الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
26 - باب مَنْ عَقَلَ بَعِيرَهُ عَلَى البَلَاطِ أَوْ بَابِ المَسْجِدِ
2470 -
حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ حَدَّثَنَا أَبُو عَقِيلٍ حَدَّثَنَا أَبُو المُتَوَكِّلِ النَّاجِيُّ قَالَ أَتَيْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما قَالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم المَسْجِدَ، فَدَخَلْتُ إِلَيْهِ، وَعَقَلْتُ الجَمَلَ فِي نَاحِيَةِ البَلَاطِ فَقُلْتُ هَذَا جَمَلُكَ. فَخَرَجَ فَجَعَلَ يُطِيفُ بِالجَمَلِ قَالَ:"الثَّمَنُ وَالجَمَلُ لَكَ". [انظر: 443 - مسلم: 715 - فتح: 5/ 117]
ذكر فيه حديث جابر في بيع الجمل وقد سلف، وفي إسناده أبو عقيل واسمه: بشير بن عقبة
(1)
.
وفيه: أن للداخل في المسجد رحابه وما حواليه مناخًا لبعيره ومحبسًا له.
وفيه: جواز إدخال الأمتعة والأثاث في المساجد قياسًا على دخول البعير فيه.
وفيه: حجة لمالك والكوفيين في طهارة أبوال الإبل وأرواثها
(2)
.
قال ابن بطال: وفيه رد على الشافعي في قوله بنجاستها. قال: وهذا خلاف منه لدليل الحديث، ولو كانت نجسة -كما زعم- ما كان لجابر إدخال البعير في المسجد، وحين أدخله فيه ورآه الشارع لم يسوغه ذلك، ولأنكره عليه، ولأمره بإخراجه من المسجد خشية ما يكون فيه من الروث والبول إذ لا يؤمن من حدوث ذلك منه،
(1)
ورد بهامش الأصل: ثقة قاله في "الكاشف".
(2)
"المدونة" 1/ 21، "مختصر اختلاف العلماء" 1/ 125، وفيه أن أبا حنيفة وأبا يوسف يقولان: هو نجس.
وعلى قول الشافعي: لا يجوز إدخال البعير في المسجد؛ لنجاسة بوله وروثه، وعلى مذهب الآخرين يجوز إدخالها فيه؛ لطهارة أبوالها وأرواثها
(1)
.
قلت: مذهبه جواز إدخاله، فيه ولا يرد عليه ما ذكره.
(1)
"شرح ابن بطال" 6/ 599.
27 - باب الوُقُوفِ وَالبَوْلِ عِنْدَ سُبَاطَةِ قَوْمٍ
2471 -
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أَوْ قَالَ: لَقَدْ أَتَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سُبَاطَةَ قَوْمٍ فَبَالَ قَائِمًا. [انظر: 224 - مسلم: 273 - فتح:5/ 117]
ذكر فيه حديث حذيفة السالف في الطهارة بأحكامه.
والسباطة: الكناسة، كما قاله ابن فارس
(1)
، وقول من قال: إنها المزبلة يرجع إليه؛ لأن الكناسة: الزبل الذي يكنس. قال المهلب: ولا حرج على أحد على البول فيها وإن كانت لقوم بأعيانهم؛ لأنها أعدت لطرح الكناسات والنجاسات فيها، وهو كما قال، فالانتفاع بالسباطات والطرق التي لا يضر أهلها ما يحدث فيها جائز.
وفيه: التستر عند البول، واختلف هل يبعد فيه كما في الغائط؟
حكاه ابن التين. قال: واختلف في علة بوله قائمًا، فقيل: لقذارة الموضع فيخشى أن تصيبه النجاسة إذا جلس، وقيل: تواضعًا ومجانبة للكبر. قلت: وقيل غير ذلك، كما أوضحته هناك. قال: وعلى الوجهين فهو يأمن أن يصل إليه؛ لأنه ليس بصفاء.
(1)
"مجمل اللغة" 2/ 483.
28 - باب مَنْ أَخَذَ الغُصْنَ وَمَا يُؤْذِي النَّاسَ فِي الطَّرِيقِ فَرَمَى بِهِ
2472 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ سُمَى، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضى الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِى بِطَرِيقٍ، وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ فَأَخَذَهُ، فَشَكَرَ اللهُ لَهُ، فَغَفَرَ لَهُ". [انظر: 652 - مسلم: 1914 - فتح: 5/ 188]
ذكر فيه حديث مَالِكٍ، عَنْ سُمَيٍّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ، وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ فَأَخَذَهُ، فَشَكَرَ اللهُ لَهُ، فَغَفَرَ لَهُ".
الشرح:
إماطة الأذى وكل ما يؤذي الناس في الطريق مأجور عليه.
وفيه: أن قليل الأجر قد يغفر الله به كثير الذنوب، وقد قال عليه السلام:"الإيمان بضع وسبعون -أو وستون- شعبة أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق".
وفيه: دلالة على أن طرح الشوك في الطريق والحجارة والكناسة والمياه المفسدة للطريق، وكلُّ ما يؤذي الناس يخشى العقوبة عليه في الدنيا والآخرة، ولا شك أن نزع الأذى عن الطريق من أعمال البر، وأن أعمال البر تكفر السيئات، وتوجب الغفران، ولا ينبغي للعاقل أن يحتقر شيئًا من أعمال البر. وفي بعض طرقه:"إما كان في شجرة فقطعه وألقاه، وإما كان موضوعًا فأماطه"
(1)
، والأصل في هذا كله قوله
(1)
رواه أبو داود (5245).
تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7)} [الزلزلة: 7].
وروى البزار بإسناد جيد، كأنه من حديث أبي هريرة:"حوسب رجل فلم يجد له من الخير إلا غصن شوك نحاه عن الطريق"
(1)
، ولابن زنجويه من حديث إبراهيم الهجري، عن أبي عياض، عنه:"على كل مسلم في كل يوم صدقة"، قالوا: ومن يطيق هذا يا رسول الله؟ قال: "إماطتك الأذى عن الطريق صدقة".
ومن حديث ابن لهيعة، عن دراج أبي السَّمْح، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد مرفوعًا:"غفر الله لرجل أماط عن الطريق غصن شوك ما تقدم من ذنبه وما تأخر".
ولابن أبي شيبة من حديث عياض بن غطيف، عن أبي عبيدة
مرفوعًا: "أو ماط أذى عن طريق فحسنته بعشر أمثالها"
(2)
.
ومن حديث أبي هلال، عن قتادة، عن أنس كانت سمرة على طريق الناس فكانت تؤذيهم فعزلها رجل عن طريقهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"فلقد رأيته يتقلب في ظلها في الجنة"
(3)
.
ولأبي داود من حديث بريدة مرفوعًا: "في الإنسان ثلاثمائة وستون مفصلًا، فعليه أن يتصدق عن كل مفصل منه بصدقة"، قالوا: ومن يطيق ذلك؟ قال: "النخاعة في المسجد يدفنها، والشئ ينحيه عن الطريق" الحديث
(4)
.
(1)
رواه أيضًا هناد في "الزهد" 2/ 523 (1078)، وابن حبان في "صحيحه" 2/ 296 (538) من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن أبي هريرة مرفوعًا.
(2)
"المصنف" 2/ 444 (10838).
(3)
"المصنف" 5/ 307 (26338).
(4)
أبو داود (5242).
ولابن ماجه من حديث أبي برزة قلت: يا رسول الله، دلني على عمل انتفع به، قال:"اعزل الأذى عن طريق المسلمين"
(1)
.
ولابن عبد البر من حديث مالك بن يزيد، عن أبيه، عن أبي ذر مرفوعًا:"إماطتك الحجر والشوك والعظم عن الطريق صدقة"
(2)
(3)
.
(1)
ابن ماجه (3618)، وهو في مسلم (2618) كتاب: البر والصلة، باب: فضل إزالة الأذى عن الطريق.
(2)
"التمهيد" 22/ 12.
(3)
ورد بهامش الأصل: ثم بلغ في الحادي بعد السَّبعين، كتبه مؤلفه.
29 - باب إِذَا اخْتَلَفُوا فِي الطَّرِيقِ المِيتَاءِ -وَهْيَ: الرَّحْبَةُ تَكُونُ بَيْنَ الطَّرِيقِ- ثُمَّ يُرِيدُ أَهْلُهَا البُنْيَانَ، فَتُرِكَ مِنْهَا الطَّرِيقُ سَبْعَةَ أَذْرُعٍ
.
2473 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ خِرِّيتٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ قَضَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا تَشَاجَرُوا فِي الطَّرِيقِ (الميتاء)
(1)
بِسَبْعَةِ أَذْرُعٍ. [مسلم: 1613 - فتح: 5/ 118]
هذِه الترجمة لفظ حديث
(2)
رواه عبادة بن الصامت، عند عبد الله بن أحمد -فيما زاده مطولًا- عن أبي كامل الجحدري، ثنا الفضيل بن سليمان، ثنا موسى بن عقبة، عن إسحاق بن يحيى بن (الوليد)
(3)
، عنه
(4)
.
قال أبو عمرو الشيباني: (الميتاء) أعظم الطرق، وهي التي يكثر إتيان الناس عليها. وقال ابن التين: هي الطريق الواسعة، وقيل: العامرة، وفي الحديث:"الموت طريق موتاء" أي: مشاركة. والميثاء بالمثلثة: الأرض السهلة.
(1)
قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" 5/ 119: زاد المستملي في روايته: (الميتاء) ولم يتابع عليه، وليست بمحفوظة في حديث أبي هريرة، وإنما ذكرها المؤلف في الترجمة مشيرًا بها إلى ما ورد في بعض طرق الحديث كعادته.
(2)
ورد بهامش الأصل: ولفظة: وقضى في الرحبة .. إلى آخره، ثم قال: قال: وكانت تلك الطريق تسمى الميتاء. وعند ابن ماجه طرف من الحديث الطويل المشار إليه.
(3)
في الأصل: طلحة، والمثبت من "المسند"، وهو إسحاق بن يحيى بن الوليد بن عبادة بن الصامت، يروي عن عبادة، ولم يدركه.
انظر: "تهذيب الكمال" 2/ 493 (391)، "ميزان الاعتدال" 1/ 204 (803).
(4)
"المسند" 5/ 326 - 327.
ثم ساق البخاري حديث الزُّبَيْرِ بْنِ خِرِّيتٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ سَمِعْتُ: أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ قَضَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا تَشَاجَرُوا فِي الطَّرِيقِ بِسَبْعَةِ أَذْرُعٍ. وأخرجه مسلم أيضًا، ولابن ماجه من حديث سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس مرفوعًا:"إذا اختلفتم في الطريق، فاجعلوه سبعة أذرع"
(1)
، وفيه أيضًا عن أنس، أخرجه ابن عدي من حديث عبَّاد بن منصور، عن أيوب السختياني، عنه: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطريق الميتاء التي تؤتى من كل مكان .. الحديث
(2)
.
قال المهلب: هذا حكم من الشارع في الأفنية إذا أراد أهلها البنيان أن تُجعل الطريق سبعة أذرع حتى لا تضر بالمارة عليها، وإنما جعلها سبعة أذرع لمدخل الأحمال والأثقال ومخرجها، ومدخل الركبان، والرجال ومطرح ما لا بد لهم من مطرحه عند الحاجة إليه، وما لا يجد الناس بدًّا من الارتفاق من أجله لطرقهم.
قال الطبري: والحديث على الوجوب عند العلماء القضاء به، ومخرجه على الخصوص عندهم، ومعناه: أن كل طريق تجعل سبعة أذرع وما يبقى بعد ذلك لكل واحد من الشركاء في الأرض قدر ما ينتفع به، ولا مضرة عليه فيه فهي المرادة بالحديث، وكل طريق يؤخذ لها سبعة أذرع ويبقى لبعض الشركاء من نصيبه بعد ذلك ما لا ينتفع به، فغير داخل في معنى الحديث.
وقال غيره: هذا الحديث في أمهات الطرق وما يكثر الاختلاف فيه والمشي عليه، وأما ثنيات الطريق فيجوز في أفنيتها ما اتفقوا عليه، وإن كان أقل من سبعة أذرع.
(1)
ابن ماجه (2339).
(2)
"الكامل" 5/ 546، وفيه: عن أيوب السختياني، عن أبي قلابة، عن أنس، به.
وروى ابن وهب، عن ابن سمعان: أن من أدرك من العلماء قالوا في الطريق يريد أهلها بنيان عرصتها
(1)
: إن أهلها الذين هم أقرب الناس إليها يقتطعونها بالحصص على قدر ما يشرع فيها من ربعهم، فيعطى صاحب الربع الواسع بقدره، وصاحب الصغير بقدره، ويتركون لطريق المسلمين ثمانية أذرع أو سبعة على ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ونقل ابن التين عن ابن شعبان أنه إذا اختلف البانيان المتقابلان، وأراد أن يقرب كل واحد جداره بجدار صاحبه، جعلا للطريق سبعة أذرع بالذراع المعروفة بذراع البنيان.
واختلف أصحاب مالك فيمن أراد أن يبني في الفناء الواسع، ولا يضر فيه بأحد بعد أن يترك للطريق سبعة أذرع أو ثمانية، فروى ابن وهب أنه ليس له ذلك، وقال أصبغ: أكرهه، فإن ترك لم يعرض له. قال أصبغ: قد تركت فأفتى فيها أشهب، قال: إذا كانت الطريق واسعة وأخذ منها يسيرًا لا ضرر فيه ولا بأس بذلك.
قال ابن حبيب: وقول مالك أعجب إلي؛ لأن الطريق لمنفعة الناس عامة، وربما ضاق الطريق بأهله وبالدواب ويميل الراكب وصاحب الحمل عن الطريق إلى تلك الأفنية والرحاب، فيتسع فيها، فليس لأهلها تغييرها عن حالها. وقول أصبغ وأشهب يعضده حديث الباب، وما وافق الحديث أولى بما خالفه، ففيه الحجة البالغة، ومن معنى هذا الباب ما ذكره ابن حبيب أن عمر قضى بالأفنية لأرباب
الدور؛ وتفسير هذا يعني: أنه قضى بالانتفاع والمجالس والمرابط
(1)
العَرْصَة: كل بقعة من الدور واسعة ليس فيها بناء. "الصحاح" 3/ 1044.
والمصاطب
(1)
وجلوس الباعة وليس بأن يحاز بالبنيان والتحظير، وقد مرَّ عُمر بِكِيرِ حَدَّادٍ في السوق، فأمر به فهدم وقال: تضيقون على الناس
(2)
.
وقال الطحاوي: لم نجد لهذا الحديث معنى أولى أن يحمل عليه من أن الطريق المبتدأة إذا اختلف مبتدئوها في المقدار الذي يوقفونه لها من المواضع التي يحاولون اتخاذها فيها كالقوم يفتتحون مدينة من مدائن العدو، فيريد الإمام قسمتها ويريد مع ذلك أن يجعل فيها طرقًا لمن يسلكها من الناس إلى ما سواها من البلدان ولا يحدها مما كان المفتتحة عليهم أهملوا ذلك فيها فيجعلون كل طريق منها سبعة أذرع، ومثل ذلك الأرض الموات يقطعها الإمام ويجعل إليه إحياءها ووضع طريقًا بها لاجتياز الناس فيه بها إلى ما سواها، فيكون ذلك الطريق سبعة أذرع
(3)
.
وقال ابن التين: معنى (تشاجروا): اختلفوا. قال: وهذا يصح في الطرق الواسعة التي هي ممر الناس دون طرف الدار الواحدة، وكذلك يفعل أيضًا إذا جلس في الطريق من يبيع بتركه سبع أذرع، فإن بقي أقل من سبع منع الجالس هناك. قال: وكذلك القرى التي يزرع أهلها يكون الطريق هذا القدر. وقال أبو عبد الملك: أرادوا البنيان في الطريق المسلوك، واصطلحوا على أقل من سبعة أذرع جاز.
(1)
ورد بهامش الأصل: المصاطب بالصاد والسين أخرجه شيخنا مجد الدين في "القاموس". انتهى.
(2)
"النوادر والزيادات" 11/ 47 - 53.
(3)
"شرح مشكل الآثار" 3/ 228.
30 - باب النُّهْبَى بِغَيْرِ إِذْنِ صَاحِبِهِ
وَقَالَ عُبَادَةُ: بَايَعْنَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنْ لَا نَنْتَهِبَ. [انظر: 18]
2474 -
حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ يَزِيدَ الأَنْصَارِيَّ -وَهُوَ جَدُّهُ أَبُو أُمِّهِ- قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ النُّهْبَى وَالمُثْلَةِ. [5516 - فتح: 5/ 119]
2475 -
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ، حَدَّثَنَا عُقَيْلٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضى الله عنه: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهْوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُ وَهْوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهْوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَنْتَهِبُ نُهْبَةً يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ حِينَ يَنْتَهِبُهَا وَهْوَ مُؤْمِنٌ". وَعَنْ سَعِيدٍ وَأَبِى سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ، إِلَّا النُّهْبَةَ.
قَالَ الفِرَبْرِيُّ: وَجَدْتُ بِخَطِّ أَبِي جَعْفَرٍ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: تَفْسِيرُة: أَنْ يُنْزَعَ مِنْهُ، يُريدُ الإيمَانَ
[5578، 6772، 6810 - مسلم: 57 - فتح: 5/ 119]
ثم ساق حديث شُعْبَةَ، ثَنَا عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ يَزِيدَ الأَنْصارِيَّ -وَهُوَ جَدُّهُ أَبُو أُمِّهِ- قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ النُّهْبَى وَالمُثْلَةِ.
وحديث أَبِيِ هُرَيْرَةَ قال: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم .. الحديث، وفيه:"وَلَا يَنْتَهِبُ نُهْبَةً يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ حِينَ يَنْتَهِبُهَا وَهْوَ مُؤْمِن". الحديث.
وَعَنْ سَعِيدٍ
(1)
، وَأَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ، إِلَّا النُّهْبَةَ.
(1)
كتب فوقها بالأصل: معلق.
الشرح:
تعليق عبادة أسنده في وفود الأنصار وفي المناقب
(1)
، وحديث عبد الله بن يزيد من أفراده. والأخير: قال الزهري: أخبرني عبد الملك بن أبي بكر أنه كان يحدثهم بهؤلاء عن أبي هريرة قال: وكان أبو (بكر)
(2)
يلحق بهن: "ولا ينتهب نهبة ذات شرف" إلى آخره
(3)
وعند مسلم من حديث الأوزاعي عن الزهري، عن سعيد وأبي سلمة وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، عن أبي
هريرة، وذكر النهبة ولم يقل:"ذات شرف"
(4)
.
قال أبو عبد الله: تفسيره أن ينزع منه الإيمان، وصح:"من انتهب نهبة فليس منا"، أخرجه أبو داود من حديث جابر
(5)
، وابن حبان من حديث الحسن عن عمران بن الحصين
(6)
(7)
وصححه الترمذي من حديث أنس
(8)
، ولابن حبان من حديث ثعلبة بن الحكم مرفوعًا:
(1)
سيأتي برقمي (3892، 3893) كتاب: مناقب الأنصار، باب: وفود الأنصار.
(2)
في الأصل: هريرة. والصواب ما أثبتناه، هو أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام.
(3)
سيأتي برقم (5578) كتاب: الأشربة، باب: قول الله تعالى {إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ} .
(4)
رواه مسلم (57/ 102) كتاب: الإيمان، باب: بيان نقصان الإيمان بالمعاصي ..
(5)
رواه أبو داود (4391).
(6)
"صحيح ابن حبان" 11/ 574 (5170).
(7)
ورد بهامش الأصل تعليق نصه: قال علي بن المديني فيما حكاه العلائي عنه في "المراسيل": لم يسمع الحسن عن عمران. وقال صالح بن أحمد: أنكر على من يقول عن الحسن: حدثني عمران بن حصين -أي أنه لم يسمع منه- وقال عباد بن سعد: قلت ليحيى ابن معين: الحسن لقي عمران بن حصين قال: أما في حديث البصريين فلا، وأما في حديث الكوفيين فنعم، وقال بهز بن أسد: سمع منه.
(8)
الترمذي (1601)، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب من حديث أنس.
"إن النهبة لا تحل"
(1)
، ولأحمد عن زيد بن خالد: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النهبة
(2)
، ولابن أبي شيبة من حديث صحابي:"ليست النهبة بأحل من الميتة"، وله من حديث (عبد الرحمن بن سمرة)
(3)
: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المثلة. ومن حديث ابن أبي أوفى مرفوعًا: "ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع المسلمون إليها رءوسهم وهو مؤمن"
(4)
.
إذا تقرر ذلك؛ فالانتهاب الذي قام الإجماع على تحريمه هو ما كانت العرب عليه من الغارات وانطلاق الأيدي على أموال المسلمين بالباطل، فهذِه النهبة لا ينتهبها مؤمن كما لا يسرق ولا يزني مؤمن، يعني: مستكمل الإيمان؛ وعلى هذا وقعت البيعة من حديث عبادة في قوله: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا ننتهب) يعني: أن لا نغير على المسلمين في أموالهم.
قال ابن المنذر: وفسر الحسن والنخعي هذا الحديث فقالا: النهبة المحرمة: أن يُنتهب مال الرجل بغير إذنه وهو له كاره؛ وهو قول قتادة.
قال أبو عبيد: وهذا وجه الحديث على ما فسراه، وأما النهبة المكروهة: فهو ما أذن فيه صاحبه للجماعة وأباحه لهم وغرضه تساويهم فيه أو مقاربة التساوي، فإذا كان القوي مثهم يغلب الضعيف
ويحرمه فلم تطب نفس صاحبه بذلك الفعل، وقد اختلف العلماء فيما
(1)
رواه ابن حبان 11/ 572 - 573 (5169) من حديث ثعلبة بن الحكم أنه سمع منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن النهبة.
(2)
أحمد 4/ 117.
(3)
هكذا في الأصل، وفي "المصنف" 5/ 454 (27926): سمرة بن جندب، وفي 4/ 484 (22320): عبد الرحمن بن سلمة. بلفظ: نهى عن النهبة.
(4)
"مصنف ابن أبي شيبة" 4/ 483 - 484.
ينثر على رءوس الضيفان، وفي الأعراس فيكون فيه النهبة فكرهه مالك والشافعي وأجازه الكوفيون
(1)
، وإنما كره؛ لأنه قد يأخذ منه من لا يحب صاحب الشيء أخذه، ويحب أخذ غيره له، وما حكي عن الحسن من أنه كان لا يرى بأسًا بالنهاب في العُرسات والولائم، وكذلك الشعبي فيما رواه ابن أبي شيبة
(2)
، فليس من النهبى المحرمة، وكذا حديث عبد الله بن قرط عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في البدن التي نحرها:"من شاء اقتطع"
(3)
.
قال الشافعي: صار ملكًا للفقراء خلى بينه وبينهم، وحديث معاذ:"إنما نهيتكم عن نهبى العساكر، فأما العرسات فلا " فجاذبهم وجاذبوه، ضعفه البيهقي بالضعف والجهالة والانقطاع
(4)
.
قال الشافعي: فإن أخذ النثار
(5)
آخذٌ لا تجرح شهادته؛ لأن كثيرًا يزعم أنه مباح؛ لأن مالكه إنما طرحه لمن يأخذه، وأما أنا فأكرهه لمن أخذه، وكان أبو مسعود الأنصاري يكرهه، وكذلك إبراهيم
وعطاء وعكرمة ومالك
(6)
.
(1)
"مختصر اختلاف العلماء" 2/ 294.
(2)
"المصنف" 4/ 372.
(3)
رواه أبو داود (1765)، وأحمد 4/ 350.
(4)
"سنن البيهقي" 7/ 288.
(5)
ورد بهامش الأصل: الذي في الرافعي أن التقاط المارة كذلك، الأولى ما تابعه على ذلك في "الروضة" الوليمة، وليس لتفصيل نص الشافعي على أنه يكره. وقد نقله المصنف كما تراه كما نص عليه في "الأم" في آخر شهادة القاذف. ولفظه: وأما أنا فأكرهه لمن أخذه من قبل أن يأخذه من بعده، ولا يأخذه إلا تسلية لمن حضره. وأما تفصيل قرة وكذا تفصيل مذهبنا. وقد نقل الكراهة في "الروضة" في كتاب النهابات عن السائل، عن الشافعي، ولم يحك به خلافه.
(6)
انظر: "معرفة السنن والآثار" 10/ 272.
وقال ابن المنذر: إنما أكرهه؛ لأن من أخذه إنما أخذه بفضل قوة وقلة حياء، ولم يقصد به هو وحده، وإنما قصد به الجماعة، ولا يعرف حظه من حظ غيره، فهو خلسة وسحت. قال: وحديث البدنات حجة في إجازة ما ينثر في الملاك وغيره وأبيح أخذه؛ لأن المبيح لهم ذلك قد علم اختلاف قوتهم في الأخذ، وليس في البدن التي أباحها لأصحابه معنى إلا وهو موجود في النثار.
فرع: ذكر ابن قدامة: أنه يجب القطع على المنتهب قبل القسمة، وحكي عن داود وجوبه على من أخذ مال الغير ولو من غير حرز.
فائدة:
(النهبى) و (النهبة): اسم ما نهب؛ مأخوذة من النهب كالعمرى من العمر، والمنتهِب: هو الذي يأخذ الشيء عيانًا بغلبة سابقه ومبادرة لغيره.
أخرى: (المثلة) بضم الميم وإسكان المثلثة، ويقال أيضًا: بفتح الميم وضم الثاء، وجمعها مثلات، وضبطه ابن التين بفتح الميم وضم الثاء، ثم قال: وضبط في بعض الكتب بالأول، قال: وهي العقوبة في الأعضاء، كجدع الأنف والأذن وفقء العين. قال ابن فارس: مثل بالقتيل: إذا جدعه
(1)
.
فرع:
مَنْ مَثَّلَ بعبده عتق عند مالك؛ خلافًا لأبي حنيفة والشافعي. وقال بعض المتأخرين: يخير العبد في ذلك، وهل يعتق بنفس المثلة؟ فيه روايتان للمالكية. واختلفوا إذا مثل بعبد غيره، فنص "المدونة": يعتق
عليه
(2)
. وقال عبد الملك: لا يعتق عليه بخلاف عبده.
(1)
"مجمل اللغة" 3/ 823.
(2)
"المدونة" 2/ 396.
تنبيه:
قال ابن التين: معلوم أن أموال المسلمين محرمة، والحديث إنما هو مؤول في المغازي ينهب بما غنم من غير قسمة، وكذا إذا قدم إليهم طعام أكل كل واحد بما يليه ولا ينتهب. قال: وحمل بعضهم الحديث على عمومه ولم يجزه في النثار ونحوه. وقال بعضهم: إنما ذلك فيما لم يؤذن في انتهابه، وإما ما أذن فيه فغير ذلك، واحتج بحديث البدنات، وهذا مثل تبويب البخاري النهبة بغير الإذن.
خاتمة:
قوله: ("لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن")، وذكر مثله في شرب الخمر، وأكثر العلماء أن معناه ليس بمستكمل لشرائع الإيمان.
وقال البخاري: تفسيره أن ينزع عنه نور الإيمان وهو قريب من الأول. وقيل: يزول منه اسم البناء بالإيمان لا نفس الإيمان. وقيل: أنذره أن يزول إيمانه إذا استمر على ذلك، مثل من يرتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه. وقيل: يعتزله الإيمان عند مقارنة فعله هذِه الأشياء. وقيل: إن ارتكبها مستحِلًّا، ورواه بعضهم:"لا يشربِ الخمر" بكسر الباء على معنى النهي، يعني: إذا كان مؤمنًا فلا يفعل، وستأتي له تكملة في الحدود إن شاء الله تعالى.
31 - باب كَسْرِ الصَّلِيبِ وَقَتْلِ الخِنْزِيرِ
2476 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ قَالَ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ المُسَيَّبِ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضى الله عنه عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَنْزِلَ فِيكُمُ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا مُقْسِطًا، فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلَ الخِنْزِيرَ، وَيَضَعَ الجِزْيَةَ، وَيَفِيضَ المَالُ حَتَّى لَا يَقْبَلَهُ أَحَدٌ". [انظر: 2222 - مسلم: 155 - فتح: 5/ 121]
ذكر فيه حديث أبي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَنْزِلَ فِيكُمُ ابن مَرْيَمَ حَكَمًا مُقْسِطًا، فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ .. " الحديث. وقد سلف في باب قتل الخنزير
(1)
فراجعه، وهو وعد منه بنزول عيسي صلى الله عليه وسلم.
وفيه من الفقه: كسر نصب المشركين وجميع الأوثان، وإنما قصد إلى ذكر الصليب وقتل الخنزير من أجل أنهما في دين النصارى المعتدين في شريعتهم إليه، فأخبر أن عيسى سيغير ما نسبوه إليه، كما غيره هو، وأعلمهم أنهم على الباطل في ذلك، فدل هذا أن عيسى يأتي بتصحيح شريعة نبينا، حاكمًا بالعدل بين أهلها.
ومعنى ("يضع الجزية"): يتركها، فلا يقبلها كما أسلفناه هناك؛ لأنا إنما قبلناها لحاجتنا إلى المال، وليس يحتاج عيسى عند خروجه إلى مال؛ لأنه يفيض في أيامه حتى لا يقبله أحد ولا يقبل إلا الإيمان بالله وحده.
وأما الساعة؛ فلو كسر صليب لأهل الكتاب المعاهدين بين أظهرنا لكان ذلك تعديًا؛ لأن على ذلك يؤدون الجزية وإن كسره لأهل الحرب كان مشكورًا، وكذلك قتل الخنزير
(2)
.
(1)
ورد بهامش الأصل: في البيع، (
…
) فيكم.
(2)
انظر: "شرح ابن بطال" 6/ 605.
32 - باب هَلْ تُكْسَرُ الدِّنَانُ الَّتِى فِيهَا الخَمْرُ أَوْ تُخَرَّقُ الزِّقَاقُ
؟
فَإِنْ كَسَرَ صَنَمًا أَوْ صَلِيبًا أَوْ طُنْبُورًا أَوْ مَا لَا يُنْتَفَعُ بِخَشَبِهِ. وَأُتِيَ شُرَيْحٌ فِي طُنْبُورٍ كُسِرَ فَلَمْ يَقْضِ فِيهِ بِشَيْءٍ.
2477 -
حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى نِيرَانًا تُوقَدُ يَوْمَ خَيْبَرَ. قَالَ:"عَلَى مَا تُوقَدُ هَذِهِ النِّيرَانُ". قَالُوا: عَلَى الحُمُرِ الإِنْسِيَّةِ. قَالَ: "اكْسِرُوهَا، وَأَهْرِقُوهَا". قَالُوا: أَلَا نُهْرِيقُهَا وَنَغْسِلُهَا؟ قَالَ: "اغْسِلُوا".
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: كَانَ ابن أَبِي أُوَيْسٍ يَقُولُ: الُحمُرِ الأنَسِيَّةِ. بِنَصْبِ الألَفِ وَالنُّون [4196، 5497، 6148، 6331، 6891 - مسلم: 1802 - فتح: 5/ 121]
2478 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا ابن أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ، وَحَوْلَ الكَعْبَةِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتّونَ نُصُبًا، فَجَعَلَ يَطْعَنُهَا بِعُودٍ فِي يَدِهِ، وَجَعَلَ يَقُولُ:{جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} الآيَةَ [الإسراء: 81]. [4287، 4720 - مسلم: 7811 - فتح: 5/ 121]
2479 -
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْن الُمنْذِرِ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ القَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ القَاسِمِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أنَهَا كَانَتِ اتَّخَذَتْ على سَهْوَةٍ لَهَا سِتْرًا فِيهِ تَمَاثِيلُ، فَهَتَكَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَاتَّخَذَتْ مِنْهُ نُمْرُقَتَيْنِ، فَكَانَتَا فِي البَيْتِ يَجْلِسُ عَلَيْهِمَا. [5954، 5955، 6109 - مسلم: 2107 - فتح: 5/ 122]
ثم ساق ثلاثة أحاديث:
أحدها:
حديث سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَع أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأى نِيرَانًا تُوقَدُ يَوْمَ خَيْبَرَ؛ فَقَالَ: "على مَا تُوقَدُ هذِه النِّيرَانُ؟ ". قَالُوا: عَلَى الحُمُرِ الإِنْسِيَّةِ. قَالَ:
"اكسِرُوهَا، وَأَهْرِقُوهَا". قَالُوا: أَلَا نُهْرِيقُهَا وَنَغْسِلُهَا؟ قَالطَ: "اغْسِلُوا".
ثانيها:
حديث عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ: دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ، وَحَوْلَ البَيْتِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ (صَنَمًا)
(1)
، فَجَعَلَ يَطْعَنُهَا بِعُودٍ فِي يَدِهِ، وَجَعَلَ يَقُولُ:{جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} الآيَةَ [الإسراء: 81].
ثالثها:
حديث عَائِشَةَ أَنَّهَا كَانَتِ اتَّخَذَتْ عَلَى سَهْوَةٍ لَهَا سِتْرًا فِيهِ تَمَاثِيلُ، فَهَتَكَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَاتَّخَذَتْ مِنْهُ نُمْرُقَتَيْنِ، فَكَانتَا فِي البَيْتِ يَجْلِسُ عَلَيْهِمَا.
الشرح:
أثر شريح ذكره وكيع بن الجراح، عن سفيان، عن أبي حصين أن رجلًا كسر طنبور رجل، فحاجَّه إلى شريح، فلم يضمنه شيئًا
(2)
.
وقال ابن التين: قضى شريح في الطنبور الصحيح يكسر ويدفع لمالكه فينتفع به. وحديث سلمة هو أحد ثلاثياته.
قال البخاري: (كان ابن أبي أويس يقول: الحمر الأَنَسية بنصب الألف والنون). وحديث عائشة سلف. أما كسر الدنان التي فيها الخمر فلا معنى له؛ لأنه إضاعة مال وما طهره الماء جاز الانتفاع
به، ألا ترى أنه عليه السلام قال في القدور:"اغسلوها"؟
وفي الترمذي عن أبي طلحة قال: يا نبي الله اشتريت خمرًا لأيتام في حجري، قال:"أهرق الخمر واكسر الدنان"
(3)
. وفي سنده ليث بن أبي سليم.
(1)
ورد في الهامش: نُصُبًا. [قلت: سيأتي أنها نسخة].
(2)
رواه ابن أبي شيبة 5/ 9 (23214) عن وكيع، به.
(3)
الترمذي (1293).
ولأحمد من حديث ابن عمر: أخذ النبي صلى الله عليه وسلم شفرة وخرج إلى السوق وبها زقاق خمر جلبت من الشام فشق بالمدية ما كان من تلك الزقاق، وأمرني أن آتي الأسواق كلها فلا أجد فيها زق خمر إلا شققته، ففعلت
(1)
.
وأما الزقاق، فرأى مالك أن الماء لا يطهرها لما يداخلها وغاص فيها من الخمر، ورأى غيره تطهيرها وغسلها بالماء؛ لأن الماء أيضًا يغوص فيها ويطهر ما غاص فيها من الخمر.
وفي حديث ابن مسعود من الفقه: كسر آلات الباطل وما لا يصلح إلا للمعصية كالطنابير والعيدان والمزامير والبرابط، التي لا معنى لها إلا التلهي بها عن ذكر الله والشغل بها عما يحبه إلى ما يسخطه أن يغيره عن هيئته المكروهة إلى خلافها من الهيئات التي يزول معها المعنى المكروه، وذلك أنه عليه السلام كسر الأصنام، والجوهر الذي فيه لا شك أنه يصلح -إذا غير عن الهيئة- المكروهة لكثير من منافع بني آدم، وقد روي عن جماعة من السلف كسر آلات الملاهي، وروى سفيان عن منصور، عن إبراهيم قال: كان أصحاب عبد الله يستقبلون الجواري معهن الدفوف فيخرقونها
(2)
، وروى نافع عن ابن عمر أنه كان إذا وجد أحدًا يلعب بالنرد ضربه وأمر بها فكسرت
(3)
.
قال المهلب: وما كسر من آلات الباطل وكان في خشبها بعد كسرها منفعة فصاحبها أولى بها مكسورة، إلا أن يرى الإمام حرقها بالنار على معنى التشديد والعقوبة على وجه الاجتهاد، كما فعل عمر حين أحرق
(1)
أحمد 2/ 132 - 133.
(2)
رواه ابن أبي شيبة 5/ 317 (26456).
(3)
رواه مالك في "الموطأ" ص 594 (7).
دار رويشد على بيع الخمر، وقد هم الشارع بتحريق دور من يتخلف عن صلاة الجماعة
(1)
، وهذا أصل في العقوبة في المال إذا رأى ذلك.
قلت: أصحابنا ادعوا نسخه. وهتكه عليه السلام الستر الذي فيه الصور دليل على إفساد الصور وآلات الملاهي. وقال ابن المنذر: في معنى الأصنام الصور المتخذة من المدر والخشب وشبهها، وكل ما يتخذه الناس مما لا منفعة فيه إلا للهو المنهي عنه، فلا يجوز بيع شيء منه إلا الأصنام التي تكون من الذهب والفضة والحديد والرصاص إذا غيرت عما هي عليه وصارت نقرًا أو قطعًا، فيجوز بيعها والشراء بها.
وقوله في القدور: "اكسروها" أراد به التغليظ على أصحاب المنكر؛ ليكون حسمًا للمراد، وكذا خرق الزقاق، كما نبه عليه ابن الجوزي، فأما إذا قبلوا قول الحق فاللين أولى بهم؛ ولهذا لما رأى استجابتهم لمراده أجاز الغسل، ثم قال: فإن قلت: قد نهى عن إضاعة المال
(2)
.
فالجواب: أن إضاعة الشيء الخاص للمصلحة العامة حسن كتحريق مال الغال وشبهه وهذا على قول من لم يدع نسخه.
تنبيهات:
أحدها: (الدنان) جمع دن ككلب وكلاب، وكذلك (الزقاق) جمع زق. قال أبو عبد الملك: يغسل الفخار كما في الحديث، وكذا أواني المجوس التي يطبخون فيها الميتة، وأما الزقاق فتشق؛ لأنها تشرب.
ثانيها: أمر بإراقة لحم الحمر؛ ليكون أبلغ في التحريم، وقد كان
(1)
سلف برقم (644) كتاب: الأذان، باب: وجوب صلاة الجماعة، من حديث أبي هريرة.
(2)
سلف برقم (1477) كتاب: بزكاة، باب قول الله تعالى:{لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} .
تؤكل قبل ذلك واختلف في علة تحريمها، وسيأتي في بابه. وقوله:(ألا نهريقها؟) وفي نسخة: نهرقها. وصوب ابن التين الأولى.
ثالثها: قوله: ("صنمًا") وفي نسخة: "نصبًا" -بضم النون والصاد- جمع نصاب وهو صنم أو حجر ينصب ويذبح عنده، وليس ببيّن أن يكون جمعًا؛ لأنه لا يأتي بعد ستين إلا مفردًا، تقول: عندي ستون ثوبًا ونحو ذلك، ولا تقول أثوابًا. قال ابن التين: كذا ضبط في رواية أبي الحسن، وقد قيل: نُصُب ونُصَب ونُصِبَ بمعنى واحد؛ فعلى هذا يكون جمعًا لا مفردًا.
رابعها: طعنه في الأنصاب إعلام بأنها لا تدفع عن نفسها، فكيف تكون آلهة؟!
خامسها: السهوة كالصُّفة تكون بين يدي البيت. قاله الأصمعي، وقد سلف.
وقال غيره: تكون شبيهة بالرف أو الطاق يوضع فيه الشيء. وقيل: هي الطاق في وسط البيت. وقيل: هو بيت صغير سمكه مرتفع عن الأرض يشبه الخزانة الصغيرة يكون فيها المتاع، ومعنى (هتكه): شقه. والنمرقة سلفت لغاتها. وقال فيما تقدم: دخل البيت فوجد نمرقة فيها تصاوير فمنع من اتخاذها
(1)
، فيحتمل هذا أن يكون بعد إذنه:"إلا ما كان رقمًا في ثوب"
(2)
، وإن كان الستر ثوبًا؛ لكنه هتكه لما
(1)
سلف برقم (2105) كتاب: البيوع، باب: التجارة فيما يكره لُبْسُهُ
…
من حديث عائشة رضي الله عنها. ورواه مسلم أيضًا (2107) كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم تصوير صورة الحيوان.
(2)
سيأتي برقم (3226) كتاب: بدء الخلق، باب: إذا قال أحدكم: آمين .. من حديث أبي طلحة، ورواه مسلم (2106).
كان معلقًا، والنمارق تمتهن بالأرجل. وقيل: لما شقه خرجت الصور في القطع ولم يبق منها شيء في النمرقتين. وقال الداودي: الذي يحتمل أن تكون التماثيل من الشجرة ونحوها، فكرهها وقطع منها نمرقتين يريد أنها لم تكن صورة ممنوعة مما فيه روح، وهذا مذهب ابن عباس
(1)
.
(1)
سلف برقم (2225) كتاب: البيوع، باب: بيع التصاوير، ورواه مسلم (2110).
33 - باب مَنْ قَاتَلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ
2480 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يَزِيدَ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ -هُوَ: ابْنُ أَبِي أَيُّوبَ- قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الأَسْوَدِ عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رضى الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ". [مسلم: 141 - فتح: 5/ 123]
ذكر فيه حديث عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ".
هذا الحديث أخرجه مسلم أيضًا، وهو للأربعة من حديث سعيد بن زيد بزيادة:"ومن قتل دون أهله أو دون دمه أو دون دينه فهو شهيد". قال الترمذي: حسن صحيح
(1)
.
ولأبي داود من حديث ابن عمرو: "من أريد ماله بغير حق فقاتل فقتل فهو شهيد"
(2)
. وللإسماعيلي: "من قتل دون ماله مظلومًا فله الجنة".
ثم قال البخاري: رواه عن المقرئ
(3)
؛ فقال: "فهو شهيد" ودحيم، وابن أبي عمر، وعبد العزيز بن سلام؛ كلهم رووه عن المقرئ، فقالوا:"فله الجنة" وكلهم قال: "مظلومًا" ولم يقله البخاري، ويشبه أن يكون نقله من حفظه، أو سمعه من المقرئ من حفظه، فجاء بالحديث على ما جرى به اللفظ في هذا الباب، ومن جاء به على غير ما اعتيد من اللفظ فيه فهو بالحفظ أولى ولا سيما فيهم مثل: دُحيم، وكذلك ما زادوه من قوله مظلومًا، فإن المعنى لا يجوز إلا أن يكون كذلك. ورواه أبو نعيم في "مستخرجه" عن محمد بن أحمد، عن بشر بن
(1)
أبو داود (4772)، والنسائي 7/ 116، والترمذي (1421)، وابن ماجه (2580)، وليس عند ابن ماجه هذِه الزيادة.
(2)
أبو داود (4771).
(3)
هو عبد الله بن يزيد.
موسى، عن عبد الله بن يزيد المقرئ بلفظ:"من قتل دون ماله مظلومًا فهو شهيد"، كما رواه البخاري بزيادة:"مظلومًا".
إذا تقرر ذلك؛ فـ (دون) في الأصل ظرف مكان بمعنى: أسفل، وتحت نقيض فوق، وقد استعملت في هذا الحديث بمعنى: لأجل السببية وهو مجاز وتوسع، ووجهه: أن الذي يقاتل على ماله إنما جعله خلفه أو تحته، ثم يقاتل عليه.
والشهيد سمي بذلك؛ لأنه حيّ؛ لأن أرواحهم شهدت دار السلام وأرواح غيرهم لا تشهدها إلا يوم القيامة؛ ولأن الرب وملائكته يشهدون له بالجنة فشهيد مشهود له أو لأنه يشهد عند خروج روحه ما له من الثواب والكرامة، وغير ذلك مما أوضحته في كتاب "لغات المنهاج".
قال الترمذي: قد رخص بعض أهل العلم للرجل أن يقاتل عن نفسه وماله. وقال ابن المبارك: يقاتل عن ماله ولو درهمين
(1)
، وإنما أدخل هذا الحديث في هذِه الأبواب ليريك أن للإنسان أن يدفع عن نفسه وماله، فإذا كان شهيدًا إذا قُتِل في ذلك، كان إذا قتل من أراده في مدافعته له عن نفسه لا دية فيه عليه ولا قود.
قال المهلب: وكذلك كل من قاتل على ما يحل له القتال عليه من أهل أو دين، فهو كمن قاتل دون نفسه وماله، فلا دية عليه ولا تبعة، ومن أخذ في ذلك بالرخصة وأسلم المال والأهل والنفس، فأمره إلى الله، والله تعالى (يقدره)
(2)
ويأجره، ومن أخذ في ذلك بالشدة وقتل كانت له الشهادة بهذا الحديث.
(1)
الترمذي (1419).
(2)
هكذا بالأصل، وفي "شرح ابن بطال" 6/ 607:(يعذره).
واختلفت أقوال أهل العلم في الباب:
قال ابن المنذر: روينا عن جماعة من أهل العلم أنهم رأوا قتال اللصوص ودفعهم عن أنفسهم وأموالهم
(1)
، وقد أخذ ابن عمر لصًّا في داره فأصلت عليه السيف. قال سالم: فلولا أنا لضربه به
(2)
.
وقال النخعي: إذا خفت أن يبدأك اللص فابدأه. وقال الحسن: إذا طرق اللص بالسلاح فاقتله، وروينا هذا المعنى عن غير واحد من المتقدمين، وسئل مالك عن القوم يكونون في السفر فيلقاهم اللصوص. قال: تناشدونهم الله، فإن أبوا وإلا قوتلوا
(3)
.
وعن الثوري وابن المبارك قال: تقاتلونهم ولو على دانق. وقد سلف عن ابن المبارك على درهمين، ونقله الثوري عن جماهير العلماء. وقال بعض المالكية: لا يجوز قتله إذا طلب شيئًا يسيرًا كالثوب والطعام. وحكاه ابن التين عن مالك، وقال عبد الملك: إن قدر أن يمتنع مع اللصوص فلا يعطيهم شيئًا.
وقال أحمد: إذا كان اللص مقبلًا، وأما موليًا فلا. وعن إسحاق مثله. وقال أبو حنيفة في رجل دخل على رجل ليلًا للسرقة ثم خرج بالسرقة من الدار، فأتبعه الرجل فقتله: لا شيء عليه.
وكان الشافعي يقول: من أريد ماله في مصر أو صحراء أو أريد حريمه فالاختيار له أن يكلمه ويستغيث، فإن منع أو امتنع لم يكن له قتاله، فإن أبي أن يمتنع من قتله من أراده فله أن يدفع عن نفسه وعن
(1)
"الإشراف على مذاهب أهل العلم" 2/ 325.
(2)
رواه ابن أبي شيبة 5/ 466 (28032).
(3)
"النوادر والزيادات" 14/ 471.
ماله وليس له عمد قتله، فإن أتى ذلك على نفسه فلا عقل فيه ولا قود ولا كفارة
(1)
.
قال ابن المنذر: والذي عليه أهل العلم أن للرجل أن يقاتل عن نفسه وأهله وماله إذا أريد ظلمًا لحديث الباب، ولم يخص وقتًا دون وقت ولا حالًا دون حال إلا السلطان، فإن كل من يحفظ عنه من علماء الحديث كالمجمعين على أن من لم يمكنه أن يدفع عن نفسه وماله إلا بالخروج على السلطان ومحاربته أن لا يفعل؛ للآثار التي جاءت عن الشارع بالأمر بالصبر على ما يكون منه من الجور والظلم وترك القيام عليهم ما أقاموا الصلاة
(2)
، وما قلناه من إباحة أن يدفع الرجل عن نفسه وماله قول عوام أهل العلم إلا الأوزاعي، فإنه كان يفرق بين الحال التي الناس فيها جماعة وإمام، وبين حال الفتنة التي لا جماعة فيها ولا إمام. فقال في تفسير قوله:"فمن قتل دون ماله فهو شهيد": إذا أقلعت الفتنة عن الجماعة وأمنت السبل وحج البيت وجوهد العدو قعد اللص لرجل يريد دمه أو ماله قاتله، وإن كان الناس في معمعة وقتال فدخل عليه يريد دمه وماله اقتدى بمحمد بن مسلمة.
فرع:
لا يجب الدفع عندنا عن المال إذا لم يكن ذا روح، أما الحيوان فكالنفس ما لم يخش على نفسه لحرمته، ويجب عن البُضع بشرطه، وكذا نفس قصدها كافر أو بهيمة لا مسلم على الأصح.
(1)
"الأم" 6/ 26 - 27.
(2)
"الإشراف" 2/ 325.
فرع:
لو أراد استهلاك القوم قوتلوا جزمًا كالمحاربين إن قدر عليهم قبل التربة، وإلا أقُيد منهم (وبيعوا)
(1)
بالأموال وأخذ منهم صداق من (وطئوه)
(2)
أمة كانت أو حرة عند مالك مع الحد. وقال غيره: لا يجتمع الحد والصداق، وهو قول أبي حنيفة وإذا انهزم اللصوص فاختلف في اتباعهم.
(1)
كذا في الأصل، وفي (ف): يبعثوا.
(2)
كذا في (ف)، وفي الأصل: ظتوه.
34 - باب إِذَا كَسَرَ قَصْعَةً أَوْ شَيْئًا لِغَيْرِهِ
2481 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ، فَأَرْسَلَتْ إِحْدَى أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِينَ مَعَ خَادِمٍ بِقَصْعَةٍ فِيهَا طَعَامٌ فَضَرَبَتْ بِيَدِهَا، فَكَسَرَتِ القَصْعَةَ، فَضَمَّهَا وَجَعَلَ فِيهَا الطَّعَامَ، وَقَالَ:"كُلُوا". وَحَبَسَ الرَّسُولَ وَالقَصْعَةَ حَتَّى فَرَغُوا، فَدَفَعَ القَصْعَةَ الصَّحِيحَةَ وَحَبَسَ المَكْسُورَةَ. [5225 - فتح: 5/ 124]
وَقَالَ ابن أَبِي مَرْيَمَ: أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ أَيّوبَ، حَدَّثَنَا حمُيْدٌ، حَدَّثَنَا أَنَسٌ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
ذكر فيه حديث أنس أنه عليه السلام كَانَ عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ، فَأَرْسَلَتْ إِحْدى أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِينَ مَعَ خَادِمٍ بِقَصْعَةٍ فِيهَا طَعَامٌ، فَضَرَبَتْ بِيَدِهَا، فَكَسَرَتِ القَصْعَةَ، فَضَمَّهَا وَجَعَلَ فِيهَا الطَّعَامَ، وَقَالَ:"كُلُوا". وَحَبَسَ الرَّسُولَ وَالقَصْعَةَ حَتَّى فَرَغُوا، فَدَفَعَ القَصْعَةَ الصَّحِيحَةَ وَحَبَسَ المَكْسُورَةَ. وَقَالَ ابن أَبِي مَرْيَمَ: أَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، ثَنَا حُمَيْدٌ، ثَنَا أَنَسٌ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
هذا الحديث من أفراده، وفي رواية للترمذي: أهدت بعض أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النبي صلى الله عليه وسلم طعامًا في قصعة، فضربت عائشة القصعة بيدها، فألقت ما فيها، فقال عليه السلام:"طعام بطعام وإناء بإناء"، ثم قال: حسن صحيح
(1)
، وفي رواية لأبي داود والنسائي بإسناد فيه مقال من حديث عائشة: أن المرسلة صفية
(2)
، وهو أحد الأقوال في
(1)
الترمذي (1359).
(2)
أبو داود (3568)، والنسائي 7/ 71، وقال المنذري في "مختصره" 5/ 202: وفي إسناده أفلت بن خليفة بن حسان، أبو حسان، ويقال: فليت العامري. قال الإمام=
ذلك. وقيل: زينب بنت جحش، وأنه كان جفنة من حيس. ذكره في "المحلى"
(1)
. وقيل: أم سلمة حكاهما المحب الطبري في "أحكامه"، وحكى الثاني المنذري
(2)
.
وللترمذي من حديث سويد بن عبد العزيز، عن حميد، عن أنس استعار النبي صلى الله عليه وسلم قصعة فضاعت فضمنها لهم، ثم قال: حديث غير محفوظ
(3)
.
وقال أبو حاتم الرازي في "علله": حديث باطل ليس فيه استعارة، وهم فيه سويد
(4)
، وفي "علله" سألت أبي وأبا زرعة عن حديث رواه عمران بن خالد، عن ثابت، عن أنس: كان عليه السلام في بيت عائشة ومعه أصحابه، فأرسلت حفصة بقصعة فكسرتها عائشة، فقضى عليه السلام:"من كسر شيئًا فهو له وعليه مثله"، فقال أبو زرعة: هذا خطأ، رواه حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أبي المتوكل أنه عليه السلام وهو الصحيح
(5)
. ولم يقض، أي: فيه بشيء.
قلت: فالحاصل في المرسلة أربعة أقوال والكاسرة عائشة.
واختلف العلماء فيمن استهلك عروضًا أو حيوانًا؛ فذهب الكوفيون والشافعي وجماعة -كما قاله ابن بطال- إلى أن عليه مثل ما استهلك.
=أحمد: ما أرى به بأسًا، وقال أبو حاتم الرازي: شيخ. وقال الخطابي: وفي إسناد الحديث مقال. "معالم السنن" 3/ 151.
(1)
"المحلى" 8/ 141.
(2)
"مختصر سنن أبي داود" 5/ 201.
(3)
الترمذي (1360).
(4)
"علل الحديث" 1/ 407 (1412).
(5)
"علل الحديث" 1/ 446 (1400).
قالوا: ولا يقضى بالقيمة إلا عند عدم المثل، واحتجوا بحديث الباب، ألا ترى أنه عليه السلام ضمن القصعة بقصعة، وذهب مالك إلى أن من استهلك شيئًا من العروض أو الحيوان، فعليه قيمته يوم استهلاكه والقيمة أعدل في ذلك، واحتج بأنه عليه السلام قضى فيمن أعتق شركًا له في عبد بقيمة حصة شريكه دون حصته من عبد مثله، لأن ضبط المثل بالقيمة أخص منه في الخلقة. والمثل لا يوصل إليه إلا بالاجتهاد كما أن القيمة تدرك بالاجتهاد وقسمة العدل في الصنعة مثل. وقد ناقض العراقيون في قوله تعالى:{فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] وقالوا: القيمة مثل في هذا الموضع، واتفق مالك والكوفيون والشافعي وأبو ثور فيمن استهلك ذهبًا أو ورقًا أو طعامًا مكيلًا أو موزونًا أن عليه مثل ما استهلك في صفته ووزنه وكيله. قال مالك: وفرق بين الذهب والفضة والطعام وبين الحيوان والعروض العمل المعمول عليه
(1)
. قال ابن المنذر: ولا أعلم في هذِه المسألة خلافًا
(2)
.
وقال ابن التين: احتج بهذا الحديث من قال: يقضي في العروض بالأمثال. وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي، ورواية عن مالك، وعنه كل ما صنعه الآدميون غرم مثله كالثوب وبناء الحائط والصناعة ونحو ذلك، وكل ما كان من صنع الله كالعبد والدابة، ففيه القيمة والمشهور من مذهبه أن كل ما ليس بمكيل ولا موزون ففيه القيمة، وما كان مكيلًا أو موزونًا فيقضى بمثله.
(1)
"الموطأ" ص 458.
(2)
"شرح ابن بطال" 6/ 609 - 610، "الإشراف" 3/ 336.
والجواب عن حديث الباب أن البيت الذي كان فيه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته والظاهر أن ما فيه له، وكذا بيت المُهْدِية، أي: لا على وجه الغرامة، ولو سلم أن القصعتين للمرأتين لم يكن فيه حجة إذا اتفق الجاني والمجني عليه على الرضا بهما، وإنما يجب ما قلناه عن القيمة إذا أباه أحدهما، ويحتمل أن يكون عليه السلام رأى ذلك سدادًا بينهما فرضيتاه، فالحديث لا يتناول موضع الخلاف، ويحتمل أن يكون أخذ القصعة من بيتها عقوبة، والعقوبة بالأموال كانت مشروعة. وزعم المنذري أن ذلك من باب المعونة والإصلاح دون بن الحكم بوجوب المثل، فإن القصعة والطعام ليس لهما مثل معلوم، وقد أسلفنا هذا.
ومن تعدى على قصعة فكسرها أو ثوبًا فقطعه، فإن كان يسيرًا أصلحه وغرم ما بين قيمته صحيحًا ومَرْفُوًّا. وإن كان كبيرًا، فاختلف قول مالك؛ فقال مرة: يغرم ما نقصه مثل الأول. وقال أخرى: هو مخير بين أن يضمنه جميع قيمته أو ما نقصت قيمته، ولم يختلف قول مالك إذا أراد ربُّه أخذَه وما نقص له أن ذلك له. وقال أشهب ومطرف وابن الماجشون: إن قدر على غرامة قيمته، فليس له أخذه وما نقصه.
تنبيهات:
أحدها: لما استدل ابن حزم بحديث القصعة، قال: هذا قضاء بالمثل لا بالدراهم، قال: وقد روي عن عثمان بن عفان وابن مسعود أنهما قضيا فيمن استهلك فصلانًا بفصلان مثلها
(1)
، وشبهه داود بجزاء الصيد في العبد العبد، وفي العصفور العصفور.
(1)
"المحلى" 8/ 141.
ثانيها: إن قلت: فهلا أدبها ولو بالكلام، فالجواب: لعله فهم أن المهدية كانت أرادت بإرسالها ذلك إلى بيتها أذاها والمظاهرة عليها، فلما كسرتها لم يزد على أن قال:"غارت أمكم" وجمع الطعام بيده، وقال:"قصعة بقصعة" وأما "طعام بطعام" فلم يغرم الطعام؛ لأنه كان مهدى فإتلافه قبول له أو في حكمه، وتؤيده رواية أبي داود عن عائشة قالت: ما رأيت صانع طعام مثل صفية، وأنها صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم طعامًا، فبعثت به فأخذتني أَفْكَل -تعني: رعدة- فكسرت الإناء، فقلت: يا رسول الله، ما كفارة ما صنعت؟ فقال:"إناء مثل إناء وطعام مثل طعام"
(1)
، وفي إسناده أفلت بن خليفة
(2)
صدوق.
ثالثها: عند الحنفية إذا تغيرت العين المغصوبة بفعل الغاصب حتى زال اسمها وعظم منافعها زال ملك المغصوب عنها وملكها الغاصب وضمنها ولم يجز له الانتفاع بها حتى يؤدي بدلها
(3)
.
رابعها: (القصعة) بفتح القاف وسكون الصاد: إناء من عود. قال ابن سيده: هي صحفة تشبع عشرة، جمعها: قصاع، وقصع
(4)
، وكان بعض شيوخنا يقول: لا تكسر القصعة ولا تفتح الجراب.
(1)
أبو داود (3568)، وقد سبق.
(2)
ورد بهامش الأصل: قال الخطابي في حديث ذكره لأفلت: "إني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب" ضعف جماعة هذا الحديث وقالوا: أفلت مجهول. قال الإمام أحمد: لا أرى بأفلت بأسًا. وقال الدارقطني: كوفي صالح
…
من كلام النووي في "شرح المهذب".
(3)
"مختصر اختلاف العلماء" 4/ 181.
(4)
"المحكم" 1/ 82.
35 - باب إِذَا هَدَمَ حَائِطًا فَلْيَبْنِ مِثْلَهُ
2482 -
حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "كَانَ رَجُلٌ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، يُقَالُ لَهُ جُرَيْجٌ، يُصَلِّي، فَجَاءَتْهُ أُمُّهُ فَدَعَتْهُ، فَأَبَى أَنْ يُجِيبَهَا، فَقَالَ أُجِيبُهَا أَوْ أُصَلِّي؟ ثُمَّ أَتَتْهُ، فَقَالَتِ: اللَّهُمَّ لَا تُمِتْهُ حَتَّى تُرِيَهُ [وُجُوهَ] المُومِسَاتِ. وَكَانَ جُرَيْجٌ فِي صَوْمَعَتِهِ، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ: لأَفْتِنَنَّ جُرَيْجًا. فَتَعَرَّضَتْ لَهُ فَكَلَّمَتْهُ فَأَبَى، فَأَتَتْ رَاعِيًا، فَأَمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا فَوَلَدَتْ غُلَامًا، فَقَالَتْ: هُوَ مِنْ جُرَيْجٍ. فَأَتَوْهُ، وَكَسَرُوا صَوْمَعَتَهُ فَأَنْزَلُوهُ وَسَبُّوهُ، فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى ثُمَّ أَتَى الغُلَامَ، فَقَالَ: مَنْ أَبُوكَ يَا غُلَامُ قَالَ الرَّاعِى. قَالُوا نَبْنِى صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ. قَالَ: لَا، إِلَّا مِنْ طِينٍ". [انظر: 1206 - مسلم: 2550 - فتح 5/ 126]
ذكر فيه حديث جريج بطوله، وقد سبق، وإلى تبويب البخاري نحا الشافعي وأبو حنيفة وأبو ثور، فقالوا: إذا هدم رجل لآخر حائطًا، فإنه يبني له مثله، فإن تعذرت المماثلة رجع إلى القيمة، واقتضى بحث المتأخرين من الشافعية أن الجدار متقوم وأنه يضمن بالمثل ونقله النووي في "فتاويه" عن النص
(1)
، واختلف قول مالك في ذلك، والأشبه بالحديث الإعادة.
و (المومسات) الزواني. وفيه: أن الطفل يدعى غلامًا وهو أحد من تكلم في المهد، كما سلف. وقيل: إنه أجاب في بطن أمه
(2)
.
(1)
"فتاوى الإمام النووي" ص 92.
(2)
ورد بهامش الأصل: ويدل له ما رواه أحمد في "المسند" من حديث أبي هريرة وفيه: "فجعلوا يطوفون بهما في الناس وجعل إصبعه على بطنها، فقال: أي فلان، من أبوك؟ قال: أبي فلان راعي الضأن
…
" الحديث.
وفيه: المطالبة كما طالبت بنو إسرائيل جريجًا بما ادعته المرأة عليه.
وفيه: استنقاذ الرب جل جلاله لصالح عباده وأوليائه عند جور العامة وأهل الجهل عليهم بآية فيريهم الله إياها، فإن كانت عرضت في الإسلام، فكرامة يكرمه الله بها وسبب يسببه لا بخرق عادة ولا قلب عين. قال ابن بطال: وإنما كانت الآيات في بني إسرائيل؛ لأن النبوة كانت ممكنة فيهم غير ممتنعة عليهم، ولا نبي بعد نبينا فليس يجري من الآيات بعده ما يكون خرقًا للعادة ولا قلبًا لعين، وإنما يكون كرامة لأوليائه، مثل دعوة مجابة، ورؤيا صالحة، وبركة ظاهرة، وفضل بيِّن، وتوفيق من الله إلى الإبراء بما اتهم به الصالحون وامتحن به المتقون، وفي دعاء أمه عليه وهو في الصلاة، دليل أن دعاء الوالدين إذا كان بنية خالصة أنه قد يجاب، وإن كان في حال ضجر وحرج ولم يكن على صواب؛ لأنه قد أجيب دعاء أمه بأن امتحن مع المرأة التي كذبت عليه، إلا أنه تعالى استنقذه بمراعاته لأمر ربه فابتلاه وعافاه، وكذلك يجب (اللإنسان)
(1)
أن يراعي أمر ربه تعالى ودينه ويقدمه على أمور دنياه فتحمد عاقبته
(2)
.
وقوله: ("فتوضأ وصلى") فيه دلالة أن الوضوء كان لغير هذِه الأمة، وأن هذِه الأمة خصت بالغرة والتحجيل خلافًا لمن خصها بأصل الوضوء، وقد جاء في حديث سارة حين أخذها الكافر من إبراهيم أنها توضأت وصلت حتى غط الكافر وركض برجله
(3)
، كما سيأتي في الإكراه، وقد روي أنه لما توضأ ثلاثًا ثلاثًا. قال: "هذا
(1)
في الأصل: الإنسان.
(2)
"شرح ابن بطال" 6/ 611 - 612.
(3)
سلف برقم (2217) كتاب: البيوع، باب: شراء المملوك .. من حديث أبي هريرة.
وضوئي ووضوء الأنبياء قبلي"
(1)
، فثبت بهذا كله أن الوضوء مشروع قبل هذِه الأمة.
(1)
رواه ابن ماجه (420) من حديث أبي بن كعب، بلفظ:"ووضوء المرسلين من قبلي". وضعَّف البوصيري إسناده في "مصباح الزجاجة" 1/ 62.
47
كتاب الشركة
بسم الله الرحمن الرحيم
47 - كتاب الشَّرِكَةِ
هي بفتح الشين وكسر الراء، وكسر الشين، وإسكان الراء، وفتح الشين وإسكان الراء وفيها لغة رابعة: شرك بغير تاء تأنيث.
قال تعالى: {وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ} [سبأ:22] أي: من نصيب، وجمع الشركة: شرك بفتح الراء وكسر الشين، وهي في اللغة: الاختلاط على الشيوع أو على المجاورة، كما قال تعالى:{وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الخُلَطَاءِ} [ص: 24].
وفي الشرع: ثبوت الحق لاثنين فصاعدًا في الشيء الواحد كيف كان. قال تعالى: {ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ} [الزمر: 29] أي: متشاجرون في خدمته؛ يريد كل منهم أن ينفرد بها، ثم هي تارة تحصل بالخلط وتارة بالشيوع الحكمي كالإرث.
1 - باب الشَّرِكَةِ فِي الطَّعَامِ وَالنَّهْدِ وَالعُرُوضِ
وَكَيْفَ قِسْمَةُ مَا يُكَالُ وَيُوزَنُ مُجَازَفَةً أَوْ قَبْضَةً قَبْضَةً، لَمَّا لَمْ يَرَ المُسْلِمُونَ فِي النَّهْدِ بَأْسًا أَنْ يَأْكُلَ هَذَا بَعْضًا، وَهَذَا بَعْضًا وَكَذَلِكَ مُجَازَفَةُ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ، وَالقِرَانُ فِي التَّمْرِ.
2483 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعْثًا قِبَلَ السَّاحِلِ، فَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الجَرَّاحِ وَهُمْ ثَلَاثُمِائَةٍ وَأَنَا فِيهِمْ، فَخَرَجْنَا حَتَّى إِذَا كُنَّا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ فَنِيَ الزَّادُ، فَأَمَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِأَزْوَادِ ذَلِكَ الجَيْشِ فَجُمِعَ ذَلِكَ كُلُّهُ فَكَانَ مِزْوَدَيْ تَمْرٍ، فَكَانَ يُقَوِّتُنَا كُلَّ يَوْمٍ قَلِيلًا قَلِيلًا، حَتَّى فَنِيَ، فَلَمْ يَكُنْ يُصِيبُنَا إِلَّا تَمْرَةٌ تَمْرَةٌ، فَقُلْتُ وَمَا تُغْنِي تَمْرَةٌ فَقَالَ لَقَدْ وَجَدْنَا فَقْدَهَا حِينَ فَنِيَتْ. قَالَ ثُمَّ انْتَهَيْنَا إِلَى البَحْرِ فَإِذَا حُوتٌ مِثْلُ الظَّرِبِ، فَأَكَلَ مِنْهُ ذَلِكَ الجَيْشُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، ثُمَّ أَمَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِضِلَعَيْنِ مِنْ أَضْلَاعِهِ فَنُصِبَا، ثُمَّ أَمَرَ بِرَاحِلَةٍ، فَرُحِلَتْ ثُمَّ مَرَّتْ تَحْتَهُمَا فَلَمْ تُصِبْهُمَا. [2983، 4360، 4361، 4362، 5493، 5494 - مسلم: 1935 - فتح: 5/ 128]
2484 -
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مَرْحُومٍ، حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ رضي الله عنه قَالَ: خَفَّتْ أَزْوَادُ القَوْمِ وَأَمْلَقُوا، فَأَتَوُا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي نَحْرِ إِبِلِهِمْ فَأَذِنَ لَهُمْ، فَلَقِيَهُمْ عُمَرُ فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ مَا بَقَاؤُكُمْ بَعْدَ إِبِلِكُمْ؟ فَدَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا بَقَاؤُهُمْ بَعْدَ إِبِلِهِمْ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"نَادِ فِي النَّاسِ فَيَأْتُونَ بِفَضْلِ أَزْوَادِهِمْ". فَبُسِطَ لِذَلِكَ نِطَعٌ، وَجَعَلُوهُ عَلَى النِّطَعِ. فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَدَعَا وَبَرَّكَ عَلَيْهِ، ثُمَّ دَعَاهُمْ بِأَوْعِيَتِهِمْ، فَاحْتَثَى النَّاسُ حَتَّى فَرَغُوا، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ". [1982 - فتح: 5/ 128] 2485 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو النَّجَاشِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم العَصْرَ فَنَنْحَرُ
جَزُورًا، فَتُقْسَمُ عَشْرَ قِسَمٍ، فَنَأْكُلُ لَحْمًا نَضِيجًا قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ. [مسلم: 625 - فتح: 5/ 128]
2486 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ العَلَاءِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِي الغَزْوِ أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالمَدِينَةِ، جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ، فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ". [مسلم: 2500 - فتح: 5/ 128]
(النهد) بفتح النون وإسكان الهاء، قال الأزهري في "تهذيبه": هو إخراج القوم نفقاتهم على قدر عدد الرفقة، يقال: تناهدوا وقد ناهد بعضهم بعضا
(1)
.
وقال ابن سيده: إنه العون، وطرح نهده مع القوم أعانهم وخارجهم، وقد تناهدوا، أي: تخارجوا يكون ذلك في الطعام والشراب، وقيل: إنه إخراج القوم نفقاتهم على قدر في الرفقة
(2)
.
وقال صاحب "العين": هو ما يجمعه الرفقاء من مال أو طعام على قدر في الرفقة ينفقونه بينهم
(3)
. وقال ابن دريد: يقال من ذلك: تناهد القوم الشيء: تناولوه بينهم
(4)
.
وقال ثعلب: هو النهد بالكسر. قال: والعرب تقول: هات نهدك، مكسورة النون، وحكى عمرو بن عبيد عن الحسن أنه قال: أخرجوا نهدكم، فإنه أعظم للبركة، وأحسن لأخلاقكم وأطيب لنفوسكم.
(1)
"تهذيب اللغة" 4/ 3672.
(2)
"المحكم" 4/ 190.
(3)
"العين" 4/ 28.
(4)
"جمهرة اللغة" 2/ 687.
وذكر صاحب "المطالع" أن القابسي فسره بطعام الصلح بين القبائل.
قال: وحكى بعضهم فيه فتح النون، وهذا غريب منه كونه قدم الكسرة.
وذكر محمد بن عبد الملك التاريخي في كتاب "النهد" عن المدائني وابن الكلبي وغيرهما: أن أول من وضع النهد الحضير بن المنذر الرقاشي، وعن قتادة ما أفلس المتلازمان. يعني: المتناهدين.
ذكر فيه أربعة أحاديث:
أحدها:
حديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بَعَثَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْثًا، فَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الجَرَّاحِ
…
إلى أن قال: فَأَمَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِأَزْوَادِ ذَلِكَ الجَيْشِ فَجُمِعَ ذَلِكَ كُلُّهُ فَكَانَ مِزْوَدي تَمْرٍ .. الحديث بطوله، وقد ساقه مسلم أيضًا.
ثانيها:
حديث سَلَمَةَ قَالَ: خَفَّتْ أَزْوَادُ القَوْمِ وَأَمْلَقُوا إلى أن قال: "نَادِ فِي النَّاسِ فَيَأْتُونَ بِفَضْلِ أَزوَادِهِمْ". فَبُسِطَ لِذَلِكَ نِطَعٌ .. الحديث.
ثالثها:
حديث رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ: كُنَّا نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم العَصرَ فَنَنْحَرُ جَزُورًا، فَتُقْسَمُ عَشْرَ قِسَمٍ، فَنَأْكُلُ لَحْمًا نَضِيجًا قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ.
رابعها:
حديث أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرمَلُوا فِي الغَزْوِ أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالمَدِينَةِ، جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ، فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ".
الشرح:
أما حديث جابر فكرره البخاري، كما ستعلمه بعد، وقد أسلفنا أن مسلمًا طرقه. وأما حديث سلمة فمن أفراده. قال الإسماعيلي: أخبرني محمد بن العباس، ثنا أحمد بن يونس، ثنا النضر بن محمد، ثنا عكرمة بن عمار، عن إياس بن سلمة، عن أبيه بمعنى هذا الحديث. قال: وقال أحمد بن حنبل: عكرمة عن إياس صحيح أو محفوظ أو كلامًا هذا نحوه، ولم يرضه في يحيى بن أبي كثير. قلت: قد ساقه الطبري من حديث أبي حذيفة، حدثنا عكرمة به.
وفيه: أن الأزواد كربض الشاة فحشونا جربنا منه، ثم دعا بنطفة من ماء في إداوة، فأمر بها فصبت في قدح، فجعلنا نتطهر به حتى تطهرنا جميعًا
(1)
، وأخرجه مسلم من حديث أبي هريرة: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فنفدت أزواد القوم حتى هم أحدهم بنحر بعض حمائلهم، فقال عمر:
…
الحديث
(2)
.
وأخرجه البيهقي في "دلائله" من حديث عبد الرحمن بن أبي عمرة الأنصاري عن أبيه، وفيه: فما بقي في الجيش وعاء إلا ملئوه، وبقي مثله فضحك حتى بدت نواجذه، وقال:"أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، لا يلقى الله عبد مؤمن بهما إلا حجب عن النار"، وأخرجه أيضًا من حديث أبي خنيس الغفاري بلفظ: خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تهامة، حتى إذا كنا بعُسفان جهدوا
…
الحديث
(3)
.
(1)
رواه الطبراني 7/ 18 (6244)، عن محمد بن الحسن المصيصي، ثنا أبو حذيفة، به.
(2)
مسلم (27) كتاب: الإيمان، باب: الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة ..
(3)
"دلائل النبوة" 6/ 121 - 122.
وأما حديث رافع فسلف في الصلاة
(1)
، وشيخ البخاري محمد بن يوسف هو الفريابي.
إذا تقرر ذلك فقال المهلب: هذِه القسمة لا تصلح إلا فيما جعل للأكل خاصة؛ لأن طعام النهد وشبهه لم يوضع للآكلين على أنهم يأكلون بالسواء، وإنما يأكل كل واحد على قدر نهمته، وقد يأكل الرجل أكثر من غيره، وهذِه القسمة موضوعة للمعروف وعلى طريقة بين الأكلين، ألا ترى جمع أبي عبيدة بقية أزواد الناس، ثم شركهم فيها بأن قسم لكل واحد منهم، وقد كان فيهم من لم تكن له بقية طعام، وقد أعطى لبعضهم أقل مما كان بقي له ولآخر أكثر، وكذلك في حديث سلمة قسمه بينهم بالاحتثاء وهو غير متساو، وهذا الفعل للشارع هو الذي امتثل أبو عبيدة في جمعه للأزواد، وإنما يكون هذا عند شدة المجاعة، فللسلطان أن يأمر الناس بالمواساة، ويجبرهم على ذلك ويشركهم فيما بقي من أزوادهم، وإحياءً لأرماقهم، وإبقاءً لنفوسهم
(2)
. ويجوز أن يكون حكمًا حكم به لما شاهد من الضرورة وخوفه من تلف من لم يبق معه زاد، فظهر له المواساة أو عن رضى منهم، وكذلك قال بعض العلماء: إن ذلك سنة.
وفيه: أن للإمام أن يواسي بين الناس في الأقوات في الحضر بثمن وغيره، كما له فعل ذلك في السفر، وقد استدل بعض العلماء بهذا الحديث؛ وقال: إنه أجل في أن لا يقطع سارق في مجاعة؛ لأن المواساة واجبة للمحتاجين، وسيأتي كثير من معاني هذا الحديث في
(1)
سلف برقم (559) كتاب: مواقيت الصلاة، باب: وقت المغرب، في بيان تعديل صلاة المغرب، وليس فيه ذكر صلاة العصر.
(2)
"شرح ابن بطال" 7/ 6 - 7.
الجهاد في باب: حمل الزاد في الغزو. وخصه أبو عمر بسرقة المأكل
(1)
، وفي حديث رافع: قسمة اللحم بالتجزيء بغير ميزان؛ لأنه من باب المعروف وهو موضوع للأكل.
وأما قسمة الذهب والفضة مجازفة فغير جائز بالإجماع؛ لتحريم التفاضل في كل واحد منهما، وإنما اختلفوا في قسمة الذهب مع الفضة مجازفة أو بيع ذلك مجازفة، فكرهه مالك، ورآه من بيع الغرر والقمار، ولم يجزه، وأما الكوفيون والشافعي وجماعة من العلماء فأجازوا ذلك؛ لأن الأصل في الذهب بالفضة جواز التفاضل، فلا حرج في بيع الجزاف من ذلك وقسمته، وكذلك قسمة البر مجازفة لا تجوز، كما لا يجوز بيع جزاف بُر ببُرٍّ ونحوه، بما حرم فيه التفاضل وما يجوز فيه التفاضل فإنما الربا فيه في النسيئة خاصة، وأملق الرجل: افتقر ومنه قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} [الإسراء: 31]، أي: الفقر، ومثله أرملوا، يقال: أرمل القوم في زادهم، وأصله من الرمل كأنهم لصقوا بالرمل، كما قيل في المسكين: الذي لصق بالتراب.
وفيه منقبة عظيمة للأشعريين من إيثارهم ومواساتهم بشهادة الشارع، وأعظم ما شرفوا به كونه أضافهم إليه وليس المقصود هنا بالقسمة المعروفة عند الفقهاء، وإنما المراد هنا إباحة بعضهم بعضًا بموجوده.
تنبيهات:
أحدها: كان بعث أبي عبيدة في رجب سنة ثمان للهجرة، وفيه قوة إيمان هؤلاء المبعوثين؛ إذ لو ضعف -والعياذ بالله- إيمانهم لما خرجوا
(1)
"التمهيد" 23/ 12.
وهم ثلاثمائة وليس معهم سوى جراب تمر.
ثانيها: ذكر هنا أنه لما كنا ببعض الطريق فني الزاد، وفي رواية فكان أبو عبيدة يعطينا تمرة تمرة
(1)
، وفي أخرى ونحن نحمل أزوادنا على رقابنا
(2)
، وفي أخرى زودهم جرابًا من تمر
(3)
، وفي أخرى: فجمع أبو عبيدة زادهم
(4)
، ولمسلم: يعطينا قبضة قبضة
(5)
؛ ووجه الجمع كما قال عياض: أن يكون عليه السلام زودهم الجراب زائدًا على ما كان معهم من الزاد من أموالهم، ويحتمل أنه لم يكن في زادهم تمر غير هذا الجراب، وكان معهم غيره من الزاد، وإعطاء أبي عبيدة تمرة تمرة كان في الحال الثاني بعد أن فني زادهم وبعد أن أعطاهم قبضة قبضة، ثم فرغ وفقدوا التمرة ووجدوا لفقدها وقعًا، فلما فقدوها جمع أبو عبيدة الأزواد
(6)
. قلت: ويحتمل أن الجراب الذي زودهم الشارع كان على سبيل البركة، فلذا كانوا يأخذونه تمرة تمرة.
ثالتها: الحوت يقع على الواحد والجميع، جمعه: حيتان وهي العظام منها. وقال ابن سيده: الحوت: السمك، اسم جنس، وقيل: هو ما عظم منه، والجمع: أحوات
(7)
. وقال الفراء: جمعه حِوَته وأحوات في القليل، فإذا كثرت فهي الحيتان.
(1)
رواه مسلم (1935) كتاب: الصيد، باب: إباحة ميتات البحر.
(2)
رواه مسلم (1935/ 20)
(3)
رواه مسلم (1935/ 17)
(4)
سيأتي برقم (4360) كتاب: المغازي، باب: غزوة سيف البحر. ورواه مسلم (1935/ 21)
(5)
مسلم (1935/ 18).
(6)
"إكمال المعلم" 6/ 371 - 372.
(7)
"المحكم" 3/ 379.
وقوله: (ثماني عشرة ليلة) كذا في أصل الدمياطي ثماني لكن مصلحًا. وقال ابن التين: إنه الصواب الذي في نسخة الأصيلي، وجاء في رواية فأكلنا منه شهرًا
(1)
، وفي أخرى نصف شهر
(2)
. قال عياض: أكلوا منه نصف شهر طريًّا وبقيته قديدًا
(3)
. وقال النووي: من قال شهرًا هو الأصل ومعه زيادة علم، ومن روى دونه لم يَنْف الزيادة، ولو نفاها قدم المثبت، والمشهور عند الأصوليين أن مفهوم العدد لا حكم له، ولا يلزم منه نفي الزيادة لو لم يعارضه إثباتها، كيف وقد عارضه، فوجب قبولها
(4)
.
رابعها: قد أسلفنا الكلام على المجازفة، وفي الحديث الأول والذي بعده الشركة، وزعم الداودي أنها ليست من هذا الباب؛ لأنهم لم يريدوا المبايعة ولا البدل، إنما تفضل بعضهم على بعض، أو أخذ الإمام من أحدهم، واعترض ابن التين فقال: البخاري إنما أراد أن حقوقهم تساوت فيه بعد جمعه، فيسمونه جزافًا ولم يرد أصل أخذه، كما تأول الداودي، ولكن مجازفة الذهب والفضة لم يأت في الباب ما يدل عليها، فإن كانت مصكوكة، فلم يجزها مالك، واختلف هل هو على الكراهة أو التحريم؟ وأجازها غيره من أصحابه، وإن كانت غير مصكوكة جاز بيع بعضها ببعض جزافًا، ذهبًا بفضة نقدًا.
(1)
رواه مسلم (1935).
(2)
سيأتي برقم (4361) كتاب: المغازي، باب: غزوة سيف البحر. ورواه مسلم (1935/ 18).
(3)
"إكمال المعلم" 6/ 377.
(4)
"شرح صحيح مسلم" 13/ 88.
خامسها: فيه: فضل أبي عبيدة، وقد سماه الشارع أمين هذِه الأمة
(1)
.
وفيه: النظر في القوم والتدبير فيه، وفضل الصحابة على ما كان ينالهم من البؤس، وقد استجابوالله والرسول من بعد ما أصابهم القرح.
وفيه: رضاهم بالقضاء وطاعتهم للأمير.
وقوله: (تمرة تمرة) هو بما ترجم عليه بالقران في التمر.
وقوله: (ثم انتهينا إلى البحر). قال الداودي: موضع، والظاهر أنه المعهود.
و (الظرب) بفتح الظاء -يعني: المعجمة- وكسر الراء: الجبل الصغير.
قال الفراء: هو بسكودن الراء، وهو الجبل المنبسط ليس بالعالي.
وقوله: (فأمر بضلعين) -يعني: بالمعجمة- ضبط ذلك بكسر الضاد وفتح اللام. وقال في "أدب الكاتب" ضَلْع وضلَع
(2)
(3)
. وقال الهروي: هما لغتالن والضلع مؤنثة.
وفي حديث سلمة: ما كان عمر عليه من التوفيق والتأييد، وتذكير الشارع، والتعريض بالطلب.
وفيه: ما للإمام أدن يأخذ من أموال بعض عند الضرورة إلى ذلك.
وفيه: مراعاة أحوال الجيش.
(1)
سيأتي برقم (4382) كتاب: المغازي، باب: قصة أهل نجران، من حديث أنس، ورواه مسلم (2419) كتاب:"فضائل الصحابة"، باب: فضائل أبي عبيدة.
(2)
ورد بهامش الأصل تعليق نصه: في "المطالع" اللغتان، وزاد: أنه وقع في موضع من البخاري بالظاء.
(3)
"أدب الكاتب" ص 240.
وفيه: جواز الشركة في الطعام وخلط الأزواد في السفر إذا كان ذلك أرفق بهم.
و (النطع): بكسر النون وفتح الطاء على الأفصح، ومعنى (برك) دعا فيه بالبركة.
وقوله: (احتثى الناس) أي: أخذوا ما بأيديهم.
وفي حديث رافع: الشركة في الإبل. وفيه: جمع حظوظ رجال في المقسم، ومالك لا يقول بذلك.
وفيه: نحر إبل المغنم. وفيه: أنه لا يتخير منها إلا بعد القسمة، ومالك يجيز قبلها.
وقوله فيه: (فنأكل لحمًا نضيجًا قبل الغروب) قد يحتج به على أبي حنيفة أن أول وقت العصر بعد القامتين. و (النضيج) المطبوخ.
وفيه: جواز هبة المجهول ومشهور مذهب مالك جوازه.
2 - باب مَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ فِي الصَّدَقَةِ
2487 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ المُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي ثُمَامَةُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَنَسٍ، أَنَّ أَنَسًا حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه كَتَبَ لَهُ فَرِيضَةَ الصَّدَقَةِ التِي فَرَضَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"وَمَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ". [انظر: 1448 - فتح: 5/ 130]
ذكر فيه حديث أنس السالف في الزكاة، وهي خلطة ولها تأثير في الزكاة عندنا وعند مالك، وخالف أبو حنيفة، والحديث دليل عليه؛ لأن التراجع لا يصح بين الشريكين والرقاب.
قال ابن بطال: وفقه الباب أن الشريكين إذا كان رأس مالهما واحدًا
فهما شريكان في الربح، فمن أنفق من مال الشركة أكثر مما أنفق صاحبه تراجعا عند الربح بقدر ما أنفق كل واحد منهما، فمن أنفق قليلًا رجع على من أنفق أكثر منه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لما أمر الخليطين في الغنم بالتراجع بينهما بالسوية وهما شريكان دل على أن كل شريك في معناهما
(1)
.
(1)
"شرح ابن بطال" 7/ 8.
3 - باب قِسْمَةِ الغَنَمِ
2488 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الحَكَمِ الأَنْصَارِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِذِي الحُلَيْفَةِ فَأَصَابَ النَّاسَ جُوعٌ، فَأَصَابُوا إِبِلًا وَغَنَمًا. قَالَ وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي أُخْرَيَاتِ القَوْمِ فَعَجِلُوا وَذَبَحُوا وَنَصَبُوا القُدُورَ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالقُدُورِ فَأُكْفِئَتْ، ثُمَّ قَسَمَ فَعَدَلَ عَشْرَةً مِنَ الغَنَمِ بِبَعِيرٍ فَنَدَّ مِنْهَا بَعِيرٌ، فَطَلَبُوهُ فَأَعْيَاهُمْ، وَكَانَ فِي القَوْمِ خَيْلٌ يَسِيرَةٌ، فَأَهْوَى رَجُلٌ مِنْهُمْ بِسَهْمٍ فَحَبَسَهُ اللهُ، ثُمَّ قَالَ:"إِنَّ لِهَذِهِ البَهَائِمِ أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الوَحْشِ، فَمَا غَلَبَكُمْ مِنْهَا فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا". فَقَالَ جَدِّي إِنَّا نَرْجُو -أَوْ نَخَافُ- العَدُوَّ غَدًا، وَلَيْسَتْ مَعَنَا مُدى، أَفَنَذْبَحُ بِالقَصَبِ؟ قَالَ:"مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ، فَكُلُوهُ، لَيْسَ السِّنَّ وَالظُّفُرَ، وَسَأُحَدِّثُكُمْ عَنْ ذَلِكَ، أَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ وَأَمَّا الظُّفُرُ فَمُدَى الحَبَشَة". [2507، 3075، 5498، 5503، 5506، 5509، 5543، 5544 - مسلم: 1968 - فتح: 5/ 131]
ذكر فيه حديث عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، عَنْ جدَّهِ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِذِي الحُلَيْفَةِ فَأَصَابَ النَّاسَ جُوعٌ، فَأَصَابُوا إِبِلًا وَغَنَمًا. وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي أُخْرَيَاتِ القَوْمِ، فَعَجِلُوا وَذَبَحُوا وَنَصَبُوا القُدُورَ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالقُدُورِ فَأُكْفِئَتْ، ثُمَّ قَسَمَ فَعَدَلَ عَشْرَةً مِنَ الغَنَمِ بِبَعِيرٍ، فَنَدَّ مِنْهَا بَعِيرٌ، فَطَلَبُوهُ فَأَعْيَاهُمْ .. الحديث، وترجم عليه قريبًا بباب: من عدل عشرة من الغنم بجزور في القسمة، وقال فيه: فعدل عشرة من الغنم بجزور، وفيه:"أعجل أو أرني"
(1)
، وقد أخرجه مسلم والأربعة
(2)
.
(1)
سيأتي برقم (2507) كتاب: الشركة.
(2)
مسلم (1968) كتاب: الأضاحي، باب: جواز الذبح بكل ما أنهر الدم .. أبو داود (2821)، والترمذي (1492)، والنسائي 7/ 191 - 192، وابن ماجه (3137).
قال الدارقطني: ورواه أبو الأحوص، عن سعيد بن مسروق، عن عباية بن رفاعة، عن أبيه، عن جده. وتابعه عبد الوارث بن سعيد، عن ليث بن أبي سليم ومبارك بن سعيد بن مسروق فقالا: عن عباية، عن أبيه، عن جده.
إذا تقرر ذلك؛ فـ (ندَّ) بتشديد آخره: هرب، والأوابد بفتح الهمزة وبالموحدة: النفور والتوحش، و (مُدى) بضم الميم، و (أَنْهَر) بالراء: أسال، وحكي إعجامها و (ليس السن والظفر) بالنصب على الاستثناء بـ (ليس)، وذو الحليفة هذِه ليست الميقات إنما هي التي من تهامة عند ذات عرق، كما ذكره ياقوت
(1)
وغيره.
وقال في باب: من عدل عشرة (
…
)
(2)
وكان ذلك سنة ثمان من الهجرة، كما نبه عليه ابن التين، ووقع للقابسي أنها المهل التي بقرب المدينة، وقاله النووي أيضًا، وما ذكرناه يرد عليهما
(3)
.
و (أخريات الناس): أعقابهم، جمع أخرى، وكان يفعله رفقًا بمن معه ويحمل المنقطع.
وقوله: (فأكفئت) أي: قلبت على أفواهها. قال ثعلب: كُفِئَتِ القِدْر: إذا كبت، وكذا ذكره الكسائي وغيره، فعلى هذا إنما يقال:
(1)
"معجم البلدان" 2/ 296.
(2)
كلمة غير واضحة بالأصل.
(3)
ورد بهامش الأصل: ونقل صاحب "المطالع" أنها غيرها عن الداودي، وصريح عبارته أنه وقع في الرواية: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة من تهامة، وعبارة النووي؛ وربما أشبه هذا -يعني: ذا الحليفة- بالحليفة على لفظ الميقات وهي موضع بين حاذة وذات عرق من تهامة، فهما ممران، قاله في "التهذيب". [انظر:"تهذيب الأسماء واللغات" 3/ 114.
فكفئت، وعلى قول ابن السكيت في "إصلاحه" عن ابن الأعرابي وأبي عبيد وغيرهما يقال: أكفئت
(1)
.
وقال ابن التين: صوابه كفئت بغير ألف من كفأت الإناء مهموز، واختلف في إمالة الإناء، فيقال فيها: كفأت أو أكفأت، وكذلك اختلف في أكفأت الشيء لوجهه.
وقد اختلف في سبب أمره بإكفاء القدور، فقيل: إنهم انتهبوها متملكين لها من غير قسمة، ولا على وجه الحاجة إلى أكلها، يشهد له قوله في رواية:(فانتهبناها)
(2)
، قلت: قد أسلفنا في باب النهبى قول الراوي: فأصابتنا مجاعة. فهو بيان لوجه الحاجة، وفيه أيضًا (قبل أن تقسم)
(3)
وقيل: إنما كان لتركهم الشارع في أخريات القوم، واستعجالهم ولم يخافوا من مكيدة العدو، فحرمهم الشارع ما استعجلوه عقوبة لهم بنقيض قصدهم، كما منع القاتل من الميراث، حكاه القرطبي
(4)
، ويؤيده رواية أبي داود: وتقدم سرعان الناس فتعجلوا فأصابوا الغنائم ورسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر الناس
(5)
.
وقال النووي: إنما أمرهم بذلك؛ لأنهم كانوا قد انتهوا إلى دار الإسلام والمحل الذي لا يجوز الأكل فيه من مال الغنيمة المشتركة، فإن الأكل منها قبل القسم إنما يباح في دار الحرب، والمأمور به من الإراقة إنما هو إتلاف المرق عقوبة لهم، وأما اللحم فلم يتلفوه بل
(1)
"إصلاح المنطق" كما في ترتيبه "المشوف المعلم" 2/ 678.
(2)
رواها ابن ماجه (3938) من حديث ثعلبة بن الحكم.
(3)
رواه ابن ماجه (3137).
(4)
"المفهم" 5/ 375.
(5)
أبو داود (2821).
يحمل على أنه جمع ورد إلى المغنم، ولا يظن أنه أمر بإتلافه؛ لأنه مال الغانمين، ولأنه عليه السلام نهى عن إضاعة المال، فإن قلت: لم ينقل أنهم حملوه إلى القسمة، فالجواب: ولا نقل أيضًا أنهم أخرجوه ولا أتلفوه، فوجب تأويله على وفق القواعد الشرعية، بخلاف لحم الحمر الأهلية يوم خيبر؛ لأنها صارت نجسة
(1)
.
وأجاز قسم الغنم والبقر والإبل بغير تقويم مالك. والكوفيون وأبو ثور إذا كان ذلك على التراضي. وقال الشافعي: لا يجوز قسم شيء من الحيوان بغير تقويم، حجة من أجاز ذلك أنه صلى الله عليه وسلم قسم الغنائم وكانت أكثر غنائم خيبر الإبل والغنم، ولم يذكر في شيء من ذلك تقويم.
قالوا: وتعديل الغنم بالغنم والبقر بالبقر، والإبل بالإبل جائز على التراضي في القسمة، ولا ربا يدخلها؛ لأنه يجوز فيها التفاضل يدًا بيد، ومن حجة الشافعي أن قسمته صلى الله عليه وسلم الغنم مع الإبل إنما كانت على طريق القيمة، ألا ترى أنه عدل عشرة من الغنم ببعير! وهذا هو معنى التقويم
(2)
. قال القرطبي: وهذِه الغنيمة لم يكن فيها غير الإبل والغنم، ولو كان فيها غير ذلك لقوَّم جميعها وقسمه على القيمة
(3)
والإبل والغنم لا واحد لهما من لفظهما، وإنما واحد الإبل جمل وناقة، وواحد الغنم كبش وشاة.
وقوله: (ندّ) أي: ذهب على وجهه، وقد أسلفنا أن معناه هرب، يقال: ندّ ندًّا أو ندودًا، و (أهوى إليه رجل بسهم) أي: ردَّ يده إليه
(1)
"شرح صحيح مسلم" 13/ 126 - 127.
(2)
انظر: "شرح ابن بطال" 7/ 9.
(3)
"المفهم" 5/ 375.
ليأخذه، والأوابد جمع آبدة بالمد، وكسر الباء المخففة، يقال: منه أبدت تأبد بضم الباء وكسرها، وهي النافرة من الإنس، وتوحشت كما أسلفناه. وقال الداودي: يعني النفار، أبد يأبد أبودا، وتأبد تأبيدًا إذا توحش ونفر. وقال القزاز: مأخوذة من الأبد وهو الدهر؛ لطول بقائها. وقال أبو عبيد: أخذت من تأبدت الدار تأبدًا، وأبدت تأبد أُبُودًا إذا خلا منها أهلها
(1)
.
وقوله: ("فما غلبكم منها فاصنعوا به هكذا") ظاهره أن ما ندّ من الإنسي، ولم يقدر عليه جاز أن يذكى بما يذكى به الصيد. وبه قال أبو حنيفة والشافعي وهو قول علي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وطاوس وعطاء والشعبي والحسن والأسود بن يزيد والنخعي والحكم وحماد والثوري وأحمد والمزني وداود، وحكاه النووي عن الجمهور
(2)
ذاهبين إلى حديث أبي العشراء الدارمي
(3)
، عن أبيه قلت: يا رسول الله، أما تكون الذكاة إلا في اللبة والحلق. قال:"لو طعنت في فخذها لأجزأ عنك".
قال الترمذي: قال يزيد بن هارون: هذا في الضرورة
(4)
.
(1)
"غريب الحديث" 1/ 238.
(2)
"شرح صحيح مسلم" 13/ 126.
(3)
أبو العُشراء الدارمي: اختلف في اسمه، وقال أحمد: ما أعرف أنه يروى عن أبي العشراء حديث غير هذا، يعني الحديث المذكور، وقال البخاري: في حديثه واسمه وسماعه من أبيه نظر، وقال الذهبي: لا يُدْرى من هو، ولا مَن أبوه، انفرد عنه حماد بن سلمة، انظر:"تهذيب الكمال" 34/ 85 (7514)، "ميزان الاعتدال" 6/ 225 (10419)، "تهذيب التهذيب" 4/ 556.
(4)
الترمذي (1481)، وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حماد بن سلمة، ولا نعرفه لأبي العشراء عن أبيه غير هذا الحديث.
وقال أبو داود: لا يصلح هذا إلا في المتردية والمتوحشة
(1)
. وقال مالك: لا تؤكل إلا بذكاة الإنسي بالنحر أو الذبح استصحابًا لمشروعية أصل ذكاته، وأنه وإن كان قد لحق بالوحشي في الامتناع، فلم يلتحق بها لا في النوع ولا في الحكم، ألا ترى أن ملك مالكه باق عليه! وهو قول ابن المسيب وربيعة والليث.
قال مالك: ليس في الحديث أن السهم قتله، وإنما قال: حبسه ثم بعد أن حبسه صار مقدورًا عليه، فلا يؤكل إلا بالذبح، ولا فرق بين أن يكون وحشيًّا أو إنسيًّا، وخالف مالكًا ابن حبيب في البقر خاصة؛ لأن لها أصلًا في التوحش، وألزمه بعضهم كل الإنسية قياسًا على قوله فيها: إذا سقطت في بئر، ولم يقدر على ذبحها ولا نحرها، إنما تطعن في الجنب. قال: وكذلك إذا ندّت.
قال أبو الحسن في معنى الحديث: إنما ذلك؛ لأنه حبسه بجرح ولم يصب مقاتله. والشارع إنما نهى عن تعذيب الحيوان وهو رميها وجرحها. قال: فهذا معناه عندي، لأنه منفوذ المقاتل، كما تأوله من احتج به لما تقدم.
وقوله: (فاصنعوا به هكذا). قال مالك: نقول بموجبه، أي: برميه وبحبسه فإن أدركناه حيًّا ذكيناه، وإن تلف بالرمي فهل يأكله أو لا؟ وليس في الحديث تعين أحدهما، فلحق بالمجملات ولا تنهض حجة. قالوا في حديث أبي العشراء: ليس بصحيح؛ لأن الترمذي قال فيه: غريب لا نعرفه إلا من حديث حماد بن سلمة، ولا نعرف عن أبي العشراء عن أبيه غيره.
(1)
أبو داود (2825).
قلت: قد ذكر أبو موسى المديني مسندًا لأبي العشراء عن أبيه،
فبلغت أحاديثه نحو ثمانية عشر حديثُا، وتفرُّدُ حماد غير قادح فيه لثقته وأمانته. قالوا: ولو سلمنا صحته لما كان فيه حجة، إذ مقتضاه جواز الذكاة في أي عضو كان مطلقًا في المقدور على تذكيته وغيره، ولا قائل به في المقدور عليه، فظاهره ليس مرادًا.
و (المُدى) جمع مدية وهي السكين.
وقوله: (أفنذبح بالقصب؟) وفي مسلم بالليط
(1)
-بلام مكسورة، ثم مثناة تحت ساكنة، ثم طاء مهملة- وهي قطع القصب، قاله القرطبي
(2)
.
وقال النووي: قشوره، الواحدة ليطة
(3)
، وفي أبي داود: أنذكي بالمروة
(4)
؟ ولعلهما قتلا فأجابهم بجواب جامع لما سألوا ولغيره نفيًا وإثباتًا. فقال: "ما أنهر الدم
…
" إلى آخره
(5)
، ومعنى هذا السؤال أنهم كانوا عازمين على قتال العدو، وأنهم صانوا سيوفهم وأسنتهم وغيرها عن استعمالها؛ لأن ذلك يفسد الآلة أو يعيبها، ولم يكن لهم سكاكين صغار معدة للذبح.
وقوله: (إنا نرجو أو نخاف العدو غدًا). قال ابن التين: هما سواء.
قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ} [الكهف: 110] أي: يخافه، ومعنى "أنهر"
(6)
: أسال -كما سلف- أسأله وصبه بكثرة، وهو مشبه بجري
(1)
مسلم (1968/ 22) كتاب: الأضاحي، باب: جواز الذبح بكل ما أنهر الدم.
(2)
"المفهم" 5/ 367.
(3)
"شرح مسلم" 13/ 127.
(4)
أبو داود (2821) بلفظ: (أفنذبح).
(5)
"شرح صحيح مسلم" 13/ 127.
(6)
ورد بهامش الأصل: في "المطالع" أنهر كذا الرواية في الأمهات ووقع للأصيلي نهر، قال: وليس بشيء، قال: وجاء في باب إذا ند بعير: (أنهر أو نهر) على الشك وتأخيره الحكم مقاربته.
الماء في النهر، وروي بالزاي، كما سلف، والنهر: الدفع، وهو غريب، وشرط في الذكاة سيلان الدم؛ ليتميز بذلك حلها من حرمتها، فإن الميتة لا دم لها. والظفر يدخل فيه ظفر الآدمي وغيره من كل الحيوانات وسواء المتصل والمنفصل، والطاهر والنجس، ويلتحق به سائر العظام من كل حيوان مطلقًا، وكل ما صدق عليه اسم العظم فلا يجوز الذكاة بشيء منها، وهو قول النخعي والحسن بن صالح والليث وأحمد وإسحاق وأبي ثور وداود.
وقال أبو حنيفة وصاحباه: لا يجوز بالسن والعظم المتصلين ويجوز بالمنفصلتين، وعن مالك روايات:
أشهرها: جوازه بالعظم دون السن، كيف كانا.
والثانية: كمذهبنا.
والثالثة: كأبي حنيفة.
والرابعة: يجوز بكل شيء بالسن والظفر، وعن ابن جريج جوازها بعظم الحمار دون القرد، وأجيب عن الحديث بحمله على الكراهة، أو على سن وعظم لا يصح القطع بهما دون ما إذا كانا عريضين.
وقوله: ("أما السنن فعظم") معناه: لا تذبحوا لئلا ينجس بالدم، وقد نهيتم عن الاستنجاء به لئلا تنجس؛ لكونها زاد الجن. وقال ابن الجوزي: يدل على أنه مقدر في عرفهم أن لا تذبحوا بعظم؛ لأنه لا يقطع العروق، وإنما يزهق النفس خنقًا لا ذبحًا؛ لغرز أظفارهم في الحلق. وقيل: لأن الحبشة كفار، وقد نهيتكم عن التشبه بالكفار، وهذا من شعارهم، وحمله القرطبي على الظفر المتصل
(1)
.
(1)
"المفهم" 5/ 369.
قال الخطابي: ظاهره يوهم أن مدى الحبشة لا يقع بها ذكاة، ولا خلاف في صحة ذلك، وإنما معناه أنهم (يدمون)
(1)
مذابح الشاة بأظفارهم، ثم يدعونها فتذهب النفس خنقًا وتعذيبًا ويحلونها محل الذكاة، فلذلك ضرب المثل به
(2)
.
وقوله: ("وذكر اسم الله") مقتضاه شرطيتها؛ لأنه قرنها بالذكاة المشترطة، وعلق الإباحة عليها، فقد صار كل واحد منهما شرطًا أو جزء شرط، والخلاف فيه شهير عمدًا ونسيانًا.
وقوله: ("أعجل") ضبط في بعض النسخ بضم الهمزة، وفي بعضها بالفتح وكسر الجيم. قال أبو الحسن: وهو وصف للرجل بالعجلة.
وقوله: (أرن) أي: هات، وهي لفظة تترد في كلام بعضهم، فيكون معنى الحديث اسمع وافهم. قال الخطابي: إنما هو (وأرني -مهموز- على وزن، وعر)
(3)
أي: خف واعجل على الذبيحة، وأصله من أرن يأرن إذا نشط وخف
(4)
، فعلى هذا يقرأ بهمزة ساكنة.
ومن فوائده: عجلهم على وجه التأويل، وسقوط الإثم عنهم، والغرم على المتأول وعقوبتهم بالإكفاء.
وفيه: جمع الإبل والغنم في القسمة ومالك لا يراه.
وفيه: أنهما يقسمان في القسمة ولا يقوله مالك ولا يعارض هذا بالجواب الذي في الحديث الآخر لوجوه:
(1)
في الأصل: (يديمون)، والمثبت من "أعلام الحديث".
(2)
"أعلام الحديث" 2/ 1246 - 1247.
(3)
هكذا في الأصل، وفي "أعلام الحديث": وَأْرَنْ -مهموزًا- على وزن وعْرًا.
(4)
"أعلام الحديث" 2/ 1255 - 1256.
منها: أن ذلك كان في خيبر سنة ست، وهذِه نازلة حنين سنة ثمان، والآخر لا ينسخه الأول.
ومنها: أنه قضية في عين.
ومنها: أنه صار إليه بعطية من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
4 - باب القِرَانِ فِي التَّمْرِ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ حَتَّى يَسْتَأْذِنَ أَصْحَابَهُ
2489 -
حَدَّثَنَا خَلاَّدُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا جَبَلَةُ بْنُ سُحَيْمٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما يَقُولُ نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَقْرُنَ الرَّجُلُ بَيْنَ التَّمْرَتَيْنِ جَمِيعًا، حَتَّى يَسْتَأْذِنَ أَصْحَابَهُ. [انظر: 2455 - مسلم: 2045 - فتح: 5/ 131]
2490 -
حَدَّثَنَا أَبُو الوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ جَبَلَةَ قَالَ: كُنَّا بِالمَدِينَةِ فَأَصَابَتْنَا سَنَةٌ، فَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يَرْزُقُنَا التَّمْرَ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَمُرُّ بِنَا فَيَقُولُ: لَا تَقْرُنُوا فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الإِقْرَانِ، إِلَّا أَنْ يَسْتَأْذِنَ الرَّجُلُ مِنْكُمْ أَخَاهُ. [انظر: 2455 - مسلم: 2045 - فتح: 5/ 131]
ذكر فيه حديث ابن عُمَرَ: نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم أَنْ يَقْرُنَ الرَّجُلُ بَيْنَ التَّمْرَتَيْنِ جَمِيعًا حَتَّى يَسْتَأْذِنَ أَصْحَابَهُ.
وحديث جَبَلَةَ: كُنَّا بِالمَدِينَةِ فَأَصَابَتْنَا سَنَةٌ، فَكَانَ ابن الزُّبَيْرِ يَرْزُقُنَا التَّمْرَ، وَكَانَ ابن عُمَرَ يَمُرُّ بِنَا فَيَقُولُ: لَا تَقْرُنُوا فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الإِقْرَانِ، إِلَّا أَنْ يَسْتَأْذِنَ الرَّجُلُ مِنْكُمْ أَخَاهُ.
وقد سلف واضحًا، والنهى عن القرآن فيه عند العلماء من باب حسن الأدب في الأكل؛ لأن القوم الذين وضع بين أيديهم هم كالمتساوين في أكله، فإن استأثر أحدهم بأكثر من صاحبه لم يجز له ذلك، ومن هذا الباب جعل أهل العلم النهي عن النهبة في طعام النثر في الأعراس وغيرها لما فيه من سوء الأدب والاستئثار بما لا تطيب عليه نفس صاحب الطعام.
وقال أهل الظاهر: إن النهي عنه على (التحريم)
(1)
وفاعله عاص إذا كان عالمًا بالنهي، ولا نقول: إنه أكل حرامًا؛ لأن أصله الإباحة جملة، ودليل الجمهور إنما وضع بين أيدي الناس للأكل، فإنما سبيله سبيل المكارمة لا على التشاح؛ لاختلاف الناس في الأكل فبعضهم يكفيه اليسير وبعضهم لا يكفيه أضعافه، ولو كانت سهمانهم سواء لما ساغ لمن لا يشبعه اليسير أن يأكل أكثر من مثل نصيب من يشبعه اليسير، ولما لم يتشاحَّ الناس في هذا المقدار علم أن سبيل هذِه المكارمة ليس على معنى الوجوب.
(1)
ورد في الأصل (الوجوب) وفوقها (التحريم) فأثبتناها لأنها الأصوب.
5 - باب تَقْوِيمِ الأَشْيَاءِ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ بِقِيمَةِ عَدْلٍ
2491 -
حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مَيْسَرَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَارِثِ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَعْتَقَ شِقْصًا لَهُ مِنْ عَبْدٍ -أَوْ شِرْكًا، أَوْ قَالَ نَصِيبًا- وَكَانَ لَهُ مَا يَبْلُغُ ثَمَنَهُ بِقِيمَةِ العَدْلِ، فَهْوَ عَتِيقٌ، وَإِلاَّ فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ". قَالَ: لَا أَدْرِى قَوْلُهُ: "عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ". قَوْلٌ مِنْ نَافِعٍ أَوْ فِي الحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. [2503، 2521، 2522، 2523، 2524، 2525، 2553 - مسلم: 1505 - فتح: 5/ 132]
2492 -
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ نَهِيكٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَنْ أَعْتَقَ شَقِيصًا مِنْ مَمْلُوكِهِ فَعَلَيْهِ خَلَاصُهُ فِي مَالِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ قُوِّمَ المَمْلُوكُ، قِيمَةَ عَدْلٍ ثُمَّ اسْتُسْعِيَ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ". [2504، 2526، 2527 - مسلم: 1502، 1503 - فتح: 5/ 132]
ذكر فيه حديث نافع عن ابن عمر قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَعْتَقَ شِقْصًا لَهُ في عَبْدٍ -أَوْ شِرْكًا، أَوْ قَالَ: نَصِيبًا- وَكَانَ لَهُ مَا يَبْلُغُ ثَمَنَهُ بِقِيمَةِ العَدْلِ، فَهْوَ عَتِيقٌ، وَإِلَّا فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ". قَالَ: لَا أَدْرِي قَوْلُهُ: "عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ". قَوْلٌ مِنْ نَافِعٍ أَوْ فِي الحَدِيثِ عَنِ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وحديث عبد الله عن سعيد بن أبي عروبة، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ نَهِيكٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَنْ أَعْتَقَ شَقِيصًا مِنْ مَمْلُوكِهِ فَعَلَيْهِ خَلَاصُهُ فِي مَالِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ قُوِّمَ المَمْلُوكُ قِيمَةَ عَدْلٍ، ثُمَّ اسْتُسْعِيَ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ".
الشرح:
الحديثان في مسلم
(1)
.
وقوله: (قال) هو أيوب، وكذا صرح به الطرقي وهو أيوب بن أبي تميمة، وكذا صرح به الإسماعيلي. قال: وفي رواية المعلى عن حماد، عن أيوب، قاله (نافع)
(2)
، وله:"لا وكس ولا شطط"، وفي لفظ:"قوم عليه بأعلى القيمة"، قال: وهذا ليس بمضبوط.
قال ابن عبد البر: ورواه يحيى بن سعيد، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعًا:"كلف عتق ما بقي منه إن كان له مال، فإن لم يكن له مال، فقد جاز بما صنع"
(3)
.
وقال الشافعي: لا أحسب عالمًا بالحديث يشك أن مالكًا أحفظ لحديث نافع من أيوب؛ لأنه ألزم له من أيوب. ورواه عن نافع من غير شك
(4)
.
قال البيهقي: وتابع مالكًا عبيد الله بن عمر
(5)
.
وفي "الأفراد" للدارقطني: "ورَقَّ منه ما رق". وقال: تفرد به إسماعيل بن مرزوق، عن يحيى بن أيوب، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عنه
(6)
.
(1)
برقم: (1501، 1502) كتاب: العتق، باب: ذكر سعاية العبد ..
(2)
ورد في الأصل فوق هذِه الكلمة: أنه مجهول.
(3)
"التمهيد" 14/ 271 - 272.
(4)
"اختلاف الحديث" ص 219.
(5)
"السنن الكبرى" 10/ 278.
(6)
"الأفراد" كما في "أطراف الغرائب" 3/ 481 - 482 (1، 33).
وقال ابن حزم: هي زيادة موضوعة
(1)
.
ولابن أبي شيبة: إن كان موسرًا ضمن، وإن كان معسرًا عتق منه ما عتق
(2)
.
وفي رواية الحجاج، عن نافع قال ابن عمر إثر الحديث: إن لم يكن له مال سعى العبد.
وللحجاج، عن عمرو بن شعيب، عن ابن المسيب قال: كان ثلاثون من الصحابة يضمنون الرجل يعتق العبد بينه وبين الرجل إن كان موسرًا.
وقال الخطيب في حديث أبي هريرة: رواه يزيد بن هارون، عن سعيد، عن قتادة، عن النضر بن أنس بلفظ:"من أعتق نصيبًا له من عبد، ولم يكن له مال استسعي العبد في ثمن رقبته غير مشقوق عليه". هكذا رواه يزيد، قصر عن بعض الألفاظ التي ذكرها عبد الله بن بكر، عن ابن أبي عروبة، وقد رواه عن سعيد بن المبارك، ويزيد بن زريع، ومحمد بن بشر العبدي، ويحيى القطان، ومحمد بن أبي عدي،
فأحسنوا سياقه واستوفوا ألفاظه.
وكذلك رواه أبان بن يزيد، وجرير بن حازم، وموسى بن خلف، عن قتادة.
ورواه شعبة، عن قتادة فلم يذكر استسعاء العبد، وكذلك رواه روح بن عبادة ومعاذ بن هشام كلاهما عن هشام الدستوائي، عن قتادة إلا أن معاذًا لم يذكر في إسناده النضر، إنما قال عن قتادة، عن بشير.
(1)
"المحلى" 10/ 332.
(2)
"المصنف" 4/ 439 (21852).
ورواه محمد بن كثير العبدي، عن همام، عن قتادة مثل رواية روح عن هشام، عن قتادة. وروى (أبو)
(1)
عبد الرحمن عبد الله بن يزيد المقري، عن همام معنى ذلك، إلا أنه زاد فيه ذكر الاستسعاء، وجعله من قول قتادة، وميزه من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: وكان قتادة يقول: إن لم يكن له مال استسعى
(2)
.
وللإسماعيلي: أن رجلًا أعتق شقصًا من مملوكه، فغرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقية ثمنه، ثم قال: إن كان الاستسعاء على ما يذهب إليه الكوفي، فقد جمع بين حديثي ابن عمر وأبي هريرة، وهما متدافعان وجعلهما صحيحين، وهذا بعيد جدًّا، والقول في ذلك أحد قولين: أحدهما: قوله: (استسعى العبد) ليس في الخبر المسند، وإنما هو قول لقتادة مدرج في الخبر على ما رواه همام عن قتادة، وإما أن يكون استسعاء العبد السيد يستسعيه في قوته غير مشقوق عليه أن العتق لم يكمل فيه، فإنه لم يبين في الخبر من يستسعيه، وبَيَّن أن المعتق لم ينفذ فيه فصار سيده هو الذي يستسعيه، وللنسائي عن ابن عمر وجابر مرفوعًا:"من أعتق عبدًا وله فيه شركاء وله وفاء فهو حر، ويضمن نصيب شركائه بقيمته لما أساء من مشاركتهم، وليس على العبد شيء"
(3)
.
ولأبي داود: عن ملقام بن التلب
(4)
عن أبيه أن رجلًا أعتق نصيبًا من
(1)
في الأصل: ابنه، وهو خطأ والمثبت هو الصواب كما في "الفصل للوصل".
(2)
"الفصل للوصل المدرج في النقل" 1/ 379.
(3)
"السنن الكبرى" 3/ 185 (4961).
(4)
ورد بهامش الأصل: التلب بالمثناة فوق
…
وغيره يقوله بالمثلثة [وهو ملقام ويقال: هلقام بن التلب بن ثعلبة بن ربيعة التميمي العنبري، بصري، روى عنه: أبيه، وروى عنه: ابن أخيه غالب بن حجرة، وابنته أم عبد الله بنت ملقام، روى له أبو داود، انظر: ترجمته في "تهذيب الكمال" 28/ 483].
مملوك، فلم يضمنه رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
.
وروى عبد الرزاق، عن عمر بن حوشب
(2)
، أخبرني إسماعيل بن أمية، عن أبيه، عن جده، قال: كان لهم غلام يقال له: طهمان أو ذكوان، فأعتق جده نصيبه من العبد، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله: فقال: "تعتق في عتقِكَ وترق في رِقك"
(3)
.
وروى أيضًا مرسلًا أن بني سعيد بن العاص كان لهم غلام فأعتقوه كلهم إلا رجل واحد، فذهب العبد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستشفع به إلى الرجل، فوهب الرجل نصيبه الرسول)
(4)
الله صلى الله عليه وسلم فأعتقه
(5)
.
إذا تقرر ذلك، فاختلف العلماء في قسمة الرقيق على قولين:
أحدهما: أنه لا يجوز قسمته، إلا بعد التقويم، وهو قول أبي حنيفة والشافعي واحتجا بحديثي الباب، فأجاز تقويمه في البيع للعتق، وكذلك تقويمه في القسمة.
وثانيهما: يجوز بغير تقويم إذا تراضوا على ذلك، وهو قول مالك وأبي يوسف ومحمد، واحتجوا بأنه عليه السلام قسم غنائم حنين، وكان أكثرها السبي والماشية ولا فرق بين الرقيق وسائر الحيوانات، ولم يذكر في شيء من السبي تقويم
(6)
.
(1)
أبو داود (3948).
(2)
هو عمر بن حوشب الصنعاني، روى عن إسماعيل بن أمية، وروى عنه عبد الرزاق، ذكره ابن حبان في "الثقات"، روى له أبو داود في كتاب "المراسيل" حديثًا. انظر:"تهذيب التهذيب" 3/ 220.
(3)
"المصنف" 9/ 148 - 149 (16705).
(4)
في الأصل: من رسول، والمثبت هو الصواب.
(5)
"المصنف" 9/ 155 - 156 (16733).
(6)
انظر: "شرح ابن بطال" 7/ 11.
قال ابن بطال: وتناقض أبو حنيفة، فأجاز قسمة الإبل والبقر والغنم بغير تقويم، وزعم أن الفرق بين الرقيق وسائر الحيوان أن اختلاف الحيوان متفاوت، وهذا ليس بشيء؛ لأن القسمة بيع من البيوع، وكل بيع صحيح جائز إذا انعقد على التراضي، ولا خلاف بين العلماء أن قسمة العُروض وسائر الأمتعة بعد التقويم جائز، وإنما اختلفوا في قسمتها بغير تقويم، فأجازه مالك والكوفيون وأبو ثور إذا كان ذلك على سبيل التراضي. ومنع من ذلك الشافعي، وقال: لا يجوز قسم شيء من ذلك إلا بعد التقويم قياسًا على حديث ابن عمر في تقويم العبد
(1)
.
تنبيهات:
أحدها: قوله: "شقيصًا" وفي رواية: "شقصًا"
(2)
مثل: نصف ونصيف. قال ابن دريد: هو العدل من كل شيء
(3)
.
وقال القزاز: لا يكون إلا القليل من الكثير. وقال في "الجامع": الشقص النصيب والسهم تقول: لي (في هذا)
(4)
المال شقص -أي: نصيب قليل- والجمع: أشقاص وقد شقصت الشيء إذا جزأته. وقال ابن سيده: وقيل: هو الحظ، وجمعه: شِقاص
(5)
. قال الداودي: الشقص والنصيب والسهم والحظ كله واحد.
ثانيها: خالف البتي وربيعة هذا الخبر، فقالا: لا يُقَوَّم عليه نصيب
(1)
"شرح ابن بطال" 7/ 11.
(2)
ستأتي برقم (2504) باب: الشركة في الرقيق.
(3)
في "الجمهرة" 2/ 865: شقيص: قليل من كثير.
(4)
في الأصل: هذا في، والمثبت هو الصواب.
(5)
"المحكم" 6/ 95.
شريكه، حكاه ابن التين عنهما قال: واختلفا هل يمضي عتق نصيبه، فأباه ربيعة
(1)
؛ لأنه لا يضر بغيره. وقال عثمان البتي: يعتق نصيبه خاصة
(2)
، كأنه أشار إلى رواية عبد الرزاق السالفة، وعند أبي حنيفة شريكه بالخيار بين أن يعتق نصيبه أو يستسعي العبد في قيمة نصيبه ويعتق، وبين أن يُقَوَّمه على المعتق
(3)
، وسيأتي إيضاح ذلك في موضعه.
ثالثها: قوله: ("وإلا فقد عَتق منه ما عتق") هو بفتح العين على الأول ويجوز فتحها في الثاني وضمها، قاله الداودي وتعقبه ابن التين، فقال: هذا لم يقله غيره ولا يعرف عتق بالضم؛ لأن الفعل لازم غير متعد، وإن كان سيبويه أجازه على أنه أقام المصدر مقام ما لم يسم فاعله.
وقوله: ("فهو عتيق") بمعنى: معتق.
رابعها: السعاية أن يستخدم لمالكه، ولهذا قال:"غير مشقوق عليه" إذ لا يُحَمَّل من الخدمة فوق ما يلزمه بحصة الرق. وقال أبو عبد الله: غير مشقوق عليه: غير مكاتب، وسيأتي له تتمة في باب إذا أعتق عبد بيبن اثنين
(4)
، وبالسعاية قال الأوزاعي
(5)
، وقال أبو يوسف ومحمد بن الحسن: يعتق جميع العبد في الحال، وإن كان المعتق معسرًا فلشريكه أن يستسعي العبد وهو حر في قيمه نصيبه منه
(6)
.
(1)
انظر: "التمهيد" 14/ 284، "إكمال المعلم" 5/ 100.
(2)
انظر: "الإشراف" لابن المنذر 3/ 174.
(3)
انظر: "مختصر الطحاوي" ص 370.
(4)
برقم (2521 - 2525) كتاب: العتق.
(5)
انظر: "إكمال المعلم" 5/ 102.
(6)
انظر: "مختصر الطحاوي" ص 370.
وقال مالك والشافعي: يصير نصيب الشريك رقيقًا
(1)
، واحتج لأبي حنيفة بهذا الحديث ولا دلالة فيه؛ لأنه قال: إن اختار السيد وليس فيه ذكر خيار، وقد أسلفنا أن الاستسعاء من قول قتادة، وقال بعضهم: لا يستعلي عليه في الثمن
(2)
.
وقوله: ("قيمة عدل") يدل على أنه عبد كله، ولا يقوم بعيب العتق، قاله أصبغ وغيره
(3)
. وقال ابن أبي لبابة: يقوم على أنه مسه العتق.
وفيه دليل على أن من أتلف عرضًا عليه قيمته، وسلف.
(1)
انظر: للمالكية: "المدونة" 2/ 379، "عيون المجالس" 4/ 1847، وللشا فعية:"الأم" 7/ 123، "التهذيب" 8/ 361، "كفاية الأخيار" ص 809.
(2)
هو قول ابن التين، قاله الحافظ في "الفتح" 5/ 157.
(3)
انظر: "النوادر والزيادات" 12/ 323.
6 - باب هَلْ يُقْرَعُ فِي القِسْمَةِ وَالاِسْتِهَامِ فِيهِ
2493 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ قَالَ: سَمِعْتُ عَامِرًا يَقُولُ: سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَثَلُ القَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللهِ وَالوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ المَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا، وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا. فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا". [2686 - فتح: 5/ 132]
ذكر حديث عامر: سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَثَلُ القَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللهِ وَالوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ المَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ فَقَالُوا لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا، وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا. فَإِنْ تَرَكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا".
هذا الحديث ذكره البخاري، فيما سيأتي "مثل المدهن"، وقال فيه:"فأخذ فأسًا، فجعل ينقر أسفل السفينة، فأتوه .. " الحديث
(1)
.
وللترمذي: "مثل القائم على حدود الله والمدهن فيها"
(2)
.
ولا شك أن القرعة سنة لكل من أراد العدل في القسمة بين الشركاء، والفقهاء متفقون على القول بها، وخالفهم بعض الكوفيين وَرُدَّت الأحاديث الواردة فيها، وزعموا أنه لا معنى لها وأنها تشبه الأزلام
(1)
سيأتي برقم (2686) كتاب: الشهادات، باب: القرعة في المشكلات.
(2)
"جامع الترمذي"(2173).
التي نهى الله عنها.
وحكى ابن المنذر عن أبي حنيفة أنه جوزها، وقال: القرعة في القياس لا تستقيم، ولكنا تركنا القياس في ذلك وأخذنا بالآثار والسنة.
وقال إسماعيل بن إسحاق: ليس في القرعة إبطال شيء من الحق كما زعم الكوفيون، وإذا وجبت القسمة بين الشركاء في دار أو أرض، فعليهم أن يعدلوا ذلك بالقيمة ثم يستهموا، ويصير لكل واحد منهم ما وقع له بالقرعة مجتمعًا مما كان له في الملك مشاعًا، ويضم في موضع بعينه ويكون ذلك بالعوض الذي صار لشريكه؛ لأن مقادير ذلك قد عدل بالقيمة، وإنما منعت القرعة أن يختار كل واحد منهم موضعًا معينًا، وهذا إنما يكون فيما يتشابه من الدور والأرضين والعروض وما يستوي فيه الناس في كل موضع مما يقرع عليه
(1)
.
وفي قوله عليه السلام: "كمثل قوم استهموا على سفينه" جواز الاقتراع؛ لإقراره عليه السلام لها، وأنه لم يذم المستهمين في السفينة، ولا أبطل فعلهم، بل رضيَه وضربه مثلًا لمن نجته نفسه من الهلكة في دينه، وقد ذكر البخاري أحاديث كثيرة في القرعة في آخر الشهادات وترجم له باب: القرعة في المشكلات
(2)
، وذكر حديث عائشة في الإفك: كان إذا خرج أقرع بين نسائه
(3)
.
قال البخاري: وقال: {إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} [آل عمران: 44]، وقال:{فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141)} [الصافات: 141].
وفي حديث أم العلاء أن عثمان بن مظعون طار لهم سهمه في
(1)
انظر: ما سبق في "شرح ابن بطال" 7/ 12 - 13، و"طرح التثريب" 8/ 48.
(2)
سيأتي برقم (2686 - 2689).
(3)
سيأتي برقم (2661) باب: تعديل النساء بعضهن بعض.
السكنى حين اقترعت الأنصار سكنى المهاجرين .. الحديث
(1)
.
وفي حديث أبي هريرة: "لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول لاستهموا عليه"
(2)
.
وفي مسلم من حديث عمران بن حصين أن رجلًا كان له ستة مملوكين فأعتقهم، فجزأهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتق اثنين وأرق أربعة
(3)
.
وفي "مستدرك الحاكم" من حديث زيد بن أرقم: أتى عليٌّ وهو باليمن في ثلاثة وقعوا على امرأة في طهر واحد، فأقرع بينهم، وألحق الولد بالذي أصابته القرعة، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فضحك حتى بدت نواجذه
(4)
.
ولابن ماجه عن أبي هريرة مرفوعًا أن رجلين تدارءا في بيع ليس لواحد منهما بينة، فأمرهما النبي صلى الله عليه وسلم أن يستهما على اليمين أحبا ذلك أم كرها
(5)
.
ولابن أبي شيبة عن صفية بنت عبد المطلب أنها أقرعت بين حمزة ورجل في كفن، وكتب عثمان إلى معاوية فأمره بالقرعة، وممن أقرع سعيد بن جبير وابن الزبير وعمر بن عبد العزيز، وعن أم سلمة أنه صلى الله عليه وسلم قال للرجلين:"استهما، ثم توخيا الحق، ثم ليتحلل كل رجل منكما صاحبه"
(6)
.
(1)
سيأتي برقم (2687) باب: القرعة في المشكلات.
(2)
سلف برقم (615) كتاب: الأذان، باب: الاستهام في الأذان.
(3)
"صحيح مسلم" برقم (1668) كتاب: الأيمان، باب: من أعتق شركا له في عبد.
(4)
"المستدرك" 2/ 207 وصححه، ورواه مختصرًا ابن أبي شيبة 5/ 26 - 27 (2379).
(5)
"سنن ابن ماجه"(2346) وصححه الألباني في "صحيح ابن ماجه"(1899).
(6)
"المصنف" 5/ 27 (23381).
وفي حديث الباب:
تعذيب العامة بذنوب الخاصة.
وفيه: استحقاق العقوبة بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وفيه: تبيين العالم المسألة بضرب المثل الذي يفهم للعوام.
وفيه: أنه يجب على الجار أن يصبر على شيء من الأذى لجاره؛ خوفًا مما هو أشد منه، وأما أحكام العلو والسفل يكون بين رجلين، فيعتل السفل أو يريد صاحبه هدمه، فعن أشهب أنه قال: إذا أراد صاحب السفل أن يهدم والعلو أن يبني علوه، فليس لصاحب السفل هدمه إلا من ضرورة، يكون هدمه له أرفق لصاحب العلو لئلا ينهدم بانهدامه العلو، وليس لرب العلو أن يبني على علوه شيئًا لم يكن قبل ذلك إلا الشيء الخفيف الذي لا يضر بصاحب السفل، ولو انكسرت خشبة من سقف العلو لأدخل مكانها خشبة ما لم تكن أثقل منها، ويخاف ضررها على صاحب السفل
(1)
.
قال أشهب: وباب الدار على صاحب السفل. قال: ولو انهدم السفل أجبر صاحبه على بنائه، وليس على صاحب العلو بناء السفل، فإن أبى صاحب السفل من البناء، قيل له: بع ممن يبني
(2)
.
وعن مالك فيما رواه ابن القاسم في السفل لرجل والعلو لآخر فاعتل السفل، فإن صلاحه على رب السفل، وعليه تعليق العلو حتى يصلح سفله، لأن عليه أن يحمله إما على بنيان، وإما على تعليق، وكذلك لو كان العلو على علو فتعليق العلو الثاني على صاحب
(1)
انظر: "النوادر والزيادات" 11/ 227.
(2)
انظر: "النوادر والزيادات" 11/ 227.
الأوسط في إصلاح الأوسط، وقد قيل: إن تعليق العلو على رب العلو حتى يبني الأسفل
(1)
. وحديث الباب حجة لقول مالك وأشهب، وفيه دليل على أن صاحب السفل ليس له أن يحدث على صاحب العلو ما يضر به، وأنه إن حدث عليه ضررًا لزمه إصلاحه دون صاحب العلو، وأن لصاحب العلو منعه من الضرر لقوله صلى الله عليه وسلم:"فإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا" ولا يجوز الأخذ إلا على يد الظالم، ومن هو ممنوع بإحداث ما لا يجوز له في السنة.
فائدة:
(القائم): هو المستقيم، كما نبه عليه ابن الجوزي، والحدود: ما منع الله تعالى من مجاوزتها، وأصله لغة: المنع، ومنه حد الدار، وهو ما يمنع غيرها من الدخول فيها، والحداد: الحاجب والبواب، والمدهن: الغالش، ذكره ابن فارس
(2)
، وقيل: هو التليين لمن لا ينبغي التليين لهم. وقيل: هي كالمصانعة، ومنه قوله تعالى:{وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9)} [القلم: 9].
وقال ابن بطال قبيل الصلح
(3)
: يعني: المداهن فيها المضيع لها الذي لا يغير المعاصي، ولا يعملها فهو مستحق العقوبة على سكوته ومداهنته
(4)
.
وأما (الواقع) فهو القائم، ومنه قوله تعالى:{إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1)} [الواقعة: 1] أي: قامت، قاله ابن التين، وذكره في آخر الشهادات في
(1)
انظر: "شرح ابن بطال" 7/ 14.
(2)
"مجمل اللغة" 1/ 338، مادة (دهن).
(3)
أي: كتاب الصلح.
(4)
"شرح ابن بطال" 8/ 77.
باب: القرعة في المشكلات
(1)
، وفيه: فأخذ فأسًا فجعل ينقر أسفلها.
والفأس مؤنثة مهموزة ومعنى ينقر: يفتح. ذكره ابن التين هناك. قال: وفيه إثبات القرعة في السفينة إذا تشاحوا، وذلك إذا نزلوا معًا، فأما من سبق منهم فهو أحق.
(1)
سيأتي برقم (2687).
7 - باب شَرِكَةِ اليَتِيمِ وَأَهْلِ المِيرَاثِ
2494 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللهِ العَامِرِيُّ الأُوَيْسِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ رضي الله عنها. وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنْ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَإِنْ خِفْتُمْ} [النساء: 3] إِلَى {وَرُبَاعَ} . فَقَالَتْ: يَا ابْنَ أُخْتِي، هِيَ اليَتِيمَةُ تَكُونُ فِي حَجْرِ وَلِيِّهَا تُشَارِكُهُ فِي مَالِهِ، فَيُعْجِبُهُ مَالُهَا وَجَمَالُهَا، فَيُرِيدُ وَلِيُّهَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ أَنْ يُقْسِطَ فِي صَدَاقِهَا، فَيُعْطِيهَا مِثْلَ مَا يُعْطِيهَا غَيْرُهُ، فَنُهُوا أَنْ يَنْكِحُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يُقْسِطُوا لَهُنَّ وَيَبْلُغُوا بِهِنَّ أَعْلَى سُنَّتِهِنَّ مِنَ الصَّدَاقِ، وَأُمِرُوا أَنْ يَنْكِحُوا مَا طَابَ لَهُمْ مِنَ النِّسَاءِ سِوَاهُنَّ.
قَالَ عُرْوَةُ: قَالَتْ عَائِشَةُ: ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ اسْتَفْتَوْا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ هَذِهِ الآيَةِ، فَأَنْزَلَ اللهُ {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ} إِلَى قَوْلِهِ {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} وَالَّذِي ذَكَرَ اللهُ أَنَّهُ يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتَابِ الآيَةُ الأُولَى الَّتِى قَالَ فِيهَا {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] قَالَتْ عَائِشَةُ: وَقَوْلُ اللهِ فِي الآيَةِ الأُخْرَى: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} [النساء: 127] يَعْنِى: هِيَ رَغْبَةُ أَحَدِكُمْ لِيَتِيمَتِهِ التِي تَكُونُ فِي حَجْرِهِ، حِينَ تَكُونُ قَلِيلَةَ المَالِ وَالجَمَالِ، فَنُهُوا أَنْ يَنْكِحُوا مَا رَغِبُوا فِي مَالِهَا وَجَمَالِهَا مِنْ يَتَامَى النِّسَاءِ إِلَّا بِالقِسْطِ مِنْ أَجْلِ رَغْبَتِهِمْ عَنْهُنَّ. [2763، 4573، 4574، 4600، 5064، 5092، 5098، 5128، 5131، 5140، 6965 - مسلم: 3018 - فتح: 5/ 133]
ذكر فيه عن عروةَ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ عَنْ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي اليَتَامَى} إلي قوله: {وَرُبَاعَ} قالت: هِيَ اليَتِيمَةُ تَكُونُ فِي حَجْرِ وَليِّهَا تُشَارِكُهُ فِي مَالِهِ، فَيُعْجِبُهُ مَالُهَا وَجَمَالُهَا، فَيُرِيدُ وَلِيُّهَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا
…
الحديث بطوله.
وسيأتي في النكاح
(1)
، والتفسير أيضًا
(2)
.
وعند مسلم: تكون له اليتيمة هو وليها ووارثها ولها مال، وليس لها أحد يخاصم دونها، فلا ينكحها لمالها فيضر بها ويسيء صحبتها
(3)
.
قال الإسماعيلي: وعامة من روى هذا الحديث عن هشام، أي: الذي ساقه في التفسير عنه، عن أبيه، عنها كأنه مضطرب، وهذا لأن يكون تفسيرًا لقوله:{وَتَرْغَبُونَ} [النساء: 127] أشبه أن يكون تفسيرًا لقوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا} [النساء: 3]، وحديث حجاج عن ابن جريج أشبه، ولفظه {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا} ، أنزلت في الرجل تكون عنده اليتيمة، وهي ذات مال فلعله ينكحها على مالها ولا يعجبه شيء من أمرها، ثم يضر بها ويسيء صحبتها، فوعظ في ذلك. وقال سعيد بن جبير وقتادة والربيع والضحاك والسدي فيما نقله الواحدي عنهم: كانوا يتحرجون عن أموال اليتامى، فلما سألوا عن أموال اليتامى نزل:{وَءَاتُواْ اليَتَاَمَى أَمْوَالَهُمْ} ، وأنزل الله أيضًا:{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي اليَتَامَى}
(4)
.
وقال قتادة: نزلت في خميصة بن الشمردل الأسدي.
إذا تقرر ذلك فشركة اليتيم ومخالطته في ماله لا تجوز عند العلماء، إلا أن يكون اليتيم في رجحان، فإن كان الرجحان لمخالطة أو مشاركة فلا يحل؛ لقوله تعالى بعد أن حرم أموال اليتامى:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليَتَامَى}
(1)
سيأتي برقم (5140) باب: تزويج اليتيمة.
(2)
سيأتي برقم (4573) باب: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي اليَتَامَى} .
ورد بهامش الأصل تعليق نصه: رواه من طريقين ثانيهما معلق آخر الكتاب.
(3)
"صحيح مسلم"(3018)(7) كتاب: التفسير.
(4)
"أسباب نزول القرآن" ص 147.
قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} {البقرة: 220} فأباحت هذِه الآية مخالطتهم ومشاركتهم بغير ظلم بهم
(1)
.
وقوله: (رغبة أحدكم بيتيمته) صوابه: عن يتيمته، كذا بخط الدمياطي.
(1)
انظر: "شرح ابن بطال" 7/ 15.
8 - باب الشَّرِكَةِ فِي الأَرَضِ وَغَيْرِهَا
2495 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما قَالَ: إِنَّمَا جَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الشُّفْعَةَ فِي كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا وَقَعَتِ الحُدُودُ وَصُرِّفَتِ الطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ. [انظر: 2213 - مسلم: 1608 - فتح: 5/ 133]
ذكر فيه حديث جابر: إِذَا وَقَعَتِ الحُدُودُ وَصُرِّفَتِ الطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ.
وقد سلف
(1)
، واختلف العلماء فيما يحتمل القسمة من الدور والأرضين، هل يقسم بين الشركاء إذا دعا بعضهم إلى ذلك، وفي قسمه ضرر على بعضهم؟ فقال مالك والشافعي: نعم، يقسم بينهم. وقال أبو حنيفة: في الدار الصغيرة بين اثنين يطلب أحدهما القسمة وأبى صاحبه، قسمت له
(2)
.
وقال ابن أبي ليلى: إن كان فيهم من لا ينتفع بما يقسم له فلا تقسم، وكل قسم يدخل الضرر على أحدهم دون الآخر، فإنه لا يقسم. وهو قول أبي ثور.
قال ابن المنذر: وهو أصح القولين
(3)
.
وأجاز مالك قسمة البيت وإن لم يكن في نصيب أحدهم ما ينتفع به وأجاز قسمة الحمام وغيره، واحتج بقوله تعالى:{مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا}
(4)
[النساء: 7].
(1)
برقم (2213) كتاب: البيوع، باب: بيع الشريك من شريكه.
(2)
انظر: "الكافي" لابن عبد البر ص 448، "الإشراف على مذاهب أهل العلم" 3/ 281.
(3)
"الإشراف" 3/ 281.
(4)
انظر: "بداية المجتهد" 4/ 1421، "الذخيرة" 7/ 192.
قال ابن القاسم: وأنا أرى أن كل ما لا ينقسم من الدور والمنازل والحمامات، وفي قسمته الضرر ولا ينتفع به إذا قسم أن يباع ولا يقسم، ولا شفعة فيه؛ لقوله- عليه السلام:"لا ضرر ولا ضرار"
(1)
وحديث الباب، فجعل الشفعة في كل ما يتأتى فيه إيقاع الحدود، وعلق الشفعة بما لم ينقسم مما لم يمكن إيقاع الحدود فيه، هذا دليل الحديث، ولا حجة للكوفيين في إجازة الضرر اليسير من ذلك ومنعهم للكثير
(2)
؛ لأن دفع الضرر واجب عن المسلمين في كل شيء
(3)
.
(1)
انظر: "بداية المجتهد" 4/ 1422، "الذخيرة" 7/ 192 - 193. والحديث تقدم مرارًا.
(2)
انظر: "تحفة الفقهاء" 3/ 280.
(3)
ورد بهامش الأصل: ثم بلغ في الثاني بعد السبعين، كتبه مؤلفه.
9 - باب إِذَا اقْتَسَمَ الشُّرَكَاءُ الدُّورَ أَوْ غَيْرَهَا فَلَيْسَ لَهُمْ رُجُوعٌ وَلَا شُفْعَةٌ
2496 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَاحِدِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما قَالَ قَضَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا وَقَعَتِ الحُدُودُ وَصُرِّفَتِ الطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ. [انظر: 2213 - مسلم: 1608 - فتح: 5/ 1364]
ذكر فيه حديث جابر قَضَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ .. الحديث.
وقد ترجم عليه قبل آنفًا
(1)
، وإذا كانت قسمة مراضاة واتفاق فلا رجوع فيها، وإن كانت قسمة قرعة وتعديل ثم بان التغابن فيها، فللمغبون الرجوع ونقض القسمة عند العلماء، كما نقله عنهم ابن بطال
(2)
، وأما الشفعة فلا تكون في شيء مقسوم عند أحد من العلماء، وإنما هي في المشاع؛ لقوله:"فإذا وقعت الحدود فلا شفعة".
(1)
انظر الباب السابق.
(2)
"شرح ابن بطال" 7/ 16.
10 - باب الاِشْتِرَاكِ فِي الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ وَمَا يَكُونُ فِيهِ الصَّرْفُ
2497 و 2498 - حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عُثْمَانَ -يَعْنِي: ابْنَ الأَسْوَدِ قَالَ: أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي مُسْلِمٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا المِنْهَالِ عَنِ الصَّرْفِ يَدًا بِيَدٍ فَقَالَ: اشْتَرَيْتُ أَنَا وَشَرِيكٌ لِي شَيْئًا يَدًا بِيَدٍ وَنَسِيئَةً، فَجَاءَنَا البَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ فَسَأَلْنَاهُ، فَقَالَ: فَعَلْتُ أَنَا وَشَرِيكِي زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ، وَسَأَلْنَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ:"مَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ فَخُذُوهُ، وَمَا كَانَ نَسِيئَةً فَذَرُوهُ".
ذكر فيه حديث أبي المنهال السالف
(1)
، وفيه: أن المتأول لا يؤثم؛
لقوله: "وما كان نسيئة ردوه" وأن الذنب لا يدرك إلا من علم، وفيه: رد ما لا يجوز، والنسيئة: التأخير، فلا يجوز في شيء من الصرف نسيئة، وإنما يكون يدًا بيد، وأما صفة الشركة في الصرف وغيرها، فقام الإجماع على أن الشركة بالدينار والدرهم جائزة
(2)
، واختلفوا إذا كانت الدنانير من أحدهما والدراهم من الآخر. فقال مالك
(3)
والكوفيون
(4)
وأبو ثور
(5)
: لا يجوز حتى يخرج أحدهما مثل ما أخرج صاحبه.
(1)
تقدم برقم (2060 - 2061) كتاب: البيوع، باب: التجارة في البَر.
(2)
انظر: "الإجماع" لابن المنذر ص 137.
(3)
انظر: "المدونة" 4/ 35، "الكافي" لابن عبد البر ص 390.
(4)
في نسبة هذا القول إلى الكوفيين نظر، فمذهب أبي حنيفة وصاحبيه جواز ذلك، وخالف زفر فقال: لا يجوز، قال أبو الليث السمرقندي في "تحفة الفقهاء" 3/ 6: ولو كان من أحدهما دراهم ومن الآخر دنانير جازت الشركة عندنا، وعند زفر: لا يجوز. اهـ.
(5)
انظر: "الإشراف على مذاهب أهل العلم" 2/ 18.
وقال ابن القاسم: إنما لم يجزِ ذلك؛ لأنه صرف وشركة، وكذلك قال مالك
(1)
.
وحكى ابن أبي زيد خلافًا عن مالك فيه، فأجازه سحنون، وأكثر قول مالك: أنه لا يجوز
(2)
.
وقال الثوري: يجوز أن يجعل أحدهما دنانير والآخر دراهم فيخلطانها
(3)
، وذلك أن كل واحد منهما قد باع نصف نصيبه بنصف نصيب صاحبه، فآل أمرهما إلى قسمة ما يحصل في أيديهما، وأجمع العلماء على أن الشركة الصحيحة أن يخرج كل واحد من الشريكين مالًا مثل مال صاحبه، إلا أن يجعل كل واحد منهما لصاحبه أن يتجر بما رآه ويقيمه مقام نفسه
(4)
.
(1)
انظر: "المدونة" 4/ 35.
(2)
"النوادر والزيادات" 7/ 317.
(3)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 4/ 5.
(4)
انظر: "الإشراف على مذاهب أهل العلم" 2/ 17.
11 - باب مُشَارَكَةِ الذِّمِّيِّ وَالمُشْرِكِينَ فِي المُزَارَعَةِ
2499 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ بْنُ أَسْمَاءَ عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه قَالَ: أَعْطَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ اليَهُودَ أَنْ يَعْمَلُوهَا وَيَزْرَعُوهَا وَلَهُمْ شَطْرُ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا.
ذكر فيه حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى خَيْبَرَ اليَهُودَ على أَنْ يَعْمَلُوهَا وَيزْرَعُوهَا وَلَهُمْ شَطْرُ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا. وقد سلف
(1)
.
قال المهلب: وكل ما لا يدخله ربا، ولا ينفرد به الذمي فلا بأس بشركة المسلم له فيه، وهذِه المشاركة إنما معناها معنى الأجرة، واستئجار أهل الذمة جائز حلال، وأما مشاركة الذمي ودفع المال إليه ليعمل فيه فكرهه ابن عباس والكوفيون والشافعي وأبو ثور وأكثر العلماء؛ لما يخاف عليه من التجر بالربا وبيع ما لا يحل بيعه، وهو جائز عندهم
(2)
.
وقال مالك: لا يجوز شركة المسلم الذمي، إلا أن يكون النصراني يتصرف بحضرته، ولا يغيب عنه في بيع ولا شراء ولا تقاضٍ، أو يكون المسلم هو يتولى البيع والشراء
(3)
.
وروي ذلك عن عطاء والحسن، وبه قال الليث والثوري وأحمد
(1)
برقم (2285) كتاب: الإجارة، باب: إذا استأجر أرضا فمات أحدهما.
(2)
انظر: "مختصر الطحاوي" ص 107، "مختصر اختلاف العلماء" 4/ 7، "المبسوط" 1/ 157، "شرح ابن بطال" 7/ 18، "الإشراف على مذاهب أهل العلم" 2/ 20، "البيان" 6/ 362 - 363.
(3)
انظر: "المدونة" 4/ 38.
وإسحاق
(1)
، واحتج من أجاز ذلك بمعاملته عليه السلام لهم في مساقاة خيبر، وإذا جاز مشاركتهم في عمارة الأرض جاز في غير ذلك، واحتج لمالك أن الذمي إذا تولى الشراء باع بحكم دينه، وأدخل في مال المسلم ما لا يحل له، والمسلم ممنوع من أن يجعل ماله متجرًا في الربا والخمر والخنزير، وإنما أخذ أموالهم في الجزية، فالضرورة دعت إلى ذلك إذ لا مال لهم غيرها
(2)
.
وقوله: (أن يعملوها) أي: نخيلها ويزرعوا بياض أرضها، وكذلك سموا المساقاة معاملة.
وفيه: إثبات المساقاة والمزارعة معًا، وقد سلف ذلك، ومالك لا يجيزه
(3)
، ولكنه قال: كان البياض يسيرًا بين أَضعاف السواد الثلث فما دون
(4)
.
قال ابن التين: استدل به من أجاز قراض النصراني، ولا دليل فيه؛ لأنه قد يعمل الربا ونحوه بخلاف المسلم، والعمل في النخل والزرع لا يختلف فيه عمل يهودي من نصراني، ولو كان المسلم فاسقًا
يخشى أن يعمل به ذلك كره أيضًا كالنصراني، أي: بل أشد.
وقوله: (ولهم شطر ما يخرج منها) فيه دليل على أن رب الأرض والشجر إذا بين حصة نفسه جاز، وكان الباقي للعامل، كما لو بين حصة العامل.
(1)
انظر: "مسائل أحمد وإسحاق برواية الكوسج" 2/ 43 - 44، "المغني" 7/ 109 - 110.
(2)
انظر: "شرح ابن بطال" 7/ 18.
(3)
انظر: "إكمال المعلم" 5/ 209.
(4)
انظر: "النوادر والزيادات" 7/ 300.
وقال بعض الفقهاء: إذا سمى حصة نفسه لم يكن الباقي للعامل حتى يسمي له حصة، واحتج به أحمد أنه إذا كان البذر من عند العامل جاز
(1)
، وذهب ابن أبي ليلى وأبو يوسف إلى أنها جائزة سواء كان البذر من عند الأكار أو رب الأرض
(2)
، وفقهاء الأمصار منعوا ذلك، وتأولوا حديث ابن عمر على أنه قصة في عين تحتمل ما قال أحمد، وأن يكون البياض يسيرًا فلا تعلق به إذًا.
(1)
انظر: "المغني" 7/ 538.
(2)
انظر: "مختصر الطحاوي" ص 133.
12 - باب قِسْمَةِ الغَنَمِ وَالعَدْلِ فِيهَا
2500 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي الخَيْرِ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَعْطَاهُ غَنَمًا يَقْسِمُهَا عَلَى صَحَابَتِهِ ضَحَايَا، فَبَقِيَ عَتُودٌ، فَذَكَرَهُ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"ضَحِّ بِهِ أَنْتَ"[انظر: 2300 - مسلم: 1965 - فتح: 5/ 135]
ذكر فيه حديث عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أنه عليه السلام أَعْطَاهُ غَنَمًا يَقْسِمُهَا عَلَى أصحابه ضَحَايَا، فَبَقِيَ عَتُودٌ، فَذَكَرَهُ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"ضَحِّ بِهِ أَنْتَ".
العتود من أولاد المعز: ما رعى وقوي وبلغ حولًا، وعبارة الداودي أنه الجذع من المعز، وهذِه القسمة يجوز فيها ما لا يجوز في القسمة التي هي تمييز الحقوق بعضها من بعض؛ لأنه صلى الله عليه وسلم إنما وكَّل عقبة على تفريق الضحايا على أصحابه، ولم يعين لأحدهم شيئًا بعينه، فيخاف أن يعطي غيره عند القسمة فيكون ذلك ظلمًا ونقصانًا عن حقه، فكان تفرقها موكولًا إلى اجتهاد عقبة، وكان ذلك على سبيل التطوع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا أنها كانت واجبة عليه لأصحابه، فلم يكن على عقبة حرج في قسمتها، ولا لزمه من أحد منهم ملامة إن أعطاه دون ما أعطى صاحبه، وليس كذلك القسمة بين [من]
(1)
حقوقهم واجبة متساوية في المقسوم، فهذِه لا يكون فيها تغابن ولا ظلم على أحد منهم، وستعلمه في الضحايا إن شاء الله، وفيه: استئمار الوكيل ما يصنع بما فضل.
وفيه: التفويض إلى الوكيل.
وفيه: قبول العطية والضحية بها.
(1)
زيادة يقتضيها السياق.
13 - باب الشَّرِكَةِ فِي الطَّعَامِ وَغَيْرِهِ
وَيُذْكَرُ أَنَّ رَجُلًا سَاوَمَ شَيْئًا فَغَمَزَهُ آخَرُ، فَرَأَى عُمَرُ أَنَّ لَهُ شَرِكَةً.
2501، 2502 - حَدَّثَنَا أَصْبَغُ بْنُ الفَرَجِ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدٌ عَنْ زُهْرَةَ بْنِ مَعْبَدٍ، عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللهِ بْنِ هِشَامٍ -وَكَانَ قَدْ أَدْرَكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَذَهَبَتْ بِهِ أُمُّهُ زَيْنَبُ بِنْتُ حُمَيْدٍ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، بَايِعْهُ. فَقَالَ:"هُوَ صَغِيرٌ". فَمَسَحَ رَأْسَهُ وَدَعَا لَهُ.
وَعَنْ زُهْرَةَ بْنِ مَعْبَدٍ أَنَّهُ كَانَ يَخْرُجُ بِهِ جَدُّهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ هِشَامٍ إِلَى السُّوقِ فَيَشْتَرِي الطَّعَامَ، فَيَلْقَاهُ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ الزُّبَيْرِ رضي الله عنهم فَيَقُولَانِ لَهُ: أَشْرِكْنَا، فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ دَعَا لَكَ بِالبَرَكَةِ. فَيَشْرَكُهُمْ، فَرُبَّمَا أَصَابَ الرَّاحِلَةَ كَمَا هِيَ، فَيَبْعَثُ بِهَا إِلَى المَنْزِلِ.
الحديث: 2501 - [7201 - فتح: 5/ 136]
الحديث: 2502 - [6353 - فتح: 5/ 136]
ثم ساق حديث زُهْرَةَ بْن مَعْبَدٍ، عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللهِ بْنِ هِشَامٍ -وَكَانَ قَدْ أَدْرَكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَذَهَبَتْ بِهِ أَمُّهُ زَيْنَبُ ابنة حُمَيْدٍ إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، بَايِعْهُ. فَقَالَ:"هُوَ صَغِيرٌ". فَمَسَحَ رَأْسَهُ وَدَعَا لَهُ.
وَعَنْ زُهْرَةَ بْنِ مَعْبَدٍ أَنَّهُ كَانَ يَخْرُجُ بِهِ جَدُّهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ هِشَامٍ إِلَى السُّوقِ فَيَشْتَرِي الطَّعَامَ، فَيَلْقَاهُ ابن عُمَرَ وَابْنُ الزُّبَيْرِ فَيَقُولَانِ لَهُ: أَشْرِكْنَا، فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ دَعَا لَكَ بِالبَرَكَةِ. فَيَشْرَكُهُمْ، فَرُبَّمَا أَصَابَ الرَّاحِلَةَ كَمَا هِيَ، فَيَبْعَثُ بِهَا إِلَى المَنْزِلِ.
قال أبو عبد الله: إذا قال الرجل للرجل: أشركني، فإذا سكت فيكون شريكه بالنصف.
الشرح:
الأثر أخرجه سفيان ومن خط الدمياطي نقلت عن هشام بن حجير. قال إياس بن معاوية: قال بلغني أن عمر بن الخطاب قضى في رجلين حضرا سلعة فسام بها أحدهما، فأراد صاحبه أن يزيد فغمز يده، فاشترى، فقال: أنا شريكك، فأبى أن يشركه فقضى له عمر بالشركة.
قال ابن التين: وبه قال فريق من العلماء، وهو بيِّن، والغامز أفهمه أنه شركه إذا سكت عن مزايدته عملًا بالإشارة، ولك أن تقول: الأمر بترك المزايدة والمواطأة على ذلك غير جائز، وأما الحديث فأخرجه في الأحكام أيضًا بزيادة: وكان يضحي بالشاة الواحدة عن جميع أهله. وأخرجه أبو داود. ولم يذكر: ودعا له
(1)
.
قال الإسماعيلي: روى هذا الحديث الخلق، فلم يذكر أحد هذِه الزيادة -يعني: قول ابن عمر وابن الزبير إلى آخره- إلا عبد الله بن وهب.
وقال أبو نعيم: زاد أصبغ: وكان قد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم إلى قوله: ودعا له. ووقع لابن منده: أن زينب هذِه هي جدة عبد الله بن هشام.
والصواب فيه كما ذكره البخاري.
إذا تقرر ذلك فالشركة بيع من البيوع، فتجوز في الطعام وفي كل شيء يجوز تملكه عند العلماء كافة، وإنما اختلفوا في الشركة بالطعام وإن تساووا في الكيل والقيمة، وسواء كان نوعًا واحدًا أو أنواعًا مختلفة، وهو قول الشافعي
(2)
.
(1)
برقم (7210) باب: بيعة الصغير، وأبو داود (2942).
(2)
ذهب الشافعية إلى أن غير النقود ضربان: ضرب لا مثل له، وضرب له مِثل.
فأما ما لا مثل له، كالثياب والحيوان وما أشبههما، فلا يصح عقد الشركة عليهما.
وأما ما له مثل، كالحبوب والأدهان، ففيه وجهان: =
وخالف ابن القاسم مالكًا، فقال: تجوز الشركة بالحنطة إذا اشتركا على الكيل، ولم يشتركا على القيمة، وكانتا في الجودة سواء
(1)
، وأجاز الشركة بالطعام الكوفيون وأبو ثور
(2)
.
وقال الأوزاعي: تجوز الشركة بالقمح والزبيب؛ لأنهما يختلطان جميعًا ولا يتميز أحدهما من الآخر
(3)
.
قال إسماعيل بن إسحاق: إنما كره مالك الشركة بالطعام وإن تساووا في الكيل والجودة؛ لأنه يختلف في الصفة والقيمة، ولا تجوز الشركة إلا على الاستواء في القيمة، واحتيج في الطعام أن يستوي أمره في الشركة في الكيل والقيمة، وكان الاستواء في ذلك لا يكاد أن يجتمع فيه فكرهه، وليس الطعام مثل الدنانير والدراهم التي هي على الاستواء عند الناس.
وكان الأبهري يقول: قول ابن القاسم أشبه، لأن الشركة تشبه البيع، وكما جاز بيع الطعام بالطعام إذا استويا في الكيل، وإن اختلفا في القيمة، فكذلك تجوز الشركة فيه
(4)
.
واختلفوا في الشركة بالعروض فجوزه مالك
(5)
وابن أبي ليلى
(6)
،
= أحدهما: يجوز، وهو ظا هو ما نقله المزني، وهو الأصح. والثاني: لا يجوز، لأن الشافعي قال في البويطي: ولا تجوز الشركة في العروض اهـ.
انظر: "الحاوي" 6/ 474 - 475، "التهذيب" 4/ 197 - 198، "البيان" 6/ 364.
(1)
انظر: "المدونة" 4/ 32.
(2)
انظر: "الإشراف على مذاهب أهل العلم" 2/ 19.
(3)
"مختصر اختلاف العلماء" 4/ 5 بتصرف.
(4)
انظر: "شرح ابن بطال" 7/ 20 - 21.
(5)
انظر: "المدونة" 4/ 30، "المعونة" 2/ 143.
(6)
انظر: "الإشراف على مذاهب أهل العلم" 2/ 18.
ومنعه الثوري والكوفيون والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور
(1)
.
وقال الشافعي: لا تجوز الشركة في كل ما يرجع في حال المفاضلة إلى القيمة، إلا أن يبيع نصف عرضه بنصف عرض الآخر ويتقايضا
(2)
.
وقال ابن المنذر: إنما لم تجز فيه؛ لأن رءوس أموالهم مجهولة، و (غير جائز)
(3)
عقد الشركة على مجهول، وحجة مالك في إجازة ذلك أن الشركة إنما وقعت على قيمة العروض التي أخرجها كل واحد منهما، فلم يكن رأس المال مجهولًا، وأما إجازة عمر الشركة التي غمز صاحبه فهو قول مالك.
قال ابن حبيب من قول مالك في الذي يشتري الشيء للتجارة، فيقف به الرجل لا يقول له شيئًا حتى إذا فرغ من الشراء استشركه، فرأى مالك أن الشركة له لازمة وأن يقضي بها؛ لأنه أرفق بالناس من إفساد بعضهم على بعض، ووجه ذلك أن المشتري قد انتفع بترك الزيادة عليه، فوجبت الشركة بينهما بسبب انتفاعه بذلك؛ وكذلك إذا غمزه أو سكت فسكوته رضي بالشركة؛ لأنه كان يمكنه أن يقول: لا أشركك، فيزيد عليه، فلما سكت كان ذلك رضي.
قال ابن حبيب: وذلك لتجار تلك السلعة خاصة، كان مشتريها في الأول من أهل تلك التجارة أو غيرهم. قال: وروي أن عمر قضى بمثل ذلك. قال: وكل ما اشتراه لغير تجارة فسأله رجل أن يشركه وهو يشتري
(1)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 4/ 5، "تحفة الفقهاء" 3/ 6، "الإشراف على مذاهب أهل العلم" 2/ 18، "الحاوي" 6/ 471، "البيان" 6/ 363، "رءوس المسائل في الخلاف" 2/ 542، "المغني" 7/ 123.
(2)
انظر: "مختصر المزني" المطبوع مع "الأم" 2/ 230.
(3)
في الأصل: عن جابر، والمثبت هو الصواب كما في "شرح ابن بطال" 7/ 21.
فلا تلزمه الشركة، وإن كان الذي استشركه من أهل التجارة، والقول قول المشتري مع يمينه أن شراءه ذلك لغير التجارة.
قال: وما اشتراه الرجل من تجارته في حانوته أو بيته فوقف به ناس من أهل تجارته، فاستشركوه، فإن الشركة لا تلزمه وليس مثل اشترائه ذلك في غير حانوته ولا بيته، ونقل ابن التين عن مالك في رواية أشهب فيمن يبتاع سلعة وقوم وقوف، فإذا تم البيع سألوه الشركة، فقال: أما الطعام فنعم، وأما الحيوان فما علمت ذلك فيه، زاد في "الواضحة": وإنما رأيت ذلك خوفًا أن يفسد بعضهم على بعض إذا
لم يقض لهم بهذا.
قال: فإن حضر الطعام مشتروه وهم أهل ذلك ومن يتجر فيه فلا يختلف المذهب أنهم شركاء، واختلف في غير الطعام. فقال مالك: ما قدمناه عنه. وقال أصبغ: الشركة بينهم في جميع السلع من الأطعمة والعروض والدقيق والحيوان والثياب، واختلف فيما إذا حضرها من ليس من أهل سوقها ولا من يتجر بها. فقال مالك وأصبغ: لا شركة لهم
(1)
. وقال أصبغ: نعم
(2)
.
فائدة: في الحديث رد على جهلة المتزهدين في اعتقادهم أن سعة الحال مذمومة، نبه عليه ابن الجوزي.
(1)
انظر: "النوادر والزيادات" 7/ 334 - 335.
(2)
كذا في الأصول، وهو خطأ ظاهر؛ كيف يقول: لا، ثم يقول: نعم، وقد نقل هذا الكلام العيني في "عمدة القاري" 10/ 388، وقال: وقال أشهب: نعم اهـ.
وحكى ابن رشد في "البيان والتحصيل" 8/ 50 هذا القول عن ابن الماجشون، والله أعلم.
فرع:
كل ما جاز أن يملكه رجل جاز أن يملكه رجلان بشراء أو بهبة أو غيرهما، إلا أن الشريك إذا وطئ جارية من مال الشركة فإنهما يتقاومانها، وتصير لأحدهما بثمن قد عرفه؛ لأنه لا تحل الشركة ولا الإعارة في الفروج، ويدرأ عنه الحد بالشبهة.
فائدة:
في الأثر أيضًا القول بالإشارة، ولم يبين ذلك الشيء في أثر عمر هل هو طعام أو غيره؟
وفي الحديث: أن الصغير إذا عقل عن الشارع شيئًا كان ذلك صحبة، (قاله)
(1)
الداودي. قال ابن التين: وفيه نظر.
وفيه: أن النساء كن يذهبن بالأطفال إليه، وكان يبايع المراهق الذي يطيق القتال، قاله الداودي. قال ابن التين: وفيه نظر، وفيه أنه كان يمسح رأس الصغير؛ لتناله بركة يده.
وفيه: طلب التجارة، وسؤال الشركة.
(1)
في الأصل: قال، والمثبت هو الصواب.
14 - باب الشَّرِكَةِ فِي الرَّقِيقِ
2503 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ بْنُ أَسْمَاءَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي مَمْلُوكٍ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُعْتِقَ كُلَّهُ، إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ قَدْرَ ثَمَنِهِ يُقَامُ قِيمَةَ عَدْلٍ وَيُعْطَى شُرَكَاؤُهُ حِصَّتَهُمْ وَيُخَلَّى سَبِيلُ المُعْتَقِ". [انظر: 2491 - مسلم: 1501 - فتح: 5/ 137]
2504 -
حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ بَشِيرِ بْنِ نَهِيكٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَنْ أَعْتَقَ شِقْصًا لَهُ فِي عَبْدٍ أُعْتِقَ كُلُّهُ، إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، وَإِلَّا يُسْتَسْعَ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ". [انظر: 2492 - مسلم: 1502، 1503 - فتح: 5/ 137]
ذكر فيه حديث ابن عمر: "مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا .. "
وحديث أبي هريرة: "مَنْ أَعْتَقَ شِقْصًا .. "
وقد سلفا
(1)
، والشركة بيع من البيوع تجوز في العبد، وفي كل شيء، وكل ما جاز أن يملكه رجل جاز أن يملكه رجلان بشراء أو هبة أو غيره إلا الوطء، كما ذكرناه آنفًا.
(1)
الأول برقم (2491) والثاني برقم (2492) كتاب: الشركة، باب: تقويم الأشياء بقيمة عدل.
15 - باب الاِشْتِرَاكِ فِي الهَدْيِ وَالبُدْنِ، وَإِذَا أَشْرَكَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي هَدْيِهِ بَعْدَ مَا أَهْدَى
2505، 2506 - حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ المَلِكِ بْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ.
وَعَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم، قَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ صُبْحَ رَابِعَةٍ مِنْ ذِي الحَجَّةِ مُهِلِّينَ بِالحَجِّ، لَا يَخْلِطُهُمْ شَيْءٌ، فَلَمَّا قَدِمْنَا أَمَرَنَا فَجَعَلْنَاهَا عُمْرَةً، وَأَنْ نَحِلَّ إِلَى نِسَائِنَا، فَفَشَتْ فِي ذَلِكَ القَالَةُ. قَالَ عَطَاءٌ فَقَالَ جَابِرٌ فَيَرُوحُ أَحَدُنَا إِلَى مِنًى وَذَكَرُهُ يَقْطُرُ مَنِيًّا. فَقَالَ جَابِرٌ بِكَفِّهِ، فَبَلَغَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَامَ خَطِيبًا فَقَالَ:"بَلَغَنِي أَنَّ أَقْوَامًا يَقُولُونَ كَذَا وَكَذَا، وَاللهِ لأَنَا أَبَرُّ وَأَتْقَى لله مِنْهُمْ، وَلَوْ أَنِّي اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا أَهْدَيْتُ، وَلَوْلَا أَنَّ مَعِي الهَدْيَ لأَحْلَلْتُ". فَقَامَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هِيَ لَنَا أَوْ لِلأَبَدِ فَقَالَ:"لَا بَلْ لِلأَبَدِ". قَالَ وَجَاءَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ -فَقَالَ أَحَدُهُمَا يَقُولُ لَبَّيْكَ بِمَا أَهَلَّ بِهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم. وَقَالَ: وَقَالَ الآخَرُ لَبَّيْكَ بِحَجَّةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُقِيمَ عَلَى إِحْرَامِهِ، وَأَشْرَكَهُ فِي الهَدْيِ. [انظر: 1085، 1557 - مسلم: 1216، 1240 - فتح: 5/ 137]
ثم ساق حديث جابر وابن عباس: قدِمَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم صُبح رابعةٍ من ذي الحجة مُهِلِّينَ بِالحَجِّ، لَا يَخْلِطُهُمْ شَيْءٌ، فَلَمَّا قَدِمْنَا أَمَرَنَا فَجَعَلْنَاهَا عُمْرَةً" .. إلى قوله: وَجَاءَ عَلِيُّ فَقَالَ لبَّيْكَ بِمَا أَهَلَّ بِهِ النبي صلى الله عليه وسلم، فَأَمَرَهُ أَنْ يُقِيمَ عَلَى إِحْرَامِهِ، وَأَشْرَكَهُ فِي الهَدْيِ.
وقد سلف في الحج
(1)
.
(1)
برقم (1557) باب: من أهلَّ في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: (صُبْحَ رابعة من ذي الحجة) قال الداودي: اختلف فيه، وكان خروجه من المدينة لخمس بقين في ذي القعدة.
وقوله: (مهلين بالحج لا يخلطه شيء) فيه دلالة واضحة على الإفراد. وقوله: (ففشت في ذلك القالة) هي أنهم كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور، كما سلف فأجازها الإسلام.
وقيل: هو فسخ الحج إلى العمرة، كما سلف هناك.
وقوله في عليّ: (وأشركه في الهدي) الشارع قلد هديه من ذي الحليفة، وقدم عليّ بالبدن فأمره أن يهدي منها هديًا، وكذا جاء في حديث آخر أن عليًّا قدم ومعه الهدي
(1)
.
وقال المهلب: لا يصح في هذا الحديث ما ترجم له من الاشتراك في الهدي بغير ما أهدى؛ لأنه ما كان بعد تقليد الهدي وإشعاره، وإنما هو تشريك في الفضل؛ لأنه لا يجوز هبة الهدي ولا بيعه بعد تقليده، وما كان قبل تقليده يمكن الشركة في رقابه وهبته لمن يهدي عنه.
وأجاب
(2)
ابن بطال فقال: ذكر البخاري في المغازي عن بريدة الأسلمي أنه صلى الله عليه وسلم كان بعث عليًّا إلى اليمن قبل حجة الوداع، ليقبض الخمس، وقال غير جابر: فقدم عليّ من سعايته. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "بم أهللت يا علي؟ ". فقال: بما أهلَّ به النبي صلى الله عليه وسلم. قال: "فأهد وامكث حرامًا كما أنت". قال: فأهدى له عليّ هديًا
(3)
، فهذا تفسير قوله:(وأشركه في الهدي) أنه الهدي الذي أهداه عليّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(1)
تقدم برقم (1785) كتاب: العمرة، باب: عمرة التنعيم.
(2)
ورد بهامش الأصل: يراجع من المغازي ما ذكره.
(3)
تعليقًا ذكره البخاري بعد حديث (4352) باب: بعث علي بن أبي طالب عليه السلام.
وجعل له ثوابه. فيحتمل أن يفرده بثواب ذلك الهدي كله، فهو تشريك له في هديه؛ لأنه أهداه عنه صلى الله عليه وسلم متطوعا من ماله، ويحتمل أن يشركه في ثواب هدي واحد يكون بينهما، كما ضحى صلى الله عليه وسلم عنه وعن أهل بيته بكبش، وعمن لم يضح من أمته وأشركهم في ثوابه، ويجوز الاشتراك في هدي التطوع، وراجع اختلاف العلماء في الاشتراك في الهدي من الحج، تجده واضحًا.
16 - باب مَنْ عَدَلَ عَشْرًا مِنَ الغَنَمِ بِجَزُورٍ فِي القَسْمِة
2507 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ، عَنْ جَدِّهِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِذِي الحُلَيْفَةِ مِنْ تِهَامَةَ، فَأَصَبْنَا غَنَمًا وَإِبِلًا، فَعَجِلَ القَوْمُ، فَأَغْلَوْا بِهَا القُدُورَ، فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَ بِهَا فَأُكْفِئَتْ، ثُمَّ عَدَلَ عَشْرًا مِنَ الغَنَمِ بِجَزُورٍ، ثُمَّ إِنَّ بَعِيرًا نَدَّ وَلَيْسَ فِي القَوْمِ إِلَّا خَيْلٌ يَسِيرَةٌ، فَرَمَاهُ رَجُلٌ فَحَبَسَهُ بِسَهْمٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ لِهَذِهِ البَهَائِمِ أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الوَحْشِ، فَمَا غَلَبَكُمْ مِنْهَا فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا". قَالَ: قَالَ جَدِّي: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّا نَرْجُو -أَوْ نَخَافُ- أَنْ نَلْقَى العَدُوَّ غَدًا وَلَيْسَ مَعَنَا مُدًى، فَنَذْبَحُ بِالقَصَبِ؟ فَقَالَ:"اعْجَلْ -أَوْ أَرْنِى-، مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ فَكُلُوا، لَيْسَ السِّنَّ وَالظُّفُرَ، وَسَأُحَدِّثُكُمْ عَنْ ذَلِكَ، أَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ، وَأَمَّا الظُّفُرُ فَمُدَى الحَبَشَةِ". [انظر: 2488 - مسلم: 1968 - فتح: 5/ 139]
ذكر فيه حديث رافع بن خديج السالف قريبًا، وقد شرحناه.
قوله: فقال: "اعجل أو أَرْنِ " وفي نسخة: إِرَنْ
(1)
. وقيل: صوابه: أيرن، وراجع ذلك تجده واضحًا و (أو) شك من الراوي.
(1)
على هامش اليونينية 3/ 142 أنها صحيحة لأبي ذر الهروي.
48
كتاب الرهن
بسم الله الرحمن الرحيم
48 - كِتَابُ الرَّهْنِ
هو في اللغة: الثبوت والدوام، ومنه الحالة الراهنة، أي: الثابتة.
وقال الماوردي: هو: الاحتباس
(1)
، ومنه:{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38)} [المدثر: 38]، ورهنت أفصح من أرهنت وهو في الشرع جعل عين مال وثيقة بدين يستوفى منها عند تعذر استيفائه ممن هو عليه.
1 - باب فِي الرَّهْنِ فِي الحَضَرِ
وقول الله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} . [البقرة: 283]
2508 -
حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَال: وَلَقَدْ رَهَنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم دِرْعَهُ بِشَعِيرٍ، وَمَشَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِخُبْزِ شَعِيرٍ وَإِهَالَةٍ سَنِخَةٍ، وَلَقَدْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ:"مَا أَصْبَحَ لآلِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم إِلَّا صَاعٌ، وَلَا أَمْسَى". وَإِنَّهُمْ لَتِسْعَةُ أَبْيَاتٍ. [انظر: 2069 - فتح: 5/ 140]
فيه حديث أنس رَهَنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم دِرْعَهُ بِشَعِيرٍ. وذكره بطوله.
(1)
"الحاوي" 6/ 4.
وقد سلف في باب الشراء بالنسيئة
(1)
، وأنه بالمدينة، وهو أصرح من روايته هنا، وقد أسلفنا أن الرهن جائز حضرًا وسفرًا عند جميع الفقهاء، وعن مجاهد تخصيصه بالسفر
(2)
.
قال ابن حزم: صح عنه
(3)
.
وبه قال داود
(4)
لظاهر الآية المذكورة، وحجة الجماعة أن الله تعالى لم يذكر السفر على أن يكون شرطًا في الرهن، وإنما ذكره لأن الغالب فيه أن الكاتب يعدم في السفر، وقد يوجد الكاتب في السفر، ويجوز فيه الرهن، فكذلك الحضر وإن كان الكاتب حاضرًا؛ لأن الرهن إنما هو معنى التوثقة، بدليل قوله تعالى:{فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} الآية [البقرة: 283] وكل ما جاز أن يستوثق به في السفر جاز في الحضر كالضمين، وقد رهن سيد الأمة درعه بالمدينة عند يهودي في شعير أخذه لأهله من المدينة -حضرته ووطنه- فطاح قولهم.
وقال ابن حزم: حديث الباب ليس فيه اشتراط الرهن، ونحن لا نمنع من الرهن بغير شرط في العقد، إنما هو تطوع من الراهن، والتطوع بما لم ينه عنه حسن. قال: فإن ذكر حديث أبي رافع وبعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى يهودي ليسلفه طعامًا لضيف نزل به فأبى إلا برهن فرهنه درعه، قلنا: هذا حديث تفرد به موسى بن عبيدة الربذي وهو ضعيف
(5)
.
(1)
ورد بهامش الأصل: باب شراء النبي صلى الله عليه وسلم بالنسيئة في أول البيع. [هو برقم (2069)].
(2)
انظر: "الإشراف على مذاهب أهل العلم" 2/ 21.
(3)
"المحلى" 8/ 87.
(4)
انظر: "الحاوي" 6/ 4.
(5)
"المحلى" 9/ 87 - 88.
وعند ابن أبي شيبة: كان الحارث والحكم لا يريان بأسًا بالرهن إذا كان على يدي عدل مقبوضًا.
وعن الشعبي: هو رهن. وقال الحكم: لا يكون رهنًا حتى يقبضه صاحبه، وعن سعيد أنه قرأها:(فرهان مقبوضة). قال: لا يكون الرهن إلا مقبوضًا
(1)
.
تنبيه:
بوب الرهن في الحضر وأتى بالآية، وليس فيها ذكر الحضر، وكذا الحديث، ولكنا أجبنا عنه أنه أسلفه في موضع آخر فأحال عليه.
(1)
ثلاثة هذِه الآثار في "المصنف" 4/ 403 - 404 (21463 - 21466).
2 - باب مَنْ رَهَنَ دِرْعَهُ
2509 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَاحِدِ، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ تَذَاكَرْنَا عِنْدَ إِبْرَاهِيمَ الرَّهْنَ، وَالقَبِيلَ فِي السَّلَفِ، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ حَدَّثَنَا الأَسْوَدُ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اشْتَرَى مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا إِلَى أَجَلٍ، وَرَهَنَهُ دِرْعَهُ. [انظر: 2068 - مسلم: 1603 - فتح: 5/ 142]
ذكر فيه حديث عائشة: اشْتَرى مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا إِلَى أَجَلٍ، وَرَهَنَهُ دِرْعَهُ.
وقد سلف أيضًا
(1)
.
وترجم له فيما سيأتي باب: الرهن عند اليهود وغيرهم
(2)
، وإنما أراد البخاري أن يستدل بأن الرهن لما جاز في الثمن بالسنة المجمع عليها جاز في المثمن وهو السلم، وبيانه أنه لما جاز أن يشتري الرجل طعامًا أو عرضًا بثمن إلى أجل ويرهن في الثمن رهنًا، كذلك يجوز إذا دفع عينًا سلمًا في عرض طعام أو غيره أن يأخذ في الشيء المسلم فيه رهنًا، وكل ما جاز تملكه وبيعه جاز رهنه.
وفي رهنه درعه عند اليهودي دلالة أن متاجرة أهل الكتاب والمشركين جائزة، إلا أن أهل الحرب لا يجوز أن يباع منهم السلاح ولا كل ما يتقوون به على أهل الإسلام، ولا أن يرهن ذلك عندهم، وكان هذا اليهودي الذي رهنه من أهل المدينة، وممن لا يخشى منه غائلة ولا مكيدة للإسلام، ولم يكن حربيًّا.
(1)
برقم (2068) كتاب: البيوع، باب: شراء النبي صلى الله عليه وسلم بالنسيئة.
(2)
هو الآتي رقم (5).
فائدة:
في الحديث الأول
(1)
أن الشعير كان أكثر أكله، وصرح به الداودي، وفي إهداء أنس ما ذكر إهداء ما تيسر،
والإهاله: الودك، والسنخة: المتغيرة الرائحة. وقال الداودي: الإهالة: القُلة وفيها سمن تغير طعمه شيئًا.
وفيه: جواز رهن السلاح عند الذمي، وذلك أن من أمنه فأنت آمن منه بخلاف الحربي، وقد سلف.
وفي الحديث الثاني: تذاكرنا الرهن والكفيل في السلف، وفي نسخة: والقبيل -بالقاف
(2)
- وهو الحميل أيضًا. واحتج به بعضهم على اليمين مع الشاهد، فقوله:{وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ} الآيه [البقرة: 283]؛ لأنه لم يأمر بما لا نفع فيه، وفيه أن الرهن يقوم مقام الشاهد ويؤيده {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} فأخبر أن المرتهن لم يأتمن الراهن، فصار القول قوله إلى مبلغ قيمة الرهن، وأباه بعضهم. وقال: لا يحلف مع الرهن بخلاف الشاهد، ومن الغريب أن بعضهم منع أخذ الرهن إلا في السلم، حكاه ابن التين.
(1)
يعني حديث (2508).
(2)
وهذِه اللفظة التي اعتمدت في متن اليونينية 3/ 142.
3 - باب رَهْنِ السِّلَاحِ
2510 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ عَمْرٌو: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الأَشْرَفِ؟ فَإِنَّهُ آذَى اللهَ وَرَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم". فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: أَنَا. فَأَتَاهُ فَقَالَ: أَرَدْنَا أَنْ تُسْلِفَنَا وَسْقًا أَوْ وَسْقَيْنِ. فَقَالَ ارْهَنُونِي نِسَاءَكُمْ. قَالُوا: كَيْفَ نَرْهَنُكَ نِسَاءَنَا، وَأَنْتَ أَجْمَلُ العَرَبِ؟ قَالَ: فَارْهَنُونِي أَبْنَاءَكُمْ. قَالُوا كَيْفَ نَرْهَنُ أَبْنَاءَنَا فَيُسَبُّ أَحَدُهُمْ، فَيُقَالُ: رُهِنَ بِوَسْقٍ أَوْ وَسْقَيْنِ؟ هَذَا عَارٌ عَلَيْنَا وَلَكِنَّا نَرْهَنُكَ اللأْمَةَ -قَالَ سُفْيَانُ يَعْنِي: السِّلَاحَ- فَوَعَدَهُ أَنْ يَأْتِيَهُ، فَقَتَلُوهُ، ثُمَّ أَتَوُا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرُوهُ.
ذكر فيه حديث جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الأَشْرَفِ؟ فَإنَّهُ قَدْ آذى اللهَ وَرَسُولَهُ". إلى أن قال: وَلَكِنَّا نَرْهَنُكَ اللأْمَةَ -يَعْنِي: السَّلَاحَ- وفيه: فَقَتَلُوهُ.
وليس
(1)
فيه ما بوب له؛ لأنهم لم يقصدوا إلا الخديعة.
قال ابن إسحاق: وكعب كان من طيء، وكانت أمه من بني النضير، وكان يعادي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحرض المشركين عليه، فلما أصيب المشركون ببدر خرج إلى مكة يحرض على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم رجع إلى المدينة يشبب بنساء المسلمين حتى آذاهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مَنْ له؟ فإنَّهُ قد آذى الله ورسوله"
(2)
.
(1)
ورد بهامش الأصل: يحتمل أنه إنما قصدوا الخديعة مع الصدق في الذي يجوز رهنه إذ لو أرادوا الخديعة فقط لقالوا: نعم نرهنك أبناءنا، أو وافقوه أيضًا على النساء، فلما عدلوا عن هذين الشيئين وذكروا اللأمة، كان ظاهر ذلك أن رهنها جائز والظاهر أيضًا أن رهنها كان متعارفًا عندهم. ويحتمل أنهم إنما ذكروا اللأمة لخديعة لئلا ينكر عليهم وهذا هو الظاهر لا لمشاهدة منصوصة في بعض طرقه.
(2)
"سيرة ابن إسحاق" ص 297.
ولم يكن بنو النضير ذمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن كعب في عهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يوضحه إعلانه بأنه آذى الله ورسوله على رءوس الناس، وكيف يكون في عهد من شكوا منه الأذى، بل كان ممتنعًا بقومه في حصنه، وكان المسلمون يقنعون منه بالقعود عن حربهم، وإنما كانت بينهم مسالمة وموافقة للجيرة، وكان عليه السلام يمسك عنهم لإمساكهم عنه من غير عهد ولا عقد، ولو كان لكعب عهد انتقض بالأذى ووجب عليه، ولكان بقول:"مَنْ لكعب، فإنه قد آذى الله ورسوله" نابذًا إليه عهده ومسقطًا بذلك ذمته، ولو كان من أهل العهد والذمة لوجب حربه واغتياله بكل وجه، فمن لام الشارع على ذلك فقد كذَّب الله في قوله:{فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54)} [الذاريات: 54] ووصف رسوله بما لا يحل له بما نزهه الله عنه والله ولي الانتقام منه وسيكون لنا عودة إليه -إن شاء الله- في الجهاد، ولم يجز أن يرهن عند ابن الأشرف سلاح ولا شيء مما يتقوى به على أذى المسلمين وليس قولهم له: نرهنك اللأمة بما يدل على جواز رهن السلاح عند الحربي، وإنما كان ذلك من معاريض الكلام المباحة في الحرب وغيره.
قال السهيلي في قوله: "من لكعب بن الأشرف .. " إلى آخره جواز قتل من سبه وإن كان ذا عهد خلافًا لأبي حنيفة، فإنه لا يرى قتل الذمي في مثل هذا
(1)
.
وزعم المازري أنه إنما قتله؛ لأنه نقض العهد وكان عاهده أنه لا يعين عليه، ثم جاءه مع أهل الحرب وأغرى قريشًا وغيرهم حتى اجتمعوا بأحد
(2)
.
(1)
"الروض الأنف" 3/ 145.
(2)
"المعلم بفوائد مسلم" 2/ 154.
وكذا ذكره الخطابي زاد: وقال شعرًا
(1)
، يعني: قبيحًا مفظعًا. وكذا قال ابن التين: قَتْلُه كعبًا؛ لأنه نكث ما عاهد عليه وأخفر الذمة.
وقوله: ("آذى الله") يحتمل أن يريد أن من آذى رسوله، فقد آذى مُرْسِلَهُ أو يريد تكذيبه بما أنزل الله وهو مجاز؛ لأن الرب جل جلاله لا يدركه أذى
(2)
، وفيه جواز الكذب لمصلحة، وفي رواية أنه قال: إن محمدًا عنانا
(3)
وسألنا الصدقة
(4)
. واللأمة: السلاح. قال ابن التين: قال اللغويون اللأمة مهموزة: الدرع، وجمعها لؤم على غير قياس، كأنه جمع لؤمة وهي الحديدة التي يحرث بها.
(1)
"أعلام الحديث" 2/ 1260 - 1261.
(2)
اعلم أولًا: أن لفظ الأذى في اللغة هو لما خفّ أمره وضعف أثره. قاله ابن تيمية في "الصارم المسلول" ص 59.
ئانيًا: ليس أذاه سبحانه وتعالى من جنس الأذى الحاصل للمخلوقين كما أن سخطه وغضبه وكراهته ليست من جنس ما للمخلوقين. قاله ابن القيم في "الصواعق المرسلة" 4/ 1451.
ثالثًا: أن المجاز اختلف في أصل وقوعه، قال أبو إسحاق الإسفرائيني، وأبو علي الفارسي أنه لا مجاز في اللغة أصلًا كما عزاه لهما ابن السبكي في "جمع الجوامع"، وإن نَقَلَ عن الفارسي تلميذُهُ أبو الفتح: أن المجاز غالب على اللغات كما ذكره عنه صاحب "الضياء اللامع"، وكل ما يسميه القائلون بالمجاز مجازا فهو عند من يقول بنفي المجاز أسلوب من أساليب اللغة العربية. قاله الشنقيطي في "منع جواز المجاز" ص 6.
رابعًا: أن من آذى رسول الله فقد آذى الله.
خامسًا: أن الأذى قد فسر كما في "سيرة ابن إسحاق" ص 297: فإن كعب بن الأشرف لما علم بهزيمة المشركين في بدر أتى مكة وجعل يحرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينشد الأشعار ويبكي على أصحاب القليب من قريش، ثم رجع إلى المدينة فشبب بأم الفضل ابنة الحارث، ثم شبب بنساء المسلمين، فقال صلى الله عليه وسلم:"من لكعب بن الأشرف فقد آذى الله ورسوله".
(3)
ورد بهامش الأصل: إنما قال ذلك بإذنه له عليه السلام بأن يقول.
(4)
ستأتي برقم (3031) كتاب: الجهاد والسير، باب: الكذب في الحرب.
4 - باب الرَّهْنُ مَرْكُوبٌ وَمَحْلُوبٌ
وَقَالَ مُغِيرَةُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ: تُرْكَبُ الضَّالَّةُ وَتُحْلَبُ بِقَدْرِ عَلَفِهَا، وَالرَّهْنُ مِثْلُهُ.
2511 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ، عَنْ عَامِرٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ:"الرَّهْنُ يُرْكَبُ بِنَفَقَتِهِ، وَيُشْرَبُ لَبَنُ الدَّرِّ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا". [2512 - فتح: 5/ 143]
2512 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، أَخْبَرَنَا زَكَرِيَّاءُ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم. "الرَّهْنُ يُرْكَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا، وَلَبَنُ الدَّرِّ يُشْرَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا، وَعَلَى الذِي يَرْكَبُ وَيَشْرَبُ النَّفَقَةُ". [انظر: 2511 - فتح: 5/ 143]
ثم ساق حديث أبي هريرة بلفظين
(1)
:
"الرَّهْنُ يُرْكَبُ بِنَفَقَتِهِ، وَيُشْرَبُ لَبَنُ الدَّرِّ إِذَا كانَ مَرْهُونًا".
والآخر: "الظهر يُرْكَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا، وَلَبَنُ الدَّرِّ يُشْرَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كانَ مَرْهُونًا، وَعَلَى الذِي يَرْكَبُ وَيَشْرَبُ النَّفَقَة".
الشرح:
أثر إبراهيم حمله ابن التين على موضع لا إمام فيه، فإن كان فيه إمام فيكون ذلك بإذنه.
قال ابن حزم: روينا من طريق حماد بن سلمة، عن حماد بن أبي
سليمان، عن إبراهيم النخعي فيمن ارتهن شاة ذات لبن، فقال: يشرب المرتهن من لبنها بقدر ثمن علفها، فإن استفضل من اللبن بعد
(1)
ورد في الأصل تعليق على الكلمة نصه: من طريقين.
ثمن العلف فهو ربا. قال: وهذِه الزيادة من إبراهيم لا تقوم بها حجة
(1)
.
وعموم قوله صلى الله عليه وسلم أحب إلينا، ولفظ ترجمة الباب حديث أخرجه الحاكم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"الرهن مركوب ومحلوب" ثم قال: إسناده على شرط الشيخين
(2)
.
ولما ساقه البيهقي قال في آخره، قال: يعني: الأعمش، فذكر ذلك لإبراهيم فقال: إن كانوا ليكرهون أن يستمتعوا من الرهن بشيء وفي لفظ فكره أن ينتفع منه بشيء
(3)
.
وحديث أبي هريرة من أفراده، ولما خرجه أبو داود، قال: هو عندنا صحيح
(4)
.
وقال الترمذي: لا نعرفه مرفوعًا إلا من حديث الشعبي عن أبي هريرة، وقد روى غيرُ واحد هذا الحديث عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة موقوفًا
(5)
.
وقال الدارقطني: رفعه أبو الحارث نصر بن حماد الوراق، عن شعبة، عن الأعمش، وروي عن وهب بن جرير أيضًا مرفوعًا، وغيرهما يرويه عن شعبة موقوفًا وهو الصواب. قال: ورفعه أيضًا لوين، عن عيسى بن يونس، عن الأعمش، والمحفوظ عن الأعمش وقفه على أبي هريرة، ورواه خلاد الصفار عن منصور، عن أبي صالح مرفوعًا، وغيره وقفه وهو أصح
(6)
.
(1)
"المحلى" 8/ 90 - 91.
(2)
"المستدرك" 2/ 58.
(3)
"السنن الكبرى" 6/ 38.
(4)
برقم (3526).
(5)
"سنن الترمذي" 3/ 555.
(6)
"علل الدارقطني" 10/ 112 - 114.
وعند ابن حزم من حديث زكريا عن الشعبي عنه مرفوعًا: "إذا كانت الدابة مرهونة فعلى المرتهن علفها، ولبن الدر يُشرب، وعلى الذي يشرب نفقته، وتركب".
وقال: هذِه الزيادة إنما هي من طريق إسماعيل بن سالم الصائغ مولى بني هاشم، عن هشيم، فالتخليط من قبله لا من قبل هشيم
(1)
.
قلت: إسماعيل احتج به مسلم وتابعه زياد بن أيوب عند الدارقطني ويعقوب الدورقي عند البيهقي، إذا تقرر ذلك فاختلف العلماء فيمن له منفعة الرهن من الركوب واللبن وغيرهما على قولين:
أحدهما: أنه للراهن، ليس للمرتهن أن ينتفع بشيء من ذلك، قاله الشعبي وابن سيرين.
قال النخعي: كانوا يكرهون ذلك، وهو قول الشافعي، فإن للراهن أن يركب الرهن ويشرب لبنه بحق نفقته عليه، وتأوي في الليل إلى المرتهن
(2)
.
وثانيهما: نعم رخصت فيه طائفة أن ينتفع المرتهن من الرهن بالركوب والحلب دون سائر الأشياء، على لفظ الحديث أن الرهن مركوب ومحلوب، وهو قول أحمد وإسحاق
(3)
والزهري.
وقال أبو ثور: إن كان الراهن لا ينفق عليه وتركه في يد المرتهن فأنفق عليه، فله ركوبه واستخدامه
(4)
على ظاهر الحديث، وعن
(1)
"المحلى" 8/ 91 - 92.
(2)
انظر: "الإشراف على مذاهب أهل العلم" 2/ 27، "الحاوي" 6/ 206.
(3)
انظر: "مسائل أحمد وإسحاق برواية الكوسج" 2/ 53، "المغني" 6/ 511.
(4)
انظر: "الإشراف على مذاهب أهل العلم" 2/ 23.
الأوزاعي والليث مثله
(1)
، ولا يجوز عند مالك والكوفيين للراهن الانتفاع بالرهن وركوبه بعلفه وغلَّته لربه
(2)
، واحتج الطحاوي لأصحابه فقال: أجمع العلماء على أن نفقة الرهن على الراهن لا على المرتهن، وأنه ليس على المرتهن استعمال الرهن.
قال: والحديث مجمل فيه لم يبين فيه الذي يركب ويشرب، فمن أين جاز للمخالف أن يجعله للراهن دون المرتهن؟ ولا يجوز حمله على أحدهما إلا بدليل.
قال: وروى هشيم، عن زكرياء، عن الشعبي فساق ما ذكره ابن حزم، ثم قال: فدل هذا الحديث أنّ المَعْنِيَّ بالركولب وشرب اللبن في الحديث الأول هو المرتهن لا الراهن، فجعل ذلك له وجعلت النفقة عليه بدلًا مما ينقص منه، وكان هذا -والله أعلم- وقت كون الربا مباحًا، ولم يُنْهَ حينئذ عن قرض جر منفعة، ولا عن أخذ الشيء بالشيء إن كانا غير متساويين، ثم حُرِّم الربا بعد ذلك، وحُرّم كل قرض جر منفعة، ونهي عن أخذ الشيء بالشيء إن كانا غير متساويين، وحرمت أشكاله كلها، وردت الأشياء المأخوذة إلى أبدالها المساوية لها وحرم بيع اللبن في الضرع، ودخل في ذلك النهي عن النفقة التي يملك بها المنفق لبنًا في الضرع، وتلك النفقة غير موقوف على مقدارها، واللبن كذلك أيضًا، فارتفع بنسخ الربا أن تجب النفقة على المرتهن بالمنافع التي تجب له عوضًا منها وباللبن الذي يحلبه فيشربه.
(1)
انظر: "أحكام القرآن" للجصاص 1/ 725.
(2)
انظر: "أحكام القرآن" للجصاص 1/ 724.
ويقال لمن جوز للراهن استعمال الرهن، أيجوز للراهن أن يرهن دابة هو راكبها؟ فلا يجد بدًّا من أن يقول: لا، فيقال له: فإذا كان الرهن لا يجوز إلا أن يكون مُخَلًّى بينه وبين المرتهن فيقبضه ويصير في يد دون الراهن، كما وصف الله تعالى الرهن بقوله:{فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] فقد ثبت أن دوام القبض في الرهن لا بد منه؛ إذ كان الرهن إنما هو وثيقة في يد المرتهن بالدين، وقد أجمعت الأُمَّةُ أن الأَمَةَ المرهونة لا يجوز للراهن أن يطأها، فكذلك لا يجوز له خدمتها، وللمرتهن منعه، وهو قول أبي حنيفة وصاحبيه.
قال الشعبي: لا ينتفع من الرهن بشيء. فهذا الشعبي روى الحديث وأفتى بخلافه، ولا يجوز عليه ذلك إلا وهو عنده مخصوص
(1)
.
وقال ابن القاسم عن مالك: إذا خلى المرتهن بين الراهن وبين الرهن يركبه أو يعيره أو يسكنه لم يكن رهنًا، وإذا أجره المرتهن بإذن الراهن أو أعاره لم يخرج من الرهن والأجرة لرب الرهن، ولا يكون الكراء رهينة إلا أن يشترط المرتهن، فإذا اشترط في البيع أن يرتهن ويأخذ حقه من الكراء، فإن مالكًا كرهه، وإن كان البيع وقع بهذا الشرط إلى أجل معلوم فإن ذلك يجوز عند مالك في الدور والأرضين
وكرهه في الحيوان والثياب؛ إذ لا يدري كيف ترجع إليه، وكرهه في القرض؛ لأنه يصير سلفًا جر منفعة
(2)
.
وقال الكوفيون: إذا أجر المرتهن بإذن الراهن أو أجره الراهن بإذن المرتهن، فقد خرج من الرهن
(3)
، وحكم الضالة مخالف لحكم الرهن
(1)
"شرح معاني الآثار" 4/ 99 - 100.
(2)
انظر: "المدونة" 4/ 163.
(3)
انظر: "تحفة الفقهاء" 3/ 44، "المبسوط" 21/ 108.
عند مالك وغيره. وقال مالك: إذا أنفق على الضالة من الإبل والدواب فله أن يرجع بذلك على صاحبها إذا جاء وإن أنفقها بغير أمر السلطان، وله أن يحبس ذلك بالنفقة إذ لا يقدر على صاحبها، ولابد من النفقة عليها، والرهن يأخذ راهنه بنفقته، فإن غاب رفع ذلك إلى الإمام
(1)
.
وقال أبو حنيفة والشافعي: إن أنفق بغير أمر القاضي فهو متطوع، وإن كان بأمره فهو دين على صاحبها
(2)
.
فائدة: قوله: "ويشرب لبن الدر" هو من باب إضافة الشيء إلى نفسه؛ لأن الدر اللبن مثل قوله: {وَحَبَّ الحَصِيدِ} ، نبه عليه ابن التين.
خاتمة: لخص ابن التين الخلاف في المسألة، فقال: اختلف الناس في تأويل الحديث فذهب مالك والشافعي إلى أن المنافع لربه والنفقة عليه، وذهب أحمد وإسحاق والزهري إلى أن المرتهن ينتفع من
الرهن بقدر النفقة.
قال أحمد: وليس له أن ينتفع منه بشيء سواهما
(3)
، وذكر أن الدر ملك المرتهن دون الراهن
(4)
.
وقال أبو حنيفة: لا يملك الراهن والمرتهن شيئًا من منافع الرهن وتكون ضائعة، ولو كان الرهن عبدًا كسوبًا لعطل عن العمل أصحاب الرهن حتى يؤدى الدين.
ولا يجوز عند مالك أن يعقد الرهن على أن تعطل المنافع، وهذِه
(1)
انظر: "المدونة" 4/ 161.
(2)
انظر: "تحفة الفقهاء" 3/ 44، "الإشراف على مذاهب أهل العلم" 2/ 28.
(3)
انظر: "المغني" 6/ 511، 512.
(4)
في هذا القول نظر؛ قال ابن قدامة: وإذا انتفع المرتهن بالرهن حُسب من دينه بقدر ذلك قال أحمد: يوضع عن الراهن بقدر ذلك؛ لأن المنافع ملك الراهن، فإذا استوفاها فعليه قيمتها في ذمته للراهن اهـ. "المغني" 6/ 513.
الأحاديث حجة على أبي حنيفة، ودليلنا على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"الرهن من راهنه له غنمه وعليه غرمه"
(1)
وإن شرط أن منفعة الرهن للمرتهن في قرضٍ أو بيعٍ فسخ ذلك، إلا أن يضرب أجلًا فيجوز في البيع إذا كان عقارًا، واختلف إذا كان حيوانًا أو ثيابًا فكرهه مالك وأجازه ابن القاسم
(2)
، ولا تدخل الغلة في الرهن عند مالك
(3)
. وقال أبو حنيفة: تكون رهنًا مع الأصول
(4)
.
واختلف إذا كان الرهن غنمًا وعليه صوف نام، فأدخله في الرهن ابن القاسم، وخالفه أشهب
(5)
، والولد عند مالك داخل في الرهن مع أمه
(6)
، فإن أنفق عليه فنفقته في ذمة الراهن، وليس له حبسه عند ابن القاسم
(7)
، خلافًا لأشهب فإنه قال: هو أحق به كالضالة إذا كانت بغير أمرِ الراهن
(8)
. وقال ابن مسلمة: النفقة مبدَّاة على الدين
(9)
.
(1)
رواه ابن حبان 13/ 258 (5934)، والدارقطني 3/ 32، 33 وقال: حسن.
والحاكم 2/ 51، 52 وقال: صحيح على شرط الشيخين.
بلفظ: لا يغلق الرهن .....
(2)
انظر: "المدونة" 4/ 163.
(3)
انظر: "النوادر والزيادات" 10/ 179 - 180، "المنتقى" 5/ 241.
(4)
انظر: "تبيين الحقائق" 6/ 94، "الجوهرة النيرة" 1/ 436.
(5)
انظر: "المنتقى" 5/ 241.
(6)
انظر: "المدونة" 4/ 156.
(7)
في نسبه هذا القول لابن القاسم نظر، فقد نَصَّ على خلافه فقال:
إذا أنفق المرتهن على الرهن بأمر ربه فهو سلف، ولا يكون في الرهن إلا بشرط أنه رهن، إلا أن له حبسه بما أنفق وبدينه اهـ. انظر:"المدونة" 4/ 161، "النوادر والزيادات" 10/ 184 - 185، "التاج والإكليل" 6/ 572.
(8)
انظر: "النوادر والزيادات" 10/ 184 - 185، "المنتقى" 5/ 254 - 255.
(9)
لم أقف عليه من قول ابن مسلمة، ووجدته لابن القاسم كما في "التاج والإكليل" 6/ 575.
5 - باب الرَّهْنِ عِنْدَ اليَهُودِ وَغَيْرِهِمْ
2513 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتِ اشْتَرَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا وَرَهَنَهُ دِرْعَهُ.
[انظر: 2068 - مسلم: 1603 - فتح: 5/ 145]
ذكر فيه حديث عائشة، وقد سلف بفقهه
(1)
.
(1)
سلف فقهه في شرح حديث (2509).
6 - باب إِذَا اخْتَلَفَ الرَّاهِنُ وَالمُرْتَهِنُ وَنَحْوُهُ
(1)
، فَالبَيِّنَةُ عَلَى المُدَّعِي، وَاليَمِينُ عَلَى المُدَّعَى عَلَيْهِ
2514 -
حَدَّثَنَا خَلاَّدُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ عُمَرَ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: كَتَبْتُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَكَتَبَ إِلَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَضَى أَنَّ اليَمِينَ عَلَى المُدَّعَى عَلَيْهِ. [2668، 4552 - مسلم: 1711 - فتح: 5/ 145]
2515، 2516 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللهِ رضي الله عنه: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ يَسْتَحِقُّ بِهَا مَالًا وَهْوَ فِيهَا فَاجِرٌ، لَقِيَ اللهَ وَهْوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ" فَأَنْزَلَ اللهُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} فَقَرَأَ إِلَى: {عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 77].
ثُمَّ إِنَّ الأَشْعَثَ بْنَ قَيْسٍ خَرَجَ إِلَيْنَا فَقَالَ مَا يُحَدِّثُكُمْ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ قَالَ: فَحَدَّثْنَاهُ قَالَ: فَقَالَ: صَدَقَ، لَفِيَّ وَاللهِ أُنْزِلَتْ، كَانَتْ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ خُصُومَةٌ فِي بِئْرٍ، فَاخْتَصَمْنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"شَاهِدُكَ أَوْ يَمِينُهُ". قُلْتُ: إِنَّهُ إِذًا يَحْلِفُ وَلَا يُبَالِي. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ يَسْتَحِقُّ بِهَا مَالًا هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ، لَقِيَ اللهَ وَهْوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ". فَأَنْزَلَ اللهُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ، ثُمَّ اقْتَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ:{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} إِلَى: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
ذكر فيه حديث ابن أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: كَتَبْتُ إِلَى ابن عَبَّاسٍ، فَكَتَبَ إِلَيَّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَضَى أَنَّ اليَمِينَ عَلَى المُدَّعَى عَلَيْهِ ..
وأخرجه مسلم أيضًا
(2)
، وفي إسناده نافع بن عمر الحافظ المكي الثقة، مات سنة تسع وستين ومائة. وابن أبي مليكة اسمه عبد الله بن
(1)
ورد بهامش الأصل: وغيرهما.
(2)
برقم (1711) كتاب: الأقضية، باب: اليمين على المدعى عليه.
عبيد الله بن أبي مليكة زهير بن عبد الله بن جدعان المكفوف القاضي، مات سنة سبع عشرة ومائة. وفي الترمذي مضعفًا من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعًا:"البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه"
(1)
.
وذكر فيه حديث أبي وائل قال: قَالَ عَبْدُ اللهِ رضي الله عنه: مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ يَسْتَحِقُّ بِهَا مَالًا وَهْوَ فِيهَا فَاجِرٌ، لَقِيَ اللهَ وَهْوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ فَأَنْزَلَ اللهُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ:{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} فَقَرَأَ إِلَى: {عَذَابٌ أَلِيمٌ} ، ثُمَّ إِنَّ الأَشعَثَ بْنَ قَيْسٍ خَرَجَ إِلَيْنَا فَقَالَ: فيَّ أُنْزِلَتْ. وساق الحديث، وقد سلف
(2)
، والتبويب يدل على أن مذهبه أن الرهن لا يكون عليه شاهد، كما نبه عليه ابن التين.
وإذا اختلف الراهن والمرتهن في مقدار الدين والرهن قائم، فقال الراهن: رهنتك بعشرة دنانير. وقال المرتهن: بعشرين. فقال أبو حنيفة وأصحابه والشافعي والثوري وأحمد وإسحاق وأبو ثور: القول قول الراهن مع يمينه
(3)
. وقالوا: المرتهن مدعٍ، فإذا لم يكن له بينة حلف الراهن؛ لأنه مدعى عليه على ظاهر السنة في الدعوى لو لم يكن ثم رهن، ولا يلزم الراهن من الدين إلا ما أقر به أو قامت عليه بينة.
وفيه قول ثان: وهو أن القول قول المرتهن ما لم يجاوز دينه قيمة رهنه، روي هذا عن الحسن وقتادة ونحوه قال مالك: مع يمينه بما بينه وبين قيمة الرهن؛ لأن الرهن كشاهد للمرتهن إذا حازه، وإذا
(1)
برقم (1341) وقال: حديث في إسناده مقال.
(2)
برقم (2356، 2357) كتاب: المساقاة، باب: الشرب ومن رأى صدقة الماء وهبته ووصيته جائزة.
(3)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 4/ 307، "الإشراف على مذاهب أهل العلم" 2/ 23، "المغني" 6/ 524 - 525.
ادعى أكثر من قيمة الرهن لم يصدق في الزيادة، ويكون القول قول الراهن مع يمينه، ويبرأ من الزيادة على قيمته ويؤدي قيمته.
وحجته أن الراهن مدعٍ لاستحقاق أخذ الرهن وإخراجه عن يد المرتهن، والمرتهن منكر أن يكون الراهن مستحقًّا لذلك بما ذكره، (فاليمين)
(1)
على المرتهن؛ لأن الراهن معترف بكونه رهنًا في يد المرتهن، والرهن وثيقة بالحق وشاهد له كالشهادة أنها وثيقة بالحق ومصدق له فأشبه اليد، فصار القول قول من في يده الرهن إلى مقدار قيمته، وإنما كان القول قول المرتهن فيما زاد على قيمة الرهن؛ لأن المرتهن مدعٍ جملة ما يذكره من الحق، فعليه أن يحلف على جملة ذلك، ثم له مما (حلف)
(2)
عليه قدر ما شهد الرهن له من قيمته، فيكون كالشاهد واليمين؛ لأن المرتهن لا شهادة له فيما يذكره فيما زاد على قيمة الرهن، فصار مدعيًا لذلك والراهن مدعى عليه، فكان حكم ذلك حكم المدعِي والمدعَى عليه فإما بينة المدعي أو يمين المدعَى عليه
(3)
.
وقوله: (فكتب إليَّ ابن عباس) فيه العمل بالكتابة كالإجازة. قال الداودي: والحديث خرج مخرج العموم وأريد به الخصوص. قال ابن التين: والأولى أن يقال: إنها نازلة في عين والأفعال لا عموم لها
كالأقوال على الأصح، وقد جاء في حديث:"إلا في القسامة"
(4)
(1)
في الأصل: في اليمين وهو خطأ والمثبت هو الصواب كما في "شرح ابن بطال" 7/ 33.
(2)
في الأصل: حلفه، والمثبت من "ابن بطال".
(3)
انظر: "شرح ابن بطال" 7/ 32 - 33.
(4)
رواه الدارقطني 3/ 111، والبيهقي 8/ 123، وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع"(2384) من حديث ابن عمر.
أي: فإنها على المدعي إذا قال: دمي عند فلان. وادعى ابن التين أن الشافعي وأبا حنيفة وجماعة من متأخري المالكية أبَوْا ذلك، ثم قال: وقيل: يحلف المدعي وإن لم يقل الميت: دمي عند فلان، وهو قول شاذ لم يقله أحد من فقهاء الأمصار. وقالت فرقة: لا يجب القتل إلا ببينة أو اعتراف القاتل وإلا أخرت أيمان المظلومين.
قال: ويؤيد ما ذكروه ما رواه مالك والبخاري وغيرهما أنه عليه السلام قال: "لو يعطى الناس بدعواهم لادَّعَى ناس دماءَ قومٍ وأموالهَم، لكن البينة على من ادَّعَى واليمين على من أنكر"
(1)
.
قلت: هذا -أعني: قوله: "واليمين على من أنكر"- ليس في البخاري ولا في "الموطأ" فيما أعلم، وقد أسلفناها
(2)
بإسناد ضعيف وانفصل عنه بعض من قال بالأول وبحمله على ما في حديث حويصة
ومحيصة من إظهار العداوة بين المسلمين واليهود
(3)
.
(1)
سيأتي بهذا اللفظ (4552) كتاب: التفسير، باب:{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ} .
ولم أعثر عليه عند مالك.
(2)
ورد بهامش الأصل: الذي أسلفه: (واليمين على المدعى عليه). بهذا اللفظ، وإن كان قال بمعناه.
(3)
ورد بهامش الأصل: ثم بلغ في الثالث بعد السبعين، كتبه مؤلفه.
49
كتاب العتق
بسم الله الرحمن الرحيم
49 - كِتَابُ الْعِتْقِ
أصله من عتق الفرخ إذا استقل، وهو شرعًا: إزالة ملك عن آدمي لا إلى مالك تقربًا إلى الله تعالى.
1 - باب: فِي العِتْقِ وَفَضْلِهِ
وَقَوْلِهِ: {فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14)} [البلد: 13 - 14]
2517 -
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي وَاقِدُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدٌ ابْنُ مَرْجَانَةَ صَاحِبُ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ قَالَ: قال لِي أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "أَيُّمَا رَجُلٍ أَعْتَقَ امْرَأً مُسْلِمًا اسْتَنْقَذَ اللهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْهُ مِنَ النَّارِ". قَالَ سَعِيدُ ابْنُ مَرْجَانَةَ فَانْطَلَقْتُ بِهِ إِلَي عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ، فَعَمَدَ عَلِيُّ بْنُ حُسَيْنٍ رضي الله عنهما إِلَى عَبْدٍ لَهُ قَدْ أَعْطَاهُ بِهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ -أَوْ أَلْفَ دِينَارٍ- فَأَعْتَقَهُ. [6715 - مسلم: 1509 - فتح: 5/ 146]
ثم ساق حديث سعيد ابن مرجانة صاحب علي بن حسين قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "أَيُّمَا رَجُلِ أَعْتَقَ أمْرَأً مُسْلِمًا اسْتَنْقَذَ اللهُ بِكُلِّ عُضْوِ مِنْهُ عُضْوًا مِنْهُ مِنَ النَّار". قَالَ سَعِيدُ ابن مَرْجَانَةَ فَانْطَلَقْتُ بِهِ إِلَى عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ، فَعَمَدَ عَلِيُّ بْنُ حُسَيْنٍ رضي الله عنهما إِلَى عَبْدٍ لَهُ قَدْ أَعْطَاهُ بِهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ -أَوْ أَلْفَ دِينَارٍ- فَأَعْتَقَهُ ..
معنى {فَكُّ رَقَبَةٍ} : اقتحام العقبة فك رقبة، أو فلم يقتحم العقبة إلا من فك رقبة أو أطعم، وفكها: تخليصها من الأسر أو عتقها من الرق، وسمي الرقيق رقبة؛ لأنه بالرق كالأسير المربوط في رقبته. قال سعيد بن مسعدة: قراءة: {فَكُّ رَقَبَةٍ} أحب إلى؛ لأنه فسر (العقبة) أي: في فك رقبة.
وكذا قال الزجاج: من قرأ: {فَكُّ رَقَبَةٍ} فالمعنى اقتحام العقبة فك رقبة أو إطعام، ومن قرأ:(فكَّ رقبةً) فهو محمول على المعنى، والمسغبة: المجاعة.
وقوله: (ذا مقربة) أي: ذا قرابة، تقول: زيد ذو قرابتي وذو مقربتي، وزيد قرابتي قبيح؛ لأن القرابة المصدر.
قال الشاعر:
يبكي الغريب عليه ليس يعرفه
…
وذو قرابته في الحي مسرور
ولابن زنجويه في "فضائل الأعمال" من حديث البراء بن عازب جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: علمني عملًا يدخلني الجنة. فقال: "لئن كنت أقصرت الخطبة، لقد أعرضت المسألة، أعتق النسمة وفك الرقبة". فقال: يا رسول الله، أو ليسا واحدًا. قال: "لا، عتق النسمة أن تنفرد
بعتقها، وفك الرقبة أن تعين في عتقها"
(1)
وللبيهقي: "من أعتق امرأً مسلمًا كان فكاكه من النار، وأيما امرئ مسلم أعتق امرأتين مسلمتين كانتا فكاكه من النار"
(2)
.
وحديث أبي هريرة أخرجه مسلم أيضًا
(3)
، وفي رواية له:"من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله تعالى بكل أرب منه أربًا منه من النار"
(4)
.
ولهما من حديثه: "من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منها عضوًا من أعضائه من النار حتى فرجه بفرجه". ذكره البخاري في كتاب النذور
(5)
، ولأبي الفضل الجوزي:"حتى إنه ليعتق اليد باليد والرجل بالرجل والفم بالفم"
(6)
. فقال له علي بن حسين: أنت سمعت هذا من أبي هريرة؟ قال: نعم. قال: ادعوا لي أَفْرَهَ غلماني مطرفًا، فأعتقه
(7)
.
وجاء في فضله عدة أحاديث، منها: حديث أبي أمامة وغيره من الصحابة مرفوعًا: "أيما امرئ مسلم أعتق امرأً مسلمًا كان فكاكه من النار، يجزئ كل عضو منه عضوًا منه، وأيما امرئ مسلم أعتق امرأتين مسلمتين كانتا فكاكه من النار، يجزئ كل عضو منهما عضوًا منه من النار، وأيما امرأة مسلمة أعتقت امرأة مسلمة كانت فكاكلها من النار
(1)
رواه أحمد 4/ 299، والبخاري في "الأدب المفرد"(69)، والدارقطني 2/ 135، وقال الهيثمي 4/ 240 رجاله ثقات. وقال الألباني في تعليقه على "الأدب المفرد" (69): صحيح.
(2)
"السنن الكبرى" 10/ 272.
(3)
برقم (1509) كتاب: العتق، باب: فضل العتق.
(4)
برقم (1509/ 21).
(5)
برقم (6715). ومسلم (1509/ 22).
(6)
رواه البيهقي في "شعب الإيمان" 4/ 67 (4339).
(7)
رواه البيهقي "شعب الإيمان" 4/ 67، وهو في مسلم بمعناه (1509/ 24).
يجزئ كل عضو منها عضوًا منها". ثم قال
(1)
: حسن صحيح غريب
(2)
.
ولأبي داود عن مرة بن كعب أو كعب بن مرة الأسلمي عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله
(3)
.
ولأبي داود والنسائي من حديث واثلة بن الأسقع: أتينا النبي صلى الله عليه وسلم في صاحب لنا قد استوجب -يعني: النار- بالقتل. فقال: "أعتقوا عنه يعتق الله بكل عضو منه عضوًا منه من النار" وصححه ابن حبان والحاكم. وقال: صحيح على شرط الشيخين
(4)
.
ومعنى أوجب: ركب معصية توجب النار، ويقال للحسنة أيضًا: موجبة.
ولأبي داود، عن عمرو بن عبسة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"أيما رجل مسلم أعتق رجلًا مسلمًا فإن الله جاعل وقاء كل عظم من عظامه عظمًا من عظام محرره من النار، وأيما امرأة مسلمة أعتقت امرأة مسلمة فإن الله جل وعز جاعل وقاء كل عظم من عظامها عظمًا من عظام محررها من النار"
(5)
.
وللجوزي: "من أعتق نفسًا مسلمة كانت فديته من جهنم"
(6)
.
(1)
كذا بالأصل، ولعل الساقط: رواه الترمذي.
(2)
برقم (1547)، وقال الألباني في "صحيح الترمذي" (1252): صحيح.
(3)
برقم (3967)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(2700).
(4)
أبو داود (3964)، والنسائي في "الكبرى" 3/ 171 - 172 (4890)، وابن حبان 10/ 140 - 146 (4307)، والحاكم 2/ 212، وصححه المؤلف في "البدر المنير" 8/ 503، وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع"(929).
(5)
برقم (3966)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(2726).
(6)
رواه أحمد 4/ 386.
ولأحمد من حديث عقبة بن عامر مرفوعًا: "من أعتق رقبة مؤمنة فهي فكاكه من النار"
(1)
.
وفي لفظ "فداؤه"
(2)
. قال الحاكم: صحيح الإسناد وشاهده حديث أبي موسى
(3)
. يعني الآتي بعد.
وعن معاذ مرفوعًا مثله
(4)
.
وللنسائي من حديث مالك بن عمرو القشيري: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أعتق رقبة أعتق الله بكل عضو منها عضوًا منه من النار"
(5)
.
ولأحمد: "رقبة مؤمنة فهي فداؤه من النار، مكان كل عظم من عظام محرره بعظم من عظامه"
(6)
.
(1)
رواه أحمد 4/ 147، وقال الهيثمي في "المجمع" 4/ 443: ورجاله رجال الصحيح خلا قيس الجدامي ولم يضعفه أحد والحديث صححه الألباني في "صحيح الترغيب"(1893).
(2)
رواه أحمد 4/ 150، وأبو يعلى 3/ 296 (1760).
(3)
"المستدرك" 2/ 230.
(4)
رواه أحمد 5/ 244.
(5)
الحديث رواه أحمد 4/ 344، والطبراني في "الكبير" 19/ 299، وأبو يعلى (926) من حديث مالك بن عمرو القشيري. قال المنذري في "الترغيب والترهيب" 3/ 219: رواه أحمد من طرق أحدها حسن اهـ.
وقال الهيثمي في "المجمع" 8/ 139: رواه أحمد وفي بعض طرقه: أيما مسلم ضم يتيمًا بين أبوين ...... الحديث. وإسناده حسن.
والحديث عند النسائي في "الكبرى" 3/ 171 (4889) من حديث عمرو بن عبسة، ولم يخرجه من طريق مالك بن عمرو، وعندما ذكره المصنف في "البدر المنير" 9/ 703 عزاه لأحمد.
(6)
أحمد 4/ 344 وقال الهيثمي في "المجمع" 8/ 259: إسناده حسن، وصححه الألباني لغيره في "صحيح الترغيب"(2496).
وللحاكم من حديث أبي موسى مرفوعًا: "من يعتق أعتق الله مكان كل عضو منه عضوًا منه من النار"
(1)
.
ولابن زنجويه من حديث عائشة مرفوعًا: "من أعتق عضوًا من مملوك أعتق الله بكل عضو منه عضوًا"
(2)
.
قال الخطابي: فعلى هذا لا ينبغي أن يكون المعتق ناقصًا بعور أو شلل وشبههما ولا معيبًا بعيب يضر بالعمل، وقيل بالسعي والاكتساب، وربما كان نقص بعض الأعضاء زيادة في الثمن كالخصي؛ إذ يصلح لما لا يصلح له غيره من حفظ الحريم ونحوه، فلا يكره، على أنه لا يخل بالعمل
(3)
. وقال القاضي عياض: اختلف العلماء: أيما أفضل عتق الإناث أو الذكور؟ فقال بعضهم: الإناث أفضل؛ لأنها إذا عتقت كان ولدها حرًّا سواء تزوجها حر أو عبد. وقال آخرون: الذكر أفضل؛ لحديث أبي إمامة؛ ولما في الذكر من المعاني العامة التي لا توجد في الإناث؛ ولأن من الإماء من لا ترغب في العتق وتضيع به، بخلاف العبد
(4)
، وهذا هو الصحيح، واستحب بعض العلماء أن يعتق الذكرُ الذكرَ والأنثى مثلَها، ذكره الفريابي في "الهداية" لتتحقق مقابلة الأعضاء بالأعضاء.
تنبيهات:
أحدها: لا شك أن الزنا كبيرة لا تُكَفَّر إلا بالتوبة، فيحمل الحديث على أنه أراد مسَّ الأعضاء بعضها بعضًا من غير إيلاج، وهذا صغيرة،
(1)
"المستدرك" 2/ 230 وجعله الحاكم شاهدًا لحديث عقبة السابق.
(2)
أشار إليه الترمذي في "سننه" 4/ 114.
(3)
"أعلام الحديث" 2/ 1264 - 1265.
(4)
"إكمال المعلم" 5/ 122 - 123.
ويحتمل أن يريد أن لعتق الفرج حظًّا في الموازنة فيكفر الزنا. ثانيها: قال المهلب: فيه فضل العتق، وأنه من أرفع الأعمال، ومما ينجي الله به من النار، وفيه أن المجازاة قد تكون من جنس الأعمال، فجوزي المعتق للعبد بالعتق من النار، وإن كانت صدقة تصدق عليه واجتنى في الآخرة.
ثالثها: هذا الحديث يبين أن تقويم باقي العبد على من أعتق شقصًا منه إنما هو لاستكمال عتق نفسه من النار، وصارت حرمة العتق تتعدى إلى الأموال لفضل النجاة به من النار، وهذا أولى من قول من قال: إنما ألزم عتق باقيه لتكميل حرمة العبد، فتتم شهادته وحدوده، وهو قول لا دلالة عليه
(1)
.
(1)
انظر: "شرح ابن بطال" 7/ 34.
2 - باب: أَيُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ
؟
2518 -
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي مُرَاوِحٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه، قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ العَمَلِ أَفْضَلُ؟، قَالَ:"إِيمَانٌ بِاللهِ، وَجِهَادٌ فِي سَبِيلِهِ". قُلْتُ فَأَيُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "أَغْلَاهَا ثَمَنًا، وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا". قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ؟ قَالَ: "تُعِينُ صَانِعًا أَوْ تَصْنَعُ لأَخْرَقَ". قَالَ: فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ؟ قَالَ: "تَدَعُ النَّاسَ مِنَ الشَّرِّ، فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ تَصَدَّقُ بِهَا عَلَى نَفْسِكَ". [مسلم: 84 - فتح: 5/ 148]
ذكر فيه حديث أبي ذر، هو جندب بن جنادة، مات بالربذة سنة اثنتين وثلاثين وصلى عليه ابن مسعود، وقد جاء من العراق ثم قدم المدينة فمات بها بعد عشرة أيام.
سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ العَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "إِيمَانٌ باللهِ، وَجِهَادٌ فِي سَبِيلِهِ". قُلْتُ فَأَيُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "أَغْلَاهَا ثَمَنًا، وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا". قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ؟ قَالَ: "تُعِينُ صَانِعًا أَوْ تَصْنَعُ لأَخْرَقَ". قَالَ: فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ؟ قَالَ: "تَدَعُ النَّاسَ مِنَ الشَّرِّ، فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ تَصَدَّقُ بِهَا عَلَى نَفْسِكَ".
"أغلاها" ضبطه الشيخ أبو الحسن بعين مهملة وضبطه أبو ذر بمعجمة
(1)
، ومعناه أن من اشتراها بكثير الثمن، فإنما فعل ذلك لنفاستها عنده، ومن أعتق رقبة نفيسة عنده وهو مغتبط بها فلم يعتقها إلا لوجه الله، وهذا الحديث في معنى قوله تعالى:{لَنْ تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] وكان لابن عمر جارية يحبها فأعتقها
(1)
ورد في اليونينية 3/ 144 أن أبا ذر ضبطها بعين مهملة رواية عن الحموي والمستملي.
لهذِه الآية، ثم اتبعتها نفسه فأراد أن يتزوجها فمنعه بنوه، فكان بعد ذلك يقرب بنيها من غيره لمكانها من قلبه
(1)
.
قال المهلب: وإنما قرن الجهاد في سبيل الله بالإيمان به؛ لأنه كان عليهم أن يجاهدوا في سبيل الله حتى تكون كلمة الله هي العليا، وحتى يفشو الإسلام وينتشر فكان الجهاد ذلك الوقت أفضل من كل عمل.
وقوله: "تعين صانعًا" أي: فقيرًا "أو تصنع لأخرق" عاملًا لا يستطيع عمل ما يحاوله، والخرق لا يكون إلا في البدن، وهو الذي لا يحسن الصناعات. قال ابن سيده: خرق الشيء: جهله ولم يحسن عمله وهو أخرق
(2)
، وفي "المثلث" لابن عديس: الخرق جمع الأخرق من الرجال والخرقاء من النساء وهما ضد الصناع والصنع.
وقوله: "ضائعًا" أي: فقيرًا هو ما فسره ابن بطال
(3)
، وكذا ضبطه غيره بالضاد المعجمة، وأنه رواية هشام، وصوابه "صانعًا" بالصاد المهملة وبالنون. وقال النووي: الأكثر في الرواية بالمعجمة
(4)
.
وقال عياض: روايتنا في هذا من طريق هشام بالمعجمة، وعن أبي بحر بالمهملة، وهو صواب الكلام؛ لمقابلته بالأخرق وإن كان المعنى من جهة معونة الصانع أيضًا صحيحًا، لكن صحت الرواية عن هشام
(1)
رواه عبد بن حميد كما في "الدر المنثور" 2/ 89، والبزار كما في "كشف الأستار"(2194)، وأبو نعيم في "الحلية" 1/ 295، وقال الهيثمي في "المجمع" 6/ 326: فيه من لم أعرفه.
(2)
"المحكم" 4/ 387.
(3)
"شرح ابن بطال" 7/ 35.
(4)
"مسلم بشرح النووي" 2/ 75.
(بالمهملة)
(1)
. وقال ابن المديني: الزهري يقوله بالمهملة، ويرون أن هشامًا صحفه بالمعجمة، والصواب قول الزهري
(2)
.
تنبيهات:
أحدها: إذا كانا مسلمين فأفضلهما أغلاهما ثمنًا كما سلف.
قال أبو عبد الملك: إذا كان ذلك في ذوي الدين، واختلف إذا كان النصراني أو اليهودي أو غيرهما أكثر ثمنًا من المسلم. فقال مالك: عتق الأغلى أفضل، وإن كان غير مسلم. وقال أصبغ: عتق المسلم أفضل
(3)
، وهو أبين، كما قال ابن التين؛ لتقييده بالمسلم فيما سلف، وقياسًا على عتق الواجب في قوله تعالى:{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92].
ثانيها: هذا الحديث رواه مالك في "موطئه"
(4)
عن هشام، عن أبيه عن عائشة مرفوعًا به، كما ساقه البخاري: وذكر بعضهم أنه مما يعد على مالك؛ لأن غير واحد رواه عن هشام، عن أبيه، عن أبي مراوح، عن أبي ذر كما في البخاري.
وقال أبو عمر: زعم قوم أن هذا الحديث كان أصله عند مالك، عن هشام، عن أبيه مرسلًا
(5)
.
(1)
كذا في الأصل، وهو خطأ وفي المطبوع من "إكمال المعلم" 1/ 349 ما نصه: لكن صحت الرواية هنا عن هشام بالضاد اهـ وهو الصواب، وقد أشار محقق "الإكمال" إلى أنه جاء في نسخة (ت): بالصاد المهملة.
(2)
"إكمال المعلم" 1/ 348 - 349.
(3)
انظر: "المنتقى" 6/ 278.
(4)
"الموطأ" برواية يحيى ص 487.
(5)
كذا في الأصل، وفي "التمهيد" ما نصه:
وزعم قوم أن هذا الحديث كان أصله عند مالك: عن هشام عن أبيه عن عائشة، فلما بلغه أن غيره من أصحاب هشام يخالفونه في الإسناد، جعله عن هشام عن أبيه مرسلًا، هكذا قالت طائفة من أهل العلم بالحديث، فالله أعلم اهـ.
ورواه ابن وهب، عنه، عن الزهري، عن حبيب، عن عروة مرسلًا
(1)
.
وقال الدارقطني: المحفوظ عن مالك الإرسال
(2)
.
وذكره الإسماعيلي في "صحيحه" من حديث يحيى بن سعيد، عن هشام، عن أبيه قال: أخبرني ابن أبي مراوح عن أبيه أن أبا ذر أخبره به.
ولابن زنجويه من حديث الأوزاعي، عن يزيد بن أبي يزيد، عن أبيه، عنه مقلوبًا، قلت: فإن كان ضعيفًا؟ قال: "يقول المعروف بلسانه"، قلت: فإن كان لسانه لا يبلغ عنه؟ قال: "ما تريد أن تدع في صاحبك خيرًا؟! ".
ثالثها: لو أراد أن يعتق رقبة واحدة بألف، وأمكن أن يشتري بالألف رقبتين مفضولتين فهما أفضل، بخلاف الأضحية، والفرق أن المقصود بها طيب اللحم، وبالعتق الخلاص من ربقة الرق.
(1)
"التمهيد" 22/ 157.
(2)
"العلل" 6/ 289.
3 - باب: مَا يُسْتَحَبُّ مِنَ العَتَاقَةِ فِي الكُسُوفِ وَالآيَاتِ
2519 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ مَسْعُودٍ، حَدَّثَنَا زَائِدَةُ بْنُ قُدَامَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ المُنْذِرِ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما قَالَتْ: أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالعَتَاقَةِ فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ. تَابَعَهُ عَلِيٌّ، عَنِ الدَّرَاوَرْدِيِّ عَنْ هِشَامٍ. [انظر: 86 - مسلم: 905 - 5/ 150]
2520 -
(1)
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، حَدَّثَنَا عَثَّامٌ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ المُنْذِرِ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما قَالَتْ: كُنَّا نُؤْمَرُ عِنْدَ الخُسُوفِ بِالعَتَاقَةِ. [انظر: 86 - مسلم: 905 - فتح: 5/ 105]
ذكر فيه حديث زائدة بن قدامة عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ المُنْذِرِ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ: أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالعَتَاقَةِ فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ. تَابَعَهُ عَلِيٌّ، عَنِ الدَّرَاوَرْدِيِّ، عَنْ هِشَامٍ.
وحديث عثَّام، عن هِشَام، عَنْ فَاطِمَةَ، عَنْ أَسْمَاءَ قَالَتْ: كُنَّا نُؤْمَرُ عِنْدَ الكسوف بِالعَتَاقَةِ.
هذا الباب سلف في بابه من الصلاة
(2)
.
قال المهلب: إنما أمر بالعتاقة في الكسوف؛ لأن بالعتق يستحق العتق من النار، والكسوف آية من آيات الله، قال تعالى:{وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء: 59]، فلذلك صلى وأطال من أجل الخوف الذي توعد الله عليه في القرآن وأمر بالعتاقة
(3)
.
(1)
في بعض نسخ البخاري يبدأ من هنا كتاب: العتق.
(2)
سلف برقم (1054) كتاب: الكسوف، باب: النداء بالصلاة جامعه في الخسوف.
(3)
نقله عنه ابن بطال في "شرحه" 7/ 36.
4 - باب إِذَا أَعْتَقَ عَبْدًا بَيْنَ اثْنَيْنِ أَوْ أَمَةً بَيْنَ الشُّرَكَاءِ
2521 -
حَدَّثَنَا عَليُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ سَالم عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا بَيْنَ اثْنَيْنِ، فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا قُوِّمَ عَلَيْهِ، ثُمَّ يُعْتَقُ".
2522 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ، فَكَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَ العَبْدِ، قُوِّمَ العَبْدُ قِيمَةَ عَدْلٍ، فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ وَعَتَقَ عَلَيْهِ، وَإِلاَّ فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ".
2523 -
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي مَمْلُوكٍ فَعَلَيْهِ عِتْقُهُ كُلِّهِ، إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ قالٌ يُقَوَّمُ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ، فَأُعْتِقَ مِنْهُ مَا أَعْتَقَ". [انظر: 2491 - مسلم: 1501 - فتح: 5/ 151]
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا بِشْرٌ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ. اخْتَصَرَهُ
2524 -
حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَنْ أَعْتَقَ نَصِيبًا لَهُ فِي مَمْلُوكٍ -أَوْ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ- وَكَانَ لَهُ مِنَ المَالِ مَا يَبْلُغُ قِيمَتَهُ بِقِيمَةِ العَدْلِ، فَهْوَ عَتِيقٌ". قَالَ نَافِعٌ: "وَإِلَّا فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ". قَالَ أَيُّوبُ: لَا أَدْرِي أَشَيْءٌ قَالَهُ نَافِعٌ، أَوْ شَيْءٌ فِي الحَدِيثِ. [انظر: 2491 - مسلم: 1501 - فتح: 5/ 151]
2525 -
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مِقْدَامٍ، حَدَّثَنَا الفُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ كَانَ يُفْتِي فِي العَبْدِ أَوِ الأَمَةِ يَكُونُ بَيْنَ شُرَكَاءَ، فَيُعْتِقُ أَحَدُهُمْ نَصِيبَهُ مِنْهُ، يَقُولُ: قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ عِتْقُهُ كُلِّهِ، إِذَا كَانَ لِلَّذِي أَعْتَقَ مِنَ المَالِ مَا يَبْلُغُ، يُقَوَّمُ مِنْ مَالِهِ قِيمَةَ العَدْلِ، وَيُدْفَعُ إِلَى الشُّرَكَاءِ أَنْصِبَاؤُهُمْ، وَيُخَلَّى سَبِيلُ المُعْتَقِ. يُخْبِرُ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَرَوَاهُ اللَّيْثُ
وَابْنُ أَبِي ذِئْبٍ وَابْنُ إِسْحَاقَ وَجُوَيْرِيَةُ وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. مُخْتَصَرًا. [انظر: 2491 - مسلم: 1501 - فتح: 5/ 151]
ذكر فيه حديث سالم عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا بَيْنَ اثْنَيْنِ، فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا قُوِّمَ عَلَيْهِ، ثُمَّ يُعْتَقُ".
وفي لفظ
(1)
"مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ، فَكَانَ لَهُ ما يَبْلُغُ ثَمَنَ العَبْدِ، قُوِّمَ العَبْدُ عليه قِيمَةَ عَدْلٍ، فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ، وَعَتَقَ عَلَيهِ العَبْدُ، وَإِلَّا فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ".
وفي لفظ
(2)
"مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي مَمْلُوكٍ فَعَلَيْهِ عِتْقُهُ كلِّهِ، إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَهُ، فَإِن لَمْ يَكُنْ لَهُ قالٌ يُقَوَّمُ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ على العتق، وأعتق مِنْهُ مَا أَعْتَقَ".
وفي لفظ
(3)
"مَنْ أَعْتَقَ نَصِيبًا لَهُ فِي مَمْلُوكٍ -أَوْ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ- وَكَانَ لَهُ مِنَ المَالِ مَا يَبْلُغُ قِيمَتَهُ بقِيمَةِ العَدْلِ، فَفوَ عَتِيقٌ". قَالَ نَافِعٌ: "وَإِلَّا فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ". قَالَ أيُّوبُ: لَا أَدْرِي أَشَئ قَالَهُ نَافِعٌ، أَوْ شَيْءٌ فِي الحَدِيثِ.
وفي لفظ عَنِ ابن عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يُفْتِي فِي العَبْدِ أَوِ الأَمَةِ يَكُونُ بَيْنَ الشُّرَكَاءَ، فَيُعْتِقُ أَحَدُهُمْ نَصِيبَهُ مِنْهُ، يَقُولُ: قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ عِتْقُهُ كُلِّهِ، إِذَا كَانَ لِلَّذِي أَعْتَقَ مِنَ المَالِ مَا يَبْلُغُ، يُقَوَّمُ مِنْ مَالِهِ قِيمَةَ العَدْلِ، وَيُدْفَعُ إِلَى الشُّرَكَاءِ أَنْصِبَاؤُهُمْ، وَيُخَلَّى سبِيلُ المُعْتَقِ. يُخْبِرُ ذَلِكَ
(1)
ورد بهامش الأصل: ساقه بسند آخر إلى ابن عمر.
(2)
ورد بهامش الأصل: ساقه بسند آخر إلى نافع عنه.
(3)
ورد بهامش الأصل: ساقه من طريقين إلى نافع عنه.
ابن عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَرَوَاهُ اللَّيْثُ وَابْنُ أَبِي ذِئْبِ وَابْنُ إِسْحَاقَ وَجُوَيْرِيَةُ وَيحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ أمَيَّةَ، عَن نَافِعٍ، عَنِ ابن عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. مُخْتَصَرًا.
الشرح:
حديث ابن عمر سلف أيضًا في الشركة
(1)
، وقد اختلف العلماء في العبد المشترك يعتق أحدهما نصيبه.
فقالت طائفة: لا ضمان عليه بقيمة نصيب شريكه لعتاقته إلا أن
يكون موسرًا على ظاهر حديث ابن عمر، وإنما في حديث ابن عمر وجوب الضمان على الموسر خاصة دون المعسر، يدل عليه قوله:"وإلا فقد عتق منه ما عتق" هذا قول ابن أبي ليلى ومالك والثوري وأبي يوسف ومحمد والشافعي
(2)
.
وقال زفر: يضمن قيمة نصيب شريكه موسرًا كان أو معسرًا ويخرج العبد كله حرًا. وقال: العتق من الشريك الموسر جناية على نصيب شريكه يجب بها عليه ضمان قيمته من ماله، ومن جنى على مال رجل وهو موسر أو معسر وجب عليه ضمان ما أتلف بجنايته، ولم يفترق حكمه إن كان موسرًا أو معسرًا في وجوب الضمان عليه
(3)
.
وهذا قول مخالف للحديث، فلا وجه له، وإلا فقوله:"فقد عتق منه ما عتق" دليل أن ما بقي من العبد لم يدخله عتاق فهو رقيق للذي لم يعتق على حاله، ولو نفذ العتق في الكل إذا كان معسرًا لرجع الشريك إلى ذمة
(1)
سلف برقم (2491).
(2)
انظر: "شرح معاني الآثار" 3/ 108، "المدونة" 2/ 379، "إكمال المعلم" 5/ 100، "البيان" 8/ 323.
(3)
انظر: "شرح معاني الآثار" 3/ 105، ولم يعزه لأحد.
غير مالية فلا يحصل عوض، وفيه إضاعة المال وإتلاف له، وقد نهي عن ذلك.
واختلف في معنى الحديث، فقال مالك في المشهور عنه: للشريك أن يعتق نصيبه قبل التقويم كما أعتق شريكه أولًا، ويكون الولاء بينهما، ولا يعتق نصيب الشريك إلا بعد التقويم وأداء القيمة
(1)
. وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي: إن كان المعتق الأول موسرًا عتق جميع العبد إذًا وكان حرًّا، ولا سبيل للشريك على العبد، وإنما له قيمة نصيبه على شريكه، كما لو قتله. قالوا: لأنه عليه السلام قال: "من أعتق شقصًا له في عبد قوم عليه قيمة عدل"، ثم يعتق إن كان موسرًا، فأمر بالتقويم الذي يكون في الشيء المتلف، فعلم أنه إذا أعتق نصيبه فقد أتلف نصيب شريكه بالعتق فلزمته القيمة، وقد روي مثله عن مالك والحجة لمالك في مشهور قوله: إن نصيب كل واحد من الشريكين غير تابع لنصيب صاحبه، يدل عليه أنه لو باع أحدهما نصيبه لم يصر نصيب شريكه مبيعًا، فكذا العتق، وأيضًا فإنه لو أعتق نصيب شريكه ابتداء لم يعتق، وكان يجب إذا ابتدأ عتق نصيب شريكه أن ينعتق، وينعتق نصيب شريكه فلما لم يكن نصيبه هنا بيعًا ولا يسري إليه العتق، كذلك لا يكون نصيب شريكه تبعًا لنصيبه ولا يسري إليه العتق، واحتج مالك في "المدونة" فقال: ألا ترى أنه لو مات العبد قبل التقويم لم يلزم المعتق الأول شيء!
(2)
(1)
انظر: "الاستذكار" 23/ 121.
(2)
"المدونة" 2/ 279.
فائدة:
استدل ابن التين بقوله: ثم يعتق، للمشهور من مذهب مالك أن عتق العبد لا يكون إلا بعد التقويم، وفي أنه لا يعتق بالسراية
(1)
، وكذا هو في حديث ابن عمر آخر الباب، وفي قول لمالك: أنه يفتقر إلى حكم
(2)
، (ونقل سحنون إجماع الأصحاب على خلافه)
(3)
، وفي قول: موقوف على أداء القيمة
(4)
.
فرع:
إن ادعى الفقر ولا مال ظاهر له لا يحلف، وانفرد ابن الماجشون، فقال: يحلف
(5)
.
فرع:
إذا كان معسرًا وأحب شريكه أن يقوم عليه ويطالبه متى أيسر، فالأشبه بما في "المدونة" المنع عملًا بقوله:"وإلا فقد عتق منه ما عتق"، ووجه مقابله: أن ترك الاستكمال لحق الشريك
(6)
.
فرع:
احتج القاضي في "معونته" بقوله: "قوم عليه"، لإحدى الروايتين أن من أوصى بعتق عبده أو شركاء له في عبد يقوَّم عليه
(7)
، والمشهور المنع.
(1)
انظر: "المعونة" 2/ 355، "عقد الجواهر الثمينة" 3/ 1184.
(2)
انظر: "المعونة" 2/ 355، "عقد الجواهر الثمينة" 3/ 1184.
(3)
كذا في الأصول، ولعله سبق نظر، وموضعها الصحيح في الفرع التالي بعد قوله: يحلف، انظر:"النوادر" 12/ 286، "المنتقى" 6/ 256 - 257.
(4)
انظر: "جامع الأمهات" ص 347.
(5)
انظر: "المنتقى" 6/ 256.
(6)
انظر: "المنتقى" 6/ 256.
(7)
"المعونة" 2/ 361 - 362.
فائدة:
قوله: "فهو عتيق" يريد: معتوق، فعيل بمعنى مفعول، وحقيقة هذا القول وشبهه عند أكثر النحاة لا يبني منه فعل ما لم يسم فاعله ولا مفعول إذا كان لازمًا، واختاره سيبويه خاصة على تقدير إقامة المصدر مقام ما لم يسم فاعله، والداودي أجاز أن يبني الثاني من قوله:"وإلا فقد عتق ما عتق" لما لم يسم فاعله دون الأول، وقد سلفت.
وذكر الداودي عن أبي حنيفة: إن شاء استسعى وإن شاء يمسك بما له فيه من الرق. قال: وخالف الروايتين جميعًا.
فائدة:
أبو النعمان المذكور في إسناده شيخ البخاري، اسمه: محمد بن الفضل عارم
(1)
، مات سنة أربع، وقيل: ثلاث وعشرين ومائتين
(2)
.
(1)
عارم لقب محمد.
(2)
انظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" 7/ 305، "التاريخ الكبير" 1/ 208 (654)، "تهذيب الكمال" 26/ 287 (5547).
5 - باب إِذَا أَعْتَقَ نَصِيبًا فِي عَبْدٍ، وَلَيْسَ لَهُ مَالٌ، اسْتُسْعِيَ العَبْدُ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ، عَلَى (نَحْوِ الكِتَابَةِ)
(1)
2526 -
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي رَجَاءٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، سَمِعْتُ قَتَادَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي النَّضْرُ بْنُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ نَهِيكٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَعْتَقَ شَقِيصًا مِنْ عَبْدٍ". [انظر: 2492 - مسلم: 1502، 1503 - فتح: 5/ 156]
2527 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ نَهِيكٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَنْ أَعْتَقَ نَصِيبًا -أَوْ شَقِيصًا- فِي مَمْلُوكٍ، فَخَلَاصُهُ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، وَإِلَّا قُوِّمَ عَلَيْهِ، فَاسْتُسْعِيَ بِهِ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ". تَابَعَهُ حَجَّاجُ بْنُ حَجَّاجٍ، وَأَبَانُ، وَمُوسَى بْنُ خَلَفٍ، عَنْ قَتَادَةَ. اخْتَصَرَهُ شُعْبَةُ. [انظر: 3492 - مسلم: 1502، 1503 - فتح: 5/ 156]
ذكر فيه حديث جَرِير بْن حَازِمٍ، سَمِعْتُ قَتَادَةَ: حَدَّثَنِي النَّضْرُ بْنُ أَنَسِ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ نَهِيكٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَعْتَقَ شقصا مِنْ عَبْدٍ" وفي لفظ آخر: "من نفس" ثم رواه من حديث سعيد عن قتادة به بلفظ: "مَن أَعْتَقَ شقيصا من عبد أو نصيبا فِي مَمْلُوكٍ، فَخَلَاصُهُ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، وَإِلَّا قُوِّمَ عَلَيْهِ، فَاسْتُسْعِيَ بِهِ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ".
(1)
كذا في الأصل: نحو الكتابة، وكذا عند "ابن بطال"، وفي اليونينية 2/ 145: على نحو الكتابة.
تَابَعَهُ حَجَّاجُ بْنُ حَجَّاجٍ، وَأَبَانُ، وَمُوسَى بْنُ خَلَفٍ، عَنْ قَتَادَةَ. واخْتَصَرَهُ شُعْبَةُ.
حديث سعيد وهو ابن أبي عروبة، عن قتادة، سلف في باب تقويم الأشياء بين الشركاء
(1)
.
وقوله: (تابعه) يعني ابن أبي عروبة، ومتابعة أبان أخرجها أبو داود عن مسلم بن إبراهيم عنه
(2)
، والنسائي عن المخرمي، عن أبي هشام المخزومي، عنه
(3)
، ومتابعة موسى بن خلف سلفت من عند الحافظ أبي بكر.
قال ابن عبد البر
(4)
: حديث أبي هريرة خلاف حديث ابن عمر وأما هشام الدستوائي وشعبة وهمام بن يحيى فرووه عن قتادة من غير ذكر السعاية، وهم أثبت من ذكرها، وأصحاب قتادة الذين هم الحجة على غيرهم عند أهل العلم بالحديث ثلاثة: شعبة وهشام وسعيد بن أبي عروبة، فإذا اتفق منهم اثنان فهم حجة على الواحد منهم، وقد اتفق شعبة وهشام على ترك ذكر السعاية في هذا الحديث فضعف بذلك كله ذكر السعاية.
وذهب مالك وأصحابه إلى أن المليء إذا أعتق نصيبه من عبد مشترك فلشريكه أن يعتق وأن يقوم، فإن أعتق نصيبه كما أعتق شريكه قبل التقويم، فالولاء بينهما، وما لم يقوم ويحكم بعتقه فهو كالعبد في جميع أحكامه، فإن كان المعتق عديمًا لا مال له لم يعتق من العبد
(1)
برقم (2492) كتاب: الشركة.
(2)
برقم (3937).
(3)
"السنن الكبرى" 3/ 185 (4965).
(4)
"التمهيد" 14/ 278 - 279 بتصرف.
غير حصته، ويبقى نصيب الآخر رقًّا له يخدمه العبد يومًا، ويكتسب لنفسه يومًا، وهو في جميع أحواله كالعبد، وإن كان المعتق موسرًا ببعض نصيب شريكه قوم عليه بقدر ما يجد معه من المال ورق بقيته، ويقضي عليه بذلك كما يقضي في سائر الديون اللازمة والجنايات الواجبة، ويباع عليه شوار بيته وما له من كسوته، وكذلك قال داود وأصحابه: إنه لا يعتق عليه حتى يؤدي القيمة إلى شريكه، وهو قول الشافعي في القديم. وقال في الجديد
(1)
: إذا كان المعتق لحصته موسرًا في حين العتق جميعه حينئذ، وكان حرًّا من يومه، يرث ويورث وله ولاؤه، ولا سبيل للشريك على العبد، وإنما له قيمة نصيبه على شريكه، كما لو قتله، وسواء أعطاه القيمة أو منعه إذا كان موسرًا يوم العتق، وإن كان معسرًا فالشريك على ملكه يقاسمه كسبه، أو يخدمه يومًا ويخلَّى ونفسه يومًا، ولا سعاية عليه.
وقال أيضًا
(2)
: فإن مات العبد وله وارث ورث بقدر ولائة، وإن مات له موروث لم يرث منه شيئًا، له وله قول آخر في ميراث من كان بعضه حرًّا، واختار المزني الجديد، وقال: هو الصحيح على أصله؛ لأنه قال: لو أعتق الثاني كان عتقه باطلًا، وقد قطع بأن هذا أصح في أربعة مواضع من كتبه، قاله في "اختلاف الحديث" وفي "اختلاف ابن أبي ليلى وأبي حنيفة". وقال في كتاب [الوصايا]
(3)
بالقول الأول
(4)
.
(1)
انظر: "الأم" 7/ 123.
(2)
"التمهيد" 14/ 282 - 283.
(3)
في الأصل بياض، والمثبت من "مختصر المزني" 5/ 267.
(4)
"مختصر المزني" 5/ 267 - 268.
وقال سفيان الثوري: إذا كان المعتق حصته من العبد مال ضمن نصيب شريكه، ولم يرجع به على العبد ولا سعاية على العبد، وكان الولاء له، وإن لم يكن له مال فلا ضمان عليه، وسواء نقص العبد من قيمة نصيب الآخر أو لم ينقص، يسعى العبد في نصف قيمته حينئذ، وكذلك قال أبو يوسف ومحمد
(1)
، وفي قولهم يكون العبد كله حرًّا ساعة أعتق الشريك نصيبه، فإن كان موسرًا ضمن لشريكه نصف قيمة عبد، وإن كان معسرًا سعى العبد في ذلك الذي لم يعتق، ولا يرجع على أحد بشيء، والولاء كله للمعتق، وهو بمنزلة الحر في جميع أحكامه ما دام في سعايته من يوم أعتق، يرث ويورث. وهو قول الأوزاعي. وعن ابن شبرمة وابن أبي ليلى مثله، إلا أنهما جعلا للعبد أن يرجع على المعتق بما سعى فيه متى أيسر
(2)
.
وعن ابن عباس أنه جعل المعتق بعضه حرًّا في جميع أحكامه.
وقال أبو حنيفة: إذا أعتق نصيبه وهو موسر فالشريك بالخيار، إن شاء أعتق نصيبه كما أعتق الآخر، وكان الولاء بينهما، وإن شاء استسعى العبد في نصف قيمته ويكون الولاء بينهما، وإن شاء ضمن شريكه نصف قيمته، ويرجع الشريك بما ضمن من ذلك على العبد يستسعيه فيه إن شاء، ويكون الولاء كله للشريك
(3)
وقد سلف.
واحتج لهم بما رواه ابن حزم من طريق عبد الرزاق عن معمر، عن أبي حمزة، عن النخعي: أن رجلًا أعتق شركًا له في عبد وله شركاء يتامى. فقال عمر: ينظر لهم حتى يبلغوا، فإن أحبوا أن يعتقوا وإن
(1)
انظر: "شرح معاني الآثار" 3/ 108.
(2)
انظر: "الإشراف على مذاهب أهل العلم" 3/ 175.
(3)
انظر: "شرح معاني الآثار" 3/ 108.
أحبوا أن يضمن لهم ضمن
(1)
. قال ابن حزم: وهذا لا يصح عن عمر، إنما رواه أبو حمزة ميمون، وليس بشيء، ثم هي منقطعة؛ لأن إبراهيم لم يولد إلا بعد موت عمر بسنين كثيرة
(2)
.
قلت: قد أخرجه الطحاوي متصلًا من حديث يونس، عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد: أن الأسود ذكر لعمر .. الحديث
(3)
.
وقال أبو حنيفة: وإن كان المعتق معسرًا، فالشريك بالخيار، إن شاء ضمن العبد نصف قيمته يسعى فيها، والولاء بينهما وإن شاء أعتقه كما أعتق صاحبه والولاء بينهما
(4)
. قال: والعبد المستسعى ما دام في سعايته بمنزلة المكاتب في جميع أحكامه
(5)
.
وقال زفر: العبد كله على المعتق حصته منه ويتبع بقيمته حصة شريكه موسرًا كان أو معسرًا
(6)
.
قال ابن عبد البر: لم يقل زفر بحديث ابن عمر ولا بحديث أبي هريرة في هذا الباب، وكذا أبو حنيفة لم يقل بواحد منهما على وجهه. وقال أحمد بحديث ابن عمر في هذا الباب، وقوله فيه كنحو قول الشافعي، وهو يدل على أن حديث ابن عمر عنده أصح من
(1)
"المصنف" 9/ 155 (16732)، وعنه في "المحلى" 9/ 192.
(2)
"المحلى" 9/ 192.
(3)
"شرح معاني الآثار" 3/ 108، وفيه بدل يونس: أبو بشر الرقي، عبد الملك بن مروان، وليس فيمن يروي عن أبي معاوية الضرير من اسمه يونس انظر:"تهذيب الكمال" 4/ 527 (913).
(4)
انظر: "شرح معاني الآثار" 3/ 108.
(5)
انظر: "بدائع الصنائع" 4/ 94.
(6)
انظر: "شرح معاني الآثار" 3/ 105.
حديث أبي هريرة، وأنه لم يصح عنده ذكر السعاية
(1)
.
وقال إسحاق: إن كان للشريك المعتق مال فكما قال أحمد: يضمن، وإن لم يكن له إلا دار وخادم فإنه لا يجعل ذلك مالًا. قال: وإن كان معسرًا استسعى العبد لصاحبه
(2)
، واتفق أحمد وإسحاق وسفيان بأن العتق إذا وقع والمعتق موسرًا ثم أفلس لم يتحول عنه الغرم، كما لو وقع وهو مفلس ثم أيسر لم يلزمه شيء
(3)
. وقال ربيعة: من أعتق حصته من عبد أن العتق باطل موسرًا كان أو معسرًا
(4)
.
وذكر عن ابن سيرين عن بعضهم أنه جعل قيمة حصة الشريك في بيت المال
(5)
. وقال عثمان البتي: لا شيء على المعتق إلا أن تكون جارية رائعة تراد للوطء، فيضمن ما أدخل على صاحبه فيها من
الضرر
(6)
.
قال ابن حزم
(7)
: وقال بكير بن الأشج في اثنين بينهما عبد، فأراد أحدُهما أن يعتقَ أو يكاتب فإنهما يتقاومانه، وعن الأسود قال: كان لي
(1)
"التمهيد" 14/ 283.
(2)
انظر: "مسائل أحمد وإسحاق برواية الكوسج" 2/ 480 (3126).
(3)
المصدر السابق 2/ 471 (3102).
(4)
رواه ابن حزم في "المحلى" 9/ 191، وذكره ابن عبد البر في "التمهيد" 14/ 284 وقال: وهذا تجريد لرد الحديث أيضًا، وما أظنه عرف الحديث؛ لأنه لا يليق بمثله غير ذلك اهـ.
(5)
كذا ذكره ابن عبد البر في "التمهيد" 14/ 282 حكاه ابن سيرين عن بعضهم، والذي في "الإشراف على مذاهب أهل العلم" 3/ 174، و"المحلى" 9/ 193 أنه من قول ابن سيرين.
(6)
انظر: "الإشراف على مذاهب أهل العلم" 3/ 173، و"المحلى" 9/ 191 - 192.
(7)
"المحلى" 9/ 191.
ولإخوتي غلام أردت عتقه فذكرت ذلك لعمر، فقال: أتفسد عليهم نصيبهم؟ اصبر حتى يبلغوا، فإن رغبوا فيما رغبت فيه وإلا لم تفسد عليهم نصيبهم.
وعن عطاء وعمرو بن دينار في اثنين أعتق أحدهما نصيبه، فأراد الآخر أن يجلس على حقه في العبد، فقال العبد: أنا أقضي قيمتي، فقالا: سيده أحق بما بقي يجلس عليه إن شاء
(1)
. وعن معمر في عبد بين رجلين أعتق أحدهما نصيبه، ثم أعتق الآخر بعد، فولاؤه وميراثه بينهما، وهو قول الزهري أيضًا
(2)
.
وقال ربيعة في عبد بين ثلاثة، أعتق أحدهم نصيبه، وكاتب الآخر نصيبه، وتمسك الآخر بالرق ثم مات العبد، فإن الذي كاتب يرد ما أخذ منه، ويكون جميع ما ترك بينه وبين المتمسك بماله ويقتسمانه.
وقال عبيد الله بن أبي يزيد: إن أعتق شركًا له في عبد وهو مفلس، فأراد العبد نفسه بقيمته، فهو أولى بذلك
(3)
.
قال أبو عمر: وأما من أعتق حصة من عبده الذي لا شركة فيه لأحد معه، فإن جمهور العلماء بالحجاز والعراق يقولون: يعتق عليه كله ولا سعاية عليه
(4)
.
وقال أبو حنيفة وربيعة وهو قول طاوس وحماد: يعتق منه ذلك النصيب ويسعى لمولاه في بقية قيمته موسرًا كان أو معسرًا
(5)
.
(1)
رواه عبد الرزاق 9/ 154 (16726).
(2)
رواه عبد الرزاق 9/ 156 (16734).
(3)
أثر ربيعة، وعبيد الله بن أبي يزيد، رواهما ابن حزم في "المحلى" 9/ 191.
(4)
"التمهيد" 14/ 284.
(5)
انظر: "مختصر الطحاوي" ص 367، "الاستذكار" 23/ 126.
وهو قول أهل الظاهر
(1)
، وخَالَفَ أبا حنيفة أبو يوسف ومحمد وزفر فأعتقوا العبد كله دون سعاية
(2)
، وهو قول مالك والثوري والشافعي والأوزاعي وابن أبي ليلى وابن شبرمة والحسن بن صالح والليث وأحمد وإسحاق، كلهم قال: يعتق عليه كله إذا كان العتق في الصحة
(3)
، وفي مثل هذا جاء الأثر:"ليس لله شريك".
روى أبو الوليد الطيالسي، عن همام، ثنا قتادة، عن أبي المليح، عن أبيه أن رجلًا أعتق شقصًا له من غلام، فذكر ذلك لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"ليس لله شريك"
(4)
.
وكذا روي عن ابن عمر بسند قال فيه ابن حزم وفي الأول: هذان إسنادان صحيحان
(5)
.
وما حكاه أبو عمر عن أهل الظاهر خالف فيه ابن حزم فقال: إذا أعتق من عبده ظفرًا أو شعرةً أو غير ذلك عتق كله بلا استسعاء، وكذا لو أعتق جنين أَمَتِهِ قبل أن تنفخ فيه الروح عتقت هي بذلك؛ لأنه بعضها وشيء منها، وسئل ابن عباس عن رجل قال لخادمه: فرجكِ حُرٌّ. قال: هي حرة أعتق منها قليلًا أو كثيرًا فهي حرة
(6)
.
(1)
انظر: "المحلى" 9/ 190، "الاستذكار" 23/ 127.
(2)
انظر: "مختصر الطحاوي" ص 367.
(3)
انظر: "الاستذكار" 23/ 12.
(4)
رواه أبو داود (3933)، والنسائي في "الكبرى" 3/ 186 (4970)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" 3/ 107، والبيهقي في "الكبرى" 10/ 273 بهذا الإسناد.
(5)
"المحلى" 9/ 190.
(6)
رواه ابن أبي شيبة 4/ 334 (20694).
قال ابن حزم: ولا يعلم لابن عباس في هذا مخالف من الصحابة، وعن الحسن: إذا أعتق من غلامه شعره أو إصبعه فقد عتق
(1)
، وكذا قاله قتادة والشعبي.
وقال مالك: إذا أوصى أن يعتق من عبده تسعة أعشاره عتق ما سمى دون سائره، وهذا نقض لمذهبه.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: حاشا زفر: لا يحب العتق بذكر شيء من الأعضاء في ذكر عتق الرأس أو الوجه أو الروح أو النفس أو الجسد أو البدن، فأي هذا عتق عتق جميعه.
واختلف عنه في عتقه الرأس أو الفرج أيعتق بذلك أم لا
(2)
؟
وحجة أبي حنيفة ما رواه إسماعيل بن أمية، عن أبيه، عن جده أنه أعتق نصف عبده، فلم ينكر رسول الله صلى الله عليه وسلم عتقه
(3)
، وقد جاء عن الحسن مثل قوله أيضًا وهو قول الشعبي وعبيد الله بن الحسن، وروي عن علي أيضًا وليس بالثابت
(4)
. وقد روي أيضًا عن الشعبي: لو أعتق من عبده عضوًا أو إصبعًا عتق عليه كله
(5)
، وكذا قاله قتادة
(6)
.
قلت: وقد تقرر أن الاستسعاء مذهب أهل الكوفة، وهو قول الثوري والأوزاعي، ومذهب الثلاثة نفيها؛ لأنه لم يتعدّ ولا جنى ما يجب عليه ضمانه ولا يؤخذ أحد بجناية غيره، وحديث ابن عمر يبطل الاستسعاء؛
(1)
رواه ابن أبي شيبة 4/ 334 (20700).
(2)
"المحلى" 9/ 189 - 190.
(3)
سبق تخريجه في شرح حديث (2491، 2492).
(4)
انظر: "الاستذكار" 23/ 128.
(5)
رواه عبد الرزاق 9/ 150 (16710).
(6)
رواه عبد الرزاق 9/ 150 (16711).
لأنه لم يذكر فيه، وقد روى همام وشعبة وهشام هذا الحديث عن قتادة بدونها، ولما ساقه الدارقطني ساقه من قول قتادة، ثم قال: ما أحسن ما رواه همام وضبطه، فصل قول قتادة
(1)
.
قال الأصيلي: ومن أسقطها أولى ممن ذكرها، وحديث عمران في الستة
(2)
لم يذكره فيه، وعلى مذهب أبي حنيفة كان يجب أن يعتق من كل واحد يلزمه السعي في قيمة الباقي منه، والشارع أقرع بينهم فأعتق اثنين منهم، وهذا مخالف لما يقوله أبو حنيفة.
(1)
ذكره الحافظ في "الفتح" 5/ 158.
(2)
يقصد حديث عمران بن حصين في الرجل الذي أعتق ستة أعبد له عند موته
…
6 - باب الخَطَإِ وَالنِّسْيَانِ فِي العَتَاقَةِ وَالطَّلَاقِ وَنَحْوِهِ، وَلَا عَتَاقَةَ إِلَّا لِوَجْهِ اللهِ
وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى" وَلَا نِيَّةَ لِلنَّاسِي وَالمُخْطِئِ. [انظر: 1]
2528 -
حَدَّثَنَا الحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتِي مَا وَسْوَسَتْ بِهِ صُدُورُهَا، مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَكَلَّمْ". [5269، 6664 - مسلم: 127 - فتح: 5/ 160]
2529 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ، وَلاِمْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ".
ثم ساق حديث أبي هريرة: "إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتِي مَا وَسوَسَتْ بِهِ صُدُورُهَا، مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَكَلَّمْ".
ثم ساق حديث عمر: "الأعمال بالنية" بطوله.
والخطأ والنسيان إنما يكون في الحنث في الأيمان بعتق كانت اليمين أو طلاق أو غيره، وقد اختلف العلماء في الناسى في يمينه، هل يلزمه حنث أم لا؟ على قولين:
أحدهما: لا. وهو قول عطاء
(1)
واحد قولي الشافعي، وبه قال
(1)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 3/ 260، "الكافي" لابن عبد البر ص 196.
إسحاق، وإليه ذهب البخاري في الباب.
وثانيهما: وهو قول الشعبي وطاوس: من أخطأ في الطلاق فله نيته.
وفيه قول ثالث: أنه يحنث في الطلاق خاصة، قاله أحمد
(1)
.
حجة الأول: قوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} [الأحزاب: 5]، وهو ظاهر أحاديث الباب، وذهب مالك والكوفيون إلى أنه يحنث في الخطأ أيضًا
(2)
.
وادعى ابن بطال أنه الأشهر عن الشافعي، وروي ذلك عن أصحاب ابن مسعود
(3)
، وسيأتي في الأيمان والنذور اختلافهم فيمن حنث ناسيًا في يمينه.
ومن الخطأ في العتق والطلاق ما اختلف فيه ابن القاسم وأشهب أنه إذا دعا عبدًا يقال له: ناصح، فأجابه مرزوق فقال له: أنت حر، وهو يظن الأول وشهد عليه بذلك. فقال ابن القاسم: يعتقان جميعًا مرزوق بمواجهته بالعتق وناصح بما نواه، وأما فيما بينه وبين الله تعالى فلا يعتق إلا ناصح، قال ابن القاسم: وإن لم يكن عليه بينة لم يعتق إلا الذي نوى، وقال أشهب: يعتق مرزوق فيما بينه وبين الله، وفيما بينه وبين العباد لا يعتق ناصح؛ لأنه دعاه ليعتقه فأعتق غيره وهو يظنه مرزوقًا فرزق هذا وحرم هذا
(4)
.
وروى مطرف وابن الماجشون فيمن أراد أن يطلق امرأته واحدة
(1)
انظر هذِه المسألة في: "شرح ابن بطال" 7/ 40 - 41، "الإشراف" 2/ 248 - 249.
(2)
انظر "مختصر اختلاف العلماء" 3/ 260، "الكافي" لابن عبد البر ص:196.
(3)
"شرح ابن بطال" 7/ 41.
(4)
انظر: قول ابن القاسم وأشهب في "المدونة" 2/ 372 - 373.
فأخطأ لسانه فطلقها البتة طلقت عليه البتة، ولا ينفعه ما أراد، ولا نية له في ذلك، وهو قول مالك، قال: يؤخذ الناس بلفظهم في الطلاق ولا تنفعهم نياتهم
(1)
، وقال أصبغ عن ابن القاسم: وعلى هذا القول يكون تأويل: "الأعمال بالنيات" على الخصوص، كأنه قال: إلا العتق والطلاق فإن الأعمال فيها بالأقوال والنيات، فمن ادعى الخطأ بلسانه فيهما، فإثم ذلك ساقط عنه، وهو مأخوذ بما نطق به لسانه حياطة للفروج وتحصينًا لها من الإقدام على وطئها بالشك واحتياطًا من الرجوع في عتق الرقاب المنجية من النار التي أمر الشارع بعتق شقص منها بتمام عتقها كلها وتخليصها من الرق. وروى ابن نافع وزياد بن عبد الرحمن، عن مالك أنه تنفعه نيته ولا تطلق إلا واحدة، وقد روي عن الحسن البصري في رجل كان يكلم امرأته في شيء فغلط فقال: أنت طالق. قال: ليس عليه شيء فيما بينه وبين ربه، والمعمول عليه من مذهب مالك المشهور عند أصحابه القول الأول
(2)
.
والمفتى عليه عندنا: عدم وقوع طلاق الناسي.
تنبيهات:
أحدها: نحا البخاري إلى مشهور مذهب الشافعي: أن فعل الناسي لا يحنث، وهو ظاهر تبويبه، وما ذكر فيه من الأخبار؛ لأن الساهي لا نية له ولا عتق عليه بفعل سهو، وكأنه يشير أيضًا إلى خلاف أبي حنيفة في قوله: ومن أعتق عبده لوجه الله أو للشيطان أو للصنم عتق
(3)
؛ لوجود ركن الإعتاق من أهله في محله، ووصف القربة واللفظ الأول زيادة
(1)
انظر: "المدونة" 2/ 286.
(2)
انظر: "شرح ابن بطال" 7/ 41 - 42.
(3)
انظر: "بدائع الصنائع" 4/ 47، "تبيين الحقائق" 3/ 71.
فلا يختل العتق بعدمه في اللفظين الآخرين، فإذا قال لعبده: أنت حر أو معتق، أو عتيق، أو محرر، وقد حررتك أو أعتقتك، فقد عتق نوى به العتق أو لم ينو.
ثانيها: حديث عمر سلف أول الباب، وحديث أبي هريرة، كأن البخاري يريد به وبالأول مخالفة أبي حنيفة في إيقاعه العتق على السكران والمكره
(1)
متعلقًا بما رواه ابن حزم من قوله عليه السلام: "ثلاث جدهن جد وهزلهن جد"
(2)
، فذكر العتاق، ثم قال: خبر مكذوب
(3)
.
قال: ولو صح لم يكن فيه حجة؛ لأن الحديث في الذي هزل فأعتق وهم يقولون فيمن أكره، وأين الإكراه من الهزل وهم لا يجيزون بيع المكره ولا إقراره ولا هبته، وهذا تناقض
(4)
.
ثالثها: بوب البخاري على الخطأ والنسيان، ولم يأت في الباب بحديث صريح لذلك، ولو ذكر حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" كان جيدًا، فإنه حديث جيد أخرجه ابن ماجه وصححه ابن حبان والحاكم. وقال: صحيح على شرط الشيخين
(5)
، وصححه ابن حزم أيضًا
(6)
. وقال العقيلي: سنده جيد
(7)
.
(1)
انظر: "تبيين الحقائق" 3/ 71.
(2)
الحديث رواه أبو داود (2194)، والترمذي (1184)، وابن ماجه (2039)، وحسنه الألباني في "الإرواء"(1826).
(3)
في مطبوع "المحلى" 9/ 207: جابر كذاب.
(4)
"المحلى" 9/ 207 - 208.
(5)
ابن ماجه (2045)، وابن حبان 16/ 202 (7219)، والحاكم 2/ 198.
(6)
"المحلى" 5/ 193.
(7)
"الضعفاء الكبير" 4/ 145 ترجمة: محمد بن مصفى الحمصي.
وسأل عبد الله بن أحمد أباه عنه، فقال
(1)
: رواه شيخ عن الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي ومالك. قال مالك: عن نافع، عن ابن عمر يرفعه، وقال الأوزاعي: عن عطاء، عن ابن عباس.
قال: هذا كذب وباطل وليس يروى إلا عن الحسن، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
(2)
.
قال ابن حزم: إنما كذّب أحمد من رواه من حديث مالك عن نافع، عن ابن عمر، ومن طريق الوليد، عن الأوزاعي، عن عطاء، عن ابن عباس، ومن بدل الأسانيد فقد أخطأ أو كذب إن تعمده
(3)
.
وقال ابن عساكر في "الرغائب" إثر حديث ابن عمر: هذا حديث غريب.
ورواه أيضًا من حديث ابن لهيعة، عن موسى بن وَرْدَان عن عقبة بن عامر. وقال: غريب.
وأخرجه ابن ماجه أيضًا من حديث أبي ذر بإسناد فيه ضعف
(4)
.
ويشد ذلك حديث مسلم من طريق أبي هريرة: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ} [البقرة: 284]، اشتد ذلك على الصحابة فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال:"قولوا: سمعنا وأطعنا"،
(1)
أي: عبد الله بن أحمد.
(2)
"العلل ومعرفة الرجال" 1/ 561 - 562 (1340).
(3)
"المحلى" 8/ 334.
(4)
ابن ماجه (2043)، وصححه الألباني في "صحيح ابن ماجه"(1662)، ولعل المصنف ضعفه هنا لأجل شهر بن حوشب. قال الحافظ في "التقريب" (2830): صدوق كثير الإرسال والأوهام. ولأجل أيوب بن سويد هو الرملي، صدوق يخطئ كما في "التقريب"(615).
فنزل: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] قال: "نعم". {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة: 286]. قال: "نعم". إلى آخر السورة
(1)
.
فحديثُ النفسِ والوسواسِ لا يدخل تحت طوق العبد، وإنما غاية قدرته أن يعرض عنه، ولو حَدَّثَ نفْسَهُ بمعصيةٍ لم يؤاخذ، فإذا عَزَمَ خَرَجَ عن تحديثِ النفسِ ويصيرُ مِن أعمالِ القلبِ، فإنْ عَقَدَ النيةَ على الفعلِ فحينئذ يَأْثمُ بنيةِ الشِّر، وبيانُ الفرق بين النيةِ والعزمِ أنه لو حدث نفسه في الصلاة بقطعِهَا لم تنقطع، فإذا عَزَمَ حَكَمْنُا بقطعهِاَ، وقد سئل (الهروي)
(2)
: أيؤاخذُ الإنسانُ بالهمة؟ قال: إذا عزم
(3)
. وقال: الملكان يجدان ريح الحسنات والسيئات إذا عقد القلب
(4)
.
وقوله: "ما وسوست به صدورها" وفي رواية: "ما حدثت به أنفسها". الرواية بالنصبِ على أنه مفعول حَدَّثَت، وأهلُ اللغةِ يرفعون على أنه فاعل، قاله القرطبي
(5)
.
وقال عياض: الهمُّ: ما يمر في الفكرِ من غيرِ استقرار ولا توطن، فإن استقر وَوَطَّنَ قلبَهُ عليه كان عزمًا يؤاخذ به أو يثاب عليه
(6)
.
قال القرطبي: وما ذهب إليه هو الذي عليه عامة السلف وأهل العلم
(1)
مسلم (125) كتاب: الإيمان، باب: قوله تعالى: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ} .
(2)
كذا بالأصل، وفي "الحلية": سفيان الثوري.
(3)
"الحلية" 6/ 379.
(4)
"الحلية" 7/ 15.
(5)
"المفهم" 1/ 340 وأشار إلى أنه قول الطحاوي.
(6)
"إكمال المعلم" 1/ 425.
والفقهاء والمحدثين والمتكلمين، ولا يلتفت إلى من خالفهم في ذلك، فزعم أن ما يهم به الإنسان وإنْ وَطَّنَ به لا يؤاخذ به، متمسكًا في ذلك بقوله تعالى:{وَلَقَدْ هَمَّتْ} [يوسف: 24] وبقوله صلى الله عليه وسلم: "ما لم تعمل أو تكلم" ومن لم يعمل بما عزم عليه ولا نطق به فلا وأما الآية فَمِنَ الهمِّ ما يؤاخذ به وهو ما استقر واستوطن، ومنه ما يكون أحاديث لا تستقر فلا يؤاخذ بها، كما شَهِدَ به الحديث، يوضح ذلك حديث أبي كبشة عمرو بن سعد سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
. فذكر حديثًا فيه: "قالت الملائكة: ذاك عبدك يريد أن يعمل سيئة وهو أبصر به".
وزعم الطبري أن فيه دلالة أن الحفظة يكتبون أعمال القلوب، خلافًا لمن نفاه، ولا تكتب إلا الأعمال الظاهرة
(2)
.
رابعها: قوله: (ولا نية للناسي ولا المخطئ) كذا في الأصول، وذكره ابن التين أولًا بلفظ:"الخاطئ"، ثم قال: وفي رواية غير أبي الحسن: "المخطئ" وهو أشبه بالتبويب؛ لأن الخاطئ: المذنب المتعمد للذنب، وأخطأ إذا لم يتعمد وهو الأشبه بالناسي الذي قَرَنَهُ في التبويب، وقد قيل في قوله تعالى:{إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] أي: خطئنا، أي: أذنبنا. وقيل: معناه: دخلنا في الخطيئة، مثل: أَصَبْحَ وأَظْلَمَ إذا دَخَلَ في ذلك.
قال الداودي: إنما الخطأ في الطلاق والعتاق، يريد إن تلفظ بشيء فيخطئ لسانه فيلفظ بالطلاق أوالعتاق، مثل أن يريد أن يقول: ادخل
(1)
العبارة هنا مبتورة، وتمامها من "المفهم": يقول: "إنما الدنيا لأربعة نفر
…
" الحديث إلى آخره اهـ.
(2)
إلى هنا انتهى نقل المصنف من "المفهم" 1/ 341 - 342.
أو أخرج لا يريد أن يلفظ بهما، فإذا كان هذا ولم يكن عليه نية حين قال كذلك فلا يعد نادمًا فلا شيء عليه، وإن كانت عليه نية مثل نية دعوى الخطأ. قال: وأما النسيان فلا يكون في الطلاق ولا العتاق إلا أن يريد أنه حلف بهما علي فعل ثم نسي يمينه وفعله، فهذا إنما يوضح فيه النسيان إذا لم يذكر يمينه، كما توضع الصلاة عمن نسيها إذا لم يذكرها حتى يموت، وكذلك ديون الناس وغيرها لا يأثم بتركها ناسيًا.
قال ابن التين: وهذا من الداودي على مذهب مالك، ولعل البخاري بني على مذهب الشافعي أن الساهي لا يحنث وهو الأظهر من تبويبه كما سلف؛ لأن الساهي لا نية له فلا يلزمه عتق بفعل سهو.
7 - باب إِذَا قَالَ رَجُلٌ لِعَبْدِهِ: هُوَ للهِ. وَنَوَى العِتْقَ، وَالإِشْهَادُ فِي العِتْقِ
2530 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بِشْرٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ قَيْسٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ لَمَّا أَقْبَلَ يُرِيدُ الإِسْلَامَ وَمَعَهُ غُلَامُهُ، ضَلَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ، فَأَقْبَلَ بَعْدَ ذَلِكَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ جَالِسٌ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم "يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، هَذَا غُلَامُكَ قَدْ أَتَاكَ". فَقَالَ: أَمَا إِنِّي أُشْهِدُكَ أَنَّهُ حُرٌّ. قَالَ فَهُوَ حِينَ يَقُولُ:
يَا لَيْلَةً مِنْ طُولِهَا وَعَنَائِهَا
…
عَلَى أَنَّهَا مِنْ دَارَةِ الكُفْرِ نَجَّتِ
[2531، 2532، 4393 - فتح: 5/ 162]
2531 -
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ قَيْسٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا قَدِمْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قُلْتُ فِي الطَّرِيقِ:
يَا لَيْلَةً مِنْ طُولِهَا وَعَنَائِهَا
…
عَلَى أَنَّهَا مِنْ دَارَةِ الكُفْرِ نَجَّتِ
قَالَ: وَأَبَقَ مِنِّي غُلَامٌ لِي فِي الطَّرِيقِ -قَالَ:- فَلَمَّا قَدِمْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَايَعْتُهُ، فَبَيْنَا أَنَا عِنْدَهُ إِذْ طَلَعَ الغُلَامُ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، هَذَا غُلَامُكَ". فَقُلْتُ هُوَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللهِ، فَأَعْتَقْتُهُ. لَمْ يَقُلْ أَبُو كُرَيْبٍ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ: حُرٌّ. [انظر: 2530 - فتح: 5/ 162]
2532 -
حَدَّثَنَا شِهَابُ بْنُ عَبَّادٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ قَيْسٍ قَالَ: لَمَّا أَقْبَلَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، وَمَعَهُ غُلَامُهُ وَهْوَ يَطْلُبُ الإِسْلَامَ، فَأَضَلَّ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ بِهَذَا، وَقَالَ: أَمَا إِنِّي أُشْهِدُكَ أَنَّهُ للهِ. [انظر: 2530 - فتح: 5/ 162]
ذكر فيه حديث أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ لَمَّا أَقْبَلَ يُرِيدُ الإِسْلَامَ وَمَعَهُ غُلَامُهُ، ضَلَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ، فَأَقْبَلَ بَعْدَ ذَلِكَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ جَالِسٌ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، هذا غُلَامُكَ قَدْ أَتَاكَ".
فَقَالَ: أُشْهِدُكَ أَنَّهُ حُرٌّ. قَالَ: فَهُوَ حِينَ يَقُولُ:
يَا لَيْلَةً مِنْ طُولِهَا وَعَنَائِهَا
…
عَلَى أَنَّهَا مِنْ دَارَةِ الكُفْرِ نَجَّتِ
وعنه
(1)
لَمَّا قَدِمْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قُلْتُ فِي الطَّرِيقِ
…
البيت.
قَالَ: وَأَبَقَ مِنِّي غُلَام لِي فِي الطَّرِيقِ -قَالَ:- فَلَمَّا قَدِمْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَايَعْتُةُ، فَبَيْنَا أَنَا عِنْدَهُ إِذْ طَلَعَ الغُلَامُ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، هذا غُلَامُكَ". فَقُلْتُ: هُوَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللهِ، فَأَعْتَقْتُهُ.
(2)
وعَنْ قَيْسٍ قَالَ: لَمَّا أَقْبَلَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، وَمَعَهُ غُلَامُهُ وَهْوَ يَطْلُبُ الإِسْلَامَ، فضل أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ بهذا، وَقَالَ: أَمَا إِنِّي أُشْهِدُكَ أَنَّهُ لله.
الشرح:
هذا الحديث من أفراده، وقيس
(3)
هو ابن أبي حازم، عوف بن عبد الحارث أبو عبد الله الأحمسي، مات سنة أربع وثمانين. وقيل: في آخر سلطان سليمان بن عبد الملك
(4)
. وشيخ البخاري في الثاني عبيد الله بن سعيد (خ، م، س) وهو السرخسي اليشكري مولاهم،
(1)
ورد بهامش الأصل: ساقه بسند آخر إلى إسماعيل.
(2)
ورد بهامش الأصل تعليقا على الحديث: في نسختي قال أبو عبد الله: لم يقل أبو غريب عن أبي أسامة: حر.
(3)
ورد بهامش الأصل: في "وفيات الذهبي": توفي قيس سنة تسع وتسعين، وفي "كاشفه": سنة تسع وما ذكره المصنف قدمه النووي في "تهذيبه" فقال: وقيل: سنة سبع وسبعين، وقيل: سنة ثمان وسبعين.
[في "الكاشف": سنة ثمان وتسعين].
(4)
انظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" 6/ 67، "التاريخ الكبير" 7/ 145 (684)، "تهذيب الكمال" 24/ 10 (4896).
مات سنة إحدى وأربعين ومائتين
(1)
. وشيخه في الثالث: شهاب (خ، م، ت، ق) بن عباد وهو العبدي الكوفي: مات سنة أربع وعشرين ومائتين
(2)
. وشيخ شهاب: إبراهيم
(3)
بن حميد أبو إسحاق، مات سنة ثمان وسبعين ومائة
(4)
.
قال المهلب: ولا خلاف بين العلماء علمتُ إذا قال لعبده: هو حر أو هو لوجه الله أو هو لله ونوى العتق أنه يلزمه العتق، وكل ما يفهم به عن المتكلم أنه أراد به العتق لزمه ونفذ عليه.
وروى ابن أبي شيبة، عن هشيم، عن مغيرة أن رجلًا قال لغلامه: أنت لله، فسئل الشعبي والمسيب بن رافع وحماد بن سليمان فقالوا: هو حر، وعن إبراهيم كذلك
(5)
. قال إبراهيم: وإن قال: إنك لحر النفس فهو حر، وعن الحسن أنه إذا قال: ما أنت إلا حر قال: نيته، وعن الشعبي مثله
(6)
.
وأما الإشهاد في العتق فمن حقه، والعتق قام عند الله وجميع ما يراد به وجهه تعالى بالقول والنية، وإن لم يكن ثم إشهاد، وقد قالت امرأة عمران:{رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} [آل عمران: 35] أي: لخدمة المسجد، {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ} ، فتم ما نذرته بدعوة الله
(1)
انظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" 5/ 383 (1227)، "الثقات" 8/ 406، "تهذيب الكمال" 19/ 50 (3639).
(2)
انظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" 6/ 410، "التاريخ الكبير" 4/ 235 (2637)، "تهذيب الكمال" 12/ 573 (2777).
(3)
ورد بهامش الأصل: ذكره ابن حبان في "الثقات".
(4)
انظر: "تهذيب الكمال" 2/ 78 (167).
(5)
"المصنف" 5/ 22 (23337).
(6)
"المصنف" 5/ 29 (23400 - 23402).
تعالى، وقبل الله ذلك منها، فكان ما في بطنها موقوفًا لما نذرته من خدمة المسجد، ولم تُشْهد غير الله.
وفيه أيضًا من الفقه: العتق عند بلوغ الأمل والنجاة مما يخاف من الفتن والمحن، كما فعل أبو هريرة حين نَجّاه الله من دارة الكفر ومن ضلاله في الليل عن الطريق أعتق الغلام حين جمعه الله عليه وهداه إلى الإسلام، وفيه: جواز قول الشعر وتوجعه من طول ليلته ومبيته فيها، وحمد عاقبتها إذ نجته من دار الكفر، ومنه المثل: عند الصباح يَحْمَدُ القومُ السُّرى
(1)
، وظاهر
(2)
رواية "الصحيح" أن أبا هريرة هو قائل هذا البيت. وقال ابن التين: فيه خلاف هل هو لأبي هريرة أو غلامه.
وقوله: "هذا غلامك" إما أن يكون وصفه له، أو رآه مقبلًا إليه، أو أخبره الملك.
وقوله: (يطلب الإسلام) يحتمل أن يكون حقيقة، فإنه لم يسلم وأسلم بعد، ويحتمل أن يكون المراد يظهر إسلامه.
(1)
انظر: "جمهرة الأمثال" 2/ 32.
(2)
ورد بهامش الأصل: صريح في الثانية.
8 - باب أُمِّ الوَلَدِ
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:"مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّهَا".
2533 -
حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: إِنَّ عُتْبَةَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ عَهِدَ إِلَى أَخِيهِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنْ يَقْبِضَ إِلَيْهِ ابْنَ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ، قَالَ عُتْبَةُ إِنَّهُ ابْنِي. فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم زَمَنَ الفَتْحِ أَخَذَ سَعْدٌ ابْنَ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ، فَأَقْبَلَ بِهِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَقْبَلَ مَعَهُ بِعَبْدِ بْنِ زَمْعَةَ، فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا ابْنُ أَخِي، عَهِدَ إِلَيَّ أَنَّهُ ابْنُهُ. فَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا أَخِي ابْنُ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ. فَنَظَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى ابْنِ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ، فَإِذَا هُوَ أَشْبَهُ النَّاسِ بِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ". مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أَبِيهِ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"احْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ بِنْتَ زَمْعَةَ". مِمَّا رَأَى مِنْ شَبَهِهِ بِعُتْبَةَ. وَكَانَتْ سَوْدَةُ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. [انظر: 2053 - مسلم: 1457 - فتح: 5/ 163]
هذا سلف
(1)
من عند البخاري مسندًا في كتاب الإيمان
(2)
فراجعه.
قال ابن التين: معناه: أن تكثر السراري في آخر الزمان فيكون ابن الأمة مولاها، وقيل: هو أن يستطيل الولد على أمه ولا يبرها، فكأنه ربها.
ثم ساق حديث عائشة في قصة الوليدة. وقوله: "هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ". مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أَبِيهِ، إلى آخره.
(1)
يعني: التعليق السابق.
(2)
برقم (50) باب: سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان. ....
وقد سلف واضحًا
(1)
، ويريد هنا أن الأُمَّةَ أشكلَ عليها معنى قصة عتبة، وتأولوا فيه ضروبًا من التأويل، لخروجه عن الأصول المجمع عليها، منها:
أن الأمة متفقة أنه لا يدَّعي أحد عن أحد إلا بوكالة من المدعي، ولم يذكر في الحديث توكيل عتبة لأخيه سعد على ما ادعاه عنه.
ومنها: ادعاء عبد بن زمعة على أبيه، وكذا بقوله: أخي، وابن وليدة أبي وُلِدَ على فراشه ولم يأت ببينة تشهد بإقرار أبيه، ولا يجوز أن تُقْبَلَ دعواه على أبيه؛ لأنه لا يستلحق غير الأب لقوله تعالى:{وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا} [الأنعام: 164].
وقال الطحاوي: ذهب قوم إلى أن الأمة إذا وطئها مولاها فقد لزمه كل ولد يجيء بعد ذلك ادعاه أو لم يدعه، هذا قول مالك والشافعي احتجاجًا بهذا الحديث
(2)
؛ لأنه- عليه السلام قال: "هو لك يا عبد بن زمعة"، ثم قال:"الولد للفراش وللعاهر الحجر" فألحقه بزمعة لا لدعوة ابنه؛ لأن دعوة الابن بالنسب بغيره من أبيه غير مقبولة، ولكن؛ لأن أمه كانت فراشًا لزمعة بوطئه إياها.
واحتجوا أيضًا بما رواه مالك عن نافع، عن صفية بنت أبي عبيد أن عمر بن الخطاب قال: ما بال رجال يطئون ولائدهم ثم يدعونهن يخرجن لا تأتيني وليدة تقر أن سيدها قد ألمَّ بها إلا ألحقت به ولدها، فأرسلوهن بعد أو أمسكوهن
(3)
.
(1)
برقم (2053) كتاب: البيوع، باب: تفسير المشبهات.
(2)
انظر: "الاستذكار" 22/ 201.
(3)
"الموطأ" برواية يحيى ص 463.
وفي حديث آخر: ما بال رجال يطئون ولائدهم ثم يعزلونهن
(1)
.
وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: ما جاءت به هذِه الأمة فلا يلزم مولاها إلا أن يقر به، وإن مات قبل أن يُقر به لم يلزمه، وهو قول الكوفيين.
واحتجوا على ذلك بأنه صلى الله عليه وسلم، إنما قال لعبد بن زمعة:"هو لك" ولم يقل: هو أخوك، فيجوز أن يكون أراد بقوله:"هو لك" أي: هو مملوك لك بحق ما لَكَ عليه من اليد، ولم يحكم في نسبه بشيء، والدليل على ذلك أمره سودة بالاحتجاب منه، فلو جعله ابن زمعة [لما حجب منه بنت زمعة]
(2)
؛ لأنه لا يأمر بقطع الأرحام، وإنما كان يأمر بصلتها، ومن صلتها التزاور، وكيف يجوز أن يأمرها أن تحتجب من أخيها وهو يأمر عائشة أن تأذن لعمها من الرضاعة بالدخول عليها
(3)
، ولكن وجه ذلك أنه لم يكن حكم فيه بشيء غير اليد التي جعلها لعبد ولسائر ورثة زمعة دون سعد.
واحتجوا أيضًا بما رواه شعبة، عن عمارة بن أبي حفصة، عن عكرمة قال: كان ابن عباس يأتي جارية له فحملت، فقال: ليس هو مني، إني أتيتها إتيانًا لا أريد به الولد.
وروى الثوري، عن أبي الزناد، عن خارجة بن زيد أن أباه كان يعزل عن جارية فارسية فأتت يحمل فأنكره، وقال: إني لم أكن أريد ولدك وإنما استطبت نفسك فجلدها وأعتقها
(4)
.
(1)
"الموطأ" برواية يحيى ص 463.
(2)
الزيادة من ابن بطال 7/ 45 حتى يستقيم المعنى، وهي أيضًا عند الطحاوي في "شرح معاني الآثار" 3/ 115، وقدمنا ابن بطال لأن المصنف ينقل كلام الطحاوي من عنده.
(3)
سيأتي برقم (2644) كتاب: الشهادات، باب: الشهادة على الأنساب.
(4)
وتمامه في "شرح معاني الآثار" 3/ 116: وأعتقها وأعتق الولد.
وقول ابن عباس وزيد خلاف ما رَوى عن عمرَ في ذلك أهلُ المقالةِ الأولى
(1)
.
واختلفوا في معنى قوله: "هو لك يا عبد بن زمعة". فقالت طائفة: أي: أخوك كما ادعيته، قضاء منه في ذلك بعلمه؛ لأن زمعة بن قيس كان صهره عليه السلام، وسودة بنت زمعة كانت زوجته، فيمكن أن يكون علم أن تلك الأمة كان يمسها زمعة، فألحق ولدها به لما علم من فراشه، لا أنه قضى بذلك لاستحقاق عبد بن زمعة له
(2)
.
وقال الطحاوي: هو لك بيدك عليه لا أنك تملكه، ولكن تمنع منه مَن سواك كما في اللقطة: هي لك بيدك عليها تدفع غيرك عنها حتى يجيء صاحبها، ليس على أنها ملك لك، ولما كان عبد بن زمعة له شريك فيما ادعاه، وهي أخته سودة، ولم يُعلم منها تصديق له، ألزم ابن زمعة ما أقر به على نفسه، ولم يجعل ذلك حجة على أخته إذ لم تصدقه، ولم تجعله أخاها، وأمرها بالحجاب منه
(3)
.
وقال الطبري: هو لك ملك، لا أنه قضى له بنسبه، وعنه جوابان لابن القصار:
أحدهما: أنه كان يدعي عبد بن زمعة أنه حر وأنه أخوه ولد على فراش أبيه، فكيف يقضي له بالملك؟ ولو كان مملوكًا لعتق بهذا القول.
وثانيهما: أنه لو قضى بالملك لم يقل: "الولد للفراش"؛ لأن المملوك لا يلحق الفراش، ولكان يقول: هو ملك لك.
(1)
"شرح معاني الآثار" 3/ 114 - 116.
(2)
انظر: "شرح ابن بطال" 7/ 46.
(3)
"شرح مشكل الآثار" 11، 18، 19.
وقال المزني: يحتمل أن يكون أجاب فيه على المسألة، فأعلمهم بالحكم أن هذا يكون إذا ادعى صاحب فراش وصاحب زنا لا أنه قبل قول سعد على أخيه ولا على زمعة قول ابنه عبد بن زمعة أنه أخوه؛ لأن كل واحد منهما أخبر عن غيره، وقد قام الإجماع على أنه لا يقبل إقرار أحد على غيره، فحكم بذلك ليعرفهم الحكم في مثله إذا نزل، وقد حكى الله تعالى مثل ذلك في قصة داود:{إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} [ص: 22] ولم يكونا خصمين، ولا كان لواحد منهما تسع وتسعون نعجة، ولكنهم كلموه ليعرف ما أرادوا، فيحتمل أن يكون حكم في هذِه القصة بنحو ذلك، ويحتمل أن تكون سودة جهلت ما علم أخوها عبد بن زمعة فسكتت، فلما لم يصح أنه أخ لعدم البينة بذلك، [أو]،
(1)
الإقرار فيمن يلزم إقراره وزاده بُعدًا شبهه بعتبة أمرها بالاحتجاب منه، فكان جوابه عن السؤال لا على تحقيق زنا عتبة بقول أخيه، ولا بالولد أنه لزمعة لقول ابنه، بل قال:"الولد للفراش" على قولك يا عبد بن زمعة، لا على ما قال سعد، ثم أخبر بالذي يكون إذا ثبت مثل هذا.
وقال الكوفيون: قوله: "واحتجبي منه يا سودة" دليل أنه جعل للزنا حكمًا فحرم به رؤية ذلك المستلحق لأخته سودة. وقال لها: "احتجبي منه" فمنعها من أخيها في الحكم؛ لأنه ليس بأخيها في غير الحكم؛ لأنه من زِنًا في الباطن إذا كان شبيهًا بعتبة، فجعله كأنه أجنبي لا يراها بحكم الزنا، وجعله أخاها بالفراش، وزعموا أن ما حرم الحلال فالزنا أشد تحريمًا له.
(1)
في الأصل: و، وكذا في النسخة التي اعتبرها محقق "شرح ابن بطال" أصلًا، لكنه أثبت (أو) من نسخة أخرى سماها (هـ) وهو الأليق بالمعنى.
وقال الشافعي: رؤية ابن زمعة لسودة مباح في الحكم، ولكنه كرهه للشبهة، وأمرها بالستر عنه اختيارًا. وقال بعض أصحابه: يجوز للرجل أن يمنع زوجته من رؤية أخيها، وذهب إلى أنه أخوها على كل حال؛ لأنه قضى بالولد للفراش، وألحق ابن أمة زمعة بفراش زمعة، قالوا: وما حكم به فهو الحق. وفي قوله: "الولد للفراش" من الحكم: إلحاق الولد بصاحب الفراش في الحرة والأمة. وقوله: "وللعاهر الحجر" أي: لا شيء له في الزاني إذا ادعاه صاحب الفراش، وهذِه كلمة تقولها العرب.
واختلف السلف والخلف في عتق أم الولد وفي جواز بيعها، فالثابت عن عمر ما رواه مالك في "الموطأ"، عن نافع، عن عبد الله أن عمر قال: أيما وليدة ولدت من سيدها، فإنه لا يبيعها ولا يهبها
ولا يورثها، وهو يستمتع منها فإذا مات فهي حرة
(1)
.
وروي رفعه، أخرجه كذلك الدارقطني في "سننه"
(2)
.
وقال في "علله": وقفه هو الصحيح
(3)
. والبيهقي. وقال: رفعه غلط
(4)
.
وأما ابن القطان فقال: رواته كلهم ثقات. قال: وهو عندي حسن أو صحيح
(5)
.
(1)
"الموطأ" برواية يحيى ص 485.
(2)
"السنن" 4/ 134.
(3)
"علل الدارقطني" 2/ 41 - 42 وعبارته: والحديث عن عمر موقوف.
(4)
"سنن البيهقي" 10/ 348.
(5)
قال ابن القطان في "بيان الوهم والإيهام" 3/ 138 عن مرفوع الحديث.
ثم ضعفه أي: عبد الحق بحسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس، وترك دونه أبا أويس، وهو عبد الله بن عبد الله بن أويس الأصبحي، صدوق ضعيف الحديث، ودونه عبيد الله بن يحيى الرهاوي، ولا تعرف حاله اهـ.
وروى الدارقطني من حديث ابن عيينة، عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، عن مسلم بن يسار، عن سعيد بن المسيب أن عمر أعتق أمهات الأولاد وقال عمر: اعتقهن رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
.
ورواه ابن حبيب في "الواضحة". فقال: حدثني المقبري، عن ابن أنعم، عن مسلم، عن ابن المسيب، فذكر نحوه.
وعبد الرحمن هذا ضعفوه، وسعيد لم يسمع من عمر شيئًا على الصحيح
(2)
.
(1)
"سنن الدارقطني" 4/ 136، والحديث ضعيف لضعف عبد الرحمن الأفريقي كما عند البيهقي 10/ 344.
(2)
هذا الذي ذهب إليه المصنف هو ما ذهب إليه يحيى بن معين، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وأبو حاتم الرا زي، وغيرهم.
قال عثمان بن سعيد الدرامي: سئل يحيى بن معين: سمع ابن المسيب من عمر؟
فقال: يقولون: لا. "تاريخ عثمان بن سعيد" ص 117.
وعن إسحاق بن منصور قال: قلت ليحيى بن معين: يصح لسعيد سماع من عمر؟ قال: لا. "المراسيل" لابن أبي حاتم ص 71.
وقال الدوري: سمعت يحيى بن معين يقول: سعيد بن المسيب رأى عمر، وكان صغيرا. قلت ليحيى: هو يقول: ولدت لسنتين مضتا من خلافة عمر.
قال يحيى: ابن ثمان سنين يحفظ شيئًا، قال: إن هؤلاء قوم يقولون: إنه أصلح بين على وعثمان، وهذا باطل، ولم يثبت له السماع من عمر. "المراسيل" لابن أبي حاتم ص 72.
وقال الواقدي: والذي رأيت الناس عليه في مولد سعيد أنه ولد لسنتين خلتا من خلافة عمر، ويروى أنه سمع من عمر، ولم أر أهل العلم يصححون ذلك وإن كانوا قد رووه. "الطبقات الكبرى" 5/ 119.
وسئل مالك: أأدرك سعيدٌ عمرَ؟ قال: لا، لكنه ولد في زمان عمر، فلما كبر أكبّ على المسألة عن شأنه وأمره حتى كأنه رآه. "تهذيب الكمال" 11/ 74.
وقال أبو حاتم: سعيد بن المسيب عن عمر، مرسل، يدخل في المسند على =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= المجاز. "المراسيل" ص 71.
وروى ابن سعد في "الطبقات" 5/ 120 أن سعيدًا سئل: هل أدركت عمر؟ قال: لا.
وذهبت طائفة إلى صحة سماع سعيد بن المسيب من عمر، منهم أحمد وابن المديني والحاكم والنووي.
سئل أحمد: سعيد عن عمر حجة؟ قال: هو عندنا حجة، قد رأى عمر وسمع منه، إذا لم يقبل سعيد عن عمر فمن يقبل! "الجرح والتعديل" 4/ 61 (262).
وقال ابن عبد البر في "التمهيد" 23/ 94: وكان عليّ بن المديني يصحح سماعه من عمر. وروى ابن عبد البر عن قتادة أنه قال: قلت لسعيد: رأيت عمر؟ قال: نعم. "التمهيد" 23/ 93
وقال الحاكم في "معرفة علوم الحديث" ص 25:
وقد أدرك سعيدٌ عمرَ وعثمان وعليًّا وطلحة والزبير إلى آخر العشرة وليس في جماعة التابعين من أدركهم وسمع منهم غير سعيد، وقيس بن أبي حازم اهـ.
وقال العلائي في "جامع التحصيل" ص 185: حديثه عن عمر في السنن الأربعة اهـ.
وقال ابن القيم في "حاشيته على أبي داود" 7/ 294:
ولم يحفظ عن أحد من الأئمة أنه طعن في رواية سعيد عن عمر، بل قبلوها كلهم بالقبول والتصديق اهـ.
قلت: وفيه نظر؛ لما سبق ذكره.
ثم قال: والصحيح أنه ولد لسنتين مضتا من خلافة عمر، فيكون له وقت وفاة عمر ثمان سنين، فكيف ينكر سماعه، ويقدح في اتصال روايته عنه؟ اهـ
ومما يدل على صحة هذا القول الأخير، ما رواه الحافظ في "تهذيب التهذيب" 2/ 45 بسنده إلى سعيد بن المسيب قال: سمعت عمر بن الخطاب على المنبر يقول: عسى أن يكون بعدي أقوام يكذبون بالرجم يقولون: لا نجده في كتاب الله، لولا أن أزيد في كتاب الله ما ليس فيه لكتبت أنه حق، قد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجم أبو بكر ورجمت.
قال الحافظ: إسناده صحيح على شرط مسلم اهـ.
وقيل: سمع منه نعي النعمان بن مقرن
(1)
، وقوله عند رؤية البيت كما رواه سعيد بن منصور
(2)
.
ورواه الثوري في "جامعه"، عن عبد الرحمن المذكور، عن مسلم بن يسار، قال: سألت سعيد بن المسيب عن عتق أمهات الأولاد، فقال: إن الناس يقولون: إن أول من أمر بعتق أمهات الأولاد عمر وليس كذلك، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أول من اعتقهن فلا يجعلن في ثلث ولا يبعن في دين
(3)
.
قلت: وروي ذلك عن عثمان وعمر بن عبد العزيز
(4)
.
قال أبو عمر: وهو قول أكثر التابعين منهم الحسن ومحمد بن سيرين وعطاء ومجاهد وسالم وابن شهاب وإبراهيم، وإلى ذلك ذهب مالك والثوري والأوزاعي والليث وأبو حنيفة والشافعى في أكثر كتبه، وقد أجاز بيعها في بعض كتبه.
قال المزني: قطع في أربعة عشر موضعًا من كتبه بألا تباع
(5)
، وهو
(1)
رواه ابن سعد في "طبقاته" 6/ 19، وابن أبي شيبة 7/ 15 (33780)، 7/ 34 (33898)، والبخاري في "التاريخ الصغير" 1/ 56، 216، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" 2/ 316 (1079).
(2)
رواه سعيد بن منصور في "سننه" كما في "نصب الراية" 3/ 36 - 37، و"التلخيص الحبير" 2/ 242، من قول ابن المسيب.
ورواه ابن سعد 5/ 120، وأحمد في "العلل ومعرفة الرجال" 1/ 199 - 200 (197)، وأبو داود في "سؤالاته لأحمد"(6)، والحاكم كما في "التلخيص الحبير" 2/ 242، ومن طريقه البيهقي 5/ 73.
(3)
ذكره البيهقي في "سننه" 10/ 344.
(4)
رواه البيهقي 10/ 344.
(5)
"مختصر المزني" المطبوع بهامش "الأم" 5/ 288، ووقع فيه: قَطَعَ. في خمسة عشر كتابًا بعتق أمهات الأولاد ووقف في غيرها اهـ.
الصحيح من مذهبه وعليه جمهور أصحابه وأبو يوسف ومحمد وزفر والحسن بن صالح وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور.
وكان الصديق وعلى وابن عباس وابن الزبير وجابر وأبو سعيد الخدري يجيزون بيع أم الولد. وبه قال داود.
وقال جابر وأبو سعيد: كنا نبيع أمهات الأولاد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
، وذكر عبد الرزاق: أنا ابن جريج، أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابرًا يقول: كنا نبيع أمهات الأولاد ورسول الله صلى الله عليه وسلم فينا لا نرى بذلك بأسًا.
وأخبرنا ابن جريج، أنا عبد الرحمن بن الوليد أن أبا إسحاق الهمداني أخبره أن أبا بكر الصديق كان يبيع أمهات الأولاد في إمارته وعمر في نصف إمارته
(2)
.
وقال ابن مسعود: تعتق في نصيب ولدها
(3)
، وقد روي ذلك عن ابن عباس وابن الزبير.
قال
(4)
: وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مارية سريته لما ولدت إبراهيم، قال:"أعتقها ولدها" من وجه ليس بالقوي ولا يثبته أهل الحديث، قال: وكذا حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أيما أمة ولدت من سيدها فإنها حرة إذا مات" لا يصح أيضًا من جهة
(1)
أما أثر أبي سعيد فرواه أحمد 3/ 22، والنسائي في "الكبرى" 3/ 199، والحاكم 2/ 19. وأما أثر جابر فرواه النسائي في "الكبرى" 3/ 199، والحاكم في "المستدرك" 2/ 18 - 19.
(2)
"المصنف" 7/ 288 (13211)، 7/ 287.
(3)
رواه عبد الرزاق 7/ 289 - 290 (13215).
(4)
أي ابن عبد البر.
الإسناد؛ لأنه انفرد به حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس وهو متروك الحديث، عن عكرمة، عن ابن عباس
(1)
. أخرجه أحمد وابن ماجه
(2)
.
ورواه عن حسين شَريك القاضي وأخرجه ابن ماجه من حديث أبي بكر يعني: النهشلي، عن حسين هذا
(3)
، كذا وقع وإنما هو عن أبي بكر بن أبي سبرة المتروك؛ كذا صرح به الدارقطني والبيهقي في روايتهما، قال البيهقي: وقد روى هذا الحديث أبو أويس عن حسين إلا أنه أرسله
(4)
.
قلت: قد وصله من طريق الدارقطني
(5)
.
وأخرجه الدارقطني من حديث أبي سارة عن ابن أبي حسين، عن عكرمة به
(6)
. وأبو سارة هذا قال بعض الحفاظ: إنه ابن أبي سبرة وابن أبي حسين هو حسين السالف.
وأخرجه أيضًا -أعني: الدارقطني- من حديث الحسن بن عيسى الحنفي عن الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس مرفوعًا
(7)
.
ورواه ابن عيينة، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن عمر، قوله، وكذا رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه"، عن وكيع، عن أبيه، عن عكرمة،
(1)
"الاستذكار" 23/ 152 - 155.
(2)
ابن ماجه (2515)، وأحمد 1/ 317.
(3)
ابن ماجه (2516).
(4)
الدارقطني 4/ 132، والبيهقي 10/ 346.
(5)
الدارقطني 4/ 132.
(6)
الدارقطني 4/ 131 - 132 ومن طريقه البيهقي 10/ 346، ووقع فيهما.
قال الدارقطني: تفرد بحديث ابن أبي حسين، زياد بن أيوب، وزياد ثقة اهـ.
(7)
الدارقطني 4/ 131.
عن عمر ورواه خصيف عن عكرمة، عن ابن عباس، عن عمر قال البيهقي: فرجع الحديث إلى قول ابن عباس عن عمر.
قال البيهقي: وهو الأصل في ذلك
(1)
.
قال أبو عمر: والصحيح عن عكرمة أنه سئل عن أم الولد، فقال: هي حرة إذا مات سيدها، فقيل له: عمن هذا؟ قال: عن القرآن. قال الله -عزوجل-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ}
(2)
[النساء: 59].
وكان عمر من أولي الأمر، وقد قال: أعتقها ولدها ولو كان سقطًا، رواه سعيد بن منصور
(3)
. قلت: ورواه أبو محمد ابن حزم في "محلاه" بإسناد كل رجاله ثقات من طريق قاسم بن أصبغ إلى عبد الكريم الجزري، عن عكرمة، عن ابن عباس: لما ولدت مارية -أُمُّ إبراهيم- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعتقها ولدها". وقال في كتاب البيع: صحيح الإسناد
(4)
. وقال في أمهات الأولاد: خبر جيد السند كل رواته ثقات
(5)
.
قلت: وفي المسألة حديثان آخران:
أحدهما: حديث أبي سعيد الخدري في البخاري ومسلم أيضًا: يا رسول الله إنا نصيب سبيًا ونحب المال كيف ترى في العزل؟ فقال عليه السلام: "أو إنكم تفعلون ذلك! لا عليكم أن لا تفعلوا، إنه ليست نسمة كتب الله أن تخرج إلا وهي كائنة"
(6)
.
(1)
"سنن البيهقي" 10/ 346.
(2)
"الاستذكار" 23/ 155 - 156. وأثر عمر أخرجه البيهقي 10/ 384.
(3)
"السنن" لسعيد بن منصور 4/ 1292 (657).
(4)
"المحلى" 9/ 18.
(5)
"المحلى" 9/ 219.
(6)
سبق برقم (2229) كتاب: البيوع، باب: بيع الرقيق. وفي مسلم برقم (1438) كتاب: النكاح، باب: حكم العزل.
ثانيهما: حديث البخاري عن عمرو بن الحارث، قال: ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم درهمًا ولا دينارًا ولا عبدًا ولا أمة ولا شيئًا إلا بغلته البيضاء التي كان يركبها وسلاحه وأرضًا جعلها لابن السبيل صدقة، وذكره الحاكم وقال صحيح الإسناد
(1)
.
وروى ابن أبي شيبة عن أبي خالد الأحمر، عن إسماعيل بن أبي
خالد، عن الشعبي، عن عبيدة، عن علي قال: استشارني عمر في بيع أمهات الأولاد، فرأيت أنا وهو أنها إذا ولدت عتقت، فقضى به عمر حياته وعثمان بعده، فلما وليت رأيت أن أرقهن. قال الشعبي: فحدثني ابن سيرين أنه قال لعبيدة: فما ترى أنت؟ قال: رأي علي وعمر في الجماعة أحب إلى من قول علي حين أدرك الاختلاف
(2)
.
وعند معمر، عن أيوب، عن محمد قال عبيدة: قلت لعلي: رأيك ورأي عمر في الجماعة أحب إلى من رأيك وحدك في الفرقة -أو قال في الفتنة- قال: فضحك علي
(3)
.
قال ابن عبد البر: وقد انعقد الإجماع أنها لا تعتق قبل موت سيدها وأنها في ديتها وأرش (جنايتها)
(4)
كالأمة، وسئل ابن شهاب عن أم الولد ترق. فقال: لا يصلح لسيدها أن يبيعها ويقام عليها حد الأمة، وعن
(1)
سيأتي برقم (2739) كتاب: الوصايا، باب: الوصايا. والحاكم 1/ 420، والحديث عنده من رواية عمرو بن الحارث عن جويرية بنت الحارث.
أما في البخاري فمن رواية عمرو بن الحارث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
(2)
"المصنف" 4/ 414 (21583).
(3)
رواه عبد الرزاق 7/ 291 - 292 (13224).
(4)
في الأصل: جوارحها، والمثبت من "الاستذكار" 23/ 157، وقد أشار محققه إلى أنه في نسخة: جراحتها.
مجاهد لا يرقها حدث. وقال عمر بن عبد العزيز: يقام عليها الحد ولا تسترق.
وروى معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن أبي العجفاء، عن عمر أنها إذا زنت رقت
(1)
.
وجمهور العلماء القائلين بأن أم الولد لا تباع على خلاف هذا، ويحصل من الخلاف في بيعها سبعة أقوال بعد الاتفاق على أنها لا تعتق بمجرد الاستيلاد في حياة سيدها، كما قاله ابن عبد البر
(2)
.
أحدها: أنه لا يجوز بيعها البتة وهو مذهب الجمهور كما أسلفناه وهو المشهور عن عمر الذي صار إليه في أثناء خلافته وعثمان، وعلى في أول أمره وجابر والشعبي وحماد بن أبي سليمان ويحيى بن سعيد الأنصاري وأبو الزناد وربيعة وابن شبرمة والليث
(3)
، وابن حزم وغيره من أهل الظاهر
(4)
وغيرهم ممن سلف، وحكاه غير واحد إجماعًا، منهم الخطابي
(5)
وابن بطال
(6)
والبيهقي وابن عبد البر
(7)
والباجي
(8)
والغزالي والبغوي
(9)
، وقد سلف بعضه وقد استدل أيضًا بقوله تعالى:
(1)
روى أثر ابن شهاب ومجاهد وعمر بن عبد العزيز وعمر بن الخطاب عبد الرزاق في "مصنفه" 7/ 294 - 295 (13237، 13238)، (13240، 13241).
(2)
"الاستذكار" 23/ 157 - 159.
(3)
انظر: "الاستذكار" 23/ 152 - 153، "الإشراف" 2/ 213، "المحلى" 9/ 219.
(4)
"المحلى" 9/ 18.
(5)
"معالم السنن" المطبوع مع سنن أبي داود 5/ 412.
(6)
"شرح ابن بطال" 7/ 59 - 60.
(7)
"التمهيد" 3/ 136 - 137.
(8)
"المنتقى" 6/ 268.
(9)
"التهذيب" 8/ 487.
{فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ} [محمد: 22] ممن احتج بها عمر، كما رواه المنتجالي عنه والبيهقي أيضًا
(1)
. وقال ابن حبيب في "واضحته": حدثني الأويسي، عن إسماعيل بن عياش، عن مسلم بن يسار، عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بعتق أمهات الأولاد، وقال:"لا يجعلن في وصية، ولا يجعلق في دين" وهو معلول من أوجه:
أحدها: أن جماعة من المالكية تكلموا في ابن حبيب
(2)
كابن سحنون وغيره واتهموه في لفظه
(3)
.
ثانيها: الكلام في إسماعيل لاسيما في روايته عن غير الشاميين
(4)
.
ثالثها: أنه مرسل ولما أخرج الشافعي أثر "الموطأ" السالف، عن عمر قال: قلت: تقليدًا لعمر، وفي "علل ابن أبي حاتم" مثله من رواية أبي هريرة، لكنه قال: إنه حديث باطل
(5)
.
فرع: يجوز عندنا عتقها على مال، صرح به القفال من أصحابنا في "فتاويه".
المذهب الثاني: أنه يجوز بيعها مطلقًا، وقد سلف وهو مذهب جماعة من الصحابة كأبي بكر وخلائق، وهو قول قديم للشافعي.
الثالث: أنه يجوز لسيدها بيعها حياته، فإذا مات عتقت، حكي عن الشافعي أيضًا.
(1)
"السنن الكبرى" 10/ 344.
(2)
ورد بهامش الأصل: قال الذهبي في "المغني": عبد الملك بن حبيب القرطبي الفقيه كثير الوهم صحفي وقد اتهم. ["المغني" 2/ 404].
(3)
انظر في ذلك: "ميزان الاعتدال" 3/ 366 - 367، "لسان الميزان" 4/ 446 - 450.
(4)
انظر: "تاريخ بغداد" 6/ 226، "تهذيب الكمال" 3/ 63 (472).
(5)
"علل ابن أبي حاتم" 2/ 433 (2804).
الرابع: أنها تباع في الدين، وفيه حديث سلامة بن معقل في "سنن أبي داود"
(1)
.
الخامس: أنها تباع ولكن إن كان ولدها موجودًا عند موت أبيه سيدها حسب من نصيبه إن كان ثَمَّ مشارك له في التركة، وهو مذهب ابن مسعود وابن عباس وابن الزبير
السادس: أنه يجوز بيعها بشرط العتق، ولا يجوز بغيره، حكي عن عمر.
سابعها: أنها إن عتقت وأبقت لم يجز بيعها وإن فجرت أو كفرت جاز بيعها، حكي عن عمر، وحكى المزني عن الشافعي التوقف
(2)
، فهذا مع الفرع الذي ذكرناه، تصير الأقوال تسعة، ومن الغريب ما أنبأني الحجار عامة أنا ابن اللتي، أنا أبو الفتح مسعود بن محمد بن سيف، أنا أبو عبد الله الحسين بن محمد بن الحسين المعروف بابن السراج، وأبو غالب محمد بن محمد بن عبد الله العطار قالا: أنا أبو علي الحسن بن أحمد بن إبراهيم بن شاذان، أنا أبو الحسن علي ابن محمد بن الزبير القرشي، أنا الحسن بن علي بن عفان العامري، ثنا جعفر بن عون العُمري، أنا يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب أنه قال: إذا أعتق الرجل أمته، فإنه يجوز له وطؤها واستخدامها، ولا يجوز له بيعها ولا إجارتها ولا رهنها وولدها مثلها.
وهذا إسناد صحيح إليه، وقد يكون أراد أن يبين حكم أم الولد وغير ذلك بقوله إذا أعتق الرجل وليدته كما جاء في الحديث عن مارية:"أعتقها ولدها".
(1)
برقم (3953)، وقال الخطابي في "معالم السنن" 4/ 68: ليس إسناده بذاك.
(2)
"مختصر المزني" 5/ 288.
9 - باب بَيْعِ المُدَبَّرِ
(1)
2534 -
حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما قَالَ: أَعْتَقَ رَجُلٌ مِنَّا عَبْدًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ، فَدَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِهِ فَبَاعَهُ. قَالَ جَابِرٌ مَاتَ الغُلَامُ عَامَ أَوَّلَ. [انظر: 2141 - مسلم: 997 - فتح: 5/ 165]
ذكر فيه حديث جابر، وقد سلف في باب: بيع المُدبر قبيل السلم
(2)
، وقد اختلف العلماء في بيعه، فلنذكره لبعد العهد به. فقالت طائفة: يجوز بيعه ويرجع فيه متى شاء، وهو قول مجاهد وطاوس، وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور
(3)
، واحتجوا بهذا الحديث.
قالوا: وهو مذهب عائشة، وروي عنها أنها باعت مدبرة لها سحرتها
(4)
.
(1)
ورد بهامش الأصل: بخط المصنف في هامش أصله ما صورته: أهمل مغلطاي من هنا الكتابة.
(2)
سبق برقم (2230) كتاب: البيوع.
(3)
انظر: "الإشراف على مذاهب أهل العلم" 2/ 205، "المغني" 14/ 419 - 420.
(4)
رواه مالك في "الموطأ" براوية أبي مصعب (2782)، وعبد الرزاق 9/ 141 (16667)، وأحمد 6/ 40، والدارقطني 4/ 140 عن عمرة قالت:
مرضت عائشة فتطول مرضها، قالت: فذهب بنو أخيها إلى رجل فذكروا مرضها، فقال: إنكم تخبروني خبر امرأة مطبوبة، قال: فذهبوا ينظرون، فإذا جارية لها سحرتها، وكانت قد دبرتها، فدعتها، فسألتها فقالت: ماذا أردت؟ قا لت: أردت أن تموتي حتى أعتق، قالت: فإن لله عليّ أن تباعي من أشد العرب ملكة، فباعتها، وأمرت بثمنها فجُعل في مثلها.
قال الهيثمي 4/ 249: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. اهـ.
وقال ابن حجر في "التلخيص" 4/ 41: إسناده صحيح. اهـ.
وقال آخرون: لا يجوز بيعه، روي ذلك عن زيد بن ثابت وابن عمر وهو قول الشعبي وسعيد بن المسيب وابن أبي ليلى والنخعي
(1)
، وبه قال مالك والثوري والليث والكوفيون والأوزاعي
(2)
.
قالوا: لا يباع في دين ولا غيره في الحياة ولا بعد الموت وعن "المدونة" أنه لا يباع في حياة سيده في فلس ولا غيره إلا في دين قبل التدبير، ويباع بعد الموت إذا اغترقه الدين كان التدبير قبل الدين أو بعده.
وعن أبي حنيفة لا يباع في الدين ولكن يستسعي للغرماء، فإذا أدى ما لهم عتق
(3)
، والحجة لهم قوله تعالى:{أَوْفُوا بِالعُقُودِ} [المائدة: 1].
والتدبير: عقد طاعة يلزم الوفاء به، فلا سبيل إلى حله والرجوع فيه؛ لأنه عقد حرية بصفة آتية لا محالة.
وحديث: "المدبر لا يباع ولا يوهب"
(4)
قالوا: ولا حجة في حديث جابر لمن أجاز بيعه؛ لأن في الحديث أن سيده كان عليه دين فباعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بثمانمائة درهم وأعطاه له، وقال له:"اقض دينك"، فثبت بهذا أن بيعه إنما كان لأجل الدين الذي عليه، فأما إذا لم يكن
عليه دين قبل تدبيره، فلا سبيل إلى بيعه.
(1)
انظر: "مصنف عبد الرزاق" 9/ 142، 143 (16675، 16679)، "مصنف ابن
أبي شيبة" 4/ 330 - 331 (20655، 20657، 20661).
(2)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 3/ 183، "الموطأ" برواية يحيى ص 509، "الإشراف على مذاهب أهل العلم" 2/ 205.
(3)
انظر: "اختلاف الفقهاء" لابن جرير ص 40.
(4)
قطعة من حديث ابن عمر تمامه: "وهو حر من الثلث". رواه الدارقطني 4/ 138، والبيهقي 10/ 314، قال المصنف في "البدر المنير" 9/ 733: ضعيف ضعفه الأئمة. وقال: وقد اتفق الحفاظ على تصحيح رواية الوقف.
قلت: رواها البيهقي وصححها 10/ 313 - 314.
وقد ترجم البخاري باب: من باع مال المفلس والمعدم وقسمه بين الغرماء
(1)
.
وأيضًا: فإنَّ سيده كان سفيهًا، ولذلك باعه عليه السلام.
وبيع المدبر عند من أجازه لا يفتقر صاحبه فيه إلى بيع الإمام، وهذا الحديث عند العلماء أصل في أن أفعال السفيه مردودة، فلا حجة لهم فيه.
وأجيب أيضًا بأنه يحتمل أن يكون أعتقه عن دبر في مرضه، فقال:
إن مت من مرضي هذا فأنت حر عن دبر مني، وهو قول للمالكية.
فإن قلت: التدبير وصية فالرجوع سائغ. قيل: ليس كونه وصية يجوز الرجوع فيه؛ لأن العتق البذل في المرض لا يجوز الرجوع فيه، وإن كان يخرج من الثلث، فكذلك المدبر، وجمهور العلماء كما حكاه ابن بطال
(2)
متفقون أن ولد المدبرة الذين تلدهم بعد التدبير بمنزلتها يعتقون بموت سيدها، فإذا كان التدبير يسري إلى الولد فلأن يلزم في الأم أولى.
قال الطبري: وفيه أن للإمام القيم بأمور المسلمين أن يحملهم في أموالهم على ما فيه صلاحهم ويرد في أفعالهم ما فيه مضرة لهم
(3)
.
قال ابن التين: ولم يختلف قول مالك وأصحابه أن من دبر عبده ولا دين عليه أنه لا يجوز بيعه ولا هبته ولا نقض تدبيره ما دام حيًّا خلافًا للشافعي.
(1)
سبق في كتاب: الاستقراض، باب رقم (16).
(2)
"شرح ابن بطال" 7/ 50.
(3)
السابق 7/ 50.
فرع: يخرج المدبر بعد موت سيده من ثلثه. وقال داود: يخرج من جميع المال، فإن لم يحمله الثلث رق ما لم يحمله الثلث منه.
وقال أبو حنيفة: يسعى في فكاك رقبته، فإن مات سيده ومحليه دين (سعى)
(1)
للغرماء.
وقال أبو حنيفة: يسعى للغرماء ويخرج حرًّا
(2)
.
(1)
في الأصل: بيع، والمثبت هو الصواب كما في مصادر التخريج.
(2)
كذا في الأصل بتكرار قوله: وقال أبو حنيفة يسعى للغرماء، وهو ذهول من الناسخ، فقد نقل عبارة المصنف العيني في "عمدة القاري" 10/ 424 فقال: وفي "التوضيح": وقال أبو حنيفة: يسعى في فكاك رقبته، فإن مات سيده وعليه دين سعى للغرماء ويخرج حرًّا. اهـ.
وانظر قول أبي حنيفة في "بدائع الصنائع" 4/ 123، "الجوهرة النيرة" 2/ 106.
10 - باب بَيْعِ الوَلَاءِ وَهِبَتِهِ
2535 -
حَدَّثَنَا أَبُو الوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ دِينَارٍ، سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما يَقُولُ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الوَلَاءِ، وَعَنْ هِبَتِهِ. [6756 - مسلم: 1506 - فتح: 5/ 167]
2536 -
حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتِ: اشْتَرَيْتُ بَرِيرَةَ، فَاشْتَرَطَ أَهْلُهَا وَلَاءَهَا، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:"أَعْتِقِيهَا، فَإِنَّ الوَلَاءَ لِمَنْ أَعْطَى الوَرِقَ". فَأَعْتَقْتُهَا، فَدَعَاهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَخَيَّرَهَا مِنْ زَوْجِهَا فَقَالَتْ: لَوْ أَعْطَانِي كَذَا وَكَذَا مَا ثَبَتُّ عِنْدَهُ. فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا. [انظر: 456 - مسلم: 1504 - فتح: 5/ 167]
ذكر فيه حديث ابن عمر نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الوَلَاءِ وَعَنْ هِبَتِهِ.
وأخرجه مسلم أيضًا
(1)
.
وحديث عائشة في بريرة، وقد سلف
(2)
.
والفقهاء بالحجاز والعراق مجمعون على أنه لا يجوز بيع الولاء ولا هبته، وهذا أصله.
قال ابن المنذر: وفيه قول ثان: روي أن ميمونة بنت الحارث وهبت ولاء مواليها من العباس وولاؤهم اليوم لهم، وأن عروة ابتاع ولاء طهمان لورثة مصعب بن الزبير.
وذكر عبد الرزاق عن عطاء أنه يجوز للسيد أن يأذن لعبده أن يوالي من شاء
(3)
، هذا هو هبة الولاء.
(1)
برقم (1504) كتاب: العتق، باب: إنما الولاء لمن أعتق.
(2)
برقم (456) كتاب: الصلاة، باب: ذكر البيع والشراء على المنبر في المسجد.
(3)
"المصنف" 9/ 5 (16151).
وستأتي المسألة في باب: إثم من تبرأ من مواليه، في الفرائض
(1)
.
وصح من حديث ابن عمر مرفوعًا: "الولاء لحمة كلحمة النسب، لا يباع ولا يورث"
(2)
صححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم، وقال: صحيح الإسناد. وخالف البيهقي فأعله
(3)
.
(1)
سيأتي في كتاب رقم (85)، باب رقم (21).
(2)
رواه الشافعي في "مسنده" 2/ 72 - 73 عن محمد بن الحسن عن أبي يوسف عن
عبد الله بن دينار عن ابن عمر به، ومن طريقه الحاكم 4/ 341 والبيهقي 10/ 292.
ورواه ابن حبان 11/ 325 من طريق بشر عن الوليد عن يعقوب بن إبراهيم عن عبيد الله بن عمر عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر به.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد لم يخرجاه. اهـ.
وتعقبه الذهبي: فقال: بالدبوس!. اهـ. كالمتعجب.
ونقل البيهقي 10/ 292 عن أبي بكر بن زياد النيسابوري أنه قال عقب هذا الحديث: هذا خطأ لأن الثقات لم يروه هكذا وإنما رواه الحسن مرسلًا. اهـ.
وقال الحافظ في "الفتح" 12/ 44:
اتفق جميع من ذكرنا على هذا اللفظ -أي: النهي عن بيع الولاء وعن هبته- وخالفهم أبو يوسف القاضي فرواه عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر بلفظ الولاء لحمة كلمة النسب. أخرجه الشافعي ومن طريقه الحاكم ثم البيهقي، وأدخل بشر بن الوليد بين أبي يوسف وبين ابن دينار عبيد الله بن عمر، أخرجه أبو يعلى في "مسنده" عنه وأخرجه ابن حبان في "صحيحه" عن أبي يعلى. اهـ.
ورواه الطبراني في "الأوسط" 2/ 82 (1318) من طريق يحيى بن سليم الطائفي، والحاكم 4/ 341 من طريق محمد بن مسلم الطائفي كلاهما عن إسماعيل بن أمية عن ابن عمر به.
والحديث صححه الألباني في "الإرواء"(1668).
(3)
قال البيهقي: كذا رواه الشافعي عن محمد بن الحسن الفقيه، عن أبي يوسف القاضي، وكأنه رواه محمد بن الحسن للشافعي من حفظه فنزل عن ذكر عبيد الله بن عمر في إسناده، وقد رواه محمد بن الحسن في كتاب "الولاء" عن أبي يوسف عن عبيد الله بن عمر عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم باللفظ الذي رواه الشافعي عنه. =
وذكره ابن بطال من حديث إسماعيل بن أمية، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعًا:"الولاء لحمة كالنسب"، وأورده ابن التين بلفظ بزيادة:"لا يحل بيعه ولا هبته".
ثم قال: وعليه جماعة أهل العلم، وقام الإجماع على أنه لا يجوز تحويل النسب، وقد نسخ الله المواريث بالتبني بقوله:{{ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} ، إلى قوله {وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب: 5]، ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من انتسب إلى غير أبيه، وانتمى إلى غير مواليه، فكان حكم الولاء كحكم النسب في ذلك. فكما لا يجوز بيع النسب ولا هبته كذلك الولاء ولا نقله ولا تحويله، وأنه للمعتق، كما قال صلى الله عليه وسلم، وهذا ينفي أن يكون الولاء للذي يسلم على يديه والملتقط، وسيأتي إيضاحه في الفرائض
(1)
.
ونقل ابن التين عن قوم أنه إذا أذن المولى الأعلى للأسفل فوالى غيره جاز، وكانت العرب تبيع الولاء وتهبه، فنهى الشارع عنه.
= وهذا اللفظ بهذا الإسناد غير محفوظ، ورواية الجماعة عن عبيد الله بن دينار عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الولاء وعن هبته.
هكذا رواه عبد الله بن عمر في رواية عبد الوهاب الثقفي وغيره، ومالك، والثوري، وشعبة، والضحاك بن عثمان، وسفيان بن عيينة، وسليمان بن بلال، وإسماعيل بن جعفر وغيرهم.
ورواه أبو عمر بن النحاس عن ضمرة، عن الثوري، على اللفظ الأول الذي رواه أبو يوسف، وقد أجمع أصحاب الثوري على خلافه.
وروي من أوجه أخر ضعيفة، وأصح ما روي فيه حديث هشام بن حسان عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الولاء لحمة كلمة النسب لا يباع ولا يوهب" وهذا مرسل. اهـ. "معرفة السنن" 14/ 409 - 410.
(1)
"شرح ابن بطال" 7/ 51.
قال: واختلف في ولاء النسب
(1)
، فمشهور مذهب مالك أن ولاءه لجميع المسلمين
(2)
، وقيل: لمعتقه، قاله ابن نافع وابن الماجشون
(3)
، وهو قول أبي حنيفة والشافعي
(4)
. وقال ابن شهاب والأوزاعي عن السائبة يوالي من شاء
(5)
، وهو عند مالك مكروه، وأنكرها سحنون وأصبغ، وقالا: هو جائز فعله
(6)
.
واختلف في ولاء من أعتق عبدًا عن غيره، فمذهب مالك أنه للمعتق عنه
(7)
، وقيل: الولاء للمعتق.
وقال الشافعي
(8)
: بالأول إن كان بأمره وإلا فللمعتق؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "الولاء لمن أعتق"
(9)
.
وذُكر عن سحنون أن إجماعهم على الوَصِي يُعْتِق بأمر الموصي أن الولاء للموصي
(10)
.
يدل أن هذا الحديث ليس على عمومه، وهذا احتجاج فيه نظر.
(1)
ورد بهامش الأصل تعليق نصه: لعله السائبة.
(2)
انظر: "عيون المجالس" 4/ 1857.
(3)
انظر: "المنتقى" 6/ 286.
(4)
انظر: "مختصر الطحاوي" ص 397، "بدائع الصنائع" 4/ 166، "الأم" 4/ 53.
(5)
انظر: "الموطأ" برواية يحيى ص 491، و"الاستذكار" 23/ 224.
(6)
انظر: "الموطأ" برواية يحيى ص 491، "النوادر والزيادات" 13/ 240، "المنتقى" 6/ 286.
(7)
انظر: "المدونة" 3/ 64.
(8)
انظر: "طرح التثريب" 6/ 237.
(9)
سلف برقم (456) كتاب: الصلاة، باب: ذكر البيع والشراء على المنبر في المسجد.
(10)
انظر: "النوادر والزيادات" 13/ 237 وعزاه لكتاب ابن سحنون.
وكذا احتج في "المدونة" وإن أعتق نصراني مسلمًا ثم أسلم لم يرجع الولاء (إليه)
(1)
في مشهور مذهب مالك
(2)
.
وكذلك لا ولاء لعصبته من المسلمين
(3)
. وقال أبو حنيفة والشافعي: الولاء له إن أسلم، ولعصبته من المسلمين ما لم يسلم، وقاله محمد بن عبد الحكم، واحتج في "المدونة"
(4)
ابن القاسم أن الولاء لمن أعتق عنه؛ لحديث سعد بن عبادة: يا رسول الله، إن أمي ماتت، أينفعها أن أعتق عنها وليس لها مال؟ قال:"نعم"
(5)
.
واختلف في الولاء إذا أُعْتِقَ عبدٌ من الخمس أو الزكاة، فقال مالك: ولاؤه للمسلمين
(6)
. وقال الشافعي والكوفيون: لا يعتق منهما
(7)
.
واختلف إذا أسلم على يديه. فقال مالك: ولاؤه لجميع المسلمين، وخالف الشافعي
(8)
. وقال العراقيون: إذا أسلم على يديه (ووالاه أو والاه فقط)
(9)
.
(1)
في الأصل: عنه، والمثبت هو الصواب كما في مصدر التخريج.
(2)
انظر: "المدونة" 3/ 76.
(3)
المصدر السابق.
(4)
"المدونة" 3/ 64.
(5)
رواه مالك في "الموطأ" 2/ 779، والبيهقي 6/ 279 وقال: هذا مرسل، ورواه هشام بن حسان، عن الحسن، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا ببعض معناه.
(6)
"المدونة" 3/ 76.
(7)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 1/ 481.
(8)
كذا في الأصل، وفيه نظر، فإن الشافعي قد وافق مالكا على هذا القول كما في:"أحكام القرآن" للجصاص 2/ 264، "التمهيد" 3/ 80، "مسلم بشرح النووي" 10/ 140، "طرح التثريب" 6/ 237.
(9)
كذا بالأصل، ولعل صوابها:(فولاؤه له فقط). انظر: "أحكام القرآن" للجصاص 2/ 264.
وحديث بريرة سلف الكلام عليه، واختلف إذا عتقت الأمة تحت حر هل لها خيار؟ فعند مالك: لا
(1)
.
واختلف في المكاتب يموت سيده، فيؤدي بعض نجومه بعد موت سيده، فقيل: هو للسيد ولمن يرث ولاءه، وقيل: هو بين الورثة. وقيل: للسيد منه بحساب ما أدى وللورثة بحساب ما أدى بعد موته.
واختلف في ولاء المنبوذ، فقال مالك: لجماعة المسلمين
(2)
، وزاد العراقيون إلا أن يشاء أن يوالي أحدًا
(3)
. وقال الليث: للملتقطة
(4)
، وولاء ابن المعتقة لموالي أمه حرًّا كان أبوه أو عبدًا عربيًّا كان أو غيره
(5)
. وقيل: يرثه العرب إن كان أبوه عربيًّا. واحتجوا بزيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه من العرب وأولاده إلى يومنا هذا بعتق رسول الله صلى الله عليه وسلم يعدون في موالي بني هاشم ويعقل عنهم بنو هاشم
(6)
.
(1)
انظر: "التمهيد" 3/ 57.
(2)
انظر: "المدونة" 3/ 76.
(3)
انظر: "المبسوط" 10/ 213.
(4)
انظر: "المغني" 9/ 255.
(5)
انظر: "المفهم" 4/ 333.
(6)
ورد بهامش الأصل: ثم بلغ في الرابع بعد السبعين له مؤلفه.
11 - باب إِذَا أُسِرَ أَخُو الرَّجُلِ أَوْ عَمُّهُ، هَلْ يُفَادَى إِذَا كَانَ مُشْرِكًا
؟
وَقَالَ أَنَسٌ: قَالَ العَبَّاسُ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَادَيْتُ نَفْسِي، وَفَادَيْتُ عَقِيلًا. [انظر: 421]
وَكَانَ عَلِيٌّ لَهُ نَصِيبٌ فِي تِلْكَ الغَنِيمَةِ التِي أَصَابَ مِنْ أَخِيهِ عَقِيلٍ وَعَمِّهِ عَبَّاسٍ.
2537 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ مُوسَى، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَنَسٌ رضي الله عنه أَنَّ رِجَالًا مِنَ الأَنْصَارِ اسْتَأْذَنُوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: ائْذَنْ لَنَا فَلْنَتْرُكْ لاِبْنِ أُخْتِنَا عَبَّاسٍ فِدَاءَهُ. فَقَالَ: "لَا تَدَعُونَ مِنْهُ دِرْهَمًا". [3048، 4018 - فتح: 5/ 167]
ثم ساق حديث أنس أَنَّ رِجَالًا مِنَ الأَنْصَارِ اسْتَأْذَنُوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: ائْذَنْ لَنَا فَلْنَتْرُكْ لاِبْنِ أُخْتِنَا عَبَّاسٍ فِدَاءَهُ. فَقَالَ: "لَا تَدَعُوا مِنْهُ دِرْهَمًا".
الشرح: قوله: (وكان علي له نصيب في تلك الغنيمة) يريد: فلم يعتق عليه أخوه عقيل ولا عمه إذ كان مشركًا. كذا تأوله البخاري، ولا فرق عند مالك بين كونه مشركًا أو مسلمًا؛ لأنه حكم بين مسلم ومشركين فيجري فيه حكم المسلمين، واحتج به لقول الشافعي: إن ملك أخاه لا يعتق عليه
(1)
. ومشهور قول مالك أنه يعتق عليه
(2)
. وانفصل عنه بعض الشافعية بأن نصيب عليٍّ لا يتعين إلا بالقسمة. وقد
(1)
انظر: "البيان" 8/ 351، "العزيز" 13/ 342 - 343.
(2)
انظر: "المدونة" 2/ 385.
قال مالك: مَن سرق مِن الغنيمة قُطِع، أو زنى يُحَدُّ. فقيل: له فيها نصيب. فقال: كم عسى نصيبه من ذلك
(1)
! فعلى هذا إن قبل الغانمون لا يحد ويعتق ولا يقطع، وقيل: الغنيمة لا تملك إلا بالقسمة، فلذلك لم يعتق عليه، وأما العم فالمشهور من مذهب مالك أنه لا يعتق عليه
(2)
خلافًا لابن وهب
(3)
.
وقال سحنون: إن كان فيها من يعتق عليه أعتق نصيبه وغرم ما سواه وإذا أولد الجارية لم يحد؛ للشركة التي له فرأى أنه ملك بنفس الغنيمة وأشهب يقول: لا يحد ولا يقطع وإن سرق فوق سهمه أقل من ثلاثة دراهم، واختلف: هل يراعي حقه من جميع الغنيمة أو من المسروق خاصة؟
وقول الأنصار: (ائذن لنا فلنترك لابن أُختنا عباس فداءه) كان العباس جدته من بني النجار، تزوجها هاشم بن عبد مناف فولدت له عبد المطلب وقال الكلبي: اسمها سلمى
(4)
.
(1)
انظر: "المدونة" 4/ 327.
(2)
انظر: "المدونة" 2/ 385.
(3)
انظر: "النوادر والزيادات" 12/ 383.
(4)
قيل: إن اسمها: سلمى ابنة زيد بن خداش بن لبيد بن حرام بن عدي بن النجار من الأنصار.
وقيل: سلمى بنت عمرو بن زيد بن لبيد بن خداش بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار تيم الله بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج.
والأول قاله مؤرج السدوسي في كتاب "حذف من نسب قريش" ص 4، والثاني قاله الزبيري في "نسب قريش" ص 15، والبلاذري في "أنساب الأشراف" 1/ 64.
والذي تراه أن من ترجم لها أثبت أن اسمها سلمى؛ وعليه فلم يتفرد الكلبي بهذِه التسمية.
واختلف في علة منعه إياهم من ذلك، فقيل: لأنه كان مشركًا، ولذلك عطف عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أسلم وأعطاه من المغانم ما جبر به صدعه، وقيل: منعهم خشية أن يقع في قلوب بعض المسلمين شيء، كما منع الأنصار أن يبارزوا عتبة وشيبة والوليد وأمر قرناءهم عليًّا وحمزة وعبيدة أن يبارزوهم؛ لئلا يبارزهم الأنصار، فيصابوا فيقع في نفس بعضهم شيء.
وقيل: كان العباس أسر يوم بدر مع قريش ففاداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأراد الأنصار أن يتركوا له فداءه إكرامًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لقرابتهم منه، فلم يأذن لهم في ذلك ولا في أن يحابوه في ذلك، وكان العباس ذا مال فاستوفيت منه الفدية وصرفت مصرفها من حقوق الغانمين.
وفي هذِه القصة في أُسار العباس وعقيل معه دلالة على أن الأخ لا يعتق على أخيه إذا ملكه كما يعتق عليه أصوله وفروعه، وكان لعليٍّ جزء في الغنيمة، فلم يعتق عليه عقيل، كما سلف. والسبي يوجب
الرق في الصغير والكبير.
قال المهلب: أسر العباس وعقيل مع من أسر يوم بدر، فأخذ عليه السلام رأي الصديق في استحيائهم وكره استعبادهم وأباح لهم أن يفادوا أنفسهم بالمال من ذلة العبودية، فقطع كل واحد على نفسه بعدد من المال وقطع العباس بفدائه وفداء ابن أخيه عقيل، فأراد الأنصار أن يتركوا فداء العباس؛ إكرامًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم لمكان عمومته وللرحم التي بينهم في الخئولة فقال لهم:"لا تَدَعُون منه درهمًا" أراد أن يوهنهم بالغرم ويضعفهم، وسيأتي في الجهاد في باب فداء المشركين
(1)
.
(1)
سيأتي برقم (3048).
وإنما ذكر البخاري هذا هنا؛ لأنه استنبط منه أن العم وابن العم لا يعتقان على من ملكهما من ذوي رحمهما؛ لأن الشارع قد ملك من عمه العباس ومن ابن عمه عقيل بالغنيمة التي له فيها نصيب، وكذلك ملك علي منها المشركين في ذلك الوقت بنصيبه من الغنيمة ولم يعتقا عليه.
وهذا حجة على من قال من السلف: إن من ملك ذا رحم محرم أنه يعتق عليه، وهو قول الكوفيين.
وفيه حجة للشافعي في قوله: إنه لا يعتق الأخ على من ملكه؛ لأن عقيلًا كان أخا علي، فلم يعتق عليه بما ملك من نصيبه منه.
وقد اختلف العلماء فيمن يعتق على الرجل إذا ملكه، فذهب مالك أنه لا يعتق عليه إلا أهل الفرائض في كتاب الله تعالى، وهم الولد ذكرًا كان أو أنثى، وولد الولد وإن سفلوا، وأبوه وأجداده وجداته من قبل الأب والأم وإن بعدوا، وإخوته لأبوين أو لأب أو لأم (1)، وبه قال الشافعي، إلا في الإخوة فإنهم لا يعتقون على ما سلف في الباب.
وقال الكوفيون: من ملك ذا رحم محرم عتق عليه (2)، وروي ذلك عن عمر (3) وابن مسعود، وعن عطاء والشعبي والحسن والحكم والزهري (4). وحجتهم ما رواه ضمرة عن الثوري، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر مرفوعًا؟ "من ملك ذا رحم محرم، فهو حر"(5)
(1)
انظر: "المدونة" 2/ 385.
(2)
انظر: "الهداية" 2/ 335.
(3)
رواه النسائي في "الكبرى" 4/ 173 (4903).
(4)
انظر: "الإشراف على مذاهب أهل العلم" 3/ 181.
(5)
رواه ابن ماجه (2525)، والنسائي في "الكبرى" 3/ 173 (4897)، وضعفه.
ورواه الحسن عن سمرة مرفوعًا
(1)
.
وقال ابن المنذر: قد تكلم الناس في هذين الحديثين، فقالوا: لم يرو حديث ابن عمر عن الثوري غير ضمرة، وحديث الحسن عن سمرة، وقد تكلم الناس فيهما وليس منهما ثابت
(2)
. والحجة لمالك أنه لا يجوز ملك الأخ، وأنه يعتق على من ملكه قوله تعالى حكايته عن موسى عليه السلام:{رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي} [المائدة: 25]، وكما لا يجوز أن يسترق نفسه، كذلك لا يجوز أن يسترق أخاه. وحجة الجميع في أنه لا يجوز ملك الأبوين قوله تعالى:{فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: 23] واسترقاقهما أعظم من قول: أف والأجداد داخلون في اسم الآباء، ولم يجز ملك الولد لقوله تعالى:{وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93)}
(3)
، فلا يجوز أن يستعبد الابن بهذا النص.
وفي أفراد مسلم من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يجزي ولد والدًا إلا أن يجده مملوكًا فيشتريه، فيعتقه" وفي رواية: "ولد والده"
(4)
.
(1)
رواه أبو داود (3945)، والترمذي (1365)، وابن ماجه (2524)، والنسائي في "الكبرى" 3/ 173 (4898 - 4902) وضعفه ابن القيم في "تهذيب سنن أبي داود" 5/ 407 بخمس علل.
(2)
"الإشراف على مذاهب أهل العلم" 3/ 182.
(3)
وردت الآية في الأصل: (وما كان للرحمن أن يتخذ ولدًا) وهي خطأ.
(4)
"صحيح مسلم"(1510) كتاب: العتق، باب: فضل عتق الوالد.
12 - باب عِتْقِ المُشْرِكِ
2538 -
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، أَخْبَرَنِي أَبِي، أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ رضي الله عنه أَعْتَقَ فِي الجَاهِلِيَّةِ مِائَةَ رَقَبَةٍ، وَحَمَلَ عَلَى مِائَةِ بَعِيرٍ، فَلَمَّا أَسْلَمَ حَمَلَ عَلَى مِائَةِ بَعِيرٍ، وَأَعْتَقَ مِائَةَ رَقَبَةٍ، قَالَ: فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ أَشْيَاءَ كُنْتُ أَصْنَعُهَا فِي الجَاهِلِيَّةِ، كُنْتُ أَتَحَنَّثُ بِهَا، يَعْنِي أَتَبَرَّرُ بِهَا، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَسْلَمْتَ عَلَى مَا سَلَفَ لَكَ مِنْ خَيْرٍ". [انظر: 1436 - مسلم: 123 - فتح: 5/ 169]
ذكر حديث هشام: أَخْبَرَنِي أَبِي، أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ أَعْتَقَ فِي الجَاهِلِيَّةِ مِائَةَ رَقَبَةٍ، وَحَمَلَ على مِائَةِ بَعِيرٍ، فَلَمَّا أَسلَمَ حَمَلَ عَلَى مِائَةِ بَعِيرٍ، وَأَعْتَقَ مِائَةَ رَقَبَةٍ، فَسَأَلْتُ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: يَا رَسُول اللهِ، أَرَأَيْتَ أَشْيَاءَ كُنْتُ أَصْنَعُهَا فِي الجَاهِلِيَّةِ، كُنْتُ أَتَحَنَّثُ بِهَا يَعْنِي أَتَبَرَّرُ قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَسْلَمْتَ على مَا سَلَفَ لَكَ مِنْ الخير"
(1)
.
الشرح:
هذا الحديث سلف بعضه في الزكاة
(2)
، لا خلاف أن عتق المشرك على وجه التطوع جائز لهذا الحديث
(3)
، حيث جعل عتق المائة رقبة في الجاهلية من أفعال الخير المجازى بها عند الله، المتقرب بها إليه، ودل ذلك على أن مسلمًا لو أعتق كافرًا لكان مأجورًا على عتقه؛ لأن حكيمًا إنما جعل له الأجر على ما فعل في جاهليته بالإِسلام الذي صار إليه،
(1)
ورد بهامش الأصل: وقد يكون في باب: من تصدق في الشرك، ثم أسلم، في: الزكاة.
(2)
برقم (1436) باب: من تصدق في الشرك ثم أسلم.
(3)
نقل الإجماع على هذا ابن عبد البر في "الاستذكار" 23/ 187.
فلم يكن المسلم الذي فعل مثل فعله في الإسلام دون حال حكيم، بل هو أولى بالأجر.
واختلف في عتق المشرك في كفارة اليمين والظهار، فأجازه قوم وقالوا: لما أطلق اللفظ في عتق رقبة الظهار وكفارة اليمين، ولم يشترط فيها الإيمان جاز في ذلك المشرك، ومنع ذلك آخرون، وقالوا: لا يجوز في شيء من الكفارات إلا عتق رقبة مؤمنة، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى في كفارة القتل:{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] فقيد: الرقبة بالإيمان.
قالوا: فوجب حمل المطلق على المقيد إذا كان في معناه، وهذا في معناه؛ لأن الكفارة تجمع ذلك واحتجوا على ذلك بأن الله تعالى أمر بالإشهاد عند التبايع، فقال تعالى:{وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282]، ثم قيد ذلك بالعدالة في موضع آخر بقوله:{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]، {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282]، فلم يجز من الشهداء إلا العدول، فوجب حمل المطلق على المقيد
(1)
.
(1)
ورد بهامش الأصل: آخر 4 من 8 من تجزئة المصنف.
13 - باب مَنْ مَلَكَ مِنَ العَرَبِ رَقِيقًا، فَوَهَبَ وَبَاعَ وَجَامَعَ وَفَدَى وَسَبَى الذُّرِّيَّةَ
وَقَوْلِهِ عز وجل: {ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَىْءٍ} إلى قوله: {لَا يَعْلَمُونَ} . [النحل: 75].
2539 و 2540 - حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ قَالَ: أَخْبَرَنِي اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، ذَكَرَ عُرْوَةُ أَنَّ مَرْوَانَ وَالمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ أَخْبَرَاهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَامَ حِينَ جَاءَهُ وَفْدُ هَوَازِنَ، فَسَأَلُوهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَسَبْيَهُمْ، فَقَالَ:"إِنَّ مَعِي مَنْ تَرَوْنَ، وَأَحَبُّ الحَدِيثِ إِلَيَّ أَصْدَقُهُ، فَاخْتَارُوا إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ: إِمَّا المَالَ، وَإِمَّا السَّبْيَ، وَقَدْ كُنْتُ اسْتَأْنَيْتُ بِهِمْ". وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم انْتَظَرَهُمْ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً حِينَ قَفَلَ مِنَ الطَّائِفِ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم غَيْرُ رَادٍّ إِلَيْهِمْ إِلَّا إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ قَالُوا: فَإِنَّا نَخْتَارُ سَبْيَنَا. فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي النَّاسِ، فَأَثْنَى عَلَى اللهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ:"أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ إِخْوَانَكُمْ جَاءُونَا تَائِبِينَ، وَإِنِّي رَأَيْتُ أَنْ أَرُدَّ إِلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ، فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يُطَيِّبَ ذَلِكَ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَظِّهِ حَتَّى نُعْطِيَهُ إِيَّاهُ مِنْ أَوَّلِ مَا يُفِيءُ اللهُ عَلَيْنَا فَلْيَفْعَلْ". فَقَالَ النَّاسُ: طَيَّبْنَا ذَلِكَ. قَالَ: "إِنَّا لَا نَدْرِي مَنْ أَذِنَ مِنْكُمْ مِمَّنْ لَمْ يَأْذَنْ، فَارْجِعُوا حَتَّى يَرْفَعَ إِلَيْنَا عُرَفَاؤُكُمْ أَمْرَكُمْ". فَرَجَعَ النَّاسُ، فَكَلَّمَهُمْ عُرَفَاؤُهُمْ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُمْ طَيَّبُوا وَأَذِنُوا، فَهَذَا الذِي بَلَغَنَا عَنْ سَبْيِ هَوَازِنَ. وَقَالَ أَنَسٌ قَالَ عَبَّاسٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَادَيْتُ نَفْسِي، وَفَادَيْتُ عَقِيلًا. [انظر: 2307، 2308 - فتح: 5/ 169]
2541 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الحَسَنِ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ عَوْنٍ قَالَ: كَتَبْتُ إِلَى نَافِعٍ فَكَتَبَ إِلَيَّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَغَارَ عَلَى بَنِي المُصْطَلِقِ وَهُمْ غَارُّونَ وَأَنْعَامُهُمْ تُسْقَى عَلَى المَاءِ، فَقَتَلَ مُقَاتِلَتَهُمْ، وَسَبَى ذَرَارِيَّهُمْ، وَأَصَابَ يَوْمَئِذٍ جُوَيْرِيَةَ. حَدَّثَنِي بِهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ، وَكَانَ فِي ذَلِكَ الجَيْشِ. [مسلم: 1730 - فتح: 5/ 170]
2542 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ عَنِ ابْنِ مُحَيْرِيزٍ قَالَ: رَأَيْتُ أَبَا سَعِيدٍ رضي الله عنه فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ بَنِي المُصْطَلِقِ، فَأَصَبْنَا سَبْيًا مِنْ سَبْىِ العَرَبِ، فَاشْتَهَيْنَا النِّسَاءَ، فَاشْتَدَّتْ عَلَيْنَا العُزْبَةُ وَأَحْبَبْنَا العَزْلَ، فَسَأَلْنَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:"مَا عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَفْعَلُوا، مَا مِنْ نَسَمَةٍ كَائِنَةٍ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ إِلَّا وَهْيَ كَائِنَةٌ". [انظر: 2229 - مسلم: 1438 - فتح: 5/ 170]
2543 -
حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ القَعْقَاعِ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: لَا أَزَالُ أُحِبُّ بَنِي تَمِيمٍ. وَحَدَّثَنِي ابْنُ سَلَامٍ، أَخْبَرَنَا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الحَمِيدِ، عَنِ المُغِيرَةِ عَنِ الحَارِثِ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَعَنْ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: مَا زِلْتُ أُحِبُّ بَنِي تَمِيمٍ مُنْذُ ثَلَاثٍ سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِيهِمْ، سَمِعْتُهُ يَقُولُ:"هُمْ أَشَدُّ أُمَّتِي عَلَى الدَّجَّالِ". قَالَ: وَجَاءَتْ صَدَقَاتُهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"هَذِهِ صَدَقَاتُ قَوْمِنَا". وَكَانَتْ سَبِيَّةٌ مِنْهُمْ عِنْدَ عَائِشَةَ، فَقَالَ:"أَعْتِقِيهَا فَإِنَّهَا مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ". [4366 - مسلم: 2525 - فتح: 5/ 170]
ثم ساق فيه أربعة أحاديث:
أحدها:
حديث مروان والمسور بن مخرمة: أنه عليه السلام قَامَ حِينَ جَاءَهُ وَفْدُ هَوَازِنَ، فَسَأَلُوهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَسَبْيَهُمْ، .. الحديث بطوله.
ثانيها:
حديث ابن عون: كَتَبْتُ إِلَى نَافِعٍ فَكَتَبَ إِلَيَّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَغَارَ عَلَى بَنِي المُصطَلِقِ وَهُمْ غَارُّونَ وَأَنْعَامُهُمْ تُسْقَى عَلَى المَاءِ، فَقَتَلَ مُقَاتِلَتَهُمْ، وَسَبَى ذَرَارِيَّهُمْ، وَأَصَابَ يَوْمَئِذٍ جُوَيْرِيَةَ. حَدَّثَنِي بِهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ، وَكَانَ فِي ذَلِكَ الجَيْشِ.
ثالثها:
حديث أبي سعيد: خَرَجْنَا مَعَ النَّبي صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ بَنِي المُصْطَلِقِ فذكر حديث العزل.
رابعها:
حديث أبي هريرة قال: لَا أَزَالُ أُحِبُّ بَنِي تَمِيم. وفي لفظٍ: مَا زِلْتُ أُحِبُّ بَنِي تَمِيمِ مُنْذُ ثَلَاثٍ سَمِعْتُ مِنْ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِيهِمْ، يَقُولُ:"هُمْ أَشَدُّ أُمَّتِيَ عَلَى الدَّجَّالِ". قَالَ: وَجَاءَتْ صَدَقَاتُهُمْ، فَقَالَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم:"هذِه صَدَقَاتُ قَوْمِنَا". وَكَانَتْ سَبِيَّةٌ مِنْهُمْ عِنْدَ عَائِشَةَ، فَقَال:"أَعْتِقِيهَا فَإِنَّهَا مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ".
الشرح:
اختلف المفسرون في معنى هذِه الآية، فقال مجاهد والضحاك: هذا المثل لله تعالى ومن عُبِدَ دونه
(1)
. وقال قتادة: هذا المثل للمؤمن والكافر، يذهب إلى أن العبد المملوك هو الكافر؛ لأنه لا ينتفع في الآخرة بشيء من عبادته {وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا} هو المؤمن فَحسن الأول؛ لأنه وقع بين كلامين لا نعلم بين أهل التفسير خلافًا فيه إلا من شذ منهم أنهما لله تعالى وهما:{فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} وبعده {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ}
(2)
[النحل: 76].
وقد تأول بعض الناس هذِه الآية على أن العبد لا يملك شيئًا، وسيأتي اختلاف العلماء في ذلك قريبًا.
(1)
رواه الطبري 7/ 623 (21811، 21812).
(2)
رواه عبد بن حميد في "تفسيره" كما في "الدر المنثور" 4/ 234 - 235، والطبري 7/ 622 (21806) بمعناه، وابن أبي حاتم 7/ 2292 (12596).
وأتى البخاري بأحاديث أتى فيها بقبائل سماها من العرب
(1)
، وفي التبويب: من ملك من العرب رقيقا، وروى في موضع آخر أنه صلى الله عليه وسلم قال:"سبعة موالي ليس لهم مولى إلا الله عز وجل قريش والأنصار وجهينة ومزينة وأشجع وأسلم وغفار"
(2)
فهؤلاء ليس لأحد عليهم ولاء، ولذلك قال لأسارى بدر طلقاء وسمي غيرهم عتقاء؛ لأنهم لم يجر عليهم ملك ولا عتق ومن سوى هؤلاء يجري عليهم الرق ويكون الولاء لمعتقهم، ذكره الداودي.
وقال ابن بطال في هذِه الآثار: إنه صلى الله عليه وسلم سبى العرب واسترقهم من هوازن وبني المصطلق وغيرهم.
وقال عليه السلام لعائشة في السبية التميمية: " [اعتقيها]
(3)
فإنها من ولد إسماعيل".
فصحَّ بهذا كله جواز استرقاق العرب وتملكهم كسائر فرق العجم، وقام الإجماع على أن من وطئ أمة بملك يمينه أن ولده منها أحرار عربية كانت أو عجمية
(4)
.
واختلفوا إذا تزوج العربي أمة، هل يكون ولده منها رقيقًا تبعًا لها أم لا؟
فقال مالك والكوفيون والليث والشافعي: الولد مملوك لسيد الأمة تَبَع لها. وحجتهم أحاديث الباب في سبى العرب واسترقاقهم.
(1)
منها حديث أبي هريرة، يأتي (3504) كتاب: المناقب، باب: مناقب قريش.
(2)
سيأتي (3512) كتاب: المنا قب، باب: ذكر أسلم وغفار ومزينة وجهينة وأشجع.
(3)
زيادة يقتضيها السياق من "شرح ابن بطال" 7/ 57.
(4)
نقل الإجماع ابن بطال في "شرحه" 7/ 57.
وقال الثوري والأوزاعي وأبو ثور وإسحاق: يلزم سيد الأمة أن يقومه على أبيه، ويلزم (أباه)
(1)
أداء القيمة إليه ولا يسترق
(2)
، وهو قول سعيد بن المسيب
(3)
واحتجوا بما روي عن عمر أنه قال لابن عباس: لا يسترق ولد عربي من أمةٍ
(4)
.
وقال الليث: أما ما روي عن عمر من فداء ولد العرب من الولائد
(5)
إنما كان من أولاد الجاهلية، وفيما أقر به الرجل من نكاح الإماء، فأما اليوم فمن تزوج أمة وهو يعلم أنها أمة فولده عبد [لسيدها]
(6)
عربيًّا كان أو قرشيًّا أو غيره
(7)
.
ومن حجة من جعلهم رقيقًا أنه عليه السلام لما سوى بين العرب والعجم في الدماء، فقال:"المؤمنون تتكافأ دماؤهم" وأجمع العلماء على القول به، وَجَبَ إذا اختلفوا فيما دون الدماء أن يكون حكم ذلك حكم الدماء
(8)
.
(1)
كذا في الأصل، وهي لغة شاذة شاهدها قول الشاعر:
إنَّ أباها وأبا أباها
…
قدْ بلغا في المجدِ غايتاها
(2)
انظر: "الإشراف على مذاهب أهل العلم" 4/ 65.
(3)
رواه الشافعي في "الأم" 4/ 186.
(4)
رواه الشافعي في "الأم" 4/ 186، وليس فيه ذكر ابن عباس.
(5)
رواه البيهقي 9/ 74 من طريق ابن شهاب قال: أخبرني سعيد بن المسيب أن عمر فرض في كل سبي فدي من العرب ستة فرائض، وأنه كان يقضي بذلك فيمن تزوج الولائد من العرب.
قال البيهقي: وهذا مرسل إلا أنه جيد. اهـ.
ورواه عبد الرزاق 7/ 278 (13158)، وابن حزم في "المحلى" 15/ 38 من طريقه عن الزهري قال: قضى عمر في فداء سبي العرب ستة فرائض.
(6)
زيادة يقتضيها السياق من "شرح ابن بطال".
(7)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 2/ 356.
(8)
نقل الإجماع على ذلك ابن المنذر في "الإشراف" 1/ 65.
وقوله لعائشة: "أعتقيها فإنها من ولد إسماعيل" يدل على جواز تملك العرب إلا أن عتقهم أفضل لمراعاة الرحم التي تجمعهم.
وكذلك فعل عمر في خلافته بمن ملك رقيقًا من العرب الذين ارتدوا في خلافة الصديق وقال: إن الله قد أوسع عليكم في سبي أهل الكتاب من غير العرب، وإن من العار أن يملك الرجل بنت ابن عمه، فأجابوه إلى ما حض عليه وهذا كله على وجه الندب لا على أنه لا يجوز تملكهم
(1)
.
وقال ابن التين: أجل مذهب مالك أن الولاء لمن أعتق سواء كان عربيًّا أو غيره. وقيل: إن كان من العرب فلا، والذي قاله أشهب نعم. وهو ما في كتاب ابن حبيب.
تنبيهات:
أحدها: في حديث سبي هوازن وبني المصطلق، وقول أبي سعيد:(اشتهينا) دليل على أن الصحابة أطبقوا على وطء ما وقع في سهامهم من السبي، وهذا لا يكون إلا بعد الاستبراء بإجماع من العلماء، وهذا يدل على أن السباء يقطع العصمة بين الزوجين الكافرين.
واختلف السلف في حكم وطء الوثنيات والمجوسيات إذا سبين، فأجازه سعيد بن المسيب وعطاء وطاوس ومجاهد، وحجتهم أنه عليه السلام أباح وطء سبايا العرب إذا حاضت الحائض أو وضعت الحامل منهن، وهذا القول شذوذ عند العلماء لم يلتفت أحد إليه.
واتفق أئمة الفتوى بالأمصار وعامة العلماء على أنه لا يجوز وطء الوثنيات بقوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا المُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221]
(1)
انظر: "شرح ابن بطال" 7/ 58.
وإنما أباح الله تعالى وطء نساء أهل الكتاب خاصة بقوله: {وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ المُؤْمِنَاتِ وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ}
(1)
.
وإنما أطلق أصحابه على وطء سبايا العرب بعد إسلامهن؛ لأن سبي هوازن كان سنة ثمان وسبي بني المصطلق سنة ست، وسورة البقرة من أول ما نزل بالمدينة، فقد علموا قوله تعالى:{وَلَا تَنْكِحُوا المُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221]. وتقرر عندهم أنه لا يجوز وطء الوثنيات البتة حتى يسلمن.
وروى عبد الرزاق، ثنا جعفر بن سليمان، ثنا يونس بن عبيد أنه سمع الحسن يقول: كنا نغزو مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا أصاب أحدهم جارية من الفيء فأراد أن يصيبها أمرها فاغتسلت، ثم علمها الإسلام وأمرها بالصلاة واستبرأها بحيضة، ثم أصابها
(2)
.
قال: وسمعت الثوري يقول: أما السنة فلا يقع عليها حتى تصلي إذا استبرأها
(3)
.
وعموم قوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا المُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] يقتضي تحريم وطء المجوسيات بالتزويج وبملك اليمين، ألا ترى أنه عليه السلام سن أن تؤخذ الجزية من المجوس على أن لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم، وعلى هذا أئمة الفتوى وعامة العلماء.
ثانيها: قولهم: (وأحببثا الفداء وأردنا أن نعزل) استدل به جماعة على منع بيع أمهات الأولاد وقالوا: معلوم أن الحبل منهن يمنع
(1)
انظر: "شرح ابن بطال" 7/ 58 - 59.
(2)
"المصنف" 7/ 196 (12753)، وعنه ابن حزم في "المحلى" 9/ 447.
(3)
"المصنف" 7/ 196 (12757).
الفداء ويذهب بالثمن، والعلماء مجمعون على أنه لا يجوز بيعها وهي حامل، فإذا وضعت فهي على الأصل الذي اتفقوا عليه في منع البيع، ولا يجوز الانتقال عنه إلا باتفاق آخر، وأئمة الفتوى بالأمصار متفقون على أنه لا يجوز بيع أم الولد
(1)
، وإنما خالف ذلك أهل الظاهر وبشر المريسي وهو شذوذ لا يلتفت إليه
(2)
.
وقد أسلفنا حديث ابن عباس في مارية "أعتقها ولدها"
(3)
. وحديث عمرو بن الحارث: ما ترك النبي صلى الله عليه وسلم أمة
(4)
.
وأورده ابن بطال من حديث عائشة: ما خلَّف النبي صلى الله عليه وسلم عبدًا ولا أمة، وقد كان خلَّف مارية، فعلم أنها عتقت بموته ولم تكن أمة، وقد قال عليه السلام:"لا نورث ما تركنا صدقة" ولم ينقل أن مارية كانت صدقة، فعلم أنها عتقت بموته ولم تكن مما تركه
(5)
، وقد أسلفنا ذلك مبسوطًا.
ثالثها: قوله: "ما عليكم أن لا تفعلوا"، احتج به من أباح العزل ومن كرهه. واختلف السلف في ذلك قديمًا، وإباحته أظهر في الحديث، وهو حاصل مذهبنا حرة كانت أو أمة مع الإذن ودونه
(6)
.
وروى مالك عن سعد بن أبي وقاص وأبي أيوب الأنصاري وزيد بن ثابت وابن عباس أنهم كانوا يعزلون
(7)
، وروي ذلك أيضًا عن ابن مسعود
(1)
انظر: "التمهيد" 3/ 136.
(2)
انظر انظر: "المبسوط" 7/ 149، "بدائع الصنائع" 4/ 130.
(3)
سلف في شرح الحديث (2533).
(4)
سيأتي برقم (2739) كتاب: الوصايا، باب: الوصايا.
(5)
"شرح ابن بطال" 70/ 60.
(6)
انظر: "طرح التثريب" 7/ 60.
(7)
"الموطأ" برواية يحيى ص 367 - 368.
وجابر
(1)
، وذكر مالك أيضًا عن ابن عمر أنه كره العزل
(2)
، وروي كراهته عن عمر وعثمان
(3)
، وقد روي عن علي القولان جميعًا
(4)
.
واحتج من كره العزل بأنه: "الوأد الخفي" كما روته عائشة (عن)
(5)
جذامة (م. الأربعة) بنت وهب الأسدية
(6)
.
واتفق أئمة الفتوى على جواز العزل عن الحرة إذا أذنت فيه لزوجها
(7)
، واختلفوا في الأمة المزوجة. فقال مالك وأبو حنيفة: الإذن في ذلك لمولاها
(8)
. وقال أبو يوسف: الإذن في ذلك إليها
(9)
. وقال الشافعي: يعزل عنها دون إذنها ودون إذن مولاها
(10)
.
واحتج من أباحه بما روي عن الليث وغيره، عن يزيد بن أبي حبيب، عن معمر بن أبي حبيبة، عن عبيد الله بن عدي بن الخيار. قال: تذاكر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عند عمر العزل فاختلفوا فيه، فقال عمر: قد اختلفتم وأنتم أهل بدر الأخيار، فكيف بالناس بعدكم؟ فقال علي: لا تكون موءودة حتى تمر بالتارات السبع، {وَلَقَدْ خَلَقْنَا
(1)
رواهما عبد الرزاق في "مصنفه" 7/ 144.
(2)
"الموطأ" براوية يحيى ص 368.
(3)
رواهما سعيد بن منصور في "سننه" 2/ 100 (2230).
(4)
رواهما سعيد بن منصور في "سننه" 2/ 99 (2223)، 2/ 101 (2237).
(5)
في الأصل: (و) وهو خطأ والمثبت من مسلم (1442).
(6)
رواه مسلم (1442/ 141) كتاب: النكاح، باب: جواز الغيلة، وهي وطء المرضع وكراهة العزل.
(7)
انظر: "التمهيد" 3/ 148.
(8)
انظر: "الموطأ" برواية يحيى ص 368، "شرح معاني الآثار" 3/ 31.
(9)
انظر: "شرح معاني الآثار" 3/ 31.
(10)
انظر: "طرح التثريب" 7/ 60.
الإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12)} [المؤمنون: 12] إلى آخر الآية
(1)
.
وروى سفيان عن الأعمش، عن أبي الودّاك، عن ابن عباس أنه سئل عن العزل، فذكر مثل كلام علي سواء
(2)
.
قال الطحاوي: فهذا علي وابن عباس قد اجتمعا على ما ذكرنا ووافقهما عمر ومن كان بحضرتهم من الصحابة، فدل على أنه غير مكروه
(3)
.
قال: وقوله: "ما عليكم أن لا تفعلوا" إلى آخر الحديث يدل على أنه غير مكروه؛ لأنه لما أخبروه أنهم يفعلون ذلك لم ينكره عليهم ولا نهاهم عنه.
وقال: "ما عليكم أن لا تفعلوا" فإنما هو القدر، فإن الله تعالى إذا قدّر تَكَوّن الولد لم يمنعه عزل ووصل الله من الماء إلى الرحم شيئًا وإنْ قَلّ يكون منه الولد وإن لم يقدر كونه لم يكن بالإفضاء، فأعلمهم أن الإفضاء لا يكون منه ولد إلا بالقدرة وأن العزل لا يمنع الولد إذا سبق في علم الله أنه كائن.
وقال ابن مسعود: لو أن النطفة التي أخذ الله ميثاقها كانت في صخرة لنفخ فيها الروح
(4)
، وروي أيضًا مرفوعًا
(5)
.
(1)
رواه الطحاوي في "مشكل الآثار" كما في "تحفة الأخيار" 3/ 626 - 627 (2221)، "شرح معاني الآثار" 3/ 32.
(2)
رواه عبد الرزاق 7/ 145 (12570)، والطحاوي في "مشكل الآثار" كما في "تحفة الأخيار" 3/ 628 (2223)، "شرح معاني الآثار" 3/ 32، والبيهقي 7/ 230.
(3)
"شرح معاني الآثار" 3/ 32 - 33.
(4)
رواه سعيد بن منصور في "سننه" 2/ 98 (2221).
(5)
رواه أيضًا سعيد بن منصور 5/ 67 (969) في التفسير.
رابعها: في قوله: "إلا وهي كائنة" إثبات قدم العلم، فإن العباد يجرون في قدر الله وعلمه والقدر: هو سر الله وعلمه لا يدرك بحجة ولا بجدال وأنه لا يكون في ملكه إلا بما شاء ولا يقوم شيء إلا بإذنه
له الخلق والأمر.
خامسها: قول أبي هريرة: (مازلت أحب بني تميم) لأنهم: "أشد أمتي على الدجال"، وقد روي عنهم أنهم كانوا يختارون ما يخرجون من الصدقات من أفضل ما عندهم، فأعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم بفراهيتها، فقال هذا المعنى على معنى المبالغة في نصحهم لله ولرسوله في جودة الاختيار للصدقة، وبنو تميم يلقون رسول الله في مدركة بن إلياس
(1)
بن مضر، وكان لهم شرف في الجاهلية والإسلام منهم: قيس بن عاصم المنقري (خ، د، ت، س) قيل للأحنف بن قيس: ممن تعلمت الحلم؟ قال: من قيس بن عاصم أتى يومًا وأنا عنده، قيل له: إن ابن أخيك قتل ابنك. قال: عصى ربه وقطع رحمه وفت عضده، ثم قال: جهزوه وما حل حبوته.
سادسها: معنى (وهم غارون): على غرة، بتشديد الراء وضمها. قال ابن فارس: الغرارة كالغفلة. قال الكسائي: من الإنسان الغر يغر غرارة، ومن الغار وهو القائل أغررت. وقال الفارسي: كذا في بعض
النسخ، وأنا أظن أن ذلك: وهم غادون بدال مهملة مخففة.
قال الداودي على رواية وهم غارون: يعني أنهم خرجوا لقتال المسلمين وكانوا قد خرجوا بالنساء والذراري؛ لئلا يعرفوا، فكان
(1)
ورد بهامش الأصل: وفي "صحاح الجوهري" أنه تميم بن مُر بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر، فعلى هذا يلقونه صلى الله عليه وسلم في إلياس. والله أعلم.
أقل لحدهم وأضعف لقوتهم، فخالفهم المسلمون إلى الأموال، ثم قوتلوا فغلبوا.
سابعها: قوله: (وأصاب يومئذ جويرية) يعني: بنت الحارث، أسلفنا أن غزوة بني المصطلق
(1)
سنة ست وهي على ست مراحل أو سبع من المدينة مما يلي مكة، وجاءت جويرية تستعينه في كتابتها. قالت عائشة: فلما رأيتها كرهت مكانها وعلمت أني ألقى منها ما لقيت، وكانت إملاحة ذات حدقتين، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم:"هل لك أن أشتريك فأعتقك وأتزوجك". قالت: ذاك إليك. فاشتراها وأعتقها وتزوجها، فبلغ الناس ذلك، فقالوا: أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأطلقوا ما كان بأيديهم من السبي، فما رأيت امرأة أيمن على قومها منها، قاله الداودي.
وقال الشيخ أبو محمد: سباها وأعتقها وتزوجها، وكانت الأسرى أكثر من سبعمائة فوهبهم لها ليلة دخل بها.
(1)
ورد بهامش الأصل: كونها سنة ست كذا قال خليفة، وأما الواقدي فإنه قال: سنة خمس. وقال: ابن قتيبة في "المعارف": كان يوم بني المصطلق وبني لحيان في شعبان سنة خمس.
14 - باب فَضْلِ مَنْ أَدَّبَ جَارِيَتَهُ وَعَلَّمَهَا
2544 -
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، سَمِعَ مُحَمَّدَ بْنَ فُضَيْلٍ، عَنْ مُطَرِّفٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَانَتْ لَهُ جَارِيَةٌ فَعَالَهَا، فَأَحْسَنَ إِلَيْهَا ثُمَّ أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا، كَانَ لَهُ أَجْرَانِ". [انظر: 97 - مسلم: 154 - فتح: 5/ 173]
ذكر فيه حديث أبي موسى السالف في العلم، في باب تعليم الرجل أمته أو أهله مطولًا
(1)
.
وفيه: أجر التأديب والتعليم، وأجر التزوج لله تعالى، وأن الله تعالى قد ضاعف له أجره بالنكاح والتعليم وجعله كمثل أجر المعتق.
وفيه: الحض على العتق، وعلى نكاح المعتق وعلى التواضع وترك الغلو في أمر الدنيا، وأخذ القصد والبلغة منها، وأن من تواضع لله في منكحه وهو يقدر على نكاح أهل الشرف والحسب والمال، فإن ذلك مما يرجى عليه جزيل الأجر وجسيم الثواب.
وقوله: "له أجران" أي: أجر الإحسان وأجر العتق، وروى البزار في "مسنده" عن ابن عمر: لما نزل: {لَنْ تَنَالُوا البِرَّ} [آل عمران: 92]، ذكرت ما أعطاني الله، فلم أجد شيئًا أحب إلى من جارية رومية فأعتقتها، فلو أني أعود في شيء جعلته لله لنكحتها
(2)
.
(1)
سبق برقم (97).
(2)
البزار كما في "كشف الأستار"(2194)، ورواه عبد بن حميد كما في "الدر المنثور" 2/ 89، وقال الهيثمي في "المجمع" 6/ 326: فيه من لم أعرفه.
فائدة: اسم الجارية ورد مصرحًا به في "الكشف": مرجانة.
وجمع بعض العلماء بينه وبين حديث عمر: لا تشتره وإن أعطاكه بدرهم
(1)
. على من لا يرغب في نكاحها لكون فعله امتثالًا للحديث؛ لأن عادة العرب الرغبة عن تزويج المعتقة.
وحمل الحديث الآخر على أن المعتق هو الراغب، فيكون كغيره، فيكره له حينئذ النكاح، ويحتمل أن يفرق بينهما؛ لأن النكاح ليس يراجع في عتقه، وإنما يملك الآن منفعة الوطء.
وقد أجاز مالك وأكثر أصحابه الرجوع في المنافع إذا تصدق بها وشراءها والحجة لهم، حديث العرايا، فكيف إن تصدق بالرقبة؟! فإنه يجوز شراء منفعتها، بل هو أولى من الصدقة بالمنفعة، والذي منع من الرجوع في المنافع إذا تصدق بها ابن الماجشون وحده كما حكاه ابن التين.
(1)
سبق رقم (1490) كتاب: الزكاة، باب: هل يشتري الرجل صدقته.
15 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "العَبِيدُ إِخْوَانُكُمْ فَأَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ
".
وَقَوْلِهِ عز وجل: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} إلى قوله: {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 36]. ذِي القُرْبَى: القَرِيبُ، وَالجُنُبُ: الغَرِيبُ، الجَارُ الجُنُبُ يَعْنِي: الصَّاحِبَ فِي السَّفَرِ.
2545 -
حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا وَاصِلٌ الأَحْدَبُ قَالَ: سَمِعْتُ المَعْرُورَ بْنَ سُوَيْدٍ قَالَ: رَأَيْتُ أَبَا ذَرٍّ الغِفَارِيَّ رضي الله عنه وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ وَعَلَى غُلَامِهِ حُلَّةٌ فَسَأَلْنَاهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ إِنِّي سَابَبْتُ رَجُلًا فَشَكَانِي إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ". ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ إِخْوَانَكُمْ خَوَلُكُمْ جَعَلَهُمُ اللهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ فَأَعِينُوهُمْ". [انظر: 30 - مسلم: 1661 - فتح: 5/ 173]
ثم ساق حديث أبي ذر السالف في الإيمان، في باب المعاصي من أمر الجاهلية
(1)
، وساق الآية لقوله:{وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 36] والتقدير: وصاكم بالوالدين إحسانًا أي: أحسنوا للوالدين إحسانًا وبكل من ذكر عطفه عليهم، وما ذكره في ذي القربى هو كذلك، وما ذكره في الجنب هو قول ابن عباس: والصاحب بالجنب هو المرأة
(2)
، قاله علي وابن مسعود وابن أبي ليلى
(3)
.
(1)
برقم (30).
(2)
رواه الطبري 4/ 84 (9474).
(3)
قول علي وابن مسعود: رواه عبد بن حميد كما في "الدر المنثور" 2/ 284، والطبري 4/ 84 (9472)، وابن أبي حاتم/ 949 (5302)، وابن المنذر كما في "الدر المنثور" 2/ 284. وقول ابن أبي ليلى رواه الطبري 4/ 84 (9475).
وقال عكرمة والضحاك: هو الرفيق في السفر، وابن السبيل هو الضيف، والمختال ذو الخيلاء، ولما كان من الناس من يتكبر على أقربائه أعلم الرب جل جلاله أنه لا يحب من كان كذا.
وقوله: (إني ساببتُ رجلًا) قيل: هو بلال.
وقوله: ("إخوانكم خَوَلُكُمْ") أي: حشمكم وخدمكم، والمراد: أخوة الإسلام والنسب؛ لأن الناس كلهم بنو آدم. وقوله: ("تحت يده") أي: ملكه، وإن كان العبد محترفًا فلا وجوب على السيد. وقوله:("فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس") هو أمر ندب. وقيل لمالك: أيأكل من طعام لا يأكل منه عياله ورقيقه، ويلبس ثيابًا لا يكسوهم؟ قال: أراه من ذلك في سعة. قيل له: فحديث أبي ذر؟
قال: كانوا يومئذ ليس لهم هذا القوت
(1)
.
وقوله: ("ولا تكلفوهم ما يغلبهم")، هو أمر واجب، وكان عمر بن الخطاب يأتي الحوائط فمن رآه من العبيد كلف ما لا يطيق وضع عنه، ومن أقل رزقه زاده منه. قال مالك: وكذلك كان يفعل فيمن يعمل بالأجر ولا يطيقه، وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال:"أوصيكم بالضعيفين: المرأة والمملوك"
(2)
، وأمر عليه السلام موالي أبي طيبة أن يخففوا عنه من خراجه
(3)
، وقد قررنا أن التسوية في المطعم والملبس استحباب وهو ما عليه العلماء، فلو كان سيده يأكل الفائق ويلبس الغالي، فلا يجب عليه مساواة مملوكه
(1)
انظر: "المنتقى" 7/ 306.
(2)
رواه الطبراني 1/ 102 (168)، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 5/ 143: وهو مرسل، وإسناده حسن. وقال الألباني في "الإرواء" (1640) 6/ 76: وهذا إسناد ضعيف معضل.
(3)
سبق برقم (2102) كتاب: البيوع.
وما أحسن تعليل مالك رضي الله عنه أنه كان ليس لهم هذا القوت، يشير إلى أن ما ذكرناه لم يكن لأحد من الصحابة الذين خاطبهم بما خاطبهم به بأكل مثلها، إنما كان الغالب من قوتهم التمر والشعير، وقد صح أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"للمملوك طعامه وكسوته بالمعروف، ولا يكلف من العمل ما لا يطيق، فإن زاد على ما فرض عليه من قوته وكسوته بالمعروف كان متفضلًا متطوعًا"
(1)
.
وقال ربيعة بن أبي عبد الرحمن: لو أن رجلًا عمل لنفسه خبيصًا، فأكله دون خادمه ما كان بذلك بأس
(2)
، وكان يرى أنه إذا أطعم خادمه من الخبز الذي يأكل منه فقد أطعمه مما يأكل منه؛ لأن (من) عند العرب للتبعيض، ولو قال: أطعموهم من كل ما تأكلون لعم الخبيص وغيره، وكذا في اللباس.
وقوله: ("ولا تكلفوهم ما يغلبهم") هو كقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، ولما لم يكلفنا الله فوق طاقتنا ونحن عبيده وجب أن نمتثل لحكمه وطريقته في عبيدنا.
وقوله: ("فإن جلفتموهم فأعينوهم")، فيه جواز تكليف ما فيه مشقة، فإن كانت غالبة وجب العون عليها، وروى هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة مرفوعًا: "لا تستخدموا رقيقكم بالليل، فإن النهار
لكم والليل لهم"
(3)
.
(1)
رواه مسلم (1662) كتاب: الإيمان، باب: إطعام المملوك مما يأكل وإلباسه مما يلبس ولا يكلفه ما يغلبه. وأحمد 2/ 247.
(2)
انظر: "شرح ابن بطال" 7/ 64.
(3)
ذكره ابن بطال في "شرحه" 7/ 65.
وروى معمر عن أيوب، عن أبي قلابة يرفعه إلى سليمان أن رجلًا أتاه وهو يعجن فقال: أين الخادم؟ قال: أرسلته في حاجة فلم لكن لنجمع عليه ثنتين، أن نرسله ولا نكفيه عمله
(1)
.
وفيه: الوصاة من الشارع بما ملكت أيماننا، وهو آخر ما أوصى به عند موته؛ لأن الله تعالى وصى بهم في كتابه، وفيه أنه لا حدّ على من قذف عبدًا ولا عقوبة ولا تعزير، وقد قال بعض العلماء: أرى إذا كان العبد صالحًا أن يعاقب القاذف له والمؤذي.
(1)
رواه عبد الرزاق في "مصنفه" 10/ 393 (19464).
16 - باب العَبْدِ إِذَا أَحْسَنَ عِبَادَةَ رَبِّهِ وَنَصَحَ سَيِّدَهُ
(1)
2546 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"العَبْدُ إِذَا نَصَحَ سَيِّدَهُ وَأَحْسَنَ عِبَادَةَ رَبِّهِ، كَانَ لَهُ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ". [2550 - مسلم: 1664 - فتح: 5/ 175]
2547 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "أَيُّمَا رَجُلٍ كَانَتْ لَهُ جَارِيَةٌ فَأَدَّبَهَا فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا، وَأَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا، فَلَهُ أَجْرَانِ، وَأَيُّمَا عَبْدٍ أَدَّى حَقَّ اللهِ وَحَقَّ مَوَالِيهِ، فَلَهُ أَجْرَانِ". [انظر: 97 - مسلم: 154 - فتح: 5/ 175]
2548 -
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ المُسَيَّبِ يَقُولُ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لِلْعَبْدِ المَمْلُوكِ الصَّالِحِ أَجْرَانِ" وَالَّذِي نَفْسِى بِيَدِهِ لَوْلَا الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالحَجُّ وَبِرُّ أُمِّي، لأَحْبَبْتُ أَنْ أَمُوتَ وَأَنَا مَمْلُوكٌ ". [مسلم: 1665 - فتح: 5/ 175]
2549 -
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "نِعْمَ مَا لأَحَدِهِمْ، يُحْسِنُ عِبَادَةَ رَبِّهِ وَيَنْصَحُ لِسَيِّدِهِ". [مسلم: 1666 - فتح: 5/ 175]
ذكر فيه أربعة أحاديث:
حديث ابن عمر: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "العَبْدُ إِذَا نَصَحَ سَيِّدَهُ وَأَحْسَنَ عِبَادَةَ رَبِّهِ، كَانَ لَهُ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ".
وحديث أبي موسى: قال: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "أيّمَا رَجُلٍ كَانَتْ لَهُ
(1)
ورد بهامش الأصل تعليقًا على هذِه الكلمة: في نسخة: لسيده.
جَارِيَةٌ فَأَدَّبَهَا" الحديث، كما سلف قريبًا، وزيادة: "وأيما عبد أدى حق الله وحق مواليه فله أجران" وسلف في العلم
(1)
.
وحديث أبي هريرة: قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لِلْعَبْدِ المَمْلُوكِ الصَّالِحِ
(2)
أَجْرَانِ" وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلَا الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالحَجُّ وَبِرُّ أُمِّي، لأَحْبَبْتُ أَنْ أَمُوتَ وَأَنَا مَمْلُوكٌ.
وحديثه أيضًا: "نِعْمَ مَا لأَحَدِهِمْ، يُحْسِنُ عِبَادَةَ رَبِّهِ، وَيَنْصَحُ لِسَيِّدِهِ".
الشرح:
وقع في كتاب ابن بطال عزو حديث أبي هريرة الأول لأبي موسى، وهو غلط، فإنه أسقط حديث أبي موسى وركبه على حديث أبي هريرة
(3)
. ولما كان للعبد في عبادة ربه أجر كان له في طاعة سيده ونصحه له أجر أيضًا، لكن لا بالتساوي؛ لأن طاعة الرب أوجب من طاعة السيد. وفيه: حض المملوك على نصح سيده؛ لأنه راع في ماله وهو مسئول عما استرعى، فبان أن أثر نصحه طاعة الله وهذا يبين فضل أجره في طاعة ربه على طاعة سيده.
وقوله: (والذي نفسي بيده لولا الجهاد .. إلى آخره)، هو من قول أبي هريرة، كما نبه عليه الداودي وغيره
(4)
، وفيه دليل أنه لا جهاد على عبد إلا أن يتعين ولا حج؛ لأنه غير مستطيع السبيل، وأما بر الوالدين
(1)
برقم (97)، في باب: تعليم الرجل أمته وأهله.
(2)
ورد بهامش الأصل تعليقًا على كلمة الصالح: في نسخة: الناصح.
(3)
"شرح ابن بطال" 7/ 65.
(4)
ورد بهامش الأصل: ورأيت بخط بعض أصحابي أن الخطيب بينه في كتابه "المدرجات".
انظر: "الفصل للوصل المدرج في النقل" 1/ 208 - 209.
فيلزم العبد منه من خفض الجناح ولين القول والتذلل ما يلزم المسلمين، وأما السعي عليهما بالنفقة والكسوة فلا يلزمه؛ لأن نفقته وكسوته على مولاه وكسبه لمولاه ولا تصرف له في شيء إلا بإذنه.
وقوله: ("نِعْمَ مَا لأحدهم") أي: نعم العمل، ووقع في نسخة الشيخ أبي الحسن نعمَّ ما بتشديد الميم الأولى
(1)
. قال ابن التين: ولا أعلم له وجهًا، وإنما صوابه نعمَّا لأحدهم بالتشديد، إذا وصلت تدغم مثل:{نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ} .
وقوله: ("له أجران في العبد والأمة") يعني: بتضعيفهما، قاله ابن التين، ثم قال: وقيل: معناه: له أجره مرتين على كل واحد من هذين الغرضين؛ لأنه زاد لربه إحسانًا ولسيده نصحًا فكان له أجر الواجبين وأجر الزيادة عليهما؛ لأن الدليل قد علم من غير هذا أنه على كل واحد أجر، فحمل على فائدة جديدة. وقال: والظاهر من الأخبار خلاف هذا، وأن الشارع إنما بين ذلك لئلا يظن ظان أنه غير مأجور على العبودية، ويدل على ذلك قوله:"أيما عبد أدى" إلى آخره، والنصح واجب عليه لسيده وليس هو زيادة على الواجب.
وقوله: (الأحببت أن أموت وأنا مملوك)، على هذا المعنى امتحان الله أنبياءه وأولياءه، ابتلى يوسف بالرق، ودانيال حين سباه بختنصر في جملة بني إسرائيل، وكذا ما روي أن الخضر وقع في الرق حين سأله سائل بوجه الله فلم يكن عنده ما يعطيه، فقال له: سألتني بوجه الله ولا أملك إلا رقبتي فبعني واستنفق ثمني أو كما قال.
(1)
وبعد مراجعة النسخة اليونينية 2/ 149 وجدتها بتخفيف الميم الأولى، منفصلة (نعم ما) ولم أعثر فيها على من شدد الميم الأولى. والله أعلم.
17 - باب كَرَاهِيَةِ التَّطَاوُلِ عَلَى الرَّقِيقِ، وَقَوْلِهِ: عَبْدِي، أَوْ أَمَتِي
وَقَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32]، وَقَالَ:{عَبْدًا مَمْلُوكًا} [النحل:75]، {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى البَابِ} [يوسف: 25]، وَقَالَ:{مِنْ فَتَيَاتِكُمُ المُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25]، وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ". [انظر: 3043] و: {اذْكُرْنِى عِنْدَ رَبِّكَ} [يوسف: 42]: سَيِّدِكَ، "وَمَنْ سَيِّدُكُمْ؟ "
2550 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ الله، حَدَّثَنِي نَافِعٌ، عَنْ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِذَا نَصَحَ العَبْدُ سَيِّدَهُ، وَأَحْسَنَ عِبَادَةَ رَبِّهِ، كَانَ لَهُ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ". [انظر: 2546 - مسلم: 1664 - فتح: 5/ 177]
2551 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ العَلَاءِ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"المَمْلُوكُ الَّذِى يُحْسِنُ عِبَادَةَ رَبِّهِ، وَيُؤَدِّى إِلَى سَيِّدِهِ الذِي لَهُ عَلَيْهِ مِنَ الحَقِّ وَالنَّصِيحَةِ وَالطَّاعَةِ، لَهُ أَجْرَانِ". [انظر: 97 - مسلم: 154 - فتح: 5/ 177]
2552 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:"لَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ: أَطْعِمْ رَبَّكَ، وَضِّئْ رَبَّكَ، اسْقِ رَبَّكَ. وَلْيَقُلْ سَيِّدِي مَوْلَايَ. وَلَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ: عَبْدي أَمَتِي. وَلْيَقُلْ فَتَايَ وَفَتَاتِي وَغُلَامِي". [مسلم: 2249 - فتح: 5/ 177]
2553 -
حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، رضى الله عنهما قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَعْتَقَ نَصِيبًا لَهُ مِنَ العَبْدِ، فَكَانَ لَهُ مِنَ المَالِ مَا يَبْلُغُ قِيمَتَهُ، يُقَوَّمُ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ، وَأُعْتِقَ مِنْ مَالِهِ، وَإِلَّا فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ". [انظر: 2491 - مسلم: 1501 - فتح: 5/ 177]
2554 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ قَالَ: حَدَّثَنِي نَافِعٌ، عَنْ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"كُلُّكُمْ رَاعٍ فَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالأَمِيرُ الذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهْوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَهْوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ، وَالمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ وَهْىَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ، وَالعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهْوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ، أَلَا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ". [انظر: 893 - مسلم: 1829 - فتح: 5/ 177]
2555، 2556 - حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللهِ، سَمِعْتُ أَبَا هريرَةَ رضي الله عنه، وَزَيْدَ بْنَ خَالِدٍ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِذَا زَنَتِ الأَمَةُ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إِذَا زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إِذَا زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا -فِي الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ- بِيعُوهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ" .. [انظر: 2153، 2154 - مسلم: 1704 - فتح: 5/ 178]
ثم ذكر سبعة أحاديث:
حديث ابن عمر السالف في الباب قبله: "إِذَا نَصَحَ العَبْدُ سَيِّدَهُ، .. إلى آخره.
وحديث أبي موسى السالف فيه أيضًا: "المَمْلُوكُ الذِي يُحْسِنُ عِبَادَةَ رَبِّهِ، وَيُؤَدِّي إِلَى سَيِّدِهِ الذِي لَهُ عَلَيْهِ مِنَ الحَقِّ وَالنَّصِيحَةِ وَالطَّاعَةِ، لَهُ أَجْرَانِ".
وحديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ: أَطْعِم رَبَّكَ، وَضِّئْ رَبَّكَ، واسْقِ رَبَّكَ. وَلْيَقُلْ: سَيِّدِي مَوْلَايَ. وَلَا يَقُلْ أَحَدُكمْ: عَبْدِي أَمَتِي. وَلْيَقُلْ فَتَايَ وَفَتَاتِي وَغُلَامِي".
وحديث ابن عمر: "مَنْ أَعْتَقَ نَصِيبًا لَهُ مِنَ العَبْدِ، .. إلى آخره". وقد سلف.
وحديث نافع عن عبد الله: "كلكم راع ومسئول عن رعيته" بطوله وحديث أبي هريرة وزيد بن خالد: "إذا زنت الأمة فاجلدوها" وقد سلف.
الشرح:
التطاول على الرقيق مكروه؛ لأن الكل عبيد الله، وهو لطيف بعباده، رفيق بهم، فينبغي للسادة امتثال ذلك في عبيدهم ومن مَلَّكهم الله إياهم، وواجب عليهم حسن الملك ولين الحديث، كما يجب على العبيد حسن الطاعة والنصح لساداتهم والانقياد لهم وترك مخالفتهم، وقد جاء في الحديث "الله الله وما ملكت أيمانكم، فلو شاء الله لملكهم إياكم" وإنما منع "أطعم ربك" إلى آخره؛ لأن الإنسان مربوب متعبد بإخلاص التوحيد لخالقه، فُكِرَه له المضاهاة بالاسم؛ لئلا يكون في معنى الشرك، والحر والعبد في ذلك سواء، بخلاف ما لا يعبد عليه من سائر الجمادات والحيوان، فيقال: رب الدابة والثوب ولم يمنع العبد أن يقول: سيدي ومولاي؛ لأن مرجع السيادة إلى معنى الرئاسة على من تحت يده والسياسة له وحسن التدبير، ولذلك سمي الزوج سيدًا، قال تعالى:{وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى البَابِ} [يوسف: 25].
وقد قيل لمالك: هل كَرِهَ أحد بالمدينة قوله لسيده: يا سيدي؟ قال: لا. واحتج بهذِه الآية وبقوله: {وَسَيِّدًا وَحَصُورًا} . قيل له: يقولون: السيد هو الله. فقال أين هو في كتاب الله تعالى؟ وإنما في القرآن {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ}
(1)
[نوح: 28]، قيل: أتكره أن ندعو يا سيدي؟ قال: ما في القرآن أحب إلى ودعاء الأنبياء. وقال بعض أهل اللغة إنما سمي السيد؛ لأنه
(1)
انظر: "المنتقى" 7/ 306.
يملك السواد الأعظم
(1)
، وقد قال عليه السلام في الحسن:"إن ابني هذا سيد"
(2)
، فأما لفظة:(مولاي) فلها وجوه في التصريف من ولي وناصر وابن عم وحلف، ولكن لا يقال: المولى من غير إضافة إلا لله تعالى، واختلف هل يطلق على الله اسم سيد
(3)
؟ ولا يقال: السيد على الإطلاق لمن أجاز أن يسمى به الخالق إلا لله تعالى.
فصل:
وكره أن يقول عبدي؛ لأن هذا الاسم من باب المضاف، ومقتضاه إثبات العبودية له، وصاحبه الذي هو المالك عبد لله تعالى، متعبد بأمره ونهيه، فإدخال مملوك الله تعالى تحت هذا الاسم يوجب الشرك؛ ويعنى: المضاهاة، فلذلك استحب له أن يقول: فتاي، والمعنى في ذلك كله راجع إلى البراءة من الكبر والتزام الذل، وهو أليق بالعبد المملوك أن لا يقول: فلان عبدي، وإن كان قد ملك قياده في الاستخدام ابتلاء فيه من الله لخلقه، قال تعالى:{وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} [الفرقان: 20].
وقال الداودي: إن قال: عبدي، أو أمتي ولم يرد التكبر فأرجو أن لا إثم عليه.
(1)
انظر: "التعريفات" للجرجاني ص 154 باب (السين).
(2)
سيأتي برقم (2704) كتاب: الصلح، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم للحسن بن علي.
(3)
روى أبو داود (4806)، وأحمد 4/ 24، 25.
من حديث مطرف قال: قال أبي: انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: أنت سيدنا. فقال: "السيد الله تبارك وتعالى". قلنا: وأفضلنا فضلًا، وأعظمنا طولًا. فقال:"قولوا بقولكم أو بعض قولكم ولا يستجرينكم الشيطان". قال الألباني في "صحيح الجامع"(3700): صحيح. اهـ.
وقول يوسف: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} خاصة بمن يعقل، وما اشتهرت به عادتهم في المخاطبة، وفيه نظر لابن التين؛ لأن النبي لا يتلفظ إلا بما هو سائغ.
وقال ابن بطال: ما جاء في الباب من النهي عن التسمية فإنه من باب التواضع، وجائز أن يقول الرجل: عبدي وأمتي؛ لأن القرآن قد نطق بذلك في قوله تعالى: {وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32]، وإنما نهى عليه السلام عن ذلك على سبيل التطاول والغلظة لا على سبيل التحريم، واتباع ما حض عليه أولى وأجمل، فإن في ذلك تواضعًا لله؛ لأن قول الرجل: عبدي وأمتي يشترك فيه الخالق والمخلوق، ويقال: عبد الله وأمة الله، فكره ذلك لاشتراك اللفظ، وأما الرب فهي كلمة وإن كانت مشتركة وتقع على غير الخالق للشيء كربّ الدابة والدار، يراد صاحبهما، فإنها لفظة تختص بالله في الأغلب والأكثر، فوجب أن لا تستعمل في المخلوقين لنفي الله الشركة بينهم وبين الله، ألا ترى أنه لا يجوز أن يقال لأحد غير الله إله ولا رحمن، ويجوز أن يقال: رحيم، لاختصاص الله بهذِه الأسماء، وكذلك الرب لا يقال لغير الله
(1)
.
فصل:
وقوله: "والمرأة راعية على بيت بعلها" سمي زوج المرأة بعلًا؛ لأنه يعلو عليها، ومنه قيل: لما شرب من السماء بعل. والأمر ببيع الأمة الزانية في الثالثة أو الرابعة، قد أسلفنا أنه للندب عند الجمهور خلافًا لداود، وذكر البخاري في التبويب "العبد راع في مال سيده"
(2)
يحتمل
(1)
ابن بطال 7/ 68.
(2)
سيأتي قبل حديث (2558) كتاب: العتق.
أن يريد مال سيده الذي ائتمنه عليه، ويحتمل أن ينسبه إلى السيد مجازًا، إذ له انتزاعه منه، والدليل على ذلك ما أسلفناه من قوله:"من باع عبدًا وله مال فماله للذي باعه إلا أن يشترط المبتاع"
(1)
، وهذا مذهب مالك
(2)
، ومذهب الشافعي وأبي حنيفة أنه لا يملك
(3)
، وعليه احتج البخاري بقوله:"والعبد راع في مال سيده" كما ستعلمه؛ لأن الرق مناف لذلك، وماله لسيده عند عتقه وبيعه إياه، وإن لم يشترط ماله سيده، وروي عن ابن مسعود وابن عباس وأبي هريرة وسعيد بن المسيب، وهو قول الثوري، وبه قال أحمد وإسحاق
(4)
.
وقالت طائفة: ماله له دون سيده في العتق والبيع، روي ذلك عن عمر وابنه وعائشة والنخعي والحسن
(5)
.
قال ابن بطال
(6)
: واضطرب قول مالك في ملك العبد، فقال: من باع وله مال فماله للبائع إلا أن يشترط المبتاع، وقال فيمن أعتق عبدًا أن ماله للعبد إلا أن يشترط السيد، فدل الأول: أنه يملك،
والثاني لا، والحجة له في البيع حديث ابن عمر:"من باع عبدًا وله مال .. " الحديث.
(1)
سلف برقم (2379) كتاب: المساقاة، باب: الرجل يكون له ممر أو شرب في حائط أو نخل، ورواه مسلم (1543) كتاب: البيوع، باب: من باع نخلًا عليها ثمر.
(2)
"الموطأ" برواية يحيى ص 484 - 485.
(3)
انظر: "مختصر الطحاوي" ص 367، "البيان" 8/ 429.
(4)
انظر: "شرح ابن بطال" 7/ 271، "الاستذكار" 23/ 259، "المغني" 14/ 457.
(5)
انظر: "الإشراف" 3/ 183.
(6)
"شرح ابن بطال" 7/ 71 - 72.
والثاني حديثه أيضًا: "من أعتق عبدًا فماله له إلا أن يستثنيه سيده"
(1)
.
وقال ابن شهاب: السنة أن العبد إذا أعتق تبعه ماله
(2)
. ولم يكن أحد أعلم بسنة ماضية منه. وقال قتادة في قوله تعالى: {عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} [النحل: 75] هو الكافر
(3)
، وقد سلف وإضافة المال إلى العبد؛ لأنه بيده.
(1)
رواه أبو داود (3962)، وابن ماجه (2529)، والنسائي في "الكبرى"(4981) 3/ 188.
(2)
رواه مالك في "الموطأ" برواية يحيى ص 484.
(3)
رواه الطبري 7/ 622 (21807).
18 - باب إِذَا أَتَاهُ خَادِمُهُ بِطَعَامِهِ
2557 -
حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:"إِذَا أَتَى أَحَدَكُمْ خَادِمُهُ بِطَعَامِهِ، فَإِنْ لَمْ يُجْلِسْهُ مَعَهُ، فَلْيُنَاوِلْهُ لُقْمَةً أَوْ لُقْمَتَيْنِ، أَوْ أُكْلَةً أَوْ أُكْلَتَيْنِ، فَإِنَّهُ وَلِيَ عِلَاجَهُ". [5460 - مسلم: 1663 - فتح: 5/ 181]
ذكر فيه حديث أبي هريرة عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَتَى أَحَدَكُمْ خَادِمُهُ بطَعَامِهِ، فَإِنْ لَمْ يجْلِسْهُ مَعَهُ، فَليُنَاوِلهُ لُقمَةً أَوْ لُقْمَتَيْنِ، أَوْ أكلَةً أَوْ أُكْلَتَينِ، فَإِنَّهُ وَلِيَ حره وعِلَاجَهُ".
هذا الحديث أخرجه مسلم
(1)
أيضًا، والأُكلة بضم الهمزة وهي اللقمة، وأما بفتحها فالمرة الواحدة.
قال المهلب: هذا تفسير حديث أبي ذر في التسوية بين العبد وبين سيده في المطعم والكسوة أنه على سبيل الحض والندب والتفضل، لا على سبيل الإيجاب على السيد؛ لأنه لم يسوّه في هذا الحديث بسيده في المؤاكلة، وجعل إلى السيد الخيار في إجلاسه للأكل معه أو تركه، ثم حضه على إن لم يأكل معه أن ينيله من ذلك الطعام الذي تعب فيه وشمه
(2)
.
(1)
مسلم (1663) كتاب: الإيمان، باب: إطعام المملوك مما يأكل ....
(2)
انظر: "ابن بطال" 7/ 69.
19 - باب العَبْدُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ
وَنَسَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم المَالَ إِلَى السَّيِّدِ.
2558 -
حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ فِي أَهْلِهِ رَاعٍ وَهْوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالمَرْأَةُ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ وَهْيَ مَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالخَادِمُ فِي مَالِ سَيِّدِهِ رَاعٍ وَهْوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ -قَالَ: فَسَمِعْتُ هَؤُلَاءِ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَحْسِبُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: وَالرَّجُلُ فِي مَالِ أَبِيهِ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ- فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ". [انظر: 893 - مسلم: 1829 - فتح: 5/ 181]
ذكر حديث ابن عمر السالف قريبا "كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ .. " إلى أن قال: "وَالخَادِمُ فِي مَالِ سَيِّدِهِ رَاعٍ وَهوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ".
وقد سلف الكلام عليه قريبًا.
قال المهلب: أمانات يلزم من استرعيها أداء النصيحة فيها لله ولمن استرعاه عليها، ولكل واحد منهم أن يأخذ مما استرعي عليه ممن أمره ما يحتاج إليه بالمعروف من نفقة ومؤنة، وفيه حجة لمن قال: العبد
لا يملك
(1)
.
(1)
انظر: "ابن بطال" 7/ 70 - 71.
20 - باب إِذَا ضَرَبَ العَبْدَ فَلْيَجْتَنِبِ الوَجْهَ
2559 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ قَالَ: وَأَخْبَرَنِي ابْنُ فُلَانٍ، عَنْ سَعِيدٍ المَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِذَا قَاتَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَجْتَنِبِ الوَجْهَ". [مسلم: 2612 - فتح: 5/ 182]
ذكر فيه حديث أبي هريرة عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "إِذَا قَاتَلَ أَحَدُكمْ فَلْيَجْتَنِبِ الوَجْهَ".
هذا الحديث أخرجه مسلم أيضًا
(1)
.
وقوله فيه: (وأخبرني ابن فلان) قائل ذلك هو ابن وهب وهو ابن سمعان.
قال الداودي: يريد: لأن فيه أكثر الجوارح وأكثو أمور الوضوء والجبهة وهي من المساجد واللسان والفم، وفي رواية في الصحيح علل ذلك بأن الله خلق آدم على صورته
(2)
. وأولى ما قيل فيه أن الحديث خرج على سبب وهو أنه عليه السلام مر برجل يضرب ابنه أو عبده في وجهه لطمًا ويقول: قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك فقال عليه السلام ذلك
(3)
.
(1)
مسلم (2612) كتاب: البر والصلة، باب: النهي عن ضرب الوجه.
(2)
ستأتي برقم (6227) كتاب: الاستئذان.
(3)
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين في "شرح العقيدة الواسطية" ص 246: إن أحد الوجهين الصحيحين في تأويلها أن الله خلق آدم على الصورة التي اختارها واعتنى بها، ولهذا أضافها الله إلى نفسه إضافة تشريف وتكريم، كإضافة الناقة والبيت إلى الله والمساجد إلى الله. =
وذكره المهلب بلفظ: يضرب عبده في وجهه لطمًا، إلى آخره.
وقال: نقل (الناقلون)
(1)
هذِه القصة من الطرق الصحيحة
(2)
؛ لأن تلك المقالة سب للأنبياء والمرسلين فزجره الشارع عن ذلك وخص آدم؛ لأنه الذي ابتدئت خلقة وجهه على الحد الذي يحتذى عليها من بعده كأنه ينبهه على أنك سببت آدم ومن ولد مبالغة في الزجر عن مثله، هذا وجه ظاهر والهاء كناية عن المضروب في وجهه وقيل فيه غير ذلك في تأويل ضمير الهاء من صورته إلى من يرجع.
قال ابن بطال: لم أو لذكرها وجهًا إذ لا يصح عندي في ذلك غير ما سلف، وهو قول المهلب
(3)
فلا تضرب صورة خلقها الله بيده، وحق الأبوة وهو آدم مُرَاعى، وتفضيل الله لها حين خلق آدم بيده وأسجد له ملائكته.
= والقول الثاني: أنه على صورته حقيقة ولا يلزم من ذلك التماثل. اهـ. ولمزيد بيان انظر: "شرح العقيدة الواسطية" لابن العثيمين ص 86 - 89.
فقد أجاب هناك بجوابين جواب مجمل آخر مفصل.
(1)
في الأصل: قائلون والمثبت من "ابن بطال" 7/ 70 وهو الأولى.
(2)
انظر: "ابن بطال" 7/ 70.
(3)
"ابن بطال" 7/ 70.
50
كتاب المكاتب
بسم الله الرحمن الرحيم
50 - كتاب المكاتب
(الكتابة من الكتب) أي: الجمع وهي في الشرع تعليق عتق بصفة ضمنت معاوضة.
1 - باب المُكَاتَبِ وَنُجُومِهِ فِي كُلِّ سَنَةٍ نَجْمٌ
وَقَوْلِهِ عز وجل: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللهِ الَّذِى آتَاكُمْ} [النور: 33]. وَقَالَ رَوْحٌ، عَنِ ابن جُرَيْجٍ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: أَوَاجِبٌ عَلَيَّ إِذَا عَلِمْتُ لَهُ مَالًا أَنْ أُكَاتِبَهُ؟ قَالَ: مَا أُرَاهُ إِلَّا وَاجِبًا. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: أَتَاثُرُهُ عَنْ أَحَدٍ؟ قَالَ: لَا. ثُمَّ أَخْبَرَنِي أَنَّ مُوسَى بْنَ أَنَسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ سِيرِينَ سَأَلَ أَنَسًا المُكَاتَبَةَ -وَكَانَ كَثِيرَ المَالِ- فَأَبَى، فَانْطَلَقَ إِلَى عُمَرَ فَقَالَ كَاتِبْهُ. فَأَبَى، فَضَرَبَهُ بِالدِّرَّةِ وَيَتْلُو عُمَرُ:{فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} فَكَاتبَهُ.
2560 -
وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ عُرْوَةُ: قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها إِنَّ بَرِيرَةَ دَخَلَتْ عَلَيْهَا تَسْتَعِينُهَا فِي كِتَابَتِهَا وَعَلَيْهَا خَمْسَةُ أَوَاقٍ، نُجِّمَتْ عَلَيْهَا فِي خَمْسِ سِنِينَ، فَقَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ -وَنَفِسَتْ فِيهَا-: أَرَأَيْتِ إِنْ عَدَدْتُ لَهُمْ عَدَّةً وَاحِدَةً، أَيَبِيعُكِ أَهْلُكِ، فَأُعْتِقَكِ، فَيَكُونَ وَلَاؤُكِ لِي؟ فَذَهَبَتْ بَرِيرَةُ إِلَى أَهْلِهَا، فَعَرَضَتْ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَقَالُوا: لَا، إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَنَا الوَلَاءُ، قَالَتْ عَائِشَةُ فَدَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ. فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"اشْتَرِيهَا فَأَعْتِقِيهَا، فَإِنَّمَا الوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ". ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "مَا بَالُ رِجَالٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللهِ؟ مَنِ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ فَهْوَ بَاطِلٌ، شَرْطُ اللهِ أَحَقُّ وَأَوْثَقُ". [انظر: 456 - مسلم: 1504 - فتح: 5/ 185]
وقًالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، عَنِ ابن شِهَابٍ، قَالَ عُرْوَةُ: قَالَتْ عَائِشَةُ إِنَّ بَرِيرَةَ دَخَلَتْ عَلَيْهَا تَسْتَعِينُهَا فِي كِتَابَتِهَا
…
الحديث بطوله.
الشرح:
هذِه الآية أصل في مشروعية الكتابة وكانت معروفة قبل الإسلام فأقرها الشارع وعملت بها الأمة والسلف، واختلف في أول من كوتب في الإسلام، فقيل: سلمان الفارسي كاتب أهله على مائة وَدْيَة نجمها لهم. فقال- عليه السلام: "إذا غرستها فآذني" فلما غرستها آذنته، فدعا فيها، فلم تمت منها ودية واحدة
(1)
.
وقيل: أول من كوتب في الإسلام أبو مؤمل. فقال عليه السلام: "أعينوا أبا مؤمل" فأعين فقضى كتابته وفضلت عنده، فاستفتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"أنفقها في سبيل الله"
(2)
.
(1)
رواه أحمد 5/ 441، الطبراني في "الكبير"(6065) 6/ 222، والحاكم 2/ 217 - 218، والبيهقي 10/ 321.
(2)
رواه البيهقي في "السنن" 7/ 21.
وقوله: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الكِتَابَ} [النور: 33] احتج به على أن السيد لا يجبر عبده عليها ومعنى {يَبْتَغُونَ} يطلبون، وفيه خلاف للمالكية
(1)
.
والكتاب والمكاتبة واحد، والمكاتبة مفاعلة مما يكون من اثنين؛ لأنها معاقدة بين السيد وعبده
(2)
، والأمر بالكتابة على الندب خلافًا لداود حيث قال على الوجوب إذا سأله العبد أن يكاتبه بقيمته أو أكثر. وقال إسحاق بالوجوب. قال: أخشى أن يأثم سيده إن لم يفعل ولا يجبره الحاكم
(3)
.
قال ابن حزم: وبإيجابه وإجباره يقول أبو سليمان وأصحابنا
(4)
. وقال عكرمة أيضًا بالوجوب
(5)
.
حجة الجمهور أن الإجماع منعقد على أن السيد لا يجبر على بيع عبده وإن ضوعف له في الثمن، وإذا كان كذلك كان أحرى وأولى أن لا يخرج [عن]،
(6)
ملكه بغير عوض لا يقال أنها طريق العتق، والشارع متشوف إليه فخالف البيع؛ لأن التشوف إنما هو في محل مخصوص، وأيضًا الكسب له فكأنه قال: اعتقني مجانًا.
وقال عطاء: يجب عليه إن علم له مالًا، كما حكاه البخاري، وأسنده ابن حزم من طريق إسماعيل بن إسحاق، حدثنا علي بن عبد الله، ثنا روح بن عبادة، ثنا ابن جريج به
(7)
.
(1)
نظر: "النوادر" 13/ 63 - 64.
(2)
انظر: "المصباح المنير" ص 200، "التعريفات" ص 35 مادة (كتب).
(3)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 4/ 412، "الإشراف" 2/ 174.
(4)
"المحلى" 9/ 224.
(5)
انظر: "أحكام القرآن" لابن العربي 3/ 1382.
(6)
من (ف).
(7)
"المحلى" 9/ 223.
وأثر ابن جريج رواه ابن سعد في "طبقاته".
أخبرنا يزيد بن هارون، أنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس قال: أرادني ابن سيرين على الكتابة فأبيت عليه فأتى عمر فذكر ذلك له، فأقبل علي عمر، فقال: كاتبه.
وأخبرنا محمد بن حميد العبدي، عن معمر، عن قتادة قال: سأل سيرين أبو محمد أنس بن مالك، فأبى أنس فرفع عمر بن الخطاب عليه الدرة، وقال: كاتبوهم، فكاتبه.
وأخبرنا (معن)
(1)
بن عيسى، ثنا محمد بن عمرو: سمعت محمد بن سيرين كاتب أنس أبي على أربعين ألف درهم
(2)
.
وقال ابن حزم: روينا من طريق إسماعيل بن إسحاق، حدثنا علي بن عبد الله، ثنا غندر، نا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس وفيه: فقال عمر: والله لتكاتبه وتناوله بالدرة فكاتبه
(3)
. وتعليق الليث أخرجه مسلم عن أبي الطاهر بن السرح، عن ابن وهب، عن يونس به
(4)
، وأنها كانت لم تؤد من كتابتها شيئًا.
واختلف العلماء في الخير في الآية، فقالت طائفة: الدين والأمانة. وقالت أخرى: المال مثل {{وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8)} ، و {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} . والأول قول الحسن والنخعي
(5)
، والثاني قول ابن عباس
(6)
.
(1)
في الأصل: معمر، والمثبت من "الطبقات الكبرى" وهو الصواب.
(2)
"الطبقات الكبرى" 7/ 119 - 120.
(3)
"المحلى" 9/ 223.
(4)
مسلم (1504/ 7).
(5)
رواهما الطبري في "تفسيره" 9/ 313 (26028، 26031).
(6)
رواه الطبري في "تفسيره" 9/ 313 (26024).
وقال مجاهد: الخير: المال والأداء
(1)
. وقال مالك: سمعت بعض أهل العلم يقول: هو القوة على الاكتساب والأداء
(2)
. وعن الليث نحوه.
وكره ابن عمر كتابة من لا حرفة له فيبعثه على السؤال، وقال: يطعمني أوساخ الناس
(3)
، وعن سليمان مثله. وضعف الطحاوي الثاني فقال: من قال: إنه المال لا يصح عندنا؛ لأن العبد نفسه مال لمولاه، فكيف يكون له مال؟ والمعنى عندنا: إن علمتم فيهم الدين والصدق، وعلمتم أنهم يعاملونكم على أنهم متعبدون بالوفاء لكم بما عليهم من الكتابة والصدق في المعاملة فكاتبوهم
(4)
.
وقال ابن حزم لما ذكر القول: والثاني موضوع كلام العرب؛ لأنه لو أراد المال لقال: إن علمتم لهم خيرًا أو عندهم أو معهم خيرًا؛ لأن بهذِه الحروف يضاف المال إلى من هو له في لغة العرب، ولا يقال أصلًا في فلان مال، فعلمنا أنه لم يرد المال، فيصح أنه الدين ولا خير في دين الكافر، وكل مسلم على أديم الأرض فقد علمنا فيه الخير بقول الشهادتين، وهذا أعظم ما يكون من الخير، روي عن علي أنه سئل: أكاتب وليس لي مال؟ فقال: نعم. فصح أن الخير عنده لم يكن المال
(5)
.
وفي "المصنف": لما كاتب ابن التياح حث [عليّ] على عطيته فجمعوا له
(6)
، وكذا فعله أبو موسى وابن عباس وردوا ما فضل في
(1)
رواه الطبري في "تفسيره" 9/ 314.
(2)
رواه الطبري في "تفسيره" 9/ 313 (26026).
(3)
رواه الطبري في "تفسيره" 9/ 313 (26024).
(4)
"أحكام القرآن" للطحاوي 2/ 457، 458.
(5)
"المحلى" 9/ 222.
(6)
رواه عبد الرزاق 8/ 373 (15581).
المكاتبين، وعن عبيدة {فَكَاتِبُوهُمْ} [النور: 33] قال: إن أقاموا الصلاة، وعن الحسن: دين وأمانة
(1)
، وفي لفظ: الإسلام والوفاء
(2)
.
وقول ابن عباس قال به عطاء ومجاهد
(3)
وأبو رزين
(4)
، وفي "المصنف": كتب عمر بن الخطاب إلى عمير بن سعد انه من قبلك من المسلمين أن يكاتبوا أرقاءهم على مسألة الناس، وكرهه أيضًا سلمان
(5)
.
وقالت طائفة بكلا الأمرين، وهو قول سعيد أخي الحسن والشافعي
(6)
، وأباح الحنفيون والمالكيون كتابة الكافر الذي لا مال له ولما سئل عثمان في مكاتبة مولى له قال: لولا أنه في كتاب الله ما فعلت. وروي أيضًا عن مسروق والضحاك
(7)
.
واختلفوا في الإيتاء في الآية، فذهب مالك وجمهور العلماء كما حكاه عنهم ابن بطال إلى أن ذلك على الندب والحض أن يضع الرجل عن عبده من أجل كتابته شيئًا مسمى يستعين به على الخلاص، وذهب الشافعي وأهل الظاهر إلى أن الإيتاء للعبد واجب
(8)
.
قال ابن بطال: وقول الجمهور أولى؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر موالي بريرة بإعطائها شيئًا، وقد كوتبت وبيعت بعد الكتابة، ولو كان الإيتاء واجبًا
(1)
رواه عبد الرزاق 8/ 371 (15573، 15574).
(2)
انظر: "المحلى" 9/ 222.
(3)
رواها عبد الرزاق 8/ 369 - 370 (15570).
(4)
انظر: "المحلى" 9/ 222.
(5)
رواه عبد الرزاق 8/ 374 (15583).
(6)
انظر: "السنن الكبرى" للبيهقي 1/ 318، "المحلى" 9/ 222.
(7)
انظر: "المحلى" 9/ 223.
(8)
انظر: "الأم" 7/ 364، "الإشراف" 2/ 176، "المحلى" 9/ 246.
لكان مقدرًا كسائر الواجبات، يعني: إذا امتنع السيد من حطه ادعاه عند الحاكم عليه، فأما دعوى المجهول فلا يحكم بها، ولو كان الإيتاء واجبًا وهو غير مقدر لكان الواجب للمولى على المكاتب هو الباقي بعد الحط، فأدى ذلك إلى جهل مبلغ الكتابة، وذلك لا يجوز.
قلت: حديث بريرة لا حجة فيه؛ لأن بالبيع ارتفعت الكتابة، وكان النخعي يذهب في تأويل الآية أنه خطاب للموالي وغيرهم
(1)
، وقاله الثوري
(2)
.
قال الطحاوي: وهو حسن من التأويل، حض الناس جميعًا على معاونة المكاتبين لكي يعتقوا
(3)
. واختلفوا في مقداره فروي عن ابن مسعود الثلث
(4)
، وعن علي: الربع
(5)
. وقال سعيد بن جبير: يضع عنه شيئًا، ولم يحده.
تنبيهات: أحدها: قول البخاري: (ونجومه في كل سنة نجم) الظاهر من قول مالك أن الكتابة تكون منجمة، ولا نص في الحالّة عنده، كما قال مالك. (قال)
(6)
: ومحققو أصحابه يجوزونها ويقولون خلافًا للشافعي؛ لأنها عتق بعوض فجازت مع تعجيله وتأجيله، أصله بيع العبد من نفسه
(7)
.
(1)
رواه عبد الرزاق 8/ 376 - 377 (15593).
(2)
انظر: "أحكام القرآن" للطحاوي 2/ 475.
(3)
"شرح مشكل الآثار" 11/ 161.
(4)
انظر: "أحكام القرآن" للطحاوي 2/ 474.
(5)
رواه الطبري في "تفسيره" 9/ 315 (26046).
(6)
كذا في الأصل، غير منسوب، بينما قد عزاه الحافظ في "الفتح" 5/ 185 لابن التين، وعزاه العيني في "العمدة" 4/ 43 لأبي بكر في "الجواهر". فاستفده.
(7)
انظر: "المعونة" 2/ 380.
وعندنا لا يكون في أقل من نجمين
(1)
، واختاره بعض المالكية.
وقال ابن بطال: سنة الكتابة أن تكون على نجوم تؤدى نجمًا بعد نجم، قال: وأجاز مالك والكوفيون الكتابة الحالة، فإن وقعت حالة أو على نجم واحد فليست كتابة عند الشافعي، وإنما هو عتق على صفة
(2)
.
ثانيها: قد أسلفنا أن الخير هو الدين والأمانة أو المال، وبعضهم قال: إنه الصلاة. وهو قول عبيدة وهو داخل في الدين، وكذا قول من قال: إنه العقد والصلاح والوفاء. ونقل في "الزاهي" عن أكثر العلماء أنه المال.
ثالثها: احتج به القاضي في "معونته" على جواز جمع المكاتبين في كتابة واحدة لقوله: {فَكَاتِبُوهُمْ} [النور: 33] ومنعه الشافعي
(3)
.
رابعها: قوله: (قلت لعطاء: تأثره عن أحد؟) وفي نسخة أتأثره؟ وقال ابن التين: قوله: على أحد، أي: تذكره عن أحد.
وقوله: (فأبى، فضربه بالدرة) فعله نصحًا له، ولو كانت الكتابة لازمة ما أبى، وإنما ندبه عمر إلى الأفضل، وروي أنه أمره بكتابة سيرين فأبى، فرفع عليه الدرة فكاتبه، فأتاه بنجومه قبل محلها فأبى
قبولها حتى تحل، فرفعها عليه أيضًا فأخذها.
(1)
انظر: "البيان" 8/ 417.
(2)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 4/ 411، "شرح ابن بطال" 7/ 74.
(3)
"المعونة" 2/ 388، والذي نص عليه الشافعية: لو كاتب ثلاثة أعبد على ألف في صفقة واحدة، ولم يميز نجوم كل واحد، فالنص صحة الكتابة، والنص في شراء ثلاثة أعبد من ثلاثة ملاك بعوض واحد الفساد. اهـ.
انظر: "الوسيط" 4/ 402، "البيان" 8/ 421، "روضة الطالبين" 12/ 216 - 217.
خامسها: يجوز نجم الكتابة قل أو كثر، ولا حدّ فيه، واعترض ابن بطال فقال: قول الشافعي: لا يجوز أقل من نجمين لو كان صحيحًا لجاز لغيره أن يقول: لا تجوز على أقل من خمسة نجوم؛ لأن أقل النجوم التي كانت على عهده عليه السلام في بريرة وعلم بها وحكم فيها كانت خمسة، وكان بصواب الحجة أولى، وأيضًا فإن النجم الثالث لما لم يكن شرطًا في صحتها بإجماع، فكذا الثاني؛ لأن كل واحد منهما له مدة يتعلق بها تأخير مال الكتابة، فإذا لم يكن أحدها شرطًا وجب أن لا يكون الآخر كذلك، ولما أجمعوا أنه لو قال له: إن جئتني من المال بكذا إلى شهر أنه جائز وليس بكتابة، فكذلك ما أشبهه من الكتابة
(1)
.
وما ذكره غير وارد؛ لأنه واقعة عين، وسيأتي أنه سبع أواق من عند البخاري ففاته إيرادها عليه.
سادسها: احتج بقوله في الحديث: (وعليها خمس أواق نجمت عليها في خمس سنين) من أجاز النجامة في الديون كلها على أن يقول: في كل شهر وفي كل عام كذا ولا يقول: في أول الشهر، ولا في آخره ولا في وسطه؛ لأنه لم يذكر فيه أي وقت يحل النجم فيه ولم ينكر عليه السلام ذلك وأبى هذا القول أكثر الفقهاء. وقالوا: لا بد أن يذكر أي شهر من السنة يحل النجم فيه، أو أي وقت من الشهر يحل النجم فيه، فإن لم يذكر ذلك فهو أجل مجهول لا يجوز؛ لأنه عليه السلام نهى عن البيع إلا إلى أجل معلوم ونهى عن حبل الحبلة وهو نتاج النتاج وليس تقصير من قصر عن مثل هذا المعنى في حديث بريرة بضائر لتقرير هذا المعنى عندهم.
(1)
"شرح ابن بطال" 7/ 75.
سابعها: (أواق) جمع أوقية مشدد والجمع أواقي مشدد ومخفف أيضًا، (ونفست): رغبت، {فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ} وفيه أن بيع الأمة لا يكون طلاقًا، خلافًا لابن عباس وابن المسيب وأنس وأُبي
(1)
؛ لأنه لو كان طلاقًا ما خيرها الشارع، وفيه: رد على ابن عباس حيث قال: إن المكاتب حر بنفس الكتابة
(2)
، وفيه: جواز بيع المكاتب للعتق، ويجوز بيع كتابته عند مالك
(3)
، ومنعه أبو حنيفة والشافعي وعبد العزيز وربيعة
(4)
.
وفيه: فسخها، وقيل: إنها عجزت نفسها.
وفيه: أن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم. وقال ابن مسعود: إذا أدى النصف كان حرًّا ويتبع، وقيل: إذا أدى الثلث كان حرًّا ويتبع أيضًا، وقيل: الربع، وقيل: إذا أدى قيمته
(5)
.
وفي قوله: ("من اشترط شرطًا ليس في كتاب الله فهو باطل")، وفي الباب الذي بعده:"وإن اشترط مائة مرة".
فيه: أن مفهوم الخطاب لا يقوم مقام الخطاب، وأن ما فوق المائة داخل في حكم المائة وهو مثل قوله:{إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ}
(1)
انظر: "السنن الكبرى" للبيهقي 7/ 168.
(2)
قال الطحاوي في "أحكام القرآن" 2/ 459: وهذا القول عندنا فاسد، ولم نجد له إمامًا قال به، غير أن بعض أهل العلم ذكره عن ابن عباس، ولم يذكر إسنادًا، وذلك عندنا غير صحيح عن ابن عباس، بل قد وجدنا عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلافه. اهـ.
(3)
انظر: "الاستذكار" 23/ 298.
(4)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 4/ 429، "الإشراف" 2/ 189.
(5)
"السنن الكبرى" للبيهقي 10/ 326.
وفيه: جواز كتابة الأمة وإن كانت تسأل، وذكر القاضي في "معونته" أن ذلك مكروه ولما روي عن عثمان: لا تكلفوا الأمة الكسب فتكتسب بفرجها. ونقل اتفاق أصحاب مالك أنه لا ينبغي أن يكاتب إلا لمن في يدها صنعة
(1)
.
واختلف في كتابة الكبير إذا لم يكن له حرفة والمشهور جوازه، وروي منعه وعزي لابن عمر وأبيه، واختلف في كتابة الصغير ففي "المدونة": هي جائزة. وقال أشهب: لا
(2)
، وذكر ابن القصار عن مالك في ذلك قولين وقول أهل بريرة في الباب الذي بعده: إن شاءت أن تحتسب عليك -وهو من الحسبة- أن تحتسب الأجر من الله.
(1)
"المعونة" 2/ 382.
(2)
"المدونة" 3/ 14.
2 - باب مَا يَجُوزُ مِنْ شُرُوطِ المُكَاتَبِ، وَمَنِ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ
2561 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَخْبَرَتْهُ، أَنَّ بَرِيرَةَ جَاءَتْ تَسْتَعِينُهَا فِي كِتَابَتِهَا، وَلَمْ تَكُنْ قَضَتْ مِنْ كِتَابَتِهَا شَيْئًا، قَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ ارْجِعِي إِلَى أَهْلِكِ، فَإِنْ أَحَبُّوا أَنْ أَقْضِيَ عَنْكِ كِتَابَتَكِ، وَيَكُونَ وَلَاؤُكِ لِي فَعَلْتُ. فَذَكَرَتْ ذَلِكَ بَرِيرَةُ لأَهْلِهَا، فَأَبَوْا وَقَالُوا إِنْ شَاءَتْ أَنْ تَحْتَسِبَ عَلَيْكِ فَلْتَفْعَلْ، وَيَكُونَ وَلَاؤُكِ لَنَا، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"ابْتَاعِي فَأَعْتِقِي، فَإِنَّمَا الوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ". قَالَ ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "مَا بَالُ أُنَاسٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللهِ؟ مَنِ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ فَلَيْسَ لَهُ، وَإِنْ شَرَطَ مِائَةَ مَرَّةٍ، شَرْطُ اللهِ أَحَقُّ وَأَوْثَقُ". [انظر: 456 - مسلم: 1504 - فتح: 5/ 187]
2562 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: أَرَادَتْ عَائِشَةُ -أُمُّ المُؤْمِنِينَ- أَنْ تَشْتَرِيَ جَارِيَةً لِتُعْتِقَهَا، فَقَالَ أَهْلُهَا: عَلَى أَنَّ وَلَاءَهَا لَنَا. قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَمْنَعُكِ ذَلِكِ، فَإِنَّمَا الوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ". [انظر: 2156 - مسلم: 1504 - فتح: 5/ 188]
ثم ساق حديث عائشةَ في قصة بَريرة بطوله، وقال في أوله: حدثنا قتيبة، ثنا الليث، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة. وبخط الدمياطي على (الليث) صح وفي الحاشية عن عقيل، وعليه علامة نسخة. ثم ساقه من حديث ابن عمر وترجم عليه أيضًا.
3 - باب اسْتِعَانَةِ المُكَاتَبِ، وَسُؤَالِهِ النَّاسَ
2563 -
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: جَاءَتْ بَرِيرَةُ فَقَالَتْ إِنِّي كَاتَبْتُ أَهْلِي عَلَى تِسْعِ أَوَاقٍ، فِي كُلِّ عَامٍ وَقِيَّةٌ، فَأَعِينِينِي. فَقَالَتْ عَائِشَةُ: إِنْ أَحَبَّ أَهْلُكِ أَنْ أَعُدَّهَا لَهُمْ عَدَّةً وَاحِدَةً، وَأُعْتِقَكِ فَعَلْتُ، وَيَكُونَ وَلَاؤُكِ لِي. فَذَهَبَتْ إِلَى أَهْلِهَا، فَأَبَوْا ذَلِكَ عَلَيْهَا، فَقَالَتْ: إِنِّي قَدْ عَرَضْتُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَأَبَوْا إِلَّا أَنْ يَكُونَ الوَلَاءُ لَهُمْ. فَسَمِعَ بِذَلِكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَنِي فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ:"خُذِيهَا، فَأَعْتِقِيهَا، وَاشْتَرِطِي لَهُمُ الوَلَاءَ، فَإِنَّمَا الوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ". قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي النَّاسِ، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ:"أمَّا بَعْدُ، فَمَا بَالُ رِجَالٍ مِنْكُمْ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللهِ؟ فَأَيُّمَا شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ فَهْوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ، فَقَضَاءُ اللهِ أَحَقُّ، وَشَرْطُ اللهِ أَوْثَقُ، مَا بَالُ رِجَالٍ مِنْكُمْ يَقُولُ أَحَدُهُمْ: أَعْتِقْ يَا فُلَانُ وَلِيَ الوَلَاءُ. إِنَّمَا الوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ". [انظر: 456 - مسلم: 1504 - فتح: 5/ 190]
ثم ساق من حديث عائشةَ، وفيه: فقالت -تعني: بريرة- كَاتَبْتُ عَلَى تِسْعِ أَوَاقٍ، فِي كُلِّ عَامٍ أوقية، فَأَعِينِينِي. وترجم عليه أيضًا.
4 - باب بَيْعِ المُكَاتَبِ إِذَا رَضِيَ
وَقَالَتْ عَائِشَةُ: هُوَ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: هُوَ عَبْدٌ إِنْ عَاشَ وَإِنْ مَاتَ وَإِنْ جَنَى، مَا بَقِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ.
2564 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ بَرِيرَةَ جَاءَتْ تَسْتَعِينُ عَائِشَةَ أُمَّ المُؤْمِنِينَ رضي الله عنها، فَقَالَتْ لَهَا: إِنْ أَحَبَّ أَهْلُكِ أَنْ أَصُبَّ لَهُمْ ثَمَنَكِ صَبَّةً وَاحِدَةً فَأُعْتِقَكِ فَعَلْتُ. فَذَكَرَتْ بَرِيرَةُ ذَلِكَ لأَهْلِهَا، فَقَالُوا: لَا، إِلَّا أَنْ يَكُونَ وَلَاؤُكِ لَنَا. قَالَ مَالِكٌ: قَالَ يَحْيَى: فَزَعَمَتْ عَمْرَةُ أَنَّ عَائِشَةَ ذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "اشْتَرِيهَا وَأَعْتِقِيهَا، فَإِنَّمَا الوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ". [انظر: 456 - مسلم: 1504 - فتح: 5/ 194]
ثم ساق حديثها
(1)
في قصتها ثم ترجم عليه:
(1)
جاء في هامش الأصل: ساق في سنده إلى عمرة بنت عبد الرحمن أن بريرة جاءت تستعين .. وهذا مرسل؛ لأنها حكت قصة لم تدركها. فكان نقلها لذلك مرسلًا، فاعلمه وإن تشأ فقل: منقطع.
5 - باب إِذَا قَالَ المُكَاتَبُ: اشْتَرِنِي وَأَعْتِقْنِي؛ فَاشْتَرَاهُ لِذَلِكَ
2565 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَاحِدِ بْنُ أَيْمَنَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي أَيْمَنُ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ رضي الله عنها فَقُلْتُ: كُنْتُ غُلَامًا لِعُتْبَةَ بْنِ أَبِي لَهَبٍ، وَمَاتَ وَوَرِثَنِي بَنُوهُ، وَإِنَّهُمْ بَاعُونِي مِنَ ابْنِ أَبِي عَمْرٍو، فَأَعْتَقَنِي ابْنُ أَبِي عَمْرٍو، وَاشْتَرَطَ بَنُو عُتْبَةَ الوَلَاءَ. فَقَالَتْ: دَخَلَتْ بَرِيرَةُ وَهْيَ مُكَاتَبَةٌ فَقَالَتِ اشْتَرِينِي وَأَعْتِقِينِي. قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَتْ: لَا يَبِيعُونِي حَتَّى يَشْتَرِطُوا وَلَائِي. فَقَالَتْ لَا حَاجَةَ لِي بِذَلِكَ. فَسَمِعَ بِذَلِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم -أَوْ بَلَغَهُ- فَذَكَرَ لِعَائِشَةَ، فَذَكَرَتْ عَائِشَةُ مَا قَالَتْ لَهَا، فَقَالَ:"اشْتَرِيهَا وَأَعْتِقِيهَا، وَدَعِيهِمْ يَشْتَرِطُونَ مَا شَاءُوا". فَاشْتَرَتْهَا عَائِشَةُ فَأَعْتَقَتْهَا، وَاشْتَرَطَ أَهْلُهَا الوَلَاءَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"الوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ، وَإِنِ اشْتَرَطُوا مِائَةَ شَرْطٍ". [انظر: 456 - مسلم: 1504 - فتح: 5/ 196]
ثم ساق حديثها في قصتها، وفي أوله: قال أيمن: دخلت على عائشة فقلت: كُنْتُ غُلَامًا لِعُتْبَةَ بْنِ أَبِي لَهَب، وَمَاتَ وَوَرِثَنِي بَنُوهُ، وَإِنَّهُمْ بَاعُونِي مِنَ عبد الله بن أَبِي عَمْرٍو المخزومي، فَأَعْتَقَنِي ابن أَبِي عَمْرٍو، وَاشْتَرَطَ بَنُو عُتْبَةَ الوَلَاءَ. فَقَالَتْ: دَخَلَتْ بَرِيرَةُ، .. ثم ساقت قصتَها.
الشرح:
تعليق عائشة أخرجه الطحاوي عن يونس، ثنا ابن وهب، ثنا ابن أبي ذئب، عن عمران بن بشير، عن سالم، عنها: إنك عبد ما بقي عليك شيء، وحدثنا أبو بشر، ثنا أبو معاوية وشجاع بن الوليد، عن عمرو بن ميمون، عن سليمان بن يسار قال: استأذنت على عائشة، فقالت: كم بقي عليك من كتابتك؟، قلت: عشر أواق، قالت: ادخل
فإنك عبد ما بقي عليك شيء
(1)
.
وللبيهقي: ما بقي عليك درهم. وله أنها قالت: سالم، لا تزال مملوكًا ما بقي من كتابتك درهم
(2)
.
وأثر زيد رواه الشافعي عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عنه به
(3)
. وللطحاوي: عن علي بن شيبة، ثنا يزيد بن هارون، أنا سفيان به: كان زيد بن ثابت يقول: المكاتب عبد ما بقي عليه شيء من كتابته
(4)
، وكان جابر بن عبد الله يقول: شروطهم جائزة بينهم
(5)
.
وأثر ابن عمر أسنده الطحاوي أيضًا، عن يونس، عن ابن وهب، أخبرني أسامة بن زيد ومالك، عن نافع، عن ابن عمر قال: المكاتب عبدما بقي عليه من كتابته شيء
(6)
. وللبيهقي من حديث عبيد، عن نافع: ما بقي عليه درهم
(7)
. وللنسائي من حديث قتادة عن خلاس بن عمرو، عن علي بن أبي طالب. وقال أيوب عن عكرمة، عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"المكاتب يعتق منه بقدر ما أدى، ويقام عليه الحد بقدر ما عتق منه"
(8)
.
(1)
"شرح معاني الآثار" 3/ 112.
(2)
"السنن الكبرى" 10/ 324.
(3)
"الأم" 7/ 382.
(4)
"شرح معاني الآثار" 3/ 112.
(5)
سيأتي قبل حديث (2735) كتاب: الصلح، باب: المكاتب وما لا يحل من الشروط.
(6)
"شرح معاني الآثار" 3/ 112.
(7)
"السنن" 10/ 332.
(8)
"المجتبى" 8/ 46.
ولأبي داود من حديث ابن عباس قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المكاتب يقتل يؤدي ما أدى من كتابته دية الحر وما بقي دية المملوك
(1)
.
وللنسائي من حديث علي مرفوعًا: "يؤدي المكاتب بقدر ما أدى"
(2)
.
قال ابن حزم: هذا خبر صحيح ولا يضره من خطأه، وأن حماد بن زيد أرسله عن أيوب وأن ابن عُلية رواه أيضًا عن أيوب موقوفًا؛ لأن الثقات الأثبات أسندوه: حماد بن سلمة ووهيب ويحيى بن أبي كثير وقتادة بن دعامة، عن خلاس، عن علي وما منهم أحد إن لم يكن فوق ابن زيد لم يكن دونه، فكيف وقد أسنده أيضًا حماد بن زيد، عن أيوب ويحيى بن أبي كثير كلاهما، عن عكرمة عند النسائي
(3)
، وأما ما ذكروا من إيقاف ابن علية له على عليّ فهو قوة للخبر؛ لأنه أفتى بما روى
(4)
.
قال ابن حزم: روي عن عمر وعثمان وجابر وأمهات المؤمنين: المكاتب عبد ما بقي عليه درهم، ولا يصح عن أحد منهم؛ لأنه عن عمر من طريق ابن أرطاة وهو هالك، عن ابن أبي مليكة أن عمر مرسل، ومن طريق محمد بن عبيد الله العرزمي وهو مثله أو دونه، عن ابن المسيب أن عمر مرسل، ومن طريق سليمان التيمي أن عمر، ومن طريق ابن وهب، عن رجال من أهل العلم أن عمر وعثمان وجابرًا، فذكره. والذي عن أمهات المؤمنين من طريق عمر بن قيس سندل وعن أم سلمة من طريق أبي معشر وهو ضعيف، ولكنه صحيح، عن عائشة
(1)
أبو داود (4581).
(2)
"المجتبى" 8/ 46.
(3)
"المجتبى" 8/ 46.
(4)
"المحلى" 9/ 227 - 228.
وابن عمر وزيد بن ثابت، ومأثور عن طائفة من التابعين منهم عروة وسليمان بن يسار وصح عن ابن المسيب والزهري وقتادة، ويؤيد هذا ما رواه عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده يرفعه:"المكاتب عبد ما بقي عليه درهم".
قلت: أخرجه أبو داود والنسائي والحاكم وقال: صحيح الإسناد
(1)
.
وصححه ابن حبان من طريق عطاء، عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ومن كان مكاتبًا على مائة درهم فأداها إلا عشرة دراهم، فهو عبد، أو على مائة أوقية فقضاها إلا أوقية فهو عبد"
(2)
.
قال ابن حزم: وكذا رواه ابن عمر مرفوعًا وهو خبر موضوع إنما يعرف من فُتياه
(3)
. وعن جابر في المكاتب يؤدي صدرًا من كتابته ثم يعجز، قال: يُرد عبدًا، سيده أحق بشرطه الذي شرط
(4)
.
قال ابن جريج: وأخبرني ابن (أمية)
(5)
أن نافعًا أخبره أن ابن عمر فعل ذلك بعد أن مر نصف كتابة مكاتبه
(6)
.
وعن علي: إذا عجز المكاتب، فأدخل نجمًا في نجمين رُدّ في الرِّقِّ
(7)
. في سنده ابن أرطاة.
(1)
أبو داود (3926)، واللفظله والنسائي في "الكبرى" 3/ 197 (5026)، والحاكم في "المستدرك" 2/ 218، وقال النووي في "روضة الطالبين" 12/ 236: حسن. اهـ.
(2)
"صحيح ابن حبان" 10/ 161 (4321).
(3)
"المحلى" 9/ 229 - 231.
(4)
رواه عبد الرزاق 8/ 406 (15719)، والبيهقي 10/ 342.
(5)
في الأصول (علية)، وهو تحريف، والمثبت هو الصواب كما في مصادر التخريج.
(6)
رواه عبد الرزاق في "مصنفه" 8/ 407 (15724)، وابن حزم في "المحلى" 9/ 241، والبيهقي في "الكبرى" 10/ 341.
(7)
رواه ابن أبي شيبة 4/ 399 (21406)، والبيهقي 10/ 342 وقال: ضعيف. اهـ.
وعن أبي أيوب الأنصاري أنه كاتب أفلح، ثم بَدَا له فسأله إبطال الكتابة دون أن يعجز، فأجابه فرده عبدًا ثم أعتقه بتلًا
(1)
، وقد ذكر ذلك مخرمة بن بكير، عن أبيه أنه لا بأس به، وبه يقول أبو حنيفة والشافعي ومالك وأبو سليمان، وقال هؤلاء: تعجيز المكاتب جائز بينه وبين سيده دون السلطان
(2)
.
ثم اختلف القائلون بتعجيزه، فعن علي: إذا عجز استسعى حولين، فإن أَدى وإلا رُدّ في الرّقّ
(3)
، وبهذا يقول الحسن وعطاء بن أبي رباح ولم يقل جابر ولا ابن عمر بالتلوم بل أرقه ابن عمر ساعة وذكر أنه عجز، وبه يقول أبو سليمان وأصحابنا
(4)
، وعن عليٍّ أيضًا في المكاتب يعجز أنه يعتق بالحساب
(5)
.
قال ابن أبي ليلى والحكم بن عتيبة والحسن بن حي وأبو يوسف وأحمد بن حنبل: لا يرق حتى يتوالى عليه نجمان لا يؤديهما
(6)
.
وقال الأوزاعي: إذا عجز استوفي به شهران.
(1)
رواه ابن سعد في "الطبقات" 5/ 86.
(2)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 4/ 437، "الإشراف على مذاهب أهل العلم" 2/ 191.
(3)
رواه البيهقي 10/ 342 من طريق سعيد، عن قتادة، عن خلاس، عن علي، ثم قال: رواية خلاس عن عليّ لا تصح عند أهل الحديث، فإن صحت فهي محمولة على وجه المعروف من جهة السيد، فإن لم ينتظر رد في الرق. اهـ.
(4)
انظر: "المحلى" 9/ 241.
(5)
رواه عبد الرزاق 8/ 406 (15721).
(6)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 4/ 436 - 437، "الإشراف" 2/ 191، "الواضح في شرح مختصر الخرقي" 5/ 360.
وقال أبو حنيفة والشافعي: إذا عجز استوفي به ثلاثة أيام فقط ثم يرق
(1)
.
وقال مالك: يتلوم له السلطان بقدر ما يرى
(2)
.
وإذا كانت الكتابة نجمين أو أكثر، فأراد العبد تعجيلها كلها أو تعجيل بعضها قبل أجله لم يلزم السيد قبول ذلك ولا عتق العبد، وهي إلى أجلها.
وقال مالك: يجبر السيد على قبض ذلك ويعجل العتق للمكاتب
(3)
،
محتجين مما روي أنّ سيرين كاتب أنسًا وعجل له كتابته فأبى فكتب إليه عمر بقبولها فقبلها
(4)
.
وقال الشافعي: إن كانت الكتابة دنانير أو دراهم أجبر السيد على قبولها، وإن كانت عروضًا لم يجبر
(5)
.
(1)
عزاه لهما ابن في "المحلى" 9/ 241، وفيه نظر، نعم هو ثابت من كلام أبي حنيفة وليس كذلك بالنسبة للشافعي.
قال أبو حنيفة في المكاتب يعجز، فيقول: أخروني وقد أجل بنجم، قال: إن كان له مال حاضر أو مال غائب، يرجو قدومه آخره يومين أو ثلاثة، لا يزيده على ذلك شيئًا، إلا ردّ في الرق. اهـ. انظر:"مختصر اختلاف العلماء" 4/ 435، و"الإشراف" 2/ 191.
وقال الشافعي: وإذا قال المكاتب قد عجزت عن محل نجم من نجومه فهو كما قال هو كمن لم يكاتب، يبيعه سيده ويصنع به ما شاء كان ذلك عند قاضٍ أو لم يكن اهـ انظر:"الأم" 7/ 125.
أضف إلى ذلك أن الطحاوي عند نقل قول أبي حنيفة السابق لم يشر إلى أن الشافعي وافقه، بل نقل عنه كلامًا آخر. انظر:"مختصر اختلاف العلماء" 4/ 435، 437، وكذلك فعل ابن عبد البر في "التمهيد" 22/ 178.
(2)
انظر: "المدونة" 3/ 11.
(3)
"الموطأ" برواية يحيى ص 501.
(4)
سبق تخريجه في أول كتاب: المكاتب.
(5)
انظر: "الأم" 7/ 390.
فرع: قال ابن عبد البر: عند الشافعي لا يكون حرًّا بأداء جميع كتابته إلا أن يكون في عقد كتابته، فإذا أديت ذلك فأنت حر يشترط ذلك في نفس الكتابة
(1)
.
وقال أبو حنيفة وأصحابه ومالك: لا يضر المكاتب أن يقول له مولاه ذلك
(2)
.
فرع
(3)
: عن مالك لا ينبغي أن يطأ مكاتبته، فإن جهل ووطئها فحملت فهي بالخيار إن شاءت كانت أم ولد وإن شاءت قرت على كتابتها
(4)
، وهو قول جمهور العلماء، وكان ابن المسيب يجيز للرجل أن يشترط على مكاتبته وطأها
(5)
، وتابعه أحمد وداود
(6)
؛ لأنها بملكه يشترط فيها ما شاء قبل العتق قياسًا على المدبرة.
وحجة سائر الفقهاء أنه وطء تقع الفرقة فيه إلى أجل آت لا محالة فأشبه نكاح المتعة، وممن قال ذلك الحسن وابن شهاب وقتادة والثوري ومالك والأوزاعي وأبو حنيفة والشافعي والليث ويحيى بن سعيد وربيعة وأبو الزناد والحسن بن حي.
واختلف فيها عن إسحاق فروي عنه مثل قول أحمد، وروى عنه مثل قول الجماعة.
(1)
"الاستذكار" 23/ 230.
(2)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 4/ 412، "الاستذكار" 23/ 230.
(3)
هذا الفرع بتمامه ذكره ابن البر في "الاستذكار" 23/ 263 - 266.
(4)
"الموطأ" برواية يحيى ص 494.
(5)
رواه ابن أبي شيبة 4/ 14 (17300).
(6)
انظر: "المغني" 14/ 487، "المحلى" 9/ 241.
واجمعوا أنها إذا عجزت حل له وطؤها، واختلفوا فيما عليه إذا وطئها، فقال أبو الزناد ويحيى: إن طاوعته فلا شيء عليه وإن استكرهها جلد وغرم لها صداق مثلها، فإن حملت كانت أم ولد وبطلت كتابتها
(1)
.
وقال الثوري وأبو حنيفة ومالك والشافعي وابن حي: لا حدّ عليه بالوطء كارهة أو مطاوعة
(2)
. إلا أن الشافعي قال: إن كان جاهلًا عُذِر وإن كان عالمًا عُزِّر
(3)
.
وقال مالك: إن استكرهها عوقب
(4)
.
وقال الحسن والزهري: من وطئ مكاتبة عليه الحد
(5)
. وقال الأوزاعي: يجلد مائة بكرًا كان أو ثيبًا وتجلد الأمة خمسين
(6)
. وقال قتادة: يجلد مائة إلا سوطًا
(7)
.
وقال أحمد: إن وطئها، ولم يشترط أُدِّب وكان لها عليه مهر مثلها
(8)
، وأما الصداق فأوجبه لها من أسقط الحد عنها: سفيان بن
(1)
رواه عبدُ الرزاق في "مصنفه" 8/ 430 (15809) وتمامه: إن طاوعته جُلدا، ولا شيء لها ..
(2)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 4/ 434، "الإشراف على مذاهب أهل العلم" 2/ 181.
(3)
انظر: "الإشراف على مذاهب أهل العلم" 2/ 181.
(4)
انظر: "المدونة" 3/ 16، "الاستذكار" 23/ 264.
(5)
أما أثر الزهري، فرواه عبد الرزاق في "مصنفه" 8/ 430 (15806)، وأما الحسن فانظر:"الإشراف على مذاهب أهل العلم" 2/ 181.
(6)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 4/ 434، "الإشراف على مذاهب أهل العلم" 2/ 181.
(7)
رواه عبد الرزاق في "مصنفه" 8/ 430 (15807).
(8)
انظر: "مسائل أحمد وإسحاق برواية الكوسج" 2/ 491 (3158).
سعيد والشافعي وأبو حنيفة
(1)
، وأوجبه لها الحسن وقتادة وهو ممن يرى الحد على سيدها
(2)
.
قال أبو حنيفة: الحد والصداق لا يجتمعان
(3)
. وقال الحكم بن عتيبة: تبطل كتابتها إذا حملت وتصير أم ولد ولا خيار لها
(4)
.
تنبيهات:
أحدها: أجمع العلماء أن من شرط ما لا يجوز في السنة أنه لا ينفعه
شرطه ذلك وأنه مردود في بيع كان الشرط أو عتق أو غير ذلك من الأحكام؛ لأنه عليه السلام لم يخص شيئًا دون غيره، بل عم الأشياء كلها في حديث بريرة
(5)
، وقد سلف اختلافهم في جواز الشرط في البيع في البيوع. وقوله:("كل شرط ليس في كتاب الله") معناه في حكم الله وقضائه من كتابه أو سنة نبيه أو إجماع الأمة فهو باطل.
ثانيها: في حديث بريرة دلالة على اكتساب المكاتب بالسؤال وأن
(1)
أما أثر الثوري فرواه عبد الرزاق 8/ 430 (15808)، وانظر:"مختصر اختلاف العلماء" 4/ 434، "الإشراف على مذاهب أهل العلم" 2/ 182.
(2)
أما أثر الحسن فرواه ابن أبي شيبة 4/ 14 (17297)، وأما أثر قتادة فرواه عبد الرزاق 8/ 430 (15807).
(3)
لم أقف عليه من قول أبي حنيفة، بل من قول إبراهيم النخعي رواه ابن أبي شيبة 4/ 15 من طريق أبي حنيفة، عن حماد، عن إبراهيم: لا يجتمع حد ولا صداق على زان. ومن طريق الحكم عن إبراهيم: إذا أوقعت عليه الحد، لم آخذ منه العُقْر. وهذِه العبارة: الحد والصداق لا يجتمعان كثر ذكرها في كتب الحنيفة دون عزو لقائل، فكأنها كالقاعدة المقررة، والله أعلم.
(4)
كذا ذكره ابن حزم في "المحلى" 9/ 236، ورواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 4/ 14 بلفظ مقارب له فقال: إذا غشي مكاتبته فهي أمّ ولده، إن كان استكرهها فعليه العقد والحد، وإن كانت طاوعته فعليه الحد وليس عليه العقد.
(5)
نقل الإجماع على ذلك ابن بطال في "شرحه" 7/ 79.
ذلك طيب لمولاه وهذا يرد على من قال ذلك أوساخ الناس؛ لأن ما طاب لبريرة أخذه طاب لسيدها أخذه منها اعتبارًا باللحم الذي كان عليها صدقة وللشارع هدية، واعتبارًا أيضًا بجواز معاملة الناس للسائل، وقد تأول قوم من العلماء في قوله تعالى:{وَفِي الرِّقَابِ} [البقرة: 177] أنه يجوز للمكاتبين أخذ الزكاة المفروضة، فكيف بالتطوع!
واتفق مالك والكوفيون والشافعي على جواز كتابة من لا حرفة له ولا مال معه
(1)
، وقد روي عن مالك كراهته أيضًا
(2)
وكرهه الأوزاعي وأحمد وإسحاق
(3)
.
ومما يدل على جواز سعي المكاتب وسؤاله أن بريرة ابتدأت بالسؤال، ولم يقل عليه السلام هل لها مال أو عمل أو كسب، ولو كان واجبًا لسأل عنه ليقع حكمه عليه؛ لأنه بُعِثَ معلمًا صلى الله عليه وسلم وهذا يدل أن من تأول دي قوله (تعالى)
(4)
: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] أن الخير المال ليس بالتأويل الجيد، وأنه القوة على الكسب مع الأمانة وقد يكتسب بالسؤال.
ثالثها: قوله: ("واشترطي لهم الولاء") قد سلف في موضعه ما فيه
(5)
والمراد: أظهري لهم حكمه وعرفيهم. والاشتراط: هو الإظهار ومنه: أشراط الساعة. أي: ظهور علاماتها.
(1)
انظر: "مختصر الطحاوي" ص 384، "التمهيد" 23/ 165، "الإشراف" 2/ 175.
(2)
انظر: "شرح ابن بطال" 7/ 79.
(3)
انظر: "الإشراف على مذاهب أهل العلم" 2/ 175، "مسائل أحمد وإسحاق
برواية الكوسج" 2/ 478، 481 (3121، 3128).
(4)
في الأصل: عليه السلام، وهو خطأ بيِّن.
(5)
تقدم برقم (456) كتاب: الصلاة، باب: ذكر البيع والشراء على المنبر في المسجد.
وقال الداودي وغيره: لم يقل لها الشارع ذلك إلا بعد المتقدم إليهم وإعلامهم أن الولاء كالنسب لا يباع ولا يوهب، ومعناه: اشترطي لهم الولاء، فإن اشتراطهم إياه بعد علمهم أن اشتراطه لا يجوز غير نافع، يوضحه قوله معلنًا على رءوس الناس:"ما بال أقوام يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله" فإنما وبخهم بما تقرر عندهم من علم السنة في ذلك، ألا ترى قوله:"قضاء الله حق، وشرطه أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق" فكان هذا على وجه الوعيد لمن رَغِبَ عن سنته في بيع الولاء، وليحذروا من موافقة مثله، ولم يكن ليتوعد في الأمر إلا بعد المتقدم فيه.
وقيل: قاله على وجه العقوبة لهم بأن حَرَمَهم الولاء إذ تقدموا على ذلك قبل أن يسألوا وهو بين أظهرهم يوضحه -أي: ربما قال الشيء أو فعله وليس بالأفضل عنده، لما يريد من تنكيل الناس وعقوبتهم- أنه عليه السلام نهاهم عن الوصال فلم ينتهوا، فلما واصل بهم يومًا ثم يومًا حتى رأوا الهلال وقال:"لو تأخر لزدتكم"
(1)
كالمنكل لهم حين أبوا أن ينتهوا ومثله قوله يوم الطائف: "إنا قافلون غدًا إن شاء الله" فقال الناس: قبل أن نفتحها، قال:"فاغدوا على القتال" فغدوا فأصيبوا بجراحات، فقال:"إنا قافلون غدًا إن شاء الله"، فسروا بذلك
(2)
.
رابعها: فيه: أنه كان إذا أراد أن يعاقب في أمر يكون تأديبًا لمن عاقبه عليه خطب قائمًا؛ ليكون أثبت في قلوبهم وأردع لمن أراد مثل ذلك.
(1)
تقدم برقم (1965) كتاب: الصوم، باب: التنكيل لمن أكثر الوصال.
(2)
سيأتي برقم (4325) كتاب: المغازي، باب: غزوة الطائف في شوال سنة ثمان.
خامسها: فيه أن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم، روى ذلك عن عمر وابن المسيب والقاسم وسالم وعطاء وهو قول مالك والثوري والكوفيين والشافعي وأحمد وإسحاق
(1)
.
قال مالك: وكل من أدركنا من أهل العلم ببلدنا يقولون ذلك
(2)
.
وفيها قول آخر: روي عن علي أنه إذا أدى نصف كتابته عتق
(3)
، كما سلف.
وقال ابن مسعود: لو كانت الكتابة مائتي دينار وقيمة العبد مائة فأدى العبد المائة التي هي قيمته عُتِق
(4)
. وهو قول النخعي
(5)
، وعنه أيضًا أنه إذا أدى ثلث الكتابة عتق. وهو قول شريح
(6)
.
حُجة الجماعة أنَّ الشارعَ أجازَ بيعَ المكاتب بقوله: "اشتريها وأعتقيها" فبان بذلك أن عقد الكتابة لا يوجب لها عتقًا حتى يؤدى ما انعقد عليه وإن عتقه يتعلق بشرط الأداء، ولا تخلو الكتابة أن
(1)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 4/ 432، "التمهيد" 22/ 175، "الإشراف على مذاهب أهل العلم" 2/ 194، "مسائل أحمد وإسحاق برواية الكوسج" 2/ 481 (3129).
(2)
"الموطأ" برواية يحيى ص 494.
(3)
رواه النسائي في "الكبرى" 3/ 197 (5025) بلفظ: إذا أدى النصف فهو غريم، أي: مدين، ولا إشكال بين قول المصنف: عتق، وما عند النسائي: فهو غريم، لأن المعنى أنه صار حرًّا، ويصير الباقي دينًا عليه. قاله النووي في "شرح مسلم" 10/ 142.
(4)
رواه عبد الرزاق 8/ 411 (15737)، وابن أبي شيبة 4/ 323 (20567)، الطحاوي في "شرح معاني الآثار" 3/ 112.
(5)
انظر: "شرح ابن بطال" 7/ 81.
(6)
رواه عنهما -أي: ابن مسعود وشريح- عبدُ الرزاق في "مصنفه" 8/ 411 (15737) ورواه عن ابن مسعود، ابن أبي شيبة 4/ 323 (20568).
تجري مجرى العتق بالصفة، فيجب أن لا يعتق إلا بعد أداء جميع الكتابة كما لو قال أنت حر إن دخلت الدار فلا يعتق إلا بعد دخولها وإن كان جرى مجرى البيع، فيجب أن لا يعتق أيضًا إلا بعد الأداء كما لو باع عبدًا، فإنه لا يلزمه تسليم المبيع إلا بقبض جميع الثمن وإن جرى مجرى الرهن، فلذلك لا يستحق أخذ الرهن حتى يؤدي جميع ما عليه.
سادسها: ترجمته بما إذا قال: اشترني وأعتقني، فاشتراه لذلك مما اختلف فيه العلماء.
فقال الأوزاعي: لا يباع المكاتب إلا للعتق ويكره أن يباع قبل عجزه
(1)
.
وهو قول أحمد وإسحاق
(2)
. وقال الكوفيون: لا يجوز بيعه حتى يعجز
(3)
. وقال الداودي: اختلف قول مالك في فسخ الكتابة بالبيع للعتق
(4)
. وقال بعض أصحابه: كانت بريرة عجزت
(5)
، وقد سلف.
وهو دعوى من قائله وتحكم، والحديث يدل على خلافه.
قال ابن المنذر: واختلف عن الشافعي في هذِه المسألة، فقال: ولا أعلم حجة لمن قال: ليس له بيع المكاتب إلا أن يقول: لعل بريرة عجزت. قال الشافعي: وأظهر معانيه: أن لمالك المكاتب بيعه
(6)
.
(1)
انظر: "الإشراف على مذاهب أهل العلم" 2/ 189.
(2)
انظر: "الاستذكار" 23/ 297.
(3)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 4/ 427 - 428.
(4)
انظر: "شرح ابن بطال" 7/ 82.
(5)
هذا قول مالك، كما ذكره ابن عبد البر في "التمهيد" 22/ 177.
(6)
كذا في الأصول، وفي "شرح ابن بطال" 7/ 82، هذا الكلام معزوًا إلى الشافعي وفيه نظر، فقد حكى اختلاف الشافعي ابن المنذر في "الإشراف على مذاهب أهل العلم" 2/ 189 ثم قال: بيعت بريرة بعلم النبي صلى الله عليه وسلم وهي مكاتبة، ولو كان بيع =
قال ابن المنذر والداودي: وفي تركه سؤال بريرة: هل عجزت أم لا؟ دليل على أن المكاتب يباع للعتق عجز أو لم يعجز. قال ابن المنذر: وإذا لم يختلف أهل العلم أن للرجل أن يبيع عبده قبل أن يكاتبه فعقده الكتابة غير مبطل ما كان له من بيعه، كما هو غير مبطل شيئًا كان له من عتقه، ولو لم يكن له بيعه لم يكن له عتقه؛ لأن بيعة إياه إزالة ملكه عنه كما عتقه سواء ودل خبر عائشة في قصة بريرة أنها بيعت بعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينكره ومن قول عوام أهل العلم: أن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم فلم يمنع الرجل من بيع عبده الذي لو شاء أعتقه وخبر عائشة مستغنى به عن قول كل أحد
(1)
.
سابعها: قال الطبري في قوله لعائشة: "اشتريها وأعتقيها" أوضح دليل على أن بريرة إذ عتقت لم تعتق عند عائشة بالتحرير الذي كان من مواليها لها عند عتقها عند الكتابة ولكنها عتقت لعتق كان من عائشة لها بعد ابتياعها، فلذلك جاز ولاؤها لعائشة دون مواليها البائعين لها وفي ذلك أبين البيان الذي كان عقد لها مواليها انفسخ
= المكاتب غير جائز لنهى عنه، وفي هذا أبين البيان على أن بيعه جائز، ولا أعلم خبرًا يعارضه، ولا أعلم في شيء من الأخبار دليلًا على عجزها. اهـ.
فأنت ترى أن ما نسب إلى الشافعي هو فحوى كلام ابن المنذر، ولم أقف عليه للشافعي، فلعله خطأ في النقل.
أضف إلى هذا أن كلام الشافعي الأخير: وأظهر معانيه
…
إلى آخره، يعتبر كالمرجح في المسألة، فكيف يكون كذلك، ولا يتعرض له المحققون من فقهاء الشافعية كالرافعي في "العزيز" 13/ 534 - 535، والنووي في "الروضة" 12/ 271، بل قال: والأظهر: الجديد -أي: بطلانه- ومنهم من قطع ببطلانه. اهـ.
(1)
هو بنصه من ابن بطال 7/ 82 - 83، وانظر:"الإشراف على مذاهب أهل العلم" 2/ 188.
بابتياع عائشة لها، وهذا يرد قول من زعم أن عائشة أرادت أن تشتري منهم الولاء بعد عقدهم الكتابة وتؤدي إليهم الثمن؛ ليكون لها الولاء ولو كان هذا صحيحًا لكان النكير على عائشة دون موالي بريرة؛ لأنها أرادت أن تشتري الولاء الذي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه وليس الأمر كذلك وإنما كان الإنكار على موالي بريرة؛ لأن الولاء لا يباع ولا يكون إلا للمعتق
(1)
.
ثامنها: فيه أن كتابة الأمة ذات الزوج جائزة دون زوجها وفي ذلك دليل أنه ليس لزوجها منعها من الكتابة، وإن كان ذلك يؤدي إلى فراقها إياه بغير إذنه إذا خيرت فاختارت نفسها، ولما كان للسيد عتق الأمة تحت العبد وإن أدى ذلك إلى بطلان نكاحه، وله أن يبيع أمته من زوجها الحر، وإن كان في ذلك بطلان زَوْجيَّتها كان هذا المعنى يجيز له كتابتها على رغم زوجها.
تاسعها: فيه حجة لقول مالك: إن للمرأة أن تتجر بمالها بغير علم زوجها؛ لأن عائشة اشترت بريرة وإنما استأمرت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر الولاء خاصة. وفيه: أن للمرأة أن تعتق بغير إذن زوجها.
قال ابن بطال: وقد أكثر الناس في تخريج الوجوه في حديث بريرة
(2)
حتى بلغوها نحو مائة وجه وللناس أوضاع
(3)
.
قلت: قد بلغوها أكثر من ذلك فوق الأربعمائة، وقد أشرنا إلى بعضها فيما مضى، وسيأتي بعضها في كتاب النكاح.
(1)
انظر: "شرح ابن بطال" 7/ 83.
(2)
ورد بهامش الأصل: أفرده ابن خزيمة بالتأليف، وكذلك ابن جرير وغيرهما وبلغ به ابن خزيمة الأربعمائة.
(3)
"شرح ابن بطال" 7/ 84.
51
كتاب الهبة
بسم الله الرحمن الرحيم
51 - كِتَابُ الهِبَةِ
1 - باب الهِبَةِ وَفَضْلِهَا وَالتَّحْرِيضِ فيْهَا
(1)
2566 -
حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنِ المَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"يَا نِسَاءَ المُسْلِمَاتِ، لَا تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا، وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ". [6017 - مسلم: 1030 - فتح: 5/ 197]
2567 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللهِ الأُوَيْسِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ لِعُرْوَةَ: ابْنَ أُخْتِي، إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الهِلَالِ ثُمَّ الهِلَالِ، ثَلَاثَةَ أَهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ، وَمَا أُوقِدَتْ فِي أَبْيَاتِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَارٌ. فَقُلْتُ يَا خَالَةُ، مَا كَانَ يُعِيشُكُمْ؟ قَالَتِ: الأَسْوَدَانِ التَّمْرُ وَالمَاءُ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم جِيرَانٌ مِنَ الأَنْصَارِ كَانَتْ لَهُمْ مَنَائِحُ، وَكَانُوا يَمْنَحُونَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَلْبَانِهِمْ، فَيَسْقِينَا.
(1)
ذكر فوق الكلمة: في نسخة: عليها.
ذكر فيه حديث أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"يَا نِسَاءَ المُسْلِمَاتِ، لَا تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا، وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ".
وحديث عائشةَ أنها قالت لِعُرْوَةَ: ابن أُخْتِي، إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الهِلَالِ ثُمَّ الهِلَالِ، ثَلَاثَةَ أَهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ، وَمَا أُوقِدَتْ فِي أَبْيَاتِ رسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَارٌ. فَقُلْتُ: يَا خَالَةُ، مَا كَانَ يُعِيشُكُمْ؟ قَالَتِ: الأَسْوَدَانِ التَّمْرُ وَالمَاءُ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم جِيرَانٌ مِنَ الأَنْصَارِ كَانَتْ لَهُمْ مَنَائِحُ، وَكَانُوا يَمْنَحُونَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَلْبَانِهِمْ، فَيَسْقِينَاه.
الشرح:
أصل الهبة من هبوب الريح، أي: مروره، وحقيقتها التمليك بلا عوض شرعًا في الحياة. وحقيقة ما ذكره البخاري أنه هدية، فإنها ما نقل إلى مكان الموهوب له على وجه الإكرام، فكل هدية هبة ولا عكس، وحديث أبي هريرة أخرجه مسلم أيضًا
(1)
، وللترمذي في أوله:"تهادوا فإن الهدية تذهب وحر الصدور ولا تحقرن جارة .. " إلى آخره
(2)
، والبخاري ساقه عن عاصم بن علي أنا ابن أبي ذئب، عن المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال الدارقطني: رواه عن ابن أبي ذئب يحيى القطان وابن عجلان وأبو معشر، عن سعيد، عن أبي هريرة من غير ذكر أبيه
(3)
.
وحديث عائشة أخرجه مسلم أيضًا
(4)
.
(1)
برقم (1030) كتاب: الزكاة، باب: الحمد على الصدقة ولو بالقليل.
(2)
برقم (2130).
(3)
"علل الدارقطني" 10/ 362.
(4)
برقم (2973) كتاب: الزهد والرقائق.
إذا عرفت ذلك، فالكلام على الحديثين من أوجه:
أحدها:
في إعراب "يا نساء" أوجه ذكرها القاضي عياض أصحها وأشهرها بنصب النساء وجر المسلمات على الإضافة.
قال الباجي: وبهذا رويناه عن جميع شيوخنا بالمشرق
(1)
، وهو من باب إضافة الشيء إلى نفسه، والموصوف إلى صفته، والأعم إلى الأخص، كمسجد الجامع، وجانب الغربي. وهو عند الكوفيين جائز على ظاهره، وعند البصريين يقدرون فيه محذوفًا أي: مسجد المكان الجامع وجانب المكان الغربي ويقدر هنا: يا نساء الأنفس المسلمات أو الجماعات، وقيل: تقديره يا فاضلات المسلمات، كما يقال:
هؤلاء رجال القوم أي: ساداتهم وأفاضلهم.
ثانيها: رفعهما على معنى النداء والصفة، أي: يأيها النساء المسلمات. قال الباجي: كذا يرويه أهل بلدنا
(2)
.
ثالثها: رفع النساء وكسر التاء من المسلمات على أنه منصوب على الصفة على الموضع، كما يقال: يا زيدُ العاقل برفع زيد ونصب العاقل
(3)
.
واقتصر ابن التين على أن قال: هو من باب إضافة الشيء إلى نفسه مثل قوله: {وَحَبَّ الحَصِيدِ} .
وقال ابن بطال: هو على غير الإضافة، التقدير: يأيها النساء
(1)
"المنتقى" 7/ 321.
(2)
"المنتقى" 7/ 321.
(3)
"إكمال العلم" 3/ 561 بتصرف.
المسلمات، ومثله: يا رجال الكرام، فالمنادي هنا محذوف وهو أيها، والنساء في تقدير النعت لأيها والمؤمنات نعت النساء. وحكى سيبويه: يا فاسق الخبيث
(1)
، ومذهبه أن فاسق وشبهه يعرف بـ (يا) كتعريف زيد في النداء، وكذلك يا نساء ها هنا، فَيُخّرج على مذهبه أن يجوز نصب نعته، كما جازيا زيد العاقلَ، فيجوز على هذا يا نساءُ المسلمات.
ومن رواه بالإضافة ونصب النساء، فيستحيل أن يكون المسلمات هنا من صفات النساء؛ لأن الشيء لا يضاف إلى نفسه وإنما يضاف إلى غيره مما يبينه به ويضمه إليه، ومحال أن يبينه بنفسه أو يضمه إليه. هذا مذهب البصريين.
وقد أجازه الكوفيون -أعني: إضافة الشيء إلى نفسه- واحتجوا بآيات من القرآن تتخرج معانيها على غير تأويلهم منها قوله تعالى: {وَلَدَارُ الآخِرَةِ} ، و {دِينُ القَيِّمَةِ} .
وقال الزجاج وغيره: معناه: دار الحال الآخرة، أن للناس حالتين حال الدنيا وحال الآخرة، ومثله: صلاة الأولى، والمراد: صلاة الفريضة الأولى والساعة الأولى؛ لأنها أول ما فرض منها، ومعنى: دين القيمة: دين الملة القيمة، ولهذا وقع التأنيث لكنه يخرج يا نساء المسلمات على تقدير بعيد، وهو أن يُجعل نعتًا لشيء محذوف كما سلف في المسلمات كأنه قال: يا نساء الأنفس المسلمات والمراد بالأنفس: الرجال، وفيه بعد لفساد المعنى؛ لأنه صلى الله عليه وسلم إنما خاطب النساء بذلك على وجه الفضيلة لهن والتخصيص، وعلى هذا الوجه لا فضيلة لهن في ذلك إلا أن يُراد بالأنفس الرجال والنساء معًا،
(1)
"الكتاب" 2/ 197، 198، 199.
فيكون تقديره: يا نساء من الأنفس المؤمنات، على تقدير إضافة البعض إلى الكل، كما تقول: أخذت دراهم مال زيد، ومال زيد واقع على الدراهم وغيرها.
الثاني:
الفْرسن -بفاء مكسورة ثم راء ساكنة ثم سين ثم نون- وأصل الفرسن للإبل وهو موضع الحافر من الفرس، ويقال لموضع ذلك من البقر والغنم الظلف
(1)
. قال ابن دريد: وهو ظاهر الخف والجمع: فراسن
(2)
.
وقال ابن سيده: هو طرف خُفِّ البعير، أنثى، حكاه سيبويه في الثلاثي، ولا يقال في جمعه: فِرْسِنَات، كما قالوا: خَناصِر ولم يقولوا خِنْصِرات
(3)
.
وقال في "المخصص": هو عند سيبويه (فِعْلِنْ). لم يحك غيره في الأسماء ولا علمه صفة
(4)
. وقال أبو عبيد: السلامى: عظام الفرسن كلها
(5)
.
وقال في "الجامع": هو للبعير بمنزلة الظفر من الإنسان.
وقال في "المغيث": هو عظم قليل اللحم وهو للشاة والبعير بمنزلة الحافر للدابة، وقيل: هو خف البعير
(6)
.
(1)
"شرح ابن بطال" 7/ 86 - 87.
(2)
"جمهرة اللغة" 2/ 1151.
(3)
"المحكم" 8/ 318.
(4)
"المخصص" 2/ 54.
(5)
"غريب الحديث" 1/ 381.
(6)
"المجموع المغيث" 2/ 605.
وقال الجوهري: ربما استعير للشاة
(1)
، وكذا قال ابن السكيت وأنشد:
أشكو إلى مولاي من مولاتي
…
ترْبُط
(2)
بالحبل أكرعاتي
فاستعار الأكارع للإنسان كما استعار الفرسن للشاة.
قال ابن السراج: والنون زائدة
(3)
، ووضعها النضر بن شميل في كتاب "الإبل" فأحسن فقال في الفرسن: أم القِردان من ظاهر وباطن، وفي كل فرسن ست سلاميات ومنسمان، والأظل والخف: هو الجلدة الغليظة التي في باطن فرسنه. وفي الفراسن ستة أشياء عَدَّدَها. والفرسن أسفل الرجل من البعير ثم الوظيف ثم الذراع ثم العضد ثم الكتف، وعبارة الأصمعي: الفرسن ما دون الرسغ من يدي البعير
وهي مؤنثة والجمع: الفراسن.
الثالث:
فيه الحض على التهادي والمتاحفة ولو باليسير؛ لما فيه من استجلاب المودة وإذهاب الشحناء واصطفاء الجيرة، ولما فيه من التعاون على أمر المعيشة المقيمة للأرماق، وأيضًا فإن الهدية إذا كانت يسيرة فهي أدل على المودة وأسقط للمؤنة وأسهل على المهدي لإطراح التكليف، وفي حديث عائشة ما كان عليه إليك من الزهد في الدنيا والصبر على التعلل وأخذ البلغة من العيش وإيثاره الآخرة على الدنيا؛ لأنه قد خير بين الدنيا والآخرة، فاختار الآخرة، وأن يكون نبيًّا عبدًا ولا يكون ملكًا فهذِه سنته وطريقته.
(1)
"الصحاح" 6/ 2177.
(2)
كذا بالأصل، وفوقها في الأصل كلمة (معًا) وهي دالة أن الكلمة تقرأ (تربِط) و (تربُط).
(3)
انظر: "تاج العروس" 18/ 431.
وفيه فضل التقلل والكفاف على النعم والترفه، وفيه حجة لمن آثر الفقر على الغنى، وفيه: أن من السنة مشاركة الواجد المعدم، وأن يكون الناس يشتركون فيما في أيديهم بالتفضل من الواجد.
قال عياض: وفيه الحض على الصدقة، ويحتمل أن يكون نهيًا للمعطاة عن الاحتقار، ولا يحقر المهدي إليه ولا المهدي؛ لأن في احتقاره انقطاعًا عن المعروف وربما لم يكن الكثير كل وقت، فإذا تواصل اليسير كان كثيرًا.
وفيه: ما كانت الأنصار عليه من الكرم والمواساة، وقد آثروا على أنفسهم.
الرابع:
قولها: (الأسودان: التمر والماء) هو من باب التغليب كالأبيضين الماء واللبن وغير ذلك.
وقال ابن سيده: فسره أهل اللغة بالماء والتمر وعندي أنها إنما أرادت: الحرة والليل، قيل لهما: الأسودان لاسودادهما؛ وذلك لأن وجود التمر والماء عندهم شبع وري وخصب لا شِصْب، وإنما أرادت عائشة أن تبالغ في شدة الحال، وتنتهى في ذلك بأن لا يكون معها إلا الليل والحرة، أذهب في سوء الحال من وجود التمر والماء، وضاف مُزبّدًا المدني قوم فقال لهم: ما لكم عندنا إلا (الأسودان)
(1)
. فقالوا: إن في ذلك لمقْنَعا التمر والماء. فقال: ما ذلك أردت والله، إنما أردت الحرة والليل. وقيل: إن الأسودين الماء واللبن وجعلهما بعض الرجاز الماء والفَثّ وهو ضرب من البقل يُخْتَبَر، فيؤكل فقال:
(1)
في الأصل: (الأسودين)، وهو خطأ.
الأسودان أبردا عظامي
…
الماء والفث دوا أسقامي
(1)
والمنائح: جمع منيحة، قال الفراء: منحته أَمْنَحُه وأَمْنِحُه: وهي الناقة والشاة يعطيها الرجل لآخر يحلبها ثم يردها، وزعم بعضهم أن المنيحة لا تكون إلا ناقة.
قال أبو عبيد: المنيحة عند العرب على وجهين: أن يعطي الرجل صاحبه صلة فتكون له، وأن يمنحه ناقة أو شيئًا هبةً، أو شاة ينتفع بحلبها ووبرها زمنًا ثم يردها
(2)
.
وقال الحربي: العرب تقول: منحتك الناقة، وأنحلتك الوبر، وأعومتك
(3)
النخلة، وأعمرتك الدار، وهذِه كلها هبة منافع يعود بعدها مثلها.
قال الداودي: ويقال لعطية ركوب الدواب ولبس الثياب: عارية، مشددة ومخففة.
قال ابن حبيب: ويقال للعبد: أخدمتك، ومن المنحة قرض الذهب
والورق، ويقال لما وقف مؤبدًا: حَبْس. وأكثر العرب يجعلها للعارية دون الهبة وهو تأويل قوله: "المنيحة مردودة"
(4)
.
(1)
"المحكم" 8/ 397.
(2)
"غريب الحديث" 1/ 176.
(3)
هكذا بالأصل: أعومتك، ولعل الصواب: أعريتك.
(4)
رواه النسائي في "الكبرى"(5782)، وابن حبان 11/ 491 (5094)، والطبراني في "الكبير" 8/ 143 (7637) من طريق حاتم بن حريث عن أبي أمامة مرفوعًا.
رواه عبد الرزاق 4/ 148 (7277)، 9/ 48 (16308)، وفي "مسند الشاميين" 1/ 309 (541) من طريق شرحبيل بن مسلم، عن أبي أمامة مرفوعًا مطولًا.
ورواه الطبراني في "مسند الشاميين" 1/ 360 (621) من حديث أنس بن مالك.
وقال التوزي في "شرح شعر أبي (
…
)
(1)
": أصلها العارية، ثم استعمل حتى صارت كل هبة منيحة.
وقال اللحياني: لا تكون إلا المعارة للبن
(2)
خاصة، وقيل: كل شيء يقتصد به قصد شيء فقد منحته إياه، كما تمنح المرأة وجهها المرأة
(3)
.
وقول القزاز: قيل: لا تكون المنيحة إلا ناقة، ولا تكون شاة، والأول أعرف.
(1)
غير واضحة بالأصل.
(2)
في الأصل: (اللبن)، والمثبت من "تاج العروس".
(3)
انظر: "تاج العروس" 4/ 220.
2 - باب القَلِيلِ مِنَ الهِبَةِ
2568 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَوْ دُعِيتُ إِلَى ذِرَاعٍ أَوْ كُرَاعٍ لأَجَبْتُ، وَلَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ ذِرَاعٌ أَوْ كُرَاعٌ لَقَبِلْتُ". [5178 - فتح: 5/ 199]
ذكر فيه حديث أبي هريرة عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَوْ دُعِيتُ إِلَى ذِرَاعِ أَوْ كُرَاعٍ لأَجَبْتُ، وَلَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ ذِرَاعٌ أَوْ كُرَاعٌ لَقَبِلْتُ".
هذا الحديث من أفراده وأخرجه في الأنكحة بلفظ: "لو دعيتُ إلى كراعِ لأجبتُ، ولو أهدي إلى ذراع لقبلتُ"
(1)
والكُراع في حد الرسغ وهو في البقر والغنم بمنزلة الوظيف في الفرس والبعير أي: وهو خفه وهو مستدق الساق، يذكر ويؤنث وفي المثل:(أُعْطِى)
(2)
العبد كراعًا فطلب ذراعًا
(3)
. والذراع من جيد اللحم، وقيل: إن الكراع هنا اسم موضع وذكره الغزالي في "الإحياء" بلفظ: كراع الغميم
(4)
، ولم أره كذلك، ويرده رواية الترمذي عن أنس مرفوعًا:"لو أهدي إلى كراع لقبلت، ولو دعيت عليه لأجبت" ثم صححه
(5)
.
وادعى صاحب "التنقيب على المهذب" أن سبب هذا الحديث أن أم حكيم بنت وادع قالت: يا رسول الله، أتكره الهدية؟ فقال صلى الله عليه وسلم:
(1)
سيأتي برقم (5178) كتاب: النكاح، باب: من أجاب إلى كراع.
(2)
في الأصل: (أعط) والمثبت من "الجمهرة"، "اللسان" 7/ 3858.
(3)
ذكره أبو هلال العسكري في "جمهرة الأمثال" 1/ 107 وقال: يضرب مثلا للرجل الشَّرِه، يُعطى الشيءَ فيأخذه ويطلب أكثر منه. اهـ.
(4)
"الإحياء" 2/ 18.
(5)
برقم (1338).
"ما أقبح ردّ الهدية، لو دعيت إلى كراع لأجبت، ولو أهدي إلى ذراع لقبلت"
(1)
.
فائدة: الذراع أفضل من الكراع وكان صلى الله عليه وسلم يحب أكله ولهذا سُمَّ فيه وإنما كان يحبه؛ لأنه مبادئ الشاة وأبعد من الأذى.
ثانية: قد ذكرنا الحديث من طريقين وزيادة ثالث إن صح، وذكره ابن منده في "مستخرجه" أيضًا من حديث أبي الدرداء وجابر بن عبد الله.
ثالثة: هذا منه صلى الله عليه وسلم حَضّ لأمته على المهاداة والصلة والتأليف والتحاب، وإنما أخبر أنه لا يحتقر شيئًا مما يُهدى إليه أو يدعى إليه؛ لئلا يمنع الباعث من المهاداة لاحتقار المهدي، وإنما أشار بالكراع وفرسن الشاة إلى المبالغة في قبول القليل من الهدية لا إلى إعطاء الكراع والفرسن ومهاداته؛ لأن أحدًا لا يفعل ذلك.
رابعة: قوله: "لو أهدي إليّ ذراع" أي: لحم ذراع؛ لأن الذراع مؤنثة وسُمِعَ من العرب: جاءته كتابي فخرقها
(2)
.
وادعى ابن التين أن الكراع من الدواب ما دون الكعب من غير الإنسان، ومن الإنسان ما دون الركبة. قال عن ابن فارس: كراع كل شيء طرفه
(3)
.
(1)
رواه الطبراني 25/ 162 (392)، وقال الهيثمي في "المجمع" 4/ 149: وفيه من لا يعرف.
(2)
ورد بهامش الأصل: المعروف فاحتقرها.
[قلت: وهو الموافق لما في كتب اللغة، كما في "الصحاح" 1/ 220، "تاج العروس" 2/ 407، فعن الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء قال: سمعت أعرابي يقول: جاءته كتابي فاحتقرها، فقلت: أتقول جاءته كتابي؟ قال: أليس بصحيفة؟ فقلت: ما اللغوب؟ فقال: الأحمق. اهـ.]
(3)
"معجم مقاييس اللغة" ص 890.
وقال أبو عبيد: الأكارع قوائم الشاة وأكارع الأرض أطرافها
(1)
.
وفي الحديث: "لا بأس بالطلب في أكارع الأرض"
(2)
أي: أطرافها القاصية، شبهه بأكارع الشاة أي: قوائمها.
قال
(3)
: وفيه إجابة الدعوة لما قَلّ أو كَثُر، وَتَقبَّلهَا هدية ليُقْتدى به فيه.
(1)
"غريب الحديث" 2/ 422.
(2)
كذا في الأصول، وعند أبي عبيد في "غريب الحديث" 2/ 422، والزمخشري في "الفائق" 3/ 258: كانوا يكرهون الطلب في أكارع الأرض.
وهذا الأثر من قول إبراهيم النخعي كما في "الغريب" و"الفائق".
(3)
أي: ابن التين.
3 - باب مَنِ اسْتَوْهَبَ مِنْ أَصْحَابِهِ شَيْئًا
وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "اضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ سَهْمًا". [انظر: 2276]
2569 -
حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ، عَنْ سَهْلٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَرْسَلَ إِلَى امْرَأَةٍ مِنَ المُهَاجِرِينَ، وَكَانَ لَهَا غُلَامٌ نَجَّارٌ، قَالَ لَهَا:"مُرِى عَبْدَكِ فَلْيَعْمَلْ لَنَا أَعْوَادَ المِنْبَرِ". فَأَمَرَتْ عَبْدَهَا، فَذَهَبَ فَقَطَعَ مِنَ الطَّرْفَاءِ، فَصَنَعَ لَهُ مِنْبَرًا، فَلَمَّا قَضَاهُ أَرْسَلَتْ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَدْ قَضَاهُ، قَالَ صلى الله عليه وسلم:"أَرْسِلِي بِهِ إِلَيَّ". فَجَاءُوا بِهِ، فَاحْتَمَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَوَضَعَهُ حَيْثُ تَرَوْنَ. [انظر: 377 - مسلم: 544 - فتح: 5/ 200]
2570 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللهِ قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ السَّلَمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ يَوْمًا جَالِسًا مَعَ رِجَالٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي مَنْزِلٍ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَازِلٌ أَمَامَنَا، وَالقَوْمُ مُحْرِمُونَ، وَأَنَا غَيْرُ مُحْرِمٍ، فَأَبْصَرُوا حِمَارًا وَحْشِيًّا، وَأَنَا مَشْغُولٌ أَخْصِفُ نَعْلِي، فَلَمْ يُؤْذِنُونِي بِهِ، وَأَحَبُّوا لَوْ أَنِّي أَبْصَرْتُهُ، وَالتَفَتُّ فَأَبْصَرْتُهُ، فَقُمْتُ إِلَى الفَرَسِ فَأَسْرَجْتُهُ، ثُمَّ رَكِبْتُ وَنَسِيتُ السَّوْطَ وَالرُّمْحَ، فَقُلْتُ لَهُمْ: نَاوِلُونِي السَّوْطَ وَالرُّمْحَ. فَقَالُوا: لَا وَاللهِ، لَا نُعِينُكَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ. فَغَضِبْتُ فَنَزَلْتُ فَأَخَذْتُهُمَا، ثُمَّ رَكِبْتُ، فَشَدَدْتُ عَلَى الحِمَارِ فَعَقَرْتُهُ، ثُمَّ جِئْتُ بِهِ وَقَدْ مَاتَ، فَوَقَعُوا فِيهِ يَأْكُلُونَهُ، ثُمَّ إِنَّهُمْ شَكُّوا فِي أَكْلِهِمْ إِيَّاهُ، وَهُمْ حُرُمٌ، فَرُحْنَا وَخَبَأْتُ العَضُدَ مَعِي، فَأَدْرَكْنَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلْنَاهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ:"مَعَكُمْ مِنْهُ شَيْءٌ؟ ". فَقُلْتُ: نَعَمْ. فَنَاوَلْتُهُ العَضُدَ فَأَكَلَهَا، حَتَّى نَفَّدَهَا وَهْوَ مُحْرِمٌ. فَحَدَّثَنِي بِهِ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ، [انظر: 1821 - مسلم: 1196 - فتح: 5/ 200]
ثم ساق حديث سهل أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أَرْسَلَ إِلَى امْرَأَةٍ مِنَ المُهَاجِرِينَ: "مُرِي عَبْدَكِ فَلْيَعْمَلْ لَنَا أَعْوَادَ المِنْبَرِ" .. الحديث.
وحديث أبي قتادة مطولًا، وفيه: فناولته العَضُدَ فَأَكَلَهَا، حَتَّى نَفَّدَهَا وَهْوَ مُحْرِمٌ. فَحَدَّثَنِي بِهِ زيدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ.
وقد سلفا
(1)
، وقائل ذلك هو محمد بن جعفر راويه أولًا، عن أبي حازم، عن عبد الله بن أبي قتادة السلمي، عن أبيه، كما سيأتي في الأطعمة
(2)
، والتعليق سلف عنده مسندًا في أجر الرقية
(3)
إذا تقرر ذلك فاستيهاب الصديق الملاطف حسن إذا علم أنّ ما يستوهبه تطيب به نفسه ويُسَرّ بهبته.
ويبينُ هذا أنه قد جاء أن المرأة كانت تطوعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وسألته أن تصنع له المنبر ووعدته بذلك، وإنما قال:"اضربوا لي معكم سهمًا" في الغنم التي أخذوا في الرقية بالفاتحة. وقال في لحم الصيد: "هل معكم منه شيء؟ " ليؤنسهم لما تحرجوا من أكله بأن يريهم حله عيانًا بأكله منه، ومن هذا الحديث قال بعض الفقهاء: إن المآكل إذا وردت على قوم دون مجالسيهم أنهم مندبون إلى مشاركتهم.
فصل:
قوله في الحديث الأول: (امرأة من المهاجرين)، كذا وقع هنا، وفي أصل ابن بطال بدله: من الأنصار
(4)
، وهو الصواب.
(1)
الأول برقم (377) كتاب: الصلاة، باب: الصلاة في السطوح والمنبر والخشب، والثاني برقم (1821) كتاب: جزاء الصيد، باب: وإذا صاد الحلال فأهدى المحرم الصيد أكله.
(2)
برقم (5406) كتاب: الأطعمة، باب: تعرق العضد.
(3)
برقم (2276) كتاب: الإجارة، باب: ما يعطى في الرقية على أحياء العرب.
(4)
"شرح ابن بطال" 7/ 88.
قال ابن التين: أكثر الروايات أنها من الأنصار، ولعلها كانت هاجرت وهي مع ذلك أيضًا أنصارية الأصل أو يكون وَهَلا
(1)
.
ومعنى قضاه: صنعه وأحكمه. قال تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [فصلت: 12].
وقوله: "فليعمل لنا أعواد المنبر" وحكاه الخطابي (فليفعل) أي: فعلا في أعواد المنبر من نجر وتسوية وخرط، قال: والظاهر في الاستعمال أن يقال: فليصنع أو فليجعل وذلك أن لفظ الفعل جملة تحتها أقسام، وجنس يتفرع منه أنواع، وتمام البيان إنما يقع بتنزيل الكلام منازله، وصنع يستعمل غالبًا فيما يدخله التدبير والتقدير، ولذلك اختير في اسم الله الصانع
(2)
.
(1)
قال ابن فارس: قال أبو زيد: وَهَلْت عن الشيء: نسيته، وقال الفيروز آبادي: وهل: غلط فيه ونسيه. اهـ.
انظر: "معجم مقاييس اللغة" 1068، "القاموس المحيط" 1069 (وهل).
(2)
"أعلام الحديث" 2/ 1276 - 1278 بتصرف.
أعلم -رحمك الله- أن الصفة إذا كانت منقسمة إلى كمال ونقص لم تدخل بمطلقها في أسمائه، بل يطلق عليه منها كمالها، وهذا كالمريد والفاعل والصانع.
قال ابن القيم رحمه الله: فإن هذِه الألفاظ لا تدخل في أسمائه، ولهذا غلط من سماه بالصانع عند الإطلاق، بل هو الفعال لما يريد، فإن الإرادة والفعل والصنع منقسمة، ولهذا إنما أطلق على نفسه من ذلك أكمله فعلًا وخبرًا. اهـ.
وقال أيضًا: وأما لفظ الصانع فلم يرد في أسماء الرب تعالى، ولا يمكن وروده، فإن الصانع من صنع شيئًا، عدلًا كان أو ظلمًا، سفهًا كان أو حكمة، جائزًا أو غير جائز، ومما انقسم مسماه إلى مدح وذم لم يجيء اسمه المطلق في الأسماء الحسنى كالفاعل والعامل والصانع والمريد والمتكلم؛ لانقسام معاني هذِه الأسماء إلى محمود ومذموم، بخلاف العالم والقادر والحي والسميع والبصير. اهـ.
انظر: "بدائع الفوائد" 1/ 146، "شفاء العليل" 2/ 394 - 395، "معجم المناهي اللفظيه" ص 330 - 332.
فصل:
قوله: في حديث أبي قتادة: "أخصف نعلي".
قال الداودي: أصله أعمل له شعسًا إذا انقطع، والذي قاله أهل اللغة: إن خصف النعل إطباق طاق على طاق، مثل قوله تعالى:{يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الجَنَّةِ} [الأعراف: 22] أي: يطبقان على أبدانهما ورقه.
وقوله: (حتى نفدها وهو محرم) أي: أتى عليها، يقال: نفد الشيء إذا أفنى، وأنفد القوم: نفدت أزوادهم.
4 - باب مَنِ اسْتَسْقَى
وَقَالَ سَهْلٌ قَالَ لِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "اسْقِنِي". [انظر: 5256]
2571 -
حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو طَوَالَةَ -اسْمُهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ- قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا رضي الله عنه يَقُولُ: أَتَانَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي دَارِنَا هَذِهِ، فَاسْتَسْقَى، فَحَلَبْنَا لَهُ شَاةً لَنَا، ثُمَّ شُبْتُهُ مِنْ مَاءِ بِئْرِنَا هَذِهِ، فَأَعْطَيْتُهُ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ يَسَارِهِ، وَعُمَرُ تُجَاهَهُ، وَأَعْرَابِيٌّ عَنْ يَمِينِهِ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ عُمَرُ: هَذَا أَبُو بَكْرٍ. فَأَعْطَى الأَعْرَابِيَّ فَضْلَهُ، ثُمَّ قَالَ:"الأَيْمَنُونَ، الأَيْمَنُونَ، أَلَا فَيَمِّنُوا". قَالَ أَنَسٌ: فَهْيَ سُنَّةٌ، فَهْيَ سُنَّةٌ. ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. [انظر: 2352 - مسلم: 2021 - فتح: 5/ 201].
ثم ساق حديث أنس: أَتَانَا النبي صلى الله عليه وسلم فِي دَارِنَا فَاسْتَسْقَى، فَحَلَبْنَا لَهُ شَاةً لنَا، ثُمَّ شُبْتُهُ مِنْ مَاءِ بِئْرِنَا هذِه، فَأَعْطَيْتُهُ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ يَسَارِهِ، وَعُمَرُ تُجَاهَهُ، وَأَعْرَابِيّ عَنْ يَمِينِهِ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ عُمَرُ: هذا أَبُو بَكْرٍ. فَأَعْطَى الأَعْرَابِيَّ، ثُمِّ قَالَ:"الأَيْمَنُونَ، الأَيْمَنُونَ، أَلَا فَيَمِّنُوا". قَالَ أَنَسٌ: فَهْيَ سُنَّةٌ، فَهْيَ سُنّةٌ، فهي سنة.
هذا الحديث سلف في باب: الشرب مطولًا
(1)
، وأخرجه مسلم في الأشربة
(2)
، وهو مثل الباب الذي قبله، لا بأس بطلب ما يتعارف الناس بطلب مثله من شرب الماء واللبن وما تطيب به النفوس، ولا يتشاح فيه، ولا سيما أنه من النبي صلى الله عليه وسلم، ومن مكارمه ومشاركته، وقد وصفهم الله تعالى أنهم كانوا يؤثرون على أنفسهم، وإنما أعطى الأعرابي ولم يستأذنه كما استأذن الغلام ليتألفه بذلك؛ لقرب عهده بالإِسلام.
(1)
برقم (2352) باب: في الشرب ومن رأى صدقة الماء وهبته ووصيته جائزة.
(2)
برقم (2029) باب: استحباب إدارة الماء واللبن ونحوهما عن يمين المبتدئ.
وفيه: أن السنة لمن استسقى أن يسقي من عن يمينه، وإن كان من عن يساره أفضل ممن جلس عن يمينه، ألا ترى قول أنس: وهي سنَّة ثلاث مرات وذلك يدل على تأكيدها، وقد تقدم ذلك، وستأتي له
زيادة في الأشربة.
وقوله: (فاستسقى).
فيه: جواز ذلك ولا دناءة فيه، بخلاف طلب الأكل منا للمنة فيه بخلافه.
وفيه: جواز المسألة بالممعروف على وجه الفقر.
وفيه: إتيان دار من يصحبه اقتداء به.
وفيه: كما قال الداودي: الإتيان بأفضل ما يجد.
وفيه: شرب اللبن إذا خلطه بالماء.
وفيه: جلوس القوم على قدر سبقهم.
وقوله: (وعُمر تجاهه) أي: مستقبله، وكان أصله: وجاهه فأبدل من الواو تاء مثل تراث. وقوله: (وأعرابي عن يمينه). قال ابن التين: قيل: هو خالد بن الوليد.
وقوله: "ألا فيمنوا" ثلاثًا فيه: فضل التيامن وتكرار الكلام للتأكيد.
5 - باب قَبُولِ هَدِيَّةِ الصَّيْدِ
وَقَبِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَبِي قَتَادَةَ عَضُدَ الصَّيْدِ. [انظر: 1821]
2572 -
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ: أَنْفَجْنَا أَرْنَبًا بِمَرِّ الظَّهْرَانِ، فَسَعَى القَوْمُ فَلَغَبُوا، فَأَدْرَكْتُهَا فَأَخَذْتُهَا، فَأَتَيْتُ بِهَا أَبَا طَلْحَةَ فَذَبَحَهَا، وَبَعَثَ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِوَرِكِهَا -أَوْ فَخِذَيْهَا، قَالَ: فَخِذَيْهَا. لَا شَكَّ فِيهِ- فَقَبِلَهُ. قُلْتُ: وَأَكَلَ مِنْهُ؟ قَالَ: وَأَكَلَ مِنْهُ. ثُمَّ قَالَ بَعْدُ: قَبِلَهُ. [5489، 5535 - مسلم: 1953 - فتح: 5/ 202]
2573 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ رضي الله عنهم أَنَّهُ أَهْدَى لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِمَارًا وَحْشِيًّا وَهْوَ بِالأَبْوَاءِ -أَوْ بِوَدَّانَ- فَرَدَّ عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَى مَا فِي وَجْهِهِ قَالَ:"أَمَا إِنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إِلَّا أَنَّا حُرُمٌ". [انظر: 1825 - مسلم: 1193 - فتح: 5/ 202]
ثُم ساق حديث أنس أَنْفَجْنَا أَرْنَبًا .. إلى أن قال: فَذَبَحَهَا، وَبَعَثَ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِوَرِكِهَا أَوْ فَخِذَيْهَا فَقَبِلَهُ.
وحديث الصعب بن جثامة السالف في الحج
(1)
.
ومعنى أنفجنا: أثرنا، يقال: أنفجت الأرنب أي: أثرته، فثار، وأصله: انتفجت الأرنب إذا وثبت فوسعت الخطوة. قال الخليل: نفج اليربوع، ينفُج وينفِجُ نفوجًا، وينتفج [انتفاجًا]
(2)
، وهو
(3)
أوحى عَدْوِه. وأنفجه الصائد أثاره من مجثمه ومكمنه
(4)
.
(1)
برقم (1825) باب: إذا أهدى للمحرم حمارًا وحشيًّا حيًّا لم يقبل.
(2)
من "العين".
(3)
في الأصل: (وهي) والمثبت من "العين".
(4)
"العين" 6/ 145 مادة (نفج).
و (لغبوا) بفتح اللام والغين وهو الأجود.
قال ابن قتيبة: لَغِيب ولَغَيب والفتح أجود. قال ابن التين: ضبط في بعض الأمهات بكسر الغين، وقيل: هي لغة، والفتح أعرف، ومعنى لغبوا: أعيوا. قال الله تعالى: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق: 38].
وقال الأصمعي: تقول العرب: لغَبت ألغب لغوبًا: أعييتُ، ولا يقال: لغبت.
وقال أبو عبيد: لغبت من الإعياء ولغَبت.
وقال الداودي: لغبوا: عطشوا ولم يذكر غيره.
و (الوَرِك) بفتح الواو وكسر الراء وبكسر الواو وإسكان الراء، و (الفخذ) تكسر الخاء وتخفف، وقد سلف، والورك: ما فوق الفخذ.
وقوله: قال: (فخذها لا شك فيه فقبله. قلت: وأكل منه؟ قال: وأكل منه. ثم قال بعد: قبله) كأن شعبة شك في الفخذين أولًا، ثم استيقن، وكذلك شك أخيرًا في الأكل، (ومر الظهران) هو الذي تسميه العامة بطن مر، وكان القوم غير حرم.
وفيه: حل الأرنب ولا عبرة بمن شذ فيها.
وفيه: قبول هدية الصيد وغيره.
وفيه: أنه لا يجوز قبول ما لا يحل من الهدية؛ لأنه- عليه السلام إنما رده عليه؛ لأنه لا يحل له قتل الصيد وهو محرم، وكان الحمار حيًّا، فدل أن المهدي إذا كان معروفًا بكسب الحرام أو بالغصب والظلم فإنه لا يجوز قبول هديته.
وفيه: الاعتذار إلى الصديق وإذهاب ما يخشى أن يقع بنفسه من الوحشة وسوء الظن.
7 - باب قَبُولِ الهَدِيَّةِ
2574 -
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّاسَ كَانُوا يَتَحَرَّوْنَ بِهَدَايَاهُمْ يَوْمَ عَائِشَةَ، يَبْتَغُونَ بِهَا -أَوْ يَبْتَغُونَ بِذَلِكَ- مَرْضَاةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. [2580، 2581، 3775 - مسلم: 2441 - فتح: 5/ 203]
2575 -
حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ إِيَاسٍ قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: أَهْدَتْ أُمُّ حُفَيْدٍ -خَالَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ- إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَقِطًا وَسَمْنًا وَأَضُبًّا، فَأَكَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الأَقِطِ وَالسَّمْنِ، وَتَرَكَ الضَّبَّ تَقَذُّرًا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَأُكِلَ عَلَى مَائِدَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَوْ كَانَ حَرَامًا مَا أُكِلَ عَلَى مَائِدَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. [5389، 5402، 7358 - مسلم: 1947 - فتح: 5/ 203]
2576 -
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ المُنْذِرِ، حَدَّثَنَا مَعْنٌ قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أُتِيَ بِطَعَامٍ سَأَلَ عَنْهُ: "أَهَدِيَّةٌ أَمْ صَدَقَةٌ" فَإِنْ قِيلَ: صَدَقَةٌ. قَالَ لأَصْحَابِهِ: "كُلُوا". وَلَمْ يَأْكُلْ، وَإِنْ قِيلَ: هَدِيَّةٌ. ضَرَبَ بِيَدِهِ صلى الله عليه وسلم فَأَكَلَ مَعَهُمْ. [مسلم: 1077 - فتح: 5/ 203]
2577 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي لله عنه قَالَ: أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِلَحْمٍ فَقِيلَ: تُصُدِّقَ عَلَى بَرِيرَةَ. قَالَ: "هُوَ لَهَا صَدَقَةٌ، وَلَنَا هَدِيَّةٌ".
2578 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ القَاسِمِ قَالَ: سَمِعْتُهُ مِنْهُ، عَنِ القَاسِمِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا أَرَادَتْ أَنْ تَشْتَرِيَ بَرِيرَةَ، وَأَنَّهُمُ اشْتَرَطُوا وَلَاءَهَا، فَذُكِرَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"اشْتَرِيهَا فَأَعْتِقِيهَا، فَإِنَّمَا الوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ". وَأُهْدِيَ لَهَا لَحْمٌ، فَقَالَ لِلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"هَذَا تُصُدِّقَ عَلَى بَرِيرَةَ هُوَ لَهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا هَدِيَّةٌ". وَخُيِّرَتْ. قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ زَوْجُهَا حُرٌّ أَوْ عَبْدٌ
قَالَ شعْبَة: سَأَلْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ عَنْ زَوْجِهَا، قَالَ: لَا أَدْرِي أَحرّ أَمْ عبد. [انظر: 456 - مسلم: 1075، 1504 - فتح: 5/ 203]
2579 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَبُو الحَسَنِ، أَخْبَرَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ خَالِدٍ الحَذَّاءِ، عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى عَائِشَةَ رضي الله عنها فَقَالَ: "عِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟ ". قَالَتْ لَا، إِلَّا شَيْءٌ بَعَثَتْ بِهِ أُمُّ عَطِيَّةَ مِنَ الشَّاةِ التِي بُعِثَت إِلَيْهَا مِنَ الصَّدَقَةِ. قَالَ:"إِنَّهَا قَدْ بَلَغَتْ مَحِلَّهَا". [انظر: 1446 - مسلم: 1076 - فتح: 5/ 203]
ذكر فيه ستة أحاديث:
أحدها:
حديث عائشة: أَنَّ النَّاسَ كَانُوا يَتَحَرَّوْنَ بِهَدَايَاهُمْ يَوْمَ عَائِشَةَ، يَبْتَغُونَ بِهَا -أَوْ يَبْتَغُونَ بِذَلِكَ- مَرْضَاةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
ثانيها:
حديث ابن عباس. أَهْدَتْ أُمُّ حُفَيْدٍ -خَالَةُ ابن عَبَّاسٍ- إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَقِطًا وَسَمْنًا وَأَضُبًّا.
ثالثها:
حديث أبي هريرة: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أُتِيَ بِطَعَامٍ سَأَلَ عَنْهُ: "أَهَدِيَّةٌ أَمْ صَدَقَةٌ؟ " فَإِنْ قِيلَ: صدَقَةٌ. قَالَ لأَصْحَابِهِ: "كُلُوا". وَلَمْ يَأْكُلْ، وَإِنْ قِيلَ: هَدِيَّةٌ. ضَرَبَ بِيَدِهِ فَأَكَلَ مَعَهُمْ.
رابعها:
حديث أنس: أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِلَحْمٍ فَقِيلَ: تُصُدِّقَ به عَلَى بَرِيرَةَ. فقَالَ: "هُوَ لَهَا صَدَقَةٌ، وَلَنَا هَدِيَّةٌ".
خامسها:
حديث عائشة في قصة بريرة وفيه: وَأُهْدِيَ لَهَا لَحْمٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم "ما هذا؟ " فقلت: تُصدِّقَ به عَلَى بَرِيرَةَ قال: "هُوَ لَهَا صَدَقَة وَلَنَا هَدِيَة".
سادسها: حديث أم عطية: دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم على عَائِشَةَ فَقَالَ: "أعِنْدَكُمْ شَيْ؟ ". قَالَتْ: لَا، إِلَّا شَيْءٌ بَعَثَتْ بِهِ أُمُّ عَطيَّةَ مِنَ الشَّاةِ التِي بَعَثَتْ إِلَيْهَا مِنَ الصَّدَقَةِ. قَالَ:"إِنَّهَا قَدْ بَلَغَتْ مَحِلَّهَا".
الشرح:
في حديث عائشة جواز تحري الهدية ابتغاء مرضات المهدي إليه، وفي حديث ابن عباس إهداء الأقط والسمن والأضب، والأقط سلف بيانه في صدقة الفطر، وهو: لبن مجمد غير منزوع الزبد، والأضب:
جمع ضب مثل: فلس وأفلس.
وأم حُفَيد خالة ابن عباس بضم الحاء المهملة.
وقول ابن عباس: (لو كان حرامًا ما أكل على مائدة رسول الله صلى الله عليه وسلم) احتجاج حسن، وهو قول الفقهاء كافة، ونص عليه مالك في "المدونة"
(1)
، وعنه رواية بالمنع، وعن أبي حنيفة الكراهة
(2)
.
وقد روى مالك في حديث الضب أنه صلى الله عليه وسلم أمر ابن عباس وخالد بن الوليد بأكله في بيت ميمونة، وقالا له: لم لا تأكل يا رسول الله؟ فقال: "إني يحضرني من الله حاضرة"
(3)
يعني: الذين يناجيهم، ورائحة الضب
(1)
"المدونة" 1/ 426
(2)
انظر: "مختصر الطحاوي" ص 441.
(3)
"الموطأ" ص 599. =
ثقيلة، ولذلك تقذره خشية أن يؤدي الملائكة بريحه، ففيه من الفقه أنه يجوز للإنسان أن يتقذر ما ليس بحرام عليه لقلة عادته لأكله ولزومه.
وقوله: (أكل على مائدته). قال الداودي: يعني القصعة والمنديل ونحوهما؛ لأن أنسًا قال: ما أكل على خوان قط، وأصل المائدة من الميد وهو العطاء يقال: مادني يميدني.
وقال أبو عبيدة: هي فاعلة بمعنى مفعولة من العطاء
(1)
. وقال الزجاج: هي عندي من ماد يميد إذا تحرك. وقال ابن فارس: هي من ماد يميد إذا أطعم، وقال قوم: مادني يميدني إذا أنعشني، ومنه المائدة
(2)
.
قال: والخوان -فيما يقال- اسم أعجمي غير أني سمعت إبراهيم ابن علي القطان يقول: سئل ثعلب وأنا أسمع: أيجوز أن يقال: إن الخوان سمي بذلك؛ لأنه يتخون ما عليه؟ أي: ينتقص. فقال: ما يبعد ذلك
(3)
.
وفي حديث أبي هريرة: حرمة الصدقة عليه دون غيره، وفي آله خلاف، والأصح عندنا إلحاقهم به في الفرض دون التطوع
(4)
، وهي
= قال ابن عبد البر في "التمهيد" 19/ 235: أما قوله: "إني يحضرني من الله حاضرة". فمعناه إن صحت هذِه اللفظه؛ لأنها لا توجد في غير هذا الحديث معناها ما ظهر في حديث ابن عباس وخالد بن الوليد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال فيه: "لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه". اهـ.
(1)
"مجاز القرآن" 1/ 182.
(2)
"مجمل اللغة" 2/ 820 مادة: ميد.
(3)
"مجمل اللغة" 1/ 307 (خون).
(4)
انظر: "البيان" 3/ 438، "العزيز" 7/ 419.
عند المالكية حرام على آله -أعني: التطوع
(1)
- خلافًا لابن القاسم
(2)
.
وقال أصبغ: يكره
(3)
. ذكره ابن التين.
وقد علل الشارع كونه لا يتناولها لأنها أوساخ الناس، الصلاة والسلام لقوله:"اليد العليا خير من اليد السفلى" والأنبياء عليهم الصلاة والسلام منزهون عن مواضع الضعة والذلة، والصدقة لا تنبغي للأغنياء، وقد عدد الله على نبيه كونه وجده عائلًا فأغناه، فكذا حرمت عليه الصدقة، ومن أعلام نبوته عدم قبولها بخلاف الهدية. وقوله في لحم بريرة:"هو لها صدقة ولنا هدية".
وقوله: "قد بلغت محلها" فإن الصدقة يجوز فيها تصرف الفقير بالبيع والهدية وغير ذلك؛ لصحة ملكه لها، فلما أهدتها بريرة إلى بيت مولاتها عائشة حلت لها ولرسول الله صلى الله عليه وسلم وتحولت عن معنى الصدقة لملك المتصدق عليه بها، ولذلك قال:"وهي لنا هدية" أي: من قبلها، و"قد بلغت محلها" أي: صارت حلالًا بانتقالها من باب الصدقة إلى باب الهدية؛ لأن الهدية جائز أن يثيب عليها بمثلها وأضعافها على المعهود منه صلى الله عليه وسلم، وليس ذلك شأن الصدقة، وقد أسلفنا هذِه المعاني فيما مضى أيضًا وأعدناها لطول العهد بها.
وقول عبد الرحمن في زوج بريرة: (لا أدري حر أو عبد).
المشهور أنه عبد، وهو قول مالك والشافعي، وعليه أهل الحجاز، وهو ما ذكره النسائي عن ابن عباس
(4)
، واسمه مغيث كما سلف، وذكره
(1)
انظر: "المنتقى" 2/ 153.
(2)
انظر: "النوادر والزيادات" 2/ 296 - 297.
(3)
انظر: "النوادر والزيادات" 2/ 297.
(4)
النسائي 8/ 245 (5417)، وسيأتي برقم (5280)، كتاب: الطلاق، باب: خيار الأمة تحت العبد.
أبو داود والنسائي عن عائشة
(1)
، وخالف أهل العراق فقالوا: كان حرًا
(2)
.
وفيه: أن للحرة أن تنكح العبد؛ لتخييره بريرة في بقائها معه وهو عبد.
قال الداودي: والذي بعثت به أم عطية، إنما بعثت به إلى عائشة هدية، وظنت عائشة أنه إذا كان أصلها صدقة لا تحل لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه دليل أنه كان قبل لحم بريرة، أو إنما تأولت أن أم عطية ابتدأت بتوجيهه وأن بريرة لم تبتدئ بإعطائه، أو يكون في أحد الحديثين وهم.
(1)
أبو داود (2236)، النسائي 6/ 165 (3452)، وهو عند مسلم برقم (1504)، والترمذي برقم (1154).
(2)
سيأتي في حديث (6751) معلقا من قول الحكم، وفي (6754) معلقا من قول الأسود.
وروي عن عائشة عند الترمذي (1155)، والنسائي 5/ 107 - 108 (2614).
قال البخاري تعقيبًا على قول الحكم والأسود: وقول الحكم مرسل، وقول الأسود منقطع، وقول ابن عباس: رأيته عبدًا، أصح اهـ وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. اهـ.
وقال الألباني: شاذ بلفظ: حرًا والمحفوظ بلفظ عبد. اهـ.
8 - باب مَنْ أَهْدَى إِلَى صَاحِبِهِ، وَتَحَرَّى بَعْضَ نِسَائِهِ دُونَ بَعْضٍ
2580 -
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ النَّاسُ يَتَحَرَّوْنَ بِهَدَايَاهُمُ يَوْمِي. وَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: إِنَّ صَوَاحِبِي اجْتَمَعْنَ. فَذَكَرَتْ لَهُ، فَأَعْرَضَ عَنْهَا. [انظر: 2574 - مسلم: 2441 - فتح: 5/ 205]
2581 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي أَخِي، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، أَنَّ نِسَاءَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم كُنَّ حِزْبَيْنِ: فَحِزْبٌ فِيهِ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ وَصَفِيَّةُ وَسَوْدَةُ، وَالحِزْبُ الآخَرُ أُمُّ سَلَمَةَ وَسَائِرُ نِسَاءِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ المُسْلِمُونَ قَدْ عَلِمُوا حُبَّ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَائِشَةَ، فَإِذَا كَانَتْ عِنْدَ أَحَدِهِمْ هَدِيَّةٌ يُرِيدُ أَنْ يُهْدِيَهَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَخَّرَهَا، حَتَّى إِذَا كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِ عَائِشَةَ بَعَثَ صَاحِبُ الهَدِيَّةِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِ عَائِشَةَ.
فَكَلَّمَ حِزْبُ أُمِّ سَلَمَةَ، فَقُلْنَ لَهَا: كَلِّمِي رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُكَلِّمُ النَّاسَ، فَيَقُولُ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يُهْدِيَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم هَدِيَّةً فَلْيُهْدِهِ إِلَيْهِ حَيْثُ كَانَ مِنْ بُيُوتِ نِسَائِهِ، فَكَلَّمَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ بِمَا قُلْنَ، فَلَمْ يَقُلْ لَهَا شَيْئًا، فَسَأَلْنَهَا. فَقَالَتْ: مَا قَالَ لِي شَيْئًا. فَقُلْنَ لَهَا: فَكَلِّمِيهِ. قَالَتْ: فَكَلَّمَتْهُ حِينَ دَارَ إِلَيْهَا أَيْضًا، فَلَمْ يَقُلْ لَهَا شَيْئًا، فَسَأَلْنَهَا. فَقَالَتْ مَا قَالَ لِي شَيْئًا. فَقُلْنَ لَهَا: كَلِّمِيهِ حَتَّى يُكَلِّمَكِ. فَدَارَ إِلَيْهَا فَكَلَّمَتْهُ، فَقَالَ لَهَا:"لَا تُؤْذِينِي فِي عَائِشَةَ، فَإِنَّ الوَحْيَ لَمْ يَأْتِنِي، وَأَنَا فِي ثَوْبِ امْرَأَةٍ إِلَّا عَائِشَةَ". قَالَتْ: فَقَالَتْ: أَتُوبُ إِلَى اللهِ مِنْ أَذَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ.
ثُمَّ إِنَّهُنَّ دَعَوْنَ فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَرْسَلْتْ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَقُولُ: إِنَّ نِسَاءَكَ يَنْشُدْنَكَ اللهَ العَدْلَ فِي بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ. فَكَلَّمَتْهُ. فَقَالَ: "يَا بُنَيَّةُ، أَلَا تُحِبِّينَ مَا أُحِبُّ". قَالَتْ: بَلَى. فَرَجَعَتْ إِلَيْهِنَّ فَأَخْبَرَتْهُنَّ، فَقُلْنَ: ارْجِعِي إِلَيْهِ. فَأَبَتْ أَنْ تَرْجِعَ، فَأَرْسَلْنَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ، فَأَتَتْهُ فَأَغْلَظَتْ، وَقَالَتْ: إِنَّ نِسَاءَكَ يَنْشُدْنَكَ اللهَ
العَدْلَ في بِنْتِا ابن أَبِي قُحَافَةَ. فَرَفَعَتْ صَوْتَهَا، حَتَّى تَنَاوَلَتْ عَائِشَةَ وَهْيَ قَاعِدَة فَسَبَّتْهَا، حَتَّى إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَيَنْظُرُ إِلَى عَائِشَةَ هَلْ تَكَلَّمُ، قَالَ: فَتَكَلَّمَتْ عَائِشَةُ تَرُدّ عَلَى زَيْنَبَ حَتَّى أَسْكَتَتْهَا. قَالَتْ: فَنَظَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى عَائِشَةَ وَقَالَ: "إِنَّهَا بِنْتُ أَبِي بَكرٍ". [انظر: 2574 - مسلم: 2441 - فتح: 5/ 205]
قَالَ البُخَارِيُّ: الكَلَامُ الأخَيرُ قِصَّة فَاطِمَةَ يُذْكَرُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ. وَقَالَ أَبُو مَرْوَانَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ عُرْوَةَ: كَانَ النَّاسُ يَتَحَرَّوْنَ بِهَدَايَاهُمْ يَوْمَ عَائِشَةَ. وَعَنْ هِشَامٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ، وَرَجُلٍ مِنَ الَموَالِي، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الَحارِثِ بْنِ هِشَامٍ: قَالَتْ عَائِشَة: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَأْذَنَتْ فَاطِمَةُ.
فيه حديث عائشة: كَانَ النَّاسُ يَتَحَرَّوْنَ بِهَدَايَاهُمُ يَوْمِي. ثم ساقه بطوله، وفي آخره: عن هشام عَنْ رَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ، وَرَجُلٍ مِنَ المَوَالِي، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ قال: قَالَتْ عَائِشَةُ: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَأْذَنَتْ فَاطِمَةُ.
وهذا أخرجه مسلم
(1)
عن حسن الحلواني وأبي بكر بن النضر
(2)
وعبد بن حميد، ثلاثتهم: عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد، [عن أبيه]
(3)
عن صالح بن كيسان، عن محمد بن عبد الله بن قهزاذ، عن عبد الله بن عثمان، عن ابن المبارك، عن يونس، عن الزهري.
(1)
برقم (2442) كتاب: "فضائل الصحابة" باب: فضل عائشة رضي الله عنها.
(2)
في الأصل: أبو بكر بن أبي النضر، وهو خطأ والمثبت هو الصواب كما في مسلم و"تحفة الأشراف"(17590).
(3)
ساقطه من النسخ، وهي مثبتة من صحيح مسلم.
ولما رواه النسائي
(1)
من طريق يعقوب بن إبراهيم
(2)
وشعيب بن أبي حمزة، عن الزهري، قال: وكذلك رواه موسى بن أعين، عن معمر، عن الزهري.
ورواه عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة.
ورواه يحيى بن صالح الوحاظي، عن إسحاق بن يحيى الكلبي، عن الزهري، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، عن عائشة ولم يتابع عليه.
ورواه ابن عيينة وزياد بن سعد، عن الزهري، عن علي بن الحسين مرسلًا.
قال الذهلي محمد بن يحيى: ورواه أبو مروان الغساني أيضًا عن هشام، عن أبيه، عن عائشة، والصواب حديث الزهري، عن محمد بن عبد الرحمن، عن عائشة
(3)
.
وقوله قبل ذلك: (وقال أبو مروان: عن هشام، عن عروة) أبو مروان اسمه يحيى بن أبي زكريا
(4)
الغساني، وأصله من الشام نزل واسط
(5)
.
(1)
"السنن الكبرى" 5/ 281، 282 (8892، 8893).
(2)
في المطبوع من "سنن النسائي الكبرى" 5/ 281 وكذا في "التحفة" عن أبيه، أي: إبراهيم بن سعد عن صالح عن الزهري.
(3)
انظر: "تحفة الأشراف" 12/ 297 - 298 (17590).
(4)
ورد بهامش الأصل ما نصه: ضعفه أبو داود، توفي سنة 188 هـ.
(5)
روى عن: إسماعيل بن أبي خالد، وهشام بن عروة، ويونس بن عبيد.
روى عنه: أبو سفيان، أيوب بن أبي هند الحراني، ومحمد بن حرب النشائي.
قال أبو حاتم: شيخ، ليس بمشهور. وقال أبو عبيد الآجري عن أبي داود:
ضعيف. قال البخاري: مات سنة ثمان وثمانين ومائة، وقال محمد بن الوزير الواسطي: مات سنة تسعين ومئة.=
وهذا الحديث تقدم بعضه في الباب قبله، وفيه هنا زيادات، منها: أن نساءه كن حزبين.
وقوله في زينب: (فأغلظت، وقالت: إن نساءك ينشدنك العدل في ابنة أبي قحافة). قيل: إنا ذلك على ما ظهر لها، ولا بأس أن يحابي بعض نسائه إذا لم ينقص من لوازم الباقيات شيئًا، وفيه إدلال زينب لقرابتها منه، ولأن الله أنكحها منه، كانت تقول لنسائه: كلكن زوجكن الأولياء، إلا أنا فإن الله زوجني إياه
(1)
. وكانت بنت عمته، وكانت تسامي عائشة وقد سألها صلى الله عليه وسلم حين قال أهل الإفك ما قالوا في عائشة فقالت: أحمي سمعي وبصري! ما علمت عليها إلا خيرًا. قالت عائشة: فعصمها الله بالورع
(2)
.
وفيه: أن الناس لم يكونوا يتحرون يوم عائشة بأمره.
وفيه: كما قال الداودي: عذره صلى الله عليه وسلم لزينب. قال ابن التين: ولا أدري من أين أخذه.
وقوله: "إنها بنت أبي بكر" أي: يعلم مناقب مضر ومثالبها، ولما أمر حسان أن يهجو قريشًا. قال:"امض إلى أبي بكر فإنه أعلم مثالب العرب"، وكان من أعلم الناس، وكان أعلمهم به بعده جبير بن مطعم، تعلم من أبي بكر.
= انظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" 8/ 247 (2975)، "الجرح والتعديل" 9/ 146 (614)، "تهذيب الكمال" 31/ 314 - 315 (6828).
(1)
سيأتي من حديث أنس برقم (7420) كتاب: التوحيد.
(2)
سيأتي برقم (2661) كتاب: الشهادات.
قال المهلب: وفيه من الفقه أنه ليس على الزوج حرج في إيثار بعض نسائه بالتحف والطرف من المأكل، وإنما يلزمه العدل في المبيت والمقام معهن، وإقامة نفقاتهن، وما لا بد منه من القوت والكسوة، وأما غير ذلك فلا.
وفيه: تحري الناس بالهدايا أوقات المسرة ومواضعها من المهدى إليه ليزيد بذلك في سروره.
وفيه: أن الرجل يسعه السكوت بين نسائه إذا تناظرن في ذلك، ولا يميل مع بعضهن علي بعض، كما سكت عليه السلام حين تناظرت زينب وعائشة، ولكن قال أخيرًا:"إنها بنت أبي بكر" ففيه إشارة إلى التفضيل بالشرف والفهم.
9 - باب مَا لَا يُرَدُّ مِنَ الهَدِيَّةِ
2582 -
حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَارِثِ، حَدَّثَنَا عَزْرَةُ بْنُ ثَابِتٍ الأَنْصَارِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي ثُمَامَةُ بْنُ عَبْدِ اللهِ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَيْهِ فَنَاوَلَنِي طِيبًا، قَالَ: كَانَ أَنَسٌ رضي الله عنه لَا يَرُدُّ الطِّيبَ. قَالَ وَزَعَمَ أَنَسٌ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ لَا يَرُدُّ الطِّيبَ. [5929 - فتح: 5/ 209]
ذكر فيه حديث ثُمَامَةَ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَيْهِ فَنَاوَلَنِي طِيبًا، قَالَ: كَانَ أَنَسٌ لَا يَرُدُّ الطِّيبَ. قَالَ: وَزَعَمَ أَنَسٌ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ لَا يَرُدُّ الطِّيبَ.
ويأتي في اللباس أيضًا
(1)
، وأخرجه الترمذي في الاستئذان وصححه، والنسائي في الوليمة والزينة
(2)
.
الشرح:
الضمير في قوله: (دخلت عليه) على أنس؛ لأنه جده والراوي عنه، وإنما كان لا يرد الطيب لمناجاته الملك، كما كان لا يأكل الثوم وما شاكله، وكان مما حبب إليه من الدنيا حيث قال:"حبِّب إليَّ من دنياكلم الطيب والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة"
(3)
فكان أنس يتبع آثاره اقتداء به، وكذا ابن عمر في خضابه وإهلاله، ومسه الأركان اليمانية، والتحري في منازله، وكان أشبه الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم وأشبه
(1)
برقم (5929) باب: من لم يرد الطيب.
(2)
الترمذي (2789)، والنسائي 8/ 189.
(3)
رواه من حديث أنس: أحمد 3/ 127، محمد بن نصر في "تعظيم قدر الصلاة"(322، 323)، والنسائي 7/ 61 - 62، والحاكم 2/ 160 وقال: صحيح على شرط مسلم، وقال الألباني في تعليقه في "المشكاة" (5261): إسناده حسن.
ولده به سالم، وكذا كان ابن مسعود يتحرى الاقتداء بأفعاله، وكان علقمة أشبه الناس به وكان إبراهيم النخعي أشبه الناس بعلقمة. وقال عليه السلام في جعفر:"أشبهت خَلقي وخُلقي"
(1)
.
وفي الحديث دلالة أن من الهدايا ما يرد لعلة إذا كان لذلك وجه، وأن الطيب لا وجه لرده؛ لأنه من المباحات المستحسنات.
فائدة:
في الترمذي، -وقال: غريب- من حديث ابن عمر مرفوعًا: "ثلاث لا ترد: الوسائد، والدهن، واللبن"
(2)
.
(1)
يأتي برقم (4251) كتاب: المغازي، باب: عمرة القضاء.
(2)
برقم (2790)، وحسنه الألباني في "صحيح الترمذي"(2241).
10 - باب مَنْ رَأَى الهِبَةَ الغَائِبَةَ جَائِزَةً
2583 و 2584 - حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ ذَكَرَ عُرْوَةُ أَنَّ المِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ رضي الله عنهما وَمَرْوَانَ أَخْبَرَاهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حِينَ جَاءَهُ وَفْدُ هَوَازِنَ قَامَ فِي النَّاسِ، فَأَثْنَى عَلَى اللهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ:"أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ إِخْوَانَكُمْ جَاءُونَا تَائِبِينَ، وَإِنِّي رَأَيْتُ أَنْ أَرُدَّ إِلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ، فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يُطَيِّبَ ذَلِكَ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَظِّهِ حَتَّى نُعْطِيَهُ إِيَّاهُ مِنْ أَوَّلِ مَا يُفِيءُ اللهُ عَلَيْنَا". فَقَالَ النَّاسُ: طَيَّبْنَا لَكَ. [انظر: 2307، 2308 - فتح: 5/ 209]
فيه عن ابن شهاب قَالَ: ذَكَرَ عُرْوَةُ أَنَّ المِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانَ أَخْبَرَاهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حينَ جَاءَهُ وَفْدُ هَوَازِنَ قَامَ فِي النَّاسِ، فَأثْنَي عَلَى اللهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ:"أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ إِخْوَانَكُمْ جَاءُونَا تَائِبِينَ، وَإِنِّي قد رَأَيْتُ أَنْ أَرُدَّ إِلَيْهِمْ سبْيَهُمْ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُطَيِّبَ ذَلِكَ فَلْيَفْعَلْ" .. الحديث، وفي آخره: فَقَالَ النَّاسُ: قد طَيَّبْنَا لَكَ.
قال المهلب: هبة الشيء الغائب جائزة عند العلماء، ولا أعلم في ذلك خلافًا
(1)
.
وفيه: أن للسلطان أن يدفع أملاك قوم إذا كان في ذلك مصلحة وائتلاف.
(1)
انظر: "شرح ابن بطال" 7/ 95.
11 - باب المُكَافَأَةِ فِي الهدية
(1)
2585 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقْبَلُ الهَدِيَّةَ وَيُثِيبُ عَلَيْهَا. لَمْ يَذْكُرْ وَكِيعٌ وَمُحَاضِرٌ عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ. [فتح: 5/ 210]
المكافأة: مهموز من قولك: كفأت فلانًا إذا قابلته
(2)
.
ذكر فيه حديث عيسى بن يونس، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقْبَلُ الهَدِيَّةَ وَيُثِيبُ عَليْهَا.
قال أبو عبد الله: لَمْ يَذْكُرْ وَكِيع وَمُحَاضِرٌ عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ.
الشرح:
هذا الحديث من أفراده، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه لا نعرفه مرفوعًا إلا من حديث عيسى بن يونس
(3)
.
وقال البزار: لا نعلم أحدًا رواه عن أبيه عن عائشة إلا عيسى بن يونس. يعني: ذكر عائشة في الإسناد تفرد به عيسى.
ووقع في كتاب الطرقي أن أبا داود أخرجه من طريق عيسى وأبي إسحاق كلاهما عن هشام.
ثم قال: وذكر أبي إسحاق مع (أبي عيسى)
(4)
لا أدري كيف هو.
(1)
كذا في الأصل، وفي بعض النسخ: الهبة.
(2)
"مجمل اللغة" لابن فارس 2/ 788 مادة: (كفي).
(3)
الترمذي (1953)، وعبارته: حسن غريب صحيح من هذا الوجه ..
(4)
كذا في الأصل، وهو خطأ، والصواب عيسى.
وهو كما قال، والذي في أصول أبي داود عن عيسى بن يونس وهو ابن أبي إسحاق السبيعي
(1)
، فتنبَّه لذلك.
إذا تقرر ذلك فالمكافأة على الهبة مطلوبة؛ اقتداءً بالشارع، وعندنا لا يجب فيها ثواب مطلقًا، سواء وهب الأعلى للأسفل أو عكسه أو للمساوي
(2)
.
قال المهلب: والهدية ضربان: للمكافأة فهي بيع وجبر على دفع العوض. ولله وللصلة فلا يلزم عليها مكافأة، وإن فعل فقد أحسن.
واختلف العلماء فيمن وهب هبة ثم طلب ثوابها وقال: إنما أردت الثواب.
فقال مالك: ينظر فيه فإن كان مثله ممن يطلب الثواب من الموهوب له فله ذلك، مثل هبة الفقير للغني والغلام لصاحبه والرجل لأميره ومن فوقه
(3)
. وهو أحد قولي الشافعي
(4)
.
وقال أبو حنيفة: لا يكون له ثواب إذا لم يشترطه
(5)
. وهو قول الشافعي الثاني، قال: والهبة للثواب باطل لا تنعقد؛ لأنها بيع بثمن مجهول
(6)
.
واحتج الكوفي بأن موضوع الهبة التبرع فلو أوجبنا فيها العوض لبطل معنى التبرع وصار في معنى المعاوضات، والعرب قد فرقت
(1)
"سنن أبي داود"(3536).
(2)
انظر: "التهذيب" للبغوي 4/ 529 - 530.
(3)
انظر: "عيون المجالس" 4/ 1838.
(4)
انظر: "التهذيب" 4/ 530.
(5)
انظر: "مختصر الطحاوي" ص 138.
(6)
انظر: "الأم" 7/ 105.
بين لفظ البيع ولفظ الهبة، فجعلت لفظ البيع واقعًا على ما يستحق فيه العوض، والهبة بخلاف ذلك.
واحتُج لمالك بحديث الباب والاقتداء به واجب؛ قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] وروى أحمد في "مسنده" وابن حبان في "صحيحه" من حديث ابن عباس أن أعرابيًا وهب للنبي صلى الله عليه وسلم هبة فأثابه عليها وقال: "رضيت؟ " قال: لا. فزاده قال: "رضيت؟ " قال: لا. فزاده قال: "رضيت؟ " قال: نعم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لقد هممت ألا أتهب هبة إلا من قرشي أو أنصاري أو ثقفي"
(1)
.
وعن أبي هريرة نحوه، رواه أبو داود والنسائي والترمذي، وقال: حسن. والحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم
(2)
.
وهو دال على الثواب فيها
(3)
وإن لم يشرطه؛ لأنه أثابه وزاده منه حتى بلغ رضاه.
احتج به من أوجبه، قال: ولو لم يكن واجبًا لم يشبه ولم يرده، ولو أثاب تطوعًا لم يلزمه الزيادة، وكان ينكر على الأعرابي طلبها.
قلت: طمع في مكارم أخلاقه وعادته في الإثابة.
(1)
أحمد 1/ 295، وابن حبان 14/ 296 (6384) كتاب: التاريخ، باب: ذكر إرادة المصطفي صلى الله عليه وسلم ترك قبول الهدية إلا عن قبائل معروفة. وقال الهيثمي في "المجمع" 4/ 148: رجال أحمد رجال الصحيح.
(2)
رواه أبو داود (3537) كتاب: أبواب الإجارة، باب: في قبول الهدا يا، والترمذي (3945) كتاب: المناقب، باب: في ثقيف وبني حنيفة، والنسائي 6/ 279 - 280، والحاكم في "المستدرك" 2/ 63، وصححه الألباني في "الصحيحة" برقم (1684).
(3)
أي: في الهبة.
وأما قوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86] فمحمول على الندب إن استدل به على كل هدية وهبة.
قالوا: وقد روي عن عمر وعلى أنهما قالا: إذا وهب الرجل هبةً ولم يُثب منها، فهو أحق بها
(1)
. ولا مخالف لهما، قلت: وصححه الحاكم
(2)
.
وقال ابن التين: إذا شرط الثواب أجازه الجماعة إلا عبد الملك، وله عند الجماعة أن يردها ما لم تتغير إلا عبد الملك فألزمه الثواب بنفس القبول
(3)
، وعبارة ابن الحاجب: فإذا صرح بالثواب فإن عَيّنه فبيع وإن لم يعيّنه. فصححه ابن القاسم ومنعه بعضهم للجهل بالثمن، قال: ولا يلزم الموهوب إلا قيمتها قائمة أو فائتة.
وقال مطرف: للواهب أن يأبى إن كانت قائمةً. وفي تعين الدنانير والدراهم.
ثالثها
(4)
لابن القاسم: إلا الحطب والتِّبن وشِبْهَهُ وليس له الرجوع في الثواب بعد تعينه وإن لم يقبض
(5)
.
(1)
رواهما عبد الرزاق 9/ 106 - 107 (16524، 16526)، وابن أبي شيبة 4/ 224 (21693، 21696) موقوفًا عليهما.
(2)
الذي في "المستدرك" 2/ 52 عن ابن عمر مرفوعًا.
(3)
انظر: "عقد الجواهر الثمينة" 3/ 987.
(4)
هكذا في الأصل، ولم ينقل المصنف النوعين الأولين من المصدر الذي نقل منه.
(5)
"جامع الأمهات" ص 293.
12 - باب الهِبَةِ لِلْوَلَدِ
وَإِذَا أَعْطَى بَعْضَ وَلَدِهِ شَيْئًا لَمْ يَجُزْ، حَتَّى يَعْدِلَ بَيْنَهُمْ وَيُعْطِيَ الآخَرِينَ مِثْلَهُ، وَلَا يُشْهَدُ عَلَيْهِ. وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"اعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ فِي العَطِيَّةِ". [2587]
وَهَلْ لِلْوَالِدِ أَنْ يَرْجِعَ فِي عَطِيَّتِهِ؟ وَمَا يَأْكُلُ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ بِالمَعْرُوفِ وَلَا يَتَعَدَّى؟ وَاشْتَرَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ عُمَرَ بَعِيرًا، ثُمَّ أَعْطَاهُ ابْنَ عُمَرَ، وَقَالَ:"اصْنَعْ بِهِ مَا شِئْتَ"[انظر:2115]
2586 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَمُحَمَّدِ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ أَنَّهُمَا حَدَّثَاهُ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، أَنَّ أَبَاهُ أَتَى بِهِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنِّي نَحَلْتُ ابْنِي هَذَا غُلَامًا. فَقَالَ: "أَكُلَّ وَلَدِكَ نَحَلْتَ مِثْلَهُ؟ ". قَالَ: لَا. قَالَ: "فَارْجِعْهُ". [2587، 2650 - مسلم: 1623 - فتح: 5/ 211]
ثم ساق حديث النعمان بن بشير أَنَّ أَبَاهُ أَتَى بِهِ إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنِّي نَحَلْتُ ابني هذا غُلَامًا. فَقَالَ: "أَكُلَّ وَلَدِكَ نَحَلْتَ مِثْلَهُ؟ ". قَالَ: لَا. قَالَ: "فَارْجِعْهُ".
الشرح:
هذا التبويب منتزع من حديث النعمان بن بشير.
وقوله: ولا يشهد عليه. قال ابن بطال: معناه الرد لفعل الأب إذا فضّل بعض بنيه، وأنه لا يسع الشهود أن يشهدوا على ذلك إذا تبين لهم الميل من الأب كما لم يشهد الشارع على عطية بشير ابنه النعمان دون أخوته، وكان ذلك سُنّة من الشارعِ ألا يشهد على عطية
تبين فيها الجور
(1)
.
قلت: هذا تأويل من منع، وهو الظاهر، ومن قال: خالف المستحب، أجاب بأنه قد أَذِن في الشهادة وقال:"أشهد على هذا غيري".
وقد يجاب بأنه من باب التهكم، وقد ذكره البخاري في كتاب: الشهادات، وقال فيه:"لا أشهد على جور"
(2)
.
وقوله: وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اعدلوا بين أولادكم في العطية" قد أسنده في الباب بعده بدون لفظ العطية
(3)
.
وقوله: (وهل للوالد أن يرجع في عطيته)؟
قد أسند بعده قوله: فارجعه.
ومراده إذا جاز له ارتجاع هبته -كما في الحديث- جاز الأكل.
وهذا يدل على أن مذهبه الصحة، كما سيأتي.
وقوله: (وما يأكل من مال ولده). إلى آخره. هذا في حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عند الحاكم مرفوعًا
(4)
، وحسنه الترمذي من حديث عائشة
(5)
.
(1)
ابن بطال 7/ 103.
(2)
سيأتي برقم (2650).
(3)
سيأتي برقم (2587) كتاب: الهبة، باب: الإشهاد في الهبة.
(4)
رواه الحاكم 2/ 46 - بغير هذا الإسناد- من طريق عمارة بن عمير، عن عمته، عن عائشة مرفوعًا، وقد تقدم تخريجه بهذا الإسناد في شرح حديث (2073 - 2075) وعزاه المصنف هناك لأبي داود.
(5)
"سنن الترمذي"(1358). وهو حديث صحيح تقدم تخريجه في شرح حديث 2073 - 2075 وعزاه المصنف هناك للنسائي.
قال ابن المنير: جميع ما في هذِه الترجمة يظهر استخراجه من حديث النعمان إلا هذا
(1)
.
ووجه مناسبة هذِه الزيادة أن الاعتصار انتزاع، وكأنه حقق معناه من الحديث ويُمَكّن الأب منه بالوفاق على أن له أن يأكل من ماله، فإذا انتزع ما يأكله من ماله الأصلي، ولم يتقدم له فيه ملك، فلأن ينتزع ما وهبه بحقه السابق فيه أولى، واشتراؤه من عمر البعير وإعطاؤه ابن عمر قد سلف قريبًا مسندًا
(2)
، وهو دال على ما بوب به البخاري من التسوية بين الأبناء في الهبة لأنه عليه السلام لو سأل عمر أن يهب البعير لابنه عبد الله لم يكن عدلًا بين بني عمر، فلذلك اشتراه ووهبه لابنه عبد الله، ولو أشار على عمر ليهبه لابنه عبد الله لبادر إلى ذلك، وهذا من لطيف تبويبه، وإن كان يحتمل أنه عليه السلام اشتراه ثم بدا له بعد ذلك هبته لابن عمر، وفي ذلك إشارة إلى أنّ غير الأبّ لا يلزمه التسوية فيما يهبه بعض ولد الرجل كما يلزم الأب أو يستحب في ولده لما جبل الله النفوس عليه من الغضب عند أثرة الأباء بعض بنيهم دون بعض، ولو لزمت التسوية بين الأخوة من غير الأب كما لزمت من الأب لما وهب عليه السلام أحد بني عمر دون أخوته.
وحديث النعمان أخرجه مسلم أيضًا
(3)
.
وله ألفاظ منها: أعطاني عطية فقالت عمرة بنت رواحة: لا أرضى؛
حتى تُشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأتاه فقال: إني أعطيت ابني من عمرة عطية، فأمرتني أن أشهدك. فقال:"أعطيت سائر ولدك مثل هذا؟ " قال: لا.
(1)
"المتواري" ص 277.
(2)
سلف برقم (2115) كتاب: البيوع، باب: إذا اشترى شيئًا فوهب من ساعته.
(3)
مسلم (1623) كتاب: الهبات، باب: كراهية تفضيل الأولاد في الهبة.
قال: "فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم"
(1)
قال: فرجع فرد عطيته.
وفي لفظ: "لا تشهدني على جور"
(2)
.
وفي لفظ سلف: "لا أشهد على جور" وقال أبو حريز، عن الشعبي:"لا، لا أشهد على جور"
(3)
.
ووصله ابن حبان من حديث الفضيل عنه
(4)
-وهو ابن ميسرة كما بينه الطبراني
(5)
- ولمسلم: "فأشهد على هذا غيري"، ثم قال:"أيسرك أن يكونوا لك في البر سواء" قال: بلى، قال:"فلا آذن"
(6)
. وفي لفظ: "ليس يصلح هذا"
(7)
. قال ابن عون: فحدثت به محمدًا فقال: إنما يحدثنا أنه قال: "قاربوا بين أبنائكم"
(8)
.
وفي لفظ لأبي داود أنه قال للغلام: "رده"
(9)
.
وله: "اعدلوا بين أبنائكم، أعدلوا بين أبنائكم"
(10)
.
وله أنه تصدق عليه به
(11)
.
(1)
هو الحديث التالي في الشرح.
(2)
يأتي برقم (2650) كتاب: الشهادات، باب: لا يشهد على شهادة جورٍ إذا أشهد.
(3)
التخريج السابق.
(4)
ابن حبان 11/ 506 (5107) كتاب: الهبة.
(5)
الطبراني 24/ 338 (845).
(6)
مسلم (1623)(17) كتاب: الجهاد، باب: كراهية تفضيل بعض الأولاد.
(7)
مسلم (1624) كتاب: الهبات، باب: كراهية تفضيل بعض الأولاد في الهبة.
(8)
أحمد 4/ 278.
(9)
أبو داود (3543).
(10)
أبو داود (3544).
(11)
النسائي 6/ 261.
وله: "ألك ولد غيره" قال: نعم، فصف بيده بكفه أجمع كذا:"ألا سويت بينهم"
(1)
، وللنسائي: إني نحلت ابني غلامًا فإن شئت أن أنفذه أنفذته، قال:"لا، فاردده"
(2)
.
وللإسماعيلي في "صحيحه": "هذا جور" وهَجَّنه.
وللبزار: "إن لبنيك عليك من الحق أن تعدل بينهم، كما أن لك عليهم من الحق أن يبروك"
(3)
.
وللطبراني: "لا أشهد على حيف".
وله: "اعدلو ابين أولادكم".
قالها ثلاثًا. ولعبد الرزاق في "مصنفه" عن ابن جريج: أنا ابن طاوس، عن أبيه أنه عليه السلام مر ببشير فقال له بشير: أشهد أني قد نحلت ابني هذا عبدًا أو أمة.
وفيه: "فإني لا أشهد إلا على الحق"
(4)
.
إذا تقرر ذلك فالكلام عليه من أوجه:
أحدها:
قال ابن حبان في "صحيحه": تباين ألفاظ هذِه القصة يوهم تضاد الخبر وليس كذلك؛ لأن النحل من بشير لابنه كان في موضعين متباينين؛ وذلك أنه أول ما ولد أبتْ عمرة أن تربيه؛ حتى يجعل له حديقة ففعل، وأراد الإشهاد على ذلك، فقال عليه السلام: "لا تشهدني
(1)
النسائي 6/ 262.
(2)
النسائي 6/ 258 - 259.
(3)
البزار في "البحر الزخار" 8/ 217 (3265).
(4)
"مصنف عبد الرزاق" 9/ 98 (16496).
إلا على عدل، فإني لا أشهد على جور" على ما جاء في خبر أبي حريز فلما أتى على الصبي مدة. قالت عمرة لبشير: انحل ابني هذا فالتوى عليها سنة أو سنتين. على ما في خبر أبي حيان والمغيرة عن الشعبي فنحله غلامًا فلما جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشهده فقال: "لا تشهدني على جور".
قال: ويشبه أن يكون أبا النعمان قد نسي الحكم الأول وتوهم أنه قد نسخ وقوله ثانيًا: "لا تشهدني على جور" زيادة تأكيد في نفي جوازه.
والدليل على أن النحل في الغلام للنعمان كان ذلك وهو مترعرع أن في خبر عاصم عن الشعبي أنه عليه السلام قال له: "ما هذا الغلام الذي معك"
قال: أعطانيه أبي، فدلتك هذِه اللفظة أن هذا النحل الذي في خبر أبي حريز في الحديقة أن أمه امتنعت من تربيته عندما ولدته ضد قول من زعم أن أخبار المصطفي متضادة
(1)
.
الثاني:
اختلف العلماء في الرجل ينحل ولده دون بعض على قولين:
أحدهما: لا يجوز ذلك، قال طاوس: لا يجوز ولا رغيفًا محرقًا
(2)
.
وهو قول عروة ومجاهد، وبه قال أحمد وإسحاق قال إسحاق: فإن فعل فالعطية باطلة وإن مات الناحل فهو ميراث بينهم
(3)
.
واحتجوا بحديث الباب وردِّه عطية النعمان وقال له: "اتقوا الله واعدلوا"، و"لا أشهد على جور"، و"إلا على الحق".
(1)
"صحيح ابن حبان" 11/ 507 (5107).
(2)
انظر: "التمهيد" 7/ 229.
(3)
انظر: "الإشراف على مذاهب أهل العلم" 2/ 220، "المغني" 8/ 256، "المحلى" 9/ 143.
قال ابن عبد البر: لا يجوز لأحد أن يفضل بعض ولده على بعض، فإن فعل لم ينفذ وفسخ
(1)
، وبه قال داود وأصحابه
(2)
. وقال الخرقي في "مختصره" عنه وإذا فاضل بعض ولده في العطية أمره برده كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن مات ولم يرده فقد ثبت لمن وهب له إذا كان ذلك في صحته
(3)
، وقال ابن حبان في "صحيحه": لا يجوز
(4)
. وبسطه بسطًا شافيًا.
وثانيهما: الجواز، وهو الأشهر عن مالك، وبه قال الكوفيون والشافعي، وإن كانوا يستحبون التسوية بينهم، ذكرانًا كانوا أو إناثًا
(5)
.
وقال عطاء وطاوس: يجعل للذكر مثل حظ الأنثيين كقسمة الإرث
(6)
.
وهو قول شريح والثوري
(7)
ومحمد بن الحسن
(8)
وأحمد
(1)
"التمهيد" 7/ 226.
(2)
انظر: "المحلى" 9/ 143.
(3)
"مختصر الخرقي" ص 67.
(4)
"صحيح ابن حبان" 11/ 508 (5107).
(5)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 4/ 142 - 143، "الاستذكار" 22/ 293، "الإشراف على مذاهب أهل العلم" 2/ 220.
(6)
أما عطاء فنعم، انظر:"التمهيد" 7/ 234، "المغني" 8/ 259، "المحلى" 9/ 143، وأما طاوس فقد ذكره ابن المنذر في "الإشراف" 2/ 221، مع القائلين بالتسوية بين الذكر والأنثى، وكذلك ذكر عطاء.
(7)
أما شريح فنعم، انظر:"رءوس المسائل" 2/ 664، "المغني" 8/ 259، "المحلى" 9/ 143، وأما الثوري فقد ذكره ابن عبد البر في "التمهيد" 7/ 234، و"الاستذكار" 22/ 297، وابن المنذر في "الإشراف" 2/ 221 مع القائلين بالتسوية بين الذكر والأنثى.
(8)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 4/ 142.
وإسحاق
(1)
، وبعض المالكية
(2)
، وبعض الشافعية
(3)
، ومن حجة من منع أنه مؤدٍ إلى قطع الرحم والعقوق، فيجب أن يكون ممنوعًا؛ لأنه لا يجوز عليه - علية السلام - أن يحث على صلة الرحم ويجيز ما يؤدي إلى قطعها، قالوا: وكان النعمان وقت ما نحله أبوه صغيرًا، وكان أبوه قابضًا له؛ لصغره عنه، فلما قال:"اردده" بعدما كان في حكم ما قبض، دل على أن النحل لبعض ولده لا ينعقد ولا يملكه المنحول.
ومن حجة المجيز أن حديث النعمان لا دليل فيه على أنه كان حينئذٍ صغيرًا، ولعله كان كبيرًا ولم يكن قبضه.
وقوله: (فأشهد على هذا غيري) خلاف ما في الحديث الأول، وهذا قول لا يدل على فساد العقد الذي عقد للنعمان؛ لأنه عليه السلام قد يتوقى الشهادة على ما له أن يشهد عليه.
وقوله: (أشهد على هذا غيري) دليل على صحة العقد، وقد أمره عليه السلام بالتسوية بينهم؛ ليستووا جميعًا في البر، وليس في شيء من هذا فساد العقد على التفضيل، وكان كلامه عليه السلام على سبيل المشورة، وعلى ما ينبغي أن يفعل عليه إن آثر فعله، وكان عليه السلام إذا قسم شيئًا بين أهله سوى بينهم جميعًا وأعطى المملوك كما يعطي الحر، ليس ذلك على الوجوب، ولكن من باب الإحسان.
وقد روى معمر، عن الزهري، عن أنس قال: كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل فجاء ابن له فقبله وأجلسه على فخذه، ثم جاءت ابنة له فأجلسها
(1)
انظر: "رؤوس المسائل" 2/ 664، "المغني" 8/ 259.
(2)
انظر: "إكمال المعلم" 5/ 349.
(3)
انظر: "مسلم بشرح النووي" 11/ 66.
إلى جنبه قال: "هلا عدلت بينهما"
(1)
أفلا ترى رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد منه التعديل بين الابن والبنت، وألا يفضل أحدهما على الآخر.
فإن قلت فما الجواب عن قوله: "لا أشهد على جور". فإن ظاهره المنع.
قلت: جوابه: أنه ليس بأشد من قوله: "فارْجعه".
وهذا يدل أن العطية قد لزمت وخرجت عن يده، ولو لم تكن صحيحه لم يكن له أن يرتجع؛ لأنها ما مضت ولا صحت فيرتجع فأمره بذلك؛ لأن المستحب التسوية، ولما أجمعوا على أنه مالك لماله وأن له أن يعطيه من شاء من الناس، كذلك يجوز أن يعطيه من شاء من ولده.
والدليل على جواز ذلك أن الصديق نحل ابنته عائشة دون سائر ولده
(2)
، ونحل عمر ابنه عاصمًا دون سائر ولده
(3)
، ونحل عبد الرحمن ابن عوف ابنته
(4)
أم كلثوم
(5)
ولم ينحل غيرها.
وأبو بكر وعمر إماما هدى وعبد الرحمن ونحله ولم يكن في الصحابة من أنكر ذلك.
(1)
رواه بإسناده ومعناه البزار كما في "كشف الأستار"(1893)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" 4/ 89 وقال الهيثمي في "المجمع" 8/ 156: رواه البزار فقال: حدثنا بعض أصحابنا ولم يسمه، وبقية رجاله ثقات.
(2)
رواه مالك في "الموطأ" ص 468 - 469.
(3)
ذكره الشافعي في "اختلاف الحديث" ص 178.
(4)
كذا في الأصل، وعلق عليها الناسخ لقوله: لعله من.
[أي: ابنته من أم كلثوم، وهو الصواب، كما سيأتي من كلام المصنف بعد قليل].
(5)
رواه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" 4/ 88، وفيه: أن عبد الرحمن فضَّل بني أم كلثوم بنحل.
وحجة من جعله كالفرائض قوله: "أكل ولدك نحلت مثل هذا" ولم يقل له: هل فضلت الذكر على الأنثى، ولو كان ذلك مستحبًّا لسأله عنه كما سأله عن التشريك في العطية، فثبت أن المعتبر عطية الكل على التسوية، وفي حديث:"سووا بين أولادكم في العطية فلو كنت مفضلًا أحدًا لفضلت البنات"
(1)
لكنه لا يقاوم ظاهر ما في الصحيح فإن قلت: لم يكن لبشير بنت، فلذلك لم يسأله كما صرح به ابن إسحاق في "سيره".
قلت: قد كان له -أي النعمان- أخت لها خبر، كما نقله المحدثون
(2)
، وأبعد من قال: يحتمل أن يكون أولاده كلهم ذكورًا.
وقال ابن حزم: ما سلف في التطوعات أعني: التسوية، وأما النفقات الواجبة فلا، وكذا الكسوة يعطي كل واحد بحسب حاجته، وينفق على فقيرهم دون غيرهم. قال: ولا يلزمه ما ذكرنا في ولد الولد ولا في أمهاتهم ولا نسائهم ولا رقيقهم، فإن كان له ولد، فأعطاهم ثم ولد له فعليه أن يعطيه كما أعطاهم، أو شاركهم فيما أعطاهم وإن تغيرت عين العطية ما لم يَمُت أحدهم فيصير ماله لغيره، فعلى الأب حينئذٍ أن يعطي هذا الولد كما أعطى غيره، فإن لم يفعل أعطي ما ترك أبوه من رأس ماله قبل ذلك، روي ذلك عن جمهور السلف.
(1)
رواه الطبراني 11/ 354، من حديث ابن عباس؛ قال الهيثمي في "المجمع" 4/ 153: وفيه عبد الله بن صالح كاتب الليث. قال عبد الملك بن شعيب: ثقة مأمون ورفع من شأنه، وضعفه أحمد وغيره اهـ.
(2)
ورد في هامش الأصل: قال الذهبي في "تجريده": أخت النعمان بن بشير لها صحبة وحديث في "السيرة" لابن إسحاق.
روى عبد الرزاق في "مصنفه" عن معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين: أن سعد بن عبادة قسم ماله بين بنيه في حياته، فولد له بعد ما مات، فلقي عمر أبا بكر، فقال: ما نمت الليلة من أصل ابن سعد، هذا المولود لم يُترك له شيء. فقال أبو بكر: وأنا والله. فأتوا قيس ابن سعد فكلماه. فقال: أما شيء أمضاه سعد، فلا أرده، ولكن أُشْهِدُكُما أن نصيبي له
(1)
.
قال ابن حزم: فقد زاده قيس على حقه، وإقرار أبي بكر ذلك دليل على صحة اعتدالها
(2)
.
قلت: ابن سيرين لم يولد إلا بعد وفاة أبي بكر وعمر وقرب وفاة عثمان، ولا ذَكَرَ له أحدٌ رواية عن قيس بن سعد؛ لاحتمال أن يكون سمع ذلك منه
(3)
.
قال
(4)
: وأخبرنا ابن جريج: أخبرني ابن أبي مليكة أن القاسم بن محمد أخبره أن أبا بكر قال لعائشة: إني (نحلتك)
(5)
من خيبر، وإني أخاف أن أكون آثرتك على ولدي وإنك لم تحوزيه (فرديه)
(6)
على
ولدي فقالت: يا أبتاه لو كانت لي خيبر بجدادها ذهبًا لرددتها
(7)
.
(1)
"مصنف عبد الرزاق" 9/ 89 (16498)، ورواه الطبراني 18/ 347، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 4/ 225: رواه الطبراني من طرق رجالها كلها ثقات اهـ.
(2)
"المحلى" 9/ 142 - 143.
(3)
قال إسماعيل بن علية: كنا نسمع أن ابن سيرين ولد في سنتين بقيما من إمارة عثمان.
انظر: "التاريخ الكبير" 1/ 91 (251)، "تهذيب الكمال" 25/ 353 (5280).
(4)
يعني: عبد الرزاق.
(5)
في الأصل: (نحلتكم)، والمثبت من "المصنف".
(6)
في الأصل: (فرديه فردته)، والمثبت من "المصنف".
(7)
"مصنف عبد الرزاق" 9/ 101 (16508).
قال ابن حزم: فهؤلاء أبو بكر وعمر (وعثمان)
(1)
وقيس بن سعد وعائشة فعلوا ذلك بحضرة الصحابة أجمعين ولا يعرف لهم منهم مخالف، وقاله مجاهد وطاوس وعطاء وعروة وابن جريج وإبراهيم والشعبي وشريح وعبد الله بن شداد بن الهاد وابن شبرمة والثوري وجميع أصحابنا.
قال: وروينا الإجازة عن القاسم وربيعة وغيرهما، وكرهه أبو حنيفة، وأجازه إن وقع.
وذكروا من طريق ابن لهيعة عن بكير بن الأشج، عن نافع، عن ابن عمر أنه قطع ثلاثة أرؤس أو أربعة لبعض ولده دون بعض.
قال بكير: وحدثني القاسم أنه كان مع ابن عمر إذ اشترى لرجل من الأنصار
(2)
، ثم قال له ابن عمر: هذِه الأرض لابْني واقد، فإنه مسكين نحله إياها دون ولده.
قال ابن وهب: بلغني عن عمرو بن دينار أن عبد الرحمن بن عوف نحل ابنته من أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط أربعة آلاف درهم، وله ولد من غيرها.
وذكروا ما روينا عن ابن وهب عن سعيد بن أبي أيوب، عن بشير بن أبي سعيد، عن (محمد بن المنكدر)
(3)
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كل ذي مال أحق بماله"
(4)
، وتعللوا في حديث النعمان أن أباه وهبه جميع ماله، وهو غير جيد لما أسلفناه.
(1)
ورد بهامش الأصل: ولم يذكر عثمان في كتابه.
(2)
الذي وقع في "المحلى" 9/ 144، و"السنن الكبرى" للبيهقي 6/ 178: أرضًا من رجل من الأنصار.
(3)
ووقع في "السنن الكبرى" 6/ 178: عمر بن المنكدر.
(4)
"المحلى" 9/ 143 - 144.
وقوله: (أشهد على هذا غيري) يريد الوعيد لقوله تعالى: {فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ} ليس على إباحة الشهادة على الجور والباطل لكن كما قال تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40] وحاشا له صلى الله عليه وسلم أن يبيح لأحد الشهادة على ما يخبر هو أنه جور أو أن يمضيه ولا يرده.
الثالث:
في قوله عليه السلام: "اردده" أن للأب الرجوع فيما وهب لولده وفيه قولان لأهل العلم:
أحدهما: نعم. قال مالك: له ذلك وإن أقبضها الولد ما لم تتغير في يد ولده أو يستحدث دينًا أو تتزوج البنت بعد الهبة
(1)
. وقال الشافعي: له الرجوع مطلقًا
(2)
، ولم يعتبر طروء دين أو تزويجًا.
وثانيهما: لا، وبه قال أبو حنيفة
(3)
، وحديث النعمان حجة عليه؛ لأنه عليه السلام أمره بالرجوع فيما وهب لابنه.
فإن قلتَ: لم يكن قبضها النعمان، فلذلك جاز الرجوع فيها.
قلتُ: هي تلزم عند مالك بالقول ولا يفتقر في صحتها إلى القبض، ولو كان الحكم فيها يختلف بين أن تكون مقبوضة أو غير مقبوضة لاستعلم الشارع الحال، وفضل بينهما.
وأيضًا فإن مجيئه له يُشْهِدُهُ يدل على أنه كان أقبضه، ولو كان لم يقبضه لما كان لقوله:"ارْجعه" معنى؛ لأنه عندكم قبل القبض لا يلزمه
(1)
انظر: "المدونة" 4/ 337.
(2)
انظر: "مختصر المزني" 3/ 122.
(3)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 4/ 153.
شيء رجع فيه، وليس لقوله حكم، حجة مالك أنه لا يرجع إذا استحدث ابنه دينًا؛ لأن حق الغرماء قد وجب في مال الآبن؛ لأنهم إنما داينوه على ماله، فليس للأب أن يتلف حقوق غرماء ابنه، وكذلك البنت إنما تزوجت بمالها؛ لأن الزوج له معونة فيه وجمال في مال زوجته، وقد قال عليه السلام:"تنكح المرأة لمالها"
(1)
فليس للأب أن يبطل ما وجب للزوج من الحقوق في مال زوجته بأن يأخذ ذلك منها، وليس لغير الأب الرجوع عند مالك. وأكثر أهل المدينة، إلا أن عندهم أن الأم لها الرجوع أيضًا فيما وهبت لولدها إذا كان أبوهم حيًّا، هذا هو الأشهر عن مالك، وروي عنه المنع ولا يجوز عند أهل المدينة أن ترجع الأم ما وهبت ليتيم من ولدها؛ لأن الهبة لليتيم على وجه القربة لله فهي بمنزلة الصدقة عليه، ولا يجوز الرجوع في الصدقة؛ لأنها شيء لله كما لا يجوز الرجوع في العتق والوقف وأشباهه
(2)
.
وهذا فيه اضطراب عندنا في الترجيح.
وعندنا لا رجوع إلا للأصول أبًا كان أو أمًّا أو جدًا
(3)
، وعن ابن وهب: إلحاق الجد بالأب
(4)
.
(1)
قطعة من حديث سيأتي برقم (5090) كتاب: النكاح، باب: الأكفاء في الدين، ورواه مسلم (1466) كتاب: الرضاع، باب: استحباب نكاح ذات الدين.
(2)
انظر: "الاستذكار" 22/ 297 - 298 بتصرف.
(3)
انظر: "روضة الطالبين" 5/ 379.
(4)
لم أقف على هذا القول لابن وهب، بل روى ابن وهب عن مالك في هذِه المسألة: لا يعتصر، ولا تلزمه النفقة اهـ.
وروى أشهب عن مالك، أن الجد والجدة يعتصران كالأبوين اهـ.
انظر: "النوادر والزيادات" 12/ 192، "المنتقى" 6/ 117.
وعند الكوفي: لا يرجع فيما وهبه لكل ذي رحم محرم بالنسب كالابن والأخ والأخت والعم والعمة وكل من لو كان امرأة لم يحل له أن يتزوجها؛ لأجل النسب
(1)
.
وقد أسلفنا أنه لا رجوع فيها، وبه قال الحسن وطاوس وأحمد وأبو ثور
(2)
، وقال مالك: يجوز الرجوع مطلقًا وهب لذي رحم أو غيره، ولا يرجع فيها وهب لله أو لصلة الرحم
(3)
.
وسيأتي إيضاح ذلك في آخر باب: هبة الرجل لامرأته
(4)
.
تنبيهات:
أحدها: قول البخاري في الباب: (لم يجز حتى يعدل بينهم) ظاهر في نفي الجواز.
وقال ابن التين: يصح أن يقال: مراده أن يفسخ إن وقع، مثل قول عروة وطاوس وسفيان ومن سلف، وقاله مالك مرة: إن كانت الهبة كل ماله ويصح حمله على الكراهة.
قلت: ويؤيده ما ذكره بعد من قوله في أكله من مال ولده.
ثانيها: سأل أشهب مالكًا عن هذا الحديث فقال: ذلك في رأيي؛ لأنه كان ماله كله
(5)
. قيل له: أفيرد؛ قال: إن ذلك ليقال ولقد قضى به بالمدينة فأما إذا كان البعض وأبقى البعض فلا بأس.
(1)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 4/ 152.
(2)
انظر: "رءوس المسائل" 2/ 665، "المحلى" 9/ 143.
(3)
انظر: "الاستذكار" 22/ 298.
(4)
الباب التالي برقم (14).
(5)
انظر: "النوادر" 12/ 210، "الاستذكار" 22/ 293
وقد نحل أبو بكر عائشة جادّ عشرين وسقًا وقال فيه عمر وعثمان ما قالا
(1)
، فلو كان الحديث على البعض ماجهله أبو بكر وعمر وعثمان، وقال سحنون مثله، وعارض بعضهم هذا وقال: هذا غير حسن لقوله: "أكل ولدك نحلته مثل هذا"
(2)
.
فجعل الرد لعدم المساواة والفضل عن عطية أبي بكر عائشة بأنه كان أعطى إخوتها مثلها، أو أنه خصوص لها لمحبة الشارع لها، وأن إخوتها يرضون بذلك، أو حمل عروة الحديث على هذا وقال: لا يجوز بعض ماله أو كله.
ثالثها: أوَّل ابن القصار: "أشهد على هذا غيري". بأنه أمر بالتوثقة في العطية؛ لأنه هو الإمام ولا يحكم بعلمه وهذا على مذهبه في ذلك.
والجور: هو الميل، من قولهم جار السهم إذا مال. فأخبر أنه ميل إلى المعطي ولم يرد أنه ظلم.
رابعها: مشهور مذهب مالك كما قال ابن التين أن اليسير يجوز
(3)
.
قال ابن القاسم: وأخشى عليه الإثم.
ووقع لمالك في "العتبية" إن أخرج البنات من حبسه إن تزوجن، فالحبس باطل
(4)
.
وقال ابن شعبان: إن من أخرج البنات بطل وقفه
(5)
، فقال بعضهم: هذا من مالك أخذ بحديث النعمان.
(1)
تقدم تخريجه قريبًا.
(2)
انظر: "المنتقى" 6/ 92 - 93.
(3)
انظر: "المعونة" 2/ 505، "الكافي" لابن عبد البر ص 530.
(4)
انظر: "النوارد والزيادات" 12/ 8.
(5)
انظر: "المنتقى" 6/ 123.
وحمله على الوجوب والصدقة كالحبس، فإن تصدق بكل ماله على أحد بنيه فقال مالك: لا أراه جائزًا
(1)
.
قال ابن شعبان: ويرد.
قال ابن المواز: ويذكر عن ابن القاسم أن من تصدق بماله كله على بعض ولده، وتبين أنه حيف وفرار من كتاب الله يرد ذلك في حياته وبعد موته وقال أصبغ: إذا جيز ذلك جاز على كل حال.
وقد اجتمع أمر القضاة والفقهاء على هذا، وحَرَجُهُ بينه وبين الله قال محمد: صواب.
وقال ابن القاسم: إنه مكروه وعليه البغاددة
(2)
.
قال ابن الجلاب: إلا أن يكون ماله يسيرًا.
وحكى الداودي عن ابن القاسم أنه يرتجعه ما لم يمت فيمضي.
وفي "المختصر الكبير": وقيل إن الرجل إذا تصدق بالدار على بعض ولده وهي جل ماله فلا بأس، وغيره أحسن منه
(3)
.
خامسها: النحل: العطاء، من غير عوض وكذلك النحلة، قيل النحلة: ما طابت به النفس، ولا يكون ما أكرهت عليه نحلة، قال الداودي: ناظرت بعض أصحابنا ممن تصدق ببعض ماله على أحد ولده قال: هو جائز.
قلت: بحديث النعمان فقال لي: أجمعوا على خلافه.
(1)
انظر: "النوادر والزيادات" 12/ 210.
(2)
انظر: "النوادر والزيادات" 12/ 210 - 211.
(3)
انظر: "النوادر والزيادات" 12/ 210.
فذكرت له قول عروة فقال: إنما في الحديث أنه نحله، قلت له: فقد ذكر العلة التي (رد ما فعله)
(1)
، ولم يكن ينهي عن فعل الخير فسكت وقال: هذا مما أتوقف عن القول فيه؛ للأثر (ولمطابقة)
(2)
أصحابنا على جوازه لغير أثر يخالفه.
وقال سحنون: من أعطى جميع ماله لولد أو غيره لم يجز فعله
(3)
؛ لأنه عليه السلام لم يقبل من أحد ذلك إلا من أبي بكر نفسه.
قلت: حمله أصحابنا على أن من قوي توكله وصبره على الضير والإضاقة يلحق به
(4)
.
(1)
كذا بالأصل.
(2)
كذا بالأصل، ولعل الصواب: ولإطباق.
(3)
انظر: "المنتقى" 6/ 93.
(4)
ورد بهامش الأصل: آخر 9 من 8 من تجزئه المصنف.
ورد هامش آخر نصه: ثم بلغ في السادس بعد السبعين كتبه مؤلفه.
13 - باب الإِشْهَادِ فِي الهِبَةِ
2587 -
حَدَّثَنَا حَامِدُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ عَامِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ رضي الله عنهما وَهُوَ عَلَى المِنْبَرِ يَقُولُ: أَعْطَانِي أَبِي عَطِيَّةً، فَقَالَتْ عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ لَا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم. فَأَتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنَّي أَعْطَيْتُ ابْنِي مِنْ عَمْرَةَ بِنْتِ رَوَاحَةَ عَطِيَّةً، فَأَمَرَتْنِي أَنْ أُشْهِدَكَ يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ:"أَعْطَيْتَ سَائِرَ وَلَدِكَ مِثْلَ هَذَا؟ ". قَالَ: لَا. قَالَ: "فَاتَّقُوا اللهَ، وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ". قَالَ: فَرَجَعَ فَرَدَّ عَطِيَّتَهُ. [انظر: 2586 - مسلم: 1623 - فتح: 5/ 211]
ذكر فيه حديث النعمان المذكور، ولا شك أن الإشهاد ليس من شرط صحة الهبة والصدقة، وإنما هو ليعلم عزيمة المتصدق على إنفاذ ما تصدق به أو وهب، ولو أن رجلًا تصدق على أحد بشيء، وجوزه المتصدق عليه دون إشهاد، ووافق ورثته، فقد بلغت محلها، وإن كان لم يشهد عليها في الأصل عند مالك وأصحابه
(1)
.
والإشهاد فيها كالإشهاد في البيع والعتق للتوثقة.
وفيه: أن الإمام إذا عرف من الواهب هروبًا من بعض الورثة أن يرد ذلك؛ لأن قوله: فأمرتني أن أشهدك وأنها لم ترض حتى يشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم دليل على هروبه من ماله عن سائر بنيه؛ لأن في بعض طرقه: "لا أشهد على جور"
(2)
. كما مضى، وكان معروفًا بالميل إلى تلك المرأة.
(1)
انظر: "شرح ابن بطال" 7/ 104.
(2)
سبق تخريجه.
14 - باب هِبَةِ الرَّجُلِ لاِمْرَأَتِهِ وَالمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا
قَالَ إِبْرَاهِيمُ: جَائِزَةٌ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ: لَا يَرْجِعَانِ. وَاسْتَأْذَنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نِسَاءَهُ فِي أَنْ يُمَرَّضَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ. وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "العَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ". وَقَالَ الزُّهْرِيُّ فِيمَنْ قَالَ لاِمْرَأَتِهِ: هَبِى لِي بَعْضَ صَدَاقِكِ أَوْ كُلَّهُ. ثُمَّ لَمْ يَمْكُثْ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى طَلَّقَهَا فَرَجَعَتْ فِيهِ، قَالَ يَرُدُّ إِلَيْهَا إِنْ كَانَ خَلَبَهَا، وَإِنْ كَانَتْ أَعْطَتْهُ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ لَيْسَ فِي شَىْءٍ مِنْ أَمْرِهِ خَدِيعَةٌ جَازَ، قَالَ اللهُ تَعَالَى:{فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4].
2588 -
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا هِشَامٌ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: لَمَّا ثَقُلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَاشْتَدَّ وَجَعُهُ اسْتَأْذَنَ أَزْوَاجَهُ أَنْ يُمَرَّضَ فِي بَيْتِي، فَأَذِنَّ لَهُ، فَخَرَجَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ، تَخُطُّ رِجْلَاهُ الأَرْضَ، وَكَانَ بَيْنَ العَبَّاسِ، وَبَيْنَ رَجُلٍ آخَرَ. فَقَالَ عُبَيْدُ اللهِ: فَذَكَرْتُ لاِبْنِ عَبَّاسٍ مَا قَالَتْ عَائِشَةُ، فَقَالَ لِي: وَهَلْ تَدْرِي مَنِ الرَّجُلُ الَّذِي لَمْ تُسَمِّ عَائِشَةُ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ.
2589 -
حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "العَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالكَلْبِ يَقِيءُ، ثُمَّ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ". [فتح 5/ 216]
ثم ساق حديث عائشة لَمَّا ثَقُلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم واشتد وَجَعُهُ اسْتَأْذَنَ أَزْوَاجَهُ أَنْ يُمَرَّضَ فِي بَيْتِي، فَأَذِنَّ لَهُ، .. الحديث.
وحديث ابن عباس قال: قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "العَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالكَلْبِ يَقِيءُ، ثُمَّ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ".
الشرح:
تعليق إبراهيم ذكره عبد الرزاق عن الثوري عن منصور عنه
(1)
، والطحاوي: وليس لواحد منهما أن يرجع في هبته
(2)
.
والثاني: أخرجه عبد الرزاق أيضًا، عن الثوري، عن عبد الرحمن بن زياد عنه
(3)
، وبه قال عطاء وربيعة فيما ذكره ابن المنذر
(4)
.
والتعليق الأول: أسنده في الباب، وسلف مسندًا في الطهارة أيضًا
(5)
.
والثاني: أسنده في الباب، وقد أخرجه مسلم والأربعة
(6)
، وعنده أيضًا فيما سلف عن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قال له:"لا تعد في صدقتك؛ فإن العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه"
(7)
.
ولعبد الرزاق من حديث ابن سيرين، أنه كان تصدق بفرس أو جمل فوجد بعض نتاجها يباع فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"دعها حتى يلقاها وولدها"
(8)
، ولابن ماجه من حديث أبي هريرة مرفوعًا:"مثل الذي يعود في عطائه كمثل الكلب يأكل حتى إذا شبع قام إلى قيئه فأكله"
(9)
.
(1)
"مصنف عبد الرزاق" 9/ 113 (16555).
(2)
"شرح معاني الآثار" 4/ 84.
(3)
"مصنف عبد الرزاق" 9/ 111 (16546).
(4)
"الإشراف" 2/ 221.
(5)
برقم (198) كتاب: الوضوء، باب الغسل والوضوء في المخضب ..
(6)
مسلم (1622) كتاب: الهبات، باب: تحريم الرجوع في الصدقة والهبة، وأبو داود (3538)، والترمذي (1298)، والنسائي 6/ 267، وابن ماجه (2385)، من حديث ابن عباس.
(7)
سلف برقم (1490).
(8)
"مصنف عبد الرزاق" 9/ 117 (16573).
(9)
ابن ماجه (2384) وصححه الألباني في "صحيح ابن ماجه"(1931).
وللأربعة من حديث ابن عمر وابن عباس مرفوعًا: "لا يحل لرجلٍ أنْ يُعطي عطيةً أو يهب هبةً فيرجع فيها إلا الوالد فيما يُعطي ولده، ومثل الذي يعطي الهدية ثم يرجعُ فيها كمثل الكلبِ أكل حتى إذا شبع قاءَ ثم عادَ في قَيْئه"
(1)
. وصححه الترمذي وابن حبان
(2)
والحاكم
(3)
وغيرهم.
واختلف العلماء في المراد بقوله: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا} هل هو للأزواج عند من جعله للأزواج أو الأولياء عند من رآه لهم.
والهنيء: ما أعقب نفعًا وشفاء، ومنه هنأ البعير لشفائه.
قال ابن عباس: إذا كان من غير إضرار ولا خديعة
(4)
.
وعن قتادة: ما طابت به نفسها من غير كره ولا هوان
(5)
.
إذا تقرر ذلك؛ فاختلف العلماء في الزوجين يهب كل واحد منهما لصاحبه: فقال جمهور العلماء: ليس لواحد منهما أن يرجع فيما يعطيه الآخر.
هذا قول عمر بن عبد العزيز والنخعي وعطاء
(6)
وربيعة، وبه قال مالك والليث والثوري والكوفيون والشافعي وأبو ثور
(7)
.
(1)
أبو داود (3539)، الترمذي (2132)، والنسائي 6/ 266، وابن ماجه (2377).
(2)
"صحيح ابن حبان" 11/ 524 (5123).
(3)
"المستدرك" 2/ 46. وقال: صحيح الإسناد.
(4)
رواه عبد بن حميد كما في "الدر المنثور" 2/ 212، الطبري 3/ 584 (8519)، وابن أبي حاتم 3/ 862 (4780).
(5)
رواه الطبري 3/ 585 (8523)، وابن أبي حاتم 3/ 861 (4774).
(6)
"مصنف عبد الرزاق" 9/ 113 (16554، 16555، 16556).
(7)
انظر: "شرح معاني الآثار" 4/ 77 - 84، "شرح ابن بطال" 7/ 105، "الإشراف" 2/ 221.
وفيه قول ثانٍ: أن لها الرجوع دونه، روي عن شريح
(1)
والشعبي والزهري قال: وعليه عمل القضاة
(2)
.
وروى عبد الرزاق، عن الثوري، عن سليمان الشيباني قال: كتب عمر: إن النساء يعطين رغبة ورهبة، فأيما امرأة أعطت زوجها فشاءت أن ترجع رجعت
(3)
.
والقول الأول أحسن؛ للآية المذكورة.
وروي عن علي أنه قال: إذا اشتكى أحدكم فليسأل امرأته ثلاثة دراهم ويشتري بها عسلًا ويأخذ من ماء السماء فيتداوى به فيجمع هنيئًا مريئًا
(4)
وماءً مباركًا
(5)
.
فلو كان لهن فيه رجوع لم يكن هنيئًا مريئًا؛ ألا ترى ما وهبه أمهات المؤمنين له من أيامهن ولياليهن وأنه يمرض في بيت عائشة، لم يكن لهن فيه رجوع؛ لأنه كان عن طيب نفس منهن لا عن عوض.
فرع: لها أن تهب يومها لضرتها؛ لأنه حقها، لكن بشرط رضي الزوج؛ لأن له حقًّا في الواهبة، ولا يجوز أن تأخذ على هذِه عوضًا، ويجوز أن تهبها للزوج فيجعلها لمن شاء.
وقيل: يلزمه التوزيع على الباقيات، ويجعل الواهبة كالمعدومة.
والأول أصح، وللواهبة الرجوع متى شاءت في المستقبل دون الماضي.
(1)
"مصنف عبد الرزاق" 9/ 114 (16558).
(2)
"مصنف عبد الرزاق" 9/ 114 (16559).
(3)
"مصنف عبد الرزاق" 9/ 115 (16562).
(4)
ورد بهامش الأصل ما نصه: لعله سقط (وشفاءً).
(5)
"مصنف أبي شيبة" 5/ 58 - 59 (23677).
واختلفوا فيما إذا وهب أحد الزوجين لصاحبه هل يحتاج إلى حيازة وقبض: فقال ابن أبي ليلى والحسن البصري: الهبة جائزة وإن لم يقبضها
(1)
.
وقال النخعي وقتادة: ليس بين الزوجين حيازة
(2)
.
وقال ابن سيرين وشريح ومسروق والشعبي: لا بد في ذلك من القبض
(3)
.
وهو قول الثوري والكوفيين والشافعي
(4)
، ورواية أشهب عن مالك: قال مالك: إن ما وهبه الرجل لامرأته والمرأة لزوجها وهو في أيديهما كما كان أنه حوز ضعيف لا يصح
(5)
.
وعنه من رواية ابن القاسم في "العتبية": في الرجل يهب لامرأته خادمًا ولا يخرجها عن البيت الذي هما فيه، ويهبها دار سكناهما أو تهب له، أن ذلك جائز للمرأة
(6)
.
وروى عيسى، عن ابن القاسم: في الرجل يهب لامرأته دار سكناهما ثم يسكنان بعد ذلك فيها، أو المرأة تفعل مثل ذلك يفرق بينهما.
وقال: إذا كان الزوج الواهب فالصدقة غير تامة؛ لأن عليه أن يسكن
(1)
أما أثر ابن أبي ليلى فرواه عبد الرزاق 9/ 116 (16571)، وأما أثر الحسن فذكره ابن بطال 7/ 106.
(2)
"مصنف عبد الرزاق" 9/ 116 (16568، 16569).
(3)
انظر: "شرح ابن بطال" 7/ 106.
(4)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 4/ 137، "الإشراف" 2/ 223.
(5)
انظر: "النوادر والزيادات" 12/ 181.
(6)
انظر: "النوادر والزيادات" 12/ 180.
زوجته مكانة هو يسكنها، وإذا كانت المرأة الواهبة فالصدقة جائزة؛ لأنه يسكن ما يحوزه لنفسه
(1)
.
واختلفوا أيضًا في تأويل قوله: "العائد في هبته". كما قال ابن
العربي: فمنهم من حمله على التحريم، منهم قتادة وقال: أكل القيء حرام، ومنهم من حمله على الكراهة؛ لأن المثل مضروب بالكلب ولا يتعلق به تحريم، ولكنه أمر إذا عاينه أحد من الناس استقبحه من غير تحريم، كذلك إذا عاد في الهبة كان مستقبحًا
(2)
.
قال ابن التين: وهذا إذا قبلها المعطي، فإن لم يقبل رجعت إليه من غير كراهة.
وقد رد الشارع على الصعب بن جثامة هديته
(3)
، وردَّ علي أبي جهم خميصته
(4)
.
خاتمة:
في "مصنف عبد الرزاق" وابن أبي شيبة: من وهب هبة لذي رحم فهي جائزة، ومن وهب هبة لغير ذي رحم فهو أحق بها ما لم يُثب منها قاله عمر
(5)
.
(1)
انظر: "النوادر والزيادات" 12/ 181.
(2)
"عارضة الأحوذي" 6/ 32.
(3)
سلف من حديثه برقم (1825) كتاب: جزاء الصيد، باب: إذا أهدى للمحرم حمارًا حيًّا وحشيًّا لم يقبل.
وسيأتي قريبا جدًّا برقم (2596) باب من لم يقبل الهدية بعلة.
(4)
سلف من حديث عائشة (373) كتاب: الصلاة، باب: إذا صلى في ثوب له أعلام ونظر إلى علمها.
(5)
"مصنف عبد الرزاق" 9/ 106 (16524)، و"مصنف ابن أبي شيبة" 4/ 424 (21693).
قال الحاكم: هو صحيح على شرطهما ولم يخرجاه إلا أن يكون الحمل فيه على شيخنا إسحاق بن محمد الهاشمي
(1)
، ورفعه الدارقطني برجال ثقات ثم ادعى وهمه وأن الصواب وقفه، ورواه أيضًا من حديث أبي هريرة وابن عباس، وفي سندهما ضعف
(2)
، وفي "المصنف" قال فضالة بن عبيد: إنما يرجع في المواهب النساء وشرار الأقوام
(3)
.
وعن علي: الرجل أحق بهبته ما لم يثب منها
(4)
.
وقال ابن عمر: هو أحق بها ما لم يرض منها
(5)
.
وفي لفظ: من وهب هبة لوجه الثواب فلا بأس أن يرد
(6)
.
وقال ابن المسيب: من وهب هبة بغير ذي رحم فله أن يرجع ما لم يثب
(7)
.
وقال الشعبي: هو أحق بها ما دامت في يده فإذا أعطاها فقد جازت
(8)
.
وقال سفيان بن سعيد: لا رجوع إلا عند القاضي
(9)
.
(1)
"المستدرك" 2/ 52، والذي فيه مرفوع من حديث ابن عمر.
(2)
"سنن الدارقطني" 3/ 43 - 44.
(3)
"مصنف ابن أبي شيبة" 4/ 424 (21694).
(4)
"مصنف عبد الرزاق" 9/ 107 (165261)، "مصنف ابن أبي شيبة" 4/ 424 - 425 (21696).
(5)
"مصنف ابن أبي شيبة" 4/ 425 (21698).
(6)
"مصنف ابن أبي شيبة" 4/ 425 (9700)، "المحلى" 9/ 129.
(7)
"مصنف ابن أبي شيبة" 4/ 425 (21701)، "المحلى" 9/ 127.
(8)
"مصنف ابن أبي شيبة" 4/ 425 (21702).
(9)
"مصنف عبد الرزاق" 9/ 111 (16546)، "مصنف ابن أبي شيبة" 5/ 13 (23251).
وقال ابن أبي ليلى: يرجع دون القاضي
(1)
.
وقال عمر بن عبد العزيز: يرجع علانية دون سرٍّ
(2)
.
وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أن الهبة إن كانت لأجنبي فله الرجوع فيها إلا أن يعوضه عنها، أو يزيده زيادة متصلة، أو يموت أحدهما، أو تخرج الهبة من ملك الموهوب له، وإن كان لذي رحم محرم منه فلا رجوع فيها وكذا ما وهبه أحد الزوجين للآخر
(3)
، وفي الدارقطني من حديث الحسن، عن سمرة مرفوعًا:"إذا كانت الهبة لذي رحم محرم لم يرجع فيها"
(4)
. قال الحاكم: صحيح على شرط البخاري
(5)
أي: في أنه سمع منه، كما نقله البخاري في "تاريخه الكبير" عن علي بن المديني، وأنه أخذ بحديثه عنه.
وسيأتي في "صحيحه" بإسناده إلى حبيب بن الشهيد قال: أمرني ابن سيرين أن أسأل الحسن ممن سمع حديث العقيقة؟ قال: من سمرة بن جندب
(6)
.
وأوَّل الحنفيةُ حديثَ: "لا يحل لواهب أن يرجع فيما وهب إلا الوالد فيما وهب لولده"
(7)
. فإنه قد ورد هذا اللفظ في السنة، ولم يرد التحريم كقوله:"لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي"
(8)
ولم يكن معناه
(1)
"مصنف ابن أبي شيبة" 5/ 13 (23251).
(2)
"مصنف عبد الرزاق" 9/ 111 (16545).
(3)
انظر: "مختصر الطحاوي" ص 138 - 139، "مختصر اختلاف العلماء" 4/ 152.
(4)
"السنن" 3/ 44.
(5)
"المستدرك" 2/ 52.
(6)
برقم (5472) كتاب: العقيقة، باب: إماطة الأذى عن الصبي.
(7)
تقدم تخريجه آنفًا.
(8)
رواه النسائي 5/ 99، وابن ماجه (1839)، وأحمد 2/ 389، وابن حبان 8/ 84 (3290)، وصححه المصنف في "البدر المنير" 7/ 362 من حديث أبي هريرة.
حرمتها عليه كالأغنياء، ولكنها لا تحل من حيث تحل لغيره من ذوي الحاجة والزمانة، فإن الزمانة لا تشترط مع الفقر.
وهذا الحديث وصفَ فيه ذلك الرجوع أنه لا يحل؛ تغليظًا للكراهة كي لا يكون أحد من أمته له مثل السوء، يعني: لا يحل له كما تحل له الأشياء التي قد أحلها الله لعباده، ولم يجعل لمن فعل فعلًا، مثلًا كمثل السوء.
ثم استثنى من ذلك ما وهب الوالد لولده، فذلك على إباحته للوالد أن يأخذ ما وهب؛ لأنه في وقت حاجة إلى ذلك وفقره إليه؛ لأن ما يجب للوالد من ذلك ليس يفعل بفعله، فيكون من ذلك رجوعًا منه، يكون مثله كمثل الكلب الراجع في قيئه، ولكنه شيء أوجبه الله؛ لفقره، كما روي أن رجلًا وهب لأمه حديقة ثم ماتت من غير وارث غيره فقال له عليه السلام:"وجبت صدقتك ورجعت إليك حديقتك"
(1)
، ألا ترى أنه عليه السلام قد أباح للمصدق صدقته لما رجعت إليه بالميراث ومنع عمر من ابتياع صدقته.
فثبت بهذين الحديثين إباحة الصدقة الراجعة إلى المصدق بفعل الله تعالى وكراهة الصدقة الراجعة إليه بفعل نفسه، وكذلك وجوب النفقة للأب في مال الابن بحاجته وفقره وجبت بإيجاب الله تعالى إياها، فأباح الشارع ارتجاع هبته وإنفاقها على نفسه، كما رجع إليه بالميراث، لا كما رجع إليه بالابتياع
(2)
.
(1)
رواه ابن ماجه (2395)، وأحمد 2/ 185 وحسنه الألباني في "الصحيحة"(2409).
(2)
انظر: "شرح معاني الآثار" 4/ 79 - 80.
فائدة أخرى:
قول الزهري: إن كان خلبها. أي: خدعها، فإذا وقع ذلك فعندما أعطته طلقها. قال بعضهم: إن ادعت المرأة أنه خدعها أو ضربها حتى أعطته، صدقت ورجعت في عطيتها.
وقال الداودي: وبه كان بعضهم يقول، وقالت فرقة: عليها البينة أنه ضربها أو خدعها.
وهو قول مالك وأصحابه، وقال الشافعي: لا ترد شيئًا إذا خالعها وهو يضربها.
واحتج الزهري بالآية المذكورة، وهي أصل في جواز الخلع، وكذلك قوله:{فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229].
15 - باب هِبَةِ المَرْأَةِ لِغَيْرِ زَوْجِهَا
وَعِتْقُهَا إِذَا كَانَ لَهَا زَوْجٌ فَهْوَ جَائِزٌ، إِذَا لَمْ تَكُنْ سَفِيهَةً، فَإِذَا كَانَتْ سَفِيهَةً لَمْ يَجُزْ، قَالَ الله تَعَالَى:{وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ} [النساء: 5].
2590 -
حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللهِ عَنْ أَسْمَاءَ رضي الله عنها قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا لِي مَالٌ إِلَّا مَا أَدْخَلَ عَلَيَّ الزُّبَيْرُ، فَأَتَصَدَّقُ؟ قَالَ:"تَصَدَّقِي، وَلَا تُوعِي فَيُوعَي عَلَيْكِ". [انظر: 1433 - مسلم: 1029 - فتح: 5/ 217]
2591 -
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ فَاطِمَةَ، عَنْ أَسْمَاءَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"أَنْفِقِي، وَلَا تُحْصِي فَيُحْصِيَ اللهُ عَلَيْكِ، وَلَا تُوعِي فَيُوعِيَ اللهُ عَلَيْكِ". [انظر: 1433 - مسلم: 1029 - فتح: 5/ 217]
2592 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ اللَّيْثِ، عَنْ يَزِيدَ، عَنْ بُكَيْرٍ، عَنْ كُرَيْبٍ -مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ- أَنَّ مَيْمُونَةَ بِنْتَ الحَارِثِ رضي الله عنها أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا أَعْتَقَتْ وَلِيدَةً وَلَمْ تَسْتَأْذِنِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُهَا الذِي يَدُورُ عَلَيْهَا فِيهِ قَالَتْ: أَشَعَرْتَ يَا رَسُولَ اللهِ أَنِّي أَعْتَقْتُ وَلِيدَتِي؟ قَالَ: "أَوَفَعَلْتِ؟ ". قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ: "أَمَا إِنَّكِ لَوْ أَعْطَيْتِيهَا أَخْوَالَكِ كَانَ أَعْظَمَ لأَجْرِكِ".
وَقَالَ بَكْرُ بْنُ مُضَرَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ بُكَيْرٍ، عَنْ كُرَيْبٍ: إِنَّ مَيْمُونَةَ أَعْتَقَتْ. [2594 - مسلم: 999 - فتح: 5/ 217]
2593 -
حَدَّثَنَا حِبَّانُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ، فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ، وَكَانَ يَقْسِمُ لِكُلِّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ يَوْمَهَا وَلَيْلَتَهَا، غَيْرَ أَنَّ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ وَهَبَتْ يَوْمَهَا وَلَيْلَتَهَا، لِعَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، تَبْتَغِي بِذَلِكَ رِضَا رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. [2637، 2661، 2688، 2879، 4025، 4141، 4690، 4749،
4750، 4757، 5212، 6662، 6679، 7369، 7500، 7545 - مسلم: 1463، 2770 - فتح: 5/ 218]
ثم ذكر أحاديث:
أحدها: حديث أسماء قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا لِي مَالٌ إِلَّا مَا أَدْخَلَ عَلَيَّ الزُّبَيْرُ، أفَأَتَصَدَّقُ؟ قَالَ:"تَصَدَّقِي، وَلَا تُوعِي فَيُوعَى عَلَيْكِ". وقد سلف في الزكاة
(1)
، ثم ذكره من طريق آخر سلف أيضًا
(2)
.
ثانيها: حديث ميمونة أَنَّهَا أَعْتَقَتْ وَلِيدَةً وَلَمْ تَسْتَأْذِنِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُهَا الذِي يَدُورُ عَلَيْهَا فِيهِ قَالَتْ: أَشَعَرْتَ يَا رَسُولَ اللهِ أَنِّي أَعْتَقْتُ وَليدَتِي؟ قَالَ: "أَوَفَعَلْتِ؟ ". قَالَتْ: نَعَمْ. قَال: "أَمَا إِنَّكِ لَوْ أَعْطَيْتِيهَا أَخْوَالَكِ كَانَ أَعْظَمَ لأَجْرِكِ".
قال: وَقَالَ: تابعه بَكْرُ بْنُ مُضَرَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ بُكَيْرٍ، عَنْ كُرَيْبٍ: إِنَّ مَيْمُونَةَ أَعْتَقَتْ.
أراد بهذا متابعة الليث بن سعد، فإن يحيى بن بكير رواه عنه، عن يزيد، عن بكير، عن كريب، وإن بكرا تابعه، وإن عَمرا تابع يزيد بن أبي حبيب، وهو مروي عند الإسماعيلي عن الحسن، ثنا أحمد بن يحيى، ثنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن بكير بن عبد الله عن كريب، فذكره.
ثالثها: حديث عائشة في القرعة في السفر وأن سودة وهبت يومها وليلتها لعائشة، وقد سلف
(3)
.
(1)
برقم (1433) باب: التحريض على الصدقة والشفاعة فيها.
(2)
ورد بهامش الأصل: بلفظ: "أنفقي ولا تحصي فيحصي الله عليك، ولا توعي فيوعي الله عليك".
(3)
لعل المصنف رحمه الله يقصد في الشرح، أما في موضعه من الصحيح فهذا هو أول مواضعه. والله أعلم.
أما الآية فالمراد بالسفهاء فيها: اليتامى والنساء، وهن أسفه السفهاء، وهما الضعيفان، وذكر المعتمر بن سليمان عن أبيه قال: زعم حضرمي أن رجلًا عمد فدفع ماله إلى امرأة فوضعته في غير الحق فقال تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ}
(1)
[النساء: 5] ومن قال: عني بالسفهاء النساء خاصة، فإنه حَمَلَ اللفظ على غير وجهه، وذلك أن العرب لا تكاد تجمع فعيلًا على فُعَلاء إلا في جمع الذكور أو الذكور والإناث.
فأما إذا أردوا جمع الإناث خاصة لا ذكران معهن جمعوه على فعائل وفعيلات، مثل غريبة تجمع غرائب وغريبات، فأما الغرباء فجمع غريب، نبه عليه الطبري
(2)
.
وكأن البخاري أراد بالتبويب وما فيه من الأحاديث الردَّ على من خالف ذلك، روى (حسين)
(3)
المعلم، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما فتح مكة:"لا تجوز عطية امرأة في مالها إلا بإذن زوجها" أخرجه النسائي
(4)
.
وفي رواية داود بن أبي هند والمعلم عن عمرو أن أباه أخبره، عن عبد الله بن عمر "ولا يجوز لامرأة هبة في مالها إذا ملك زوجها عصمتها"
(5)
.
قال الحاكم: صحيح الإسناد
(6)
.
(1)
"تفسير الطبري" 3/ 588 (8548).
(2)
"تفسير الطبري" 3/ 586 (8525).
(3)
في الأصل: (حبيب) والمثبت من مصدر التخريج.
(4)
"المجتبى" 5/ 65 - 66. وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (825).
(5)
"المجتبى" 6/ 278 - 279.
(6)
"المستدرك" 2/ 47.
ولأبي داود، عن عمرو أن أباه أخبره، عن عبد الله بن عمرو بن العاص فذكره
(1)
.
ولابن ماجه من حديث المثنى بن الصباح، عن عمرو:"إذا هو مالك عصمتها"
(2)
.
ولعبد الرزاق في "مصنفه" عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه مرفوعًا:"لا يجوز لامرأة عطية في مالها إلا بإذن زوجها"
(3)
.
وعن معمر، عن رجل، عن عكرمة قال: قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم
(4)
.
وعن معمر عن الزهري أن عمر بن عبد العزيز جعل لها في مالها الثلث في حياتها
(5)
.
وقد اختلف العلماء في المرأة المالكة لنفسها الرشيدة ذات الزوج على قولين:
أحدهما: أنه لا فرق بينها وبين البالغ من الرجال فما جاز من عطايا الرجل البالغ الرشيد جاز من عطاياها.
وهو قول الثوري والشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي
(6)
.
وبمعناه قال عطاء، قال ابن المنذر: وبه نقول
(7)
.
(1)
أبو داود (3546).
(2)
ابن ماجه (2388).
(3)
"مصنف عبد الرزاق" 9/ 125 (16607).
(4)
"مصنف عبد الرزاق" 9/ 125 (16608).
(5)
"مصنف عبد الرزاق" 9/ 125 (16609)
(6)
انظر: "الإشراف" 2/ 224.
(7)
"الإشراف" 2/ 224.
ثانيهما: لا يجوز لها أن تعطي من مالها شيئًا بغير إذن زوجها روي عن أنس وطاوس والحسن البصري
(1)
.
وفيه قول ثالث: قال مالك: لا يجوز عطاؤها بغير إذن زوجها إلا ثلث مالها خاصة، قياسًا على الوصية.
وفيه قول رابع: قال الليث: لا يجوز عتق المزوجة وصدقتها إلا في الشيء اليسير الذي لا بد منه في صلة الرحم أو غيره مما يتقرب به إلى الله تعالى
(2)
.
حجة الأول أن الرب جل جلاله سوى بين الرجال والنساء عند بلوغ الحكم وظهور الرشد فقال: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} [النساء: 6] الآية فأمر بدفع أموالهم إليهم، ولم يخص رجلًا من امرأة فثبت أن من صح رشده صح تصرفه في ماله بما شاء. وقال تعالى:{فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا} [النساء: 4] الآية، فأباح للزوج ما طابت له به نفس امرأته. وقال تعالى:{إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} [البقرة: 237] فأجاز عفوها عن مالها بعد طلاق زوجها إياها بغير استئمار من أحد.
فدل ذلك على جواز أمر المرأة في مالها، وعلى أنها فيه كالرجل سواء.
واحتجوا بأمره عليه السلام أسماء بالصدقة، ولم يأمرها باستئذان الزبير وبعتق ميمونة الوليدة من غير استئذان الشارع وبحديث ابن عباس أنه عليه السلام أنه خطب النساء يوم عيد وقال لهن:"تصدقن ولو من حليكن"
(3)
.
(1)
انظر: "شرح ابن بطال" 7/ 107، "الإشراف" 2/ 224.
(2)
انظر: "شرح ابن بطال" 7/ 107 - 108.
(3)
سلف برقم (1462) كتاب: الزكاة، باب: الزكاة على الأقارب، ورواه مسلم (1000) كتاب: الزكاة، باب: فضل النفقة والصدقة على الأقربين
…
وليس في شيء من الأخبار أنهنّ استأذنّ أزواجهنّ، ولا أنه أمرهنّ باستئذانهم، ولا يختلفون في أن وصاياها من ثلث مالها جائزة كالرجل ولم يكن لزوجها عليها في ذلك سبيل ولا أمر، وبذلك نطق الكتاب، وهو {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12]، فإذا كانت وصاياها في ثلث مالها جائزة بعد وفاتها فأفعالها في مالها في حياتها أجوز.
وحجة النسائي حديث عمرو بن شعيب السالف
(1)
، وأحاديث الباب أصح منه، وروى النسائي من حديث عطاء بن السائب، عن ميمونة: كانت لي جارية سوداء فقلت: يا رسول الله، إني أردت أن أعتق هذِه: فقال: "أفلا تفدين بها بنت أختك أو بنت أخيك من رعاية الغنم"
(2)
.
واحتج ابن حزم مما رواه من طريق ابن عيينة، عن ابن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن امرأته أن امرأة سألت عائشة: أطعم من بيت زوجي؟ فقالت عائشة: ما لم تقي مالك بماله
(3)
.
وهذا فيه جهالة كما ترى.
ولما ذكر حديث أبي هريرة في مسلم السالف: "وما أنفقت المرأة في كسبه .. " الحديث
(4)
.
قال: اعترض بعض الناس بأن قال: هذا رواه أبو هريرة وقد سئل هل تصدق المرأة من بيت زوجها قال: لا إلا من قوتها، والأجر بينهما،
(1)
النسائي 6/ 78.
(2)
النسائي في "الكبرى" 3/ 179 (4933).
(3)
"المحلى" 10/ 73.
(4)
مسلم (1026) كتاب: الزكاة، باب: ما أنفق العبد من مال مولاه.
ولا يحل لها أن تصدق من بيته إلا بإذنه
(1)
.
وهذِه الفتيا إنما رويناها من طريق عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي، وهو متروك- عن عطاء، عن أبي هريرة، فهي ساقطة
(2)
.
قلت: عبد الملك هذا ثقة قال ابن سعد: كان ثقة مأمونًا ثبتًا
(3)
.
وذكره ابن حبان في "ثقاته" ووصفه بالحفظ وقال جرير بن عبد الحميد: كان المحدثون إذا وقع بينهم الاختلاف في الحديث سألوه فكان حكمهم
(4)
. وقال أحمد فيما ذكره الساجي: ثقة من الحفاظ.
وكان الثوري يمدحه ويسميه الميزان
(5)
، وقال الترمذي: ثقة مأمون، لا نعلم أحدًا تكلم فيه غير شعبة
(6)
، وحدث عمن هو دونه في الحفظ والعدالة. وقال شعبة: إنما تركته لحديث السقيفة الذي
تفرد به وكان يعجب من حفظه
(7)
.
وقال ابن خلفون في "ثقاته": وثقه ابن نمير وغيره.
وتأول مالك الأحاديث في أمره النساء بالصدقة: بأنه إنما أمرهن بإعطاء ما ليس بالكثير المجحف بغير إذن أزواجهن؛ لقوله:
(1)
أبو داود (1688) وقال: هذا يضعف حديث همام، والبيهقي في "الكبرى" 4/ 193 (7853)، وقال ابن التركماني: في سند هذا الأثر عبد الملك العرزمي متكلم فيه. اهـ.
وقال الألباني في "صحيح أبي داود"(1481) إسناده صحيح موقوف اهـ.
(2)
"المحلى" 10/ 73.
(3)
"الطبقات الكبرى" لابن سعد 6/ 350.
(4)
"الثقات" لابن حبان 7/ 97.
(5)
"تاريخ بغداد" 10/ 396، "تهذيب الكمال" 18/ 324.
(6)
"سنن الترمذي" 3/ 643.
(7)
"تاريخ بغداد" 10/ 394، وفيه: أنه سئل عن تركه له مع حُسْن حديثه قال: من حُسْنِها فررت.
"تنكح المرأة لدينها ومالها وجمالها"
(1)
فسوى بين ذلك، فكان لزوجها في مالها حق فلم يكن لها أن تتلفه إلا بإذنه.
وعلى هذا يصح الجمع بين حديث عمرو بن شعيب، وسائر الأحاديث المعارضة له فيكون حديث عمرو بن شعيب واردًا في النهي عن إعطاء الكثير المجحف وغيره مما ليس بالكثير.
وأما حديث هبة سودة يومها لعائشة، فليس من هذا الباب في شيء؛ لأن للمرأة السفيهة أن تهب يومها لضرتها، وإنما السفه في إفساد المال خاصة، كذا قاله ابن بطال
(2)
.
وأيضًا فهذِه الهبة للزوج لا للضرة، وهما قولان للعلماء: هل الهبة للزوج أو للضرة؟ فترجمته على أحد القولين إذن.
واختلفوا في البكر إذا تزوجت متى تكون في حال من يجوز لها العطاء على قولين:
أحدهما: أنه ليس لها في مالها أمر؛ حتى تلد أو يحول عليها الحول.
روي هذا عن عمر- وشريح والشعبي، وبه قال أحمد وإسحاق
(3)
.
ثانيهما: الفرق بين البكر ذات الأب والوصي، وبين التي لا أب لها ولا وصي، قاله أصحاب مالك. فقال ابن القاسم: البكر التي لا أب لها لا يجوز قضاؤها في مالها وإن عنست؛ حتى يدخل بيتها وترضى حالها
(4)
.
(1)
سيأتي برقم (5090) كتاب: النكاح، باب: الأكفاء في الدين، ورواه مسلم (1466) كتاب: الرضاع، باب: استحباب نكاح ذات الدين.
(2)
"شرح ابن بطال" 7/ 109.
(3)
انظر: "الإشراف" 2/ 224.
(4)
انظر: "المدونة" 4/ 145.
واختلف في حد تعنيسها: فقال ابن وهب: ثلاثون إلى خمس وثلاثين، وقال ابن القاسم: أربعون إلى خمس وأربعين
(1)
.
وقال ابن الماجشون ومطرف في اليتيمة لا أب لها ولا وصي تختلع من زوجها بشيء تهب له: الخلع ماض، ويرد الزوج ما أخذ؛ لأنه لا يجوز لها عطاء حتى تملك نفسها ومالها، وذلك بعد سنة من ابتناء زوجها بها أو تلد ولدًا.
وخالف هذا سحنون فقال في البكر تعطي زوجها بعض مالها وذلك قبل الدخول فيملكها أمرها، أو تباريه بشيء من مالها فقال: إن كان لها أب أو وصي فلا يجوز ذلك ويلزم الزوج الطلاق ويرد عليها ما أخذ منها، وإن كانت لا أب لها ولا وصي جاز ذلك؛ وهي عندي بمنزلة السفيه الذي لا وصي له، أن أموره جائزة بيوعه وصدقته وهبته ما لم يحجر عليه الإمام
(2)
.
تنبيهات:
أحدها: في حديث ميمونة دلالة على أن صلة الأقارب وإغناء الفقراء أفضل من العتق، وإن كان جاء في العتق: أنه يعتق لكل عضو منه عضوًا منه من النار
(3)
، وبه تجاز العقبة يوم القيامة
(4)
.
قال مالك: الصدقة على الأقارب أفضل من العتق
(5)
.
(1)
انظر: "المنتقى" 3/ 273.
(2)
انظر: "شرح ابن بطال" 7/ 110.
(3)
تقدم حديثه عن أبي هريرة برقم (2517) كتاب: العتق، باب: ما جاء في العتق وفضله.
(4)
إشارة إلى قوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا العَقَبَةُ (12) {فَكُّ رَقَبَةٍ (13)} .
(5)
انظر: "إكمال المعلم" 3/ 519.
ثانيها: وقع في رواية الأصيلي: أخواتك بالتاء.
قال عياض: ولعله أصح من رواية: أخوالك
(1)
.
بدليل رواية مالك في "الموطأ": "أعطيها أختك"
(2)
.
وقال النووي: الجمع صحيح ولا تعارض، ويكون عليه السلام قال ذلك كله.
ثالثها: على قول مالك السالف لو تصدقت بأكثر من ثلثها.
فذهب مالك إلى بطلان الجميع، وقال المغيرة: تمضي قدر الثلث.
واختلف إذا قصدت الضرر في أقل من الثلث هل تمضي أم لا؟
واختلف أيضًا إذا تصدقت ثم تصدقت وقرب ما بينهما وهما أكثر من الثلث إذا جمعا، فقال أصبغ: إن كان ما بينهما يوم أو يومان بطل جميعًا وإن طال مثل الشهرين مضت الأولى، وإن طال مثل الستة أشهر صحتا جميعًا، وقيل: إذا كان بينهما يومان وشبه ذلك صح في الأولى، وقيل: إذا كان بينهما كبير وإن طال صحت الأولى دون الثانية، وحمل مالك النهي على مجاوزة الثلث
(3)
، وقد سلف.
رابعها: قول أسماء: (مالي مال إلا ما أدخل عليَّ الزبير). يعني: ما صيره ملكًا لها، فأمرها عليه السلام أن تنفق ولم يقل لها بالمعروف؛ لعلمها بمراده، ويحتمل أن يريد ما جعله الزبير تحت يدها من ماله، فإن كان كذلك فينفق ما كان يجب على الزبير إنفاقه من إعانة ملهوف وإعطاء سائل.
(1)
"إكمال المعلم" 3/ 519.
(2)
"الموطأ" رواية يحيى ص 599.
(3)
انظر: "النوادر والزيادات" 12/ 211 بتصرف.
ومعنى: "لا توعي" لا تجعليه في الوعاء فيدخره، ولا تنفقيه فيجعله في الوعاء، ومنه:{وَجَمَعَ فَأَوْعَى} [المعارج: 18] فمادة الرزق متصلة بالإنفاق ومنقطعة بانقطاعه، فلا يمنع فضل الزاد تحرٍّ من مادة الرزق.
وكذا قوله: "لا تحصي فيحصي الله عليك" أي: تحصي النفقة فيحصي الله بقطع البركة، وقد يكون مرجع الإحصاء إلى المنافسة في الآخرة.
خامسها: قال ابن التين: ليس في أحاديث الباب التي ذكرها البخاري دلالة على جواز فعل المرأة في أكثر من ثلثها.
أما قصة أسماء فسلف ما فيها، وأما قصة ميمونة فقال الداودي: ليس فيه أنها أكثر من ثلثها.
وأما حديث سودة وِهَبِتَها فليس من هذا في شيء، وقد سلف ما في ذلك.
سادسها: في حديث عائشة: القرعة.
قال مالك في "المدونة": يخرج من شاء منهن في أي الأسفار شاء
(1)
.
وقال ابن الجلاب: إن أراد سفر تجارة ففيها روايتان: القرعة بينهن كالحج والغزو، والأخرى: لا إقراع، قال: وإن أراد سفر حج أو غزو فأقرع بينهن، ثم إذا انقضى سفره قضى لهن وبدأ بها أو بمن شاء غيرها.
قلت: لم ينقل القضاء إذا عاد، والبداءة بغيرها أحب.
(1)
"المدونة" 2/ 198.
16 - باب بِمَنْ يُبْدَأُ بِالهَدِيَّةِ
؟
2594 -
وَقَالَ بَكْرٌ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ بُكَيْرٍ، عَنْ كُرَيْبٍ -مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ-: إِنَّ مَيْمُونَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَعْتَقَتْ وَلِيدَةً لَهَا، فَقَالَ لَهَا:"وَلَوْ وَصَلْتِ بَعْضَ أَخْوَالِكِ كَانَ أَعْظَمَ لأَجْرِكِ". [انظر: 2592 - مسلم: 999 - فتح: 5/ 219]
2595 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الجَوْنِيِّ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَجُلٍ مِنْ بَنِي تَيْمِ بْنِ مُرَّةَ- عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ لِي جَارَيْنِ، فَإِلَي أَيِّهِمَا أُهْدِي؟ قَالَ:"إِلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْكِ بَابًا". [انظر: 2259 - فتح: 5/ 219]
ذكر فيه تعليق بكر عن عمرو الذي في الباب قبله.
وحديث عائشة: إِنَّ لِي جَارَيْنِ، فَإِلَى أَيِّهِمَا أُهْدِي؟ قَالَ:"إِلَى أَقْرَبِهِمَا منك بَابًا".
وفيه: أن أقرب الجيران أولى بالصلة والبر والرعاية، وأن صلة الأقرب منهم أفضل من صلة الأبعد؛ إذ لا يقدر على عموم جميعهم بالهدية، وقد أكد الله تعالى في كتابه فقال:{وَالجَارِ ذِي القُرْبَى وَالجَارِ الجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنْبِ} [النساء: 36]، فدل على تفضيل الأقرب، وقد سلف ذلك في باب: أي الجوار أقرب في كتاب الشفعة
(1)
.
(1)
سلف برقم (2259).
17 - باب مَنْ لَمْ يَقْبَلِ الهَدِيَّةَ لِعِلَّةٍ
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ كَانَتِ الهَدِيَّةُ فِي زَمَنِ النبي صلى الله عليه وسلم هَدِيَّةً، وَاليَوْمَ رِشْوَةٌ.
2596 -
حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ الصَّعْبَ بْنَ جَثَّامَةَ اللَّيْثِيَّ -وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُخْبِرُ أَنَّهُ أَهْدَى لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِمَارَ وَحْشٍ وَهْوَ بِالأَبْوَاءِ -أَوْ بِوَدَّانَ- وَهْوَ مُحْرِمٌ، فَرَدَّهُ، قَالَ صَعْبٌ: فَلَمَّا عَرَفَ فِي وَجْهِي رَدَّهُ هَدِيَّتِي قَالَ: "لَيْسَ بِنَا رَدٌّ عَلَيْكَ، وَلَكِنَّا حُرُمٌ". [انظر: 1825 - مسلم: 1193 - فتح: 5/ 220]
2597 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ رضي الله عنه قَالَ: اسْتَعْمَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا مِنَ الأَزْدِ يُقَالُ لَهُ: ابْنُ الأتْبِيَّةِ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا أُهْدِيَ لِي. قَالَ:"فَهَلاَّ جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ أَوْ بَيْتِ أُمِّهِ، فَيَنْظُرَ يُهْدَى لَهُ أَمْ لَا؟! وَالَّذِي نَفْسِى بِيَدِهِ لَا يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْهُ شَيْئًا إِلَّا جَاءَ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ، إِنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ أَوْ شَاةً تَيْعَرُ -ثُمَّ رَفَعَ بِيَدِهِ، حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَةَ إِبْطَيْهِ- اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ". ثَلَاثًا. [انظر: 925 - مسلم: 1832 - فتح: 5/ 220]
ثم ساق حديث الصعب بن جثامة السالف في الحج
(1)
.
وحديث أبي حميد الساعدي: اسْتَعْمَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا مِنَ الأَزْدِ عَلَى الصَّدَقَةِ .. الحديث.
والرشوة: السحت، مثلث الراء أشهرها الضم
(2)
، وهي كل ما يأخذ
(1)
سلف برقم (1825) كتاب: جزاء الصيد، باب: إذا أهدى للمحرم حمارًا وحشيًّا.
(2)
انظر: "لسان العرب" 3/ 1653 مادة (رشا).
الإنسان على غير عوض، ويلزم آخذه العار، يعني بذلك الأمراء ومن في معناهم ممن يتقى شره.
والرغاء: صوت الإبل
(1)
، والخوار -بالخاء-: صوت البقر
(2)
، وقال ابن التين: هو بالخاء والجيم، وهو في "المطالع" بلفظ الجرار الصوت، وروي حوار، والمعنى واحد، إلا أنه بالخاء يستعمل في الظباء والشاء والجيم للبقر والناس. و (تيعر): تصيح، واليعار: صوت الشاة، يعرت تيعر يعارًا
(3)
.
و (عفرة إبطيه): بياضهما، قال صاحب "العين": العفرة: غبرة في حمرة كون الظبي الأعفر
(4)
.
وتكريره: "اللهم هل بلغت" ليسمع من لم يسمع؛ وليبلغ الشاهد الغائب، كرره للتأكيد.
وفيه -أعني حديث الصعب-: رد الهدية وهو غاية الأدب فيه؛ لأنها لا تحل للمهدى إليه؛ من أجل أنه محرم.
ومن حسن الأدب أن يكافأ المهدي، وربما عسرت المكافأة فردها إلى من يجوز له الانتفاع بها أولى من تكلف المكافأة، مع أنه لو قبله لم يكن له سبيل إلى غير تسريحه؛ لأنه لا يجوز له ذبحه، وهو محرم.
ويؤخذ منه أنه لا يجوز قبول هدية من كان ماله حراصًا على المهدى إليه، وكذا من عرف بالغصب والظلم.
(1)
انظر: "لسان العرب" 3/ 1684 (رغا).
(2)
انظر: "لسان العرب" 3/ 1285 (خور).
(3)
انظر: "مقاييس اللغة"(1110) مادة (يعر).
(4)
"العين" 2/ 123.
وفي حديث ابن اللتبية أن هدايا العمال يجب أن تجعل في بيت المال، وأنه ليس لهم منها شيء إلا أن يستأذنوا الإمام في ذلك، كما جاء في قصة معاذ أنه عليه السلام طيب له الهدية فأنفذها له أبو بكر بعد رسول الله، لما كان دخل عليه في ماله من الفلس
(1)
.
وفيه كراهية قبول هدية طالب العناية، ويدخل في معنى ذلك كراهية هدية المديان والمقارض، وكل من لهديته سبب غير سبب الجيرة أو صلة الرحم.
(1)
رواه الطبراني 20/ 131، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 4/ 144: رواه الطبراني في "الكبير" مرسلًا ورجاله رجال الصحيح.
18 - باب إِذَا وَهَبَ هِبَةً أَوْ وَعَدَ ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَنْ تَصِلَ إِلَيْهِ
وَقَالَ عَبِيدَةُ: إِنْ مَاتَ وَكَانَتْ فُصِلَتِ الهَدِيَّةُ وَالمُهْدَى لَهُ حَيٌّ فَهْيَ لِوَرَثَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فُصِلَتْ فَهْيَ لِوَرَثَةِ الذِي أَهْدَى. وَقَالَ الحَسَنُ أَيُّهُمَا مَاتَ قَبْلُ فَهْيَ لِوَرَثَةِ المُهْدَى لَهُ. إِذَا قَبَضَهَا الرَّسُولُ.
2598 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا ابْنُ المُنْكَدِرِ، سَمِعْتُ جَابِرًا رضي الله عنه قَالَ: قَالَ لِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لَوْ جَاءَ مَالُ البَحْرَيْنِ أَعْطَيْتُكَ هَكَذَا ثَلَاثًا". فَلَمْ يَقْدَمْ حَتَّى تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَرَ أَبُو بَكْرٍ مُنَادِيًا فَنَادَى: مَنْ كَانَ لَهُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عِدَةٌ أَوْ دَيْنٌ فَلْيَأْتِنَا. فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَعَدَنِي. فَحَثَى لِي ثَلَاثًا. [انظر: 2296 - مسلم: 2314 - فتح: 5/ 221]
ثم ذكر حديث جابر "لَوْ جَاءَ مَالُ البَحْرَيْنِ أَعْطَيْتُكَ هَكَذَا ثَلَاثًا". وقد سلف
(1)
.
واختلف العلماء في الذي يهب أو يتصدق على رجل ثم يموت الواهب أو المتصدق قبل أن يصل إلى الموهوب له: فذكر البخاري قول عبيدة -وهو السَلْماني بفتح العين- والحسن، وبمثل قول الحسن
قال مالك: إن كان أشهد عليها أو أبرزها أو دفعها إلى من يدفعها إلى الموهوب له، فهي جائزة.
كذا نقله عنه ابن بطال
(2)
.
(1)
سلف برقم (2296) كتاب: الكفالة، باب: من تكلف عن ميت دينًا.
(2)
"شرح ابن بطال" 7/ 113.
وقال ابن التين: قول مالك: إن شهد الباعث والمبعوث إليه حي يومئذ. وفي كتاب محمد: من مات منهما رجحت إلى ورثة الميت، إن لم يشهد.
وفيها قول ثالث وهو: إن كان بعث بها المهدي مع رسوله، فمات الذي أهديت إليه، فإنها ترجع إليه، وإن كان أرسل بها مع رسول الذي أهديت إليه، فمات المهدي إليه، فهي لورثته.
هذا قول الحكم وأحمد وإسحاق.
وقالت طائفة: لا تتم الهبة إلا بقبض الموهوب له أو وكيله، فأيهما مات قبل أن تصل الهبة إلى الموهوب له، فهي راجعة إلى الواهب أو إلى ورثته. هذا قول الشافعي
(1)
.
وروى مسلم بن خالد، عن موسى بن عقبة، عن أبيه، عن أم كلثوم: لما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم أم سلمة قال: "إني أهديت للنجاشي أواقي من مسك وحلة، ولا أراه إلا قد مات، ولا أرى الهدية التي أهديت إليه إلا سترد إليَّ، فإذا ردت فهي لك"
(2)
.
واختلف الفقهاء فيما يلزم من العِدَة، وفيما لا يلزم منها، فقال الكوفيون والأوزاعي والشافعي: لا يلزم من العِدَة شيء؛ لأنها منافع لم تقبض، فلصاحبها الرجوع فيها. وقال مالك: أما العِدَة مثل أن
يسأل الرجل الرجل أن يهب له هبة، فيقول له: نعم، ثم يبدو له ألا يفعل، فلا أرى ذلك يلزمه.
(1)
انظر "شرح ابن بطال" 7/ 113 - 114، "الإشراف" 2/ 226.
(2)
"المعجم الكبير" 23/ 352 (825) وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 8/ 289: رواه الطبراني وأم موسى بن عقبة لا أعرفها ومسلم بن خالد وثقه ابن معين وغيره، وبقية رجاله رجال الصحيح.
قال مالك: ولو كان ذلك في قضاء دين فسأله أن يقضيه عنه فقال: نعم، وثَمَّ رجال يشهدون عليه فما أحراه أن يلزمه إذا شهد عليه اثنان.
وقال ابن القاسم: إذا وعد الغرماء فقال: أشهدكم أني قد وهبت لهذا من أين يؤدى إليكم، فإن هذا يلزمه، وأما أن يقول: نعم، أنا أفعل. ثم يبدو له، فلا أرى ذلك عليه
(1)
.
وقال سحنون: الذي يلزمه في العدة في السلف والعارية أن يقول للرجل: اهدم دارك وأنا أسلفك ما تبنيها به، أو أخرج إلى الحج وأنا أسلفك ما يبلغك، أو اشتر سلعة كذا، أو تزوج وأنا أسلفك.
ذلك مما يدخله فيه وينشئه به، فهذا كله يلزمه، قال: وأما أن يقول: أنا أسلفك وأنا أعطيك بغير شيء، يلزمه المأمور نفسه، فإن هذا لا يلزمه شيء. وقال أصبغ: يلزمه في ذلك كل ما وعد به
(2)
.
قال ابن العربي: وأجلُّ من ذهب إلى هذا المذهب عمر بن عبد العزيز، ورجح الأول ابن بطال وقال: إنه أشبه بمعنى الحديث، ألا ترى فُتيا عبيدة السلماني والحسن في أن الهبة والعدة إنما تتم إذا وصلت إلى المهدي له قبل موت الواهب والموهوب له في قول الحسن، وفي قول عبيدة: إن مات الموهوب له قبل أن تصل إليه الهبة، فهي لورثة الواهب.
وذكر عبد الرزاق، عن قتادة كقول الحسن
(3)
، وهذا يدل من فتياهم أنهم تأولوا قوله عليه السلام لجابر:"لو قد جاء مال البحرين أعطيك". أنها عدة
(1)
انظر: "النوادر والزيادات" 12/ 203.
(2)
انظر: "النوادر والزيادات" 12/ 204 - 205.
(3)
"مصنف عبد الرزاق" 9/ 84 (16439) كتاب: المواهب، باب: الرجل يوصي للرجل فيموت قبله.
حر، لازم الوفاء بها في القضاء؛ لأنها لم تكن فصلت من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته، وإنما وعد بها جابرًا، وهو قوله:"لو قد جاء مال البحرين" فمات رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك، ولذلك ذكر البخاري قول عبيدة والحسن في أول الباب؛ ليدل أن فعل الصديق في قضائه عدات رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته، أنها كانت منه على التطوع ولم يكن يلزم الشارع ولا الصديق قضاء شيء منها؛ لأنه لم يرو عن أحد من السلف وجوب القضاء بالعدة، وإنما أنفذ ذلك الصديق بعد موته عليه السلام؛ اقتداءً بطريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولفعله، فإنه كان أوفى الناس بعهدٍ وأصدقهم لوعدٍ
(1)
.
قلت: قد ذكر البخاري أن ابن أشوع وسمرة قضيا به
(2)
وفي "تاريخ المنتجيلي" أن عبد الله بن شبرمة قضى على رجل بوعد وحبسه فيه، وتلى قوله تعالى:{كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)} [الصف: 3].
تنبيهان:
أحدهما: اعترض الإسماعيلي فقال: هذا الباب لا يدخل في الهبة بحال، وليس ما قاله لجابر هبة، وإنما هو عِدَة على وصف إذا كان صح الوعد، ولكن لما كان وعده لا يجوز أن يعترضه خُلْف أو يعوق دون الوفاء به معنى جعلوا وعده بمنزلة الضمان في الصحة، فرقًا بين وعده الذي لا خلف له وبين وعد غيره من الأمة، ممن يجوز أن يفي به وقد لا يفي.
(1)
"شرح ابن بطال" 7/ 114 - 115.
(2)
سيأتي قبل حديث (2681) كتاب: الشهادات، باب: من أمر بإنجاز الوعد.
ثانيهما: قال المهلب: إنجاز الوعد مندوب إليه، وليس بواجب فرضًا، والدليل على ذلك اتفاق الجمع على أن من وعد بشيء لم يضارب به مع الغرماء.
ولا خلاف أنه مستحسن ومن مكارم الأخلاق، وعدة جابر لم تكن في ذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما ادعى شيئًا في بيت المال والفيء، وذاك موكول إلى اجتهاد الإمام. وقال ابن التين: إنما أعطاه الصديق؛ ليبلغ مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقول جمهور العلماء: إن هذا لو كان من غير مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقبض له في ماله بعد موته في العدة، قال: والحاصل في العدة ثلاثة أقوال: لا، نعم، إن كانت العدة سبب مثل أن يقول: اهدم دارك وأنا أبنيها. أن ذلك يلزم وإن لم يهدم، وأما أن يهدمها فمتفق عليه أن ذلك يلزمه ما شاء، وعاش في ذمته أو فلس كالدين.
19 - باب كَيْفَ يُقْبَضُ العَبْدُ وَالمَتَاعُ
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ كُنْتُ عَلَى بَكْرٍ صَعْبٍ، فَاشْتَرَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ:"هُوَ لَكَ يَا عَبْدَ اللهِ". [انظر: 2115]
2599 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنِ المِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ رضي الله عنهما قَالَ: قَسَمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَقْبِيَةً، وَلَمْ يُعْطِ مَخْرَمَةَ مِنْهَا شَيْئًا، فَقَالَ مَخْرَمَةُ: يَا بُنَيَّ، انْطَلِقْ بِنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ، فَقَالَ: ادْخُلْ فَادْعُهُ لِي. قَالَ: فَدَعَوْتُهُ لَهُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ وَعَلَيْهِ قَبَاءٌ مِنْهَا، فَقَالَ:"خَبَأْنَا هَذَا لَكَ". قَالَ: فَنَظَرَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: رَضِيَ مَخْرَمَةُ. [2657، 3127، 5800، 5862، 6132 - مسلم: 1058 - فتح: 5/ 222]
ثم ذكر حديث المِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ أنه قَالَ: قَسَمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أقْبِيَةً، وَلَمْ يُعْطِ مَخْرَمَةَ .. قَالَ: فَدَعَوْتُهُ لَهُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ وَعَلَيْهِ قَبَاءٌ مِنْهَا، فَقَالَ:"خَبَأْنَا هذا لَكَ". قَالَ: فَنَظَرَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: رَضِيَ مَخْرَمَةُ.
الشرح:
التعليق سلف قريبًا، والحديث ذكره البخاري في مواضع أخر تأتي
(1)
.
وفيه: فخرج ومعه قباء وهو يريه محاسنه
(2)
.
وفي آخره في الجهاد: أهديت له أقبية من ديباج مزررة بالذهب، فقسمها بين أصحابه، وعزل منها واحدًا لمخرمة
(3)
.
(1)
سيأتي برقم (2657) كتاب: الشهادات، باب: شهادة الأعمى، (5800) كتاب: اللباس، باب: القباء وفروج حرير
…
(2)
يأتي برقم (2657).
(3)
يأتي برقم (6132) كتاب: الأدب، باب: المداراة مع الناس.
وفيه: فاستقبله بأزراره
(1)
. وفي بعض الطرق: يا بني إنه قدمتْ عليه أقبية وهو يقسمها. وفيه: (يا بني ادعه لي). قال: فأعظمت ذلك. فقال: (يا بني، إنه ليس بخيار فدعوته فخرج)
(2)
.
وأخرجه مسلم وقال: (ولم يعط منه)
(3)
بضمير الواحد، كأنه عائد على نوع الأقبية في المعنى.
والقباء: ممدود، قال ابن دريد: هو من قبوت الشيء: جمعته
(4)
.
وقوله: ("خبأنا هذا"). وقبله: (فخرج إليه وعليه قباء) وقال ابن التين: قوله: "خبأنا لك هذا".
وقال: (وخرج وعليه قباء) فقال: "خبأنا لك هذا".
فيه إشكال؛ للباسه عليه السلام بعد أن خبأه لمخرمة.
ويحمل قوله: (فخرج وعليه قباء). أنه كان في يده. وفيه بُعْد يُبَيّنه حديث أنه خرج ومعه قباء، وهو يريه محاسنه ويقول:"خبأت هذا لك".
وقد قيل: قد كان في خلقه شيء ولاطفه. كما ذكره في الجهاد، ولفظه: وكان في خلقه شدة
(5)
.
وقوله: "رضي مخرمة؟ " هو من قوله عليه السلام، وصرح به الداودي، قال: أي: هل رضيت.
(1)
يأتي برقم (3127) كتاب: فرض الخمس، باب: قسمة الإمام ما يقدم عليه ويخبأ لمن لم يحضره أو غاب.
(2)
يأتي معلقا برقم (5862) كتاب: اللباس، باب: المزرر بالذهب.
(3)
مسلم (1058) كتاب: الزكاة، باب: إعطاء من سأل بفحش وغلظة.
(4)
"الجمهرة" 1/ 375 مادة: (بقو).
(5)
سيأتي برقم (3127) كتاب: فرض الخمس، باب: قسمة الإمام ما يقدم عليه ويخبأ لمن لم يحضره أو غاب عنه.
ويحتمل أن يكون من قول مخرمة.
وقوله: (فخرج إليه وعليه قباء منها). ظاهره استعمال الحرير، ويجوز أن يكون قبل النهي، وأن يكون المراد أنه نشره على أكتافه؛ ليراه مخرمة كله.
وفيه ائتلاف أهل اللسانة وغيرهم.
فرع: مجرد التخبية لا يصيره ملكًا؛ لانتفاء الحوز، وممن صرح باشتراط الحوز الصديق والفاروق
(1)
، وعثمان وابن عباس ومعاذ
(2)
وشريح ومسروق والشعبي
(3)
، وإليه ذهب الثوري والكوفيون والشافعي، وقالوا: ليس للموهوب له مطالبة الواهب بالتسليم إليه؛ لأنها ما لم تقبض عِدَة يحسن الوفاء بها ولا تقضى عليه
(4)
، وعندنا مع اشتراط الحوز لابد من إذنه فيه، على الأصح.
وقال آخرون: يصح بالكلام دون القبض كالبيع
(5)
.
روي عن علي وابن مسعود
(6)
والحسن البصري والنخعي
(7)
، وبه قال مالك وأحمد وأبو ثور
(8)
، إلا أن أحمد وأبا ثور قالا: للموهوب
(1)
رواهما ابن أبي شيبة 4/ 285 (20116).
(2)
رواها ابن أبي شيبة 4/ 285، 286 أما عثمان (20118)، وأما ابن عباس (20130)، وأما معاذ (20123).
(3)
رواها عبد الرزاق 9/ 121 - 122 (16590، 16591، 16592).
(4)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 4/ 137، "الإشراف" 2/ 222 - 223، "البيان" 8/ 115.
(5)
"التمهيد" 1/ 211.
(6)
رواهما عبد الرزاق 9/ 122 (16595).
(7)
أثر النخعي رواه ابن أبي شيبة 4/ 286 (20131).
(8)
انظر: "الاستذكار" 22/ 303.
له المطالبة في حياة الواهب، فإن مات الواهب بطلت الهبة
(1)
.
قال ابن بطال: وتقبض الهبات والمتاع عند جماعة العلماء بإسلام الواهب لها إلى الموهوب له.
وحيازة الموهوب له كركوب ابن عمر الجمل، وكإعطاء رسول الله صلى الله عليه وسلم القباء لمخرمة وتلقيه بأزراره، كما ذكر البخاري في الجهاد أنه عليه
(2)
.
حجة أهل المقالة الأولى: أنه عليه السلام قال لابن عمر وهو راكب الجمل: "هو لك"
(3)
.
فكان حكم الهبات كلها كذلك لا تتم إلا بالقبض.
حجة الثاني: أنه عليه السلام قال لابن عمر في الجمل: "هو لك" مَلَّكَهُ إياه، ولا يُمَلِّك الشارع شيئًا أحدًا إلا وهو مالك له ويستحقه، فكان لابن عمر المطالبة بهذا الجمل لو لم يركبه لحقه الذي تعين فيه، فوجب له طلبه، وكذلك دل فعله في القباء الذي تلقى به مخرمة واسترضاه به قبل سؤاله إياه، أنه قد تعين للمسور فيه حق وجب للمسور طلبه على ما ذهب إليه مالك، فإن قلت: فإذا بقي في الهبة حق للموهوب له وجبت به مطالبة الواهب في حياته، فكذلك يجوز
(1)
انظر: "المغني" 8/ 243.
(2)
كذا بالأصل، والكلام ناقص، وتمامه من ابن بطال 7/ 116: وذكر البخاري في كتاب الجهاد أن النبي صلى الله عليه وسلم أهديت إليه أقبية من ديباج مزررة بالذهب، فقسمها بين أصحابه، وعزل منها واحدًا لمخرمة، فجاء مخرمة إلى النبي عليه السلام فسمع صوته فتلقاه به، واستقبله بأزراره، فقالى: يا أبا المسور خبأت لك هذا مرتين وكان في خلقه شدة.
(3)
سيأتي قريبًا (2610) باب: من أهدي له هدية وعنده جلساؤه فهو أحق به.
مطالبته بعد مماته كسائر الحقوق. قيل: هذا هو القياس، لولا حكم الصديق بين ظهراني الصحابة وهم متوافرون فيما وهب لابنته جداد عشرين وسقًا من ماله بالغابة، ولم تكن قبضته، وقال لها: لو كنت حُزْتيه كان لك، وإنما هو اليوم مال وارث.
ولم يرو عن أحد من الصحابة أنه أنكر قوله ذلك، ولا رد عليه، فكان هذا دليلًا لصحة قول مالك
(1)
.
(1)
"شرح ابن بطال" 7/ 116 - 117.
20 - باب إِذَا وَهَبَ هِبَةً وَقَبَضَهَا الآخَرُ، وَلَمْ يَقُلْ: قَبِلْتُ
2600 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْنُ مَحْبوبٍ، حَدَّثَنَا عبد الوَاحِدِ، حَدَّثَنَا مَعْمَر، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: هَلَكْت. فَقَالَ: "وَمَا ذَاكَ؟ ". قَالَ: وَقَعْتُ بِأَهْلِي فِي رَمَضَانَ. قَالَ: "تَجِدُ رَقَبَةً؟ ". قَالَ: لَا. قَالَ: "فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ". قَالَ: لَا. قَالَ: "فَتَسْتَطِيعُ أَنْ تُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟ ". قَالَ: لَا. قَالَ: فَجَاءَ رجلٌ مِنَ الأنصَارِ بِعَرَقٍ -وَالعَرَقُ: الِمكْتَل- فِيهِ تَمْرٌ، فَقَالَ:"اذْهَبْ بهذا فَتَصَدَّقْ بِه". قَالَ: عَلَى أَحْوَجَ مِنَّا يَا رَسُولَ اللهِ؟! وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالَحْقِّ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا أَهْلُ بَيْتٍ أَحْوَجُ مِنَّا. قَالَ: "اذْهَبْ فَأَطْعِمْهُ أَهْلَكَ". [انظر: 1936 - مسلم: 1111 - فتح: 5/ 223]
ذكر فيه حديث المجامع في رمضان وفيه قال: "اذْهَبْ بهذا فَتَصَدَّقْ بِه".
رواه عن محمد بن محبوب (خ. د. س)، وهو محمد بن الحسن (خ. د. س) بن هلال بن أبي زينب القرشي البناني، أبو جعفر، وقيل: أبو عبد الله المعروف بابن محبوب، ومحبوب لقب لأبيه الحسن، مات محمد سنة ثلاث وعشرين ومائتين، وقيل: سنة اثنتين وعشرين، روى عنه البخاري وأبو داود، وروى النسائي عن رجل عنه
(1)
.
ولا شك أن القبض في الهبة هو غاية القبول، قال ابن بطال: ولا يحتاج القابض أن يقول قبلت، وهو قد قبضها، قال: وعلى هذا جماعة العلماء، ألا ترى أن الواقع على أهله في رمضان قبض من
(1)
انظر: "الجرح والتعديل" 8/ 102 (440)، "تهذيب الكمال" 25/ 74 (5152)، "لسان الميزان" 5/ 150 (8119).
الشارع المكتل من التمر ولم يقل قد قبلت، إذ كان مستغنيًا عنه بالقبض، ومثل هذا المعنى في حديث جابر حين اشترى منه الشارع الجمل، فلما رجع إليه الثمن قال:"الثمن والجمل لك"
(1)
. ولم يقل له جابر: قد قبلته يا رسول الله.
فدل ذلك أن الهبة تتم بإعطاء الواهب وقبض الموهوب له، دون قوله باللسان: قد قبلت.
وأما إذا قال: قبلت ولم يقبض. فتعود المسألة إلى ما سلف من اختلافهم في قبض الهبة في الباب قبله
(2)
.
قلت: مذهبنا أنه لا بد من الإيجاب والقبول لفظًا، كما في البيع وسائر التمليكات فلا يقوم الأخذ والإعطاء مقامهما كما في البيع
(3)
، قال الإمام: ولا شك أن من يصير إلى انعقاد البيع بالمعاطاة يجزئه
في الهبة.
واختار ابن الصباغ من أصحابنا أن الهبة المطلقة لا تتوقف على إيجاب وقبول.
(1)
تقدم برقم (2470) كتاب: المظالم، باب: من عقل بعيره على البلاط أو باب المسجد.
(2)
"شرح ابن بطال" 7/ 118.
(3)
انظر: "روضة الطالبين" 5/ 365.
21 - باب إِذَا وَهَبَ دَيْنًا عَلَى رَجُلٍ
قَالَ شُعْبَةُ، عَنِ الحَكَمِ: هُوَ جَائِزٌ. وَوَهَبَ الحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ لِرَجُلٍ دَيْنَهُ وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ حَقٌّ فَلْيُعْطِهِ، أَوْ لِيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ". وَقَالَ جَابِرٌ: قُتِلَ أَبِي وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، فَسَأَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم غُرَمَاءَهُ أَنْ يَقْبَلُوا ثَمَرَ حَائِطِي، وَيُحَلِّلُوا أَبِي.
2601 -
حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ. وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما أَخْبَرَهُ، أَنَّ أَبَاهُ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ شَهِيدًا، فَاشْتَدَّ الغُرَمَاءُ فِي حُقُوقِهِمْ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَكَلَّمْتُهُ، فَسَأَلَهُمْ أَنْ يَقْبَلُوا ثَمَرَ حَائِطِي وَيُحَلِّلُوا أَبِي، فَأَبَوْا، فَلَمْ يُعْطِهِمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَائِطِي، وَلَمْ يَكْسِرْهُ لَهُمْ، وَلَكِنْ قَالَ:"سَأَغْدُو عَلَيْكَ". فَغَدَا عَلَيْنَا حَتَّى أَصْبَحَ، فَطَافَ فِي النَّخْلِ، وَدَعَا فِي ثَمَرِهِ بِالبَرَكَةِ، فَجَدَدْتُهَا فَقَضَيْتُهُمْ حُقُوقَهُمْ، وَبَقِيَ لَنَا مِنْ ثَمَرِهَا بَقِيَّةٌ، ثُمَّ جِئْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهْوَ جَالِسٌ، فَأَخْبَرْتُهُ بِذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِعُمَرَ:"اسْمَعْ -وَهْوَ جَالِسٌ- يَا عُمَرُ". فَقَالَ: أَلاَّ يَكُونُ قَدْ عَلِمْنَا أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ؟ وَاللهِ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ. [انظر: 2127 - فتح: 5/ 224]
ثم ساقه من حديثه.
الشرح:
أثر الحكم أخرجه ابن أبي شيبة، عن ابن أبي زائدة، عن شعبة، عنه في رجل وهب لرجل دينًا له عليه، قال: ليس له أن يرجع فيه.
وحدثنا
(1)
أبو داود الطيالسي عن شعبة قال: قال لي الحكم: أتاني ابن أبي ليلى فسألني عن رجل كان له على رجل دين، فوهبه له، أله أن
(1)
الضمير هنا يعود على ابن أبي شيبة.
يرجع فيه؟ قلت: لا. فسألت حمادًا فقال: بلى، له أن يرجع فيه
(1)
.
وقوله: "عليه حق .. " إلى آخره، ذكره مسندًا بلفظ: فإنه ليس في الآخرة دينار ولا درهم
(2)
. وحديث جابر قد أسنده، وقد سلف أيضًا في الصلاة
(3)
.
ولا خلاف بين العلماء أن من كان عليه دين لرجل فوهبه له ربه (أو)
(4)
أبرأه منه. وقبل البراءة أنه لا يحتاج فيه إلى قبض؛ لأنه مقبوض في ذمته، وإنما يحتاج في ذلك إلى قبول الذي عليه الدين؛ لأنه عليه السلام سأل غرماء أبي جابر أن يقبضوا ثمر حائطه ويحللوه من بقية دينه، فكان ذلك إبراء لذمة جابر لو رضوا بما دعاهم إليه رسول الله، ولم يكن يعرف ذلك إلا بقولهم: قد قبلنا ذلك ورضينا. فلم يتم التحلل في ذلك إلا بالقول.
واختلفوا إذا وهب دينًا له على رجل لرجل آخر، فقال [مالك]
(5)
: تجوز الهبة إذا سلم إليه الوثيقة بالدين، وأحله به محل نفسه، وإن لم يكن له وثيقة وأشهد على ذلك وأعلن فهو جائز
(6)
. وقال أبو ثور: الهبة جائزة أشهد أو لم يشهد إذا تقارا على ذلك
(7)
، وقال الكوفيون والشافعي: الهبة غير جائزة؛ لأنها لا تجوز عندهم إلا مقبوضة
(8)
.
(1)
"مصنف ابن أبي شيبة" 4/ 490 (22384، 22385).
(2)
تقدم برقم (2449).
(3)
لم أعثر عليه، ولم يشر إليه المزي في "تحفة الأشراف" 2/ 210 (2364). والله أعلم.
(4)
في الأصول (و)، والمثبت من ابن بطال، وهو الصواب.
(5)
زيادة يقتضيها السياق، لإبهام القائل، وهو من "شرح ابن بطال" 7/ 119.
(6)
انظر: "شرح ابن بطال" 7/ 119.
(7)
انظر: "الإشراف" 2/ 225.
(8)
انظر: "الهداية" 3/ 251، "الإشراف" 2/ 225.
وقد سلف قريبًا مذاهب العلماء في قبض الهبات.
والحجة لمالك وأبي ثور أنهم جعلوا الموهوب له حل محل الواهب في ملك الدين، وينزل منزلته في اقتضائه.
ولما أجمعوا أنه يجوز للرجل أن يحيل الرجل على من له عليه دين، كذلك يجوز له أن يجعل ماله من المطالبة بدينه على رجل لرجل آخر، يحله محله وينزل منزلته إن شاء الله.
وحديث جابر فيه الشفاعة في وضع بعض الدين، وتأخير الغريم المدة اليسيرة التي لا تضر المطالب.
وجاء في رواية: اعزل كل صنف على حدة، وأنه جلس عليه وأمرهم أن يكيلوه
(1)
.
وهنا أن جابرًا قضاهم ثم أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويحتمل أن يكون عليه السلام جلس حتى اكتالوا بعض حقهم، ثم ذهب ووفاهم، ثم أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كان بعده. ومعنى: جددتها: قطعتها، بالدال المهملة والمعجمة
(2)
.
(1)
سلف برقم (2405) كتاب: الاستقراض وأداء الديون، باب: الشفاعة في وضع الدين.
(2)
انظر: "لسان العرب" 1/ 574 مادة (جذذ).
22 - باب هِبَةِ الوَاحِدِ لِلْجَمَاعَةِ
وَقَالَتْ أَسْمَاءُ لِلْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَابْنِ أَبِي عَتِيقٍ: وَرِثْتُ عَنْ أُخْتِي عَائِشَةَ بِالغَابَةِ، وَقَدْ أَعْطَانِي بِهِ مُعَاوِيَةُ مِائَةَ أَلْفٍ، فَهُوَ لَكُمَا.
2602 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِشَرَابٍ فَشَرِبَ، وَعَنْ يَمِينِهِ غُلَامٌ، وَعَنْ يَسَارِهِ الأَشْيَاخُ، فَقَالَ لِلْغُلَامِ:"إِنْ أَذِنْتَ لِي أَعْطَيْتُ هَؤُلَاءِ". فَقَالَ: مَا كُنْتُ لأُوثِرَ بِنَصِيبِي مِنْكَ يَا رَسُولَ اللهِ أَحَدًا. فَتَلَّهُ فِي يَدِهِ. [انظر: 2351 - مسلم: 2030 - فتح: 5/ 225]
ثم ساق حديث سهل بن سعد أنَّه عليه السلام أُتِيَ بِشَرَابٍ فَشَرِبَ، وَعَنْ يَمِينِهِ غُلَامٌ، وَعَنْ يَسَارِهِ الأَشْيَاخُ، .. الحديث، وقد سلف
(1)
.
وقوله: (وابن أبي عتيق). كذا هو في الأصول، ونقل ابن التين عن الشيخ أبي الحسن أن في كتابه إسقاط الواو من (وابن).
وأبو عتيق: هو عبد الرحمن (س) بن أبي عتيق، واسم أبيه عبد الله، قال: وأظن الواو سقْطٌ من كتابي، وعند أبي ذر بإثباتها.
وقال الداودي: القاسم ابن أخي عائشة وابن أبي عتيق ابن أختها فوصلتهما بما أعطت فيه مائة ألف، وكانت من أجود الناس، كما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجودهم، وهي ضلع منه.
وظاهر إيراده أن المتصدقة عائشة، وهو خالف ما في البخاري أنها أسماء.
(1)
سلف برقم (4351) كتاب: المساقاة، باب: في الشرب ومن رأى صدقة الماء وهبته ووصيته.
وقوله: (عن يمينه غلام) في حديث سهل قيل: إنه ابن عباس.
وقيل: الفضل، كما سلف غير مرة، قال الداودي: هو الفضل، كان عن يساره، والذي عن يمينه خالد، قال ابن التين: وهو وهم، أما خالد فلم يذكر فيه في الصحيح وإنما اختلف في الغلام فقيل: ابن عباس. وهو الأشهر، وقيل: الفضل. قال: وحديث خالد وقد سلف عن يمينه أعرابي وعن يساره أبو بكر، فنبه عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أبا بكر عن يساره أراد أن لا يعطي خالدًا قبله.
وقد سلف معنى: فَتَلَّه في يده.
وغرض البخاري في هذا الباب والبابين بعده الرد على أبي حنيفة في إبطاله هبة المشاع فإنه يقول: إذا وهب رجل دارًا لرجل أو متاعًا، وذلك المتاع مما ينقسم فقبضاه جميعًا، فإن ذلك لا يحوزه إلا أن يقسم كل واحد منهما حصته؛ لأن الهبة من شرط صحتها عنده القبض
(1)
.
وذهب مالك وأبو يوسف ومحمد والشافعي إلى أن هبة الواحد للجماعة جائزة قالوا: ولو وهب شقصًا من دار أو عبد جاز، وإن لم يكن مقسومًا. وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثور
(2)
.
وحجة من أجاز ذلك أنه عليه السلام سأل الغلام أن يهب نصيبه من اللبن للأشياخ، ومعلوم أن نصيبه منه مشاع في اللبن غير متميز، ولا منفصل في القدح.
وهذا خلاف ما ذهب إليه أبو حنيفة، فلا معنى لقوله.
(1)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 4/ 139، "مختلف الرواية" 3/ 1420.
(2)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 4/ 140، "شرح ابن بطال" 7/ 120.
23 - باب الهِبَةِ المَقْبُوضَةِ وَغَيْرِ المَقْبُوضَةِ، وَالمَقْسُومَةِ وَغَيْرِ المَقْسُومَةِ
وَقَدْ وَهَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ لِهَوَازِنَ مَا غَنِمُوا مِنْهُمْ، وَهْوَ غَيْرُ مَقْسُومٍ.
[انظر: 2307، 2308]
2603 -
وَقَالَ ثَابِتٌ: حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ، عَنْ مُحَارِبٍ، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي المَسْجِدِ فَقَضَانِي وَزَادَنِي. [انظر: 443 - مسلم: 715 - فتح: 5/ 225]
2604 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُحَارِبٍ، سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما يَقُولُ بِعْتُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَعِيرًا فِي سَفَرٍ، فَلَمَّا أَتَيْنَا المَدِينَةَ قَالَ:"ائْتِ المَسْجِدَ فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ". فَوَزَنَ -قَالَ شُعْبَةُ: أُرَاهُ فَوَزَنَ لِي فَأَرْجَحَ، فَمَا زَالَ مِنْهَا شَيْءٌ حَتَّى أَصَابَهَا أَهْلُ الشَّأْمِ يَوْمَ الحَرَّةِ. [انظر: 443 - مسلم: 715 - فتح: 5/ 225]
2605 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِشَرَابٍ، وَعَنْ يَمِينِهِ غُلَامٌ، وَعَنْ يَسَارِهِ أَشْيَاخٌ، فَقَالَ لِلْغُلَامِ:"أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَ هَؤُلَاءِ؟ ". فَقَالَ الغُلَامُ: لَا، وَاللهِ لَا أُوثِرُ بِنَصِيبِي مِنْكَ أَحَدًا. فَتَلَّهُ فِي يَدِهِ. [انظر: 2351 - مسلم: 2030 - فتح: 5/ 225]
2606 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ جَبَلَةَ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سَلَمَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم دَيْنٌ فَهَمَّ بِهِ أَصْحَابُهُ، فَقَالَ:"دَعُوهُ، فَإِنَّ لِصَاحِبِ الحَقِّ مَقَالًا". وَقَالَ: "اشْتَرُوا لَهُ سِنًّا فَأَعْطُوهَا إِيَّاهُ". فَقَالُوا: إِنَّا لَا نَجِدُ سِنًّا إِلَّا سِنًّا هِيَ أَفْضَلُ مِنْ سِنِّهِ. قَالَ: "فَاشْتَرُوهَا فَأَعْطُوهَا إِيَّاهُ، فَإِنَّ مِنْ خَيْرِكُمْ أَحْسَنَكُمْ قَضَاءً". [انظر: 2305 - مسلم: 1601 - فتح: 5/ 226]
يريد الحديث السالف الذي أسنده.
ثم ساق حديث جابر: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي المَسْجِدِ فَقَضَانِي وَزَادَنِي.
وشيخ البخاري ثابت: هو ابن محمد أبو إسماعيل الشيباني الكوفي، من أفراده، مات سنة خمس عشرة أو ست عشرة ومائتين
(1)
.
وقد سلف في الصلاة
(2)
أيضًا.
قال الجياني: وفي رواية أبي زيد: وقال ثابت، وكذا هو عن النسفي. وقال ابن السكن في روايته عن الفربري: حدثنا ثابت بن محمد.
وفي نسخة الأصيلي: عن أبي أحمد قال البخاري: حدثنا محمد، حدثنا ثابت. كذا وقع غير منسوب عن ثابت، وقد حدث البخاري عن ثابت في غير موضع من "الجامع"، ولم يتابع أبو أحمد على هذا
(3)
.
ثم ساقه أيضًا من حديث محمد بن بشار، وفيه: قَالَ شُعْبَةُ: أُرَاهُ فَوَزَنَ لِي فَأَرْجَحَ. فَمَا زَالَ مِنْهَا شَيٌ حَتَّى أَصَابَهَا أَهْلُ الشَّامِ يَوْمَ الحَرَّةِ.
ثم ساق حديث سهل بن سعد السالف في الباب قبله
(4)
.
وحديث أبي هريرة "فَإِنَّ مِنْ خَيْرِكمْ -أو- أَحْسَنَكُمْ قَضَاءً".
وقد سلف الخلاف في قبض الهبات.
والهبة غير المقسومة: هي هبة المشاع، وقد اختلف العلماء فيها.
(1)
هو ثابت بن محمد الشيباني، ويقال: الكناني، أبو محمد، ويقال: أبو إسماعيل، الكوفي العابد، قال أبو حاتم: صدوق، وقال محمد بن سعد ومطين: مات سنة خمس عشرة ومائتين، زاد مطين: في ذي الحجة، وكان ثقة.
انظر ترجمته في: "طبقات ابن سعد" 6/ 404، "الجرح والتعديل" 2/ 457 (1848)، "تهذيب الكمال" 4/ 374 - 377.
(2)
سلف برقم (443) باب: الصلاة إذا قدم من السفر.
(3)
"تقييد المهمل" 2/ 623 - 624.
(4)
سلف برقم (2602) باب: هبة الواحد للجماعة.
وقد أسلفنا عن مالك والشافعي وأحمد صحة هبة المشاع ومن وافقهم. ويتأتى فيها القبض، كما يجوز فيها البيع.
وسواء كان المشاع مما ينقسم كالعبيد والثياب والجواهر، وسواء كان مما يقبض بالتخلية أو مما يقبض بالتحويل، وأبو حنيفة يقول: إن كان المشاع مما يقسم لم يجز هبة شيء منه مشاعًا، وإن كان مما لا يقسم كالعبيد واللؤلؤ فإنه يجوز هبته
(1)
.
حجتهم أن المشاع لا يتأتى فيه القبض إلا بقبض الجميع، ومن كلف الشريك هذا أضر به، وله أن يمتنع من ذلك، وبقصة الصديق السالفة في عدم القبض.
حجة المجيز أنه عليه السلام وهب حقه من غنائم حنين لهوازن، وحقه من ذلك مشاع لم يتعين، وكذا حديث أبي هريرة في قضائه الجمل بأفضل من سنه.
ووجه الدلالة منه: أن ثمن ذلك الفضل مشاع في ثمن السن التي كانت تلزمه، وقد وهب ذلك.
وكذلك قول جابر: قضاني فزادني.
وقوله: (فَوَزَنَ لي وأرجح).
وقد علم أن تلك الزيادة وذلك الرجحان لم يكن من الثمن وإنما كان هبة، ولم يكن متميزًا بل كان مشاعًا، وهبةُ النبي صلى الله عليه وسلم، وحديثُ الغلام والأشياخ بيِّن في ذلك أيضًا؛ لأنه استوهب الغلام بنصيبه من الشراب، وكان ذلك مشاعًا غير متميز ولا مقسوم، ولا يعرف ما كان
يشرب مما كان يترك للأشياخ.
(1)
انظر: "مختصر الطحاوي" ص 139.
ومن أجاز هبة ما لا يقسم فما ينقسم أجوز.
وأما احتجاجهم بقصة الصديق فهو حجة عليهم؛ لأنه وهب لها جذاذ عشرين وسقًا من أوساق كبيرة، وهذا مشاع بينهم.
فدل هذا على جواز هبة المشاع؛ لأنه لو لم يجز لم يفعله.
وقوله: (لو كنت حزتيه لكان لك). لا يدل على منع ما عقده، وإنما قال ذلك؛ لئلا يقتدي به من يريد الهروب بماله من الميراث، ولما لم تحزه عائشة في صحته لم ينفذه لها في مرضه؛ لأن عطايا المريض المقبوضة هي في ثلثه كالوصايا، والوصية للوارث لا تجوز إما مطلقًا أوموقوفًا على إجازة باقي الورثة، ولم يختلف الثلاثة: مالك وأبو حنيفة والشافعي أن عطايا المريض جائزة في ثلثه
(1)
، فلم يخالف مالك من حديث أبي بكر شيئًا، وأبو حنيفة خالف أوله وتأول في آخره، ما لم يجامع عليه.
تنبيهات:
أحدها: في قصة هوازن: هبة المشاع والمجهول، ومن منع هبة المشاع لأجل انتفاء القبض، وقد سلف، قال ابن التين: ولا أعلم خلافًا فيما إذا وهب جماعة شيئًا شركة بينهم لواحد وقبضه وحازه دونهم أنه يصح فَتَقُومُ على المخالفِ الحجة من الحديث.
ثانيها: كانت هوازن سنة ثمان عقب الفتح، خرج إليهم من مكة قبل مرجعه إلى المدينة، فكانت حنين وهوازن، وحاصر الطائف وانصرف عنها ولم يفتحها، وهي آخر غزوة شهدها بنفسه وقاتل فيها. ذكره أجمع الداودي.
(1)
انظر: "شرح معاني الآثار" 4/ 380، "المنتقى" 6/ 157، "الإشراف" 2/ 226.
وذكر الشيخ أبو محمد أن غزوة تبوك وهي جيش العسرة كانت عام تسع، وأن النبي صلى الله عليه وسلم توجه إليها أول يوم من رجب، واستخلف عليًّا على المدينة
(1)
، وذكر أبو محمد أيضًا أن حنينًا هي هوازن
(2)
، وإنما حنين بلد وهوازن قبيلة، اجتمعوا هناك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاف ما ذكره الداودي.
ثالثها: قوله: (فأرجح) فيه هبة المشاع أيضًا، وكان يوم الحرة في إمارة يزيد، قاتلهم مسلم بن عقبة، كان يزيد أخرجه إلى ابن الزبير، ونهاه أن لا يعارض أهل المدينة، فطرد أهل المدينة من كان بها من بني أمية إلا عمرو بن عثمان ومروان، وتعرضوا لمسلم وخرجوا إليه، فأقام وكتب إلى يزيد، فكتب إليه: أما إذا أبوا فأرجع إليهم، فإن ظفرت بهم فانجمها ثلاثًا. وكان مسلم مريضًا فأمر أن يجعل على سرير بين الصفين؛ لئلا يفر أصحابه فقتل من أهل المدينة ستة آلاف وخمسمائة، وأباح المدينة وختم في أعناق من كان بها من الصحابة بالخشب ليذلهم، فبايع أهل المدينة ليزيد، ونتف لحية عمرو بن عثمان وما (
…
)
(3)
حوصرت مكة ورميت الكعبة بالنفط فاحترق سقف الكعبة.
رابعها: في حديث سهل في الشراب شركة الهدية إذا كانت طعامًا إلا أن صاحبها المبدأ فيها ثم الأيمن فالأيمن.
وفيه: هبة المجهول، قاله الداودي.
(1)
"جوامع السيرة" ص 249، 251.
(2)
"جوامع السيرة" ص 241.
(3)
كلمة في الأصل غير واضحة.
24 - باب إِذَا وَهَبَ جَمَاعَةٌ لِقَوْمٍ أو رجل لجماعة جاز
2607 و 2608 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، أَنَّ مَرْوَانَ بْنَ الحَكَمِ وَالمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ أَخْبَرَاهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ حِينَ جَاءَهُ وَفْدُ هَوَازِنَ مُسْلِمِينَ، فَسَأَلُوهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَسَبْيَهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ:"مَعِي مَنْ تَرَوْنَ، وَأَحَبُّ الحَدِيثِ إِلَيَّ أَصْدَقُهُ، فَاخْتَارُوا إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ: إِمَّا السَّبْيَ وَإِمَّا المَالَ، وَقَدْ كُنْتُ اسْتَأْنَيْتُ". وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم انْتَظَرَهُمْ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً حِينَ قَفَلَ مِنَ الطَّائِفِ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم غَيْرُ رَادٍّ إِلَيْهِمْ إِلَّا إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ قَالُوا فَإِنَّا نَخْتَارُ سَبْيَنَا. فَقَامَ فِي المُسْلِمِينَ فَأَثْنَى عَلَى اللهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ:"أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ إِخْوَانَكُمْ هَؤُلَاءِ جَاءُونَا تَائِبِينَ، وَإِنِّي رَأَيْتُ أَنْ أَرُدَّ إِلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ، فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يُطَيِّبَ ذَلِكَ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَظِّهِ حَتَّى نُعْطِيَهُ إِيَّاهُ مِنْ أَوَّلِ مَا يُفِيءُ اللهُ عَلَيْنَا فَلْيَفْعَلْ". فَقَالَ النَّاسُ: طَيَّبْنَا يَا رَسُولَ اللهِ لَهُمْ. فَقَالَ لَهُمْ: "إِنَّا لَا نَدْرِي مَنْ أَذِنَ مِنْكُمْ فِيهِ مِمَّنْ لَمْ يَأْذَنْ، فَارْجِعُوا حَتَّى يَرْفَعَ إِلَيْنَا عُرَفَاؤُكُمْ أَمْرَكُمْ". فَرَجَعَ النَّاسُ فَكَلَّمَهُمْ عُرَفَاؤُهُمْ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُمْ طَيَّبُوا وَأَذِنُوا. وَهَذَا الذِي بَلَغَنَا مِنْ سَبْيِ هَوَازِنَ. هَذَا آخِرُ قَوْلِ الزُّهْرِيِّ، يَعْنِي فَهَذَا الَّذِي بَلَغَنَا. [انظر: فتح: 5/ 226]
ثم ساق حديث مروان والمسور أنه عليه السلام حِينَ جَاءَهُ وَفْدُ هَوَازِنَ مُسْلِمِينَ، فَسَأَلُوهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ وأَمْوَالَهُمْ، فَقَالَ:"مَعِي مَنْ تَرَوْنَ .. ". ثم ساق القصة، وقد سلف غير مرة، منها الوكالة، وهو مطابق لما بوَّب له.
أما هبة الجماعة للقوم فإن الصحابة وهبوا هوازن السبي، وهو مشاع؛ لأن هوازن لم يقسموه بينهم، (ولا)
(1)
حاز كل واحد منهم
(1)
في الأصل: بل، والمثبت من ابن بطال 7/ 123، وهو الأليق بالمعنى.
أهله إلا بعد أن حصل في ملكهم، وبعد أن نفذت هبة الصحابة لهم في السبي، ولم يكن لأحد منهم رجوع في شيء من ذلك؛ لأنهم طيبوا هبتهم وأمضوها، على شرط ألا يقبلوا العوض من النبي صلى الله عليه وسلم فيها، فهذا يرد قول أبي حنيفة أن هبة المشاع الذي تتأتى فيه القسمة لا تجوز؛ لأن هوازن إنما حازوا أهليهم بعد تملكهم لهم فهذا هبة الجماعة للجماعة.
وأما هبة الرجل للجماعة، فلأن الصحابة وإن كانوا قد طابت
أنفسهم بهبة السبي، فإنما فعلوا ذلك من أجل شفاعته عندهم فيه، وأنه وعد بالعوض من لم تطب نفسه بالهبة، فكأنه هو الواهب؛ إذ كان السبب في الهبة، وأيضًا فإنه عليه السلام كان له حق في جملة السبي فصح ما ذكره، وكذا قال ابن التين أنه يريد بقوله: ومن أحب أن يكون على حظه؛ حتى نعطيه مما يفيء الله علينا، فلو اختاروا ذلك لكان عليه السلام يقوم لهم بقدر ذلك من الفيء ويهبهم وحده.
وقوله: (مقسومًا أو غير مقسوم).
فإنما أراد أن المشاع والمقسوم سواء في جواز الهبة، فكذلك ما ينقسم وما لا ينقسم، سواء في جواز الهبة.
وقال ابن المنير: احتمل عند البخاري أن يكون الصحابة وهبوا الوفد مباشرة، وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم شفيع.
واحتمل أن يكونوا وهبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه هو وهب الوفد فترجم على الاحتمال
(1)
.
(1)
"المتواري" 278 - 279.
25 - باب مَنْ أُهْدِيَ لَهُ هَدِيَّةٌ وَعِنْدَهُ جُلَسَاؤُهُ فَهْوَ أَحَقُّ به
وَيُذْكَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ جُلَسَاءَهُ شُرَكَاءُ. وَلَمْ يَصِحَّ.
2609 -
حَدَّثَنَا ابْنُ مُقَاتِلٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ أَخَذَ سِنًّا، فَجَاءَ صَاحِبُهُ يَتَقَاضَاهُ فَقَالَ:"إِنَّ لِصَاحِبِ الحَقِّ مَقَالًا". ثُمَّ قَضَاهُ أَفْضَلَ مِنْ سِنِّهِ وَقَالَ: "أَفْضَلُكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً". [انظر: 2305 - مسلم: 1601 - فتح: 5/ 227]
2610 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ كَانَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ فَكَانَ عَلَى بَكْرٍ لِعُمَرَ صَعْبٍ، فَكَانَ يَتَقَدَّمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَيَقُولُ أَبُوهُ يَا عَبْدَ اللهِ، لَا يَتَقَدَّمِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَحَدٌ. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"بِعْنِيهِ". فَقَالَ عُمَرُ: هُوَ لَكَ. فَاشْتَرَاهُ ثُمَّ قَالَ: "هُوَ لَكَ يَا عَبْدَ اللهِ، فَاصْنَعْ بِهِ مَا شِئْتَ". [انظر: 2115 - فتح: 5/ 227]
ثم ساق حديث أبي هريرة في إعطاء أفضل من سنه.
وحديث ابن عمر في جَمَله حيث اشتراه منه ووهبه لابنه عبد الله.
أما أثر ابن عباس، فكأنه أراد به ما أخرجه البيهقي من حديث محمد بن الصلت: ثنا مندل بن علي، عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس مرفوعًا:"من أهديت له هدية وعنده ئاس فهم شركاء فيها"
(1)
.
ورواه الطبراني عن أبي مسلم الكشي، ثنا مالك بن زياد الكوفي، ثنا مندل به وقال:"وعنده قوم فهم شركاء فيها"
(2)
.
(1)
البيهقي في "السنن" 6/ 183، وقال: روي ذلك من وجه آخر، وفيه نظر.
(2)
الطبراني في "الكبير" 11/ 104 (11183)، وفي "الأوسط" 3/ 53 (2450).
ومندل (د. ق): شيعي صدوق تكلم فيه، مات في خلافة المهدي سنة سبع
(1)
وستين ومائة
(2)
.
ورواه عبد الرزاق عن محمد بن مسلم عن عمر، وعن ابن عباس، وكذا رواه ابن الأزهر عن عبد الرزاق مرفوعًا، والموقوف أصح، ورواه العقيلي من حديث عبد السلام بن عبد القدوس، ثنا ابن جريج، عن عطاء، عنه؛ مرفوعًا.
ورواه أيضًا من حديث عائشة مرفوعًا، وفي سنده وضاح ابن خيثمة، قال: ولا يتابع عليه، ولا يصح في هذا المتن حديث
(3)
.
وعبد السلام لا يتابع على شيء من حديثه، وليس ممن يقيم الحديث
(4)
.
وقال ابن بطال: لو صح قوله عليه السلام: "جلساؤكم شركاؤكم" لكان معناه الندب عند الفقهاء فيما خَفَّ من الهدايا وما جرت العادة بترك المشاحة فيه
(5)
.
فأما مثل الدور والعقار والمال الكثير فصاحبها أحق بها على ما ترجم البخاري؛ أَلَا ترى أنه عليه السلام أمر أن يعطى الذي يتقاضاه
(1)
ورد بهامش الأصل ما نصه: في "الكاشف": ثمان. وضعفه أحمد، أعني: مندلًا، وزاد في "المغني": والدارقطني.
(2)
مندل بن علي العنزي أبو عبد الله الكوفي، قال يحيى بن معين: ليس بشئ، وقال أيضًا: ليس به بأس. وأدخله البخاري في "الضعفاء". وقال أبو زرعة: لين.
انظر: "الجرح والتعديل" 8/ 434 (1987)، "تاريخ عثمان بن سعيد الدارمي" ص 205.
(3)
"الضعفاء" 4/ 328 (1934).
(4)
"الضعفاء" 3/ 67 (1031).
(5)
"شرح ابن بطال" 7/ 125.
أفضل من سنه التي كانت عليه، ولم يشاركه أحد ممن كان بحضرته في ذلك الفضل، وكذلك وهب عليه السلام الجمل لابن عمر وهو مع الناس، فلم يستحق أحد منهم فيه شركة مع ابن عمر. وعلى هذا مذهب الفقهاء.
وروي عن أبي يوسف القاضي أن الرشيد أَهْدى إليه مالًا كثيرًا، فورد عليه وهو جالس مع أصحابه فقال له أحدهم: قال النبي صلى الله عليه وسلم "جلساؤكم شركاؤكم" فقال له أبو يوسف: إن هذا الحديث لم يرد في مثل هذا وإنما ورد فيما خَفَّ من الهدايا وفيما يؤكل ويشرب مما تطيب النفوس ببذله والسماحة فيه، وقال: ما ذكر عن ابن عباس لا وجه له في القياس؛ لأن المجالسة لا تثبت الشركة في الهدية ولا الصدقة ولا الهبة ولا غيرها من العطايا، كما لو انتقل إلى رجل ملك بميراث لا يشاركونه.
واحتج البخاري بأنه عليه السلام لما قضاه أفضل من سنه لم يشاركه أحد ممن حضر في الزيادة.
وكذا حديث ابن عمر لم يشركوه أيضًا فيما وهب له الشارع من الجمل.
قلت: وقوله عليه السلام في آخره: "هو لك، يا عبد الله، فاصنع به ما شئت" صريح في ذلك، وما ذكرناه يوضح رد قول الإسماعيلي: ذكر هذا الحديث في هذا الباب ليس منه في شيء.
قال: والزيادة في الشيء وتعلم القرآن وما لا يتميز سبيلها في القضاء والرد سبيل الهبة، لكنه من حسن القضاء، وقد يفلس المشتري والسلعة عنده زائدة زيادة في عين المشترى.
ومنه ما لا يتميز فيأخذ هذا البائع على أنها عين ماله، وإن كان ذلك باعتداء من مال المشتري أو نحل فسقاه المشتري وقام عليه، فذلك إحسان من القاضي إذا قضاه لا هبة شيء، ألا ترى أن لو أفرد ما زاد على حال عهدها بأن وهبه مالكه مع الزيادة هبة تلك الزيادة لم يكن شيئًا.
26 - باب إِذَا وَهَبَ بَعِيرًا لِرَجُلٍ وَهْوَ رَاكِبُهُ، فَهُوَ جَائِزٌ
وَقَالَ اُلحمَيْدِيُّ: ثَنَا سُفْيَانُ، ثَنَا عَمْروٌ، عَنِ ابن عُمَرَ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ، وَكُنْتُ عَلَى بَكْرٍ صَعْبٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِعُمَرَ:"بِعْنِيهِ". فَابْتَاعَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"هُوَ لَكَ يَا عَبْدَ اللهِ".
هذا الحديث وصله الإسماعيلي، فرواه عن ابن صالح عنه، وأبو نعيم عن أبي علي محمد بن أحمد بن بشر بن موسى عنه به، واسم الحميدي عبد الله بن الزبير كما سلف، ولا خلاف بين العلماء أن من كان عنده الشيء الموهوب له، فإن ذلك قبض صحيح.
وكذا حكم الوديعة والرهن والدين، يهبها أربابها لمن هي في يده أن ذلك كله حيازة صحيحة لا تحتاج إلى غيرها
(1)
.
(1)
انظر: "شرح ابن بطال" 7/ 126.
وورد بهامش الأصل: ثم بلغ في السابع بعد السبعين، كتبه مؤلفه.
27 - باب هَدِيَّةِ مَا يُكْرَهُ لُبْسُهَا
2612 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: رَأَى عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ حُلَّةً سِيَرَاءَ عِنْدَ بَابِ المَسْجِدِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَوِ اشْتَرَيْتَهَا فَلَبِسْتَهَا يَوْمَ الجُمُعَةِ وَلِلْوَفْدِ قَالَ:"إِنَّمَا يَلْبَسُهَا مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الآخِرَةِ". ثُمَّ جَاءَتْ حُلَلٌ، فَأَعْطَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عُمَرَ مِنْهَا حُلَّةً، وَقَالَ أَكَسَوْتَنِيهَا وَقُلْتَ فِي حُلَّةِ عُطَارِدٍ مَا قُلْتَ! فَقَالَ:"إِنِّي لَمْ أَكْسُكَهَا لِتَلْبَسَهَا". فَكَسَا عُمَرُ أَخًا لَهُ بِمَكَّةَ مُشْرِكًا. [انظر: 886 - مسلم: 2068 - فتح: 5/ 228]
2613 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ أَبُو جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ أَتَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْتَ فَاطِمَةَ فَلَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهَا، وَجَاءَ عَلِىٌّ فَذَكَرَتْ لَهُ ذَلِكَ، فَذَكَرَهُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"إِنِّي رَأَيْتُ عَلَى بَابِهَا سِتْرًا مَوْشِيًّا". فَقَالَ: "مَا لِى وَلِلدُّنْيَا". فَأَتَاهَا عَلِيٌّ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهَا، فَقَالَتْ لِيَأْمُرْنِي فِيهِ بِمَا شَاءَ. قَالَ:"تُرْسِلُ بِهِ إِلَى فُلَانٍ. أَهْلِ بَيْتٍ بِهِمْ حَاجَةٌ". [فتح: 5/ 228]
2614 -
حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ المَلِكِ بْنُ مَيْسَرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ زَيْدَ بْنَ وَهْبٍ، عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: أَهْدَى إِلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حُلَّةً سِيَرَاءَ فَلَبِسْتُهَا، فَرَأَيْتُ الغَضَبَ فِي وَجْهِهِ، فَشَقَقْتُهَا بَيْنَ نِسَائِي. [5366، 5840 - مسلم: 2071 - فتح: 5/ 229]
ذكر فيه ثلاثة أحاديث:
أحدها: حديث ابن عمر: رَأى عُمَرُ حُلَّةً سِيَرَاءَ عِنْدَ بَابِ المَسْجِدِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَوِ اشْتَرَيْتَهَا فَلَبِسْتَهَا يَوْمَ الجُمُعَةِ .. الحديث. وسلف في الجمعة
(1)
.
(1)
سلف برقم (886)، باب: يلبس أحسن ما يجد.
ثانيها: حديثه أيضًا أَتَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْتَ فَاطِمَةَ فَلَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهَا، لأجل الستر الموشى فقال:"إِنِّي رَأَيْتُ على بَابِهَا سِتْرًا مَوْشِيًّا". فَقَالَ: "مَا لِي وَلِلدُّنْيَا". ثم قَالَ: "تُرْسِلُ بِهِ إِلَى فُلَانٍ، أَهْلِ بَيْتٍ بِهِمْ حَاجَة".
ثالثها: حديث علي: أَهْدى إِلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حُلَّةً سِيَرَاءَ فَلَبِسْتُهَا، فَرَأَيْتُ الغَضبَ فِي وَجْهِهِ، فَشَقَقْتُهَا بَيْنَ نِسَائِي.
الشرح:
وقد أسلفنا أن الحلة من برود اليمن، وأنها لا تكون إلا ثوبين إزار ورداء.
والموشى: الملون، يقال: وشى الثوب إذا نسجه على لونين
(1)
.
وموشيًا: كان أصله موشويًا على وزن مفعول فالتقى حرفا علة وسبق الأول بالسكون فقلب ياء وأدغم في الياء التي بعده وكسرت الشين لأجل الياء التي بعدها.
وفعل ذلك عليه السلام كان يرغب ألا يكون لفاطمة في الدنيا نصيب غير أخذ البلغة؛ ليعظم أجرها في الآخرة، وقد سألته خادمًا فقال:"أدلك علي خير من ذلك: تسبحين وتحمدين وتكبرين"
(2)
، وسارها بمحضر عائشة فبكت ثم سارها فضحكت، فقالت عائشة: ما رأيت ضحكًا أقرب من بكاء منذ اليوم، فسألتها عن ذلك فقالت: ما كنت لأفشي سرَّه.
(1)
"لسان العرب" 8/ 4846 مادة (وشي).
(2)
سيأتي برقم (3113) كتاب: فرض الخمس، باب: الدليل على أن الخمس لنوائب رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ورواه مسلم (2727) كتاب: الذكر والدعاء، باب: التسبيح أول النهار وعند النوم، بمعناه.
فلما توفي فسرته لها -لما أقسمت عليها- أنه يموت من وجعه ذلك فبكيت، وأني أول أهله لحوقًا به فضحكت، وأخبرني أني سيدة أهل الجنة
(1)
.
وأمرها أن تعطي الستر ليكون لها ثواب ذلك وله نصيب منه؛ لشفاعته الحسنة، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"لو أنفق أحدكم ملء أحد ذهبًا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه"
(2)
. قاله لخالد في بعض
(3)
السابقين الأولين، فإذا كان هذا حال أمته فكيف بمقامه الرفيع، قال علي: سبق النبي صلى الله عليه وسلم وصلى أبو بكر وثلث عمر
(4)
.
وإنما إعطاء الحلة؛ لأجل النساء؛ لأنها حرير.
وقول عليٍّ: (فشققتها بين نسائي) المراد: نساء قومه؛ لأنه لم يتزوج في حياة النبي صلى الله عليه وسلم غير فاطمة.
وفي "مبهمات عبد الغني": من حديث أم هانئ: فراح عليٌّ وهي عليه- فقال عليه السلام: "إنما كسوتكها لتجعلها خمرًا بين الفواطم"
(5)
.
(1)
سيأتي برقم (3623) كتاب: المناقب، باب: علامات النبوة في الإسلام، ورواه مسلم (2450) كتاب:"فضائل الصحابة" باب: فضائل فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم ..
(2)
سيأتي برقم (3673) كتاب: فضائل الصحابة، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الو كنت متخذًا خليلًا".
(3)
ورد بهامش الأصل ما نصه: يعني به: عبد الرحمن.
(4)
رواه أحمد 1/ 112 (895)، والطبراني في "الأوسط" 2/ 177 (1639)، وأبو نعيم في "الحلية" 5/ 74، قال الهيثمي في "المجمع" 9/ 54: رواه أحمد والطبراني في "الأوسط" ورجال أحمد ثقات اهـ.
(5)
رواه الطبراني في "الكبير" 24/ 437 (1069)، وقال الهيثمي في "المجمع" 5/ 142: رواه الطبراني وفيه يزيد بن أبي زياد، وقد وثق على ضعفه، وبقية رجاله ثقات.
وذكر ابن أبي الدنيا في كتاب "الهدايا" عن علي قال: فشققت منها أربعة أخمر لفاطمة بنت أسد أمي، ولفاطمة زوجي، ولفاطمة بنت حمزة بن عبد المطلب قال: ونسي الراوي الرابعة
(1)
.
قال القاضي عياض: يشبه أن تكون فاطمة بنت شيبة بن ربيعة، امرأة عقيل، أخي علي
(2)
.
وعند أبي العلاء بن سليمان: فاطمة بنت أبي طالب المكناة أم هانئ، وقيل: فاطمة بنت الوليد بن عقبة، وقيل: فاطمة بنت عتبة بن ربيعة.
حكاهما القرطبي
(3)
.
وهذا الثوب كان أهداه له أكيدر دومة.
ولأحمد من حديث علي بن زيد عن أنس: وأهدى له جرة مَنٍّ فأعطى لكل واحد من أصحابه قطعة قطعة، وأعطى جابرًا قطعتين فقال: يا رسول الله، إنك أعطيتني مرة. قال:"هذا لبنات عبد الله"
(4)
.
وفي قوله: (فرأيت الغضب في وجهه) ظاهره تحريمه.
وأما عبد الله أخو المهلب فقال: هو قال على أنّ النهي للكراهة فقط لا محرمًا، ولو كان تحريمًا لما عرف الكراهية من وجهه، بل من نهيه.
وقوله: (لا ينبغي هذا للمتقين). دليل آخر، ولو كان حرامًا لكان المتقي فيه والمسيء واحدًا، ولكنه كما قال تعالى في المتعة:{حَقًّا عَلَى المُتَّقِينَ} [البقرة: 180]، {حَقًّا عَلَى المُحْسِنِينَ} [البقرة: 236].
(1)
رواه ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" 1/ 142 (170)، 5/ 469 (3164).
(2)
"إكمال المعلم" 6/ 578.
(3)
"المفهم" للقرطبي 5/ 388 - 389، كتاب: اللباس، باب: تحريم لباس الحرير.
(4)
رواه أحمد 3/ 122، وفيه علي بن زيد، وهو ابن جُدعان.
قلت: ويبعد أن يكون قبل التحريم، ولا شك أن هدية ما يكره لبسه مباحة؛ لأن مِلكه جائز ولصاحبه التصرف بالبيع والهبة ممن يجوز لباسه له، كالنساء والصبيان، وإنما حَرُمَ على الرجالِ خاصةً دون ملكه.
قال المهلب: وإنما كره عليه السلام الحرير لابنته؛ لأنها ممن يرغب لها في الآخرة كما يرغب لنفسه، ولا يرضى لها تعجيل طيباتها في حياتها الدنيا، فدل هذا على أن النهي عن الحرير إنما هو من جهة السرف؛ لأن الحديث [الذي]
(1)
يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم في تحريم الحرير، قد سألت عنه أبا محمد الأصيلي، ووقفته على لفظة (حرام). فقال لي: لا تصح لفظة (حرام). البتة، وإن صحت فإنما معناها حرام (تحريم)
(2)
السنة، وحرام دون حرام، وهو كقوله عليه السلام:"كل ذي ناب من السباع حرام"
(3)
وفي ذلك الحديث "حل لإناثها".
قلت: وقد صح فقد كره لابنته وهو حلال، فكذلك كما كره للرجال من أجل السرف.
وقال ابن بطال: من جعل تحريم الحرير كتحريم كل ذي ناب من السباع فذلك دليل على التحريم؛ لأن جمهور الأمة على تحريم ذلك الذي هو ضد التحليل
(4)
، فكيف يحتج هذا القائل بما يخالفه فيه أكثر الأمة
(5)
.
(1)
زيادة من ابن بطال 7/ 127 يقتضيها السياق.
(2)
كذا في الأصل، وأشار محقق "شرح ابن بطال" 7/ 127 إلى أنها كذا في النسخة التي اعتبرها أصلًا، لكنه أثبت (تحرمه) من نسخة أخرى سماها (هـ).
(3)
مسلم (1933) كتاب: الصيد والذبائح، باب: تحريم أكل كل ذي ناب.
(4)
كذا بالأصل، ونصها في ابن بطال: لأن جمهور الأمة على أن تحريم كل ذي ناب من السباع على التحريم البين الذي هو ضد التحليل. ا. هـ
(5)
"شرح ابن بطال" 7/ 128.
وقوله في حديث عمر: "مالي وللدنيا". هو دليل قاطع.
وقوله: ("إنما يلبسها من لا خلاق له في الآخرة") يريد به -والله أعلم- أنها لباس الكفار في الدنيا، ومن لا حظ له في الآخرة، فنهى عن مشابهتهم، واستعمال زيهم، وسيأتي بسط المسألة في موضعها من كتاب اللباس إن شاء الله.
وجعلت طائفة الآثار المروية في الباب في النهي عن لباس الحرير على التحريم، ولم يأت عنه ما يعارضها، إلا ما يخصصها من جواز لباسه في الحرب، وعند التداوي، وما عدا هذين الوجهين فباقٍ على التحريم.
28 - باب قَبُولِ الهَدِيَّةِ مِنَ المُشْرِكِينَ
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:"هَاجَرَ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام بِسَارَةَ فَدَخَلَ قَرْيَةً فِيهَا مَلِكٌ -أَوْ جَبَّارٌ- فَقَالَ: أَعْطُوهَا هَاجَرَ".
وَأُهْدِيَتْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم شَاةٌ فِيهَا سُمٌّ. وَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ: أَهْدَى مَلِكُ أَيْلَةَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَغْلَةً بَيْضَاءَ، وَكَسَاهُ بُرْدًا، وَكَتَبَ لَهُ بِبَحْرِهِمْ.
2615 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، عَنْ قَتَادَةَ، حَدَّثَنَا أَنَسٌ رضي الله عنه قَالَ: أُهْدِيَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم جُبَّةُ سُنْدُسٍ -وَكَانَ يَنْهَى عَنِ الحَرِيرِ- فَعَجِبَ النَّاسُ مِنْهَا، فَقَالَ:"وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَمَنَادِيلُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي الجَنَّةِ أَحْسَنُ مِنْ هَذَا". [6161، 3248 - مسلم: 2469 - فتح: 5/ 230]
2616 -
وَقَالَ سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ: إِنَّ أُكَيْدِرَ دُومَةَ أَهْدَى إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. [انظر: 2615 - مسلم: 2469 - فتح: 5/ 230]
2617 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الوَهَّابِ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الحَارِثِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ يَهُودِيَّةً أَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِشَاةٍ مَسْمُومَةٍ، فَأَكَلَ مِنْهَا، فَجِيءَ بِهَا فَقِيلَ: أَلَا نَقْتُلُهَا؟ قَالَ: "لَا". فَمَا زِلْتُ أَعْرِفُهَا فِي لَهَوَاتِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. [مسلم: 2190 - فتح: 5/ 230]
2618 -
حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا المُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثِينَ وَمِائَةً، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"هَلْ مَعَ أَحَدٍ مِنْكُمْ طَعَامٌ؟ ". فَإِذَا مَعَ رَجُلٍ صَاعٌ مِنْ طَعَامٍ أَوْ نَحْوُهُ، فَعُجِنَ ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ مُشْرِكٌ -مُشْعَانٌّ طَوِيلٌ- بِغَنَمٍ يَسُوقُهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"بَيْعًا أَمْ عَطِيَّةً؟ " أَوْ قَالَ: "أَمْ هِبَةً؟ ". قَالَ: لَا، بَلْ بَيْعٌ. فَاشْتَرَى مِنْهُ شَاةً، فَصُنِعَتْ وَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِسَوَادِ البَطْنِ أَنْ يُشْوَى، وَايْمُ اللهِ مَا فِي الثَّلَاثِينَ وَالمِائَةِ إِلَّا قَدْ حَزَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَهُ حُزَّةً مِنْ سَوَادِ بَطْنِهَا، إِنْ كَانَ شَاهِدًا أَعْطَاهَا إِيَّاهُ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا
خَبَأَ لَه، فَجَعَلَ مِنْهَا قَصْعَتَيْنِ، فَأَكَلُوا أَجْمَعُونَ، وَشَبِعْنَا، فَفَضَلَتِ القَصْعَتَانِ، فَحَمَلْنَاة عَلَى البَعِيرِ. أَوْ كَمَا قَالَ. [انظر: 2216 - مسلم: 2056 - فتح: 5/ 230]
ثم ذكر حديث أنس في الشاة المسمومة المهداة له من جهة اليهودية.
وحديثه أيضًا: أُهْدِيَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم جُبَّةُ سُنْدُسٍ -وَكَانَ يَنْهَى عَنِ الحَرِيرِ- فَعَجِبَ النَّاسُ مِنْهَا، فَقَالَ:"وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَمَنَادِيلُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي الجَنَّةِ أَحْسَنُ مِن هذا".
وقًالَ سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ: إِنَّ أُكَيْدِرَ دُومَةَ أَهْدى إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
ثم ساق حديث عبد الرحمن بن أبي بكر: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثِينَ وَمِائَةً .. وذكرَ شِراءَ الشاةِ من المُشْرِكِ بعد أن قال له: "بَيْعًا أَمْ عَطِيَّةً؟ " أَوْ قَالَ: "أَمَّ هِبَةً؟ ".
الشرح: تعليق أبي هريرة سلف في البيوع مسندًا
(1)
، وإهداء الشاة المسمومة، قد أسنده بعده من حديث أنس
(2)
، ويأتي في الجزية مطولًا
(3)
، واسم أبي حميد: عبد الرحمن بن عمرو.
وتعليق أبي حميد سلف في الزكاة مسندًا
(4)
، وعند مسلم: جاء رسول ابن العَلْمَاء صاحب أيلة بكتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
(5)
.
وفي "الهدايا" لأبي إسحاق الحربي، عن علي: أهدى يوحنّا بن رؤبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بغلته البيضاء.
(1)
سلف برقم (2217) كتاب: البيوع، باب: شراء المملوك من الحربي وهبته وعتقه.
(2)
برقم (2617) كتاب: الهبة، باب: قبول الهدية من المشركين.
(3)
برقم (3169) كتاب: الجزية، باب: إذا غدر المشركون بالمسلمين ..
(4)
برقم (1481) كتاب: الزكاة، باب: خرص التمر.
(5)
مسلم (1392) كتاب: الفضائل، باب: في معجزات النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي مسلم: أنه عليه السلام كان يوم حنين على بغلة له بيضاء أهداها له فروة بن نفاثة الجذامي
(1)
.
وحديث عبد الرحمن سلف قريبًا في باب الشراء والبيع من المشركين، وأهل الحرب من كتاب البيوع
(2)
.
واحتجاج البخاري بقصة سارة يدل أن مذهبه أنّا مخاطبون بشرع من قبلنا، وهو قول مالك.
قال ابن التين: وهو الصحيح؛ لقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]، والقول الآخر: أنا غير مخاطبين به.
وأحاديث الباب دالة على جواز قبول هدية المشركين، وفي الترمذي أنه رد هدية المشرك وقال:"إني نهيت عن زبد المشركين"
(3)
.
وصححه، وزبد المشركين هداياهم. قيل: إنه عياض بن حمار، وقيل: إنه نسخ، وقيل: يفرق بين المشرك والكتابي.
وأكيدر من أهل الكتاب، فقبل هديته، وقيل: كان يؤدي الجزية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
(4)
، وقد سلف ذلك واضحًا.
والأول أولى؛ لحديث المشرك المشعان وحديث أم عطية، إلا أن تركها أفضل؛ عملًا باليد العليا.
(1)
مسلم (1775) كتاب: الجهاد والسير، باب: في غزوة حنين.
(2)
برقم (2216) كتاب: البيوع، باب: الشراء والبيع مع المشركين وأهل الحرب.
(3)
الترمذي (1577) كتاب: السير، باب: كراهية هدية المشركين، قال أبو عيسى: حسن صحيح. وصححه الألباني في "صحيح الجامع" 1/ 491 (2505).
(4)
رواه أبو داود (3037)، والبيهقي 9/ 186.
وقد سئل مالك عمن وصل بشيء فقال: تركه أفضل إلا أن يخاف على نفسه الجوع
(1)
.
وأوضح المسألة ابن بطال فقال: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذِه الآثار وغيرها أنه قبل هداياهم. قال: وأكثر العلماء على أنه لا يجوز ذلك لغيره من الأمراء؛ إذ كان قبولها منهم على جهة الاستبداد بها دون رعيته؛ لأنه إنما أهدى له ذلك من أجل أنه أمير الجيش، وليس الشارع في ذلك كغيره؛ لأنه مخصوص بما أفاء الله عليه من أموال الكفار من غير قتال
(2)
.
وقد اختلف العلماء في هداياهم على أقوال: أحدها: أن ما أهداه الحربي إلى والي الجيش -كان الوالي الأعظم أو دونه- فهو مغنم؛ لأنه لم ينله إلا بهم.
وفيه الخمس، وهو قول الأوزاعي ومحمد بن الحسن
(3)
، وابن حبيما قال: وسمعت أهل العلم يقولون: إنما والي الجيش في سهمانه كرجل منهم له ما لهم وعليه ما عليهم
(4)
.
ثانيها: ما أهدي لوالى الجيش فهو له خاصة، وكذا ما يعطاه الرسول، قاله أبو يوسف
(5)
.
ثالثها: قال محمد بن الحسن: لو أهدى العدو إلى رجل من المسلمين ليس بقائد ولا أمير هدية، فلا بأس أن يأخذها، وتكون له
(1)
انظر: "النوادر والزيادات" 3/ 216 - 217، 12/ 252.
(2)
"شرح ابن بطال" 7/ 130.
(3)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 3/ 498 - 499.
(4)
انظر: "النوادر والزيادات" 3/ 218.
(5)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 3/ 498.
دون أهل العسكر
(1)
. وهو قول الأوزاعي وابن القاسم
(2)
.
قال: وأما حديث عياض: "إني نهيت عن زبد المشركين" فهو معارض لقبوله هداياهم، فيكون ناسخًا لها، قيل: يحتمل أن يكون تركها لما في ذلك من التأنيس والتحاب، ومن حاد الله ورسوله وشاقهما حَرُمَ على المؤمنين موالاته؛ ألا ترى أنه جعل عليه ردها لما لم يسلم.
وقد روى معمر، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك قال: جاء ملاعب الأسنة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بهديةٍ فعرض عليه الإسلام فأبى أن يسلم فقال: "إني لا أقبل هدية مشرك"
(3)
فدّل هذا الحديث على مثل ما دلّ عليه حديث عياض، وبان به أن قبول الشارع هدية من قبل هديته من المشركين، إنما كان على وجه التأنيس والائتلاف؛ رجاء إنابتهم إلى الإسلام، ومن يئس من إسلامه منهم ردّ هديته.
وقال الطبري: قبول هدايا المشركين إنما كان نظرًا منه للمسلمين، وعودًا بنفعه عليهم لا إيثارًا منه نفسه به دونهم، وللإمام قبول هدايا أهل الشرك وغيرهم إذا كان ما يقبله من ذلك للمسلمين.
وأما رد هدية من رد هديته منهم، فإنما كان ذلك من أجل أنه أهداها له في خاصة نفسه فلم ير قبولها؛ تعريفًا منه لأمته من بعده أنه ليس له قبول هدية أحد لخاصة نفسه، وبين ذلك ما رواه نعيم بن عون عن الحسن قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له عياض -كانت بينه
(1)
المصدر السابق.
(2)
انظر: "النوادر والزيادات" 3/ 217.
(3)
"الجامع" لمعمر بن راشد 10/ 446 - 447 (19658) باب: هدية المشرك، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 6/ 127: رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح.
وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم صداقة قبل أن يبعث- بهدية فقال له: "أسلمت؟ "؛ قال: لا. قال: "فإنه لا يحل لنا زبد المشركين" قال الحسن: الزبد: الرفد
(1)
. ذكره ابن سلام
(2)
.
فإن ظن ظان أن قوله: "إنا لا نقبل هدية مشرك"، وأن ما رواه عطاء عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"هدايا العمال غلول"
(3)
أن ذلك على العموم فقد أخطأ.
وذلك أنه لا خلاف بين الجميع في أن الله تعالى قد أباح للمسلمين أموال أهل الشرك بالله بالقهر والغلبة لهم؛ لقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} الآية [الأنفال: 41] فهو بطيب أنفسهم لا شك أحل وأطيب.
دليله: حديث أبي سعيد الخدري، أن ملك الروم أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم جرة من زنجبيل فقسمها بين أصحابه فأعطى كل رجل منهم قطعة
(4)
.
وما رواه قرة عن الحسن قال: أهدى أكيدر دومة الجندل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جرة فيها مَنٌّ، وبالنبي صلى الله عليه وسلم وأهله إليها حاجة، فلما قضى الصلاة أمر طائفًا فطاف بها على أصحابه، فجعل الرجل يدخل يده فيخرج فيأكل، فأتى خالد بن الوليد فأدخل يده فقال: يا رسول الله، أخذ القوم مرة مرة وأخذت مرتين فقال:"كُل وأطعم أهلك".
(1)
رواه ابن أبي شيبة 6/ 520 (33434) قبول هدايا المشركين، والحارث بن أبي أسامة كما في "زوائده" (450) باب: ما جاء في الهدية.
(2)
"غريب الحديث" 1/ 396.
(3)
رواه الطبراني في "الأوسط" 5/ 168 (4969).
(4)
رواه العقيلي في "الضعفاء" 3/ 267، وابن عدي في "الكامل" 6/ 238 (1298).
قال الذهبي في "الميزان" 4/ 174 (6352): هذا منكر من وجوه، ثم ذكرها.
وأهدى (البون)
(1)
ملك الروم إلى مسلمة بن عبد الملك لؤلؤتين بالقسطنطينية فشاور أهل العلم من ذلك الجيش فقالوا: لم يهدهما إليك إلا لموقعك من هذا الجيش، فنرى أن تبيعهما وتقسم ثمنهما على هذا الجيش، فثبت بفعل الشارع وقول أهل العلم بعده أن الذي كان من رده هدية من رد من المشركين كان لما وُصف لك؛ إذ من المحال اجتماع الرد والقبول في شيء واحد، فبان أن سبب قبول
ما قبل غير سبب رد ما رده.
فإن قلت: إن آخر فعليه ناسخ للآخر. قلت: لو كان كذلك لكان مبينًا، أو كان على الناسخ دليل يفرق بينه وبين المنسوخ؛ إذ غير جائز أن يكون شيء من حكم الله غير معلوم الواجب منه على عباده، إما بنص عليه أو دلالة منصوبة على اللازم فيه، فبان بهذا أن سبيل الأئمة القائمين بعده بأمر الأمة سبيله في أن من أهدى إليه ملك من ملوك أهل الحرب هدية فله قبولها وصرفها حيثما جعل الله ما خوَّل المسلمين من غير إيجاف منهم عليهم بخيل ولا ركاب، وإن كان الذي أهدى إليه وهو منيخ مع جيش من المسلمين بعقرة (دارهم)
(2)
محاصرًا لهم؛ فله قبوله وصرفه فيما جعل الله من أموالهم مصروفًا، فيما نيل بالقهر والغلبة لهم، وذلك ما أوجفوا عليه بالخيل والركاب، كالذي فعل الشارع بأموال (قريظة)
(3)
؛ إذ نزلوا على حكم سعد لما
(1)
في الأصل: النور، وأشار محقق "شرح ابن بطال" 7/ 133 إلى أنها كذا بالأصل، لكنه أثبت (البون) من نسخة سماها (هـ).
(2)
في الأصل: دراهم. والمثبت ما يقتضيه السياق.
(3)
في الأصل: قريضة، وأشار محقق "شرح ابن بطال" 7/ 134 إلى أنها كذا بالأصل، لكنه أثبت (قريظة) من نسخة سماها (هـ).
نزل هو وأصحابه محاصرين لهم
(1)
.
تنبيهات:
أحدها: معنى قوله: (وكتب له ببحرهم) قيل: ولاه المكان، وقيل: ألا يؤخذ عند الغلبة عليهم.
ثانيها: قال المهلب: في حديث أبي حميد مكافأة المشرك على هديته؛ لأنه عليه السلام أهدى له بردةً.
وفيه: جواز تأمير المسلم للمشرك على قومه، لما في ذلك من طوعهم له وانقيادهم.
وأيلة: بفتح الهمزة، قال الطبري: كان صاحبها من أهل الجزية بالصلح الذي جرى بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم
(2)
.
قال المهلب: وفيه تولية البحر وأنه عمل من الأعمال.
وفيه جواز نسبة العمل إلى من أمر به؛ لقوله: (وكتب له ببحرهم) وهو عليه السلام لم يكتب كما قال: رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم
(3)
، وإنما أمر بذلك.
ثالثها: في قبول الشاة المسمومة دلالة على أكل طعام من يحل أكل طعامه دون أن يسأل عن أصله، ولا يحترس من حيث إن كان فيه مع جواز ما قد ظهر إليه من السم، فدل ذلك على حمل الأمور على
السلامة، حتى يقوم دليل على غيرها، وكذلك حكم ما بيع في سوق المسلمين، وهو محمول على السلامة، حتى يتبين خلافها.
رابعها: في حديث المشرك المشعان جواز قبول هدايا المشركين، وقد تقدم كثير من معناه في البيوع حيث ذكره.
(1)
انتهى إلى هنا كلام الطبري من "تهذيب الآثار" مسند علي ص 210 - 215.
(2)
"تهذيب الآثار" مسند علي ص 221.
(3)
سيأتي برقم (6829) كتاب: الحدود.
وفيه المواساة بالطعام عند المسغبة والشدة، وتساوي الناس في ذلك، وفي أكل أهل الجيش من الكبد على قِلّته علامة باهرة من أعلام نبوته، وآية باهرة من آياته.
خامسها: قوله: ("لمناديل سعد") فيه ضرب المثال بالمناديل التي
يمسح بها الأيدي وينفض بها الغبار وتتخذ لفافة لجيد الثياب، فكانت كالخادم والثياب كالمخدوم، فإذا كانت المناديل أفضل من هذِه الثياب -أعني: جبة السندس- دل على عظم عطايا الربِّ جل جلاله قال تعالى: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] قال الداودي: والسندس: رقيق الديباج، والإستبرق: غليظه.
والذي ذكره غيره كما قال ابن التين: الإستبرق أفضل من السندس؛ لأنه غليظ الديباج، وكل ما غلظ من الحرير كان أفضل من رقيقه.
سادسها: أكيدر دومة: هو ملك دومة الجندل، كان يدعى أكيدر، ودومة بفتح الدال وضمها
(1)
(2)
.
(1)
"معجم البلدان" 2/ 487.
(2)
في حاشية الأصل: أُكَيدر بضم الهمزة وفتح الكاف، قال الخطيب: هو أكيدر بنُ عبدِ الملك بن عبد الجن بن أعياء بن الحارث بن معاوية الكندي .. الشافعي في "المختصر"، فقال إنه من غسان أو من كندة.
قال الخطيب في "مبهماته": كان نصرانيا، ثم أسلم، وقيل مات نصرانيا. وقال ابن الأثير: ذكر ابن منده وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" أنه أسلم وأهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حُله حرير فوهبها لعمر. قال ابن الأثير: أما الهدية والمصالحة فصحيحان، وأما الإسلام فغلط لأنه لم يسلم بلا خلاف بين أهل السير، ومن قال أسلم فقد أخطأ خطأً فاحشًا.
قال: وكان نصرانيًا ولما صالحه النبي صلى الله عليه وسلم عاد إلى حصنه وبقي فيه، ثم إن خالدًا حاصره زمن أبي بكر، فقتله نصرانيًا .. انتهى.
سابعها: إنما لم يَقْتُل مَنْ سَمَّهُ على الأصح؛ لأنه كان من شأنه ألا يقتل أحدًا أو أراد أن لا ينقص من عذابها في الآخرة، وأن يبقي أجره موفرًا فيما نيل منه، وقد قال الفاروق: الحمد لله الذي لم يجعل قتلي على يد رجل سجد لله سجدة يحاجني بها يوم القيامة
(1)
.
ولما ولي مصعب العراق أتي بعمرو بن جرموز التميمي قاتل الزبير فسجنه، وكتب إلى عبد الله بأمره فكتب إليه: ما كنت أقيد بالزبير رجلًا أعرابيًّا.
وروي
(2)
أنه عليه السلام قال لها: "ما حملك على هذا؟ " قالت: إن كنت نبيًّا لم يضرك وإن كنت كاذبًا استراح الناس منك
(3)
.
وروي أن بعض من أكل معه مات
(4)
.
وجاء في "الصحيح": "ما زالت أكلة خيبر تعادني فهذا أوان انقطاع أبهري"
(5)
.
ومعنى: (تعادني) تأتيني في وقت دون وقت، والأبهر: نياط القلب، وهو العرق الذي يتعلق به القلب، فإذا انقطع مات صاحبه، فجمع الله له بين الرسالة والشهادة.
وقوله: (مازلت أعرفها في لهوات رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال الداودي: لهواته: ما يبدو من فِيْهِ عند التبسم.
(1)
سيأتي برقم (3700).
(2)
ورد بهامش الأصل: هذا في الصحيح.
(3)
البخاري (3169) كتاب: الجزية والموادعة، باب: إذا غدر المشركون بالمسلمين هل يعفى عنهم.
(4)
رواه الدارقطني 3/ 120 - 121، والحاكم 3/ 219 - 220، والبيهقي 8/ 46.
(5)
سيأتي برقم (4428) كتاب: المغازي، باب: مرض النبي ووفاته. معلقًا عن يونس.
وقال الجوهري: اللهاة: الهنة اللطيفة في أقصى سقف الحلق، والجمع: اللها واللهوات واللهات أيضًا
(1)
.
وقال القاضي عياض: هى اللحمة التي بأعلى الحنجرة من أقصى الفم
(2)
(3)
.
ثامنها: إنما أدخل في الباب حديث عبد الرحمن بن أبي بكر؛ لقوله: (أو قال: هبة) لا كما وقع للداودي من أنه من أجل قوله أو عطية. والمشعان: فسره في رواية أبي ذر بالطويل جدًّا. وقال ابن فارس: مشعان الرأس
(4)
.
وقال القزاز: هو الجافي الثائر الرأس، وقد سلف.
وفيه: المواساة عند الضرورة، وفيه: أكل القوم بعد القوم؛ لأن القصعتين لا تحملان أيدي الجماعة.
(1)
"الصحاح" 6/ 2487 مادة (لهى).
(2)
"إكمال المعلم" 7/ 93.
(3)
ورد بهامش الأصل: وما قاله عياض هو في "المطالع" أيضًا.
(4)
"المجمل" 1/ 504.
29 - باب الهَدِيَّةِ لِلْمُشْرِكِينَ
وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ (8)} [الممتحنة: 8].
2619 -
حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: رَأَى عُمَرُ حُلَّةً عَلَى رَجُلٍ تُبَاعُ فَقَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: ابْتَعْ هَذِهِ الحُلَّةَ تَلْبَسْهَا يَوْمَ الجُمُعَةِ وَإِذَا جَاءَكَ الوَفْدُ. فَقَالَ: "إِنَّمَا يَلْبَسُ هَذَا مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الآخِرَةِ". فَأُتِيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْهَا بِحُلَلٍ، فَأَرْسَلَ إِلَى عُمَرَ مِنْهَا بِحُلَّةٍ، فَقَالَ عُمَرُ: كَيْفَ أَلْبَسُهَا وَقَدْ قُلْتَ فِيهَا مَا قُلْتَ؟! قَالَ: "إِنِّي لَمْ أَكْسُكَهَا لِتَلْبَسَهَا، تَبِيعُهَا أَوْ تَكْسُوهَا". فَأَرْسَلَ بِهَا عُمَرُ إِلَى أَخٍ لَهُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ. [انظر: 886 - مسلم: 2068 - فتح: 5/ 232]
2620 -
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما قَالَتْ: قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وَهْيَ مُشْرِكَةٌ، فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَاسْتَفْتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قُلْتُ: إِنَّ أُمِّي قَدِمَتْ وَهْيَ رَاغِبَةٌ، أَفَأَصِلُ أُمِّي؟ قَالَ:"نَعَمْ صِلِي أُمَّكِ". [3183، 5978، 5979 - مسلم: 1003 - فتح: 5/ 233]
ذكر فيه حديث ابن عمر في الحلة وقد سلف في الجمعة
(1)
.
وحديث أسماءَ: قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وَهْيَ مُشْرِكَة فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَاسْتَفْتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقُلْتُ: وَهْيَ رَاغِبَةٌ، أَفَأَصِلُ أُمِّي؟ قَالَ:"نَعَمْ صِلِي أُمَّكِ".
(1)
برقم (886) كتاب: الجمعة، باب: ما يلبس أحسن ما يجد.
كذا هنا، وفي موضع آخر منه من غيره: فقلت: قدمت عليَّ أمي وهي راغبة
(1)
. وهو أتم.
أما الآية فكانت في الابتداء عند موادعة المشركين، ثم صارت منسوخة بالأمر بالقتال، أو كان لخزاعة والحارث بن عبد مناف عهد فأمروا أن يبّروهم بالوفاء به أو أراد النساء والصبيان أمروا ببرهم لهم، فنزلت في قتيلة (في)
(2)
امرأة أبي بكر كان قد طلقها في الجاهلية فقدمت على ابنتها أسماء بنت أبي بكر في الهدنة فأهدت لها قرطًا وأشياء، فكرهت قبوله، حتى ذكرته لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت:{وَتُقْسِطُوا} [الممتحنة: 8]: تعطوهم قسطًا من أموالكم أو تعدلوا فيهم، فلا تغلوا في مقاربتهم ولا تسرعوا في مباعدتهم
(3)
.
وروى الطبري، عن ابن الزبير أن الآية نزلت في أم أسماء بنت أبي بكر وكان اسمها قتلة بنت عبد العزى
(4)
.
وقالت طائفة: نزلت في مشركي مكة، من لم يقاتل المؤمنين، ولم يخرجوهم من ديارهم
(5)
.
وقال مجاهد: هو خطاب للمؤمنين الذين بقوا بمكة ولم يهاجروا، والذين قاتلوهم كفار أهل مكة
(6)
.
(1)
سيأتي برقم (3183) كتاب: الجزية.
(2)
كذا في الأصل، والمعنى يستقيم بدونها.
(3)
"تفسير الطبري" 12/ 62.
(4)
"تفسير الطبري" 12/ 63 (33952).
(5)
"تفسير الطبري" 12/ 63.
(6)
"تفسير الطبري" 12/ 62 (33951).
وقيل: هم خزاعة، صالحهم على ألا يقاتلوه والذين قاتلوهم أهل مكة. وقال السدي: كان هذا قبل أن يؤمر بقتال المشركين كافة، فاستشار المسلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم في قراباتهم من المشركين أن يبروهم ويصلوهم فأنزلها الله. وفي تفسير الحسن: قال قتادة وابن زيد: ثم نسخ ذلك
(1)
، ولا يجوز هذا اليوم في المشركين ولا متاحفتهم، إلا للأبوين خاصة؛ لأن الهدية فيها تأنيس للمهدى إليه وإلطاف له وتثبيت لمودته.
وقد نهى الله عن التودد للمشركين بقوله تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية [المجادلة: 22]، وقوله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالمَوَدَّةِ} [الممتحنة: 1].
وقال ابن التين: اختلف في هذِه الآية على ثلاثة أقوال؛ لأنه قال في السورة: {لَا تَتَّخِذُوْا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُم أوَّلِيَاءَ} فذكر قول مجاهد وقتادة.
وروي عن ابن الزبير: نزلت في أسماء، -يريد أُمَّه- جاءت أمها قتلة بنت عبد العزى إليها بهدايا فلم تقبل هداياها، ولم تدخلها عليها، فسألت عائشة، فأنزلت الآية
(2)
.
وقال ابن عيينة في حديث الباب في رواية الحميدي: فأنزل الله تعالى {لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ} الآيه
(3)
. [الممتحنة: 8]
(1)
"تفسير الطبري" 12/ 63 (33954، 33955).
(2)
رواه أحمد 4/ 4، وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" 7/ 123 وقال: رواه أحمد والبزار؛ وفيه مصعب بن ثابت وثقه ابن حبان وضعفه جماعة وبقية رجاله رجال الصحيح. اهـ
(3)
سيأتي برقم (5978).
وصححه الحاكم في "مستدركه"
(1)
، وذكر الحميدي عن البرقاني أن عبدةَ بن سليمان، رواه عن هشام عن أبيه مرسلًا، وأن يحيى بن آدم قال فيه: عن سفيان، عن هشام، عن فاطمة بنت المنذر، عن أسماء. قال البرقاني: والأول يعني: هشام، عن أبيه، عن أسماء. مسندًا
(2)
.
وقال الدارقطني: رواه الثوري وأبو معاوية وعبد الحميد بن جعفر، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة أن أسماء. قالت: يا رسول الله.
ورواه ابن حبان في "صحيحه" من حديث سفيان، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة: اختلف في هذِه الأم فقيل: كانت ظئرًا لها، وقيل: كانت من النسب
(3)
.
قال الداودي: كان أبو بكر طلقها في الجاهلية وكانت تسمى أم بكر، وفيها قيل:
تحيى بالسلامة أم بكر
…
و (أنى)
(4)
بعد قومي من سلام
وتأتي تكملته في الهجرة
(5)
، ولعل هذِه كنية لها لما تقدم أن اسمها قتلة كذا قال، واسمها قُتَيْلة، بضم القاف وفتح التاء المثناة فوق، بعدها مثناة تحت ساكنة، ثم لام، ثم هاء، ويقال قتلة بفتح القاف، ثم مثناة فوق ساكنة، قال النووي: وهو الأصح الأشهر في اسمها من غير ياء مثناة تحت
(6)
.
(1)
الحاكم 2/ 485 وقال: صحيح الإسناد.
(2)
"الجمع بين الصحيحين" 2/ 264.
(3)
ابن حبان 2/ 198 (453).
(4)
ورد بهامش الأصل: وفي البخاري ومسلم وأبي داود: (وهل).
(5)
سيأتي برقم (3921) كتاب: المناقب، باب: هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة.
(6)
"شرح مسلم" 7/ 89.
قلت: ولعل من قاله بالياء قاله على وجه التصغير. واسم أبيها عبد العزي بن عبد بن أسعد بن جابر بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي، وذكرها المستغفري في جملة الصحابة وقال: تأخر إسلامها.
قال أبو موسى المديني: ليس في شيء من الحديث ذكر إسلامها.
وقد تأول بعضهم في قولها (راغبة) أي: في الإسلام، قلت: وتأوله بعضهم على أنها راغبة في الصلة، أو راغبة عن ديني كارهة له.
وقال أبو داود في "جامعه": معنى راغبة عن دينها، أو عن ملتي.
وفي أبي داود: راغِمة: -بالميم- أي: كارِهةٌ للإسلام والهجرة وساخطة عليَّ
(1)
.
وقيل: هاربة من الإسلام، قال تعالى:{وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً} [النساء: 100]، وعند مسلم: أو راهبة
(2)
.
وقال ابن بطال: هو بالباء من الرغبة في العطاء
(3)
.
وقال بعض أصحابنا: معناه: هاربة من قومها.
واحتج بالآية قال: فلو كان أرادت المضي لقالت: مراغمة لا راغمة.
وقال أبو عمرو بن العلاء: تأول في الآية أنه الخروج عن العدو برغم أنفه وراغبة بالباء أظهر في معنى الحديث.
ووقع في كتاب ابن التين: داعية. ثم فسرها بقوله: طالبة بِرِّي ومتعرضة له.
(1)
أبو داود (1668).
(2)
مسلم (1003) كتاب: الزكاة، باب: فضل الصدقة والنفقة على الأقربين.
(3)
"شرح ابن بطال" 7/ 137.
وإنما بعث عمر الحلة إلى أخيه المشرك بمكة على وجه التألف له على الإسلام؛ لأنه كان طمع بإسلامه، وكان التآلف حينئذٍ على الإسلام مباحًا، وقد تألف صناديد قريش، وجعل الله للمؤلفة قلوبهم سهمًا في الصدقات، وكذلك فعلت أسماء في أمها؛ لأن الله تعالى قد أمر بصلة الآباء الكفار وبرّهما بقوله:{وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي} [لقمان: 15] إلى قوله: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15] فأمر تعالى بمصاحبة الأبوين المشركين في الدنيا بالمعروف، وبترك طاعتهما في معصية الله.
قال الخطابي: وفيه جواز صلة الرحم الكافرة كالرحم المسلمة، وفيه مستدل لمن رأى وجوب نفقة الأب الكافر والأم الكافرة على الولد المسلم
(1)
.
فائدة: قال الدمياطي ومن خطه نقلت: الذي أرسل إليه عمر الحلة لم يكن أخاه إنما هو أخو أخيه زيد بن الخطاب لأمه أسماء بنت وهب، وهي أيضًا أم عثمان بن حكيم بن أمية، وبنته أم سعيد بن عثمان ولدت سعيد بن المسيب وخولة، ويقال: خويلة بنت حليم أم السائب وعبد الرحمن، ابني عثمان بن مظعون، وأبوها من خلفاء بني أمية.
(1)
"أعلام الحديث" 2/ 1287.
30 - باب لَا يَحِلُّ لأَحَدٍ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ وَصَدَقَتِهِ
2621 -
حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ وَشُعْبَةُ قَالَا: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "العَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالعَائِدِ فِي قَيْئِهِ". [انظر: 2589 - مسلم: 1622 - فتح: 5/ 233]
2622 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ المُبَارَكِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَارِثِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ لَنَا مَثَلُ السَّوْءِ، الَّذِي يَعُودُ فِي هِبَتِهِ كَالكَلْبِ يَرْجِعُ فِي قَيْئِهِ". [انظر: 2589 - مسلم: 1622 - فتح: 5/ 234]
2623 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رضي الله عنه يَقُولُ: حَمَلْتُ عَلَى فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَأَضَاعَهُ الذِي كَانَ عِنْدَهُ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِيَهُ مِنْهُ، وَظَنَنْتُ أَنَّهُ بَائِعُهُ بِرُخْصٍ، فَسَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"لَا تَشْتَرِهِ، وَإِنْ أَعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّ العَائِدَ فِي صَدَقَتِهِ كَالكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ". [انظر: 1490 - مسلم: 1620 - فتح: 5/ 235]
ذكر فيه حديث ابن عباس السالف "العَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالعَائِدِ فِي قَيْئِهِ".
وفي رواية: "لَيسَ لَنَا مَثَلُ السَّوْءِ، الذِي يَعُودُ فِي هِبَتِهِ كَالكَلْبِ يَرْجِعُ فِي قَيْئِهِ".
وحديث عمر في قصة الفرس وفي آخِره قال: "العَائِد فِي صَدَقَتِهِ كَالكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ". وقد سلف في الزكاة
(1)
.
وقد اختلف العلماء في هذا الحديث، فقالت طائفة: ليس لأحد أن يهب هبة ويرجع فيها على ظاهر حديث ابن عباس وعمر.
(1)
برقم (1490) باب: هل يشتري الرجل صدقته.
روي ذلك عن طاوس والحسن
(1)
، وهو قول الشافعي وأحمد وأبي ثور
(2)
.
وفيها قول ثان بأن من وهب لذي رحم فلا رجوع له، ومن وهب لغير ذي رحم فله الرجوع وإن لم يَثب منها خلاف قول عمر. وقال الثوري والكوفيون: يرجع فيما وهبه لذي رحم غير محرم إذا كانت الهبة قائمة لم تستهلك ولم تزد في يديها، أو لم يثب منها، مثل ابن عمه وابن خاله
(3)
وقد أسلفنا ذلك.
وأما إن وهب لذي رحم محرم وقبضها فلا رجوع، وهم: ابنته أو أخوه لأمه أو جده أبو أمه أو خاله أو عمه أو ابن أخيه أو ابن أخته أو بنوهما.
وتفسير الرحم المحرم: هو من لو كان الموهوب له امرأة لم يحل للواهب نكاحها، وحكم الزوجين عندهم حكم ذي الرحم المحرم، ولا رجوع لواحد منهما في هبته
(4)
.
وقال مالك: يجوز الرجوع فيما وهبه للثواب، وسواء وهبه لذي رحم محرم أو غير ذي محرم، ولا يجوز له الرجوع فيما وهبه لله، ولا لصلة الرحم
(5)
.
(1)
عبد الرزاق 9/ 109 (16539).
(2)
انظر: "الحاوي" 7/ 545، "المغني" 8/ 277.
(3)
انظر: "شرح معاني الآثار" 4/ 77، "مختصر اختلاف العلماء" 4/ 152، 153.
(4)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 4/ 152.
(5)
انظر: "شرح ابن بطال" 7/ 139.
واحتج أهل المقالة الأولى بحديث الباب، فالمراد إذن العائد في قيئه الرجل لا الكلب، ولما كان قد جعل الرجوع في الهبة كالرجوع في القيء، وكان رجوع الرجل في قيئه حرام كان كذلك رجوعه في هبته.
حجة الكوفيين قوله: "كالكلب يعود في قيئه" فالراجع إذن في قيئه الكلب، وهو غير متعبد بتحليل ولا تحريم فالمعنى: العائد في هبته كالعائد في قدر كالقدر الذي يعود فيه الكلب ولا يثبت بذلك منع
الواهب من الرجوع في هبته.
فأراد بذلك تنزيه أمته عن أمثال الكلاب؛ لأنه أبطل أن يكون لهم الرجوع في هباتهم، ويصلح الاحتجاج بهذِه الحجة لمالك.
واحتج أهل المقالة الأولى بحديث ابن عباس وابن عمر السالفين، باستثناء الوالد للولد.
قال الطحاوي: ولا دليل لهم فيه على تحريم الرجوع فيها، فقد يكون الشارع وصفه بأنه لا يحل لتغليظه إياه لكراهة أن يكون أحد من أمته له مثل السوء.
وقد قال: "لا تحل الصدقة لذي مرة سوي"
(1)
. وقد أسلفنا ذلك فيما مضى.
وقال الطبري: قوله صلى الله عليه وسلم: "العائد في هبته" معناه الخصوص، وذلك لوأن قائلًا قال: العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه إلا أن يكون
(1)
رواه أبو داود (1634)، والترمذي (652) من حديث عبد الله بن عمرو، ورواه النسائي 5/ 99، وابن ماجه (1839) من حديث أبي هريرة، وانظر كلام الطحاوي في "شرح معاني الآثار" 4/ 79.
والدًا للموهوب له أو يكون وهبه لثواب يلتمسه، فإنه ليس له مثل السوء، لم يكن مختلا في كلامه، ولا مخطئًا في منطقه. قال: ومن (وهب)
(1)
طلب ثواب -إما باشتراط ذلك أو بغير اشتراط- بعد أن يكون الأغلب من أمر الواهب والموهوب له أن مثله يهب لمثله طلب الثواب منه.
وأما الواهب لله تعالى يطلب الأجر كالواهب الغني للفقير المحتاج، أو طلب صلة رحم كالواهب يهب لأحد أبويه أو أخيه أو أخته أو قريب له قريب القرابة يريد بذلك صلة رحمه، فلا رجوع له، فهذا المعنى بالذم لقوله:"كالكلب يعود في قيئه".
وقد أشار المهلب إلى قريب من هذا المعنى، قال: وعلى هذا التأويل لا تعارض؛ فالصدقة في حديث عمر هي الهبة في حديث ابن عباس، فإنها تجري مجرى الصدقة، والصدقة لا يجوز الرجوع فيها، وإنما يرجع فيما خرج من هذا المعنى، وأريد بها الثواب، وقد سلف في كتاب الزكاة اختلاف العلماء في شراء الرجل صدقته في باب هل يشتري الرجل صدقته.
وقال الطحاوي: قد بين ما قلناه ما روي عن عمر، روى ذلك مالك، عن داود بن الحصين، عن أبي غطفان بن طريف، عن مروان بن الحكم أن عمر بن الخطاب قال: من وهب لصلة رحم أو على وجه الصدقة، فإنه لا يرجع فيها، ومن وهب هبةً يرى أنه إنما أراد بها الثواب، فهو على هبته يرجع فيها إن لم يرض منها.
(1)
في الأصل: (بين) وأشار محقق "شرح ابن بطال" 7/ 140 إلى أنها كذا بالأصل، لكنه أثبت (وهب) من نسخة سماها (هـ).
فهذا عمر (فرق بين الهبات والصدقات أنه لا يرجع فيها)
(1)
، وجعل الهبات على ضربين: فضرب منه لصلة الأرحام، فرد ذلك إلى حكم الصدقات لله، ومنع الواهب من الرجوع فيها، وضرب منها جعل فيها الرجوع للواهب ما لم يرض منها
(2)
.
(1)
كذا في الأصل وتمام الكلام في "شرح معاني الآثار" 4/ 81: فهذا عمر قد فرق بين الهبات والصدقات، وجعل الصدقات لا يرجع فيها وجعل الهبات على ضربين ..
(2)
"شرح معاني الآثار" 4/ 81.
31 - باب
2624 -
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ، أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ بَنِى صُهَيْبٍ -مَوْلَى ابْنِ جُدْعَانَ- ادَّعَوْا بَيْتَيْنِ وَحُجْرَةً، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَعْطَى ذَلِكَ صُهَيْبًا، فَقَالَ مَرْوَانُ: مَنْ يَشْهَدُ لَكُمَا عَلَى ذَلِكَ؟ قَالُوا: ابْنُ عُمَرَ. فَدَعَاهُ فَشَهِدَ: لأَعْطَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم صُهَيْبًا بَيْتَيْنِ وَحُجْرَةً. فَقَضَى مَرْوَانُ بِشَهَادَتِهِ لَهُمْ. 3/ 216 [فتح: 5/ 237]
ذكر فيه حديث عَبْدِ اللهِ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ بَنِي صُهَيْبٍ -مَوْلَى ابن جُدْعَانَ- ادَّعَوْا بَيْتَيْنِ وَحُجْرَةً، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَعْطَى ذَلِكَ صُهَيْبًا، فَقَالَ مَرْوَانُ: مَنْ يَشْهَدُ لَكُمَا عَلَى ذَلِكَ؟ قَالُوا: ابن عُمَرَ. فَدَعَاهُ فَشَهِدَ: لأَعْطَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم صُهَيْبًا بَيْتَيْنِ وَحُجْرَةً. فَقَضَى مَرْوَانُ بِشَهَادَتِهِ لَهُمْ.
هذا الحديث من أفراده، ووجه ذكره هنا هبة البيتين والحجرة لصُهيب.
فإن قلتَ: كيف قضى مروان بشهادة ابن عمر وحده؟ قلتُ: إنما حكم مع يمين الطالب على ما صحَّت به السنة من القضاء بشاهد ويمين، ذكره كله ابن بطال
(1)
.
وجُدْعان: بضم الجيم، وقال ابن التين: إنما أتى به؛ لأن العطايا نافذة، وقضاء مروان بشهادة ابن عمر يحتمل وجهين:
أحدهما: أنه يجوز له أن يعطي من مال الله من يستحق العطاء فينفذ ما قيل له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاه، فإن لم يكن كذلك كان قد أمضاه،
(1)
"شرح ابن بطال" 7/ 142.
وإن كان غير ذلك كان هو المعطي عطاءً صحيحًا، وقد يكون هذا خاصًّا في الفيء؛ لأنه عليه السلام أعطى أبا قتادة بدعواه وشهادة من كان السلب عند
(1)
.
والثاني: أنه ربما حكم بشهادة المبرز في العدالة وحده، وقد قال بعض فقهاء الكوفة: حكم شريح بشهادتي وحدي في شيء، قال: وأخطأ شريح. قال
(2)
: والوجه الأول الصحيح.
(1)
سيأتي برقم (3142) كتاب: فرض الخمس، باب: من لم يخمس الأسلاب، ورواه مسلم (1751) كتاب: الجهاد والسير، باب: استحقاق القاتل سلب القتيل.
(2)
أي: ابن التين كما في "عمدة القاري" 11/ 84 حيث عزا العيني الوجهين له.
بسم الله الرحمن الرحيم
32 - باب مَا قِيلَ فِي العُمْرَى وَالرُّقْبَى
أَعْمَرْتُهُ الدَّارَ فَهْيَ عُمْرَى جَعَلْتُهَا لَهُ {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61]: جَعَلَكُمْ عُمَّارًا.
2625 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَضَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالعُمْرَى أَنَّهَا لِمَنْ وُهِبَتْ لَهُ. [2626 - مسلم: 1625 - فتح: 5/ 238]
2626 -
حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ قَالَ: حَدَّثَنِي النَّضْرُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ نَهِيكٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"العُمْرَى جَائِزَةٌ". [مسلم: 1626]
وَقَالَ عَطَاءٌ: حَدَّثَنِي جَابِرٌ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. نَحْوَهُ. [انظر: 1625 - مسلم: 1625 - فتح: 5/ 238]
ثم ذكر فيه حديث جابر قال: قَضَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالعُمْرى أَنَّهَا لِمَنْ وُهِبَتْ لَهُ.
وحديث أبي هريرة مرفوعًا: "العُمْرى جَائِزَة". وَقَالَ عَطَاءٌ: حَدَّثَنِي جَابِرٌ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. نَحْوَهُ.
الشرح:
قال الأزهري في "تهذيبه": {وَاسْتَعْمَرَكُمْ} . أي: أذن لكم في عمارتها واستخراج قوتكم منها، وفي الحديث "لا تعمروا ولا ترقبوا، فمن أعْمَرَ دارًا فهي له ولورثته من بعده"
(1)
.
(1)
رواه أبو داود (3556)، النسائي 6/ 273، وانظر:"تهذيب اللغة" 3/ 2565 مادة: (عمر).
قال أبو عبيد: والعُمرى أن يقول الرجل للرجل: داري لك عمرك.
أو يقول: داري هذِه لك عمرى. فإذا قال ذلك وسلمها إليه كانت للعمر ولم ترجع إليه إن مات.
والرقبى: أن يقول للذي أرقبها: إن مت قبلي رجعت إليَّ، وإن مت قبلك فهي لك.
وأصل العُمرى: مأخوذة من العمر، والرقبى: من المراقبة، فأبطل الشارع هذِه الشروط وأمضى الهبة.
وهذا الحديث أصل لكل من وهب هبة وشرط فيها شرطًا بعدما قبضها الموهوب له، أن الهبة جائزة، والشرط باطل
(1)
، وقال ابن عرفة:{وَاسْتَعْمَرَكُمْ} أطال أعماركم.
قال ابن سيده: والعمرى: المصدر كالرجُعْى
(2)
.
قلت: وهي بضم العين وسكون الميم وبضمهما وبفتح العين وسكون الميم، كما نبه عليه القاضي عياض وغيره، وهما من هبات الجاهلية
(3)
.
وعبارة أبي عبيد: تأويل العمرى: هذِه الدار لك عمرك أو عمري. وأصله من العمر
(4)
.
فإن قلت: البخاري ترجم على العمرى والرقبى ولم يذكر الرقبى.
قلت: كأنه يرى أنهما واحد.
(1)
"غريب الحديث" 1/ 249، 250.
(2)
"المحكم" 2/ 106.
(3)
"إكمال المعلم" 5/ 355، 356.
(4)
"غريب الحديث" 1/ 249.
كذا أجاب به الداودي فيما نقله ابن التين: وممن سوى بينهما عليٌّ وابن عباس ومجاهد ووكيع، وأجود منه أن البخاري أحال على بقية الحديث، فإن الترمذي أخرجه بإسناد صحيح عن جابر مرفوعًا:"العمرى جائزة لأهلها، والرقبى جائزة لأهلها".
قال الترمذي: هذا حديث حسن، وقد رواه بعضهم عن أبي الزبير عن جابر موقوفًا
(1)
، وأخرجه النسائي من حديث عبد الكريم، عن عطاء، عنه مرفوعًا: نهى عن العمرى والرقبى
(2)
.
وفي حديث عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء: "لا تعمروا ولا ترقبوا"
(3)
.
وفي حديث أبي الزبير عن جابر: والرقبى لمن أرقبها
(4)
.
وحديث جابر أخرجه مسلم والأربعة
(5)
، ولمسلم:"أيما رجل أُعمر عمرى له ولعقبه، فإنها لمن أُعطيها لا ترجع إلى الذي أعطاها؛ لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث".
وفي لفظ: "من أعمر رجلًا عمرى له ولعقبه، فقد قطع قوله حقه فيها، وهي لمن أُعمر ولعقبه".
(1)
الترمذي (1351).
(2)
"المجتبى" 6/ 272.
(3)
رواه النسائي في "المجتبى" 6/ 273، وفي "الكبرى" 4/ 130 (6562) من هذا الطريق مرسلًا لكن بلفظ:"من أعطى شيئًا فهو له في حياته وموته" وبهذا اللفظ رواه النسائي أيضًا 6/ 273 من طريق ابن جرير، عن عطاء، عن جابر؛ مرفوعًا، والله أعلم.
(4)
"المجتبى" 6/ 274 مرفوعًا.
(5)
مسلم (1625) كتاب: الهبات، باب: العمرى. وأبو داود (3558)، والترمذي (1351)، والنسائي 6/ 272 - 273، وابن ماجه (2383).
وفي لفظ له: "أيما رجل أعمر رجلًا عمرى له ولعقبه فقال: قد أعطيتكها وعقبك ما بقي منكم أحد، فإنها لمن أعطيها وعقبه وإنها لا ترجع إلى صاحبها؛ من أجل أنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث".
وفي لفظ عن جابر: إنما العمرى التي أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: هي لك ولعقبك، فأما إذا قال: هي لك ما عشت. فإنها ترجع إلى صاحبها، قال معمر: وكان الزهري يفتي به. ويحكى عنه أنه عليه السلام قضى فيمن أعمر عمرى له ولعقبه، فهي له بتلة لا يجوز للمعطي فيها شرط ولا ثنيا.
قال أبو سلمة: لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث فقطعت المواريث شرطه.
وعنه أيضًا مرفوعًا: "العمرى لمن وهبت له".
وعنه أيضًا مرفوعًا: "أمسكوا عليكم أموالكم ولا تفسدوها، فإنه من أعمر عمرى فإنها للذي أعمرها حيًّا وميتًا ولعقبه".
وعنه أيضًا مرفوعًا: "أمسكوا عليكم أموالكم".
وعن أبي الزبير، عن جابر مرفوعًا:"العمرى لصاحبها".
هذِه الطرق كلها في مسلم
(1)
، ولم يخرج البخاري عن جابر في العمرى غير ما ساقه أولًا، وللنسائي:"فقد قطع قوله حقه"
(2)
.
وفي لفظ: "قد بتها من صاحبها الذي أعطاها"
(3)
.
(1)
مسلم (1625) كتاب الهبات.
(2)
"المجتبى" 6/ 275.
(3)
"السنن الكبرى" للنسائي 4/ 133 (6578).
وفي آخر: "أن يهب الرجل للرجل ولعقبه الهبة، ويستثني إن حدث بك حدث وبعقبك فهي إليَّ وإلى عقبي، فإنها لمن أعطيها ولعقبه"
(1)
.
ولأبي داود بإسناد جيد: وقضى النبي صلى الله عليه وسلم في امرأة أعطاها ابنها حديقة فماتت، فقال ابنها: إنما أعطيتها حياتها. وله إخوة، فقال عليه السلام:"هي لها حياتها وموتها" قال: كنت تصدقت بها عليها قال: "ذلك أبعد لك"
(2)
.
وحديث أبي هريرة، أخرجه مسلم بلفظين:"العمرى جائزة"
(3)
"ميراث لأهلها"، (أو)
(4)
قال: "جائزة"
(5)
.
والبخاري رواه عن حفص بن عمر: ثنا همام، ثنا قتادة، حدثني النضر بن أنس، عن بشير بن نهيك، عن أبي هريرة. ثم قال: وقال
(1)
"المجتبى" 6/ 276.
(2)
أبو داود (3557)، وأحمد 3/ 299 بنحوه. قال البيهقي 6/ 174: ليس بالقوي. اهـ وقال الزيلعي في "نصب الراية" 4/ 128: قال ابن القطان: إسناده كلهم ثقات، وطارق المكي هو قاضي مكة مولى عثمان بن عفان، وهو ثقة، قاله أبو زرعة. اهـ وقال ابن حجر في "الدارية" 2/ 185: صححه ابن القطان، وأخرجه أحمد من طريق محمد بن إبراهيم، عن جابر .. ثم قال: رجاله ثقات. اهـ. وقال الألباني في "الإرواء" 6/ 51: وإنما ضعفه البيهقي إما لعنعنة حبيب، فقد كان مدلسًا، وإما لأن حميد بن قيس الأعرج فيه كلام يسير، فإنه مع توثيق الجماعة له ومنهم أحمد بن حنبل، ومع ذلك فقد قال فيه مرة: ليس هو بالقوي في إسناده، قلت: وهذا هو الأقرب في سبب التضعيف فقد اختلف عليه في إسناده، فسفيان قال عنه عن محمد بن إبراهيم، عن جابر، وحبيب قال عنه عن طارق، عن جابر اهـ. والحديث صححه الألباني في "الصحيحة" 5/ 533.
(3)
مسلم (1626)(32).
(4)
في الأصل (و)، والمثبت من "صحيح مسلم".
(5)
مسلم (1629)(32).
عطاء: حدثني جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.
وهذا التعليق ذكر صاحب "الأطراف" أن البخاري رواه هنا، عن حفص، عن همام، عن قتادة، عن عطاء
(1)
.
ورواه أبو نعيم، عن أبي إسحاق بن حمزة: ثنا أبو خليفة، ثنا أبو الوليد، ثنا همام به مثله، لا نحوه ولفظة "العمرى جائزة".
ورواه مسلم عن خالد بن الحارث، عن (شعبة)
(2)
، عن قتادة، عن عطاء بلفظ:"العمرى ميراث لأهلها"
(3)
.
وكأنه الذي أراد البخاري بقوله: نحوه.
وفي الباب عن عدة من الصحابة:
أحدها: زيد بن ثابت؛ أخرجه ابن حبان في "صحيحه" مَرفوعًا: "العمرى سبيلها سبيل الميراث"
(4)
.
وللنسائي: "لا تحل الرقبى فمن أرقب رقبى فهي سبيل الميراث"
(5)
.
وفي لفظ: "العمرى ميراث"
(6)
.
وفي لفظ: "العمرى للوارث"
(7)
.
وفي آخر: "جائزة"
(8)
.
(1)
"تحفة الأشراف" 9/ 305.
(2)
كذا الأصل، وفي مسلم (1626)(31) سعيد بدلا من شعبة.
(3)
مسلم (1626)(31).
(4)
ابن حبان 11/ 543 (5132).
(5)
"المجتبى" 6/ 270 (3714) عن طاوس.
(6)
"المجتبى" 6/ 270 (3715) عن زيد بن ثابت.
(7)
"المجتبى" 6/ 270 (3716، 3718).
(8)
"المجتبى" 6/ 271 (3717) عن زيد، 6/ 272 (3724) عن ابن عباس.
وآخر: "من أعمر شيئًا فهي لمعمره محياه ومماته، لا ترقبوا، مَن أرقب شيئًا فهو سبيله"
(1)
.
ثانيها: ابن عباس، أخرجه أيضًا بلفظ:"لا ترقبوا أموالكم فمن أرقب شيئًا فهو لمن أرقبه"
(2)
.
والرقبى أن يقول الرجل: هذا لفلان ما عاش، فإن مات فلان فهو لفلان.
وحديث طاوس عنه مرفوعًا: "العمرى جائزة" قضى بها في هذيل.
وعن طاوس: "بتل رسول الله صلى الله عليه وسلم العمرى والرقبى"
(3)
.
وفي "المصنف" عن طاوس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحل الرقبى، فمن أرقب رقبى فهي في سبيل الميراث"
(4)
وفي لفظ: "فهي لورثة المرقب"
(5)
.
ثالثها: ابن عمر، روى عطاء، عن حبيب بن أبي ثابت، عن ابن عمر ولم يسمعه منه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا عمرى ولا رقبى، فمن أعمر شيئًا أو أرقبه فهو له حياته ومماته" قال عطاء: هو للآخر
(6)
.
قال أحمد فيما حكاه المروزي: قال ابن جريج: إن عطاء أخبرنا عنك في الرقبى.
قال حبيب: لم أسمع من ابن عمر في الرقبى شيئًا.
(1)
"المجتبى" 6/ 272 (3723) عن زيد بن ثابت.
(2)
"المجتبى" 6/ 269.
(3)
"المجتبى" 6/ 272 (3726).
(4)
ابن أبي شيبة 4/ 513 (22628).
(5)
لم أقف عليه بهذا اللفظ إلا في "المدونة" 4/ 363.
(6)
"المجتبى" 6/ 273 - 274 (3733).
رابعها: من حديث معاوية، أخرجه أحمد من حديث ابن عقيل، عن ابن الحنفية، عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "العمرى جائزة لأهلها"
(1)
.
خامسها: حديث الحسن عن سمرة أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "العمرى جائزة لأهلها -أو- مير اث لأهلها" أخرجه الترمذي
(2)
.
سادسها: عبد الله بن الزبير: أخرجه الترمذي في "علله الكبير" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العمرى لمن أعمرها" يريد من يرثه، ثم قال: سألت محمدًا عن هذا الحديث فقال: هو عندي حديث معلول، ولم يذكر علته، ولم يعرفه حسنًا في العمرى
(3)
.
إذا تقرر ذلك؛ فقد قال الترمذي: العمل على هذا عند بعض أهل العلم إذا قال في العمرى: هي لك حياتك ولعقبك، فإنها لمن أعمرها لا ترجع إلى الأول، فإذا لم يقل: لعقبك.
فهي راجعة إلى الأول إذا مات المعمر.
وهو قول الشافعي ومالك
(4)
.
وروي من غير وجه مرفوعًا: "العمرى جائزة لأهلها"
(5)
. والعمل على هذا عند بعض أهل العلم قالوا: إذا مات المعمر فهي لورثته، وإن لم يجعل لعقبه، وهو قول سفيان بن سعيد، وأحمد، وإسحاق
(6)
.
(1)
أحمد 4/ 97.
(2)
الترمذي (1349).
(3)
"علل الترمذي" 1/ 550 - 551.
(4)
انظر: "المدونة" 40/ 325، "الحاوي" 7/ 540 - 541.
(5)
أبو داود (3558)، والترمذي (1349)، والنسائي 6/ 274، وأحمد 2/ 429، وأصله في مسلم (1626) كتاب: الهبات، باب: العمرى.
(6)
"سنن الترمذي" عقب حديث (1350)، وانظر:"رءوس المسائل" 2/ 662.
وقال: والعمل على هذا عند بعض أهل العلم من الصحابة وغيرهم أن الرقبى جائزة مثل العمرى، وهو قول أحمد وإسحاق، وفرق بعض أهل العلم من أهل الكوفة وغيرهم بينهما، فأجازوا العمرى ولم يجيزوا الرقبى، قال: وتفسير الرقبى. أن تقول: هذا الشيء لك ما عشت، فإذا من قبلي فهي راجعة إليَّ.
وقال أحمد وإسحاق: الرقبى مثل العمرى، وهي لمن أعطيها ولا ترجع إلى الأول
(1)
.
قلت: ونقل ابن بطال، عن الكوفيين والشافعي في أحد قوليه وأحمد: العمرى تصير ملكًا للمُعْمر ولورثته ولا تعود ملكًا إلى المعطي أبدًا
(2)
.
وفصَّل أصحابنا العمرى فقالوا: إنها ثلاث صور
(3)
:
الأولى أن يقول: أعمرتك هذِه الدار، فإذا من فهي لورثتك ولعقبك، فتصح قَطْعًا ويملك بهذا اللفظ رقبة الدار، وهي هبة، لكنه طول العبارة.
وقوله: فهي لورثتك باليد لملكه، ولا ينبغي أن يحمل على الباقين والشرط، فإذا مات فالدار لورثته، فإن لم يكونوا فلبيت المال ولا تعود إلى الواهب بحال؛ لرواية مسلم السالفة:"أيما رجل أعمر عمرى .. "
(4)
إلى آخره. ولا فرق في العمرى بين العقار وغيره، وإن كان كثير من أصحابنا إنما فرضوها في العقار، وجماعة منهم صرحوا بها في كل
(1)
"سنن الترمذي" عقب حديث (1351).
(2)
"شرح ابن بطال" 7/ 143.
(3)
انظر: هذِه الصورة في "الحاوي" 7/ 540 - 541، و"روضة الطالبين" 5/ 370.
(4)
سبق تخريجها.
شيء، ولا خلاف في ذلك.
وذكر الرافعي العبدَ
(1)
، وعن أحمد في الجارية يعمرها: لا أرى له وطأها، أيْ: تورعًا
(2)
.
الثانية: أن يقتصر على: أعمرتك. فالجديد: الصحة وله حكم الهبة؛ لحديث أبي هريرة في الباب.
وفي القديم ثلاثة أقوال: أشهرها بطلانها؛ لقول جابر السالف عند مسلم
(3)
؛ ولأنه تمليك مؤقت فبطل كالبيع وكما لو أقتها سنة.
والثاني: أنها تكون للمعمر في حال حياته، فإذا مات رجعت إلى المعمر؛ لحديث جابر السالف، وهو غريب.
والثالث: أنها عارية، يستردها المعمِر متى شاء، فإذا مات المعمَر عادت إلى صاحبها وهو الواهب.
الثالثة: أن يقول جعلتها لك عمرك، فإذا متَّ عادت إليَّ أو إلى ورثتي إن كنت متُّ.
فالأصح عندنا الصحة وإلغاء الشرط؛ لإطلاق الأحاديث الصحيحة
(4)
؛ وأغرب بعض أصحابنا فقال: يصح ولا يُلغى الشرط.
حكاه صاحب "النبيه مختصر التنبيه"
(5)
وهو ابن يونس، وكأنهم عدلوا به عن سائر الشروط الفاسدة، والقياس البطلان.
(1)
"العزيز" 6/ 315.
(2)
انظر: "المغني" 8/ 287.
(3)
مسلم (1625).
(4)
انظر: "روضة الطالبين" 5/ 370، 371.
(5)
كذا في الأصل، ولعله يقصد كتاب:"النبيه في اختصار التنبيه" لتاج الدين عبد الرحيم بن محمد الموصلي، والله أعلم.
وحاصل المذهب الصحة في الثلاث وأن الموهوب له يملكها ملكًا تامًّا، يتصرف فيها بالبيع وغيره من التصرف، وقال أبو حنيفة بالصحة كمذهبنا، وبه قال الثوري والحسن بن صالح وأبو عبيد
(1)
.
وقال ابن بطال: اختلف العلماء في العمرى، فقال مالك: إذا قال: أعمرتك داري أو ضيعتي، فإنه قد وهب له الانتفاع بذلك مدة حياته، فإذا مات رجعت الرقبة إلى المالك وهو المعمر، وإذا قال: قد أعمرتك وعقبك فإنه قد وهب له ولعقبه الانتفاع ما بقي منه إنسان، فإذا انقرضوا رجعت الرقبة إلى المالك المعمر؛ لأنه وهب له المنفعة ولم يهب الرقبة.
وروي مثله عن القاسم بن محمد ويزيد بن قسيط
(2)
.
وهو أحد قولي الشافعي
(3)
، وقال الكوفيون والشافعي في الآخر وأحمد: تفسير ملكًا للمعمر ولورثته ولا تعود إلى المعطي أبدًا
(4)
.
واحتجوا بما رواه مالك، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة، عن جابر أنه عليه السلام قال:"أيما رجل أُعمر عمرى له ولعقبه، فإنها للذي يعطاها، لا ترجع للذي أعطاها؛ لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث"
(5)
وقالوا: إن مالكًا روي هذا الحديث وخالفه وقال: ليس عليه العمل.
واحتج أصحابه بأن الإعمار عند العرب، والإفقار، والإسكان، والمنحة، والعارية، والإعراء: إنما هو تمليك المنافع لا الرقاب.
(1)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 4/ 146، "غريب الحديث" 1/ 250.
(2)
انظر: "الإشراف" 2/ 230.
(3)
انظر: "البيان" 8/ 139.
(4)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 4/ 146، "غريب الحديث" 1/ 250.
(5)
"الموطأ" برواية يحيى 471.
وللإنسان أن ينقل منفعة الشيء الذي يملك إلى غيره مدة معلومة ومجهولة، إذا كان ذلك على غير العوض؛ لأن ذلك فعل خير ومعروف، ولا يجوز أن يخرج شيء من ملك مالكه إلا بيقين ودليل على صحة.
وقد قال القاسم بن محمد: ما أدركت الناس إلا على شروطهم فيما أعطوا
(1)
.
والدليل على أن العمري لا تقتضي نقل الملك عن الرقبة أنه لو قال: بعتك شهرًا أو تصدقت به عليك شهرًا، وأراد نقل ملك الرقبة لم يصح، وكذلك إذا قال: أعمرتك؛ لأنه علقه بوقت مقيد، وهو عمره.
وأما حديث جابر الذي احتجوا به فهو حجة عليهم، وذلك أن المعمر إذا أعمر زيدًا وعقبه، فليس له أن يرجع فيما أعطى زيدًا، فكذلك فيما أعطى عقبه، والكوفي خالف هذا الحديث ولم يقل بظاهره كما زعم؛ لأنه يقول: إن للمعمر بيع الشيء الذي أعمره ومنع ورثته منه، وهذا خلاف شرط المعمر؛ لأنه أعطى عقبه كما أعطاه.
وليس هو بأولى بالعطية من عقبه، وهو معنى قوله عليه السلام:"لأنه أعطى عطاءً وقعت فيه المواريث" يعني: التداول للمنفعة لا ميراث الرقبة، وقد قال تعالى:{وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [الأحزاب: 27]، فلم يملكوها بالمواريث التي فرض الله تعالى، وإنما أخذوا منهم ما كان في أيديهم، فكذلك العقب في العمرى يأخذ ما كان لأبيه بعطية المالك.
(1)
"الموطأ" برواية يحيى 471.
قال
(1)
: واختلفوا في الرقبى: فأجازها أبو يوسف والشافعي
(2)
كأنها وصية عندهم، وقال مالك والكوفيون ومحمد: لا يجوز
(3)
.
واحتجوا بحديث ابن عمر السالف، ولفظه: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرقبى، وقال:"من أرقب رقبى فهي له"
(4)
.
والرقبى عند مالك أن يقول: إن متُّ قبلك فداري لك وإن متَّ قبلي فدارك لي، فكأن كل واحد منهما يقصد إلى عوض لا يدري هل يحصل له، ويتمنى كل واحد منهما موت صاحبه.
وليس كذلك العمرى؛ لأن المعمر لا يقصد عوضًا عن الذي أخرج عن يده
(5)
.
فرع:
لو قال: جعلتها لك عمرى أو عمر زيد.
فقيل: هو كما لو قال: جعلتها لك عمرك أو حياتك. لشمول اسم العمرى، فالأصح عندنا البطلان لخروجه عن اللفظ المعتاد، ولما فيه من تأقيت الملك
(6)
.
فرع:
قال: داري لك عمرك، فإذا متَّ فهي لزيد، أو عبدي لك عمرك فإذا
(1)
أي: ابن بطال.
(2)
انظر: "مختصر الطحاوي" ص 139، "البيان" 8/ 141.
(3)
انظر: "مختصر الطحاوي" ص 139، "الكافي" لابن عبد البر ص 542.
(4)
النسائي 6/ 274، وأحمد 2/ 26، "البيهقي" 4/ 131.
(5)
"شرح ابن بطال" 7/ 142 - 144.
(6)
انظر: "روضة الطالبين" 5/ 371.
متَّ فهو حر. صحت عندنا على الجديد، ولغي المذكور بعدها
(1)
.
وقد أوضحت فروع العمرى وتفاصيل الرقبى في كتب الفروع فهو أليق به منها.
لو باع على صورة العمرى فقال: ملكتها بعشرة عمرك.
(فيه)
(2)
وجهان؛ لأنه تطرق الجهالة إلى الثمن
(3)
.
خاتمة:
قال ابن التين: تفسير العمرى أن يقول الرجل للآخر: أعمرتك عمر العطاء.
وقال بعض أهل اللغة: عمر المعطى، وقيل: يصح فيهما فهي عند مالك هبة الدار حياة المعطى
(4)
، وعند الشافعي يملكها المعطي
(5)
.
(1)
انظر: "روضة الطالبين" 5/ 373.
(2)
في الأصل: وفيه، وما أثبتناه هو الأليق بالسياق.
(3)
انظر: "العزيز" 6/ 314 - 315.
(4)
انظر: "الكافي" لابن عبد البر ص 542.
(5)
انظر: "الأم" 3/ 285.
وورد بهامش الأصل: ثم بلغ في الثامن بعد السبعين كتبه مؤلفه.
كتاب العارية
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب العارية
هي بتشديد الياء وتخفيفها، وجمعها عواري كذلك، وفيها لغة ثالثة: عارة، حكاها الجوهري وابن سيده
(1)
وحكاها المنذري فقال: عاراه بالألف وهي مشتقة، كما قال الأزهري: من عار الرجل إذا ذهب وجاء
(2)
، ومنه قيل للغلام الخفيف: عيار؛ لكثرة ذهابه ومجيئه. وقال البطليوسي: هي مشتقة من التعاور وهو التناوب.
وقال الجوهري: كأنها منسوبة إلى العار؛ لأن طلبها عار وعيب
(3)
.
وهذا خطأ؛ لأنه عليه السلام استعار.
وهي في الشرع: إباحة الانتفاع بما يحل الانتفاع به مع بقاء عينه؛ ليردها عليه، وقيل: هي هبة المنافع بعد بقاء ملكها الرقبة.
(1)
"المخصص" 3/ 234.
(2)
"تهذيب اللغة" 3/ 2273 مادة: (عار).
(3)
"الصحاح" 2/ 764.
33 - باب مَنِ اسْتَعَارَ مِنَ النَّاسِ الفَرَسَ
2627 -
حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا يَقُولُ كَانَ فَزَعٌ بِالمَدِينَةِ فَاسْتَعَارَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَرَسًا مِنْ أَبِي طَلْحَةَ يُقَالُ لَهُ المَنْدُوبُ، فَرَكِبَ فَلَمَّا رَجَعَ قَالَ:"مَا رَأَيْنَا مِنْ شَيْءٍ، وَإِنْ وَجَدْنَاهُ لَبَحْرًا". [2820، 2857، 2862، 2866، 2867، 2908،2968، 2969، 3040، 6033، 6212 - مسلم: 2307 - فتح: 5/ 240]
ذكر فيه حديث أنس: كَانَ فَزَعٌ بِالمَدِينَةِ فَاسْتَعَارَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فرَسًا مِنْ أَبِي طَلْحَةَ يُقَالُ لَهُ المَنْدُوبُ، فَرَكِبَ، فَلَمَّا رَجَعَ قَالَ:"مَا رَأَيْنَا مِنْ شَيْءٍ، وَإِنْ وَجَدْنَاهُ لَبَحْرًا".
الشرح: قال الخطابي: (إنْ) هنا بمعنى النفي، واللام بمعنى (إلا)، كأنه قال: ما وجدناه إلا بحرًا، تقول: إن زيدًا لعاقل. تريد: ما زيد إلا عاقل، وعلى هذا قراءة من قرأ:{إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} [طه: 63] بتخفيف (إن) المعنى: ما هذان إلا ساحران وقد قرأه حفص عن عاصم
(1)
.
قلت: هذا هو مذهب الكوفيين، ومذهب البصريين أنَّ (إنْ) مخففة من الثقيلة واللام زائدة، وقد نبه على ذلك ابن التين.
وقوله: ("ما رأينا من شيء") أي: عدوًا والمندوب علم على فرس وأفراسه صلى الله عليه وسلم جمعها بعضهم
(2)
في بيت:
والخَيْلُ سَكْبٌ لُحَيْف سَبْحَةٌ ظَرِبٌ
…
لِزَازُ مُرْتَجَزٌ وَرْدٌ لَها أسْرَارُ
(3)
(1)
"أعلام الحديث" 2/ 1288.
(2)
بهامش الأصل: عزا هذا البيت ابن القيم في "هديه"[1/ 133]، لأبي عبد الله محمد بن أبي إسحاق بن جماعة. يعني به القاضي بدر الدين.
(3)
ورد بهامش الأصل: المرتجز هو الذي شهد فيه خزيمة بن ثابت الأنصاري، وقيل: بل هو الظرب، بكسر الظاء، وكان المرتجز أبيض، وأما اللحيف: فأهداه =
كما جمعت أسيافه في بيت:
إن شئت أسماء أسياف النبي فقد
…
جاءت بأسمائهن السبع أخبار
قل: مخدم ثم حتف ذو الفقار
…
وقيل عضب رسوب وقلعي وبتار
(1)
وذكر القاضي عياض أن في خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم فرس يقال له: البحر، اشتراه من تجر، قدموا به من اليمن سبق عليه مرات، ثم قال بعد: فيحتمل أنه يصير إليه بعد أبي طلحة.
وهذا نقض للأول، لكن لو قال: يحتمل أنهما فرسان اتفقا في الاسم لكان أقرب.
وزعم نفطويه: أن البحر من أسماء الخيل، وهو الكثير الجري الذي لا يفنى جريه كما لا يفنى ماء البحر مجازًا. ونبه ابن بطال على أنه صلى الله عليه وسلم أول من تكلم بهذا
(2)
.
وعن القزاز: هو الواسع الجري، ومنه سمي البحر بحرًا لسعته،
= له ربيعة بن أبي البراء، ولزاز: أهداه له المقوقس، والظرب: أهداه له فروة بن عمرو الجذامي، وأما الورد: فأهداه له تميم الداري، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم عمر فحمل عليه في سبيل الله قاضيًا عنه الدين عنده، ووجده يباع برخص. وهذِه السبعة متفق عليها، وبقي خمسة عشر مختلف فيها أشار إليها الدمياطي وعددها ابن سيد الناس في "سيرته".
(1)
ورد بهامش الأصل: القلعي بفتح اللام منسوب إلى مرج قلعة بالبادية، وسكن لامه للشعر، وبقى من أسيافه مما لم يذكره، مأثور ورثه من أبيه وقدم به المدينة، والصمصامة سيف عمرو بن معدى كرب، والقضيب.
فأما العضب فأرسل به سعد بن عبادة عند توليه إلى بدر، وذو الفقار كان للعاصي بن منبه السهمي، والقلعي والبتار والحتف من بني قينقاع، وأما الرسوب والمخدم أصابهما مما كان على الفلس صنم طيء، وهو بضم اللام وسكون.
(2)
"شرح ابن بطال" 5/ 34.
ومنه فلان متبحر في العلم؛ إذا اتسع فيه.
وقال الأصمعي: فرس بحر إذا كان واسع الجري.
قال الداودي: هو على اتساع اللغة والاستكثار مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "أما أبو جهم فلا يضع العصا عن عاتقه".
إذا تقرر ذلك؛ فاختلف العلماء في عارية الحيوان والعقار وما لا يعاب عليه.
فروى ابن القاسم عن مالك: أن من استعار حيوانًا أو غيره مما لا يعاب عليه فتلف عنده، فهو مصدق في تلفه ولا يضمنه إلا بالتعدي
(1)
، وهو قول الكوفيين
(2)
، فإن كان مما يعاب عليه من ثوب أو غيره فهو ضامن ولا يقبل قوله في هلاكه إلا أن يكون ظاهرًا معروفًا تقوم له بينة من غير تفريط، ولا يضمن
(3)
. وقال عطاء
(4)
: العارية مضمونة على كل حال كانت مما لا يعاب عليه أم لا، وسواء تعدى فيها أو لم يتعد، وبه قال الشافعي وأحمد
(5)
.
قلت: إلا إذا بلغت من الوجه المأذون فيه فلا ضمان عندنا، واحتجوا بأحاديث خارج الصحيح صحيحة:
أحدها: حديث إسماعيل بن عياش عن شرحبيل بن مسلم الخولاني قال: سمعت أبا أمامة الباهلي يقول: إنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع يقول: "العارية مؤداة والزعيم غارم" أخرجه أبو داود وحسنه الترمذي،
(1)
انظر: "المدونة" 4/ 361.
(2)
انظر: "مختصر الطحاوي" ص 116، "مختصر اختلاف العلماء" 4/ 185.
(3)
انظر: "المدونة" 4/ 361.
(4)
رواه ابن أبي شيبة 4/ 321 (20544) بلفظ: "العارية مضمونة".
(5)
انظر: "مختصر المزني" 3/ 32، "المغني" 7/ 241.
وصححه ابن حبان
(1)
.
ثانيها: حديث أمية بن صفوان بن أمية، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعار منه أدرعا يوم حنين فقال: أغصب يا محمد؟ قال: "لا، بل عارية مضمونة" رواه أبو داود والنسائي والحاكم قال: وله شاهد صحيح على شرط مسلم، عن ابن عباس فذكره
(2)
.
وأما ابن حزم فأعله بشريك كعادته
(3)
، وتبعه ابن القطان قال: وأمية أخرج له مسلم
(4)
.
قلت: لا، بل البخاري في "الأدب"، وأما صاحب "الإلمام" فقال بعد أن عزاه إلى "المستدرك": لعله علم حال أمية.
قلت: قد ذكره ابن حبان في "ثقاته"
(5)
.
وعن جابر مرفوعًا مثله، رواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد
(6)
.
ثالثها: حديث يعلى بن أمية قال: قال لي رسول الله ": "إذا أتتك رسلي فادفع إليهم ثلاثين درعًا" فقلت: يا رسول الله، أعارية مضمونة أم عارية مؤداة؟ فقال: "بل عارية مؤداة" رواه أبو داود والنسائي، وصححه
(1)
أبو داود (3565)، الترمذي (1265) وقال: حديث أبي أمامة حديث حسن غريب، وابن حبان 11/ 491 (5094) بلفظ:"العارية مؤداة والمنحة مردودة، ومن وجد لقحة مصراة فلا يحل له صرارها حتى يريها"، صححه الألباني في "الصحيحة"(610).
(2)
أبو داود (3562)، والنسائي في "الكبرى"(5779)، الحاكم 2/ 47، وصححه الألباني في "الصحيحة"(631).
(3)
"المحلى" 9/ 171.
(4)
"بيان الوهم والإيهام" 3/ 534 (1313).
(5)
"الثقات" 4/ 41.
(6)
"المستدرك" 3/ 49.
ابن حبان
(1)
وقال ابن حزم: حديث حسن. ليس في شيء مما روي في العارية خبر يصح غيره، وأما ما سواه فليس يساوي الاشتغال به
(2)
.
رابعها: حديث الحسن عن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "على اليد ما أخذت حتى تؤديه" رواه أصحاب السنن الأربعة، وحسنه الترمذي والحاكم وقال: صحيح على شرط البخاري
(3)
.
ونازعه صاحب "الإلمام"، وذكره ابن حزم بأن قال: الحسن لم يسمع من سمرة
(4)
.
وهو أحد مذاهب ثلاثة فيه ورأى البخاري وجماعة أنه سمع منه مطلقًا، وروي أن ابن عباس وأبا هريرة ضمنا العارية، واحتج الأول بأن معنى أدائها هو بمعنى قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58]، فإذا بلغت الأمانة لم يلزم المؤتمن غرمها، فكذلك العارية إذا علم أنها قد تلفت؛ لأنه لم يأخذها على الضمان ولا هو متعد بالأخذ فهي أمانة على المستعير، فإذا تلفت بتعديه عليها لزمه قيمتها بجنايته عليها بمنزلة ما لو تعدى عليها، وهي في يد ربِّها فعليه قيمتها، روي عن علي وابن مسعود أنه ليس على مؤتمن ضمان
(5)
.
(1)
أبو داود (3566)، والنسائي في "الكبرى"(5776)، وابن حبان (4720).
(2)
"المحلى" 9/ 173.
(3)
الترمذي (1266)، والنسائي في "الكبرى" 3/ 411 (5783)، وابن ماجه (2400)، والحاكم 2/ 47، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد على شرط البخاري ولم يخرجاه.
(4)
"المحلى" 9/ 172.
(5)
البيهقي 6/ 289 (12699).
وممن كان لا يضمِّنُ المستعير الحسن والنخعي
(1)
. وقال شريح: ليس على المستعير غير المغل ضمان، ولا على المستودع غير المغل ضمان
(2)
. وكتب عمر بن عبد العزيز في العارية: لا يضمن صاحبها إلا أن يُطلع منه على خيانة
(3)
.
(1)
ابن أبي شيبة 4/ 320 - 321 (20541، 20543).
(2)
"سنن الدارقطني" 3/ 40 - 41 (2928).
(3)
ابن أبي شيبة 4/ 320 (20538).
34 - باب الاِسْتِعَارَةِ لِلْعَرُوسِ عِنْدَ البِنَاءِ
2628 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَاحِدِ بْنُ أَيْمَنَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: دَخَلْتُ على عَائِشَةَ رضي الله عنها وَعَلَيْهَا دِرْعُ قِطْرٍ ثَمَنُ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ، فَقَالَتِ: ارْفَعْ بَصَرَكَ إِلَى جَارِيَتِي، انْظُرْ إِلَيْهَا فَإِنَّهَا تُزْهَى أَنْ تَلْبَسَهُ فِي البَيْتِ، وَقَدْ كَانَ لِي مِنْهُنَّ دِرْعٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَمَا كَانَتِ امْرَأَةٌ تُقَيَّنُ بِالَمْدِينَةِ إِلَّا أَرْسَلَتْ إِلَيَّ تَسْتَعِيرُهُ. [فتح: 5/ 241]
ذكَرَ فيه حديث عبد الواحد بن أيمن: حَدَّثَنِي أَبِي -وهو أيمن الحبشي المكي مولى ابن أبي عمرو- قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ وَعَلَيْهَا دِرْعُ قِطْرٍ ثَمَنُ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ، فَقَالَتِ: ارْفَعْ بَصَرَكَ إِلَى جَارِيَتِي، انْظُرْ إِلَيْهَا فَإِنَّهَا تُزْهَى أَنْ تَلْبَسَهُ فِي البَيْتِ، وَقَدْ كَانَ لِي مِنْهُنَّ دِرعٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَمَا كَانَتِ امْرَأَةٌ تُقَيَّنُ بِالمَدِينَةِ إِلَّا أَرْسَلَتْ إِلَيَّ تَسْتَعِيرُهُ.
هذا الحديث من أفراد البخاري.
و (الدرع): القميص، وهو مُذَكَّر بخلاف درع الحديد فإنها مؤنثة
(1)
.
و (قطر) بقاف مكسورة ثم طاء مهملة، كذا ساكنة في أصل الدمياطي، وفسره بأن قال: القطر: ضرب من البرود
(2)
يقال: برود قطرية
(3)
.
وقال ابن بطال: القطريات من غليظ القطن
(4)
. ولم يذكر غيره، وهو
(1)
"العين" 2/ 34 مادة: (درع)، "المجمل" 1/ 322 مادة:(درع).
(2)
ورد بهامش الأصل: وهو ما في "الصحاح".
(3)
"الصحاج" 2/ 796 مادة (قطر).
(4)
"شرح ابن بطال" 7/ 146.
رواية أبي الحسن، ولأبي ذر: قطن بالنون.
وقال ابن فارس بعد أن ضبطه بكسر القاف: هو جنس من البرود
(1)
.
وقال الخطابي: ضرب من المروط غليظ
(2)
.
قال ابن فارس: والمرط ملحفة يؤتزر به
(3)
.
وقال صاحب "المطالع": وللقابسي وابن السكن بالفاء وهو ضرب من ثياب اليمن بها حمرة.
(تزهى): تتكبر، قال ثعلب في باب (فُعِل) بضم الفاء: وقد زهيت علينا يا رجل وأنت مزهو
(4)
، وعن التدميري
(5)
: مأخوذ من التيه والعجب، وأصله من البشر إذا حسن منظره وراقت ألوانه. وقال ابن درستويه: العامة يقولون: زها علينا فتجعل الفعل له، وإنما هو مفعول لم يسم فاعله
(6)
.
وعند ابن دريد: زها زهوًا. أي: تكبر
(7)
.
ومنه قولهم: ما أزهاه، وليس هو من باب زهى؛ لأن ما لم يسم فاعله لا يتعجب منه. قلت: حكى ابن عصفور وغيره التعجب منه في ألفاظ معدودة منها ما أجنه.
(1)
"المجمل" 2/ 759 مادة: (قطر).
(2)
"أعلام الحديث" 2/ 1291.
(3)
"مقاييس اللغة" مادة: (مرط).
(4)
"فصيح ثعلب" ص 14.
(5)
التدميري: هو أحمد بن عبد الجليل، أبو العباس التدميري أديب لغوي، توفى بفاس سنة خمس وخمسين وخمسمائة، من تأليفه:"توطئة في النحو"، "شرح أبيات الجمل الكبيرة" للزجاجي في النحو، "شرح الفصيح" لثعلب في اللغة، وغيرها. انظر:"هداية العارفين" ص 45.
(6)
"تصحيح الفصيح" ص 106.
(7)
"جمهرة اللغة" 2/ 831.
وأنشد الجوهري:
لنا صاحبٌ مولعٌ بالخلاف
…
كثير الخطاء قليل الصواب
ألجّ لجاجًا من الخنفساء
…
وأَزْهى إذا ما مَشَى من غراب
(1)
(وتقين) -بضم أوله- تزين. قال صاحب "الأفعال": قان الشيء قيانة أصلحه. والقينة: الأمة ومنه قيل للحداد: قين
(2)
.
قال أبو عمرو: وأصله من اقتان البيت اقتيانًا إذا حسن، ومنه قيل للمرأة: مقينة؛ لأنها تزين
(3)
، والقينة: الماشطة
(4)
، وقيل: التي تجلى على زوجها، والقين: إصلاح الشعر، والقينة: المغنية أيضًا.
والقينة: الجارية، وكل صانع عند العرب قين
(5)
.
وروي بالفاء أي: تعرض وتجلى على زوجها، حكاه ابن التين.
إذا تقرر ذلك: فعارية الثياب في العرس من فِعْل المعروفِ والعمل الجاري عندهم؛ لأنه مرغب في أجره؛ لأن عائشة لم تمنع منه أحدًا.
وفيه: أن المرأة قد تلبس في بيتها ما خشن من الثياب وما يلبسه بعض الخدم.
وفيه: تواضع عائشة وأخذها بالبلغة في حال اليسار، وقد أعانت المنكدر في كتابته بعشرة آلاف، وذكرت ما كانوا عليه لتتذكر ذلك وتشكر نعم الله.
(1)
"الصحاح" 6/ 2370.
(2)
"الأفعال" ص 224.
(3)
انظر: "المجمل" 2/ 739 (قين)، "الصحاح" 6/ 2185، "المحكم" 6/ 314 مادة:(قين).
(4)
انظر: "الصحاح" 6/ 2189.
(5)
انظر: "المحكم" 6/ 314.
واختلف العلماء في عارية الثياب، والعروض وما يعاب عليه وما لا يعاب، وقد سلف في الباب قبله واضحًا.
وممن قال بنفي الضمان الحسن والنخعي والأوزاعي والثوري وأبو حنيفة وأصحابه، وروي عن عمر أيضًا
(1)
.
وحديث صفوان السالف
(2)
قال فيه ابن بطال: قد اضطرب جدًّا فلا حجة فيه، وأيضًا لو وجب على الشارع ضمان فيه لم يقل:"إن شئت غرمناها لك".
واحتجوا بالقصعة التي أهدتها بعض أمهات المؤمنين، وقد سلف أنه غرّمها
(3)
.
وقال ابن القصار: اختلفت ألفاظ خبر صفوان فاستعملنا ما ورد منها بالضمان فيما يعاب عليه كما كان في سلاح صفوان وفي القصعة، واستعملنا ما ورد بإسقاط الضمان فيما لا يعاب عليه؛ لأنه (يمكن)
(4)
كتمانه، فيكون قد استعملنا كل خبر على فائدة غير فائدة صاحبه،
(1)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 4/ 185، "الإشراف" 2/ 146، ورواه عن النخعي: عبد الرزاق 8/ 179 (14784) وعن الحسن: ابن أبي شيبة 4/ 321 (20543)، وعن عمر: عبد الرزاق 8/ 179 (14785).
(2)
رواه أبو داود (3562، 3563)، والنسائي في "الكبرى" 3/ 409 - 410، وأحمد 3/ 401، والدارقطني في "السنن" 3/ 39 - 40، والطحاوي في "شرح مشكل الآثار" 4/ 334 - 336 (2683 - 2688)، والحاكم 2/ 47، البيهقي 6/ 89، والبغوي في "شرح السنة" 8/ 224 (2161). وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة"(630).
(3)
برقم (2481) كتاب: المظالم، باب: إذا كسر قصعة أو شيئًا لغيره.
(4)
في الأصل: (لا يمكن)، ولعل المثبت هو المناسب للسياق، وكذا ذكره ابن بطال في "شرحه" 7/ 148.
ولا يمكن المخالفين استعمالها إلا على معنى واحد فيما يعاب عليه من العارية وما لا يعاب عليه.
أما في وجوب الضمان على قول الشافعي، أو إسقاطه على قول أهل العراق فاستعمالنا أولى؛ لكثرة الفوائد.
قال المهلب: وإنما ألزمه ملك الضمان فيما يعاب عليه؛ لئلا يدعي المستعير هلاك العارية، فيتطرق بذلك إلى أخذ مال غيره
(1)
.
(1)
انظر: "شرح ابن بطال" 7/ 148.
ورد بهامش الأصل: آخر الجزء السابع من الثامن من تجزئة المصنف.
35 - باب فَضْلِ المَنِيحَةِ
2629 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"نِعْمَ المَنِيحَةُ اللِّقْحَةُ الصَّفِيُّ مِنْحَةً، وَالشَّاةُ الصَّفِيُّ تَغْدُو بِإِنَاءٍ وَتَرُوحُ بِإِنَاءٍ". حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ وَإِسْمَاعِيلُ، عَنْ مَالِكٍ قَالَ:"نِعْمَ الصَّدَقَةُ". [5608 - مسلم: 1019، 1020 - فتح: 5/ 242]
2630 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا ابْن وَهْبٍ، حَدَّثَنَا يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا قَدِمَ المُهَاجِرُونَ المَدِينَةَ مِنْ مَكَّةَ وَلَيْسَ بِأَيْدِيهِمْ -يَعْنِي: شَيْئًا- وَكَانَتِ الأَنْصَارُ أَهْلَ الأَرْضِ وَالعَقَارِ، فَقَاسَمَهُمُ الأَنْصَارُ عَلَى أَنْ يُعْطُوهُمْ ثِمَارَ أَمْوَالِهِمْ كُلَّ عَامٍ وَيَكْفُوهُمُ العَمَلَ وَالمَئُونَةَ، وَكَانَتْ أُمُّهُ أُمُّ أَنَسٍ أُمُّ سُلَيْمٍ. كَانَتْ أُمَّ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، فَكَانَتْ أَعْطَتْ أُمُّ أَنَسٍ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عِذَاقًا، فَأَعْطَاهُنَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أُمَّ أَيْمَنَ مَوْلَاتَهُ أُمَّ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدِ. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَأَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا فَرَغَ مِنْ قَتْلِ أَهْلِ خَيْبَرَ فَانْصَرَفَ إِلَى المَدِينَةِ، رَدَّ المُهَاجِرُونَ إِلَى الأَنْصَارِ مَنَائِحَهُمُ الَّتِى كَانُوا مَنَحُوهُمْ مِنْ ثِمَارِهِمْ، فَرَدَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى أُمِّهِ عِذَاقَهَا، وَأَعْطَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أُمَّ أَيْمَنَ مَكَانَهُنَّ مِنْ حَائِطِهِ. [3128، 4030، 4120 - مسلم: 1771 - فتح: 5/ 242]
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ شَبِيبٍ أَخْبَرَنَا: أَبِي، عَنْ يُونُسَ بِهَذَا، وَقَالَ مَكَانَهُنَّ مِنْ خَالِصِهِ.
2631 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ، عَنْ حَسَّانَ بْنِ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي كَبْشَةَ السَّلُولِيِّ، سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرٍو رضي الله عنهما يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَرْبَعُونَ خَصْلَةً أَعْلَاهُنَّ مَنِيحَةُ العَنْزِ، مَا مِنْ عَامِلٍ يَعْمَلُ بِخَصْلَةٍ مِنْهَا رَجَاءَ ثَوَابِهَا وَتَصْدِيقَ مَوْعُودِهَا إِلَّا أَدْخَلَهُ اللهُ بِهَا الجَنَّةَ". قَالَ حَسَّانُ: فَعَدَدْنَا مَا دُونَ مَنِيحَةِ العَنْزِ، مِنْ رَدِّ السَّلَامِ، وَتَشْمِيتِ العَاطِسِ، وَإِمَاطَةِ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ وَنَحْوِهِ، فَمَا اسْتَطَعْنَا أَنْ نَبْلُغَ خَمْسَ عَشْرَةَ خَصْلَةً. [فتح: 5/ 243]
2632 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي عَطَاءٌ، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَتْ لِرِجَالٍ مِنَّا فُضُولُ أَرَضِينَ فَقَالُوا: نُؤَاجِرُهَا بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ وَالنِّصْفِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ لِيَمْنَحْهَا أَخَاهُ، فَإِنْ أَبَى فَلْيُمْسِكْ أَرْضَهُ". [انظر: 1487 - مسلم: 1536 - فتح: 5/ 243]
2633 -
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ: حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ، حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ، حَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ، حَدَّثَنِي أَبُو سَعِيدٍ قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَهُ عَنِ الهِجْرَةِ، فَقَالَ:"وَيْحَكَ، إِنَّ الهِجْرَةَ شَأْنُهَا شَدِيدٌ، فَهَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟ " قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: "فَتُعْطِي صَدَقَتَهَا؟ ". قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: "فَهَلْ تَمْنَحُ مِنْهَا شَيْئًا؟ ". قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: "فَتَحْلُبُهَا يَوْمَ وِرْدِهَا". قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: "فَاعْمَلْ مِنْ وَرَاءِ البِحَارِ، فَإِنَّ اللهَ لَنْ يَتِرَكَ مِنْ عَمَلِكَ شَيْئًا". [انظر: 1452 - مسلم: 1865 - فتح: 5/ 243]
2634 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَهَّابِ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ طَاوُسٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَعْلَمُهُمْ بِذَاكَ -يَعْنِى: ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ إِلَى أَرْضٍ تَهْتَزُّ زَرْعًا فَقَالَ: "لِمَنْ هَذِهِ". فَقَالُوا: اكْتَرَاهَا فُلَانٌ. فَقَالَ: "أَمَا إِنَّهُ لَوْ مَنَحَهَا إِيَّاهُ كَانَ خَيْرًا لَهُ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهَا أَجْرًا مَعْلُومًا". [انظر: 2330 - مسلم: 1550 - فتح: 5/ 243]
ذكر فيه أحاديث:
أحدها: حديث أبي هريرة أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "نِعْمَ المَنِيحَةُ اللِّقْحَةُ الصَّفِيُّ مِنْحَةً، وَالشَّاةُ الصَّفِيُّ تَغْدُو بإنَاءٍ وَتَرُوحُ بِإِنَاءٍ". وفي رواية: "نِعْمَ الصَّدَقَةُ"
(1)
.
(1)
في هامش الأصل: الرواية المذكورة قال البخاري: حدثنا عبد الله بن يوسف وإسماعيل عن مالك، قال:"نِعْم الصدقة".
[قلت: وعند البخاري (5608) كتاب: الأشربة، باب: شرب اللبن. بلفظ "الصدقة"].
وأخرجه مسلم بلفظ: "ألا رجل يمنح أهلَ بيتٍ ناقةً تغدو (بعس)
(1)
وتروح (بعس)
(2)
إنَّ أجْرها لعظيم"
(3)
.
وفي لفظ: "منحة غَدَت بصدقةٍ وراحت بصدقةٍ صبُوحها وغبُوقها"
(4)
.
ثانيها: حديث أنس: لَمَّا قَدِمَ المُهَاجِرُونَ المَدِينَةَ .. الحديث
وفيه: وَانْصَرَفَ إِلَى المَدِينَةِ، رَدَّ المُهَاجِرُونَ إِلَى الأَنْصَارِ مَنَائِحَهُمُ. وقد سلف.
ثالثها: حديث عبد الله بن عمرو: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَرْبَعُونَ خَصْلَةً أَعْلَاهُنَّ مَنِيحَةُ العَنْزِ، مَا مِنْ عَامِلٍ يَعْمَلُ بِخَصْلَةٍ مِنْهَا رَجَاءَ ثَوَابِهَا وَتَصْدِيقَ مَوْعُودِهَا إِلَّا أَدْخَلَهُ اللهُ بِهَا الجَنَّةَ". قَالَ حَسَّانُ -يعني ابن عَطية-: فَعَدَدْنَا مَا دُونَ مَنِيحَةِ العَنْزِ، مِنْ رَدِّ السَّلَامِ، وَتَشْمِيتِ العَاطِسِ، وَإِمَاطَةِ الأَذى عَنِ الطَّرِيقِ وَنَحْوِهِ، فَمَا اسْتَطَعْنَا أَنْ نَبْلُغَ خَمْسَ عَشْرَةَ خَصْلَةً.
رابعها: حديث جابر.
خامسها: حديث أبي سعيد
(5)
.
سادسها: حديث ابن عباس.
وقد سلفت في مواطنها.
(1)
في الأصل: (بعشاء) والمثبت من مسلم.
(2)
السابق.
(3)
مسلم (1019) كتاب: الزكاة، باب: فضل المنيحة.
(4)
مسلم (1020).
(5)
في هامش الأصل: قال فيه البخاري: وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ: حَدَّثنَا الأَوْزَاعِيُّ.
فهو مُعلق عند قوم، ومحمول على المذاكرة عند آخرين.
و (المنيحة): هي الناقة والشاة ذات الدر، يعار لبنها ثم يرد إلى أهلها
(1)
كما أسلفناها فيما مضى، والمنيحة عند العرب كالإفقار والرقبى والعمرى والعارية كما سلف، وهي تمليك المنافع لا الرقاب، ألا ترى قوله في حديث أنس: فلما فَتَحَ الله عَلَى رسولِه غنائمَ خَيْبَرَ رَدَّ المُهَاجِرُونَ إِلَى الأَنْصَارِ مَنَائِحَهُمُ وثمَارَهُمْ.
وقوله في حديث جابر: "مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ لِيَمْنَحْهَا أَخَاهُ"، إنما يريد يهبه الانتفاع بها ولا يكريها منه بأجر؛ يبينه قوله في حديث ابن عباس: "أَمَا إِنَّهُ لَوْ مَنَحَهَا إِيَّاهُ لكان خَيْرًا لَهُ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ
عَلَيْهَا أَجْرًا".
وقوله في حديث أبي سعيد: بعد أن سأل رسول الله صاحب الإبل أنه كان يؤدي صدقتها قال: "فَهَلْ تَمْنَحُ مِئْهَا شَيْئًا؟ ". فدل على أن المنيحة غير الصدقة؛ لأنها قد تضمنها الزكاة، فدلت هذِه الآثار على أن المنيحة التي حض الشارع أمته عليها من الأرض والثمار والأنعام هي تمليك المنافع لا الرقاب.
و (اللقحة): الناقة التي لها لبن يحلب، جمعها لقاح وهي بكسر اللام
(2)
؛ لأنه بالفتح المرة الواحدة من الحلب، وقيل: فيهما بالفتح والكسر
(3)
.
والصَّفيُّ: الغزيرة اللبن.
(1)
"المجمل" 2/ 817 (منح)، "العين" 3/ 253 (منح).
(2)
ورد بهامش الأصل: الجمع بالكسر لا غير والمنحة: العطية.
(3)
انظر: "المجمل" 2/ 812 (لقح)، "العين" 3/ 47 (الفتح).
وقوله: ("تَغْدُو بِإِنَاءٍ وَتَرُوحُ بِإِنَاءٍ") يعني أنها تغدو بأجرِ حلبِها في الغدوِّ والرواح. كذا في ابن بطال
(1)
. وقال ابن التين: أي بحلب إناء بالغداة وإناء بالعشي.
ومَنْ روى "نِعْمَ الصَّدقة" روى أحدهما بالمعنى؛ لأن المنيحة العطية والصدقة أيضًا العطية.
والصبوح: الشرب في وقت الغداة.
والغبوق: شرب العشى
(2)
.
والسُّنَّة أن تؤد المنيحة إلى أهلها إذا استغنى عنها، كما رد عليه السلام إلى أم سليم عذاقها، وكما رد المهاجرون إلى الأنصار منائحهم حين استغنوا بخيبر.
والمنيحة وغيرها مما تقدم من باب الصلة لا من باب الصدقة؛ لأنها لو كانت صدقة لما حلت للشارع، ولكانت عليه حرامًا ولو كان في أخذها غضاضة لما قبلها.
وأما قوله: ("أَرْبَعُونَ خَصْلَةً أَعْلَاهُنَّ مَنِيحَةُ العَنْزِ") أي: المعز ولم يذكرها، ومعلوم أنه عليه السلام كان عالمًا بها أجمع؛ لأنه لا ينطق عن الهوى وإنما لم يذكرها لمعنى هو أنفع لنا من ذكرها؛ وذلك -والله أعلم- خشية أن يكون التعيين لها والترغيب فيها زهدًا في غيرها من أبواب المعروف وسبل الخير، وقد جاء عنه عليه السلام من الحض على أبواب من أبواب الخير والبر ما لا يحصى كثرة.
(1)
"شرح ابن بطال" 7/ 151.
(2)
انظر: "المجمل" 2/ 691 مادة: (غبق)، "أعلام الحديث" 2/ 1293.
وليس قول حسان بن عطية السالف: (فما استطعنا أن نبلغ خمس عشرة خصلة)؛ بمانع أن يجدها غيره فقصرت أفهامهم عن إدراكها.
قال ابن بطال: وقد بلغني عن بعض أهل عصرنا أنه طلبها في الأحاديث فوجد حسابها يبلغ أزيد من أربعين خصلة، فمنها أن رجلًا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عمل يدخله الجنة فقال له:"إن كنت قصرت في الخطبة لقد أعرضت المسألة" فذكر له عتاقات، ثم قال له:"والمنحة الركوب الغزيرة الدر، والفيء على ذي الرحم القاطع، فإن لم تطق ذلك فأطعم الجائع واسق الظمآن"
(1)
فهذِه ثلاث خصال، أعلاهن المنحة وليس الفيء على ذي الرحم منها؛ لأنها أفضل من منيحة العنز، وإنما شرط أربعين خصلة أعلاهن منيحة العنز.
ومنها السلام على من لقيت، وفي الحديث:"من قال: السلام عليك كتبت له عشر حسنات، ومن زاد: ورحمة الله كتب له عشرون، ومن زاد: وبركاته كتبت له ثلاثون حسنة"
(2)
.
وتشميت العاطس؛ وفي الحديث: "ثلاث تثبت لك الود في صدر أخيك: إحداهن تشميت العاطس وإماطة الأذى عن الطريق".
(1)
رواه أحمد 4/ 299، والدارقطني 2/ 135، والحاكم 2/ 217، وابن حبان 2/ 97 (374)، والبخاري في "الأدب المفرد" ص 37 (69).
(2)
رواه عبد بن حميد في "مسنده" 1/ 423 (469)، وابن الجوزي في "العلل المتناهية" 2/ 231 (1195) والحديث فيه موسى بن عبيده، قال ابن الجوزي: قال أحمد: لا يحل عندي الرواية عن موسى، وقال يحيى: ليس بشيء اهـ.
والحديث رواه أبو داود (5195)، والترمذي (2689) عن عمران بن حصين بلفظ: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليكم، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"عشر" ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "عشرون" ...... قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه.
وفي الحديث أن رجلًا أخذ غصن شوك من الطريق فشكر الله له فغفر له
(1)
.
وإعانة الصانع والصنعة لأخرق، وإعطاء صلة الحبل، وإعطاء شسع النعل، وأن يونس الوحشان.
وسأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم عن المعروف فقال: "لا تحقرنَّ منه شيئًا ولو شسع النعل ولو أن تعطي الحبل ولو أن تؤنس الوحشان"
(2)
.
وقال أبو سليمان الخطابي: وقيل في تأويل أنس الوحشان وجهان:
أحدهما: أن تلقاه بما يؤنسه من القول الجميل.
والوجه الآخر: أنه أريد به المنقطع بأرض الفلاة المستوحش بها يحمله فيبلغه مكان الإنس والأول أشبه.
وكشف الكُرْبة عن مسلم، قال عليه السلام:"من كشف عن أخيه كربة كشف الله عنه كربة من كربات يوم القيامة"
(3)
.
وكون المرء في حاجة أخيه قال صلى الله عليه وسلم: "والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه"
(4)
.
وستر المسلم، قال عليه السلام:"من ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة"
(5)
.
(1)
سلف برقم (2472) كتاب: المظالم، باب: من أخذ الغصن، ورواه مسلم (1914) كتاب: الإمارة، باب: بيان الشهداء.
(2)
أحمد 3/ 482، 483، والحاكم 4/ 186 من طريق جعفر بن عون، عن سعيد الجريري به، وقد سمى الصحابي أيضًا جابر بن سليم، وقال: صحيح الإسناد.
(3)
سبق برقم (2442) ورواه مسلم (2580) من حديث ابن عمر.
(4)
مسلم (2699) كتاب: الذكر والدعاء، باب: فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر بلفظ: "ما كان العبد".
(5)
مسلم (2699).
والتفسح لأخيك في المجلس، قال تعالى:{فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ} [المجادلة: 11] وقال صلى الله عليه وسلم: "ثلاث تثبت لك الود في صدر أخيك: إحداهن أن توسع له في المجلس، وإدخال السرور على المسلم، ونصر المظلوم، والأخذ على يد الظالم"
(1)
وقال صلى الله عليه وسلم: "انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا"
(2)
.
والدلالة على الخير: قال صلى الله عليه وسلم: "الدال على الخير كفاعله"
(3)
.
والأمر بالمعروف، والإصلاح بين الناس: قال تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 114] وقول طيب ترد به المسكين، قال تعالى:{قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} [البقرة: 263] وقال تعالى: {وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [النساء: 8] وقال عليه السلام: "اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة"
(4)
.
(1)
رواه الطبراني في "الأوسط" 8/ 192 (8369)، ابن جُميع في "معجم الشيوخ" ص 246 - 247، والبيهقي في "الشعب" 6/ 430 (8772) بغير هذا اللفظ، من طريق موسى بن عبد الملك عن أبيه عن شيبة الحجبي عن عثمان بن طلحة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث يصفين لك ود أخيك: تسلم عليه إذا لقيته، وتوسع له في المجلس، وتدعوه بأحب أسمائه إليه".
قال أبو حاتم: هذا حديث منكر، وموسى ضعيف الحديث اهـ.
انظر: "علل ابن أبي حاتم" 2/ 262 (2279).
(2)
سلف برقم (2443) كتاب: المظالم، باب: أعن أخاك ظالمًا أو مظلومًا.
(3)
مسلم (1893) كتاب: الزكاة، باب: فضل إعانة المغازي في سبيل الله.
(4)
سلف برقم (1413) كتاب: الزكاة، باب: الصدقة قبل الرد، ورواه مسلم (1016) كتاب: الزكاة، باب: الحث على الصدقة.
وأن تفرغ من دلوك في إناء المستقي أمر به عليه السلام الذي سأله عن المعروف
(1)
.
وغرس المسلم وزرعه؛ قال عليه السلام "ما من مسلم يغرس غرسًا أو يزرع زرعًا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له صدقة"
(2)
.
والهدية إلى الجار؛ قال عليه السلام: "لا تحقرن"
(3)
الحديث.
والشفاعة للمسلمين فإن الله تعالى قال: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً} الآية [النساء: 85] وقال صلى الله عليه وسلم: "اشفعوا تؤجروا"
(4)
.
ورحمة عزيز ذل وغني قوم افتقر وعالم بين جهال، روي ذلك في حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعيادة المرضى؛ وفي الحديث: "عائد المريض على مخارف الجنة"
(5)
، و"عائد المريض يخوض في الرحمة، فإذا جلس عنده استقرت به الرحمة"
(6)
.
والرد على من يغتاب أخاك المسلم وفي الحديث: "من حمى مؤمنًا من منافق يغتابه بعث الله إليه ملكًا يوم القيامة يحمي لحمه من النار
(7)
(1)
رواه أحمد 5/ 63، وابن حبان 2/ 281 (552)، من طريق جابر بن سليم.
(2)
سلف برقم (2320) كتاب: المزارعة، باب: فضل الزرع والغرس، ورواه مسلم (1553) كتاب: المساقاة، باب: فضل الغرس والزرع.
(3)
مسلم (2626) كتاب: البر والصلة، باب: استحباب طلاقة الوجه عند اللقاء.
(4)
سلف برقم (1432) كتاب: الزكاة، باب: التحريض على الصدقة، ورواه مسلم (2627) كتاب: البر والصلة، باب: استحباب الشفاعة.
(5)
رواه أحمد 5/ 268، والطبراني 8/ 211 (6854)، من حديث أبي أمامة.
(6)
رواه أحمد 5/ 63، وابن حبان 2/ 281 (522)، من طريق جابر بن سليم.
(7)
رواه أبو داود (4883)، أحمد 3/ 441، الطبراني 2/ 194 (433)، وضعفه الألباني في "ضعيف الترغيب والترهيب"(1355).
ومصافحة المسلم، ففي الحديث:"لا يصافح مسلم مسلمًا فتزول يده من يده؛ حتى يغفر لهما"
(1)
.
وفي آخر: "تصافحوا يذهب الغل"
(2)
.
والتحاب في الله والتجالس في الله والتزاور في الله والتباذل في الله، قال تعالى:"وجبت محبتي لأصحاب هذِه الأعمال الصالحة"
(3)
.
وعون الرجل للرجل في دابته يحمله عليها أو يرفع عليها متاعه صدقة، روي ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر النصح لكل مسلم
(4)
.
قلت: ومن الخصال: الحب في الله، والإعلام بالمحبة، وفي الإعلام بالبغض قولان.
تنبيهات:
أحدها: قوله في حديث أنس: (فقاسمهم الأنصار) قال الداودي يعني: حالفوهم كالحلف الذي كان في الجاهلية بالأيمان، ومنه قوله تعالى:{وَقَاسَمَهُمَا} [الأعراف 21]
و (العذاق) -بالكسر-: جمع عذق، وهي النخلة، ككلب وكلاب.
(1)
أبو داود (5212)، وأحمد 4/ 289، 303، باختلاف في الألفاظ، وصححه الألباني في "الصحيحة" 2/ 56 (515).
(2)
"الموطأ" برواية يحيى ص 566.
(3)
رواه بلفظ "المتحابين في" أحمد 5/ 233، 247، وابن حبان 2/ 335 (575)، والطبراني في "الكبير" 2/ 80، 81 (150، 152)، و"الأوسط" 6/ 61 (5795)، والحاكم 4/ 169، وقال: إسناد صحيح، على شرط الشيخين ولم يخرجاه، والبيهقي في "الكبرى" 10/ 15، "الشعب" 6/ 483، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" 2/ 798 (4331).
(4)
"شرح ابن بطال" 7/ 152 - 154.
ثانيها: قول ابن شهاب: (لما فرغ من خيبر انصرف إلى المدينة رد المهاجرون للأنصار منائحهم) كذا هنا، وفي رواية أخرى: لما أفاء الله عليه أموال بني النضير وأراد قسم ما سوى الرباع قال للأنصار: إن شئتم يقسم على ما كنتم عليه وقسمت لكم معهم وإن شئتم رجعت إليكم أموالكم وقسمت إليهم دونكم. فاختاروا أخذ أموالهم.
فيحتمل أن يكون بعض الأنصار تركوا أخذ أموالهم وأخذ بعضهم.
قال ابن شهاب: وكانت وقعة النضير سنة ثلاث في المحرم. وخالفه غيره، فقال: سنة أربع، وغزوة خيبر كانت سنة ست.
وقوله: (أعطاها من حائطه) وفي رواية أخرى بعدها: من خالصه والمعنى واحد؛ لأن حائطه صار له خاصًّا.
ثالثها: معنى: (يترك): ينقصك لقوله تعالى: {وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 35] أي: لن ينقصكم.
وقوله: ("اعمل من وراء البحار") أي: إذا فعلت هذا فالزم أرضك وإن كانت من وراء البحار، فإنك لا تحرم أجر الهجرة، وذلك أنه جمع بين أقطار الخير الواجبة والمنحة التي هي بر وصلة.
وقوله: (فيحلبها يوم وردها) أي: يسقي لبنها، وهو معروف.
وحديث أبي سعيد في الأصول: (حدثنا محمد بن يوسف). وفي بعض النسخ: وقال محمد بن يوسف، والآخر صواب، لأنه عرض ومذاكرة.
36 - باب إِذَا قَالَ: أَخْدَمْتُكَ هَذِهِ الجَارِيَةَ عَلَى مَا يَتَعَارَفُ النَّاسُ، فَهْوَ جَائِزٌ
وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: هَذِهِ عَارِيَّةٌ. وَإِنْ قَالَ: كَسَوْتُكَ هَذَا الثَّوْبَ، فَهْوَ هِبَةٌ.
2635 -
حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، حَدَّثَنَا ابو الزِّنَادِ، عَنِ الأعرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"هَاجَرَ إِبْرَاهِيمُ بِسَارَةَ، فَأَعْطَوْهَا آجَرَ، فَرَجَعَتْ فَقَالَتْ: أَشَعَرْتَ أَنَّ اللهَ كبَتَ الكَافِرَ وَأَخْدَمَ وَلِيدَةً؟ ". وَقَالَ ابن سِيرِينَ، عَنْ أَبي هريرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:"فَأَخْدَمَهَا هَاجَرَ". [انظر: 2217 - مسلم: 2371 - فتح: 5/ 246]
ثم ساق قصة هاجر من حديث الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
ثم قال: وَقَالَ ابن سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:"فَأَخْدَمَهَا هَاجَرَ".
وهذا التعليق أسنده في النكاح وغيره، كما ستعلمه.
قال ابن بطال: ولا خلاف بين العلماء فيما علمت أنه إذا قال له: أخدمتك هذِه الجارية أو هذا العبد؟ أنه قد وهب له خدمته لا رقبته وأن الإخدام لا يقتضي تمليك الرقبة عند العرب، كما أن الإسكان لا يقتضي تمليك رقبة الدار، وليس ما استدل به البخاري من قوله: فأخدمها هاجر بدليل على الهبة، وإنما تصح الهبة في الحديث من قوله:"فأعطوها هاجر"، فكانت عطية تامة.
واختلف ابن القاسم وأشهب فيمن قال: وهبت خدمة عبدي لفلان، فقال ابن القاسم: يخدمه حياة العبد، فإن مات فلان فلورثته خدمة العبد
ما بقي العبد إلا أن يستدل من قوله إنما أراد حياة المخدوم ولا تكون هبة لرقبة العبد.
وقال أشهب: يحمل على أنه أراد حياة فلان ولو كانت حياة العبد كانت هبة لرقبته. والأول أصح؛ لأنه لا يفهم من هبة الخدمة هبة الرقبة، والأموال لا تستباح إلا بيقين، ولم يختلف العلماء أنه إذا قال كسوتك هذا الثوب مدة يسميها فله شرطه، فإن لم يذكر أجلًا فهو هبة؛ لأن لفظ الكسوة يقتضي الهبة للثوب؛ لقوله تعالى:{فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ} [المائدة: 89]، ولم تختلف الأمة أن ذلك تمليكًا للطعام والثياب
(1)
.
(1)
"شرح ابن بطال" 7/ 155 - 156.
37 - باب إِذَا حَمَلَ رَجُلًا عَلَى فَرَسٍ فَهْوَ كَالعُمْرَى وَالصَّدَقَةِ
وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا.
2636 -
حَدَّثَنَا الحُمَيْدِيُّ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ قَالَ: سَمِعْتُ مَالِكًا يَسْأَلُ زَيْدَ بْنَ أَسْلَمَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه حَمَلْتُ عَلَى فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَرَأَيْتُهُ يُبَاعُ، فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:"لَا تَشْتَرِ، وَلَا تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ". [انظر: 1490 - مسلم: 1620 - فتح: 5/ 246]
ثم ذكر حديث عُمر في النَّهي عن شراء فرسه الذي تصدَّق بِهِ، وقد سلف
(1)
.
قال الداودي: قوله: (فهو كالعمرى والصدقة) تحكم بغير تأمل.
وقول: من ذكر من الناس أصح؛ لأنهم يقولون: المسلمون على شروطهم.
قال ابن التين: فحمل على البخاري أنه أراد العارية وليس كذلك.
واحتجاجه بقصة عمر يدل على أنه لم يرد ذلك؛ ولأن الحمل على وجهين:
أحدهما: أن يعلم أن فيه بحده فيملكه الفرس وينكأ به العدو.
والثاني: أن يكون وقفه لمن هو مواظب على الجهاد على سبيل التحبيس له في هذا الوجه.
وأحدهما أراد البخاري واحتج بحديث عمر بقوله: "لا تشتره".
وبعض الناس هنا أظنه أبا حنيفة؛ لأنه يقول (بقبض الأجنبي من
(1)
سلف برقم (1490) كتاب: الزكاة، باب: هل يشتري الرجل صدقته.
وهب له)
(1)
. فرد عليه بالحديث.
وقال ابن بطال: لا خلاف بين العلماء أن العمرى إذا قبضها المعمر لا يجوز الرجوع فيها، وكذلك الصدقة لا يجوز لأحد أن يرجع في صدقته؛ لأنه أخرجها لله تعالى، فكذلك الحمل على الخيل في سبيل الله لا رجوع فيه؛ لأنه صدقة لله، فما كان من الحمل على الخيل تمليكًا للمحمول عليه بقوله: هو لك، فهو كصدقة المنقولة إذا قبضت؛ لأنها ملك للمتصدق عليه، وما كان مثله تحبيسا في سبيل الله فهو كالأوقاف لا يجوز فيه الرجوع عند جمهور العلماء، وخالف ذلك أبو حنيفة، وجعل الحبس باطلًا في كل شيء
(2)
، ولهذا قال البخاري هنا:(وقال بعض الناس: له أن يرجع فيها)؛ لأنه عنده حبس باطل راجع إلى صاحبه
(3)
.
وفيه: جواز تحبيس الخيل، وهو رد على أبي حنيفة، ولا يخلو الفرس الذي حمل عليه عمر وأراد شراءه من أن يكون حبسه في سبيل الله أو حمل عليه وجعله ملكًا للمحمول عليه، وإن كان الأول فلا يجوز بيعه عند العلماء، إلا أن يضع ويعجز عن اللحاق بالخيل، فيجوز حينئذٍ بيعه ووضع ثمنه في فرس عتيق إن وجده، وإلا أعان به في مثل ذلك.
(1)
كذا في الأصل، وهي عبارة مضطربة لا تدل على معنى في ذاتها، وأصل المسألة عندهم: أن من وهب لأجنبي رجع إن شاء ما لم يثب منها أو يريد في نفسه.
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 4/ 152.
(2)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 4/ 157.
(3)
"شرح ابن بطال" 7/ 156، 157.
وإن كان الثاني فهو ملك للمتصدق عليه كالصدقة المبتولة، فجاز له التصرف فيه وبيعه من الذي حمله عليه لغيره.
وإنما أمره عليه السلام بتركه؛ تنزيهًا لا إيجابًا، وسيأتي في الجهاد في باب: إذا حمل على فرس في سبيل الله فرآها تباع اختلاف العلماء فيمن حمل على فرس في سبيل الله، ولم يقل: هو حبس في سبيل الله.
وفي كتاب الوقف اختلافهم في تحبيس الحيوان؛ في باب وقف الكراع والدواب
(1)
، إن شاء الله.
(1)
سيأتي برقم (2775).
52
كتاب الشهادات
52 - كتاب الشهادات
الشهادة: الإخبار بما شوهد، مأخوذ من الشهود والحضور أو من الإعلام. وهذا الكتاب أخره ابن بطال إلى ما بعد النفقات
(1)
، وقدم عليه الأنكحة والذي في الأصول والشروح، كشرح ابن التين وشيوخنا ما فعلناه.
1 - باب مَا جَاءَ فِي البَيِّنَةِ عَلَى المُدَّعِي
لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} إلى قوله: {وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 282]. وقَوْل الله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} إلي قوله: {بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 135]. [فتح: 5/ 247]
معنى {تَدَايَنْتُمْ} : تعاملتم، {فَاكْتُبُوهُ}: أمر ندب، وقيل: فرض {وَلْيَكْتُبْ} : هو فرض كفاية على الكاتب، أو واجب في حال فراغه، أو ندب، أو فَرْض نسخ بقوله:{وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ} أقوال.
(1)
"شرح ابن بطال" 8/ 5.
{وَلَا يَبْخَسْ} : لا ينقص {سَفِيهًا} : لا يعرف الصواب في إملاء ما عليه أو الطفل أو المرأة أو الصبي أو المبذر لماله المفسد لدينه أو ضعيفًا أحمق أو عاجز عن الإملاء لعياء أو خرس {أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ} : لعيه وخرسه أو لجنونه أو لحبسه أو غيبته.
{وَلِيُّهُ} ولي الحق أو ولي من عليه الدين {وَاسْتَشْهِدُوا} : ندب أو فرض كفاية. {تَرْضَوْنَ} الأحرار المسلمون العدول، أو المسلمون العدول، وإن كانوا أرقاء. {تَذْكُرُ}: من الذكر، أو يجعلها كذكر من الرجال.
{دُعُواْ} : لعملها أو كتابتها أو لأدائها أو لهما، وذلك ندب أو فرض كفاية أو عين.
{وَلَا تَسْئَمُواْ} : لا تملوا {صَغِيرًا} : لا يراد به التافه الحقير كالدانق بخروجه عن العرف {أَقْسَطُ} : أعدل وأقوم وأصح، من الاستقامة. {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ}: فرض أو ندب {وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ} بأن يكتب ما لم يملل ولا يشهد الشاهد بما لم يستشهد، ويمنع الكاتب أن يكتب والشاهد أن يشهد، أو يدعيان وهما مشغولان {فُسُوقَ} معصية أو كذب.
وأما الآية الثانية: فالقسط: العدل، {شَهِدَ اللهُ} ناطق ولو على أنفسكم بالإقرار، {فَلَا تَتَّبِعُوا الهَوَى} . اختصم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم غني وفقير، فكان صلى الله عليه وسلم مع الفقير، يرى أن الفقير لا يظلم الغني فنزلت، أو نزلت في الشهادة لهم وعليهم
(1)
.
(1)
"أسباب النزول" للواحدي ص 188 سورة النساء.
{وَإِن تَلْوُواْ} أمور الناس: تتركوا خطاب الولاة والحكام {تَلْوُوا} : من لي اللسان بالشهادة، فيكون الخطاب للشهود أو للمنافقين.
قال إسماعيل: ظاهر قوله تعالى: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الحَقُّ} [البقرة: 282] يدل أن القول قول من عليه الشيء.
قال غيره: لأن الله تعالى حين أمره بالإملاء اقتضى تصديقه فيما يمليه، فإذا كان مصدقًا فالبينة على مدعي تكذيبه.
وأما الآية الأخرى: فوجه الدلالة منها أن الله قد أخذ عليه أن يقر بالحق على نفسه وأقربائه لمن ادعاه عليهم، فدل أن القول قول المدعى عليه، فإن أكذبه المدعي كان على المدعي إقامة البينة، والإجماع قائم على ذلك أن البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه في الأموال، إلا ما خصت به القسامة.
وسيأتي من حديث ابن عباس: "البينة على المدعي واليمين على من ادعي عليه"، وهو من المتفق عليه
(1)
.
واختلفوا في صفة يمين المدعى عليه في الحدود والنكاح والطلاق والعتق على ما يأتي بعد هذا في بابه إن شاء الله.
قال ابن المنير: وجه الاستدلال بالآية على الترجمة أن المدعي لو كان مصدقًا بلا بينة لم تكن حاجة إلى الإشهاد ولا إلى كتابة الحقوق وإملائها، فالإرشاد على ذلك يدل على إيجاب البينة
(2)
.
(1)
سيأتي برقم (4552) كتاب: التفسير، باب: إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم،
ورواه مسلم (1711) كتاب: الأقضية، باب: اليمين على المدعى عليه.
(2)
"المتواري"303.
2 - باب إِذَا عَدَّلَ رَجُلٌ رجلًا فَقَالَ: لَا نَعْلَمُ إِلَّا خَيْرًا أَوْ: مَا عَلِمْتُ إِلَّا خَيْرًا
2637 -
حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ النُّمَيْرِيُّ حَدَّثَنَا ثَوْبَانُ. وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ، وَابْنُ المُسَيَّبِ، وَعَلْقَمَةُ بْنُ وَقَّاصٍ، وَعُبَيْدُ اللهِ، عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها -وَبَعْضُ حَدِيثِهِمْ يُصَدِّقُ بَعْضًا- حِينَ قَالَ لَهَا أَهْلُ الإِفْكِ مَا قَالُوا، فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلِيًّا وَأُسَامَةَ حِينَ اسْتَلْبَثَ الوَحْيُ يَسْتَأْمِرُهُمَا فِي فِرَاقِ أَهْلِهِ، فَأَمَّا أُسَامَةُ فَقَالَ: أَهْلُكَ وَلَا نَعْلَمُ إِلَّا خَيْرًا. وَقَالَتْ بَرِيرَةُ: إِنْ رَأَيْتُ عَلَيْهَا أَمْرًا أَغْمِصُهُ أَكْثَرَ مِنْ أَنَّهَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ تَنَامُ عَنْ عَجِينِ أَهْلِهَا، فَتَأْتِي الدَّاجِنُ فَتَأْكُلُهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"مَنْ يَعْذِرُنَا مِنْ رَجُلٍ بَلَغَنِي أَذَاهُ فِي أَهْلِ بَيْتِي، فَوَاللهِ مَا عَلِمْتُ مِنْ أَهْلِي إِلَّا خَيْرًا، وَلَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلًا مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ إِلَّا خَيْرًا ". [انظر: 2593 - مسلم: 2770 - فتح: 5/ 248]
ساق حديث الإفك حيثُ قال النَّبي صلى الله عليه وسلم لأُسَامَةَ، فَقَالَ: أَهْلُكَ وَلَا نَعْلَمُ إِلَّا خَيْرًا. وَقَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ يَعْذِرُنِي مِنْ رَجُلِ بَلَغَنِي أَذَاهُ فِي أَهْلِي، فَوَاللهِ مَا عَلِمْتُ مِنْ أَهْلِي إِلَّا خَيْرًا، وَلَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلًا مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ إِلا خَيْرًا".
وقد اختلف العلماء في قول المسئول عن التزكية: ما أعلمُ إلا خيرًا.
فذكر ابن المنْذر عن ابن عمر أنه كان إذا أنعم مدح الرجل قال: ما علمنا إلا خيرًا.
وذكر الطحاوي، عن أبي يوسف أنه إذا قال ذلك قبلت شهادته ولم يذكر خلافًا عن الكوفيين
(1)
، واحتجوا بالحديث.
(1)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 3/ 332.
وقال محمد بن سعيد الترمذي: سألني عبد الرحمن بن إسحاق عن رجل شهد عنده فزكيته له فقال لي: هل تعلم منه إلا خيرًا؛ فقلت: اللهم غَفْرًا، قد أعلم منه غير الخير، ولا تسقط بذلك عدالته. يُلْقِي كناسَتهُ في الطريق، وليس ذلك من الخير. فسكت.
وروى ابن القاسم عن مالك أنه أنكر أن يكون قوله: (لا أعلمُ إلا خيرًا) تزكية.
وقال: لا يكون تزكية؛ حتى يقول: رضي وأراه عدلًا
(1)
.
وذكر المزني عن الشافعي قال: لا يقبل في التعديل إلا أن يقول: عدل على ولي
(2)
. ثم لا يقبله حتى يسأله عن معرفته، فإن كانت باطنة متقدمة وإلا لم يقبل ذلك.
قلت: الأصح عندنا أنه يكفي هو عدل، ولا يشترط علي ولي
(3)
.
حجة مالك أنه قد لا يعلم منه إلا الخير ويعلم غيره منه غير الخير، مما يجب رد شهادته فيجب أن يقول: أعلمه عدلًا رضًى؛ لأن الوصف الذي أمر الله بقبول شهادة الشاهد معه بقوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ} [الطلاق: 2] وقال: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] فيجب أن يجمع الشاهد العدالة والرضا.
وأما قول أسامة السالف، فإنه كان في عصره عليه السلام الذين شهد الله لهم بأنهم {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] فكانت الجرحة فيهم شاذة نادرة؛ لأنهم كانوا كلهم على العدالة، فتعديلهم أن يقال: لا أعلم إلا خيرًا.
(1)
انظر: "المنتقى" 5/ 196.
(2)
"مختصر المزني" 5/ 243.
(3)
انظر: "العزيز" 12/ 507.
نبَّه عليه المهلب قال: وأما اليوم فالجرحة أعم في الناس، فليست لهم شهادة من كتاب الله ولا سنة رسوله بعدالة مستولية على جميعهم فافترقا
(1)
.
وقال ابن التين: وقع ذلك في الحديث؛ لبراءة عائشة، وأنهم لم يعلموا سوءًا، فلا يجزئ ذلك التعديل.
فائدة: (أَغْمِصُهُ) في قول بريرة، وفيه دليل على من أتهم في دينه بأمر أنه يطلب في سائر أحواله نظير ما أتهم به، فإن لم يوجد له نظير لم يصدق عليه ما اتهم فيه، وإن وجد كذلك نظير قويت الشبهة وحكم
عليه بالتهمة في أغلب الحال لا في (العبث)
(2)
.
(1)
انظر: "شرح ابن بطال" 8/ 7.
(2)
كذا في الأصل، والذي في ابن بطال 8/ 7: الغيب.
3 - باب شَهَادَةِ المُخْتَبِي
وَأَجَازَهُ عَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ، قَالَ: وَكَذَلِكَ يُفْعَلُ بِالكَاذِبِ الفَاجِرِ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَابْنُ سِيرِينَ وَعَطَاءٌ وَقَتَادَةُ: السَّمْعُ شَهَادَةٌ. وَقَالَ الحَسَنُ: يَقُولُ لَمْ يُشْهِدُونِي عَلَى شَيْءٍ، ولكني سَمِعْتُ كَذَا وَكَذَا.
2638 -
حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ سَالِمٌ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما يَقُولُ: انْطَلَقَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ الأَنْصَارِيُّ يَؤُمَّانِ النَّخْلَ التِي فِيهَا ابْنُ صَيَّادٍ، حَتَّى إِذَا دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم طَفِقَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَتَّقِي بِجُذُوعِ النَّخْلِ، وَهْوَ يَخْتِلُ أَنْ يَسْمَعَ مِنِ ابْنِ صَيَّادٍ شَيْئًا قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ، وَابْنُ صَيَّادٍ مُضْطَجِعٌ عَلَى فِرَاشِهِ فِي قَطِيفَةٍ لَهُ فِيهَا رَمْرَمَةٌ -أَوْ زَمْزَمَةٌ- فَرَأَتْ أُمُّ ابْنِ صَيَّادٍ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهْوَ يَتَّقِي بِجُذُوعِ النَّخْلِ، فَقَالَتْ لاِبْنِ صَيَّادِ أَيْ صَافِ، هَذَا مُحَمَّدٌ. فَتَنَاهَي ابْنُ صَيَّادٍ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"لَوْ تَرَكَتْهُ بَيَّنَ". [انظر: 1355 - مسلم: 2931 - فتح: 5/ 249]
2639 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: جَاءَتِ امْرَأَةُ رِفَاعَةَ القُرَظِيِّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ كُنْتُ عِنْدَ رِفَاعَةَ، فَطَلَّقَنِي فَأَبَتَّ طَلَاقِي، فَتَزَوَّجْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزَّبِيرِ، إِنَّمَا مَعَهُ مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ. فَقَالَ:"أَتُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إِلَى رِفَاعَةَ؟ لَا حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ". وَأَبُو بَكْرٍ جَالِسٌ عِنْدَهُ، وَخَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ العَاصِ بِالبَابِ يَنْتَظِرُ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ، فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ، أَلَا تَسْمَعُ إِلَى هَذِهِ مَا تَجْهَرُ بِهِ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ [5260، 5261، 5265، 5317، 5792، 5825، 6084 - مسلم: 1433 - فتح: 5/ 249]
ثم ذكر حديث ابن عمر في قصة ابن صيَّاد: وطَفِقَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَتَّقِي بِجُذُوعِ النَّخْلِ، وَهْوَ يَخْتِلُ أَنْ يَسْمَعَ مِنِ ابن صَيَّادٍ شَيْئًا قَبْلَ أَنْ
يَرَاهُ، .. الحديث. وقد سلف في الجنائز
(1)
، وعلقه في الاحتيال من كتاب الجهاد
(2)
.
وحديث عائشة في امْرَأَةِ رِفَاعَةَ القُرَظِيِّ، وفي آخره: يَا أَبَا بَكْرٍ، أَلَا تَسْمَعُ إِلَى هذِه مَا تَجْهَرُ بِهِ عِنْدَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم؟.
والتعليق الأول رواه البيهقي من حديث سعيد بن منصور: ثنا هشيم أنا الشيباني عن محمد بن عبد الله الثقفي أن عمرو بن حريث كان يجيز شهادته، يعني: المختبي ويقول: كذا يفعل بالخائن والفاجر
(3)
.
وتعليق الشعبي رواه ابن أبي شيبة، عن هشيم، عن مطرف عنه، وعن عبيدة عن إبراهيم قالا
(4)
: شهادة السمع جائزة.
وحدثنا عبيدة، عن بيان بن بشر قال: كان الشعبي لا يجيز شهادة المختبئ.
وأثر الحسن: رواه ابن أبي شيبة، عن حاتم بن وردان، عن يونس، عن الحسن قال: لو أن رجلًا سمع من قومٍ شيئًا فإنه يأتي القاضي، فيقول: لم يشهدوني ولكني سمعت كذا وكذا.
وفي رواية الحسن بن فرات، عن أبيه أن شريحًا أجازها، وفي رواية الشيباني، عن الشعبي عنه أنه كان لا يجيزها
(5)
.
وحديث عائشة أخرجه مسلم أيضًا
(6)
.
(1)
برقم (1355).
(2)
سيأتي برقم (3033).
(3)
"السنن الكبرى" 10/ 251.
(4)
أي الشعبي وإبراهيم.
(5)
انظر هذِه الآثار في ابن أبي شيبة 4/ 413 - 432.
(6)
مسلم برقم (1433) كتاب: الطلاق، باب: لا تحل المطلقة ثلاثًا لمطلقها حتى تنكح زوجًا غيره ..
إذا تقرر ذلك: فاختلف العلماء في شهادة المختبي، فروي عن شريح والشعبي
(1)
والنخعي أنهم كانوا لا يجيزونها وقالوا: إنه ليس بعدل حين اختبأ ممن يشهد عليه، وهو قول أبي حنيفة والشافعي أي: في القديم دون الجديد
(2)
.
وذكر الطحاوي في "المختصر" قال: جائز للرجل أن يشهد بما سمع؛ إذا كان معاينًا لمن سمعه منه وإن لم يشهده على ذلك
(3)
، قال الشافعيُّ في "الكتاب الكبير" للمزني: العلم من وجوه ثلاثة: ما عاينه فشهد به، وما تظاهرت به الأخبار وثبت موقعه في القلوب، وشهادة ما أثبته سمعا إثبات بصر من المشهود عليه؛ لذلك قلنا: لا تجوز شهادة الأعمى
(4)
.
وأجاز شهادة المختبئ ابن أبي ليلى ومالك وأحمد وإسحاق، إلا أن مالكًا لا يجيزها إلا على صحةِ ألا يكون المقر مختدعًا ومقررًا على حق، لا يقوله بالبراءة والمخرج منه ومثله من وجوه الحيل
(5)
، فروى ابن وهب، عن مالك في رجل أدخل رجلين بيتًا وأمرهما أن يحفظا ما سمعا، وقعد برجل من وراء البيت حتى أقر له بما له عليه، فشهدا عليه بذلك فقال: أما الرجل الضعيف أو الخائف أو المخدوع الذي يخاف أن يستجهل أو يستضعف إذا شهد عليه، فلا أرى ذلك يثبت عليه، وليحلف أنه ما أقر له بذلك، إلا لما يذكر.
(1)
رواهما عبد الرزاق 8/ 355 - 356، وابن أبي شيبة 4/ 432 (21770، 21771).
(2)
انظر: "معرفة السنن والآثار" 14/ 345.
(3)
"مختصر الطحاوي" ص 336.
(4)
"مختصر المزني" 5/ 249.
(5)
انظر: "شرح ابن بطال" 8/ 9، "المغني" 14/ 211.
وأما الرجلُ الذي ليس على ما وصفت وعسى أن يقول في خلوته: أنا أقر لك خاليًا ولا أقر لك عند البينة، فإنه يثبت ذلك عليه
(1)
.
وهذا معنى قول ابن حريث: (وكذلك يفعل بالفاجر الخائن)، وقال ابن التين: المذهب أنه إن أقر آمنًا غير خائف جازت شهادة المختبئ، وإن كان خائفًا لم تجز، وقيل: لا تجوز شهادته في غير المذهب.
واحتج مالك في "العتبية" بشهادة المختبئ قال: إذا شهد الرجل على المرأة من وراء الستر وعرفها وعرف صوتها وأثبتها قبل ذلك، فشهادته جائزة عليها، قال: وقد كان الناسُ يدخلونَ على أُمهاتِ المؤمنين وبينهم حجاب، فيسمعونَ منهن، ويحدِّثون عنهنَّ
(2)
.
وقد سأل أبو بكر بن عبد الرحمن وأبوه عائشة وأم سلمة من وراء حجاب، ثم أخبرا عنهما.
قال المهلب: وفي حديث ابن عمر من الفقه: جواز الاحتيال على المشتهرين بالفسق وجحود الحقوق، بأن يختفي لهم حتى يسمع منهم ما يستسرون به من الحق ويحكم به عليهم، ولكن بعد أن يفهم عنهم
فهمًا حسنًا لقوله صلى الله عليه وسلم: "لَوْ تَرَكَتْهُ بَيَّنَ".
وهذا حجة لمالك، وكذا في حديث رفاعة جواز الشهادة على غير
الحاضر من وراء الباب والستر؛ لأن خالد بن سعيد سمع قولها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو من وراء الباب، ثم أنكره عليها بحضرته وحضرة أبي بكر حين دخل إليهما، ولم ينكر ذلك عليه.
(1)
انظر: "النوادر والزيادات" 8/ 258.
(2)
انظر: "النوادر والزيادات" 8/ 259.
ومن الحجة أيضًا في ذلك: أن المعرفة بصوت زيد تقع كما تقع بشخصه، وذلك إذا كان قد عرف صوته وتكرر، فجائز له أن يشهد كما يجوز للأعمى أن يشهد على الصوت الذي يسمعه إذا عرفه.
قال المهلب: وفيه إنكار الهجر من القول، إلا أن يكون في حق لا بد له من البيان عند الحاكم، وفي الحكم بين الزوجين، فحينئذ يجوز أن يتكلم به.
تنبيهات:
أحدها: قول الشعبي وغيره: (السمع شهادة). قد فسره ابن أبي ليلى قال: السمع سمعان إذا قال: سمعت فلانًا يقر على نفسه بكذا، أجزته، وإذا قال: سمعت فلانًا يقول: سمعت فلانًا، لم أجزه
(1)
.
وهذا مذهب مالك وأحمد وإسحاق والجمهور، وليس معنى [ذلك]
(2)
أن شهادة المختبئ جائزة؛ لأن القائلين ذلك لا يجيزونها. وقال ابن المنذر: قال النخعي والشعبي: السمع شهادة. وأبيا أن يجيزا شهادة المختبئ
(3)
.
قال الداودي: ما ذكره الشعبي وغيره صواب.
وقد قال مالك في الرجل يسمع الرجلين يتكلمان في الشيء أنه لا يشهد، قال ابن القاسم: إلا أن يعلم أول الكلام وآخره.
وقال: إلا أن يكون قذفًا فليشهد إن سمعه معه غيره
(4)
.
(1)
انظر "المدونة" 4/ 88.
(2)
زيادة يقتضيها السياق.
(3)
انظر: "شرح ابن بطال" 8/ 10.
(4)
انظر: "المدونة" 4/ 88.
وقال أشهب: هذِه الرواية فيها وهم، وليشهد بما سمع من إقرار، أو غصب، أو حد، ولا يكتمها، فإن لم يعلم من هي فعليه أن يعلمه
(1)
.
وقول أشهب هذا مثل قول الحسن يقول: لم يشهدوني ولكني سمعت كذا.
ثانيها: أسلفنا شرح حديث ابن صياد في باب إذا أسلم الصبي، من الجنائز
(2)
.
وقوله: (له فيها رمرمة). قال ثابت: يقال: ترمرم الرجل إذا حرك فاه للكلام ولم يتكلم.
وقال الخطابي: قد يكون ترمرم: تحركت مرمته بالصوت
(3)
.
وقال صاحب "الأفعال": الزمزمة: كلام لا يفهم
(4)
.
وقال أبو حنيفة: الزمزمة: الرعد ما لم يعل أو يفصح، فقد زمزم السحاب، وهو سحاب زمزام إذا كثرت زمزمته.
(يؤمان النخل): يقصدانها والختل: الخدع، فكأنه ينختل أنه يسمع كلامه، وهو لا يشعر.
ثالثها: حديث رِفاعة، أخرنا الكلام عليه للنكاح، فإنه موضعه.
وقولها: (فطلقني فَأَبَتَّ طلاقي). كذا بخط الدمياطي
(5)
والذي
(1)
انظر: "النوادر والزيادات" 8/ 256 - 257.
(2)
سلف برقم (1355).
(3)
"أعلام الحديث" 1/ 708 - 709.
(4)
"الأفعال" لابن القطاع 2/ 111 مادة: (زمزم).
(5)
ورد في هامش الأصل: (وكما في أصل الدمياطي في نسختي: وهي لغة يقال معه: بتها وأبتها، كذا في "المطالع" وقد صرح بهما الزجاج في كتاب:"فعلتُ وأفعلتُ".
نحفظه: فبتَّ، والزبير: بفتح الزاي، وهُدْبَة الثَّوْبِ: طرفه.
والعُسَيلة: تصغير العسل، يريد الوطء وحلاوة سلك الفرج في الفرج ليس ألما.
قال الداودي: صغرها؛ لشدة شبهها به.
وقيل: العرب إذا صغرت الشيء أدخلت لها التأنيث، كما قالوا: دريهمات. وقيل: إنه مؤنث.
وقال الأزهري: العرب تؤنث العسل وتذكره
(1)
.
كذا قال ابن سيده والجوهري وغيرهم
(2)
، ولم يذكر القزاز وصاحب "الموعب" غير التأنيث قالا: وتحسب أن التذكير فيه لغة.
وعن أبي زيد: العُسيلة: ماء الرجل، والنطفة تسمى العُسيلة.
قال الأزهري: والصواب ما قاله الشافعي أنه حلاوة الجماع الذي يكون بتغييب الحشفة في الفرج، وأنَّث العُسيلة؛ لأنه شبهها بقطعة من العسل
(3)
.
قلت: وفي حديث عائشة أنه عليه السلام قال: "العُسَيْلَةُ الجِمَاعُ". رواه الدارقطني
(4)
، وقيل: إدخالها إشارة إلى أنها إلمامة واحدة، وقيل فيه
(1)
"تهذيب اللغة" 3/ 2437.
(2)
"المحكم" 1/ 301 مادة: (عسل)، "الصحاح" 5/ 1762.
(3)
"تهذيب اللغة" 3/ 2437.
(4)
"السنن" 3/ 251 (3563). وفي هامش الأصل: (وما عزاه للداراقطني هو في "المسند"، قال الإمام أحمد: حَدَّثنَا مَرْوَانُ، أبنا أَبُو عَبْدِ المَلِكِ المَكِّيُّ، ثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ "العُسَيْلَةُ الجِمَاعُ". مروان هو
ابن معاوية قد روى له الجماعة وأبو عبد الملك لا أعلمه، وابن أبي مليكة أخرج له الجماعة أيضًا) انتهى قلت:"المسند" 6/ 62.
دليلٌ على أنه لا خيار لامرأة الخصي إذا بقي له ما يقع به الوطء وإن كان ضعيفًا قاله الخطابي
(1)
، ومذهب مالك: لها الخيار.
وقوله: (ألا تسمع هذِه ما تجهر به عند رسول الله صلى الله عليه وسلم) كأنه استعظم لفظها بذلك.
ورواه الداودي: تهجر. قال: أي: تأتي بالكلام القبيح.
ومن تراجم البخاري عليه من أجاز الطلاق الثلاث، وتعلق بقولها:(أبتَّ طلاقي).
لكنه ذكر في باب التبسم والضحك، عنها: إن رفاعة طلقني آخر ثلاث تطليقات
(2)
.
ورفاعة: هو ابن سموأل
(3)
، طلق امرأته تميمة بنت وهب، قاله أبو عمر
(4)
.
ولأبي موسى المديني: رِفاعة بن وَهْب بن عتيك، روى بكر بن معروف عن مقاتل بن حيان في قوله تعالى:{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ} [البقرة: 230]، الآية نزلت في عائشة بنت عبد الرحمن بن عتيك النضري، كانت تحت رفاعة يعني: ابن وهب، وهو ابن عمها فتزوجها ابن الزبير ثم طلقها، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث.
(1)
"أعلام الحديث" 2/ 1299.
(2)
سيأتي برقم (6084).
(3)
ورد بهامش الأصل ما نصه: قال النووي: هي بالمهملة مفتوحة.
(4)
"التمهيد" 13/ 221.
وفي هامش الأصل بخط سبط وبعض الكلمات غير واضحة وبعضها صعب القراءة: (وقيل ابن رفاعة خال .. الذهبي في تجريده بالمطلقة واسمها تميمة بنت وهب، قال أنها المطلقة في .. العُسيلة، وذكر في ترجمة ابن .. أنه قيل عنه ذلك وذكر ما .. زوج رفاعة في ترجمتها
…
مكثرة قال امرأة .. تميمة، وقال في ترجمة ابن .. عبد الرحمن بن الزبير إلى قال الأصل الهدبة).
وفيه: أن في الأول اعترفت أنه لم يمسها، ثم جاءت ثانيًا فاعترفت بالمسيس فقال:"كذبت في الأولى فلم أصدقك في الأخرى" فلبثت، فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم أتت الصديق فاعترفت بالمسيس فردَّها، فلما قُبِضَ جاءت عمر فقال لها: لئن أتيتني بعد مرتك هذِه لأرجمنك
(1)
.
قال: وقيل: اسم المرأة أيضًا سهمة.
وقيل: الغميصاء، وقيل: الرميضاء.
ولابن وهب في "مسنده" أنه اعترض عنها فلم يستطع أن يمسها، ولأبي نعيم من حديث أبي صالح، عن ابن عباس: كانت أميمة بنت الحارث عند عبد الرحمن بن الزبير فطلقها ثلاثًا. الحديث
(2)
.
وذكره ابن إسحاق، عن هشام، عن أبيه، وسماها تميمة بنت وهب بن أبي عبيد
(3)
، وللنسائي أن الرميصاء أو الغميصاء، فذكرته، وأنه لا يصل إليها
(4)
.
وكلام الترمذي يقتضي أنها غير المرأة التي تزوجت بأبي الزبير، فإنه لما ذكر حديثها قال: وفي الباب عن ابن عمر وأنس والرميصاء أو الغميصاء
(5)
.
(1)
عزاه في "الدر المنثور" 1/ 505 إلى ابن المنذر.
وعزاه ابن الأثير في "أسد الغابة" 2/ 33 لأبي موسى قال أورد هذِه القصة أبو عبد الله بن منده في رفاعة بن سموأل.
(2)
"معرفة الصحابة" 6/ 3264 (3780).
(3)
أخرجه أبو نعيم في "المعرفة" بسنده إلى ابن إسحاق 6/ 3281 (3807).
(4)
"الكبرى" 3/ 353 (5606) كتاب: الطلاق، باب: إحلال المطلقة ثلاثًا.
(5)
الترمذي عقب حديث (1118).
ورواه الطبراني من حديث عائشة أنه صلى الله عليه وسلم قال للغميصاء: "لَا، حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ"
(1)
ولأبي نعيم من هذا الوجه أنَّ عمرو بن حزم طلَّقَ الغميصاء.
وأخرجه ابن منده في ترجمة أم سليم أم أنس ظنًّا منه أنها هي المذكورة في هذا الحديث، وليس كما ذكره؛ لأن أم سليم تزوجت بأبي طلحة إلى أن ماتا من غير بينونة بينهما.
رابعها: في حديث ابن صياد أنَّ الإمامَ إذا أشكل عليه أمرٌ من جهة الشهادات عنده أن يليَ ذلك بنفسه؛ ليتضح له صحة ما قيل أو بطلانه.
(1)
"المعجم الكبير" 4/ 351 (869) ولفظه: "حتى يذوق عسيلتك وتذوقي من عسيلته".
4 - باب إِذَا شَهِدَ شَاهِدٌ أَوْ شُهُودٌ بِشَيْءٍ، فَقَالَ آخَرُونَ: مَا عَلِمْنَا ذَلِكَ؛ يُحْكَمُ بِقَوْلِ مَنْ شَهِدَ
قَالَ الحُمَيْدِيُّ: هَذَا كَمَا أَخْبَرَ بِلَالٌ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى فِي الكَعْبَةِ.
وَقَالَ الفَضْلُ: لَمْ يُصَلِّ. فَأَخَذَ النَّاسُ بِشَهَادَةِ بِلَالٍ. كَذَلِكَ إِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَشَهِدَ آخَرَانِ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، يُقْضَى بِالزِّيَادِةَ.
2640 -
حَدَّثَنَا حِبَّان، أَخْبَرَنَا عبد اللهِ، أَخْبَرَنَا عمر بْن سَعِيدِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عبد اللهِ بْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الَحارِثِ أَنَّة تَزَوَّجَ ابنةً لأَبِي إِهَابِ بْنِ عَزِيزٍ، فَأَتَتْهُ آمْرَأَة فَقَالَتْ: قَدْ أَرْضَعْتُ عُقْبَةَ وَالَّتِي تَزَوَّجَ. فَقَالَ لَهَا عُقْبَةُ: مَا أَعْلَمُ أَنَّكِ أَرْضَعْتِنِي وَلَا أَخْبَرْتِنِي. فَأَرْسَلَ إِلَى آلِ أَبِي إِهَابٍ يَسْألهُمْ، فَقَالُوا: مَا عَلِمْنَا أَرْضَعَتْ صَاحِبَتَنَا. فَرَكِبَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالَمْدِينَةِ فَسَأَلهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"كيْفَ وَقَدْ قِيلَ؟! ". فَفَارَقَهَا، وَنَكَحَتْ زَوْجًا غَيْرَهُ. [انظر: 88 - فتح: 5/ 251]
ذكر فيه حديث عُقْبَةَ بْنِ الحَارِثِ وفي آخره: "كيْفَ وَقَدْ قِيلَ؟! ". فَفَارَقَهَا، وَنَكَحَتْ زَوْجًا غَيْرَهُ. وقد سلف
(1)
، ولا شك أنه إذا شهد شهود بشيء، وقال آخرون: ما علمنا بذلك. فليس هذا شهادة؛ لأن من لم يعلم الشيء فليس بحجة على من علمه.
ولهذا المعنى اتفقوا أنه إذا شهد شاهدان بألف واثنان كذلك واثنان بألف وخمسمائة، أنه يقضى بالزيادة، ولا خلاف أن البينتين إذا شهدت إحداهما بإثبات شيء والأخرى بنفيه وتكافآ في العدالة، أنه يؤخذ بقول
(1)
سلف برقم (88)، (2052).
من أثبت دون من نفى؛ لأن المثبت علم ما جهل النافي، والقول قول من علم.
وليس حديث عقبة مخالفًا لهذا الأصل؛ لأن الشارع لم يحكم بشهادة المرأة ولا غلب قولها على قول عقبة، وقول من نفي الرضاع من ظهور الإيجاب، وإنما أشار عليه السلام إلى أن قول المرأة يصلح للتورع والتنزه للزوج عن زوجته من أجلها.
يوضحه اتفاق أئمة الفتوى على أنه لا تجوز شهادة امرأة واحدة في الرضاع إذا شهدت بذلك بعد النكاح.
ومن هذا الباب ما إذا شهد قوم بعدالة الشاهد وشهد آخرون بتجريحه، فالقول للثاني إذا تكافأت البينتان؛ لأن العدالة علم ظاهر والجرح باطن، فهو زيادة على ما علم الشاهد بالعدالة، هذا قول
مالك في "المدونة" والشافعى وجمهور العلماء
(1)
، ولمالك في "العتبية"
(2)
خلافه وسيأتي.
وما ذكرته من اتفاق أئمة الفتوى هو ما ادعاه ابن بطال
(3)
، وقد أجاز بعض أهل العلم شهادة المرأة الواحدة في الرضاع.
قال ابن حزم: صح عن ابن عباس وعثمان وعلى وابن عمر والحسن والزهري وربيعة ويحيى بن سعيد وأبي الزناد والنخعي وشريح وطاوس والشعبي (الحكم)
(4)
.
(1)
انظر: "المغني" 14/ 47.
(2)
انظر: "النوادر والزيادات" 8/ 287.
(3)
"شرح ابن بطال" 8/ 12.
(4)
في الأصل: (والحكم)، والمثبت من "المحلى" 9/ 400 ونصه: ..... وطاوس والشعبي الحُكم في الرضاع بشهادة امرأة واحدة اهـ.
وفرق عثمان بشهادتها بين رجال ونسائهم، وذكر الشعبي ذلك عن القضاة جملة، وعن الأوزاعي: أقضي بشهادة امرأة واحدة قبل النكاح لا بعده.
وعن الشافعي وأبي سليمان وأصحابنا: يقبل في الرضاع امرأة واحدة.
وعن بعضهم: يجوز مع يمينها.
قاله ابن عباس، وبعضهم قال: لا يجوز في الحكم ويفارقها في الورع.
وأما شهادة القابلة وحدها في الاستهلال، فقال الزُّهري: مضت به السنة
(1)
.
وبنحوه قال الشعبي وعطاء وأبو بكر وعمر وعلى بن أبي طالب
(2)
، قال ابن أبي شيبة: حدثنا حفص بن غياث، عن الشيباني وأبي حنيفة (و)
(3)
حماد (قالا)
(4)
: تجوز شهادة قابلة واحدة.
قال: أحدهما وإن كانت يهودية
(5)
.
تنبيهات:
أحدها: قصة بلال والفضل، سلف بيانها واضحًا في الصلاة.
(1)
بهامش الأصل بخط سبط: (قول التابعي من السنة كذا)، أنه موقوف، بل نُقل نص أن الصحابي إذا قال هذِه العبارة أيضًا موقوفًا. والصحيح عند المحدثين أنه من قول الصحابي لا التابعي).
(2)
"المحلى" 9/ 399 - 400 بتصرف.
(3)
كذا في الأصل، وفي ابن أبي شيبة 4/ 335 (عن).
(4)
ورد فوق هذِه الكلمة كلمة (كذا)، وكأن الناسخ يستنكرها، ولكنه وجدها كذلك.
(5)
"المصنف" 4/ 335 (20709).
ثانيها: قوله كذلك: (إِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ
…
) إلى آخره، قال الداودي: هو قول مالك، وحجته أن الشهود قد سمع ما سمعه بالألف ولم يسمعه بعضهم، وهذا إذا كان عن مجلس واحد، وقال مالك مرة أخرى: هو يكاذب بعض البينتين إذا ادعى المطلوب الأقل، فإن أنكر وقام الطالب بهما لم ينفعه واحدة منهما ولا يكون له شيء، وإن ادعى إحداهما أخذ بها، وقد أبى ذلك بعض الناس إذا قالت واحدة: ألف، والأخرى: مائة، ورآه تكاذبًا؛ لأن اللفظين مختلفان، وليس هذا بقول مالك، وأن ذلك قول بعض الناس ولو كان لفظًا متفقًا، فقال سحنون في شاهدين شهد أحدهما بأربعين والآخر بخمسة وأربعين فهما إن أدياها لم يجزها الحاكم، وذلك رأيه، قيل: هل يسع الشاهد أن يسقط [خمسة]
(1)
ويشهد بأربعين؛ ليجيز الشهادة؟ قال: لا بأس به. قيل: فإن وجد الطالب من يشهد له بخمسة هل يسع الشاهد الذي أسقطها أن يشهد بها مع هذا؟ قال: نعم
(2)
، وإن كانت الشهادتان عن مجلس
استحق الزيادة، وهي الخمس فإنه مع ما سلف.
الثالث: حديث عقبة احتج به غير واحد من المالكية على أن الرضاع لا توقيت فيه؛ لأنه لم يذكر فيه توقيتًا.
(1)
زيادة يقتضيها السياق، من "النوادر والزيادات".
(2)
انظر: "النوادر والزيادات" 8/ 254.
5 - باب الشُّهَدَاءِ العُدُولِ
وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] و {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282]
2641 -
حَدَّثَنَا الحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُتْبَةَ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رضي الله عنه يَقُولُ: إِنَّ أُنَاسًا كَانُوا يُؤْخَذُونَ بِالوَحْيِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَإِنَّ الوَحْيَ قَدِ انْقَطَعَ، وَإِنَّمَا نَأْخُذُكُمُ الآنَ بِمَا ظَهَرَ لَنَا مِنْ أَعْمَالِكُمْ، فَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا خَيْرًا أَمِنَّاهُ وَقَرَّبْنَاهُ، وَلَيْسَ إِلَيْنَا مِنْ سَرِيرَتِهِ شَيْءٌ، اللهُ يُحَاسِبُهُ فِي سَرِيرَتِهِ، وَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا سُوءًا لَمْ نَأْمَنْهُ وَلَمْ نُصَدِّقْهُ، وَإِنْ قَالَ: إِنَّ سَرِيرَتَهُ حَسَنَةٌ. [فتح: 5/ 251]
ذكر فيه عن عَبْد اللهِ بْنِ عُتْبَةَ
(1)
قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ يَقُولُ: إِنَّ أُنَاسًا كَانُوا يُؤْخَذُونَ بالوَحْي فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَإِنَّ الوَحْيَ قَدِ انْقَطَعَ، وَإِنَّمَا نَأْخُذُكُمُ الآَنَ بِمَاَ ظَهَرَ لَنَا مِنْ أَعْمَالِكُمْ، فَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا خَيْرًا أَمِنَّاهُ وَقَرَّبْنَاهُ، وَلَيْسَ إِلَيْنَا مِنْ سَرِيرَتِهِ شَيْءٌ، اللهُ يُحَاسِبُهُ فِي سَرِيرَتِهِ، وَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا سُوءًا لَمْ نَأْمَنْهُ وَلَمْ نُصَدِّقْهُ، وَإِنْ قَالَ لنا: إِنَّ سَرِيرَتَهُ حَسَنَةٌ.
هذا الحديث من أفراده، والمرفوع منه إخبار عمر عما كان الناس يؤخذون به على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبقية الخبر بيان لما يستعمله الناس بعد انقطاع الوحي بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فينبغي -كما قال أبو الحسن القابسي- لكل من سمعه أن يحفظه ويتأدب به.
وفيه: أن من ظهر منه الخير فهو العدل الذي يجب قبول شهادته.
واختلفوا في ذلك: فقال النخعي: الذي لم يظهر به ريبة
(2)
، وهو
(1)
ورد فوقها في الأصل: (سند متصل).
(2)
رواه عبد الرزاق 8/ 319 (15361).
قول أحمد وإسحاق
(1)
، وفي "المصنف": حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم قال: العدل في المسلمين ما لم يطعن عليه في بطن ولا فرج
(2)
.
وفي موضع آخر: لا تجزئ في الطلاق شهادة ظنين ولا متهم
(3)
.
وقال الشعبي: تجوزُ شهادة المسلم ما لم يصب حدًّا أو يعلم عليه (خربة)
(4)
في دينه.
وكان الحسن يجيز شهادة من صلى إلا أن يأتي الخصم بما يجرحه به.
وعن حبيب قال: سأل عمر رجلًا عن رجل فقال: لا نعلم إلا خيرًا. قال: حسبك.
وقال شريح: ادع وأكثر وأطنب وأت على ذلك بشهود عدول؛ فإنا قد أمرنا بالعدل وأت فسل عنه، فإن قالوا:(الله يعلم فالله يعلم) توقوا أن يقولوا: هو مريب، ولا تجوز شهادة مريب، وإن قالوا: علمناه عدلًا مسلمًا فهو إن شاء الله كذلك، وتجوز شهادته
(5)
.
وفي الدارقطني بإسناده أن عمر كتب إلى أبي موسى الأشعري: المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودًا في حد أو مجربًا عليه شهادة زور أو ظنينًا في ولاء أو نسب
(6)
.
(1)
انظر: "مسائل أحمد وإسحاق برواية الكوسج" 2/ 387 (3902).
(2)
ابن أبي شيبة 4/ 428 (21735).
(3)
ابن أبي شيبة 4/ 532 (22848).
(4)
كذا في الأصل، وفي "مصنف ابن أبي شيبة"(حوبة).
(5)
ابن أبي شيبة 4/ 428 - 429.
(6)
"السنن" 4/ 307 (16) كتاب عمر رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري.
ووهَّى ابن حزم هذا الكتاب وقال: رسالة مكذوبة
(1)
.
وفي كتاب "القضاء" لأبي عبيد عنه: إذا حمد الرجل جاره، وذوو قرابته، ورفيقه من الناس فلا تشكُّوا في صلاحه.
وقال ابن عبد البر: كل حامل علم معروف العناية به فهو عدل حتى يتبين جرحه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "يحملُ هذا العلمَ مِن كُلِّ خَلَفٍ عدوله"
(2)
جوده أحمد وخولف.
(1)
"المحلى" 1/ 59، 9/ 423، 431.
(2)
هذا الحديث روي مرسلًا وموصولًا.
أما المرسل: فرواه ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" 2/ 17، والعقيلي في "الضعفاء" 4/ 256، وابن حبان في "الثقات" 4/ 10، والبيهقي في "الكبرى" 10/ 209، والخطيب في "شرف أصحاب الحديث" ص 66 (50)، وابن عبد البر في "التمهيد" 1/ 59.
من طرق عن معان بن رفاعة عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال أحمد: صحيح، معان بن رفاعة لا بأس به اهـ.
وتعقبه ابن القطان فقال: خفي على أحمد من أمره ما علمه غيره، قال الدوري عن ابن معين: إنه ضعيف، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به، وقال السعدي: ليس بحجة، وقال ابن عدي: عامة ما يرويه لا يتابع عليه، وقال أبو حاتم البستي: هو منكر الحديث يروي مراسيل كثيرة ويحدث عن المجاهيل بما لا يثبت، استحق الترك. اهـ.
وقال عبد الحق: هو أحسن ما فيه -أي: الحديث المرسل- فيما أعلم. اهـ.
وتعقبه ابن القطان فقال: إبراهيم بن عبد الرحمن العذري لا نعرفه البتة في شيء من العلم غير هذا، ولا أعلم أحدًا ممن صنف في الرجال ذكره، مع أن كثيرًا منهم ذكر مرسله هذا في مقدمة كتابه؛ كابن أبي حاتم والعقيلي وابن عدي ثم لم يذكروه في باب من اسمه إبراهيم فهو عندهم غاية المجهول. اهـ.
انظر: "شرف أصحاب الحديث" 67، "الأحكام الوسطى" 1/ 121، "بيان الوهم والإيهام" 3/ 39 - 40.
قلت: وصل هذا الحديث البيهقي في "الكبرى" 10/ 209 من طريق الوليد بن =
وقال أبو عبيد في كتاب "القضاء": من ضيع شيئًا مما أمره الله به أو ركب شيئًا مما نهى عنه فليس بعدل؛ لقوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالجِبَالِ} [الأحزاب: 72] الآية، الأمانة: جميع الفرائض اللازمة واللازم تركها.
وعن أبي يوسف ومحمد والشافعي: من كانت طاعته أكثر من معاصيه وكان الأغلب عليه الخير -زاد الشافعي- والمروءة، ولم يأت كبيرة يجب فيها الحد أو ما يشبه الحد قبلت شهادته؛ لأنه لا يسلم أحد من ذنب، ومن أقام على معصية أو كان كثير الكذب غير مستتر به لم تجز شهادته
(1)
.
وقال الطحاوي: لا يَخْلو ذكر المروءة أنْ يكونَ فيما يحل أو يحرم، فإن كانت فيما يحل فلا معنى لذكرها، وإن كانت فيما يحرم فهي من المعاصي، فالمراعاة هي إتيان الطاعة واجتناب المعصية
(2)
.
= مسلم عن إبراهيم بن عبد الرحمن قال: ثنا الثقة من أشياخنا.
وأما الموصول: فروي عن أبي هريرة، وابن مسعود، وابن عمر، ومعاذ، وابن عمرو، وأبي أمامة، وجابر بن سمرة، وأسامة بن زيد.
انظر: "الضعفاء" للعقيلي 1/ 9، 10، "مسند الشاميين" 1/ 344 (599)، "الكامل في الضعفاء" 3/ 457 - 458 (593)، "شرف أصحاب الحديث" ص 32، 65، "الجامع لأخلاق الرواي" 1/ 128، "التمهيد" 1/ 59، "كشف الأستار" 1/ 86. قال الزين العراقي في "التقييد والإيضاح" ص 135.
روي متصلًا -أي: الحديث المرسل- عن عليّ، وابن عمر، وأبي هريرة، وابن عمرو، وجابر بن سمرة، وأبي أمامة، وكلها ضعيفة لا يثبت منها شيء يقوي المرسل المذكور. اهـ.
(1)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 3/ 333، "مختصر المزني" 5/ 256.
(2)
انظر: "شرح ابن بطال" 8/ 24.
وقال الداودي: العدلُ أن يكونَ مستقيمَ الأمرِ، مُؤديًا لفروضه، غيرَ مخالفٍ لأمرِ العدول في سيرَتِهِ وخلائقه، وغير كثير الخوض في الباطِلِ، ولايتهم في حديثه، ولم يطلع منه على كبيرة أصر عليها، وكثر ذلك في معاملته وصحبته في السفر، قال: وزعم أهل العراق أن العدالة المطلوبة هي إظهار الإسلام، مع سلامته من فسق ظاهر، ويطعن فيه خصمه فيتوقف في شهادته، حتى تثبت له العدالة.
وهو ظاهر كلام عمر إلى أبي موسى وغيره، وقال الشافعي في "الرسالة": العدل هو العامل بطاعة الله، فمن رئي عاملًا بها فهو عدل، ومن عمل بخلافها كان خلاف العدل
(1)
.
ومنع القاضي أبو عبيد علي بن الحسين شاهدين تسارَّا في مجلسه، ونسبها في ذلك إلى قلة الأدب، قال: ولا مروءة مع قلة الأدب.
وعن أبي ثور: من كان أكثر أمره الخير، وليس بصاحب خربة في دين ولا مصرٍّ على ذنب وإن صغر قُبل وكان مستورًا، وكل من كان مقيمًا على ذنبٍ وإنْ صغر لم تُقبلْ شهادته.
وقال أبو عبيد: أما أصحاب الأهواء فأكثر من يقتدى به على إسقاط شهادة أهلها، منهم: مالك وسفيان، وقد كان بعض قضاة العراق يرى إجازتها إذا كان أصحابها فيما سوى ذلك عدولًا، ويذهب إلى أنها منهم تدين، وليس يفسق إلا الخطابية
(2)
.
والذي عندنا أن البدع والأهواء نوع واحد في الضلال، كما قال ابن مسعود: وكل بدعة ضلالة
(3)
.
(1)
"الرسالة" ص 34.
(2)
انظر: "اختلاف الفقهاء" للمروزي ص 563.
(3)
جاء في ذلك عن ابن مسعود حديث مرفوع رواه ابن ماجه (46).
فلا نرى أن يقبل لأحد منهم شهادة إذا ظهر فيها غلوه وميله عن السنة، قلنا ذلك للآثار المتواترة فيهم، وفي حديث مرفوع وإن لم يكن له إسناد:"مَنْ وقَّر صاحبَ بدعةٍ فقد أعانَ على هدمِ الإسلام"
(1)
.
فأي توقير أكبر من أن يكون مقبول الشهادة مؤتمنًا على دماء المسلمين وفروجهم.
(1)
رواه ابن عدي في "الكامل" 3/ 169، الطبراني في "الأوسط" 7/ 35 (6772) والهروي في "ذم الكلام" 4/ 157 - 159 (938)، وابن الجوزي في "الموضوعات" 1/ 444 من طرق عن عائشة.
قال ابن حبان في "الضعفاء" 1/ 236، وابن الجوزي في "الموضوعات" 1/ 445: موضوع اهـ. وقال العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء" 1/ 432 (1648): ضعيف. اهـ.
ورواه الطبراني في "الكبير" 20/ 96 (188)، و"مسند الشاميين" 1/ 233 (413) وأبو نعيم في "الحلية" 6/ 97، والهروي في "ذم الكلام" 4/ 162 (939) عن معاذ.
قال الهيثمي في "المجمع" 1/ 188: فيه بقية وهو ضعيف. اهـ.
وقال الألباني في "الضعيفة" 4/ 343: سنده قوي لو سلم من الانقطاع بين خالد بن معدان ومعاذ اهـ.
ورواه أبو نعيم في "الحلية" 5/ 218، وابن الجوزي في "الموضوعات" 1/ 444 (525) عن عبد الله بن بسر. قال ابن الجوزي: موضوع. اهـ. وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع"(5877).
ورواه ابن عدي في "الكامل" 2/ 249، وابن الجوزي في "الموضوعات" 1/ 443 - 444 (524) عن ابن عباس. قال ابن الجوزي: موضوع.
ورواه البيهقي في "الشعب" 7/ 61 (9464)، والهروي في "ذم الكلام" 4/ 164 (941) عن إبراهيم بن ميسرة مرسلًا.
قال الألباني في تعليقه على "المشكاة" 1/ 66 (189): ضعيف. اهـ.
ورواه الهروي في "ذم الكلام" 4/ 164 - 165 (942، 943، 944) عن إبراهيم ابن ميسرة، ومحمد بن مسلم، وابن عيينة موقوفًا عليهم.
قلت: وبالجملة فالحديث ضعفه الألباني في "الضعيفة" 4/ 340 - 343 (1862).
فرع:
قال مالك ومحمد بن الحسن والشافعي: لا يقبل في الجرح والتعديل أقل من رجلين
(1)
. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: يقبل فيهما واحد
(2)
.
قلت: وصححه المحدثون؛ لأن العدد لم يشترط في قبول الخبر، فلم يشترط في جرح رواته وتعديله بخلاف الشهادة.
وقال أبو عبيد: روي ذلك عن شريح.
وقال أبو عبيد: أدنى التزكية ثلاثة فصاعدًا لحديث قبيصة في الزكاة، فإذا كان لا يقنع في السؤال عن حال الرجل في نفسه بأقل من ثلاثة، فحاله في إمارات الناس أشد وقد قال عليه السلام لرجل سأله: يا رسول الله، كيف أعلم أني إذا أحسنت أني قد أحسنت؟ "إذا قال جيرانُك أحسنتَ فقد أحسنت"
(3)
قال أبو عبيد: فلا أرى النبي صلى الله عليه وسلم رضي بدون إجماع الجيران على الثناء.
فرع:
[إذا]
(4)
اجتمع الجرح والتعديل، فالجرح أولى، وممن نص عليه مالك وابن نافع، وفي رواية أشهب عنه: ينظر إلى أعدل البينتين فيقضى بها.
(1)
بهامش الأصل بخط سبط: (أي في الجرح والتعديل عند الحكام).
(2)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 3/ 332، "المنتقى" 5/ 194، "الأم" 7/ 29.
(3)
رواه ابن ماجه (4222)، وابن حبان (526)، والبيهقي في "الكبرى" 10/ 125 (20396)، والطبراني في "الكبير" 10/ 193 (10433)، وقال الهيثمي في "المجمع" 10/ 271: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح، وصححه الألباني في "الصحيحة"(1327).
(4)
ليست في الأصل، وما أثبتناه مناسب للسياق.
حجة الأول ما يأتي من تصديق الجارحين للمعدلين، وإخبارهم بما انفردوا به دونهم، وكذلك لو كثر عدد المعدلين على عدد الجارحين كان قول الجارحين أولى، وهو قول الجمهور
(1)
.
فرع:
الجرح لا يقبل إلا مبينًا بخلاف التعديل
(2)
، قال المهلب: وفي الحديث دليل أن سلف الأمة كانوا على العدالة بشهادة الله تعالى لهم أنهم خير أمة أخرجت للناس.
وقال الحسن البصري وغيره وذكره ابن شهاب: إنَّ القضاةَ فيما مضى كانوا إذا شهد عندهم الشاهد قالوا: قد قبلناهُ لدينه.
وقالوا للمشهود عليه: دونك بجرح؛ لأن الجرحة كانت فيهم شاذة، فعلى هذا كان السلف ثم حدث في الناس غير ذلك.
قال ابن بطال: واتفق مالك والكوفيون والشافعي على أن الشهود اليوم على الجرح؛ حتى تثبت العدالة، قال أبو حنيفة: إلا شهود النكاح فإنهم على العدالة.
وهذا قول لا سلف فيه ولا دليل عليه، ولو عكس عليه هذا القول لم يكن أحد القولين أولى بالحكم من صاحبه.
وحجة الفقهاء أن الشهود على الجرح قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] و {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] فخاطب الحكام ألا يقبلوا إلا من كان بهذِه الصفة، ودل القرآن أن في الناس غير مرضي ولا عدل، فكذلك يكلف الطالب إذا جهل
(1)
انظر: "النوادر والزيادات" 8/ 287، "شرح ابن بطال" 8/ 26.
(2)
في هامش الأصل: على الصحيح.
القاضي أحوال الشهود أن يعدلوا عنده
(1)
.
فائدة:
قول عمر: (إِنَّ أُنَاسًا كَانُوا يُؤْخَذُونَ بِالوَحْيِ) إلى آخره. كان الناس في الزمن الأول على العدالة، حتى ظهر منهم خلافها، فالتمس منهم إذن العدالة، وقد ترك بعض ذلك في زمن عمر، فقال له رجل: أنبئك بأمر لا رأس له ولا ذنب. فقال: وما ذاك؟ قال: شهادة الزور ظهرت في أرضنا. قال عمر: في زماني وفي سلطاني لا والله لا يؤسر رجل بغير العدول
(2)
.
فرع:
قال ابن التين: التعديل إنما يكون سرًّا لا اختلاف فيه أنه يجزئ، واختلف هل يجتزئ بتعديل العلانية دونه؟
قال سحنون: ولا يقبل تعديل الأبْله وليس كل من تقبل شهادته يجوز تعديله ولا يعدل إلا الفطن المهر الناقد الذي لا يخدع في عقله ولا يستزل في رأيه بحال
(3)
، واختلف: هل من شرط العدل أن يكون ذا مروءة أو لا يكون؟ يقرأ بالألحان أو يمتنع من حضور جمعة واحدة لغير عذر؟
(4)
.
(1)
"شرح ابن بطال" 8/ 25.
(2)
رواه مالك في "الموطأ" برواية يحيى ص 448، والبيهقي في "الكبرى" 10/ 166.
(3)
انظر: "المنتقى" 5/ 195.
(4)
بهامش الأصل: بلغ في التاسع بعد السبعين. كتبه مؤلفه.
6 - باب تَعْدِيلِ كَمْ يَجُوزُ
؟
2642 -
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْن حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: مُرَّ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِجَنَازَةٍ، فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا، فَقَالَ:"وَجَبَتْ". ثُمَّ مرَّ بِأُخْرى، فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا -أَوْ قَالَ غَيْرَ ذَلِكَ- فَقَالَ:"وَجَبَتْ". فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، قلْتَ لهذا: وَجَبَتْ، ولهذا: وَجَبَتْ؟ قَالَ: "شَهَادَةُ القَوْمِ، المُؤْمِنُونَ شُهَدَاءُ اللهِ فِي الأَرْضِ". [انظر: 1367 - مسلم: 949 - فتح: 5/ 252]
2643 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي الفُرَاتِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ قَالَ: أَتَيْتُ المَدِينَةَ وَقَدْ وَقَعَ بِهَا مَرَضٌ، وَهُمْ يَمُوتُونَ مَوْتًا ذَرِيعًا، فَجَلَسْتُ إِلَى عُمَرَ رضي الله عنه، فَمَرَّتْ جِنَازَةٌ، فَأُثْنِيَ خَيْرٌ، فَقَالَ عُمَرُ: وَجَبَتْ. ثُمَّ مُرَّ بِأُخْرَى، فَأُثْنِيَ خَيْرًا، فَقَالَ: وَجَبَتْ. ثُمَّ مُرَّ بِالثَّالِثَةِ، فَأُثْنِيَ شَرًّا، فَقَالَ: وَجَبَتْ. فَقُلْتُ: مَا وَجَبَتْ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: قُلْتُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "أَيُّمَا مُسْلِمٍ شَهِدَ لَهُ أَرْبَعَةٌ بِخَيْرٍ أَدْخَلَهُ اللهُ الجَنَّةَ". قُلْنَا: وَثَلَاثَةٌ؟ قَالَ: "وَثَلَاثَةٌ". قُلْتُ: وَاثْنَانِ؟ قَالَ: "وَاثْنَانِ". ثُمَّ لَمْ نَسْأَلْهُ عَنِ الوَاحِدِ. [انظر: 1368 - فتح: 5/ 252]
ذكر حديث أنس: مُرَّ بِجَنَازَةٍ، فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا، فَقَالَ:"وَجَبَتْ" .. الحديث.
وحديث عمر: "أَيُّمَا مُسْلِمٍ شَهِدَ لَهُ أَرْبَعَةٌ بِخَيْرٍ
…
" الحديث. وقد سلفا في الجنائز في باب: ثناءَ الناسِ على الميتِ
(1)
.
ومعنى: (موتًا ذريعًا): كثيرًا.
وقوله: (فأُثْنِي شرًّا) قال الداودي: إنما جاز هذا في الموتى أن تذكر مساوئهم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ"
(2)
. قال تعالى:
(1)
سلفا برقمي (1367)، (1368).
(2)
سيأتي رقم (6512) كتاب: الرقاق، باب: سكرات الموت، ومسلم (950) كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في مستريح ومستراح منه.
{لَا يُحِبُّ اللهُ الجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ القَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء: 148]، فكان هؤلاء ممن ظلم، قال: ولا يكون بقرب موته، ولا ينبغي إلا ذلك؛ فيدخل في الحديث الآخر في سب الموتى. وقيل: كان هذا الميت مجاهرًا.
وقيل: إنه ليس بمخالف لحديث: "نكبوا حتى ذي قبر"
(1)
. لأنه لم يقبر بعد.
ومعنى: "وَجَبَتْ" أي: الجنة وكذا النار، إلا أن يغفر الله.
وهذا في ثناء العدول إذا أراد الله بأحد خيرًا أو سوءًا يقيض له من يشهد بذلك من الصالحين عند موته، وقد أسلفنا اختلاف العلماء في عدد من يجوز تعديله.
وحديث عمر حجة لمن عدد، واحتج الطحاوي لذلك، فقال: لما لم ينفذ الحكم إلا برجلين، فكذا الجرح والتعديل، ولما كان من شرط المزكي والجارح العدالة؛ وجب أن يكون من شرطهما العدد.
واتفقوا
(2)
على أنه لو عدل رجلان وجرح واحد أن التعديل أولى، فلو كان الواحد مقبولًا لما صح التعديل مع جرح الواحد
(3)
.
واتفقوا لو استوى الجرح والتعديل أن الجرح أولى أن يعمل به من التعديل، وهو قول مالك في "المدونة".
(1)
لم أقف على تخريجه. وقد ذكره ابن بطال في "شرحه" 3/ 354 لكن بلفظ: "أمسكوا عن ذي قبر".
(2)
بهامش الأصل بخط سبط: إذا جرَّح واحد وعدَّل جماعة فالقول قول الواحد إذا بين السبب، والذي حكى عليه الاتفاق إنما هو قول، وهو: إن العبرة بقول الأكثر.
(3)
"مختصر اختلاف العلماء" 3/ 332.
والحجة لذلك أن الجرح باطن والعدالة ظاهر، والجارح يصدق المعدل ويقول: قد علمت من حاله مثل ما علمت أنت، وانفردت أنا بعلم ما لم تعلم أنت من أمره. بعلم انفردت به: لا ينافي خبر المعدل، وخبر المعدل لا ينفي صدق الجارح فوجب أن يكون الجرح أولى من التعديل
(1)
.
(1)
انتهى من "شرح ابن بطال" 8/ 25 - 26 بتصرف، وانظر لمزيد بيان 3/ 354 - 355 حيث الموضع الأول للحديث.
7 - باب الشَّهَادَةِ عَلَى الأَنْسَابِ، وَالرَّضَاعِ المُسْتَفِيضِ، وَالمَوْتِ القَدِيمِ
وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "أَرْضَعَتْنِي وَأَبَا سَلَمَةَ ثُوَيْبَةُ". وَالتَّثَبُّتِ فِيهِ.
2644 -
حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، أَخْبَرَنَا الحَكَمُ، عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتِ: اسْتَأْذَنَ عَلَيَّ أَفْلَحُ فَلَمْ آذَنْ لَهُ، فَقَالَ: أَتَحْتَجِبِينَ مِنِّي وَأَنَا عَمُّكِ؟! فَقُلْتُ: وَكَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ: أَرْضَعَتْكِ امْرَأَةُ أَخِي بِلَبَنِ أَخِي. فَقَالَتْ: سَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"صَدَقَ أَفْلَحُ، ائْذَنِي لَهُ". [4796، 5103، 5111، 5239، 6156 - مسلم: 1445 - فتح: 5/ 253]
2645 -
حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي بِنْتِ حَمْزَةَ: "لَا تَحِلُّ لِي، يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ، هِيَ بِنْتُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ". [5100 - مسلم: 1447 - فتح: 5/ 253]
2646 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها -زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم- أَخْبَرَتْهَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ عِنْدَهَا، وَأَنَّهَا سَمِعَتْ صَوْتَ رَجُلٍ يَسْتَأْذِنُ فِي بَيْتِ حَفْصَةَ. قَالَتْ عَائِشَةُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أُرَاهُ فُلَانًا. لِعَمِّ حَفْصَةَ مِنَ الرَّضَاعَةِ. فَقَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا رَجُلٌ يَسْتَأْذِنُ فِي بَيْتِكَ. قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أُرَاهُ فُلَانًا". لِعَمِّ حَفْصَةَ مِنَ الرَّضَاعَةِ. فَقَالَتْ: عَائِشَةُ لَوْ كَانَ فُلَانٌ حَيًّا -لِعَمِّهَا مِنَ الرَّضَاعَةِ- دَخَلَ عَلَيَّ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "نَعَمْ، إِنَّ الرَّضَاعَةَ تُحَرِّمُ مَا يَحْرُمُ مِنَ الوِلَادَةِ". [3105، 5099 - مسلم: 1444 - فتح: 5/ 253]
2647 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْن كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَان، عَنْ أَشْعَثَ بْنِ أَبِي الشَّعْثَاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مَسْرُوقٍ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَعِنْدِي رَجُلٌ، قَالَ:"يَا عَائِشَةُ، مَنْ هذا". قُلْتُ: أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ. قَالَ: "يَا عَائِشَةُ،
انْظُرْنَ مَنْ إِخْوَانُكُنَّ، فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ المَجَاعَةِ". تاَبَعَهُ ابن مَهْدِيٍّ، عَنْ سُفْيَانَ. [5102 - مسلم: 1455 - فتح: 5/ 254].
ذكر فيه حديث عائشة: اسْتَاذَنَ عَلَيَّ أَفْلَحُ
…
الحديث.
وحديث ابن عباس قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي (بِنْتِ)
(1)
حَمْزَةَ: "لَا تَحِلُّ لِي، يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِة مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ، وهِيَ ابنة أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ".
وحديث عائشة: دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وعِنْدِي رَجُلٌ يَسْتَأْذِنُ فِي بَيْتِ. حَفْصَةَ. فَقَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللهِ، هذا رَجُلٌ يَسْتَأْذِنُ فِي بَيْتِكَ. قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أُرَاهُ فُلَانًا". لِعَمِّ حَفْصَةَ مِنَ الرَّضَاعَةِ .. الحديث، وفي آخره:"إِنَّ الرَّضَاعَةَ تُحَرِّمُ مَا يَحْرُمُ مِنَ الوِلَادَةِ".
وحديث عائشة: دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَعِنْدِي رَجُلٌ، قَالَ:"يَا عَائِشَةُ، مَنْ هذا؟ ". قُلْتُ: أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ. فقَالَ: "يَا عَائِشَةُ، انْظُرْنَ مَنْ إِخْوَانُكُنَّ، فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ المَجَاعَةِ". تَابَعَهُ ابن مَهْدِيٍّ، عَنْ سُفْيَانَ.
الشرح:
التعليق الأول أسنده فيما سيأتي
(2)
، وحديث عائشة الأول أخرجه مسلم والأربعة
(3)
، والمتابعة الأخيرة أخرجها مسلم، عن زهير بن حرب، عن ابن مهدي، عن سفيان به
(4)
.
(1)
ذكر فوق هذِه الكلمة: في نسخة (ابنة).
(2)
سيأتي برقم (5103) كتاب: النكاح، باب: لبن الفحل.
(3)
مسلم (1445) كتاب: الرضاع، باب: تحريم الرضاعة من ماء الفحل، أبو داود (2057)، والترمذي (1148)، والنسائي 6/ 99، وابن ماجه (1948).
(4)
مسلم (1455) كتاب: الرضاع، باب: إنما الرضاعة من المجاعة.
ومعنى الباب أن ما صحَّ من الأنساب والموت والرضاع بالاستفاضة، وثبت علمه بالنفوس وارتفعت فيه الريب والشك أنه لا يحتاج فيه إلى معرفة لعدد الذين ثبت لهم علم ذلك، ولا يحتاج إلى معرفة الشهود؛ ألا ترى أن الرضاع الذي في هذِه الأحاديث كلها كان في الجاهلية وكان مستفيضًا معلومًا عند القوم الذين وقع الرضاع فيهم، وثبتت به الحرمة والنسب في الإسلام، وتجوز عند مالك والكوفيين والشافعي الشهادة بالسماع المستفيض في النسب والموت القديم والنكاح
(1)
، وقال الطحاوي: أجمعوا أن شهادة السماع تجوز في النكاح دون الطلاق
(2)
ويجوز عند مالك والشافعي الشهادة على ملك الدار بالسماع، زاد الشافعي: والثوب أيضًا، ولا يجوز ذلك عند الكوفيين
(3)
.
قال مالك: لا تجوز الشهادة على ملك الدار بالسماع على خمس سنين، ونحوها، إلا فيما يكثر من السنين. وهو بمنزلة سماع الولاء، قال ابن القاسم: وشهادة السماع إنما هي فيما أتت عليه أربعون أو خمسون سنة
(4)
.
قال مالك: وليس أحد يشهدُ على أحباس الصحابة إلا على السماع
(5)
.
(1)
انظر: "مختصر الطحاوي" ص 338، "المعونة" 2/ 454، "روضة الطالبين" 11/ 266 - 267.
(2)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 3/ 378.
(3)
انظر: "مختصر الطحاوي" ص 338، "المدونة" 4/ 89، "مختصر المزني" 5/ 249.
(4)
انظر: "المدونة" 4/ 90، "شرح ابن بطال" 8/ 14.
(5)
انظر: "المدونة" 4/ 89.
قال عبد الملك: أقل ما يجوز في الشهادة على السماع أربعة شهداء من أهل العدل أنهم لم يزالوا يسمعون أن هذِه الدار صدقة على بني فلان محبسة عليهم مما تصدق به فلان ولم يزالوا يسمعون أن فلانًا مولى فلان قد تواطأ ذلك عندهم وفشا من كثرة ما سمعوه من العدول وغيرهم ومن المرأة والخادم والعبد
(1)
.
واختلف فيما يجوز من شهادة النساء في هذا الباب: فقال مالك: لا يجوز في الأنساب والولاء شهادة النساء مع الرجال.
وهو قول الشافعي وإنما يجوز مع الرجال في الأموال خاصة أو متفردات في الاستهلال وما لا يطلع عليه الرجال من أمور النساء، وأجاز الكوفيون شهادة رجل وامرأتين في الأنساب
(2)
.
وأما الرضاع فيجوز فيه شهادة امرأتين دون رجل، وستعرف مذاهبهم في كتاب الرضاع إن شاء الله تعالى.
تنبيهات:
أحدها: اختلف في (أفلح) هذا فقيل: ابن أبي القعيس.
قال ابن عبد البر: وقيل: أبو القعيس.
وقيل: أخو أبي القعيس. وأصحهما ما قال مالك ومن تابعه: عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة السالف
(3)
، ويقال: إنَّه من الأشعريين، وقد قيل: إن أبا القعيس اسمه الجعد ويقال: الأفلح يكنى أبا الجعد، وقيل: اسم أبي القعيس: وائل بن أفلح
(4)
وعند ابن
(1)
انظر: "شرح ابن بطال" 8/ 14، "جامع الأمهات" ص 307.
(2)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 3/ 345، "المدونة" 4/ 84، "الأم" 7/ 43.
(3)
"الموطأ" برواية يحيى ص 372.
(4)
انظر: "الاستيعاب" 1/ 192 - 193 (68).
الحذاء: قيل: أفلح بن أبي الجعد، رواه عبد الرزاق
(1)
وقيل أيضًا: عمي أبو الجعد وفي "صحيح الإسماعيلي": أفلح بن قعيس أو ابن أبي القعيس.
وقال ابن الجوزي، عن هشام بن عروة: إنما هو أبو القعيس أفلح.
وليس بصحيح، إنما هو أبو الجعد أخو أبو القعيس وقال القابسي: لعائشة عمَّان؛ الأول هذا، والثاني ارتضع هو وأبو بكر من امرأة واحدة.
وقيل هما عم واحد
(2)
، ورجح القاضي عياض الأول فقال: إنه أشبه؛ لأنه لو كان واحدًا لفهمت حكمه من المرة الواحدة ولم تحتجب منه بعد
(3)
.
فإن قلت: فإذا كانا عمين فكيف سألت عن الميت بقولِها: لو كان فلان حيًّا دخل عليها لعمها، فقال صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الرَّضَاعَةَ
…
" إلى آخره، واحتجبت عن الآخر أخي أبي القعيس حتى أعلمها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قيل: يحتمل أن أحدهما كان عمًّا من أحد الأبوين منهما أو عمًّا أعلى والآخر أدنى، أو نحو ذلك من الاختلاف فخافت أن تكون الإباحة مُختصة بصاحب الوصف المسئول عنه أولًا، أو يُحتمل- كما قال القرطبي: أنها نسيت القصة الأولى فأنشأت سؤالًا آخر، [أو]
(4)
جوزت تبديل الحُكْم، وهو حجة لمن يرى أن لبن الفحل يحرم، وهم الجمهور من الصحابة وغيرهم
(5)
.
(1)
الذي وقع في "المصنف" 7/ 472 (13937): أفلح بن أبي القعيس، وفي 7/ 473 (13939): عمي من الرضاعة أبو الجعد.
(2)
انظر: "المفهم" 4/ 176 - 177.
(3)
"إكمال المعلم" 4/ 627.
(4)
في (الأصل: (و)، والمثبت من "المفهم".
(5)
"المفهم" 4/ 177، 179.
قال القاضي عياض: لم يقل أحدٌ بسقوط حرمته إلا أهل الظاهر وابن علية
(1)
، وفيما ذكره نظر ستعرفه في النكاح.
ووجه الاستدلال من حديث عائشة أنه عليه السلام أثبت لأَفْلح عمومة عائشة، وإنما ارتضعت من لبن امرأة أبي القعيس؛ لأن أبا القعيس قد صار أباها.
ومنهم من قال هما عمان؛ لأن سؤالها كان مرتين وفي زمنين
(2)
. وقال النووي: يحتمل أن أحدهما كان عمًّا من أحد الأبوين أو عمًّا أعلى والآخر أدنى، فخافت أن تكون الإباحة مختصة بصاحب الوصف المسئول عنه أولًا
(3)
.
والمحفوظ عند الحفاظ أن عمها من الرضاعة هو أفلح أخو أبي القعيس، وكنية أفلح: أبو الجعد.
الثاني: عند أبي حنيفة لا يجوز للشاهد أن يشهد بشيء لم يعاينه إلا النسب والموت والنكاح والدخول وولاية القاضي، فإنه يسعه أن يشهد بهذِه الأشياء إذا أخبره بهما من يثق به. قال في "الهداية": هذا استحسان والقياس ألا يجوز فيها؛ لأن الشهادة مشتقة من المشاهدة، ويجوز للشاهد في الأوائل أن يشهد بالإشهار -وذلك بالتواتر- أو بخبر من يشق به، إما أن يكونا رجلين أو رجل وامرأتان، وقيل: في الموت يكفي إخبار واحد وواحدة، وينبغي أن يطلق الشهادة ولا يفسرها.
(1)
"إكمال المعلم" 4/ 629.
(2)
انظر: "المفهم" 4/ 177، 179.
(3)
"شرح النووي" 10/ 21.
أما إذا فسر للقاضي أنه يشهد بالتسامع لم تقبل شهادته وإن رأى إنسانًا جلس مجلس القضاء فدخل عليه خصوم حل له أن يشهد على كونه قاضيًا، وكذا إذا رأى رجلًا وامرأة يسكنان بيتًا وينبسط كل واحد إلى الآخر انبساط الأزواج.
وعن أبي يوسف: يجوز في الولاء.
وعن محمد: يجوز في الوقف
(1)
.
وقال أبو عبد الرحمن محمد بن محمد العتقي: الشهادة على النسب المشهور بالسماع جائزة عند جميع الفقهاء، وما أعلم أحدًا ممن يحفظ عنه من أهل العلم منع من ذلك.
الثالث: فيه إثبات لبن الفحل كما سلف، قال مالك في "المبسوط":
نزل ذلك برجال واختلف الناس عليهم، فأما محمد بن المنكدر وابن أبي خيثمة ففارقوا نساءهم، وسائر الفقهاء على التحريم. واختلف فيهم عبد الله بن عمر وابن الزبير وعائشة. قال مالك في "الموطأ": كانت عائشة تُدخل عليها من أرضعته أخواتها وبنات أخيها، ولا تدخل من أرضعته نساء إخوتها
(2)
.
وقولها: (فلم آذن له)، وفي الرواية التي بعدها:(لو كان فلان حيًّا -لعمها من الرضاعة- دخل عليَّ)، في الأول أنه حي، وفي الثاني أنه ميت، وقد أسلفنا أن لها عمين.
واعترض ابن التين فقال: نص الحديث خلاف ما قاله الشيخ أبو الحسن لقوله: أرضعتك امرأة أخي بلبن أخي؛ فالعم من الرضاعة
(1)
"الهداية" 3/ 133 - 134.
(2)
"الموطأ" برواية يحيى 373 - 374.
ثلاثة: أج [الأب]
(1)
من الرضاعة لا النسب، أخ من الأب من الرضاعة والنسب كأفلح، أب من الرضاعة له أخٌ من الرضاعة.
وفيه: أن الرضاع لا توقيت فيه، وهو قول جماعة من المالكية
(2)
.
وقوله: "يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعةِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ" لفظٌ عام لا يستثنى منه شيء، كما أوضحناه في "شرح العمدة"
(3)
وكتب الفروع، وما استثنى لا يرد عنه عند التأمل.
وقوله: ("إنما الرضاعة من المجاعة"). ظاهر في عدم تحريم المصة والمصتين؛ لأنها لا تسد الجوع، ولا تقوي البدن، إنما يقويه خمس رضعات، وقالت عائشة وحفصة: عشر
(4)
.
وقال ابن مسعود وأبو ثور: ثلاث
(5)
.
وقال مالك: واحدة
(6)
.
(1)
زيادة يقتضيها السياق ليست في الأصول.
(2)
انظر: "النوادر والزيادات" 5/ 73، "المنتقى" 4/ 154.
(3)
"الإعلام" 9/ 9 - 11.
(4)
رواهما مالك في "الموطأ" برواية يحيى ص 373، وروى مسلم (1452) كتاب الرضاع، باب: التحريم بخمس رضعات، عن عائشة أنها قالت: كان فيما أنزل من القرآن (عشر رضعات معلومات يحرمن)، ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ.
(5)
ذكر ابن المنذر في "الإشراف" 1/ 92 عن ابن مسعود روايتين: الأولى: يحرم قليله وكثيره.
الثانية: أنه لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان. وذكر في 1/ 93 أن أبا عبيد وأبا ثور قالا: تحرم ثلاث رضعات. اهـ.
(6)
"الموطأ" برواية يحيى ص 374 حيث قال: الرضاعة قليلها وكثيرها في الحولين تحرم. اهـ.
وبعضهم أَوَّلَ قوله: ("إنما الرضاعة من المجاعة") على رضاعة الكبير، وأخذت عائشة برضاع الكبير، وخالفها سائر أمهات المؤمنين، ورأوه خاصًّا بسالم.
واختلف في آخر وقته، فعندنا سنتان، وللمالكية في الزيادة عليها أقوال: الشهر ونحوه، شهران، الثلاثة، أيام يسيرة لمذهبنا ستة أشهر
(1)
، حكاه الداودي، واختلف إذا فطم قبل الحولين ثم عاد اللبن
في الحولين هل يجزيه؟
فائدة: الرضاع والرضاعة بكسر الراء فيهما والفتح، وأنكر قوم الكسر.
(1)
انظر: "المنتقى" 4/ 152، "الإشراف" 1/ 94.
8 - باب شَهَادَةِ القَاذِفِ وَالسَّارِقِ وَالزَّانِي
وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [النور:4 - 5]. وَجَلَدَ عُمَرُ أَبَا بَكْرَةَ وَشِبْلَ بْنَ مَعْبَدٍ وَنَافِعًا بِقَذْفِ المُغِيرَةِ، ثُمَّ اسْتَتَابَهُمْ، وَقَالَ: مَنْ تَابَ قَبِلْتُ شَهَادَتَهُ. وَأَجَازَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُتْبَةَ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَطَاوُسٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَعِكْرِمَةُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَمُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ، وَشُرَيْحٌ، وَمُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ. وَقَالَ أَبُو الزِّنَادِ: الأَمْرُ عِنْدَنَا بِالمَدِينَةِ إِذَا رَجَعَ القَاذِفُ عَنْ قَوْلِهِ اسْتَغْفَرَ رَبَّهُ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَقَتَادَةُ: إِذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ جُلِدَ وَقُبِلَتْ شَهَادَتُهُ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: إِذَا جُلِدَ العَبْدُ ثُمَّ أُعْتِقَ جَازَتْ شَهَادَتُهُ، وَإِنِ اسْتُقْضِيَ المَحْدُودُ فَقَضَايَاهُ جَائِزَةٌ. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ القَاذِفِ، وَإِنْ تَابَ، ثُمَّ قَالَ: لَا يَجُوزُ نِكَاحٌ بِغَيْرِ شَاهِدَيْنِ، فَإِنْ تَزَوَّجَ بِشَهَادَةِ مَحْدُودَيْنِ جَازَ، وَإِنْ تَزَوَّجَ بِشَهَادَةِ عَبْدَيْنِ لَمْ يَجُزْ. وَأَجَازَ شَهَادَةَ المَحْدُودِ وَالعَبْدِ وَالأَمَةِ لِرُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ. وَكَيْفَ تُعْرَفُ تَوْبَتُهُ؟ وَقَدْ نَفَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الزَّانِيَ سَنَةً. وَنَهَى عَنْ كَلَامِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَصَاحِبَيْهِ حَتَّى مَضَى خَمْسُونَ لَيْلَةً. [انظر: 2757]
2648 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ. وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، أَنَّ امْرَأَةً سَرَقَتْ فِي غَزْوَةِ الفَتْحِ، فَأُتِيَ بِهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ أَمَرَ [بِهَا] فَقُطِعَتْ يَدُهَا. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَحَسُنَتْ تَوْبَتُهَا وَتَزَوَّجَتْ، وَكَانَتْ تَأْتِي بَعْدَ ذَلِكَ فَأَرْفَعُ حَاجَتَهَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. [3475، 3732، 3733، 4304، 6787، 6788، 6800 - مسلم: 1688 - فتح: 5/ 255]
2649 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ أَمَرَ فِيمَنْ زَنَى وَلَمْ يُحْصِنْ 3/ 224 بِجَلْدِ مِائَةٍ وَتَغْرِيبِ عَامٍ. [انظر: 2314 - مسلم: 1689 - فتح: 5/ 255]
ثم ساق حديث عُرْوَة بْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّ امْرَأَةً سَرَقَتْ فِي غَزْوَةِ الفَتْحِ، فَأُتِيَ بِهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ أَمَرَ [بِهَا] فَقُطِعَتْ يَدُهَا. قَالَتْ عَائِشَة: فَحَسُنَتْ تَوْبَتُهَا وَتَزَوَّجَتْ، وَكَانَتْ تَأْتِي بَعْدَ ذَلِكَ فَأَرْفَعُ حَاجَتَهَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
وحديث زيدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ أَمَرَ فِيمَنْ زَنَى وَلَمْ يُحْصِنْ بِجَلْدِ مِائَةٍ وَتَغْرِيبِ عَامٍ.
الشرح:
معنى قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [البقرة:160] أنه يزول فسقهم ولا يسقط الحد عنهم، وتقبل شهادتهم قبل الحد وبعده؛ لارتفاع فسقه، قاله الجمهور، وقيل: لا تقبل مطلقًا.
وقيل: لا تقبل بعد الحد وتقبل قبله. وقيل عكسه
(1)
.
وتوبته بإكذابه نفسه أو بالندم والاستغفار، وترك العود إلى مثله، ومحل بسطها التفسير، وقد بسطناها في "شرح منهاج الأصول".
وقال ابن التين: في الآية ثلاثة أقوال:
الأول: هو استثناء من قبول الشهادة، وهو مذهب المديني.
والثاني: الاستثناء من الفسق، وهو مذهب أبي حنيفة.
والثالث: الاستثناء من الأحكام الثلاثة.
(1)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 3/ 328 - 329، "المنتقى" 5/ 207 - 208.
فإذا تاب قبلت شهادته وزال عنه الحد واسم التفسيق.
ذكر هذا عن الشعبي
(1)
قال: وهو خلاف ما ذكره عنه البخاري أولًا.
والتعليق الأول رواه الشافعي، عن سفيان سمعت الزهري يقول: زعم أهل العراق أن شهادة المحدود لا تجوز، فأشهد لأخبرني
(2)
أن عمر بن الخطاب قال لأبي بكرة: تب وأقبل شهادتك.
قال سفيان: سمى الزهري الذي أخبره فحفظت ثم نسيته، فلما قمنا سألت من حضر، فقال لي: عمر بن قيس هو ابن المسيب، قال
الشافعي: فقلت له: هل شككت فيما قال؟ قال: لا، هو ابن المسيب من غير شك
(3)
.
قال الشافعي: فكثيرًا ما سمعته يحدث به فيسمي سعيدًا وكثيرًا ما سمعته يقول عن سعيد -إن شاء الله- قال البيهقي: وقد رواه غيره من أهل الحفظ عن سعيد ليس فيه شك بزيادة: أن عمر استتاب الثلاثة فتاب اثنان فأجاز شهادتهما، وأَبَى أبو بكرة فرد شهادته.
وروى أحمد بن شيبان، عن سفيان، عن الزهري، عن ابن المسيب أن عمر قال لأبي بكرة: إن تبت قبلت شهادتك.
وروى سليمان بن كثير، عن الزهري، عن سعيد: أن عمر قال لأبي بكرة وشبل ونافع: من تاب منكم قبلت شهادته
(4)
.
(1)
ابن أبي شيبة 4/ 329 (20644).
(2)
كذا في الأصل، وفي "الأم" 7/ 81 وبعدها. ثم سمى الذي أخبره.
(3)
إلى هنا انتهى كلام الشافعي في "الأم" 7/ 81، والكلام إلى آخره في "السنن الكبرى".
(4)
"السنن الكبرى" 10/ 152.
قال الطحاوي: ابن المسيب لم يأخذه عن عمر إلا بلاغًا؛ لأنه لم يصح له عنه سماع وإن كان رآه وسمع نعيه النعمان، والدليل على أن الحديث لم يكن عند سعيد بالقوي أنه كان يذهب إلى خلافه، روى عنه قتادة، وعن الحسن أنهما قالا: القاذف إذا تاب توبته فيما بينه وبين ربه جل وعز ولا تقبل له شهادة، ويستحيل أن يسمع من عمر شيئًا بحضرة الصحابة ولا ينكرونه عليه، ولا يخالفونه ثم يتركه إلى خلافه
(1)
.
وروى أبو الفرج الأصبهاني في "تاريخه الكبير" بإسناد جيد عن أحمد بن عبد العزيز الجوهري وأحمد بن عبيد الله بن عمار قالا: ثنا أبو زيد عمر بن شبة، ثنا عفان، ثنا عبد الكريم بن رشيد، عن أبي عثمان النهدي قال: لما شهد على المغيرة بن شعبة عند عمر استتاب أبا بكرة وقال: إنما تستتيبني لتقبل شهادتي قال: أجل، الحديث.
ولأبي داود الطيالسي: حدثنا قيس بن سالم الأفطس، عن قيس بن عاصم قال: كان أبو بكرة إذا أتاه رجل ليشهده قال: أشهد غيري فإن المسلمين قد فسقوني
(2)
، فإن قلت: إذا لم يتب فكيف ذكر في الصحيح، وأجاب الإسماعيلي في "مدخله" بأن الخبر مخالف للشهادة ولهذا لم يتوقف أحد من أهل المصرين في الرواية عنه، ولا طعن أحد على روايته من هذِه الجهة مع إجماعهم إلا شهادة المحدود في قذف غير ثابت، فصار قبول خبره جاريًا مجرى الإجماع؛ كما كان رد الشهادة قبل التولية جاريًا مجرى الإجماع.
(1)
"شرح مشكل الآثار" 12/ 363 - 364.
(2)
رواه من طريقه ابن حزم في "المحلى" 9/ 431.
وما حكاه البخاري عن عبد الله وغيره من إجازته، قال ابن حزم في "محلاه": ومن طريق علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: القاذف إذا تاب فشهادته عند الله في كتاب الله، وصح أيضًا عن عمر بن عبد العزيز وأبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وعطاء وطاوس ومجاهد وابن أبي نجيح والشعبي والزهري وحبيب بن أبي ثابت وعمرو بن عبد الله بن أبي طلحة الأنصاري وسعيد بن المسيب وعكرمة وسعيد بن جبير والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله وسليمان بن يسار وابن قسيط ويحيى بن سعيد الأنصاري وربيعة وشريح، وهو قول عثمان البتي وابن أبي ليلى ومالك والشافعي وأبي ثور وأبي عبيد وأحمد وإسحاق وبعض أصحابنا
(1)
.
وفي "سنن سعيد بن منصور": أنا هشيم، ثنا حصين قال: رأيتُ رجلًا جُلِد حدًّا في قَذْفٍ بالزنا فلما فرغ من ضربه أحدث توبة، فلقيت أبا الزناد فأخبرته بذلك، فقال: الأمر عندنا إذا رجع عن قوله واستغفر ربه قبلت شهادته
(2)
. وأراد البخاري بما نقله عن بعض الناس أبا حنيفة، وقد حكاه ابن حزم، عن ابن عباس بإسناده من طريق ابن جريج، عن عطاء الخراساني عنه أنه قال: شهادة القاذف لا تجوز وإن تاب.
قال ابن حزم: وصح ذلك أيضًا عن الشعبي ومسروق في أحد قوليهما والنخعي وابن المسيب في أحد قوليه، والحسن البصري ومجاهد في أحد قوليه وعكرمة في أحد قوليه وشريح وسفيان بن
(1)
"المحلى" 9/ 431 - 432.
(2)
رواه من طريق سعيد البيهقي في "السنن" 10/ 153.
سعيد، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، ثم قال بعد: وأما أبو حنيفة فما نعلم له سلفًا في قوله إلا شريحًا وحده، فقد خالف جمهور العلماء في ذلك، وهو غريب منه مع جلالته
(1)
.
وقد أخرج البيهقي من حديث المثنى بن الصباح وآدم بن فائد، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده مرفوعًا:"لا تجوز شهادةُ خائنٍ ولا محدودٍ في الإسلام"
(2)
.
وأخرجه أبو سعيد النقاش في كتاب "الشهود" تأليفه من حديث جراح، ومحمد بن عبيد الله العرزمي وسليمان بن موسى، عن عمرو بن شعيب، وأخرجه أحمد بن موسى بن مردويه في "مجالسه" من حديث المثنى عن عمرو، عن أبيه عبد الله بن عمرو، وأخرجه الترمذي من حديث (يزيد بن أبي زياد الدمشقي)
(3)
، عن الزهري، عن عروة عن عائشة. فذكرتْه مرفوعًا مثله.
(1)
"المحلى" 9/ 431، 432.
(2)
"السنن الكبرى" 10/ 155، وقال: آدم بن فائد والمثنى بن الصباح لا يحتج بهما. اهـ.
والحديث رواه أبو داود (3600، 3601)، والدارقطني 4/ 243، والبيهقي 10/ 200 من طريق سليمان بن موسى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
قال الحافظ في "تلخيص الحبير" 4/ 198: سنده قوي اهـ.
وقال الألباني في "الإرواء"(2668): حسن اهـ.
ورواه ابن ماجه (2366) من طريق الحجاج بن أرطاة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
قال العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء" 2/ 824 (3028): ولأبي داود وابن ماجه بإسناد جيد من رواية عمرو بن شعيب اهـ.
(3)
كذا في الأصل، وفي الترمذي: يزيد بن زياد. قال الحافظ في "التقريب" 4/ 413 يزيد بن زياد، ويقال: ابن أبي زياد القرشي الدمشقي، ويقال: إنهما اثنان اهـ.
ثم قال: غريب لا نعرفه إلا من حديث يزيد، ويزيد يضعف في الحديث
(1)
.
وفي "علل الرازي": قال أبو زرعة: هذا حديث منكر ولم يقرأه علينا
(2)
.
وأخرج الدارقطني من حديث الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن ابن عمر فذكر مثله مرفوعًا، وهو ضعيف بسبب يحيى بن سعيد الفارسي وغيره
(3)
.
وعَتْبُ البخاريُّ على أبي حنيفة التزوج بشهادة محدودين، قد يجاب عنه بأن حالة التحمل لا يشترط فيها العدالة، كما ذكر عن بعض الصحابة أنه تحمل في حال كفره ثم روى بعد إسلامه.
وعتبه عليه أيضًا بأنه أجاز شهادة المحدود والعبد والأمة، برؤية هلال رمضان فقد يقال: إنه أجراه مجرى الخبر، وهو يخالف الشهادة في المعنى؛ لأن المخبر له يدخل في حكم ما شهد به.
وقول البخاري: (وكيف تعرف توبته وقد نفي الزاني سنة، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلام كعب بن مالك وصاحبيه حتى مضى خمسون ليلة؟).
(1)
الترمذي (2298)، والحديث ضعفه ابن حزم في "المحلى" 9/ 416، وابن الجوزي في "التحقيق" 2/ 390 (2051)، "العلل" 2/ 274 (1266)، وعبد الحق في "الأحكام الوسطى" 3/ 357 - 358، والحافظ في "التلخيص" 4/ 198، والألباني في "الإرواء"(2675).
(2)
"العلل" 1/ 476 علل أخبار في الأقضية.
(3)
"السنن" 4/ 244 (146) وقال: يحيى بن سعيد هو الفارسي، متروك، وعبد الأعلى ضعيف اهـ.
هذان قد أسندهما كما سيأتى
(1)
.
(التقدير)
(2)
.
قال ابن بطال: باب: شهادة القاذف والسارق والزاني وباب: وكيف تُعْرف توبته؟ وكثيرًا ما يفعله البخاري يردف ترجمة على ترجمة وإنْ بَعُدَ ما بينهما.
وأراد بقوله: (وكيف تُعرف توبته؟) إلى آخر الكلام الاحتجاج لقول مالك أنه ليس من شرط توبة القاذف تكذيب النفس وتخطئتها والرد على من خالفه في أنه من شروط التوبة.
ووجه ذلك أنه عليه السلام بُعث معلمًا للناس وأمرهم بالتوبة من ذنوبهم، ولم يأمرهم بأن يعلموا بأنهم كانوا على معاصي الله، بل أمرهم بسترها.
واستدل البخاري أن القاذف يكون تائبًا بصلاح الحال دون إكذابه لنفسه، أو اعترافه أنه عصى الله أو خالف أمره بلسانه حين لم يشترط ذلك على الزاني في مدة تغريبه ولا كعب بن مالك وصاحبيه في
الخمسين ليلة، فإن ادعى اختصاص توبة القاذف بذلك، فالبيان لازم عليه
(3)
.
وقال ابن المنير: المشكل في هذا توبة القاذف المحق إذا لم يكمل النصاب. أما الكاذب في القذف فتوبته بينة، فأما الصادق في قذفه كيف يتوب فيما بينه وبين الله تعالى؟
(1)
سيأتي برقم (6827، 6828) كتاب: الحدود، باب: الاعتراف بالزنى، (4418) كتاب: المغازي، باب: حديث كعب بن مالك.
(2)
كذا في الأصل، وفي ابن بطال: وتقدير الكلام: باب شهادة القاذف
…
إلى آخره.
(3)
ابن بطال 8/ 18 - 19 بتصرف.
وأشبه ما في ذلك عندي أن المعاين للفاحشة لا يجوز أن يكشف صاحبها إلا إذا تحقق كمال النصاب معه، فإذا كشفه حيث لا نصاب فقد عصى الله، وإن كان صادقًا فيتوب من المعصية في الإعلان لا من الصدق
(1)
.
وأما حديث السَّارِقة فأخرجه مسلم والأربعة
(2)
.
وقوله فيه: (حدثنا إسماعيل: حدثني ابن وهب عن يونس.
وقال الليث: حدثني يونس، عن ابن شهاب، عن عروة) هذا التعليق -أعني تعليق الليث- أخرجه أبو داود عن محمد بن يحيى بن فارس، عن أبي صالح عبد الله بن صالح، عن الليث، عن يونس
(3)
، وأخرجه أبو الشيخ ابن حيان في كتاب القطع والسرقة من حديث عبد الله بن الجهم: حدثنا عمرو بن أبي قيس، عن الزهري، عن عروة، عن أم سلمة، قال ابن أبي حاتم في "علله": رواه معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم أُتي بامرأة استعارت حليًّا فقطع يدها.
وأيوب، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعًا قال أبي: لم يرو هذين الحديثين غير معمر.
فأما حديث أيوب فإنَّ الناس يحدثون عن نافع عن صفية: أتي عمر بسارق.
ليس فيه ذكر العارية.
(1)
"المتواري" ص 306، 307.
(2)
مسلم (1688) كتاب: الحدود، باب: قطع السارق، الشريف، وأبو داود (4373) والترمذي (1430)، والنسائي 8/ 72، وابن ماجه (2547).
(3)
أبو داود (4396).
وأما حديث الزهري فإنه أراد عندي حديث عروة، عن عائشة أن رجلًا أقطع نزل على أبي بكر، فجعل يطيل الصلاة بالليل قال: وكان حماد بن زيد يختلف إلى أبواب جماعة، فخرج واحد إلى اليمن،
فحدث، عن أيوب بأحاديث وكأنه ليس من حديث أيوب
(1)
.
قلت: وهذِه المرأة اسمها فاطمة بنت الأسود
(2)
، ووجه إدخال البخاري حديث عائشة في الباب لقولها فيه:(فحسنت توبتها)؛ لأن فيه دلالة أن السارق إذا تاب وحسنت حاله، قبلت شهادته.
وأما حديث زيد بن خالد فوجه إدخاله هنا أنه عليه السلام لم يشترط عليه بعد الحد والتغريب شيئًا، ولو كان شرطًا فمقبول شهادته لذكره، وإنما ذكر قول الثوري وأبي حنيفة ليلزمهم التناقض في قولهما إن القاذف لا تجوز شهادته وهم يجيزونها في مواضع، وأجاز الثوري شهادة العبد إذا جلد قبل العتق
(3)
.
وهذا تناقض؛ لأن من قذف فقد فسق، وليس العتق توبة، وهو لو قذف بعد العتق وتاب لم تجز شهادته عنده، وكذلك أجاز قضايا المحدود في القذف، وهذا تناقض؛ فكيف تجوز قضايا المحدود ولا تجوز شهادته؟ وكذلك يلزم أبا حنيفة التناقض في إجازته النكاح بشهادة محدودين، وإنما أجاز ذلك؛ لأن من مذهبه أن الشهود في النكاح خاصة على العدالة، وفيما سوى ذلك على الجرحة، وهذا تحكم.
(1)
"علل ابن أبي حاتم" 1/ 467 - 468.
(2)
انظر: "الطبقات الكبرى" 8/ 863، "الاستيعاب" 4/ 446 (3487)، "الإصابة" 4/ 380 (832).
(3)
رواه عبد الرزاق في "المصنف" 8/ 364 (15556).
وحكاية هذا القول مغنٍ عن الرد عليه وقال ابن المنذر: أجاز أبو حنيفة النكاح بشهادة فاسقين.
وقد أجمع أهل العلم على رد شهادتهم، وأبطل النكاح بشهادة عبدين.
وقد اختلف أهل العلم في قبول شهادتهم والنظر دال على أن شهادتهم مقبولة إذا كانا عدلين
(1)
.
ودليل القرآن: وهو قوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] وأما إجازته شهادة المحدود في هلال رمضان، فإنه أجرى ذلك مجرى الخبر، وهو يخالف الشهادة في المعنى كما
سلف؛ لأن المخبر له مدخل في حكم ما شهد به.
وهذا غلط؛ لأنَّ الشاهدَ على هلالِ رَمَضانَ لا يزول عنه اسم شاهد ولا يُسمى مخبرًا، فحكمه حكم الشاهد في المعنى؛ لاستحقاقه ذلك بالاسم.
وأيضًا فإن الشهادة على هلال رمضان حُكم من الأحكام، ولا يجوز أن يكون يقبل في الأحكام إلا من تجوز شهادته في كل شيء، ومن جازت شهادته في هلال رمضان ولم تجز في القذف فليس بعدل، ولا هو ممن يُرضى؛ لأن الله تعالى إنما تعبدنا بقبول من نرضى من الشهداء.
وأوضح الخلافَ في مسألة القاذف ابن بطال أيضًا، حيث قال: اختلف العلماء في شهادة القاذف هل ترد شهادته قبل الحد أم لا؟ فروى ابن وهب، عن مالك أنه لا ترد شهادته؛ حتى يحد، وهو قول
(1)
"الإشراف" 1/ 33.
الكوفيين، وقال الليث والأوزاعي والشافعي: ترد شهادته وإن لم يحد، وهو قول ابن الماجشون
(1)
.
حجة من أجازها قبل الحد؛ بأن الحد لا يكون إلا بأن يطلبه المقذوف ويعجز القاذف عن البينة، فإذا لم يؤمن عليه أن يعترف بالزنا أو تقوم عليه بينة، فلا يفسق القاذف ولا يحد؛ لأنه على أصل العدالة حتى يتبين كذبه.
وحجة الشافعي أنه بالقذف يفسق؛ لأنه من الكبائر، ولا تقبل شهادته حتى تصح براءته، بإقرار المقذوف له بالزنا أو قيام البينة عليه.
وهو عنده على الفسق؛ حتى تتبين براءته ويعود إلى العدالة، وهو قبل الحد شر حالًا منه حين يحد؛ لأن الحدود كفارات للذنوب، وهو بعد الحد خير منه قبله، فكيف أَرُدُّ شهادته في خير حالتيه، وأجيزها في شرها؟
قال: واختلفوا إذا حُدَّ وتاب فقال جمهور السلف: إذا تاب وحسنت حالته قبلت شهادته.
وممن روي عنه سوى ما ذكره البخاري -في قول ابن المنذر- عطاء، واختلف فيه عن ابن المسيب، وهو قول مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور وأبي عبيد
(2)
.
وممن قال إن شهادته لا تجوز أبدًا وإن تاب شريح والحسن
(1)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 3/ 329، "المبسوط" 16/ 126، "الاستذكار" 22/ 44 - 45، "الأم" 7/ 81.
(2)
انظر: "الاستذكار" 22/ 38، "الأم" 7/ 81، "مسائل أحمد وإسحاق" برواية الكوسج 2/ 399 (2938).
والنخعي وسعيد بن جبير
(1)
، وهو قول الثوري والكوفيين وقالوا: توبته فيما بينه وبين الله
(2)
. قال: وأما المحدود في الزنا والسرقة والخمر، إذا تابوا قبلت شهادتهم.
واحتج الكوفيون في رد شهادة القاذف؛ بعموم {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4] وقالوا: إن الاستثناء في قوله {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [النور: 5] راجع إلى الفسق خاصة لا إلى قبول الشهادة.
وقال آخرون: الاستثناء راجع إلى الفسق والتوبة جميعًا، إلا أن يفرق بين ذلك بخبر يجب التسليم له، وإذا قبل الكوفيون شهادة الزاني والمحدود في الخمر والقاذف إذا تابوا، والمشرك إذا أسلم وقاطع الطريق ثم لا تقبل شهادة من شهد بالزنا فلم تتم الشهادة فجعل قاذفًا.
وقام الإجماع على (أن)
(3)
التوبة تمحو الكفر، فوجب أن يكون ما دونه أولى، وقد قال الشعبي: يقبل الله توبته ولا تقبلون شهادته
(4)
.
واحتجوا بأن عمر جلد الذين قذفوا المغيرة واستتابهم وقال: من تاب قبلت شهادته. وكان هذا بحضرة جماعة من الصحابة من غير نكير، ولو كان تأويل الآية ما تأوله الكوفيون لم يجز أن يذهب علم ذلك عن الصحابة، ولقالوا لعمر: لا يجوز قبولها أبدًا.
ولم يسعهم السكوت عن القضاء بتحريف تأويل الكتاب فسقط قولهم.
(1)
روى هذِه الآثار ابن أبي شيبة 4/ 330 (20645) - (20649).
(2)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 3/ 328.
(3)
زيادة يقتضيها السياق.
(4)
رواه عبد الرزاق 8/ 363 (15552).
واختلف قولُ مالك وأصحابه، هل تُقبل شهادتُه في كلِّ شيء، فروى عنه ابن نافع أن المحدود إذا حسنت حاله قبلت شهادته في كل شيء، وهي رواية ابن عبد الحكم عنه، وهو قول ابن كنانة
(1)
، ورواه أبو زيد عن أصبغ، وذكر الوقار عن مالك أنه لا تقبل شهادته، فيما حُدّ فيه خاصة، وتقبل فيما سوى ذلك إذا تاب، وهو قول مطرف وابن الماجشون، وروى العتبي عن أصبغ وسحنون مثله
(2)
، والقول الأول أولى؛ لعموم الاستثناء ورجوعه إلى أول الكلام وآخره، ومن ادعى تخصيصه فعليه الدليل.
واختلف مالك والشافعي في توبة القاذف ما هي؟
فقال الشافعيُّ: توبته أن يكذب نفسه
(3)
.
روي ذلك عن عمر، واختاره إسماعيل بن إسحاق، وقال مالك: توبته أن يزداد خيرًا.
ولم يشترط إكذاب نفسه في توبته لجواز أن يكون صادقًا في قذفه
(4)
.
قال المهلب: وكان المسلمونَ احتجُّوا في هذا على أبي بكرة؛ ألا ترى أنهم يروون عنه الأحاديث ويَحملون عنه السُّنَّة، وهو لم يُكذب نفسه وقد قال له عُمر: ارجع عن قذفك المغيرة ونقبل شهادتك.
وإنما قال له ذلك عمر -والله أعلم- استظهارًا له كمال التوبة والرجوع عما قال في القذف، وإن كان يجتزأ بصلاح حاله عن تكذيب نفسه في قبول شهادته
(5)
.
(1)
انظر: "الاستذكار" 22/ 37.
(2)
انظر: "النوادر والزيادات" 8/ 338، 339.
(3)
"الأم" 7/ 81.
(4)
انظر: "الاستذكار" 22/ 38 - 39.
(5)
"شرح ابن بطال" 8/ 16 - 18.
خاتمة في تلخيص ما مضى: في الآية التي ذكرها البخاري ثلاثة أحكام: جلده، وترك قبول شهادته، وتفسيقه.
وللعلماء فيها ثلاثة أقوال أسلفناها:
أحدها: قول عمر هذا أن الاستثناء من قبول الشهادة، وهو قول أهل المدينة ومذهب مالك.
واختلف مذهبه أنه هل تسقط شهادته بنفس القذف؟ وهو مذهب عبد الملك أو حين يعجز عن إثبات ذلك، قاله ابن القاسم.
واختلف أيضًا إذا قبلناها، هل تقبل في كل شيء -قاله ابن القاسم- أولًا تقبل في القذف؟ قاله مطرف وابن الماجشون.
والقول الثاني: أن الاستثناء من الفسق، وأنه إن تاب لا تقبل شهادته، وهو قول الكوفيين، وهو ما حكاه البخاري عن بعض الناس، وهو الكوفي، وهي مناقضة بَيِّنة.
والثالث: أن الاستثناء من الثلاثة، فإذا تاب قبلت شهادته.
واختلف في صفة توبته: فقيل: هو أن يزيد خيرًا على ما كان. قاله مالك، وقيل: هو أن يكذب نفسه، وهو قول عمر.
وفائدة قوله تعالى: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4] أي: مقدار مدة حياته، ومقدار انقضاء وقته، فالمعنى: لا تقبل ما دام قاذفًا. قال ابن التين: وهذا من جهة المعنى في اللغة وكلام العرب يوجب قبول شهادته.
وحديث زيد بن خالد حجة على أبي حنيفة في التغريب أنه لا يجب
إلا إذا رآه الإمام، وقال الشافعي به في المرأة والعبد، وخالف مالك فيهما. قال الداودي: وما ذكره البخاري من تغريب الزاني وجلده ليس من طريق الشهادة.
9 - باب لَا يَشْهَدُ عَلَى شَهَادَةِ جَوْرٍ إِذَا أُشْهِدَ
2650 -
حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، أَخْبَرَنَا أَبُو حَيَّانَ التَّيْمِيُّ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنهما قَالَ: سَأَلَتْ أُمَّي أَبِي بَعْضَ المَوْهِبَةِ لِي مِنْ مَالِهِ، ثُمَّ بَدَا لَهُ فَوَهَبَهَا لِي فَقَالَتْ لَا أَرْضَي حَتَّى تُشْهِدَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم. فَأَخَذَ بِيَديِ وَأَنَا غُلَامٌ، فَأَتَى بِيَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنَّ أُمَّهُ بِنْتَ رَوَاحَةَ سَأَلَتْنِي بَعْضَ المَوْهِبَةِ لِهَذَا، قَالَ:"أَلَكَ وَلَدٌ سِوَاهُ؟ ". قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَأُرَاهُ قَالَ: "لَا تُشْهِدْنِي عَلَى جَوْرٍ". وَقَالَ أَبُو حَرِيزٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ:"لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ". [انظر: 2586 - مسلم: 1689 - فتح: 5/ 255]
2651 -
حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا أَبُو جَمْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ زَهْدَمَ بْنَ مُضَرِّبٍ قَالَ: سَمِعْتُ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "خَيْرُكُمْ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ". قَالَ عِمْرَانُ: لَا أَدْرِي أَذَكَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْدُ قَرْنَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً. قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ بَعْدَكُمْ قَوْمًا يَخُونُونَ وَلَا يُؤْتَمَنُونَ، وَيَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَنْذِرُونَ وَلَا يَفُونَ، وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ". [3650، 6428، 6695 - مسلم: 2535 - فتح: 5/ 258].
2652 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبِيدَةَ عَنْ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ أَقْوَامٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ، وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ". قَالَ إِبْرَاهِيمُ: وَكَانُوا يَضْرِبُونَنَا عَلَى الشَّهَادَةِ وَالعَهْدِ. [3651، 6429، 6658 - مسلم: 2533 - فتح: 5/ 259]
ذكر فيه حديث النعمان بن بشير السالف "لَا تُشْهِدْنِي عَلَى جَوْرٍ".
وَقَالَ أَبُو حَرِيزٍ
(1)
، عَنِ الشَّعْبِيِّ:"لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ".
وحديث عمران بن حصين قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "خَيْرُكُمْ قَرْنِي، .. "
(1)
ذكر فوق هذِه الجملة كلمة (معلق).
الحديث إلى أن قال: "إِنَّ بَعْدَكُمْ قَوْمًا يَخُونُونَ وَلَا يُؤتَمَنُونَ، .. وفيه أبو جمرة بالجيم
(1)
.
وحديث عَبِيدَةَ عَنْ عَبْدِ اللهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"خَيْرُ النَّاسِ قَرنِي، ثُمَّ الذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ أَقْوَامٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ، وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ". قَالَ إِبْرَاهِيمُ: وَكَانُوا يَضْرِبُونَنَا عَلَى الشَّهَادَةِ وَالعَهْدِ.
الشرح:
تعليق أبي حريز هو في نسخة أول الباب، وفي أخرى بعد الحديث كما أوردناه، وكان الثاني أولى، وقد سلف موصولًا في الهبة
(2)
.
وحديث عمران أخرجه مسلم أيضًا
(3)
، وأغرب الحاكم فاستدركه على شرطهما
(4)
، ورواه ابن حزم بلفظ:"يحربون".
وقال: كذا حدثنا عبد الله بن ربيع بحاء مهملة، ثم راء مرفوعة ثم باء موحدة، ورويناه من طرق كثيرة بالخاء المعجمة ثم واو.
قال: ومن خان فقد حرب
(5)
.
وفي الباب عن جماعة: عمر أخرجه أبو داود الطيالسي
(6)
(1)
ورد بهامش الأصل: يعني والراء.
(2)
تعليق أبي حريز وصله الطبراني كما في "تغليق التعليق" 3/ 383، وابن حبان 11/ 506 (5107)، ولم يأت موصولا في البخاري، وإنما الذي جاء في كتاب الهبة هو أصل الحديث، والله أعلم.
(3)
مسلم (1623) كتاب: الهبات، باب: كراهة تفضيل بعض الأولاد.
(4)
الحاكم 3/ 471.
(5)
"المحلى" 1/ 28 - 29.
(6)
"مسند الطيالسي" 1/ 34 (31).
والترمذي
(1)
وبريدة أخرجه أحمد
(2)
، والنعمان
(3)
أخرجه النقاش في كتاب "الشهود" وأبي برزة وأنس وسمرة وغيرهم.
وفي مسلم: عن عائشة مرفوعًا: "خيرُ القرونِ القَرْن الذي أنا فيه، ثم الثاني، ثم الثالِث"
(4)
.
وله عن أبي سعيد نحوه
(5)
.
إذا تقرر ذلك:
فمعنى: "قَرْنِي": أصحابي، وهو كل مسلم رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما ذكره البخاري في "صحيحه"
(6)
في باب فضائل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
(7)
. والأقران: أهل عصر متقاربة أنسابهم، واشتق لهم هذا الاسم من الاقتران في الأمر الذي جمعهم، وقيل: لا يكونون قرنًا حتى يكونوا في زمن نبي، أو رئيس يجمعهم على ملة أو رأي أو مذهب.
قال ابن التين: وسواء قلَّت المدة أو كثرت.
وقيل: إنه ثمانون سنة أو أربعون أو غيره، وهو أغرب ما قيل فيه.
وقيل: مائة سنة واختاره ثعلب.
(1)
الترمذي (2165).
(2)
أحمد 5/ 350.
(3)
في هامش الأصل: وللنعمان حديث في المسند، وهو:"خير الناس قرني .. " الحديث، ولعله اليسار إليه. [قلت: هو ذاك في المسند 4/ 267].
(4)
مسلم (2536) كتاب: فضائل الصحابة، باب: فضل الصحابة.
(5)
برقم (2532) كتاب: فضائل الصحابة، باب: فضل الصحابة.
(6)
ورد بهامش الأصل: لفظ البخاري: كل مسلم صحب النبي صلى الله عليه وسلم أو رآه فهو من أصحابه.
(7)
سيأتي برقم (3650) كتاب: فضائل الصحابة.
وروي أنه عليه السلام قال: "عش قرنًا"
(1)
.
فعاش مائة، وقيل: من عشرين إلى مائة وعشرين وقيل: ستون.
وقال الجوهري: ثلاثون
(2)
.
وقال صاحب "المحكم": هو مقدار التوسط في أعمار أهل الزمان، فهو في كل قوم على مقدار أعمارهم.
قال: وهو الأمة تأتي بعد الأمة
(3)
.
قيل: مدته عشر سنين.
وقال في "الموعب": قيل: عشرون سنة وقيل: سبعون، قال ابن العربي: هو عبارة عن جماعة من الناس مجتمعة على صفة أو مكان أو زمان، وهو أخصه
(4)
، وقال ابن الأعرابي: القرن: الوقت من الزمان.
وقال غيره: قيل له: قرن؛ لأنه يقرن أمة بأمة، وعالمًا بعالم، وهو مصدر قرنت، جُعِلَ اسمًا للوقت أو لأهله، قاله عياض
(5)
. ولا يصح منه شيء.
ومعنى: "يَخُونُونَ": ينقصون منه ويأخذون.
وفي حديث النعمان دلالة على أن الرجل إذا فهم من عطيته فرار من بعض الورثة أنه لا يعان عليها بشهادة ولا بإمضاء ويؤمر بارتجاعها.
(1)
رواه الطبراني في "مسند الشاميين" 2/ 17 (836)، والحاكم 2/ 549، 4/ 500، والضياء في "الأحاديث المختارة" 9/ 90، وأخرجه البخاري في "التاريخ الكبير" 1/ 323 (1011) من حديث عبد الله بن بسر قال: وضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على رأسي فقال: "هذا الغلام يعيش قرنا". قال: فعاش مائة سنة.
(2)
"الصحاح" 6/ 2180 مادة: (قرن).
(3)
"المحكم" 6/ 222.
(4)
"عارضة الأحوذي" 9/ 64.
(5)
"إكمال المعلم" 7/ 571.
وإنما فهم صلى الله عليه وسلم الجور في ذلك بقولها: (لا أرضى حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) مع علمه بميله إليها، وتجشم مسرتها.
ففيه: دليل أن الحاكم يحكم بما يفهم من المسائل، كما فهم الشارع أنه يطلب رضاها وتفضيل ولدها على إخوته، فهذا هو الجور.
وفي قوله: "إني لا أشهد على جور" ألا يضع أحد اسمه على وثيقة لا تجوز، ومن العلماء من رأى أن يضع اسمه في وثيقة الجور؛ ليكون شاهدًا عليه بأنه فعل ما لا يجوز له؛ ليرد فعله وإن تعمد ذلك كان في الشهادة عليه جرحة تسقط شهادته، والقول الأول الذي يوافق الحديث أولى. وفي حديث عمران تعديل القرون الثلاثة على منازل متفاضلة، وشمول التجريح لمن يأتي بعدهم، وصفة من لا تُقبل شهادته ممن يشهد على ما لم يشهد عليه، ويخون فيما اؤتمن، ولا يفي بما حلف عليه، فهذِه صفات الجرحة.
ومعنى: "يَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ" أنه ليس لهم في الدنيا إلا كثرة الأكل واتباع اللذات، ولا رغبة لهم في أسباب الآخرة؛ لغلبة شهوات الدنيا عليهم، ولا شك في ذم السمن للرجال لمن استعمله وأحبه، دون من طبع عليه.
وقوله: "وَيَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ" قال الخطابي: قد يكون هذا في (اتخاذ)
(1)
الشهادة في الزور من غير استشهاد أو إشهاد.
وفيه: دلالة على أن من شهد لرجل أو عليه عند الحاكم من غير استشهاد، كانت شهادته هدرًا لا توجب حكمًا
(2)
.
(1)
في "أعلام الحديث" 2/ 1306 (إعارة).
(2)
"أعلام الحديث" 2/ 1305 - 1306.
وهذا حكاه الترمذي عن بعض أهل العلم، وأن المراد به شاهد الزور، واحتج بحديث عمر: يفشو الكذب حتى يشهد الرجل ولا يستشهد
(1)
.
والمراد بحديث زيد بن خالد الآتي الشاهد على الشيء فيؤدي شهادته ولا يمتنع من إقامتها.
قال الخطابي: وقد يحتمل ذلك الشهادة على المغيب من أمر الخلق؛ فيشهد على قوم أنهم في النار ولقوم آخرين بغير ذلك على مذاهب أهل الأهواء في مثل هذا
(2)
.
وفي أفراد مسلم من حديث زيد بن خالد الجهني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ألا أخبركم بخير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها"
(3)
وليس مخالفًا لذلك، وإنما وجه الحديث أنه لا يزال مستعدًّا لأدائها أو هي أمانة عنده، فهو يتعرض لها أبدًا متى يقيمها ويؤدي الحق فيها.
وقد قيل: إنما جاء فيمن يكون عنده شهادة نسيها صاحب الحق فيسألها صاحبها، فأما إذا كان عالمًا بها فهو من الشهداء.
وقيل: الخبر فيما إذا مات ويترك أطفالًا ولهم على الناس حقوق ولا علم للوصي بها فيجيء من عنده الشهادة فيخبرهم بذلك، ويبذل شهادته لهم فيحصل بذلك حقهم.
وقال الطحاوي: احتج قوم بالنهي فقالوا: لا يجوز قبل أن يسألها وهو مذموم.
(1)
الترمذي (2302).
(2)
"أعلام الحديث" 2/ 1306.
(3)
مسلم (1719) كتاب: الأقضية، باب: بيان خير الشهود.
وخالفهم في ذلك آخرون وقالوا: بل هو محمود مأجور على ذلك.
واحتجوا بأنه إنما ذكر ذلك في تغير الزمن فقال: "يفشو الكذب؛ حتى يشهد الرجل على الشهادة ولا يسألها، وحتى يحلف على اليمين، لا يستحلف"
(1)
.
فمعنى ذلك أن يشهد كاذبًا لقوله: ثم يفشو الكذب.
وإلا فلا معنى لذكره ذلك، وأيضًا فإن هذِه الشهادة المذمومة لم يرد بها الشهادة على الحقوق، وإنما أريد بها الشهادة في الأيمان، يدل على ذلك قول النخعي في آخر الحديث وهو الذي رواه، قال:(وكانوا يضربوننا على الشهادة والعهد).
فدل هذا من قول إبراهيم أن الشهادة المذمومة هي قول الرجل: أشهد بالله ما كان كذا، على معنى الحلف، فكره ذلك كما كره الحلف؛ لأنه يكره للرجل الإكثار منه وإن كان صادقًا فنهى عن الشهادة التي هي حلف بها، كما نهى عن اليمين إلا أن يستحلف فيكون حينئذٍ معذورًا
(2)
.
واليمين قد يسمى شهادة قال تعالى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللهِ} أي: أربع أيمان.
وحديث زيد فيه تفضيل الشاهد المبتدئ بها، وفسره مالك بعد أن رواه فقال: الرجل يكون عنده الشهادة في الحق لمن لا يعلمها فيخبر بشهادته ويرفعها إلى السلطان
(3)
.
(1)
رواه الترمذي (2165)، وابن ماجه (2363) قال الترمذي: حسن صحيح غريب من هذا الوجه. اهـ.
(2)
"شرح معاني الآثار" 4/ 150، 152.
(3)
انظر: "التمهيد" 17/ 295.
قال الطحاوي: فهذا الشارع قد مدحه وجعله خير الشهداء، فأولى بنا أن نحمل الأخبار على هذا التأويل حتى لا تتضاد ولا تختلف فتكون أحاديث هذا الباب على هذا المعنى الذي ذكرناه، ويكون حديث زيد بن خالد على تفضيل المبتدئ بالشهادة لمن هي [له]
(1)
أو المخبر بها الإمام، وقد فعل ذلك الصحابة وشهدوا ابتداءً، شهد أبو بكرة ومن معه على المغيرة بن شعبة، ورأوا ذلك لأنفسهم لازمًا، ولم يعنفهم على ابتدائهم بها، بل سمع شهادتهم، ولو كانوا في ذلك مذمومين لذمهم وقال: من سألكم عن هذا؟ ألا قعدتم حتى تسألوا، ولما لم ينكر عليهم عمر ولا أحد ممن كان بحضرته دلّ على أنّ فرضهم (ذلك)
(2)
وابتداءهم لا عن مسألة محمود
(3)
. وهو قول مالك والكوفيين.
قال الطحاوي: وفي قوله: "وَيَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ" حجة لابن شبرمة في قوله: إنه من سمع رجلًا يقول لفلان: عندي كذا وكذا ولم يشهده الذي عليه لذلك على نفسه فلا يقبل؛ لأنه لعله أن يكون ذلك وديعة عنده، فليس بشيء، فأما أن يناقله الكلام فيقول: يا فلان ألا تعطيني كذا الذي [لي]
(4)
عندك: فقال: بل أنا معطيك فأنظرني. فيجوز أن يشهد عليه.
والحجة عليه قوله: " (ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته" قال إبراهيم: وكانوا ينهوننا ونحن غلمان أن نحلف بالشهادة والعهد).
(1)
زيادة يقتضيها السياق.
(2)
في الأصل: (كذلك) والمثبت هو الصواب.
(3)
"شرح معاني الآثار" 4/ 152 - 153.
(4)
زيادة يقتضيها السياق.
فدل أن الشهادة المذمومة هي المحلوف بها التي يجعلها الإنسان عادته، كما قال تعالى:{وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 224] ولا خلاف بين العلماء أن من رأى رجلًا يقتل رجلًا أو يغصبه مالًا أنه يجوز أن يشهد به وإن لم يشهده الجاني بذلك على نفسه
(1)
.
فإن قلت فقوله: ("تسبق شهادة أحدهم .. ") إلى آخره، يدل أن الشهادة والحلف عليها يبطلها؛ لأنه تهمة. قيل: لا خلاف بين العلماء أنه تجوز الشهادة والحلف عليها، وهو في كتاب الله في ثلاثة مواضع:{وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} [يونس: 53]، وقال:{زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التغابن: 7]{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سبأ: 3] إلا ما ذكره ابن شعبان في "زاهيه" قال: إذا شهد وحلف تسقط شهادته، ومن قال: أشهد بالله لفلان على كذا لم تقبل شهادته؛ لأنه حالف وليس بشاهد، والمعروف عن مالك غيره
(2)
، وقال ابن التين:(قول إبراهيم: كانوا يضربوننا على الشهادة والعهد).
يريد بذلك باليمين مع شهادته، وذلك على وجه الأدب. وعن ابن شعبان: إذا شهد وحلف تسقط شهادته؛ لأنه متهم إذا حلف.
وقد تقدم، وزاد في باب: فضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إبراهيم.
ونحن صغار
(3)
أي: لم نبلغ حد النفقة، وإن كانوا بلغوا. وقيل: معناه إذا حلفنا بالعهد والشهادة لما لهما من تعظيم الحنث من الحلف بهما في القرآن في قوله: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللهُ} .
(1)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 3/ 358، 359.
(2)
انظر: "شرح ابن بطال" 8/ 31.
(3)
سيأتي برقم (3651) كتاب: المناقب.
وقوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} .
ذكره ابن التين هناك.
وقال ابن الجوزي في سبق شهادة أحدهم يمينه، معناه: أنهم لا يتورعون من أقوالهم، ويستهينون بالشهادة واليمين.
تنبيهات:
أحدها: هذِه القرون أفضل من بعدها إلى يوم القيامة، وهي في أنفسها أيضًا متفاضلة على رتبة الحديث.
وقال ابن الأنباري: معناه: خير الناس أهل قرني، حذف المضاف.
وقد يسمى أهل العصر قرنًا؛ لاقترانهم في الوجود.
قال القرطبي: وهو من الناس أهل زمن واحد، وهو ساكن الراء
(1)
.
ثانيها: وردت أحاديث ظاهرها يقضي لآخر هذِه الآمة على أولها، منها: حديث أبي ثَعْلَبَةَ الخُشَنِيِّ عن النبي صلى الله عليه وسلم. فذكَرَ حديثًا فيه: "فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامًا الصابر فِيهِنَّ مِثْلُ القَابِض عَلَى الجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ". قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَجْرُ خَمْسِينَ رَجُلًا مِنَّا أَوْ مِنْهُمْ؟ قَالَ: "لَا بَلْ أَجْرُ خَمْسِينَ رجلًا مِنْكُمْ". أخرجه الترمذي، ثم قَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ
(2)
.
ومنها: ما أخرجه ابن أبي شيبة، عن عيسى بن يونس، عن صفوان بن
عمرو السكسكي، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليدركنَّ المسيح من هذِه الأمة أقوامًا إنَّهم لمثلكم أو خير ثلاث مرات،
(1)
"المفهم" 6/ 485 - 486.
(2)
الترمذي. (2260)، والحاكم 4/ 358، وقال: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة"(957).
ولن يُخزي الله أمة أنا أولها والمسيح آخرها"
(1)
.
ومنها: ما أخرجه أبو نعيم الحافظ من حديث حوشب بن عبد الكريم: ثنا حماد بن زيد، عن أبان، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وذكر آخر الزمان "المتمسك يومئذٍ بدينه كالقابض على الجمر وأجره كأجر خَمسِينَ" قالوا: منا أو منهم يا رسول الله؟ قال: "بَلْ مِنْكُم".
ومنها: ما أخرجه الحكيم الترمذي عن الفضل بن محمد الواسطي: ثنا إبراهيم بن الوليد بن سلمة الدمشقي: ثنا أبي: ثنا عبد الملك بن عقبة الأفريقي، عن أبي يونس -مولى أبي هريرة- عن عبد الرحمن بن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل أُمَّتي مثل حديقة قام عليها صاحبُها فأطعمت عامًا فوجًا ثم عامًا فوجًا، ولعلَّ آخرها ما يكون أجودها قنوًا وأطولها شمراخًا، والذي بعثني بالحق ليجدن ابن مريم في أُمتي خلفًا مِنْ حواريه"
(2)
.
ومنها: ما ذكره أبو نصر الوايلي في كتابه "الإبانة" من حديث رشدين عن عقيل، عن الزهري، عن كعب الحبر قال: إني لأجد في كتاب الله المنزل على موسى أن في آخر الزمان بالإسكندرية شهداء يستشهدون في بطحائها، خيرَ من مضى وخير من بقي، وهم الذين يباهي الله بهم شهداء بدر.
ومنها: ما ذكره أبو بكر التاريخي
(3)
عن عبد الله بن أيوب المخرمي:
(1)
"مصنفه" 4/ 212 (19337)، 7/ 414 (36960).
(2)
"نوادر الأصول" ص 156.
(3)
هو أبو بكر محمد بن عبد الملك التاريخي السراج البغدادي، كان فاضلا أديبًا، ولقب بالتاريخي لأنه كان يعني بالتواريخ وجمعها. انظر:"اللباب في تهذيب الأنساب" 1/ 204.
ثنا أبو سفيان الواسطي سعيد بن يحيى الحميدي: ثنا عبد الحميد بن جعفر، عن ثور بن بريد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خيرُ أمتي أولها وآخرها، وبين ذلك أعوج ليسوا منِّي ولستُ منهم".
وأما حديث: "مثل أُمَّتي كالمطر لا يُدرى أوله خير أو آخره" فهو ضعيف، أخرجه أبو يعلى من رواية يوسف الصفار عن ثابت عن أنس مرفوعًا، ويوسف ضعيف بالاتفاق، كثير الوهم، منكر الحديث
(1)
.
قال النووي: ولو صح لكان معناه أن هذا يقع بعد نزول عيسى حتى تظهر البركة ويكثر الخير ويظهر الدين، بحيث يتشكك الرائي هل هؤلاء أفضل من أوائل الأمة أم الأوائل أفضل؟ وهذا مما يظهر للرائي، وإلا فأول الأمة أفضل في نفس الأمر، وهو قريب الشبه من قول الشاعر:
أيا ظَبْيَةَ الوَعْسَاء بين جلاجلٍ
…
وبين النَّقا هل أنتِ أمْ أمُّ عامِر
(2)
؟
معناه: لتقاربهما تشككت فيهما وإن كانت الظبية مخالفة لأم عامر، فحصل أنه لو صح لم يكن مخالفًا لحديث الباب، وحديث:"ما من عام إلا والذي بعده شر منه"
(3)
.
قلت: وقيل للزمان تقسيمات فربما وقع في أثنائه فاضلًا.
(1)
"مسند أبي يعلى" 6/ 380 (3717).
(2)
وقع في الأصل (أم سالم) وكتب فوقها عامر. والبيت لذي الرُّمَّة، وصوابه أم سالم كما في "أدب الكاتب" ص 189، "الأغاني" 18/ 9، "الإيضاح في علوم البلاغة" ص 351. وورد في حاشية الأصل بخط سبط:(جلاجل بالفتح موضع، وُيروى بحاء يعني: بمهملة مضمومة).
(3)
سيأتي برقم (7068) كتاب: الفتن، باب: لا يأتي زمان إلا الذي بعده شر منه.
10 - باب مَا قِيلَ فِي شَهَادَةِ الزُّورِ
لِقَوْلِه عز وجل: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان: 72] وَكِتْمَانِ الشَّهَادَةِ لقوله: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [البقرة: 283]{تَلْوُوا} [النساء: 135] أَلْسِنَتَكُمْ بِالشَّهَادَةِ.
2653 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُنِيرٍ، سَمِعَ وَهْبَ بْنَ جَرِيرٍ، وَعَبْدَ المَلِكِ بْنَ إِبْرَاهِيمَ قَالَا: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الكَبَائِرِ، قَالَ:"الإِشْرَاكُ بِاللهِ، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ". تَابَعَهُ غُنْدَرٌ وَأَبُو عَامِرٍ، وَبَهْزٌ، وَعَبْدُ الصَّمَدِ، عَنْ شُعْبَةَ. [5977، 6871 - مسلم: 88 - فتح: 5/ 261]
2654 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ المُفَضَّلِ، حَدَّثَنَا الجُرَيْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الكَبَائِرِ". ثَلَاثًا. قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: "الإِشْرَاكُ بِاللهِ، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ". وَجَلَسَ وَكَانَ مُتَّكِئًا فَقَالَ: "أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ". قَالَ: فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا لَيْتَهُ سَكَتَ. وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: حَدَّثَنَا الجُرَيْرِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ. [5976، 6273، 6274، 6919 - مسلم: 87 - فتح: 5/ 261]
ثم ساق بإسناده فقال:
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُنِيرٍ، سَمِعَ وَهْبَ بْنَ جَرِيرٍ، وَعَبْدَ المَلِكِ بْنَ إِبْرَاهِيمَ قَالَا: ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَنَسٍ: سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عنِ الكَبَائِرِ، قَالَ:"الإِشْرَاكُ باللهِ، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ". تَابَعَهُ غُنْدَرٌ وَأَبُو عَامِرٍ، وَبَهْزٌ، وَعَبْدُ الصَّمَدِ، عَنْ شُعْبَةَ.
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، ثَنَا بِشْرُ بْنُ المُفَضَّلِ، ثنَا الجُرَيْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكبَرِ الكَبَائِرِ؟ ". ثَلَاثًا. قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: "الإِشْرَاكُ باللهِ، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ". وَجَلَسَ وَكَانَ مُتَّكِئًا فَقَالَ: "أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ". قَالَ: فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ. وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: ثَنَا الجُرَيْرِيُّ ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ.
الشرح:
فيه عظم شهادة الزور، وأنها من أكبر الكبائر، وعبارة ابن بطال في حديث أبي بكرة أنها أكبر الكبائر، وقد روي عن ابن مسعود أنه قال: عدلت شهادة الزور با لإشراك بالله، وقرأ عبد الله:{فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ}
(1)
[الحج: 30].
واختلف في شاهد الزور إذا تاب، فقال مالك: يقبل الله توبته وشهادته، كشارب الخمر.
وعن عبد الملك: لا يقبل كالزنديق.
وقال أشهب: إنْ أَقَرَّ بذلك لم تُقْبل توبته أبدًا.
وعند أبي حنيفة: إذا ظهرت توبتُهُ يجب قَبول شهادته إذا أتى على ذلك مدة يظهر في مثلها توبته
(2)
.
وهو قول الشافعي وأبي ثور، وعن مالك أيضًا: كيف يؤمن هذا، لا والله.
(1)
"مصنف عبد الرزاق" 8/ 327 (15395)، "مصنف بن أبي شيبة" 4/ 550 (23028) وانظر:
(2)
انظر: "المبسوط" 16/ 178، "الجوهرة النيرة" 2/ 236 - 237.
قال ابن المنذر: وقول أبي حنيفة ومن تبعه أصح.
وقال ابن القاسم: بلغني عن مالك أنه لا تقبل شهادته أبدًا، وإن تاب وحسنت توبته؛ اتباعًا لعمر
(1)
.
واختلف هل يؤدب إذا أقر، فعن عمر بن الخطاب بسند ضعيف، أخرجه ابن أبي شيبة أنه أقام شاهد الزور عشية في إزار ينكت نفسه
(2)
.
وفي لفظ بإسناد جيد: ألا يؤسرنَّ أحد في الإسلام بشهود الزور؛ فإنَّا لا نقبل إلا بالعدول
(3)
.
وعن شريح أنه كان يبعث بشاهد الزور إلى قومِهِ أو إلى سُوقِهِ إن كان مولى: إنَّا قد زيفنا شهادة هذا، ويكتب اسمه عنده، ويضربه خفقات، وينزع عمامته عن رأسه
(4)
.
وعن الجعد بن ذكوان، أن شريحًا ضرب شاهد الزور عشرين سوطًا، ذكره التاريخي، وعن عمر بن عبد العزيز أنه اتهم قومًا على هلال رمضان فضربهم سبعينَ سَوْطًا وأبطل شهادتهم، وعن الزهري: شاهد الزور يعزر.
وقال الحسن: يضرب شيئًا ويقال للناس: إن هذا شاهد زور.
وقال الشعبي: يضرب ما دون الأربعين: خمسة وثلاثين، سبعة وثلاثين سوطًا
(5)
.
(1)
انظر: "المدونة" 4/ 74.
(2)
"مصنف ابن أبي شيبة" 4/ 550 (23033).
(3)
"مصنف ابن أبي شيبة" 4/ 550 (23030).
(4)
عبارة المصنف منتزعة من ثلاثة آثار رواها ابن أبي شيبة 4/ 550 (23034 - 23036).
(5)
انظر هذِه الآثار في ابن أبي شيبة 4/ 550 - 551.
وفي ابن بطال عنه: يشهر ولا يعزر.
قال: وهو قول أبي حنيفة
(1)
.
وفي كتاب "القضاء" لأبي عبيد القاسم بن سلام، عن معمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد شهادة رجل في كذبة كذبها.
وأسنده أبو سعيد النقاش محمد بن علي في كتاب "الشهود" عن عبد الرحمن بن محمد السجزي: ثنا علي بن محمد الجوهري: ثنا أحمد بن سعيد الهاشمي: ثنا عمرو بن زياد: ثنا نوح بن أبي مريم، عن إبراهيم الصائغ، عن عكرمة، عن ابن عباس فذكره بلفظ: كذبة واحدة كذبها
(2)
.
ومن حديث معمر عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، وفي "الإشراف" كان سوار يأمر به يُلَبَّبُ بثوبه ويقول لبعض أعوانه: اذهبوا به إلى مسجد الجامع فدوروا به على الخلق، وهو ينادي: من رآني فلا يشهد بزور. وكان النعمان يرى أن يُبْعث به إلى سوقه إن كان سوقيًّا أو إلى مسجد قومه. ويقول: القاضي يُقرئكم السلام، ويقول: إنَّا وجدنا هذا شاهدَ زورٍ فاحذَروه وحذِّرُوه الناسَ، ولا يرى عليه تعزيرًا.
وعن مالك: أرى أن يفضح ويعلن به ويوقف، وأرى أن يضرب ويشار به
(3)
.
(1)
"شرح ابن بطال" 8/ 32.
(2)
ورد بهامش الأصل: وروى هذا الحديث ابن أبي الدنيا في "الصمت" من رواية موسى بن شيبة مرسلًا، وموسى روى معمر عنه مناكير، قاله أحمد بن حنبل. انتهى.
قلت: هو في كتاب "الصمت" ص 242.
(3)
انظر: "النوادر والزيادات" 8/ 389.
وقال أحمد وإسحاق: يقام للناس ويغل ويؤدب
(1)
.
وقال أبو ثور: يعاقب.
وقال الشافعي: يعزر ولا يبلغ بالتعزير أربعين سوطًا، ويشهر بأمره
(2)
.
وعن عمر بن الخطاب أنه حبسه يومًا وخلى عنه
(3)
.
وذكر عبد الرزاق عن مكحول، عن الوليد بن أبي مالك أن عمر بن الخطاب كتب إلى عماله بالشام فيه أن يجلد أربعين ويسخم وجهه ويحلق رأسه ويطال حبسه. ورواية أخرى عنه أنه أمر أن يُسَخَّم وجهه وتلقى عمامته في عنقه ويطاف عليه في القبائل ويقال: شاهد زور ولا تقبل شهادته أبدًا.
وروى ابن وهب عن مالك أنه يجلد ويطاف ويشنع به
(4)
، وقال ابن أبي ليلى: يعزره.
وفي رواية عنه: يضرب خمسة وسبعين سوطًا ولا يبعث به.
وعن الأوزاعي: إذا كانا اثنين وشهدا على طلاق ففرق بينهما ثم أكذبا أنفسهما أنهما يضربان مائة مائة ويغرمان للزوج الصداق، وعن القاسم وسالم: شاهد الزور يحبس ويخفق سبع خفقات بعد العصر
وينادى عليه.
(1)
"مسائل أحمد وإسحاق برواية الكوسج" 2/ 385 (2896).
(2)
"مختصر المزني" 5/ 246.
(3)
"مسند ابن الجعد" 1/ 331 (2269)، البيهقي 141/ 10 (20491)، وقال الحافظ في "التلخيص" 4/ 81: عاصم فيه لين.
(4)
انظر: "النوادر والزيادات" 8/ 389.
وعن عبد الملك بن يعلى قاضي البصرة أنه أمر بحلق أنصاف رءوسهم وتسخيم وجوههم ويطاف بهم في الأسواق
(1)
.
ونقل ابن بطال التعزير عن أبي يوسف ومحمد
(2)
، وقال الطحاوي: شهادة الزور فسق ومن فسق، رجلًا عذر، فوجود الفسق منه أولى أن يستحق به التعزير، ولا يختلف أن من فسق بغير شهادة الزور أن توبته مقبولة، وشهادته بعدها كذلك شاهد زور
(3)
.
(1)
انظر: "المغني" 14/ 261.
(2)
"شرح ابن بطال" 8/ 32.
(3)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 3/ 360.
11 - باب شَهَادَةِ الأَعْمَى، وَأَمْرِهِ، وَنِكَاحِهِ وَإِنْكَاحِهِ، وَمُبَايَعَتِهِ، وَقَبُولِهِ فِي التَّأْذِينِ وَغَيْرِهِ، وَمَا يُعْرَفُ بِالأَصْوَاتِ
وَأَجَازَ شَهَادَتَهُ قَاسِمٌ وَالحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ وَالزُّهْرِيُّ وَعَطَاءٌ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: تَجُوزُ شَهَادَتُهُ إِذَا كَانَ عَاقِلًا. وَقَالَ الحَكَمُ: رُبَّ شَيْءٍ تَجُوزُ فِيهِ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: أَرَأَيْتَ ابْنَ عَبَّاسٍ لَوْ شَهِدَ عَلَى شَهَادَةٍ أَكُنْتَ تَرُدُّهُ؟ وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَبْعَثُ رَجُلًا، إِذَا غَابَتِ الشَّمْسُ أَفْطَرَ، وَيَسْأَلُ عَنِ الفَجْرِ فَإِذَا قِيلَ لَهُ: طَلَعَ. صَلَّى رَكْعَتَيْنِ. وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ: اسْتَأْذَنْتُ عَلَى عَائِشَةَ فَعَرَفَتْ صَوْتِي، قَالَتْ سُلَيْمَانُ، ادْخُلْ، فَإِنَّكَ مَمْلُوكٌ مَا بَقِيَ عَلَيْكَ شَيْءٌ. وَأَجَازَ سَمُرَةُ بْنُ جُنْدَبٍ شَهَادَةَ امْرَأَةٍ مُنْتَقِبَةٍ.
2655 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ مَيْمُونٍ، أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ سَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا يَقْرَأُ فِي المَسْجِدِ، فَقَالَ:"رحمه الله، لَقَدْ أَذْكَرَنِي كَذَا وَكَذَا آيَةً، أَسْقَطْتُهُنَّ مِنْ سُورَةِ كَذَا وَكَذَا".
وَزَادَ عَبَّادُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ عَائِشَةَ تَهَجَّدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِي، فَسَمِعَ صَوْتَ عَبَّادٍ يُصَلِّي فِي المَسْجِدِ، فَقَالَ:"يَا عَائِشَةُ، أَصَوْتُ عَبَّادٍ هَذَا؟ ". قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: "اللَّهُمَّ ارْحَمْ عَبَّادًا". [5037، 5038، 5042، 6335 - مسلم: 788 - فتح: 5/ 264]
2656 -
حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ بِلَالًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ" أَوْ قَالَ: "حَتَّى تَسْمَعُوا أَذَانَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ".
وَكَانَ ابن أُمِّ مَكْتُومِ رَجُلًا أَعْمَى، لَا يُؤَذِّن حَتَّى يَقُولَ لَهُ النَّاس: أَصْبَحْتَ.
[انظر: 617 - مسلم: 1092 - فتح: 5/ 264]
2657 -
حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ وَرْدَانَ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنِ المِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ رضي الله عنهما قَالَ: قَدِمَتْ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَقْبِيَةٌ، فَقَالَ لِي أَبِي مَخْرَمَةُ: انْطَلِقْ بِنَا إِلَيْهِ عَسَى أَنْ يُعْطِيَنَا مِنْهَا شَيْئًا. فَقَامَ أَبِي عَلَى البَابِ فَتَكَلَّمَ، فَعَرَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صَوْتَهُ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ قَبَاءٌ، وَهُوَ يُرِيهِ مَحَاسِنَهُ وَهُوَ يَقُولَ:"خَبَأْتُ هَذَا لَكَ، خَبَأْتُ هَذَا لَكَ". [انظر: 2599 - مسلم: 1058 - فتح: 5/ 264]
ثم ساق ثلاثة أحاديث:
أحدها: حديث هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا يَقْرَأُ في المَسْجِدِ، فقَالَ:"رحمه الله، لَقَدْ أَذْكَرَنِي كَذَا وَكَذَا آيَةً، أَسْقَطْتُهُنَّ مِنْ سُورَةِ كَذَا وَكَذَا". وَزَادَ عَبَّادُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ عَائِشَةَ تَهَجَّدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِي، فَسَمِعَ صَوْتَ عَبَّادٍ يُصَلِّي فِي المَسْجِدِ، فَقَالَ:"يَا عَائِشَةُ، أَصَوْتُ عَبَّادٍ هذا؟ ". قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: "اللَّهُمَّ ارْحَمْ عَبَّادًا".
ثانيها: حديث ابن عمر: "إِنَّ بِلَالًا يُؤَذِّنُ بلَيْلِ، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ .. " الحديث وقد سلف في بابه: وَكَانَ ابن أُمِّ مَكْتُومٍ رَجُلًا أَعْمَى، لَا يُؤَذَنُ حَتَّى يَقُولَ لَهُ النَّاسُ: أَصْبَحْتَ، أَصْبَحْتَ.
ثالثها: حديث المِسْوَر في القَباءِ، وقد سلف. وفيه: فَعَرَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صَوْتَهُ.
الشرح:
التعاليق الأول: خلا عطاء، ذكرها أبو بكر بن أبي شيبة فقال: حدثنا معاذ بن معاذ عن أشعث، عن الحسن وابن سيرين، قالا:
شهادة الأعمى جائزة. وحدثنا ابن مهدي، عن سفيان، عن ابن أبي ذئب، عن الزهري أنه كان يجيز شهادة الأعمى.
وحدثنا ابن فضيل، عن يحيى بن سعيد سألتُ الحكم بن عتيبة فقلتُ: إنَّ القاسم بن محمد سُئل عن الأعمى فقال: تجوزُ شهادتُه وَيؤُم القومَ، فقال وما يمنعه أن يؤم ويشهد!
وحدثنا حفص بن غياث، عن أشعث، عن الحسن قال: لا تجوز شهادة الأعمى إلا أن يكون شيئًا قد رآه قبل أن يذهب بصره
(1)
.
وقال أبو محمد ابن حزم: صح عن عطاء أنه أجاز شهادة الأعمى
(2)
.
وأثر الشعبي رواه أبو بكر -يعني: ابن أبي شيبة
(3)
- عن وكيع عن الحسن بن صالح وإسرائيل عن عيسى بن أبي عزة عنه أنه أجاز شهادته
(4)
.
وأثر الحكم رواه أيضًا، عن ابن مهدي، عن شعبة، سألت الحكم، عن شهادة الأعمى فقال: رب شيء تجوز فيه. يريد إذا كان شيء يعلم بالصوت أو اللمس أو نحوه، واحتجاج الزهري بابن عباس؛ لأنه كُفَّ بصره في آخر عمره كأبيه وجده، وكذا ابن عمر وأبو قحافة وأبو حميد الساعدي، وغير واحد من التابعين منهم: عبد الله بن عبد الحكم وأبو بكر بن عبد الرحمن، ذكره ابن التين.
(1)
انظر هذِه الآثار في "مصنف ابن أبي شيبة" 4/ 357.
(2)
"المحلى" 9/ 433.
(3)
كذا في (الأصل) بين الأسطر.
(4)
"مصنف ابن أبي شيبة" 4/ 357 (20950).
وتعليق عائشة سلف في المكاتب
(1)
، وأثر سمرة ورد حديث يخالفه أخرجه ابن منده في كتاب "الصحابة" أنه صلى الله عليه وسلم كلمته امرأة وهي منتقبة فقال:"أسفري؛ فإنَّ الإسفار من الإيمان"
(2)
وقوله في حديث مخرمة: تَكَلَّمَ، فَعَرَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صَوْتَهُ فخرج، وقال في رواية أخرى: أمرني أبي فدخلتُ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فلعله دخل ولقي رسول الله صلى الله عليه وسلم خارجًا لصوت مخرمة.
والتهجد: الصلاة بالليل وإن قَلّت، وقيل: إنه السهر
(3)
.
وعباد: هو ابن بشر من كبار الأنصار، وهو أحد صاحبي القضاء، كما نبه عليه ابن التين.
واعترض الإِسْمَاعِيلِيّ فقال: ليس في جميع ما ذكره دلالة على قبول شهادة الأعمى فيما يحتاج إلى إثبات الأعيان.
فأما ما ذكره في نكاحه فهو ضرورة الأعمى في نفسه لا لغيره فيه، وما رواه في التأذين فقد أخبر أنه كان لَا يُؤَذِّنُ حَتَّى يُقالُ لَهُ: أَصْبَحْتَ، وكفى بخبر الشارع عنه شاهدًا له بأنه لا يُؤذِّن حتى يُصبح، فلو قال عليه السلام لمن قال: إنه صادق فيما يقول كان مصدقًا.
(1)
سلف قبل رقم (2564) باب: بيع المكاتب إذا رضي.
(2)
رواه ابن منده وأبو نعيم كما في "أسد الغابة" 7/ 272 عن قريبة بنت منيعة عن أمها أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله: النار النار، فقال:"ما نجواك؟ " فأخبرته بأمرها وهي منتقبة، فقال:"يا أمة الله أسفري، فإن الإسفار من الإسلام وإن النقاب من الفجور".
قال الألباني في "الضعيفة"(5301). هذا متن منكر، وإسناد مظلم، قريبة هذِه لم أجد أحدًا ترجمها، بل إن أمها منيعة لا تعرف إلا من طريقها. اهـ.
(3)
"الصحاح" 2/ 555 (هجد).
وما قاله عن الزهري في ابن عباس فإنما هو تَهْوِيلٌ لا احتجاج، أترى لَوْ شَهِدَ ابن عباس لأبيه أو لابنه أو لمملوكه أكانت تُقْبل شهادتُه؟ وكان أفقه من أن يشهد فيما لا يجوزُ قبول شهادته فيه، وما ذكره من سماعه عليه السلام قراءة رجل بيان أنَّ كلَّ صائتٍ وإن لم يُرَ مصوته يُعرف بصوته؛ لأنه إنما ترحَّمَ عليه، (فإذ كان إيَّاهُ كان نسي أو أسقط)
(1)
؛ إلا أنه شهد أنه فلان. وما ذكره من قصةِ مَخْرَمة فإنما يريدُ محاسن الثوب مسًّا لا إبصارًا له بالعين.
ثم قال
(2)
: هذا شيء لا يتعداه إلى غيره؛ لأنه لا ضرر على غيره منه، ومن معرفته ثوب يوهب له أو جهله، والشهادة بشيء احتيج إليها؛ لأجل الحق بها من العين، وهي البصراء، مندوحة عن الأضواء، وما لا بد للأعمى منه في نفسه فهو مضطر إليه لا سبيل إلى تكليفه فيه غير الممكن، ومن حيث تعلم قلة اشتباه الأصوات والتباسها علينا في الكثير من الناس، كذلك تعلم قلة الاشتباه من الصوت حيث يلتبس على المبصر إلا نادرًا دليل على الشهادات المأخوذ منها بالتثبت مخالفة لما يجري على السهولة، وقد يأذن الصغير والضرير على الإنسان في داره ثم لا تُقبل شهادة الصغير، وكذلك الضرير. هذا آخر كلامه، وما حكاه البخاري عن جماعات استفتح بهم الباب شاهد له، وكذا معرفة عائشة صوت سليمان؛ لأنها لم تره (حالتئذٍ)
(3)
، وابن أم مكتوم وإن كان لا ينادي حتى يقال له: أصبحت.
(1)
كذا في الأصول، ولم يتضح لنا معناها، والله أعلم.
(2)
أي: الإسماعيلي.
(3)
رسمت في الأصل: (حالة إذنٍ).
فمن سمع بلالًا فقد اعتمد على صوته في الأكل والشرب، وبعث ابن عباس الرجل ظاهر في الاعتماد عليه، واكتفى بخبر الواحد مع قرائن الأحوال، كما نبه عليه ابن المنير، ولعل البخاري يشير بحديث ابن عباس إلى شهادة الأعمى على التعريف أي: تعرف أن هذا فلان فإذا عرف شهد، وشهادة التعريف مختلف فيها عند مالك، وكذلك البصير إذا لم يعرف نسب الشخص يعرفه نسبه من يثق به، فهل يشهد على فلان بن فلان بنسبه أو لا مختلف فيه أيضًا
(1)
.
وقد اختلف العلماء في شهادة الأعمى فأجازها سوى من ذكره البخاري مالك والليث، فيما طريقه الصوت، وسواء علم ذلك قبل العمى أو بعده، قال مالك: وإن شهد على زنا حُدّ للقذف ولم تقبل شهادته
(2)
، وقال النخعي وابن أبي ليلى: إذا علمه قبل العمى جازت، وما علمه في حال العمى لم يجز، وهو قول أبي يوسف والشافعي
(3)
.
قلتُ: ويجوزُ عندنا فيما إذا قاله في إذنه وتعلَّقَ به وشهد عند قاضٍ، وفي الاستفاضة والترجمة، وقال أبو حنيفة ومحمد: لا تجوزُ شهادتُهُ بحالٍ
(4)
.
حجةُ المجيزِ: سماعه عليه السلام صوتَ عبادٍ ودعا له، وسمع صوتَ مَخْرَمة من بيته فعرِفَه، وكذلك عرفان عائشة صوت سليمان.
(1)
"المتواري" ص 308.
(2)
انظر: "شرح ابن بطال" 8/ 34.
(3)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 3/ 336.
(4)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 3/ 336، "الأم" 7/ 42.
واحتجَّ مالك بقصة ابن أم مكتوم فقال: وكان أعمى إمامًا مؤذنًا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقبل الشارع وأصحابه والمسلمون المؤذنين في الأوقات والسماع منهم، وقال: إنِّما حفظ الناسُ عن أمهات المؤمنين ما حفظوه من وراء حجاب.
قال المهلب: والذي سَمِعَ صوتَ ابن أمِّ مكتوم من بيته فعلم أنه الذي أمر الشارع بالكف عن الطعام بصوته، فهو كالأعمى أيضًا، يسمع صوت رجل فعرفه فتجوز شهادته عليه بما سمع منه وإن لم يره.
قال ابن القصار: والصوت في الشرع قد أقيم مقام الشهادة؛ ألا ترى أن الأعمى يطأ زوجته بعد أن يعرف صوتها، والإقدام على الفرج واستباحته أعظم من الشهادة في الحقوق.
واحتجَّ من لم يجز شهادته فقال: إن العقود والإقرارات لا تجوز
الشهادة عليها بالاستفاضة، فكذلك لا تجوز شهادة الأعمى؛ لأنه لا يتيقن أن هذا صوت فلان لجواز شبهه بصوت غيره، كالخط لا يجوز أن يشهد عليه حتى يذكر أنه شاهد فيه؛ وإنما كان ذلك لأن الخط يشبه الخط، قالوا: وهذِه دلالة لا انفصال عنها.
والجواب: أن العقود والإقرارات مفتقرة إلى السماع ولا تفتقر إلى المعاينة، بخلاف الأفعال التي تفتقر إلى المعاينة، دليله قوله تعالى:{وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} [الروم: 22] فجعل الدلائل على محكم
صنعته ووحدانيته اختلاف الألسن والألوان، ثم وجدنا الخلق قد تتشابه كما تتشابه الأصوات.
فلما تقرر أنه إذا شهد على عين جاز، وإن جاز تشبه عين أخرى.
كذلك يشهد على الصوت وإن جاز أن يشبه صوتًا آخر.
قال ابن بطال: وقد رجع مالكٌ عن الشهادة على الخط؛ لأن الخطوط كثيرة الشبه، وليست الأصوات والخلق كذلك؛ ألا ترى أنه تعالى ذكر اختلاف الألسنة والألوان ولم يذكر الخطوط.
واعترض ابن القابسي فقال: قد روى الأثبات الحكم بشهادة الخط، منهم ابن القاسم وابن وهب، واستمر عليه العمل
(1)
.
وقال ابن التين: قول ابن القاسم وموافقيه هو قول مالك فتقبل شهادته على ما يلمسه من حار أو بارد، فيما يذوقه أنه حلو أو حامض، وفيما يشبهه، وأما ما طريقه الصوت كالإقرار وشبهه فتقبل عنده، وسواء تحملها أعمى، أو بصيرًا ثم عمي -خلافًا لأبي حنيفة والشافعي في قولهما- لا تقبل إذا تحملها أعمى.
وحكى ابن القصار عن أبي حنيفة أنه إذا تحملها بصيرًا ثم عمي لا يؤديها كما أسلفناه، ولا شك أن أمهات المؤمنين أخذ عنهن الصحابة والتابعون من وراء حجاب، وقد قال تعالى {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللهِ وَالحِكْمَةِ} [الأحزاب: 34]. وحديث أذان بلال حجة في ذلك كما سلف، وكذا وطؤه زوجته؛ لأنه إنما يعرفها بالصوت، ومعلوم أن الأعمى يتكرر عليه سماع صوتها فيقع له العلم بذلك، فكان الصوت طريقًا يميز به بين الأشخاص.
وقال أبو محمد بن حزم: شهادة الأعمى مقبولة كالصحيح. روي ذلك عن ابن عباس.
وصحَّ عن الزُّهري وعطاء والقاسم والشعبي وشريح وابن سيرين والحكم بن عتيبة وربيعة ويحيى بن سعيد الأنصاري وابن جريج،
(1)
"شرح ابن بطال" 8/ 35.
وأحد قولي إياس بن معاوية، وأحد قولي ابن أبي ليلى، وهو قول مالك والليث وأحمد وإسحاق وأبي سليمان وأصحابنا.
وقالت طائفةٌ: يجوز فيما عرف قبل العمى، ولا يجوز فيما عرف بعده.
وهو أحد قولي الحسن، واحد قولي ابن أبي ليلى، وهو قول أبي يوسف والشافعي وأصحابه
(1)
. وقد يحتج له بما روي عنه أنه عليه السلام سُئل عن الشهادة، فقال:"ألا ترى الشمسَ؟! على مثلِها فاشْهَد"
(2)
لكن قال ابن حزم: لا يصح سنده؛ لأنه من طريق محمد بن سليمان ابن مسمول وهو هالك، عن عبد الله بن سلمة بن وهرام وهو ضعيف، لكن معناه صحيح.
وقالت طائفة: يجوز في الشيء اليسير، روينا ذلك عن النخعي.
(1)
"المحلى" 9/ 433.
(2)
"شعب الإيمان" 7/ 455 (10974)"حلية الأولياء" 4/ 18. وقال: غريب من حديث طاوس، تفرد به عبيد الله بن سلمة، عن أبيه.
قال الزيلعي في "نصب الراية" 4/ 82: أخرجه البيهقي في "سننه"، والحاكم في "مستدركه" عن محمد بن سليمان بن شمول
…
وساق الحديث. قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وتعقبه الذهبي في "مختصره" فقال: بل هوحديث واهٍ، فإن محمد بن سليمان بن مشمول ضعفه غير واحد. انتهى.
قلت: -أي: الزيلعي- رواه كذلك ابن عدي في "الكامل"، والعقيلي في "كتابه" وأعلاه بمحمد بن سليمان بن مسمول، وأسند ابن عدي ضعفه عن النسائي، ووافقه وقال: عامة ما يرويه لا يتابع عليه إسنادًا ولا متنًا. انتهى.
وقال الحافظ في "التلخيص" 4/ 198: رواه العقيلي والحاكم وأبو نعيم وابن عدي والبيهقي من حديث طاوس عن ابن عباس وصححه الحاكم، وفي إسناده محمد بن سليمان بن مسمول، وهو ضعيف، وقال البيهقي: لم يرو من وجه يعتمد عليه.
وقالت طائفة: لا يقبل في شيء أصلًا إلا في الأنساب وهو قول زفر، ورويناه من طريق عبد الرزاق، عن وكيع، عن أبي حنيفة، ولا يعرف أصحاب هذِه الرواية.
وقالت طائفة: لا يقبل جملة، روينا ذلك عن علي وليس بصحيح عنه؛ لأنه من طريق الأسود بن قيس، عن أشياخ من قومه عنهم. وعن إياس بن معاوية والحسن بن أبي الحسن والنخعي أنهم كرهوا شهادته
(1)
.
وقال أبو حنيفة: لا يقبل في شيء أصلًا، لا فيما عرف قبل العمى ولا فيما عرف بعده، وقد سلف.
قال وكيع: ثنا سفيان أن قتادة شهد عند إياس بن معاوية فرد شهادته.
وسئل إبراهيم عنها، فحدث بحديث كأنه كرهه
(2)
.
قلت: فتحصلنا فيه على ستة مذاهب: المنع المطلق، والجواز المطلق، والجواز فيما طريقه الصوت دون البصر، الفرق بين ما علمه قَبْلُ وما لم يعلمه، الجواز في اليسير، الجواز في الأنساب خاصة.
(1)
"المحلى" 9/ 433، 434.
(2)
"مصنف ابن أبي شيبة" 3/ 357 (20952، 20953).
12 - باب شَهَادَةِ النِّسَاءِ
وَقَوْلِهِ عز وجل: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} . [البقرة: 282].
2658 -
حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي زَيْدٌ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"أَلَيْسَ شَهَادَةُ المَرْأَةِ مِثْلَ نِصْفِ شَهَادَةِ الرَّجُلِ؟ ". قُلْنَا بَلَى. قَالَ: "فَذَلِكَ مِنْ نُقْصَانِ عَقْلِهَا". [انظر: 304 - مسلم: 80 - فتح: 5/ 266]
ذكر فيه حديث أبي سعيد عن النَّبي صلى الله عليه وسلم: "أَلَيْسَ شَهَادَةُ المَرْأَةِ مِثْلَ نِصْفِ شَهَادَةِ الرَّجُلِ؟ ". قُلْنَا بَلَى. قَالَ: "فَذَلِكَ مِنْ نُقْصَانِ عَقْلِهَا".
وقد سلف مطولًا في الحيض
(1)
، وزيد الذي في إسناده هو ابن أسلم كما صرح به هناك.
وقام الإجماع على القول بظاهر الآية، على أن شهادة النساء تجوز مع الرجال في الديون والأموال
(2)
.
وأجمع أكثر العلماء على أن شهادتهن لا تجوز في الحدود والقصاص، هذا قول سعيد بن المسيب والشعبي والنخعى والحسن البصري والزهري
(3)
، وربيعة ومالك والليث والكوفيين والشافعي وأحمد وأبي ثور
(4)
.
واختلفوا في النكاح والطلاق والعتق والنسب والولاء، فذهب ربيعة ومالك والشافعي وأحمد وأبو ثور إلى أنه لا يجوز في شيء من ذلك كله
(1)
برقم (304) باب: ترك الحائض الصوم.
(2)
"الإجماع" لابن المنذر ص 304.
(3)
انظر هذِه الآثار في "مصنف بن أبي شيبة" 5/ 528.
(4)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 3/ 345، "المدونة" 4/ 84، "الأم" 7/ 43.
مع الرجال، وأجاز شهادتهن في ذلك كله مع الرجال الكوفيون
(1)
، ولا دليل لهم يوجب قبول شهادتهن في شيء من ذلك.
واتفقوا أنه تجوز شهادتهن منفردات في الحيض، والولادة، والاستهلال، وعيوب النساء، وما لا يطلع عليه الرجال من عورتهن للضرورة
(2)
.
واختلفوا في الرضاع، فمنهم من أجاز فيه شهادتهن منفردات، ومنهم من أجازها مع الرجال، على ما سيأتي ذكره في النكاح -إن شاء الله تعالى- وقال أبو عبيد: اجتمعت العلماء على أنه لا حظ للنساء في الشهادة في الحدود.
وكذلك أجمعوا على شهادتهن في الأموال أنه لا حظ لهن فيها -أي: منفردات- وكذلك، لآيتين تأولهما فيما نرى والله أعلم.
أما آية الحدود فقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] الآية، فعلم أن الشهادة
(3)
في اللغة لا تقع إلا على الذكور، ثم أمضوا على هذا جميع الحدود من الزنا والسرقة والفرية وشرب الخمر والقصاص في النفس وما دونها.
وأما آية الأموال فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} [البقرة: 282] إلى قوله: {فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] ثم أمضوا على هذا جميع الحقوق والمواريث والوصايا والودائع والوكالات والدين، فلما صاروا إلى النكاح والطلاق والعتاق لم يجدوا فيها من ظاهر القرآن ما وجدوا في تلك الآيتين، فاختلفوا في التأويل، فشبهها
(1)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 3/ 345، "المدونة" 4/ 84، "الأم" 7/ 43.
(2)
انظر: "المغني" 14/ 134 - 135.
(3)
ذكر فوق الكلمة: لعله: الشهداء.
قوم بالأموال، فأجازوا فيها شهادة النساء، وقالوا: ليست بحدود وإنما توجب مهورًا ونفقات النساء.
وأبى ذلك آخرون، ورأوها كلها حدودا؛ لأن بها يكون استحلال الفروج وتحريمها. قال أبو عبيد: وهذا القول يُختار؛ لأن تأويل القرآن يصدقه، ألا تسمع قوله تعالى حين ذكر الطلاق والرجعة فقال:{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] فخص بها الرجال، ولم يجعل للنساء فيها حظًّا كما جعله في الدين، ثم أبين من ذلك أنه سماها حدود الله فقال:{تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229] فكان هذا أكبر من التأويل، فالأمر عندنا عليه أنه لا تجوز شهادتهن في نكاح ولا طلاق ولا رجعة، وكيف يقبل قولهنَّ في هذِه الحال على غيرهن ولا يملكنها من أنفسهن، ولم يجعل الله إليهن عقد نكاح ولا حله؟! لأن الله تعالى خاطب الرجال في ذلك دونهن في كتابه.
قال أبو عبيد: والعتاق عندنا من ذلك كله لا تجوز فيه شهادتهن؛ لما يدخل فيه من تحريم الفروج وتحليلها.
قال المهلب: وفي حديث الباب دلالة أن الناس يجب أن يتفاضلوا في الشهادة بقدر عقولهم وفهمهم وضبطهم، وأن يكون الرجل الصالح الذي تُعرف منه الغفلة والبلادة يتوقف عن شهادته في الأمور الخفية.
وتقبل شهادة اليقظان الفهم العدل، والتفاضل في شهادتهما على قدر أفهامهما.
وفيه: أن الشاهد إذا نسي الشهادة ثم ذكره بها صاحبه؛ حتى ذكرها أنها جائزة؛ لقوله تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة: 282] فدخل في ذلك معنى الرجال والنساء.
فرع: اختلف في شهادة امرأتين مع الفُشُوّ وامرأتين من غير الفشو،
وفي شهادة أحد الأبوين بالرضاع، كما حكاه ابن التين، فقال ابن القاسم: إن شهدت أم الزوج أو أم الزوجة لم تقبل شهادتهما إلا أن
يكون قد فشا.
وعن ابن حبيب، عن مالك: إذا قالت المرأة ذلك في أمها أو أبيها، أو قاله الأب في ولده، وقعت الفرقة
(1)
.
فرع: قال أبو عبد الرحمن العتقي: اختلفوا في عدد من يجب قبول شهادته من النساء على ما لا يطلع عليه الرجال، فقالت طائفة: لا يقبل أقل من أربع.
وهذا قول أهل البيت والنخعي وعطاء
(2)
.
وهو رأي الشافعي وأبي ثور
(3)
، وقالت طائفة: تجوز شهادة امرأتين على ما لا يطلع عليه الرجال. وبه قال ابن شبرمة وابن أبي ليلى
(4)
.
وعن مالك: إذا كانت مع القابلة امرأة أخرى فشهادتها جائزة
(5)
.
وروي عن الشعبي أنه أجاز شهادة المرأة الواحدة فيما لا يطلع عليه الرجال
(6)
، وعن مالك: أرى أن تجوز شهادة المرأتين في الدين مع يمين صاحبه
(7)
.
(1)
انظر: "النوادر والزيادات" 5/ 83، 84.
(2)
"مصنف عبد الرزاق" 7/ 483 (13972) عن عطاء.
(3)
انظر: "الأم" 7/ 43، "اختلاف الفقهاء" ص 564.
(4)
انظر: "اختلاف الفقهاء" ص 564.
(5)
انظر: "الكافي" لابن عبد البر ص 469.
(6)
"مصنف عبد الرزاق" 7/ 484 (13978).
(7)
"المدونة" 4/ 83.
وعن الشافعي: يستحلف المدعى عليه، ولا يحلف المدعي مع شهادة المرأتين.
وقالت طائفة: لا تجوز شهادة النساء إلا في موضعين: المال، وحيث لا يرى الرجال من عورات النساء.
فائدة: روى الزبير بن بكار في كتاب "المفاكهة والمزح" أن امرأة وطئت صبيًّا فقتلته، فرُفعت إلى علي فشهد عليها أربع نسوة، وأجاز عليٌّ شهادتهنَّ وجحدت هي، فلما أجاز شهادتهنَّ قالت لعلي: اعفني الآن في الدية. قال: وكان علي يجيز شهادة الصبيان
(1)
.
(1)
ورد بهامش الأصل: آخر 8 من 8 من تجزئه المصنف.
13 - باب شَهَادَةِ الإِمَاءِ وَالعَبِيدِ
(1)
وَقَالَ أَنَسٌ: شَهَادَةُ العَبْدِ جَائِزَةٌ إِذَا كَانَ عَدْلًا.
وَأَجَازَهُ شُرَيْحٌ وَزُرَارَةُ بْنُ أَوْفَى.
وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: شَهَادَتُهُ جَائِزَةٌ، إِلَّا العَبْدَ لِسَيِّدِهِ.
وَأَجَازَهُ الحَسَنُ وَإِبْرَاهِيمُ فِي الشَّيْءِ التَّافِهِ.
وَقَالَ شُرَيْحٌ كُلُّكُمْ بَنُو عَبِيدٍ وَإِمَاءٍ.
2659 -
حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الحَارِثِ. وَحَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي عُقْبَةُ بْنُ الحَارِثِ -أَوْ سَمِعْتُهُ مِنْهُ- أَنَّهُ تَزَوَّجَ أُمَّ يَحْيَى بِنْتَ أَبِي إِهَابٍ. قَالَ: فَجَاءَتْ أَمَةٌ سَوْدَاءُ فَقَالَتْ: قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا. فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَعْرَضَ عَنِّي. قَالَ: فَتَنَحَّيْتُ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، قَالَ:"وَكَيْفَ وَقَدْ زَعَمَتْ أَنْ قَدْ أَرْضَعَتْكُمَا؟! ". فَنَهَاهُ عَنْهَا. [انظر: 88 - فتح: 5/ 267]
ثم ذكر حديث عقبة بن الحارث السالف، وفي آخِره: فَنَهَاهُ عَنْهَا.
وأثر أنس أخرجه ابن أبي شيبة، عن حفص بن غياث عن المختار بن فلفُل قال: سألت أنسًا عن شهادة العبيد فقال: جائزة
(2)
.
قال في "الإشراف": وما علمتُ أنَّ أحدًا ردَّها.
وأثر شريح أخرجه أيضًا، عن حفص بن غياث، عن أشعث، عن الشعبي قال: قال شريح: لا أجيز شهادة العبد. فقال علي: لكنا نجيزها، فكان شريح بعده يجيزها إلا لسيده.
(1)
ورد في هامش الأصل: ثم بلغ في الثمانين: كتبه مؤلفه.
(2)
"مصنف ابن أبي شيبة" 4/ 298 (20275).
قال: وحدثنا ابن أبي زائدة، عن أشعث، عن عامر: أن شريحًا أجاز شهادة العبد
(1)
.
وأثر زرارة جيد، وقد احتج به ابن حزم في "محلاه"
(2)
، وأثر ابن سيرين ذكره عبد الله بن أحمد، ثنا أبي، ثنا عبد الرحمن بن مهدي، ثنا حماد بن زيد، عن يحيى بن عتيق، عنه بلفظ أنه كان لا يرى بشهادة المملوك بأسًا إذا كان عدلًا. وأثر الحسن أخرجه أيضًا عن معاذ بن معاذ، عن أشعث الحمزاني، عنه. من غير ذكر (التافه) وهو الشيء اليسير.
وكذا أثر إبراهيم رواه عن وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم: كانوا يجيزونها في الشيء الطفيف.
وأثر شريح أخرجه أيضًا، عن وكيع، عن سفيان، عن عمار الدهني، قال: شهدت شريحًا شهد عنده عبد على دار فأجاز شهادته، فقيل له: إنه عبد. فقال: كلنا عبيد، وأمنا حواء
(3)
.
وحديث عقبة أخرجه عن أبي عاصم، عن ابن جريج، عن ابن أبي مليكة عنه. وفيه:(فجاءته أمة سوداء).
وأخرجه في الباب الآتي بعده لكنه قال بدل ابن جريج: عمر بن سعيد
(4)
. وفيه: فجاءته امرأة.
(1)
ابن أبي شيبة 4/ 298 (20276، 20278).
(2)
"المحلى" 9/ 413.
(3)
رواه ابن أبي شيبة 4/ 298 (20277).
(4)
برقم (2660) باب: شهادة المرضعة.
وأخرجه قريبًا في باب إذا شهد شاهد أو شهود بشيء، عن حبان: أنا عبد الله، ثنا عمر بن سعيد بن أبي حسين
(1)
. وفيه: (فأتته امرأة).
وأخرجه في أوائل البيوع في باب تفسير المشبهات، عن محمد بن كثير، أنا سفيان، أنا عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين، عن ابن أبي مليكة به
(2)
. وفي هذا امرأة سوداء، قال الإسماعيلي: مَنْ صحَّحَ حديثَ ابن جريج فقد صحَّحَ حديثَ عُمر بن أبي حسين، وهو يروي: مولاة سوداء لأهل مكة، فمن (قال)
(3)
أمة حرة فقد تدَّعي بذلك لا سيما فيمن يريد تحقيرها وتصغيرها. ومن قال: مولاة، فقد أثبت لهما الأموة وعتقا بعد ذلك لا يدخل في جواز شهادة الرقيق، ولو كان كذلك لجازت شهادة الأمة من حيث لا تجوز شهادة امرأة واحدة على أصله؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال في الخبر الذي صححه عن أبي سعيد المذكور قبل:"أَليْسَ شَهَادَةُ المَرْأَةِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ شَهَادَةِ الرَّجُلِ؟ " فإذا كان لا يقبل من شهادة رجل مثلًا وإنما شهادة الحرة تقوم مقام نصف شهادة الرجل، فلا يعمل حتى تكونا اثنتين، فكيف ساغ تفضيل الأمة على الحرة في الشهادة على معناه؟ فالشارع لم يحرِّمها، ولكنه قال:"كيف وقد قِيل؟ " كراهةً للتقدم على ما يعرض فيه الشبهة؟ ويكون قول من قال: فنهاه عنها أيضًا على هذا المعنى؛ لأن ذلك لو كان موجبًا تحريمها لم يكن لاعتراضه عن إجابته عما سأله عنه مما هو محرم معنى، بل كان يخبره أنه لا يسعه ذلك فدل أنه كرهه له ولا أقل من أن تكون المرأة عدلًا إذا شهدت.
(1)
سلف برقم (2640).
(2)
سلف برقم (2052).
(3)
في الأصل: كانت، وما أثبتناه هو الموافق للسياق.
إذا تقرر ذلك: فللعلماء في شهادة العبد ثلاثة أقوال:
أحدها: جوازها كالحر، روي عن علي كقول أنس وشريح، وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثور
(1)
.
وثانيها: جوازها في الشيء التافه، روي عن الشعبي كقول الحسن والنخعي.
ثالثها: لا تجوز في شيء أصلًا، روي عن عمر
(2)
وابن عباس، وهو قول عطاء ومكحول
(3)
، وإليه ذهب الثوري والأوزاعي والأئمة الثلاثة مالك وأبو حنيفة والشافعي
(4)
.
قال ابن التين: وهو قول سائر فقهاء الأمصار سوى من تقدم.
حُجة الأوَّل: أنه إذا كان رَضِي فهو داخل في قوله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] والعبد يكون رضيًّا وصالحًا، قال تعالى:{وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32] وأيضًا فإشارة الشارع على عقبة بالتنزه عن زوجته؛ من أجل شهادة الأمة، دلالة على سماع شهادة المملوك والحكم بشبهتها.
حُجَّة الثاني: الاعتقاد في اليسير.
حُجَّة الثالث: قالوا: ليس الحديث على وجه الوجوب، وإنما هو من باب الندب، فلا تلزم الحجة به، قال تعالى:{وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] والإباء إنما يكون من الحر، والعبد ممنوع من
(1)
"مسائل أحمد وإسحاق" برواية الكوسج 2/ 388 (2903)، "المغني" 14/ 185.
(2)
عبد الرزاق 8/ 347 (15460).
(3)
"مصنف ابن أبي شيبة" 4/ 298.
(4)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 3/ 335، "المدونة" 4/ 80، "الأم" 7/ 43.
الإجابة لحق المولى، فلم يدخل تحت النهي، كما لم يدخل في قوله تعالى:{فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ} [الجمعة: 9] وقوله: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} [التوبة: 41] وقوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ} [آل عمران: 97] وذلك كله حق المولى، وأيضًا بالإضافة في قوله:{ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] يفيد الحرية دون الإسلام؛ لأن غير الإسلام ليس بعدل؛ ولأن الشهادة مبنية على التفاضل والكمال، وما هذا سبيله لا يدخل العبد فيه كالرجم، فإن قلت: أداء الشهادة عليه فرض كالصلاة والصيام، وليس لسيده منعه من ذلك.
قلتُ: هذا غلط؛ لأن فرضهما إيجاب من الرب جل جلاله ابتداء، والتحمل من قبله، فلا فرض عليه في أدائها؛ حتى يأذن له السيد أو يعتق، كما ينذر على نفسه نذرًا.
فإن قلتَ: كل من جاز قبول خبره جاز قبول شهادته كالحر.
قلتُ: لا، فالخبر قد سومح فيه ما لم يتسامح في الشهادة؛ لأن
الخبر يقبل من الأمة منفردة والعبد منفردًا، ولا تقبل شهادتهما، والعبد ناقص عن رتبة الحر في أحكام، فكذلك في الشهادة.
ومذهب ابن حزم: الجواز.
قال: شهادة العبد والأمة مقبولة في كل شيء لسيده أو لغيره كشهادة الحر والحرة، ولا فرق.
وقد اختلف الناس في هذا، فصح ما روينا عن ابن المسيب: أن عثمان بن عفان قضى في الصغير يشهد بعد كبره، والنصراني بعد إسلامه، والعبد بعد عتقه، أنها جائزة إن لم تكن ردت عليهم
(1)
.
(1)
"المحلى" 9/ 412.
قلت: العبرة بوقت الأداء وهم صالحون إذ ذاك، كما وقع لجبير، سمع في حال شركه وأدى في حال إسلامه، وقبل إجماعًا.
وروينا من طريق عمرو بن شعيب وعطاء، عن عمر مثل ذلك، وروينا أيضًا في شهادة العبد من طريق عبد الرزاق، عن أبي بكر، عن عمرو بن سليم، عن ابن المسيب، عن عمر
(1)
ومن طريق الحجاج بن أرطاة، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: لا تجوزُ شهادةُ العبد
(2)
.
ومن طريق أبي عبيد، عن حسان بن إبراهيم الكرماني، عن إبراهيم الصائغ، عن نافع، عن ابن عمر: لا تجوز شهادة المكاتب ما بقي عليه درهم.
وعن الشعبي وعطاء ومجاهد وسفيان ووكيع ومكحول وابن أبي نجيج: لا تجوز شهادة العبد
(3)
.
وعن إبراهيم: لا تجوز شهادة المكاتب
(4)
.
وعن قتادة: إذا شهد العبد فردت شهادته ثم أعتق فشهد بها لم تقبل
(5)
.
وروي ذلك عن فقهاء المدينة السبعة، وهو قول ابن أبي الزناد قال: وبه يقول أبو حنيفة والشافعي ومالك وابن أبي ليلى والحسن بن حي وأبو عبيد واحد قولي ابن شبرمة.
وأجازت طائفة شهادته في بعض الأحوال، وردتها في بعض.
(1)
"مصنف عبد الرزاق" 8/ 347 (15490).
(2)
"مصنف ابن أبي شيبة" 4/ 298 (20279).
(3)
"مصنف ابن أبي شيبة" 4/ 298 (20280، 20281، 20286).
(4)
عبد الرزاق 4/ 345 (15480).
(5)
عبد الرزاق 4/ 346 (15485).
روينا عن شريح والشعبي وإبراهيم أنهم كانوا لا يجيزون شهادة العبد لسيده، وتجوز لغيره
(1)
.
ومن طريق جابر، عن الشعبي في العبد يعتق بعضه أن شهادته جائزة، ومن طريق إسماعيل القاضي، حدثنا عارِم، ثنا ابن المبارك، عن يعقوب، عن عطاء: شهادة المرأة والعبد جائزة في النكاح والطلاق.
ومن طريق عبد الله بن أحمد، ثنا أبي، ثنا عفان، ثنا حماد بن سلمة: سئل إياس بن معاوية عن شهادة العبيد، فقال: أنا أرد شهادة عبد العزيز بن صهيب؟! على الإنكار لردها.
قال ابن حزم: وهو قول زرارة بن أوفى، وعثمان البتي وأبي ثور وأحمد وإسحاق وأبي سليمان وأصحابهم، واحد قولي ابن شبرمة
(2)
.
فرع:
قال ابن القاسم: شهد أربعة بزنا فرجم، ثم تبين أن أحدهم عبد، حد الشهود، وكان على الثلاثة ثلاثة أرباع الدية على العاقلة، وإن تبين أن أحدهم مسخوط أمضى الحكم
(3)
، وعارضه بعضهم فقال: الأولى الإمضاء في العبد؛ للخلاف فيه دون الثاني؛ للاتفاق على ترك روايته.
فرع:
شهد عبد فردت شهادته، فأعادها، قبلت عندنا، وعند أبي حنيفة خلافًا لمالك
(4)
، فإن شهد بها وهو عبد فلم يحكم؛ حتى عتق، ففي
(1)
عبد الرزاق 4/ 344 - 345 (15476، 15477).
(2)
"المحلى" 9/ 412 - 413.
(3)
انظر: "المدونة" 4/ 399، "النوادر والزيادات" 8/ 425.
(4)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 3/ 345، "النوادر والزيادات" 8/ 425.
الإعادة قولان لهم: قال ابن القاسم في "المجموعة" في عبدٍ حكم بشهادته بظن الحرية، فلم يعلم حتى عتق أن الحكم الأول يرد ثم يقوم بها الآن فيشهد
(1)
، وقد يحتمل أن يكون الذي ينظر في شهادته غير القاضي الأول.
خاتمة: قوله: (فَنَهَاهُ عَنْهَا) وفي رواية أخرى تأتي في الباب بعد "دعْها". أخذ بها الليث وقال: يقبل قولها ولو كانت ذمية.
وقال ابن القاسم: لا يُفَرَّق بينهما بقولها. وقد أسلفنا الخلاف في شهادة امرأة مع الفُشُوّ وامرأتين من غير فشو وفي شهادة أحد الأبوين بالرضاع، في الباب قبله واضحًا.
وفيه من الفوائد: شهادة المرء على ما يفعله؛ لأن الرضاع فعلها.
(1)
انظر: "النوادر والزيادات" 8/ 425.
14 - باب شَهَادَةِ المُرْضِعَةِ
2660 -
حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدٍ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الحَارِثِ قَالَ تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً، فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: إِنِّي قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا. فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "وَكَيْفَ وَقَدْ قِيلَ؟! دَعْهَا عَنْكَ" أَوْ نَحْوَهُ. [انظر: 88 - فتح: 5/ 268]
ذكر فيه حديث عقبة أيضًا وقد فرغنا منه آنفًا
(1)
.
وقد أسلفنا اختلاف العلماء في شهادة المرضعة إذا كانت مرضية، ومذهب ابن عباس
(2)
وطاوس قبولها وحدها، وتحلف مع شهادتها، وهو قول الزهري
(3)
والأوزاعي وأحمد وإسحاق
(4)
.
وحجتهم حديث الباب.
ومذهب الأوزاعي التفرقة بين العقد وقبله، والكوفيون على أنه لا يقبل إلا رجلان أو رسول وامرأتان
(5)
.
وقال مالك: تجوز شهادة امرأتين دون رجل إذا كان ذلك قد فشا، وعرف من قولهما
(6)
.
وفي رواية ابن وهب: يقبل وإن لم يفش.
وقال الشافعي: لا بد من أربع نسوة
(7)
.
وقال: لو شهد في ذلك رجلان ورجل وامرأتان جاز
(8)
.
(1)
سلف برقم (2659).
(2)
عبد الرزاق 8/ 336 (15439).
(3)
عبد الرزاق 8/ 334 (15433).
(4)
انظر: "المغني" 11/ 340.
(5)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 3/ 348.
(6)
انظر: "النوادر والزيادات" 5/ 84، "عقد الجواهر الثمينة" 2/ 594.
(7)
"مختصر المزني" 5/ 63.
(8)
"الأم" 5/ 29.
15 - باب تَعْدِيلِ النِّسَاءِ بَعْضِهِنَّ بَعْضًا
2661 -
حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ -وَأَفْهَمَنِى بَعْضَهُ أَحْمَدُ- حَدَّثَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَسَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ، وَعَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيِّ، وَعُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِينَ قَالَ لَهَا أَهْلُ الإِفْكِ مَا قَالُوا، فَبَرَّأَهَا اللهُ مِنْهُ، قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَكُلُّهُمْ حَدَّثَنِي طَائِفَةً مِنْ حَدِيثِهَا، وَبَعْضُهُمْ أَوْعَى مِنْ بَعْضٍ، وَأَثْبَتُ لَهُ اقْتِصَاصًا، وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ الحَدِيثَ الَّذِي حَدَّثَنِي عَنْ عَائِشَةَ، وَبَعْضُ حَدِيثِهِمْ يُصَدِّقُ بَعْضًا. زَعَمُوا أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ أَزْوَاجِهِ، فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ، فَأَقْرَعَ بَيْنَنَا فِي غَزَاةٍ غَزَاهَا، فَخَرَجَ سَهْمِي، فَخَرَجْتُ مَعَهُ بَعْدَ مَا أُنْزِلَ الحِجَابُ، فَأَنَا أُحْمَلُ فِي هَوْدَجٍ وَأُنْزَلُ فِيهِ.
فَسِرْنَا حَتَّى إِذَا فَرَغَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَزْوَتِهِ تِلْكَ، وَقَفَلَ وَدَنَوْنَا مِنَ المَدِينَةِ، آذَنَ لَيْلَةً بِالرَّحِيلِ، فَقُمْتُ حِينَ آذَنُوا بِالرَّحِيلِ، فَمَشَيْتُ حَتَّى جَاوَزْتُ الجَيْشَ، فَلَمَّا قَضَيْتُ شَأْنِي أَقْبَلْتُ إِلَى الرَّحْلِ، فَلَمَسْتُ صَدْري، فَإِذَا عِقْدٌ لِي مِنْ جَزْعِ أَظْفَارٍ قَدِ انْقَطَعَ، فَرَجَعْتُ فَالتَمَسْتُ عِقْدِي، فَحَبَسَنِي ابْتِغَاؤُهُ، فَأَقْبَلَ الَّذِينَ يَرْحَلُونَ لِي، فَاحْتَمَلُوا هَوْدَجِي فَرَحَلُوهُ عَلَى بَعِيرِي الَّذِي كُنْتُ أَرْكَبُ، وَهُمْ يَحْسِبُونَ أَنِّي فِيهِ، وَكَانَ النِّسَاءُ إِذْ ذَاكَ خِفَافًا لَمْ يَثْقُلْنَ وَلَمْ يَغْشَهُنَّ اللَّحْمُ، وَإِنَّمَا يَأْكُلْنَ العُلْقَةَ مِنَ الطَّعَامِ، فَلَمْ يَسْتَنْكِرِ القَوْمُ حِينَ رَفَعُوهُ ثِقَلَ الهَوْدَجِ فَاحْتَمَلُوهُ وَكُنْتُ جَارِيَةً حَدِيثَةَ السِّنِّ، فَبَعَثُوا الجَمَلَ وَسَارُوا، فَوَجَدْتُ عِقْدِي بَعْدَ مَا اسْتَمَرَّ الجَيْشُ، فَجِئْتُ مَنْزِلَهُمْ وَلَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ، فَأَمَمْتُ مَنْزِلِي الَّذِي كُنْتُ بِهِ، فَظَنَنْتُ أَنَّهُمْ سَيَفْقِدُونِي فَيَرْجِعُونَ إِلَيَّ، فَبَيْنَا أَنَا جَالِسَةٌ غَلَبَتْنِي عَيْنَايَ فَنِمْتُ. وَكَانَ صَفْوَانُ بْنُ المُعَطَّلِ السُّلَمِيُّ ثُمَّ الذَّكْوَانِيُّ مِنْ وَرَاءِ الجَيْشِ، فَأَصْبَحَ عِنْدَ مَنْزِلِي فَرَأَى سَوَادَ إِنْسَانٍ نَائِمٍ فَأَتَانِي، وَكَانَ يَرَانِى قَبْلَ الحِجَابِ، فَاسْتَيْقَظْتُ بِاسْتِرْجَاعِهِ حِينَ أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ، فَوَطِئَ يَدَهَا فَرَكِبْتُهَا فَانْطَلَقَ يَقُودُ بِي الرَّاحِلَةَ، حَتَّى
أَتَيْنَا الجَيْشَ بَعْدَ مَا نَزَلُوا مُعَرِّسِينَ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ، فَهَلَكَ مَنْ هَلَكَ، وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى الإِفْكَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ، فَقَدِمْنَا المَدِينَةَ فَاشْتَكَيْتُ بِهَا شَهْرًا، وَالنَّاسُ يُفِيضُونَ مِنْ قَوْلِ أَصْحَابِ الإِفْكِ، وَيَرِيبُنِي فِي وَجَعِي أَنِّي لَا أَرَى مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اللُّطْفَ الَّذِي كُنْتُ أَرَى مِنْهُ حِينَ أَمْرَضُ، إِنَّمَا يَدْخُلُ فَيُسَلِّمُ ثُمَّ يَقُولُ:"كَيْفَ تِيكُمْ؟ ". لَا أَشْعُرُ بِشيْءٍ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى نَقَهْتُ، فَخَرَجْتُ أَنَا وَأُمُّ مِسْطَحٍ قِبَلَ المَنَاصِعِ مُتَبَرَّزُنَا، لَا نَخْرُجُ إِلَّا لَيْلًا إِلَى لَيْلٍ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ نَتَّخِذَ الكُنُفَ قَرِيبًا مِنْ بُيُوتِنَا، وَأَمْرُنَا أَمْرُ العَرَبِ الأُوَلِ فِي البَرِّيَّةِ أَوْ فِي التَّنَزُّهِ، فَأَقْبَلْتُ أَنَا وَأُمُّ مِسْطَحٍ بِنْتُ أَبِي رُهْمٍ نَمْشِي، فَعَثُرَتْ فِي مِرْطِهَا، فَقَالَتْ: تَعِسَ مِسْطَحٌ، فَقُلْتُ لَهَا: بِئْسَ مَا قُلْتِ، أَتَسُبِّينَ رَجُلًا شَهِدَ بَدْرًا؟ فَقَالَتْ يَا هَنْتَاهْ، أَلَمْ تَسْمَعِي مَا قَالُوا؟ فَأَخْبَرَتْنِي بِقَوْلِ أَهْلِ الإِفْكِ، فَازْدَدْتُ مَرَضًا إِلَى مَرَضِي.
فَلَمَّا رَجَعْتُ إِلَى بَيْتِى دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَسَلَّمَ فَقَالَ: "كَيْفَ تِيكُمْ؟ ". فَقُلْتُ: ائْذَنْ لِي إِلَى أَبَوَىَّ -قَالَتْ: وَأَنَا حِينَئِذٍ أُرِيدُ أَنْ أَسْتَيْقِنَ الخَبَرَ مِنْ قِبَلِهِمَا- فَأَذِنَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَتَيْتُ أَبَوَيَّ، فَقُلْتُ لأُمِّي: مَا يَتَحَدَّثُ بِهِ النَّاسُ؟ فَقَالَتْ: يَا بُنَيَّةُ، هَوِّنِي عَلَى نَفْسِكِ الشَّأْنَ، فَوَاللهِ لَقَلَّمَا كَانَتِ امْرَأَةٌ قَطُّ وَضِيئَةٌ عِنْدَ رَجُلٍ يُحِبُّهَا وَلَهَا ضَرَائِرُ إِلَّا أَكْثَرْنَ عَلَيْهَا. فَقُلْتُ: سُبْحَانَ اللهِ! وَلَقَدْ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ بِهَذَا؟!
قَالَتْ: فَبِتُّ تِلْكَ اللَّيْلَةَ حَتَّى أَصْبَحْتُ لَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ وَلَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ، ثُمَّ أَصْبَحْتُ، فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَأُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ حِينَ اسْتَلْبَثَ الوَحْيُ، يَسْتَشِيرُهُمَا فِي فِرَاقِ أَهْلِهِ، فَأَمَّا أُسَامَةُ فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِالَّذِي يَعْلَمُ فِي نَفْسِهِ مِنَ الوُدِّ لَهُمْ، فَقَالَ أُسَامَةُ: أَهْلُكَ يَا رَسُولَ اللهِ، وَلَا نَعْلَمُ وَاللهِ إِلَّا خَيْرًا.
وَأَمَّا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَمْ يُضَيِّقِ اللهُ عَلَيْكَ، وَالنِّسَاءُ سِوَاهَا كَثِيرٌ، وَسَلِ الجَارِيَةَ تَصْدُقْكَ.
فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَرِيرَةَ فَقَالَ: "يَا بَرِيرَةُ، هَلْ رَأَيْتِ فِيهَا شَيْئًا يَرِيبُكِ؟ ". فَقَالَتْ بَرِيرَةُ: لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ، إِنْ رَأَيْتُ مِنْهَا أَمْرًا أَغْمِصُهُ عَلَيْهَا قَطُّ أَكْثَرَ مِنْ
أَنَّهَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ تَنَامُ عَنِ العَجِينَ، فَتَأْتِى الدَّاجِنُ فَتَأْكُلُهُ. فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ يَوْمِهِ، فَاسْتَعْذَرَ مِنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَىٍّ ابْنِ سَلُولَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"مَنْ يَعْذِرُنِى مِنْ رَجُلٍ بَلَغَنِى أَذَاهُ فِي أَهْلِى؟ فَوَاللهِ مَا عَلِمْتُ عَلَى أَهْلِى إِلَّا خَيْرًا، وَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلًا مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ إِلَّا خَيْرًا، وَمَا كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِى إِلَّا مَعِى ". فَقَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنَا وَاللهِ أَعْذِرُكَ مِنْهُ، إِنْ كَانَ مِنَ الأَوْسِ ضَرَبْنَا عُنُقَهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ إِخْوَانِنَا مِنَ الخَزْرَجِ أَمَرْتَنَا فَفَعَلْنَا فِيهِ أَمْرَكَ. فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَهُوَ سَيِّدُ الخَزْرَجِ -وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ رَجُلًا صَالِحًا وَلَكِنِ احْتَمَلَتْهُ الحَمِيَّةُ- فَقَالَ: كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللهِ، لَا تَقْتُلُهُ وَلَا تَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ، فَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ الحُضَيْرِ فَقَالَ: كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللهِ، وَاللهِ لَنَقْتُلَنَّهُ، فَإِنَّكَ مُنَافِقٌ تُجَادِلُ عَنِ المُنَافِقِينَ. فَثَارَ الحَيَّانِ: الأَوْسُ وَالخَزْرَجُ حَتَّى هَمُّوا، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى المِنْبَرِ فَنَزَلَ فَخَفَّضَهُمْ حَتَّى سَكَتُوا وَسَكَتَ.
وَبَكَيْتُ يَوْمِي لَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ وَلَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ، فَأَصْبَحَ عِنْدِي أَبَوَايَ، قَدْ بَكَيْتُ لَيْلَتَيْنِ وَيَوْمًا حَتَّى أَظُنُّ أَنَّ البُكَاءَ فَالِقٌ كَبِدِي. قَالَتْ: فَبَيْنَا هُمَا جَالِسَانِ عِنْدِي وَأَنَا أَبْكِي، إِذِ اسْتَأْذَنَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَأَذِنْتُ لَهَا، فَجَلَسَتْ تَبْكِي مَعِي، فَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ إِذْ دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَجَلَسَ، وَلَمْ يَجْلِسْ عِنْدِي مِنْ يَوْمِ قِيلَ فِيَّ مَا قِيلَ قَبْلَهَا، وَقَدْ مَكُثَ شَهْرًا لَا يُوحَى إِلَيْهِ فِي شَأْنِي شَيْءٌ -قَالَتْ- فَتَشَهَّدَ ثُمَّ قَالَ:"يَا عَائِشَةُ، فَإِنَّهُ بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً فَسَيُبَرِّئُكِ اللهُ، وَإِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرِي اللهَ وَتُوبِي إِلَيْهِ، فَإِنَّ العَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ ثُمَّ تَابَ، تَابَ اللهُ عَلَيْهِ".
فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَقَالَتَهُ قَلَصَ دَمْعِي حَتَّى مَا أُحِسُّ مِنْهُ قَطْرَةً، وَقُلْتُ لأَبِي: أَجِبْ عَنِّي رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ: وَاللهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. فَقُلْتُ لأُمِّي: أَجِيبِي عَنِّي رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا قَالَ. قَالَتْ: وَاللهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَتْ: وَأَنَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ لَا أَقْرَأُ كَثِيرًا مِنَ القُرْآنِ فَقُلْتُ: إِنِّي
وَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّكُمْ سَمِعْتُمْ مَا يَتَحَدَّثُ بِهِ النَّاسُ، وَوَقَرَ فِي أَنْفُسِكُمْ وَصَدَّقْتُمْ بِهِ، وَلَئِنْ قُلْتُ لَكُمْ: إِنِّي بَرِيئَةٌ -وَاللهُ يَعْلَمُ إِنِّي لَبَرِيئَةٌ- لَا تُصَدِّقُونِي بِذَلِكَ، وَلَئِنِ اعْتَرَفْتُ لَكُمْ بِأَمْرٍ -وَاللهُ يَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ- لَتُصَدِّقُنِّي، وَاللهِ مَا أَجِدُ لِي وَلَكُمْ مَثَلًا إِلَّا أَبَا يُوسُفَ إِذْ قَالَ:{فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ المُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18]
ثُمَّ تَحَوَّلْتُ عَلَى فِرَاشِي وَأَنَا أَرْجُو أَنْ يُبَرِّئَنِي اللهُ، وَلَكِنْ وَاللهِ مَا ظَنَنْتُ أَنْ يُنْزِلَ فِي شَأْنِي وَحْيًا، وَلأَنَا أَحْقَرُ فِي نَفْسِي مِنْ أَنْ يُتَكَلَّمَ بِالقُرْآنِ فِي أَمْرِي، وَلَكِنِّي كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَرَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي النَّوْمِ رُؤْيَا يُبَرِّئُنِي اللهُ، فَوَاللهِ مَا رَامَ مَجْلِسَهُ، وَلَا خَرَجَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ البَيْتِ حَتَّى أُنْزِلَ عَلَيْهِ، فَأَخَذَهُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِنَ البُرَحَاءِ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَتَحَدَّرُ مِنْهُ مِثْلُ الجُمَانِ مِنَ العَرَقِ فِي يَوْمٍ شَاتٍ، فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَضْحَكُ، فَكَانَ أَوَّلَ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا أَنْ قَالَ لِي:"يَا عَائِشَةُ، احْمَدِي اللهَ فَقَدْ بَرَّأَكِ اللهُ". فَقَالَتْ لِي أُمِّي: قُومِي إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. فَقُلْتُ: لَا وَاللهِ، لَا أَقُومُ إِلَيْهِ، وَلَا أَحْمَدُ إِلَّا اللهَ. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُو بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ) [النور: 11] الآيَاتِ، فَلَمَّا أَنْزَلَ اللهُ هَذَا فِي بَرَاءَتِي.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه -وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ لِقَرَابَتِه مِنْهُ: وَاللهِ لَا أُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ شَيْئًا أَبَدًا بَعْدَ مَا قَالَ لِعَائِشَةَ. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ} إِلَى قَوْلِهِ: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 22] فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: بَلَى، وَاللهِ إِنِّي لأُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لِي، فَرَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ الَّذِي كَانَ يُجْرِي عَلَيْهِ. وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَسْأَلُ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ عَنْ أَمْرِي، فَقَالَ:"يَا زَيْنَبُ، مَا عَلِمْتِ؟ مَا رَأَيْتِ؟ ". فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَحْمِي سَمْعِي وَبَصَرِي، وَاللهِ مَا عَلِمْتُ عَلَيْهَا إِلَّا خَيْرًا، قَالَتْ: وَهْيَ الَّتِي كَانَتْ تُسَامِينِي، فَعَصَمَهَا اللهُ بِالوَرَعِ.
قَالَ: وَحَدَّثَنَا فُلَيْحٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، وَعَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ مِثْلَهُ. قَالَ وَحَدَّثَنَا فُلَيْحٌ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ القَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ مِثْلَهُ. [انظر: 2593 - مسلم: 2770 - فتح: 5/ 269]
ساق فيه حديث عائشة في الإفك بكماله.
وقد أخرجه أيضًا في المغازي
(1)
والجهاد
(2)
والتفسير
(3)
والأيمان
والنذور
(4)
والاعتصام
(5)
والتوحيد
(6)
، وستأتي قطعة منه في غزوة
المريسيع
(7)
وسورة النور
(8)
، وسلف أيضًا بعضه
(9)
، وأخرجه مسلم
من حديث معمر والسياق له ويونس بن يزيد عن الزهري به
(10)
.
إذا تقرر ذلك فالكلام عليه ملخصًا من وجوه:
أحدها: قوله: (حَدَّثنَا أَبُو الرَّبِيعِ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ -وَأَفْهَمَنِي بَعْضَهُ أَحْمَدُ
(11)
- ثَنَا فُلَيْحُ) أحمد هذا هو ابن يونس، كما هو ثابت في أصل الدمياطي، وعليه علامة.
وقال خلف في "أطرافه": هو أحمد بن عبد الله بن يونس.
(1)
سيأتي برقم (4141) باب: حديث الإفك.
(2)
سيأتي برقم (2879) باب: حمل الرجل امرأته في الغزو دون بعض نسائه.
(3)
سيأتي برقم (4690) باب: {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ} .
(4)
سيأتي برقم (6662، 6679) باب: قول الرجل: لعمر الله، وباب: اليمين فيما لا يملك وفي المعصية.
(5)
سيأتي برقم (7369، 7370)، باب: قول الله: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} .
(6)
سيأتي برقم (7500) باب: قول الله: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللهِ} .
(7)
سيأتي برقم (4141) كتاب: المغازي، باب: حديث الإفك.
(8)
سيأتي برقم (4750) وما بعده باب: قوله {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ} وأبواب أخر من تفسير سورة النور.
(9)
سلف برقم (2593) كتاب: الهبة، باب: هبة المرأة، و (2637) كتاب: الشهادات، باب: إذا عدل رجل أحدًا فقال: لا نعلم إلا خيرًا.
(10)
مسلم (2770) كتاب: التوبة، باب: في حديث الإفك وقبول توبة القاذف.
(11)
ورد بهامش الأصل ما نصه: هو أحمد بن عبد الله بن يونس.
ووهمه المزي، ولم يبين سببه، وزعم ابن خلفون في "معلمه بأسماء شيوخ البخاري ومسلم" أنه لعله أحمد بن حنبل.
ثانيها: قول الزهري: (وَكُلٌّ حَدَّثَنِي طَائِفَةً مِنْ حَدِيثِهَا) هو جائز سائغ من غير كراهة؛ لأنه قد بين أن بعض الحديث عن بعضهم وبعضه عن بعضهم.
والأربعة الذين حدثوه به أئمة حفاظ من جلة التابعين، فإذا ترددت اللفظة من هذا الحديث بين كونها عن هذا أو عن ذاك لم يضر.
وجاز الاحتجاج بها لثقتهم، وقد قام الاتفاق على أنه لو قال: حدثني زيد أو عمرو، وهما ثقتان معروفان بذلك عند المخاطب، جاز الاحتجاج بذلك الحديث.
ثالثها: وجه إيراد هذا الحديث هنا سؤال الشارع بريرة وزينب بنت جحش، عن عائشة، وهو لائح في تعديل النساء، وقد زكت أيضًا عائشة زينب بقولها (وَهْيَ التِي كَانَتْ تُسَامِينِي، فَعَصَمَهَا اللهُ بِالوَرَعِ) وهو تزكية منها لها، وشهادة لها بالفضل، ومن كانت بهذِه الصفة جازت تزكيتها.
قال الطحاوي: تعديلها مقبول عند أبي حنيفة وأبي يوسف.
وقال محمد: لا يقبل في تعديل إلا رجلان أو رجل وامرأتان
(1)
.
وعن مالك: لا يجوز تعديل النساء بوجه، لا في مال ولا في غيره
(2)
.
وقال الشافعي: لا يُعَدِّلْنَ ولا يُجَرِّحْنَ ولا يشهد على شهادتهن إلا الرجال
(3)
.
(1)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 3/ 416.
(2)
انظر: "عيون المجالس" 4/ 1543، "الكافي" ص 470.
(3)
انظر: "مخصر اختلاف العلماء" 3/ 417.
قلت: ونقلت في "المقنع" قول: تزكيتها وتزكية العبد عندنا
(1)
.
وقال الطحاوي: الدليل على قبول تعديلهن أنه يقبل في التزكية ما لا يقبل في الشهادة؛ لأنه يقول في الشهادة: أشهد ولا يحتاج في التزكية إلى لفظ الشهادة
(2)
، قلت: ومن منع تزكيتها لعلة نقصها عن معرفة وجوهها؛ لأن من شرطها عندنا وعند مالك أن يقول: أراه عدلًا رضًى أو عدلًا عليَّ ولي.
لكن عندنا زيادة (ولي) على وجه التأكيد، وإن كان ظاهر نص الشافعي أنه لا بد منه.
وهذا لا يعلم إلا بالاختبار، وطول الممارسة في المعاملة وغيرها، والنساء يقصرن عن هذا، وقد خص الله أزواج نبيه من الفضل بما لم يوجد في غيرهن ممن يأتي بعدهن من النساء فاحتيط في التعديل، وأخذ فيه بشهادة الرجال، فإن قلت: فإذا كان كما ذكرت فجَوّز تعديل النساء على النساء على ما ترجم به البخاري، لإمكان تعريف النساء أحوال النساء.
قلت: قد يلتزم على أنه لو قيل: إنه يجوز أن يزكي بعضهن بعضًا بقول حسن وثناء جميل ولا يكون تعديلًا في شهادة توجب أخذ مال، وإنما هو إبراء من سوء (من)
(3)
قيل لكان حسنًا، وشهادة النساء إنما أجازها الله تعالى في كتابه في الديون والأموال مع الرجال، وأجازها المسلمون في عيوب النساء وعوراتهن، وحيث لا يمكن الرجال مشاهدته.
(1)
"المقنع" 1/ 252.
(2)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 3/ 417.
(3)
كذا في الأصل، والسياق يستقيم بدونها.
وأما في غير ذلك فلا يجوز فيه إلا الرجال؛ ألا ترى أنه لا تجوز شهادتهن منفردات على شهادة امرأة ولا رجل عند جمهور العلماء ولا يجوز مع الرجال في ذلك عند الشافعي وابن الماجشون وابن وهب.
واختاره سحنون، وإنما يجوز مع الرجال عند مالك والكوفيين، فكيف يجوز تعديلهن منفردات عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وهما يجيزان شهادتهن على الشهادة منفردات؟! هذا تناقض
(1)
.
مع أن ابن التين قال: ترجم على تعديل النساء، والنساء لا مدخل لهن في التعديل، وقد علمت ما فيه.
وقد يحتج لمحمد بأنه سأل أسامة أيضًا معهما. قال: (أَهْلُكَ يَا رَسولَ اللهِ، وَلَا نَعْلَمُ والله إِلَّا خَيْرًا).
رابعها: قوله: (وَأَثْبَتُ)
(2)
لَهُ اقْتِصَاصًا) أي: حفظًا، يقال: قصصت الشيء إذا تبعت أثره شيئًا بعد شيء، ومنه {نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القَصَصِ} [يوسف: 3]، {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ} [القصص: 11]، أي: اتبعي أثره، ومنه القاصّ الذي يأتي بالقصة من قصها، ويجوز بالسين، قسست أثره قسًّا.
وقوله قبله: (وأوعى) أي: أحفظ.
وقوله: (وقد وعَيْتُ عن كل واحد). هو بفتح العين، أي: حفظت.
خامسها: قوله (في غزوة غَزَاهَا) هي غزوة بني المصطلق، وكانت سنة ستٍّ، كذا جزم به ابن التين، وهو ما عند البخاري، وقال غيره: في شعبان سنة خمس، وتعرف أيضًا بغزوة المريسيع.
(1)
انظر: "شرح ابن بطال" 8/ 38 - 39.
(2)
في هامش الأصل: (وأثبته) وعليها تصحيح.
وقال موسى بن عقبة: سنة أربع
(1)
.
فهذِه ثلاثة أقوال.
سادسها: قولها: (فَأَقْرَعَ بَيْنَنَا).
فيه جواز القرعة، إذا استوى سبب المقتسمين في ذلك، مثل استواء سبب الزوجات.
قال أبو عبيد: عمل بالقرعة ثلاثة من الأنبياء: نبينا ويونس وزكرياء صلوات الله وسلامه عليهم.
قال ابن المنذر: استعمالها كالإجماع.
وروينا عن أبي هريرة أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في دابة وليس لهما بينة فأمرهما أن يستهما على اليمين
(2)
.
وعن أحمد: في القرعة خمس سنن
(3)
.
وقال أبو الزناد: يتكلمون في القرعة وقد ذكرها الله في موضعين من كتابه {{فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141)} [الصافات: 141]}، و {إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ} [آل عمران: 44] قال ابن المنذر: وقد اختلف في كيفيتها، فقال سعيد بن جبير: بالخواتيم، يؤخذ خاتم هذا وخاتم هذا، ويدفعان إلى رجل فيخرج منهما واحدًا.
وعن الشافعي: يجعل رقاعًا صغارًا يكتب في كل واحدة اسم ذي السهم، ثم يجعل في بنادق طين ويغطى عليها ثوب، ثم يُدْخل رجل يده فيخرج بندقة وينظر من صاحبها فيدفعها إليه
(4)
.
(1)
ذكره البخاري قبل حديث (4138) كتاب المغازي، باب: غزوة بني المصطلق.
(2)
رواه أبو داود (3618)، البيهقي 10/ 255.
(3)
انظر: "الشرح الكبير" 19/ 123.
(4)
"الأم" 7/ 338.
وقد أسلفنا في الشركة ذكر القرعة أيضًا، وعندنا أنه إذا أراد سفرًا أقرع بين نسائه؛ لا يجوز أخذ بعضهن بغير ذلك خلافًا لمالك، كما حكاه النووي عنه
(1)
، وهو مشهور مذهب مالك، كما قال ابن التين؛ لأن القسم سقط للضرورة، ووافقنا ابن عبد الحكم، قال مالك: والشارع كان يفعل ذلك تطوعًا منه؛ لأنه لا يجب عليه أن يعدل بينهن. وقيل في قوله: {وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} [الأحزاب: 51] أنهن عائشة وحفصة وزينب وأم سلمة وأم حبيبة وباقيهن مرجآت.
وفي القُدوري: لا حق لهن في حال السفر، يسافر بمن شاء منهن.
قال الأقطع: لأن الزوج لا يلزمه استصحاب واحدة منهن ولا يلزمه القسم في حال السفر، والأولى والمستحب أن يقرع؛ ليطيب قلوبهن.
سابعها: (قَفَلَ): رجع، و (آذَنَ) بالمد وتخفيف الذال المعجمة مثل قوله:{آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنبياء: 16] وروي بالقصر وتشديد الذال، أي: أعلم به.
وقولها: (فَإِذَا عِقْدٌ لِي مِنْ جَزْعِ أَظْفَارٍ) الجزع -بفتح الجيم وسكون الزاي- خرز يماني. ووصفه أبو العباس أحمد بن يوسف التيفاشي
(2)
في كتابه "الأحجار" فأطنب: وإنه يوجد في اليمن في معادن العقيق، ومنه ما يؤتى به من الصين. ثم ذكر أصنافه قال: وليس في الحجارة أصلب منه جسمًا، وإنما يحسن إذا طبخ بالزيت، وزعمت الفلاسفة أنه يشتق
(1)
"شرح مسلم" 17/ 103.
(2)
هو القاضي أبو العباس أحمد بن يوسف التيفاشي القفصي الطبيب الأديب المتوفى سنة إحدى وخمسين وستمائة، له من التصانيف:"أزهار الأفكار في جواهر الأحجار"، "الدرة الفائقة في محاسن الأفارقة"، "سجع الهديل في أخبار النيل". انظر ترجمته في "هدية العارفين" ص 49.
من اسمه الجزع؛ لأنه يولد في القلب الجزع، ومن تقلد به كثرت همومه، ورأى أحلامًا رديئة، وكثر الكلام بينه وبين الناس، وإن علق على طفل كثر لعابه وسال، وإن لف في شعر المُطْلَقَة ولدت، ويقطع
نفث الدم، ويختم القروح
(1)
.
قال البكري: ومنه جزع يعرف بالنقمى
(2)
.
وقال ثعلب: الجزع: الخرز.
فاعترض ابن درستويه فقال: ليس كل الخرز يسمى جزعًا، وإنما الجزع منها المجزع أي: المقطع بالألوان المختلفة، قد قطع سواده ببياضه.
وقال كراع في "منضده" عن الأثرم: أهل البصرة يقولون: الجزع بالفتح والكسر: الخرز.
وقال أبو القاسم التميمي في "المستطرف": عن بندار: الجزع واحد لا جمع له.
وقال الحربي وابن سيده: الجزع: الخرز، واحدته: جزعة، كما أسلفنا
(3)
.
وقال صاحب "العين": الجزع: ضرب من الخرز، والجزع بكسر الجيم: جانب الوادي ومنقطعه
(4)
.
وقولها: أظفار: كذا هنا بالألف، وفي غيره بحذفها، والصواب الأول.
(1)
أكثر هذه الأقوال ضرب من الأوهام التي لا تثبت.
(2)
"معجم ما استعجم" 3/ 904.
(3)
"المحكم" 1/ 182.
(4)
"العين" 1/ 216 مادة: (جزع).
قال ابن بطال: رواه فليح بن سليمان، عن الزهري بألف، وكذا رواه يونس عن ابن شهاب في تفسير القرآن في سورة النور، وأهل اللغة لا يعرفون هذا، ويقولون: من جزع ظفار، وهو مبني على الكسر، كما تقول: حَذَام
(1)
، وقد رواه البخاري كذلك في المغازي
(2)
من رواية صالح بن كيسان عن ابن شهاب، قال ابن قتيبة: ظفار: مدينة باليمن وهو جزع ظفاريّ
(3)
.
وقال ابن التين: الجزع بفتح الجيم وسكون الزاي: الخرز، وأظفار صوابه ظفار بغير ألف، وقيل: مدينة.
وقال: قيل: الجزع اليماني الذي فيه البياض والسواد.
وكذا قال القرطبي: من قيده بالألف أخطأ، وصحيح الرواية بفتح الظاء
(4)
.
قال ابن السكيت: ظفار قرية باليمن.
وعن ابن سعد: جبل
(5)
وفي "الصحاح": مبني على الكسر كقطامِ
(6)
.
وقال البكري، عن بعضهم: سبيلها سبيل المؤنث لا ينصرف
(7)
.
قال صاحب "المطالع": ويرفع وينصب.
(1)
"شرح ابن بطال" 8/ 42.
(2)
سيأتي برقم (4141) باب: حديث الإفك.
(3)
"غريب الحديث" 1/ 294.
(4)
"المفهم" 7/ 366، 367.
(5)
"الطبقات الكبرى" 8/ 31.
(6)
"الصحاح" 2/ 730.
(7)
"معجم ما استعجم" 3/ 904.
قال أبو عبيد: وقصر المملكة بظفار قصر ذى ريدان ويقال: إن الجن بنتها.
وقولها: (فَرَجَعْتُ فَالتَمَسْتُ عِقْدِي) في بعض الروايات أن العقد مذكور مقدار ثمنه اثنا عشر درهمًا، ذكرها ابن التين.
ثامنها: قولها: (يَرْحَلُونَ لِي). هو باللام، وروي بالباء. قال النووي: والأول أجود. ويرحلون: بفتح الياء وسكون الراء وفتح الحاء المخففة
(1)
. وهو معنى قولها: فرحلوه على بعيري، وهو بتخفيف الحاء أيضًا.
والهودج: مركب من مراكب النساء
(2)
.
وقولها: (لَمْ يَثْقُلْنَ وَلَمْ يَغْشَهُنَّ اللَّحْمُ).
كذا وقع هنا وقال في كتاب المغازي
(3)
والتفسير
(4)
: كان النساء خفافًا لم يهبلن، ولم يغشهن اللحم.
قال صاحب "العين": المُهَبَّل: الكثير اللحم
(5)
.
قال أبو عبيد: يقال منه: أصبح فلان مهبلًا إذا كان مورم الوجه متهبجًا
(6)
وأنشد ثابت:
ريان لا غش ولا مهبل
الغش: الرقيق عظام اليدين والرجلين.
(1)
"شرح مسلم" 17/ 104.
(2)
"تهذيب اللغة" 4/ 3728 مادة: (هدج).
(3)
سيأتي برقم (4141) باب: حديث الإفك.
(4)
سيأتي برقم (4750) باب: قوله: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المُؤْمِنُونَ} .
(5)
"العين" 4/ 54 مادة: (هبل).
(6)
"غريب الحديث" 2/ 364.
وذكرها الخطابي، وقال أيضًا: معناها لم يكثر عليهن ولم يركب بعضه بعضًا
(1)
.
والعُلْقة: بضم العين المهملة ثم لام ساكنة ثم قاف: القليل، ويقال لها أيضًا: البلغة، كأنه الذي يمسك الرمق ويعلق النفس. للازدياد منه: أي تشوفها إليه
(2)
.
وقال صاحب "العين": العلقة: ما فيه بلغة من الطعام إلى وقت الغداة، والعلاق: مثله
(3)
واقتصر عليه ابن بطال
(4)
وعبارة ابن التين أيضًا: العلقة: البلغة من القوت، وأصل العلقة شجر يبقى في الشتاء تعلق به الإبل، أي: تحتذي به؛ حتى تدرك الربيع.
وقال في غزوة المريسيع: العلقة: ما تتبلغ به الماشية من الشجر، وقيل: ما يمسك به المرء نفسه من الأكل، وقيل: هي ما يأكله بكرة من الغذاء.
وقولها: (فَبَعَثُوا الجَمَلَ). أي: أثاروه.
وقولها: (فَوَجَدْتُ عِقْدِي بَعْدَ مَا اسْتَمَرَّ الجَيْشُ).
أي: ذهب ومضى، قاله الداودي، ومنه قوله تعالى:{سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [القمر: 2] أي: ذاهب أو دائم أو محكم أو مر أو قوي شديد {يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ} [القمر: 19] قيل: إنه يوم الأربعاء، ذكره
الهروي.
(1)
"أعلام الحديث" 2/ 1309.
(2)
"المحكم" 1/ 124 مادة: (ع. ل. ق).
(3)
"العين" 1/ 164 مادة: (علق).
(4)
"شرح ابن بطال" 8/ 42.
وقولها: (فأممت منزلي) أي: قصدته، ومنه {آمِّينَ البَيْتَ الحَرَامَ} [المائدة: 2] قال ابن التين: فعلى هذا يقرأ: (أممت): مخفف الميم وإن شددت في بعض الأمهات.
ذكره في المغازي بلفظ: فتيممت منزلي
(1)
، والمعنى واحد.
وقولها: (وَظَنَنْتُ أَنَّهُمْ سَيَفْقِدُونِي) الظن هنا بمعنى العلم.
تاسعها: (صَفْوَانُ بْنُ المُعَطَّلِ) بفتح الطاء المشددة ابن (رُحضة)
(2)
بن المؤمل بن خزاعي بن محارب بن مرة بن هلال بن فالج بن ذكوان بن ثعلبة بن بُهْثَة بن سليم، ذكر الكلبي وغيره أن أول مشاهده المريسيع، وذكر الواقدي أنه شهد الخندق وما بعدها، وكان شجاعًا خيرًا شاعرًا
(3)
.
وعن ابن إسحاق: قتل في غزوة أرمينية شهيدًا سنة تسع عشرة.
وقيل: توفي في خلافة معاوية سنة ثمانٍ وخمسين واندقت رجله يوم قتل فطاعن بها وهي منكسرة حتى مات.
ولما ضرب حسان بن ثابت بسيفه لما هجاه ولم يقصه منه رسول الله صلى الله عليه وسلم استوهب من حسان حياته فوهبها لرسول الله صلى الله عليه وسلم فعوضه منها حائطًا من نخل، قال ابن إسحاق وأبو نعيم: هو بيرُحاء وسيرين أخت مارية
(4)
.
(1)
سبق تخريجه.
(2)
كذا في الأصل، وفي "معرفة الصحابة" 3/ 1499، ووقع في "الاستيعاب" 2/ 280: ربيعة.
(3)
انظر ترجمته في: "الاستيعاب" 2/ 280 (1228)، "أسد الغابة" 3/ 30 (2522)، "الإصابة" 2/ 190 - 191 (4089).
(4)
أي بالإضافة إلى الحائط أعطاه سيرين. انظر: "معرفة الصحابة" 3/ 1499.
ولك أن تقول: إن حسان إنما وصل إليه بيرحاء من جهة أبي طلحة
(1)
، ويجوز أن يقال: لما كانت بمشورته صلى الله عليه وسلم فنسبت إليه تجوزًا.
وفي "الاكتفاء" لأبي الربيع سليمان بن سالم
(2)
-روي من وجوه أن إعطاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسان سيرين؛ إنما كان لذبِّه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والذين جاءوا بالإفك في الآية: عبد الله بن أُبَي، وحمنة بنت جحش، وعبيد الله
(3)
، وأبو أحمد
(4)
أخواها، ومسطح، وحسان. ذكرهم السهيلي
(5)
وقيل: إن حسان لم يكن منهم.
والإفك: الكذب وأصله من قولهم: أفكه يأفكه إذا صرفه عن الشيء، فقيل للكذب: إفك؛ لأنه مصروف عن الصدق. والذي تولى كبره عبد الله بن أبي بن سلول، وكان صفوان على الساقة يلتقط
ما يسقط من متاع الجيش؛ ليرده إليهم، وقيل: إنه كان ثقيل النوم
(1)
ذكر في هامش الأصل: في "الصحيح" كذا.
(2)
هو سليمان بن موسى بن سالم بن حسان الحميري الكلاعي البلنسي أبو الربيع، كان من كبار أئمة الحديث توفي سنة أربع وثلاثين وستمائة، من تصانيفه:"الاكتفا في مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم والثلاثة الخلفا"، وكتاب "الصحابة"، "المصباح"، "حلية الأمالي في الموافقات العوالي"، "المسلسلات".
انظر ترجمته في "سير أعلام النبلاء" 23/ 134 - 140.
(3)
ورد بهامش الأصل: في ذكر عبيد الله بن جحش فيهم نظرٌ؛ لما ذكروا في تاريخ وفاته.
(4)
ذكر في هامش الأصل: أبو أحمد اسمه: عبد، وقيل: عبد الله، قال الذهبي في "تجريده": وليس بشيء، إنما عبد الله أخوه من قدماء السابقين، وله شعر فصيح، توفي بعد العشرين.
(5)
ورد بهامش الأصل: لم أرهم في كلام السهيلي في "الروض" في نسختين وقفت عليهما، ولعله ذكر ذلك في غيره.
لا يستيقظ حتى يرتحل الناس
(1)
.
وفي أبي داود: شكت امرأته منه ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إِنَّا أَهْلُ بَيْتٍ نُوَّم عُرِفَ لَنَا ذَاكَ لَا نَكَادُ نَسْتَيْقِظُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ
(2)
.
وذكر ابن العربي أنه كان حصورًا لم يكشف كنف أنثى قط، وقال ابن إسحاق: لقد سئل عن صفوان فوجدوه لا يأتي النساء. وفي البخاري عن صفوان: والذي نفسي بيده ما كشفت من كنف أنثى قط.
قالت عائشة: ثم قتل بعد ذلك شهيدًا
(3)
.
وقولها: (فَرَأى سَوَادَ إِنْسَانٍ). أي: شخصه.
وقولها: (وَكَانَ يَرَانِي قَبْلَ الحِجَابِ). أي: قبل حجاب البيوت، وآية الحجاب نزلت في زينب. وقولها:(فَاسْتَيْقَظْتُ بِاسْتِرْجَاعِهِ) يعني قوله: إنَّا لله وإنَّا إليه راجِعُون.
فيحتمل أن يكون شق عليه ما جرى عليها، ويحتمل أن يكون عدها مصيبة لما وقع في نفسه أنه لا يسلم من الكلام.
وقولها: (فَاسْتَيْقَظْتُ بِاسْتِرْجَاعِهِ حِتَّى أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ).
وفي رواية: (حين) بالنون، والمراد: حين نزل عن راحلته.
عاشرها: قولها: (بَعْدَ مَا نَزَلُوا مُعَرِّسِينَ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ) أي: نازلين نصف النهار والمعروف أن التعريس نزول آخر الليل
(4)
.
(1)
انظر: "الروض الأنف" 4/ 20.
(2)
أبو داود (2459)، قال الألباني في "صحيح سنن أبي داود" (2122): إسناده صحيح على شرط الشيخين، وكذلك قال الحاكم والذهبي، وصححه ابن حبان اهـ.
(3)
سيأتي برقم (4141) كتاب: المغازي، باب: حديث الإفك.
(4)
"لسان العرب" 5/ 2880 مادة: (عرس).
وهذا محمول على المجاز، وعبارة ابن التين: التعريس: النزول.
وقال الخطابي: نحو الظهيرة أول القائلة.
وقد روى: موغرين في نحر الظهيرة.
كما ذكره في المغازي والتفسير
(1)
بمعني: موغرين، أي: مهجرين يقال: رأيت فلانًا في وغر الهاجرة، وهو شدة الحرِّ حين تكون الشمس في كبد السماء، ومنه: وغر الصدر، وهو التهاب الحقد وتوقده في
القلب، ومن هذا إيغار الماء.
قال ابن السكيت: وهو أن تسخن الحجارة ثم تُلقى في الماء لتسخنه.
قلت: وأوغر: دخل في ذلك الوقت، مثل أظهر وأصبح.
وأكدت ذلك بقولها: (في نحر الظهيرة).
و (الظَّهِيرَةِ): اشتداد الحر أيضًا
(2)
، و (نَحْر الظَّهِيرَةِ): أولها، وأوائل الشهور تسمى النحور
(3)
.
وقال الداودي: الظهيرة: نصف النهار عند أول الفيء قال: وقيل: الظهر والظهير لما بعد نصف النهار؛ لأن الظَّهْرَ آخر الإنسان، وسمي آخر النهار بذلك، ولا يسلم له؛ لأن أول اشتداد الحر قبل نصف النهار.
قال القرطبي: الرواية الصحيحة بالغين المعجمة والراء المهملة من الوغرة بسكون الغين، وهي شدة الحر.
(1)
سيأتي برقم (4141)، (4750).
(2)
"المجمل" 1/ 602 - 603 مادة: (ظهر).
(3)
"المجمل" 2/ 858 مادة (نحر).
ورواه مسلم من رواية يعقوب بن إبراهيم بعين مهملة وزاي، ويمكن أن يقال فيه: هو من وعزت إليه أي: تقدمت، يقال: وعزت إليه وعزًا -مخففًا- ويقال: وعزت إليه توعيزًا بالتشديد
(1)
. وزعم الهجري في "نوادره" أن التخفيف في وعزت من لحن العامة، ولا يلتفت إلى من صحفه بالعين المهملة والراء. أي: ساروا في الوعر؛ ليقاطعوا على الجيش بسرعة.
قال القزاز: ويكون من وغر صدره، أي: حصل لها غضب وحقد مما نابَهما.
وقوله: (فَاشْتَكَيْتُ بِهَا شَهْرًا) أي: مرضت.
وقولها: (يُفِيضُونَ) من قول أصحاب الإفك، يقال: أفاض القوم في الحديث إذا اندفعوا منه يخوضون وهو من قوله تعالى: {لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 14]. قال ابن عرفة: يقال: حديث مستفيض ومستفاض فيه. وقال غيره: وحديث مفاض فيه ومستفاض ومستفيض في الناس، أي: جارٍ فيهم وفي كلامهم.
وقولها: (وَيَرِيبُنِي) هو بفتح أوله ويجوز ضمه، وهو الشك يقال: أرابني الأمر يريبني إذا توهمته وشككت فيه، فإذا اشتبهته قلت: رابني منه كذا يريبني، وعن الفراء: هما بمعنى واحد في الشك، قال صاحب "المنتهى": الاسم: الريبة بالكسر وأرابني ورابني إذا تخوفت عاقبته، وقيل: رابني إذا علمت به الريبة، وأرابني إذا ظننت به، وقيل: رابني إذا رأيت منه ما يريبك وتكرهه، وتقول هذيل: أرابني
وأراب: أتى بالريبة، وراب: صار ذا ريبة.
(1)
"المفهم" 7/ 368.
قال صاحب "الواعي": ورابني أفصح.
و (اللُّطْف) بضم اللام وسكون الطاء بفتحها لغتان: الرفق، ومعنى:(نقهت): أفقت، ذكره ثعلب بفتح القاف، والجوهري بالكسر، وهو المفيق من المرض قبل كمال صحته.
و (المُتَبَرَّز): الموضع الذي يقضي فيه الإنسان حاجته، والبراز: أيضًا اسم لذلك الموضع وهو المتسع من الأرض، وبها سمي الحدث بُرازًا، كما يُسمى الحدث بالغائط وهو المطمئن من الأرض، والتنزه: البعد عن البيوت، يقال: مكان نزيه أي: خالٍ، ليس فيه أحد، وكانوا يبعدون عنها عند حاجة الإنسان، ووقع هنا:(البرية أو في التنزه).
وفي المغازي: في البرية فقط، وفي مسلم: في التنزه أو التبرز
(1)
، والمناصع: المواضع التي يتخلى فيها لبولٍ أو حاجة، الواحد: منصع.
وقال الأزهري: أراه موضعًا بعينه خارج المدينة، وهو في الحديث صعيد أفيح خارج المدينة
(2)
.
وقال ابن السكيت: المناصع في اللغة: المجالس.
وقال الداودي: قيل: سميت بذلك؛ لأن الإنسان إذا قضى حاجته ذهب ما كان يجد من الثقل، فإذا استنجى وتطيب بالحجارة استنقى، فكأنه أخذه من الناصع الأبيض الصافي.
و (الكُنُف): جمعُ كَنيف، وهو الساتر سمي موضع الغائط يستترون فيه.
(1)
مسلم (2770) كتاب: التوبة، باب: في حديث الإفك وقبول توبة القاذف.
(2)
"تهذيب اللغة" 4/ 3586 مادة (نصع).
وقولها: (وَأَمْرُنَا أَمْرُ العَرَبِ الأُوَلِ فِي البَرِّيَّةِ أو التبرز) هو شك فيما أظن، و (الأُوَل) بضم الهمزة وتخفيف الواو
(1)
، ويجوز فتح الهمزة وتشديد الواو وكلاهما صحيح.
وقولها: (تَعِسَ مِسْطَحٌ) التعس: أن لا (ينتقش)
(2)
من عثرته وقد تعس تعسًا وأتعسه الله، وستأتي واضحة في الحراسة وفي الغزو من كتاب الجهاد، وهو بفتح العين وكسرها لغتان مشهورتان
(3)
.
ومعناه: عثر، كما سلف، وقيل: هلك، وقيل: لزمه الشر، وقيل: بعُد، وقيل: سقط لوجهه، قال ابن التين: المحدثون يقرءونه بكسر العين، وهو عند أهل اللغة بفتحها، قال: ومعناه: انكب أي: كبه الله.
وأم مِسْطح: اسمها سلمى بنت أبي رهم، وهي بنت خالة أبي بكر الصديق، وذكر أبو نعيم -فيما نقل من خطه- أن اسمها رائطة بنت صخر أخت أم الصديق
(4)
. ومسطح: لقب واسمه عوف
(5)
وقيل: عامر، ومعناه عود من أعواد الخلال.
و (أُثَاثَةَ): بضم الهمزة، ثم ثاء مثلثة، ثم ألف، ثم مثلها، ثم هاء، هو ابن أبي عبد المطلب بن عبد مناف بن قصي، يكني أبا عبد الله أو أبا عباد.
(1)
في هامش الأصل: (في "المطالع" قدَّم الثاني هنا ثم قال: وقيل هو وجه الكلام).
(2)
كذا في الأصل، وفي "ابن بطال" 8/ 43:(ينتعش).
(3)
في هامش الأصل: (في عين تعس الفتح والكسر، الأول في الصحاح، وفي النهاية: وقد تُفتح العين).
(4)
في هامش الأصل: (في التجريد: قيل: سَلْمى، وقيل: رَيْطة يعني بغير ألف).
(5)
في هامش الأصل: (وقع تسميته بعوف في "معجم الطبراني" في غير ما بيت).
قلت: انظر هذِه الأبيات بتمامها في "معجم الطبراني" 23/ 115 حديث الإفك.
قال الواقدي: شهد مع علي صفين، ومات سنة سبع وثلاثين، وقيل: سنة أربع
(1)
عن ست وخمسين سنة.
و (تيكم): إشارة للمؤنث كذاكم للمذكر.
والمِرط: كساء من صوف، قاله الداودي، وقال ابن فارس: ملحفة، يؤتزر به.
قال ابن التين: وضبط بفتح الميم، وقال الهروي: المروط الأكسية، وضبطه بكسرها في بعض الكتب من الأصل
(2)
.
وقولها: (يَا هَنْتَاهْ) وفي المغازي: أي هنتاه. وهو بنون ساكنة ومفتوحة، والأول أشهر، وبضم الهاء الأخيرة، وتسكن ونونها مخففة، وعن بعضهم فيما حكاه القرطبي تشديدها
(3)
، وأنكره الأزهري
(4)
. قالوا: وهذِه اللفظة تختص بالنداء، ومعناها: يا هذِه، وقيل: يا امرأة، وقيل: يا بلهى. كأنها تنسب إلى قلة المعرفة بمكائد الناس وشرورهم؛ وقد سلف في الحج في باب من قدم ضعفة أهله بالليل، في حديث أسماء
(5)
. وقال ابن التين: ضبطه الجوهري بفتح النون وهو اسم يلزمه النداء مثل قوله: يا هذِه ولا يراد بها مدح ولا ذم
(6)
.
وقوله بعد (يا هنتاه): (أَلَمْ تَسْمَعِي) كذا هنا. وفي المغازي: (ولم تسمعي)
(7)
. وفي مسلم: (أو لم تسمعي)
(8)
.
(1)
ذكر تحت الكلمة: يعني وثلاثين.
(2)
"غريب الحديث" 1/ 138.
(3)
"المفهم" 7/ 370.
(4)
"تهذيب اللغة" 4/ 3802 - 3803.
(5)
سلف برقم (1679).
(6)
"الصحاح" 6/ 2561 مادة (هنا).
(7)
سيأتي برقم (4141) باب: حديث الإفك.
(8)
مسلم (2770) كتاب: التوبة، باب: في حديث الإفك وقبول توبة القاذف.
وقوله: (وَلَهَا ضَرَائِرُ) هو بالألف وهو الصواب؛ لأن كل واحدة تتضرر من الأخرى بالغيرة وشبهها.
وفي بعض النسخ: (ضرار).
(وَضِيئَةٌ): أي: حسنة جميلة، ومنه اشتق الوضوء
(1)
.
وقال في التفسير: (حسنًا).
وقولها: (إلا أكثرن عليها).
وجاء في التفسير: إلا حسدنها وقيل فيها
(2)
: وقولها: (لا يرقأ لي دمع) أي: لا ينقطع مهموز من رقأ الدم إذا انقطع
(3)
.
ومعنى: (اسْتَلْبَثَ الوَحْيُ): أبطأ.
وقوله: (فَأَمَّا أُسَامَةُ فَأَشَارَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي يعلم من براءة أهله وبِالَّذِي يَعْلَمُ لهم في نفسِه). وفي مسلم: وبالذي يعلمُ في نفسه لهم من الود، فقال: يَا رَسُولَ اللهِ أَهْلُكَ
(4)
، وسمى المرأة أهلًا.
قال الداودي: وهو جائز أن يجمع الواحد والواحدة؛ لأن الأهل يكثرون ويقلون.
وقوله: (أهلك) روي بالنصب أي: أمسِك، وبالرفع أي: هم أهلك.
وقولها: (يريبك) سلف، واقتصر ابن التين على فتح الياء؛ لأنه ثلاثي، أي: هل رأيت ما يوجب تهمة.
(1)
"مقاييس اللغة" ص 1056 مادة (وضأ).
(2)
سيأتي برقم (4757) باب: إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة.
(3)
"تهذيب اللغة" 3/ 2716.
(4)
مسلم (2770).
و (أَغْمِصُهُ): بهمزة مفتوحة، ثم غين معجمة، ثم ميم، ثم صاد مهملة: أعيبها به، وأطعَنُ عليها، يقال: رجل مغموص عليه في دينه إذا طعن عليه فيه.
وفي كتاب "الأفعال" غمص الناس غمصا: احتقرهم وطعن عليهم، والغمص في العين كالرمض
(1)
.
والدَّاجِنُ: الشاة التي تألف البيت، ولا تخرج إلى المرعى.
وقال ابن التين: قيل: هي الشاة التي تحبس في البيت لدرها، لا تخرج إلى مرعى.
وقيل: هي ودجاجه أو حمام أو وحش أو طير يألف البيت.
وقال الطبري: الدَّاجِنُ: الشاةُ المعتادة للقيام في المنزل إذا سمنت للذبح واللبن، ولم تسرح في المسرح، وكل معتاد موضعًا هو به مقيم، فهو كذلك داجن، يُقال: دجن فلان بمكان كذا وأدجن به: إذا أقام به.
وقولها: (فَاسْتَعْذَرَ مِنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ، فقال: "مَنْ يَعْذِرُنِي؟ .. ").
أي: طلب من يعذره منه أي: ينصفه منه، تقول: من يعذرني من فلان؟ ومن عذيري؟
ويتأول على وجوه:
أحدها: من يقوم بعده فيما أوصله إليّ من مكروه.
ثانيها: من يقوم يعذرني إن عاقبته.
ثالثها: مَنْ ينتقم فيَّ منه، ويشهد لهذا جواب سعد: أنا أعذُرك مِنْه، إنْ كانَ مِنَ الأوْسِ ضَرَبْنا عُنقه.
(1)
"الأفعال" لابن القوطية ص 197 مادة: (غمص).
وهو سعد بن معاذ، وإنما قال ذلك؛ لأن الأوس من قومه، وهم بنو النجار، ومن آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجب قتله ولم يقل كذلك في الخزرج، لما كان بينهم وبين الخزرج، فبقي فيهم بعض الأنفة أن يحكم بعضهم في بعض، فإذا أمرهم الشارع امتثلوا أمره، وتكلم سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكان من وهط عبد الله بن أبي، وهم بنو ساعدة أنفة أن يحكم فيهم سعد بن معاذ وليس أنه رضي قول أبي.
وقولها: (فقام سعد بن معاذ) كذا في الأصول وقال ابن التين: قوله: فقام سعد بن عبادة ليس بصحيح، والأحاديث: سعد بن معاذ، والذي عارضه ابن عبادة، وفي بعضها سعد بن عبادة.
ووهَّم ابن حزم الأول؛ لأن سعد بن معاذ مات إثر بني قريظة بلا شك، وبنو قريظة كان في آخر ذي القعدة سنة أربع، فبين الغزوتين نحو سنتين، والوهم لم يَعْرَ منه أحد من البشر
(1)
.
وكذا قال ابن العربي: ذكر سعد بن معاذ هنا وهْمٌ اتفق عليه الرواة.
وقال أبو عمر: وهو وهم وخطأ
(2)
. وتبعه عليه جماعة وآخرهم القرطبي، فقال: إن ابن معاذ توفي منصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من قريظة سنة أربع لم يختلف فيه أحد من الرواة
(3)
.
وفي البخاري: أنها سنة ست، وقال موسى بن عقبة: سنة أربع
(4)
.
فليس وهمًا مخففًا.
وذكر ابن منده أن ابن معاذ مات سنة خمس من الهجرة.
(1)
"جوامع السيرة" لابن حزم ص 206.
(2)
"الدرر في اختصار المغازي والسير" لابن عبد البر ص 190.
(3)
"المفهم" 7/ 380.
(4)
كتاب المغازي، باب: غزوة بني المصطلق قبل حديث (4138).
وقال في المغازي: فقام سعد أخو بني عبد الأشهل
(1)
.
قلت: وسعد بن معاذ هو ابن النعمان بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل بن جشم، أخي حارثة ابني الحارث
(2)
، أخي ظفر
(3)
، واسمه كعب بن الخزرج بن عمرو النبيت بن مالك بن الأوس.
وسعد بن عبادة: هو ابن دليم بن حارثة بن أبي خزيمة بن ثعلبة بن طريف بن الخزرج بن ساعدة بن كعب بن الخزرج الأكبر، أخي الأوس، ابني حارثة بن ثعلبة العنقاء بن عمرو مزيقياء بن عامر ماء السماء
(4)
، وأم الأوس والخزرج قيلة بنت كاهل بن عذرة بن سعد (هذيم)
(5)
، أخي نهد وجهينة أولاد زيد بن ليث بن سود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة
(6)
.
وقولها: (وكان قبل ذلك رجلًا صالحًا) يقول: لم يكن قبل ذلك يحمى لنفاق.
و (احتملته) بحاء وميم، ولمسلم:(اجتهلته) بجيم وهاء
(7)
.
وقوله: (كَذَبْتَ لَعَمْرُو اللهِ). أي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجعل حكمه إليك، كذا قال الداودي، والظاهر كما قال ابن التين أنه قال له: كذبت إنك لا تقدر على قتله.
(1)
سيأتي برقم (4141) كتاب: المغازي، باب: حديث الإفك.
(2)
أي: جشم وحارثة.
(3)
أي: الحارث، واسم ظفر: كعب.
(4)
انظر: "جمهرة أنساب العرب" ص 365.
(5)
في الأصول: هذيل، وهو خطأ والمثبت من "الطبقات الكبرى" 3/ 419، "جمهرة
أنساب العرب" ص 444.
(6)
انظر: "الطبقات الكبرى" 3/ 419، "جمهرة أنساب العرب" ص 443، 444.
(7)
مسلم (2770) كتاب: التوبة، باب: حديث الإفك.
وقوله: (فَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرِ فَقَالَ: كَذَبْتَ لَعَمْرُو اللهِ، والله لنَقْتُلَنَّهُ). أي: إنْ أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قتلناه.
وقوم أسيد بنو عبد الأشهل، وهؤلاء الثلاثة نقباء.
وقوله: (فَثَارَ الحَيَّانِ). كذا هنا وقال في التفسير: فتثاور، أي: فتواثب
(1)
.
قال ابن فارس: يقال: ثار ثائره إذا اشتعل غضبًا
(2)
.
ومعثى: خفضهم تلطفهم حتى سلموا.
ومكث الوحي شهرًا؛ كان ليعلم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم المتكلم من غيره.
وقولها: (قد بكيتُ ليلتي ويومي). وفي نسخة: (ويومًا). يعني: اليوم الماضي والليلة التي بعده.
وقوله: (إِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ) أي: آتيته، والإلمام: هو النزول النادر غير متكرر، وقال بعض المفسرين: اللمم: مقارفة الذنب من غير مواقعة
(3)
.
وقال الداودي: معناه زنيت. وقيل اللمم: هو الذي يأتي الشيء وليس له عادة.
وقوله: ("فَإِنَّ العَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ ثُمَّ تَابَ، تَابَ اللهُ عَلَيْهِ") دعاها إلى الاعتراف، ولم يأمرها بالستر كغيرها؛ لأنه لا ينبغي عند الشارع امرأة أتت ذنبًا، قاله الداودي.
(1)
سيأتي برقم (4750) باب: قوله: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المُؤْمِنُونَ} .
(2)
"المجمل" 1/ 165 (ثور).
(3)
الطبري في "تفسيره" 11/ 529.
وقولها: (والله مَا ظَنَنْتُ أَنْ يُنْزِلَ فِي شَأْنِي وَحْيًا) هو شأن الصالحين احتقار النفس وملازمة الافتقار.
و (قلص دمعي) أي: ذهب، قاله الداودي وقيل: نقص. يقال: قلص الدمع: ارتفع وقلص الظل تقلص
(1)
.
وقال ابن السكيت: قلص الماء في البئر إذا ارتفع وهو ماء قليص
(2)
.
وقال القرطبي: يعني أن الحزن والموجدة انتهت نهايتها وبلغت غايتها
(3)
.
ومنها: انتهى الأمر إلى ذلك قلص الدمع؛ لفرط حرارة المصيبة.
وقولها: (مَا أُحِسُّ مِنْهُ قَطْرَةً) هو بضم الهمزة رباعي من أحس يحس قال تعالى: {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ} [مريم: 98].
وقولها: (مَا رَامَ مَجْلِسَهُ). أي: ما برح منه ولا قام منه، قاله صاحب "العين" يقال: رامه يريمه ريمًا أي: برحه ولازمه
(4)
، فأما من طلب الشيء فرام يروم رومًا.
والبرحاء: فُعَلاء، من البرح -بالمد وضم الباء الموحدة وفتح الراء- وليست بجمع، وهي مثبتة من البرح، وهي شدة الحمى وغيرها من الشدائد، وقال في "العين": شدة الحر
(5)
.
وقال الخطابي: شدة الكرب، مأخوذ من قولك: برحت بالرجل إذا بلغت به غاية الأذى والمشقة ويقال: لقيت منه البرح
(6)
.
(1)
"المجمل" 2/ 1731 (قلص).
(2)
"إصلاح المنطق" ص 264.
(3)
"المفهم" 7/ 374.
(4)
"العين" 8/ 293 مادة (ريم).
(5)
"العين" 3/ 216 مادة (برح) وقال فيه: البرحاء: الحمى الشديدة.
(6)
"أعلام الحديث" 2/ 1310.
وقال الداودي: هي العرق، وهو راجع إلى ما سلف.
والجُمان: بضم الجيم وتخفيف الميم، الدرّ، كذا ذكره ابن المثنى وغيره.
وقال ابن سيده: الجمان: هنوات على أشكال اللؤلؤ من فضة، فارسي معرب، واحدته جمانة، وربما سميت الدرة جمانة، وقيل: الجمان خرز يبيض بماء الفضة
(1)
.
وفي "المغيث": هو اللؤلؤ الصغار
(2)
.
وقال الجواليقي: وقد جعل لبيد الدرة جمانة.
وقال ابن التين: الجمان: الدر عند أهل اللغة.
وقال الداودي: هو شيء كاللؤلؤ يصنع من الفضة. وقال مرة: هو خرز أبيض. قال: وربما صيغ من الفضة كالحمص.
وسُرِّي عنه: مشدد مبني لما لم يسم فاعله أي: ذهب عنه ما يجد.
يقال: سروت الثوب عن بدني، إذا نزعته.
ولابن دحية: نزل عذرها بعد سبع وثلاثين ليلة.
وقولها: (لَا أَقُومُ إِلَيْهِ) إدلالًا وعتبًا؛ لكونهم شكوا في أمرها مع علمهم بحسن طريقها وجميل حالها.
ومعنى: {وَلَا يَأْتَلِ} [النور: 22] في الآية: لا يحلف، والألية: اليمين، وقيل: لا يقصرون من قولهم: ما ألوت أن أفعل كذا و {الفَضْلِ} [النور: 22]: المال والسعة في العيش والرزق؛ فإن قلت: {أُولُو} جماعة والمراد هنا الصديق. قلت: قال الضحاك: أبو بكر وغيره من المسلمين
(3)
.
(1)
"المحكم" 7/ 327 مادة (جمن).
(2)
"المغيث" 1/ 356 مادة (جمن).
(3)
انظر "تفسير الطبري" 9/ 290.
وقول أمها: (قومي إليه) بتعزيزه وتوقيره.
وقولها: (والله لا أقوم إليه) من باب الإدلال لا الامتهان.
خاتمة في فوائده مختصرة:
فيه: خروج النساء؛ لحاجة الإنسان، وهي التبرز بغير إذن أزواجهن، وخدمة الرجال لما يركبنه النساء من الدواب، واحتمالهن في الهوادج، وترك مكالمتهن ومخاطبتهن في ذلك، وكتم ما يقال في الإنسان من القبيح عنه؛ كما كتم الناس القول في أم المؤمنين عنها حتى أعلمتها أم مسطح به، وتشكي الإمام والسلطان ممن يؤذيه في أهله أو غير ذلك إلى المسلمين والاستغفار منه، ومشاورة الرجل بطانته في فراق أهله لقول قيل، والكشف والبحث عن الأخبار الواردة إن كان لها نظائر أم لا؛ لسؤاله بريرة وأسامة وزينب وغيرهم من بطانته عن عائشة وعن سائر أفعالها وما يغمص عليها، والحكم بما يظهر من الأفعال على ما قيل.
وقد جاء من حديث عروة، عن عائشة أنه عليه السلام سأل لها جارية سوداء، فذكرت العجين، وفي لفظ: جارية نوبية
(1)
. وذكرهما ابن مردويه في "تفسيره".
وأن المرأة لا تخرج إلى دار أبويها إلا بإذن زوجها، وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم أرسل معها غلامًا
(2)
.
(1)
رواه أبو يعلى في "مسنده" 8/ 335 - 336 (4931)، الطبراني في "الكبير" 23/ 106 (149).
(2)
ستأتي برقم (4757) كتاب: التفسير، باب:{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ} .
ورد بهامش الأصل: وفي رواية: أرسل معها الخادم.
وفضيلة من شهد بدرًا من المسلمين، وأن الدعاء عليهم وجفاء الكلمة فيهم مما يجب أن ينكر، كما أنكرته على أم مسطح في ابنها مع ما للأبوين من المقال مما ليس لغيرهما، وتوقيف القول فيه على ما يقال، وأمره بالتوبة إن كان (أذنب)
(1)
، وأن الاعتراف بما فشا من الباطل لا يحل ولا يجمل، وأن عاقبة الصبر الجميل فيه الغبطة والعزة في الدارين.
وأنه صلى الله عليه وسلم ليس كان يأتيه الوحي متى أراد؛ لبقائه شهرًا لا يوحى إليه، وترك حَدّ من له منعة، والتعرض لما يخشى من تفرق الكلمة وظهور الفتنة، كما ترك صلى الله عليه وسلم حد عبد الله ابن أبي بن سلول
(2)
، وغضب المسلمين بعرض إمامهم وسلطانهم، وأن العصبية تنقل عن اسم الصلاح، كما نقلت سعد بن عبادة من الصلاح عصبيته لعبد الله بن أبي عن حاله؛ لقول عائشة (وكان قبل ذلك رجلًا صالحًا).
وأنه قد يسب الرجل أو يرمى بشيء ينسب إليه وإن لم يكن فيه ما نسب؛ لقول أسيد بن حضير: (كذبت لعمرو الله فإنك منافق تجادل عن المنافقين) ولم يكن سعد منافقًا لكن؛ لمجادلته عنه استحل منه
أسيد أن يرميه بالنفاق.
وأن الشبهة تُسقط العقوبة كما تُسقط الحد وتبيح العرض وتسقط الحرمة.
(1)
في الأصل: لم يذنب، والمثبت هو الصواب حتى يستقيم المعنى.
(2)
ورد بهامش الأصل: في مسلم أنه جلد من رمى، وفي أواخر البخاري أنه جلد الرامين، وفي الطبراني أنه جلد عبد الله بن أُبي مائة وستين. قال ابن عمر عقب الحديث: وهكذا يفعل في كل من قذف زوجة نبي الله، وقد جلد في ذلك حمنة ومسطح وحسان.
وأن من آذى نبيه في أهله أو عرضه أنه يقتل؛ لقول أسيد بن حضير: (إن كان من الأوس قتلناه).
ولم يرد عليه شيئًا، فكذلك من سبَّ عائشة بما برأها الله منه أنه يقتل؛ لتكذيبه القرآن المبرئ لها وتكذيبه الله ورسوله. وقال قوم: لا يقتل من سبها بغير ما برأها الله منه.
قال المهلب: والنظر عندي يوجب أن يقتل من سب أمهات المؤمنين بما رميت به عائشة أو بغير ذلك؛ لأن قول أسيد: (إن كان من الأوس قتلناه) إنما قاله قبل نزول القرآن ولم يرد عليه قوله، ولو كان قوله غير الصواب لما وسعه السكوت عليه؛ لأنه مفروض عليه بيان حدود الله، ومن سب أزواجه فقد آذاه وتنقصه، فهو متهم بسوء العقيدة في إيمانه به، فهو دليل على إبطانه النفاق.
وفيه: معاقبة المؤذي بقطع المعروف عنه والأخذ بالعفو والصفح عن المسيء، وأن ذلك مما يغفر الله به الذنوب
(1)
.
وفيه: التسبيح تعجبًا.
وفيه: يمين المزكي إذا كان غير متهم؛ لقوله: (ولا نعلم إلا خيرًا).
ثم سماع الغيبة مثل الغيبة؛ لأنه تتميم لقصد القائل وإبلاغه أمله قال تعالى: {وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16)} [النور: 16]، فإن قلت: أي تسبيح هنا للباري؟
قلنا: أعظم تسبيح وتقديس له، وذلك تنزيه فراش نبيه عن المعصية، وهو تعالى يتقدس أن يدنس فراش رسوله فيجب أن يقول القائل إذا سمع مثل هذا. هذا قاله ابن العربي في "سراجه" ثم قال:{يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17)} .
(1)
انظر: "شرح ابن بطال" 8/ 39 - 42.
قال بعض المفسرين: تعلق به قوم في أن من بسط لسانه في عائشة بعد هذا لم يكن مؤمنًا لظاهر الآية؛ ولعمري إن قائله مرتكب كبيرة ولا يخرج عن الإيمان بذلك، ثم قال: حاشا لله بل هو كافر؛ لأنه كذب الله الذي برأها، والكافر يكون بوجهين، أحدهما: أن يكذب الله. والثاني: أن يكذب عليه.
فإن قلت: فقد قال: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ} الآية [التحريم: 5].
قلت: إنه لو طلق كذلك كان يكون ذلك سبق في علمه عدمه وأنه ليس هناك خير منهن، فخرج الكلام على التقدير الممكن لا على ما أخبر به.
وأمر عائشة يبين أنه لا يخلو أحد من البلاء، وربما كان في المحنة والبلاء من الأصفياء بل هو من أقوى أركانه وأعظم برهانه، فأشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل.
تنبيهات:
أحدها: قوله: (تساميني) أي: تعاليني فتنازعني الحظوة عند رسول الله، والمساماة مفاعلة من سما يسمو إذا ارتفع وتطاول، قال صاحب "الأفعال": يقال: سما الفحل سماوة: تطاول على من سواه
(1)
.
وروي: تناصيني من المناصاة وهي المساواة، وأصله من الناصية.
وقول زينب: (أحمي سمعي وبصري) أي: لا أكلف فيما سمعت وأبصرت فيعاقبني الله فيهما لكن أصدق؛ حماية لهما وذبًّا عنهما، وقيل: أصونها كراهية أن أقول سمعت ما لم أسمع ورأيت ما لم أَرَ.
(1)
"الأفعال" لابن القوطية ص 75.
ثانيها: قول عروة في عبد الله بن أُبي أنه كان يشاع ويتحدث عنده فيقره ويسمعه ويستوشيه.
قال ثابت: يستوشيه: يأتلف عليه ويستدعيه ويستخرجه، كما يستخرج الفارس جري الفرس بعقبه وبالسوط.
وقال يعقوب: يقال: مر فلان يركض فرسه ويمريه وَيسْتَرُدُّه ويستوشيه كل ذلك طالب ما عنده
(1)
. وقيل: هو من قولك: وشى الكذب وشاية.
وقال صاحب "الأفعال": وشى النمام يشي وشاية ووشى الحائك الثوب يشي وشيًا
(2)
.
ثالثها: قوله: (ما كشف كنف أنثى قط).
قال ثابت: الكنف هنا الثوب الذي يكنفها، أي: يسترها، ومنه قولهم: هو في حفظ الله وفي كنفه قال أبو حاتم: وبعض العرب تقول: أنت في كنفي وكنف الطائر: جناحاه، والكنف أيضًا: الجانب وناحيتا كل شيء كنفاه. وأكناف الجبل والوادي: نواحيه.
قال ابن التين: وهذا يحتمل أن يكون على عمومه، ويحتمل أن يكون في حرام.
رابعها: قوله: (أشيروا علي في أُنَاسٍ أَبَنُوا أهْلِي).
هو بباء موحدة مفتوحة مخففة ومشددة والتخفيف أشهر، كما قاله النووي
(3)
، ومعناه اتَّهَمُوهَا، والأبن: بفتح الهمزة التهمة يقال: أبَنَهُ
(1)
"إصلاح المنطق" ص 433، وفيه: كل ذلك إذ طلب ما عنده ليزيده.
(2)
"الأفعال" لابن القوطية ص 161.
(3)
"شرح مسلم" 17/ 114، 115.
يأبُنُهُ ويَأْبِنُه بالضم والكسر إذا اتهمه ورماه بِخَلِّةِ سَوْءٍ فهو مأبون، قالوا:
وهو مشتق من الأُبَن -بضم الهمزة وفتح الباء- وهي العقد في القسط تفسدها وتعاب بها.
قال ثابت: التأبين: ذكر الشيء وتتبعه.
وقال الراعي:
فرفع أصحابي المطى وأبَّنُوا
…
هنيدة فاشتاق العيون اللَّوامح
قال ابن السكيت: أبنوا هنيدة: كأنهم جروا بها وذكروها.
ومن روى (أبَنَوا على أهلي) بالتخفيف فمعناه: فرقوها.
قال أبو زيد: يقال: أمر الرجل بالخير وأبن به، فهو مأمور ومأبون، وهما سواء.
وقال ابن التين: أنبوا مضبوط بالنون قبل الباء.
وعند أبي ذر عكسه، وكذا هو في كتاب "مسلم" وكتب أهل اللغة، قال ابن فارس: أَنَّبْتُ الرجل تأْنِيْبًا إذا لمته
(1)
.
خامسها: قولها: (فبقرت
(2)
لي الحديث) أي: شرحته وبينته عن ثابت، وقال الداودي: قصته. وقال صاحب "العين": نقر عن الأمر: بحث عنه.
وفيه أن بريرة أنهرها بعض أصحابه، فقال لها: اصدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أسقطوا لها به، فقالت: سبحان الله والله ما علمت إلا ما يعلم
(1)
"المجمل" 1/ 104، مادة:(أنب).
(2)
ورد بهامش الأصل: قال في "المطالع": في الاختلاف في النون مع اتفاق (فنقرت لي الحديث) أي: استخرجته وبينته، كذا هو بالنون، وكذا رويناه، وبعضهم رواه بالفاء، وهو خطأ والتنقير الاستخراج للشيء والبحث عنه وأُراه بالوجهين في كتاب الأصيلي، ولا معنى للفاء ههنا.
الصائغ على تبر الذهب الأحمر
(1)
. كذا في الأصول (لها به) بالباء الجارة.
وكذا هو في نسخ مسلم وهي رواية الجلودي والهاء في به عائدة على ما تقدم من انتهارها وتهديدها.
وفي رواية ابن ماهان: لهاتها بمثناة فوق والجمهور على أن الصواب الأول والثاني غلط وتصحيف، ومعناه صرحوا لها بالأمر ولهذا قالت استعظامًا: سبحان الله، وقيل: أتوا بسقط من القول في سؤالها وانتهارها يقال: أسقط وسقط في كلامه إذا أتى فيه بساقط، وقيل: إذا أخطأ فيه وعلى رواية ابن ماهان: إن صحت معناه أسكتوها، وهو ضعيف؛ لأنها لم تسكت بل قالت: سبحان الله.
قال ابن بطال: ويحتمل أن يكون معنى قولها: حتى أسقطوا لها به مأخوذ من قولهم: سقط إليّ الخبر إذا علمته، ومن قولهم: فلان يساقط الحديث، معناه: يرويه.
ومنه قول بشير بن سعد: كنا نجالس سعدًا فكان يتحدث من حديث الناس والأخلاق وكان يساقط في ذلك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوله: يساقط معناه: يروي الحديث في خلال كلامه.
فمعنى: (حتى أسقطوا لها به): أي: ذكروا لها الحديث وبينوه فعند ذلك قالت: سبحان الله، والله ما علمت عليها إلا ما يعلم الصائغ على تبر الذهب الأحمرَ إنكارًا له وإعظامًا أن يُنْطق بمثل هذا القول عمن اختارها الله زوجًا لأطيب خلقه وأفضلهم وجعلها أحب إليه من نساء العالمين. ولا يجوز أن تكون إلا طيبة مثله لقوله:{وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ} ،
(1)
سيأتي برقم (4750).
ولذلك جمع براءتها الله في كتابه بما يتكرر تلاوته إلى يوم الدين
(1)
.
وقوله: (وقر في أنفسكم) أي: ثبت.
وقوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب: 33] ليس من الوقار على الأصح خلافًا لأبي عبيد
(2)
، إنما هو من الجلوس، يقال: وَقَرْتُ أَقِرُّ وقرًا، أي: جلست.
فائدة:
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ الغَافِلَاتِ المُؤْمِنَاتِ} الآية [النور: 23].
قال سعيد بن جبير: إنه خاص بعائشة، وقال ابن عباس والضحاك: إنه في أمهات المؤمنين خاصة
(3)
، وقيل: كان أصله في عائشة، ثم قيل لكل من رمى المؤمنات. وقيل: خص به أمهات المؤمنين، (ومن قذف غيرهن (فلا يقال)
(4)
ملعون)
(5)
.
(1)
ابن بطال 8/ 45 - 46 بتصرف.
(2)
"مجاز القرآن" 2/ 137.
(3)
روى هذِه الآثار الطبراني في "الكبير" 23/ 151 - 152 - 153.
(4)
غير واضحة بالأصل. وهذا ما تبين لي منها.
(5)
ساقط من (ف).
16 - باب إِذَا زَكَّى رَجُلٌ رَجُلًا كَفَاهُ
وَقَالَ أَبُو جَمِيلَةَ: وَجَدْتُ مَنْبُوذًا، فَلَمَّا رَآنِي عُمَرُ قَالَ: عَسَى الغُوَيْرُ أَبْؤُسًا. كَأَنَّهُ يَتَّهِمُنِي، قَالَ عَرِيفِي: إِنَّهُ رَجُلٌ صَالِحٌ قَالَ: كَذَاكَ، اذْهَبْ وَعَلَيْنَا نَفَقَتُهُ.
2662 -
حَدَّثَنَا ابْنُ سَلَامٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الوَهَّابِ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ الحَذَّاءُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أَثْنَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "وَيْلَكَ قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ، قَطَعْتَ عُنَقَ صَاحِبِكَ". مِرَارًا، ثُمَّ قَالَ:"مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَادِحًا أَخَاهُ لا مَحَالَةَ فَلْيَقُلْ: أَحْسِبُ فُلَانًا، وَاللهُ حَسِيبُهُ، وَلَا أُزَكِّي عَلَى اللهِ أَحَدًا، أَحْسِبُهُ كَذَا وَكَذَا، إِنْ كَانَ يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنْهُ". [6061، 6162 - مسلم: 3000 - فتح: 5/ 274]
ثم ساق حديث أبي بكرة قَالَ: أَثْنَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"وَيْلَكَ قَطَغتَ عُئُقَ صَاحِبِكَ، قَطَعْتَ عُنَقَ صَاحِبِكَ". مِرَارًا، ثُمَّ قَالَ:"مَن كانَ مِنْكُم مَادِحًا أَخَاهُ لا مَحَالَةَ فَلْيَقُلْ: أَحْسِبُ فُلَانًا، والله حَسِيبهُ، وَلَا أُزَكِّي عَلَى اللهِ أَحَدًا، أَحسِبُهُ كذَا وَكذَا، إِنْ كَانَ يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنهُ".
الشرح:
الأثر الأول أسنده البخاري مرة
(1)
، عن إبراهيم بن موسى، نا هشام، عن معمر، عن الزهري، عن سنين أبي جميلة، وأنه أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وخرج معه عام الفتح
(2)
وأنه التَقَطَ منبوذًا فأتى عمر فسأل
(1)
ورد بهامش الأصل: يعني في غير "الصحيح".
(2)
سيأتي برقم (4301) كتاب: المغازي، باب: من شهد الفتح.
عنه فأثنى عليه خيرًا فأنفق عليه من بيت المال وجعل ولاءه له
(1)
، وقال في "تاريخه": كان ابن عيينة أو سليمان بن كثير يثقلان سنينا. وكذا قاله الداودي وغيره، واقتصر عليه ابن التين، والذي قاله عبد الغني والدارقطني وابن ماكولا
(2)
، أنه بالتخفيف.
وتفرد عنه الزهري بالرواية وله إدراك وحج معه عليه السلام.
وفي "علل الخلال": فذكره عريفي لعمر فدعاني العريف عنده فقال التعريف: إنه ليس بالمتهم.
فقال عمر: لم أخذت هذا؟ قلتُ: وجدتُ نفسا مضيعة.
وقال ابن أبي شيبة: حدثنا (ابن عُلية)
(3)
، عن الزُّهري أنه سمع سنينًا أبا جميلة يقول: وجدت منبوذًا فذكره عريفي لعمر، فأتيتُه، فقال: هو حرٌّ وولاؤه لك ورضاعه علينا.
وحدثنا وكيع: ثنا سفيان، عن عمرو، عن الزهري، عن رجل من الأنصار أن عمر أعتق لقيطًا.
وحدثنا وكيع، ثنا سفيان، ثنا سليمان الشيباني، عن حَوْط، عن إبراهيم قال: قال عمر بن الخطاب: هم مملوكون
(4)
. يعني: اللقيط، وممن قال هو حر: علي وعمر بن عبد العزيز وإبراهيم والشعبي وعطاء
(5)
.
(1)
رواه مالك في "الموطأ" ص 460، وابن أبي شيبة 6/ 298 (31560)، والطبراني في "الكبير" 7/ 102، والبيهقي في "السنن" 10/ 298، وصححه الألباني في "الإرواء"(1573).
(2)
"الإكمال" 4/ 377.
(3)
كذا في (س)، وفي ابن أبي شيبة 4/ 422، 6/ 298: ابن عيينة.
(4)
ابن أبي شيبة 4/ 442.
(5)
عن علي رواه ابن أبي شيبة بمعناه 4/ 334 (20669) وعنده، عن إبراهيم والشعبي =
إذا تقرر ذلك، فقال الإسماعيلي: ليس في الخبر أن تزكية الواحد للواحد كفاية، حيث يحتاج إلى التزكية البتة.
فقال ابن المنير: استدلال البخاري على الترجمة بحديث أبي بكرة ضعيف، فإن غايته أنه صلى الله عليه وسلم اعتبر تزكية الرجل أخاه إذا اقتصد ولم يَغْلُ والاعتبار أنه يكون جزء النصاب، وقد يكون لأنه كاف، وهذا مسكوت عنه
(1)
. وقد تمسك بهذا من يقول: يكتفى في التزكية بواحد وهو مروي عن أبي حنيفة
(2)
. ويجيب عن ذلك من لم يكتف بواحد أن هذا السؤال من عمر، إنما كان على طريق الخبر لا على طريق الشهادة، فإن القاضي إذا سأل عن أحد في مجلس نظره، فإنه يجتزي بخبر الواحد وتعديله إذا كان القاضي هو الكاشف لأمره؛ لأن ذلك بمنزلة علم القاضي إذا علم عدالة الشاهد، ألا ترى قنع عمر بقول العريف إذ كان خبرًا وأما إذا كلف المشهود له أن يعدل شهوده فلا يقبل أقل من رجلين كما في القرآن، وهو قول أصبغ
(3)
، وقال ابن التين: بوب عليه: تزكية الرجل الواحد وأنها تكفي، وهي لا تكون أقل من اثنين إلا أن يكون (مكتفيا)
(4)
للقاضي، فيجزي بواحد، على مشهور مذهب مالك.
وقال المهلب: إنما أنكر عليه السلام في حديث أبي بكرة قطعه بالصلاح
= وعطاء 5/ 21 (23330 - 23333). أما عن عمر بن عبد العزيز، فلم أقف عليه.
(1)
"المتواري" ص 309.
(2)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 3/ 332.
(3)
انظر: "شرح ابن بطال" 8/ 47.
(4)
كذا في الأصل وقد وضع فوقها علامة تدل على أن الناسخ أراد أن يوضحها أو يبدلها.
والخير له ولم يَرُدّ العلم في ذلك إلى الله، ألا ترى أنه أمره إذا أثنى أحد على أحدٍ أن يقول: أحسب، ولا يقطع؛ لأنه لا يعلم السرائر إلا الله، وهو في معنى الخبر لا في معنى الشهادة.
وروى أشهب عن مالك أنه سئل عن قول عمر: ما حملك على أخذ هذِه النسمة؟ قال: أتهمه أن يكون ولده أتاه به؛ ليفرض له في بيت المال
(1)
.
ويحتمل أنه ظن به أنه يريد أن يفرض له ويلي أمره ويأخذ ما يُفْرض له ويصنع به ما شاء فلما قال له عريفه: إنه رجل صالح، صدقه.
وأما قوله: (وعَلَيْنَا نَفَقَتُهُ) يعني: رضاعه ومؤنته من بيت المال.
قال عيسى بن دينار: وكان عمر دَوّن الدواوين، وقسم المال أقسامًا جعل على كل ديوان عريفًا ينظر عليهم، فكان الرجل الذي وجد المنبوذ من ديوان الرجل الذي زكاه عند عمر
(2)
.
وفي قول التعريف لعمر أنه رجل صالح وتقرير عمر للرجل على ذلك فقال: نعم. فيه أن مباحًا للإنسان أن يزكي نفسه ويخبر بالصلاح عنها إذا احتاج إلى ذلك، وسئل عنه.
وهكذا رواه مالك في "الموطأ" فقال عمر: أكذلك؟ قال: نعم
(3)
.
وهذا الباب موافق لمذهب أبي حنيفة أنه يجوز تعديل رجل واحد واحتج أصحابه بحديث أبي جميلة في ذلك، وقد سلف اختلاف العلماء في ذلك في باب تعديل كم يجوز فراجعه.
(1)
انظر: "المنتقى" 6/ 2.
(2)
انظر: "المنتقى" 6/ 3.
(3)
"الموطأ" ص 460.
وقد وردت أحاديث كثيرة في الصحيحين وغيرهما بالمدح في الوجه، يعارض ظاهرها حديث الباب منها حديث:"إياكم والمدح؛ فإنه الذبح"
(1)
.
ومنها ما ترجم له بعد.
(1)
رواه ابن ماجه (3743)، وأحمد 4/ 92، 98، وابن أبي شيبة 5/ 298 (26252)، وابن قانع في "معجم الصحابة" 3/ 72 (1026)، والطبراني في "الكبير" 19/ 350 (815)، والبيهقي في "الشعب" 4/ 226.
قال البوصيري في "زوائد ابن ماجه" ص 472: أصله في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي بكرة، وإسناد حديث معاوية بن أبي سفيان حسن، ومعبد الجهني مختلف فيه، وباقي رجال الإسناد ثقات. اهـ.
وحسنه الألباني في "الصحيحة"(1284).
وورد في هامش الأصل: ثم بلغ في الحادي بعد الثمانين كتبه مؤلفه.
سمع عبد المؤمن من أول المجلس ( ..... ) والثمانين إلى هنا.
17 - باب مَا يُكْرَهُ مِنَ الإِطْنَابِ فِي المَدْحِ، وَلْيَقُلْ مَا يَعْلَمُ
2663 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ صَبَّاحٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ، حَدَّثَنَا بُرَيْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: سَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا يُثْنِي عَلَى رَجُلٍ، وَيُطْرِيهِ فِي مَدْحِهِ فَقَالَ:"أَهْلَكْتُمْ -أَوْ قَطَعْتُمْ- ظَهْرَ الرَّجُلِ". [6060 - مسلم: 3001 - فتح: 5/ 276]
ثم ساق حديث أبي موسى: سَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا يُثْنِي عَلَى رَجُلٍ، وَيُطْرِيهِ فِي مَدْحِهِ فَقَالَ:"أَهْلَكْتُمْ -أَوْ قَطَعْتُمْ- ظَهْرَ الرَّجُلِ".
والمراد با لإطناب: الإكثار والإطراء، والجمع أن يكون النهي محمولًا على المجازفة في المدح والزيادة في الأوصاف، أو على من يخاف عليه فتنة بإعجاب، وأما من لا يخاف عليه ذلك فلا نهي في مدحه في وجهه إذا لم يكن فيه مجازفة، بل إن كان يحصل منه مصلحة؛ لازدياد في الخير، أو الدوام عليه، أو الاقتداء به، كان مستحبًّا.
قال المهلب في حديث أبي موسى: إنما قال هذا والله أعلم؛ لئلا يغتر الرجل بكثرة المدح، ويرى أنه عند الناس بتلك المنزلة فيترك الازدياد من الخير ويجد الشيطان إليه سبيلًا، ويوهمه في نفسه؛ حتى يضع التواضع لله.
وكان السلف يقولون إذا أثني على أحدهم: اللهم اغفر لنا ما لا يعلمون واجعلنا خيرًا مما يظنون.
وقال يحيى بن معاذ: العاقل لا يدعه ما ستر الله عليه من عيوبه بأن
يفرح بما أظهر من محاسنه
(1)
.
وقوله: (ولا أزكي على الله أحدًا). أي: لا أقطع له على عاقبة أحد ولا ضميره؛ لأن ذلك مغيب عنا، ولكن يقول: أحسب وأظن بوجود الظاهر المقتضي لذلك وعبر تارة بالعنق وتارة بالظهر.
وجاء أمرنا أن نحثو في وجوه المداحين التراب، والمعنى: أهلكتموهم، وهي استعارة من قطع العنق الذي هو القتل لاشتراكهما في الهلاك.
فائدة: قول عمر: عسى الغوير أبؤسًا.
هو من أمثالهم قال الميداني في "مجمع الأمثال": الغوير: تصغير غار. الأبؤس: جمع بؤس، وهو الشدة، وأصل هذا المثل فيما يقال من قول الزِّباء حين قالت لقومها عند رجوع قصير من العراق إليها ومعه الرجال ثم تنكب بهم الطريق المنهج وأخذ على الغوير فسألت عن خبره. فأخبرت بذلك، وقيل: كان الغوير على طريقه، أي: لعل الشر يأتيكم من قبل الغار.
وقال ابن الأعرابي: عرض بالرجل، أي: لعلك صاحب هذا اللقيط.
قال: ونصب أبؤسًا على معنى: عسى الغوير يصير أبؤسًا، ويجوز أن يقدر: عسى الغوير أن يكون أبؤسًا.
وقال أبو علي: جعل عسى بمعنى: كان، ونزله منزلته، يضرب للرجل يقال له: لعل الشر جاء من قبلك
(2)
.
(1)
"شعب الإيمان" 4/ 228 (8476).
(2)
"مجمع الأمثال" 1/ 477.
وذكر الأصمعي: أن أصل هذا المثل أنه كان غار فيه ناس فانهار عليهم أو قال: فأتاهم عدو فقتلهم فيه
(1)
.
وقال الكلبي: غوير: ماء لكلب، معروف من ناحية السماوة
(2)
.
وقال ابن الأعرابي: الغوير: طريق كان قوم من العرب يعبرون فيه، وكانوا يتواصون بأن يحرسوه؛ لئلا يؤتوا منه.
وروى الحربي، عن عمرو، عن أبيه: أن الغوير نفق في حصن الزّباء، وقال الزهري فيما حكاه الخلال: إنه مثل يضربه أهل المدينة، وقال سفيان: أصله أن ناسًا كان بينهم وبين آخرين حرب، فقالت لهم
عجوز: احذروا واستعدوا من هؤلاء؛ فإنهم لا يألونكم شرًّا، فلم يلبثوا أن جاءهم فزع.
فقالت العجوز: عسى الغوير أبؤسًا.
تعني: لعله أتاكم الناس من قبل الغوير وهو شعب.
وقوله: (عريفي).
قال ابن التين: قيل: كان عريفًا على الجماعة كالنقباء وشبههم، وقيل: عريفي الذي عرف بي.
والمنبوذ: تطرحه الفاجرة عندما تلده، وهو حر باعتبار الدار ومسلم أيضًا.
واختلف إذا كان النصارى في مدينة فيها الاثنان والثلاثة مسلمون.
فقال ابن القاسم: هو نصراني.
(1)
انظر: "لسان العرب" 1/ 201 مادة (بأس).
(2)
انظر: "تهذيب اللغة" 3/ 2618 مادة (غار).
وقال أشهب: هو مسلم كالحرية تغليبًا لحكم الإسلام
(1)
والأصح عندنا: أنه مسلم إن سكنها مسلم (
…
)
(2)
أو تأخر.
ورأى قومٌ أن المنبوذ عبد، وكان عمر أعتق هذا، وقيل: نقل إليه ولاءه. والأول أبين عملًا بالأصل وهو الحرية.
وقوله: (وعلينا نفقته) أي: من بيت المال.
فائدة أخرى:
ويل: كلمة تقال لمن وقع في هلكة يستحقها ولا يترحم عليه، وويح: لمن وقع في هلكة لا يستحقها فيترحم عليه
(3)
.
قال الفراء: الأصل في ويل: وي، أي: حزن، كما تقول: وي لفلان، أي حزن له فوصلته العرب باللام، وزاد أنها منه فأعربوها.
(1)
انظر "المنتقى" 6/ 3.
(2)
سقط بالمخطوط.
(3)
انظر: "لسان العرب" 8/ 4937.
18 - باب بُلُوغِ الصِّبْيَانِ وَشَهَادَتِهِمْ
وَقَوْلِ عز وجل: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا} [النور: 59]. وَقَالَ مُغِيرَةُ: احْتَلَمْتُ وَأَنَا ابْنُ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً. وَبُلُوغُ النِّسَاءِ فِي الحَيْضِ؛ لِقَوْلِهِ عز وجل: {وَاللاَّئِى يَئِسْنَ مِنَ المَحِيضِ} إِلَى قَوْلِهِ: {أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] وَقَالَ الحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: أَدْرَكْتُ جَارَةً لَنَا جَدَّةً بِنْتَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ.
2664 -
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللهِ قَالَ: حَدَّثَنِي نَافِعٌ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَرَضَهُ يَوْمَ أُحُدٍ وَهْوَ ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً فَلَمْ يُجِزْنِي، ثُمَّ عَرَضَنِي يَوْمَ الخَنْدَقِ وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ فَأَجَازَنِي. قَالَ نَافِعٌ: فَقَدِمْتُ عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ وَهْوَ خَلِيفَةٌ، فَحَدَّثْتُهُ هَذَا الحَدِيثَ، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا لَحَدٌّ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالكَبِيرِ. وَكَتَبَ إِلَى عُمَّالِهِ أَنْ يَفْرِضُوا لِمَنْ بَلَغَ خَمْسَ عَشْرَةَ. [4097 - مسلم: 1868 - فتح: 5/ 276]
2665 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ سُلَيْمٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"غُسْلُ يَوْمِ الجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ". [انظر: 858 - مسلم: 846 - فتح: 5/ 277]
ثم ساق حديث ابن عمر: أَنَّ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم عرَضَهُ يَوْمَ أُحُدٍ وَهْوَ ابن أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً فَلَمْ يُجِزْنِي، ثُمَّ عَرَضَنِي يَوْمَ الخَنْدَقِ وَأَنَا ابن خَمْسَ عَشْرَةَ فَأَجَازَنِي. قَالَ نَافِعٌ: فَقَدِمْتُ عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ وَهْوَ خَلِيفَةٌ، فَحَدَّثْتُهُ هذا الحَدِيثَ، فَقَالَ: إِنَّ هذا لَحَدٌّ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالكَبِيرِ. وَكَتَبَ إِلَى عُمَّالِهِ أَنْ يَفْرِضُوا لِمَنْ بَلَغَ خَمْسَ عَشْرَةَ.
وحديث أبي سعيد الخدري: "غُسْلُ يَوْمِ الجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ".
الشرح: حديث أبي سعيد سلف في الجمعة
(1)
وحديث ابن عمر في مسلم أيضًا
(2)
، زاد ابن حبان في "صحيحه" فيه: فلم يجزني ولم يرني بلغت
(3)
.
ووقع عند الحميدي بدل الخندق عام الفتح وهو غلط
(4)
، ونقله ابن ناصر عن تعليقة أبي مسعود وخلف ولم يُرَ فيهما، وفي رواية ذكرها ابن التين: عرضت عام الخندق ولي أربع عشرة سنة فأجازني، قال: وقيل: إنما عرض يوم بدر فردَّه وأجازه بأحد.
وقال بعضهم: ذكر الخندق وهم، وإنما كانت غزوة ذات الرقاع؛ لأن الخندق سنة خمس وهو قال: أنه كان في أحد ابن أربع عشرة.
فعلى هذا تكون غزوة ذات الرقاع هي المراد؛ لأنها كانت في سنة أربع بينها وبين أُحُد سنة، وقد يجاب بأنه يحتمل أن ابن عمر في أُحُد دخل في أول سنة أربع من حين مولده في شوال منها، ثم تكملت له سنة أربع عشرة في شوال من الآتية، ثم دخل في الخامس عشرة إلى شوالها الذي كانت فيه الخندق، فكأنه أراد أنه أخذ في أول الرابعة وفي الخندق في أخر الخامسة.
وقد أسلفنا عن موسى بن عقبة وغيره. أن الخندق كانت سنة أربع فلا حاجة إذن إلى ذلك:
(1)
سلف برقم (858) باب: وضوء الصبيان.
(2)
مسلم (1868) كتاب: الإمارة، باب: بيان سن البلوغ.
(3)
"صحيح ابن حبان" 11/ 30 (4728).
(4)
"الجمع بين الصحيحين" 2/ 210 (1322) وأثبت محققه عام الخندق وأشار إلى أنه ورد في نسختين سماهما (م، ك): عام الفتح.
إذا تقرر ذلك، فقد اختلف العلماء في شهادة الصبيان على قولين:
أحدهما: أنه يجوز شهادة بعضهم على بعض. قاله النخعي
(1)
.
وعن شريح والحسن والشعبي وعلى مثله بأسانيد جيدة، وعن شريح أنه كان يجيز شهادتهم في السن والموضحة ويأباه فيما سوى ذلك، وفي رواية: أنه أجاز شهادة غلمان في أمة وقضى فيها بأربعة آلاف، وكان عروة يجيز شهادتهم، قال: ويؤخذ بأول قولهم
(2)
.
وقال عبد الله بن الزبير: هُم أحرى إذا سئلوا عما رأوا أن يشهدوا.
قال ابن أبي مليكة: رأيت القضاة أخذت بقوله وتركت قول ابن
عباس، قال تعالى:{مِمَّنْ تَرْضَوْنَ} [البقرة: 282] وليسوا ممن يرضون.
وقال ابن سيرين: تكتب شهادتهم ويستثبتون، وعن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى مثله.
وقال مكحول: إذا بلغ خمس عشرة سنة فأجز شهادته، وقال القاسم وسالم: إذا أنبت، وقال عطاء: حتى يكبر
(3)
، وعند ابن المنذر: لا تجوز شهادتهم عند طائفة؛ لأنه ليس ممن يوصي، روي عن ابن عباس والقاسم وسالم وعطاء والشعبي والحسن وابن أبي ليلى والثوري والكوفيين والشافعي وأحمد وإسحاق وأبى ثور وأبي عبيد، وعند طائفة: يجوز في الجراح والدم، روي ذلك عن علي وابن الزبير وشريح والنخعي وعروة والزهري وربيعة ومالك
(4)
.
(1)
ابن أبي شيبة 4/ 364 (21025).
(2)
روى هذِه الآثار عبد الرزاق 8/ 350 - 351، وابن أبي شيبة 4/ 364.
(3)
روى هذِه الآثار ابن أبي شيبة 4/ 364.
(4)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 3/ 337؛ "شرح ابن بطال" 8/ 51 - 52.
ويؤخذ بأول قولهم ما لم يخببوا أو يتفرقوا.
قال مالك: فإذا تفرقوا فلا شهادة لهم إلا أن يكونوا قد أشهدوا العدول قبل أن يتفرقوا، قال أبو الزناد: وهي السُّنة أن تؤخذ بشهادة الصبيان أول ما يسألون عنه ويكون يمين الولي مع ذلك، وإن هم أحدثوا ما يخالف شهادتهم الأولى لم يلتفت إليه، ويؤخذ بالأول من شهادتهم وبذلك كان يقضى عمر بن عبد العزيز
(1)
.
وقال الترمذي: الغلام إذا استكمل خمس عشرة فحكمه كالرجال فإن احتلم قبلها فكالرجال، والعمل على هذا عند أهل العلم، وبه يقول الثوري وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق، وقالا
(2)
أيضًا: للبلوغ ثلاث منازل: بلوغ خمس عشرة أو الاحتلام؛ وإلا فالإنبات
(3)
.
وأجمع العلماء كما نقله ابن بطال: أن الاحتلام في الرجال والحيض في النساء: هو البلوغ التي تلزم منه العبادات والحدود والاستئذان وغيره، وأن من بلغ بالحلم فأونس منه الرشد جازت شهادته ولزمته الفرائض وأحكام الشريعة؛ لحديث أبي سعيد في الباب:"غسل الجمعة واجب على كل محتلم" فعلق الغسل بالاحتلام، وبلوغ الحلم وإيناس الرشد يجوز دفع ماله إليه؛ لقوله تعالى:{وَابْتَلُوا اليَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6]، وبلوغ النكاح هو: الاحتلام.
(1)
انظر: "المدونة" 4/ 84، 85، "النوادر والزيادات" 8/ 426، 430.
(2)
أي: أحمد وإسحاق.
(3)
"سنن الترمذي" عقب الرواية (1361) كتاب: الأحكام، باب: ما جاء في حد بلوغ الرجل والمرأة.
واختلفوا فيمن تأخر احتلامه من الرجال أو حيضته من النساء، فروي عن القاسم وسالم، أن الإنبات حد البلوغ، وهو قول الليث، وبه قال أحمد وإسحاق.
وقال مالك: بالإنبات أو يبلغ من السنن ما يعلم أن مثله قد بلغ.
قال ابن القاسم: وذلك سبع عشرة أو ثماني عشرة سنة وفي المشاهدة الأوصاف أو الحبل، إلا أن مالكًا لا يقيم الحدود بالإنبات إذا زنا أو سرق ما لم يحتلم أو يبلغ من السن ما يعلم أن مثله لا يبلغه حتى يحتلم، فيكون عليه الحد.
ولم يعتبر أبو حنيفة الإنبات. وقال: حد البلوغ في الجارية سبع عشرة سنة، وفي الغلام تسع عشرة، وروي ثماني عشرة، وهو قول الثوري
(1)
.
ومذهب الشافعي: أن الإنبات علامة على بلوغ ولد الكافر لا المسلم، واعتبر خمس عشرة في الذكور والإناث، وأخذ بحديث ابن عمر في الباب، وهو مذهب الأوزاعي وأبي يوسف ومحمد، وبه قال ابن الماجشون وابن وهب
(2)
، واحتج من اعتبر الإنبات بحديث عطية القرظي قال: كنت من سبي بني قريظة، فكانوا ينظرون، فمن أنبت الشعر قتل ومن لم ينبت لم يقتل، فكنت فيمن لم ينبت.
رواه أصحاب السنن الأربعة، وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين
(3)
.
(1)
"شرح ابن بطال" 8/ 49 - 50.
(2)
انظر: "الاستذكار" 23/ 163، "الإشراف" 2/ 314.
(3)
رواه أبو داود (4404، 4405)، والترمذي (1584)، وقال: حسن صحيح، والنسائي 6/ 155، وابن ماجه (2541)، وابن حبان 11/ 104 (4781)، والحاكم 3/ 35، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
وروى نافع عن أسلم، عن عمر أنه كتب إلى أمراء الأجناد: ألا يضربوا الجزية إلا على كل من جرت عليه المواسى
(1)
، وقال عثمان بن عفان في غلام سرق: إن اخضر مئزره فاقطعوه، وإن لم يخضر فلا تقطعوه
(2)
، ووجه من جعل الثماني عشرة وشبهها حد البلوغ وإن لم يكن إنبات ولا احتلام، قوله تعالى:{وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ اليَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} [الأنعام: 152].
قال ابن عباس وغيره من المفسرين: ذلك ثماني عشرة سنة، ومثله لا يعرف إلا بالتوقيف، وقد أجمعوا على اعتبار البلوغ في دفع المال إليه، فدل أن البلوغ يتعلق بهذا القدر من السن دون غيره إلا أن يقوم دليل. وتفرقة الشافعي في الإنبات بين ولد المسلم والذمي انتفاء التهمة بالنسبة إلى الذمي؛ لأجل الجزية بخلاف المسلم، وبهذا ظهر الرد على ابن بطال حيث قال: لا معنى لهذِه التفرقة؛ لأن كل ما جاز أن يكون علامة في البلوغ للكافر جاز أن يكون في المسلم، أصله الحيض للنساء، وأما اعتبار خمس عشرة في حد البلوغ إذا لم يحصل فيها احتلام ولا إنبات فليس في خبر ابن عمر ذكر البلوغ الذي به تتعلق أحكام الشريعة، وإنما فيه ذكر الإجازة في القتال، وهذا المعنى يتعلق بالقوة والجلد، وبه أوله أبو حنيفة، ومن أصل الجميع أن الحكم متى نقل سببه تعلق منه فإنما أجازه للقتال خاصة بهذا السن ومن أجلها عرض، ونحن نجيز قتال الصبي إذا لم يبلغ هذا
(1)
رواه سعيد بن منصور 2/ 240 (2632)، وابن أبي شيبة في "المصنف" 6/ 487 (33109)، والبيهقي 9/ 195 - 196، ولفظ ابن أبي شيبة: لا تقتلوا.
(2)
رواه بهذا اللفظ الطحاوي في "شرح معاني الآثار" 3/ 217، وبمعناه ابن أبي شيبة 5/ 477 (28143، 28144)، والبيهقي 6/ 58.
السن ويسهم له إذا قاتل، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يجيز المراهقين إذا بلغوا حد من يقاتل.
قال سمرة بن جندب: عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته فلم يجزني وعرض عليه غلام غيري فأجازه، فقلت: يا رسول الله، قبلته ورددتني ولو صارعني لصرعته.
فقال: "صارعه" فصرعته، ففرض له النبي صلى الله عليه وسلم
(1)
.
قلت: ورواية ابن حبان السالفة: (ولم يرني بلغت)
(2)
تدل لما قاله الشافعي. قال الطحاوي: ولا ينكر أبو حنيفة أن يفرض للصبيان إذا كانوا يحتملون القتال ويحضرون الحرب، وإن كانوا غير بالغين
(3)
.
وقال ابن التين: قول مغيرة السالف: احتلمت وأنا ابن ثنتي عشرة سنة. لا يعلم أن أحدًا احتلم من الرجال قبله إلا ما ذكر من أن مولد عمرو بن العاص وابنه قدر كذلك، وقد أثبته ابن بطال في أصل البخاري حيث قال بعد أثر الحسن: وذكر الشافعي أنه رأى باليمن جدة بنت إحدى وعشرين سنة حاضت لتسع وولدت لعشر وعرض مثل هذا لابنتها. ثم قال: ويذكر أن عمرو بن العاص بينه وبين ابنه اثنتي عشرة سنة
(4)
ولم أر هذا في شيء من نسخ البخاري. قال ابن التين: ولا يعلم في النساء من يحمل أقل من تسع، وحديث ابن عمر احتج به الشافعي في أن خمس عشرة سنة عَلَم على الحمل وهو قول
(1)
رواه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" 3/ 219، الطبراني في "الكبير" 7/ 177 (6749)، والحاكم 2/ 60 - 61، البيهقي 9/ 22، وانظر:"شرح ابن بطال" 8/ 51.
(2)
"صحيح ابن حبان" 11/ 30 (4728).
(3)
"شرح معاني الآثار" 3/ 219.
(4)
"شرح ابن بطال" 8/ 48.
ابن وهب، وقول مالك وأصحابه: سبع عشرة أو ثماني عشرة أو الإنبات.
وانفصلوا عن حديث ابن عمر أنه اختلف فيه كما سلف، قال: ويحتمل أن يكون الحكم تعلق بالبلوغ عند مصادفة هذا السن لا أنها السن والمعنى المؤثر في البلوغ، ونحن لا نمنع أن يكون ابن خمس عشرة سنة قد بلغ، ويوضح ذلك أنه صلى الله عليه وسلم لم يسأله عن سنه، وإنما ذكره من عند نفسه على جهة التاريخ، وأيضًا أكثر ما فيه أنه أجازه في القتال وهي لا تتوقف عندنا على البلوغ إذ للإمام أن يجيز من الصبيان من فيه قوة ونجدة، وقد يوجد في المراهقين من يكون ذلك فيه أكثر همة من البالغين.
والوجوب في حديث أبي سعيد محمول على التأكد، وعبارة ابن التين هو عند أكثر العلماء وجوب السنن، وعند بعضهم وجوب الفرائض، واستدل به من أوجب الجمعة على النساء والعبيد.
فائدة:
الآية التي ذكرها البخاري نزلت في الأيسة ومن لم تحض، وأما ذات الحمل فبوضعه عند سائر الفقهاء، وعند ابن عباس ينتظر أقصى الأجلين
(1)
، واليتامى لا ينكحن حتى يبلغن، وقال أحمد: من بلغت
تسعًا نكحت بإذنها
(2)
.
(1)
انظر: "التمهيد" 20/ 33 - 34، "المغني" 11/ 227.
(2)
انظر: "مسائل أحمد وإسحاق" برواية الكوسج 1/ 342 (851).
19 - باب سُؤَالِ الحَاكِمِ المُدَّعِيَ: هَلْ لَكَ بَيِّنَةٌ؟ قَبْلَ اليَمِينِ
2666، 2667 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ وَهْوَ فِيهَا فَاجِرٌ، لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، لَقِيَ اللهَ وَهْوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ".
قَالَ: فَقَالَ الأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ: فِيَّ وَاللهِ كَانَ ذَلِكَ، كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنَ اليَهُودِ أَرْضٌ فَجَحَدَنِي، فَقَدَّمْتُهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ ". قَالَ: قُلْتُ لَا. قَالَ: فَقَالَ لِلْيَهُودِيِّ: "احْلِفْ". قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِذًا يَحْلِفَ وَيَذْهَبَ بِمَالِي. قَالَ: فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} إِلَى آخِرِ الآيَةِ. [آل عمران: 77]. [انظر: 2356، 2357 - مسلم: 138 - فتح: 5/ 279]
ذكر فيه حديث عبد الله بن مسعود في الحلف على اليمين الفاجرة، وقد سلف في الشركة
(1)
.
وشيخ البخاري فيه محمد عن أبي معاوية هو ابن سلام، صرَّح به في "الأطراف"
(2)
.
قال الجياني: وكذا نسبه أبو علي بن السكن
(3)
. قلت: ورواه
الإسماعيلي، عن القاسم، عن أبي كريب محمد بن العلاء، عن أبي معاوية، فيجوز أن يكون هو، وإنما يلزم الحاكم أن يسأل المدعي: ألك بينة؟ للإقناع؛ ولأنه جعل البينة على المدعي.
(1)
سلف برقم (2356، 2357) كتاب: المساقاة، باب: الخصومة في البئر والقضاء فيها، وليس في كتاب: الشركة.
(2)
انظر: "تحفة الأشراف" 1/ 76 (158).
(3)
"تقييد المهمل" 3/ 1017.
وأجمعت الأمة على القول بذلك وأنه لا يقبل دعوى أحد دون بينة، وقال المهلب: معنى سؤالها قبل اليمين خوفًا أن يحلف له المطلوب ثم يأتي بعد ذلك المدعي ببينة، فيأخذ منه حقه فيكذب في يمينه فيستحق بها العقاب، إن شاء أنفذ عليه الوعيد، ثم يؤخذ المال منه فهو له كالظلم، فإذا سأله: هل لك بينة؟ فقال: لا. لم يكن له الرجوع عليه ببينة إلا أن يحلف أنه ما علم هذا يوم قال: لا. وسيأتي اختلاف العلماء في هذِه المسألة بعد، إن شاء الله تعالى.
واختلف العلماء في المدعي يثبت البينة على ما يدعيه: هل للحاكم أن يستحلفه مع بينته أم لا؟
فكان شريح وإبراهيم النخعي يريان أن يُستحلف مع بينته أنها شهدت بحق، وقد روى ابن أبي ليلى عن الحكم، عن حنش: أن عليًّا استحلف عبيد الله بن الحر مع بينته
(1)
.
وهو قول الأوزاعي والحسن بن حي. وقال إسحاق: إذا استراب الحاكم أوجب ذلك.
وذهب مالك والكوفيون والشافعي وأحمد: أنه لا يمين عليه
(2)
، والحجة لهم حديث الباب من حيث أنه صلى الله عليه وسلم لم يقل للأشعث: وتحلف مع البينة. فلم يوجب على المدعي غير البينة، وأيضًا قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} الآية [النور: 4]، فأبرأه الله من الجلد بإقامة أربعة شهداء من غير يمين.
(1)
رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" 4/ 552 (23050).
(2)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 3/ 333، "شرح ابن بطال" 8/ 53.
فائدة:
قوله: ("من حلف على يمين") أي: بيمين، والفاجر: الكاذب، وأصل الفجور: الميل عن القصد، وقيل: الانبعاث في المعاصي وهو بمعناه
(1)
.
وقوله: ("ليقتطع بها مال مسلم") خص المسلم؛ لأنه أكثر من يعامل، وإلا فلا فرق.
وقوله: (فجحدني)، فيه: أن الخصم يتكلم في خصمه فيما هو شأن الخصوم، ولا يعاقب فيقول: ظلمني وأخذ متاعي ونحوه.
(1)
انظر: "النهاية في غريب الحديث" 3/ 413.
20 - باب اليَمِينُ عَلَى المُدَّعَى عَلَيْهِ فِي الأَمْوَالِ وَالحُدُودِ
وَقَالَ عليه السلام: "شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ". [انظر: 2356، 2357]
وَقَالَ قُتَيْبَةُ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابن شُبْرُمَةَ، كَلَّمَنِي أَبُو الزِّنَادِ فِي شَهَادَةِ الشَّاهِدِ وَيَمِينِ المُدَّعِي، فَقُلْتُ: قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] الآية. قُلْتُ: إِذَا كَانَ يُكْتَفَى بِشَهَادَةِ شَاهِدٍ وَيمِينِ المُدَّعِي، فَمَا تَحْتَاجُ أَنْ تُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرى؟ مَا كَانَ يَصْنَعُ بِذِكْرِ هذِه الأُخْرى؟
2668 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ عُمَرَ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: كَتَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَضَى بِاليَمِينِ عَلَى المُدَّعَى عَلَيْهِ. [انظر: 2514 - مسلم: 1711 - فتح: 5/ 280]
ثم ساق حديث ابن عباس: أنه عليه السلام قَضَى بِاليَمِينِ عَلَى المُدَّعَى عَلَيْهِ.
الشرح:
التعليق تقدم مسندًا من حديث الأشعث بن قيس
(1)
، ويأتي بعد في باب
(2)
، وذكر الأصيلي في حديث ابن عباس: أن الصواب وقفه عليه، كذا رواه أيوب ونافع الجمحي.
(1)
سلف برقم (2356 - 2357) كتاب: المساقاة، باب: الخصومة في البئر.
(2)
ورد بهامش الأصل ما نصه: وقوله تقدم، أي: أصل الحديث، وأما لفظ التعليق (
…
) أشار إليه الشيخ.
وتعليق ابن شبرمة في بعض نسخه: حدثنا قتيبة. قال الإسماعيلي: وليس فيما ذكره ابن شبرمة معنى، فإن الحاجة إلى إذكار إحداهما الأخرى إذا شهدتا، فإن لم يكونا قامت مقامها يمين الطالب التي لو انفردت ممن عليه حلت محل البينة في الأداء أو الإبراء، فحلت هنا محل المرأتين في الاستحقاق بها مضافة للشاهد الواحد، ولو وجب إسقاط السنة الثابتة في الشاهد واليمين لما ذكره ابن شبرمة فسقط الشاهد والمرأتان؛ لقوله:"شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ" فنقله عن الشاهدين إلى يمين خصمه بلا ذكر رجل وامرأتين.
قلت: وقوله: (فما تحتاج أن تذكر أحدهما الأخرى) يقال: بل تحتاج إليها لإسقاط اليمين عنه، وإنما نزل القرآن على ما يؤمر به الإنسان من التوثق، وليس في الحدود عند مالك يمين خلاف ما ذكره البخاري، واختلف أصحابه في الطلاق إذا ادّعته المرأة على رجل معتاد ليمين الطلاق، فمنعه ابن القاسم وألزمه أشهب.
واختلفا أيضًا إذا ادّعى إسقاط دم، هل يحلف ولي الدم؟ فألزمه ذلك ابن القاسم دون أشهب.
والفرق عند ابن القاسم: أن هذا لا يتكرر في إسقاط الجعل بخلاف الطلاق والعتق، وقيل: لا يمين عليه.
واختلف إذا ادعى العبد على مشتريه أنه دفع له من عنده مالًا اشتراه به؛ هل يحلِّفه؟ فقال أصبغ: لا، وخولف، إذ لا تتكرر هذِه الدعوى، وقد تتكرر إذا حلفه في تاريخ آخر. وممن ذهب إلى ما ذكره ابن شبرمة: ابن أبي ليلى وعطاء والنخعي والشعبي والكوفيون والأوزاعي والأندلسيون من أصحاب مالك قالوا: لا يجوز القضاء باليمين مع
الشاهد. وقال محمد بن الحسن: إن حكم به قاضٍ يُقضى حكمه فهو بدعة
(1)
.
وقال الزهري: هو بدعة وأول من حكم به معاوية.
ورواه أبو بكر، عن حماد بن خالد، عن ابن أبي ذئب، عنه
(2)
، وهو قول الزهري والليث قالوا: لأنه خلاف القرآن والسنة: أما القرآن، فقوله:{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282]، وأما السنة، فقوله:"شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ".
وفي "المحلى" عن عطاء: أول من قضى به عبد الملك بن مروان، وأشار إلى إنكاره الحكم. وروي عن عمر بن عبد العزيز الرجوع إلى ترك القضاء به؛ لأنه وجد أهل الشام على خلافه
(3)
.
وذكر الطحاوي كلامًا طويلًا حاصله: أن الأحاديث التي فيها القضاء في يمين مع الشاهد قد دخلها الضعف، قال ذلك إثر ما ذكره من طريق ابن عباس وأبي هريرة وزيد بن ثابت، وجعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده.
قال: فأنتم رويتم هذا: ولم يبين في الحديث كيف سببه؟ ولا من هو المستحلف فقد يجوز أن ذلك على ما ذكرتم، ويجوز أن يكون أريد يمين المدعى عليه إذا ادعى المدعي ولم يقم على دعواه إلا شاهدًا واحدًا فاستحلف له صلى الله عليه وسلم المدعى عليه؛ ليعلم الناس أن المدعي يجب له اليمين على المدعى عليه لا بحجة أخرى غير الدعوى، لا يُجب له
(1)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 3/ 342، "الاستذكار" 22/ 51 - 53.
(2)
في "المصنف" 5/ 4 (23166).
(3)
"المحلى" 9/ 404.
اليمين إلا هذا، كما قال قوم: إن المدعي لا يجب له اليمين فيما ادعى إلا أن يقيم البينة أنه قد كانت بينه بين المدعى عليه خلطة ولبس، وإن أقام على ذلك بينة استحلف له وإلا لم يستحلف، فأراد الراوي أن ينفي هذا القول ويثبت اليمين بالدعوى وإن لم يكن مع الدعوى غيرها، قال: وقد يجوز أن يكون ذلك أريد به يمين المدعي مع شاهده الواحد، إلا أن شاهده الواحد كان ممن يحكم بشهادته وحده وهو خزيمة، فإن الشارع كان قد عدل شهادته بشهادة رجلين، فلما كان ذلك الشاهد قد يجوز أن يكون خزيمة، فيكون للمشهود له بشهادته وحده مستحقًّا لما شهد له كما يستحق غيره بالشاهدين ما شهدا له به، فادعى المدعى عليه الخروج من ذلك الحق إلى المدعي، فاستحلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك، وأريد بنقل هذا الحديث؛ ليعلم أن المدعي إذا أقام البينة على دعواه وادعى المدعى عليه الخروج من ذلك الحق إليه أن عليه اليمين مع بينته، فهذا وجه آخر، فلا ينبغي لأحد أن يأتي إلى خبر قد احتمل هذِه التأويلات فيقطعه على أحدها بلا دليل يدله على ذلك من كتاب أو سنة أو إجماع
(1)
.
قلت: وقام الإجماع على استحلاف المدعى عليه في الأموال.
واختلفوا في الحدود والطلاق والنكاح والعتق، فذهب الشافعي إلى أن اليمين واجبة على كل مدعى عليه إذا لم يكن للمدعي بينة، وسواء كانت الدعوى في دم أو جراح أو نكاح أو طلاق أو عتق أو غير ذلك، واحتج بحديث الباب:"شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ" قال: ولم يخص مدعي مال دون مدعي دم أو غيره بل الواجب أن يحمل على العموم،
(1)
"شرح معاني الآثار" 4/ 144 - 147 بتصرف.
ألا ترى أنه جعل القسامة في دعوى الدم وقال للأنصار: "تبرئكم يهود بخمسين يمينًا"
(1)
، والدم أعظم حرمة من المال
(2)
؟
وقال الشافعي وأبو ثور: إذا ادعت المرأة على زوجها خلعًا أو طلاقًا وجحد الزوج الطلاق، فالمرأة المدعية عليها البينة، فإن لم يكن استحلف الزوج، وإن ادعى الخلع على مال فأنكرت، فإن أقام البينة لزمها المال، وإلا حلفت ولزم الزوج الفراق؛ لأنه أقرَّ به، وإذا ادعى العبد العتق ولا بينة استحلف السيد، فإن حلف برئ، وإن ادعى السيد أنه أعتق عبده على مال وأنكر العبد، حلف ولزم السيد العتق، وكان سوار يحلف بالطلاق، وكان أبو يوسف ومحمد يريان أن يستحلف على النكاح، فإن أبي أُلزم النكاح.
وذكر ابن المنذر عن الشعبي والثوري وأصحاب الرأي: أنه لا يستحلف على شيء من الحدود ولا على القذف
(3)
، وقالوا: يستحلفه على السرقة، فإن نكل لزمه النكال.
وفيه قول آخر: أن لا يمين في النكاح والطلاق والعتق و (الفرية)
(4)
إلا أن يقيم المدعي شاهدًا واحدًا، فإذا أقام استحلف المدعى عليه، هذا قول مالك
(5)
.
قال ابن حبيب: إذا أقامت المرأة أو العبد شاهدًا واحدًا على أن
(1)
سيأتي برقم (3173) كتاب: الجزية الموادعة، باب: الموادعة والمصالحة مع المشركين ..
(2)
"الأم" 7/ 87 بتصرف.
(3)
انظر: "الإشراف" 3/ 53.
(4)
في الأصل: الفرقة، والمثبت من "شرح ابن بطال" 8/ 55.
(5)
انظر: "المنتقى" 5/ 216.
الزوج طلقها أو السيد أعتقه، فإن اليمين يكون على السيد والزوج، فإن حلفا سقط عنهما الطلاق والعتق.
هذا قول مالك وابن الماجشون وابن كنانة، قال في "المدونة": فإن نكل قضي بالطلاق والعتق. ثم رجع مالك فقال: لا يقضى بالطلاق وليسجن، فإن طال سجنه دين وترك، وبه قال ابن القاسم، وطُول السجن عنده سنة
(1)
، وروى أشهب عن مالك في "العتبية" في الرجل يأتي بشاهد واحد على رجل شتمه أيحلف مع شاهده ويستحق ذلك أو يستحلف المدعى عليه ويبرأ؟ فقال: لا يحلف في مثل هذا مع الشاهد، وأرى إن كان الشاتم معروفًا بالسفه يؤدب ويعزر. قلت له: أَفَتَرى على المدعى عليه يمينًا؟ قال: نعم، وليس كل ما رأى المرء يجب أن يجعله سنة
(2)
فيذهب به إلى الأمصار، فضعف [يمين]
(3)
المدعى عليه في هذِه المسألة حين رأى أن لا يجعل قوله سنة
(4)
.
وذهب أهل المقالة الأولى إلى أن وجوب اليمين على المدعى عليه بمجرد الدعوى في كل دعوى، ولم ير مالك في المدعى عليه يمينًا حتى يقيم المدعي شاهدًا واحدًا في دعوى النكاح والطلاق، والعتق (والفرية)
(5)
.
والعتاقة عند مالك حدٌّ من الحدود؛ لأنه إذا عتق العبد ثبتت حرمته، وجازت شهادته، ووقعت الحدود له وعليه، بخلاف ما كانت قبل ذلك،
(1)
"المدونة" 4/ 92.
(2)
انظر: "المنتقى" 5/ 216.
(3)
زيادة يقتضيها السياق مثبتة من "شرح ابن بطال" 8/ 56.
(4)
"شرح ابن بطال" 8/ 55 - 56.
(5)
في الأصل: الفرقة، والمثبت من "الموطأ" برواية يحيى ص 450.
ورأى في الأموال خاصة اليمين على المدعى عليه دون شاهد يقيمه المدعي
(1)
؛ لأن إيجاب البينة على المدعي واليمين على المنكر إنما ورد في خصام في أرض بين الأشعث بن قيس ورجل آخر، ففيه قال صلى الله عليه وسلم:"شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ" فرأى مالك حمل الحديث على ما ورد عليه في الأموال خاصة، ورأى في دعوى النكاح والطلاق والعتق والفرية إذا أقام المدعي شاهدًا واحدًا أن يحلف المدعى عليه، فيبرأ من الدعوى بذلك التي قويت شبهتها بالشاهد ولو جاز فيها دخول الأيمان دون شاهد يقيمه المدعي لأدى ذلك إلى إضاعة الحدود واستباحة الفروج ورفع الملك، ولا يشاء أحد أن يدعي نكاح امرأة فتنكر فيحلفها ويبتذلها بذلك، وإن لم تحلف أخذها زوجها واستباح فرجها الذي هو أعلى رتبة من المال؛ لأن المال يقبل فيه شاهد وامرأتان، ولا يقبل ذلك في النكاح، وإذا ادعى أنها زوجته وصدقته المرأة لم يحكم بينهما بثبوت الزوجية بتقار رهما دون بينة تشهد على ذلك، فكذلك لا تقبل دعوى المرأة على زوجها أنه طلقها إلا ببينة ولا يحلفه بدعواها؛ لأن هذا يؤدي إلى أن يستبيح الأجنبي فرجها مع كونها زوجًا للأول؛ لأنه لا تشاء امرأة تكره زوجها إلا ادعت عليه كل يوم طلاقا، وكذا العبد في العتق، ولاسيما إذا علم أن الزوج أو السيد ممن لا يحلف في مقطع الحقوق، فكثير من الناس يتجنب ذلك، فإن لم يحلفا طلقت وعتق.
هذا قول مالك الأول الذي أوجب العتق والطلاق بالنكول، والقول الآخر الذي رجع إليه أشد احتياطًا في تحصين الفروج والحدود، وأما
(1)
"الموطأ" برواية يحيى ص 450.
قياس الشافعي كل دعوى على القسامة فهي باب مخصوص فلا يقاس عليه، ولا يؤخذ ما أصله موجود بالسنة فيجعل فرعا يقاس على أصل لا يشبهه؛ لأن قياس الأصول بعضها على بعض لا يجوز، ولو كان فرعًا ما ساغ قياسه على أصل لا يشبهه، وأحق الناس بأن يمنع أن يجعل في باب الدعوى في الدم قياسًا على القسامة، بل لا يرى القود بالقسامة الشافعي، والقسامة يبدأ فيها المدعي عنده وعند مالك والمدعى عليه في غير هذا يبدأ باليمين، وأيضًا فإنها لم يحكم فيها بالأيمان إلا بعد اللوث، وأقيمت الأيمان مقام الشهادة وغلظت حتى جعلت خمسين يمينًا، وليس هذا في شيء من الأحكام.
وقال ابن لبابة: مذهب مالك على ما روي عن عمر بن عبد العزيز: أنه لا يجب يمين إلا بخلطة، وبذلك حكم القضاة عندنا، والذي أذهب إليه وأفتي به، فاليمين بالدعوى؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"اليمين على المدعى عليه".
وقال ابن المنذر: لما جعل الشارع ذلك دخل في ذلك الخيار
والشرار، والمسلمون والكفار، والرجال والنساء علمت المعاملة أو لم تعلم؛ هذا قول الكوفيين والشافعي وأصحاب الحديث وأحمد.
قال: ولما قال من خالفنا: إن البينة تقبل من غير سبب تقدم من معاملة بين المدعي وبين صاحبه، وجب كذلك أن يستحلف المدعى عليه وإن لم يعلم معاملة تقدمت بينهما؛ لأن مخرج الكلامين من الشارع واحد، وما أحد في أول ما يعامل صاحبه إلا ولا معاملة كانت بينهما قبلها
(1)
.
(1)
انظر: "شرح ابن بطال" 8/ 57 - 58.
واحتج الكوفيون بحديث الباب: "شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ" في أن اليمين لا يجب ردها على المدعي إذا نَكَل المدعى عليه
(1)
، قالوا: ويحكم بنكول المدعى عليه، ألا ترى قوله:"شاهداك أو يمينه" ولم يقل: أو يمينك ولو كان الحكم يتعلق بيمين المدعي لذكره كما ذكر بينة المدعي ويمين المدعى عليه. وسيأتي اختلاف العلماء في رد اليمين واضحًا في القسامة.
وقوله: ("شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ") قال سيبويه: المعنى ما (بينت)
(2)
به شاهداك، وتأويله: ما (بينت)
(3)
لك شهادة شاهديك، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، وأجمعوا أنه لا يجب حد بيمين وشاهد.
قال ابن بطال: وأما احتجاج ابن شبرمة على أبي الزناد في إبطال الحكم (باليمين)
(4)
مع الشاهد، فإن العلماء اختلفوا فيه، فممن وافق ابن شبرمة في ذلك من قدمناه، وروي عن عمر وأبي بكر وعلى وأبي بن كعب أنه يحكم باليمين مع الشاهد، وهو قول الفقهاء السبعة المدنيين وربيعة وأبي الزناد، وقال به من أهل العراق الحسن البصري وعبد الله بن عتبة وابنه عبيد الله (وخارجة بن زيد بن ثابت)
(5)
أفادهم ابن المنذر وإياس بن معاوية، قال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور: والحكم به عندهم في الأموال خاصة
(6)
.
(1)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 3/ 383.
(2)
كذا في الأصل، وعند ابن بطال:(يثبت).
(3)
كذا في الأصل، وعند ابن بطال:(يثبت).
(4)
في (س): مع اليمين، والمثبت من "ابن بطال" 8/ 59.
(5)
كذا في الأصل، (ف) ولم يذكره ابن بطال، وخارجة بن زيد بن ثابت مدني، ليس من أهل العراق.
(6)
"شرح ابن بطال" 8/ 58 - 59 بتصرف.
وقال ابن حزم: روينا عن عمر بن الخطاب أنه قضى باليمين والشاهد الواحد، ومن طريق ابن وهب، عن أبي ضمرة، أن جعفر بن محمد حدثه، عن أبيه، عنه، وصح عن عمر بن عبد العزيز (وعبد الحميد بن عبد الرحمن)
(1)
وأبى الزناد وربيعة ويحيى بن سعيد الأنصاري وإياس بن معاوية ويحيى بن يعمر وغيرهم، وجاء عن عمر بن عبد العزيز أنه قضى بذلك في جراح العمد والخطأ، ويقضي به أيضًا مالك في النفس ولا يقضي به في العتق، والشافعي يقضى به في العتق
(2)
.
قال ابن عبد البر: وروي عن الخلفاء الأربعة وأبي بن كعب وعبد الله ابن عمرو: القضاء به مع الشاهد، وإن كان في الأسانيد عنهم ضعف، فالحجة قد لزمت بالسنة الثابتة ولا تحتاج السنة إلى من متايعها؛ لأن من خالفها محجوج بها، ولم يأت عن أحد من الصحابة أنه أنكر ذلك بل جاء عنهم القول به، وعلى القول به جمهور التابعين بالمدينة. واختلف فيه عن عروة وابن شهاب، وقد روي عنه أنه أول ما ولي القضاء حكم بشاهد ويمين، قال ابن عبد البر: وهو الذي لا يجوز عندي خلافه؛ لتواتر الآثار عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمل أهل المدينة قرنًا بعد قرن.
ولم يحتج مالك في "موطئه" لمسألة غيرها فقال: من الحجة فيها أن يقال: أرأيت لو أن رجلًا ادعى على رجل مالًا، أليس يحلف المطلوب ما ذلك الحق عليه؟ فإن حلف بطل ذلك الحق عنه، وإن نكل عن اليمين
(1)
كذا في الأصل، وفي "المحلى" عبد الرحمن بن عبد الحميد.
(2)
"المحلى" 9/ 403 - 404.
حلف صاحب الحق أن حقه لَحَق، وثبت حقه على صاحبه، فهذا مما لا اختلاف فيه عند أحد من الناس، فمن أقر بهذا فليقر باليمين مع الشاهد
(1)
. يريد مالك أنه إذا حلف صاحب الحق فإنه يقضي له بحقه ولا شاهد معه، فكيف بمن معه شاهد؟ فهذا أولى أن يحلف مع شاهده، ولا يعرف المالكيون في كل بلد غيره إلا عندنا بالأندلس، فإن يحيى بن يحيى زعم أنه لم ير الليث يفتي به ولا يذهب إليه، وخالف مالكًا في ذلك مع مخالفة السنة، وزعم من رد اليمين مع الشاهد بأنه منسوخ بالآية الكريمة {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] ورأى مالك أن يحلف الرجل مع شهادة امرأتين في الأموال، ويستحق حقه، كما يحلف مع الشاهد، وتحلف المرأة مع الشاهد الواحد كما يحلف الرجل، ويقال للكوفيين: ليس هذا بخلاف القرآن والسنة كما توهمتموه، وإنما هو زيادة بيان؛ كنكاح المرأة على عمتها وخالتها مع قوله تعالى:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24].
ومثل المسح على الخفين مع ما نزل به القرآن في غسل الرجلين ومسحهما، فكذلك ما قضى به الشارع من اليمين مع الشاهد مع الآية، ويقال لهم: إن مالكًا أوجب القصاص في الجراح باليمين مع
الشاهد
(2)
.
قال في "المدونة": كل جرح فيه قصاص، فإنه يقضى فيه بيمين وشاهد
(3)
، وقاله عمر بن عبد العزيز.
(1)
"الموطأ" ص 451 - 452.
(2)
"التمهيد" 2/ 153 - 155 بتصرف.
(3)
"المدونة" 4/ 86.
وإن وقع له في كتاب الأقضية ما يوهم خلاف هذا الأصل حيث قال: ومن ادعى على رجل قصاصًا وأنه ضربه بالسوط لم يجب عليه يمين إلا أن يأتي بشاهد فيستحلف له
(1)
، وكان قياسه أن يحلف مع شاهده ويقتص، لكن ملك القصاص فيها إلى المجروح وهو من حقوقه، وهذِه فيها أدب التعدي فقط.
واحتجوا أيضًا فقالوا: الزيادة على النص عندنا نسخ له، وجوابه: إنه بيان لا نسخ؛ لأن النسخ إنما هو ما لو ورد مقترنًا به لم يمكن الجمع بينهما، وهنا لو وردا يمكن، فإثباته كإثبات حكم، كما يأمرنا بالصلاة ثم يوجب الصوم.
وقد تناقض الكوفيون في هذا الأصل، فنقضوا الطهارة بالقهقهة وزادوها على الأحداث الثابتة، وجوزوا الوضوء بالنبيذ وزادوه على إيجاب الوضوء بالماء المنصوص عليه في الكتاب والسنة، ولم يجعلوا ذلك نسخًا لما تقدم، فتركوا أصلهم.
قال المهلب: الشاهد واليمين إنما جعله الله رخصة عند عدم الشاهد الآخر بموت أو سفر أو غير ذلك من العوائق، كما جعل- تعالى- رجلًا وامرأتين رخصة عند عدم شاهدين؛ لأنه معلوم أنه لا يحضر المتبايعين شاهدان عدلان أو أكثر فيقتصرا على شاهد وامرأتين أو على شاهد واحد، هذا غير موجود في العادات بل من شأن الناس الاستكثار من الشهود فنقل الله العباد في صفة الشهود من حال إلى حال أسهل منها؛ رفقا من الله بخلقه وحفظًا لأموالهم، فلا تناقض في شيء من ذلك.
(1)
"المدونة" 4/ 70.
والحديث بذلك له طرق اقتصر مسلم منها على حديث ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بيمين وشاهد
(1)
.
وهو أصح أحاديث الباب، وقد أوضحت الجواب عما اعترض عليه، وبقية طرقه في تخريجي لأحاديث الرافعي، فسارع إليه ترشد
(2)
، واقتصر ابن بطال على حديث مالك عن جعفر بن محمد، عن أبيه أنه عليه السلام قضى باليمين مع الشاهد -وهذا مرسل- وهو أصح من وصله عن جابر وعن علي، وما قدمناه أولى منه.
(1)
مسلم (1712) كتاب: الأقضية، باب: القضاء باليمين والشاهد.
(2)
"البدر المنير" 8/ 62.
-
باب
(1)
2669، 2670 - حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللهِ: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ يَسْتَحِقُّ بِهَا مَالًا لَقِيَ اللهَ وَهْوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ، ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ:{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ} إِلَى: {عَذَابٌ أَلِيمٌ} . [آل عمران: 77].
ثُمَّ إِنَّ الأَشْعَثَ بْنَ قَيْسٍ خَرَجَ إِلَيْنَا فَقَالَ: مَا يُحَدِّثُكُمْ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَحَدَّثْنَاهُ بِمَا قَالَ، فَقَالَ صَدَقَ، لَفِيَّ أُنْزِلَتْ، كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ خُصُومَةٌ فِي شَيْءٍ، فَاخْتَصَمْنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:"شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ". فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُ إِذًا يَحْلِفُ وَلَا يُبَالِي. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ يَسْتَحِقُّ بِهَا مَالًا وَهْوَ فِيهَا فَاجِرٌ لَقِيَ اللهَ عز وجل وَهْوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ". فَأَنْزَلَ اللهُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ، ثُمَّ اقْتَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ. [انظر: 2356، 2357 - مسلم: 138 - فتح: 5/ 280]
ساق فيه حديث عبد الله بن مسعود السالف في باب: سؤال الحاكم المدعي
(2)
، فتأمل وجه إيراده هنا.
(1)
ورد بهامش الأصل: ليس في نسختي، هذا الباب إنما فيها الحديث (
…
).
(2)
سلف برقم (2666، 2667).
21 - باب إِذَا ادَّعَى أَوْ قَذَفَ فَلَهُ أَنْ يَلْتَمِسَ البَيِّنَةَ، وَيَنْطَلِقَ لِطَلَبِ البَيِّنَةِ
2671 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ هِشَامٍ، حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، أَنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"البَيِّنَةُ أَوْ حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ". فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِذَا رَأَى أَحَدُنَا عَلَى امْرَأَتِهِ رَجُلًا يَنْطَلِقُ يَلْتَمِسُ البَيِّنَةَ؟ فَجَعَلَ يَقُولُ:"البَيِّنَةَ وَإِلَّا حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ". فَذَكَرَ حَدِيثَ اللِّعَانِ. [4747، 5307 - فتح: 5/ 283]
ذكر فيه حديث هِشَامٍ، عن عِكْرِمَةَ، عَنِ ابن عَبَّاسٍ، أَنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِشَرِيكِ بْنِ السَحْمَاءِ، فَقَالَ عليه السلام:"البَيِّنَةُ أَوْ حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ". فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِذَا رَأى أَحَدُنَا عَلَى امْرَأَتِهِ رَجُلًا يَنْطَلِقُ يَلْتَمِسُ البَيّنَةَ؟ فَجَعَلَ يَقُولُ:"البَيِّنَةَ وَإِلَّا حَدّ فِي ظَهْرِكَ". فَذَكَرَ حَدِيثَ اللِّعَانِ.
وسيأتي بطوله في بابه
(1)
، ورواه أبو داود
(2)
والنسائي
(3)
والترمذي، وقال: حسن غريب، ورواه عباد بن منصور عن عكرمة، عن ابن عباس متصلًا، ورواه أيوب عن عكرمة مرسلًا ولم يذكر ابن عباس
(4)
.
(1)
سيأتي برقم (4747) كتاب: التفسير، باب:{وَيَدْرَأُ عَنْهَا العَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ} ، (5307) كتاب: الطلاق، باب: يهدأ الرجل بالتلاعن.
(2)
أبو داود (2256).
(3)
لم أجده في النسائي من هذا الطريق، ولم يشر إليه الحافظ المزي في "تحفة الأشراف" كما في 5/ 170 (6225)، لكن رواه في "الكبرى" 3/ 372 (5662، 5663) مطولًا من رواية أنس بن مالك.
(4)
الترمذي (3179).
قلت: قد رواه جرير بن حازم عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس متصلًا أخرجه الطبراني
(1)
والحاكم في "مستدركه" وقال: صحيح على شرط البخاري
(2)
.
وهذا الحديث: إنما هو في رمي أحد الزوجين صاحبه فهو الذي يقال له: أنطلق ائت بالبينة؛ لأن الزوجين ليس بينهما جلد، وإنما يسقط بينهما بالتلاعن، والأجنبيون بخلاف حكم الزوجين في ذلك، فإذا قذف أجنبي أجنبيًّا، لم يترك لطلب البينة، ولا يضمنه أحد بل يحبسه الإمام، خشية أن يفوت أو يهرب ويرتاد من يطلب بينته، وإنما لم يضمنه أحد؛ لأن الحدود لا كفالة فيها ولا ضمان؟ لأنه لا يحد أحدٌ عن أحدٍ.
وقوله: "البينة وإلا حد في ظهرك" كان قبل (نزول حكم)
(3)
اللعان على ظاهر قوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] يدخل في حكم الآية الزوجان وغيرهما، فلما نزل قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] وحكم الله تعالى باللعان بين الزوجين بخلاف حكم الأجنبيين، وخص الزوجين بألا يحد المتلاعن إلا أن يأبى من اللعان، وكذلك المرأة إذا أبت من اللعان بعد لعان الزوج حدت بخلاف أحكام الأجنبيين أنه من لم يقم البينة على قذفه وجب عليه الحد؛ لقوله عليه السلام:"وإلا حد في ظهرك". (وقال ابن التين: قوله: "وإلا حد في ظهرك". يحتمل أن يكون أخبر بموجب الحكم فيمن قذف، ويكون الحكم موقوفًا حتى يقوم به المقذوف، ويحتمل
(1)
الطبراني 11/ 323 (11883).
(2)
"المستدرك" 2/ 202.
(3)
في الأصل: حكم نزول، والمثبت من ابن بطال 8/ 62.
أن يكون الإمام يقيمه؛ لأنه حق له في أحد القولين، ويحتمل أن يكون قام به أحدهما.
قال: واحتج أصحاب الشافعي بحديث هلال إذا رمى زوجته وسماه ثم لاعن أنه لا يحد، وعنه جوابان:
أحدهما: أن شريكا كان ذميًّا.
الثاني: أنه لم يقم بحقه، وأما رمي زوجته فإذا لاعن فلا شيء عليه
(1)
.
تنبيهات:
أحدها: روى ابن مردويه عن هشام بن حسان، عن ابن سيرين، عن أنس قال: أول من لاعن في الإسلام هلال بن أمية بابن سحماء
(2)
.
وقال ابن التين: اختلف هل هذا أول اللعان في الإسلام أو لعان عامر أبي عويمر. فقال ابن جرير: هذا أول، وقال غيره: الأول لعان عامر.
قال ابن المنذر: سحماء، قيل لها ذلك لسوادها، واسم أبيه عبدة بن مغيث، كما ضبطه ابن ماكولا
(3)
وغيره، وقيده النووي بعين مهملة ثم مثناة ثم باء موحدة البلوي.
قال الخطيب: شهد بدرًا
(4)
، وأنكره غير واحد، وأول مَشَاهده أُحُد، وشريك أخو البراء بن مالك لأمه، وزعم أبو نعيم أن سحماء
(1)
غير واضحة بالأصل، والمثبت من (ف).
(2)
رواه النسائي 6/ 172 من طريق هشام، عن ابن سيرين، عن أنس كذلك.
(3)
"الإكمال" 7/ 277.
(4)
قاله في "الأسماء المبهمة" ص 480 ويقصد به أن الذي شهد بدرًا هو عبدة بن معتب أبو شريك ولا شريك.
لم تكن (أمه)
(1)
، وشريكًا لم يكن اسمه إنما كان بينه وبين ابن السحماء شركة
(2)
. وقول ابن القصار: إن شريكًا كان يهوديًا فلذلك لم يحد له، غير صحيح.
ثانيها: كون القاذف هلال بن أمية فيه نظر، بل هو عويمر العجلاني كما نبه عليه الطبري والمهلب وغيرهما، وكانت في شعبان سنة تسع منصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك.
قال المهلب: وأظنه غلط من هشام بن حسان، ومما يدل على أنهما قصة واحدة توقف رسول الله حتى نزلت الآية، ولو أنهما قصتان لم يتوقف عن الحكم فيهما، ولحكم في الثانية بما أنزل الله.
قلت: لم يتفرد به هشام، بل تابعه عباد بن منصور وأيوب كما سلف، وأسند ابن جرير رواية عباد
(3)
، ورواه ابن مردويه في "تفسيره" عن عباد، عن عطاء، عن عكرمة، عن ابن عباس، وعن عبد الله بن الحكم الهمداني، عن عطاء وعكرمة، عن ابن عباس به.
وقال الخطيب: حديث هلال وعويمر صحيحان فلعلهما اتفقا معًا في مقام واحد أو مقامين، ونزلت الآية الكريمة في تلك الحال، لا سيما وفي حديث عويمر كره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل؛ يدل على أنه كان سبق بالمسلمين مع ما روينا عن جابر أنه قال: ما نزلت آية اللعان إلا لكثرة السؤال
(4)
.
(1)
في الأصل: أباه، وهو خطأ والمثبت من "أسد الغابة" 2/ 523.
(2)
"معرفة الصحابة" لأبي نعيم 3/ 475 (1418) دون قوله: أن سحماء لم تكن أمه، والكلام بنصه في "أسد الغابة" 2/ 523.
(3)
"تفسير الطبري" 9/ 272.
(4)
"الأسماء المبهمة" ص 480 - 481 بتصرف.
وقال الماوردي: الأكثرون على أن قصة هلال أسبق من قصة عويمر، والنقل فيهما مشتبه مختلف.
وقال ابن الصباغ في "شامله": قصة هلال تبين أن الآية نزلت فيه أولًا، وقوله صلى الله عليه وسلم لعويمر:"إن الله أنزل فيك وفي صاحبتك"
(1)
معناه: ما نزلت في قصة هلال؛ لأن ذلك حكم عام لجميع الناس.
قال النووي: ولعلها نزلت فيهما جميعًا؛ لاحتمال سؤالهما في وقتين متقاربين، فنزلت وسبق هلال باللعان
(2)
. وقاله ابن التين أيضًا حيث قال: حديث عاصم أشهر، إلا أن يكون الأمران كانا في وقت واحد، فقال هذا القول لهلال قبل أن ينزل عليه اللعان، وسأله عاصم فكره مسألته، ثم أنزلت الآية فيها.
وزعم مقاتل في "تفسيره" أن المرأة اسمها خولة بنت قيس الأنصارية
(3)
.
ثالثها: لما صرح بذكر شريك وقذفه، ولم يحده رسول الله صلى الله عليه وسلم، استدل به الشافعي على أنه لا حَدَّ على الرامي زوجته إذا سمى الذي رماها به، ثم اكتفي
(4)
. وعند مالك: يحد ولا يكتفي بلعانه، إنما لاعن لها.
واعتذر بعض أصحابه عن حديث شريك بأن شريكًا لم يطلب حقه، وزعم أبو بكر الرازي أنه كان حد القاذف للأجنبيات، وللزوجات الجلد
(1)
سيأتي برقم (4745)، كتاب: التفسير، باب: قوله تعالى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} ورواه مسلم (1492)، كتاب: اللعان.
(2)
انظر: "شرح مسلم" 10/ 120.
(3)
انظر: "معالم التنزيل" 6/ 14 - 15.
(4)
"مختصر المزني" 4/ 182 - 183.
بدلالة قوله: "البينة وإلا حد في ظهرك" وإنه نسخ الجلد في اللعان
(1)
.
رابعها: اللعان والملاعنة والتلاعن واحد، سمي بذلك؛ لقول الزوج: عليَّ لعنة الله إن كنت من الكاذبين.
واختير لفظ اللعن على لفظ الغضب وإن كانا موجودين في الآية؛ لأنه مقدم في الآية وفي اللعان؛ ولأن جانب الرجل فيه أقوى من جانبها؛ لأنه قادر على الابتداء باللعان دونها، وأنه قد ينفك لعانه عن لعانها ولا ينعكس.
وقيل: سمي لعانًا من اللعن وهو الطرد والإبعاد؛ لأن كل واحد منهما بعد عن صاحبه.
وخصت المرأة بالغضب؛ لأن الإنسان لا يؤثر أن يهتك زوجته بالمحال، وليس من الأيمان شيء متعدد إلا هو والقسامة، ولا يمين في جانب المدعي إلا فيهما، وجُوِّزَ اللعان لحفظ الأنساب، ودفع المعرفة عن الأزواج.
خامسها: أكثر العلماء على أنهما بفراقهما من اللعان يقع التحريم المؤبد ولا تحل له أبدًا وإن أكذب نفسه؛ تمسكًا بقوله: "لا سبيل لك عليها"
(2)
، وعليه مضت السنة، وورد في رواية فطلقها ثلاثًا.
وقال أبو حنيفة ومحمد وعبيد الله بن الحسن: هو واحدة بائنة
(3)
، وإن أكذب نفسه بعد اللعان حد، وحلت له، وغيرهم يحدونه ويلحقون به الولد ولا يحلونها له، ومن الغريب قول عثمان البتي: لا يفرق بينهما
(4)
.
(1)
"أحكام القرآن" للجصاص 5/ 134.
(2)
سيأتي برقم (5312) كتاب: الطلاق، باب: قول الإمام للمتلاعنين ..
(3)
انظر: "المبسوط" 7/ 43، 44.
(4)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 2/ 505، 506.
وهو أشد الخلاف في المسألة فلا يلتفت إليه، وإن حكاه الطبري أيضًا عن جابر بن زيد.
وحكى ابن رشد عن الشافعي: أنه إذا أكمل الزوج لعانه وقعت الفرقة، وعن مالك والليث وجماعة: وقوعها إذا فرغا جميعًا منه.
وعن أبي حنيفة: لا يقع إلا بحكم حاكم. وهو قول الثوري وأحمد
(1)
؛ لما جاء في بعض الروايات أنه عليه السلام فرق بينهما. وبقوله: كذبت عليها إن أمسكتها
(2)
. لأن فيه إخبارًا بأنه ممسك لها بعد اللعان إذ لو كانت الفرقة وقعت قبل ذلك لاستحال قوله: كذبت عليها، وهو غير ممسك لها بحضرته ولم ينكر ذلك عليه. وعن مالك: هو فسخ
(3)
.
سادسها: في ألفاظ متعلقة بالحديث ذكرها في غير هذا الموضع: أسحم أي: أسود كلون الغراب، يقال لليل: أسحم وللسحاب: أسحم
(4)
. وأدعج: شديد سواد الحدقة، وخدلج -بتشديد اللام- ممتلئ الساقين. وأحيمر: تصغير أحمر وهو الأبيض؛ لأن العمرة تبدو في البياض دون السواد.
وسئل ثعلب: لم قيل الأحمر دون الأبيض؟ فقال: لأن العرب لا (تقول)
(5)
رجل أبيض من بياض اللون إنما الأبيض عندهم الطاهر النقي من العيب
(6)
.
(1)
"بداية المجتهد" 3/ 1150.
(2)
سيأتي برقم (5308) كتاب: الطلاق، باب: اللعان ومن طلق بعد اللعان.
(3)
انظر: "بداية المجتهد" 3/ 1151.
(4)
انظر: "لسان العرب" 4/ 1959، مادة:(سحم).
(5)
في الأصول: تكون، ولا معنى لها، والمثبت من "النهاية في غريب الحديث".
(6)
انظر: "النهاية في غريب الحديث" 1/ 437.
والوحرة: بالتحريك دويبة حمراء تلصق بالأرض، ذكره الفارابي وقال ابن سيده: هي وزغة تكون في الصحاري أصغر من القطاه، وهي على شكل سام أبرص، وجمعها: وحر والوحر: ضرب من القطا، وهي صغيرة حمراء تعدو في الجانبين، لها ذنب دقيق تمصع به
(1)
إذا عدت وهي أخبث القطا، لا تطأ طعامًا ولا شرابًا إلا سمته، وامرأة وحرة: سوداء دميمة. وقيل: حمراء. والوحرة من الإبل: القصيرة.
وقوله: (موجبة) أي: للعذاب، وقوله:(فتلكأت) أي: تبطأت عن إتمام اللعان، قال الرازي عن مالك والحسن بن صالح والليث والشافعي: أي منهما نكل حُدّ إن كان الزوج فالقذف ولها فالزنا.
وعن الشعبي والضحاك ومكحول: إذا أبت رجمت وأيهما نكل حبس حتى يلاعن، وذكر ذلك عن أبي حنيفة وأصحابه
(2)
.
وقوله: (لولا ما مضى من كتاب الله)
(3)
. هو قوله تعالى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} [النور: 8]. وعند أبي داود: "لولا الإيمان"
(4)
.
ويستدل من يقول: إن الحكم إذا وقع بشرطه لا يُنْقض وإن تبين خلافه إذا لم يقع خلل أو تفريط في شيء من أسبابه.
وقال ابن التين: لم يجاوبه الشارع عما يفعله من وجد مع امرأته رجلًا، وجاوبه عما قذف به زوجته وشريكًا، وقد حصل ذلك وفات ما كان يفعله من نزل ذلك به، فكان الجواب مطالبته بالمخرج فيما
دخل فيه أولى.
(1)
ورد بهامش الأصل: أي: تحركه.
(2)
"أحكام القرآن" للجصاص 5/ 147.
(3)
سيأتي برقم (4747) كتاب: التفسير، باب:{وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} .
(4)
"سنن أبي داود"(2256).
وقوله: ("البينة وإلا حد في ظهرك") كالفتيا، وفيه مراجعة الخصم الإمام إذا رجا أن يظهر له خلاف ما قال له: وفيه أن الحقوق والحدود يستوي فيه الصالح وغيره، قاله الداودي.
22 - باب اليَمِينِ بَعْدَ العَصْرِ
2672 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الحَمِيدِ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلَا يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ رَجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ بِطَرِيقٍ يَمْنَعُ مِنْهُ ابْنَ السَّبِيلِ، وَرَجُلٌ بَايَعَ رَجُلًا لَا يُبَايِعُهُ إِلَّا لِلدُّنْيَا، فَإِنْ أَعْطَاهُ مَا يُرِيدُ وَفَى لَهُ، وَإِلاَّ لَمْ يَفِ لَهُ، وَرَجُلٌ سَاوَمَ رَجُلًا بِسِلْعَةٍ بَعْدَ العَصْرِ، فَحَلَفَ بِاللهِ لَقَدْ أُعْطِيَ بِهِ كَذَا وَكَذَا، فَأَخَذَهَا". [انظر: 2358 - مسلم: 108 - فتح: 5/ 284]
ذكر فيه حديث أبي هريرة: "ثَلَاثةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ .. ".
وقد سلف في الشرب
(1)
، وذِكره فيها اليمين بعد العصر؛ لشهود ملائكة الليل والنهار في هذا الوقت؛ ليرتدع الناس عن الأيمان الكاذبة فيه، فإنه وقت عظيم.
وقوله: (ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ) يعني: وقتًا دون وقت لمن أنفذ الله عليه الوعيد، وليس على الاستمرار والخلود.
هذا مذهب أهل السنة، وفيه أنه قد يستحق النوع من العذاب على ذنوب مختلفة، فالمانع لفضل الماء أصغر معصية من المبايع الناكث والحالف الآثم.
(1)
سلف برقم (2358) كتاب: المساقاة، باب: إثم من منع ابن السبيل من الماء.
23 - باب يَحْلِفُ المُدَّعَى عَلَيْهِ حَيْثُمَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ اليَمِينُ، وَلَا يُصْرَفُ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى غَيْرِهِ
قَضَى مَرْوَانُ بِاليَمِينِ عَلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ عَلَى المِنْبَرِ، فَقَالَ:
أَحْلِفُ لَهُ مَكَانِي. فَجَعَلَ زَيْدٌ يَحْلِفُ، وَأَبَى أَنْ يَحْلِفَ عَلَى المِنْبَرِ، فَجَعَلَ مَرْوَانُ يَعْجَبُ مِنْهُ. وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ".
يَخُصَّ مَكَانًا دُونَ مَكَانٍ. [انظر: 2356، 2357]
2673 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْن إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَثَا عبد الوَاحِدِ عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنِ ابن مَسْعُودٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَنْ حَلَفَ على يَمِينٍ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالًا لقِيَ اللهَ وَهْوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ". [انظر: 2356، 2357 - مسلم: 138 - فتح: 5/ 284]
ثم ساق حديث ابن مسعود أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالًا لَقِيَ اللهَ وَهْوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ".
الشرح:
الأثر الأول رواه مالك في "الموطأ" عن داود بن حصين، سمع أبا غطفان بن طريف المري قال: اختصم زيد بن ثابت وابن مطيع -يعني: عبد الله- إلى مروان في دار فقضى باليمين على زيد على المنبر فقال: احلف له مكاني. قال مروان: لا والله إلا عند مقاطع الحقوق. فجعل زيد يحلف أن حقه لَحَق، ويأبى أن يحلف على المنبر، فجعل مروان يعجب من ذلك قال مالك: لا أرى أن يحلف على المنبر في
أقل من ربع دينار وذلك (ثلاث)
(1)
دراهم
(2)
.
وأما الحديث المعلق فقد سلف قريبًا مسندًا
(3)
. قال الإسماعيلي: إذا لم يمنع من تغليظها بأن يكون بعد العصر للخبر الذي رواه فكذا لم يمنع من تغليظها بأن تكون عند المنبر؛ لقوله عليه السلام: "من حَلَفَ على منبري -أو عند منبري- كاذبًا ولو على قضيب من أراك، وجبت له النار"
(4)
أو كما قال، وحديث ابن مسعود سلفُ قريبًا.
واختلف العلماء في هذا الباب، فجملة مذهب مالك فيه، كما قال أبو عمر: إن اليمين لا تكون عند المنبر من كل جامع ولا في الجامع، حيث كان إلا في ربع دينارٍ فصاعدًا، وما دون ذلك حلف فيه في مجلس الحاكم أو حيث شاء من المواضع في السوق أو غيرها، وليس عليه التوجه إلى القبلة.
وفي رواية ابن الماجشون عنه: يحلف قائمًا مستقبل القبلة، قال: ولا يعرف مالك [اليمين عند]
(5)
المنبر إلا منبر المدينة فقط، ومن أبي أن يحلف عنده فهو كالناكل عن اليمين، ويحلف في أيمان القسامة عند مالك إلى مكة -شرفها الله- كل من كان من عملها يحلف بين الركن والمقام، وكذلك المدينة يحلف عند المنبر.
(1)
فوق هذِه الكلمة كتب الناسخ لفظة (كذا) دلالة على أن المصنف كتبها على ذلك في أصله، وأيضًا على مرجوحية الوجه الإعرابي للكلمة، إذ حقها التأنيث.
(2)
"الموطأ" رواية يحيى ص 453 - 454.
(3)
سلف برقم (2356).
(4)
رواه أبو داود (3246)، وابن ماجه (2325)، ومالك في "الموطأ" برواية يحيى 453، وأحمد 3/ 344، وابن حبان 10/ 210 (4368) من حديث جابر بن عبد الله. وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(6205).
(5)
زيادة يقتضيها السياق من "الاستذكار" 22/ 88.
وحكى أبو عبيد أن عمر بن عبد العزيز حمل قومًا اتهمهم بفلسطين إلى الصخرة، فحلفوا عندها، قال: وذهب الشافعي إلى نحو قول مالك، إلا أنه لا يرى اليمين عند منبر المدينة، ولا بين الركن والمقام بمكة إلا في عشرين دينارًا فصاعدًا.
قال الشافعي: وقد عاب قولنا هذا عائب ترك فيه موضع حجتنا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والآثار بعده عن أصحابه.
وزعم أن زيد بن ثابت: كان لا يرى اليمين على المنبر، وإنا روينا ذلك عنه وخالفناه إلى قول مروان بغير حجة، قال: وهذا مروان يقول لزيد وهو أحظى أهل زمانه وأرفعهم لديه منزلة: لا والله إلا عند مقاطع الحقوق قال: فما منع زيد بن ثابت (لو يعلم)
(1)
أن اليمين على المنبر حق أن يقول: مقاطع الحقوق مجلس الحكم كما قال أبو حنيفة وأصحابه: ما كان زيد ليمتنع أن يقول لمروان ما هو أعظم من هذا حيث قال له: أتحل الربا؟ قال: أعوذ بالله. قال: إن الناس يبتاعون الصكوك قبل أن يقبضوها، فبعث مروان الحرس ينتزعونها من أيدي الناس.
فإذا كان مروان لا ينكر على زيد هذا، فكيف ينكر عليه في نفسه أن يلزمه اليمين على المنبر؟
لقد كان زيد من أعظم أهل المدينة في عين مروان، ولكن زيدًا علم أن ما قضى به مروان هو الحق، وكره أن تصبر يمينه عند المنبر. قال الشافعي: وهذا الأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا والذي نقل الحديث فيه كأنه تكلف: لاجتماعنا على اليمين عند المنبر
(2)
.
(1)
في الأصل: لو لم يعلم، وهو خطأ والمثبت هو الصواب كما في "الاستذكار" 22/ 90.
(2)
"الأم" 7/ 33 - 34 بتصرف.
وقال أبو حنيفة وصاحباه: لا يجب استحلاف أحد عند منبر المدينة ولا بين الركن والمقام في قليل الأشياء ولا في كثيرها ولا في الدماء ولا غيرها، لكن الحكام يحلفون من وجبت عليه اليمن في مجالسهم
(1)
.
وإلى هذا القول ذهب البخاري، ونقل ابن بطال عن مالك أنه لا يحلف عند منبر إلا منبر المدينة، واعتبر القطع، واعتبر الشافعي الزكاة، وكذا عند منبر كل مسجد.
وروى ابن جريج عن عكرمة قال: أبصر عبد الرحمن بن عوف قومًا يحلفون بين المقام والبيت فقال: أعلى دم؟ فقيل: لا. فقال: أفعلى عظيم من المال؟ قال: لا. قال: لقد خشيت أن يتهاون الناس بهذا
المقام.
قال: ومنبر النبي صلى الله عليه وسلم في التعظيم مثل ذلك؛ لما ورد فيه من الوعيد على من حلف عنده بيمين كاذبة.
واحتج أبو حنيفة بأنا روينا عن زيد بن ثابت أنه لم يحلف عند المنبر وخالفتموه إلى قول مروان بغير حجة قال: وليس قوله عليه السلام: "من حلف على منبري هذا .. " يوجب أن الاستحلاف لم يجب، واحتج عليه الشافعي فقال: لو يعلم زيد أن اليمين عند المنبر غير سنة لأنكر ذلك على مروان.
وقال: (والله لا أحلف إلا في مجلسك .. ) إلى آخر ما أسلفناه عنه.
قال ابن بطال: واليمين عند المنبر بمكة والمدينة لا خلاف فيه في قديم ولا حديث، وإن نقل الحديث فيه تكلف لاجتماع السلف عليه، ولقد بلغني أن عمر حلف عند المنبر في خصومة كانت بينه وبين رجل.
(1)
"الاستذكار" 22/ 87 - 92.
وأن عثمان ردت عليه اليمين عند المنبر فافتدى منها. وقال: أخاف أن توافق قدرًا فيقال: إنه بيمينه.
قال المهلب: وإنما أمر أن يحلف في أعظم موضع من المسجد؛ ليرتدع أهل الباطل. وهذا مستنبط من قوله تعالى: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ} [المائدة: 106] فاشتراط بعد الصلاة؛ تعظيمًا للوقت وإرهابًا؛ لشهود الملائكة ذلك الوقت، فخصوصية وقت التعظيم كخصوصية موضعه، ألا ترى ما ظهر من تهيب زيد بن ثابت للموضع، فمن هو دون ذلك من أهل المعاصي والخائفين من العقوبات أولى أن يرهبوا المكان العظيم
(1)
.
وقال ابن التين: التغليظ بالمكان قاله مالك والشافعي؛ لقوله عليه السلام: "من حلف عند منبري هذا على يمين؛ ليقتطع بها مال مسلم .. " الحديث. ولا حجة فيه؛ لأنه لم يتكلم على موجب ذلك وصفته في الدنيا، وأيضًا فإن مروان قال لزيد: والله ما يحلف إلا عند مقاطع الحقوق. ولم ينكر
عليه زيد، ولو قال له زيد: ما هذا. على ما خالفه مروان.
وروي أن مروان قضى على زيد حين نكل عن اليمين عند المنبر، وقاله مالك، قال: فإنما كره زيد يمين الصبر. يعني: اليمين التي يقام صاحبها بحضرة الناس حتى يحلف.
وقد اختلف في عشر مسائل:
الأولى: ما الذي يغلظ فيه من الحقوق، وقد سلف عن مالك ربع دينار فأكثر، وعن الشافعي في عشرين دينارًا فأكثر، ونقل القاضي في "معونته" عن بعض المتأخرين أنه تُغَلّظ في القليل والكثير
(2)
.
(1)
"شرح ابن بطال" 8/ 63 - 65.
(2)
"المعونة" 2/ 479.
وقال ابن الجلاب: يحلف على أقل من ربع دينار في سائر المساجد.
الثانية: في حلفه قائمًا، وبه قال مالك فيما حكاه ابن القاسم إلا من به علة، وقال عنه ابن كنانة: لا يلزمه أن يحلف قائمًا
(1)
.
الثالثة: قال ابن القاسم: لا يستقبل القبلة. وخالفه مطرف وابن الماجشون
(2)
.
الرابعة: هل يحلف في دبر صلاة وحين اجتماع الناس إذا كان المال كثيرًا. قال ابن القاسم ومطرف وابن الماجشون وأصبغ: ليس ذلك عليه.
وقال ابن كنانة، عن مالك: يتحرى به الساعات التي يحضر الناس فيها المساجد ويجتمعون للصلاة
(3)
.
الخامسة: في صفة ما يحلف به، فقال مالك: بالله الذي لا إله إلا هو، لا يزيد عليه.
وقال ابن كنانة عنه: يحلف في ربع دينار فأكثر. يزيد على [ما]
(4)
تقدم عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم
(5)
.
وقال الشافعي: يزيد: الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، الذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية
(6)
.
(1)
انظر: "النوادر والزيادات" 8/ 156.
(2)
انظر: "المدونة" 4/ 71، و"النوادر والزيادات" 8/ 156.
(3)
انظر: "النوادر والزيادات" 8/ 156.
(4)
زيادة يقتضيها السياق.
(5)
انظر: "النوادر والزيادات" 8/ 152 - 153.
(6)
"مختصر المزني" 5/ 255.
وقال سحنون: يحلف بالله وبالمصحف
(1)
. ذكره عنه الداودي.
السادسة: هل تخرج المرأة في ربع دينار؛ ظاهر "المدونة" المنع
(2)
، وخالفه ابن حبيب.
السابعة: هل يحلف بحضرة المصحف؛ أباه مالك، وألزمه ذلك بعض المكيين في عشرين دينارًا فأكثر
(3)
، وذكر عن ابن المنذر أنه حكى عن الشافعي أنه قال: رأيت مطرفًا بصنعاء يُحلَّف بحضرة المصحف.
الثامنة: هل تحلف المرأة في أقرب المساجد إليها، قاله سحنون. أو في الجامع، قاله الجماعة
(4)
.
التاسعة: في صفة يمين أهل الكتاب والمجوس: ففي "المدونة": لا يُحلفهم إلا بالله
(5)
.
وقال مطرف وابن الماجشون: يحلفون كالمسلمين
(6)
.
وروى الواقدي، عن مالك: يحلف اليهودي بالله الذي أنزل التوراة على موسى، والنصراني بالله الذي أنزل الإنجيل على عيسى، وقاله الشافعي
(7)
.
(1)
انظر: "النوادر والزيادات" 8/ 154.
(2)
انظر: "المدونة" 4/ 71.
(3)
انظر: "النوادر والزيادات" 8/ 154 - 155.
(4)
السابق 8/ 157.
(5)
"المدونة" 4/ 72.
(6)
انظر: "النوادر والزيادات" 8/ 153.
(7)
"الأم" 7/ 32.
وقال ابن شعبان: كان بعض أصحابنا يحلف اليهود: لا والذي على العرش استوى قال: وهو حسن.
وقال شريح: يجعل الإنجيل على مذبح النصراني إذا استحلفه
(1)
، وفي السبت قولان: نعم. وقيل: لا. بخلاف النصراني يوم الأحد.
العاشرة: تغلظ بالموضع خلافًا لأبي حنيفة.
(1)
لم أقف عليه من قول شريح، بل من قول كعب بن سوار كما في "مصنف عبد الرزاق" 6/ 130 (10235)، 8/ 361 (15543).
24 - باب إِذَا تَسَارَعَ قَوْمٌ فِي اليَمِينِ
2674 -
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَرَضَ عَلَى قَوْمٍ اليَمِينَ فَأَسْرَعُوا، فَأَمَرَ أَنْ يُسْهَمَ بَيْنَهُمْ فِي اليَمِينِ أَيُّهُمْ يَحْلِفُ. [فتح: 5/ 285]
ذكر فيه حديث أبي هريرة أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عرَضَ عَلَى قَوْمٍ اليَمِينَ فَأَسْرَعُوا، فَأَمَرَ أَنْ يُسْهَمَ بَيْنَهُمْ فِي اليَمِينِ أَيُّهُمْ يَحْلِفُ.
هذا الحديث لما رواه أبو نعيم عن أبي أحمد: ثنا ابن شيرويه، ثنا إسحاق، ثنا عبد الرزاق. وذكره بلفظ البخاري قال: وهم شيخنا في لفظ الحديث، والذي حدثهم ابن شيرويه عن إسحاق يخالف هذا الحديث، فإني رأيت في أصل كتاب إسحاق إذا أكره اثنان على اليمين فاستحباها فليستهما عليه.
وعند أبي داود من حديث قتادة، عن خلاس، عن أبي رافع، عن أبي هريرة. وفيه: فقال صلى الله عليه وسلم: "استهما على اليمين ما كان، أحبا ذلك أو كرها".
وفي حديث معمر، عن همام:"إذا كره الاثنان اليمين أو استحباها فيستهمان عليها".
وفي لفظ: "إذا أكره الاثنان على اليمين".
وفي لفظ: اختصما في دابة وليست لهما تباريا فأمرهما أن يستهما على اليمين
(1)
.
(1)
"سنن أبي داود"(3616، 3617، 3618).
وللنسائي من حديث قتادة عن خلاس أن رجلين تداريا في بيع وليس بينهما بينة، وفي حديث معمر، عن همام: عرض على قوم اليمين فأسرع الفريقان جميعًا على اليمين، وأمر بأن يسهم بينهم في اليمين أيهم يحلف
(1)
، وللإسماعيلي من حديث الحسن بن يحيى وغيره، عن عبد الرزاق: إذا أكره الاثنان على اليمين فاستحباها أقرع بينهما.
وفي لفظ: إذا أكره الاثنان على اليمين أو استحباها فليستهما عليها
(2)
.
قال الإسماعيلي: الصحيح: أو استحباها.
قال الخطابي: إنما يقول هذا إذا تساوت درجاتهم في أسباب الاستحقاق، مثل أن يكون الشيء في يد اثنين كل واحد منهما يدعيه كله، فيريد أحدهما أن يحلف عليه ويستحقه، ويريد الآخر مثل ذلك، فيقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة حلف واستحقه
(3)
.
وقال الداودي: في حديث آخر: أقرع بينهم أيهم يحلف أولًا.
وهذا حديث لم يؤت فيه على جميع القصة؛ لأن الناس إنما يأبى بعضهم أن يحلف، أو كان المحفوظ أنه إنما أمر باليمين أحدهم، فلعل هذا كان الحكم قبل أن يؤمر بالشاهد ويمين المدعى عليه قال: والحديث مشكل المعنى.
وقول أبي سليمان فيمن يتداعيان شيئًا فيقرعان أيهما يحلف ويستحقه جميعه.
(1)
"السنن الكبرى" 3/ 487 (6000، 6001).
(2)
سبق تخريجه.
(3)
"أعلام الحديث" 2/ 1312.
قال ابن التين: ليس هذا الحكم، وإنما هو أن يتحالفا ويقسماه نصفين، إن ادعى كل واحدٍ منهما جميعه.
وقال ابن بطال: إنما كره الشارع تسارعهم في اليمين -والله أعلم- لئلا تقع أيمانهم معًا؛ فلا يستوفي الذي له الحق أيمانهم، على معنى دعواه، ومن حقه أن يستوفي يمين كل واحد منهم على حدته، وإذا استوى قومٌ في حقٍ من الحقوق لم يبدأ أحدٌ منهم قبل صاحبه في أخذ ما يأخذ أو دفع ما يدفع عن نفسه إلا بالقرعة، والقرعة سنة في مثل هذا؛ ألا ترى أنه عليه السلام أقرع بين نسائه عند سفره، وكن قد استوين في الحرمة والعصمة، ولم تكن واحدة أولى بالسفر من صاحبتها
(1)
.
(1)
"شرح ابن بطال" 8/ 66.
25 - باب قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} [آل عمران: 77]
2675
- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا العَوَّامُ قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ أَبُو إِسْمَاعِيلَ السَّكْسَكِيُّ، سَمِعَ عَبْدَ اللهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى رضي الله عنهما يَقُولُ: أَقَامَ رَجُلٌ سِلْعَتَهُ فَحَلَفَ بِاللهِ لَقَدْ أُعْطِىَ بِهَا مَا لَمْ يُعْطَهَا، فَنَزَلَتْ:{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} وَقَالَ ابْنُ أَبِي أَوْفَى: النَّاجِشُ آكِلُ رِبًا خَائِنٌ. [انظر: 2088 - فتح: 5/ 286]
2676، 2677 - حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ كَاذِبًا لِيَقْتَطِعَ مَالَ رَجُلٍ -أَوْ قَالَ: أَخِيهِ- لَقِيَ اللهَ وَهْوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ". وَأَنْزَلَ اللهُ [عز وجل] تَصْدِيقَ ذَلِكَ فِي القُرْآنِ: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} الآيَةَ.
فَلَقِيَنِي الأَشْعَثُ فَقَالَ: مَا حَدَّثَكُمْ عَبْدُ اللهِ اليَوْمَ؟ قُلْتُ: كَذَا وَكَذَا. قَالَ: فِيَّ أُنْزِلَتْ. [انظر: 2356، 2357 - مسلم: 138 - فتح: 5/ 286]
ذكر فيه حديث عَبْدِ اللهِ بْن أَبِي أَوْفَى: أَقَامَ رَجُلٌ سِلْعَتَهُ فَحَلَفَ باللهِ لَقَدْ أَعْطى بِهَا مَا لَمْ يُعْطَهَا، فَنَزَلَتْ:{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} وَقَالَ ابن أَبِي أَوْفَى
(1)
: النَّاجِشُ آكِلُ رِبًا خَائِنٌ.
ثم ذكر حديث عبد الله هو ابن مسعود السالف في البيوع
(2)
.
(1)
فوق كلمة (قال) كتب الناسخ لفظه (معلق) وأردفها في الهامش حاشية نصها: هذا التعليق عن ابن أبي أوفى ذكره البخاري أيضًا في (
…
) بسنده المصنف به.
(2)
بل سلف في المساقاة برقم (2356 - 2357)، في الخصومات (2416)، الرهن (2515).
وقوله فيه: حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ، ثنا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، قال الجياني: لم أجد إسحاق هذا منسوبًا لأحدٍ من شيوخنا.
وقد صرح البخاري بنسبه في باب شهود الملائكة بدرًا
(1)
، فقال: أخبرنا إِسْحَاقُ بن مَنْصور: أنا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ
(2)
.
وأما أبو نعيم الحافظ فقال في "مستخرجه": حدثنا أبو أحمد: ثنا عبد الله بن محمد -هو ابن شيرويه-: أنا إسحاق بن إبراهيم: أنا يزيد ابن هارون.
فذكر الحديث ثم قال: رواه -يعني: البخاري- عن إسحاق، عن يزيد بن هارون.
وحقيقة النجش في قول ابن أبي أوفى: أن يزيد في اليمين؛ لا لرغبة بل ليخدع غيره، وأصله: الخَتْل أو الإطراء والمدح، أو التنفير: من تنفير الوحش إلى موضع آخر.
والأصح عندنا أنه لا خيار فيه
(3)
.
وقال ابن التين: يفسخ خلافًا لأبي حنيفة والشافعي.
(1)
كتب ناسخ الأصل فوق هذِه الجملة: أي في هذا الكتاب، وهو في الحديث الأول.
(2)
"تقييد المهمل" 3/ 978.
(3)
انظر: "البيان" 5/ 346، "روضة الطالبين" 3/ 414.
26 - باب كَيْفَ يُسْتَحْلَفُ
؟
وَقَوْلُ اللهِ: {ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} [النساء: 62]، {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ} [التوبة: 56]، {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ} [التوبة: 62]، {فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ لَشَهَادَتُنَا} [المائدة: 107]، يُقَالُ: بِاللهِ، وَتَاللهِ، وَوَاللهِ. وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"وَرَجُلٌ حَلَفَ بِاللهِ كَاذِبًا بَعْدَ العَصْرِ"[انظر: 2358].
2678 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللهِ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ عَمِّهِ أَبِي سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللهِ يَقُولُ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُهُ عَنِ الإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي اليَوْمِ وَاللَّيْلَةِ". فَقَالَ هَلْ عَلَىَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: "لَا، إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ". فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "وَصِيَامُ رَمَضَانَ". قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُ؟ قَالَ: "لَا، إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ". قَالَ: وَذَكَرَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الزَّكَاةَ. قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: "لَا، إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ". فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ وَهْوَ يَقُولُ: وَاللهِ لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلَا أَنْقُصُ. قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ"[انظر: 46 - مسلم: 11 - فتح: 5/ 287]
2679 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ قَالَ: ذَكَرَ نَافِعٌ، عَنْ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللهِ أَوْ لِيَصْمُتْ".
[3836، 6108، 6646، 6647، 6648 - مسلم: 1646 - فتح: 5/ 287]
وقد سلف مسندًا
(1)
ولا يحلف بغير الله، ثم ساق حديث طلحة بن عُبيد الله، وفي آخره:"أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ" وقد سلف.
(1)
سلف برقم (2369) كتاب: المساقاة، باب: من رأى أن صاحب الحوض
…
ولفظه: "ورجل حلف على يمين كاذبة بعد العصر".
وحديث جويرية قال: ذَكَرَ نَافِعٌ، عَنْ عَبْدِ اللهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَنْ كانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ باللهِ أَوْ لِيَصْمُتْ".
اختلف العلماء في كيفية اليمين التي يجب أن يحلف بها، وقد أسلفناه قريبًا، ونقل ابن المنذر عن طائفة أنه لا يزيد على أن يحلف بالله.
وعن مالك: يحلف بالله الذي لا إله إلا هو، ماله عنده حق وما ادَّعَيْتَ عليَّ إلا باطلًا.
وعن الكوفي: يحلف بالله الذي لا إله إلا هو، فإن اتهمه القاضي غلظ عليه اليمين، فيحلف بالله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم، الذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
قال ابن المنذر: وبأي ذلك استحلفه الحاكم يجزئ
(1)
.
وكل ما أورده البخاري من آيات القرآن ومن الأحاديث في هذا الباب حجة لمن اقتصر على الحلف بالله ولم يزد عليه قال عثمان لابن عمر: يحلف بالله لقد بعته وما تعلم به داء
(2)
.
وأجمعوا أنه لا ينبغي للحاكم أن يستحلف بالطلاق أو العتاق أو الحج أو المصحف، كما حكاه ابن بطال
(3)
.
وقوله: ("من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت") دالٌّ على المنع من الحلف بغير الله.
(1)
"الإشراف" 3/ 154.
(2)
"الموطأ" رواية يحيى ص 379، وعبد الرزاق 8/ 163 (1422) من طريقه.
(3)
"شرح ابن بطال" 8/ 68.
ولا شك في انعقاد اليمين باسم الذات والصفات العليَّة، وألْحَقَ أحْمَدُ بالله رسوله
(1)
. وفي غيرهما ممنوع، وهل هو منع تحريم أو تنزيه؟ ولا شك في التحريم فيما إذا حلف بالأنصاب والأزلام واللات والعزى، فإن قصد تعظيمها فكفر.
وفيه أربعة أدلة على عدم الوتر:
أحدها: أن سؤاله عن الإسلام يقتضي السؤال عما يجب عليه فقال: "خمس صلوات"
ثانيها: أن الأعرابي أعاد السؤال بلفظٍ أعم من الأول فقال: هل عليَّ غيرها؟ فقال: "لا" ولو كان واجبًا لذكره.
ثالثها: إخباره بأن ما زاد على ذلك تطوع.
رابعها: يمين الأعرابي، وقوله:"أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ". وقد تقدم.
(1)
انظر: "المغني" 13/ 472، وفيه: روي عنه أنه قال: إذا حلف بحق رسول الله صلى الله عليه وسلم فحَنِثَ فعليه الكفارة. اهـ.
قلت: الإمام أحمد يوجب الكفارة على من حلف بالرسول ولا يوجبها على من حلف بغيره، لا كما يُتَوَهَّم من كلام المصنف أنه يجيز الحلف بالرسول صلى الله عليه وسلم. والله أعلم.
27 - باب مَنْ أَقَامَ البَيِّنَةَ بَعْدَ اليَمِينِ
وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ"[انظر: 2458] وَقَالَ طَاوُسٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَشُرَيْحٌ: البَيِّنَةُ العَادِلَةُ أَحَقُّ مِنَ اليَمِينِ الفَاجِرَةِ.
2680 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ زَيْنَبَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا بِقَوْلِهِ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ، فَلَا يَأْخُذْهَا". [انظر: 2458 - مسلم: 1713 - فتح: 5/ 288]
ثم ساق حديث أم سلمة: "إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ .. " إلى آخرِه.
الشرح:
التعليق الأول هو حديث أم سلمة، الذي أسنده بعد، وقد سلف أيضًا في المظالم
(1)
.
وأثر شريح أنبأنا به غير واحد عن الفخر بن البخاري: أنا ابن طبرزد: أنا ابن الأنماطي: أنا الصريفيني عبد الله بن محمد، أنا ابن خبابة: أنا البغوي: أنا علي بن الجعد: أنا شريك، عن عاصم، عن محمد بن سيرين، عن شريح قال: من ادعى قضائي فهو عليه حتى يأتي ببينة؛ الحق أحق من قضائي، الحق أحق من يمين فاجرة.
وأنكر الإسماعيلي دخول حديث أم سلمة هنا. وبينه ابن المنير حيث قال: لم يجعل عليه السلام اليمين الكاذبة مفيدة حلًّا ولا قطعًا بحق المحق، بل نهاه بعد يمينه عن القبض وساوى بين حالتيه بعد اليمين وقبلها في
(1)
سلف برقم (2458) باب: إثم من خاصم في باطل وهو يعلم.
التحريم، فيؤذن ذلك ببقاء حق صاحب الحق على ما كان عليه، فإذا ظفر في حقه ببينة فهو باقٍ على القيام، ما لم يسقط أصل حقه من ذمته مقتطعة [باليمين]
(1)
.
وقد اختلف العلماء في هذِه المسألة: فذهب جمهورهم إلى أنه إذا استحلف المدعى عليه ثم أقام بينة قبلت بينته، وقضي له بها على ما ذكره البخاري عن شريح وطاوس والنخعي، وهو قول الثوري والكوفيين والليث والشافعي وأحمد وإسحاق
(2)
.
وقال مالك في "المدونة": إن استحلفه ولا علم له بالبينة ثم علم بها قضي له بها، وإن استحلفه ورضي بيمينه تاركًا للبينة وهي حاضرة أو غائبة، فلا حق له إذا شهدت له، قاله مطرف وابن الماجشون
(3)
، وقال ابن أبي ليلى: لا تقبل بينته بعد استحلاف المدعى عليه
(4)
. وبه قال أبو عبيد وأهل الظاهر، وذكر أبو عبيد في كتاب "القضاء" قول شريح السالف، ثم ذكر من طريق منقطعة عنه أنه أجاز الشهادة بعد الجحود، أو قال: بعد الشهود.
قال عبد الرحمن: -يعني: ابن مهدي- فسره سفيان أنه الرجل يدعى عليه المال فيجحد ويحلف فيقيم الطالب البينة عليه بحقه، ثم يقيم المطلوب البينة بعد ذلك، يقتضي ذلك الحق منه، فأجاز شريح بينة المطلوب على الطالب. قال سفيان: وكان ابن أبي ليلى لا يجيز هذا ويرد الشهادة ويقول: قد أكذبهم حين أقاموا الشهادة بعد الجحود.
(1)
"المتواري" ص 311، وما بين المعكوفتين زيادة يقتضيها السياق من "المتواري".
(2)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 3/ 268.
(3)
انظر: "المدونة" 4/ 91، "النوادر والزيادات" 8/ 170.
(4)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 3/ 268.
قال أبو عبيد: وكان ابن عيينة يفسره على معنى الحديث الأول: البينة العادلة أحق من اليمين الفاجرة، وهو أشبه عندي بتأويل الحديث من القول الآخر.
فإن كان كما قال ابن عيينة فإنه حكم قد اختلف فيه أهل الحجاز والعراق، فقال مالك وأهل المدينة: لا يقيمها إلا أن يعلمها ثم عَلَّمَها.
وهو قول ابن أبي ليلى، فأما غيره من أهل العراق فيقبلون البينة، ويتبعون فيه قول شريح الذي ذكرناه، وحكي عن مالك أيضًا.
وهذا قول عندي محمول على غير تأويله؛ لأن شريحًا لم يقل: أحق من اليمين فقط، إنما قيد الفاجرة خاصة، وليس في إقامة البينة بعد اليمين دليل فجورها؛ لأن الحق قد يكون للرجل على صاحبه بالبينة ثم يخرج إليه منه، وهم غيب عنه لا يشعرون بذلك، فيكونون إذا أقاموها قد شهدوا بحق فيكون المطلوب حالفًا على حق، وليس يعلم فجور اليمين إلا أن تقوم بينة على إقرار المطلوب بذلك الحق بعينه وإكذابه به تفسير بعد أن حلف بها، فالآن حين صح فجورها وجازت عليه الشهادة، وإياه أراد شريح فيما نرى بالمقالة السالفة، فالأمر عندي على هذا أنه لا بينة بعد اليمين ثم برهن له.
ثم إنهم جعلوا إباء اليمين إقرارًا، ولم يجعلوا أداءها براءة، وما أعلم ذا القول إلا حجة لمن ذهب إلى أن النكول لا يثبت حقًّا، وهو قول شنيع وينبغي أن يخبره في ذلك بين الصبر إلى حضورها أو يحلفه حالًا ولا يقبلها بعد، فيكون هو المختار لنفسه.
وأما الذي فسره ابن عيينة عن شريح، وخلاف ابن أبي ليلى إياه، فإنا نأخذ بهما معًا، وبه يأخذ أهل العراق.
وروى ابن أبي ليلى عن الحكم، عن حنش أن عليًّا كان يرى الحلف مع البينة
(1)
. قال البيهقي: وكذا رواه ابن أبي ليلى
(2)
.
وقد روينا من وجه آخر عن حنش، عن علي أنه إنما رآه عند تعارض البينتين. وروى سعيد بن منصور، عن ابن سيرين وأبي مالك الأشجعي أن شريحًا استحلف بعد قيام البينة. وعن عبد الله بن عتبة مثل ذلك
(3)
.
واحتج لابن أبي ليلى بأن الشارع لما حكم بالبينة على المدعي واليمين على المنكر، كان المدعي لا يستحق المال بدعواه، والمنكر لا يبرأ من حق المدعي بجحوده، فإذا أقام المدعي البينة أخذ المال، وإذا حلف المدعى عليه برئ فلا سبيل إليه.
واحتج الأولون بقوله صلى الله عليه وسلم: "فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ من حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ". فدل أن يمين المدعى عليه لا تسقط الحق، وقطعه لا يوجب له ملكه فهو كقاطع الطريق لا يملك ما قطعه؛ ألا ترى أنه عليه السلام قد نهاه عن أخذه بقوله:"فَلَا يَأْخُذْه".
وذكر ابن حبيب عن عمر أنه تخاصم إليه يهودي ورجل من المسلمين. فقال عمر: بينتك؟ فقال: ما يحضرني اليوم فأحلف عمر المدعى عليه، ثم أتى اليهودي بعد ذلك بالبينة فقضى له عمر ببينته وقال: البينة العادلة خير من اليمين الفاجرة
(4)
.
وعن ابن الماجشون: القضاء بها وإن كان عالمًا بها على قول عمر.
(1)
رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" 4/ 552 (23050).
(2)
"السنن الكبرى" 40/ 261.
(3)
رواه ابن أبي شيبة 4/ 552 (23054).
(4)
ذكره ابن أبي زيد في "النوادر والزيادات" 8/ 169 وعزاه لكتاب ابن سحنون من رواية ابن وهب.
وقد اختلف عن مالك إذا أقام الطالب شاهدًا واحدا، وأبى أن يحلف معه فحلف المطلوب، ثم وجد الطالب شاهدا آخر، هل نضيفه إلى الشاهد الأول أم لا؟ ففي إضافته إلى الأول قولان عن مالك والمنع قول ابن القاسم
(1)
.
وقال ابن التين: قول طاوس ومن بعده يحتمل أن يكون ممن لم يعلم ببينته، وقد اختلف قول مالك إذا كان عالمًا بها قادرًا عليها، فحلفه، تم أراد إقامتها.
وبالمنع قال ابن القاسم وصاحب "التلقين"، وبالجواز قال ابن وهب وأشهب.
ومعنى: ألحن -في الحديث-: أفطن، واللحن محرك: الفطنة، يقال: لحن -بكسر الحاء- إذا فطن
(2)
. وقيل: أنطق، وبسكونها إزالة الإعراب عن جهته.
وقوله: ("فإنما أقطع له قطعة من النار") دال أن حكم الحاكم لا يُحِلُّ حرامًا ولا يُحَرِّمُ حلالًا، كما سلف. وسواء فيه المال وغيره من الحقوق، وقد اتفق العلماء على تحريم ذلك في الأموال، وقال أبو حنيفة: حكمه في الطلاق والنكاح والنسب يحتمل الأمور عما هي عليه في الباب بخلاف الأموال
(3)
.
وفيه: أن القاضي يحكم بعلمه، وهو مذهب عبد الملك وسحنون
(4)
، والشافعي يقول: يحكم به إلا في الحدود
(5)
.
(1)
انظر: "النوادر والزيادات" 8/ 417.
(2)
انظر: "لسان العرب" 13/ 382، مادة:(لحن).
(3)
انظر: "مختصر الطحاوي" ص 350.
(4)
انظر: "المنتقى" 5/ 186.
(5)
"الأم" 6/ 223.
وقال أبو حنيفة: يحكم بعلمه فيما علمه بعد القضاء من حقوق الآدميين، ولا يحكم فيما علمه قبله
(1)
.
وقال مالك: لا يحكم بعلمه مطلقًا
(2)
.
وتبويب البخاري بمن أقام البينة بعد اليمين، يدل أن هذا الحكم إنما يكون مع يمين المدعي، بإقامة البينة بعده يبطل الحكم الظاهر.
قال ابن التين: وقد وقع لبعض أصحابنا مراعاة حكم الحاكم، فقال: لو أقر الولد بولد آخر فلم يدفع إليه شيئًا؛ حتى أقر بثانٍ لزمه للأول نصف ما بيده، وإن دفعه إليه بحكم لم يضمن الثاني شيئًا، ودفع إليه ثلث ما بيده وهو سدس الجميع. وإن دفع إليه بغير حكم غرم للثاني تمام حقه، وهو ثلث جميع المال، والمذهب أنه إن كان عالمًا بالباقي ضمن له ما أتلف عليه، وإلا لم يضمن له ودفع له ثلث ما بيده
(3)
.
وقال أشهب: يضمن له، سواء علم أو لم يعلم، دفع بحكم أم لا.
(1)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 3/ 369.
(2)
انظر: "المنتقى" 5/ 185 - 186.
(3)
انظر: "عقد الجواهر الثمينة" 2/ 849.
28 - باب مَنْ أَمَرَ بِإِنْجَازِ الوَعْدِ
وَفَعَلَهُ الحَسَنُ، وَذَكَرَ إِسْمَاعِيلَ:{إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوَعْدِ} [مريم: 54]. وَقَضَى ابْنُ الأَشْوَعِ يعني: سعيد بن عمرو بن الأشوع- بالوَعد، وَذَكَرَ ذَلِكَ عَنْ سَمُرَةَ. وَقَالَ المِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَذَكَرَ صِهْرًا لَهُ فقَالَ:"وَعَدَنِي فَوَفَى لِي". [انظر: 3110]. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: وَرَأَيْتُ إِسْحَاقَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ يَحْتَجُّ بِحَدِيثِ ابْنِ أَشْوَعَ.
2681 -
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَخْبَرَهُ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سُفْيَانَ، أَنَّ هِرَقْلَ قَالَ: سَأَلْتُكَ: مَاذَا يَأْمُرُكُمْ؟ فَزَعَمْتَ أَنَّهُ أَمَرَكُمْ بِالصَّلَاةِ، وَالصِّدْقِ، وَالعَفَافِ، وَالوَفَاءِ بِالعَهْدِ، وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ. قَالَ: وَهَذِهِ صِفَةُ نَبِىٍّ. [انظر: 7 - مسلم: 1773 - فتح: 15/ 289]
2682 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِي سُهَيْلٍ نَافِعِ بْنِ مَالِكِ بْنِ أَبِي عَامِرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"آيَةُ المُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخَلَفَ". [انظر: 33 - مسلم: 59 - فتح: 5/ 289]
2683 -
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا هِشَامٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهم قَالَ: لَمَّا مَاتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم جَاءَ أَبَا بَكْرٍ مَالٌ مِنْ قِبَلِ العَلَاءِ بْنِ الحَضْرَمِيِّ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم دَيْنٌ، أَوْ كَانَتْ لَهُ قِبَلَهُ عِدَةٌ، فَلْيَأْتِنَا. قَالَ جَابِرٌ: فَقُلْتُ: وَعَدَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُعْطِيَنِي هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا، فَبَسَطَ يَدَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، قَالَ جَابِرٌ: فَعَدَّ فِي يَدِي خَمْسَمِائَةٍ، ثُمَّ خَمْسَمِائَةٍ، ثُمَّ خَمْسَمِائَةٍ. [انظر: 2296 - مسلم: 2314 - فتح: 5/ 289]
2684 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ، أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ شُجَاعٍ، عَنْ سَالِمٍ الأَفْطَسِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: سَأَلَنِي يَهُودِيٌّ مِنْ أَهْلِ الحِيرَةِ: أَيَّ الأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى؟ قُلْتُ: لَا أَدْرِي حَتَّى أَقْدَمَ عَلَى حَبْرِ العَرَبِ فَأَسْأَلَهُ، فَقَدِمْتُ فَسَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: قَضَى أَكْثَرَهُمَا وَأَطْيَبَهُمَا، إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَالَ فَعَلَ. [فتح: 5/ 289]
وهذا يأتي في الخمس، في فضل الأنصار مسندًا من حديث علي بن حسين عنه.
ثم ذكر أحاديث سلفت: حديث هرقل والوفاء بالعهد.
وحديث أبي هريرة: "آيَةُ المُنَافِقِ: وَإِذَا وَعَدَ أَخَلَفَ".
وحديث جابر في وفاء الصديق عدة رسول الله صلى الله عليه وسلم من مال البحرين.
ثم ذكر فيه حديث سعيد بن جبير قال: سَأَلَنِي يَهُودِيٌّ مِنْ أَهْلِ الحِيرَةِ: أَيَّ الأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى؟ قُلْتُ: لَا أَدْرِي حَتَّى أَقْدَمَ على حَبْرِ العَرَب فَأَسْأَلَهُ، فَقَدِمْتُ فَسَأَلْتُ ابن عَبَّاسٍ، فَقَالَ: قَضَى أَكْثَرَهُمَا وَأَطْيَبَهُمَا، إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَالَ فَعَلَ.
وقد أسلفنا الكلام في العدة في أثناء الهبة في باب: إذا وهب هبة أو وعد ثم مات قبل أن تصل إليه. قال المهلب وغيره: إنجاز الوعد مندوب إليه مأمور به وليس بواجب فرضًا، والدليل على ذلك اتفاق الجميع على أن من وعد بشيء لم يضارب به مع الغرماء، ولا خلاف أن ذلك مستحسن، وقد أثنى الله تعالى على من صدق وعده، وَوَفّى بنذره، وذلك من مكارم الأخلاق، ولما كان الشارع أولى الناس بها وأبدرهم إليها أدى ذلك عنه خليفته الصديق وقام فيه مقامه، ولم يسأل جابرًا البينة على ما ادعاه على رسول الله صلى الله عليه وسلم من العدة؛ لأنه
لم يكن شيئًا ادعاه جابر في ذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما ادعى شيئًا في بيت المال والفيء، وذلك موكول إلى اجتهاد الإمام.
وفيه: جواز هبة المجهول، وهو مشهور مذهب مالك
(1)
.
وابن أشوع (خ. م. ت) هو سعيد بن عمرو بن أشوع -كما قدمناه- الهمداني الكوفي قاضيها مات في ولاية خالد بن عبد الله القسري علي العراق، وكانت ولايته سنة خمس ومائة إلى أن عزل عنها في
سنة عشرين ومائة
(2)
.
والحيرة في حديث سعيد بن جبير بكسر الحاء وسكون الياء.
وحبر العرب هنا يريد به ابن عباس، وهو بالفتح، وهو ما اقتصر عليه ثعلب. وقيل: بالكسر، وأنكره أبو الهيثم. وقال القتبي: لست أدري لِمَ اختار أبو عبيد الكسر، قال: والقائل على أنه بالفتح قولهم: كعب الأحبار
(3)
. أي: عالم العلماء. واحتج بعضهم للكسر بأن جمعه أحبار على وزن أفعال إلا في أحرف معدودة ليس هذا منها، مثل نصر وأنصار وفرخ وأفراخ.
قال صاحب "العين": وهو العالم من علماء الديانة، مسلمًا كان أو ذميًّا، بعد أن يكون كتابيًّا
(4)
. والجمع: أحبار.
وذكر المطرز عن ثعلب أنه يقال للعالم بالوجهين، وقال المبرد في "اشتقاقه" عن (التوزي الفراء)
(5)
: لم سمي المداد حبرًا؟ قال: يقال
(1)
انظر: "بداية المجتهد" 4/ 1536.
(2)
انظر ترجمته في "طبقات ابن سعد" 6/ 327، "تهذيب الكمال" 11/ 15 - 17.
(3)
"غريب الحديث" 1/ 60.
(4)
"العين" 3/ 218.
(5)
كذا في الأصل، وصوابه: عن الفراء.
للعالم: حبر بالفتح والكسر، وإنما أرادوا مداد حبر، فحذفوا مدادًا وجعلوا مكانه حبرًا، مثل {وَاسْأَلِ القَرْيَةَ} ووهاه الأصمعي، وإنما هو لتأثيره، وبه صرح في "الواعي".
قال المبرد: وأنا أحسب أنه سمي؛ لأنه يحبر به الكتب أي: يحسن.
واختلف فيمن سمى ابن عباس حبرًا، فذكر أبو نعيم الحافظ أنه انتهى يومًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعنده جبريل فقال:"إنَّهُ كائنٌ حبر هذه الأمّةِ، فاستَوْصِ بِهِ خَيْرًا"
(1)
وقال ابن دريد في "منثوره" أن عبد الله بن سعد بن أبي سرح لما أرسل ابن عباس رسولًا إلى جرجير ملك الغرب فتكلم معه فقال جرجير: ما ينبغي إلا أن تكون حبر العرب، فسمي عبد الله من يومئذٍ الحبر
(2)
.
وقوله: (قضى أكثرهما وأطيبهما). قال ابن التين: هذا لا يكون إلا بوحي، وقد روي أنه عليه السلام سأل جبريل فأعلمه أنه قضى أتمهما.
فائدة: أسلفناها في أول الكتاب في الإيمان، ونعيدها هنا لبعده.
المنافق هو الذي يضمر خلاف ما يعلن، ويظهر الإيمان ويضمر الكفر، مأخوذ من النافقاء إحدى جحري اليربوع
(3)
، قيل: لها بابان، يسمى أحدهما القاصعاء والآخر النافقاء، فإذا أخذ عليه أحدهما خرج من الآخر، فإذا أخذ عليه الكفر خرج إلى الإيمان منه، وقيل: إنه يخرق في الأرض؛ حتى إذا كان يبلغ ظاهرها نفق التراب، فإذا رابه ريب دفع ذلك التراب برأسه، فخرج ظاهر جحره تراب كالأرض وباطنه حفر.
(1)
"الحلية" 1/ 316.
(2)
رواه الزبير بن بكار في "الموفقيات" ص 116.
(3)
"المجمل" 2/ 877.
وقيل: سمي بذلك؛ لأنه يستر كفره، فشبه بمن يدخل النفق وهو السرب يسير فيه، ذكر هذِه الأقوال الثلاثة ابن الأنباري.
وقوله: "إذا وعد أخلف" يقال: وعد وعدًا وأخلف وعدنا خلافًا إذا لم يف.
29 - باب لَا يُسْأَلُ أَهْلُ الشِّرْكِ عَنِ الشَّهَادَةِ وَغَيْرِهَا
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ أَهْلِ المِلَلِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ} [المائدة: 14]. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "لَا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الكِتَابِ، وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ، وَقُولُوا:{آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ} الآيَةَ [البقرة: 136].
2685 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: يَا مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ، كَيْفَ تَسْأَلُونَ أَهْلَ الكِتَابِ، وَكِتَابُكُمُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم أَحْدَثُ الأَخْبَارِ بِاللهِ، تَقْرَءُونَهُ لَمْ يُشَبْ؟! وَقَدْ حَدَّثَكُمُ اللهُ أَنَّ أَهْلَ الكِتَابِ بَدَّلُوا مَا كَتَبَ اللهُ وَغَيَّرُوا بِأَيْدِيهِمُ الكِتَابَ، فَقَالُوا:{هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} [البقرة: 79] أَفَلَا يَنْهَاكُمْ مَا جَاءَكُمْ مِنَ العِلْمِ عَنْ مُسَايَلَتِهِمْ، وَلَا وَاللهِ مَا رَأَيْنَا مِنْهُمْ رَجُلًا قَطُّ يَسْأَلُكُمْ عَنِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ. [7363، 7522، 7523 - فتح: 5/ 291]
ثم ساق عن ابن عباس قَالَ: يَا مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ، كَيْفَ تَسْأَلُونَ أَهْلَ الكِتَابِ، وَكِتَابُكُمُ الذِي أُنْزِلَ عَلَى نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم أَحْدَثُ الأَخْبَارِ باللهِ .. الحديث.
الشرح:
التعليق الأول رواه ابن أبي شيبة، عن وكيع، ثنا سفيان، عن داود، عنه قال: لا تجوز شهادة ملة على ملة إلا المسلمين.
وحدثنا حفص، عن أشهب، عن الحكم وحماد، عن إبراهيم والشعبي والحسن أنهم قالوا: لا تجوز شهادة أهل ملة إلا على أهل ملتها: اليهودي على اليهودي، والنصراني على النصراني.
وحكاه أيضًا عن الزهري وحماد والضحاك والحكم وابن أبي ليلى وعطاء وأبي سلمة، زاد: إلا المسلمين
(1)
.
وعن إبراهيم وشريح: تجوز شهادة أهل الكتاب بعضهم على بعض للمسلمين
(2)
.
وممن أجاز شهادة أهل الشرك بعضهم على بعض شريح وعمر بن عبد العزيز والشعبي ونافع وحماد وسفيان ووكيع، وبه قال أبو حنيفة والثوري قالوا: والكفر كله ملة واحدة. وخالفه الثلاثة وأبو ثور
(3)
، واحتجاج الشعبي بالآية قال الربيع بن أنس: يعني به النصارى خاصة؛ لأنهم افترقوا، فمنهم النسطورية واليعقوبية والملكية، وقال ابن أبي نحيح: يعني به اليهود والنصارى.
ومعنى: (أغرينا) ألصقنا، ومنه الغر الذي يغرى به.
وظاهر كلام الشعبي أن شهادته جائزة على ملته وعلى سائر أنواع الكفر.
دليل الجمهور قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] ولا يخلو أن يكون على هذِه النسبة إلى الدين أو إلى الحرية أو النسب وأي ذلك كان، فالكافر لا مدخل له فيه، والنسب لغير معتبر بالاتفاق ولأن فسق المسلم دون ذلك ولا تقبل شهادته، فالكافر أولى، ولأنهم كذبة على الرب جل جلاله وعلى كتابه، وأي كذب أعظم منه؟!
(1)
انظر كل هذِه الآثار في ابن أبي شيبة 4/ 533 - 534.
(2)
عن إبراهيم: ابن أبي شيبة في "المصنف" 4/ 534 (22875)، وعن شريح: عبد الرزاق في "المصنف" 8/ 358 (15531).
(3)
انظر المسألة في: "مختصر اختلاف العلماء" 3/ 340 - 341، "عيون المجالس" 4/ 1551 - 1552، "اختلاف الفقهاء" ص 560 - 561.
وفيه قول ثالث: أنه تجوز شهادة أهل كل ملة بعضهم عن بعض، ولا تجوز على ملة غيرها، وهو قول ابن أبي ليلى والحكم وعطاء والليث وإسحاق
(1)
، وللعداوة التي بينهم، كما سلف في الآية، وقد قام الإجماع على منع شهادة العدو على عدوه، كما نقله ابن شعبان؛ لأنها تزيل العدالة، فكيف بعداوة كافر.
وحجة الكوفي حديث مالك عن نافع عن ابن عمر أن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل منهم وامرأة زنيا، فأمر صلى الله عليه وسلم برجمهما، وجوابه: أنه رجمهما باعترافهما لا بالشهادة كيف وأنهم يقولون شرط الرجم الإسلام.
وروي عن شريح والنخعي: تجوز شهادتهم على المسلم في الوصية في السفر؛ للضرورة
(2)
، وبه قال الأوزاعي
(3)
، وقال ابن عباس في تأويل قوله:{أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} من غير المسلمين، وعورض بقول الحسن: من غير قومكم من أهل الملة
(4)
.
ثم الآية منسوخة، وقد قال تعالى:{مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] وقال: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2].
وحديث الباب حجة للمانع، وهو قوله:"ولا تصدقوا أهل الكتاب".
ومعنى: "لا تكذبوهم": يعني: فيما ادعوه من الكتاب ومن أخبارهم مما يمكن أن يكون صدقًا أو كذبًا؛ لإخبار الله عنهم أنهم بدلوا الكتاب {لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} [البقرة: 79] ومن كذب على الله فهو أحرى
(1)
انظر: "مصنف ابن أبي شيبة" 4/ 533 - 534.
(2)
رواهما ابن أبي شيبة 4/ 495 (22439، 22442).
(3)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 3/ 339.
(4)
رواهما ابن أبي حاتم في "تفسيره" 4/ 1229 - 1230.
بالكذب في سائر حديثه، وسأل محمدَ بنَ وضاح بعضُ علماء النصارى. فقال: ما بال كتابكم معشر المسلمين لا زيادة فيه ولا نقصان وكتابنا بخلاف ذلك؟ فقال: لأن الله وكل حفظ كتابكم إليكم فقال: {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللهِ} [المائدة: 44] فما وكله إلى مخلوق دخله الخرم والنقصان. وقال في كتابنا: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} [الحجر: 9]، فتولى الله حفظه، فلا سبيل إلى الزيادة فيه ولا إلى النقصان منه
(1)
.
(1)
في هامش الأصل: وقد روينا معنى ذلك من قول سفيان في حكايته طويلة.
وورد أيضًا في هامش الأصل أيضًا: ثم بلغ في الثاني بعد الثمانين، كتبه مؤلفه.
وورد أيضًا: آخر 9 من 8 من تجزئة المصنف.
30 - باب القُرْعَةِ فِي المُشْكِلَاتِ
وَقَوْلِهِ: {إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} [آل عمران: 44]. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اقْتَرَعُوا فَجَرَتِ الأَقْلَامُ مَعَ الجِرْيَةِ، وَعَالَى قَلَمُ زَكَرِيَّاءَ الجِرْيَةَ، فَكَفَلَهَا زَكَرِيَّاءُ. وَقَوْلِهِ:{فَسَاهَمَ} [الصافات: 141]: أَقْرَعَ. {فَكَانَ مِنَ المُدْحَضِينَ} [الصافات: 141] مِنَ المَسْهُومِينَ. [انظر:2674].
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: عَرَضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى قَوْمٍ اليَمِينَ، فَأَسْرَعُوا، فَأَمَرَ أَنْ يُسْهِمَ بَيْنَهُمْ أَيُّهُمْ يَحْلِفُ.
2686 -
حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ: حَدَّثَنِي الشَّعْبِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ رضي الله عنهما يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ المُدْهِنِ فِي حُدُودِ اللهِ وَالوَاقِعِ فِيهَا مَثَلُ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا سَفِينَةً، فَصَارَ بَعْضُهُمْ فِي أَسْفَلِهَا وَصَارَ بَعْضُهُمْ فِي أَعْلَاهَا، فَكَانَ الَّذِي فِي أَسْفَلِهَا يَمُرُّونَ بِالمَاءِ عَلَى الَّذِينَ فِي أَعْلَاهَا، فَتَأَذَّوْا بِهِ، فَأَخَذَ فَأْسًا، فَجَعَلَ يَنْقُرُ أَسْفَلَ السَّفِينَةِ، فَأَتَوْهُ فَقَالُوا: مَا لَكَ؟ قَالَ: تَأَذَّيْتُمْ بِي، وَلَا بُدَّ لِي مِنَ المَاءِ، فَإِنْ أَخَذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَنْجَوْهُ وَنَجَّوْا أَنْفُسَهُمْ، وَإِنْ تَرَكُوهُ أَهْلَكُوهُ وَأَهْلَكُوا أَنْفُسَهُمْ". [انظر: 2493 - فتح: 5/ 292]
2687 -
حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي خَارِجَةُ بْنُ زَيْدٍ الأَنْصَارِيُّ أَنَّ أُمَّ العَلَاءِ -امْرَأَةً مِنْ نِسَائِهِمْ قَدْ بَايَعَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَتْهُ- أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ طَارَ لَهُ سَهْمُهُ فِي السُّكْنَى حِينَ أَقْرَعَتِ الأَنْصَارُ سُكْنَى المُهَاجِرِينَ. قَالَتْ أُمُّ العَلَاءِ: فَسَكَنَ عِنْدَنَا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ، فَاشْتَكَى، فَمَرَّضْنَاهُ، حَتَّى إِذَا تُوُفِّىَ وَجَعَلْنَاهُ فِي ثِيَابِهِ دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ، فَشَهَادَتِي عَلَيْكَ لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللهُ. فَقَالَ لِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللهَ أَكْرَمَهُ؟ ". فَقُلْتُ: لَا أَدْرِى بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَمَّا عُثْمَانُ فَقَدْ
جَاءَهُ -والله- اليَقِينُ وَإِنِّي لأَرْجُو لَهُ الخَيْرَ، والله مَا أَدْرِي وَأَنَا رَسُولُ اللهِ مَا يُفْعَلُ بِهِ". قَالَتْ: فَوَاللهِ لَا أُزَكِّي أَحَدًا بَعْدَة أَبَدًا، وَأَحْزَنَنِي ذَلِكَ. قَالَتْ: فَنِمْتُ فَأريتُ لِعُثْمَانَ عَيْنًا تَجْرِي، فَجِئْت إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْتة، فَقَالَ:"ذَلِكَ عَمَلُهُ". [انظر: 1243 - فتح: 5/ 293]
2688 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ، فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ، وَكَانَ يَقْسِمُ لِكُلِّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ يَوْمَهَا وَلَيْلَتَهَا، غَيْرَ أَنَّ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ وَهَبَتْ يَوْمَهَا وَلَيْلَتَهَا لِعَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، تَبْتَغِي بِذَلِكَ رِضَا رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. [انظر: 2593 - مسلم: 1463 - فتح: 5/ 293]
2689 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ سُمَيٍّ -مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ- عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الأَوَّلِ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لَاسْتَهَمُوا، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لَاسْتَبَقُوا إِلَيْهِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي العَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا". 3/ 239 [انظر: 615 - مسلم: 437 - فتح: 5/ 293]
وقد سلف قريبًا مسندًا.
ثم ذكر أحاديث كلها سلفت: حديث النعمان "مَثَلُ المُدْهِنِ فِي حُدُودِ اللهِ ..
(1)
.
وحديث "وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللهَ أَكرَمَهُ؟ ". لأجلِ قولِها: إِنَّ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ طَارَ لَهُ سَهْمُهُ فِي السُّكْنَى حِينَ أَقْرَعَتِ الأَنْصَارُ سُكْنَى المُهَاجِرِينَ.
(2)
.
(1)
سلف برقم (2493) كتاب: الشركة، باب: هل يقرع في القسمة.
(2)
سلف برقم (1243) كتاب: الجنائز، باب: الدخول على الميت ..
وحديث عائشة في القُرْعَةِ عِنْدَ السَّفَرِ
(1)
.
وحديث أبي هريرة فِي النِّدَاءِ وَالصفِّ الأَوَّلِ "ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لَاسْتَهَمُوا .. "
(2)
.
وقد سلف الكلام على القُرعة قريبًا في حديث الإفك وفي الشركة قبله.
والقُرْعةُ في المشكلات سنة عند جمهور الفقهاء في المستوين في الحجة؛ ليعدل بينهم وتطمئن قلوبهم، وترتفع الظنة عمن تولى قسمتهم، ولا يفضل أحد منه على صاحبه إذا كان المقسوم من جنس واحد؛ اتباعًا للكتاب والسنة، وقد أسلفنا قريبًا أنه عمل بها ثلاثة من الأنبياء: يونس وزكريا ونبينا.
واستعمالها كالإجماع من أهل العلم، فيما يقسم بين الشركاء، فلا معنى لقول من ردها ورد الآثار المتواترة بالعمل بها. قال الشافعي: ولا يعدو (المقترعون)
(3)
على مريم أن يكونوا تنافسوا كفالتها، فكان أرفق بها وأعطف عليها وأعلم بما فيه مصلحتها أن تكون عند كافل واحد، ثم يكفلها آخر مقدار تلك المدة، أو تكون عند كافل ويغرم من بقي مؤنتها بالحصص، وهم بأن يكونوا تشاحوا كفالتها أشبه من أن يكونوا تدافعوها؛ لأنها كانت ضعيفة غير ممتنعة مما يمتنع منه من عقل ستره ومصالحه، فإن تكفلها واحد من الجماعة أستر عليها وأكرم لها، وأي المعنيين كان فالقرعة تلزم أحدهم ما يدفع عن نفسه، أو تخلص له ما يرغب فيه.
(1)
سلف برقم (2593) كتاب: الهبة، باب: هبة المرأة لغير زوجها وعتقها.
(2)
سلف برقم (615) كتاب: الأذان، باب: الاستهام في الأذان.
(3)
في الأصل: المقرعين والصواب ما أثبتناه كما في "الأم".
وهكذا معنى قرعة يونس وقعت بهم السفينة فقالوا: ما عليها إلا مذنب فقارعوا فوقعت القرعة عليه فأخرجوه منها
(1)
.
وذكر أهل التفسير أنه قيل له: إن قومك يأتيهم العذاب يوم كذا، فخرج ذلك اليوم، ففقده قومه فخرجوا فأتاهم العذاب ثم صرف عنهم، فلما لم يصبهم العذاب ذهب مغاضبًا، فركب البحر في سفينة مع ناس، فلما تحججوا أركدت السفينة فلم تسر، فقالوا: إن فيكم لشرًّا. فقال يونس: أنا صاحبكم فألقوني، قالوا: لا، حتى نضرب بالسهام فطار عليه السهم مرتين فألقوه في البحر فالتقمه الحوت، فأوحى الله إلى الحوت أن يلتقمه ولا يكسر له عظمًا
(2)
.
قال الشافعي: وكذلك كان إقراعه صلى الله عليه وسلم في العدل بين نسائه حين أراد السفر، ولم يمكنه الخروج بهن كلهن، فأقرع بينهن؛ ليعدل بينهن ولا يخص بعضهن بالسفر، ويكل ذلك إلى الله ويخرج ذلك من اختياره، فأخرج من خرج سهمها وسقط حق غيرها بعد. فإذا رجع عاد للقسمة بينهن ولم يقسم أيام سفره.
وكذلك قسم خيبر وكان أربعة أخماسها لمن حضر فأقرع على كل حر، فمن خرج من سهمه أخذه وانقطع منه حق غيره
(3)
.
تنبيهات: تنعطف على ما مضى:
أحدها: قال قتادة -فيما حكاه ابن جرير-: كانت مريم ابنة إمامهم وسيدهم فتشاح عليها بنو إسرائيل، فاقترعوا فيها بسهامهم أيهم يكفلها؛
(1)
انظر: "الأم" 7/ 336 بتصرف.
(2)
"تفسير الطبري" 9/ 73 (24751)، 10/ 526 (29589: 29591).
(3)
"الأم" 7/ 337.
فقرعهم زكريا، وكان زوج أختها فضمها إليه. وقال ابن عباس: لما وضعت مريم في المسجد اقترع عليها أهل المصلى وهم يكتبون الوحي
(1)
، وقال مقاتل في "تفسيره": لما ولدت حنة مريم خشيت ألا تقبل الأنثى محررة فلفتها في خرقة ووضعتها في بيت المقدس عند المحراب حيث يتدارسون القراءة، فقال زكريا -وهو رئيس الأحبار-: أنا آخذها، أنا أحق بها؛ لأن أختها عندي. فقالت القراء: لو تركت لأحق الناس بها لتركت لأمِّها، لكنها مُحررة، وهلمَّ نتَسَاهَم. فاقترعوا ثلاث مرات بأقلامهم التي كانوا يكتبون بها الوحي.
ثانيها: لما دَعَا يُونس بن مَتّى قومه أهل نَيْنَوى من بلاد الموصل على شاطئ دجلة للدخول في دينه أبطئوا عليه، فدعا عليهم ووعدهم العذاب بعد ثلاث، وخرج عنهم فرأى قومه دخانًا ومقدمة العذاب، فآمنوا به وصدقوه وتابوا إلى الله وردوا المظالم، حتى ردوا حجارة مغصوبة كانوا بنوا بها، وخرجوا طالبين يونس فلم يجدوه، فلم يزالوا كذلك حتى كشف الله عنهم العذاب، ثم إن يونس ركب سفينة فلم تجر؛ فقال أهلها: أفيكم آبق؟ فاقترعوا، فخرجت القرعة عليه فالتقمه الحوت. وقد أسلفناه.
وقد اختلف في مدة مُكثه في بطنه من يوم واحد إلى أربعين يومًا، وذكر مقاتل أنهم قارعوه ست مرات؛ خوفًا عليه من أن يقذف في البحر، وفي كلها تخرج عليه.
ونقل ابن التين أنَّ القُرْعةَ وقعت عليه ثلاث مرات، وأنها لما ركدت قالوا: فيها رجل مشئوم.
(1)
"تفسير الطبري" 3/ 266 - 267.
وقال ابن إسحاق في "المبتدأ": حدثني بعض أهل العلم أن يونس لما صح انطلق فلم يُرَ إلى هذا اليوم، فطلبه قومه حين آمنوا، ورفع عنهم العذاب فلم يقدروا عليه، إلا أن راعي غنم أخبرهم أنه أضافه فسقاه من لبن عنز، فقالوا: من رأى هذا منك ومنه؛ قال: ما رآه أحدٌ. فأذن الله للعنز فتكلمت وشهدت له بما قال، فملكوه عليهم؛ لرؤيته إياه.
فائدة:
في يونس ست لغات تثليث النون مع الهمز وعدمه، والأشهر ضم النون من غير همز.
ثالثها: قوله: (اقترعوا). قال ابن التين: صوابه: أقرعوا أو قارعوا؛ لأنه رباعي. والأقلام المذكورة في الآية: السهام، وسمي السهم قلمًا؛ لأنه يُقْلم أي: يُبْرى.
ومعنى: {أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} [آل عمران: 44] تجب له كفالتها.
والجرية: بكسر الجيم مصدر، تقول: جرى الماء يجري جرية وجريًا وجريانًا.
وقوله: (وعال قلم زكريا). أي: غلب الجري. وما فسره البخاري في المدحضين، هو قول مجاهد
(1)
. وقال ابن عيينة: من المقمورين
(2)
.
ويقال: أصل أدحضته: أزلفته.
فائدة:
معنى: طار لهم سهمه في قصة عثمان: حظه.
(1)
رواه الطبري 10/ 526 - 527 (29594).
(2)
ذكره أبو جعفر النحاس في "معاني القرآن" 6/ 57.
فائدة:
قوله في حديث أبي هريرة: "ولو يَعْلمونَ ما في العَتمة".
سلف الكلام عليه في بابه مع الجمع بينه وبين النهي عن تسميتها عتمة، وقد سماها الله العشاء، وروي:"مَنْ سمَّاها العتمة فليستغفر الله".