الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
96 - باب قِتَالِ الذِينَ يَنْتَعِلُونَ الشَّعَرَ
2929 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ الزُّهْرِيُّ: عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا قَوْمًا نِعَالُهُمُ الشَّعَرُ، وَلَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا قَوْمًا كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ المَجَانُّ الْمُطَرَقَةُ» . قَالَ سُفْيَانُ: وَزَادَ فِيهِ أَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رِوَايَةً «صِغَارَ الأَعْيُنِ، ذُلْفَ الأُنُوفِ، كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الْمَجَانُّ الْمُطْرَقَةُ» . [انظر: 2928 - مسلم: 2912 - فتح 6/ 104]
ذكر فيه حديث أبي هريرة المذكور: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا قَوْمًا نِعَالُهُمُ الشَّعَرُ، وَلَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا قَوْمًا كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ المَجَانُّ المُطْرَقَةُ". قَالَ سُفْيَانُ: وَزَادَ فِيهِ أَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رِوَايَةً:"صغَارَ الأَعْيُنِ، ذُلْفَ الأُنُوفِ، كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ المَجَانُّ المُطْرَقَةُ".
الشرح:
هذا التعليق أسنده البخاري في علامات النبوة
(1)
، وفي لفظ:"حَتَّى تقاتلوا خوزا وكرمان من الأعاجم" الحديث
(2)
. وعند الإسماعيلي قَالَ محمد بن عباد: بلغني أن أصحاب بابل كانت نعالهم الشعر.
وعند البكري في "أخبار الترك": "كأن أعينهم حدق الجراد يتخذون الدرق حَتَّى يربطوا خيولهم بالجبل" وفي لفظ: "حَتَّى (يقاتل المسلمون)
(3)
الترك يلبسون الشعر" ولابن ماجه من حديث أبي سعيد
(1)
سيأتي برقم (3587) كتاب: المناقب، باب: علامات النبوة.
(2)
سيأتي برقم (3590).
(3)
في (ص 1): تقاتلوا المسلمين.
الخدري يرفعه: "لا تقوم الساعة حَتَّى تقاتلوا قومًا صغار الأعين عراض الوجوه كأن أعينهم حدق الجراد كأن وجوههم المجان المطرقة ينتعلون الشعر (ويتخذون)
(1)
الدرق ويربطون خيولهم بالنخيل"
(2)
. ولأبي داود من حديث بريدة بإسناد جيد: "يقاتلكم قوم صغار الأعين -يعني: الترك- تسوقونهم ثلاث مرار حَتَّى تلحقوهم بجزيرة العرب، فأما في السياقة الأولى فينجو من هرب منهم، والثانية فينجو بعض ويهلك بعض، وأما في الثالثة فيصطلمون"
(3)
. وللبيهقي: "إن أمتي يسوقها قوم
عراض الوجوه كأن وجوههم الحجف ثلاث مرار، حَتَّى يلحقوهم بجزيرة العرب" قالوا: يا نبي الله، من هم؟ قَالَ:"الترك، والذي نفسي بيده ليربطن خيولهم إلى سواري مساجد المسلمين".
ولأبي داود الطيالسي عن حشرج بن نباتة، ثَنَا سعيد بن جمهان، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه، قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لينزلن طائفة من أمتي أرضًا يقال لها البصرة، فيجيء بنو قنطوراء، عراض الوجوه صغار الأعين، حَتَّى تنزلوا على جسر لهم" الحديث
(4)
، وذكر البكري من حديث سليمان بن الربيع العدوي، عن عبد الله بن عمرو قال:"يوشك بنو قنطوراء بن كركر أن يسوقوا أهل خراسان وأهل سجستان سوقًا عنيفًا .. " الحديث بطوله. قَالَ: فقدمنا على عمر بن
الخطاب فحَدثنَاه بما سمعنا من ابن عمرو، فقال ابن عمرو أعلم بما يقول.
(1)
في (ص 1): يتحدثون.
(2)
ابن ماجه (4099).
(3)
أبو داود (4305).
(4)
"مسند الطيالسي" 2/ 200 (911).
إذا تقرر ذَلِكَ فأشراط الساعة: علاماتها، واحدها: شرط.
و (المجان): الترس. وعبارة صاحب "المطالع": الترسة، واحدها: مجن، سميت بذلك لأنها تستر صاحبها، وهي بفتح الميم وتشديد النون جمع مجن بكسر الميم.
و (المطرقة) بإسكان الطاء المهملة وتخفيف الراء، وصوب بعضهم تشديد الراء، حكاه في "المطالع" عن بعضهم، وهي الترسة التي ألبست الأطرقة من الجلود وهي الأغشية منها، شبه عرض وجوههم وصلابتها وظهور وجناتهم بها. وقال الهروي: المطرقة: التي أطرقت بالعقب. أي: ألبست به. يقال: طارق النعل: إذا سير خصفًا على خصف. أي: ركب بعض على بعض، وقيل: هو أن (يقور جلده)
(1)
بمقداره ويلصق به كأنه ترس على ترس، حكاه في "المطالع".
و ("ذلف") بذال معجمة مضمومة أي: قصار، وهو الفطس وتأخر الأرنبة. وعبارة الخطابي: قصر الأنف وانبطاحه
(2)
. وقيل: غلظ واستواء الأرنبة. وقيل: تطامن فيها ورواه بعضهم بالدال المهملة، قَالَ صاحب "المطالع": وقيدناه عن التميمي بالوجهين، والمعجمة أكثر. وقال ابن التين: ذلف الأنوف: صغارها. وقيل: تشميرة عن الشفة إلى أصله، يقال منه: رجل أذلف وامرأة ذلفاء والعرب تقول أملح النساء الذلف.
وقال ابن فارس: الذلف: الاستواء في طرف الأنف، ليس بحد غليظ
(3)
. وقال في "المخصص": ويعتري الملاحة
(4)
.
(1)
كذا في الأصل.
(2)
"أعلام الحديث" 2/ 1405.
(3)
"مجمل اللغة" 1/ 360. مادة: (ذلف).
(4)
"المخصص" 1/ 117.
والأنوف: جمع أنف، مثل فلس وفلوس، ورواه القزاز: الآنف وقال: مثل بحر وأبحر. في "المخصص": هو جمع المنخر، وسمي أنفًا لتقدمه
(1)
، وجمع الأنف: آنف وآناف.
فائدة:
روى الترمذي من حديث الصديق: "إن الدجال يخرج من أرض بالمشرق يقال لها: خراسان يتبعه أقوام كأن وجوههم (المجان)
(2)
المطرقة"، ثم قَالَ: حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث أبي التياح
(3)
.
أخرى:
قَالَ الخطابي: بنو قنطوراء هم الترك يقال: إن قنطوراء اسم جارية كانت لإبراهيم ولدت أولادًا جاء من نسلهم الترك
(4)
. وقال كراع: الترك هم الذين يقال لهم الديلم.
وقال ابن عبد البر في كتاب "القصد والأمم": الترك فيما ذكروا هم ولد يافث، وهم أجناس كثيرة، ومنهم أصحاب مدن وحصون، ومنهم قوم في رءوس الجبال والبراري، ليس لهم عمل غير الصيد، ومن لم يصد فَصدَ ودج دابته وشوى الدم في مصران يأكله، وهم يأكلون الرخم والغربان، وليس لهم دين، ومنهم من يدين بالمجوسية وهم الأكثرون، ومنهم من تهود، وملكهم يلبس الحرير وتاج الذهب ويحتجب كثيرًا، وفيهم سحر وقال وهب بن منبه: هم بنو عم يأجوج ومأجوج، وقد قيل: إن أصل الترك أو بعضهم من حمير، وقيل: إنهم
(1)
"المخصص" 1/ 119.
(2)
من (ص 1).
(3)
الترمذي (2237).
(4)
"معالم السنن" 4/ 320.
بقايا قوم تبع ومن هناك، كانوا يسمون أولادهم بأسماء العرب العاربة، فهؤلاء ومن كان مثلهم يزعمون أنهم من العرب، وألسنتهم أعجمية، وبلدانهم غير عربية دخلوا في بلاد العجم واستعجموا.
وقال ابن أبي الدمنة الهمداني في "إكليله": أكثرهم يقول: الترك من ولد أفريدون بن سام بن نوح، وسموا تركًا لأن عبد شمس بن يشجب لما وطئ أرض بابل أتى بقوم من أجابرة ولد يافث فاستنكر خلقهم ولم يحب أن يدخل في سبي بابل فقال: اتركوهم، فسموا الترك.
وقال صاعد في "طبقاته": الترك أمة كثيرة العدد فخمة المملكة، ومساكنهم ما بين مشارق خراسان من مملكة الإسلام وبين مغارب الصين وشمال الهند إلى أقصى المعمور في الشمال، وفضيلتهم التي برعوا فيها وأحرزوا خصالها الحروب ومعالجة آلاتها. قَالَ المسعودي في "مروجه": في الترك استرخاء في المفاصل واعوجاج في سيقانهم، ولينٌ في عظامهم، حَتَّى أن أحدهم ليرمي بالنشاب من خلفه كرميه من
قدام، فيصير قفاه كوجهه ووجهه قفاه، ومطاوعات فقار ظهورهم وحمرة وجوههم عند تكامل الحرارة في الوجوه على الأغلب من لونها وارتفاعها لغلبة البرد على أجسامهم.
وفي الحديث: علامة للنبوة وأنه سيبلغ ملك أمته غاية المشارق التي فيها هؤلاء القوم على ما ذكر في غير هذا الحديث، وكذلك خلقة وجوههم بالعيان عريضة وسائر ما وصفهم به صلى الله عليه وسلم كما وصفهم.
وفيه: التشبيه للشيء بغيره إذا كان فيه شبه منه من جهة ما، وإن خالفه في غير ذلك.
فائدة:
في كتاب "الفتن" لنعيم بن حماد: حَدَّثَنَا يحيى بن سعيد، عن ابن عياش، أخبرني من سمع مكحولاً، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ: "للترك خرجتان: خرجه منها خراب (أذربيجان)
(1)
، وخرجة يخرجون في الجزيرة يحتقبون ذوات الحجال، فينصر الله المسلمين، فيقع فيهم ذبح الله الأعظم لا يترك بعدها"
(2)
. وفي لفظ آخر: "آخر الخرجتين يخربون أذربيجان، والثانية يشرعون منها على ثني الفرات، فيرسل الله على جيشهم الموت يفني دوابهم فيرجلهم، فيكون ذبح الله الأعظم"
(3)
. ثم روى ابن عياش بإسناده إلى عبد الله بن عمرو: يوشك بنو قنطوراء يسوقون أهل خراسان وأهل سجستان سوقًا عنيفًا حَتَّى يربطوا دوابهم بنخل الأبلة فيبعثون إلى أهل البصرة: أن خلوا لنا أرضكم أو ننزل بكم. فيتفرقون على ثلاث فرق: فرقة تلحق بالعرب، وفرقة بالشام، وفرقة (تعددها)
(4)
، وأمارة ذَلِكَ إذا طبقت الأرض إمارة السفهاء
(5)
. وفي لفظ: الملاحم ثلاث مضت ثنتان وبقيت واحدة وهي ملحمة الترك بالجزيرة
(6)
، وسيأتي له تتمة في باب: علامات النبوة.
(1)
في الأصل: (أدرمهدب)، وفوقها (كذا)، والمثبت من كتاب "الفتن".
(2)
"الفتن (2/ 677)(1905).
(3)
"الفتن" 1/ 221 (616)، 2/ 683 (1925)، (1927) عن مكحول مرفوعًا.
(4)
كذا بالأصل، وفي "الفتن"(بعدوُّها).
(5)
"الفتن" 2/ 677 (1906).
(6)
"الفتن" 2/ 682 - 683 (1924) عن عبد الله بن عمرو موقوفًا.
97 - باب مَنْ صَفَّ أَصْحَابَهُ عِنْدَ الهَزِيمَةِ وَنَزَلَ عَنْ دَابَّتِهِ، وَاسْتَنْصَرَ
2930 -
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثنَا أَبُو إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ البَرَاءَ، وَسَألَهُ رَجُلُ: أَكُنْتُمْ فَرَرْتُمْ يَا أَبَا عُمَارَةَ يَوْمَ حُنَيْنٍ؟ قَالَ: لَا، والله مَا وَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَكِنَّهُ خَرَجَ شُبَّانُ أَصْحَابِهِ وَأَخِفَّاؤُهُمْ حُسَّرًا لَيْسَ بِسِلَاحٍ، فَأَتَوْا قَوْمًا رُمَاةً جَمْعَ هَوَازِنَ وَبَنِي نَصْرٍ، مَا يَكَادُ يَسْقُطُ لَهُمْ سَهْمٌ، فَرَشَقُوفمْ رَشْقًا مَا يَكَادُونَ يُخْطِئُونَ، فَأَقْبَلُوا هُنَالِكَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهْوَ عَلَى بَغْلَتِهِ البَيْضَاءِ، وَابْن عَمِّهِ أَبُو سُفْيَانَ بْن الحَارِثِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ يَقُودُ بِهِ، فَنَزَلَ وَاسْتَنْصَرَ ثُمَّ قَالَ:
"أَنَا النَّبِيُّ لَاكذِبْ
…
أَنَا ابن عَبْدِ المُطَّلِبْ"
ثمَّ صَفَّ أَصْحَابَهُ. [انظر: 2864 - مسلم: 1776 - فتح 6/ 105]
ذكر فيه حديث البراء السابق في باب: من قاد دابة غيره في الحرب.
وموضع الترجمة منه قوله: (وهو على بغلته البيضاء، وابن عمه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب يقول به. فنزل واستنصر) ونزوله عنها إنما كان ليثبت الرجالة الباقين معه وليتأسوا به في استواء الحال، فكذلك يجب على كل إمام إذا ولى أصحابه وبقي في قُل
(1)
منهم إن أخذ على نفسه بالشدة أن يفعل ما فعله سيدنا رسول الله من النزول، وإن لم يكن له منة
(2)
بأخذ الشدة، فليكن انهزامه بتحيز فئة مع فئة من قومه إلى فئة أخرى تروم تثبتهم.
وهذا الحديث يبين أن المنهزمين يوم حنين لم يكونوا جميع الصحابة، وأن بعضهم بقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غير منهزمين.
(1)
القُلُّ بضم القاف: القليل، قاله في "القاموس" ص 1049 مادة:(قلل).
(2)
ذكر في الهامش: المنة بضم الميم وتشديد النون: القوة
وفيه: البيان عما خص به نبينا من الشجاعة والنجدة، وذلك أن أصحابه انفتلوا فانهزموا من عدوهم حَتَّى ولوا عنهم مدبرين، كما وصجهم الله في كتابه:{ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة: 29] فكان أصحابه وهم زهاء عشرة آلاف أو أكثر مدبرين انهزامًا من المشركين، وهو صلى الله عليه وسلم في نفر من أهله قليلين متقدم للقاء العدو وقتالهم، جاد في المضي نحوهم غير مستأخر ولا مدبر، والعدو من العدد في مثل السيل والليل.
وأما انهزام من انهزم، وهو كبيرة، فقد أسلفنا الجواب عنه وأن المكروه هو الانهزام على نية ترك العود للقتال عند وجدان القوة، أما للكر والتحيز إلى فئة فلا، يدل عليه أن الله تعالى قَالَ:{ثُمَّ أَنْزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [التوبة: 26]، فلو كان على غير ذَلِكَ لكانوا استحقوا وعيده، وقد روى داود عن أبي نضرة عن أبي سعيد في قوله تعالى:{وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} [الأنفال: 16] قَالَ: كان ذَلِكَ يوم بدر ولم يكن لهم يومئذ أن يتجاوزوا الانحياز إلى المشركين، ولم يكن يومئذ مسلم على وجه الأرض غيرهم. وقال الضحاك: إنما كان الفرار يوم بدر ولم يكن لهم ملجأ يلجئون إليه، وأما اليوم فليسَ فرار
(1)
. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: قَالَ عمر بالمدينة: وأنا فئة كل مسلم
(2)
. وسئل الحسن البصري عن الفرار من الزحف، فقال: والله لو أن أهل سمرقند انحازوا إلينا لكنا فئتهم.
(1)
رواه الطبري في "تفسيره" 6/ 200.
(2)
رواه الطبري 6/ 201 (15828).
خاتمة: قول البراء: (ولكن خرج شبان أصحابه وأخفاؤهم حسرًا). أخفاؤهم: جمع خف يقَالَ: رجل خف، أي: خفيف، يُريد من لا سلاح معه يثقله وأداة الحرب ثقيلة، والحسر: جمع حاسر، وهو من لا سلاح معه، وقيل: هو من لا درع له، أو لا مغفر على رأسه. وقال ابن فارس: هو من لا درع معه ولا مغفر
(1)
.
وقوله: (فرشقوهم رشقًا) الرشق: الرمي، والرشق: الوجه من الرمي، وقال الداودي: معناه يرمي منهم الجميع سهامهم بمرة.
ومعنى (استنصر): دعا الله بالنصرة.
(1)
"مجمل اللغة" 1/ 234 مادة: (حسر).
98 - باب الدُّعَاءِ عَلَى المُشْرِكِينَ بِالْهَزِيمَةِ وَالزَّلْزَلَةِ
2931 -
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا عِيسَى، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَبِيدَةَ، عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: لَّمَا كَانَ يَوْمُ الأحزَابِ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَلأَ اللهُ بُيُوتَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا، شَغَلُونَا عَنِ الصَّلَاةِ الوُسْطَى حِينَ غَابَتِ الشَّمْسُ". [4111، 4533، 6396 - مسلم: 627 - فتح 6/ 105]
2932 -
حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابن ذَكْوَانَ، عَنِ الأعرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدْعو فِي القُنُوتِ: "اللَّهُمَّ أَنْجِ سَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ، اللَّهُمَّ أَنجِ الوَلِيدَ بْنَ الوَلِيدِ، اللَّهُمَّ أَنْجِ عَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، اللَّهُمَّ أَنْجِ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ، اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطاتكَ عَلَى مُضَرَ، اللَّهُمَّ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ) [انظر: 804 - مسلم: 675 - فتح 6/ 105]
2933 -
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى رضي الله عنهما يَقُولُ: دَعَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الأَحْزَابِ عَلَى المُشْرِكِينَ فَقَالَ: «اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ سَرِيعَ الْحِسَابِ، اللَّهُمَّ اهْزِمِ الأَحْزَابَ، اللَّهُمَّ اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ» . [7489،6392،4115،3025،2965،2818 - مسلم: 1742 - فتح 6/ 106]
2934 -
حَدَّثنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي فِي ظِلِّ الكَعْبَةِ، فَقَالَ أبو جَهْلٍ وَنَاسٌ مِنْ قرَيْشٍ، وَنُحِرَتْ جَزوز بِنَاحِيَةِ مَكَّةَ، فَأَرْسَلُوا فَجَاءُوا مِنْ سَلَاهَا وَطَرَحُوة عَلَيْهِ، فَجَاءَتْ فَاطِمَةُ فَألقَتْهُ عَنْة، فَقَالَ:"اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ، اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ، اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشِ". لأبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ، وَعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ، وَأُبَيًّ بْنِ خَلَفٍ، وَعُقْبَةَ بْنِ أبي مُعَيْطٍ، قَالَ عَبْدُ اللهِ: فَلَقَدْ رَأَيْتُهُمْ فِي قَلِيبِ بَدْرٍ قَتْلَى.
قَالَ أبو إِسْحَاقَ: وَنَسِيتُ السَّابعَ. وَقَالَ يُوسُفُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ: أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ. وَقَالَ شعْبَةُ: أمَيَّهُ أَوْ أُبَيُّ. وَالصَّحِيحُ: أُمَيَّةُ. [انظر: 240 - مسلم: 1794 - فتح 6/ 106]
2935 -
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ، عَنْ أَيّوبَ، عَنِ ابن أَبِي ملَيْكَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ اليَهودَ دَخَلوا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكَ. فَلَعَنْتهُمْ. فَقَالَ: "مَا لَكِ؟ ". قُلْتُ: أَوَلم تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ قَالَ: "فَلَمْ تَسْمَعِي مَا قُلْتُ: وَعَلَيْكُمْ؟ "[انظر: 6024، 6030، 6256، 6395، 6401، 6927 - مسلم: 2165]
ذكر فيه خمسة أحاديث:
أحدها: حديث هشام عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَبِيدَةَ، عَنْ عَلِيٍّ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ الأَحْزَاب قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَلأَ اللهُ بُيُوتَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا، شَغَلُونَا عَنِ الصَّلَاةِ اَلوُسْطَى حِينَ غَابَتِ الشَّمْسُ".
ثانيها: حديث الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو فِي القُنُوتِ: "اللَّهُمَّ أَنْجِ سَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ - إلى أن قال: اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ .. " الحديث.
ثالثها: حديث ابن أَبِي أَوْفَى: دَعَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الأَحْزَابِ عَلَى المُشْرِكِينَ قال: "اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الكِتَابِ سَرِيعَ الحِسَابِ، اللَّهُمًّ اهْزِمِ الأَحْزَابَ، اللَّهُمَّ اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ". رابعها: حديث عبد الله -وهو ابن مسعود-قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي فِي ظِلِّ الكَعْبَةِ، الحديث، وفيه:"اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ" ثلاثًا. ثم ذكر الخلاف في أمية بن خلف أو أبي بن خلف قال: وَالصَّحِيحُ: أُمَيَّةُ.
خامسها: حديث عائشة: أَنَّ اليَهُودَ دَخَلُوا عَلَى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكَ. فَلَعَنْتُهُمْ. فَقَالَ: "مَا لَكِ؟ ". قُلْتُ: أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ قَالَ: "أفَلَمْ تَسْمَعِي مَا قُلْتُ وَعَلَيْكُمْ".
الشرح:
في حديث على دلالة على أن الصلاة الوسطى هي العصر، وهو الذي صحت به الأحاديث وإن نص الشافعي على أنها الصبح، وقد جمعت فيها جزءًا مفردًا بذكر أقوال العلماء فيها. قَال المهلب: هي الصبح على الحقيقة، والعصر بالتشبيه بها
(1)
.
وهشام المذكور في إسناده قَال الأصيلي: وهو في "سيرة هشام"، وهو ابن حسان، وهو مطعون فيه. ثم قَالَ: وقال أبو الحسن: إسناد هذا الحديث من أعجب الأسانيد عن علي. وقيل: إن هذا الحديث كان قبل نزول صلاة الخوف.
وقال ابن بطال: هذا شغل لا يمكن ترك القتال له على حسب الاستطاعة مش الإيجاء والإقبال والإدبار والمطاعنة والمسايفة، لكن لهذا وجهان:
أحدهما: أن صلاة الخوف لم تكن نزلت بعد، وفي الآية بها إباحة الصلاة على حسب القدرة والإمكان، وفي هذا الوقت لم يكن مباحًا لهم إلا الإتيان بها على أكمل أوصافها، فلذلك شغلوا عنها بالقتال، فهذا الشغل كان شديدًا عليهم حَتَّى لا يمكن أحدًا منهم أن يشتغل بغير المدافعة والمقاتلة.
ثانيهما: أن يكونوا على غير وضوء، فلذلك لم يمكنهم ترك القتال لطلب الماء وتناول الوضوء؛ لأن الله تعالى لا يقبل صلاة بغير طهور ولا صلاة من أحدث حَتَّى يتوضأ.
(1)
كما في "شرح ابن بطال" 5/ 111.
وأما دعاؤه صلى الله عليه وسلم على قوم ودعاؤه لآخرين بالتوبة، فإنما كان على حسب ما كانت ذنوبهم في نفسه، فكان يدعو على من اشتد أذاه على المسلمين، وكان يدعو لمن يرجو نزوعه ورجوعه إليهم، كما دعا لدوس حين قيل له: إن دوسًا قد عصت وأبت، ولم يكن لهم نكاية ولا أذى، فقال:"اللَّهُمَّ اهد دوسًا وائت بهم" وأما هؤلاء فدعا عليهم لقتلهم المسلمين، فأجيبت دعوته فيهم، وقد سلف هذا المعنى في أول الاستسقاء وسنزيده وضوحًا في كتاب: الدعاء في باب: الدعاء على المشركين
(1)
.
ومعنى: ("اشدد وطأتك"): بأسك وعقوبتك، أو أخذتك الشديدة. وقال الداودي: الوطأة: الأرض وقال ابن فارس: الأخذة
(2)
.
وقوله: ("اهزمهم وزلزهم") دعاء عليهم ألا يسكنوا ولا يستقروا، مأخوذ من الزلزلة، وهي اضطراب الأرض. وقال الداودي: أراد أن تطيش عقولهم وترعد أقدامهم عند اللقاء فلا يثبتوا.
وحديث السلا يستدل به مالك وغيره ممن يرى بطهارة روث المأكول لحمه، وانفصل من قَال بنجاسته بأنه لم يكن تعبد بذلك، وأيضًا فليس في السلا دم فهو كعضو منها، فإن قلت: هو ميتة؛ لأن ناحرها وثني مشرك.
فالجواب: إن ذلك قبل تحريم ذبائح أهل الأوثان، كما كانت تجوز مناكحتهم، وروي أيضًا أنه كان مع الفرث والدم ولكنه كان قبل التعبد بتحريمه.
(1)
"شرح ابن بطال" 5/ 111 - 112.
(2)
"مجمل اللغة" 4/ 929 مادة: (وطي).
وقول أبي إسحاق: (ونسيت السابع). قَالَ: (هو)
(1)
عمارة بن الوليد، وقال البخاري:(والصحيح: أمية). وهو كما قَالَ؛ لأن أبي بن خلف قتله الشارع بيده يوم أحد بعد يوم بدر.
والقليب مذكر، البئر قبل أن يطوى، فإذا طويت فهي الطوى، وقد سلف هذا الحديث وما قبله في مواضعه، لكنا نبهنا على بعض ما أسلفناه لطول العهد به.
وحديث عائشة ذكره في الاستئذان من حديث ابن عمر وأنس
(2)
، وللنسائي عن أبي بصرة قَالَ صلى الله عليه وسلم:"إني راكب إلى اليهود، فمن انطلق معي فإن سلموا عليكم فقولوا: وعليكم"
(3)
. ولابن ماجه من حديث ابن إسحاق عن أبي عبد الرحمن الجهني -وصحبته مختلف فيه- مثله
(4)
، ولابن حبان من حديث أنس مرفوعًا:"أتدرون ما قال؟ " قالوا: سلم قَالَ: "لا، إنما قَالَ: السام عليكم، أي: تسامون دينكم، فإذا سلم عليكم رجل من أهل الكتاب فقولوا: وعليك"
(5)
.
قلتُ: ويعنون بالسام: الموت.
وجاء في الحديث: "يستجاب لنا فيهم ولا يستجاب لهم فينا"
(6)
،
(1)
في (ص 1): غيره.
(2)
حديث ابن عمر سيأتي برقم (6257)، وحديث أنس (6258) باب: كيف الرد على أهل الذمة.
(3)
"السنن الكبرى" 6/ 154 (10220).
(4)
ابن ماجه (3699) من طريق ابن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن مرثد بن عبد الله، عن أبي عبد الرحمن الجهني، مرفوعًا.
(5)
"صحيح ابن حبان" 2/ 256 (503).
(6)
سيأتي برقم (6030) كتاب: الأدب، باب: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فاحشًا .. ، بنحوه، ورواه بلفظه إسحاق بن راهويه في "مسنده"(1685).
ولما أمر أن يباهلهم أخذ بيد حسن وحسين وقال لفاطمة: "اتبعينا" فرجع اليهود ولم يباهلوه
(1)
. قَالَ ابن عباس: لو خرجوا ما وجدوا أهلًا ولا ولدًا
(2)
.
قَالَ الخطابي: ورواية عامة المحدثين بإثبات الواو، وكان ابن عيينة يرويه بحذفها وهو الصواب، وذلك أنه إذا حذفها صار قولهم الذي قالوه بعينه مردودًا عليهم، وبإدخالها يقع الاشتراك معهم والدخول فيما قالوه؛ لأن الواو حرف العطف ولاجتماع
(3)
بين الشيئين
(4)
.
وفي رواية يحيى، عن مالك، عن ابن دينار:"عليك" بلفظ الواحد. وقال القرطبي: الواو هنا زائدة وقيل: للاستئناف. وحذفها أحسن في المعنى، وإثباتها أصح رواية وأشهر
(5)
. وقَالَ أبو محمد المنذري: من فسر السام بالموت فلا تبعد الواو، ومن فسره بالسآمة فإسقاطها هو الوجه
(6)
.
وكان قتادة فيما حكاه ابن الجوزي يمد ألف السآمة.
وذهب عامة السلف وجماعة الفقهاء إلى أن أهل الكتاب لا يبدءون بالسلام حاشا ابن عباس وصدي بن عجلان وابن محيريز فإنهم جوزوه ابتداء، وهو وجه لبعض أصحابنا حكاه الماوردي، ولكنه قَالَ: يقول
(1)
رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 129 (415)، ومن طريقه الطبري في "تفسيره" 3/ 299 (7181) عن قتادة.
(2)
رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 129 (411)، ومن طريقه الطبري 3/ 299 (7182).
(3)
في (ص 1): الاجتماع.
(4)
"معالم السنن" 4/ 143.
(5)
"المفهم" 5/ 491.
(6)
"مختصر سنن أبي داود" 8/ 77.
عليك، ولا يقول: عليكم، بالجمع. وحكي أيضًا أن بعض أصحابنا جوز أن يقول: عليكم السلام فقط، ولا يقول: ورحمة الله وبركاته. وهو ضعيف مخالف للأحاديث.
وذهب آخرون إلى جواز الابتداء للضرورة أو لحاجة تعن له إليه أو لذمام أو نسب، وروي ذَلِكَ عن إبراهيم وعلقمة. وقال الأوزاعي: إن سلمت فقد سلم الصالحون، وإن تركت فقد ترك الصالحون. وتأول لهم قوله:"لا تبدءوهم بالسلام" أي: لا تبدءوهم كصنيعكم بالمسلمين.
واختلف في رد السلام عليهم، فقالت طائفة: رده فريضة على المسلمين والكفار، وهذا تأويل قوله:{فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86].
قَالَ ابن عباس وقتادة في آخرين: هي عامة في الرد على المسلم والكافر، وقوله:{أَوْ رُدُّوهَا} يقول للكافر: وعليكم. قَالَ ابن عباس: من سلم عليك من خلق الله تعالى فاردد عليه وإن كان مجوسيًّا
(1)
. وروي أنه صلى الله عليه وسلم لما رأى عبد الله بن أبيٍّ جالسًا نزل فسلم عليه
(2)
؟ ورُدَّ بأنه كان يرجو إسلامه.
وروى ابن عبد البر عن أبي أمامة الباهلي أنه كان لا يمر بمسلم ولا يهودي ولا نصراني إلا بدأه بالسلام، وعن ابن مسعود وأبي
(1)
رواه الطبري 4/ 191 (10045).
(2)
سيأتي برقم (4566) كتاب: التفسير، باب: ({وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} من حديث أسامة بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ بمجلس فيه عبد الله بن أُبي وفي المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين، فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم، ثم نزل فدعاهم إلى الله .. الحديث.
الدرداء وفضالة بن عبيد أنهم كانوا يبدءون أهل الكتاب بالسلام، وكتب ابن عباس إلى كتابي: السلام عليك، وقال: لو قَالَ لي فرعون خيرًا لوددت عليه. وقيل لمحمد بن كعب: إن عمر بن عبد العزيز يرد عليهم ولا يبتدئهم فقال: ما أرى بأسًا أن يبدأهم بالسلام لقوله تعالى: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ} [الزخرف: 89] وفيه رد لما سلف.
وقالت طائفة: لا يرده على الكتابي، والآية مخصوصة بالمسلمين، وهو قول الأكثرين، وعن (ابن)
(1)
طاوس يقول: علاك السلام. أي ارتفع عنك. واختار بعضهم كسر السين من السلام أي الحجارة
(2)
.
فرع:
لو تحققنا قولهم السلام، فهل يقال: لا يمتنع الرد عليهم بالسلام الحقيقي كالمسلم، أو يقال بظاهر الأمر، فيه تردد لتعارض اللفظ والمعنى.
فرع:
عن مالك إن بدأت ذميًّا على أنه مسلم ثم عرفته فلا تسترد منه السلام. ونقل ابن العربي عن ابن عمر أنه كان يسترده منه فيقول: اردد عليَّ سلامي
(3)
.
فائدة: أدخل بعضهم هذا الحديث في باب: من سب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا وجه له كما نبه عليه ابن عبد البر
(4)
، وسيكون لنا عودة إلى ذَلِكَ في كتاب الأدب.
(1)
من (ص 1).
(2)
"التمهيد" 17/ 91 - 94.
(3)
"عارضة الأحوذي" 10/ 170، وانظر "الموطأ" ص 595، "المنتقى" 7/ 281.
(4)
"التمهيد" 17/ 94.
فرع:
اختلف في تكنية أهل الكتاب
(1)
، فكرهه مالك، وأجازه ابن عبد الحكم وغيره، واحتج بقوله صلى الله عليه وسلم:"أنزل أبا وهب"
(2)
.
(1)
ورد بهامش الأصل: في مذهبنا تفصيل في تكنية الكافر.
(2)
رواه مالك في "الموطأ" ص 336 (44) عن ابن شهاب مرسلاً، وانظر "التمهيد" 12/ 35.
99 - باب هَلْ يُرْشِدُ المُسْلِمُ أَهْلَ الكِتَابِ أَوْ يُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ
؟
2936 -
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْن إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا ابن أَخِي ابن شِهَابٍ، عَنْ عَمِّهِ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَخْبَرَة أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَتَبَ إِلَى قَيْصَرَ، وَقَالَ:"فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأَرِيسِيِّينَ". [2940 - فتح 6/ 107]
ذكر فيه حديث ابن عَبَّاسٍ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كَتَبَ إِلَى قَيْصَرَ: "فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأَرِيسِيِّينَ".
هذا الحديث سلف
(1)
، وإرشاد أهل الكتاب ودعاؤهم إلى الإسلام واجب على الإمام، وأما تعليمهم الكتاب فاستدل الكوفيون على جوازه بكتابه إليهم أنه من كتاب الله بالعربية، فعلمهم كيف حروف العربية؟ وكيف تأليفها؟ وكيف إيصال ما اتصل من الحروف وانقطاع ما انقطع منها؟ فهذا تعليم لهم؛ لأنهم لم يقرءوه حَتَّى ترجم لهم، وفي الترجمة تعريب ما يوافق من حروفنا حروفهم وما يعبر عنه، ألا ترى أن في أسماء الطير في نظير أبيات الشعر تعليمًا للكتاب، فضلاً عن الحروف التي هي بنغمتها تدل على أمثالها، وأسماء الطير لا يفهم منها نغمة وينفك منها الكلام، قاله المهلب.
وإلى هذا المعنى ذهب أبو حنيفة فقال: لا بأس بتعليم الحربي والذمي القرآن والعلم والفقه، رجاء أن يرغبوا في الإسلام، وهو أحد قولي الشافعي. وقال مالك: لا يعلمون الكتاب ولا القرآن، وهو قول
(1)
سلف برقم (7) كتاب: بدء الوحي.
الشافعي الآخر. وكره مالك إذا كان صيرفي يهودي أو نصراني أن يصرف منهم.
واحتج الطحاوي لأصحابه بكتابه صلى الله عليه وسلم إلى هرقل بآية من القرآن، وبما رواه حماد بن سلمة عن حبيب المعلم، (قَالَ)
(1)
: سألت الحسن: أعلم أهل الذمة القرآن؟ قَالَ: نعم، أليس يقرءون التوراة والإنجيل وهو كتاب الله. واحتج الطحاوي بقول الله تعالى:{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ} [التوبة: 6] قالوا: وقد روى أسامة بن زيد أنه صلى الله عليه وسلم مر على مجلس فيه عبد الله بن أبي قبل أن يسلم، وفي المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين واليهود، فقرأ عليهم القرآن.
وحجة مالك قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28] وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو، وكره مالك أن يشترى من أهل الكفر فيعطوا دراهم فيها اسم الله، وقد سلف كلامه في الصيرفي.
وقال الطحاوي: يكره أن يعطى الكافر الدراهم فيها القرآن؛ لأنه لا يغتسل من الجنابة، فهو كالجنب يمس المصحف فيكره أن يعطاه، والدراهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن عليها قرآن وإنما ضربت في أيام عبد الملك. وقال غيره: في كتابه صلى الله عليه وسلم إلى هرقل آية من القرآن فيه جواز مباشرة الكفار صحائف القرآن إذا احتيج إلى ذلك
(2)
.
(1)
في الأصل: قالت.
(2)
انظر: "شرح ابن بطال" 5/ 113 - 114، "مختصر اختلاف العلماء" 3/ 492 - 494.
فائدة:
الأريسيون: سلف الخلاف فيه هناك، ونقل ابن التين هنا عن القزاز أنه في كلام العرب الملوك، وذكر العلماء باللغة أنه فعيل مشدد الراء قَالَ: وهو من الأضداد يكون للملك وللأجير، المعنى: فعليك إثم الملوك الذين يخالفون نبيهم. قَالَ: وقال ابن فارس: الأراريس: الزراعون، وهي شامية، الواحد: إرِّيس
(1)
.
(1)
"مجمل اللغة" 1/ 91 مادة: (أرس).
100 - باب الدُّعَاءِ لِلْمُشْرِكِينَ بِالْهُدى لِيَتَأَلَّفَهُمْ
237 -
حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبُ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: قَدِمَ طُفَيْل بْن عَمْرٍو الدَّوْسِيُّ وَأَصْحَابُهُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالوا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ دَوْسًا عَصَتْ وَأَبَتْ، فَادْعُ الله عَلَيْهَا. فَقِيلَ هَلَكَتْ دَوْسٌ. قَالَ:"اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا وَأْتِ بِهِمْ". [4392، 6397 - مسلم: 2524 - فتح 6/ 107]
ذكر فيه حديث أبي هُرَيْرَةَ: قَدِمَ الطُفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو الدَّوْسِيُّ وَأَصحَابُهُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ دَوْسًا عَصَتْ وَأَبَتْ، فَادْعُ اللهَ عَلَيْهَا. فَقِيلَ هَلَكَتْ دَوْسٌ. قَالَ:"اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا وَأْتِ بِهِمْ".
الشرح:
كان نبينا - عليهما أفضل الصلاة والسلام - يحب دخول الناس في الإسلام فكان لا يعجل بالدعاء (عليهم)
(1)
مادام يطمع في إجابتهم إلى الإسلام بل كان يدعو لمن يرجو منه الإنابة، ومن لا يرجوه ويخشى ضره وشوكته، يدعو عليه كما دعا عليهم بسنين كسني يوسف، ودعا على صناديد قريش لكثرة أذاهم وعداوتهم، فأجيبت دعوته (فيهم)
(2)
فقتلوا ببدر كما أسلم كثيرٌ ممن (دعا)
(3)
له بالهدى.
(1)
من (ص 1).
(2)
من (ص 1).
(3)
من (ص 1).
101 - باب دَعْوَةِ اليَهُودِ والنَّصَارى، وَعَلَى مَا يُقَاتَلُونَ عَلَيهِ، وَمَا كَتَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى كِسْرى وَقَيْصرَ، وَالدَّعوَةِ قَبْلَ القِتَالِ
2938 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الجَعْدِ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا رضي الله عنه يَقُولُ: لَمَّا أَرَادَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَكْتُبَ إِلَى الرُّومِ، قِيلَ لَهُ: إِنَّهُمْ لَا يَقْرَءُونَ كِتَابًا إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَخْتُومًا. فَاتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ، فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى بَيَاضِهِ فِي يَدِهِ، وَنَقَشَ فِيهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ. [انظر: 65 - مسلم: 2092 - فتح 6/ 108]
2939 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ بِكِتَابِهِ إِلَى كِسْرَى، فَأَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى عَظِيمِ البَحْرَيْنِ، يَدْفَعُهُ عَظِيمُ الْبَحْرَيْنِ إِلَى كِسْرَى، فَلَمَّا قَرَأَهُ كِسْرَى خَرَّقَهُ، فَحَسِبْتُ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ المُسَيَّبِ قَالَ فَدَعَا عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُمَزَّقُوا كُلَّ مُمَزَّقٍ. [انظر: 64 - فتح 6/ 108]
ذكر فيه حديث أنس: لَمَّا أَرَادَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أنْ يَكْتُبَ إِلَى الرُّومِ، قِيلَ لَهُ: إِنَّهُمْ لَا يَقْرَءُونَ كِتَابًا إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَخْتُومًا. فَاتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ، كأني أَنْظُرُ إِلَى بَيَاضِهِ فِي يَدِهِ، وَنَقَشَ فِيهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ.
وحديث ابن عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بعَثَ بِكِتَابِهِ إِلَى كِسْرى، فَأَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى عَظِيمِ البَحْرَيْنِ، فدفعه عَظِيمُ البَحْرَيْنِ إِلَى كِسْرى، فَلَمَّا قَرَأَهُ كِسْرئ خَرَّقَهُ. فَحَسِبْتُ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ المُسَيَّبِ قَالَ: فَدَعَا عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُمَزَّقُوا كُلَّ مُمَزَّقٍ.
الشرح:
(كسرى) -بكسر الكاف، وفتحها- ابن هرمز ملك فارس.
وحامل الكتاب: عبد الله بن حذافة السهمي، وعظيم البحرين كان من تحت كسرى، ولما دعا عليهم صلى الله عليه وسلم بذلك مات منهم أربعة عشر ملكًا في سنة، حَتَّى ولي أمرهم امرأة، فقال صلى الله عليه وسلم عند ذَلِكَ:"لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة"
(1)
.
والتمزيق: التفريق. يقال: مزقت الثوب وغيره أمزقه تمزيقًا إذا قطعته خرقًا، ومنه يقال: تمزق القوم. إذا تفرقوا.
وكان اتخاذ الخاتم سنة ست، وما. ذكره في نقشه هو المعروف الثابت، وقيل: كان نقشه: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فكان النقش في الفص، وكان الفص حبشيًا. وقيل: كان عقيقًا.
ومن شأن الخلفاء والقضاة نقش أسمائهم في خواتمهم، ولم يذكر هنا فيه نص ما دعا به إلى قيصر، وقد أسلف أنه كتب فيه يدعوه بدعاية الإسلام:"أسلم تسلم" فهذا الذي يقاتلون عليه، والدعوة لازمة إذا لم تبلغهم، وإذا بلغتهم فلا يلزم، فإن شاء يكرر ذَلِكَ عليهم، وإن شاء أن يطلب غرتهم فعل، وإنما كانوا لا يقرءون كتابًا إلا مختومًا؛ لأنهم كانوا يكرهون أن يقرأ الكتاب لهم غيرهم، وأن يكون مباحًا لسواهم فكانوا يأنفون من إهماله، وقد قيل في تأويل قوله:{كِتَابٌ كَرِيمٌ} [النمل: 29]، أنه مختوم، فأخذ بأرفع الأحوال التي بلغته عنهم، واتخذ خاتمًا ونقش فيه ما سلف وعهد ألا ينقش أحد مثله، فصارت خواتم الأئمة
(1)
سيأتي برقم (4425) كتاب: المغازي، باب: كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر، من حديث أبي بكرة.
والحكام سنة لا يعاب عليهم فيها ولا يتسور في اصطناع مثلها، قاله ابن بطال
(1)
.
وتخريق الكتاب من باب التهاون بأمر النبوة والاستهزاء بها، فلذلك دعا عليهم بالتمزيق فأجيبت كما سلف، والاستهزاء من الكبائر العظيمة إذا كان في الدين وهو من باب الكفر، ويقتل المستهزئ بالدين؛ لأن الله تعالى أخبر أنه كفر حيث قَالَ:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65)} الآية [التوبة: 65]
(2)
.
قلتُ: إلا أن يعود إلى الإسلام فإنه يجبُّ ما قبله.
(1)
"شرح ابن بطال" 5/ 115.
(2)
المرجع السابق.
102 - باب دُعَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ إِلَى الإِسْلَامِ وَالنُّبُوَّةِ، وَأَنْ لَا يَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ الله، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:{مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ الله الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} الآيَةِ [آل عمران: 79]
2940
- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَتَبَ إِلَى قَيْصَرَ يَدْعُوهُ إِلَى الإِسْلَامِ، وَبَعَثَ بِكِتَابِهِ إِلَيْهِ مَعَ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ، وَأَمَرَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى عَظِيمِ بُصْرَى لِيَدْفَعَهُ إِلَى قَيْصَرَ، وَكَانَ قَيْصَرُ لَمَّا كَشَفَ الله عَنْهُ جُنُودَ فَارِسَ مَشَى مِنْ حِمْصَ إِلَى إِيلِيَاءَ، شُكْرًا لِمَا أَبْلَاهُ الله، فَلَمَّا جَاءَ قَيْصَرَ كِتَابُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ حِينَ قَرَأَهُ الْتَمِسُوا لِي هَا هُنَا أَحَدًا مِنْ قَوْمِهِ لأَسْأَلَهُمْ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. [انظر: 2936 - فتح 6/ 109]
2941 -
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَأَخْبَرَنِي أَبُو سُفْيَانَ أَنَّهُ كَانَ بِالشَّأْمِ فِي رِجَالٍ مِنْ قُرَيْشٍ، قَدِمُوا تِجَارًا فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَوَجَدَنَا رَسُولُ قَيْصَرَ بِبَعْضِ الشَّأْمِ، فَانْطَلَقَ بِي وَبِأَصْحَابِي حَتَّى قَدِمْنَا إِيلِيَاءَ، فَأُدْخِلْنَا عَلَيْهِ، فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ في مَجْلِسِ مُلْكِهِ وَعَلَيْهِ التَّاجُ، وَإِذَا حَوْلَهُ عُظَمَاءُ الرُّومِ، فَقَالَ لِتُرْجُمَانِهِ: سَلْهُمْ: أَيُّهُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ الذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ؟ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَقُلْتُ: أَنَا أَقْرَبُهُمْ إِلِيْهِ نَسَبًا. قَالَ: مَا قَرَابَةُ مَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ؟ فَقُلْتُ هُوَ ابْنُ عَمِّي، وَلَيْسَ فِي الرَّكْبِ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ غَيْرِي. فَقَالَ قَيْصَرُ: أَدْنُوهُ. وَأَمَرَ بِأَصْحَابِي فَجُعِلُوا خَلْفَ ظَهْرِي عِنْدَ كَتِفِي، ثُمَّ قَالَ لِتُرْجُمَانِهِ: قُلْ لأَصْحَابِهِ: إِنِّي سَائِلٌ هَذَا الرَّجُلَ عَنِ الذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، فَإِنْ كَذَبَ فَكَذِّبُوهُ. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: وَاللهِ لَوْلَا الحَيَاءُ يَوْمَئِذٍ مِنْ أَنْ يَأْثُرَ أَصْحَابِي عَنِّي الكَذِبَ لَكَذَبْتُهُ حِينَ سَأَلَنِي عَنْهُ، وَلَكِنِّي اسْتَحْيَيْتُ أَنْ يَأْثُرُوا الْكَذِبَ عَنِّي فَصَدَقْتُهُ، ثُمَّ قَالَ لِتُرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُ كَيْفَ نَسَبُ هَذَا
الرَّجُلِ فِيكُمْ؟ قُلْتُ: هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ. قَالَ فَهَلْ قَالَ: هَذَا القَوْلَ أَحَدٌ مِنْكُمْ قَبْلَهُ؟ قُلْتُ: لَا. فَقَالَ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ عَلَى الكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: فَأَشْرَافُ النَّاسِ يَتَّبِعُونَهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ قُلْتُ: بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ. قَالَ: فَيَزِيدُونَ أَوْ يَنْقُصُونَ؟ قُلْتُ: بَلْ يَزِيدُونَ. قَالَ: فَهَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ فَهَلْ يَغْدِرُ؟ قُلْتُ: لَا، وَنَحْنُ الآنَ مِنْهُ فِي مُدَّةٍ، نَحْنُ نَخَافُ أَنْ يَغْدِرَ. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: وَلَمْ يُمْكِنِّي كَلِمَةٌ أُدْخِلُ فِيهَا شَيْئًا أَنْتَقِصُهُ بِهِ؛ لَا أَخَافُ أَنْ تُؤْثَرَ عَنِّي غَيْرُهَا. قَالَ: فَهَلْ قَاتَلْتُمُوهُ أَوْ قَاتَلَكُمْ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: فَكَيْفَ كَانَتْ حَرْبُهُ وَحَرْبُكُمْ؟ قُلْتُ: كَانَتْ دُوَلاً وَسِجَالاً، يُدَالُ عَلَيْنَا المَرَّةَ وَنُدَالُ عَلَيْهِ الأُخْرَى. قَالَ: فَمَاذَا يَأْمُرُكُمْ؟ قَالَ: يَأْمُرُنَا أَنْ نَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ لَا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَيَنْهَانَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا، وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْعَفَافِ وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ. فَقَالَ لِتُرْجُمَانِهِ حِينَ قُلْتُ ذَلِكَ لَهُ: قُلْ لَهُ: إِنِّي سَأَلْتُكَ عَنْ نَسَبِهِ فِيكُمْ، فَزَعَمْتَ أَنَّهُ ذُو نَسَبٍ، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي نَسَبِ قَوْمِهَا، وَسَأَلْتُكَ: هَلْ قَالَ أَحَدٌ مِنْكُمْ هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَهُ؟ فَزَعَمْتَ أَنْ لَا، فَقُلْتُ: لَوْ كَانَ أَحَدٌ مِنْكُمْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَهُ قُلْتُ: رَجُلٌ يَأْتَمُّ بِقَوْلٍ قَدْ قِيلَ قَبْلَهُ. وَسَأَلْتُكَ: هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ فَزَعَمْتَ أَنْ لَا، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَدَعَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبَ عَلَى اللهِ، وَسَأَلْتُكَ: هَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ؟ فَزَعَمْتَ أَنْ لَا، فَقُلْتُ: لَوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مَلِكٌ قُلْتُ: يَطْلُبُ مُلْكَ آبَائِهِ. وَسَأَلْتُكَ: أَشْرَافُ النَّاسِ يَتَّبِعُونَهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ فَزَعَمْتَ أَنَّ ضُعَفَاءَهُمُ اتَّبَعُوهُ، وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ، وَسَأَلْتُكَ: هَلْ يَزِيدُونَ أَوْ يَنْقُصُونَ؟ فَزَعَمْتَ أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ، وَكَذَلِكَ الإِيمَانُ حَتَّى يَتِمَّ، وَسَأَلْتُكَ: هَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ فَزَعَمْتَ أَنْ لَا، فَكَذَلِكَ الإِيمَانُ حِينَ تَخْلِطُ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ لَا يَسْخَطُهُ أَحَدٌ، وَسَأَلْتُكَ: هَلْ يَغْدِرُ؟ فَزَعَمْتَ أَنْ لَا، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لَا يَغْدِرُونَ، وَسَأَلْتُكَ: هَلْ قَاتَلْتُمُوهُ وَقَاتَلَكُمْ؟ فَزَعَمْتَ أَنْ قَدْ فَعَلَ، وَأَنَّ حَرْبَكُمْ وَحَرْبَهُ تَكُونُ دُوَلاً، وَيُدَالُ عَلَيْكُمُ الْمَرَّةَ وَتُدَالُونَ عَلَيْهِ الأُخْرَى، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْتَلَى، وَتَكُونُ لَهَا
العَاقِبَةُ، وَسَأَلْتُكَ: بِمَاذَا يَأْمُرُكُمْ؟ فَزَعَمْتَ أَنَّهُ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَيَنْهَاكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ، وَيَأْمُرُكُمْ بِالصَّلَاةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ، وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ، قَالَ وَهَذِهِ صِفَةُ النَّبِيِّ، قَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ، وَلَكِنْ لَمْ أَظُنَّ أَنَّهُ مِنْكُمْ، وَإِنْ يَكُ مَا قُلْتَ حَقًّا، فَيُوشِكُ أَنْ يَمْلِكَ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ، وَلَوْ أَرْجُو أَنْ أَخْلُصَ إِلَيْهِ لَتَجَشَّمْتُ لُقِيَّهُ، وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ قَدَمَيْهِ. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقُرِئَ، فَإِذَا فِيهِ «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللهِ وَرَسُولِهِ، إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ، سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الإِسْلَامِ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ، وَأَسْلِمْ يُؤْتِكَ الله أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَعَلَيْكَ إِثْمُ الأَرِيسِيِّينَ وَ {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64] ". قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَلَمَّا أَنْ قَضَى مَقَالَتَهُ عَلَتْ أَصْوَاتُ الَّذِينَ حَوْلَهُ مِنْ عُظَمَاءِ الرُّومِ، وَكَثُرَ لَغَطُهُمْ، فَلَا أَدْرِي مَاذَا قَالُوا، وَأُمِرَ بِنَا فَأُخْرِجْنَا، فَلَمَّا أَنْ خَرَجْتُ مَعَ أَصْحَابِي وَخَلَوْتُ بِهِمْ قُلْتُ لَهُمْ: لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ، هَذَا مَلِكُ بَنِي الأَصْفَرِ يَخَافُهُ، قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: وَاللهِ مَا زِلْتُ ذَلِيلاً مُسْتَيْقِنًا بِأَنَّ أَمْرَهُ سَيَظْهَرُ، حَتَّى أَدْخَلَ الله قَلْبِي الإِسْلَامَ وَأَنَا كَارِهٌ. [انظر: 7 - مسلم: 1773 - فتح 6/ 109]
2942 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ القَعْنَبِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه، سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ يَوْمَ خَيْبَرَ:«لأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ رَجُلاً يَفْتَحُ الله عَلَى يَدَيْهِ» . فَقَامُوا يَرْجُونَ لِذَلِكَ أَيُّهُمْ يُعْطَى، فَغَدَوْا وَكُلُّهُمْ يَرْجُو أَنْ يُعْطَى فَقَالَ:«أَيْنَ عَلِيٌّ؟» . فَقِيلَ: يَشْتَكِي عَيْنَيْهِ، فَأَمَرَ فَدُعِيَ لَهُ، فَبَصَقَ فِي عَيْنَيْهِ، فَبَرَأَ مَكَانَهُ حَتَّى كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِهِ شَيْءٌ، فَقَالَ: نُقَاتِلُهُمْ حَتَّى يَكُونُوا مِثْلَنَا. فَقَالَ «عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلَامِ، وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ، فَوَاللهِ لأَنْ يُهْدَى بِكَ رَجُلٌ وَاحِدٌ خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ» .
[4210،3701،3009 - مسلم: 2406 - فتح 6/ 111]
2943 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ حُمَيْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا رضي الله عنه يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا غَزَا قَوْمًا لَمْ يُغِرْ حَتَّى يُصْبِحَ، فَإِنْ سَمِعَ أَذَانًا أَمْسَكَ، وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ أَذَانًا أَغَارَ بَعْدَ مَا يُصْبِحُ، فَنَزَلْنَا خَيْبَرَ لَيْلاً. [انظر: 371 - مسلم: 1365 - فتح 6/ 111]
2944 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا غَزَا بِنَا .. [انظر: 371 - مسلم: 1365 - فتح 6/ 111]
2945 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ إِلَى خَيْبَرَ فَجَاءَهَا لَيْلاً، وَكَانَ إِذَا جَاءَ قَوْمًا بِلَيْلٍ لَا يُغِيرُ عَلَيْهِمْ حَتَّى يُصْبِحَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ خَرَجَتْ يَهُودُ بِمَسَاحِيهِمْ وَمَكَاتِلِهِمْ، فَلَمَّا رَأَوْهُ قَالُوا: مُحَمَّدٌ وَاللهِ، مُحَمَّدٌ وَالْخَمِيسُ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «الله أَكْبَرُ، خَرِبَتْ خَيْبَرُ، إِنَّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ» . [انظر: 371 - مسلم: 1365 - فتح 6/ 111]
2946 -
حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ المُسَيَّبِ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلاَّ الله. فَمَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلاَّ الله، فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي نَفْسَهُ وَمَالَهُ، إِلاَّ بِحَقِّهِ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللهِ» . [مسلم: 21 - فتح 6/ 111] رَوَاهُ عُمَرُ وَابْن عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. [1399، 25]
ذكر فيه حديث ابن عباس: كَتَبَ النبي صلى الله عليه وسلم إِلَى قَيْصَرَ يَدْعُوهُ إِلَى الإِسْلَامِ، وقد سلف بطوله أول الكتاب.
وحديث سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يقُولُ يَوْمَ خَيْبَرَ:"لأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ رَجُلًا يَفْتَحُ اللهُ عَلَى يَدَيْهِ". فأعطاها عليًّا .. الحديث.
وحديث حميدٍ عن أنس كَانَ النبي صلى الله عليه وسلم إِذَا غَزَا قَوْمًا لَمْ يُغِرْ حَتَّى يُصبِحَ، فَإِنْ سَمِعَ أَذَانًا أَمْسَكَ، وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ أَذَانًا أَغَارَ بَعْدَ مَا يُصْبحُ .. الحديث.
وفي رواية: كَانَ إِذَا غَزَا بِنَا.
وفي رواية أنه عليه السلام خَرَجَ إلى خَيْبَرَ فَجَاءَهَا لَيْلاً، وَكَانَ إِذَا جَاءَ قَوْمًا بِلَيْلٍ لَا يُغِيرُ عَلَيْهِمْ حَتَّى يُصْبحَ .. الحديث.
وحديث أبي هريرة قَالَ: قَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: "أُمِرْتُ أَنْ أقاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إله إِلّا اللهُ. فَمَنْ قَالَ: لَا إله إِلَّا اللهُ، فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي نَفْسَهُ وَمَالَهُ إِلَّا بِحَقِّهِ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللهِ".
رَوَاهُ عُمَرُ وَابْنُ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
الشرح:
فيه الدعاء إلى الإسلام بالمكاتبة وبعثه الرسول، وأحاديثه متفرقة في أبوابها، واستحب العلماء أن يدعى الكافر إلى الإسلام قبل القتال، وقال مالك: أما من قربت داره منا فلا يدعون لعلمهم بالدعوة ولتلتمس غرتهم، ومن بعدت داره وخيف أن لا تبلغه، فالدعوة أقطع للشك
(1)
، وذكر ابن المنذر عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى جعونة وأمره على الدروب أن يدعوهم قبل أن يقاتلهم، وأباح أكثر أهل العلم قتالهم قبل أن يدعوا؛ لأنهم قد بلغتهم الدعوة، هذا قول الحسن البصري والنخعي وربيعة والليث وأبي حنيفة والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور. قال الثوري: ويدعون أحسن. واحتج الليث والشافعي بقتل ابن أبي الحقيق وكعب بن الأشرف، وعن أبي حنيفة: إن بلغتهم الدعوة فحسن أن يدعوهم الإمام إلى الإسلام وأداء الجزية قبل القتال، ولا بأس أن يغيروا عليهم بغير دعوة.
(1)
انظر: "النوادر والزيادات" 3/ 42.
وقال الشافعي: لا أعلم أحدًا من المشركين لم تبلغه الدعوة اليوم إلا أن يكون خلف الجزر، والترك أمة لم تبلغهم فلا يقاتلوا حَتَّى يدعوا، ومن قتل منهم قبل ذَلِكَ فعلى قاتله الدية
(1)
. وقال أبو حنيفة: لا شيء عليه. قَالَ ابن القصَّار: وهو ما أراه، ولا أحفظ عن مالك فيه نصًّا.
قَالَ الطحاوي: قد لبث الشارع بعد النبوة سنين يدعو الناس إلى الإسلام ويقيم عليهم الحجج والبراهين كما أمره الله تعالى بقوله: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [المؤمنون: 96] وقوله: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ} [المائدة: 13] ثم أنزل الله تعالى بعد ذَلِكَ: {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} [البقرة: 191] فأباح الله قتال من قاتله ولم يبح قتال من لم يقاتله، وكان الإسلام ينتشر في ذَلِكَ وتقوم الحجة على من لم يكن علمه، فأنزل الله تعالى بعد ذَلِكَ:{قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} [التوبة: 123] قاتلوكم قبل ذَلِكَ أم لا، فكان في ذَلِكَ زيادة في انتشار الإسلام، ثم أنزل عليه:{وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة: 36] فأمر بقتالهم كافة حَتَّى يكون الدين كله لله، وقد تقدمت معرفة الناس جميعًا بالإسلام وعلموا ما منابذته سائر أهل الأديان، ولم يذكر في شيء من الآي التي أمر فيها بالقتال دعاء من أمر بقتالهم؛ لأنهم قد علموا خلافهم له وما يدعوهم إليه.
واحتج لهذا القول بحديث أنس أنه كان صلى الله عليه وسلم إذا سمع أذانًا أمسك، وإن لم يسمع أذانًا أغار بعد ما أصبح، فهذا يدل على أنه كان لا يدعو.
(1)
"الأم" 4/ 157.
وذهب من استحب دعوتهم قبل القتال إلى حديث سهل بن سعد في الباب أنه صلى الله عليه وسلم قَالَ لعلي: "على رسلك حَتَّى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم"
(1)
. وقال أهل القول الأول: هذا يحتمل أن يكون في أول الإسلام في قوم لم تبلغهم الدعوة ولم يدروا ما يدعون إليه (فأمر بالدعاء)
(2)
ليكون ذَلِكَ تبليغًا لهم وإعلامًا، ثم أمر بالغارة على آخرين، فلم يكن ذَلِكَ إلا لمعنى لم يحتاجوا معه إلى الدعاء؛ لأنهم قد علموا ما يدعون إليه، وما لو أجابوا إليه لم يقاتلوا، فلا معنى للدعاء.
واحتجوا بحديث ابن عون: كتبت إلى نافع أسأله عن الدعاء قبل القتال، فقال: إنما كان ذَلِكَ في أول الإسلام قد أغار رسول الله صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق وهم غارُّون، فقتل مقاتلتهم، وسبى ذراريهم، وأصاب يومئذ جويرية، حَدَّثَني بذلك ابن عمر، وكان في ذلك الجيش. وسيأتي في موضعه، وبما رواه الزهري، عن عروة، عن أسامة بن زيد قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أغر على أُبْنَى صباحا وحرق"
(3)
.
وقال ابن التين: في حديث أنس يحتمل أنه دعاهم ولم (ينقل)
(4)
، وفي حديث أنس أيضًا الحكم بالدليل في الأبشار والأموال، ألا ترى أنه
(1)
"مختصر اختلاف العلماء" 3/ 425 - 428.
(2)
من (ص 1).
(3)
رواه أبو داود (2616)، وابن ماجه (2843)، وأحمد 5/ 205، كلهم من طريق صالح بن أبي الأخضر، عن الزهري به. وضعفه الألباني في "ضعيف أبي داود"(451).
(4)
في (ص 1): يفعل.
حقن دماء من سمع من دارهم الأذان، واستدل بذلك على صدق دعواتهم للإيمان.
وفيه أيضًا: البيان عن صحة قول من أنكر على غزاة المسلمين بيات من لم يعرفوا حاله من أهل الحصون حَتَّى يصبحوا، فتبين حالهم بالأذان ويعلموا هل بلغتهم الدعوة أم لا، وإن كانوا ممن بلغتهم الدعوة، ولم يعلموا أمسلمين هم أم أهل صلح أو حرب لهم فلا يغيروا حَتَّى يصبحوا، فإن سمعوا أذانًا من حصنهم كان من الحق عليهم الكف عنهم، وإن لم يسمعوا الأذان، وكانوا أهل حرب أغاروا عليهم إن شاءوا.
وأما حديث الصعب بن جثامة أنه صلى الله عليه وسلم سُئل عن أهل الدار من المشركين يبيتون فيصاب من ذراريهم ونسائهم، فقال:"هم منهم" -وسيأتي حيث ذكره البخاري
(1)
- فهو محمول على من بلغته الدعوة ولا يشك في حاله من أهل الحرب، فيجوز بياته.
وحديث أنس محمول على من لم يعلم، هل بلغته فينظرهم الصباح ليستبرئ حالهم بالأذان وغيره من الشعائر.
وقال ابن التين: الدعوة تجب لمن بعدت داره، واختلف في الغريب، قَالَ: وقال الحسن وغيره: لا يجب على كل أحد.
وأما حديث ابن عباس فقد أوضحنا الكلام عليه أول الكتاب، ولا بأس بإعادة قطعة لطيفة منه مختصرًا، فمعنى (شكرًا لما أبلاه الله) يقال: بلاه الله بلاءً حسنًا، والبلاء: الاختبار، يكون للخير والشر إذا كان ثلاثيًّا، وفيه: أنه كان على دين عيسى؛ فلذلك تبرر بالمشي إلى بيت المقدس.
(1)
سيأتي برقم (3012) باب: أهل الدار يُبَيَّتُون ..
وقوله: (لكذبته). وفي نسخة: لحدثته. أي: بالكذب، و (يأثر): يحدث. وقال ابن فارس: أثرت الحديث: إذا ذكرته عن غيرك
(1)
.
وقوله: (وكذلك الرسل تبتلى)، أي: تختبر بالغلبة عليها ليعلم صبرهم.
وقوله: (يوشك) أي يسرع ذلك، ومعنى:(سيظهر): سيغلب.
وأما حديث سهل فقوله: (فبصق في عينيه فبرأ). يقال: برأت من المرض، وبرئت أيضًا.
وقوله: "على رسلك". هو بكسر الراء. قَالَ ابن التين: ضبطه بفتح الراء وكسرها وهو بالفتح التؤدة، وبالكسر: الهينة.
و ("حمر النعم"): أعزها وأحسنها. يريد خير من أن تكون لك فتتصدق بها، وقيل: تنشئها وتملكها. والنَعم: الإبل. وقيل: يطلق على الإبل والبقر والغنم إذا اجتمعن.
و (المساحي) -بفتح الميم- جمع: مسحاة، وهي مفعلة مما يفعل بها، يقال: سحا وجه الأرض بالمسحاة يسحوه إذا قشره، وأصل المسحاة مسحوة تحركت الواو وانفتح ما قبلها، قلبت ألفًا.
و (مكاتلهم): جمع مكتل، وهو الزنبيل الذي يحملون فيه ما يريدون على دوابهم ورقابهم، و (الخميس): الجيش، والمعنى: هذا محمد وجيشه، أو قد جاء محمد وجيشه، وإنما سمي خميسًا؛ لأنه يخمس ما يجد من شيء.
وأما حديث أبي هريرة فأخرجه مسلم أيضًا، وسلف في الإيمان من حديث ابن عمر، وشرحه هناك واضحًا.
(1)
"مجمل اللغة" 1/ 86 مادة: (أثر).
قَالَ الطحاوي: واختلف في تأويله، فذهب قوم إلى أن من قَالَ: لا إله إلا الله فقد صار بها مسلمًا، له ما للمسلمين وعليه ما عليهم، واحتجوا به.
وخالفهم آخرون فقالوا: لا حجة لكم عليه فيه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم إنما يقاتل قومًا لا يوحدون الله تعالى، فكان أحدهم إذا وحَّد الله علم بذلك تركه لما قوتل عليه، وخروجه منه، ولم يعلم بذلك دخوله في الإسلام أو في بعض الملل التي توحد الله وتكفر بجحدها رسله وغير ذَلِكَ من الوجوه التي تكفر بها مع توحيدهم الله تعالى، كاليهود والنصارى يوحدون الله تعالى ولا يقرون برسوله، وفي اليهود من يقول: إن محمدًا رسول الله إلى العرب خاصة، فكان حكم هؤلاء ألا يقاتلوا إذا وقعت هذِه الشبهة حَتَّى تقوم الحجة على من يقاتلهم بوجوب قتالهم.
وقد أمر الشارع عليًّا حين وجهه إلى خيبر وأهلها يهود بما رواه ابن وهب، عن يعقوب بن عبد الرحمن، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دفع الراية إلى علي حين وجهه إلى خيبر قَالَ: "امض ولا تلتفت حَتَّى يفتح الله عليك" فقَالَ علي: علام. أقاتلهم؟ قَالَ: "حَتَّى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، فإذا فعلوا ذَلِكَ فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله"
(1)
، ففي هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قد أباح له قتالهم وإن شهدوا أن لا إله إلا الله حَتَّى يشهدوا أن محمدًا رسول الله، وحتى يعلم عليٌّ خروجهم من اليهودية، كما أمر بقتال عبدة الأوثان حَتَّى يعلم خروجهم مما قوتلوا عليه، وقد أتى قوم من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
رواه مسلم (2405) كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل علي بن أبي طالب، عن قتيبة بن سعيد، ثنا يعقوب، به.
فأقروا بنبوته ولم يدخلوا في الإسلام فلم يقاتلهم على إبائهم الدخول في الإسلام إذ لم يكونوا بذلك الإقرار عنده مسلمين.
وروى شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، عن صفوان بن عسال أن يهوديًّا قَالَ لصاحبه: تعال حَتَّى نسأل هذا النبي، فقال له الآخر: لا تقل له نبي، فإنه إن سمعها صارت له أربعة أعين، (فأتاه)
(1)
فسأله عن هذِه الآية {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ .. } [الإسراء: 101] فقال: "لا تشركوا بالله شيئًا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تسرقوا ولا تزنوا، ولا تسحروا، ولا تأكلوا الربا، ولا تمشوا ببريء إلى سلطان فيقتله، ولا تقذفوا المحصنة، ولا تفروا من الزحف، وعليكم- خاصة (اليهود)
(2)
- ألا تعدوا في السبت" فقبلوا يده وقالوا: نشهد أنك نبي. قَالَ: "فما يمنعكم أن تتبعوني؟ " قالوا: نخشى أن تقتلنا اليهود
(3)
، فأقروا بنبوته مع توحيد الله تعالى، ولم يكونوا بذلك مسلمين، فثبت أن الإسلام لا يكون إلا بالمعاني التي تدل على الدخول في الإسلام وترك سائر الملل.
وروى ابن وهب عن يحيى بن أيوب، عن حميد الطويل، عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ:"أمرت أن أقاتل الناس حَتَّى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، فإذا شهدوا بذلك وصلوا صلاتنا واستقبلوا قبلتنا وأكلوا ذبيحتنا حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها"
(4)
قَالَ: وهذا قول أبي حنيفة وصاحبيه. فالحديث الأول
(1)
من (ص 1).
(2)
من (ص 1).
(3)
رواه الترمذي (2733)، والنسائي 7/ 111 - 112، وأحمد 4/ 239.
(4)
سلف برقم (392) كتاب: الصلاة، باب: فضل استقبال القبلة، من طريق ابن المبارك، عن حميد الطويل، به.
فيه التوحيد خاصة هو المعنى الذي يكف به عن القتال حَتَّى يعلم ما أراد به قائله، الإسلام أو غيره حَتَّى لا تتضاد هذِه الآثار
(1)
.
وقال الطبري نحوًا من ذَلِكَ، وزاد: أما قوله: "فإذا قالوا لا إله إلا الله فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم .. " الحديث. فإنه قاله في حال قتاله لأهل الأوثان الذين كانوا لا يقرون بالتوحيد، وهم الذين قَالَ الله تعالى عنهم:{إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا الله يَسْتَكْبِرُونَ (35)} [الصافات: 35] فدعاهم إلى الإقرار بالوحدانية وخلع ما دونه من الأوثان، فمن أقر بذلك منهم كان في الظاهر داخلًا في صبغة الإسلام، ثم قَالَ لآخرين من أهل الكفر، كانوا يوحدون الله تعالى غير أنهم ينكرون نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم في هؤلاء:"أمرت أن أقاتل الناس حَتَّى يقولوا: لا إله إلا الله، ويشهدوا أن محمدًا رسول الله" فإسلام هؤلاء: الإقرار مما كانوا به جاحدين، كما كان إسلام الآخرين إقرارهم بالله أنه واحد لا شريك له، وعلى هذا تحمل الأحاديث.
فصل:
حديث أنس في الباب أخرجه من ثلاث طرق عن حميد، عن أنس. الأول: عن أبي إسحاق، والثاني: عن إسماعيل بن جعفر، والثالث: عن مالك، كلهم عن حميد به.
وقد أخرج بالطريق الأول عدة أحاديث غيرها، منها: فضل الغدوة كما سلف
(2)
، ومنها حديث العضباء
(3)
، ومنها هنا، وفي المغازي
(1)
"شرح معاني الآثار" 3/ 213 - 216.
(2)
سلف برقم (2796) باب: الحور العين وصفتهن.
(3)
سلف برقم (2871) باب: ناقة النبي صلى الله عليه وسلم.
حديث حفر الخندق
(1)
، ومنها في المغازي، وصفة الجنة: أصيب حارثة .. إلى آخره
(2)
، وذكره خلف وأغفله أبو مسعود، ومنها هنا:"ما من عبد يموت له عند الله خير .. " الحديث سلف
(3)
، وذكره يحيى بن عبد الوهاب بن منده فيما استدركه على أبي مسعود، وأخرج الثالث هنا وفي المغازي
(4)
، وكذا أخرجه أبو داود والترمذي وقال: صحيح
(5)
.
(1)
سيأتي برقم (4099) باب: غزوة الخندق.
(2)
سيأتي في المغازي برقم (3982) باب: فضل من شهد بدرًا، وفي الرقاق برقم (6550) باب: صفة الجنة والنار.
(3)
سلف برقم (2795) باب: الحور العين.
(4)
سيأتي برقم (4197) باب: غزوة خيبر.
(5)
الترمذي (1550)، أما أبو داود فلم يخرجه، وإنما أخرج برقم (3424) من طريق مالك، عن حميد، عن أنس قال: حجم أبو طيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم .. الحديث. وانظر "تحفة الأشراف" 1/ 200 - 201.
103 - باب مَنْ أَرَادَ غَزوَةً فَوَرى بِغَيْرِهَا، وَمَنْ أَحَبَّ الخُرُوجَ يَوْمَ الخَمِيسِ
2947 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ كَعْبٍ رضي الله عنه -وَكَانَ قَائِدَ كَعْبٍ مِنْ بَنِيهِ- قَالَ: سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُرِيدُ غَزْوَةً إِلاَّ وَرَّى بِغَيْرِهَا. [انظر: 2757 - مسلم: 716، 2769 - فتح 6/ 112]
2948 -
وَحَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه يَقُولُ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَلَّمَا يُرِيدُ غَزْوَةً يَغْزُوهَا إِلاَّ وَرَّى بِغَيْرِهَا، حَتَّى كَانَتْ غَزْوَةُ تَبُوكَ، فَغَزَاهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَرٍّ شَدِيدٍ، وَاسْتَقْبَلَ سَفَرًا بَعِيدًا وَمَفَازًا، وَاسْتَقْبَلَ غَزْوَ عَدُوٍّ كَثِيرٍ، فَجَلَّى لِلْمُسْلِمِينَ أَمْرَهُمْ لِيَتَأَهَّبُوا أُهْبَةَ عَدُوِّهِمْ، وَأَخْبَرَهُمْ بِوَجْهِهِ الذِي يُرِيدُ. [انظر: 2757 - فتح 6/ 113]
2949 -
وَعَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه كَانَ يَقُولُ لَقَلَّمَا كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَخْرُجُ إِذَا خَرَجَ فِي سَفَرٍ إِلاَّ يَوْمَ الخَمِيسِ. [انظر: 2757 - فتح 6/ 113]
2950 -
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ يَوْمَ الخَمِيسِ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَكَانَ يُحِبُّ أَنْ يَخْرُجَ يَوْمَ الخَمِيسِ. [انظر: 2757 - مسلم: 716، 2769 - فتح 6/ 113]
ذكر فيه أحاديث كلها راجعة إلى كعب بن مالك من طريق الليث، عَنْ عُقَيْل، عَنِ ابن شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ كَعْبِ
ابْنِ مَالِكٍ، عن أبيه وَكَانَ قَائِدَ كَعْب مِنْ بَنِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ كَعْبًا حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يرِيدُ غَزْوَةً إِلَّا وَرى بِغَيْرِهَا.
ومن حديث يونس عَنِ الزُّهْرِيِّ عن عبدِ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ كَعْبِ عن أبيه أنه كَانَ صلى الله عليه وسلم قلَّمَا يُرِيدُ غَزْوَةً يَغْزُوهَا إِلَّا وَرى بِغَيْرِهَا، حَتَّى كَانَتْ غَزْوَةُ تبوكَ، فَغَزَاهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَرٍّ شَدِيدٍ، الحديث.
وعن يونس، به قلما كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَخْرُجُ إِذَا خَرَجَ فِي سَفَرٍ إِلَّا يَوْمَ الخَمِيسِ.
وعن مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ به أنه صلى الله عليه وسلم خرَجَ يَوْمَ الخَمِيسِ فِي غَزْوَةِ تبوكَ، وَكَانَ يُحِبُّ أَنْ يَخْرُجَ يَوْمَ الخَمِيسِ.
وهو حديث خرجه البخاري مطولًا ومختصرًا في عشرة مواضع، وأخرجه مسلم أيضًا والأربعة
(1)
.
قَالَ الدارقطني: والرواية الأولى صواب، وحديث يونس مرسل، ورواه سويد بن نصر، عن ابن المبارك متصلًا مثل ما رواه الليث وابن وهب، عن يونس ورواه مسلم عن سلمة [عن]
(2)
ابن أعين، عن معقل، عن الزهري، عن عبد الرحمن السالف، عن عمه عبيد الله بن كعب
(3)
، وكلاهما لم يحفظ
(4)
.
(1)
رواه أبو داود (2202)، والترمذي (3102)، والنسائي 2/ 53 - 54، وابن ماجه (1393).
(2)
ساقطة من الأصول، والمثبت من "صحيح مسلم".
(3)
مسلم (2769/ 55) كتاب: التوبة، باب: حديث توبة كعب بن مالك
…
(4)
"الإلزامات والتتبع" ص 242 - 243 (104).
قَالَ الجياني: كذا هذا الإسناد عن ابن مردويه
(1)
عن ابن المبارك في "الجامع" و"التاريخ"
(2)
، وكذا رواه ابن السكن وأبو زيد، ومشايخ أبي ذر الثلاثة. ولم يلتفت الدارقطني إلى قول عبد الرحمن بن عبد الله:(سمعت كعبًا)؛ لأنه عنده وهم، وقد رواه معمر عن الزهري على نحو ما رواه ابن مردويه من الإرسال، ومما يشهد لقول أبي الحسن ما ذكره الذهلي في "علله": سمع الزهري من عبد الرحمن بن كعب ومن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب، وسمع من أبيه عبد الله بن كعب، ولا أظن سمع عبد الرحمن بن عبد الله من جده شيئًا، وإنما روايته عن أبيه وعمه. قَالَ الجياني: والغرض من ذَلِكَ الاستدراك على البخاري، حيث خرجه على الاتصال وهو مرسل
(3)
.
ويوضح ذَلِكَ أيضًا [ما]
(4)
رواه البخاري في الجهاد في باب الصلاة إذا قدم من سفر: حَدَّثنَا أبو عاصم، عن ابن جريج، عن ابن شهاب، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب، عن أبيه وعمه عبيد الله بن كعب، عن كعب، فذكر الحديث
(5)
.
ولأبي داود من حديث ابن إسحاق عن الزهري، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب، عن أبيه، عن جده: قلتُ: يا رسول الله، إن من توبتي أن أخرج من مالي (صدقة)
(6)
. الحديث
(7)
.
(1)
هو أبو العباس أحمد بن محمد بن موسى. انظر "تهذيب الكمال" 1/ 473 (100).
(2)
"التاريخ الكبير" 5/ 304.
(3)
"تقييد المهمل"2/ 632 - 634.
(4)
زيادة يقتضيها السياق.
(5)
سيأتي برقم (3088).
(6)
من (ص 1).
(7)
أبو داود (3321).
وقال الطرقي: ربما اشتبهت رواية عبد الرحمن بن عبد الله عن جده فيظن أنها مرسلة؛ من حيث أنه يروي في بعض الأحايين عن أبيه عن جده، وليس كذلك فإنما يروي عن جده أحرفًا من الحديث، ولم يمكنه حفظه كله عنه لطوله ولصغره فاستثبته من أبيه.
واعلم أن خير ما يدلك على شأن روايات الحديث أن تعلم أن لكعب بن مالك ثلاثة أولاد: عبد الله قائده، وعبيد الله، وعبد الرحمن، أدرك الزهري عبد الله وعبد الرحمن، ولعبد الله ابن يقال له عبد الرحمن، روى عنه الزهري الحديث بطوله، وفي مسلم: عن الزهري عن عبد الرحمن بن عبد الله، عن عمه عبيد الله، وكان قائد كعب
(1)
.
قَالَ الدارقطني: الصواب قول من قَالَ: عبد الله، مكبرًا
(2)
. ورواه النسائي من حديث ابن جريج عن الزهري، عن عبد الرحمن بن عبد الله، عن أبيه عبد الله، وعن عبيد الله عن أبيهما
(3)
.
قَالَ الطرقي: يجوز أن يكون عبد الله وعبيد الله جميعًا قائدي أبيهما حين عمي، واختلاف حديث الأخوين من أصحاب الزهري لاختلاف روايتهم. وقال النسائي: يشبه أن يكون الزهري سمعه من عبد الله بن كعب ومن عبد الرحمن عنه
(4)
.
(1)
مسلم (1769/ 54، 55).
(2)
انظر: "التتبع" ص 243.
(3)
النسائي في "الكبرى" 5/ 237 (8775). والحديث متفق عليه من هذا الطريق سيأتي برقم (3588)، ومسلم (716) كتاب: صلاة المسافرين، باب: استحباب الركعتين في المسجد ..
(4)
النسائي 7/ 22.
إذا تقرر ذَلِكَ؛ فالكلام عليه من وجوه:
أحدها: معنى: (ورى بغيرها). سترها ووهم بغيرها، يريد: طلب غزوه العدو لئلا يسبقه الجواسيس ونحوهم بالتحذير، إلا إذا كانت سفرة بعيدة فيستحب أن يعرفهم بعدها كما جرى في هذِه الغزوة؛
للتأهب، وأمن ألا يسبقه إليها الخبر لبعد الشقة التي بينه وبينها وقفرها، وهذا من خداع الحرب، وأصله من الوري وهو جعل البيان وراءه كأن من ورى عن شيء جعله وراءه. قَالَ أبو علي الفسوي: أصله من الوراء. كأنه قَالَ: لم يشعر به من ورائي. كأنه قَالَ: سأستر بكذا، وأصحاب الحديث لا يضبطون الهمزة فيه، وتصغيره: ورية، ويجوز أن تجعل الهمزة غير أصلية. وتجعلها منقلبة من واو أو ياءٍ، فيكون تصغير وراء: ورية، وأصله: وريية وتسقط واحدة منهما كما (قلب)
(1)
في عطاء: عُطَيّ والأصل عطيي فتقول: وريت عن كذا وكذا بغير همزة. وقال الخطابي: التورية في الشيء الذي يليك وتجاوزت لما وراءه
(2)
.
ثانيها: المفازة: المهلكة، سميت بذلك تفاؤلًا بالفوز والسلامة، كما قالوا للديغ: سليم، وذكر ابن الأنباري عن ابن الأعرابي أنها مأخوذة من قولهم: قد فَوَّزَ الرجل إذا هلك، وقيل: لأن من قطعها فاز ونجا
(3)
.
ثالثها: قوله: (فجلا للمسلمين أمرهم). أي: أظهره ليتأهبوا بذلك، وهو مخفف اللام، يقال: جليت الشيء إذا كشفته وبينته وأوضحته،
(1)
في (ص 1): قلت.
(2)
"أعلام الحديث" 2/ 1411.
(3)
"الأضداد" ص 104 - 105 (59).
وضبطه الدمياطي في حديث كعب في المغازي بالتشديد خطأً
(1)
.
وأمره بإمساك بعض ماله في موضع آخر للخوف عليه التضرر بالفقر وألا يصبر عليه، ولا يخالف هذا حال الصديق لصبره ورضاه.
فإن قلتَ: كيف قَالَ: (أنخلع من مالي) مع قوله أولاً: (نزعت له ثوبي، والله لا أملك غيرهما؟). قلتُ: أراد الأرض والعقار، يؤيده قوله:(فإني أمسك سهمي الذي بخيبر).
وجاء في موضع آخر أنه لم يتخلف إلا في هذِه وفي بدر
(2)
، وهو يرد قول الكلبي أنه شهد بدرًا. وكانت هذِه الغزوة -أعني: تبوك- سنة تسع، أول يوم من رجب، واستخلف عليًّا على المدينة، ومكرت في هذِه الغزاة طائفة من المنافقين برسول الله صلى الله عليه وسلم فتلقوه من العقبة، وفيها تخلف كعب ومن معه، ونزل فيهم ما نزل في براءة من أمر المنافقين.
وفيه: الخدعة في الحرب كما سلف، يقال: فيه ما (لا)
(3)
تكون المكايدة فيه، وطلب غرة العدو.
وفيه: جواز الكلام بغير نية للإمام وغيره إذا لم يضر بذلك أحدًا وكان فيه نفع للمسلمين خاصة وعامة، فهو جائز وهو خارج من باب الكذب.
وخروجه صلى الله عليه وسلم يوم الخميس، وهو فيما ترجم له أيضًا لمعنى يجب أن يحمل عليه وينزل به؛ لأنه الأسوة.
(1)
ورد بهامش الأصل: أعلم أنه قد قال الله تعالى: {لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} والذي ينبغي أن يكون مشددًا ومخففًا في الحديث والله أعلم، ويكون بالتشديد أفصح.
(2)
سيأتي برقم (4418) كتاب: المغازي، باب: حديث كعب.
(3)
كذا بالأصل، وبهامشها: ينبغي أن تحذف (لا).
104 - باب الخُرُوجِ بَعْدَ الظُّهْرِ
2951 -
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِالْمَدِينَةِ الظُّهْرَ أَرْبَعًا، وَالْعَصْرَ بِذِي الحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ، وَسَمِعْتُهُمْ يَصْرُخُونَ بِهِمَا جَمِيعًا. [انظر: 1089 - مسلم: 690 - فتح 6/ 114]
ذكر فيه حديث أَنَسٍ أنه صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِالْمَدِينَةِ الظُّهْرَ أَرْبَعًا، وَالْعَصْرَ بِذِي الحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ، وَسَمِعْتُهُمْ يَصْرُخُونَ بِهِمَا جَمِيعًا.
هذا الحديث سلف في الحج
(1)
.
وخروجه في الحال المذكور دليل على أنه لا ينبغي أن يكره السفر، وابتداء العمل بعد ذهاب صدر النهار وأوله إذ الأوقات كلها لله تعالى، وأن حديث صخر الغامدي مرفوعًا:"اللَّهُمَّ بارك لأمتي في بكورها" قَالَ: وكان إذا بعث جيشًا أو سرية بعثهم أول النهار. قَالَ: وكان صخر رجلاً تاجرًا (فكان)
(2)
إذا بعث غلمانه بعثهم أول النهار فأثرى وكثر ماله
(3)
. لا يدل أن غير البكور لا بركة فيه؛ لأن كل ما فعله الشارع ففيه البركة ولأمته فيه أكرم الأسوة، إنما خص البكور بالدعاء من بين سائر الأوقات؛ لأنه وقت يقصده الناس بابتداء أعمالهم، وهو وقت نشاط وقيام من دعةٍ فخصه بالدعاء لينال بركة دعوته جميع أمته.
(1)
سلف برقم (1546) كتاب: الحج، باب: من بات بذي الحليفة حتى أصبح.
(2)
من (ص 1).
(3)
رواه أبو داود (2606)، والترمذي (1212)، وابن ماجه (2236)، وأحمد 3/ 416.
105 - باب الخُرُوجِ آخِرَ الشَّهرِ
وَقَالَ كُرَيْبٌ، عَنِ ابن عَبَّاسٍ: انْطَلَقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ المَدِينَةِ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذِي القَعْدَةِ، وَقَدِمَ مَكَّةَ لأَرْبَعِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ ذِي الحِجَّةِ.
2152 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهَا سَمِعَتْ عَائِشَةَ رضي الله عنها تَقُولُ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِخَمْسِ لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ، وَلَا نُرَى إِلاَّ الحَجَّ، فَلَمَّا دَنَوْنَا مِنْ مَكَّةَ أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْي إِذَا طَافَ بِالْبَيْتِ وَسَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أَنْ يَحِلَّ. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَدُخِلَ عَلَيْنَا يَوْمَ النَّحْرِ بِلَحْمِ بَقَرٍ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ فَقَالَ نَحَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَزْوَاجِهِ.
قَالَ يَحْيَى: فَذَكَرْتُ هَذَا الحَدِيثَ لِلْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، فَقَالَ أَتَتْكَ وَاللهِ بِالْحَدِيثِ عَلَى وَجْهِهِ. [انظر: 294 - مسلم: 1211 - فتح 6/ 114]
ثم ساق حديث عَائِشَةَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لخَمْسِ لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ ذِي القَعْدَةِ، وَلَا نُرى إِلَّا الحَجَّ، وذكر الحديث.
وقد سلف، في موضعه، والتعليق أسنده في الحج عن المقدمي: ثَنَا فضيل بن سليمان، ثَنَا موسى بن عقبة، أخْبرَنِي كريب، فذكره
(1)
.
وخروجه صلى الله عليه وسلم آخر الشهر بخلاف أفعال الجاهلية في استقبالهم أوائل المشهور في الأعمال وتوجيههم ذلك وتجنبهم غيره من أجل نقصان العمر، فبعث الله نبيه ينسخ ذَلِكَ كله، ولم يراع نقص شهر ولا ابتداءه ولا محاق القمر ولا كماله فخرج في أسفاره على حسب ما يتهيأ له، ولم يلتفت إلى أباطيلهم ولا ظنونهم الكاذبة ورد أمره إلى الله تعالى، ولم يشرك معه غيره في فعله، فأيده ونصره.
(1)
سلف برقم (1545) باب: ما يلبس المحرم من الثياب.
106 - باب الخُرُوج فِي رَمَضَانَ
2953 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي رَمَضَانَ، فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ الكَدِيدَ أَفْطَرَ. قَالَ سُفْيَانُ: قَالَ الزُّهْرِيُّ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَسَاقَ الحَدِيثَ. [انظر: 1944 - مسلم: 1113 - فتح 6/ 115]
ذكر فيه حديث ابن عَبَّاسٍ: خَرَجَ رسول صلى الله عليه وسلم فِي رَمَضَانَ، فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ الكَدِيدَ أَفْطَرَ. قَالَ سُفْيَانُ: قَالَ الزُّهْرِيُّ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللهِ بن عبد الله، عَنِ ابن عَبَّاسٍ. وَسَاقَ الحَدِيثَ.
ولا شك أن الخروج في رمضان جائز، وللمسافر أن يصوم أو يفطر والخيرة إليه، بخلاف ما روي عن علي أنه قال: من أدرك رمضان وهو مقيم ثم سافر لزمه الصوم لقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]. وبه قال (عَبيدة)
(1)
وأبو مجلز، وهذا القول مردود بالحديث المذكور، وإفطاره.
وجماعة الفقهاء على خلاف قوله كما سلف في الصيام. والمراد: شهود جميعه لا شهود أوله، وكان هذا سنة ثمان، قيل له: إن الناس صاموا حين رأوك صمت، فأفطر وقال:"تقووا لعدوكم"
(2)
ففيه فضل الصوم لمن لا يضعفه ذَلِكَ، وفضل الفطر لمن خشي الضعف.
(1)
ورد بهامش الأصل: في أصله أبو عبيدة، وهو خطأ فيما يظهر؛ لأن النووي نقله في "شرح المهذب" عن عبيدة السلماني (
…
) ولم يذكر معهم أبا عبيدة، وكذا المؤلف نقله في الصوم عن عبيدة ولم يذكر معه أبا عبيدة.
(2)
رواه أبو داود (2365).
واحتج به الخطابي على أن الفطر أفضل من الصوم عند الضعف
(1)
، وهو مذهب الشافعي وابن حبيب، واحتج به مالك؛ لأنه صلى الله عليه وسلم صام، فلما قيل له: صام الناس بصيامك أفطر
(2)
.
و (الكديد): مكان معروف، وظن المزني أن من أصبح صائمًا وسافر له الفطر لهذا الحديث، وهو عجيب؛ فإن بين الكديد ومكة عدة أيام
(3)
، وكذا وقع في البويطي أيضًا، فلم ينفرد به.
(1)
"أعلام الحديث" 2/ 1414.
(2)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 2/ 19، "النوادر والزيادات" 2/ 19.
(3)
في هامش الأصل: أميال، والظاهر أنه قاله [يريد] المدينة، فأخطأ فقال مكة على أنها المدينة.
107 - باب التَّوْدِيعِ
2954 -
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي عَمْرٌو، عَنْ بُكَيْرٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في بَعْثٍ، وَقَالَ لَنَا:"إِنْ لَقِيتُمْ فُلَانًا وَفُلَانًا- لِرَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ سَمَّاهُمَا- فَحَرِّقُوهُمَا بِالنَّارِ". قَالَ: ثُمَّ أَتَيْنَاهُ نُوَدِّعُهُ حِينَ أَرَدْنَا الْخُرُوجَ فَقَالَ: «إِنِّي كُنْتُ أَمَرْتُكُمْ أَنْ تُحَرِّقُوا فُلَانًا وَفُلَانًا بِالنَّارِ، وَإِنَّ النَّارَ لَا يُعَذِّبُ بِهَا إِلاَّ الله، فَإِنْ أَخَذْتُمُوهُمَا فَاقْتُلُوهُمَا» . [3016 - فتح 6/ 115]
وَقَالَ ابن وَهْب: أَخْبَرَنِي عَمْرٌو، عَنْ بُكَيْرٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْثٍ، وَقَالَ لنَا:"إِنْ لَقِيتُمْ فُلَانًا وَفُلَانًا -لِرَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ سَمَّاهُمَا- فَحَرِّقُوهُمَا بِالنَّارِ". قَالَ: ثمَّ أَتَيْنَاهُ نُوَدّعُهُ حِينَ أَرَدْنَا الخُروجَ، فَقَالَ:"إِنِّي كُنْتُ أَمَرْتُكُمْ أَنْ تُحَرِّقُوا فُلَانًا وَفُلَانًا، وَإِنَّ النَّارَ لَا يُعَذَبُ بِهَا إِلَّا اللهُ، فَإِنْ وجدتموهما فَاقْتُلُوهُمَا".
هذا التعليق أسنده فيما سيأتي عن قتيبة، عن الليث، عن بكير، وأسنده النسائي أيضًا عن الحارث بن مسكين ويونس بن عبد الأعلى، كلاهما عن ابن وهب، عن عمرو بن الحارث وذكر آخر؛ كلاهما عن بكير
(1)
، وقال الإسماعيلي: حَدَّثَنَا الحسن بن سفيان، ثَنَا حرملة، أنبأنا عبد الله بن وهب، وأخبرني خزيمة، ثَنَا يونس وابن عبد الحكم، قالا: ثَنَا ابن وهب فذكره.
قَالَ الترمذي: وقد ذكر محمد بن إسحاق بين سليمان وأبي هريرة رجلاً في هذا الحديث، وحديث الليث أشبه وأصح
(2)
.
(1)
النسائي في "الكبرى" 5/ 249 (8804) عن الحارث بن مسكين، و 5/ 258 (8832) عن يونس بن عبد الأعلى.
(2)
"سنن الترمذي" 4/ 138 (1571).
وسمى ابن شاهين الرجل: أنا [أبو]
(1)
إسحاق الدوسي
(2)
، وهو مجهول. وفي الباب مثله من طرق: إحداها: عن ابن عباس، أخرجه البخاري فيما سيأتي من حديث عكرمة عنه، وبلغه أن عليًّا حرق قومًا فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لا يعذب بعذاب الله"، ولقتلتهم لقوله صلى الله عليه وسلم:"من بدل دينه فاقتلوه"
(3)
. زاد الإسماعيلي عن عمار الدهني: لم يحرقهم ولكن حفر لهم حفائر وخرق بعضها إلى بعض ثم دخن عليهم حَتَّى ماتوا. قَالَ عمرو بن دينار: فقَالَ الشاعر:
لترم بي المنايا حيث شاءت
…
إذا لم ترم بي في الحفرتين
إذا ما أججوا حطبًا ونارًا
…
هناك الموت نقدًا غير دين
وعند العقيلي فقال علي يوم ذاك:
لما رأيت الأمر أمرًا منكرًا
…
أججت ناري ودعوت قنبرًا
قَالَ: وكانوا قالوا لعلي: أنت إلهنا.
ثانيها: عن حمزة الأسلمي أخرجه أبو داود أنه صلى الله عليه وسلم أمَّره على سرية وقال: "إن وجدتم فلانًا فأحرقوه بالنار" فوليت، فناداني وقال:"إن وجدتموه فاقتلوه ولا تحرقوه، فإنه لا يعذب بالنار إلا رب النار"
(4)
وأخرجه الحازمي من حديث المغيرة بن عبد الرحمن، عن أبي الزناد، عن محمد بن مرة الأسلمي، عن أبيه أنه صلى الله عليه وسلم أمَّره على سرية، فذكر مثله، وكأنه تصحف حمزة بمرة
(5)
، ولابن شاهين من حديث
(1)
ساقطة من الأصول، والمثبت من مصدر التخريج.
(2)
"ناسخ الحديث ومنسوخه" ص 415.
(3)
سيأتي برقم (3017) باب: لا يعذب بعذاب الله.
(4)
أبو داود (2673).
(5)
"الاعتبار" ص 115 وفيه: حمزة الأسلمي.
كاتب الليث عنه، عن عمر بن عيسى، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس، عن عمر أنه جاءته جارية فقالت: إن زوجي أقعدني على النار حَتَّى أحرق فرجي، فقال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من حُرِّق بالنار أو مُثِّل به فهو حر وهو مولى الله ورسوله"
(1)
. ولأبي داود من حديث ابن مسعود: رأى النبي صلى الله عليه وسلم قرية نمل قد حرقناها فقال: "إنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا رب النار"
(2)
. ولا يخالفه الحديث الآتي: "إن نبيًّا من الأنبياء قرصته نملة فأمر بقرية النمل فأحرقت، فقال الله له: هلّا نملة واحدة؟ "
(3)
.
قَالَ الحكيم في "نوادره": هو إذن في إحراقها؛ لأنه إذا جاز إحراق واحدة جاز في غيرها.
ولابن شاهين، عن ابن بريدة، عن أبيه أنه صلى الله عليه وسلم بعث رجلاً إلى رجل كذب عليه في حكم حكمه وفي امرأة واقعها. فقال:"إن وجدته ميتًا فحرقه بالنار" فوجده لدغ فمات فحرقه
(4)
، وعن سعيد بن عبد العزيز أن أبا بكر لما ارتدت أم قرفة شد رجليها بفرسين ثم صاح بهما فشقاها
(5)
.
إذا تقرر ذَلِكَ؛ فما ترجم له واضح، وهو من الشأن المعلوم في البعوث والأسفار البعيدة توديع الرؤساء والأئمة ومن يرجى بركة دعوته واستصحاب فضله.
(1)
"ناسخ الحديث ومنسوخه" ص 415.
(2)
أبو داود (5268).
(3)
سيأتي برقم (3319) كتاب: بدء الخلق، باب: إذا وقع الذباب في شراب أحدكم ..
(4)
"ناسخ الحديث ومنسوخه" ص 414.
(5)
"ناسخ الحديث ومنسوخه" ص 423.
ثانيها: الرجلان المذكوران في حديث الباب: هبار بن الأسود القرشي الذي روَّع زينب بنت رسول صلى الله عليه وسلم حَتَّى ألقت ذا بطنها، والثاني: نافع بن عبد القيس، ووقع لابن القسطلاني: ابن عبد عمرو، وقال ابن الجوزي في حديث حمزة: أنه صلى الله عليه وسلم أرسله إلى رجل من عذرة هو هبار.
ثالثها: بوب البخاري فيما سيأتي في باب لا يعذب بعذاب الله.
وفيه: كما قَالَ ابن العربي: نسخ الحكم قبل العمل به، ومنع منه المبتدعة والقدرية، وسيأتي هناك إيضاحه.
قَالَ المهلب في غير هذا الباب: ليس نهيه عن التحريق بالنار على معنى التحريم، وإنما هو على سبيل التواضع فإنه سمل أعين الرعاة
(1)
بالنار في مصلى المدينة بحضرة الصحابة، وتحريق على الخوارج بالنار، وأكثر علماء المدينة يجيزون تحريق الحصون على أهلها بالنار، وقول أكثرهم بتحريق المراكب
(2)
.
وقال الداودي: فيه احتمال أن يقتل الكافر بالنار وأن الأفضل ألا يقتل بها، والذي في المذهب أن ذَلِكَ لا يفعل اختيارًا؛ فإن كانوا في حصن وهم مقاتلة وليس معهم مسلمون ولا نساء ولا صبيان، فقال مالك في "المدونة": يحرقون. وقال سحنون: لا. وروي عن ابن القاسم أنه مكروه
(3)
، زاد عيسى عنه: وكذلك في التدخين.
(1)
ورد بهامش الأصل: إنما سمل أعين الذين سملوا أعين الرعاة، وهم من عرينة ورعل ثماينة.
(2)
"شرح ابن بطال" 5/ 172.
(3)
"المدونة" 1/ 385.
قَالَ: واختلف فيمن حرق رجلاً بالنار هل يحرق بها؟ قَالَ الداودي: أمره بالإحراق كان فيما يجوز له، غير أنه رجع إلى الأفضل.
تنبيه: قوله لابن عمرو: "إني لا أقول في الغضب والرضى إلا حقًّا"
(1)
وإلى ذَلِكَ ذهب على كما سلف قَالَ: وقيل: يكره لهذا قتل القملة والبرغوث بالنار. وقال الحازمي: ذهبت طائفة إلى منع الإحراق في الحدود وقالوا: يقتل بالسيف. وإليه ذهب أهل الكوفة والنخعي والثوري وأبو حنيفة وأصحابه، ومن الحجازيين عطاء، وذهبت طائفة في حق المرتد إلى مذهب علي، وقالت طائفة: من حرق يحرق، وبه قَالَ مالك وأهل المدينة والشافعي وأصحابه وأحمد وإسحاق
(2)
.
واختلف العلماء في استتابة المرتدين، فروي عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود: نعم، فإن لم يتب قتل، وعليه الجمهور، وقالت طائفة: لا يستتاب ويجب قتله حين يرتد، منهم: عبيد بن عمير والحسن وطاوس وأبو يوسف وأهل الظاهر. وقال عطاء: إن كان أصله مسلمًا فإنه لا يستتاب، وإن كان مشركًا فأسلم ثم ارتد فإنه يستتاب. وعن علي: لا تستتاب المرتدة وتسترق. وقال به عطاء، وقال ابن عباس: لا تقتل ولكن تحبس وتجبر، والجمهور على أنه لا فرق بين الرجال والنساء في الاستتابة، فإن لم تتب، فقالت طائفة منهم الأوزاعي وأحمد وإسحاق: تقتل، وقالت طائفة: تحبس ولا تقتل، وهو قول الثوري وغيره من الكوفيين.
(1)
رواه أبو داود (3646)، وأحمد 2/ 162، والحاكم 1/ 105 - 106 بلفظ "اكتب فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق".
(2)
"الاعتبار" ص 150 - 151.
واختلف القائلون بالاستتابة، فقيل: يستتاب ثلاثة أيام، وهو قول للشافعي والآخر في الحال، فإن تاب وإلا قتل؛ وهو الأصح، وقال الزهري: يستتاب ثلاث مرات. وعن علي: يستتاب شهرًا. وقال النخعي والثوري: يستتاب أبدًا
(1)
. وقيل: يستتاب ثلاث مرات أو ثلاث جمع أو ثلاثة أيام، مرة في كل يوم أو جمعة، حكي هذا عن أبي حنيفة، وسيأتي إيضاحه في الحدود.
(1)
"الإشراف على مذاهب أهل العلم" لابن المنذر 3/ 156 - 157. وانظر أيضًا "مختصر اختلاف العلماء" 3/ 501.
108 - باب السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِلإِمَامِ ما لم يأمر بمعصية
2955 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ قَالَ: حَدَّثَنِي نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ صَبَّاحٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ حَقٌّ، مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِالْمَعْصِيَةِ، فَإِذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ» . [7144 - مسلم: 1839 - فتح 6/ 115]
ذكر فيه حديث ابن عُمَرَ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ حَقٌّ، مَا لَمْ يُؤْمَرْ بمعصية، فَإِذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ".
هذا الحديث أخرجه مسلم أيضًا، ويأتي من حديث علي بلفظ:"لا طاعة في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف" وهو في مسلم أيضًا
(1)
. وفي الباب عن عمران بن حصين أخرجه النسائي
(2)
والحكم بن عمرو أخرجه الطبراني
(3)
، وابن مسعود وغيرهم.
وذكر ابن إسحاق وغيره: أنه صلى الله عليه وسلم بعث علقمة بن مُجَزِّز المدلجي في ثلاث مائة إلى الحبشة فأمَّر عليهم عبد الله بن حذافة على بعض الجيش، فأجج نارًا وأرادهم على الوثوب فيها، فلما بلغ ذَلِكَ رسول الله قَالَ:"من أمركم بمعصية فلا سمع ولا تطيعوه"
(4)
.
(1)
سيأتي برقم (7257) كتاب: أخبار الآحاد، باب: ما جاء في إجازة خبر الواحد .. ومسلم (1840) كتاب: الإمارة، باب: وجوب طاعة الأمراء.
(2)
لم أجده عند النسائي، وإنما رواه أحمد 4/ 426.
(3)
الطبراني 3/ 208 - 209 (3150).
(4)
"سيرة ابن هشام" 4/ 317 ورواه أيضًا ابن ماجه (2863)، وأحمد 3/ 67.
قَالَ الحاكم: كانت في صفر بعد فتح مكة. وروى الزبير في "فكاهته" من حديث أبي سعيد: أمَّر النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن حذافة البدري على سرية وأنا معه فأجج نارًا. الحديث.
أما حكم الباب: فالإجماع قائم على وجوب طاعة الإمام في غير معصية وتحريمها في معصية، وبه نطقت أحاديث الباب.
وفيه: دليل أن يمين المكره غير لازمة خلافًا لأبي حنيفة، وقد اختلف الناس فيما يأمر به الولاة من العقوبات هل يسع المأمور فعل ذَلِكَ من غير تثبيت أو علم يكون عنده بوجوبها عليه؟ فقال مالك في كتاب الرجم من "المدونة": إذا كان الإمام عدلاً مثل عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز لم تسع مخالفته، وإن كان غير عدل وثبت الفعل أيضًا جاز له ذَلِكَ
(1)
. وحكى الطحاوي عن أبي حنيفة وصاحبيه أنهم قالوا: ما أمر به الولاة من ذَلِكَ غيرهم يسعهم فعله فيما كان ولايتهم إليه، وقال محمد: لا يسع المأمور أن يفعله حَتَّى يكون الآمر عدلاً، وحتى يشهد بذلك عنده عدل سواه، إلا في الزنا فلا يفعله حَتَّى يشهد معه ثلاثة سواه. وروي نحو الأول عن الشعبي.
وروي أن عمر بن هبيرة أرسل -وهو على العراق- إلى فقهاء الكوفة والبصرة، وكان ممن أتاه من البصرة الحسن، ومن الكوفة الشعبي، فدخلا عليه فقال لهم: أمير المؤمنين يزيد يكتب إليَّ في أمور أعمل بها، فما تريان؟ فقال الشعبي: أصلح الله الأمير، أنت مأمور، والتبعة على أمرك. فأقبل على الحسن فقال: ما تقول؟ فقال: قد قَالَ هذا. قَالَ: قل. قَالَ: اتق الله يا عمر، فكأنك بملك أتاك
(1)
"المدونة" 4/ 401.
فاستنزلك عن سريرك هذا فأخرجك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك، إن الله ينجيك من يزيد، وإن يزيد لا ينجيك من الله، فإياك أن تعرض لله بالمعاصي فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. ثم قَالَ الآذن: أيها الشيخ ما حملك على ما استقبلت به الأمير؟ قَالَ: حملني عليه ما أخذ الله على العلماء ثم تلى: {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187] قَالَ: فخرج عطاياهم وفضل الحسن
(1)
.
وروي عن الصديق ما يؤيد مذهب محمد بن الحسن السالف، قَالَ أبو برزة: مررت عليه وهو يتغيظ على رجل من أصحابه فقلت: يا خليفة رسول الله، من هذا الذي تتغيظ عليه؟ قَالَ: ولم تسأل عنه؟ قَالَ: قلتُ: لأضرب عنقه. قَالَ: والله (لأذهب)
(2)
غيظه ما قلتُ، ثم قَالَ: ما كانت لأحد بعد محمد. قلتُ: قد قيل فيه: إن الرجل سبه.
وفي رواية أخرى: أنه قَالَ لأبي برزة: لو قلتُ لك ذَلِكَ أكنت تفعله؟ قَالَ: نعم. قَالَ: ما كان ذَلِكَ لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم
(3)
، يريد: أن أحدًا لا يلزم قوله ولا تجب طاعته في قتل مسلم إلا بعد أن يعلم أنه حق إلا الشارع، فإنه لا يأمر إلا بالحق، وقد يتأول: لا يجب قتل إلا في سبه صلى الله عليه وسلم، ذكره كله ابن التين قَالَ: فإن أكره على قتل ظلم ففعل، فإن كان المأمور يمكنه مخالفة الآمر قتل المأمور وحده، وإلا كالسلطان قتلا جميعًا.
(1)
رواه أبو نعيم في "الحلية" 2/ 149 - 150، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" 45/ 376.
(2)
في الأصل: (إلا إذ) وصوَّب ما أثبتناه في الهامش.
(3)
رواه بو داود (4363)، والنسائي 7/ 109 - 110، وأحمد 1/ 10، وأبو يعلى في "المسند" 1/ 82 (79).
وعندنا: يجب القصاص أيضًا عليهما. قَالَ: وكذلك السيد مع عبده وقيل: إن كان (العبد)
(1)
أعجميًا قتل السيد وحده، ومن أكره على القول (جاز له؛ لقوله تعالى:{إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ} [النحل: 106] الآية، وكذلك إذا أكره على القول)
(2)
في أمرئ ما ليس فيه ساغ له أيضًا؛ لأن آل المغيرة أكرهوا عمارًا على سبه صلى الله عليه وسلم، فقال له:"إن استزادوك فزد" ونزلت الآية
(3)
.
احتج بهذا الحديث الخوارج فرأوا الخروج على أئمة الجور والقيام عليهم عند ظهور جورهم، والذي عليه جمهور الأئمة المنع (إلا بكفرهم)
(4)
بعد إيمانهم أو تركهم إقامة الصلوات، وأما دون ذَلِكَ من الجور فلا يجوز الخروج عليهم إذا استوطأ أمرهم وأمر الناس معهم؛ لأن في ترك الخروج عليهم تحصين الفروج والأموال وحقن الدماء، وفي القيام عليهم تفرق الكلمة وتشتت الألفة، وكذلك لا يجوز القتال معهم لمن خرج عليهم عن ظلم ظهر منهم لحديث الباب، وستكون لنا عودة إلى هذا المعنى في الأحكام والفتن إن شاء الله تعالى.
(1)
في (ص 1): السيد.
(2)
من (ص 1).
(3)
رواه الطبري في "تفسيره" 7/ 651 (21946) بلفظ: "فإن عادوا فعُدْ".
(4)
في الأصل: (إن لا بكفرهم) وصوبها في الهامش وعنه أثبتناه.
109 - باب الإمام يُقَاتِلُ من وَرَاءَ وَيُتَّقَى بِهِ
(1)
2156 -
حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، أَنَّ الأَعْرَجَ حَدَّثَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:«نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ» .
[انظر: 238 - مسلم: 855 - فتح 6/ 116]
2157 -
وَبِهَذَا الإِسْنَادِ «مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللهَ، وَمَنْ يُطِعِ الأَمِيرَ فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ يَعْصِ الأَمِيرَ فَقَدْ عَصَانِي، وَإِنَّمَا الإِمَامُ جُنَّةٌ يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ وَيُتَّقَى بِهِ، فَإِنْ أَمَرَ بِتَقْوَى اللهِ وَعَدَلَ، فَإِنَّ لَهُ بِذَلِكَ أَجْرًا، وَإِنْ قَالَ بِغَيْرِهِ، فَإِنَّ عَلَيْهِ مِنْهُ» . [7137 - مسلم: 1835، 1841 - فتح 6/ 116]
ذكر فيه حديث أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ".
وبه: "مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى الله، وَمَنْ يُطِع الأَمِيرَ فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ يَعْصِ الأَمِيرَ فَقَدْ عَصَانِي، وَإِنَّمَا الإِمَامُ جُنَّة، يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ وَيُتَّقَى بِهِ، فَإِنْ أَمَرَ بِتَقْوى اللهِ وَعَدَلَ فَإِنَّ لَهُ بِذَلِكَ أَجْرًا، وَإِنْ قَالَ بِغَيْرِهِ فَإِنَّ عَلَيْهِ مِنْهُ".
الشرح:
معنى قوله: ("فإن عليه منه") أي: من الوزر، وقد جاء في بعض طرقه:"فإن عليه منه وزرًا". ووجه مطابقة الترجمة لقوله: ("نحن الآخرون السابقون") أن معنى: ("يقاتل من ورائه") أي: من أمامه، كما قَالَ تعالى:{وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ} [الكهف: 79] أي: أمامهم، فأطلق الوراء على الأمام؛ لأنهم وإن تقدموه في الصورة فهم أتباعه في الحقيقة، والنبي صلى الله عليه وسلم تقدم
(1)
كذا بالأصل وفي هامشها: كذا التبويب: باب يُقَاتَلُ مِنْ وَرَاءِ الإمَامِ ويُتَّقَى بِهِ.
عليه غيره بصورة الزمان، لكن المتقدم عليه مأخوذ عليه العهد أن يؤمن به وينصره كآحاد أمته وأتباعه، فهم في الصورة أمامه وفي الحقيقة أتباعه وخلفه، قاله ابن المنير
(1)
. وهو معنى مناسب، ولكن البخاري مراده بهذا أن يأتي بصيغة روايته لشيخه الأعرج، فإن أول حديث فيها:"نحن الآخرون" فلذلك أتى به فاعلمه، وقد نبه عليه الداودي أيضًا.
قَالَ الخطابي؟ كانت قريش ومن يليهم من العرب لا يعرفون الإمارة ولا يُطيعون غير رؤساء قبائلهم فلما ولي في الإسلام الأمراء أنكرته نفوسهم وامتنع بعضهم من الطاعة، وإنما قَالَ لهم صلى الله عليه وسلم هذا القول ليعلمهم أن طاعة الأمراء مربوطة بطاعته، وأن من عصاهم عصى أمره؛ ليطاوعوا الأمراء الذين كان يوليهم عليهم، وإذا كان إنما وجبت طاعتهم لطاعة رسول الله، فخليق ألا يكون طاعة من كان مخالفُ الرسول الله فيما يأمره واجبة
(2)
، وليس هذا الأمر خاصًّا بمن باشره الشارع بتولية الإمام به -كما نبه عليه القرطبي- بل هو عام في كل أمير عدل للمسلمين، ويلزم منه نقيض ذَلِكَ في المخالفة والمعصية
(3)
.
وقوله: ("إنما الإمام جنة") بضم الجيم: الدرع، وسمي المجن: مجنًا؛ لأنه يستتر به عند القتال، فالإمام كالساتر؛ لأنه يمنع العدو من أذى المسلمين، ويمنع الناس بعضهم من بعض.
ومعنى: ("يقاتل من ورائه") أي: يقاتل معه الكفار والبغاة وسائر أهل الفساد، فإن لم يقاتل من ورائه وأتي عليه مرج أمر الناس، وأكل
(1)
"المتواري" ص 159.
(2)
"أعلام الحديث" 2/ 1420 - 1421.
(3)
"المفهم" 4/ 36.
القوي الضعيف، وضيعت الحدود والفروض، وتطاول أهل الحرب إلى المسلمين.
والياء في قوله: ("يتقي به") مبدلة من الواو؛ لأن أصلها من الوقاية ومعنى: "يتقي به": يدفع به الظلم.
وفيه: الدليل أن ما ذهب إليه أبو حنيفة وأبو يوسف بأن من أطاعهم في أمر ثم تبين له خطؤهم في ما أمروه من ذَلِكَ أنه معذور، وأن التبعة على الآمر، وهو شبيه مما قاله الشعبي، كما سلف. قَالَ الخطابي: ويحتمل أن يكون أراد به جُنَّة في القتال وفيما يكون منه في أمره دون غيره
(1)
. وقال الهروي: معنى: "الإمام جُنة" أنه يقي الإمام الزلل والسهو كما يقي الترس صاحبه من وقع السلاح.
وقال المهلب: معنى: "يتقي به" يرجع إليه في الرأي والفعل وغير ذَلِكَ مما لا يجب أن يقضى فيه إلا برأي الإمام وحكمه، ويتقي به الخطأ في الدين والعمل من الشبهات وغيرها، والإمام جنة بين الناس بعضهم من بعض؛ لأن بالسلطان يزع الله تعالى عن المستضعفين من الناس، فهو ستر لهم وحرز للأموال وسائر حرمات المؤمنين أن تنتهك.
وقال غيره: تأويل: "يقاتل من ورائه" عند العلماء على الخصوص وهو في الإمام العدل خاصة، فمن خرج عليه وجب على جميع المسلمين قتاله مع الإمام العدل نصرة له، إلا أن يرى الإمام أن يفعل ما فعل عثمان؛ فطاعة الإمام واجبة، إلا أن الخارجين عليه إن قتلوه في غير قتال اجتمعت فيه الفئتان للقتال، أو قتلوا غيره فإن القصاص يلزمهم، بخلاف قتلهم لأحد في حال الملاقاة للفئتين، ولذلك
(1)
"أعلام الحديث" 2/ 1421.
استجاز المسلمون طلب دم عثمان إذ لم يكن قتله عن ملاقاة، وإن كان الإمام غير عدل فالواجب عند العلماء من أهل السنة ترك الخروج عليه، وأن يقيموا معه الحدود والصلوات والحج والجهاد وتؤدى إليه الزكوات فمن قام عليه من الناس متأولًا بمذهب خالف فيه السنة أو بجور أو لاختيار إمام غيره سمي فاسقًا ظالمًا عاصيًا في خروجه؛ لتفريقه جماعة المسلمين، ولما يكون في ذَلِكَ من سفك الدماء فإن قاتلهم الإمام الجائر لم يقاتلوا معه ولم يجز أن يسفكوا دماءهم في نصره.
وقد رأى كثير من الصحابة ترك القتال مع على، ومكانه من الدين والعلم ما لا يخفى على أحد له مسكة فهم، وسموه قتال فتنة، وادعى كل واحد على صاحبه أنه الفئة الباغية، وهذا الشأن العصبية عند أهل العلم، ولم ير على علي من فر من القتال ذنبًا يوجب سخطه حاله، وإن كان قد دعا بعضهم إلى القتال فأبوا أن يجيبوه، فعذرهم، وكذلك يجب على الإمام المفلح الذي يأخذ الأمر عن شورى ألا يعتب من بعد عنه، وسيأتي إيضاح كشف القتال في الفتنة في موضعه في كتاب الفتنة إن شاء الله تعالى.
قَالَ الداودي: إنما يقاتل من ورائه من أراد بظلم إن كان عدلاً فأراد طائفة خلعه قوتل من ورائه كما قوتل الخوارج مع علي؛ لقوله: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا} [الحجرات: 9] ولما أراد علي الخوارج يوم الجمل قال له أصحاب عبد الله: نحن معتزلون فإن تبين لنا ظلم أحد قاتلناه. قَالَ على: هذا هو الفقه. وإن كان ظالمًا غشومًا وأراده بعض أهل الإسلام، فإن كان يقدر على خلعه بغير حدث ولا أمر يدخل فيه ظلم خلع، وإن لم يوصل إلى ذَلِكَ إلا مما فيه ظلم كف عنه ولم يستعمل الدعاء عليه، والله سائله وسائل أعوانه وأنصاره.
وقوله: ("وإن قَالَ بغيره")(قَالَ) هنا بمعنى: حكم. نبه عليه الخطابي
(1)
، يقال: قَالَ الرجل واقتال إذا حكم، وقيل: إنه مشتق من اسم القيل، وهو الملك الذي يقدم قوله وحكمه دون الملك العظيم. وقال ابن فارس: اقتال فلان على فلان تحكم
(2)
. وفي حديث ذكر فيه رقية النملة: العروس تحتفل وتقتال وتكتحل، تقتال: أي تحتكم على زوجها، ذكره الهروي
(3)
.
(1)
"أعلام الحديث" 2/ 1421.
(2)
"مجمل اللغة" 2/ 739.
(3)
كما في "النهاية في غريب الحديث" 4/ 123.
110 - باب البَيْعَةِ فِي الحَرْبِ أَنْ لَا يَفِرُّوا
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَلَى المَوْتِ، لِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى:{لَقَدْ رَضِيَ الله عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18].
2958 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ، عَنْ نَافِعٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما: رَجَعْنَا مِنَ العَامِ المُقْبِلِ، فَمَا اجْتَمَعَ مِنَّا اثْنَانِ عَلَى الشَّجَرَةِ الَّتِي بَايَعْنَا تَحْتَهَا، كَانَتْ رَحْمَةً مِنَ اللهِ. فَسَأَلْتُ نَافِعًا: عَلَى أَيِّ شَيءٍ بَايَعَهُمْ؟ عَلَى المَوْتِ؟ قَالَ: لَا، بَايَعَهُمْ عَلَى الصَّبْرِ. [فتح 6/ 117]
2951 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى، عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا كَانَ زَمَنَ الحَرَّةِ أَتَاهُ آتٍ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ ابْنَ حَنْظَلَةَ يُبَايِعُ النَّاسَ عَلَى الْمَوْتِ. فَقَالَ: لَا أُبَايِعُ عَلَى هَذَا أَحَدًا بَعْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. [4167 - مسلم: 1861 - فتح 6/ 117]
2960 -
حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ سَلَمَةَ رضي الله عنه قَالَ: بَايَعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ عَدَلْتُ إِلَى ظِلِّ الشَّجَرَةِ، فَلَمَّا خَفَّ النَّاسُ قَالَ «يَا ابْنَ الأَكْوَعِ، أَلَا تُبَايِعُ؟» . قَالَ قُلْتُ قَدْ بَايَعْتُ يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: «وَأَيْضًا» . فَبَايَعْتُهُ الثَّانِيَةَ. فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا مُسْلِمٍ، عَلَى أَيِّ شَيءٍ كُنْتُمْ تُبَايِعُونَ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: عَلَى الْمَوْتِ [7208،7206،4169 - مسلم: 1860 - فتح 6/ 117]
2961 -
حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ حُمَيْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا رضي الله عنه يَقُولُ كَانَتِ الأَنْصَارُ يَوْمَ الخَنْدَقِ تَقُولُ:
نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا عَلَى
…
الْجِهَادِ مَا حَيِينَا أَبَدَا
فَأَجَابَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:
اللَّهُمَّ لَا عَيْشَ إِلاَّ عَيْشُ الآخِرَهْ
…
فَأَكْرِمِ الأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَهْ
[انظر: 2834 - مسلم: 1805 - فتح 6/ 117]
2962، 2963 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، سَمِعَ مُحَمَّدَ بْنَ فُضَيْلٍ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ مُجَاشِعٍ رضي الله عنه قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنَا وَأَخِي، فَقُلْتُ: بَايِعْنَا على الْهِجْرَةِ. فَقَالَ: «مَضَتِ الْهِجْرَةُ لأَهْلِهَا» . فَقُلْتُ: عَلَامَ تُبَايِعُنَا قَالَ: «عَلَى الإِسْلَامِ وَالْجِهَادِ» . [3078، 4305، 4307 - فتح 6/ 117]، [3079، 4306، 4308 - مسلم: 1863 -
فتح 6/ 117]
ذكر فيه خمسة أحاديث:
أحدها: حديث جُوَيْرِيَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عن ابن عُمَرَ: رَجَعْنَا مِنَ العَامٍ المُقْبِلِ، فَمَا اجْتَمَعَ مِنَّا اثْنَانِ عَلَى الشَّجَرَةِ التِي بَايَعْنَا تَحْتَهَا، كَانَتْ رَحْمَة مِنَ اللهِ. فَسَأَلْتُ نَافِعًا: عَلَى أَيِّ شَيْءٍ بَايَعَهُمْ؟ عَلَى المَوْتِ؟ قَالَ: لَا، بَايَعَهُمْ عَلَى الصَّبْرِ.
ثانيها: حديث عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدٍ لكنه قَالَ: لَمَّا كَانَ زَمَنَ الحَرَّةِ أَتَاهُ آتٍ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ ابن حَنْظَلَةَ يُبَايع النَّاسَ عَلَى المَوْتِ. فَقَالَ: لَا أُبَايعُ عَلَى هذا أَحَدًا بَعْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
ثالثها: حَدَّثنَا المَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، ثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ سَلَمَةَ قَالَ: بَايَعْتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ عَدَلْتُ إِلَى ظِلِّ الشَّجَرَةِ، فَلَمَّا خَفَّ النَّاسُ قَالَ:"يَا ابن الأَكْوَعِ، ألَا تُبَايعُ؟ ". قَالَ: قُلْتُ: قَدْ بَايَعْتُ يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: "وَأَيْضًا". فَبَايَعْتُهُ الثَّانِيَةَ. فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا مُسْلِمٍ، عَلَى أَيِّ شَيءٍ كُنْتُمْ تُبَايِعُونَ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: عَلَى المَوْتِ. وهذا أحد ثلاثياته.
رابعها: حديث أنس كَانَتِ الأَنْصَارُ يَوْمَ الخَنْدَقِ يقولون:
نَحْنُ الذينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا
…
عَلَى الجهَادِ مَا حَيِينَا أَبَدَا
وأَجَابَهُمُ فَقَالَ:
اللَّهُمَّ لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الآخِرَهْ
…
فَأَكْرِمِ الأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَهْ
وقد سلف في حفر الخندق
(1)
.
خامسها: حديث مُجَاشِع بن مسعود: لما أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنَا وَأَخِي، فَقُلْتُ: بَايِعْنَا عَلَى الهِجْرَةِ. فَقَالَ: "مَضَتِ الهِجْرَةُ لأَهْلِهَا". فَقُلْتُ: عَلَامَ تُبَايِعُنَا؟ قَالَ: "عَلَى الإِسْلَامِ وَالْجِهَادِ"
الشرح:
ذكر البخاري وغيره أن المبايعة كانت في الحديبية على الموت. قَالَ الإسماعيلي: هذا من قول نافع في البيعة ليس بمسند، ووجه مطابقة الآية الكريمة للترجمة قوله في أثنائها:{فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ} مبنيًّا على قوله: {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} [الفتح: 18] والسكينة: الثبوت والطمأنينة في موقف الحرب، دل ذَلِكَ على أنهم أضمروا في قلوبهم الثبوت وأن لا يفروا وفاءً بالعهد، كما نبه عليه ابن المنير
(2)
.
وكأن البخاري لما ذكر في الترجمة عن بعضهم المبايعة على الموت، استدل على ذَلِكَ بالآية التي فيها المبايعة تحت الشجرة، وكانت المبايعة بالحديبية تحت الشجرة على الموت كما سلف، وأورد الأحاديث في الباب التي تدل على ذَلِكَ وعلى الصبر، والصبر يجمع المعاني كلها، وبيعة الشجرة إنما هي على الأخذ بالشدة وألا يفروا أصلاً ولابد من الصبر إما إلى فتح، وإما إلى موت، ومن بايع على الصبر وعلى عدم الفرار فقد بايع على الموت.
قَالَ المهلب: هذِه الأحاديث مختلفة الألفاظ، منهم من يقول: على الموت، وعلى ألا يفر، وعلى الصبر، وهو أولى الألفاظ بالمعنى؛ لأن بيعة الإسلام هي على الجهاد وقتال المثلين، فإن كان المشركون أكثر من
(1)
سلف برقم (2835).
(2)
"المتواري" ص 161.
المسلمين كان المسلم في سعة من أن يفر وفي سعة من أن يأخذ بالشدة ويصبر، وهذا كله بعد أن نسخ قتال العشرة أمثال، وأما قبل نسخها فكان يلزم قتال العشرة أمثال وألا يفر إلا من أكثر منها، وبيعة الشجرة إنما هي (على)
(1)
الأخذ بالشدة كما سلف، فمن قَالَ: بايعنا على الموت. أراد: أو يفتح لنا، ومن قَالَ: ألا نفر فهو نفس القصة التي وقعت عليها المبايعة، وهو معنى الصبر.
وقول نافع: على الصبر؛ كراهية لقول من قَالَ بأحد الطرفين: الموت أو الفتح، فجمع نافع المعنيين في كلمة الصبر.
وقال المحب الطبري في أوائل "أحكامه": حديث مسلم من طريق معقل بن يسار: لم نبايعه على الموت وإنما بايعناه على أن لا نفر
(2)
وحديثه أيضًا من طريق سلمة: بايعناه على الموت. الجمع بينهما أن معنى الأول: أن لا نفر أيضًا، وإن أدى إلى الموت؛ لأن الموت نفسه لا تكون المبايعة عليه.
وقوله: (فما اجتمع منا اثنان على الشجرة التي بايعنا تحتها، كانت رحمة) يعني: خشية أن تعبد أو تفسير كالقبلة والمسجد لمن لا تمكن في الإسلام من قلبه بجهل وشبهة، وفي بعض الروايات: خفي عليهم مكانها في العام المقبل.
فائدة: بيعة الشجرة كانت بالمدينة
(3)
، وبالمدينة فرض الجهاد على
(1)
من (ص 1).
(2)
مسلم (1858) كتاب: الإمارة، باب: استحباب مبايعة الإمام الجيش ..
(3)
ورد بهامش الأصل: يعني بعد انتقاله إلى المدينة من مكة وإلا فقد كان بالمدينة وهي بقرب مكة، واختلف فيها هل هي من الحرم أم لا أو بعضها منه وبعضهما خارج عليه.
المسلمين، وقد كانت بيعة العقبة بمكة على ألا يشركوا بالله شيئًا إلى آخر الآية في الممتحنة، وذكره عبادة بن الصامت في حديثه: ولم يفرض في هذِه البيعة حرب إنما كانت بيعة النساء، وقد سلف ذَلِكَ في باب: علامة الإيمان حب الأنصار، من كتاب الإيمان.
وأما حديث عبد الله بن زيد فهو دال على أنهم كانوا يبايعونه على الموت، ووقعة الحرة -حرة زهرة- كانت سنة ثلاث وستين كما قَالَ السهيلي
(1)
، وقال الواقدي وأبو عبيدة وغيرهما: في حرة واقم أطم شرقي المدينة. قَالَ الشاعر:
فإن تقتلونا يوم حرة واقم
…
فنحن على الإسلام أول من قتل
وقد أفردها بالتصنيف المدائني وغيره.
وسببها أن عبد الله بن حنظلة وغيره من أهل المدينة وفدوا على يزيد فرأوا منه ما لا يصلح، فرجعوا إلى المدينة (فخلعوه)
(2)
وبايعوا ابن الزبير، فأرسل إليهم يزيد مسلمَ بن عقبة المعروف بمسرف، فأوقع بأهل المدينة وقعة عظيمة، قتل من وجوه الناس ألفًا وسبعمائة، ومن أخلاطهم عشرة آلاف سوى النساء والصبيان. قالَ ابن السيد: والحرة في كلامهم: كل أرض كانت حجارة سود محرقة، والحرار في بلاد العرب كثيرة وأشهرها ثلاث وعشرون حرة، كما قاله ياقوت
(3)
.
وقوله: (لا أُبايع أحدًا على الموتِ بعدَ رسُول الله صلى الله عليه وسلم). فإنما قَالَه لأنه كان يرى القعود في الفتن التي بين المسلمين وترك القتال مع إحدى الطائفتين، وقد ذهب إلى ذَلِكَ جماعة من السلف على ما يأتي بيانه في
(1)
"الروض الأنف" 3/ 257.
(2)
في (ص 1): فخلفوه.
(3)
"معجم البلدان" 2/ 245.
كتاب الفتنة في حديث: "تكون فتنة القاعد فيها خير من القائم"
(1)
.
وأما حديث سلمة فقوله: ("ألا تبايع") أراد أن يؤكد ببيعته لشجاعة سلمة وغنائه في الإسلام وشهرته بالثبات، فلذلك أمره بتكرير المبايعة، وليكون له في ذَلِكَ فضيلة، وليقوي نيته، وإنما بايعهم حين قيل له: قريش أعدوا لقتالك. وكان قد بعث عثمان ليأتيه بالخبر؛ لأنه كان أمنع (صاحبه)
(2)
جانبًا بمكة لكثرة من كان بها من بني أمية، فأبطأ عليه فخشي عليه مع ما قيل عن قريش فبايع، وبايع لعثمان إحدى يديه بالأخرى، وقيل له حين أبطأ عثمان: أظنه أبطأ به الطواف بالبيت. فلما أتى ذكر ذَلِكَ له فقال: ما كنت لأطوف به قبل أن يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أتقدم بين يديه في شيء. وقال ابن عمر: لو علم النبي صلى الله عليه وسلم أن بمكة أعز من عثمان لبعثه.
وأما حديث أنس فالذي أجابهم صلى الله عليه وسلم من الرجز إنما هو لابن رواحة فتمثل به، وإنما كان يقول:"ارحم المهاجرين والأنصار"، قاله الداودي، قَالَ: وقوله: "اللَّهُمَّ" أحسبه ليس فيه ألف ولام إنما قَالَ ابن رواحة: الاهم. فأتى به بعض الرواة على المعنى، وتعقبه ابن التين فقال: ما ذكره لا يصح هنا ولا يتزن به الرجز، نعم يصح كما سلف:
اللَّهُمَّ إن العيش عيش الآخرة.
فهذا (إذا)
(3)
أسقط منه الألف واللام صار موزونًا.
(1)
سيأتي برقم (7081).
(2)
ذكر في الهامش: لعله (أصحابه).
(3)
من (ص 1).
وأما حديث مجاشع فإنما كان بعد الفتح وقد قَالَ صلى الله عليه وسلم: "لا هجرة بعد الفتح إنما هو جهاد ونية"
(1)
فكان من بايع قبل الفتح لزمه الجهاد أبدًا ما عاش إلا لعذر يجوز له به التخلف، وكذلك قَالَ بيت ارتجازهم يوم الخندق:
نحن الذين بايعوا محمدًا
…
على الجهاد ما بقينا أبدًا
ولذلك قَالَ تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة: 122]، فأباح لهم أن يتخلف عن الغزو من ينفر إلى التفقه في الدين، ولم يبح لغير المتفقهين التخلف عن الغزو، وأما من أسلم بعد الفتح فله أن يجاهد وله أن يتخلف بنية صالحة كما قَالَ:"جهاد ونية" إلا أن ينزل عدو أو ضرورة فيلزم الجهاد كل أحد، ذكره ابن بطال، ثم قَالَ: والدليل على أن كل من بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الفتح لا يجوز له التخلف عن الجهاد أبدًا قصة كعب بن مالك إذ تخلف عن تبوك مع صاحبيه: هلال بن أمية، ومرارة بن الربيع، أنهم لم يعذروا وعتب الله ورسوله والمؤمنون عليهم، وأخرجوهم من بين ظهرانيهم ولم يسلموا عليهم ولا يكلموهم، حَتَّى بلغت منهم العقوبة مبلغها وعلم الله نياتهم، فتاب عليهم
(2)
.
وقال ابن التين: كان من هاجر إلى رسول الله غ صلى الله عليه وسلم قبل الفتح من غير أهل مكة وبايعه على المقام بالمدينة كان عليه المقام بها حياته صلى الله عليه وسلم، ومن لم يشترط المقام من غير أهل مكة بايع ورجع إلى موضعه، كفعل عمرو بن حريث ووفد عبد القيس وغيرهم، وكانت الهجرة فرضًا على
(1)
سلف برقم (1834) كتاب: جزاء الصيد، باب: لا يحل القتال بمكة.
(2)
"شرح ابن بطال" 5/ 131.
أهل مكة إلى الفتح، ثم زالت الهجرة التي توجب المقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وفاته، ووجبت الهجرة أن تؤتى المدينة ثم يرجع المهاجر كما فعل صفوان.
وقوله: ("على الإسلام والجهاد") فيه: دلالة أن المبايع لم يكن من الأعراب الذين ليس عليهم جهاد، والجهاد المشترط هنا جهاد من يلي الكفار وغيرهم لملتهم، وأن على من يليهم نصرهم إذا احتاجوا إليه، وأن على الإمام أن يمدهم إذا احتاجوا إلى ذلك وعلى الناس أن ينفروا إذا استنفرهم الإمام.
فائدة:
أخو مجاشع اسمه: مجالد بن مسعود السلمي، نبه عليه ابن بطال
(1)
.
(1)
"شرح ابن بطال" 5/ 131، وورد بهامش الأصل ما نصه: وهو مصرح به في البخاري فلا حاجة إلى ابن بطال، والله أعلم.
111 - باب عَزْمِ الإِمَامِ عَلَى النَّاسِ فِيمَا يُطِيقُونَ
2164 -
حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللهِ رضي الله عنه لَقَدْ أَتَانِي اليَوْمَ رَجُلٌ، فَسَأَلَنِي عَنْ أَمْرٍ مَا دَرَيْتُ مَا أَرُدُّ عَلَيْهِ، فَقَالَ أَرَأَيْتَ رَجُلاً مُؤْدِيًا نَشِيطًا، يَخْرُجُ مَعَ أُمَرَائِنَا فِي المَغَازِى، فَيَعْزِمُ عَلَيْنَا فِي أَشْيَاءَ لَا نُحْصِيهَا؟ فَقُلْتُ لَهُ: وَاللهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لَكَ، إِلاَّ أَنَّا كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَعَسَى أَنْ لَا يَعْزِمَ عَلَيْنَا فِي أَمْرٍ إِلاَّ مَرَّةً حَتَّى نَفْعَلَهُ، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَنْ يَزَالَ بِخَيْرٍ مَا اتَّقَى اللهَ، وَإِذَا شَكَّ فِي نَفْسِهِ شَيْءٌ سَأَلَ رَجُلاً فَشَفَاهُ مِنْهُ، وَأَوْشَكَ أَنْ لَا تَجِدُوهُ، وَالَّذِي لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ مَا أَذْكُرُ مَا غَبَرَ مِنَ الدُّنْيَا إِلاَّ كَالثَّغْبِ، شُرِبَ صَفْوُهُ وَبَقِيَ كَدَرُهُ. [فتح 6/ 119]
ذكر فيه حديث أَبِي وَائِلٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللهِ: لَقَدْ أَتَانِي اليَوْمَ رَجُلٌ، فَسَأَلَنِي عَنْ أَمْرٍ مَا دَريْتُ مَا أَرُدُّ عَلَيْهِ، فَقَالَ: أَرَأَيْتَ رَجُلًا مُؤْدِيًا نَشِيطًا، يَخْرُجُ مَعَ أُمَرَائِنَا فِي المَغَازِي، فَيَعْزِمُ عَلَيْنَا فِي أَشْيَاءَ لَا نُحْصِيهَا؟ فَقُلْتُ لَهُ: والله مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لَكَ، إِلَّا أَنَّا كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فعَسَى أَنْ لَا يَعْزِمَ عَلَيْنَا فِي أَمْرٍ إِلَّا مَرَّةً حَتَّى نَفْعَلَهُ، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَنْ يَزَالَ بِخَيْرٍ مَا اتَّقَى الله، وَإِذَا شَكَّ فِي نَفْسِهِ شَيْءٌ سَأَلَ رَجُلًا فَشَفَاهُ مِنْهُ، وَأَوْشَكَ أَنْ لَا تَجِدُوهُ، وَالَّذِي لَا إله إِلَّا هُوَ مَا أَذْكُرُ مَا غَبَرَ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا كَالثَّغْبِ، شُرِبَ صَفْوُهُ، وَبَقِيَ كَدَرُهُ.
الشرح:
المؤدي -بالدال المهملة- هو التام السلاح الشاك. وقال أبو عبيد: معناه: ذو أداة وسلاح تام العدة والشكل. وعبارة ابن التين: تام السلاح، وكامل أداة الحرب. وعبارة غيره: يعني: ذا أداة الحرب كاملة. والمعنى واحد، وهو مهموز، إذ لولاه لكان من أودى: إذا هلك. وقال الداودي: أي: قويًّا متمكنًا.
ومعنى (لا نحصيها): لا نطيقها؛ من قوله تعالى: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} [المزمل: 20] ويحتمل كما قَالَ الداودي: لا ندري هل هي طاعة أو معصية؟
وقوله: (فعسى ألا يعزم علينا إلا مرة). يقولوا: فافعلوا كذلك مع العدل.
وقوله: (ما غير من الدنيا). يعني: ما بقي، والغابر هو الباقي، ومنه قوله تعالى:{إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (171)} [الشعراء: 171] يعني: ممن تخلف فلم يمض مع لوط. وقال الداودي: يريد ما مضى. وقال بعض أهل اللغة: غبر من الأضداد يقع لما مضى ولما بقي. وقال قوم: الماضي غابر، والباقي غبر. والمراد في الحديث: ما بقي، خلاف قول الداودي، وبه صرح ابن الجوزي وغيره وقال: إنه أشبه لقوله: (ما أذكر).
وقوله: (إذا شك في نفسه سأل رجلاً فشفاه منه). يقول: من تقوى الله ألا يتقدم فيما يشك منه حَتَّى يسأل من عنده علم من ذَلِكَ فيدله على ما فيه شفاؤه منه.
وقوله: (وأوشك ألا تجدوه) أي: تقرر ذَلِكَ عند ذهاب الصحابة.
وقوله: (كالثغب) -هو بثاء مثلثة وبغين معجمة ساكنة ومفتوحة أيضًا -وهو أكثر كما قَالَه القزاز، وقال صاحب "المنتهى": إنه أفصح؛ نقرة في صخرة يستنقع فيها ماء قليل، والجمع ثغاب وثغبان بضم الثاء وكسرها، ومن سكن قَالَ: ثغاب. وقال سيبويه: هو بالسكون: الغدير، والجمع ثُغبان
(1)
، وبالتحريك ذوب الجمد،
(1)
"الكتاب" 3/ 571.
والجمع: ثغبان، شبه ما في الدنيا (في غدير)
(1)
ذهب صفوه وبقي كدره، يريد: ما ذهب من خير الدنيا وبقى من شر أهلها. وقيل: إنه: الغدير يكون في غلظ من الأرض أو في ظل جبل لا يصيبه حر الشمس فيبرد ماؤه.
وقال الخطابي: هو ما اطمأن من متون الأرض يجتمع فيه الماء
(2)
، وقيل:(النقرة)
(3)
في الجبل. وقال ابن فارس: الماء المستنقع فيه
(4)
. وقال الداودي: هو القدح بالماء شرب صفوه وبقي كدره. أي: ذهب خيار الناس وبقي أقلهم ممن خالطهم، ليس مثلهم.
والكدر: ما خالطه الماء من غثاء السيل وطينه، وعبارة ابن سيده في "محكمه": هو (بقية) الماء العذب في الأرض. وقيل: هو أخدود تحفره المسايل من علٍ، فإذا انحطت حفرت أمثال القبور (والديار)
(5)
، فيمضي السيل عنها ويغادر الماء فيها فتصفقه الريح فليس شيء أصفى منه ولا أبرد، فسمي الماء بذلك المكان، وقيل: كل غدير ثغب، والجمع: أثغاب. وقال ابن الأعرابي: الثغب: ما استظل في الأرض مما يبقى من السيل إذا انحسر يبقى منه في حيد من الأرض، فالماء بمكانه ذَلِكَ ثغب. قَالَ: واضطر شاعر إلى إسكان ثانيه
(6)
.
(1)
في (ص 1): بباقي غدير.
(2)
"أعلام الحديث" 2/ 1413.
(3)
في (ص 1): الثغر.
(4)
"مجمل اللغة" 1/ 159.
(5)
كذا بالأصل بمثناة، وفي "المحكم":(والدبار) بموحدة.
(6)
"المحكم" 5/ 288.
إذا تقرر ذَلِكَ؛ فالحديث قال على شدة لزوم الناس طاعة الإمام ومن يستعمله الإمام، كما ذكره المهلب، ألا ترى تحرج السائل لعبد الله وتعرفه كيف موقع التخلف عن أمر السلطان من السنة، وتحرج عبد الله من أن يفتيه في ذَلِكَ برخصة أو شدة، لكن قد فسر الشارع ذَلِكَ في الحديث الذي أمر فيه بعض قواده أن يجمعوا حطبًا ويوقدوها، ففعلوا، فقال لهم:"ادخلوها" فتوقفوا، وأُخبر بذلك فقال:"لو دخلوها ما خرجوا منها، إنما الطاعة في المعروف". وقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ الله نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] يقضي على ذَلِكَ كله، وقد كان له أن يكلفها فوق وسعها فلم يفعل وتفضل في أخذ العفو، وفيه: فشكى عبد الله بن مسعود قلة العلماء وتغير الزمن عما كان عليه في وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
112 - باب كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا لَمْ يُقَاتِلْ أَوَّلَ النَّهَارِ أَخَّرَ القِتَالَ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ
2165 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ سَالِمٍ أَبِي النَّضْرِ -مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ، وَكَانَ كَاتِبًا لَهُ- قَالَ: كَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى رضي الله عنهما فَقَرَأْتُهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ أَيَّامِهِ التِي لَقِيَ فِيهَا انْتَظَرَ حَتَّى مَالَتِ الشَّمْسُ. [انظر: 2818 - مسلم: 1742 - فتح 6/ 120]
2166 -
ثُمَّ قَامَ في النَّاسِ قَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ، وَسَلُوا اللهَ العَافِيَةَ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ الجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ، ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الكِتَابِ وَمُجْرِيَ السَّحَابِ وَهَازِمَ الأَحْزَابِ، اهْزِمْهُمْ وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ» . [انظر: 2933،2818 - مسلم: 1742 - فتح 6/ 120]
ذكر فيه حديث ابن أَبِي أَوْفَى، أنه صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ أَيَّامِهِ التِي لَقِيَ فِيهَا العدو انْتَظَرَ حَتَّى مَالَتِ الشَّمْسُ. ثُمَّ قَامَ فِي النَّاسِ فقَالَ:"أَيُّهَا النَّاسُ، لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ العَدُوِّ، واسألوا الله العَافِيَةَ، وإذا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ الجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ". ثُمَّ قَالَ: "اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الكِتَابِ وَمُجْرِيَ السَّحَابِ وَهَازِمَ الأَحْزَابِ، اهْزِمْهُمْ وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ".
هذا الحديث سلف بعضه قريبًا.
قَالَ المهلب: معنى هذا الحديث -والله أعلم- مفهوم من قوله: "نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور" فهو يستبشر مما نصره الله به من الرياح، ويرجو أن يهلك الله أعداءه بالدبور كما أهلك عادًا، وإذا أهلك عدوه بالدبور فقد نصر بها، فكان إذا لم يقاتل بالغدو وهو الوقت الذي تهب فيه الرياح أخر حَتَّى تزول الشمس وتهب رياح النصر.
قلتُ: ويتمكن من القتال بوقت الإبراد وهبوب الرياح؛ لأن الحرب كلما استحرت وحمي المقاتلون بحركتهم فيها وما حملوه من سلاحهم هبت أرواح العشي وبردت من حرهم ونشطتهم وخففت أجسامهم، بخلاف اشتداد الحر.
وفي البخاري في الجزية والموادعة من حديث النعمان بن مقرن: شهدت القتال مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا لم يقاتل في أول النهار انتظر حَتَّى (تهب)
(1)
الأرياح وتحضر الصلوات
(2)
. وفي رواية لابن أصبغ: انتظر حَتَّى تزول الشمس وتهب رياح النصر، ولا شك أن أوقات الصلوات أفضل الأوقات ويستجاب فيها الدعاء.
وفي رواية الترمذي: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان إذا طلع الفجر أمسك حَتَّى تطلع الشمس، فإذا طلعت قاتل، فإذا انتصف النهار أمسك حَتَّى تزول الشمس، فإذا زالت الشمس قاتل حَتَّى العصر، ثم أمسك حَتَّى يصلي العصر ثم يقاتل، وكان يقال عند ذَلِكَ: تهيج رياح النصر (ويدعو المؤمنون لجيوشهم)
(3)
في صلاتهم، قَالَ: وقد روي عن النعمان بسند أوصل من هذا، ثم ذكر قطعة منه وقال: حسن صحيح
(4)
.
(1)
في (ص 1): تخف.
(2)
سيأتي برقم (3160).
(3)
في الأصل: (يفزع المؤمنون بجيوشهم)، والمثبت من (ص 1)، وهو الموافق لما في "السنن".
(4)
"سنن الترمذي"(1612)، (1613).
113 - باب اسْتِئْذَانِ الرَّجُلِ الإِمَامَ
لِقَوْلِهِ تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ} [النور: 62] الآيَةِ.
2967 -
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، عَنِ المُغِيرَةِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رضي الله عنهما قَالَ: غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: فَتَلَاحَقَ بِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا عَلَى نَاضِحٍ لَنَا قَدْ أَعْيَا فَلَا يَكَادُ يَسِيرُ فَقَالَ لِي: «مَا لِبَعِيرِكَ؟» . قَالَ: قُلْتُ: عَيِيَ. قَالَ فَتَخَلَّفَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَزَجَرَهُ وَدَعَا لَهُ، فَمَا زَالَ بَيْنَ يَدَيِ الإِبِلِ قُدَّامَهَا يَسِيرُ. فَقَالَ لِي «كَيْفَ تَرَى بَعِيرَكَ». قَالَ قُلْتُ بِخَيْرٍ قَدْ أَصَابَتْهُ بَرَكَتُكَ. قَالَ:«أَفَتَبِيعُنِيهِ؟» . قَالَ: فَاسْتَحْيَيْتُ، وَلَمْ يَكُنْ لَنَا نَاضِحٌ غَيْرَهُ، قَالَ: فَقُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: «فَبِعْنِيهِ» . فَبِعْتُهُ إِيَّاهُ عَلَى أَنَّ لِي فَقَارَ ظَهْرِهِ حَتَّى أَبْلُغَ الْمَدِينَةَ. قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي عَرُوسٌ، فَاسْتَأْذَنْتُهُ فَأَذِنَ لِي، فَتَقَدَّمْتُ النَّاسَ إِلَى الْمَدِينَةِ حَتَّى أَتَيْتُ الْمَدِينَةَ، فَلَقِيَنِي خَالِي فَسَأَلَنِي عَنِ الْبَعِيرِ، فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا صَنَعْتُ فِيهِ فَلَامَنِي، قَالَ وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِي حِينَ اسْتَأْذَنْتُهُ:«هَلْ تَزَوَّجْتَ بِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا؟» . فَقُلْتُ: تَزَوَّجْتُ ثَيِّبًا. فَقَالَ: «هَلاَّ تَزَوَّجْتَ بِكْرًا تُلَاعِبُهَا وَتُلَاعِبُكَ» . قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ تُوُفِّيَ وَالِدِي -أَوِ اسْتُشْهِدَ- وَلِى أَخَوَاتٌ صِغَارٌ، فَكَرِهْتُ أَنْ أَتَزَوَّجَ مِثْلَهُنَّ، فَلَا تُؤَدِّبُهُنَّ، وَلَا تَقُومُ عَلَيْهِنَّ، فَتَزَوَّجْتُ ثَيِّبًا لِتَقُومَ عَلَيْهِنَّ وَتُؤَدِّبَهُنَّ. قَالَ: فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم المَدِينَةَ غَدَوْتُ عَلَيْهِ بِالْبَعِيرِ، فَأَعْطَانِي ثَمَنَهُ، وَرَدَّهُ عَلَيَّ. قَالَ المُغِيرَةُ: هَذَا فِي قَضَائِنَا حَسَنٌ لَا نَرَى بِهِ بَأْسًا. [انظر: 443 - مسلم: 715 - فتح 6/ 121]
ذكر فيه حديث جابر السالف في بعيره وفيه: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي عَرُوسٌ، فَاسْتَأْذَنْتُهُ فَأَذِنَ لِي، فَتَقَدَّمْتُ النَّاسَ إِلَى المَدِينَةِ، وفي آخره: قَالَ المُغِيرَةُ: هذا في قَضَائِنَا حَسَن لَا نَرى بِهِ بَأْسًا.
قَالَ المهلب: هذِه الآية أصل في ألا يبرح أحد عن السلطان إذا جمع الناس لأمر من أمور المسلمين يحتاج فيه إلى اجتماعهم
أو جهادهم عدوًّا إلا بإذنه؛ لأن الله تعالى قَالَ: {فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} [النور: 62] فعلم أن الإمام ينظر في الأمر الذي استأذنه، فإن رأى أن يأذن له أذن، وإن لم ير ذَلِكَ لم يأذن له؛ لأنه لو أبيح للناس تركه صلى الله عليه وسلم والانصراف عنه لدخل الخرم وانفض الجمع، ووجد العدو غرة فيثبون عليها وينتهزون الفرصة في المسلمين، وفيه أن من كان حديث عهد بعرس أو متعلق القلب بأهله أو ولده فلا بأس أن يستأذن في التعجيل عند الغفلة إلى دار الإسلام كما فعل جابر، وفي هذا المعنى حديث لداود
(1)
عليه السلام أنه قَالَ في غزوة خرج إليها: "لا يتبعني من ملك بضع امرأة ولم يبن بها، أو بنى دارًا ولم يسكنها"
(2)
، فإنما أراد أن يخرج معه من لم يشغل نفسه بشيء من علائق الدنيا؛ ليجتهد فيما خرج له وتصدق نيته ويثبت في القتال ولا يفر، ويدخل به الحزم على غيره ممن لا يريد الفرار.
قَالَ ابن التين: واحتج الحسن بالآية المذكورة على أنه ليس لأحد أن يذهب من الجيش حَتَّى يستأذن الإمام، وهذا عند سائر الفقهاء كان خاصًّا بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال قوم: لا يذهب من كان في الجمعة فأصابه أمر ولا ينصرف حَتَّى يستأذن الإمام. قَالَ: وليس كذلك في مذاهب الفقهاء.
(1)
ورد بهامش الأصل: هذا ليوشع جرى، وسيأتي الحديث في باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"أحلت لكم الغنائم" وسيأتي فيه أيضًا قصة داود، وهي في غير هذا المعنى.
(2)
سيأتي برقم (3124) كتاب: فرض الخمس، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم "أحلت لكم الغنائم" من حديث أبي هريرة، بلفظ: "غزا نبي من الأنبياء
…
" وليس فيه ذكر داود عليه السلام، ورواه أيضًا مسلم (1747) كتاب: الجهاد، باب: تحليل الغنائم ..
والناضح: السانية التي يسنى عليها، والفقار: العظام المقطعة في الظهر كالفلك، يقال لها: خرز الظهر، الواحدة: فقارة، ومن الفقار يقال: أفقرت الرجل جملًا يركب فقاره ويرده.
وقول المغيرة: (في قضائنا حسن لا نرى به بأسًا). قَالَ الداودي: يقول أن يزاد الغريم على حقه تأسيًا برسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس أنه كان خاصًّا له؛ لأنه لو كان لبينه، ليس على أن قوله يريد قول النبي صلى الله عليه وسلم. وتعقبه ابن التين فقال: إنه ليس ببين؛ لأنه لم يذكر فيه أنه صلى الله عليه وسلم قضاه وزاده.
114 - باب مَنْ غَزَا وَهُوَ حَدِيثُ عَهْدٍ بِعُرْسِه
فِيهِ جَابر، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
هذا الحديث سلف في الباب قبله وغيره، وقد سلف واضحًا، وقد أسقطه الشراح لتكرره.
115 - باب مَنِ اخْتَارَ الغَزْوَ بَعْدَ البِنَاءِ
فيه: أبو هُرَيرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
قد أخرجه بعد في كتاب: الخمس بلفظ: "غزا نبي من الأنبياء فقال لقومه: لا يتبعني رجل ملك بضع امرأة وهو يريد أن يبني بها"
(1)
.
واعترض الداودي على الترجمة فقال: لو قَالَ: باب: من اختار البناء قبل الغزو كان أبين، فإن الحديث فيه ثم ساقه كما ذكرته، وقال في آخره في حديث ذكره: لا فائدة فيه.
قلتُ: وسيأتي بيان هذا الشيء، وسلف
(2)
أيضًا قريبًا.
(1)
سيأتي برقم (3124)
(2)
ورد بهامش الأصل: الذي سلف فيه نظر.
116 - باب مُبَادَرَةِ الإِمَامِ عِنْدَ الفَزَعِ
2168 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ شُعْبَةَ، حَدَّثَنِي قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ بِالْمَدِينَةِ فَزَعٌ، فَرَكِبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَرَسًا لأَبِي طَلْحَةَ، فَقَالَ:«مَا رَأَيْنَا مِنْ شَيءٍ، وَإِنْ وَجَدْنَاهُ لَبَحْرًا» . [انظر: 2627 - مسلم: 2307 - فتح 6/ 122]
ذكر فيه حديث أنس بالمدينة قَالَ: كَانَ بِالْمَدِينَةِ فَزَعٌ، فَرَكِبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فرَسًا لأَبِي طَلْحَةَ، فَقَالَ:"مَا رَأَيْنَا مِنْ شَيْءٍ، وَإِنْ وَجَدْنَاهُ لَبَحْرًا".
ثم ترجم عليه:
117 - باب السُّرْعَةِ وَالرَّكْضِ فِي الفَزَعِ
2969 -
حَدَّثَنَا الفَضْلُ بْنُ سَهْلٍ، حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: فَزِعَ النَّاسُ، فَرَكِبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَرَسًا لأَبِي طَلْحَةَ بَطِيئًا، ثُمَّ خَرَجَ يَرْكُضُ وَحْدَهُ، فَرَكِبَ النَّاسُ يَرْكُضُونَ خَلْفَهُ، فَقَالَ:«لَمْ تُرَاعُوا، إِنَّهُ لَبَحْرٌ» . فَمَا سُبِقَ بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ. [انظر: 2627 - مسلم: 2307 - فتح 6/ 123] ومن تراجمه عليه أيضًا.
118 - باب الخُرُوجِ فِي الفَزَعِ وَحْدَهُ وإذا فزعوا من الليل
وقال فيه: فزع أهل المدينة ليلاً، قد سلف أيضًا بالكلام فيه، وجملته أن الإمام ليس له أن (يسخو)
(1)
بنفسه وينبغي أن يشح؛ لأن فيه نظرًا للمسلمين وجمعًا لكلمتهم، إلا أن يكون من أهل الغناء الشديد والنكاية القوية، كما كان صلى الله عليه وسلم قد علم أن الله يعصمه ويؤيده ولا يخزيه، فله أن يأخذ بالشدة على نفسه ليقوي قلوب المسلمين وليأنسوا به فيجتهدوا.
(1)
ورد بهامش الأصل: حاشية: هو واوي، ويائي.
119 - باب الجَعَائِلِ وَالْحُمْلَانِ فِي السَّبِيلِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: قُلْتُ لاِبْنِ عُمَرَ: أريد الغَزْوَ. قَالَ: إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أُعِينَكَ بِطَائِفَةٍ مِنْ مَالِي. قُلْتُ: أَوْسَعَ اللهُ عَلَيَّ. قَالَ: إِنَّ غِنَاكَ لَكَ، وَإِنّي أُحِبُّ أَنْ يَكُونَ مِنْ مَالِي فِي هذا الوَجْهِ. وَقَالَ عُمَرُ إِنَّ نَاسًا يَأْخُذُونَ مِنْ هذا المَالِ ليُجَاهِدُوا ثُمَّ لَا يُجَاهِدُونَ، فَمَنْ فَعَلَهُ فَنَحْنُ أَحَقُّ بِمَالِهِ حَتَّى نَأْخُذَ مِنْهُ مَا أَخَذَ.
وَقَالَ طَاوُسٌ وَمُجَاهِدٌ: إِذَا دُفِعَ إِلَيْكَ شَيْءٌ تَخْرُجُ بِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاصْنَعْ بِهِ مَا شِئْتَ، وَضَعْهُ عِنْدَ أَهْلِكَ.
2970 -
حَدَّثَنَا الحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: سَمِعْتُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ سَأَلَ زَيْدَ بْنَ أَسْلَمَ، فَقَالَ زَيْدٌ سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه حَمَلْتُ عَلَى فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَرَأَيْتُهُ يُبَاعُ، فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: آشْتَرِيهِ؟ فَقَالَ: «لَا تَشْتَرِهِ، وَلَا تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ» . [انظر: 1490 - مسلم: 1620 - فتح 6/ 123]
2971 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِك، عَنْ نَافِج، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ حَمَلَ عَلَى فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَوَجَدَهُ يُبَاعُ، فَأَرَادَ أَنْ يَبْتَاعَهُ، فَسَأَلَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"لَا تَبْتَعْهُ، وَلَا تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ". [انظر: 1481 - مسلم: 1621 - فتح 6/ 123]
2172 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي أبو صَالِحٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتي مَا تَخَلَّفْتُ عَنْ سَرِيَّةٍ، ولكن لَا أَجِدُ حَمُولَةً، وَلَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ، وَيَشُقُّ عَلَيَّ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنِّي، وَلَوَدِدْتُ أَنِّي قَاتَلْتُ فِي سَبِيلِ اللهِ فَقُتِلْتُ، ثُمَّ أُحْيِيتُ ثُمَّ قُتِلْتُ، ثُمَّ أُحْيِيتُ". [انظر: 36 - مسلم: 1876 - فتح 6/ 124]
ثم ذكر فيه حديث عمر من طريقين عنه في فرسه، وقوله عليه السلام:"وَلَا تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ". وقد سلف.
وحديث أبي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي مَا تَخَلَّفْتُ عَنْ سريةٍ، ولكن لَا أَجِدُ حَمُولَةً، وَلَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ، وَيَشُقُّ عَلَى أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنِّي، وَلَوَدِدْتُ أَنَي قَاتَلْتُ فِي سَبِيلِ اللهِ فَقُتِلْتُ، ثُمَّ أُحْيِيتُ ثُمَّ قُتِلْتُ، ثُمَّ أُحْيِيتُ".
الشرح:
ما أراده ابن عمر رضي الله عنهما هو على ما وصفه ولو مع الغنى، وليس من الزكاة، وما قاله والده ظاهر؛ لأنه إنما أعطي على الخروج ولم يؤخذ، وكان ابن المسيب يقول إذا أعطي الإنسان شيئًا في الغزو: إذا بلغت رأس مغزاك فهو لك.
وقول طاوس ومجاهد: (فاصنع به ما شئت). معناه: إذا تم ما أعطي عليه مضى فعله فيه، وهذِه أقوال متقاربة.
وأراد البخاري بالجعائل أن يخرج الرجل شيئًا من ماله يتطوع به في سبيل الله كما فعل ابن عمر، أو يعين به من لا مال له من الغازين، كالفرس الذي حمل عليه عمر في سبيل الله وهو حسن مرغب فيه، وليس من باب الجعائل التي كرهها العلماء، فقال مالك: أكره أن يؤاجر الرجل نفسه أو فرسه في سبيل الله. وكره أن يعطيه الوالي الجعل على أن يتقدم إلى الحصين، ولا تكره الجعائل لأهل العطاء؛ لأن العطاء مأخوذ على هذا الوجه.
قَالَ مالك: لا بأس بالجعائل في البعوث، لم يزل الناس يتجاعلون عندنا بالمدينة يجعل القاعد للخارج إذا كانوا من أهل ديوان واحد؛ لأن
عليهم سد الثغور؛ وأصحاب أبي حنيفة يكرهون الجعائل ما كان بالمسلمين قوة أو في بيت المال ما يفي بذلك، فإن لم يكن لهم قوة ولا مال فلا بأس أن يجهز بعضهم بعضًا على وجه المعونة لا على وجه البدل، وهذا الموضع ينبغي أن يكون وفاقًا لقول مالك، وقد روى أيوب، عن ابن سيرين، عن ابن عمر قَالَ: كان القاعد يمنح المغازي، فأما أن يتبع الرجل غزوة فلا أدري ما هو، وأدى القاعد للخارج مائة دينار في بعث أيام عمر، وكان مسروق يجعل عن نفسه إذا خرج البعث.
وقال الشافعي: لا يجوز أن يغزو بجعل من رجل وأرده إن غَزَا به وإنما أجيزه من السلطان دون غيره؛ لأنه يغزو بشيء من حقه. واحتج بأن الجهاد فرض على الكفاية، فمن فعله وقع عن فرضه، فلا يجوز أن يستحق على غيره عوضًا
(1)
.
قَالَ المهلب: وقول طاوس ومجاهد السالف يخرج من حديث عمر في الفرس؛ لأنه وضع عنده في الجهاد مأخذ ثمنه وانتفع به، وإنما باعه الرجل؛ لأنه لم يكن حبسًا وإنما كان حملانًا للجهاد صدقة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"لا تعد في صدقتك" وقد روي عن ابن عباس وابن الزبير خلاف قول طاوس ومجاهد. قَالَ ابن عباس: أنفقها في الكراع والسلاح. وقال ابن الزبير: أنفقها في سبيل الله. وقال النخعي: (كانوا)
(2)
يعطون أحب إليَّ من أن يأخذوا.
(1)
"مختصر اختلاف العلماء" 3/ 436، "المدونة الكبرى" 1/ 403، "الأم" 4/ 87.
(2)
من (ص 1).
قَالَ ابن المنير: كل من أخذ مالاً من بيت المال على عمل فإذا أهمل العمل ردَّ ما أخذ بالقضاء، وكذلك الأخذ منه على عمل لا يتأهل له ولا يلتفت إلى التخييل أن الأصل من مال بيت المال الإباحة للمسلمين؛ لأنا نقول الأخذ منه على وجهين: أن الآخذ مسلم فله نصيب كان على وجه، والآخر على عمل، وإنما يستحق بوفائه
(1)
.
وفي حديث عمر وأبي هريرة: العمل على الخيل في سبيل الله.
ومعنى "لولا أن أشق على أمتي ما تخلفت عن سرية": أنهم كانوا يقتدون به فيخرجون على العسر واليسر، ولا يتخلفون عنه؛ لحرصهم على اتباعه ورغبتهم في امتثال سيرته.
(1)
"المتواري" ص 162.
120 - باب الأَجِيِر
وَقَالَ الحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ: يُقْسَمُ لِلأَجِيرِ مِنَ المَغْنَمِ. وَأَخَذَ عَطِيَّةُ بْنُ قَيْسٍ فَرَسًا عَلَى النِّصْفِ، فَبَلَغَ سَهْمُ الفَرَسِ أَرْبَعَمِائَةِ دِينَارٍ، فَأَخَذَ مِائَتَيْنِ وَأَعْطَى صَاحِبَهُ مِائَتَيْنِ.
2173 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَعْلَى، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه قَالَ: غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم غَزْوَةَ تَبُوكَ، فَحَمَلْتُ عَلَى بَكْرٍ، فَهْوَ أَوْثَقُ أَعْمَالِي فِي نَفْسِي، فَاسْتَأْجَرْتُ أَجِيرًا، فَقَاتَلَ رَجُلاً، فَعَضَّ أَحَدُهُمَا الآخَرَ فَانْتَزَعَ يَدَهُ مِنْ فِيهِ، وَنَزَعَ ثَنِيَّتَهُ، فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَهْدَرَهَا فَقَالَ «أَيَدْفَعُ يَدَهُ إِلَيْكَ فَتَقْضَمُهَا كَمَا يَقْضَمُ الفَحْلُ؟!». [انظر: 1848 - مسلم: 1674 - فتح 6/ 125]
ثم ذكر حديث صَفْوَانَ بْنِ يَعْلَى، عَنْ أَبيهِ قَالَ: غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم غزْوَةَ تَبُوكَ، فَحَمَلْتُ عَلَى بَكْرٍ، فَاسْتَأَجَرْتُ أَجِيرًا، فَقَاتَلَ رَجُلاً، فَعَضَّ أَحَدُهُمَا الآخَرَ، فَانْتَزَعَ يَدَهُ مِنْ فِيهِ وَنَزَعَ ثَنِيَّتَهُ، الحديث. وقد سلف.
والإسهام للأجير بعيد من الترجمة، إذ ليس في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم أسهم للأجير، وإنما حاول البخاري إثبات ذَلِكَ بالدليل؛ لأن في الحديث جواز استئجار الحر في الجهاد، وقد خاطب الله تعالى جماعة المؤمنين الأحرار بقوله تعالى:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنفال: 41] فدخل الأجير في هذا الخطاب، فوجب له سهم المجاهد القائم لما تقدم من المخاطبة له.
وأما فعل عطية بن قيس فلا يجوز عند مالك وأبي حنيفة والشافعي؛ لأنها إجارة مجهولة، فإذا وقع مثل هذا كان لصاحب الدابة كراء مثلها،
وما أصاب الراكب في المغنم فله، وأجاز الأوزاعي وأحمد أن يعطي فرسه على النصف في الجهاد.
واختلف العلماء في الأجير، فقَالَ مالك وأبو حنيفة وأحمد: لا يسهم له إلا أن يقاتل
(1)
، وهو أظهر أقوال الشافعي، ونقل عنه ابن بطال الاستحقاق مطلقًا وهو أحد أقواله: وقال الأوزاعي والليث: الأجير لا يسهم له، وهو قول إسحاق.
حجة الجمهور قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] فجعلها للغانمين، ومن لم يقاتل عليها فليس بغانم فلا يستحق شيئًا. وروي عن سلمة بن الأكوع قَالَ: كنت (تابعًا)
(2)
لطلحة بن عبد الله وأنا غلام شاب، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم الفارس والراجل جميعًا.
واحتج من أسهم له مطلقًا بقوله صلى الله عليه وسلم: "الغنيمة لمن حضر الوقعة" وهو قول أبي بكر وعمر، وهو إجماع
(3)
.
وقوله: ("يقضمها كما يقضم الفحل ") أي: يمضغها كما يمضغ الفحل ما يأكله، يقال: قضمت الدابة بالكسر شعيرها تقضمه إذا أكلته. وقال الداودي: يقضمها: يقطعها. قَالَ: والفحل هنا: الجمل، وقد أسلفنا أن مذهب مالك في هذا الضمان، خلافًا لابن وهب من أصحابه، ولعل مالكًا لم يبلغه الحديث.
وقوله: (فأهدرها) يقال: هدر السلطان دم فلان: أي أباحه، وأهدر أيضًا.
(1)
"مختصر اختلاف العلماء" 3/ 442.
(2)
في (ص 1): طالعًا.
(3)
"شرح ابن بطال" 5/ 139.
121 - باب مَا قِيلَ فِي لِوَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
-
2974 -
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ قَالَ: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُقَيْلٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي ثَعْلَبَةُ بْنُ أَبِي مَالِكٍ القُرَظِيُّ، أَنَّ قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ الأَنْصَارِيَّ رضي الله عنه وَكَانَ صَاحِبَ لِوَاءِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَرَادَ الحَجَّ فَرَجَّلَ. [فتح 6/ 126]
2175 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ عَلِيٌّ رضي الله عنه تَخَلَّفَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي خَيْبَرَ، وَكَانَ بِهِ رَمَدٌ، فَقَالَ: أَنَا أَتَخَلَّفُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَخَرَجَ عَلِيٌّ فَلَحِقَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا كَانَ مَسَاءُ اللَّيْلَةِ الَّتِي فَتَحَهَا فِي صَبَاحِهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«لأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ -أَوْ قَالَ لَيَأْخُذَنَّ- غَدًا رَجُلٌ يُحِبُّهُ الله وَرَسُولُهُ -أَوْ قَالَ يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ- يَفْتَحُ الله عَلَيْهِ» . فَإِذَا نَحْنُ بِعَلِيٍّ، وَمَا نَرْجُوهُ، فَقَالُوا هَذَا عَلِيٌّ، فَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَفَتَحَ الله عَلَيْهِ. [3702، 4209 - مسلم: 2407 - فتح 6/ 126]
2976 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْنُ العَلَاءِ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ نَافِع بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: سَمِعْتُ العَبَّاسَ يَقول لِلزُّبَيْرِ رضي الله عنهما: هَا هُنَا أَمَرَكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ تَرْكُزَ الرَّايَةَ؟.
ذكر فيه ثلاثة أحاديث:
أحدها: حديث ثَعْلَبَةَ بْنِ أَبِي مَالِكٍ القُرَظِيِّ، أَنَّ قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ الأَنْصَارِيَّ -وَكَانَ صَاحِبَ لِوَاءِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَرَادَ الحَجَّ فَرَجَّلَ.
وهذا الحديث طرف منه، وتمامه: فَرَجَّلَ أَحَدَ شِقِّي رأسه، وقد ذكره بتمامه آخر الكتاب
(1)
، وذكر منه هنا اللواء فقط؛ لأجل ما ترجم له، ولفظ الإسماعيلي كذلك: فإذا هديه قد قلد فأهل بالحج ولم
(1)
قال الحافظ في "الفتح": وذكر الدمياطي في الحاشية أن البخاري ذكر بقية الحديث في آخر الكتاب وليس في الكتاب شيء من ذلك. اهـ. "فتح الباري" 6/ 127.
يُرَجَّلْ شِقَّ رأسه الآخر، وكذا ذكره البرقاني فيما ذكره الحميدي
(1)
.
ومعنى: (فَرَجَّلَ) أي: سَرَّح شعره لطول بقائه شعثًا.
ثانيها: حديث سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ: كَانَ عَلِيٌّ تَخَلَّفَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في خَيْبَرَ، وَكَانَ بِهِ رَمَدٌ، وفيه:"لأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ -أَوْ: لَيَأْخُذَنَّ- غدًا رَجُلٌ يُحِبُّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ -أَوْ قَالَ: يُحِبُّ الله وَرَسُولَهُ- يَفْتَحُ اللهُ عَلَيْهِ". قالوا: هذا عَلِيٌّ. فَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَفَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ.
ثالثها: حديث نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: سَمِعْتُ العَباسَ يَقُولُ لِلزُّبَيْرِ: هَا هُنَا أَمَرَكَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أَنْ تَرْكُزَ الرَّايَةَ؟.
الشرح:
ثعلبة بن أبي مالك هذا له رؤية، وقيس بن سعد هو ابن عبادة بن دليم أبو عبد الله الخزرجي، صاحب شرطة رسول صلى الله عليه وسلم، وكان ضخمًا طويلًا نبيلًا جوادًا سيدًا من ذوي الرأي والدهاء والتقدم، مات بالمدينة في آخر خلافة معاوية، وأرسل ملك الروم إلى معاوية أن أرسل إلى سراويل أتم رجل عندك، فقال لقيس: إذا بلغت منزلك فأبعث إلينا بسراويلك، فخلع السراويل مكانه وألقاه إليه، فقيل له: فعلت هذا بنفسك؟ قَالَ: خشيت أن يقال: إنه سراويل رجل من قوم عاد
(2)
. واستعمله (علي)
(3)
على مصر فضيق على معاوية، فجعل معاوية يقول في الملأ: جزى الله قيسًا خيرًا، ما يكون عند علي
(1)
"الجمع بين الصحيحين" 1/ 438.
(2)
قال ابن عبد البر في "الاستيعاب" 3/ 352: خبره في السراويل عند معاوية كذب وزور مختلق ليس له إسناد، ولا يشبه أخلاق قيس ولا مذهبه في معاوية، ولا سيرته في نفسه ونزاهته، وهي حكايته مفتعلة وشعر مزور.
(3)
من هامش الأصل، وفوقها: لعله سقط.
(أمر)
(1)
يكيدنا به إلا أعلمنا به. فبلغ ذَلِكَ عليًّا فعزله واستعمل محمد بن أبي بكر مكانه، فقال له قيس بن سعد: إن أمير المؤمنين خدع في أمري، ولكن افعل كذا وافعل كذا واحترس من كذا فظن محمد أنه غشه فخالف ذَلِكَ فأتي عليه.
قَالَ المهلب: فيه أن لواء الإمام ينبغي أن يكون له صاحب معلوم، وإن كان من الأنصار فهو أولى للاستنان بالشارع؛ لأن قيس بن سعد كان من الأنصار، وهم الذين كانوا عاقدوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يقاتلوا الناس كافة حَتَّى يقولوا: لا إله إلا الله، فهم أشد الناس في قتال العدو (بعد ما)
(2)
هاجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالأنصار نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين أول من نادى.
وفي حديث على أيضًا: أن الراية لا يجب أن يحملها إلا من ولاه الإمام إياها، ولا تكون لمن أخذها إلا (بولاية)
(3)
.
وقال الطبري: فيه الدلالة البينة على أن إمام المسلمين إذا وجه جيشا أو سرية أن يؤمر عليهم أميرًا موثوقًا بنيته وبصيرته في قتالهم، ممن له بأس ومعرفة لسياسة الجيش وتدبير الحرب، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم وجه إلى خيبر من أفضل (الصحابه)
(4)
وأنفذهم بصيرة وغناء وأنكاهم للعدو، وجعل له لواء الراية يجتمع جيشه تحتها، فيثبتوا لثباتها عند اللقاء (ويرجفوا لرجفتها)
(5)
.
(1)
في الأصل: (أمير)، والمثبت من (ص 1).
(2)
في (ص 1): بعد من.
(3)
في (ص 1): بلواء.
(4)
في (ص 1): أصحابه.
(5)
في (ص 1): (ويرجعوا لرجعتها).
وقوله: ("لأعطين الراية") عرفها بأل لأنها كانت من سنته في حروبه، فينبغي أن يسار بسيرته في ذلك.
وروي أن لواءه كان أبيض ورايته سوداء من مرط مرجل لعائشة، رواه ابن عباس وبريدة فيما ذكره ابن أبي عاصم، وعن البراء: كانت سوداء مربعة. وقال جابر: دخل رسول الله مكة ولواؤه أبيض. وقال مجاهد: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم لواء أغبر. وعند الرشاطي: الرايات إنما كانت بخيبر، وإنما كانت الألوية قبل. وروى ابن أبي عاصم من حديث سماك عن رجل من بني عجل قَالَ: ورأيت لواءً أبيض، والناس يقولون: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن سماك عن رجل من قومه قَالَ: رأيت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم صفراء. وعن الحارث بن حسان: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وإذا رايات سود، فقلت: من هذا؟ قالوا: عمرو بن العاصي قدم من غزاة، وعقد لبني سليم راية حمراء وللأنصار صفراء. وروي أن راية على يوم صفين كانت حمراء، مكتوب فيها محمد رسول الله، وكانت له راية سوداء.
قَالَ المهلب: وفي حديث الزبير أن الراية لا يركزها إلا بإذن الإمام؛ لأنها علامة على الإمام ومكانه، فلا ينبغي أن يتصرف فيها إلا بأمره، ومما يدل على أنها ولاية قوله صلى الله عليه وسلم:"أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذها خالد من غير إمرة ففتح له"
(1)
فهذا نص في ولايتها.
قَالَ ابن الأثير: ولا يمسك اللواء إلا صاحب الجيش
(2)
.
قلتُ: في "تاريخ (أبي)
(3)
الفرج الأموي" أن عمر سئل عن الشعراء
(1)
سلف برقم (1246) كتاب: الجنائز، باب: الرجل ينعي إلى أهل الميت بنفسه.
(2)
"النهاية" لابن الأثير 4/ 279.
(3)
في (ص 1): ابن.
فقال: زهير بن أبي سلمى أمير الشعراء، فقيل له: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "امرؤ القيس حامل لواء الشعراء وقائدهم إلى النار"
(1)
فقال: إن الراية لا تكون إلا مع الأمير.
فائدة:
اللواء ما عقد في طرف الرمح ويكون معه، وبذلك سمي لواء، والراية ثوب يجعل في طرف الرمح ويخلى كهيئته تصفقه الريح، قاله ابن العربي
(2)
.
(فائدة)
(3)
أخرى:
في حديث سلمة أن الرمد عذر والفضل له أن يخرج. وفي حديث آخر: فبات الناس يتشوفون إليها وغدوا كذلك، فقال:"أين علي؟ " فقالوا: رمد. فيحتمل كما قَالَ الداودي أن يقول: هذا علي حين قدم، ثم يدعوه بعد ذلك. فظاهر الحديث:(فأعطاه الراية) أن ذَلِكَ كان بإثر قولهم (هذا علي).
فائدة ثالثة: في حديث على الخبر عن بعض أعلام النبوة، وذلك خبره عن الغيب الذي لا يكون مثله إلا بوحي من الله، وهو قوله:"يفتح الله على يديه".
(1)
الحديث رواه أحمد 2/ 228 - ومن طريقه ابن الجوزي في "العلل" 1/ 130 (200) - من طريق أبي الجهم الواسطي، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة مرفوعًا بنحوه. وقال ابن الجوزي: هذا حديث لا يصح. اهـ. وللحديث طرق أخرى. انظر "السلسلة الضعيفة"(2930).
(2)
"عارضة الأحوذي" 7/ 177.
(3)
من (ص 1).
122 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "نُصِزتُ بِالرُّعْبِ مَسِيَرةَ شَهْرٍ
"
وَقَوْلِهِ عز وجل: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللهِ} [آل عمران: 151]. قَالَه جَابِرٌ: عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. [انظر: 335]
2977 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الكَلِمِ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، فَبَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أُتِيتُ بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الأَرْضِ، فَوُضِعَتْ فِي يَدِي» .
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَقَدْ ذَهَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنْتُمْ تَنْتَثِلُونَهَا. [6998، 7013، 7273 - مسلم: 523 - فتح 6/ 128]
2978 -
حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَخْبَرَهُ، أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ أَخْبَرَهُ، أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ وَهُمْ بِإِيلِيَاءَ، ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ الْكِتَابِ كَثُرَ عِنْدَهُ الصَّخَبُ، فَارْتَفَعَتِ الأَصْوَاتُ، وَأُخْرِجْنَا، فَقُلْتُ لأَصْحَابِي حِينَ أُخْرِجْنَا لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ، إِنَّهُ يَخَافُهُ مَلِكُ بَنِي الأَصْفَرِ. [انظر: 7 - مسلم: 1773 - فتح 6/ 128]
ثم ساق حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: "بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الكَلِمِ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، فَبَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أُتِيتُ بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الأَرْضِ فَوُضِعَتْ فِي يَدِي".
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَقَدْ ذَهَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وأَنْتُمْ تَنْتَثِلُونَهَا.
وحديث ابن عباس السالف: أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ أَخْبَرَهُ، أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ وَهُمْ بِإِيلِيَاءَ، ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ الكِتَابِ كَثُرَ عِنْدَهُ الصخَبُ، فَارْتَفَعَتِ الأَصْوَاتُ، وَأُخْرِجْنَا، فَقُلْتُ
لأَصْحَابِي حِينَ أُخْرِجْنَا: لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابن أَبِي كَبْشَةَ، إِنَّهُ يَخَافُهُ مَلِكُ بَنِي الأَصْفَرِ.
الشرح:
المناسبة في دخول حديث أبي سفيان هنا هذِه اللفظة: (إنه يخافه ملك بني الأصفر)؛ لأن بين الحجاز والشام مسيرة شهر وأكثر، نبه عليه ابن المنير
(1)
.
وتعليق جابر أسنده في موضع آخر، وفي رواية:"شهرًا أمامي وشهرًا خلفي". ذكرتها في "الخصائص"
(2)
، وخص بالشهرين؛ لأن الله تعالى خص نبينا بخصائص لم يشركه غيره، فكأن الرعب يحصل في هذِه المدة ذهابًا، وإن حصل لسليمان في الريح، غدوها شهر ورواحها شهر، ونصره بالرعب مما خصه الله تعالى به وفضله ولم يؤته أحد غيره.
قَالَ المهلب: وقد رأينا ذَلِكَ عيانًا، أخبرنا الأصيلي قَالَ: افتتحنا بلدة ثم صح عندنا بعدُ أن أهل القسطنطينية ساعة بلوغهم الخبر صاروا على سورها وتحصنوا، (وهي)
(3)
على أكثر من شهرين منها.
وفيه: دليل كما قَالَ الخطابي: أن الفيء لرسول الله صلى الله عليه وسلم يضعه حيث شاء؛ لأنه وصل إليه بالنصرة التي أوتيها من قبل الرعب الذي ألقي في قلوبهم منه، والفيء: كل مال لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، وهو ما جلا عنه أهله وتركوه من أجل الرعب، وكذا ما صالحوا عليه من
(1)
"المتواري" ص 163.
(2)
ورد بهامش الأصل ما نصه: قال في "الخصائص": وروينا من حديث السائب ابن أخت نمر، فضلت على الأنبياء بخمس، فذكر منها:"ونصرت بالرعب شهرًا أمامي شهرًا خلفي"["غاية السول في خصائص الرسول" ص 258].
(3)
من (ص 1).
جزية أو خراج من وجوه الأموال
(1)
.
وأما جوامع الكلم فهو القرآن؛ لأنه تأتي الآية منه في معان مختلفة بتأويلات، وكل يؤدي إلى بر (لمتأوله)
(2)
والآخذ به. قَالَ تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] وهذا يدل على أن (الكتاب)
(3)
جوامع الكلم، وكقوله تعالى:{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)} [الأعراف: 199] فلو أن هذا نزل في تدبير الدنيا كلها والآخرة لكفاهما، وكذا قَالَ ابن التين: إن المراد بجوامع الكلم: القرآن، جمع الله فيه (من)
(4)
الألفاظ اليسيرة معاني كثيرة، ومنه ما جاء في صفته: يتكلم بجوامع الكلم. يعني أنه كثير المعاني قليل الألفاظ. وقَالَ عمر بن عبد العزيز: عجبت لمن لاحن الناس كيف لا يعرف جوامع الكلم؟ يقول: كيف لا يقتصر على الوجيز. ويترك الفضول وقال ابن شهاب فيما ذكره الإسماعيلي: (بلغني
(5)
أن جوامع الكلم) أن الله يجمع له الأمور الكثيرة التي كانت تكتب في الكتب قبله في الأمر الواحد أو الأمرين أو نحو ذَلِكَ، وقال الخطابي: معناه: إيجاز الكلام في إشباع المعاني.
وفيه: الحث على حسن التفهيم والاستنباط لاستخراج تلك المعاني وتبيين تلك الدقائق المودعة فيها
(6)
.
(1)
"أعلام الحديث" 2/ 1423.
(2)
في (ص 1): لتناوله.
(3)
في (ص 1): القرآن.
(4)
من (ص 1).
(5)
ورد بهامش الأصل ما نصه: بلاغ ابن شهاب عزاه شيخنا هنا إلى الإسماعيلي وفي "الخصائص" إلى "دلائل البيهقي"، وهو في البخاري في التعبير. قال شيخنا: إن البيهقي عزاه إلى البخاري ومسلم.
(6)
"أعلام الحديث" 2/ 1422.
وقوله: ("أتيت بمفاتح خزائن الأرض") لا شك أن العرب كانت أقل الأمم أموالاً، فبشرهم بأنها تفسير أموال كسرى وقيصر إليهم، وهم الذين يملكون الخزائن. وقال ابن التين: يحتمل أن يريد هذا وهو ما فتح لأمته بعده فغنموه واستباحوا خزائن الملوك المدخرة، وهو ما جزم به ابن بطال
(1)
.
ويحتمل أن يريد الأرض التي فيها المعادن، وكذلك قَالَ أبو هريرة:(وأنتم تنتثلونها) أي: تستخرجونها وتثيرونها من مواضعها، يقال: نثلت البئر وانتثلتها إذا استخرجت ترابها، وهو التنثيل، وكذلك: نثلت كنانتي: استخرجت ما فيها من النبل، وقيل: النثل: ترك الشيء مرة واحدة. وفي رواية: وأنتم ترغثونها، أي: تستخرجون درها وترضعونها.
ومعنى الحديث أنه صلى الله عليه وسلم ذهب ولم ينل منها شيئًا، بل قسم ما أدرك منها بينكم وآثركم بها، ثم أنتم تنثلونها على حسب ما وعدكم.
وهذا الحديث في معنى حديث مصعب بن عمير الذي مضى ولم يأخذ من الدنيا زهدًا فيها، فكذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفيه: دلالة على أن للأئمة استخراج المعادن وإعطاءها لمن يعمل فيها ويطلب نيلها.
(1)
"شرح ابن بطال" 5/ 142 - 143.
123 - باب حَمْلِ الزَّادِ فِي الغَزْوِ
وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197]
2979 -
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي وَحَدَّثَتْنِي أَيْضًا فَاطِمَةُ، عَنْ أَسْمَاءَ رضي الله عنها قَالَتْ: صَنَعْتُ سُفْرَةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ حِينَ أَرَادَ أَنْ يُهَاجِرَ إِلَى المَدِينَةِ، قَالَتْ: فَلَمْ نَجِدْ لِسُفْرَتِهِ وَلَا لِسِقَائِهِ مَا نَرْبِطُهُمَا بِهِ، فَقُلْتُ لأَبِي بَكْرٍ وَاللهِ مَا أَجِدُ شَيْئًا أَرْبِطُ بِهِ إِلاَّ نِطَاقِي. قَالَ فَشُقِّيهِ بِاثْنَيْنِ، فَارْبِطِيهِ بِوَاحِدٍ السِّقَاءَ وَبِالآخَرِ السُّفْرَةَ. فَفَعَلْتُ، فَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ ذَاتَ النِّطَاقَيْنِ. [5388،3907 - فتح 6/ 129]
2980 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو قَالَ: أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ، سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما قَالَ: كُنَّا نَتَزَوَّدُ لُحُومَ الأَضَاحِيِّ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى المَدِينَةِ. [انظر: 1719 - مسلم: 1972 - فتح 6/ 129]
2981 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ المُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنِي بُشَيْرُ بْنُ يَسَارٍ، أَنَّ سُوَيْدَ بْنَ النُّعْمَانِ رضي الله عنه أَخْبَرَهُ أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَامَ خَيْبَرَ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالصَّهْبَاءِ -وَهْيَ مِنْ خَيْبَرَ وَهْيَ أَدْنَى خَيْبَرَ- فَصَلَّوُا العَصْرَ، فَدَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالأَطْعِمَةِ، فَلَمْ يُؤْتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلاَّ بِسَوِيقٍ، فَلُكْنَا فَأَكَلْنَا وَشَرِبْنَا، ثُمَّ قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَمَضْمَضَ وَمَضْمَضْنَا، وَصَلَّيْنَا. [انظر: 209 - فتح 6/ 129]
2982 -
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مَرْحُومٍ، حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ سَلَمَةَ رضي الله عنه قَالَ: خَفَّتْ أَزْوَادُ النَّاسِ وَأَمْلَقُوا، فَأَتَوُا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي نَحْرِ إِبِلِهِمْ، فَأَذِنَ لَهُمْ، فَلَقِيَهُمْ عُمَرُ فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ: مَا بَقَاؤُكُمْ بَعْدَ إِبِلِكُمْ؟! فَدَخَلَ عُمَرُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا بَقَاؤُهُمْ بَعْدَ إِبِلِهِمْ؟! قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم «نَادِ فِي النَّاسِ يَأْتُونَ بِفَضْلِ أَزْوَادِهِمْ» . فَدَعَا وَبَرَّكَ عَلَيْهِ، ثُمَّ دَعَاهُمْ بِأَوْعِيَتِهِمْ، فَاحْتَثَى النَّاسُ حَتَّى فَرَغُوا، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ الله، وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ» . [انظر: 2484 - فتح 6/ 129]
ذكر فيه أربعة أحاديث:
أحدها: حديث أَسْمَاءَ: أنها صَنَعْتْ سُفْرَةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ حِينَ أَرَادَ أَنْ يُهَاجِرَ إِلَى المَدِينَةِ، قَالَتْ: فَلَمْ نَجِدْ لِسُفْرَتِهِ وَلَا لِسِقَائِهِ مَا نَرْبِطُهُمَا بِهِ، فَقُلْتُ لأَبِي بَكْرٍ: والله مَا أَجِدُ شَيْئًا أَرْبِطُ بِهِ إِلَّا نِطَاقِي. قَالَ: فَشُقّيهِ بِاثْنَيْنِ، فَارْبِطِيهِ: بِوَاحِدٍ السِّقَاءَ، وَبِالآخَرِ السُّفْرَةَ. فَفَعَلْتُ. فَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ ذَاتَ النِّطَاقَيْنِ.
ثانيها: حديث جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ: كُنَّا نَتَزَوَّدُ لُحُومَ الأَضَاحِيِّ عَلَى عَهْدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلَى المَدِينَةِ.
ثالثها: حديث سُوَيْدِ بْنِ النُّعْمَانِ رضي الله عنه أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَامَ خَيْبَرَ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالصهْبَاءِ -وَهْيَ مِنْ خَيْبَرَ، وَهْيَ أَدْنَى من خَيْبَرَ- فَصَلَّوُا العَصْرَ، فَدَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بالأَطْعِمَةِ، فَلَمْ يُؤْتَ إِلَّا بالسويق، فَلُكْنَا وَشَرِبْنَا، ثُمَّ قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَمَضْمَضَ وَمَضْمَضْنَا، وَصَلَّيْنَا.
رابعها: حديث سَلَمَةَ: خَفَّتْ أَزْوَادُ النَّاسِ وَأَمْلَقُوا، فَأَتَوُا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي نَحْرِ إِبِلِهِمْ، فَأَذِنَ لَهُمْ، فَلَقِيَهُمْ عُمَرُ فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ: مَا بَقَاؤُكُمْ بَعْدَ إِبِلِكُمْ؟! فَدَخَلَ عُمَرُ عَلَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، مَا بَقَاؤُهُمْ بَعْدَ إبلِهِمْ؟! قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:"نَادِ فِي النَّاسِ يَأْتُونَ بِفَضْلِ أَزْوَادِهِمْ". فَدَعَا وَبَرَّكَ عَلَيْهِ، ثُمَّ دَعَاهُمْ بِأَوْعِيَتِهِمْ، فَاحْتَثَى النَّاسُ حَتَّى فَرَغُوا، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:"أَشْهَدُ أَنْ لَا إله إِلاَّ الله وَأَنِّي رَسُولُ الله".
الشرح:
ما ذكره ظاهر في أخذ الزاد وتحمل ثقله في الأسفار البعيدة، اقتداء بخير البرية وأكرمها على ربه وعباده وشفيع الأمم كلها يوم القيامة، والآية نزلت -عند جماعة من المفسرين- في ناس من أهل اليمن كانوا يخرجون إلى مكة بغير زاد، وقد سلف ذَلِكَ في الحج، وهو
رافع لما يدعيه أهل البطالة من الصوفية والمخرقة على الناس باسم التوكل الذي (المتزودون)
(1)
أولى به منهم، ولما أملقوا جمع بقايا أزوادهم وجعلهم فيه سواء، ليس من كان له بقية منها بأولى ممن لم يكن له شيء.
ففيه: أنه إذا أصاب الناس مخمصة ومجاعة يأمر الإمام الناس بالمواساة، ويجبرهم عليه على وجه النظر لهم بثمن وغيره، وقد استدل به بعض الفقهاء على أنه يجوز للإمام عند قلة الطعام أن يأمر من عنده طعام يفضل عن قوته أنه يخرجه للبيع ويجبره عليه؛ لما فيه من صلاح الناس، ولم يره مالك وقال: لا إجبار فيه.
وفيه أيضًا: أن للإمام أن يحبس الناس في الغزو ويصبرهم على الجوع وعلى غير زاد، ويعللهم بما أمكن حَتَّى يتم قصده.
(وقول أسماء)
(2)
: (فقلت لأبي بكر: والله ما أجد شيئاً أربط به إلا نطاقي). فيه: استشارتها والدها وكانت حينئذ عند الزبير.
و (النطاق): شريطة تشد بها المرأة وسطها ترفع بها ثيابها وترسل عليها إزارها، ذكره القزاز.
وقال ابن فارس: إنه إزار فيه تكة تلبسه النساء
(3)
. وقال الداودي: إنه المئزر، وهو المنطق. وقال الهروي: المناطق واحدها: منطق، وهو النطاق، وهو أن تأخذ المرأة ثوبًا فتلبسه ثم تشد إزارها وسطها بحبل ثم ترسل الأعلى على الأسفل. قَالَ: وبذلك سميت أسماء ذات النطاقين؛
(1)
في (ص 1): المترددون.
(2)
في الأصل: (وقوله)، والمثبت من (ص 1).
(3)
"مجمل اللغة" 3/ 872.
لأنها كانت تطارق نطاقًا على نطاق، وقيل: كان لها نطاقان تلبس أحدهما وتحمل في الآخر الزاد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو في الغار
(1)
.
والصهباء: طرف من خيبر من جهة المدينة.
وقوله: (فلكنا) هو بضم اللام وإسكان الكاف، يقال: لكن اللقمة ألوكها في فمي لوكًا.
و (السويق): دقيق القمح المقلوأ والشعير أو الذرة أو الشُلت أو الدخن.
وقوله: (وشربنا). قَالَ الداودي: ما أراه محفوظًا؛ لأنه كان يجري من المضمضة، ولكن قد لا يبلغ الشرب ما تبلغه المضمضة عند أكل السويق.
قَالَ: وفيه من الأحكام عطية المجهول وهبة الواحد للجماعة. وتعقبه ابن التين فقال: ليس في الحديث ذَلِكَ وليس كما ذكر.
ومعنى (أملقوا): قلَّتُ أزوادهم.
وفيه: إذن الشارع في نحر الإبل عند الحاجة إلى ذَلِكَ.
وفيه: استحياؤه من زيد وتواضعه أن يدعوه إلا عند الحاجة، وفيه: ما كان عمر عليه من الجلد وحسن النظر في الأمور.
وفيه: الشفاعة بفاضل القوم.
وفيه: إجابة الشارع.
وفيه: الطلبة بالإشارة دون التصريح، وبركة دعائه وثقته بالله.
وفيه: الاحتثاء في الأوعية من غير كيل، وفيه: اعتراض الوزير رأي الأمير وإن لم يشاوره الأمير، عملًا بقوله:(ما بقاؤكم بعد إبلكم؟) لأن
(1)
"النهاية في غريب الحديث" 5/ 75 - 76.
الخطة تعطيه ذَلِكَ، وقد فعل ذَلِكَ الصديق في سلب أبي قتادة.
وفيه: أن الظهر عليه مدار المسافر، لاسيما بالحجاز الذي الراجل فيه هالك في أغلب أحواله إن لم يأوِ إلى ظهرٍ أو صاحب ظهر ليحمل بعض مؤنته، ألا ترى قول عمر:(ما بقاؤهم بعد إبلهم؟) يعني أن بقاءهم يسير لغلبة الهلكة على الراجل، وهذا القول من عمر أحد ما قيل في النهي عن أكل لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر، استبقاء لظهورها؛ ليحمل المسلمين عليها ويحمل أزوادهم.
وفي قوله: (ما بقاؤهم بعد إبلهم؟) دليل على أن الأرض تقطع مسافتها. قَالَ ابن بطال: وليست تطوى (الأرض)
(1)
كما يدعي بعض (الخياطين)
(2)
أنه يحج في (قاصية)
(3)
من (قواصي)
(4)
الأرض في ثلاثة أيام أو أربعة، ثم قَالَ: وهذا منتقض من وجوه، وإنما قَالَ صلى الله عليه وسلم:"فإن الأرض تطوى بالليل"
(5)
أي: أنها تقرب مسافتها (بتيسير)
(6)
المشي وقطع ما لا يرى منها، فإذا أصبح وعرف مكانه حمد سراه، وعند الصباح يحمد القوم السرى.
وفيه: من أعلام نبوته كثرة القليل حَتَّى تزودوا منه أجمعون. قَالَ ابن بطال: فكيف يدعي من البطالين قلب الأعيان بعد رسول الله
(7)
.
(1)
في (ص 1): المسافات.
(2)
في (ص 1): الحناطين.
(3)
في (ص 1): ناحية
(4)
في (ص 1): نواحي.
(5)
رواه أبو داود (2571) من حديث أنس. وانظر تمام تخريجه في "الصحيحة"(681).
(6)
في (ص 1): بيسير.
(7)
"شرح ابن بطال" 5/ 145 - 146.
124 - باب حَمْلِ الزَّادِ عَلَى الرِّقَابِ
2183 -
حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الفَضْلِ، أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: خَرَجْنَا وَنَحْنُ ثَلَاثُمِائَةٍ نَحْمِلُ زَادَنَا عَلَى رِقَابِنَا، فَفَنِي زَادُنَا، حَتَّى كَانَ الرَّجُلُ مِنَّا يَأْكُلُ فِي كُلِّ يَوْمٍ تَمْرَةً. قَالَ رَجُلٌ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ، وَأَيْنَ كَانَتِ التَّمْرَةُ تَقَعُ مِنَ الرَّجُلِ قَالَ لَقَدْ وَجَدْنَا فَقْدَهَا حِينَ فَقَدْنَاهَا، حَتَّى أَتَيْنَا البَحْرَ فَإِذَا حُوتٌ قَدْ قَذَفَهُ البَحْرُ، فَأَكَلْنَا مِنْهَا ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا مَا أَحْبَبْنَا. [انظر: 2483 - مسلم: 1935 - فتح 6/ 130]
ذكر فيه حديث جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: خَرَجْنَا وَنَحْنُ ثَلَاثُمِائَةٍ نَحْمِلُ أزوادنا عَلَى رِقَابِنَا، فَفَنِيَ زَادُنَا، حَتَّى كَانَ الرَّجُلُ مِنَّا يَأْكُلُ فِي كُلِّ يَوْمٍ تَمْرَةً.
ثم ذكر قصة العنبر، وقال هنا:(فإذا حوت قذفه البحر). وفي رواية مالك: مثل الظرب يعني: الجبل الصغير
(1)
. وفي أخرى: ألقى البحر دابة يقال لها: العنبر
(2)
. وفي أخرى: فنصب ضلع من أضلاعها، فدخل الفارس تحته
(3)
. وذكر ذَلِكَ اعتبارًا لخلق الله وتفخيمًا من عظم قدرته ليختبر بذلك المخبر فيتذكر بذلك السامع.
وهذِه التمرة إنما كانت تغني عنهم ببركة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبركة الجهاد معه، وإنما بارك الله لهم في التمرة حَتَّى وجدوا لها مسدًا من الجوعة متبينة في (أجسامهم)
(4)
وصبرهم حَتَّى فقدوها على الجوع؛ لئلا تخرق العادة عن رتبتها، ولا تخرج الأمور عن معهودها المتسق
(1)
"الموطأ" ص 579 (24).
(2)
سيأتي برقم (5494) كتاب: الذبائح، باب: قول الله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} .
(3)
سيأتي أيضًا برقم (5494).
(4)
في (ص 1): أجسادهم.
في حكمته عز وجل، مع أنه قدير أن يخلق لهم طعامًا ويجعل لهم من الحجارة خبزًا، ومن الجلاميد فاكهة، لكنه مع قدرته على ذَلِكَ لم يخرجهم عن العادة، وفيه: ما ترجم له.
125 - باب إِردَافِ المَرْأَةِ خَلْفَ أَخِيهَا
2184 -
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ الأَسْوَدِ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، يَرْجِعُ أَصْحَابُكَ بِأَجْرِ حَجٍّ وَعُمْرَةٍ، وَلَمْ أَزِدْ عَلَى الْحَجِّ. فَقَالَ لَهَا:«اذْهَبِى وَلْيَرْدِفْكِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ» . فَأَمَرَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ أَنْ يُعْمِرَهَا مِنَ التَّنْعِيمِ، فَانْتَظَرَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِأَعْلَى مَكَّةَ حَتَّى جَاءَتْ. [انظر: 294 - مسلم: 1211 - فتح 6/ 131]
2985 -
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ، حَدَّثَنَا ابن عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَوْسٍ، عَنْ عَندِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنهما قَالَ: أَمَرَني النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ أُرْدِفَ عَائِشَةَ وَأُعْمِرَهَا مِنَ التَّنْعِيمِ. [انظر: 1784 - مسلم: 1212 - فتح 6/ 131]
ذكر فيه حديث عائشة رضي الله عنها في إرداف عائشة خلف أخيها عبد الرحمن ليعمرها من التنعيم وقد سلف من طريقين، وهو ظاهر فيما ترجم له.
وفيه: الإرداف عند الإطاقة وتغتفر المشقة اليسيرة ما لم تكن إسرافًا، وركوب المرأة (خلف)
(1)
الرجل على الدابة وإن كانت ذات محرم منه، فإن السنة في ذَلِكَ والأدب أن تكون خلفه على الدابة، ولا يحملها أمامه خوف الفتنة، وكذلك فعل موسى بابنة شعيب عليهما السلام حين دلته على الطريق وكانت الريح تضرب ثيابها، فقال لها: كوني خلفي وأشيري إلى الطريق. ولذلك قالت لأبيها: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص: 26]
تنبيه:
روى البخاري هذا الحديث عن عمرو بن علي، وهو الفلاس حافظ
(1)
جاء في الهامش: (مع).
البصرة، ووقع في كتاب ابن التين أن الشيخ أبا الحسن قَالَ: إنه عمرو الناقد. وأن الشيخ أبا عمران قَالَ: إنه ليس هو الناقد. وهو كما قَالَ، فالناقد هو: عمرو بن محمد الحافظ نزيل (الرقة)
(1)
.
(1)
في الأصل: (الكوفة)، والمثبت من (ص 1) وهو الموافق لما في "الجرح والتعديل" 6/ 262 (1451)، و"تهذيب الكمال" 22/ 213 (4442).
126 - باب الارْتِدَافِ فِي الغَزوِ وَالْحَجِّ
2186 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ رَدِيفَ أَبِي طَلْحَةَ، وَإِنَّهُمْ لَيَصْرُخُونَ بِهِمَا جَمِيعًا: الحَجِّ وَالْعُمْرَةِ [انظر: 1089 - فتح 6/ 131]
ذكر فيه حديث أَنَسٍ رضي الله عنه: كُنْتُ رَدِيفَ أَبِي طَلْحَةَ، وَإِنَّهُمْ لَيَصْرُخُونَ بِهِمَا جَمِيعًا: الحَجِّ، وَالْعُمْرَةِ.
وقد سلف الارتداف في أول الحج، ومعناه: التعاون على أفعال البرقي الغزو والحج وكل سبيل الله تعالى، وأن ذَلِكَ من السنة ومن فعل السلف الصالح، وهو من باب التواضع.
127 - باب الرِّدْفِ عَلَى الحِمَارِ
2987 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا أَبُو صَفْوَانَ، عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَكِبَ عَلَى حِمَارٍ، عَلَى إِكَافٍ عَلَيْهِ قَطِيفَةٌ، وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ وَرَاءَهُ. [4566، 5663، 5964، 6207، 6254 - مسلم:
1798 -
فتح 6/ 131]
2988 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، قَالَ يُونُسُ: أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، عَنْ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَقْبَلَ يَوْمَ الفَتْحِ مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ عَلَى رَاحِلَتِهِ، مُرْدِفًا أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ وَمَعَهُ بِلَالٌ وَمَعَهُ عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ مِنَ الحَجَبَةِ، حَتَّى أَنَاخَ فِي المَسْجِدِ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَأْتِيَ بِمِفْتَاحِ البَيْتِ، فَفَتَحَ وَدَخَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ أُسَامَةُ وَبِلَالٌ وَعُثْمَانُ، فَمَكَثَ فِيهَا نَهَارًا طَوِيلاً ثُمَّ خَرَجَ، فَاسْتَبَقَ النَّاسُ، وَكَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ أَوَّلَ مَنْ دَخَلَ، فَوَجَدَ بِلَالاً وَرَاءَ البَابِ قَائِمًا، فَسَأَلَهُ أَيْنَ صَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَشَارَ لَهُ إِلَى المَكَانِ الذِي صَلَّى فِيهِ، قَالَ عَبْدُ اللهِ فَنَسِيتُ أَنْ أَسْأَلَهُ كَمْ صَلَّى مِنْ سَجْدَةٍ. [انظر: 397 - مسلم: 1329 - فتح 6/ 131]
ذكر فيه حديث أُسَامَةَ بْن زيدٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ركِبَ عَلَى حِمَارٍ عَلَى إِكَافٍ عَلَيْهِ قَطِيفَةٌ، وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ وَرَاءَهُ.
ويأتي في اللباس
(1)
والتفسير والأدب والطب، والاستئذان، وأخرجه مسلم في المغازي والنسائي في الطب
(2)
، وأهمله ابن عساكر.
وحديث نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم أقْبَلَ يَوْمَ الفَتْحِ مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ عَلَى رَاحِلَتِهِ مُرْدِفًا أُسَامَةَ بْنَ زيدٍ، وَمَعَهُ بِلَالٌ فذكر صلاته
(1)
ورد بهامش الأصل: في التفسير والطب واللباس والأدب والاستئذان، كذا الترتيب.
(2)
النسائي في "الكبرى" 4/ 356 (7502).
في الكعبة.
وفي سند الأول (أبو صفوان): وهو عبد الله بن سعيد بن عبد الملك بن مروان.
وفيه: الدلالة لما ترجم له.
وفيه: التواضع من وجوه ركوب الإمام الحمار وركوبه على قطيفة وإردافه الغلام.
وفيه: البيان عن أنه صلى الله عليه وسلم مع محله من الله وجلالة منزله لم يكن يرفع نفسه على أن يحمل ردفًا معه على دابته، ولكنه كان يردف لتتأسى به في ذَلِكَ أمته، فلا يأنفوا مما لم يكن يأنف منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يستنكفوا مما لم يستنكف منه.
وفي حديث أسامة وغيره اتخاذ المطايا في السفر، وفيه ركوب الحمار على الإكاف بالقطيفة.
وفيه: التوطؤ بالقطيفة.
وفيه: فضل أسامة ودخول مكة من أعلاها راكبًا.
وفيه: قرب عثمان الحجبي منه وإناخة الراحلة في المسجد.
وفيه: المقام بالبيت طويلاً، وفي غير هذا الموضع ما علق عليهم الباب.
وقول بلال: (إنه صلى). قد سلف الجمع بينه وبين من نفى الصلاة فيه، وهو الفضل. قَالَ البخاري: فأخذ الناس بقول بلال، ويبعد إرادة الدعاء وإن ذكره الداودي؛ لأنه قَالَ:(فنسيت أن أسأله: كم صلى من سجدة). يريد: من ركعة.
128 - باب مَنْ أَخَذَ بِالرِّكَابِ وَنَحْوِهِ
2989 -
حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ سُلَامَى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ، يَعْدِلُ بَيْنَ الاثْنَيْنِ صَدَقَةٌ، وَيُعِينُ الرَّجُلَ عَلَى دَابَّتِهِ، فَيَحْمِلُ عَلَيْهَا، أَوْ يَرْفَعُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ، وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ خَطْوَةٍ يَخْطُوهَا إِلَى الصَّلَاةِ صَدَقَةٌ، وَيُمِيطُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ» . [انظر: 2707 - مسلم: 1009 - فتح 6/ 132]
ذكر فيه حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: "كلُّ سُلَامَى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَة". وقد سلف.
وموضع الحاجة منه قوله: "ويعين الرجل على دابته فيحمل عليها" فإنه يدخل فيه الأخذ بالركاب وغيره، ولا شك أن الأخذ بالركاب من الفضائل، وهي صدقة من الآخذ بالركاب على الراكب، لأنه معروف، وقد أخذ ابن عباس بركاب زيد بن ثابت فقال له: لا تفعل يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: هكذا أُمرنا أن نفعل بعلمائنا، فأخذ زيد بيد ابن عباس فقبلها، فقال له: لا تفعل. فقال: هكذا أمرنا أن نفعل بآل رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
.
وقوله: ("وكل خطوة يخطوها إلى الصلاة صدقة") أي: فيرفع له بها درجة ويحط عنه خطيئة؛ ولهذا حث الشارع على كثرة الخطا إلى المساجد، وترك الإسراع في السَّير إليه.
(1)
رواه الحاكم 3/ 423 ومن طريقه البيهقي 6/ 211، من طريق محمد بن عمرو، عن أبي سلمة به وليس فيه ذكر أن زيد بن ثابت قبَّل يد ابن عباس.
وقوله: (يميط) أي: يزيل. يقال: ماط الرجل الشيء يميطه (ميطًا)
(1)
وأماطه: إذا أزاله. ويقال: أماط الله عنك الأذى، إذا دعوت له بزواله، قاله القزاز، وهو قول الكسائي، وأنكره الأصمعي وقال: مطت أنا وأمطت غيري.
(1)
من (ص 1).
129 - باب السَّفَرِ بِالْمَصَاحِفِ إِلَى أَرْضِ العَدُوِّ
وَكَذَلِكَ يُرْوى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بِشْرٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابن عُمَرَ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
وَتَابَعَهُ ابن إِسْحَاقَ، عَنْ نَافِع، عَنِ ابن عُمَرَ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَقَدْ سَافَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ فِي أَرْضِ العَدُوِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ القُرْآنَ.
2990 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يُسَافَرَ بِالْقُرْآنِ إِلَى أَرْضِ العَدُوِّ. [مسلم: 1869 - فتح 6/ 133].
حَدَّثنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِع، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يُسَافَرَ بِالْقُرْآنِ إِلَى أَرْضِ العَدُوِّ.
هذا الحديث أخرجه مسلم أيضًا كذلك وبزيادة: "لا تسافروا بالقرآن فإني لا آمن أن يناله العدو". وقال أيوب: فقد ناله العدو وخاصمكم به وفي ثالث: "فإني أخاف" وفي رابع: "مخافة أن يناله العدو"
(1)
.
وقال مالك فيما نقله أبو عمر، وهو كذلك في "الموطأ"
(2)
: أرى ذَلِكَ مخافة أن يناله العدو. وكذلك قَالَ يحيى -الأندلسي- والقعنبي وابن بكير وأكثر الرواة؛ ورواه ابن وهب، عن مالك فقال في آخره:"خشية أن يناله العدو". في سياقه الحديث، لم يجعلوه من قول مالك؛ وكذلك قَالَ عبيد الله بن عمر وأيوب، عن نافع، عن ابن عمر
(1)
أربعة هذِه الروايات رواها مسلم (1869) كتاب: الإمارة، باب: النهي أن يسافر بالمصحف إلى أرض الكفار إذا خيف وقوعه بأيديهم.
(2)
"الموطأ" ص 277.
- رضي الله عنهما: نهى أن يسافر بالقرآن؛ ورواه الليث، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان ينهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو ويخاف أن يناله العدو. وقال إسماعيل بن أمية: وليث بن أبي سليم، عن نافع، عن ابن عمر (قَالَ:)
(1)
قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو فإني أخاف أن يناله العدو" وكذا قال شعبة، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قَالَ أبو عمر: وهو مرفوع صحيح
(2)
. وزعم الإسماعيلي أن ابن مهدي وصله عن مالك ولم يفصله، ولما ذكره ابن الجوزي بلفظ:"فإني لا آمن أن يناله العدو".
(قلتُ:)
(3)
ظاهره رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الخطيب: قوله: (مخافة .. إلى آخره) هو قول مالك، بين ذَلِكَ أبو مصعب وابن وهب وابن القاسم، والمسند النهي حسب
(4)
، وقال الحميدي: عن البرقاني: لم يقل: كره إلا ابن بشر، ورواه جماعة عن عبيد الله، فاتفقوا على لفظ النهي
(5)
. ثم اعلم أن في بعض نسخ البخاري: باب: كراهية السفر بالمصاحف إلى أرض العدو.
واعترض ابن بطال على الترجمة التي أوردناها أولاً فقال: هذا الباب وقع فيه غلط من الناسخ، والصواب البداءة بالمسند، ثم بقوله:(وكذلك يروى) إلى آخره، وتابعه ابن إسحاق
(6)
. قلتُ: وكذا فعله
(1)
من (ص 1).
(2)
"التمهيد" 15/ 253 - 254.
(3)
من (ص 1).
(4)
"المدرج في النقل" 1/ 411.
(5)
"الجمع بين الصحيحين" 2/ 236.
(6)
"شرح ابن بطال" 5/ 149.
أبو نعيم في "مستخرجه" وإنما أتى بالمتابعة لأجل زيادة: "مخافة أن يناله العدو" وجعله مرفوعًا، (ولن يصح ذَلِكَ عند مالك ولا عند البخاري، وإنما هي من قول)
(1)
مالك.
وقال المنذري: رواه بعضهم من حديث ابن مهدي والقعنبي عن مالك، فأدرج هذِه الزيادة في الحديث، وقد اختلف على القعنبي فيها فمرَّة بين أنها قول مالك، ومرة أدرجها، ورواه يحيى بن يحيى النيسابوري عن مالك فلم يذكرها رأسًا، وقد رفع هذِه الكلمات أيوب والليث والضحَّاك بن عثمان الحزامي؛ عن نافع، عن ابن عمر، وقال بعضهم: يحتمل أن يكون مالك شك في رفعها فتحرى، فجعلها من عنده تفسيرًا وإلا فهي صحيحة مرفوعة من رواية غيره
(2)
.
فإن قلت: فقول البخاري: وقد سافر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهم يَعْلمون القرآن. ليس مما نحن فيه؛ لأن المصحف يتقى أن تناله أيدي العدو ولا كذلك ما في الصدور، لا جرم قَالَ الداودي: لا حجة فيما ذكره لهذا، وقد روي مفسرًا: نهى أن يسافر بالمصحف
(3)
. ورواه ابن مهدي، عن مالك، وعبد الله بن عمر، عن نافع، عن أبيه
(4)
مرفوعًا بمثله بزيادة: "إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو"
(5)
والسفر اسم واقع على السفر وغيره.
قَالَ الإسماعيلي: ما كان أغنى البخاري عن هذا الاستدلال، لم يقل أحد أن من يحسن القرآن لا يغزو العدو في داره، وقال ابن
(1)
من (ص 1).
(2)
"مختصر سنن أبي داود" 3/ 415 - 416.
(3)
رواه أحمد 2/ 76.
(4)
كذا بالأصل، ولعله التبس عليه نافع بسالم، ونافع مولاه لا ابنه.
(5)
رواه ابن ماجه (2879)، وأحمد 2/ 7، 63.
المنير: الاستدلال بهذا على الترجمة ضعيف؛ لأنها واقعة عين، ولعلهم تعلموه تلقينًا وهو الغالب حينئذ
(1)
، فعلى هذا يقرأ: يعلِّمون بالتشديد، لكن رأيته في أصل الدمياطي بفتح الياء، وأجاب المهلب بأن فائدة ذَلِكَ أنه أراد أن يبين أن نهيه عن السفر به إليهم ليس على العموم ولا على كل الأحوال، وإنما هو على العساكر والسرايا التي ليست مأمونة، وأما إذا كان في العسكر العظيم، فيجوز حمله إلى أرضهم؛ ولأن الصحابة كان يعلمه بعضهم بعضًا؛ لأنهم لم يكونوا مستظهرين له.
وقد يُمكن أن يكون عند بعضهم صحف فيها قرآن يعلِّمون منها، فاستدل البخاري أنهم في تعلمهم كان فيهم من يتعلم بكتاب، فلما جاز لهم تعلمه في أرض العدو بغير كتاب وكتاب، كان فيه إباحة لحمله إلى أرض العدو إذا كان عسكرًا مأمونًا، وهذا قول أبي حنيفة
(2)
.
ولم يفرق مالك بين العسكر الكبير و (العسكر)
(3)
الصغير في ذَلِكَ، وحكى ابن المنذر عن أبي حنيفة الجواز مطلقًا
(4)
والأول أصح. قَالَ ابن سحنون: قلتُ لأبي: أجاز بعض العراقيين الغزو بالمصاحف في الجيش الكبير بخلاف السرية. قَالَ سحنون: لا يجوز ذَلِكَ لعموم النهي
(5)
. وقد يناله العدو في غفلة.
وقال الشيخ أبو القاسم الأندلسي: هو جائز في الكبيرة، وإنما منع في السرية ونحوها. ولا يسلم المصحف له إذا رغب في تدبره، ذكره
(1)
"المتواري" ص 164.
(2)
"مختصراختلاف العلماء" 3/ 435.
(3)
من (ص 1).
(4)
انظر: "شرح ابن بطال" 5/ 149 - 150.
(5)
"النوادر والزيادات" 3/ 34.
ابن الماجشون
(1)
، وكذلك لا يجوز أن يعلم أحدًا من ذراريهم القرآن؛ لأن ذَلِكَ سبب لتمكنهم منه، نعم قَالَ أصحابنا بجوازه إذا رغب في إسلامه، ولا بأس أن يقرأ عليهم احتجاجًا، ويكتب منه الآيات وعظًا اقتداء بالشارع في كتبه إلى ملك الروم:{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا} الآية [آل عمران: 64] قَالَ القاضي عياض: وكره مالك وغيره معاملة الكفار بالدراهم والدنانير؛ لأن فيها اسم الله عز وجل أو ذكره
(2)
، وقد أسلفنا أن معنى النهي عن ذَلِكَ مخافة أن يناله العدو فلا يكرموه، وقد أخبر الله تعالى أنه:{في صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16)} [عبس: 13 - 16] وهم الملائكة عليهم السلام وقال: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79)} [الواقعة: 79] قيل: وهم الملائكة أيضًا، ففهم من هذا أنه لا يمسه منا إلا طاهر، وأن النهي عن السفر به إليهم (ليس)
(3)
على وجه التحريم، وإنما هو على معنى الندب للإكرام، قاله ابن بطال
(4)
، وقد كتب الشارع إلى قيصر بآية إلى آخرها كما سلف، وهو يعلم أنهم مُبْعَدون وأنهم يقرءونها.
(1)
"النوادروالزيادات" 3/ 34.
(2)
"إكمال المعلم" 6/ 283.
(3)
من (ص 1).
(4)
"شرح ابن بطال" 5/ 150.
130 - باب التَّكْبِيِر عِنْدَ الحَرْبِ
2991 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: صَبَّحَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ، وَقَدْ خَرَجُوا بِالْمَسَاحِي عَلَى أَعْنَاقِهِمْ، فَلَمَّا رَأَوْهُ قَالُوا: هَذَا مُحَمَّدٌ وَالْخَمِيسُ، مُحَمَّدٌ وَالْخَمِيسُ. فَلَجَئُوا إِلَى الحِصْنِ، فَرَفَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدَيْهِ وَقَالَ:«الله أَكْبَرُ، خَرِبَتْ خَيْبَرُ، إِنَّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ» . وَأَصَبْنَا حُمُرًا فَطَبَخْنَاهَا، فَنَادَى مُنَادِي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِنَّ اللهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ لُحُومِ الحُمُرِ، فَأُكْفِئَتِ الْقُدُورُ بِمَا فِيهَا. تَابَعَهُ عَلِيٌّ عَنْ سُفْيَانَ رَفَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدَيْهِ. [انظر: 371 - مسلم: 1940،1365 - فتح 6/ 134].
ذكر فيه حديث أنس في خيبر السالف في كتاب: الصلاة، في باب: ما يذكر في الفخذ، وقوله:"الله أكبر خربت خيبر" تابعه علي، عن سفيان: رفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه يعني: تابع المسندي عبد الله بن محمد، وقد أسنده في علامات النبوة عنه، عن سفيان
(1)
، وإنما فعل صلى الله عليه وسلم هذا استشعارًا لكبرياء الله تعالى على ما تقع عليه العين من عظيم خلقه وكبير مخلوقاته أنه أكبر الأشياء، وليس ذَلِكَ على معنى أن غيره كبير، وإنما معنى قوله: الله أكبر: (الله)
(2)
الكبير. هذا قول أهل اللغة كما نقله عنهم المهلب
(3)
. وقال معمر عن أبان: لم يعط أحد التكبير إلا هذِه الأمة
(4)
.
وكذلك يفعل صلى الله عليه وسلم في إشرافه على الجبال، ففرح صلى الله عليه وسلم بما فتح الله عليه وكبر إعظامًا لله وشكرًا له.
(1)
سيأتي برقم (3647) كتاب: المناقب.
(2)
من (ص 1).
(3)
كما في "شرح ابن بطال" 5/ 151.
(4)
رواه معمر في "جامعه" كما في "المصنف" 11/ 296.
ورفع اليدين في الدعاء والتكبير استسلام لله عز وجل وتنزيه من الحول والقوة إلا به، وقد روى سفيان عن أيوب في هذا الحديث:((حالوا)
(1)
إلى الحصين). أي: تحولوا إليه، يقال: حلت عن المكان. إذا تحولت عنه، ومثله: أحلت عنه.
وقوله: ("إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين") يريد صلى الله عليه وسلم أنهم يقدم إليهم الإنذار فلما عتوا وأصروا نزل بساحتهم.
والنهي عن لحوم الحمر قد أسلفنا فيما مضى أنه عُلل؛ لئلا تفنى أو أنه غير ذَلِكَ معلل، وقيل لمبادرتهم إليها قبل القِسمة. قَالَ الداودي: مالك يرى لحومها محرمة لقوله تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [غافر: 79] وقال في الأنعام {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} وزعم أشهب أن تحريمها إجماع من أهل الحجاز؛ وأراه أراد أكثرهم. وقال طاوس: أي: ذَلِكَ البحر -يعني: ابن عباس- واحتج بقوله: {قُلْ لَا أَجِدُ} الآية [الأنعام: 145]، واحتج من رد ذَلِكَ بأن هذا كان قبل نزول الآية، ثم حرم صلى الله عليه وسلم الحمر، ولم يكن ينطق عن الهوى، قاله الداودي، وأهل العلم على أنه محرم بالقرآن.
وفيه: أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد إفشاء أمر نادى به مناديه.
(1)
كذا هنا، وكذا هو في ابن بطال 5/ 151، وفي نسخ "الصحيح".
انظر: اليونينية 4/ 208: (فأجالوا) بالجيم، (وأحالو) بالحاء المهملة، وهو ما حكاه أيضًا زكريا الأنصاري في "منحة الباري" 6/ 664.
131 - باب مَا يُكْرَهُ مِنْ رَفْعِ الصَّوْتِ بالتَّكْبِير
2992 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَكُنَّا إِذَا أَشْرَفْنَا عَلَى وَادٍ هَلَّلْنَا وَكَبَّرْنَا، ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُنَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«يَا أَيُّهَا النَّاسُ، ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا، إِنَّهُ مَعَكُمْ، إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ، تَبَارَكَ اسْمُهُ وَتَعَالَى جَدُّهُ» . [4205، 6384، 6401، 6610، 7386 - مسلم: 2704 - فتح 6/ 135].
ذكر فيه حديث أَبِي مُوسَى: كُنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَكُنَّا إذاً أَشْرَفْنَا عَلَى وَادٍ هَلَّلْنَا وَكَبَّرْنَا، ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُنَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أرْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا، إِنَّهُ مَعَكُمْ، إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ".
هذا الحديث أخرجه مسلم والأربعة
(1)
، وشيخ البخاري: محمد بن يوسف هو الفريابي، كما نص عليه أبو نعيم الحافظ.
(واربعوا) براء ساكنة، ثم باء موحدة مفتوحة، قَالَ الأزهري عن يعقوب
(2)
: ربع الرجل يربع إذا وقف وتحبس. وقال الليث: يقال: اربع على نفسك، واربع على طلعك، واربع عليك كل ذَلِكَ واحد، ومعناه: انتظر
(3)
.
وقال الخطابي: يريد: أمسكوا عن الجهر، وَقِفُوا عنه
(4)
.
(1)
مسلم (2704)، وأبو داود (1528)، والترمذي (3374، 3461)، والنسائي في "الكبرى" 6/ 97 (15188)، وابن ماجه (3824).
(2)
هو ابن السِّكِّت، وكلامه في "إصلاح المنطق" ص 262.
(3)
"تهذيب اللغة" مادة (ربع) 2/ 1348.
(4)
"أعلام الحديث" 2/ 1424.
وقال صاحب "المطالع": اعطفوا عليها الرفق بها والكف عن الشدة. ونقل ابن بطال
(1)
عن كتاب "الأفعال": ربع به: رفق به، وربع عن الشيء: كف عنه، ومنه قيل: أربع على نفسك
(2)
. وقال ابن التين: قيل: معناه: ارفق بنفسك. وقيل: انتظر. وقيل: قف. يقال: ربع بالمكان إذا وقف عن السير وأقام به.
وإنما نهاهم -والله أعلم- عن رفع الصوت إبقاء عليهم ورفقًا بهم؛ لأنهم كانوا في مشقة السفر، فأراد صلى الله عليه وسلم:"اكلفوا من العمل ما تطيقون"
(3)
، وكان بالمؤمنين رحيما، ثم أعلمهم أن الله يسمع خفي كلامهم بالتكبير كما يسمع عاليه إذ لا مانع؛ لأنه سميع قريب.
وفيه: كراهية رفع الصوت بالدعاء، وهو قول عامة السلف من الصحابة والتابعين، وروى قيس بن عُباد قَالَ: كان أصحاب رسول الله يكرهون رفع الصوت عند ثلاثة مواطن: عند الذكر، وعند القتال، وعند الجنائز
(4)
. وفي رواية: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرهون رفع الصوت ورفع الأيدي عند القتال و (عند)
(5)
الدعاء. قَالَ سعيد بن أبي عروبة: ثَنَا قتادة، عن سعيد بن المسيب قَالَ: ثلاث مما أحدث الناس: رفع الصوت عند الدعاء، ورفع الأيدي، واختصار السجود
(6)
. وذكر عن مجاهد أنه رأى رجلاً يرفع صوته بالدعاء فحصبه
(7)
.
(1)
"شرح ابن بطال" 5/ 152.
(2)
"الأفعال" ص 101 بمعناه.
(3)
بهذِه الرواية يأتي برقم (6465) كتاب: الرقاق، باب: القصد والمداومة.
(4)
رواه ابن أبي شيبة 6/ 517 (33409)، والبيهقي 4/ 74.
(5)
من (ص 1).
(6)
رواه عبد الرزاق 2/ 251 (3251) عن معمر، عن قتادة، به.
(7)
رواه ابن أبي شيبة 2/ 233 (8458).
132 - باب التَّسْبِيحِ إِذَا هَبَطَ وَادِيًا
2993 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ سَالم بْنِ أَبِي الجَعْدِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما قَالَ: كُنَّا إِذَا صَعِدْنَا كَبَّرْنَا، وِاذَا نَزَلْنَا سَبَّحْنَا. [2994 - فتح 6/ 135]
ذكر فيه حديث جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا إِذَا صَعِدْنَا كَبَّرْنَا، وَإِذَا نَزَلْنَا سَبَّحْنَا.
133 - باب التَّكْبِيرِ إِذَا عَلَا شَرَفًا
2994 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا إِذَا صَعِدْنَا كَبَّرْنَا، وَإِذَا تَصَوَّبْنَا سَبَّحْنَا. [انظر: 2993 - فتح 6/ 123].
2995 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَفَلَ مِنَ الحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ -وَلَا أَعْلَمُهُ إِلاَّ قَالَ الغَزْوِ- يَقُولُ كُلَّمَا أَوْفَى عَلَى ثَنِيَّةٍ أَوْ فَدْفَدٍ كَبَّرَ ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ «لَا إِلَهَ إِلاَّ الله، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الحَمْدُ، وَهْوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ، آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ سَاجِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ، صَدَقَ الله وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ» . قَالَ صَالِحٌ: فَقُلْتُ لَهُ أَلَمْ يَقُلْ عَبْدُ اللهِ: إِنْ شَاءَ الله؟ قَالَ: لَا. [انظر: 1797 - مسلم: 1344 - فتح 6/ 135].
ذكر فيه حديث جابر هذا بلفظ: قَالَ: وَإِذَا صوَّبْنَا سَبَّحْنَا بدل: نزلنا.
وحديث ابن عُمَرَ رضي الله عنهما: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَفَلَ مِنَ الحَجِّ أَوِ العُمْرَةِ -وَلَا أَعْلَمُهُ إِلَّا قَالَ: من الغَزْوِ- يَقُولُ: كُلَّمَا أَوْفَى عَلَى ثَنيَّةٍ أَوْ فَدْفَدٍ كَبَّرَ ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ: "لَا إله إِلَّا اللهُ .. " الحديث. قَالَ صَالِحٌ: فَقُلْتُ لَهُ: أَلَمْ يَقُلْ عَبْدُ اللهِ: إِنْ شَاءَ اللهُ؟ قَالَ: لَا.
الشرح:
شيخ البخاري في حديث جابر في الباب الأول: محمد بن يوسف هو الفريابي، وشيخه سفيان هو الثوري.
وشيخه في حديث ابن عمر: هو عبد الله. قيل: ابن يوسف. وقيل: ابن صالح. قَالَ أبو مسعود الدمشقي: الناس رووا هذا الحديث عن
عبد الله بن صالح. وقال الجياني: نسبه ابن السكن قال: حدثنا عبد الله بن يوسف
(1)
.
ومعنى: (أوفى): علا وأشرف.
و (الثنية): أعلى الجبل، وهو ما يرى منه على البعد، وقال ابن فارس: الثنية من الأرض كالمرتفع
(2)
. وقال الداودي: هي الطريق التي في الجبال نظير الطريق بين الجبلين.
والفَدْفَد: الأرض الغليظة ذات الحصى لا تزل الشمس تدف فيها، ذكره القزاز. وقال ابن فارس: الأرض المستوية
(3)
. وقال الخطابي: رابية مشرفة
(4)
. وقال أبو عبيد: الفدفد: المكان المرتفع فيه صلابة
(5)
. والثنية: أعلى مسيل في رأس الجبل. وقال صاحب "العين": الثنايا: العِقَاب
(6)
.
وتكبيره صلى الله عليه وسلم عند إشرافه على الجبال استشعارٌ لكبرياء الله، عندما تقع عليه العين من عظيم خلقه أنه أكبر من كل شيء كما سلف قريبًا، وأما تسبيحه في بطون الأودية فهو مستنبط من قصة يونس عليه السلام وتسبيحه في بطن الحوت. قَالَ تعالى:{فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144)} [الصافات: 143 - 144] فنجاه الله تعالى بذلك من الظلمات، فامتثل الشارع هذا التسبيح في بطون الأودية؛ لينجيه الله منها ومن أن يدركه عدو، وقيل: إن تسبيح يونس كان
(1)
"تقييد المهمل" 3/ 993.
(2)
"المجمل" 1/ 164، مادة (ثنى).
(3)
"مقاييس اللغة" مادة (فدَّ)
(4)
"أعلام الحديث" 2/ 1436.
(5)
فيما رواه عن الأصمعي، كما في "تهذيب اللغة" مادة (فدَّ) 3/ 751.
(6)
في "العين" 5/ 357: الكَفَرَ (بالتحريك) الثنايا من الجبال. اهـ.
صلاة قبل أن يلتقمه الحوت فروعي فيه فضلها، والأول أولى بدليل التسبيح من الشارع في بطون الأودية وكل منخفض، وقيل: معنى تسبيحه هنا في ذَلِكَ، أنه لما كان
(1)
التكبير لله تعالى عند رؤية عظيم مخلوقاته وجب أن يكون فيما انخفض من (الأرض)
(2)
تسبيح لله تعالى؛ لأن التسبيح في اللغة: تنزيه الله تعالى من النقائص كالولد والشريك والصاحبة
(3)
، فسبحان الله: براءته من ذلك
(4)
.
(1)
في (ص 1) زيادة: في.
(2)
في (ص 1): الموت.
(3)
هذا كلام ابن الأنباري في "شرح ابن بطال" 5/ 153.
(4)
تعليل التكبير إلى هنا نقله عن "شرح ابن بطال" 5/ 153 من قول المهلب وغيره.
134 - باب يُكْتَبُ لِلْمُسَافِرِ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ فِي الإِقَامَةِ
2996 -
حَدَّثَنَا مَطَرُ بْنُ الْفَضْلِ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، حَدَّثَنَا العَوَّامُ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ أَبُو إِسْمَاعِيلَ السَّكْسَكِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا بُرْدَةَ وَاصْطَحَبَ هُوَ وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي كَبْشَةَ فِي سَفَرٍ، فَكَانَ يَزِيدُ يَصُومُ فِي السَّفَرِ فَقَالَ لَهُ أَبُو بُرْدَةَ سَمِعْتُ أَبَا مُوسَى مِرَارًا يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم «إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ، كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا» . [فتح 6/ 136].
ذكر فيه حديث (إبراهيم أبي إِسْمَاعِيلَ)
(1)
السَكْسَكِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا بُرْدَةَ وَاصْطَحَبَ هُوَ وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي كَبْشَةَ فِي سَفَرٍ، فَكَانَ يَزِيدُ يَصُومُ فِي السَّفَرِ، فَقَالَ لَهُ أَبُو بُرْدَةَ: سَمِعْتُ أَبَا مُوسَى مِرَارًا يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا مَرِضَ العَبْدُ أَوْ سَافَرَ كتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا".
هذا الحديث من أفراده وله شواهد: منها حديث أبي موسى الأشعري رفعه: "إذا كان العبد يعمل عملا صالحًا يشغله عن ذَلِكَ مرض أو سفر كتب الله له كصالح ما كان يعمل وهو صحيح مقيم" أخرجه الحاكم وقال: صحيح على شرط البخاري
(2)
.
ومنها حديث سعيد بن أبي بردة، عن أبيه، عن جده رفعه:"ألا إن الله يكتب للمريض أفضل ما كان يعمل في صحته ما دام في وثاقه، والمسافر أفضل ما كان يعمل في حضره" أخرجه الطبراني في "أكبر معاجمه"
(3)
.
(1)
في الأصل: (أبي إبراهيم إسماعيل) والتصويب من اليونينية 4/ 57.
(2)
"المستدرك" 1/ 314.
(3)
أخرجه في "الأوسط" 8/ 273.
ومنها حديث أنس قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا ابتلى الله العبد المسلم ببلاء في جسده قَالَ الله تعالى: اكتب له صالح عمله الذي كان يعمل. فإن شفاه غسله وطهره، وإن قبضه غفر له ورحمه" رواه أحمد، عن عفان، عن حماد بن سلمة، عن أبي ربيعة سنان، عن أنس به
(1)
. ومنها حديث عبد الله بن عمرو بن العاصي الآتي
(2)
.
فصل:
وهذا الحديث أيضًا أصله في كتاب الله تعالى قَالَ -جل من قَائل-: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6)} [التين: 4 - 6]، أي: مقطوع. يريد: أن لهم أجرهم في حال الكبر والضعف عما كانوا يعملونه في الصحة غير مقطوع لهم، فكذلك كل مرض من غير الزمانة، وكل آفة من سفر وغيره تمنع من العمل الصالح المعتاد، فإن الله تعالى قد تفضل بإجراء أجره على من منع ذَلِكَ العمل بهذا الحديث، ثم هو ليس على عمومه، وإنما هو لمن كانت له نوافل وعادة من عمل صالح فمنعه الله تعالى منها بالمرض أو السفر، وكانت نيته لو كان صحيحًا أو مقيمًا أن يدوم عليها ولا يقطعها، فإن الله سبحانه يتفضل عليه بأن يكتب له أجر ثوابها حين حبسه عنها، فأما من لم يكن له نفل ولا عمل صالح فلا يدخل في معنى هذا الحديث، كما نبه عليه ابن بطال
(3)
، فإنه لم يمنعه مرضه من شيء، فكيف يكتب له ما لم يكن يعمله؟
(1)
"المسند" 3/ 148، وفيه (عن حسن وصفان) اهـ يعني: كلاهما عن حماد.
(2)
يعني الآتي لاحقًا في الشرح، ضمن الفصل الآتي.
(3)
"شرح ابن بطال" 5/ 154 - 155.
ومما يدل على أن الحديث في النوافل ما روى معمر، عن عاصم بن أبي النجود، عن خيثمة، عن عبد الله بن عمرو قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إن العبد إذا كان على طريقة حسنة من العبادة ثم مرض، قيل للملك الموكل به: اكتب له مثل عمله إذا كان طلقًا حَتَّى أطلقه أو أكفته إليَّ"
(1)
وأخرجه أحمد بلفظ: "ما من أحد من الناس يصاب ببلاء في جسده إلا أمر الله الملائكة الذين يحفظونه، يقول: اكتبوا لعبدي في كل يوم وليلة ما كان يعمل من خير ما كان في وثاقي"
(2)
، وأخرجه الحاكم في "مستدركه" أيضًا وقال:"ما من مسلم" بدل: "ما من أحد" وقال: صحيح على شرط الشيخين
(3)
.
وقوله: ("إذا كان على طريقة حسنة من العبادة") لا يقال إلا في النوافل، ولا يقال ذَلِكَ لمؤدي الفرائض خاصة؛ لأن المريض والمسافر لا تسقط عنهما صلوات الفرائض، فسنة المريض الجلوس في الصلاة إن لم يطق القيام، والإيماء إن لم يطق الجلوس، وسنة المسافر القصر ولم يبق أن يكتب لهما إلا أجر النوافل، كما قَالَ صلى الله عليه وسلم:"ما من امرئ يكون له صلاة بالليل يغلبه عنها نوم إلا كتب له أجر صلاته، وكان نومه صدقة عليه"
(4)
وهذا لا إشكال فيه.
(1)
"الجامع" لمعمر مع "المصنف" 11/ 196.
(2)
"مسند أحمد" 2/ 203، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 2/ 303 إسناده صحيح.
(3)
"المستدرك" 1/ 348.
(4)
رواه النسائي 3/ 257، وابن ماجه (1344)، وصححه ابن خزيمة (1172)، وابن حبان 6/ 323 (2588)، والعراقي في "تخريج الإحياء" 1/ 314، والألباني في "الإرواء"(454).
واعترضه ابن المنير، وقال: هذا تحجير واسع؛ بل يدخل فيه الفرائض التي شأنه أن يعمل بها وهو صحيح إذا عجز عنه فعلاً؛ لأنه قام به عزمًا أن لو كان صحيحًا، حَتَّى صلاة الجالس في الفرض لمرضه يكتب له بها أجر صلاة القائم
(1)
.
وقال ابن التين: هذا مجازاة على النية، فنية المؤمن خير من عمله كما قيل.
قلتُ: وقد ورد أيضًا، ويحتمل إن تكلف المريض أو المسافر أقل العمل كان أفضل من عمله وهو صحيح مقيم.
فصل:
هذِه الأحاديث دالة على أن الأعذار المرخصة لترك الجماعة كما تنفي الحرج عن التارك يحصل له فضل الجماعة إذا صلاها منفردًا، وكان قصده الجماعة لولا العذر، وبه صرح الروياني في "تلخيصه" قَالَ للأخبار الواردة في الباب.
ويشهد له أيضًا حديث أبي هريرة: "من توضأ فأحسن وضوءه ثم خرج إلى المسجد فوجد الناس قد صلوا أعطاه الله عز وجل مثل أجر من صلاها وحضرها، لا ينقص ذَلِكَ من أجرهم شيئًا" رواه أبو داود والنسائي والحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم
(2)
. وهو راد على قول النووي في "شرح المهذب"(حيث قَالَ:)
(3)
إن هذِه الأعذار تسقط الكراهة أو الإثم ولا تكون محصلة للفضيلة.
(1)
"المتواري" ص 165. بتصرف.
(2)
أبو داود (564)، والنسائي 2/ 111.
(3)
من (ص 1).
فصل:
يزيد بن أبي كبشة سكسكي دمشقي من بيت لَهْيا وعقبه بها، واسم أبي كبشة: جبريل بن يسار، أحد أمراء العراق، روى عن مروان بن الحكم وأبيه، ورجل له صحبة، فهو إذن تابعي، مات في خلافة سليمان بن عبد الملك
(1)
.
(1)
ينظر ترجمته في "تاريخ خليفة" ص 278، "التاريخ الكبير" 8/ (3312)، "الثقات" 5/ 544، "تهذيب الكمال" 228/ 32 (7039)، "سير أعلام النبلاء" 4/ 443.
135 - باب السَّيِرْ وَحْدَهُ
2997 -
حَدَّثَنَا الحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما يَقُولُ نَدَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ يَوْمَ الخَنْدَقِ، فَانْتَدَبَ الزُّبَيْرُ، ثُمَّ نَدَبَهُمْ فَانْتَدَبَ الزُّبَيْرُ، ثُمَّ نَدَبَهُمْ فَانْتَدَبَ الزُّبَيْرُ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيًّا، وَحَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ» .
قَالَ سُفْيَانُ الحَوَارِيُّ: النَّاصِرُ. [انظر: 2846 - مسلم: 1415 - فتح 6/ 137]
2998 -
حَدَّثَنَا أَبُو الوَلِيدِ، حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي الوَحْدَةِ مَا أَعْلَمُ مَا سَارَ رَاكِبٌ بِلَيْلٍ وَحْدَهُ» . [فتح 6/ 137]
ذكر فيه حديث جَابِرِ رضي الله عنه: نَدَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ يَوْمَ الخَنْدَقِ، فَانْتَدَبَ الزُّبَيْرُ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيًّا، وَحَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ". قَالَ سُفْيَانُ: الحَوَارِيُّ: النَّاصِرُ. وقد تقدم.
وحديث ابن عمر رفعه: "لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي الوَحْدَهِ مَا أَعْلَمُ مَا سَارَ رَاكِبٌ بِلَيْلٍ وَحْدَهُ". وهو من أفراده.
قَالَ الحاكم: وهو على شرط مسلم
(1)
. قَالَ الترمذي: ولا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث عاصم بن محمد أي: عن أبيه، عن ابن عمر رضي الله عنهما
(2)
.
قلتُ: أخرجه النسائي، عن المغيرة بن عبد الرحمن، عن محمد بن
(1)
"المستدرك" 2/ 101 - 102.
(2)
"سنن الترمذي" 4/ 193.
ربيعة، عن عمر بن محمد بن زيد، عن أبيه، عن ابن عمر
(1)
.
واعلم أن البخاري رواه عن أبي الوليد وعن أبي نعيم (وفي كل منهما قال فيه: حدثنا، وزعم أنه لم يروه عن أبي نعيم)
(2)
، وإنما قَالَ: وقال أبو نعيم. ثم قَالَ: لم يقل -يعني البخاري- في حديث أبي نعيم: حَدَّثَنَا. وإنما قَالَ: قَالَ أبو نعيم، عن عاصم. وتبعه المزي
(3)
، والذي وجدناه (في أصل)
(4)
الدمياطي وغيره التصريح بحدثنا فيه، وكذا ذكره عنه أبو نعيم في "مستخرجه" فتنبه له.
إذا تقرر ذَلِكَ؛ فالوحدة بفتح الواو كذا نحفظه. قَالَ ابن التين: ضبطت بفتح الواو وكسرها، وأنكر بعض أهل اللغة الكسر، قَالَ صاحب "المطالع": و (وحدك) منصوب بكل حال عند أكثر أهل الكوفة على الظرف، وعند البصريين على المصدر
(5)
. أي: يوحد وحده. قَالَ: وكسرته العرب في ثلاث مواضع: عُيير وحده، جحيش وحده ونسيج وحدِه. وعن أبي علي: رجل وحد بفتح الحاء وكسرها وإسكانها، ووحيد ومتوحد، والأنثى وحدة. وَوحِد -بكسر الحاء وضمها- وحادة ووحدة ووحدا وتوحد، كله بقي وحده، وعن كراع: الوحد: الذي يترك وحده.
قَالَ المهلب: نهيه صلى الله عليه وسلم عن الوحدة في سير الليل إنما هو إشفاق على الواحد من الشياطين؛ لأنه وقت انتشارهم وأذاهم للبشر بالتمثيل لهم
(1)
"السنن الكبرى" 5/ 266 (8850).
(2)
من (ص 1).
(3)
"تحفة الأشراف" 6/ 38 (7419).
(4)
في (ص 1): بخط.
(5)
ورد بهامش الأصل: قال في "القاموس" متعقبًا لكلام الجوهري أنه عند أهل البصرة على المصدر. انتهى. قال: ونصبه على الحال عند البصريين لا على المصدر، وأخطأ الجوهري. انتهى.
وما يفزعهم، ويدخل في قلوبهم الوساوس، ولذلك أمر الناس أن يحبسوا صبيانهم عند فحمة الليل.
وأما قصة الزبير فإنها لتعرف أمر العدو، والواحد الثابت في ذَلِكَ أخفى على العدو أقرب إلى التجسس بالاختفاء والقرب منهم، مع ما علم الله من نيته والتأييد عليها، فبعثه واثقًا بالله، ومع أن الوحدة ليست بمحرمة وإنما هي مكروهة، فمن أخذ بالأفضل من الصحبة فهو أولى ممن أخذ بالوحدة فلم يأت حرامًا.
وقد سلف الكلام في حديث جابر وما عارضه في باب: هل يبعث الطليعة وحده، وباب: سفر الاثنين. فراجعه من ثم.
وقال ابن التين: لما ضبط الوحدة قَالَ: قيل: معناه في الليل، وقد أتى الشارعَ جابر ليلاً وقال:"ما السرى يا جابر"
(1)
قَالَ: ويحتمل أن سكوت الشارع عما يعمله في سير الليل خيفة أن يتناهى عند الضرورات أن يسير راكب وحده.
فائدة: أسلفنا الكلام هناك على لفظ: (حواري) فليراجع. قَالَ الزجاج: وهو مصروف؛ لأنه منسوب إلى حوار، وأما ما كان نحو كراسي وبخاتي فغير مصروف؛ لأن الواحد بختي وكرسي. قَالَ سيبويه: فأما (عواري وحوالي)
(2)
فغير مصروفات، لأن هذِه الياء كانت في الواحد نحو عادية وعارية وحولي
(3)
.
(1)
سلف (361) كتاب: الصلاة، باب: إذا كان الثوب ضيقًا.
(2)
في (ص 1) بعدها كلمة: (وجواري) اهـ. وعبارة سيبويه في "الكتاب": عواري وعوادي وحوالي.
(3)
"الكتاب" 3/ 232.
136 - باب السُّرْعَةِ فِي السَّيِرْ
قَالَ أَبُو حُمَيْدٍ رضي الله عنه: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي مُتَعَجِّلٌ إِلَى المَدِينَةِ، فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَعَجَّلَ مَعِي فليتعجل". [انظر: 1481]
2999 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ المُثَنَّى، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ هِشَامٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي قَالَ سُئِلَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ رضي الله عنهما -كَانَ يَحْيَى يَقُولُ وَأَنَا أَسْمَعُ فَسَقَطَ عَنِّي- عَنْ مَسِيرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ، قَالَ فَكَانَ يَسِيرُ العَنَقَ، فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً نَصَّ: وَالنَّصُّ فَوْقَ العَنَقِ. [انظر: 1666 - مسلم: 1286 - فتح 6/ 138].
3000 -
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي زَيْدٌ -هُوَ ابْنُ أَسْلَمَ- عَنْ أَبِيهِ، قَالَ كُنْتُ مَعَ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما بِطَرِيقِ مَكَّةَ، فَبَلَغَهُ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ أَبِي عُبَيْدٍ شِدَّةُ وَجَعٍ، فَأَسْرَعَ السَّيْرَ حَتَّى إِذَا كَانَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّفَقِ، ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى المَغْرِبَ وَالْعَتَمَةَ، يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا، وَقَالَ إِنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إِذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ أَخَّرَ الْمَغْرِبَ وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا. [انظر: 1091 - مسلم: 703 - فتح 6/ 139].
3001 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنَ العَذَابِ؛ يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ نَوْمَهُ وَطَعَامَهُ وَشَرَابَهُ، فَإِذَا قَضَى أَحَدُكُمْ نَهْمَتَهُ فَلْيُعَجِّلْ إِلَى أَهْلِهِ» . [انظر: 1804 - مسلم: 1927 - فتح 6/ 139].
ثم ذكر أحاديث سلفت في الحج حديث أسامة: كان يسير العَنَقِ.
وحديث ابن عمر في الجمع.
وحديث أبي هريرة: "السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنَ العَذَابِ .. ".
وسلف أن مالكًا انفرد بهذا، وقال: لو علمت أهل العراق يقولون ذلك ما ذكرته.
والنهمة بفتح النون وكسرها، واقتصر ابن فارس في ضبطه كتابه على الفتح. وقال: هي الهمة بالشيء
(1)
.
والفجوة: المتسع بين شيئين.
والعنق: انبساط السير، والنص فوق ذَلِكَ، قَالَ أبو عبيد: النص التحريك حَتَّى يستخرج من الناقة أقصى سيرها، وأصله منتهى الأشياء وغايتها. والعنق: سير من سير الدواب طويل
(2)
.
قَالَ المهلب: أما تعجيله إلى المدينة (فليرح)
(3)
نفسه من عذاب السفر، وليفرح بنفسه أهله وجماعة المؤمنين بالمدينة، قَالَ: وأما تعجيل السير إذا وجد فجوة حين دفع من عرفة فليتعجل الوقوف بالمشعر الحرام، ويدعو الله تعالى في ذَلِكَ الوقت؛ لأن ساعات الدعاء في ذَلِكَ الوقت ضيقة ولا تدوم ونادرة، إنما هي من عام إلى عام.
وأما تعجيل ابن عمر إلى زوجته إنما هو ليدرك من حياتها ما يمكِّنه أن تعهد إليه مما لا تعهد به إلى غيره، ولئلا يحرمها ما تريده من طاعة الله في عهدها، ومع ذَلِكَ فإنه كان يسرها بقدومه.
وفيه: التواضع وترك التكبر
(4)
.
(1)
"المجمل" مادة (نهم) 3/ 846.
(2)
"غريب الحديث" 2/ 142 بمعناه.
(3)
في "شرح ابن بطال" 5/ 156: فليخرج.
(4)
نقله عن ابن بطال من "شرحه" 5/ 156.
137 - باب إِذَا حَمَلَ عَلَى فَرَسٍ فَرَآهَا تُبَاعُ
3002 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ حَمَلَ عَلَى فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللهِ فَوَجَدَهُ يُبَاعُ، فَأَرَادَ أَنْ يَبْتَاعَهُ، فَسَأَلَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:«لَا تَبْتَعْهُ، وَلَا تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ» . [انظر: 1489 - مسلم: 1621 - فتح 6/ 139].
3003 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رضي الله عنه يَقُولُ: حَمَلْتُ عَلَى فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَابْتَاعَهُ -أَوْ فَأَضَاعَهُ- الذِي كَانَ عِنْدَهُ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِيَهُ، وَظَنَنْتُ أَنَّهُ بَائِعُهُ بِرُخْصٍ، فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:«لَا تَشْتَرِهِ وَإِنْ بِدِرْهَمٍ، فَإِنَّ العَائِدَ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ» . [انظر: 1490 - مسلم: 1620 - فتح 6/ 139].
ذكر فيه حديث ابن عُمَرَ رضي الله عنهما عن والده في حَمْلِهِ عَلَى فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللهِ فَوَجَدَهُ يُبَاعُ، فَقَالَ له عليه السلام:"لَا تَبْتَعْهُ، وَلَا تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ".
وفي لفظ: "ولو بدرهم فإن العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه" وقد سلف.
(وفيه: الحمل على الخيل في سبيل الله)
(1)
.
وفيه: أن من حمل على فرس في سبيل الله وغزا به فله أن يفعل فيه بعد ذَلِكَ ما يفعل في سائر ماله، ألا ترى أنه صلى الله عليه وسلم لم ينكر على بائعه بيعه، وإنما أنكر على عمر شراءه.
واختلف العلماء فيمن حمل على فرس في سبيل الله ولم يقل: هو حبس في سبيل الله، فروى مالك عن ابن عمر أنه كان إذا أعطى شيئًا في
(1)
من (ص 1).
سبيل الله يقول لصاحبه: إذا بلغت به وادي القرى فشأنك به
(1)
. قَالَ أحمد: إنما قاله؛ لأنه كان يذهب إلى أن المحمول عليه إنما يستحقه بعد الغزو
(2)
، وكذلك قَالَ سعيد بن المسيب: إذا أعطي الرجل الشيء في الغزو فبلغ به رأس مغزاه فهو له
(3)
. وهو قول القاسم وسالم والثوري والليث، قَالَ الليث: إلا أن يكون حبسًا فلا يباع
(4)
.
والعلماء متفقون في الحبس أنه لا يباع، غير الكوفيين الذين لا يجيزون الإحباس، وقال مالك: من أعطي فرسًا في سبيل الله فقيل (له)
(5)
: إنه لك في سبيل الله. فله أن يبيعه، وإن قيل: هو في سبيل الله ركبه ورده، ويكون موقوفًا عنده لحمل الغزاة عليه. وقال أبو حنيفة والشافعي: الفرس المحمول عليه في سبيل الله هو تمليك لمن يحمل عليه، وإن قيل له: إذا بلغت به رأس مغزاك فهو لك. كان تمليكًا على مخاطرة ولم يجز
(6)
، وهي عندهم عطية غير بتلة؛ لأنها بشرط قد يقع وقد لا يقع، لجواز موته قبل بلوغه رأس مغزاته، ولم يملك منه شيئًا قبل ذَلِكَ، وأما إذا قَالَ: هو لك في سبيل الله، أو أحملك عليه في سبيل الله. فقد أعطاه (إياه)
(7)
على شرط الغزو به، وهذا معنى قول ابن عمر وابن المسيب عند الكوفيين والشافعي، وسواء ذَلِكَ كله عند مالك؛ لأنه إذا قَالَ له: إذا بلغت به رأس مغزاك فهو
(1)
"الموطأ" ص 449.
(2)
"المغني" 13/ 43.
(3)
"التمهيد" 14/ 75، "المغني" 13/ 41 - 42.
(4)
انظر: "المغني" 13/ 43.
(5)
من (ص 1).
(6)
"التمهيد" 3/ 258، 14/ 75 - 76.
(7)
في (ص 1): له.
لك. فمعناه عنده أن لك أن تتصرف فيه حينئذ بما يتصرف المالك، وقد صحَّ له ملكه عند أخذه بشرط الغزو عليه.
واختلفوا في كراهية شراء صدقة الفرض والتطوع إذا أخرجها من يده، فقال مالك في "الموطأ" في رجل تصدق بصدقة فوجدها تباع عند غير الذي تصدق بها عليه: تركها أحب إليَّ
(1)
. وكره الليث والشافعي، ذَلِكَ فإن اشتراها لم يفسخ البيع، وكذلك قالوا في شراء ما يخرجه الإنسان في كفارة اليمين، وإنما كرهوا شراءها لهذا الحديث، ولم يفسخوا البيع؛ لأنها راجعة إليه بغير ذَلِكَ المعنى.
ويشهد لهذا حديث بريرة في اللحم الذي تصدق عليها به، وإجماعهم أن من تصدق بصدقة ثم ورثها أنها حلال له
(2)
، وقد سلف ذَلِكَ واضحًا في كتاب الزكاة، في باب: هل يشتري الرجل صدقته؟
(3)
وأعدناه لبعده.
(1)
"الموطأ" ص 282.
(2)
نقله عن "شرح ابن بطال" 5/ 157 - 158.
(3)
سلف برقم (1489).
138 - باب الجِهَادِ بِإِذْنِ الأَبَوَيْنِ
3004 -
حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْعَبَّاسِ الشَّاعِرَ -وَكَانَ لَا يُتَّهَمُ في حَدِيثِهِ- قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرٍو رضي الله عنهما يَقُولُ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَأْذَنَهُ فِي الجِهَادِ فَقَالَ: «أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟» . قَالَ: نَعَمْ. قَالَ «فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ» . [5972 - مسلم: 2549 - فتح 6/ 140]
حَدَّثَنَا آدَمُ، ثَنَا شُعْبَةُ، ثَنَا حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ سَمِعْتُ أَبَا العَبَّاسِ الشَّاعِرَ -وَكَانَ لَا يُتَّهَمُ فِي حَدِيثِهِ-قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرٍو يَقُولُ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم فَاسْتَاذَنَهُ فِي الجِهَادِ، فَقَالَ:"أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟ ". قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: "فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ".
هذا الحديث أخرجه مسلم أيضًا، ولابن حبان: وكان قد أسلم
(1)
. وفيه: وأبيا أن يخرجا معه.
ووجه مطابقة الحديث للباب مفهومة، وقد جاء:(إني تركت أبويّ يبكيان) قَالَ: "ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما"
(2)
.
وفي الباب: عن أبي سعيد الخدري، وفيه: "فإن استأذنا
(3)
لك فجاهد وإلا فبرهما"
(4)
وعبد الرحمن بن جاهمة عن أبيه: جاء رجل
(1)
ابن حبان 2/ 166 (423) بلفظ: وقد أسلم.
(2)
رواه أبو داود (2528).
(3)
كذا في الأصل وفوقها (كذا). وفي المصادر: (فاستأذنهما فإن أَذِنَا) وهو وهَمٌ، لا يكون إلا مع سرعة الكتابة، أعني من النسخة المنقول عنها، فيكتب شطر الكلمة الأولى، ثم يكتب شطر اللاحقة المماثلة لها، وهذا يحصل في نسخ المخطوطات كثيرًا، وهنا بيانه فاستفده.
(4)
رواه أبو داود (2530)، وأحمد 3/ 75، وصححه ابن حبان 2/ 165 (422)، وكذا الحاكم 2/ 103 - 104.
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أردت الغزو وجئتك أستشيرك، فقال:"هل لك من أم؟ " قَالَ: نعم. قَالَ: "الزمها فإن الجنة تحت رجليها"
(1)
، ورشدين بن كريب، عن أبيه، عن ابن عباس: جاءت امرأة بابن لها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، هذا ابني يريد الجهاد وأنا أمنعه. فقال صلى الله عليه وسلم:"الزم أمك حَتَّى تأذن لك أو يأتيها الموت"
(2)
.
إذا تقرر ذَلِكَ؛ فقال المهلب: هذا -والله أعلم- في زمن استظهار المسلمين على عدوهم، وقيام من انتدب إلى الغزو بهم مع أنه -والله أعلم- رأى به ضعفًا ولم يقدر نفاذه في الجهاد، فندبه إلى الجهاد في بر والديه.
قلتُ: رواية ابن أبي عاصم أن السائل كان أخلق الناس وأشده، وفي آخره: فجعلنا نعجب من خَلْقه يرد هذا، وقد روي عن عمر وعثمان أن من أراد الغزو فأمرته أمه بالجلوس أن يجلس. وقال الحسن البصري: إن أذنت له أمه في الجهاد وعلم أن هواها في أن يجلس فليجلس
(3)
.
وممن (أراد)
(4)
أن لا يخرج إلى الغزو إلا بإذن والديه: مالك
(5)
والأوزاعي والثوري والشافعي وأحمد، وأكثر أهل العلم
(6)
، هذا كله
(1)
رواه النسائي 6/ 11، وأحمد 3/ 429، وصححه الألباني في "صحيح الترغيب"(2485).
(2)
رواه الطبراني في "المعجم الكبير" 11/ 411.
(3)
"مصنف أبي شيبة" 6/ 518، "النوادر والزيادات" 5/ 22.
(4)
كذا بالأصل، وعند ابن بطال (رأى)، انظر:"شرح ابن بطال" 5/ 158.
(5)
"النوادر والزيادات" 5/ 22.
(6)
"المغني" 13/ 25 - 26.
في حال الاختيار ما لم تقع ضرورة وقوة العدو، فإذا كان ذَلِكَ تعين الفرض على الجميع وزال الاختيار ووجب الجهاد على الكل
(1)
، ولا حاجة إلى الإذن من والد وسيد.
وقال ابن حزم في "مراتب الإجماع": إن كان أبواه يضيعان بخروجه ففرضه ساقط عنه إجماعًا
(2)
، وإلا فالجمهور يوقفه على الاستئذان، روي ذَلِكَ عن مالك
(3)
والشافعي وأحمد
(4)
وغيرهم، والأجداد كالآباء، والجدات كالأمهات. وممن صرح به ابن المنذر. وعند المنذري: هذا في التطوع، أما إذا وجب عليه فلا حاجة إلى إذنهما، وإن منعاه عصاهما، هذا إذا كانا مسلمين، فإن كانا كافرين فلا سبيل لهما إلى منعه، ولو نفلاً، وطاعتهما حينئذ معصية
(5)
. وعن الثوري: هما كالمسلمين، وقال بعضهم: يحتمل أن يكون هذا كله بعد الفتح وسقوط (فرض)
(6)
الهجرة والجهاد وظهور الدين، أو كان ذَلِكَ من الأعراب وغير من كانت تجب عليه الهجرة، فرجح برُّ الوالدين على الجهاد.
فرع:
يندرج في هذا المديان، قَالَ الشافعي فيما ذكره ابن المناصف: ليس له أن يغزو إلا بإذنه سواء كان مسلمًا أو غيره
(7)
.
(1)
هنا انتهى نقل المصنف من المهلب من "شرح ابن بطال" 5/ 159.
(2)
"مراتب الإجماع" ص 201.
(3)
"النوادر والزيادات" 5/ 23.
(4)
"المغني" 13/ 26.
(5)
"مختصر سنن أبي داود" 3/ 378.
(6)
من (ص 1).
(7)
"روضة الطالبين" 10/ 210 - 211.
وفرق مالك
(1)
بين أن يجد قضاء وبين ألا يجد، فإن كان غريمًا فلا يرى بجهاده بأسًا وإن لم يستأذن غريمه، فإن كان مليًّا وأوصى (بدينه)
(2)
إذا حل أعطي دينه فلا يستأذنه. وقال الأوزاعي: لا يتوقف على الإذن مطلقًا
(3)
.
(1)
"النوادر والزيادات" 5/ 23.
(2)
في (ص 1): مدينة.
(3)
"المغني" 13/ 27.
139 - باب مَا قِيلَ فِي الجَرَسِ وَنَحْوِهِ فِي أَعْنَاقِ الإِبِلِ
3005 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ، أَنَّ أَبَا بَشِيرٍ الأَنْصَارِيَّ رضي الله عنه أَخْبَرَهُ أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ قَالَ عَبْدُ اللهِ: حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ: وَالنَّاسُ في مَبِيتِهِمْ، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَسُولاً أَنْ لَا يَبْقَيَنَّ فِي رَقَبَةِ بَعِيرٍ قِلَادَةٌ مِنْ وَتَرٍ أَوْ قِلَادَةٌ إِلاَّ قُطِعَتْ. [مسلم: 2115 -
فتح 6/ 141]
حدثنا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ، أَنَّ أَبَا بَشِيرٍ الأَنْصَارِيَّ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ قَالَ عَبْدُ اللهِ: أحسب أَنَّهُ قَالَ: وَالنَّاسُ فِي مَبِيتِهِمْ، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ لَا يَبْقَيَنَّ فِي رَقَبَةِ بَعِيرٍ قِلَادَةٌ مِنْ وَتَرٍ، أَوْ قِلَادَةٌ إِلَّا قُطِعَتْ.
الشرح:
هذا الحديث أخرجه مسلم وأبو داود
(1)
، ورواه النسائي، عن قتيبة، عن مالك بإسناده: أن رجلاً من الأنصار أخبره
(2)
، ولم يقل: عن أبي بشير. وأبو بشير بفتح الباء الموحدة، واسمه: قيس الأكبر بن عبيد المازني، وليس له في الصحيحين سوى هذا الحديث، وفي "الكمال" لعبد الغني وتبعه "التهذيب"، أن له ثلاثة أحاديث. أحدها: هذا، ثانيها: النهي عن الصلاة بعد طلوع الشمس. ثالثها: أنه صلى الله عليه وسلم حرم ما بين لابتيها، ومنهم من جعلها لثلاثة رجال، والصحيح أنه واحد.
(1)
مسلم (2115) كتاب: اللباس والزينة، باب: كراهية الكلب والجرس في السفر، وأبو داود (2552).
(2)
في "الكبرى" 5/ 251 (8808).
قالا: وليس في الصحابة أبو بشير غيره
(1)
، وليس كما ذكرا، كما أوضحته في كنى الكتب الستة من كتابي.
فإن قلتَ: لا ذكر للجرس في الحديث، فكيف بوب له؟ قلتُ: تمحل له بعضهم بقول الخطابي: أمر بقطع القلائد؛ لأنهم كانوا يعلقون فيها الأجراس
(2)
. وليس بجيد، ففي "الموطآت" للدارقطني من رواية عمر بن عثمان، عن مالك به، وفيه: ولا جرس في عنق بعير إلا قطع.
ومن عادته الإحالة على أطراف الحديث في التبويب. قَالَ أبو عمر: وفي رواية روح بن عبادة، عن مالك: فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدًا مولاه. قَالَ: وهو عندي زيد بن حارثة
(3)
، ولأبي داود: عن أبي وهب الجيشاني مرفوعًا: "اربطوا
(4)
الخيل وقلدوها ولا تقلدوها الأوتار"
(5)
.
قَالَ مالك في "الموطأ" إثر حديث الباب: أرى ذَلِكَ من العين
(6)
، ففسر المعنى الذي من أجله أمر الشارع بقطع القلائد، وذلك أن الذي قلدها إذا اعتقد أنها ترد العين فقد ظن أنها ترد القدر، ولا يجوز اعتقاد هذالأولهذا روي أن الرفقة التي فيها الجرس لا تصحبها الملائكة
(7)
، وقال ابن حبان في "صحيحه": المراد: رفقة فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأجل الوحي
(8)
. فأغرب.
(1)
"تهذيب الكمال" 33/ 8079 (7227).
(2)
"أعلام الحديث" 2/ 1445.
(3)
"التمهيد" 17/ 160.
(4)
رواية أبي داود: (ارتبطوا).
(5)
أبو داود (2553).
(6)
"الموطأ" ص 582.
(7)
مسلم (2113) كتاب: اللباس والزينة، باب: كراهة الكلب والجرس في السفر.
(8)
ابن حبان 10/ 553.
ولا بأس بتعليق التمائم والخرز الذي فيها الدعاء والرقى بالقرآن عند جميع العلماء
(1)
؛ لأن ذَلِكَ من التعوذ بأسمائه، وقد سُئل عيسى بن دينار عن قلادة ملونة فيها خرز يعلقها الرجل على فرسه للجمال فقال: لا بأس بذلك إذا لم تجعل للعين
(2)
.
قَالَ أبو عبد الملك: وقول غيره أحسن. قَالَ المهلب: وإنما تجعل القلائد من وتر لقوتها وبقائها فخصها صلى الله عليه وسلم، ثم عم سائر القلائد بقوله:"ولا قلادة إلا قطعت" فأطلق النهي على (جميع)
(3)
ما تقلد به الدواب، وقد سُئل مالك عن القلادة فقال: ما سمعت بكراهته إلا في الوتر. يعني: أوتار القسي. قَالَ أبو عبيد: وإنما نهى عن التقليد بالأوتار؛ لأن الدواب تتأذى بذلك ويضيق عليها نفسها ورعيها، وربما تعلق ذَلِكَ بشجرة فتختنق فتموت، أو تمتنع من السير كما جرى لناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم حين احتبست، وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"قلدوها الحبل ولا تقلدوها الأوتار" وفسره وكيع فقال: هذا ليس من قلائد الإبل المذكورة، ومعناه: لا تركبوها في
(1)
بل فيها خلاف قديم، فأجاز ذلك عائشة وأبو جعفر محمد بن علي وغيرهما من السلف؛ ومنعه عبد الله بن عكيم، وابن عمر وابن العاص، وعقبة بن عامر، وعبد الله بن مسعود وأصحابه كالأسود وعلقمة، ومن بعدهم كإبراهيم النخعي القائل: كانوا يكرهون التمائم كلها من القرآن وغير القرآن.
انظر نحو هذِه الآثار في ابن أبي شيبة 5/ 34 (23446 - 23466).
وانظر "فتح المجيد" ص 100، "معارج القبول" 2/ 510.
قال الشيخ الحكمي: ولاشك أن منع ذلك سد لذريعة الاعتقاد المحظورة لاسيما في زماننا هذا فإنه إذا كرهه أكثر الصحابة والتابعين في تلك العصور الشريفة المقدسة والإيمان في قلوبهم أكبر من الجبال؛ فلأن يكره في وقتنا هذا وقت الفتن والمحن أولى وأجدر بذلك.
(2)
انظر: "المنتقى" 7/ 255.
(3)
من (ص 1).
الفتن خشية أن يتعلق على راكبها وتر يطالب به
(1)
.
وفي هذا حديث رويفع عند أبي داود: "يا رويفع أبلغ الناس أنه من عقد لحيته أو تقلد وترًا فإن محمدًا بريء منه"
(2)
ولابن حبان من حديث أنس: أمر بقطع الأجراس
(3)
. وفي حديث عائشة تقطع من أعناق الإبل يوم بدر
(4)
. قَالَ ابن عبد البر: لا بأس أن تقلد الخيل قلائد الصوف الملون إذا لم يكن ذَلِكَ خوف نزول العين
(5)
. وقد سلف ذَلِكَ، قَالَ ابن الجوزي: ربما صحف من لا علم له بالحديث، فقَالَ: ومن وبر بباءٍ موحدة، وإنما هي مثناة فوق، وإنما المراد بها: أوتار القسي كانوا يقلدونها لئلا تصيبها العين، فأمر بالقطع؛ لأنها لا ترد القدر كما سلف، وقيل: نهي عن ذَلِكَ لئلا تختنق عند شدة الركض، وهو قول محمد بن الحسن الشيباني، وقال النضر فيه كما قال وكيع في الفرس، أي: لا تطلبوا الوتر
(6)
، وهو بعيد لفظًا ومعنى.
وقد اختلف العلماء في تقليد البعير وغيره من الحيوان -والإنسان- ما ليس بتعاويذ قرآنية مخافة العين، فمنهم من نهى عنه ومنعه قبل الحاجة، وأجازه عند الحاجة تمسكًا بحديث أبي داود عن عقبة بن عامر مرفوعًا:"من علق تميمة فلا أتم الله له، ومن علق ودعة فلا ودع الله له"
(7)
، ومنهم من أجازه قبل الحاجة وبعدها
(8)
.
(1)
انظر: "شرح ابن بطال" 5/ 160.
(2)
أبو داود (36)، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود"(26) على شرط مسلم.
(3)
"صحيح ابن حبان" 10/ 552 (4701).
(4)
السابق 10/ 552 (4699).
(5)
"التمهيد" 17/ 165.
(6)
السابق 17/ 163.
(7)
لم أجده في المطبوع من "سنن أبي داود" وأخرجه أحمد 4/ 154.
(8)
انظر حكايته الخلاف في "إكمال المعلم" 6/ 642.
والنهي عن الجرس بفتح الراء عند الأكثرين، وحكى عياض عن أبي بحر سكونها، وهو اسم للصوت وأصله: الصوت الخفي
(1)
؛ لأن الملائكة لا تصحب رفقة فيها جرس، هذا قول الأكثرين، قالوا: لأنه شبيه بالناقوس؛ أو لأنه من التعاليق المنهي عنها، وقيل: كره لتصوته، وهو كراهة تنزيه، وكره بعضهم الجرس الكبير دون الصغير.
ومن الغريب ما حكاه ابن التين أن المراد بالوتر: أوتار الذحول. يعني: لا يسفك عليها الدماء ولا يغار عليها على الأموال. يريد: لا يطلبون به الوتر الذي وتروا به في الجاهلية. قَالَ: وقيل: إنما نهي عنها من قبل التمائم، وهو كل ما علق خيفة أن ينزل به. وقال الداودي: الأوبار ما ينزع عن الجمال شبه الصوف؛ فصحف في الوتر.
قلتُ: هذا تصحيف كما سلف. قَالَ: وقيل: لأن صاحبها يظن أن التمائم تمنع من الأخذ بالعين وترد القدر، ولا بأس بتعليقها إذا كان فيها خرز، وإن كان ذَلِكَ للعين وغير ذَلِكَ إذا كان في الخرز الدعاء؛ لأنه من التعوذ بأسمائه، وقد سلف. قَالَ ابن التين: وكره مالك تعليق الأجراس على أعناق الإبل والحمير، وأجاز القلادة، وكره الوتر
(2)
. قَالَ القاضي في جامع "معونته": ووجه ذَلِكَ ما روي أن رفقة أقبلت من مصر وفيها جرس، فأمر صلى الله عليه وسلم بقطعه وقال:"إن الملائكة لا يصحبون قافلة فيها جرس"
(3)
.
(1)
"إكمال المعلم" 6/ 641.
(2)
انظر: "المنتقى" 7/ 255.
(3)
"المعونة" 2/ 601، والحديث رواه مسلم (2113) كتاب: اللباس والزينة، باب: كراهة الكلب والجرس في السفر.
140 - باب مَنِ اكْتُتِبَ فِي جَيْشٍ فَخَرَجَتِ امْرَأَتُهُ حَاجَّةً، أَوَ كَانَ لَهُ عُذْرٌ، هَلْ يُؤْذَنُ لَهُ
؟
3006 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيد، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي مَعْبَد، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُول:«لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ، وَلَا تُسَافِرَنَّ امْرَأَةٌ إِلاَّ وَمَعَهَا مَحْرَمٌ» . فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، اكْتُتِبْتُ فِي غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا، وَخَرَجَتِ امْرَأَتِي حَاجَّةً. قَالَ:«اذْهَبْ فَحُجَّ مَعَ امْرَأَتِكَ» . [انظر: 1862 - مسلم: 1341 - فتح 6/ 142].
ذكر فيه حديث أبي معبد، عن ابن عباس السالف في باب: حج النساء.
واسم أبي معبد: نافذ مولى ابن عباس، روى له الجماعة، مات بالمدينة سنة أربع ومائة.
ونقل ابن بطال هناك
(1)
اتفاق الفقهاء على أنه ليس للرجل منع زوجته من حج الفرض، كما لا يمنعها من صلاة ولا صيام. وناقشناه فيه، فإن الأظهر من قول الشافعي أن له المنع، ولا شك أنه إذا قام بثغور المسلمين من فيه الكفاية بدفع العدو فلا بأس أن يأذن الإمام لمن له عذر في الرجوع؛ ولهذا المعنى أذن صلى الله عليه وسلم للرجل أن يرجع ويحج امرأتَهُ، فإن كان للعدو ظهور وقوة وتعين فرض الجهاد على كل أحد فلا يأذن له الإمام في الرجوع.
قَالَ المهلب: والجهاد أفضل لمن قد حج عن نفسه من الحج، لكن لما استضاف إلى الحج النافلة ستر عورة وقطع ذريعة كان آكد وأفضل من
(1)
"شرح ابن بطال" 5/ 161.
الجهاد في وقت قد استظهر المسلمون فيه على عدوهم.
وقوله: ("فحج مع امرأتك") محمول عند العلماء على معنى الندب للزوج أن يحج مع امرأته لا أنه يلزمه ذَلِكَ فرضًا، كما لا يلزمه مؤنة حملها في الحج، فلذلك لا يلزمه أن يحملها إليه بنفسه.
141 - باب الجَاسُوس
وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة: 1]
التَّجَسُّسُ: التَّبَحُّثُ.
3007 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الله، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ -سَمِعْتُهُ مِنْهُ مَرَّتَيْن- قَالَ: أَخْبَرَنِي حَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا رضي الله عنه يَقُولُ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَا وَالزُّبَيْرَ وَالْمِقْدَادَ بْنَ الأَسْوَدِ قَالَ: «انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ، فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً وَمَعَهَا كِتَابٌ، فَخُذُوهُ مِنْهَا» . فَانْطَلَقْنَا تَعَادَى بِنَا خَيْلُنَا حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى الرَّوْضَةِ، فَإِذَا نَحْنُ بِالظَّعِينَةِ فَقُلْنَا أَخْرِجِي الكِتَابَ. فَقَالَتْ مَا مَعِي مِنْ كِتَابٍ. فَقُلْنَا لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لَنُلْقِيَنَّ الثِّيَابَ. فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِهَا، فَأَتَيْنَا بِهِ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِذَا فِيهِ مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى أُنَاسٍ مِنَ المُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، يُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ أَمْرِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم «يَا حَاطِبُ، مَا هَذَا؟» . قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَا تَعْجَلْ عَلَيَّ، إِنِّي كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقًا فِي قُرَيْشٍ، وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا، وَكَانَ مَنْ مَعَكَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ لَهُمْ قَرَابَاتٌ بِمَكَّةَ، يَحْمُونَ بِهَا أَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالَهُمْ، فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي ذَلِكَ مِنَ النَّسَبِ فِيهِمْ أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَتِي، وَمَا فَعَلْتُ كُفْرًا وَلَا ارْتِدَادًا وَلَا رِضًا بِالْكُفْرِ بَعْدَ الإِسْلَامِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«لَقَدْ صَدَقَكُمْ» . قَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللهِ، دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا المُنَافِقِ. قَالَ:«إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللهَ أَنْ يَكُونَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ، فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ» . قَالَ سُفْيَانُ وَأَيُّ إِسْنَادٍ هَذَا!.
ذكر فيه حديث حَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ -وهو ابن الحنفية- قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ أَبِي رَافِع قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا فذكر حديث روضة خاخ بطوله، وفي آخره:"وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الله أَنْ يَكُونَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ، فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ". قَالَ سُفْيَانُ: وَأَيُّ إِسْنَادٍ هذا!
وذكر البخاري في التفسير إثر حديث على هذا: قَالَ عمرو بن دينار: فنزلت {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة: 1] الآية.
قَالَ سفيان: فلا أدري أذاك في الحديث أم من عمرو بن دينار
(1)
.
ونقل الواحدي عن جماعة المفسرين أنها نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وذلك أن سارة مولاة أبي عمرو بن صيفي بن هشام بن عبد مناف أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة من مكة وهو يتجهز لفتح مكة فقال: "ما جاء بك؟ " فقالت: الحاجة. قال: "فأين أنت من شباب أهل مكة؟ " وكانت مغنية. قالت: ما طلب مني شيء بعد وقعة بدر. فكساها وحملها، وأتاها حاطب، فكتب معها كتابًا إلى أهل مكة وأعطاها عشرة دنانير، وكتب في الكتاب: إلى أهل مكة إن رسول الله يريدكم فخذوا حذركم. فنزل جبريل عليه السلام بخبرها، فبعث عليًّا وعمارًا وعمر والزبير وطلحة والمقداد بن الأسود وأبا مرثد، وكانوا كلهم فرسانا، وقال:"انطلقوا حَتَّى تأتوا روضة خاخ فإنَّ بها ظعينة معها كتاب إلى المشركين، فخذوه وخلوا سبيلها؛ فإن لم تدفعه إليكم فاضربوا عنقها .. " الحديث
(2)
، وعند ابن أبي حاتم من حديث الحارث، عن علي: لما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي مكة أسر إلى أناس من أصحابه أنه يريد مكة، منهم حاطب، وأفشى في الناس أنه يريد خيبر.
إذا عرفت هذا؛ فالكلام على الحديث من وجوه:
أحدها:
في كتاب الحميدي ذكر البرقاني نحو هذا الحديث، رواه سماك،
(1)
سيأتي برقم (4890) باب: {لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} .
(2)
"أسباب النزول" ص 441 - 442 (811)، وكذا هو في "الوسيط" 4/ 282.
عن ابن عباس قَالَ: قَالَ عمر: كتب حاطب إلى (أهل)
(1)
مكة .. الحديث، وزعم أنه في مسلم. قَالَ الحميدي: وليس له عند أبي مسعود ولا خلف ذكر.
ثانيها:
هذِه الظعينة اسمها سارة كما سلف، مولاة أبي عمرو بن صيفي بن هاشم، والدرقفة أم مخرمة بن نوفل، وقيل أم سارة. وقيل: كنود مولاة لقريش، وقيل: لعمران بن أبي صيفي، وقيل: كانت من مزينة من أهل العرج، وكان حاطب كتب إلى ثلاثة: صفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، وعكرمة بن أبي جهل. قَالَ الحاكم في "إكليله": وكانت مغنية بوَّاحة، تغني بهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بها يوم الفتح فقتلت. وأما أبو نعيم وابن منده فذكراها في الصحابيات، ووقع في "أحكام القرآن" للقاضي إسماعيل في قصة حاطب: قَالَ للذين أرسلهم لها: "إن بها امرأة من المسلمين معها كتاب إلى المشركين" وإنهم لما أرادوا أن يخلعوا ثيابها قالت: أولستم مسلمين؟ ويشكل عليه ما أسلفناه عن الحاكم فإنها ممن استثنيت يوم الفتح بالقتل، وعبارة أبي عبيد البكري:"فإن بها امرأة من المشركين" بدل "المسلمين" وفي "أسباب الواحدي": لما قدمت المدينة قَالَ لها صلى الله عليه وسلم: "مسلمة جئت؟ " قالت: لا. قَالَ: "فما جاء بك؟ " قالت: احتجت. قَالَ: "فأين أنت من شباب قريش؟ " الحديث
(2)
.
ثالثها:
في الكتاب -كما قَالَ السهيلي-: أما بعد. فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد
(1)
من (ص 1).
(2)
"الأسباب" ص 441 (811).
توجه إليكم في جيش كالليل يسير كالسيل، وأقسم بالله لو لم يسر إليكم إلا وحده لأظفره الله بكم، وأنجز له موعده فيكم؛ فإن الله وليه وناصره. وفي "تفسير ابن سلام" كان فيه: أن محمدًا قد نفر إما لكم وإما إلى غيركم، فعليكم الحذر
(1)
. وقيل: كان فيه: إنه صلى الله عليه وسلم أذن في الناس بالغزو، ولا أراه يريد غيركم، فقد أحببت أن تكون لي عندكم يد بكتابي إليكم. قَالَ القرطبي: ويحكى أنه كان في الكتاب يفخم جيش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنهم لا طاقة لهم به
(2)
.
رابعها:
خاخ: بخائين معجمتين. قَالَ السهيلي: وكان هشيم يصحفها فيقول: حاج: بحاء وجيم. وذكر البخاري أن أبا عوانة كان يقولها كما يقوله هشيم
(3)
.
خامسها:
الظعينة: المرأة في الهودج، ولا يقال لها ظعينة إلا وهي كذلك. قَالَ الداودي: سميت بذلك لأنها تركب الظعائن التي تظعن براكبها. وقال ابن فارس: الظعينة: المرأة وهو من باب الاستعارة، وأما الظعائن فالهوادج، كان فيها نساء أو لم يكن
(4)
. وقال الخطابي: إنما قَالَ لها ظعينة؛ لأنها تظعن مع زوجها إذا ظعن
(5)
.
سادسها:
قوله: (أو لنلقين الثياب). قَالَ ابن التين: صوابه في العربية: لنلقن الثياب. بحذف الياء؛ لأن النون المشددة تجتمع مع الياء الساكنة فتحذف
(1)
"الروض الأنف" 4/ 97.
(2)
"المفهم" 6/ 445.
(3)
"الروض الأنف" 4/ 97. وضع سبط تحت حاء (حاج) علامة الإهمال.
(4)
"مجمل اللغة" 2/ 600 مادة (ظعن).
(5)
"أعلام الحديث" 2/ 891.
الياء لالتقاء الساكنين.
وفيه: جواز تجريد العورة عن الستُّرة عند الحاجة.
سابعها:
العقاص -بعين مكسورة-: الشعر المعقوص. أي: المظفور، جمع عقصية وعقصة، والعقص: ليُّ خصلات الشعر بعضه على بعض. وعند المنذري: هو ليُّ الشعر على الرأس ويدخل أطرافه في أصوله، قَالَ: ويقال: هي التي تتخذ من شعرها مثل الرمانة. قال: وقيل: العقاص هو: الخيط الذي (يجتمع)
(1)
فيه أطراف الذوائب، وبه جزم ابن التين حيث قال: والعقاص: الخيط الذي تعقص به أطراف الذوائب، وعقص الشعر ظفره، قال: وفي رواية أخرى: أخرجت من حجزتها، وكذا قال ابن بطال: العقاص: السير الذي تجمع به شعرها على رأسها، والعقص: الظَّفْر، والظَّفْر: هو الفتل
(2)
.
ثامنها:
قوله: (إني كنت ملصقا في قريش) يعني: كنت مضافًا إليهم ولست منهم، وأصل ذلك من تضاف الشيء بغيره ليس منه، ولذلك قيل للدعي في القوم ملصق، قاله الطبري
(3)
.
وقوله: (وكان من معك) كذا في الرواية. قال القرطبي: هكذا الرواية "الصحيحة" وعند مسلم (من معك) بزيادة (من) والصواب: إسقاطها؛ لأن (من) لا تزاد في الواجب عند البصريين، وأجازه بعض الكوفيين
(4)
.
(1)
في (ص 1): يعقص.
(2)
"شرح ابن بطال" 5/ 165.
(3)
"تفسير الطبري" 4/ 417 تفسير قوله تعالى {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ} .
(4)
"المفهم" 6/ 439.
تاسعها:
إنما أطلق عمر على حاطب اسم النفاق؛ لأنه والى كفار قريش وباطنهم، وإنما فعل حاطب ذلك متأولًا في غير ضرر لرسول الله صلى الله عليه وسلم صدق الله نيته فنجاه من ذلك، وذكر الجاحظ في "عمده" فقال (عمر)
(1)
: دعني يا رسول الله اضرب عنقه -يعني: حاطبًا- فقد كفر.
قال الباقلاني: في نقضه هذا الكتاب، هذِه اللفظة ليست معروفة.
قلت: ويحتمل أن يكون المراد بها كفر النعمة أو أنه تأول قوله: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ} أو يكون الراوي روى بالمعنى، فإنه لما سمع قول عمر نافق عبر عنه؛ لأنه كفر عند جماعة، وقال ابن التين: يحتمل أن يكون قول عمر: دعني أضرب عنق هذا المنافق قبل قوله عليه السلام: "قد صدقكم" أو يريد أنه وإن صدق فلا عذر له، وقد أثبت الله لحاطب الإيمان في قوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي} الآية، وكانت أمه بمكة فأراد أن يحفظوه فيها.
العاشر:
قوله: ("وما يدريك؟ ") أي: يعلمك، ولعله للترجي، وهو هنا يتحقق بدليل ما ذكر في آل عمران والأنفال.
الحادي عشر:
قوله: ("اعملوا ما شئتم") ظاهره الاستقبال، وقال ابن الجوزي: ليس هو على الاستقبال، وإنما هو للماضي، تقديره: اعملوا ما شئتم أيُّ عمل كان لكم فقد غفر، ويدل على هذا شيئان:
(1)
من (ص 1).
أحدهما: أنه لو كان للمستقبل كان جوابه فسأغفر.
والثاني: أنه كأن يكون إطلاقًا في الذنوب، ولا وجه لذلك، ويوضحه أن القوم خافوا من العقوبة فيما بعد؛ فلهذا كان عمر يقول: يا حذيفة أنا منهم؟ قال القرطبي: وهذا التأويل وإن كان حسنًا فإن فيه بعدًا؛ لأن اعملوا: صيغة أمر، وهي موضوعة للاستقبال، ولم تضع العرب قط صيغة الأمر موضع الماضي لا بقرينة ولا بغير قرينة، كذا نص عليه النحويون، وصيغة الأمر إذا وردت بمعنى الإباحة إنما هي بمعنى الإنشاء والابتداء لا بمعنى الماضي، قال: واستدلاله عليه بقوله: "قد غفرت لكم" ليس بصحيح "لأن اعملوا ما شئتم" يحمل على صلب الفعل ولا يصح أن يكون بمعنى الماضي فيتعين حمله على الإباحة والإطلاق، وحينئذ يكون خطاب إنشاء، فيكون كقول القائل: أنت وكيلي وقد جعلت لك التصرف حيث شئت، وإنما يقتضي إطلاق التصرف من وقت التوكيل لا قبل ذلك.
قال: وقد ظهر لي وجه، وهو أن هذا الخطاب خطاب إكرام وتشريف يضمن أن هؤلاء القوم حصلت لهم حالة غفرت لهم بها ذنوبهم السالفة وتأهلوا أن يغفر لهم ذنوب مستأنفة إن وقعت منهم لا أنهم نجزت لهم في ذلك الوقت مغفرة الذنوب اللاحقة، بل لهم صلاحية أن يغفر لهم ما عساه أن يقع، ولا يلزم من وجود الصلاحية لشيء ما وجود ذلك الشيء، إذ لا يلزم من وجود أهلية الخلافة وجودها لكل من وجدت له أهليتها، وكذلك القضاء وغيره، وعلى هذا فلا يأمن من حصلت له أهلية المغفرة من المؤاخذة على ما عساه أن يقع منه من الذنوب، ثم إن الله أظهر صدق رسوله للعيان في كل من أخبر عنه بشيء من ذلك؛ فإنهم لم يزالوا على أعمال أهل الجنة إلى أن توفوا، ومن وقع منهم
في أمر ما أو مخالفة لجأ إلى التوبة ولازمها حتى لقي الله عليها؛ يعلم ذلك قطعًا من حالهم من طالع سيرهم وأخبارهم
(1)
.
وذكر القاضي عياض الإجماع على أن من ثبت عليه حد أنه يقام عليه، وقد ضرب الشارع مسطحًا الحد
(2)
.
الثاني عشر: في فوائده الجمة:
وسيأتي بعضها في باب المتأولين في آخر كتاب الديات
(3)
، وفي كتاب الاستئذان في باب: من نظر في كتاب من يحذر على المسلمين ليستبين أمره
(4)
. ونذكر هنا منها جملة، فنقول:
فيه: هتك ستر الجاسوس رجلاً كان أو امرأة إذا كان في ذلك مصلحة، أو كان في الستر مفسدة.
وفيه: -كما قال ابن الجوزي- أن حكم المتأول في استباحة المحظور خلاف حكم المتعمد؛ لاستحالته من غير تأويل وأن من أتى محظورًا أو ادعى فيه ما يحتمل التأويل قبل وإن كان غالب الظن خلافه.
وفيه: -كما قال القرطبي-: أن ارتكاب الكبيرة لا يكون كفرًا
(5)
.
وفيه: -كما قال الداودي-: أن الجاسوس يقتل وإنما نفى القتل عن حاطب مما علمه النبي صلى الله عليه وسلم منه، لكن مذهب الشافعي وطائفة: أن الجاسوس المسلم يعزر ولا يجوز قتله، وإن كان ذا هيئة عفي عنه لهذا الحديث: "فلا يحل دم امرئ مسلم إلا بكفر بعد إيمان، أو زنا
(1)
"المفهم" 6/ 441 - 442.
(2)
"إكمال المعلم" 7/ 539
(3)
سيأتي برقم (6939).
(4)
سيأتي برقم (6259).
(5)
"المفهم" 6/ 443.
بعد إحصان، أو قتل نفس بغير حق"
(1)
وعن أبي حنيفة والأوزاعي: يوجع عقوبة ويطال حبسه
(2)
.
وقال بعض المالكية
(3)
-وهو ابن وهب-: يقتل إلا أن يتوب. وعن بعضهم أنه يقتل إذا كانت عادته ذلك، وإن تاب وهو قول ابن الماجشون.
وقال ابن القاسم في "العتبية": يضرب عنقه؛ لأنه لا تعرف توبته
(4)
وهو قول سحنون
(5)
، ومن قال بقتله فقد خالف الحديث وأقوال المتقدمين، فلا وجه لقوله كما قال ابن بطال
(6)
، وعن مالك يجتهد فيه الإمام
(7)
.
قال الأوزاعي: فإن كان كافرًا يكون ناقضًا للعهد
(8)
، وإن كان مسلمًا أوجع عقوبة، وقال أصبغ: الجاسوس الحربي يقتل، والمسلم والذمي يعاقبان، إلا أن يظاهرا على الإسلام فيقتلان
(9)
.
وفيه: -كما قال الطبري-: أن الإمام إذا ظهر من رجل من أهل الستر على أنه قد كاتب عدوَّا من المشركين ينذرهم ببعض ما أسره المسلمون فيهم من غرم، ولم يكن الكاتب معروفًا بالسفه والغش (للإسلام)
(10)
وأهله وكان ذلك من فعله هفوة وزلة من غير أن يكون لها أخوات فجائز العفو عنه، كما فعل رسول الله بحاطب من عفوه
(1)
رواه أبو داود (4502)، والترمذي (2159) والنسائي 7/ 91 - 92، وابن ماجه (2533).
(2)
"معالم السنن" للخطابي 2/ 238.
(3)
انظر أقوالهم في "إكمال المعلم" 7/ 937.
(4)
"النوادر والزيادات" 3/ 352.
(5)
"النوادر والزيادات" 3/ 352.
(6)
"شرح ابن بطال" 5/ 164.
(7)
"النوادر والزيادات" 3/ 352.
(8)
"أحكام القرآن" لابن العربي 4/ 1784.
(9)
المصدر السابق.
(10)
من (ص 1).
عن جرمه بعد ما اطلع عليه من فعله، وهذا نظير الخبر الذي روته عمرة، عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا حدًّا من حدود الله"
(1)
.
فإن ظن ظان أن صفحه إنما كان لما أعلمه الله من صدقهم، ولا يجوز لمن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعلم ذلك فقد ظن خطأ؛ لأن أحكام الله في عباده إنما تجري على ما ظهر منهم وقد أخبر الله سبحانه نبيه عن المنافقين الذين كانوا بين ظهراني أصحابه مقيمين معتقدين الكفر، وعرفه (إياهم)
(2)
بأعيانهم ثم لم يبح له قتلهم وسبيهم إذ كانوا يظهرون الإسلام بألسنتهم، فكذلك الحكم في كل أحد من خلق الله أن يؤخذ مما ظهر لا مما يظن، وقد روي مثل ذلك عن الأئمة، وروى الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي منصور قال: بلغ عمر بن الخطاب أن عامله على البحرين أتى برجل قامت عليه بينة أنه كان عدوًّا للمسلمين بعورتهم، وكان اسمه ضرياس، فضرب عنقه وهو يقول: يا عمراه، يا عمراه. فكتب عمر إلى عامله يقدم عليه، فجلس له عمر وبيده حربة، فلما دخل عليه (على بجبينه)
(3)
بالحربة وجعل يقول: أضرياس لبيك، أضرياس لبيك. فقال له عامله: يا أمير المؤمنين، إنه كاتبهم بعورة المسلمين وهم أن يلحق بهم. فقال له عمر: وقتله على هذِه وأينا لم يهم لولا أن تكون سنة (لقتلتك)
(4)
.
وقول البخاري: (التجسس: التبحث) قد سلف الكلام عليه أول الكتاب.
(1)
رواه أبو داود (4375)، وأحمد 6/ 181، وصححه ابن حبان (296)، والألباني في "صحيح الجامع"(1184).
(2)
من (ص 1).
(3)
في (ص 1): فجعل يخنسه.
(4)
في (ص 1): لصلبتك.
وفيه: -كما قَالَ الطبري -أيضًا: البيان عن بعض أعلام النبوة، وذلك إعلام الله نبيه بخبر المرأة الحاملة كتاب حاطب إلى قريش، ومكانها الذي هي به، وحالها الذي يضاف عليها من السير وكل ذَلِكَ لا يعلم إلا بوحي.
وفيه: -كما قَالَ المهلب-: هتك ستر المريب، وقد سلف، وكشف المرأة العاصية، وأن الجاسوس قد يكون مؤمنًا وليس تجسسه مما يخرجه من الإيمان" وأنه لا يتشور في قتل أحد دون رأي الإمام، وإشارة الوزير بالرأي على السلطان وإن لم يستشره، والإشداد عند السلطان على أهل المعاصي، والاستئذان في قتلهم، وجواز العفو عن الخائن لله ورسوله بتجسس أو غيره، ومراعاة فضيلة سلفت ويشهد شاهده الجاسوس وغيره من المدنيين، والتشفع بذلك.
وأهل بدر: قَالَ مالك: كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر
(1)
. وزاد الأوزاعي اثنين على ذلك، وقيل: بزيادة اثنين آخرين أيضًا، قيل: منهم ثلاثة وسبعون من المهاجرين. وقيل: مئة. ولم يحضره إلا قرشي أو أنصاري أو حليفهما أو مولاهما، ذكره ابن التين.
وفيه أيضًا: الحجة بترك إنفاذ الوعيد من الله لمن شاء ذَلِكَ له؛ لقوله: "لَعَلَّ الله أَنْ يَكُونَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ، فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ".
وفيه: -جواز غفران ما تأخر وقوعه من الذنوب قبل وقوعه، كذا في
(1)
ورد بهامش الأصل: عدة أهل بدر ثلاثمائه وخمسة وثمانية لم يحضروها، إنما ضرب لهم بسهمهم وأجرهم، فكان كمن حضرها، ويقال: ثلاثمائه وبضعة عشر، ويقال: وتسعة عشر، ويقال: وخمسة عشر، ويقال: وثمانية عشر، ويقال: وأربعة عشر، ويقال: وستة عشر.
كتاب ابن بطال
(1)
، وقد سلف ما فيه.
وقد أسلفنا الخلاف في المستأمن وقول أصبغ والأوزاعي في الكافر، وقال الثوري والكوفيون والشافعي في الحربي المستأمن والذمي يتجسس ويدل على العورات: لا يكون ذَلِكَ نقضًا للعهد منهما، ويوجعه الإمام ضربًا ويطيل حبسه.
وقال الأوزاعي فيما أسلفناه: قد نقض العهد وخرج عن الذمة، فإن شاء الإمام قتله أو صلبه، وهو قول سحنون
(2)
، وقال مالك في أهل الذمة: إذا تلصصوا أو قطعوا الطريق لم يكن ذَلِكَ نقضًا للعهد حَتَّى يمنعوا الجزية، ويمتنعوا من أهل الإسلام، فهؤلاء فيء إذا كان الإمام عادلاً، وعند مالك: إذا استكره الذمي المسلمة فزنا بها فهو نقض للعهد وإن طاوعته لم يخرج من العهد
(3)
. وعند الشافعي
(4)
: لا تنتقض الذمة بشيء من ذَلِكَ إلا عند الشرط، إلا الامتناع من أداء الجزية أو الامتناع من الحكم، فإذا فعلوا ذَلِكَ نبذ إليهم، وعندنا في الهدنة الانتقاض خلاف الإطلاق السالف. وقال الطحاوي: لم يختلفوا أن المسلم إذا فعل ذَلِكَ لم يبح دمه، فكذلك المستأمن والذمي قياسًا عليه. ولم يراع الطحاوي اختلاف أصحاب مالك في ذَلِكَ إذ لم يقل بقولهم مالك ولا غيره من المتقدمين مع خلافهم للحديث
(5)
.
(1)
"شرح ابن بطال" 5/ 163 - 164.
(2)
"النوادر والزيادات" 3/ 352.
(3)
السابق 3/ 342.
(4)
"الأم" 4/ 109.
(5)
"شرح ابن بطال" 5/ 165.
142 - باب الكِسْوَةِ لِلأسُارى
3008 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو، سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ أُتِيَ بِأُسَارَى، وَأُتِىَ بِالْعَبَّاسِ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ثَوْبٌ، فَنَظَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَهُ قَمِيصًا فَوَجَدُوا قَمِيصَ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ يَقْدُرُ عَلَيْهِ، فَكَسَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِيَّاهُ، فَلِذَلِكَ نَزَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَمِيصَهُ الذِي أَلْبَسَهُ. قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ كَانَتْ لَهُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَدٌ فَأَحَبَّ أَنْ يُكَافِئَهُ. [انظر: 1270 - مسلم: 2772 - فتح 3/ 144].
هي بضم الكاف وكسرها.
ذكر فيه حديث جَابِر: لَمَّا كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ أُتِيَ بِأُسَارى، وَأُتِيَ بِالْعَبَّاسِ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ثَوْبٌ، فَنَظَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَهُ قَمِيصًا، فَوَجَدُوا قَمِيصَ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيِّ يَقْدُرُ عَلَيْهِ، فَكَسَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِيَّاهُ، فَلِذَلِكَ نَزَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَمِيصَهُ الذِي أَلْبَسَهُ إياه. قَالَ ابن عُيَيْنَةَ: كَانَتْ لَهُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَدٌ فَأَحَبَّ أَنْ يُكَافِئَهُ.
الشرح:
معنى يقدر عليه لطول لباسه، ولم يرد صلى الله عليه وسلم أن يسأل من أخذ قميص العباس، ولا حيث صار في المقاسم؛ لئلا يحصل بذلك تأذ لغيره من قريش، وكان العباس طوالًا كأنه فسطاط
(1)
، وكان أبوه عبد المطلب أطول منه، وكان ابنه عبد الله إذا مشى مع الناس كأنه راكب والناس مشاة، والعباس أطول منه.
وفيه: كسوة الأسارى والإحسان إليهم، ولا يتركوا عراة فتبدو عوراتهم، ولا يجوز النظر إلى عورات المشركين.
(1)
انظر: "المعارف" لابن قتيبة ص 592.
وفيه: المكافأة على اليد تُسدى إلى قريب الرجل إذا كان ذَلِكَ إكرامًا له في قريبه، ولم يطالب بها القريب إذا كانت بسبب الستر من أهله.
وفيه: أن المكافأة تكون في الحياة وبعد الممات.
143 - باب فَضلِ مَن أَسْلَمَ عَلَى يَدَيهِ رَجُلٌ
3009 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدٍ القَارِيُّ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَهْلٌ رضي الله عنه -يَعْنِي ابْنَ سَعْدٍ- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ خَيْبَرَ: «لأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلاً يُفْتَحُ عَلَى يَدَيْهِ، يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ، وَيُحِبُّهُ الله وَرَسُولُهُ» . فَبَاتَ النَّاسُ لَيْلَتَهُمْ أَيُّهُمْ يُعْطَى، فَغَدَوْا كُلُّهُمْ يَرْجُوهُ فَقَالَ:«أَيْنَ عَلِيٌّ؟» . فَقِيلَ: يَشْتَكِي عَيْنَيْهِ، فَبَصَقَ في عَيْنَيْهِ وَدَعَا لَهُ، فَبَرَأَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ وَجَعٌ، فَأَعْطَاهُ فَقَالَ: أُقَاتِلُهُمْ حَتَّى يَكُونُوا مِثْلَنَا. فَقَالَ: «انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلَامِ، وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ، فَوَاللهِ لأَنْ يَهْدِيَ الله بِكَ رَجُلاً خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ» . [انظر: 2942 - مسلم: 2406 - فتح 6/ 144].
ذكر فيه حديث أبِي حَازِمٍ عن سَهْلٍ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ خَيْبَرَ: "لأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يَفْتَح الله عَلَى يَدَيْه .. " الحديث إلى أن قال: "فَوَاللهِ لأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلًا واحدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ".
هذا الحديث يشبهه في المعنى قوله صلى الله عليه وسلم: "من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة لا ينقص من أجورهم شيئًا"
(1)
، وروي في الحديث مرفوعًا:"إن العالم إذا لم يعمل بعلمه يأمر الله به إلى النار يوم القيامة، فيقوم رجل قد كان علمه ذَلِكَ العالم، علمًا دخل به الجنة فيقول: يا رب هذا علمني ما دخلت به الجنة فهب لي معلمي. فيقول عز وجل: هبوا له معلمه".
(1)
رواه مسلم (1017) كتاب: الزكاة، باب: الحث على الصدقة .. من حديث جرير بن عبد الله.
فائدة:
(حمر النعم): كرامها وأعلاها منزلة، قاله ابن الأنباري.
وقال أبو عبيد عن الأصمعي: بعير أحمر إذا لم يخالط حمرته شيء، فإن خالطت حمرته قنوء فهو كميت، والمراد (بحمر النعم): الإبل خاصة، وهي أنفسها وخيارها
(1)
. قَالَ الهروي: يذكر ويؤنث أما الأنعام: فالإبل والبقر والغنم، قال الجوهري: الأنعام يذكر ويؤنث، وقد سلف لنا مرة الخوض في ذَلِكَ فليراجع منه.
(1)
"تهذيب اللغة" 4/ 3182.
144 - باب الأُسَارى فِي السَّلَاسِلِ
3010 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«عَجِبَ الله مِنْ قَوْمٍ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ فِي السَّلَاسِلِ» . [4557 - فتح 6/ 145]
ذكر فيه حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"عَجِبَ اللهُ عز وجل مِنْ قَوْمٍ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ فِي السَّلَاسِلِ".
هذا الحديث من أفراده، ومعناه: يدخلون الإسلام مكرهين، وسمي الإسلام باسم الجنة لأنه شبهها، ومن دخله فقد دخل الجنة، وقد جاء هذا المعنى بيِّنًا في حديث ذكره البخاري في التفسير في تفسير سورة آل عمران من حديث أبي هريرة أيضًا في قوله تعالى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] قال خير الناس يأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حَتَّى يدخلوا في الإسلام كرهًا.
وفيه: سوق الإسراء في الحبال والسلاسل والاستيثاق منهم حَتَّى يرى الإمام فيهم رأيه.
والعجب المضاف إلى الله راجع إلى معنى الرضى والتعظيم، وأن الله تعالى يعظم من أخبر عنه بأنه يعجب منه ويرضى عنه، قاله ابن فورك
(1)
.
وقال الداودي: أي: جعلهم عجبًا أسارى فأسلموا. ولأبي داود: "عجب ربنا من قوم يقادون إلى الجنة في السلاسل"
(2)
.
(1)
"مشكل الحديث وبيانه" ص 208.
(2)
أبو داود (2677).
قَالَ ابن المنير: إن كان المراد حقيقة وضع السلاسل في الأعناق فالترجمة مطابقة، وإن كان المراد المجاز عن الإكراه فليست مطابقة
(1)
. وقال ابن الجوزي: ويحتمل أنهم لو بقوا على كراهتهم للإسلام لم يدخلو الجنة لكنهم قيدوا مكرهين، فلما عرفوا صحة الإسلام دخلوا طوعًا فدخلوا الجنة، وكان السبب الإكراه في الأول. وأوضح أبو داود هذا المعنى أيضًا فإنه لما ذكر حديث أبي هريرة المبدأ بذكره في باب: الأسير يوثق ذكر معه حديث ثمامة بن أثال وحديث الحارث بن البرصاء، وأنهما أوثقا وجيء بهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
(2)
.
(1)
"المتواري" ص 167.
(2)
أبو داود (2678، 2679).
145 - باب فَضْلِ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الكِتَابَيْنِ
3011 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، حَدَّثَنَا صَالِحُ بْنُ حَيٍّ أَبُو حَسَنٍ قَالَ: سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ يَقُولُ، حَدَّثَنِي أَبُو بُرْدَةَ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«ثَلَاثَةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ: الرَّجُلُ تَكُونُ لَهُ الأَمَةُ فَيُعَلِّمُهَا فَيُحْسِنُ تَعْلِيمَهَا، وَيُؤَدِّبُهَا فَيُحْسِنُ أَدَبَهَا، ثُمَّ يُعْتِقُهَا فَيَتَزَوَّجُهَا، فَلَهُ أَجْرَانِ، وَمُؤْمِنُ أَهْلِ الكِتَابِ الذِي كَانَ مُؤْمِنًا، ثُمَّ آمَنَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَهُ أَجْرَانِ، وَالْعَبْدُ الذِي يُؤَدِّى حَقَّ اللهِ وَيَنْصَحُ لِسَيِّدِهِ» . ثُمَّ قَالَ الشَّعْبِيُّ وَأَعْطَيْتُكَهَا بِغَيْرِ شَيءٍ، وَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يَرْحَلُ فِي أَهْوَنَ مِنْهَا إِلَى المَدِينَةِ. [انظر: 97 - مسلم: 154 - فتح 6/ 145].
ذكر فيه حديث أبي موسى قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "ثَلَاَلةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ" فذكر الأمة والعبد. وسلف في العتق
(1)
. ومؤمن أهل الكتاب الذي كان مؤمنًا ثم آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم. ثُمَّ قَالَ الشَّعْبِيُّ: وَأَعْطَيْتُكَهَا بِغَيْرِ شيء، وَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يَرْحَلُ فِي أَهْوَن مِنْهَا إِلَى المَدِينَةِ.
فيه: أن من أحسن في معنيين من أي فعل كان من أفعال البر فله أجره مرتين، والله يضاعف لمن يشاء، وإنما جاء النص في هؤلاء الثلاثة ليستدل بذلك في سائر الناس وسائر الأعمال، نبه عليه المهلب
(2)
.
قَالَ الداودي: في قوله: "ومؤمن أهل الكتاب" يعني من بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على دين عيسى، وأما اليهود وغيرهم ممن كان على غير الإسلام فإنما وضع عليه ما كان عليه من كفر، ويؤتى ثواب ما كان
(1)
سلف برقم (2547) باب: العبد إذا أحسن عبادة ربه ونصح سيده.
(2)
سلف برقم (1436) كتاب: الزكاة، باب: من تصدق في الشرك ثم أسلم، ورواه مسلم برقم (123) كتاب: الإيمان، باب: بيان حكم عمل الكافر إذا أسلم بعده.
يفعله لله في حال كفره. قَالَ صلى الله عليه وسلم لحكيم: "أسلمت على ما سلف من خير"
(1)
.
وتعقبه ابن التين فقال: هذا الذي ذكره إنما يصح لو كان عيسى أرسل إلى سائر الأمم، لكن من كذب به كان كافرًا، فإن لم يكن أحد يكذب به أو لم يعلم برسالته وبقي على دينه يهوديًّا أو غيره فله أجران إذا أسلم، وهو معنى قوله تعالى:{أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا} [القصص: 54].
وقال ابن (المنير)
(2)
: إن قلتَ: مؤمن من أهل الكتاب لا بد أن يكون مؤمنًا بنبينا للعهد المتقدم والميثاق، فإذا بعث صلى الله عليه وسلم فإيمانه الأول يستمر، فكيف يتعدد حَتَّى يتعدد أجره؟ وجوابه بأن إيمانه الأول بأن الموصوف كذا رسول، وثانيًا: أن محمدًا صلى الله عليه وسلم هذا الموصوف وهما معلومان متباينان
(3)
، وقد أسلفنا باقي الخصال في العتق، وقد أعتق الشارع صفية وتزوجها، وأدى كتابة جويرية وتزوجها، وستكون لنا عودة (إليه)
(4)
في النكاح إن شاء الله
(5)
.
(1)
نقله ابن بطال في "شرحه" 5/ 168، والحديث سلف برقم (1436).
(2)
في (ص 1): التين.
(3)
"المتواري" ص 168.
(4)
من (ص 1).
(5)
سيأتي برقم (5083) باب: اتخاذ السراري، ومن أعتق جارية ثم تزوجها.
146 - باب أَهْلِ الدَّارِ يُبَيَّتُونَ فَيُصَابُ الوِلْدَانُ وَالذَّرَارِيُّ
{بَيَاتًا} [الأعراف: 4، 97، يونس: 50]: لَيْلًا. {لَنُبَيِّتَنَّهُ} [النمل: 49](لَيْلاً: يُبَيِّتُ لَيْلًا)
(1)
.
3012 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ رضي الله عنهم قَالَ: مَرَّ بِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالأَبْوَاءِ -أَوْ بِوَدَّانَ- وَسُئِلَ عَنْ أَهْلِ الدَّارِ يُبَيَّتُونَ مِنَ المُشْرِكِينَ، فَيُصَابُ مِنْ نِسَائِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ قَالَ:«هُمْ مِنْهُمْ» . وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: «لَا حِمَى إِلاَّ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم» . [انظر: 1825 - مسلم: 1193، 1745 - فتح 6/ 146].
3013 -
وَعَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ عُبَيْدَ اللهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: حَدَّثَنَا الصَّعْبُ فِي الذَّرَارِيِّ كَانَ عَمْرٌو يُحَدِّثُنَا، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَسَمِعْنَاهُ مِنَ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ الصَّعْبِ قَالَ:«هُمْ مِنْهُمْ» . وَلَمْ يَقُلْ كَمَا قَالَ عَمْرٌو «هُمْ مِنْ آبَائِهِمْ» . [انظر:. 2370 - فتح 6/ 146].
ذكر فيه حديث الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، عَنِ ابن عَبَّاسٍ، عَنِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ قَالَ: مَرَّ بِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بالأَبْوَاءِ -أَوْ بِوَدَّانَ- فَسُئلَ عَنْ أَهْلِ الدَّارِ يُبَيّتونَ مِنَ المُشْرِكِينَ، فَيُصَابُ مِنْ نِسَائِهِمْ وَذَرَارِّيهِمْ، قَالَ:"هُمْ مِنْهُمْ". وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: "لَا حِمَى إِلَّا لله وَلرَسُولِهِ".
وَعَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ عُبَيْدَ اللهِ، عَنِ ابن عَبَّاسٍ: قال: ثَنَا الصَّعْبُ فِي الذَّرَارِيِّ كَانَ عَمْرٌو يُحَدِّثُنَا، عَنِ ابن شِهَابٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. فَسَمِعْنَاهُ مِنَ الزّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللهِ، عَنِ ابن عبَّاسٍ، عَنِ الصَّعْبِ قَالَ:"هُمْ مِنْهُمْ". وَلَمْ يَقُلْ كَمَا قَالَ عَمْرٌو: "هُمْ مِنْ آبَائِهِمْ".
(1)
كذا في الأصل وعليها: كذ- إلى.
الشرح:
هذا الحديث أخرجه مسلم والأربعة
(1)
، وبيَّن الإسماعيلي هذا بقوله: قَالَ سفيان: وكان عمه، وحَدَّثَنَاه أولاً عن الزهري قبل أن يلقاه فقال:"هم من آبائهم" فلما ثنا الزهري فتقدمه فلم يقل: "هم من آبائهم " قَالَ: "هم منهم"(ورواه)
(2)
الطبراني من حديث حماد بن زيد، عن عمرو، عن ابن عباس بلفظ:"هم من آبائهم" لم يذكر الزهري ولا عبيد الله ولا الصعب، رواه عن علي بن عبد العزيز، ثَنَا حجاج بن منهال وعارم عنه
(3)
.
إذا عرفت ذَلِكَ فالكلام عليه من وجوه:
أحدها: صحف ابن المنير (بياتًا) بالباء الموحدة بـ (نيامًا)، فقال: العجب لزيادته في الترجمة (نيامًا) وما هو في الحديث إلا ضمنا؛ لأن الغالب أنهم إذا وقع بهم ليلاً لم يخل من نائم، وما الحاجة إلى كونهم نيامًا أو أيقاظًا وهما سواء، إلا أن قتلهم نيامًا أدخل في الغيلة؛ فنبه على جوازها في مثل هذا. هذا كلامه
(4)
، وهو عجيب وتصحيف غريب فاحذره، ولما ذكره صاحب "المطالع" وقال: هو من البيات: وهو الطرف إغفالًا من الليل.
ثانيها: ذكره حديث الحمى هنا نظير الحديث السالف: "نحن الآخرون السابقون" ثم ذكر حديثا آخر معه ليس فيه شيء من معناه؛ لأنهم كانوا يحدثون بالأحاديث على نحو ما كانوا يسمعونها، وقد
(1)
أبو داود (2672)، والترمذي (1570)، وابن ماجه (2839)، والنسائي في "الكبرى" 3/ 408.
(2)
في (ص 1): ورواية.
(3)
"المعجم الكبير" 8/ 87 (7449).
(4)
"المتواري" ص 168 - 169.
يتلمح له هنا معنى فتدبره
(1)
.
ثالثها: ذكر الداودي هنا أن من كان بالمدينة من الصحابة يروي عمن كان خارجًا منها، إذ ليس أحد يحيط بالحديث أجمع، يريد أن الصعب بن جثامة ليس من ساكني المدينة.
رابعها: معنى قوله: "هم منهم" يريد كما قَالَ الخطابي في حكم الدين، فإن ولد الكافر محكوم له بالكفر. قَالَ: ولم يرد بهذا القول إباحة دمائهم تعمدًا لها وقصدًا إليها، وإنما هو إذا لم يصل إلى قتل الآباء إلا بذلك، وإلا فلا يقصدون بالقتل مع القدرة على ترك ذَلِكَ.
ومعنى النهي عن قتل النساء والصبيان في الباب الذي بعد هذا أن يقصدوا بالقتل مع القدرة على تمييزهم، إلا أن النساء إذا قاتلن قتلن؛ لأن العلة المانعة من قتلهن عدم القتل فيهن
(2)
.
وقد اختلف العلماء في العمل بهذا الحديث، فتركه قوم وذهبوا إلى أنه لا يجوز قتل النساء والولدان في الحرب على حال، وأنه لا يحل أن يقصد إلى قتل غيرهم إذا كان لا يؤمن في ذَلِكَ تلفهم، مثل أن يتترس أهل الحرب بصبيانهم ولا يستطيع المسلمون منهم إلا بإصابة صبيانهم، فحرام عليهم رميهم، وكذلك إن تحصنوا بحصن أو سفينة وجعلوا فيها نساء وصبيانًا أو أسارى مسلمين، فحرام رمي ذَلِكَ الحصين وخرق تلك السفينة إذا كان يخاف تلف الأسارى والنساء والصبيان.
(1)
سلف برقم (2956، 2957) كتاب: الجهاد والسير، باب: يقاتل من وراء الإمام ويتقى به.
(2)
"أعلام الحديث" 2/ 1427 - 1428.
واحتجوا بعموم (نهيه عن قتل النساء والصبيان وبعموم)
(1)
قوله تعالى: {لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح: 25] هذا قول مالك
(2)
والأوزاعي.
وقال الكوفيون
(3)
والشافعي
(4)
: إنما وقع النهي عن قتل النساء والصبيان إذا قصد إلى قتلهم، فأما إذا قصد إلى قتل غيرهم ممن لا يوصل إلى ذَلِكَ منه إلا بتلف نسائهم وصبيانهم فلا بأس بذلك.
واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم: "هم منهم" فلما لم (ينهرهم)
(5)
الشارع عن الإغارة، وقد كان يعلم أنهم يصيبون فيها الولدان والنساء الذين يحرم القصد إلى قتلهم، دل ذَلِكَ على أن ما أباح من حديث الصعب لمعنى غير المعنى الذي من أجله منع قتلهم في حديث ابن عمر في الباب بعده، وأن الذي منع من ذَلِكَ هو القصد إلى قتلهم، وأن الذي أباح هو القصد إلى قتل المشركين، وإن كان في ذَلِكَ تلف غيرهم ممن لا يحل القصد إلى قتله حَتَّى لا تتضاد الآثار، وقد أمر الشارع بالإغارة على العدو في آثار متواترة، ولم يمنعه من ذَلِكَ ما يحيط به علمًا أنه لا يؤمن تلف النساء والولدان في ذَلِكَ، والنظر يدل على ذَلِكَ أيضًا، وقد أحبط الشارع بياتا للعاصي، فكان يباح البيات وإن كان فيه تلف غيره مما حرم علينا
(6)
.
(1)
من (ص 1).
(2)
"النوادر والزيادات" 3/ 66، "التمهيد" 16/ 145.
(3)
"شرح معاني الآثار" 3/ 222.
(4)
"الأم" 4/ 156 - 157، 7/ 318.
(5)
في (ص 1): ينههم.
(6)
ورد في هامش الأصل: بقي عليه بعض كلام ذكره المؤلف في الباب الذي بعده في (
…
) وكان ينبغي أن يذكره في هذا الباب.
147 - باب قَتْلِ الصِّبيَانِ فِي الحَرْبِ
3014 -
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ رضي الله عنه أَخْبَرَهُ أَنَّ امْرَأَةً وُجِدَتْ فِي بَعْضِ مَغَازِى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَقْتُولَةً، فَأَنْكَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَتْلَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ. [3015 - مسلم: 1744 - فتح 6/ 148]
ذكر فيه حديث ابن عمر أَنَّ أمْرَأَةً وُجِدَتْ فِي بَعْضِ مَغَازِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَقْتُولَةً، فَأَنْكَرَ النبي صلى الله عليه وسلم قَتْلَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ.
وترجم له:
148 - باب قَتْلِ النِّسَاءِ فِي الحَرْبِ
3015 -
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: قُلْتُ لأَبِي أُسَامَةَ: حَدَّثَكُمْ عُبَيْدُ اللهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما -قَالَ، وُجِدَتِ امْرَأَةٌ مَقْتُولَةً فِي بَعْضِ مَغَازِى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَنَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ. [انظر: 3014 - مسلم:
1744 -
فتح 6/ 148].
حَدَّثنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: قُلْتُ لأَبِي أُسَامَةَ: حَدَّثَكُمْ عُبَيْدُ اللهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابن عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: وُجِدَتِ امْرَأَةٌ مَقْتُولَةً فِي بَعْضِ مَغَازِي رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَنَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ؟.
ثم ساقه وقال مكان (فأنكر): (نهى). وأخرجه مسلم أيضًا، وقد عرفت فقهه في الباب قبله.
قَالَ ابن بطال: ولا يجوز عند جميع العلماء قصد قتل نساء (الحرب)
(1)
ولا أطفالهم؛ لأنهم ليسوا ممن يقاتلون في الأغلب، وقال تعالى:{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة: 190] وبذلك حكم الشارع في مغازيه أن تقتل المقاتلة وأن تسبى الذرية؛ لأنهم مال للمسلمين إذا سبوا
(2)
.
قلتُ: قد حكى الحازمي عن قوم جواز قتلهم مطلقًا لكنه مصادم للنص
(3)
.
واتفق الجمهور على جواز قتل النساء والصبيان إذا قاتلوا
(4)
، وهو
(1)
في (ص): الحربيين.
(2)
"شرح ابن بطال" 5/ 170.
(3)
"الاعتبار"165.
(4)
"الإفصاح" 9/ 165.
قول الأربعة والليث والثوري والأوزاعي وإسحاق وأبي ثور
(1)
، وقال الحسن البصري: إن قاتلت المرأة وخرجت معهم إلى ديارالمسلمين قتلت، وقد قتل الشارع يوم قريظة والخندق أم قرفة
(2)
، وقتل يوم الفتح قينتين كانتا تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم
(3)
.
فرع:
اتفق مالك والكوفيون والأوزاعي والليث أنه لا تقتل الشيوخ ولا الرهبان
(4)
، وأجاز قتلهم الشافعي في أحد قوليه
(5)
(6)
، واحتج بأن الشارع أمر بقتل دريد بن الصمة يوم حنين
(7)
، وقام الإجماع على أن من قاتل من الشيوخ قتل، نعم في حديث بريدة مرفوعًا:"لا تقتلوا شيخًا كبيرًا"
(8)
، وحديث المرقع بن صيفي في المرأة المقتولة "ما كانت هذِه تقاتل"
(9)
، وهو قال على أن من أبيح قتله هو الذي يقاتل، ويجمع بينهما بأن النهي من الشارع في قتل الشيوخ هم الذين لا معونة لهم على شيء من أمر الحرب من قتال ولا رأي.
(1)
انظر: "المغنى" 13/ 179، 180.
(2)
رواه أبو نعيم في "دلائل النبوة" ص 534 - 535.
(3)
رواه أبو داود (2684) مختصرًا، والدارقطنى 2/ 301.
(4)
"النوادر والزيادات" 3/ 66، 67.
(5)
ورد بهامش الأصل: الأظهر جوازه.
(6)
"الأم" 4/ 157، "الإفصاح" 9/ 166.
(7)
سيأتي برقم (4323) كتاب المغازي، باب: غزوة أوطاس، ورواه مسلم (2498) كتاب "فضائل الصحابة" باب: من فضائل أبي موسى وأبي عامر الأشعريين رضي الله عنهما.
(8)
رواه الطبراني في "المعجم الأوسط" 1/ 48 (135).
(9)
رواه أبو داود (2669).
وحديث دريد في الشيوخ الذين لهم معونة في الحرب كما كان لدريد، فلا بأس بقتلهم وإن لم يكونوا مقاتلين؛ لأن تلك المعونة أشد من كثير من القتال، وهذا قول محمد بن الحسن، وهو قياس قول أبي حنيفة وأبي يوسف
(1)
.
تنبيهات:
أحدها: محل قتلهن إذا قاتلن هو ما إذا كان بالسيف والرمح ونحوهما، فإن قاتلن بالرمي بالحجارة فقال ابن حبيب: لا يقتلن إلا إذا قتلن وإن أسرن، إلا أن يرى الإمام إبقاءها، ومثلها الصبي. وقال سحنون: من رمت منهن بالحجر رميت به وإن قتلت به، لقوله تعالى:{وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41)} [الشورى: 41] وإذا وجب قتلهن وقدر عليهن بعد أسرهن فقال ابن القاسم: يقتلن بالأسر كما لو قتل أحدًا من المسلمين. وقال غيره: لا؛ لأنهن ممن يقر على غير جزية؛ فلم يجز قتلهن بالأسر كما لو لم يقاتلن، فإن حاربت المرأة، فقال سحنون: لا تقتل
(2)
. وقال الأوزاعي تقتل.
ثانيها: ثبت في مسلم من حديث بريدة: "اغزوا ولا تقتلوا وليدًا"
(3)
وفي الترمذي من حديث سمرة مرفوعًا: "اقتلوا شيوخ المشركين واستبقوا شرخهم" ثم قَالَ: حسن صحيح غريب
(4)
، وفي النسائي عن ابن عباس: إنه صلى الله عليه وسلم لم يقتلهم فلا تقتلوهم يقوله لنجدة الحروري
(5)
(1)
"المبسوط" 10/ 137.
(2)
"المنتقى" 3/ 166.
(3)
مسلم برقم (1731) كتاب: الجهاد والسير، باب: جواز الإغارة على الكفار الذين بلغتهم دعوة الإسلام من غير تقدم الإعلام بالإغارة.
(4)
الترمذي (1583).
(5)
"الكبرى" 5/ 184.
وقد عرفت وجه ذَلِكَ، وتمسك أبو حنيفة بعموم هذِه الأحاديث في قتل المرتدة
(1)
.
ثالثها: إذا تترس الكفار بصبيانهم أو نسائهم ولا يستطيع المسلمون رميهم إلا بإصابة أولئك. فقَالَ مالك: يحرم رميهم، وكذا إذا تحصنوا بحصن أو سفينة فحرام خرق السفينة، ورمي الحصين إذا خيف تلفهما، وقال الشافعي وأبو حنيفة: يجوز؛ فالنهي عند القصد، أما إذا قصد غيرهم ولا يمكن إلا بتلفهما فلا بأس بذلك
(2)
.
رابعها: قوله في الباب الماضي: (سئل عن أهل الدار). هذا هو الموجود في سائر نسخ البخاري: (الدار). وهو رواية الجمهور في مسلم، وصوبه القاضي قَالَ: وأما الذراري بتشديد الياء على التصحيح، وقد تخفف فليست بشيء، وهي تصحيف وما بعده يبين الغلط
(3)
، وجعل النووي أيضًا لها وجهًا
(4)
.
خامسها: معنى البيات في الباب الماضي أن يغار عليهم ليلاً فلا يعرف رجل من امرأة. قَالَ الحازمي: ورأى بعضهم حديث الصعب منسوخًا؛ ومنهم ابن عيينة والزهري بحديث الأسود بن سريع: "ألا لا تقتلن ذرية". وبحديث كعب بن مالك: نهى عن قتل النساء والولدان، إذ بعث إلى ابن أبي الحقيق. قَالَ الشافعي
(5)
:
(1)
هكذا ورد بالأصل خلافُ المذهب أبي حنيفة: أن المرتدة لا تقتل، "المبسوط" 10/ 108 وما بعدها، "مختصر اختلاف العلماء" 3/ 471.
(2)
"مختصر اختلاف العلماء" 3/ 434.
(3)
"إكمال المعلم" 6/ 49.
(4)
"شرح مسلم" 12/ 49.
(5)
"الرساله" ص 299.
وحديث الصعب كان في عمرة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن كان في الأولى فقتل ابن أبي الحقيق قبلها أو في سنتها، وإن كان في عمرته الأخيرة فهي بعد ابن أبي الحقيق بلا شك. قَالَ: ولم نعلمه رخص في قتل النساء والصبيان ثم نهى عنه
(1)
.
قلتُ: حديث الصعب كان في عمرة القضية، جاء ذَلِكَ مصرحًا به في عدة أحاديث وجمع بعضهم مما رواه رباح بن الربيع أخي حنظلة الكاتب: رأى النبي صلى الله عليه وسلم امرأة مقتولة في غزوة فقال: "ما كانت هذِه تقاتل" ثم قَالَ لرجل: "الحَقْ خالدًا فلا يَقْتُلن ذرية ولا عسيفا" أخرجه أبو داود
(2)
، (ورواه)
(3)
النسائي أيضًا من حديث أخيه حنظلة بمثله
(4)
، وهو واضح في تأخره عن حديث الصعب، لأن خالدًا كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاتلًا سنة ثمان، وروى ابن المنذر عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم مر بامرأة مقتولة يوم الخندق فقال:"من قتل هذِه؟ " قَالَ رجل: أنا. قَالَ: "ولم؟ " قَالَ: نازعتني قائم سقي. قَالَ: فسكت. وفي أبي داود: قتل صلى الله عليه وسلم امرأة من بني قريظة لحدث أحدثته من جملة من قتل من رجالهم
(5)
، وذكر ابن إسحاق أنه صلى الله عليه وسلم إنما قتلها بطرحها رحى على خلاد بن سويد
(6)
.
سادسها: حديث: "لا حمى إلا لله ورسوله" سلف شرحه في موضعه.
(1)
نقله الحازمي في "الاعتبار" ص 165 - 166.
(2)
أبو داود (2669).
(3)
من (ص 1).
(4)
النسائي في "الكبرى" 5/ 187.
(5)
أبو داود (2671).
(6)
انظر: "سيرة ابن هشام" 3/ 261.
149 - باب لَا يُعَذَّبُ بِعَذَابِ اللهِ
3016 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ بُكَيْرٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْثٍ فَقَالَ: «إِنْ وَجَدْتُمْ فُلَانًا وَفُلَانًا فَأَحْرِقُوهُمَا بِالنَّارِ» ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ أَرَدْنَا الخُرُوجَ «إِنِّي أَمَرْتُكُمْ أَنْ تُحْرِقُوا فُلَانًا وَفُلَانًا، وَإِنَّ النَّارَ لَا يُعَذِّبُ بِهَا إِلاَّ الله، فَإِنْ وَجَدْتُمُوهُمَا فَاقْتُلُوهُمَا» . [انظر: 2954 - فتح 6/ 149]
3017 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه حَرَّقَ قَوْمًا، فَبَلَغَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمْ أُحَرِّقْهُمْ، لأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللهِ» . وَلَقَتَلْتُهُمْ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» . [6922 - فتح 6/ 149]
ذكرفيه حديث أبي هريرة رضي الله عنه السالف في التوديع، وذكره هناك معلقًا وهنا مسندًا عن قتيبة، عن الليث، عن بكير.
وحديث عِكْرِمَةَ، أَنَّ عَلِيًّا حَرَّقَ قَوْمًا، فَبَلَغَ ابن عَبَّاسٍ، فَقَالَ: لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمْ أُحَرِّقْهُمْ؛ لأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللهِ". وَلَقَتَلْتُهُمْ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ".
قَالَ: المهلب: وليس نهيه عن التحريق على التحريم، وإنما هو على سبيل التواضع لله، وألا يتشبه بغضبه في تعذيب الخلق، إذ القتل يأتي على ما يأتي عليه الإحراق.
والدليل على أنه ليس بحرام سمل الشارع أعين الرعاة بالنار، وتحريق الصديق الفجأة بالنار في مصلى المدينة بحضرة الصحابة، وتحريق علي الخوارج بالنار.
وأكثر علماء المدينة يجيزون تحريق الحصون على أهلها بالنار،
وقول أكثرهم بتحريق المراكب
(1)
، وهذا كله يدل على أن معنى الحديث (على)
(2)
الندب.
وممن كره رمي أهل الشرك بالنار عمر وابن عباس وابن عبد العزيز، وهو قول مالك
(3)
، وأجازه علي، وحرق خالد بن الوليد ناسًا من أهل الردة. فقال عمر للصديق: انزع هذا الذي يعذب بعذاب الله. فقال الصديق: لا أشيم سيفًا سله الله على المشركين. وأجاز الثوري رمي الحصون بالنار. وقَالَ الأوزاعي: لا بأس أن يدخن عليهم في المطمورة إن لم يكن فيها إلا المقاتلة ويحرقوا ويقتلوا كل قتال، ولو لقيناهم في البحر رميناهم بالنفط والقطران
(4)
. وأجاز ابن القاسم حرق الحصين والمراكب إذا لم يكن فيها إلا المقاتلة فقط
(5)
.
وقوله: ("من بدل دينه فاقتلوه") احتج من لا يستتيب المرتد، وهو ابن الماجشون.
وجمهور الفقهاء على استتابته ثلاثًا فإن تاب قبلت توبته، ويحتج به الشافعي في قوله: من انتقل من كفر إلى كفر (أنه يقتل)
(6)
إن لم يسلم، ويحتج به أيضًا كقتل المرتدة
(7)
تفريعًا على أن (من) للعموم، وقال أبو حنيفة: لا بل تحبس
(8)
.
(1)
"النوادر والزيادات" 3/ 66.
(2)
من (ص).
(3)
"النوادر والزيادات" 3/ 66.
(4)
"الأم" 6/ 156 - 164
(5)
"النوادر والزيادات" 3/ 66. وانظر: "شرح ابن بطال" 5/ 172.
(6)
من (ص 1).
(7)
"الأم" 6/ 160.
(8)
"المبسوط" 10/ 108.
150 - باب {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4]
فِيهِ حَدِيثُ ثُمَامَةَ، أي السالف في الصلاة
(1)
وَقَوْلُهُ: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} يغلب الآيَةَ [الأنفال: 67][فتح 6/ 151]
اختلف العلماء في حكم الأسرى؛ من أجل اختلافهم في تأويل الآية التي ترجم بها البخاري، فقال السدي وابن جريج: نسختها آية السيف
(2)
: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] وقال السدي: نسختها {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ} [الأنفال: 57]
(3)
، وروي عن الصديق أنه لا يفادي بأسير المشركين وإن أعطي فيه كذا وكذا مديًا من مال الله
(4)
، وهذا مخالف عنه فيما سيأتي من إشارته ذَلِكَ في أسارى بدر. وقال الزهري: كتب عمر بن الخطاب: اقتلوا كل من جرت عليه المواسي
(5)
. وهو قول الزهري ومجاهد، واعتلوا لإنكارهم إطلاق الأسرى بقوله تعالى:{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ} [الأنفال: 67] الآيات، قالوا: فأنكر الله إطلاق أسرى بدر على نبيه على الفداء، فغير جائز لأحد أن يتقدم على فعله، وسنة الله في أهل الكفر إن كانوا من أهل الأوثان فقتلهم على كل حال، قَالَ تعالى:{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} الآية [التوبة: 5]، وإن كانوا من أهل الكتاب حتى يسلموا أو يعطوا الجزية، فأما إطلاقهم
(1)
سلف برقم (462) باب: الاغتسال إذا أسلم وربط الأسير أيضًا في المسجد.
(2)
انظر: "تفسير الطبري" 11/ 306.
(3)
رواه عبد الرزاق 5/ 204، 211 (9389، 9405).
(4)
"تفسير الطبري" 11/ 306.
(5)
"المحلى" 7/ 299.
على فداء يؤخذ منه فتقوية لهم. وقال الضحاك: قوله تعالى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ} ناسخًا لقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}
(1)
، ويروى مثله عن ابن عمر
(2)
وقال: أليس بهذا أمرنا الله، قَالَ تعالى:{حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] وهو قول عطاء
(3)
والشعبي والحسن البصري كرهوا قتل الأسير، وقالوا: مُنَّ عليه أو فاده، وبمثل هذا استدل الطحاوي فقال: ظاهر الآية يقتضي السنن أو الفداء ويمنع القتل
(4)
. قالوا: ولو كان لنا من قتلهم بعد الإثخان
والأسار ما لنا قتله لم يفهم قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] فدل أن حكم الكافر بعد الاستيثاق والأسر خلاف حكمه قبل ذلك.
قَالَ أبو عبيد: والقول عندنا في ذَلِكَ أن الآيات جميعًا محكمات لا منسوخ فيهن، يبين ذَلِكَ ما كان من أحكام رسول الله صلى الله عليه وسلم الماضية فيهم، وذلك أنه عمل بالآيات كلها من القتل والمن والفداء حَتَّى توفاه الله عز وجل على ذَلِكَ، فكان أول أحكامه فيهم يوم بدر فعمل بها كلها يومئذ، بدأ بالقتل فقتل عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث في قفوله، ثم قدم المدينة فحكم في سائرهم بالفداء، ثم حكم يوم الخندق سعد بن معاذ فقتل المقاتلة وسبي الذرية، فصوَّبه صلى الله عليه وسلم وأمضاه، ثم كانت غزاة بني المصطلق وهي جويرية بنت الحارث فاستحياهم جميعًا وأعتقهم، ثم كان فتح مكة فأمر بقتل ابن خطل
(1)
الطبري 11/ 306.
(2)
السابق 11/ 307.
(3)
السابق.
(4)
"مختصر اختلاف العلماء" 3/ 479.
ومقيس والقينتين وأطلق الباقين، ثم كانت حنين فسبى هوازن ومنَّ عليهم وقتل أبا عزة الجمحي يوم أحد، وقد كان منَّ عليه يوم بدر، وأطلق ثمامة بن أثال، فكانت هذِه أحكامه صلى الله عليه وسلم بالمن والفداء والقتل، فليس شيء منها منسوخًا، والأمور فيهم إلى الإمام، وهو مخير بين القتل والمن والفداء يفعل الأفضل في ذَلِكَ للإسلام وأهله، وهو قول مالك
(1)
والشافعي
(2)
وأحمد وأبي ثور.
قَالَ المهلب: وأما قوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال: 67] فإنها نزلت في أسرى بدر أخذ فيهم برأي الصديق في استحيائهم وقبوله الفداء فيهم، وكان عمر أشار عليه بقتلهم، وأشار عليه غيره بحرقهم استبلاغًا فيهم، فبات رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى رأيه في ذَلِكَ، وكان أول وقعة أوقعها الله بالكفار فأراد الله أن يكسر شوكتهم بقتلهم، فعاتب الله نبيه وأنزل عليه الآية:{تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} يعني: الفداء {وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [الأنفال: 67] إعلاء كلمته وإظهار دينه بقتلهم، فقال صلى الله عليه وسلم:"لو نزلت آية عذاب ما نجا منه غير عمر"؛ لأنهم طلبوا الفداء وكانت الغنائم محرمة عليهم
(3)
.
وقال الطبري
(4)
في قوله: "لو نزلت آية عذاب" إلى آخره وقوله: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ} [الأنفال: 68] الآية، إن قيل: كيف استحقوا هذِه اللائمة العظيمة؟ فالجواب أنه صلى الله عليه وسلم ومن شهد معه بدرًا لم يخالفوا أمر ربهم فيستوجبوا اللائمة، وأن الذين اختاروا فداء. الأسرى على
(1)
انظر: "النوادر والزيادات" 3/ 327.
(2)
انظر: "روضة الطالبين" 10/ 274.
(3)
نقله ابن بطال في "شرحه" 5/ 175.
(4)
الطبري 6/ 291.
قتلهم اختاروا أوهن الرأيين في التدبير على أحزمهما وأقلهما نكاية في العدو، فعاتبهم الله على ذَلِكَ وأخبرهم أن الأنبياء قبله لم تكن الغنائم حلالاً لهم فكانوا يقتلون من حاربوا ولا يأسرونه على طلب الفداء، فالمعنى: لولا قضاء من الله سبق أنه يحل لكم الغنيمة ولا يعذب من شهد بدرًا لمسكم فيما أخذتم من الفداء عذاب عظيم.
وفي حديث ثمامة من الفقه: جواز المن على الأسير بغير مال، وهو قول الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد
(1)
وأبى ثور، وقالوا: لا بأس أن يفادوا بأسرى المسلمين وبالمال أيضًا. وقال الطحاوي: اختلف في هذِه المسألة قول أبي حنيفة، فروي عنه أن الأسارى لا يفادى بهم ولا يردون حربًا؛ لأن في ذَلِكَ قوة لأهل الحرب، وإنما يفادون بالمال، وما سواه مما لا قوة لهم فيه، وروي عنه أنه لا بأس أن يفادى بالمشركين أسارى المسلمين، وهو قول صاحبيه
(2)
ورأى أبو حنيفة أن المن منسوخ، وقيل: كان خاصًّا برسول الله صلى الله عليه وسلم. قَالَ ابن القصار: ومما يرد عليه أنا اتفقنا معه على أن مكة فتحت عنوة، وأنه صلى الله عليه وسلم منَّ عليهم بغير شيء كما فعل بثمامة
(3)
.
ولخص الخلاف في المسألة النحاس فقال: في قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] للعلماء فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها منسوخة، ولا يحل قتل أسير صبرًا وإنما يمن عليه أو يفدى، وناسخها قوله تعالى:{فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ} [محمد: 4] قَالَ: الحسن والضحاك والسدي وعطاء، زاد الطبري والشعبي كما سلف.
(1)
"الإفصاح" 9/ 195.
(2)
"مختصر الطحاوي" ص 289.
(3)
انظر: "شرح ابن بطال" 5/ 176.
ثانيها: تعين القتل في الأسرى، والآية ناسخة لقوله:{فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ} [محمد: 4] وهو قول قتادة، ويروى عن مجاهد.
ثالثها: أنهما محكمتان، وهو قول ابن زيد، وهو صحيح بين؛ لأن إحداهما لا تنفي الأخرى ينظر الإمام في ذَلِكَ ما يراه مصلحة من الأمور الثلاثة السالفة
(1)
.
فائدة:
قَالَ الداودي: لما ذكر الآية (التي)
(2)
في البخاري، وفيه: قوله: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8)} [الإنسان: 8]، وقوله:{قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى} [الأنفال: 70].
ثانية: قَالَ مجاهد: الإثخان: القتل
(3)
. وقيل: حَتَّى يبالغ في قتل أعدائه. وقيل: حَتَّى يتمكن في الأرض. والإثخان في اللغة: القوة والشدة.
ثالثة: حاصل ما سلف أن من منع القتل شاذ، وأن الذي عليه كافة الفقهاء الجواز، وكذا المن والفداء جائزان عند الثلاثة، خلافًا لأحد قولي أبي حنيفة، والآية في السنن والفداء صريح، وكذا المنُّ على ثمامة، فالإمام غير في الرجال المقاتلة بين خمسة أشياء: الجزية، أو القتل، أو الاسترقاق، أو المن، أو الفداء، وفي النساء والصبيان بين ثلاثة: المن، والفداء، والاسترقاق.
(1)
"الناسخ والمنسوخ" 2/ 423 - 425.
(2)
من (ص 1).
(3)
رواه ابن أبي شيبة 6/ 501، والطبري 6/ 286.
151 - باب هَلْ لِلأسَيِر أَنْ يَقْتُلَ أَوَ يَخْدَعَ الذِينَ أَسَرُوهُ حَتَّى يَنْجُوَ مِنَ الكَفَرَةِ
؟
فِيهِ المِسْوَرُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
هذا الحديث المراد به قصة صلح الحديبية، وقد أسنده البخاري في الشروط كما سلف
(1)
وغيره أيضًا، وموضع الحاجة منه: قول أبي بصير لأحد الرجلين في سيفه وضربه حَتَّى برد وفر الآخر.
واختلف العلماء في الأسير هل له أن يقتل المشركين أو يخدعهم حَتَّى ينجو منهم؟ فقالت طائفة من العلماء: لا ينبغي للأسير المقام بدار الحرب إذا أمكنه الخروج، وإن لم يتخلص منهم إلا بقتلهم وأخذ أموالهم وإحراق دورهم فعل ما شاء من ذَلِكَ، وهو قول أبي حنيفة والطبري. وقال أشهب: إن خرج به العلج في الحديد ليفادى به فله أن يقتله إن أمكنه ذَلِكَ وينجو.
واختلفوا إذا أمنوه وعاهدهم على أن لا يهرب، فقال الكوفيون: إعطاؤه العهد على ذلك لا يلزم، وقال الشافعي
(2)
: له أن يخرج ولا يأخذ شيئًا من أموالهم؛ لأنه قد أمنهم بذلك كما أمنوه. وقال مالك
(3)
: إن عاهدهم على ذَلِكَ لا يجوز أن يهرب إلا بإذنهم، وهو قول سحنون وابن المواز، قَالَ ابن المواز: وهذا بخلاف ما إذا أجبروه أن يحلف ألا يهرب بطلاق أو عتاق أنه لا يلزمه؛ وذلك لأنه مكروه، ورواه أبو زيد، عن ابن القاسم
(4)
، وقال غيره: لا معنى لمن
(1)
سلف برقم (2731، 2732) باب: الشروط في الجهاد.
(2)
"الأم" 4/ 188.
(3)
"النوادر والزيادات" 3/ 318.
(4)
السابق 3/ 319.
فرق بين يمينه ووعده أن لا يهرب؛ لأن حاله حال المكره حلف لهم أو وعدهم أو عاهدهم، سواءً أمنوه أو خافوه؛ لأن الله تعالى فرض على المؤمن ألا يبقى تحت أحكام الكفار، وأوجب عليه الهجرة من دارهم، فخروجه على كل وجه جائز، والحجة في ذَلِكَ خروج أبي بصير وتصويب النبي صلى الله عليه وسلم فعله ورضاه به.
152 - باب إِذَا حَرَّقَ المُشْرِكُ المُسْلِمَ هَل يُحَرَّقُ
3018 -
حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ رَهْطًا مِنْ عُكْلٍ ثَمَانِيَةً قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَاجْتَوَوُا المَدِينَةَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، ابْغِنَا رِسْلاً. قَالَ:«مَا أَجِدُ لَكُمْ إِلاَّ أَنْ تَلْحَقُوا بِالذَّوْدِ» . فَانْطَلَقُوا فَشَرِبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا حَتَّى صَحُّوا وَسَمِنُوا، وَقَتَلُوا الرَّاعِيَ، وَاسْتَاقُوا الذَّوْدَ، وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ، فَأَتَى الصَّرِيخُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَبَعَثَ الطَّلَبَ، فَمَا تَرَجَّلَ النَّهَارُ حَتَّى أُتِيَ بِهِمْ، فَقَطَّعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ، ثُمَّ أَمَرَ بِمَسَامِيرَ فَأُحْمِيَتْ فَكَحَلَهُمْ بِهَا، وَطَرَحَهُمْ بِالْحَرَّةِ، يَسْتَسْقُونَ فَمَا يُسْقَوْنَ حَتَّى مَاتُوا. قَالَ أَبُو قِلَابَةَ قَتَلُوا وَسَرَقُوا وَحَارَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم وَسَعَوْا فِي الأَرْضِ فَسَادًا. [انظر: 233 - مسلم: 1671 - فتح 6/ 153]
ذكر فيه حديث أنس في العرنيين.
وفيه: تسميل العين، وقد سلف الحديث في الطهارة، ولم يذكر البخاري هنا أنهم سملوا أعين الرعاة، قَالَ ابن بطال: وهو يدل أن ذَلِكَ كان من فعلهم مروي إلا أن طرق ذَلِكَ ليست من شرط كتابه، وله طرق ذكرتها في المحاربين
(1)
، (قال):
(2)
وقد يخرج معنى الترجمة من هذا الحديث بالدليل لو لم (يصح سمل)
(3)
العرنيين للرعاء وذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما سمل أعينهم -والسمل تحريق بالنار- استدل منه البخاري أنه لما جاز تحريق أعينهم بالنار ولو كانوا لم يحرقوا أعين الرعاء أنه أولى بالجواز في تحريق المشرك إذا حرق المسلم
(4)
،
(1)
سيأتي برقم (6802) كتاب: الحدود، باب: المحاربين من أهل الكفر والردة.
(2)
من (ص 1).
(3)
في (ص 1): يفتح يسمل.
(4)
"شرح ابن بطال" 5/ 179.
وهو كما قَالَ، وهو ما رد به ابن التين على قول الداودي: ليس ما ذكره في الحديث يحتمل أن (يريد)
(1)
أن المسامير لما أحميت وكحلوا بها -وكانوا فعلوا بالرعاء مثل ذَلِكَ- كان ذَلِكَ كالإحراق، وروى سحنون عن ابن القاسم
(2)
: أنه لا بأس برمي المراكب من مراكب العدو بالنار إذا بدءوا بالرمي، وإن كان فيهم أسرى مسلمين نساء وصبيان لهم.
و (عكل) -بإسكان الكاف- قبيل من العرب من مزينة، وصرح هنا بأنهم ثمانية.
ومعنى: (اجتووا المدينة): كرهوها، وهو أفعل من جوى يجوى إذا كره، وقيل معناه: استوخموها. وكذا هو في موضع آخر من البخاري: استوخموا المدينة
(3)
. قَالَ ابن فارس: اجتويت البلاد إذا كرهتها وإن كنت في نعمة، وجوى من ذلك
(4)
.
و (ابغِنا رِسْلا): اطلبه لنا. يقال: بغيتك الشيء طلبته لك، وأبغيتك: أعنتك على طلبه.
و (الرسل) -بكسر الراء- اللبن والذود من الإبل من الثلاثة إلى العشرة، وقيل: يطلق في اللغة على الواحد، وجاء مصرحًا أنها من الصدقة، وشربهم من أبوالها من باب التداوي.
وفي أبوالها خلاف في الطهارة قَالَ الداودي: من قَالَ: إنها غير طاهرة لا نص معه ولا إجماع، وهذا يعكس عليه كما نبه عليه ابن التين.
(1)
من (ص 1).
(2)
"النوادر والزيادات" 3/ 66.
(3)
سيأتي برقم (4192) كتاب: المغازي، باب: قصة عكل وعرينة.
(4)
"مجمل اللغة" 1/ 210.
و (الصريخ): المخبر، وفيه طلب المحاربين.
وقوله: (فما ترجل النهار) أي: ما ذهب منه كثير شيء؛ لأن معنى ترجل: ارتفع.
وقوله: (فأحميت). كذا وقع رباعيًّا وهو الصواب في اللغة، ولا يقال: فحميت ثلاثيًّا وإنما فعل ذَلِكَ بهم؛ لما في رواية سليمان التيمي، عن أنس: كانوا فعلوا بالرعاء مثل ذَلِكَ
(1)
، وذلك جائز من باب المماثلة.
و (الحرة): موضع بالمدينة، قاله الداودي، وقال ابن الأعرابي: الحرة: حجارة سود (بين جبلين، وجمعها حِرَة وحرات وحرار وإحرون، وقال ابن فارس: الحرة أرض ذات حجارة سود)
(2)
(3)
.
وقول أبي قلابة: (قتلوا وسرقوا وحاربوا الله ورسوله وسعوا في الأرض فسادًا). ليس هذِه سرقة إنما هذِه حرابة، وكان أبو قلابة من جلة أهل الشام، وكان أكثر التابعين كتبًا، لما توفي أوصى بكتبه لأيوب، فوصل إليه منها حمل بغل، وعاب مالك كثير كتبه، وقال له عمر بن عبد العزيز في مرض موته: تشدد يا أبا قلابة لا تشمت بنا المنافقين
(4)
. وكان هذا حكم المحاربين فنسخه قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ} الآية [المائدة: 33].
(1)
رواها مسلم برقم (1671/ 14) كتاب: القسامة، باب: حكم المحاربين والمرتدين.
(2)
من (ص 1).
(3)
"مجمل اللغة" 1/ 211.
(4)
رواه عبد الرزاق في "المصنف" 10/ 38.
153 - باب
3019 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ وَأَبِي سَلَمَةَ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «قَرَصَتْ نَمْلَةٌ نَبِيًّا مِنَ الأَنْبِيَاءِ، فَأَمَرَ بِقَرْيَةِ النَّمْلِ فَأُحْرِقَتْ، فَأَوْحَى الله إِلَيْهِ أَنْ قَرَصَتْكَ نَمْلَةٌ أَحْرَقْتَ أُمَّةً مِنَ الأُمَمِ تُسَبِّحُ؟!» . [3319 - مسلم: 2241 - فتح 6/ 154]
ذكر فيه حديث أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "قَرَصَتْ نَمْلَةٌ نَبيًّا مِنَ الأنبِيَاءِ، فَأَمَرَ بِقَرْيَةِ النَّمْلِ فَأُحْرِق، فَأَوْحَى اللهُ إِلَيْهِ أَنْ قَرَصَتْكَ نَمْلَةٌ أَحرَقْتَ أُمَّةً مِنَ الأُمَمِ تُسَبِّحُ؟! ".
هذا الحديث سبق أيضًا والكلام عليه، وهو في معنى ما ترجم له أولاً، فلهذا لم يصرح فيه بترجمة، وهو دال على جواز التحريق؛ لأن الله تعالى إنما عاتبه على تحريق جماعة النمل التي لم تقرصه، ولم يعلم أن ذَلِكَ من فعله حرام. ولا أنه أتى كبيرة فيلزمه التوبة منها لقيام العصمة بهم، وقد سلف من أجاز التحريق بالنار قريبًا.
قَالَ الداودي: وفيه: جواز الصغائر عليهم، وقيل: لا يلزم لإمكان أن يكون لم يتقدم في ذَلِكَ نهي، وفيه أنه يعتريهم الغضب.
وفيه: كراهة إحراق الحيوان، وليس مخالفا لما أسلفته من عدم التحريم، وفيه تسبيح النمل، وفي رواية:"هلَّا نملة واحدة"
(1)
. قَالَ ابن التين: وهو دليل لمن قَالَ: لا يحرق النحل. وأجازه ابن حبيب
(2)
، فأما إن أدت ضرورة إلى ذَلِكَ فجائز أن يفرق أو يحرق ليكتفي أذاها أو يتناول ما في أجناح النحل.
(1)
سيأتي برقم (3319) كتاب: بدء الخلق، باب: خمس من الدواب فواسق.
(2)
"المنتقى" 3/ 170.
154 - باب حَرْقِ الدُّورِ وَالنَّخِيلِ
3020 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنِي قَيْسُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: قَالَ لِي جَرِيرٌ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَلَا تُرِيحُنِي مِنْ ذِي الخَلَصَةِ؟» . وَكَانَ بَيْتًا فِي خَثْعَمَ يُسَمَّى كَعْبَةَ اليَمَانِيَةَ قَالَ: فَانْطَلَقْتُ فِي خَمْسِينَ وَمِائَةِ فَارِسٍ مِنْ أَحْمَسَ، وَكَانُوا أَصْحَابَ خَيْلٍ قَالَ: وَكُنْتُ لَا أَثْبُتُ عَلَى الخَيْلِ، فَضَرَبَ فِي صَدْرِي حَتَّى رَأَيْتُ أَثَرَ أَصَابِعِهِ فِي صَدْرِي وَقَالَ «اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ وَاجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا» . فَانْطَلَقَ إِلَيْهَا فَكَسَرَهَا وَحَرَّقَهَا، ثُمَّ بَعَثَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُخْبِرُهُ فَقَالَ رَسُولُ جَرِيرٍ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، مَا جِئْتُكَ حَتَّى تَرَكْتُهَا كَأَنَّهَا جَمَلٌ أَجْوَفُ أَوْ: أَجْرَبُ. قَالَ: فَبَارَكَ فِي خَيْلِ أَحْمَسَ وَرِجَالِهَا خَمْسَ مَرَّاتٍ. [3036، 3076، 3823، 4355، 4356، 4357، 6090، 6333 - مسلم: 2475، 2476 - فتح 6/ 154]
3021 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ حَرَّقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ. [انظر: 2326 -
مسلم: 1746 - فتح 6/ 154]
ذكر فيه حديث جرير: قَالَ: لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَلَا تُرِيحُنِي مِنْ ذِي الخَلَصَةِ؟ .. ". الحديث إلى أن قال: فَكَسَرَهَا وَحَرَّقَهَا.
وحديث ابن عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: حَرَّقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ. الكلام عليهما؛ أما حديث جرير فمن وجوه:
أحدها:
الترجمة أعم إذ المحرق بيت الصنم لا بيت السكنى، وترجم عليه البخاري فيما سيأتي باب من لا يثبت على الخيل
(1)
؛ لأجل قوله فيه: "اللَهُمَّ ثبته واجعله هاديًا مهديا" ووجه دخولها في الأحكام أن
(1)
سيأتي برقم (3036).
الحديث يدل على فضيلة ركوب الخيل والثبوت عليها.
و ("هاديًا مهديا") من باب التقديم والتأخير؛ لأنه لا يكون هاديًا لغيره إلا بعد أن يهتدي هو فيكون مهديا، وببركة دعائه صلى الله عليه وسلم ما سقط بعد ذَلِكَ عن فرس.
ثانيها:
معنى: "ألا تريحني" تريح سري، و (ذو الخلصة): اسم لذلك البيت لقوله: (وكان بيتًا في خثعم) يسمى: كعبة اليمانية. وقيده أبو الوليد الوقشي بفتح الخاء وإسكان اللام، والذي نحفظه بفتحهما، وهو ما ضبطه الدمياطي بخطه في الأصل، وستأتي زيادة على ذَلِكَ في أثناء الباب، وهو بيت باليمن ببلاد دوس بنته خثعم لتحج إليه وتطوف عنده وتنحر، وقيل: الخلصة: اسم للبنية. وقيل: اسم للصنم وعمل موضعه لما أخرب مسجد، ويسمى مسجد العبلا.
وقوله: (كعبة اليمانية) من إضافة الموصوف إلى صفته، جوزه الكوفيون، وقدر فيه البصريون حذفًا أي: كعبة الجهة اليمانية؛ لأنها باليمن، ضاهوا بها الكعبة، وفي رواية: الكعبة اليمانية، والكعبة الشامية. وفي بعض النسخ بحذف الواو بينهما، أي: يقالان لموضعين فاليمانية لخثعم والشامية الكعبة الحرام المشرفة.
وخثعم قبيل من قحطان، وهو أقتل، وقيل: أقبل بقاف ثم باء موحدة ابن أنمار بن إراش بن عمرو بن الغوث بن نبت.
ورسول جرير اسمه: حصين بن ربيعة أبو أرطأة، كذا جاء مصرحًا به في بعض الروايات
(1)
، وروي: حسين، والصواب الأول كما قاله
(1)
مسلم (2476) في "فضائل الصحابة" باب من فضائل جرير بن عبد الله ..
عياض
(1)
.
و (أحمس) -بالحاء المهملة- قبيل من العرب، وهو ابن الغوث بن أنمار بن إراش بن عمرو بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان.
وأرسل جرير يهدمها ليكون إنكاء لمن كان يعبدها؛ لأن هذا القريب ممن اتخذها أولاً، ولي هدمها؛ لما وضح له وثبت في قلبه من سفه من اتخذها، وفي "صحيح مسلم" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا:"لا تقوم الساعة حَتَّى تضطرب أليات نساء دوس حول ذي الخلصة" وكانت صنمًا تعبدها دوس في الجاهلية
(2)
. قَال ابن دحية: قيل: هو بيت أصنام كان لدوس وخثعم وبجيلة ومن كان ببلادهم. وقيل: هو صنم كان لعمرو بن لحي نصبه بأسفل مكة حين نصب الأصنام، فكانوا يلبسونه القلائد ويعلقون عليه بيض النعام ويذبحون عنده. وعند أبي حنيفة: الخلصة: نبت طيب الريح يتعلق بالشجر له حب.
وجمع الخلصة: خلص. قَالَ السهيلي: وهو بضم الخاء واللام، وفتحهما ابن إسحاق قَالَ: وبعث جرير كان قبل وفاته صلى الله عليه وسلم بشهرين
(3)
، وفي "الزاهر" كان المبرد يرويه بضم الخاء، والمعروف فتح اللام. قَال ابن السيد في كتاب "الفَرْق": وسكنه امرؤ القيس في قوله:
لو كنت يا ذا الخلْصة الموتورا
(1)
"إكمال المعلم" 7/ 514.
(2)
مسلم (2906) كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: لا تقوم الساعة حتى تعبد دوس ذا الخلصة.
(3)
"الروض الأنف" 1/ 109.
للضرورة، وأنشده ابن إسحاق وغيره: الخلص بغير هاء.
وضرب الشارع صدره لأن فيه القلب.
و (كسرها) أي: هدمها. وفيه:- توجيه من يريح من النوازل، وجواز هتك ما افتتن الناس به من بناء أو إنسان أو حيوان أو غيره، وقبول خبر الواحد.
وقوله: (تركتها كأنها جمل أجوف أو أجرب). هو عبارة عن خرابها وهدمها. وقال الداودي: معنى (أجوف): أنها أحرقت، فسقط السقف وبعض البناء وما كان فيها من كسوة، وبقيت خاوية على عروشها.
ومعنى (أجرب): شبهها حين ذهب سقفها وكسوتها وأعالي جدرانها بالجمل الذي زال شعره و (نفض)
(1)
جلده من الجرب وصار إلى الهزال.
وفيه: الدعاء للجيش إذا بعث وكونه وترًا؛ لقوله: (فبارك في خيل أحمس ورجالها خمس مرات).
وفيه: بركة دعوته صلى الله عليه وسلم
وفيه: البشارة في الفتوح.
وأما حديث ابن عمر فهو دال على أن للمسلمين أن يكيدوا عدوهم من المشركين بكل ما فيه من تضعيف شوكتهم، وتهوين كيدهم وتسهيل الوصول إلى الظفر بهم، من قطع ثمارهم، (وتغوير)
(2)
مياههم، والحول بينهم وبين ما يتغذون به من الأطعمة والأشربة، والتضييق عليهم بالحصار، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما أمر بتحريق نخل بني النضير كان معلومًا
(1)
كذا بالأصل.
(2)
ضبطها الناسخ بالعين المعجمة والمهملة وعلم فوقها (معًا).
أن كل ما كان نظير ذَلِكَ من قطع أسباب معاشهم وتغوير مياههم فجائز فعله بهم، وقد روي عن علي رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم أمره أن (يغور)
(1)
مياه بدر، قاله الطبري.
وفيه: الدلالة الواضحة على إباحة إضرام النيران في حصونهم ونصب (الماجنيق)
(2)
عليهم ورميهم بالحجارة، وذلك في الضرر كالنار ونحوه.
وقد اختلف العلماء في قطع شجر المشركين وتخريب ديارهم فرخصت في ذَلِكَ طائفة، وكرهته أخرى، فممن أجازه مالك
(3)
والكوفيون والشافعي وأحمد وإسحاق والثوري
(4)
وابن القاسم
(5)
، قَال الكوفيون: يحرق شجرهم وتخرب (بلادهم)
(6)
وتذبح الأنعام وتحرق إذا لم يمكن إخراجها. وقال مالك: يحرق النخل ولا تعرقب المواشي. وقال الشافعي: يحرق الشجر المثمر والبيوت، وأكره تحريق الزرع والكلأ.
وأما من كره ذَلِكَ فروى الزهري عن سعيد بن المسيب أن الصديق قَال في وصية الجيش الذي وجهه إلى الشام: لا تغرقن نخلًا ولا تحرقنها ولا تعقروا بهيمة ولا شجرة مثمرة ولا تهدموا بيعة
(7)
. وقال الليث: أكره حرق النخل والشجر المثمر ولا تعرقب بهيمة، ونحوه قول الأوزاعي في
(1)
ضبطها الناسخ بعين مهملة ومعجمة وكتب فوقها (معًا).
(2)
"النوادر والزيادات" 3/ 63.
(3)
"المغني" 10/ 147.
(4)
"النوادر والزيادات" 3/ 63.
(5)
في (ص 1): ديارهم.
(6)
رواه البيهقي في "السنن" 9/ 85.
(7)
في الأصلا: (المناجيق)، والمثبت هو الصحيح كما في كتب اللغة. وانظر:"لسان العرب"[مجنق] 7/ 4142.
رواية، وبه قَالَ الليث وأبو ثور
(1)
.
وحجة من أجاز تحريقها الكتاب والسنة، قَالَ تعالى:{مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ} [الحشر: 5] الآية. قَالَ ابن عباس: اللينة: النخلة والشجرة
(2)
، ولأبي داود أنه صلى الله عليه وسلم عهد إلى أسامة: أن اغز على أهل أُبْنى صباحًا وحرق
(3)
. وقال ابن إسحاق: التحريق سنة إذا كان إنكاء للعدو. وحديث جرير وابن عمر شهد لصحة هذا القول، وأجيب عن أثر الصديق:
أولاً: بإرساله كما قَالَ الطحاوي؛ لأن سعيد بن المسيب لم يولد في أيام الصديق.
وثانيًا: أنه إنما نهى (لأجل)
(4)
أنه صلى الله عليه وسلم أخبر بفتحها، وكان المسلمون أشرفوا على الغلبة ولم يبق فيهم كبير منعة.
وثالثًا: للطبري: أن النهي عند القصد والتعمد، فأما إذا أصابه التحريق والغرق في خلال الإغارة فلا يدخل في النهي كما في قتل النساء والصبيان، فإنه قد نصب المنجنيق على الطائف، ولا شك أن حجارته إذا وقعت في الحصين ربما أصابت المرأة والطفل، فلو كان سبيل ما أصابه ذَلِكَ سبيل ما أصاب الرامي بيده متعمدًا، كان صلى الله عليه وسلم لا ينصبه خشية أن تصيب حجارته مَن نهى عن قتله، فلما فعل ذَلِكَ وأباحه لأمته كان مخالفًا سبيل القصد والعمد في ذلك.
واختلفوا إذا غنم المسلمون مواشي الكفار ودوابهم وخافوا من كثرة
(1)
"المغني" 10/ 147.
(2)
رواه الطبري في "تفسيره" 12/ 32.
(3)
أبو داود (2616).
(4)
في (ص 1): عن.
عددهم وأخذها، فقال مالك
(1)
وأبو حنيفة
(2)
: تعرقب وتعقر حَتَّى لا ينتفعوا بها. وقال الشافعي
(3)
: لا يحل قتلها ولا عقرها ولكن تخلى. واحتج ابن القصار في ذَلِكَ فقال: لا خلاف بيننا أن المشرك لو كان راكبًا لجاز لنا أن نعرقب ما تحته ونقتله لنتوصل بذلك إلى قتله، فكذلك إذا لم يكن راكبًا، وكذلك فعل ما فيه توهينهم وضعفهم بمنزلة واحدة ألا ترى أن قطع شجرهم وإتلاف زروعهم يجوز؛ لأن في ذَلِكَ ضعفهم وتلفهم، فكذلك خيلهم ومواشيهم، وقد مدح الله تعالى من فعل ذَلِكَ فقال:{وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} [التوبة: 120] فهو عام في جميع ما ينالونه، ولما كانت نفوسهم وأموالهم سواء في استحلالنا إياهم ثم جاز قتلهم إذا لم يتمكن من أسرهم، كذلك يجوز إتلاف أموالهم التي يتقوون بها.
والحاصل أن ما كان فيه وهنًا لهم جاز لنا فعله، وإن كنا نرجو الظفر بها بعد طول؛ لما فيه من إبطاء الظفر بهم، وقد انقطع الحرب عن بني النضير وجلوا بغير قتال، فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سوى الرباع من أموالهم، وبقيت الرباع خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي التي ولي العباس وعلي، دفعها إليهما عمر.
(1)
"النوادروالزيادات" 3/ 64.
(2)
"مختصرالطحاوي" ص 283.
(3)
"روضة الطالبين" 10/ 258.
155 - باب قَتْلِ النَّائِمِ المُشْرِكِ
3022 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّاءَ بْنِ أَبِي زَائِدَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنهما قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَهْطًا مِنَ الأَنْصَارِ إِلَى أَبِي رَافِعٍ لِيَقْتُلُوهُ، فَانْطَلَقَ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَدَخَلَ حِصْنَهُمْ قَالَ: فَدَخَلْتُ فِي مَرْبِطِ دَوَابَّ لَهُمْ، قَالَ: وَأَغْلَقُوا بَابَ الحِصْنِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ فَقَدُوا حِمَارًا لَهُمْ، فَخَرَجُوا يَطْلُبُونَهُ، فَخَرَجْتُ فِيمَنْ خَرَجَ أُرِيهِمْ أَنَّنِي أَطْلُبُهُ مَعَهُمْ، فَوَجَدُوا الحِمَارَ، فَدَخَلُوا وَدَخَلْتُ، وَأَغْلَقُوا بَابَ الحِصْنِ لَيْلاً، فَوَضَعُوا المَفَاتِيحَ فِي كَوَّةٍ حَيْثُ أَرَاهَا، فَلَمَّا نَامُوا أَخَذْتُ الْمَفَاتِيحَ، فَفَتَحْتُ بَابَ الحِصْنِ ثُمَّ دَخَلْتُ عَلَيْهِ فَقُلْتُ: يَا أَبَا رَافِعٍ. فَأَجَابَنِي، فَتَعَمَّدْتُ الصَّوْتَ، فَضَرَبْتُهُ فَصَاحَ، فَخَرَجْتُ ثُمَّ جِئْتُ، ثُمَّ رَجَعْتُ كَأَنِّي مُغِيثٌ فَقُلْتُ يَا أَبَا رَافِعٍ، وَغَيَّرْتُ صَوْتِي، فَقَالَ: مَا لَكَ؟ لأُمِّكَ الوَيْلُ قُلْتُ: مَا شَأْنُكَ قَالَ: لَا أَدْرِي مَنْ دَخَلَ عَلَيَّ فَضَرَبَنِي. قَالَ: فَوَضَعْتُ سَيْفِي فِي بَطْنِهِ، ثُمَّ تَحَامَلْتُ عَلَيْهِ حَتَّى قَرَعَ العَظْمَ، ثُمَّ خَرَجْتُ وَأَنَا دَهِشٌ، فَأَتَيْتُ سُلَّمًا لَهُمْ لأَنْزِلَ مِنْهُ فَوَقَعْتُ فَوُثِئَتْ رِجْلِي، فَخَرَجْتُ إِلَى أَصْحَابِي فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِبَارِحٍ حَتَّى أَسْمَعَ النَّاعِيَةَ، فَمَا بَرِحْتُ حَتَّى سَمِعْتُ نَعَايَا أَبِي رَافِعٍ تَاجِرِ أَهْلِ الحِجَازِ. قَالَ: فَقُمْتُ وَمَا بِي قَلَبَةٌ حَتَّى أَتَيْنَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْنَاهُ. [3023، 4038، 4039، 4040 - فتح 6/ 155]
3023 -
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنهما قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَهْطًا مِنَ الأَنْصَارِ إِلَى أَبِي رَافِعٍ فَدَخَلَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَتِيكٍ بَيْتَهُ لَيْلاً، فَقَتَلَهُ وَهْوَ نَائِمٌ. [انظر: 3022 - فتح 6/ 155].
ذكر فيه حديث البراء في قصة قتل أبي رافع بطوله، ويأتي في المغازي
(1)
.
(1)
سيأتي برقم (4039) باب: قتل أبي رافع.
ثم ساق عن البراء أيضًا أن عبد الله بن عتيك دخل عليه بيته فقتله.
وفي لفظ: كان ابن عتيك الأمير، وكان أبو رافع في حصنه بالحجاز
(1)
.
وفي لفظ: بعث ابن عتيك وعبد الله بن عتبة في ناس معهم
(2)
. وهو من أفراد البخاري.
قالَ البخاري لما ذكره في المغازي يعني: بني النضير وقبل أحد. اسم أبي رافع: عبد الله -ويقال: سلام- بن أبي الحقيق كان بخيبر، ويقال: بحصن له في أرض الحجاز. قَالَ الزهري: هو بعد كعب بن الأشرف يعني: بعد قتله. وفي "طبقات ابن سعد": كانت في رمضان سنة ست من الهجرة
(3)
. وقيل: في ذي الحجة سنة خمس. وفي "الإكليل": كان بعد بدر وقبل غزوة السويق. وقال النيسابوري: كانت قبل دومة الجندل. وقال ابن حبان: بعد بدر الموعد في آخر سنة أربع.
وقال أبو معشر: بعد غزوة ذات الرقاع وقبل سرية عبد الله بن رواحة، وكان أبو رافع قد أجلب في غطفان ومن حوله من مشركي العرب وجعل لهم الجعل لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عتيك وعبد الله بن أنيس وأبا قتادة والأسود بن خزاعي ومسعود بن سنان وأمرهم بقتله، فذهبوا إلى خيبر فكمنوا، فلما هدأت الرجل جاءوا إلى منزله فصعدوا درجة له، وقدموا عبد الله بن عتيك؛ لأنه كان يرطن باليهودية واستفتح وقال: جئت أبا رافع بهدية. ففتحت له امرأته، فلما رأت السلاح أرادت أن تصيح فأشاروا إليها بالسيف فسكتت، فدخلوا
(1)
السابق.
(2)
سيأتي برقم (4040).
(3)
"طبقات ابن سعد" 2/ 91.
عليه فما عرفوه إلا ببياضه كأنه قُبطية
(1)
، فعلوه بأسيافهم. قَالَ ابن أنيس: وكنت رجلاً أعشى لا أبصر فأتكئ بسيفي على بطنه حَتَّى سمعت حسه في الفراش وعرفت أنه قضى، وجعل القوم يضربونه جميعًا ثم نزلوا، وصاحت امرأته فتصايح أهل الدار، وأختبأ القوم في بعض مياه خيبر، وخرج الحارث أبو زينب في ثلاثة آلاف في آثارهم يطلبونهم بالنيران فلم يجدوهم فرجعوا، ومكث القوم في مكانهم يومين حَتَّى سكن الطلب ثم خرجوا إلى المدينة، وكلهم يدعي قتله، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم أسيافهم فنظر إليها فإذا أثر (الطعام)
(2)
في ذباب سيف ابن أنيس، فقال:"هذا قتله".
وفي "سير ابن إسحاق": لما انقضى أمر الخندق وأمر بني قريظة، وكان أبو رافع ممن حزب الأحزاب على رسول الله استأذنت الخزرج في قتل سلام بن أبي الحقيق فأذن لهم، فخرجوا وفيهم فلان بن سلمة
(3)
.
وفي "دلائل البيهقي": قتله ابن عتيك، وذفف عليه عبد الله بن أنيس
(4)
.
وفي "الإكليل" حين ذكرهما إثر بدر الكبرى من جمادى الآخرة سنة ثلاث عن ابن أنيس قَالَ: ظهرت أنا وابن عتيك وقعد أصحابنا في الحائط، فاستأذن ابن عتيك. فقالت امرأة ابن أبي الحقيق: إن هذا لصوت ابن عتيك. فقال ابن أبي الحقيق: ثكلتك أمك، ابن عتيك
(1)
بضم القاف على غير قياس، ثياب تنسب إلى القِبط بكسر القاف. انظر "القاموس المحيط " ص 681 مادة (قبط).
(2)
كذا بالأصل.
(3)
انظر: "سيرة ابن هشام" 3/ 313 - 314.
(4)
"دلائل النبوة" 4/ 34.
بيثرب أنى هو عندك هذِه الساعة، فافتحي فإن الكريم لا يرد عن بابه هذِه الساعة أحدًا. ففتحت، فدخلت أنا وابن عتيك، فقال لابن عتيك: دونك، فشهرت عليها السيف، فأخذ ابن أبي الحقيق وسادة فاتقاني بها، فجعلت أريد أن (أضربه)
(1)
فلا أستطيع فوخزته بالسيف وخزًا ثم خرجت إلى ابن أنيس فقال: أقتلته؟ قلتُ: نعم.
أخرجه من حديث إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع، عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن أُبي بن كعب، عن أبيه، عن أمه بنت عبد الله بن أنيس عن أبيها.
وعند ابن عقبة: وكان معهم أيضًا أسعد بن حرام حليف بني سوادة.
قَالَ السهيلي: ولا نعرف أحدًا ذكره غيره
(2)
، قلتُ: ذكره الحاكم أيضًا في "إكليله" عن الزهري، وعند الكلبي: عبد الله بن أنيس هو ابن أسعد بن حرام. وعند الواقدي: كانت أم ابن عتيك التي أرضعته يهودية بخيبر، فأرسل إليها يعلمها بمكانه، فخرجت إلينا بجراب مملوء تمرًا كبيسًا وخبزًا، ثم قَالَ لها: يا أماه أما لو أمسينا لبتنَا عندك، فأدخلينا خيبر. فقالت: وكيف تطيق خيبر وفيها أربعة آلاف مقاتل؟ ومن تريد فيها؟ قَالَ: أبا رافع. قالت: لا تقدر عليه
(3)
؛ وفيه: قالت: فادخلوا عليَّ ليلاً. فدخلوا عليها ليلاً لما نام أهل خيبر في خمر الناس، وأعلمتهم أن أهل خيبر لا يغلقون عليهم أبوابهم فرقًا أن يطرقهم ضيف، فلما هدأت الرجل قَالَ: انطلقوا حَتَّى تستفتحوا على أبي رافع، فقولوا: إنا جئنا له بهدية، فإنهم سيفتحون لكم، فلما
(1)
في (ص): الحدث.
(2)
"الروض الأنف" 3/ 303.
(3)
"المغازي" ص 392.
انتهوا عليه فخرج سهم ابن أنيس.
وذكر البخاري سهم عبد الله بن عتبة؛ وفيه نظر، وأراد البخاري في الترجمة بالنائم: المضطجع. وإلا فلا مطابقة بينها وبين (الحديث)
(1)
، نبه عليه ابن المنير
(2)
، وقال الإسماعيلي: هذا قبل يقظان نبه من (قومه)
(3)
.
إذا تقرر ذَلِكَ؛ فالكلام عليه من وجوه:
أحدها:
فيه: كما قَالَ المهلب جواز الاغتيال على من أعان على رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد أو مال أو رأي، وكان أبو رافع يعادي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويؤلب الناس عليه كما مضى، وهذا من باب الحرب خدعة.
ثانيها:
فيه جواز التجسس على المشركين وطلب غرتهم.
ثالثها:
فيه الاغتيال بالحرب والإيهام بالقول.
رابعها:
فيه الأخذ بالشدة في الحرب والتعرض لعدد كثير من المشركين، والإلقاء إلى التهلكة باليد في سبيل الله، وأما الذي نهي عنه من ذَلِكَ فهو في الإنفاق في سبيل الله، ولئلا يخلي يده من المال فيموت جوعًا وضياعًا، وهي رحمة من الله ورخصه، ومن أخذ بالشدة فمباح له ذَلِكَ. وأحب إلينا ألا نأخذ بالشدة من المال لوقوع النهي فيه خاصة.
(1)
في (ص): الحدث.
(2)
"المتواري" ص 172.
(3)
كذا بالأصل.
خامسها:
فيه: الحكم بالدليل المعروف والعلامة المعروفة على الشيء لحكم هذا الرجل بالناعية -وفي نسخة: الواعية- على موت أبي رافع ويصوبه أيضًا قَالَ صاحب "العين": الواعية: الصارخة التي تندب القتيل، والوعي للصوت، والوعي: جلبة وأصوات الكلاب في الصيد إذا انجدت
(1)
. وقَالَ الداودي: الداعية: التي تدعو بالويل، وهي النائحة. وفي "الصحاح": الوغي مثل الوعي
(2)
.
وقوله: (فما برحت حَتَّى سمعت نعايا أبي رافع)، كذا الرواية وصوابه نعاي من غير ألف، كذا نقله النحاة أي: انع أبا رافع. جعل دلالة الأمر فيه وعلامة الجزم آخره بغير تنوين كما قالت العرب في نظير ذَلِكَ من أدركها: دراكها، ومن فطمت: فطام. وزعم سيبويه أنه يطرد هذا الباب في الأفعال الثلاثية كلها أن يقال فيها: فعال بمعنى افعل نحو حذَار ومناع ونزال، كما يقول: أنزل احذر وامنع
(3)
.
قَالَ الأصمعي: كانت العرب إذا مات فيها ميت له قدر ركب راكب فرسًا وجعل يسير في الناس ويقول: نعاء فلانًا أي: انعه وأظهر خبر وفاته
(4)
. قَالَ أبو نصر: وهي مبنية على الكسر. وقال الداودي: نعايا جمع ناعية، والأظهر أنه جمع: نعي، مثل: صفي صفايا.
قَالَ ابن فارس
(5)
: النعي خبر الموت، وكذلك الناعي يقال له:
(1)
"العين" 2/ 366. وفيه (وجدت).
(2)
" الصحاح" 6/ 2526.
(3)
قال سيبويه في "الكتاب" 3/ 270 - 274 بمعناه.
(4)
"إصلاح المنطق" ص 179، "الصحاح" 6/ 2512 مادة:(نعا).
(5)
"المجمل" 2/ 874.
نعي. وقول الخطابي: هو مثل دراك أي: أدركوا، فمعناه: انعوا أبا رافع
(1)
. إنما يصح لو قَالَ: نعا أبا رافع. قَالَ الأصمعي: وإنما هو يا نعاء العرب تأويلها انع العرب
(2)
.
سادسها:
قوله: (وما بي قلبة). قَالَ الفراء: أصله من القلاب وهو داء يصيب الإبل. وزاد الأصمعي: تموت من يومها به، فقيل ذَلِكَ لكل سالم ليس به علة. وقال ابن الأعرابي: معناه: ليست به علة يقلب لها فينظر إليه
(3)
، وأصل ذَلِكَ في الدواب.
وذكر المفضل بن سلمة في كتاب "الفاخر" أن الأصمعي قَالَ: ما به داء وهو من القلاب داء يأخذ الإبل في رءوسها فيقلبها إلى فوق. وقَالَ الفراء: ما به علة يخشى عليه منها، وهو من قولهم: قلب الرجل إذا أصابه وجع في قلبه، وليس يكاد يقلب منه. وقَالَ الطائي: ما به شيء يقلقله فيقلب منه على فراشه. وقَالَ النحاس في "زياداته على الفاخر": حكى عبد الله بن مسلم أن بعضهم يقول في هذا: أي ما به حول، ثم استُعير من هذا الأصل لكل سالم باسمه ليست به آفة. وقال يحيى بن الفضل: إذا وصفوا الرجل بالصحة قالوا: ما به قلبة، ولو كان كما قالوا لكان بالضعف والسقم أولى منه بالقوة، والصحيح قول الفراء.
سابعها:
قوله: (فوثئت رجلي)، هو بثاء مثلثة، ذكرها ثعلب في باب المهموز
(1)
"أعلام الحديث" 2/ 1430.
(2)
"الصحاح" 6/ 2512، مادة:(نعا).
(3)
انظر: "إصلاح المنطق" ص 318.
من الفعل؛ يقال: وثئت يده، فهي موثوءة، ووثأتها أنا.
وأما ابن فارس فقال: وقد يهمز
(1)
.
قَالَ الخطابي: والواو مضمومة على بناء الفعل لما لم يسم فاعله
(2)
.
قَالَ القزاز: وهو وصم يصيب العظم من غير أن يبلغ الكسر.
و (الرهط): تقدم ذكر الاختلاف فيه.
وبعثه صلى الله عليه وسلم إياهم لقتله دليل على أن من بلغته الدعوة لا تقدم له دعوة عند قتاله، وهذِه رواية العراقيين عن مالك، وفي "المدونة" عن مالك روايتان، قَالَ ابن القاسم: لا يبيتون حَتَّى يدعوا غزوناهم أو اقبلوا إلينا
(3)
.
وفيه: الاحتيال في قتل المشرك.
(1)
"المجمل" 2/ 916.
(2)
"أعلام الحديث" 2/ 1431.
(3)
"المدونة" 1/ 367.
156 - باب لَا تَمَنَّوْا لِقَاءَ العَدُوِّ
3024 -
حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ يُوسُفَ اليَرْبُوعِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الفَزَارِيُّ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي سَالِمٌ أَبُو النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ، كُنْتُ كَاتِبًا لَهُ قَالَ: كَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى حِينَ خَرَجَ إِلَى الحَرُورِيَّةِ فَقَرَأْتُهُ فَإِذَا فِيهِ إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ أَيَّامِهِ الَّتِي لَقِيَ فِيهَا الْعَدُوَّ انْتَظَرَ حَتَّى مَالَتِ الشَّمْسُ. [انظر: 2818 - مسلم: 1742 - فتح 6/ 156]
3025 -
ثُمَّ قَامَ فِي النَّاسِ فَقَالَ: "أَيُّهَا النَّاسُ، لَا تَمَنَّوْا لِقَاءَ العَدُوِّ، وَسَلُوا اللهَ العَافِيَةَ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ الجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ" ثُمَّ قَالَ: "اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ وَمُجْرِيَ السَّحَابِ وَهَازِمَ الأَحْزَابِ اهْزِمْهُمْ وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ". وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: حَدَّثَنِي سَالِمٌ أَبُو النَّضْرِ كُنْتُ كَاتِبًا لِعُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ فَأَتَاهُ كِتَابُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا تَمَنَّوْا لِقَاءَ العَدُوِّ» . [انظر: 2933،2818 - مسلم: 1742 - فتح 6/ 156]
3026 -
وَقَالَ أَبُو عَامِرٍ: حَدَّثَنَا مُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا تَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا» . [مسلم: 1741 - فتح 6/ 156]
ذكر فيه حديث ابن أَبِي أَوْفَى أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تَمَنَّوْا لِقَاءَ العَدُو". وقد سلف
(1)
.
ثم قال: وَقَالَ أَبُو عَامِرٍ: ثنا مُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَا تَمَنَّوْا لِقَاءَ العَدُوِّ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا". وقد سلف.
(1)
سلف برقم (2966) باب: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا لم يقاتل.
وهذا التعليق أخرجه مسلم عن الحسن الحلواني، وعبد بن حميد عن أبي عامر -يعني العقدي
(1)
- به، واسمه: عبد الملك بن عمرو بن قيس القيسي البصري العقدي، نسبة إلى العقَد، وهو مولى الحارث بن عباد -بضم العين- أخي جرير -بضم الجيم- بن عباد، وعباد أخو جحدر -واسمه: ربيعة- ابنا ضُبيعة بن قيس بن ثعلبة بن عُكابة، مات العقدي سنة أربع ومائتين.
وإنما نهى الشارع أمته عن ذَلِكَ؛ لأنه لا يعلم ما يئول أمره إليه، ولا كيف ينجو منه.
وفيه من الفقه: النهي عن تمني المكروهات والتصدي للمحذورات، ولذلك سأل السلف العافية من الفتن والمحن؛ لأن الناس مختلفون في الصبر على البلاء، ألا ترى الذي أحرقته الجراح في بعض المغازي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتل نفسه
(2)
؟ وقال الصديق: لأن أعافى فأشكر أحبُّ إليَّ من أن أبتلى فأصبر. روي عن علي رضي الله عنه أنه قَالَ لابنه: يا بني لا تدعون أحدًا إلى المبارزة ومن دعاك إليها فأخرج إليه لا باغ، والله تعالى قد تضمن نصر من بُغي عليه.
وأما أقوال العلماء في المبارزة، فذكر ابن المنذر أنه أجمع كل من نحفظ عنه العلم من العلماء على أن للمرء أن يبارز ويدعو إلى البراز بإذن الإمام، غير الحسن البصري فإنه كرهها ولا يعرفها
(3)
، هذا قول الثوري
(1)
رواه مسلم (1741) كتاب: الجهاد والسير، باب: كراهة تمني لقاء العدو، والأمر بالصبر عند اللقاء.
(2)
رواه البخاري برقم (2898) كتاب: الجهاد، باب: لا يقول: فلان شهيد، مسلم برقم (112) كتاب: الإيمان، باب: غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه ..
(3)
"الإجماع" ص 81.
والأوزاعي وأحمد وإسحاق
(1)
، وأباحته طائفة ولم تذكر إذن الإمام ولا غيره، وهو قول مالك
(2)
والشافعي
(3)
، فإن طلبها كافر استحب الخروج إليه، وإنما يحسن ممن جرب نفسه وبإذن الإمام. وسُئل مالك عن الرجل يقول بين الصفين: من يبارز؟ قَالَ: ذَلِكَ إلى (نيته)
(4)
، إن كان يريد بذلك وجه الله فأرجو ألا يكون به بأس، قد كان يفعل ذَلِكَ من مضى. وقال أنس بن مالك: قد بارز البراء بن مالك مَرْزُبان الزارة فقتله. وقال أبو قتادة: بارزت رجلاً يوم حنين فقتلته، فأعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم سلبه
(5)
. وليس في خبره أنه استأذن فيه.
واختلفوا في معونة المسلم المبارز على المشرك، فرخص في ذَلِكَ الشافعي
(6)
وأحمد وإسحاق
(7)
، وذكر الساجي قصة حمزة وعبيدة
(8)
ومعونة بعضهم بعضا. قَالَ: فأما إن دعا مسلم مشركًا أو مشرك مسلمًا إلى أن يبارزه وقال له: لا يقاتلك غيري أحببت أن يكف عن أن يحمل عليه غيره، وكان الأوزاعي يقول: لا يعينوه وعلى هذا قيل للأوزاعي: وإن لم يشترط ألا يخرج إليه غيره؟ قَالَ: وإن لا؛ لأن المبارزة إنما تكون على هذا. ولو حجزوا بينهما ثم خلوا سبيل العلج المبارز، فإن أعان العدو صاحبهم فلا بأس أن يعين المسلمون صاحبهم.
(1)
"المغني" 33/ 38 - 39.
(2)
"النوادر والزيادات" 3/ 54.
(3)
"الأم" 4/ 160.
(4)
في (ص 1): نفسه.
(5)
سلف برقم (3142) كتاب: فرض الخمس، باب: من لم يخمِّس الأسلاب، ورواه مسلم (1751) كتاب: الجهاد والسير، باب: استحقاق القاتل سلب القتيل.
(6)
"الأم" 4/ 160.
(7)
"المغني" 13/ 39.
(8)
في هامش الأصل: لعله سقط (وعلي).
157 - باب الحَرْبُ خَدْعَة
3027 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «هَلَكَ كِسْرَى ثُمَّ لَا يَكُونُ كِسْرَى بَعْدَهُ، وَقَيْصَرٌ لَيَهْلِكَنَّ ثُمَّ لَا يَكُونُ قَيْصَرٌ بَعْدَهُ، وَلَتُقْسَمَنَّ كُنُوزُهَا فِي سَبِيلِ اللهِ» . [3120، 3618، 6630 - مسلم: 2918 - فتح 6/ 157]
3028 -
وَسَمَّى الحَرْبَ خَدْعَةً. [3029 - مسلم: 1740 - فتح 6/ 157]
3029 -
حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَصْرَمَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الحَرْبَ خَدْعَةً. [انظر: 3028 - مسلم: 1740 - فتحَ 6/ 158]
3030 -
حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الفَضْلِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو، سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «الحَرْبُ خَدْعَةٌ» . [مسلم: 1739 - فتح 6/ 158]
ذكر فيه حديث أبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "هَلَكَ كِسْرى ثُمَّ لَا يَكُونُ كِسْرى بَعْدَهُ، وَقَيْصَرٌ لَيَهْلِكَنَّ ثُمَّ لَا يَكُونُ قَيْصَرٌ بَعْدَهُ، (ولتنفقن)
(1)
كُنُوزُهَا فِي سَبِيلِ اللهِ". وَسَمَّى الحَرْبَ خَدْعَةً.
وعنه: سَمَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الحَرْبَ خَدْعَةً.
وعن جَابِرَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "الْحَرْبُ خَدْعَةٌ".
الشرح:
أخرج هذِه الأحاديث مسلم أيضًا. وشيخ البخاري في الثاني أبو بكر: بُور بن أصرم مروزي، من أفراده
(2)
، مات بعد العشرين ومائتين.
(1)
كذا في الأصل، وفي اليونينية 4/ 64:(ولتُقْسَمَنَّ) ليس عليها تعليق.
(2)
ورد بهامش الأصل: عن الستة، أخرج له فرد حديث، قال البخاري: توفي سنة ثلاث وعشرين ومائتين.
وفي الباب عن علي وابن عباس وعائشة وأسماء بنت يزيد وكعب بن مالك، وأخرجه الحاكم في "تاريخه" من حديث زيد بن ثابت؛ وابن أبي عاصم من حديث حميد بن عبد الرحمن، عن أبيه، وحديث أنس في قصة الحجاج بن علاط سلف.
وأما (خدعة) ففيها أربع لغات: لغة سيدنا رسول صلى الله عليه وسلم فتح الخاء وإسكان الدال كما ستعلمه، وخُدْعة بضم الخاء مع إسكان الدال، وخَدَعة بفتحهما، وخُدَعة بضم الخاء وفتح الدال، والأصيلي ضبطه بالثاني، ويونس بالرابع، والثالث ضبطه القاضي
(1)
، وفي باب المفتوح أوله من الأسماء من "فصيح ثعلب":(والحرب خدعة) هذِه أفصح اللغات ذكر لي أنها لغة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحكى الأزهري الأخيرة عن الكسائي وأبي زبد، قَالَ: وهي أجود اللغات الثلاث
(2)
.
والخدعة: المرة الواحدة من الخداع، ومعناه: أن من خدع فيها مرة واحدة عطب وهلك ولا عودة له. وقال ابن سيده في "عويصه": من قَالَ خدعة أراد: يخدع أهلها.
وفي "الواعي": أي: يمنيهم بالظفر والغلبة ثم لا يفي لهم. ومن قَالَ: خُدَعة. أراد: هي تخدع. كما يقال رجل لُعَنة: يلعن كثيرًا. وإذا خدع أحد الفريقين صاحبه في الحرب فكأنها خدعت هي.
وقال قاسم بن ثابت في "دلائله": كثر استعمالهم لهذِه الكلمة حَتَّى سموا الحرب خدعة. وحكى مكي ومحمد بن عبد الواحد لغة خامسة: خِدْعة بكسر الخاء وسكون الدال، وحكاها ابن قتيبة عن يونس
(3)
.
(1)
"مشارق الأنوار" 1/ 231.
(2)
"تهذيب اللغة" 1/ 993 - 994.
(3)
"أدب الكتاب" ص 462.
قَالَ المطرز: والأفصح الفتح؛ لأنها لغة قريش. واعترضه ابن درستويه فقال: ليست بلغة قوم دون قوم، وإنما هي كلام الجميع؛ لأن بها المرة الواحدة من الخداع، فلذلك فتحت.
وقال ابن طلحة: أراد: ثعلب أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يختار هذِه البنية ويستعملها كثيرًا؛ لأنها بلفظها الوجيز تعطي معنى البنيتين الأخريين ويعطى أيضًا معناها: استعمل الحيلة في الحرب ما أمكنك فإذا أعيتك الحيل فقاتل. فكانت هذِه اللغة على ما ذكرنا مختصرة اللفظ كثيرة المعنى، فلذلك كان صلى الله عليه وسلم يختارها.
قَالَ اللحياني: خدعت الرجل أخدعه خَدْعًا وخِدْعا وخيدعَة وخَدَعة إذا أظهرت له خلاف ما تخفي، وأصله كل شيء كتمته فقد خدعته، ورجل خداع وخدوع وخدع وخُدَعة إذا كان خبأ. وفي "المحكم": الخدع والخديعة المصدر، والخدع والخداع الاسم، ورجل خيدع كثير الخداع
(1)
.
وقال ابن بطال: في الحرب خدعة لغات: قَالَ سلمة بن عاصم تلميذ الفراء: من قَالَ: الحرب خُدَعة فمعناه: أنها تخدع أهلها وتمنيهم الظفر، ومن قَالَ: خدعة: فهي تخدع، وإذا خدعَ أحد الفريقين صاحبه فكأنها خدعت هي، ومن قَالَ: خدعة: وصف المفعول بالمصدر كما تقول: درهم ضرب الأمير، وإنما هو مضروبه. وقال بعض أهل اللغة: معنى الخدعة: المرة الواحدة؛ أي: من خدع فيها مرة لم يقل العشرة بعدها، ثم ذكر ما سلف عن ثعلب.
وأما ابن التين فقال: فيها ثلاث لغات، فذكر الأولى والثانية
(1)
"المحكم" 1/ 70.
والرابعة، قَالَ: ومعنى الأولى أنها ينقضي أمرها بخدعة واحدة، ومعناها: أنها لا تقال من خدع، وفيها معنى الثانية، أنها بها يخدع الرجال، كما قيل: لُعبة لما يلعب به، ومعنى الثالثة: أنها تمني الرجال الظفر ولا تفي لهم به، كما قيل: ضحكة إذا كان يضحك بالناس.
قَالَ الداودي: ومنه أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد غزوة ورى بغيرها. وذكر بعض أهل السير أنه صلى الله عليه وسلم قَالَ: "هذا يوم الأحزاب" لما بعث نعيم بن مسعود أن يخذل بين قريش وغطفان ويهود، ومعناه: أن المماكرة في الحرب أنفع من المكاثرة والإقدام على غير علم. ومنه قيل: نفاذ الرأي في الحرب أنفع من الطعن والضرب.
قَالَ المهلب: والخداع في الحرب جائز كيف يمكن ذَلِكَ، إلا بالأيمان والعهود والتصريح بالأيمان فلا يحل شيء من ذلك. قَالَ الطبري: وإنما يجوز من الكذب في الحروب ما يجوز من غيرها من التعريض مما ينحى به نحو الصدق مما يحتمل المعنى الذي فيه الخديعة للعدو والإلغاز، لا القصد إلى الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو عليه. قَالَ المهلب: مثل أن يقول المبارز: له: حزام سرجك قد انحل؛ ليشغله عن الاحتراس منه، فيجد (فرصة)
(1)
في ضربه، وهو يريد أن حزام سرجه قوإنحل فيما مضى من الزمان. أو غيره بخبر يقطعه من موت أميره. وهو يريد موت المنام أو الدين، ولا يكون قصد الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو عليه البتة؛ لأن ذَلِكَ حرام، ومن ذَلِكَ ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا أراد غزوة ورى بغيرها
(2)
كما سلف.
(1)
في الأصل: (فرسه) غير منقوطة، ولعل المثبت هو الصواب.
(2)
نقله ابن بطال في "شرحه" 5/ 187 - 188.
قَالَ ابن العربي: الخديعة في الحرب تكون بالتورية وتكون بالكمين وتكون بخلف الوعد، وذلك من المستثنى الجائز المخصوص من المحرم، والكذب حرام بالإجماع، جائز في مواطن بالإجماع، أصلها الحرب أذن الله فيه وفي أمثاله رفقًا بالعباد لضعفهم، وليس للعقل في تحليله ولا تحريمه أمر إنما هو إلى الشرع، ولو كان تحريم الكذب كما يقوله المبتدعون عقلا ويكون التحريم صفة نفسية كما يزعمون ما انقلب حلالًا أبدًا، والمسألة ليست معقولة فتستحق جوابًا وخفي هذا على علمائنا
(1)
.
قلتُ: والظاهر كما قَالَ النووي إباحة حقيقة الكذب، نعم الاقتصار على التعريض أفضل
(2)
.
وأما قوله: ("هلك كسرى .. ") إلى آخره فهو عام فيه وخاص في قيصر، ومعناه: فلا قيصر بعده بأرض الشام، وقد دعا صلى الله عليه وسلم لقيصر لما قرأ كتابه أن يثبت الله ملكه، فلم يذهب ملك الروم أصلاً إلا من الجهة التي خلا منها، وأما كسرى فمزق كتابه فدعا عليه أن يمزق ملكه كل ممزق، فانقطع إلى اليوم.
وفيه: من علامات النبوة إخباره أن كنوزه مما ستنفق في سبيل الله، فكان كذلك.
وقال ابن التين: قوله: "ثم لا يكون كسرى بعده" قيل: معناه لا يملك مسلم ملكه. وقيل: فلا قيصر بعده يكون بالشام كما قدمناه، وهو ما جزم به ابن بطال أيضًا
(3)
، وقد سلف أيضًا تأويل ذَلِكَ في
(1)
"عارضة الأحوذي" 7/ 171 - 172.
(2)
"شرح مسلم" 12/ 45.
(3)
"شرح ابن بطال" 5/ 187.
أول "الصحيح" في الحديث السادس منه فراجعه. قَالَ الخطابي: فأما كسرى فقطع الله دابره وأنفقت كنوزه في سبيل الله، وأما قيصر ملك الروم فكانت الشام تجبى له بها فكان بها منتداه ومرتعه، وبها بيت المقدس الذي لا يتم للنصارى نسك إلا فيه، ولا يملك على الروم أحد إلا أن يكون من دخله سرًّا أو جهرًا، وقد أجلي عنها واستفتحت خزائنه ولم يخلفه أحد من القياسرة بعده إلى أن ينجز الله تمام وعده في فتح القسطنطينية آخر الزمان، فقد وردت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، وسينجز الله وعده
(1)
، وقال القرطبي: ورد هلك كسرى بلفظ الماضي المحقق بعد، ووقع في الترمذي بإسناد مسلم:"إذا هلك"
(2)
وبينهما بنون عظيم، فالأول يقتضي أن كسرى قد كان وقع موته فأخبر عنه.
وعلى هذا نزل حديث أبي بكرة من عند البخاري لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهل فارس قد ملّكوا عليهم امرأة قَالَ: "لن يفلح قوم ولَّوا أمرهم امرأة"
(3)
يعني: أنه لما مات كسرى وقع ذَلِكَ، ولهذا لا يصح أن يقال مكان قد مات إذا مات، ولا إذا هلك؛ لأن (إذا) للمستقبل و (مات) للماضي، وهما متناقضان فلا يصلح الجمع بينهما إلا على تأويل بعيد، وهو يقدر أن أبا هريرة سمع الحديث مرتين، أولاً "إذا هلك" ثم سمع بعده "هلك"، فيكون صلى الله عليه وسلم قاله أولاً قبل موت كسرى؛ لأنه علم أنه يموت، والثاني بعد موته.
(1)
"أعلام الحديث" 2/ 1447 - 1448.
(2)
"سنن الترمذي"(2216).
(3)
سيأتي برقم (7099) كتاب: الفتن.
ويحتمل أن يعرف بين الموت والهلاك فيقال: إن موت كسرى كان قد وقع في حياته فأخبر عنه بذلك، وأما هلاك ملكه فلم يقع إلا بعد موت سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وموت الصديق، وإنما هلك ملكه في خلافة عمر
(1)
.
وأما قوله: "فلا كسرى بعده ولا قيصر" فقال عياض: معناه عند أهل العلم: لا يكون كسرى بالعراق ولا قيصر بالشام، وقد انقطع أمر كسرى رأسًا وتمزق ملكه بدعوته كما سلف، وتخلى قيصر (عن)
(2)
الشام ورجع القهقرى إلى داخل بلاده
(3)
.
وكسرى بكسر الكاف، كذا ذكره ثعلب وأبو علي أحمد بن جعفر الدينوري في فصيحهما، وعليه اقتصر ابن التين. قَالَ يعقوب
(4)
والفراء في "البهي": هو أكثر من الفتح. وخالف أبو زيد فأنكر الفتح. وقال أبو حاتم في "تقويمه" الوجهين، وقال ابن الأعرابي: الكسر فصيح. وقال ابن السِّيْد: كان أبو حاتم يختار الكسر. وقال القزاز: إنه أفصح، والجميع: كسور وأكاسرة وكياسرة. قَالَ: والقياس أن يجمع: كسرون كما يجمع موسى موسون. وأنكر الزجاج على أبي العباس الكسر قَالَ: وإنما هو بالفتح، وقال: ألا تراهم يقولون: كسروِي.
قَالَ ابن فارس: أما اعتباره إياه بالنسبة فقد يفتح في النسبة ما هو في الأصل مكسور أو مضموم، أما تراهم يقولون في النسبة إلى تغلب: تغلِبي، وفي النسبة إلى أمية: أُموي، وقد يقال: تغلبي وأموي، فقد جرى بعض النسبة على غير الأصل، فلا معنى إذًا لقول الزجاج، على أن الذي قاله رواية.
(1)
"المفهم" 7/ 259 - 260.
(2)
جاء في الأصل (على)، وما أثبتناه من (ص 1).
(3)
"إكمال المعلم" 8/ 461.
(4)
"إصلاح المنطق" ص 175.
وبعدُ فإنه معرب خسرواني واسع الملك، فكيف أعربه؟ المعرب إذا لم يخرج عن بناء كلام العرب فهو جائز. وروى ناس من البصريين بالكسر كما رواه ثعلب.
وقال في "المجمل": قَالَ أبو عمرو: ينسب إلى كسرى بالكسر كسري وكسروي، وقال الأموي: بكسر الكاف أيضًا
(1)
.
وفي "الجمهرة": كسرى اسم فارسي، ويجمع: كسورًا وأكاسر، هكذا يقول أبو عبيدة
(2)
. ولم يذكر ابن دريد غير هذا فقط، وذكر اللحياني أن معناه: شاهان شاه، وهو اسم لكل من ملك الفرس.
(1)
"مجمل اللغة" 2/ 785.
(2)
"الجمهرة" 2/ 719.
158 - باب الكَذِبِ فِي الحَرْبِ
3031 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الأَشْرَفِ، فَإِنَّهُ قَدْ آذَى اللهَ وَرَسُولَهُ؟» . قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: أَتُحِبُّ أَنْ أَقْتُلَهُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «نَعَمْ» . قَالَ: فَأَتَاهُ فَقَالَ: إِنَّ هَذَا -يَعْنِي: النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ عَنَّانَا وَسَأَلَنَا الصَّدَقَةَ، قَالَ وَأَيْضًا وَاللهِ [لَتَمَلُّنَّهُ] قَالَ: فَإِنَّا قَدِ اتَّبَعْنَاهُ، فَنَكْرَهُ أَنْ نَدَعَهُ حَتَّى نَنْظُرَ إِلَى مَا يَصِيرُ أَمْرُهُ قَالَ: فَلَمْ يَزَلْ يُكَلِّمُهُ حَتَّى اسْتَمْكَنَ مِنْهُ فَقَتَلَهُ. [انظر: 2510 - مسلم: 1801 - فتح 6/ 158]
ذكر فيه حديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ لِكَعْب بْنِ الأَشْرَفِ، فَإِنَّهُ قَدْ آذى الله وَرَسُولَهُ؟ ". قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: أَتُحِبُّ أَنْ أَقْتُلَهُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "نَعَمْ". فَأَتَاهُ فَقَالَ: إِنَّ هذا -يَعْنِي: النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ عَنَّانَا وَسَأَلَنَا الصَّدَقَةَ، قَالَ وَأَيْضًا والله [لَتَمَلُّنَّهُ] قَالَ: فَإِنَّا قَدِ اتَّبَعْنَاهُ، فَنَكْرَهُ أَنْ نَدَعَهُ حَتَّى نَنْظُرَ إلى مَا يَصِيرُ أَمْرُهُ. قَالَ: فَلَمْ يَزَلْ يُكَلِّمُهُ حَتَّى اسْتَمْكَنَ مِنْهُ فَقَتَلَهُ.
هذا الحديث سلف في باب رهن السلاح من كتاب الرهن
(1)
، ويأتي في المغازي أيضًا مطولًا
(2)
، وأخرجه مسلم أيضًا
(3)
.
وقال ابن المنير في هذِه الترجمة وترجمة باب الفتك بأهل الحرب: أنها غير مخلصة؛ إذ يمكن جعله تعريضًا، فإن قوله:(قد عنانا). أي: كلفنا، والأوامرُ والنواهي تكاليف. وقوله:(وسألنا الصدقة). أي:
(1)
سلف برقم (2510).
(2)
سيأتي برقم (4037) باب: قتل كعب بن الأشرف.
(3)
مسلم (1801) كتاب: الجهاد والسير، باب: قتل كعب بن الأشرف طاغوت اليهود.
طلبها منا بأمر الله تعالى. و (نكره أن ندعه .. ) إلى آخره؛ معناه: نكره العدول عنه مدة بقائه، فما فيه دليل على جواز الكذب الصريح، ولا سيما إذا كان في المعاريض مندوحة
(1)
.
وفي الترمذي من حديث أسماء بنت يزيد مرفوعًا محسنًا: "لا يحل الكذب إلا في ثلاث: في الحرب، والكذب للزوجة، والكذب ليصلح بين الناس"
(2)
، وروى الزهري، عن حميد، عن (أمه)
(3)
أم كلثوم قالت: ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم رخص في الكذب إلا في الثلاث، كان يقول:"لا أعدهن كذبا" فذكرتهن
(4)
.
قَالَ ابن بطال: سألت بعض شيوخي عن معنى هذا الحديث فقال لي: الكذب الذي أباحه في الحرب هي المعاريض التي لا يفهم منها التصريح بالتأمين؛ لأن من السنة ""المجمع عليها أن مَنْ أَمَّنَ كافرًا فقد حقن دمه، ولهذا قَالَ عمر بن الخطاب: يتبع أحدكم العلج حَتَّى إذا اشتد في الجبل قَالَ له: مترس؛ ثم يقتله والله لا أوتى بأحد فعل ذَلِكَ إلا قتلته.
قَالَ المهلب: وموضع الكذب في الحديث قول محمد بن مسلمة: (قد عنانا وسألنا الصدقة)؛ لأن هذا الكلام يحتمل أن يتأول منه اتباعهم له إنما هو للدنيا على نية كعب بن الأشرف، وليس هو كذب محض بل هو تورية ومن معاريض الكلام؛ لأنه ورى له عن الجزاء الذي اتبعوه له في الآخرة، وذكر العناء الذي يصيبهم في الدنيا والنصب، وأما الكذب
(1)
"المتواري" ص 173.
(2)
"سنن الترمذي"(1939).
(3)
من (ص 1).
(4)
رواه الطبراني في "الصغير" 1/ 127 (189).
الحقيقي فهو الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو به، وإنما هو تحريف لظاهر اللفظ، وهو موافق لباطن المعنى، ولا يجوز الكذب الحقيقي في شيء من الدين أصلاً، ومحال أن يأمر بالكذب وهو صلى الله عليه وسلم يقول:"من كذب على متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار"
(1)
، وإنما أذن له أن يقول ما لو قاله بغير إذنه صلى الله عليه وسلم وسمع منه لكان دليلًا على النفاق، ولكن لما أذن له في القول لم يكن معدودًا عليه أنه نفاق، وسلف في الصلح زيادة في هذا المعنى في باب: ليس الكاذب الذي يصلح بين الناس
(2)
.
وفي قتل محمد بن مسلمة كعب بن الأشرف، دلالة أن الدعوة ساقطة فيمن قرب داره من بلاد الإسلام، والأذى منه هو تحريض اليهود على أذاه وبغضه، وأذاه لرسول الله صلى الله عليه وسلم هو أذى لله.
(1)
سلف برقم (107) من حديث الزبير بن العوام؛ كتاب: العلم، باب: إثم من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم.
(2)
سلف برقم (2692)، و"شرح ابن بطال" 5/ 188 - 189.
159 - باب الفَتْكِ بِأَهْلِ الحَرْبِ
3032 -
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الأَشْرَفِ؟» . فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: أَتُحِبُّ أَنْ أَقْتُلَهُ؟ قَالَ: «نَعَمْ» . قَالَ: فَأْذَنْ لِي فَأَقُولَ. قَالَ: «قَدْ فَعَلْتُ» . [انظر: 2510 - مسلم: 180 - فتح 6/ 160]
ذكر فيه حديث جَابِرٍ رضي الله عنه -أيضًا- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الأَشْرَفِ، فَإِنَّهُ قَدْ آذى الله وَرَسُولَهُ؟ ". فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: أَنَا، أَتُحِبُّ أَنْ أَقْتُلَهُ؟ قَالَ:"نَعَمْ". قال: فَأذَنْ لِي فَأَقُولَ. قَالَ: "فَعَلْتُ"
(الفتك) -بفتح الفاء-: الغدر، وهو القتل أيضًا، يقال: فتك به إذا اغتاله، وظاهر الترجمة أن ذَلِكَ سائغ أن يغدر بأهل الحرب، ومذهب مالك أنهم إن ائتمنوه على شيء فليؤد أمانته، وكذلك إن ائتمنوه على أن لا يهرب
(1)
. وقال سفيان: لا يؤدي الأمانة فيه
(2)
. قَالَ في "النوادر": ولو أظهر المسلمون أنهم رسل للخليفة عندما أتوا حصنًا للعدو وأظهروا كتابًا كذبًا وقالوا: نحن تجار فأدخلوهم على شيء من ذَلِكَ فليوفوا مما أظهروا
(3)
.
قلتُ: فإن كعب بن الأشرف وسفيان بن عبد الله قتلا غيلة بأمره صلى الله عليه وسلم وأظهر إليهما من جاءهما غير ما جاءا فيه، ولم يكن ذَلِكَ أمانًا لهما، قَالَ: هذان قتلا بأمره صلى الله عليه وسلم؛ لأذاهما الله ورسوله فلا أمان لهما
(4)
.
(1)
انظر: "عيون المجالس" 2/ 743 - 744، "الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي" 2/ 179.
(2)
انظر: "الشرح الكبير" 10/ 367.
(3)
"النوادر والزيادات"3/ 77.
(4)
"النوادر والزيادات" 3/ 78.
ثم الفتك على وجهين: محرم وجائز:
فالأول: الذي يحرم به الدم أن يصرح بلفظ يفهم منه التأمين، فإذا أمنه فقد حرم بذلك دمه والغدر، وعلى هذا جماعة العلماء.
والثاني: أن يخادعه بألفاظ هي معاريض غير تصريح بالتأمين؛ فالحرب خدعة.
واختلف في تأويل قتل كعب بن الأشرف على وجوه:
أحدها: أنه من المباح؛ لأن ابن مسلمة لم يصرح له بشيء من لفظ التأمين وإنما أتاه بمعاريض من القول، فيجوز هذا أن يسمى فتكًا على المجاز.
ثانيها: أنه قتله هو من باب أن من آذى الله ورسوله فقد حل دمه ولا أمان له يعتصم به، فقتله جائز على كل حال؛ لأنه صلى الله عليه وسلم إنما قتله بوحي من الله وأذن له في قتله، فصار ذَلِكَ أصلاً في جواز قتل من كان لله ولرسوله حربًا، ألا ترى لو أن رجلاً أدخل مشركًا في داره وأمنه فسبَّ عنده الشارع، حل لذلك الذي أمنه قتله ونحوه، هذا ما حكاه ابن حبيب: سمعت المدنيين من أصحاب مالك يقولون: إنما تجب الدعوة لكل من لم يبلغه الإسلام ولا يعلم ما يقاتل عليه، فاما من قد بلغه الإسلام وعلم ما يدعى إليه ومن حارب وحورب مثل الروم والإفرنج، فالدعوة فيما بيننا وبينهم مطرحة، ولا بأس بتثبيت مثل ذَلِكَ بالإغارة وتصبحهم وانتهاز الفرصة فيهم بلا دعوة، وقد بعث الشارع عبد الله بن أنيس الجهني إلى عبد الله بن نُبيح الهذلي فاغتاله بالقتل وهو بعُرَنَة من جبال عَرَفة
(1)
، وبعث نفرًا من الأنصار إلى ابن
(1)
انظر: "تاريخ المدينة" 2/ 468.
أبي الحقيق وإلى كعب بن الأشرف
(1)
، فهجموا عليهما بالقتل في بيوتهما بخيبر، فلا يجوز كما قَالَ ابن بطال أن يقال: إن ابن الأشرف قتل غدرًا؛ لأنه لم يكن معاهدًا ولا كان من أهل الذمة، ومن ادعى ذَلِكَ كفر (كما قَالَ ابن بطال. قَالَ: و)
(2)
يقتل بغير استتابة؛ لأنه ينتقص الشارع، ورماه بكبيرة وهو الغدر، وقد نزهه الله تعالى عن كل دنية، وطهره من كل ريبة، ألا ترى قول هرقل لأبي سفيان؛ وسألتك: هل يغدر؟ فزعمت أن لا، وكذلك الرسل لا يغدرون
(3)
. وإنما قَالَ هذا هرقل؛ لأنه وجد في الإنجيل صفته وصفة جميع الأنبياء عليهم السلام أنه لا يجوز عليهم النقص؛ لأنهم صفوة الله وهم معصومون من الكبائر، والغدر كبيرة.
وسلف في الرهون في باب رهن السلاح زيادة في معنى قتل كعب بن الأشرف
(4)
، وروي في الأثر أن يامين السبائي قَالَ في مجلس علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إن ابن الأشرف قتل غدرًا فأمر به علي فضربت عنقه، وقد قَالَ مالك: من ينتقص الشارع فإنه يقتل، ومن قَالَ: زره وسخ يُريد بذلك الإزراء عليه قتل. قَالَ: ومن سبه قتل بغير استتابة إن كان مسلمًا، وإن كان ذميًّا قتل إلا أن يسلم
(5)
. وقال الكوفيون: من سبه فقد ارتد، وإن كان ذميًّا عُزِّر ولم يقتل
(6)
.
(1)
"النوادر والزيادات" 3/ 42. وانظر "تاريخ الطبري" 2/ 57 - 59.
(2)
من (ص 1).
(3)
سلف برقم (7) كتاب: الوحي.
(4)
سلف برقم (2510).
(5)
"النوادر والزيادات" 14/ 526.
(6)
"شرح ابن بطال" 5/ 190 - 192.
160 - باب مَا يَجُوزُ مِنَ الاحْتِيَالِ وَالْحَذَرِ مَعَ مَنْ تُخْشَى مَعَرَّتُهُ
3033 -
قَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ: انْطَلَقَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ قِبَلَ ابْنِ صَيَّادٍ، فَحُدِّثَ بِهِ فِي نَخْلٍ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم النَّخْلَ، طَفِقَ يَتَّقِى بِجُذُوعِ النَّخْلِ، وَابْنُ صَيَّادٍ في قَطِيفَةٍ لَهُ فِيهَا رَمْرَمَةٌ، فَرَأَتْ أُمُّ ابْنِ صَيَّادٍ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا صَافِ، هَذَا مُحَمَّدٌ، فَوَثَبَ ابْنُ صَيَّادٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ: صلى الله عليه وسلم: «لَوْ تَرَكَتْهُ بَيَّنَ» . [انظر: 1355 - مسلم: 2931 - فتح 6/ 160]
وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ، عَنِ ابن شِهَابٍ، عَنْ سَالِمٍ، عن أبيه؛ فذكر قصة ابن صياد.
وقد سلف في الشهادات
(1)
، وفيه ما ترجم له.
وفيه: أن لا تعجل على من ظهر منه مكروه حَتَّى تتيقن أمره، وأن الإمام إذا أشكل عليه أمر من جهة الشهادات عنده أن يلي ذَلِكَ بنفسه ويباشره حَتَّى يسمع ما نقل إليه أو يرى ما شهد به عنده، فبالعيان تنكشف الريب.
وفيه: نهوض السلطان راجلًا ليعرف ما يحتاج إليه، وزجر أهل الباطل بزجر الكلاب وترك عقوبة غير البالغ من الرجال.
وقد سلف في الجنائز في باب: هل يعرض على الصبي الإسلام؟
(2)
شيء من معنى هذا الحديث، وسيأتي شيء منه في الاعتصام في باب: من رأى ترك النكير حجة لا من غير الرسول
(3)
.
(1)
سلف برقم (2638) باب شهادة المختبئ.
(2)
سلف برقم (1355).
(3)
سيأتي برقم (7355).
161 - باب الرَّجَزِ فِي الحَرْبِ وَرَفْعِ الصَّوْتِ فِي حَفرِ الخَنْدَقِ
فِيهِ: سَهْلٌ وَأَنَسٌ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم[انظر: 2834، 3797] وَفِيهِ يَزِيدُ، عَنْ سَلَمَةَ. [4196]
3034 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنِ البَرَاءِ رضي الله عنه قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الخَنْدَقِ وَهُوَ يَنْقُلُ التُّرَابَ حَتَّى وَارَى التُّرَابُ شَعَرَ صَدْرِهِ -وَكَانَ رَجُلاً كَثِيرَ الشَّعَرِ- وَهْوَ يَرْتَجِزُ بِرَجَزِ عَبْدِ اللهِ:
اللَّهُمَّ لَوْلَا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا
…
وَلَا تَصَدَّقْنَا وَلَا صَلَّيْنَا
فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا
…
وَثَبِّتِ الأَقْدَامَ إِنْ لَاقَيْنَا
إِنَّ الأَعْدَاءَ قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا
…
إِذَا أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا
يَرْفَعُ بِهَا صَوْتَهُ. [انظر: 2836 - مسلم: 1803 - فتح 6/ 160]
ثم ساق حديث البَرَاءِ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يوْمَ الخَنْدَقِ وَهوَ يَنْقُلُ التُّرَابَ حَتَّى وَارى الترَابُ شَعَرَ صَدْرِهِ -وَكَانَ رَجُلًا كَثِيرَ الشَّعَرِ- وَهْوَ يَرْتَجِزُ بِرَجَزِ عَبْدِ اللهِ بن رواحة:
اللَّهُمَّ لَوْلَا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا
…
وَلَا تَصَدَّقْنَا وَلَا صَلَّيْنَا
فَأَنْزِلَنْ سكيِنَةً عَلَيْنَا
…
وَثَبِّتِ الأَقْدَامَ إِنْ لَاقَيْنَا
إِنَّ الأعْدَاءَ قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا
…
إِذَا أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا
يَرْفَعُ بِهَا صَوْتَهُ.
حديث البراء يأتي في باب حفر الخندق
(1)
، وكذا حديث أنس
(2)
،
(1)
الحديث سلف برقم (2836).
(2)
سلف برقم (2835).
وحديث سهل يأتي في فضل الأنصار
(1)
، وحديث يزيد -وهو ابن أبي عبيد- عن سلمة يشبه أن يكون ما رواه هو أيضًا عنه من قوله:
أَنَا ابن الاكوَعِ
…
وَالْيَوْمُ يَوْمُ الرُّضَّعِ
(2)
.
وفيه: ابتذال الإمام وتولية المهنة في التحصين على المسلمين لينشط الناس بذلك على العمل، وكذلك ارتجز هذا الرجز؛ ليذكرهم ما يعملون ولمن يعملون (ذَلِكَ)
(3)
، ويعرفهم أن الأمر أعظم خطرًا من ابتذالهم وتعبهم.
وفيه: أنه لا بأس برفع الصوت في أعمال الطاعات إذا لم يكن مضعفًا عنها ولا قاطعًا دونها.
وفي إسناد حديث البراء: أبو الأحوص، واسمه سلام بن سليم، وأبو إسحاق، وهو عمرو بن عبد الله.
(1)
سيأتي برقم (3797) باب: دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: "أصلح الأنصار والمهاجرة".
(2)
سيأتي برقم (3041) باب: من رأى العدو فنادى بأعلى صوته: يا صباحاه، حتى يسمع الناس.
(3)
من (ص 1).
162 - باب مَنْ لَا يثْبُتُ عَلَى الخَيْلِ
3035 -
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ قَيْسٍ، عَنْ جَرِيرٍ رضي الله عنه قَالَ: مَا حَجَبَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُنْذُ أَسْلَمْتُ، وَلَا رَآنِي إِلاَّ تَبَسَّمَ فِي وَجْهِي. [3822، 6081 - مسلم: 2475 - فتح 6/ 161]
3036 -
وَلَقَدْ شَكَوْتُ إِلَيْهِ: إِنِّي لَا أَثْبُتُ عَلَى الخَيْلِ. فَضَرَبَ بِيَدِهِ فِي صَدْرِي، وَقَالَ:«اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ وَاجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا» . [انظر: 3020 - مسلم: 2475، 2476 - فتح 6/ 161]
ذكر فيه حديث جَرِيرٍ، وقد أسلفناه في باب حرق الدور والنخيل
(1)
.
وفيه: أن الرجل الوجيه في قومه له حرمة ومكانة على من هو دونه؛ لأن جريرًا كان سيد قومه.
وفيه: أن لقاء الناس بالتبسم وطلاقة الوجه من أخلاق النبوة، وهو مناف للتكبر وجالب المودة.
وفيه: فضل الفروسية وإحكام ركوب الخيل، فإن ذَلِكَ مما ينبغي أن يتعلمه الرجل الشريف والرئيس.
وفيه: أنه لا بأس للعالم والإمام إذا أشار إلى إنسان في مخاطبة أو غيرها أن يضع عليه يده ويضرب بعض جسده، ذَلِكَ من التواضع.
وفيه: استمالة النفوس، وفيه: بركة دعوته؛ لأنه قد جاء في الحديث أنه ما سقط بعد ذَلِكَ من الخيل.
(1)
سلف برقم (3020).
163 - باب دَوَاءِ الجُرْحِ بِإِحْرَاِقِ الحَصِيِر
وَغَسْلِ المَرْأَةِ عَنْ أَبِيهَا الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ، وَحَمْلِ المَاءِ فِي التُّرْسِ.
3037 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا أَبُو حَازِمٍ قَالَ: سَأَلُوا سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ رضي الله عنه: بِأَيِّ شَيءٍ دُووِيَ جُرْحُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ: مَا بَقِيَ مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، كَانَ عَلِيٌّ يَجِيءُ بِالْمَاءِ فِي تُرْسِهِ، وَكَانَتْ -يَعْنِي فَاطِمَةَ- تَغْسِلُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ، وَأُخِذَ حَصِيرٌ فَأُحْرِقَ، ثُمَّ حُشِيَ بِهِ جُرْحُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. [انظر: 243 - مسلم: 1790 - فتح 6/ 162]
ذكر فيه حديث سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ في ذلك، وقد سلف.
164 - باب مَا يُكْرَهُ مِنَ التَّنَازُعِ وَالاخْتِلَافِ فِي الحَرْبِ
وَعُقُوبَةِ مَنْ عَصَى إِمَامَهُ.
وَقَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46]. قَالَ قَتَادَةُ الرِّيحُ: الحَرْبُ.
3038 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ مُعَاذًا وَأَبَا مُوسَى إِلَى اليَمَنِ قَالَ:«يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا، وَتَطَاوَعَا وَلَا تَخْتَلِفَا» . [انظر: 2261 - مسلم: 1733 - فتح 6/ 162]
3039 -
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ البَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ رضي الله عنهما يُحَدِّثُ قَالَ: جَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الرَّجَّالَةِ يَوْمَ أُحُدٍ -وَكَانُوا خَمْسِينَ رَجُلاً- عَبْدَ اللهِ بْنَ جُبَيْرٍ فَقَالَ: «إِنْ رَأَيْتُمُونَا تَخْطَفُنَا الطَّيْرُ، فَلَا تَبْرَحُوا مَكَانَكُمْ هَذَا حَتَّى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ، وَإِنْ رَأَيْتُمُونَا هَزَمْنَا القَوْمَ وَأَوْطَأْنَاهُمْ فَلَا تَبْرَحُوا حَتَّى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ» فَهَزَمُوهُمْ. قَالَ: فَأَنَا وَاللهِ رَأَيْتُ النِّسَاءَ يَشْتَدِدْنَ قَدْ بَدَتْ خَلَاخِلُهُنَّ وَأَسْوُقُهُنَّ رَافِعَاتٍ ثِيَابَهُنَّ، فَقَالَ أَصْحَابُ عَبْدِ اللهِ بْنِ جُبَيْرٍ الغَنِيمَةَ -أَيْ قَوْمِ- الغَنِيمَةَ، ظَهَرَ أَصْحَابُكُمْ فَمَا تَنْتَظِرُونَ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ جُبَيْرٍ أَنَسِيتُمْ مَا قَالَ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالُوا: وَاللهِ لَنَأْتِيَنَّ النَّاسَ فَلَنُصِيبَنَّ مِنَ الغَنِيمَةِ. فَلَمَّا أَتَوْهُمْ صُرِفَتْ وُجُوهُهُمْ فَأَقْبَلُوا مُنْهَزِمِينَ، فَذَاكَ إِذْ يَدْعُوهُمُ الرَّسُولُ فِي أُخْرَاهُمْ، فَلَمْ يَبْقَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم غَيْرُ اثْنَىْ عَشَرَ رَجُلاً، فَأَصَابُوا مِنَّا سَبْعِينَ، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ أَصَابَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ أَرْبَعِينَ وَمِائَةً: سَبْعِينَ أَسِيرًا، وَسَبْعِينَ قَتِيلاً، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: أَفِي القَوْمِ مُحَمَّدٌ؟ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَنَهَاهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُجِيبُوهُ، ثُمَّ قَالَ: أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ؟ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ قَالَ: أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ الْخَطَّابِ؟ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: أَمَّا هَؤُلَاءِ فَقَدْ قُتِلُوا. فَمَا مَلَكَ عُمَرُ نَفْسَهُ فَقَالَ: كَذَبْتَ وَاللهِ
يَا عَدُوَّ اللهِ، إِنَّ الَّذِينَ عَدَدْتَ لأَحْيَاءٌ كُلُّهُمْ، وَقَدْ بَقِيَ لَكَ مَا يَسُوءُكَ. قَالَ: يَوْمٌ بِيَوْمِ بَدْرٍ، وَالْحَرْبُ سِجَالٌ، إِنَّكُمْ سَتَجِدُونَ فِي القَوْمِ مُثْلَةً لَمْ آمُرْ بِهَا، وَلَمْ تَسُؤْنِي، ثُمَّ أَخَذَ يَرْتَجِزُ: أُعْلُ هُبَلْ، أُعْلُ هُبَلْ. قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«أَلَا تُجِيبُوا لَهُ؟» . قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا نَقُولُ؟ قَالَ «قُولُوا: الله أَعْلَى وَأَجَلُّ». قَالَ: إِنَّ لَنَا الْعُزَّى، وَلَا عُزَّى لَكُمْ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«أَلَا تُجِيبُوا لَهُ» . قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا نَقُولُ؟ قَالَ:«قُولُوا: الله مَوْلَانَا وَلَا مَوْلَى لَكُمْ» . [3986، 4043، 4067، 4561 - فتح 6/ 162]
ذكر فيه حديث أبي موسى رضي الله عنه: بَعَثَ النبي صلى الله عليه وسلم معَاذًا وَأَبَا مُوسَى إِلَى اليَمَنِ، قَالَ:"يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا، وَتَطَاوَعَا وَلَا تَخْتَلِفَا".
وحديث البَرَاءِ: جَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الرَّجَّالَةِ يَوْمَ أُحُدٍ -وَكَانُوا خَمْسِينَ رَجُلًا- عَبْدَ اللهِ بْنَ جُبَيْرٍ فَقَالَ: "إِنْ رَأَيْتُمُونَا تَخْطَفُنَا الطَّيْرُ فَلَا تَبْرَحُوا مَكَانَكُمْ هذا حَتَّى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ .. " الحديث بطوله.
الشرح:
التنازع هو الاختلاف، وهو سبب الهلاك في الدنيا والآخرة؛ لأن الله عز وجل قد عبر في كتابه بالخلاف الذي قضى به على عباده عن الهلاك في قوله:{وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} [هود: 118] ثم قَالَ: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} ، فقال: خلقهم للخلاف. وَقَالَ آخرون: خلقهم ليكونوا فريقين في الجنة وفي السعير من أجل اختلافهم. وهذا كثير في القرآن، وقد أخبر تعالى أن مع الخلاف يكون الفشل، وهو الخذلان والضعف والكسل، فيتمكن العدو من المخالفين؛ لأنهم كانوا مدافعين كلهم دفاعًا واحدًا فصار بعضهم يدافع بعضًا، فتمكن العدو.
وفي حديث عبد الله بن جبير معاقبة الله تعالى على الخلاف، وعلى ترك الائتمار لرسوله والوقوف عند قوله، كما قَالَ تعالى:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 63] الآية.
والريح: القوة. وقال أبو إسحاق: فشل إذا هاب أن يتقدم جبنا. وقال مجاهد: {رِيحُكُمْ} نصركم
(1)
. وقيل معناه: دولهم.
وبعثه معاذًا وأبا موسى فيه تأمير أفاضل الصحابة وتولية العلماء.
ومعنى: ("يسرا") خذا مما فيه التيسير. ومعنى: ("لا تنفرا") لا تقصدا إلى ذكر ما فيه الشدة، و ("تطاوعا"): تحابا.
وفي قوله: ("تخطفنا الطير") دلالة على جواز الإغياء في الكلام. قَالَ الخطابي: وهو مَثَلٌ يريد به الهزيمة، يقول: إن رأيتمونا قد زلنا عن مكاننا وولينا منهزمين فلا تبرحوا أنتم، وهذا كقوله: فلان ساكن الطير. إذا كان وقورًا هادئًا، وليس هناك طير، وأيضًا فالطير لا يقع إلا على الشيء الساكن، ويقال للرجل إذا أسرع وخف: قد طار طيره
(2)
. وقال الداودي: معناه إن قتلنا وأكلت الطيور لحومنا فلا تبرحوا مكانكم. قَالَ: وفيه دليل أنه يريد أصحابه دونه؛ لأنه إن قتل لم يبق من تلبثون لمقامه.
و (الرجالة) جمع راجل، وهم من لا خيل لهم. ومعنى:"أوطأناهم" مشينا عليهم وهم قتلى بالأرض. ومعنى (يشددن): يعدون. وفي نسخة: (يشردن). وفي رواية أبي الحسن (يسندن). أي: يمشين في سند الجبل يردن رُقِيَّهُ.
وفيه: بيان أنه لم ينهزم كل أصحابه، ونهيه عن جواب أبي سفيان تصاون عن الخوض فيما لا فائدة فيه، وعن خصام مثله أيضًا، وإجابة عمر بعد نهيه إنما هي حماية للظن برسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قتل،
(1)
"تفسير الطبري" 6/ 261 (16178).
(2)
"أعلام الحديث" 2/ 1433.
وأن بأصحابه الوهن، فليس في هذا عصيان له في الحقيقية، وإن كان في الظاهر، فهو مما يؤجر به، وأمره صلى الله عليه وسلم لجوابه؛ لأنه بُعث بإعلاء كلمة الله وإظهار دينه، فلما سمع هذا الكلام لم يسعه السكوت عنه حَتَّى يعلي كلمة الله، ثم عرفهم في جوابه أنهم يُقرون أن الله أعلى وأجل؛ لقولهم:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] فلم يراجعه أبو سفيان ولا نقض عليه كلامه اعترافًا بما قَالَ، فلما ذكر العزى أمر صلى الله عليه وسلم بمجاوبته، وعرف في جوابه أنها ومثلها من الأصنام لا موالاة لها ولا نصر، فعرف أن النصر من عند الله وأن الموالاة والنصر لا تكون من الأصنام فبكته بذلك ولم يراجعه.
وقوله: (قد بدت خلاخلهن وأسوقهن). أي ظهرت، وأسوق: جمع ساق، وضبطه بهمز الواو على معنى أن الواو إذا انضمت جاز همزها.
وفيه: جواز النظر إلى أَسْوُق المشركات ليعلم حال القوم لا لشهوة.
وقوله: (فذاك إذ يدعوهم الرسول في أخراهم). أي: آخرهم قاله أبو عبيد.
وقوله: (قد بقي لك ما يسوؤك) إرهاب عليه لما ظن به الوقيعة، وكسر شوكة الإسلام، وأنه قد مضى الرسول وسادة أصحابه، فعرفه أنهم أحياء، وأنه قد بقي له ما يسوؤه، يعني: يوم الفتح.
وقوله: (فأصابوا منا سبعين). قَالَ غيره: خمسة وستون، منهم أربعة من المهاجرين. وقال مالك: قتل من الأنصار سبعون، ومن المهاجرين أربعة.
وقوله: (وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أصاب من المشركين سبعين أسيرًا وسبعين قتيلًا). ذكر الشيخ أبو محمد في "جامع مختصره" أنه قتل من
المشركين يوم بدر خمسون. وقال مالك: كان الأسرى شبهًا بمن كان قتل من المشركين أربعة وأربعون رجلاً.
وقول عمر لأبي سفيان: (كذبت والله يا عدو الله) فيه: قلة صبر عمر عند قول الباطل، وقد نهى
(1)
الشارع عن جواب أبي سفيان، لكن عمر لم يرد العصيان كما سلف، وإنما أنكر قول الباطل. وروي أن أبا سفيان لما أجابه عمر قَالَ له: أنشدك الله أمحمد حي؟ قَالَ: اللَّهُمَّ نعم، وهو ذا يسمعك. قَالَ: أنت أصدق عندنا من ابن قمئة. وكان ابن قمئة قَالَ لهم: قتلته.
وقوله: (الحرب سجال) أي: دُوَلاً، مرة لهؤلاء ومرة لهؤلاء، وأصله أن المستقين بالسجل -وهو الدلو- يكون لكل واحد منهم سجال.
وقوله: (ستجدون في القوم مثلة لم آمر بها ولم تسؤني). يعني: أنهم جدعوا أنوفهم وشقوا بطونهم، وكان حمزة مثل به.
وقوله: (لم آمر بها). قَالَ الداودي: يعني أنه لا يأمر بالأفعال الخبيثة التي ترد على فاعلها نقصًا.
وقوله: (لم تسؤني): يريد إنكم عدوي، وقد كانوا قتلوا ابنه
(2)
يوم بدر، وخرجوا لينالوا العير التي كان بها، فوقعوا في كفار قريش وسلمت العير.
وقوله: (اُعْلُ هُبَل) يريد صنمًا لهم أي: على حزبك، وفي رواية: أعلى
(3)
هبل ارق الجبل. يعني: علوت حَتَّى صوت كالجبل العالي،
(1)
ورد في هامش الأصل: لم ينه الشارع عمر عن جوابه في هذِه المرة.
(2)
ورد في هامش الأصل: يعني حنظلة.
(3)
كذا بالأصل، وفي "المنحة" ضبطها شيخ الإسلام زكريا الأنصاري بـ (فتح الهمزة وسكون المهملة).
ذكرها الداودي، قَالَ: ويحتمل أن يريد بقوله: ارق الجبل تعيير المسلمين حين انحازوا إلى الجبل.
و (العزى): صنم كانوا يعبدونه، قاله الضحاك وأبو عبيد، وجزم به ابن التين وابن بطال
(1)
، وقال غيرهما: هي شجرة لغطفان كانوا يعبدونها. وروى أبو صالح عن ابن عباس قَالَ: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى العزى يقطعها.
والمولى: الناصر، فإن قلت: قوله: "الله مولانا ولا مولى لكم" أليس الله تعالى مولى الخلق كلهم؟ قلتُ: المولى هنا بمعنى الولي، والله تعالى يتولى المسلمين بالنصر والإعانة ويخذل الكفار، نبه عليه ابن الجوزي.
(1)
"شرح ابن بطال" 5/ 196.
165 - باب إِذَا فَزِعُوا بِاللَّيْلِ
3040 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَحْسَنَ النَّاسِ، وَأَجْوَدَ النَّاسِ، وَأَشْجَعَ النَّاسِ، قَالَ وَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ المَدِينَةِ لَيْلَةً سَمِعُوا صَوْتًا، قَالَ: فَتَلَقَّاهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى فَرَسٍ لأَبِي طَلْحَةَ عُرْىٍ، وَهُوَ مُتَقَلِّدٌ سَيْفَهُ فَقَالَ:«لَمْ تُرَاعُوا، لَمْ تُرَاعُوا» . ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «وَجَدْتُهُ بَحْرًا» . يَعْنِي الفَرَسَ. [انظر: 2627 - مسلم: 2307 - فتح 6/ 163]
ذكر فيه حديث أَنَسٍ رضي الله عنه، في ركوبه عليه السلام فرس أبي طلحة عُريًا، وقد
سبق غير مرة.
166 - باب مَن رَأى العَدُوَّ فَنَادى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا صَبَاحَاهْ. حَتَّى يُسْمِعَ النَّاسَ
.
3541 -
حَدَّثَنَا المَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ سَلَمَةَ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ قَالَ: خَرَجْتُ مِنَ المَدِينَةِ ذَاهِبًا نَحْوَ الْغَابَةِ، حَتَّى إِذَا كُنْتُ بِثَنِيَّةِ الْغَابَةِ لَقِيَنِي غُلَامٌ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قُلْتُ: وَيْحَكَ!، مَا بِكَ؟ قَالَ: أُخِذَتْ لِقَاحُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. قُلْتُ: مَنْ أَخَذَهَا؟ قَالَ: غَطَفَانُ وَفَزَارَةُ. فَصَرَخْتُ ثَلَاثَ صَرَخَاتٍ أَسْمَعْتُ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا: يَا صَبَاحَاهْ، يَا صَبَاحَاهْ. ثُمَّ انْدَفَعْتُ حَتَّى أَلْقَاهُمْ، وَقَدْ أَخَذُوهَا، فَجَعَلْتُ أَرْمِيهِمْ وَأَقُولُ:
أَنَا ابْنُ الأَكْوَعِ
…
وَالْيَوْمُ يَوْمُ الرُّضَّعِ
فَاسْتَنْقَذْتُهَا مِنْهُمْ قَبْلَ أَنْ يَشْرَبُوا، فَأَقْبَلْتُ بِهَا أَسُوقُهَا، فَلَقِيَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ القَوْمَ عِطَاشٌ، وَإِنِّي أَعْجَلْتُهُمْ أَنْ يَشْرَبُوا سِقْيَهُمْ، فَابْعَثْ في إِثْرِهِمْ، فَقَالَ:«يَا ابْنَ الأَكْوَعِ، مَلَكْتَ فَأَسْجِحْ. إِنَّ القَوْمَ يُقْرَوْنَ فِي قَوْمِهِمْ» . [4194 - مسلم: 1806 - فتح 6/ 164]
ذكر فيه بإسناده الثلاثي: حَدَّثنَا المَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ سَلَمَةَ بن الأكوع أَنَّهُ أَخْبَرَهُ .. فذكر قصته في الغابة.
وهي غزوة ذي قرد بفتح القاف والراء، وبالدال المهملة، ويقال: بضمتين. وقال السهيلي: كذا ألفيته مقيدًا عن أبي علي. والقرد في اللغة: الصوف الرديء
(1)
، وهو على نحو من يوم من المدينة. قَالَ ابن سعد: والغابة على يوم من المدينة في طريق الشام، كانت في شهر ربيع الأول سنة ست
(2)
.
(1)
"الروض الأنف" 4/ 14.
(2)
"الطبقات الكبرى" 2/ 80.
وقال ابن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر وعبد الله بن أبي بكر بن حزم وغيرهما قالوا: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم من بني لحيان لم يقم بعد قدومه إلا ليالي حَتَّى أغار عيينة، وكان خرج إلى بني لحيان في جمادى الأولى. وقال البخاري: إنها قبل خيبر بثلاثة أيام. وفي مسلم نحوه، وفيه نظر، ولابن سعد: كانت لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرين لقحة ترعى بالغابة، وكان أبو ذر فيها، فأغار عليهم عيينة بن حصن ليلة الأربعاء في أربعين فارسًا، فاستاقوها وقتلوا ابن أبي ذر، وجاء الصريخ فنودي: يا خيل الله اركبي، فكان أول ما نودي بها، وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرج غداة الأربعاء في الحديد مقنعًا فوقف، فكان أول من أقبل إليه المقداد بن عمرو وعليه الدرع والمغفر شاهرًا سيفه، فعقد له رسول الله لواء في رمحه وقال:"امض حَتَّى تلحق الخيول وأنا في إثرك". واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، وخلف سعد بن عبادة في ثلاثمائة من قومه يحرسون المدينة. قَالَ المقداد: فأدركتُ أخريات العدو، وقد قتل أبو قتادة مسعدة، وقتل عكاشة أبان بن عمرو، وقتل المقداد حبيب بن عيينة وفرقد بن مالك بن حذيفة بن بدر، وأدرك سلمة بن الأكوع القوم. وهو على رجليه فجعل يراميهم بالنبل ويقول:
خُذْهَا وأَنَا ابن الأَكْوَعِ
…
وَالْيَوْمُ يَوْمُ الرُّضَّعِ
وفي البخاري:
أَنَا ابن الأَكْوَعِ
…
وَالْيَوْمُ يَوْمُ الرُّضَّعِ
حَتَّى انتهى بهم إلى ذي قرد، وهي ناحية خيبر مما يلي المستناخ. قَالَ سلمة: فلحقنا رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس عشاء، قلتُ: يا رسول الله، إن القوم عطاش فلو بعثتني في مائة رجل استنقذت ما بأيديهم من السرح،
وأخذت بأعناق القوم، فقال:"ملكت فأسجح" ثم قَالَ: "إنهم الآن ليقرون في غطفان". ولم تزل الخيل تأتي، والرجال على أقدامهم حَتَّى انتهوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي قرد، فاستنقذوا عشر لقاح، وأفلت ما بقي وهي عشرون، وصلى رسول الله صلاة الخوف بذي قرد وأقام بها يومًا وليلة، المثبت عندنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر على هذِه السرية سعيد بن زيد الأشهلي، ولكن الناس نسبوها إلى المقداد لقول حسان:
غداة فوارس المقداد
فعاتبه سعيد بن زيد فقال: اضطرني الرَّوِيُّ
(1)
إلى المقداد.
ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة يوم الاثنين وقد غاب خمس ليال. وقال: "خير فرساننا اليوم أبو قتادة وخير رجالتنا سلمة"، قَالَ سلمة: وأعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم الفارس والراجل
(2)
.
وفي "الدلائل" للبيهقي: أو في سلمة على سلع ثم صرخ: يا صباحاه الفزع. فبلغ ذَلِكَ رسول الله صلى الله عليه وسلم
(3)
.
وفي "الإكليل" للحاكم: باب غزوة ذي قرد. قَالَ: هذِه الغزوة هي الثالثة لذي قرد، فإن الأولى: سرية زيد بن حارثة في جمادى الآخرة على رأس ثمانية وعشرين شهرًا من الهجرة، والثانية: خرج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه إلى بني فزارة، وهي على تسعة وأربعين شهرًا
(1)
النووي: هو النبوة أو النغمة التي ينتهي بها البيت، وعليه تبنى القصيدة، فيقال دالية، بائية، همزية .. دواليك. انظر:"المعجم المفصل في علم العروض" ص 247.
(2)
"الطبقات الكبرى" 2/ 80 - 84.
(3)
"دلائل النبوة" 4/ 178.
من الهجرة، وهذِه الثالثة: التي أغار فيها عبد الرحمن بن عيينة على إبل رسول الله، فخرج أبو قتادة وابن الأكوع في طلبها، وذلك في سنة ست من الهجرة.
إذا تقرر ذَلِكَ؛ ففيه: النذير بالعسكر والسرية بالصراخ، وهي رفع الصوت بكلمة تدل على ذلك.
ومعنى: (يا صباحاه): أغير عليكم في الصباح، أو قد صوبحتم فخذوا حذركم، ومعناه الإعلام بهذا الأمر المهم الذي دهمهم في الصباح.
وقال ابن المنير: الهاء للندبة، وهي تسقط وصلاً، والرواية إثباتها فيقف على الهاء، وقيل: لأنهم كانوا يغيرون وقت الصباح. وقيل: جاء وقت الصباح فتأهبوا للقاء فإن الأعداء يتراجعون عن القتال ليلاً فإذا جاء النهار عاودوه.
وفيه: جواز الأخذ بالشدة، ولقاء الواحد أكثر من المثلين؛ لأن سلمة كان وحده وألقى بنفسه إلى التهلكة، وفيه تعريف الإنسان بنفسه في الحرب لشجاعته وتقدمه، وسيأتي في الباب بعده زيادة فيه.
وفيه: فضل الرمي لأنه وحده قاومهم بها، ورد الغنيمة.
و (الغابة): الأجمة، والثنية من الأرض كالمرتفع، قاله ابن فارس
(1)
. وقيل: هي أعلى الجبل؛ وسلف.
و (اللقاح): النوق ذات الدر، واحدها: لقحة بكسر اللام. وقيل: بفتحها، و (غَطَفَان) و (فَزَارة): قبيلتان من العرب.
وقوله: (واليوم يوم الرضع). فيه أقوال للعلماء، منها أن معناه: من
(1)
"مجمل اللغة" 2/ 690 مادة: غاب.
أرضعته الحرب من صغره، فهو الظاهر، وقيل معناه: إن اليوم يعرف من رضع كريمة أو لئيمة، قيل: أو حرة، فيبدو فعله في الدفع عن حريمه. وقال الخطابي: معناه: إن اليوم يوم هلاك اللئام، من قولهم: لئيم راضع، وهو الذي يرضع الغنم لا يحلبها فيسمع صوت الحلب. وعبارة غيره: وهو الذي رضع اللؤم من ثدي أمه. فقال: راضع ورضع مثل راكع وركع
(1)
. وقيل في المثل: ألأم من راضع، (ذلك)
(2)
إذا أحس بالضيف رضع اللبن بفيه كما ذكرناه، وقال أبو عبد الملك: يحتمل أن يريد: اليوم تعلم المرضعة هل أرضعت شجاعًا أم جبانًا؟ وقال الداودي: أراد: يومًا شديدًا عليكم تفارق فيه المرضعة رضيعها، فلا يجد من يرضعه أو شيئًا معها. قَالَ: وأتى به على السجع، وهو قريب من الشعر، وروِي أنه قَالَ لهم: إني رجل شديد الطلب قليل السلب. وفي الكنانة ثلاثون سهمًا، ولا والله أرد يدي إليها وأضع منها سهمًا إلا في كبد إنسان منكم وأنه استلبهم ثلاثين بردة، ذكره في البخاري بعد هذا.
وقال ابن الأنباري في "زاهره": هو الذي رضع اللؤم من ثدي أمه. أي: غذي به، وقيل: هو الذي يرضع ما بين أسنانه يستكثر من الجشع بذلك. وقال أبو عمر: هو الذي يرضع الشاة أو الناقة من قبل أن يحلبها من شدة الشره.
وقال قوم: الراضع الذي لا يمسك معه محلبًا، فإذا جاءه إنسان فسأله أن يسقيه احتج أنه لا محلب معه، وإذا أراد أن يشرب هو
(1)
"أعلام الحديث" 2/ 1434.
(2)
في (ص): وكذلك أنه.
رضع الناقة أو الشاة. وقال في "الموعب": رضع الرجل رضاعة وهو رضيع وراضع للئيم، وجمعه: راضعون.
وقال ابن دريد: أصل الحديث أن رجلاً من العماليق طرقه ضيف ليلاً فمص ضرع شاته لئلا يسمع الضيف الشخب، فأكثر حَتَّى صار كل لئيم راضعا، فعل ذَلِكَ أو لم يفعله
(1)
. وقال إبراهيم: من عيوب الشاة أن ترتضع لبن نفسها. وقيل: هو الذي يرضع طرف الخلال التي يخلل بها أسنانه ويمص ما يتعلق به.
وقوله: اليوم يوم الرضع. قَالَ السهيلي: هو برفعهما، وبنصب الأول ورفع الثاني
(2)
.
وقوله: ("ملكت فأسجح") أي: سهل العقوبة ولا تأخذ بالشدة، بل ارفق فقد حصلت النكاية فيهم. يقال: أسجح الكريم إلى من أذنب عليه يسجح إسجاحًا.
وقوله: (فاستنقذتها منهم قبل أن يشربوا). يعني: الماء، وعلى ذَلِكَ يدل قوله:(إن القوم عطاش) يحضه على اتباعهم وإهلاكهم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"ملكت فأسجح" أي: استنقذت الغنيمة فملكتها، وملكت الحماية فأسجح. أي: لا تبالغ في المطالبة، فربما عادت عليك (كبيرة)
(3)
من حيث لا تظن، فبعد أن ظفرت يظفر بك، قال ذَلِكَ صلى الله عليه وسلم لهم حضًا لهم ورجاء توبة منهم وإنابة ودخولهم في الإسلام.
(1)
"جمهرة اللغة" 2/ 746، مادة: رضع.
(2)
"الروض الأنف" 4/ 15.
(3)
من (ص 1).
وقوله: ("إن القوم يقرون في قومهم") وهو من القرى وهو الضيافة، والمعنى: أنهم قد وصلوا إلى قومهم، وقيل: إنهم يضيفون الأضياف، وقال ابن بطال:"يقرون" سيبلغون أول بلادهم فيطعمون ويسقون قبل أن تبلغ منهم ما تريد. قَالَ: ومن روى: (يقرون) جعل القرى لهم أنهم يضيفون الأضياف
(1)
، وصحفه بعضهم فقال: يغزون بغين معجمة. ونقل ابن الجوزي عن بعضهم يُقْرُون، وفسره بأنهم يجمعون الماء واللبن.
وفي "دلائل البيهقي": "إنهم ليغبقون الآن في غطفان" فجاء رجل من غطفان فقال: مروا على فلان الغطفاني فنحر لهم جزورًا، فلما أخذوا يكشطون جلدها رأوا غبرة فتركوها وخرجوا هرابًا، وفيها أيضًا أن امرأة الغفاري ركبت العضباء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونذرت إن الله نجاها عليها لتنحرنها، فلما قدمت المدينة أخبرت رسول الله بنذرها فقال:"بئس ما جزيتها، وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم"
(2)
.
قَالَ السهيلي: واسمها ليلى، ويقال: كانت امرأة أبي ذر
(3)
. وزعم المبرد أن المرأة كانت أنصارية وكانت بمكة، وفيه نظر.
(1)
"شرح ابن بطال" 5/ 198 - 199.
(2)
"دلائل النبوة" 4/ 188 - 189.
(3)
"الروض الأنف" 4/ 15.
167 - باب مَنْ قَالَ: خُذْهَا، وَأَنَا ابن فُلَانٍ
وَقَالَ سَلَمَةُ: خُذْهَا، وَأَنَا ابن الأَكْوَعِ. [انظر: 3041]
3042 -
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ البَرَاءَ رضي الله عنه فَقَالَ: يَا أَبَا عُمَارَةَ، أَوَلَّيْتُمْ يَوْمَ حُنَيْنٍ؟ قَالَ الْبَرَاءُ وَأَنَا أَسْمَعُ: أَمَّا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُوَلِّ يَوْمَئِذٍ، كَانَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الحَارِثِ آخِذًا بِعِنَانِ بَغْلَتِهِ، فَلَمَّا غَشِيَهُ المُشْرِكُونَ نَزَلَ، فَجَعَلَ يَقُولُ:
"أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ
…
أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ"
قَالَ فَمَا رُئِيَ مِنَ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ أَشَدُّ مِنْهُ. [انظر: 2864 - مسلم: 1776 - فتح 6/ 164]
ثم ساق حديث البَرَاءَ: "أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ". وقد سلفا.
وأسند الأول أيضًا.
ومعنى: (خذها): الرمية. قَالَ ابن التين: وهي كلمة يقولها الراعي عندما يصيب فرحًا. وكان ابن عمر إذا رمى فأصاب يقول: خذها وأنا أبو عبد الرحمن، ورمى بين الهدفين وقال: أنا بها أنا بها، وكان راميًا، كان يرمي الطير على سنام البعير فلا يخشى أن يصيب السنام، وقال: أنا الغلام الهذلي، وروي عنه جيم:"أنا ابن العواتك"
(1)
، وقال ابن بطال: معنى: (خذها وأنا ابن الأكوع). أي: أنا ابن المشهور في الرمي بالإصابة عن القوس، وهذا على سبيل الفخر؛ لأن العرب تقول: أنا ابن نجدتها، أي: القائم للأمر، وأنا ابن جلاء، يريد:
(1)
رواه ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" 3/ 95، والطبراني في "الكبير" 7/ 168 (6724)، عن يحيى بن سعيد، عن عمرو بن سعيد بن العاصي، عن سبابة بن عاصم. قال الهيثمي في "المجمع" 8/ 218: رجاله رجال الثقات. وحسنه الألباني في "الصحيحة"(1569).
المنكشف الأمر الواضح الجلي. وقال الهذلي:
وَرَمَيتُ فَوْقَ مُلاءَةٍ مَحْبُوكةٍ
…
وَأَبَنْتُ للأشْهادِ حَزَّةَ أَدَّعِي
يقول: أبنت لهم قولي: خذها وأنا ابن فلان. وحزة: يعني ساعة أدعي إلى قومي، ولا يقول مثل هذا إلا الشجاع البطل، والعادة عند العرب أن يعلم الشجاع نفسه بعلامة في الحرب يتميز بها عن غيره ليقصده من يدعي الشجاعة فأعلم النبي صلى الله عليه وسلم نفسه بالنبوة المعصومة وبنسبه الطاهر، فقال ذَلِكَ ليقوي قلب من تمكن الشيطان منه فاستزله فانهزم، ولذلك نزل صلى الله عليه وسلم بالأرض؛ لأن النزول غاية ما يكون من الطمأنينة والثقة بالله، ليقتدي به المؤمنون فيثبتوا؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لا يجوز عليه من كيد الشيطان أن يقذف في قلبه خوفًا تزل به قدمه، أو ينكص على عقبيه فينهزم؛ لأنه على بصيرة من أمره، ويقين من نصر الله له، وإتمام أمره ومنعه من عدوه، وقد سلف هذا المعنى
(1)
.
ووقع في الداودي: فلما غشيه المشركون تولى، يعني: أبا سفيان بن الحارث. قَالَ: وليس هذا في أكثر الروايات، وهذا لم يروه أحد غيره، والمعروف في الروايات:(فلما غشيه المشركون نزل فجعل يقول: "أنا النبي لا كذب") إلى آخره، وفي "النوادر": قَالَ محمد بن عبد الحكم: لا بأس بالافتخار عند الرمي والانتماء للقبائل والرجز
(2)
، وكل ذَلِكَ إذا رمى بالسهم وظنه مصيبًا أن يصيح عليه، وبالذكر لله أحب إلي، وإن قَالَ: أنا الفلاني. لقبيلته فذلك جائز كله مستحب، وفيه إغراء لبعضهم ببعض.
(1)
"شرح ابن بطال" 5/ 199 - 200.
(2)
"النوادر والزيادات" 3/ 446.
واختلف السلف كما قَالَ الطبري: هل يعلم الرجل الشجاع نفسه عند لقاء العدو، فقال بعضهم: ذَلِكَ جائز على ما دل عليه هذا الحديث، وقد أعلم نفسه حمزة بن عبد المطلب يوم بدر بريشة نعامة في صدره، وأعلم نفسه أبو دجانة بعصابة بمحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الزبير يوم بدر معتمًّا بعمامة صفراء فنزلت الملائكة معتمين بعمائم صفر، وقال ابن عباس: في قوله تعالى في: {بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران: 125] أنهم أتوا محمدًا صلى الله عليه وسلم مسومين بالصوف، فسوم محمد وأصحابه أنفسهم وخيلهم على سيماهم بالصوف
(1)
، وكره آخرون التسويم والإعلام في الحرب، وقالوا: فعل ذَلِكَ من الشهرة ولا ينبغي للمسلم أن يشهر نفسه في خير ولا شر، قالوا: وإنما ينبغي للمؤمن إذا فعل شيئًا لله تعالى أن يخفيه عن الناس، إن الله لا يخفى عليه شيء روي هذا عن بريدة الأسلمي، والصواب كما قَالَ الطبري أنه لا بأس بالتسويم والإعلام في الحرب إذا فعله الفاعل من أهل البأس والنجدة، وهو قاصد بذلك شحذ الناس على الائتساء به والصبر للعدو والثبات لهم في اللقاء، وهو يريد ترهيب العدو إذا عرفوا مكانه، وإعلام من معه من المسلمين أنه لا يخذلهم ولا يسلمهم، وإذا لم يرد ذَلِكَ وقصد به الافتخار، فهذا المعنى هو المكروه لأنه ليس ممن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، وإنما قاتل للذكر
(2)
.
(1)
"تفسير الطبري" 3/ 128 (7785).
(2)
"شرح ابن بطال" 5/ 200 - 201.
168 - باب إِذَا نَزَلَ العَدُوُّ عَلَى حُكْمِ رَجُلٍ
3043 -
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ -هُوَ ابْنُ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ عَلَى حُكْمِ سَعْدٍ -هُوَ ابْنُ مُعَاذٍ - بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ قَرِيبًا مِنْهُ، فَجَاءَ عَلَى حِمَارٍ، فَلَمَّا دَنَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ» . فَجَاءَ فَجَلَسَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُ: «إِنَّ هَؤُلَاءِ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِكَ» . قَالَ: فَإِنِّي أَحْكُمُ أَنْ تُقْتَلَ المُقَاتِلَةُ، وَأَنْ تُسْبَى الذُّرِّيَّةُ. قَالَ:«لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ المَلِكِ» . [3804، 4121، 6262 - مسلم: 1768 - فتح 6/ 165]
ذكر فيه حديث أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ: لَمَّا نَزَلَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ عَلَى حُكْمِ سَعْدٍ بنِ مُعَاذٍ بَعَثَ إليه النبي صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ قَرِيبًا مِنْهُ، فَجَاءَ عَلَى حِمَارٍ، فَلَمَّا دَنَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ". فَجَاءَ فَجَلَسَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لَهُ:"إِنَّ هؤلاء نَنَرلُوا عَلَى حُكْمِكَ". قَالَ: فَإِنِّي أَحْكُمُ أَنْ تُقْتَلَ المُقَاتِلَةُ، وَأَنْ تُسْبَى الذُّرِّيَّةُ. فَقَالَ:"لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ المَلِكِ".
الشرح:
موضع الترجمة من الحديث لزوم حكم المحكم برضا الخصمين وإن لم ينتصب عمومًا، وهو ظاهر في جوازه في أمور الحرب وغيرها، وهو رد على الخوارج الذين أنكروا التحكيم على علي، والنزول على حكم الإمام أو غيره جائز، ولهم الرجوع عنه ما لم يحكم، فإذا حكم فلا رجوع، ولهم أن ينتقلوا من حكم رجل إلى غيره.
وفيه: أن التحاكم إلى رجل معلوم الصلاح والخير لازم للمتحاكمين، فكيف بيننا وبين عدونا في الدين؟ فالمال أخف مؤنة من النفس والأهل.
وفيه: أمر السلطان والحاكم بإكرام السيد من المسلمين، وجواز إكرام أهل الفضل في مجلس السلطان الأكبر، والقيام فيه لغيره من أصحابه وسادة أتباعه، وإلزام الناس كافة القيام إلى سيدهم، وقد اعترض هذا من قَالَ: إنما أمر الشارع الأنصار بهذا خاصة؛ لأنه سيدهم، ولا دليل عليه بل هو سيد من حضر من أنصاري ومهاجري؛ لأنه قَالَ فيه قولًا مجملًا لم يخصَّ به أحدًا ممن بين يديه من غيره، وسيأتي في الاستئذان تأويل حديث الباب مع ما عارضه إن شاء الله
(1)
.
وفيه: كما قَالَ الطبري: البيان عن أن لإمام المسلمين إذا حاصر العدو فسألوهم أن ينزلوهم على حكم رجل من المسلمين مرضيَّة أمانته على الإسلام وأهله، موثوق بعقله ودينه أن يجيبهم إلى ذَلِكَ، وإن كان ذَلِكَ الرجل غائبًا عن الجيش؛ لأن سعدًا لم (يحضر)
(2)
حصار رسول الله صلى الله عليه وسلم لبني قريظة، حين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزلوا على حكمه، وكان بالمدينة يعالج كَلْمَهُ الذي كلم بالخندق، فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حَتَّى حكم فيهم، فإن وافق حكمه حكم الله ورسوله أمضي، وإن خالف رد، وقيل للنازلين على حكمه: إن رضيتم بحكم غيره مما يجوز أمضينا حكمه، وإن كرهتم ذَلِكَ رددناكم إلى حصنكم.
والحكم الذي لا يجوز لأحد الفريقين الرجوع عنه هو أن يحكم بقتلهم وسبي ذراريهم ونسائهم وقسم أموالهم، إن كان ذَلِكَ هو النظر للمسلمين، وإن حكم باسترقاق مقاتلتهم أو المن عليهم ووضع الخراج على رءوسهم فجائز بعد أن يكون نصرًا للمسلمين.
(1)
سيأتي برقم (6262) باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "قوموا إلى سيدكم".
(2)
في (ص): يشهد.
والحكم المردود: أن يحكم أن يقروا في أرض المسلمين كفارًا بغير خراج ولا جزية؛ لأنه لا تجوز الإقامة بغير جزية، وإن سألوه أن ينزلهم على حكم الله، أو يحكم فيهم بحكم الله، فإنه لا ينبغي أن يجيبهم إلى ذَلِكَ، لصحة خبر بريدة. "وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوا أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا"
(1)
. فإن قلتُ: فكيف جاز للإمام أن ينزلهم على حكم رجل مرضي دينه لا يتجاوز حكم الله ورسوله، ثم أنت تقول: لا يجوز للإمام الإجابة إذا سألوه النزول على حكم الله ورسوله وهذان متباينان؟ قلتُ: لا تباين، فأما كراهتنا للإمام الإجابة على ذَلِكَ فإن ذَلِكَ لا يعلمه إلا علام الغيوب، وإنما يحكمون إذا كانوا أهل دين وأمانة فأصلح ما حضرهم في الوقت، ولا سبيل لهم إلى الحكم بعلم الله، فهذا معنى نهيه، وإن هم نزلوا على حكم رجل من المسلمين ثم بدا لهم في الرضا بحكمه قبل الحكم وسألوا الإمام غيره ممن هو رضي، فللإمام أن يجيبهم إلى ذَلِكَ، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم ذكر عنه أن بني قريظة كانوا نزلوا على حكمه ثم سألوه أن يجعل الحكم لسعد بن معاذ فأجابهم إلى ذَلِكَ، فأما إذا
حكم بينهم الذي نزلوا على حكمه ثم بدا لهم في حكمه لم يكن للإمام رد حكمه إذا لم يخالف حكمه ما يجوز عندنا.
وفيه: أن للإمام إذا ظهر من قوم من أهل الحرب الذي بينه وبينهم موادعة وهدنة على خيانة وغدر أن ينبذ إليهم على سواء، وأن يحاربهم، وذلك أن بني قريظة كانوا أهل موادعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الخندق،
(1)
رواه مسلم (1731) كتاب الجهاد والسير، باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث ووصيته إياهم بآداب الغزو وغيرها.
فلما كان يوم الأحزاب ظاهروا قريشًا وأبا سفيان على رسول الله صلى الله عليه وسلم وراسلوهم: إنا معكم فأثبتوا مكانكم. وأحل الله بذلك من فعلهم قتالهم ومنابذتهم على سواء، وفيهم نزلت {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً} الآية [الأنفال: 58] فحاصرهم والمسلمون معه حَتَّى نزلوا على حكم سعد.
وفيه -كما قَالَ المهلب-: قد يوافق برأيه ما في حكم الله تعالى، ولا يعلم ذَلِكَ إلا على لسان نبيِّه كما قَالَ صلى الله عليه وسلم في سعد
(1)
.
وقد أسلفنا أن قوله: ("قوموا إلى سيدكم") ظاهر في القيام لأهل الدين والعلماء على وجه الإكرام والاحترام، وقد قام طلحة بن عبيد الله لكعب بن مالك لما تيب عليه فكان كعب يراها له. قَالَ السهيلي: وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم لصفوان بن أمية ولعدي بن حاتم حين قدما عليه، وقام لمولاه زيد بن حارثة ولغيره أيضًا، وكان يقوم لابنته فاطمة إذا دخلت عليه وتقوم له إذا قدم عليها، وقام لجعفر ابن عمه، وليس هذا معارض لحديث معاوية "من سره أن يتمثل له الرجال قيامًا فليتبؤا مقعده من النار"
(2)
؛ لأن هذا الوعيد إنما يوجه للمتكبرين وإلى من يغضب أو يسخط ألا يقام له
(3)
.
وقال القرطبي: إنما المكروه القيام للمرء وهو جالس. وتأول بعض أصحابنا "قوموا إلى سيدكم". على أن ذَلِكَ مخصوص بسعد، وقال بعضهم: أمرهم بالقيام لينزلوه عن الحمار لمرضه، وفيه بعد
(4)
.
(1)
"شرح ابن بطال" 5/ 202 - 204.
(2)
رواه الترمذي (2755)، وقال: حديث حسن.
(3)
"الروض الأنف" 4/ 198 - 199.
(4)
"المفهم" 3/ 592 - 593.
وفيه: جواز قول الرجل للآخر: يا سيدي إذا علم منه خيرًا وفضلاً؛ وإنما جاءت الكراهة في تسويد الرجل الفاجر.
وقوله: ("بحكم الملِك") هو بكسر اللام، وهو المشهور في الرواية" وكذا هو في مسلم قطعًا، وفتح في البخاري بعضهم اللام، فإن صح فالمراد به جبريل في الحكم الذي جاء به عن الله، ورده ابن الجوزي من وجهين: أحدهما: ما نقل أن ملكًا نزل في شأنهم بشيء، ولو نزل بشيء اتبع وترك اجتهاد سعد. قلتُ: في غير رواية البخاري أنه صلى الله عليه وسلم قَالَ في حكم سعد: "بذلك طرقني الملك سحرا"
(1)
.
ثانيهما: في بعض ألفاظ الصحيح كما سيأتي في موضعه: "قضيت بحكم الله"
(2)
، وأما ابن التين فقال: المعنى كله واحد على الكسر والفتح.
(1)
قال الحافظ في "الفتح" 7/ 412: هو بكسر اللام، والشك فيه من أحد رواته أي اللفظين قال، وفي رواية محمد بن صالح المذكورة:"لقد حكمت فيهم بحكم الله الذي حكم به من فوق سبع سماوات"، وفي حديث جابر عند ابن عائذ: فقال: "احكم فيهم يا سعد" قال: الله ورسوله أحق بالحكم، قال:"قد أمرك الله تعالى أن تحكم فيهم" وهذا كله يدفع ما وقع عند الكرماني "بحكم الملَك" بفتح اللام، وفسره بجبريل؛ لأنه الذي ينزل بالأحكام.
(2)
سيأتي برقم (4121) كتاب المغازي، باب مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من الأحزاب،
ومخرجه إلى بني قريظة ومحاصرته إياهم.
169 - باب قَتْلِ الأَسِيِر وَقَتْلِ الصَّبْرِ
3044 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَامَ الْفَتْحِ وَعَلَى رَأْسِهِ المِغْفَرُ، فَلَمَّا نَزَعَهُ جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ إِنَّ ابْنَ خَطَلٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الكَعْبَةِ، فَقَالَ:«اقْتُلُوهُ» . [انظر: 1846 - مسلم: 1357 - فتح 6/ 165]
ذكر فيه حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَامَ الفَتْح وَعَلَى رَأْسِهِ المِغْفَرُ، فَلَمَّا نَزَعَهُ جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: إِنَّ ابن خَطَلٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الكَعْبَةِ. فَقَالَ: "اقْتُلُوهُ".
هذا الحديث سلف في الحج، وقد تقدم القول في قتل الأسرى، وأن الإمام مخير بين القتل والمن، وكذلك فعل الشارع يوم الفتح قتل ابن خطل ومقيس بن صبابة والقينتين ومنَّ على الباقين.
وفيه: أن للإمام أن يقتل صبرًا من حاد الله ورسوله وكان في قتله صلاح للمسلمين، كما قتل صلى الله عليه وسلم يوم بدر عقبة بن أبي معيط، قام إليه علي فقتله صبرًا، فقال: من للصبية يا محمد؟ قَالَ: "النار". وقتل النضر بن الحارث، وكذلك فعل سعد في بني قريظة.
وهذا الحديث حجة لقول الجمهور: إن مكة فتحت عنوة. وقد سلف ذَلِكَ في الحج، ومن الآثار الدالة ما ذكره أبو عبيد بإسناده من حديث أبي هريرة، أنه حدث بفتح مكة (قَالَ)
(1)
: ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم مكة فبعث الزبير على إحدى المجنبتين، وبعث خالد بن الوليد على الأخرى، وبعث أبا عبيدة على الحسر فأخذوا بطن الوادي، فأمرني رسول الله فناديت بالأنصار، فلما أطالت به قَالَ: "أترون أوباش
(1)
من (ص 1).
قريش وأتباعهم؟ ". ثم قَالَ بيديه (إحداهما)
(1)
على الأخرى: "احصدوهم حصدا حَتَّى توافوني بالصفا". قَالَ أبو هريرة: فانطلقنا فما شاء أحد منا أن يقتل منهم من شاء إلا قتله، فجاء أبو سفيان بن حرب فقال: يا رسول الله، أبيحت خضراء قريش فلا قريش بعد اليوم. فقال صلى الله عليه وسلم:"من أغلق بابه فهو آمن، (ومن دخل دار أبي سفيان فهوآمن"
(2)
(3)
.
ثم ساق من حديث عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح: "ألا لا يجهزن على جريح، ولا يتبعن مدبر، ولا يقتلن أسير، ومن أغلق بابه فهو آمن" وهذا ظاهر في دخولها عنوة، ومن خالف ذَلِكَ واعتل بأنه صلى الله عليه وسلم لم يحكم فيها بحكم العنوة من الغنم لها واسترقاق أهلها فلم تكن عنوة، فقد يدعى تخصيصها بذلك كما خصت بغير ذَلِكَ
(4)
.
(1)
جاءت صورتها في الأصل: إحديهما. وهي كتابة بعض الكتبة والنساخ القدامى، وهو من أوهام الخواص، نبه عليه الحريري في "درة الغواص" ص 130.
(2)
من (ص 1).
(3)
"الأموال" لأبي عبيد ص 70 (158).
(4)
"الأموال" ص 70.
170 - باب هَل يَسْتَأْسِرُ الرَّجُلُ؟ وَمَنْ لَمْ يَسْتَأسِرْ، وَمَنْ رَكَعَ رَكْعَتَيْن عِنْدَ القَتْلِ
3045 -
حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ أَسِيدِ بْنِ جَارِيَةَ الثَّقَفِيُّ -وَهْوَ حَلِيفٌ لِبَنِي زُهْرَةَ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي هُرَيْرَةَ- أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَشَرَةَ رَهْطٍ سَرِيَّةً عَيْنًا، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَاصِمَ بْنَ ثَابِتٍ الأَنْصَارِيَّ جَدَّ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ، فَانْطَلَقُوا حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالْهَدَأَةِ وَهْوَ بَيْنَ عُسْفَانَ وَمَكَّةَ ذُكِرُوا لِحَيٍّ مِنْ هُذَيْلٍ يُقَالُ لَهُمْ: بَنُو لِحْيَانَ، فَنَفَرُوا لَهُمْ قَرِيبًا مِنْ مِائَتَىْ رَجُلٍ، كُلُّهُمْ رَامٍ، فَاقْتَصُّوا آثَارَهُمْ حَتَّى وَجَدُوا مَأْكَلَهُمْ تَمْرًا تَزَوَّدُوهُ مِنَ المَدِينَةِ فَقَالُوا: هَذَا تَمْرُ يَثْرِبَ. فَاقْتَصُّوا آثَارَهُمْ، فَلَمَّا رَآهُمْ عَاصِمٌ وَأَصْحَابُهُ لَجَئُوا إِلَى فَدْفَدٍ، وَأَحَاطَ بِهِمُ الْقَوْمُ فَقَالُوا لَهُمُ: انْزِلُوا وَأَعْطُونَا بِأَيْدِيكُمْ، وَلَكُمُ الْعَهْدُ وَالْمِيثَاقُ، وَلَا نَقْتُلُ مِنْكُمْ أَحَدًا. قَالَ عَاصِمُ بْنُ ثَابِتٍ أَمِيرُ السَّرِيَّةِ: أَمَّا أَنَا فَوَاللهِ لَا أَنْزِلُ اليَوْمَ فِي ذِمَّةِ كَافِرٍ، اللَّهُمَّ أَخْبِرْ عَنَّا نَبِيَّكَ. فَرَمَوْهُمْ بِالنَّبْلِ، فَقَتَلُوا عَاصِمًا فِي سَبْعَةٍ، فَنَزَلَ إِلَيْهِمْ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ بِالْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ، مِنْهُمْ خُبَيْبٌ الأَنْصَاريُّ وَابْنُ دَثِنَةَ وَرَجُلٌ آخَرُ، فَلَمَّا اسْتَمْكَنُوا مِنْهُمْ أَطْلَقُوا أَوْتَارَ قِسِيِّهِمْ فَأَوْثَقُوهُمْ فَقَالَ الرَّجُلُ الثَّالِثُ هَذَا أَوَّلُ الْغَدْرِ، وَاللهِ لَا أَصْحَبُكُمْ، إِنَّ في هَؤُلَاءِ لأُسْوَةً. يُرِيدُ القَتْلَى، فَجَرَّرُوهُ وَعَالَجُوهُ عَلَى أَنْ يَصْحَبَهُمْ فَأَبَى فَقَتَلُوهُ، فَانْطَلَقُوا بِخُبَيْبٍ وَابْنِ دَثِنَةَ حَتَّى بَاعُوهُمَا بِمَكَّةَ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ، فَابْتَاعَ خُبَيْبًا بَنُو الحَارِثِ بْنِ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَكَانَ خُبَيْبٌ هُوَ قَتَلَ الحَارِثَ بْنَ عَامِرٍ يَوْمَ بَدْرٍ، فَلَبِثَ خُبَيْبٌ عِنْدَهُمْ أَسِيرًا، فَأَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عِيَاضٍ أَنَّ بِنْتَ الحَارِثِ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهُمْ حِينَ اجْتَمَعُوا اسْتَعَارَ مِنْهَا مُوسَى يَسْتَحِدُّ بِهَا فَأَعَارَتْهُ، فَأَخَذَ ابْنًا لِي وَأَنَا غَافِلَةٌ حِينَ أَتَاهُ قَالَتْ فَوَجَدْتُهُ مُجْلِسَهُ عَلَى فَخِذِهِ وَالْمُوسَى بِيَدِهِ، فَفَزِعْتُ فَزْعَةً عَرَفَهَا خُبَيْبٌ فِي وَجْهِي فَقَالَ تَخْشَيْنَ أَنْ أَقْتُلَهُ؟ مَا كُنْتُ لأَفْعَلَ ذَلِكَ. وَاللهِ مَا رَأَيْتُ أَسِيرًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ خُبَيْبٍ، وَاللهِ لَقَدْ وَجَدْتُهُ يَوْمًا يَأْكُلُ مِنْ قِطْفِ عِنَبٍ فِي يَدِهِ، وَإِنَّهُ لَمُوثَقٌ فِي الحَدِيدِ، وَمَا بِمَكَّةَ مِنْ ثَمَرٍ. وَكَانَتْ تَقُولُ:
إِنَّهُ لَرِزْقٌ مِنَ اللهِ رَزَقَهُ خُبَيْبًا، فَلَمَّا خَرَجُوا مِنَ الحَرَمِ لِيَقْتُلُوهُ فِي الحِلِّ، قَالَ لَهُمْ خُبَيْبٌ: ذَرُونِي أَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ. فَتَرَكُوهُ، فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ: لَوْلَا أَنْ تَظُنُّوا أَنَّ مَا بِي جَزَعٌ لَطَوَّلْتُهَا اللَّهُمَّ أَحْصِهِمْ عَدَدًا،
وَلَسْتُ أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا
…
عَلَى أَيِّ شِقٍّ كَانَ لِلَّهِ مَصْرَعِي
وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الإِلَهِ وَإِنْ يَشَأْ
…
يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ
فَقَتَلَهُ ابْنُ الحَارِثِ، فَكَانَ خُبَيْبٌ هُوَ سَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ لِكُلِّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ قُتِلَ صَبْرًا، فَاسْتَجَابَ الله لِعَاصِمِ بْنِ ثَابِتٍ يَوْمَ أُصِيبَ، فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ خَبَرَهُمْ وَمَا أُصِيبُوا، وَبَعَثَ نَاسٌ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ إِلَى عَاصِمٍ حِينَ حُدِّثُوا أَنَّهُ قُتِلَ لِيُؤْتَوْا بِشَيْءٍ مِنْهُ يُعْرَفُ، وَكَانَ قَدْ قَتَلَ رَجُلاً مِنْ عُظَمَائِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ، فَبُعِثَ عَلَى عَاصِمٍ مِثْلُ الظُّلَّةِ مِنَ الدَّبْرِ، فَحَمَتْهُ مِنْ رَسُولِهِمْ، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى أَنْ يَقْطَعَ مِنْ لَحْمِهِ شَيْئًا. [3989/ 4086، 7402 - فتح 6/ 165]
حدثنا أَبُو اليَمَانِ، أنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ أَسِيدِ بْنِ جَارِيَةَ الثَّقَفِيُّ -وَهْوَ حَلِيف لِبَنِي زُهْرَةَ وَكَانَ مِنْ أَصحَابِ أَبِي هُرَيْرَةَ- أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَشَرَةَ رَهْطٍ سرِيَّةً عَيْنًا، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَاصِمَ بْنَ ثَابِتٍ الأَنْصَارِيَّ جَدَّ عَاصِمٍ بنِ عُمَرَ بنِ الخطَّابِ، فَانْطَلَقُوا حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالْهَدَأَةِ وَهْوَ بَيْنَ عُسْفَان وَمَكَّةَ .. الحديث.
وفيه قصة خبيب بكمالها، وهو من أفراده، وعند الدارقطني: قَالَ يونس -من رواية أبي صالح، عن الليث، عن يونس- وابن أخي الزهري وإبراهيم بن سعد: عُمر بن أبي سفيان
(1)
بضم العين. غير أن إبراهيم نسبه إلى جده فقال: عمر بن أسيد. قَالَ البخاري في "تاريخه": الصحيح: عمرو
(2)
.
(1)
"العلل" 8/ 58.
(2)
"التاريخ الكبير" 6/ 336 (2567).
إذا تقرر ذَلِكَ؛ فالكلام عليه من وجوه:
أحدها: هذِه السرية تسمى سرية الرجيع. قَال ابن سعد: كانت في صفر على رأس ستة وثلاثين شهرا
(1)
. وعن أبي هريرة وعاصم بن عمر قالا: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي من عضل والقارة -وهم من الهُون ابنِ خُزيمة- فقالوا: يا رسول الله، إن فينا إسلامًا فابعث معنا نفرًا من أصحابك يفقهونا ويقرءونا القرآن. فبعث معهم عشرة رهط: عاصم بن ثابت، ومَرْثد بن أبي مَرْثد، وعبد الله بن طارق، وخبيب بن عدي، وزيد بن الدثنة، وخالد بن البكير، ومعتب بن عبيد -وهو أخو ابن طارق لأمه- وأمر عليهم عاصمًا وقال قائل: مرثد بن أبي مرثد
(2)
. وكذا في "الإكليل"، قَالَ الواقدي: والرجيع على سبعة أميال من عسفان، حَدَّثَني موسى بن يعقوب عن أبي الأسود قَالَ: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحاب الرجيع عيونًا إلى مكة ليخبروه.
(3)
وعند موسى بن عقبة كذلك عن الزهري قَالَ: وكانوا ستة. وفي "الدلائل" للبيهقي: بعث صلى الله عليه وسلم عاصم بن ثابت إلى بني لحيان بالرجيع
(4)
، وذكرها ابن إسحاق في صفر سنة أربع، وعدهم ستة، وأميرهم مرثد. وقال عبد الحق في "جمعه": إنها كانت في غزوة الرجيع، وكانت غزوة الرجيع بعد أحد.
ثانيها: أسيد: بفتح الهمزة وكسر السين، وجارية: بالجيم.
وقوله: (جد عاصم بن عمر). قَالَ الدمياطي بخطه: لم يكن جده وإنما كان خاله؛ لأن عاصم بن عمر بن الخطاب أمه جميلة بنت ثابت بن أبي الأقلح، أخت عاصم بن ثابت، وكان اسمها عاصية فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم جميلة.
(1)
"الطبقات الكبرى" 2/ 55.
(2)
"الطبقات الكبرى" 1/ 136.
(3)
"مغازي الواقدي" 1/ 136.
(4)
"دلائل النبوة" 3/ 331.
وبنو لحيان من هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر بكسر اللام، وحكى صاحب "المطالع " فتحها، وعند الدمياطي: إنهم من بقايا جرهم دخلوا في هذيل. وعن ابن دريد: اشتقاقه من اللَّحْي من قولهم: لحيت العود ولَحَوْتُه إذا قشرته
(1)
.
و (الهدأة) -بفتح الهاء والهمزة- موضع بين عسفان ومكة. كما ذكر.
وقوله: (فنفروا لهم قريبًا من مائتي رجل). هو بفتح الهاء، وكذا ضبطه الدمياطي، وضبطه بعض شيوخنا بتشديدها، وفي رواية: فنفر إليهم بقريب من مائة رجل بتخفيفها، فكأنه قَالَ: نفروا مائتي رجل، ولكن ما تبعهم إلا مائة. وفي رواية: فنفذوا. بالذال المعجمة.
وقوله: (فاقتصوا آثارهم): أي: اتبعوها. قَالَ ابن التين: ويجوز بالسين.
وقوله: (فلما رآهم عاصم). كذا هو في "الصحيح" و"شرح ابن بطال"
(2)
، وذكره بعض الشراح بلفظ: فلما أحس ثم قَالَ: أي علم. وفي أبي داود: حس بغير ألف
(3)
.
و (الفدفد) -بفاءين مفتوحتين بينهما قال مهملة ساكنة- وهو الموضع المرتفع الذي فيه غلظ وارتفاع. وقال ابن فارس: إنه الأرض المستوية
(4)
. وظاهر الحديث: أنه مكان مشرف تحصنوا فيه، ولأبي داود: قردد
(5)
، بقاف مفتوحة ثم راء ساكنة ثم قال مفتوحة مهملة وأخرى مثلها، وهما سواء.
(1)
"الاشتقاق" ص 176.
(2)
"شرح ابن بطال" 5/ 206.
(3)
"سنن أبي داود"(2660).
(4)
"مجمل اللغة" 2/ 701.
(5)
"سنن أبي داود"(2660).
ثالثها: الثالث الذي قَالَ: (هذا أول الغدر) سماه ابن إسحاق: عبد الله بن طارق
(1)
، بدري، وقتله هؤلاء رميًا بالحجارة بالظهران، وكان خبيب قتل الحارث بن عامر يوم بدر، كما ذكره البخاري، وهو بضم الخاء المعجمة، ذكره البخاري وغيره في البدريين، وقال الدمياطي: إن الحارث بن عامر إنما قتله خبيب بن يساف بن عيينة ببدر؛ لأن خبيب بن عدي لم يشهد بدرًا.
وقوله: (فابتاع خبيبًا بنو الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف). وقال ابن إسحاق: ابتاع خبيبًا حجير بن أبي إهاب -أخو الحارث- لأنه ابتاعه لعقبة بن الحارث ليقتله بأبيه
(2)
، وقيل: اشترك في ابتياعه أبو إهاب بن عزيز وعكرمة بن أبي جهل والأخنس بن شريق وعبيدة بن حكيم بن الأوقص وأمية بن أبي عتبة وبنو الحضرمي وصفوان بن أمية، وهم أبناء من قتل من المشركين ببدر، ودفعوه إلى عقبة فسجنه حَتَّى انقضت الأشهر الحرم فصلبوه بالتنعيم، فكان أول من صلب في ذات الله وأول من صلى ركعتين عند القتل، وقيل: زيد بن حارثة (يعني: أن زيد بن حارثة أول من سن ركعتين على قول)
(3)
حين أراد المكري الغدر به فيما ذكر في "مرشد الزوار"
(4)
.
والدثنة -بدال مهملة مفتوحة ثم شاء مثلثة مكسورة وساكنة ثم نون مفتوحة- قتله صفوان بن أمية بأبيه.
(1)
انظر "سيرة ابن هشام" 3/ 164.
(2)
انظر في "سيرة ابن هشام" 3/ 164.
(3)
من (ص 1).
(4)
ورد بهامش الأصل: قصة زيد بمكة قبل هذِه القصة، وقد رواها أبو عمر في "استيعابه" بسنده إلى الليث بن سعد قال: بلغني أن زيد بن حارثة، فذكر القصة.
وقوله: (فأخبرني عبيد الله بن عياض [أن بنت الحارث أخبرته) القائل: (فأخبرني عبيد الله)]
(1)
هو الزهري كما نبه عليه الدمياطي، لا كما قاله بعض الشراح أنه عمرو، وعبيد الله هذا: هو القاري من القارة، تابعي، ولم يذكره أحد في رجال البخاري كما ادعاه الدمياطي، نعم ذكره المزي، وهو والد محمد
(2)
، وسمَّى ابن إسحاق ابنة الحارث ماوية. وقيل: مارية. وهي مولاة حجر بن أبي إهاب، وكانت زوج عقبة بن الحارث، وسماها ابن بطال جويرية
(3)
، وفي "معجم البغوي": هي ماوية بنت حجير بن أبي إهاب
(4)
. وللواقدي: هي مولاة بني عبد مناف
(5)
. قَالَ الحميدي في "جمعه": رواية عبيد الله عنها هنا إلى قوله: (فلما خرجوا به من الحرم)
(6)
، والابن الذي خيف عليه من الموسى هو أبو الحسين بن الحارث بن عامر بن نوفل، وهو جد عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين المكي شيخ مالك.
وجاء (واقتلهم بددا)، هو بفتح الباء الموحدة، والبدد: التفرق. قَالَ السهيلي: ومن رواه بكسر الباء فهو جمع بدة
(7)
، وهي: الفرقة والقطعة من الشيء المتبدد، ونصبه على الحال من المدعو، وبالفتح مصدر.
و (المصرع): موضع سقوط الميت، و (الشِّلْو): العضو من اللحم. وعن الخليل أنه الجسد من كل شيء
(8)
.
قَالَ صاحب "المطالع": وهو متعين هنا -يعني أعضاء جسد- إذ لا يقال: أعضاء عضو.
(1)
من (ص 1).
(2)
"تهذيب الكمال" 19/ 139.
(3)
"شرح ابن بطال" 5/ 208.
(4)
"معجم الصحابة" 2/ 265.
(5)
"مغازي الواقدي" 1/ 354.
(6)
"الجمع بين الصحيحين" 3/ 254.
(7)
"الروض الأنف" 4/ 237
(8)
"العين" 6/ 284، مادة: شلو.
و (الأوصال): جمع وصل. قاله الداودي، والممزع -بضم الميم وبالزاي وعين مهملة- المفرق ويروى أن الذي قتل خبيبًا هو أبو سروعة بكسر السين وقيل بفتحها، وفتح الراء وقيل بضمها، وقيل: إنه عقبة بن الحارث وقيل: أخوه، وكلاهما أسلم بعد ذلك، وكان عاصم قتل يوم أحد فتيين من بني عبد الدار أخوين، أمهما سلافة بنت سعد بن (شهيد)
(1)
، وهي التي نذرت إن قدرت على قحف عاصم لتشربن فيه الخمر.
و (الظلة): السحابة. وقيل: هي كل ما غطى وستر. وقال القزاز: ما يستظل به من ثوب أوشجر.
و (الدبر): الزنابير، واحدها دبرة. وقال ابن فارس: هي النحل، وجمعه دبور
(2)
. وقال ابن بطال: الدبر: جماعة النحل لا واحد لها، وكذلك الثَّوْلُ والخشرم ولا واحد لشيء منها، كما يقال لجماعة الجراد: رجل، ولجماعة النعام: خيط، ولجماعة الظباء: إجل، وليس بشيء (من)
(3)
ذَلِكَ واحد
(4)
. ولم يرع ذَلِكَ المشركين وصدهم اللهو كما سبق في علم الله، والشعر الذي أنشده خبيب قَالَ ابن هشام في "السيرة": أكثر أهل العلم بالشعر ينكرها له
(5)
.
رابعها: في فوائده، فيه: أنه جائز أن يستأسر الرجل إذا أراد أن يأخذ برخصة الله في إحياء نفسه، كما فعل خبيب وصاحباه، وقال
(1)
في (ص): سهيل.
(2)
"مجمل اللغة" 1/ 345، مادة: دبر.
(3)
من (ص 1).
(4)
"شرح ابن بطال" 5/ 209.
(5)
"سيرة ابن هشام" 3/ 169، وفيه: بعض أهل العلم.
الحسن البصري: لا بأس أن يستأسر الرجل إذا خاف أن يغلب. وقال الأوزاعي: لا بأس بالأسير المسلم أن يأبى أن يمكن من نفسه ويمد عنقه للقتل
(1)
.
وفيه: الأخذ بالشدة والإنابة من الأسر والأنفة من أن يجري عليه ملك كافر، كما فعل عاصم، واحد صاحبي خبيب حين أَبَى من السير معهم حَتَّى قتلوه. وقال الثوري: أكره للأسير المسلم أن يمكن من نفسه إلا مجبورا.
وفيه استنان الركعتين لكل من قتل صبرًا.
وفيه: استنان الاستحداد لمن أسر ولمن يقتل، والتنظيف لمن يضيع بعد القتل لئلا يطلع منه على قبح عورة.
وفيه: أداء الأمانة إلى المشرك وغيره، وفيه: التورع من قتل أطفال المشركين؛ رجاء أن يكونوا مؤمنين.
وفيه: الامتداح بالشعر في حين ينزل بالمرء هوان في دين أو ذلة ليسلي بذلك نفسه ويرغم بذَلِكَ أنف عدوه ويجدد في نفسه صبرًا وأنفة.
وأما قولها: (يأكل من قطف عنب وإنه لموثق بالحديد وما بمكة من ثمر، وكانت تقول: إنه لرزق من الله رزقه خبيبًا). قَالَ ابن بطال: هذا ممكن أن يكون آية لله على الكفار وبرهانًا لنبيه، وتصحيحًا لرسالته عند الكافرة وأهل بلدها الكفار؛ من أجل ما كانوا عليه من تكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما من يدعي اليوم مثل هذا بين ظهراني المسلمين، فليس له وجه. إذ المسلمون كلهم قد دخلوا في دين الله أفواجًا وآمنوا بمحمد وأيقنوا به، فأي معنى لإظهار آية عندهم؟ وعلى ما يستشهد
(1)
انظر: "النوادر والزيادات" 3/ 317.
بها فيهم؛ لأنه قد يشك المرتاب ومن في قلبه جهل، فيقول: إذا جاز ظهور هذِه الآيات من غير نبي، فكيف يصدقها من نبي وغيره يأتي بها؟ فلو لم يكن في رفع هذِه إلا رفع الريب عن قلوب أهل التقصير والجهل؛ لكان قطع الذريعة واجبًا والمنع منها لازمًا لهذِه العلة، فكيف ولا معنى لها في الإسلام بعد تأصله، وعند أهل الإيمان بعد تمكنه؟ إلا أن يكون من ذَلِكَ مالاً يخرق عادة، ولا يقلب عينا، ولا يخرج عن معقول البشر، مثل أن يكرم الله عبدًا بإجابة دعوة من حينه في أمر عسير وسبب ممتنع ودفع نازل، وشنعة قد أضلت فيصرفها بلطفه عن وليه، وهذا ومثله مما يظهر فيه فضل الفاضل وكرامة الولي عند ربه، قَالَ: وقد أخبرني أبو عمران الفقيه الحافظ بالقيروان أنه وقف أبا بكر بن الطيب الباقلاني على تجويزه لهذِه المعجزات، فقال له: أرأيت إن قالت لنا المعتزلة: إن برهانًا على تصحيح مذهبنا وما ندعيه من المسائل المخالفة فحكم ظهور هذِه الآية على يدي رجل صالح منا؟ قَالَ أبو عمران: فأطرق عني ومطلني بالجواب، ثم اقتضيته في مجلس آخر فقال لي: كل ما اعترض من هذِه الأشياء شيئًا من الدين أو السنن، أو ما عليه صحيح العلم فلا يقبل أصلاً على أي طريق جاء. فهذا آخر ما رجع إليه ابن الطيب.
وأما حماية الله عاصمًا من الدبر فلئلا ينتهك حرمته عدوه، فهذِه الكرامة التي تجوز، مثل ذَلِكَ غير منكر؛ لأن الله تعالى حماه على طريق العادات، ولم يكن قلب عين ولا خرق عادة، هذا وشبهه جائز.
وفيه: علامة من علامات النبوة بإجابة دعوة عاصم بأن أخبر الله نبيه بالخبر قبل بلوغه على ألسنة المخلوقين
(1)
.
(1)
"شرح ابن بطال" 5/ 208 - 209.
171 - باب فَكَاكِ الأَسِيِر
فِيهِ عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
3046 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «فُكُّوا العَانِيَ -يَعْنِي الأَسِيرَ- وَأَطْعِمُوا الجَائِعَ وَعُودُوا المَرِيضَ» . [5174، 5373، 5649، 7173 - فتح 6/ 167]
3047 -
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا مُطَرِّفٌ، أَنَّ عَامِرًا حَدَّثَهُمْ، عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ لِعَلِيٍّ رضي الله عنه: هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ مِنَ الوَحْيِ إِلاَّ مَا فِي كِتَابِ اللهِ؟ قَالَ: وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ مَا أَعْلَمُهُ إِلاَّ فَهْمًا يُعْطِيهِ الله رَجُلاً فِي الْقُرْآنِ، وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ. قُلْتُ: وَمَا فِي الصَّحِيفَةِ؟ قَالَ: العَقْلُ، وَفَكَاكُ الأَسِيرِ، وَأَنْ لَا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ. [انظر: 111 - مسلم: 1370 - فتح 6/ 167]
ثم ذكر حديث أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "فُكُّوا العَانِيَ -يَعْنِي: الأَسِيرَ- وَأَطْعِمُوا الجَائِعَ، وَعُودُوا المَرِيضَ".
وحديث أَبِي جُحَيْفَةَ: قُلْتُ لِعَلِيٍّ رضي الله عنه: هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ مِنَ الوَحْيِ إِلَّا مَا فِي كِتَابِ اللهِ؟ قَالَ: وَالَّذِي فَلَقَ الحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ مَا أَعْلَمُهُ إِلَّا فَهْمًا يُعْطيهِ اللهُ رَجُلًا فِي القُرْآنِ، وَمَا فِي هذِه الصَّحِيفَةِ. قُلْتُ: وَمَا في الصَّحِيفَةِ؟ قَالَ: العَقْلُ، وَفَكَاكُ الأَسِيرِ، وَأَنْ لَا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ.
هذا الحديث من أفراده، وقد سلف في كتاب العلم، ويأتي في الديات أيضًا
(1)
، وفكاك الأسير فرض كفاية لهذا الحديث وعلى هذا كافة العلماء.
(1)
سيأتي برقم (6903) باب العاقلة.
وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه قَالَ: فكاك كل أسير من أسرى المسلمين من بيت المال
(1)
. وبه قَالَ إسحاق، وروي عن ابن الزبير أنه سأل الحسن بن علي عن فكاك الأسير قَالَ: على أهل الأرض التي يقاتل عليها
(2)
. وروى أشهب وابن نافع، عن مالك أنه سُئل: أواجب على المسلمين افتداء من أسر منهم؟ قَالَ: نعم، أليس واجبًا عليهم أن يقاتلوا حَتَّى يستنقذوهم، فكيف لا يفدونهم بأموالهم
(3)
؟
وعن أحمد: يفادون بالرءوس، وأما بالمال فلا أعرفه
(4)
.
والحديث وهو ("فكوا العاني") عمومٌ في كل ما يفادى به، فلا معنى لقول أحمد، وقد قَالَ عمر بن عبد العزيز: إذا (خرج)
(5)
الذمي بالأسير من المسلمين فلا يحل للمسلمين أن يردوه إلى الكفر ليفادوه بما استطاعوا. قَالَ تعالى: {وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ} [البقرة: 85].
وإطعام الجائع فرض على الكفاية أيضًا، ألا ترى لو أن رجلاً يموت جوعًا وعندك ما تُجِيبُه به، بحيث لا يكون في ذَلِكَ الموضع أحد غيرك فقد تعين الفرض عليك في إحياء نفسه وإمساك رمقه، فإذا ارتفعت حال الضرورة كان ذَلِكَ ندبًا، وسيأتي شيء منه في الأطعمة إن شاء الله.
وعيادة المريض سنة متأكدة، ويحتمل كما قَالَ ابن بطال أن يكون فرض كفاية أيضًا.
(1)
رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" 6/ 501 (33251).
(2)
المصدر السابق.
(3)
"النوادر والزيادات" 3/ 301.
(4)
انظر: "الكافي" 5/ 485.
(5)
في (ص): أُخرِج.
وأما يمين علي أن ما عنده إلا كتاب الله أو فهمًا يعطيه الله رجلاً، ففيه دلالة على صحة قول مالك: ليس العلم بكثرة الرواية، وإنما هو نور وفهم يضعه الله في قلب من يشاء. فمن أنكر هذا على مالك فلينكره على علي.
وفيه: أن كتاب الله أصل العلم وأن الفهم عنه وعن الحديث المبين له.
وقوله: (والذي فلق الحبة وبرأ النسمة). هو من أيمان العرب. قَالَ أبو عبيدة: (فلق الحب): شقها في الأرض حَتَّى تنبت ثم أثمرت، فكان منها حب كثير، وكل شيء شققته باثنين فقد فلقته. ومنه قوله تعالى:{فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} [الأنعام: 95] و (النسمة): كل ذات نفس فهي نسمة، سميت بذلك لتنسمها الهواء، وبرأ الله الخلق: برأ خلقهم
(1)
.
(1)
"شرح ابن بطال" 5/ 210 - 211.
172 - باب فِدَاءِ المُشرِكِينَ
3048 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ رِجَالاً مِنَ الأَنْصَارِ اسْتَأْذَنُوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، ائْذَنْ فَلْنَتْرُكْ لاِبْنِ أُخْتِنَا عَبَّاسٍ فِدَاءَهُ. فَقَالَ:«لَا تَدَعُونَ مِنْهَا دِرْهَمًا» . [انظر: 2537 - فتح 6/ 167]
3049 -
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: عَنْ عَبْدِ العَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِمَالٍ مِنَ البَحْرَيْنِ، فَجَاءَهُ العَبَّاسُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَعْطِنِي فَإِنِّي فَادَيْتُ نَفْسِي، وَفَادَيْتُ عَقِيلاً. فَقَالَ:«خُذْ» . فَأَعْطَاهُ فِي ثَوْبِهِ. [انظر: 421 - فتح 6/ 167]
3050 -
حَدَّثَنِي مَحْمُودٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ -وَكَانَ جَاءَ فِي أُسَارَى بَدْرٍ- قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي المَغْرِبِ بِالطُّورِ. [انظر: 765 - مسلم: 463 - فتح 6/ 168]
ذكر فيه حديث مُوسى بْنِ عُقْبَةَ، عَنِ ابن شِهَاب، عن أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ رِجَالًا مِنَ الأَنْصَارِ اسْتَأْذَنُوا رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقًالُوا: يَا رَسُول اللهِ، ائْذَنْ لَنَا فَلْنَتْرُكْ لاِبْنِ أُخْتِنَا العَبَّاس فِدَاءَهُ. فَقَالَ:"لَا تَدَعُونَ مِنْهُ دِرْهَمًا"
وَقَالَ أَنَسٌ: أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِمَالٍ مِنَ البَحْرَيْنِ، فَجَاءَهُ العَبَّاسُ فَقَالَ: يَا رَسُول اللهِ، أَعْطِنِي فَإِنِّي فَادَيْتُ نَفْسِي، وَفَادَيْتُ عَقِيلًا. قَالَ:"خُذْ". فَأَعْطَاهُ فِي ثَوْبِهِ.
وحديث جُبَيْرٍ بن مطعم -وَكَانَ جَاءَ فِي أُسَارى بَدْرٍ -قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي المَغْرِبِ بِالطُّورِ.
وحديث أنس الأول من أفراده. قَالَ الإسماعيلي: ولم يسمع موسى بن عقبة من ابن شهاب شيئًا
(1)
.
والحديثان بعده سلفا في الصلاة
(2)
.
والعباس أسر يوم بدر وكان غنيًّا ففدى نفسه من القتل، وفدى عقيلًا بمال، ثم بقي على حاله بمكة إلى زمن خيبر، وقيل: إنه أسلم سنة ثمان قبل الفتح، وإنما سأل الأنصار الذين أسروا العباس أن يتركوا فداءه لمكان عمومته من رسول الله صلى الله عليه وسلم إكرامًا له بذلك فأبى صلى الله عليه وسلم من ذَلِكَ، وأراد توهين المشركين بالغرم، وأن يضعف قوتهم بأخذ المال منهم، وقيل: إنه كان تداين في ذَلِكَ العباس وبقي عليه الدين إلى وقت إسلامه. وكذلك قَالَ للنبي صلى الله عليه وسلم: أعطني فإني فاديت نفسي وفاديت عقيلا، فغرم صلى الله عليه وسلم ما يحمله العباس من ذَلِكَ بعد إسلامه مما أفاء الله على رسوله.
والترجمة صحيحة في جواز مفاداة المشركين من أيدي المسلمين وأن ذَلِكَ مباح بعد الإثخان، ومفاداة العباس لنفسه ولعقيل كان قبل الإثخان؛ فعاتب الله نبيه على ذَلِكَ، فلا تجوز المفاداة إلا بعد الإثخان وقلة قوة المشركين على المسلمين، أو لوجه من وجوه الصلاح يراه الإمام للمسلمين في ذَلِكَ. قاله ابن بطال.
(1)
ورد بهامش الأصل: تعقبه ذلك العلائي في "مراسيله"؛ فقال: وذلك بعيد؛ لأن البخاري لا يكتفي بمجرد إمكان اللقاء، ولم أر من ذكر موسى بن عقبة بالتدليس. انتهى. وإني أيضًا أستبعد أن لا يكون سمع منه أيضًا؛ لأنه بَلَدِيُّه وفي عصره، والله أعلم.
(2)
حديث أنس سلف برقم (421) باب التسمية وتعليق القنو في المسجد، وحديث جبير بن مطعم سلف برقم (765) كتاب الأذان، باب الجهر في المغرب.
وكذلك حديث جبير بن مطعم فيه: جواز فداء أسرى المشركين؛ لأن جبيرًا جاء في فداء أسارى بني نوفل رهطه، فأطلقوا له بالفداء، وكان ذَلِكَ قبل الإثخان أيضًا، وقد سلف اختلاف العلماء في فداء الأسرى أو المن عليهم أو قتلهم في باب: فإما منا بعد وإما فداء
(1)
.
وقال ابن أبي صفرة: لم يأذن الشارع للأنصار في أسرى بدر لكفرهم وشدة وطأتهم، ألا ترى أنه عوتب في الفداء حَتَّى يثخن في الأرض، فكيف يأذن في تركه حَتَّى يثخن أدباً لهم، وإن كانت الأنصار قد طابت أنفسها، وشفع لأهل هوازن للرضاع الذي كان له فيهم، كما منَّ على أهل مكة بإسلامهم، وترك مكة مما فيها من جميع الأموال للرحم
(2)
.
(1)
سلف بعد حديث (3017).
(2)
"شرح ابن بطال" 5/ 212 - 213.
173 - باب الحَرْبِيِّ إِذَا دَخَلَ دَارَ الإِسلامِ بِغَيْرِ أَمَانٍ
3051 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا أَبُو العُمَيْسِ، عَنْ إِيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَيْنٌ مِنَ المُشْرِكِينَ وَهْوَ فِي سَفَرٍ، فَجَلَسَ عِنْدَ أَصْحَابِهِ يَتَحَدَّثُ ثُمَّ انْفَتَلَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«اطْلُبُوهُ وَاقْتُلُوهُ» . فَقَتَلَهُ فَنَفَّلَهُ سَلَبَهُ. [مسلم: 1754 - فتح 6/ 168]
ذكر فيه حديث سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ رضي الله عنه قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَيْنٌ مِنَ المُشْرِكِينَ وَهْوَ فِي سَفَرٍ، فَجَلَسَ عِنْدَ أَصْحَابِهِ يَتَحَدَّثُ ثُمَّ انْفَتَلَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"اطْلُبُوهُ وَاقْتُلُوهُ". فَقَتَلْتُهُ، فَنَفَّلَنِي سَلَبَهُ.
هذا الحديث أخرجه مسلم، وفيه: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هوازن يعني حثينا. فذكره، وفي آخره: فقال: "من قتل الرجل؟ " قالوا: ابن الأكوع. قَالَ: "له سلبه أجمع" وللإسماعيلي: "على الرجل فاقتلوه" فابتدره القوم، وفي رواية:"من قتله فله سلبه".
قَالَ ابن المنير: ترجمة الباب أعم؛ لأن الجاسوس حكمه غير حكم الحربي المطلق الداخل بغير أمان
(1)
.
أما فقه الباب ففيه: قتل الجاسوس الحربي، وعليه جماعة العلماء، وفيه: طاعة الشارع. وفيه: نفل الأسلاب، ويأتي بيانه.
واختلف في الحربي يدخل دار الإسلام بغير أمان، فقال مالك: هو فيء لجميع المسلمين
(2)
، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف. وقال محمد: لمن وجده
(3)
. وقال الشافعي: هو فيء إلا أن يسلم قبل الظفر
(1)
"المتواري" ص 176.
(2)
انظر: "المدونة" 1/ 372 - 373، "مواهب الجليل" 4/ 562.
(3)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 3/ 447.
به.
(1)
وظاهر الحديث يدل أنه لمن وجده؛ لأنه صلى الله عليه وسلم إنما أعطى سلبه لسلمة وحده؛ لأنه كان وجده، ومن قَالَ: إنه فيء فلأنه مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، خرج من باب المغانم إلى باب الفيء، والفيء للإمام يصنع فيه ما شاء حيث شاء، ومن قَالَ: إنه لمن وجده حكم له بحكم الغنائم أنها لمن أخذها بعد الخمس، وهو القياس كما قَالَ الطحاوي، وفيه الخمس؛ لأنه لم يؤخذ بقوة من المسلمين.
واختلفوا في الحربي يدخل دار الإسلام ويقول: جئت مستأمنًا. فقال مالك: الإمام مخير في ذَلِكَ يرى رأيه فيه
(2)
، وهو قول الأوزاعي. وقال أبو حنيفة: هو فيء
(3)
. وروى ابن وهب عن مالك في مركب تطرحه الريح إلى ساحل المسلمين، فيقولون: نحن تجار، إنهم فيء ولا يخمسون
(4)
.
واحتج الشافعي بحديث سلمة بن الأكوع في أن السلب من رأس الغنيمة
(5)
. قَالَ ابن القصار: وسلمة إنما كان مستحقًا لكل الغنيمة إلا الخمس منها؛ لأنه لم يكن من جملة عسكر، وإنما اتبعه وحده، فله ما أخذ منه غير الخمس، فترك الشارع له الخمس زيادة على الأربعة أخماس التي له، قَالَ: وهذا يجوز عندنا كما لو رأى الحط في رد الخمس في وقت من الأوقات على الغانمين بفعل؛ لأن الخمس إليه يصرفه على ما يؤدي إليه اجتهاده، فلا دليل لهم في الحديث.
(1)
"التهذيب" 5/ 156 - 157.
(2)
"المدونة" 1/ 373.
(3)
انظر: "مختصر الطحاوي" ص 292.
(4)
"المدونة" 1/ 373.
(5)
"الأم" 4/ 66.
واختلف في الجاسوس المعاهد والذمي، فقال مالك والأوزاعي: يصي رنا قضًا للعهد، فإن رأى الإمام استرقاقه أرقه، ويجوز قتله عند الجمهور، كما قَالَ النووي: لا ينتقض عهده بذلك إلا أن يكون شرط عليه انتقاضه به
(1)
.
وأما المسلم، فعند الشافعي وأبي حنيفة وبعض المالكية في آخرين: يعزر مما يراه الإمام إلا القتل. وقال مالك: يجتهد فيه الإمام. قَالَ عياض: قَالَ كبار أصحابنا: يقتل.
(2)
واختلفوا في تركه بالتوبة، قَالَ ابن الماجشون: إن عرف بذلك قتل وإلا عزر
(3)
. وعند أبي حنيفة: السلب: ما على المقتول من ثياب وسلاح ومركب
(4)
. وعندنا فيه تفاريع ذكرناها في الفروع.
(1)
انظر: "روضة الطالبين" 10/ 338.
(2)
"إكمال المعلم" 7/ 537 - 538.
(3)
"شرح مسلم" للنووي 12/ 67، وانظر:"النوادروالزيادات" 3/ 352، "أحكام القرآن" لابن العربي 4/ 1783، "المغني" 13/ 239.
(4)
انظر: "الهداية" 2/ 442.
174 - باب يُقَاتَلُ عَنْ أَهْلِ الذِّمَّهَ وَلَا يُسْتَرَقُّونَ
3052 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: وَأُوصِيهِ بِذِمَّةِ اللهِ وَذِمَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُوفَى لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ، وَأَنْ يُقَاتَلَ مِنْ وَرَائِهِمْ، وَلَا يُكَلَّفُوا إِلاَّ طَاقَتَهُمْ. [انظر: 1392 - فتح 6/ 169]
ذكر فيه عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: وَأُوصِيهِ بِذِمَّةِ اللهِ وَذِمَّةِ رَسُولِهِ أَنْ يُوفَى لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ، وَأَنْ يُقَاتَلَ مِنْ وَرَائِهِمْ، وَلَا يُكَلَّفُوا إِلَّا طَاقَتَهُمْ.
وقد سلف مطولًا في آخر الجنائز
(1)
، والذمة: العهد. يريد: أهل الكتاب. ولا خلاف فيه؛ لأنهم إنما بذلوا الجزية على أن يأمنوا في أنفسهم وأموالهم وأهليهم.
وقوله: (وأن يقاتل من ورائهم). يعني: بين أيديهم كل مسلم وكافر، كما يقاتل من ظلم مسلمًا.
وما ذكر من الاسترقاق ليس في الخبر، واختلف فيه إذا نقض الذمي العهد هل يسترق؟ قَالَ أشهب: لا. وقال ابن القاسم: نعم. محتجًا بأن الذمة لو حمتهم من الرقة عند بعضهم لحمتهم من القتل، وقد صلب عمر يهوديًّا أراد اغتصاب امرأة، ورأى الصديق استرقاق أهل الردة، فكيف بكفار نقضوا العهد
(2)
؟
(1)
سلف برقم (1392) باب ما جاء في قبر النبي صلى الله عليه وسلم ..
(2)
انظر: "المدونة" 1/ 382.
175 - باب جَوَائِزِ الوَفْدِ
(1)
3053 -
حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ الأَحْوَلِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ: يَوْمُ الخَمِيسِ، وَمَا يَوْمُ الخَمِيسِ ثُمَّ بَكَى حَتَّى خَضَبَ دَمْعُهُ الحَصْبَاءَ فَقَالَ اشْتَدَّ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَجَعُهُ يَوْمَ الخَمِيسِ فَقَالَ:«ائْتُونِي بِكِتَابٍ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ أَبَدًا» . فَتَنَازَعُوا وَلَا يَنْبَغِي عِنْدَ نَبِيٍّ تَنَازُعٌ فَقَالُوا: هَجَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ: «دَعُونِي فَالَّذِى أَنَا فِيهِ خَيْرٌ مِمَّا تَدْعُونِي إِلَيْهِ» . وَأَوْصَى عِنْدَ مَوْتِهِ بِثَلَاثٍ «أَخْرِجُوا المُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَأَجِيزُوا الوَفْدَ بِنَحْوِ مَا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ» . وَنَسِيتُ الثَّالِثَةَ.
وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمَّدٍ: سَأَلْتُ المُغِيرَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ جَزِيرَةِ العَرَبِ. فَقَالَ: مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ وَالْيَمَامَةُ وَالْيَمَنُ. وَقَالَ يَعْقُوبُ: وَالْعَرْجُ أَوَّلُ تِهَامَةَ. [انظر: 114 - مسلم: 1637 - فتح 6/ 170]
حدثنا قَبِيصَةُ، ثَنَا ابن عُيَيْنَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ الأَحْوَلِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابن عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: يَوْمُ الخَمِيسِ، وَمَا يَوْمُ الخَمِيسِ .. إلى أن قال: وَأَوْصَى عِنْدَ مَوْتِهِ بِثَلَاثٍ: "أَخْرِجُوا المُشْرِكينَ مِنْ جَزِيرَةِ العَرَبِ، وَأَجِيزُوا الوَفْدَ بِنَحْوِ مَا كنْتُ أُجِيزُهُمْ". وَنَسِيتُ الثَّالِثَةَ.
وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمَّدٍ: سَأَلْتُ المُغِيرَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ جَزِيرَةِ العَرَبِ، فَقَالَ: مَكَّةُ، وَالْمَدِينَةُ، وَالْيَمَامَةُ، وَالْيَمَنُ. وَقَالَ يَعْقُوبُ: وَالْعَرْجُ أَوَّلُ تِهَامَةَ.
الشرح:
كذا في الأصول: (حَدَّثنَا قبيصة). قَالَ الجياني: كذا في نسخة أبي زيد والنسفي وأبي أحمد، وعن ابن السكن، عن الفربري، عن البخاري:
(1)
ورد بالهامش ما نصه: باب هل يستشفع إلى أهل الذمة ومعاملتهم.
حَدَّثَنَا قتيبة: بدل (قبيصة) وهو ما ذكره في باب مرضه من المغازي، وتكرر قتيبة، عن ابن عيينة في مواضع، ولعل البخاري سمع الحديث منهما، غير أنه لا يحفظ لقبيصة، عن ابن عيينة شيئًا في "الجامع"، ولا ذكره الكلاباذي فيمن روى في "الجامع" عن غير الثوري
(1)
.
والثالثة: ورد في رواية ستأتي أنها القرآن، وعن المهلب: هي تجهيز جيش أسامة بن زيد، وكان المسلمون اختلفوا في ذَلِكَ على الصديق فأعلمهم أنه صلى الله عليه وسلم عهد بذلك عند موته
(2)
. وقال عياض: يحتمل أنها قوله: "لا تتخذوا قبري وثنًا يعبد"
(3)
فذكر مالك معناه مع إجلاء اليهود
(4)
.
وفيه: سنة إجازة الوفد، وهو من باب الائتلاف، وهو عام في جميع الوفود الواردين على الخليفة، من الروم كانوا أو من المسلمين؛ لأنهم وإن كانوا من الروم فإنهم لا يأتون إلا بأمر فيه منفعة وصلاح للمسلمين، فكذلك أمر صلى الله عليه وسلم بالوصاة بإجازتهم، وأيضًا فإنهم ضيوف، وقد قَالَ صلى الله عليه وسلم فيهم:"جائزته يوم وليلة"
(5)
، ولم يخص فهو عام.
وفيه: دلالة (على)
(6)
أن الوصية المدعاة لعلي باطلة؛ لأنه لو كان وصيًّا كما زعموا لعلم قضية جيش أسامة كما علم ذَلِكَ الصديق وما جهله.
(1)
"تقييد المهمل" 2/ 634 - 635.
(2)
"شرح ابن بطال" 5/ 215.
(3)
علم عليها في الأصل (لا .. إلى) لعله يعني نسخة كما في اصطلاح المحدِّثين، وقد تعني علامة الحذف.
(4)
"إكمال المعلم" 5/ 383.
(5)
سيأتي برقم (6135) كتاب الأدب، باب إكرام الضيف وخدمته.
(6)
من (ص 1).
وقوله: (فقالوا: هجر رسول الله) أي: اختلط، وأهجر: أفحش، قاله ابن بطال
(1)
، وقال ابن التين: أي: هذى؛ يقال: هجر العليل، إذا هذى، يهجر هَجرًا بالفتح، والهُجر -بالضم- الإفحاش. قَالَ ابن دريد: يقال: هجر الرجل في المنطق، إذا تكلم مما لا معنى له
(2)
، وأهجر: إذا أفحش.
وقوله: ("ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابًا لن تضلوا بعده أبدا" فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع، قالوا: هجر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال: "دعوني") لا شك أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن ليدع شيئًا أمر بتبليغه لتنازعهم مع أن الوحي كان ينزل عليه، فلو عورض في شيء أمر بتبليغه لبلغه، ولكان الله تعالى يعاتب من حال بينه وبين ما يريد، وقد تكفل (الله)
(3)
له ولأمته بإظهار الدين كله وتمامه ووفاء ما وعده، ولم يكن يذكر إخراج المشركين وإجازة الوفد، وفي رواية أخرى أنه أوصى بالقرآن ويدع ما هو أوكد منه، وقد يكون هذا هو الذي أراد أن يكتبه، وقد بقي بعد ذَلِكَ أيامًا يمكنه التبليغ فيها؛ لأنه توفي يوم الاثنين حين اشتد الضَّحَاءُ بعد أن نظر إلى الناس قيامًا وهم في صلاة الصبح.
و"جزيرة العرب" ذكر في الكتاب عن المغيرة تفسيرها وعنه زيادة: وقرياتها. وعن مالك إنها المدينة. وعن أبي عبيد: هي ما بين حفر أبي موسى بطوارة من أرض العراق إلى أقصى اليمن في الطول، وما بين رمل بيرين إلى منقطع السماوة في العرض
(4)
، ونقل الشيخ أبو الحسن
(1)
"شرح ابن بطال" 5/ 215.
(2)
"جمهرة اللغة" 1/ 468.
(3)
من (ص 1).
(4)
"غريب الحديث" 1/ 244.
عن مالك أنها الحجاز ومكة والمدينة واليمن، وروى يعقوب بن محمد الزهري عنه: واليمامة. وقال الأصمعي: حدها من عدن إلى ريف العراق طولاً، ومن تهامة وما وراءها إلى أطراف الشام عرضًا، وهي عند الجويني والقاضي الحسين: الحجاز، وهو مكة والمدينة واليمامة وقراها
(1)
، والمشهور أن الحجاز بعض الجزيرة، وبه جزم العراقيون وغيرهم. وقالوا: المراد بالجزيرة في الحديث: الحجاز، ويؤيده رواية أحمد من حديث أبي عبيدة بن الجراح: آخر ما تكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أخرجوا يهود الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب"
(2)
انتهى، فلم يتفرغ أبو بكر لذلك، فأجلاهم عمر، قيل كانوا زهاء أربعين ألفا. ولم ينقل أن أحدًا من الخلفاء أجلاهم من اليمن مع أنها من الجزيرة، وإنما أخرج أهل نجران من الجزيرة وإن لم يكن من الحجاز؛ لأنه صلى الله عليه وسلم صالحهم على أن لا يأكلوا الربا فأكلوه، رواه أبو داود من طريق ابن عباس
(3)
. وعن الأصمعي: هي ما لم يبلغه ملك فارس من أقصى عدن أبين إلى أطراف الشام طولاً، ومن جدة إلى ريف العراق عرضًا، وفي رواية أبي عبيد عنه:(الطول)
(4)
من أقصى عدن إلى ريف العراق طولاً، وعرضًا من جدة وما والاها إلى ساحل البحر إلى أطراف الشام
(5)
.
(1)
"شرح مسلم" للنووي 11/ 93.
(2)
"مسند أحمد" 1/ 196.
(3)
"سنن أبي داود"(3041).
(4)
في "غريب الحديث": جزيرة العرب. ولعله الأنسب للسياق.
(5)
"غريب الحديث" 1/ 244.
وقال الشعبي: هي ما بين قادسية الكوفة إلى حضرموت. قَالَ الخليل فيما نقله أبو عبيد البكري: سميت جزيرة العرب؛ لأن بحر فارس وبحر الحبش والفرات ودجلة أحاطت بها، وهي أرض العرب ومعدنها
(1)
. قَالَ أبو إسحاق الحربي: أخبرني عبد الله بن شبيب عن زهير بن محمد عن محمد بن فضالة إنما سميت جزيرة لإحاطة البحر بها والأنهار من أقطارها وأطوارها، وذلك أن الفرات أقبل من بلاد الروم فظهر بناحية قنسرين ثم انحط عن الجزيرة، وهي ما بين الفرات والدجلة، وعن سواد العراق حَتَّى (وقع)
(2)
في البحر من ناحية البصرة والأُبُلَّة، وامتد البحر من ذَلِكَ الموضع مغربًا مطيفًا ببلاد العرب منعطفًا عليها، فأتى منها على سفوان وكاظمة ونفذ إلى القطيف وهجر وأسياف عمان والشحر وسال منه عنق إلى حضرموت إلى أبين وعدن ودهلك، واستطال ذَلِكَ العنق فطعن في تهائم اليمن بلاد حكم والأشعريين وعك، ومضى إلى جدة وساحل مكة وإلى الجار ساحل المدينة، وإلى ساحل تَيْماء وأَيْلَة حَتَّى بلغ إلى قلزم مصر وخالط بلادها، وأقبل النيل في غربي هذا (العنق)
(3)
من أعلى بلاد السودان مستطيلًا معارضًا للبحر، حَتَّى دفع في بحر الشام، ثم قطع ذَلِكَ البحر من مصر حَتَّى بلاد فلسطين ومر بعسقلان وسواحلها، وأتى على صور بساحل الأردن وعلى بيروت وذواتها من سواحل دمشق، ثم نفذ إلى سواحل حمص وسواحل قنسرين، حَتَّى خالط الناحية التي أقبل منها الفرات منحطا على أطراف قنسرين والجزيرة إلى سواد العراق،
(1)
"العين" 6/ 62، وانظر "معجم ما استعجم" 2/ 381 - 382.
(2)
في (ص): دفع.
(3)
في الأصل: العمق، وما أثبتناه موافق لـ "معجم البلدان" 2/ 137.
فصارت بلاد العرب من هذِه الجزيرة التي تركوها على خمسة أقسام: تهامة، والحجاز، ونجد، والعروض، واليمن
(1)
.
فرع: يمنع كل كافر عندنا وعند مالك من استيطان الحجاز -وهو ما ذكرناه- ولا يمنعون من ركوب بحره، ولو دخل بغير إذن (الإمام)
(2)
أخرجه وعذره إن علم أنه ممنوع، فإن استأذن في دخوله أذن الإمام أو نائبه فيه إن كان مصلحة للمسلمين كرسالة وحمل ما يحتاج إليه، وعن أبي حنيفة جواز سكناهم الحرم، ويمنع دخول (حرم)
(3)
مكة، قَالَ تعالى:{إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} [التوبة: 28] والمراد به هنا جميع الحرم
(4)
، وقال صلى الله عليه وسلم:"إن الشيطان أيس أن يعبد في جزيرة العرب"
(5)
، فلو دخله ومات لم يدفن فيه، وإن مات في غير الحرم من الحجاز وتعذر نقله دفن هناك، وحرم المدينة لا يلحق بحرم مكة فيما ذكرنا، لكن استحسن الروياني أن يخرج منه إذا لم يتعذر الإخراج ويدفن خارجه
(6)
.
فائدة: قوله: ("وأجيزوا الوفد") أي: أعطوا القادمين عليكم.
والجائزة: قدر ما يجوز به المسافر من منهل إلى منهل، وجائزته يوم وليلة.
(1)
"معجم البلدان" 2/ 137.
(2)
من (ص 1).
(3)
من (ص 1).
(4)
انظر: "شرح مسلم" للنووي 11/ 94.
(5)
رواه مسلم (2812) كتاب صفة الجنة والنار، باب تحريش الشيطان وبعثه سراياه لفتنة الناس.
(6)
"روضة الطالبين" 10/ 310.
177 - باب التَّجَمُّلِ لِلْوُفُودِ
.
3054 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: وَجَدَ عُمَرُ حُلَّةَ إِسْتَبْرَقٍ تُبَاعُ فِي السُّوقِ فَأَتَى بِهَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، ابْتَعْ هَذِهِ الْحُلَّةَ فَتَجَمَّلْ بِهَا لِلْعِيدِ وَلِلْوُفُودِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«إِنَّمَا هَذِهِ لِبَاسُ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ، أَوْ إِنَّمَا يَلْبَسُ هَذِهِ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ» . فَلَبِثَ مَا شَاءَ الله ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِجُبَّةِ دِيبَاجٍ، فَأَقْبَلَ بِهَا عُمَرُ حَتَّى أَتَى بِهَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، قُلْتَ:«إِنَّمَا هَذِهِ لِبَاسُ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ أَوْ: "إِنَّمَا يَلْبَسُ هَذِهِ مَنْ لا خَلَاقَ لَهُ". ثُمَّ أَرْسَلْتَ إِلَيَّ بِهَذِهِ! فَقَالَ: «تَبِيعُهَا، أَوْ تُصِيبُ بِهَا بَعْضَ حَاجَتِكَ» . [انظر: 886 - مسلم: 2068 - فتح 6/ 171]
ذكر فيه حديث ابن عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: وَجَدَ عُمَرُ رضي الله عنه حُلَّةَ إِسْتَبْرَقٍ تُبَاعُ فِي السُّوقِ .. الحديث.
وقد سلف في العيدين
(1)
، وهو لائح أن من السنة المعروفة التجمل للوفد والعيد بحسن الثياب؛ لأن فيه جمالًا للإسلام وأهله وإرهابًا للعدو وتعظيمًا للمسلمين.
وقول عمر رضي الله عنه: (فتجمل بها للعيد والوفد). يدل أن ذَلِكَ من عادتهم وفعلهم. وقال الأبهري: إنما نهى الشارع عن الحرير والذهب للرجال، لأنه من زي النساء وفعلهن، وقد نهى صلى الله عليه وسلم أن يتشبه الرجال بالنساء، وقيل: إنما نهى عن ذَلِكَ؛ لأنه من باب السرف والخيلاء، (وفي جواز)
(2)
لباسه في الحرب للترهيب على العدو، وقد سلف اختلافهم
(1)
سلف برقم (948) كتاب العيدين، باب في العيدين والتجمل فيهما.
(2)
في (ص): وقد جوز.
فيه، وسيأتي أيضًا في كتاب اللباس
(1)
.
وفي قول عمر: (قلتَ: "إنما هذِه لباس من لا خلاق له". ثم أرسلت إليَّ) أنه ينبغي السؤال عما يشكل.
وقوله: ("تبيعها وتصيب بها بعض حاجتك") فيه: أنه لا بأس بالتجارة والانتفاع مما لا يجوز لبسه.
(1)
سيأتي برقم (5841) باب الحرير للنساء.
178 - باب كَيفَ يُعْرَضُ الإِسْلَامُ عَلَى الصَّبِيِّ
3055 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ أَخْبَرَهُ، أَنَّ عُمَرَ انْطَلَقَ فِي رَهْطٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قِبَلَ ابْنِ صَيَّادٍ حَتَّى وَجَدُوهُ يَلْعَبُ مَعَ الغِلْمَانِ عِنْدَ أُطُمِ بَنِي مَغَالَةَ، وَقَدْ قَارَبَ يَوْمَئِذٍ ابْنُ صَيَّادٍ يَحْتَلِمُ، فَلَمْ يَشْعُرْ حَتَّى ضَرَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ظَهْرَهُ بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟» . فَنَظَرَ إِلَيْهِ ابْنُ صَيَّادٍ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ الأُمِّيِّينَ. فَقَالَ ابْنُ صَيَّادٍ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللهِ؟. قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «آمَنْتُ بِاللهِ وَرُسُلِهِ» قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَاذَا تَرَى؟» . قَالَ ابْنُ صَيَّادٍ: يَأْتِينِي صَادِقٌ وَكَاذِبٌ. قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «خُلِطَ عَلَيْكَ الأَمْرُ» . قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي قَدْ خَبَأْتُ لَكَ خَبِيئًا» . قَالَ ابْنُ صَيَّادٍ: هُوَ الدُّخُّ. قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «اخْسَأْ، فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ» . قَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللهِ، ائْذَنْ لِي فِيهِ أَضْرِبْ عُنُقَهُ. قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«إِنْ يَكُنْهُ فَلَنْ تُسَلَّطَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْهُ فَلَا خَيْرَ لَكَ فِي قَتْلِهِ» . [انظر: 1354 - مسلم: 2930 - فتح 6/ 171]
3056 -
قَالَ ابْنُ عُمَرَ: انْطَلَقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأُبَىُّ بْنُ كَعْبٍ يَأْتِيَانِ النَّخْلَ الذِي فِيهِ ابْنُ صَيَّادٍ، حَتَّى إِذَا دَخَلَ النَّخْلَ طَفِقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَّقِى بِجُذُوعِ النَّخْلِ، وَهْوَ يَخْتِلُ ابْنَ صَيَّادٍ أَنْ يَسْمَعَ مِنِ ابْنِ صَيَّادٍ شَيْئًا قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ، وَابْنُ صَيَّادٍ مُضْطَجِعٌ عَلَى فِرَاشِهِ فِي قَطِيفَةٍ لَهُ فِيهَا رَمْزَةٌ، فَرَأَتْ أُمُّ ابْنِ صَيَّادٍ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهْوَ يَتَّقِي بِجُذُوعِ النَّخْلِ، فَقَالَتْ لاِبْنِ صَيَّادٍ: أَيْ صَافِ -وَهْوَ اسْمُهُ- فَثَارَ ابْنُ صَيَّادٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«لَوْ تَرَكَتْهُ بَيَّنَ» . [انظر: 1355 - مسلم: 2931 - فتح 6/ 172]
3057 -
وَقَالَ سَالِمٌ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ: ثُمَّ قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي النَّاسِ، فَأَثْنَى عَلَى اللهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ ذَكَرَ الدَّجَّالَ فَقَالَ:«إِنِّي أُنْذِرُكُمُوهُ، وَمَا مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ قَدْ أَنْذَرَهُ قَوْمَهُ، لَقَدْ أَنْذَرَهُ نُوحٌ قَوْمَهُ، وَلَكِنْ سَأَقُولُ لَكُمْ فِيهِ قَوْلاً لَمْ يَقُلْهُ نَبِيٌّ لِقَوْمِهِ، تَعْلَمُونَ أَنَّهُ أَعْوَرُ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ» . [7407،7127،7123،6175،4402،3439،3337 - مسلم: 169 - فتح 6/ 172]
ذكر حديث ابن عُمَرَ رضي الله عنهما في قصة ابن صياد بطوله.
وقد سلف في الجنائز، وموضع الترجمة منه قوله:"أتشهد أني رسول الله؟ "
الأطم: الحصين، وجمعه آطام. والدخ: هو الدخان كما قاله ابن فارس
(1)
، وغيره، وقيل: حبة من الحبوب. والختل: الخدع.
(1)
"مجمل اللغة" 1/ 321. مادة: دخ.
179 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِلْيَهُودِ: "أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا
"
قَالَة الَمقْبُرِيُّ، عَنْ أَى هُرَيْرَةَ. [3167 - فتح 6/ 175]
(1)
(1)
لم يذكره المصنف في الأصل، والمثبت من اليونينية.
180 - باب إِذَا أَسْلَمَ قَوْمٌ فِي دَارِ الحَرْبِ وَلَهُمْ مَالٌ وَأَرَضُونَ، فَهْيَ لَهُمْ
3058 -
حَدَّثَنَا مَحْمُودٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيْنَ تَنْزِلُ غَدًا فِي حَجَّتِهِ. قَالَ:«وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مَنْزِلاً» . ثُمَّ قَالَ: نَحْنُ نَازِلُونَ غَدًا بِخَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ الْمُحَصَّبِ، حَيْثُ قَاسَمَتْ قُرَيْشٌ عَلَى الْكُفْرِ». وَذَلِكَ أَنَّ بَنِي كِنَانَةَ حَالَفَتْ قُرَيْشًا عَلَى بَنِي هَاشِمٍ أَنْ لَا يُبَايِعُوهُمْ وَلَا يُئْوُوهُمْ. قَالَ الزُّهْرِيُّ وَالخَيْفُ الوَادِي. [انظر: 1588 - مسلم: 1351 - فتح 6/ 175]
3059 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رضي الله عنه اسْتَعْمَلَ مَوْلًى لَهُ يُدْعَى: هُنَيًّا عَلَى الْحِمَى فَقَالَ يَا هُنَيُّ، اضْمُمْ جَنَاحَكَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ، فَإِنَّ دَعْوَةَ المَظْلُومِ مُسْتَجَابَةٌ، وَأَدْخِلْ رَبَّ الصُّرَيْمَةِ وَرَبَّ الْغُنَيْمَةِ، وَإِيَّاىَ وَنَعَمَ ابْنِ عَوْفٍ، وَنَعَمَ ابْنِ عَفَّانَ، فَإِنَّهُمَا إِنْ تَهْلِكْ مَاشِيَتُهُمَا يَرْجِعَا إِلَى نَخْلٍ وَزَرْعٍ، وَإِنَّ رَبَّ الصُّرَيْمَةِ وَرَبَّ الْغُنَيْمَةِ إِنْ تَهْلِكْ مَاشِيَتُهُمَا يَأْتِنِي بِبَنِيهِ فَيَقُولُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. أَفَتَارِكُهُمْ أَنَا لَا أَبَا لَكَ؟ فَالْمَاءُ وَالْكَلأُ أَيْسَرُ عَلَيَّ مِنَ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ، وَايْمُ اللهِ، إِنَّهُمْ لَيَرَوْنَ أَنِّي قَدْ ظَلَمْتُهُمْ، إِنَّهَا لَبِلَادُهُمْ فَقَاتَلُوا عَلَيْهَا فِي الجَاهِلِيَّةِ، وَأَسْلَمُوا عَلَيْهَا فِي الإِسْلَامِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلَا الْمَالُ الذِي أَحْمِلُ عَلَيْهِ فِي سَبِيلِ اللهِ مَا حَمَيْتُ عَلَيْهِمْ مِنْ بِلَادِهِمْ شِبْرًا. [فتح 6/ 175]
ذكر فيه حديث أُسَامَةَ بْنِ زيدٍ رضي الله عنهما: أَيْنَ تَنْزِلُ غَدًا؟ فِي حَجَّتِهِ، قَالَ:"وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيل مَنْزِلًا؟ " .. الحديث.
قال الزهري: والخيف الوادي.
وأثر عمر رضي الله عنه أنه استعمل مولى له يدعى هنيا .. إلى آخره.
الحديث الأول سلف في الحج في باب: توريث دور مكة، والثاني من أفراده، وقال الدارقطني فيه: غريب صحيح. قَالَ ابن أبي صفرة: لما أسلم أهل مكة عام الفتح مَنَّ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك أموالهم ودماءهم، ولم ينزل في شيء منها لمنه عليهم بها ونزل في الوادي، وكذلك كان يفعل بهوازن لو بدرت بإسلامها، فلما استأنت قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنيمة بين أصحابه، فلما جاءوا بعد القسمة خيرهم في إحدى الطائفتين: المال، أو السبي، فاختاروا النبي، فقضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم واستطاب أنفس أصحابه وقال:"من لم تطب نفسه فليبق إلى أول مغنم يفيئه الله علينا"
(1)
، وقضى لأهل مكة بأموالهم، ولم يستطب نفوس أصحابه؛ لأنه مال الله على اجتهاده لا شيء للغانمين فيه إلا أن يقسمه لهم لقوله عز وجل:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] فآتاهم بهذِه الآية أرض خيبر فقسمها بينهم، ونهاهم في مكة فانتهوا، ونهاهم عمر عن الأرض المغنومة بالشام والعراق بهذِه الآية، فلم يقسمها لهم
(2)
.
قَالَ ابن المنير: وجه مناسبته للترجمة على وجهين: إما أن يكون صلى الله عليه وسلم سئل أن ينزل بداره بمكة، وهو مبين في بعض طرقه.
وقوله: ("وهل ترك لنا عقيل منزلًا") بيِّنٌ؛ لأنه إذا ملك مستولى عليه في الجاهلية من ملكه صلى الله عليه وسلم، فكيف لا يملك ما لم يزل له ملكًا أصالة، وإما أن يكون سُئل هل ينزل من منازل مكة شيئًا لأنها فتحت عنوة؟ فبين أنه منَّ على أهلها بأنفسهم وأموالهم فتستقر أملاكهم عليها
(1)
رواه أبو داود (2694)، والنسائي 6/ 262.
(2)
"شرح ابن بطال" 5/ 217 - 218.
كما كانت، وعلى التقديرين فأهل مكة ما أسلموا على أملاكهم ولكنه مَنَّ عليهم ثم أسلموا، فإذا ملكوا وهم كفار بالمن فملك من أسلم قبل الاستيلاء أولى.
وحديث عمر مطابقته بينة غير أن عبد الرحمن وعثمان لم يكونا من أهل المدينة ولا دخلاها في قوله: (قاتلوا عليها في الجاهلية وأسلموا عليها في الإسلام)، والكلام عائد على عموم أهل المدينة لا عليهما
(1)
، قال المهلب: وإنما أدخل هنيا تحت هذِه الترجمة؛ لأن أهل المدينة أسلموا عليها، فكانت لهم أموالهم، ألا ترى أنه ساوم بمكان المسجد بني النجار وقال:"ثامنوني بحائطكم" فأوجبه لهم، وكذلك قَالَ عمر:(إنها لأرضهم قاتلوا عليها في الجاهلية وأسلموا عليها في الإسلام). فأوجبها لهم.
وهذا كله شاهد للترجمة أن من أسلم في أرض الحرب فأرضه له ما لم يُغْلَب عليها، وقد سئل مالك عن إمام قبل الجزية من قوم فأسلم منهم أحد أيكون له أرضه وماله؟ فقال مالك: ذَلِكَ يختلف؛
أما الصلح فمن أسلم منهم فهو أحق بأرضه وماله، وأما أهل العنوة فمن أسلم منهم فماله وأرضه فيء للمسلمين؛ لأن أهل العنوة قد غلبوا على بلادهم فهي لمن عليهم، وأما أهل الصلح فإنهم قوم منعوا أنفسهم وأموالهم حَتَّى صالحوا عليها فليس عليهم إلا ما صالحوا عليه. وقول مالك في هذا إجماع من العلماء كما قاله ابن بطال.
واختلفوا فيما إذا أسلم في دار الحرب وبقي فيها ماله وولده، ثم خرج إلينا مسلمًا وغزا مع المسلمين بلده؛ فقال الشافعي وأشهب
(1)
"المتواري" ص 178.
وسحنون: إنه قد أحرز ماله وعقاره حيث كان، وولده الصغار؛ لأنهم تبع لأبيهم في الإسلام، وحجتهم أنه إذا أسلم كان ماله حيث كان من دار الحرب أو غيرها على ملكه، فإذا غنمت دار الحرب كان حكم ماله كحكم مال المسلم ولم تُزل الغنيمة ملكه عنه. وقَالَ مالك والليث: أهله وماله وولده على حكم البلد وملكهم، كما كانت دار النبي صلى الله عليه وسلم على حكم البلد وملكهم، ولم ير نفسه صلى الله عليه وسلم أحق بها. وفرق أبو حنيفة بين حكمه إذا أسلم في بلده أو في (دار)
(1)
الإسلام؛ فقال: إن أسلم في بلده ثم خرج إلينا فأولاده الصغار أحرار مسلمون، وما أودعه مسلمًا أو ذميًّا فهو له، وما أودعه حربيًّا فهو وسائر عقاره هناك فيء، وإذا أسلم في بلد الإسلام، ثم ظهر المسلمون على بلده فكل ماله فيه فيء لاختلاف حكم الدارين عندهم
(2)
، ولم يفرق مالك ولا الشافعي بين إسلامه في دار الحرب أو في دار الإسلام.
وفيه: -كما قَالَ المهلب-: أن للإمام أن يحمي أراضي الناس المبورة لتعم الصدقة ومنفعة تشمل المسلمين، كما حمى عمر هذا الحمى لإبل الصدقة وغنمها، وهو الحمى الذي زاد فيه عثمان فأنكر عليه، وليس لأحد أن ينكر هذا على عثمان؛ لأنه لما رأى عمر فعل ذَلِكَ جاز لعثمان أن يحمي أكثر إذا احتاج إليه؛ لكثرة (الصدقة)
(3)
في أيامه
(4)
.
(1)
في (ص): بلد.
(2)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 3/ 452، "المدونة" 1/ 380، "النوادر والزيادات" 3/ 282 - 283، "المنتقى" 4/ 223 - 224، "الأم" 4/ 191.
(3)
في (ص): الناس.
(4)
"شرح ابن بطال" 5/ 218 - 219.
تنبيهات:
قول الزهري: الخيف: الوادي. قَالَ جماعة: الخيف: ما ارتفع من مسيل الوادي ولم يبلغ أن يكون جبلًا.
(1)
وقوله: ("وهل ترك لنا عقيل منزلًا؟ ") قيل: كره أن يعود في شيء أصيب به في جنب الله، وقيل: رأى مشتريها لما أسلم أسلم عليها كانت له.
وفيه: دلالة على أن دور مكة تملك وتكرى، وهو مذهب الشافعي، ومذهب مالك خلافه بناء على أنها فتحت عنوة، وكره قوم كراءها أيام المواسم خاصة، ومنعه قوم سائر المدة.
وقوله: (اضمم جناحك عن المسلمين). أي: لا تحمل ثقلك عليهم وكف يدك عن ظلمهم. ومن رواه: (على المسلمين). فمعناه: استرهم بجناحك. وعبارة ابن بطال: (عن المسلمين). لا تشتد على كل الناس في الحمى، فإن ضعفاء الناس القليلي الغنم والإبل الذي لا تنتهك ماشية الحمى، إن حميته عنه كان ظلمًا، فاتق دعوته فإنها لا تحجب عن الله
(2)
.
و (الصُّرَيْمَة) تصغير الصرمة، وهي من الإبل نحو الثلاثين، و (الغُنيمة): القليلة: وعبارة ابن التين: الصريمة والغنيمة: القطعة الصغيرة.
وفيه: ما كان عمر رضي الله عنه من الصلابة في الدين، وأن أقوى الناس عنده الضعيف، وأضعفهم القوي.
(1)
انظر: "الفائق" 1/ 403.
(2)
"شرح ابن بطال" 5/ 219 - 220.
وقوله: (وإياي، ونعم ابن عوف، ونعم ابن عفان). حذره أن يدخل الحمى؛ لأنها كثيرة، فإن دخلته أنهكته، وإن منعت الدخول وهلكت كان لأربابها عوض من أموالهم يعيشون فيه، ومن ليس له غير الصريمة القليلة إن هلكت أن يستغيث أمير المؤمنين في الإنفاق عليه وعلى (بنيه)
(1)
من بيت المال.
وقوله: (إنهم ليرون أني قد ظلمتهم) يريد أهل المواشي الكثيرة، ويحتمل أن يريد أهل المدينة، واقتدى عمر في ذَلِكَ برسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفيه: جواز الحمل على من له مال ينقص المضرة الداخلة عليه في ماله إذا كان في ذَلِكَ نظير لغيره من الضعفاء.
وقوله: (لولا المال). يريد الإبل التي يحمل عليها المجاهدين في سبيل الله من نعم الصدقة التي حمى لها لترعى فيه في مدة أيام النظر في الحمل عليها.
وفيه: دليل على أن (مسارح)
(2)
القرى وعوامرها التي ترعى فيها مواشي أهلها من حقوق أهل القرية وأموالهم، وليس للسلطان بيعه إلا أن تفضل منه فضلة.
ومعنى الحديث السالف: "لا حمى إلالله ولرسوله" لا حمى لأحد يخص نفسه، وإنما هو لله ولرسوله أو لمن ورث ذَلِكَ عنه صلى الله عليه وسلم من الخلفاء للمصلحة الشاملة للمسلمين وما يحتاجون إلى حمايته.
(1)
في (ص): بيته.
(2)
في (ص): مشارع.
181 - باب كِتَابَةِ الإِمَامِ النَّاسَ
3060 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «اكْتُبُوا لِي مَنْ تَلَفَّظَ بِالإِسْلَامِ مِنَ النَّاسِ» . فَكَتَبْنَا لَهُ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةِ رَجُلٍ، فَقُلْنَا: نَخَافُ وَنَحْنُ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ؟! فَلَقَدْ رَأَيْتُنَا ابْتُلِينَا حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيُصَلِّى وَحْدَهُ وَهْوَ خَائِفٌ.
حَدَّثَنَا عَبْدَانُ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ: فَوَجَدْنَاهُمْ خَمْسَمِائَةٍ. قَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ: مَا بَيْنَ سِتِّمِائَةٍ إِلَى سَبْعِمِائَةٍ. [مسلم: 149 - فتح 6/ 177]
3061 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي كُتِبْتُ فِي غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا، وَامْرَأَتِي حَاجَّةٌ. قَالَ:«ارْجِعْ فَحُجَّ مَعَ امْرَأَتِكَ» . [انظر: 1862 - مسلم: 1341 - فتح 6/ 178]
ذكر فيه حديث حُذَيْفَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "اكتُبُوا لِي مَنْ تَلَفَّظَ بِالاسْلَام مِنَ النَّاسِ". فَكَتَبْنَا لَهُ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةِ رَجُلٍ، فَقُلْنَا: نَخَافُ وَنَحْنُ أَلفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ؟! فَلَقَدْ رَأَيْتُنَا أبْتُلِينَا حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيُصَلِّي وَحْدَهُ وَهْوَ خَائِفٌ.
حَدَّثَنَا عَبْدَانُ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ مِثْله: فَوَجَدْنَاهُمْ خَمْسَمِائَةٍ. وَقَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ: مَا بَيْنَ السِتِّمِائَة إِلَى سَبْعِمِائَةٍ.
وحديث ابن عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَ رَجُل إِلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي كُتِبْتُ فِي غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا، وَامْرَأَتِي حَاجَّةٌ. فَقَالَ:"ارْجِعْ فَحُجَّ مَعَ امْرَأَتِكَ".
الشرح:
تعليق أبي معاوية محمد بن خازم أخرجه مسلم من حديث أبي بكر بن
أبي شيبة وغيره (عنه)
(1)
، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة، وراويه عن ابن عباس: أبو معبد، واسمه: نافذ -بالذال المعجمة- مات سنة أربع أو تسع ومائة، وكان أصدق موالي ابن عباس.
قَالَ المهلب فيه: أن كتابة الإمام الناس سنة من الشارع عند الحاجة إلى الدفع عن المسلمين، فتعين حينئذ فرض الجهاد على كل إنسان يطيق المدافعة إذا نزل بأهل ذَلِكَ البلد مخافة.
وفيه: أن وجوب ذَلِكَ لا يتعدى المسلمين وليس على أهل الذمة (بواجب؛ لأن المسلمين إنما يدافعون عن كلمة التوحيد وليس على أهل الذمة)
(2)
ذَلِكَ عن أموالهم وذراريهم، ولصيانتها بذلوا الجزية لنا، فعلينا حمايتهم والدفع عنهم.
وفيه: العقوبة على الإعجاب بالكثرة
(3)
.
وقوله: (فكتبنا ألفًا وخمسمائة). قَالَ الداودي: لعل هذا كان عام الحديبية، فإنهم خرجوا في ألف وأربعمائة، وقيل: وثلاثمائة، والذي ذكره من هذا الاختلاف لعله سقط عن بعض الناقلين بعض الحديث، ولعلهم كتبوا (مرات)
(4)
عندما يريد الخروج فذكر موطنًا منها، وذكر أن جميع من عدت له صحبة من الرجال والنساء والصبيان، ومن رأى النبي صلى الله عليه وسلم -أو سمع كلامه ستون ألفا، ثلاثون ألفًا بالمدينة وأعراضها، وثلاثون ألفًا في سائر البلاد.
(1)
من (ص 1).
(2)
من (ص 1).
(3)
"شرح ابن بطال" 5/ 221.
(4)
من (ص 1).
قلتُ: أبو زرعة خالف هذا، فإنه قَالَ: قبض النبي صلى الله عليه وسلم عن مائة ألف وأربعة عشر ألفًا، كلهم ممن روى عنه وسمع منه. وقال: مرة شهد مع رسول الله حجة الوداع أربعون ألفا، وشهد معه تبوك سبعون ألفا.
وقوله: (نخاف ونحن ألف وخمسائة). يريد: أيام حفر الخندق.
فائدة:
موضعا الترجمة من الفقه -كما نبه عليه ابن المنير- أنه لا يتخيل أن كتابتهم كان إحصاء لعددهم، وقد يكون ذريعة لارتفاع البركة منهم كما ورد في الدعوات على الكفار:"اللَّهُمَّ أحصهم عددا". أي: ارفع البركة منهم. إنما خرج هذا من هذا النحو؛ لأن الكتابة لمصلحة دينية والمواخذة التي وقعت ليست من ناحية الكتابة، ولكن من ناحية إعجابهم بكثرتهم، فأدبوا بالخوف المذكور في الحديث، ثم إن الترجمة تطابق الكتابة الأولى، وأما هذِه الثانية فكتابة خاصة لقوم بأعيانهم
(1)
.
فائدة:
معنى قوله: (ابتلينا) إلى آخره لعله كان في بعض الفتن التي جرت بعده، فكان بعضهم يخفي نفسه ويصلي سرًّا مخافة الظهور والمشاركة في الفتنة والحروب.
(1)
"المتواري" ص 179.
182 - باب إِنَّ الله يُؤَيِّدُ الدِّينَ بِالرَّجُلِ الفَاجِرِ
3062 -
حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ح. وَحَدَّثَنِي مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ المُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: شَهِدْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لِرَجُلٍ مِمَّنْ يَدَّعِي الإِسْلَامَ: «هَذَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ» . فَلَمَّا حَضَرَ القِتَالُ قَاتَلَ الرَّجُلُ قِتَالاً شَدِيدًا، فَأَصَابَتْهُ جِرَاحَةٌ فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، الذِي قُلْتَ إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَإِنَّهُ قَدْ قَاتَلَ الْيَوْمَ قِتَالاً شَدِيدًا وَقَدْ مَاتَ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«إِلَى النَّارِ» . قَالَ: فَكَادَ بَعْضُ النَّاسِ أَنْ يَرْتَابَ، فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ إِذْ قِيلَ إِنَّهُ لَمْ يَمُتْ، وَلَكِنَّ بِهِ جِرَاحًا شَدِيدًا. فَلَمَّا كَانَ مِنَ اللَّيْلِ لَمْ يَصْبِرْ عَلَى الجِرَاحِ، فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَأُخْبِرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ فَقَالَ:«الله أَكْبَرُ، أَشْهَدُ أَنِّي عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ» . ثُمَّ أَمَرَ بِلَالاً فَنَادَى بِالنَّاسِ «إِنَّهُ لَا يدخلُ الجَنَّةَ إِلاَّ نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ، وَإِنَّ اللهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ» . [4203، 4204، 6606، مسلم: 111 - فتح 6/ 179]
ذكر فيه حديث سعيدِ بنِ المُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: شَهِدْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لِرَجُلٍ مِمَّنْ يَدَّعِي الإِسْلَامَ:"هذا مِنْ أَهْلِ النَّارِ". فَلَمَّا حَضَرَ القِتَالُ قَاتَلَ الرَّجُلُ قِتَالًا شَدِيدًا، فَأَصَابَتْهُ جِرَاحَة، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، الذِي قُلْتَ لَهُ آنِفًا إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَإِنَّهُ قَدْ قَاتَلَ اليَوْمَ قِتَالًا شَدِيدًا وَقَدْ مَاتَ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"إِلَى النَّارِ". قَالَ: فَكَادَ بَعْضُ النَّاسِ أَنْ يَرْتَابَ، فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ إِذْ قِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يَمُتْ، ولكن بِهِ جِرَاحًا شَدِيدًا. فَلَمَّا كَانَ مِنَ اللَّيْلِ لَمْ يَصْبِرْ عَلَى الجِرَاحِ، فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَأُخْبِرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ، فَقَالَ:"اللهُ أَكبَرُ، أَشْهَدُ أَنِّي عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ". ثُمَّ أَمَرَ بِلَالًا فَنَادى فِي النَّاسِ "إِنَّهُ لَا يدخلُ الجَنَّةَ إِلَّا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ، وَإِنَّ الله لَيُؤَيِّدُ هذا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الفَاجِرِ".
هذا الحديث ذكره هنا أولاً عاليًا ثم نازلاً، وإن كانت العادة ذكر النزول ثم العلو، وسيأتي أيضًا في غزوة خيبر
(1)
، وزعم ابن إسحاق
(2)
والواقدي
(3)
، وغيرهما أن هذا كان بأحد.
واسم الرجل قزمان، وهو معدود في جملة المنافقين، وكان تخلف عن أحد فعيره النساء، فلما أحفظنه خرج فقتل سبعة، وقصة قزمان كانت بأحد، وقد سلفت قصته في الجهاد
(4)
.
وأما حديث أبي هريرة فالصحيح أنه كان في خيبر، كما ذكره البخاري وهما قصتان، وهذا مما أعلمنا الشارع أنه ممن نفذ عليها الوعيد من الفجار المذنبين، لا أن كل من قتل نفسه أو غيره يقضى عليه بالنار، ويحتمل كما قَالَ ابن التين أن يكون استوجبها إلا أن يغفر الله له، أو بقوله في غير ذَلِكَ الرجل على الحقيقة، ويحتمل إن كان على الحقيقة أن يعاقب بقتله نفسه، أو يكون قد ارتاب وشك حين أصابته الجراحة، وهذا أسعد بظاهر الحديث لقوله:"لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة". وقال ابن المنير: هذا رجل ظاهر الإسلام، قتل نفسه فظاهر النداء عليه يدل على أنه ليس مسلمًا، والمسلم لا يخرجه قتل نفسه عن كونه مسلمًا، فلا يحكم بكفره ويصلى عليه، ويجاب عن ذَلِكَ بأنه صلى الله عليه وسلم اطلع من أمره على سره فعلم بكفره؛ لأن الوحي عنده عتيد.
(1)
سيأتي برقم (4203، 4204) كتاب المغازي.
(2)
انظر "سيرة ابن هشام" 3/ 57.
(3)
"مغازي الواقدي" 1/ 224.
(4)
سلف برقم (2898) باب لا يقول فلان شهيد، من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه -
وقوله: (الذي قلت له آنفًا إنه من أهل النار) معنى (له): فيه، قَالَ ابن الشجري: اللام قد تأتي بمعنى (في) قَالَ تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء: 47] أي: فيه.
وقوله: (فكاد بعض الناس أن يرتاب). كذا في الأصل إثبات (أن) مع (كاد) وهو قليل.
وقوله: (وَإِن الله ليؤيد) كذا في الأصل، وفي رواية حذف اللام، ويجوز في (إن) هذِه الفتح والكسر -أعني المحذوفة اللام- وقد قرئ في السبعة:(إن الله يبشرك). ولا يعارض هذا حديث: "إنا لا نستعين بمشرك"؛ لأن (المسلم)
(1)
غير المسلم الفاجر، مع أن هذا الحديث عنه أجوبة، منها نسخه، ومنها أن يكون خاصًّا في ذَلِكَ الوقت؛ لأنه قد استعان بصفوان بن أمية في هوازن واستعار منه مائة درع بأداتها، وخرج معه صفوان حَتَّى قالت له هوازن: تقاتل مع محمد ولست على دينه؟ فقال: رب من قريش خير من رب من هوازن. وقد غزا معه المنافقدن وهو يعلم بنفاقهم وكفرهم. قَالَ الطحاوي: قتال صفوان مع رسول الله باختياره فلا يعارض قوله: "إنا لا نستعين بمشرك"
(2)
قلتُ: وهذا أيضًا كان مختارًا، وهل يستعان بالكفار في المجانيق وشبهها؛ فمنعه مالك واختاره ابن حبيب، حكاه ابن التين
(3)
.
وقوله: ("وإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر") يشمل المسلم والكافر، فصح أن حديث:"إنا لا نستعين بمشرك"، خاص بذلك الوقت.
(1)
في (ص): المشرك.
(2)
"مشكل الآثار" كما في "تحفة الأخيار" 5/ 460 - 461.
(3)
انظر: "المدونة" 1/ 400.
وفيه: من أعلام النبوة إخباره بالغيب الذي لا يدرك مثله إلا بالوحي.
وفيه: جواز إعلام الصالح بفضيلة تكون فيه والجهر بها ليبلغ (معانديه)
(1)
من أهل الباطل والقدح في فضله، (فيحزنهم)
(2)
ذَلِكَ ويعلمون ثباته وشدته على الحق.
فائدة: موضع الترجمة -كما قَالَ ابن المنير-: أنه لا يتخيل في الإمام أو السلطان الفاجر إذا حمى حوزة الإسلام أنه مطرح النفع في الدين لفجوره، فيخرج عليه ويخلع؛ لأن الله قد يؤيد دينه به، فيجب الصبر عليه والسمع والطاعة له في غير المعصية، ومن هذا الوجه استحسان العلماء الدعاء للسلاطين بالتأييد وشبهه من أهل الخير من حيث تأييدهم للدين لا من حيث أحوالهم الخارجة
(3)
.
(1)
تصحفت في الأصل إلى (معاندته). بمثناة فوقية بعد الدال المهملة.
(2)
تحرفت في الأصل إلى (فيجز لهم).
(3)
"المتواري" ص 180.
183 - باب مَنْ تَأَمَّرَ فِي الحَرْبِ من غَيْرِ إِمْرَةٍ إِذَا خَافَ العَدُوَّ
3063 -
حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ غَيْرِ إِمْرَةٍ فَفُتِحَ عَلَيْهِ، وَمَا يَسُرُّنِي -أَوْ قَالَ مَا يَسُرُّهُمْ- أَنَّهُمْ عِنْدَنَا» . وَقَالَ وَإِنَّ عَيْنَيْهِ لَتَذْرِفَانِ. [انظر: 1246 - فتح 6/ 180]
ذكر فيه حديث أَنَسٍ لكنه: خَطَبَ النبي صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا خَالِدُ بْنُ الوَلِيدِ مَنْ غَيْرِ إمْرَةٍ فَفَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ، فَمَا يَسُرُّنِي -أَوْ قَالَ: فَمَا يَسُرُّهُمْ- أَنَّهُمْ عِنْدَنَا". قَالَ: وَإنَّ عَيْنَيْهِ لَتَذْرِفَانِ.
هذا الحديث سلف.
وفيه من الفقه:
أنه لمن رأى للمسلمين عورة قد بدت أن يتناول سَدَّ خَلَلِهَا إذا كان مستطيعًا لذلك وعلم من نفسه منة وجزالة، وهذا المعنى امتثل علي في قيامه عند قتل عثمان بأمر المسلمين، يعني: بغير شورى منهم واجتماع؛ لأنه خشي على المسلمين الضيعة وتفرق الكلمة التي آل أمر الناس إليها، وعلم إقرار جميع الناس بفضله، وأن أحدًا لا ينازعه فيه.
وحديث ابن عمر في ذَلِكَ في المغازي
(1)
: أمر رسول الله في غزوة مؤتة زيد بن حارثة؛ فقال صلى الله عليه وسلم: "إن قُتل زيد فجعفر، وإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة".
(1)
سيأتي برقم (4261) باب غزوة مؤتة من أرض الشام.
وفيه: أن تقدمهما إلى أخذ الراية بتقديمه صلى الله عليه وسلم لهما وتوليته إياهما.
وفيه: أن الإمام يجوز له أن يجعل ولاية العهد بعده لرجل، ثم يقول: فإن مات قبل موتي فإن الولاية لفلان -رجل آخر يستحق ذَلِكَ- فإن مات المولى أولاً فالعقد للثاني ثابت.
فإن قلتَ: كيف يصح ذَلِكَ ولا يخلو من أن تنعقد ولاية الثاني في الحال أو لا تنعقد؟ فإن كانت منعقدة صارت الإمامة ثابتة لإمامين، وذلك لا يجوز، وإن لم تنعقد للثاني في الحال فقد جوزتم ابتداء عقدها على شرط وصفة. قيل: إنما يجوز استخلاف الاثنين على سبيل الترتيب، إذا ترتبا في ولاية العهد.
ولو قيل: إن عقد الولاية ينعقد لأحدهما لا بعينه، وتتعين لمن انعقدت له عند موت الإمام العاقد كان سائغًا، ألا ترى أن عمر لم يعين على أحد من الستة في الشورى، وانعقدت لأحدهم الولاية في جهته، وتعين ذَلِكَ الواحد منهم بعد موته ووقوع الاختيار من بينهم عليه، وإن قيل: إن الولاية تنعقد للأول، وأن الثاني إنما وقع عليه الاختيار من غير أن تنعقد له ولاية في الحال لتنعقد في الثاني، فيلزم الأمة حينئذ اتباعه باختيار الإمام له، وإن اختاره لهم أولى من نظر من يتولى الاختيار منهم لمكافأتهم، كان له وجه لتعلق ذَلِكَ بالمصلحة العامة والنظر للكافة.
وقد وردت السنة بمثله، واجتمعت الأمة على استعماله، ولَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة على الجيش الذي جهزه إلى مؤتة، ثم قَالَ:"فَإِنْ قُتِلَ فَأَمِيرُهُ جَعْفَرٌ، فَإِنْ قُتِلَ فَأَمِيرُهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ"
(1)
، رتبهم في ولاية
(1)
رواه أحمد 1/ 204، والنسائي في "الكبرى" 5/ 180 (8604).
الإمارة، وانعقدت بهذِه التولية إمارة، ثم جعفر بعده، ثم عبد الله بعده، فإن ولَّى الإمام ولي عهده. وقال: إن مات بعد إفضاء الخلافة إليه بعدي لا قبلي فالإمام بعده فلان، انعقدت ولاية الأول وصار إمامًا عند موت المتخلف، فكان لولي العهد في حياته أن يختار غيره لولاية العهد؛ لأن الحق في الاختيار حينئذ يصير إليه بإفضاء الإمامة إليه، قاله بعض أهل العراق.
وقوله: (وإن عينيه لتذرفان). قَالَ الداودي: أي: تدمعان. وقال غيره: تدفعان الدمع.
184 - باب العَوْنِ بِالْمَدَدِ
3064 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، وَسَهْلُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَتَاهُ رِعْلٌ وَذَكْوَانُ وَعُصَيَّةُ وَبَنُو لِحْيَانَ، فَزَعَمُوا أَنَّهُمْ قَدْ أَسْلَمُوا، وَاسْتَمَدُّوهُ عَلَى قَوْمِهِمْ، فَأَمَدَّهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِسَبْعِينَ مِنَ الأَنْصَارِ قَالَ أَنَسٌ: كُنَّا نُسَمِّيهِمُ الْقُرَّاءَ، يَحْطِبُونَ بِالنَّهَارِ وَيُصَلُّونَ بِاللَّيْلِ، فَانْطَلَقُوا بِهِمْ حَتَّى بَلَغُوا بِئْرَ مَعُونَةَ غَدَرُوا بِهِمْ وَقَتَلُوهُمْ، فَقَنَتَ شَهْرًا يَدْعُو عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ وَبَنِي لِحْيَانَ. قَالَ قَتَادَةُ: وَحَدَّثَنَا أَنَسٌ أَنَّهُمْ قَرَءُوا بِهِمْ قُرْآنًا: أَلَا بَلِّغُوا عَنَّا قَوْمَنَا بِأَنَّا قَدْ لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِىَ عَنَّا وَأَرْضَانَا. ثُمَّ رُفِعَ ذَلِكَ بَعْدُ. [انظر: 1001 - مسلم: 677 - فتح 6/ 180]
حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، ثَنَا ابن أَبِي عَدِي، وَسهْلُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم أَتَاهُ رِعْلٌ وَذَكْوَانُ وَعُصَيَّةُ وَبَنُو لِحْيَانَ، فَزَعَمُوا أَنَّهُمْ قَدْ أَسْلَمُوا، وَاسْتَمَدُّوهُ عَلَى قَوْمِهِمْ، فَأَمَدَّهُمُ بِسَبْعِينَ مِنَ الأَنْصَارِ. قَالَ أَنَسٌ: كُنَّا نُسَمِّيهِمُ القُرَّاءَ، يَحْتَطِبُونَ بِالنَّهَارِ وَيُصَلُّونَ بِاللَّيْلِ، فَانْطَلَقُوا بِهِمْ حَتَّى بَلَغُوا بِئْرَ مَعُونَةَ غَدَرُوا بِهِمْ وَقَتَلُوهُمْ، فَقَنَتَ شَهْرًا يَدْعُو عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ وَبَنِي لِحْيَانَ. قَالَ قَتَادَةُ: فَحَدَّثَنَا أَنَسٌ أَنَّهُمْ قَرَءُوا فِيهِمْ قُرْآنًا: أَلَا بَلِّغُوا عَنَّا قَوْمَنَا أَنَّا قَدْ لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِيَ عَنَّا وَأَرْضَانَا. ثُمَّ رُفِعَ ذَلِكَ بَعْدُ.
الشرح: (ابن أبي عدي) اسمه: محمد بن إبراهيم أبو عمرو السلمي مولاهم، نزل القسامل بصري، مات سنة أربع وتسعين ومائة.
و (سهل) أنماطي بصري كنيته: أبو عبد الله.
و (سعيد) هو ابن أبي عَرُوبة أبو النضر مولى عدي بن يشكر، مات سنة ست وخمسين ومائة.
وقوله: (وبنو لحيان). قَالَ الدمياطي: إنه وَهَمٌ؛ لأنهم لم يكونوا من أصحاب بئر معونة، وإنما كانوا من أصحاب الرجيع الذين قتلوا عاصم بن أبي الأقلح وأصحابه، وأسروا خبيبًا وابن الدثنة، قَالَ: وقوله: (أتاه رعل
…
). إلى آخره وهم، وإنما الذي أتاه أبو براء من بني كلاب، وأجار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخفر جواره عامر بن الطفيل وجمع عليهم هذِه القبائل من سليم.
وفيه: أن السنة مضت من الشارع في أن يمد بمدد من عنده، وجرى بذلك العمل من الأئمة بعده.
وفيه: الدعاء في الصلاة على أهل العصيان والشرك، وإنما (كان)
(1)
ذَلِكَ على قدر جرائمهم.
وفيه: أنه يجوز النسخ في الأخبار على صفة، ولا يكون نسخه تكذيبًا إنما يكون نسخه ترك تلاوته فقط، كما أن نسخ الأحكام ترك العمل بها، فربما عوض من المنسوخ من الأحكام حكما غيره وربما لم يعوض، فمما نسخ من الأحكام ولم يعوض عنه أمره بالصدقة عند مناجاة الرسول، ثم عما عنها بغير عوض ينسخه، بل ترك العمل به، وكذلك الأخبار نسخها من القرآن رفع ذكرها وترك تلاوتها، لا بأن تكذب بخبر آخر مضاد لها، ومثله مما نسخ من الأخبار ما كان يقرأ في القرآن: لو أن لابن آدم واديين من ذهب لابتغى لهما ثالثًا.
(1)
من (ص 1).
185 - باب مَن غَلَبَ العَدُوَّ فَأَقَامَ عَلَى عَرْصَتِهِمْ ثَلاثًا
3065 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ، حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: ذَكَرَ لَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي طَلْحَةَ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ إِذَا ظَهَرَ عَلَى قَوْمٍ أَقَامَ بِالْعَرْصَةِ ثَلَاثَ لَيَالٍ. تَابَعَهُ مُعَاذٌ وَعَبْدُ الأَعْلَى حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. [3976 - مسلم: 2875 - فتح 6/ 181]
ذكر فيه حديث قَتَادَةَ قَالَ: ذَكَرَ لنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ إِذَا ظَهَرَ عَلَى قَوْم أَقَامَ بِالْعَرْصَةِ ثَلَاثَ لَيَالٍ. تَابَعَهُ مُعَاذٌ وَعَبْدُ الأَعْلَى، ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قتَادَةَ، (عَنْ أَنَسٍ)
(1)
، عَنْ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
متابعة عبد الأعلى أخرجها مسلم، عن يوسف بن حماد عنه، ومتابعة معاذ أخرجها الإسماعيلي، عن أبي يعلى، عن أبي بكر بن أبي شيبة: ثَنَا معاذ بن معاذ وعبد الأعلى، ثَنَا سعيد عن قتادة، فذكره. قَالَ الحميدي: زاد البرقاني في هذا الحديث: قَالَ قتادة: أحياهم الله. قلتُ: البخاري أخرجه في موضع آخر ولفظه: قَالَ قتادة: أحياهم الله حَتَّى أسمعهم قوله توبيخًا وتصغيرًا ونقمةً وحسرة وندمًا
(2)
. وذكر قبله أنه أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلاً من صناديد قريش فقذفوا في طوى من أطواء بدر خبيث مخبث. فذكره بداءة إياهم.
(1)
من (ص 1).
(2)
"الجمع بين الصحيحين" 1/ 413.
وقوله: (ما أنتم بأسمع لما أقول منهم) ثم ذكر قول قتادة. قَالَ المهلب: وهذا كان منه صلى الله عليه وسلم -والله أعلم- ليريح الظهر والأنفس، هذا إذا كان في أمن من عدو طارق، وإنما قصد إلى ثلاث؛ لأنه أكثر ما يريح المسافر؛ لأن الأربعة إقامة؛ لحديث العلاء بن الحضرمي، وحديثه الآخر:"لا يبقين مهاجر بمكة بعد قضاء نسكه فوق ثلاث"
(1)
، ولقسمة الغنائم، ولراحة الظهر
(2)
. وقال ابن التين: هذا حكايته ما رأى لا أنه لا يجوز غيره. وقال ابن الجوزي: فائدتها لتظهر تأثير الغلبة وتنفيذ الأحكام وترتيب الثواب، ولقلة احتفاله بهم كأنه يقول: نحن مقيمون فإن كانت لكم قوة فهلموا إلينا.
(1)
رواه مسلم (1352) كتاب الحج، باب جواز الإقامة بمكة .. ولفظه: يقيم المهاجر بمكة، بعد قضاء نسكه ثلاثا.
(2)
"شرح ابن بطال" 5/ 226.
186 - باب مَنْ قَسَمَ الغَنِيمَةَ فِي غَزْوِهِ وَسَفَرِهِ
وَقَالَ رَافِعٌ: كُنَّا مَعَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم بِذِي الحُلَيْفَةِ، فَأَصَبْنَا غَنَمًا وَإِبِلاً، فَعَدَلَ كُلَّ عَشَرَةٍ مِنَ الغَنَمِ بِبَعِيرٍ. [انظر: 2488]
3066 -
حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، أَنَّ أَنَسًا أَخْبَرَهُ قَالَ: اعْتَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الجِعْرَانَةِ، حَيْثُ قَسَمَ غَنَائِمَ حُنَيْنٍ. [انظر: 1778 - مسلم: 1253 -
فتح 6/ 181]
ثم ساق حديث قَتَادَةَ، أَنَّ أَنَسًا أَخْبَرَهُ قَالَ: اعْتَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الجِعْرَانَةِ حَيْثُ قَسَمَ غَنَائِمَ حُنَيْنٍ.
التعليق الأول سلف مسندًا في الشركة، وأخرجه مسلم والأربعة أيضًا
(1)
.
قَالَ الداودي: هذا إنما هو على قدر القيم ذَلِكَ الوقت، وهذا غير مستقيم على مذهب مالك في القسمة بالقرعة؛ لأن الإبل عنده لا تجمع مع الغنم، إلا أن يريد أنها قومت ثم قسمت بالتراضي. وقال المهلب: هذا إلى نظر الإمام واجتهاده يقسم حيث رأى الحاجة والأمن، ويؤخر إذا رأى في المسلمين غنًى وخاف.
وممن أجاز قسمة الغنائم في دار الحرب مالك
(2)
والأوزاعي، والشافعي
(3)
، وأبو ثور، وقال الإمام أبو حنيفة: لا تقسم الغنائم في دار الحرب حَتَّى تخرجها إلى دار الإسلام، وذلك لأن الملك لم يتم عليها إلا بالاستيلاء التام، ولا يحصل إلا بإحرازها في دار الإسلام
(4)
.
(1)
"سنن أبي داود"(1994)، "سنن الترمذي"(815)، "سنن النسائي" 7/ 191، "سنن ابن ماجه"(3137).
(2)
انظر: "المدونة" 1/ 374، "الكافي" لابن عبد البر ص 214.
(3)
انظر: "الأم" 4/ 140 - 141.
(4)
انظر "مختصر الطحاوي" ص 282، "الهداية" 2/ 434.
والصواب قول من أجاز ذَلِكَ للسنة الواردة فيه، روى ابن القاسم عن مالك قَالَ: الشأن قسمة الغنيمة في دار الحرب؛ لأنهم أولى برخصها.
(1)
وروى الفزاري قال: قلتُ للأوزاعي: هل قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا من الغنائم بالمدينة؟ قَالَ: لا أعلمه، إنما كان الناس يتبعون غنائمهم ويقسمونها في أرض عدوهم، ولم يقفل رسول الله قط من غزاة أصاب فيها غنيمة إلا خمسها، وقسمها من قبل أن يقفل، من ذَلِكَ غنيمة بني المصطلق وخيبر وهوازن، ذكر ذَلِكَ ابن قدامة، قَالَ:
ولأن الملك يثبت فيها بالقهر والاستيلاء فصحت قسمتها كما لو احرزت بدار الإسلام، والدليل على ثبوت الملك فيها أمور:
أحدها: أن سبب الملك الاستيلاء التام، وقد وجد.
ثانيها: أن ملك الكفار زال عنها بدليل أنه لا ينفذ عتقهم في العبيد الذين حصلوا في الغنيمة ولا يصح تصرفهم (فيها)
(2)
.
ثالثها: لو أسلم عبد الحربي ولحق بجيش المسلمين صار حرًّا، وهذا يدل على جواز زوال ملك الكفار وثبوت الملك لمن قهره.
وإنما عدل البعير بعشر شياه فليس بأمر لازم
(3)
.
وفي قوله: (عدل) دليل على أن المعادلة والنظر فيها في كل بلد؛ لأن البعير في الحجاز له قيمة زائدة ولأكل لحمه عادة جارية، وليس كذلك في غيره من البلاد، وإنما هو إلى الاجتهاد في كل بلد.
وفيه: دليل على جواز بيع الحيوان بعضه ببعض، وإن كان للحم فقد صح بيع اللحم باللحم متفاضلًا من غير جنسه أيضًا.
(1)
"المدونة" 1/ 374.
(2)
من (ص 1).
(3)
"المغني" 12/ 107 - 108.
187 - باب إِذَا غَنِمَ المُشْرِكُونَ مَالَ المُسْلِمِ ثُمَّ وَجَدَهُ المُسْلِمُ
3067 -
قَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: ذَهَبَ فَرَسٌ لَهُ، فَأَخَذَهُ العَدُوُّ، فَظَهَرَ عَلَيْهِ المُسْلِمُونَ فَرُدَّ عَلَيْهِ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَبَقَ عَبْدٌ لَهُ فَلَحِقَ بِالرُّومِ، فَظَهَرَ عَلَيْهِمُ المُسْلِمُونَ، فَرَدَّهُ عَلَيْهِ خَالِدُ بْنُ الوَلِيدِ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. [3068، 3069 - فتح 6/ 182)
3068 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ قَالَ: أَخْبَرَنِي نَافِعٌ أَنَّ عَبْدًا لاِبْنِ عُمَرَ أَبَقَ فَلَحِقَ بِالرُّومِ، فَظَهَرَ عَلَيْهِ خَالِدُ بْنُ الوَلِيدِ، فَرَدَّهُ على عَبْدِ اللهِ، وَأَنَّ فَرَسًا لاِبْنِ عُمَرَ عَارَ فَلَحِقَ بِالرُّومِ، فَظَهَرَ عَلَيْهِ، فَرَدُّوهُ على عَبْدِ اللهِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: عَارَ مُشْتَقٌ مِنَ العَيْرِ وَهْوَ حِمَارُ وَحْشٍ أَيْ: هَرَبَ. [انظر: 3067 - فتح 6/ 182]
3069 -
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ كَانَ عَلَى فَرَسٍ يَوْمَ لَقِيَ الْمُسْلِمُونَ، وَأَمِيرُ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ خَالِدُ بْنُ الوَلِيدِ، بَعَثَهُ أَبُو بَكْرٍ، فَأَخَذَهُ الْعَدُوُّ، فَلَمَّا هُزِمَ العَدُوُّ رَدَّ خَالِدٌ فَرَسَهُ. [انظر: 3067 - فتح 6/ 182]
قَالَ ابن نُمَيْرٍ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابن عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: ذَهَبَ فَرَسٌ لَهُ، فَأَخَذَهُ العَدُوُّ، فَظَهَرَ عَلَيْهِ المُسْلِمُونَ، فَرُدَّ عَلَيْهِ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَبَقَ عَبْدٌ لَهُ فَلَحِقَ بِالرُّومِ، فَظَهَرَ عَلَيْهِمُ المُسْلِمُونَ، فَرَدَّهُ عَلَيْهِ خَالِدُ بْنُ الوَلِيدِ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
ثم أسنده من حديث نَافِع أَنَّ عَبْدًا لاِبْنِ عُمَرَ أَبَقَ فَلَحِقَ بِالرُّومِ، فَظَهَرَ عَلَيْهِمْ خَالِدُ بْنُ الوَلِيدِ، فَرَدَّهُ عَلَى عَبْدِ اللهِ، وَأَنَّ فَرَسًا لاِبْنِ عُمَرَ عَارَ، فَظَهَرَ عَلَيْهِ، فَرَدَّهُ عَلَى عَبْدِ اللهِ.
وحديث مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابن عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ
كَانَ عَلَى فَرَسٍ يَوْمَ لَقِيَ المُسْلِمُونَ، وَأَمِيرُ المُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ خَالِدُ بْنُ الوَلِيدِ، بَعَثَهُ أَبُو بَكْرٍ، فَأَخَذَهُ العَدُوُّ، فَلَمَّا هُزِمَ العَدُوُّ رَدَّ خَالِدٌ فَرَسَهُ.
الشرح:
التعليق أسنده أبو داود عن محمد بن سليمان الأَنْباري والحسن بن (على المعنى)
(1)
قالا: حَدَّثنَا عبد الله بن نمير
(2)
.
وفرسُ ابن عمر في هذا التعليق أنه رد عليه في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي الأخير المسند أن خالدًا رده وصحح الداودي الأول، وأنه كان في غزاة مؤتة، قَالَ: وعبيد الله أثبت في نافع من موسى. ولما روى الإسماعيلي حديث موسى قَالَ فيه: يوم لقي المسلمون ظبيا وأسدًا فاقتحم الفرس بعبد الله بن عمر جرفًا فصرعه، وسقط عبد الله فعار الفرس فأخذه العدو، فلما هزم الله العدو رد خالد على عبد الله فرسه.
واختلف العلماء في الأموال التي يأخذها المشركون من المسلمين ثم يقهرهم المسلمون ويأخذونها منهم، ولهم حالان:
أحدهما: أن يعلم بها قبل قسمتها، فإنها ترد إليه بغير شيء، وهو قول أكثر أهل العلم منهم: عمر بن الخطاب وعطاء والنخعي وسلمان بن ربيعة والليث ومالك والثوري والأوزاعي والشافعي والكوفيون، وإحدى الروايتين عن أحمد. وقال الحسن والزهري: لا ترد إلى صاحبها قبل القسمة ولا بعدها وهي للجيش، ونحوه عن عمرو بن دينار، وروِي مثلُهُ عن علي -فيما قَالَ ابن المناصف-
(1)
في الأصل: محمد الخلال، وفي (ص): على الخلال. والمثبت من "سنن أبي داود".
(2)
"سنن أبي داود"(2699).
وحكاه ابن التين عن الأوزاعي، ثم قَالَ: وهذا قبل القسمة، فإن وجده بعدها فهو أحق به، وعن عمر: أن من بيده أحق ولا يأخذه عندنا إلا بالثمن، وقال الشافعي: بالقيمة من بيت المال، وعلتهم أن الكفار ملكوه باستيلائهم، فصار غنيمة كسائر أموالهم
(1)
.
واستدل للجمهور بأحاديث الباب في الغلام والفرس وأنهما رُدَّا عليه قبل القسمة، وروى عبد الملك بن ميسرة، عن طاوس، عن ابن عباس أن رجلاً وجد بعيرًا له كان المشركون أصابوه، فقال صلى الله عليه وسلم:"إن أصبته قبل أن تقسم فهو لك، وإن أصبته بعد ما قسم أخذته بالقيمة" رواه أبو داود من حديث الحسن بن عمارة عنه
(2)
.
وقال أبو أحمد: هذا يعرف بالحسن عنه، وقد روى مسعر، عن عبد الملك، قَالَ يحيى بن سعيد: سألت مسعرًا عنه فقال: هو من حديث عبد الملك، ولكن لا أحفظه، قَالَ يحيى عن البتي: والحسن متروك. وقال الطحاوي: قَالَ علي بن المديني: روي عن يحيى بن سعيد أنه سأل مسعرًا عنه فقال: هو من رواية عبد الملك، عن طاوس، عن ابن عباس قَالَ: فأثبته عنه من حديثه فدل على أنه قد رواه عنه غير الحسن بن عمارة، فاستغني عن روايته لشهرته عن عبد الملك. قَالَ ابن عدي: وروي أيضًا من حديث مسلمة بن علي وابن عياش، وهما ضعيفان، وأخرجه الدارقطني من حديث إسحاق بن أبي فروة،
(1)
انظر: "مختصر الطحاوي" ص 286، "بدائع الصنائع" 7/ 127، "المدونة" 1/ 375، "عيون المجالس" 2/ 693، "الإشراف" 2/ 264، "روضة الطالبين" 10/ 293 - 294، "الشرح الكبير" 10/ 196 - 200، "الإنصاف" 10/ 196 - 199.
(2)
لم أقف عليه عند أبي داود، ورواه البيهقي 9/ 111.
عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه مرفوعًا:"من وجد ماله في الفيء قبل أن يقسم فهو له، ومن وجده بعدما قسم فليس له بحق"
(1)
.
قَالَ عبد الحق: أسنده ياسين الزيات، عن سماك، عن تميم، عن جابر بن سمرة، وياسين ضعيف عندهم.
الحال الثاني: أن يعلم به بعد القسمة، فإنه يأخذه بالقيمة، وهو قول عمر وعلى وزيد بن ثابت وابن المسيب وعطاء والقاسم وعروة وأبي حنيفة والثوري والأوزاعي ومالك، أخذًا بحديث ابن عباس السالف وبحديث جابر بن حيوة: أن أبا عبيدة كتب إلى عمر بن الخطاب في هذا فقال: من وجد ماله بعينه فهو أحق بالثمن الذي حسب على من أخذه. وكذلك إن بيع ثم قسم ثمنه، فهو أحق به بالثمن؛ ولأنه إنما امتنع من أخذه له بغير شيء كيلا يفضي إلى حرمان أخذه من الغنيمة أو يضع الثمن على المشتري، وحقهما ينجبر بالثمن، والمحكي عن أبي حنيفة أخذه بالقيمة، ويروى عن مجاهد مثله، والباقون يقولون: يأخذه بالثمن الذي حسب على من أخذه. وقال الشافعي: لا يملك أهل الحرب علينا بالغلبة. ولصاحبه أخذه قبل القسمة وبعدها بغير شيء، ويعطي مشتريه ثمنه من خمس المصالح محتجًا بحديث عمران بن حصين: أغار المشركون على سرح المدينة وأخذوا العضباء وامرأة من المسلمين، فلما كان في الليل ركبتها وتوجهت قبل المدينة، ونذرت إن نجاها الله عليها لتنحرنها، فلما قدمت المدينة عُرفت الناقة، فأتوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته المرأة بنذرها، فقال: "بئس ما جزيتيها، لا نذر فيما لا يملك ابن آدم، ولا نذر في
(1)
"سنن الدارقطني" 4/ 113 (4124).
معصية"
(1)
، وزاد عبد الوهاب الثقفي قَالَ: قَالَ أبو داود السجستاني: فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهذا دليل على أن أهل الحرب لا يملكون علينا بغلبة ولا غيرها، ولو ملكوا علينا لملكت المرأة الناقة كسائر أموالهم، لو أخذت شيئًا منها، ولو ملكها لصح فيها نذرها. وقال ابن القصّار: حديث ابن عباس قال على أن أهل الحرب قد ملكوه على المسلمين وصارت لهم يد عليه، ألا ترى أنه لو كان باقيًا على ملك مالكه، لم يختلف حكم وجوده قبل القسمة وبعدها، ويوضحه أن
الكافر إذا أتلفه ثم أسلم لم يتبع بقيمته بخلاف المسلم مع المسلم، ولما جاز أن يملك المسلم على الكافر بالقهر والغلبة، جاز أن يملك الكافر عليه بذلك، وقد قَالَ صلى الله عليه وسلم:"هل ترك لنا عقيل منزلا؟ "، وكان عقيل استولى على دور النبي صلى الله عليه وسلم وباعها، فلولا أن عقيلًا ملكها بالغلبة وباعها لأبطل النبي صلى الله عليه وسلم بيعها ولم يجز تصرفه؛ لأن بيع ما لا يصح ملكه لا حكم له، وأما خبر الناقة والمرأة فلا حجة لهم فيه؛ لأن قوله صلى الله عليه وسلم:"لانذر لابن آدم فيما لا يملك" إنما كان قبل أن تملك المرأة الناقة؛ لأنها قالت ذَلِكَ وهي في دار الحرب، وكل الناس تقول: إنه من أخذ شيئًا من أهل الحرب فلم ينج به إلى دار الإسلام فإنه غير محرز له، وَلا يقع عليه ملكه حَتَّى يخرج به إلى دار الإسلام؛ فلهذا قَالَ:"لا نذر .. " إلى آخره، هذا وجه الحديث.
(1)
الحديث رواه مسلم (1641) كتاب النذر، باب لا وفاء لنذر في معصية الله .. ورواه أبو داود (3316) واللفظ له.
وانظر تفصيل المسألة في: "بدائع الصنائع" 7/ 127، "عيون المجالس" 2/ 693، "الإشراف" 2/ 264، "روضة الطالبين" 10/ 293 - 294، "المغني" 13/ 117 - 119.
وقال ابن القصار: ما أحرزه المشركون وخرج عن أيديهم إلى المسلمين، فإن لم يقع في المقاسم ولا حصل في يد إنسان بعوض فإنه يعود إلى ملك صاحبه، فالمرأة لما أخذت الناقة بغير عوض انتقل ملكها عن المشركين وحصل لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأما إذا قسمت الغنائم وحصل الشيء في يد أحد حصلت له شبهة ملك عليه؛ لأجل أنه حصل له بعوض، وهو حقه من الغنائم؛ فلا يخرجه عن يده إلا بعوض؛ لأن الغانمين قد اقتسموا وتفرقوا، فإن أعطاه الإمام القيمة جاز، وإن لم يعطه لم يأخذه صاحبه إلا بعوض؛ لأن القسم حكم الإمام مع كون شبهة أيدي الكفار، فيصير للغانم بحكم الإمام
(1)
.
واستدل الطحاوي بحديث الناقة، فإن المرأة لما أخذتها انتقل ملكها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحديث سفيان، عن سماك بن حرب، عن تميم بن طرفة: أن رجلاً أصاب العدو له بعيرًا، فاشتراه رجل منهم فجاء به فعرفه صاحبه، فخاصمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"فإن شئت أعطيت ثمنه الذي اشتراه به وهو لك، وإلا فهو له" فهذا وجه الحكم في الباب من طريق الآثار
(2)
.
وأما من طريق النظر فرأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم في مشتري البعير من أهل الحرب أن لصاحبه أن يأخذه منه بالثمن، وكان قد ملكه المشتري من الحربيين، كما يملك الذي يقع في سهمه من الغنيمة ما يقع في سهمه منها، فالنظر على ذَلِكَ أن يكون الإمام إذا قسم الغنيمة فوقع منها في يد رجل شيء وإن كان أُسر ذَلِكَ من يد آخر، أن يكون المأسور من يده
(1)
"شرح ابن بطال" 5/ 227 - 229.
(2)
"شرح معاني الآثار" 3/ 263.
كذلك أن يكون له أخذ ما كان أسر من يده من الذي وقع في سهمه بقيمته كما يأخذ من يد مشتريه بثمنه
(1)
.
وقوله: (أَنَّ فَرَسًا لابْنِ عُمَرَ عَارَ) هو بالعين المهملة، أي: انفلت من صاحبه، يَعِيرُ.
ومعنى (ظَهَرَ عَلِيهِ): غلب عليه، وقال البخاري -كما نقله ابن التين والدمياطي-: عَارَ مشتق من العير وهو: حمارُ وَحْشٍ، أي: هرب. يريد أنه فعل فعله في النفار.
وقال "صاحب العين": عار الفرس والكلب وغير ذَلِكَ عيارًا: أفلت وذهب في الناس
(2)
.
وقال ابن دريد في "جمهرته": عار الفرس تعيرًا: إذا انطلق من مربطه فذهب على وجهه، وكذلك البعير
(3)
. وقال الطبري: يقال ذَلِكَ في الفرس إذا فعله مرة بعد أخرى، ومنه قيل للبطال من الرجال: الذي لا يثبت على طريقة: عيار، ومنه الشاة العائرة، وسهم عائر: لا يدرى من أين أتى
(4)
، ولما ذكر ابن التين أنه لا يأخذه عندنا إلا بالثمن، قَالَ: دليلنا أن العبد لا يدفع إلى بيت المال وإنما يرد إلى سيده، فيجب أن تكون القيمة على أخذه أو يكون استحقاقه تامًّا، فلا تجب فيه القيمة على أحد.
ثم نقل عن مالك كما أسلفنا أن من أسلم على شيء في أيديهم للمسلمين ملكه. وقال الشافعي: لا يملكون إلا بما يملك به المسلمون،
(1)
"شرح ابن بطال" 5/ 229 - 230.
(2)
"العين" 2/ 238، مادة: عير.
(3)
"جمرة اللغة" 2/ 777، مادة: عير.
(4)
"شرح ابن بطال" 5/ 230.
وناقض فقال: إذا استهلكه الحربي ثم أسلم لم يغرمه. وقال أبو حنيفة: إن غنموه في دار الإسلام فلا يملكونه حَتَّى يخرجوه إلى
(1)
دار الحرب، ومالك لم يفرق، ثم قَالَ: إن الشافعي استدل بقوله: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [الأحزاب: 27] الآية فجعل ذَلِكَ منة علينا فانتفى معه أن يملكوا أموالنا
(2)
.
وأجيب: بأنه ورد في خبر مخصوص ولم يُردْ به أنه لا يصيب المسلمين من الكفار جائحة، ألا ترى قوله تعالى:{لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} [الحشر: 8] فسماهم فقراء لأخذ الكفار أموالهم، وإذا كان كذلك لم يكن في هذِه الآية دلالة.
(1)
ورد في هامش الأصل: لعله (من).
(2)
سبق بيان المسألة.
188 - باب مَن تَحَلَّمَ بِالفَارِسِيَّةِ وَالرَّطَانَةِ
وَقَوْلِهِ عز وجل: {وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} [الروم: 22]{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4].
3070 -
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، أَخْبَرَنَا حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مِينَاءَ قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، ذَبَحْنَا بُهَيْمَةً لَنَا، وَطَحَنْتُ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، فَتَعَالَ أَنْتَ وَنَفَرٌ، فَصَاحَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:«يَا أَهْلَ الخَنْدَقِ، إِنَّ جَابِرًا قَدْ صَنَعَ سُؤْرًا، فَحَيَّ هَلاً بِكُمْ» . [4101، 4102 - مسلم: 2039 - فتح 6/ 183]
3071 -
حَدَّثَنَا حِبَّانُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، عَنْ خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أُمِّ خَالِدٍ بِنْتِ خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ قَالَتْ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ أَبِي وَعَلَيَّ قَمِيصٌ أَصْفَرُ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم «سَنَهْ سَنَهْ». قَالَ عَبْدُ اللهِ وَهْيَ بِالْحَبَشِيَّةِ: حَسَنَةٌ. قَالَتْ فَذَهَبْتُ أَلْعَبُ بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ، فَزَبَرَنِي أَبِي قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«دَعْهَا» . ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ: «أَبْلِي وَأَخْلِفِي، ثُمَّ أَبْلِي وَأَخْلِفِي، ثُمَّ أَبْلِي وَأَخْلِفِي» . قَالَ عَبْدُ اللهِ فَبَقِيَتْ حَتَّى ذَكَرَ. [3874، 5823، 5845، 5993 - فتح 6/ 183]
3072 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ الحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ أَخَذَ تَمْرَةً مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ، فَجَعَلَهَا فِي فِيهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْفَارِسِيَّةِ:«كَخٍ كَخٍ، أَمَا تَعْرِفُ أَنَّا لَا نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ» . [انظر: 1485 - مسلم: 1061 - فتح 6/ 183]
ذكر فيه ثلاثة أحاديث:
أحدها: حديث جَابِرٍ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، ذَبَحْنَا بُهَيْمَةً لَنَا، وَطَحَنْتُ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، فَتَعَالَ أَنْتَ وَنَفَرٌ. فَصَاحَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فقَالَ:"يَا أَهْلَ الخَنْدَقِ، إِنَّ جَابِرًا قَدْ صَنَعَ سُؤْرًا، فَحَيَّ هَلًا بِكُمْ".
ثانيها: حديث أُمِّ خَالِدٍ بِنْتِ خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ -يعني: ابن العاصي، واسمها آمنة- قَالَتْ: أَتَيْتُ النبي صلى الله عليه وسلم مَعَ أَبِي وَعَلَيَّ قَمِيصٌ أَصْفَرُ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"سَنَهْ سَنَهْ". قَالَ عَبْدُ اللهِ وَهْيَ بِالْحَبَشِيَّةِ: حَسَنَةٌ. قَالَتْ: فَذَهَبْتُ أَلْعَبُ بِخَاتَم النُّبُوَّةِ، فَزَبَرَنِي أَبِي، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"أَبْلِي وَأَخْلِقِي، ثُمَّ أَبْلِي وَأخْلِقِي، ثُمَّ أَبْلِي وَأَخْلِقِي". قَالَ عَبْدُ اللهِ: فَبَقِيَتْ حَتَّى ذَكَرَ دهرا، وذكره البخاري في موضع آخر
(1)
، قال عكرمة: سنا: الحسنة بالحبشية ..
ثالثها: حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ثَمَّ تمر الصدقة، وقد سلف في الزكاة.
(2)
الشرح:
الرطانة: كلام العجم، وقال صاحب "الأفعال": يقال: رطن رطانة إذا تكلم بكلام العجم
(3)
، وقال ابن التين: هي كلام لا يفهم، وخص بذلك كلام العجم، وعبارة "الصحاح" الرَّطانة: الكلام بالعجمية. تقول: رطنت له بكلام وراطنت إذا كلمته بها، وتراطن القوم فيما بينهم
(4)
.
وقوله: {وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ} الآية [الروم: 22]. اختلافهما من الآيات، وكان أصل اختلاف اللغات من هود، ألقى الله على ألسنة كل فريق اللسان الذي يتكلمون به ليلاً، فأصبحوا لا يحسنون غيره.
(1)
سيأتي برقم (5993) كتاب الأدب، باب من ترك صبية غيره حتى تلعب به أو قبلها أو مازحها.
(2)
سلف برقم (1485).
(3)
"الأفعال" ص 253.
(4)
"الصحاح" 5/ 2124، مادة: رطن.
و (البُهَيمَةُ) كما قَالَ الداودي: من الأنعام. وقال ابن فارس: البَهْمُ: صِغَارُ الغَنَمِ
(1)
.
و (السُّؤْرُ) الوليمة بالفارسية، كذا في بعض النسخ، أي: اتخذ دعوة لطعام الناس، وقال الداودي: هي كل طعام تدعى إليه جماعة. وقال جماعة من أهل اللغة: الوليمة: طعام العرس، وقيل: السؤر: الصنيع بلغة الحبشة، لكن العرب تكلمت بها فصارت من كلامها.
وأما قوله: فأكلوا وتركوا سؤرًا. فهذِه عربية يعني: بقية، وكل بقية من ماء أو طعام أو غيره فهو سؤر.
وقوله: (فحيَّ هلا بكم) قَالَ الفراء: معنى حيَّ عند العرب: هلم وأقبل، فالمعنى: هلموا إلى طعام جابر وأقبلوا إليه، ومنه قول المؤذن: حيَّ على الصلاة أي: أقبلوا إليها، وفتحت الياء من حيَّ لسكونها وسكون الياء التي قبلها، كما قالوا: ليت ولعل، ومنه قول ابن مسعود: إذا ذكر الصالحون فَحَيَّ هَلاً بعمر
(2)
. ومعناه أقبلوا على ذكر عمر. وقال أبو عبيد: أي ادع عمر
(3)
.
وفيها ست لغات: يقال: حَيَّ هَلًا بالتنوين للتنكير. وحَيَّ هَلَ منصوبة مخففة مشبهة بخمسة عشر، وحَيهَلًا بألف مديدة، وحَي هَلْ بالسكون؛ لكثرة الحركات ولشبهها بِصَهْ وَمَهْ وَوَيْح، وحَيَّ هْلَ بسكون الهاء، وحَيَّ أهلًا آل عمر، وحَيَّ هَلًا على عمر؛ وقال صاحب "المطالع": يقول: حي على كذا، أي: هلم وأقبل. يقال: حي علا، وقيل: حي: هلم،
(1)
"مجمل اللغة" 1/ 138، مادة: بهم.
(2)
رواه معمر في "جامعه" 11/ 231، والطبراني 9/ 164، والحاكم 3/ 93.
(3)
"غريب الحديث" 2/ 210.
وهلا: جئتنا، وقيل: أسرع، جعل كلمة واحدة. وقيل: هلا: اسكن، وحي: أسرع، أي: عند ذكره واسكن حَتَّى ينقضي.
وقال الداودي: ("فحي هلا بكم")، أي: هلموا أهلا بكم أتيتكم أهلكم.
وقوله: "سَنَهْ" قد أسلفنا في البخاري عن عبد الله -وهو ابن المبارك- أنها بالحبشة حَسِنَة. وفي رواية: "سَنَّا سَنَّا"
(1)
، وفي أخرى:"سَنَّاهْ سَنَّاهْ"
(2)
، قَالَ صاحب "المطالع": كلها بفتح السين وشد النون إلا عند أبي ذر فإنه خفف النون، وعند القابسي كسر السين.
وقوله: ("أَبْلِي وَأَخْلِقِي") أي: أنعمي والبلاء للخير والشر؛ لأن أصله الاختبار، وأكثر ما يستعمل في الخير مقيدًا، ولأبي ذر والمروزي:"أخلفي" بالفاء، والمشهور بالقاف من إخلاق الثوب، ومعناه: بالفاء أن يكتسب خلفه بعد بلائه، يقال: خلف الله لك، وأَخْلَفَ رُباعي، وهو الأَشْهر؛ ذكره عياض
(3)
، وقال ابن بطال: هو كلام معروف عند العرب ومعناه الدعاء بطول البقاء. قَالَ صاحب "العين": يقال: أَبْلِ وأَخْلِفْ، أي: عش فخرِّقْ ثيابك وارْقَعْها، وخلفت الثوب، أي: أخرجت باليه ولفَقْتُهُ.
(4)
وقوله: (زبرني) هو بفتح أوله يعني: انتهرني، عن أبي علي.
وقوله: (حَتَّى ذكر)، كذا لأكثر الرواة بالذال المعجمة والراء.
(1)
ستأتي برقم (5845) كتاب اللباس، باب ما يدعى لمن لبس ثوبا جديدا.
(2)
ستأتي برقم (3874) كتاب مناقب الصحابة، باب هجرة الحبشة.
(3)
"مشارق الأنوار" 1/ 239.
(4)
"شرح ابن بطال" 5/ 232.
وقوله: (دهرًا) محذوف في كتاب ابن بطال
(1)
، وذكره ابن السكن أيضًا وهو تفسير لهذِه الرواية، كأنه أراد بقي هذا القميص مدة طويلة من الزمان نسيها الراوي فعبر عنها بقوله:(ذكر دهرًا) أي: زمانًا فنسيت تحديده، وقيل: هذا الضمير يرجع على الراوي، يدل عليه ما في رواية أخرى:(فبقيت)(يعني)
(2)
: أم خالد، وقيل: في ذكر ضمير القميص، أي: بقي هذا القميص، حَتَّى ذكر دهرًا، كما يقال: شيخ مسن يذكر دهرًا، أي: يعقل زمانًا طويلًا قد مضى، ولأبي الهيثم:(دكن) بالنون ودال مهملة، والدكنة غبرة (كدرة)
(3)
من طول ما لبس فيسود لونه، ورجحه أبو ذر.
أما فقه الباب؛ فسمعناه في تأمين المسلمين لأهل الحرب بلسانهم ولغتهم أن ذَلِكَ أمان لهم؛ لأن الله تعالى يعلم الألسنة كلها، وأيضًا فإن الكلام بالفارسية يحتاج إليه المسلمون للتكلم به مع رسل العجم، وقد أمر الشارع زيد بن ثابت (بتعلم)
(4)
لسان العجم، وكذلك أدخل البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تكلم بألفاظ من الفارسية كانت متعارفة عندهم معلومة، وفهمها عنه الصحابة، فالعجم أحرى أن يفهموها إذا خوطبوا بها؛ لأنها لغتهم، وسيأتي زيادة في بيان هذا في
(1)
قوله ذكر دهرا، في المطبوع من "شرح ابن بطال" 5/ 230: ذكر دكن.
وعلق المحقق بقوله: (كذا بالأصل: جمع بين الكلمتين)؛ ثم أورد اختلاف الروايات في "الصحيح". وهي رواية أبي الهيثم، والقول ما قاله المصنف. وانظر "فتح الباري" 6/ 213 - 214.
(2)
من (ص 1).
(3)
يقارب رسمها في الأصل (كدرة) والكاف تقارب اللام في رسم الناسخ، وأرجح أنها محرفة عن (لونه). والله أعلم.
(4)
في (ص): أن يتعلم.
باب قوله إذا قالوا: صبأنا ولم يحسنوا أسلمنا بعد.
(1)
قَالَ ابن التين: وإنما يكره أن يتكلم بالعجمية إذا كان بعض من حضر لا يفهمها فيكون تناجي القوم دون ثالث، قاله الداودي؛ قَالَ: ويلزمه إذا لم يعرفها اثنان فأكثر أن يجوز ذلك. قال المهلب: وأما دعاؤه بأهل الخندق أجمع لطعام جابر فإنما فعله؛ لأنه علم منهم حاجة إلى الطعام، وعلم أنه طعام قد أذن له فيه ببركته لتكون آية وعلامة للنبوة، فلذلك دعاهم أجمع، ولم يدع السادس إلى دار الخياط، واستأذن الخياط أن يدخل معهم ليكون لنا سنة؛ ولأنه طعام لم يؤذن له في إتيانه، وإن كان كل طعامه فيه بركة، ولكن بركة تكون آية وعلامة لنبوته فليس هذا من ذَلِكَ الطعام
(2)
.
وأستحصر
(3)
فوائد هذا الحديث.
منها: مداعبة الشارع للأطفال ومخاطبتهم مما يخاطب به الكبار الفقهاء إذا فهموا، وهذِه المخاطبة وإن كانت للحسن ففيها تعريف المسلمين أنه لا يأكل الصدقة.
ومنها: توقير الأئمة عن لعب الصبيان.
ومنها: المسامحة للأطف الذي اللعب بحضرة آبائهم وغيرهم، وكان صلى الله عليه وسلم على خلق عظيم.
ومنها: إتيانهم بالبنات الصغار لبركة دعائه وليثبت لهن الصحبة.
ومنها: حمل الصبيان وتدريبهم على الشرائع والتجنب بهم الحرام
(1)
سيأتي في كتاب الجزية والموادعة، باب: إذا قالوا صبأنا ولم يحسنوا أسلمنا.
(2)
"شرح ابن بطال" 5/ 231.
(3)
لم تنقط في الأصل، ولعل فيها الوجهان: الصاد والضاد.
والمكروه، وسلف تفسير ("كخ كخ") في الزكاة، وهما بفتح الكاف وكسرها وسكون الخاء وكسرها، وبالتنوين مع الكسر وبغيره، قَالَ ابن دريد: يقال: كخ يكخ كخا إذا نام فغط
(1)
. وقال الداودي: هي كلمة أعجمية عربت.
(1)
"جمهرة اللغة" 1/ 107، مادة: خكك.
189 - باب الغُلُولِ
وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ} [آل عمران: 161].
3073 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ أَبِي حَيَّانَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو زُرْعَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَامَ فِينَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ الْغُلُولَ فَعَظَّمَهُ وَعَظَّمَ أَمْرَهُ قَالَ: «لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ شَاةٌ لَهَا ثُغَاءٌ عَلَى رَقَبَتِهِ فَرَسٌ لَهُ حَمْحَمَةٌ يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَغِثْنِي. فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ. وَعَلَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ، يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَغِثْنِي. فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ. وَعَلَى رَقَبَتِهِ صَامِتٌ، فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَغِثْنِي. فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ. أَوْ عَلَى رَقَبَتِهِ رِقَاعٌ تَخْفِقُ، فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَغِثْنِي. فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ» . وَقَالَ أَيُّوبُ، عَنْ أَبِي حَيَّانَ:"فَرَسٌ لَهُ حَمْحَمَةٌ". [انظر: 2371 - مسلم: 987، 1831 - فتح 6/ 185]
ذكر فيه حديث أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: قَامَ فِينَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ الغُلُولَ .. الحديث.
وهو على سبيل الوعيد من الله لمن أنفذه عليه من أهل الغلول، وقد تكون العقوبة حمل البعير وسائر ما عليه على رقبته على رءوس الأشهاد وفضيحته به، ثم الله تعالى بعد ذَلِكَ غير في تعذيبه بالنار أو العفو عنه. فإن عذبه بناره أدركته الشفاعة إن شاء الله تعالى، وإن لم يعذبه بناره فهو واسع المغفرة.
ومعنى: ("لا ألفينَّ") لا أجدن، ألفينا: وجدنا. قَالَ القرطبي: كذا الرواية الصحيحة بالمد والفاء، ومعناه: لا يأخذن أحد شيئًا من المغانم فأجده يوم القيامة على تلك الحال
(1)
.
(1)
"المفهم" 4/ 28.
وقال النووي: هو بضم الهمزة وكسر الفاء، ورواه العذري بفتح الهمزة والقاف من اللقاء، وله وجه
(1)
، وجاء في رواية:"لا أعرفن" والمعنى متقارب، وبعض الرواة يقول "لأعرفن" بغير مد على أن تكون لام القسم، وفيه بُعْدٌ، والأول أحسن.
والثُّغَاء: بضم الثاء صوت الشاة. يقال: ثغت، تثغو.
والرغاء: صوت الإبل. واليعار صوت المعز خاصة، ومنه شاة تَيْعَرُ
(2)
.
والحمحة: صوت الفرس عند العلف، قَالَ ابن قتيبة
(3)
: سمي غلولا؛ لأن آخذه كان يغله في متاعه، أي: يدخله في أصنافه، ومنه سمي الماء البخاري بين الشجر غللًا. وقال يعقوب: يقال: غل في المغنم يغُل ويغِل إذا خان، والصامت: الذهب والفضة.
ومعنى: ("لا أملك لك شيئًا") أي: من المغفرة ومن الشفاعة حَتَّى يأذن الله في الشفاعة لمن أراد، كما قَالَ تعالى:{وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28].
وفيه: أن العقوبات قد تكون من جنس الذنوب، وهذا الحديث يفسر قوله تعالى:{يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران 161]
وفيه: أنه يأتي به يحمله على رقبته، ليكون أبلغ في فضيحته، ويتبين للأشهاد خيانته، وحسبك بهذا تعظيمًا لإثم الغلول وتحذيرًا منه. وقوله:("على رقبته رقاع تخفق") يقال: أخفق الرجل بثوبه إذا لمع.
(1)
"شرح مسلم" 12/ 216. وقوله: (ورواه العذري .. ) إلخ من قول القاضي.
(2)
انظر: "النهاية في غريب الحديث" 5/ 297 مادة [يعر].
(3)
"غريب الحديث" 1/ 226.
إذا تقرر ذَلِكَ؛ فالغلول كبيرة بالإجماع، وأجمعوا أيضًا على تغليظ تحريمه، وقام الإجماع أيضًا كما حكاه ابن المنذر على أن الغال يرد ما غل إلى صاحب المقسم ما لم يفترق الناس
(1)
.
واختلفوا فيما يفعل بذلك إذا افترقوا؛ فقالت طائفة: يدفع إلى الإمام بخمُسه ويتصدق بالباقي هذا قول الحسن والزهري ومالك والأوزاعي والليث والثوري، وروِي معناه عن معاوية بن أبي سفيان، وروِي عن ابن مسعود أنه رأى أن يتصدق بالمال الذي لا يعرف صاحبه، وروي معناه عن ابن عباس. قَالَ أحمد في الحبة والقيراط يبقى للبقال على الرجل ولا يعرف موضعه: يتصدق به
(2)
. وكان الشافعي لا يرى الصدقة به، ويقول: لا أرى للصدقة به وجهًا؛ لأنه إن كان من ماله فليس عليه أن يتصدق به، وإن كان لغيره فليس له الصدقة بمال غيره
(3)
.
(1)
"الإجماع" ص 82.
(2)
"المغني" 13/ 171 - 172.
(3)
"الأم" 4/ 178.
190 - باب القَلِيلِ مِنَ الغُلُولِ
وَلَمْ يَذْكُرْ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ حَرَّقَ مَتَاعَهُ، وهذا أَصَحُّ.
3074 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: كَانَ عَلَى ثَقَلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: كِرْكِرَةُ، فَمَاتَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«هُوَ فِي النَّارِ» . فَذَهَبُوا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ فَوَجَدُوا عَبَاءَةً قَدْ غَلَّهَا. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: قَالَ ابْنُ سَلَامٍ: كَرْكَرَةُ -يَعْنِي بِفَتْحِ الْكَافِ- وَهْوَ مَضْبُوطٌ كَذَا. [فتح 6/ 187]
ثم ساق حديث ابْنِ عَمْرٍو قَالَ: كَانَ عَلَى ثَقَلِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: كِرْكِرَةُ، فَمَاتَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"هُوَ فِي النَّارِ". فَذَهَبُوا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، فَوَجَدُوا عَبَاءَةً قَدْ غَلَّهَا. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: قَالَ ابن سَلَامٍ: كَرْكَرَةُ.
الشرح:
قوله: (وهذا أصح)، يعني: أنه صلى الله عليه وسلم لم يحرق رحل كركرة حين وجد فيه الغلول، فهو أصح من حديث ابن عمرو الذي أخرجه أبو داود، عن محمد بن عوف، عن موسى بن أيوب، عن الوليد بن مسلم، عن زهير بن محمد، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر حرقوا متاع الغال وضربوه.
قَالَ أبو داود: وزاد فيه علي بن بحر، عن الوليد ولم أسمعه منه: ومنعوه سهمه.
قَالَ: وثَنَا الوليد بن عتبة وعبد الوهاب بن نجدة، عن الوليد، عن زهير، عن عمرو قوله.
ولم يذكر ابن نجدة منع سهمه
(1)
.
وقد اختلف العلماء في عقوبة الغال فقال الجمهور: يعذر على قدر حاله على ما يراه الإمام، ولا يحرق متاعه، وهو قول الأربعة خلا أحمد وجماعة كثيرة من الصحابة والتابعين فمن بعدهم، منهم: الليث والثوري
(2)
.
وقال الحسن وأحمد وإسحاق ومكحول والأوزاعي: يحرق رحله ومتاعه كله، قَالَ الأوزاعي: إلا سلاحه وثيابه التي عليه. وقال الحسن: إلا الحيوان والمصحف
(3)
.
وادعى ابن العربي في "مسالكه" أنه ثبت في الصحيح من الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قَالَ: "من غل فاضربوه وأحرقوا رحله".
وأما حديث ابن عمر، عن عمر مرفوعًا في تحريق رحل الغال
(4)
، فهو حديث تفرد به صالح بن محمد، وهو ضعيف عن سالم.
قَالَ أبو عمر: تفرد به صالح ولا يحتج به
(5)
.
وقال أبو داود لما ذكره بعد رفعه موقوفًا من فعل الوليد بن هشام بن عبد الملك: وهذا أصح الحديثين
(6)
.
(1)
رواه أبو داود (2715) وهو حديث ضعيف وسيأتي كلام المصنف عليه وتضعيفه له بعد قليل.
(2)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 3/ 475 - 476 و"المنتقى" 3/ 204، و"المغني" 13/ 168 - 170.
(3)
انظر: "المغني" 13/ 168، "مصنف عبد الرزاق" 5/ 246 - 247 كتاب الجهاد، باب كيف يصنع بالذي يغل، و"مصنف ابن أبي شيبة" 5/ 525، 6/ 530.
(4)
أخرجه أبو داود (2713)، ومن طريقه البيهقي في "سننه" 9/ 103.
(5)
"التمهيد" 2/ 22.
(6)
"سنن أبي داود"(2714).
وقال الترمذي: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، والعمل عليه عند بعض أهل العلم
(1)
وسألت محمدًا عن هذا الحديث فقَالَ: إنما روى صالح بن محمد، وهو منكر الحديث، قَالَ: وقد روي في غير حديث الغال، ولم يأمر فيه صلى الله عليه وسلم بحرق متاعه
(2)
.
قَالَ البخاري في "تاريخه": عامة أصحابنا يحتجون بحديث صالح في الغلول، وهو باطل ليسَ بشيء
(3)
.
وقال الدارقطني: أنكروا هذا الحديث على صالح، قال: وهو حديث لم يتابع عليه، ولا له أصل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
(4)
.
قلتُ: ومما يوهنه حديث الباب كما ذكره البخاري، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يحرق رحل الذي وجد عنده العباءة، ولا الخرز، ثم على تقدير صحته فهو محمول كما قاله الطحاوي على أنه كان حين كانت العقوبة في الأموال جائزة، كما في أخذ شطر المال من مانع الزكاة وضالة الإبل وسرقة التمر، وكله منسوخ
(5)
.
وأنكر مالك حرق الرحل، ويؤدب إن ظهر عليه قبل أن يتنصل.
(1)
ذكره عقب الحديث (1461).
(2)
"علل الترمذي" 2/ 625 - 626.
(3)
ما ذكره المصنف من قول البخاري لم أقف عليه. وإنما ذكر في "تاريخه الكبير" 4/ 291، في ترجمة صالح بن محمد بن زائدة أنه منكر الحديث وتركه سليمان بن حرب وذكر حديثه عن ابن عمر في الغلول ثم ذكر ما يخالفه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم في الغلول: ولم يحرق وقد نقل المصنف هذا القول الذي هو في الصلب في "البدر المنير" 9/ 140 وعزاه للبخاري، والكلام بنصه في "سنن البيهقي" 9/ 103.
(4)
"تعليقات الدارقطني على المجروحين لابن حبان البستي" 1/ 131.
(5)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 3/ 476.
واختلف هل يؤدب إذا جاء تائبًا؟ فقال مالك: لو أدب كان أهلًا.
وقال ابن القاسم وابن حبيب وسحنون لا يؤدب؛ لأنها تسقط النكال والتقريع، وإنما الذي لا تسقطه التوبة الحدود، فإن ظهر عليه قبل أن يتنصل أُدِّب وتصدق بثمنه. قاله مَالك عند محمد
(1)
.
وفي الحديث ما ترجم له وهو تحريم قليل الغلول وكثيره كما قَالَ صلى الله عليه وسلم للذي أتاه بالشراك من المغنم، فقال:"شراك أو شراكان من نار" وقال في الشملة "إنها تشعل عليه يوم القيامة نارًا"
(2)
.
قَالَ المهلب: وحديث الباب يشبه ما قبله، أي في أنه في طريق النار إن أنفذ الله عليه الوعيد.
وقال ابن التين: يحتمل أن يكون هو جزاؤه إلا أن يغفر الله له، ويحتمل أن يصيبه في القبر، ثم ينجو من جهنم، ويحتمل أن يكون وجوب النار من نفاق كان يسره، أو بذنب مات عليه مع غلول أو مما غل، فإن مات مسلمًا فقد قَالَ صلى الله عليه وسلم:"يخرج من النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان"
(3)
، ولم يقل: إن له النار من أجل العباءة التي غل ذكره كله الداودي.
فائدة: (كركره) بفتح الكاف وكسرها، وقد حكاهما البخاري، فإنه أولاً بالكسر فيما رأيته في أصل الدمياطي، ثم قَالَ: قَالَ ابن سلام: كَرْكَرَة بالفتح مضبوطًا.
(1)
"النوادر والزيارات" 3/ 203.
(2)
سيأتي برقم (4234) كتاب المغازي، باب: غزوة خيبر.
(3)
علقه البخاري بعد حديث (44) من حديث أنس رضي الله عنه، وقال الحافظ في "الفتح" 1/ 104: رواه الحاكم في "الأربعين"؛ ورواه النسائي مطولاً في "الكبرى" 6/ 364 - 365، ومن حديث أنس رواه الترمذي (2598) وقال: حديث حسن صحيح.
191 - باب مَا يُكْرَهُ من ذَبْحِ الإِبِلِ وَالْغَنَمِ فِي المَغَانِمِ
3075 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ، عَنْ جَدِّهِ رَافِعٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِذِي الحُلَيْفَةِ، فَأَصَابَ النَّاسَ جُوعٌ وَأَصَبْنَا إِبِلاً وَغَنَمًا، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي أُخْرَيَاتِ النَّاسِ، فَعَجِلُوا فَنَصَبُوا الْقُدُورَ، فَأَمَرَ بِالْقُدُورِ فَأُكْفِئَتْ، ثُمَّ قَسَمَ فَعَدَلَ عَشَرَةً مِنَ الْغَنَمِ بِبَعِيرٍ، فَنَدَّ مِنْهَا بَعِيرٌ، وَفِي القَوْمِ خَيْلٌ يَسِيرٌ فَطَلَبُوهُ فَأَعْيَاهُمْ، فَأَهْوَى إِلَيْهِ رَجُلٌ بِسَهْمٍ، فَحَبَسَهُ الله فَقَالَ:«هَذِهِ البَهَائِمُ لَهَا أَوَابِدُ كَأَوَابِدِ الوَحْشِ، فَمَا نَدَّ عَلَيْكُمْ فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا» . فَقَالَ جَدِّي: إِنَّا نَرْجُو -أَوْ نَخَافُ- أَنْ نَلْقَى العَدُوَّ غَدًا وَلَيْسَ مَعَنَا مُدًى، أَفَنَذْبَحُ بِالْقَصَبِ؟ فَقَالَ:«مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللهِ فَكُلْ، لَيْسَ السِّنَّ وَالظُّفُرَ، وَسَأُحَدِّثُكُمْ عَنْ ذَلِكَ، أَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ، وَأَمَّا الظُّفُرُ فَمُدَى الْحَبَشَةِ» . [انظر: 2488 - مسلم: 1968 - فتح 6/ 188]
ذكر فيه حديث رافع بن خديج السالف في (آخر)
(1)
الشركة قريبًا بطوله
(2)
.
و (أُخْرَيَاتِ النَّاسِ) أي: آخرهم؛ رفقًا بالجيش وليحمل الكل والمنقطع.
وقوله: (فَعَجِلُوا فَنَصَبُوا القُدُورَ) يحتمل أن يريد أنهم تجاوزوا في ذَلِكَ، وتبويب البخاري قال على كراهة ذَلِكَ.
ونقل ابن المنير عن بعض العلماء أن المذبوح بغير إذن صاحبه تعديًا سرقة أو غصبًا: ميتة. قَالَ: ولها انتصر البخاري
(3)
.
(1)
في (ص): باب.
(2)
سلف برقم (2488) باب قسمه الغنم.
(3)
"المتواري" 1/ 182.
ومذهب مالك أن البقر والغنم بمنزلة الطعام، لا يحتاج في استباحتها إلى قسم ولا إذن الإمام؛ لأن الحاجَة إليها كالحاجة إلى العسل والعنب، بل هذِه أحرى وأولى
(1)
.
وقال الشافعي: لا يذبح شيء من ذَلِكَ إلا لضرورة
(2)
.
قَالَ ابن القاسم: ولهم أن يضحُّوا بالغنم المجزرة في المغانم وما أخذ من ذَلِكَ للاستعداد كالفرس والثوب ينتفع به حَتَّى ينقضي غزوه، فقال ابن القاسم: يأخذه بغير إذن الإمام، وينتفع به حَتَّى ينقضي غزوه
(3)
.
وروي عن علي وابن وهب وغيرهما: لا يأخذ شيئًا من ذلك
(4)
. قَالَ المهلب: وإنما أمر بإكفاءِ القدور من لحوم الإبل والغنم، وأكلها جائز في دار الحرب بعد إذن الإمام عند العلماء، هذا قول مالك والليث والأوزاعي والشافعي.
وجماعة من العلماء رخصوا في ذبح الأنعام في بلاد العدو للأكل وفي أكل الطعام؛ لأن هؤلاء الذين أكفئت عليهم القدور إنما ذبحوها بذي الحُلَيْفَة وهي أرض الإسلام، وليسَ لهم أن يأخذوا في أرض الإسلام إلا ما قسم لهم؛ لأنها حاصلة، وإباحة الأكل من الغنم إنما هو في أرض العدو قبل تخليص القسمة وإحرازها، فهذا الفرق بينهما.
(1)
انظر "المدونة" 1/ 394 - 395، و"النوادروالزيادات" 3/ 204 "والمنتقى" 3/ 183.
(2)
"الأم" 4/ 178، "والبيان" 12/ 179.
(3)
"المدونة" 1/ 396، و"المنتقى" 3/ 183.
(4)
المصدرين السابقين.
وقد قَالَ الثوري والشافعي: إن ما أخذه المرءُ من الطعام في أرض العدو وفضلت منه فضلة ويقدم بها بلاد الإسلام أنه يردها إلى الإمام
(1)
.
وقال أبو حنيفة: يتصدق به. فكيف من يتسور فيه في أرض الإسلام، ويأخذه بغير إذن الإمام؟
ورخص مالك في فضلة الزاد مثل الخبز واللحم إذا كان يسيرًا لا مال له
(2)
. وهو قول أحمد
(3)
.
وقال الليث: أحب إلى إذا دنا من أهله أن يطعمه أصحابه.
وقال الأوزاعي: يهديه إلى أهله
(4)
، وأما البيع فلا يصلح، فإن باعه وضع ثمنه في المغنم، فإن فاتَ ذَلِكَ تصدق به عن الجيش ورخص فيه سليمان بن موسى
(5)
وأمر بإكفاء القدور ليعلمهم أن الغنيمة إنما يستحقونها بعد قسمته لها، فلا يفتاتوا في أخذ شيء قبيل وجوبه بقوله تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7]، وقوله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1].
قَالَ الحسن: إن هذِه الآية نزلت في قوم نحروا قبل أن يصلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرهم أن يعيدوا الذبح
(6)
.
(1)
"الأم" 4/ 178.
(2)
"المدونة" 1/ 397، و"المنتقى" 3/ 183.
(3)
"المغني" 13/ 132.
(4)
"المغني" 13/ 128.
(5)
المصدر السابق.
(6)
رواه الطبري 11/ 378 (31661)، وزاد السيوطي نسبته في "الدر المنثور" 6/ 85 إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
وقَالَ مجاهد في هذِه الآية: لا تفتاتوا على رسول الله بشيء حَتَّى يقضيه الله على لسانه
(1)
.
وقال الكلبي: لا تقدموا بقول ولا فعل.
وفيها قول آخر ذكره ابن المنذر، عن سماك بن حرب، عن ثعلبة بن الحكم قَالَ: أصبنا يوم خيبر غنمًا فانتهبناها فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وقدورهم تغلي فقال: "إنها نهبة فأكفئوا القدور وما فيها فإنها لا تحل النهبة".
وقال بعض أهل العلم: هذا يدل [على]
(2)
أنهم كانوا قد خرجوا من بلاد العدو؛ لأن النهبة مباحة في بلاد العدو دون دار الإسلام، وهذِه القصة أصل في جواز العقوبة بالمال.
وقوله: "فَأُكْفِئَتْ" الأفصح والأشهر في كلام العرب كما قَالَ الطبري: أن يقال كفأ القوم القدور يكفئونها، وإن كانت الأخرى (أكفأت) محكية.
ذكرها ابن الأعرابي عن العرب
(3)
.
وقوله: (فعدل عشرة من الغنم ببعير) احتج به من قَالَ: تقسم العروض ولا تباع، ويُقسم ثمنها. وقد روى ابن سحنون عن أبيه: يبيع الإمام ثم يقسم الأثمان، وإن لم يجد من يشتريه يقسم على خمسة.
وقال محمد: الإمام بالخيار بين أن يقسم أو يبيع.
(1)
"تفسير مجاهد" 2/ 605، والطبري 11/ 377 (31659)، والبيهقي في "شعب الإيمان" 2/ 195 (1516). وزاد السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 86 نسبته إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه.
(2)
من (ص).
(3)
ذكره صاحب "مجمع الأمثال" عن ابن الأعرابي 1/ 425.
ومعنى: (ندَّ): ذهب (لوجهه)
(1)
، ومعنى حبسه: وقفه. قال الداودي: أبقاه لا يستطيع الجري، والأوابد: النفار، قاله الداودي، يقال: أتى فلان بأبدة إذا كانت منه فعلة قلَّما يفعل مثلها.
وقال ابن فارس: الأوابد: الوحش، قَالَ: والأبدة: الفعلة التي يبقى ذكرها على الأبد
(2)
. ونقل القرطبي عن المهلب أن الإكفاء إنما كان لتركهم الشارع في أخريات القوم واستعجالهم للنهب، ولم يخافوا من مكيدة العدو، فحرمهم ما استعجلوا له عقوبة لهم بنقيض قصدهم، كما منع القاتل من الميراث
(3)
.
قَالَ القرطبي: ويشهد لصحة هذا التأويل حديث أبي داود: وتقدم سرعان الناس فعجلوا وأصابوا من المغانم ورسول الله في أخريات الناس
(4)
. قَالَ: واعلم أن المأمور بإراقته إنما هو إتلاف لنفس المرق
(5)
، وأما اللحم فلم يتلفوه، ويحمل على أنه جمع ورد إلى المغنم، ولا يظن به أنه أمر بإتلافه؛ لأنه مال الغانمين. وقد نهى الشارع عن إضاعة المال على أن الجناية بطبخه لم تقع من جميع مستحقي الغنيمة. إذ من جملتهم أصحاب الخمس، ومن الغانمين من لم يطبخ.
(1)
في (ص): بوجهه.
(2)
"مجمل اللغة" 1/ 81 (مادة أبد).
(3)
"المفهم" 5/ 375.
(4)
"المفهم" 5/ 375، والحديث في أبي داود (2821) وهذِه الزيادة التي أشار القرطبي موجودة عند البخاري في حديث الباب وهو قوله "وكان النبي صلى الله عليه وسلم في أخريات الناس فعجلوا ونصبوا القدور .. ".
(5)
"المفهم" 5/ 375 ولم أقف على قوله "واعلم أن المأمور .. المرق" فيه.
فإن قلتَ: لم ينقل إلينا حمل ذلك اللحم إلى المغنم، قلنا: ولا ينقل أنهم أحرقوه ولا أتلفوه كما فعل بلحوم الحمر الأهلية؛ لأنها نجسة قاله صلى الله عليه وسلم، أو قَالَ:"رجس". وإذا لم يأت نقل (صريح)
(1)
وجب تأوله على وفق القواعد الشرعية، وقوله:(إنا نرجو أو نخاف) شك أي اللفظين قَالَ. ومعناهما واحد قَالَ تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ} [الكهف: 110]
وقال الشاعر:
إذا لسعته النحل
…
لم يرجُ لسعَها
أي: لم يخف.
وقال الداودي: معنى: نرجو: أي: نحن على رجاء من لقاء العدو.
ومعنى (نخاف): ألا نجد حين نلقى العدو ما نذبح به.
(1)
في (ص): صحيح.
192 - باب البِشَارَةِ فِي الفُتُوحِ
3076 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ المُثَنَّى، حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي قَيْسٌ قَالَ: قَالَ لِي جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَلَا تُرِيحُنِي مِنْ ذِي الخَلَصَةِ» . وَكَانَ بَيْتًا فِيهِ خَثْعَمُ يُسَمَّى كَعْبَةَ اليَمَانِيَةَ، فَانْطَلَقْتُ فِي خَمْسِينَ وَمِائَةٍ مِنْ أَحْمَسَ، وَكَانُوا أَصْحَابَ خَيْلٍ، فَأَخْبَرْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنِّي لَا أَثْبُتُ عَلَى الخَيْلِ، فَضَرَبَ فِي صَدْرِي حَتَّى رَأَيْتُ أَثَرَ أَصَابِعِهِ فِي صَدْرِي فَقَالَ:«اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ وَاجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا» . فَانْطَلَقَ إِلَيْهَا فَكَسَرَهَا وَحَرَّقَهَا، فَأَرْسَلَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُبَشِّرُهُ فَقَالَ رَسُولُ جَرِيرٍ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، مَا جِئْتُكَ حَتَّى تَرَكْتُهَا كَأَنَّهَا جَمَلٌ أَجْرَبُ، فَبَارَكَ عَلَى خَيْلِ أَحْمَسَ وَرِجَالِهَا خَمْسَ مَرَّاتٍ. قَالَ مُسَدَّدٌ: بَيْتٌ فِي خَثْعَمَ. [انظر: 3020 - مسلم: 2476 - فتح 6/ 189]
ذكر حديث جرير في ذي الخلصة وقد سلف
(1)
في أوله وكان بيتًا فيه خثعم. وقال في آخره: وقال مسدد: بيت في خثعم. وهو أصح، وهو ظاهر فيما ترجم له وموضعه من الحديث: فكسرها وحرقها، وأرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يبشره.
ففيه: البشارة في الفتوح، وما كان في معناه من كل ما فيه ظهور الإسلام وأهله لُيسَرَّ المسلمون بإعلاء الدين، ويبتهلوا إلى الله في الشكر على ما وهبهم من نعمه، ومنَّ عليهم من إحسانه، فقد أمر الله تعالى عباده بالشكر، ووعدهم المزيد. فقال:{لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7].
ثم ذكر [باب]
(2)
ما يعطى البشير.
(1)
سلف برقم (3020) باب حرق الدور والنخيل.
(2)
في الأصل: (حديث) والمثبت هو ما يقتضيه السياق فإنه لم يذكر أحاديث في هذا الباب.
193 - باب مَا يُعْطَى البَشِيُر
وَأَعطَى كَعْبٌ بْن مَالِكٍ ثَوْبَيْنِ حِينَ بُشِّرَ بِالتَّوْبَةِ. [انظر: 2757 - فتح 6/ 189]
ثم قَالَ: وأعطى كعب بن مالك ثوبين حين بُشر بالتوبة. وقد سلف
(1)
.
(1)
سلف برقم (2757) كتاب الوصايا، باب إذا تصدق أو أوقف بعض رقيقة أو دوابه.
194 - باب لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ
3077 -
حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: «لَا هِجْرَةَ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا» . [انظر: 1349 - مسلم: 1353 - فتح 6/ 189]
3078، 3079 - حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ خَالِدٍ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، عَنْ مُجَاشِعِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: جَاءَ مُجَاشِعٌ بِأَخِيهِ مُجَالِدِ بْنِ مَسْعُودٍ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: هَذَا مُجَالِدٌ يُبَايِعُكَ عَلَى الْهِجْرَةِ. فَقَالَ: «لَا هِجْرَةَ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَلَكِنْ أُبَايِعُهُ عَلَى الإِسْلَامِ» . [انظر: 2962، 2963 - مسلم: 1863 - فتح 6/ 189]
3080 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ عَمْرٌو وَابْنُ جُرَيْجٍ: سَمِعْتُ عَطَاءً يَقُولُ: ذَهَبْتُ مَعَ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ إِلَى عَائِشَةَ رضي الله عنها وَهْيَ مُجَاوِرَةٌ بِثَبِيرٍ فَقَالَتْ لَنَا: انْقَطَعَتِ الْهِجْرَةُ مُنْذُ فَتَحَ الله عَلَى نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ. [3900، 4312 - مسلم:
1864 -
فتح 6/ 190]
ذكر فيه ثلاثة أحاديث:
أحدها: حديث ابن عباس: "لَا هِجْرَةَ بعد الفتح" وقد سلف.
ثانيها: حديث مُجَاشِعِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: جَاءَ مُجَاشِعٌ بِأَخِيهِ مُجَالِدِ ليبايعه عَلَى الهِجْرَةِ.
وقد سلف في باب البيعة في الحرب ألا تفروا. قريبا
(1)
.
ومجاشع هو ابن مسعود بن ثعلبة بن وهب سلمي بصري حاصر تَوَّجَ ففتحها قبل يوم الجمل، خرج حين قدوم طلحة والزبير البصرة فلقي عبد الله بن الزبير في جبل، فقتل مجاشع وغيره.
(1)
سلف برقم (2962) كتاب الجهاد والسير.
ثالثها: حديث عطاء ذَهَبْتُ مَعَ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ إلى عَائِشَةَ وَهْيَ مُجَاوِرَةٌ بِثَبِيرٍ، فَقَالَتْ لنَا: انْقَطَعَتِ الهِجْرَةُ مُنْذُ فَتَحَ اللهُ عَلَى نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ.
وعبيد هذا هو ابن عمير بن قتادة بن سعد بن عامر بن جندع، أبو عاصم، سمع ابن عباس وابن عمر، ومات قبله.
وفي رواية له: "لا هجرة اليوم"
(1)
، وكان المؤمنون يفر أحدهم بدينه إلى الله وإلى رسوله مخافة أن يفتن عليه، وأما اليوم فقد أظهر الله الإسلام. والمؤمن يعبد ربه حيث شاء. "ولكن جهاد ونية"، وهو دال على نسخ الهجرة بعد الفتح -أي: من مكة- إلا أن سقوطها بعده لا يسقطها عمن هاجر قبل الفتح، فدل على أن قوله:"لا هجرة بعد الفتح" ليس على العموم؛ لأن الأمة مجمعة أن من هاجر قبل الفتح أنه يحرم عليه الرجوع إلى وطنه الذي هاجر منه، كما حرم على أهل مكة الرجوع إليها.
ووجب عليهم البقاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتحول معه حيث تحول لنصرته ومؤازرته وصحبته وحفظ شرائعه والتبليغ عنه، وهم الذين استحقوا اسم المهاجرين (ومدحوا)
(2)
به دون غيرهم، ألا ترى أنه صلى الله عليه وسلم رثى لسعد بن خولة أن مات بمكة في الأرض التي هاجر منها، ولذلك دعا لهم فقال:"اللهم أمض لأصحابي هجرتهم، ولا تردهم على أعقابهم"
(3)
.
وذكر أبو عبيد في كتاب "الأموال" أن الهجرة كانت على غير أهل مكة من الرغائب، ولم تكن فرضًا دل على ذَلِكَ قوله للذي سأله عن
(1)
سيأتي برقم (4312) كتاب المغازي، باب من شهد الفتح.
(2)
في (ص): ويُدعَوا.
(3)
سلف برقم (1295) كتاب الجنائز، باب: رثي النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن خولة.
الهجرة: "إن شأنها شديد فهل لك من إبل تؤدي زكاتها؟ " قَالَ: نعم. قَالَ: "فأعمل من وراء البحار فإن الله لن يترك من عملك شيئًا"
(1)
، ولم يوجب عليه الهجرة، وقيل: إنما كانت واجبه إذا أسلم بعض أهل البلد، ولم يسلم بعضهم لئلا يجري على من أسلم أحكام الكفار، فأما إذا أسلم كل من في الدار فلا هجرة عليهم. لقوله لوفد عبد القيس حين أمرهم مما أمرهم، ولم يأمرهم بهجرة أرضهم؛ وقد عذر الله المستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين لا يجدون حيلة ولا يهتدون سبيلاً، يعني: طريقًا إلى المدينة. وأما الهجرة الثابتة إلى يوم القيامة فقوله: "المهاجر من هجر ما نهى الله عنه"
(2)
.
قلتُ: وكذا إذا أسلم في بلد الكفار، ولم يمكنه إظهار دينه عملًا بقوله:"لا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار"
(3)
.
(1)
سلف برقم (1452) كتاب الزكاة، باب: زكاة الإبل.
(2)
سلف برقم (10) كتاب الإيمان، باب المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده.
(3)
رواه النسائي 7/ 147، وأحمد 5/ 270، من حديث عبد الله بن السعدي وصححه ابن حبان في "صحيحه" 11/ 207 (4866) وصححه الألباني في "الصحيحة" 4/ 240 وفي "صحيح الجامع"(2518).
195 - باب إِذَا اضطَرَّ الرَّجُلُ إِلَى النَّظَرِ فِي شُعُورِ أَهلِ الذِّمَّةِ وَالْمُؤمِنَاتِ إِذَا عَصَيْنَ الله وَتَجْرِيدِهِنَّ
3081 -
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ حَوْشَبٍ الطَّائِفِيُّ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا حُصَيْنٌ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ -وَكَانَ عُثْمَانِيًّا- فَقَالَ لاِبْنِ عَطِيَّةَ -وَكَانَ عَلَوِيًّا-: إِنِّي لأَعْلَمُ مَا الذِي جَرَّأَ صَاحِبَكَ عَلَى الدِّمَاءِ سَمِعْتُهُ يَقُولُ بَعَثَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَالزُّبَيْرَ، فَقَالَ «ائْتُوا رَوْضَةَ كَذَا، وَتَجِدُونَ بِهَا امْرَأَةً أَعْطَاهَا حَاطِبٌ كِتَابًا» . فَأَتَيْنَا الرَّوْضَةَ فَقُلْنَا: الكِتَابَ. قَالَتْ: لَمْ يُعْطِنِي. فَقُلْنَا: لَتُخْرِجِنَّ أَوْ لأُجَرِّدَنَّكِ. فَأَخْرَجَتْ مِنْ حُجْزَتِهَا، فَأَرْسَلَ إِلَى حَاطِبٍ فَقَالَ: لَا تَعْجَلْ، وَاللهِ مَا كَفَرْتُ وَلَا ازْدَدْتُ لِلإِسْلَامِ إِلاَّ حُبًّا، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِكَ إِلاَّ وَلَهُ بِمَكَّةَ مَنْ يَدْفَعُ الله بِهِ عَنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لِي أَحَدٌ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا. فَصَدَّقَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. قَالَ عُمَرُ: دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَهُ، فَإِنَّهُ قَدْ نَافَقَ. فَقَالَ «مَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ، فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ» . فَهَذَا الذِي جَرَّأَهُ. [انظر: 3007 - مسلم: 2494 - فتح 6/ 190]
ثم ذكر حديث سعد بن عُبيدة -بضم العين- عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ -وَكَانَ عُثْمَانِيًّا- فَقَالَ لاِبْنِ عَطِيَّةَ -وَكَانَ عَلَوِيًّا-: إِنِّي لأَعْلَمُ مَا الذِي جَرَّأَ صَاحِبَكَ عَلَى الدِّمَاءِ .. ثم ذكر حديث روضة خاخ (السالف قريبًا
(1)
. وهذِه الظعينة قيل: إنها مشركة)
(2)
.
ومعنى: (كان عثمانيًّا): يفضل عثمان على علي كالعلوي بعكسٍ ووقفت فرقة ثالثة في التفضيل بينهما. وقاله مالك مرة، وقال مثل أبي عبد الرحمن، والصواب تقديم عثمان عليه
(3)
.
(1)
سلف برقم (3007) باب الجاسوس.
(2)
من (ص).
(3)
لمزيد من التفصيل في هذِه المسألة ينظر "الاستيعاب" 3/ 214 - 215، "مجموع الفتاوى" 4/ 425 - 426.
قَالَ الداودي: وبئس ما قَالَ أبو عبد الرحمن في تأويله [عليٍّ]
(1)
أنه يجترئ على شيء يراه حرامًا لقوله صلى الله عليه وسلم في أهل بدر، والله يعلم أفعال العباد قبل كونها، وعلم أنهم لا يأتون كبيرة، وإن قَالَ لهم نبيهم عنه:"اعملوا ما شئتم"، وقول أبي عبد الرحمن:(إني لأعلم .. إلى آخره) ظن منه أن عليًّا على مكانته من الفضل والعلم لا يقتل أحدًا إلا بالواجب، وإن كان قد ضمن له الجنة لشهوده بدرًا وغيرها.
وفيه من الفقه: أن من عصا الله فلا حرمة له، وأن المعصية تبيح حرمته وتزيل سترته، ألا ترى أن عليًّا والزبير أرادا كشف المرأة، ولم تخرج (الكتاب)
(2)
؛ لأن حملها له ضرب من التجسس على المسلمين، ومن فعل ذَلِكَ فعليه النكال بقدر اجتهاد الإمام مسلمًا كان أو كافرًا، وقد أجمعوا أن المؤمنات والكافرات في تحريم الزنا بهن سواء. فكذلك في تحريم النظر إليهن متجردات، وهما سواء فيما أبيح من النظر إليهن في (حين)
(3)
الشهادة أو إقامة الحد عليهن، وهذا كله من الضرورات التي تبيح المحظورات.
(1)
سقطت من الأصل، وأشار إليها في الهامش، وهي غير واضحة، ولعل المثبت صحيح.
(2)
في الأصل: الكتابة. والمثبت من (ص) وهو المناسب للسياق.
(3)
في (ص): خبر.
196 - باب اسْتِقْبَالِ الغُزَاةِ
3082 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي الأَسْوَدِ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ وَحُمَيْدُ بْنُ الأَسْوَدِ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ الشَّهِيدِ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ لاِبْنِ جَعْفَرٍ رضي الله عنهم: أَتَذْكُرُ إِذْ تَلَقَّيْنَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَا وَأَنْتَ وَابْنُ عَبَّاسٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَحَمَلَنَا وَتَرَكَكَ. [مسلم: 2427 - فتح 6/ 191]
3083 -
حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: قَالَ السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ رضي الله عنه: ذَهَبْنَا نَتَلَقَّى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ الصِّبْيَانِ إِلَى ثَنِيَّةِ الوَدَاعِ.
[4426، 4427 - فتح 6/ 191]
ذكر فيه حديث ابن أبي مليكة: قَالَ ابن الزّبَيْرِ لاِبْنِ جَعْفَرٍ: أَتَذْكُرُ إِذْ تَلَقَّيْنَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَا وَأَنْتَ وَابْنُ عَبَّاسٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَحَمَلَنَا وَتَرَكَكَ.
وحديث الزهري قَالَ: قَالَ السائب بن يزيد: ذَهَبْنَا نتَلَقَّى رَسُولَ اللهِ جر مَعَ الصِّبْيَانِ إِلَى ثَييَّةِ الوَدَاعِ.
الشرح: كذا وقع هنا أن ابن الزبير قَالَ ذَلِكَ، وفي أفراد مسلم، و"مسند أحمد" أن عبد الله بن جعفر قَالَ ذَلِكَ لابن الزبير
(1)
، والظاهر أنه انقلب على الراوي كما نبه عليه ابن الجوزي في "جامع المسانيد".
والتلقي للمسافرين والقادمين من الجهاد والحج بالبشر والسرور أمر معروف، ووجه من وجوه البر. ولهذا الحديث ثبت تشييعهم؛ لأن ثنية الوداع إنما سُميت بذلك؛ لأنهم كانوا يشيعون الحاج والغزاة إليها ويودعونهم (عندها)
(2)
، وإليها كانوا يخرجون صغارًا وكبارًا عند التلقي. وقد يجوز تلقيهم بعدها وتشييعهم إلى أكثر منها.
(1)
رواه مسلم (2427) باب فضائل عبد الله بن جعفر، "مسند أحمد" 1/ 203.
(2)
من (ص).
وأما الداودي فقال: قوله: (إلى ثنية الوداع) ليس بمحفوظ؛ لأن ثنية الوداع من جهة مكة، وتبوك من الشام مقابلتها كالمشرق من المغرب، إلا أن يكون ثم ثنية أخرى في تلك الجهة.
قَالَ: والثنية: الطريق في الجبل؛ وليس كذلك، وإنما الثنية: ما ارتفع من الأرض.
وفيه: الفخر بإكرام الشارع.
وفيه: رواية الصبي ابن سبع سنين، وفيه إثبات الصحبة لعبد الله بن الزبير؛ لأنه صلى الله عليه وسلم توفي وهو ابن ثمان سنين.
وفيه: ركوب الثلاثة على الدابة.
وفيه: كفالته صلى الله عليه وسلم اليتيم. قاله الداودي.
واعترض عليه ابن التين فقال: وَهَلَ في الحديث (أيضًا)
(1)
أنه صلى الله عليه وسلم حمل ابن عباس وابن الزبير، ولم يحمل ابن جعفر كما سلف.
فائدة: البخاري روى حديث ابن أبي مليكة عن عبد الله بن أبي الأسود، وهو أبو بكر ابن أخت ابن مهدي قاضي همذان، وهو عبد الله بن محمد بن أبي الأسود.
وفيه: حميد بن [أبي]
(2)
الأسود أيضًا وهو بصري مات ببغداد سنة ثلاث وعشرين ومائتين
(3)
، انفرد بهما.
(1)
في الأصل (يضا) غير منقوطة، ولعل المثبت صحيح.
(2)
من (ص).
(3)
ورد في هامش: الذي توفي هذِه الحدود إنما هو أبو بكر بن أبي الأسود شيخ البخاري، وقد توفي سنة ثلاث وعشرين ومائتين على ذكر المؤلف، وأما حميد بن الأسود فليست وفاته في هذا التاريخ، ولا أعلم وفاته، فاعلم ذلك.
197 - باب مَا يَقُولُ إِذَا رَجَعَ مِنَ الغَزوِ
3084 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا قَفَلَ كَبَّرَ ثَلَاثًا قَالَ:«آيِبُونَ إِنْ شَاءَ الله تَائِبُونَ عَابِدُونَ حَامِدُونَ لِرَبِّنَا سَاجِدُونَ، صَدَقَ الله وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ» . [انظر: 1797 - مسلم: 1344 - فتح 6/ 192]
3085 -
حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَقْفَلَهُ مِنْ عُسْفَانَ، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى رَاحِلَتِهِ، وَقَدْ أَرْدَفَ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ، فَعَثَرَتْ نَاقَتُهُ فَصُرِعَا جَمِيعًا، فَاقْتَحَمَ أَبُو طَلْحَةَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، جَعَلَنِي الله فِدَاءَكَ. قَالَ:«عَلَيْكَ المَرْأَةَ» . فَقَلَبَ ثَوْبًا عَلَى وَجْهِهِ وَأَتَاهَا، فَأَلْقَاهَا عَلَيْهَا وَأَصْلَحَ لَهُمَا مَرْكَبَهُمَا فَرَكِبَا، وَاكْتَنَفْنَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا أَشْرَفْنَا عَلَى المَدِينَةِ قَالَ:«آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ» . فَلَمْ يَزَلْ يَقُولُ ذَلِكَ حَتَّى دَخَلَ المَدِينَةَ. [371 - مسلم: 1345 - فتح 6/ 192]
3086 -
حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، أَنَّهُ أَقْبَلَ هُوَ وَأَبُو طَلْحَةَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم صَفِيَّةُ مُرْدِفَهَا عَلَى رَاحِلَتِهِ، فَلَمَّا كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ عَثَرَتِ النَّاقَةُ، فَصُرِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَالْمَرْأَةُ، وَإِنَّ أَبَا طَلْحَةَ -قَالَ: أَحْسِبُ قَالَ:- اقْتَحَمَ عَنْ بَعِيرِهِ فَأَتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ جَعَلَنِي الله فِدَاءَكَ، هَلْ أَصَابَكَ مِنْ شَيءٍ؟ قَالَ:«لَا، وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِالْمَرْأَةِ» . فَأَلْقَى أَبُو طَلْحَةَ ثَوْبَهُ عَلَى وَجْهِهِ، فَقَصَدَ قَصْدَهَا فَأَلْقَى ثَوْبَهُ عَلَيْهَا، فَقَامَتِ الْمَرْأَةُ، فَشَدَّ لَهُمَا عَلَى رَاحِلَتِهِمَا فَرَكِبَا، فَسَارُوا حَتَّى إِذَا كَانُوا بِظَهْرِ المَدِينَةِ -أَوْ قَالَ: أَشْرَفُوا عَلَى المَدِينَةِ- قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ» . فَلَمْ يَزَلْ يَقُولُهَا حَتَّى دَخَلَ المَدِينَةَ. [انظر: 371 - مسلم: 1345 - فتح 6/ 193]
ذكر فيه ثلاثة أحاديث:
أحدها: حديث عن عبد الله: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا قَفَلَ كَبَّرَ ثَلَاثًا فقَالَ: "آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ لِرَبِّنَا حامدون، صَدَقَ اللهُ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَ، وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ".
ثانيها: حديث أنس: كُنَّا مَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم مَقْفَلَهُ مِنْ عُسْفَانَ، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى رَاحِلَتِهِ، وَقَدْ أَرْدَفَ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ .. الحديث وفيه: فَلَمَّا أَشْرَفْنَا عَلَى المَدِينَةِ قَالَ: "آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ". فَلَمْ يَزَلْ يَقُولُ ذَلِكَ حَتَّى دَخَلَ المَدِينَةَ.
ثالثها: عنه مثله.
الشرح:
قد سلف القول في التكبير عند الصعود، والإشراف على المدن، والتسبيح عند الهبوط. وفيه: إرداف المرأة خلف الرجل، وسترها عن الناس.
وفيه: ستر من لا يجوز رؤيته، وستر الوجه عنه.
وفيه: خدمة العالم والإمام، وخدمة أهله.
وفيه: أكتناف الإمام والاجتماع حوله عند دخول المدن. وتلقي الناس سنة ماضية وأمرٌ جار،
وفيه: حمد الله للمسافر عند إتيانه سالمًا إلى أهله، وسؤاله الله التوبة والعبادة. وتقدير الكلام: نحن آيبون تائبون عابدون حامدون لربنا ساجدون، إن شاء الله، على ما رزقنا من السلامة والنصر وصدق الوعد ولا تتعلق المشيئة بقوله:(آيبون)
(1)
لوقوع الإياب، وإنما تتعلق مما في الكلام الذي لم يقع بعد.
(1)
في (ص): تائبون.
وفيه: أنه يجوز للمتكلم أن يقدم المشيئة لله تعالى في أول كلامه، ثم يصلها مما يحب إيقاعه من الفعل.
وفيه: أن الرجل الفاضل ينبغي له عندما يجدد له من نعمة وسلامة أن يقر لله تعالى بطاعته، ويسأله أن يديم له حال تثويبه وعبادته له. وإن كان الشارع قد تقرر عنده أنه لا يزال تائبًا عابدًا ساجدًا حامدًا لربه لكن هو أدب الأنبياء أخذا بقوله تعالى:{وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ الله} [الكهف: 23 - 24] ولعلمهم بمواقع نعم الله عندهم، يعترفون له بها ويذعنون ويتبرءون إليه من الحول والقوة، ويظهرون الافتقار إليه؛ مبالغة في شكره تعالى، ولتقتدي بهم أممهم في ذلك.
فائدة:
قوله في حديث أنس: (فاكتنفنا رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي: أحطنا به.
وفيه: تغطية أبي طلحة وجهه، وإصلاح الرجل للمرأة للضرورة.
وفيه: حجاب أمهات المؤمنين وإن كن كالأمهات.
وفيه: علم الشارع بصلاح أبي طلحة وإسقاط الغيره.
فائدة أخرى:
قوله: (مقفله من عسفان) هو وهم نبه عليه الدمياطي الحافظ حيث قَالَ: ذكر عسفان مع قصة صفية وهم؛ لأن غزوة عسفان إلى بني لحيان كانت في سنة ست، وغزوة خيبر في سنة سبع. وإرداف صفية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ووقوعها كان فيها.
بسم الله الرحمن الرحيم
198 - باب الصَّلَاةِ إِذَا قَدِمَ مِنْ السَفَرٍ
3087 -
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ فَلَمَّا قَدِمْنَا المَدِينَةَ قَالَ لِي «ادْخُلِ الْمَسْجِدَ فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ» . [انظر: 443 - مسلم: 715 - فتح 6/ 193]
3088 -
حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ كَعْبٍ عَنْ أَبِيهِ وَعَمِّهِ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ كَعْبٍ عَنْ كَعْبٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ ضُحًى دَخَلَ المَسْجِدَ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَجْلِسَ. [انظر: 2757 -
مسلم: 716، 2769 - فتح 6/ 193]
ذكر فيه حديث جابر رضي الله عنه: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ، فَلَمَّا قَدِمْنَا المَدِينَةَ قَالَ لِي:"ادْخُلِ المَسْجِدَ فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ".
وحديث كعب: أَنَّه صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ ضُحًى دَخَلَ المَسْجِدَ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ. الشرح: الصلاة عند القدوم سنة، وفضيلة فيها معنى الحمد لله على السلامة، والتبرك بالصلاة أول ما يبدأ في حضره، ونعم المفتاح هي إلى كل خير، وفيها يناجي العبد ربه، وذلك هدي رسوله وسنته، ولنا فيه أكرم الأسوة، وفيه الابتداء ببيت الله قبل بيته، وخلوته للناس عند قدومه ليسلموا عليه.
199 - باب الطَّعَامِ عِنْدَ القُدُومِ
وَكَانَ ابن عُمَرَ رضي الله عنهما يُفْطِرُ لِمَنْ يَغْشَاهُ.
3089 -
حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ، أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا قَدِمَ المَدِينَةَ نَحَرَ جَزُورًا أَوْ بَقَرَةً.
زَادَ مُعَاذٌ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مُحَارِبٍ، سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ: اشْتَرَى مِنِّي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعِيرًا بِوَقِيَّتَيْنِ وَدِرْهَمٍ أَوْ دِرْهَمَيْنِ، فَلَمَّا قَدِمَ (صِرَارًا أَمَرَ)
(1)
بِبَقَرَةٍ فَذُبِحَتْ فَأَكَلُوا مِنْهَا، فَلَمَّا قَدِمَ المَدِينَةَ أَمَرَنِي أَنْ آتِىَ المَسْجِدَ فَأُصَلِّىَ رَكْعَتَيْنِ، وَوَزَنَ لِي ثَمَنَ البَعِيرِ. [انظر: 443 - مسلم: 715 - فتح 6/ 194]
3090 -
حَدَّثَنَا أَبُو الوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَدِمْتُ مِنْ سَفَرٍ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «صَلِّ رَكْعَتَيْنِ» . صِرَارٌ مَوْضِعٌ نَاحِيَةً بِالْمَدِينَةِ. [انظر: 443 - مسلم: 715 - فتح 6/ 194]
ثم ذكر حديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا قَدِمَ المَدِينَةَ نَحَرَ جَزُورًا أو بعيرا أَوْ بَقَرَةً.
زَادَ مُعَاذ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مُحَارِبٍ، سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ قال: اشْتَرى مِنيِّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعِيرًا (بِوَقِيَّتَيْنِ)
(2)
وَدِرْهَم -أَوْ دِرْهَمَيْنِ- فَلَمَّا قَدِمَ (صِرَارَ)
(1)
أَمَرَ بِبَقَرَةٍ فَذُبِحَتْ فَأَكَلُوا مِنْهَا، فَلمَّا قَدِمَ المَدِينَةَ أَمَرَنِي أَنْ آتِيَ المَسْجِدَ فَأُصَلي رَكْعَتَيْنِ، وَوَزَنَ لِي ثَمَنَ البَعِيرِ.
ثم رواه من حديث محارب أيضًا عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَدِمْتُ مِنْ سَفَرٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"صَلِّ رَكْعَتَيْنِ".
(1)
كذا بالأصل، وفي "اليونينية" 4/ 78:(صرارا أمر) وليس عليها تعليق.
(2)
في الأصل: (بوقية) والمثبت من "اليونينية" 4/ 87.
الشرح:
تعليق ابن عمر رضي الله عنهما رواه القاضي إسماعيل في "أحكامه"، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عنه
(1)
أنه كان إذا كان مقيمًا لم يفطر، وإذا كان مسافرًا لم يصم، فإذا قدم أفطر أيامًا لغاشية ثم يصوم.
والبخاري روى حديث جابر الأول عن محمد، وهو: ابن المثنى كما صرح به الإسماعيلي، حيث قَالَ: حَدَّثَنَا الحسن، عن ابن راهويه، قَالَ ابن المثنى: ثَنَا وكيع فذكره.
وزيادة معاذ أخرجها مسلم، عن ابن معاذ، عن أبيه به
(2)
. والإسماعيلي، عن الحسن بن سفيان، عن معاذ، عن أبيه ومحارب بن دثار هو كوفي قاضيها، روي عنه أنه قَالَ: لما وليت القضاء بكيت وبكت عيالي، فلما عزل عن القضاء بكى وبكت عياله.
ذكره ابن سعد قَالَ: وله أحاديث، ولا يحتجون (به)
(3)
، وكان من المرجئة الأولى الذين يرجئون عليًّا وعثمان ولا يشهدون بإيمان ولا كفر. مات في ولاية خالد بن عبد الله
(4)
(5)
.
(1)
ورد بهامش الأصل: الذي يظهر أنه لا يحتاج إلى (عنه)؛ وذلك لأن الظاهر أن نافعًا رواه عن فعل ابن عمر، وبعيد أن ابن عمر حدثه به، والله أعلم.
(2)
مسلم (715) كتاب الصلاة، باب استحباب الركعتين في المسجد لمن قدم من سفر أول قدومه.
(3)
في (ص): بها.
(4)
"الطبقات الكبرى" 6/ 307.
(5)
ورد بهامش الأصل: بيان: قال ابن حبان في "ثقاته"[5/ 452]: توفي في ولاية خالد بن عبد الله على العراق سنة ثمان ومائة. انتهى. وفي "التهذيب"["تهذيب التهذيب" 4/ 29]: قلت: وقال خليفة: مات في آخر خلافة خالد بن عبد الله، وعزل خالد سنة عشرين ومائة، قال ابن قانع مات سنة ست عشرة، انتهى.
إذا عرفت ذلك ففيه: إطعام الإمام والرئيس أصحابه عند القدوم من السفر، وهو مستحب، ومن فعل السلف.
قَالَ الفراء: وهذا الطعام يسمى النقيعة؛ لأن المسافر يأتي وعليه النقع، وهو غبار السفر. فقال: منه أنقعت إنقاعًا. وقال في "الموعب": النقيعة: المحض من اللبن يُبَرَّد.
وقال السلمي: طعام الرجل ليلة يملك
(1)
. وعن صاحب "العين": النقيعة: العبيطة من الإبل، وهي جزور يوفر أعضاؤها، فتقع في أشياء على حيالها
(2)
، وقد نقعوا نقيعة، ولا يقال: أنقعوا. واختلف أصحابنا: هل هو الذي يعملها، أو تعمل له؟
قَالَ ابن أبي صفرة: قوله: (وكان ابن عمر يفطر لمن يغشاه؛ إذا قدم من سفر أطعم من يغشاه وأفطر معهم). أي: ترك قضاء رمضان؛ لأنه كان لا يصوم رمضان في السفر أصلاً. فإذا انقضى إطعام وُرَّاده ابتدأ قضاء رمضان الذي أفطره في الصوم، وقد جاء هذا مفسرًا في "الأحكام" لإسماعيل، واعترض عليه ابن بطال فقال: أما الذي ذكره إسماعيل عن ابن عمر فليس فيه ما يدل على صحة ما تأوله، ثم ساق ما ذكره إسماعيل كما أسلفناه. فليس يدل هذا على أن سفره كان أبدًا في رمضان دون سائر المشهور، بل قوله:(إذا كان مقيمًا لم يفطر) يدل: أن إفطاره كان لغاشية قد يكون من صيامه التطوع، فيحتمل أن يبيت للفطر. فإن قيل: ويحتمل أن يبيت الصائم ثم يفطر لوُرَّاده بعد التبييت.
(1)
ذكره الزبيدى في "تاج العروس" 11/ 490 مادة (نقع).
(2)
"العين" 1/ 172.
قَالَ ابن أبي صفرة: يرد ذَلِكَ قوله: (ذَلِكَ الذي يلعب بصومه)، وقد زوج ابنته ولم يفطر، وقد دعاه عروة بن الزبير إلى وليمة فلم يفطر. وقال: لو أخبرتني ولكن أصبحت صائمًا، فكيف لمن يغشاه؟
وأما إفطار سلمان لأبي الدرداء إذ بات عنده، فإنما كان ذَلِكَ؛ لأن أبا الدرداء كان أسرف على نفسه في العبادة، وسرد الصوم، فأراد سلمان أن يأخذ به طريق الرخصة في الإفطار بعد التثبت، ألا ترى أن ذَلِكَ جائز عند جماعة من العلماء في الفرض إذا بيته في السفر ثم أدركته مشقة الصوم أن له أن يفطر، فكيف التطوع، فأخذ سلمان بالرخصة، وأخذ ابن عمر بالشدة؛ لأنه رأى التبييت من العقود التي أمر الله بالوفاء بها. وقد سلف ما للعلماء في ذَلِكَ في الصوم.
فائدة:
صرار: موضع بقرب المدينة، وقد ثبت ذَلِكَ في بعض نسخ البخاري، وهو بالمهملة كما قيده الدارقطني وغيره وللحموي والمستملي وابن الحذاء بالضاد المعجمة.
قَالَ صاحب "المطالع": وهو وهم. قَالَ الخطابي: وهي على ثلاثة أميال من المدينة على طريق العراق
(1)
.
وقال أبو عبيد البكري: هي بئر قديمة تلقاء حرة واقم
(2)
.
فائدة:
قوله: (نحو جزورًا) أي: ناقة أو جملًا.
(1)
"غريب الحديث" 2/ 54.
(2)
"معجم ما استعجم " 3/ 830.
57
كتاب فرض الخمس
بسم الله الرحمن الرحيم
57 - كِتَابُ فَرْضِ الخُمُسِ
1 - باب فَرْضِ الخُمُسِ
3091 -
حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، أَنَّ حُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ عليهما السلام أَخْبَرَهُ، أَنَّ عَلِيًّا قَالَ: كَانَتْ لِي شَارِفٌ مِنْ نَصِيبِي مِنَ المَغْنَمِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَعْطَانِي شَارِفًا مِنَ الخُمُسِ، فَلَمَّا أَرَدْتُ أَنْ أَبْتَنِي بِفَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَاعَدْتُ رَجُلاً صَوَّاغًا مِنْ بَنِي قَيْنُقَاعَ، أَنْ يَرْتَحِلَ مَعِيَ فَنَأْتِيَ بِإِذْخِرٍ أَرَدْتُ أَنْ أَبِيعَهُ الصَّوَّاغِينَ، وَأَسْتَعِينَ بِهِ فِي وَلِيمَةِ عُرْسِي، فَبَيْنَا أَنَا أَجْمَعُ لِشَارِفَيَّ مَتَاعًا مِنَ الأَقْتَابِ وَالْغَرَائِرِ وَالْحِبَالِ، وَشَارِفَاىَ مُنَاخَانِ إِلَى جَنْبِ حُجْرَةِ رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ، رَجَعْتُ حِينَ جَمَعْتُ مَا جَمَعْتُ، فَإِذَا شَارِفَايَ قَدِ اجْتُبَّ أَسْنِمَتُهُمَا وَبُقِرَتْ خَوَاصِرُهُمَا، وَأُخِذَ مِنْ أَكْبَادِهِمَا، فَلَمْ أَمْلِكْ عَيْنَيَّ حِينَ رَأَيْتُ ذَلِكَ الْمَنْظَرَ مِنْهُمَا، فَقُلْتُ: مَنْ فَعَلَ هَذَا فَقَالُوا: فَعَلَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ، وَهْوَ فِي هَذَا الْبَيْتِ فِي شَرْبٍ مِنَ الأَنْصَارِ. فَانْطَلَقْتُ حَتَّى أَدْخُلَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعِنْدَهُ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، فَعَرَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي وَجْهِي الذِي لَقِيتُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«مَا لَكَ؟» فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهَ، مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ قَطُّ، عَدَا حَمْزَةُ عَلَى نَاقَتَيَّ، فَأَجَبَّ أَسْنِمَتَهُمَا وَبَقَرَ خَوَاصِرَهُمَا، وَهَا هُوَ ذَا في بَيْتٍ مَعَهُ شَرْبٌ. فَدَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِرِدَائِهِ
فَارْتَدَى، ثُمَّ انْطَلَقَ يَمْشِي، وَاتَّبَعْتُهُ أَنَا وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ حَتَّى جَاءَ البَيْتَ الذِي فِيهِ حَمْزَةُ، فَاسْتَأْذَنَ فَأَذِنُوا لَهُمْ فَإِذَا هُمْ شَرْبٌ، فَطَفِقَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَلُومُ حَمْزَةَ فِيمَا فَعَلَ، فَإِذَا حَمْزَةُ قَدْ ثَمِلَ مُحْمَرَّةً عَيْنَاهُ، فَنَظَرَ حَمْزَةُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ صَعَّدَ النَّظَرَ فَنَظَرَ إِلَى رُكْبَتِهِ، ثُمَّ صَعَّدَ النَّظَرَ فَنَظَرَ إِلَى سُرَّتِهِ، ثُمَّ صَعَّدَ النَّظَرَ فَنَظَرَ إِلَى وَجْهِهِ ثُمَّ قَالَ حَمْزَةُ: هَلْ أَنْتُمْ إِلاَّ عَبِيدٌ لأَبِي؟ فَعَرَفَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَدْ ثَمِلَ، فَنَكَصَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى عَقِبَيْهِ الْقَهْقَرَى وَخَرَجْنَا مَعَهُ. [انظر: 2089 - مسلم: 1979 - فتح 6/ 196]
3092 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، أَنَّ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها أَخْبَرَتْهُ أَنَّ فَاطِمَةَ عليها السلام ابْنَةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَأَلَتْ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَقْسِمَ لَهَا مِيرَاثَهَا، مَا تَرَكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِمَّا أَفَاءَ الله عَلَيْهِ. [3093، 3711،4035، 4240، 6725 - مسلم: 1759 - فتح 6/ 196]
3093 -
فَقَالَ لَهَا أَبُو بَكْرٍ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ» . فَغَضِبَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَهَجَرَتْ أَبَا بَكْرٍ، فَلَمْ تَزَلْ مُهَاجِرَتَهُ حَتَّى تُوُفِّيَتْ وَعَاشَتْ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم سِتَّةَ أَشْهُرٍ. قَالَتْ وَكَانَتْ فَاطِمَةُ تَسْأَلُ أَبَا بَكْرٍ نَصِيبَهَا مِمَّا تَرَكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ خَيْبَرَ وَفَدَكٍ وَصَدَقَتِهِ بِالْمَدِينَةِ، فَأَبَى أَبُو بَكْرٍ عَلَيْهَا ذَلِكَ، وَقَالَ: لَسْتُ تَارِكًا شَيْئًا كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَعْمَلُ بِهِ إِلاَّ عَمِلْتُ بِهِ، فَإِنِّي أَخْشَى إِنْ تَرَكْتُ شَيْئًا مِنْ أَمْرِهِ أَنْ أَزِيغَ. فَأَمَّا صَدَقَتُهُ بِالْمَدِينَةِ فَدَفَعَهَا عُمَرُ إِلَى عَلِيٍّ وَعَبَّاسٍ، فَأَمَّا خَيْبَرُ وَفَدَكٌ فَأَمْسَكَهَا عُمَرُ وَقَالَ هُمَا صَدَقَةُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَتَا لِحُقُوقِهِ الَّتِي تَعْرُوهُ وَنَوَائِبِهِ، وَأَمْرُهُمَا إِلَى مَنْ وَلِيَ الأَمْرَ. قَالَ فَهُمَا عَلَى ذَلِكَ إِلَى اليَوْمِ. [3712، 4036، 4241، 6726 - مسلم: 1759 - فتح 6/ 197]
3094 -
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مُحَمَّدٍ الفَرْوِيُّ، حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الحَدَثَانِ، وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ جُبَيْرٍ ذَكَرَ لِي ذِكْرًا مِنْ حَدِيثِهِ ذَلِكَ، فَانْطَلَقْتُ حَتَّى أَدْخُلَ عَلَى مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ الحَدِيثِ، فَقَالَ مَالِكٌ: بَيْنَا أَنَا جَالِسٌ فِي أَهْلِي حِينَ مَتَعَ النَّهَارُ، إِذَا رَسُولُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يَأْتِينِي، فَقَالَ: أَجِبْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ.
فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ حَتَّى أَدْخُلَ عَلَى عُمَرَ، فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ عَلَى رِمَالِ سَرِيرٍ، لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فِرَاشٌ مُتَّكِئٌ عَلَى وِسَادَةٍ مِنْ أَدَمٍ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ ثُمَّ جَلَسْتُ فَقَالَ: يَا مَالِ، إِنَّهُ قَدِمَ عَلَيْنَا مِنْ قَوْمِكَ أَهْلُ أَبْيَاتٍ، وَقَدْ أَمَرْتُ فِيهِمْ بِرَضْخٍ فَاقْبِضْهُ فَاقْسِمْهُ بَيْنَهُمْ. فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَوْ أَمَرْتَ بِهِ غَيْرِي. قَالَ: اقْبِضْهُ أَيُّهَا المَرْءُ. فَبَيْنَا أَنَا جَالِسٌ عِنْدَهُ أَتَاهُ حَاجِبُهُ يَرْفَا فَقَالَ: هَلْ لَكَ فِي عُثْمَانَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَالزُّبَيْرِ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ يَسْتَأْذِنُونَ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَأَذِنَ لَهُمْ فَدَخَلُوا فَسَلَّمُوا وَجَلَسُوا، ثُمَّ جَلَسَ يَرْفَا يَسِيرًا ثُمَّ قَالَ: هَلْ لَكَ فِي عَلِيٍّ وَعَبَّاسٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَأَذِنَ لَهُمَا، فَدَخَلَا فَسَلَّمَا فَجَلَسَا، فَقَالَ عَبَّاسٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، اقْضِ بَيْنِي وَبَيْنَ هَذَا. وَهُمَا يَخْتَصِمَانِ فِيمَا أَفَاءَ الله عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ بَنِي النَّضِيرِ. فَقَالَ الرَّهْطُ عُثْمَانُ وَأَصْحَابُهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، اقْضِ بَيْنَهُمَا وَأَرِحْ أَحَدَهُمَا مِنَ الآخَرِ. قَالَ عُمَرُ: تَيْدَكُمْ، أَنْشُدُكُمْ بِاللهِ الذِي بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ، هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ» ؟. يُرِيدُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَفْسَهُ. قَالَ الرَّهْطُ: قَدْ قَالَ ذَلِكَ. فَأَقْبَلَ عُمَرُ عَلَى عَلِيٍّ وَعَبَّاسٍ فَقَالَ: أَنْشُدُكُمَا اللهَ، أَتَعْلَمَانِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ قَالَ ذَلِكَ؟ قَالَا: قَدْ قَالَ ذَلِكَ. قَالَ عُمَرُ: فَإِنِّي أُحَدِّثُكُمْ عَنْ هَذَا الأَمْرِ: إِنَّ اللهَ قَدْ خَصَّ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا الفَيْءِ بِشَيْءٍ لَمْ يُعْطِهِ أَحَدًا غَيْرَهُ -ثُمَّ قَرَأَ {وَمَا أَفَاءَ الله عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ} إِلَى قَوْلِهِ: {قَدِيرٌ} - فَكَانَتْ هَذِهِ خَالِصَةً لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. وَاللهِ مَا احْتَازَهَا دُونَكُمْ، وَلَا اسْتَأْثَرَ بِهَا عَلَيْكُمْ قَدْ أَعْطَاكُمُوهُ، وَبَثَّهَا فِيكُمْ حَتَّى بَقِيَ مِنْهَا هَذَا الْمَالُ، فَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَتِهِمْ مِنْ هَذَا المَالِ، ثُمَّ يَأْخُذُ مَا بَقِيَ فَيَجْعَلُهُ مَجْعَلَ مَالِ اللهِ، فَعَمِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ حَيَاتَهُ، أَنْشُدُكُمْ بِاللهِ هَلْ تَعْلَمُونَ ذَلِكَ؟ قَالُوا: نَعَمْ. ثُمَّ قَالَ لِعَلِيٍّ وَعَبَّاسٍ: أَنْشُدُكُمَا بِاللهِ هَلْ تَعْلَمَانِ ذَلِكَ؟ قَالَ عُمَرُ: ثُمَّ تَوَفَّى الله نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا وَلِيُّ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. فَقَبَضَهَا أَبُو بَكْرٍ، فَعَمِلَ فِيهَا بِمَا عَمِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُ فِيهَا لَصَادِقٌ بَارٌّ رَاشِدٌ تَابِعٌ لِلْحَقِّ، ثُمَّ تَوَفَّى الله أَبَا بَكْرٍ، فَكُنْتُ أَنَا وَلِىَّ أَبِي بَكْرٍ، فَقَبَضْتُهَا سَنَتَيْنِ مِنْ إِمَارَتِي، أَعْمَلُ فِيهَا بِمَا عَمِلَ
رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَمَا عَمِلَ فِيهَا أَبُو بَكْرٍ، وَاللهُ يَعْلَمُ إِنِّي فِيهَا لَصَادِقٌ بَارٌّ رَاشِدٌ تَابِعٌ لِلْحَقِّ، ثُمَّ جِئْتُمَانِي تُكَلِّمَانِي وَكَلِمَتُكُمَا وَاحِدَةٌ، وَأَمْرُكُمَا وَاحِدٌ، جِئْتَنِي يَا عَبَّاسُ تَسْأَلُنِي نَصِيبَكَ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ، وَجَاءَنِي هَذَا -يُرِيدُ عَلِيًّا- يُرِيدُ نَصِيبَ امْرَأَتِهِ مِنْ أَبِيهَا، فَقُلْتُ لَكُمَا: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ» . فَلَمَّا بَدَا لِي أَنْ أَدْفَعَهُ إِلَيْكُمَا قُلْتُ إِنْ شِئْتُمَا دَفَعْتُهَا إِلَيْكُمَا عَلَى أَنَّ عَلَيْكُمَا عَهْدَ اللهِ وَمِيثَاقَهُ لَتَعْمَلَانِ فِيهَا بِمَا عَمِلَ فِيهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَبِمَا عَمِلَ فِيهَا أَبُو بَكْرٍ، وَبِمَا عَمِلْتُ فِيهَا مُنْذُ وَلِيتُهَا، فَقُلْتُمَا: ادْفَعْهَا إِلَيْنَا. فَبِذَلِكَ دَفَعْتُهَا إِلَيْكُمَا، فَأَنْشُدُكُمْ بِاللهِ، هَلْ دَفَعْتُهَا إِلَيْهِمَا بِذَلِكَ قَالَ الرَّهْطُ: نَعَمْ. ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى عَلِيٍّ وَعَبَّاسٍ فَقَالَ: أَنْشُدُكُمَا بِاللهِ هَلْ دَفَعْتُهَا إِلَيْكُمَا بِذَلِكَ؟ قَالَا: نَعَمْ. قَالَ: فَتَلْتَمِسَانِ مِنِّي قَضَاءً غَيْرَ ذَلِكَ؟ فَوَاللهِ الذِي بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ، لَا أَقْضِى فِيهَا قَضَاءً غَيْرَ ذَلِكَ، فَإِنْ عَجَزْتُمَا عَنْهَا فَادْفَعَاهَا إِلَيَّ، فَإِنِّي أَكْفِيكُمَاهَا. [انظر: 2904 - مسلم: 1757 - فتح 6/ 197]
ذكر فيه حديث علي رضي الله عنه: قَالَ: كَانَتْ لِي شَارِفٌ مِنْ نَصِيبِي مِنَ المَغْنَمِ يَوْمَ بَدْرٍ .. الحديث.
وحديث عائشة عن فاطمة
(1)
بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها: أنها سَأَلَتْ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَقْسِمَ لَهَا مِيرَاثَهَا ممَا تَرَكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم .. الحديث.
وحديث مالك بن أوس كنا عند عمر رضي الله عنه .. الحديث بطوله.
الشرح:
حديث علي رضي الله عنه سلف في البيوع وتأتي له زيادة في غزوة بدر
(2)
،
(1)
ورد بهامش الأصل: قوله: (عن فاطمة) فيه نظر، والحديث هو مسند أبي بكر وعنه عائشة لما فيه من المرفوع، ولو قال: حديث عائشة فقط لكان له وجه؛ لأن عائشة شاهدت القصة ولم تحدثها بها فاطمة، والله أعلم.
(2)
سلف في البيوع برقم (2089)، باب ما قيل في الصواغ، وسيأتي في المغازي برقم (4003).
وحديث مالك: قَالَ البخاري فيه: حدثنا إسحاق بن محمد الفرْوي. هذا هو الصواب. ووقع في نسخة أبي الحسن محمد بدل إسحاق وكأنه وهم. قد أخرجه في المغازي والنفقات والاعتصام والفرائض، وأخرجه مسلم
(1)
.
وحديث عائشة أخرجه في مناقب أهل البيت، والمغازي وا لفرائض، وأخرجه مسلم
(2)
أيضًا.
وقوله: (اجْتُبَّ أسْنِمتُهُمَا) لا نعرف ذلك. والذي ذكره أهل اللغة أنه ثلاثي، وهو ما في النسخ المصححة (جُبَّتْ)
(3)
والجب: القطع. ومثله قيل للذي قطع إحليله فاستؤصل: مجبوب. ومن رواه (اجتُبَّ) فهو جائز، والبَقْر: الفتح. والثمِل: السكران.
وقول علي: (أعطاني شارفًا من الخمس)، يعني: يوم بدر، فظاهره [يدل]
(4)
أن الخمس كان يوم بدر، ولم يختلف أهل السير كما قَالَ ابن
(1)
حديث مالك سيأتي في المغازي برقم (4033) باب حديث بني النضير وفي النفقات برقم (5358)، باب حبس نفقه الرجل قوت سنة على أهله.
وفي الفرائض برقم (6728) باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم "لا نورث ما تركنا صدقة".
وفي الاعتصام برقم (7305) باب ما يكره من التعمق والتنازع من العلم ..
ووراه مسلم برقم (1757) كتاب الجهاد والسير، باب حكم الفيء
(2)
حديث عائشة سيأتي في المغازي برقم (4240)، (4035)، وفي الفرائض برقم (6725) باب قول النبي صلى الله عليه وسلم "لا نورث ما تركنا صدقة". وفي فضائل الصحابة برقم (3711)، باب مناقب قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأخرجه مسلم (1759) كتاب: الجهاد والسير، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا نورث ما تركنا فهو صدقة".
(3)
هي في هامش اليونينية 4/ 78: نسخة أبي ذر الكُشْمِيهَني.
(4)
من (ص).
بطال أن الخمس لم يكن يوم بدر. ذكر إسماعيل بن إسحاق قَالَ في غزوة بني قريظة حين حكم سعد بأن تقتل المقاتلة، وتسبى الذرية قيل: إنه أول يوم جعل فيه الخمس. قَالَ: وأحسب أن بعضهم قَالَ: نزل أمر الخمس بعد ذَلِكَ، ولم يأت في ذَلِكَ من الحديث ما فيه بيان شاف، وإنما جاء أمر الخمس معينًا في غنائم حنين، وهي آخر غنيمة حضرها (رسول الله صلى الله عليه وسلم)
(1)
وإذا لم يختلف (في)
(2)
أن الخمس لم يكن يوم بدر فيحتاج قوله إلى تأويل لا يعارض قول أهل السير، ويمكن أن يكون معناه ما ذكره ابن إسحاق: أنه صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن جحش في رجب في السنة الثانية من الهجرَة قبل بدر الأولى في سرية إلى محلة بين مكة والطائف فوجدوا بها قريشًا فقتلوهم، وأخذوا العير.
قَالَ ابن إسحاق: فذكر لي بعض آل عبد الله بن جحش أن عبد الله قَالَ لأصحابه: إن لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما غنمنا الخمس وذلك قبل أن يفرض الخمس من المغانم، فعزل لرسول الله صلى الله عليه وسلم خمس العير وقسم سائرها بين أصحابه، فوقع فرض الله في قسمة الغنائم على ما كان عبد الله صنع في تلك العير، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان بعد هذِه السرية إلى بدر، فقتل (بها)
(3)
صناديد الكفار، فبان بهذا الخبر معنى قول علي:(أعطاني شارفًا من الخمس) أي: من نصيبه من المغنم يوم بدر. وكان أعطاه قبل ذَلِكَ شارفًا من الخمس من سرية عبد الله بن جحش
(4)
.
وقد روى أبو داود في هذا الحديث ما يدل على هذا المعنى قَالَ:
(1)
في (ص): الشارع.
(2)
من (ص).
(3)
في (ص): به.
(4)
"سيرة ابن هشام" 2/ 238 - 239.
كان لي شارف من نصيبي من المغنم يوم بدر، وأعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم شارفًا من الخمس يومئذ
(1)
.
واختلف العلماء في الخمس كيف يقسمه الإمام على ثلاثة أقوال: فقال مالك: يسلك بالخمس مسلك الفيء فإن رأى الإمام حبس ذَلِكَ لنوائب تنزل بالمسلمين فعل، وإن شاء (قسمته)
(2)
، وأعطى كل واحد على قدر ما (يغنيه)
(3)
. ولا بأس أن يعطي منه أقرباء رسول الله صلى الله عليه وسلم على قدر اجتهاد الإمام، وكان يرى التفضيل في العطاء على قدر الحاجة
(4)
زاد ابن المناصف عنه: وهما حلالان للأغنياء بخلاف الزكاة.
وقال أبو حنيفة: الخمس على ثلاثة أسهم يقسم سهم لليتامى والمساكين وابن السبيل فيهم، ويؤخذ سهم ذوي القربى، وسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيردان في الكراع والسلاح، محتجًّا بما رواه الثوري عن قيس بن مسلم عن الحسن بن محمد بن الحنفية أنهم اختلفوا في سهم الرسول، وسهم ذي القربى فقال: سهم الرسول للخليفة بعده وقال بعضهم: سهم ذي القربى هو لقرابة الرسول، وقال بعضهم: هو لقرابة الخليفة. فأجمع رأيهم أنهم جعلوا هذين السهمين في العدة والخيل، فكان ذَلِكَ في خلافة أبي بكر وعمر
(5)
.
قَالَ إسماعيل بن إسحاق: ولا يجوز أن يبطل عمر ولا غيره سهم ذي القربى؛ لأنه مسمًّى في كتاب الله، ولم ينسخه شيء ومن أبطله فقد ركب أمرًا عظيمًا
(6)
.
(1)
رواه أبو داود (2986).
(2)
في (ص): قسمه.
(3)
في (ص): يعينه.
(4)
"المدونة" 1/ 386 - 388.
(5)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 3/ 511، "الهداية" 2/ 438، "الوسيط" 3/ 90.
(6)
"شرح ابن بطال" 5/ 249.
وقال الشافعي: خمس على خمسة فيرد سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على من سمي معه من أهل الصدقات وهم: ذوو القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل. وقوله: {لِلَّهِ} مفتاح كلام
(1)
.
قلتُ: مذهبه أن سهم الله ورسوله يصرف لمصالح المسلمين حَتَّى تأتي القسمة على خمسة. قَالَ إسماعيل: فأسقط أبو حنيفة: سهم ذي القربى وأخذ في طرف، وأخذ الشافعي في طرف آخر، وتركا التوسط من القول الذي مضى عليه الأئمة.
والاختلاف الذي اختلفوا فيه لم يكن كما توهمه أبو حنيفة، وإنما روي عن ابن عباس أنهم ناظروا عمر في سهم ذي القربى على أن يكون لهم خمس الخمس فأبى عمر من ذَلِكَ، وذهب أن الخمس يقسم في ذي القربى وغيرهم على الاجتهاد.
قَالَ إسماعيل: قوله {لِلَّهِ} مفتاح كلام لا يفهم. وقد ذكر الله في كتابه {مَا أَفَاءَ الله عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} . وقال تعالى: {قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: 1] فأي كلام جاء بعد هذا فيكون هذا مفتاحًا له، وإذا قيل: الله، فهو أمر مفهوم اللفظ والمعنى؛ لأنه يعلم أن الرجل إذا قَالَ: جعلت هذا الشيء لله أنه مما يقرب إلى الله. وهذا لا يحتاج أن يقول فيه مفتاح الكلام فكذلك قوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ} [الأنفال: 41] الآية في معنى ما يقرب من الله ومن رسوله، وكذلك قَالَ عمر بن عبد العزيز في قوله:{لِلَّهِ} قَالَ: اجعلوه في سبيل الله التي يأمر بها ولو كان قوله: {لِلَّهِ} لا يوجب شيئًا، لكان ما بعده لا يوجب شيئًا؛ لأن ما بعده معطوف عليه. فإن كان القول
(1)
"الأم" 4/ 77.
الأول لا يجب به شيء، فكذلك ما عطف عليه لا يجب به شيء
(1)
.
قلتُ: الشافعي أراد بهذا أنه افتتح به للتبرك والابتداء باسمه، وأشار به إلى أنه يصرف مصرف القرب كما ذكره، أو ذكر اسمه في اسم رسوله تشريفًا له وتعظيمًا.
وقد نقل ابن بطال بعد هذا في باب: قول الله تعالى: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} ؛ أن الحسن بن محمد بن علي سُئل عن قوله تعالى: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] قَالَ: هذا مفتاح كلام الله الدنيا والآخرة
(2)
.
وشرع الطحاوي يرد على الشافعي في تخميسه الفيء، ولم يكفه ذَلِكَ حَتَّى لفظ فيه مما لا أذكره ولا يذكر، معللًا بأن الله تعالى ذكره ذكر الغنائم، فأوجب فيها الخمس، وذكر الفيء، فقال تعالى:{وَمَا أَفَاءَ الله عَلَى رَسُولِهِ} [الحشر: 6] الآية كما قَالَ في أول آية الخمس ثم قَالَ {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ} {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر: 10]؛ فذكر في الغنائم الخمس لأصناف مذكورين. وذكر في آية الفيء الجميع في جميع الفيء فثبت أن حكم الفيء غير حكم الغنيمة
(3)
.
قلتُ: الفيء يخمس يعني: أنه يجعل أخماسًا، وخمسه يصرف للخمسة المذكورين في الآية، فتكون القسمة من خمسة وعشرين سهما، كذا كان سيد الأمة يقسمه. وكان له أربعة أخماس الفيء، وخمس الخمس الباقي، فله من الخمسة وعشرين أحد (وعشرون)
(4)
سهمًا.
(1)
"شرح ابن بطال" 5/ 249 - 250.
(2)
"شرح ابن بطال" 5/ 250.
(3)
"الوسيط" 3/ 89.
(4)
ذكرت في الأصل: (وعشرين)؛ وكذا هو في "الحاوي الكبير"، ولعل ما أثبتاه يكون صحيحًا.
بل قَالَ الغزالي وغيره من أصحابه: كان الفيء كله له إلى أن مات. وإنما تخمس بعد موته. وقال الماوردي وغيره: اختصاصه بجميع الفيء كان في أول حياته، ونسخ في حياته والغنيمة تخمس وخمسها لأهل خمس الفيء كما سلف والباقي للغانمين
(1)
.
فصل:
ولم يتنازع علي والعباس في الخمس، وإنما تنازعا فيما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصًّا ما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب. فتركه صدقة بعد وفاته، فحكمه حكم الفيء، وفيه حجة لمالك في قوله: إن مجرى الخمس والفيء واحد. وهو خلاف قول الشافعي أن الفيء فيه الخمس، وأن خمس الفيء يقسم على خمسة أسهم، وهم الذين قسم الله لهم خمس (الغنيمة)
(2)
.
وادعى ابن بطال انفراد الشافعي به وأنَّ أحدًا لم يقله قبله، والناس على خلافه. قَالَ: وحديث مالك بن أوس لم يذكر فيه أنه صلى الله عليه وسلم كان يلزمه إخراج الخمس منه حجة على الشافعي؛ [لأنه]
(3)
لا يمكن أن يفضل له من سهمه بخيبر بعد نفقة سنته الذي ينفقه، أو أقل أو أكثر، ولو كان فيه الخمس لبين ذلك
(4)
.
فصل:
ووجه هجران فاطمة للصديق كما قَالَ المهلب أنه لم يكن عندها قوله صلى الله عليه وسلم: "لا نورث ما تركنا صدقة" ولا علمته ثم أنفت أن تكون لا ترث أباها كما لا يرث الناس في الجاهلية والإسلام، مع احتمال الحديث
(1)
"الحاوي الكبير" 8/ 388 - 389.
(2)
في (ص): القيمة.
(3)
من (ص).
(4)
"شرح ابن بطال" 5/ 250 - 251.
عندها أنه أراد به بعض المال دون بعض. وأنه لم يرد به الأصول والعقار، فانقادت وسلمت للحديث وإنما كان هجرانها له انقباضًا عن لقائه وترك مواصلته. وليس هذا من الهجران المحرم، وإنما المحرم من ذَلِكَ أن يلتقيا فلا يسلم أحدهما على صاحبه. ولم يرو واحد أنهما التقيا وامتنعا من التسليم، ولو فعلا ذَلِكَ لم يكونا بذلك متهاجرين، إلا أن تكون النفوس مضمرة للعداوة والهجران، وإنما لازمت بينهما، فعبر الراوي عنه بالهجران. هذا وجه هجرانها له، لكنها وجدت عليه أن (أحرمها)
(1)
ما لم يحرم أحد، ولسنا نظن به إضمار الشحناء والعداوة، وإنما هم كما وصفهم الله رحماء بينهم.
وروي عن علي أنه لم يغير شيئًا من سيرة أبي بكر وعمر بعد ولايته في تركة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل أجرى الأمر فيها على ما أجرياه في حياتهما.
فصل:
فإن قلتَ: حديث عائشة في الباب ليس فيه ذكر الخمس. قلتُ: وجهه أن فاطمة إنما جاءت تسأل ميراثها من رسول الله صلى الله عليه وسلم من فدك وخيبر وغيرهما، وفدك مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب فلم يجز فيها خمس، وأما خيبر فإن الزهري ذكر أن بعضها صلحًا، وبعضها عنوة، فجرى فيها الخمس.
وقد جاء هذا في بعض طرق الحديث في كتاب المغازي، قالت عائشة: إن فاطمة جاءت تسأل نصيبها مما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أفاء الله عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر، وإلى هذا أشار البخاري واستغنى لشهرة الأمر عن إيراده مكشوفًا بلفظ الخمس في هذا الباب.
(1)
فوقها في الأصل: كذا. قلت: والصواب: حرمها؛ لأنه يتعدى بغير الهمزة.
فصل:
وفي حديث مالك من الفقه أنه يجب أن يولى أمر كل قبيلة سيدها؛ لأنه أعرف باستحقاق كل رجل منهم لعلمه بهم.
وفيه: أن الإمام ينادي الرجل الشريف باسمه وبالترخيم له ولا عار على المنادى بذلك، ولا نقيصة.
وفيه: استعفاء الإمام مما يوليه واستنزاله في ذَلِكَ بألين الكلام؛ لقول مالك لعمر حين أمره بقسمة المال بين قومه: لو أمرت به غيري.
وفيه: الحجابة للإمام وأن لا يصل إليه شريف ولا غيره إلا بإذنه.
وفيه: الجلوس بين يدي السلطان بغير إذنه. وفيه: الشفاعة عند الإمام في إنفاذ الحكم إذا تفاقمت الأمور، وخشي الفساد بين المتخاصمين؛ لقول عثمان: اقض بينهما وأرح أحدهما من الآخر. وقد ذكر البخاري في المغازي: أن عليًّا والعباس استبا يومئذ
(1)
.
وفيه: تقرير الإمام من يشهد له على قضائه وحكمه وبيانه وجه حكمه للناس.
فصل:
ومجيء العباس وعلي إلى الصديق يطلبان الميراث من تركة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أرضه من فدك، وسهمه من خيبر، وصدقته بالمدينة، على ما ثبت من حديث عائشة في الباب، فأخبرهم بأنه (قَالَ:)
(2)
"لا نورث ما تركنا صدقة"، فسلما لذلك وانقادا، ثم جاءا بعد ذَلِكَ إلى عمر على اتفاق منهما يطلبان أن يوليهما العمل، والنظر فيما أفاء
(1)
سبق تخريجه.
(2)
من (ص).
الله على رسوله من بني النضير خاصة ليقوما به، ويسبلاه في السُّبل التي كانت سُبله فيها. إذ كانت غلة ذَلِكَ مصروفة في عظم أمور أهل بيتهما، وما فضل من ذَلِكَ مصروف في تقوية الإسلام وأهله، وسيدخله أهل الحاجة منهم، فدفعه عمر إليهما على الإشاعة بينهما، والتساوي والاشتراك في النظر والأجرة.
وأما مجيئهما إليه ثانيًا فلا يخلو من أحد وجهين: إما أن يطلب كل واحد منهما أن ينفرد بالعمل كله، (أو بنصفه)
(1)
، وفرَّا من الإشاعة لما يقع من العمال والخدم من التنازع، فأبى عمر أن تكون إلا على الإشاعة؛ لأنه لو أفرد واحدًا منهما بالعمل والنظر لكان وجهًا من وجوه الإمرة، فتتناسخ القرون وهي بأيدي بعض قرابة الرسول دون بعض، فيستحقها الذي هي بيده، ولم ير أن يجعلها نصفين على غير الإشاعة؛ لأن سنة الأوقاف ألا تقسم بين أهلها، وإنما تقسم غلاتها فلذلك حلف أن يتركها مجملة ولا يقسمها بينهم فشبه ذَلِكَ التوريث.
وقد ذكر البخاري في المغازي أن عليًّا غلب العباس على هذِه الصدقة ومنعه منها، ثم كانت بأيدي بني علي بعده يتداولونها
(2)
.
فرع:
جميع ما تركه الشارع من الأصول، وما جرى مجراها مما يمكن بقاء أصله، والانتفاع به، حكمه حكم الأوقاف تجري غلاتها على المساكين، والأصل باق على ملكه موقف. لقوله:"ما تركنا صدقة" يعني: موقوفة.
(1)
في الأصل: بنصيبه.
(2)
سيأتي برقم (4034) باب حديث بني النضير.
فصل:
وأما قوله: (إن الله قد خص رسوله صلى الله عليه وسلم في هذا الفيء بشيء لم يعطِه أحدًا غيره) يعني المال، فخصَّه بإحلال الغنائم، ولم تحل لأحد قبله، وخصه مما أفاء الله عليه من غير قتال من أموال الكفار، تكون له دون سائر الناس. وخصه بنصيبه في الخمس، وهذا معنى ذكره هذا الحديث في الباب. وقال القاضي: فيه احتمالان: الأول: تحليل الغنيمة له ولأمته. الثاني: تخصيصه بالفيء إما كله أو بعضه
(1)
.
وهل في الفيء خمس أم لا
(2)
؟ قَالَ ابن المنذر: لا نعلم أحدًا قبل الشافعي قَالَ الخمس في الفيء.
وفيه: أنه لا بأس أن يمدح الرجل نفسه ويطريها إذا قَالَ الحق، وذلك إذا ظن بأحد أنه يريد تنقصه.
وفيه: جواز ادخار الرجل لنفسه وأهله قوت سنة، وأن ذَلِكَ كان فعله صلى الله عليه وسلم حين فتح الله عليه بني النضير وفدك وغيرهما. وهو خلاف قول جهلة الصوفية المنكرين للادخار الزاعمين أن من ادخر لغد فقد أساء الظن بربه، ولم يتوكل عليه حق توكله.
وفيه: إباحة اتخاذ العقار الذي يُبتغى به الفضل والمعاش بالعمارة، وإباحة اتخاذ نظائر ذَلِكَ من المغنم، وأعيان النقدين وسائر الأموال التي يراد منها النماء والمنافع، وطلب المعاش، وأصولها ثابتة كما ستعلمه أوضح من ذَلِكَ في باب نفقته صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، وباب الأطعمة أيضًا.
(1)
"إكمال المعلم" 6/ 82.
(2)
ورد بهامش الأصل: حاشية: قال القاضي في "شرح مسلم": وهذا الثاني أظهر، لاستشهاد عمر رضي الله عنه على هذا بالآية انتهى.
وفيه: كما قَالَ الطبري: أن الصديق قضى على العباس وفاطمة بحديث "لا نورث" ولم يحاكمهما في ذَلِكَ إلى أحد غيره. فكذلك الواجب أن يكون للحكام والأئمة الحكم بعلومهم لأنفسهم كان ذَلِكَ أو لغيرهم، بعد أن يكون ما حكموا فيه بعلومهم مما يعلم صحة أمره رعيتهم، أو يعلمه منهم من إن احتاجوا إلى شهادته إن أنكر بعض ما حكموا به من ذَلِكَ عليهم بعض رعيتهم كان في شهادتهم لهم براءة ساحاتهم، وثبوت الحجة لهم على المحكوم عليه.
فصل:
قَالَ الطبري في حديث على: إن المسلمين كانوا في أول الإسلام يشربون الخمر ويسمعون الغناء، حَتَّى نهى الله عن ذَلِكَ بقوله:{إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} [المائدة: 90] الآية وسيأتي ما في سماع الغناء عن السلف في الاستئذان وفضائل القرآن، وقد سلف منه شيء في العيدين.
(فصل)
(1)
:
وقوله: (رجع القهقرى) قَالَ الأخفش: يعني: رجع وراءه، ووجهه إليك
(2)
.
وقوله في حديث عمر رضي الله عنه: (حَتَّى متع النهار). هو بمثناة فوق قبلها ميم، وبعدها عين مهملة. قَالَ صاحب "العين": متع النهار متوعًا وذلك قبل الزوال
(3)
. وقال يعقوب: علا واجتمع. وقال غيره: طال. وأمتع الشيء: طالت مدته. ومنه في الدعاء: أمتعني الله بك. وقيل: معناه: نفعني الله بك، قَالَ الداودي: متع: صار عند قرب نصف النهار.
(1)
في (ص): قال.
(2)
ذكره الخطابي في "غريب الحديث" 1/ 653
(3)
"العين" 2/ 83 مادة (متع).
وقوله: (تِيْدِكُم) أي: على رسلكم وأمهلوا ولا تعجلوا وهي من التؤدة. يقول: الزموا تؤدتكم، وكان أصلها تأدكم فكأنه أبدل الياء من الهمزة. قَالَ الكسائي: تيد زيدًا ورويدًا زيدًا بمعنًى: أي: أمهل زيدًا. ومن روى أتيدكم فلا يجوز في العربية؛ لأن اتأد لا يتعدى إلى مفعول. لا تقول: أتأدت زيدًا، وإنما تقول: تيدكم. كما يقول: رويدكم، وتيدكم بفتح التاء، وللأصيلي وأبي ذر بكسرها.
وقوله: (أنشُدُكم الله) أي: أسألكم به برفع نشيدتي. أي: صوتي. وقال الداودي معناه: اجعلوا الله شهيدًا بيني وبينكم أن تقولوا ما تعلمون.
فصل:
احتج بعض أهل العلم بهذا الحديث -كما قَالَ الخطابي- في إبطال (حكم)
(1)
السكران، وقالوا: لو لزم السكران ما يكون منه في حال سكره، كما يلزمه في حال صحوه لكان المخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم بما استقبله به حمزة كافرًا مباح الدم.
وقد ذهب على هذا القائل أن ذَلِكَ منه
(2)
إنما كان قبل تحريم الخمر، وفي زمان كان شربها مباحًا، وإنما حُرمت بعد غزوة أحد
(3)
. قَالَ: جابر: اصطبح ناس الخمر يوم أحُد، ثم قتلوا آخر النهار شهداء. وأما وقت حرمت فشربها معصية، وما تولد منها لازم، ورخص الله لا تلحق العاصين. وذهب الخطابي إلى أنه لما كان الخمر مباحة وقت شربها كان ما تولد منها بالسكر من الجفاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يلزم فيه عقوبة، فعذره صلى الله عليه وسلم لتحللها مع أنه كان شديد
(1)
في (ص): أحكام.
(2)
في الأصل: (ذلك كان منه) ولعل (كان) زائدة.
(3)
"معالم السنن" 3/ 23.
التوقير لعمه والتعظيم له والبر به، وأما اليوم وقد حرمت فيلزم السكران حد الفرية وجميع الحدود؛ لأن سبب زوال عقله من فعل محرم عليه
(1)
.
فصل:
وأما ضمان إتلاف الناقتين فضمانهما لازم في حمزة لو طالبه على به
(2)
، ويمكن (أن)
(3)
يعوضه صلى الله عليه وسلم منهما؛ إذ العلماء لا يختلفون أن جنايات الأموال لا تسقط عن المجانين وغير المكلفين، ويلزمهم ضمانها في كل حال كالعقلاء، ومن شرب لبنًا أو طعامًا أو تداوى بمباح فسكر فقذف غيره فهو كالمجنون والمغمى عليه، والصبي، يسقط عنهم حدُّ القذف وسائر الحدود غير إتلاف الأموال؛ لرفع القلم عنهم. فمن سكر من حلال فحكمه حكم هؤلاء. وعن أبي عبد الله بن الفخار أن من سكر من ذَلِكَ لا طلاق عليه، وحكى الطحاوي: أنه إجماع من العلماء
(4)
.
قلتُ: وهو مذهبنا أيضًا حَتَّى لو سكر مكرهًا عندنا فكذلك
(5)
.
فصل:
قوله: "لا نورث ما تركنا صدقة" جميع الرواة بالنون كما قَالَ القرطبي، يعني: جماعة الأنبياء كما في الرواية الأخرى "نحن معاشر
(1)
"معالم السنن" 3/ 23. بتصرف.
(2)
ورد بهامش الأصل ما نصه: فائدة:
في كتاب عمر بن شبة من رواية أبي بكر بن عياش أن النبي صلى الله عليه وسلم غرم حمزة ثمن الناقتين. والله أعلم.
(3)
من (ص).
(4)
"مختصر اختلاف العلماء" 2/ 431.
(5)
انظر "الأم" 5/ 235،/ "مختصر المزني" مع الأم 4/ 81.
الأنبياء لا نورث". وصدقة مرفوع على أنه خبر المبتدأ الذي هو"ما تركنا". والكلام جملتان الأولى: فعليَّة، والثانية اسمها: اسميَّة، وقد صحفه بعض الشيعة بالياء، و (صدقة) بالنصب، وجعل الكلام جملة واحدة على أن يجعل ما مفعُولاً لم يسمّ فاعله و (صدقة) بالنصب على الحال، والمعنى: إن ما يترك صدقة لا يورث، وهذا مخالف لما وقع في سائر الروايات، ولما حمله الصحابة من قوله "فهو صدقة" لأنهم يقولون: إنه صلى الله عليه وسلم يورث لغيره. متمسكين بعموم الآية
(1)
. وهذا الحديث في معنى قوله: "إن الصدقة لا تحل لآل محمد"
(2)
.
فصل:
هذِه اللفظة رواها مالك عن عائشة
(3)
، ومسلم عن أبي بكر
(4)
، والنسائي عن طلحة بن عبيد الله
(5)
، وذكر القاضي أبو بكر بن الطيب أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما وجماعة من الصحابة رووه مرفوعًا، وأن الصحابة وفاطمة وعليًّا والعباس سلموه.
وفي البخاري هنا أن عمر قَالَ لعثمان وعبد الرحمن بن عوف والزبير وسعد: هل تعلمون أن رسول الله قَالَ ذَلِكَ؟ قالوا: نعم. وكذلك قال العباس وعلى بعد هذا لعمر. وأن الشيعة طعنوا فيه، وقالوا: هو مردود بقوله: {يُوصِيكُمُ الله فِي أَوْلَادِكُمْ} [النساء: 11] قالوا: وقد
(1)
المقصود بالآية آية المواريث وانظر "المفهم" 3/ 561 - 562.
(2)
رواه مسلم بنحوه (1072)، وأبو داود (2985)، والنسائي 5/ 105 من حديث عبد المطلب بن ربيعة.
(3)
رواه مالك في "الموطأ" ص 614.
(4)
مسلم (1759) كتاب الجهاد والسير، باب لا نورث ما تركنا صدقة.
(5)
"السنن الكبرى" 4/ 64.
طالبت فاطمة وعلى والعباس أبا بكر بالميراث. وحُكي أن فرقة منهم تزعم أنه لا يورث. وقال: لم تطالب فاطمة به وإنما طالبت بأنه صلى الله عليه وسلم نحلها من غير علم أبي بكر. وأنكر باقي المسلمين هذا، وقالوا: ما ثبت نحل الشارع إياها، ولا أنها طالبت بذلك.
وقال الجمهور منهم: لم يجعل الله لنبيه ملك رقاب ما غنمه، وإنما ملكه منافعه وجعل له إجراء قوته وعياله منه. وأوجب مثل ذَلِكَ على القائم بعده، وأجاب القاضي بأن الآية وإن كانت عامة فإنما توجب أن يورث ما تملكه صلى الله عليه وسلم، فدلوا على أنه تملك. ولو سلمنا ملكه لم يكن لهم فيها دليل؛ لأنها ليست عندنا وعند من أنكر العموم؛ لاستغراق المالكين وكل من مات، وإنما يبني عن أقل الجمع، وما فوقه محتمل، فوجب الوقف فيه.
وعند كثير من القائلين بالعموم أن هذا الخطاب وسائر العمومات لا يدخل فيها الشارع؛ لأن الشرع ورد بالتفرقة بينه وبين أمته، ولو ثبت العموم لوجب تخصيصها. وهذا الخبر، وما في معناه يوجب تخصيص 1 لآية، وخبر الآحاد يخصص، فكيف ما كان هذا سبيله وهو القطع بصحته.
قَالَ: وما رووه من قدح علي وفاطمة والعباس في رواية أبي بكر معارض بما هو أقوى منه وأثبت وأصح عند أهل النقل مما رووه؛ لأن الروايات قد صحت من غير طريق أن فاطمة قالت لأبي بكر: أنت وما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم. من غير قدح في روايته، وما رواه الشيعة من قدح علي وفاطمة في رواية أبي بكر غير معروف عند أهل (النقل)
(1)
.
(1)
في (ص): النظر.
انظر هذا مما رواه البخاري: أن فاطمة هجرته حَتَّى ماتت. وقال الداودي: كانت بشرية فربما أبهمت المصالح، قَالَ: ولعل أبا بكر حمله عن غيره، ولم يسمعه من رسول الله، وعلمت هي ذَلِكَ فاتهمت الناقل بالسهو أو ما يعتري البشر، قَالَ: وروي أن الصديق كان يأتيها ويعتذر إليها. قَالَ الخطابي: هذِه القصة مشكلة جدًّا وذلك أن عليًّا وعباسًا إذا كانا قد أخذا هذِه القصة من عمر على هذِه الشريطة، واعترفا بقوله:"لا نورث". فما الذي بدا لهما بعد حَتَّى تخاصما. والمعنى في ذَلِكَ أنهما طلبا القسمة فيها إذ كان يشق عليهما ألا يكون أحدهما ينفرد مما يعمل فيه مما يريده، فطلبا القسمة لذلك، فمنعهما عمر القسم لئلا يجري عليهما اسم الملك؛ لأنها إنما تقع في الأملاك، وقال لهما: إن عجزتما عنها فردَّاها (إلي)
(1)
(2)
وقد سلف هذا أيضًا.
فصل:
وقول أبي بكر: (لست تاركًا شيئًا عمله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عملته). يعني: أنه كان مع ما كان يعمل يخبر أنه (لا يورث)
(3)
عنه. قاله الداودي، ومعنى (أزيغ): أميل عن الحق.
وقوله: (تعروه) أي: تغشاه. وقال البخاري عند أبي ذر: (اعتراك) افتعل من عروته أصبته، ومنه يعروه واعتراني. وقال ابن فارس:(فقال:)
(4)
عراني هذا الأمر إذا غشيك، واعتراه: همه.
(1)
في (ص): عليَّ.
(2)
"أعلام الحديث".
(3)
مكررة بالأصل.
(4)
من (ص).
فصل:
قوله في حديث مالك بن أنس: (فانطلقت حَتَّى أدخل على مالك) من قرأه بضم لام (أدخل) كانت (حَتَّى) عاطفة، فمعنى الكلام: انطلقت فدخلت المدينة. ومن فتحها كانت (حَتَّى) بمعنى (كي) ومثله قوله تعالى: {وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ} [البقرة: 214] إذا ضممت لام يقول وإذا فتحت فـ (حتى) بمعنى (إلى أن).
وقوله: (على رمال سرير) وفي مسلم: (مفضيًا إلى رماله)
(1)
بضم الراء وكسرها أيضًا، وهو ما يمد على وجه السرير من شريط ونحوه. وقال الداودي: هي السدد التي تعمل من الجريد. وقوله: فقال: (يا مال) هو مرخم يريد: يا مالك.
وقوله: (قدم علينا من قومك أهل أبيات). قَالَ الداودي: أي: قوم معهم أهلهم، وجاء بدل (قدِمَ) دَفّ، وهو بفتح الدال المهملة وهو المشي بسرعة، كأنهم جاءوا مسرعين للضُّر الذي نزل بهم. وقوله:(برضخ) أي: بعطية: وهي العطية القليلة غير المقدرة.
وقوله: (لو أمرت بها غيري) تحرج من قبول الأمانة.
وقوله: (اقبضه أيها المرء) هو عزم عليه في قبضه، (ويرفا) هو مولى عمر حاجبه بفتح أوله، ومنهم من همزه، وفي "سنن البيهقي":(اليرفا) بألف ولام
(2)
..
فصل:
قَالَ القاضي عياض: تأول قوم طلب فاطمة ميراثها من أبيها على
(1)
مسلم (1757/ 49) كتاب الجهاد، باب: حكم الفيء.
(2)
"السنن الكبرى" 6/ 354.
أنها تأولت الحديث إن كان بلغها على الأموال التي لها بال، فهو الذي لا يورث لا ما يتركون من طعام وأثاث وسلاح
(1)
، وهذا التأويل يرده قوله: مما أفاء الله عليه.
وقوله: (مما ترك من خيبر وفدك وصدقته بالمدينة)، وقيل: إن طلبها لذلك قبل أن يبلغها الحديث، وكانت متمسكة بآية الوصية.
قلتُ: وأما ما روي من أن فاطمة طلبت فدك، وذكرت أن أباها أقطعها إياها، وشهد لها عليٌّ بذلك. فلم يقبل أبو بكر شهادته؛ لأنه زوجها، فلا أصل له، ولا تثبت به رواية أنها ادعت ذلك، وإنما هذا أمر مفتعل لا يثبت، وإنما طلبته وادعته وغيرها أيضًا -قاله القاضي أبو إسحاق إبراهيم بن حماد في كتابه "تركة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لها أبو بكر: أنت عندي مصدقة إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد في ذَلِكَ عهدًا أو وعدك وعدًا صدقت وسلمت. قالت: لا لم يكن منه إليَّ في ذَلِكَ شيء إلا ما أنزل الله من القرآن، غير أني لما نزلت عليه قَالَ:"أبشروا آل محمد فقد جاءكم الغنى"، فقال أبو بكر: صدق أبوك وصدقت. ولم يبلغني في تأويل هذِه الآية أن هذا السهم كاملًا لكم، فلكم الغنى الذي (يسعكم)
(2)
ويفضل عنكم، وهذا عمر وأبو عبيدة وغيرهما فاسأليهم. فانطلقت إلى عمر فسألته، فذكر لها ما ذكر أبو بكر. رواه عن أبيه، ثَنَا يحيى ابن أكثم، ثَنَا علي بن عياش الألهاني، ثَنَا أبو معاوية صدقة الدمشقي، عن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، عن أنس.
(1)
"إكمال المعلم" 6/ 80 - 81.
(2)
في (ص): يسبغكم.
قالَ ابن العربي: والآية وإن كانت عامة فإنما توجب أن يورث ما يملكه الشارع، لو سلمنا ملكه فلا دلالة لها فيه لما سلف.
وروى ابن شاهين في كتاب "الخمس" عن الشعبي: أن الصديق قَالَ لفاطمة: يا بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما خير عيش حياة أعيشها وأنت عليَّ ساخطة، فإن كان عندك من رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فأنت الصادقة المصدقة المأمونة على ما قلت. قَالَ: فما قام حَتَّى رضيت، ورضي.
قَالَ: وفي حديث أسامة بن زيد الليثي، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قَالَ أبو بكر لفاطمة: بآبائي أنت وبآبائي أبوك إنه قَالَ صلى الله عليه وسلم: "لا نورث ما تركنا صدقة" قَالَ: فقالت: إني لست ممن ينكر.
فصل:
سبب عدم ميراث الأنبياء لئلا يظن بهم أنهم جمعوا المال لورثتهم. كما حرمهم الله تعالى الصدقة الجارية على أيديهم من الدنيا؛ لئلا ينسب إليهم ما تبرءوا به من الدنيا، أو لئلا يخشى على وارثهم أن يتمنى لهم الموت، فيقع في محذور عظيم.
فصل:
وأما صدقته بالمدينة فهي أموال بني النضير، وكانت قريبة من المدينة، وهي مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب.
قَالَ القاضي عياض: والصدقات التي صارت إليه.
أحدها: من وصية مخيريق يوم أحُد، وكانت سبع حوائط في بني النضير.
ثانيها: ما أعطاه الأنصار من أرضهم، وهو ما لا يبلغه الماء، وكان هذا ملكًا له، ومنها حقه من الفيء من أموال بني النضير، كانت له خاصة حين أجلاهم، وكذا نصف أرض فدك، صالح أهلها بعد فتح خيبر على نصف أرضها فكان خالصًا له، وكذا ثلث أرض وادي القرى، أخذه في الصلح حين صالح اليهود، وكذا حصنان من حصون خيبر: الوطيح والسلالم أحدهما صلحًا.
ومنها سهمه من خمس خيبر وما افتتح فيها عنوة، فكانت هذِه كلها ملكًا له خاصة لا حق لأحد فيها، فكان يأخذ منها نفقته ونفقة أهله، ويصرف الباقي في مصالح المسلمين
(1)
.
قَالَ صلى الله عليه وسلم: "ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة"
(2)
وكان ابن عيينة يقول: أمهات المؤمنين في معنى المعتدات؛ لأنهن لا يجوز لهن النكاح أبدًا فجرت عليهن النفقة، وتركت حجرهن لهن يسكنها. وأراد بمؤنة العامل: من يلي بعده.
قَالَ أبو داود: وأما اختصام علي والعباس فيما جعل إليهما من صدقته بالمدينة، وهي أموال بني النضر فكانت في القسمة، وسألا عمر أن يقسمها نصفين بينهما يستبد كل واحد بولايته، فلم ير عمر أن يوقع القسمة على الصدقة، ولم يطلبا قسمتها ليتملكاها، وإنما طلباها؛ لأنه كان يشق على كل واحد منهما ألا يعمل عملاً في ذَلِكَ المال حَتَّى يستأذن صاحبه.
وعنده أيضًا كانت للنبي صلى الله عليه وسلم ثلاث صفايا: بنو النضير، وخيبر،
(1)
"اكمال المعلم" 6/ 87 - 88.
(2)
سلف برقم (2776) كتاب الوصايا، باب نفقة القيم للوقف.
وفدك، فأما بنو النضير فكانت حبسًا لنوائبه، وأما فدك فكانت حبسًا لأبناء السبيل، وأما خيبر فجزأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أجزاء: جزأين للمسلمين، وجزءًا نفقة لأهله، فما فضل عن نفقه أهله جعله بين فقراء المهاجرين
(1)
.
فصل:
قوله: (هل لك في عثمان؟) إلى آخره. أي: هل لك إذن لهم، وجاء أن العباس قَالَ: هذا الكاذب، أي: إن لم ينصف، فحذف الجواب.
قَالَ المازري: وهذِه اللفظة ينزه القائل والمقول فيه عنها، ووهم فيها بعض الرواة، وقد أزالها بعض الناس من كتابه تورعًا، وإن لم يكن الحمل فيها على الرواة فأجود ما يحمل عليه أن العباس قالها إدلالًا عليه؛ لأنه بمنزلة والده، ولعله أراد ردع عليّ عما يعتقد أنه مخطئ فيه، وأن هذِه الأوصاف يتصف بها لو كان يفعل ما يفعله عن قصد، وإن كان عليّ لا يراها موجبة لذلك في اعتقاده.
وهذا كما يقول الشافعي
(2)
: شارب النبيذ ناقص الدين. والحنفي يمنع ذلك. وكل واحد محق في اعتقاده، ولابد من هذا التأويل؛ لأن هذِه القضية جرت بحضرة عمر والصحابة. ولم ينكر أحد منهم هذا الكلام مع تشددهم في إنكار المنكر، وما ذاك إلا لأنهم فهموا بقرينة الحال أنه تكلم مما لا يعتقده
(3)
.
(1)
أبو داود (2967).
(2)
كذا بالأصل وفي "المعلم بفوائد مسلم" و"شرح مسلم" للنووي.
(3)
"المعلم بفوائد مسلم" 2/ 135 - 136.
فصل:
قال القرطبي: لما ولي علي لم يغير هذِه الصدقة عما كانت في أيام الشيخين، ثم كانت بعده بيد حسن، ثم حسين، ثم علي بن حسين، ثم بيد الحسن بن الحسن، ثم بيد زيد بن حسن كما ذكره البخاري في باب حديث بني النضير، ثم بيد عبد الله بن حسن، ثم وليه ابن والعباس على ما ذكره البرقاني في "صحيحه"، ولم يرو عن أحد من هؤلاء أنه تملكها ولا ورثها ولا ورثت عنه.
فلو كان ما يقول الشيعة حقُّا لأخذها أو أحد من أهل بيته لما ولوها، وكذا في اعتراف على وعمه بصحة ما ذكره أبو بكر:"إنا لا نورث" ولا يحل لمؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يعتقد أنهما أذعنا تقية ولا بقيا على أنفسهما؛ لشدتهما في دينهما ولعدل عمر، وأيضًا فالمحل محل مناظرة ومباحثة ليس فيه ما يفضي إلى ما يقوله أهل الزيغ من الشيعة
(1)
.
فصل:
قد أسلفنا عن مالك أن مصرف الفيء والخمس واحد
(2)
. وقال عبد الملك: المال الذي آسى الله، فيه بين الأغنياء والفقراء مال الفيء، وما ضارعه من ذَلِك: أخماس الغنائم، وجزية أهل العنوة وأهل الصلح وخراج الأرض، وما صُولح عليه أهل الشرك في الهدنة، وما أخذ من تجار الحرب إذا خرجوا لتجارتهم إلى دار الإسلام، وما أخذ من أهل ذمتنا إذا أتجروا من بلد إلى بلد، وخمس
(1)
"المفهم" 3/ 564.
(2)
"المدونة" 1/ 386 - 388.
الركاز حيثما وجد يبدأ عندهم في تفريق ذَلِكَ بالفقراء واليتامى والمساكين وابن السبيل، ثم يساوي بين الناس فيما بقي شريفهم ووضيعهم، ومنه يرزق والي المسلمين وقاضيهم، ويعطى غازيهم وتسد ثغورهم وتبنى مساجدهم وقناطرهم ويفك أسيرهم، وما كان من كافة المصالح التي لا توضع فيها الصدقات فهذا أعم من المصرف في الصدقات؛ لأنه يجري في الأغنياء والفقراء، وفيه ما يكون فيه مصرف الصدقات وفيما لا يكون، هذا قول مالك وأصحابه ومن ذهب مذهبهم: أن الخمس والفيء مصرفهما واحد
(1)
.
وذهب الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما والأوزاعي وأبو ثور وداود وإسحاق والنسائي، وعامة أصحاب الحديث والفقه إلى التفريق بين مصرف الفيء والخمس، فقالوا؛ الخمس موضوع فيما عيَّنه الله من الأصناف المسمَّين في آية الخمس من سورة الأنفال لا يتعدى بهم إلى غيرهم، ولهم مع ذلك في توخيه قسمه عليهم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف. وأما الفيء فهو الذي يرجع (النظر)
(2)
في مصرفه إلى الإمام بحسب المصلحة والاجتهاد.
(1)
انظر: "النوادر والزيارات" 3/ 198.
(2)
من (ص).
2 - باب أَدَاءُ الخُمُسِ مِنَ الدِّينِ
3095 -
حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ الضُّبَعِىِّ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما يَقُولُ: قَدِمَ وَفْدُ عَبْدِ القَيْسِ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا هَذَا الحَيَّ مِنْ رَبِيعَةَ، بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ كُفَّارُ مُضَرَ، فَلَسْنَا نَصِلُ إِلَيْكَ إِلاَّ فِي الشَّهْرِ الحَرَامِ، فَمُرْنَا بِأَمْرٍ نَأْخُذُ مِنْهُ وَنَدْعُو إِلَيْهِ مَنْ وَرَاءَنَا. قَالَ:«آمُرُكُمْ بِأَرْبَعٍ، وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ، الإِيمَانِ بِاللهِ شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ الله -وَعَقَدَ بِيَدِهِ- وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَصِيَامِ رَمَضَانَ، وَأَنْ تُؤَدُّوا لِلَّهِ خُمُسَ مَا غَنِمْتُمْ، وَأَنْهَاكُمْ عَنِ الدُّبَّاءِ وَالنَّقِيرِ وَالْحَنْتَمِ وَالْمُزَفَّتِ» . [انظر: 53 - مسلم: 17 - فتح 6/ 208]
ذكر فيه حديث ابن عباس رضي الله عنهما في وقد عبد القيس.
وقد سلف في كتاب: الإيمان أول "الصحيح" في باب أداء الخمس من الإيمان
(1)
.
وفائدة الجمع بين الترجمتين -كما قَالَ ابن المنير- إن قدرنا الإيمان قولٌ وعملٌ دَخَلَ أداء الخمس في الإيمان.
وإن قلنا: إنه التصديق دخل أداؤه في الدين، وهو عندي في لفظ هذا الحديث خارج عن الإيمان داخل في الدين؛ لأنه ذكر أربع خصال أولها الصلاة، وآخرها أداء الخمس. فدل أنه لم يعن بالأربع إلا هذِه الفروع.
وأما الإيمان الذي أبدل منه الشهادة فخارج عن العدد، ولو جُعل الإيمان بدلاً من الأربع لاختل الكلام أيضًا، والذي خلص من ذَلِكَ كله إخراج الإيمَان من الأربع، وجعل الشهادة بدلاً منه. فكأنه قَالَ: آمركم بأربع أصلها الإيمان الذي هو الشهادة، ثم استأنف بيان الأربع
(1)
سلف برقم (53).
كأنه قَالَ: والأربع: إقام الصلاة .. إلى آخره
(1)
.
وقال المهلب: وجه ما ترجم له في الإيمان بيّن؛ لأنه أمرهم بأربع، فبدأ بالإيمان بالله تعالى، وختم بأداء الخمس، فدخل ذَلِكَ كله في جملة الإيمان، وإنما لم يأمرهم بالحج؛ لأنه لم يفرض إذًا، وأمرهم بأداء الخمس؛ لأنه لا يكون الخمس إلا من جهاد فأمرهم بالجهاد وداخل في أمرهم بالخمس وإنما قصد إلى أداء الخمس؛ لأن كل من بايع لا يبايع إلا على الجهاد.
وكان وفد عبد القيس أهل غارات، ولم يعرفوا أن يؤدوا منها شيئًا؛ لأنهم كانوا من فُتّاكِ العرب، فقصدهم الشارع إلى أغلب ما كانوا عليه من الباطل فذمه لهم ونهاهم عن أشياء كلها في معنى الانتباذ؛ لأنهم كانوا كثيرًا يفعلونه، فقصد لهم إلى الظروف التي كانوا يتزرعون فيها إلى السكر، لانتزاع النبيذ إلى السكر فيها.
ونسخ ذَلِكَ بعد هذا لما آمن منهم أهل التذرع إلى الدباء والمزفت، وسيكون لنا عودة إليه في الأشربة، ومعنى (لسنا نصل إليك في الشهر الحرام). إنما قَالَ ذَلِكَ؛ لأن كفار العرب كانوا لا يقاتلون في الأشهر الحرم، ولا يحملون السلاح فيها.
وفيه: من الفوائد قدوم وفود العرب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقدوم بعض أهل العراق، (ولم تفتح)
(2)
كما قاله ابن التين؛ وليتأمل
وفيه: الانتساب إلى الجد الكافر
(3)
.
(1)
"المتواري"1/ 184.
(2)
من (ص).
(3)
ورد بهامش الأصل: جاء في حديث ذكره السهيلي
…
أنا خالد عن الزبير بن أبي بكر .. قال: "لا تسبوا ربيعة ولا مضر فإنهما كانا مؤمنين"، انتهى.
وفيه: أن هجرة المقام بالمدينة لم تكن إلا على أهل مكة ومن سواهم لا ينفرون كافة، ومن نفر منهم كان له الرجوع إلى أهله.
وفيه: تعظيم الشهر الحرام في الجاهلية مما كان عندهم من بقية دين إبراهيم.
وفيه: أن أداء الخمس من الإيمان، وهو أحد الأربع بعد الإيمان كما سلف. ولم يذكر الجهاد؛ لأنه لم يكن إلا على أهل المدينة، ومن حولهم من الأعراب.
وقوله: ("شهادة ألا إله إلا الله"، وعقده بيده) أي: ثنى خنصره. قَالَه الداودي فإذا ثنى خنصره، وعد الإيمان. (فهي)
(1)
خمسة بلا شك.
و (الدُّباء) -بتشديد الباء والمد- القرع، الواحدة دُبَّاءة.
و (النقير) أصل النخلة، ينقر جوفها ثم يشدخ فيه الرطب والبُسر، ثم يدعونه حَتَّى يهدر، ثم يموت. وقال الداودي: هو الخشبة تنقر فيتخذ منها وعاء.
(الحنتم) الفخار أو المطلي منه أو بالأخضر، قَالَ أبو عبيدة: جرار خضر كانت تحمل إلى المدينة فيها الخمر. وقال ابن فارس: وكل أسود حنتم. والخضر عند العرب سود
(2)
.
و (المزفت) المطلي بالزفت وهذا كله سلف واضحًا وأعدناه مختصرًا لطول العهد به.
(1)
في (ص): فإذًا.
(2)
"مقاييس اللغة" 1/ 301.
3 - باب نَفَقَةِ نِسَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ وَفَاتِهِ
3096 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا يَقْتَسِمُ وَرَثَتِي دِينَارًا، مَا تَرَكْتُ بَعْدَ نَفَقَةِ نِسَائِي وَمَئُونَةِ عَامِلِي فَهْوَ صَدَقَةٌ» . [انظر: 2776 - مسلم: 176 - فتح 6/ 209]
3097 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَمَا فِي بَيْتِي مِنْ شَيءٍ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ، إِلاَّ شَطْرُ شَعِيرٍ فِي رَفٍّ لِي، فَأَكَلْتُ مِنْهُ حَتَّى طَالَ عَلَيَّ، فَكِلْتُهُ فَفَنِيَ. [6451 - مسلم: 2973 - فتح 6/ 209]
3098 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ سُفْيَانَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ الحَارِثِ قَالَ: مَا تَرَكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلاَّ سِلَاحَهُ، وَبَغْلَتَهُ البَيْضَاءَ، وَأَرْضًا تَرَكَهَا صَدَقَةً. [2739 - فتح 1/ 209]
ذكر فيه حديث أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَقْتَسِمُ وَرَثَتِي دِينَارًا ولا درهمًا، مَا تَرَكْتُ بَعْدَ نَفَقَةِ نِسَائِي وَمَئُونَةِ عَامِلِي فَهْوَ صَدَقَةٌ".
وحديث عائشة رضي الله عنها: تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ومَا فِي بَيْتِي مِنْ شَيْءٍ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ، إِلَّا شَطْرُ شَعِيرٍ فِي رَفِّ لِي، فَأَكَلْتُ مِنْهُ حَتَّى طَالَ عَلَيَّ، فَكِلْتُهُ فَفَنِيَ.
وحديث عمرو بن الحارث رضي الله عنه: مَا تَرَكَ رسول صلى الله عليه وسلم إِلَّا سِلَاحَهُ، وَبَغْلَتَهُ البَيْضَاءَ، وَأَرْضًا تَرَكَهَا صَدَقَةً.
الشرح:
الحديث الأول سلف سندًا ومتنًا
(1)
.
(1)
سلف برقم (2776) كتاب الوصايا، باب نفقة القيم للوقف.
والثاني: يأتي في الرقائق
(1)
، وأخرجه آخر كتابه.
والحديث الثالث سلف في الجهاد
(2)
.
ووقع للقابسي. ثَنَا يحيى، عن سفيان به، وصوابه حدثنا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يحيى به، كما نبه عليه الجياني
(3)
.
ووجه مطابقة الثاني للترجمة؛ لأنها لم تذكر أنها أخذته في نصيبها، إذ لو لم تكن لها النفقة مستحقة، لكان الشعير الموجود لبيت المال، أو كان مقسومًا بين الورثة وهي إحداهن.
وأراد في حديث عمرو بالأرض التي ينفق منها على نسائه بعد وفاته، فطابق الترجمة، واختلف في مؤنة العامل، فقيل: حافر قبره ومتولي دفنه، وقيل: الخليفة بعده، وقيل: عمال حوائطه.
وقولها: (يأكله ذو كبد). تريد إنسانًا أو بهيمة. و (الرَّفُّ) كالغرفة الصغيرة في البيت إلا أنه ليس عليه باب. و (شطر شعير) نصف وسق وسط كل شيء نصفه قاله ابن التين.
وقال الترمذي: الشطر الشيء
(4)
، وقال عياض: نصف وسق
(5)
، وقال ابن الجوزي: أي جزءًا من شعير قال: ويشبه أن يكون نصف شيء كالصاع ونحوه.
وقولها: (فَكِلْتُه فَفَنِيَ) قَالَ الداودي: بورك لها فيه حَتَّى شعرت، فأصابته بالعين.
(1)
سيأتي برقم (6451) باب فضل الفقر.
(2)
سلف. برقم (2739) باب الوصايا.
(3)
"تقييد المهمل" 2/ 637.
(4)
"جامع الترمذي" بعد حديث (2467).
(5)
"إكمال العلم" 8/ 524.
وفيه: أن البركة مع جهل المأخوذ منه، أو أنها أكثر ما تكون في المجهولات والمبهمات ولا يبالي أن يكون المأخوذ منه مكتالاً، وإنما لا يكتال المأخوذ لأنه من باب الإحصاء من قوله:"لا تحصي فيحصى عليك"
(1)
.
وأما حديث المقدام بن معدي كرب: "كيلو طعامكم يبارك لكم فيه
(2)
". ففيه جوابان:
أحدهما: أن المراد بكيله أول تملكه إياه.
ثانيها: عند إخراج النفقة منه بشرط أن يبقى الباقي مجهولاً، ويكتل ما يخرجه، لئلا يخرج أكثر من الحاجة أو أقل.
قَالَ ابن بطال: كان الشعير الذي عند عائشة غير مكيل، فكانت البركة فيه من أجل جهلها بكيله. وكانت تظن في كل يوم أنه سيفنى لقلَّتةِ، كانت تتوهمها فيه. فلذلك طال عليها. فلما كالته علمت مدة بقائه ففني عند تمام ذَلِكَ (الأمر)
(3)
(4)
.
فصل:
معنى: "لا تقتسم ورثتي دينارًا" ليس بمعنى النهي كما قَالَ الطبري؛ لأنه لم يترك دينارًا ولا درهمًا يقسم؛ لأنه مات ودرعه مرهونة بوسق من شعير، ولا يجوز النهي عما لا سبيل إلى فعله، وإنما ينهى المرء عما يمكن وقوعه منه.
(1)
سلف برقم (2591) كتاب الهبة، باب هبة المرأة لغير زوجها وعتقها.
(2)
سلف برقم (2128) كتاب البيوع، باب ما يستحب من الكيل.
(3)
في (ص): الأمد.
(4)
"شرح ابن بطال" 5/ 261.
ْومعنى الخبر: أنه ليس يقسم ورثتي دينارًا أولاً درهمًا،
(1)
؛ لأني لم أخلفهما بعدي. وقال غيره: إنما استثنى صلى الله عليه وسلم نفقة نسائه بعد موته لأنهن محبوسات عليه، لقوله تعالى:{وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا} [الأحزاب: 53] الآية.
قَالَ المهلب: ومن أجل ظاهر حديث أبي هريرة -والله أعلم- طلبت فاطمة ميراثها في الأصول؛ أنها وجهت قوله: "لا يقتسم ورثتي دينارًا" إلى الدنانير ونحوها خاصة لا إلى الطعام والأثاث والعروض، وما تجري فيه المئونة والنفقة، وفيه من الفقه أن الحبس لا يكون بمعنى الوقف (حَتَّى)
(2)
يقال فيه صدقة.
فصل:
جزم ابن بطال بأن المراد بالعامل عامل نخله فيما خصه الله به من الفيء في فدك وبني النضير وسهمه بخيبر، مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب. فكان له من ذَلِكَ نفقته، ونفقة أهله، ويجعل سائره في نفع المسلمين، وجرت النفقة بعده من ذَلِكَ على أزواجه، وعلى عمال الحوائط إلى أيام عمر، فخير عمر أزواجه بين أن يتمادين على ذَلِكَ أو يقطع لهن قطائع، فاختارت عائشة وحفصة الثاني، فقطع لهما بالغابة وأخرجهما عن حصتهما من ثمرة تلك الحيطان، فملكتا ما أقطعهما عمر من ذَلِكَ إلى أن ماتتا، وورثت عنهما
(3)
.
(1)
ما بين المعقوفين زيادة يقتضيها السياق.
(2)
من (ص).
(3)
"شرح ابن بطال" 5/ 259.
وفيه من الفقه -كما قَالَ الطبري- أن من كان مشتغلًا من الأعمال مما فيه لله برٌّ، وللعبد عليه من الله أجر أنه يجوز أخذ الرزق على اشتغاله به إذا كان في قيامه به سقوط مؤنة على جماعة من المسلمين أو عن كافتهم، وفساد قول من حرم القُسَّام أخذ الأجور على أعمالهم والمؤذنين أخذ الأرزاق على تأذينهم، والمعلمين على تعليمهم، وذلك أنه جنس جعل لولي الأمر من بعده فيما أفاء الله عليه مئونته، وإنما جعل ذَلِكَ لاشتغاله.
فبان أن كل قيم بأمر من أمور المسلمين مما يعمهم نفعه سبيله سبيل عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن له المؤنة من بيت المال، والكفاية ما دام مشتغلًا به. وذلك كالعلماء والقضاة والأمراء، وسائر أهل الشغل بمنافع الإسلام.
فصل:
في حديث أبي هريرة من الفقه الدلالة البينة على أن الله تعالى أباح لعباده المؤمنين اتخاذ الأموال، والضياع ما يسعهم لأقواتهم وأقوات عائلتهم، ولما ينوب من النوائب ويفضل عن الكفاية؛ لأنه صلى الله عليه وسلم جعل الفضل عن نفقة أهله للسنة ومئونة عامله صدقة، وكذلك كان هو يفعل في حياته، فكان يأخذ ما بقي فيجعله فيما أراه الله من قوة الإسلام، ومنافع أهله، والخيل والسلاح، وما يمكن صرفه في ذَلِكَ، فهو مال كثير، وفي ذَلِكَ دلالة واضحة على جواز اتخاذ الأموال واقتنائها طلب الاستغناء بها عن الحاجة إلى الناس، وصونًا للوجه والنفس واستنانًا بالشارع، وأن ذَلِكَ أفضل من الفقر والفاقة إذا أدى حق الله
منها، وإن كان الفقر أفضل لما كان صلى الله عليه وسلم يختار (أحسن)
(1)
المنزلتين عند الله على أرفعهما.
بل كان يقسم أمواله وأصوله على أصحابه، ولا سيما بين ذوي الحاجة منهم، فبان فساد قول من منع اتخاذ الأموال وادخار الفضل عن قوت يوم وليلة.
ووضح خطأ من زعم أن التوكل لا يصح لمؤمن على ربه إلا بأن (لا)
(2)
يحبس بعد غدائه وعشائه شيئًا في ملكه، وأن احتباسه ذلك يخرجه من معنى التوكل، ويدخله في معنى من أساء الظن بربه.
ولا يجوز أن يقال: أن أحدًا أحسن ظنا بربه من الشارع، ولا خفاء بفساد قولهم. فإن اعترضوا بحديث ابن مسعود مرفوعًا: "لا تتخذوا الضيعة فترغبوا في الدنيا
(3)
" فمعناه لا تتخذوها إذا خفتم على أنفسكم باتخاذها الرغبة في الدنيا، فأما إذا لم تخافوا ذَلِكَ، فلا يضركم اتخاذها بدليل اتخاذ سيد الخلق لها.
فإن قيل: قد روى مسروق عن عائشة رضي الله عنها قالت: قَالَ النبي صلى الله عليه وسلم لبلال: "أطعمنا" فقال: ما عندي إلا صبر تمر خبأناه لك قَالَ: "أما تخشى أن يخسف الله به في نار جهنم".
قَالَ: "أنفق يا بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالًا"
(4)
قيل: كان
(1)
في (ص): آخر.
(2)
من (ص).
(3)
رواه الترمذي في (2328)، وأحمد 1/ 377 وصححه ابن حبان 2/ 487 (710) والحاكم 2/ 322 ووافقه الذهبي. وصححه الألباني في "الصحيحة"(12).
(4)
رواه البزار في "مسنده"5/ 349 (1979) والبيهقي في "شعب الإيمان" 2/ 172 وعزاه صاحب "الكنز" للطبراني في "الكبير" ولم أقف عليه: (كنز العمال 16188) وقال الألباني في "الصحيحة"(2661): وجملة القول، أن الحديث صحيح بمجموع طرقه ..
هذا منه في حال ضيق العيش عندهم، فكان يأمر أهل السعة أن يعودوا بفضلهم على أهل الحاجة، حَتَّى فتح الله عليهم الفتوح ووسع على أصحابه في المعاش فأباح لهم الاقتناء والادخار إذا أدوا حق الله فيه
(1)
.
(1)
ما نقله المصنف هنا عن الطبري والفصول من "شرح ابن بطال" بتصرف يسير 5/ 257 - 261.
4 - باب مَا جَاءَ فِي بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَمَا نُسِبَ مِنَ البُيُوتِ إِلَيْهِنَّ
وَقَوْلِ اللهِ عز وجل: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب: 33]، وَ {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} [الأحزاب: 53].
3099 -
حَدَّثَنَا حِبَّانُ بْنُ مُوسَى وَمُحَمَّدٌ قَالَا: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ وَيُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: لَمَّا ثَقُلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَأْذَنَ أَزْوَاجَهُ أَنْ يُمَرَّضَ فِي بَيْتِي فَأَذِنَّ لَهُ. [انظر: 198 - مسلم: 418 - فتح 6/ 210]
3100 -
حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ، سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِي، وَفِي نَوْبَتِى، وَبَيْنَ سَحْرِي وَنَحْرِي، وَجَمَعَ الله بَيْنَ رِيقِي وَرِيقِهِ. قَالَتْ: دَخَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بِسِوَاكٍ، فَضَعُفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْهُ، فَأَخَذْتُهُ فَمَضَغْتُهُ ثُمَّ سَنَنْتُهُ بِهِ. [انظر: 890 - مسلم: 2443 - فتح 6/ 210]
3101 -
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ، أَنَّ صَفِيَّةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا جَاءَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَزُورُهُ، وَهْوَ مُعْتَكِفٌ فِي المَسْجِدِ في العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ ثُمَّ قَامَتْ تَنْقَلِبُ فَقَامَ مَعَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى إِذَا بَلَغَ قَرِيبًا مِنْ بَابِ المَسْجِدِ عِنْدَ بَابِ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، مَرَّ بِهِمَا رَجُلَانِ مِنَ الأَنْصَارِ، فَسَلَّمَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ نَفَذَا فَقَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«عَلَى رِسْلِكُمَا» . قَالَا: سُبْحَانَ اللهِ يَا رَسُولَ اللهِ. وَكَبُرَ عَلَيْهِمَا ذَلِكَ. فَقَالَ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَبْلُغُ مِنَ الإِنْسَانِ مَبْلَغَ الدَّمِ، وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَيْئًا» . [انظر: 2035 - مسلم: 2175 - فتح 6/ 210]
3102 -
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ المُنْذِرِ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ، عَنْ وَاسِعِ بْنِ حَبَّانَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما -
قَالَ: ارْتَقَيْتُ فَوْقَ بَيْتِ حَفْصَةَ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقْضِى حَاجَتَهُ، مُسْتَدْبِرَ القِبْلَةِ، مُسْتَقْبِلَ الشَّأْمِ. [انظر: 145 - مسلم: 266 - فتح 6/ 210]
3103 -
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي العَصْرَ وَالشَّمْسُ لَمْ تَخْرُجْ مِنْ حُجْرَتِهَا. [انظر: 522 - مسلم: 611 - فتح 6/ 210]
3104 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه قَالَ: قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَطِيبًا، فَأَشَارَ نَحْوَ مَسْكَنِ عَائِشَةَ فَقَالَ:«هُنَا الفِتْنَةُ -ثَلَاثًا- مِنْ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ» . [3279، 3511، 5296. 7092، 7093 - مسلم: 2905 - فتح 6/ 210]
3105 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَمْرَةَ ابْنَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَتْهَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ عِنْدَهَا، وَأَنَّهَا سَمِعَتْ صَوْتَ إِنْسَانٍ يَسْتَأْذِنُ فِي بَيْتِ حَفْصَةَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا رَجُلٌ يَسْتَأْذِنُ فِي بَيْتِكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«أُرَاهُ فُلَانًا، لِعَمِّ حَفْصَةَ مِنَ الرَّضَاعَةِ، الرَّضَاعَةُ تُحَرِّمُ مَا تُحَرِّمُ الوِلَادَةُ» . [انظر: 2644 - مسلم: 1444 - فتح 6/ 211]
ذكر فيه سبعة أحاديث:
أحدها: حديث عائشة: لَمَّا ثَقُلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَأْذَنَ أَزْوَاجَهُ أَنْ يُمَرَّضَ فِي بَيْتِي، فَأَذِنَّ لَهُ.
ثانيها: حديثها أيضًا: تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِي، وَفِي نَوْبَتِي، وَبَيْنَ سَحْرِي وَنَحْرِي، وَجَمَعَ اللهُ بَيْنَ رِيقِي وَرِيقِهِ. قَالَتْ: دَخَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بِسِوَاكٍ، فَضَعُفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَأَخَذْتُهُ فَمَضَغْتُهُ، ثُمَّ سَنَنْتُهُ بِهِ.
ثالثها: حديث صفية: جَاءَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَزُورُهُ، (وَهْوَ مُعْتَكِفٌ)
(1)
فِي المَسْجِدِ فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، ثُمَّ قَامَتْ تَنْقَلِبُ .. الحديث.
(1)
من (ص).
رابعها: حديث ابن عمر رضي الله عنها: ارْتَقَيْتُ فَوْقَ بَيْتِ حَفْصَةَ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقْضي حَاجَتَهُ مُسْتَدْبِرَ القِبْلَةِ مُسْتَقْبِلَ الشَّأْمِ.
خامسها: حديث عائشة: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُصلِّي العَصْرَ وَالشَّمْسُ لَمْ تَخْرُج مِنْ حُجْرَتِهَا.
سادسها: حديث نافع: عَنْ عَبْدِ اللهِ قَالَ: قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَطِيبًا، فَأَشَارَ نَحْوَ مَسْكَنِ عَائِشَةَ فَقَالَ:"هُنَا الفِتْنَةُ -ثَلَاثًا- مِنْ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ".
سابعها: حديث عائشة رضي الله عنهما: أَنَّه صلى الله عليه وسلم كَانَ عِنْدَهَا، وَأَنَّهَا سَمِعَتْ صَوْتَ إِنْسَانٍ يَسْتَأذِنُ فِي بَيْتِ حَفْصَةَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، هذا صوت رَجُل يَسْتَاذِنُ فِي بَيْتِكَ. فَقَالَ "أُرَاهُ فُلَانًا -لِعَمِّ حَفْصةَ مِنَ الرَّضَاعةِ- إنَّ الرَّضَاعَةَ تُحَرِّمُ مَا تُحَرِّمُ الوِلَادَةُ".
الشرح:
هذِه الأحاديث (سلفت)
(1)
فالأول في الطهارة والهبة ويأتي في المغازي والطب، وأخرجه مسلم أيضًا
(2)
، والثاني من أفراده، ويأتي في المغازي
(3)
، والثالث سلف في الاعتكاف
(4)
، والرابع في الطهارة
(5)
،
(1)
في (ص) سلف جملة منها.
(2)
سلف برقم (198) باب الغسل والوضوء في المخضب والمقدم .. وفي الهبة (2588) باب هبة الرجل لامرأته .. وسيأتي في المغازي برقم (4442) باب مرض النبي ووفاته. وفي الطب (5714) باب اللدود. وأخرجه مسلم (418) كتاب الصلاة، باب استخلاف الإمام إذا عرض له عذر.
(3)
سيأتي برقم (4438) باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته.
(4)
سلف برقم (2035) باب هل يخرج المعتكف لحوائجه إلى باب المسجد.
(5)
سلف برقم (145) باب من تبزر على لبنتين.
والخامس في الصلاة
(1)
، والسادس في بدء الخلق، والطلاق والمناقب، والفتن، وأخرجه أيضًا مسلم
(2)
، والسابع سلف في الشهادات ويأتي في النكاح وأخرجه مسلم
(3)
أيضًا.
ودخول هذِه الترجمة في الفقه؛ لأن سكناهن في بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخصائص كما استحققن النفقة بحبسهن أبدًا.
وهذِه الأحاديث ساقها إذ فيها نسبة البيوت إليهن، تنبيهًا على أن بهذِه النسبة يتحقق دوام استحقاقهن البيوت ما بقين، وحديث صفية ظاهر فيما ترجم له.
وقوله فيه: "أن الشيطان يبلغ من الإنسان مبلغ الدم" هو إشارة إلى قوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب: 33] أي: لو جلست في بيتها لم يعرض لها، واعترض الإسماعيلي، فقال: حديث ابن عمر -يعني السادس- لا دلالة فيه على الملك الذي أراده البخاري؛ لأن المستعير والمستأجر والمالك يستوون في المسكن.
وقال الطبري: إن قلتَ: إن كان لا يورث صلى الله عليه وسلم -بالحديث السالف- فكيف سكن أزواجه بعده في مساكنه، إن كنَّ لم يرثنه، وكيف لم يخرجن عنها؟ ثم أجاب بأن طائفة من العلماء قالت: إنه صلى الله عليه وسلم إنما جعل لكل امرأة منهن كانت ساكنة في مسكن سكنها الذي كانت تسكنه في حياته،
(1)
سلف برقم (522) باب مواقيت الصلاة وفضلها.
(2)
سيأتي برقم (3279) باب صفة إبليس وجنوده. وبرقم (3511). وبرقم (5296) باب الإشارة في الطلاق والأمور، وبرقم (7092) باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: الفتن من قبل المشرق. ومسلم (2905) كتاب الفتن، باب الفتن من المشرق من حديث يطلع قرنا الشيطان.
(3)
سلف برقم (5239) باب ما يحل من الدخول والنظر إلى النساء .... وأخرجه مسلم (1444) كتاب الرضاع، باب يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة.
فملكت ذَلِكَ في حياته، فتوفي يوم توفي وذلك لها.
ولو كان صار لهن ذَلِكَ على وجه الميراث عنه، لم يكن لهن منه إلا الثمن، ثم كان ذَلِكَ الثمن أيضًا مشاعًا في جميع المساكن لجميعهن، وفي ترك منازعة العباس وفاطمة إياهن في ذَلِكَ وترك منازعة بعضهن بعضًا دليل واضح على أن الأمر في ذَلِكَ كما ذكرناه. وقد قَالَ تعالى:{وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} لئلا يخرجن عن منازلهن بعد وفاته صلى الله عليه وسلم.
وقال آخرون: إنما تركن في المساكن التي سكنها في حياته؛ لأن ذَلِكَ كان من بيوتهن الذي كان صلى الله عليه وسلم استثناه لهن مما كان بيده أيام حياته. كما استثنى نفقاتهن حين قَالَ: "ما تركت بعد نفقة نسائي ومئونة عاملي فهو صدقة"
(1)
ويدل على صحة ذَلِكَ، أن مساكنهن لم يرثها عنهن ورثتهن، ولو كان ذَلِكَ ملكًا لهن كان لا شك يورث عنهن.
وفي ترك ورثتهن حقوقهم من ذَلِكَ دليل أنه لم يكن لهن ملكًا، وإنما كان لهن سكناه حياتهن. فلما مضين لسبيلهن جعل ذَلِكَ زيادة في المسجد الذي يعم المسلمين نفعه. كما فعل ذَلِكَ في الذي كان لهن من النفقات في تركته صلى الله عليه وسلم صرف فيما يعم المسلمين نفعه.
قَالَ المهلب: وفي هذا من الفقه أن من سكن حبسًا حازه بالسكنى، وإن كان للمحبس فيه بعض السكنى والانتفاع أن ذَلِكَ جائز في التحبيس، ولا ينقض التحبيس ما له فيه من الانتفاع اليسير؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان ينتاب كل واحدة منهن في نوبتها فليلة من تسع ليال يسير. ولذلك قَالَ (مالك)
(2)
: إن المحبس قد يسكن في البيت من الدار التي حبس ولا ينتقض بذلك حوزها.
(1)
سبق قريبا.
(2)
من (ص).
فصل:
قوله تعالى: {وَقَرْنَ} قرئ بفتح القاف وكسرها. فمن كسر فعلى وجهين: أحدهما: أنه من قرَّ في المكان يقر إذا ثبت فيه.
وقال محمد بن يزيد: هو من قررت في المكان أقر أصله واقررن فخففت، حذفت الراء الأولى، وألقيت حركتها على القاف. ومن فتح فعلى قولين أيضًا قيل: هو من قررت بالمكان أقر، والأصل واقررن. وقال النحاس: يجوز أن يكون من قررت به عينًا أقر، والمعنى: واقررن به عينًا في بيوتكن
(1)
.
فصل:
قول عائشة رضي الله عنها: بين (سحري ونحري) السحر (ما)
(2)
بين الثديين إلى النحر. قاله الداودي، وقيل: هو الزند. قَالَ صاحب "العين": السحر والنحر الرئة، وما يتعلق بالحلقوم
(3)
.
وقولها: (توفي في يومي) أي: في اليوم الذي هو نوبتها على الحساب، وإن كان في سائر الأيام عندها.
وقولها: (سننته به) أي: سوكته، وفي قصة صفية: زيارة المعتكف امرأته.
وقوله: (أشار نحو مسكن عائشة) يعني: جهة المشرق، يعني: العراق وما والاها.
وقد سلف جملة من فوائد ذَلِكَ مفرقًا.
(1)
"إعراب القرآن" للنحاس 2/ 635.
(2)
من (ص).
(3)
"العين" 3/ 136.
5 - باب مَا ذُكِرَ فِي دِرْعِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَصَاهُ وَسَيْفِهِ وَقَدَحِهِ وَخَاتَمِهِ
وَمَا اسْتَعْمَلَ الخُلَفَاءُ بَعْدَهُ مِنْ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ قِسْمَتُهُ، وَمِنْ شَعرِهِ وَنَعْلِهِ (وَآنِيَتِهِ)
(1)
، مِمَّا يَتَبَرَّكُ أَصْحَابُهُ وَغَيْرُهُمْ بَعْدَ وَفَاتِهِ.
3106 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الأَنْصَاريُّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ ثُمَامَةَ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه لَمَّا اسْتُخْلِفَ بَعَثَهُ إِلَى الْبَحْرَيْنِ، وَكَتَبَ لَهُ هَذَا الكِتَابَ وَخَتَمَهُ، وَكَانَ نَقْشُ الخَاتَمِ ثَلَاثَةَ أَسْطُرٍ مُحَمَّدٌ سَطْرٌ، وَرَسُولُ سَطْرٌ، وَاللهِ سَطْرٌ. [انظر: 65 - مسلم: 2092 - فتح 6/ 212]
3107 -
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الأَسَدِيُّ، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ طَهْمَانَ قَالَ: أَخْرَجَ إِلَيْنَا أَنَسٌ نَعْلَيْنِ جَرْدَاوَيْنِ لَهُمَا قِبَالَانِ، فَحَدَّثَنِي ثَابِتٌ البُنَانِي بَعْدُ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُمَا نَعْلَا النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. [5857، 5858 - فتح 6/ 212]
3108 -
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ قَالَ: أَخْرَجَتْ إِلَيْنَا عَائِشَةُ رضي الله عنها كِسَاءً مُلَبَّدًا وَقَالَتْ: فِي هَذَا نُزِعَ رُوحُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَزَادَ سُلَيْمَانُ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ قَالَ: أَخْرَجَتْ إِلَيْنَا عَائِشَةُ إِزَارًا غَلِيظًا مِمَّا يُصْنَعُ بِالْيَمَنِ، وَكِسَاءً مِنْ هَذِهِ الَّتِي يَدْعُونَهَا المُلَبَّدَةَ. [انظر: 5818 - مسلم:2080 - فتح 6/ 212]
3109 -
حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ قَدَحَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم انْكَسَرَ، فَاتَّخَذَ مَكَانَ الشَّعْبِ سِلْسِلَةً مِنْ فِضَّةٍ. قَالَ عَاصِمٌ: رَأَيْتُ الْقَدَحَ وَشَرِبْتُ فِيهِ. [5638 - فتح 2/ 216]
3110 -
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الجَرْمِيُّ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا أَبِي،
(1)
ليست في الأصل، والمثبت من "اليونينية" 4/ 82.
أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ كَثِيرٍ حَدَّثَهُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَلْحَلَةَ الدُّؤَلِيِّ حَدَّثَهُ، أَنَّ ابْنَ شِهَابٍ حَدَّثَهُ، أَنَّ عَلِيَّ بْنَ حُسَيْنٍ حَدَّثَهُ أَنَّهُمْ حِينَ قَدِمُوا المَدِينَةَ مِنْ عِنْدِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ مَقْتَلَ حُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ لَقِيَهُ المِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ، فَقَالَ لَهُ: هَلْ لَكَ إِلَيَّ مِنْ حَاجَةٍ تَأْمُرُنِي بِهَا؟ فَقُلْتُ لَهُ: لَا. فَقَالَ لَهُ: فَهَلْ أَنْتَ مُعْطِيَّ سَيْفَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَغْلِبَكَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ، وَايْمُ اللهِ، لَئِنْ أَعْطَيْتَنِيهِ لَا يُخْلَصُ إِلَيْهِمْ أَبَدًا حَتَّى تُبْلَغَ نَفْسِي، إِنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ خَطَبَ ابْنَةَ أَبِي جَهْلٍ عَلَى فَاطِمَةَ عليها السلام فَسَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ النَّاسَ فِي ذَلِكَ عَلَى مِنْبَرِهِ هَذَا وَأَنَا يَوْمَئِذٍ مُحْتَلِمٌ فَقَالَ:«إِنَّ فَاطِمَةَ مِنِّي، وَأَنَا أَتَخَوَّفُ أَنْ تُفْتَنَ فِي دِينِهَا» . ثُمَّ ذَكَرَ صِهْرًا لَهُ مِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ، فَأَثْنَى عَلَيْهِ فِي مُصَاهَرَتِهِ إِيَّاهُ قَالَ:«حَدَّثَنِي فَصَدَقَنِي، وَوَعَدَنِي فَوَفَى لِي، وَإِنِّي لَسْتُ أُحَرِّمُ حَلَالاً وَلَا أُحِلُّ حَرَامًا، وَلَكِنْ وَاللهِ لَا تَجْتَمِعُ بِنْتُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَبِنْتُ عَدُوِّ اللهِ أَبَدًا» . [انظر: 926 - مسلم: 2449 - فتح 6/ 212]
3111 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سُوقَةَ، عَنْ مُنْذِرٍ، عَنِ ابْنِ الحَنَفِيَّةِ قَالَ: لَوْ كَانَ عَلِيٌّ رضي الله عنه ذَاكِرًا عُثْمَانَ رضي الله عنه ذَكَرَهُ يَوْمَ جَاءَهُ نَاسٌ فَشَكَوْا سُعَاةَ عُثْمَانَ، فَقَالَ لِي عَلِيٌّ: اذْهَبْ إِلَى عُثْمَانَ فَأَخْبِرْهُ أَنَّهَا صَدَقَةُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَمُرْ سُعَاتَكَ يَعْمَلُونَ فِيهَا. فَأَتَيْتُهُ بِهَا فَقَالَ: أَغْنِهَا عَنَّا. فَأَتَيْتُ بِهَا عَلِيًّا فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: ضَعْهَا حَيْثُ أَخَذْتَهَا. [3112 - فتح 6/ 213]
3112 -
قَالَ الحُمَيْدِيُّ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سُوقَةَ قَالَ: سَمِعْتُ مُنْذِرًا الثَّوْرِىَّ، عَنِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ قَالَ: أَرْسَلَنِي أَبِي: خُذْ هَذَا الْكِتَابَ فَاذْهَبْ بِهِ إِلَى عُثْمَانَ، فَإِنَّ فِيهِ أَمْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الصَّدَقَةِ. [انظر: 3111 - فتح 6/ 213]
قوله: (مما يتبرك أصحابه) أي: به فحذفه كما حذف في قوله: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} (وفي)
(1)
ذكره ابن بطال في الترجمة.
(1)
كذا في الأصل، ولعلها:(وقد)؛ لأن ابن بطال ذكر (به) في ترجمة الباب، واستشكلها محققه فحذفها. انظر:"شرح ابن بطال" 5/ 270.
ذكر فيه ستة أحاديث:
أحدها: في خاتمه:
حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الأَنْصَارِيُّ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ ثُمَامَةَ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمَّا اسْتُخْلِفَ بَعَثَهُ إِلَى البَحْرَيْنِ، وَكَتَبَ لَهُ هذا الكِتَابَ وَخَتَمَهُ بِخاتَم النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ نَقْشُ الخَاتَمِ ثَلَاثَةَ أَسْطُرٍ: مُحَمَّد سَطْرٌ، وَرَسُولُ سَطْرٌ، وَاللهِ سَطْرٌ. وقد سلف في الزكاة بطوله
(1)
.
ثانيها: في نعله: ساقه من حديث عِيسَى بْنِ طَهْمَانَ قَالَ: أَخْرَجَ إِلَيْنَا أَنَسٌ نَعْلَيْنِ جَرْدَاوينِ لَهُمَا قِبَالَانِ، فَحَدَّثَنِي ثَابِتٌ البُنَانِيُّ بَعْدُ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُمَا نَعْلَا النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
ويأتي في اللباس مختصرًا
(2)
، وأخرجه الترمذي في "شمائله"
(3)
.
ثالثها: في كسائه ساقه من حديث أبي بُردة:
أَخْرَجَتْ إِلَيْنَا عَائِشَةُ إِزَارًا غَلِيظًا مِمَّا يُصْنَعُ بِالْيَمَنِ، وَكِسَاءً مِنْ هذِه التِي يَدْعُونَهَا المُلَبَّدَةَ. ويأتي في اللباس
(4)
، وأخرجه مسلم أيضًا
(5)
.
رابعها: في قدحه:
عَنْ عَاصِمٍ، عَنِ ابن سِيرِينَ، عَنْ أَنَسِ أَنَّ قَدَحَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم انْكَسَرَ، فَاتَّخَذَ مَكَانَ الشَّعْبِ سِلْسِلَةً مِنْ فِضَّةٍ. قَالَ عَاصِم: رَأَيْتُ القَدَحَ وَشرِبْتُ منه.
(1)
برقم (1448) باب: العرض في الزكاة.
(2)
برقم (5858) باب: قبالان في نعل، ومن رأى قبالاً واحدًا واسعًا.
(3)
"الشمائل"(78).
(4)
برقم (5818) باب: الأكسية والخمائص.
(5)
مسلم (2080) كتاب: اللباس والزينة، باب: التواضع في اللباس.
خامسها: في سيفه: من حديث علي بن حسين عن المسور مطولاً، وأخرجه مسلم أيضًا
(1)
.
سادسها: عن محمد ابن الحنفية ولم يتعرض فيه لشيء من الآية. وذكر بعد فقال: وقال الحميدي معلقًا.
الشرح:
هذِه الأحاديث تأتي أيضًا في اللباس، وخطبة علي بنت أبي جهل في آخر حديث المسور تأتي في الفضائل
(2)
.
ولم يذكر هنا درعه استغناءً بحديث عائشة رضي الله عنها الذي أسلفه في الرهن
(3)
، وغيره أنه رهنه عند يهودي وكان له أدرع: منها السغدية بغين معجمة قبلها سين مهملة نسبة إلى سغد سمرقند فيما أحسب، وقيل بعين مهملة وسين مفتوحة، وكانت لعُكير القينقاعي، وهي درع داود صلى الله عليه وسلم -كما أفاده النيسابوري في "شرف المصطفى"، منها فضة كانت عليه يوم أحُد، ومنها ذات الفضول.
قَالَ أبو عبد الله محمد بن أبي بكر في كتاب "الجوهرة": هي التي رهنها عند اليهودي، ومنها ذات الوشاح والبتراء والخرنق وذات الحواشي، وأما عصاه فكان له محجن قدر ذراع أو أكثر وهي، معقفة الرأس كالصولجان يستلم به الركن، ويمشي وهو في يده، ومخصرة تسمى العرجون يتكئ عليها، وله أيضًا عسيب من جريد النخل.
ولما أخرج حديث أنس في الخاتم في اللباس قَالَ في آخره: وزادني
(1)
مسلم (2449) كتاب: "فضائل الصحابة" باب: فضائل فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم.
(2)
برقم (3767) باب: مناقب فاطمة عليها السلام.
(3)
برقم (2508) باب: من رهن درعه.
أحمد، ثَنَا الأنصاري، حَدَّثَني أبي، عن ثمامة، عن أنس قَالَ: كان خاتم النبي صلى الله عليه وسلم في يده، وفي يد أبي بكر بعده، وفي يد عمر بعد أبي بكر. فلما كان عثمان جلس على بئر أريس، فأخرج الخاتم فجعل يعبث به، فسقط (قال:)
(1)
فاختلفنا ثلاثة أيام ننزح البئر فلم نجده
(2)
، وأحمد هذا قيل: إنه أحمد بن حنبل.
فصل:
والذي ذكر من الدرع والعصا إلى آخره يدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يتجاوز البلغة ولم يقتصر عنها، وذكرت هذِه الآلات هنا لتكون سنة للخلفاء في الختم، واتخاذ الخاتم لما يحتاج إليه فيه، واتخاذ السيف والدرع أيضًا للحرب.
وأما الشعرُ فإنما استعمله الناس على سبيل التبرك به منه خاصة، وليس ذَلِكَ من غيره بتلك المنزلة، وكذلك النعلان من باب التبرك أيضًا، ليس لأحد في ذَلِكَ مزية رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يتبرك من غيره بمثل ذَلِكَ. قاله المهلب: وقد ينازع فيه.
وأما طلب المسور لسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم من علي بن حسين فإنه أراد التبرك به؛ لأنه من أحباس المسلمين، وكان على يدي الحسين فلما قتل أراد أن يأخذه المسور؛ لئلا يأخذه بنو أمية ثم حلف إن أعطاه إياه أنه لا يخلص إليه أبدًا بشاهد من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحلف والمقطع على المستقبل ثقة بالله في إبراره، واشترط في يمينه شريطة دون ما حلف عليه، وهي قوله: لا يخلص إليه حَتَّى يخلص إلى نفسي.
(1)
من (ص).
(2)
برقم (5879) باب: هل يجعل نقش الخاتم ثلاثة أسطر.
فصل:
اتفاق الأمة بعده صلى الله عليه وسلم على أنه لم يملك درعُه، ولا شيء مما ذكر يدل أنهم فهموا من قوله:"لا نورث ما تركنا صدقة" أنه عام في صغير الأشياء وكبيرها. فصار هذا إجماعًا معصومًا؛ لأنه لا يجوز على جماعة الصحابة الخطأ في التأويل، وهذا رد على الشيعة الذين ادعوا أن الصديق والفاروق حرما فاطمة والعباس ميراثهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد روى الطبري من حديث أبي إسحاق قلتُ لأبي جعفر: أرأيت عليًّا حين ولي العراق، وما كان بيده من سلطانه كيف صنع في سهم ذي القربى؟ قَالَ: سلك به والله طريق أبي بكر وعمر. قَالَ: فكيف وأنتم تقولون ما تقولون؟ قَالَ: أما والله ما كان أهله يصدرون إلى غير رأيه، ولكنه كان يكره أن يدعى عليه خلاف أبي بكر وعمر.
فصل:
قوله: (نعلين جرداوين) أي: خلقين، ومنه ثوب جرد أي خلق. وقال الداودي: أراد لا شعر عليهما، وربما وقع جرداوتين، والصواب ما أسلفناه مثل: حمراوين. وقوله: (لهما قِبالان) هو بكسر القاف، وهو ما يشد به الشسع.
وقيل: كان لكل نعل منهما قبالان. قاله مالك: قَالَ: رأيت نعلَيْ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى التقدير
(1)
ما هي، وهي مخصرة يختصرها من مؤخرها ومعقبة من خلفها، ولها زمامان، وبه صرح أبو عبيد فقال: قبالان هما زمامان، والقبال مثل الزمام بين الأصبع الوسطى والتي
(1)
كذا تُقرأ بالأصل، ولم أهتد إلى قول مالك.
تليها، وقد أقبل نعله وقابلها
(1)
.
وقوله: (أخرجت كساءً ملبدًا) أي مرقعًا. ذكره ثعلب، قَالَ: ويقال: المرقعة التي يرقع بها القيية، والرقعة التي يرقع بها صدر القميص. الملبدة، وقد لبدت الثوب ألبِده وألبُده ذكره الهروي. وقال الداودي: هي الخشنة الصفيقة.
فصل:
قول عاصم: (رأيت القدح، وشربت فيه) بعد أن قَالَ: (انكسر واتخذ مكان الشعب سلسلة من فضة) الشَّعب بفتح الشين المعجمة.
قال مالك: لا أحب أن نأكل في آنية الفضة، ولا في قدح مضبب بفضة أو فيه حلقة فضة، وعندنا إن كانت يسيرة للحاجة لا كراهة. والذي اتخذ مكان الشعب سلسلة هو أنس على الصواب، قَالَ أبو علي: كذا روي في هذا الإسناد عن أبي زيد المروزي، وعند ابن السكن وأبي أحمد، وغيرهما عاصم، عن ابن سيرين، عن أنس، وهو الصواب.
وكذا ذكره البزار في "مسنده" كما رواه عن البخاري ثم قَالَ: لا أعلم أحدًا رواه عن عاصم، عن ابن سيرين، عن أنس إلا أبا حمزة. قَالَ الدارقطني: خالفه شريك فرواه عن عاصم، عن أنس والصحيح قول أبي حمزة.
قَالَ الجياني: والذي عندي في هذا أن بعض الحديث رواه عاصم عن أنس، ورُوي بعضه عن ابن سيرين عن أنس، وهذا بين في حديث أبي عوانة عن عاصم المذكور عند البخاري، وفي آخره قَالَ: وقال عاصم: قَالَ ابن سيرين: إنه كانت فيه حلقة من فضة. فقال له
(1)
"غريب الحديث" 1/ 429 بتصرف.
أبو طلحة: لا تغيرن فيه شيئًا صنعهُ النبي صلى الله عليه وسلم. فتركه. قَالَ: كذا رواه أبو عوانة وجوده ذكر أوله عن عاصم، عن أنس، وآخره عن عاصم، عن محمد، عن أنس
(1)
.
فصل:
قوله: (حين قدموا المدينة من عند يزيد بن معاوية مقتل الحسين بن على) كان ذَلِكَ سنة إحدى وستين يوم عاشوراء، والمسور من بني زهرة ابن أخت ابن عوف، وكون السيف عند آل على (لعلها كانت)
(2)
عنده حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أعطاه (إياها)(2) أبو بكر لفنائة في الإسلام.
وذكر المسور لقصة فاطمة ليُعلِم عليَّ بنَ الحُسَين بمحبته فيها وفي نسلها؛ لما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقوله صلى الله عليه وسلم في حق فاطمة: "أتخوف أن تفتن في دينها" يريدُ أنها لا تصبر. وفي الكتاب الذي بعث به علي إلى عثمان في حديث ابن الحنفية ما كان عليه من القول بالحق، وفيه علم عثمان.
وقوله: (اغنها عنَّا). قَالَ الخطابي: هي كلمة معناها الترك والإعراض
(3)
. قَالَ ابن الأنباري: ومنه قوله تعالى: {وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ} [التغابن: 6] المعنى تركهم؛ لأن كل من استغنى عن شيء تركه، وهو ثلاثي من قولهم: غني فلان عن كذا، فهو غانٍ مثل علم فهو عالم. ووقع في بعض الكتب (أغنها) بفتح الهمزة، وصوابه ما تقدم.
قَالَ الداودي: ويحتمل قوله: (اغنها عنا) أن يكون عنده من ذَلِكَ علم، وأنه أمر به.
(1)
"تقييد المهمل" 2/ 638 - 640.
(2)
هذِه الكلمات الثلاثة فوقها في الأصل: (كذا).
(3)
"أعلام الحديث" 2/ 1443.
وقال ابن بطال: رد الصحيفة، وقوله:(اغنها عنا). فذلك لأنه كان عنده نظير منها ولم يحملها لا أنه ردها، وليس عنده علم منها؛ ولأنه قد كان أمر بها سُعَاته فلا يجوز على عثمان غير هذا.
وفيه: أن الصاحب إذا سمع من السلطان أمرًا مكروهًا أن ينبه بألطف التنبيه، وأن يسند ذَلِكَ إلى من كان قبله، كما أسند (علي)
(1)
أمر الصحيفة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسند عروة بن الزبير في إنكاره على عمر بن عبد العزيز تأخير الصلاة إلى أبي مسعود، وأنه أنكر ذَلِكَ على المغيرة بن شعبة، فاحتج بأسوة تقدمت له في الإنكار على الأئمة
(2)
، ثم أسند الحديث حين وقفه عمر.
وقوله: (لو كان علي ذاكرًا عثمان) يعني: بشر ذكره في هذِه القصة. فدل أن عليًّا عذر عثمان بالتأويل، ولم يكن عنده مخطئًا ولا مذمومًا.
وقد سلف فعل أبي بكر وعمر في باب: فرض الخمس
(3)
، وأما فعل عثمان في صدقة النبي صلى الله عليه وسلم، فرواه الطبري عن أبي حميد، ثَنَا جرير، عن مغيرة قَالَ: لما ولي عمر بن عبد العزيز جمع بني أمية فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم كانت له فدك، فكان يأكل منها وينفق ويعود على فقراء بني هاشم، ويزوج منها أيمهم، وأن فاطمة سألته أن يجعلها لها فأبى، فكانت كذلك حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم حَتَّى قبض، ثم ولي أبو بكر فكانت كذلك، فعمل فيها بما عمله رسول الله صلى الله عليه وسلم حياته حَتَّى مضى لسبيله، ثم ولي عمر فعمل فيها مثل ذَلِكَ، ثم ولي عثمان فأقطعها مروان فجعل مروان ثلثها لعبد الملك، وثلثها لعبد العزيز، فجعل عبد الملك
(1)
من (ص).
(2)
سلف في كتاب: مواقيت الصلاة برقم (521)، باب: مواقيت الصلاة وفضلها.
(3)
سلف برقم (3093) باب: فرض الخمس.
ثلثه ثلثًا للوليد وثلثًا لسليمان، وجعل عبد العزيز ثلثه لي فلما ولي الوليد جعل ثلثه لي، ثم ولي سليمان فجعل ثلثه لي، فلم يكن لي مال أعود علي ولا أسد لحاجتي منها، ثم وليت أنا فرأيت أن أمرًا منعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة ابنته أنه ليس لي بحق. وإني أشهدكم أني قد رددتها على ما كانت عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
.
قَالَ الطبري: وأما عثمان فإنه كان يرى في ذَلِكَ أنه لقيم أهل الصُّفَّةِ وإلا قد امتثل حين سألته فاطمة وشكت إليه الطحن والرحى أن يُخدِمها من النبي، فوكلها إلى الله فيه على أن فاطمة اشتكت ما تلقى من الرحى ما تطحن، فبلغها أنه صلى الله عليه وسلم أُتي بسبي، فأتت له تسأله خادمًا، فلم توافقه، فذكرت لعائشة فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذَلِكَ عائشة له، فأتانا وقد دخلنا مضاجعنا فذهبنا لنقوم، فقال:"على مكانكما" حَتَّى وجدت برد قدميه إلى صدري فقال: "ألا أدلكما على خير مما سألتماه؟ إذا أخذتما مضاجعكما فكبرا الله أربعًا وثلاثين، واحمدا ثلاًثا وثلاثين، وسبحا ثلالا وثلاثين، فإن ذَلِكَ خير لكما مما سألتماه "
قَالَ إسماعيل بن إسحاق: هذا الحديث شاهد أن الإمام يقسم الخمس حيث رأى على الاجتهاد؛ لأن النبي الذي أتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكون -والله أعلم- إلا من الخمس، إذ كانت الأربعة الأخماس تدفع إلى من حضر الوقعة، ثم منع رسول الله صلى الله عليه وسلم أقربيه وصرفه إلى غيرهم، وبهذا قَالَ مالك والطحاوي.
قَالَ الطبري: ذهب قوم أن ذوي القربى قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم سهم من الخمس مفروض؛ لقوله تعالى: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ
(1)
"شرح ابن بطال" 5/ 267 - 268.
وَلِذِي الْقُرْبَى} وهم بنو هاشم وبنو المطلب خاصة لإعطاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم دون سائر قرابته هذا قول الشافعي وأبي ثور، وذهب قوم إلى أن قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا سهم لهم من الخمس معلومًا، ولاحظ لهم خلاف حظ غيرهم وقالوا: وإنما جعل الله لهم ما جعل من ذَلِكَ، في الآية المذكورة لحال فقرهم، وحاجتهم فأدخلهم مع الفقراء والمساكين، فكما يخرج الفقير والمسكين من ذَلِكَ بخروجهم من المعنى الذي استحقوا به ذَلِكَ وهو الفقر. (فكذلك قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم المذكورون معهم إذا استغنوا خرجوا من ذَلِكَ)
(1)
قالوا: ولو كان لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم حظ لكانت فاطمة بنته صلى الله عليه وسلم منهم، إذ كانت أقربهم إليه نسبًا وأمسهم به رحمًا. فلم يجعل لها حظًّا في السبي، ولا أخدمها، ولكنه وكلها إلى ذكر الله وتحميده وتهليله الذي يرجو لها به الفوز من الله والزلفى عنده.
قَالَ الطبري: ولو كان قسمًا مفروضًا لذوي القربى لأخدم ابنته، ولم يكن صلى الله عليه وسلم ليدع قسمًا اختاره الله لهم، وامتن به عليهم؛ لأن ذَلِكَ حيف على المسلمين، واعترض لما أفاء الله عليهم فأخدم منه ناسًا، وتركه ابنته ثم لم يدع فيه حقًّا بقرابة حين وكلها إلى التسبيح، ولو كان فرضًا لبينه تعالى كما بين فرائض المواريث. قَالَ الطحاوي: وبذلك فعل أبو بكر وعمر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم قسمَا جميع الخمس، ولم يريا لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذَلِكَ حقًّا خلاف حق سائر الناس ولم ينكره عليهما أحد من الصحابة ولا خالفهما فيه، وإذا ثبت الإجماع من أبي بكر وعمر، ومن جميع الصحابة ثبت القول به، ووجب العمل به،
(1)
من (ص).
وترك خلافه. وكذلك فعل علي لما صار الأمر إليه حمل الناس عليه على ما ثبت في الباب
(1)
.
قَالَ المهلب: الأثرة بينة في هذا الحديث، وذلك أن ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لما استخدمته خادمًا فعلمها من تحميده وتكبيره ما هو أنفع لها بدوام النفع، وآثر ذَلِكَ الفقراء الذين كانوا في المسجد قد أوقفوا أنفسهم لسماع العلم، وضبط السنن على شبع بطونهم لا يرغبون في كسب مال ولا راحة عيال، فكأنهم استأجروا أنفسهم من الله بالقوت. فكان إيثار رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم وحرمان ابنته دليلًا واضحًا أن الخمس موقوف للأوكد فالأوكد، وليس على من ذكر الله بالسوية كما قَالَ الشافعي؛ لأنه آثر المساكين على ذوي القربى، وهم مذكورون في الآية قبلهم، وإنما الأمر موكول إلى اجتهاده صلى الله عليه وسلم، له أن يحرم من شاء ويعطي من شاء، وقد سلف ما في ذلك.
فصل:
(فيه)
(2)
أن طلحة العلم مقدمون في خمس الغنائم على سائر من ذكر الله فيها اسمًا؛ لأن أصحاب الصفة كانوا قد تجردوا لسماع العلم، وضبط السنن على شبع بطونهم، (فكانوا)
(3)
أجروا أنفسهم من الله بالقوت. وذكر إسماعيل بن إسحاق من حديث ابن عيينة وحماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن أبيه، عن علي أنه صلى الله عليه وسلم قَالَ لفاطمة وعليّ:"لا أخدمكما، وأدع أهل الصفة يطوون جوعًا لا أجد ما أنفق عليهم نكن أبيعه فأنفقه عليهم" وهذا ما تشير إليه ترجمة البخاري الآتية.
(1)
"شرح معاني الآثار" 3/ 234.
(2)
من (ص).
(3)
في (ص): فكأنهم.
وفيه: أيضًا حمل الإنسان أهله على ما يحمل عليه نفسه من التقلل في الدنيا، وتسليهم عنها بما أعد الله للصابرين في الآخرة.
وفيه: دخول الرجل على ابنته وهي راقدة مع زوجها.
وفيه: جواز جلوسه بينهما وهما راقدن ومباشرة قدميه وبعض جسده جسم ابنته، وجواز مباشرة ذوي المحارم. وهو خلاف قول مالك، وقول من أجاز ذَلِكَ أولى لموافقة الحديث له.
وفيه: أن أقل الأعمال الصالحة خير مكافأتها ما في الآخرة من عظيم أمور الدنيا أن يكون التسبيح، وهو قول خير أجزأ في الآخرة من خادم في الدنيا وعنائها بالخدمة والسعاية عن مالكها. وكيف بالصلاة والحج وسائر الأعمال التي يستعمل فيها أعضاء البدن كلها!
6 - باب الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الخُمُسَ لِنَوَائِبِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَللْمَسَاكِيِن
وَإِيثَارِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أهْلَ الصُّفَّةِ وَالأَرَامِلَ حِينَ سَأَلَتْهُ فَاطِمَةُ وَشَكَتْ إِلَيْهِ الطَّحْنَ وَالرَّحَى أَنْ يُخْدِمَهَا مِنَ السَّبْيِ، فَوَكَلَهَا إِلَى اللهِ.
3113 -
حَدَّثَنَا بَدَلُ بْنُ المُحَبَّرِ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ قَالَ: أَخْبَرَنِي الحَكَمُ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي لَيْلَى، حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، أَنَّ فَاطِمَةَ عليها السلام اشْتَكَتْ مَا تَلْقَى مِنَ الرَّحَى مِمَّا تَطْحَنُ، فَبَلَغَهَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِسَبْيٍ، فَأَتَتْهُ تَسْأَلُهُ خَادِمًا فَلَمْ تُوَافِقْهُ، فَذَكَرَتْ لِعَائِشَةَ، فَجَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَتْ ذَلِكَ عَائِشَةُ لَهُ، فَأَتَانَا وَقَدْ دَخَلْنَا مَضَاجِعَنَا، فَذَهَبْنَا لِنَقُومَ فَقَالَ:«عَلَى مَكَانِكُمَا» حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ قَدَمَيْهِ عَلَى صَدْرِي فَقَالَ: «أَلَا أَدُلُّكُمَا عَلَى خَيْرٍ مِمَّا سَأَلْتُمَاهُ، إِذَا أَخَذْتُمَا مَضَاجِعَكُمَا فَكَبِّرَا اللهَ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ، وَاحْمَدَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَسَبِّحَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمَا مِمَّا سَأَلْتُمَاهُ» . [3705، 5361، 6318 - مسلم: 2727 - فتح 6/ 215]
ثم ساق حديثها من طريق علي، وقد سقناه في الباب قبله بفوائده، ويأتي في فصائل علي
(1)
والنفقات
(2)
والدعوات
(3)
، وأخرجه مسلم
(4)
، أيضا وفي رواية: فوجدت عنده حداثًا فاستحييت
(5)
، وفي رواية قَالَ على: ما تركته منذ سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل (له)
(6)
: ولا ليلة
(1)
برقم (3705) كتاب: فضائل الصحابة.
(2)
برقم (5361) باب: عمل المرأة في بيت زوجها.
(3)
برقم (6318) باب: التكبير والتسبيح عند المنام
(4)
مسلم (2727) كتاب: الذكر والدعاء، باب: التسبيح أول النهار، وعند النوم.
(5)
أحمد 1/ 1543.
(6)
من (ص).
صفين؟ قَالَ: ولا ليلة صفين
(1)
ولأبي داود من حديث الفضل بن حسن الضمري أن أم الحكم أو أم ضباعة بنت الزبير حدثته عن إحداهما قالت: أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سبيًا فذهبت أنا وأختي فاطمة نشكو إليه ما نحن فيه، قالت: وسألناه أن يأمر لنا بشيء من السبي، فقال صلى الله عليه وسلم: "سبقتكما يتامى بدر
(2)
".
وذكر التسبيح على إثر كل صلاة لم يذكر النوم، وفي "علل أبي الحسن": أن أم سلمة هي التي قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن ابنتي فاطمة جاءتك تلتمسك .. الحديث. وفي لفظ
(3)
: وكانت ليلة باردة وقد دخلت هي وعلي في اللحاف، فأراد أن يلبسا الثياب وكان ذَلِكَ ليلاً
(4)
. وفي لفظ: جاء من عند رأسهما، وأنها أدخلت رأسها في اللفاع -يعني: اللحاف- حياء من أبيها. قَالَ علي: حَتَّى وجدت برد قدمه على صدري فسخنها. وفي لفظ: ما كان حاجتك أمس إلى آل محمد، فسكت مرتين، فقلت: أنا والله أحدثك: بلغنا أنه أتاك رقيق أو خدم. فقلت لها: سليه خادمًا
(5)
، وهذا ظاهر أن المراد بآل محمد نفسه. كقوله:"أوتي مزمارًا من مزامير آل داود"
(6)
والمراد داود نفسه.
وقوله: "خيرًا من خادم" أي: من التصريح بسؤال خادم، قاله القرطبي
(7)
.
(1)
مسلم (2727).
(2)
أبو داود (2987) وصححه الألباني في "الصحيحة"(1882).
(3)
"علل الدراقطني" 3/ 283.
(4)
المصدر السابق.
(5)
رواه أبو داود (5063).
(6)
سيأتي برقم (5048) كتاب: فضائل القرآن، باب: حسن الصوت بالقراءة بالقرآن.
(7)
"المفهم" 7/ 65.
7 - باب قَوْلِ الله عز وجل: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 41]
يَعْنِي: لِلرَّسُولِ قَسْمَ ذَلِكَ. قَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَخَازِنٌ، والله يُعْطِي".
3114 -
حَدَّثَنَا أَبُو الوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سُلَيْمَانَ وَمَنْصُورٍ وَقَتَادَةَ، سَمِعُوا سَالِمَ بْنَ أَبِي الجَعْدِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما قَالَ: وُلِدَ لِرَجُلٍ مِنَّا مِنَ الأَنْصَارِ غُلَامٌ، فَأَرَادَ أَنْ يُسَمِّيَهُ مُحَمَّدًا -قَالَ شُعْبَةُ فِي حَدِيثِ مَنْصُورٍ إِنَّ الأَنْصَارِيَّ قَالَ: حَمَلْتُهُ عَلَى عُنُقِي فَأَتَيْتُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم. وَفِي حَدِيثِ سُلَيْمَانَ وُلِدَ لَهُ غُلَامٌ، فَأَرَادَ أَنْ يُسَمِّيَهُ مُحَمَّدًا -قَالَ:«سَمُّوا بِاسْمِي، وَلَا تَكَنَّوْا بِكُنْيَتِي، فَإِنِّي إِنَّمَا جُعِلْتُ قَاسِمًا أَقْسِمُ بَيْنَكُمْ» . وَقَالَ حُصَيْنٌ: «بُعِثْتُ قَاسِمًا أَقْسِمُ بَيْنَكُمْ» . قَالَ عَمْرٌو: أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: سَمِعْتُ سَالِمًا عَنْ جَابِرٍ أَرَادَ أَنْ يُسَمِّيَهُ القَاسِمَ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «سَمُّوا بِاسْمِي وَلَا تَكْتَنُوا بِكُنْيَتِي» . [3115، 3538، 6186، 6187، 6189، 6196 - مسلم: 2133 - فتح 6/ 217]
3115 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الجَعْدِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الأَنْصَارِيِّ قَالَ: وُلِدَ لِرَجُلٍ مِنَّا غُلَامٌ فَسَمَّاهُ القَاسِمَ فَقَالَتِ الأَنْصَارُ: لَا نَكْنِيكَ أَبَا الْقَاسِمِ وَلَا نُنْعِمُكَ عَيْنًا، فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ وُلِدَ لِي غُلَامٌ، فَسَمَّيْتُهُ الْقَاسِمَ فَقَالَتِ الأَنْصَارُ: لَا نَكْنِيكَ أَبَا الْقَاسِمِ وَلَا نُنْعِمُكَ عَيْنًا. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَحْسَنَتِ الأَنْصَارُ، سَمُّوا بِاسْمِي، وَلَا تَكَنَّوْا بِكُنْيَتِي، فَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ» . [انظر: 3114 - مسلم: 2133 - فتح 6/ 217]
3116 -
حَدَّثَنَا حِبَّانُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاوِيَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ يُرِدِ الله بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَاللهُ المُعْطِي وَأَنَا الْقَاسِمُ، وَلَا تَزَالُ هَذِهِ الأُمَّةُ ظَاهِرِينَ عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ» . [انظر: 71 - مسلم: 1037 - فتح 6/ 217]
3117 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ، حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ، حَدَّثَنَا هِلَالٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَا أُعْطِيكُمْ وَلَا أَمْنَعُكُمْ، أَنَا قَاسِمٌ أَضَعُ حَيْثُ أُمِرْتُ» . [فتح 6/ 217]
3118 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يَزِيدَ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الأَسْوَدِ، عَنِ ابْنِ أَبِي عَيَّاشٍ -وَاسْمُهُ نُعْمَانُ-، عَنْ خَوْلَةَ الأَنْصَارِيَّةِ رضي الله عنها قَالَتْ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ رِجَالاً يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ اللهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَهُمُ النَّارُ يَوْمَ القِيَامَةِ» . [فتح 6/ 217]
ذكر فيه خمسة أحاديث:
أحدها: حديث جابر: وُلدَ لِرَجُلٍ مِنَّا مِنَ الأَنْصَارِ غُلَامٌ، فَأَرَادَ أَنْ يُسَمِّيَهُ مُحَمَّدًا -قَالَ شُعْبَةُ فِي حَدِيثِ مَنْصُورٍ: إِنَّ الأَنْصَارِيَّ قَالَ: حَمَلْتُهُ عَلَى عُنُقِي .. وساق الحديث وفي آخره: "سَمُّوا بِاسْمِي، وَلَا تَكَنَّوْا بِكُنْيَتِي".
ثانيها: حديث جابر مثله.
ثالثها: حديث معاوية: "مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، والله المُعْطِي وَأَنَا القَاسِمُ، وَلَا تَزَالُ هذِه الأُمَّةُ ظَاهِرِينَ عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ".
رابعها: حديث أبي هريرة: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَا أُعْطِيكُمْ وَلَا أَمْنَعُكُمْ، أَنَا قَاسِمٌ، أَضَعُ حَيْثُ أُمِرْتُ".
خامسها: حديث أبي الأَسْوَدِ عَنِ ابن أَبِي عَيَّاشٍ -وَاسْمُهُ نُعْمَانُ- عَنْ خَوْلَةَ الأَنْصَارِيَّةِ قَالَتْ: سَمِعْتُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ رِجَالًا يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ اللهِ بِغَيْرِ علم، فَلَهُمُ النَّارُ يَوْمَ القِيَامَةِ".
الشرح:
تعليق البخاري الأول أسنده أبو داود، عن سلمة بن شبيب، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن همام، عن أبي هريرة بلفظ:"إن أنا إلا خازن أضع حيث أمرت"
(1)
وقد أسنده في الباب بمعناه، وتعليق حصين في حديث جابر الأول أسنده مسلم في كتاب الأدب من "صحيحه"
(2)
وتعليق عمرو أسنده أبو نعيم الأصبهاني عن أبي العباس، ثنا يوسف القاضي، ثنا عمرو بن مرزوق، أنا شعبة، عن قتادة .. الحديث.
وحديث معاوية سلف
(3)
، وعبد الرحمن بن أبي عمرة الراوي عن أبي هريرة الحديث الرابع اسم والده بشير بن عمرو بن محصن بن عمرو بن عتيك بن عمرو بن مبذول بن عامر بن مالك بن النجار، قتل بصفين مع علي، وشهد أخوه
(4)
ثعلبة بدرًا، وأبو عبيدة قتل يوم بئر معونة، وحبيب قتل باليمامة، وأمهم كبشة بنت ثابت أخت حسان بن ثابت، وأم عبد الرحمن وعبد الله ابني أبي عمرة، هند بنت المقرم شقيق حمزة وصفية بنت عبد المطلب، وابن عمها عبد الرحمن بن ثعلبة بن عمرو بن محصن أخرج له ابن ماجه عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع يد عمرو بن سمرة أخي عبد الرحمن بن سمرة في السرقة
(5)
، وعبد الرحمن بن أبي عمرة قاضي المدينة، واسم أبي الأسود في
(1)
أبو داود (2949).
(2)
مسلم (2133) كتاب: النهي عن التكني بأبي القاسم.
(3)
برقم (71) كتاب العلم، باب:"من يرد الله به خير يفقهه في الدين".
(4)
ورد بهامش الأصل: أي: أخو كثير، وأبو عبيدة هو أخو كثير أيضًا.
(5)
ابن ماجه (2588) وضعفه الألباني في "ضعيف ابن ماجه"(562)
حديث خولة: محمد بن عبد الرحمن بن نوفل يتيم عروة، والنعمان بن أبي عياش: عبيدة -وقيل: زيد بن معاوية بن صامت بن زيد بن خلدة بن عامر بن زُريق أخي بياضة، وأبو عباس فارس حلوه.
وهذا الحديث -أعني: حديث خولة- أخرجه مسلم أيضًا
(1)
، ولما ذكره الترمذي من حديث سعيد بن أبي سعيد، عن أبي الوليد عبيد بن الوليد، -يعني: سقوطًا فيما ذكره الجياني- قَالَ: سمعت خولة بنت قيس وكانت تحت حمزة بن عبد المطلب، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إن هذا المال خضرة حلوة، من أصابه بحقه بورك له فيه، ورب متخوض فيما شاءت نفسه من مال الله ورسوله، فليس له يوم القيامة إلا النار" قَالَ الترمذي: حسن صحيح
(2)
. وكذا أخرجه الطبراني من حديث جماعة عن المقبري
(3)
.
وفيها قول ثان: أنها خولة بنت ثامر، كذا أخرجه من حديثها الإسماعيلي وأبو نعيم والطبراني
(4)
والحميدي من حديث أبي الأسود به.
وعند الجياني الجمع بينهما حيث قَالَ: خولة بنت قيس بن فهد الأنصارية، تكنى أم محمد وهي امرأة حمزة بن عبد المطلب، ويقال لها: بنت ثامر
(5)
. وذكر أبو نعيم قولًا آخر في كنيتها فقال: تكنى أم محمد، ويقال: أم حبيبة
(6)
.
(1)
لم أجده في مسلم وعزاه المزي في "التحفة" 11/ 5102 للبخاري ولم يعزه لمسلم.
(2)
الترمذي (2374).
(3)
"المعجم الكبير" 24/ 227 - 228 (577)، (578)، (579).
(4)
"الكبير" 24/ 246 (617).
(5)
"تقييد المهمل" 2/ 414.
(6)
"معرفة الصحابة" 6/ 3304 (3843).
وصحف ابن منده حبيبة بصبية، وتلك غير هذِه، تلك جهينية وهذِه أنصارية من أنفسهم، ووقع ذَلِكَ للكلاباذي أيضًا كناها بأم صبية
(1)
، ولما ذكر الدارقطني في "إلزاماته" أن البخاري خرَّج عن النعمان، عن خولة بنت ثامر يرفعه:"إن رجالًا يتخوضون" .. الحديث. قَالَ: لا نعرف خولة بنت ثامر إلا في هذا الحديث، ولم يرو عنها غير النعمان، وهذا اللفظ يشبه لفظ (سنوطا) عن خولة بنت قيس بن فهد امرأة حمزة
(2)
.
قَالَ الجياني: وكانت بنت قيس بعد حمزة عند النعمان بن العجلان
(3)
. وقال الدمياطي في حاشية البخاري: لعل الأشبه بنت ثامر. وقال قبل ذلك: هي خولة بنت قيس بن فهد. اسمه خالد بن قيس بن ثعلبة بن عبيد بن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النجار، أمها الفريعة بنت زرارة بن عدس بن ثعلبة بن عبيد، كنيتها أم محمد.
ثانيها:
كانت عند حمزة بن عبد المطلب فولدت له عمارة، لم يدرك، ثم خلف عليها بعد حمزة حنظلة بن النعمان بن عامر بن العجلان بن عمرو بن عامر بن زريق، فولدت له محمدًا فكفيت به، وقيل: خلف عليها النعمان بن عجلان بن النعمان بن عامر بن العجلان وقيل: هي خولة بنت ثامر الأنصارية، ولعله الأشبه، وذكره خلف في "مسنده" خولة بنت قيس، ولعله وهم.
وقال الدارقطني: لم يرو عن خولة بنت ثامر سوى النعمان بن أبي عياش الزرقي.
(1)
انظر: "الجمع بين رجال الصحيحين" لابن طاهر المقدسي 2/ 605.
(2)
"الإلزامات والتتبع" ص 76، 75.
(3)
"تقييد المهمل" 2/ 416 بمعناه.
وذكر أبو عمر الحديث في خولة بنت قيس عن عبيد سنوطا وبنت ثامر عن النعمان عنها. وحديث أم حبيبة. اختلفت يدي ويد النبي صلى الله عليه وسلم في إناء واحد في الوضوء.
وجمع أبو العباس الطرقي حديث البخاري والترمذي في ترجمة خولة بنت قيس، وفرقهما غيره من أصحاب الأطراف.
فصل:
غرض البخاري في هذا الباب أيضًا الرد على من جعل لرسول الله خمس الخمس ملكًا استدلالًا بقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنفال: 41] الآية وهو قول الشافعي.
وقال إسماعيل: وقد قيل في الغنائم كلها لله وللرسول. كما قيل في الخمس لهما، فكانت الأنفال كلها له، بل علم المسلمون أن الأمر فيها مردود إليه فقسمها، وكان فيها كرجل من المسلمين، بل لعل ما أخذ من ذَلِكَ رجل بلغنا أنه يثقل سيفه ذا الفِقَار يوم بدر، وقيل: جملا لأبي جهل. وقد علم كل ذي عقل أنه لا يشترك بين الله ورسوله وبين أحد من الناس، وأن ما كان لله ولرسوله فالمعنى فيه واحد؛ لأن طاعة الله طاعة رسوله.
قَالَ المهلب: وإنما خص نبيه الخمس إليه؛ لأنه ليس للغانمين فيه دعوى، وإنما هو إلى اجتهاد الإمام، فإن رأى دفعه في بيت المال لما يخشى أن ينزل بالمسلمين دفعه، أو يجعله فيما يراه، وقد يقسم منه للغانمين، كما أنه يعطي من المغانم لغير الغانمين، كما قسم لجعفر وغيره ممن لم يشهد الوقعة، فالخمس وغيره إلى قسمته صلى الله عليه وسلم باجتهاده، وليس له في الخمس ملك ولا يتملك من الدنيا إلا قدر
حاجته، وغير ذَلِكَ كله عائد على المسلمين، وهذا معنى تسميته بقاسم، وليس هذِه التسمية بموجبة ألَّا تكون أثرة في اجتهاده لقوم دون قوم.
وقال ابن المنير: وجه مطابقة الأحاديث للآية تحقيق أن المراد فيها بذكر الرسول إنما هو توليه القسم، لا أنه تملكه، حصر حاله في القسمة {إِنَّمَا}
(1)
، فخرج الملك.
فصل:
قوله في حديث جابر الثاني: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أحسنت الأنصار، سموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي، فإنما أنا قاسم" يعني: أحسنت في تعزيز نبيها وتوقيره من أن يشارك في كنيته، فيدخل عليه العنت عند النداء لغيره ليشوفه إلى الداعي، كما عرض له في السوق، فنهى عن كنيته وأباح اسمه للبركة الموجودة منه، ولما في اسمه من الفأل الحسن؛ لأنه من معنى الحمد؛ ليكون محمودًا من تسمى باسمه. وهذا القول صدر منه أيضًا صلى الله عليه وسلم -فيما رواه أنس أيضًا حين نادى رجل: يا أبا القاسم. فالتفت. فقال الرجل: لم أعنك. فقال ذلك
(2)
.
فلما كانت هذِه الكنية تؤدي إلى عدم التوقير والاحترام نهى عنها، يؤيده ما نقل عن اليهود أنها كانت تناديه بها، فإذا التفت قالوا: لم نعنك. فحسم الذريعة بالنهي، فإن قلت: فعلى هذا يمتنع التسمية بمحمد، وقد فرق بينهما فأجازه في الاسم ومنع في الكنية.
(1)
"المتواري" ص 190.
(2)
سلف برقم (2120) كتاب البيوع، باب: ما ذكر في السوق.
قلتُ: قد قيل به، ثم لم يكن أحد من الصحابة يجترئ أن يناديه باسمه إذ الاسم لا توقير بالنداء به بخلافها، فإن في النداء بها احترامًا وتوقيرًا، وإنما كان يناديه باسمه الأعراب من لم يؤمن منهم أو من لم يرسخ الإيمان بقلبه، وقد قيل: إن النهي مخصوص بحياته، وقد ذهب إليه بعض أهل العلم؛ وأيضًا لأن النهي عن ذَلِكَ؛ لأن ذَلِكَ الاسم لا يصدق على غيره، وهو قوله:"إنما أنا قاسم" أي الذي بين قسم الأموال في المواريث والغنائم وغيرهما عن الله تعالى، وليس ذَلِكَ لأحد إلا له، فلا يطلق هذا الاسم بالحقيقة إلا عليه، وعلى هذا فتمتنع التكنية بذلك مطلقًا، وهو مذهب بعض السلف محمد بن سيرين والشافعي وأهل الظاهر، سواء كان اسمه أحمد أو محمدًا، وهو ظاهر الحديث.
وثالثها:
يحرم على من كان اسمه محمدًا خاصة، فهذِه ثلاثة مذاهب، وفي الترمذي من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يجمع بين اسمه وكنيته ويسمِّي محمدًا أبا القاسم، ثم قَالَ: حديث حسن صحيح
(1)
. وعلى هذا فيجوز أن يكنى بذلك من ليس اسمه محمدًا، وزادت طائفة أخرى من السلف فرأوا منع التسمية بالقاسم؛ لئلا يكنى أبوه بأبي القاسم، حكاه القرطبي
(2)
. وقد غير مروان بن الحكم اسم ابنه عبد الملك حين بلغه هذا الحديث، فسماه عبد الملك، وكان أولاً اسمه القاسم، وفعله بعض الأنصار أيضًا.
(1)
الترمذي (2841) وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(6824).
(2)
"المفهم" 5/ 457
ونقل -أعني القرطبي- عن جمهور السلف والخلف وفقهاء الأمصار جواز كل ذلك، فليس الجمع والأفراد بناء على أن ما تقدم إما منسوخ، وإما خاص به، احتجاجًا بحديث علي في الترمذي مصححًا: يا رسول الله، إن ولد لي بعدك غلام أسميه باسمك وأكنيه بكنيتك؟ قَالَ:"نعم"
(1)
وحديث عائشة في أبي داود: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إني ولدت غلامًا وسميته محمدًا وكنيته أبا القاسم، فُذكر لي أنك تكره ذَلِكَ، فقال:"ما الذي أحل اسمي وحرم كنيتي؟! "
(2)
.
ويتأيد النسخ بأن جماعة كثيرة من السلف وغيرهم سموا أولادهم باسمه وكنوهم بكنيته جمعًا وتفريقًا؛ كمحمد بن مالك بن أنس ومحمد بن أبي بكر وابن الحنفية وابن طلحة بن عُبيد الله، فإنهم كلهم كنوا بذلك، وكأن هذا كان أمرًا معروفًا معمولًا به في المدينة وغيرها، فأحاديث الإباحة إذًا أولى لأنها ناسخة لأحاديث المنع وترجحت بالعمل المذكور
(3)
، وهو مذهب مالك.
وخالف ابن حزم في النسخ قَالَ: وإنما كان النهي للتنزيه والإذن لا للتحريم، وما قدمناه من المنع من التسمية بمحمد شاذ، وإن كان قد روي عنه مرفوعًا:"تُسمُّون أولادكم محمدًا ثم تلعنونهم"
(4)
فكأنه
(1)
الترمذي (2843).
(2)
أبو داود (4968) وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع"(5015).
(3)
"المفهم" 5/ 458 بتصرف وزيادة.
(4)
رواه الحاكم في "المستدرك" 4/ 293 عن أنس رضي الله عنه وقال: تفرد الحكم ابن عطية عن ثابت وقال الذهبي: قلت: الحكم وثقه بعضهم وهو لين.
والحديث ضعفه الألباني في "ضعيف الجامع"(2436) وعزاه للبزار وأبي يعلى والحاكم. وفي "الضعيفة" أيضًا (3403).
عرضة لذلك، فتسد الذرائع، وكتب عمر بن الخطاب إلى أهل الكوفة: لا تسموا أحدًا باسم نبيٍّ. وأمر جماعة بالمدينة بتغيير أسماء أبنائهم المسمَّين بمحمد، حَتَّى ذكر لي جماعة أنه صلى الله عليه وسلم أذن لهم في ذلك أو سماهم به، فتركهم. قَالَ القرطبي: وحديث النهي غير معروف عند أهل النقل، وعلى تسليمه فمقتضاه النهي عن لعن من تسمى بمحمد لا عن التسمية به، والنصوص دلت على إباحة التسمية به، بل قد ورد الحث على الترغيب فيه، وإن لم يصح فيه ولا في الإباحة، مع أن أحاديث النهي صحيحة
(1)
.
وقيل: إن سبب نهي عمر السالف أنه سمع رجلاً يقول لابن أخيه محمد بن زيد بن الخطاب: فعل الله بك يا محمد. فقال: وإن سيدنا رسول الله يسب، بل والله لا يدعى محمدًا ما بقيت. فسماه عبد الرحمن.
وقد تقرر الإجماع على إباحة التسمي بأسماء الأنبياء إلا ما سلف، وسمى جماعة من الصحابة بأسماء الأنبياء، وكره بعض العلماء -فيما حكاه عياض- التسمي بأسماء الملائكة، وهو قول الحارث بن مسكين. قَالَ: وكره مالك التسمية بجبريل ويس
(2)
، ومثله ميكائيل وإسرافيل ونحوها من أسماء الملائكة، وعن عمر بن الخطاب أنه قَالَ: ما قنعتم بأسماء بني آدم حَتَّى سميتم بأسماء الملائكة؟!
فصل:
قوله في حديث جابر أيضًا: (ولد لرجل منا غلام فسماه القاسم، فقالت الأنصار: لا نَكْنِيك أبا القاسم ولا ننعمك عينا). معناه:
(1)
"المفهم" 5/ 459.
(2)
"إكمال المعلم" 7/ 10 - 11.
لا نكرمك ولا نقر عينك به. لقول العرب في الكرامة وحسن القبول: نعم ونعمة عين، ونعام عين. فأما النعمة فمعناها: التنعم، ويقال: كم من ذي نعمة لا نعمة له. أي لا متعة له بماله.
وقوله في حديث معاوية: "لا تزال هذِه الأمة ظاهرين" في مسلم
(1)
هي طائفة بالمغرب
(2)
. وقيل غير ذلك.
وقوله في حديث أبي هريرة: "ما أعطيكم ولا أمنعكم" أي: الله هو المعطي في الحقيقة والمانع، وأنا أعطيكم بقدر ما يسرني الله له.
فصل:
ومعنى حديث خولة في الباب: أن من أخذ من المقاسم شيئًا بغير قسم الرسول أو الإمام بعده فقد تخوض في مال الله. أي: تصرف فيه وتقحم في استحلاله بغير حق، ويأتي بما غل يوم القيامة.
ومعنى: "فلهم النار" أي: ويخرجون منها إن كانوا مسلمين.
وفيه ردع للولاة والأمراء ألا يأخذوا من مال الله شيئًا بغير حقه ولا يمنعوه من أهله.
(1)
مسلم (1037) كتاب الإمارة، باب: قوله: لا تزال طائفة ..
(2)
ورد بهامش الأصل: المذكور في مسلم: وهو أهل المغرب.
8 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "أُحِلَّتْ لَكُمُ الغَنَائِمُ
"
وَقَالَ اللهُ عز وجل: {وَعَدَكُمُ الله مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} [الفتح: 20] وَهْيَ لِلْعَامَّةِ حَتَّى يُبَيِّنَهُ الرَّسُولُ.
3119 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، حَدَّثَنَا حُصَيْنٌ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ عُرْوَةَ الْبَارِقِيِّ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«الخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الخَيْرُ الأَجْرُ وَالْمَغْنَمُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ» . [انظر: 2850 - مسلم: 1873 - فتح 6/ 219]
3120 -
حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلَا كِسْرَى بَعْدَهُ، وَإِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلَا قَيْصَرَ بَعْدَهُ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَتُنْفِقُنَّ كُنُوزَهُمَا فِي سَبِيلِ اللهِ» . [انظر: 3027 - مسلم: 2918 - فتح 9/ 216]
3121 -
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، سَمِعَ جَرِيرًا، عَنْ عَبْدِ المَلِكِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلَا كِسْرَى بَعْدَهُ، وَإِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلَا قَيْصَرَ بَعْدَهُ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَتُنْفَقَنَّ كُنُوزُهُمَا فِي سَبِيلِ اللهِ» . [3619، 6629 - مسلم: 2919 - فتح 6/ 219]
3122 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا سَيَّارٌ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ الفَقِيرُ، حَدَّثَنَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أُحِلَّتْ لِي الغَنَائِمُ» . [انظر: 335 - مسلم: 521 - فتح 6/ 220]
3123 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«تَكَفَّلَ الله لِمَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِهِ، لَا يُخْرِجُهُ إِلاَّ الجِهَادُ في سَبِيلِهِ وَتَصْدِيقُ كَلِمَاتِهِ، بِأَنْ يُدْخِلَهُ الجَنَّةَ، أَوْ يَرْجِعَهُ إِلَى مَسْكَنِهِ الذِي خَرَجَ مِنْهُ مَعَ مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ» . [انظر: 36 - مسلم: 1876 - فتح 6/ 220]
3124 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ العَلَاءِ، حَدَّثَنَا ابْنُ المُبَارَكِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ
مُنَبِّهٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «غَزَا نَبِيٌّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ فَقَالَ لِقَوْمِهِ: لَا يَتْبَعْنِي رَجُلٌ مَلَكَ بُضْعَ امْرَأَةٍ وَهْوَ يُرِيدُ أَنْ يَبْنِي بِهَا وَلَمَّا يَبْنِ بِهَا، وَلَا أَحَدٌ بَنَى بُيُوتًا وَلَمْ يَرْفَعْ سُقُوفَهَا، وَلَا أَحَدٌ اشْتَرَى غَنَمًا أَوْ خَلِفَاتٍ وَهْوَ يَنْتَظِرُ وِلَادَهَا. فَغَزَا فَدَنَا مِنَ القَرْيَةِ صَلَاةَ العَصْرِ أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ لِلشَّمْسِ: إِنَّكِ مَأْمُورَةٌ وَأَنَا مَأْمُورٌ، اللَّهُمَّ احْبِسْهَا عَلَيْنَا. فَحُبِسَتْ، حَتَّى فَتَحَ الله عَلَيْهِ، فَجَمَعَ الغَنَائِمَ، فَجَاءَتْ -يَعْنِي النَّارَ- لِتَأْكُلَهَا، فَلَمْ تَطْعَمْهَا، فَقَالَ: إِنَّ فِيكُمْ غُلُولاً، فَلْيُبَايِعْنِي مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ رَجُلٌ. فَلَزِقَتْ يَدُ رَجُلٍ بِيَدِهِ فَقَالَ: فِيكُمُ الْغُلُولُ. فَلْتُبَايِعْنِي قَبِيلَتُكَ، فَلَزِقَتْ يَدُ رَجُلَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ بِيَدِهِ فَقَالَ: فِيكُمُ الْغُلُولُ، فَجَاءُوا بِرَأْسٍ مِثْلِ رَأْسِ بَقَرَةٍ مِنَ الذَّهَبِ فَوَضَعُوهَا، فَجَاءَتِ النَّارُ فَأَكَلَتْهَا، ثُمَّ أَحَلَّ الله لَنَا الغَنَائِمَ، رَأَى ضَعْفَنَا وَعَجْزَنَا فَأَحَلَّهَا لَنَا» . [5157 - مسلم: 1747 - فتح 6/ 220]
ذكر في الباب حديث عروة البارقي: "الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الخَيْرُ".
وحديث أبي هريرة: "إِذَا هَلَكَ كسْرى فَلَا كسْرى بَعْدَهُ .. ". وقد سلف.
ثم قَالَ: حَدَّثنَا إِسْحَاقُ، سَمِعَ جَرِيرًا، عَنْ عَبْدِ المَلِكِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ بمثل حديث أبي هريرة ويأتي في علامات النبوة والأيمان والنذور، وأخرجه مسلم أيضًا. وإسحاق هذا قَالَ الجياني: لم أجده منسوبًا لأحد
(1)
. ونسبه أبو نعيم: إسحاق بن إبراهيم.
ثم ذكر حديث يزيد الفقير -وهو من فقار الظهر لا من المال- عن جابر مرفوعًا: "أحلت لنا الغنائم .. " وقد سلف في التيمم مطولًا
(2)
.
(1)
"تقيد المهمل" 3/ 977.
(2)
برقم (335) باب منه.
ثم ذكر حديث أبي هريرة لكنه: "تَكَفَّلَ اللهُ لِمَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِهِ .. " الحديث قد سلف في باب: أفضل الناس مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله
(1)
.
ثم ذكر حديث أبي هريرة أيضًا: "غَزَا نَبِيٌّ مِنَ الأنْبِيَاءِ، فَقَالَ لِقَوْمِهِ: لَا يَتْبَعْنِي رَجُلٌ مَلَكَ بُضْعَ امْرَأَةٍ .. " الحديث. وقد سلف في موضع أشار إليه البخاري في الجهاد في باب: من اختار الغزو بعد البناء، وقال: فيه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم
(2)
.
والبخاري رواه عن محمد بن العلاء: أنبأنا ابن المبارك، عن معمر، عن همام بن منبه، عن أبي هريرة وسيأتي في النكاح، وأخرجه مسلم أيضًا، ولما ذكره أبو نعيم في "مستخرجه" قَالَ: رواه البخاري عن أبي كريب، عن عبد الله بن المبارك -أو غيره- عن معمر، ولم أره هكذا وسيأتي في التوحيد، عن عبد الله بن يوسف، عن مالك.
فصل:
ذكر ابن إسحاق أن هذا النبي يوشع بن نون، وقال: ولم تحتبس الشمس إلا له ولنبينا صبيحة الإسراء حين انتظروا العير التي أخبر بقدومها عند شروق الشمس ذَلِكَ اليوم.
قلتُ: قد وقع ذَلِكَ لنبينا مرة أخرى غير هذِه، في الخندق حين شغل عن صلاة العصر حَتَّى غابت الشمس فصلاها، ذكره عياض في "إكماله"
(3)
. وقال الطحا وي: رواته ثقات. ووقع لموسى صلى الله عليه وسلم تأخير طلوع الفجر.
(1)
برقم (2787) كتاب: الجهاد والسير.
(2)
ذكره بعد حديث رقم (2967).
(3)
"إكمال المعلم" 6/ 53.
روى ابن إسحاق في "المبتدأ" من حديث يحيى بن عروة عن أبيه أن الله عز وجل أمر موسى بالمسير ببني إسرائيل، وأمره بحمل تابوت يوسف صلى الله عليه وسلم، فلم يدل عليه حَتَّى كاد الفجر يطلع، وكان قد وعد بني إسرائيل أن يسير بهم إذا طلع الفجر، فدعا ربه أن يؤخر طلوعها حَتَّى يفرغ من أمر يوسف، ففعل الله عز وجل ذَلِكَ، وبنحوه ذكر الضحاك في "تفسيره الكبير".
وروى الطبراني في "أوسط معاجمه" من حديث معقل بن عبيد الله، عن أبي الزبير، عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الشمس فتأخرت ساعة من نهار. قَالَ: لم يروه عن معقل إلا الوليد بن عبد الواحد التميمي، تفرد به أحمد بن عبد الرحمن بن الفضل الحراني، ولم يروه عن أبي الزبير إلا معقل
(1)
.
قلتُ: فيجوز أن يحمل على إحدى الحالتين السالفتين أو على حالة ثالثة.
قلتُ: وقد وقع ذَلِكَ لبعض أمته، وهو الإمام علي رضي الله عنه، أخرجه الحاكم، عن أسماء بنت عميس أنه صلى الله عليه وسلم نام على فخذ علي حَتَّى غابت الشمس، فلما استيقظ قَالَ علي: يا رسول الله، إني لم أصل العصر فقال صلى الله عليه وسلم:"اللَّهُمَّ إن عبدك عليا احتبس بنفسه على نبيك فرد عليه شرقها"
قالت أسماء: فطلعت الشمس حَتَّى وقعت على الجبال وعلى
(1)
"المعجم "الأوسط" 4/ 224 (4039).
وقال الهيثمي في "المجمع" 8/ 297: رواه الطبراني في "الأوسط"، وإسناده حسن. وضعفه الألباني في "الضعيفة"(972) مبينًا ذهول الهيثمي عن ثلاث علل في إسناده.
الأرض، ثم قام على فتوضأ وصلى العصر، وذلك بالصهباء
(1)
. وذكره أبو جعفر في "مشكله"، وقال: كان أحمد بن صالح يقول: لا ينبغي لمن سبيله العلم أن يتخلف عن حفظ حديث أسماء؛ لأنه من أجل علامات النبوة
(2)
قَالَ: وهو حديث متصل. وفي آخر: رواته ثقات. وأما ابن الجوزي فأعله من طريق آخر، وأعله ابن تيمية بأن أسماء كانت مع زوجها بالحبشة، لكن جعفر قدم خيبر على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقسم له ولأصحابه وهم بخيبر.
وروى الخطيب في كتابه "ذم النجوم" بإسناد فيه ضعف عن علي أن يوشع بن نون قَالَ له قومه: إنا لن نؤمن بك حَتَّى تعلمنا بدء الخلق وآجاله. فأوحى الله إلى غمامة فأمطرتهم واستنقع على الجبل ماؤها، ثم أوحى الله إلى الشمس والقمر والنجوم أن تجرى في ذَلِكَ فأراهم بدء الخلق وآجاله مجاري الشمس والقمر والساعات، فكان أحدهم يعلم متى يمرض ومتى يموت فبقوا كذلك برهة، ثم إن داود عليه السلام قاتلهم على الكفر، فأخرجوا إلى داود في القتال من لم يحضر أجله، فكان يقتل من أصحاب داود ولا يقتل منهم أحد، فدعا الله داود فحبست الشمس عليهم فزيد في النهار، فاختلطت الزيادة بالليل والنهار فلم يعرفوا قدر الزيادة، فاختلط عليهم حسابهم.
قلتُ: فإذًا هؤلاء ثلاثة: نبينا، ويوشع بن نون وداود، ومن أصحابه على، ووقع في كلام ابن التين أنه ذكر أنه يعني هذا النبي يوشع فتى
(1)
لم أجده في "المستدرك". والحديث أخرجه الطبراني في "الكبير" 44/ 144 - 145 (382) وفي رد هذا الحديث وتضعيفه انظر "منهاج السنة" لشيخ الإسلام ابن تيمية 8/ 175 وما بعدها.
(2)
"شرح مشكل الآثار" 3/ 97،94 (1068).
موسى وهو الرجل المؤمن الذي كان يكتم إيمانه، وهو غريب.
فصل:
قوله للشمس: "إنك مأمورة وأنا مأمور، اللَّهُمَّ احبسها علينا فحبست" هو دعاء إلى الله أن يمد لهم الوقت حَتَّى يفتحوا المدينة.
وقيل في قوله: "احبسها علينا" أقوال: أحدها: أنها ردت على أدراجها. وقيل: أوقفت فلم تبرح. وقيل: (بطئ مجريها)
(1)
وسيرها، وهو أوفى- الأقوال كما قاله ابن بطال؛ لجريها على العادة، وإن كان خرق العادات للأنبياء (جائز)
(2)
فكل الوجوه جائزة.
وفي قوله: "إنك مأمورة" دليل في النوم وأصل العبادة على ضيق وقت العمل الذي الرأي فيه في اليقظة وفوات وقته، فيكون تنبيهًا على الأخذ بالحزم
(3)
.
وفيه: أن الأنبياء قد يحكمون على الأشياء المعجزات بآيات يظهرها الله تعالى على أيديهم، شهادة على ما التبس من أمر الحكم، وقد يحكمون أيضًا بحكم لا يكون آية معجزة، ويكون النبي وغيره من الحكام سواء، ويكون اجتهادهم على حسب ما يتأدى إليهم من مقالة الخصمين، فذلك إنما هو ليكون سنة لمن بعدهم.
وفيه: أن قت الآخر النهار إذا هبت رياح النصر أفضل كما كان عليه السلام يفعل.
(1)
كذا بالأصل، والجادة أن تكون (بَطُؤَ مجراها)، ولعله ذكر (مجريها) على الإمالة.
(2)
كذا بالأصل وابن بطال، والجادة أن يقول: جائزًا ..
(3)
كذا العبارة في الأصل، وقد نقلها المصنف كما هي من "شرح ابن بطال" 5/ 278 وعلق محققه عليها بأنها كذا في أصله مشيرًا لغموض معناها.
فصل:
الآية التي بدأ بها البخاري رحمه الله نزلت عام الحديبية، فكانت التي عجلت لهم خيبر فقسمها بين أهل الحديبية، من شهد منهم خيبر ومن غاب عنها، ولم يقسم معهم لغيرهم إلا اثني عشر رجلاً قدموا مع جعفر من أرض الحبشة، وكان أهل الحديبية ألفا وأربعمائة، وكان معهم مائتا فرس فقسمت على ألف وثمانمائة. قَالَ مالك فيما نقله الشيخ أبو محمد عنه: كانت خيبر على سنة ست من الهجرة.
قالوا: ولم يخرج إليها إلا أهل الحديبية إلا رجل من بني حارثة أذن له، وخرج في المحرم ففتح حصونهم، وهي التي وعده الله بها بالحديبية في قوله:{وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا} [الفتح: 21].
وقال ابن بطال: المخاطب بهذِه الآية أهل الحديبية خاصة ووعدهم بها، فلما انصرفوا من الحديبية فتحوا خيبر، وهي المعجلة
(1)
. والمذكور في التفسير أن خيبر هي التي عجلت لهم كما أسلفنا.
واختلفوا في قوله: {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا} [الفتح: 21] فقال ابن أبي ليلى: هي فارس والروم
(2)
. وقال قتادة: هو فتح مكة
(3)
. وقال مجاهد: هو ما يكون بعد إلى يوم القيامة
(4)
. وقال ابن أبي ليلى في قوله تعالى: {وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 18] يعني: خيبر.
وقال مروان والمسور: وانصرف رسول الله من الحديبية، فنزلت عليه سورة الفتح فيما بين مكة والمدينة، فأعطاه الله فيها خيبر، فقدم
(1)
"شرح ابن بطال" 5/ 277.
(2)
:
(4)
"تفسير الطبري" 11/ 353، 354 (31546)، (31551)، (31552)، (31545).
المدينة من ذي الحجة وسار إلى خيبر في المحرم
(1)
. وقوله تعالى: {وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ} وعيالكم بالمدينة حين ساروا إلى الحديبية وإلى خيبر.
فصل:
وقوله (فهي للعامة): يعني: لجميع الناس حَتَّى يبين الشارعِ من يستحقها وكيف تقسم، وقد بين الله تعالى بقوله:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} الآية [الأنفال: 41].
فصل:
قوله في كسرى وقيصر: "لتنفقن كنوزهما في سبيل الله" لعله أراد ما كان في زمن عمر وغيره أنه أتى بالأموال فصبها في المسجد، فأتلفت التيجان لما أصابتها الشمس، فبكى عمر، فقال له ابن عوف: ليس هذا حين بكاء إنما هذا حين شكر، فقال عمر: إني أقول: ما فتح الله هذا على قوم قط إلا سفكوا دماءهم وقطعُوا أرحامهم. فكان كما قَالَ، وكان من ذَلِكَ السفطان اللذان أتى بهما من كسرى الدهقان فرأى الملائكة تدفع في صدره عنهما، فردهما إلى حيث أتيا منه، وأمر أن يجعلا في أرزاق المقاتلة، فبيعا بمائتي ألف درهم.
ولما فتح عمرو مصر أتى رجل من عظماء أهلها، فسجنه وأدخل معه السجن رجلاً، وقال له: اعرف ما يلتجئ به، فقيل له: هو يلتجئ لراهب بموضع كذا. فجعل عمرو من يكتب بكتابهم، وأرسل إليه خاتمه، فختم به الكتاب وكتب على لسان الكافر إلى الراهب: إذا أتاك كتابي فادفع إلى فلان الوديعة التي عندك، فدفع الراهب إلى الرسول قمقمًا
(1)
"المستدرك 2/ 459، البيهقي في "الدلائل" 4/ 159.
مختومًا، فأتى به عمرًا ففتحه فإذا فيه كتاب: يا بني إذا أردتم أخذ ما لكم فاحضروا الفسقية التي بموضع كذا وكذا ذراع، من جانب كذا. فأرسل عمرو منا فأخرجوا خمسين إردبًا دنانير.
فصل:
قوله: ("وأحلت لي الغنائم") هي من خصائصه، فلم تحل لأحد غيره وغير أمته، وكانت المغانم للأنبياء المتقدمين يخفونها في برية فتأتي نار من السماء فتحرقها، فإن كان فيها غلول أو ما لا يحل لم تأكلها، وكذلك كانوا يفعلون في قربانهم، كان المتقبل تأكله النار، وما لا يتقبل يبقى على حاله ولا تأكله، ففضل الله هذِه الأمة وجعلها خير أمة أخرجت للناس، فيجاهدون سائر الخلق، وأعطاهم ما لم يعط غيرهم، جعل أناجيلهم في صدورهم، وجعل لهم الاستغفار، وكان من قبلهم إذا أذنب أحدهم أصبح مكتوبًا على بابه: أذنب فلان ذنب كذا. وأعطيت الاسترجاع عند المصائب، وجعلهم ظاهرين إلى يوم القيامة، وجعلهم أكثر الأمم، وأحل النار للمغانم لتخلص نية المغازي كي لا يكون قتالهم لأجل الغنيمة، وأبيحت الغنائم لهذِه الأمة؛ لأن الإخلاص غالب عليها فلم تحتج إلى باعث آخر، نبه على هذا ابن الجوزي.
فصل:
ودعاء هذا النبي قومه للمبايعة لمصافحة أيديهم اختبار منه للقبيل الذي فيهم الغلول من أجل ظهور هذِه الآية، وهي لصوق يد المبايع بيد النبي.
وفيه: دليل على تجديد البيعة إذا احتيج إلى ذَلِكَ لأمر يقع، وقد فعل ذَلِكَ الشارع تحت الشجرة.
وفيه: جواز إحراق أموال المشركين وما غنم منها. وأمره أن يتبعه من لم يتزوج فيه دلالة أن فتن الدنيا تدعو النفس إلى الهلع وتجنبها؛ لأن من ملك بضع امرأة ولم يبن بها، أو بنى بها وكان على طراوة منها، فإن قلبه متعلق بالرجوع إليها، ويشغله الشيطان عما هو فيه من الطاعة فيرمي في قلبه الجزع، وكذلك ما في الدنيا من متاعها وفتنتها، فأراد أن تصفو القلوب للأعمال ولا تتحدث بسرعة الرجوع، فأصحاب هذِه الأحوال تتعلق القلوب بها فتضعف عزائمهم، وتفتر رغباتهم في الجهاد والشهادة، وربما يفرط ذَلِكَ التعلق بصاحبه فيفضي به إلى كراهة الجهاد وأعمال الخير، والهمم إذا تفرقت ضعف فعل الجوارح، وإذا اجتمعت قويت.
فصل:
قوله: ("رجل ملك بضع امرأة") قَالَ ابن التياني في "الموعب": البضع اسم المباضعة، وهو الجماع، وجعل تأبط شرًا البضع: المباشرة. وقيل: إنه مهر المثل، والبضاع -بالكسر- الجماع.
وعن أبي زيد: المباضعة: النكاح، وقد بضعها بضعًا، والاسم: البضع، وهو الجماع، والبضع: ملك الولي للمرأة، وبضعها بيد زوجها، وهو الطلاق، وكذلك البضيع، وقال الأزهري: اختلف الناس في البُضْع، فقال قوم: هو الفرج. وقال قوم: هو الجماع. وعن الأصمعي: ملك فلان بضع فلانة. إذا ملك عقدة نكاحها، وهو كناية عن موضع الغشيان
(1)
.
وقال صاحب "الواعي": الاستبضاع: نوع من نكاح الجاهلية، كان
(1)
"تهذيب اللغة" 1/ 346، مادة: بضع.
الرجل منهم يقول لامرأته إذا طهرت أرسلي إلى فلان استبضعي منه، ويعتزلها زوجها حتى يتبين حملها من ذَلِكَ الرجل، ثم يجامعها بعد إن أراد، يريد بذلك نجابة الولد بها.
وقوله: ("أو خلفات وهو ينتظر ولادها") خلفات: جمع خلفة. قَالَ ابن فارس: الخلفة: الناقة الحامل، والجمع: مخاض
(1)
.
وقال ابن سيده: هي الناقة الحامل، والجمع مخاض على غير قياس، كما قالوا: لواحدة النساء امرأة. وقيل: هي التي استكملت سنة بعد النتاج، ثم حمل عليها فلقحت.
وقال ابن الأعرابي: إذا استبان حملها فهي خلفة حَتَّى تعشر. وخلفت الناقة خلقا، هذِه عن اللحياني. وقيل: المخلفة: التي توهم أن بها حملًا ثم لم تلقح
(2)
.
وقال في "المخصص" عن الأصمعي: ناقة عاقد: تعقد بذنبها عند اللقاح، فإذا ثبت اللقاح -وهو حملها- فهي خلفة، والجمع: المخاض.
قَالَ ابن دريد: المخاض والمخاض. وقال صاحب "العين": جمعها خلفات. قَالَ الأصمعي: فلا تزال خلفة حَتَّى تبلغ عشرة أشهر
(3)
وهذا خلاف ما حكاه صاحب "المحكم" فيما مضى.
وقال الجوهري: الخلف -بكسر اللام- المخاض من النوق، الواحدة: خلفة
(4)
. وقال في "المغيث": يقال: خلفت إذا حملت، وأخلفت إذا حالت ولم تحمل
(5)
.
(1)
"مجمل اللغة" 1/ 300 مادة: خلف.
(2)
"المحكم" 5/ 125.
(3)
"المخصص" 2/ 131.
(4)
"الصحاح" 4/ 1355 (خلف).
(5)
"المجموع المغيث" 1/ 608.
9 - باب الغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الوَقْعَةَ
3125 -
حَدَّثَنَا صَدَقَةُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: لَوْلَا آخِرُ المُسْلِمِينَ مَا فَتَحْتُ قَرْيَةً إِلاَّ قَسَمْتُهَا بَيْنَ أَهْلِهَا كَمَا قَسَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ. [انظر: 2334 - فتح 6/ 224]
ذكر فيه حديث مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه: قَالَ: قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: لَوْلَا آخِرُ المُسْلِمِينَ مَا فَتَحْتُ قَرْيَةً إِلَّا قَسَمْتُهَا بَيْنَ أَهْلِهَا كَمَا قَسَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ.
الشرح:
هذا الأثر يأتي قريبًا إن شاء الله في غزوة خيبر مع طريق آخر له
(1)
، وسلف في آخر المزارعة، والغنيمة لمن شهد الوقعة، وهو قول أبي بكر وعمر، وعليه جماعة الفقهاء، ولا يرده قسمه صلى الله عليه وسلم لجعفر بن أبي طالب ولمن قدم في سفينة أبي موسى من غنائم خيبر ولم يشهدوها؛ لأن خيبر مخصوصة بذلك؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يقسم غير خيبر لمن لم يشهدها، فلا يجوز أن تجعل خيبر أصلاً يقاس عليه.
قَالَ المهلب: وإنما قسم من خيبر لأصحاب السفينة لشدة حاجتهم في بدء الإسلام، فإنهم كانوا للأنصار تحت منح من النخيل والمواشي لحاجتهم، فضاق بذلك أحوال الأنصار، وكان المهاجرون من ذَلِكَ في شغل بال، فلما فتح الله خيبر عوض الشارع المهاجرين ورد إلى الأنصار منائحهم، وقد يحتمل كما قَالَ الطحاوي أنه صلى الله عليه وسلم استطاب أنفس أهل الغنيمة
(2)
، وقد روي ذَلِكَ عن أبي هريرة كما ستعلمه عند حديث أبي
(1)
سيأتي برقم (4236، 4235) كتاب المغازي.
(2)
"شرح معاني الآثار" 3/ 248.
موسى بوجوه معه في أسهامهم منها.
وأما قول عمر: (لولا آخر المسلمين ما فتحت قرية إلا قسمتها بين أهلها كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر)، فإن أهل العلم اختلفوا في حكم الأرض، فقال أبو عبيد: وجدنا الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده قد جاءت في افتتاح الأرض ثلاثة أحكام: أرض (سلم)
(1)
عليها أهلها فهي لهم ملك، وهي أرض عشر لا شيء عليهم فيها غيره، وأرض افتتحت صلحًا على خراج معلوم، فهم على ما صولحوا عليه لا يلزمهم أكثر منه، وأرض أخذت عنوة، وهي التي اختلف فيها المسلمون، فقال بعضهم: سبيلهم سبيل الغنيمة فيكون أربعة أخماسها حصصًا بين الذين افتتحوها خاصة، والخمس الباقي لمن سمى الله
(2)
.
قَالَ ابن المنذر: وهذا قول الشافعي وأبي ثور، وبه أشار الزبير بن العوام على عمرو بن العاص حين افتتح مصر. قَالَ أبو عبيد: وقال بعضهم: بل حكمها والنظر فيها إلى الإمام إن رأى أن يجعلها غنيمة فيخمسها ويقسمها كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذلك له، وإن رأى أن يجعلها موقوفة على المسلمين ما بقوا، كما فعل عمر رضي الله عنه في السواد، فذلك له
(3)
، وهو قول أبي حنيفة وصاحبيه والثوري فيما حكاه الطحاوي
(4)
. وشذ مالك في "المدونة" في حكم أرض العنوة وقال: يجتهد فيها الإمام
(5)
وقال في "العتبية" و"الموازية": العمل في أرض
(1)
كذا بالأصل، وفي ابن بطال: أسلم وأظنه الصواب.
(2)
"الأموال" ص 60.
(3)
"الأموال" ص 60.
(4)
"شرح معاني الآثار" 3/ 246 (5237).
(5)
"المدونة" 1/ 387.
العنوة على فعل عمر ألا يقسم ويقر بحالها، وقد ألح بلال وأصحاب له على عمر في قسم الأرض بالشام، فقال:[اللَّهُمَّ] اكفنيهم. فما أتى الحول وبقي منهم أحد.
قال مالك: ومن أسلم من أهل العنوة فلا تكون له أرضه ولا داره، وأما من صالح على أرضه، ومنع أهل الإسلام من الدخول عليهم إلا بعد الصلح فإن الأرض لهم، وإن أسلموا فهي لهم أيضًا، ويسقط عنهم خراج أرضهم وحماحمهم.
قَالَ ابن حبيب: من أسلم من أهل العنوة أحرز نفسه وماله، وأما الأرض فللمسلمين وماله وكل ما كسب له؛ لأن من أسلم على شيء في يده كان له.
والحجة لقول الشافعي أن الأرض تقسم الاتباع في خيبر، وتأول قوله تعالى:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} الآية [الأنفال: 41] فدخل في هذا العموم الأرض وغيرها فوجب قسمتها. قَالَ ابن المنذر: وذهب الشافعي إلى أن عمر استطاب أنفس الذين افتتحوا الأرض، وأنكر أبو عبيد أن يكون استطاب أنفسهم، وذهب الكوفيون إلى أن عمر حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قسم خيبر، وقال: لولا آخر الناس لفعلت ذَلِكَ، فقد بين أن الحكمين جميعًا إليه، لولا ذَلِكَ ما تعدى سنة رسول الله إلى غيرها وهو يعرفها
(1)
.
ومن الحجة في ذَلِكَ كما قَالَ الطحاوي ما رواه ابن طهمان، عن أبي الزبير، عن جابر قَالَ: أفاء الله خيبر فأقرهم على ما كانوا وجعلها بينه وبينهم وبعث ابن رواحة يخرصها عليهم، فثبت أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن قسم خيبر
(1)
"الأموال" ص 69.
بكمالها، ولكنه قسم منها طائفة على ما ذكره عمر، وترك منها طائفة لم يقسمها على ما روى جابر، وهي التي خرصها عليهم، والذي كان قسم فيها هو الشق والنطاق وترك سائرها، فعلمنا أنه قسم منها وترك، وللإمام أن يفعل من ذَلِكَ ما رآه صلاحًا
(1)
.
واحتج عمر في ترك قسمة الأرض بقوله تعالى: {وَمَا أَفَاءَ الله عَلَى رَسُولِهِ} إلى قوله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر: 7 - 10] الآية. وقال عمر: هذِه الآية قد استوعبت الناس كلهم، فلم يبق أحد إلا وله في هذا المال حق حتى الراعي بعدي. قَالَ أبو عبيد: وإلى هذِه الآية ذهب على ومعاذ، وأشار على عمر بإقرار الأرض لمن يأتي بعد
(2)
.
قَالَ إسماعيل: فكان الحكم بهذِه الآية في الأرض أن تكون موقوفة كما تكون الأوقاف التي يقفها الناس أصلها محبوس ويقسم ما خرج منها، فكان معنى قول عمر: لولا الحكم الذي أنزل الله في القرآن لقسمت الأصول. وهذا لا يشكل على ذي نظر، وعليه جرى المسلمون، ورأوه صوابًا.
قَالَ إسماعيل: والذين قاتلوا حَتَّى غنموا لم يكن لهم في الأصل أن يعطوا ذَلِكَ؛ لأنهم إنما قاتلوا الله لا للمغنم، ولو قاتلوا للمغنم لم يكونوا مجاهدين في سبيل الله تعالى.
قَالَ عمر: إن الرجل يقاتل للمغنم ويقاتل ليرى مكانه، وإنما المجاهد من قَاتل لتكون كلمة الله هي العليا. فلما كان أصل الجهاد أن يكون خالصًا لله، وكان عطاؤهم ما أعطوا من المغانم إنما هو
(1)
"شرح معاني الآثار" 3/ 347.
(2)
"الأموال" ص 67.
بفضل من الله على هذِه الأمة، أعطوا ذَلِكَ في وقت ومنعوه في وقت، فأعطوا من المغانم ما ليس له أصل يبقى، فاشترك فيه المسلمون كلهم، ومنعوا الأصل الذي يبقى، فلم يكن في ذَلِكَ ظلم لهم؛ لأن ثواب الله الذي قصدوه جار لهم في كل شيء ينتفع به من الأصول التي افتتحوها مادامت وبقيت.
وحكى الطحاوي عن الكوفيين: أن الإمام إذا أقرهم أرض العنوة أنها ملك لهم يجري عليهم فيها الخراج إلى الأبد أسلموا أو لم يسلموا، وإنما حملهم على هذا التأويل أنهم قالوا: إن عمر جعل على جريب التمر في أرض السواد بالعراق شيئًا معلومًا في كل عام، فلو لم تكن لهم الأرض لكان بيع التمر قبل أن يظهر
(1)
. قَالَ أبو جعفر الداودي: ولا أعلم أحدًا من الصحابة يقول بقول أهل الكوفة.
واحتج من خالفهم بأن الأرض كلها كانت لا شجر فيها، فإنما اعتبر ما يصلح أن يزرع فيه البر جعل عليه بقدر ذَلِكَ، وإن اكترى ما يصلح أن يزرع الشعير جعل عليه بقدر ذَلِكَ، ومن اكترى ما يصلح أن يجعل فيه الشجر جعل عليه بقدر ذَلِكَ، على أن الشجر كانت في الأرض يومئذ.
قال ابن بطال: وقول الكوفيين مخالف للكتاب والسنة؛ لأن الله تعالى أحل الغنائم للمسلمين، فإذا افتتحت الأرض فاسم الغنيمة واقع عليها، كما يقع على المال، سواء كان رأي الإمام إبقاء الأرض لمن يأتي بعد، فإنما يبقيها ملكًا للمسلمين من أجل أنها غنيمة كما فعل عمر، فمن زعم أن الأرض تبقى ملكًا للمشركين فهو مضاد لحكم الله ورسوله، فلا وجه لقوله، وروى الليث عن يونس عن ابن شهاب أن
(1)
"شرح معاني الآثار" 3/ 247 - 248.
رسول الله صلى الله عليه وسلم افتتح خيبر عنوة بعد القتال، وكانت مما أفاء الله على رسوله فخمسها وقسمها بين المسلمين، ونزل من نزل من أهلها على الجلاء بعد القتال، فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"إن شئتم دفعت إليكم هذِه الأموال على أن تعملوها ويكون ثمرها بيننا وبينكم، وأقركم ما أقركم الله" فقبلوا الأموال على ذلك.
وروى يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار أنه صلى الله عليه وسلم لما قسم خيبر عزل نصفها لنوائبه وما ينزل به، وقسم النصف الباقي بين المسلمين
(1)
، فلما صار ذَلِكَ في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له من العمال ما يكفونه عملها، فدفعها إلى اليهود ليعملوها على نصف ما يخرج منها، فلم يزل الأمر على ذَلِكَ حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحياة أبي بكر، حَتَّى كان عمر وكثر العمال في أيدي المسلمين، وقووا على عمل الأرض، فأجلى عمر اليهود إلى الشام، وقسم الأموال بين المسلمين إلى اليوم
(2)
، فهذا كله يرد قول الكوفيين، وتبين أنهم إنما أبقوا في الأرض عمالًا للمسلمين فقط، فلما أغنى الله عنهم أخرجوا منها
(3)
.
فصل:
أربعة أخماس الغنيمة لمن شهد الوقعة من البالغين المسلمين الأحرار، واختلف في من أطاق القتال من الصبيان، فقال مالك: يسهم له.
ومنعه الشافعي وأبو حنيفة وسحنون. وقالوا: يرضخ له فقط. وتأوله
(1)
رواه مختصرًا أبو داود (3010 - 3014) بمعناه من طرق عن بشير، وبشير مرة يرويه عن سهل بن أبي حثمة وعمرة عن رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومرة يحكيه هو.
(2)
رواه مطولًا بهذا اللفظ أبو عبيد في "الأموال" ص 61 - 62 (142).
(3)
انظر: "شرح ابن بطال" 5/ 297 - 284.
بعضهم على "المدونة". وقال ابن حبيب: من بلغ خمس عشرة سنة وأثبت وأطاق القتل أسهم له إذا حضر، ومن كان دون ذَلِكَ لم يسهم له حَتَّى يقاتل.
واختلف في المرأة إذا قاتلت كالرجل، فجمهور المالكية لا يسهم لها، خلافًا لابن حبيب، وعندنا: يرضخ لها فقط. وكذا العبد، وكذا الذمي إذا حضر بلا أجرة وبإذن الإمام، وقد أسلفنا الخلاف عندنا في الأجير، والأظهر أنه يسهم له إذا قاتل، والخلاف عند المالكية أيضًا، وحاصلهم عندهم ثلاثة أقوال: إن قاتل فقولان، وقيل: يسهم له إذا حضر وإن لم يقاتل.
فصل:
قيل: أخذت خيبر كلها عنوة وقسم الشارع جميعها، وهو ظاهر قول عمر رضي الله عنه في الباب، وقيل: قسم نصفها وأبقى نصفها لنوائبه.
وقال مالك: كان بعضها عنوة وبعضها صلحا، وقسم الشارع العنوة وأبقى الصلح لنوائبه.
فصل:
حاصل ما للعلماء في قسمة الأرض تردد عن مالك، وقال أبو عبيد: الإمام غير
(1)
. وأنكره إسماعيل وقال: كيف يخير الإمام في الأحكام؟ قَالَ الداودي: ولا يلزمه قول إسماعيل؛ لأن من قول مالك وكثير من العلماء وإسماعيل أن الإمام يصرف الخمس على ما يرى، فإذا كان له الخيار فيه فالفيء كذلك، غير أن قول أبي عبيد لا يصح لوجه غير هذا؛ لأن الآيات التي في سورة الحشر معناها غير ما ذهب إليه، قَالَ
(1)
"الأموال" ص 66.
تعالى: {مَا أَفَاءَ الله عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} إلى {الصَّادِقُونَ} [الحشر: 7 - 8] فهؤلاء الخمس المذكورون في الخمس في الأنفال، ثم قَالَ:{وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ} [الحشر: 10] فابتدأ الكلام بوصفهم، وأتى بالخبر وليس هو معطوفًا على ما قبله وكذلك قوله:{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} الآية، ابتدأ الكلام بوصفهم وأتى بالجواب بكل آية على حالها غير معطوفة على ما قبلها.
فصل:
حاصل ما قيل في المعنى الذي أبقى به عمر الأرض إما لأنه استطاب أنفس من حضر، أو تأول قوله:{مَا أَفَاءَ الله عَلَى رَسُولِهِ} الآية، ثم قَالَ: وما هو لهؤلاء وحدهم، ثم تلا:{وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ} إلى {الْمُفْلِحُونَ} ثم قَالَ: وما هي لهؤلاء ثم تلا: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} إلى {رَحِيمٌ} وقال: ما بقي أحد من المسلمين إلا دخل في ذلِكَ، ورأى أن هذِه الآيات ناسخة لقوله:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ} [الأنفال: 41] الآية. وقد خالف الزبير وبلال عمر فيما ذهب إليه عمر، وألحا عليه في قسم بعض ما فتح -كما سلف- فأبي عليهما، وما كان هذا سبيله لم ينسخ به ما كان مفسرًا قد عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما ذهب إسماعيل إلى أن آيات الحشر ناسخات لآية الأنفال.
واختلف فيما أبقاه عمر وغيره من الأئمة من الأرض، فقال مالك وأكثر العلماء: إنه موقوف لنوائب الإسلام يجري فيه الخراج ولا يباع. وقال بعض الكوفيين: حين أبقى الأرض بأيديهم صارت ملكًا لهم، وصار عليهم وعلى الأرض خراج معلوم.
10 - باب مَنْ قَاتَلَ لِمَغْنَمِ هَلْ يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِهِ
؟
3126 -
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرٍو قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيُّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ أَعْرَابِيٌّ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: الرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُذْكَرَ، وَيُقَاتِلُ لِيُرَى مَكَانُهُ، مَنْ فِي سَبِيلِ اللهِ؟ فَقَالَ:«مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهْوَ فِي سَبِيلِ اللهِ» . [انظر: 123 - مسلم: 1904 - فتح 6/ 226]
ذكر فيه حديث أبي موسى الأشعري: قَالَ أَعْرَابِيٌّ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: الرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُذْكَرَ، وَيُقَاتِلُ لِيُرى مَكَانُهُ، مَنْ فِي سَبِيلِ اللهِ؟ فَقَالَ:"مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كلِمَةُ اللهِ هِيَ العُلْيَا فَهْوَ فِي سَبِيلِ اللهِ".
هذا الحديث سلف في العلم في باب: من رفع رأسه قائمًا، والجهاد في باب: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا
(1)
.
قَالَ المهلب: من قاتل في سبيل الله ونوى بعد إعلاء كلمة الله ما شاء فهو في سبيل الله، والله أعلم بمواقع أجورهم، ولا يصلح لمسلم أن يقاتل إلا ونيته مبنية على الغضب لله والرغبة في إعلاء كلمته. ويدل على ذَلِكَ أنه قد يقاتل من لا يرجو أن يسلبه من عريان ولا شيء معه، فيغرر بمهجته مستلذًّا لذلك، ولو أعطي ملء الأرض على أن يغرر بمهجته في غير سبيل الله ما غرر، ولكن سهل عليه ركوب ذَلِكَ استلذاذًا بإعلاء كلمة الله ونكاية عدوه والغضب لدينه.
وقد أسلفنا في الأعمال بالنيات في الإيمان أن ما كان ابتداؤه لله من الأعمال لم يضره بعد ذَلِكَ ما عرض في نفسه وخطر بقلبه من حديث النفس ووسواس من الشيطان، ولا يزيله عن حكمه إعجاب المرء
(1)
سلف برقم (2810).
اطلاع العباد عليه بعد مضيه على ما ندبه الله إليه ولا سروره بذلك، وإنما المكروه أن يبتدئه بنية غير مخلصة لله، فذلك الذي يستحق عامله عليه العقاب
(1)
.
(1)
انظر: "شرح ابن بطال" 5/ 284 - 285.
11 - باب قِسْمَةِ الإِمَامِ مَا يَقْدَمُ عَلَيْهِ، وَيَخبَأُ لِمَنْ لَمْ يَحْضُرْهُ أَوْ غَابَ عَنْهُ
3127 -
ثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الوَهَّابِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُهْدِيَتْ لَهُ أَقْبِيَةٌ مِنْ دِيبَاجٍ مُزَرَّرَةٌ بِالذَّهَبِ، فَقَسَمَهَا فِي نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَعَزَلَ مِنْهَا وَاحِدًا لِمَخْرَمَةَ بْنِ نَوْفَلٍ، فَجَاءَ وَمَعَهُ ابْنُهُ المِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ، فَقَامَ عَلَى البَابِ فَقَالَ: ادْعُهُ لِي. فَسَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صَوْتَهُ فَأَخَذَ قَبَاءً فَتَلَقَّاهُ بِهِ وَاسْتَقْبَلَهُ بِأَزْرَارِهِ فَقَالَ: «يَا أَبَا الْمِسْوَرِ، خَبَأْتُ هَذَا لَكَ، يَا أَبَا المِسْوَرِ، خَبَأْتُ هَذَا لَكَ» . وَكَانَ فِي خُلُقِهِ شِدَّةٌ.
وَرَوَاهُ ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ أَيُّوبَ. قَالَ حَاتِمُ بْنُ وَرْدَانَ: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنِ المِسْوَرِ قَدِمَتْ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَقْبِيَةٌ. تَابَعَهُ اللَّيْثُ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ. [انظر: 2599 - فتح 6/ 226]
ذكر فيه حديث عبد الله ابن أبي مليكة وقوله: "يَا أَبَا المِسْوَرِ (خبأنا)
(1)
لك هذا".
وقد سلف في الشهادات في آخر باب: شهادة الأعمى
(2)
، ورواه ابن علية، عن أيوب، عن أبي عبد الرحمن، وقال حاتم بن وردان: ثَنَا أيوب، عن ابن أبي مليكة، عن المسور: قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم أقبية، وهذا أسنده هناك تابعه الليث، عن ابن أبي ملكية؛ وهذِه المتابعة أسندها في الهبة
(3)
، وهو حديث خرجه مسلم والأربعة
(4)
،
(1)
في اليونينية 4/ 87: (خبأت) ليس عليها تعليق.
(2)
سلف برقم (2657).
(3)
يقصد متابعة الليث عن ابن أبي مليكة وسلفت مسندة برقم (2599) باب: كيف يقبض العبد والمتاع.
(4)
مسلم (1058) كتاب الزكاة، باب: إعطاء من سأل بفحش وغلظة، وأبو داود =
ورواه الإسماعيلي من حديث حماد بن زيد، عن أيوب، عن ابن أبي مليكة
(1)
أن مخرمة أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فذكره.
وهو ممكن ولا شك في حل ما أهدى له صلى الله عليه وسلم؛ لأنه مخصوص مما أفاء الله عليه من غير قتال من أموال الكفار ويكون له دون سائر الناس، وله أن يؤثر به من شاء، ويمنع منه من شاء كما يفعل بالفيء، وكذلك خبأ القباء لمخرمة، ومن بعده من الخلفاء بخلافه في ذَلِكَ لا يكون له خاصة دون المسلمين؛ لأنه إنما أهدى إليه لأنه أميرهم، وقد سلف ذَلِكَ في الهبات واضحًا في هدايا المشركين.
وفيه: ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من كرم الخلق ولين الكلمة والتواضع، ألا ترى أنه أستقبل مخرمة بأزرار القباء، وكناه مرتين، وألطف له في القول، وأراه إيثاره له واعتناءه به في مغيبه لقوله:"خبأت هذا لك" لما علم من شدة خلقه، فترضاه بذلك، فينبغي الاقتداء به.
= (4028)، والترمذي (2818)، والنسائي 8/ 205، ولم أقف عليه عند ابن ماجه.
(1)
ورد بهامش الأصل: إن كان إخراج الإسماعيلي له كما كتب في الأصل فهو مرسل، وإن كانت (ابن) زائدة فهو مسند؛ لأن أبا ملكية صحابي وإني لا أعلم له رواية" وقوله: وهو ممكن إن أراد رواية ابن أبي مليكة له فليس بممكن، وإن أراد إياه فهو ممكن فإني لا .. في رواية ابنه هذا أنه ممكن، والله أعلم.
12 - باب كَيْفَ قَسَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيَر؟ وَمَا أَعْطَى مِنْ ذَلِكَ فِي نَوَائِبِهِ
؟.
3128 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي الأَسْوَدِ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه يَقُولُ: كَانَ الرَّجُلُ يَجْعَلُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم النَّخَلَاتِ حَتَّى افْتَتَحَ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرَ، فَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ. [انظر: 2630 - مسلم: 1771 - فتح 6/ 227]
ذكر فيه حديث أنس رضي الله عنه: كَانَ الرَّجُلُ يَجْعَلُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم النَّخَلَاتِ حَتَّى افْتَتَحَ قُرَيْظَةَ وَالنَّضيرَ، فَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ.
هذا الحديث أخرجه مسلم أيضًا
(1)
، وذكره البخاري في غزوة الأحزاب بزيادة: وإن أهلي أمروني أن آتي النبي صلى الله عليه وسلم فأسأله الذي كانوا أعطوه أو بعضه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه أم أيمن، فجعلت الثوب في عنقي، تقول: كلا والله الذي لا إله إلا هو لا نعطيكم والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لك كذا" وتقول: (كلا. أعطاها)
(2)
. حسبت أنه قَالَ عشر أمثالها أو كما قَالَ
(3)
.
ومعنى: (كان الرجل يجعل للنبي صلى الله عليه وسلم النخلات) يريد -والله أعلم- أن الأنصار كان الرجل منهم يعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم النخلة والرجل النخلتين والرجل الثلاث، كل واحد على قدر جدته وطيب نفسه؛ مواساة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومشاركة له لقوته، وهذا من باب الهدية لا من باب الصدقة؛ لأنها محرمة عليهم.
وأما سائر المهاجرين فكانوا قد نزل كل واحد منهم على رجل من
(1)
مسلم (1771) كتاب الجهاد والسير، باب: رد المهاجرين إلى الأنصار منائحهم.
(2)
كذا بالأصل، وفي البخاري: كلا والله، حتى أعطاها.
(3)
سيأتي برقم (4120).
الأنصار فواساه وقاسمه، فكانوا كذلك إلى أن فتح الله الفتوح على رسوله، فرد عليهم ثمارهم، فأول ذَلِكَ النضير كانت مما أفاء الله عليه مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، وانجلى عنها أهلها بالرعب، فكانت خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم دون سائر الناس، وأنزل الله فيهم:{مَا أَفَاءَ الله عَلَى رَسُولِهِ} الآية [الحشر: 6]. فحبس منها رسول الله لنوائبه وما يغزوه، وقسم أكثرها في المهاجرين خاصة دون الأنصار، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ للأنصار:"إن شئتم قسمت أموال بني النضير بينكم وبينهم وأقمتم على مواساتهم في ثماركم، وإن شئتم أعطيتها المهاجرين دونكم وقطعتم عنهم ما كنتم تعطونهم من ثماركم " قالوا: بل تعطيهم دوننا ونقيم على مواساتهم. فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم المهاجرين دونهم، فاستغنى القوم جميعًا، استغنى المهاجرون مما أخذوا واستغنى الأنصار مما رجع إليهم من ثمارهم.
وكانت أم أنس أعطت رسول الله صلى الله عليه وسلم عذاقًا، وفي مسلم: نخلة، فتصرف في ثمارها بنفسه وعياله وضيفه، فلهذا آثر بها أم أيمن، ولو كانت إباحة لما أباحها لغيره؛ لأن المباح له بنفسه لا يباح له أن يبيح ذَلِكَ الشيء لغيره، بخلاف الموهوب له نفس رقبة الشيء فإنه يتصرف فيه كيف شاء، وامتنعت أم أيمن من رد المنيحة؛ لأنها ظنت أنها كانت هبة وتمليكًا لأصل الرقبة، فأراد صلى الله عليه وسلم استطابة قلبها بالزيادة؛ تبرعًا منه وإكرامًا لها لما لها من حق الحضانة.
وأما قريظة فإنها نقضت العهد بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحزبت مع الأحزاب، وكانوا كما قَالَ الله تعالى:{إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ} [الأحزاب: 10] قريظة، ولم يكن بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم خندق {وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} [الأحزاب: 10] الأحزاب، فأرسل الله نصره وأرسل الريح على
الأحزاب فلم تدع بناء إلا قلعته ولا آناء إلا قلبته، فانصرفوا خائبين، كما قَالَ تعالى:{وَرَدَّ الله الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ} الآية [الأحزاب: 25].
فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأحزاب ساروا إلى قريظة، فحاصرهم حَتَّى نزلوا على حكم سعد بن معاذ، فحكم فيهم بأن تقتل المقاتلة وتسبى الذرية، فقسمها الشارع في أصحابه وأعطى من نصيبه في نوائبه، وزعموا كما قَالَ إسماعيل بن إسحاق: إن هذِه الغنيمة أول غنيمة قسمت على السهام، وجعل للفرس ولصاحبه ثلاثة أسهم وللرجل سهم.
13 - باب بَرَكَةِ الغَازِي فِي مَالِهِ حَيًّا وَمَيِّتًا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَوُلَاةِ الأَمْرِ
3129 -
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: قُلْتُ لأَبِي أُسَامَةَ: أَحَدَّثَكُمْ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: لَمَّا وَقَفَ الزُّبَيْرُ يَوْمَ الجَمَلِ دَعَانِي، فَقُمْتُ إِلَى جَنْبِهِ فَقَالَ: يَا بُنَيِّ، إِنَّهُ لَا يُقْتَلُ اليَوْمَ إِلاَّ ظَالِمٌ أَوْ مَظْلُومٌ، وَإِنِّي لَا أُرَانِي إِلاَّ سَأُقْتَلُ اليَوْمَ مَظْلُومًا، وَإِنَّ مِنْ أَكْبَرِ هَمِّي لَدَيْنِي، أَفَتُرَى يُبْقِى دَيْنُنَا مِنْ مَالِنَا شَيْئًا؟ فَقَالَ: يَا بُنَيِّ، بِعْ مَالَنَا فَاقْضِ دَيْنِي. وَأَوْصَى بِالثُّلُثِ، وَثُلُثِهِ لِبَنِيهِ -يَعْنِي: عَبْدَ اللهِ بْنَ الزُّبَيْرِ يَقُولُ: ثُلُثُ الثُّلُثِ، فَإِنْ فَضَلَ مِنْ مَالِنَا فَضْلٌ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ شَيْءٌ فَثُلُثُهُ لِوَلَدِكَ. قَالَ هِشَامٌ: وَكَانَ بَعْضُ وَلَدِ عَبْدِ اللهِ قَدْ وَازَى بَعْضَ بَنِي الزُّبَيْرِ -خُبَيْبٌ وَعَبَّادٌ- وَلَهُ يَوْمَئِذٍ تِسْعَةُ بَنِينَ وَتِسْعُ بَنَاتٍ. قَالَ عَبْدُ اللهِ: فَجَعَلَ يُوصِينِي بِدَيْنِهِ وَيَقُولُ: يَا بُنَيِّ، إِنْ عَجَزْتَ عَنْهُ فِي شَيءٍ فَاسْتَعِنْ عَلَيْهِ مَوْلَايَ. قَالَ: فَوَاللهِ مَا دَرَيْتُ مَا أَرَادَ حَتَّى قُلْتُ: يَا أَبَتِ مَنْ مَوْلَاكَ قَالَ: الله. قَالَ: فَوَاللهِ مَا وَقَعْتُ فِي كُرْبَةٍ مِنْ دَيْنِهِ إِلاَّ قُلْتُ: يَا مَوْلَى الزُّبَيْرِ، اقْضِ عَنْهُ دَيْنَهُ. فَيَقْضِيهِ، فَقُتِلَ الزُّبَيْرُ رضي الله عنه وَلَمْ يَدَعْ دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، إِلاَّ أَرَضِينَ مِنْهَا الغَابَةُ، وَإِحْدَى عَشْرَةَ دَارًا بِالْمَدِينَةِ، وَدَارَيْنِ بِالْبَصْرَةِ، وَدَارًا بِالْكُوفَةِ، وَدَارًا بِمِصْرَ. قَالَ وَإِنَّمَا كَانَ دَيْنُهُ الذِي عَلَيْهِ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَأْتِيهِ بِالْمَالِ فَيَسْتَوْدِعُهُ إِيَّاهُ فَيَقُولُ الزُّبَيْرُ: لَا وَلَكِنَّهُ سَلَفٌ، فَإِنِّي أَخْشَى عَلَيْهِ الضَّيْعَةَ، وَمَا وَلِيَ إِمَارَةً قَطُّ وَلَا جِبَايَةَ خَرَاجٍ وَلَا شَيْئًا، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ فِي غَزْوَةٍ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوْ مَعَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ رضي الله عنهم قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ الزُّبَيْرِ: فَحَسَبْتُ مَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ فَوَجَدْتُهُ أَلْفَيْ أَلْفٍ وَمِائَتَيْ أَلْفٍ.
قَالَ: فَلَقِيَ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ عَبْدَ اللهِ بْنَ الزُّبَيْرِ فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي، كَمْ عَلَى أَخِي مِنَ الدَّيْنِ فَكَتَمَهُ. فَقَالَ: مِائَةُ أَلْفٍ. فَقَالَ حَكِيمٌ: وَاللهِ مَا أُرَى أَمْوَالَكُمْ تَسَعُ لِهَذِهِ. فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللهِ: أَفَرَأَيْتَكَ إِنْ كَانَتْ أَلْفَيْ أَلْفٍ وَمِائَتَيْ أَلْفٍ؟ قَالَ: مَا أُرَاكُمْ تُطِيقُونَ هَذَا، فَإِنْ عَجَزْتُمْ عَنْ شَيءٍ مِنْهُ فَاسْتَعِينُوا بِي. قَالَ: وَكَانَ الزُّبَيْرُ اشْتَرَى الغَابَةَ
بِسَبْعِينَ وَمِائَةِ أَلْفٍ، فَبَاعَهَا عَبْدُ اللهِ بِأَلْفِ أَلْفٍ وَسِتِّمِائَةِ أَلْفٍ ثُمَّ قَامَ فَقَالَ: مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى الزُّبَيْرِ حَقٌّ فَلْيُوَافِنَا بِالْغَابَةِ، فَأَتَاهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ، وَكَانَ لَهُ عَلَى الزُّبَيْرِ أَرْبَعُمِائَةِ أَلْفٍ فَقَالَ لِعَبْدِ اللهِ: إِنْ شِئْتُمْ تَرَكْتُهَا لَكُمْ. قَالَ عَبْدُ اللهِ: لَا. قَالَ: فَإِنْ شِئْتُمْ جَعَلْتُمُوهَا فِيمَا تُؤَخِّرُونَ إِنْ أَخَّرْتُمْ. فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: لَا. قَالَ: قَالَ: فَاقْطَعُوا لِي قِطْعَةً. فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: لَكَ مِنْ هَا هُنَا إِلَى هَا هُنَا. قَالَ: فَبَاعَ مِنْهَا فَقَضَى دَيْنَهُ فَأَوْفَاهُ، وَبَقِيَ مِنْهَا أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ وَنِصْفٌ، فَقَدِمَ عَلَى مُعَاوِيَةَ وَعِنْدَهُ عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ وَالْمُنْذِرُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَابْنُ زَمْعَةَ فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: كَمْ قُوِّمَتِ الْغَابَةُ قَالَ: كُلُّ سَهْمٍ مِائَةَ أَلْفٍ. قَالَ: كَمْ بَقِيَ قَالَ: أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ وَنِصْفٌ. قَالَ الْمُنْذِرُ بْنُ الزُّبَيْرِ: قَدْ أَخَذْتُ سَهْمًا بِمِائَةِ أَلْفٍ. قَالَ عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ: قَدْ أَخَذْتُ سَهْمًا بِمِائَةِ أَلْفٍ. وَقَالَ ابْنُ زَمْعَةَ قَدْ أَخَذْتُ سَهْمًا بِمِائَةِ أَلْفٍ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: كَمْ بَقِيَ فَقَالَ: سَهْمٌ وَنِصْفٌ. قَالَ: أَخَذْتُهُ بِخَمْسِينَ وَمِائَةِ أَلْفٍ. قَالَ: وَبَاعَ عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ نَصِيبَهُ مِنْ مُعَاوِيَةَ بِسِتِّمِائَةِ أَلْفٍ، فَلَمَّا فَرَغَ ابْنُ الزُّبَيْرِ مِنْ قَضَاءِ دَيْنِهِ قَالَ بَنُو الزُّبَيْرِ: اقْسِمْ بَيْنَنَا مِيرَاثَنَا. قَالَ: لَا، وَاللهِ لَا أَقْسِمُ بَيْنَكُمْ حَتَّى أُنَادِىَ بِالْمَوْسِمِ أَرْبَعَ سِنِينَ: أَلَا مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى الزُّبَيْرِ دَيْنٌ فَلْيَأْتِنَا فَلْنَقْضِهِ. قَالَ: فَجَعَلَ كَلَّ سَنَةٍ يُنَادِى بِالْمَوْسِمِ، فَلَمَّا مَضَى أَرْبَعُ سِنِينَ: قَسَمَ بَيْنَهُمْ قَالَ: فَكَانَ لِلزُّبَيْرِ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ، وَرَفَعَ الثُّلُثَ، فَأَصَابَ كُلَّ امْرَأَةٍ أَلْفُ أَلْفٍ وَمِائَتَا أَلْفٍ، فَجَمِيعُ مَالِهِ خَمْسُونَ أَلْفَ أَلْفٍ وَمِائَتَا أَلْفٍ. [فتح 6/ 227]
ذكر فيه حديث عبد الله بن الزبير: قَالَ: لَمَّا وَقَفَ الزُّبَيْرُ يَوْمَ الجَمَلِ دَعَانِي، فَقُمْتُ إِلَى جَنْبِهِ، فَقَالَ: يَا بُنَيِّ، إِنَّهُ لَا يُقْتَلُ اليَوْمَ إِلَّا ظَالِمٌ أَوْ مَظْلُومٌ، وَإِنِّي لَا أُرَانِي إِلَّا سَأُقْتَلُ اليَوْمَ مَظْلُومًا، وَإِنَّ أَكْبَرِ هَمِّي لَدَيْنِي، أَفَتُرى دَيْنُنَا يُبْقِي مِنْ مَالِنَا شَيْئًا؟ فَقَالَ: يَا بُنَي، بعْ مَالَنَا واقْضِ دَيْنِي. وَأَوْصَى بِالثُّلُثِ، وَثُلُثِهِ لِبَنِيهِ -يَعْنِي: عَبْدَ اللهِ بْنَ الزُّبَيْرِ- يَقُولُ ثُلُثُ الثُّلُثِ، فَإِنْ فَضلَ مِنْ مَالِنَا فَضْلٌ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ شَيْءٌ فَثُلُثُهُ لِوَلَدِكَ. قَالَ هِشَامٌ: وَكَانَ بَعْضُ وَلَدِ عَبْدِ اللهِ قَدْ وَازى بَعْضَ بَنِي الزُّبَيْرِ -
خُبَيْبٌ وَعَبَّادٌ- وَلَهُ يَوْمَئِذٍ تِسْعَةُ بَنِينَ وَتِسْعُ بَنَاتٍ. قَالَ عَبْدُ اللهِ: فَجَعَلَ يُوصِينِي بِدَيْنِهِ وَيَقُولُ: يَا بُنيِّ، إِنْ عَجَزْتَ عَنْهُ فِي شَيْءٍ فَاسْتَعِنْ عَلَيْهِ مَوْلَايَ. قَالَ: فَوَاللهِ مَا دَرَيْتُ مَا أَرَادَ حَتَّى قُلْتُ: يَا أَبَةِ مَنْ مَوْلَاكَ؟ قَالَ: اللهُ. قَالَ: فَوَاللهِ مَا وَقَعْتُ فِي كُرْبَةٍ مِنْ دَيْنِهِ إِلَّا قُلْتُ: يَا مَوْلَى الزُّبَيْرِ، اقْضِ عَنْهُ دَيْنَهُ، فَيَقْضيهِ، فَقُتِلَ الزُّبَيْرُ رضي الله عنه وَلَمْ يَدَعْ دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا إِلَّا أَرَضِينَ مِنْهَا الغَابَةُ، وَإِحْدَ عَشْرَ دَارًا بِالْمَدِينَةِ، وَدَارَيْنِ بالْبَصْرَةِ، وَدَارًا بالْكُوفَةِ، وَدَارًا بِمِصْرَ. قَالَ: وَإِنَّمَا كَانَ دَيْنُهُ الذِي عَلَيْهِ أنَّ الرَّجُلَ كَانَ يًاجتِيهِ بِالْمَالِ فَيَسْتَوْدِعُهُ إِيَّاهُ، فَيَقُولُ الزُّبَيْرُ: لَا، وَلَكِنَّهُ سَلَفٌ، فَإِنِّي أَخْشَى عَلَيْهِ الضَّيْعَةَ. وَمَا وَلِيَ إِمَارَةً قَطُّ، وَلَا جِبَايَةَ خَرَاجٍ وَلَا شَيْئًا، إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي غَزْوَةٍ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أوْ مَعَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ. قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ الزُّبَيْرِ: فَحَسَبْتُ مَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ فَوَجَدْتُهُ أَلْفَى أَلْفٍ وَمِائَتَى أَلْفٍ. قَالَ: فَلَقِيَ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ عَبْدَ اللهِ بْنَ الزُّبَيْرِ فَقَالَ: يَا ابن أَخِي، كَمْ عَلَى أَخِي مِنَ الدَّيْنِ؟ فَكتَمَهُ، فَقَالَ: مِائَةُ أَلْفٍ. فَقَالَ حَكِيمٌ: والله مَا أُرى أَمْوَالَكُمْ تَسَعُ لهذِه. فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللهِ: أَفَرَأَيْتَكَ إِنْ كَانَتْ أَلْفَيْ أَلْفٍ وَمِائَتَيْ أَلْفٍ؟ فقَالَ: مَا أُرَاكُمْ تُطِيقُونَ هذا، فَإِنْ عَجَزْتُمْ عَنْ شيءٍ مِنْهُ فَاسْتَعِينُوا بِي. قَالَ: وَكَانَ الزبَيْرُ اشْتَرى الغَابَةَ بِسَبْعِينَ وَمِائَةِ أَلْفٍ، فَبَاعَهَا عَبْدُ اللهِ بِأَلْفِ أَلْفٍ وَسِتِّمِائَةِ أَلْفٍ، ثُمَّ قَامَ فَقَالَ: مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى الزُّبَيْرِ حَقٌّ فَلْيُوَافِنَا بِالْغَابَةِ. فَأَتى عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ، وَكَانَ لَهُ عَلَى الزُّبَيْرِ أَرْبَعُمِائَةِ أَلْفٍ، فَقَالَ لِعَبْدِ اللهِ: إِنْ شِئْتُمْ تَرَكْتُهَا لَكُمْ. فقَالَ عَبْدُ اللهِ: لَا. قَالَ: فإِنْ شِئْتُمْ جَعَلْتُمُوهَا فِيمَا تُؤَخِّرُونَ إِنْ أَخَّرْتُمْ. فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: لَا. قَالَ: فإن شئتم: فَاقْطَعُوا لِي قِطْعَةً. فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: لَكَ مِنْ هَا هُنَا إِلَى هَا هُنَا.
قَالَ: فَبَاعَ مِنْهَا فَقَضَى دَيْنَهُ فَأَوْفَاهُ، وَبَقِيَ مِنْهَا أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ وَنِصْفٌ،
فَقَدِمَ عَلَى مُعَاوِيَةَ وَعِنْدَهُ عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ وَالْمُنْذِرُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَابْنُ زَمْعَةَ، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: كَمْ قُوِّمَتِ الغَابَةُ؟ قَالَ: كُلُّ سَهْمٍ مِائَةَ أَلْفٍ. قَالَ: كَمْ بَقِيَ؟ قَالَ: أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ وَنِصْفٌ. قَالَ المُنْذِرُ بْنُ الزُّبَيْرِ: قَدْ أَخَذْتُ سَهْمًا بِمِائَةِ أَلْفٍ. قَالَ عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ: قَدْ أَخَذْتُ سَهْمًا بِمِائَةِ أَلْفٍ. قَالَ ابن زَمْعَةَ: قَدْ أَخَذْتُ سَهْمًا بِمِائَةِ أَلْفٍ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: كَمْ بَقِيَ؟ فَقَالَ: سَهْمٌ وَنِصْفٌ. قَالَ: قد أَخَذْتُهُ بِخَمْسِينَ وَمِائَةِ أَلْفٍ. قَالَ: وَبَاعَ عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ نَصِيبَهُ مِنْ مُعَاوِيَةَ بِسِتِّمِائَةِ أَلْفٍ، قال فَلَمَّا فَرَغَ ابن الزُّبَيْرِ مِنْ قَضَاءِ دَيْنِهِ، قَالَ بَنُو الزُّبَيْرِ: اقْسِمْ بَيْنَنَا مِيرَاثَنَا. قَالَ: لَا، والله لَا أَقْسِمُ بَيْنَكُمْ حَتَّى أُنَادِيَ بِالْمَوْسمِ أَرْبَعَ سِنِينَ: أَلَا مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى الزُّبَيْرِ دَيْن فَلْيَاتِنَا فَلْنَقْضِهِ. قَالَ: فَجَعَلَ كَلَّ سَنَةٍ يُنَادِي بِالْمَوْسِمِ، فَلَمَّا مَضى أَرْبَعُ سِنِينَ قَسَمَ بَيْنَهُمْ، قَالَ: فَكَانَ لِلزُّبَيْرِ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ، وَرَفَعَ الثُّلُثَ، فَأَصَابت كُلَّ امْرَأَةٍ أَلْفُ أَلْفٍ وَمِائَتَا أَلْفٍ، فَجَمِيعُ مَالِهِ خَمْسُونَ أَلْفَ أَلْفٍ وَمِائَتَا أَلْفٍ.
الشرح:
هذا الحديث من أفراد البخاري، وذكره أصحاب الأطراف في مسند الزبير، والأشبه أن يكون من مسند ابنه؛ لأن أكثره من كلامه، ولقوله:(وما ولي إمارة قط إلا أن يكون في غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم) وهذِه اللفظة فيها معنى الرفع.
وعند الإسماعيلي عن جويرية: ثَنَا أبو أسامة، ثَنَا هشام، عن أبيه، عن عبد الله. والبخاري قَالَ: حَدَّثَنَا إسحاق بن إبراهيم: قلتُ لأبي أسامة: حدثكم هشام، عن أبيه، عن عبد الله به. وذكر الترمذي محسنًا عن عروة قَالَ: أوصى الزبير إلى ابنه عبد الله صبيحة الجمل
فقال: ما مني عضو إلا وقد جرح مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهى إلى فرجه
(1)
، ورواه ابن سعد في "طبقاته"، في قتل الزبير ووصيته بدينه وثلث ماله، عن أبي أسامة حمَّاد بن أسامة بنحو حديث البخاري وطوله، غير أنه خالفه في موضع واحد، وهو قوله: أصاب كل امرأة من نسائه، ألف ألف ومائة ألف
(2)
، لا كما في البخاري: مائتا ألف، وعلى هاتين الروايتين لا تصح قسمة خمسين ألف ألف، ومائتا ألف، على دينه ووصيته وورثته، وإنما تصح قسمتها أن لو كان لكل امرأة ألف ألف فيكون الثُّمُن أربعة آلاف ألف، فتصح قسمة الورثة من اثنين وثلاثين ألف ألف، ثم يضاف إليها الثلث ستة عشر ألف ألف فتصير الجملتان ثمانية وأربعين ألف ألف، ثم يضاف إليها الدَّيْن ألفا ألف ومائتا ألف، فصارت الجمل كلها خمسين ألف ألف ومائتي ألف، ومنها تصح.
ورواية ابن سعد تصح من خمسة وخمسين ألف ألف، ورواية البخاري تصح من تسعة وخمسين ألف ألف، وثمانمائة ألف، فيجوز أن يكون المراد بقوله: وجميع ماله خمسون ألف ألف، ومائتا ألف قيمة تركته عند موته، لا ما زاد عليها بعد موته من غلة الأرضين والدور في مدة أربع سنين قبل قسمة التركة، ويدل عليه ما روى الواقدي عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن هشام عن أبيه قال: كان قيمة ما ترك الزبير، أحدًا وخمسين أو اثنين وخمسين ألف ألف.
وروى ابن سعد، عن القعنبي، عن ابن عيينة قال: قسم ميراث الزبير على أربعين ألف ألف
(3)
، وذكر الزبير بن بكار بن عبد الله بن مصعب بن
(1)
الترمذي (3746).
(2)
"الطبقات" 3/ 109.
(3)
"الطبقات" 3/ 110.
ثابت بن عبد الله بن الزبير في بني عدي عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل زوج الزبير، وأن عبد الله بن الزبير أرسل إليها بثمانين ألف درهم، فقبضتها وصالحت عليها، قال الدمياطي: وبين قول الزبير بن بكار هذا، وقول غيره بنون بعيد، والعجب من الزبير مع تتبعه هذا العلم وتنفيره عنه، كيف خفي عليه توريث آبائه وأخواله تركاتهم.
وقال ابن بطال أيضًا: قوله: فجميع ماله خمسون ألف ومائة ألف ألف غلط في الحساب، والصحيح فجميع ماله سبعة وخمسون ألف ألف، وتسعمائة ألف
(1)
، وكذا قال ابن التين: هذا حساب فيه غلط، والصحيح أنه إذا خرج الثلث للوصية، وأصاب كلّ امرأة ألف ألف ومائتي ألف فيكون جميع المال على الحقيقة سبعة وخمسين ألف ألف وستمائة ألف، فأسقط من المال البخاري سبعة آلاف ألف وأربعمائة ألف، وقال ابن المنير: وهما جميعًا، ولم يبين صوابه
(2)
.
فائدة أخرى: ذكر الزبير أيضًا أن الزبير قتل وهو ابن سبع أو ست وستين وأنه كان أبيض، أشعر الكتفين، خفيف العارضين طويلًا تخط رجلاه الأرض إذا ركب الدابة، وذكر أيضًا بسنده قال: كان للزبير ألف مملوك يؤدون إليه الضريبة، لا يدخل بيت ماله منها درهمًا، يقول: يتصدق به، وقال أيضًا: باع الزبير دارًا له بستمائة ألف فجعلها في سبيل الله، وكانت الصحابة يوصون إليه فأوصى إليه عثمان بصدقته حتى يدرك عمرو بن عثمان، وأوصى إليه عبد الرحمن بن عوف، والمطيع بن الأسود، والمقداد بن عمرو، وعبد الله بن الزبير،
(1)
"شرح ابن بطال" 5/ 292 - 293.
(2)
"المتواري" ص 194، وقول المصنف: ولم يبن صوابه. وهم، فقد قال ابن المنير: إنما هي "وستمائة ألف".
وأوصى إليه أبو العاص بن الربيع بابنته أمامة بنت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوجها الزبير علي بن أبي طالب. وقال له ابن مسعود: أنت من وصيتي في حلٍّ وبلٍّ، في أديم طابع، ولم يهاجر أحد معه إلاَّ أمه الزبير بن العوام، ونزلت الملائكة يوم بدر على سيما الزبير طيرًا بيضاء، عليهم عمائم صفر، وكان على الزبير يومئذٍ عمامة صفراء.
فصل:
(فإن فضل من مالنا فضل بعد قضاء الدين والوصية؛ فثلثه لولدك)، يعني: ثلث ذلك الفضل الذي أوصى به إلى المساكين من الثلث لبنيه، قاله ابن بطال
(1)
.
وقوله: (فثلثه لولدك)، هو بالتشديد لتصح إضافته إلى ولده، أي: ليكون التثليث وصله إلى اتصال ثلث الثلث إليهم، حكاه الدمياطي عن بعض العلماء، ثم قال: وفيه نظر، وقال المهلب: قوله: ثلثه لبنيك يعني: ثلث الثلث الموصى به لحفدته، وهم بنو ابنه عبد الله.
فصل:
كان يوم الجمل عام ست وثلاثين، وقتل عثمان سنة خمس وثلاثين، فبويع لعلي، وكان أول من بايعه طلحة، فلما أحسّ بأصبع طلحة الخنصر الذي قطع يوم أحد قال: هذا الأمر لا يتم، ثم بايعه الزبير والناس، فاستأذنه طلحة والزبير في الخروج إلى مكة في عمرة، وكان موت عثمان في ذي الحجة بعد الأضحى فأذن لهما، ثم أتاه مروان فاستأذنه، فأذن له، وقال: أعلم بما يريدون، فكانت عائشة بمكة، فأتياها وقالا: إنا أكرهنا على البيعة، وأكرهنا مالك الأشتر النخعي،
(1)
"شرح ابن بطال" 5/ 291.
وسألاها الخروج إلى العراق ليستعان بهم أن يعود الأمر شورى، فلم يزالا بها، ولم يزل بها ابن الزبير عبد الله حتى خرجت معهم، فلما سمع ذلك علي خشي أن يأتيه أهل العراق فيُصنع به كما صُنع بعثمان، فقصد القوم إلى البصرة، وقصد علي الكوفة، فراسلهم ثم كان حرب يوم الجمل، فرمي طلحة بسهمٍ من ورائه من أهل عسكره، وانصرف الزبير قبل أن يبرد القتال نادمًا على ما وقع منه وقال: كنت لا أدري معنى قول الله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25] حتى وقعت فيها، فأنزله عمرو بن جرموز التيمي السعدي وذبح له شاة، فلما نام الزبير وثب عليه ابن جرموز
(1)
فقتله واحتزَّ رأسه وذهب إلى علي، فقيل لعلي: هذا ابن جرموز أتاك برأس الزبير، فقال: بشروا قاتل الزبير بالنار، وفي رواية: بشروا قاتل ابن صفية بالنار، وذكر ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرمى عمرو بالرأس وهرب، وفيه تقول عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل وكان الزبير خلف عليها بعد عمر:
غدر ابن جرموز بفارس بهمة
…
يوم اللقاء وكان غير معرّد
يا عمرو لو نبهته لوجدته
…
لا طائشًا رعش الجنان ولا اليد
ثكلتك أمك إن ظفرت بمثله
…
فيما مضى فيمن يروح وبغتدي
كم غمرة قد خاضها لم يثنه عنها
…
إيرادك يا ابن قفع القردد
(1)
ورد بهامش الأصل ما نصه: ذكر أبو عمر في "استيعابه" في اسم ابن جرموز أقوالاً: أحدهما: عبد الله، ويقال: عمير، ويقال: عميرة، وقيل: نمير وابن جرموز السعدي- وأبى شيخنا القرافي فسماه (
…
) عمر، والذي يظهر أنه عمرو، بفتح العين وزيادة واو، لشعر عاتكة، وقد أنشده كذلك أبو عمر في "استيعابه" في ترجمته، والله أعلم.
والله ربك إن قتلت لمسلما
…
حلّت عليك عقوبة المتعمد
(1)
وكانت عائشة رضي الله عنها
(2)
على جمل يسمى عسكر، كان ليعلى
(3)
بن مُنْيَة، أعطاها إياه، وكان اشتراه بمائتي دينار، فقامت عليه، وقصد أصحاب علي الجمل الذي هي عليه، فكان كل من أخذ بذمامه قتل ثم أخذه عبد الله بن الزبير فقالت: مَنْ هذا، قال: عبد الله، قالت: واثكل أسماء، فقاتله مالك بن عبد الله الأشتر النخعي فتجالد مع ابن الزبير حتى انقطعت أسيافهما وتعانقا، فجعل عبد الله يقول: اقتلوني ومالكًا، وجعل مالك يقول: اقتلوني وعبد الله، ولم يقدر لمالك أن يقول: اقتلوني وابن الزبير، ولا لابن الزبير أن يقول: والأشتر، ولو قال أحدهما لهجما عليهما الفريقان حتى يقتلا؛ لأن كلَّ واحدٍ منهما أمسك القتال على حزبه فأنجيا جراحًا وعرقب الجمل، وبادر محمد بن أبي بكر فأنزل أخته وكان مع عليٍّ؛ لأنه ربيبه، فجهزها علي بأثني عشر ألف درهم وصرفها إلى المدينة. وكان عبد الله بن جعفر ولي اشتراء جهازها، فاشترى لها ثلاثمائة ألف
(1)
وررد بهامش الأصل ما نصه: قد كتبت هذِه الأبيات من "الاستيعاب"، والبيت الثالث أنشده شيخنا في هذا الشرح:
ثكلتك أمك إن قتلت لفارسا
…
بطلًا جريا يا ابن فقع القردد
وأنشد البيت الرابع أيضًا.
هل ظفرت بمثله
…
فيمن يروح ويغتدي
ولم يذكر شيخنا البيت الثالث في الأصل، فكان ينبغي أن أكتب الأبيات من الشرح، لكن كما اتفق.
(2)
ورد بهامش الأصل ما نصه: وأما القرطبي في "التذكرة" فنقل ذلك أعني مائتين عن أبي عمر، ثم نقل عن بعضهم بثمانين، ثم قال: والأول أصح، يعني: بمائتين.
(3)
ورد بهامش الأصل: كذا في "الاستيعاب" في ترجمة يعلق، وكتب ابن الأثير: تجاهه بثمانين.
درهم، قال له علي: خذ لها من ييت المال اثني عشر ألفًا، ولولا أن عمر أعطاها إياها ما أعطيتها إياها، واحمل أنت ما بقي فانقضى أمر الجمل، وعاد الأمر بين علي ومعاوية، ثم خرجت الخوارج على علي، فقتلهم يوم النهروان، ثم طبقه عبد الرحمن بن ملجم، فقتله.
فصل:
أنكر قوم وقعة الجمل، قال القاضي عياض في "الشفا": فأما من أنكر ما عرف بالتواتر من الأخبار والسير والبلاد، التي لا يرجع إلى إبطال شريعة، ولا يفضي إلى إنكار قاعدة من الدين، كإنكار غزوة تبوك أو مؤتة، أو وجود أبي بكر وعمر، وقتل عثمان، وخلافة علي، مما علم بالنقل ضرورة، وليس في إنكاره جحد شريعة، فلا سبيل إلى تكفيره بجحد ذلك، وإنكار وقوع العمل به؛ إذ ليس في ذلك أكثر من المباهتة كإنكار هشام وعباد وقعة الجمل، ومحاربة مَنْ خالفه، فأمّا إن ضعَّف ذلك من أجل تهمة الناقلين ووَهَّم المسلمين أجمع فنكفره بذلك؛ لسريانه إلى إبطال الشريعة
(1)
.
قلت: وممن أنكرها بعد هذين ابن حزم، ولعله نزع بذلك إلى براءة عائشة.
فصل:
قوله: (لا يُقتل اليوم إلا ظالم أو مظلوم). معناه والله أعلم: أن الصحابة في قتال بعضهم بعضًا كل له وجه من الصواب يعذر به عند الله، فلا يسوغ أن يطلق على أحد منهم أنه قصد الخطأ وقاتل على غير تأويل سائغ. هذا مذهب أهل السنة، وكل واحد منهم مجتهد
(1)
"الشفا بتعريف حقوق المصطفى" 2/ 290.
بحق عند نفسه، فالقاتل منهم والمقتول في الجنة إن شاء الله، والله يوسع لكل منهم رحمته كما سبقت لهم الحسنى؛ ذكره ابن بطال
(1)
.
ومعنى قوله: (إلا ظالم أو مظلوم)[ظالم]
(2)
في تأويله عند خصمه أو مخالفه، ومظلوم عند نفسه إن قتل، وإنما أراد الزبير أن يبين بقوله هذا أنَّ تقاتل الصحابة ليس كتقاتل أهل البغي والمعصية، الذي القاتل والمقتول منهم ظالم؛ لقوله عليه السلام:"إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار"
(3)
لأنه لا تأويل لواحد منهم يعذر به عند ربه، ولا شبهة له من الحق يتعلق بها، فليس منهم أحد مظلومًا، بل كلهم ظالم.
وكان الزبير وطلحة وجماعة من كبار الصحابة خرجوا مع عائشة -كما أسلفنا- لطلب قتلة عثمان، وإقامة الحد عليهم، ولم يخرجوا لقتال على؛ لأنه لا خلاف بين الأمة أن عليًّا أحق بالإمامة من جميع أهل زمانه، وكان قتلة عثمان لجئوا إلى علي، فرأى علي أنه لا ينبغي إسلامهم للقتل على هذا الوجه، حتى يسكن حال الأمة، وتجري المطالب على وجوهها، بالبينات وطرق الأحكام؛ إذ علم أنه أحق بالإمامة من جميع الأمة، ورجاء أن ينفذ الأمر على ما أوجب الله عليه، فهذا وجه منع علي المطلوبين يوم عثمان، فكان من قدر الله تعالى ما جرى به القلم من تقاتلهم؛ فلذلك قال الزبير لابنه ما قال؛ لما رأى من شدة الأمر، فإن الجماعة لا تنفصل إلاَّ عن تقاتل.
(1)
"شرح ابن بطال" 5/ 290.
(2)
زيادة يقتضيها السياق.
(3)
سلف برقم (31) كتاب الإيمان، باب:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا} .
وقال: (لا أراني إلاَّ سأقتل مظلومًا)؛ لأنه لم يبن علي قتال، ولا عزم عليه ولمَّا التقى الزحفان فرّوا فأتبعه ابن جرموز فقتله في طريقه، كذا قال ابن بطال
(1)
، وقد أسلفنا خلافه، وأنه ضيفه، فلمَّا نام قتله، وقد يمكن للزبير أن يكون سمع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"بشر قاتل ابن صفية بالنار"
(2)
؛ فلذلك قال: لا أراني إلا سأقتل اليوم مظلومًا.
وقال ابن التين: يريد بذلك، إمَّا متأول أراد بفعله وجه الله ولم يبعد في تأويله، وإما رجل من غير الصحابة أراد الدنيا وقاتل عليها فهو الظالم.
فصل:
(وإن من أكبر همّي لتديني)، أي: لم يبق عليَّ تباعة سواه. وقوله: (أفترى يبقي ديننا من مالنا شيئًا)، قاله استكثارًا لما عليه، وإشفاقًا من دينه.
وفيه: الوصية عند الحرب؛ لأنه سبب مخوف كركوب البحر، واختلف لو تصدق حينئذٍ، وحرّر هل يكون ثلثهما أو من رأس مالهما. وفيه الوصية لبعض البنين.
وقوله: وقد وازى بعض بني الزبير أي: حازاهم في السن، قاله ابن التين.
وقال ابن بطال: يجوز أن يكون وازاهم في السن ويجوز أن يكون وازى بنو عبد الله في أنصبائهم فيه أولاد الزبير فيما حصل لهم من ميراث
(1)
"شرح ابن بطال" 5/ 290 - 291.
(2)
رواه أحمد 3/ 89 (681) وفي "فضائل الصحابة" 2/ 920 (1272)، وابن سعد في "الطبقات" 3/ 105، الطبراني 1/ 123 (243) والحاكم 3/ 367 من حديث علي قال ابن حجر في "الفتح" 6/ 229: رواه أحمد وغيره من طريق زر بن حبيش عن علي بإسناد صحيح.
الزبير أبيهم، قال: وهذا الوجه أولى، وإلا لم يكن لذكر كثرة أولاد الزبير معنى للموازاة في السن
(1)
.
وفيه: دليل على دفع تأويل الشيعة على عائشة ومن تابعها في دعوى ظلمها؛ لأن الله تعالى لا يكون وليًّا للظالم. وخبيب كان أبوه عبد الله يكنى به، ويكنى أبا بكر، وأبا عبد الرحمن، أمر الوليد بعض عمّاله
(2)
فضرب خبيبًا بالسوط حتى مات.
فصل:
وأمّا قول الزبير للذين كانوا يستودعونه: (لا، ولكنه سلف)، إنما فعل ذلك خشية الضيعة كما هو مصرح به فيه فيظن به ظن السوء فيه، أو تقصير في حفظه، فرأى أن هذا أتقى لمروءته وأوثق لأصحاب الأموال؛ لأنه كان صاحب ذمة وأثرة وعقارات كثيرة، فرأى أن يجعل أموال الناس مضمونة عليه ولا يبقيها تحت شيءٍ من جواز التلف، لتطيب نفس صاحب الوديعة على دينه، وتطيب نفسه هو على ربح هذا المال.
وقوله: (وما ولي إمارة قط ولا جباية خراج) أي: فيكثر ماله من هذا الوجه فيكون عليه فيه ظن سوء أو مغمز؛ كظن عمر والمسلمين والعمال حتى قاسمهم، بل كان كسبه من الجهاد وسهمانه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وخليفته بعده، فبارك الله له في ماله لطيب أصله وربح أرباحًا بلغت ألوف الألوف، وقول عبد الله: قلت: من مولاك؟ لأن المولى ينطلق على معان منها: الناصر، والولي، يظن أن يريد أحدًا من الناس.
(1)
"شرح ابن بطال" 5/ 291.
(2)
ورد بهامش الأصل: الضارب هو عمر بن عبد العزيز.
وقوله: (لم يدع إلا رباعًا) كان الزبير أخذ أرضين في سهمه حين الفتح، وأقطعهم الشارع أرضًا من بني النضير، وأقطعه الصديق أرضين، واشترى دورًا بالمدينة، واختط بالبصرة والكوفة ومصر حين مصرف، ففي هذا اتخاذ الربع. وفيه الابتياع للرباع إلا عند الضرورات؛ لقلة ما يدخل فيها من فساد المطعم؛ ولأنها تظفر كاسبها وتضنيه عن معاناة التجار التي لا تكاد تسلم من الأيمان الكاذبة، وقول الزور.
فصل:
قوله: (فحسبت ما عليه من الدين) هو بفتح السين من حسبت الشيء أحسبه حسابًا وحسبانًا.
وحسبت بمعنى ظننت مكسورة العين، والمصدر الحسبان بكسر الحاء. وقول عبد الله لحكيم بن حزام:(إن دين أبي مائة ألف) وكتمه ألفي ألف ومائتي ألف، فهذا ليس بكذب؛ لأنه صدق في البعض وكتم بعضًا، وللإنسان إذا سئل عن خبر أن يخبر منه بما شاء، وله أن لا يخبر بشيء منه أصلاً. وإنما كتمه لئلا يستعظم حكيم ما استدانه الزبير فيظن بالزبير سوء ظن وقلة حزم، ويظن بعبد الله فاقة إلى معونته فينظر إليه بعين الاحتياج إليه، ففيه بعض التجاوز في القول.
وفي قول حكيم ما كانت قريش عليه من الجود والكرم والمواساة. وفيه تنزه عبد الله وتركه قبول المعونة.
وفي قول عبد الله بن جعفر ما كان عليه من الكرم، حتى إنه كان ينسب إلى الإتلاف والتبذير، كان يهب الكثير حتى ينفد ما عنده، فربما دخل منزله بعض أصحابه فلا يجد ما يطعمهم فيعمد إلى عكة كان فيها عسل فيقطعها ويعطيهم جلدها فيلعقون ما فيه. وقال له
الحسن والحسين: لو اقتصرت عن إتلافك. فقال: إن الله عودنى أن يعطيني فأعطي، وأخشى إن قطعت أن يقطع عطائي.
وفيه: أن الدين إنما يكره لمن لا وفاء له أو لمن يصرف ما يدين في غير وجهه.
وفيه: استشراء المنذر من تركة أبيه.
وفيه: تأخير قسمك مال الميت حتى يؤذنوا أهل دينه.
وفيه: التربص بالدين حتى تباع الرباع.
وفيه: النداء في ديون من يعرف بالدين.
وفيه: النداء في الموسم لاجتماع الناس فيه، ولكثرة دين الزبير، لقوله:(لا أقسم حتى أنادي أربع سنين).
وفيه: طاعة بني الزبير أخاهم في تأخير الدين.
وفيه: ما كان عليه الصحابة من اتخاذ النساء.
وفيه: أن الوصي له أن يمتنع من قسمة مال الميت الموصي حتى تسدد ديونه ووصاياه إذا كان الثلث يحملها، ولا تقسم ورثة الموصي مالاً حتى يؤدي دينه وتستبرأ أمانته.
وفيه: جواز الوصية للحفدة إذا كان لهم آباء في الحياة يحجبونهم.
وفيه: أن أجل المفقود والغائب أربع سنين كما قال مالك.
وفيه: أن من وهب هبة ولم يقبلها الموهوب له أنها رد على واهبها، ولواهبها الاستمتاع؛ لأن ابن جعفر قال:(إن شئتم تركتها لكم) ولا يلزمه قوله عليه السلام: "العائد في هبته"
(1)
لأنه ليس بعود، وإنما يعود فيها إذا قبلت منه.
(1)
سلف برقم (2589) كتاب الهبة، باب: هبة الرجل لامرأته والمرأة لزوجها.
وفيه: أن سيد القوم قد يكون قوله وقبوله جائزًا على من إليه اتباع قومه، كما أن عبد الله لم يقبل الهدية وقد كان يجب أن يعرف ما عند ورثة أبيه كلهم، فكان قوله في الرد جائزًا على ورثة أبيه، كما كان قول الغرماء عند سبي هوازن في هبة أنصبائهم في السبي جائزًا على من تبعهم. وليس هذا من الأمر المحكوم به عند التشاح، لكنه محكوم به في شرف النفوس ومحاسن الأخلاق ولا سيما في ذلك الزمان المتقدم.
فصل:
وجه مطابقة الترجمة للحديث أن الزبير ما وسع عليه بولاية ولا جبابة، بل ببركة غزوه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبورك له في سهامه من الغنائم لطيب أصلها وسداد معاملته فيها كما سلف. ونبه عليه ابن المنير أيضًا
(1)
(1)
"المتواري" ص 193.
14 - باب إِذَا بَعَثَ الإِمَامُ رَسُولًا فِي حَاجَةٍ أَوْ أَمَرَهُ بِالْمُقَامِ هَلْ يُسْهَمُ لَهُ
؟
3130 -
حَدَّثَنَا مُوسَى، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ مَوْهَبٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: إِنَّمَا تَغَيَّبَ عُثْمَانُ عَنْ بَدْرٍ، فَإِنَّهُ كَانَتْ تَحْتَهُ بِنْتُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم -وَكَانَتْ مَرِيضَةً. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ لَكَ أَجْرَ رَجُلٍ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا وَسَهْمَهُ» . [3698، 3704، 4066، 4513، 4514، 4650، 4651، 7095 - فتح 6/ 335]
ذكر فيه حديث ابن عمر رضي الله عنهما قَالَ: إِنَّمَا تَغَيَّبَ عُثْمَانُ عَنْ بَدْرٍ، فَإِنَّهُ كَانَتْ تَحْتَهُ ابنة رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وكَانَتْ مَرِيضَةً. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ لَكَ أَجْرَ رَجُلٍ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا وَسَهْمَهُ".
هذا الحديث راويه عن ابن عمر عثمان بن موهب.
قال الجياني: كذا ورد هذا الإسناد عند ابن السكن وأبي زيد المروزي وغيرهما.
وفي نسخة أبي محمد، عن أبي أحمد عمرو بن عبد الله، هكذا قال: عمرو، وصوابه: عثمان.
وقد تكرر هذا الحديث في مناقب عثمان بجميع الرواة
(1)
.
ولعثمان ابن يقال له: عمرو بن عثمان. وهو الذي سماه شعبة محمدًا
(2)
.
قال الداودي: كان هذا من خواصه عليه السلام. ولعله يريد أن تخلفه بسبب ابنته، وإلا فمن تخلف لمنفعة الجيش ورجع من عندهم لما يصلحهم، ثم
(1)
سيأتي قريبًا برقم (3699).
(2)
"تقييد المهمل" 2/ 640 - 641.
غنموا في غيبته فله سهمه، هذا مشهور مذهب مالك
(1)
.
وكان الذين غابوا في مصلحة الجيش عشرة، منهم عثمان، فضرب رسول الله لهم، وهذا من فضائل عثمان. وأهل البدع يعيبونه بذلك، وبئس ما صنعوا. وكانت زوجته هذِه رقية، توفيت ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بدر، ثم زوجه أم كلثوم، فتوفيت تحته سنة تسع، وهي التي غسلتها أم عطية.
وحاصل ما للعلماء فيمن لم يشهد الوقعة هل يسهم له قولان، فعند أبي حنيفة وأصحابه أن من بعثه الإمام في حاجة حتى غنم الإمام أنه يسهم له، وكذلك المدد يلحقون أرض الحرب بعد الغنيمة أنهم شركاؤهم فيها، وأخذوا بحديث الباب.
قالوا: وقد ذكر أهل السير أن سعيد بن زيد بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجة له. وأمر طلحة بالمقام في (مكان)
(2)
ذكره له وأسهم لهما، وقال:"لكما أجر من شهد"
(3)
.
وعند مالك والثوري والليث والأوزاعي والشافعي (وأحمد)
(4)
وأبي ثور أنه لا يسهم إلا لمن شهد القتال
(5)
، وبذلك حكم عمر وكتب به إلى عماله بالكوفة.
واحتج لهؤلاء بحديث أبي هريرة أنه قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بخيبر بعد ما فتحوها، فقلت: أسهم لي. فقال بعض بني سعيد بن
(1)
انظر: "النوادر والزيادات" 3/ 192 - 193، "المنتقى" 3/ 178.
(2)
في (ص 1): مقام.
(3)
رواه البيهقي 6/ 293.
(4)
من (ص 1).
(5)
"الأم" للشافعي 7/ 312، و"المنتقى" للباجي 3/ 178.
العاصي: لا تسهم له يا رسول الله فذكر الحديث
(1)
.
وحجة أهل المقالة الأولى أنه عليه السلام قال "إن عثمان انطلق في حاجة الله ورسوله"
(2)
فضرب له بسهم، ولم يضرب لأحد غيره، أفلا ترى أنه جعله كمن حضر؟! فيقاس عليه غيره مما في معناه.
وأما حديث أبي هريرة فوجهه أنه عليه السلام وجه أبانًا إلى نجد قبل أن يتهيأ خروجه إلى خيبر، ثم حدث من خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر ما حدث، فكان ما غاب فيه أبان من ذلك، ليس هو لشغل شغله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حضوره خيبر بعد إرادته إياها، فيكون كمن حضرها
(3)
.
فهذان الحديثان أصلان لكل من أراد الخروج مع الإمام إلى قتال العدو، فرده الإمام عن ذلك بأمر آخر من أمور المسلمين، فتشاغل به حتى غنم الإمام، فهو كمن حضر يسهم له. وكل من تشاغل بشغل نفسه أو بشغل المسلمين فمن كان دخوله فيه متقدمًا ثم حدث للإمام قتال عدو فتوجه له فغنم، فلا حق للرجل في الغنيمة، وهي لمن حضرها.
واحتج أهل المقالة الثانية فقالوا: إن إعطاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لعثمان وهو لم يحضر بدرًا خصوص له؛ لأن الله تعالى جعل الغنائم لمن غنمها.
(1)
سلف برقم (2827) كتاب: الجهاد والسير، باب: الكافر يقتل المسلم ثم يسلم.
(2)
رواه أبو داود (2726) والطحاوي في "شرح معاني الآثار" 3/ 244، والطبراني في "الأوسط" 8/ 232 بلفظ "حبس" بدل "انطلق"، والحاكم 3/ 98 كلهم من حديث ابن عمر، ورواه الترمذي (3702) من حديث أنس بن مالك، وقال: حسن صحيح غريب وصححه الألباني من حديث ابن عمر كما في "صحيح أبي داود"(2437)، وضعفه من رواية أنس كما في "المشكاة" 3/ 1713.
(3)
سيأتي برقم (4238) كتاب: المغازي، باب: غزوة خيبر.
والدليل على خصوصه قوله عليه السلام لعثمان: "إن لك أجر رجل ممن شهد بدرًا وسهمه" وهذا لا سبيل أن يعلمه غير الشارع، وقد أسلفناه عن الداودي أيضًا.
وذكر الطبري عن قوم من أهل العلم أنهم قالوا: إنما أعطى عثمان يوم بدر من سهمه عليه السلام من الخمس، واحتجوا بقوله عليه السلام يوم حنين:"ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس، وهو مردود فيكم"
(1)
فدل ذلك أنه لم يعط أحدًا لم يشهد الوقعة من الغنيمة، وإنما أعطاهم من نصيبه.
(1)
روي من حديث عدة من الصحابة منهم عبادة بن الصامت، رواه النسائي 7/ 131، وأحمد 5/ 316 مطولاً، 5/ 319 مختصرًا بموضع الشاهد، وابن حبان 11/ 193 (4855) مطولاً، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" 3/ 241، والحاكم 3/ 49 ومن طريقه البيهقي 3/ 303 وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(7872).
15 - باب وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الخُمُسَ لِنَوَائِبِ المُسْلِمِيَن مَا سَأَلَ هَوَازِنُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِرَضَاعِهِ فِيهِمْ، فَتَحَلَّلَ مِنَ المُسْلِمِيَن، وَمَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعِدُ النَّاسَ أَنْ يُعْطِيَهُمْ مِنَ الفَيْءِ وَالأنفالِ مِنَ الخمُسِ، وَمَا أعْطَى الأنْصَارَ، وَمَا أَعْطَى جَابِرَ بْنَ عَبْدِ الله تَمْرَ خَيْبَرَ
3131، 3132 - حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: وَزَعَمَ عُرْوَةُ أَنَّ مَرْوَانَ بْنَ الحَكَمِ وَمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ أَخْبَرَاهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ حِينَ جَاءَهُ وَفْدُ هَوَازِنَ مُسْلِمِينَ، فَسَأَلُوهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَسَبْيَهُمْ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«أَحَبُّ الحَدِيثِ إِلَيَّ أَصْدَقُهُ، فَاخْتَارُوا إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ إِمَّا السَّبْيَ وَإِمَّا المَالَ، وَقَدْ كُنْتُ اسْتَأْنَيْتُ بِهِمْ» .
وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم انْتَظَرَ آخِرَهُمْ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، حِينَ قَفَلَ مِنَ الطَّائِفِ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم غَيْرُ رَادٍّ إِلَيْهِمْ إِلاَّ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ. قَالُوا: فَإِنَّا نَخْتَارُ سَبْيَنَا.
فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي المُسْلِمِينَ فَأَثْنَى عَلَى اللهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ إِخْوَانَكُمْ هَؤُلَاءِ قَدْ جَاءُونَا تَائِبِينَ، وَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ أَنْ أَرُدَّ إِلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ، مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُطَيِّبَ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَظِّهِ حَتَّى نُعْطِيَهُ إِيَّاهُ مِنْ أَوَّلِ مَا يُفِيءُ الله عَلَيْنَا فَلْيَفْعَلْ» .
فَقَالَ النَّاسُ: قَدْ طَيَّبْنَا ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ لَهُمْ. فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّا لَا نَدْرِى مَنْ أَذِنَ مِنْكُمْ في ذَلِكَ مِمَّنْ لَمْ يَأْذَنْ، فَارْجِعُوا حَتَّى يَرْفَعَ إِلَيْنَا عُرَفَاؤُكُمْ أَمْرَكُمْ» فَرَجَعَ النَّاسُ، فَكَلَّمَهُمْ عُرَفَاؤُهُمْ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُمْ قَدْ طَيَّبُوا فَأَذِنُوا. فَهَذَا الذِي بَلَغَنَا عَنْ سَبْيِ هَوَازِنَ. [انظر: 2307، 2308 - فتح 6/ 236]
3133 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ قَالَ: وَحَدَّثَنِي الْقَاسِمُ بْنُ عَاصِمٍ الْكُلَيْبِيُّ -وَأَنَا لِحَدِيثِ القَاسِمِ أَحْفَظُ- عَنْ زَهْدَمٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ أَبِي مُوسَى، فَأُتِيَ ذَكَرَ دَجَاجَةً وَعِنْدَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَيْمِ اللهِ أَحْمَرُ كَأَنَّهُ مِنَ المَوَالِي، فَدَعَاهُ لِلطَّعَامِ فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُهُ يَأْكُلُ شَيْئًا، فَقَذِرْتُهُ، فَحَلَفْتُ لَا آكُلُ.
فَقَالَ: هَلُمَّ فَلأُحَدِّثْكُمْ عَنْ ذَاكَ، إِنِّي أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي نَفَرٍ مِنَ الأَشْعَرِيِّينَ نَسْتَحْمِلُهُ فَقَالَ:«وَاللهِ لَا أَحْمِلُكُمْ، وَمَا عِنْدِي مَا أَحْمِلُكُمْ» . وَأُتِىَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِنَهْبِ إِبِلٍ، فَسَأَلَ عَنَّا فَقَالَ:«أَيْنَ النَّفَرُ الأَشْعَرِيُّونَ؟» .
فَأَمَرَ لَنَا بِخَمْسِ ذَوْدٍ غُرِّ الذُّرَى، فَلَمَّا انْطَلَقْنَا قُلْنَا: مَا صَنَعْنَا؟ لَا يُبَارَكُ لَنَا، فَرَجَعْنَا إِلَيْهِ فَقُلْنَا: إِنَّا سَأَلْنَاكَ أَنْ تَحْمِلَنَا، فَحَلَفْتَ أَنْ لَا تَحْمِلَنَا أَفَنَسِيتَ؟ قَالَ:«لَسْتُ أَنَا حَمَلْتُكُمْ، وَلَكِنَّ اللهَ حَمَلَكُمْ، وَإِنِّي وَاللهِ إِنْ شَاءَ الله لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلاَّ أَتَيْتُ الذِي هُوَ خَيْرٌ وَتَحَلَّلْتُهَا» . [4385، 4415، 5517، 5518. 6649، 6678، 6680، 6718، 6719، 6721، 7555 - مسلم: 1649: (9) - فتح 6/ 236]
3134 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ سَرِيَّةً فِيهَا عَبْدُ اللهِ قِبَلَ نَجْدٍ، فَغَنِمُوا إِبِلاً كَثِيرًا، فَكَانَتْ سِهَامُهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ بَعِيرًا -أَوْ أَحَدَ عَشَرَ بَعِيرًا- وَنُفِّلُوا بَعِيرًا بَعِيرًا. [4338 - مسلم: 1749 - فتح 6/ 237]
3135 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُنَفِّلُ بَعْضَ مَنْ يَبْعَثُ مِنَ السَّرَايَا لأَنْفُسِهِمْ خَاصَّةً سِوَى قِسْمِ عَامَّةِ الجَيْشِ. [مسلم: 1750 - فتح 6/ 237]
3136 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ العَلَاءِ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا بُرَيْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: بَلَغَنَا مَخْرَجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ بِالْيَمَنِ فَخَرَجْنَا مُهَاجِرِينَ إِلَيْهِ، أَنَا وَأَخَوَانِ لِي، أَنَا أَصْغَرُهُمْ، أَحَدُهُمَا أَبُو بُرْدَةَ وَالآخَرُ أَبُو رُهْمٍ -إِمَّا
قَالَ: فِي بِضْعٍ، وَإِمَّا قَالَ: في ثَلَاثَةٍ وَخَمْسِينَ أَوِ اثْنَيْنِ وَخَمْسِينَ رَجُلاً مِنْ قَوْمِي- فَرَكِبْنَا سَفِينَةً، فَأَلْقَتْنَا سَفِينَتُنَا إِلَى النَّجَاشِيِّ بِالْحَبَشَةِ، وَوَافَقْنَا جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَأَصْحَابَهُ عِنْدَهُ فَقَالَ جَعْفَرٌ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَنَا هَا هُنَا، وَأَمَرَنَا بِالإِقَامَةِ فَأَقِيمُوا مَعَنَا. فَأَقَمْنَا مَعَهُ، حَتَّى قَدِمْنَا جَمِيعًا، فَوَافَقْنَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حِينَ افْتَتَحَ خَيْبَرَ، فَأَسْهَمَ لَنَا -أَوْ قَالَ: فَأَعْطَانَا مِنْهَا- وَمَا قَسَمَ لأَحَدٍ غَابَ عَنْ فَتْحِ خَيْبَرَ مِنْهَا شَيْئًا، إِلاَّ لِمَنْ شَهِدَ مَعَهُ، إِلاَّ أَصْحَابَ سَفِينَتِنَا مَعَ جَعْفَرٍ وَأَصْحَابِهِ، قَسَمَ لَهُمْ مَعَهُمْ. [3876، 4230، 4233 - مسلم: 2502 - فتح 6/ 237]
3137 -
حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ المُنْكَدِرِ، سَمِعَ جَابِرًا رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَوْ قَدْ جَاءَنِي مَالُ الْبَحْرَيْنِ لَقَدْ أَعْطَيْتُكَ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا» .
فَلَمْ يَجِئْ حَتَّى قُبِضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا جَاءَ مَالُ البَحْرَيْنِ أَمَرَ أَبُو بَكْرٍ مُنَادِيًا فَنَادَى مَنْ كَانَ لَهُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم دَيْنٌ أَوْ عِدَةٌ فَلْيَأْتِنَا. فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِي كَذَا وَكَذَا. فَحَثَا لِي ثَلَاثًا -وَجَعَلَ سُفْيَانُ يَحْثُو بِكَفَّيْهِ جَمِيعًا، ثُمَّ قَالَ لَنَا: هَكَذَا قَالَ لَنَا ابْنُ المُنْكَدِرِ- وَقَالَ مَرَّةً: فَأَتَيْتُ أَبَا بَكْرٍ فَسَأَلْتُ فَلَمْ يُعْطِنِي، ثُمَّ أَتَيْتُهُ فَلَمْ يُعْطِنِي، ثُمَّ أَتَيْتُهُ الثَّالِثَةَ فَقُلْتُ: سَأَلْتُكَ فَلَمْ تُعْطِنِي، ثُمَّ سَأَلْتُكَ فَلَمْ تُعْطِنِي، ثُمَّ سَأَلْتُكَ فَلَمْ تُعْطِنِي، فَإِمَّا أَنْ تُعْطِيَنِي، وَإِمَّا أَنْ تَبْخَلَ عَنِّي.
قَالَ: قُلْتَ: تَبْخَلُ عَلَيَّ مَا مَنَعْتُكَ مِنْ مَرَّةٍ إِلاَّ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُعْطِيَكَ. قَالَ سُفْيَانُ: وَحَدَّثَنَا عَمْرٌو عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ جَابِرٍ: فَحَثَا لِي حَثْيَةً وَقَالَ: عُدَّهَا. فَوَجَدْتُهَا خَمْسَمِائَةٍ قَالَ: فَخُذْ مِثْلَهَا مَرَّتَيْنِ. وَقَالَ يَعْنِي: ابْنَ المُنْكَدِرِ: وَأَيُّ دَاءٍ أَدْوَأُ مِنَ الْبُخْلِ. [انظر: 2296 - مسلم: 2314 - فتح 6/ 237]
3138 -
حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا قُرَّةُ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقْسِمُ غَنِيمَةً بِالْجِعْرَانَةِ إِذْ قَالَ لَهُ رَجُلٌ: اعْدِلْ. فَقَالَ لَهُ: «شَقِيتَ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ» . [مسلم: 1063 - فتح 6/ 238]
ذكر فيه سبعة أحاديث:
أحدها: حديث مروان والمسور أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ حِينَ جَاءَهُ وَفْدُ هَوَازِنَ مُسْلِمِينَ، فَسَأَلُوهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَسَبْيَهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ:"أَحَبُّ الحَدِيثِ إِلَيَّ أَصْدَقُهُ، فَاخْتَارُوا إِحْدى الطَّائِفَتَيْنِ: إِمَّا السَّبْيَ وَإِمَّا المَالَ .. " الحديث.
وقد سلف في الوكالة
(1)
.
ثانيها: حديث أبي موسى ساقه من حديث حماد، حدثنا أَيُّوب، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، قَالَ: وَحَدَّثَنِي القَاسِمُ بْنُ عَاصِمٍ الكُلَيْبِيُّ -وَأَنَا لِحَدِيثِ القَاسِم أَحْفَظُ- عَنْ زَهْدَمٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ أَبِي مُوسَى
…
فذكر الحديث وفي آَخره: ثم أُتِيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِنَهْبِ إِبِلٍ، فَسَأَلَ عَنَّا فَأَمَرَ لَنَا بِخَمْسِ ذَوْدٍ غُرِّ الذُّرى، ثم ساق (بقيته)
(2)
.
والقائل: (وحدثني)
(3)
القاسم هو أيوب وكليب ورباح ابنا يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناه بن تميم. ويأتي في آخر المغازي والذبائح والأيمان والنذور
(4)
، وأخرجه مسلم أيضًا
(5)
.
ثالثها: حديث بَعَثَ سَرِيَّةً فِيهَا عَبْدُ اللهِ قِبَلَ نَجْدٍ، فَغَنِمُوا إِبِلًا كَثِيرًا، فَكَانَتْ سِهَامُهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ بَعِيرًا -أَوْ أَحَدَ عَشَرَ بَعِيرًا- وَنُفِّلُوا بَعِيرًا بَعِيرًا، وقد سلف
(6)
.
(1)
سبق برقم (2307) باب: إذا وهب شيئًا لوكيل أو شفيع قوم جاز.
(2)
في (ص 1): حديثه.
(3)
من (ص 1).
(4)
سيأتي في المغازي برقم (4385) باب: قدوم الأشعريين وأهل اليمن، ويأتي في الذبائح برقم (5518) باب: لحم الدجاج، ويأتي في الأيمان والنذور برقم (6649) باب: لا تحلفوا بآبائكم.
(5)
مسلم (1649) كتاب: الأيمان، باب: من حلف يمينًا.
(6)
قلت: بل سيأتي في المغازي برقم (4338) برقم (4338) باب: السرية التي قبل نجد.
رابعها: حديثه أيضًا أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُنَفِّلُ بَعْضَ مَنْ يَبْعَثُ مِنَ السَّرَايَا لأَنْفُسِهِمْ خَاصَّةً سِوى قِسْمِ عَامَّةِ الجَيْشِ.
خامسها: حديث أبي موسى: بَلَغَنَا مَخْرَجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ بِالْيَمَنِ .. الحديث ويأتي أيضًا في الهجرة والمغازي، وأخرجه مسلم
(1)
.
سادسها: حديث جَابِرٍ في البحرين سلف في الهبة
(2)
والزيادة التي فيه في باب من تكفل عن ميت دينًا
(3)
.
سابعها: حديثه أيضًا بَيْنَمَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقْسِمُ غَنِيمَةً بِالْجِعْرَانَةِ، إِذْ قَالَ لَهُ رَجُلٌ: اعْدِلْ. فَقَالَ لَهُ: "لقد شَقِيتَ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ" وهو من أفراده.
الشرح:
هذا القائل هو ذو الخويصرة التميمى كما ذكر ابن إسحاق، رجل من بني تميم
(4)
.
وفي رواية أخرى قال: هذِه قسمة ما أريد بها وجه الله
(5)
. وحديث أبي موسى ليس مطابقًا لما ترجم له؛ بل ظاهره يعني الأول أنه قسم لهم
(1)
سيأتي في مناقب الأنصار برقم (3876) باب: هجرة الحبشة، وفي كتاب المغازي برقم (4230)، (4233) باب: غزوة خيبر، ورواه مسلم (252) كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل جعفر بن أبي طالب.
(2)
سلف برقم (2598) باب: إذا وهب هبة أو وعد ..
(3)
سلف برقم (2296) كتاب: الكفالة.
(4)
سيأتي من حديث أبي سعيد برقم (3610) كتاب: المناقب، باب: علامات النبوة في الإسلام.
قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو يقسم قسمًا أتاه ذو الخويصرة، وهو رجل من بني تميم، فقال: يا رسول الله اعدل .. إلخ، و"سيرة ابن هشام" 4/ 144.
(5)
ستأتي من حديث عبد الله بن مسعود برقم (3405) كتاب: أحاديث الأنبياء، وقبله برقم (3150) عنه بلفظ مقارب.
من أصل الغنيمة مع الغانمين، وإن كانوا غائبين تخصيصًا لهم لا من الخمس، إذ لو كان منه لم تظهر الخصوصية لعامة المسلمين، والحديث ناطق مما ذكره ابن المنير
(1)
.
وذكر موسى بن عقبة أنه عليه السلام استطاب أنفس الغانمين بما أعطى أصحاب السفينة كما فعل في سبي هوازن، وقيل: إنما أعطاهم مما لا يفتح بقتال مما قد أجلى عنه أهله بالرعب، فصار فيئًا؛ لأنه لا يوجف عليه بخيل ولا ركاب، وبعض خيبر كانت هكذا.
وقال آخرون منهم ابن حبيب: إنما أعطاهم من الخمس الذي له أن يضعه باجتهاده. قال السهيلي: وقول من قال: إنه أعطى المؤلفة من خمس الخمس مردود؛ لأن هذا ملكه فلا كلام لأحد فيه. وقيل: أعطاهم من رأس الغنيمة، وذلك خصوص به، قال تعالى:{قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: 1] ويرده ما قيل من نسخها
(2)
. والذي اختاره أبو عبيد أن إعطاءهم كان من الخمس كما سيأتي
(3)
.
فصل:
غرض البخاري في الباب أن يبين أن إعطاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في نوائب المسلمين إنما هو من الفيء والخمس اللذين أمرهما مردود إليه يقسم ذلك بحسب ما يؤدي إليه اجتهاده.
وقد أسلفنا مذهب الشافعي في أن الفيء يخمس
(4)
.
(1)
"المتواري" ص 195.
(2)
"الروض الأنف" 3/ 79.
(3)
"الأموال" ص 331 - 332.
(4)
"الأم" 4/ 64.
والشارع لما تحلل المسلمين من سبي هوازن واستطابهم ووعدهم أن يعوضهم من أول ما يفيء الله عليه إنما أشار إلى الخمس، إذ معلوم أن أربعة أخماس الغنيمة للغانمين، فبان أن الخمس لو كان مقسومًا على خمسة أسهم لم يف خمس الخمس بما وعد المسلمين أن يعوضهم في سبي هوازن، ذكر أهل السيرة أن هوازن لما أتت لقتاله أتوا بالإبل والنساء والذرية وجميع أموالهم
(1)
.
وذهب البخاري إلى أنه تحلل المسلمين من سباياهم بعد ما كانوا فيئًا فأطلقهم لما كان نساء بني سعد ولوا من رضاعه فراعى من قبيلهم حرمة ذلك، كما روعي في المرأة صاحبة المزادتين أنه لم يضرب على الحي الذي كانت منه لدمائها في أخذ الماء منها حتى أسلم جميعهم.
فصل:
وقد احتج -كما قال المهلب- بعض أصحاب مالك بقصة هوازن في أنه يجوز قرض الجواري إذا رد غيرها، ومنع من ذلك مالك؛ لأنه عنده من باب عارية الفروج وهو حرام
(2)
.
فصل:
الإبل التي حمل عليها الشارع الأشعريين هي أيضًا من الخمس، إذ أربعة أخماس الغنيمة للغانمين كما سلف.
فصل:
وحديث ابن عمر فيه حجة أن النفل من الخمس كما قال مالك؛ لأنه إنما نفلهم بعيرًا بعيرًا بعد قسمة السهمان بينهم من غير ما وجبت فيه
(1)
"سيرة ابن هشام" 4/ 65.
(2)
"شرح ابن بطال" 5/ 297.
سهامهم، وهو الخمس. وقاله الطحاوي، قال: وذهب قوم إلى أنه ليس للإمام أن ينفل بعد إحراز الغنيمة إلا من الخمس، فأما غير الخمس فلا؛ لأنه قد ملكه المقاتلة، فلا سبيل للإمام عليه
(1)
.
وقال ابن المنذر: روي هذا القول عن أنس بن مالك وسعيد بن المسيب، وهو قول مالك والكوفيين والشافعي، وذكره أبو عبيد عن مكحول
(2)
. وعمر بن عبد العزيز قال: والناس اليوم على هذا لا نفل من جملة الغنيمة حتى تخمس. وخالفهم آخرون، كما قال الطحاوي: فقالوا: للإمام أن ينفل من الغنيمة ما أحب بعد إحرازه إياها قبل أن يقتسمها، كما كان له قبل ذلك
(3)
.
وذكر ابن المنذر أنه قول القاسم بن عبد الرحمن، وفقهاء أهل الشام قالوا: الخمس من جملة الغنيمة، والنفل من بعده، ثم الغنيمة بعد ذلك بين أهل العسكر، وهو قول الأوزاعي وأحمد وإسحاق.
وحجة هذِه المقالة حديث سليمان بن موسى، عن زياد بن جارية، عن حبيب بن مسلمة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نفل في بدأته الربع قبل الخمس، فكذلك الثلث الذي ينفله في الرجعة هو الثلث أيضًا قبل الخمس وإلا لم يكن لذكر الثلث معنى، وهو حديث أخرجه أبو داود، وابن ماجه، وصححه ابن حبان والحاكم
(4)
.
(1)
"شرح معاني الآثار" 3/ 239.
(2)
"الأموال" ص 329 (809).
(3)
"شرح معاني الآثار" 3/ 239.
(4)
أبو داود (2748 - 2750)، وابن ماجه (2851، 2853)، وابن حبان 11/ 165 (4835)، والحاكم 2/ 133، ولفظه: نفل في البدأة الربع بعد الخمس، وفي الرجعة الثلث بعد الخمس. أو بألفاظ متقاربة. وليس كما يوهم سياق الكلام هنا.
وألزم الدارقطني الشيخين تخريج حديث حبيب بن مسلمة
(1)
. فيقال: بل له معنى؛ وذلك أن المذكور من نفله في البدأة الربع هو مما يجوز له النفل منه، فكذلك نفله في الرجعة الثلث مما يجوز له النفل منه وهو الخمس، بدليل رواية مكحول عن زياد عن حبيب أنه عليه السلام كان ينفل الثلث بعد الخمس.
واحتجوا أيضًا بحديث سليمان بن موسى، عن مكحول، عن أبي سلام، عن أبي أمامة الباهلي، عن عبادة بن الصامت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفلهم إذا خرجوا بادين الربع، وينفلهم إذا قفلوا الثلث
(2)
، ولا حجة فيه؛ لأنه يحتمل أن معناه: ينفلهم إذا قفلوا الثلث، فيكون ذلك على قول من قال: إلى قتال. فيكون الثلث المنفل هو الثلث قبل الخمس.
قال الطحاوي: وذلك جائز عندنا؛ لأنه يرجى بذلك صلاح القوم وتحريضهم على قتال عدوهم، فأما إذا كان القتال قد ارتفع، فلا يكون النفل؛ لأنه لا منفعة للمسلمين في ذلك
(3)
.
وقال أبو عبيد في النفل الذي ذكره ابن عمر في قوله: ونفلوا بعيرًا بعيرًا بعد ذكر السهام: ولا وجه له إلا أن يكون من الخمس، وقد جاء مبينًا في حديث مكحول أنه عليه السلام نفل يوم خيبر من الخمس
(4)
. وروى ابن وهب عن يونس، عن ابن شهاب، قال: بلغني عن عبد الله بن
(1)
"الإلزامات والتتبع " ص 114.
(2)
رواه الترمذي (1561)، وابن ماجه (2852)، وأحمد 5/ 319 - 320، والدارمي في "سننه" 3/ 1613 (2525)، وابن حبان في "صحيحه" 11/ 193 (4855)، والبيهقي في "السنن الكبرى" 6/ 313. وضعفه الألباني في "ضعيف سنن ابن ماجه" (262).
(3)
"شرح معاني الآثار" 3/ 240.
(4)
"الأموال" ص 332.
عمر رضي الله عنهما أنه قال: نفل رسول الله سرية بعثها قبل نجد من إبل جاءوا بها نفلاً، سوى نصيبهم من المغنم
(1)
.
وقوله عليه السلام يوم خيبر حين أخذ وبرة من جنب بعير ثم قال: "أيها الناس، إنه لا يحل لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس، وهو مردود فيكم"
(2)
يدل أن ما سوى الخمس من المغنم للمقاتلة يوضحه رواية أبي عوانة عن عاصم بن كليب عن أبي الجويرية عن معن بن يزيد السلمي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا نفل إلا بعد الخمس"
(3)
أي: حتى يقسم الخمس، وإذا قسم انفرد حق المقاتلة، وهو أربعة أخماس، فكان ذلك النفل الذي ينفله الإمام إن آثر ذلك هو في الخمس لا من الأربعة أخماس التي هي حق المقاتلة ولو (أجزنا)
(4)
النفل قبل ذلك لكان حقهم قد بطل وجوبه، وإنما يجوز النفل مما يدخل في ملك المنفل من ملك العدو، فأمّا ما قد زال عن ملك العدو قبل ذلك وصار في ملك المسلمين فلا نفل فيه؛ لأنه من مال المسلمين، فثبت بذلك أن لا نفل بعد إحراز الغنيمة.
ومما احتجّ به أصحاب مالك قالوا: إنما لم يجعل مالك النفل من رأس الغنيمة؛ لأن لها معينين، وهم الموجفون، وجعله من الخمس؛ لأن قسمته مردودة إلى اجتهاد الإمام، وأهله غير معينين.
(1)
رواه مسلم (1750/ 39) دون أن يسوق لفظه، وساقه البيهقي 6/ 313.
(2)
سبق تخريجه.
(3)
رواه أبو داود (2753)، وأحمد 3/ 470، وسعيد بن منصور في "سننه" 2/ 264 - 265 (2713)، وابن سعد في "الطبقات" 4/ 327 - 328، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" 3/ 242، والطبراني 19/ 442 (1073)، والبيهقي 6/ 314 (12809).
(4)
في (ص 1): اخترنا.
وفي حديث ابن عمر رد لقول من قال: إن النفل من خمس الخمس، وإنما في الحديث أنه نفل نصف السدس؛ لأنه بلغت سهمانهم اثني عشر بعيرًا ونفلوا بعيرًا بعيرًا.
فصل:
وأما حديث أبي موسى وأهل السفينة، فإن للعلماء في معناه تأويلات أحدها: ما أسلفناه عن موسى بن عقبة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استطاب قلوب الغانمين مما أعطاهم، كما فعل في سبي هوازن، وروي ذلك عن أبي هريرة.
روى خثيم بن عراك عن أبيه، عن نفر من قومه أن أبا هريرة قدم المدينة هو ونفر من قومه فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خرج إلى خيبر، قال: فقدمنا عليه وقد فتح خيبر، فكلم الناس فأشركنا في سهامهم
(1)
. وقيل: إنما أعطى من خيبر لأهل الحديبية خاصة. رواه حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن عمار بن أبي عمّار، عن أبي هريرة قال: ما شهدت مغنمًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قسم لي، إلا خيبر فإنها كانت لأهل الحديبية خاصة
(2)
شهدوها أو لم يشهدوها؛ لأن الله تعالى كان وعدهم بها بقوله: {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا} [الفتح: 21] بعد قوله: {وَعَدَكُمُ الله مَغَانِمَ كَثِيرَةً} [الفتح: 20] وهذا أحد الأقوال
(1)
رواه أحمد 2/ 345، وأبو داود الطيالسي في "مسنده" 4/ 316 (2713)، والطحاوي في "مشكل الآثار" 7/ 351 (2910)، والبيهقي 6/ 334.
(2)
رواه أحمد 2/ 535، وأبو داود الطيالسي 4/ 221 (2597)، وابن سعد في "الطبقات" 4/ 327، والدارمي في "سننه" 3/ 1608 (2517)، والبيهقي 6/ 334، وأورده الهيثمي في "المجمع" 6/ 156، وقال: رواه أحمد، وفيه: علي بن زيد، وهو سيَّئ الحفظ، وبقية رجاله رجال الصحيح.
في الآية كما سلف. وقال آخرون: إنما أعطاهم منها مما لم يُفتح بقتال، وقد سلف.
وقال آخرون: إنما أعطاهم منها من الخمس الذي حكمه حكم الفيء، وله أن يضعه باجتهاده حيث شاء. ويمكن أن يذهب البخاري إلى هذا القول.
فصل:
وحديث جابر يحتمل أن يكون من الخمس أو الفيء، وكذلك حديث جابر الآخر يحتمل أن يكون من الخمس؛ لأنه إنما أنكر الأعرابي الجاهل ما رأى من التفضيل، وذلك لا يكون في أربعة أخماس الغنيمة، وإنما يكون في الخمس الذي هو موكول إلى اجتهاده عليه السلام.
قال إسماعيل بن إسحاق: وهذا مما لا يعلم أنه من الخمس، وقد قسمه عليه السلام بغير وزن، ثم ساقه من حديث أبي الزبير: سمع جابرًا يقول: بصر عيني وسمع أذني رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجعرانة، وفي ثوب بلال فضة يقبضها للناس يعطيهم، فقال له رجل: اعدل
…
الحديث
(1)
.
فصل:
قال ابن أبي صفرة: فعله عليه السلام في سبي هوازن؛ يدل أن الغنائم على حكم الإمام، وإن رأى أن يصرفها إلى ما هو أوكد وأعظم مصلحةً للمسلمين من قسمتها على الغانمين صرفها ولم يعط الغانمين شيئًا، كما فعل بمكة، فتحها عنوة، ومنّ عليهم، ولم يعط أصحابه منها، بل
(1)
رواه مسلم (1063) كتاب الزكاة باب: ذكر الخوارج وصفاتهم ورواه أحمد 3/ 354 واللفظ.
أبقاها للرحم التي كانت بينه وبينهم، وكذلك أراد أن يفعل بهوازن للرضاعة فيهم حين (أسبيا)
(1)
بالغنائم، فلما أبطئوا قسم، ثم لما جاءوا، ردّ بعضًا، وأبقى للغانمين بعضًا عن طيب أنفسهم، ولم يستطب أنفسهم بمكة؛ لأنه لم يملكهم واستطاب أنفسهم بهوازن؛ لأنه قد كان قسم لهم وملّكهم، فصحَّ بهذا أنه لا شيء لهم إلا أن يملكوا.
وقد قال مالك: يحد الزاني ويقطع السارق، وإن كان له في الغنيمة سهم إذا فعل ذلك قبل القسمة، فلو كان له فيها شبهة لدرأ الحد بها لحديث:"ادرءوا الحدود بالشبهات"، فدل أنه لا شبهة لهم فيها إلا أن يملكوها بالقسمة.
وحكى الطبري هذِه المقالة عن بعض أهل العلم قالوا: حكم الغنائم كلها لرسول الله صلى الله عليه وسلم في مغازيه كلها، وله أن يصرفها إلى من يشاء، ويحرمها من حصر القتال ومن لم يحضر، واعتلوا بقوله تعالى:{قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: 1] وبفعله عليه السلام بهوازن، ولم يسمّ القائلين بذلك.
وقال آخرون: أربعة أخماس الغنيمة حق للغانمين؛ لا شيء فيه للإمام، وإنما هو عليه السلام كبعض من حضر الوقعة إلا ما كان خصه الله به من الفيء وخمس الخمس، (وأما)
(2)
غير ذلك فلم يكن له فيه شيء.
قالوا: والذي أعطى عليه السلام يوم حنين للمؤلفة قلوبهم إنما كان من نصيبه و (حقه)
(3)
من الغنيمة. وقالوا: وقوله تعالى: {قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} معناه: له وضعها موضعها التي أمره الله بوضعها فيها، لا أنه
(1)
في الأصل: (استابا) غير منقوطة، ولعل المثبت صحيح.
(2)
في الأصل: فإنه.
(3)
في (ص 2): حصته.
ملكها ليعمل فيها ما شاء، قالوا: وكيف يجوز أن يكون معنى قوله: {وَالرَّسُولِ} : ملكًا له، وهو عليه السلام، يقول يوم صدر من حنين فتناول وبرة من الأرض: "ما لي من مال الله
…
" إلى آخره
(1)
.
فبين هذا إن ما أعطى المؤلفة ومن لم يشهد الوقعة إنما كان من نصيبه وحقه من الغنيمة خاصة. وقال أبو عبيد: مكة لا تشبه شيئًا من البلاد، وذلك أنه عليه السلام سن بمكة شيئًا لم يسّنه في سائر البلاد، قالت له عائشة: ألا تبني لك بيتًا يظلك من الشمس بمنًى؟ فقال: "لا، منًى مناخ من سبق"
(2)
.
وقال عبد الله بن عمرو: من أكل من أجور بيوت مكة، فإنما يأكل في بطنه نار جهنم. وكره أهل العلم كراء بيوتها. وقال ابن عباس وابن عمر: الحرم كله مسجد.
وقال مجاهد: مكة مناخ لا يباع رباعها، ولا تؤخذ أجور بيوتها، ولا تحلّ ضالتها إلا لمنشد
(3)
.
قال أبو عبيد: فإذا كان حكم مكة أنها مناخ من سبق، وأنها مسجد جماعة المسلمين ولا تباع (رباعها)
(4)
ولا يطيب كراء بيوتها، فكيف يقاس غيرها عليها
(5)
.
قلت: جوز الشافعي بيع دورها وإجارتها بناء على أنها فتحت صلحًا.
(1)
سبق تخريجه.
(2)
"الأموال" ص 70 - 71.
(3)
روى ذلك عنهم أبو عبيد في "الأموال" ص 71 - 72 أرقام (161 - 169).
(4)
في (ص 1): ركوبها.
(5)
"الأموال" ص 73.
فصل:
قول البخاري: "إن الخمس لنوائب المسلمين". قد علمت اختلاف العلماء فيه.
وقول مالك: إن حكم الإمام يعطي منه ذوي القربى واليتامى ومن ذكر معهم بقدر اجتهاده ليس على أن لكل صنف منهم جزءًا، زاد إسماعيل: له أن يعطي منه جميع المسلمين، ذكره الداودي.
واختلف (قوله)
(1)
في كيفية قسمته، فقال: مرة على الاجتهاد، وقال أخرى: على قسم المواريث للذكر مثل حظ الأنثيين، وذلك (بعد)
(2)
أن يبدأ بإصلاح الأسوار والقناطر وما يعم المسلمين نفعه، ويخشى عليهم من إضاعته، والشافعي يقول: تقسم على خمسة -كما سلف- وسهمه عليه السلام يصرفه فيما كان عليه السلام يصرفه فيه، وروي أنه كان يصيره لقوة المسلمين.
وعند أبي حنيفة: يقسم على ثلاثة: للفقراء، والمساكين، وابن السبيل؛ لأنه عليه السلام قال:"لا نورث؛ ما تركنا صدقة"
(3)
. وقيل: إن رأى أن يعطي غير هؤلاء أعطاهم، وإنما ذكر هؤلاء لأنهم أهم من يعطى، كما قال تعالى:{قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [البقرة: 215] وهذا مذهب مالك المعروف عنه، كما قاله ابن التين، وسلف ما ذكره الداودي عنه.
وقيل: يقسم الخمس على ستة أسهم: سهم لله يصرف في الكعبة، وقيل: معنى قوله {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال:41] افتتاح كلام، وقد
(1)
من الأصل.
(2)
من (ص 1).
(3)
سلف من حديث أبي بكر وعمر برقمي (3093، 3094) باب: فرض الخمس.
سبق: ليس لله نصيب، له الدنيا والآخرة. وقيل: المعنى: الحكم فيه لله وللرسول، ويقسم على أربعة. وفيه بعد؛ لأنه كان يعطي منه المؤلفة قلوبهم وغيرهم، وقد قال:"ما لي فيما أفاء الله عليكم إلا الخمس، وهو مردود فيكم"
(1)
.
فصل:
وفي قصة هوازن سبي مشركي العرب، وفيه الاستثناء بقسمة الغنيمة. ومعنى "جاءونا تائبين" مسلمين.
وفيه: اتخاذ العرفاء وقبول خبر الواحد.
فصل:
قال الداودي في حديث أبي موسى: إن اسم الدجاجة يقع على الذكر والأنثى من الدجاج، ولا ندري من أين أخذه
(2)
، قال: وقوله: (أحمر كأنه من الموالي) -يعني: من سبي الروم. و (تيم الله): قبيلة من العرب.
وقوله: (فقذرته)، أي: بكسر الذال تقذرته، والقاذورة: الذي يتقذر الشيء فلا تأكله. وفي الحديث: كان عليه السلام لا يأكل قاذورة الدجاج حتى تعلف
(3)
.
وقال ابن فارس: قذرت شيئًا قذرًا: كرهته
(4)
.
(1)
سبق تخريجه.
(2)
ورد بهامش الأصل ما نصه: ما قاله الداودي في "صحاح الجوهري" وفي "القاموس".
(3)
لم أقف عليه في كتب الحديث المسندة. وذكره ابن الأثير في "النهاية في غريب الحديث والأثر" 4/ 28 والزمخشري في "الفائق" 3/ 168.
(4)
"المجمل" ص 747 (قذر).
وقوله: (ينهب إبل) يعني: غنيمة، والنهب: المغنم. وكان الصديق يوتر قبل أن ينام ويقول: أحرزت نهبي، يريد: سهمه من الغنيمة.
وقوله: (غر الذرى) أي: بيض الأسنمة من سِمَنِهِنَّ وكثرة شحومهنّ، والذُّرى جَمْع ذروة، وذروة كل شيء أعلاه.
وفيه: خوفهم أن يأخذوا ما لا يسوغ لهم أخذه مع نسيان رسول الله.
وقوله: "لَسْتُ أَنَا حَمَلْتُكُمْ، ولكن الله حَمَلَكُمْ" يحتمل وجوهًا:
أبينها: إزالة المنة عنهم، وإضافة النعمة إلى مالكها الحقيقي، ولو لم يكن له في ذلك صنيعٌ ما كان لقوله:"لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا" وجه.
ثانيها: أن يكون أنسيها، والناسي كالمضطر، وفعله غير مضاف إليه، إنما يضاف إلى الله.
ثالثها: أن الله حملكم حين ساق هذا النهب، ورزق هذا المغنم، وقد كنت عجزت عن حملكم.
رابعها: أن يكون نوى في ضميره إلا أن يرد عليه مال في الحال فيحملهم عليه.
وقوله: "إِلَّا أَتَيْتُ الذِي هُوَ خَيْرٌ وَتَحَلَّلْتُهَا" يريد: الكفارة، يقال: تحلل الرجل من يمينه إذا استثنى، وقال: إن شاء الله، قال النمر: وأرسل أيماني ولا أتحلل.
ومعنى التحلل: التفضي من عهدة اليمين، والخروج من حرمتها إلى ما يحل له منها، وقد يكون ذلك مرة بالاستثناء ومرة بالكفارة.
فصل:
قوله: في حديث ابن عمر رضي الله عنهما: (فكانت سهمانهم اثني
عشر بعيرًا أو أحد عشر بعيرًا ونفلوا بعيرًا بعيرًا) يحتمل أنه شك في سهامهم، أو أنه شك هل كانت اثني عشر، ونفلوا بعيرًا (بعيرًا زائدًا)
(1)
، أو بلغت بالنافلة اثني عشر، غير أنه يعود من جهة العدد إلى معنى واحد.
وبين البخاري في غير طريق مالك: أنه بلغت سهمانهم اثني عشر بعيرًا، ونفلوا بعيرًا، فرجعوا بثلاثة عشر بعيرًا ذكرها في المغازي
(2)
. ومالك كان كثير التوقي في الحديث.
وفيه: جواز النفل، وقيل: إنه إجماع.
وفيه: أنه من الخمس، خلافًا للشافعي حيث قال: من خمس الخمس
(3)
؛ لأنه إذا أخذ كل واحد اثني عشر بعيرًا، وأخذ الإمام خمسها ثلاثة، فخمس الثلاثة لا يبلغ بعيرًا، فلو لم يكن النفل من جملة الثلاثة التي هي خمس ما صح أن يعطيه بعيرًا، وعلى هذا الحساب قلوا أو كثروا.
وانفصل بعض أصحابنا الشافعية عنه بوجوه:
منها أن الغنيمة كان فيها أذهاب وأمتعة.
ومنها: أن الإمام يتصرف في سهمه من سائر الغزوات كيف شاء، فيجوز أن يكون نفلهم من سهمه من هذِه الغزاة وغيرها.
ومنها: أنه نفل بعضهم ولم ينفل جميعهم، يعني: أن النفل كان في بعضهم. وظاهر الحديث يردّه.
(1)
من (ص 1).
(2)
ستأتي برقم (4338) كتاب المغازي، باب: السرية قبل نجد.
(3)
"الأم" 4/ 67 - 68.
وقد روي: أنهم كانوا عشرة غنموا مائة وخمسين بعيرًا، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم منها ثلاثين، وأخذوا هم عشرين ومائة؛ أخذ كل واحد منها اثني عشر بعيرًا، ونفل بعيرًا. فلو كان النفل من خمس الخمس لم يعمهم ذلك، وسيأتي في المغازي غير ذلك.
قال بعضهم: وليس للإمام أن ينفل إلا عند الحاجة إليه؛ لأنه عليه السلام لم ينفل في كثير من غزواته.
وقيل: يكون النفل من رأس الغنيمة، والحديث يرده؛ ولأن الأخماس الأربعة ملك للغانمين يساوى بينهم فيه، لا يزاد واحد لغناء ولا لقتال.
فصل:
وما حكاه أبو موسى من قسمة رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم وهم غيب، فقد أسلفنا فيه وجوهًا: إما بالرضى، أو من الخمس. وقد أسهم لعثمان يوم بدر وقال:"اللهم إن عثمان في حاجة نبيك"
(1)
وعند أبي حنيفة: أن من دخل دار الحرب قبل انفصال الجيش منها أن له سهمه، ولعله تعلق في ذلك بظاهر هذا الحديث. وقوله: فوافقنا النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر، أي: صادفناه ووافيناه. وقال عليه السلام: "لا أدري بأيهما أفرح، بقدوم جعفر أو بفتح خيبر"
(2)
.
وقوله: "لقد شقيتُ إن لم أعدل" ويروى بفتحها، ومعناه: خبت أنت إن لم يعدل نبيك، ومن أنت متَّبِعُه، وإنما كان عليه السلام يعطي بالوحي.
(1)
سبق تخريجه.
(2)
رواه البزار (1328) عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب عن أبيه، والحاكم 2/ 681، 3/ 233 وصححه.
فصل:
قال الداودي: والذي ذكره البخاري من فقه جابر ليس هو من الخمس، إنما هو من مال أتى من البحرين، لم يكن من مغنم.
قال: وقوله: (حثا لي بيديه)، وقال مرة:(حثية)، وفي غير هذا الموضع: حفنة. قال فعلى ما هنا يسمى ما يؤخذ باليدين حثية، والمعروف عند أهل اللغة، أن الحثية ما يملأ بالكف الواحدة، وأن الحفنة ما يحفن باليدين، قال ابن القاسم: الحفنة باليد الواحدة، وهذا آخر كلامه، وتعقبه ابن التين فقال: الذي ذكره الهروي عن القتبي: الحثية والحفنة شيء واحد، يقال: حفن القوم المال وحثا لهم، إذا أعطى كل واحدٍ منهم حفنة أو حثوة
(1)
، قال ابن فارس: الحفنة ملء كفيك
(2)
.
قال: وقوله: (فحثا لي حثية). صوابه: حثوة بالواو. إلا أن ابن فارس قال: حثا التراب يحثوه، وحثا يحثي حثيًا، مثله
(3)
. فصار في ذلك لغتان.
(1)
"غريب الحديث" لابن قتيبة 1/ 570.
(2)
"المجمل" ص 243 (حفن).
(3)
"المجمل" ص 264 (حثو).
16 - باب مَا مَنَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الأُسَارى مِنْ غَيِرْ أَن يُخَمَّسَ
3139 -
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي أُسَارَى بَدْرٍ:«لَوْ كَانَ المُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا، ثُمَّ كَلَّمَنِي فِي هَؤُلَاءِ النَّتْنَى، لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ» . [4024 - فتح 6/ 243]
ذكر فيه حديث مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي أُسَارى بَدْرٍ:"لَوْ كانَ المُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا، ثُمَّ كلَّمَنِي فِي هؤلاء النَّتْنَى، لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ".
الشرح:
هذا الحديث ذكره هنا عن إسحاق أنا عبد الرزاق
(1)
وذكره في المغازي فقال: حدثنا إسحاق بن منصور، ثنا عبد الرزاق
(2)
. وبه صرح أصحاب الأطراف أنه ابن منصور، ورواه أبو نعيم، عن الطبراني ثنا إسحاق بن إبراهيم أنا عبد الرزاق.
ولما رواه في المغازي قال: حدثنا محمد بن محمد بن مكي، ثنا الفربري، ثنا البخاري، ثنا إسحاق بن منصور، عن عبد الرزاق.
وكذا هو في بعض نسخ المغاربة ابن منصور
(3)
.
(1)
كذا قال المصنف. والذي في البخاري هنا التصريح باسم أبيه أيضًا. انظر "اليونينية" 4/ 91 فلعل في نسخة المصنف سقط، لا سيما وليس ثم إشارة في "اليونينية" لاختلاف.
(2)
سيأتي برقم (4024).
(3)
سبق الإشارة إلى أنه ليس هناك إشارة في "اليونينية" لاختلاف النسخ، وقول
ثم الحديث قال على أن للإمام أن يمُنّ على الأسارى من غير فداء؛ خلاف قول بعض التابعين؛ لأنه عليه السلام لا يجوز في صفته أن يخبر عن شيء لو وقع لفعله، وهو غير جائز.
وقوله: (من غير أن يخمس)، أنكره الداودي وقال: لم يكن القوم ممن يخمس، ولا يسترق ولا يكون ذمة إذا مَنَّ عليه، إنما كان الحكم فيهم في تلك الغزاة القتل أو المفاداة بأموال تأتيهم من مكة، ومن لم يكن له مال علَّم أولاد الأنصار الكتابة. قال: و (قيل)
(1)
يخمسون عنده وهو مروي: "سبعة موال لا مولى لهم إلا الله: قريش، والأنصار، وجهينة، ومزينة، وأسلم، وأشجع، وغفار"
(2)
.
وكان حكم قريش يوم فتح مكة الإسلام أو القتل لا يفادون ولا يسترقون ولا تقبل منهم جزية؛ ولا يهاجوا في شيء من أموالهم فأحكام قريش (ليست كغيرهم)
(3)
، ولما أسر القوم يوم بدر استشار النبي صلى الله عليه وسلم صحابته، فأشار عليه أبو بكر وطائفة معه أن يفاديهم، (وقال: هم عشيرتك)
(4)
، لعلّ الله أن يستنقذهم بك، وأشار عليه عمر وعلي بقتلهم، ففاداهم، وأسلم بعد ذلك بعضهم، منهم حكيم بن حزام، وكان يقال لهم: الطلقاء، إذ لم يجر عليهم رقّ فيكونوا عتقاء.
المؤلف أنه في نسخ المغاربة يوهم أن نسخ المشارقة ليس فيه التصريح. لكنَّ ابن حجر في "الفتح" 6/ 243 لم يعلق على الإسناد فكأنه لا إشكال فيه، وأن عنده التصريح باسمه، والله أعلم.
(1)
في (ص 1): هل.
(2)
سيأتي برقم (3504) كتاب المناقب، باب: مناقب قريش، ورواه مسلم (2520) كتاب:"فضائل الصحابة" باب: من فضائل غفار وأسلم وجهينة.
(3)
في (ص 1): (بسبب كفرهم).
(4)
من (ص 1).
وقوله: "لو كان المطعم حيًّا" كان معظَّمًا في قريش، وكان سعى في نقض الصحيفة التي كتبت قريش علي بن ي هاشم، وبني المطلب ألا يخالطوا حتى يخلوا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وقريش.
وقتل يومئذ من الأسرى عقبة بن معيط والنضر بن الحارث.
و (النتنى): جمع نتن، مثل زمن وزمنى، يقال: أنتن الشيء فهو منتن ونتن.
فصل:
قال المهلب: وفيه جواز الشفيع للرئيس الشريف على سبيل الائتلاف له والانتفاع بإشفاعه في ردّ دعاية المشركين بأكثر ما يخشى من ضرر المكلفين لطاعتهم لسيدهم المشفع فيهم ورسولهم من الشارع، وأن الانتفاع بالمن عليهم أكبر من قتلهم أو استرقاقهم.
فصل:
قال ابن بطال: وفي ترجمة الباب حجة لما ذكره ابن القصّار عن مالك وأبي حنيفة: أن الغنائم لا يستقر ملك الغانمين عليها بنفس الغنيمة (إلا بعد قسمة الإمام لها)
(1)
.
وحكي عن الشافعي: أنهم يملكون بنفس الغنيمة لا بعد قسمة الإمام لها، والحجة للأول حديث الباب، وذلك أنه لو مَنّ عليه السلام على الأسارى سقط سهم منْ له الخمس كما سقط سهم الغانمين.
وقوله: ("لتركتهم له") يقتضي ترك جميعهم لا بعضهم، واحتجّ ابن القصَّار فقال: لو ملكوا بنفس الغنيمة لكان منْ له أب أو ولد ممن يعتق عليه إذا ملكه يجب أن يعتق عليه ويحاسب به من سهمه، وكان يجب
(1)
من (ص 1).
لو تأخرت الغنيمة في العين والورق، ثم قسمت أن يكون لحول الزكاة على الغانمين يوم غنموا، وفي اتفاقهم أنه لا يعتق عليهم من يلزمهم عتقه إلا بعد القسمة، ولا يكون حول الزكاة إلا من يوم حان نصيبه بالقسمة، دلالة أنه لا يملك بنفس الغنيمة، ولو ملك بنفسها لم يجب عليه الحد إذا وطئ جارية من المغنم قبل القسمة
(1)
.
واحتجّ أصحابنا فقالوا: لو ترك النبي للمطعم بن عدي كان يستطيب أنفس أصحابه الغانمين كما فعل في سبي هوازن؛ لأن الله تعالى أوجب لهم ملك الغنائم إذا غنموها بقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ} الآية [الأنفال: 41]، فأضافها إليهم.
وأما قولهم: لو ملكوا بنفس الغنيمة لكان من له أب أو ولد يعتق بنفس الغنيمة فلا حجة فيه؛ لأن السنة إنما وردت فيمن أعتق شقصًا له في عبدٍ معيَّن قد ملكه وعرفه بعينه، فأمّا من لا يعرف بعينه فلا يشبه عتق الشريك، ألا ترى أن الشريك له أن يعتق كما أعتق صاحبه.
وفي إجماعهم: أنه يعتق على (الشريك)
(2)
الموسر في العتق، وإجماعهم: أنه لا يعتق عليه في تركته في الغنيمة دليل واضح على الفرق بينهما.
وأمّا قوله: إنه يجب أن يكون حول الزكاة من وقت الغنيمة لو كان ملكًا، فخطأ بيّن على مذهب مالك وغيرهم؛ لأن الفوائد لا تراعى حولها عندهم إلاَّ من يوم تصير بيد صاحبها.
(1)
"شرح صحيح البخاري" لابن بطال 5/ 304 - 305.
(2)
من (ص 1).
وأمّا اعتلالهم بوجوب الحد على من وطئ من المغنم قبل القسمة فلا معنى له؛ لأن الحدود تدرأ بالشبهة، ولا خلاف بين العلماء أنه لو وطئ جارية معينة بينه وبين غيره لم يحد، فكيف ما لا يتعين؟!
فرع:
سلف التصريح: أن عندنا (وعند)
(1)
أحمد أن الإمام مخير في البالغين بين المنّ والفداء والقتل والاسترقاق، أي ذلك كان أصلح وأعز للإسلام فعل.
وعند أبي حنيفة كذلك إلا المن بلا فداء؛ لأن فيه تقوية للكفار. وزعم بعضهم -فيما حكاه ابن الجوزي- أن المنّ كان مخصوصًا برسول صلى الله عليه وسلم.
(1)
من (ص 1).
17 - باب وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الخُمُسَ لِلإِمَامِ وَأَنَّهُ يُعْطِي بَعْضَ قَرَابَتِهِ دُونَ بَعْضٍ مَا قَسَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِبَنِي المُطَّلِبِ وَبَنِي هَاشِمٍ من خُمُسِ خَيْبَرَ
قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ: لَمْ يَعُمَّهُمْ بِذَلِكَ، وَلَمْ يَخُصَّ قَرِيبًا دُونَ مَنْ هو أَحْوَجُ إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الذِي أَعْطَى لِمَا يَشْكُو إِلَيْهِ مِنَ الحَاجَةِ، وَلمَا مسه فِي جَنْبِهِ مِنْ قَوْمِهِمْ وَحُلَفَائِهِمْ.
3140 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنِ ابْنِ المُسَيَّبِ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: مَشَيْتُ أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَعْطَيْتَ بَنِي الْمُطَّلِبِ وَتَرَكْتَنَا، وَنَحْنُ وَهُمْ مِنْكَ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«إِنَّمَا بَنُو الْمُطَّلِبِ وَبَنُو هَاشِمٍ شَيْءٌ وَاحِدٌ» . قَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي يُونُسُ وَزَادَ: قَالَ جُبَيْرٌ وَلَمْ يَقْسِمِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَلَا لِبَنِي نَوْفَلٍ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: عَبْدُ شَمْسٍ وَهَاشِمٌ وَالْمُطَّلِبُ إِخْوَةٌ لأُمٍّ، وَأُمُّهُمْ عَاتِكَةُ بِنْتُ مُرَّةَ، وَكَانَ نَوْفَلٌ أَخَاهُمْ لأَبِيهِمْ. [3502، 4229 - فتح 6/ 244]
ثم ساق حديث اللَّيْثِ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابن شِهَاب، عَنِ ابن المُسَيِّبِ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: مَشَيْتُ أَنَا وَعُثْمَانُ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَعْطَيْتَ بَنِي المُطَّلِبِ وَتَرَكْتَنَا، وَنحْنُ وَهُمْ مِنْكَ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ. فَقَالَ صلى الله عليه وسلم:"إِنَّمَا بَنُو المُطَّلِبِ وَبَنُو هَاشِمِ شَيْءٌ وَاحِدٌ".
وقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، وَزَادَ جُبَيْرْ وَلَمْ يَقْسِمِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَلَا لِبَنِي نَوْفَلٍ. وَقَالَ ابن إِسْحَاقَ: عَبْدُ شَمْسٍ (وَهَاشِمٌ)
(1)
وَالْمُطَّلِبُ إِخْوَة لأُمٍّ، وَأمُّهُمْ عَاتِكَةُ بِنْتُ مُرَّةَ، وَكَانَ نَوْفَل أخَاهُمْ لأَبِيهِمْ.
(1)
من (ص 2).
الشرح:
هذا الحديث من أفراده، ويأتي في مناقب قريش
(1)
وتعليق الليث أسنده في المغازي عن يحيى بن بكير عنه
(2)
، وكلام ابن إسحاق خرَّجه أبو داود والنسائي
(3)
.
وليس في الباب أنه قسم سهم ذوي القربى خمس الخمس بينهم خلاف ما ذكره الشافعي، وأنه لا يفضل فقير على غني، وقد يجوز أن يقسم بينهم بأكثر أو أقلّ؛ لأنه لم يخص في الحديث مبلغ سهمهم كم هو، وإنما قصد بالحديث الفرق بين بني هاشم وبني المطلب وبين سائر بني عبد مناف، نعم قال ابن عباس حين كتب إليه نجدة الحروري يسأله عن سهم ذي القربى، ومن هم؟ قال: هم قرابة الرسول ولكن أبى ذلك علينا قومنا فصبرنا
(4)
، لكن ابن عباس لم يعلم من أبى ذلك عليه، فقد دل أن ما أريد به في ذلك بقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضهم دون بعض، وجعل الرأي في ذلك إليه يضعه فيمن شاء منهم، وهم أهل الفقر والحاجة خاصة، ولذلك قال عمر بن الخطاب: إنما جعل الخمس لأصناف سمّاهم، فأسعدهم فيه حظًّا أشدهم فاقة وأكثرهم عددًا.
وذكر الطحاوي بإسناده إلى الحسن بن محمد بن علي قال: اختلف الناس بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في سهم ذي القربى، فقال قائل: هو لقرابة الخليفة. وقال قوم: سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم هو للخليفة من بعده، ثم أجمع
(1)
سيأتي برقم (3502) كتاب: المناقب.
(2)
سيأتي برقم (4229) كتاب: المغازي، باب: غزوة خيبر.
(3)
رواه أبو داود (2978) والنسائي 7/ 130.
(4)
رواه مسلم (1812) كتاب: الجهاد والسير، باب: النساء الغازيات ..
رأيهم أن يجعلوا هذين السهمين في العدة والخيل في سبيل الله، فكان ذلك في إمارة أبي بكر وعمر
(1)
.
قال الطحاوي: أولاً ترى أن ذلك مما قد أجمع عليه الصحابة، ولو كان ذلك لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لما منعوا منه، ولا صرف إلى غيرهم، ولا خفي ذلك عن الحسن بن محمد مع علمه وتقدمه
(2)
. وقد سلف ذلك في (باب)
(3)
درع النبي صلى الله عليه وسلم.
وخالف أصحابُ الشافعيِّ- المزني وأبو ثور- الشافعيَّ في قوله يعطي للرجل من ذي القربى سهمين والمرأة سهمًا، فقالوا: الذكر والأنثى في ذلك سواء، وصححه ابن بطال وبَالغ؛ لأنهم إنما أعطوا بالقرابة، وذلك لا يوجب التفضيل الذي وصف، كما لو أوصى رجل لقرابته بوصية، لم يجز أن يعطي الذكر مثل حظ الأنثيين؛ لأنهم إنما أعطوا باللفظ الذي أوجب لهم ذلك فأما المواريث، فإن الله تعالى قسمها بين أهلها على أمور مختلفة، جعل للوالدين في حال شيئًا، وفي حال غيره، وللأولاد إذا كانوا ذكورًا وإناثًا شيئًا، وإذا كنّ إناثًا غير ذلك، وكذلك الإخوة والأخوات
(4)
.
فصل:
هذا الحديث ظاهر للشافعي، أن ذا القربى الذي يسهم لهم من الخمس هم بنو هاشم وبنو المطلب أخي هاشم خاصة دون سائر قرابته، وبه قال أبو ثور.
(1)
"شرح معاني الآثار" 3/ 234 - 235.
(2)
"شرح معاني الآثار" 3/ 235.
(3)
من (ص 1).
(4)
"شرح ابن بطال" 5/ 308.
وقال ابن الحنفية: سهم ذي القربى هو لنا أهل البيت.
وروي عن عمر بن عبد العزيز أنهم بنو هاشم خاصة.
وقال أصبغ بن الفرج: اختلف في ذلك: فقيل: هم قرابة الرسول خاصة، وقيل: قريش كلها.
قال: ووجدت في "معاني الآثار" أنهم آل محمد. وقد تقدم في الزكاة أختلافهم في آله الذين تحرُمُ عليهم الصدقة
(1)
.
(1)
"شرح ابن بطال" 5/ 309.
18 - باب مَنْ لَمْ يُخَمِّسِ الأَسْلَابَ
وَمَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُخَمِّسَ، وَحُكْمِ الإِمَامِ فِيهِ.
3141 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ الْمَاجِشُونِ، عَنْ صَالِحِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: بَيْنَا أَنَا وَاقِفٌ فِي الصَّفِّ يَوْمَ بَدْرٍ فَنَظَرْتُ عَنْ يَمِينِي وَشِمَالِي فَإِذَا أَنَا بِغُلَامَيْنِ مِنَ الأَنْصَارِ حَدِيثَةٍ أَسْنَانُهُمَا، تَمَنَّيْتُ أَنْ أَكُونَ بَيْنَ أَضْلَعَ مِنْهُمَا، فَغَمَزَنِي أَحَدُهُمَا فَقَالَ: يَا عَمِّ، هَلْ تَعْرِفُ أَبَا جَهْلٍ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، مَا حَاجَتُكَ إِلَيْهِ يَا ابْنَ أَخِي؟ قَالَ: أُخْبِرْتُ أَنَّهُ يَسُبُّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَئِنْ رَأَيْتُهُ لَا يُفَارِقُ سَوَادِي سَوَادَهُ حَتَّى يَمُوتَ الأَعْجَلُ مِنَّا. فَتَعَجَّبْتُ لِذَلِكَ، فَغَمَزَنِي الآخَرُ فَقَالَ لِي مِثْلَهَا، فَلَمْ أَنْشَبْ أَنْ نَظَرْتُ إِلَى أَبِي جَهْلٍ يَجُولُ فِي النَّاسِ، قُلْتُ: أَلَا إِنَّ هَذَا صَاحِبُكُمَا الذِي سَأَلْتُمَانِي. فَابْتَدَرَاهُ بِسَيْفَيْهِمَا فَضَرَبَاهُ حَتَّى قَتَلَاهُ، ثُمَّ انْصَرَفَا إِلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَاهُ، فَقَالَ:«أَيُّكُمَا قَتَلَهُ؟» . قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: أَنَا قَتَلْتُهُ. فَقَالَ: «هَلْ مَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا؟» . قَالَا: لَا. فَنَظَرَ فِي السَّيْفَيْنِ فَقَالَ: «كِلَاكُمَا قَتَلَهُ» . سَلَبُهُ لِمُعَاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الجَمُوحِ. وَكَانَا مُعَاذَ ابْنَ عَفْرَاءَ وَمُعَاذَ بْنَ عَمْرِو بْنِ الجَمُوحِ. [3964، 3988 - مسلم: 1752 - فتح 6/ 246]
3142 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ أَفْلَحَ، عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ رضي الله عنه قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ حُنَيْنٍ، فَلَمَّا الْتَقَيْنَا كَانَتْ لِلْمُسْلِمِينَ جَوْلَةٌ، فَرَأَيْتُ رَجُلاً مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَلَا رَجُلاً مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَاسْتَدَرْتُ حَتَّى أَتَيْتُهُ مِنْ وَرَائِهِ حَتَّى ضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ عَلَى حَبْلِ عَاتِقِهِ، فَأَقْبَلَ عَلَيَّ فَضَمَّنِي ضَمَّةً وَجَدْتُ مِنْهَا رِيحَ المَوْتِ، ثُمَّ أَدْرَكَهُ الْمَوْتُ فَأَرْسَلَنِي، فَلَحِقْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَقُلْتُ: مَا بَالُ النَّاسِ؟ قَالَ: أَمْرُ اللهِ، ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ رَجَعُوا، وَجَلَسَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:«مَنْ قَتَلَ قَتِيلاً لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ» . فَقُمْتُ فَقُلْتُ: مَنْ يَشْهَدُ لِي؟ ثُمَّ جَلَسْتُ، ثُمَّ قَالَ: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلاً لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ
سَلَبُهُ». فَقُمْتُ فَقُلْتُ: مَنْ يَشْهَدُ لِي؟ ثُمَّ جَلَسْتُ، ثُمَّ قَالَ الثَّالِثَةَ مِثْلَهُ، فَقَالَ رَجُلٌ: صَدَقَ يَا رَسُولَ اللهِ، وَسَلَبُهُ عِنْدِي فَأَرْضِهِ عَنِّي. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه: لَاهَا اللهِ إِذًا يَعْمِدُ إِلَى أَسَدٍ مِنْ أُسْدِ اللهِ يُقَاتِلُ عَنِ اللهِ وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم يُعْطِيكَ سَلَبَهُ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «صَدَقَ» . فَأَعْطَاهُ فَبِعْتُ الدِّرْعَ، فَابْتَعْتُ بِهِ مَخْرِفًا فِي بَنِي سَلِمَةَ، فَإِنَّهُ لأَوَّلُ مَالٍ تَأَثَّلْتُهُ فِي الإِسْلَامِ. [انظر: 2100 - مسلم: 1751 - فتح 6/ 247]
وذكر فيه حديث عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، في قتل الغلامين من الأنصار أبا جهل وفي آخره: سَلَبُهُ لِمُعَاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الجَمُوحِ. وَكَانَا مُعَاذَ ابن عَفْرَاءَ وَمُعَاذَ بْنَ عَمْرِو بْنِ الجَمُوحِ.
وفي حديث أَبِي قَتَادَةَ في أخذه سلب المشرك.
والحديثان في مسلم أيضًا
(1)
، والأول يأتي في المغازي
(2)
، وفي فضل من شهد بدرًا
(3)
والثاني سلف في البيوع
(4)
وفي بعض النسخ في آخر حديث عبد الرحمن بن عوف: قال محمد: سمع يوسف صالحًا
(5)
، يعني: سمع يوسف بن الماجشون صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف -الراوي- عن أبيه عن جده، ويشبه أن يكون منقطعًا فيما بينهما.
والبخاري قال فيه: حدثنا مسدد، ثنا يوسف بن الماجشون، عن صالح، .. إلى آخره بالعنعنة، يوضحه رواية البزار له عن محمد بن
(1)
"صحيح مسلم" برقم (1751، 1752) كتاب الجهاد والسير، باب: استحقاق القاتل سلب القتيل.
(2)
سيأتي برقم (3964) باب: قتل أبي جهل.
(3)
سيأتي برقم (3988) باب: فضل من شهد بدرًا.
(4)
برقم (2100) باب: بيع السلاح في الفتنة وغيرها.
(5)
انظر: "اليونينية" 4/ 93.
عبد الملك القرشي، وعلي بن مسلم قالا: ثنا يوسف بن أبي سلمة الماجشون، ثنا عبد الواحد بن أبي عون حدثني صالح بن إبراهيم به ثم قال: الحديث لا نعلمه يروى عن عبد الرحمن بن عوف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد.
وعبد الواحد بن أبي عون (رجلٌ من المشهورين ثقة)
(1)
(2)
.
قلت: ويجوز أن يكون سمعه عن صالح، ومرة من صالح، ويؤيده: أن عفان بن مسلم لما رواه عن يوسف قال: أنا صالح.
قلت: وصالح هذا كنيته أبو عمران، مات بالمدينة في ولاية إبراهيم بن هشام بن إسماعيل بن هشام بن الوليد بن المغيرة بالمدينة في خلافة هشام بن عبد الملك، وكان إبراهيم خاله
(3)
.
وابن الماجشون: أبو سلمة يوسف بن يعقوب بن أبي سلمة دينار.
ويقال: ميمون مولى لآل المنكدر بن عبد الله بن الخدير التيمي.
والماجشون: هو يعقوب، وهو بالفارسية: الورد، وقيل: كان من أصبهان، نزل المدينة فكان يلقى الناس فيقول: شوني شوني، فلقب بالماجشون.
(1)
في الأصل: رجل مشهور ثقة.
(2)
"مسند البزار" 3/ 224 (1013) وفيه: عبد الواحد بن أبي عون قال: حدثني صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبيه، عن جده عبد الرحمن.
قال البزار بعده: وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن عبد الرحمن بن عوف، عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد، وعبد الواحد بن أبي عون رجل مشهور ثقة.
(3)
انظر ترجمته في "الطبقات" لابن سعد -القسم المتمم- ص 202، و"الجرح والتعديل" 4/ 393 (1720) و"تهذيب الكمال" 13/ 6 (2794).
وفي حديث أبي قتادة: ابن أفلح، وهو عمر بن كثير أخو (محمد وعبد الرحمن)
(1)
، ابني (أفلح)
(2)
مولى آل أبي أيوب، أصيب كثير يوم الحرة.
وفيه أيضًا: أبو محمد، واسمه نافع.
ووقع في حديث أبي قتادة في غزوة حنين من حديث الليث، عن يحيى بن سعيد: كلا والله لا يعطيه أصيبغ من قريش ويدع أسدًا من أسد الله
(3)
الحديث.
إذا تقرر ذلك فقد اختلف العلماء في السلب، هل يخمس؟ فقال الشافعي في مشهور قوليه: كل شيء من الغنيمة يخمس إلا السلب فإنه لا يخمس
(4)
، وهو قول أحمد وابن جرير وجماعة من أهل الحديث
(5)
.
وعن مالك: أن الإمام مخير فيه إن شاء خمسه على الاجتهاد -كما فعل عمر في سلب البراء بن مالك- وإن شاء لم يخمسه، واختاره القاضي إسماعيل بن إسحاق.
وفيه قول ثالث: أنها تخمس إذا كثرت الأسلاب، قاله عمر بن الخطاب وإسحاق بن راهويه.
(1)
في (ص 1) محمد بن عبد الرحمن.
(2)
في الأصل: (ملح).
(3)
سيأتي برقم (4322) كتاب: المغازي ومسلم (1751) كتاب الجهاد والسير، باب: استحقاق القاتل سلب القتيل.
(4)
"الأم" 4/ 66 - 67.
(5)
"المغني" 13/ 69 - 70.
وقول رابع: أنه يخمس، قاله مكحول والثوري وحكي عن مالك أيضًا والأوزاعي وهو قول ابن عباس. قال الزهري عن القاسم بن محمد عنه: السلب من النفل والنفل يخمس. احتجّ من رأى تخميسها بقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} الآية [الأنفال: 41] ولم يستثن سلبًا ولا غيره.
وحجة الأول حديثا الباب، فإنه ليس في واحدٍ منهما تخميس الأسلاب، وعموم ("من قتل قتيلًا فله سلبه")، فملكه السلب، ولم يستثن شيئًا منه، وإلى هذا ذهب البخاري.
وصح في "سنن أبي داود" من حديث عوف بن مالك وخالد بن الوليد، أنه عليه السلام قضى بالسلب للقاتل ولم يخمس السلب
(1)
، وأخرجه ابن حبان في "صحيحه" من طريق عوف
(2)
.
وحجة الثالث ما رواه سفيان، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن أنس بن مالك أن البرّاء بن مالك بارز مرزبان الزرأة فقتله، فقدم سلبه ثلاثين ألفًا، فلمّا صلينا الصبح غدا علينا عمر بن الخطاب، فقال لأبي طلحة: إنا كنا لا نخمس الأسلاب، وإن سلب البراء بلغ مالاً ولا أرانا إلاَّ خامسيه، فقدمناه ثلاثين ألفًا، فدفعنا إلى عمر ستة آلاف، فكان أول سلب خمس في الإسلام
(3)
.
فدل فعل عِمر رضي الله عنه أن لهم أن يخمسوا إذا رأى الإمام ذلك.
(1)
أبو داود (2721).
(2)
"صحيح ابن حبان" 11/ 175 (4842).
(3)
سبق تخريجه.
فصل:
واختلف العلماء في حكم السلب: فقال مالك
(1)
: لا يستحقه القاتل إلا أن يرى ذلك الإمام بحضرة القتال، فينادي به ليحرص الناس على القتال، ويجعله مخصوصًا لإنسان إذا كان جهده، وبه قال أبو حنيفة
(2)
والثوري، وحملوا الحديث على هذا، وجعلوا هذا إطلاقًا منه، وليس بفتوى، وإخبارًا عامًا.
واحتجّ مالك بأنه عليه السلام إنما قال: "من قتل قتيلًا فله سلبه" بعد أن برد القتال يوم حنين، ولم يحفظ ذلك عنه في غير يوم حنين، ولا بلغني ذلك عن الخليفتين، فليس السلب للقاتل إلا أن يقول ذلك الإمام، وإلا فالسلب غنيمة وحكمه حكم الغنائم؛ لأن الأخماس الأربعة للغانمين والنفل زيادة على الواجب، فلا تكون تلك الزيادة من الواجب بل من غيره وهو الخمس.
وعن مالك: يكره أن يقول الإمام قبل القتال: من قتل قتيلًا فله سلبه، لئلا يُفسد نيات المجاهدين، حكاه القرطبي
(3)
.
قالوا: وإنما قال عليه السلام هذا القول بعد أن برد القتال.
وقال الأوزاعي والليث والشافعي وأبو ثور: السلب للقاتل على كل حال وإن لم يقله الإمام؛ لأنها قضية قضى بها الشارع في مواطن شتى فلا يحتاج إلى إذن الإمام فيها، وقد أعطى الشارع سلب أبي جهل يوم بدر لمعاذ بن عمرو، فثبت أن ذلك قبل يوم حنين، خلاف قول مالك.
(1)
"المدونة" 1/ 390.
(2)
"مختصر اختلاف العلماء" 3/ 456.
(3)
"المفهم" 3/ 539، 541.
واحتج أصحابنا بحديث معاذ بن عمرو أنه عليه السلام كان أعطاه السلب؛ لأنه كان أثخنه، ومعاذ بن عفراء أجاز عليه.
قالوا: وعندنا أنه إذا أثْخَنَ واحدٌ بالضرب وذَبَحَ آخَرُ كان السلب للأول، ونظره عليه السلام لسيفهما، واستدلاله منهما على أيهما قتله دليل يقويه، فإن من أثخن له مزية في القتل.
وموضع الاستدلال منه أنه رأى في سيفيهما مبلغ الدم من جانبي السيفين ومقدار عمق دخولهما في جسم أبي جهل، ولذلك سألهما:(هل مسحاهما؛ ليعتبر)
(1)
مقدار ولوجهما في جسمه.
وقوله: ("كلاكما قتله") وإن كان الواحد المثخن ليطيب نفس الآخر ولا يكسره.
واحتجّ المالكيون والعراقيون في أن السلب لا يجب للقاتل بقوله لهما: "كلاكما قتله" فلو كان مستحقًّا بالقتل لجعله بينهما لاشتراكهما فيه، فلما قال ذلك وقضى به لأحدهما دون الآخر، دلّ ذلك على ما قلناه، ألا ترى أن الإمام لو قال: من قتل قتيلًا فله سلبه، فقتل رجلان قتيلاً، أنَّ سلبه لهما نصفين، وأنه ليس للإمام أن يحرمه أحدهما ويدفعه إلى الآخر؛ لأن كل واحد منهما له فيه من الحق مثل ما لصاحبه، وهما أولى به من الإمام، فلمّا كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم في سلب أبي جهل أن يعطيه لأحدهما دل على أنه كان أولى به منهما؛ لأنه لم يكن يومئذ من قتل قتيلًا فله سلبه، قاله الطحاوي
(2)
.
(1)
كذا في الأصل، وفي (ص):(هل مسحاهما؛ لأنهما لو مسحاهما لتغير).
(2)
"شرح معاني الآثار" 3/ 228.
وقال ابن القصَّار: لمَّا خصَّ به عليه السلام أحدهما علم أنه غير مستحق إلا بعطية الإمام؛ لأن إعطاء الإمام عندنا من الخمس فيكون معنى قوله: "من قتل قتيلًا فله سلبه" يعني: من الخمس لا من مال الغانمين.
واحتج أصحابنا فقالوا: إنما أعطى السلب لأحدهما وإن كان قال: "كلاكلما قتله" لأنه استطاب نفس صاحبه، ولم ينقل ذلك. ويشهد لصحة هذا ما ثبت عنه عليه السلام أنه جعل السلب للقاتل يوم بدر وغيره.
روي ذلك من حديث عبد الرحمن بن عوف، وعوف بن مالك، وأبي قتادة، وابن عباس، قالوا: لأنه محال أن يقول: "كلاكما قتله"، ويقول:"من قتل قتيلًا فله سلبه"، ثمّ يعطيه لأحدهما إلا عن إذن صاحبه، كما فعل في غنائم هوازن. وبهذا التأويل يجمع بين الأحاديث.
قالوا: وحديث أبي قتادة يدل أن السلب من رأس الغنيمة لا من الخمس؛ لأن إعطاءه له قبل القسمة؛ لأنه نفله حين برد القتال، ولم يقسم الغنيمة إلاَّ بعد أيام كثيرة بالجعرانة، فأجابهم أصحاب مالك والكوفيون، وقالوا: هذا حجة لنا؛ لأنه إنما قال ذلك في حديث أبي قتادة بعد تقضي الحرب، وقد حيزت الغنائم. وهذِه حالة قد سبق فيها مقدار حق الغانمين، وهو الأربعة الأخماس على ما أوجبها الله تبارك وتعالى لهم، فينبغي أن يكون من الخمس.
وإذا تقرر أنه ابتدأ فأعطى القاتل السلب بعد أن قال: "ما لي مما أفاء الله عليكم إلاَّ الخمس وهو مردود فيكم" علم أن عطية ذلك وغيره من الخمس المضاف إليه، ولا يكون الخمس إلاَّ بعد حصول الأربعة الأخماس للغانمين، وما رأى الإمام أن يعطيه من أبلى، واجتهد في نكاية العدو فهو ابتداء عطية منه ينبغي ألا يكون من حقوق الغانمين،
وأن يكون مما إليه صرفه على وجه الاجتهاد وهو الخمس، كما ينفل من الخمس لا من حقوق الغانمين.
وقال القرطبي: الحديث أدل دليل على صحة مذهب مالك وأبي حنيفة
(1)
.
وزعم من خالفنا أن هذا (الحديث)
(2)
منسوخ مما قاله يوم (حنين)
(3)
، وهو فاسد لوجهين: الأول: أن الجمع بينهما ممكن فلا نسخ. الثاني: روى أهل السير وغيرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر: "من قتل قتيلًا فله سلبه" كما قال يوم حنين وغايته أن يكون من باب تخصيص العموم
(4)
.
فصل:
واختلفوا في الرجل يدعي أنه قتل (قتيلا)
(5)
بعينه، ويدعي سلبه، فقالت طائفة: لابد من البيّنة، فإن جاء بواحدٍ حلف معه وأخذه، واحتجوا بحديث أبي قتادة، وبأنه حق يستحق مثله بشاهد ويمين، وهو قول الليث والشافعي وجماعة أهل الحديث
وقال الأوزاعي: لا يحتاج إليها ويعطى بقوله.
وقال ابن القصّار وغيره: إنه عليه السلام شرط البينة، وأعطى أبا قتادة سلبه بدونها، وذلك بشهادة رجل واحد دون يمين، فعلم أنه لم يعطه؛ لأنه استحقه بالقتل؛ لأن المغانم له أن يعطي منها منْ شاء ما شاء، ويمنع من شاء، قال تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7].
(1)
"المفهم" 3/ 549.
(2)
من (ص 1).
(3)
في الأصل و (ص 1): و (خيبر)، والمثبت هو الصحيح كما في "المفهم".
(4)
"المفهم" 3/ 549.
(5)
في (ص 1): رجلاً.
والمغانم خلاف الحقوق التي لا تستحق إلا بإقرار أو شاهدين، وأجاب أصحابنا بأنه عليه السلام لم يعطه أبا قتادة إلا بالبينة؛ لأنه أقر له به من كان حازه لنفسه في القتال (فصدق أبا)
(1)
قتادة. وقال الصديق ما قال، وأضاف السلب إليه، فحصل شاهدان له، وأيضًا فإن كل من في يده شيء فإقراره به لغيره يقوم مقام البينة.
فصل:
في حديث أبي قتادة من الفقه جواز كلام الوزير وردّ سائل الأمير قبل أن يعلم جواب الأمير كما فعل أبو بكر حين قال: (لاها الله).
فصل:
قوله: (لاها الله إذًا)، كذا الرواية بالتنوين. قال الخطابي: والصواب فيه: لاها الله ذا من غير ألف قبل الذال، ومعناه: لا والله، يجعلون الهاء مكان الواو، يعني: والله لا يكون ذا
(2)
.
وقال المازني: معناه: لاها الله ذا يميني أو ذا قسمي.
قال أبو زيد: ذا زائدة، وفي (ها) لغتان: المد والقصر قالوا: ويلزم الجزم بعدها، وتلزم اللام بعدها كما تلزم بعد الواو، قالوا: ولا يجوز الجمع بينهما، فلا يقال: لاها والله.
وقال ثابت في "غريب الحديث": قال أبو عثمان المازني: من قال: لاها الله إذًا فقد أخطأ، إنما هو: لاها الله ذا، أي: ذا يميني أو ذا قسمي
(3)
.
(1)
في (ص 1): بصدق أبي.
(2)
"أعلام الحديث" 2/ 1456 - 1457.
(3)
"شرح ابن بطال" 5/ 315.
وقال الداودي: معناه: لا والله، أو لا بالله، إن رفع الاسم.
فرع:
(لاها الله) عندنا كناية، إن نوى بها اليمين كانت يمينًا وإلا فلا، وظاهر الحديث دال على أنها يمين.
فصل:
المخرف بكسر الميم: البستان، سمي مخرفًا لما يخترف فيه من ثمار نخيله، وأصله: الزنبيل الذي يخترف فيه والخارف: اللاقط والحافظ للنخل
(1)
.
قال أبو حنيفة اللغوي: إذا اشترى الرجل نخلتين أو ثلاثًا إلى العشر يأكلهنَّ، قيل: قد اشترى مخرفًا جيدًا. والخرائف: النخل التي تخترفن. واحدها خروفة، وخريفة.
وقال ابن فارس: المخرف بفتح الميم: جماعة النخل
(2)
.
قال الجوهري: بفتح الراء. وأنكر ابن قتيبة على أبي عبيد أن يكون المخرف: التمر، وإنما هي النخل، والتمر الخروف
(3)
.
وروي: مخرافًا، ومعنى (تأثلته): جمعته إليه، أو اتخذته أصل مال، وأصل كلِّ شيء أثلته.
فصل:
في حديث عبد الرحمن بن عوف: (تمنيت أن أكون بين أصلح منهما). فيه أنَّ الكهل أصبر في الحروب، وفي بعض النسخ: أضلع،
(1)
"أعلام الحديث" 2/ 1457.
(2)
"المجمل" ص 284.
(3)
"الصحاح" 4/ 1348.
بالضاد بدل: أصلح، ورجحها ابن بطال فقال: هكذا روى مسدد عن ابن الماجشون بالصاد والحاء، وروى الثانية إبراهيم بن حمزة فيما رواه الطحاوي عن ابن أبي داود عنه
(1)
، وموسى بن إسماعيل فيما رواه ابن سنجر عنه، وصفان فيما رواه ابن أبي شيبة عنه عن ابن الماجشون
(2)
، وهو أشبه بالمعنى. ورواية ثلاثة حفاظ أولى من رواية واحد خالفهم
(3)
. وقال القرطبي: الذي في مسلم: (أضلع)، ووقع في بعض رواياته:(أصلح) والأول: الصواب، ومعناه من الضلاعة وهي القوة، وكأنه استضعفهما لصغر أسنانهما
(4)
.
وقوله: (لا يفارق سوادي سواده)، يعني: شخصي شخصه. وأصله: أن الشخص يرى على البعد أسود.
وقوله: (حتى يموت الأعجل منّا)، أي: الأقرب أجلاً، وهو كلام مستعمل يفهم منه أن يلازمه ولا يتركه إلى وقوع الموت بأحدهما، وصدور هذا الكلام في حال الغضب والانزعاج، يدل على صحة العقل الوافر والنظر في العواقب، فإن مقتضى الغضب أن يقول: حتى أقتله، لكن العاقبة مجهولة.
وفيه: أن اليمين لفعل الخير.
(1)
"شرح معاني الآثار" 3/ 227 (5196) وفيه: أضلع.
(2)
لم أقف عليه في "المصنف" وعزاه إليه ابن بطال في "شرحه" 5/ 315.
(3)
"شرح ابن بطال" 5/ 315 بتصرف. ومقصد ابن بطال أن الثلاثة رووا: أضلع، وأن مسدد روى: أصلح. فيبدو أنه وقع في نسخته للبخاري: أصلح، فإنه قد وقع اختلاف في النسخ في هذِه الكلمة. انظر:"اليونينية" 4/ 93. فإن كان الثابت: أضلع. يبرأ مسدد من المخالفة. والله أعلم.
(4)
"المفهم" 3/ 547 - 548.
ومعنى: (فلم أنشب): لم ألبث، ولم أشتغل بشيء، وهو من نشبت بالشيء: إذا دخلت فيه وتعلقت به.
وقوله: (يجول): هو بالجيم، وفي مسلم: يزول
(1)
، بمعناه. أي: يضطرب في المواضع ولا يستقر على حال. وفي رواية ابن ماهان كما في البخاري. ومعنى (ابتدرا): استبقا.
وفيه: بشرى من رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل عدو الله.
وقوله: ("أيكما قتله؟ ") فيه سؤاله عن قاتله، وتداعيا قتله على ما خيل إليهما.
وفي مسلم: ضربه ابنا عفراء حتى برك
(2)
. بالكاف، أي: سقط على الأرض.
وفي أخرى: حتى برد
(3)
، بالدال، أي: مات. ونظره إلى سيفيهما يحتمل أن يكون عنده في ذلك علمٌ. أو يكون الملك أخبره عند نظره.
وقال هنا: ("وسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح") وفي غير هذا الموضع: فنفلهما سلبه. وقيل: إنما نفله لأحدهما؛ لأنه رأى ذلك، وقيل: كان أكثر قتله من فعل معاذ بن عمرو المذكور.
وفي مسلم: أن ابني عفراء ضرباه حتى بَرد
(4)
. وكذا في البخاري في باب: قتل أبي جهل
(5)
وادعى القرطبي أنه وهم، التبس على بعض الرواة معاذ بن الجموح بمعاذ بن عفراء ومعوذ أخيه عند السلوب عند
(1)
"صحيح مسلم" رقم (1752) كتاب الجهاد والسير.
(2)
مسلم برقم (1800) كتاب الجهاد والسير، باب قتل أبي جهل.
(3)
سيأتي برقم (3962).
(4)
تقدم تخريجه.
(5)
سيأتي برقم (3962) كتاب المغازي.
ذكر عمرو والد معاذ بن عمرو بن الجموح
(1)
. وقال أبو الفرج: ابن الجموح ليس من ولد عفراء، ومعاذ بن عفراء ممن باشر قتل أبي جهل، فلعلّ بعض إخوته حضره أو أعمامه، أو يكون الحديث: ابنا عفراء فغلط الراوي فقال: ابن عفراء.
قال أبو عمر: أصحّ من هذا حديث أنس بن مالك: أنّ ابني عفراء قتلاه
(2)
. وعن ابن التين: يحتمل أنْ يكونا أخوين لأم، أو يجوز أن يكون بينهما رضاع.
وقال الداودي: ابنا عفراء: سهل وسهيل، ويقال: معوذ ومعاذ.
وفي السيرة: ضرب معاذ بن عمرو بن الجموح أبا جهل ثمّ ضربه وهو عقير معوذ بن عفراء، فضربه حتى أثبته وتركه وبه رمق، فمرّ به ابن مسعود حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنْ يلتمس في القتلى
(3)
، فعلى هذا يصح قول مَن قال: ابنا عفراء معاذ ومعوذ ابنا الحارث بن رفاعة بن الحارث بن سواد بن مالك بن غنم بن مالك بن النجار، وعفراء أمه ابنة عبيد بن ثعلبة النجارية، عرف بها بنوها. وذكر أبو عمر: أن معوذًا قتل ببدر وكذا أخوه عوف
(4)
.
وذكر الواقدي: أنّ معاذًا أخاها شارك في قتل أبي جهل، وتوفي أيام صفين، وقد أسلفناه أن بعضهم أجاب: بأنه استطاب نفس أحدهما، وكيف يستطيب نفس هذا بإفساد الآخر. وعند بعضهم أنه رأى بسيف أحدهما من الأثر ما لم ير على الآخر، وفيه نظر.
(1)
"المفهم" 3/ 550.
(2)
"الاستيعاب" 3/ 464 ترجمة معاذ ابن عفراء.
(3)
انظر: "سيرة ابن هشام" 2/ 276.
(4)
"الاستيعاب" 4/ 4 ترجمة معوذ بن عفراء.
وروى الحاكم في "إكليله" من حديث الشعبي عن عبد الرحمن بن عوف: وحمل رجل كان مع أبي جهل على ابن عفراء فقتله، فحمل ابن عفراء الثاني على الذي قتل أخاه فقتله، ومر ابن مسعود على أبي جهل فقال: الحمد لله الذي أخزاك وأعز الإسلام، فقال أبو جهل: تشتمني يا رويعي هذيل؟ فقال: نعم والله وأقتلك. فحذفه أبو جهل بسيفه وقال: دونك هذا. فأخذه عبد الله فضربه حتى قتله، وقال: يا رسول الله، قتلت أبا جهل فقال:"آلله الذي لا إله غيره؟ " فحلف له، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم بيده، ثمّ انطلق معه حتى أراه إياه فقام عنده وقال:"الحمد لله الذي أعزّ الإسلام وأهله" ثلاث مرات.
فائدة: لم يجرد قرشي يوم بدر غير أبي جهل، جرده ابن مسعود، ذكره الواقدي في "مغازيه".
وفي "مغازي موسى بن عقبة" عن ابن شهاب: أن ابن مسعود وجد أبا جهل جالسًا لا يتحرك ولا يتكلم، فسلبه درعه، فإذا في بدنه نكتة سوداء فحل بسيفه البيضة وهو لا يتكلم، فاخترط سيفه، يعني: سيف أبي جهل فضرب به عنقه، ثم سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين احتمل رأسه إليه عن تلك النكتة. فقال:"قتلته الملائكة، وتلك آثار ضربهم إياه".
فصل:
في أبي داود: أن ابن مسعود لما أجهز على أبي جهل نفله رسول الله سيفه
(1)
. ولما ذكر البيهقي هذا الحديث في باب السلب للقاتل
(2)
.
(1)
"سنن أبي داود" رقم (2722) وقال الألباني في "ضعيف أبي داود" 10/ 354 (473): إسناده ضعيف.
(2)
"السنن" 9/ 50.
قال: الاحتجاج به في هذِه المسألة غير جيد؛ لأنا أسلفنا كيفية الغنيمة يوم بدر حتى نزلت: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} [الأَنفَال: 1]، وإنما الحجة في إعطائه عليه السلام للقاتل السلب بعد وقعة بدر.
وذلك بيّن في حديث أبي قتادة، عن مسروق -فيما حكاه يونس عن أبي العميس- قال: أراني القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق سيف ابن مسعود، وقال: هذا سيف أبي جهل، أخذه حين قتله، فإذا سيفٌ عريضٌ قصيرٌ فيه قبائع فضة وحلق فضة.
فرع:
قال القرطبي: إذا التقى الزحفان فلا سلب له، إنما النفل قبل أو بعد ونحوه
(1)
.
قال نافع والأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز وأبو بكر بن أبي مريم والشافعيون. وقال أحمد: السلب للقاتل على كلّ حال
(2)
.
قلت: وروى الواقدي من حديث عبد الملك بن عبد العزيز بن أبي فروة، عن إسحاق بن عبد الله، عن عامر بن عثمان السلمي، عن جابر بن عبد الله قال: أخبرني عبد الرحمن بن عوف (أنّ رسول صلى الله عليه وسلم سأل)
(3)
عكرمة بن أبي جهل قال: "منْ قتل أباك؟ " قال: الذي قطعت يده، فدفع رسول صلى الله عليه وسلم سيفه لمعاذ بن عمرو بن الجموح فهو عند آله.
(1)
لم أقف على هذِه النص، وفي "تفسير القرطبي" 8/ 6 عن نافع مولى ابن عمر يقول:"لم نزل نسمع إذا التقى المسلمون والكفار فقتل رجل من المسلمين رجلا من الكفار فإن سلبه له، إلا أن يكون في معمعة القتال".
(2)
"المغني" 13/ 68.
(3)
مكررة في الأصل.
فرع:
الأصح: أن القاتل لو كان ممن رضخ له (ولا سهم له)
(1)
كالمرأة والصبي والعبد يستحق السلب لا الذمي. وقال مالك: لا يستحقه إلاّ المقاتل، فإن قتل امرأة أو صبيًّا أو شيخًا فانيًا أو ضعيفًا مهينًا ونحوه فلا يستحق سلبه
(2)
.
قال ابن قدامة: ولا نعلم فيه خلافًا
(3)
.
فصل:
وفي قوله: "كلاكما قتله" دلالة على أن السلب لو كان مستحقًّا بالقتل لكان يجعله بينهما لأنهما اشتركا في قتله، ولا ينزعه من أحدهما، فلما قال:"كلاكما قتله" ثمّ قضى بالسلب لأحدهما دون الآخر، دل على وجود أمر آخر مرجح، وأن المستحق له هو المثخن، أو أن الإمام كان لم يناد به قبل، على من يقول به. وإن قتله اثنان فأثخناه فاستحقاه، وسيأتي أنّ أبا جهل قال: هل فوق رجل قتلتموه
(4)
، أي: لا عار عليّ من قتلكم إياي.
وفي مسلم: لو غير أكَّار قتلني
(5)
، يعرض بابني عفراء؛ لأنهما من الأنصار أصحاب الزرع والنخل، يعني: لو كان قاتلي غير فلّاح، وهو الأكّار، كان أحب إليَّ وأعظم لشأني، ولم يكن على نقص، وسيأتي إيضاح ذلك في غزوة بدر.
(1)
من (ص 1).
(2)
"المنتقى" 3/ 191.
(3)
"المغنى" 13/ 66.
(4)
سيأتي برقم (3963) كتاب المغازي، باب قتل أبي جهل.
(5)
مسلم برقم (1800) كتاب الجهاد والسير، باب قتل أبي جهل.
فصل:
قوله في حديث أبي قتادة: (كانت للمسلمين جولة). هو بفتح الجيم أي: خفة ذهبوا فيها، يقال: قال واج قال: إذا ذهب وجاء، ويعني به: انهزام منْ انهزم من المسلمين يوم حنين، وعبارة ابن التين، أي: اختلطوا وتزحزحوا عن صفوفهم وهو بمعناه.
وقوله: (على رجلا)، أي: ظهر عليه، وأشرف على قتله، أو صرعه، وجلس عليه ليقتله. وقال ابن التين: قيل: أشرف عليه، وقيل: صرعه. يقال: علاه في المكان يعلوه، في المكان يعلى. وحبل العاتق: بين العنق والكاهل. وقيل: هو حبل الوريد، والوريد: عرق بين الحلقوم والعلباوين والعاتق يذكر ويؤنث.
وقوله: (فضمني ضمة وجدت فيها ريح الموت)، أي: ضمني ضمة شديدة أشرفت بسببها على الموت، وذلك أن من قرب من الشيء وجد ريحه، ويحتمل أنه أراد شدة كشدة الموت.
فصل:
وقوله: ("له عليه بينة") قد سلف الكلام عليه، قال ابن قدامة: ويحتمل أن يقبل شاهد بغير يمين؛ لظاهر الحديث، وهو أنه عليه السلام قبل من شهد لأبي قتادة من غير يمين، قال: ويجوز أن نسلب القتلى ونتركهم عراة
(1)
. قاله الأوزاعي، وكرهه الثوري وابن المنذر.
فصل:
وقوله: (لا يعمد): ضبطوه بالياء والنون، وكذا قوله:(فيعطيك): بالياء والنون.
(1)
"المغني" 13/ 74.
فصل:
كلام أبي بكر في حديث أبي قتادة لم يكن لأحدٍ فعله بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم غيره على كثرة المفتين في زمنه: فمنهم باقي الخلفاء الأربعة، وعبد الرحمن، وابن أم عبد، وعمّار، وأبي بن كعب، ومعاذ، وحذيفة، وزيد بن ثابت، وأبو الدرداء، وسلمان، وأبو موسى الأشعري.
فصل:
وأمَّا رواية الليث السالفة في حديث أبي قتادة: (كلا والله لا نعطيه أصيبغ من قريش). أصيبغ: بالصاد المهملة، والغين المعجمة. قيل: معناه: أسيود كأنه غيره بلونه.
وقيل: بالضاد المعجمة والعين المهملة كأنه تصغير: ضبع على غير قياس؛ تحقيرًا له، وهو أشبه بسياق الكلام؛ إذ تصغيره: ضبيع.
ويمكن أن يكون معناه -والله أعلم- ما ذكره الخطابي: أن عتبة بن ربيعة نهى يوم بدر عن القتال، وقال: يا قوم أعصبوها برأسي، وقولوا: جبن عتبة، وقد تعلمون أني لست بأجبنكم، فقال أبو جهل: والله لو غيرك قالها لأعضبته، قد ملئ جوفك رعبًا. فقال عتبة: إياي تعني يا مصفر استه، ستعلم أينا اليوم أجبن. في حديث طويل ذكره في السيرة
(1)
.
قال الخطابي: قيل: إنه نسبة إلى التوضيع والتأنيث. وقيل: لم يرد به ذلك، وإنما هي كلمة تقال للرجل المترف الذي يؤثر الراحة ويميل إلى التنعيم
(2)
.
(1)
"غريب الحديث" 1/ 396.
(2)
"غريب الحديث" 1/ 398.
قال ابن بطال: وقال لي بعض أهل اللغة: إنما سمي أصيبغ؛ لأنه كانت له شامة يصبغها
(1)
. وقال ابن التين في غزوة حنين: هو وصف بالمهانة والضعف، والأصيبغ: نوع من الطير. ويجوز أن يكون شبهه بنبات ضعيف يقال له: الصبغاء، وذلك أول ما يطلع من الأرض، فيكون ما يلي الشمس منه أصفر.
فصل:
قوله في حديث أبي قتادة: (حتى ضربته بالسيف على حبل عاتقه).
ظاهره: أنهما لم يتبارزا، وإنما التقيا بالتقاء الجيش، ولو كانا تبارزا، فاختلف أصحاب مالك في جواز دفع المشرك إذا خيف أن يقتل المسلم، فقال أشهب وسحنون: يدفع عنه، ولا يقتل الكافر؛ لأن مبارزته عهدٌ، فلا يقتله غير من بارزه. وقال سحنون مرة: لا يُعان بوجه
(2)
، وقاله ابن القاسم في "كتاب محمد".
فرع:
إذا قتل المشرك غير من بارزه، فقال ابن القاسم: عليه ديته. وخالف أشهب.
فرع:
بارز ثلاثةٌ ثلاثةً، فلا بأس لمن قتل صاحبه من المسلمين أن يعين صاحبه في القتل والدفع كما فعل على وحمزةُ في معونة عبيدة بن الحارث يوم بدر. ووجهه: أنهم رضوا بمعونته، فهم كجماعة الجيش تلقئ جماعة جيش آخر فلا بأس بمعاونتهم.
(1)
"شرح ابن بطال" 5/ 316.
(2)
انظر: "المنتقى" 3/ 189.
فصل:
قوله: (ثمّ إن الناس رجعوا، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم) يحتمل أن يريد: فرجعوا من جولتهم، ويحتمل أن يريد: رجعوا بعد الفراغ من القتال. وإليه ذهب مالك أن قوله: "من قتل قتيلًا" إلى آخره، كان بعد أن برد القتال ويبينه قوله:(وجلس) كما سلف. ولا يجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بعد فراغ القتال.
فصل:
تكراره عليه السلام قوله: "من قتل قتيلًا" إلى آخره ثلاثا. يحتمل أن يكون قالها في ثلاث ساعات متفرقة، لكي يسمع من يأتي بعد مقالته الأولى.
19 - باب مَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُعْطِي المُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ وَغَيْرَهُمْ
رَوَاهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ زَيْدٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. [4430]،
3143 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ رضي الله عنه قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ قَالَ لِي:«يَا حَكِيمُ، إِنَّ هَذَا المَالَ خَضِرٌ حُلْوٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، وَكَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ، وَالْيَدُ العُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى» . قَالَ حَكِيمٌ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا أَرْزَأُ أَحَدًا بَعْدَكَ شَيْئًا حَتَّى أُفَارِقَ الدُّنْيَا. فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَدْعُو حَكِيمًا لِيُعْطِيَهُ الْعَطَاءَ، فَيَأْبَى أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ شَيْئًا، ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ دَعَاهُ لِيُعْطِيَهُ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ، إِنِّي أَعْرِضُ عَلَيْهِ حَقَّهُ الذِي قَسَمَ الله لَهُ مِنْ هَذَا الْفَىْءِ، فَيَأْبَى أَنْ يَأْخُذَهُ. فَلَمْ يَرْزَأْ حَكِيمٌ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى تُوُفِّيَ. [انظر: 1472 - مسلم: 1035 - فتح 6/ 249]
3144 -
حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّهُ كَانَ عَلَيَّ اعْتِكَافُ يَوْمٍ فِي الجَاهِلِيَّةِ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَفِيَ بِهِ. قَالَ: وَأَصَابَ عُمَرُ جَارِيَتَيْنِ مِنْ سَبْيِ حُنَيْنٍ، فَوَضَعَهُمَا فِي بَعْضِ بُيُوتِ مَكَّةَ -قَالَ: - فَمَنَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى سَبْيِ حُنَيْنٍ، فَجَعَلُوا يَسْعَوْنَ فِي السِّكَكِ فَقَالَ عُمَرُ: يَا عَبْدَ اللهِ، انْظُرْ مَا هَذَا؟ فَقَالَ: مَنَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم على السَّبْيِ. قَالَ: اذْهَبْ فَأَرْسِلِ الْجَارِيَتَيْنِ. قَالَ نَافِعٌ: وَلَمْ يَعْتَمِرْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الجِعْرَانَةِ وَلَوِ اعْتَمَرَ لَمْ يَخْفَ عَلَى عَبْدِ اللهِ.
وَزَادَ جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: مِنَ الخُمُسِ. وَرَوَاهُ مَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي النَّذْرِ، وَلَمْ يَقُلْ: يَوْمَ. [انظر: 2032 - مسلم: 1656 - فتح 6/ 250]
3145 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، حَدَّثَنَا الحَسَنُ قَالَ: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ تَغْلِبَ رضي الله عنه قَالَ: أَعْطَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَوْمًا وَمَنَعَ آخَرِينَ، فَكَأَنَّهُمْ عَتَبُوا عَلَيْهِ فَقَالَ:«إِنِّي أُعْطِي قَوْمًا أَخَافُ ظَلَعَهُمْ وَجَزَعَهُمْ، وَأَكِلُ أَقْوَامًا إِلَى مَا جَعَلَ الله فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الخَيْرِ وَالْغِنَى، مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ تَغْلِبَ» . فَقَالَ عَمْرُو بْنُ تَغْلِبَ: مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِكَلِمَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حُمْرَ النَّعَمِ. وَزَادَ أَبُو عَاصِمٍ عَنْ جَرِيرٍ قَالَ: سَمِعْتُ الحَسَنَ يَقُولُ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ تَغْلِبَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِمَالٍ أَوْ بِسَبْىٍ فَقَسَمَهُ. بِهَذَا. [انظر: 923 - فتح 6/ 250]
3146 -
حَدَّثَنَا أَبُو الوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي أُعْطِيَ قُرَيْشًا أَتَأَلَّفُهُمْ، لأَنَّهُمْ حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ» . [3147،
3528، 3778، 3793، 4331، 4332، 4333، 4334، 4337، 5860، 6761، 6762، 7441 - مسلم: 1059 - فتح 6/ 250]
3147 -
حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ نَاسًا مِنَ الأَنْصَارِ قَالُوا لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ أَفَاءَ الله عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَمْوَالِ هَوَازِنَ مَا أَفَاءَ، فَطَفِقَ يُعْطِي رِجَالاً مِنْ قُرَيْشٍ المِائَةَ مِنَ الإِبِلِ فَقَالُوا: يَغْفِرُ الله لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُعْطِي قُرَيْشًا وَيَدَعُنَا، وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ. قَالَ أَنَسٌ: فَحُدِّثَ رَسُولُ اللهِ بِمَقَالَتِهِمْ، فَأَرْسَلَ إِلَى الأَنْصَارِ، فَجَمَعَهُمْ فِي قُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ، وَلَمْ يَدْعُ مَعَهُمْ أَحَدًا غَيْرَهُمْ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا جَاءَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:«مَا كَانَ حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكُمْ؟» . قَالَ لَهُ فُقَهَاؤُهُمْ: أَمَّا ذَوُو آرَائِنَا يَا رَسُولَ اللهِ فَلَمْ يَقُولُوا شَيْئًا، وَأَمَّا أُنَاسٌ مِنَّا حَدِيثَةٌ أَسْنَانُهُمْ فَقَالُوا: يَغْفِرُ الله لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُعْطِي قُرَيْشًا وَيَتْرُكُ الأَنْصَارَ، وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم «إِنِّي أُعْطِي رِجَالاً حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِكُفْرٍ، أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالأَمْوَالِ وَتَرْجِعُونَ إِلَى رِحَالِكُمْ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَوَاللهِ مَا تَنْقَلِبُونَ بِهِ خَيْرٌ مِمَّا يَنْقَلِبُونَ بِهِ» . قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ قَدْ رَضِينَا. فَقَالَ لَهُمْ: «إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِي أُثْرَةً شَدِيدَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوُا اللهَ وَرَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم عَلَى الحَوْضِ» . قَالَ أَنَسٌ: فَلَمْ نَصْبِرْ. [انظر: 3146 - مسلم: 1059 - فتح 6/ 250]
3148 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللهِ الأُوَيْسِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ جُبَيْرٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ أَنَّهُ بَيْنَا هُوَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ النَّاسُ مُقْبِلاً مِنْ حُنَيْنٍ، عَلِقَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم الأَعْرَابُ يَسْأَلُونَهُ حَتَّى اضْطَرُّوهُ إِلَى سَمُرَةٍ، فَخَطِفَتْ رِدَاءَهُ، فَوَقَفَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:«أَعْطُونِي رِدَائِي، فَلَوْ كَانَ عَدَدُ هَذِهِ العِضَاهِ نَعَمًا لَقَسَمْتُهُ بَيْنَكُمْ، ثُمَّ لَا تَجِدُونِي بَخِيلاً وَلَا كَذُوبًا وَلَا جَبَانًا» . [انظر: 2821 - فتح 6/ 251]
3149 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِي غَلِيظُ الحَاشِيَةِ، فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَذَبَهُ جَذْبَةً شَدِيدَةً، حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَثَّرَتْ بِهِ حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِنْ شِدَّةِ جَذْبَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللهِ الذِي عِنْدَكَ. فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ، فَضَحِكَ ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ. [5809، 6088 - مسلم: 1057 - فتح 1/ 256]
3150 -
حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ حُنَيْنٍ آثَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أُنَاسًا فِي القِسْمَةِ، فَأَعْطَى الأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ مِائَةً مِنَ الإِبِلِ، وَأَعْطَى عُيَيْنَةَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَأَعْطَى أُنَاسًا مِنْ أَشْرَافِ العَرَبِ، فَآثَرَهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي القِسْمَةِ. قَالَ رَجُلٌ وَاللهِ إِنَّ هَذِهِ الْقِسْمَةَ مَا عُدِلَ فِيهَا، وَمَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللهِ. فَقُلْتُ: وَاللهِ لأُخْبِرَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم. فَأَتَيْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ:«فَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ يَعْدِلِ الله وَرَسُولُهُ رَحِمَ الله مُوسَى قَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ» . [3405، 4335، 4336، 6059، 6291،6100، 6336 - مسلم: 1062 - فتح 6/ 251]
3151 -
حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ أَسْمَاءَ ابْنَةِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما قَالَتْ: كُنْتُ أَنْقُلُ النَّوَى مِنْ أَرْضِ الزُّبَيْرِ الَّتِي أَقْطَعَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى رَأْسِي، وَهْيَ مِنِّي عَلَى ثُلُثَيْ فَرْسَخٍ. وَقَالَ أَبُو ضَمْرَةَ: عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَقْطَعَ الزُّبَيْرَ أَرْضًا مِنْ أَمْوَالِ بَنِي النَّضِيرِ. [5224 - مسلم: 2182 - فتح 6/ 252]
3152 -
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ المِقْدَامِ، حَدَّثَنَا الفُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ قَالَ: أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ أَجْلَى اليَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ أَرْضِ الحِجَازِ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا ظَهَرَ عَلَى أَهْلِ خَيْبَرَ أَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ اليَهُودَ مِنْهَا، وَكَانَتِ الأَرْضُ لَمَّا ظَهَرَ عَلَيْهَا لِلْيَهُودِ وَلِلرَّسُولِ وَلِلْمُسْلِمِينَ، فَسَأَلَ اليَهُودُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَتْرُكَهُمْ عَلَى أَنْ يَكْفُوا العَمَلَ، وَلَهُمْ نِصْفُ الثَّمَرِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«نُقِرُّكُمْ عَلَى ذَلِكَ مَا شِئْنَا» . فَأُقِرُّوا حَتَّى أَجْلَاهُمْ عُمَرُ فِي إِمَارَتِهِ إِلَى تَيْمَاءَ وَأَرِيحَا. [انظر: 2285 - مسلم: 1551 - فتح 6/ 252]
ذكر فيه عشرة أحاديث:
أحدها: حديث حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ. وسلف في الزكاة
(1)
.
والتعليق قبله أخرجه البخاري مسندًا في المغازي
(2)
. والتمني عن موسى بن إسماعيل، عن وهيب، عن عمرو بن يحيى بن عمارة، عن عباد بن تميم عنه
(3)
.
ثانيها: حديث نافع أَنَّ عُمَرَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهُ كَانَ عَلَيَّ اعْتِكَافُ يَوْمٍ فِي الجَاهِلِيَّةِ. فَأَمَرَهُ أَنْ يَفِيَ بِهِ.
وقد سلف في بابه
(4)
. زاد هنا: وَأَصَابَ عُمَرُ جَارِيَتَيْنِ مِنْ سَبْيِ حُنَيْنٍ، فَوَضَعَهُمَا فِي بَعْضِ بُيُوتِ مَكَّةَ، قَالَ: فَمَنَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى سَبْي حُنَيْنٍ، فَجَعَلُوا يَسْعَوْنَ فِي السِّكَكِ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا عَبْدَ اللهِ، انْظُرْ مَا هذا؟ فَقَالَ: مَنَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى السَّبْي. قَالَ: اذْهَبْ فَأَرْسِلِ الجَارِيَتَيْنِ.
(1)
سلف برقم (1472): الاستعفاف عن المسألة.
(2)
سيأتي برقم (4330) باب: غزوة الطائف.
(3)
سيأتي برقم (7245) باب: ما يجوز من اللهو.
(4)
سلف في الاعتكاف برقم (2032) باب الاعتكاف ليلاً.
قَالَ نَافِعٌ: وَلَمْ يَعْتَمِرْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الجِعْرَانَةِ، وَلَوِ اعْتَمَرَ لَمْ يَخْفَ عَلَى عَبْدِ اللهِ.
وَزَادَ جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابن عُمَرَ قَالَ: مِنَ الخُمُسِ.
وَرَوَاهُ مَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابن عُمَرَ فِي النَّذْرِ، وَلَمْ يَقُلْ: يَوْمَ.
وزيادة جرير أخرجها مسلم عن أبي الطاهر: أنا ابن وهب، عن جرير به
(1)
.
ورواية معمر أسندها في المغازي، عن ابن مقاتل، أنا عبد الله عن معمربه، لما قفلنا من حنين سأل عمر عن نذر
(2)
.
وقال الدارقطني: اختلف على ابن عيينة عن أيوب في أمر الجاريتين، فأرسله عنه قوم، ووصله آخرون، وفي بعض أسانيده إرسال وتعليق، وسائرها مسندة
(3)
.
وقال الجياني: كذا روي مرسلاً عند ابن السكن وأبي زيد، وعند أبي أحمد الجرجاني: أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، وذلك وهم. والصواب: الإرسال من رواية حماد بن زيد
(4)
.
وقول نافع: (ولم يعتمر رسول الله)
(5)
من الجعرانة، وهم ظاهر كما نبه عليه الدمياطي؛ لأن مسلمًا وأبا داود والترمذي وابن سعد رووه: أنه
(1)
مسلم (1656) كتاب الإيمان، باب: نذر الكافر، وما يفعل فيه إذا أسلم.
(2)
سيأتي برقم (4320) باب: قول الله تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ} .
(3)
انظر: "الإلزامات والتتبع" ص 254 - 255: بتصرف.
(4)
"تقييد المهمل" 2/ 641.
(5)
من (ص 1).
اعتمر منها من حديث قتادة عن أنس
(1)
، ورووه أيضًا عن ابن عباس إلاَّ مسلمًا
(2)
.
وقد رواه البخاري في باب: من قسم الغنيمة في غزوه وسفره من حديث همام، عن قتادة، عن أنس: اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم من الجعرانة حيث قسم غنائم حنين. وقد أسلفناه
(3)
.
وقال البخاري في المغازي: ورواه جرير بن حازم وحماد بن سلمة، عن أيوب
(4)
.
تعليق حمّاد: أخرجه مسلم من حديث حجاج بن منهال عنه، وأخرجه من حديث ابن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر في النذر، وفي حديثهما جمعيًا: اعتكاف يوم
(5)
.
وذكر في "الأطراف": أن رواية حجاج هذِه عن حماد. وذكر ابن طاهر في "رجال الصحيحين": أنّ حجّاج بن منهال سمع حماد بن سلمة في النذور من رواية الدارمي عنه
(6)
.
قال البخاري: وقال بعضهم: حمّاد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر.
قلت: أخرجه مسلم، عن أحمد بن عبدة، ثنا حمّاد بن زيد، عن أيوب، عن نافع. قال: ذكر عند ابن عمر عمرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من
(1)
مسلم (1253) كتاب الحج باب إهلال النبي وهديه، وأبو داود (1994)، الترمذي (815)، و"الطبقات" 2/ 171.
(2)
أبو داود (1993) والترمذي (816) و"الطبقات" 2/ 171.
(3)
سلف برقم (3066) كتاب الجهاد.
(4)
بعد الحديث (4320) باب: قول الله تعالى {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ} .
(5)
مسلم (1656) كتاب الإيمان، باب: نذر الكافر
…
(6)
"الجمع بين رجال الصحيحين" 1/ 99.
الجعرانة، قال مسلم، ثمّ ذكر نحو حديث جرير بن حازم ومعمر عن أيوب
(1)
.
الحديث الثالث: حديث عمرو بن تغلب: أَعْطَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَوْمًا وَمَنَعَ آخَرِينَ، فَكَأَنَّهُمْ عَتَبُوا عَلَيْهِ، فَقَالَ:"إِنِّي أُعْطِي أقوامًا أَخَافُ ظَلَعَهُمْ وَجَزَعَهُمْ، وَأَكِلُ أَقْوَامًا إِلَى مَا جَعَلَ اللهُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الخَيْرِ وَالْغِنَى، مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ تَغْلِبَ". قَالَ عَمْرُو بْنُ تَغْلِبَ: مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِكَلِمَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حُمْرَ النَّعَمِ.
وَزَادَ أَبُو عَاصِم، عَنْ جَرِيرٍ قَالَ: سَمِعْتُ الحَسَنَ: ثَنَا عَمْرُو بْنُ تَغْلِبَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِمَالٍ أَوْ بِسَبْيٍ فَقَسَمَهُ. بهذا.
وهذِه الزيادة سلفت في العيدين عن محمد بن معمر، عن أبي عاصم
(2)
.
فائدة:
عمرو بن تغلب هو من النمر بن قاسط بن هِنب بن أفصى بصري. وقال بعضهم: هو عبدي. أي: من عبد الله بن أفصى، للحسن عنه أحاديث منها في الصحيحين
(3)
.
الحديث الرابع: حديث أنس قَالَ: قَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي أُعْطِي قُرَيْشًا أَتَألَفُهُمْ؛ لأَنَّهُمْ حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ". ويأتي في المغازي
(4)
.
(1)
مسلم (1656) وسبق.
(2)
سلف برقم (923) باب: من قال في الخطبة بعد الثناء: أما بعد.
(3)
انظر ترجمته في: "الاستيعاب" 3/ 251 (1920)، و"أسد الغابة" 4/ 201 (3873)، و"الإصابة" 2/ 526 (5783). وكمال نسبه كما ذكره ابن الأثير: ابن أفصى بن دُعْمى بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار.
(4)
سيأتي برقم (4331) وما بعده.
الخامس: حديثه أيضًا أَنَّ نَاسًا مِنَ الأَنْصَارِ قَالُوا لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَمْوَالِ هَوَازِنَ .. الحديث.
الحديث السادس: حديث جبير بن مطعم بَيْنَما هُوَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ النَّاسُ مُقْبِلًا مِنْ حُنَيْنٍ، عَلِقَتْ برَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم الأَعْرَابُ يَسْأَلُونَهُ حَتَّى اضْطَرُّوهُ إِلَى سَمُرَةٍ .. الحديث.
الحديث السابع: حديث أنس كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ .. الحديث.
وبأتي في اللباس والأدب
(1)
، وأخرجه مسلم في الزكاة
(2)
، والنسائي في اللباس مختصرًا
(3)
.
الحديث الثامن: حديث ابن مسعود لَمَّا كَانَ يَوْمُ حُنَيْنٍ آثَرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أُنَاسًا فِي القِسْمَةِ، فَأَعْطَى الأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ مِائَةً مِنَ الإِبِلِ .. ويأتي في المغازي
(4)
وأحاديث الأنبياء
(5)
، وأخرجه مسلم أيضًا
(6)
.
الحديث التاسع: حديث أسماء بنت أبي بكر كُنْتُ أَنْقُلُ النَّوى مِنْ أَرْضِ الزُّبَيْرِ
…
الحديث. وأخرجه مسلم
(7)
والنسائي
(8)
، وقال
(1)
سيأتي برقم (5809) باب: البرود والحبرة والشملة، و (6088) باب: التبسم والضحك.
(2)
مسلم (1057) باب: إعطاء من سأل بفحش وغلظة.
(3)
ابن ماجه (3553) ولفظه: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم وعليه رداء نجراني غليظ الحاشية.
(4)
سيأتي برقم (4335، 4336) باب: غزوة الطائف.
(5)
سيأتي برقم (3405).
(6)
مسلم (1062) كتاب: الزكاة، باب: إعطاء المؤلفة قلوبهم.
(7)
مسلم (2182) كتاب: السلام، باب: جواز إرداف المرأة الأجنبية إذا أعيت في الطريق.
(8)
النسائي في "الكبرى" 5/ 372 (9170).
أبو ضمرة، عن هشام، عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع الزبير أرضًا من أموال بني النضير، (هذا مرسل)
(1)
.
الحديث العاشر: حديث ابن عمر: أَنَ عُمَرَ أَجْلَى اليَهُودَ وَالنَّصَارى
…
الحديث. وسلف في المزارعة
(2)
.
واعلم أنّ المؤلفة قلوبهم جماعة، منهم: أبو سفيان بن حرب، حكيم بن حزام، والحارث بن هشام، وسهيل بن عمرو الجمحي، وحويطب بن عبد العزى، وصفوان بن أمية، ومالك بن عوف، والعلاء بن جارية.
قال ابن إسحاق: أعطى كل واحدٍ من هؤلاء مائة بعير، وأعطى مخرمة بن نوفل وعمير بن وهب الجمحي وهشام بن عمرو العامري، ولا أدري كم أعطاهم، وأعطى سعيد بن يربوع خمسين بعيرًا، وعباس بن مرداس أباعر قليلة
(3)
.
وذَكر منهم أبو عمر: النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة، وعيينة بن حصن ووهب بن أبي أمية المخزومي، وسفيان بن عبد الأسد، والسائب بن أبي السائب، ومطيع بن الأسود، وأبو جهم بن حذيفة، ونوفل بن معاوية.
وذكر ابن الجوزي منهم الأقرع بن حابس، وعبد الرحمن بن يربوع، وزيد الخيل، وعلقمة بن علاثة، والجد بن قيس، وجبير بن مطعم، وحكيم بن طليق بن سفيان بن أمية بن عبد شمس، وخالد بن قيس
(1)
من الأصل.
(2)
سلف برقم (2285).
(3)
"سيرة ابن هشام" 4/ 140.
السهمي، وعمرو بن مرداس السلمي، وأبا السنابل بن بعكك، وقيس بن عدي السهمي.
وذكره عبد الرزاق في "تفسيره" عن يحيى بن أبي كثير
(1)
، وعدي بن قيس السهمي، وقيس بن مخرمة (بن المطلب)
(2)
، ومعاوية بن أبي سفيان، وعند ابن طاهر في "إيضاح الإشكال"
(3)
وعمرو بن الهيثم، وعند الصغاني، وأبي بن شريق، وكعب أبو الأخنس وأحيحة بن أمية بن خلف، وحرملة بن هوذة، وخالد بن (أسيد)
(4)
بن أبي العيص، و (خالد)
(5)
بن هشام، وخالد بن هوذة العامري، وشيبة بن عثمان الحجبي، وعكرمة بن عامر العبدري، وعمير بن ودقة، ولبيد بن ربيعة العامري، والمغيرة بن الحارث بن عبد المطلب، وهشام بن الوليد أخو خالد بن الوليد، فهؤلاء نحو الخمسين.
وقال ابن التين: إنهم فوق الأربعين. (وعدَّد)
(6)
منهم عكرمة بن أبي جهل.
فصل:
حقيقة المؤلفة: منْ أسلم ونيته ضعيفة أو له شرفٌ يتوقع بإعطائه إسلام نظرائه. وحاصل المذهب عندنا: أنهم يعطون من الزكاة، ومؤلفة الكفار لا يعطون شيئًا؛ لأن الله أعزَّ الإسلام وأهله.
(1)
"تفسير عبد الرزاق" 1/ 251.
(2)
من (ص 1).
(3)
"إيضاح الإشكال" ص 159 - 161.
(4)
في الأصل (سعيد) وهو خطأ، والصواب ما أثبتناه، انظر ترجمة خالد بن أسيد في "الاستيعاب" 1/ 128، "أسد الغابة" 1/ 301.
(5)
في الأصل (خلف) وهو خطأ، والصواب ما أثبتناه، انظر ترجمة خالد بن هشام في "الاستيعاب" 1/ 128، "أسد الغابة" 1/ 314. "الإصابة" 2/ 250 (2201).
(6)
من (ص 1).
وادّعى ابن بطال (وأصحابه)
(1)
أن الشافعي (قال)
(2)
: إنه كان يعطيهم من خمس الخمس، وقال: وهذِه الآثار ترد قوله فإن زعم: أنه عليه السلام إنما كان يعطيهم وغيرهم من خمس الخمس خاصة؛ لأنه سهمه خاصة، وهذا شيء يتقوله على الشافعي، فإن مذهبه: أنهم يعطون من الزكاة. وقيل: من سهم المصالح.
ثم نقل عن إسماعيل القاضي: أن هذِه قسمة لم يعدل فيها الشافعي؛ لأنه لا يتوهم أحد أن خمس الخمس يكون مبلغه ما أعطي المؤلفة من تلك العطايا الكثيرة، فإن كان ذلك كله من خمس الخمس، فإن أربعة أخماس الخمس أضعاف ذلك (كله)
(3)
.
قال إسماعيل: وإعطاؤه المؤلفة قلوبهم من الخمس، وليس للمؤلفة ذكر فيه ولا في الفيء، وإنما ذكروا في الصدقات، فدلّ إعطاؤهم من غنائم حنين أن الخمس يقسمه الإمام على ما يراه، وليس على الأجزاء التي قال الشافعي وأبو عبيد، ولو كان كذلك لما جاز أن يعطي المؤلفة من ذلك شيئًا.
قال ابن بطال
(4)
: وآثار الباب ترد أيضًا مقالة قوم ذكرهم الطبري: زعموا أنَّ إعطاءهم كان من جملة الغنيمة لا من الخمس، وزعموا أنه كان له أن يمنع الغنيمة منْ شاء ممن حضر القتال ويعطيها منْ لم يحضر، وهو قول مردود بالآثار الثابتة، وبدلائل القرآن
(5)
.
(1)
من (ص 1).
(2)
من (ص 1).
(3)
من (ص 1).
(4)
ورد بهامش الأصل: إن كان قول ابن بطال يخص الشافعي في مؤلفة الكفار فلا شك أن فيهم قولًا أنهم يعطون من خمس الخمس، والله أعلم.
(5)
"شرح ابن بطال" 5/ 319.
ونقل ابن التين عن مالك: إعطاؤهم من الخمس وإن أتي عليه. قال: وقيل: ممّا لله ورسوله من الخمس.
فصل:
وكان حكيم ممن استؤلف بالمال؛ لأنه كان يحبه.
وفيه: (رد)
(1)
السائل إذا ألحف بالموعظة الحسنة لا بالانتهار الذي نهى الله عنه.
وفيه: أن الحرص على المال والإفراط في حبّه وطلبه يوجب المحق له، وأن النفس الشريفة التي هي سخية به إن أعطته أو أخذته، ولم تكن عليه حريصة يبارك لها فيه، كما قال عليه السلام، وقد سلف كثيرٌ من معانيه هناك.
وفيه: ذم كثرة الأكل وتقبيحه.
قال الداودي: قوله: "فمن أخذه بسخاوة (نفس)
(2)
" أي: نفس المعطي، ويحتمل الآخذ. وكذا قوله: "بإشراف نفس".
وقوله: "خضرة حلوة" كذا في بعض النسخ، والصواب:"خضر حلو" أي: محبوب.
وقوله: "كالذي يأكل ولا يشبع" قال الداودي: هو منْ تتوق نفسه إلى كل شهوة، فيبذِّر ولا يبقي شيئًا، كلما أتلف شيئًا عاد إلى مثله.
وقيل: هي علة تسمى الكلبة، يأكل معها من هي به ولا يشبع. ومعنى:(لا أرزأ): لا آخذ منه شيئًا. وأصل أرزأ: انتقص.
(1)
من (ص 1).
(2)
من (ص 1).
فصل:
وقول عمر: (كان عليّ اعتكاف يومٍ في الجاهلية)، قيل: يريد زمن الجاهلية وهو مسلم، وقيل: وهو كافر، ونسخ ذلك، ذكره ابن التين. وإنما ذكره هنا؛ لذكر الجاريتين.
وفيه: أن سبي حنين كان قسم بعد الانتظار.
والسكك: الطرق. وقوله: (فمَنّ النبي صلى الله عليه وسلم على سبي حنين).
فيه: قبول ما فشا من الخير وإن لم يسمعه من يعتمد عليه.
وقول نافع: (لم يعتمر من الجعرانة). قد أسلفنا أنه وهم، وأنه اعتمر منها. قال ابن التين: قد ذكر جماعة أنه اعتمر منها حين فرغ من حنين والطائف، وكان ذلك عام ثمانية، وانصرف من العمرة في آخر ذي القعدة، وحجّ بالناس غياث بن أسيد، وليس في قول نافع حجة؛ لأنّ ابن عمر ليس كلَّ ما علمه حدَّث به نافعًا، ولا كل ما حدث به من حفظه نافع ولا كلَّ ما علمه ابن عمر لا ينساه. والعمرة من الجعرانة أشهر من هذا وأظهر من أن يشك فيها.
وقول ابن عمر: ومن الخمس: صواب؛ لأنّ الغنيمة إذا قسمت لم يختلف في ملكهم لها.
فصل:
وقول عمرو بن تغلب: (عتبوا)، أي: لاموا، قال الخليل: حقيقة العتاب: مخاطبة الإدلال ومذاكرة الموجدة.
فصل:
وقوله في حديث أنس الثاني: "إني لأعطي رجالًا حديثي عهد بكفر" هو جار على مذهب سيبويه وحده في قوله: مررت برجل حسن وجهه.
والجماعة لا يجيزونه على إضافة حسن إلى الوجه.
فصل:
والسمرة في حديث جُبير: شجر طوال متفرق الرءوس، قليل الظل، صغار الورق، قصار الشوك، جيد الخشب، و (العضاه)، شجر الشوك كالطلح والعوسج والسدر قاله القزاز. قال الخطابي: السمرة ورقها أثبت وظلها كثيف، قال: ويقال: هي شجر الطلح
(1)
.
وقال الداودي: السّمُر هي العضاه.
واختلف في واحد العضاه: فقيل: عضهة، مثل: شفة أصلها: شفهة، حذفت منها الهاء الأصلية في مفردها فصارت: شفة، وقيل: هي عضاهة، مثل شجرة وشجر.
وفيه: استعمال حسن الأخلاق والحلم لجهال الناس والأعراب، وقلّة ردهم بالخيبة.
وفيه: أن سنة الأمراء أن يسكتوا عن رد السائل ويتركوه تحت الرَّجاء، ولا يؤيسوه ويوحشوه.
وفيه: مدح الرجل نفسه إذا ألحف عليه بالمسألة في المال أو العلم أو غيره.
وفيه: أنه عليه السلام مدح نفسه بالجود العظيم، ووصف نفسه بالشجاعة والبأس الذي بسببه كانت الأعراب تسأله، ووصف نفسه بالصدق فيما يعد به من العطايا.
وفيه: أن من أخلف وعدًا أنه جائز أن يسمى كاذبًا. وقد قال تعالى: {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} [مريم: 54].
(1)
"أعلام الحديث" 2/ 1402.
وفيه: -كما قال ابن المنذر-: أن الإمام بالخيار؛ إن شاء قسم الغنائم بين أهلها قبل أن يرجع إلى بلاد الإسلام، وإن شاء أَخَّرَ ذلك على قدر فراغه وشغله إلى وقت خروجه، وعلى قدر ما يرى من الصلاح فيه.
فصل:
وفي حديث أنس أن على الإمام أن يمتحن ما يكره مما يبلغه من الأخبار، ولا يدع الناس يخوضون من أمره فيما يؤزرون به. فربما أورث ذلك نفاقًا في قلوبهم، يجب امتحان ما سمعه من ذلك واختباره بنفسه، حتى يتبين وجه ما أنكر عليه، ومعنى مراده ليذهب نزغات الشيطان من نفوسهم، كما فعل عليه السلام بالأنصار حين رضَّاهم مما لم يكونوا يرضون به من قبل من الأثرة عليهم، لما بينه لهم.
وفيه: أن الإمام إذا اختصّ قومًا بنفسه وجيرته أن يعلم لهم حق الجوار على غيرهم من الناس.
وفيه: شرف جيران الملك على سائر من بعد عن جيرته.
وفيه: أن الرجل العالم والإمام العادل خير من المال الكثير.
وفيه: استئلاف الناس بالعطاء الجزيل؛ لما في ذلك من المنفعة للمسلمين والدفاع عنهم.
وفيه: أن الأنصار لا حقَّ لهم في الخلافة؛ لأنه عليه السلام عرفهم أنه سيؤثر عليهم، والمؤثر يجب أن يكون من غيرهم، ألا ترى قوله:"اصبروا حتى تلقوا الله ورسوله" فعرفهم أن ذلك حالهم إلى انقضاء الزمن.
وفي حديث أنس أيضًا: صبر السلاطين والعلماء بجهال السؤال،
واستعمال الحلم لهم، والصبر على أذاهم نفسًا ومالاً.
فصل:
وفي حديث ابن مسعود: الأثرة في القسمة نصًّا.
وفيه: الإعراض عن الأذى إذا لم يعين قائله، والتأسي بمن تقدم من الفضلاء في الصبر والحلم.
وفي حديث أسماء: عون المرأة للرجل فيما يمتهن فيه الرجل، وذلك من باب التطوع منها، وليس بواجبٍ عليها، وسيعلم في كتاب النكاح ما يلزمها من خدمة زوجها، واختلاف العلماء فيه عند ذكره.
وهذِه الأرض التي أقطعها له من بني النضير ليست من جملة الخمس؛ لأنه عليه السلام أجلى بني النضير حين أرادوا الغدر به وقتله، فكانت فيئًا لمن لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب، فحبس منها لنوائبه، وقسم أكثرها في المهاجرين خاصة، فلم يجر فيها خمس.
وأما خيبر: فإن ابن شهاب قال: إن بعضها عنوة، وبعضها صلحًا، وما كان عنوة فجرى فيه الخمس.
وأما قوله: (وكانت الأرض لما ظهر عليها لليهود وللرسول وللمسلمين) فقد اختلفت الرواية في ذلك
(1)
، فروى ابن السكن عن الفربري:(وكانت الأرض لما ظهر عليها لله، وللرسول، وللمسلمين).
وقال القابسي: (لليهود) ولا أعرفه، وإنما هو لله وللرسول وللمسلمين، وقال ابن أبي صفرة: بل الصواب لليهود، وهو الصحيح، وكذلك روى النسفي عن الفربري.
(1)
ورد بهامش الأصل: وسيأتي التنبيه عليه في كلام شيخنا والاختلاف في الصواب.
وقوله: (لما ظهر عليها) أي: بفتح أكثرها ومعظمها، قبل أن تسأله اليهود أن يصالحوه بأن ينزلوا ويعطوه الأرض، ويسلمهم في أنفسهم، فكانت لليهود، فلما صالحهم أن يسلموا له الأرض، كانت هذِه لله ورسوله يريد: هذِه الأرض التي صالحه اليهود بها، وخمس الأرض التي كان أخذها عنْوةً، وللمسلمين الأربعة الأخماس من العنوة، ولم يكن لليهود فيها شيء؛ لخروجهم عنها بالصلح، والدليل على ذلك أن عمر لما أخرجهم، إنما أعطاهم قيمة الثمرة لا قيمة الأصول، فصح أنهم كانوا مساقين فيها بعد أن صولحوا على أنفسهم.
قال الخطابي: لست أدري كيف يصح إقطاع أرض المدينة وهم أسلموا راغبين في الدين إلا أن يكون على الوجه الذي جاء فيه الأثر عن ابن عباس أن الأنصار جعلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يبلغه الماء من أرضهم، فيحتمل أن يكون عليه السلام أقطع الزبير منها فأحياها.
ودلَّ قول أسماء: (أنقل النوى منها) أنه كان فيها نخل فلا ينكر أن يكون الزبير غرز فيها نخلاً، فطالت وأثمرت؛ لأنه بقي إلى أيام عليٍّ، ومات يوم الجمل كما سلف، وأما إقطاعه من أرض بني النضير فهو بين، وهو أن يكون ذلك من ماله؛ لأنه عليه السلام اصطفاها فكان ينفق منها على أهله، ويرد فضلها في نوائب المسلمين.
وقد روي أنه عليه السلام أعطاه الأنصار حين قدم المدينة بخلاف كل قبيلة، فلما أجلى بني النضير ردها فلا يبعد أن يكون أقطع الزبير
(1)
.
(1)
"أعلام الحديث" 2/ 1458، 1459، 1460. بتصرف.
فصل:
في حديث ابن عمر: (أجلى اليهود) أي: أخرجهم من وطنهم، يقال: أجليت القوم عن وطنهم، وجلوتهم، وجلا القوم، وأجلوا وجلوا، وإنما فعل هذا عمر رضي الله عنه؛ لقوله عليه السلام:"لا يبقينَّ دينان بجزيرة العرب"
(1)
والصديق اشتغل عنه بقتال أهل الردة أو لم يبلغه الخبر.
خاتمة للباب: كانت المؤلفة قسمين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم:
مؤمن لم يستقر الإسلام في قلبه، فلم يزل يعطيهم حتى استقر في قلوبهم، وجماعة من أهل الكتاب وغيرهم كان يتألفهم اتقاء شرهم، وقال جماعة: هم قوم كانوا يظهرون الإسلام، ويبطنون الكفر، كانوا يتألفون بدفع سهم من الصدقة إليهم؛ لضعف يقينهم.
وقال الزهري: المؤلفة مَن أسلم من يهودي أو نصراني، وإن كان غنيًا، واختلف العلماء في بقاء سهمهم، فقال عمر والحسن والشعبي وغيرهم: انقطع هذا الصنف بعز الإسلام وظهوره، وهو مشهور مذهب مالك وأبي حنيفة، وقال بعض الحنفية: لما أعزَّ الله الإسلام وقطع دابر الكافرين اجتمعت الصحابة في زمن الصديق على سقوط سهمهم.
(1)
رواه أحمد 6/ 275 والطبري في "تاريخه" 3/ 214 - 215 والطبراني في "الأوسط" 2/ 12 (1066) عن عائشة وأورده الهيثمي في "المجمع" 5/ 586 وقال: رواه أحمد والطبراني في "الأوسط" ورجال أحمد رجال الصحيح غير ابن إسحاق وقد صرح بالسماع.
ورواه مالك في "الموطأ" 2/ 892 (1584) وابن سعد 2/ 254 وعبد الرزاق (9987، 19368) مرسلًا عن عمر بن عبد العزيز.
وقال ابن عبد البر في "التمهيد" 1/ 665 - 166 هكذا جاء مقطوعًا وهو يتصل من وجوه حسان عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عائشة وعلي وأسامة.
وقال الشافعي: هذا الصنف مفقود اليوم، فإن وجدوا أخذوا، والأصح عنده: خلافه، وقالت جماعة: هم باقون، ثم إن سهمهم يرجع إلى باقي الأصناف، وقال الزهري: يعطى نصف سهمهم لعمارة المساجد.
وقال الرازي: كانوا يُتألفون لجهات ثلاثة:
أحدها: الكفار؛ لدفع مضرتهم وكفِّ أذاهم عن المسلمين، واستعانة بهم على غيرهم من المشركين.
ثانيها: لاستمالة قلوبهم للإسلام، ولئلَّا يمنعوا من أسلم من قومهم من الثبات على الإسلام.
الثالثة: لأنهم حديثو عهدٍ بكفر، فيخشى من رجوعهم إليه.
فصل:
قوله: ("وترجعون برسول الله إلى رحالكم"). فيه: تغبطهم بذلك، وأعظم بها غبطة.
20 - باب مَا يُصِيبُ مِنَ الطَّعَامِ فِي أَرْضِ الحَرْبِ
3153 -
حَدَّثَنَا أَبُو الوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُغَفَّلٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا مُحَاصِرِينَ قَصْرَ خَيْبَرَ، فَرَمَى إِنْسَانٌ بِجِرَابٍ فِيهِ شَحْمٌ، فَنَزَوْتُ لآخُذَهُ، فَالْتَفَتُّ فَإِذَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ. [4214، 5508 - مسلم: 1772 - فتح
6/ 255]
3154 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: كُنَّا نُصِيبُ فِي مَغَازِينَا العَسَلَ وَالْعِنَبَ فَنَأْكُلُهُ وَلَا نَرْفَعُهُ. [فتح 6/ 255]
3155 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَاحِدِ، حَدَّثَنَا الشَّيْبَانِي قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي أَوْفَى رضي الله عنهما يَقُولُ: أَصَابَتْنَا مَجَاعَةٌ لَيَالِيَ خَيْبَرَ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ وَقَعْنَا فِي الحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ، فَانْتَحَرْنَاهَا، فَلَمَّا غَلَتِ القُدُورُ نَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: اكْفَئُوا الْقُدُورَ، فَلَا تَطْعَمُوا مِنْ لُحُومِ الْحُمُرِ شَيْئًا. قَالَ عَبْدُ اللهِ: فَقُلْنَا: إِنَّمَا نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم؛ لأَنَّهَا لَمْ تُخَمَّسْ. قَالَ: وَقَالَ آخَرُونَ حَرَّمَهَا البَتَّةَ. وَسَأَلْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ فَقَالَ: حَرَّمَهَا البَتَّةَ. [4220، 4222، 4224، 5526 - مسلم: 1937 - فتح 6/ 255]
ذكر فيه حديث حميد بن هلال عن عَبْدِ اللهِ بْنِ مُغَفَّلٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا مُحَاصِرِينَ قَصْرَ خَيْبَرَ، فَرَمَى إِنْسَان بِجِرَابٍ فِيهِ شَحْمٌ، فَنَزَوْتُ لآخُذَهُ، فَالْتَفَتُّ فَإِذَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَاسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ.
وحديث نَافِعٍ، عَنِ ابن عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: كُنَّا نُصِيبُ فِي مَغَازِينَا العَسَلَ وَالعِنَبَ فَنَأْكُلُهُ وَلَا نَرْفَعُهُ.
وحديث الشيباني عن ابن أبي أوفى قال: أَصَابَتْنَا مَجَاعَةٌ لَيَالِيَ خَيْبَرَ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ وَقَعْنَا فِي الحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ فَانْتَحَرْنَاهَا، فَلَمَّا غَلَتِ القُدُورُ نَادى مُنَادِي رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: اكْفَئُوا القُدُورَ، ولَا تَطْعَمُوا
مِنْ لُحُومِ الحُمُرِ شَيْئًا. قَالَ عَبْدُ اللهِ: فَقُلْنَا: إِنَّمَا نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم؛ لأَنَّهَا لَمْ تُخَمَّسْ. قَالَ: وَقَالَ آخَرُونَ: حَرَّمَهَا البَتَّةَ. وَسَأَلْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ، فَقَالَ: حَرَّمَهَا البَتَّةَ.
الشرح:
حديث عبد الله بن مغفل: بضم الميم وفتح الغين والفاء المشددة، أخرجه مسلم أيضًا
(1)
ويأتي في المغازي والذبائح
(2)
، وفي رواية لأبي داود الطيالسي في "مسنده": فاستحييت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هو لك"
(3)
.
قال ابن القطان: إسنادها صحيح
(4)
، وحديث ابن عمر من أفراده، ولأبي داود، وابن حبان في "صحيحه" بلفظ: إن جيشًا غنموا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم طعامًا وعسلاً، فلم يؤخذ منهم الخمس
(5)
.
وللإسماعيلي من حديث جرير بن حازم، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر قال: أصبنا يوم اليرموك طعامًا وأغنامًا فلم تقسم، ولأبي نعيم من حديث يونس بن محمد، ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، قال: كنا نصيب في مغازينا العنب والعسل والفواكه.
ولأبي داود من حديث عبد الله بن أبي المجالد، عن عبد الله بن أبي أوفى، قال: قلت: هل كنتم تخمسون -يعني: الطعام- في عهد رسول
(1)
مسلم (1772) كتاب: الجهاد والسير، باب: جواز الأكل من طعام الغنيمة في دار الحرب.
(2)
سيأتي برقم (4214، 5508).
(3)
"المسند" 2/ 232 (959).
(4)
"الأحكام" 5/ 623 (2843).
(5)
"سنن أبي داود"(2701)، "صحيح ابن حبان" 11/ 106 (4825).
الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أصبنا طعامًا يوم خيبر، فكان الرجل يجيءُ فيأخذ منه مقدار ما يكفيه، ثم ينصرف
(1)
، قال الحاكم: صحيح على شرط البخاري
(2)
، وقال مرة: على شرط الشيخين. وللطحاوي من حديث أبي يوسف، عن أبي إسحاق الشيباني، عن محمد بن أبي المجالد عن ابن أبي أوفى قال: كنا مع رسول صلى الله عليه وسلم بخيبر يأتي أحدنذا إلى الطعام من الغنيمة فيأخذ منه حاجته
(3)
.
قال أبو جعفر: وقد خالف هذا حديث آخر رواه ابن لهيعة، عن جعفر بن ربيعة، عن أبي مرزوق، عن حنش، عن رويفع بن ثابت، يرفعه: أنه قال يوم خيبر: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يأخذ دابة من المغنم يركبها حتى إذا أعجفها ردها إلى المغانم، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يلبس ثوبًا من المغانم حتى إذا أخلقه رده في المغانم".
وقال أبو يوسف: من فعل ذلك وهو عنه غنيٌّ يقي بذلك ثوبه أو دابته أو بخيانة، وأما المحتاج فلا بأس له أن يأخذ من ذلك ما احتاج إليه
(4)
، وقاله أيضًا محمد.
وحديث ابن أبي أوفى يأتي في المغازي
(5)
، وأخرجه مسلم أيضًا
(6)
.
(1)
أبو داود (2704).
(2)
"المستدرك" 2/ 126.
(3)
"شرح معاني الآثار" 3/ 252 (5250).
(4)
المصدر السابق.
(5)
سيأتي برقم (4220، 4222، 4224).
(6)
مسلم (1937).
فصل:
عبد الله بن مغفل: اختلف في كنيته على أقوال: أبو سعيد، أو أبو زياد، أو أبو عبد الرحمن، مات بالبصرة في ولاية عبيد الله بن زياد في آخر خلافة معاوية.
وحميد بن هلال: الراوي عنه عدوي بصري، كنيته: أبو نصر، مات بها في ولاية خالد بن عبد الله.
والشيباني اسمه: سليمان بن أبي سليمان فيروز أبو إسحاق الكوفي مولى بني شيبان بن ثعلبة، مات سنة تسع وثلاثين ومائة، وقيل: سنة تسع وعشرين ومائة وقال ابن سعد: لسنتين خلتا من خلافة أبي جعفر
(1)
، وقيل: سنة ثمانٍ وثلاثين، وقيل: بعد الأربعين، وهو من شيبان الأكبر.
وأبو عمرو الشيباني من شيبان الأصغر بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة، واسمه: سعد بن إياس بن عمرو بن الحارث بن سدوس بن سنان بن عم بن قتادة بن دعامة بن عزير بن عمرو بن ربيعة بن الحارث بن سدوس، سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يرعى إبلًا لأهله بكاظمة.
قال إسماعيل بن خالد: رأيت أبا عمرو الشيباني، وقد أتى عليه تسع عشرة
(2)
ومائة سنة، سمع عليًّا وغيره.
فصل:
جمهور العلماء متفقون على أنه لا بأس بأكل الطعام والعلف في دار الحرب بغير إذن الإمام، والإجماع قائم -كما حكاه القاضي- على إباحة أكل طعام الحربيين ما دام المسلمون في دار الحرب، فيأكلون منه قدر
(1)
"الطبقات" 6/ 345.
(2)
من (ص 1).
حاجتهم، والجمهور -كما قلناه- أنه لا يحتاج في ذلك إلى إذن الإمام
(1)
.
ولا بأس بذبح البقر والغنم بعد أن يقع في المقاسم، هذا قول الليث وا لأربعة والأوزاعي وإسحاق.
قال مالك: ولو أن ذلك لا يؤكل حتى يقسم بينهم أضر ذلك بهم. قال: وإنما يأكلون ذلك على وجه المعروف والحاجة ولا يدخر أحد منهم شيئًا يرجع به إلى أهله.
وقد احتج الفقهاء في هذا بحديث ابن مغفل في قصة الجراب التي ذكرها البخاري، وقالوا: ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليه فعله؟ وفي بعض طرقه: فالتفت، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم تبسم إليَّ
(2)
.
ورواية أبي داود التي أسلفناها: "هو لك" أصرح من ذلك، وشذ الزهري في هذا الباب، فقال: لا يجوز أخذ الطعام في دار الحرب إلا بإذن الإمام.
وأظنُّه رأى أن الخلفاء والأمراء كانوا يأذنون لهم في ذلك، وهذا لا حجة فيه؛ لأن ما أذنوا فيه مرة علمت به الإباحة؛ لأنهم لا يأذنون في استباحة غير المباح.
وحديث ابن عمر في الباب هو كالإجماع من الصحابة، وحديث ابن أبي أوفى حجة فيه أيضًا، فإن العادة كانت عندهم في المغازي إطلاق الأيدي في المطاعم، ولولا ذلك ما تقدموا إلى شيء إلا بأمر الشارع.
(1)
"إكمال المعلم" 6/ 114.
(2)
أبو داود (2702).
وكره جمهور العلماء أن يخرج بشيء من الطعام إلى دار الإسلام إذا كانت له قيمة، وكان للناس فيه رغبة، وحكموا له بحكم الغنيمة، فإن أخرجه ردّه في المقاسم إن أمكنه، وإلّا باعه وتصدق بثمنه.
قال مالك: وإن كان يسيرًا أكله. وقال الأوزاعي: ما أخرجه إلى دار الإسلام فهو له أيضًا.
قال ابن المنذر: وليس لأحدٍ أنْ ينال من مال العدو أيضًا سوى الطعام للأكل، والعلف للدواب، وكل مختلف فيه بعد ذلك من ثمن طعام أو فضلة طعام يقدم به إلى أهله، أو جراب، أو حبل، أو غير ذلك مردود إلى قوله عليه السلام:"أدّوا الخيط والمخيط"
(1)
وإلى قوله: "شراك أو شراكان من نار"
(2)
.
وذهب قوم منهم الأوزاعي: أنه لا بأس أن يأخذ الرجل السلاح من الغنيمة فيقاتل به في معمعة القتال ما كان إلى ذلك محتاجًا، ولا ينتظر برده الفرار من الحرب، فيعرضه للهلاك وانكسار الثمن في طول مكثه في دار الحرب، واحتجوا بحديث رويفع السالف.
وخالفهم آخرون منهم أبو حنيفة فقالوا: لا بأس أن يأخذ السلاح من الغنيمة إذا احتاج إليه بغير إذن الإمام، فيقاتل به حتى يفرغ من الحرب، ثم يرده في المغنم.
وقال أبو يوسف: سكوت رسول الله صلى الله عليه وسلم له معنى لا يفهمه إلا من
(1)
رواه أحمد 4/ 127 - 128 والبزار (1734) والطبراني في "الأوسط"(244). وقال الهيثمي في "المجمع" 5/ 337: رواه أحمد والبزار والطبراني وفيه أم صبية بنت العرباض، ولم أجد من وثقها ولا جرحها، وبقية رجاله ثقات وله شواهد من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص وعبادة بن الصامت وعمرو بن عبسة، وغيرهم.
(2)
سيأتي برقم (4234) كتاب: المغازي، باب: غزوة خيبر.
أعانه الله عليه وقد أسلفناه عنه، وحديث ابن أبي أوفى يبين أنه إذا كان الطعام لا بأس بأخذه واستهلاكه لحاجة المسلمين كذلك لا (بأس)
(1)
بأخذ الدواب والثياب واستعمالها للحاجة إليها، حتى يكون الذي أريد من حديث ابن أبي أوفى غير الذي أريد من حديث رويفع حتى لا (يتضادا)
(2)
، وهذا قول أبي يوسف ومحمد. قال الطحاوي: وبه نأخذ
(3)
.
فرع:
يجوز ركوب دوابهم ولبس ثيابهم، واستعمال سلاحهم في الحرب بالإجماع، ولا يفتقر إلى إذن الإمام خلافًا للأوزاعي.
فائدة:
الجراب: المزود ونحوه، قال الداودي: قال القزاز: هو بفتح الجيم: وعاء من جلود، وبكسرها جراب الركبة، وهو ما حولها من أعلاها إلى أسفلها.
وفي "غريب المدونة": الجراب، بفتح الجيم وكسرها، وقال صاحب "المنتهى": الجراب بالكسر والعامة تفتحه، والجمع أجربة، وجوب بإسكان الراء وفتحها.
وقال في "المحكم": هو الوعاء، وقيل: المزود
(4)
، ومما نسمعه على الألسنة: لا تفتح الجراب، ولا تكسر القصعة.
(1)
من (ص 2).
(2)
في "الأصول" يتضاد.
(3)
"شرح معاني الآثار" 3/ 252.
(4)
"المحكم" 7/ 280 مادة (جرب).
فائدة:
معثى (نزوت): وثبت، ومعناه: أن رامي الجراب لم يرمه ليكون له أو رماه لعبد الله بن مغفل.
وقوله: (فاستحييت) أي: أن يرى رسول الله منه ذلك.
فصل:
تقدم علة تحريم الحمر في الجهاد في التكبير وغيره، وقول مالك في تحريمها: حمله البغاددة على أنه تحريم كراهة، وقيل: حرمها خشية أن تفنى؛ أو لأنها لم تخمس؛ أو لأنها من حوالي القرية، وأجاز ابن عباس -ونقله السهيلي عن عائشة أيضًا وطائفة من التابعين- أكلها، محتجًّا بقوله تعالى:{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} الآية [الأنعام: 145]، وهي مكية وحديث النهي بخيبر
(1)
.
وجاء: "اكْفَئُوا القدور"
(2)
وفي لفظٍ: إنها رجس، وفي كتاب "الأطعمة" لعثمان بن سعيد الدارمي بإسناده عن سعيد بن جبير، قال: إنما نُهي عنها؛ لأنها كانت تأكل العذر
(3)
، وعن ابن أبي أوفى: لمَّا نادى المنادي ثلاثًا، قلنا: حرمها تحريم ماذا؟ فتحدثنا بيننا: فقلنا حرمها البتة، أو حرمها من أجل أنها لم تخمس
(4)
.
وروى ابن شاهين في "ناسخه" -استدلالًا على نسخ التحريم- بإسنادٍ جيد عن البراء بن عازب، قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر
(1)
"الروض الأنف" 4/ 58.
(2)
مسلم (1802) كتاب: الصيد والذبائح، باب: تحريم أكل لحم الحمر الإنسية، عن سلمة بن الأكوع.
(3)
سيأتي برقم (4220) كتاب: المغازي، باب: غزوة خيبر.
(4)
مسلم (1937) كتاب: الصيد والذبائح، باب: تحريم أكل لحم الحمر الإنسية.
أن نلقي الحمر الأهلية نيئة ونضيجة، ثم أمرنا بها بعد ذلك
(1)
، وصحَّ عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: إنما كرهت إبقاءً على الظهر.
ولأبي داود من حديث غالب بن أبجر: أنه قال: يا رسول الله لم يبق في مالي شيءٌ أطعم أهلي إلا حمرٌ لي، فقال:"أطعم أهلك من سمين مالك"
(2)
إسناده متماسك، وله متابعات، والأحاديث الثابتة ترده.
قال الخطابي: حديث غالب مختلف في إسناده
(3)
، ولا يثبت، والنهي ثابت، وقال عبد الحق: ليس هو بمتصل الإسناد
(4)
، وقال السهيلي: ضعيفه، ولا يعارض بمثله حديث النهي
(5)
.
فصل:
في حديث ابن مغفل جواز أكل شحوم ذبيحة اليهود المحرمة عليهم، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي، وقال مالك: هي مكروهة، وقال أشهب وابن القاسم، وبعض أصحاب أحمد: هي محرمة، وحكي أيضًا عن مالك.
آخر الخمس ولله الحمد
(1)
مسلم (1938).
(2)
أبو داود (3809).
قال النووي في "شرح مسلم" 13/ 92: هذا الحديث مضطرب مختلف الإسناد وشديد الاختلاف. قال الحافظ في الفتح 9/ 656: إسناده ضعيف، والمتن شاذ مخالف للأحاديث الصحيحة.
(3)
"معالم السنن" 4/ 231.
(4)
"الأحكام الوسطى" 4/ 115.
(5)
"الروض الأنف"4/ 58.
58
كتاب الجزية والموادعة
بسم الله الرحمن الرحيم
58 - كِتَابُ الجِزْيَةِ وَالمُوَادَعَةِ
1 - [باب الجِزْيَةِ وَالْمُوَادَعَةِ] مَعَ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَالْحَرْبِ
وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} إلى قوله {وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]: أَذِلَّاءُ. {وَالْمَسْكَنَةُ} [البقرة: 61] مَصْدَرُ المِسْكِينِ، أسكَنُ مِنْ فُلَانٍ: أحَوجُ مِنْهُ، وَلَمْ يَذْهَبْ إِلَى السُّكُونِ، وَمَا جَاءَ فِي أَخْذِ الجِزْيَةِ مِنَ اليَهُودِ وَالنَّصَارى وَالْمَجُوسِ وَالْعَجَم. وَقَالَ ابن عُيَيْنَةَ: عَنِ ابن أَبِي نَجِيحٍ: قُلْتُ لِمُجَاهِدٍ مَا شَأْنُ أَهْلِ الشَّأْمِ عَلَيْهِمْ أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ وَأَهْلُ اليَمَنِ عَلَيْهِمْ دِينَارٌ؟ قَالَ: جُعِلَ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ اليَسَارِ.
3156 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: سَمِعْتُ عَمْرًا قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا مَعَ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَعَمْرِو بْنِ أَوْسٍ، فَحَدَّثَهُمَا بَجَالَةُ سَنَةَ سَبْعِينَ -عَامَ حَجَّ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ بِأَهْلِ البَصْرَةِ- عِنْدَ دَرَجِ زَمْزَمَ قَالَ: كُنْتُ كَاتِبًا لِجَزْءِ بْنِ مُعَاوِيَةَ عَمِّ
الأَحْنَفِ، فَأَتَانَا كِتَابُ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ قَبْلَ مَوْتِهِ بِسَنَةٍ فَرِّقُوا بَيْنَ كُلِّ ذِي مَحْرَمٍ مِنَ المَجُوسِ. وَلَمْ يَكُنْ عُمَرُ أَخَذَ الجِزْيَةَ مِنَ المَجُوسِ. [فتح 6/ 257]
3157 -
حَتَّى شَهِدَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَخَذَهَا مِنْ مَجُوسِ هَجَرٍ. [فتح 6/ 257]
3158 -
حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، عَنِ المِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَمْرَو بْنَ عَوْفٍ الأَنْصَارِيَّ وَهْوَ حَلِيفٌ لِبَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ وَكَانَ شَهِدَ بَدْرًا أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الجَرَّاحِ إِلَى البَحْرَيْنِ يَأْتِي بِجِزْيَتِهَا، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ صَالَحَ أَهْلَ البَحْرَيْنِ وَأَمَّرَ عَلَيْهِمُ العَلَاءَ بْنَ الحَضْرَمِيِّ، فَقَدِمَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِمَالٍ مِنَ البَحْرَيْنِ، فَسَمِعَتِ الأَنْصَارُ بِقُدُومِ أَبِي عُبَيْدَةَ فَوَافَتْ صَلَاةَ الصُّبْحِ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا صَلَّى بِهِمِ الفَجْرَ انْصَرَفَ، فَتَعَرَّضُوا لَهُ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ رَآهُمْ وَقَالَ:«أَظُنُّكُمْ قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ قَدْ جَاءَ بِشَيْءٍ» . قَالُوا: أَجَلْ يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: «فَأَبْشِرُوا وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ، فَوَاللهِ لَا الفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ» . [4015، 6425 - مسلم: 2961 - فتح 6/ 257]
3159 -
حَدَّثَنَا الفَضْلُ بْنُ يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الرَّقِّيُّ، حَدَّثَنَا المُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ الثَّقَفِيُّ، حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ المُزَنِي وَزِيَادُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ حَيَّةَ قَالَ: بَعَثَ عُمَرُ النَّاسَ فِي أَفْنَاءِ الأَمْصَارِ يُقَاتِلُونَ المُشْرِكِينَ، فَأَسْلَمَ الْهُرْمُزَانُ فَقَالَ: إِنِّي مُسْتَشِيرُكَ فِي مَغَازِيَّ هَذِهِ. قَالَ: نَعَمْ، مَثَلُهَا وَمَثَلُ مَنْ فِيهَا مِنَ النَّاسِ مِنْ عَدُوِّ المُسْلِمِينَ مَثَلُ طَائِرٍ لَهُ رَأْسٌ وَلَهُ جَنَاحَانِ وَلَهُ رِجْلَانِ، فَإِنْ كُسِرَ أَحَدُ الجَنَاحَيْنِ نَهَضَتِ الرِّجْلَانِ بِجَنَاحٍ وَالرَّأْسُ، فَإِنْ كُسِرَ الْجَنَاحُ الآخَرُ نَهَضَتِ الرِّجْلَانِ وَالرَّأْسُ، وَإِنْ شُدِخَ الرَّأْسُ ذَهَبَتِ الرِّجْلَانِ وَالْجَنَاحَانِ وَالرَّأْسُ، فَالرَّأْسُ كِسْرَى، وَالْجَنَاحُ قَيْصَرُ، وَالْجَنَاحُ الآخَرُ فَارِسُ، فَمُرِ المُسْلِمِينَ فَلْيَنْفِرُوا إِلَى كِسْرَى.
وَقَالَ بَكْرٌ وَزِيَادٌ جَمِيعًا: عَنْ جُبَيْرِ بْنِ حَيَّةَ قَالَ: فَنَدَبَنَا عُمَرُ وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْنَا النُّعْمَانَ بْنَ مُقَرِّنٍ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِأَرْضِ العَدُوِّ، وَخَرَجَ عَلَيْنَا عَامِلُ كِسْرَى فِي أَرْبَعِينَ أَلْفًا، فَقَامَ تُرْجُمَانٌ فَقَالَ لِيُكَلِّمْنِي رَجُلٌ مِنْكُمْ. فَقَالَ المُغِيرَةُ: سَلْ عَمَّا شِئْتَ. قَالَ: مَا أَنْتُمْ؟ قَالَ: نَحْنُ أُنَاسٌ مِنَ العَرَبِ كُنَّا فِي شَقَاءٍ شَدِيدٍ وَبَلَاءٍ شَدِيدٍ، نَمَصُّ الجِلْدَ وَالنَّوَى مِنَ الجُوعِ، وَنَلْبَسُ الوَبَرَ وَالشَّعَرَ، وَنَعْبُدُ الشَّجَرَ وَالْحَجَرَ، فَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ، إِذْ بَعَثَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الأَرَضِينَ تَعَالَى ذِكْرُهُ وَجَلَّتْ عَظَمَتُهُ إِلَيْنَا نَبِيًّا مِنْ أَنْفُسِنَا، نَعْرِفُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ، فَأَمَرَنَا نَبِيُّنَا رَسُولُ رَبِّنَا صلى الله عليه وسلم أَنْ نَقَاتِلَكُمْ حَتَّى تَعْبُدُوا اللهَ وَحْدَهُ أَوْ تُؤَدُّوا الجِزْيَةَ، وَأَخْبَرَنَا نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم عَنْ رِسَالَةِ رَبِّنَا أَنَّهُ مَنْ قُتِلَ مِنَّا صَارَ إِلَى الجَنَّةِ فِي نَعِيمٍ لَمْ يَرَ مِثْلَهَا قَطُّ، وَمَنْ بَقِيَ مِنَّا مَلَكَ رِقَابَكُمْ. [7530 - فتح 6/ 258]
3160 -
فَقَالَ النُّعْمَانُ: رُبَّمَا أَشْهَدَكَ الله مِثْلَهَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يُنَدِّمْكَ وَلَمْ يُخْزِكَ، وَلَكِنِّي شَهِدْتُ القِتَالَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا لَمْ يُقَاتِلْ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ انْتَظَرَ حَتَّى تَهُبَّ الأَرْوَاحُ وَتَحْضُرَ الصَّلَوَاتُ. [فتح 6/ 258]
ثم ساق فيه ثلاثة أحاديث:
أحدها: حديث جابر بن زيد، وعمرو بن أوس؛ حَدَّثَهُمَا بَجَالَةُ قَالَ: كُنْتُ كَاتِبًا لِجَزْءِ بْنِ مُعَاوِيَةَ عَمِّ الأَحْنَفِ، فَأَتَى كِتَابُ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ قَبْلَ مَوْتِهِ بِسَنَةٍ: فَرِّقُوا بَيْنَ كُلِّ ذِي مَحْرَمٍ مِنَ المَجُوسِ. وَلَمْ يَكُنْ عُمَرُ أَخَذَ الجِزْيَةَ مِنَ المَجُوسِ، حَتَّى شَهِدَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أخَذَهَا مِنْ مَجُوسِ هَجَرٍ. وهو من أفراده.
ثانيها: حديث عمرو بن عوف الأنصاري: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الجَرَّاحِ إِلَى البَحْرَيْنِ يَأْتِي بِجِزْيَتِهَا .. الحديث.
ويأتي في المغازي
(1)
، أخرجه مسلم في آخر كتابه
(2)
.
(1)
برقم (4015).
(2)
مسلم (2961).
ثالثها: حديث المعتمر بن سليمان، عن سعيد بن عبيد الله الثقفي، عن بكر وزياد، عن جبير بن حية -بالحاء المهملة ثم مثناة تحت- قال: بَعَثَ عُمَرُ النَّاسَ فِي أَفْنَاءِ الأَمْصارِ يُقَاتِلُونَ المُشْرِكِينَ، فَأَسْلَمَ الهُرْمُزَانُ .. الحديث، وقال بَكْرٌ وَزِيَاد جَمِيعًا: عَنْ جُبَيْرِ بْنِ حَيَّةَ قَالَ: فَنَدَبَنَا عُمَرُ وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْنَا النُّعْمَانَ بْنَ مُقَرِّنٍ .. وفيه: فَأَمَرَنَا نَبِيُّنَا رَسُولُ رَبِّنَا صلى الله عليه وسلم أَنْ نَقَاتِلَكُمْ حَتَّى تَعْبُدُوا الله وَحْدَهُ أَوْ تُؤَدُّوا الجِزْيَةَ، ثم ساق بقيته، ويأتي في التوحيد مختصرًا
(1)
.
الشرح:
(الْجِزْيَةِ): مشتقة من الجزاء على الأمان لهم وتقريرهم، فتجزئ عنه، وعبارة "المحكم": الجزية: خراج الأرض، والجمع: جُزى، وقال أبو علي: هما واحد كالمعْي والمعَى لواحد الأمعاء، والجمع: جزاء، وجزية الذمي منه
(2)
.
وأما (الْمُوَادَعَةِ): فإن أراد بها عقد الذمة لهم بأخذ الجزية، والإعفاء بعد ذلك من القتل، فهذا حكم الجزية، والموادعة غيرها، وإن أراد ترك قتلاهم مع إمكانه قبل الظفر بهم، وهو معنى الموادعة في أحاديث الباب ما يطابقها، إلا ما ذكره من تأخر النعمان بن مقرن عن مقاتلة العدو وانتظاره زوال الشمس وهبوب الريح، فهي موادعة في هذا الزمان مع الإمكان للمصلحة، نبه على ذلك ابن المنير
(3)
، وذكر البخاري العجم بعد المجوس من باب ذكر الخاص بعد العام.
(1)
برقم (7530).
(2)
"المحكم" 7/ 348.
(3)
"المتواري" ص 197.
ومعنى قوله: {لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ} [التوبة: 29] يعني: إيمان الموحدين؛ لأن أهل الكتاب يؤمنون بالله، ويقولون: له ولد، ويؤمنون بالآخرة، ويقولون لا أكل فيها ولا شرب.
وقال الداودي: {وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِر} : القيامة.
وقوله: {وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ الله وَرَسُولُهُ} [التوبة: 29] أي: يقرون بتحريم ذلك، ويعتقدونه.
{وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ} [التوبة: 29]. قال أبو عبيدة في "مجازه": ولا يطيعون طاعة الحق، يقال: دان فلان لفلان: أطاعه
(1)
.
وقوله: ({مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ})[التوبة: 29] هم اليهود والنصارى، واختلف في المجوس: هل لهم كتاب؟
والجمهور: لا. وقيل: نعم، فبدلوه فأصبحوا وقد أسري به، وإذا قلنا: لا؛ فالجماعة على أنها تؤخذ منهم الجزية إلا عند (المالكية)
(2)
.
قال مالك في رواية ابن القاسم: تؤخذ من أهل الكتاب ومن المجوس عبدة
(3)
الأوثان، وكل المشركين غير المرتدين وقريش
(4)
، وفي "مختصر ابن أبي زيد": ونقاتل جميع الأمم حتى يسلموا أو يؤدوا الجزية.
وحكى الطحاوي عن أبي حنيفة وأصحابه: أنها تقبل من أهل الكتاب، ومن سائر كفار العجم، ولا تقبل من مشركي العرب إلاَّ
(1)
"مجاز القرآن" 1/ 255.
(2)
في الأصل: (الملك)، والمثبت من (ص 1).
(3)
ورد بهامش الأصل: لعله سقط (و).
(4)
انظر: "النوادر والزيادات" 3/ 45 وما بعدها. و 3/ 356.
الإسلام أو السيف
(1)
، وقال الشافعي: لا تقبل إلا من أهل الكتاب، عربًا كانوا أو عجمًا، وزعم أن المجوس كانوا أهل كتابٍ؛ فلذلك أخذت منهم، وروي ذلك عن علي
(2)
، وقال الطحاوي في حديث عمرو بن عوف: إنه عليه السلام بعث أبا عبيدة إلى أهل البحرين يأتي بجزيتها؛ لأنهم كانوا مجوسًا من الفرس، ولم يكونوا من العرب؛ ولذلك قبلت منهم، وأقرهم على مجوسيتهم
(3)
.
واحتجَّ الشافعيُّ بآية الباب: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [التوبة: 29]، (قال)
(4)
: فدلَّ هذا الخطاب أنَّ من لم يؤت الكتاب ليس بمنزلتهم بدليل قوله عليه السلام: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله"
(5)
ولا يجوز أن يكون أهل الكتاب داخلين تحت هذِه الجملة؛ لأنهم يقولون: لا إله إلا الله؛ لإخباره عليه السلام أن هذِه الكلمة يحقن بها الدم والمال، فدلَّ أن بغيرها لا يقع الحقن.
وحجة مالك حديث الباب أنه أخذها من مجوس هجر، وقال في المجوس:"سنوا بهم سنة أهل الكتاب"
(6)
؛ فقام الإجماع على أن المراد بقوله: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" يعني في أخذ الجزية منهم لا في غيرها، فهو وإن خرج مخرج العموم فالمراد الخصوص. وقد ورد في رواية:"غير آكلي ذبائحهم، وناكحي نسائهم"
(7)
.
(1)
"مختصر اختلاف العلماء" 3/ 484.
(2)
انظر: "الأم" 4/ 95، 96.
(3)
السابق 3/ 484 - 485.
(4)
من (ص 1).
(5)
سلف برقم (2946).
(6)
رواه مالك ص 187 من حديث عبد الرحمن بن عوف.
(7)
قال الحافظ في "الدراية" 2/ 205: لم أجده. وذكر رواية نحوها عزاها لعبد الرزاق ["المصنف" 6/ 125] وابن أبي شيبة.
وأيضًا فإنه عليه السلام كان يبعث أمراء السرايا فيقول لهم: "إذا لقيتم العدو فادعوهم إلى الإسلام، فإن أجابوا وإلا فالجزية، فإن أعطوا وإلا قاتلوهم"
(1)
ولم ينص على مشرك دون مشرك بل عمَّ جميعهم؛ لأن الكفر يجمعهم، ولما جاز أنْ يسترقهم جاز أن يأخذ منهم الجزية؛ عكسه المرتد لما لم يجز أن يسترق لم يجز أخذ الجزية منه. وليس مما احتجّ به من الآية دليل أن الجزية لا يجوز أخذها من غير أهل الكتاب؛ لأن الله لم ينه أن يأخذ من غيرهم، وللشارع أن يزيد في البيان ويفرض ما ليس بموجود ذكره في الكتاب، ألا ترى أن الله تعالى حرم الأمهات ومن ذكر معهنَّ في الآية، وحرم الشارع الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها، وليس ذلك بخلاف الكتاب، فكذلك أخذه الجزية من جميع المجوس هو ثابت بالسنة الثابتة. وهذا ينتظم الرد على أبي حنيفة في قوله: إنّ مجوس العرب لا يجوز أخذ الجزية منهم، وتؤخذ من سائر المجوس غيرهم؛ لإطلاقه عليه السلام على أخذها من جميع المجوس؛ لقوله:"سنوا بهم سنة أهل الكتاب" ومن ادعى الخصوص في هذا وأن المراد به بعضهم. فعليه الدليل.
قال ابن بطال: وأما قول الشافعي: إن المجوس كانوا أهل كتاب فرفع (كتابهم)
(2)
غير صحيح؛ لأنه لو كان كذلك لكان لنا أن نأكل ذبائحهم وننكح نسائهم، وهذا لا يقول به أحد.
وقوله: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" يدل أنه لا كتاب لهم، وأيضًا فإنهم لو كانوا أهل كتاب فرفع كتابهم، لوجب أن يصيروا بمنزلة من لا كتاب له؛ لأنَّ الشيء إذا كان لمعنى فارتفع المعنى ارتفع الحكم
(3)
.
(1)
رواه مسلم (1731).
(2)
من (ص 1).
(3)
"شرح ابن بطال" 5/ 331.
قلت: الشافعي لم يستبد به، بل هو مروي، وإلزامه الذبيحة والنكاح لا يرد؛ لأنه ورد استثناؤه كما سلف، وإن نقل عن ابن الجوزي أنه منكر، ثم لهم شبهة وهي تقتضي الحقن بخلاف النكاح، فإنه يحتاط له.
وقوله: وهذا لا يقوله أحد: غلط منه، فقد ذكر ابن أبي شيبة في "مصنفه" عن سعيد بن المسيب أنه قال: لا بأس أن يتسرى بالجارية المجوسية
(1)
. وعن عطاء وطاوس وعمرو بن دينار: أنهم كانوا لا يرون بأسًا أن يتسرى الرجل بالمجوسيَّة
(2)
. وذكر ابن قدامة وغيره عن أبي ثور أنه كان يرى بحلّ نسائهم وذبائحهم
(3)
.
وذكر ابن عبد البر عن سعيد بن المسيب: أنه لم ير بذبح المجوسي لشاة المسلم إذا أمره المسلم بذبحها بأسًا
(4)
.
فصل:
وقوله تعالى: {عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] قال ابن عباس: يمشون بها مكبين.
وقال سليمان: مذمومين
(5)
. وقال قتادة: عن قهر وذلة
(6)
.
وقيل: معنى: {عَنْ يَدٍ} : عن إنعام منكم عليهم. وقيل: لا يبعثون بها كفعل الجبابرة.
وقال سعيد بن جبير: يدفعها قائمًا وآخذها جالس
(7)
.
(1)
"المصنف" 6/ 434.
(2)
السابق 3/ 477.
(3)
"المغني" 9/ 547.
(4)
"التمهيد" 2/ 116.
(5)
رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 6/ 1780.
(6)
و
(7)
السابق.
وقوله: ({وَهُمْ صَاغِرُونَ} أذلاء)، هو قول أبي عبيدة: أنَّ الصاغر: الذليل الحقير
(1)
. وقال غيره: هو الذي يتلتل فيعنف به، وقيل: هم بإعطائها أذلة صاغرون.
فصل:
تعليق ابن عيينة رواه في "تفسيره"، وهو صواب حسن، وهو فعل عمر
(2)
، وزاد على أهل الشام أقساطا من زيت وخلّ وضيافة ثلاثة أيام. ورأى مالك أن يسقط عنهم الضيافة، ولا يزاد على فعل عمر
(3)
.
واختلف العلماء في مقدار الجزية؛ فقال مالك: أكثرها أربعة دنانير على أهل الذهب، وعلى أهل الورق أربعون درهما ولا حدَّ لأقلها
(4)
.
وأخذ مالك في ذلك مما رواه عن نافع، عن أسلم أنَّ عمر بن الخطاب ضرب الجزية على أهل الذهب أربعة دنانير، وأهل الورق أربعين درهمًا
(5)
. وقال الكوفيون: يؤخذ من الغني ثمانية وأربعون درهمًا، ومن الوسط أربعة وعشرون، ومن الفقير اثنا عشر، وهو قول أحمد
(6)
، وأخذوا في ذلك مما رواه إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مضرب، عن عمر: أنه بعث عثمان بن حنيف، فوضع الجزية على أهل السواد ثمانية وأربعين، وأربعة وعشرين، واثني عشر
(7)
.
(1)
"مجاز القرآن" 1/ 256.
(2)
رواه عبد الرزاق في "المصنف" 6/ 89.
(3)
انظر: "النوادر والزيادات" 3/ 357 - 358، 360.
(4)
"المنتقى" 2/ 173.
(5)
رواه مالك في "الموطأ" ص 187.
(6)
انظر: "المغني" 13/ 209.
(7)
رواه أبو عبيد القاسم بن سلام في "الأموال"(151).
قال أحمد: ويزاد فيه وينقص على قدر طاقتهم، على قدر ما يرى الإمام. وعنه: أقلها كالشافعي، وأكثرها غير مقدر، يجوز الزيادة، ولا يجوز النقصان؛ لأن عمر زاد على فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينقص منه. وروي: أنه زاد، جعلها خمسين، وهو اختيار أبي بكر من أصحاب أحمد
(1)
.
وقال الشافعي: الجِزْيَةُ دينار في حق كلِّ أحد. ودليله حديث معاذ: قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن وأمرني أن آخذ من كلّ حالم دينارًا أو عدله من المعافر -ثياب تكون باليمن
(2)
- رواه أصحاب السنن الأربعة، وصححه الأئمة: الترمذي، والحاكم، وابن عبد البر
(3)
.
وقال الثوري: وقد اختلفت الروايات في هذا عن عمر، فللوالي أن يأخذ بأيّها شاء إذا كانوا أهل ذمة، وأمّا أهل الصلح فما صولحوا عليه لا غير.
وقال عبد الوهاب بن نصر: في أمره عليه السلام أن يأخذ من كل حالم دينارًا، يحتمل أن يكونوا لم يقدروا على أكثر منه.
وقد روي عن مالك: أنه لا يزاد على الأربعين درهمًا، ولا بأس بالنقصان منها إذا لم يطق.
قال مالك: وأرى أن ينفق من بيت المال على كلِّ من احتاج من أهل الذمة إن لم يكن لهم حرفة ولا قوة على نفقة نفسه، وينفق على يتاماهم حتى يبلغوا.
(1)
"المغني" 13/ 210.
(2)
"الأم" 4/ 101.
(3)
أبو داود (1576 - 1578)، الترمذي (624)، النسائي 5/ 25 - 26، ابن ماجه (1803)، "المستدرك" 1/ 398، "التمهيد" 2/ 130.
قال ابن وهب: وحدثني مطرت، عن مالك قال: بلغني أن عمر بن الخطاب كان ينفق على رجلٍ من أهل الذمة حين كبر وضعف عن العمل.
فرع:
والخراج يجب عند أبي حنيفة أول الحول، خلافًا للشافعي وأحمد فقالا: بآخره.
فرع:
لا يؤخذ من صبي ولا امرأة ولا مجنون ولا فقير غير معتمل، خلافًا للشافعي فيه، ولا يؤخذ من شيخ فانٍ ولا زمنٍ ولا أعمى.
وفي قول الشافعي: يؤخذ منهم، ولا على سيد عبد عن عبده إذا كان السيد مسلمًا، ولا جزية على أهل الصوامع من أهل الرهبان، خلافًا للشافعي
(1)
.
وروي عن عمر بن عبد العزيز: أنه فرض على رهبان الديارات على كلّ واحدٍ دينارين.
فصل:
وحديث بجالة من أفراد البخاري كما سلف.
وبجالة: هو ابن عبدة، تميمي بصري.
وجَزء -بالجيم المفتوحة، والزاي- عامل عمر على الأهواز، انفرد به البخاري، كان حيًّا بمكة سنة سبعين، ووالد جزء هو معاوية بن حصين بن عبادة بن النزال بن مرة بن عبيد بن مقاعس، واسمه: الحارث بن عمرو بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم، عمّ الأحنف بن قيس.
(1)
"البيان" 12/ 268 - 269.
قال أبو عمر: لا تصح له صحبة
(1)
. وقيل: فيه جزي بزاي مكسورة، وسكنها الخطيب.
قال الدارقطني: وأصحاب الحديث يكسرون جيمه
(2)
.
ووالد بجالة السالف عبدة، بفتح الباء الموحدة
(3)
، ويقال: ابن عبد، حكاه ابن حِبَّانَ في "ثقاته"
(4)
. وفي "تاريخ البخاري": بجالة بن عبد، أو عبد بن بجالة
(5)
.
فصل:
البخاري روى هذا الحديث عن علي بن عبد الله، ثنا سفيان، سمعت عمر قال: كنت جالسًا مع جابر بن زيد وعمرو بن أوس فذكره.
ورواه ابن حبَّان في كتاب "شروط أهل الذمة" من حديث أبي معاوية الضرير، ثنا حجاج عن عمرو بن دينار، عن بجالة قال: كنت كاتبًا لجزء بن معاوية فجاءنا كتاب عمر انظر أن تأخذ الجزية من المجوس، فإن عبد الرحمن بن عوف أخبرني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ من المجوس الجزية، ثم ساقه
في حديث ابن عيينة عن عمرو سمع بجالة: جاءنا كتاب عمر: أن اقتلوا كلّ ساحر وساحرة، وفرّقوا بين كلّ محرم من المجوس، وانههم عن الزمزمة. قال: فقتلنا ثلاثة سواحر، وجعل يفرق بين المرأة وحرمها في كتاب الله عز وجل، وصنع لهم طعامًا كثيرًا فدعا المجوس، وعرض
(1)
"الاستيعاب" 1/ 338 (369). وانظر: "أسد الغابة" 1/ 337.
(2)
"المؤتلف والمختلف" 1/ 491.
(3)
ورد بهامش الأصل: وتسكن أيضا.
(4)
"ثقات ابن حبان" 4/ 83.
(5)
"التاربخ الكبير" 2/ 146 (1997).
السيف على فخذه فألقوا وقر بغل أو بغلين من ورق، وأكلوا بغير زمزمة.
وذكر الحميدي: أنَّ البرقاني خرجه هكذا في "صحيحه"
(1)
.
ثم روى ابن حبان من حديث بشير بن عمرو، عن بجالة، عن عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر.
قال ابن عباس: أمَّا أنا فتبعت صاحبهم حين دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلمَّا خرج قلت له: ما قضى فيكم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: شرٌّ. قلت: مه. قال: القتل أو الإسلام، فأخذ الناس بقول عبد الرحمن وتركوا قولي.
ثم روى من حديث رجاء: جاء لحماد بن سلمة، عن الأعمش، عن زيد بن وهب قال عبد الرحمن بن عوف: أشهد بالله على رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعته يقول: "إنما المجوس طائفة من أهل الكتاب، فاحملوهم على ما تحملوا أهل الكتاب" ثم روى من حديث فروة بن نوفل عن على قال: المجوس أهل الكتاب وقد أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزية من مجوس هجر.
وروى ابن عبد البر من حديث الزهري، عن سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر، وأن عمر أخذها من مجوس السواد، وأن عثمان أخذها من البربر، وقال: كذا رواه ابن وهب عن يونس، عن ابن شهاب. وأمَّا مالك ومعمر فجعلاه: عن ابن شهاب، ولم يذكرا سعيدًا ورواه (معمر)
(2)
عن مالك عن الزهري، عن السائب بن يزيد
(3)
.
(1)
"الجمع بين الصحيحين" 1/ 178.
(2)
كذا بالأصل، وفي "التمهيد" 2/ 117: ابن مهدي.
(3)
"التمهيد" 2/ 117.
وفي "الموطأ": عن جعفر بن محمد عن أبيه: أنّ عمر ذكر المجوس، فقال عبد الرحمن بن عوف .. الحديث
(1)
.
ورواه أبو علي الحنفي عن مالك، فقال: عن أبيه، عن جده
(2)
؛ وهو منقطع أيضًا؛ لأن علي بن حسين لم يلق عمر ولا عبد الرحمن.
وروى عبد بن حميد في "تفسيره" عن علي: كان المجوس أهل كتاب، وكانوا متمسكين به الحديث
(3)
.
وقال ابن عبد البر: روي عن علي: أنهم كانوا أهل كتاب، وفيه ضعف؛ لأنه يدور على أبي سعيد البقال سعيد بن المرزبان
(4)
.
قلت: ليس هو في طريق عبد بن حميد، فإنه رواها عن الحسن الأشيب، ثنا يعقوب بن عبد الله، ثنا جعفر بن أبي المغيرة، عن عبد الرحمن بن أبزى قال: قال علي .. فذكره.
فصل:
في حقيقة المجوس ذكر أبو عمر في كتاب "القصد والأمم" أنهم من ولد لاود بن سام بن نوح، وقال علي بن كيسان: هم من ولد فارس بن عامور بن يافث، قال أبو عمر: وقال ذلك غيره، وهو أصح ما قيل فيهم، وهم ينكرون ذلك ويدفعونه ويزعمون أنهم لا يعرفون نوحًا ولا ولده ولا الطوفان، وينسبون ملكهم من جيومرت الأول، وهو عندهم آدم.
(1)
"الموطأ" برواية يحيى الليثي ص 187.
(2)
رواه البزار في "مسنده" 3/ 264 (1056) عن عمرو بن علي قال: نا أبو علي الحنفي، به.
(3)
ذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 554.
(4)
"التمهيد" 2/ 119.
وقد نسبهم قوم من علماء الإسلام والأثر إلى أنهم من ولد سام، وكان فيهم الصابئة، ثمَّ تمجسوا وبنوا بيوت النيران.
وقال المسعودي: فارس أخو بيط ولدا ناسور بن سام بن نوح.
ومنهم من زعم أنهم من ولد هيدرام بن أرفخشذ بن سام؛ لأنه ولد بضعة عشر رجلاً، كلهم كان فارسًا شجاعًا، فسموا الفرس بالفروسية.
وقال آخرون: إنهم من ولد يوان صاحب شعب يوان أحد نزه الدنيا إيران بن لاود بن سام.
وعند الرشاطي: فارس الكبرى بن ليومرت.
ويقال: جيومرت. وحابر معرب. وتفسير ليومرت: الحي الناطق الميت، بن أميم بن لاود بن سام.
فمن نسل الفرس الأولى إلى سام بهذا نسبها، ومن نسبها جملة إلى يافث قال: هم ولد جيومرت ابن يافث.
وذكر صاعد في كتابه "طبقات الأمم": أن ليومرت هذا يزعم الفرس أنه آدم.
قال: وذكر بعض علماء الأخبار أن الفرس في أول أمرها كانت موحدة على دين نوح إلى أن أتى برداسف المشرقي إلى طهمورت ثالث ملوك العراق بمذهب الصابئة، فقبله منه واقتصر الفرس على الشرع به، فاعتقدوه نحو ألف سنة وثمانمائة سنة إلى أن تمجسوا جميعًا، وسببه: أنّ زراد شت الفارسي ظهر في زمن بشتاسب ملك الفرس، فدعا الناس إلى المجوسية، وتعظيم النار، وسائر الأنوار، والقول بتركيب العالم من النور والظلمة، واعتقاد القدماء الخمسة التي هي عندهم: -الباري تعالى عمّا يقولون- وإبليس والهيولي
والزمان والمكان، وغير ذلك من البدع، فقبل ذلك بشتاسب وقاتل الفرس عليه حتى انقادوا جميعًا إليه، ورفضوا دين الصابئة، واعتقدوا بأنَّ زرادشت نبيًّا مرسلاً، وذلك قبل ذهاب ملكهم على يد الفاروق بقريب من ألف وثلاثمائة سنة.
وقال إبراهيم بن الفرج في "البغية شرح لحن العامة": الفارسي منسوب إلى فارس، وهي أرض وقد بنتها السُّوس، وهي أمة كانت بعد النبط.
وزعم بعض العلماء أنهم من ولد يوسف بن يعقوب بن إبراهيم. وذكر ابن عبدون في كتابه "الزهر": أنهم من ولد حارس بن ناسور بن سام، وأنه ولد له بضعة عشر رجلاً كلهم كان فارسًا شجاعًا؛ فسموا الفرس بذلك.
قال: وزعم قومٌ أنهم من ولد طوط من ابنتيه دريني وراعوشا.
وزعم بعضهم أنهم من ولد إيران بن أفريدون.
قال: ولا خلاف بين الفرس أنهم من ولد ليومرت، وهذا هو المشهور، وإليه يرجع بنسبها، كما يرجع بالمروانية إلى مروان، والعباسية إلى العباس.
وعند ابن حزم: والمجوس لا يعرفون موسى ولا عيسى ولا أحدًا من أنبياء بني إسرائيل، ولا محمدًا، ولا يقرون لأحدٍ منهم بنبوة.
فصل:
وأمَّا قول عمر رضي الله عنه: فرقوا بين كلِّ محرم من المجوس، فيحتمل وجهين:
أحدهما: أن الله تعالى لم يأمر بأخذ الجزية إلا من أهل الكتاب، وأهل الكتاب لا ينكحون ذوات المحارم، فإذا استعمل فيهم قوله عليه السلام:
"سنوا بهم سنة أهل الكتاب"
(1)
احتمل ألا يقبل منهم الجزية إلا أن يسن بهم سنة أهل الكتاب في مناكحتهم أيضًا.
ثانيهما: أن يكون عمر غلب على المجوس عنوة، ثمّ أبقاهم في أموالهم عبيدًا يعملون بها والأرض للمسلمين، ثم رأى أن يفرق بين ذوات المحارم من عبيده الذين استبقاهم على حكمه، واستحياهم باجتهاده، وأن ذلك كان منعقدًا في أصل استحيائهم واستبقائهم، ويكون اجتهاده في تفريقه بين ذوات محارمهم مستنبطًا من قوله:"سنوا بهم سنة أهل الكتاب" أي: ما كان أهل الكتاب يحملون عليه في حريمهم ومناكحتهم، فاحملوا عليه المجوس.
وقال الداودي لمَّا ذكر قول عمر هذا: لم يأخذ به مالك.
وقال الخطابي: أراد عمر أنهم يمنعون من إظهار هذا للمسلمين وإفشائه في مشاهدهم، وأن يفشوها كما يفشي المسلمون أنكحتهم إذا عقدوها، قال: وهذا كما شرط على النصارى أن لا يظهروا صليبهم؛ لئلا يفتن بهم ضعفة المسلمين، ولا يكشفون عن شيء مما يستخلونه من باطن كفر، وفساد مذهب
(2)
.
فصل:
في الحديث: أنه قد يغيب عن العالم المبرز بعض العلم.
وفيه: قبول خبر الواحد والعمل به. وفي حديث عمرو بن عوف: أن طلب العطاء من الإمام لا غضاضة فيه على طالبه؛ لقوله: (أَجَلْ يَا رَسُولَ اللهِ).
(1)
سبق تخريجه.
(2)
"أعلام الحديث" 2/ 1462 - 1463.
وفيه: التبشير بالإسهام لهم؛ لقوله: "أَبْشِرُوا وَأملوا"، ومعنى ذلك: أملوا أكثر ما تطلبون من العطاء؛ لأنهم لم يعرفوا مقدار ما قدم به أبو عبيدة، فبشرهم بأكثر مما يظنون.
وفيه: علامة النبوة؛ لأنه أخبرهم مما يخشى عليهم مما يفتح عليهم من الدنيا.
وفيه: أن المنافسة في الاستكثار من المال سبيل من سبل الهلاك في الدنيا. والأمل: الرَّجاء، يقال: أملته فهو مأمول.
وقوله: ("فَتَنَافَسُوهَا") يريد: المشاححة والتنازع.
فائدة:
عمرو بن عوف هذا بدري كما ذكره البخاري
(1)
، وكذا ذكره ابن إسحاق وابن سعد فيمَنْ شهد بدرًا من المهاجرين، وهو مولى سهيل بن عمرو، مات في خلافة عمر رضي الله عنه.
فائدة:
فيه أيضًا: التحذير من فتنة الدنيا، فإن مَنْ طلب منها فوق حاجته لم يجده، ومَنْ قنع حصل له ما يطلب، وما الدنيا إلا كما قيل:
إن السلامة من سلمى وجارتها
…
ألا تمر على حال بواديها
فصل:
في إسناد حديث جبير بن حيّة: المعتمرُ بن سليمان، قيل: إنه وهم، وصوابه المعتمر بن الرق؛ لأن عبد الله بن جعفر راويه عنه لا يروي عن المعتمر بن سليمان، كذا رأيته بخط الدمياطي.
وزياد بن جبير اتفقا عليه، وانفرد البخاري بأبيه جبير بن حيّة،
(1)
سيأتي في كتاب: المغازي، باب: تسمية من سمي من أهل بدر.
وسعيد بن عبيد الله بن جبير بن حيَّة بن مسعود الثقفي البصري.
وقوله فيه: (بَعَثَ عُمَرُ النَّاسَ فِي أَفْنَاءِ الأَنصَارِ) قال ابن بطال: هم طوائف لم يكونوا من فخذٍ واحد
(1)
.
فصل:
وأمَّا مشاورة عمر الهرمزان فبعد أن أسلم، وكان رجلاً بصيرًا بالحرب له دُربة ورأي في المملكة وتدبيرها؛ فلذلك شاوره عمر، مع أن عمر كان يعرف مما أشار عليه، وثقته من نفسه أنه يشعر له إن غشه.
وفيه: أن المشاورة سنة لا يستغني عنها أحد، ولو استغنى عنها كان الشارع أغنى الناس عنها؛ لأن جبريل كان يأتيه بصواب الرأي من السماء، ومع ذلك فإن الله أمره بها حيث قال:{وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْر} [آل عمران: 159] ولو لم يكن الأمر فيه إلا استئلاف النفوس وإظهار الموافقة والثقة بالمستشار، ولعلهم أن يبدوا من الرأي ما لم يكن ظهر، وأمَّا العزيمة والعمل فإلى الإمام، لا يشركه فيه أحد؛ لقوله تعالى:{فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ} [آل عمران: 159] فجعل العزيمة إليه، وجعله مشاركًا في الرأي لغيره.
وفيه: جواز مشاورة غير الوزير إذا كان ممن يظن عنده الرأي والمعرفة.
وفيه: ضرب الأمثال.
وفيه: الرأي في الحرب القصد إلى أعظم أهل الخلاف شوكة، كما أشار الهرمزان؛ لأنه إذا استؤصل الأقوى، سلم الأضعف.
(1)
"شرح ابن بطال" 5/ 334.
وفيه: كلام الوزير دون رأي الإمام، كما كلم عمر يوم حنين لأبي سفيان
(1)
، وكما كلم الصديق في قصة سلاح قتيل أبي قتادة
(2)
.
وقوله: (وَكُنَّا فِي شَقَاءٍ شَدِيدٍ) ففيه: وصف أنفسهم بالصبر والثبات على مضض العيش.
وقوله: (نَعْرِفُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ) أراد به شرفه ونسبه؛ لأن الأنبياء لا تبعث إلاَّ من أشراف قومهم، فوصف شرف الطرفين من الأب والأم.
وقول النُّعْمَان للمغيرة: (رُبَّمَا أَشْهَدَكَ اللهُ مِثْلَهَا) يريد: ربما قد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما سلف مثل هذِه الأحوال الشديدة، وشهدت معه القتال فلم يندمك ما لقيت معه من الشدة، ولم يحزنك
(3)
لو قتلت معه؛ لعلمك بما تصير إليه من النعيم وثواب الشهادة.
تقول: إنك كنت في ذلك على الخير والإصابة يغبطه ما تقدم من كلامه، ويعتذر إليه فيما يريد أن يقول بما شاهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويذكر أن النعمان قاتلهم، وكثرت جراحات المسلمين وأصيب منهم، فبات المسلمون يتضررون بما نالهم من الجراح، وبات الكفار على الخمر، وقد أحضروا أموالًا كثيرة ونعمًا، فقام النعمان خطيبًا حين أصبح فقال: أيها الناس، إن من ترون قد حضروا عليهم أموالًا ونعمةً، وأنتم قد حضرتم الإسلام وصرتم بابًا للمسلمين، فإن أصبتم دُخل عليهم من الباب، فالله في الإسلام.
(1)
سلف برقم (3039).
(2)
سيأتي برقم (4321 - 4322) كتاب: المغازي، باب: قول الله تعالى {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ} .
(3)
وقع في هامش الأصل: (يخزك) و (يحزنك) روايتان ذكرهما ابن قرقول في "مطالعه".
فقام رجل منهم فقال: قد سمعنا مقالتك أيها الأمير، ولسنا برادين عليك ولا مخالفين لك، فانظر أي طرفي النهار؟ قال النعمان: إذا هبت الأرواح ونزل النصر من السماء وأنا هاز للراية، إذا رأيتم ذلك فأسبغوا الوضوء وصلّوا الظهر ثمّ أنا هازها، فإذا رأيتم ذلك فليسرج كل أحد منكم فرسه ويستوي عليه، ولينظر مواجهة عدوه، ثم إذا هززتها الثالثة، فاحملوا على بركة الله، فلما فاء الفيء صنع ما قال، ثم حمل في الثالثة وبيده الراية، فجعل يطعن بها، وتقاتلوا فكان أول قتيل، فمرّ به أخوه فألقى عليه ثوبه؛ لئلا يعرف فيفشل الناس، وأخذ الراية وحمل، ففتح الله للمسلمين.
ويذكر عن ابن المسيب أنه قال: إني لأذكر يومًا نعى لنا عمر النعمان بن مقرِّن على المنبر
(1)
.
وقوله: (وَلَكِنِّي شَهِدْتُ القِتَالَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) هو ابتداء كلام واستئناف قصة أخرى: أعلمهم أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا لم يقاتل أول النهار، ترك حتى تهب الرياح، يعني: رياح النصر، وتحضر أوقات الصلوات، كما سلف في بابه؛ ولأن أفضل الأوقات أوقات الصلوات، وفيها الأذان، وقد جاء في الحديث أنَّ "الدعاء بين الأذان والإقامة لا يرد"
(2)
.
و (الأَرْوَاحُ) جمع ريح؛ لأن أصله: روح وسكنت الواو، وانكسر ما قبلها فقلبت ياءً، والجمع يرد الشيء إلى أصله.
(1)
رواه ابن أبي شيبة 7/ 34 (33898).
(2)
رواه أبو داود (521)، والترمذي (212).
وصححه الألباني في "صحيح أبي داود"(534).
وقوله أولاً: (فَأَسْلَمَ الهُرْمُزَانُ)، وكان أسره أبو موسى الأشعري، كان سيدًا فبعث به مع أنس إلى عمر، لما قدم عليه استعجم، فقال له عمر: تكلم. فقال: أكلام حي أم ميت؟ فقال عمر: تكلم فلا بأس -وبدرت الكلمة من عمر من غير تأول- فقال: كنا وإياكم نستعبدكم ونملككم معاشر العرب فأخلى الله بيننا وبينكم، فلما كان الله معكم لم يكن لنا بكم يدان؛ فتغيظ عمر وقال: قاتل الله البراء بن مالك، وَهَمَّ بِهِ؛ فقال له أنس: يا أمير المؤمنين، تركت خلفي شوكة شديدة وعدوًّا كثيرًا، إن قتلته يئس القوم من الحياة، وكان أشد لشوكتهم، وإن استحييته، طمع القوم، فقال: يا (أنس)
(1)
، استحيي قاتل البراء بن مالك ومجزأة بن ثور، فلمّا خشيت أن يبسط عليه قلت له: لا سبيل لك عليه، فقال: ولم، أعطاك؟، أصبت منه؟ (قلت: لا)
(2)
، ولكنك قلت له: تكلم فلا بأس. قال: لتأتينّ بمن يصدق ما تقول أو لا بد من عقوبتك، ولم يحفظ عمر ما قال، وكان الزبير قد حضر لمقالته فصدق أنَسًا، فأسلم الهرمزان
(3)
.
وكانت الروم قاتلت الفرس في أول الإسلام، فعلم من ذلك الهرمزان ما علم، فضرب له مثلًا وهو صحيح، عقله عمر وعمل عليه، وإنما جعل كسرى الرأس؛ لأنه أعظم ملكًا وأكثر أتباعًا وأوسع بلدًا، ومثل بالجناحين، ولم يذكر الرجلين، وأراد بهما من سوى هؤلاء الثلاثة للأمم، ومبادرة المغيرة بالكلام للترجمان، إما أن يكون
(1)
في الأصل: رزين والمثبت من (ص 1) وانظر (مصنف ابن أبي شيبة) 7/ 22.
(2)
في (ص 1): (قلت: ما فعلت) وكذلك عند بن أبي شيبة 7/ 22.
(3)
انظر هذِه القصة في "سنن سعيد بن منصور" 2/ 252، و"مصنف ابن أبي شيبة" 7/ 19 - 22، و"سنن البيهقي" 9/ 96.
أذن له أمير الجيش النعمان، أو بادره لما عنده من ذلك من العلم، وليطفئ النعمان المقالة ولا يكلف الأمير مخاطبة الترجمان.
وفيه: وصف المغيرة لما كانوا عليه.
2 - باب إِذَا وَادَعَ الإِمَامُ مَلِكَ القَرْيَةِ هَل يَكُونُ ذَلِكَ لِبَقِيَّتِهِمْ
؟
3161 -
حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ بَكَّارٍ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى، عَنْ عَبَّاسٍ السَّاعِدِيِّ، عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَبُوكَ، وَأَهْدَى مَلِكُ أَيْلَةَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَغْلَةً بَيْضَاءَ، وَكَسَاهُ بُرْدًا، وَكَتَبَ لَهُ بِبَحْرِهِمْ. [انظر: 1481 - مسلم: 1392 - فتح 6/ 266]
ذكر فيه حديث أبي حميد الساعدي: غَزَوْنَا مَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم تَبُوكَ، وَأَهْدى مَلِكُ أَيْلَةَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَغْلَةً بَيْضَاءَ، وَكَسَاهُ بُرْدًا، وَكَتَبَ لَهُ بِبَحْرِهِمْ.
هذا الحديث سلف في الزكاة
(1)
، واسمه: يوحنا بن رؤبة، صالَحَهُ علَى الجزية، وعلى أهل جرباء وأذرح، بلدين بالشام، فأعطوه الجزية، وبخط الدمياطي اسمه: يحنة بن رؤبة وهو ما ذكره ابن إسحاق. قال: لما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك أتاه يحنة بن رؤبة صاحب أيلة، فصالح رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطى الجزية، وأتاه أهلُ الجَربَاء وأَذْرُح فأعطوه الجزية، وكتب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابًا فهو عندهم، وكتب ليحنة بن رؤبة:"بسم الله الرحمن الرحيم: هذِه أمنة من الله ومحمدٍ النبي رسول الله ليحنة بن رؤبة، وأهل أيلة، سفنهم وسيارتهم في البر والبحر لهم ذمة الله وذمة محمد النبي، ومن كان معهم من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحرين، فإن أحدث منهم حدثًا، فإنه لا يحول ماله دون نفسه، وأنه طيبة لمن أخذه من الناس، وأنه لا يحل أن يمنعوا ماءً يردونه ولا طريقًا يردونها من برِّ أو بحر"
(2)
.
(1)
برقم (1481).
(2)
انظر: "سيرة ابن هشام" 4/ 180 - 181.
والعلماء مجمعون على أن الإمام إذا صالح ملك القرية أن يدخل في ذلك الصلح بقيتهم؛ لأنه إنما صالح على نفسه ورعيته، ومنْ يلي أمره، ويشتمل عليه بلده وعمله.
ألا ترى أن في كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تأمين أيلة وأهل بلده، واختلفوا إذا أمَّن طائفة منهم، هل يدخل في ذلك العاقد للأمان؟ فذكر الفزاري عن حميد الطويل، قال: حدثني حبيب أبو يحيى، وكان مولاه مع أبي موسى، قال: حاصر أبو موسى حصنًا بسوس -أو بالسوس- فقال صاحبهم: أتأمن لي مائة من أصحابي وأفتح لك الحصين؟ قال: نعم، فجعل يعزلهم ويعدهم، فقال أبو موسى: أرجو أن يمكن الله به، وينسى نفسه، فعدّ مائة وعزلهم ونسي نفسه، فأخذه، فقال: إنك قد أمنتني. فقال: لا، أما إذا أمكن الله منك من غير غدر، فضرب عنقه.
وذكر أبو عبيد، عن الفزاري، عن حميد الطويل، عن حبيب (أبي)
(1)
يحيى، عن خالد بن زيد قال: حاضرنا السوس فلقينا جهدًا، وأمير الجيش أبو موسى، فصالحه دهقانها، وذكر الحديث
(2)
.
وذكر عن النخعي قال: ارتد الأشعث بن قيس في زمن الصديق مع ناس، وتحصنوا في قصر، فطلب الأمان لسبعين رجلاً، فأعطاهم، فنزل فعد سبعين، ولم يدخل نفسه فيهم، فقال له أبو بكر: إنك لا أمان لك، إنا قاتلوك، فأسلم وتزوج أخت الصديق
(3)
.
وفي "تاريخ دمشق": لما أخذ الأمان للسبعين من أهل نجير عددهم، فلمَّا بقي هو قام رجل إليه فقال: أنا معك، قال: إن الشرط
(1)
في الأصل: (عن) والمثبت من "الأموال" لأبي عبيد (355).
(2)
السابق (355).
(3)
"الأموال"(303).
على سبعين، ولكن كن أنت فيهم، وأنا أتخلف أسيرًا معهم
(1)
.
وقال أصبغ وسحنون: يدخل العلج الآخذ للأمان للعدو المصالح عليهم في الأمان وإن لم يعد نفسه فيهم، ولا يحتاج أن يعد نفسه فيهم ولا يذكرها؛ لأنه لم يأخذ الأمان لغيره، إلاَّ وقد صحّ الأمان لنفسه، ولم يريا فعل أبي موسى حجة؛ قال سحنون: وبأقل من هذا صح الأمان للهرمزان من عند عمر بن الخطاب.
فصل:
قوله: (وَكَسَاهُ بُرْدًا): الكاسي هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبينته أن في رواية أبي ذر:(فكساه).
فرع:
إذا عقد الإمام مع ملك القوم ورئيسهم أمرًا كان ذلك عقدًا على جملتهم كما سلف، وله أن يصالح عنهم على شيء يأخذه كل عام من جملتهم.
فصل:
ليس في حديث ملك أيلة كيفية طلب الموادعة، هل كان لنفسه أو لهم أو للمجموع؟ لكنه نسب الهدنة إليه خاصة والموادعة للجميع. قال ابن المنير: فأخذ من ذلك أنّ مهادنة الملك لا تدخل فيها الرعية إلا بنص على التخصيص
(2)
.
وهذا خلاف ما قدمناه.
(1)
"تاريخ دمشق" 9/ 130.
(2)
"المتواري" ص 198.
فصل:
قد سلف حكم الهدايا للإمام، وقال أبو الخطاب الحنبلي: ما أهداه المشركون لأمير الجيش أو لبعض قواده، فهو غنيمة إن كان ذلك في حال الغزو، وإن كان من دار الحرب إلى دار الإسلام فهي لمن أهديت له سواء كان الإمام أو غيره؛ لأنّ الشارع قبلها فكانت له دون غيره، وهو قول الشافعي ومحمد بن الحسن. وقال أبو حنيفة: هي للمهدى له على كلّ حال.
3 - باب الوَصَاة بِأَهْلِ ذِمَّةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم
-
وَالذِّمَّةُ: العَهْدُ، وَالإِلُّ: القَرَابَةُ.
3162 -
حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا أَبُو جَمْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ جُوَيْرِيَةَ بْنَ قُدَامَةَ التَّمِيمِىَّ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رضي الله عنه، قُلْنَا: أَوْصِنَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: أُوصِيكُمْ بِذِمَّةِ اللهِ، فَإِنَّهُ ذِمَّةُ نَبِيِّكُمْ، وَرِزْقُ عِيَالِكُمْ. [انظر: 1392 - فتح 6/ 267]
ذكر فيه حديث شعبة، عن أبي جمرة -بالجيم- سَمِعْتُ جُوَيْرِيَةَ -بالجيم أيضًا- بْنَ قُدَامَةَ التَّمِيمِيَّ، قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رضي الله عنه، قُلْنَا: أَوْصِنَا يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، قَالَ: أُوصِيكُمْ بِذِمَّةِ اللهِ، فَإِنَّهُ ذِمَّةُ نَبِيِّكُمْ، وَرِزْقُ عِيَالِكُمْ.
الشرح:
يقال: أوصيت له بشيء وإليه: جعلته وصيّا، والاسم: الوصاية: بكسر الواو وفتحها، وأوصيته ووصيته أيضًا توصية، والاسم: الوصاة. والحديث من أفراده.
وفي موضع آخر لما ذكر الشورى: وأوصي الخليفة بعدي بذمة الله وذمة رسوله أن يوفي لهم بعهدهم، وأن يقاتل من وراءهم، ولا يكلفوا إلاَّ طاقتهم
(1)
.
وأخرجه صاحب "الجعديات" عن شعبة مطولاً: أخبرنا أبو جمرة، سمعت جويرية بن قدامة قال: حججت فمررت بالمدينة، فخطب عمر فقال: إني رأيت ديكًا نقرني نقرة أو نقرتين، فما كان جمعة أو نحوها حتى أصيب، قال: وأذن للصحابة ثمّ لأهل المدينة ثمّ لأهل الشام ثمّ
(1)
سيأتي برقم (3700) كتاب: "فضائل الصحابة" باب: قصة البيعة.
لأهل العراق، قال: وكنا آخر من دخل فقلنا: أوصنا، ولم يسأله الوصية أحدٌ غيرنا، فقال: أوصيكم بكتاب الله الحديث. وفيه: وأوصيكم بذمتكم فإنها ذمة نبيكم ورزق عيالكم، قوموا عني. فما زاد على هؤلاء الكلمات
(1)
.
فصل:
قوله: (وَالإِلُّ): القرابة. هو قول الضحاك
(2)
.
قوله: (وَالذِّمَّةُ: العهد): استحسنه بعض المفسرين، وقال: الأصل فيه أن يقال: أذن مؤللة أي: محددة، فإذا قيل للعهد (إل) فمعناه: أنه قد حدد، وإذا قيل: للقرابة، فمعناه: أن أحدها يحاد صاحبه ويقاربه
(3)
.
وقال قتادة: (الإِلُّ): الحلف
(4)
. وقال مجاهد: (الإِلُّ): الله
(5)
.
وروي عنه: العهد
(6)
. وذكر العزيزي: أن (الإِل) على خمسة أوجه، فذكر هذِه الأربعة، وزاد: إلُّ: جوار، وأنكر بعضهم أن يكون (الإِلُّ): الله؛ لأن أسماءه توقيفية.
فصل:
وقول عمر: (ورزق عيالكم): يريد ما يؤخذ من جزيتهم، وما ينال منهم في ترددهم بين أمصار المسلمين.
(1)
"مسند ابن الجعد"(1282).
(2)
رواه الطبري في "تفسيره" 6/ 325 (16518).
(3)
"معاني القرآن" للنحاس 3/ 187 وقول المصنف: استحسنه بعض المفسرين، إنما عنى به النحاس.
(4)
رواه الطبري 6/ 326 (16522).
(5)
الطبري 6/ 325 (16513).
(6)
الطبري 6/ 326 (16523).
فصل:
وفيه: كما قاله المهلب: الحض على الوفاء بالذمة، وما عوقدوا عليه من قبض الأيدي عن أنفسهم وأموالهم غير الجزية. وقد ذم الشارع من إذا عاهد غدر
(1)
، وجعل ذلك من أخلاق النفاق.
وفيه: حسن النظر في عواقب الأمور والإصلاح لمعاني المال وأصول الاكتساب.
فائدة:
روى ابن عبد الحكم في كتابه "فتوح مصر" أحاديث الوصاة بقبط مصر:
منها: حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن: أنه عليه السلام أوصى عند وفاته: "الله الله في قبط مصر، فإنكم ستظهرون عليهم، ويكونون لكم عدة وأعوانًا في سبيل الله".
ومنها: حديث رجل من الربذة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "استوصوا بالأدم الجعد" ثلاثًا، فسئل فقال:"قبط مصر فإنهم أخوال وأصهار".
ومنها حديث أبي هانئ الخولاني عن الحبلي وعمرو بن حبيب وغيرهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنكم ستقدمون على قوم جعد رءوسهم فاستوصوا بهم خيرًا".
وفي أفراد مسلم من حديث أبي ذر مرفوعًا: "إنكم ستفتحون أرضًا يذكر فيها القيراط، فاستوصوا بأهلها خيرًا فإن لهم ذمة ورحما"
(2)
.
(1)
سلف برقم (34) من حديث عبد الله بن عمرو.
(2)
مسلم (2543) كتاب: فضائل الصحابة باب: وصية النبي صلى الله عليه وسلم بأهل مصر.
وروي من طريق عمر بإسناد فيه ابن لهيعة، ومن طريق كعب بن مالك، أخرجهما العسكري، وبإسناد فيه ضعف، عن رجل من الصحابة يرفعه:"اتقوا الله في القبط".
ومثله عن سليمان بن يسار مرفوعًا: "استوصوا بالقبط فإنكم ستجدونهم نعم الأعوان".
ومثله من حديث ابن لهيعة، عن عمر مولى عفرة أنه عليه السلام قال:"الله الله في أهل الذمة أهل المدرة السوداء" الحديث.
4 - باب مَا أَقْطَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ البَحْرَيْنِ، وَمَا وَعَدَ مِنْ مَالِ البَحْرَيْن وَالْجِزْيَةِ، وَلِمَنْ يُقْسَمُ الفَيْءُ وَالْجِزيَةُ
؟
3163 -
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا رضي الله عنه قَالَ: دَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الأَنْصَارَ لِيَكْتُبَ لَهُمْ بِالْبَحْرَيْنِ فَقَالُوا: لَا وَاللهِ حَتَّى تَكْتُبَ لإِخْوَانِنَا مِنْ قُرَيْشٍ بِمِثْلِهَا. فَقَالَ: "ذَاكَ لَهُمْ مَا شَاءَ الله عَلَى ذَلِكَ". يَقُولُونَ لَهُ، قَالَ:«فَإِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِي أُثْرَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي» . [انظر: 2376 - فتح 6/ 268]
3164 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: أَخْبَرَنِي رَوْحُ بْنُ القَاسِمِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ المُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِي: «لَوْ قَدْ جَاءَنَا مَالُ البَحْرَيْنِ قَدْ أَعْطَيْتُكَ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا» . فَلَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَجَاءَ مَالُ البَحْرَيْنِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَنْ كَانَتْ لَهُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عِدَةٌ فَلْيَأْتِنِي. فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ كَانَ قَالَ لِي: «لَوْ قَدْ جَاءَنَا مَالُ الْبَحْرَيْنِ لأَعْطَيْتُكَ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا» . فَقَالَ لِي: احْثُهْ. فَحَثَوْتُ حَثْيَةً فَقَالَ لِي: عُدَّهَا. فَعَدَدْتُهَا فَإِذَا هِيَ خَمْسُمِائَةٍ، فَأَعْطَانِي أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ. [انظر: 2296 - مسلم: 2314 - فتح 6/ 268]
3165 -
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، عَنْ عَبْدِ العَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسٍ: أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِمَالٍ مِنَ البَحْرَيْنِ فَقَالَ: «انْثُرُوهُ فِي المَسْجِدِ» فَكَانَ أَكْثَرَ مَالٍ أُتِيَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ جَاءَهُ العَبَّاسُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَعْطِنِي إِنِّي فَادَيْتُ نَفْسِي وَفَادَيْتُ عَقِيلاً. قَالَ:«خُذْ» . فَحَثَا فِي ثَوْبِهِ، ثُمَّ ذَهَبَ يُقِلُّهُ، فَلَمْ يَسْتَطِعْ. فَقَالَ: اؤْمُرْ بَعْضَهُمْ يَرْفَعْهُ إِلَيَّ. قَالَ: «لَا» .
قَالَ: فَارْفَعْهُ أَنْتَ عَلَيَّ. قَالَ: «لَا» . فَنَثَرَ مِنْهُ، ثُمَّ ذَهَبَ يُقِلُّهُ فَلَمْ يَرْفَعْهُ. فَقَالَ: اؤْمُرْ بَعْضَهُمْ يَرْفَعْهُ عَلَيَّ. قَالَ: «لَا» . قَالَ: فَارْفَعْهُ أَنْتَ عَلَيَّ. قَالَ: «لَا» . فَنَثَرَ ثُمَّ احْتَمَلَهُ عَلَى كَاهِلِهِ ثُمَّ انْطَلَقَ، فَمَا زَالَ يُتْبِعُهُ بَصَرَهُ حَتَّى خَفِىَ عَلَيْنَا عَجَبًا مِنْ حِرْصِهِ، فَمَا قَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَثَمَّ مِنْهَا دِرْهَمٌ. [انظر: 421 - فتح 6/ 268]
ذكر فيه أحاديث:
أحدها: حديث أنس: دَعَا رسول الله صلى الله عليه وسلم الأَنْصَارَ لِيَكْتُبَ لَهُمْ بِالْبَحْرَيْنِ؛ فَقَالُوا: لَا والله حَتَّى تَكْتُبَ لإِخْوَانِنَا مِنْ قُرَيْشٍ مِثْلَهَا. الحديث. سلف في (باب): كتابة القطائع من الشرب، معلقًا عن الليث، عن يحيى بن سعيد، عن أنس، وهنا قد أسنده عن أحمد بن يونس، ثنا زهير، عن يحيى، به، ويأتي في فضائل الأنصار
(1)
.
ثانيها: حديث جابر: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِي: "لَوْ قَدْ جَاءَنَا مَالُ البَحْرَيْنِ قَدْ أَعْطَيْتُكَ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا" الحديث سلف
(2)
.
ثالثها: حديث أنس أيضًا علقه؛ فقال: وقال إبراهيم بن طهمان عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس: أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بمَالٍ مِنَ البَحْرَيْنِ فَقَالَ: "انْثُرُوهُ". وساق الحديث، وسلف في الصلاة
(3)
.
قال المهلب: إنما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يخص الأنصار بهذا الإقطاع، لما كانوا تفضلوا به على المهاجرين من مشاركتهم في أموالهم، فقالت الأنصار: لا والله حتى تكتب لإخواننا من قريش، يعني: المهاجرين بمثلها إمضاءً لما وصفهم الله به من الأثرة على أنفسهم، وحسن التمادي على الكرم.
وفيه: جواز التردد على الإنسان بالقول فيما يأباه المرة بعد المرة، وجواز الترداد بالإبانة عن الشيء؛ لما يكون في ذلك من الفخر والعز، كما أبت الأنصار أن تقبل مال البحرين دون المهاجرين، فكان في ذلك فخرهم وعزهم.
(1)
برقم (3794).
(2)
برقم (2296).
(3)
برقم (421).
وفيه: لزوم الوعد للأمراء وأشراف الناس، وأنه إنما يقضى عنهم على طريق التفضل لمشاكلة ذلك لأخلاقهم.
(وسلف)
(1)
في الهبات ما يلزم من العدة وما لا يلزم، فراجعه من ثمَّ.
وفيه: تأدية الإمام ديون من كان قبله من الأئمة والخلفاء.
وفيه: أن من كان أصله على سبيل التفضل أن يكون جزافًا بغير وزن، بخلاف البيوع وما فيه معنى التشاح.
وأمَّا الفيء والجزية والخراج فحكم ذلك واحد، وهو ما اجتبي من مال أهل الذمة مما صولحوا عليه من جزية رءوسهم التي بها حقنت دماؤهم وحرمت أموالهم، ومنها: وضيعة أرض الصلح التي منعها أهلها حيث صولحوا منها على خراج مسمى، ومنها: خراج الأرضين التي فتحت عنوة، ثم أقرها الإمام في أيدي أهل الذمة على الجزية يؤدونه، ومنها ما يأخذ العاشر من أموال أهل الذمة التي يمرون بها لتجارتهم، ومنها ما يؤخذ من أهل الحرب إذا دخلوا بلاد الإسلام للتجارة، فكل هذا من الفيء الذي يعم المسلمين غنيهم وفقيرهم فيكون في أعطية المقاتلة وأرزاق الذرية، وما ينوب الإمام من (أموال)
(2)
الناس بحسن النظر إلى الإسلام وأهله، قاله أبو عبيد
(3)
.
واختلف أصحابنا في قسم الفيء فروي عن الصديق: التسوية بين الحر والعبد، والشريف والوضيع، وروي عنه: أنه كُلِّم في أن يفضل بين الناس فقال: فضيلتهم عند الله، فأمَّا هذا المعاش فالتسوية فيه خير، وهو مذهب علي، وبه قال عطاء والشافعي.
(1)
من (ص 1).
(2)
كذا بالأصل، وفي مصدر التخريج: أمور.
(3)
"الأموال" ص 23.
وأما عمر فإنه كان يفضل أهل السوابق ومن له من رسول الله قرابة في العطاء، وفضل أمهات المؤمنين فيه على الناس أجمعين، ففرض لكل واحدة اثني عشر ألفًا، ولم يلحق بهن أحدًا إلا (العباس)
(1)
، فإنه جعله في عشرة آلاف.
وذهب عثمان في ذلك إلى التفضيل أيضًا، وبه قال مالك، فلمّا جاء على سوى بين الناس، وقال: لم أعب تدوين عمر الدواوين ولا تفضيله، ولكني أفعل كما كان خليلي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يفعل.
فكان يقسم ما جاءه بين المسلمين، ثم يأمر ببيت المال فينضح ويصلى فيه.
وأمَّا الكوفيون فالأمر عندهم في ذلك إلى اجتهاد الإمام، إن رأى التفضيل فضل، وإن رأى التسوية سوى.
وأحاديث الباب دالة على التفضيل، فهي حجة لمن قال به.
فصل:
في حديث أنس الثاني: في مال البحرين: (فكان أكثر مال أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم). قال الشيخ أبو محمد: كان مائة ألف وثمانين ألفًا.
وقال الداودي: كان ثمانين ألفًا، ولعله سقط منه من الكاتب مائة ألف، كما نبه عليه ابن التين.
وقوله: (احْتَمَلَهُ عَلَى كَاهِلِهِ) الكاهل: ما بين الكتفين.
(1)
غير واضحة بالأصل، والمثبت من (ص 1)، ومن "شرح ابن بطال" 5/ 340.
5 - باب إِثْمِ مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا بِغَيْرِ جُرْمٍ
3166 -
حَدَّثَنَا قَيْسُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَاحِدِ، حَدَّثَنَا الحَسَنُ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا مُجَاهِدٌ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا» . [6914 - فتح 6/ 269]
ذكر فيه حديث الحسن بن عمرو، ثَنَا مُجَاهِدٌ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا".
هذا الحديث ذكره في الديات مترجمًا أيضًا بهذِه الترجمة
(1)
، وهو منقطع فيما بين عمرو ومجاهد كما بينه البرذعي في كتابه "المتصل والمرسل" بقوله: مجاهد عن ابن عمرو، ولم يسمع منه، وقد رواه مروان بن معاوية الفزاري: ثنا الحسن بن عمرو، عن مجاهد، عن جنادة بن أبي أمية، عن عبد الله بن عمرو.
قال الدارقطني: وهو الصواب
(2)
. وزعم الجياني أن في نسخة أبي محمد الأصيلي: (عن عبد الله بن عمر) يعني: ابن الخطاب ولم يذكر خلافًا عن أبي أحمد وأبي زيد
(3)
.
وعند الإسماعيلي: "وإن ريحها ليوجد من سبعين عامًا"، وأخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "ألا منْ قتل نفسًا معاهدة لها ذمة الله وذمة رسوله فقد أخفر بذمة الله، فلا يرح رائحة الجنة، وإن
(1)
يأتي برقم (6914).
(2)
"الإلزامات والتتبع" ص 154.
(3)
"تقييد المهمل وتمييز المشكل" 2/ 643.
ريحها ليوجد من مسيرة سبعين خريفًا"
(1)
وللنسائي من حديث أبي بكرة بإسنادٍ صحيح نحوه
(2)
.
فائدة:
قال أحمد: أربعة أحاديث تدور على ألسنة الناس ولا أصل لها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من آذى ذميًّا فأنا خصمه يوم القيامة"، و"من بشرني بخروج آذار بشرته بالجنة"، و"نحركم يوم فطركم"، و"للسائل حق وإن جاء على فرس" وقد ثبت في "المقنع": بعضها مروي بأصل
(3)
.
فصل:
هذا على طريق الوعيد، والربُّ تعالى فيه بالخيار.
فصل:
(يَرَحْ): بفتح أوله وثانيه، وبكسر ثانيه وهو قول أبي عمر، أي: لم يجد ريحها.
وروي بضم أوله وكسر ثانيه من: أراح يريح، وهو قول الكسائي، والأجود الأول وعليه أكثرهم، كما ذكره ابن التين.
وقال ابن الجوزي: هو اختيار أبي عبيد، وهي الصحيحة.
ويأتي أبسط من هذا في الديات.
فصل:
فيه كما قال المهلب: دلالة أن المسلم لا يقتل بالذمي؛ لأن الوعيد للمسلم في الآخرة لم يذكر قصاصًا في الدنيا، وسيأتي مشبعًا في موضعه.
(1)
الترمذي (1403).
(2)
النسائي 8/ 24 - 25.
(3)
"المقنع في علوم الحديث" للمصنف 2/ 428 - 434.
فصل:
اختلف في ألفاظ الحديث في مسافة ريح الجنة، فسبق أربعة وسبعون، وفي "الموطأ" خمسمائة عام
(1)
، فيحتمل والله أعلم كما قال ابن بطال أن الأربعين هي أقصى أشد العمر في قول الأكثرين، فإذا بلغها ابن آدم زاد عمله ويقينه، واستحكمت بصيرته في الخشوع لله والندم على ما سلف، فكأنه وجد ريح الجنة التي تعينه على الطاعة، وتمكن من قلبه الأفعال الموصلة إلى الجنة، فهذا وجد ريح الجنة على مسيرة أربعين عامًا، وأما السبعون فإنها آخر المعترك، ويعرض للمرء عندها من الخشية والندم؛ لاقتراب أجله ما لم يعرض له قبل ذلك، وتزداد طاعته بتوفيق الله تعالى فيجد ريح الجنة من مسيرة سبعين عامًا، وأما وجه الخمسمائة فهي فترة ما بين نبيٍّ ونبي فيكون من جاء في آخر الفترة، واهتدى باتباع النبي الذي كان قبل الفترة ولم يضره طولها فوجد ريح الجنة من خمسمائة عام
(2)
.
(1)
"الموطأ" 2/ 569.
(2)
"شرح ابن بطال" 8/ 564 - 565.
6 - باب إِخْرَاجِ اليَهُودِ منْ جَزِيرَهِ العَرَبِ
وَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه، عَن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمُ اللهُ". [انظر: 2285]
3167 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ فِي المَسْجِدِ خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «انْطَلِقُوا إِلَى يَهُودَ» . فَخَرَجْنَا حَتَّى جِئْنَا بَيْتَ المِدْرَاسِ فَقَالَ: «أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُجْلِيَكُمْ مِنْ هَذِهِ الأَرْضِ، فَمَنْ يَجِدْ مِنْكُمْ بِمَالِهِ شَيْئًا فَلْيَبِعْهُ، وَإِلاَّ فَاعْلَمُوا أَنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ» . [6944،7348 - مسلم: 1765 - فتح 6/ 270]
3168 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ الأَحْوَلِ، سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ، سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما يَقُولُ: يَوْمُ الخَمِيسِ، وَمَا يَوْمُ الخَمِيسِ ثُمَّ بَكَى حَتَّى بَلَّ دَمْعُهُ الحَصَى، قُلْتُ: يَا أَبَا عَبَّاسٍ، مَا يَوْمُ الخَمِيسِ؟ قَالَ: اشْتَدَّ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَجَعُهُ فَقَالَ: «ائْتُونِي بِكَتِفٍ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَا تَضِلُّوا بَعْدَهُ أَبَدًا» . فَتَنَازَعُوا، وَلَا يَنْبَغِي عِنْدَ نَبِيٍّ تَنَازُعٌ، فَقَالُوا: مَا لَهُ؟ أَهَجَرَ؟ اسْتَفْهِمُوهُ. فَقَالَ: "ذَرُونِي، فَالَّذِى أَنَا فِيهِ خَيْرٌ مِمَّا تَدْعُونِي إِلَيْهِ" فَأَمَرَهُمْ بِثَلَاثٍ قَالَ: "أَخْرِجُوا المُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ العَرَبِ، وَأَجِيزُوا الوَفْدَ بِنَحْوِ مَا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ». وَالثَّالِثَةُ خَيْرٌ، إِمَّا أَنْ سَكَتَ عَنْهَا، وَإِمَّا أَنْ قَالَهَا فَنَسِيتُهَا. قَالَ سُفْيَانُ: هَذَا مِنْ قَوْلِ سُلَيْمَانَ. [انظر: 114 - مسلم: 1637 - فتح 6/ 270]
وهذا سلف في المزارعة مسندًا
(1)
.
ثم أسند فيه حديث أبي هريرة رضي الله عنه: بَيْنَمَا نَحْنُ فِي المَسْجِدِ خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "انْطَلِقُوا إِلَى يَهُودَ". فَخَرَجْنَا حَتَّى جِئْنَا بَيْتَ المِدْرَاسِ، فَقَالَ:
(1)
سلف برقم (2338) كتاب: الحرث والمزارعة، باب: إذا قال رب الأرض: أقرك ما أقرك الله، ولم يذكر أجلا معدودًا، فهما على تراضيهما.
"أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ الأَرْضَ لله وَرَسُولِهِ، وَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُجْلِيَكُمْ مِنْ هذِه الأَرْضِ، فَمَنْ يَجِدْ مِنْكُمْ بِمَالِهِ شَيْئًا فَلْيَبِعْهُ، وَإِلَّا فَاعْلَمُوا أَنَّ الأَرْضَ لله وَرَسُولِهِ". ويأتي في الاعتصام، والإكراه
(1)
.
وأخرجه مسلم أيضًا
(2)
.
حَدَّثنَا مُحَمَّدٌ، ثَنَا ابن عُيَيْنَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ الأَحْوَلِ، سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ، سَمِعَ ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما يَقُولُ: يَوْمُ الخَمِيسِ، وَمَا يَوْمُ الخَمِيسِ! .. لحديث.
ويأتي في المغازي
(3)
وأخرجه مسلم
(4)
، وقد سلف في باب: جوائز الوفد
(5)
.
وقال في آخره: (وَالثَّالِثَةُ خَيْرٌ، إِمَّا أَنْ سَكَتَ عَنْهَا، وإمَّا أَنْ قَالَهَا فَنَسِيتُهَا. قَالَ سُفْيَانُ: هذا مِنْ قَوْلِ سُلَيْمَانَ) أي: ابن أبي مسلم المكي الأعرج خال ابن أبي نجيح.
قال الجياني: ومحمد هذا لم ينسبه أحد من الرواة، وقد ذكر البخاري في الوضوء: حدثنا ابن سلام، ثنا ابن عيينة
(6)
. وقال في عدة مواضع: عن محمد بن يوسف البيكندي، عن ابن عيينة.
(1)
يأتي برقم (6944) كتاب: الإكراه، باب: في بيع المكره ونحوه في الحق وغيره.
ويأتي برقم (7348) كتاب: الاعتصام، باب: قوله تعالى: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} .
(2)
مسلم (1765) كتاب: الجهاد والسير، باب: إجلاء اليهود من الحجاز.
(3)
سيأتي برقم (4431) كتاب: المغازي، باب: مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته.
(4)
مسلم (1637) كتاب: الوصية، باب: ترك الوصية لمن ليس له شيء يوصى فيه.
(5)
سلف برقم (3053) كتاب: الجهاد والسير، باب: هل يستشفع إلى أهل الذمة ومعاملتهم.
(6)
رقم (243). وانظر: "تقييد المهمل" 3/ 1016.
وروى الإسماعيلي حديث الباب، عن الحسن بن سفيان، عن محمد بن خلاد الباهلي، عن ابن عيينة.
فصل
(1)
:
أما الحديث فمعناه: أنه كان يكره أن يكون بأرض العرب غير المسلمين؛ لأثه امتحن في استقبال القبلة حتى نزل: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} الآية [البقرة: 144]، وامتحن مع بني النضير حين أرادوا الغدر به وأن يلقوا عليه حجرًا، فأمره الله بإجلائهم وإخراجهم وترك سائر اليهود، وكان لا يتقدم في شيءٍ إلا بوحي الله، وكان يرجو أن يحقق الله رغبته في إبعاد اليهود عن جواره، فقال ليهود خيبر:"أُقِرُّكُمْ ما أَقَرَّكُمُ اللهُ" منتظرًا للقضاءِ فيهم، فلم يوح إليه في ذلك بشيءٍ إلى أن حضرته الوفاة، فأوحي إليه فيه فقال:"لا يبقين دينان بأرض العرب" وأوصى بذلك عند موته فلما كان في خلافة عمر، وعدوا على ابنه وفدعوه، فحَصَ عن قوله صلى الله عليه وسلم فيهم، فأخبر أنه أوصى عند موته بإخراجهم من جزيرة العرب فقال: من كان عنده عهد من رسول الله فليأت به وإلا فإني مجليكم، فأجلاهم.
قال المهلب: وإنما أمر بإخراجهم خوف التدليس منهم، وأنهم متى رأوا عدوًّا قويًّا صاروا معه كما فعلوا برسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب.
قال الطبري: وفيه من الفقه: أن الشارع سنَّ لأمته المؤمنين إخراج كل من دان بغير دين الإسلام من كلِّ بلدة للمسلمين سواء كانت تلك البلدة من البلاد التي أسلم أهلها عليها، أو من بلاد العنوة إذا لم يكن بالمسلمين ضرورة إليهم، ولم يكن الإسلام يومئذٍ ظهر في غير
(1)
هذا الفصل بتمامه نقله المصنف رحمه الله من "شرح ابن بطال" 15/ 341 - 345.
جزيرة العرب ظهور قهر، فبان بذلك أن سبيل كل بلدة قهر فيها المسلمون أهل الكفر، ولم يكن تقدم قبل ذلك من إمام المسلمين لهم عقد صلح على إقرارهم فيها، أن على الإمام إخراجهم منها ومنعهم القرار بها، إلا أن يكون المسلمون إليهم ضرورة الإقرار مسافر ومقام ظعن، وأكثر ذلك ثلاثة أيام بلياليهم كالذي فعل الأئمة الأبرار عمر وغيره، فإن ظنَّ ظان أن فعل عمر في ذلك إنما هو خاصٌّ بمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر جزيرة العرب؛ لأمره عليه بإخراجهم منها دون سائر بلاد الإسلام، وقال: لو كان حكم غير جزيرة العرب كحكمها في التسوية بينهما جميعًا في إخراج أهل الكفر منها، لما كان عمر يقر النصارى النبط في سواد العراق، وقد قهرهم الإسلام وعلاهم، ولكان قد أجلى نصارى الشام ويهودها عنها وقد غلب الإسلام على بلادهم، ولما ترك مجوس فارس في أرضهم وقد غلبهم الإسلام وأهله.
فإن الأمر (في ذلك)
(1)
بخلاف ما ظن، وذلك أن عمر لم يقر أحدًا من أهل الشرك في أرض قد قهر فيها الإسلام وغلب.
لم يتقدم قبل ذلك قهر إياهم منه لهم أو من المؤمنين عقد صلح على الترك فيها إلا لضرورة المسلمين إلى إقرارهم فيها، كإقراره نبط سواد العراق في السواد بعد غلبة المسلمين عليه، وكإقرار من أقر من نصارى الشام فيها بعد غلبتهم على أرضها دون حصونها، فإنه أقرهم للضرورة إليهم في عمارة الأرض؛ إذ كان المسلمون في الحرب مشاغيل، ولو أجلوا عنها لخربت الأرض وبقيت بغير عامر، فكان فعلهم في ذلك نظير فعله عليه السلام وفعل الصديق في يهود خيبر ونصارى
(1)
من (ص 1).
نجران، فإنه عليه السلام أقرَّ يهود خيبر بعد قهر المسلمين لهم عمَّالًا وعمَّارًا؛ إذ كانت بالمسلمين ضرورة لعمارة أرضهم لانشغالهم بالحرب في مناوأة الأعداء، ثم أمر عليه السلام بإجلائهم عند استغنائهم عنهم، وقد كانوا سألوه عند قهرهم على الأرض إقرارهم فيها عمالًا لأهلها، فأجابهم إلى إقرارهم فيها ما أقرهم الله، وإجلائهم منها إذا رأى ذلك، وأقرهم الصديق على نحو ذلك.
فأما إقرارهم مع المسلمين في مِصْر لم يكن تقدم في ذلك قبل غلبة المسلمين عليه عقد صلح بينهم وبين المسلمين، فيما لا نعلمه صح به عنه ولا عن غيره من أئمة الهدى خبر، ولا قامت بجواز ذلك حجة، بل الحجة في ذلك عن الأئمة ما قلنا.
ثم ساق بإسناده إلى قيس بن الربيع: حدثنا أبان بن تغلب، عن رجل قال: إن منادي علي رضي الله عنه ينادي كل يوم: لا يبيتن بالكوفة يهودي ولا نصراني ولا مجوسي، الحقوا بالحيرة.
وإلى ليث، عن طاوس، عن ابن عباس قال: لا يساكنكم أهل الكتاب في أمصاركم.
قال يحيى بن آدم: هذا عندنا على كل مصرٍ اختطه المسلمون، ولم يكن لأهل كتاب، فنزل عليهم المسلمون.
قال الطبري: وهذا قول لا معنى له؛ لأن ابن عباس لم يخصص بقوله: لا يساكنكم أهل الكتاب مصرًا سكانه (أهل)
(1)
الإسلام دون غيرهم، بل عم ذلك بقوله: جميع أمصاركم، وأن دلالة أمره عليه السلام بإخراج اليهود من جزيرة العرب، يوضح بصحة ما قال ابن عباس،
(1)
من (ص 1).
وأن الواجب على الإمام إخراجهم من كل مصر غلب عليه الإسلام إذا لم يكن بالمسلمين إليهم ضرورة، ولا كانت من بلاد الذمة التي صولحوا على الإقرار فيها؛ إلحاقًا لحكمه بجزيرة العرب، وذلك أن خيبر لم تكن من البلاد التي اختطها المسلمون، وكذلك نجران بل كانت لأهل الكتاب، وهم كانوا عمارها وسكانها، فأمر عليه السلام بإخراجهم حين غلب عليها الإسلام، ولم يكن بهم إليهم ضرورة.
ثم ساق من حديث جرير، عن قابوس عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا:"لا تصلح قبلتان في أرض" فإذا صحَّ ما قلناه فالواجب على الإمام إذا أقر بعض أهل الكتاب في بعض بلاد المسلمين؛ لحاجتهم إليهم لعمارتها أو لغير ذلك ألا يدعهم في مصرِهم أكثر من ثلاث، وأن يسكنهم خارجًا من مصرهم كالذي فعل عمر وعلي، وأن يمنعهم من اتخاذ الدور والمساكن في أمصارهم، فإن اشترى منهم مشتر في مصر من أمصار المسلمين دارًا أو ابتنى به مسكنًا، فالواجب على إمام المسلمين أخذه ببيعها عليه، كما يجب عليه لو اشترى مملوكًا مسلمًا، أن يأخذه ببيعه؛ لأنه ليس من المسلمين إقرار مسلم في ملك كافر، فكذلك غير جائز إقرار أرض المسلمين في غير ملكهم، قال غيره: وكذلك الحكم في الرجل المسلم الفاسق إذا شهد عليه أنه مؤذٍ لجيرانه بالسفه والتسليط، ويشتكي منه جيرانه، وصحَّ ذلك عند الحاكم أن له أن يخرجه من بين أظهرهم، وإن كانت له دارٌ أكراها عليه، فإن لم يجد لها مكتريًا باعها عليه، ودفع الأذى عن جيرانه، وقال ابن القاسم: تكرى ولا تباع، وسيأتي هذا المعنى في كتاب الأحكام إن شاء الله تعالى
(1)
.
(1)
انتهى كلام ابن بطال من "شرحه" 5/ 341 - 345 بما تخلله من كلام للطبري والمهلب.
فصل:
في حديث ابن عباس كما قال المهلب: أن جوائز الوفود سنة.
فصل:
قد أسلفنا الكلام على حدِّ جزيرة العرب واضحًا، ونقل ابن بطال هنا عن أبي عبيد، عن الأصمعي: أن جزيرة العرب ما بين أقصى عدن أبين إلى ريف العراق طولاً، ومن جدة وما والاها من ساحل البحر إلى أطراف الشام عرضًا
(1)
. وعن إسماعيل بن إسحاق: عقبة تبوك هي الفرق بين جزيرة العرب وأهل الشام، وعن أبي عبيد، أن جزيرة العرب ما بين حفر أبي موسى إلى أقصى اليمن طولاً، وما بين رمل يبرين إلى منقطع السماوة عرضًا
(2)
. قال الطبري: وإنما قيل لها جزيرة العرب، وإنما هي: جزيرة البحر؛ تعريفًا لها وفرقًا بينهما وبين سائر الجزائر، كما قيل لأجا وسلمى -وهما جبلان من نجد-: جبلا طيّء، تعريفًا لهما بطيء؛ وفرقًا بينهما وبين سائر جبال نجد، وإنما قيل لها: جزيرة؛ لانقطاع ما كان فائضًا عليها من ماء البحر، وأصل الجزر في كلام العرب القطع، ومنه سمي الجزار: جزارًا؛ لقطعه أعضاء البهيمة
(3)
.
(1)
"معجم ما استعجم" لأبي عبيد البكري 1/ 6.
(2)
"معجم ما استعجم" 1/ 6.
(3)
"شرح ابن بطال" 5/ 345 - 346.
7 - باب إِذَا غَدَرَ المُشْرِكُونَ بِالْمُسْلِمِيَن هَلْ يُعْفَى عَنْهُمْ
؟
3169 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدٌ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا فُتِحَتْ خَيْبَرُ أُهْدِيَتْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم شَاةٌ فِيهَا سُمٌّ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «اجْمَعُوا إِلَيَّ مَنْ كَانَ هَا هُنَا مِنْ يَهُودَ» . فَجُمِعُوا لَهُ فَقَالَ: «إِنِّي سَائِلُكُمْ عَنْ شَيءٍ فَهَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْهُ؟» . فَقَالُوا: نَعَمْ. قَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَبُوكُمْ؟» . قَالُوا: فُلَانٌ. فَقَالَ: «كَذَبْتُمْ، بَلْ أَبُوكُمْ فُلَانٌ» . قَالُوا: صَدَقْتَ. قَالَ: «فَهَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْ شَيءٍ إِنْ سَأَلْتُ عَنْهُ؟» فَقَالُوا: نَعَمْ يَا أَبَا القَاسِمِ، وَإِنْ كَذَبْنَا عَرَفْتَ كَذِبَنَا كَمَا عَرَفْتَهُ فِي أَبِينَا. فَقَالَ لَهُمْ:«مَنْ أَهْلُ النَّارِ؟» . قَالُوا: نَكُونُ فِيهَا يَسِيرًا ثُمَّ تَخْلُفُونَا فِيهَا. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «اخْسَئُوا فِيهَا، وَاللهِ لَا نَخْلُفُكُمْ فِيهَا أَبَدًا» ثُمَّ قَالَ: «هَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْ شَيءٍ إِنْ سَأَلْتُكُمْ عَنْهُ؟» . فَقَالُوا: نَعَمْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ. قَالَ: «هَلْ جَعَلْتُمْ فِي هَذِهِ الشَّاةِ سُمًّا؟» . قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: «مَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ؟» . قَالُوا: أَرَدْنَا إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا نَسْتَرِيحُ، وَإِنْ كُنْتَ نَبِيًّا لَمْ يَضُرَّكَ. [4249،5777 - فتح 6/ 272]
ذكر في حديث أبي سعيد -وهو المقبري- عن أبي هريرة: لَمَّا فُتِحَتْ خَيْبَرُ أُهْدِيَتْ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شَاةٌ فِيهَا سُمٌّ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"اجْمَعُوا إِلَيَّ مَنْ كَانَ هَا هُنَا مِنْ يَهُودَ". فَجُمِعُوا لَهُ، فَقَالَ:"إِنِّي سَائِلُكُمْ .. " الحديث، وفي آخره: وَإِنْ كُنْتَ نَبِيًّا لَمْ يَضُرَّكَ.
ويأتي في المغازي والطب
(1)
.
وأخرجه مسلم، وقال:"ما كان الله ليسلطك على ذلك"
(2)
.
(1)
سيأتي في المغازي (4249) باب: الشاة التي سُمت للنبي صلى الله عليه وسلم بخيبر، وفي الطب برقم (5777) باب: ما يذكر في سم النبي صلى الله عليه وسلم.
(2)
مسلم (2190) كتاب: السلام باب: السم.
وأخرجه أبو داود من حديث ابن شهاب عن جابر، ولم يسمع عنه
(1)
.
وفي آخر المغازي: قال البخاري: قال يونس: عن عروة: قالت عائشة: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في مرضه الذي مات فيه: "يا عائشة مازلت أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان انقطاع أبهري من ذلك السم"
(2)
وهو تعليق أسنده الإسماعيلي من حديث عنبسة، عن خالد، عن يونس به، والحاكم في "إكليله"، أخرجه من حديث عنبسة أيضًا.
وروى البخاري من حديث أنس، قال:(يا)
(3)
رسول الله ألا نقتلها؟ يعني: التي سمته قال: "لا". قال: فمازلت أعرفها في لهوات النبي
(4)
.
ولابن إسحاق: فدعا بالتي سمته فاعترفت
(5)
.
ولأحمد من حديث ابن مسعود: كنا نرى أنه عليه السلام سمَّ في ذراع الشاة، وأن اليهود سموه
(6)
.
وعن ابن عباس: أنه عليه السلام احتجم وهو محرم من أكلة أكلها من شاة مسمومة
(7)
.
(1)
أبو داود (4510).
(2)
سيأتي برقم (4428).
(3)
ورد في الأصل: (قال) والمثبت هو الصحيح.
(4)
سلف برقم (2617).
(5)
انظر: "سيرة ابن هشام" 3/ 390.
(6)
"المسند" 1/ 397.
(7)
السابق 1/ 305.
وعن عبد الله بن عبد الرحمن بن كعب بن مالك: أن أمَّ بشر دخلت على رسول الله في وجعه الذي قبض فيه فقالت: ما تتهم على نفسك؟ قال: "الطعام الذي أكله ابنك بخيبر وهذا أوان قطع أبهري"
(1)
.
وللواقدي عن الزهري: أن زينب التي سمته، هي: ابنة أخي مرحب، وأنه عليه السلام قال لها:"مَا حَمَلَكِ عَلَى هذا؟ " قالت: قتلت أبي وعمي وزوجي وأخي. قال محمد: فسالت إبراهيم بن جعفر عن هذا قال: أبوها الحارث، وعمها يسار، وكان أجبن الناس، وهو الذي أنزل من الرفِّ، وأخوها زبير، وزوجها سلام بن مشكم.
وأما السهيلي فقال: هي أخت مرحب
(2)
. قال محمد بن عمر: والثبت عندنا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتلها ببشر بن البراء بن معرور: يعني الآكل معه منها، وأمر بلحم الشاة فأحرق.
وهذِه المسألة سأل عنها مالك الإمام الواقدي، قال المنتجالي: وذلك أن مالكًا سئل عنها، ولم يكن عنده فيها شيء، فرأى الواقدي -وهو شاب إذ ذاك- فسأله عنها، فقال: الذي عندنا: أنه قتلها، فخرج مالك إلى الناس فقال: سألنا أهل العلم فأخبرونا أنه قتلها.
وعن الزهري قال: قال جابر: احتجم رسول الله يومئذٍ على الكاهل حجمه أبو طَيْبَة بالقَرْن والشَّفْرة، وقيل: بل حجمه أبو هند، واسمه: عبد الله.
(1)
"المسند" 6/ 18. ورواه الحاكم في "المستدرك" 3/ 219.
فقال: على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
(2)
"الروض الأنف" 4/ 62. ونقله عن أبي داود وابن إسحاق. وهي عند أبي داود (5409).
ولأبي نعيم في "طبه" عن عبد الرحمن بن عثمان: احتجم عليه السلام تحت كتفه اليسرى من الشاة التي أكل يوم خيبر، وعن عبد الله بن جعفر: احتجم على قرنه بعد ما سُمَّ. وفي إسنادهما ضعف
(1)
.
قال الواقدي: وألقي من شحم تلك الشاة لكلب، فما تبعت يد رجل حتى مات.
ولأبي داود: أمر بها فقتلت
(2)
، وفي لفظ: قتلها وصلبها.
وفي "جامع معمر" عن الزهري: لما أسلمت تركها، قال معمر: كذا قال الزهري: أسلمت، والناس يقولون قتلها، وأنها لم تسلم
(3)
، وكانت أهدت الشاة المصلية لصفية.
قال السهيلي: قيل: إنه صفح عنها، والجمع بين القولين: أنه عليه السلام كانت عادته أنه لا ينتقم لنفسه، فلما مات بشر بن البراء بعد ذلك بحول
(4)
. فيما ذكره البيهقي، وعند القرطبي: لم يبرح من مكانه حتى مات- قتلها به.
وعن ابن عباس: دفعها إلى أولياء بشر فقتلوها، ومن ذلك الحين لم يأكل عليه السلام من هدية تهدى له حتى يأمر صاحبها أن يأكل منها.
جاء ذلك في حديث أخرجه ابن مطير
(5)
في "معجمه" عن أحمد بن حنبل: حدثنا سعيد بن أحمد، ثنا أبو تميلة، ثنا محمد بن إسحاق، ثنا
(1)
"الطب النبوي" لأبي نعيم 2/ 546 - 548 (564، 566).
(2)
أبو داود (4512)(م).
(3)
"جامع معمر" 11/ 28 - 29 (19814).
(4)
"الروض الأنف" 4/ 62 - 63.
(5)
ورد بهامش الأصل: مر أن ابن مطير هو الطبراني؛ لأن مطيرًا ذلك لم يسمع من أحمد، وإنما سمع من عبد الله ابنه.
عبد الملك بن أبي بكر عن محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة، عن ابن الحوتكية، يعني: يزيد عن عمار بن ياسر .. فذكره.
وأخرجه الطبراني في أكبر معاجمه عن عبد الله بن أحمد، ثنا سعيد بن محمد، فذكره إلى عمار قال: كان رسول الله لا يأكل من هدية حتى يأمر صاحبها أن يأكل منها للشاة التي أهديت له
(1)
.
وذكره ابن عساكر في "تاريخه" في ترجمة مسلم بن قتيبة: حدثني أبي، ثنا يحيى بن الحصين بن المنذر، عن أبيه: أن ساسان قال: سمعت عمارًا، به، ذكره عن أبي نصر القشيري، أنا البيهقي، أنا الحاكم، أنا على الحسيني، أنا خالد بن أحمد، حدثني أبي، حدثني سعيد بن سلم بن قتيبة به، ولفظه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأكل الهدية حتى يأكل منها من أهداها إليه بعد ما أهدت إليه المرأة الشاة المسمومة بخيبر
(2)
.
فصل:
في هذا الحديث: أن القتل بالسم كالقتل بالسلاح الذي يوجب القصاص، وهو قول مالك.
وقال الكوفيون: لا قصاص فيه، وفيه الدية على العاقلة، قالوا: ولو دسه في طعام أو شراب لم يكن عليه شيء ولا عاقلته.
وقال الشافعي: إذا فعل ذلك وهو مكره، ففيه قولان في وجوب القَوَدِ، أصحهما: لا.
(1)
ذكره الهيثمي في "المجمع" 5/ 21 وقال: رواه البزار والطبراني ورجال الطبراني ثقات.
(2)
"تاريخ دمشق" 22/ 147 - 148.
فصل:
وفيه أيضًا: من علامات النبوة ما هو ظاهر من كلام الجماد، وأنَّ السم لم يؤثر فيه حتى كان عند وفاته، لتجتمع له النبوة مع الشهادة؛ مبالغة في كرامته ورفع درجته.
وفيه: أن السموم لا تؤثر بذاتها بل بإذن الرب جل جلاله ومشيئته، ألا ترى أن السم أثر في بشر ولم يؤثر في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو كان يؤثر بذاته لأثر فيهما في الحال.
فصل:
فيه: العفو عن المشركين إذا غدروا لشيء يستدرك إصلاحه وجبره، ويعصم الله منه إذا رأى الإمام ذلك، وإن رأى عقوبتهم عاقبهم لما يؤديه إليه اجتهاده، وأما إذا غدروا بالقتل أو مما لا يستدرك جبره، وما لا يعتصم من شره، فلا سبيل إلى العفو كما فعل الشارع في العرنيين عاقبهم بالقتل
(1)
، وإن كان عليه السلام قال لعائشة:"ما زالت أكلة خيبر لتعاهدني، فهذا أوان انقطاع أبهرى" لكنه عما عنهم حين لم يعلم أنه يقضي عليه؛ لأن الله تعالى دفع عنه ضر السم بعد أن أطلعه على المكيدة فيه بآية معجزة أظهرها له من كلام الذراع، ثم عصمه الله من ضره مدة حياته، حتى إذا دنا أجله بغى عليه السم، فوجد ألمه.
وأراد الله تعالى له الشهادة بتلك الأكلة ولذلك لم يعاقبهم، وأيضًا فإن اليهود قالوا: أردنا أن نختبر بذلك نبوتك وصدقك، فإن كنت نبيًّا لم يضرك، فقد يمكن أن يعذرهم بتأويلهم، وأيضًا فإنه كان لا ينتقم لنفسه؛ تواضعًا لله كما مرَّ، وكان لا يقتل أحدًا من المنافقين المناصبين له
(1)
سلف برقم (233) ومواضع أخر.
بالعداوة والغوائل؛ لأنه كان على خلق عظيم من الصلح والإغضاء والصبر، وأصل هذا كله أن الإمام فيه بالخيار، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه.
فصل:
ترجمة البخاري: هل يعفى عنهم؟ ولم يذكر في الحديث العفو ولا عدمه، وليس فيه أن ذلك كان بعد عهد، فإن يكن عما فهو بفضل منه لوجه يرجوه من إسلامهم أو لاستئلاف من حلفائهم من المسلمين وإن يكن عاقب بقتلٍ أو سبيٍ، فهو جزاؤه، قاله الداودي.
وقد أسلفنا رواية قتلها، ثم قال: والذي يدل عليه ظاهر الأمر أنه أبقاهم لحاجته إليهم في عمل الأرض.
قال: وفيه دليلٌ أنه أخبر بالسم، ولم يذكر قبل أن أكل ولا بعد، وفي الحديث الآخر: أن امرأة جعلت له سُمًّا في شاة، فإمَّا أن يكون الأمران جميعًا أو في إحدى الروايتين وهم.
وقوله: لم يذكر هل كان قبل أن يأكل أو بعده.
تنبيه:
الحديث: أنه كان بعد أن أكل؛ لأنه قال: "ما زالت أكلة خيبر تعادني، فهذا أوان انقطاع أبهري".
8 - باب دُعَاءِ الإِمَامِ عَلَى مَنْ نَكَثَ عَهْدًا
3170 -
حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا ثَابِتُ بْنُ يَزِيدَ، حَدَّثَنَا عَاصِمٌ قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسًا رضي الله عنه عَنِ القُنُوتِ، قَالَ: قَبْلَ الرُّكُوعِ. فَقُلْتُ: إِنَّ فُلَانًا يَزْعُمُ أَنَّكَ قُلْتَ بَعْدَ الرُّكُوعِ، فَقَالَ: كَذَبَ. ثُمَّ حَدَّثَنَا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَنَتَ شَهْرًا بَعْدَ الرُّكُوعِ يَدْعُو عَلَى أَحْيَاءٍ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ، قَالَ: بَعَثَ أَرْبَعِينَ أَوْ سَبْعِينَ -يَشُكُّ فِيهِ- مِنَ الْقُرَّاءِ إِلَى أُنَاسٍ مِنَ المُشْرِكِينَ، فَعَرَضَ لَهُمْ هَؤُلَاءِ فَقَتَلُوهُمْ، وَكَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَهْدٌ، فَمَا رَأَيْتُهُ وَجَدَ عَلَى أَحَدٍ مَا وَجَدَ عَلَيْهِمْ. [انظر: 1001 - مسلم: 677 - فتح 6/ 272]
ذكر فيه حديث عاصم: سَأَلْتُ أَنَسًا عَنِ القُنُوتِ .. الحديث.
وقد سلف في الصلاة في باب: القنوت قبل الركوع وبعده، وقال هناك في القراء: زهاء سبعين، وقال هنا: بعث أربعين أو سبعين -يشك فيه- من القراء.
وشيخ البخاري (أَبُو النُّعْمَانِ): هو عارم محمد بن الفضل السدوسي، مات بعد العشرين ومائتين، قيل: تغير بآخره، وشيخه: ثابت بن زيد، وقيل: ابن زيد، والأول: أصح، يكنى أبا زيد الأحول، بصري. وشيخه: عاصم بن سليمان الأحول أبو عبد الرحمن، بصري، مولى بني تميم، وقيل: مولى عثمان، مات سنة إحدى أو اثنتين وأربعين ومائة، وذكره البخاري أيضًا في الوتر
(1)
والجنائز
(2)
، ويأتي في المغازي
(3)
والدعوات
(4)
.
(1)
سلف برقم (1002) كتاب: الوتر، باب: القنوت قبل الركوع وبعده.
(2)
سلف برقم (1300) كتاب: الجنائز، باب: من جلس عند المصيبة يعرف فيه الحزن.
(3)
سيأتي برقم (4088) كتاب: المغازي، باب: غزوة الرجيع ورعل وذكران وبئر معونة وحديث عضل والقارة وعاصم بن ثابت وخبيب وأصحابه.
(4)
سيأتي برقم (6394) كتاب: الدعوات، باب: الدعاء على المشركين.
فصل:
قد أسلفنا الجزم برواية (سبعين) فيما مضى، ولما ذكر ابن التين رواية الشك قال: هم سبعون كما تقدم، وأن المسلمين أصيبوا بثلاث مصائب، قتل في كل مصيبة منهم سبعون: يوم أحد ويوم القراء ويوم اليمامة في خلافة الصديق.
فصل:
وكان صلى الله عليه وسلم لا يدعو بالشر على أحد من الكفار ما دام يرجو لهم الرجوع والإقلاع عمّا هم عليه، ألا ترى أنه عليه السلام سئل أن يدعو على دوس فدعا لها بالهدى
(1)
، وإنما دعا علي بني سليم حين نكثوا العهد وغدروا ويئس من إنابتهم ورجوعهم عن ضلالتهم، فأجاب الله بذلك دعوته، وأظهر صدقه وبرهانه، وهذِه القصة أجل في جواز الدعاء في الصلاة، والخطبة على عدو المسلمين ومن خالفهم ومن نكث عهدًا وشبهه.
(1)
سلف برقم (2937)، ورواه مسلم (2524).
9 - باب أَمَانِ النِّسَاءِ [وَجِوَارِهِنَّ]
3171 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ -أَنَّ أَبَا مُرَّةَ مَوْلَى أُمِّ هَانِئٍ ابْنَةِ أَبِي طَالِبٍ- أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أُمَّ هَانِئٍ ابْنَةَ أَبِي طَالِبٍ تَقُولُ: ذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ الفَتْحِ فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ، وَفَاطِمَةُ ابْنَتُهُ تَسْتُرُهُ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَقَالَ:«مَنْ هَذِهِ؟» . فَقُلْتُ: أَنَا أُمُّ هَانِئٍ بِنْتُ أَبِي طَالِبٍ. فَقَالَ: «مَرْحَبًا بِأُمِّ هَانِئٍ» . فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ غُسْلِهِ قَامَ، فَصَلَّى ثَمَانَ رَكَعَاتٍ مُلْتَحِفًا في ثَوْبٍ وَاحِدٍ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، زَعَمَ ابْنُ أُمِّي عَلِيٌّ أَنَّهُ قَاتِلٌ رَجُلاً قَدْ أَجَرْتُهُ فُلَانُ بْنُ هُبَيْرَةَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ» . قَالَتْ أُمُّ هَانِئٍ: وَذَلِكَ ضُحًى. [انظر: 280 - مسلم: 336 - فتح 6/ 273]
ذكر فيه حديث أم هانئ السالف في الطهارة
(1)
.
وفيه: أبو النضر، واسمه: سالم بن أبي أمية، مات في خلافة مروان بن محمد.
وفيه: أبو مرة يزيد بن مرة مولى عقيل، وقيل: مولى أم هانئ، وهو ما في البخاري.
قال الداودي: وهو واحد، وإنما كان عبدًا لهما، فأعتقاه، فنسب مرة لهذا، ومرة لعقيل، قال: وقوله: (عام الحديبية وفاطمة ابنته تستره) وَهَمٌ من عبد الله بن يوسف شيخ البخاري، وهو عجيب منه، فالذي في الروايات كلها: عام الفتح.
وقوله: (وَفَاطِمَةُ ابنتُهُ تَسْتُرُهُ)، صفته: أن تجعل الثوب أيمن عنها أو تجعله من وراء ظهرها.
(1)
برقم (280).
وقوله: (على) يحتمل أن يكون تهديدًا بالقتل ليستأمر النبي في قتله، ويحتمل عنده أن جوار المرأة لا ينفع كالابن.
قال ابن التين: والمؤَمَنون سَبْعَةٌ: إمامٌ، وحر، وحرة، وعبد، وصبيٌّ يعقل، ومجنون، وكافر. فأمان الإمام جائز قطعًا، وأمان المجنون والكافر غير جائز قطعًا، واختلف في الباقي، فمنع عبد الملك أمان الجميع، وخالفه ابن القاسم في العبد، وقال سحنون: إن أذن له سيده في القتال صحَّ أمانه وكذلك خالفه في الصبي والمرأة والحر.
وجه قول ابن القاسم قوله عليه السلام بعد هذا: "ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلمًا فعليه لعنة الله"
(1)
.
قلت: عندنا لا يصح أمان الثلاثة الأخيرة.
فصل:
فيه من الفقه: جواز أمان المرأة، وأن من أمنته حرم قتله، وقد أجارت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا العاص بن الربيع، وعلى هذا جماعة الفقهاء بالحجاز والعراق؛ منهم: مالك، والثوري، وأبو حنيفة، والأوزاعي، والشافعي، وأبو ثور، وأحمد، وإسحاق.
وشذ عبد الملك وابن الماجشون وسُحْنون عن الجماعة فقالا: أمان المرأة موقوف على جواز الإمام، فإن أجازه جاز، وإن رده رد. واحتج من ذهب إلى ذلك بأمان أم هانئ لو كان جائزًا على كل حال دون إذن الإمام ما كان (علي)
(2)
ليريد قتل منْ لا يجوز قتله بأمان من يجوز أمانه ولقال لها: من أمنت أنت وغيرك فلا يحلُّ قتله.
(1)
يأتي برقم (3180).
(2)
من (ص 1).
فلما قال لها: "قد أجرنا من أجرت" كان دليلًا على أن أمان المرأة موقوف على إجازة الإمام أو رده.
واحتج الآخرون بأنَّ عليًّا وغيره لا يعلم إلا ما علمه رسول الله، وإن أراد به لقتل ابن هبيرة كان قبل أن يعلم قوله:"ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم"، ولما وجدنا هذا الحديث من رواية علي ثبت ما قلناه، وكان من المحال أن يعلم على هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرويه عنه، ثم يريد قتل من أجارته أخته، وعلى هذا القول يكون تأويل قوله:"قد أجرنا من أجرت"، أي: أن سنتنا وحكمنا إجارة من أجرت أنت ومثلك، والدليل على صحة هذا التأويل قوله عليه السلام:"المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم" والمرأة من أدناهم
(1)
.
وقد ذكر إسماعيل بن إسحاق من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أنه عليه السلام خطب بها عام الفتح على درجات الكعبة، وقال:"يد المسلمين واحدة على من سواهم" وذكر الحديث
(2)
.
(1)
رواه أبو داود (2751).
(2)
رواه ابن ماجه (2685)، وأحمد 2/ 215.
10 - باب ذِمَّةُ المُسْلِمِيَن [وَجِوَارُهُمْ] وَاحِدَةٌ يَسْعَى بِهَا أدْنَاهُمْ
3172 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: خَطَبَنَا عَلِيٌّ فَقَالَ: مَا عِنْدَنَا كِتَابٌ نَقْرَؤُهُ إِلاَّ كِتَابُ اللهِ، وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ؟ فَقَالَ: فِيهَا الجِرَاحَاتُ وَأَسْنَانُ الإِبِلِ، وَالْمَدِينَةُ حَرَمٌ مَا بَيْنَ عَيْرٍ إِلَى كَذَا، فَمَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا أَوْ آوَى فِيهَا مُحْدِثًا، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ، وَمَنْ تَوَلَّى غَيْرَ مَوَالِيهِ فَعَلَيْهِ مِثْلُ ذَلِكَ، وَذِمَّةُ المُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ، فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ مِثْلُ ذَلِكَ. [انظر: 111 - مسلم:. 1370 - فتح 6/ 273]
ذكر فيه حديث علي رضي الله عنه: مَا عِنْدَنَا كِتَاث نَقْرَؤُهُ إِلَّا كِتَابُ اللهِ، وَمَا فِي هذِه الصَّحِيفَةِ، فَقَالَ: فِيهَا الجِرَاحَاتُ وَأَسْنَانُ الإبِلِ .. الحديث. سلف في الحج، في باب: ما جاء في حرم المدينة
(1)
، ويأتي في الفرائض والاعتصام
(2)
، والبخاري هنا رواه عن محمد، ثنا وكيع عن الأعمش، قال الجياني: نسبه ابن السكن: ابن سلام، وقال الكلاباذي: محمد بن مقاتل، ومحمد بن سلام، ومحمد بن نمير رووا في "الجامع" عن وكيع بن الجراح
(3)
.
ورواه في الحج عن محمد بن بشار، ثنا عبد الرحمن، ثنا سفيان، عن الأعمش
(4)
.
(1)
سلف برقم (1870).
(2)
سيأتي برقم (6755) كتاب: الفرائض، باب: إثم من تبرأ من مواليه، وبرقم (7300) كتاب: الاعتصام باب: ما يكره من التعمق والتنازع في العلم، والغلو في الدين والبدع.
(3)
"تقييد المهمل" 3/ 1018 - 1019.
(4)
رقم (1870).
وسلف هناك الكلام على الصرف والعدل واضحًا.
فصل:
معنى: (فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا): نقض عهده، يقال: أخفرته: نقضت عهده، وخفرته: أجرته، وأخفرته أيضًا: جعلت له خفيرًا.
فصل:
معنى قوله: (ذِمَّةُ المُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ) أي: من انعقدت عليه ذمة من طائفة من المسلمين واجب مراعاتها من جماعاتهم إذا كان يجمعهم إمام واحد، كما نبه عليه المهلب، فإن اختلفوا، فالدية لكل سلطان لازمة لأهل عمله، وغير لازمة للخارجين عن طاعتهم؛ لأنه عليه السلام إنما قال ذلك في وقت اجتماعهم في طاعته، ويدل على ذلك حديث أبي بصير حين كان شارط رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة وقاضاهم على المهادنة بينهم وبين المسلمين
(1)
، فلما خرج أبو بصير من طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وامتنع لم يلتزم رسول الله ذمته، ولا طولب برد جنايته، ولا لزمه غرم ما انتهكه من المال.
وقال ابن المنذر: في قوله: "يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ" أن الذمة: الأمان، يقول: أن كل من أمن أحدًا من الحربيين جاز أمانه على (جميع المسلمين)
(2)
ذميًّا كان أو شريفًا، عبدًا كان أو حرًّا، رجلاً كان أو امرأة، وليس لهم أن يحقروه.
واتفق مالك والثوري والأوزاعي والليث والشافعي وأبو ثور على جواز أمان العبد قاتل أو لم يقاتل، واحتجوا بهذا الحديث.
(1)
سلف برقم (2734) مطولًا.
(2)
من (ص 1).
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: لا يجوز أمانه إلا أن يقاتل. وقولهما خلاف مفهوم الحديث.
وأجاز مالك أمان الصبي إذا عقل الإسلام، ومنع ذلك أبو حنيفة والشافعي وجمهور الفقهاء.
واحتج الشافعي بأن الصبي لا يصح عقده، فكذلك أمانه.
وحجة مالك عموم قوله: "يجير على المسلمين أدناهم" فدخل فيه، وأيضًا فإن أمانه تطوع، وهو ممن يصح منه التطوع، ويفرض له سهمه إذا قاتل، وأما الأمان فمما اختص به من له حرمة الإسلام، فجعل لأدناهم كما جعل لأعلاهم، وعلى أن الصبي والعبد أحسن حالاً من المرأة؛ لأنها ليست من جنس من يقاتل.
وقد سلف في الباب قبله شيء من ذلك.
فصل:
وقوله: (فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا) يعني: فِيمَنْ أجاره، وهذا اللعن، وسائر لعن المسلمين إنما هو متوجه إلى الإغلاظ والترهيب عليهم عن المعاصي والإبعاد لهم من قبل مواقتعها، فإذا وقعوا فيها دعي لهم بالتوبة، يبينه حديث النعمان.
وقوله: (لَا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ) أي: في هذِه الجناية، أي: لا كفارة لها؛ لأنه لم يشرع فيها كفارة، فهي إلى أمر الله، إن شاء عذب بها وإن شاء غفرها على مذهب أهل السنة في الوعيد.
11 - باب إِذَا قَالُوا: صبَأْنَا، وَلَمْ يُحْسِنُوا أَنْ يَقُولُوا: أَسْلَمْنَا
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما: فَجَعَلَ خَالِدٌ يَقْتُلُ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ» .
وَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: إِذَا قَالَ: مَتْرَسْ. فَقَدْ آمَنَهُ، إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ الأَلْسِنَةَ كُلَّهَا. وَقَالَ: تَكَلَّمْ لَا بَأْسَ. [انظر: 3159 - فتح 6/ 274]
الشرح:
تعليق ابن عمر أسنده في المغازي، فقال: حدثني محمود، أنا عبد الرزاق: أنا معمر، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم خالدًا إلى بني جذيمة فدعاهم إلى الإسلام، فلم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، فجعلوا يقولون: صبأنا، فجعل خالد يقتل ويأسر، فلما قدمنا ذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال:"اللَّهُمَّ إني أبرأ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ" مرتين
(1)
، ويأتي في الأحكام أيضًا
(2)
، ومقصود البخاري منه لفظة: صبأنا، ولم يذكرها وكأنه أحال على أصله.
وأثر عمر أخرجه مالك في: "الموطأ" عن رجلٍ من أهل الكوفة عنه: أنه كتب إلى عامله حين كان بعثه: إنه بلغني أن رجالًا منكم يطلبون العلج حتى إذا أسند في الجبل وامتنع قال رجل: مترس - وفي رواية: "مطرس" يقول: لا تخف، فإذا أدركه قتله، وإني والذي
(1)
سيأتي برقم (4339) كتاب: المغازي، باب: بعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بني خذيمة.
(2)
سيأتي برقم (7189) كتاب: الأحكام، باب: إذا قضى الحاكم بجور، أو خلاف أهل العلم فهو رد.
نفسي بيده لا أعلم مكان أحد فعل ذلك إلا ضربت عنقه.
قال مالك: وليس على هذا العمل، في قتل المسلم بالكافر
(1)
. وعليه العمل في جواز التأمين. قاله ابن بطال
(2)
.
ورواه البيهقي من حديث الأعمش، عن أبي وائل قال: جاءنا كتاب عمرو: إذا قال الرجل للرجل: لا تخف، فقد آمنه، وإذا قال: مترس، فقد أمَّنه، فإن الله يعلم الألسنة، وفي رواية له:"وإذا قال: لا تذهل، فقد أمَّنه، فإن الله يعلم الألسنة"
(3)
.
فائدة:
(مترس) بفتح الميم والتاء وسكون الراء، كذا ضبطه الأصيلي، وضبطه غيره بفتح الراء، وضبطه أبو ذر بكسر الميم، وسكون الراء، وأهل خراسان كانوا يقولون ليحيى بن يحيى في "الموطأ": مترس
(4)
.
قال عياض: معناها في لسان العجم: لا بأس، وقال ابن الأثير: هي لفظة فارسية أي: لا تخف، وبخط الدمياطي في الأصل: مترس -بفتح الميم والتاء وسكون الراء-، وكتب في الحاشية: مترس ومترس.
فصل:
قوله: أو قال: تكلم لا بأس، هو من قول عمر، وقد أسلفناه في الجزية والموادعة قريبًا، وأخرجه ابن أبي شيبة عن مروان بن معاوية، عن حميد، عن أنس قال: حاضرنا تستر فنزل الهرمزان على حكم
(1)
"الموطأ" ص 278.
(2)
"شرح ابن بطال" 5/ 353.
(3)
"السنن الكبرى" 9/ 96.
(4)
"الموطأ" ص 278.
عمر بن الخطاب، فلما قدم عليه استعجم فقال عمر: تكلم، لا بأس عليك، فكان ذلك عهدًا وتأمينًا من عمر
(1)
.
فصل:
مقصود البخاري بالترجمة: أن المفاسد تعتبر بأدلتها كيف ما كانت الأدلة لفظية أو غيرها على وفق لغة العرب أو غيرها.
قال ابن بطال: غرض البخاري في الباب نحو ما تقدم ممن تكلم بالفارسية والرطانة، وقوله تعالى:{وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} [الروم: 22] فذكر ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تكلم فيه بألفاظ الفارسية كانت متعارفة عندهم، خاطب بها أصحابه ففهموها عنه، فالمراد من هذين البابين أن العجم إذا قالوا: صبأنا وأرادوا بذلك الإسلام، فقد حقحْوا بها دماءهم ووجب لهم الأمان
ألا ترى قول عمر: مترس، فسواء خاطبنا العجم بلغتهم أو خاطبناهم بها على معنى الأمان، فقد لزم الأمان وحرم القتل.
ولا خلاف بين العلماء أن من أمن حربيًّا بأي كلام يفهم منه الأمان فقد تم له الأمان، وأكثرهم يجعلون الإشارة بالأمان أمانًا، وهو قول مالك والشافعي وجماعة؛ لأن التأمين إنما هو معنى في النفس فيظهر تارة بالكتابة، وتارة بالإشارة، وتارة بالنطق.
ولم يفهم خالد من قوله: صبأنا، أنهم يريدون به أسلمنا، ولكن حمل اللفظة على ظاهرها، وتأولها أنها في معنى الكفر، فلذلك قتلهم.
ثم تبين أنهم أرادوا بها أسلمنا فجهلوا فقالوا: صبأنا. وإنما قالوا ذلك؛ لأن قريشًا كانت تقول لمن أسلم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: صبأ
(1)
"مصنف ابن أبي شيبة" 6/ 515 (33391).
فلان، حتى صارت هذِه اللفظة معروفة عند الكفار وعادة جارية، فقالها هؤلاء القوم، فتأولها خالد على وجهها، فعذره الشارع بتأويله ولم يُقِد منه.
وستعرف اختلاف العلماء في الحاكم إذا أخطأ في اجتهاده فقتل من لا يجب عليه القتل من ضمان ذلك في الأحكام، في باب إذا قضى القاضي بجورٍ، وسيأتي نبذة منه
(1)
.
فصل:
قال ابن حبيب في أثر عمر: إنه تشديد منه.
وذكر عن بعض العلماء أنه يجعل قيمته في المغنم.
فرع:
التأمين يصح بكل لسان عربي أو غيره كما سلف، سواء فهمه المؤمن أو لا. وكذلك إن ظن الحربي أنه آمنه وإن لم يؤمنه. قال محمد: إذا طلبوا مركبًا للعدو فقال: أرخ قلعك، فإنه أمان إن كان قبل الظفر بهم وهم على رجاء من النجاة.
فصل:
قال الخطابي: إنما نقم على خالد استعجاله؛ لأن الصبأ مقتضاه الخروج من دين إلى دين، يحتمل أن يكون خالد لم يكف عنهم؛ ظنًّا منه إنما عدلوا عن اسم الإسلام إلى صبأنا أنفة من الاستسلام والانقياد، فلم يره إقرارًا بالدين
(2)
.
(1)
"شرح ابن بطال" 5/ 352 - 353.
(2)
"أعلام الحديث" 3/ 1764 - 1765.
فصل:
لا خلاف كما قال ابن بطال أن القاضي إذا قضى بجور أو بخلاف أهل العلم فهو مردود، فإن كان على وجه الاجتهاد والتأويل كما صنع خالد فإن الإثم ساقط والضمان لازم عند عامة أهل العلم. إلا أنهم اختلفوا في ضمان ذلك. فإن كان في قتل أو جرح ففي بيت المال، وهذا قول الثوري وأبي حنيفة وأحمد وإسحاق، وقالت طائفة: هي على عاقلة الإمام أو الحاكم، وهذا قول الأوزاعي ومحمد وأبي يوسف والشافعي.
وقال ابن الماجشون: ليس على الحاكم شيء من الدية في ماله ولا على عاقلته ولا في بيت المال.
فصل:
الصابئ: من خرج من دين إلى دين، يقال: صبأ فهو صابئ وهم الصابئون، وذلك لأنهم خرجوا من اليهودية إلى النصرانية.
وقيل: إنما يقال: صبأ يصبو بغير همز فهو صابئ بالهمز. وقول عمر: ما صبوت، يدل على ترك الهمز. ويجوز أن يكون هذا على تخفيف الهمز، ذكره القزاز، وفي "المحكم": يزعمون أنهم على دين نوح عليه السلام، بكذبهم، وقبلتهم من مهب الشمال عند منتصف النهار
(1)
.
وقال عياض: ومنهم من يعبد الملائكة الدراري
(2)
.
(1)
"المحكم" 8/ 234، مادة:(صبأ).
(2)
في هامش الأصل: في "المطالع" يعبد الملائكة، ومنهم من يعبد الدراري.
قلت: وانظر: "مشارق الأنوار" 2/ 37.
12 - باب المُوَادَعَةِ وَالمُصَالَحَةِ مَعَ المُشْرِكِينَ بِالْمَالِ وَغَيْرهِ، وَإِثْمِ مَن لَمْ يَفِ بِالْعَهْدِ
وَقَوْلِهِ: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ} الآية [الأنفال: 61]. قال: {جَنَحُوا} : طلبوا.
3173 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا بِشْرٌ -هُوَ ابْنُ المُفَضَّلِ- حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ قَالَ: انْطَلَقَ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةُ بْنُ مَسْعُودِ بْنِ زَيْدٍ إِلَى خَيْبَرَ، وَهْيَ يَوْمَئِذٍ صُلْحٌ، فَتَفَرَّقَا، فَأَتَى مُحَيِّصَةُ إِلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ سَهْلٍ وَهْوَ يَتَشَحَّطُ فِي دَمٍ قَتِيلاً، فَدَفَنَهُ ثُمَّ قَدِمَ المَدِينَةَ، فَانْطَلَقَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةُ وَحُوَيِّصَةُ ابْنَا مَسْعُودٍ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَذَهَبَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَتَكَلَّمُ فَقَالَ:«كَبِّرْ كَبِّرْ» . وَهْوَ أَحْدَثُ القَوْمِ، فَسَكَتَ، فَتَكَلَّمَا، فَقَالَ:«أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ قَاتِلَكُمْ؟ " أَوْ "صَاحِبَكُمْ". قَالُوا: وَكَيْفَ نَحْلِفُ وَلَمْ نَشْهَدْ وَلَمْ نَرَ؟ قَالَ: «فَتُبْرِيكُمْ يَهُودُ بِخَمْسِينَ» . فَقَالُوا: كَيْفَ نَأْخُذُ أَيْمَانَ قَوْمٍ كُفَّارٍ؟ فَعَقَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ عِنْدِهِ. [انظر: 2702 - مسلم: 1669 - فتح 6/ 275]
ذكر فيه حديث سهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ في قصة حويصة ومحيصة.
وقد سلف في أبواب الصلح في باب: الصلح مع المشركين، ويأتي في الأدب والديات والأحكام
(1)
وأخرجه مسلم والأربعة أيضًا
(2)
، وبعده.
({جَنَحُوا}): طلبوا.
(1)
يأتي برقم (6142، 6143) باب: إكرام الكبير ويبدأ الأكبر بالكلام وبرقم (1898) باب: القسامة، وبرقم (7192) باب: كتاب الحاكم إلى عماله.
(2)
مسلم (1669) كتاب: القسامة، باب: القسامة، وأبو داود (4520)، والترمذي (1422) وابن ماجه (2677) والنسائي في "الكبرى" 3/ 483 (5988).
وقال ابن التين: مالوا. والسِّلم والسَّلم واحد وهو الصلح كما قال أبو عبيدة
(1)
- (قال أبو عمرو)
(2)
: السِّلم: الصلح. والسَّلم: الإسلام
(3)
.
ومعنى (يَتَشَحَّطُ): يضطرب في دمه، قاله الخطابي
(4)
. وقال الداودي: المتشحط: المتخضب.
وقوله: ("كَبِّرْ كَبِّرْ") فيه أدب وإرشاد إلى أن الأكبر أولى بالتقدمة في الكلام وفي الإكرام.
وقوله: ("تَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ صَاحِبَكُمْ") فيه دلالة على أن مدعي الدم يبدءون باليمين وبه قال مالك والشافعي خلافًا لأبي حنيفة
(5)
، وقد جاء في رواية:"البينة على المدعي واليمين على من أنكر"
(6)
إلا في القسامة
(7)
.
واختلف في إيجابها القود، فقال مالك بوجوبه، وخالف الشافعي، واختلف في ضابط اللوث، ومحله كتب الفروع
(8)
.
وعند الشافعي: لا بد من اشتهار العداوة على نحو ما في الحديث.
(1)
"مجاز القرآن" 1/ 250.
(2)
في الأصل: وقال عمر.
(3)
نقله عنه النحاس في "معاني القرآن" 3/ 167.
(4)
"أعلام الحديث" 2/ 1467.
(5)
"المنتقى" 7/ 55، "الوسيط" 4/ 106.
(6)
رواه الدارقطني 3/ 11 أو البيهقي 8/ 123، وابن عبد البر في "التمهيد" 23/ 204، 205 من حديث مسلم بن خالد، عن ابن جريج، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده. قال ابن عبد البر: إسناده فيه لين. ورواه الدارقطني 4/ 218 من حديث ابن جريج عن عطاء، عن أبي هريرة، وابن عدي في "الكامل" 8/ 9.
(7)
ورد بهامش الأصل: رواه الدارقطني والبيهقي من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده بإسناد (
…
) قال المؤلف: فيما قراته عليه.
(8)
"المنتقى" 7/ 54 - 55، "الوسيط" 4/ 104 - 107.
قال أبو حنيفة: ويجب على من اختط المحلة لا على السكان.
وخالفه أبو يوسف. وقول الميت لوث عند مالك خلافًا لأبي حنيفة والشافعي. وعن ابن القاسم وجماعة: القسامة ضعيفة.
فصل:
قوله: (فَعَقَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ عِنْدِهِ). قال الداودي: كانت إبل الصدقة؛ لأنهم كانوا ممن يحل لهم الصدقة. ففي رواية: خرجوا من جهد أصابهم. ويجوز أن يكون الشارع عقله من ماله من باب الائتلاف.
يقال: عقلته: أديت ديته، وعقلت عنه إذا لزمته دية فأديتها عنه. قال الأصمعي: كلمت أبا يوسف القاضي في ذلك بحضرة الرشيد فلم يفرق بين عقلته وعقلت عنه حتى فهمته.
فصل:
قال المهلب: لا بأس بالموادعة والمصالحة للمشركين بالمال إذا كان ذلك بمعنى الاستئلاف للكفار. لا إذا (كان)
(1)
الجزية؛ لأنها ذلة وصغار.
وقد قال تعالى: {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} [محمد: 35] وقد أسلفنا أنه يحتمل أن يكون عليه السلام وداه من عنده استئلافًا لليهود وطمعًا في دخولهم الإسلام، وليكف بذلك شرهم عن نفسه وعن المسلمين مع إشكال القضية بإبائة أولياء القتيل من اليمين وإبائتهم أيضًا من قبول أيمان اليهود فكان الحكم أن يكون مغلولاً، ولكن أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يوادع اليهود بالغرم عنهم؛ لأن الدليل كان متوجهًا إلى اليهود في القتل لعبد الله.
(1)
كذا بالأصل، وفي "ابن بطال": كانت.
وأراد أن يذهب ما بنفوس أوليائه من العداوة لليهود بأن غرم لهم الدية، إذ كان العرف جاريًا أن من أخذ دية قتيله فقد انتصف.
وذكر الوليد بن مسلم قال: سألت الأوزاعي عن موادعة إمام المسلمين أهل الحرب على فدية أو هدنة يؤدونها المسلمون إليهم فقال: لا يصلح ذلك إلا عن ضرورة وشغل من المسلمين عن حربهم من قتال عدوهم، أو فتنة شملت المسلمين، فإذا كان ذلك فلا بأس به.
قال الوليد: وذكرت ذلك لسعيد بن عبد العزيز فقال: قد صالحهم معاوية أيام صفين، وصالحهم عبد الملك بن مروان؛ لشغله بقتال ابن الزبير، يؤدي عبد الملك إلى طاغية الروم في كل يوم ألف دينار وإلى تراجمة الروم وأنباط الشام في كل جمعة ألف (دينار)
(1)
.
وقال الشافعي: لا يعطيهم المسلمون شيئًا بحال إلا أن يخافوا أن يصطلموا لكثرة العدو؛ لأنه من معاني الضرورات، أو يؤسر مسلم فلا يُخلَّى إلا بفدية، فلا بأس به؛ لأنه عليه السلام قد فدى رجلاً برجلين
(2)
.
وقال ابن بطال: ولم أجد لمالك وأصحابه ولا الكوفيين نصًّا في هذِه المسألة
(3)
.
وقال الأوزاعي: لا بأس أن يصالحهم الإمام على غير خراج يؤدونه إليه ولا فدية إذا كان ذلك نظرًا للمسلمين وإبقاءً عليهم.
وقد صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشًا عام الحديبية على غير خراج أدته قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا فدية.
(1)
من (ص 1).
(2)
"الوسيط" 4/ 211.
(3)
"شرح ابن بطال" 5/ 356.
13 - باب فَضْلِ الوَفَاءِ بِالْعَهْدِ
3174 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ أَخْبَرَهُ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فِي رَكْبٍ مِنْ قُرَيْشٍ كَانُوا تِجَارًا بِالشَّأْمِ فِي المُدَّةِ الَّتِي مَادَّ فِيهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَبَا سُفْيَانَ فِي كُفَّارِ قُرَيْشٍ. [انظر: 7 - مسلم: 1773 - فتح 6/ 276]
ذكر فيه حديث ابن عَبَّاسٍ، أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ أَخْبَرَهُ أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فِي رَكْبٍ مِنْ قُرَيْشٍ كَانُوا تِجَارًا بِالشَّامِ فِي المُدَّةِ التِي مَادَّ فِيهَا النبي صلى الله عليه وسلم أَبَا سُفْيَانَ فِي كُفَّارِ قُرَيْشٍ.
هذا الحديث سبق في أوائل الكتاب بطوله
(1)
.
وقد جاء في فضل ذلك وذم ضده في غير موضع من الكتاب والسنة.
وإنما أشار البخاري في هذا الحديث إلى سؤال هرقل لأبي سفيان عن النبي صلى الله عليه وسلم هل يغدر (إذ كان الغدر عند كل أمة)
(2)
مذمومًا قبيحًا، وليس هو من صفات رسل الله، فأراد أن يمتحن بذلك صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن من غدر ولم يفِ بعهد لا يجوز أن يكون نبيًّا؛ لأن الأنبياء والرسل أخبرت عن الله بفضل من وفي بعهده، وذم من غدر وخفر، ألا ترى قوله في صفة المنافق:"وإذا عاهد غدر"
(3)
، وقوله:"يرفع لكل غادر لواء يوم القيامة، فيقال: هذِه غدرة فلان"
(4)
وهذِه مبالغة في العقوبة وشدة الشهرة والفضيحة.
(1)
سبق برقم (7).
(2)
في (ص 1): إذا كان الغدر عند الله كل.
(3)
سلف برقم (34) كتاب: الإيمان، باب: علامة المنافق، ومسلم (106) كتاب: الإيمان، باب: بيان خصال المنافق.
(4)
رواه البخاري (6177) كتاب: الأدب، باب: ما يدعى الناس بآبائهم. ورواه =
14 - باب هَل يُعْفَى عَنِ الذِّمِّيِّ إِذَا سَحَرَ
؟
وَقَالَ ابن وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابن شِهَابٍ سُئِلَ: أَعَلَى مَنْ سَحَرَ مِنْ أَهْلِ العَهْدِ قَتْلٌ؟ قَالَ: بَلَغَنَا أنَّ رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ صُنِعَ لَهُ ذَلِكَ، فَلَمْ يَقْتُلْ مَنْ صَنَعَهُ، وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ.
3175 -
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ المُثَنَّى، حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا هِشَامٌ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُحِرَ، حَتَّى كَانَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ صَنَعَ شَيْئًا وَلَمْ يَصْنَعْهُ. [3268، 5763، 5765، 5766، 6063، 6391 - مسلم: 2189 - فتح 6/ 276]
وهذا ذكره ابن وهب في "جامعه".
وذكر حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُحِرَ، حَتَّى كَانَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ صَنَعَ شَيْئًا وَلَمْ يَصْنَعْهُ. وذكره في موضع آخر مطولًا.
وفيه: حتى كان ذات يوم دعا ودعا، ثم قال:"أشعرت أن الله أفتاني فيما فيه شفائي، أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجلي، فقال أحدهما للآخر: ما وجع الرجل؟ قال: مطبوب. قال ومن طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم في مشط ومشاطة وجف طلعة ذكر. قال: فأين هو؟ قال: في بئر ذروان". فقالت: هلا استخرجته؟ فقال: "أما أنا فقد شفاني الله، وخشيت أن (يثور)
(1)
ذلك على الناس شرًّا"
(2)
ثم دفنت البئر.
= مسلم (1735) كتاب: الجهاد، باب: تحريم الغدر. وهذا لفظه.
(1)
في (ص 1): يؤثر.
(2)
سيأتي برقم (5763) كتاب: الطب، باب: السحر، ورواه مسلم (2189) كتاب: السلام باب: السحر.
أما حكم الباب فلا يقتل ساحر أهل الكتاب (عند مالك لقول ابن شهاب ولكن يعاقب)
(1)
إلا أن يقتل بسحره فيقتل، أو يحدث حدثًا فيؤخذ منه بقدر ذلك، وهو قول أبي حنيفة والشافعي.
وروى ابن وهب وابن القاسم عن مالك أيضًا أنه لا يُقتل ساحر أهل العهد إلا أن يدخل بسحره ضررًا على مسلم لم يعاهد عليه، فإذا فعلوا ذلك فقد نقضوا العهد، فحل بذلك قتلهم
(2)
.
وعلى هذا القول لا حجة لابن شهاب في أنه عليه السلام لم يقتل اليهودي الذي سحره لوجوه منها: أنه قد ثبت عنه أنه كان لا ينتقم لنفسه، ولو عاقبه لكان حاكمًا لنفسه.
ومنها كما قال المهلب: أن ذلك السحر لم يضره؛ لأنه لم يفقده شيئًا من الوحي، ولا دخلت عليه داخلة في الشريعة، وإنما اعتراه شيء من التخيل والتوهم، ثم لم يتركه الله على ذلك، بل تداركه وعصمه، وأعلمه بموضع السحر وأمره باستخراجه وحل عنه، فعصمه الله من الناس ومن شرهم كما وعده، وكما دفع عنه أيضًا ضر السم بعد أن أطلعه على المكيدة فيه بآية أظهرها إليه معجزة من كلام الذراع.
وقد اعترض بعض الملحدين بحديث عائشة، وقالوا: وكيف يجوز السحر على رسول الله صلى الله عليه وسلم والسحر كفر وعمل من أعمال الشياطين، فكيف يصل ضره إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع حياطة الله له وتسديده إياه بملائكته، وصون الوحي عن الشياطين؟
وهذا اعتراض فاسد قال على جهل قائله وغباوته وعنادٍ للقرآن؛ لأن
(1)
من (ص 1).
(2)
"المنتقى" 17/ 117 - 118.
الله قال لرسوله: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)} إلى قوله: {في الْعُقَدِ} [الفلق: 1]
و (النفاثات): السواحر تنفث في العقد كما ينفث الراقي في الرقية
(1)
، فإن كانوا أنكروا ذلك؛ لأن الله لا يجعل للشيطان سبيلًا على نبيه فقد قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج: 52] يريد إذا تلا ألقى الشيطان.
وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عفريتًا تفلت عليه (ليلة)
(2)
ليقطع عليه الصلاة حتى هم أن يربطه إلى سارية من سواري المسجد، فذكر قول سليمان:{قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ} [ص: 35](فرده خاسئًا)
(3)
(4)
وليس في جواز ذلك عليه ما يدل أن ذلك يلزمه أبدًا أو يدخل عليه داخلة في شيء من حاله أو شريعته، وإنما ناله من ضر السحر ما ينال المريض من ضر الحمى والبرسام بغير سحر من الضعف عن الكلام وسوء التخييل، ثم زال ذلك عنه، وأفاق منه، وأبطل الله كيد السحر. وقد قام الإجماع على عصمته في الرسالة، فسقط هذا الاعتراض.
قلت: أخبرني عاليًا جمال الدين يوسف
(5)
الدلاصي، أنا ابن
(1)
روي ذلك عن ابن عباس والحسن وقتادة وغيرهم كما رواه الطبري في "تفسيره" 12/ 750 - 751 (38379 - 38386).
(2)
من (ص 1).
(3)
ما جاء في رواية البخاري ومسلم: (فرده الله خاسئًا).
(4)
سلف برقم (1210) كتاب: العمل في الصلاة، باب: ما يجوز من العمل في الصلاة.
(5)
ورد بهامش الأصل: قرأت "الشفا" لعياض بالقاهرة على بعض أصحاب القاضي المشار إليه، وقرأت عنه
…
عنهم عنه، وابن بامتيت
…
به بالإجازة عن الصائغ، وكذا الصائغ عن القاضي عياض فاعلمه.
بامتيت أنا ابن الصائغ، أنبأنا القاضي عياض في "الشفا"
فإن قلت: فقد جاءت الأخبار الصحيحة أنه عليه السلام سحر، وذكر حديث الباب، ثم قال: وفي رواية أخرى: حتى أنه كان يخيل إليه أنه كان يأتي النساء ولا يأتيهن. وإذا كان هذا من التباس الأمر على المسحور، فكيف حاله في ذلك؛ وكيف جاز عليه وهو معصوم؟ فاعلم أن هذا الحديث صحيح متفق عليه. وقد طعنت فيه الملحدة وتذرعت به؛ لسخف عقولها وتلبيسها على أمثالها إلى التشكيك في الشرع.
وقد نزهه الله تعالى عما يدخل في أمره لبسًا. وإنما السحر مرض من الأمراض وعارض من العلل يجوز عليه كأنواع الأمراض مما لا ينكر ولا يقدح في نبوته.
وأما ما ورد أنه كان يخيل إليه أنه فعل الشيء ولا يفعله، فليس هذا ما يدخل عليه داخله في شيء من تبليغه أو شريعته، أو يقدح في شيء من صدقه، لقيام الدليل والإجماع على عصمته من هذا. وإنما هذا مما يجوز طرؤه عليه في أمر دنياه التي لم يبعث بسببها، ولا فضل من أجلها، وهو فيها عرضة للآفات كسائر البشر، فغير بعيد أن يخيل إليه من أمورها ما لا حقيقة له، ثم ينجلي عنه كما كان، وأيضًا فقد فسر هذا الفصل الحديث الآخر من قوله: حتى يخيل إليه أنه يأتي أهله ولا يأتيهن.
وقد قال سفيان: وهذا أشد ما يكون من السحر، ولم يأت في خبر منها أنه نقل عنه في ذلك قول، بخلاف ما كان أخبر أنه فعله ولم يفعله، وإنما كانت خواطر وتخيلات.
وقد قيل: إن المراد بالحديث أنه كان يتخيل الشيء أنه فعله وما فعله، لكنه تخيل لا يعتقد صحته، فتكون اعتقاداته كلها على
السداد وأقواله على الصحة. هذا ما وقفت عليه لأئمتنا من الأجوبة عن هذا الحديث، وقد ظهر لي في الحديث تأويل أجلى وأبعد عن مطاعن ذوي الأضاليل يستفاد من نفس الحديث، وهو أن عبد الرزاق قد روى هذا الحديث عن ابن المسيب وعروة وقال فيه: سحر يهودي بني رزيق رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلوه في بئر حتى كاد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينكر بصره، ثم دله الله عز وجل على ما صنعوا فاستخرجه من البئر
(1)
.
وذكر عن عطاء الخرساني، عن يحيى بن يعمر قال: حبس رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عائشة سنة، فبينما هو نائم أتاه ملكان قعد أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه .. الحديث
(2)
.
قال عبد الرزاق: حبس رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عائشة -خاصة- سنة حتى أنكر بصره، فقد استبان لك من مضمون هذِه الروايات أن السحر إنما تسلط على ظاهره وجوارحه، لا على قلبه واعتقاده وعقله، وأنه إنما أثر في بصره وحبسه عن وطء نسائه، ويكون معنى قوله: يخيل إليه أنه يأتي أهله ولا يأتيهن. أي: يظهر له من نشاطه ومتقدم عادته القدرة على النساء، فإذا دنا منهن أصابته أخذة السحر، فلم يقدر على إتيانهن كما يعتري من أخذ واعترض، ولعله لمثل هذا أشار سفيان بقوله: وهذا أشد ما يكون من السحر، ويكون قول عائشة: إنه ليخيل إليه .. إلى آخره من باب ما اختل من بصره، كما ذكر في الحديث، فيظن أنه رأى شخصًا من بعض أزواجه أو شاهد فعلًا من غيره، ولكن على ما يخيل إليه لما أصابه في بصره وضعف نظره، لا لشيء
(1)
رواه عبد الرزاق 11/ 14 (19764).
(2)
المصدر السابق (19765).
طرأ عليه في مَيْزِه، وإذا كان [هذا]
(1)
، لم يكن فيما ذكر من إصابة السحر له، وتأثيره فيه ما يدخل لبسًا ولا يجد المعترض الملحد أنسًا
(2)
.
فصل:
قوله: ("مطبوب") فيما قدمناه أي: مسحور، يقال منه: طب الرجل، والاسم الطب بالكسر
(3)
، وفي الحديث: فلعل طبًّا أصابه، ثم نشره بـ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1)}
(4)
[الناس: 1].
والمشاطة: ما سقط من الشعر عند المشط.
فصل:
ذكر ابن قتيبة في "مختلف الحديث": أن عليًّا استخرج السحر، فكلما حل عقدة وجد عليه السلام خفة، فلما انتهى قام كأنما نشط من عقال
(5)
.
فصل:
قولها في رواية: أفلا أحرقته. تعني: السحر أو لبيدًا.
وفيه: حجة لمالك، ومن قال بقوله أن الساحر يقتل إذا عمل بسحره
(6)
، وإنما تركه؛ لأن اليهود كانوا في عهد منه وذمة.
قلت: أو تركه لما سلف في المنافقين.
(1)
غير موجودة بالأصل، والمثبت من "الشفا".
(2)
"الشفا" 2/ 180 - 183.
(3)
"الصحاح" 1/ 170 مادة (طبب).
(4)
ورد بهامش الأصل ما نصه: لعله سقط: {بِرَبِّ الْفَلَقِ} و {قُلْ أَعُوذُ} .
(5)
"تأويل مختلف الحديث" ص 260.
(6)
"المنتقى" 7/ 117.
خاتمة:
قال ابن التين: قول ابن شهاب هذا خلاف مذهب الفقهاء أنه يقتل وإن كان مسلمًا، فكيف إذا كان من أهل الكتاب؟! واختلف هل تقبل توبته إذا قال: تبت؟
فقال مالك: لا تقبل. وقال الشافعي: تقبل
(1)
.
وفيه: أن السحر له حقيقة خلافًا لمن نفاه، قال الداودي: وليس في الحديث أن الذي سحره كان من أهل العهد.
(1)
المصدر السابق.
15 - باب مَا يُحْذَرُ مِنَ الغَدْرِ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ} إلى قوله: {حَكِيمٌ} الآية [الأنفال: 62].
3176 -
حَدَّثَنَا الحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا الوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ العَلَاءِ بْنِ زَبْرٍ قَالَ: سَمِعْتُ بُسْرَ بْنَ عُبَيْدِ اللهِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا إِدْرِيسَ قَالَ: سَمِعْتُ عَوْفَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَهْوَ فِي قُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ فَقَالَ:«اعْدُدْ سِتًّا بَيْنَ يَدَىِ السَّاعَةِ، مَوْتِى، ثُمَّ فَتْحُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ مُوتَانٌ يَأْخُذُ فِيكُمْ كَقُعَاصِ الغَنَمِ، ثُمَّ اسْتِفَاضَةُ الْمَالِ حَتَّى يُعْطَى الرَّجُلُ مِائَةَ دِينَارٍ فَيَظَلُّ سَاخِطًا، ثُمَّ فِتْنَةٌ لَا يَبْقَى بَيْتٌ مِنَ العَرَبِ إِلاَّ دَخَلَتْهُ، ثُمَّ هُدْنَةٌ تَكُونُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ بَنِي الأَصْفَرِ فَيَغْدِرُونَ، فَيَأْتُونَكُمْ تَحْتَ ثَمَانِينَ غَايَةً، تَحْتَ كُلِّ غَايَةٍ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا» . [فتح 6/ 277]
ثم ذكر فيه حديث عَوْفَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَهْوَ فِي قُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ، فَقَالَ:"اعْدُدْ سِتًّا بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ: مَوْتي، ثُمَّ فَتْحُ بَيْتِ المَقْدِسِ، ثُمَّ مُوتَانٌ يَأْخُذُ فِيكُمْ كَقُعَاصِ الغَنَمِ، ثُمَّ اسْتِفَاضَةُ المَالِ حَتَّى يُعْطَى الرَّجُلُ مِائَةَ دِينَارٍ فَيَظَلُّ سَاخِطًا، ثُمَّ فِتْنَةٌ لَا يَبْقَى بَيْتٌ مِنَ العَرَبِ إِلَّا دَخَلَتْهُ، ثُمَّ هُدْنَةٌ تَكُونُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ بَنِي الأَصْفَرِ فَيَغْدِرُونَ، فَيَأتُونَكُمْ تَحْتَ ثَمَانِينَ غَايَةً، تَحْتَ كُلِّ غَايَةٍ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا".
الشرح:
هذا الحديث أخرجه أبو داود وابن ماجه أيضًا
(1)
وفي إسناده ابن زَبْر. بفتح الزاى وبُسر بن عبيد الله بضم الباء وإسكان السين المهملة، ورواه الطبراني
(2)
بإدخال زيد بن واقد بين ابن زَبر وبُسْر، لكن رواه
(1)
أبو داود (500)، وابن ماجه (4042).
(2)
"المعجم الكبير" 18/ 40 (70).
أبو نعيم في "مستخرجه" عن الطبراني بإسقاطه، وكذا الإسماعيلي.
و {حَسْبُكَ الله} [الأنفال: 62] أي: كافيك
(1)
.
وجميعًا: يقع على الجماعة وعلى الاثنين والواحد، قاله الداودي.
والموتان -بضم الميم وسكون الواو- قال القزاز: هو الموت، وضبطه غيره بفتح الميم أيضًا: موتان الفؤاد إذا كان بليدًا. قال ابن الجوزي: ويغلط بعض أصحاب الحديث فيه فيقول: موتان موات بفتح الميم والواو، وحكى اللحياني في "نوادره": وقع في المال موتات وموات.
قال ابن درستويه: وهما كثرة الموت والوباء.
قال عياض: وضم الميم لغة بني تميم، وغيرهم يفتحها وهو اسم للطاعون، ووقع لابن السكن:(مواتتان)
(2)
ولا وجه له هنا
(3)
.
و"قُعَاس الغَنَمِ" -بقاف مضمومة، ثم عين مهملة، ثم ألف، ثم صاد مهملة- شيء يأخذها في رءوسها تسيل منه أنوفها، لا يلبسها أن تموت منه، ومنه أخذ الإقعاص وهو: القتل على المكان، وكذلك الدواب، والقعص: موتها بسرعة، وقد قعصت الدابة فهي مقعوصة.
قال في "الموعب": هو داء يأخذ في الصدر كأنه يكسر العنق.
وقال بعضهم: هو بالسين من القعس، وهو: انتصاب الصلب وانحناؤه نحو الصدر
(4)
.
(1)
انظر: "تفسير الطبري" 6/ 279، والنحاس في "معاني القرآن" 3/ 167.
(2)
في (ص 1): هو بيان.
(3)
"مشارق الأنوار" 1/ 390 مادة (موت).
(4)
"الصحاح" 3/ 964 (قعس).
والهُدْنَةٌ: أصلها السكون. يقال: هدن أهدن، فسمي الصلح على ترك القتال هدنة ومهادنة؛ لأنه سكون عن القتال بعد التحرك فيه.
والغَاية: الراية كما سيأتي. قال الجواليقي: غاية وراية واحد؛ لأنها غاية المتبع إذا وقفت وقف وإذا مشت تبعها. ورواه بعضهم: غاية -بباء موحدة- وهي: الأجمة، شبه كثرة الرماح بالأجمة، ذكره القاسم بن سلام
(1)
قال الخطابي: هي (الغَيْضَة)
(2)
واستعيرت للرايات ترفع لرؤساء الجيوش، وشبه ما يشرع معها من الرماح بالغابة
(3)
، وحمله على ما ذكره من الحساب مع مائة ألف وستون ألفًا.
فصل:
في الحديث علامات النبوة وأن الغدر من أشراط الساعة، وفي الآية دلالة عصمة الشارع من مكر الخديعة طول أيامه وليس ذلك لغيره؛ لقوله {وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67] وقام الإجماع على عصمته في الرسالة، وقد عصم من مكر الناس وغدرهم له، وهذِه العلامات الذي أنذر بها قد ظهر كثير منها، والفتنة لم تزل في زمن عثمان -أعاذنا الله منها- وقد دعا عليه السلام أن لا يجعل بأس أمته بينهم" فمنعها
(4)
، فلم يزل الهرج إلى يوم القيامة.
(1)
"غريب الحديث" 1/ 255.
(2)
في الأصل: (الغضية) والصحيح ما أثبتناه من "أعلام الحديث"، وغيضة جمعها غياض، وهي الشجر الملتف انظر "النهاية في غريب الحديث" 3/ 402.
(3)
"أعلام الحديث" 2/ 1469.
(4)
جزء من حديث: "سألت ربي ثلاث خصال
…
" وسبق تخريجه وقد رواه الطبراني 1/ 107 (179) من حديث علي، وقال الهيثمي في "المجمع" 7/ 222: فيه أبو حذيفة الثعلب ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات.
فصل:
قوله: (وهو في قبة من أدم). جاء في أبي داود: قال عوف: يا رسول الله أدخل كلي قال: "كلك" قال عثمان بن أبي العاتكة، إنما قال: أدخل كلي من صغر القبة
(1)
، وفي رواية عن عوف: وفسطاط المسلمين يومئذ في أرض يقال لها: الغوطة بمدينة يقال لها: دمشق
(2)
.
وفي أبي داود أيضًا من حديث ذي مخبر بيان سبب غدرهم، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ستصالحون الروم صلحًا امنًا، ثم تغزون أنتم وقد غزوا، فتنصرون وتغنمون، ثم تنصرفون حتى تنزلوا مرج ذي تلول، فيرفع رجل من (أهل)
(3)
الصليبِ الصليبَ، فيقول: غلب الصليب، فيغضب رجل من المسلمين فيقوم إليه فيدفعه، فعند ذلك تغدر الروم، ويجتمعون للملحمة فيأتون تحت ثمانين (راية)
(4)
تحت كل راية اثنا عشر ألفًا، فيثور المسلمون إلى أسلحتهم فيكرم الله تلك العصابة
بالشهادة"
(5)
وعن ابن بسر مرفوعًا: "بين الملحمة وفتح المدينة ست سنين، ويخرج الدجال في السابعة".
قال أبو داود: وهو أصح
(6)
، يعني: من حديث معاذ مرفوعًا:
(1)
أبو داود (5001) وقال المنذري في "مختصر السنن" 7/ 286 (4836): عثمان فيه مقال.
(2)
رواه أحمد 6/ 25، والبزار في "مسنده" 7/ 176 (2742) والطبراني 8/ 42 (72).
(3)
في الأصل: أصحاب، والمثبت من مصدر التخريج.
(4)
في الأصل: غاية، والمثبت من مصدر التخريج.
(5)
أبو داود (4292) وصححه الألباني في "صحيح أبي داود".
(6)
أبو داود (4296) وقال المنذري في "المختصر" 6/ 165: فيه بقية بن الوليد وفيه مقال، وضعفه الألباني في "المشكاة"(5426).
"الملحمة الكبرى وفتح القسطنطينية وخروج الدجال في سبعة أشهر"
(1)
.
ولابن دحية من حديث حذيفة مرفوعًا: "إن الله تعالى يرسل ملك الروم، وهو الخامس من آل هرقل يقال له: ضمارة، فيرغب إلى المهدي في الصلح، وذلك لظهور المسلمين على المشركين، فيصالحه إلى سبعة أعوام، فيضع عليهم الجزية عن يد وهم صاغرون، ولا يبقي لرومي حرمة، ويكسر لهم الصليب، ثم يرجع المسلمون إلى دمشق، فإذا هم كذلك إذا برجل من الروم قد التفت فرأى أبناء الروم وبناتهم في القيوفى، فرفع الصليب ورفع صوته، وقال: ألا من كان يعبد الصليب فلينصره، فيقوم إليه رجل من المسلمين فيكسر الصليب، ويقول: الله أغلب وأعز، فحينئذ يغدرون، وهم أولى بالغدر، يجتمع عند ذلك ملوك الروم خفية، فيأتون إلى بلاد المسلمين وهم على غفلة مقيمون على الصلح، فيأتون إلى أنطاكية في اثني عشر ألف راية، تحت كل راية اثنا عشر ألفًا، فعند ذلك يبعث المهدي إلى أهل الشام والحجاز واليمن والكوفة والبصرة والعراق يستنصر بهم، فيبعث إليه أهل الشرق أنه قد جاءنا عدو من خراسان شغلنا عنك، فيأتي إليه بعض أهل الكوفة والبصرة، فيخرج بهم إلى دمشق، وقد مكث الروم فيها أربعين يومًا يفسدون ويقتلون، فينزل الله صبره على المسلمين" الحديث.
(1)
أبو داود (4295) ورواه الترمذي (2238)، وقال: حسن لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وابن ماجه (4092) وقال المنذري في "المختصر" 6/ 164: في إسناده أبو بكر بن أبي مريم لا يحتج بحديثه، وضعفه الألباني في ضعيف ابن ماجه (890).
وعند ابن مرجان بإسناد فيه ضعف عن حذيفة مرفوعًا: "إن دون أن تضع الحرب أوزارها خلالًا ستًّا: أولها: موتي، ثم فتح بيت المقدس، ثم فئتان دعواهما واحدة يقتل بعضهم بعضًا، ثم يفيض المال حتى يعطى الرجل مائة دينار فيسخطها، وموت كقعاص الغنم، وغلام من بني الأصفر ينبت في اليوم كنبات الشهر، وفي الشهر كنبات السنة" قال عليه السلام: "فيرغب فيه قومه فيملكونه ويقولون: نرجو أن يرد بك علينا ملكنا" الحديث.
16 - باب كَيْفَ يُنْبَذُ العهد إِلَى أَهْلِ العَهْدِ
؟
وَقَوْلُهُ تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال: 58]
3177 -
حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنَا حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: بَعَثَنِي أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه فِيمَنْ يُؤَذِّنُ يَوْمَ النَّحْرِ بِمِنًى: لَا يَحُجُّ بَعْدَ العَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ. وَيَوْمُ الْحَجِّ الأَكْبَرِ يَوْمُ النَّحْرِ، وَإِنَّمَا قِيلَ: الأَكْبَرُ مِنْ أَجْلِ قَوْلِ النَّاسِ الحَجُّ الأَصْغَرُ. فَنَبَذَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى النَّاسِ فِي ذَلِكَ العَامِ، فَلَمْ يَحُجَّ عَامَ حَجَّةِ الوَدَاعِ الذِي حَجَّ فِيهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُشْرِكٌ. [انظر: 369 - مسلم: 1347 - فتح 6/ 279]
ثم ساق حديث أَبَي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: بَعَثَنِي أَبُو بَكْرٍ فِيمَنْ يُؤَذِّنُ يَوْمَ النَّحْرِ بِمِنًى: أن لَا يَحُجُّ بَعْدَ العَامِ مُشْرِكٌ.
الحديث. سلف في الحج وفي آخره: فَنبذَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى النَّاسِ فِي ذَلِكَ العَامِ، فَلَمْ يَحُجَّ مُشْرِكٌ عَامَ حَجَّةِ الوَدَاعِ.
ويأتي في المغازي والتفسير
(1)
وذكره أبو مسعود وابن عساكر في مسند أبي بكر، وخلف في مسند أبي هريرة
(2)
.
ومعنى الآية: فانبذ إليهم عهدهم الذي عاهدتهم عليه.
وقال الأزهري: معناه: إذا هادنت قومًا فعلمت بهم النقض فلا ترفع بهم سابقًا إلى النقض، حتى تلقي إليهم أنك نقضت العهد، فيكونوا في
(1)
سلف برقم (1622) باب: لا يطوف بالبيت عريان ولا يحج مشرك، ويأتي برقم (4363) باب: حج أبي بكر بالناس، وبرقم (4655) باب: قوله: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ}
(2)
ورد بهامش الأصل ما نصه: والمزي في "أطرافه" في المسندين جميعًا.
علم النقض مستوين، ثم أوقع بهم
(1)
.
وقوله: (يَوْمُ الحَجِّ الأَكْبَرِ يَوْمُ النَّحْرِ)، هو قول مالك وجماعة من الفقهاء وقيل: يوم عرفة.
وقوله: (وإنما قيل الأكبر لأجل قول الناس: الحج الأصغر) قال الداودي: يعني العمرة. وقيل: إنما قيل له الأكبر؛ لأن الناس كانوا في الجاهلية يقفون بعرفة، وتقف قريش بالمزدلفة؛ لأنهم كانوا يقولون: لا نخرج من الحرم، فإذا كان صلاة الفجر يوم النحر وليلة النحر اجتمعوا كلهم بالمزدلفة، فقيل له: الحج الأكبر؛ لاجتماع الأكبر فيه.
قال ابن بطال: حجة الأول ما قصه أبو هريرة ونادى به في الموسم، عن الصديق، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوم الحج يوم النحر، وأما جهة النظر فيوم النحر يعظمه أهل الحج وسائر المسلمين بالتلبية. وفيه صلاة العيد والنحر بالتكبير، ألا ترى قوله:"أي يوم هذا؟ " فجعل له حرمة على سائر الأيام كحرمة الشهر على سائر المشهور، والبلد على سائر البلاد
(2)
.
فصل:
قام الإجماع على أن للإمام نبذ عهد من يخاف خيانته وغدره بالحرب بعد أن يعلمه بذلك، وقيل: إن هذِه الآية نزلت في قريظة؛ لأنهم ظاهروا المشركين على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقضوا العهد
(3)
.
وقال الكسائي: السواء: العدل. وقال ابن عباس: المثل. وقيل: أعلمهم أنك قد حاربتهم حتى يصيروا مثلك في العلم.
(1)
"تهذيب اللغة" 4/ 3494 مادة (نبذ).
(2)
"شرح ابن بطال" 5/ 361.
(3)
انظر: "تفسير الطبري" 6/ 272 (16236) عن مجاهد.
قال المهلب: وإنما خشي عليه السلام من المشركين عند الطواف بالبيت خيانتهم، ولم يأمن مكرهم، فأراد الله تعالى أن يطهر البيت من نجاستهم " لقوله:{إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28] وأراد تنظيف البيت ممن كان يطوف عريانًا.
وفيه: دليل أن حجة الصديق أبي بكر بالناس كانت حجة الإسلام؛ - لأنه وقف بعرفة ووقف في ذي الحجة، والوقوف بعرفة بنص قوله تعالى:{ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199] يعني: طوائف العرب، وقد اتفق أهل السير أن العرب كانت تفترق فرقتين، فرقة تقف بعرفة، وكانت قريش تقف بالمشعر الحرام، وتقول: نحن الحمس ولا نعظم غير الحرم، فإذا كان يوم النحر اجتمعت القبائل كلها بمنى، وهو يوم الاجتماع الأكبر، وقد أسلفنا اجتماعهم بالمزدلفة أيضًا.
17 - باب إِثْمِ مَنْ عَاهَدَ ثُمَّ غَدَرَ
وَقَوْلِهِ تعالى: {الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56)} [الأنفال: 56].
3178 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَرْبَعُ خِلَالٍ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا: مَنْ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا» . [انظر: 34 - مسلم: 58 - فتح 6/ 279]
3179 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: مَا كَتَبْنَا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلاَّ الْقُرْآنَ، وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«المَدِينَةُ حَرَامٌ مَا بَيْنَ عَائِرٍ إِلَى كَذَا، فَمَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا، أَوْ آوَى مُحْدِثًا، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يُقْبَلُ مِنْهُ عَدْلٌ وَلَا صَرْفٌ، وَذِمَّةُ المُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ. فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ، وَمَنْ وَالَى قَوْمًا بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ» . [انظر: 111 - مسلم: 1370 - فتح 6/ 279]
3180 -
قَالَ أَبُو مُوسَى: حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ القَاسِمِ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا لَمْ تَجْتَبُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا؟ فَقِيلَ لَهُ: وَكَيْفَ تَرَى ذَلِكَ كَائِنًا يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قَالَ: إِيْ وَالَّذِي نَفْسُ أَبِي هُرَيْرَةَ بِيَدِهِ عَنْ قَوْلِ الصَّادِقِ المَصْدُوقِ. قَالُوا: عَمَّ ذَاكَ؟ قَالَ: تُنْتَهَكُ ذِمَّةُ اللهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، فَيَشُدُّ الله عز وجل قُلُوبَ أَهْلِ الذِّمَّةِ، فَيَمْنَعُونَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ. [فتح 6/ 280]
فيه حديث عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو: "أَرْبَعُ خِلَالٍ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا". وسلف في الإيمان
(1)
.
وحديث عَلِيٍّ: "الْمَدِينَةُ حَرَم مَا بَيْنَ عَائِرٍ .. ". إلى آخره، سلف في الحج.
وقَالَ أَبُو مُوسَى: ثَنَا هَاشِمُ بْنُ القَاسِمِ، ثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا لَمْ تَجْتموا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا؟ فَقِيلَ لَهُ: وَكَيْفَ تَرى ذَلِكَ كَائِنًا قَالَ: إِيْ وَالَّذِي نَفْسُ أَبِي هُرَيْرَةَ بِيَدِهِ عَنْ قَوْلِ الصَّادِقِ المَصْدُوقِ. قَالُوا: عَمَّ ذَاكَ؟ قَالَ: تُنْتَهَكُ ذِمَّةُ اللهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، فَيَشُدُّ اللهُ قُلُوبَ أَهْلِ الذّمَّةِ، فَيَمْنَعُونَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ.
وهذا التعليق كذلك في أكثر نسخ الصحيح، وقاله أيضًا أصحاب الأطراف والإسماعيلي والحميدي في "جمعه"
(2)
وأبو نعيم.
وفي بعض النسخ: حدثنا أبو موسى. وهو من أفراده.
فصل:
(الخِلَال): الخصال جمع خلة، وفي فلان خلة حسنة أو قبيحة. قال المهلب: ويحتمل أن تكون هذِه الخلال إذا كانت في رجل اشتملت على معظم أحواله فسمي بالأغلب مما يظهر منه توبيخًا له وتقبيحًا بحاله، لا على أنه منافق كافر، وفي السنة نظائر لهذا كثيرة من الحكم بالأغلب.
ومعنى: "إِذَا خَاصَمَ فَجَرَ": مال عن الحق
(3)
.
فصل:
قوله في حديث علي: ("يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ") قال الداودي يعني:
(1)
سلف برقم (34) باب: علامة المنافق.
(2)
"الجمع بين الصحيحين" 3/ 261.
(3)
"الصحاح" 2/ 778 مادة (فجر).
والأمر في ذلك إلى الإمام، وهذا قول مالك.
وقوله: ("وَمَنْ وَالَى قَوْمًا بغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيهِ") قال الداودي: قال: في غير هذا الموضع: "من تولى"
(1)
قال: وأراه هو المحفوظ؛ لأنه نهى عن بيع الولاء وهبته.
فصل:
قوله في حديث أبي هريرة: (تنتهك ذمة الله وذمة رسوله). أي (تتأول مما لا يحل)
(2)
ويجار عليهم.
فصل:
والغدر حرام بالمؤمن وأهل الذمة، وفاعله مستحق لاسم النفاق واللعنة المذكورة من الله وملائكته والناس أجمعين. ودل حديث أبي هريرة على أن الغدر بالذمة ممتنع أيضًا؛ ألا ترى ما أوصى به عليه السلام من الذمة والوفاء بها لأهلها من أجل أنها معاش المسلمين ورزق عيالهم، ثم أعلمهم بهذا الحديث أنهم متى ظلموا منعوا ما في أيديهم واشتدوا وحاربوا وأعادوا الفتنة وخلعوا ربقة الذمة، فلم يجد المسلمون درهمًا، فضاقت أحوالهم وساءت.
وفيه: علامة من علامات النبوة.
فصل:
ولما ذكر الحميدي هذا الحديث في أفراد البخاري قال: قد أخرج مسلم معناه بلفظ آخر وجب تفريقه وإلا فهو في المعنى متفق عليه
(3)
.
(1)
سبق برقم (1870) كتاب: فضائل المدينة، باب: حرم المدينة.
(2)
في (ص 1): يتناول ما لا يحل.
(3)
"الجمع بين الصحيحين" 3/ 261.
ثم ذكر حديث زهير بن معاوية، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة مرفوعًا:"منعت العراق درهمها وقفيزها، ومنعت الشام مدها ودينارها، ومنعت مصر أردبها ودينارها، وعدتم من حيث بدأتم" وذكر أبو داود هذِه اللفظة الأخيرة ثم قال: قاله زهير ثلاث مرات
(1)
.
وفي معنى "منعت العراق" إلى آخره قولان:
أحدهما: أن أهلها أسلموا فسقطت عنهم الجزية، وأنكره ابن الجوزي وقال: هذا إخبار عن اجتماع الكل في الإسلام قال: وليس هو بشيء؛ واستدل بحديث: "كيف أنتم إذا لم تجتبوا دينارًا ولا درهمًا" وأشهرهما أن معناه أن العجم والروم مستولون على البلاد في آخر الزمان، فيمنعون حصول ذلك للمسلمين
(2)
.
ورواية مسلم عن جابر مبينة: "يوشك أهل العراق ألا يجيء إليهم قفيز ولا درهم" قلنا: من أين ذاك؟ قال: "من قبل العجم يمنعون ذلك"
(3)
.
(1)
أبو داود (3035) وقد رواه مسلم (2896) كتاب: الفتن، باب: لا تقوم الساعة حتى يحسر الفرات عن جبل من ذهب.
والقفيز: مكيال أهل العراق، وهو ثمانية مكاكيك، والمدي: مكيال أهل الشام، والإردب لأهل مصر. "النهاية" 1/ 104، 4/ 90.
وقوله: "وعدتم من حيث بدأتم" هو بمعنى الحديث الآخر: "بدأ الإسلام غريبًا وسيعود كما بدأ".
(2)
ذكره النووي في "شرح مسلم" 18/ 20.
(3)
مسلم (2913) كتاب: الفتن، باب: لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل .. وذكر النووي في "شرحه على صحيح مسلم" 18/ 20 أقوالًا في سبب المنع فقال: لأنهم يرتدون في آخر الزمان فيمنعون الزكاة، وقيل: إن الكفار الذين عليهم الجزية تقوى شوكتهم.
18 - باب
3181 -
حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، أَخْبَرَنَا أَبُو حَمْزَةَ قَالَ: سَمِعْتُ الأَعْمَشَ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا وَائِلٍ: شَهِدْتَ صِفِّينَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَسَمِعْتُ سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ يَقُولُ اتَّهِمُوا رَأْيَكُمْ، رَأَيْتُنِي يَوْمَ أَبِي جَنْدَلٍ وَلَوْ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَرُدَّ أَمْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَرَدَدْتُهُ، وَمَا وَضَعْنَا أَسْيَافَنَا عَلَى عَوَاتِقِنَا لأَمْرٍ يُفْظِعُنَا إِلاَّ أَسْهَلْنَ بِنَا إِلَى أَمْرٍ، نَعْرِفُهُ غَيْرِ أَمْرِنَا هَذَا. [4189، 4844، 7308 - مسلم: 1785 - فتح 6/ 281]
3182 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ، عَنْ أَبِيهِ، حَدَّثَنَا حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو وَائِلٍ قَالَ: كُنَّا بِصِفِّينَ، فَقَامَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ اتَّهِمُوا أَنْفُسَكُمْ فَإِنَّا كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الحُدَيْبِيَةِ، وَلَوْ نَرَى قِتَالاً لَقَاتَلْنَا، فَجَاءَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَسْنَا عَلَى الحَقِّ وَهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ؟ فَقَالَ:«بَلَى» . فَقَالَ: أَلَيْسَ قَتْلَانَا فِي الجَنَّةِ وَقَتْلَاهُمْ فِي النَّارِ؟ قَالَ: «بَلَى» . قَالَ: فَعَلَى مَا نُعْطِى الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا؟ أَنَرْجِعُ وَلَمَّا يَحْكُمِ الله بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ؟ فَقَالَ: «ابْنَ الخَطَّابِ، إِنِّي رَسُولُ اللهِ، وَلَنْ يُضَيِّعَنِي الله أَبَدًا» . فَانْطَلَقَ عُمَرُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِنَّهُ رَسُولُ اللهِ، وَلَنْ يُضَيِّعَهُ الله أَبَدًا. فَنَزَلَتْ سُورَةُ الْفَتْحِ، فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى عُمَرَ إِلَى آخِرِهَا. فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَوَفَتْحٌ هُوَ؟ قَالَ:«نَعَمْ» . [انظر: 3181 - مسلم: 1785 - فتح 6/ 281]
3183 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا حَاتِمٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَسْمَاءَ ابْنَةِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما قَالَتْ: قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وَهْيَ مُشْرِكَةٌ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ، إِذْ عَاهَدُوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَمُدَّتِهِمْ، مَعَ أَبِيهَا، فَاسْتَفْتَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أُمِّي قَدِمَتْ عَلَيَّ، وَهْيَ رَاغِبَةٌ، أَفَأَصِلُهَا قَالَ:«نَعَمْ، صِلِيهَا» . [انظر: 2620 - مسلم: 1003 - فتح 6/ 281]
حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، ثنا أَبُو حَمْزَةَ -أي: بالحاء والزاي- سَمِعْتُ الأَعْمَشَ، سَأَلْتُ أَبَا وَائِلٍ: أشَهِدْتَ صِفِّينَ؟ قَالَ: نَعَمْ، وسمعت
سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ يَقُولُ: اتَّهِمُوا رَأْيَكُمْ.
ثم ساقه من حديث أبي وائل وفيه: اتهموا أنفسكم .. الحديث.
ويأتي في التفسير في سورة الفتح
(1)
.
وحديث أَسْمَاءَ ابنةِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ: قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وَهْيَ مُشْرِكَةٌ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ. وفي آخره: "نَعَمْ، صِلِيهَا". وسلف في الهبة.
وغرض البخاري بهذا الباب أن يعرفك أن الصبر على المفاتن والصلة للقاطع أقطع للفتنة وأحمد عاقبةً، فكأنه قال: باب الصبر على أذى الفاتنين وعاقبة الصابرين، ألا ترى أنه عليه السلام أخذ يوم الحديبية في قتال المشركين بالصبر لهم والوقوع تحت الدنية التي ظنها عمر في الدين، وكان ذلك الصبر واللين الذي فهمه الشارع عن ربه في (بروك)
(2)
الناقة على التوجه أفضل عاقبة في الدنيا والآخرة من القتال لهم وفتح مكة على ذلك الحنق الذي نال المسلمين من تحكمهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان عاقبة صبره ولينه لهم أن أدخلهم الله في الإسلام، وأوجب لهم أجرهم في الآخرة، ألا ترى قوله:"لأن يهدي الله بك رجلاً واحدًا خير لك من حمر النعم"
(3)
فكيف بأهل مكة أجمعين، وهم الذين كانوا أئمة العرب وسادة الناس، وبدخولهم دخلت العرب في دين الله أفواجًا.
ففيه: أن صلة المقاطع أنجع في سياسة النفوس وأحمد عاقبة. وعلى مثل هذا المعنى دل حديث أسماء في صلة أمها وهي مشركة.
(1)
سيأتي برقم (4844).
(2)
في (ص 1) نزول.
(3)
جزء من حديث "لأعطين الراية غدًا
…
" وقد سلف برقم (2942) كتاب: الجهاد، باب: دعاء النبي الناس إلى الإسلام.
وفي حديث سهل بن حنيف الدلالة البينة أنه عليه السلام كان يدير كثيرًا من حروبه بحسب ما يحضره من الرأي مما الأغلب عنده أنه من الصواب، وإن كان الله قد كان عهد إليه في جواز الصلح في مثل الحال التي صالحهم عليها عهدًا، فمن ذلك الرأي كان، لولا ذلك لما كان عمر وسهل بن حنيف ومن كان ينكر الصلح ويرى قتال القوم أصلح في التدبير والرأي لينكروا ذلك ويؤثروا آراءهم بالقتال على تركه لو كان عندهم أنه عن أمر الله تعالى نبيه، ولكنه كان عندهم أنه رأي من
النبي صلى الله عليه وسلم، وإبقاء على من معه من الصحابة؛ لقلة عددهم وكثرة عدد المشركين.
وكان عمر والذين يرون قتال القوم بحسن بصائرهم وجميل نياتهم في الإسلام، إذ كانوا أهل الحق والمشركون أهل الباطل، يرون أن الحق لا يعلوه باطل، لاسيما عددٌ الله ورسوله وليهم فأيدهم، فعظم لذلك عليهم الانحطاط إلى الصلح، ورأوه وهنًا في الدين.
وكان عليه السلام أعلم مما تؤدي إليه عاقبة ذلك الصلح منهم مما هو أجدى على الإسلام وأهله نفعًا، وأن الله أوحى إليه الأمر بترك قتال القوم؛ لأن ذلك أسد في الرأي.
وفيه: الدلالة الواضحة على أن لأهل العلم الاجتهاد في النوازل في دينهم مما لا نص فيه من كتاب ولا سنة، وذلك أن الذين أنكروا الصلح يوم أبي جندل أنكروه اجتهادًا منهم، والشارع بحضرتهم يعلم ذلك من أمرهم، فلم ينههم عن القول بما أدى إليه اجتهادهم، وإن كان قد عرفهم خطأ رأيهم وصواب رأيه. ولو كان الاجتهاد خطأ كان حريًّا عليه السلام أن يتقدم إليهم بالنهي عن القول عما أداه إليه اجتهادهم أشد النهي.
وفيه أيضًا: أن المجتهد عند نفسه مما يدرك بالاستنباط لا تبعة عليه فيما بينه وبين الله (خطأ)
(1)
إن كان منه في اجتهاده إذا كان اجتهاده على أجل، وكان من أهله؛ لأنه عليه السلام لم يؤثَّم عمر ومن أنكر الصلح، والمعاني التي جرت بينهم في كتاب الصلح مما كان خلافًا لرأي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كانوا في ذلك مذنبين لأمرهم بالتوبة، ولكنهم كانوا على اجتهادهم مأجورين، ولو كان الصواب فيما رآه عليه السلام، وذلك نظير قوله عليه السلام:"إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر"
(2)
وسيأتي زيادة فيه في كتاب الاعتصام إن شاء الله تعالى.
وقول عمر: (أليس قتلانا في الجنة) إلى آخر هذِه المراجعة هي التي قال فيها عمر في حديث مالك: نزرت رسول الله صلى الله عليه وسلم[ثلاث مرات]
(3)
(كل ذلك)
(4)
لا يجيبك
(5)
.
فصل:
قال المهلب: قوله: (اتَّهِمُوا رَأيَكُمْ). يعني: في هذا القتال يعظ الفريقين؛ لأن كل فريق منهما يقاتل على رأي يراه واجتهاد يجتهده، فقال لهم سهل: اتهموا رأيكم، وإنما تقاتلون في الإسلام إخوانكم برأي رأيتموه، فلو كان الرأي يقضى به لقضيت برد أبي جندل برد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية حين قاضى أهل مكة ليرد إليهم من فرَّ عنهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسلمين، فخرج أبو جندل يستغيث يجر
(1)
من (ص 1).
(2)
سيأتي برقم (7352) باب: أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ.
(3)
من "اليونينية" 5/ 126.
(4)
من (ص 1).
(5)
سيأتي برقم (4177) كتاب: المغازي، باب غزوة الحديبية.
قيوده، وكان قد عذب على الإسلام، فقال سهيل والد أبي جندل: هذا يا محمد أول ما أقاضيك عليه. فرد إليه أبا جندل وهو ينادي: أتردونني إلى المشركين (وأنا منكم)
(1)
(وترون)
(2)
ما لقيته من العذاب في الله.
وقام سهيل إلى ابنه بحجر فكسر فمه، فغارت نفوس المسلمين يومئذ، وقال عمر: ألسنا على الحق.
وكذلك قال سهل: ولو أستطيع أن أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لرددته.
فصل:
وقوله: (وَضَعْنَا سُيَوفَنَا) يعني: ما جردناها في الله لأمر فظيع علينا عظيم إلا أسهلت بنا سيوفنا وأفضت بنا إلى السهل من أمرنا من غير هذا الأمر. يعني: أمر الفتنة التي وقعت بين المسلمين في صدر الإسلام، فإنها مشكلة لم تتبين السيوف فيها الحقيقة، بل حلت المصيبة بقتل المسلمين، فنزع السيف أولى من سله في الفتنة
(3)
.
فصل:
قوله: (لأَمْرٍ يُفْظِعُنَا). قال ابن فارس فظع وأفظع لغتان
(4)
، ومعناه لأمر شديد
(5)
. والحديبية: بئر، وفيها التخفيف والتشديد كما سلف
(6)
.
(1)
من (ص 1).
(2)
في الأصول: ويروى، والمثبت ما يقتضيه السياق.
(3)
"شرح ابن بطال" 5/ 363 - 364.
(4)
ورد بهامش الأصل ما نصه: الذي قاله ابن فارس: في اللازم لا في المتعدي، وهو هنا متعدٍّ فلا يجوز فيه إلا الرباعي، فاعلمه، والله أعلم.
(5)
"مجمل اللغة" 2/ 723 مادة: (فظع).
(6)
"معجم البلدان" 2/ 229 - 230.
وأنكر أبو جعفر النحاس التشديد، وقال: لم يقل به أحد من أهل اللغة
(1)
.
فصل:
قول أسماء: قدمت أمي مع أبيها، قال الزبير: هو الحارث بن مدرك بن عبيد بن عمر بن (مخزوم)
(2)
.
(1)
"معاني القرآن" 6/ 493.
(2)
في (ص 1): مجذوم.
19 - باب المُصَالَحَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أَوْ وَقْتٍ مَعْلُومٍ
3184 -
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ حَكِيمٍ، حَدَّثَنَا شُرَيْحُ بْنُ مَسْلَمَةَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنِي البَرَاءُ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَعْتَمِرَ أَرْسَلَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ يَسْتَأْذِنُهُمْ لِيَدْخُلَ مَكَّةَ، فَاشْتَرَطُوا عَلَيْهِ أَنْ لَا يُقِيمَ بِهَا إِلاَّ ثَلَاثَ لَيَالٍ، وَلَا يَدْخُلَهَا إِلاَّ بِجُلُبَّانِ السِّلَاحِ، وَلَا يَدْعُوَ مِنْهُمْ أَحَدًا، قَالَ: فَأَخَذَ يَكْتُبُ الشَّرْطَ بَيْنَهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَكَتَبَ هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ. فَقَالُوا: لَوْ عَلِمْنَا أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ لَمْ نَمْنَعْكَ وَلَبَايَعْنَاكَ، وَلَكِنِ اكْتُبْ هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ. فَقَالَ:«أَنَا وَاللهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ وَأَنَا وَاللهِ رَسُولُ اللهِ» . قَالَ: وَكَانَ لَا يَكْتُبُ قَالَ: فَقَالَ لِعَلِيٍّ: «امْحُ رَسُولَ اللهِ» . فَقَالَ عَلِيٌّ: وَاللهِ لَا أَمْحَاهُ أَبَدًا. قَالَ: «فَأَرِنِيهِ» . قَالَ: فَأَرَاهُ إِيَّاهُ، فَمَحَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ، فَلَمَّا دَخَلَ وَمَضَى الأَيَّامُ أَتَوْا عَلِيًّا فَقَالُوا: مُرْ صَاحِبَكَ فَلْيَرْتَحِلْ. فَذَكَرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «نَعَمْ» ثُمَّ ارْتَحَلَ. [انظر: 1781 - مسلم: 1783 - فتح 6/ 282]
ذكر فيه حديث البَرَاءِ أَنه صلى الله عليه وسلم لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَعْتَمِرَ أَرْسَلَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ يَسْتَأْذِنُهُمْ .. الحديث.
وسلف في الصلح أطول منه
(1)
. وليس ما سقناه في أكثر الروايات، إنما مضى على أن يعتمر، فإن صده أحد قاتله فبركت ناقته .. الحديث. فأتاه عروة بن مسعود، ثم رجل من كنانة، ثم مكرز، ثم سهيل كما سلف، نبه عليه ابن التين.
(1)
سلف برقم (2699) باب: كيف يكتب هذا ما صالح فلان بن فلان.
وقوله: (فاشترطوا عليه ألا يقيم بها إلا ثلاث ليال) هو ما ترجم له، والمراد (بأيامها)
(1)
وإنما قاضاهم على ذلك؛ لأنها ليست بمقام، وهي داخلة في حكم السفر وقصر الصلاة فيها.
وفيه: الوفاء بالشرط والمطالبة مما وقع عليه العقود كما سلف في موضعه.
(1)
في (ص 1): بإبائها.
20 - باب المُوَادَعَةِ من غَيْرِ وَقْتٍ، وقوله عليه السلام: "أُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمُ الله بِهِ
"
هذا الحديث سلف. وليس في أمر المهادنة حد عند أهل العلم لا يجوز غيره، وإنما ذلك على حسب الحاجة، والاجتهاد في ذلك (إلى الإمام)
(1)
وأهل الرأي.
(1)
من (ص 1).
31 -
باب طَرْحِ جِيَفِ المُشْرِكِيَن فِي البِئْرِ وَلَا يُؤخَذُ لَها ثَمَنٌ
3185 -
حَدَّثَنَا عَبْدَانُ بْنُ عُثْمَانَ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَاجِدٌ وَحَوْلَهُ نَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِذْ جَاءَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ بِسَلَى جَزُورٍ، فَقَذَفَهُ عَلَى ظَهْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَرْفَعْ رَأْسَهُ حَتَّى جَاءَتْ فَاطِمَةُ عليها السلام فَأَخَذَتْ مِنْ ظَهْرِهِ، وَدَعَتْ عَلَى مَنْ صَنَعَ ذَلِكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«اللَّهُمَّ عَلَيْكَ المَلأَ مِنْ قُرَيْشٍ، اللَّهُمَّ عَلَيْكَ أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ، وَعُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَعُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ، وَأُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ -أَوْ أُبَيَّ بْنَ خَلَفٍ» . فَلَقَدْ رَأَيْتُهُمْ قُتِلُوا يَوْمَ بَدْرٍ، فَأُلْقُوا فِي بِئْرٍ، غَيْرَ أُمَيَّةَ -أَوْ أُبَيٍّ- فَإِنَّهُ كَانَ رَجُلاً ضَخْمًا، فَلَمَّا جَرُّوهُ تَقَطَّعَتْ أَوْصَالُهُ قَبْلَ أَنْ يُلْقَى فِي البِئْرِ. [انظر: 240 - مسلم: 1794 - فتح 6/ 282]
ذكر فيه حديث عبد الله بن مسعود السالف في الطهارة بفوائده.
وفي طرح جيفهم في البئر دلالة على جواز المثلة بهم إذا ماتوا، فإنهم جرروا أمية بن خلف -أو أبيًّا- كما في البخاري، والصحيح أمية.
وأما أبي فقتله النبي صلى الله عليه وسلم بيده يوم أحد.
حتى تقطعت أوصاله، وهذا يدل على أن نهيه عن المثلة إنما هو في الأحياء، قاله ابن بطال، قال: والبئر التي ألقوا فيها يحتمل أن تكون للمشركين، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم إفسادها عليهم أو لا يكون لأحد عليها ملك، فكانت معطلة
(1)
.
وقوله: (وَلَا يُؤْخَذُ لَها ثَمَنٌ) أي: لا يجوز أخذ الفداء فيها من
(1)
"شرح ابن بطال" 5/ 368.
المشركين، إذ كان أصحاب القليب رؤساء مشركي مكة، ولو مكن أهلهم من إخراجهم من البئر ودفنهم لبذلوا في ذلك كثير المال. وإنما لا يجوز أخذ الثمن فيها؛ لأنها ميتة لا يجوز تملكها ولا أخذ عوض عنها.
وقد حرم الشارع ثمنها وثمن الأصنام في حديث جابر
(1)
.
وفي الترمذي من حديث ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن هشيم، عن ابن عباس: أن المشركين أرادوا أن يشتروا جسد رجل من المشركين فأبى عليه السلام أن يبيعهم إياه. قال: وقد رواه أيضًا الحجاج بن أرطأة، عن الحكم.
قال أحمد: لا يحتج بحديث ابن أبي ليلى. وقال البخاري: هو صدوق، ولكن لا نعرف صحيح حديثه من سقيمه.
قال الترمذي: إنما يهم في الإسناد. وقال الثوري: فقهاؤنا: ابن أبي ليلى وابن شبرمة
(2)
.
وذكر (ابن إسحاق)
(3)
قال: لما كان يوم الخندق اقتحم نوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزومي، فتورط فيه فقتل، فغلب المسلمون على جسده، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيعهم جسده، فقال:"لا حاجة لنا بجسده ولا ثمنهم" فخلى بينهم وبينه.
قال ابن هشام: أعطوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في جسده عشرة آلاف درهم فيما بلغنا عن الزهري
(4)
.
(1)
سلف برقم (2236) كتاب: البيوع، باب: بيع الميتة والأصنام.
(2)
الترمذي (1715).
(3)
من (ص 1).
(4)
"السيرة النبوية" لابن هشام 3/ 274.
فصل:
فيه: جواز ستر عورات المشركين وطرحهم في الآبار المعطلة، وهو من باب ستر الأذى ومواراة السوءة والعورة الظاهرة.
وفيه: مواراة جيفة كل ميت من بني آدم عن العيون ما وجد السبيل إلى ذلك ولو كافرًا؛ لأمره عليه السلام أن يُجعلوا في قليب بدر، ولم يتركهم مطرحين بالعراء، فالحق الاستنان به فيمن أصابه في معركة الحرب أو غيرها من المشركين، فيوارون جيفته إن لم يكن لهم مانع من ذلك ولا شيء يعجلهم عنه من خوف كثرة عدو.
وإذا كان ذلك من سننه في مشركي أهل الحرب، فالذمي أولى إذا مات ولا أحد من أوليائه وأهل بيته بحضرته، وحضرة أهل الإسلام أولى أن تكون السنة فيهم سنته في أهل بدر في أن يواروا جيفته ويدفنوه.
وقد أمر الشارع عليًّا في أبيه أبي طالب إذ مات فقال: "اذهب فواره"
(1)
فإن لم يفعلوا ذلك لشاغل أو مانع لهم من ذلك لم أرهم حرجين بترك ذلك؛ لأن أكثر مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم التي كان فيها القتال لم يذكر عنه من ذلك ما ذكر عنه يوم بدر.
(1)
رواه أبو داود (3214)، والنسائي 4/ 79، وفي "الكبرى" 1/ 107 (195)، 1/ 647 (2133)، 5/ 151 (8534)، وأحمد 1/ 97، 103، 129، 131.
والبزار 2/ 207 (592)، وعبد الرزاق 6/ 39 (9936)، وابن أبي شيبة 2/ 470 (11840)، وأبو داود الطيالسي 1/ 113، 114 (122، 124)، وأبو يعلى 1/ 334 (423)، 1/ 335 (424)، والطبراني في "الأوسط" 6/ 251 (6322)، والبيهقي 1/ 304، 3/ 398. من طرقٍ عن أبي إسحاق، عن ناجية بن كعب، وعن السدي، عن أبي عبد الرحمن السلمي، كلاهما عن علي بن أبي طالب.
وقد صححه الألباني في "السلسلة الصحيحة"(161).
فصل:
قوله: (إِذْ جَاءَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ بِسَلَى جَزُورٍ، فقذفه على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ساجد). عقبة هذا قتل يوم بدر صبرًا وحده.
قال: أقتل من بين هؤلاء؟ قال: "نعم" قال: بم؟ قال: "بافترائك على الله وكفرك" قال: فمن للصبية؟ قال: "النار"
(1)
. ولم يكن من أنفس قريش وإنما كان ملصقًا فيهم، وكان من أشد الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله الداودي: وتعقبه ابن التين فقال: ظاهر قوله عليه السلام: "عليك الملأ من قريش" أنه من أشرافهم؛ لأن الملأ: الأشراف، إلا أن يريد أكثر من ذكر
(2)
.
(1)
رواه عبد الرزاق 5/ 355 (9731).
(2)
ورد في هامش الأصل: قوله: يوم بدر. فيه نظر، إنما حمل إلى مضيق الصفراء وقتل صبرًا، وهذا بعد الوقعة بلا شك.
22 - باب إِثْمِ الغَادِرِ لِلْبِرِّ وَالْفَاجِرِ
3186، 3187 - حَدَّثَنَا أَبُو الوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سُلَيْمَانَ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ.
وَعَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" قَالَ أَحَدُهُمَا: يُنْصَبُ وَقَالَ الآخَرُ: "يُرَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُعْرَفُ بِهِ". [مسلم: 1736، 1737 - فتح 6/ 283]
3188 -
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يُنْصَبُ لِغَدْرَتِهِ» . [6177، 6178، 6966، 7111 - مسلم: 1735 - فتح 6/ 283]
3189 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: «لَا هِجْرَةَ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا» . وَقَالَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: «إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ الله يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، فَهْوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ القِتَالُ فِيهِ لأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَمْ يَحِلَّ لِي إِلاَّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، فَهْوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَا يُعْضَدُ شَوْكُهُ، وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، وَلَا يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهُ إِلاَّ مَنْ عَرَّفَهَا، وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهُ» . فَقَالَ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِلاَّ الإِذْخِرَ، فَإِنَّهُ لِقَيْنِهِمْ وَلِبُيُوتِهِمْ. قَالَ:«إِلاَّ الإِذْخِرَ» . [انظر: 1349 - مسلم: 1353 - فتح 6/ 283]
حَدَّثنَا أَبُو الوَلِيدِ، ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سُلَيْمَانَ الأَعْمَش، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ.
وَعَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لِكُل غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ القِيَامَةِ" قَالَ أَحَدُهُمَا: "يُنْصَبُ" وَقَالَ الآخَرُ: "يُرى يَوْمَ القِيَامَةِ يُعْرَفُ بِهِ".
القائل: (وَعَنْ ثَابِتٍ): هو شعبة، وقد اتفقا عليه من حديث شعبة، عن ثابت، عن أنس
(1)
. ومن حديث الأعمش عن أبي وائل، عن عبد الله بن مسعود
(2)
.
ثم ساق حديث نَافِعٍ، عَنِ ابن عُمَرَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يُنْصَبُ لِغَدْرَتِهِ". وقد مر.
ثم ساق حديث ابن عَبَّاسٍ: "لَا هِجْرَةَ، ولكن جِهَادٌ وَنِيَّةٌ"، بطوله. وقد سلف في الحج
(3)
.
إذا عرفت ذلك: فالشارع أخبر بأن عقوبة الغادر يوم القيامة أن يرفع له لواء لتعرفه الناس بغدرته فينظرون منه بعين المعصية، وهذِه عقوبة من نوع ما، قال تعالى في عقوبة الكذابين على الله:{وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ} [هود: 18].
فصل:
حديث: "لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ" ذكره البخاري من حديث ثلاثة من الصحابة: عبد الله، وأنس، وابن عمر. وأخرجه الترمذي من حديث أبي سعيد، وقال: حسن
(4)
، وابن عساكر من حديث علي مرفوعًا:"إن لكل غادر لواء يوم القيامة، ومن نكث بيعته لقي الله عز وجل أجذم"
(5)
فهؤلاء خمسة من الصحابة رووه.
(1)
رواه مسلم (1737) كتاب: الحج، باب: تحريم الغدر.
(2)
رواه مسلم (1736).
(3)
برقم (1587) باب: فضل الحرم.
(4)
الترمذي (1581).
(5)
"تاريخ دمشق" 18/ 87، مختصرًا.
فصل:
ووجه مطابقة الترجمة للحديث عموم: "لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ" يدخل فيه من غدر من بر أو فاجر.
فالغدر حرام لجميع الناس برهم وفاجرهم؛ لأن الغدر ظلم، وظلم الفاجر حرام كظلم البر التقي.
ووجه مطابقتها حديث ابن عباس أن الشارع نص على أن مكة -شرفها الله- اختصت بالحرمة إلا في الساعة المستثناة، وليس المراد حرمة قتل المؤمن البر فيها، إذ كل (تبعة)
(1)
كذلك، فالذي اختصت به حرمة قتل الفاجر المستأهل للقتل، فإذا استقر أن الفاجر قد حرم قتله؛ لعهد الله الذي خصها به، فإذا خص أحد فاجرًا بعهد في غيرها لزم نفوذ العهد له بثبوت الحرمة في حقه، فيقوى عموم الحديث في الغادر بالبر والفاجر، نبه عليه ابن المنير
(2)
. وجهه -والله أعلم- أن محارم الله عهوده إلى عباده، فمن انتهك شيئًا لم يف مما عاهد الله عليه، ومن لم يف فهو من الغادرين.
وأيضًا فالشارع لما فتح مكة منَّ على أهلها كلهم مؤمنهم ومنافقهم، ومعلوم أنه كان فيهم منافقون، ثم أخبر أن مكة حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، وأنه لا يحل قتال أحد فيها، وإذا كان كذلك فلا يجوز الغدر ببر منهم ولا فاجر، إذ شمل جميعهم أمانه وعفوه عنهم.
فصل:
قال القرطبي: هذا خطاب منه عليه السلام للعرب بنحو ما كانت تفعل، وذلك أنهم يرفعون للوفاء راية بيضاء، وللغدر راية سوداء؛ ليعظموا
(1)
في (ص 1): بيعة.
(2)
"المتواري" ص 200.
الأول، ويذموا الثاني. قال: وقد شاهدنا هذا عادة مستمرة إلى اليوم
(1)
قلت: ومنه قول الشاعر
(2)
:
أسمي ويحك هل سمعت بغدرة
…
نصب اللواء بها لنا في مجمع
فمقتضى هذا الحديث أن الغادر يفعل به ذلك؛ ليشتهر بالخيانة والغدر فيذمه أهل الموقف- كما سلف. ولا يبعد أن يكون الوفي بالعهد يرفع له لواء يعرف به وفاؤه وبره فيمدحه أهل الموقف.
فصل:
اللواء لا يمسكها إلا صاحب جيش الحرب ويكون الناس تبعًا له، ذكره النووي
(3)
.
قال: فمعنى: "لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ" أي: علامة يشتهر بها في الناس؛ لأن موضع اللواء شهرة مكان الرئيس، لكن ذكر الأصبهاني أن عمر (سئل)
(4)
: من أشعر العرب؟ فقال: زهير. فقيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "امرؤ القيس صاحب لواء الشعراء"
(5)
فقال عمر: اللواء لا يكون (إلا مع الأمير)
(6)
.
(1)
"المفهم" 3/ 520.
(2)
هو قطبة بن محصن بن عبد العزى، ومقل جدًّا.
(3)
"مسلم بشرح النووي" 12/ 43.
(4)
في الأصل: (ذكر)، والمثبت من (ص 1).
(5)
رواه أحمد 2/ 228 وابن عدي في "الكامل" 5/ 135 والبزار كما في "كشف الأستار"(2091) وابن حبان في "المجروحين" 3/ 150، والخطيب في "تاريخه" 9/ 370، وفي "شرف أصحاب الحديث" ص 101 - 102.
وقال الهيثمي في "المجمع" 8/ 119: في إسناده أبو الجهيم شيخ هشيم بن بشير، ولم أعرفه، وبقية رجاله رجال الصحيح.
(6)
في (ص 1): (لا يكون مع اثنين).
قال: والغَادِر: هو الذي يواعد على أمر ولا يفي به. يقال: غدر يغِدر؛ بكسر الدال في المضارع
(1)
.
فصل:
في الحديث بيان تحريم الغدر كما سلف لا سيما من صاحب الولاية العامة؛ لأن غدره يتعدى ضرره إلى خلق كثير.
وقيل: لأنه غير مضطر إلى الغدر لقدرته على الوفاء، كما في الحديث في تعظيم كذب الملوك.
والمشهور أن هذا الحديث وارد في ذم الإمام الغادر، إما لمن عاهده من المحاربين أو لرعيته إذ لم يقم (عليهم)
(2)
ولم يحظهم، فمن فعل ذلك فقد غدر بعهده أو يكون نهي للرعية عن الغدر بالإمام.
قال: وقد مال أكثر العلماء إلى أنه لا يقاتل مع الأمير الغادر بخلاف الخائن والفاسق.
وذهب بعضهم إلى الجهاد معه، والقولان في مذهب مالك.
فصل:
دعاء الناس بإمامهم في الموقف، تقدم أظنه في الجنائز. (آخر الجزية والموادعة)
(3)
.
(1)
"الصحاح" 2/ 766، و"مجمل اللغة" 2/ 692 مادة (غدر).
(2)
من (ص 1).
(3)
من (ص 1).