فيجب على المبعوث إليهم طعامهم إلا أن يكون هناك بيت مال يحمل كلَّهم، وكان المسلمون يومئذٍ لا بيت مال لهم.

وقولهم: (لم يقرونا) أي: يضيفونا من قريت الضيف إذا جمعته إليك، وليس قولهم هذا غيبة كما سلف. وقيل: حق الضيف أن يأخذ ضيافته.

ص: 629

‌19 - باب مَا جَاءَ فِي السَّقَائِفِ

وَجَلَسَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ.

2462 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، وَأَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ، عَنْ عُمَرَ رضي الله عنهم قَالَ حِينَ تَوَفَّى اللهُ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الأَنْصَارَ اجْتَمَعُوا فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ، فَقُلْتُ لأَبِي بَكْرٍ: انْطَلِقْ بِنَا، فَجِئْنَاهُمْ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ. [3445، 3928، 4021، 6829، 6830، 7323 - مسلم: 1691 - فتح 9/ 109]

حَدَّثنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنِي ابن وَهْبِ، حَدَّثَنِي مَالِكٌ، وَأَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابن شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ، أَنَّ ابن عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ، عَنْ عُمَرَ قَالَ حِينَ تَوَفى اللهُ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الأَنْصَارَ اجْتَمَعُوا فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ، فَقُلْتُ لأَبِي بَكْرٍ: انْطَلِقْ بِنَا، فَجِئْنَاهُمْ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ.

وهذا الحديث ذكره مسلم والأربعة

(1)

مطولًا ومختصرًا وليس فيها جلوسه عليه السلام في السقيفة، وقد نبه على ذلك الإسماعيلي أيضًا.

وقوله: (حدثني ابن وهب، حدثني مالك، وأخبرني يونس) قيل: إن ابن وهب أول من فرق بين أخبرني وحدثني

(2)

(3)

.

(1)

أبو داود (4418)، والترمذي (1432)، وابن ماجه (2553)، والنسائي في "الكبرى" 4/ 272 (7153).

(2)

ورد بهامش الأصل ما نصه: تقدمه ابن جريج والأوزاعي.

(3)

رواه عن ابن وهب الترمذي 5/ 752 كتاب: العلل، وانظر:"علوم الحديث" لابن الصلاح ص 139 - 140، وروى الخطيب في "الكفاية" ص 434 التفريق بين أخبرنا وحدثنا عن ابن جريج والأوزاعي.

ص: 630

والسقائف صفف لها سقف، والسقيفة: فعيلة بمعنى مفعولة.

قال ابن التين: ولما كان لأهل الموضع أن يرتفقوا بسقائفهم وأفنيتهم؛ لأنه لو لم يجز ذلك لم يجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم هناك، ثم اقتدى به أصحابه.

وقال ابن بطال: السقائف والحوانيت قد علم الناس ما وضعت له ومن اتخذها مجلسًا، فذلك مباح له إذا التزم ما في ذلك من غض البصر ورد السلام وهداية الضال وجميع شروطه

(1)

.

(1)

"شرح ابن بطال" 6/ 586.

ص: 631

‌20 - باب لَا يَمْنَعُ جَارٌ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَهُ فِي جِدَارِهِ

2463 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَا يَمْنَعُ جَارٌ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَهُ فِي جِدَارِهِ". ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: مَا لِي أَرَاكُمْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ؟! وَاللهِ لأَرْمِيَنَّ بِهَا بَيْنَ أَكْتَافِكُمْ. [5627، 5628 - مسلم: 1609 - فتح 5/ 110]

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَا يَمْنَعُ جَارٌ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَهُ فِي جِدَارِهِ". ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: مَا لِي أَرَاكُمْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ؟! وَاللهِ لأَرْمِيَنَّ بِهَا بَيْنَ أَكْتَافِكُمْ.

قال ابن عبد البر: كذا روى هذا الحديث رواة "الموطأ" عن مالك، ورواه خالد بن مخلد عن مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج به، ويحتمل أن يكون عنده بهما جميعًا، ورواه أكثر أصحاب ابن شهاب عنه عن الأعرج كما رواه مالك إلا معمر بن راشد، فإن عنده عن ابن شهاب إسنادين أحدهما كما سلف، والثاني عن ابن المسيب بدل الأعرج.

قال الرازيان: وَهِمَ معمرٌ فيه؛ إنما هو الزهري عن الأعرج

(1)

.

وبهذا الإسناد كان هذا الحديث عن عقيل.

ورواه محمد بن أبي حفصة عن الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة ولم يتابع على ذلك عن ابن شهاب، ورواه هشام بن

(1)

"علل ابن أبي حاتم" 1/ 471 (1413).

ص: 632

يوسف الصنعاني، عن معمر ومالك عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة فوهِم فيه، وليس بصحيح فيه عن مالك ولا عن معمر ذكرُ أبي سلمة- فيما ذكره الدارقطني

(1)

.

وقد روى بشر بن عمر عن مالك، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة.

والصواب: مالك، عن الزهري، عن الأعرج كما سلف

(2)

.

ولما سئل أبو حاتم عن حديث ابن الطباع، عن وهيب وابن علية، عن أيوب، عن عكرمة، عن أبي هريرة. الحديث من غير ذكر ابن سيرين، قال: إن كان حديث ابن الطباع محفوظًا فهو غريب، وأحسب غير ابن الطباع رواه في حماد ولم يذكر ابن سيرين

(3)

.

وروى أسد بن موسى، حدثنا قيس بن الربيع، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس مرفوعًا:"من ابتنى فليدعم جذوعه على حائط جاره"

(4)

.

ولابن ماجه: "لا ضرر ولا ضرار، وللرجل أن يضع خشبَهُ في حائط جاره"

(5)

.

(1)

"العلل" 10/ 293.

(2)

"التمهيد" 10/ 215 - 217.

(3)

"علل ابن أبي حاتم" 1/ 466 - 467 (1401).

(4)

رواه الطحاوي في "شرح مشكل الآثار" 6/ 200 - 201 (2408)، عن الربيع بن سليمان المرادي، ثنا أسد، به. ورواه ابن أبي شيبة 4/ 549 (23027) من طريق سفيان، عن سماك، به.

(5)

ابن ماجه (2341) من حديث ابن عباس بلفظ: "لا ضرر ولا ضرار" فقط، ورواه بتمامه أحمد 1/ 313.

ص: 633

وله من حديث عكرمة بن سلمة بن ربيعة أن أخوين من بني المغيرة لقيا مجمع بن جارية الأنصاري

(1)

ورجالًا كثيرًا، فقالوا: نشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبًا في جداره"

(2)

.

قال أبو عمر: قيل: إن حديث مجمع هذا مرسل، وإنما يروى عن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وربما رواه عن أبي هريرة

(3)

.

إذا تقرر ذلك، فـ"خشبة" روي بالإفراد والجمع و (أكتافكم) بالتاء، وصُحِّفَ بالنون.

قال عبد الغني: كل الناس يقولونه "خشبَهُ" بالجمع إلا الطحاوي

(4)

، ويؤيده حديث مجمع، وإنما وقع الاعتناء بذلك؛ لأن أمر الواحدة أخف في محل التسامح بخلاف الكثير، فإن الضرر يحصك ولا تحصل

المسامحة.

وقوله: (مالي أراكم عنها معرضين) يعني: عن المقالة التي قالها، أنكر عليهم لما رأى من إعراضهم واستثقالهم لما سمعوه.

قال ابن عبد البر: يقول ابن عيينة في هذا الحديث: "إذا استأذن"

(1)

هكذا ذكره المصنف.

وفي "السنن" مجمع بن يزيد بن جارية الأنصاري، وفرَّق بينهما ابن عبد البر: فجعل الثاني -مجمع بن يزيد- ابن أخي الأول، وقال ابن منده: أراهما واحدًا. وقال أبو نعيم: أفرده بعض المتأخرين عن الأول، وهما واحد، وقال المزي في ترجمة مجمع بن يزيد: هو ابن أخي مجمع بن جارية، وقيل: هما واحد، ينسب تارة إلى أبيه، وتارة إلى جده.

انظر: "الاستيعاب" 3/ 418، "أسد الغابة" 5/ 68، "تهذيب الكمال" 27/ 250.

(2)

ابن ماجه (2336).

(3)

"الاستيعاب" 3/ 418.

(4)

انظر: "المنتقى" للباجي 6/ 45، "التمهيد" 10/ 221.

ص: 634

وكذلك في رواية ابن أبي حفصة (و)

(1)

عقيل عن سليمان بن كثير: "إذا سأل أحدكم جاره" و"من سأله جاره أن يضع خشبه في جداره فلا يمنعه"

(2)

، وهكذا روى هؤلاء هذا الحديث على سؤال الجار جاره واستئذانه إياه أن يجعل خشبه على جداره، ولم يذكر معمر ويونس في هذا الحديث السؤال والمعنى فيه واحد، وروى هذا الحديث عن مالك الليثُ، فقال فيه:"من سأله جاره .. "

(3)

.

واختلف العلماء في تأويل هذا الحديث هل هو على وجه الندب أو الإيجاب؟

فقالت طائفة بالثاني إذا لم يكن في ذلك مضرة على صاحب الجدار، وهو قول الشافعي في القديم، وإن أطلقه عنه ابن بطال وأحمد وإسحاق وداود وأبي ثور وجماعة من أصحاب الحديث وابن حبيب من المالكية، وهو مذهب عمر بن الخطاب. وحكى عن مالك ذلك المطلب -قاض- أنه كان بالمدينة يقضي به، وقاله أبو هريرة في زمن الأعرج والتابعين

(4)

.

وقالت طائفة بالأول لا يغرز الخشب في حائط أحد إلا بإذنه، والحديث محمول على الندب، وهو قول مالك والكوفيين والشافعي في الجديد

(5)

، والحجة لهم قوله صلى الله عليه وسلم: "إن دماءكم وأموالكم عليكم

(1)

في الأصل: (عن)، والمثبت من "التمهيد"، وهو الصواب.

(2)

رواه عنهم الطحاوي في "شرح مشكل الآثار" 6/ 204 - 206 (2417 - 2420).

(3)

"التمهيد" 10/ 218 - 219.

(4)

انظر: "الاستذكار" 22/ 226 - 227، "شرح ابن بطال" 6/ 586، "شرح مسلم" للنووي 11/ 47، "روضة الطالبين" 4/ 212.

(5)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 3/ 401، "الاستذكار" 22/ 225، "شرح مسلم" 11/ 47، "روضة الطالبين" 4/ 212.

ص: 635

حرام"

(1)

وأنه لا يجوز لأحد أن يجبر أحدًا على أن يفعل في ملكه ما يضر به، وقد قال عليه السلام:"لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه"

(2)

، فعلمنا أن حديث أبي هريرة للندب وحسن المجاورة لا للوجوب، وهي كقوله عليه السلام:"ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه"

(3)

، ولقوله:"ما آمن من بات شبعان وجاره طاوٍ"

(4)

.

قالوا: ولو كان الحديث معناه الوجوب ما جهل الصحابة تأويله ولا كانوا معرضين عن أبي هريرة حين حدثهم به، وإنما جاز لهم ذلك لتقرير العمل، والأحكام عندهم بخلافه، ولا يجوز عليهم جهل الفرائض، فدل ذلك أن معناه على الندب، وفي هذا دليل أن تأويل الأحاديث على ما بلغناها عنه الصحابة لا على ظاهرها.

قال المهلب: ولو بلغ من اجتهاد حاكم أن يحكم فيه لنفذ حكمه بما خص رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته من ذلك، كما حكم عمر على ابن مسلمة في تحويل الساقية إلى جنبه.

وسئل ابن القاسم عن رجل كانت له خشبة في حائط أدخلها بإذنه، ثم إن الذي له الحائط وقع بينه وبين الذي له الخشب شحناء، فقال له: أخرج خشبك من حائطي، فقال مالك: ليس لنا أن نخرجه على وجه

(1)

سلف برقم (67) كتاب: العلم، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "رب مبلغ أوعى من سامع" من حديث أبي بكرة.

(2)

رواه أحمد 5/ 72 - 73، من حديث أبي حُرَّة الرقاشي، و 3/ 423 من حديث عمرو بن يثربي بنحوه.

(3)

سيأتي برقم (6014) كتاب: الأدب، باب: الوصاة بالجار، من حديث عائشة.

(4)

رواه ابن أبي شيبة 6/ 164 (30350) من حديث ابن عباس، ورواه الطبراني 1/ 259 (751) من حديث أنس بن مالك.

ص: 636

الضرر، ولكن ننظر في ذلك، فإن احتاج الرجل إلى حائطه ليهدمه فهو أولى به.

وروى ابن عبد الحكم أنه قال: وإن أراد بيع داره، فقال: انزع خشبك فليس له ذلك. وقال مطرف وابن الماجشون: لا يقلع الخشب أبدًا وإن احتاج صاحب الجدار إلى جداره

(1)

.

وفي رواية عن ابن عبد الحكم، عن مالك، قال: ليس يقضى على رجل أن يغرز خشبة في (جداره لجاره)

(2)

، وإنما نرى أن ذلك كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم على الوصاة بالجار

(3)

، وأكثر علماء السلف على الأول أنه على الندب، وحملوه على معنى قوله عليه السلام:"إذا استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها"

(4)

.

قلت: وأجيب بجواب آخر وهو أن الهاء في "جداره" يرجع إلى الغارز؛ لأن الجدار إذا كان بين اثنين وهو لأحدهما فأراد صاحبه أن يضع عليه الجذوع ويبني ربما منعه جاره؛ لئلا يشرف عليه، فأخبر

الشارع أنه لا يمنعه ذلك.

قال ابن التين: وعورض هذا بأنه إحداث قول ثالث في معنى الخبر، وذلك ممنوع عند أكثر الأصوليين، ولا نسلم له.

(1)

انظر: "شرح ابن بطال" 6/ 587 - 588، "التمهيد" 10/ 222 - 223، "الاستذكار" 22/ 225 - 226، "النوادر والزيادات" 11/ 93 - 95.

(2)

في الأصل: جدار جاره، والمثبت من "التمهيد"، و"الاستذكار".

(3)

"الاستذكار" 22/ 225، "التمهيد" 10/ 222.

(4)

سلف برقم (873) كتاب: الجمعة، باب: استئذان المرأة زوجها .. ، ورواه مسلم (442) كتاب: الصلاة، باب: خروج النساء إلى المساجد .. ، من حديث ابن عمر.

ص: 637

ومعنى (لأرمين بها بين أكتافكم) أي: أذيعها فيكم. وقال الخطابي: إن لم تقبلوه وتتلقوه بأيديكم راضين جعلته على رقابكم كارهين

(1)

.

وغرزت الخشبة أغرزها -بالكسر-: أدخلتها الجدار.

واعلم أن ما قدمناه عن الشافعي من حمل الحديث على الوجوب في القديم رأيته في البويطي أيضًا، حيث قال في باب اختلاف مالك والشافعي. قال مالك: للجار أن يغرز خشبه في جداره. وقال الشافعي: ليس له أن يمنعه

(2)

. هذا لفظه، ورجحه البيهقي حيث قال: لم نجد له في السنة معارضًا، ولا تصح معارضته بالعمومات، وقد نص عليه في القديم والجديد ولا عذر لأحد في مخالفته

(3)

.

واختار الروياني التفصيل بين أن يظهر تعنت فاعله أم لا، ثم للإجبار شروط أن لا يحتاج مالك الجدار إليه لوضع جذوعه، وأن تكون خفيفة لا تضر، وأن لا يمكن الجدار أن يسقف إلا بالوضع، وأن تكون الأرض له، كما أوضحتها في كتب الفروع

(4)

.

(1)

"أعلام الحديث" 2/ 1228.

(2)

انظر: "الاستذكار" 22/ 228.

(3)

"معرفة السنن والآثار" 9/ 37.

(4)

ورد بهامش الأصل: آخر 3 من 8 من تجزئة المصنف.

ص: 638

‌21 - باب صَبِّ الخَمْرِ فِي الطَّرِيقِ

2464 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ أَبُو يَحْيَى، أَخْبَرَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه: كُنْتُ سَاقِيَ القَوْمِ فِي مَنْزِلِ أَبِي طَلْحَةَ، وَكَانَ خَمْرُهُمْ يَوْمَئِذٍ الفَضِيخَ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُنَادِيًا يُنَادِي: أَلَا إِنَّ الخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ. قَالَ: فَقَالَ لِي أَبُو طَلْحَةَ: اخْرُجْ فَأَهْرِقْهَا، فَخَرَجْتُ فَهَرَقْتُهَا، فَجَرَتْ فِي سِكَكِ المَدِينَةِ، فَقَالَ بَعْضُ القَوْمِ: قَدْ قُتِلَ قَوْمٌ وَهْيَ فِي بُطُونِهِمْ. فَأَنْزَلَ اللهُ: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} الآيَةَ [المائدة: 93]. [4617، 4620، 5580، 5582، 5583، 5584، 5600، 5622، 7253 - مسلم: 1980 - فتح 5/ 112]

ذكر فيه حديث أَنَسٍ رضي الله عنه: كُنْتُ سَاقِيَ القَوْمِ فِي مَنْزِلِ أَبِي طَلْحَةَ، وَكَانَ خَمْرُهُمْ يَوْمَئِذٍ الفَضِيخَ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُنَادِيًا يُنَادِي: أَلَا إِنَّ الخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ. قَالَ: فَقَالَ لِي أَبُو طَلْحَةَ: اخْرُجْ فَأَهْرِقْهَا، فَخَرَجْتُ فَهَرَقْتُهَا، فَجَرَتْ فِي سِكَكِ المَدِينَةِ، فَقَالَ بَعْضُ القَوْمِ: قَدْ قُتِلَ قَوْمٌ وَهْيَ فِي بُطُونِهِمْ. فَأَنْزَلَ اللهُ: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} .

هذا الحديث ذكره فيما يأتي بألفاظ أخر منها، فقال أبو طلحة: فاخرج فانظر لنا ما هذا الصوت فخرجت، فقلت: هذا منادٍ ينادي ألا إن الخمر قد حُرِّمت، ومنها: كنت أسقي أبا عبيدة وأبا طلحة وأبي بن كعب، وفي لفظ: وأبا دجانة وسهيل بن بيضاء، فقال أبو طلحة: قم يا أنس إلى هذِه الجرار فاكسرها. قال أنس: فقمت إلى مهراس لنا فضربتها بأسفله حتى انكسرت؛ ويأتي في التفسير أيضًا، وأخرجه مسلم وأبو داود في الأشربة

(1)

.

(1)

أبو داود (3673).

ص: 639

إذا تقرر ذلك، فالكلام عليه من أوجه:

أحدها:

سميت الخمر لمخامرتها العقل، أي: مخالطتها له أو لتغطيتها إياه، تذكر وتؤنث

(1)

.

وجزم ابن التين بالتأنيث. قال ابن سيده: هي ما أسكر من عصير العنب، والأعرف فيها التأنيث، وقد تذكر، والجمع: خمور

(2)

.

وقال ابن المسيب فيما حكاه النحاس في "ناسخه": سميت؛ لأنها صعد صفوها ورسبت كدرتها

(3)

.

وقال ابن الأعرابي: لأنها تركت فاختمرت واختمارها تغير ريحها

(4)

.

وجعلها أبو حنيفة الدينوري

(5)

من الحبوب وهو تسمح؛ لأن

(1)

ورد بهامش الأصل تعليق نصه: قال النووي في "التهذيب": وهي مؤنثة على اللغة الفصيحة المشهورة، وحكى أبو حاتم في "المؤنث والمذكر" في موضعين منه أنَّ قومًا فصحاء يُذَكِّرونها، قال: وسمعت ذلك ممن أثق به. وذكرها ابن قتيبة في "أدبه" فيما جاء فيه اللغتان ولا يقال: خمرة بالهاء في اللغة الفصيحة وتكرر استعمالها في "الوسيط" بالهاء بلا إنكار. قال: وقد روينا في "الجعديات" مرفوعًا: "إن الشيطان يحب الخمرة" بالهاء، وكذا ذكره أهل اللغة الجوهري وغيره. وذكر أبو حاتم أنه يقال: خمرة. وكذا ابن مالك في "المثلث". قال: الخمرة، الخمر، انتهى بمعنا. [انظر:"تهذيب الأسماء واللغات" 3/ 98].

(2)

"المحكم" 5/ 114.

(3)

"الناسخ والمنسوخ" 1/ 595.

(4)

"الصحاح" 2/ 649.

(5)

هو أحمد بن داود الدينوري النحوي، تلميذ ابن السكيت، صدوق، كبير الدائرة، طويل الباع، ألف في النحو واللغة والهندسة والهيئة والوقت

وأشياء، مات سنة 282 ص انظر:"سير أعلام النبلاء" 13/ 422 (208).

ص: 640

حقيقتها من العنب

(1)

، ولها عدة أسماء نحو المائتين عددتها على حروف المعجم في "لغات المنهاج" فراجعها منه.

ثانيها:

(الفضيخ) بفاء مفتوحة، ثم ضاد وخاء معجمتين. قال أبو حنيفة عن الأعراب: هو ما اعتصر من العنب اعتصارًا فهو الفضيخ؛ لأنه يفتضخ، وكذلك فضيخ البسر.

قال ابن سيده: وهو شراب يتخذ من البسر المفضوخ

(2)

-يعني: المشدوخ- زاد الجوهري: من غير أن تمسه النار

(3)

.

وقال ابن فارس: يشدخ وينبذ

(4)

، وفي "مجمع الغرائب": ويروى عن ابن عمر أنه قال: ليس بالفضيخ ولكنه الفضوح.

وقال بعضهم: هو شراب يتخذ من البسر المشدوخ، فهو فضيخ أو فضوح؛ لأنه من البسر المشدوخ. أي: لأنه يسكر صاحبه فيفضحه

(5)

.

وقال الداودي: يهشم البسر ويجعل معه الماء، وقاله الليث، وسيأتي إيضاحه في الأشربة أيضًا.

ثالثها:

كان تحريم الخمر في السنة الثالثة

(6)

من بعد غزوة أحد، قاله ابن سعد.

(1)

"المحكم" 5/ 144.

(2)

"المحكم" 5/ 28.

(3)

"الصحاح" 1/ 429.

(4)

"مجمل اللغة" 3/ 723.

(5)

انظر: "تهذيب اللغة" 3/ 2798.

(6)

ورد بهامش الأصل: حرم في أول الرابعة في ربيع الأول بعد أحد.

ص: 641

وقوله: (فأمر مناديًا ينادي) وفي رواية: (وأتاهم آت)، يعني: أن الآتي أخبرهم بالنداء، والنداء عن الآمر يتنزل في العمل به منزلة سماع قوله، قاله الداودي. والظاهر كما قال ابن التين أنهما مختلفان، وفيه الإشهار بالنداء.

والسكك: الطرق، جمع سكة.

وقوله: (كنت ساقي القوم) لأنه ربيب أبي طلحة، والذين سقاهم أبو طلحة وأبو عبيدة وأبي بن كعب وغيرهم كما سلف.

وقوله: (اخرج فأهرقها) قال ابن التين: الهاء زائدة ليست أصلية؛ لأن فاءه راء، وإنما دخلت الهاء لأنها دخلت في مستقبله وثبتت فيه بخلاف غيره لإبدالها هاء، وكذا أرقتُ الماء فأنا أهريقه، بدلت من الهمزة لقرب الهاء منها، والأمر من المستقبل.

وقوله: (فهرقتها) بدلت أيضًا من الهمزة، وليست من أصل الفعل. أعني: الهمزة والهاء.

رابعها:

كان هذا في أول الإسلام قبل أن ترتب الأشياء وتنظف، وأما الآن فلا ينبغي صب النجاسات في الطرق، نبه عليه ابن التين، وعلَّلَهُ بخوف أذى المسلمين.

قال: وقد منع سحنون أن يصب ماء من بئر وقعت فيه فأرة في الطريق، وأيضًا فكان صبها في الطريق أشهر؛ لبيان تحريمها وإظهاره، وكذا قال المهلب: إنما جاز هرقها في الطرق للسمعة بذلك، والتشنيع والإيثار لله في رفضها، والإعلان بنبذها، ولولاه ما حسن هرقها في الطرق من أجل أذى الناس في ممشاهم، ونحن

ص: 642

نمنع من إراقة الماء الطاهر في الطريق من أجل أذى الناس في ممشاهم، فكيف الخمر

(1)

!

واستُدل لابن حزم على طهارتها بهذا الحديث؛ لأن الصحابة كان أكثرهم يمشي حافيًا فما يصيب قدمه لا ينجس به.

خامسها:

فيه: قبول خبر الواحد.

سادسها:

حرمة إمساكها، ونقل النووي اتفاق الجمهور عليه

(2)

.

سابعها:

قول من قال: (قتل قوم وهي في بطونهم) صدر عن غلبة خوف وشفقة أو عن غفلة عن المعنى؛ لأن الخمر كانت مباحة أولًا، ومن فعل ما أبيح له لم يكن له ولا عليه شيء؛ لأن المباح مستوي الطرفين

بالنسبة إلى الشرع.

(1)

انظر: "شرح ابن بطال" 6/ 588.

(2)

"شرح مسلم" 13/ 150.

ص: 643

‌22 - باب أَفْنِيَةِ الدُّورِ وَالجُلُوسِ فِيهَا وَالجُلُوسِ عَلَى الصُّعُدَاتِ

وَقَالَتْ عَائِشَةُ: فَابْتَنَى أَبُو بَكْرٍ مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ، يُصَلِّي فِيهِ وَيَقْرَأُ القُرْآنَ، فَيَتَقَصَّفُ عَلَيْهِ نِسَاءُ المُشْرِكِينَ وَأَبْنَاؤُهُمْ يَعْجَبُونَ مِنْهُ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَئِذٍ بِمَكَّةَ. [انظر: 476]

2465 -

حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو عُمَرَ حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِيَّاكُمْ وَالجُلُوسَ عَلَى الطُّرُقَاتِ". فَقَالُوا: مَا لَنَا بُدٌّ، إِنَّمَا هِيَ مَجَالِسُنَا نَتَحَدَّثُ فِيهَا. قَالَ:"فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلَّا المَجَالِسَ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهَا" قَالُوا: وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ؟ قَالَ: "غَضُّ البَصَرِ، وَكَفُّ الأَذَى، وَرَدُّ السَّلَامِ، وَأَمْرٌ بِالمَعْرُوفِ، وَنَهْيٌ عَنِ المُنْكَرِ". [6229 - مسلم: 2121 - فتح 5/ 112]

وهذا مختصر من خروجه إلى الحبشة، وقد سلف في الصلاة.

ثم ساق حديث أَبِي سَعِيدِ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه، عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِيَّاكُمْ وَالجُلُوسَ عَلَى الطُّرُقَاتِ". فَقَالُوا: مَا لَنَا بُدَّ، إِنَّمَا هِيَ مَجَالِسُنَا نَتَحَدَّثُ فِيهَا. قَالَ:"فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلَّا المَجَالِسَ فَأَعْطُوا الطُّرُقَ حَقَّهَا" قَالُوا: وَمَا حَقُّ الطُّرُقِ؟ قَالَ: "غَضُّ البَصَرِ، وَكفُّ الأَذى، وَرَدُّ السَّلَامِ، وَأَمْرٌ بِالمَعْرُوفِ، وَنَهْيٌ عَنِ المُنْكَرِ".

الشرح: عند أبي داود من حديث أبي هريرة: "وإرشاد السبيل"

(1)

، وعن إسحاق بن سويد، عن ابن حجير العدوي، عن عمر مرفوعًا في هذِه القصة "وتغيثوا الملهوف وتهدوا الضال"

(2)

.

(1)

"سنن أبي داود"(4816).

(2)

"سنن أبي داود"(4817).

ص: 644

قال البزار: لا نعلم أحدًا أسنده إلا جرير بن حازم عن إسحاق بن سويد. ولا رواه عن جرير مسندًا إلا ابن المبارك، ويروي هذا الحديث حماد بن زيد عن إسحاق بن سويد مرسلًا

(1)

.

إذا عرفت ذلك، فالكلام عليه من أوجه:

أحدها:

الفناء بكسر الفاء وبالمد. قال ابن ولاد

(2)

: هو حريم الدار.

والصعدات -بضمتين-: الطرقات واحدها: صعيد، وهو أحسنُ ممَّن ضبطه بفتح العين، كما نبه عليه ابن التين؛ لأنه جمع صعد، وصعد جمع صعيد مثل طريق وطرق وطرقات والصعيد وجه الأرض.

ثانيها:

نهيه عليه السلام عن الجلوس فيها؛ لئلا يضعفَ الجالس عن الشروط التي ذكرها الشارع، فلما ذكروا أنهم لا يجدون منه بدًّا. قال لهم:"أعطوا الطريق حقها" ووصف لهم الأشياء التي وصفها، وذلك مثل نهيه عن الانتباذ في الأوعية، فلما قالوا: لا بد لهم من ذلك، أباح لهم الانتباذ فيها إلا أن يسكر، والذي فهمه العلماء أن هذا النهي ليس على وجه التحريم، وإنما هو من باب سد الذرائع والإرشاد إلى الأصلح.

وفي رواية: "وحسن الكلام"

(3)

من رد الجواب يريد من جلس على الطريق، فقد تعرض لكلام الناس، فليحسن لهم كلامه ويصلح شأنه.

(1)

"مسند البزار" 1/ 473.

(2)

"المقصور والممدود" ص 86.

(3)

رواه مسلم (2161) كتاب: السلام، باب: من حق الجلوس على الطريق رد السلام. من حديث أبي طلحة،

ص: 645

روى هشام بن عروة عن عبد الله بن الزبير، قال: المجالس حلق

الشيطان إن رأوا حقًّا لا يقومون به، وإن يروا باطلًا فلا يدفعونه. وقال عامر: كان الناس يجلسون في مساجدهم، فلما قتل عثمان خرجوا إلى الطريق يسألون عن الأخبار.

قال سلمان: لا تكونن أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها، فإنها معركة الشيطان، وبها ينصب رايته

(1)

.

وقال: السوق مبيض الشيطان ومفرخه

(2)

.

وقد ترخص في الجلوس بالأفنية والطرق والأسواق قوم من أهل الفضل والعلم ولعلهم إنما فعلوا ذلك؛ لأنهم قاموا بما عليهم فيه.

وقال طلحة بن عبيد الله: مجلس الرجل ببابه مروءة. وقال ابن عوف: مررت بعامر وهو جالس بفنائه. وقال ابن أبي خالد: رأيت الشعبي جالسًا في الطريق.

ثالثها:

فيه: وجوب غض البصر عن النظر إلى عورة مؤمن ومؤمنة، وعن جميع المحرمات، وكل ما يخشى الفتنة منه. وقد قال عليه السلام لعلي:"لا تتبع النظرة النظرة، فإنما لك الأولى وعليك الآخرة"

(3)

.

وفيه: وجوب رد السلام على من سلم عليه، ولزوم الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وكف الأذى.

(1)

رواه مسلم (2451) كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل أم سلمة رضي الله عنها.

(2)

رواه ابن أبي شيبة 7/ 138 (34664).

(3)

رواه أبو داود (2149)، والترمذي (2777)، وأحمد 5/ 351، من حديث بريدة بن الحصيب. وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث شريك.

ص: 646

وفيه: قطع الذرائع؛ لأن الجلوس ذريعة تسليط البصر وقلة القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلذلك نهى عنه. قال المهلب: وإنما يلزم المؤمن النفير والإغاثة والعون ما وقعت الحضرة إليه وليس

عليه طلب ذلك، إنما عليه ما حضر منها.

وفيه: الدلالة على الندب إلى لزوم المنازل التي يسلم لازمها من رؤية ما يكره رؤيته، وسماع ما لا يحل له سماعه، وما يجب عليه إنكاره، ومن معاونة مستغيث يلزمه إغاثته، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم إنما أذن في الجلوس بالأفنية والطرق بعد نهيه عنه إذا كان من يقوم بالمعاني التي ذكرها، وإذا كان ذلك كذلك، فالأسواق التي تجمع المعاني التي أمر الشارع الجالس بالطرق باجتنابها مع الأمور التي هي أوجب منها وألزم من ترك الكذب، والحلف بالباطل، وتحسين السلع بما ليس فيها، وغش المسلم، وغير ذلك من المعاني التي لا يطيق القيام بما يلزمه فيها إلا من عصمه الله أحق وأولى بترك الجلوس فيها من

الأفنية والطرق، وقد روي نحو هذا عن جماعة من أهل العلم، ونقل ابن التين عن بعض العلماء: إذا كان كارهو المنكر الثلث وفاعلوه الثلثين وجب على كارهيه قتالهم لقوله تعالى: {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال: 66].

ص: 647

‌23 - باب الآبَارِ عَلَى الطُّرُقِ إِذَا لَمْ يُتَأَذَّ بِهَا

2466 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ عَنْ سُمَىٍّ -مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ- عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"بَيْنَا رَجُلٌ بِطَرِيقٍ، اشْتَدَّ عَلَيْهِ العَطَشُ فَوَجَدَ بِئْرًا فَنَزَلَ فِيهَا فَشَرِبَ، ثُمَّ خَرَجَ، فَإِذَا كَلْبٌ يَلْهَثُ يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ العَطَشِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا الكَلْبَ مِنَ العَطَشِ مِثْلُ الَّذِي كَانَ بَلَغَ مِنِّي. فَنَزَلَ البِئْرَ، فَمَلأَ خُفَّهُ مَاءً، فَسَقَى الكَلْبَ، فَشَكَرَ اللهُ لَهُ، فَغَفَرَ لَهُ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَإِنَّ لَنَا فِي البَهَائِمِ لأَجْرًا؟ فَقَالَ:"فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ". [انظر: 173 - مسلم: 2244 - فتح 5/ 113]

ذكر فيه حديث أبي هريرة السالف قريبًا في باب: سقي الماء

(1)

، وفيه:"فَوَجَدَ بِئْرًا فَنَزَلَ فِيهَا فَشَرِبَ، ثُمَّ خَرَجَ، فَإِذَا كلْبٌ"

(2)

. وساقه بطوله.

قال المهلب: هذا يدل أن حفر الآبار بحيث يجوز للحافر حفرها من أرض مباحة أو مملوكة له جائز، ولم يمنع ذلك لما فيه من البركة وتلافي العطشان، وكذلك لم يكن ضامنًا؛ لأنه قد يجوز مع الانتفاع بها أن يستضر بها ساقط بليل أو تقع فيها ماشية، لكنه لما كان ذلك نادرًا كان المنفعة بها أكثر، غلب حال الانتفاع على حال الاستضرار، فكانت جُبَارًا لا دية لمن هلك فيها.

وقوله: (وإن لنا في البهائم لأجرًا؟) قال الداودي: كل نفس يقال لها: بهيمة.

(1)

سلف برقم (2363) كتاب: المساقاة.

(2)

ورد بهامش الأصل: وجه مطابقة الترجمة للحديث: أن في بعض طرقه: بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش فوجد بئرا .. فذكر الحديث.

ص: 648

‌24 - باب إِمَاطَةِ الأَذَى

وَقَالَ هَمَّامٌ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:"يُمِيطُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ". [انظر: 2707 - فتح 5/ 114]

وهذا الحديث أسنده في باب: من أخذ بالركاب

(1)

وغيره. وأورده

ابن بطال من قول أبي هريرة، ثم قال: ليس هو من رأيه؛ لأن الفضائل لا تدرك بقياس، وإنما تؤخذ توقيفًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وقد أسند مالك معناه من حديث أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"بينما رجل يمشي إذ وجد غصن شوك على الطريق فأخره، فشكر الله له فغفر له"

(2)

.

وهذا عجيب منه، فالذي وجدناه في الأصول رفعه كما ذكرناه، ثم عزوه ما ذكره من طريق مالك هو في البخاري من هذا الوجه بعد وترجم عليه باب: من أخذ الغصن كما سيأتي

(3)

.

ثم قال: فإن قلت: كيف تكون إماطة الأذى عن الطريق صدقة؟

قيل: معنى الصدقة إيصال النفع إلى المتصدق عليه، فأما إماطة الأذى عن الطريق فقد تسببت إلى سلامة أخيه المسلم من ذلك الأذى، فكأنه قد تصدق عليه بالسلامة منه، فكان له على ذلك أجر الصدقة وهذا كما جعل الإمساك عن الشر صدقة على نفسه، وإماطة الأذى وكل ما أشبهه حث على الاستكثار من الخير، وأن لا يُستقل منه شيء. وقد قال عليه السلام لأبي تميمة الهُجَيْمي:

(1)

سيأتي برقم (2989) كتاب: الجهاد والسير.

(2)

"الموطأ" ص 101 (6).

(3)

سيأتي برقم (2472).

ص: 649

"لا تحقرن من المعروف شيئًا ولو أن تضع من دلوك في إناء المستقي"

(1)

.

قلت: أبو تميمة الهجيمي تابعي.

فائدة: معنى "يميط الأذى": ينحِّيه. قال أبو عبيد عن الكسائي: مطت عنه الأذى، وأمطت: نحيت، وكذلك مط غيري وأمطته، وأنكر الأصمعي ذلك وقال: مطت أنا وأمطت غيري.

(1)

"شرح ابن بطال" 6/ 591 - 592. وحديث أبي تميمة رواه أحمد 5/ 64 من طريق عُبيدة الهجيمي، عن أبي تميمة الهجيمي، عن جابر بن سليم مرفوعًا. وقوله: (عن جابر بن سليم) سقط من الطبعة الميمنية لـ"المسند" وأثبته الحافظ في "أطراف المسند" 1/ 674 (1359).

ص: 650

‌25 - باب الغُرْفَةِ وَالعُلِّيَّةِ المُشْرِفَةِ وَغَيْرِ المُشْرِفَةِ فِي السُّطُوحِ وَغَيْرِهَا

2467 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنهما قَالَ: أَشْرَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أُطُمٍ مِنْ آطَامِ المَدِينَةِ، ثُمَّ قَالَ:"هَلْ تَرَوْنَ مَا أَرَى [إِنِّي أَرَى] مَوَاقِعَ الفِتَنِ خِلَالَ بُيُوتِكُمْ كَمَوَاقِعِ القَطْرِ". [انظر: 1878 - مسلم: 2885 - فتح 5/ 114]

2468 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي ثَوْرٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: لَمْ أَزَلْ حَرِيصًا عَلَى أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ رضي الله عنه عَنِ المَرْأَتَيْنِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اللَّتَيْنِ قَالَ اللهُ لَهُمَا: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] فَحَجَجْتُ مَعَهُ، فَعَدَلَ وَعَدَلْتُ مَعَهُ بِالإِدَاوَةِ، فَتَبَرَّزَ حَتَّى جَاءَ، فَسَكَبْتُ عَلَى يَدَيْهِ مِنَ الإِدَاوَةِ فَتَوَضَّأَ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، مَنِ المَرْأَتَانِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اللَّتَانِ قَالَ [الله عز وجل] لَهُمَا:{إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللهِ} [التحريم: 4]؟ فَقَالَ وَاعَجَبِي لَكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، عَائِشَةُ، وَحَفْصَةُ. ثُمَّ اسْتَقْبَلَ عُمَرُ الحَدِيثَ يَسُوقُهُ، فَقَالَ: إِنِّى كُنْتُ وَجَارٌ لِي مِنَ الأَنْصَارِ فِي بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ -وَهْيَ مِنْ عَوَالِي المَدِينَةِ- وَكُنَّا نَتَنَاوَبُ النُّزُولَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَيَنْزِلُ يَوْمًا وَأَنْزِلُ يَوْمًا، فَإِذَا نَزَلْتُ جِئْتُهُ مِنْ خَبَرِ ذَلِكَ اليَوْمِ مِنَ الأَمْرِ وَغَيْرِهِ، وَإِذَا نَزَلَ فَعَلَ مِثْلَهُ، وَكُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَغْلِبُ النِّسَاءَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى الأَنْصَارِ إِذَا هُمْ قَوْمٌ تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ، فَطَفِقَ نِسَاؤُنَا يَأْخُذْنَ مِنْ أَدَبِ نِسَاءِ الأَنْصَارِ، فَصِحْتُ عَلَى امْرَأَتِي، فَرَاجَعَتْنِي، فَأَنْكَرْتُ أَنْ تُرَاجِعَنِي، فَقَالَتْ: وَلِمَ تُنْكِرُ أَنْ أُرَاجِعَكَ؟ فَوَاللهِ إِنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَيُرَاجِعْنَهُ، وَإِنَّ إِحْدَاهُنَّ لَتَهْجُرُهُ اليَوْمَ حَتَّى اللَّيْلِ. فَأَفْزَعَنِي، فَقُلْتُ: خَابَتْ مَنْ فَعَلَ مِنْهُنَّ بِعَظِيمٍ، ثُمَّ جَمَعْتُ عَلَيَّ ثِيَابِي، فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ فَقُلْتُ: أَيْ حَفْصَةُ، أَتُغَاضِبُ إِحْدَاكُنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم اليَوْمَ حَتَّى اللَّيْلِ؟! فَقَالَتْ: نَعَمْ. فَقُلْتُ: خَابَتْ وَخَسِرَتْ، أَفَتَأْمَنُ أَنْ يَغْضَبَ اللهُ لِغَضَبِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فَتَهْلِكِينَ؟ لَا تَسْتَكْثِرِي

ص: 651

عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا تُرَاجِعِيهِ فِي شَيْءٍ، وَلَا تَهْجُرِيهِ، وَاسْأَلِينِي مَا بَدَا لَكِ، وَلَا يَغُرَّنَّكِ أَنْ كَانَتْ جَارَتُكِ هِيَ أَوْضَأَ مِنْكِ وَأَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم -يُرِيدُ عَائِشَةَ- وَكُنَّا تَحَدَّثْنَا أَنَّ غَسَّانَ تُنْعِلُ النِّعَالَ لِغَزْوِنَا، فَنَزَلَ صَاحِبِي يَوْمَ نَوْبَتِهِ فَرَجَعَ عِشَاءً، فَضَرَبَ بَابِي ضَرْبًا شَدِيدًا، وَقَالَ: أَنَائِمٌ هُوَ؟ فَفَزِعْتُ فَخَرَجْتُ إِلَيْهِ. وَقَالَ: حَدَثَ أَمْرٌ عَظِيمٌ. قُلْتُ: مَا هُوَ؟ أَجَاءَتْ غَسَّانُ؟ قَالَ: لَا، بَلْ أَعْظَمُ مِنْهُ وَأَطْوَلُ، طَلَّقَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نِسَاءَهُ. قَالَ: قَدْ خَابَتْ حَفْصَةُ وَخَسِرَتْ، كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ هَذَا يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ، فَجَمَعْتُ عَلَيَّ ثِيَابِي، فَصَلَّيْتُ صَلَاةَ الفَجْرِ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَدَخَلَ مَشْرُبَةً لَهُ فَاعْتَزَلَ فِيهَا، فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ، فَإِذَا هِىَ تَبْكِي. قُلْتُ: مَا يُبْكِيكِ؟ أَوَلَمْ أَكُنْ حَذَّرْتُكِ أَطَلَّقَكُنَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَتْ: لَا أَدْرِي، هُوَ ذَا فِي المَشْرُبَةِ. فَخَرَجْتُ، فَجِئْتُ المِنْبَرَ، فَإِذَا حَوْلَهُ رَهْطٌ يَبْكِي بَعْضُهُمْ، فَجَلَسْتُ مَعَهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَجِدُ، فَجِئْتُ المَشْرُبَةَ الَّتِي هُوَ فِيهَا فَقُلْتُ لِغُلَامٍ لَهُ أَسْوَدَ: اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ. فَدَخَلَ، فَكَلَّمَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ خَرَجَ، فَقَالَ: ذَكَرْتُكَ لَهُ، فَصَمَتَ، فَانْصَرَفْتُ حَتَّى جَلَسْتُ مَعَ الرَّهْطِ الَّذِينَ عِنْدَ المِنْبَرِ، ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَجِدُ فَجِئْتُ -فَذَكَرَ مِثْلَهُ- فَجَلَسْتُ مَعَ الرَّهْطِ الَّذِينَ عِنْدَ المِنْبَرِ، ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَجِدُ فَجِئْتُ الغُلَامَ فَقُلْتُ: اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ -فَذَكَرَ مِثْلَهُ- فَلَمَّا وَلَّيْتُ مُنْصَرِفًا، فَإِذَا الغُلَامُ يَدْعُونِي قَالَ: أَذِنَ لَكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم. فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ، فَإِذَا هُوَ مُضْطَجِعٌ عَلَى رِمَالِ حَصِيرٍ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فِرَاشٌ، قَدْ أَثَّرَ الرِّمَالُ بِجَنْبِهِ، مُتَّكِئٌ عَلَى وِسَادَةٍ مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، ثُمَّ قُلْتُ: وَأَنَا قَائِمٌ: طَلَّقْتَ نِسَاءَكَ؟ فَرَفَعَ بَصَرَهُ إِلَيَّ، فَقَالَ:"لَا". ثُمَّ قُلْتُ وَأَنَا قَائِمٌ أَسْتَأْنِسُ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَوْ رَأَيْتَنِي وَكُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَغْلِبُ النِّسَاءَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى قَوْمٍ تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ، فَذَكَرَهُ، فَتَبَسَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قُلْتُ: لَوْ رَأَيْتَنِي، وَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ، فَقُلْتُ: لَا يَغُرَّنَّكِ أَنْ كَانَتْ جَارَتُكِ هِيَ أَوْضَأَ مِنْكِ وَأَحَبَّ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم -يُرِيدُ عَائِشَةَ- فَتَبَسَّمَ أُخْرَى، فَجَلَسْتُ حِينَ رَأَيْتُهُ تَبَسَّمَ، ثُمَّ رَفَعْتُ بَصَرِي فِي بَيْتِهِ، فَوَاللهِ مَا رَأَيْتُ فِيهِ شَيْئًا يَرُدُّ البَصَرَ غَيْرَ أَهَبَةٍ ثَلَاثَةٍ، فَقُلْتُ: ادْعُ اللهَ فَلْيُوَسِّعْ عَلَى أُمَّتِكَ، فَإِنَّ فَارِسَ

ص: 652

وَالرُّومَ وُسِّعَ عَلَيْهِمْ وَأُعْطُوا الدُّنْيَا، وَهُمْ لَا يَعْبُدُونَ اللهَ، وَكَانَ مُتَّكِئًا. فَقَالَ:"أَوَفِي شَكٍّ أَنْتَ يَا ابْنَ الخَطَّابِ؟! أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا". فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، اسْتَغْفِرْ لِي. فَاعْتَزَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ الحَدِيثِ حِينَ أَفْشَتْهُ حَفْصَةُ إِلَى عَائِشَةَ، وَكَانَ قَدْ قَالَ:"مَا أَنَا بِدَاخِلٍ عَلَيْهِنَّ شَهْرًا". مِنْ شِدَّةِ مَوْجَدَتِهِ عَلَيْهِنَّ حِينَ عَاتَبَهُ اللهُ. فَلَمَّا مَضَتْ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ فَبَدَأَ بِهَا، فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: إِنَّكَ أَقْسَمْتَ أَنْ لَا تَدْخُلَ عَلَيْنَا شَهْرًا، وَإِنَّا أَصْبَحْنَا لِتِسْعٍ وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، أَعُدُّهَا عَدًّا. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ". وَكَانَ ذَلِكَ الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَأُنْزِلَتْ آيَةُ التَّخْيِيرِ فَبَدَأَ بِي أَوَّلَ امْرَأَةٍ، فَقَالَ:"إِنِّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمْرًا، وَلَا عَلَيْكِ أَنْ لَا تَعْجَلِي حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ". قَالَتْ: قَدْ أَعْلَمُ أَنَّ أَبَوَيَّ لَمْ يَكُونَا يَأْمُرَانِي بِفِرَاقِكَ. ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ اللهَ قَالَ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ} إِلَى قَوْلِهِ: {عَظِيمًا} [الأحزاب: 28 - 29] ". قُلْتُ: أَفِي هَذَا أَسْتَأْمِرُ أَبَوَيَّ؟ فَإِنِّي أُرِيدُ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ. ثُمَّ خَيَّرَ نِسَاءَهُ، فَقُلْنَ مِثْلَ مَا قَالَتْ عَائِشَةُ. [انظر: 89 - مسلم: 1479 - فتح 5/ 114]

2469 -

حَدَّثَنَا ابْنُ سَلَامٍ حَدَّثَنَا الفَزَارِيُّ عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ آلَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ نِسَائِهِ شَهْرًا، وَكَانَتِ انْفَكَّتْ قَدَمُهُ فَجَلَسَ فِي عِلِّيَّةٍ لَهُ، فَجَاءَ عُمَرُ، فَقَالَ أَطَلَّقْتَ نِسَاءَكَ قَالَ:"لَا، وَلَكِنِّي آلَيْتُ مِنْهُنَّ شَهْرًا". فَمَكُثَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ، ثُمَّ نَزَلَ، فَدَخَلَ عَلَى نِسَائِهِ.

ذكر فيه حديث أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: أَشْرَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أُطُمٍ مِنْ آطَامِ المَدِينَةِ .. الحديث.

وقد سلف في باب مفرد في أواخر الحج فيما يتعلق بالمدينة -شرفها الله تعالى- والأُطُمُ: بضم الهمزة والطاء: الحصن المبني بالحجارة، وجمعه آطام.

وقوله: ("خلال بيوتكم") أي: بينها.

ص: 653

وقوله: ("كمواقع القطر"): لكثرتها، وهو من أعلام نبوته، والرؤية فيه بمعنى العلم مثل:{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفِيلِ (1)} [الفيل: 1]، ويحتمل أن تكون الفتن مثلت له حتى كأنه ينظر إليها، وخيل إليه أن أصحابه يرونها. ولذلك قال لهم:"هل ترون ما أرى؟ ".

وحديث ابن عباس: لَمْ أَزَلْ حَرِيصًا عَلَى أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ عَنِ المَرْأَتَيْنِ

مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اللَّتَيْنِ قَالَ اللهُ لَهُمَا: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] فذكره بطوله، وفيه: فَجِئْتُ المَشْرُبَةَ التِي هُوَ فِيهَا .. وساق الحديث.

وحديث أَنَسٍ آلَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ نِسَائِهِ شَهْرًا، وَكَانَتِ انْفَكَّتْ قَدَمُهُ فَجَلَسَ فِي عِلِّيَّةٍ لَهُ، فَجَاءَ عُمَرُ، فَقَالَ: أَطَلَّقْتَ نِسَاءَكَ؟ قَالَ: "لَا، وَلَكِنِّي آلَيْتُ مِنْهُنَّ شَهْرًا". فَمَكُثَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ، ثُمَّ نَزَلَ، فَدَخَلَ عَلَى نِسَائِهِ.

فهذِه ثلاثة أحاديث دالة على ما ترجم له.

والغرف والسطوح وغيرها مباحة ما لم يطلع منها على حرمة أحد وعورة له. و (المشرُبة): الغرْفة؛ بضم الراء وفتحها، ذكرهما ابن قتيبة وقال: هي كالصُّفَّة بين يدي الغرفة

(1)

.

وقال ابن فارس: هي الغرفة

(2)

. وسلف ذلك.

وقال الداودي: هي الغرفة الصغيرة.

(1)

"غريب الحديث" 2/ 216، وقوله:(هي كالصفة .. ) ذكره في (المسربة) بالسين المهملة.

(2)

"مجمل اللغة" 2/ 528.

ص: 654

وقال ابن بطال في النكاح: المشربة: الخزانة التي يكون فيها طعامه وشرابه. وقيل لها: مشربة -فيما أرى- لأنهم كانوا يتخذون فيها شرابهم، كما قيل للمكان الذي تطلع عليه الشمس وتشرق فيه:

ضاحية مشرقة

(1)

.

وفي حديث ابن عباس: الحرص على العلم سنة وتفسيرًا. قال طاوس: أبي ذلك البحر. يعني: ابن عباس، وقد دعا له عليه السلام بالتفقه في الدين

(2)

، كما سلف، فكان كما دعا له. قيل له: بم نلت هذا؟ قال: بلسان سئول وقلب عقول.

وفيه: خدمة الرجل الشريف للسلطان والعالم وأنه لا ضعة عليه في خدمته.

وفيه: الكلام في العلم على كل حال في المشي والطرق والخلوات.

وقوله: (واعجبًا لك) عجيب من حرصه على سؤاله عما لا يتنبه عليه إلا الحريص على العلم من تفسير ما لا محكم فيه من القرآن.

وقوله: (استقبل عمر الحديث) فيه: أن المحدث قد يأتي بالحديث على وجهه ولا يختصره؛ لأنه قد كان يكتفي حين سأله ابن عباس عن المرأتين بما أخبره (منه)

(3)

من قول عائشة وحفصة.

وقوله: (كنا نغلب النساء) يريد أن شدة الوطأة على النساء مذموم؛ لأنه عليه السلام سار بسيرة الأنصار فيهن وترك سيرة قومه قريش.

وفيه: موعظة الرجل ابنته وإصلاح خلقها لزوجها.

(1)

"شرح ابن بطال" 7/ 315.

(2)

سلف برقم (143) كتاب: الوضوء، باب: وضع الماء عند الخلاء.

(3)

هكذا في الأصل، وفي "شرح ابن بطال" 6/ 596 (به).

ص: 655

وفيه: الحزن والبكاء لأمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يكرهه والاهتمام بما يهمه.

وفيه: الاستئذان والحجابة للناس كلهم كان مع المستأذن عليه عيال أو لم يكن.

وفيه: الانصراف بغير صرف من المستأذن عليه.

ومن هذا الحديث قال بعض العلماء: إن السكوت يحكم به كما حكم عمر بسكوت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صرفه له.

وفيه: التكرير بالاستئذان.

وفيه: أن للسطان أن يأذن أو يسكت أو يصرف.

وفيه: تقلله من الدنيا وصبره على مضض ذلك، وكانت له فيه مندوحة.

وفيه: أنه يسأل السلطان عن فعله إذا كان ذلك مما يهم أهل طاعته، وفي قوله لعمر:"لا" رد لما أخبر به الأنصاري من طلاق نسائه، ولم يخبر عمر بما أخبر به الأنصاري ولا شكاه؛ لعلمه أنه لم يقصد الإخبار بخلاف القصة، وإنما هو وَهَمٌ جرى عليه.

وفي قوله: (أستأنس) استنزال السلطان والاستئناس بين يديه بالحديث وأخذ إذنه في الكلام، وفي تبسمه لعمر حين ذكر غلبة قريش لنسائها وتحكم نساء الأنصار عليهم دليل أن المعنيين ليسا محرمين.

وفيه: الجلوس بين يدي السلطان وإن لم يأمر به إذا استؤنس منه إلى انبساط خلق.

وفيه: أنه لا يحب أن يسخط أحد حاله ولا ما قسم الله له، ولا يستحقر نعمة الله عنده ولا سابق قضائه؛ لأنه يخاف عليه ضعف نفسه.

ص: 656

وفيه: أن التقلل من الدنيا لرفع طيباته إلى دار البقاء خير حال من تعجلها في الدنيا الفانية والمتعجل لها أقرب إلى السفه.

وفيه: الاستغفار من التسخط وقلة الرضى.

وفيه: سؤال الشارع الاستغفار، وكذلك يجب أن يسأل أهل الفضل والخير الدعاء والاستغفار.

وفيه: أن المرأة تُعاقب على إفشاء سرّ زوجها وعلى التحيل عليه بالأذى، والمنع من مرافقه وشهواته بالتوبيخ لها بالقول كما وبخ الله تعالى أزواج نبيه على تظاهرهما عليه وإفشاء سره، وعاقبهن الشارع بالإيلاء والاعتزال والهجران، كما قال تعالى:{وَاهْجُرُوهُنَّ فِي المَضَاجِعِ} [النساء: 34].

وفيه: أن الشهر يكون تسعة وعشرين يومًا، وإنما يجري فيه على الأهلة التي جعلها الله تعالى مواقيت للناس في آجالهم.

وفيه: أن الرجل إذا قدم من سفر أو طرأ على أزواجه أن يبدأ بمن شاء منهن، وأنه ليس عليه أن يبدأ من حيث بلغ قبل الخروج، وفي نقض رتبة الدوران وابتدائه من حيث بدأ دليل أن القسمة بين النساء فيها توسعة، يدل عليه قوله تعالى:{وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ} [النساء: 129]، ومن أبيح له بعض الميل، فقد رخص له في التقصير عن العدل في القسمة،

وفيه: أن المرأة الرشيدة لا بأس أن تشاور أبويها وذوي الرأي من أهلها في أمر نفسها ومالها؛ لأن أمر نفسها أخف من أمر مالها، وإن كان الشارع أمر بالمساعدة في أمر نفسها التي هي أحق بها من وليها، فهي في المال أولى بالمشاورة، لا على أن المشاورة لازمة لها إذا كانت رشيدة

ص: 657

كعائشة، وليس على من تبين له رشد رأيه أن يشاور ويسقط عنه الندب فيه.

وقوله: (مضطجع على رمال حصير ليس بينه وبينه فراش، قد أثر الرمال بجنبه) قال أبو عبيدة: رملتُ الحصير رملًا وأرملته: إذا نسجته، ومعنى (أثر بجنبه): جعلت فيه خططًا.

وقوله: (عن المرأتين اللتين) كذا هو في الأصول وذكره ابن التين بلفظ (التي) ثم قال: وصوابه اللتين، ومعنى {صَغَتْ قُلُوبُكُمَا}: مالت إلى الحق ورجعت.

وقوله: (فحججت معه) فيه: ذكر العمل الصالح، وليأتي بالحديث على هيئته، ومعنى (تبرَّزَ): قضى حاجته.

وقوله: (فسكبت على يديه) أي: صببت، وفيه: الاستعانة في الوضوء إذ هو الظاهر من قوله (فتوضأ) قال ابن التين: ويحتمل الاستنجاء، وذلك أن يصب الماء على يده اليمنى، ثم يرسله حيث شاء.

وقوله: (فقلت: من المرأتان؟)، وفي رواية أخرى:(لي سنة أتحين أن أسألك عن شيء) وفيه: هيبة عمر.

وقوله: (واعجبًا لك) أي: على حرصك لم تعلم هذا إلى الآن؟!

وقوله: (إني كنت وجار لي)، فيه: العطف على الضمير المرفوع من غير أن يؤكد، والأحسن توكيده، قال تعالى:{اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ} [الأعراف: 19] ومعنى: (نتناوب) نتداول أنا مرة وهو أخرى، ومنه قيل: نابت فلانًا نائبة: إذا حدثت به حادثة، والنوب عند العرب: القرب.

وقوله: (كنا معشر قريش) أي: جمع قريش.

ص: 658

وقوله: (فطفق نساؤنا) أي: ظلوا، وطفق بكسر الفاء وفتحها، قال تعالى:{وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا} [طه: 121]، أي: أخذا في ذلك، وفيه لغة ثالثة: طبق بالباء بدل الفاء.

وقوله: (فصحت على امرأتي) كذا هنا. وقال في النكاح: (فصخبت على امرأتي)

(1)

، أي: صحت كما هو في بعض النسخ.

وقوله: (وإن إحداهن لتهجره اليوم حتى الليل). قال الداودي: يومًا من الأيام أجمع.

وقوله: (فجمعت عليَّ ثيابي) أي: لبستها.

وقوله: (أفتأمن) إلى قوله: (فتهلكن)

(2)

. فيه: رد الخطاب إلى الجمع، قاله الداودي، ويجوز أن يكون عائدًا إلى إحداكن؛ لأنه قال:(خابت وخسرت، أفتأمن) فالكلام راجع إلى أحد و (جارتك) أي: عائشة ضرتها (أوضأ) أي: أحسن وأجمل من الوضاءة وهو الجمال.

و (غسان) رهط من قحطان نزلوا حين تفرقوا من مأرب بماء يقال له: غسان المشلل، فسموا به فسكنوا بطرف الشام، ومعنى (تُنْعِل النعال): تصنع الحديد لأجل حوافر الخيل.

وقوله: (فرجع عشاء) أي: بعد عشاء الآخرة أو بعدها شيئا.

وقوله: (أعظم منه وأطول) يريد: أعظم منه وأطول حزنًا، ظنوا أنه طلق نساءه؛ لاعتزالهن. قال الفراء في قوله تعالى:(عَرَف بعضه) بتخفيف الراء {وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ} [التحريم: 3]: جازى على ذلك

(1)

سيأتي برقم (5191) باب: موعظة الرجل ابنته ..

(2)

كذا بالأصل، وفي "اليونينة": فتهلكين.

ص: 659

وغضب منه، كما تقول لمن أساء إليك: قد عرفت ذلك لك، وقد جازى حفصة بالطلاق

(1)

. و (يوشك) بكسر الشين: أي: يسرع كونه.

وسلف الاختلاف في الرهط هل يطلق على ما فوق العشرة. وقيل: هو كالبضع من الثلاث إلى العشرة.

وقوله: (فقلت لغلام أسود: استأذن) كان أكثر شأنه عليه السلام، أنه لا بواب له، ويحتمل جلوس هذا؛ لئلا يكثر الناس عليه ويخبرهم بإذنه ومنعه، وصمته عليه السلام ولم يأذن له لعله لشدة غضبه إذًا.

وقوله: (على رمال حصير) يعني: ما شدته من أحبله، يقال: رملت الحصير: نسجته، وحصير مرمول: منسوج، والرمل: هو النسج، والراملة: الناسجة، وفي رواية أخرى: على رمال سرير

(2)

.

وقوله: (من أدم). قال الداودي: أي: من جلد، وأهل اللغة يقولون: أدم جمع أديم.

وقوله: (فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم") هو شأنه؛ إذ ضحكه التبسم؛ إكرامًا لمن يضحك إليه. قال جرير: ما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلمت إلا تبسم

(3)

.

وقوله: (أهَبَة) هو بفتحهما جمع إهاب على غير قياس، وضبط أيضًا بضمهما وهو الجلد مطلقًا.

وقال قوم: إنه الجلد قبل أن يدبغ، وبه جزم ابن بطال، فقال في

(1)

"معاني القران" 3/ 166.

(2)

سيأتي برقم (3094) كتاب: فرض الخمس، عن مالك بن أوس، أنه دخل على عمر، فإذا هو جالس على رمال سرير.

(3)

رواه ابن أبي شيبة 6/ 400 (32330)، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" 2/ 593 (1611)، من حديث جرير بن عبد الله البجلي.

ص: 660

النكاح: هو الجلد غير مدبوغ يجمع أهبًا وأهبة

(1)

، وحكى ابن التين الخلاف فقال: هو الجلد، وقيل: قبل أن يدبغ، والهاء في أهبة مزيدة للمبالغة.

وقوله: (فاعتزل من أجل ذلك الحديث حين أفشته حفصة إلى عائشة) فوقفت له على الباب، فلما خرج كلمته، فقال: فإنها عليَّ حرام، لا تخبري عائشة، فأخبرتها، فأنزل الله:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ} [التحريم: 1] إلى آخر القصة

(2)

. وقيل في قوله: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا} [التحريم: 3] أن الصديق الخليفة بعده، قاله ميمون بن مهران

(3)

. وقيل: إنه شرب عسلًا في بيت زينب بنت جحش وتواصت عليه عائشة وحفصة بأن تقول له كل واحدة: أجد منك ريح مغافير، فقال:"بل شربت عسلًا ولن أعود"

(4)

، ودخوله عليه السلام لتسع وعشرين فيه دلالة على أن من حلف على فعل شيء أنه يبر بأقل ما يقع عليه الاسم، وبه قال محمد بن عبد الحكم، وقال مالك: إن دخل بالهلال خرج به، وإن دخل بالأيام لم يبر إلا بثلاثين يومًا.

وقولها: (فأنزل التخيير) اختلف العلماء هل خيرهن في الطلاق أو بين الدنيا والآخرة؟ وهل اختيارها صريح أو كناية؟ وهل هو فرقة أم لا: وهل يشترط الفور أم لا؟ وهل هو بالمجلس أو بالعرف؟

(1)

"شرح ابن بطال" 7/ 315.

(2)

رواه الواحدي في "أسباب النزول"(831).

(3)

رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" 30/ 222 - 223.

(4)

سيأتي برقم (4912) كتاب التفسير، تفسيو سورة التحريم، ورواه مسلم (1474)، كتاب الطلاق، باب: وجوب الكفارة على من حرم امرأته، من حديث عائشة رضي الله عنها.

ص: 661