المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌84 - باب صَوْمِ الْمَرْأَةِ بِإِذْنِ زَوْجِهَا تَطَوُّعًا 5192 - حَدَّثَنَا - التوضيح لشرح الجامع الصحيح - جـ ٢٥

[ابن الملقن]

فهرس الكتاب

‌84 - باب صَوْمِ الْمَرْأَةِ بِإِذْنِ زَوْجِهَا تَطَوُّعًا

5192 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «لَا تَصُومُ الْمَرْأَةُ وَبَعْلُهَا شَاهِدٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ». [انظر: 2066 - مسلم: 1026 - فتح 9/ 293].

ذكر فيه حديث معمر، عن همام بن منبه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا تصوم المرأة وبعلها شاهد إلا بإذنه".

هذا الحديث أخرجه مسلم أيضًا، وفي لفظ:"لا يحل" مكان: "لا تصوم" ويأتي

(1)

، ولأبي داود:"لا تصومن امرأة يومًا سوى شهر رمضان، وزوجها شاهد إلا بإذنه" وحسنه الترمذي، وصححه ابن حبان، واللفظ له

(2)

، وهو طبق ما ترجم له، ولابن الجوزي في "حدائقه" من حديث ليث، عن عطاء، عن ابن عباس: سألت امرأة النبي صلى الله عليه وسلم ما حق الرجل على امرأته؟ قال: "لا تصوم يومًا تطوعًا إلا بإذنه"

(3)

. مع أن

(1)

سيأتي برقم (5195) باب: لا تأذن المرأة في بيت زوجها لأحد إلا بإذنه.

(2)

أبو داود (2458)، والترمذي (782) وابن حبان 8/ 339 (3573)، ورواه أيضًا ابن ماجه (1761).

(3)

رواه أبو يعلى كما في "إتحاف الخيرة" 4/ 77 (3198)، و"المطالب العالية" 8/ 332 (1664) مطولًا من هذا الطريق. وليث هو ابن أبي سليم، قال الحافظ في "التقريب" (5685): صدوق اختلط جدًّا ولم يتميز حديثه فترك. اهـ.

ورواه البيهقي 7/ 292 - 293 من طريق ليث عن مجاهد عن ابن عباس مرفوعًا. ورواه مسدد كما في "المطالب" 8/ 334 (1665)، والبزار كما في "الكشف"(1464)، وأبو يعلى في "المسند" 4/ 340 - 341 (2455).

قال الهيثمي في "المجمع" 4/ 306 - 307: فيه حسين بن قيس المعروف بحنش وهو ضعيف وقد وثقه حصين بن نمير وبقية رجاله ثقات اهـ.

وضعفه البوصيري في "إتحاف الخيرة" 4/ 75 (3196)، والألباني في "الضعيفة" بعد حديث (3515).

ص: 9

حديث الباب يؤخذ منه أيضًا؛ فإن قوله: "وَبَعْلُهَا شَاهِدٌ"(يفهمه)

(1)

إذ لو كان فرضًا لصاماه، ولا يقال: يحتمل أن يكون زوجها مريضًا أو قدم من سفر؛ لبعده.

وقوله: ("لَا تَصُومُ"). قال القرطبي: صوابه: لا تصم؛ لأنه مجزوم بالأمر، وكذا قال ابن التين؛ لأنه نهي، والنهي يجزم الفعل، فيلتقي ساكنان فتحذف الواو. قلت: وفي مسلم: "لا تصم المرأة" الحديث

(2)

، وفي أبي داود: سبب هذا الحديث -من طريق أبي سعيد الخدري- جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن عنده، فقالت: يا رسول الله، إن زوجي صفوان بن المعطل يضربني إذا صليت، ويفطرني إذا صمت .. الحديث، فقال:"لا تصوم امرأة إلا بإذن زوجها"

(3)

، وفي لفظ للزبير في "الفكاهة":"لا تصوم تطوعًا إلا بإذنه".

قال البزار: هذا الحديث كلامه منكر، ونكرته أن الأعمش لم يقل: حدثنا أبو صالح. (فأحسب أنه)

(4)

أخذه عن رجل غير ثقة، وأمسك عن ذكر الرجل، فصار الحديث ظاهر إسناده حسنًا، وكلامه منكر لما فيه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يمدح هذا الرجل ويذكره بخير، وليس للحديث عندي أصل

(5)

.

(1)

كلمة غير واضحة في الأصول، ولعل ما أثبتناه هو الصواب.

(2)

مسلم (1026).

(3)

أبو داود (2459) وقال الحافظ في "الإصابة" 2/ 191 (4089): إسناده صحيح. اهـ .. وكذا صححه الألباني في "الإرواء"(2004) ونقل تصحيحه عن غير واحد، فلينظر.

(4)

في الأصول: أما خشيت. والمثبت ما يقتضيه السياق، ويطابق ما في مصادر التخريج.

(5)

قول البزار هذا، نقله العظيم آبادي عن المنذري عنه وقد رد العظيم آبادي استنكار البزار؛ مستدلًا بمتابعات لأبي صالح والأعمش وجرير.

انظر "عون المعبود" 7/ 131. =

ص: 10

وفيما ذكره نظر، ولعل نكارته من قوله: إنها تصوم وأنا شاب. فلا (أصبر)

(1)

، فإنه قد سلف في قصة الإفك أنه لا يأتي النساء

(2)

-أعني: صفوان بن المعطل- فإنه معارض

(3)

. وأما قوله فيه: إنه لا يصلي صلاة الفجر حتى تطلع الشمس. فلعل المراد قرب طلوعها؛ لأن صلاته عليه السلام كانت بغلس، فصلاته بالنسبة إليه كالطلوع.

فصل:

قد ذكرنا رواية أبي داود وغيره أنها في التطوع، ولم يظفر به المهلب، وإنما قال: هو المراد بحديث البخاري عند العلماء كما ترجم له؛ لإجماعهم على أن الزوج ليس له أن يمنعها من أداء الفرائض اللازمة

(4)

.

= تنبيه: قال محققا "مختصر سنن أبي داود" أحمد شاكر ومحمد حامد الفقي معقبين على هذا الحديث: ليس في النسخة الخطية عن المنذري كلام في هذا الحديث. ثم ساقا ما في "عون المعبود" من قول المنذري عن البزار ثم قالا: وكذا بهامش نسخة المنذري قول البزار فقط. انظر "مختصر السنن" 3/ 337.

(1)

في الأصول: (يصبر). والمثبت هو الموافق لما في مصدر التخريج.

(2)

سلف برقم (4141) من حديث عائشة، وفيه أن صفوان قال: ما كشفت من كنف أنثى قط.

(3)

ذكر ابن القيم في "تهذيبه" 3/ 336 المطبوع مع "مختصر المنذري" أن هناك من أعل حديث أبي سعيد المتقدم بتعارضه مع حديث عائشة في حادثة الإفك -كما صنع المصنف هنا- وتعقب ذلك القول ابن القيم قائلًا: وفي هذا نظر، فلعله تزوج بعد ذلك. اهـ.

ثم وجدت أن الحافظ ذكر في "الإصابة" 2/ 191 ترجمة صفوان، أن البخاري أعل حديث أبي سعيد بمثل هذا أيضًا، ثم أجاب الحافظ عنه بمثل جواب ابن القيم.

(4)

انظر: "شرح ابن بطال" 7/ 316.

ص: 11

وقوله: ("لَا تَصُومُ إِلَّا بِإِذْنِهِ") محمول على الندب لا على الإلزام، وإنما هو من حسن المعاشرة، وخوف المخالفة التي هي سبب البغضة، ولها أن تفعل من غير الفرائض ما لا يضره ولا يمنعه من واجباته بغير إذنه، وليس له أن يعطل عليها شيئًا من طاعة الله إذا دخلت فيه بغير إذنه. قلت: ظاهره التحريم، ويؤيده رواية البخاري الآتية في باب لا تأذن في بيته. "لا يحل"

(1)

.

ومراعاة حق الزوج واجبة، وله تحليلها من حج وعمرة مطوعين لم يأذن فيه، وفي الفرض قولان: أظهرهما كذلك.

قال

(2)

: وفيه حجة لمالك ومن وافقه في أن من أفطر في صيام التطوع عامدًا عليه القضاء؛ لأنه لو كان للرجل أن يفسد عليها صومها بجماع ما احتاجت إلى إذنه، ولو كان مباحًا كان إذنه لا معنى له. وهو قول أبي حنيفة وأبي ثور، خلافًا للشافعى وأحمد وإسحاق، حيث قالوا: لا قضاء عليه

(3)

.

وفيه: أن حقوق الزوج آكد على المرأة من التطوع بالخير.

واختلف العلماء في قضاء رمضان على قولين:

أحدهما: ليس لها ذلك بل يؤخر إلى شعبان.

وثانيهما: لها، وحديث عائشة رضي الله عنها يدل له، معللة بالشغل برسول الله صلى الله عليه وسلم

(4)

.

(1)

سيأتي برقم (5195).

(2)

أي: المهلب.

(3)

انظر: "الاستذكار" 10/ 202 - 203.

(4)

رواه مسلم (1146).

ص: 12

‌85 - باب إِذَا بَاتَتِ الْمَرْأَةُ مُهَاجِرَةً فِرَاشَ زَوْجِهَا

5193 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِذَا دَعَا الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ إِلَى فِرَاشِهِ فَأَبَتْ أَنْ تَجِيءَ لَعَنَتْهَا الْمَلَائِكَةُ حَتَّى تُصْبِحَ» . [انظر: 3237 - مسلم: 1436 - فتح 9/ 293].

5194 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ زُرَارَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا بَاتَتِ الْمَرْأَةُ مُهَاجِرَةً فِرَاشَ زَوْجِهَا لَعَنَتْهَا الْمَلَائِكَةُ حَتَّى تَرْجِعَ» . [انظر: 3237 - مسلم: 1436 - فتح 9/ 294].

ذكر فيه حديث أبي هريرة رضي الله عنه السالف في بدء الخلق عن النبي صلى الله عليه وسلم "إِذَا دَعَا الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ إلى فِرَاشِهِ فَأَبَتْ أَنْ تَجِيءَ لَعَنَتْهَا المَلَائِكَةُ حَتَّى تُصْبحَ".

وحديثه أيضًا: "إِذَا بَاتَتِ المَرْأة مُهَاجِرَةً فِرَاشَ زَوْجِهَا لَعَنَتْهَا المَلَائِكَةُ حَتَّى تَرْجِعَ". وأخرجه مسلم أيضًا.

الشرح:

في الأول ابن أبي عدي، وهو محمد بن أبي عدي، إبراهيم أبو عمرو.

وفيه: سليمان، وهو الأعمش عن أبي حازم وهو سلمان، ورواه في الثاني عن أبي هريرة رضي الله عنه زرارة بن أوفى أبو حاجب العامري الحرشي قاضي البصرة، مات وهو ساجد سنة ست أو ثمان ومائة. وفي لفظ:"ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشه فتأبى عليه، إلا كان الذي في السماء ساخطًا عليها حتى يرضى عنها"

(1)

، وهو يوجب أن منع الحقوق

(1)

رواه مسلم (1436/ 121).

ص: 13

كلها مالًا وبدنًا مما يوجب سخط الرب جل جلاله، إلا أن يتغمدها بعفوه، فالزوج إنما بذل العوض عن الاستمتاع، فإذا منعت فقد ظلمته، والظالم ملعون، قال تعالى:{أَلَا لَعْنَةُ اللهِ على الظَّالِمِينَ} [هود: 18].

وفيه: جواز لعن العاصي المسلم إذا كان على وجه الإرهاب له؛ لئلا يواقع الفعل، فإذا واقعه يدعا له بالتوبة والهداية.

وفيه: أن الملائكة تدعو على أهل المعاصي ما داموا في المعصية، وذلك يدل أنهم يدعون لأهل الطاعة ما داموا فيها.

فصل:

جاء نحو ما ذكره البخاري أحاديث:

منها: حديث جابر رفعه: "ثلاثة لا يقبل الله لهم صلاة، ولا يرفع لهم إلى السماء حسنة: العبد الآبق حتى يرجع إلى مواليه، والمرأة الساخط عليها زوجها حتى يرضى، والسكران حتى يصحو". أخرجه ابن عدي

(1)

، وأخرجه الترمذي من حديث أنس: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة: امرأة باتت وزوجها عليها ساخط .. الحديث

(2)

، وإسناده ضعيف، وحديث أبي أمامة مرفوعًا:"لا تجاوز صلاتهم آذانهم: امرأة باتت وزوجها عليها ساخط .. " الحديث. ثم قال حديث حسن غريب

(3)

.

ومنها: حديث العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المسوفة والمعلة، أما المسوفة فهي

(1)

"الكامل في الضعفاء" 4/ 180.

(2)

الترمذي (358)، وقال: حديث أنس لا يصح؛ لأنه قد روي هذا الحديث عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل. اهـ.

(3)

الترمذي (360).

ص: 14

التي إذا أرادها زوجها قالت: سوف وسوف، والمعلة -وفي لفظ (المفسلة)

(1)

- هي التي إذا أرادها زوجها قالت: إني حائض، وليست بحائض

(2)

. أخرجه ابن الجوزي في كتاب "النساء" من حديث يحيى بن العلاء، عن العلاء، به، والطبراني في كتاب "العشرة"

(3)

ويحيى هذا ضعيف، وأخرجه ابن عدي بلفظ:"إذا أراد أحدكم امرأته فلا تمنعه نفسها وإن كانت على رأس تنور أو ظهر قتب"

(4)

.

ومنها: حديث أم سلمة رفعته: "أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راضٍ دخلت الجنة". أخرجه الترمذي وقال: حسن غريب

(5)

.

ومنها: حديث الزبير بن عدي، عن أنس يرفعه:"إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وأطاعت زوجها، وحفظت فرجها دخلت الجنة"

(6)

. أخرجه ابن الجوزي له أيضًا، وله من حديث أيوب بن عتبة، ومحمد بن جابر -عند ابن عدي- عن قيس بن طلق، عن أبيه

(1)

في الأصول: المعلة.

(2)

رواه أبو يعلى (6467) من هذا الطريق بلفظ: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المسوفة والمفسلة. قال الهيثمي في "المجمع" 4/ 296: فيه يحيى بن العلاء وهو ضعيف متروك. اهـ. وكذا قال البوصيري في "إتحاف الخيرة"(3173).

(3)

في الأصول: العين. وهو خطأ، والمثبت هو الصواب، وهو كتاب "عشرة النساء".

(4)

"الكامل في الضعفاء" 3/ 139.

(5)

الترمذي (1161) ورواه أيضًا ابن ماجه (1854).

(6)

رواه البزار كما في "كشف الأستار"(1463، 1473) وابن عدي 4/ 115، قال البزار: لا نعلمه عن أنس بهذا اللفظ مرفوعًا إلا عن الزبير، ولا عن الزبير إلا عن الثوري، ولا عنه إلا رواد، ورواد صالح الحديث ليس بالقوي، حدث عنه جماعة من أهل العلم اهـ.

وقال الهيثمي 4/ 305: فيه رواد بن الجراح، وثقه أحمد وجماعة، وضعفه جماعة، وقال ابن معين: وهم في هذا الحديث، وبقية رجاله رجال الصحيح اهـ.

ص: 15

يرفعه: "لا تمنع المرأة زوجها حاجته (وإن كانت على ظهر قتب)

(1)

". وفي لفظٍ: "وإن كانت على رأس تنور"

(2)

.

وله من حديث محمد بن طلحة عن الحكم بن عمرو، عن ضرار بن عمرو، عن أبي عبد الله الشامي، عن تميم الداري مرفوعًا:"حق الزوج على زوجته أن تطيع أمره، وأن تبر قسمه، ولا تهجر فراشه، وألا تخرج إلا بإذنه، وألا تدخل عليه ما يكره"

(3)

.

ولابن أبي شيبة من حديث ليث، عن عبد الملك، عن عطاء، عن ابن عمر رضي الله عنهما: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، ما حق الزوج على المرأة؟ قال:"لا تمنعه نفسها وإن كانت على ظهر قتب"

(4)

. ورواه أيضًا ليث عن عطاء عن ابن عباس مرفوعًا.

وقال أَبن أبي حاتم: سألت أبي عن حديث جعفر بن ميسرة، عن أبيه، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن المسوِّفات: الرجل يدعو امرأته إلى فراشه فتقول: سوف سوف حتى تغلبه عيناه.

وفيه: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تبيت ليلة حتى تعرض نفسها على زوجها" قيل: وما عرضها نفسها؟ قال: "إذا نزعت ثيابها وألزقت جلدها بجلده، فقد عرضت نفسها عليه" فقال: هذان الحديثان باطلان

(5)

.

(1)

مكررة في الأصول.

(2)

رواه ابن عدي من طريقي أيوب بن عتبة 2/ 13، ومحمد بن جابر 7/ 332 كلاهما عن قيس بن طلق عن أبيه مرفوعًا به.

(3)

رواه الطبراني في "الكبير" 2/ 52 (1258).

(4)

"المصنف" 3/ 552 (17118).

(5)

"العلل" 1/ 409.

ص: 16

ولابن أبي شيبة من حديث المنهال، عن عبد الله بن الحارث أنه قال:"ثلاثة لا تجاوز صلاة أحدهم رأسه: إمام قوم هم له كارهون، وامرأة تعصي زوجها، وعبد آبق من سيده". وقال عمرو بن الحارث المصطلقي: كان يقال: أشد الناس عذابًا اثنان: امرأة تعصي زوجها، وإمام قوم هم له كارهون

(1)

.

وفي الباب من الأحاديث: منها عن ابن عمر مرفوعًا، أخرجه ابن أبي الدنيا

(2)

، ومنها عن ابن مسعود، أخرجه أبو بكر جعفر الفريابي في كتاب "النكاح". ومنها عن أبي أيوب مرفوعًا، أخرجه القرطبي في "تذكرته" بلفظ: "إن طالب العلم، والمرأة (المطيعة)

(3)

لزوجها، والولد البار لوالديه، يدخلون الجنة بغير حساب"

(4)

.

(1)

"المصنف" 3/ 552 (17122، 17124).

(2)

رواه ابن أبي الدنيا في "العيال" 2/ 749 - 750.

(3)

في الأصول: المطاعة، والمثبت هو الصواب كما في "التذكرة".

(4)

"التذكرة" ص (437).

ص: 17

‌86 - باب لَا تَأْذَنُ الْمَرْأَةُ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا لأَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِهِ

5195 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَصُومَ وَزَوْجُهَا شَاهِدٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ، وَلَا تَأْذَنَ فِى بَيْتِهِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ، وَمَا أَنْفَقَتْ مِنْ نَفَقَةٍ عَنْ غَيْرِ أَمْرِهِ فَإِنَّهُ يُؤَدَّى إِلَيْهِ شَطْرُهُ» . وَرَوَاهُ أَبُو الزِّنَادِ أَيْضًا عَنْ مُوسَى، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِى الصَّوْمِ. [انظر: 2066 - مسلم: 1026 - فتح 9/ 295].

ذكر فيه حديث شعيب بن أبي حمزة عن أبي الزناد عبد الله بن ذكوان، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لَا يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَصُومَ وَزَوْجُهَا شَاهِدٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَلَا تَأْذَنَ فِي بَيْتِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَمَا أَنْفَقَتْ مِنْ نَفَقَةٍ عَنْ غَيْرِ أَمْرِهِ فَإنَّهُ يُؤَدى إِلَيْهِ شَطْرُهُ". ورواه أبو الزناد أيضًا، عن موسى، عن أبيه، عن أَبي هريرة في الصوم.

وأبوه هو أبو عثمان التُّبان، مولى المغيرة بن شعبة، استشهد به البخاري، وروى له في "الأدب"

(1)

، وأخرج له أصحاب السنن خلا ابن ماجه، واسمه سعيد، وقيل: عمران

(2)

. وأخرجه النسائي من حديث يحيى بن سعيد وابن مهدي عن الثوري ومن وجه آخر عن أبي الزناد

(3)

. وقد سلف حكم صومها بغير إذنه في الباب الماضي.

وأما الإذن في بيته فلا تأذن فيه لرجل ولا لامرأة يكرهها زوجها؛ فإن ذلك يوجب سوء الظن، ويبعث على الغيرة التي هي سبب القطيعة،

(1)

"الأدب المفرد" ص (374).

(2)

انظر ترجمته في: "تهذيب الكمال" 34/ 70 - 73.

(3)

"السنن الكبرى" 2/ 175 (2920 - 2921).

ص: 18

ويشهد لهذا الحديث السالف: "انْظُرْنَ مَن إخْوَانكن"

(1)

.

وإن كان الإذن للنساء أخف من الإذن للرجال، وقد سلف رواية مسلم:"ولا تأذن في بيته وهو شاهد إلا بإذنه"

(2)

. ولا يُعَارض هذا رواية: "إذا أنفقت المرأة من كسب زوجها من غير أمره، فلها نصف أجره"

(3)

. لأن الحديث ورد في المرأة إذا تصدقت من مال زوجها بغير إذنه بالمعروف، مما يعلم أنه يسمح به ولا يتشاح فيه، كما أسلفناه في الزكاة.

ومعنى: "يُؤَدى إليه شطْره" يعني: يتأدى من أمر الصدقة، مثل ما يؤدى إلى المتصدقة من الأجر، ويصيران في الأجر نصفين سواء، ويشهد له قوله عليه السلام:"الدال على الخير كفاعله"

(4)

، وهذا يقتضي المساواة.

قال ابن المرابط: وهذِه النفقة هي الخارجة عن المعروف الزائد على العادة؛ بدليل قصهَ هند "بالمعروف"

(5)

وحديث: "إن للخازن فيما أنفق أجرًا، وللزوجة أجرًا"

(6)

. يعني: بالمعروف، وهذا النصف يجوز أن يكون الواجب لها بالنفقة، ويجوز أن يكون الذي أبيح لها أن تتصدق بالمعروف.

(1)

سلف برقم (2647).

(2)

مسلم (1026) كتاب: الزكاة، باب: ما أنفق العبد من مال مولاه.

(3)

سلف برقم (2066) كتاب: البيوع، باب قول الله تعالى:{أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} .

(4)

رواه الترمذي (2670) وقال: حديث غريب من هذا الوجه من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم.

(5)

سلف برقم (2211).

(6)

سلف برقم (1425) كتاب: الزكاة، باب: من أمر خادمه بالصدقة ولم يناول بنفسه.

ص: 19

وقال الخطابي: ما أنفقت على نفسها من ماله بغير إذنه فوق ما يجب لها غرمت شطره، يعني: قدر الزيادة على الواجب لها، قال: وذلك أن نفقتها معاوضة، فهي تتقدر بما يوازيها من العوض، فإن جاوزت ذلك ردت الفضل عن مقدار الواجب

(1)

.

وقوله: "فلها نصف أجره". مؤوَّل على أنها خلطت من ماله بالنفقة المستحبة لها حتى كانا شطرين، فرغب في الإطراح عن حصة الصدقة، وأن تطيب نفسه بها؛ لينقلب أجرها له، وهذا لا يدفع أن تكون غرامة زيادة بما أنفقت لازمة لها إن لم تطب نفس الزوج بها، وقال الداودي: ما أنفقت بالمعروف مما يجب على الزوج لها. وقيل: (إن)

(2)

خلطت نفقتها بنفقته وتصدقت من ذلك، فلها نصف الأجر وله نصفه. وهذا ليس بشيء؛ لأن النفقة إنما للزوج فيها النصف.

قال ابن التين: والصحيح قول الداودي: وذلك أن لها أجر المناولة وأداء الواجب الذي انتفع الزوج منه.

ولابن الجوزي من حديث ليث، عن عطاء، عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم يرفعانه:"لا تصدق المرأة من بيته بشيء إلا بإذنه، فإن فعلت كان له الأجر وعليها الوزر، ولا تصوم يومًا إلا بإذنه، فإن فعلت أتمت ولم تؤجر"

(3)

.

(1)

"أعلام الحديث" 3/ 2002 بتصرف.

(2)

في الأصول: إنها، والمثبت هو الصواب.

(3)

أما حديث ابن عمر فرواه أبو داود الطيالسي (2063)، ومسدد في "مسنده" كما في "المطالب" 1664/ 2 وابن أبي شيبة 3/ 552 (17118)، وعبد بن حميد (811)، والبيهقي 7/ 292. وأما حديث ابن عباس فرواه أبو يعلى كما في "المطالب" 1664/ 5، "إتحاف الخيرة" 3197/ 3.

تنبيه: وقع في "المصنف" عن ليث عن عبد الملك عن عطاء عن ابن عمر.

ص: 20

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سُئِلَ: المرأة تصدق من مال زوجها؟ قال: لا إلا من قوتها، والأجر بينهما، وأما من ماله فلا

(1)

.

وقال ابن شهاب: أذن للمرأة أن تصدق من بيت زوجها باليسير. وقد سلف إيضاح ذلك في الزكاة.

(1)

رواه أبو داود (1688).

ص: 21

‌87 - باب

5196 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، أَخْبَرَنَا التَّيْمِيُّ، عَنْ أَبِى عُثْمَانَ، عَنْ أُسَامَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«قُمْتُ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ فَكَانَ عَامَّةَ مَنْ دَخَلَهَا الْمَسَاكِينُ، وَأَصْحَابُ الْجَدِّ مَحْبُوسُونَ، غَيْرَ أَنَّ أَصْحَابَ النَّارِ قَدْ أُمِرَ بِهِمْ إِلَى النَّارِ، وَقُمْتُ عَلَى بَابِ النَّارِ فَإِذَا عَامَّةُ مَنْ دَخَلَهَا النِّسَاءُ» . [انظر: 6547 - مسلم: 2736 - فتح 9/ 298].

ذكر فيه حديث أسامة رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"قُمْتُ عَلَى بَابِ الجَنَّةِ فَكَانَ عَامَّةَ مَنْ دَخَلَهَا المَسَاكينُ، وَأَصْحَابُ الجَدِّ مَحْبُوسُونَ، غير أَنَّ أَصْحَابَ النَّارِ قَدْ أُمِرَ بِهِمْ إِلَى النَّارِ، وَقُمْتُ عَلَى بَابِ النَّارِ فَإِذَا عَامَّةُ مَنْ دَخَلَهَا النِّسَاءُ"

الشرح:

هذا الحديث أخرجه البخاري من حديث إسماعيل -هو ابن علية- أنا التيمي، عن أبي عثمان، عن أسامة به. وأخرجه مسلم في آخر الدعوات

(1)

، والنسائي في عشرة النساء والمواعظ والرقاق

(2)

، وأغفلها ابن عساكر، ولم يترجم عليه البخاري بترجمة، والذي يظهر أنه ساقه في التحذير من مخالفة الزوج فيما هو حق له، وقد أخبر أن عامة من

(1)

مسلم (2736) كتاب: الرقاق، باب: أكثر أهل الجنة الفقراء، وأكثر أهل النار النساء ..

قلت: الحديث في أول كتاب الرقاق وهو يلي كتاب الدعوات، فلعل المصنف لم ينتبه للفصل بين الكتابين.

(2)

"السنن الكبرى"(9265) في عشرة النساء، وعزاه في "تحفة الأشراف"(100) إلى المواعظ، والرقائق في "الكبرى" ثم قال: كتاب المواعظ، وكتاب الرقائق للنسائي ليسا في الرواية ولم يذكرهما أبو القاسم.

ص: 22

دخل النار النساء. "والْجَدِّ" بفتح الجيم: الحظ والغنى. وكذا أبو الأب، وكذا العظمة، ومنه {جَدُّ رَبِّنَا} [الجن: 3]، وكذا الجد: القطع. وبالكسر: الاجتهاد.

وقوله: ("مَحْبُوسُونَ") كذا هو في الأصول بالحاء المهملة ثم باء من الحبس، وكذا هو عند أبي ذر، وهو ظاهر، وقال ابن التين: كذا هو عند الشيخ أبي الحسن، ولعله بفتح الباء والواو، اسم مفعول من احبوس، قال أهل اللغة: يقال: احبوس بالمكان إذا أقام به حبوسًا (فهم)

(1)

موثوقون لا يستطيعون الفرار.

قال الداودي: أرجو أن يكون المحبوسون أهل التفاخر؛ لأن أفاضل هذِه الأمة كان لهم أموال، ووصفهم الله بأنهم سابقون. ثم نقل عن نسخة أبي ذر ما قدمناه، قال: وهو بين.

ولما نقل ابن بطال عن المهلب أن في الحديث أن أقرب ما يدخل به الجنة التواضع، وأن أبعد الأشياء من الجنة التكبر بالمال وغيره، وإنما صار أهل الجد محبوسين؛ لمنعهم حقوق الله الواجبة للفقراء في أموالهم، فحبسوا للحساب عما منعوه، فأما من أدى حقوق الله في ماله فإنه لا يحبس عن الجنة، إلا أنهم قليل، إذا كثر شأن المال تضيع الحقوق فيه؛ لأنه محنة وفتنة ألا ترى قوله:"فَكَانَ عَامَّةَ مَنْ دَخَلَهَا المَسَاكِينُ" وهذا يدل أن الذين يؤدون حقوق الله في المال ويسلمون من فتنته هم الأقلون، وقد احتج بهذا الحديث من فضل الفقر على الغنى

(2)

، وستعرف ما فيه في الزهد إن شاء الله تعالى.

(1)

من (غ).

(2)

"شرح ابن بطال" 7/ 318.

ص: 23

‌88 - باب كُفْرَانِ الْعَشِيرِ

وَهْوَ الزَّوْجُ، وَهْوَ الْخَلِيطُ مِنَ الْمُعَاشَرَةِ. فِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

5197 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ،: عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: خَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَصَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَالنَّاسُ مَعَهُ، فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلاً نَحْوًا مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلاً، ثُمَّ رَفَعَ فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلاً وَهْوَ دُونَ الْقِيَامِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلاً وَهْوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ، ثُمَّ سَجَدَ، ثُمَّ قَامَ فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلاً وَهْوَ دُونَ الْقِيَامِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلاً وَهْوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَفَعَ فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلاً وَهْوَ دُونَ الْقِيَامِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلاً وَهْوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَفَعَ، ثُمَّ سَجَدَ، ثُمَّ انْصَرَفَ وَقَدْ تَجَلَّتِ الشَّمْسُ، فَقَالَ:«إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللهِ لَا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَاذْكُرُوا اللهَ» . قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، رَأَيْنَاكَ تَنَاوَلْتَ شَيْئًا فِي مَقَامِكَ هَذَا، ثُمَّ رَأَيْنَاكَ تَكَعْكَعْتَ. فَقَالَ:«إِنِّي رَأَيْتُ الْجَنَّةَ -أَوْ أُرِيتُ الْجَنَّةَ- فَتَنَاوَلْتُ مِنْهَا عُنْقُودًا، وَلَوْ أَخَذْتُهُ لأَكَلْتُمْ مِنْهُ مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا، وَرَأَيْتُ النَّارَ فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ مَنْظَرًا قَطُّ، وَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ» . قَالُوا: لِمَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «بِكُفْرِهِنَّ» . قِيلَ: يَكْفُرْنَ بِاللهِ؟! قَالَ: «يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، وَيَكْفُرْنَ الإِحْسَانَ، وَلَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ، ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ» . [انظر: 29 - مسلم: 907 - فتح 9/ 298].

5198 -

حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ الْهَيْثَمِ، حَدَّثَنَا عَوْفٌ، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ، عَنْ عِمْرَانَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«اطَّلَعْتُ فِى الْجَنَّةِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا الْفُقَرَاءَ، وَاطَّلَعْتُ فِى النَّارِ، فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ» . تَابَعَهُ أَيُّوبُ وَسَلْمُ بْنُ زَرِيرٍ. [انظر: 3241 - مسلم: 2738 - فتح 9/ 298].

ص: 24

ثم ساق حديث ابن عباس في الخسوف. وفيه: "يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان".

وقد سلف في بابه

(1)

، وبعضه في الإيمان، وكلاهما من طريق مالك.

ثم ساق حديث أبي رجاء، عن عمران، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"اطَّلَعْتُ فِي الجَنَّةِ فَرَأَيْتُ أَكثَرَ أَهْلِهَا الفُقَرَاءَ، وَاطَّلَعْتُ فِي النَّارِ فَرَأَيْتُ أَكثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ".

وهو بمعنى حديث أسامة السالف قريبًا، وذكره في صفة الجنة

(2)

، والرقاق

(3)

. وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي

(4)

.

وأبو رجاء اسمه عمران بن ملحان، جاهلي أسلم يوم الفتح، وكان عالمًا، عاملًا، معمرًا، نبيلًا، من القراء، وعاش مائة وعشرين سنة، وتوفي في خلافة عمر بن عبد العزيز، وقيل: في سنة ثمان ومائة، وقيل: سنة سبع عشرة ومائة

(5)

.

وشيخ البخاري عثمان بن الهيثم هو أبو عمرو، وجده يهم بن عيسى بن حسان بن المنذر العبدي، بصري، مؤذن بجامعها، مات سنة عشرين ومائتين، روى له البخاري وحده

(6)

.

(1)

سلف برقم (1052) كتاب: الكسوف.

(2)

سلف برقم (3241).

(3)

سيأتي برقم (6449).

(4)

مسلم (2737) كتاب الرقاق، باب: أكثر أهل الجنة الفقراء وأكثر أهل النار النساء، والترمذي (2603)، والنسائي في "الكبرى"(9259).

(5)

انظر ترجمته في: "الجرح والتعديل" 6/ 303 - 304، "الثقات" 5/ 217، "تهذيب الكمال" 22/ 356 - 359.

(6)

انظر ترجمته في: "تهذيب الكمال" 19/ 502 - 504.

ص: 25

فصل:

وسمي الزوج عشيرًا؛ لأنه يعاشرهن، كما سمي حليلًا؛ لأنه يحاللها في موضع واحد، وإنما استحققن النار بكفرهن العشير؛ من أجل أنهن يكثرن ذلك الدهر كله، ألا ترى أنه عليه السلام قد فسره فقال:"لو أحسنت إلى إحداهن الدهر" لجازت ذلك بالكفران الدهر كله، فغلب استيلاء الكفران على دهرها، فكأنها مصرة أبدًا على الكفر، والإصرار أكبر أسباب النار.

وفي الحديث: تعظيم حقه عليها، ويجب عليها شكره والاعتراف بفضله؛ لستره لها وصيانتها وقيامه بمؤنتها وبذله نفسه في ذلك؛ ومن أجل هذا فضل الله الرجال على النساء في غير موضع من كتابه فقال:{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ على النِّسَاءِ} [النساء: 34]. وقال: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228]. وقد أمر عليه السلام من أُسديت إليه نعمة أن يشكرها، فكيف نِعَم الزوج التي لا تنفك المرأة منها دهرها كله، وشكر المنعم واجب؛ لقوله عليه السلام:"من أسديت إليه نعمة فليشكرها"

(1)

وقال تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: 14]. فقرن تعالى شكره بشكر الآباء، وقد يكون شكرها في نشرها وفي أقل من ذلك، فيجري فيه الإقرار بالنعمة، والمعرفة بقدر الحاجة.

(1)

رواه أبو عبيد في "غريب الحديث" 1/ 20 ومن طريقه الخرائطي في "فضيلة الشكر"(92)، والقضاعي في "مسند الشهاب" 1/ 238 - 239 (376)، والبيهقي في "الشعب" 6/ 516 (9115) عن يحيى بن سعيد، عن السائب بن عمر، عن يحيى بن عبد الله بن صيفي، عن النبي صلى الله عليه وسلم. وزاد القضاعي: عن عبد الله بن عمر مرفوعًا به.

ص: 26

فصل:

وفيه: أن الكسوف والزلازل والآيات الحادثة إنما هي كما قال تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء: 59] وأمره عليه السلام عند رؤيتها بالفزع إلى الصلاة دل على أنها تصرف النقم وتعصم من المحن؛ إذ هي أفضل الأعمال وأولى ما أقبل عليه في البكر والآصال.

فصل:

وقوله في الحديث: (رَأَيْنَاكَ يَا رَسولَ اللهِ تَكَعْكَعْتَ). أي: رجعت وراءك، وأصله من كع الرجل إذا جبن انقبض على الشيء، وكاع مثله. وقال ابن دريد: لا يقال: كاع عن الأمر، وإن كانت العامة تقوله.

ص: 27

‌89 - باب لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقٌّ

قَالَهُ أَبُو جُحَيْفَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

5199 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، أَخْبَرَنَا الأَوْزَاعِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يَا عَبْدَ اللهِ، أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ وَتَقُومُ اللَّيْلَ؟» . قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: «فَلَا تَفْعَلْ، صُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ، فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا» . [انظر: 1131 - مسلم: 1159 - فتح 9/ 299].

ثم ساق حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه السالف في الصوم: "وإن لزوجك عليك حقًّا".

وتعليق أبي جحيفة أخرجه البزار

(1)

، عن بندار، حدثنا جعفر بن عون، عن أبي العُميس -وهو عتبة بن عبد الله بن عتبة بن مسعود- عن عون بن أبي جحيفة، عن أبيه أن سلمان قال لأبي الدرداء: إن لجسدك عليك حقًّا، وإن لأهلك عليك حقًّا، فأعط كل ذي حقٍّ حقه. فأخبر أبو الدرداء بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم مثل ما قال سلمان

(2)

، ولما ذكر البخاري رحمه الله في الباب السالف حق الزوج على المرأة ترجم حقها عليه، وأنه لا ينبغي أن يجحف نفسه في العبادة حتى يضعف عن القيام بحق أهله من جماعها والكسب عليها.

(1)

في هامش الأصل: لا حاجة إلى عزوه للبزار فهو في البخاري في الصوم والأدب، وفي الترمذي في الزهد، ومحمد بن بشار هو بندار الذي ذكره بالسند الذي من عند البزار، قال الترمذي: حسن صحيح.

(2)

"البحر الزخار" 10/ 152.

ص: 28

واختلف العلماء في الرجل يشتغل بالعبادة عن حقوق أهله، فقال مالك: إذا كف عن جماع أهله من غير ضرورة لا يترك حتى يجامع أو يفارق على ما أحب أو كره؛ لأنه يضارها، ونحوه لأحمد

(1)

، وقال أبو حنيفة وأصحابه: يؤمر أن يبيت عندها وينظر لها.

وقال الشافعي: لا يفرض عليه من الجماع شيء، وإنما يفرض لها النفقة والكسوة والسكنى، وأن يأوي إليها

(2)

.

وقال الثوري: إذا شكت المرأة أنه لا يأتيها زوجها، فله ثلاثة أيام ولها يوم وليلة. وبه قال أبو ثور

(3)

.

قال ابن المنذر: كأن سفيان قاسه على ما أباح الله له من اتخاذ أربع نسوة. وروى عبد الرزاق، عن الثوري، عن مالك بن مغول، عن الشعبي قال: جاءت امرأة إلى عمر فقالت: يا أمير المؤمنين، زوجي خير الناس يصوم النهار ويقوم الليل. فقال عمر: لقد أحسنت الثناء على زوجك. فقال كعب بن سوار: لقد اشتكت فأعرضت الشكية. فقال عمر: اخرج من مقالتك. فقال: أرى أن ينزل منزلة الرجل له أربع نسوة، له ثلاثة أيام ولياليها ولها يوم وليلة.

وروى ابن عيينة، عن زكريا، عن الشعبي أن عمر قال لكعب: فإذا فهمت ذلك فاقضِ بينهما. فقال: يا أمير المؤمنين أحلَّ الله من النساء مثنى وثلاث ورباع، فلها من كل أربعة أيام يوم يفطر ويقيم عندها، ولها من كل أربع ليال ليلة يبيت عندها. فأمر عمر الزوج بذلك

(4)

، وأغرب ابن حزم فأوجبه في كل طهر، حيث قال: وفرض على الرجل

(1)

"المدونة" 2/ 199، "المغني" 10/ 239.

(2)

"الأم" 5/ 172.

(3)

انظر: "الإشراف" 1/ 118.

(4)

عبد الرزاق 7/ 148 - 150. =

ص: 29

أن يجامع امرأته التي هي زوجته، وأدنى ذلك مرة كل طهر إن قدر على ذلك، وإلا فهو عاصٍ لله؛ برهان ذلك قوله تعالى:{فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} [البقرة: 222]. وروينا أن امرأة قالت لعمر: يا أمير المؤمنين، إني امرأة أحب ما تحب النساء من الولد، ولي زوج شيخ. قال: فما برح إذ جاء زوجها شيخ كبير، فقال له عمر: أتقيم لها طهرها؟ قال: نعم. قال: انطلقي مع زوجك، والله إن فيه ما يجزئ -أو قال: يغني- المسألة. قال ابن حزم: ويجبر على ذلك من أبى بالأدب؛ لأنه أتى منكرًا من العمل

(1)

.

قلت: في "المزاح والفكاهة" للزبير من حديث مالك، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن يحيى بن حيان: قلت لامرأتي: أنا وأنت على قضاء عمر. قالت: وما هو؟ قلت: قضى أنه إذا أصاب الرجل امرأته عند كل طهر فقد أدى حقها. فقالت: أنا أول من رد قضاء عمر.

= وذكره ابن عبد البر في "الاستيعاب" 3/ 378 وفيه:

وجاءت بزوجها وقال:

يأيها القاضي الفقيه ارْشدُهْ

ألهى خليلي عن فراشي مَسْجدُهُ

زُهْده في مَضْجَعي وتعبدُهْ

نهاره وليله ما يَرْقدُهْ

ولست في أمر النساء أَحمدُهْ

فامْضِ القضا يا كعْب لا تُرْددُهْ

فقال الزوج:

إني أمرؤ قد شفني ما قدْ نَزَلْ

في سورة النور وفي السبع الطّوَلْ

وفي الحواميم الشفاء وفي النَّحْلْ

فردّها عني وعن سوء الجدَلْ

فقال كعب:

إن السعيد بالقضاء من فَضَلْ

ومن قضى بالحق حقًّا وعَدَلْ

إن لها عليك يا بَعَلْ

من أربع واحدة لمن عَقَلْ

.....................

أمضى لها ذاك ودَعْ عنك العِلَلْ

(1)

"المحلي" 10/ 40.

ص: 30

وروى أبو نعيم في "طبه" من حديث أبي إسحاق، عن هانئ بن هانئ أن امرأة شكت زوجها إلى علي، فقال له علي: أتستطيع أن تصنع شيئًا؟ قال: لا. قال: ولا ومن (السَّحَر)

(1)

؟ قال: هلكت، أما أنا فلا أفرق بينكما، فاتقي الله واصبري. ومن حديث بقية [عن يزيد بن سنان]

(2)

عن بكير بن فيروز، عن أبي هريرة يرفعه:"أيعجز أحدكم أن يجامع أهله كل يوم جمعة؛ فإن له أجرين: أجر غسله، وأجر غسل امرأته"

(3)

.

(1)

كلمة غير واضحة في الأصول، والمثبت من مصدر التخريج.

(2)

ساقطة من الأصول ومثبتة من "الطب"، و"شعب الإيمان" 3/ 98.

(3)

"الطب النبوي" 2/ 474 - 476 (453 - 454).

ص: 31

‌90 - باب الْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا

5200 -

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، أَخْبَرَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما -، عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالأَمِيرُ رَاعٍ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ زَوْجِهَا وَوَلَدِهِ، فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» . [انظر: 893 - مسلم: 1829 - فتح 9/ 299].

ذكر فيه حديث ابن عمر رضي الله عنهما: قال: "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالأمير راع، والرجل راع على أهل بيته، والمرأة راعية في بيت زوجها وولده، وكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته".

وهو يطابق لما ترجم له، ويأتي في الأحكام أيضًا، وكل من جعله الله أمينًا على شيء فواجب عليه أداء النصيحة فيه، وبذل الجهد في حفظه ورعايته؛ لأنه لا يُسأل عن رعيته إلا من يلزمه القيام بالنظر لها وإصلاح أمرها.

ص: 32

‌91 - باب قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء: 34]

5201 -

حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ قَالَ: حَدَّثَنِي حُمَيْدٌ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: آلَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ نِسَائِهِ شَهْرًا، وَقَعَدَ فِي مَشْرُبَةٍ لَهُ، فَنَزَلَ لِتِسْعٍ وَعِشْرِينَ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّكَ آلَيْتَ عَلَى شَهْرٍ. قَالَ:«إِنَّ الشَّهْرَ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ» . [انظر: 378 - مسلم: 411 - فتح 9/ 300].

ذكر فيه حديث سليمان -هو ابن بلال- عن حميد، عن أنس رضي الله عنه قال: آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نسائه شهرًا، فقعد في مشربة له، فنزل لتسع وعشرين ليلة، فقيل: يا رسول الله، إنك آليت شهرًا، قال:"الشهر تسع وعشرون".

وقد سلف في الصوم

(1)

، ومعنى هذا الباب أن الله تعالى أباح هجران الأزواج عند نشوزهن، ورخص في ذلك عند ذنب أو معصية تكون منهن، فالترجمة مطابقة لما أورده؛ لأنه في الآية التي ذكر {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} [النساء: 34] وقد هجرهن عليه السلام. وقال أهل التفسير في قول تعالى {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} [النساء: 34] يعني: معصيتهن لأزواجهن، وأصل النشوز: الارتفاع، فنشوز المرأة: ارتفاعها عن حق زوجها.

وفسر الشارع مقدار ذلك الهجران بإيلائه شهرًا حين أسر إلى حفصة فأفشته لعائشة، وتظاهرتا عليه. قيل: إنه أصاب جاريته مارية في بيت حفصة ويومها. وقال الزجاج: في يوم عائشة. وذلك سنة تسع، وسألها أن تكتمه، فأخبرت به عائشة.

(1)

سلف برقم (1911).

ص: 33

والأرجح أنه شرب عسلًا عند زينب. وذلك الهجران لا يبلغ به الأربعة الأشهر التي ضربها الله، أجل إعذار الموالي، فأمر الله أن يبدأ النساء بالموعظة أولًا ثم الهجران بعده، فإن لم ينجعا فيهن فالضرب. أي: غير مبرح كما سيأتي، وقوله تعالى:{بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ} [النساء: 34] يعني: بما فضل الله به الرجال من القوة على الكسب بالحرف وغيرها، وبما أنفقوا من أموالهم في المهور وغيرها، فهذا يوجب النفقة على الرجال للنساء.

ص: 34

‌92 - باب هِجْرَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نِسَاءَهُ فِي غَيْرِ بُيُوتِهِنَّ

وَيُذْكَرُ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ رَفْعُهُ: «غَيْرَ أَنْ لَا تُهْجَرَ إِلاَّ فِي الْبَيْتِ» . وَالأَوَّلُ أَصَحُّ.

5202 -

حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ. وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ صَيْفِيٍّ، أَنَّ عِكْرِمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ أَخْبَرَهُ، أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَلَفَ لَا يَدْخُلُ عَلَى بَعْضِ أَهْلِهِ شَهْرًا، فَلَمَّا مَضَى تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا غَدَا عَلَيْهِنَّ -أَوْ رَاحَ- فَقِيلَ لَهُ: يَا نَبِيَّ اللهِ، حَلَفْتَ أَنْ لَا تَدْخُلَ عَلَيْهِنَّ شَهْرًا. قَالَ:«إِنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا» . [انظر: 1910 - مسلم: 1085 - فتح 9/ 300].

5203 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو يَعْفُورٍ قَالَ: تَذَاكَرْنَا عِنْدَ أَبِي الضُّحَى فَقَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: أَصْبَحْنَا يَوْمًا وَنِسَاءُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَبْكِينَ، عِنْدَ كُلِّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ أَهْلُهَا، فَخَرَجْتُ إِلَى الْمَسْجِدِ فَإِذَا هُوَ مَلآنُ مِنَ النَّاسِ، فَجَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَصَعِدَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهْوَ فِى غُرْفَةٍ لَهُ، فَسَلَّمَ فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ، ثُمَّ سَلَّمَ فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ، ثُمَّ سَلَّمَ فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ، فَنَادَاهُ، فَدَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَطَلَّقْتَ نِسَاءَكَ؟ فَقَالَ: «لَا وَلَكِنْ آلَيْتُ مِنْهُنَّ شَهْرًا» . فَمَكَثَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَى نِسَائِهِ. [فتح 9/ 300].

ثم ساق حديث أم سلمة رضي الله عنها في إيلائه شهرًا، وكذا حديث ابن عباس السالف قريبًا، لكنه ذكره هنا مختصرًا أن أبا يعفور قال: تذاكرنا عند أبي الضحى، فقال: ثنا ابن عباس فذكره.

وأبو يعفور هذا هو الصغير واسمه عبد الرحمن بن عبيد بن نسطاس، والكبير (واقد)

(1)

ولقبه وقدان.

(1)

من (غ).

ص: 35

سمع

(1)

عبد الله بن أبي أوفى، ومصعب بن سعد بن أبي وقاص.

وحديث معاوية بن حيدة هذا أخرجه أبو داود والنسائي (والحاكم)

(2)

وقال: صحيح الإسناد

(3)

. وقال أبو قرة: أخبرني ابن جريج: أخبرني أبو قزعة إياي وعطاء بن أبي رباح، عن رجل من بني قشير، عن أبيه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما حق امرأتي؟ قال: "تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب، ولا تهجر إلا في البيت"

(4)

.

وقول البخاري: (والأول أصح). يعني: حديث أنس: آلى من نسائه شهرًا. واعترض الإسماعيلي فقال: لم يصح لي دخول حديث أم سلمة في الباب، ولا تفسير الآية التي في الباب قبله وهو عجيب. وقد أجبنا عن الثاني فيما مضى في الآية المتلوة. {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} [النساء: 34]. والحديث مبين لذلك الهجران، وحديثما أم سلمة ظاهر في ترجمة الباب.

ثم ما أشار إليه البخاري من أن الهجران لا يكون إلا في غير بيوت الزوجات؛ من أجل ما فعله الشارع؛ لأنه انفرد عنهن في وقت الهجران في مشربة، واعتزل بيوتهن، وكأنه أراد البخاري أن يستن الناس به في هجران نسائهم، لما فيه من الرفق؛ لأن هجرانهن مع الكون في بيوتهن آلم لأنفسهن وأوجع لقلوبهن، لما ينظرن من العتاب والغضب في الإعراض، ولما في غيبة الرجل عن أعينهن من تسليتهن عن الرجال؛

(1)

في هامش الأصل تعليق: يعني: الكبير، وهذا خطأ،

ذلك لا يغفر ....

(2)

من (غ).

(3)

أبو داود (2142)، "السنن الكبرى"(917)، الحاكم 2/ 187 - 188.

(4)

رواه عبد الرزاق 7/ 148 (12584) من طريق ابن جريج بهذا الإسناد، ومن طريقه أحمد في "المسند" 5/ 3.

ص: 36

وهذا الذي أشار إليه ليس بواجب؛ لأن الله تعالى قد أمر بهجرانهن في المضاجع فضلًا عن البيوت، وما أوردناه هو ما ذكره المهلب، وقال غيره: إنما اعتزلهن في غير بيوتهن؛ لأنه أنكئ لهن، وأبلغ في عقوبتهن.

وروى ابن وهب، عن مالك قال: بلغني أن عمر بن عبد العزيز كان له نساء فكان يغاضب بعضهن، فإذا كانت ليلتها جاء بات عندها، ولم يبت عند غيرها، وكان يفترش في حجرتها فيبيت فيها وتبيت هي في بيتها. قلت لمالك: وذلك له واسع؟ فقال: نعم، وذلك في كتاب الله {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ}

(1)

[النساء: 34]. قال ابن عباس: أن يكون الرجل وامرأته في فراش واحد ولا يجامعها. وقال السدي: هجرها في المضجع: أن يرقد معها ويوليها ظهره ويطأها

(2)

ولا يكلمها.

وقال ابن عباس نحوه، قال: يهجرها بلسانه، ويغلقالها بالقول، ولا يدع جماعها. ذكره الطبري

(3)

، فيكون معنى الآية على هذا التأويل: قولوا لهن من القول هجرًا في تركهن مضاجعتكم.

وقال مجاهد فيما ذكره ابن أبي شيبة: لا يقربها. وقال الشعبي: لا يجامعها. وقال مقسم: لا يقرب فراشها. وقال عكرمة: هو الكلام. وقال ابن عباس: إذا أطاعته في المضجع فليس له أن يضربها

(4)

.

(1)

انظر: "شرح ابن بطال" 7/ 324.

(2)

قال الطبري -بعد أن نقله عن السدي-: هكذا في كتابي: ويطؤها ولا يكلمها.

(3)

"تفسير الطبري" 4/ 66 (9351)، 4/ 67 (9368).

(4)

"المصنف" 4/ 45.

ص: 37

فصل:

قوله في حديث ابن عباس: (فَخَرَجْتُ إِلَى المَسْجِدِ فَإِذَا هُوَ مَلآنُ مِنَ النَّاسِ). كذا هو في الأصول بالنون، قال ابن التين عند أبي الحسن: ملأى. وعند غيره: ملآن. وهو الصحيح، وإنما هو نعت للمؤنث فإن لم يكن أراد البقعة فيصح ذلك.

ص: 38

‌93 - باب مَا يُكْرَهُ مِنْ ضَرْبِ النِّسَاءِ

.

وَقَوْلِهِ {وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء: 34]: ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ.

5204 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَمْعَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا يَجْلِدُ أَحَدُكُمُ امْرَأَتَهُ جَلْدَ الْعَبْدِ، ثُمَّ يُجَامِعُهَا فِى آخِرِ الْيَوْمِ» . [انظر: 378 - مسلم: 411 - فتح 9/ 300].

ثم ساق حديث عبد الله بن زمعة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "يجلد أحدكم امرأته جلد العبد ثم يجامعها".

كذا في الأصول وفيه: {وَاضْرِبُوهُنَّ} إلى آخره، وفي كتاب ابن بطال

(1)

وابن التين وقوله تعالى: {وَاضْرِبُوهُنَّ} أي: ضربًا غير مبرح، وكلاهما صحيح، والمبرح بكسر الراء: الشاق، ونقل ابن بطال، عن قتادة: غير شائن. وعن الحسن: غير مؤثر

(2)

، وهو معنى ما ذكرته.

وفيه: جواز الضرب غير المبرح.

وقوله: ("ثُمَّ يُجَامِعُهَا") لم ينهه عن ذلك، وإنما أخبر أنه قد يبدو له فيجامعها فيأتيها وهي كارهة، فلا يجد منها المودة التي تكون عند الوطء، وهو تقبيح الضرب وقرب ما يناقضه؛ لقلة الرياضة بذلك؛ لأن المرأة إذا عرفت قرب الرجعة وسرعة الفيئة، لم تعبأ بأدبه، ولا يقع فيها ما ندبه الله إليه من رياضتها، ويدل على ذلك طول هجرانه عليه السلام لأزواجه المدة الطويلة، ولم يكن ذلك يومًا ولا يومين ولا ثلاثة، وكذلك كان هجرانه عليه السلام والمسلمين لكعب بن مالك حتى

(1)

"شرح ابن بطال" 7/ 325.

(2)

"شرح ابن بطال" 7/ 326.

ص: 39

مضت خمسون ليلة، وإنما ذلك على ظاهر المعصية لله وللزوج. فأما ما يدور من المغاضبة بين الرجلين من الخلاف والكلام فلا يجوز المهاجرة فوق ثلاث ليالٍ.

قال بعض أهل العراق: أمر الله تعالى بهجرهن وضربهن؛ تذليلًا منه للنساء وتصغيرًا لهن على إيذاء بعولتهن، ولم يأمر في شيء من كتابه بالضرب صراحًا إلا في ذلك، وفي الحدود العظام، فساوى معصيتهن لأزواجهن بمعصية أهل الكبائر، وولّى الأزواج ذلك دون الأئمة، وجعله لهم دون القضاة بغير شهود ولا بينات من الله للأزواج على النساء، وإنما يكره من ضرب النساء التعدي فيه والإسراف، كما قاله المهلب قال: وقد بين الشارع ذلك فقال: "ضرب العبد" من أجل الرق فوق ضرب الحر؛ لتباين حالتيهم؛ ولأن ضرب النساء إنما جوز من أجل امتناعها على زوجها من المباضعة.

واختلف في وجوب ضربها في الخدمة، والقياس يوجب أنه إذا جاز في (المباضعة)

(1)

جاز في الخدمة الواجبة للزوج عليها بالمعروف

(2)

، وأما ابن حزم فقال: لا يلزمها أن تخدم زوجها في شيء أصلًا: لا في عجين، ولا في طبيخ، ولا كنس، ولا فرش، ولا غزل ولا غير ذلك. ثم نقل عن أبي ثور أنه قال: عليها أن تخدمه في كل شيء.

ويمكن أن يحتج له بالحديث الصحيح أن فاطمة شكت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تجد من الرحى، وبقول (أسماء)

(3)

: كنت أخدم الزبير

(4)

.

(1)

في الأصول: المبالغة، والمثبت من "ابن بطال".

(2)

انظر: "شرح ابن بطال" 7/ 325.

(3)

من (غ).

(4)

سلف برقم (3151)، ورواه مسلم (2186/ 35) واللفظ له.

ص: 40

ولا حجة فيهما؛ لأنه ليس فيهما أنه عليه السلام أمرهما، إنما كانتا متبرعتين

(1)

، وقد سلف قريبًا في باب موعظة الرجل ابنته اختلاف العلماء في ضرب النساء، واختلاف الآثار فيهم، وبيان مذاهبهم، وسنذكر منه نبذة قريبًا.

فصل:

قوله: ("ثم يجامعها") جاء في لفظ آخر: "لعله يعانقها"

(2)

، وفي الترمذي صحيحًا:"ثم لعله أن يضاجعها من آخر يومه"

(3)

.

وقوله: ("جلد العبد") جاء في الإسماعيلي: "جلد البعير" أو قال: "جلد العبد".

فصل:

جاء في الضرب أيضًا من حديث لقيط بن صبرة: "ولا تضرب ظعينتك ضرب أمتك" أخرجه أبو داود

(4)

، وفي لفظ ابن حبان:"كضربك إبلك"

(5)

، ولعله تصحيف منه. ومن حديث عمرو بن الأحوص:"واضربوهن ضربًا غير مبرح". صححه الترمذي

(6)

، وأخرجه من حديث ابن عباس وعمر.

روى البيهقي في "المعرفة" من حديث عمر النهي عنه. قال الشافعي: يحتمل أن يكون نهى عنه على اختيار النهي، وأذن فيه بأن يكون مباحًا لهم الضرب في الخوف. واختار لهم أن يضربوا لقوله:(لن يضرب خياركم). ويحتمل أن يكون قبيل نزول الآية بضربهن،

(1)

"المحلى" 10/ 73 - 74.

(2)

سيأتي برقم (6042).

(3)

الترمذي (3343).

(4)

أبو داود (142).

(5)

ابن حبان 10/ 367 (4510).

(6)

الترمذي (1163).

ص: 41

ثم أذن بعد نزولها به، وقوله: الن يضرب خياركم) دلالة على أن ضربهن مباح

(1)

.

فصل:

عني الشارع بالفراش في الحديث الصحيح: "لا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه" ما افترش في البيوت لا فراش الضجع. وفيه: نهى أن تُدْخل بيته من لا يريده من رجل وامرأة كما سلف.

فصل:

وفي قوله: "جَلْدَ العَبْدِ" بيان أن النكاح رق ويد وملك وحكم كنوع من أنواع العبودية، كما نبه عليه ابن العربي، ولكن فيه فضل الاشتراك في المنفعة واستحقاق العوض عليها؛ ولذلك أذن الرب تعالى في تأديب الزوج للمرأة؛ بفضل القوامية عليها فيما ينبغي، كما يجب ويجوز من غير تعدِّ ولا حيف، ولا عمل بحكم الغضب، ولا في سبيل التشفي والانتقام

(2)

.

فصل:

هذا الضرب ضرب تأديب، وفي عده عندنا خلاف، هل هو دون الأربعين، أو دون العشرين؟ وبعضهم (قال)

(3)

بدون العشر، للحديث الصحيح: "لا يجلد فوق عشرة أسواطٍ، إلا في حدٍّ من حدود الله عز وجل

(4)

، وإنما يضرب إذا علم أنه ينجع، وإلا فلا فائدة فيه؛ لأن من لا يردعه الوعيد والتهديد ولا السوط الشديد فلا حاجة إلى ارتكاب

(1)

"معرفة السنن والآثار" 10/ 291.

(2)

"عارضة الأحوذي" 12/ 244 - 245.

(3)

في الأصول: قيل، والمثبت هو الصواب.

(4)

رواه مسلم (1708).

ص: 42

ما يؤدي: {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ} ، فباللطف أولًا أنجح؛ لأن الضرب يزيد في الإعراض، فإن لم يحصل فالتهديد. وإلا فما ربك بظلام للعبيد وما أحسن ما حكي عن سعيد بن حرب أنه أراد (تزوج)

(1)

امرأة فقال لها: إني سيئ الخلق. فقالت: أسوء مثل خلقًا من أحوجك أن تكون سيئ الخلق. فقال: أنت امرأتي.

فصل:

راوي هذا الحديث عبد الله بن زمعة، هو ابن الأسود بن المطلب الأسدي ابن أخت أم سلمة، أحد الأشراف، كان يأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنه: عروة وأبو بكر بن عبد الرحمن، وهو من الأفراد

(2)

.

(1)

في الأصول: تزويج، والمثبت هو الصواب.

(2)

انظر ترجمته في: "تهذيب الكمال" 14/ 525.

ص: 43

‌94 - باب لَا تُطِيعُ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا فِي مَعْصِيَةٍ

5205 -

حَدَّثَنَا خَلاَّدُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ نَافِعٍ، عَنِ الْحَسَنِ -هُوَ ابْنُ مُسْلِمٍ- عَنْ صَفِيَّةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ امْرَأَةً مِنَ الأَنْصَارِ زَوَّجَتِ ابْنَتَهَا فَتَمَعَّطَ شَعَرُ رَأْسِهَا، فَجَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَتْ: إِنَّ زَوْجَهَا أَمَرَنِي أَنْ أَصِلَ فِي شَعَرِهَا. فَقَالَ: «لَا إِنَّهُ قَدْ لُعِنَ الْمُوصِلَاتُ» . [5934 - مسلم: 2123 - فتح 9/ 304].

ذكر فيه حديث عائشة رضي الله عنها أن امرأة من الأنصار زوجت ابنتها فتمعط شعر رأسها، فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له وقالت: إن زوجها أمرني أن أصل في شعرها قال: "لا، إنه قد لعن الموصلات" وأخرجه في اللباس أيضًا مسلم، وهو مطابق لما ترجم له، فواجب على المرأة أن لا تطيع زوجها في معصية، وكذلك من لزمه طاعة غيره، فلا يجوز طاعته في معصية الله تعالى، ويشهد لهذا قوله صلى الله عليه وسلم حين أمَّر على بعثٍ أميرًا، وأمر الناس بطاعته، فأمرهم ذلك الأمير أن يقتحموا في النار، الحديث، وفي آخره:"إنما الطاعة في المعروف"

(1)

وصوب قولهم، وقد جاء عنه:"لاطاعة لمخلوق في معصية الخالق"

(2)

.

وقوله: (فَتَمَعَّطَ شعرها) العرب تقول: معي الشعر وامْعَطّ معطًا إذا تمرط، ومعطته: نتفته، والأمعط من الرجال: السنوط. قال أبو حاتم: والذئب يكنى أبا معيطة. وفي كتاب "العين": ذئب أمعط: خبيث؛ لأن شعره تمعط فتأذى بالذباب

(3)

.

(1)

سلف برقم (4340)، ورواه مسلم (1840) من حديث عليّ.

(2)

سيأتي برقم (7257) بلفظ: "لا طاعة في معصية". وهو أحد طرق حديث عليّ السابق. ورواه بهذا اللفظ أحمد 1/ 131، 409، 5/ 66 عن عليّ، وابن مسعود، وعمران بن حصين.

(3)

"العين" 2/ 28.

ص: 44

ثم الحديث رد على من جوزه من أصحابنا بإذن الزوج، وفي "مسند أحمد" من حديث ابن مسعود رضي الله عنه: نهى عنه إلا من داء

(1)

.

والتحريم إما لكونه تدليسًا، أو شعار الفاجرات، أو تغيير خلق الله. ولا يمنع من الأدوية التي تزيل الكلف وتحسن الوجه للزوج، وكذا أخذ الشعر منه، وقد قالت عائشة رضي الله عنها لو كان في وجه بنات أخي لأخرجته (ولو شعرة)

(2)

. وفي لفظ: سئلت عن قشر الوجه فقالت: إن كان شيء ولدت وهو بها فلا يحل لها إخراجه، وإن كان في شيء حدث فلا بأس بقشره. وفي لفظ: إن كان للزوج فافعلي. ونقل أبو عبيد عن الفقهاء الرخصة في كل شيء وصل به الشعر، مالم يكن الوصل شعرًا

(3)

.

فصل:

يدخل في ترجمة الباب ما لو أراد وطأها في الدبر، فإنه يحرم عليها إعانته.

وفيه: عدة أحاديث أفردت بالتأليف، وصحح ابن حبان منها حديث ابن عباس رضي الله عنهما

(4)

، وابن حزم حديث خزيمة بن ثابت وابن عباس أيضًا

(5)

، وحسنن الترمذي حديث ابن عمر

(6)

.

(1)

أحمد 1/ 415 - 416.

(2)

من (غ).

(3)

"غريب الحديث" 1/ 104.

(4)

ابن حبان 9/ 516 (4202).

(5)

"المحلى" 10/ 70.

(6)

كذا في الأصول وهو خطأ، فقد روى البخاري (4526، 4527) في كتاب التفسير، باب:{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} عن ابن عمر الرخصة في إتيان النساء في الدبر، واستوفى الحافظ في "التلخيص" 3/ 183 - 185 تخريج ما جاء عن =

ص: 45

‌95 - باب {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} [النساء: 128]

5206 -

حَدَّثَنَا ابْنُ سَلَامٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} [النساء: 128] قَالَتْ: هِيَ الْمَرْأَةُ تَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ، لَا يَسْتَكْثِرُ مِنْهَا فَيُرِيدُ طَلَاقَهَا، وَيَتَزَوَّجُ غَيْرَهَا، تَقُولُ لَهُ: أَمْسِكْنِي وَلَا تُطَلِّقْنِي، ثُمَّ تَزَوَّجْ غَيْرِي، فَأَنْتَ فِي حِلٍّ مِنَ النَّفَقَةِ عَلَيَّ وَالْقِسْمَةِ لِي، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:{فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128]. [انظر: 2450 - مسلم: 3021 - فتح 9/ 305].

ذكر فيه حديث عائشة رضي الله عنها السالف في تفسير هذِه الآية.

وقام الإجماع على جواز هذا الصلح، وكذلك فعلت سودة برسول الله صلى الله عليه وسلم حين وهبت يومها لعائشة؛ تبتغي بذلك مرضاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وروى عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خَشِيَت أن يطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: لا تطلقني، واحبسني مع نسائك، ولا تقسم لي، فنزلت إلى قوله:{إِعْرَاضًا}

(1)

، قال ابن عباس رضي الله عنهما يعني: البغض. وقال مجاهد: نزلت في أبي السنابل بن بعكك

(2)

.

واختلفوا هل ينتقض هذا الصلح؟

= ابن عمر من الرخصة في ذلك.

أضف إلى ذلك أن المصنف في "البدر المنير" 7/ 653 لما ذكر مَن روي عنه النهي لم يذكر ابن عمر فيهم، وكذا فعل الحافظ في "التلخيص" 3/ 1803 - 181. أما الترمذي فقد حسن حديث عليّ بن طلق (1164)، وقال في حديث ابن عباس (1166) حسن غريب.

(1)

رواه الترمذي (3040) وقال: حسن صحيح غريب.

(2)

رواهما ابن جرير في "تفسيره" 4/ 308.

ص: 46

فقال عَبيدة: هما على ما اصطلحا عليه، فإن انتقضت فعليه أن يعدل عليها أو يفارقها

(1)

. وبه قال النخعي ومجاهد وعطاء، وحكى ابن المنذر أنه قول الثوري والشافعي وأحمد، وقال الكوفيون: الصلح في ذلك جائز.

وقال ابن المنذر: ولا أحفظ في الرجوع شيئًا.

وقال الحسن البصري: ليس لها أن تنقض، وهما على ما اصطلحا عليه

(2)

. وقول الحسن هو قياس قول مالك فيمن أنظره بالدين أو أعار عاريةً إلى مدة أنه لا يرجع في ذلك، وقول عَبيدة هو قياس قول أبي حنيفة والشافعي؛ لأنها هبة منافع طارئة لم تقبض فجاز فيها الرجوع.

(1)

رواه الطبري في "تفسيره" 4/ 306.

(2)

"الإشراف" 1/ 118 - 119، وانظر:"الاستذكار" 16/ 382.

ص: 47

‌96 - باب العَزْلِ

5207 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كُنَّا نَعْزِلُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. [5208، 5209 - مسلم: 1440 - فتح 9/ 305].

5208 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ عَمْرٌو: أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ، سَمِعَ جَابِرًا رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا نَعْزِلُ وَالْقُرْآنُ يَنْزِلُ. [انظر: 5027 - مسلم: 1440 - فتح 9/ 305].

5209 -

وَعَنْ عَمْرٍو، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كُنَّا نَعْزِلُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْقُرْآنُ يَنْزِلُ. [انظر: 5207 - مسلم: 1440 - فتح 9/ 305].

5210 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ، حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ مُحَيْرِيزٍ، عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: أَصَبْنَا سَبْيًا، فَكُنَّا نَعْزِلُ، فَسَأَلْنَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:«أَوَإِنَّكُمْ لَتَفْعَلُونَ؟ -قَالَهَا ثَلَاثًا- مَا مِنْ نَسَمَةٍ كَائِنَةٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِلاَّ هِيَ كَائِنَةٌ» . [انظر: 3229 - مسلم: 1438 - فتح 9/ 305].

ذكر فيه حديث جابر رضي الله عنه: كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي لفظ: كنا نعزل والقرآن ينزل.

وفي لفظ: كنا نعزل على عهد النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل.

وحديث الزهري عن ابن محيريز، عن أبي سعيد: أصبنا سبيًا فكنا نعزل، فسألنا النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"أو أنكم لتفعلون؟ -قالها ثلاثًا- ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا وهي كائنة".

الشرح:

هذان الحديثان أخرجهما مسلم، ولفظه في الأول: كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان نهى عنه لنهانا عنه القرآن. وفي لفظ: فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينهنا.

ص: 48

وفي لفظٍ: سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن عندي جارية وأنا أعزل عنها فقال صلى الله عليه وسلم: "إن ذلك (لم)

(1)

يمنع شيئًا أراده الله" قال: فجاء الرجل فقال: يا رسول الله التي كنت ذكرتها لك حبلت. فقال عليه السلام: "أنا عبد الله ورسوله"

(2)

. وفي لفظ: إن لي جارية هي خادمنا وسانيتنا، وأنا أطوف عليها، وأنا أكره أن تحبل، فقال:"اعزل عنها إن شئت؛ فإنه سيأتيها ما قدر لها" فلبث الرجل ثم أتاه فقال: إن الجارية قد حبلت. فقال: "قد أخبرتك أن سيأتيها ما قدر لها"

(3)

.

وللنسائي: كان لنا جواري وكنا نعزل عنهن فقالت اليهود: إن تلك الموءودة الصغرى. فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: "كذبت اليهود، ولو أراد الله عز وجل أن يخلقه لم تستطع رده"

(4)

. ولأبي قرة السكسكي: ذكر المثنى بن الصباح، عن عطاء، عن جابر رضي الله عنه أنهم كانوا يعزلون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا أذنت الحرة، وأما الأمة فيعزل عنها.

ولفظ مسلم في الثاني: "ما من كل الماء يكون الولد، وإذا أراد الله خلق شيء لم يمنعه شيء"

(5)

. وفي لفظ: "ماكتب الله خلق نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا وستكون"

(6)

. ولأحمد: "أنت تخلقه؟ أنت ترزقه؟ أقره قراره، فإنما ذلك القدر"

(7)

. وفي لفظ: إن اليهود تحدث أن

(1)

كذا في الأصول، وفي مسلم: لن.

(2)

مسلم (1439/ 135).

(3)

مسلم (1439/ 134).

(4)

"السنن الكبرى" 5/ 340 (9078).

(5)

مسلم (1438/ 133).

(6)

مسلم (1438/ 125).

(7)

"المسند" 3/ 53.

ص: 49

العزل (الموءودة)

(1)

الصغرى، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"كذبت اليهود، ولو أراد الله أن يخلقه ما استطعت أن تصرفه"

(2)

.

وللترمذي: ولم يقل: ولا يفعل ذلك أحدكم

(3)

.

وللنسائي من حديث محمد بن يحيى، عن ابن محيريز أنه سمع أبا صرمة وأبا سعيد الخدري يقولان: أصبنا سبايا. الحديث

(4)

.

والذي في مسلم أن أبا صرمة سأل أبا سعيد وابن محيريز يسمع

(5)

، وهو المحفوظ. وفي رواية: أصبنا سبايا في غزوة بني المصطلق، وهي الغزوة التي أصاب فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم جويرية. وقد سلف هذا الحديث، وللكجي

(6)

: أن رجلًا من أشجع سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن امرأتي ترضع، وأنا أكره أن تحمل، أفأعزل عنها؟ قال:"ما قدر في الرحم سيكون".

وقال محمد بن عبد الرحمن الأنصاري -شيخ أيوب-: قوله: "لا عليكم أن (لا)

(7)

تفعلوا" أقرب إلى النهي

(8)

.

(1)

في الأصول: موءودة. ولعل المثبت هو الصواب.

(2)

رواه أبو داود (2171)، والنسائي في "الكبرى" 5/ 341 (9079).

(3)

الترمذي (1138) وقال: حسن صحيح.

(4)

"السنن الكبرى" 5/ 343 (9089).

(5)

مسلم (1438/ 125).

(6)

هو الشيخ الإِمام الحافظ المعمر شيخ العصر، أبو مسلم، إبراهيم بن عبد الله بن مسلم بن ماعز بن مهاجر، البصري، الكجي صاحب "السنن"، مات ببغداد في سابع المحرم سنة اثنتين وتسعين ومائتين.

انظر ترجمته في: "تاريخ بغداد" 6/ 120 - 124، "المنتظم" 6/ 50 - 52، "سير أعلام النبلاء" 13/ 423 - 425.

(7)

من (غ).

(8)

رواه مسلم (1438/ 130).

ص: 50

وقال الحسن البصري: والله لكأن هذا زجر

(1)

. وفي لفظ: أنه عليه السلام سئل عن العزل ما هو، فلما أخبره قال:"لا عليكم أن لا تفعلوا ذاكم"

(2)

.

وفي "المصنف": قال أبو سعيد: ابنتي هذِه التي في الخدر من العزل

(3)

.

وفي الباب أيضًا أحاديث:

أحدها: حديث عامر بن سعد أن أسامة بن زيد أخبر والده أن رجلًا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أعزل عن امرأتي. فقال: "لمَ تفعل ذلك؟ " قال الرجل: أشفق على ولدها، فقال عليه السلام:"لو كان ذلك ضارًّا ضر فارس والروم"

(4)

. وعزاه عبد الحق إليه من طريق سعد ابن أبي وقاص

(5)

. وليس ذلك فيه، وأقره ابن القطان، ووقع في "سنن الكجي" من حديث (حيوة)

(6)

، عن عياش، عن أبي النضر، عن عامر: سمعت أسامة بن زيد يحدث عن والده -أو قال: يحدث والده شك عياش ابن عباس- أن رجلًا سأل .. الحديث

(7)

.

(1)

رواه مسلم (1438/ 131).

(2)

الحديث السابق.

(3)

"المصنف" لابن أبي شيبة 3/ 503.

(4)

رواه مسلم (1443) ولعله سقط من الناسخ: أخرجه مسلم. وإليه يرجع الضمير في قوله: وعزاه عبد الحق (إليه) كما في "أحكامه"، كما أن المصنف قد ألحق بالأحاديث التي سوف يذكرها بَعْدُ تخريجها، فأين في هذا الحديث؟! والله أعلم.

(5)

"الأحكام الوسطي" 3/ 166.

(6)

في الأصول: جبيرة، ولعله تحريف، والمثبت من مصادر التخريج.

(7)

هو بسنده من حيوة إلى آخره عند مسلم (1443)، وأحمد 5/ 203، والطبراني في "الكبير" 1/ 161، والبيهقي 7/ 465.

ص: 51

ثانيها: حديث جدامة بنت وهب مرفوعًا: "إنه الوأد الصغير الخفي". أخرجه مسلم

(1)

، أسلمت جدامة قبل الفتح أو عامه.

ثالثها: حديث أنس بن مالك مرفوعًا: "لو أن الماء الذي يكون منه الولد أهرقته على صخرة، لأخرج الله عز وجل أو ليخلقن الله- نفسًا هو خالقها". رواه أحمد

(2)

.

رابعها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العزل، وقيل: إن اليهود تزعم أنها الموءودة الصغرى فقال: "كذبت يهود، لو أراد الله خلقًا لم تستطع عزلها". رواه النسائي

(3)

.

خامسها: عن القاسم بن حسان، عن عمه عبد الرحمن بن حرملة، عن ابن مسعود رضي الله عنه: كان عليه السلام يكره عشرة خلال، فذكرها وفيه:"وعزل الماء لغير محله". أخرجه النسائي

(4)

. قال البخاري: عبد الرحمن هذا لم يصح حديثه

(5)

. وأدخله البخاري في الضعفاء وقال علي: في إسناده من لا يعرف، ولا نعرفه في أصحاب ابن مسعود

(6)

، وقال أبو حاتم: فقال: ليس بحديث عبد الرحمن بأس يحول من كتابه "الضعفاء"

(7)

.

(1)

مسلم (1442/ 141) وفيه: ذلك الوأد الخفي.

(2)

أحمد 3/ 140 وفيه: "لأخرج الله منها -أو يخرج منها- ولدًا، وليخلقن الله نفسًا هو خالقها".

(3)

"السنن الكبرى"(9083).

(4)

"المجتبى" 8/ 141.

(5)

"التاريخ الكبير" 5/ 270.

(6)

"العلل" لابن المديني ص 251 - 252.

(7)

"الجرح والتعديل" 5/ 222 - 223 ونص عبارته: سألت أبي عنه فقال: ليس بحديثه بأس وإنما روى حديثًا واحدًا ما يمكن أن يعتبر به ولم أسمع أحدًا ينكره ويطعن عليه، وأدخله البخاري في كتاب "الضعفاء"، وقال أبي: يحول منه اهـ.

ص: 52

وقال ابن عدي: قول البخاري: لم يصح حديثه. يعني: أن عبد الرحمن لم يسمع من ابن مسعود، وأشار إلى حديث واحد

(1)

. وكذا قال الخطيب في "المتفِق والمفترق": ليس له إلا حديث واحد. وأما ابن حبان فذكره في "ثقاته"

(2)

، وخرج حديثه في "صحيحه"، واستدركه الحاكم وقال: صحيح الإسناد

(3)

.

وقال ابن حزم: وكذا صح عن زيد بن ثابت وابن عباس وسعد رواية الإباحة

(4)

.

وفي "سؤالات أبي داود": سمعت أبا عبد الله، وذكر حديث ابن لهيعة، عن جعفر بن ربيعة، عن الزهري، عن المحرر بن أبي هريرة، عن أبيه رفعه:"لا يعزل عن الحرة إلا بإذنها". فقال: ما أنكره، وأخرجه ابن ماجه من هذا الوجه بزيادة عمر

(5)

.

وقال الدارقطني: تفرد به إسحاق بن عيسى الطباع، عن ابن لهيعة [عن جعفر بن ربيعة]

(6)

، عن الزهري به، ووهم فيه. وخالفه عبد الله بن وهب فرواه عن ابن لهيعة، عن جعفر، عن الزهري، عن حمزة بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، عن عمر، ووهم أيضًا، والصواب: مرسل عن حمزة، عن عمر

(7)

. ليس فيه: عن أبيه. وقال أبو حاتم: حدثنا أبو صالح -كاتب الليث- عن ابن لهيعة، عن جعفر، عن

(1)

"الكامل" 5/ 504 (1140).

(2)

"الثقات" 5/ 95.

(3)

ابن حبان (5683)، الحاكم 4/ 195.

(4)

"المحلى" 10/ 71.

(5)

ابن ماجه (1928).

(6)

ساقطة من الأصول، ومثبتة من "العلل".

(7)

"العلل" 2/ 93 وفيه: والصواب مرسل عن عمر اهـ.

ص: 53

حمزة، عن أبيه، عن عمر قال: وهو أصح، وهذا من تخاليط ابن لهيعة

(1)

.

وأخرجه ابن أبي شيبة من حديث مندل بن علي، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن عبد الله بن أبي الهُذيل، عن جرير قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ما خلصت إليك من المشركين إلا بقينة، وأنا أعزل عنها أريد بها السوق فقال عليه السلام:"جاءها ما قدر".

ومن حديث عبد الله بن محيريز قال: انطلقت أنا وأبو (ضمرة المازني)

(2)

فوجدنا أبا سعيد يحدث كما يحدث أبو سلمة وأبو أمامة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"كذبت يهود". وقال في آخره: "وما عليكم أن لا تفعلوا، وقد قدر الله ما هو خالق إلى يوم القيامة"

(3)

.

وفي سؤالات مهنا: سألت أحمد عن حديث هشام الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير، عن سوار الكوفي، عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: يعزل الرجل عن أمته، ولا يعزل عن الحرة إلا بإذنها. فقال: كان يزيد يرويه عن هشام. قلت: عن سوار هذا؟ قال: لا أدري. قلت: بلغني عن يحيى بن سعيد أنه كان يقول: هذا الحديث شبه لا شيء. فقال أحمد: كذاك هو.

وقال عبد الله بن أحمد: قرأت على أبي، عن وكيع، عن سفيان، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جمانة -أو أن جمانة سرية على بن أبي طالب- قالت: كان عليّ يعزل عنا. فقلنا له فقال: أحيي شيئًا أماته الله

(4)

.

(1)

"العلل" 1/ 412.

(2)

في الأصول: (صرمة الماوي) وهو تحريف والمثبت من "المصنف".

(3)

"المصنف" 3/ 504 (16601 - 16603).

(4)

"العلل ومعرفة الرجال" 2/ 585 (3782).

ص: 54

وفي "المصنف" بسند صحيح أن عليًّا رضي الله عنه قال: العزل: الوأد الخفي. وعن عكرمة أن زيد بن ثابت وسعد بن أبي وقاص كانا يعزلان، وحكاه أيضًا عن رافع بن خديج وخباب بن الأرت وأبي أيوب الأنصاري وأبي بن كعب وعلي بن حسين وعلقمة، وأصحاب عبد الله وأنس والحسن بن علي وابن مغفل وابن عباس، وسئل عنه (سعيد)

(1)

بن المسيب فقال: هو حرثك إن شئت أعطشته، وإن شئت أرويته. وكذا قاله عكرمة وقال الحسن: اختلف فيه الصحابة

(2)

.

إذا تقرر ذلك، فقد اختلف السلف في العزل، فذكر مالك في "الموطأ" عن سعد بن أبي وقاص وأبي أيوب الأنصاري وزيد بن ثابت وابن عباس أنهم كانوا يعزلون

(3)

. وذكره ابن المنذر عن علي وخباب بن الأرت وجابر وقال: كنا نفعله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروي عن جماعة من التابعين منهم ابن المسيب وطاوس

(4)

، وبه قال مالك والكوفيون والشافعي وجمهور العلماء

(5)

، وكرهته طائفة، ذكره ابن المنذر، عن الصديق والفاروق وعثمان. وعن علي رواية أخرى، وعن ابن مسعود وابن عمر وشدد فيه

(6)

، وقال أبو أمامة: ما كنت أرى أن مسلمًا يصنعه. وقال سالم: هي الموءودة. وكرهه إبراهيم أيضًا

(7)

.

(1)

في الأصول: عيسى، والمثبت هو الصواب كما في "المصنف".

(2)

"المصنف" 3/ 501 - 503.

(3)

"الموطأ" ص 367 - 368.

(4)

"الإشراف" 1/ 137 بتصرف.

(5)

"شرح معاني الآثار" 3/ 30، 31، "المنتقى" 4/ 142، "البيان" 9/ 507 - 508.

(6)

"الإشراف" 1/ 137.

(7)

روى هذِه الآثار ابن أبي شيبة 3/ 503 - 504 (16598 - 16600).

ص: 55

حجة الجمهور الأحاديث السالفة، وروي أيضًا عن أبي الزبير، عن جابر أنه صلى الله عليه وسلم أذن فيه. ولا يفهم من قوله:"أو تفعلون ذلك؟ " إلا الإباحة، وهو خلاف ما أسلفناه عن الأنصاري، نعم يشهد آخر الحديث:"ما من نسمة .. " إلى آخره للإباحة يقول: قد فرغ من الخلق، فاعزلوا أو لا تعزلوا، فإن قدر أن يكون ولدًا لم يمنعه عزل؛ لأنه قد يكون مع العزل إفضاء بقليل الماء الذي قدر الله أن يكون منه الولد، وقد يكون الاسترسال والإفضاء ولا يكون ولد، فالعزل أو الإفضاء سواء في أن لا يكون منه ولد إلا بتقدير الله.

واحتج من كرهه بحديث جدامة بنت وهب الأسدية السالف، وأنكره الأولون، وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنكار ذلك.

وحديث أبي سعيد السالف فيه إكذاب من زعم أنه موءودة، وقد روي عن عليّ رَفْع ذلك، والتنبيه على فساده بمعنى حسن لطيف، وروى الليث عن معمر بن أبي حبيبة، عن عبيد الله بن عدي بن الخيار قال: تذاكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عند عمر العزل، فاختلفوا فيه، فقال عمر: قد اختلفتم أنتم، وأنتم أهل بدر الأخيار، فكيف بالناس بعدكم؟ فقال عليّ: إنها لا تكون موءودة حتى (تمر)

(1)

بالتارات السبع، قوله تعالى:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12)}

الآية [المؤمنون: 12] فعجب عمر من قوله، وقال: جزاك الله خيرًا. فأخبر عليّ أنه لا يوأد إلا من قد نفخ فيه الروح قبل ذلك، وما لم ينفخ فيه الروح فهو موات غير موءودٍ.

(1)

في الأصول: تتم، والمثبت من "شرح معاني الآثار" وهو الصواب.

ص: 56

وروى سفيان [عن الأعمش]

(1)

عن أبي الوداك أن قومًا سألوا ابن عباس عن العزل، فذكر مثل كلام عليّ سواء، فهذا عليّ وابن عباس قد اجتمعا على ما ذكرنا، وتابعهما عمر ومن كان بحضرته من الصحابة، فدل على أن العزل غير مكروه

(2)

.

وذهب مالك وجمهور العلماء إلى أنه لا يعزل عن الحرة إلا بإذنها، فإن منعت زوجها لم يعزل، وحكاه ابن بطال عن الشافعي

(3)

، ومشهور مذهبه الجواز من غير توقف على إذنها مع الكراهة، وقطع الرافعي والنووي في الأمة بالجواز

(4)

، والخلاف فيه حكاه الروياني في "البحر".

واختلفوا في العزل عن الزوجة الأمة، فقال مالك والكوفيون: لا يعزل عنها إلا بإذن سيدها

(5)

. وقال الثوري: لا يعزل عنها إلا بإذنها. وقال الشافعي: لا يعزل عنها دون إذنها، ودون إذن مولاها. كذا حكاه ابن بطال عنه

(6)

، وهو غريب، فمذهبنا لا تحريم فيها. وحاصل مذهبنا أنه خلاف الأولى، وأطلق بعضهم الكراهة في كل حال، وكل امرأة سواء رضيت أم لا.

وأما التحريم فلا يحرم في مملوكته، ولا في زوجته الأمة سواء رضيتا أم لا؛ لما عليه في ذلك من الضرر، وأما الحرة فإن أذنت لم يحرم، وإلا وجهان: أصحهما: لا. والحاصل أربعة أقوال: الإباحة

(1)

ساقطة من الأصول، ومثبتة من "شرح معاني الآثار".

(2)

انظر ما سبق من قوله: حجة الجمهور، إلى هنا في "شرح معاني الآثار" 3/ 30 - 35.

(3)

"ابن بطال" 7/ 331.

(4)

"ابن بطال" 7/ 331.

(5)

انظر: "شرح معاني الآثار" 3/ 31، "المنتقى" 4/ 143.

(6)

"روضة الطالبين" 7/ 205.

ص: 57

مطلقًا، والحرمة مطلقًا، والجواز بالإذن، والحرمة في الحرة

(1)

.

وجمع ابن التين في المسألة أربعة أقوال عندهم: يعزل حرة كانت أو أمة. يقابله: يعزل في الأمة دون الحرة، في (السرية)

(2)

برضاها، وفي الأمة المزوجة برضا سيدها، وهو قول مالك

(3)

.

وأغرب ابن حزم فقال: لا يحل العزل عن حرة ولا عن أمة، برهان ذلك حديث جدامة قال: وهو في غاية الصحة.

واحتج من أباحه بخبر أبي سعيد الذي فيه: "لا عليكم ألا تفعلوا" قال: وهذا إلى النهي أقرب، وكذلك قاله ابن سيرين، واحتجوا بتكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم قول يهود، وبأخبار أخر لا تصح، ويعارضها كلها خبر جدامة. وقد علمنا بيقين أن كل شيء أصله الإباحة حتى ينزل التحريم، فصح أن خبر جدامة بالتحريم هو الناسخ لجميع الإباحات المتقدمة التي لا شك أنها قبل البعث وبعد البعث، قال: وهذا أمر متيقن؛ لأنه إذا أخبر صلى الله عليه وسلم أنه الوأد الخفي، والوأد محرم،

فقد نسخ الإباحة المتقدمة، وبطل قول من ادعى غيره

(4)

.

فأما الطحاوي فإنه عكس هذا وقال: يحتمل أن خبر جدامة لما كان على الناس موافقة أهل الكتاب مالم يحدث الله ناسخه، ثم إن الله أعلمه بكذبهم، وأن الأمر في الحقيقة بخلاف ذلك، فأعلم أمته بكذبهم وأباح العزل على ما في حديث أبي سعيد، وأن الله إذا أراد شيئًا لا يمكن وقوع غيره

(5)

.

(1)

انظر: "روضة الطالبين " 7/ 205.

(2)

في الأصل أعلاها كلمة: كذا. ومقابلها في الحاشية: كذا الحرية.

(3)

انظر: "الموطأ" ص (368).

(4)

"المحلى" 10/ 70 - 71.

(5)

"شرح مشكل الآثار" 5/ 173.

ص: 58

(وبمعناه قاله أبو الوليد ابن رشد، وقال ابن العربي)

(1)

: خبر جدامة مضطرب. وقد قال قوم: إن ذلك كان قبل أن يبين الله له جواز ذلك، فكان يتبع اليهود فيما لم يتبين له فيه شرع، وهذا سقط عظيم؛ فإنه إنما كان يحب موافقتهم فيما لم ينزل عليه فيه شيء مما لم يكن من كذبهم وتبديلهم، وقد صرح هنا بتكذيبهم، فكيف يصح أن يكون معهم على كذبهم ويخبرهم به ثم يكذبهم فيه؟! هذا محال عقلًا، لا يجوز على الأنبياء

(2)

.

وقد ذهب قومٌ إلى أن النطفة من الرجل فيها روح، فصَرْفُها عن الرحم إتلاف لذلك الروح؛ فلذلك جُعِل وأدًا، وقد أنزل الله في كتابه ما أوضح وقت إمكان الولد، وهو التارات السبع السالف، فأعلمه الله بذلك الوقت الدي يكون فيه الحياة في المخلوق من النطفة، فيجوز أن يوءد حينئذٍ، فيكون ميتًا، أو يستحيل أن يوأد ما قبل ذلك؛ لأنه ميت كسائر الأشياء التي لا حياة فيها، وقال ابن لهيعة فيما ذكره الصولي في كتاب "التسليم": لا تكون موءودة حتى (تتطور)

(3)

ثم تستهل، وحينئذ إذا ثبتت فيه وئدت.

فصل:

لما سألوا العزل أجابهم، وسكت عن أمر الموطوءات المشركات، فاغتر بهذا الظاهر قومٌ فقالوا: يجوز وطء الوثنيات والمجوسيات بالملك، وإن لم يسلمن، وإليه ذهب طاوس وابن المسيب

(4)

،

(1)

كذا في الأصول وفي "فتح الباري" 9/ 309: وتعقبه ابن رشد ثم ابن العربي اهـ.

(2)

"عارضة الأحوذي" 5/ 76 - 77.

(3)

في الأصل: ينظر، والمثبت من (غ).

(4)

رواه عنهما عبد الرزاق 7/ 197 (12759 - 12760).

ص: 59

واختلف في ذلك عن عطاء ومجاهد

(1)

، وحكى ابن أبي شيبة عن عطاء، وعمرو بن دينار أنهما لا يريان بالتسري بالمجوسية بأسًا قال: وكرهه سعيد بن المسيب

(2)

، و (يرده)

(3)

قوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221]. وإلى التمسك بعموم الآية صار جمهور العلماء، ولم يعولوا على ما ظهر من هذا الحديث، ورأوا أن ذلك محمول على جواز وطء من أسلم منهن، وأن الفداء المتخوف فوته بوطئهن إنما هو أثمانهن، وقد دل على صحة هذا التأويل ما ذكر في حديث أبي سعيد، ثم إنا نقول: لو سلمنا أن ظاهر هذا الحديث جواز الإقدام على وطء المسبيات من غير (إسلام)

(4)

لزم جواز الإقدام على وطئهن من غير استبراء [و]

(5)

مع وجود الحمل البين وهو ممنوع اتفاقًا، فيلزم المنع من الوطء، لاستوائهما في الظهور، ويعلم قطعًا أنهم لا يقدمون على وطء فرج لا يتحقق حله، وكذلك يعلم أنهم لا بد لهم من استبراء وإسلام، وإن كان الراوي قد سكت عنه، وسكوته إما هو للعلم بها وإما لأن الكلام يجمل (في)

(6)

غير مقصوده

(7)

.

(1)

انظر: "الاستذكار" 18/ 202.

(2)

"المصنف" 3/ 477 (16310).

(3)

في الأصول: يرد، والمثبت هو المناسب للسياق.

(4)

من (غ).

(5)

زيادة يقتضيها السياق، مثبتة من "المفهم".

(6)

في الأصل: على، والمثبت من (غ) وهو الموافق لما في "المفهم".

(7)

عبارة "المفهم": يُجْمِل في غير مقصود، ويفصل في مقصوده اهـ. وهذِه الزيادة هامة كما ترى.

ص: 60

والذي يزيح الإشكال ويرفعه ما رواه عبد الرزاق عن الحسن قال: كنا نغزو مع الصحابة، وإذا أراد أحدهم أن يصيب الجارية من الفيء أمرها فغسلت ثيابها واغتسلت، ثم علمها الإسلام، وأمرها بالصلاة، واستبرأها بحيضة، وأصابها. وكذلك رواه أيضًا عن الثوري أنه قال: السنة أن لا يقع على مشركة حتى تصلي ويستبرئها وتغتسل

(1)

.

والذي حركهم على السؤال عن العزل خوفهم أن يكون محرمًا؛ لأنه قطع النسل.

فصل:

قوله: ("أَوَ إِنَّكُمْ لَتَفْعَلُونَ"؟ قَالَهَا ثَلَاثًا) وهي رواية جويرية عن مالك، وفي رواية:"لا عليكم أن لا تفعلوا" وهي رواية ابن القاسم، وغيره عن مالك. وفهمت طائفة منه النهي عن العزل والزجر عنه. كما حكي عن الحسن ومحمد بن المثنى وقد سلف، وكأن هؤلاء فهموا من "لا" النهي عما سئل عنه وحذف بعد قوله:"لا" فكأنه قال: لا تعزلوا "وعليكم أن لا تفعلوا" تأكيدا لذلك النهي.

وفهمت طائفة منهم أنه إلى النهي أقرب، وفهمت طائفة أخرى منها الإباحة، كأنها جعلت جواب السؤال قوله:"عليكم أن لا تفعلوا" أي: ليس عليكم جناح في أن لا تفعلوا، وهذا التأويل أولى بدليل قوله:"مَا مِنْ نَسَمَةٍ" إلى آخره وبقوله: "افعلوا أو لا تفعلوا إنما هو القدر"

(2)

وبقوله: "إذا أراد الله خلق شيء لم يمنعه" وهذِه الألفاظ كلها مصرحة بأن العزل لا يرد القدر ولا يضر، فكأنه قال: لا بأس به، وبهذا تمسك

(1)

عبد الرزاق 7/ 196 - 197.

(2)

لم أقف عليه بهذا اللفظ، وفي مسلم (1438/ 130) من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعًا:"لا عليكم إلا تفعلوا ذاكم، فإنما هو القدر".

ص: 61

من رأى إباحته مطلقًا عن الزوجة والأمة، وبه قال كثير من الصحابة والتابعين والفقهاء كما سلف، وكرهه آخرون من الصحابة وغيرهم متمسكين بالطريقة المتقدمة وبقوله:"ذلك الوأد الخفي" وكأن من وقفه على الإذن في الحرة رأى أن الإنزال من تمام لذتها ومن حقها في الولد، بخلاف الأمة، إذ لا حق لها في شيء مما ذكر، ويمكن على هذا أن يجمع بين الأحاديث المتعارضة في ذلك، (ويصير ما يفهم منه المنع إلى الحرة إذا لم تأذن، والإباحة إلى الإذن، والأمة (أن)

(1)

يحمل النهي على كراهية التنزية، والإذن على انتفاء الحرمة)

(2)

وإن كان ظاهر قوله: "أَوَإِنَّكُمْ لَتَفْعَلُونَ"، للإنكار والزجز، لكن يضعفه قوله:"مَا مِنْ نَسَمَةٍ" إلى آخره، فإذًا معناه الاستبعاد لفعلهم له، بدليل رواية:"ولمَ يفعل ذلك أحدكم؟ " قال الراوي: ولم يقل: ولا يفعل. فعلم أنه ليس بنهي، وهو أعلم بالمقال. وفي

رواية: "اعزل عنها إن شئت". وهو نص في الإباحة، وكذا قول جابر: فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينهنا.

ومعنى الرواية السالفة عن مسلم: "ما من كل الماء يكون الولد" أنه ينعقد في الرحم من جزء من الماء، لا يشعر العازل (بخروجه)

(3)

، فيظن أنه قد عزل كل الماء وإنما عزل بعضه، فيخلق الله الولد من ذلك الجزء اللطيف. قال الأطباء: وذلك الجزء هو الشيء الثخين الذي يكون في الماء على هيئة نصف عدسة.

(1)

من (غ).

(2)

عبارة "المفهم": فتصير الأحاديث التي يفهم منها المنع إلى الزوجة الحرة إذا لم تأذن، والتي يفهم منها الإباحة إلى الأمة والزوجة إذا أذنت، فيصح الجميع ويرتفع الإشكال. اهـ.

(3)

في الأصول: مخرجه، والمثبت هو الصواب، كما في "المفهم".

ص: 62

فصل:

الرواية السالفة: (خادمنا وسايسنا). كذا لابن الحذاء

(1)

في ساس الفرس يسوسه إذا خدمه، وروي أيضًا: سانيتنا يعني: الذي يسقي لهم الماء.

فصل:

فيه دليل على لحاق الولد بمن اعترف بالوطء وادعى العزل في الحرة والأمة، ولم يختلف عند المالكية في ذلك إذا كان الوطء في الفرج. كما قال القرطبي

(2)

.

خاتمة:

ابن محيريز المذكور في إسناد حديث أبي سعيد الخدري اسمه عبد الله بن محيريز بن جنادة بن وهب بن لوذان بن سعد بن جمح قرشي جمحي مكي، رباه أبو محذورة أوس بن معير بن لوذان، وأخوه أنس بن معير، قتل ببدر كافرًا.

قال رجاء بن حيوة: إن فخر علينا أهل المدينة بعابدهم ابن عمر، فإنا نفخر بعابدنا ابن محيريز، إنْ كنتُ لأعد بقاءه أمانًا لأهل الأرض. مات قبل المائة

(3)

.

(1)

انظر: "إكمال المعلم" 4/ 620.

(2)

اعلم أنه من قوله: فصل:

لما سألوا العزل

إلى هنا، قد نقله المصنف مع تقديم وتأخير فيه من كتاب القرطبي "المفهم" 4/ 164 - 169.

(3)

انظر ترجمته في: "تهذيب الكمال" 16/ 106 - 111.

ص: 63

‌97 - باب الْقُرْعَةِ بَيْنَ النِّسَاءِ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا

5211 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَيْمَنَ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِى مُلَيْكَةَ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا خَرَجَ أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ، فَطَارَتِ الْقُرْعَةُ لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا كَانَ بِاللَّيْلِ سَارَ مَعَ عَائِشَةَ يَتَحَدَّثُ، فَقَالَتْ حَفْصَةُ: أَلَا تَرْكَبِينَ اللَّيْلَةَ بَعِيرِي وَأَرْكَبُ بَعِيرَكِ، تَنْظُرِينَ وَأَنْظُرُ؟ فَقَالَتْ: بَلَى. فَرَكِبَتْ، فَجَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى جَمَلِ عَائِشَةَ وَعَلَيْهِ حَفْصَةُ فَسَلَّمَ عَلَيْهَا، ثُمَّ سَارَ حَتَّى نَزَلُوا وَافْتَقَدَتْهُ عَائِشَةُ، فَلَمَّا نَزَلُوا جَعَلَتْ رِجْلَيْهَا بَيْنَ الإِذْخِرِ وَتَقُولُ: يَا رَبِّ، سَلِّطْ عَلَيَّ عَقْرَبًا أَوْ حَيَّةً تَلْدَغُنِي، وَلَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقُولَ لَهُ شَيْئًا. [مسلم: 2445 - فتح 9/ 310].

ذكر فيه حديث عائشة رضي الله عنها: كَانَ إِذَا خَرَجَ أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ، فَطَارَتِ القُرْعَةُ لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ .. الحديث.

هذا الحديث سلف في الشهادات وغيرها، ومن طريق آخر عنها في حديث الإفك

(1)

. وللإسماعيلي بعد (عقربًا): ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر. وهو ظاهر فيما ترجم له من القرعة بين النساء عند إرادة السفر، وليس له المسافرة بمن شاء منهن بدونها، وهو قول أبي حنيفة والشافعي، وهو أحد الأقوال عن مالك.

ثانيها: عنه: له المسافرة بمن شاء مثهن بدونها.

ثالثها: لبعض أصحابه: إن سافر لحجًّ أو غزوٍ أقرع، أو لتجارةٍ خرج بمن شاء، وما نقلناه عن أبي حنيفة هو ما حكاه ابن بطال، ونقل غيره عنه أنه الأولى فقط

(2)

.

(1)

سلف برقم (2661).

(2)

انظر: "مختصر الطحاوي" ص (190)، "النوادر والزيادات" 4/ 613، "شرح ابن بطال" 7/ 332 - 333، "الكافي" لابن عبد البر ص (257)، "الأم" 5/ 99، "روضة الطالبين" 7/ 362.

ص: 64

وقال القرطبي: ليست واجبة عند مالك؛ لأنه قد يكون لبعضهن من الغناء في السفر والصلاحية مالا يكون لغيرها، فتتعين الصالحة لذلك؛ ولأن من وقعت عليها القرعة لا تجبر على السفر مع (الزوج)

(1)

لغزو ولا لتجارة

(2)

.

حجة الأولين حديث الباب، ولا يجوز العدول عنه، ووجه الثاني أن ضرورته في السفر أشد منها في الحضر، فيحتاج إلى من هي أوفق به من نسائه، وعون له على أموره، وأقوى على الحركة، فلذلك جاز له بغير قرعة.

وفيه: العمل بالقرعة في المقاسمات والاستهام، وقد تقدم ذلك في كتاب القسمة والشركة والشهادات، وهو مذكور أيضًا في الأيمان.

وفيه: أن القسم يكون بالليل والنهار، وقد بان ذلك في حديث عائشة رضي الله عنها قالت: وكان يقسم لكل امرأة منهن يومها وليلها. سلف في الشهادات

(3)

وغيره.

وفيه: أن الاستهام بين النساء مطلوب.

قال ابن بطال: وهو من السنن لا من الفرائض، يوضحه أن مدة السفر لا تحاسب به المتخلفة من النساء (الغادية)

(4)

، بل يبتدئ بالقسم بينهن إذا قدم على سبيل ما تقدم قبل سفره، ولا خلاف بين أئمة الفتوى في أن الحاضرة لا تقاصِّ المسافرة بشيء من الأيام التي انفردت بها في السفر عند قدومه، ويعدل بينهن فيما يستقبل. ذكره

(1)

في الأصول: المدح، وهو خطأ، والمثبت هو الصواب.

(2)

"المفهم" 6/ 329.

(3)

سلف برقم (2688).

(4)

في الأصول: الغازية، والمثبت هو الصواب كما في ابن بطال.

ص: 65

ابن المنذر عن مالك، والكوفيين، والشافعي، وأبي عبيد، وأبي ثور

(1)

.

وفي تحيل حفصة على عائشة رضي الله عنهما في بدل بعيرها في الركوب دليل على أنه ليس من الفروض؛ لأن حفصة لا يحل لها من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ما أباحه الله لها، وبذله من نفسه، فقد تحيلت، ولم يبين لها الشارع أن ذلك لا يحل لها، قاله المهلب

(2)

.

وادعى القرطبي أن عليها الدرك؛ لأنها خلفت مراده في حديثه، فقد يريد أن يحدث عائشة حديثًا يسره إليها، أو يختص بها، فتسمعه حفصة، قال: وهذا لا يجوز اتفاقًا، لكن حملها على ذلك الغيرة التي تورث الدهش والحيرة

(3)

. وقول المهلب: لو كان القسم واجبًا عليه لحرم على حفصة ما فعلت، ليس بلازم؛ لأن القائل بما يوجب القسم عليه لا يمنع من حديث الأخرى في غير وقت القسم؛ لجواز دخوله في غير وقت عماد القسم إلى غير صاحبة النوبة، ويقبلها ويلمسها من غير إطالة، وعماد القسم في حق المسافر وقت نزوله، وحالة السير منه ليلًا كان أو غيره.

وذكر ابن المنذر أن القسمة تجب بينهن كما تجب النفقة، وهذا يدل على أن القسمة بينهن فريضة، وقول أهل العلم يدل على ذلك، قال مالك: الصغيرة التي قد جومعت، والكبيرة البالغة في القسم سواء. وقال الكوفيون في المرأة تبلغ: إذا كان قد جامعها أنها والتي أدركت في القسم سواء، وهو قول أبي ثور.

(1)

"الإشراف" 1/ 115.

(2)

"شرح ابن بطال" 7/ 332 - 333.

(3)

"المفهم" 6/ 330.

ص: 66

وقال الشافعي: إذا أعطاها مالًا على أن تحلله من يومها وليلتها ففعلت فالعطية مردودة، وعليه أن يوفيها حقها

(1)

.

وفيه: أن دعاء الإنسان على نفسه عند الحرج وما شاكله يعفو الله عنه في أغلب الأحوال؛ لقوله تعالى: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ} [يونس: 11].

وفيه: أن المغيرة في النساء مسموح لهن فيها، وغير منكرة من أخلاقهن ولا معاقب عليها وعلى مثلها؛ لصبره عليه السلام لسماع مثل هذا من قولها، ألا ترى قولها:(ما أرى ربك إلا يسارع في هواك)

(2)

. ولم يرد ذلك عليها ولا زجرها وعذرها؛ لما جعل الله في فطرتها من شدة المغيرة.

فرع:

القرعة فيما قدمناه واجبة عندنا، وأما سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مبني على وجوب القسم في حقه، فمن قال بوجوبه يجعل إقراعه واجبًا، ومن لم يوجبه يقول: فعل ذلك من حسن العشرة ومكارم الأخلاق وتطييبًا لقلوبهن

(3)

.

فصل:

قولها: (وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا كَانَ بِاللَّيْلِ سَارَ مَعَ عَائِشَةَ يَتَحَدَّثُ)، (يحتمل)

(4)

كما قال الداودي أن يكون هذا في ليلة عائشة، والظاهر كما قال ابن التين خلافه؛ لأنه عليه السلام لو كان يمشي مع عائشة في ليلتها

(1)

"الإشراف" 1/ 116 - 117 بتصرف.

(2)

في (غ): أرى ربك يسارع في هواك.

(3)

انظر: "مسلم بشرح النووي" 15/ 210.

(4)

في الأصول: يحمل. والمثبت هو المناسب للسياق.

ص: 67

لفعل مثله بحفصة، ولم تحتج حفصة أن تركب بعير عائشة. وإتيانه عليه السلام إلى بعير عائشة يدل أن ذلك كانت عادته معها، ولذلك رغبت حفصة في مصاحبته في ليلةٍ، لما لم تره في تلك الليلة أدركتها المغيرة، ولم تجد إلى القول (سبيلًا)

(1)

فتمنت الموت أن عقربًا يقرصها.

فصل:

ظاهر حديث عائشة أنه لا يقسم بينهما في السير والحديث، وأن ذلك كان مع عائشة دائمًا دون حفصة، فيحتمل أن هذا القدر لا تجب القسمة فيه؛ إذ الطريق ليس محلًّا للخلوة، ولا يحصل لها منه اختصاص، ويحتمل أن يقال: إن القدر الذي يقع به التسامح من السير والحديث مع أحدهما كان يسيرًا، كما كان يفعل في الحضر، فإنه يتحدث ويسأل وينظر في مصلحة البيت من غير إكثار، وعلى هذا فيكون إنما أدام ذلك؛ لأن أصل القسم لم يكن عليه واجبًا.

ولم يختلف الفقهاء في أن الحاضرة لا تحاسب المسافرة فيما مضى لها مع زوجها في السفر كما سلف، وكذلك لا يختلفون في القسم بين الزوجات في السفر، كما يقسم بينهن في الحضر

(2)

.

فصل:

وقع في بعض النسخ بعد قولها: (يَا رَبِّ، سَلِّطْ عَلَيَّ عَقْرَبًا أَوْ حَيَّةً تَلْدَغُنِي): رسولَك. كذا هو بالنصب بإضمار فعل، التقدير: انظر رسولك. ويجوز الرفع على الابتداء، وإضمار الخبر، وقد أسلفنا أن في رواية الإسماعيلي: ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر.

(1)

من (غ).

(2)

انظر: "المفهم" 6/ 330.

ص: 68

وقولها: (وَلَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقُولَ شَيْئًا). ظاهره أنه عليه السلام لم يعرف القصة، أو يحتمل أن يكون عرفها بالوحي أو بالقرائن، وتغافل عليه السلام عما جرى؛ إذ لم يجر فيها شيء يترتب عليه حكم.

ص: 69

‌98 - باب الْمَرْأَةِ تَهَبُ يَوْمَهَا مِنْ زَوْجِهَا لِضَرَّتِهَا، وَكَيْفَ يُقْسِمُ ذَلِكَ

؟

5212 -

حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ وَهَبَتْ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْسِمُ لِعَائِشَةَ بِيَوْمِهَا وَيَوْمِ سَوْدَةَ. [انظر: 2593 - مسلم: 1463 - فتح 9/ 312].

ذكر فيه حديث عائشة رضي الله عنها أن سودة بنت زمعة وهبت يومها لعائشة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم يومها ويوم سودة.

هذا الحديث سلف في المظالم عنها في تفسير {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا} [النساء: 128]، وكذا في التفسير، في سورة النساء

(1)

.

ويريد بقوله: (وكيف يقسم ذلك) أن تكون فيه الموهوبة بمنزلة الواهبة في رتبة القسمة، فإن كان يوم سودة تاليًا ليوم عائشة أو رابعًا أو خامسا استحقته عائشة على حسب القسمة التي كانت لسودة، ولا تتأخر عن ذلك اليوم ولا تتقدم، ولا يكون تاليًا ليوم عائشة إلا أن يكون يوم سودة بعد يوم عائشة. قال المهلب: وأجراه النبي صلى الله عليه وسلم مجرى الحقوق الواجبة؛ ولم يجره على أصل المسألة من الحكم مما جعل الله له من ذلك؛ لقوله تعالى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} [الأحزاب: 51] فأجراه مجرى الحقوق، وتفضلًا منه عليه السلام؛ ليكون أبلغ في رضاهن كما قال تعالى:{ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ} [الأحزاب: 51] أي: لا يحزن إذا كان منزلًا عليك من الله، ويرضين بما أعطيتهن من تقريب وإرجاء.

(1)

سلف برقمي (2450، 4601).

ص: 70

وقال قتادة في قوله: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} الآية، قال: هذا شيء خصّ الله به نبيه، وليس لأحد غيره، كان يدع المرأة من نسائه ما بدا له بغير طلاق وإذا شاء راجعها.

قال غيره: وكان ممن آوى إليه عائشة وأم سلمة وزينب وحفصة، وكان قسمه من نفسه وماله فيهن سواء، وكان ممن أرجى: سودة وجويرية وصفية وأم حبيبة وميمونة، وكان يقسم لهن ما شاء.

واختلفوا في كم يقسم لكل واحدة من نسائه، فقال ابن القاسم: لم أسمع مالكًا يقول إلا: يومًا لهذِه ويومًا لهذِه

(1)

.

وقال الشافعي: إن أراد أن يقسم ليلتين ليلتين، وثلاثا ثلاثا كان له ذلك، وأكره مجاوزة الثلاث من (العدد)

(2)

(3)

. وهو الأصح من مذهبه

(4)

.

قال ابن المنذر: ولا أرى مجاوزة يوم؛ إذ لا حجة مع من تخطى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غيرها

(5)

، ألا ترى قوله في الحديث أن سودة وهبت يومها لعائشة، ولم يحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قسمته لأزواجه أكثر من يوم وليلة، ولو جاز ثلاثة لجاز خمسة وشهرًا، ثم يتخطى بالقول إلى ما لا نهاية له، ولا يجوز معارضة السنة.

وكان مالك يقول: لا بأس أن يقيم الرجل عند أم ولده اليوم واليومين والثلاثة، ولا يقيم عند الحرة إلا يومًا، من غير أن يكون

(1)

"المدونة" 2/ 197.

(2)

في الأصول: العدة، والمثبت من "الأم".

(3)

"الأم" 5/ 173.

(4)

انظر: "روضة الطالبين" 7/ 351 - 352.

(5)

"الإشراف" 1/ 117.

ص: 71

مضارًّا بها

(1)

. وكذلك قال الشافعي: يأتي الإماء ما شاء أكثر مما يأتي الحرائر الأيام والليالي، فإذا صار إلى الحرائر عدل بينهن

(2)

.

(1)

"المدونة" 2/ 199 بتصرف.

(2)

"الأم" 5/ 174 بتصرف.

ص: 72

‌99 - باب العَدْلِ بَيْن النِّسَاءِ {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَاسِعًا حَكِيمًا} [النساء: 129 - 130]

الشرح:

هذِه الآية نزلت في عائشة رضي الله عنها، ذكره ابن أبي شيبة في "مصنفه" عن ابن أبي مليكة. وقال عبيدة: هو الحب والجماع

(1)

.

ومعنى الآية: ولن تطيقوا أيها الرجال أن تسووا بين نسائكم في حبهن بقلوبكم، حتى تعدلوا بينهن في ذلك؛ لأن ذلك مما لا تملكونه، ولو حرصتم في تسويتكم بينهن في ذلك.

قال ابن عباس: لا تستطيع أن تعدل بالشهوة فيما بينهن ولو حرصت

(2)

.

قال ابن المنذر: ودلت هذِه الآية أن التسوية بينهن في المحبة غير واجبة. وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عائشة أحب إليه من غيرها من أزواجه، فلا تميلوا كل الميل بأهوائكم حتى يحملكم ذلك أن تجوروا في القسم على الذين لا تحبون.

وقوله: {فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} يعني: لا أيم، ولا ذات بعل

(3)

{وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 129] يقول: وإن تصلحوا فيما بينكم وبينهن بالاجتهاد منكم في العدل بينهن وتتقوا

(1)

"المصنف" 3/ 511 (16678 - 16679).

(2)

"تفسير الطبري" 4/ 312، 313.

(3)

رواه ابن جرير في "تفسيره" 4/ 315 عن ابن عباس، وسعيد بن جبير، والحسن، والربيع، ومجاهد، وابن أبي نجيح، والسدي.

ص: 73

الميل فيهن، فإن الله غفور ما عجزت عنه طاقتكم من بلوغ الميل منكم فيهن. وقد روى أصحاب السنن الأربعة من حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم فيعدل ويقول: "اللهم هذا قسمي فيما أملك؛ فلا تلمني فيما تملك ولا أملك" يعني: القلب. إسناده على شرط مسلم، كما أفصح به الحاكم. وذكر الترمذي والنسائي أنه روي مرسلاً، وذكر الترمذي أن المرسل أصح. وأما ابن حبان فصحح الأول، كما حكم الحاكم

(1)

.

وأخرج أصحاب السنن الأربعة أيضًا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما، جاء يوم القيامة وشقه مائل" قال الترمذي: لا نعرفه مرفوعًا إلا من حديث همام بن يحيى

(2)

. قلت: هو ثقة بالإجماع، لا جرم صححه ابن حبان، وكذا الحاكم على شرط الشيخين

(3)

.

قال الطحاوي: وكأن معنى هذا الحديث عندنا على الميل إليها بغير إذن صاحبتها له في ذلك، فأما إذا أذنت له في ذلك وأباحته فليس يدخل في هذا المعنى، كما فعلت سودة حين وهبت يومها لعائشة؛ لأن حقها إنما تركته بطيب نفسها، فهي في حكمها لو لم يكن له امرأة غيرها.

(1)

أبو داود (2134)، الترمذي (1140)، النسائي 7/ 63 - 64، ابن ماجه (1971)، ابن حبان (4205)، الحاكم 2/ 187.

(2)

أبو داود (2133)، الترمذي (1141)، النسائي 7/ 63، ابن ماجه (1969).

(3)

ابن حبان (4257)، الحاكم 2/ 186.

ص: 74

‌100 - باب إِذَا تَزَوَّجَ الْبِكْرَ عَلَى الثَّيِّبِ

5213 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا بِشْرٌ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه -وَلَوْ شِئْتُ أَنْ أَقُولَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَلَكِنْ قَالَ:- السُّنَّةُ إِذَا تَزَوَّجَ الْبِكْرَ أَقَامَ عِنْدَهَا سَبْعًا، وَإِذَا تَزَوَّجَ الثَّيِّبَ أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلَاثًا. [انظر: 5214 - مسلم: 1461 - فتح 9/ 313].

ذكر فيه حديث بشر بن خالد عن أبي قلابة عن أنس -لو شئت أن أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقلت، ولكن قال-: السنة إذا تزوج البكر أقام عندها سبعًا، وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثًا.

ص: 75

‌101 - باب إِذَا تَزَوَّجَ الثَّيِّبَ عَلَى الْبِكْرِ

5214 -

حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ رَاشِدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ وَخَالِدٌ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: مِنَ السُّنَّةِ إِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ الْبِكْرَ عَلَى الثَّيِّبِ أَقَامَ عِنْدَهَا سَبْعًا وَقَسَمَ، وَإِذَا تَزَوَّجَ الثَّيِّبَ عَلَى الْبِكْرِ أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ قَسَمَ. قَالَ أَبُو قِلَابَةَ: وَلَوْ شِئْتُ لَقُلْتُ: إِنَّ أَنَسًا رَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَيُّوبَ، وَخَالِدٍ، قَالَ خَالِدٌ: وَلَوْ شِئْتُ قُلْتُ: رَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. [انظر: 5213 - مسلم: 1461 - فتح 9/ 314].

ذكر فيه حديث أبي أسامة عن سفيان، ثنا أيوب وخالد، عن أبي قلابة، عن أنس رضي الله عنه قال: من السنة إذا تزوج الرجل البكر على الثيب أقام عندها سبعًا وقسم، وإذا تزوج الثيب على البكر أقام عندها ثلاثًا ثم قسم. قال أبو قلابة: ولو شئت لقلت: إن أنسًا رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وقال عبد الرزاق: أنا سفيان، عن أيوب وخالد، قال خالد: ولو شئت قلت: رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

الشرح:

هذا التعليق أخرجه مسلم، عن محمد بن رافع، عن عبد الرزاق، ولما ذكر الترمذي حديث خالد الحذاء صححه، ثم قال: وقد رفعه محمد بن إسحاق، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس، ولم يرفعه بعضهم

(1)

. كأنه يشير إلى ما رواه ابن ماجه، عن هناد بن السري، ثنا عبدة بن سليمان، عن محمد بن إسحاق، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "للثيب ثلاث وللبكر سبع"

(2)

.

(1)

الترمذي (1139).

(2)

ابن ماجه (1916).

ص: 76

وقال أبو حاتم: روى محمد بن إسحاق هذا الحديث عن الحسن بن دينار، عن أيوب. فكنت معجبًا بهذا الحديث حتى رأيت علته

(1)

.

ولم يتفرد به ابن إسحاق كما هو ظاهر إيراد الترمذي.

قال ابن حزم: أخرجه من حديث النبيل: ثنا سفيان بن سعيد، عن أيوب وخالد، كلاهما عن أبي قلابة، عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام عندها سبعًا

(2)

. وقال ابن عبد البر: لم يرفع حديث خالد، عن أبي قلابة، عن أنس في هذا غير أبي عاصم فيما زعموا. وأخطأ فيه. وأما حديث أيوب عن أبي قلابة فمرفوع، لم يختلفوا في رفعه

(3)

.

قلت: قد رفعه عنه سفيان الثوري كما أوردناه، وأخرجه أيضًا كذلك ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما من حديث عبد الجبار، عن سفيان، ثنا أيوب، فذكره مرفوعًا

(4)

.

وكذا أورده الإسماعيلي من حديث عبد الوهاب الثقفي، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "للبكر سبع، وثلاث للثيب" ولما ذكره الدارقطني في "الغرائب والأفراد" قال: تفرد برفعه عبد الجبار بن العلاء، عن سفيان بن عيينة، عن أيوب، عن أبي قلابة

(5)

، وفيه: ثم يعود إلى نسائه.

(1)

"علل الحديث" 1/ 407 - 408.

(2)

كذا في الأصول، ولعل هناك سقط، فالذي في "المحلى" 10/ 63 أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إذا تزوج البكر أقام عندها سبعًا، وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثًا".

(3)

"الاستذكار" 16/ 140 - 141.

(4)

ابن حبان (4208) من طريق ابن خزيمة، وهو في الجزء المفقدد من "صحيح ابن خزيمة".

(5)

كما في "أطراف الغرائب والأفراد" لابن طاهر المقدسي 2/ 270 - 271 (1347).

ص: 77

ورواه أيضًا من حديث عبد الجبار، وقال: تفرد به عن سفيان، عن حميد، عن أنس مرفوعًا

(1)

، وهو في "صحيح ابن خزيمة" و"ابن حبان" كذلك مرفوعًا

(2)

.

ورواه ابن وهب في "مسنده"، عن عبد الله بن عمر ومالك ويحيى بن أيوب، عن حميد. وتؤيده أحاديث، منها: حديث أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام عندها ثلاثا. جاء في رواية أنها أمسكت بثوبه لما أراد الخروج أَبَى وقال: "إنه ليس بك على أهلك هوان، إن شئت سبعت لك، وإن سبعت لك سبعت لنسائي" أخرجه مسلم. وفي رواية: "إن شئت ثلثت وَدُرْتُ". قالت: ثلث. وفي رواية: "للبكر سبع وللثيب ثلاث"

(3)

. زاد ابن وهب: "إن شئت أن أزيدك زدتك، ثم حاصصتك به بعد اليوم".

وللدارقطني: كُنْ عندي اليوم، فقال: "إن شئت كنت عندك اليوم (وقاصصتك)

(4)

به". ثم قال: "(للثيب)

(5)

سبع ليال". وفي رواية: "إن شئت أقمت معك ثلاًثا خالصة لك". قالت: تقيم معي ثلاثا خالصة لي

(6)

.

وللبيهقي: "إن لك على أهلك كرامة"

(7)

.

ولابن أبي حاتم من حديث أبي قتيبة، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن [أبي]

(8)

سلمة، عنها: "إن شئت سبعت لك وسبعت

(1)

كما في "أطراف الغرائب والأفراد" 2/ 71 (784).

(2)

ابن حبان (4209) من طريق ابن خزيمة، وهو في المفقود من "صحيح ابن خزيمة".

(3)

مسلم (1460/ 42).

(4)

في الأصل: (حاصصتك). والمثبت من (غ) وهو الموافق لما في "سنن الدارقطني".

(5)

في الأصل: (للبنت). وفي (غ) بدون تنقيط، والمثبت من "سنن الدارقطني".

(6)

"سنن الدارقطني" 3/ 283، 284.

(7)

"السنن الكبرى" 7/ 301.

(8)

ساقطة من الأصول، والمثبت من "العلل".

ص: 78

لنسائي، وإن شئت زدت في مهرك وزدت في مهورهن". ثم قال أبي: لو صح هذا الحديث لكانت الزيادة في المهر (جائزة)

(1)

(2)

.

وللدارقطني من طريق مرسلة: تزوجها في شوال، وفيه:"وإلا فثلاثتك ثم أدور عليك في ليلتك"

(3)

.

ومنها: لأبي داود: لما أخذ عليه السلام صفية أقام عندها ثلاثا، وكانت ثيبًا

(4)

.

ومنها: للدارقطني: من حديث الحجاج بن أرطأة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا تزوج الثيب فلها ثلاث، ثم يقسم"

(5)

، وفي "مصنف عبد الرزاق": أنا ابن جريج، عن عمرو بن شعيب وابن إسحاق قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "للبكر ثلاث وللثيب ليلتان"

(6)

. ومثله للدارقطني من حديث عائشة - بإسناد فيه ضعف - أنه عليه السلام قال: "البكر إذا نكحها رجل وله نساء لها ثلاث ليالٍ، وللثيب ليلتان"

(7)

.

قال الترمذي: وبه قال بعض أهل العلم، والقول الأول أصح

(8)

.

وفي "المصنف": لما ذكر خالد الحذاء لابن سيرين قول أنس: للبكر سبع وللثيب ثلاث. قال محمد: زدتم، هذِه أربعًا وهذِه ليلة. رواه ابن عيينة عنه

(9)

.

(1)

في الأصول: جارية، والمثبت هو الصواب.

(2)

"العلل" 1/ 405 - 206.

(3)

"سنن الدارقطني" 3/ 283.

(4)

أبو داود (2123).

(5)

"السنن" 3/ 283.

(6)

عبد الرزاق 6/ 237 (10650) بلفظ: للبكر ثلاث.

(7)

"السنن" 3/ 284.

(8)

"جامع الترمذي" عقب حديث (1139).

(9)

"المصنف" 3/ 536 (16943).

ص: 79

قال: وحدثنا عبد الأعلى، عن يونس، عن الحسن أنه قال: للبكر (ثلاثًا)

(1)

وللثيب ليلتين

(2)

. وفي حديث عبدة، عن سعيد، عن قتادة، عنه: يقيم عند البكر ثلاثًا، ويقيم عند الثيب ليلتين، ثم يقسم.

وحدثنا ابن مهدي عن حماد، عن إبراهيم: للبكر ثلاثًا، وللثيب ليلتين وثنا عبد الوهاب بن عطاء، عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن وسعيد بن المسيب وخلاس، قالوا: إذا تزوج البكر على امرأة أقام عندها ثلاثًا ثم يقسم، وإذا تزوج الثيب أقام عندها ليلتين ثم يقسم.

وحدثنا يزيد، عن حميد، قال الحسن: سبع وليلتين

(3)

.

قال ابن المنذر: وروي عن نافع أيضًا أنه قال: للبكر ثلاث وللثيب ليلتان

(4)

.

وقال الثوري: لهذا القول كان يقال ذلك. وقال الأوزاعي: إذا تزوج البكر على الثيب مكث ثلاثًا، وإذا تزوج الثيب على البكر مكث يومين. وفي "المحلى" عن عبد الرزاق عن ابن جريج أنه سأل عطاء عن ذلك، فقال عطاء: ما ترون عن أنس بن مالك أنه قال: للبكر ثلاثًا وللثيب ليلتين

(5)

.

وحكاه في "التمهيد"، عن الثوري: إذا تزوج البكر على الثيب أقام عندها ليلتين ثم قسم بينهما

(6)

.

(1)

في الأصل: ثلاث، والمثبت من (غ)، ولعله الصواب.

(2)

لم أقف عليه في "المصنف".

(3)

"المصنف" 3/ 536 - 537.

(4)

"الإشراف" 1/ 116.

(5)

"المحلى" 10/ 64، وانظر:"المصنف" 6/ 234 (10641).

(6)

"التمهيد" 17/ 246.

ص: 80

وحكاه في "الاستذكار" عن الأوزاعي: مضت السنة أن يقيم عند البكر [سبعًا]

(1)

وعند الثيب أربعًا. ثم قال أبو عمر: أربعًا خطأ، ولعله من خطأ اليد

(2)

.

وقال ابن أبي شيبة: ثنا أبو قطن، عن شعبة، عن الحكم وحماد أنهما قالا: هما في القسم سواء

(3)

.

قال ابن المنذر: وهو قول الكوفيين، وأجمع كل من أحفظ عنه العلم على أن القسم بين المسلمة والذمية سواء؛ لأنهن حرائر، فلا فرق بينهن في أحكام الأزواج.

وروينا عن علي رضي الله عنه أنه قال: إذا تزوج الحر الحرة على الأمة قسم للحرة يومين وللأمة يومًا.

وقال به سعيد بن المسيب ومسروق والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور، وذكر أبو عبيد أنه قول الثوري والأوزاعي وأهل الرأي.

وقال مالك: إذا تزوج العبد حرة وأمة عدل بينهما بالسوية. وقال الكوفيون: يقسم بينهما كما يقسم الحر، وبه قال أبو ثور.

وكان أبو حنيفة والشافعي وأبو ثور يقولون: الصحيح، والمريض، والعنين، والخصي، والمجبوب، في القسم سواء. وكان الشافعي يقول في المرأة تثقل: لا بأس أن يقيم عندها حتى تخف أو تموت، ثم يوفي

(1)

ساقطة من الأصول، ومثبتة من "التمهيد"، "الاستذكار".

(2)

"الاستذكار" 16/ 138، وأما قوله: أربعًا خطأ. فلم أجده لا في "التمهيد" ولا في "الاستذكار".

(3)

"المصنف" 3/ 536 (16951).

ص: 81

من بقي من نسائه مثل ما أقام عندها. وبه قال أبو ثور، وقال الكوفيون ما مضى هدر، ويستقبل العدل فيما يستقبل.

قال مالك وأبو حنيفة: الصغيرة التي جومعت والبالغ سواء.

وقال الشافعي وأبو حنيفة ومالك: الحائض، والنفساء، والمريضة، والمجنونة التي لا تمتنع، والصحيحة سواء في القسم.

قال الشافعي: إن أراد أن يقسم ليلتين ليلتين، أو ثلاثًا ثلاثًا، كان ذلك له، وأكره مجازوة الثلاث

(1)

.

وهذا سلف، وحاصل اختلاف العلماء في الباب أن طائفة قالت: يقيم عند البكر سبعا، وعند الثيب ثلاثًا. إذا كانت له امرأة أخرى أو أكثر، على النص السالف، ثم يقسم بينهما، ولا يقضي للمتقدمة بدل ما أقام عند الجديدة. وهو قول مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور، وأبي عبيد، حجتهم حديث الباب.

وأخرى قالت: للثيب ليلتين وللبكر ثلاثًا وهو قول ابن المسيب والحسن والأوزاعي -كما سلف - قال: إذا تزوج البكر على الثيب مكث ثلاثًا، وإذا تزوج الثيب على البكر أقام يومين.

وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يقيم عند البكر إلا كما يقيم عند الثيب، وهما سواء في ذلك؛ احتجاجا بحديث أم سلمة السالف:"ثلثت ودرت"

(2)

. فلم يعطها في السبع شيئًا إلا أعلمها أنه يعطي غيرها مثلها، فدل ذلك على المساواة بينهن، وكذلك قوله:"وإن شئت ثلثت ودرت" أي: أدور مثلثا أيضًا لهن، كما أدور سبعًا إن

(1)

"الإشراف" 1/ 116 - 117.

(2)

في الأصول: ثلث ودُر، والمثبت هو الصواب.

ص: 82

سبعت لك. ولو استحقت الثيب ثلاثة أيام قسمة لها، لوجب إذا سبع عندها أن يربع لهن.

أجاب عنه الأولون بأن قوله عليه السلام: "ليس بك على أهلك هوان" يدل على أنه رأى منها أنها استقلت الثلاث التي هي حقها فأنسها بذلك. أي: لست أقسم لك ثلاثًا لهوانك عندي، وإنما قسمتها لك؛ لأنه حق الثيب، وخيرها بين أعلى الحقوق وأشرفها عند النساء. وهي السبع، وبين الثلاث، على شرط: إن اختارت السبع قسم لكل (ثيب)

(1)

مثلها، وإن اختارت الثلاث التي هي حقها لم يقسم لغيرها مثلها، فرأت أن الثلاث التي هي حقها أفضل لها؛ إذ لا يقسم لغيرها مثلها، ولسرعة رجوعه إليها، فاختارتها وطابت نفسها عليها، ورأت أنها أرجح عندها من أن يسبع عندها على أن يسبع عند غيرها، وفي هذا ضرب من الرفق واللطف بمن يخشى منه كراهية سؤال الحق؛ حتى يتبين له فضله، ويختار الرجوع إليه.

ومما يبطل قول الكوفيين أنه إن ثلث عندها ثلث عندهن، ثم يستأنف القسم، أنه عليه السلام لما ذكر السبع قرنها بالقضاء -كما سلف - ولما ذكر الثلاث لم يقرنها به؛ لأن الدوران عليهن يقتضي ابتداء قسم لا قضاء، فسقط قولهم. وقد خالفوا حديث أم سلمة؛ لأنه عليه السلام جعل لها الخيار في القسم، وأبو حنيفة يجعله إلى الزوج، وفي هذا مخالفة الخبر. قال (أحمد)

(2)

بن خالد

(3)

: هذا الباب عجيب، إنه صار فيه أهل المدينة

(1)

من (غ).

(2)

في الأصول: محمد، وهو خطأ والمثبت هو الصواب.

(3)

هو الإمام الحافظ الناقد محدث الأندلس، أبو عمر، أحمد بن خالد بن يزيد القرطبي، يعرف بابن الجباب وهو نسبه إلى بيع الجباب. =

ص: 83

إلى ما رواه أهل العراق؛ لأن حديث أنس بصري، وصار فيه أهل العراق إلى ما رواه أهل المدينة، وقول أهل المدينة أولى؛ لقول أنس: السنة كذا، والصحابي إذا ذكر السنة بالألف واللام فإنما أشار إلى سنته عليه السلام، وقد خرج بذلك أيضًا كما سلف. واللام في قوله:"للبكر سبع وللثيب ثلاث" لام الملك، فدل أن ذلك حق من حقوقها فمحال أن يحاسبها بذلك.

وقول ابن المسيب والحسن خلاف الآثار، فلا معنى له، وكذلك قال أبو عمر فيه: عجيب؛ لأنه صار فيه أهل الكوفة إلى ما رواه أهل المدينة عن أم سلمة، وصار فيه أهل المدينة إلى ما رواه أهل العراق عن أنس

(1)

.

واحتج أبو حنيفة وداود ومن قال بالتسوية بين البكر والثيب بما يجب من العدل بين النساء، وبحديث عائشة رضي الله عنها وأبي هريرة المذكررين في آخر الباب قبله

(2)

.

قال محمد بن الحسن: لأن الحرمة لهما سواء، ولم يكن عليه السلام يؤثر واحدة على أخرى. واحتج بقوله: "إن سبعت لكِ سبعت لنسائي، وإن

= قال عياض: كان إمامًا في الفقه لمالك وكان في الحديث لا ينازع، سمع منه خلق كثير، وصنف "مسند مالك"، "كتاب الصلاة"، "الإيمان"، "قصص الأنبياء" توفي سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة.

انظر ترجمته في: "جذوة المقتبس" 113/ 114، "بغية الملتمس" 175 - 176، "سير أعلام النبلاء" 15/ 240 - 241.

(1)

"التمهيد" 17/ 246.

(2)

يقصد أثناء شرحه لباب: العدل بين النساء {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ} وحديث عائشة: "اللهم هذا قسمي فيما أملك"

الحديث. وحديث أبي هريرة: "من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل".

ص: 84

شئت ثلثت ودرت"

(1)

. يعني: بمثل ذلك أدور ثلاثًا ثلاثًا، ولم يعطها في السبع شيئًا إلا أعلمها، كما سلف.

وفي "فضائل الشافعي" للحاكم أن الشافعي لما احتج عليه بأنه لم يعطها في السبع شيئًا إلا أعلمها أنه يعطي غيرها مثله بقوله: إنها كانت ثيبًا، فلم يكن لها إلا الثلاث، فقال لها: إن أردت حق البكر وهي أعلى حقوق النساء وأشرفها عندهن بعفوك حقك إذ لم تكوني بكرا، فيكون لك سبع، فقلت: وإن لم تريدي غيره وأردت حقك، فهو ثلاث. قال: قال: حقه، فهل له وجه غيره؟ قلت: لا، إنما يخير من له حق يشركه فيه غيره، (في)

(2)

أن يترك من حقه. قلت له: يلزمك أن تقول مثل ما قلنا؛ لأنك زعمت أنك لا تخالف الواحد من الصحابة ما لم يخالفه مثله، ولا نعلم هنا مخالفا لما ذكره، والسنة ألزم لك من قولك

(3)

.

فصل:

عند أكثر العلماء ذلك واجب لها، كان عند الرجل زوجة أم لا؛ للحديث السالف، ولم يخص من له زوجة ممن لا زوجة له. وصححه ابن بطال، ونقل عن ابن عبد الحكم أن مراد الحديث: من له زوجة ثم تزوج عليها. وعن بعضهم: المراد العموم؛ لأن السنة لم تخص. ثم نقل عن ابن القاسم عن مالك أن المقام المذكور إذا كان له امرأة أخرى واجب، وعن ابن عبد الحكم أنه مستحب

(4)

.

(1)

انظر: "الاستذكار" 16/ 139.

(2)

في الأصول: من، والمثبت هو الصواب كما في "معرفة السنن".

(3)

انظر: "معرفة السنن والآثار" 10/ 286.

(4)

"شرح ابن بطال" 7/ 337.

ص: 85

وقد اختلفوا في المقام المذكور: هل هو من حقوقها عليه أو من حقوقه على سائر نسائه؟ فقالت طائفة: هو حقها، إن شاءت طالبت به وإن شاءت تركته.

وقال آخرون: هو من حقوقه، إن شاء أقام عندها وإن شاء لم يقم، فإن أقام عندها ففيه من الاختلاف ما ذكرناه، وإن لم يقم عندها إلا ليلة دار، وكذلك إن أقام ثلاثًا دار على ما ذكرنا من اختلافهم.

والأول عندي أولى؛ لإخبار الشارع أن ذلك حق للبكر والثيب. وقال ابن التين: في بعض حديث أم سلمة الحجة لأبي حنيفة في قوله: إن السبعة والثلاث للاستئناس، ثم يقسم لصواحبها كذلك، ويحاسبها بالأيام التي حبس عندها.

ونقل ابن التين عن مذهب مالك أنه لا يحاسبها، ثم قال: فإن ذلك حق لها. وقيل: للزوج، يريد: إذا كان له نسوة سواها. وقيل: لهما جميعًا.

وفائدة الخلاف: أنها إذا تركته قُسّم بينها وبين غيرها، إذا قلنا: إنه حق لها. وعلى القول بأنه حق له أيضًا إذا تركتْ حقه قسم بينها وبين صواحبها، وإن كرهت. وإن قلنا: لهما -وهو الصحيح- فلا يقسم لها ولهن إلا برضاهما جميعًا، أو تنقضي المدة.

فصل:

قال الباجي في "منتقاه": هل يتخلف العروس في هذِه المدة عن الجماعة والجمعة؟ روى ابن القاسم عن مالك المنع

(1)

، ونقله ابن بطال عن الشافعي، وقال: سحنون: عن بعضهم أنه لا يخرج؛ لأن

(1)

"المنتقى" 3/ 295.

ص: 86

ذلك حق لها بالسنة، وهذا على من تأول إقامته عند البكر والثيب على العموم، ومن رأى أن يخرج إلى الصلاة تأول إقامته عندها على ما يجب لها من القسمة والمبيت دون غيرها من أزواجه، فليس ذلك بمانع له من الحضور، كما يفعل غير العروس في قسمته بين نسائه، وليس له التخلف عن الجماعة

(1)

.

ووجه كونه لا يخرج: أن من ملك منافع أجير في مدة ما، فإنه يسقط عنه بذلك فرائض الجمعة وحقوق الجماعات، كالسيد في عبده، فإن قلنا: إنه حق للزوجة. هل: يقضى به على الزوج أم لا؟ قال أشهب: هو حق عليه، ولا يقضى به عليه كالمتعة. وعن محمد بن عبد الحكم: يقضى به.

قال ابن حبيب: ويخرج إلى حوائجه وصلاته، بكرًا كانت أو ثيبًا، كانت له زوجة أم لا.

وروى ابن أبي أويس، عن مالك فيمن دخل على امرأته ليلة الجمعة أيتخلف عن الجمعة؟ قال: لا، تزوج أمير المؤمنين المهدي بالمدينة، فخرج إلى الصبح وغيرها

(2)

.

فصل:

خص البكر بالسبع؛ لما في خلق الأبكار من الاستيحاش من الرجال، والنفار من معاشرتهم، ولما يلقى الرجل من معالجتهن في الوصول إليهن، بخلاف الثيب؛ لسهولة أمرها، وعلمها بمباشرة الرجال، لم يفسح لها في المدة أكثر من ثلاث.

(1)

"شرح ابن بطال" 7/ 338.

(2)

انظر: "النوادر والزيادات" 4/ 611، "شرح ابن بطال" 7/ 337 - 338.

ص: 87

فصل:

عندنا أن المقام عندهما كذلك واجب، وهي رواية ابن القاسم، عن مالك. وفي رواية ابن عبد الحكم: مستحبة

(1)

.

(1)

انظر: "النوادر والزيادات" 4/ 611.

ص: 88

‌102 - باب مَنْ طَافَ عَلَى نِسَائِهِ فِي غُسْلٍ وَاحِدٍ

5215 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ حَدَّثَهُمْ أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ فِى اللَّيْلَةِ الْوَاحِدَةِ، وَلَهُ يَوْمَئِذٍ تِسْعُ نِسْوَةٍ. [انظر: 268 - مسلم: 309 - فتح 9/ 306].

ذكر فيه حديث قتادة أن أنس بن مالك رضي الله عنه حدثهم أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يطوف على نسائه في الليلة الواحدة، وله يومئذ تسع نسوة.

هذا الحديث سلف في الغسل، فراجعه، وقد سلف هناك: إحدى عشرة. ونقل ابن التين بعد أن ذكره بلفظ سبع، عن الشيخ أبي الحسن: المعروف تسع.

قلت: وهو الموجود في الأصول. ثم قال: ويحتمل أن يكون هذا قبل تزويجه بصفية، وبعد ترك سودة ليومها. ونقل ابن بطال عن جماعة العلماء أنه لا يجوز أن يطأ امرأته في ليلة أخرى، وإنما يجوز في الإماء؛ حيث لا قسمة لهن.

قال ابن حبيب: وإذا وطئ الرجل إحدى امرأتيه في يومها، ثم أراد أن يطأ الأخرى قبل أن يغتسل فحللت له امرأته التي لها ذلك اليوم، فلا بأس به.

ويكره للرجل أن يجمع بين امرأتين من نسائه في فراشٍ واحد وإن رضيتا بذلك، ولا يجوز أن يطأ الواحدة والأخرى معه في البيت، وإن لم تسمع ذلك. قال ابن الماجشون: ويكره أن يكون معه في البيت بهيمة أو حيوان. وكان ابن عمر إذا فعل ذلك أخرج كل من عنده في البيت حتى الصبي الممهود، ولا بأس أن يطأ امرأته الحرة ثم يطأ أمته قبل أن يغتسل، ولا بأس أن يطأ حرته قبله.

ص: 89

قال غيره: لما جاز له أن يطأ امرأته مرتين أو ثلاثا ثم يغتسل في آخر ذلك، إذا حضر وقت الصلاة، جاز له أن يطأ امرأتين في ليلة إذا أذنت له صاحبة الليلة، ويغتسل غسلًا واحدًا؛ لفعله عليه السلام في طوافه على نسائه بغسل واحد في ليلة واحدة. قال ابن الماجشون ولا يجب على الرجل أن يغشى امرأتيه جميعًا في ليلتهما، ولا بأس أن يغشي إحداهما ويكف عن الأخرى ما لم يرد به الضرر والميل

(1)

.

(1)

انظر: "النوادر والزيادات" 4/ 612، "شرح ابن بطال" 7/ 341 - 342.

ص: 90

‌103 - باب دُخُولِ الرَّجُلِ عَلَى نِسَائِهِ فِي الْيَوْمِ

5216 -

حَدَّثَنَا فَرْوَةُ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها -: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا انْصَرَفَ مِنَ الْعَصْرِ دَخَلَ عَلَى نِسَائِهِ، فَيَدْنُو مِنْ إِحْدَاهُنَّ، فَدَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ، فَاحْتَبَسَ أَكْثَرَ مَا كَانَ يَحْتَبِسُ. [انظر: 4912 - مسلم: 1474 - فتح 9/ 316].

ذكر فيه حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا انْصَرَفَ مِنَ العَصْرِ دَخَلَ على نِسَائِهِ، فَيَدْنُو مِنْ إِحْدَاهُنَّ، فَدَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ، فَاحْتَبَسَ أَكْثَرَ مَا كَانَ يَحْتَبِسُ.

قال الداودي: جعل ما بعد العصر ملغًى، وأجاز مالك عند محمد أن يأتي الأخرى في حاجة، وليضع ثيابه إذا كان على غير ميل، وقال أيضًا: لا يقيم عند إحداهما إلا من عذر. وقال ابن الماجشون: لا بأس أن يقف بباب إحداهما ويسلم من غير أن يدخل، وأن يأكل مما تبعث إليه. قال المهلب: هذا إنما كان يفعله عليه السلام نادرًا، ولم يكن يفعله أبد الدهر، وإنما كان يفعله لما أباح الله له بقوله:{تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} [الأحزاب: 51] فكان يُذكِّرهن بهذا الفعل في الغبِّ بإفضاله عليهن في العدل بينهن؛ لئلا يظنوا أن القسمة حق لهن عليه.

وقال غيره: ليس حقيقة القسم بين النساء إلا في الليل خاصة؛ لأن للرجل التصرف نهاره في معيشته وما يحتاج إليه من أموره، فإذا كان دخوله عليها في غير يومها دخولًا خفيفًا، في حاجة يقضيها، فلا أعلم خلافًا بين العلماء في جواز ذلك، ذكره ابن المواز عن مالك، قال: لا يأتي إلى واحدة من نسائه في يوم الأخرى إلا لحاجة أو عيادة.

ص: 91

قال غيره: وأما جلوسه عندها ومحادثتها تلذذًا بها، فلا يجوز ذلك عندهم في غير يومها

(1)

.

فصل:

عماد القسم في حق أغلب الناس الليل، والنهار تبع، وليس له الدخول في نوبة على أخرى ليلاً إلا لضرورة كالمرض المخوف، ثم إن طال مكثه قضى، وله الدخول نهارًا؛ لوضح متاع ونحوه، وينبغي ألا يطول مكثه. والأصح عندنا أنه لا يقضي إذا دخل لحاجة، وأن له ما سوى الوطء من الاستمتاعات، وأنه يقضي إذا دخل بلا سبب.

فصل:

لا يجب التسوية في الإقامة نهارًا

(1)

انظر: "النوادر والزيادات" 4/ 613، "شرح ابن بطال" 7/ 343.

ص: 92

‌104 - باب إِذَا اسْتَأْذَنَ الرَّجُلُ نِسَاءَهُ فِي أَنْ يُمَرَّضَ فِي بَيْتِ بَعْضِهِنَّ، فَأَذِنَّ لَهُ

5217 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، قَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَسْأَلُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ «أَيْنَ أَنَا غَدًا؟ أَيْنَ أَنَا غَدًا؟» . يُرِيدُ يَوْمَ عَائِشَةَ، فَأَذِنَ لَهُ أَزْوَاجُهُ يَكُونُ حَيْثُ شَاءَ، فَكَانَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ حَتَّى مَاتَ عِنْدَهَا. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَمَاتَ فِي الْيَوْمِ الَّذِى كَانَ يَدُورُ عَلَيَّ فِيهِ فِي بَيْتِي، فَقَبَضَهُ اللهُ، وَإِنَّ رَأْسَهُ لَبَيْنَ نَحْرِي وَسَحْرِي، وَخَالَطَ رِيقُهُ رِيقِي. [انظر: 890 - مسلم: 2443 - فتح 9/ 317].

ذكر فيه حديث عائشة رضي الله عنها أنه عليه السلام كَانَ يَسْأَلُ فِي مَرَضِهِ الذِي مَاتَ فِيهِ: "أَيْنَ أَنَا غَدًا؟ أَيْنَ أَنَا غَدًا؟ ". يُرِيدُ يَوْمَ عَائِشَةَ، فَأَذِنَ لَهُ أَزْوَاجُهُ يَكُونُ حَيْثُ شَاءَ، فَكَانَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ حَتَّى مَاتَ عِنْدَهَا. قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: فَمَاتَ فِي اليَوْمِ الذِي كَانَ يَدُورُ فِيهِ فِي بَيْتِي، فَقَبَضَهُ اللهُ، وَإِنَّ رَأْسَهُ لَبَيْنَ سَحْرِي ونَحْرِي، وَخَالَطَ رِيقُهُ رِيقِي.

هذا الحديث تقدم قريبًا في باب مرضه عليه السلام، مطولًا

(1)

.

وفيه فوائد:

الأولى: حب الرجل لبعض أزواجه أكثر من بعض.

ثانيها: أن القسم حق للزوجة؛ ولذلك استأذنهن أن يمرض في بيتها، وإنما فعل ذلك؛ لأنها كانت توافقه، وكانت أرفق به وألطف بتمريضه، مع أن المرض إذا كان ثقيلًا لا يقدر فيه على الانتقال والحركة سقطت القسمة.

(1)

سلف برقم (4438).

ص: 93

قال ابن حبيب: إذا مرض مرضًا لا يقوى معه على الاختلاف فيما بينهن، كان له أن يعدل بينهن في القسم، إلا أن يكون مرضه مرضًا قد غلبه ولا يقدر على الاختلاف، فلا بأس أن يقيم حيث أحب، مالم يكن منه ميل، فإذا صح عدل بينهن فيها، ولم يحسب للتي لم يقم عندها ما أقام عند غيرها، وهو قول مالك

(1)

، واتفقوا إذا مرضت هي أن لها أيامها من القسم كالصحيحة، واختلفوا إذا اشتد مرضها وثقلت. وقد سلف بيانه.

وفيه: العدل بين النساء في مرض الموت.

فائدة:

النحر معروف وهو الصدر، والسحر: الرئة وما معها. وقيل: ما بين الثديين، وانفرد الفراء فحكى الضم في السحر

(2)

.

وقولها: (وخالط ريقه ريقي). تريد: أنها لينت له بفيها سواكًا، فاستاك، فكان آخر شيء دخل جوفه ريقها.

وقولها: (فَمَاتَ .. ) إلى آخره. هو غاية الكرامة لها.

(1)

انظر: "المدونة" 2/ 199.

(2)

انظر: "تهذيب اللغة" 2/ 1642.

ص: 94

‌105 - باب حُبِّ الرَّجُلِ بَعْضَ نِسَائِهِ أَفْضَلَ مِنْ بَعْضٍ

5218 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ، سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ، عَنْ عُمَرَ - رضى الله عنهم - دَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ فَقَالَ: يَا بُنَيَّةِ، لَا يَغُرَّنَّكِ هَذِهِ الَّتِي أَعْجَبَهَا حُسْنُهَا حُبُّ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِيَّاهَا -يُرِيدُ عَائِشَةَ- فَقَصَصْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَتَبَسَّمَ. [انظر: 89 - مسلم: 1479 - فتح 9/ 317].

ذكر فيه حديث عمر رضي الله عنه أنه دَخَلَ على حَفْصَةَ فَقَالَ: يَا بُنَيَّةِ، لَا يَغُرَّنَّكِ هذِه التِي أَعْجَبَهَا حُسْنُهَا حُبُّ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إيَّاهَا -يُرِيدُ عَائِشَةَ- فَقَصَصْتُ عَلَى رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فتَبَسَّمَ. هذا الحديث سلف قريبًا.

وقوله: (يَا بُنَيَّةِ). كذا هو في الأصول، وكذا رواه أبو ذر، وروي:(يابني) مرخمًا، وتفتح ياؤه وتضم.

وقوله: (هذِه التِي أَعْجَبَهَا حُبُّ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم). وفي بعض النسخ: (أعجبها حسنها حب رسول الله صلى الله عليه وسلم)

(1)

هو بفتح النون من (حسنها)؛ لأنه مفعول من أجله، و (حب) فاعل، تقديره: أعجبها حب رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها؛ لأجل حسنها. وقيل: إنه مرفوع كالحب، مثل: أعجبني زيد حلمه عقله علمه. وهو غير صحيح؛ لأن أعجبني زيد حلمه عقله هو بدل اشتمال فزيد مرفوع، والمبدل منه مرفوع مثله، والضمير هنا الذي مع (أعجبها) منصوب، لا يصح بدل الحسن منه ولا الحب؛ لأنهما لا يعقلان فيصح أن يتعجبا، ولا يبدل الحب من الحسن إلا في بدل الغلط، وهو ليس في القرآن ولا في الكلام الفصيح، نبه عليه ابن التين.

(1)

كذا بالأصل، وهي رواية الباب، فكيف يعبر عنها بقوله: وفي بعض النسخ، فلعله وهم.

ص: 95

فصل:

قال الطبري: قوله: (لَا يَغُرَّنَّكِ .. ) إلى آخره. يريد: عائشة، ففيه دليل على أنه لا حرج على من كان عنده جماعة نسوة في إيثار بعضهن في المحبة على بعض، إذا سوى بينهن في القسمة. ومثله الحديث السالف:"اللهم هذا قسمي" إلى آخره

(1)

. فالذي سأل ربه ألا يلزمه ما كان لا يملكه من نفسه هو ما جبلت عليه القلوب من الميل بالمحبة إلى من هويته، وذلك مما لا سبيل للعباد إلى خلافه ودفعه عنه، وهو المعنى الذي أخبر عنه تعالى أنهم لا يطيقونه من معاني العدل بين النساء، فعلم بذلك أن كل ما كان عارضًا لقلب ابن آدم من شيء مال إليه بالمحبة والهوى، مما لم يجتلبه المرء إليه باكتساب، ولم يتجاوزه العارض منه في قلبه إلى مالا يكرهه اليه ولا يرضاه من العمل بجوازه، فلا حرج عليه في ذلك، ولا تبعة تلحقه فيه فيما بينه وبين الله بسبب ما عرض له من فرض هوى وصيانة نفس. قال ابن حبيب: فلما كان القلب لا يملك، ولا يستطاع العدل فيه؛ وضع الله عن عباده الحرج في ذلك، قال تعالى:{لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286].

(1)

رواه أبو داود (2134)، والترمذي (1140)، والنسائي 7/ 63، وابن ماجه (1971) من حديث عائشة.

قال الترمذي: هكذا رواه غير واحد عن حماد بن سلمة عن أيوب عن أبي قلابة عن عبد الله بن يزيد عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم.

ورواه حماد بن زيد وغير واحد عن أيوب عن أبي قلابة مرسلًا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يَقْسم، وهذا أصح من حديث حماد بن سلمة.

وقال الدارقطني في "العلل" 13/ 279: المرسل أقرب إلى الصواب.

والحديث ضعفه الألباني في "الإرواء"(2018).

ص: 96

وحسب الرجل أن يسوي بين نسائه في القوت والإدام واللباس على قدرها وكفايتها، ويقسم لها يومًا وليلة فيبيت عندها، وسواء كانت حائضًا أو طاهرًا، ثم لا حرج أن يوسع على إحداهن دون غيرها من صواحباتها بأكثر من ذلك من مال، فأما المسيس فعلى قدر نشاطه إذا لم يكن حبسه لنفسه عنها إبقاء لغيرها، لمن هي أحب إليه وألصق بقلبه، فذلك لا يحل أن يفعله، وهو من الميل الذي نهى عنه الله، فأما أن ينشط لهذِه في ليلتها ويكسل عن هذِه في ليلتها، فلا حرج عليه في ذلك، وذلك من الذي يقع في القلب مما لا يملكه العبد.

فصل:

قال المهلب: وفيه: أن الصهر قد يعاتب ابنته على الإفراط في المغيرة على زوجها، وينهاها عن مساماة من هي عند الزوج أحظى منها؛ لئلا يحرج ذلك الزوج؛ ويئول إلى الفرقة.

ص: 97

‌106 - باب الْمُتَشَبِّعِ بِمَا لَمْ يَنَلْ، وَمَا يُنْهَى مِنِ افْتِخَارِ الضَّرَّةِ

5219 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ فَاطِمَةَ، عَنْ أَسْمَاءَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

حَدَّثَنِى مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ هِشَامٍ، حَدَّثَتْنِي فَاطِمَةُ، عَنْ أَسْمَاءَ أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ لِى ضَرَّةً، فَهَلْ عَلَىَّ جُنَاحٌ إِنْ تَشَبَّعْتُ مِنْ زَوْجِي غَيْرَ الَّذِي يُعْطِينِي؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«الْمُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ» . [مسلم: 2130 - فتح 9/ 317].

ذكر فيه حديث هشام عن فاطمة، عَنْ أَسْمَاءَ رضي الله عنها أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ لِي ضَرَّةً، فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ إِنْ تَشَبَّعْتُ مِنْ زَوْجِي غَيْرَ الذِي يُعْطِينِي؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"الْمُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ كلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ".

هذا الحديث أخرجه مسلم من حديث وكيع، وعبدة، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها أن امرأة قالت: يا رسول الله، أقول: إن زوجي أعطاني مالم يعطني، فقال:"الْمُتَشَبِّعُ" إلى آخره

(1)

.

واعترضوا عليه فيه، فلما ذكره النسائي من هذا الوجه قال: إنه خطأ، والصواب حديث أسماء

(2)

.

وقال الدارقطني في "علله"

(3)

: هشام، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها، إنما يرويه هكذا معمر والمبارك بن فضالة. والصحيح: عن

(1)

"صحيح مسلم"(2129) كتاب الأدب.

(2)

"السنن الكبرى" 5/ 292 (8921).

(3)

"علل الدارقطني" 13/ 278 (3175).

ص: 98

فاطمة عن أسماء. وإخراج مسلم حديث هشام، عن أبيه، عن عائشة لا يصح، والصواب: حديث عبدة ووكيع وغيرهما عن هشام، عن فاطمة، عن أسماء. وقال في "التتبع": هذا لا يصح، أحتاج أن انظر في كتاب مسلم، فإني وجدته في رقعة والصواب: عن عبدة ووكيع وغيرهما، عن أسماء

(1)

. وجاء في الإسماعيلي: إن لي جارة. وهي الضرة، كما سلف.

قال أبو عبيد: المتشبع: المتزين بأكثر مما عنده، يتكثر بذلك ويتزين بالباطل، كالمرأة يكون لها ضرة فتتشبع عندها بما تدعيه من الحظوة عند زوجها بأكثر مما عندها، تريد بذلك غيظ صاحبتها وإدخال الأذى عليها، وكذلك هذا في الرجل

(2)

.

وقوله: ("كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ") يريد: أن الرجل يلبس ثياب أهل الزهد والعبادة. ومقصوده: أنه يظهر للناس اتصافه بذلك بأكثر مما في قلبه، فهذِه ثياب زور ورياء. وقيل: هو كمن لبس ثوبين لغيره، فأوهم أنهما له. وقيل: هو من يلبس قميصًا واحدًا ويصل بكميه كمين آخرين، فيظهر أن عليه قميصين.

قال الخطابي: والمراد هنا بالثوب: الحالة والمذهب، والعرب تكني بالثوب عن حال لابسه، ومعناه: أنها كالكاذب القائل مالم يكن

(3)

.

وقال نعيم بن حماد: وهو أن الرجل يطلب منه شهادة زور، فيلبس ثوبين يتجمل بهما، فلا ترد شهادته لحسنٍ، فيقال: هذا أقضاها بثوبيه.

(1)

"الإلزامات والتتبع" ص 345 - 347.

(2)

"غريب الحديث" 1/ 346 - 347.

(3)

"معالم السنن" 4/ 125.

ص: 99

فأضيف الزور إلى الثوبين

(1)

.

قال بعض أهل المعرفة بلسان العرب: وللتشبيه هنا معنى صحيح؛ لأن كذب المتحلي بما لم يعط شيئًا فهو كاذب على نفسه بما لم يأخذ، وعلى غيره بما لم يبذل له

(2)

. وعند ابن التين: يريد أنه لا ينتفع بذلك كما لا ينتفع بذلك لابس ثوبي زور. وهي تكون من وجوه مثل أن تلبس المرأة ثوبي وديعة أو عارية ليظن الناس أنهما لها، فلباسها لا يدوم، وتفتضح بكذبها، وإنما أراد بذلك خوفًا من الفساد بين زوجها وضرتها، وهو مثل الزور الذي صاحبه فيه مأثوم.

وقال الداودي: إنما كره ذلك؛ لأنه يدخل بين المرأة الأخرى وزوجها البغضاء، فيصير كالسحر الذي يفرق بين المرء وزوجه.

قال القرطبي: وذلك التشبع محرم، وإنما صار محرمًا؛ لأنه تصرف في ملك الغير بغير إذنه، وأذى للضرة، وأذى المسلم محرم

(3)

.

ثم نقل ابن التين عن الخطابي أنه قال: فيه تأويلان:

أحدهما: أن الثوب مَثَل، ومعناه: إن المتشبع بما لم يعط صاحب زور وكذب، كما يقال لمن وصف بالبراءة من الأدناس: طاهر الثوب. والمراد به نفس الرجل، ومثله:{وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)} [المدثر: 4].

والثاني: أن يكون أراد الثوب نفسه، روي لنا في هذا عن نعيم بن حماد قال: الرجل في الحي له هيئة وشارة، فإذا أصبح إلى شهادة الزور شهد لهم فيقبل

(4)

. وهذا أسلفناه.

(1)

"أعلام الحديث" 3/ 2022.

(2)

انظر: "لسان العرب" 1/ 520.

(3)

"المفهم" 5/ 452.

(4)

"أعلام الحديث" 3/ 2021 - 2022.

ص: 100

‌107 - باب الغَيْرَةِ

وَقَالَ وَرَّادٌ عَنِ الْمُغِيرَةِ قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: لَوْ رَأَيْتُ رَجُلاً مَعَ امْرَأَتِي لَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ غَيْرَ مُصْفِحٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ؟ لأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ، وَاللهُ أَغْيَرُ مِنِّي» .

5220 -

حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَا مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرُ مِنَ اللهِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ، وَمَا أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ الْمَدْحُ مِنَ اللهِ» . [انظر: 4634 - مسلم: 2760 - فتح 9/ 319].

5221 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، مَا أَحَدٌ أَغْيَرَ مِنَ اللهِ أَنْ يَرَى عَبْدَهُ أَوْ أَمَتَهُ تَزْنِي، يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا» . [انظر: 1044 - مسلم: 901 - فتح 9/ 319].

5222 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ حَدَّثَهُ، عَنْ أُمِّهِ أَسْمَاءَ أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:«لَا شَيْءَ أَغْيَرُ مِنَ اللهِ» . [مسلم: 2762 - فتح 9/ 319].

5223 -

وَعَنْ يَحْيَى، أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ حَدَّثَهُ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم. حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:«إِنَّ اللهَ يَغَارُ، وَغَيْرَةُ اللهِ أَنْ يَأْتِيَ الْمُؤْمِنُ مَا حَرَّمَ اللهُ» . [مسلم: 2761 - فتح 9/ 319].

5224 -

حَدَّثَنَا مَحْمُودٌ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِى بَكْرٍ رضي الله عنهما قَالَتْ: تَزَوَّجَنِي الزُّبَيْرُ، وَمَا لَهُ فِي الأَرْضِ مِنْ مَالٍ وَلَا مَمْلُوكٍ وَلَا شَيْءٍ غَيْرَ نَاضِحٍ وَغَيْرَ فَرَسِهِ، فَكُنْتُ أَعْلِفُ فَرَسَهُ، وَأَسْتَقِي الْمَاءَ،

ص: 101

وَأَخْرِزُ غَرْبَهُ وَأَعْجِنُ، وَلَمْ أَكُنْ أُحْسِنُ أَخْبِزُ

(1)

، وَكَانَ يَخْبِزُ جَارَاتٌ لِي مِنَ الأَنْصَارِ، وَكُنَّ نِسْوَةَ صِدْقٍ، وَكُنْتُ أَنْقُلُ النَّوَى مِنْ أَرْضِ الزُّبَيْرِ الَّتِي أَقْطَعَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى رَأْسِي، وَهْيَ مِنِّي عَلَى ثُلُثَيْ فَرْسَخٍ، فَجِئْتُ يَوْمًا وَالنَّوَى عَلَى رَأْسِي، فَلَقِيتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنَ الأَنْصَارِ، فَدَعَانِي ثُمَّ قَالَ:«إِخْ إِخْ» . لِيَحْمِلَنِي خَلْفَهُ، فَاسْتَحْيَيْتُ أَنْ أَسِيرَ مَعَ الرِّجَالِ، وَذَكَرْتُ الزُّبَيْرَ وَغَيْرَتَهُ -وَكَانَ أَغْيَرَ النَّاسِ- فَعَرَفَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنِّى قَدِ اسْتَحْيَيْتُ فَمَضَى، فَجِئْتُ الزُّبَيْرَ فَقُلْتُ: لَقِيَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَعَلَى رَأْسِى النَّوَى، وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَأَنَاخَ لأَرْكَبَ، فَاسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ وَعَرَفْتُ غَيْرَتَكَ. فَقَالَ: وَاللهِ لَحَمْلُكِ النَّوَى كَانَ أَشَدَّ عَلَيَّ مِنْ رُكُوبِكِ مَعَهُ. قَالَتْ: حَتَّى أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَ ذَلِكَ بِخَادِمٍ يَكْفِينِي سِيَاسَةَ الْفَرَسِ، فَكَأَنَّمَا أَعْتَقَنِي. [انظر: 3151 - مسلم: 2182 - فتح 9/ 319].

5225 -

حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ، فَأَرْسَلَتْ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِصَحْفَةٍ فِيهَا طَعَامٌ، فَضَرَبَتِ الَّتِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِى بَيْتِهَا يَدَ الْخَادِمِ، فَسَقَطَتِ الصَّحْفَةُ فَانْفَلَقَتْ، فَجَمَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِلَقَ الصَّحْفَةِ، ثُمَّ جَعَلَ يَجْمَعُ فِيهَا الطَّعَامَ الَّذِى كَانَ فِي الصَّحْفَةِ وَيَقُولُ:«غَارَتْ أُمُّكُمْ» ، ثُمَّ حَبَسَ الْخَادِمَ حَتَّى أُتِيَ بِصَحْفَةٍ مِنْ عِنْدِ الَّتِى هُوَ فِى بَيْتِهَا، فَدَفَعَ الصَّحْفَةَ الصَّحِيحَةَ إِلَى الَّتِي كُسِرَتْ صَحْفَتُهَا، وَأَمْسَكَ الْمَكْسُورَةَ فِى بَيْتِ الَّتِي كَسَرَتْ. [انظر: 2481 - فتح 9/ 320].

5226 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ - رضى الله عنهما -، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«دَخَلْتُ الْجَنَّةَ -أَوْ: أَتَيْتُ الْجَنَّةَ - فَأَبْصَرْتُ قَصْرًا فَقُلْتُ: لِمَنْ هَذَا؟ قَالُوا: لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. فَأَرَدْتُ أَنْ أَدْخُلَهُ فَلَمْ يَمْنَعْنِي إِلاَّ عِلْمِي بِغَيْرَتِكَ» . قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: يَا رَسُولَ اللهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا نَبِيَّ اللهِ، أَوَعَلَيْكَ أَغَارُ؟!. [انظر: 3679 - مسلم: 2394 - فتح 9/ 320].

(1)

في الأصل غير منقوطة.

ص: 102

5227 -

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيَّ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم جُلُوسٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«بَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُنِي فِى الْجَنَّةِ، فَإِذَا امْرَأَةٌ تَتَوَضَّأُ إِلَى جَانِبِ قَصْرٍ، فَقُلْتُ لِمَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا لِعُمَرَ. فَذَكَرْتُ غَيْرَتَهُ فَوَلَّيْتُ مُدْبِرًا» . فَبَكَى عُمَرُ وَهْوَ فِى الْمَجْلِسِ ثُمَّ قَالَ: أَوَعَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ أَغَارُ؟!. [انظر: 3242 - مسلم: 2395 - فتح 9/ 320].

ذكر فيه أحاديث:

أحدهما:

معلقًا، فقال: قَالَ وَرَّادٌ، عَنِ المُغِيرَةِ: قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: لَوْ رَأَيْتُ رَجُلًا مَعَ امْرَأَتِي لَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ غَيْرَ مُصْفِحٍ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ؟ لأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ، والله أَغْيَرُ مِنِّي". هذا التعليق سيأتي في كتاب المحاربين

(1)

مسندًا عن موسى بن إسماعيل، عن أبي عوانة، عن عبد الملك بن عمير، عن وراد

(2)

. ورواه مسلم من حديث سليمان ابن بلال، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه

(3)

، ويأتي الكلام عليه في اللعان.

قوله: (غَيْرَ مُصْفِحٍ). يريد بحده للقتل، لا بصفحه، وهو عرضه يضرب به للزجر والإرهاب، يقال: أصفحت بالسيف: إذا ضربت بعرضه.

وقال ابن قتيبة: أصفحت بالسيف، فأنا مصفح، والسيف مصفح به: إذا ضربت بعرضه

(4)

.

(1)

ورد في هامش الأصل: حاشية: أخرجه البخاري في المحاربين والتوحيد، ومسلم في اللعان من طريق وراد به.

(2)

سيأتي برقم (6846).

(3)

مسلم (1498) كتاب: اللعان.

(4)

"غريب الحديث" لابن قتيبة 1/ 456.

ص: 103

قال القاضي عياض: غير مصفح بكسر الفاء وإسكان الصاد، وقد رويناه بفتح الفاء، أي: غير ضارب بعرضه، بل بحده؛ تأكيدًا لبيان ضربه به لقتله، فمن فتحه جعله وصفًا للسيف، حالا منه، ومن كسره جعله وصفًا للضارب وحالًا منه

(1)

.

قال ابن التين: والتشديد هو ما في سائر الأمهات.

وتفسير غيرة الله ما ذكره البخاري بعد ذلك حيث قال: وغيرة الله أن يأتي المرء ما حرم الله، وروي أنه عليه السلام قال لسعد، حين قال هذِه المقالة:"كفى بالسيف شا" أراد أن يقول: شاهدًا، فأمسك، وقال:"لولا أن يتتابع فيه السكران والغيران لشرعت ذلك"

(2)

ولكن خشي أن يتجاوز السكران والغيران القصد فيقتلا بالظن. وأراد سعد أنه لو وجد رجلاً مع امرأته لضربه بحد سيفه لا بعرضه، ولم يصبر أن يأتي بأربعة شهداء، وسيأتي إن شاء الله تعالى في الديات الحكم فيمن وجد مع

امرأته رجلاً فقتله.

وصفحتا السيف: وجهاه العريضان، وغراراه: خداه.

الحديث الثاني:

حديث عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"ماَ مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرُ مِنَ اللهِ؛ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الفَوَاحِشَ، وَمَا أحد أَحَبَّ إِلَيْهِ المَدْحُ مِنَ اللهِ".

هذا الحديث يأتي في التوحيد

(3)

.

(1)

"مشارق الأنوار" 2/ 49.

(2)

رواه أبو داود (4417)، وابن ماجه (2606)، وانظر "الضعيفة"(4091).

(3)

سيأتي برقم (7403).

ص: 104

وأخرجه مسلم والنسائي أيضًا

(1)

.

وأخرجه الدارقطني من حديث أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود، عن أمه، عن عبد الله مرفوعًا:"إن الله ليغار لعبده المسلم، فليغر العبد لنفسه". ثم قال: روي موقوفًا ومرفوعًا، والصحيح المرفوع

(2)

.

واعترضه ابن القطان فقال: الذي فهمه عبد الحق من قوله: هو صحيح

(3)

، لا يقتضي صحة للحديث، إنما ذكر أمرين صح أحدهما. والذي عندي أن الحديث ليس صحيحًا؛ لأن أم أبي عبيدة لا يعرف لها حال؛ وليست زينب امرأة عبد الله الثقفية الصحابية؛ لأن ابن مسعود عاش إلى سنة اثنتين وثلاثين، فلا يبعد أن يكون تزوج من لا صحبة لها، وأبو عبيدة لا يذكر عن أبيه شيئًا

(4)

.

قلت: في مسلم رواية بسر بن سعيد عن زينب هذِه حديث شهود العشاء

(5)

، وصرح النسائي فيه بالتحديث عنها

(6)

.

وزينب ذكرها في الصحابة ابن سعد

(7)

والعسكري وغيرهما، وريطة لقب لها، كما ذكره أبو عمر

(8)

، وذكر هو أنه سمع والده، وكان لما مات والده ابن سبع

(9)

.

(1)

مسلم (2760)، والنسائي في "الكبرى" 6/ 345 (11183).

(2)

"علل الدارقطني" 5/ 307 - 308.

(3)

"الأحكام الوسطى" 3/ 173.

(4)

"بيان الوهم والإيهام" 5/ 170 - 171.

(5)

مسلم (443/ 142) كتاب: الصلاة.

(6)

النسائي 8/ 154.

(7)

"الطبقات الكبرى" 8/ 290.

(8)

"الاستيعاب" 4/ 405.

(9)

انظر: "المراسيل" لابن أبي حاتم (476).

ص: 105

وحسن له الترمذي

(1)

، وصحح له الحاكم

(2)

.

الحديث الثالث:

حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها أنه عليه السلام -قَالَ: "يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، مَا أَحَدٌ أَغْيَرَ مِنَ اللهِ أَنْ يَرى عَبْدَهُ أَوْ أَمَتَهُ تَزْنِي. يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا".

هذا الحديث أخرجه في الكسوف بالسند المذكور مطولًا

(3)

.

الحديث الرابع:

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، ثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ حَدَّثَهُ، عَنْ أُمِّهِ أَسْمَاءَ رضي الله عنها أنها سَمِعَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"لَا شَيْءَ أَغْيَرُ مِنَ اللهِ".

وَعَنْ يَحْيَى، أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ حَدَّثَهُ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وحدثنا أبو نعيم، ثنا سفيان، عن يحيى، عن أبي سلمة، أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:"إِنَّ اللهَ تعالى يَغَارُ، وَغَيْرَةُ اللهِ أَنْ يَأْتِيَ المُؤْمِنُ مَا حَرَّمَ اللهُ".

قوله: (وَعَنْ يَحْيَى)، إلى آخره. ذكره محيلًا على السند الأول، كما نبه عليه أصحاب الأطراف.

(1)

منها حديث: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس في الركعتين الأوليين كأنه على الرضف. الترمذي (366) وقال: حديث حسن، إلا أن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه. اهـ.

(2)

"المستدرك" 1/ 502. وقال الحاكم بعد أن ساق له حديثا: هذا إسناد صحيح إنْ كان أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود سمع من أبيه، ولم يخرجاه. اهـ.

(3)

برقم (1044).

ص: 106

الحديث الخامس:

حديث أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما -قَالَتْ: تَزَوَّجَنِي الزُّبَيْرُ، وَمَا لَهُ في الأَرْضِ مِنْ مَالٍ وَلَا مَمْلُوكٍ وَلَا شَيْءٍ غَيْرَ نَاضِحٍ وَغَيْرَ فَرَسِهِ .. الحديث.

وفيه: وذكرت الزبير وغيرته، وكان أغير الناس. وأخرجه مسلم

(1)

.

الحديث السادس:

حديث أنس رضي الله عنه في الصحفة. وفيه: "غارت أمكم".

وقد سلف في المظالم

(2)

. وفيه ابن علية: وهو إسماعيل بن إبراهيم، يعرف بأمه علية.

السابع:

حديث جابر رضي الله عنه: "فلم يمنعني إلا علمي بغيرتك". وسلف في مناقبه

(3)

، وذكره في التعبير

(4)

.

الحديث الثامن:

حديث أبي هريرة مثله وسلف أيضًا

(5)

، وفي إسناد حديث جابر: عبيد الله عن ابن المنكدر. وعبيد الله هو ابن عمر بن حفص بن عاصم، أبو عثمان، مات سنة سبع وأربعين ومائة، وهو أخو عبد الله وعاصم وأبي بكر العمريين العدويين

(6)

.

(1)

مسلم (2182).

(2)

برقم (2481).

(3)

ورد في هامش الأصل: يعني: مناقب عمر رضي الله عنه. قلت: سلف برقم (3679).

(4)

يأتي برقم (7024) باب: القصر في المنام.

(5)

برقم (3242).

(6)

انظر: ترجمته في: "تهذيب الكمال" 19/ 124 - 130.

ص: 107

أما ما ترجم له بالغيرة التي جاءت في هذِه الأحاديث في وصف الله تعالى ليست لله تعالى على ما هي عليه من المخلوقين؛ لأنه لا يجوز عليه صفات النقص تعالى؛ إذ لا تشبه صفاته صفات المخلوقين، والغيرة في صفاته تعالى بمعنى: الزجر عن (المحرمات)

(1)

والفواحش، والتحريم لها، والمنع منها؛ لأن الغيور هو الذي يزجر عما يغار عليه. وقد بين ذلك بقوله:"ومن غيرته حرم الفواحش" أي: زجر عنها ومنع منها، وبقوله في حديث أبي هريرة رضي الله عنه:"وغيرة الله أن يأتي المرء ما حرم الله عليه" وقوله في حديث سعد: "لأنا أغير من سعد، والله أغير مني" ومعنى ذلك: إنه لزجور عن المحارم، وأنا أزجر منه، والله أزجر من الجميع عما لا يحل.

وكذلك قوله: ("غَارَتْ أُمُّكُمْ") أي: زجرت عن إهداء ما أهدت صاحبتها.

وفي ابن ماجه بإسناد جيد من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "من المغيرة ما يحب الله، ومنها ما يكره الله تعالى: فأما ما يحب الله فالغيرة في الريبة، وأما ما يكره فالغيرة في غير ريبة"

(2)

.

ولابن أبي شيبة بإسناد جيد من حديث ابن عتيك الأنصاري، عن أبيه مرفوعًا:"من الغيرة ما يحب الله، ومنها ما يبغض الله" الحديث

(3)

.

وللبزار من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعًا: "المغيرة من الإيمان،

(1)

كتب فوقها في الأصل: لعله.

(2)

ابن ماجه (1996) قال البوصيري في "مصباح الزجاجة" 2/ 121: هذا إسناد ضعيف، أبو سهم هذا مجهول، وله شاهد في "مسند أحمد" من حديث عقبة بن عامر الجهني وانظر:"الإرواء"(1999).

(3)

"المصنف" 4/ 54 (17703). وصححه الألباني في "الإرواء"(1999).

ص: 108

(والمِذَاء)

(1)

من النفاق". ثم قال: لا نعلمه يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عن أبي سعيد، ولا نعلم أحدًا شارك أبا مرحوم (عبد الرحيم)

(2)

ابن كردم الأرطباني، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد، في هذا الحديث

(3)

.

قلت: ذكره ابن حبان في "ثقاته"

(4)

.

وفي "المصنف" من حديث ليث، عن أبي جعفر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني غيور، وإن إبراهيم صلى الله عليه وسلم كان غيورًا، وما من امرئ لا يغار إلا منكوس القلب"

(5)

.

فصل:

قولها: (فَلَقِيتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنَ الأَنْصارِ، فَدَعَانِي، ثُمَّ قَالَ: "إخْ إخْ". لِيَحْمِلَنِي خَلْفَهُ، فَاسْتَحَيْتُ أَنْ أَسِيرَ مَعَ الرِّجَالِ). معنى: "إخْ إخْ": إناخة راحلته، وهو لفظ يقال للإبل عندما يراد منها أن تنخ، وهو بسكون الخاء. قال ابن فارس: ويقال: إنها كلمة تقال عند الكره للشيء

(6)

. وإنما عرض لها الركوب؛ لأنها ذات محرم عنده؛ إذ كانت

(1)

في الأصول: (البذاء)، وهو تحريف، والمثبت من "كشف الأستار" و"مجمع الزوائد".

(2)

في الأصول: (عبد الرحمن)، وهو خطأ، والمثبت من "الجرح والتعديل" 5/ 339 و"الثقات" 7/ 133.

(3)

"كشف الأستار"(1490) وقال الهيثمي في "المجمع" 4/ 327: رواه البزار، وفيه: أبو مرحوم، وثقه النسائي وغيره، وضعفه ابن معين، وبقية رجاله رجال الصحيح. اهـ.

(4)

"الثقات" 7/ 133.

(5)

" المصنف" 4/ 54 (17707).

(6)

"المجمل" 1/ 79.

ص: 109

أختها تحته، كما قال ابن التين، أو كان ذلك قبل الحجاب، كما فعل بأم صبية الجهنية

(1)

.

وقولها: (فَاسْتَحَيْتُ). هو بياء واحدة، وهي أحد اللغات، يقال: استحى، واستحيى. وفي رواية:(استحييت) بيائين على الأصل؛ لأن أصله حيي، بيائين.

فصل:

وقوله: ("لَا شَيْءَ أَغْيَرُ مِنَ اللهِ") يقرأ برفع (الراء)

(2)

ونصبها، فمن نصبه جعله نعتًا لـ (شيء) على إعرابه؛ لأن شيئًا منصوب، ومن رفع نعت موضع (شيء) قبل دخول (لا) عليه؛ كقوله تعالى:{مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59] قرئ بخفض: {وغيره} مهو ورفعه، فالرفع على الموضع، والخفض على اللفظ

(3)

. ويجوز أيضًا رفع (شيء) مثل: {لَا لَغْوٌ فِيهَا} [الطور: 23]{لَا بَيْعٌ فِيهِ} [البقرة: 254].

(1)

اسمها خولة بنت قيس، جدة خارجة بن الحارث.

انظر ترجمتها في: "معرفة الصحابة" 1/ 3306 (3844)، و"الاستيعاب" 4/ 497 (3605).

والحديث المشار إليه رواه أبو داود (78)، وابن ماجه (382) قالت: اختلفت يدي ويد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الوضوء من إناء واحد.

وهو حديث صححه الألباني في "صحيح أبي داود"(71).

(2)

في الأصول: الياء، والمثبت هو الصواب.

(3)

قال ابن مجاهد في كتابه "السبعة في القراءات" ص 284: اختلفوا في الرفع والخفض من قوله: {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} .

فقرأ الكسائي وحده: (ما لكم من إله غيرِهِ) خفضًا. وقرأ الباقون: {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} رفعًا في كل القرآن.

وانظر: "الحجة للقراء السبعة" 4/ 39 - 41.

ص: 110

وقوله: ("مَا أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ المَدْحُ مِنَ اللهِ"). قال بعض النحويين: هو بضم (أحد) على أنه اسم (ما)، و (أحبَّ) بالنصب خبرها إن جعلتها حجازية، أو برفعه على أنه خبر لـ (أحد) إن كانت تميمية، ويرفع المدح بـ (أحب). قال: ولا يجوز أن يرفع (أحبُّ) على أنه خبر للمدح، أو مبتدأ والمدح خبر؛ لأنك تكون حينئذٍ تفرق بين الصلة والموصول بالخبر؛ لأن "مِن الله"(مِن) صلة (أحب) وتمامه، فلا تفرق بين تمام المبتدأ وصلته بالخبر الذي هو المدح.

فصل:

(فجمع النبي صلى الله عليه وسلم فِلَق الصحفة). هو بكسر الفاء وفتح اللام، ولا يبعد فتح الفاء وسكون اللام. قال ابن التين: وهو الظاهر.

"وغارت أمكم" يريد: سارة

(1)

، لما غارت على هاجر حتى أخرج إبراهيم إسماعيل طفلًا مع أمه، قاله الداودي

(2)

. وظاهر الحديث أن كاسرة الصحفة أم المؤمنين.

فصل:

نَقْل النَّوى، وسياسة الفرس، وخرز الغرب لا يلزم المرأة شيء من ذلك إلا أن تتطوع كما تطوعته أسماء رضي الله عنها، نبه عليه المهلب.

قال ابن حبيب وغيره: وكذلك الغزل والنسج ليس للرجل على امرأته ذلك بحال إلا أن تتطوع، وليس عليه إخدامها إن كان معسرًا، وإن كانت ذات قدر وشرف، وعليها الخدمة الباطنة، كما هي على الدنية، وستأتي المسألة موضحة إن شاء الله في النفقات.

(1)

ورد في هامش الأصل: وسارة امرأة أبيهم إبراهيم صلى الله عليه وسلم.

(2)

ورد في هامش الأصل: وما قاله الداودي فيه تجوز؛ لأن أمهم هاجر، ويحتمل أنه أراد أن زوجات كل نبي أمهات قومه.

ص: 111

فصل:

وفي حديث أسماء من الفقه أن المرأة الشريفة إذا تطوعت من خدمة زوجها بما لا يلزمها، كنقل النوى وسياسة الفرس، أنه لا ينكر ذلك عليها أب ولا سلطان، ونبه المهلب عليه أيضًا.

وفيه: (إرداف)

(1)

المرأة خلف الرجل وحملها (في جملة)

(2)

ركب من الناس، وليس في الحديث أنها استترت، ولا أمرها الشارع به، فعلم منه أنه قبل الحجاب، وأن الحجاب إنما فرض على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، كما نص عليه في كتابه بقوله:{يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ} [الأحزاب: 30]

وقد سلف ذلك.

فصل:

فيه: غيرة الرجل عند ابتذال أهله فيما يشق عليهن من الخدمة، وأنفة نفسه من ذلك، لا سيما إذا كانت ذات حسب وأَبُوّةٍ، وكذلك عَزّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم إفراط امتهانها، ولم يلمها على ذلك، ولا وبّخ الزبير على إفراط تكليفه لها ذلك؛ بما علم من طيب نفسها به.

فصل:

وفي حديث الصحفة: الصبر للنساء على أخلاقهن وعوجهن؛ لأنه عليه السلام لم يوبخها على ذلك، ولا لامها، ولا زاد على قوله:"غَارَتْ أُمُّكُمْ". وقد سلف اختلاف العلماء في المظالم فيمن استهلك شيئًا لصاحبه، هل يلزمه غرم مثله، في حديث القصعة، فراجعه.

(1)

في الأصل: (أن إرداف)، والمثبت من (غ)، وهو الصواب.

(2)

من (غ).

ص: 112

وأبو حنيفة والشافعي قالا بقضاء الأمثال في العروض، وقاله مالك مرة، وعنه: يقضي بالمثل فيما تولى صنعه الآدميون من العروض، والمشهور أنه لا يقضي بالمثل في كل ما ليس بمكيل ولا موزون ولا معدود، وإنما على مستهلكه قيمته.

وأجيب عن الحديث: بأن الكل له (تنزله)

(1)

، فعند الاتفاق لا كلام. وحجة مالك حديث "من أعتق شقصًا"

(2)

ولكن القسمة أعدل، وأعله بعضهم بيحيى بن أيوب في غير هذا الحديث، ولكنه ثقة.

فصل:

في حديث جابر أنه إذا عُلم من الإنسان خلق فلا يتعرض لما ينافر خلقه ويؤذيه في ذلك الخلق، كما فعل عليه السلام، حتى لم يدخل القصر الذي كان لعمر؛ لمعرفته بغيرته.

وفي قوله: (أَعليك أَغَارُ يَا رَسُولَ اللهِ؟) أن الرجل الصالح المعلوم الخير لا يجب أن نظن به شيئًا من السوء.

وذكر ابن قتيبة في قوله: "فَإِذَا امْرَأَةٌ تَتَوَضَّأُ إلَى جَانِبِ قَصْرٍ": "فإذا امرأة شوهاء إلى جانب قصر". من حديث ابن شهاب عن سعيد بن المسيب، وفسره وقال: الشوهاء: الحسنة الرائعة، حدثني بذلك أبو حاتم، عن أبي عبيدة، عن المنتجع قال: ويقال: فرس شوهاء، ولا يقال: ذكر أشوه. ويقال: لا تشوه عليَّ. إذا قال: ما أحسنك. أي: لا تصبني بعين.

(1)

في الأصول: تنزلنا، ولعل المثبت هو الصواب.

(2)

سلف برقم (2491) من حديث ابن عمر. وسلف برقم (2504)، ورواه مسلم (1503/ 3) من حديث أبي هريرة.

ص: 113

قال الزُبيدي

(1)

: ذكره أبو علي القالي في "البارع" بفتح التاء، وتشديد الواو

(2)

.

قال ابن بطال: ويشبه أن تكون هذِه الرواية الصواب، "وتَتَوَضَّأُ": تصحيف -والله أعلم- لأن الحور طاهرات ولا وضوء عليهن، فكذلك كل من دخل الجنة لا تلزمه طهارة ولا عبادة. وحروف "شوهاء" يمكن تصحيفها بحروف "تتوضأ"؛ لقرب صور بعضها من بعض

(3)

.

وقال ابن التين: قوله: "تَتَوَضَّأُ" قيل: إنه تصحيف؛ لأن الجنة لا تكليف فيها. وقيل: إنما نبه به على فضل الوضوء، وأنه سبب إلى ملك ذلك أو مثله.

قال الداودي: وفيه: وضوء الحور، وأن الجنة مخلوقة، وكذا الحور.

فصل:

قول أسماء: (غَيْرَ نَاضِحٍ وَغَيْرَ فَرَسِهِ). قال الداودي: نفى بعض الحديث؛ لأنه تزوجها بمكة وليس له فرس ولا ناضح

(4)

.

(1)

هو أبو بكر، محمد بن الحسن بن عبيد الله بن مذحج الزُبيدي -بضم الزاي، كما ضبطه المصنف رحمه الله الشامي الحمصي، ثم الأندلسي الإشبيلي، إمام النحو، صاحب التصانيف، سمع أبا علي القالي وأخذ عنه النحو، وعن أبي عبد الله الرياحي، اختصر كتاب "العين"، وألف "الواضح" في العربية، وكتاب "لحن العامة"، توفي سنة تسع وسبعين وثلاثمائة.

انظر ترجمته في: "الأنساب" 6/ 249، "وفيات الأعيان" 4/ 372، و"سير أعلام النبلاء" 16/ 417 (305)، و"تاريخ الإسلام" 26/ 649.

(2)

"البارع" ص 100 - 101.

(3)

"شرح ابن بطال" 7/ 352.

(4)

أجاب الحافظ في "الفتح" 9/ 323 على استشكال الداودي بقوله: الجواب منع =

ص: 114

وقولها: (وأخرز غربه) الغرب -بفتح الغين المعجمة -: الدلو الكبيرة، الناضح: السانية من الإبل.

و (قولها)

(1)

في أرضه: (وهي مني على ثلثي فرسخ). تريد: على ميلين؛ لأن الفرسخ ثلاثة أميال.

= هذا النفي، وأنه لا مانع أن يكون الفرس والجمل كانا له بمكة قبل أن يهاجر، فقد ثبت أنه كان في يوم بدر على فرس ولم يكن قبل بدر غزوة حصلت لهم منها غنيمة، والجمل يحتمل أن يكون كان له بمكة ولما قدم به المدينة وأقطع الأرض المذكورة أعده لسقيها وكان ينتفع به قبل ذلك في غير السقي فلا إشكال. اهـ.

(1)

في الأصول، (قوله)، والمثبت هو الموافق للسياق.

ص: 115

‌108 - باب غَيْرَةِ النِّسَاءِ وَوَجْدِهِنَّ

5228 -

حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي لأَعْلَمُ إِذَا كُنْتِ عَنِّي رَاضِيَةً، وَإِذَا كُنْتِ عَلَىَّ غَضْبَى» . قَالَتْ: فَقُلْتُ: مِنْ أَيْنَ تَعْرِفُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: «أَمَّا إِذَا كُنْتِ عَنِّي رَاضِيَةً فَإِنَّكِ تَقُولِينَ: لَا وَرَبِّ مُحَمَّدٍ، وَإِذَا كُنْتِ غَضْبَى قُلْتِ: لَا وَرَبِّ إِبْرَاهِيمَ» . قَالَتْ: قُلْتُ: أَجَلْ، وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، مَا أَهْجُرُ إِلاَّ اسْمَكَ. [انظر: 6078 - مسلم: 2439 - فتح 9/ 325].

5229 -

حَدَّثَنِى أَحْمَدُ بْنُ أَبِى رَجَاءٍ، حَدَّثَنَا النَّضْرُ، عَنْ هِشَامٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: مَا غِرْتُ عَلَى امْرَأَةٍ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ، لِكَثْرَةِ ذِكْرِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِيَّاهَا وَثَنَائِهِ عَلَيْهَا، وَقَدْ أُوحِيَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُبَشِّرَهَا بِبَيْتٍ لَهَا فِى الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ. [انظر: 3816 - مسلم: 2435 - فتح 9/ 326].

الوجد: الغضب. قال ثعلب: وجدت على الرجل (موجدًا)

(1)

، ووجدت في الحزن وجدًا

(2)

.

ذكر فيه حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي لأَعْلَمُ إِذَا كُنْتِ عَلي رَاضِيَةً وَإِذَا كُنْتِ عَلَيَّ غَضْبَى". قَالَتْ: فَقُلْتُ: مِنْ أَيْنَ تَعْرِفُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: "إِذَا كُنْتِ (عليَّ)

(3)

رَاضِيَةً فَإِنَّكِ تَقُولِينَ: لَا وَرَبِّ مُحمَّدٍ، وَإِذَا كُنْتِ غَضْبَى قُلْتِ: لَا وَرَبِّ إِبْرَاهِيمَ". قَالَتْ: أَجَلْ، والله يَا رَسُولَ اللهِ مَا أَهْجُرُ إِلَّا اسْمَكَ. وأخرجه مسلم أيضًا

(4)

.

(1)

كذا بالأصل، وفي "الفصيح": موجدةً.

(2)

"فصيح ثعلب" ص 29.

(3)

في (غ): عني.

(4)

مسلم (2439).

ص: 116

وحديثها أيضًا: ما غرت على امرأة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة. الحديث. وهذا سلف في مناقبها

(1)

، وزاد هنا بعد: لكثرة ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها وثنائه عليها، وقد أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبشرها ببيت لها في الجنة من قصب.

و"غضبَى" مقصور كسكرى؛ لأن ما يثبت في مذكره النون، فمؤنثه مقصور؛ لأن مذكر غضبى غضبان، وسكرى سكران.

قال الهروي: أراد أن يبشرها بقصر من زمردة مجوفة أو لؤلؤة مجوفة. يقال: بيت الرجل قصره، وبيته: داره، وبيته: شرفه

(2)

.

وقولها: (مَا غِرْتُ على امْرَأَةٍ .. ) إلى آخره. هو من غاية المغيرة؛ لأن الغالب إنما يكون في الموجودة، وهي لم تكن موجودة إذ ذاك، ولا مشاركة لها معها في رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ففيه: الصبر على النساء، وعلى ما يبدو منهن من الجفاء والحرج عند المغيرة؛ لما قد جبلن عليه منها، وأنهن لا يملكنها، فعفي عن عقوبتهن على ذلك، وعذرهن الله فيه.

وقولها: (مَا أَهْجُرُ إِلَّا اسْمَكَ) يدل -كما قال المهلب- على أن الاسم من المخلوقين غير المسمى، ولو كان هو وهجرت اسمه لهجرته بعينه، ويدل على ذلك أن من قال: أكلت اسم العسل واسم الخبز، فإنه لا يفهم منه وإن أكل الخبز والعسل، وكذلك إذا قال: لقيت اسم زيد، لا يفهم منه أنه لقي زيدًا، ويبين ذلك ما نشاهده من تبديل أسماء المماليك وتبديل كنى الأحرار، ولا تتبدل الأشخاص مع ذلك.

(1)

برقم (3816).

(2)

انظر كلام الهروي في: "النهاية في غريب الحديث" 1/ 170.

ص: 117

وإنما يصح عند تحقيق النظر أن يكون الاسم هو المسمى في الله وحده فقط، لا فيما سواه من المخلوقين، لمباينته تعالى وأسمائه وصفاته حكم أسماء المخلوقين وصفاتهم، وبيان عدم اللزوم في حقه تعالى أن طرق العلم بالشيء إنما تؤخذ من جهة الاستدلال عليه بمثله وشبهه، أو مِن حُكْم ضده، وعلمنا يقينًا أنه تعالى لا شبيه له بقوله:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] وبقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)} [الإخلاص: 4] فثبت بذلك أنه لا ضد له؛ لأن حكم الضد إنما يعلم من حكم ضده، فكما لم يكن له تعالى شبيه ولا ضد يستدل على اسمه إذا كان غير المسمى، لم يجز لنا أن نقول ذلك، مع أنه عليه السلام لم يتكلم بذلك، ولا سنه لأمته، ولا يعلم به الصحابة، فلا يجوز أن تقاس أسماء الله وصفاته على أسماء المخلوقين وصفاتهم، ولا يقال: إن اسم الله غير المسمى به؛ من أجل جواز ذلك فينا، وستكون لنا عودة إلى تبيين مذهب أهل السنة أن اسم الله تعالى هو المسمى في باب السؤال بأسماء الله تعالى، والاستفادة بها في كتاب الرد على الجهمية، ويأتي في الأدب في باب: حسن العهد من الإيمان، تفسير الغضب المذكور في حديث عائشة رضي الله عنها

(1)

.

ولابن السيد البطليوسي فيه مؤلف، وقال فيه: لا يصح أن يقال: إن الاسم هو المسمى، على معنى أن العبارة هو المعبر عنه، وأن اللفظ هو الشخص، فإنه محال لا يتصور في لُبٍّ، وبه يسقط اعتراض من قال: إنه يلزم من ذلك أن يحترق فم من قال: نار، ويشبع من قال: طعام. ويصح أن يقال: هو على معانٍ ثلاثة: ما يجري مجازًا لمجاز، أو الحقيقة،

(1)

انظر ما سيأتي برقم (6004).

ص: 118

أو المعنى. فالأول: كرأيت جملًا. والثاني: كالحياة والحركة لمن وجدا فيه، والثالث: مسمى زيد. أي: هذا المسمى بهذِه اللفظة، التي هي الزاي والياء والدال. ويقولون في المعنى: هذا اسم زيد. فيجعلون الاسم والمسمى مترادفين، على المعنى الواقع تحت التسمية

(1)

.

(1)

مما ينبغي أن يُعلم أن النزاع في هذِه المسألة اشتهر بعد الأئمة: أحمد وغيره، ولما سئل إبراهيم الحربي عن هذِه المسألة قال: عشت سبعين سنة لم أسمع أحدًا تكلم بها. اهـ.

وقال ابن جرير الطبري رحمه الله في كتابه "صريح السنة": أما القول في الاسم هو المسمى أم هو غيره، فإنه من الحماقات الحادثة التي لا أثر فيها فيتبع، ولا قول إمام فيُستمع، فالخوض فيه شين، والصمت عنه زين، وحسب امرئ من العلم به والقول فيه أن ينتهي إلى قوله جل ثناؤه الصادق وهو قوله تعالى:{قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء: 110] وقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180].

ويعلم أن رَبّه هو الذي: {الرَّحْمَنُ على الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8)} [طه: 5 - 8]. وانظر: "مجموع الفتاوى" 6/ 185 - 212.

وقال ابن القيم رحمه الله في "بدائع الفوائد" 1/ 18: أسماء الله الحسنى التي في القرآن من كلامه، وكلامه غير مخلوق ولا يقال هو غيره ولا هو هو، وهذا المذهب مخالف لمذهب المعتزلة الذين يقولون: أسماؤه تعالى غيره وهي مخلوقة، ولمذهب من رَدّ عليهم ممن يقول: اسمه نفس ذاته لا غيره. وبالتفصيل تزول الشُّبَه ويتبين الصواب. اهـ.

وقال ابن أبي العز الحنفي في "شرح الطحاوية" ص 82: وقولهم: الاسم المسمى أو غيره؟ طالما غلط كثير من الناس في ذلك وجهلوا الصواب فيه، فالاسم يراد به المسمى تارة، ويراد به اللفظ الدال عليه أخرى، فإذا قلت: قال الله كذا، أو سمع الله لمن حمده، ونحو ذلك فهذا المراد به المسمى نفسه، وإذا قلت: الله اسم =

ص: 119

‌109 - باب ذَبِّ الرَّجُلِ عَنِ ابْنَتِهِ فِي الْغَيْرَةِ وَالإِنْصَافِ

5230 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ وَهْوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: «إِنَّ بَنِي هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ اسْتَأْذَنُوا فِي أَنْ يُنْكِحُوا ابْنَتَهُمْ عَلِيَّ بْنَ أَبِى طَالِبٍ، فَلَا آذَنُ، ثُمَّ لَا آذَنُ، ثُمَّ لَا آذَنُ، إِلاَّ أَنْ يُرِيدَ ابْنُ أَبِي طَالِبٍ أَنْ يُطَلِّقَ ابْنَتِي وَيَنْكِحَ ابْنَتَهُمْ، فَإِنَّمَا هِيَ بَضْعَةٌ مِنِّي، يُرِيبُنِي مَا أَرَابَهَا وَيُؤْذِينِي مَا آذَاهَا» . هَكَذَا قَالَ. [انظر: 926 - مسلم: 2449 - فتح 9/ 327].

ذكر فيه حديث ابن أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنِ المِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ رضي الله عنهما سمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهْوَ على المِنْبَرِ يقول:"إِنَّ بَنِي هِشَامِ بْنِ المُغِيرَةِ اسْتَأْذَنُوا فِي أَنْ يُنْكِحُوا ابنتَهُمْ عَلِيُّ بْنَ أَبِي طَالِبِ، فَلَا آذَنُ، ثُمَّ لَا آذَنُ، ثُمَّ لَا آذَنُ، إِلَّا أَنْ يُرِيدَ ابن أَبِي طَالِبٍ أَنْ يُطَلِّقً ابنتِي وَيَنْكِحَ ابنتَهُمْ، فَإِنَّمَا هِيَ بَضْعَةٌ مِنِّي، يُرِيبُنِي مَا أَرَابَهَا وَيُؤْذِينِي مَا آذَاهَا".

هذا الحديث سلف قطعة منه في فضائلها بلفظ: "فاطمة بضعة مني، فمن أغضبها أغضبني"

(1)

وسلف في الجهاد في باب: ما ذكر من درعه وعصاه، من طريق المسور أيضًا مطولًا

(2)

، وذكره في الطلاق أيضًا

(3)

.

= عربي، والرحمن اسم عربي، والرحمن من أسماء الله ونحو ذلك، فالاسم ههنا هو المراد لا المسمى ولا يقال غيره؛ لما في لفظ الغير من الإجمال، فإن أريد بالمغايرة أن اللفظ غير المعنى فحق، وإن أريد أن الله سبحانه كان ولا اسم له، حتى خلق لنفسه أسماء أوحتى سماه خلقه بأسماء من صنعهم، فهذا من أعظم الضلال والإلحاد في أسماء الله تعالى. اهـ.

(1)

سلف برقم (3767)، كتاب: فضائل الصحابة.

(2)

سلف برقم (3110)، كتاب: فرض الخمس.

(3)

سيأتي برقم (5278)، باب: الشقاق وهل يشير بالخلع عند الضرورة.

ص: 120

ورواه الترمذي من حديث ابن أبي مليكة أيضًا، عن عبد الله بن الزبير وقال: حسن صحيح، قال: هكذا قال أيوب: عن ابن أبي مليكة، عن ابن الزبير. وقال غير واحد: عن ابن أبي مليكة، عن المسور. فيحتمل أن يكون ابن أبي مليكة رواه عنهما جميعًا

(1)

.

والبضعة: بفتح الباء: القطعة من اللحم، ولا شك أنه عليه السلام يتأذى مما تتأذى به.

قال الداودي: وفيه دليل أنه عليه السلام كان (اشترط)

(2)

على عليٍّ، ولعله -إن صح ذلك- أن يكون عليُّ تطوع به بعد عقدة النكاح.

وفيه: دفاع الرجل عن ابنته، وتكنية الكافر، وهو أبو طالب.

وفيه من الفقه: -كما قال المهلب- قد يحكم في أشياء لم تبلغ التحريم بأن يمنع منها من يريدها، وإن كانت حلالًا؛ لما يلحقها من الكراهية في العرض، أو المضرة في المال.

وفيه أيضًا: بقاء عار الآباء في أعقابهم، وأنهم يعيرون بها، ولا يوازون بالأشراف، كما عيَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بنت أبي جهل، وهي مسلمة بعداوة أبيها لله، يحط بذلك منزلتها عن أن تحل محل ابنته، وكذلك السابقة إلى الخير والشرف في الدنيا يبقى في العقب فضله، ويرعى فيهم أمره، ألا ترى إلى قوله تعالى:{وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف: 82].

وفيه: أنه لا تجتمع أمة وحرة تحت رجل إلا برضا الحرة؛ لأنه عليه السلام لم يجعل بنت عدوه مكافئة لابنته، فكذلك المرأتان الغير متكافئتين

(1)

"الترمذي"(3869).

(2)

في حاشية الأصل: لعله: اشترطه.

ص: 121

بالحرية في الإسلام، ولا يجتمعان إلا برضا الحرة، ألا ترى أن رضا فاطمة لو تأتى منها لما منعه عليه السلام ذلك؛ لأنه قال:"يؤذيني ما آذاها، وأخاف أن تفتن في دينها" ولم تكن بنت عدو الله بمأمونة عليها أن تكون ضرة وصاحبة لها، ولولم يحزنها ذلك ولا خشي عليها الفتنة لما منعه من نكاح بنت أبي جهل.

ومن هذا المعنى حديث بريرة وجب تخيير الحرة إذا تزوج عليها أمة؛ لأن بريرة حين عتقت فارقته؛ لأن زوجها لم يكافئها بحريتها، فكذلك الحرة لا تكافئها المملوكة.

واختلف العلماء في ذلك، فقال مالك: إذا نكح أمة على حرة يجوز النكاح، والحرة بالخيار. هذِه رواية ابن وهب عنه. وروى عنه ابن القاسم أنه سئل عمن تزوج أمة، وهو يجد (طول)

(1)

حرة. قال: يفرق بينهما. قيل: إنه يخاف العنت. قال: السوط يضرب، ثم خففه بعد ذلك.

قلت: فإن كان لا يخشى العنت؟ قال: كان يقول: ليس له أن يتزوجها.

وقال الكوفيون والثوري والأوزاعي: لا يجوز أن يتزوج أمة وتحته حرة، ولا يصح نكاح الأمة، ولا فرق بين إذن الحرة وغير إذنها.

واختلفوا في نكاح الحرة على الأمة، فقالت طائفة: النكاح ثابت، روي هذا عن عطاء وسعيد بن المسيب، وبه قال الكوفيون والشافعي وأبو ثور.

وفيه قول ثانٍ: وهو: أن الحرة بالخيار إذا علمت، هذا قول الزهري ومالك.

(1)

كذا بالأصل، وفي ابن بطال: طولا إلى.

ص: 122

وفيه قول ثالث: وهو أن نكاح الحرة يكون طلاقًا للأمة، روي هذا عن ابن عباس، وبه قال أحمد وإسحاق

(1)

.

فائدة:

عند ابن أبي حاتم: عن أنس رضي الله عنه مرفوعًا: قالت أم سليم: ألا تتزوج في الأنصار؟ قال: "إن فيهن غيرة". قال أبي: المرسل أصح

(2)

.

(1)

انظر هذِه المسألة في: "مختصر اختلاف العلماء" 2/ 304 - 306، و"الاستذكار" 16/ 229 - 231، و"الإشراف" 1/ 101 - 102.

(2)

"علل الحديث" 1/ 419 (1261).

ص: 123

‌110 - باب يَقِلُّ الرِّجَالُ وَيَكْثُرُ النِّسَاءُ

وَقَالَ أَبُو مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:«وَتَرَى الرَّجُلَ الْوَاحِدَ يَتْبَعُهُ أَرْبَعُونَ امْرَأَةً، يَلُذْنَ بِهِ مِنْ قِلَّةِ الرِّجَالِ وَكَثْرَةِ النِّسَاءِ» .

5231 -

حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ الْحَوْضِيُّ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: لأُحَدِّثَنَّكُمْ حَدِيثًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَا يُحَدِّثُكُمْ بِهِ أَحَدٌ غَيْرِي، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:«إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ، وَيَكْثُرَ الْجَهْلُ، وَيَكْثُرَ الزِّنَا، وَيَكْثُرَ شُرْبُ الْخَمْرِ، وَيَقِلَّ الرِّجَالُ، وَيَكْثُرَ النِّسَاءُ، حَتَّى يَكُونَ لِخَمْسِينَ امْرَأَةً الْقَيِّمُ الْوَاحِدُ» . [انظر: 80 - مسلم: 2671 - فتح 9/ 330].

ثم ساق حديث أنس رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُرْفَعَ العِلْمُ .. " الحديث، وذكر فيه خمسين امرأة.

أما التعليق فيأتي في الفتن مسندًا

(1)

. وحديث أنس سلف في العلم، وساقه هناك من حديث شعبة، عن قتادة، عن أنس

(2)

. وهنا من حديث هشام، عن قتادة، به. كذا في الأصول: هشام، وقال الجياني: عن أبي أحمد همام، قال: وكتب الأصيلي في حاشية كتابه: في كتب بعض أصحابنا: عن أبي زيد هشام، وقال: ما أراه إلا صحيحًا.

قال أبو علي: وكذا رواه ابن السكن، وأبو ذر عن مشايخه، وهو المحفوظ

(3)

.

(1)

التعليق هذا سلف برقم (1414)، كتاب: الزكاة، باب: الصدقة قبل الرد ولم أجده في الفتن، وكذا عزاه الحافظ في "التغليق" 4/ 433 إلى هذا الموضع الذي هو في كتاب الزكاة فقط!

(2)

سلف برقم (81).

(3)

"تقييد المهمل" 2/ 712 - 713.

ص: 124

فصل:

وجه دخول الحديث هنا؛ لأجل كثرة السراري وقلة الأولياء في النكاح، وقيل: يزيد من النساء والسراري، وقيل: منهما، ومن يلذن به من البنات والأخوات وشبههن من القرابات.

وقوله في حديث أنس: (لَا يُحَدِّثُكُمْ بِهِ أَحَدٌ غَيْرِي) يريد: لتأخره بعد أكثر الصحابة؛ لأنه توفي سنة ثلاث أو اثنتين وتسعين، كما سلف، وهو آخر من مات بالبصرة من الصحابة، وقيل: هو آخرهم جميعًا موتا.

والأشراط: العلامات، واحدها: شرط، بفتح الراء.

وقوله قبل: ("أَنْ يُرْفَعَ العِلْمُ") قال الداودي: يعني: البر.

وفيه: إخبار الشارع بما يكون بعده من غير توقيت، وذلك من علامات نبوته.

وقال الإِمام أحمد: كل حديث بوقتية لا يصح، حكاه ابن التين.

قال المهلب: وهذا إنما يكون من أشراط الساعة، كما أخبر الشارع، ويمكن أن تكون قلة الرجال من اشتداد الفتن وترادف المحن فيقتل الرجال

(1)

.

ويحتمل قوله: ("الْقَيِّمُ الوَاحِدُ") معنيين: أحدهما: أن يكون قيمًا عليهن، وناظرًا لهن، وقائمًا بأمورهن، ويحتمل: اتباع النساء له على غير الحل. ويؤيد الأول ما ذكره علي بن معبد

(2)

بإسناده عن حذيفة

(1)

انظر: "شرح ابن بطال" 7/ 356 - 357.

(2)

هو علي بن معبد بن شداد العبدي أبو الحسن ويقال أبو محمد الرقي ثم المصري نزيل مصر. =

ص: 125

قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا عمت الفتنة ميَّز الله أصفياءه وأولياءه، حتى تطهير الأرض من المنافقين والفتانين، ويتبع الرجل يومئذ خمسون امرأة، هذِه تقول: يا عبد الله استرني، يا عبد الله آوني"

(1)

.

= انظر ترجمته في: "الجرح والتعديل" 6/ 205 (1124)، و"تهذيب الكمال" 21/ 139 (4138).

(1)

رواه من طريقه أبو عمرو الداني في "السنن الواردة في الفتن"(62) وفيه: (القتالين) بدلًا من (الفتانين).

ص: 126

‌111 - باب لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلاَّ ذُو مَحْرَمٍ، وَالدُّخُولُ عَلَى الْمُغِيبَةِ

5232 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِى حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي الْخَيْرِ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ» . فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَفَرَأَيْتَ الْحَمْوَ؟ قَالَ:«الْحَمْوُ الْمَوْتُ» . [مسلم: 2172 - فتح 9/ 330].

5233 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو، عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ» . فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ امْرَأَتِي خَرَجَتْ حَاجَّةً وَاكْتُتِبْتُ فِى غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا. قَالَ: «ارْجِعْ فَحُجَّ مَعَ امْرَأَتِكَ» . [انظر: 1862 - مسلم: 1341 - فتح 9/ 333].

ذكر فيه حديث أبي الخير -واسمه: مرثد بن عبد الله اليزني - عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: "إِيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ على النِّسَاءِ". فَقَالَ رَجُل مِنَ الأَنْصَارِ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَفَرَأَيْتَ الحَمْوَ؟ قَالَ:"الْحَمْوُ المَوْتُ".

وحديث أبي معبد - نافذ، مات سنة أربع ومائة، من أفضل موالي ابن عباس - عَن ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَا يَخْلُوَنَّ رَجُل بِامْرَأَةٍ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ". فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، امْرَأَتِي خَرَجَتْ حَاجَّةً وَاكْتُتِبْتُ في غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا. قَالَ:"ارْجِعْ فَحُجَّ مَعَ امْرَأَتِكَ".

الشرح:

الحديث الأول أخرجه مسلم والترمذي والنسائي

(1)

، والثاني سلف

(1)

مسلم (2172)، كتاب: السلام، باب: تحريم الخلوة بالأجنبية والدخول عليها، =

ص: 127

في الحج

(1)

. وفي مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاصي، أن نفرًا من بني هاشم دخلوا على أسماء بنت عميس، فدخل أبو بكر -وهي تحته يومئذٍ- فرآهم، فكره ذلك، فذكره لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال وهو على المنبر:"لا يدخلن رجل بعد يومي هذا على المغيبة إلا ومعه رجل أو اثنان"

(2)

.

وفيه فائدة جليلة: وهو بيان هذا القول إما في أوائل سنة تسع أو قبلها؛ لأن جعفرًا قتل عن أسماء في جمادى الأولى سنة ثمان.

وأما ابن العربي: فقال: يحمل هذا على أنه كان قبل نزول الحجاب؛ لأن الحجاب لما نزل (انتسخ)

(3)

النهي بأعظم منه

(4)

. وقد يقال: الدخول غير الخلوة. وللترمذي من حديث مجالد، عن الشعبي، عن جابر، يرفعه:"لا تلجوا على المغيبات؛ فإن الشيطان يجري من أحدكم مجرى الدم". ثم قال: غريب

(5)

. قلت: وهذا حكمة النهي، ولأحمد:"من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يخلون بامرأة ليس معها ذو محرم منها، فإن ثالثهما الشيطان"

(6)

. وللترمذي -وقال: حسن صحيح- عن عمرو بن العاصي أنه عليه السلام نهانا -أو نهى- أن ندخل على النساء بغير إذن أزواجهن

(7)

.

= والترمذي (1171)، والنسائي في "الكبرى" 5/ 386 (9216).

(1)

سلف برقم (1862): كتاب: الصيد، باب: حج النساء.

(2)

مسلم (2173)، كتاب: السلام، باب: تحريم الخلوة بالأجنبية.

(3)

في الأصل: (افتتح) والمثبت من "عارضة الأحوذي" ولعله الصواب.

(4)

"عارضة الأحوذي" 5/ 119.

(5)

الترمذي (1172).

(6)

أحمد 3/ 339.

(7)

الترمذي (2779).

ص: 128

"ولابن جرير في "تهذيبه": نهينا أن نكلمهن إلا عند أزواجهن. ولابن حبان، عن عمر، مرفوعًا: "لا يخلون أحدكم بامرأة؛ فإن الشيطان ثالثهما"

(1)

ولأحمد من حديتا عامر بن ربيعة يرفعه: "ألا لا يخلون أحدكم بامرأة لا تحل له، فإن ثالثهما الشيطان إلا مع ذي محرم، فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد"

(2)

. وللدارقطني من حديث أبي جعفر محمد بن عبد الرحمن، عن علي رضي الله عنه: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نكلم النساء إلا بإذن أزواجهن. ثم قال: رواه ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن أبي جعفر، عن علي رضي الله عنه

(3)

.

فصل:

قوله: (يَا رَسولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ الحَمْوَ؟ قَالَ: "الْحَمْوُ المَوْت"). قال أبو عبيد: يقال: فليمت ولا يفعلن ذلك. فإن كان هذا رأيه في أبي الزوج وهو محرم، فكيف بالغريب؟

(4)

وقال ابن الأعرابي -وحكاها ثعلب عنه أيضًا-: هذِه كلمة تقولها العرب كما تقول: الأسد الموت. أي: لقاؤه مثل الموت. وكما يقولون: السلطان نار. فالمعنى: أن خلوة الحمو معها أشد من خلوة غيره من البعداء؛ ولذلك جعله كالموت. أي: احذروه كما يحذر الموت

(5)

. قلت: والعرب إذا أرادت تكره الشيء إلى الموصوف [له قالوا:]

(6)

ما هو إلا الموت، كقول الفرزدق لجرير:

(1)

ابن حبان 10/ 436 (4576).

(2)

أحمد 3/ 446.

(3)

"العلل" 4/ 126 (465).

(4)

"غريب الحديث" 2/ 85.

(5)

انظر: "غريب الحديث" للخطابي 2/ 72.

(6)

زيادة ليست في الأصول، يقتضيها السياق، وهو الموافق لما في "شرح ابن بطال".

ص: 129

فإني أنا الموت الذي هو واقع

بنفسك فانظر كيف أنت مزاوله

قال الأصمعي: الأحماء من قبل الزوج، والأختان من قبل المرأة، والأصهار تجمعهما. زاد ابن بطال عنه: والحماة أم الزوج، و (الختنة)

(1)

: أم المرأة

(2)

.

ونقل ابن بري في "إيضاحه" عنه: الأحماء من قبل المرأة. زاد الخطابي بعد أن نقل الأول: لا يختلف أهل اللغة في ذلك، قال: وجرى في ذلك بعض الفقهاء على عرف العامة، فقال: إذا أوصى إلى أختانه دفع إلى أزواج بنات الموصي وأخواته، وكل من يحرم عليه من ذات رحم محرم، وهو قول محمد بن الحسن

(3)

.

وانظر كيف يصح أن يقال: هو أبو الزوج ثم يمنعه، فالله تعالى يقول:{أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} [النور: 31]. وقال أبو عبد الملك: معناه: أنه لا يوجد من الحمو بد كما لا يوجد من الموت بد.

وقال الخطابي: معناه: احذروا الحمو كما تحذرون الموت

(4)

.

وقال الترمذي: الحمو: أخو الزوج

(5)

.

وقال الداودي وابن فارس مثل قول أبي عبيد، أنه أبو الزوج، زاد ابن فارس: وأبو امرأته

(6)

.

(1)

في الأصول: (الحمية) والمثبت من "شرح ابن بطال" وهو الصواب.

(2)

"شرح ابن بطال" 7/ 360.

(3)

"أعلام الحديث" 3/ 2026.

(4)

السابق 3/ 2026.

(5)

"الترمذي" بعد حديث (1171).

(6)

"مجمل اللغة" 1/ 249 مادة (حمو).

ص: 130

قال الداودي: يحتمل أن يحذر من دخوله أو يكره الاسم بتسمية الموت؛ لأن الحمام: الموت. وهذا لا معنى له؛ لأن الحمام لامه ميم، والحمو لامه واو، فكيف يكونان واحدًا، ووزن حمو مثل دلو.

وقال الأصمعي هو مهموز، مثل: كمأ. وقال ابن سيده: الحمأ والحما: أبو زوج المرأة. وقيل: الواحد من أقارب الزوج والزوجة، وهي أقلهما

(1)

. قلت: يؤيد الثاني قول عائشة رضي الله عنها: ما كان بيني وبين عليٍّ إلا ما كان بين المرأة وأحمائها

(2)

.

وقال القرطبي: جاء الحمؤ هنا مهموزًا، والهمز أحد لغاته، ويقال فيه: حمو، بواو مضمومة متحركة كدلو، حما مقصور كعصا، والأشهر فيه أنه من الأسماء الستة المعتلة المضافة، التي تُعرب في حال إضافتها إلى غير ياء المتكلم بالواو رفعًا، وبالألف نصبًا، وبالياء حفضًا

(3)

. وعلى قول الأصمعي أنه مهموز إعرابه بالحركات كالأسماء الصحيحة، ومن قصره لا يدخله سوى التنوين رفعًا ونصبًا وجرًّا إذا لم يضف. وحكى عياض: هذا حمؤك، بإسكان الميم وهمزة مرفوعة

(4)

وجاء: حم كأب.

قال: ومعناه: الخوف منه أكثر من غيره؛ لتمكنه من الوصول إلى المرأة، والخلوة من غير أن ينكر عليه، بخلاف الأجنبي. والمراد بالحمو هنا: غير آباء الزوج وأبنائه، فأما الآباء والأبناء فمحارم للزوجة يجوز لهم الخلوة بها، ولا يوصفون بالموت، وإنما المراد

(1)

"المحكم" 3/ 315.

(2)

رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" 63/ 435.

(3)

"المفهم" 5/ 501.

(4)

"إكمال المعلم بفوائد مسلم" 7/ 60.

ص: 131

الأخ، وابن الأخ، والعم وابنه، ممن ليس بمحرم، وعادة النساء المساهلة فيه. وأما ما ذكره المازري

(1)

أو حكاه، أن المراد به أبو الزوج. وقد سلف عن أبي عبيد أيضًا، فرده النووي وقال: إنه فاسد مردود، لا يجوز حمل الكلام عليه

(2)

.

وفي "مجمع الغرائب": يحتمل أن يريد بالحديث أن المرأة إذا خلت فهي محل الآفة، ولا يؤمن عليها أحد، فليكن حموها الموت، أي: لا يجوز أن يدخل عليها أحد إلا الموت، كما قال الآخر: والقبر صهر ضامن، وهو متجه لائق بكمال المغيرة والحمية. وعبارة الطبري: الحمو عند العرب: كل من كان من قبل الزوج، أخًا كان أو أبًا أو عمًّا، فهم الأحماء.

فأما (أم)

(3)

الزوج فكان الأصمعي يقول: هي حماة الرجل، لا يجوز غير ذلك، ولا لغة فيها غيرها. وإنما عني بقوله:"الْحَمْوُ المَوْتُ" أي: خلوة الحمو بامرأة أخيه، أو امرأة ابن أخيه، (أو امرأة ابن أخته)

(4)

، بمنزلة الموت، لمكروه خلوته بها. واستبعد مقالة أبي عبيد السالفة، وإنما الوجه ما قاله ابن الأعرابي، ومن هذا الباب قوله تعالى:{وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} [إبراهيم: 17] أي: مثل الموت في الشدة والكراهية، ولو أراد نفس الموت لكان قد مات. وقال عامر بن فهيرة: لقد وجدت الموت قبل ذوقه

(5)

.

(1)

"المعلم بفوائد مسلم" 2/ 252.

(2)

"مسلم بشرح النووي" 14/ 154.

(3)

في الأصول: أبو. والمثبت هو الذي يقتضيه السياق.

(4)

ساقطة من الأصل، والمثبت من (غ).

(5)

رواه أحمد 6/ 65، وأصله سلف برقم (3926).

ص: 132

فصل:

معنى الحديث: أن الخلوة بالأحماء مؤدية إلى الفتنة والهلاك في الدين، فجعله كهلاك الموت، فورد الكلام مورد التغليظ، قاله عياض

(1)

.

وعبارة القرطبي معناه: أنه يفضي إلى موت الدين، أو إلى موتها بطلاقها عند غيرة الزوج، أو برجمها إن زنت معه

(2)

.

فصل:

نهى عن الدخول على المغيبة صهرًا وغيره؛ خوف الظنون ونزغات الشيطان؛ لأن الحمو قد يكون من غير ذوي المحارم، وإنما أباح للمرأة الخلوة بالمحرم، كما نبه عليه المهلب.

فصل:

(المُغِيبة) في الحديث، وترجمة البخاري -بضم الميم وكسر العين المعجمة، ثم مثناة تحت، ثم باء موحدة، ثم هاء-: من غاب الرجل عن منزلها، سواء أكان في البلد أو مسافرًا.

فصل:

وبالنهي عن الدخول قال جماعة من الصحابة والتابعين، روينا عن عمر رضي الله عنه أنه قال: إياكم والدخول على المغيبات: ألا فوالله إن الرجل ليدخل على المرأة، ولأن غير من السماء إلى الأرض أجب إليه [من]

(3)

أن يزني، ولأن تخر من السماء إلى الأرض أجب إليها من أن

(1)

"إكمال المعلم" 7/ 60.

(2)

"المفهم" 5/ 501 - 502.

(3)

زيادة يقتضيها السياق.

ص: 133

تزني، فما يزال الشيطان يخطب أحدهما إلى الآخر حتى يجمع بينهما

(1)

.

وروينا عن عمرو بن العاصي أنه أرسل إلى علي يستأذنه -وكانت له حاجة إلى أسماء- فقيل: إنه ليس ثّمَّ علي، ثُمَّ أرسل إليه الثانية فقيل: هو ثَمَّ. فلما خرج إليه قال عمرو: إن لي إلى أسماء حاجة، قال: ادخل. قال: وما سألت عن علي وحاجتك إلى أسماء؟ فقال: إنا نهينا أن نكلمهن إلا عند أزواجهن

(2)

.

وقال عمرو بن الملائي: ثلاث لا ينبغي للرجل أن يثق بنفسه عند واحدة منهن: لا يجالس أصحاب الزيغ فيزيغ قلبه بما أزاغ به قلوبهم، ولا يخلو رجل بامرأة، وإن دعاك صاحب سلطان إلى أن يقرأ عليك القرآن فلا تفعل. قال الطبري: فلا يجوز أن يخلو رجل بامرأة ليس لها محرم، في سفر ولا في حضر، إلا في حال لا يجد من الخلوة منها بدًّا، وذلك كخلوه بجارية امرأته التي تخدمه في حال غيبة مولاتها عنها، وقد رخص في ذلك الثوري.

فصل:

وفيه: كما قال المهلب: جواز (تبكيت)

(3)

العالم (عن)

(4)

الجواب

(1)

عزاه ابن بطال 7/ 358 إلى الطبري، ورواه ابن الجعدني "مسنده" (2311) عن عبد الرحمن السلمي قال: نهى عمر عن الدخول على المغيبات.

(2)

رواه الترمذي (2779)، وأحمد 4/ 197، والبيهقي 7/ 90 - 91 وقال الترمذي: حسن صحيح.

(3)

في الأصل: تنكيب. وفي (غ) بدون تنقيط، والمثبت هو الموافق لما في "شرح ابن بطال".

(4)

كذا بالأصل، وفي بعض نسخ ابن بطال: على.

ص: 134

إلى المشترك من الأسماء على سبيل الإنكار للمسألة.

فصل:

قد أسلفنا لغات الحمو، وجمعها ابن بطال أيضًا فقال: فيه لغات

(1)

. قال صاحب "العين": الحما على مثال قفا: أبو الزوج وجميع قرابته، والجمع: أحماء، تقول: رأيت حماها ومررت بحماها. وتقول في هذِه اللغة إذا أفرد: حمى

(2)

.

وفيه لغة أخرى: حموك: مثل: أبوك. تقول: هذا حموها، ومررت بحميها، ورأيت حماها، فإذا لم تصفه سقطت الواو فتقول: حم، كأب.

وفيه لغه أخرى: حمء بالهمز كدفء عن الفراء، وحكى الطبري رابعة بترك الهمز.

فصل:

وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما إباحة الرجوع عن الجهاد إلى إحجاج المرأة؛ لأن فرضًا عليه سترها وصيانتها، والجهاد في ذاك الوقت كان يقوم به غيره، فلذلك أمره عليه السلام أن يحج معها إذا لم يكن لها من يقوم بسترها في سفرها ومبيتها

(3)

.

(1)

"شرح ابن بطال" 7/ 359 - 360.

(2)

"العين" 3/ 311 - 312، بتصرف.

(3)

انتهى من "شرح ابن بطال" 7/ 358 - 360.

ص: 135

‌112 - باب مَا يَجُوزُ أَنْ يَخْلُوَ الرَّجُلُ بِالْمَرْأَةِ عِنْدَ النَّاسِ

5234 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ هِشَامٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَخَلَا بِهَا، فَقَالَ:«وَاللهِ إِنَّكُنَّ لأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ» . [انظر: 3786 - مسلم: 2509 - فتح 9/ 333].

ذكر فيه حديث أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَخَلَا بِهَا، فَقَالَ:"والله إِنَّكُنَّ لأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ".

هذا الحديث مذكور في فضائل الأنصار، والنذور، وأخرجه مسلم أيضًا

(1)

.

وفيه: -كما قال المهلب - من الفقه أنه لا بأس بالعالم والرجل المعلوم بالصلاح أن يخلو بالمرأة إلى ناحية عن الناس، ويسر إليها بمسائلها، وتسأله عن بواطن أمرها في دينها وغير ذلك من أمورها، فإن قيل؛ إنه ليس في الحديث أنه خلا بها عند الناس كما ترجم. قيل: قول أنس: (فخلا بها). يدل أنه كان مع الناس فتنحى بها ناحية، ولا أقل من أن يكون مع أنس راوي الحديث وناقل القصة، وجاء في بعض طرقه أنه كان معها صبي أيضًا، ولم يرد بقوله: فخلا بها، أنه غاب عن أبصارهم وإنما خلا بها، حيث لا يسمع الذي بالحضرة كلامها ولا شكواها إليه. ألا ترى أنهم سمعوا قوله:"أنتم أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ". يريد: الأنصار قوم المرأة.

قلت: وكأنه عليه السلام أراد تعليم الأمة، وكيف الخلوة بالمرأة والعصمة قائمة به.

(1)

سلف برقم (3786)، وسيأتي برقم (6645)، ورواه مسلم (2509). كتاب:"فضائل الصحابة" باب: من فضائل الأنصار.

ص: 136

‌113 - باب مَا يُنْهَى مِنْ دُخُولِ الْمُتَشَبِّهِينَ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْمَرْأَةِ

5235 -

حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ زَيْنَبَ ابْنَةِ أُمِّ سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَ عِنْدَهَا وَفِي الْبَيْتِ مُخَنَّثٌ، فَقَالَ الْمُخَنَّثُ لأَخِي أُمِّ سَلَمَةَ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ: إِنْ فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمُ الطَّائِفَ غَدًا أَدُلُّكَ عَلَى ابْنَةِ غَيْلَانَ، فَإِنَّهَا تُقْبِلُ بِأَرْبَعٍ وَتُدْبِرُ بِثَمَانٍ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«لَا يَدْخُلَنَّ هَذَا عَلَيْكُنَّ» . [انظر: 4324 - مسلم: 2180 - فتح 9/ 333].

ذكر فيه حديث أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها أَنَّه عليه السلام كَانَ عِنْدَهَا وَفِي البَيْتِ مُخَنَّثٌ .. الحديث.

سلف في غزوة الطائف، ويأتي في اللباس

(1)

، وأخرجه مسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه

(2)

. والمخنث اسمه هيت على أحد الأقوال. قال الكلبي: وهو مولى عبد الله بن أبي أمية ومن قبله سرى إلى طويس الخنث

(3)

، وابنة غيلان. اسمها بادية.

(1)

سلف برقم (4324)، وسيأتي برقم (5887).

(2)

مسلم (2180)، كتاب: السلام، باب: مغ المخنث من الدخول على النساء الأجانب، وأبو داود (4928)، والنسائي في "الكبرى" 5/ 395 (9245)، وابن ماجه (1902).

(3)

ورد بهامش الأصل: طويس: تصغير طاوس بعد حذف الزيادات، وقولهم أشأم من طويس، هو مخنث كان بالمدينة وقال: يا أهل المدينة توقعوا خروج الدجال ما دمت حيًّا بين أظهركم، فإذا مت فقد أشتم؛ لأني ولدت في الليلة التي مات فيها رسول الله، وفطمت في اليوم الذي مات فيه أبو بكر رضي الله عنه، وبلغت الحلم يوم قتل فيه عمر رضي الله عنه، وتزوجت في اليوم الذي قتل فيه عثمان رضي الله عنه، وولد لي ولد في اليوم الذي قتل فيه علي رضي الله عنه. وكان اسمه طاوس، فلما تخنث جعله طويسًا. ويسمى بعبد النعيم، وقال في نفسه إني عبد النعيم، وأنا طاوس الجحيم، وأنا أشأم من يمشي على ظهر الحطيم.

ص: 137

وأصل الحديث كما قال المهلب حديث: "لا تباشر المرأة المرأة فتنعتها لزوجها، حتى كأنه يراها"

(1)

فلما سمع عليه السلام وصف المخنث للمرأة بهذِه الصفة التي (تقيم)

(2)

نفوس الناس منع أن يدخل عليهن؛ لئلا يصفهن للرجال، فيسقط معنى الحجاب.

قال غيره: وفيه: أنه لا ينبغي أن يدخل من (المؤنثين)

(3)

من يفطن لمصالحهن ويحسن وصفهن، وأن من علم محاسنهن لا يدخل في غير أولى الإربة من الرجال، أما غير أولى الإربة الأبله العنين الذي لا يفطن لمصالحهن، ولا إرب له فيهن. وهذا الحديث أصل في نفي كل من يتأذى به وإبعاده، بحيث يُؤمَن أذاه.

قال ابن حبيب: المخنث: هو المؤنث من الرجال وإن لم تعرف فيه الفاحشة، وهو مأخوذ من تكسر الشيء، ومنه حديثه الآخر أنه عليه السلام نهى عن اختناث الأسقية، وهو أن تكسر أفواهها ليشرب منها

(4)

. وكان يدخل على أمهات المؤمنين؛ لأنه كان عندهن من غير ذوي الإربة.

وفي قوله: (تُقْبِلُ بِأَرْبَعٍ وَتُدْبِرُ بِثَمَانٍ)، أقوال سلفت: قال مالك: أراد أعكانها؛ لأنها في أربع طرائق في بعضها فوق بعض، فإذا بلغت خصرتها صارت ثمانيًا: أربعًا من هاهنا، وأربعًا من هاهنا. وقال: و (تدبر بثمان) ولم يقل بثمانية، وإن كان يقع ذلك على الأطراف، وهي مذكرة، فإنما أراد العكن وهي مؤنثة، واحدها: عكنة؛ لأن كل

(1)

سيأتي برقم (5240)، باب: لا تباشر المرأة المرأة فتنعتها لزوجها.

(2)

كذا بالأصول، وفي "شرح ابن بطال" 7/ 361 وهو المنقول عنه عن المهلب:(تهيم).

(3)

في الأصل: المريبين، والمثبت من "شرح ابن بطال".

(4)

سيأتي برقم (5625)، ورواه مسلم (2023) من حديث أبي سعيد الخدري.

ص: 138

جزء من العكن يلزمه التأنيث ما يلزم جميعه، وهذا تأنيث معنوي

(1)

، وفي بعض الأخبار زيادة: ولها ثغر كالأقحوان، إن جلست تثنت، وإن نطقت تغنت، وبين رجليها كالإناء المكفوف

(2)

.

فصل:

قال المهلب: وفي وصفه لمحاسنها حجة لمن أجاز بيع الأعيان الغائبة على الصفة. كما قاله مالك خلافًا للشافعي ولو لم تكن الصفة فيه بمعنى الرؤية، لم ينه عن الدخول عليهن، وقد سلفت في البيوع.

فصل:

قوله: ("لَا يَدْخُلَنَّ هذا عليكن"). وفي لفظ: "لَا يَدْخُلَنَّ هذا عَلَيْكُمْ". وفي لفظ: "هؤلاء". وقال بعضهم لم ينكر دخوله قبل أن يسمع ذلك منه، وإن كان حرًّا. ويحمل نهيه على الكراهة؛ لأنه لم يسمع منه ما يدل على أنه أراد ذلك لنفسه، وإنما كره دخوله بالكلام في مثل ذلك.

وكرهه مالك إذا كان حرًّا ما لم تكن ضرورة تدعو إليه. وعورض قوله هذا بإجازته دخول الخصي -وإن لم يكن لها- ولم تكن لها ضرورة تدعو إليها، ودخول الخصي الحر أخف من العبد الفحل.

(1)

انظر: "المنتقى" 6/ 183. و"شرح ابن بطال" 7/ 361 - 362.

(2)

ذكره ابن عبد البر في "التمهيد" 22/ 276 عن الواقدي وابن الكلبي.

ص: 139

‌114 - باب نَظَرِ الْمَرْأَةِ إِلَى الْحَبَشِ وَنَحْوِهِمْ مِنْ غَيْرِ رِيبَةٍ

5236 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، عَنْ عِيسَى، عَنِ الأَوْزَاعِيُّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَسْتُرُنِي بِرِدَائِهِ، وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى الْحَبَشَةِ يَلْعَبُونَ فِى الْمَسْجِدِ، حَتَّى أَكُونَ أَنَا الَّذِى أَسْأَمُ، فَاقْدُرُوا قَدْرَ الْجَارِيَةِ الْحَدِيثَةِ السِّنِّ الْحَرِيصَةِ عَلَى اللَّهْوِ. [انظر: 454 - مسلم: 892 - فتح 9/ 336].

ذكر فيه حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَسْتُرُنِي بِرِدَائِهِ، وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى الحَبَشَةِ يَلْعَبُونَ فِي المَسْجِدِ .. الحديث.

سلف قريبًا في الصلاة

(1)

، وهو حجة لمن أجاز النظر إلى اللعب في الوليمة وغيرها.

وفيه: جواز النظر للنساء إلى اللهو واللعب لا سيما الحديثة السن، فإنه عليه السلام قد عذرها لحداثة سنها.

وفيه: أنه لا بأس بنظر المرأة إلى الرجل من غير ريبة. ألا ترى ما اتفق العلماء من الشهادة عليها أن ذلك لا يكون إلا بالنظر إلى وجهها، ومعلوم أنها تنظر إليه حينئذ كما ينظر إليها. وإنما أراد

البخاري به الرد بحديث ابن شهاب، عن نبهان مولى أم سلمة، عن أم سلمة أنها قالت: كنت أنا وميمونة جالستين عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذن عليه ابن أم مكتوم فقال: "احتجبا منه" فقلنا: يا رسول الله: أليس أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا؟ فقال: "أفعمياوان أنتما ألستما تبصرانه" حديث صحيح، أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي.

(1)

سلف برقم (454)، باب: أصحاب الحراب في المسجد.

ص: 140

وقال الترمذي: حسن صحيح. وكذا صححه ابن حبان أيضًا

(1)

.

وفي سنده: نبهان المخزومي مكاتب أم سلمة. قال البيهقي في الكتابة من "سننه": صاحبا الصحيح لم يخرجا عنه، وكأنه لم تثبت عدالته عندهما، ولم يخرج من الجهالة

(2)

برواية عدل عنه

(3)

. قلت: قد روى عنه اثنان: الزهري، ومحمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة، وذكره ابن حبان في الثقات

(4)

وصحح الحاكم حديثه

(5)

.

وأعلَّه أيضًا ابن بطال حيث قال: حديث عائشة أصح منه؛ لأنه عن نبهان، وليس بمعروف بثقل العلم، ولا يروي إلا حديثين: أحدهما هذا، والثاني في المكاتب إذا كان معه ما يؤدي احتجبت منه سيدته

(6)

، قال: فلا يستعمل حديث نبهان لمعارضته الأحاديث الثابتة له وإجماع العلماء

(7)

.

(1)

أبو داود (4112)، الترمذي (2778)، النسائي في "الكبرى" 5/ 393 (9241)، ابن حبان 12/ 387 (5575)، والحديث سبق تخريجه.

(2)

ورد بهامش الأصل: لا يخرج عن جهالة العين برواية عدل عنه، إلا على قولٍ، وشرط هذا القول أن يكون الراوي عنه لا يروي إلا عن عدل، كما في جماعة منهم: ابن مهدي ومالك وشعبة وغيرهم.

(3)

"السنن" 10/ 327.

(4)

"الثقات" 5/ 486.

(5)

"المستدرك" 2/ 219.

(6)

رواه أبو داود (3928)، والترمذي (1261)، وابن ماجه (2520) عن نبهان مكاتب أم سلمة قال: سمعت أم سلمة تقول: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن كان لإحداكن مكاتب فكان عنده ما يؤدي فلتحتجب منه".

وهو حديث ضعفه الألباني في "الإرواء"(1769).

(7)

"شرح ابن بطال" 7/ 364.

ص: 141

قلت: فلا معارضة، بل يحمل حديثها على أنها كانت إذ ذلك صغيرة، فلا حرج عليها في النظر إذًا، أو أنه رخص في الأعياد ما لا يرخص في غيرها. ويبعد أن يكون حديث عائشة منسوخًا به وإن كان بعد الحجاب، كما أخرجه أبو داود. وحديث عائشة في أوائل الهجرة، أو أن الحبش كانوا صبيانًا، أو من خصائصها لعظيم حرمتها. وقد قال لفاطمة بنت قيس:"اعتدي عند ابن أم مكتوم، فإنه رجلٌ أعمى. تضعين ثيابك، فإنك إذا وضعت خمارك لم يرك"

(1)

.

وهذا مستفاد من كلام الشافعي حيث ذكر احتجاب أم سلمة من مكاتبها إذا كان عنده ما يؤدي، كما ستعلمه.

فصل:

قولها: (حَتَّى أَكُونَ أَنَا الذِي أَشأَمُ). كذا هو في الأصول، وأما ابن التين فذكره بلفظ: الذي. ثم قال: وصوابه: التي. لأنه نعت للمؤنث؛ كقوله تعالى: {مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ} [النمل: 32].

فصل:

قد أسلفنا من كلام الشافعي حيث ذكر احتجاب أم سلمة من مكاتبها، إذا كان عنده ما يؤدي؛ لأن الله أعظم أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وفرق بينهن وبين النساء، ولم يجعل على امرأة سواهن أن تحتجب ممن يحرم عليه نكاحها. قال: ومع هذا إن احتجاب المرأة ممن له أن يراها واسع لها، وقد أمر عليه السلام سودة ممن قضى به أنه أخوها؛ وذلك أن يكون للاحتياط، وأن الاحتجاب ممن له أن يراها مباح.

(1)

سبق تخريجه.

ص: 142

‌115 - باب خُرُوجِ النِّسَاءِ لِحَوَائِجِهِنَّ

5237 -

حَدَّثَنَا فَرْوَةُ بْنُ أَبِي الْمَغْرَاءِ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: خَرَجَتْ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ لَيْلاً فَرَآهَا عُمَرُ فَعَرَفَهَا فَقَالَ: إِنَّكِ وَاللهِ يَا سَوْدَةُ مَا تَخْفَيْنَ عَلَيْنَا، فَرَجَعَتْ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ، وَهْوَ فِي حُجْرَتِي يَتَعَشَّي، وَإِنَّ فِي يَدِهِ لَعَرْقًا، فَأُنْزِلَ عَلَيْهِ فَرُفِعَ عَنْهُ وَهُوَ يَقُولُ:«قَدْ أَذِنَ لَكُنَّ أَنْ تَخْرُجْنَ لِحَوَائِجِكُنَّ» . [انظر: 146 - مسلم: 2170 - فتح 9/ 337].

ذكر فيه حديث عَائِشَةَ، خَرَجَتْ سَوْدَةُ رضي الله عنها بنت زمعة لَيْلًا فَرَآهَا عُمَرُ رضي الله عنه فَعَرَفَهَا فَقَالَ: إِنَّكِ والله يَا سَوْدَةُ مَا تَخْفَيْنَ عَلَيْنَا، فَرَجَعَتْ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ، وَهْوَ فِي حُجْرَتِي يَتَعَشَّى، وَإِنَّ فِي يَدِهِ لَعَرْقًا، فَأُنْزِلَ عَلَيْهِ فَرُفِعَ عَنْهُ وَهُوَ يَقُولُ:"قَدْ أَذِنَ لكن أَنْ تَخْرُجْنَ لِحَوَ ائِجِكُنَّ".

هذا الحديث سلف في تفسير سورة الأحزاب، وأخرجه مسلم أيضًا

(1)

، وأسلفنا عن القاضي عياض: أن الحجاب فرض على أمهات المؤمنين من غير خلاف في الوجه والكفين فلا يجوز لهن كشف ذلك لشهادة ولا لغيرها، ولا يجوز لهن إظهار شخوصهن وإن كن مستترات، إلا ما دعت إليه الضرورة، قال تعالى:{وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا} [الأحزاب: 53]، وقد قال عمر حين رآها ليلاً بعد الحجاب ما سقناه.

وأصل (تخفين) بفتح الفاء وسكون الياء: تخفيين على وزن تعلمين، فاستثقلت الكسرة تحت الياء، فحذفت، فاجتمع ساكنان وهما الياءان،

(1)

سلف برقم (4795)، باب قوله:{لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا} ، مسلم (2170) كتاب: السلام، باب: إباحة الخروج للنساء لقضاء حاجة الإنسان.

ص: 143

فحذفت الأولى؛ لأن الثانية ضمير المخاطب، فبقي تخفين بسكون الياء وفتح الفاء.

وقولها: (وَإِنَّ فِي يَدِهِ لَعَرْقًا). قال ابن فارس: العرق: العظم أخذت لحمه

(1)

.

قال الداودي: حوائج: جمع الحاجة، وجمع الحاجة: الحاجات. وجمع الجمع: حاج، ولا يقال: حوائج. واعترضه ابن التين فقال: الذي ذكره أهل اللغة مثل ما في البخاري أن جمع حاجة: حوائج، ودعوى الداودي في الحاج جمع الجمع ليس بصحيح، بل هو جمع حاجة، مثل: تمرة وتمر، فحذفت الهاء منه -علامة الجمع- وكذلك جاء حاجات: جمع حاجة، مثل: آية وآيات، وقاعة وقاعات، وتمرة وتمرات، وكذلك حوائج: جمع حاجة أيضًا. قال الهروي: هو جمع على غير قياس الحاجة، قال: وقد قيل: الأصل فيه: حائجة يريد مثل جائحة وجوائح. (وقاعدة)

(2)

وقواعد، وهو الباب في الجمع، وكنى بالحاجة هنا عن البول والغائط.

وقال صاحب "المنتهى": الحاجة فيها لغات: حاجة وحوجًا وحائجة، فجمع السلامة، حاجات. قال:

تموت مع المرء حاجاته

وتبقى له حاجة ما بقي

وجمع التكسير: حاج، مثل: راحة وراح. قال:

وأرضع حاجة بلبان أخرى

كذاك الحاج يرضع باللبان

وقال:

(1)

"مجمل اللغة" 3/ 662. مادة (عرق).

(2)

كلمة غير واضحة بالأصول، كأنها (قماعد)، ولعل الصواب ما أثبتناه.

ص: 144

أقلني عثرتي وتلاف أمري

وهب لي منك عفوًا أقضِ حاج

قال:

ومرسل ورسول غير متهم

وحاجة غير مزجاة من الحاج

وجمع حوج: حواج، مثل: صخر وصخار، وتجمع على حوج أيضًا نحو: عوجاء وعوج، قال:

لعمري لقد ثبطتني عن صحابتي

وعن حوَج قضَّاؤها عن شقائيا

وجمع حاجة: حوائج، مثل: جائحة وجوائح، وقال بعضهم: هو جمع حاجة. وكان الأصمعي ينكره ويقول: هو مولَّد وأئمتنا أنكروه بخروجه عن القياس في جمع حاجة، وإلا فهو كثير في الكلام. قال:

نهار المرء أمثل حين يقضي

حوائجه من الليل الطويل

ويقال: ما في صدره حوجًا، ولا لوئجًا. ولا شك، ولا مرية بمعنى واحد. ويقال: في أمرك حوئجًا ولا لوئجًا. وما لفلان عندنا حاجة ولا حائجة ولا حوجًا ولا حواسية -بالشين والسين- ولا لماسة ولا لبانة ولا إربة ولا إرب ومأرُبة ومأربة ونوأة وبهجة، وأشكلة وشاكلة وشكلة وشكلا، كله بمعنى واحد.

فصل:

فيه دلالة على خروج النساء لكل ما أبيح لهن الخروج فيه، من زيارة الآباء والأمهات والمحارم وغير ذلك مما بهن الحاجة إليه، وذلك في حكم خروجهن إلى المساجد.

وفيه: منقبة عظيمة لعمر رضي الله عنه.

وفيه: تنبيه أهل الفضل على مصالحهم ونصحهم، وجواز خروج المرأة بغير إذن زوجها إلى المكان المعتاد؛ للإذن العام فيه.

ص: 145

‌116 - باب اسْتِئْذَانِ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا فِي الْخُرُوجِ إِلَى الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ

5238 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:«إِذَا اسْتَأْذَنَتِ امْرَأَةُ أَحَدِكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَلَا يَمْنَعْهَا» . [انظر: 865 - مسلم: 442 - فتح 9/ 337].

ذكر فيه حديث سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:"إِذَا اسْتَأْذَنَتِ امْرَأَةُ أَحَدِكُمْ إِلَى المَسْجِدِ فَلَا يَمْنَعْهَا".

وقد سلف في الصلاة بمذاهب العلماء فيه

(1)

، وفي الحديث الآخر:"لا تمنعوا إماء الله مساجد الله"

(2)

.

وقالت عائشة: لو أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء لمنعهن المساجد، كما منعت نساء بني إسرائيل

(3)

. ولم يذكر في الباب غير المسجد كما ترجم له. قال الشافعي: يمنع الرجل زوجته. وانفصل به عن هذا، كأنه يعني به الحرام أو يحمله على الاستحباب، بدليل أن صلاتها في بيتها أفضل من المساجد. وفيه أحاديث

(4)

.

(1)

سلف برقم (865) كتاب: الأذان، باب: خروج النساء إلى المساجد.

(2)

سلف برقم (900)، كتاب: الجمعة، ورواه مسلم (442)، كتاب: الصلاة، باب: خروج النساء إلى المساجد.

(3)

سلف برقم (869) كتاب: الأذان، باب: انتظار الناس قيام الإمام العالم، رواه مسلم (445) كتاب الصلاة، باب: خروج النساء إلى المساجد إذا لم يترتب عليه فتنة.

(4)

انظر: "اختلاف الحديث" ص 102.

ص: 146

‌117 - باب مَا يَحِلُّ مِنَ الدُّخُولِ وَالنَّظَرِ إِلَى النِّسَاءِ فِي الرَّضَاعِ

5239 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ جَاءَ عَمِّى مِنَ الرَّضَاعَةِ فَاسْتَأْذَنَ عَلَيَّ فَأَبَيْتُ أَنْ آذَنَ لَهُ حَتَّى أَسْأَلَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ:«إِنَّهُ عَمُّكِ فَأْذَنِي لَهُ» قَالَتْ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّمَا أَرْضَعَتْنِي الْمَرْأَةُ وَلَمْ يُرْضِعْنِي الرَّجُلُ. قَالَتْ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّهُ عَمُّكِ فَلْيَلِجْ عَلَيْكِ» . قَالَتْ عَائِشَةُ وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ ضُرِبَ عَلَيْنَا الْحِجَابُ. قَالَتْ عَائِشَةُ: يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنَ الْوِلَادَةِ. [انظر: 2644 - مسلم: 1445 - فتح 9/ 338].

ذكر فيه حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها جَاءَ عَمِّي مِنَ الرَّضَاعَةِ .. الحديث.

وقد سلف

(1)

، وفائدة هذا الباب أنه أصل في أن الرضاع يحرم من النكاح ما يحرم من النسب، وصح من الولوج على ذوات المحارم منه ما يحيى من النسب، وقد سلف في ذلك.

وقول عائشة رضي الله عنها: (جَاءَ عَمِّي مِنَ الرَّضَاعَةِ فَاسْتَأْذَنَ فيه استئذان ذوي المحارم). وقد قال في "المعونة": يستأذن على الأقارب كالأجانب؛ لأنه متى فاجأهن بالدخول جاز أن يصادف منهن عورة لا يجوز له الاطلاع عليها، أو أمرًا يكره من الوقوف عليه، فأما زوجته وأمته الجائز له وطؤها فلا يستأذنهما؛ لأن أكثر ما في ذلك أن يصادفهما منكشفين، وقد أبيح له النظر إلى ذلك

(2)

.

(1)

سلف برقم (2644)، كتاب: الشهادات، باب: الشهادة على الأنساب والرضاع.

(2)

"المعونة" 2/ 579.

ص: 147

وقال في "التلقين": سواء في ذلك الأم والأخت وسائر ذوات المحارم والأهل أنه يستأذنهن.

وقولها: (إِنَّمَا أَرْضَعَتْنِي المَرْأَةُ) أي: امرأة أخيه.

وفيه: أن لبن الفحل يحرم، وعائشة رضي الله عنها روت هذا الحديث ولم تأخذ به، نبه عليه ابن التين.

ص: 148

‌118 - باب لَا تُبَاشِرُ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ فَتَنْعَتَهَا لِزَوْجِهَا

5240 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَا تُبَاشِرِ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ فَتَنْعَتَهَا لِزَوْجِهَا، كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا» . [انظر: 5241 - فتح 9/ 338].

5241 -

حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، قَالَ: حَدَّثَنِي شَقِيقٌ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَا تُبَاشِرِ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ فَتَنْعَتَهَا لِزَوْجِهَا كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا» . [انظر: 5240 - فتح 9/ 338].

ذكر فيه حديث أَبِي وَائِلٍ شقيق، عَنْ ابن مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَا تُبَاشِرِ المَرْأَةُ المَرْأَةَ فتَنْعَتَهَا لِزَوْجِهَا، كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا".

ومحمد بن يوسف شيخ البخاري فيه هو الفريابي كما قال أبو نعيم وغيره، وسفيان هو الثوري، هو مطابق لما ترجم له، وقد سلف الاحتجاج به لمن يرى بصحة بيع الغائب، واحتج به أيضًا من أجاز السلم في الجواري، وهو مذهب مالك والشافعي. وخالف أبو حنيفة، وذلك أنه منع أن تنعتها لزوجها فتصير كأنه ينظر إليها، وذلك ضبطٌ لها وإحاطة لها كالنظر إليها.

قال أبو الحسن القابسي: هذا الحديث من أبين ما تحمى به الذرائع، نهى أن تضاجع المرأة المرأة، وبين (

)

(1)

نهاها عن ذلك، وأخبر أن ذلك قد ينتهي بها إلى أن تصف لزوجها فإن رأت منها صفة تقوم نظره إليها، فلعل ذلك يدخل في قلب زوجها من الموصوفة له، فيكون ذلك سببًا لطلاق زوجته ونكاحها إن كانت

(1)

كلمة مشكلة غير واضحة بالأصول كأنها: ما.

ص: 149

أيمًا، وإن كانت ذات بعل كان سببًا لبغضه زوجته ونقصان منزلتها عنده، وإن وصفتها بقبيح كان ذلك غيبة، وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهي الرجل عن مباشرة الرجل، مثل نهيه المرأة، وقد أخرجه الطبري من حديث ابن عباس أيضًا

(1)

، فجعل الشيخ أن النعت يقع على الحسن والقبح، وقال الخليل: النعت: وصفك الشيء بما فيه من حسن، قال: إلا أن يتكلف متكلف فيقول: ذا نعت سوء. قال: وكل شيء جيد تابع نعت

(2)

.

وقال الداودي: نهيه عن المباشرة للوجه الذي ذكر عبد الله، فكأنه جعل قوله:"تَنْعَتَهَا" إلي آخره من كلام ابن مسعود، وظاهر الحديث رفعه.

قال الطبري: لما ذكر حديث ابن عباس الذي أسلفناه عنه، فيه من البيان: أن مباشرة الرجل الرجل، والمرأة المرأة، مفضيًا كل واحد منهما بجسده إلى جسد صاحبه غير جائز.

قلت: قد جاء مصرحًا به من حديث أبي الزبير عن جابر مرفوعًا: نهى أن يباشر الرجل الرجل في ثوب واحد، والمرأة المرأة في ثوب واحد. أخرجه أحمد

(3)

، وفي رواية للإسماعيلي في الأول: إلا أن يكون بينهما ثوب. وهذِه الأخبار عن العموم وعلى الخصوص فيما يحتمله ظاهره.

(1)

رواه الطبري كما في "شرح ابن بطال" 7/ 366. ورواه أيضًا أحمد 1/ 304، وصححه ابن حبان 12/ 394 - 395 (5582)، والحاكم في "المستدرك" 4/ 288.

وقال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على "المسند"(2774): إسناده صحيح.

(2)

"العين" 2/ 72 - 73.

(3)

أحمد 3/ 356.

ص: 150

قال: الحجة قامت بالمصافحة في حق الرجال والنساء، وذلك مباشرة كل واحد منهما صاحبه ببعض جسده، وكان معلومًا بذلك أوللم يكن في النهي عن المباشرة استثناءً، وكانت المصافحة مباشرة، وهي من الأمور التي ندب المسلمون إليها. ثم ساق بإسناده عن الحسن عن البراء مرفوعًا:"إن المسلمين إذا التقيا فتصافحا تحاتت ذنوبهما"

(1)

.

وعن عبيد الله بن زحر، عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة مرفوعًا:"تحيتكم بينكم المصافحة"

(2)

. ونحو ذلك من الأخبار الدالة على أن المسلمين مندوبون إلى مباشرة بعضهم بعضًا بالألف مصافحة عند الالتقاء، وكان محالًا اجتماع الأمر بفعل الشيء والنهي عنه في حال واحد، على أن الذي ندب العبد إلى المباشرة به من جسم أخيه غير الذي نهي عنه من مباشرفه، ولا يحتاج إلى ما ذكره. قال ابن القاسم: سئل مالك عن الخدم يبيتون عراة في لحاف واحد وفي الشتاء فكرهه، وأنكر أن تبيت النساء عراة لا ثياب عليهن؛ لأن ذلك إشراف على العورات، وذلك غير جائز، لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المباشرة

(3)

.

(1)

رواه أبو داود (5212)، والترمذي (2727)، وابن ماجه (3703) من طريق أبي إسحاق عن البراء.

(2)

رواه الترمذي (2731)، وأحمد 5/ 260، والطبراني 8/ 211 - 212 (7854)، وقال الترمذي: هذا إسناد ليس بالقوي، محمد وعبيد الله بن زحر ثقة، وعلى بن يزيد ضعيف. والحديث ضعفه الألباني. انظر:"ضعيف الجامع"(3668).

(3)

انظر: "شرح ابن بطال" 7/ 366 - 367.

ص: 151

‌119 - باب قَوْلِ الرَّجُلِ لأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى (نِسَائِي)

(1)

5242 -

حَدَّثَنِي مَحْمُودٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ:«قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ عليهما السلام لأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ بِمِائَةِ امْرَأَةٍ، تَلِدُ كُلُّ امْرَأَةٍ غُلَامًا، يُقَاتِلُ فِى سَبِيلِ اللهِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلَكُ: قُلْ إِنْ شَاءَ اللهُ. فَلَمْ يَقُلْ وَنَسِيَ، فَأَطَافَ بِهِنَّ، وَلَمْ تَلِدْ مِنْهُنَّ إِلاَّ امْرَأَةٌ نِصْفَ إِنْسَانٍ» . قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَوْ قَالَ إِنْ شَاءَ اللهُ لَمْ يَحْنَثْ، وَكَانَ أَرْجَى لِحَاجَتِهِ» . [انظر: 3424 - مسلم: 1654 - فتح 9/ 339].

ذكر فيه حديث أبي هريرة رضي الله عنه:

وقد سلف في الجهاد

(2)

، وتقدم معناه في باب، من طاف على نسائه بغسلٍ واحد

(3)

، وأنه لا يجوز أن يجمع الرجل جماعه زوجاته في غسل واحد، ولا يطوف عليهن في ليلة إلا إذا ابتدأ القسم بينهن، أو أذن له في ذلك، أو إذا قدم من سفر، ولعله لم يكن في شريعة سليمان بن داود عليه السلام من فرض القسمة بين النساء والعدل بينهن ما أخذه الله على هذِه الأمة.

قال المهلب: وقوله: "لَوْ قَالَ إِنْ شَاءَ اللهُ لَمْ يَحْنَثْ" يعني لم يخب ولا عوقب بالحرمان حين لم يستثن مشيئة الله، ولم يجعل الأمر له، وليس في الحديث يمين فيحنث فيها، وإنما أراد أنه لما جعل لنفسه القوة والفعل عاقبه الله بالحرمان، فكان الحنث بمعنى: التخييب، وكذلك من نذر لله طاعة أو دخل في شيء منها وجب عليه الوفاء بذلك؛ لقوله تعالى:{أَوْفُوا بِالْعُقُود} [المائدة: 1] وقوله تعالى: {فَمَا

(1)

في اليونينية: (نسائه) وفي هامشها: على نسائه كذا في اليونينية وفروعها. قال القسطلاني: وفي نسخة على نسائي اهـ.

(2)

سلف برقم (3424) كتاب: أحاديث الأنبياء.

(3)

راجع شرح الحديث السالف برقم (268).

ص: 152

رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد: 27] فكان مطالبًا بما تألى به، فكأنه ضرب من الحنث؛ لأنه تألى فلم يفِ. وقد احتج بعض الفقهاء بهذا الحديث فقال: إن الاستثناء بعد السكوت عن اليمين جائز، بخلاف قول مالك

(1)

.

واحتجوا بقوله: "لَوْ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللهُ لَمْ يَحْنَثْ". وليس كما توهموه؛ لأن هذِه لم تكن يمينًا، وإنما كان قولًا جعل الأمر فيه لنفسه، ولم تجب عليه فيه كفارة، فسقط عنه الاستثناء. وإنما هذا الحديث مثل قوله تعالى:{وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ} [الكهف: 23 - 24] أدبًا أدب الله به عباده ليردوا الأمر إليه ويبرءوا من الحول والقوة إلا به. ودل هذا المعنى على صحة قول أهل السنة أن أفعال العباد من الخير والشر خلق الله تعالى، وسيأتي في الاعتصام أيضًا.

وقال ابن التين: معنى: "لَمْ يَحْنَثْ": لم يخلف قوله؛ لأن الحنث أصل الخلف في اليمين، ويحتمل أن يكون خلف على ذلك.

وقوله: ("لأَطُوفَنَّ"). يقال: أطاف بالإنسان طائف من جن أو خيال. وفي الحديث أن الأنبياء أعطوا من القوى مالم يعط غيرهم. وفي بعض الروايات: "لأطوفن على سبعين"

(2)

. وهنا: "مِائَةِ". وفي بعضها: "بألف". ذكره ابن التين.

(1)

انظر: "الإشراف" 2/ 247.

(2)

سلف برقم (3424)، ورواه مسلم (1654/ 23 - 24).

ص: 153

‌120 - باب لَا يَطْرُقْ

(1)

أَهْلَهُ لَيْلاً إِذَا أَطَالَ الْغَيْبَةَ؛ مَخَافَةَ أَنْ يُخَوِّنَهُمْ أَوْ يَلْتَمِسَ عَثَرَاتِهِمْ

5243 -

حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا مُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ - رضى الله عنه - قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَكْرَهُ أَنْ يَأْتِيَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ طُرُوقًا. [انظر: 443 - مسلم: 715 وبعد 1465، 1599، 1928 - فتح 9/ 337].

5244 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، أَخْبَرَنَا عَاصِمُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا أَطَالَ أَحَدُكُمُ الْغَيْبَةَ فَلَا يَطْرُقْ أَهْلَهُ لَيْلاً» . [انظر الحديث السابق - فتح 9/ 339].

ذكر فيه حديث جَابِرَ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَكْرَهُ أَنْ يَأْتِيَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ طُرُوقًا.

وعنه أيضًا: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَطَالَ أَحَدُكمُ الغَيْبَةَ فَلَا يَطْرُقن أَهْلَهُ لَيْلًا". سلف في الحج

(2)

.

الشرح:

الطروق -بضم الطاء-: إتيان المنزل ليلاً، وهو مصدر في موضع الحال، يقال: أتانا طروقًا: إذا جاء ليلاً.

وقوله: ("إِذَا أَطَالَ") إلى آخره. ادعى ابن التين أنه ليس في أكثر الروايات.

وقوله: ("لَيْلًا") تأكيد؛ لأن الطرق: إتيان أهله ليلاً، كما سلف.

وذكر ابن فارس أن بعضهم حكى عنه أن الطروق قد يقال في النهار

(3)

،

(1)

في الأصل: يطرقن.

(2)

سلف برقم (1851)، باب: لا يطرق أهله إذ بلغ المدينة.

(3)

"مجمل اللغة" 2/ 595 مادة (طرق).

ص: 154

فعلى هذا يكون "ليلاً" على البيان، وقوله في الترجمة:(مخافة أن يخونهم أو يلتمس عثراتهم). قد أخرجه ابن أبي شيبة، عن وكيع، عن سفيان، عن محارب بن دثار، عن جابر رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطرق الرجل أهله ليلاً يتخونهم أو يطلب عثراتهم

(1)

. فيبين الشارع بهذا اللفظ المعنى الذي من أجله نهى أن يطرق أهله ليلاً. ومعنى كون طرق الليل سببًا لتخوينهم أنه وقت خلوة وانقطاع مراقبة الناس بعضهم لبعض، وكان ذلك سببًا ليوطئ أهله به، وكأنه إنما قصدهم ليلاً؛ ليجدهم على زينة حين توقى عثرتهم وغفلتهم.

ومعنى الحديث: النهي عن التجسس على أهله، ولا تحمله غيرته على تهمتها، إذا لم يأنس منها إلا الخير، فهو دال على المنع من التجسيس وطلب الغيرة والتعرض لما فيه الغيبة وسوء الظن.

(1)

"المصنف" 6/ 541 (33633).

ص: 155

‌121 - باب طَلَبِ الْوَلَدِ

5245 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، عَنْ هُشَيْمٍ، عَنْ سَيَّارٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةٍ، فَلَمَّا قَفَلْنَا تَعَجَّلْتُ عَلَى بَعِيرٍ قَطُوفٍ فَلَحِقَنِي رَاكِبٌ مِنْ خَلْفِي، فَالْتَفَتُّ فَإِذَا أَنَا بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَا يُعْجِلُكَ» . قُلْتُ إِنِّي حَدِيثُ عَهْدٍ بِعُرْسٍ. قَالَ: «فَبِكْرًا تَزَوَّجْتَ أَمْ ثَيِّبًا» . قُلْتُ بَلْ ثَيِّبًا. قَالَ: «فَهَلاَّ جَارِيَةً تُلَاعِبُهَا وَتُلَاعِبُكَ» . قَالَ: فَلَمَّا قَدِمْنَا ذَهَبْنَا لِنَدْخُلَ فَقَالَ: «أَمْهِلُوا حَتَّى تَدْخُلُوا لَيْلاً -أَيْ عِشَاءً- لِكَيْ تَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ وَتَسْتَحِدَّ الْمُغِيبَةُ» . قَالَ: وَحَدَّثَنِي الثِّقَةُ أَنَّهُ قَالَ فِى هَذَا الْحَدِيثِ «الْكَيْسَ الْكَيْسَ يَا جَابِرُ» . يَعْنِي الْوَلَدَ. [انظر الحديث السابق - فتح 9/ 341].

5246 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سَيَّارٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِذَا دَخَلْتَ لَيْلاً فَلَا تَدْخُلْ عَلَى أَهْلِكَ حَتَّى تَسْتَحِدَّ الْمُغِيبَةُ وَتَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ» . قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «فَعَلَيْكَ بِالْكَيْسِ الْكَيْسِ» . تَابَعَهُ عُبَيْدُ اللهِ، عَنْ وَهْبٍ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِى الْكَيْسِ. [انظر الحديث السابق - فتح 9/ 341].

ذكر فيه حديث سَيَّارٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةٍ، فَلَمَّا قَفَلْنَا تَعَجَّلْتُ عَلَى بَعِيرٍ قَطُوفٍ فَلَحِقَنِي رَاكِبٌ مِنْ خَلْفِي، فَالْتَفَتُّ فَإِذَا أَنَا بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَا يُعْجِلُكَ". قُلْتُ إِنِّي حَدِيثُ عَهْدٍ بِعُرْسِ. قَالَ: "فَبِكْرًا تَزَوَّجْتَ أَمْ ثَيِّبًا". الحديث، إلى أن قَالَ: وَحَدَّثَنِي الَثِّقَةُ أَنَّهُ قَالَ فِي هذا الحَدِيثِ "الْكَيْسَ الكَيْسَ يَا جَابِرُ". يَعْنِي الوَلَدَ. وبه قال جابر مرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه:("فعليك بالكيس الكيس" تابعه عبيد الله عن وهب عن جابرعن النبي صلى الله عليه وسلم في الكيس).

ص: 156

الشرح:

الحديث سلف في الطهارة

(1)

وغيرها، ومعنى: قفلنا: رجعنا. والقطوف: تقارب الخطو في سرعةٍ، وهو ضد الوساج.

وقوله: ("فَبِكْرًا") إلى آخره تقديره: أبكرًا تزوجت؛ لأن (أم) لا يعطف بها إلا بعد همزة الاستفهام. "وتلاعبها" سلف هل هو من اللعاب أو اللعب المعروف.

ومعنى "تستحد المغيبة": تصلح من شأنها بالحديد، وهو استفعال من الحديد، يعني: الاستحلاق بها. والكيس هنا يجري مجرى الحذر، قاله الخطابي، قال: وقد يكون بمعنى الرفق وحسن التأني

(2)

. وقال ابن الأعرابي: الكيس: العقل، كأنه جعل طلب الولد عقلاً. وقاله ثعلب وأنشد:

وإنما الكيس لب المرء يعرضه

على المجالس إن كيسًا وإن حمقًا

وقيل: أراد الحذر من العجز عن الجماع، ففيه الحث على الجماع.

فائدة لغوية:

الكوس بالسين مهملة ومعجمة: الجماع، يقال: كاس الجارية، وكاشها، وكاوسها مكاوسة كواسة، وأكاسها، كل ذلك إذا جامعها.

فصل:

وطلب الولد مندوب إليه؛ لقوله عليه السلام: "إني مكاثر بكم الأمم"

(3)

،

(1)

سلف برقم (443)، باب: الصلاة إذا قدم من سفر.

(2)

"أعلام الحديث" 3/ 2028.

(3)

رواه أبو داود (2050) من حديث معقل بن يسار قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أصبت امرأة ذات حسب .. الحديث، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2940). =

ص: 157

وإنه "من مات من ولده ممن لم يبلغ الحنث فإن الله يدخله الجنة بفضل رحمته إياهم"

(1)

.

فإن قلت: قوله: "أمهلوا حتى تدخلوا ليلاً" أي: عشاء. يعارض نهيه أن يطرق الرجل أهله ليلاً، قلت: لا تعارض؛ ففي هذا الحديث أمر المسافر إذا قدم نهارًا أن يتربص حتى يدخل على أهله عشاءً؛ لكي يتقدمه إلى أهله خبر قدومه، فتمتشط له الشعثة وتتزين وتستحد له وتتنظف، لئلا يجدها على حالة يكرهها فتقع البغضاء، وهذا رفق منه بالأمة، ورغبة في إدامة المودة بينهما وحسن العشرة. والحديث الآخر إذا قدم ليلاً؛ لأن الطروق لا يكون إلا وقت العشاء لمن يقدم فجأة بعد مضي وقت من الليل، فنهى عن ذلك؛ للعلة السالفة، وهي: خشية أن يتخونهم ويطلب عثراتهم، لا سيما إذا طالت غيبته، فإنه يبعد مراقبتها وتكون يائسة من رجوعه إليها، فيجد الشيطان سبيلًا إلى إيقاع سوء الظن.

= ورواه ابن ماجه (3944)، وأحمد 4/ 349 من حديث الصنائع الأحمسي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ألا إني فرطكم على الحوض". الحديث، قال البوصيري: صحيح رجاله ثقات، انظر "زوائد ابن ماجه" ص 508، وانظر "صحيح ابن ماجه" للألباني (3187).

(1)

سلف برقم (1381)، كتاب: الجنائز، باب: ما قيل في أولاد المسلمين.

ص: 158

‌122 - باب تَسْتَحِدُّ الْمُغِيبَةُ وَتَمْتَشِطُ {الشَّعِثَةُ}

(1)

5247 -

حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا سَيَّارٌ عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةٍ، فَلَمَّا قَفَلْنَا كُنَّا قَرِيبًا مِنَ الْمَدِينَةِ تَعَجَّلْتُ عَلَى بَعِيرٍ لِي قَطُوفٍ، فَلَحِقَنِي رَاكِبٌ مِنْ خَلْفِي فَنَخَسَ بَعِيرِي بِعَنَزَةٍ كَانَتْ مَعَهُ، فَسَارَ بَعِيرِي كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ مِنَ الإِبِلِ، فَالْتَفَتُّ فَإِذَا أَنَا بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي حَدِيثُ عَهْدٍ بِعُرْسٍ. قَالَ: «أَتَزَوَّجْتَ» . قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: «أَبِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا» . قَالَ قُلْتُ بَلْ ثَيِّبًا. قَالَ: «فَهَلاَّ بِكْرًا تُلَاعِبُهَا وَتُلَاعِبُكَ» . قَالَ: فَلَمَّا قَدِمْنَا ذَهَبْنَا لِنَدْخُلَ، فَقَالَ:«أَمْهِلُوا حَتَّى تَدْخُلُوا لَيْلاً -أَيْ عِشَاءً- لِكَيْ تَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ، وَتَسْتَحِدَّ الْمُغِيبَةُ» . [انظر الحديث السابق - فتح 9/ 342].

ذكر فيه حديث جابر أيضًا رضي الله عنه المذكور قبله.

(1)

ليست في الأصل، والمثبت من "الصحيح".

ص: 159

‌123 - باب قوله {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ} الآية، [إِلَى قَوْلِهِ {لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ}]

(1)

5248 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ قَالَ اخْتَلَفَ النَّاسُ بِأَيِّ شَيْءٍ دُووِيَ جُرْحُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ أُحُدٍ، فَسَأَلُوا سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ، وَكَانَ مِنْ آخِرِ مَنْ بَقِيَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ، فَقَالَ وَمَا بَقِيَ مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، كَانَتْ فَاطِمَةُ عليها السلام تَغْسِلُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ، وَعَلِيٌّ يَأْتِي بِالْمَاءِ عَلَى تُرْسِهِ، فَأُخِذَ حَصِيرٌ، فَحُرِّقَ فَحُشِيَ بِهِ جُرْحُهُ. [انظر: 243 - مسلم: 1790 - فتح 9/ 343].

ذكر فيه حديث سهل بن سعد.

وقد سلف في الطهارة قبيل الغسل

(2)

، وهذِه الآية نزلت بعد الحجاب، وهو نزل بعد أحد بسنتين، وكان سهل إذ ذاك صغيرًا. والزينة: الوجه والكفان. وقيل: واليدان إلى المرفقين. وأورد هنا قصة فاطمة لغسلها الدم عن وجه أبيها، وإبدائها له وجهها.

وقولها: (فَأُخِذَ حَصِيرٌ فأحرق). كذا في الأصول. وفي نسخة: فحُرِّق.

بضم الحاء وتشديد الراء، على وجه التكثير أو تعدية، قال الله تعالى:{لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ} [طه: 97] وقرئ بضم الراء: من الغيظ

(3)

، يقال: هو محرق عليك الأرم

(4)

غيظًا

(5)

: إذا حكَّ أسنانه بعضها ببعض.

(1)

ليست في الأصل.

(2)

سلف برقم (243)، باب: غسل المرأة أباها الدم عن وجهه.

(3)

هي قراءة شاذة، انظر:"مختصر شواذ القرآن" ص 92، و"المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات" لابن جني 2/ 58.

(4)

ورد بهامش الأصل: الأرم: الأضراس.

(5)

ورد بهامش الأصل: نسبها الجوهري في "صحاحه" إلى علي رضي الله عنه.

ص: 160

فصل:

قال المهلب: إنما أبيح للنساء أن يبدين زينتهن؛ لما ذكر في هذِه الآية من أجل الحرمة التي لهن من القرابة والمحرم، إلا في العبيد فإن الحرمة إنما هي من جهة السيادة وأن العبد لا تتطاول عينه إلى سيدته، فهي حرمة ثابتة في نفسه، أبيح للمرأة من إظهار الزينة ما أبيح إلى أبيها وابنها وذوي الحرمة منها، مع أنه لا يظن بحرة الانحطاط إلى عبد، هذا المعلوم من نساء العرب والأكثر في العرف والعادة، وسئل سعيد بن جبير: هل يجوز للرجل أن يرى شعر ختنته؟ فتلا قوله هذِه الآية، فقال: لا أراه فيهم.

وقال الطبري: في الآية {إِخوَانِهِنَّ} : جمع أخ، وأخوة جمع أخ أيضًا، كما يجمع فتى وفتيان، ويجمع فتية أيضًا. وسئل عكرمة والشعبي عن هذِه الآية {لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ} إلى قوله:{أَيْمَانُهُنَّ} [الأحزاب: 55] قلت: ما شأن العم والخال لم يذكرا؟ قال: لأنهما تبع لآبائهما، وكرها أن تضع خمارها عند عمها وخالها

(1)

. ومن رأى العم والخال داخلين في جملة الآباء أجاز ذلك. وقال النخعي: لا بأس أن ينظر إلى شعر أمه وعمته وخالته.

وذكر إسماعيل عن الحسن والحسين أنهما كانا لا يريان أمهات المؤمنين. وقال ابن عباس: إن رؤيتهما لهن تحل. وقال إسماعيل: أحسب أن الحسن والحسين ذهبا في ذلك إلى أن أبناء البعولة لم (يذكروا)

(2)

في الآية التي في أمهات المؤمنين، وهي قوله: {لَّا جُنَاحَ

(1)

"تفسير الطبري" 10/ 328.

(2)

في الأصول: يذكرا، ما أثبتناه هو الصواب.

ص: 161

عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ} [الأحزاب: 55]، قال:{وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} الآية [النور: 31]، فذهب ابن عباس إلى هذِه الآية، وذهب الحسن والحسين إلى الآية الأخرى.

وقوله: {وَلَا نِسَائِهِنَّ} [الأحزاب: 55] يعني: ولا حرج عليهن أن لا يحتجبن من نساء المؤمنين. وروي عن (ابن عمر)

(1)

رضي الله عنهما أنه كتب إلى عماله أن لا تترك امرأة من أهل الذمة أن تدخل الحمام مع المسلمات، واحتج بهذِه الآية

(2)

.

واختلف السلف في قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} [النور: 31] قال سعيد بن المسيب: لا تغرنكم هذِه الآية، إنما عني بها الإماء ولم يعن بها العبيد. وكان الشعبي يكره أن ينظر المملوك إلى شعر مولاته، وهو قول عطاء ومجاهد. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: لا بأس أن ينظر المملوك إلى شعر مولاته

(3)

. فدل على أن الآية عنده على العموم في المماليك والخدم، قاله إسماعيل، وهذا على القولين، فكانت عائشة وسائر أمهات المؤمنين يدخلن عليهن مماليكهن.

قال إسماعيل: وإنما جاز للمملوك أن ينظر إلى شعر مولاته ما دام مملوكًا؛ لأنه لا يجوز له أن يتزوجها ما دام مملوكًا، وهو كذوي المحارم، كما لا يجوز لذوي المحارم بها أن يتزوجوهن، ولا يدخل العبد في المحرم الذي يجوز للمرأة أن تسافر معه؛ لأن حرمته منها لا تدوم، وقد يمكن أن تعتقه في سفرها فيحل له (تزويجها)

(4)

.

(1)

ورد بهامش الأصل: كذا في أصله: ابن عمر. وحذف (ابن) هو الصواب.

(2)

رواه عبد الرزاق في "المصنف" 1/ 296 (1136).

(3)

روى هذِه الآثار ابن أبي شيبة 4/ 11 (17264 - 17266، 17268).

(4)

كذا في الأصول، ولعل الصواب: تزوجها.

ص: 162

فإن قلت: فحديث أم عطية: كنا نداوي الكلمى

(1)

. والحديث الآخر أن النساء كن ينقلن القرب على متونهن، وسوقهن مكشوفات، حتى يرى خدم سوقهن في المغازي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم

(2)

، يخالف الآية وحديث سهل.

قلت: لا؛ لأنه إن صح أن ما ظهر من سوقهن غير الخدم، مما لا يجوز كشفه، فالأحاديث منسوخة بسورة النور والأحزاب؛ لأنهما من آخر ما نزل بالمدينة من القرآن، وإجماع الأمة أنه غير جائز للمرأة أن تظهر شيئًا من عوراتها لذي رحمها، فكيف (بالأجانب)

(3)

وكذلك لا يجوز لها أن تظهر عورتها للنساء أيضًا

(4)

.

ونقل ابن التين عن مالك أنه لا بأس أن يرى المكاتب شعر سيدته إن كان وغدًا، وكذلك العبد

(5)

. وقال محمد بن عبد الحكم: يرى شعر سيدته إن كان وغدًا ولا يخلو معها في بيت، واختلف في عبد زوجها وعبد الأجنبي.

(1)

سلف برقم (324).

(2)

سلف برقم (2880).

(3)

في الأصول: بالأحاديث، والمثبت من "ابن بطال"، وهو الصواب.

(4)

انظر: "شرح ابن بطال" 7/ 371 - 374.

(5)

انظر: "المنتقى" 6/ 184.

ص: 163

‌124 - باب: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ}

5249 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَابِسٍ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما سَأَلَهُ رَجُلٌ شَهِدْتَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْعِيدَ أَضْحًى أَوْ فِطْرًا قَالَ: نَعَمْ لَوْلَا مَكَانِي مِنْهُ مَا شَهِدْتُهُ -يَعْنِى مِنْ صِغَرِهِ- قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى ثُمَّ خَطَبَ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَذَانًا وَلَا إِقَامَةً، ثُمَّ أَتَى النِّسَاءَ فَوَعَظَهُنَّ وَذَكَّرَهُنَّ وَأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ، فَرَأَيْتُهُنَّ يَهْوِينَ إِلَى آذَانِهِنَّ وَحُلُوقِهِنَّ يَدْفَعْنَ إِلَى بِلَالٍ، ثُمَّ ارْتَفَعَ هُوَ وَبِلَالٌ إِلَى بَيْتِهِ. [انظر: 98 - مسلم: 884 (1) و (13) - فتح 9/ 344].

ذكر فيه حديث ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما سَأَلَهُ رَجُلٌ: شَهِدْتَ مَعَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم العِيدَ أَضْحًى أَوْ فِطْرًا؟ قَالَ: نَعَمْ. إلى أن قال: وَأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ، فَرَأَيْتُهُنَّ يَهْوِينَ إِلَى آذَانِهِنَّ وَحُلُوقِهِنَّ ويَدْفَعْنَ إِلَى بِلَالٍ .. الحديث.

وقد سلف في الصلاة والعيد

(1)

، وكان ابن عباس في هذا الوقت ممن لم يطلع على عورات النساء، ولذلك قال: ولولا مكاني من الصغر ما شهدته. وكان بلال من البالغين، وقال تعالى:{لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النور: 58]. فأجرى الذين ملكت أيمانهم مجرى من لم يبلغ الحلم، وأمر بالاستئذان في العورات الثلاث؛ لأن الناس يتكشفون في تلك الأوقات، ولا يكونون من الستر فيها كما يكونون في غيرها.

(1)

سلف برقم (863، 964).

ص: 164

فصل:

لم يختلف فقهاء الأمصار أن العيد لا أذان له ولا إقامة، وإنما يقال فيه: الصلاة جامعة. واختلف فيمن ابتدع الأذان أولاً، فقيل: عبد الله بن الزبير، وقيل: معاوية. وقال ابن حبيب: هشام

(1)

. وقال الداودي: قيل مروان. وقيل: زياد، ذكره ابن التين.

وقوله: (يُهوي). هو بضم الياء من أهوى، إذا أراد أن يأخذ شيئًا.

(1)

انظر: "المنتقى" 1/ 315.

ص: 165

‌125 - باب قَوْلِ الرَّجُلِ لِصَاحِبِهِ هَلْ أَعْرَسْتُمُ اللَّيْلَةَ وَ]

(1)

طَعْنِ الرَّجُلِ ابْنَتَهُ فِى الْخَاصِرَةِ عِنْدَ الْعِتَابِ

5250 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ عَاتَبَنِي أَبُو بَكْرٍ وَجَعَلَ يَطْعُنُنِي بِيَدِهِ فِي خَاصِرَتِي فَلَا يَمْنَعُنِي مِنَ التَّحَرُّكِ إِلاَّ مَكَانُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَرَأْسُهُ عَلَى فَخِذِي. [انظر: 334 - مسلم: 367 - فتح 9/ 344].

ذكر فيه حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها: عَاتبَنِي أَبُو بَكْرٍ وَجَعَلَ يَطْعُنُ بِيَدِهِ في خَاصِرَتِي فَلَا يَمْنَعُنِي مِنَ التَّحَرُّكِ إِلَّا مَكَانُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَرَأْسُهُ عَلَى فَخِذِي ..

وهو حديث مختصر من حديث التيمم السابق في الطهارة

(2)

. زاد ابن بطال أول الترجمة: قول الرجل لصاحبه: هل أعرستم الليلة وطعن .. إلى آخره -وتوبع- ثم قال: لم يخرج فيه هنا حديثًا، وأخرج في أول كتاب العقيقة رواية أنس رضي الله عنه، قال: كان ابن لأبي طلحة يشتكي فخرج أبو طلحة، فقبض الصبي، فلما رجع أبو طلحة قال: ما فعل ابني؟ قالت أم سليم: هو أسكن مما كان .. الحديث. إلى أن قال: أعرستم الليلة؟ فذكره

(3)

.

وقولها: (يَطْعُنُنِي) هو بضم العين؛ لأنه باليد، والطعن بالقول بالفتح، ذكره ابن فارس عن بعضهم

(4)

، وفي رواية أبي زيد: بيديه.

(1)

ساقطة من الأصل.

(2)

سلف برقم (334).

(3)

سيأتي برقم (5470).

(4)

"مجمل اللغة" 2/ 583.

ص: 166

وفيه: إكرام المرأة زوجها، وتسمية الولد أباه باسمه، وأدب الرجل ابنته، وأن الرجل الفاضل والصديق الملاطف يجوز أن يسأل صديقه عما يفعله إذا خلا مع أهله، ولا حرج عليه في ذلك.

وفيه: أن من أصيب بمصيبة لم يعلم بها أنه لا يهجم عليه بالتفزيع بذكرها والتعظيم لها عند تعريفه بها، بل يرفق به في القول، ويعرض له بألطف التعريض؛ لئلا يحدث عليه في نفسه ما هو أشد منها؛ فقد جبل الله النفوس على غاية الضعف، والناس متباينون في الصبر على المصائب، ولا سيما عند الصدمة الأولى.

وفيه: أن للأب أن يعاتب ابنته بمحضر زوجها، ويتناولها بضرب وتهديد وغير ذلك، وذلك مباح له. وقد أخرجه في الحدود، في باب: من أدب أهله وغيرهم دون السلطان

(1)

.

فائدة:

حديث أنس الذي أوردناه، وهو سؤال الرجل عما فعله في أهل بيته مستثنى من النهي عنه؛ لأنها حالة بسط وتسلية للمصائب، لا سيما مع الصلاح وانتفاء المظنة وسقط المزاح. وحديث الباب دال على إمساك الخاصرة في مثل هذِه الحالة، وهو مستثنى من المنع.

آخر شرح النكاح لله الحمد.

(1)

انتهى من "شرح ابن بطال" 7/ 375 - 376.

وانظر الحديث الآتي في الحدود برقم (6844).

ص: 167

68

كتاب الطلاق

ص: 169

بسم الله الرحمن الرحيم

‌68 - كتاب الطلاق

‌1 - باب قَوْلُ اللهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} [الطلاق: 1]

{أَحْصَيْنَاهُ} [يس: 12]: حَفِظْنَاهُ وَعَدَدْنَاهُ، وَطَلَاقُ السُّنَّةِ أَنْ يُطَلِّقَهَا طَاهِرًا مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ، وَيُشْهِدُ شَاهِدَيْنِ.

5251 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللهِ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهْىَ حَائِضٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ، ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ، وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِى أَمَرَ اللهُ أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ» . [انظر: 4908 - مسلم: 1471 - فتح 9/ 345].

ص: 171

أصله: الإطلاق، وهو الإرسال والترك، ومنه قولهم: طلقت البلاد أي: تركتها. وطلقت بفتح اللام أفصح من ضمها، وطالقة: لغة مرجوحة.

ثم ذكر البخاري قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} [الطلاق: 1] واستفتح بها؛ لأنها دالة على إباحة الطلاق، الخطاب له والمؤمنون داخلون معه (فيه)

(1)

، والمعنى: إذا أردتم طلاق النساء، كقوله:{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} [المائدة: 6] وقد فعله الشارع بحفصة ثم راجعها.

قال قتادة، عن أنس: وفي ذلك نزلت الآية، ذكره الواحدي، وقال لابن عمر رضي الله عنهما كما ستعلمه:"فإن شاء أمسك وإن شاء طلق". وقال السدي: إنها نزلت فيه

(2)

.

وقال مقاتل: نزلت فيه وفي عقبة بن عمرو المازني، وطفيل بن الحارث بن المطلب، وعمرو بن سعيد بن العاصي

(3)

.

ثم قال البخاري: {أَحْصَيْنَاهُ} : حفظناه وعددناه. وهو كما قال.

ثم قال: وطلاق السنة أن يطلقها طاهرًا من غير جماع، هو كما قال، كما ستعلمه إن شاء الله تعالى.

ويشهد شاهدين في تفسير ابن عباس رضي الله عنهما، قال عبد الله: وذلك أن ابن عمر ونفرًا معه من المهاجرين كانوا يطلقون لغير عدة، ويراجعون بغير شهود، فنزلت.

(1)

من (غ).

(2)

"أسباب النزول" ص 456.

(3)

انظر: "تفسير ابن أبي حاتم" 10/ 3359.

ص: 172

ثم ساق البخاري حديث نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه طلق امرأته، وهي حائض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال:"مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ، ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ، وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ، فَتِلْكَ العِدَّةُ التِي أَمَرَ اللهُ أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ"، وقد سلف في سورة الطلاق

(1)

.

رواه عن نافع مالك هنا -وهناك ابن جريج والليث

(2)

- وكذا رواه الزهري عن سالم، عن أبيه

(3)

، ورواه يونس بن جبير

(4)

وسعيد بن جبير

(5)

وأنس بن سيرين

(6)

وأبو الزبير

(7)

وزيد بن أسلم

(8)

، كلهم عن ابن عمر، وقال فيه:"مره فليراجعها حتى تطهير، ثم إن شاء طلق وإن شاء أمسك" ولم يقولوا فيه: "ثم تحيض ثم تطهير".

وقام الإجماع أن من طلق امرأته طاهرًا في طهر لم يمسها فيه أنه مطلق للسنة -كما ذكره البخاري- والعدة التي أمر الله بها، وأن له الرجعة إذا كانت مدخولًا بها قبل انقضاء العدة، فإذا انقضت فهو كغيره

(9)

.

(1)

سلف برقم (4908).

(2)

مسلم (1471).

(3)

سيأتي برقم (7160).

(4)

سيأتي برقم (5258، 5333).

(5)

سيأتي برقم (5253).

(6)

الحديث التالي.

(7)

مسلم (1471/ 14).

(8)

ذكره أبو داود عقب حديث (2185)

(9)

انظر: "الإشراف" 1/ 140 - 141.

ص: 173

وذهب مالك وأبو يوسف والشافعي إلى ما رواه نافع عن ابن عمر، فقالوا: من طلق امرأته حائضًا، ثم راجعها [فإنه]

(1)

يمسكها حتى تطهير، ثم تحيض ثم تطهير، ثم إن شاء طلق قبل أن يمس وإن شاء أمسك

(2)

.

وذهب أبو حنيفة وأكثر أهل العراق إلى ما رواه يونس وغيره عن ابن عمر، فقالوا: يراجعها، فإذا طهرت طلقها إن شاء

(3)

.

وإلى هذا ذهب المزني

(4)

، وقالوا: لما أمر المطلق في الحيض بالمراجعة؛ لأن طلاقه ذلك أخطأ فيه السنة، أُمِرَ بمراجعتها؛ ليخرجها من أسباب الخطأ، ثم يتركها حتى تطهير من تلك الحيضة، ثم إن شاء طلقها طلاقًا صوابًا. ولم يروا للحيضة الثانية بعد ذلك معنى

(5)

.

أما الباقون فقالوا: للطهر الثاني والحيضة الثانية معان صحيحة، منها أنه لما طلق في الموضع الذي نهي عنه أُمِرَ بمراجعتها ليوقع الطلاق على سنتة ولا يطول في العدة على امرأته، فلو أبيح له أن يطلقها فإذا طهرت من تلك الحيضة كانت في معنى المطلقة قبل البناء، لا عدة عليها ولابُدَّ لها أن تبني على عدتها الأولى، فأراد تعالى على لسان رسوله أن يقطع حكم الطلاق الأول بالوطء؛ لئلا يراجعها على نية الفراق حتى يعتقد إمساكها، ولو طهرًا واحدًا إذا وطئها في طهر لم يتهيأ له أن يطلقها فيه؛ لأنه قد نُهي أن يطلقها في

(1)

في الأصل (ثم)، والمثبت هو الأليق بالسياق.

(2)

انظر: "الاستذكار" 18/ 12، "الإشراف" 1/ 140.

(3)

انظر: "شرح معاني الآثار" 3/ 53، "مختصر الطحاوي" ص 192.

(4)

"مختصر المزني" 4/ 68 - 69.

(5)

انظر: "شرح معاني الآثار" 2/ 53.

ص: 174

طهر قد مسها فيه حتى تحيض بعده ثم تطهير، فإذا طلقها بعد ذلك استأنفت عدتها من ذلك الوقت ولم تبن.

وقالوا: إن الطهر الثاني جعل للإصلاح الذي قال تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228] لأن حق المرتجع ألا يرتجع رجعة ضرار؛ لقوله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231]

قالوا: فالطهر الأول فيه الإصلاح بالوطء، ولا يعلم صحة المراجعة إلا بالوطء المبتغى بالنكاح والمراجعة في الأغلب، فكان ذلك الطهر موضعًا للوطء الذي تستيقن به المراجعة، فإذا مسها لم يكن له سبيل إلى طلاقها في طهر قد مسها فيه للنهي عن ذلك ولإجماعهم على أنه لو فعل ذلك لكان مطلقًا لغير العدة، فقيل له: دعها حتى تحيض أخرى ثم تطهير، ثم طلق إن شئت قبل أن تمس.

وقد جاء هذا المعنى منصوصًا عن ابن عمر رضي الله عنهما من حديث عبد الحميد بن جعفر: حدثني نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه طلق امرأته وهي في دمها حائض، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يراجعها، فإذا طهرت مسها حتى إذا طهرت أخرى، فإن شاء طلقها وإن شاء أمسكها.

قالوا: ولو أبيح له أن يطلقها بعد الطهر من تلك الحيضة كان قد أمر أن يراجعها ليطلقها فأشبه النكاح إلى أجل أو نكاح المتعة، فلم يجعل له ذلك حتى يطأ

(1)

.

وقال ابن أبي صفرة: إنما أجبر ابن عمر على الرجعة؛ لأنه طلق في الحيض وهي لا تعتد بها، ولم يبح له التطليق في أول طهر؛ لأن فيه

(1)

انظر: "التمهيد" 15/ 53 - 56.

ص: 175

تستكمل الرجعة، ففرعها له لاستكمال الرجعة بالوطء إن شاء، ثم لم يبح له بعد الوطء الطلاق؛ لأنه شرط ألا يطلقها إلا في طهر لم يمسها فيه؛ لتكون الحيضة التي قبل الطلاق للمبالغة في براءة الرحم، وقد قال به مالك في الأمة، فاستحسن للبائع أن يستبرئها بحيضة قبل البيع، ثم لا يجتزئ بها عن حيضة المواضعة، ولا بد من الإتيان بالحيضة بعد البيع، كما لا بد من الإتيان بثلاث حيض بعد الطلاق، الواحدة منهن للفصل به بين (الثنتين)

(1)

، والثنتان

(2)

للمبالغة في براءة الرحم، ألا ترى أنها إن تزوجت قبل حيضة نكاحًا فاسدًا أن الولد للأول، وإن تزوجت بعد حيضة نكاحًا فاسدًا أن الولد للثاني.

في رواية المصريين عن مالك: فحصلت أربع حيض: (واحدة)

(3)

قبل الطلاق للمبالغة،

وواحدة بعد الطلاق للفصل بين الثنتين

(4)

، (والثانية والثالثة)

(5)

للمبالغة في براءة الرحم

(6)

.

تذنيب: قد علمت طلاق السنة، والحاصل أن طلاق السنة المجتمع عليه أن يطلق طاهرًا من غير جماع واحدة، ثم يتركها إذا أراد المقام على فراقها ثلاث حيض، فإذا طعنت في الحيضة الثالثة فلا رجعة، ولكن إن شاءت وشاء أن يجدد نكاحًا كان ذلك لهما.

(1)

في الأصل النسبتين، والمثبت هو الصواب، وهو المواقق للمعنى.

(2)

يقصد الحيضتين الأخيرتين.

(3)

من (غ).

(4)

في الأصل: النسبتين، والمثبت هو الصواب، وهو الموافق للمعنى.

(5)

الصواب أن يقول: والثالثة والرابعة؛ لأن هذا هو العد الصحيح وقد وقع في "شرح ابن بطال": والثانية والثالثة، وأثبت محققه والثالثة الرابعة من نسخة سماها (هـ) في الكتاب، وأشار إلى أن الثانية والثالثة من النسخة التي اعتبرها أصلاً.

(6)

انظر: "شرح ابن بطال" 7/ 380.

ص: 176

ومعنى قوله: {لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1] أي: بعد طلاق الواحدة، فإذا طلقها ثلاثًا فلا رجعة.

وقال أهل العراق: إن طلقها طاهرًا من غير جماع ثم أوقع عند كل حيضة تطليقة، فهو أيضًا عندهم طلاق سنة، وإن فعل ما قال مالك فهي عندهم سنة أيضًا.

وقال الشافعي: إذا طلقها طاهرًا من غير جماع فهو طلاق السنة، وإن كان طلق ثلاثًا، وقد تعدى من جاوز طلاق السنة، {ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِر} .

وأما ابن حزم فقال: من أراد طلاق امرأة قد وطئها فلا يحل له أن يطلقها في حيضها ولا في طهر وطئها فيه، وإن طلقها طلقتين أو طلقة في طهر وطئها فيه، أو في حيضها لم ينفذ ذلك الطلاق، وهي امرأته كما كانت، إلا أن يطلقها كذلك ثالثة أو ثلاثًا مجموعة فيلزمه، فإن طلقها في طهر لم يمسها فيه فهو طلاق سنة لازم كيفما أوقعه، إن شاء طلقة واحدة، وإن شاء طلقتين مجموعتين، وإن شاء ثلاثًا مجموعة، فإن كانت حاملًا منه أو من غيره فله أن يطلقها حاملاً، وهو لازم ولو إثر وطئه إياها، فإن كان لم يطأها قط فله أن يطلقها في حال طهرها، وفي حال حيضها، وإن شاء واحدة أو اثنتين أو ثلاثًا، وإن كانت لم تحض قط أو انقطع حيضها طلقها، كما قلنا في الحامل.

قال: وقد اختلف الناس في الطلاق في الحيض إن طلق الرجل كذلك، أو في طهر وطئها فيه، هل يلزم الطلاق أم لا؟ وقد ادعى بعض القائلين بهذا أنه إجماع، والخلاف موجود. روينا من طريق عبد الرزاق، عن وهب بن نافع أن عكرمة أخبره أنه سمع ابن عباس يقول: الطلاق على أربعة وجوه: وجهان حلال، ووجهان حرام.

ص: 177

أما الحلال: فأن يطلقها من غير جماع، أو حاملًا مستبينًا حملها، وأما الحرام: فأن يطلقها حائضًا أو حين يجامعها، لا يدري اشتمل الرحم على ولد أم لا؟

قال: ومن المحال أن يجيز ابن عباس ما يخبر بأنه حرام.

وذكر حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه لا يعتد بذلك السالف في سورة الطلاق.

قال: ومن طريق عبد الرزاق عن ابن جريج، عن عبد الله بن طاوس، عن أبيه: أنه كان لا يرى طلاقًا ما خالف وجه الطلاق ووجه العدة، وكان يقول: وجه الطلاق: أن يطلقها طاهرًا عن غير جماع، وإذا استبان حملها.

ومن حديث همام، عن قتادة، عن خلاس بن عمرو، أنه قال في الرجل يطلق امرأته وهي حائض قال: لا تعتد بها.

وأما إمضاء الطلاق في الحيض أو في طهر جامعها فيه، فليس فيه عن أحد من الصحابة من غير رواية عن ابن عمر.

وقد عارضها ما هو أحسن منها عنه، وروايتين ساقطتين، عن عثمان وزيد بن ثابت، إحديهما رويناها عن رواية ابن وهب، عن ابن سمعان، عن رجل أخبره: أن عثمان كان يقضي في المرأة التي يطلقها زوجها وهي حائض أنها لا تعتد بحيضتها تلك، وتعتد بعدها ثلاثة قروء.

والأخرى من طريق عبد الرزاق عن هشام بن حسان، عن قيس بن سعد مولى بن علقمة، عن رجل، عن زيد بن ثابت قال: من طلق امرأته وهي حائض يلزمه الطلاق وتعتد بثلاث حيض

(1)

.

(1)

"المحلى" 10/ 161 - 164.

ص: 178

فصل:

اختلف العلماء في معنى قوله عليه السلام: "مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا". فقال مالك: الأمر محمول على الوجوب، ومن طلق زوجته حائضًا أو نفساء، فإنه يجبر على رجعتها

(1)

. فسوى دم النفاس بدم الحيض.

قال مالك وأكثر أصحابه: يجبر على الرجعة في الحيض التي طلق فيها، وفي الطهر بعدها، وفي الحيضة بعد الطهر، وفي الطهر بعدها، ما لم تنقض عدتها، إلا أشهب فإنه قال: يجبر على رجعتها في الحيضة الأولى خاصة، فإذا طهرت منها لم يجبر على رجعتها

(2)

.

قال ابن أبي ليلى، وهو قول الكوفيين، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور، وابن حبيب، يؤمر برجعتها ولا يجبر على ذلك

(3)

وحملوا الأمر في ذلك على الندب؛ ليقع الطلاق على سنته، ولم يختلفوا أنها إذا انقضت عدتها أنه لا يجبر على رجعتها، فدل على أن الأمر بمراجعتها ندب.

وحجة من قال: يجبر على رجعتها قوله: "مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا" وأمره فرض، وأجمعوا أنه إذا طلقها في طهر قد مسها فيه أنه لا يجبر على رجعتها، ولا يؤمر بذلك، وإن كان قد أوقع الطلاق على غير سنته.

ووهم من قال أن قوله: "مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا" من كلام ابن عمر لا من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه صريح فيه، وقولهم: إنه أمر عمر لا ابنه، أغرب منه.

(1)

"المدونة" 2/ 70.

(2)

انظر: "النوادر والزيادات" 5/ 89.

(3)

انظر: "مختصر الطحاوي" ص 192، و"الاستذكار" 18/ 21 - 23، و"الإشراف" 1/ 281، و"المغني" 10/ 328.

ص: 179

فصل:

قال ابن بطال: اختلف في صفة طلاق السنة فقال مالك: هو أن يطلق واحدة في طهر لم يمسها فيه، ثم يتركها حتى تنقضي العدة برؤية الدم من أول الحيضة الثالتة، وهو قول الليث والأوزاعي

(1)

.

وقال أبو حنيفة وأصحابه: هذا حسن من الطلاق، وله قولٌ آخر قال: إذا أراد أن يطلقها ثلاثًا طلقها عند كل طهر واحدة من غير جماع، وهو قول الثوري وأشهب

(2)

.

وقال: من طلق امرأته في طهر لم يمسها فيه واحدة، فإذا حاضت وطهرت طلقها أخرى، ثم إذا حاضت وطهرت طلقها، قال: فهو مطلق للسنة، وكلا القولين عند الكوفيين طلاق سنة، قالوا: لما كان طلاق السنة في طهر لم تمس فيه، وكانت الزوجة الرجعية - يلزمها [ما]

(3)

أردفه من الطلاق في عدتها بإجماع، كان له أن يوقع في كل طهر لم يمسها فيه طلقة؛ لأنها زوجة مطلقة في طهر لم تمس فيه.

وقد روي هذا القول عن ابن مسعود أنه طلاق السنة

(4)

، وليس هو عند مالك وسائر أصحابه مُطلقًا لها، وكيف يكون ذلك والثانية لا يكون بعدها إلا حيضتان، والثالث لا يكون بعدها إلا واحدة، وهذا خلاف السنة في العدة، ومن طلق كما قال مالك شهد له الجميع بأنه مطلق للسنة.

وزعم المرغيناني أن الطلاق عند أصحاب أبي حنيفة على ثلاثة

(1)

انظر: "المدونة" 2/ 66، "مختصر اختلاف العلماء" 2/ 375.

(2)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 2/ 375، "النوادر والزيادات" 5/ 87 - 88.

(3)

زيادة يقتضيها السياق من "شرح ابن بطال" 7/ 382.

(4)

رواه النسائي في "المجتبى" 6/ 114.

ص: 180

أوجه: أحسن: كما سلف عندنا في السنة، وحسن: وهو ما ذكرناه في القول الثاني، وبدعي: وهو أن يطلقها ثلاثًا بكلمة واحدة، أو ثلاثًا في طهر واحد، فإذا فعل ذلك وقع الطلاق وكان عاصيًا

(1)

.

وقال النخعي: بلغنا عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يستحبون ألا يزيدوا في الطلاق على واحدة حتى تنقضي العدة

(2)

.

قال الشافعي وأحمد وأبو ثور: ليس في عدد الطلاق سنة ولا بدعة، وإنما السنة في وقت الطلاق، فمن طلق امرأته واحدة أو ثلاثًا في طهر لم يصبها فيه، فهو مطلق للسنة، وحجتهم قوله تعالى:{فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] ولم يخص واحدة من اثنتين، ولا ثلاثة.

وكذلك أمر ابن عمر بالطلاق في القرء الثاني، ولم يخص واحدة من غيرها.

ومن جهة النظر أن من جاز له أن يوقع واحدة جاز له أن يوقع ثلاثًا، وإنما السنة وردت في الموضع الذي يخشى فيه الحمل أو تطول فيه العدة، فإذا كان طهر لم يمسها فيه أمن فيه الحمل، رجاء أن يوقع ما شاء من الطلاق في ذلك الموضع، فيقال لهم: المراد بالآية: أن لا يطلق في الحيض.

وكذا حديث ابن عمر، وليس فيهما ما يتضمن العدد، وكيف يرفع العدد من دليل آخر، ولم ينكر الشارع الطلاق، وإنما أنكر موضعه فعلمه كيف يوقعه وعن عمر وابنه: من يطلق ثلاثًا فقد عصى ربه، لو كان كما ذكر لبطل

(3)

.

(1)

"الهداية" 1/ 247.

(2)

رواه عبد الرزاق 6/ 302 (10926)، ابن أبي شيبة 4/ 58 (17737).

(3)

انظر: "اختلاف الفقهاء" للمروزي 238 - 240.

ص: 181

فائدة:

قوله: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1] أجمع أهل التفسير أنه يعني: به الرجعة في العدة، قالوا: وأي أمر يحدث بعد الثلاث

(1)

.

فدل أن الارتجاع لا يسوغ إلا في المطلقة بدون الثلاث. وقد روي عن عمر وابنه وعلي وابن مسعود وابن عباس وأبي موسى وغيرهم إظهار النكير على موقع الثلاث في مرة، كما قاله ابن القصار، وكان عمر رضي الله عنه يوجعه ضربًا ويفرق بينهما

(2)

.

فصل:

في حديث الباب أيضًا حجة لأهل المدينة والشافعي أن الأقراء: الأطهار

(3)

، حيث أخبر أن الطلاق للعدة لا يكون إلا في طهر تعتد به، وموضع يحسب به من عدتها ويستقبلها من حينئذ، وكان هذا منه بيانًا لقوله تعالى:{فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]، واللام: بمعنى: في؛ لقوله: {لِيَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الحج: 9] أي: فيه، وقد قرئت لقبل عدتهم. أي: لاستقبال عدتهن.

ونهى عن الطلاق في الحيض؛ لئلا يستقبل العدة في تلك الحيضة عند الجمع؛ لأن من قال: الأقراء: الحيض، لا يجتزئ بتلك الحيضة من الثلاث حيض عنده حتى يستقبل حيضة بعد طهر، وكذلك لو طلق عندهم في طهر لم يعتد إلا بالحيضة المقبلة بعد الطهر الذي طلقت

(1)

انظر: "تفسير الماوردي" 6/ 30.

(2)

رواه ابن أبي شيبة 4/ 62 (84771).

(3)

انظر: "الاستذكار" 18/ 26.

ص: 182

فيه، وجعلوا عليها ثلاثة قروء وشيئًا آخر، وذلك خلاف الكتاب والسنة، ويلزمهم أن يقولوا: إنها مثل الحيضة في غير عدة.

وهذا خلاف قوله تعالى: {فَطلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ} [الطلاق: 1]، ولقوله:"فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء". وسيأتي بيان مذاهب العلماء فيه في العدة.

فصل:

الأمر بالرجعة والطلاق دال على وقوعه، وقد خالف فيه داود، وقد مضى كلام ابن حزم فيه.

فصل:

روى الدارقطني في آخر حديث ابن عمر هذا: "وهي واحدة"

(1)

. وأجاب عنها ابن حزم بجوابين أحدهما: لعلها ليست من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(2)

وليس كما قال، فالرفع صريح فيها، وقد أخرجه ابن وهب في "مسنده" من حديث ابن عيينة عن نافع، فذكر الحديث.

وفيه: فقال ابن أبي ذئب في الحديث: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: وهي واحدة قال: وحدثني حنظلة بن أبي سفيان، سمع سالمًا يحدث، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ثانيها: أن قوله: "واحدة". أي: واحدة أخطأ فيها ابن عمر، أو قضية واحدة لازمة لكل مطلق

(3)

، وهو عجيب؛ فالأمر بالمراجعة دليل على الاعتداد بها؛ لأن الرجعة لا تكون إلا عن طلاق.

(1)

"السنن" 4/ 9.

(2)

"المحلى" 10/ 165.

(3)

"المحلى" 10/ 165.

ص: 183

وفي "صحيح مسلم" قال عبد الله: فراجعتها، وحسبت لها التطليقة التي طلقتها

(1)

. وعند البخاري: حسبت على بتطليقة

(2)

. ولعبد الرزاق، عن ابن جريج، عن نافع قال: سألناه هل حسبت تطليقة عبد الله بن عمر امرأته حائضًا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم

(3)

.

وللبيهقي، عن عبيد الله، عن نافع قال: فاعتد ابن عمر بالتطليقة ولم تعتد امرأته بحيضة، ولابن قانع من حديث عبد العزيز بن صهيب، عن أنس مرفوعًا:"من طلق في بدعة ألزمناه بدعته"

(4)

.

وللدارقطني عن معاذ مرفوعًا: "يا معاذ، من طلق في بدعة واحدة أو اثنتين أو ثلاثًا ألزمناه بدعته"

(5)

.

وله عن ابن عمر رضي الله عنهما فقال عمر: يا رسول الله، أفتحتسب بتلك التطليقة؟ قال:"نعم"

(6)

. وللنسائي عن سالم بن عبد الله قال: طلقت امرأتي. الحديث.

وفيه: وكان عبد الله طلقها تطليقة، فحسبت من طلاقها، وراجعها عبد الله. وفي لفظ: فراجعها وحسبت لها التطليقة التي طلقها

(7)

.

وللدارقطني أن رجلاً قال لعمر: إني طلقت امرأتي البتة وهي حائض. فقال: عصيت ربك، وفارقت امرأتك. فقال الرجل: فإن

(1)

"مسلم"(1471/ 4).

(2)

سيأتي برقم (5253).

(3)

عبد الرزاق 6/ 309 (10957).

(4)

"السنن" 4/ 20.

(5)

رواه الدارقطني في "السنن" 4/ 20.

(6)

"السنن" 4/ 5

(7)

"المجتبى" 6/ 138 - 139 (3391).

ص: 184

رسول الله أمر ابن عمر حين فارق امرأته أن يراجعها. فقال له عمر: إن رسول الله أمر ابن عمر أن يراجع امرأته بطلاق بقي له، وأنت لم تبق ما ترجع به امرأتك.

قال البغوي: رواه غير واحد لم يذكروا فيه كلام عمر رضي الله عنه، ولا أعلمه، روى هذا الكلام غير سعيد بن عبد الرحمن الجمحي.

وله أيضًا عن أبي غلاب، قال: قلت لابن عمر: أكنت اعتددت بتلك التطليقة؟ قال: وما لي لا أعتد بها. وله أيضًا عن جابر الحذاء: قلت لابن عمر: أعتددت بتلك التطليقة؟ قال: نعم.

وله عن الشعبي: طلق ابن عمر امرأته واحدة وهي حائض، فانطلق عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره، فأمره أن يراجعها، ثم يستقبل الطلاق في عدتها، ويحتسب بهذِه التطليقة التي طلق أول مرة

(1)

.

وادَّعى ابن حزم أن حديث ابن أبي ذئب، الذي في آخره: وهي واحدة. أتى بها ابن أبي ذئب، ولا يقطع أنها من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويمكن أن يكون من كلام من دونه، والشرائع لا تؤخذ بالظنون، والظاهر أنه من قول من دون رسول الله صلى الله عليه وسلم

(2)

. وهو عجيب، فما ذكره لا يؤخذ بالظنون كما قاله، وفيما سلف من التصريح ما يدفعه.

ثم ذكر ابن حزم حديث أبي الزبير عن عبد الله -ولم يرها شيئًا- الذي أسلفناه أنه أنكر ما روى أبو الزبير عن غير واحد في كتاب التفسير، قال: وهذا إسناد في غاية الصحة لا يحتمل التوجيهات

(3)

.

قلت: عادته الرد بأبي الزبير، فما باله قَبِلَه هنا.

(1)

"سنن الدارقطني" 4/ 7 - 8، 10، 10.

(2)

"المحلى" 10/ 165.

(3)

"المحلى" 10/ 166.

ص: 185

وقد أخرجه النسائي من حديثه، كما رواه الجماعة

(1)

بلفظ: فسأل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عليه السلام:"ليراجعها". فردها علي. وقال: "إذا طهرت فليطلق أو يمسك"

(2)

.

قال: وأما قول من قال: الأمر بمراجعتها حائضًا طلقة تعتد بها، قلنا ليس ذلك دليلًا على ما زعمتم؛ لأن ابن عمر لا شك إذا طلقها حائضًا فقد اجتنبها. قلنا: أمره عليه السلام برفض فراقه لها، وأن يراجعها كما كانت قبل بلا شك

(3)

.

فصل:

قال ابن حزم: وأما الاختلاف في طلاق الثلاث مجموعة، فزعم قوم أنه بدعة، ثم اختلفوا، فقالت طائفة منهم: لا يقع البتة؛ لأن البدعة مردودة.

وقالت طائفة منهم: يرد إلى حكم الواحد المأمور، بأن يكون حكم الطلاق كذلك.

وقالت طائفة: ليست بدعة ولكنها سنة، لا كراهة فيها. احتج من قال أنها تبطل بقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق: 1] وبقوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] وبقوله: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} [البقرة: 231] قالوا: فلا يكون طلاقًا إلا ما كان بهذِه الصفة.

(1)

البخاري (4908)، ومسلم (1471)، وأبو داود (2179)، والترمذي (1175)، وابن ماجه (2019).

(2)

النسائي 6/ 139.

(3)

"المحلى" 10/ 166.

ص: 186

ومعنى قوله: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] أي: مرة بعد مرة، وذكروا ما أخرجه النسائي، عن مخرمة، عن أبيه، عن محمود بن لبيد قال: أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل طلق امرأته ثلاثًا جميعًا فقام غضبان، فقال:"أَيُلْعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟! " فقال رجل: ألا أقتله يا رسول الله؟

(1)

.

قال النسائي: لا أعلم رواه غير مخرمة. قال ابن حزم: وهو خبر مرسل، ولا حجة في مرسل، ومخرمة لم يسمع من أبيه شيئًا

(2)

.

قلت: محمود صحابي، ولد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما ذكره البخاري وابن حبان

(3)

، وقال الترمذي: له رؤية

(4)

.

وقال أبو عمر: إنه الأولى

(5)

، وأما مسلم فذكره في التابعين، وذكره أيضًا فيهم غير واحد، منهم: ابن أبي خيثمة، ويعقوب بن شيبة، وأحمد، والعسكري، والبغوي، وابن منده، وأبو نعيم

(6)

.

وأما قوله: ومخرمة لم يسمع من أبيه. فليس متفقًا عليه، بل فيه خلف. قال مالك: قلت لمخرمة: ما حدثت به عن أبيك سمعت؟ فحلف بالله: لقد سمعته.

(1)

"المجتبى" 6/ 142 - 143.

(2)

"المحلى" 10/ 167، 168.

(3)

"التاريخ الكبير" 7/ 402، "الثقات" 5/ 434، 435.

(4)

الترمذي عقب حديث (2036).

(5)

"الاستيعاب" 3/ 435.

(6)

الذي في "المسند" 5/ 427 - 429، و"معجم الصحابة" للبغوي 5/ 427 - 428، و"معرفة الصحابة" لأبي نعيم 5/ 2524 أنه صحابي، ولم يعده الفسوي في "المعرفة" 1/ 356 من الصحابة.

ص: 187

وذكر ابن الطحان في رجال مالك: قال محمد بن الحسن بن أنس: قال لي مالك: لقيت مخرمة بالروضة، فقلت له: سألتك برب هذِه الروضة، أسمعت من أبيك شيئًا؟ قال: نعم.

وقال معن القزاز: مخرمة سمع من أبيه وقال الآجري عن أبي داود: لم يسمع من أبيه إلا حديثًا واحدًا، وهو حديث الوتر

(1)

.

ولأبي داود بإسناده من حديث ابن عباس: جاءه رجل فقال: إنه طلق امرأته ثلاثًا. قال مجاهد: فسكت حتى ظننت أنه رادها إليه، ثم قال: يطلق أحدكم فيركب الحموقة ثم يقول: يا ابن عباس، يا ابن عباس، وإن الله تعالى قال:{وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] وإنك لم تتق الله فلا أجد لك مخرجًا، عصيت ربك، وبانت منك امرأتك، إن الله قال:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ} في قبل عدتهن

(2)

.

وللدارقطني بإسناد جيد من حديث شعيب بن رزيق السامي، عن عطاء بن أبي مسلم الخراساني، عن الحسن، عن ابن عمر: أنه طلق امرأته وهي حائض، ثم أراد أن يتبعها بطلقتين أخرتين عند القرأين، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"يا ابن عمر هكذا أمرك الله؟!، إنك قد أخطأت السنة، السنة أن تستقبل الطهر، فتطلق عند ذلك أو تمسك". قال: فقلت: يا رسول الله، أرأيت لو طلقتها ثلاثًا كانت تحل أن أراجعها؟ قال:"لا، كانت تبين منك، وتكون معصية"

(3)

.

(1)

انظر ترجمة مخرمة بن بكير في: "المعرفة والتاريخ" 1/ 214، 436، "الجرح والتعديل" 8/ 364 (1660)، "تهذيب الكمال" 27/ 324 - 328.

(2)

أبو داود (2197).

(3)

"السنن" 4/ 31.

ص: 188

قال البيهقي: أتى عطاء الخراساني في هذا الحديث بزيادات لم يتابع عليها، وهو ضعيف في الحديث لا يقبل ما يتفرد به، ثم إنه يرجع طلاقها في حال الحيض، وهو لو طلقها في حال الحيض ثلاثًا كانت تبين منه، وتكون معصية

(1)

.

قلت: عطاء ثقة مرسل ويعنعن، وأخرج له الجماعة، وأما ابن حزم فأعله بشعيب وقال: حديث ابن عمر في غاية السقوط، وشعيب ضعيف

(2)

.

قلت: لا، قال الدارقطني لما سأله عنه البرقاني: ثقة

(3)

.

وقال أبو حاتم: صالح، وذكره ابن حبان في "ثقاته"

(4)

، وصحح الحاكم حديثًا هو في سنده

(5)

.

وقال الأثرم: سألت ابن حنبل عن هذا الحديث بأي شيء تدفعه؟ قال: برواية الثقات عن ابن عباس من وجوه خلافه.

ثم ذكر عن عدة، عن ابن عباس أنها ثلاث، قال: وإلى هذا يذهب

(6)

.

وقال الخلال عنه: كل أصحاب عبد الله رووا خلاف ما قال طاوس، ولم يروه عنه غيره.

وقال ابن أبي حاتم في "علله": رواية أبي يوسف الصيدناني، عن أبي جليد، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن عبد الله، عن أبيه، عن

(1)

"معرفة السنن والآثار" 11/ 36 (14665).

(2)

"المحلى" 10/ 170.

(3)

"سؤالات البرقاني" ص 36 (2117).

(4)

"الجرح والتعديل" 4/ 345، "الثقات" 4/ 355.

(5)

"المستدرك" 2/ 189 - 190.

(6)

انظر: "المغني" 10/ 334 - 335.

ص: 189

طاوس خطأ، إنما هو أيوب، عن إبراهيم، عن ميسرة، عن طاوس

(1)

.

وقال البيهقي: إنما ترك البخاري هذا الحديث؛ لمخالفتة سائر الروايات عن ابن عباس أنه أجاز الطلاق وأمضاه

(2)

.

قال ابن المنذر: فغير جائز أن يظن بابن عباس أنه يحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يفتي بخلافه. قال الشافعي: يشبه أن يكون ابن عباس قد علم شيئًا ثم نسخ

(3)

.

قلت: وأُوّل بتأويلات أُخر، أحدها: قال ابن شريح: يمكن أن يكون إنما جاء في نوع خاص من الطلاق الثلاث، وهو أن يفرق بين اللفظ، كأن يقول: أنت طالق، أنت طالق، طالق أنت - كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، والناس على صدقهم وإسلامهم، ولم يكن ظهر فيهم الخداع، وكانوا يصدقون بأنهم أرادوا التأكيد في الثلاث، فلما رأى عمر في زمانه أمورًا ظهرت وأحوالًا تغيرت منع من حمل اللفظ على التكرار، وألزمهم الثلاث.

وقال بعضهم: إنما ذلك في غير المدخول بهما وذهبت إليه جماعة من أصحاب ابن عباس، رأوا أن الثلاث لا تقع على غير المدخول بها؛ لأنها بالواحدة تبين.

وقوله: ثلاثًا. كلام وقع بعد البينونة فلا يعتد به.

وقال بعضهم: المراد أنه كان المعتاد في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم تطليقة واحدة قد اعتاد الناس التطليق بالثلاث.

(1)

"العلل" 1/ 429 (1291).

(2)

"السنن الكبرى" 7/ 337.

(3)

"اختلاف الحديث" ص 188.

ص: 190

والمعنى: كان الطلاق الموقع الآن ثلاثًا بوقع واحدة فيما قبل، إنكارًا لخروجهم عن السنة، فهذِه تأويلات.

قال ابن حزم: وأما من قال: إن الثلاث تجعل طلقة واحدة، فإنهم احتجوا بحديث مسلم، عن طاوس، عن ابن عباس: كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر رضي الله عنه: قد استعجلوا في أمر كان لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم

(1)

.

ومن طريق عبد الرزاق، عن ابن جريج: أخبرني ابن طاوس، عن أبيه أن أبا الصهباء قال لابن عباس: تعلم أن الثلاث كانت تجعل واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبى بكر، وصدر من إمارة عمر؟ قال: نعم

(2)

.

ومن طريق أحمد بن شعيب

(3)

: ثنا سليمان بن سيف الحراني، ثنا أبو عاصم النبيل، عن ابن جريج، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن عبد الله به

(4)

.

ومن طريق مسلم، من حديث أيوب، عن إبراهيم بن ميسرة، عن طاوس، عن ابن عباس

(5)

.

ومن طريق أبي داود: ثنا أحمد بن صالح، ثنا عبد الرزاق، أنا ابن جريج، أخبرني بعض بني أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن

(1)

مسلم (1472).

(2)

عبد الرزاق 6/ 392 (11337).

(3)

ورد بهامش الأصل: حاشية: هو النسائي.

(4)

"المجتبى" 6/ 145.

(5)

مسلم (1472).

ص: 191

عكرمة، عن ابن عباس قال: طلق عبد يزيد (أبو)

(1)

ركانة أم ركانة. الحديث.

وفيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: "راجع امرأتك" فقال: إني طلقتها ثلاثًا يا رسول الله. قال: "قد علمت (أرجعها)

(2)

". وتلا: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}

(3)

[الطلاق: 1].

قال ابن حزم: ما نعلم لهم شيئًا احتجوا به غير هذا، وهذا لا يصح؛ لأنه عن رجل غير مسمى من بني أبي رافع، فلا حجة في مجهول

(4)

. وكأنه تبع في هذا الخطابي، فإنه قال: في إسناد هذا الحديث مقال، لأن اين جريج إنما رواه عن بعض بني أبي رافع، ولم يسمه، والمجهول لا يقع به حجة

(5)

.

قلت: لكن أخرجه ابن حيان في "صحيحه" من حديث الزبير بن سعيد، عن عبد الله بن علي بن يزيد بن ركانة، عن أبيه، عن جده

(6)

.

وقال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يقول: حدثنا سعد بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن إسحاق، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس: أن ركانه طلق امرأته ثلاثًا، فجعلها النبي صلى الله عليه وسلم واحدة.

قال أبو عبد الله: هذا مذهب ابن إسحاق، يقول: خالف السنة. فرده إلى السنة على مذهب الروافض. قلت له: على حديث طاوس

(1)

في الأصول: (ابن)، والصواب ما أثبتناه كما في "أبو داود".

(2)

كذا بالأصل وفي "أبى داود": (راجعها).

(3)

أبو داود (2196).

(4)

"المحلى" 10/ 168.

(5)

"معالم السنن" 3/ 203.

(6)

ابن حبان 10/ 97.

ص: 192

ذلك؟ قال: نعم. قال ابن إسحاق: إنما ردها عليه؛ لأن الطلاق كان ثلاثًا في مجلس.

وأما الطحاوي فلما ذكر حديث أبي الصهباء، من حديث ابن إسحاق هذا قال: هذان حديثان منكران، وقد خالفهما من هو أثبت منهما، وأبو الصهباء لا يعرف في موالي ابن عباس، وحديث ابن إسحاق خطأ

(1)

. وليس كما قال، فأبو الصهباء سائل بحضور طاوس، فطاوس هو الراوي، وقد عرفه مسلم بولائه وأخرج حديثه في "صحيحه"، وسماه غير واحد: صهيبًا.

وأما ما رواه عبد الرزاق، عن يحيى بن العلاء، عن عبيد الله بن الوليد الوصافي، عن (إبراهيم بن عبيد الله بن عبادة بن الصامت)

(2)

، عن أبيه، عن جده قال: طلق جدي إحدى امرأتيه ألف تطليقة، فانطلق أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له فقال: "ما أتَّقَى الله جدُك، أما ثلاث فله، وأما (تسعمائة)

(3)

وسبع وتسعون فعدوان وظلم"

(4)

.

فقال ابن حزم: هو في غاية السقوط؛ لأنه إما من طريق يحيى بن العلاء، وليس بالقوي عن (عبيد الله بن عبد الله بن الصامت)

(5)

، وهو

(1)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 2/ 463 - 464.

(2)

في الأصول: إبراهيم بن عبيد الله بن عبد الله بن عبادة وهو خطأ، والمثبت من "سنن الدارقطني" 4/ 20، و"المحلى" 10/ 169.

(3)

في الأصل: سبعمائة وهو خطأ، والمثبت هو الصواب وهو الموافق للعَدّ.

(4)

المصنف 6/ 393 (11339)، ووقع فيه: عن عبيد الله بن الوليد، عن إبراهيم، عن داود بن عبادة بن الصامت، وهو خطأ وما أثبتناه هو الصواب.

(5)

كذا في الأصل وهو خطأ ظاهر، والصواب عن إبراهيم بن عبيد الله بن عبادة بن الصامت كما في "المحلى" 10/ 170، وقد أشار الحافظ في "لسان الميزان" 1/ 79 إلى هذا فقال: إبراهيم بن عبيد الله بن عبادة بن الصامت، عن أبيه، عن =

ص: 193

مجهول لا يعرف، وهو منكر جدًا؛ لأنه لم يوجد قط في شيء من الآثار أن والد عبادة أدرك الإسلام، فكيف جده؟ وهو محال بلا شك، ثم ألفاظه متناقضة في بعضها.

أما الثلاث فلا، وهذا إباحة الثلاث، وبعضها بخلاف ذلك

(1)

.

وهو كما قال يحيى بن العلاء لا يقال فيه: ليس فيه بالقوي، فقد نسبه أحمد وغيره إلى الوضع، ولم يعله بعبيد الله الوصافي، وقد ضعفوه وتركوه، وفي أحاديثه مناكير.

وقال يحيى بن معين في حقه: ليس بشيء، على أن الدارقطني أخرجه

(2)

يزن به صدقة بن أبي عمران أحد رجال مسلم.

قلت: وإبراهيم لا أعرفه، وكذا أبوه وجده.

= جده، قال الدارقطني: خليف، وقال في موضع آخر: مجهول، وكذا قاله ابن حزم. اهـ.

(1)

"المحلى" 10/ 169 - 170.

(2)

"السنن" 4/ 20.

ص: 194

‌2 - باب إِذَا طُلِّقَتِ الْحَائِضُ يُعْتَدُّ بِذَلِكَ الطَّلَاقِ

5252 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ، قَالَ: طَلَّقَ ابْنُ عُمَرَ امْرَأَتَهُ وَهْيَ حَائِضٌ، فَذَكَرَ عُمَرُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:«لِيُرَاجِعْهَا» . قُلْتُ: تُحْتَسَبُ؟ قَالَ: «فَمَهْ» . وَعَنْ قَتَادَةَ، عَنْ يُونُسَ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ:«مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا» . قُلْتُ: تُحْتَسَبُ؟ قَالَ: "أَرَأَيْتَ إِنْ عَجَزَ وَاسْتَحْمَقَ؟ ". [انظر: 4908 - مسلم: 1471 - فتح 9/ 351].

5253 -

وَقَالَ أَبُو مَعْمَرٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: حُسِبَتْ عَلَيَّ بِتَطْلِيقَةٍ. [انظر: 4908 - مسلم: 1471 - فتح 9/ 351].

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، ثنا أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: طَلَّقَ ابْنُ عُمَرَ امْرَأَتَهُ وَهْيَ حَائِضٌ، فَذَكَرَ عُمَرُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:«لِيُرَاجِعْهَا» . قُلْتُ: تُحْتَسَبُ؟ قَالَ: «فَمَهْ» . وَعَنْ قَتَادَةَ، عَنْ يُونُسَ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ:«مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا» . قُلْتُ: تُحْتَسَبُ؟ قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ عَجَزَ وَاسْتَحْمَقَ؟ وَقَالَ أَبُو مَعْمَرٍ: ثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، ثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: حُسِبَتْ عَلَيَّ بِتَطْلِيقَةٍ.

الشرح:

حديث أنس بن سيرين عن ابن عمر أخرجه مسلم أيضًا

(1)

. قوله: (وعن قتادة). هو معطوف على سند سليمان بن حرب، وبه صرح أصحاب الأطراف؛ حيث قالوا: أخرجه عن سليمان، عن شعبة، عن قتادة. وقد أخرجه مسلم والأربعة

(2)

.

(1)

مسلم (1471/ 7).

(2)

مسلم (1471/ 10)، وأبو داود (2184)، والترمذي (1175)، والنسائي 6/ 212، وابن ماجه (2522).

ص: 195

وقوله: (وقال أبو معمر)، إلى آخره. قال أبو نعيم في "مستخرجه" بعد أن أسنده: رواه البخاري عن أبي معمر -يعني: عبد الله بن عمرو المنقري- عن عبد الوارث.

وقوله: (فمه). هذِه هاء السكت دخلت على (ما) التي هي للاستفهام، كأنه قال: فما يكون إن لم تحتسب بتلك التطليقة.

والعرب تبدل الهاء من الألف؛ لقرب مخرجهما، كقولهم: ومهما يكن عند امرئ من خليقة. والأصل: وما يكون عند امرئ، فأبدلت الهاء من الألف، وقد أبدلت الهاء من أخت الألف

(1)

من قولهم: هذِه، وإنما أرادوا هذي، كما أبدلت الياء من الهاء في قولهم: دهديت الحجر. والأصل: دهدهت، وقالوا: دهدهة الجمل، دهدوة، وإنما اجتمعت الياء والألف والواو والهاء في بدل بعضها من بعض؛ لتشابهها، ولأجل تشابهها اجتمعن في أن يكن ضمائر، وفي أن يكن وصلًا في القوافي. وقد أبدلت الهاء من الهمزة في قولهم: أرقت وهرقت، وإياك وهياك، وأرجت وهرجت.

وقوله: (إِنْ عَجَزَ وَاسْتَحْمَقَ). أي: فهل يكون إلا ذلك، أي: أرأيت إن عجز في المراجعة التي أمر بها عن إيقاع الطلاق. واسْتَحْمَق: أي: فقد عقله، فلم تكن منه الرجعة، أتبقى معلقة لا ذات زوج ولا مطلقة؟ وقد نهى الله تعالى عن ترك المرأة في هذِه الحالة، فلابد أن تحتسب بتلك التطليقة التي أوقعها على غير وجهها، كما لو عجز عن فرض آخر لله تعالى فلم يقمه، واستحْمَق لم يأتِ به، أكان يعذر بذلك ويسقط عنه؟ وهذا إنكار على من شك أنه لم يعتد بتلك التطليقة.

(1)

هي الياء كما في "شرح ابن بطال" 7/ 386.

ص: 196

وقد روى قتادة، عن يونس بن جبير قال: قلت لابن عمر رضي الله عنهما: أجعل ذلك طلاقًا؟ قال: إن كان ابن عمر عجز واسْتَحْمَق فما يمنعه أن يكون طلاقًا؟

فصل:

قد سلف في الباب قبله أن الطلاق في الحيض مكروه واقع عند جماعة الفقهاء، ولا يخالفهم في ذلك إلا طائفة مبتدعة، لا يعتد بخلافها، فقالوا: لا يقع فيه، ولا في طهر جامعها فيه. وقد سلف عن أهل الظاهر، وهو شذوذ لا يقدح فيما عليه العلماء، وصاحب القصة احتسبها وأفتى به

(1)

.

وقد أسلفنا أيضًا أن في أمره بالمراجعة دليل على ذلك، إذ لا رجعة إلا بعد طلاق. قال تعالى:{وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228] يعني: في العدة، ولا يقال مثله في الزوجات غير المطلقات.

(1)

انظر: "التمهيد" 15/ 58 - 59.

ص: 197

‌3 - باب مَنْ طَلَّقَ، وَهَلْ يُوَاجِهُ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ بِالطَّلَاقِ

؟

5254 -

حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ قَالَ: سَأَلْتُ الزُّهْرِيَّ أَيَّ: أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اسْتَعَاذَتْ مِنْهُ؟ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ ابْنَةَ الْجَوْنِ لَمَّا أُدْخِلَتْ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَدَنَا مِنْهَا، قَالَتْ: أَعُوذُ بِاللهِ مِنْكَ. فَقَالَ لَهَا «لَقَدْ عُذْتِ بِعَظِيمٍ، الْحَقِي بِأَهْلِكِ» . قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: رَوَاهُ حَجَّاجُ بْنُ أَبِي مَنِيعٍ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَنَّ عُرْوَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ. [فتح 9/ 356].

5255 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَسِيلٍ، عَنْ حَمْزَةَ بْنِ أَبِي أُسَيْدٍ، عَنْ أَبِي أُسَيْدٍ رضي الله عنه قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى انْطَلَقْنَا إِلَى حَائِطٍ يُقَالُ لَهُ: الشَّوْطُ، حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى حَائِطَيْنِ، فَجَلَسْنَا بَيْنَهُمَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «اجْلِسُوا هَا هُنَا» . وَدَخَلَ وَقَدْ أُتِيَ بِالْجَوْنِيَّةِ، فَأُنْزِلَتْ فِي بَيْتٍ فِي نَخْلٍ فِي بَيْتٍ أُمَيْمَةُ بِنْتُ النُّعْمَانِ بْنِ شَرَاحِيلَ وَمَعَهَا دَايَتُهَا حَاضِنَةٌ لَهَا، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«هَبِي نَفْسَكِ لِي» . قَالَتْ: وَهَلْ تَهَبُ الْمَلِكَةُ نَفْسَهَا لِلسُّوقَةِ. قَالَ: فَأَهْوَى بِيَدِهِ يَضَعُ يَدَهُ عَلَيْهَا لِتَسْكُنَ، فَقَالَتْ: أَعُوذُ بِاللهِ مِنْكَ. فَقَالَ: «قَدْ عُذْتِ بِمَعَاذٍ» . ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْنَا، فَقَالَ: «يَا أَبَا أُسَيْدٍ، اكْسُهَا رَازِقِيَّتَيْنِ، وَأَلْحِقْهَا بِأَهْلِهَا. [انظر: 5257 - فتح 9/ 356].

5256 -

وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْوَلِيدِ النَّيْسَابُورِيُّ: عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلٍ، عَنْ أَبِيهِ وَأَبِي أُسَيْدٍ قَالَا: تَزَوَّجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أُمَيْمَةَ بِنْتَ شَرَاحِيلَ، فَلَمَّا أُدْخِلَتْ عَلَيْهِ بَسَطَ يَدَهُ إِلَيْهَا، فَكَأَنَّهَا كَرِهَتْ ذَلِكَ، فَأَمَرَ أَبَا أُسَيْدٍ أَنْ يُجَهِّزَهَا وَيَكْسُوَهَا ثَوْبَيْنِ رَازِقِيَّيْنِ. [انظر: 5255 - فتح 9/ 356].

5257 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي الْوَزِيرِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ حَمْزَةَ، عَنْ أَبِيهِ، وَعَنْ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ بِهَذَا. [5637 - فتح 9/ 356].

5258 -

حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي غَلاَّبٍ يُونُسَ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قُلْتُ لاِبْنِ عُمَرَ: رَجُلٌ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهْيَ حَائِضٌ. فَقَالَ: تَعْرِفُ ابْنَ

ص: 198

عُمَرَ؟ إِنَّ ابْنَ عُمَرَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهْيَ حَائِضٌ، فَأَتَى عُمَرُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَأَمَرَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا، فَإِذَا طَهُرَتْ فَأَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا فَلْيُطَلِّقْهَا. قُلْتُ: فَهَلْ عَدَّ ذَلِكَ طَلَاقًا؟ قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ عَجَزَ وَاسْتَحْمَقَ. [انظر: 4908 - مسلم: 1471 - فتح 9/ 351].

ذكر فيه أحاديث:

أحدها:

حديث الحُمَيْدِيُّ، ثَنَا أبوالْوَليدُ، ثَنَا الأَوْزَاعِيُّ سَأَلْتُ الزُّهْرِيَّ: أَيُّ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اسْتَعَاذَتْ مِنْهُ؟ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ، أَنَّ ابنةَ الجَوْنِ لَمَّا دَخَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَدَنَا مِنْهَا، قَالَتْ: أَعُوذُ باللهِ مِنْكَ. فَقَالَ لَهَا: "لَقَدْ عُذْتِ بِعَظِيمٍ، الحَقِي بِأَهْلِكِ".

أخرجه مسلم أيضًا والنسائي

(1)

.

قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: رَوَاهُ حَجَّاجُ بْنُ أَبِي مَنِيعٍ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَنَّ عُرْوَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ.

هذا التعليق أخرجه الفسوي يعقوب بن سفيان في "مشيخته"

(2)

عن حجاج به، وليس فيه ذكر للجونية، إنما فيه أنها كلابية، فقال: حدثنا حجاج بن أبي منيع، عن عبيد الله بن أبي زياد بحلب، حدثنا جدي، عن الزهري قال: تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم العالية بنت ظبيان بن عمرو من بني أبي بكر بن كلاب، فدخل بها، فطلقها.

قال حجاج: ثنا جدي، ثنا محمد بن مسلم أن عروة أخبره أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: قدم الضحاك بن سفيان من بني أبي بكر بن كلاب

(1)

الحديث أخرجه النسائي في "المجتبى" 6/ 150، وابن ماجه (2050)، وليس في مسلم، ولم يشر إليه المزي في "التحفة" 12/ 54 (16512).

(2)

في الأصل: منتخبه، وهو خطأ، والمثبت من "الرسالة المستطرفة" ص 105.

ص: 199

على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له -وبيني وبينهما حجاب- يا رسول الله، هل لك في أخت أم شبيب؟ قالت: وأم شبيب امرأة الضحاك.

وروى الزبير في "فكاهته"، عن ابن أبي أويس، عن أبيه، عن عبد الله بن حسن بن حسن

(1)

. قال: أتى الضحاك بن سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعه، قال: عندي امرأتان أحسن من هذِه الحميراء أفلا أنزل لك عن إحداهما، وعائشة جالسة تسمع قبل أن يضرب الحجاب، فقالت له: أهي أحسن أو أنت؟ قال: بل أنا أحسن منهما وأكرم.

قال: وكان امرأ دميمًا قبيحًا، قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم من مسألة عائشة إياه.

وأبو منيع عبيد الله بن أبي زياد الرصافي جَدّ الحجاج بن يوسف بن أبي منيع.

وذكر ابن عبد البر العالية هذِه، وأنه عليه السلام تزوجها فكانت عنده ما شاء الله، ثم طلقها

(2)

.

وأما أبو نعيم الحافظ فذكر أنه لم يدخل بها، وقيل؛ إنها التي رأى بها البياض، وقال الزهري: طلقها، وتزوجها ابن عم لها قبل تحريم نسائه على الناس

(3)

.

(1)

هو عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب، أبو محمد المدني، وأمه فاطمة بنت الحسين بن على بن أبي طالب.

انظر ترجمته في: "الثقات" لابن حبان 7/ 1 "تهذيب الكمال" 14/ 414 - 418.

(2)

"الاستيعاب" 4/ 435.

(3)

"معرفة الصحابة" لأبي نعيم 6/ 3236، وأثر الزهري رواه أيضًا: عبد الرزاق 7/ 489 (13996)، والبيهقي 7/ 73.

ص: 200

وذكر الشهرستاني أحمد بن محمد في كتابه "أنفس كتاب في أشرف الأنساب": إنه عليه السلام تزوج أمية ابنة الضحاك بن سفيان، فلما أراد الدخول بها وجد بكشحها بياضًا فطلقها، قال: وتزوج أيضًا فاطمة بنت الضحاك الكلابية، فلما خير نساءه اختارت الدنيا، فكانت تلقظ البعر وتقول: أنا الشقية

(1)

.

وفي "طبقات ابن سعد": تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم سنا بنت سفيان الكلابية، ولم يدخل بها

(2)

. وفي "الاستيعاب": تزوج عمرة بنت يزيد الكلابية، فبلغه أن بها بياضًا، فطلقها

(3)

. وقيل: إنها التي تعوذت منه.

وذكر الرشاطي أن أباها وصفها لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: وأزيدك أنها لم تمرض قط. فقال: "ما لهذِه عند الله خير قط". فطلقها، ولم يبني عليها.

ولأبي عبيدة معمر: بعث عليه السلام أبا أسيد الساعدي يخطب عليه هند بنت يزيد بن البرصاء، فقدم بها عليه، فلما بني بها، ولم يكن رآها، رأى بها بياضًا فطلقها.

وقال أحمد بن صالح المصري: هي عمرة بنت يزيد

(4)

يعني: المتقدمة. وللإسماعيلي، قال الزهري: ويرى الحقي بأهلك، تطليقة بائنة

(5)

.

وفي "الطب": لأبي نعيم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه

(1)

ذكر هذا الكلام ابن عبد البر في "الاستيعاب" 4/ 453. ثم قال: وهذا عندنا غير صححيح. اهـ.

(2)

"الطبقات الكبرى" 8/ 141، وفيه: سبا، وكلاهما قد ذكر.

(3)

"الاستيعاب" 4/ 442 (3476).

(4)

انظر: "الاستيعاب" 4/ 475.

(5)

رواه أبو نعيم في "معرفة الصحابة" 6/ 3236 - 3237.

ص: 201

- عليه السلام تزوج امرأة من غفار، فلما دخلت عليه رأى بكشحها بياضًا، فردها إلى أهلها، وقال:"دلستم عليَّ". ذكره من حديث أبي بكر النخعي، عن حميد بن يزيد، عنه

(1)

.

وأعله ابن أبي حاتم في "علله" بقوله: رواية زيد بن كعب بن عجرة تدخل في المسند

(2)

. فتحصلنا على عدة أقوال فيها.

الحديث الثاني:

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَسِيل -بغين معجمة- عَنْ حَمْزَةَ بْنِ أَبِي أُسَيْدٍ -بضم الهمزة- عَنْ أَبِي أُسَيْدٍ كذلك، واسمه مالك بن البدن قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم حَتَّى انْطَلَقْنَا إِلَى حَائِطٍ يُقَالُ لَهُ: الشَّوْطُ، حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى حَائِطَيْنِ، فَجَلَسْنَا بَيْنَهُمَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"اجْلِسُوا هَا هُنَا". وَدَخَلَ وَقَدْ أُتِيَ بِالْجَوْنِيَّةِ، فَأُنْزِلَتْ فِي بَيْتٍ فِي نَخْلٍ فِي بَيْتِ أُمَيْمَةَ بِنْتِ النُّعْمَانِ بْنِ شَرَاحِيلَ وَمَعَهَا دَايَتُهَا حَاضِنَةٌ لَهَا، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"هَبِي نَفْسَكِ لِي". قَالَتْ وَهَلْ تَهَبُ المَلِكَةُ نَفْسَهَا لِلسُّوقَةِ؟ قَالَ: فَأَهْوى بِيَدِهِ يَضَعُ يَدَهُ عَلَيْهَا لِتَسْكُنَ، فَقَالَتْ: أَعُوذُ باللهِ مِنْكَ. فَقَالَ: "قَدْ عُذْتِ بِمَعَاذٍ". فَخَرجَ عَلَيْنَا فَقَالَ: "يَا أَبَا أُسَيْدٍ، اكْسُهَا رَازِقِيَّتَيْنِ، وَأَلْحِقْهَا بِأَهْلِهَا".

وَقَالَ الحُسَيْنُ بْنُ الوَلِيدِ النَّيْسَابُورِيُّ: عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلٍ، عَنْ أَبِيهِ وَأَبِي أُسَيْدٍ قَالَا: تَزَوَّجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أُمَيْمَةَ بِنْتَ شَرَاحِيلَ، فَلَمَّا دْخِلَتْ عَلَيْهِ بَسَطَ يَدَهُ إِلَيْهَا، فَكَأَنَّهَا كَرِهَتْ ذَلِكَ، فَأَمَرَ أَبَا أُسَيْدٍ أَنْ يُجَهِّزَهَا وَيَكْسُوَهَا ثَوْبَيْنِ رَازِقِيَّيْنِ.

(1)

"الطب" لأبي نعيم 2/ 514 - 515.

(2)

"علل ابن أبي حاتم" 1/ 423.

ص: 202

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي الوَزِيرِ، ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ حَمْزَةَ، عَنْ أَبِيهِ. وَعَنْ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ بهذا.

وقال في موضع آخر: وقال عبد الرحمن.

وقال الحسين بن الوليد، عن عبد الرحمن، عن عباس بن سهل. [و]

(1)

عن عائشة رضي الله عنها أن عمرة بنت الجون تعوذت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أدخلت عليه فقال: "لقد عذت بمعاذ" فطلقها وأمر أسامة وأنسًا فمتعها بثلاثة أثواب رازقية.

وهذا التعليق رواه ابن ماجه

(2)

.

وقال في آخر الأشربة: حدثنا سعيد ابن أبي مريم، عن أبي غسان محمد بن مطرف، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد قال: ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم امرأة من العرب، فأمر أبا أسيد أن يرسل إليها، فأرسل إليها، فقدمت فنزلت في أجم بني ساعدة، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم حتى جاءها، فدخل عليها، فإذا امرأة منكسة رأسها، فلما كلمها النبي صلى الله عليه وسلم قالت: أعوذ بالله منك. قال: "قد أعذتك مني" فقالوا لها: تدرين من هذا؟ قالت: لا. قالوا: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء ليخطبك. قالت: كنت أنا أشقى من ذلك .. الحديث

(3)

.

وروى أبو نعيم الحافظ من حديث محمد بن إسحاق، عن حكيم بن حكيم، عن محمد بن علي بن الحسين، عن أبيه قال: تزوج رسول الله

(1)

زيادة يقتضيها السياق.

(2)

ابن ماجه (2037).

(3)

سيأتي برقم (5637) كتاب الأشربة، باب الشرب من قدح النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 203

- صلى الله عليه وسلم عمرة بنت معاوية الكندية. وفي حديث الشعبي أنه عليه السلام تزوج امرأة من كندة فجيء بها بعد موته.

الحديث الثالث:

حديث ابن عمر رضي الله عنهما السالف في طلاقه زوجته وهي حائض، وفيه: عَنْ أَبِي غَلَّابٍ يُونُسَ بْنِ جُبَيْرٍ قُلْتُ لاِبْنِ عُمَرَ: رَجُلٌ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهْيَ حَائِض. قَالَ: تَعْرِفُ ابن عُمَرَ؟ إِنَّ ابن عُمَرَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهْيَ حَائِضٌ، فَأَتَى عُمَرُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَأَمَرَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا، فَإِذَا طَهُرَتْ فَأَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا فَلْيُطَلِّقْهَا. قَالَ: فَهَلْ عَدَّ ذَلِكَ طَلَاقًا؟ قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ عَجَزَ وَاسْتَحْمَقَ.

ويونس هذا باهلي، بصري، أحد بني معن بن مالك بن أعصر بن سعد بن قيس، تابعي، ثقة صلى عليه أنس بن مالك بوصايتة، وليس للبخاري عنده غيره، ومات بعد الثمانين فيما أفاده أبو أحمد الحاكم، وأهمله "التهذيب"

(1)

.

فصل:

أما ما ترجم له من المواجهة بالطلاق فهو موجود في حديث عائشة دون حديث أبي أسيد وابن عمر صريحًا، ولا شك في جواز ذلك، لكن تركه أولى؛ لأنه أرفق وألطف، وليس من مراعاة حقوق الزوجة من المودة والرحمة، فإن الله تعالى لما خلق حواء من ضلع آدم جعل بينهما المودة والرحمة.

(1)

انظر ترجمته في: "طبقات ابن سعد" 7/ 153، "الثقات" 5/ 554، "تهذيب الكمال" 32/ 498 - 500.

ص: 204

فصل:

ابنة الجون: هي أسماء بنت كعب الجونية، رواه يونس عن ابن إسحاق

(1)

.

قال ابن عبد البر: أجمعوا على أنه تزوج أسماء بنت النعمان بن أبي الجون بن شراحيل.

وقيل: أسماء بنت الأسود بن الحارث بن شراحيل بن النعمان، الكندية.

قلت: في نقله الإجماع نظر لما أسلفناه، واختلفوا في سبب فراقها، فقيل: لما دخلت عليه دعاها فقالت: تعال أنت، وأبت أن تجيء، وزعم بعضهم أنها استعاذت منه، فطلقها.

وقيل: بل كان بها وضح كوضح العامرية، ففعل بها كفعله بها. قال: والمستعيذة امرأة من بلعنبر

(2)

من بني ذات الشقوق، كانت جميلة، فخاف نساؤه أن تغلبهنّ عليه، فقلنّ لها: إنه يعجبه أن تقولي: أعوذ بالله منك.

وقال أبو عبيدة: كلتاهما تعوذتا.

قال ابن عقيل

(3)

: نكح عليه السلام امرأة من كندة -وهي الشقية- فسألته أن يردها إلى أهلها، فردها مع أبي أسيد، فتزوجها المهاجر بن أبي أمية، ثم خلف عليها قيس بن مكشوح.

(1)

"سيرة ابن اسحاق" ص 248.

(2)

كذا في الأصل: بلعنبر، وهي لغة صحيحة، قال السمعاني في "الأنساب" 9/ 67، في باب العين والنون، العنبري نسبة إلى بني العنبر، ويخفف فيقال لهم: بَلعنبر، وهم جماعة من بني تميم، ينسبون إلى بني العنبر بن عمرو بن تميم بن مُرّ بن أُدّ. اهـ.

(3)

ورد بهامش الأصل: هو عبد الله بن محمد بن عقيل.

ص: 205

قال أبو عمر: والاختلاف فيها وفي صواحباتها اللاتي لم يدخل بهن عظيم

(1)

.

وروى ابن أبي شيبة من حديث عمر بن الحكم أنه عليه السلام تزوج امرأة من بني الجون فطلقها، وهي التي استعاذت منه

(2)

.

وقال مجاهد: لم يكن يطلق ولكن يعتزل

(3)

.

فصل:

والرازقي -براء مهملة

(4)

ثم ألف ثم زاي ثم قاف- ثياب من كتان بيض طوال، قاله أبو عبيد.

وقال غيره: داخل بياضها زرقة. والرازقي: الضعيف.

فصل:

والسوقة من الناس: الرعية. ومن دون الملك، قال الجواليقي: ليس كما يذهب إليه عوام الناس إلى أنهم أهل السوق، وسموا سوقة؛ لأن الملك يسوقهم فيساقون له ويصرفهم على مراده، يقال للواحد منهم والاثنين: سوقة، وربما جمع سوقًا، وأما أهل السوق فالواحد منهم سوقي، والجماعة سوقيون.

فصل:

الأُجُم: في الحديث الذي أوردناه -بضم الهمزة والجيم- الحصين، وجمعه: آجام بالمد، كعنق وأعناق. وقال أبو عبيد: وكذلك الأطم.

(1)

"الاستيعاب" 4/ 348، 349، 350.

(2)

ابن أبي شيبة 4/ 201 (19248).

(3)

ابن أبي شيبة 4/ 200 (19244).

(4)

ورد بهامش الأصل: لا تحتاج إلى تقييدها بالإهمال.

ص: 206

فصل:

وأمره عليه السلام بكسوتها هي المتعة التي أمر الله بها للمطلقة غير المدخول بها

(1)

، وكذا لها على الأظهر عندنا، وستعلم بعد مذاهب العلماء فيه، نبه عليه المهلب.

قال ابن التين: ويحتمل أن يكون عقب نكاحها تعويضًا، فيكون لها المتعة أو يكون سمى لها صداقًا يتفضل عليها بذلك، ومن عادته عليه السلام إذا ترك شيئًا لم يعد فيه، فلما استعاذت منه مع سابق قوله:"من استعاذكم بالله فأعيذوه"

(2)

، تركها ولم يعد إليها.

وأما ابن المرابط فقال: كان بعض أهلها أعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشأنها، ونزاهة نفسها، ورفع همتها، فأراد الوقوف على ذلك قبل العقد عليها باختبارها، وأمره لها بالكسوة؛ تفضلًا منه عليها؛ لأن ذلك لم يكن لازمًا له؛ لأنها لم تكن زوجة. وعليه توبيب النسائي.

فصل:

قوله للرجل: (أتعرف ابن عمر رضي الله عنهما؟) وهو يخاطبه، إنما هو تقرير على أصل السنة، وعلى ناقلها؛ لأنه لازم للعامة الاقتداء بمشاهير أهل العلم، فقرره على ما يلزمه من ذلك، لا أنه ظن أنه يجهله، وقد قال مثل هذا لرجل سأله عن أم الولد، فقال: أتعرف أبا حفص أو عمر؟ يريد إباه ولا خفاء به، ثم أخبره بقضيته في أم الولد إلزامًا له حكمه فيها بأمانته في الإسلام، لا على أن السائل كان يجهل عمر.

(1)

ورد بهامش الأصل: إن لم يجب بها شطر مهر.

(2)

رواه أبو داود (5109)، والنسائي 5/ 82، وأحمد 2/ 99.

ص: 207

فصل:

اختلف في: الحقي بأهلك، وحبلك على غاربك، ولا سبيل لي عليك، ونحوها من كنايات الطلاق، كما قال ابن المنذر، فقالت طائفة ينوي في ذلك، فإن نوى الطلاق وقع، وإلا فلا شيء عليه، هذا قول الثوري وأبي حنيفة، قالا: إن واحدة أو ثلاثًا فهو ما نوى، وإن نوى ثنتين فهي واحدة؛ لأنها كلمة واحدة ولا تقع على اثنتين. وقال مالك في: الحقي بأهلك: أي أراد الطلاق، فهو ما نوى واحدة أو اثنتين أو ثلاثًا، وإن لم يرد طلاقًا فليس بشيء

(1)

.

وقال الحسن والشعبي فيه، وفي لا سبيل لي عليك، والطريق واسع: إن نوى طلاقًا فهي واحدة وهو أحق بها، وإن لم ينو طلاقًا فليس بشيء.

وروي عن عمر وعلي في: حبلك على غاربك أنهما حلفاه عند الركن على ما أراده وأمضياه

(2)

، وهو قول أبي حنيفة، وكذلك كل كلام يشبه الفرقة مما أراد به الطلاق فهو مثل ذلك، كقوله: قد خليت سبيلك، ولا ملك لي عليك، واخرجي، واستبرئي، وتمتعي، واعتدي.

وقال مالك: لا ينوي أحد في حبلك على غاربك؛ لأنه لا يقوله أحد، وقد بقي من الطلاق شيء، ولا يلتفت إلى نيته إن قال: لم أرد طلاقًا

(3)

.

وهذا الحديث -كما قال الطحاوي- أصل في الكنايات عن الطلاق؛ لأنه عليه السلام قال لابنة الجون حين طلقها: "الحقي بأهلك".

(1)

"المدونة" 2/ 284.

(2)

رواه عبد الرزاق في "المصنف" 6/ 370 (11232، 11233).

(3)

"المدونة" 2/ 282.

ص: 208

وقد قال كعب بن مالك لامرأته: الحقي بأهلك

(1)

، حين أمره الشارع باعتزالها، فلم يكن ذلك طلاقًا، فدل خبر كعب على أن هذِه اللفظة مفتقرة إلى النية، وأن من قال لامرأته ذلك نوى، فإن لم ينو فلا شيء عليه، وهذا قول مالك والكوفيين والشافعي. قال غيره وكذلك سائر الكنايات المحتملات للفراق وغيره

(2)

.

وذكر ابن حبيب عن ابن القاسم وابن الماجشون جملة منها، وقال: لا شيء عليه بنى بها أو لم يبن، إلا أن ينوي طلاقًا فله ما نوى بعد أن يحلف على ذلك، ولا شك أن العصمة قائمة ولا تزول إلا بقصد؛ لقوله عليه السلام:"إنما الأعمال بالنيات".

وأما الألفاظ التي يكنى بها عن الطلاق، فأكثر العلماء لا يوقعون بها طلاقًا هان قصده القائل. وقال مالك: كل من أراد الطلاق بأي لفظ كان لزمه حتى يقول: كلي، واشربي، وقومي، واقعدي، ونحوه

(3)

. والحجة له أن الله تعالى جعل الرمز، وهو الإيماء بالكلام في الكناية عن المراد يقوله:{أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا} [آل عمران: 41] وكما كان ما فعله المتلاعنان من تلاعنهما وتفرقهما طلاقًا، وإن لم يتلفظ به، وكذلك روي في المختلعة لما ردت عليه الحديقة، فأخذها وكان طلاقًا.

وقال الأثرم: قلت لأحمد إذا قال: الحقي بأهلك؟ قال: إن لم ينو طلاقًا فلا شيء، وذلك أن الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أحدهم

(1)

سبق برقم (4418).

(2)

انظر: "شرح ابن بطال" 7/ 387 - 388، "الإشراف على مذاهب أهل العلم" 1/ 148 - 149.

(3)

"المدونة" 2/ 285.

ص: 209

لامرأته: الحقي بأهلك، ولم يرد الطلاق، فلم يكن طلاقًا. قلت: فإن نوى طلاقًا؟ قال: أخاف أن يكون ثلاثًا.

قلت: إنهم يحتجون بحديث الجونية، ولم يكن طلاقًا، ولم يكن يطلق ثلاثًا، فيكون غير طلاق السنة. قال: تلك غير مدخول بها.

قلت: فيجوز أن تطلق غير المدخول بها إلا واحدة؟ قال: فكيف الحديث، فذكرته، أفتراه كان ينوي ثلاثًا بكلمة واحدة؟ قال: لا

(1)

.

وفي مصنف ابن أبي شيبة عن الحسن في الحقي بأهلك نيته، وعن عامر ليس بشيء إلا أن ينوي طلاقًا في غضب، وعن عكرمة: هي واحدة. قال قتادة: ما أعدها شيئًا. وعن الحكم وحماد: إن نوى الطلاق فهي واحدة، وهي أحق برجعتها

(2)

.

فصل:

ليس فيه تقديم الخطبة وتقديم وجوبها، قاله أكثر العلماء.

فصل:

معنى: أعوذ: ألتجئ. قالت ذلك؛ لأنها لم تعرفه ولا عرفت ما يراد منها، وقد أسلفنا من قال علمها نساؤه، وقيل: إنهن قلن لها: تحظين عنده بذلك.

وقوله: ("قد أعذتك"). فيما أوردناه جواب لقولها على وجه الموافقة لقصدها؛ لأنه فهم منها الكراهية، وكأنها لم تعجبه أيضًا خَلقًا وخُلقًا. وقوله:"قد أعذتك": تركتك.

(1)

انظر: "المغني" 10/ 368.

(2)

انظر هذِه الآثار في: "مصنف ابن أبي شيبة" 4/ 87 (18047 - 18050).

ص: 210

وقوله: (منكسة). يقال: نكس رأسه -بالتخفيف- فهو ناكس، ونكَّس -بالتشديد- فهو منكَّس، إذا طأطأه. وفيه: جواز نظر الخاطب إلى من يريد نكاحها.

وأما حديث محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كشف خمار امرأة ونظر إليها فقد وجب صداقها، دخل بها أو لم يدخل بها". أخرجه الدارقطني

(1)

. فضُعِّفَ؛ لأجل ابن لهيعة، ومرسل، أو يحمل على أنه بعد العقد، ويراد به الخلوة على من جعلها مقررة للمهر.

(1)

"السنن" 3/ 307.

ص: 211

‌4 - باب مَنْ أَجَازَ طَلَاقَ الثَّلَاثِ

لقوله تَعَالَى {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229]. وَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ فِي مَرِيضٍ طَلَّقَ: لَا أَرَى أَنْ تَرِثَ مَبْتُوتَتُهُ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: تَرِثُهُ. وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ: تَزَوَّجُ إِذَا انْقَضَتِ العِدَّةُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ مَاتَ الزَّوْجُ الآخَرُ؟ فَرَجَعَ عَنْ ذَلِكَ.

5259 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ أَخْبَرَهُ، أَنَّ عُوَيْمِرًا الْعَجْلَانِيَّ جَاءَ إِلَى عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ الأَنْصَارِيِّ، فَقَالَ لَهُ: يَا عَاصِمُ، أَرَأَيْتَ رَجُلاً وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلاً، أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ، أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ؟ سَلْ لِي يَا عَاصِمُ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَ عَاصِمٌ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَكَرِهَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْمَسَائِلَ وَعَابَهَا، حَتَّى كَبُرَ عَلَى عَاصِمٍ مَا سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا رَجَعَ عَاصِمٌ إِلَى أَهْلِهِ جَاءَ عُوَيْمِرٌ فَقَالَ: يَا عَاصِمُ، مَاذَا قَالَ لَكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ عَاصِمٌ: لَمْ تَأْتِنِي بِخَيْرٍ، قَدْ كَرِهَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْمَسْأَلَةَ الَّتِي سَأَلْتُهُ عَنْهَا. قَالَ عُوَيْمِرٌ: وَاللهِ لَا أَنْتَهِي حَتَّى أَسْأَلَهُ عَنْهَا فَأَقْبَلَ عُوَيْمِرٌ حَتَّى أَتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَسَطَ النَّاسِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ رَجُلاً وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلاً، أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ، أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«قَدْ أَنْزَلَ اللهُ فِيكَ وَفِي صَاحِبَتِكَ فَاذْهَبْ فَأْتِ بِهَا» . قَالَ سَهْلٌ: فَتَلَاعَنَا وَأَنَا مَعَ النَّاسِ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا فَرَغَا قَالَ عُوَيْمِرٌ: كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللهِ، إِنْ أَمْسَكْتُهَا، فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَكَانَتْ تِلْكَ سُنَّةُ الْمُتَلَاعِنَيْنِ. [انظر: 423 - مسلم: 1492 - فتح 9/ 361].

5260 -

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ، أَنَّ امْرَأَةَ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ رِفَاعَةَ طَلَّقَنِي فَبَتَّ طَلَاقِي، وَإِنِّي نَكَحْتُ

ص: 212

بَعْدَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزَّبِيرِ الْقُرَظِيَّ، وَإِنَّمَا مَعَهُ مِثْلُ الْهُدْبَةِ. قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«لَعَلَّكِ تُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إِلَى رِفَاعَةَ؟ لَا، حَتَّى يَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ وَتَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ» . [انظر: 2639 - مسلم: 1433 - فتح 9/ 361].

5261 -

حَدَّثَنِى مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ قَالَ: حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَجُلاً طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا، فَتَزَوَّجَتْ، فَطَلَّقَ، فَسُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَتَحِلُّ لِلأَوَّلِ؟ قَالَ: «لَا، حَتَّى يَذُوقَ عُسَيْلَتَهَا كَمَا ذَاقَ الأَوَّلُ» . [انظر: 2639 - مسلم: 1433 - فتح 9/ 362].

كأن البخاري رحمه الله أراد بأن الطلقة الثالثة قوله تعالى: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] وقد جاء كذلك مفسرًا في حديث أنس: قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: إني أسمع الله يقول: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] فأين الثالثة؟ قال: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] رواه الدارقطني، وصوب إرساله

(1)

.

وقال أين القطان: هما عندي صحيحين. ثم برهن

(2)

.

وقد طلق عويمر العجلاني بحضرته ثلاثًا ولم ينكر عليه صدور هذا اللفظ، كما أورده في الباب، وإن كان وقع بعد اللعان وبانت.

ثم قال البخاري: وَقَالَ ابن الزُّبَيْرِ فِي مَرِيضٍ طَلَّقَ: لَا أَرى أَنْ تَرِثَ مَبْتُوتَتُهُ.

وهذا أخرجه أبو عبيد، عن يحيى القطان، حدثنا ابن جريج، عن ابن أبي مليكة أنه سأل الزبير عن المبتوتة في المرض، فقال: طلق عبد الرحمن بن عوف ابنة الأصبغ الكلبية فبتها، ثم مات وهي في عدتها، فورثها عثمان.

(1)

"السنن" 4/ 4.

(2)

"بيان الوهم والإيهام" 2/ 316 (309).

ص: 213

قال ابن الزبير: وأما أنا فلا أرى أن تورث المبتوتة

(1)

.

ولابن أبي شيبة، عن عمر رضي الله عنه في المطلق ثلاثًا في مرضه: ترثه ما دامت في العدة، ولا يرثها.

وورث علي أم البنين من عثمان لما طلقها لما حُضر. وقال إبراهيم: ترثه ما دامت في العدة. وقال طاوس وعروة بن الزبير وعائشة وابن سيرين بقوله، كانوا يقولون: من فرَّ من كتاب الله رُدَّ إليه يعني: في الرجل يطلق امرأته وهو مريض

(2)

.

وقال عكرمة: لو لم يبق من عدتها إلا يوم واحد ثم مات، ورثت واستأنفت عدة المتوفى عنها زوجها. وقال شريح فيما رواه عنه الشعبي: يريد ما دامت في العدة

(3)

، ونقل البخاري عن الشعبي أنها ترثه.

وروى ابن أبي شيبة، عن وكيع، عن زكريا، عن عامر قال: باب في الطلاق جسيم إذا ورثت اعتدت

(4)

.

ومن حديث رجل من قريش، عن أُبي بن كعب: إذا طلقها وهو مريض وَرَّثْتُها منه، ولو مضى سنة لم يبرأ أو يموت.

وعن الحسن بن أبي الحسن في رجل طلق امرأته ثلاثًا في مرضه فمات، وقد انقضت عدتها قال: ترثه

(5)

.

(1)

رواه عبد الرزاق 7/ 62 (12192) من طريق ابن جريح، وابن أبي شيبة 4/ 176 (19028) من طريق يحيى بن سعيد، عن ابن جريح، عن ابن أبي مليكة به.

(2)

انظر: هذِه الآثار في "المصنف" 4/ 177.

(3)

انظر: ابن أبي شيبة 4/ 181 (19071، 19072).

(4)

"المصنف" 4/ 181 (19070).

(5)

"المصنف" 4/ 176 (19027 - 19029).

ص: 214

وقال عطاء: لو مرض سنة ورثتها منه

(1)

. والذي أجاب به الشافعي في الحديث: أنه لا إرث.

ثم نقل البخاري عن ابن شبرمة: تزوج إذا انقضت العدة؟ قال: نعم. قال: قلت: أرأيت إن مات الزوج الآخر؟ فرجع عن ذلك.

ثم ساق البخاري في الباب حديث سهل بن سعد الساعدي. وموضع الشاهد منه ما قدمته، ويأتي في بابه.

وحديث عائشة في امرأة رفاعة القرظي.

وسلف في الشهادات

(2)

، والمقصود منه هنا: فطلقني فبت طلاقي. وحديثها أيضًا: أَنَّ رَجُلًا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا، فَتَزَوَّجَتْ، فَطَلَّقَ، فَسُئِل صلى الله عليه وسلم: أَتَحِلُّ لِلأَوَّلِ؟ قَالَ: "لَا، حَتَّى يَذُوقَ عُسَيْلَتَهَا كمَا ذَاقَ الأَوَّلُ". وهو مفسر لقوله: وبت طلاقي.

فصل:

ساق البخاري هذِه الأحاديث عقب هذِه الترجمة؛ للرد على المخالف، وفي الأول: إرسال الثلاث دفعة، وفي الثاني: إرسال البتات، وفي الثالث: إرسال الثلاث من غير بيان لذكر الكيفية، هل هي مجتمعات أو متفرقات؟

ولما قام عنده الدليل على تساوي الصور كفاه الدليل في بعضها دليلًا على الجمع، كما نبه عليه ابن التين، وكأنه أثبت حكم الأصل بالنص، وألحق الفرع به بقياس نفي الفارق.

قلت: لكن في البخاري في باب التبسم والضحك من كتاب

(1)

الذي في "المصنف" 4/ 176 (19030) عن عثمان بن الأسود وليس عن عطاء.

(2)

سلف برقم (2639).

ص: 215

الأدب: أن رفاعة طلقني آخر ثلاث

(1)

. فبان به أنها كانت متفرقات، ولم يكن في كلمة، فلا حجة فيه هنا.

وكذلك ما ذكره عن ابن الزبير، فمحتمل؛ لأن يكون في كلمة أو أكثر، أو أن يكون خلعًا.

فصل:

اتفق أئمة الفتوى على لزوم إيقاع طلاق الثلاث في كلمة واحدة، وهو قول جمهور السلف، ومن خالف فهو شاذ مخالف لأهل السنة، وإنما تعلق به أهل البدع ومن لا يلتفت إليه؛ لشذوذه عن الجماعة التي لا يجوز عليها التواطؤ على تحريف الكتاب والسنة، وإنما يُروى الخلاف في ذلك عن السلف: الحجاج بن أرطاة، ومحمد بن إسحاق، وقد أسلفنا ذلك واضحًا، والجواب عما ظاهره التخالف.

قال أبو يوسف القاضي: كان الحجاج بن أرطأة يقول: ليس طلاق الثلاث بشيء. وكان ابن إسحاق يقول: يرد الثلاث إلى واحدة

(2)

.

وقد أسلفنا عن الطحاوي نكارة حديث ركانة وابن عباس، وأنه خالفهما ما هو أولى منهما.

روى سعيد بن جبير ومجاهد ومالك بن الحارث

(3)

ومحمد بن إياس ابن البكير والنعمان بن عياش، كلهم عن ابن عباس، فيمن طلق امرأته ثلاثًا أنه عصى ربه، وبانت منه امرأته، ولا ينكحها إلا بعد زوج

(4)

.

(1)

سيأتي برقم (6084).

(2)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 2/ 462.

(3)

في الأصل: الحويرث، والمثبت هو الصواب كما في "مختصر اختلاف العلماء" 2/ 463، "شرح ابن بطال" 7/ 391.

(4)

"مختصر اختلاف العلماء" 2/ 463.

ص: 216

وروي هذا عن ابن عمر وأبيه وعلي وابن مسعود وأبي هريرة وعمران بن حصين، كما أسنده الطحاوي عنهم

(1)

.

وروى ابن أبي شيبة، عن وكيع، عن سفيان، عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن جبير قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: إني طلقت امرأتي ألفًا -أو قال: مائة- قال: بانت منك بثلاث، وسائرها اتخذت بها آيات الله هزوًا

(2)

.

وأما رواية الأئمة عن ابن عباس مما يوافق الجماعة يدل على وَهَنِ رواية طاوس عنه، وما كان ابن عباس ليخالف الصحابة إلى رأي نفسه، وقد روى معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه قال: كان ابن عباس إذا سئل عن رجل طلق امرأته ثلاثًا قال: لو أتقيت الله جعل لك مخرجًا

(3)

.

وهذِه الرواية لطاوس عن ابن عباس تعارض رواية ابن جريج، عن ابن طاوس، عن أبيه؛ لأن من لا مخرج له، قَدْ لزمه من الطلاق ما أوقعه فسقطت رواية ابن جريج وأيضًا فإن أبا الصهباء (هو)

(4)

الذي سأل ابن عباس عن ذلك، لا يعرف في موالي ابن عباس، لكن في هذا نظر كما سلف هثاك، وليس تعارض رواية ابن جريج، عن ابن عباس رواية من ذكرنا عن ابن عباس فصار في هذا إجماعًا. وحديث ابن إسحاق خطأ منكر.

وأما طلاق ركانة زوجته البتة لا ثلاثًا، كذلك رواة الثقات من أهل بيت ركانة، رواه أبو داود، عن أبي ثور وغيره، عن الشافعي، حدثني

(1)

"شرح معاني الآثار" 3/ 57 - 59.

(2)

"المصنف" 4/ 63 (17798).

(3)

رواه عبد الرزاق 6/ 396 (11346).

(4)

كذا في الأصل، والمعنى يستقيم بدونها.

ص: 217

عمي محمد بن علي بن شافع، عن عبد الله بن على بن السائب، عن نافع بن عجير، عن عبد الله بن يزيد بن ركانة أن ركانة طلق امرأته سُهَيْمَة البتة، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: والله ما أردت إلا واحدة، فردها عليه رسول الله، فطلقها الثانية في زمن عمر، والثالثة في زمن عثمان

(1)

.

قال أبو داود: وهذا أصح ما روي في حديث ركانة

(2)

.

وحجة الفقهاء حديث الباب أنه طلقها ثلاثًا قبل أن يأمر الشارع بذلك، وقبل أن يخبره أنها تطلق عليه باللعان، ولو كان ذلك محظورًا عليه لنهاه عنه، كما سلف، وأعلمه أن إيقاع الثلاث محرم ومعصية، فصح أن إيقاع الثلاث مباح، ولولا ذلك لم يقره

(3)

.

فصل:

اختلف العلماء في قول الرجل: أنت طالق البتة. فذكر ابن المنذر عن عمر وسعيد بن جبير أنها واحدة.

وقال عطاء والنخعي: يُدَيَّن، فإن أراد واحدة فهي واحدة، وإن أراد ثلاثًا فهي ثلاث. وهو قول أبي حنيفة والشافعي وقالت طائفة في البتة: هي ثلاث.

وروي ذلك عن علي وابن عمر وسعيد بن المسيب وعروة والزهري وابن أبي ليلى ومالك والأوزاعي وأبي عبيد، واحتج الشافعي بحديث ركانة السالف، واحتج مالك بحديث ابن عمر: أبت الطلاق طلاق السنة.

(1)

أبو داود (2206).

(2)

بعد حديث (2208) في السنن.

(3)

انظر: "شرح ابن بطال" 7/ 390 - 393.

ص: 218

قال ابن المنذر: وقد دفع بعض العلماء حديث ركانة. وقال: عبد الله بن يزيد بن ركانة، عن أبيه، عن جده لا يعرف سماع بعضهم من بعض

(1)

.

فصل:

وقد اختلف في طلاق المريض يموت في مرضه -وقد أسلفناه- وحاصل الخلاف فيه أن فرقة قالت: ترثه ما دامت في العدة، روي عن عثمان بن عفان أنه وَرّث امرأة عبد الرحمن بن عوف منه، وكانت في العدة، وبه قال النخعي والشعبي وابن شبرمة وابن سيرين وعروة، وهو قول الثوري والكوفيين والأوزاعي، وأحد قولي الشافعي.

وأن فرقة قالت: ترثه بعد العدة ما لم تزوج، روي عن عطاء والحسن وابن أبي ليلي، وبه قال أحمد وإسحاق وأبو عبيد.

وأن فرقة قالت: ترثه وإن تزوجت، هذا قول ربيعة ومالك والليث -وهو الصحيح - عن عثمان رواه مالك في "الموطأ"، عن ابن شهاب

(2)

.

وأن فرقة قالت: لا ترث مبتوتة بحال، وإن مات في العدة، كقول ابن الزبير، وهو أحد قولي الشافعي، وبه قال أبو ثور وأهل الظاهر

(3)

.

واحتجوا لقول ابن الزبير بالإجماع على أن الزوج لا يرثها، وإن ماتت في العدة، ولا بعد انقضائها، إذا طلقها ثلاثًا وهو صحيح أو مريض، فكذلك هي لا ترثه.

(1)

انظر: "شرح ابن بطال" 7/ 393 - 394، و"الإشراف" 1/ 147 - 148.

(2)

"الموطأ" برواية يحيى ص 353.

(3)

انظر: "شرح ابن بطال" 7/ 394، "الإشراف" 1/ 166 - 167.

ص: 219

ومن قال: لا ترثه إلا في العدة استحال عنده أن ترث مبتوتة في حال لا ترث فيه الرجعية؛ لأنه لا خلاف بين المسلمين أن من طلق امرأته صحيحًا طلقة يملك فيها رجعتها، ثم انقضت عدتها قبل موته، أنها لا ترثه؛ لأنها أجنبية ليست منه، ولا هو منها، فلا تكون المبتوتة المختلف في ميراثها في العدة أقوى من الرجعية المجمع على توريثها في العدة.

وأما من قال: ترثه بعدها ما لم تنكح، فإنهم اعتبروا إجماع المسلمين أنه لا ترث امرأة زوجين في حال واحد.

وقولهم غير صحيح؛ لأنه لا يخلو أن تكون له زوجة بعد انقضاء العدة، أو لا تكون، فإن كانت فلا يحل لها نكاح غيره، وإلا فمحال أن ترثه وهي زوجة لغيره، وبمثل هذِه العلة يلزم من قال: ترثه بعدها وإن تزوجت.

وأهل هذِه المقالة اتهمت المريض بالفرار من ميواث الزوجة، والمريض محجور عليه في الحكم في ثلثي ماله بأن ينقص ورثته، بأن يدخل عليهم وارثًا، فكذلك هو ممنوع من أن يخرج عنهم وارثًا. كما منع الشارع الذي قتل وليه ميراثه؛ بسبب ما أحدث من القتل.

فكذلك لا ينبغي أن يكون المريض مانعًا زوجته الميراث بسبب ما أحدثه من الطلاق؛ لأن الميراث حق ثبت لها بمرضه.

فصل:

قيل: العسل، يؤنت ويذكر فمن صغره (مؤنثًا)

(1)

قال: عسيلة، كهنيدة في هند، وقيل: أراد قطعة من العسل، وقيل: على معنى

(1)

من (غ).

ص: 220

النطفة، شبه اللذة بالذوق، واستعاره لها

(1)

فصل:

في حديث رفاعة أن المطلقة ثلاثًا لا تحل لمطلقها إلا بنكاح فيه جماع. وهو مفسر لقوله تعالى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] وهو من التفسير المسند، وذلك أن القرآن كله إذا ذكر فيه النكاح، أريد به العقد لا الوطء، إلا هنا، وإلا في قوله:{الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} [النور: 3] على قول، والسنة بينته بقوله:"حتى تذوقي عسيلته". وهي الوطء.

وانفرد اين المسيب، فاكتفى بالعقد. كما أسند سعيد بن منصور في "سننه" قوله

(2)

. ولا نعلمُ أحدًا وافقه إلا طائفة من الخوارج، ولا التفات إليهم، ولعله لم يبلغه الحديث. وقيل: إنه رجع عنه، حكاه في "القنية" للزاهدي. قال: ولو قضى به قاضٍ لا ينفذ قضاؤه، فإن أفتى به أحد عزر. وإن كان المبرد حكى عن أهل الحجاز أنهم يرون النكاح العقد دون الفعل، ولا ينكرونه في الفعل، ويحتجون بقوله تعالى:{إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [الأحزاب: 49] ويكون هو الجماع. وهو في الأصل كناية، وهي تقع عن هذا الباب كثيرًا، والأصل ما ذكرناه.

قال عليه السلام: "أنا من نكاح لا من سفاح"

(3)

ويقابل قول سعيد في الغرابة قول الحسن البصري: لا تحل حتى يطأها الثاني وطئًا فيه

(1)

انظر: "النهاية في غريب الحديث" 3/ 237.

(2)

"السنن" 2/ 49 (1989).

(3)

رواه بنحوه الطبراني 10/ 329 (10812)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" 3/ 400 من حديث ابن عباس.

ص: 221

إنزال، وزعم أنه معنى العسيلة، وخالفه سائر الفقهاء، فاكتفوا بالإفضاء كما في سائر الأحكام

(1)

.

وأغرب ابن المنذر فقال: إذا أتاها نائمة أو مغمى عليها لا تشعر لا تحل للأول؛ حتى يذوقا جميعًا العسيلة، إذ غير جائز أن يسوي الشارع بينهما في ذوقهما. وتحل بأن يذوقها أحدهما، وهذا قول علي وابن عباس وجابر وعائشة وابن عمر، وهو قول جماعة العلماء

(2)

، لا خلاف في ذلك إلا ما روي عن ابن المسيب، وهو قوله في هذا الحديث: أو "يذوق عسيلتك"، لا يوجب ذوق أحدهما لها دون صاحبه.

وأو هنا بمعنى: الواو، وذلك مشهور في اللغة، وقد بين ذلك رواية من روى:"وتذوق" بالواو. كما ذكره في الباب، في باب: من قال لامرأته: أنت علي حرام. كما سيأتي.

فصل:

واختلفوا في عقد نكاح المحلل، فقال مالك: لا يحلها إلا نكاح رغبة، فإن قصد التحليل لم يحلها، سواء علم بذلك الزوجان أو لم يعلما، ويفسخ قبل الدخول وبعده، وهو قول الليث وسفيان والأوزاعي وأحمد.

وقال أبو حنيفة وأصحابه والشافعي: النكاح جائز، وله أن يقيم على نكاحه أولا، وهو قول عطاء والحكم.

(1)

انظر: "الاستذكار" 17/ 156 - 157.

(2)

انظر: "الإشراف" 1/ 178.

ص: 222

وقال القاسم وسالم وعروة والشعبي: لا بأس أن يتزوجها ليحلها، إذا لم يعلم بذلك الزوجان، وهو مأجور بذلك، وهو قول رييعة ويحيى بن سعيد

(1)

.

حجة مالك: الأحاديث الواردة في لعنه، منها حديث ابن مسعود: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلل والمحلل له. حديث صحيح، أخرجه النسائي والترمذي، وقال: حسن صحيح

(2)

.

قلت: وهو على شرط الشيخين. وقال ابن حزم بعد أن ساقه من طريق النسائي إليه: إنه خبر لا يصح في الباب سواه

(3)

.

قلت: أعله ابن القطان بأبي قيس

(4)

. وفيه أيضًا: عقبة بن عامر وأبي هريرة وجابر وابن عباس رضي الله عنهم.

أما حديث عقبة فمداره على مشرح بن هاعان، عنه مرفوعًا:"لعن الله المحلل والمحلل له". أخرجه الدارقطني

(5)

، وقال عبد الحق: إسناده حسن

(6)

.

واعترضه ابن القطان بأبي صالح كاتب الليث الذي في إسناده؛ لأن حاله مختلف فيها، رواه عنه إبراهيم بن الهيثم البلدي، وقد أنكر عليه حديث الثلاثة الذين في الغار

(7)

.

(1)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 2/ 322 - 324، "الإشراف" 1/ 179 - 180.

(2)

الترمذي (1120)، النسائي 6/ 149.

(3)

"المحلى" 10/ 180.

(4)

"بيان الوهم والإيهام" 4/ 442 (2015).

(5)

"السنن" 3/ 251.

(6)

"الأحكام الوسطى" 3/ 157.

(7)

"بيان الوهم والإيهام" 3/ 504 - 506 (1277).

ص: 223

وقال أبو زرعة فيما حكاه ابن أبي حاتم: ذكرت هذا الحديث ليحيى بن بكير، وأخبرته برواية عبد الله بن صالح، وعثمان بن صالح له، عن الليث، فأنكر ذلك إنكارًا شديدًا وقال: لم يسمع الليث عن مشرح شيئًا، ولا روى عنه شيئًا، وإنما حدثني الليث بهذا الحديث عن سليمان بن عبد الرحمن، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال أبو زرعة: والصواب عندي قول يحيى هذا

(1)

.

وأما حديث أبي هريرة فأخرجه ابن أبي شيبة بإسناد جيد عنه: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلل والمحلل له

(2)

.

وأما حديث جابر فأخرجه أيضًا، عن ابن نمير، عن مجالد، عن عامر، عن جابر، عن عليّ مثله سواء

(3)

، قال الترمذي: ووهم فيه ابن نمير

(4)

. وأما حديث ابن عباس فأخرجه ابن ماجه من حديث زمعة بن صالح، عن سلمة بن وهرام -وفيهما مقال، وقد وُثَّقَاَ- عن عكرمة، عن عبد الله: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلل والمحلل له

(5)

.

قال ابن حزم: وذهب مالك أيضًا إلى آثار بمعناه، إلا أنها هالكة إما من طريق الحارث الأعور الكذاب، أو من طريق إسحاق الفروي، ولا خير فيه، روي عن إبراهيم بن إسماعيل، عن داود، عن عكرمة، عن ابن عباس يرفعه: سئل عن المحلل فقال: "لا نكاح إلا نكاح رغبة" ثلاثًا. ومن طريق وكيع، عن الثوري، عن المسيب بن رافع،

(1)

"علل ابن أبي حاتم " 1/ 411 (1223).

(2)

"المصنف" 3/ 548 (17086)

(3)

ابن أبي شيبة 7/ 291 (36182).

(4)

الترمذي (1119).

(5)

ابن ماجه (1934).

ص: 224

عن قبيصة بن جابر: قال عمر بن الخطاب: لا أوتى بمحل ولا بمحلل إلا رجمته

(1)

.

وحمل هذا الطحاوي على التشديد والتغليظ النحو ما هم به الشارع من التحريق على من تخلف عن الجماعة بيوتهم، وكذا ما روي عن أبيه، وقد صح عنه أنه درأ الحد عن رجل وطئ غير امرأته وهو يظنها امرأته. وإذا بطل الحد بالجهالة فالتأويل أولى؛ لأن المتأول عند نفسه مصيب، وهو في معنى الجاهل

(2)

.

قال ابن حزم: ومن طريق ابن وهب: أخبرني يزيد بن عياض بن جعدبة، سمع نافعًا يقول: إن رجلاً سأل ابن عمر عن التحليل، فقال له عبد الله: عرفت عمر، لو رأى شيئًا من ذلك لرجم فيه.

قال أبو محمد بن حزم: ابن جعدبة كذاب، مذكور بالوضع.

وعن عبد الرزاق، عن الثوري، عن عبد الله بن شريك العامري: سمعت ابن عمر يسأل عمن طلق امرأته ثم ندم، فأراد رجل أن يتزوجها يحللها له. فقال ابن عمر: كلاهما زانٍ ولو مكثا عشرين سنة

(3)

.

قلت: وعبد الله ذكره ابن حبان في "ثقاته"، وكذا ابن شاهين، وابن خلفون. وقال الدارقطني: لا بأس به. وقال أحمد: ما علمت به بأسًا. وقال يعقوب بن سفيان: ثقة، يميل إلى التشيع

(4)

.

(1)

"المحلى" 10/ 180، 181، 184.

(2)

انظر "الاستذكار" 16/ 163.

(3)

عبد الرزاق 6/ 266 (10778) وانظر: "المحلى" 10/ 181.

(4)

انظر: "الثقات" 5/ 22، "المعرفة والتاريخ" 3/ 98، "تاريخ أسماء الثقات" لابن شاهين ص 131 - 132 (677، 679).

ص: 225

ثم قال: وعن وكيع، عن أبي غسان المدني، عن عمر بن نافع، عن أبيه أن رجلاً سأل ابن عمر رضي الله عنهما عمن طلق امرأته ثلاثًا، فتزوجها هذا السائل عن غير مؤامرة منه: أتحل لمطلقها؟ قال ابن عمر: لا، إلابنكاح رغبة، كنا نعد هذا سفاحًا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قلت: رواته كلهم ثقات، ثم قال: ومن طريق ابن وهب: أخبرني الليث عن محمد بن عبد الرحمن المرادي أنه سمع أبا مروان التجيبي يقول: إن رجلاً طلق امرأته ثلاثًا، وكان له جار فأراد أن يحلل بينهما بغير علمهما، فسألت عن ذلك فقال: لا إلا نكاح رغبة في غير مداهنة.

ومن طريق عبد الرزاق، عن سفيان ومعمر، عن الأعمش، عن مالك بن الحارث، عن ابن عباس: من يخادع الله يخدعه

(1)

.

قلت: وصح عن قتادة وإبراهيم والحسن أنهم قالوا: إن نوى واحد من الناكح أو المنكح والمرأة التحليل فلا يصلح، فإن طلقها فلا تحل للذي طلقها، ويفرق بينهما إذا كان نكاحه على وجه التحليل. وعن سعيد بن جبير وابن المسيب وطاوس: المحلل ملعون.

قلت: وروى ابن أبي شيبة، عن هشيم، عن معن، عن إبراهيم، وعن يونس، عن الحسن قالا: إذا هم أحد الثلاثة فسد النكاح.

وحدثنا غندر، عن شعبة: سألت حمادًا عن رجل تزوج امرأة ليحلها لزوجها، فقال: أحب إليَّ أن يفارقها.

وثنا أبو داود، عن حبيب، عن عمر، وعن جابر بن زيد في رجل تزوج امرأة ليحلها لزوجها، وهو لا يعلم، قال: لا يصلح ذلك إذا كان تزوجها ليحلها.

(1)

"المحلى" 10/ 181.

ص: 226

ثنا عائد بن حبيب عن أشعث، عن ابن سيرين قال: لعن المحل والمحلل له.

ثنا حميد بن عبد الرحمن، ثنا موسى بن أبي الفرات، عن عمرو بن دينار أن رجلاً طلق امرأته، فأخرج رجل من ماله شيئًا يتزوجها به ليحلها، فقال: لا.

ثم ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن مثل ذلك فقال: لا، حتى ينكحها مرتغبًا لنفسه، حتى يتزوجها مرتغبًا لنفسه، وإذا فعل ذلك لم تحل له حتى تذوق العسيلة.

ثنا معاذ، ثنا عباد بن منصور: جاء رجل إلى الحسن فقال: إن رجلاً من قومي طلق امرأته ثلاثًا، فندم وندمت، فأردت أن أنطلق فأتزوجها لتحل له. فقال له الحسن: اتق الله ولا (تكون)

(1)

له مسمارًا لحدود الله عز وجل

(2)

.

ثم قال ابن حزم: أما احتجاج المالكيين لما ذكرنا فهو كله عليهم لا لهم، أما عمر فلم يأت عنه بيان من هو المحلل الملعون (الذي يستحق)

(3)

الرجم، فليسوا أولى بهم من غيرهم، ثم إنهم قد خالفوا عمر في ذلك، فلا يرون فيه الرجم، على أنا روينا عن عمر إجازة طلاق التحليل، فبطل تعلقهم به، وكذلك الرواية عن علي وابن مسعود ليس فيها عنهما أيّ المحلليين هو الملعون، ونحن نقول: إن الملعون الذي يعقد نكاحه (معلقًا)

(4)

بذلك فقط.

(1)

كذا بالأصل، وكتب الناسخ فوقها: كذا. وفي "المصنف" تكونن.

(2)

روى هذِه الآثار ابن أبي شيبة 3/ 547 - 548.

(3)

طمس في الأصل والمثبت من (غ).

(4)

كذا في الأصل وفي "المحلى": معلنًا.

ص: 227

وأما الحديث المرفوع: "لعن المحلل

(1)

والمحلل له" فهو حق إلا أنا وسائر خصومنا لا نختلف أن هذا اللفظ منه عليه السلام ليس عامًا لكل محل، ولو كان كذلك -وأعوذ بالله-، لكان كل واهب وكل موهوب، وكل بائع وكل مبتاع، وكل ناكح وكل منكح، داخل في هذا؛ لأن هؤلاء كلهم محلون بشيء كان حرامًا وتحل لهم أشياء كانت حرامًا عليهم.

هذا ما لا شك فيه، فصح يقينًا أنه عليه السلام أراد بعض المحلين وبعض المحلل لهم. والعجب في المخالفين لنا يقولون فيمن تزوج امرأة وفي نيته ألا يمسكها إلا شهرًا ثم يطلقها إلا أنه لم يذكر ذلك في نفس العقد، فإنه نكاح صحيح، وهو مخير، إن شاء طلقها وإن شاء أمسكها، وأنه لو ذكر ذلك في نفس العقد لكان عقدًا فاسدًا مفسوخًا، فأي فرق بين ما أجازوه وبين ما منعوا منه؟ لا سيما وفي حديث رفاعة "أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ " فلم يجعل إرادتها الرجوع إلى الذي طلقها ثلاثًا مانعًا من رجوعها إذا وطئها الثاني، فصح أن المحل الملعون هو الذي تزوجها ليحلها ثم يطلقها، يعقدان النكاح على هذا، فهو حرام مفسوخ أبدًا؛ لأنهما تشارطا شرطًا يلتزمانه، ليس في كتاب الله إباحة التزامه، فلو أخذ كذلك أجرة فهي أجرة حرام وفرض ردها

(2)

.

قال: وروينا عن الشعبي أنه قال: لا بأس بالتحليل إذا لم يأمر به الزوج

(3)

.

قلت: وعند ابن أبي حاتم من حديث موسى بن مُطير، عن أبيه عن رجل من الصحابة، أن رجلاً طلق امرأته ثلاثًا ثم تزوجت زوجًا غيره

(1)

في الأصول: (المحل)، والمثبت من "المحلى" 10/ 183.

(2)

"المحلى" 10/ 183، 184.

(3)

"المحلى" 10/ 82.

ص: 228

ليحلها، فدخل بها الزوج الثاني وطلقها، فلما انقضت عدتها ذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لما أراد زوجها الأول أن يتزوجها، فقال:"أليس سمى لها صداق؟ " قالوا: بلى. قال: "أليس تزوجها بولي؟ " قالوا: بلى.

قال: "أليس تزوجها بشهود؟ " قالوا: بلى. قال: "أليس دخل بها حتى ذاق عسيلتها وذاقت عسيلته؟ " قالوا: بلى. فقال: "ذهب الخداع ذهب الخداع".

قال أبو زرعة: هذا حديث واهٍ، ضعيف، باطل، غير ثابت ولا صحيح، ولا أعلم خلافًا بين أهل العلم بالحديث أنه حديث واهٍ ضعيف، ولا يقوم بمثله حجة

(1)

.

قال ابن حزم: وإلى قول الشعبي ذهب الشافعي وأبو ثور، وقال: المحل الذي يفسد نكاحه هو الذي يعقد عليه في نفس عقد النكاح أنه إنما تزوجها لتحل ثم يطلقها. وأما من لم يشترط ذلك في العقد فهو صحيح لا داخلة فيه، سواء اشترط عليه ذلك قبل العقد أو لم يشترط، نوى ذلك في نفسه أو لم ينو.

قال أبو ثور: وهو مأجور بذلك. وأما أبو حنيفة وأصحابه، فروى بشر بن الوليد، عن أبي يوسف، عن أبي حنيفة مثل قول الشافعي سواء، وروي أيضًا، عن محمد، عن يعقوب، عن أبي حنيفة: إذا نوى الثاني تحليلها للأول لم تحل بذلك، وهو قول أبي يوسف ومحمد.

وروى الحسن بن زياد، عن زفر، عن أبي حنيفة أنه وإن اشترط عليه في العقد أنه إنما تزوجها ليحلها للأول، فإنه نكاح صحيح ويحصنان به ويبطل الشرط، وله أن يمسكها، فإن طلقها حلت للأول

(2)

.

(1)

"علل ابن أبي حاتم" 1/ 427.

(2)

"المحلى" 10/ 182.

ص: 229

وفي "القنية": إذا أتاها الزوج الثاني في دبرها لا تحل للأول، وإن أولج في مكان البكارة حلت للأول، والموت لا يقوم مقام التحليل، وكذا الخلوة.

فصل:

تعلق بحديث تميمة بنت وهب زوج رفاعة -كما قال أبو عمر- قوم شذوا عن طريق السلف والخلف من العلماء في تأجيل العنين فأبطلوه، منهم: ابن عليه وداود، وقالوا: قد شكت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن زوجها ليس معه إلا مثل هدبة الثوب -وهي طرفه وحاشيته- فلم يؤجله، ولا حال بينه وبينها.

قالوا: وهو مرض من الأمراض لا قيام للمرأة به. فخالفوا جماعة الفقهاء والصحابة برأي متوهم، وتركوا النظر المؤدي إلى المعرفة بأن البُغية من النكاح الوطء، وابتغاء النسل، وأن حكمها في ذلك [كحكمه]

(1)

لو وجدها رتقاء وإذا صح طلاق عبد الرحمن لتميمة بطلت النكتة التي فرعوا عليها. وقد قضى بتأجيل العنين عمر، وعثمان، والمغيرة بن شعبة

(2)

.

فصل:

سواء في زواج المرأة بالثاني قويّ النكاح وضعيفه -كما قال أبو عمر- والصبي الذي يطأ مثله، والمراهق، والمجنون، والخصي الذي بقي معه ما يغيبه في الفرج، يحلون المطلقة لزوجها، وتحل الذمية لمسلم بوطء زوج ذمي لها بنكاح، وكذا لو أصابها محرمة أو حائضًا أو صائمة، ولكنه يعصى.

(1)

زيادة يقتضيها السياق من "الاستذكار" 17/ 153.

(2)

"الاستذكار" 16/ 153 - 154.

ص: 230

وذهب ابن الماجشون وطائفة من أهل المدينة من أصحاب مالك وغيرهم إلى قول أبي حنيفة، فإن تزوجها وشرط التحليل، فالشافعي يرى أنه ضرب من المتعة، فإن تزوجها تزويجًا مطلقًا إلا أنه نواه، فله قولان:

أحدهما: كقول مالك.

والآخر: كقول أبي حنيفة، ولم يختلف قوله في الجديد أن النكاح صحيح إذا لم يشترط في العقد

(1)

.

فصل:

منعطف على ما مضى، ذكر ابن المنذر في "الإجماع" أنهم أجمعوا أن من طلق زوجته المدخول بها طلاقًا يملك رجعتها، وهو مريض أو صحيح، فمات أو ماتت قبل أن تنقضي عدتها، أنهما يتوارثان، وأن من طلق زوجته وهو صحيح كل قرء طلقة، ثم مات أحدهما، ألا ميراث للحي منهما من الميت

(2)

.

قال ابن المرابط: لم يختلف أحد أن طلاق المريض جائز ونافذ عليه، وإنما ورثت منه؛ لهربه بالميراث عنها في العلة، وكذا حكم كل هارب من الشرائع والأحكام.

تنبيهات:

تقدمت لا بأس بذكرها: لا بدعة عندنا في جمع الثلاث خلافًا له كما سلف

(3)

.

(1)

"الاستذكار" 16/ 158 - 160.

(2)

"الإجماع" ص 113 (448 - 449).

(3)

انظر: "البيان" 10/ 80.

ص: 231

وأجاز ابن مسعود تفريقها على الأقراء، وبه أخذ أبو حنيفة وأشهب، وإذا أوقع الثلاث بكلمة وقعت، خلافًا لداود ولبعضهم حيث قال: تقع واحدة. وعند مالك في طلاق الفار في مرض الموت: ترث وإن تزوجت أزواجًا، وولدت أولادًا خلافًا للشافعي

(1)

.

فصل:

وقول عويمر: (أرأيت رجلًا وجد مع امرأته)، إلى آخره. دال على وجوب قتل من قتل رجلًا وادعى أنه وجده مع امرأته، وبه قال عامة فقهاء الأمصار وقوله:("قد أنزل فيك وفي صاحبتك") دال على أنه أول لعان نزل فيه ذلك، وقد سلف الخلاف فيه وفي لعان هلال بن أمية.

(1)

انظر: "المدونة" 2/ 132، "الوسيط" 3/ 279.

ص: 232

‌5 - باب مَنْ خَيَّرَ نِسَاءَهُ

وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ} الآية [الأحزاب: 28].

5262 -

حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ: خَيَّرَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَاخْتَرْنَا اللهَ وَرَسُولَهُ، فَلَمْ يَعُدَّ ذَلِكَ عَلَيْنَا شَيْئًا. [5263 - مسلم: 1477 - فتح 9/ 367].

5263 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَامِرٌ، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنِ الْخِيَرَةِ، فَقَالَتْ: خَيَّرَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، أَفَكَانَ طَلَاقًا؟ قَالَ مَسْرُوقٌ: لَا أُبَالِي أَخَيَّرْتُهَا وَاحِدَةً أَوْ مِائَةً بَعْدَ أَنْ تَخْتَارَنِي. [انظر: 2563 - مسلم: 1447 - فتح 9/ 367].

ثم ساق حديث مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: خَيَّرَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَاخْتَرْنَا الله وَرَسُولَهُ، فَلَمْ يَعُدَّ ذَلِكَ عَلَيْنَا شَيْئًا.

وعنه أيضًا سألها عن الخيرة فَقَالَتْ: خَيَّرَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، أَفَكَانَ طَلَاقًا؟ قَالَ مَسْرُوقٌ: لَا أُبَالِي أَخَيَّرْتُهَا وَاحِدَةً أَوْ مِائَةً بَعْدَ أَنْ تَخْتَارَنِي.

قد روي مثل قول مسروق عن عمر، وعلي، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وابن عباس، وعائشة رضي الله عنهم، ومن التابعين عطاء، وسليمان بن يسار، وربيعة، والزهري، كلهم قالوا: إذا اختارت زوجها فليس بشيء، وهو قول أئمة الفتوى

(1)

.

وروي عن علي وزيد بن ثابت: إن اختارت (زوجها)

(2)

فواحدة،

(1)

انظر: هذِه الآثار في "مصنف عبد الرزاق" 7/ 8 - 10 وابن أبي شيبة 4/ 91، "الاستذكار" 17/ 167.

(2)

في الأصل: نفسها، والمثبت هو الصواب وهو الموافق لما قبله.

ص: 233

وهو قول الحسن البصري

(1)

، والأول هو الصحيح لحديث عائشة رضي الله عنها، وقد أوضحنا ذلك في تفسير سورة الأحزاب بزيادة.

والتخيير -كما سلف- هو أن يجعل الطلاق إلى المرأة، فإن لم تمتثل فلا شيء عليه كغيرها. والفرق بين التخيير والتمليك عند مالك أن قول الرجل: قد ملكتك. أي: قد ملكتك ما جعل الله لي من الطلاق واحدة، أو اثنتين أو ثلاثًا، فلما جاز أن يملكها بعض ذلك دون بعض وادعى ذلك كان القول قوله مع يمينه.

وقال في الخيار: إذا اختارت نفسها المدخول بها فهو الطلاق كله، وإن أنكر زوجها فلا (تكن)

(2)

وإن اختارت واحدة فليس بشيء، وإنما الخيار البتات وإما أخذته، وإما تركته

(3)

؛ لأن معنى التخيير: التسريح، قال تعالى:{فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ} [الأحزاب: 28] فمعنى التسريح: البتات؛ لأن الله تعالى قال: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} والتسريح بإحسان هي الثالثة، كما سلف. وقال جماعة: أمرك بيدك، واختاري سواء.

قال الشعبي: هو في قول عمر وعلي وزيد بن ثابت سواء

(4)

، وهو قول النخعي وحماد والزهري وسفيان والشافعي وأبي عبيد

(5)

.

فصل:

اختلفت المالكية: هل له أن يناكرها في التخيير؟ فقال مالك وأكثر

(1)

انظر هذِه الآثار في "مصنف عبد الرزاق" 7/ 9، 10.

(2)

كذا في الأصل، والذي في "الاستذكار" 17/ 167:(تكره له).

(3)

انظر: "الاستذكار" 17/ 167.

(4)

انظر هذِه الآثار في "مصنف ابن أبي شيبة" 4/ 92.

(5)

انظر: "الإشراف" 1/ 157.

ص: 234

أصحابه: لا مناكرة له إذا طلقت ثلاثًا.

وقال ابن الجهم وسحنون: له أن يناكرها. واختلفا ما الذي يكون عليه، فقال سحنون: واحدة رجعية كالتمليك، وقال ابن الجهم: بائنة.

قال ابن سحنون: وأكثر أصحابنا يقولون به. ومثله حكى ابن خويزمنداد في الخيار عن مالك أن يحمله على ذلك

(1)

.

فرع: فإن خيرها فاختارت دون الثلاث، فقال مالك: ليس بشيء، وذلك إبطال لحقها، وقال عبد الملك: إنه اختيار الثلاث.

وقال في كتاب محمد نحوه: إذا قضت بواحدة كانت البتة، فإن أرادت بعد ذلك أن تقضي على قول من أسقط ما اختارته، فالجماعة على أن ليس لها ذلك، إلا أشهب قال: لها أن ترجع تقضي. فالثلاث يحصل من هذا؛ لأن التخيير عند مالك ثلاث، فلا يناكرها، والتمليك له أن يناكرها ويحلف إذا أراد رجعتها عدا الصحيح.

وقال محمد: يحلف مكانه. وقال ابن سحنون: هما سواء يناكرها فيها

(2)

. وقال الداودي: قال قوم في التخيير هما سواء؛ لقول مالك في التمليك. وقالوا في التمليك كقوله في التخيير.

فصل:

وقول مسروق: لا أبالي، إلى آخره. فيه تقديم وتأخير، وذلك أنه قال: لا أبالي بعد أن تختاري أكنت خيرتها واحدة أو مائة، ذكره ابن التين.

فائدة: الخيرة: بكسر الخاء وفتح الياء، وهو من الخيار.

(1)

انظر: "عقد الجواهر الثمينة" 2/ 515 - 516.

(2)

انظر: "النوادر والزيادات" 5/ 213 - 214، "عقد الجواهر الثمينة" 2/ 516.

ص: 235

‌6 - باب إِذَا قَالَ: فَارَقْتُكِ أَوْ سَرَّحْتُكِ أَوِ الْخَلِيَّةُ أَوِ الْبَرِيَّةُ أَوْ مَا عُنِيَ بِهِ الطَّلَاقُ، فَهُوَ عَلَى نِيَّتِهِ

وَقَوْلُ اللهِ عز وجل: {وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب: 49] وَقَالَ: {وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب: 28]، وَقَالَ:{فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] وَقَالَ: {أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2].

وَقَالَتْ عَائِشَةُ قَدْ عَلِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ أَبَوَيَّ لَمْ يَكُونَا يَأْمُرَانِي بِفِرَاقِهِ. [فتح 9/ 369].

هذا التعليق تقدم عنده مسندًا، واختلف قول مالك فيمن قال لامرأته: قد فارقتك، أو سرحتك، أو خليت سبيلك. فروى عيسى عن ابن القاسم أنها كلها ثلاث في التي بني بها، إلا أن ينوي أقل فله نيته ويحلف، وفي التي لم يبن بها حتى ينوي أقل

(1)

.

قال ابن المواز: وأصح قوليه في ذلك في التي لم يبن بها واحدة، إلا أن يريد أكثر.

وقاله ابن القاسم وابن عبد الحكم

(2)

.

وقال أبو يوسف في قوله: فارقتك، أو خلعتك، أو خليت سبيلك، أو لا ملك لي عليك: إنها ثلاثًا ثلاثًا

(3)

.

(1)

انظر: "النوادر والزيادات" 5/ 153 وفيه: وفي التي لم يبن بها حتى ينوي أكثر.

(2)

انظر: "النوادر والزيادات" 5/ 152.

(3)

انظر: "الاستذكار" 17/ 48.

ص: 236

واختلفوا في الخلية والبرية والبائن، فروي عن عليّ أنها ثلاث، وبه قال الحسن البصري

(1)

، وروي عن (ابن عمر)

(2)

في الخيلة والبرية والبتة: هي ثلاث

(3)

. وعن زيد بن ثابت في البرية: ثلاث.

وقال ابن أبي ليلى في الخلية والبرية والبائن: ثلاث في المدخول بها

(4)

. وقال مالك أيضًا كذلك

(5)

، قال (زيد بن أرقم)

(6)

في التي لم يدخل بها: تطليقة واحدة أراد أم ثلاثًا؟ فإن قال: واحدة كان خاطبًا من الخطاب، وقاله ربيعة

(7)

.

وقال الثوري وأبو حنيفة نيته في ذلك، فإن نوى ثلاثًا أو واحدة فواحدة بائنة، وهي أحق بنفسها، وإن نوى ثنتين فهي واحدة

(8)

.

وقال الشافعي: هو في ذلك كله غير مطلق حتى يقول: أردت بمخرج الكلام مني طلاقًا فيكون ما نواه، فإن نوى دون الثلاث كان رجعيًا، ولو طلقها واحدة بائنة كانت رجعية

(9)

.

(1)

رواهما عبد الرزاق 6/ 356، 359.

(2)

في الأصل: عمر والمثبت هو الصواب كما في "مصنف عبد الرزاق"، و"شرح ابن بطال" 7/ 398، أما عمر فقد وري عنه أنه قال: هي واحدة "مصنف عبد الرزاق" 6/ 356 (11173).

(3)

رواه عبد الرزاق 6/ 357 (11178).

(4)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 2/ 422.

(5)

انظر: "الاستذكار" 17/ 48.

(6)

كذا في الأصل وهو خطأ ظاهر، فان باقي الكلام هو لمالك كما في "الموطأ" ص 341 باستثناء لفظة:(يُدين) فقد حرفت إلى (زيد) وأصل الكلام: يدين في التي لم يدخل بها، .. إلى آخره.

(7)

انظر: "الموطأ" ص 341، "الإشراف" 1/ 147.

(8)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 2/ 241.

(9)

"الأم" 5/ 241.

ص: 237

وقال إسحاق: هو إلى نيته يدين

(1)

. وقال أبو ثور: هي تطليقة رجعية، ولا يسأل عن نيته في ذلك

(2)

. ويشبه أن تكون كما قال ابن بطال: أن يكون البخاري أشار إلى قول الكوفيين والشافعي وإسحاق في قوله: أو ما عني به الطلاق فهو على نيته.

والحجة في ذلك أن كل كلمة تحتمل أن تكون طلاقًا وغير طلاق، فلا يجوز أن يلزم بها الطلاق، إلا أن يقر المتكلم أنه أراد بها الطلاق، فيلزمه ذلك بإقراره، ولا يجوز إبطال النكاح؛ لأنهم قد أجمعوا على صحته بيقين.

وقوله: (برئت مني، أو برئت منك). هو من البرية، وكان بعض أصحاب مالك يرى المباراة من البرية، ويجعلها ثلاثًا وتحصيل (مذهب)

(3)

[مالك]

(4)

أن المباراة من باب الصلح والفدية والخلع، وذلك كله واحدة عندهم بائنة

(5)

.

والحجة لمالك في قوله: فارقتك، وسرحتك، وخلية، وبرية، وبائن، أنها ثلاث في المدخول بها، أن هذِه الألفاظ في لغة العرب مستعملة في عرفهم للإبانة وقطع العصمة كالثلاث، بل هذِه الألفاظ أشهر عندهم وأكثر استعمالًا من قولهم: أنت طالق.

ولم يرد الشرع بخلافها، وإنما ورد أن يفرق عدد الطلاق، فإن ترك ذلك وأوقع الأصل وقع

(6)

، ولا يسلم لهم ذلك.

(1)

انظر: "شرح ابن بطال" 7/ 399.

(2)

انظر: "الإشراف" 1/ 147.

(3)

ورد فوق كلمة (مذهب) كلمة (كذا)؛ أي أن الناسخ قد وجدها هكذا.

(4)

زيادة يقتضيها السياق، من "الاستذكار" 17/ 50.

(5)

انظر: "الاستذكار" 17/ 50.

(6)

انظر: "شرح ابن بطال" 7/ 399.

ص: 238

فصل:

قول عائشة السالف فيه حجة لمن قال: إنه إذا خير الرجل امرأته أو ملكها، أن لها أن تقضي في ذلك وإن افترقا من مجلسهما. روي هذا عن الحسن والزهري، وقاله مالك. وروي عن مالك أيضًا أن لها أن تقضي ما لم يوقعها السلطان.

وكان قول مالك الأول أن اختيارها على المجلس، وهو اختيار ابن القاسم، وهو قول الكوفيين والثوري والأوزاعي والليث والشافعي وأبي ثور.

قال أبو عبيد: والذي عندنا في هذا اتباع السنة في عائشة رضي الله عنها في هذا الحديث، حين جعل لها التأخير إلى أن تستأمر أبويها، ولم يجعل قيامها من مجلسها خروجًا من الأمر.

وقال المروزي

(1)

: هذا أصح الأقاويل عندي، وقاله ابن المنذر والطحاوي

(2)

، وبهذا نقول؛ لأنه عليه السلام قد جعل لها الخيار في المجلس وبعده، حتى تستأمر أبويها، ولم يقل: فلا تستعجلي حتى تستأمري أبويك في مجلس.

فرع:

الصريح لا حاجة فيه إلى النية، وهو ثلاثة: الطلاق، والفراق، والسراح. وفيهما قول.

وخالف أبو حنيفة في قوله: أنا منك طالق

(3)

.

(1)

هو: محمد بن نصر المروزي.

(2)

انظر هذِه المسألة: في "مختصر اختلاف العلماء" 2/ 422 - 423، "الاستذكار" 17/ 167 - 168، "الإشراف" 1/ 157.

(3)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 2/ 427 - 428.

ص: 239

ودليلنا عليه قوله: أنا منك حرام وبائن. وعند المالكية خلاف في أن الفراق ثلاث أو واحدة أو ثلاث، فيمن دخل بها

(1)

.

فرع:

عند المالكية تقسم الكناية إلى ظاهرة ومحتملة، فالظاهرة: ما جرى العرف بأن يطلق بها في اللغة والشرع، مثل: أنت خلية وبرية، وبائن، وبتلة، وحبلك على غاربك، وأنت عليَّ حرام.

وهذِه الألفاظ في المدخول بها ثلاث، ولا تقبل منه إن لم يرد الطلاق، ولا أنه أراد دون الثلاث، هذا قول القاضي في "معونته"

(2)

.

وقال ابن القصار: هذِه الألفاظ من صريح الطلاق، غير أن بعضها آكد من بعض.

وأما المحتملة: كقوله: اذهبي، انصرفي، واخرجي، اغربي. فهذا يقبل منه ما يدعي أنه أراد، من طلاق وغيره، من قليل العدد وكثيره.

وضرب ثالث: هو ما ليس من ألفاظ الطلاق مما يستثنى وشبهه، فإن: أراد به الطلاق، فقيل: يكون طلاقًا. وقيل: لا

(3)

.

وخالف الشافعي في الكنايات الظاهرة إذا قال: أردت بها الطلاق، أو أردت دون الثلاث.

فقال: يقبل قوله في دينك. ودليل المالكية ما سلف أن هذِه الألفاظ تتضمن إيقاع الطلاق بهذِه الصفات، كأنه قال: أنت طالق تحرمين به، وتبينين به.

(1)

انظر: "جامع الأمهات" ص 170.

(2)

"المعونة" 1/ 570.

(3)

"المعونة" 1/ 570.

ص: 240

واختلف في البتة، وحبلك على غاربك هل ينوي؟ على قولين لهم، قال مالك في الأول: نعم. وخالف ابن القصار، وفي "المدونة" في الثاني: لا

(1)

. وفي كتاب محمد خلافه، وهذا إذا لم يكن دخول.

وقال أشهب في كتاب أبي الفرج: ينوي الخلية والبرية وإن كان بتًا.

وقال محمد بن عبد الحكم في حبلك على غاربك وشأنك: بها واحدة

(2)

.

وقال مالك عند ابن خويزمنداد في الحرإم: إنها واحدة بائنة وإن دخل بها. وقال أبو مصعب: هي واحدة إن لم يدخل بها

(3)

.

(1)

"المدونة" 2/ 282.

(2)

انظر: "النوادر والزيادات" 5/ 151، 152.

(3)

انظر: "عقد الجواهر الثمينة" 2/ 511.

ص: 241

‌7 - باب مَنْ قَالَ لاِمْرَأَتِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ

وَقَالَ الْحَسَنُ: نِيَّتُهُ. وَقَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: إِذَا طَلَّقَ ثَلَاثًا فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ. فَسَمَّوْهُ حَرَامًا بِالطَّلَاقِ وَالْفِرَاقِ، وَلَيْسَ هَذَا كَالَّذِى يُحَرِّمُ الطَّعَامَ؛ لأَنَّهُ لَا يُقَالُ لِطَعَامِ الْحِلِّ حَرَامٌ، وَيُقَالُ لِلْمُطَلَّقَةِ حَرَامٌ، وَقَالَ فِي الطَّلَاقِ ثَلَاثًا: لَا تَحِلُّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ.

5264 -

وَقَالَ اللَّيْثُ عَنْ نَافِعٍ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا سُئِلَ عَمَّنْ طَلَّقَ ثَلَاثًا، قَالَ: لَوْ طَلَّقْتَ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَنِي بِهَذَا، فَإِنْ طَلَّقْتَهَا ثَلَاثًا حَرُمَتْ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَكَ. [انظر: 4908 - مسلم: 1471 - فتح 9/ 371].

5265 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: طَلَّقَ رَجُلٌ امْرَأَتَهُ، فَتَزَوَّجَتْ زَوْجًا غَيْرَهُ فَطَلَّقَهَا، وَكَانَتْ مَعَهُ مِثْلُ الْهُدْبَةِ فَلَمْ تَصِلْ مِنْهُ إِلَى شَىْءٍ تُرِيدُهُ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ طَلَّقَهَا، فَأَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ زَوْجِي طَلَّقَنِي، وَإِنِّى تَزَوَّجْتُ زَوْجًا غَيْرَهُ فَدَخَلَ بِي، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ إِلاَّ مِثْلُ الْهُدْبَةِ فَلَمْ يَقْرَبْنِي إِلاَّ هَنَةً وَاحِدَةً، لَمْ يَصِلْ مِنِّي إِلَى شَيْءٍ، فَأَحِلُّ لِزَوْجِي الأَوَّلِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«لَا تَحِلِّينَ لِزَوْجِكِ الأَوَّلِ حَتَّى يَذُوقَ الآخَرُ عُسَيْلَتَكِ، وَتَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ» . [انظر: 2639 - مسلم: 1433 - فتح 9/ 371].

(قال الحَسَنُ: نِيَّتُهُ) هذا ذكره عبد الرزاق، عن معمر، عن عمرو عنه قال: إذا نوى طلاقًا فهو طلاق، وإلا فهو يمين

(1)

، وهو قول ابن مسعود

(2)

وابن عمر.

ثم قال: وَقَالَ أَهْلُ العِلْمِ: إِذَا طَلَّقَ ثَلَاثًا فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ. فَسَمَّوْهُ

(1)

عبد الرزاق 6/ 402 (11373).

(2)

رواه سعيد في "سننه" 1/ 389 (1698).

ص: 242

حَرَامًا بِالطَّلَاقِ وَالْفِرَاقِ، وَلَيْسَ هذا كَالَّذِي يُحَرِّمُ الطَّعَامَ؛ لأَنَّهُ لَا يُقَالُ لِطَعَامِ الحِلِّ حَرَامٌ، وَيُقَالُ لِلْمُطَلَّقَةِ حَرَامٌ، وسيأتي بيان ما ذكره وَقَالَ تعالى فِي الطَّلَاقِ ثَلَاثًا:{فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} .

وَقَالَ اللَّيْثُ، عَنْ نَافِعٍ: كَانَ ابن عُمَرَ إِذَا سُئِلَ عَمَّنْ طَلَّقَ ثَلَاثًا، قَالَ: لَوْ طَلَّقْتَ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَنِي بهذا، فَإِنْ طَلَّقْتَهَا ثَلَاثًا حَرُمَتْ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَكَ.

هذا التعليق أخرجه مسلم، عن يحيى وغيره، عن الليث

(1)

.

وقوله: (إنه أمرني بهذا). إشارة إلى أمره بالمراجعة

(2)

؛ لأجل الحيض، وإن طلقت ثلاثًا لم تكن لك مراجعة إليها لأنها لا تحل لك إلا بعد زوج، وكذا جاء في رواية أخرى، كما نبه عليه القرطبي

(3)

.

وأما رواية من روى عن ابن عمر: طلق ثلاثًا، فوهم. وكأن البخاري أراد بإيراد هذا أن فيه لفظة: حرمت عليك. وإلا فلا مناسبة له في الباب.

وفي قوله: (مرة أو مرتين). دلالة على أنه لا بدعة في ذلك.

ثم ذكر حديث عائشة رضي الله عنها في ذوق العسيلة، ولعله أورده؛ لأنه فيه:"لا تحلين لزوجك الأول" وقد سلف.

وقولها: (لم يقربني إلا هنة واحدة) أي: لم يطأها إلا مرة، يقال: هنى، يعني: أتى، إذا غشى امرأته، يقولون: أهنت فهنت، كناية عن الجماع.

(1)

مسلم (1471/ 1).

(2)

العبارة بها سقط، منشؤه سبق النظر وتتمة الكلام بعدها كما في "المفهم": فكأنه قال للسائل: إن طلقت تطليقة أو تطليقتين فأنت مأمور بالمراجعة

(3)

"المفهم" 4/ 231.

ص: 243

وقد أسلفنا مذاهب العلماء فيمن قال لامرأته: أنت علي حرام، في سورة التحريم، ووصلناها إلى أربعة عشر مذهبًا، واقتصر ابن بطال منها على ثمانية أقوال، سوى اختلاف قول مالك، قالت طائفة:(ثلاث)

(1)

، ولا يسئل عن نيته. روي عن علي وزيد بن ثابت

(2)

وابن عمر وبه قال الحسن البصري في روايته والحكم بن عتيبة

(3)

وابن أبي ليلى ومالك، وروي عن مالك وأكثر أصحابه فيمن قال لامرأته قبل الدخول ذلك، أنها ثلاث، إلا أن يقول: نويت واحدة

(4)

.

وقال عبد العزيز بن أبي سلمة: هي واحدة

(5)

إلا أن يقول: أردت ثلاثًا. وقال عبد الملك: لا ينوي فيها، وهي ثلاث على كل حال، كالمدخول بها

(6)

.

وقال سفيان: إن نوى ثلاثًا فثلاث، وإن نوى واحدة فهي بائنة، وإن نوى يمينًا فهو يمين يكفرها، وإن لم ينو فُرقة ولا يمينًا فهي كذبة

(7)

، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، غير أنهم قالوا: إن نوى اثنتين فهي واحدة، فإن لم ينو طلاقًا فهو يمين، وهو مولٍ

(8)

.

وقال ابن مسعود: إن نوى طلاقًا فهي تطليقة، وهو أملك بها، وإن لم ينو طلاقًا فهي يمين يكفرها.

(1)

في الأصل ثالثة، والمثبت من (غ).

(2)

"مصنف عبد الرزاق" 6/ 403 (11382).

(3)

"مصنف عبد الرزاق" 6/ 403 (11383).

(4)

انظر: "المدونة" 2/ 281، "الإشراف" 1/ 152.

(5)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 2/ 413.

(6)

انظر: "الاستذكار" 17/ 39.

(7)

"مصنف عبد الرزاق" 6/ 405 (11391).

(8)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 2/ 413.

ص: 244

وعن عمر مثله، وبه قال النخعي وطاوس

(1)

.

وقال الشافعي: ليس قوله: أنت حرام بطلاق حتى ينويه، فإذا أراد الطلاق فهو ما أراد من الطلاق، وإن قال: أردت تحريمًا بلا طلاق، كان عليه كفارة يمين. قال: وليس بمولٍ

(2)

.

وقال ابن عباس: يلزمه كفارة ظهار، وهو قول أبي قلابة وسعيد بن جبير

(3)

، وبه قال أحمد

(4)

. واحتج ابن عباس بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ} [التحريم: 1] ثم قال: عليه أغلظ الكفارات، عتق رقبة. وقيل: إنها يمين تُكَفر.

روي عن الصديق وعمر وابن مسعود وعائشة وابن عباس وسعيد بن المسيب وعطاء وطاوس وجماعة

(5)

، وبه قال الأوزاعي وأبو ثور

(6)

.

واحتج أبو ثور بأن الحرام ليس من ألفاظ الطلاق بقوله تعالى: في {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ} ولم يوجب به طلاقًا، وكان حرم على نفسه مارية، ثم قال تعالى:{قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2]، وقيل: لا شيء فيه، ولا كفارة لتحريم (الماء)

(7)

؛ لقوله تعالى: {لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ} [المائدة: 87] روي عن الشعبي ومسروق وأبي سلمة، قال مسروق: ما أبالي حرمت امرأتي أو جفنة من ثريد

(8)

.

(1)

انظر: "مصنف عبد الرزاق" 6/ 401.

(2)

انظر: "مختصر المزني" 4/ 73، 74، 76.

(3)

عبد الرزاق 6/ 404 (11385، 11387).

(4)

انظر: "المغني" 10/ 396.

(5)

انظر هذِه الآثار في "المصنف" 6/ 399، 400، 401، و"سنن سعيد" 1/ 389 (1695).

(6)

انظر: "الإشراف" 1/ 452.

(7)

كذا بالأصل ولعلها (الإماء)، وكل له وجه. والله أعلم.

(8)

عبد الرزاق 6/ 402 (11375، 11377).

ص: 245

وقال (الشعبي)

(1)

: أنت عليَّ حرام، أهون من نعلي

(2)

. وقال أبو سلمة: ما أبالي، حرمتها أو حرمت الفرات

(3)

. وهو شذوذ، كما قال ابن بطال.

وعليه بوَّب البخاري هذا الباب، وذهب إلى من حرم زوجته أنها ثلاث، كإجماع العلماء على مثله في الطلاق الثلاث، وإليه أشار البخاري في حديث رفاعة؛ لأنه بت طلاقها، فلم تحل له إلا بعد زوج، فحرمت عليه مراجعتها، فكذلك من حرم.

ومن قال: تلزمه كفارة الظهار فليس بالبين؛ لأن الله تعالى إنما جعل كفارة الظهار للمظاهر خاصة.

وقال الطحاوي: من قال: تلزمه كفارة الظهار، محمولا على أنه إن أراد الظهار كان ظهارًا، وإن أراد اليمين كان يمينًا مغلظة، على ترتيب كفارة الظهار: عتق رقبة، أو صيام شهرين متتابعين، أو إطعام ستين مسكينًا.

وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد: لا يكون ظهارًا، وإن أراده

(4)

.

وأما قول الحسن: له نيته. فهي رواية أخرى، ذكرها عبد الرزاق

(5)

كما سلف.

(1)

في الأصول: الشافعي، والمثبت هو الصواب كما في "مصنف عبد الرزاق".

(2)

"مصنف عبد الرزاق" 6/ 403 (11378).

(3)

عبد الرزاق 6/ 402 (11276).

(4)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 2/ 415.

(5)

"المصنف" 6/ 402 (11373)، وانظر:"شرح ابن بطال" 7/ 402 - 403.

ص: 246

‌8 - باب {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1]

5266 -

حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ صَبَّاحٍ، سَمِعَ الرَّبِيعَ بْنَ نَافِعٍ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ يَعْلَى بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: إِذَا حَرَّمَ امْرَأَتَهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ. وَقَالَ: {لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]. [انظر: 4911 - مسلم: 1473 - فتح 9/ 374].

5267 -

حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ صَبَّاحٍ، حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: زَعَمَ عَطَاءٌ أَنَّهُ سَمِعَ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَمْكُثُ عِنْدَ زَيْنَبَ ابْنَةِ جَحْشٍ، وَيَشْرَبُ عِنْدَهَا عَسَلاً، فَتَوَاصَيْتُ أَنَا وَحَفْصَةُ أَنَّ أَيَّتَنَا دَخَلَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَلْتَقُلْ: إِنِّي أَجِدُ مِنْكَ رِيحَ مَغَافِيرَ، أَكَلْتَ مَغَافِيرَ؟ فَدَخَلَ عَلَى إِحْدَاهُمَا فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ:«لَا، بَلْ شَرِبْتُ عَسَلاً عِنْدَ زَيْنَبَ ابْنَةِ جَحْشٍ وَلَنْ أَعُودَ لَهُ» . فَنَزَلَتْ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} إِلَى {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ} [التحريم: 4] لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ} [التحريم: 3] لِقَوْلِهِ «بَلْ شَرِبْتُ عَسَلاً» . [انظر: 4912 - مسلم: 1474 - فتح 9/ 374].

5268 -

حَدَّثَنَا فَرْوَةُ بْنُ أَبِى الْمَغْرَاءِ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ الْعَسَلَ وَالْحَلْوَاءَ، وَكَانَ إِذَا انْصَرَفَ مِنَ الْعَصْرِ دَخَلَ عَلَى نِسَائِهِ، فَيَدْنُو مِنْ إِحْدَاهُنَّ، فَدَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ، فَاحْتَبَسَ أَكْثَرَ مَا كَانَ يَحْتَبِسُ، فَغِرْتُ فَسَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ، فَقِيلَ لِي: أَهْدَتْ لَهَا امْرَأَةٌ مِنْ قَوْمِهَا عُكَّةً مِنْ عَسَلٍ، فَسَقَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مِنْهُ شَرْبَةً، فَقُلْتُ: أَمَا وَاللهِ لَنَحْتَالَنَّ لَهُ. فَقُلْتُ لِسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ: إِنَّهُ سَيَدْنُو مِنْكِ، فَإِذَا دَنَا مِنْكِ فَقُولِي: أَكَلْتَ مَغَافِيرَ؟ فَإِنَّهُ سَيَقُولُ لَكِ لَا. فَقُولِي لَهُ: مَا هَذِهِ الرِّيحُ الَّتِي أَجِدُ مِنْكَ؟ فَإِنَّهُ سَيَقُولُ لَكِ: سَقَتْنِي حَفْصَةُ شَرْبَةَ عَسَلٍ، فَقُولِي لَهُ: جَرَسَتْ نَحْلُهُ الْعُرْفُطَ. وَسَأَقُولُ ذَلِكَ، وَقُولِى أَنْتِ يَا صَفِيَّةُ ذَاكِ. قَالَتْ تَقُولُ سَوْدَةُ: فَوَاللهِ مَا هُوَ إِلاَّ أَنْ قَامَ عَلَى

ص: 247

الْبَابِ، فَأَرَدْتُ أَنْ أُبَادِيَهُ بِمَا أَمَرْتِنِي بِهِ فَرَقًا مِنْكِ، فَلَمَّا دَنَا مِنْهَا قَالَتْ لَهُ سَوْدَةُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَكَلْتَ مَغَافِيرَ؟ قَالَ: «لَا» . قَالَتْ: فَمَا هَذِهِ الرِّيحُ الَّتِي أَجِدُ مِنْكَ. قَالَ: «سَقَتْنِي حَفْصَةُ شَرْبَةَ عَسَلٍ» . فَقَالَتْ: جَرَسَتْ نَحْلُهُ الْعُرْفُطَ فَلَمَّا دَارَ إِلَيَّ قُلْتُ لَهُ نَحْوَ ذَلِكَ، فَلَمَّا دَارَ إِلَى صَفِيَّةَ قَالَتْ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَلَمَّا دَارَ إِلَى حَفْصَةَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَا أَسْقِيكَ مِنْهُ؟ قَالَ:«لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ» . قَالَتْ: تَقُولُ سَوْدَةُ، وَاللهِ لَقَدْ حَرَمْنَاهُ. قُلْتُ لَهَا: اسْكُتِي. [انظر: 4912 - مسلم: 1474 - فتح 9/ 374].

ذكر فيه أحاديث:

أحدها:

حديث معاوية بن سلام، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ يَعْلَى بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ ابن عَبَّاسٍ يَقُولُ: إِذَا حَرَّمَ امْرَأَتَهُ لَيْسَ بِشَيء. وَقَالَ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} . وقد سلف في سورة التحريم.

ثانيها:

حديث عائشة رضي الله عنها في قصة العسل. وقد سلفت هناك أيضًا.

ثم ساقه من حديث عائشة أيضًا مطولًا وفيه أن قائل ذلك -أعني: أكلت مغافير- عائشة وسودة وفي آخره: فَلَمَّا دَارَ إلى صَفِيَّةَ قَالَتْ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَلَمَّا دَارَ إِلَى حَفْصةَ قالت: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَا أَسْقِيكَ مِنْهُ؟ قَالَ:"لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ". قَالَتْ: تَقُولُ سَوْدَةُ: والله لَقَدْ حَرَمْنَاهُ. قُلْتُ لَهَا: اسْكُتِي. وسلف في النكاح

(1)

، وأخرجه مسلم أيضًا

(2)

.

(1)

سلف برقم (5216).

(2)

مسلم (1474).

ص: 248

أما ما ذكره البخاري عن ابن عباس: إِذَا حَرَّمَ الرجل امْرَأَتَهُ لَيْسَ بِشَئ. يعني: فليس مؤبدًا تحريما وعليه كفارة يمين. وروي عنه أن فيه كفارة الظهار، وقد سلف.

وقال الطحاوي: روي في قوله تعالى: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ} [التحريم: 1] أنه عليه السلام قال: "لن أعود لشرب العسل" ولم يذكر يمينًا، فالقول هو الموجب للكفارة، إلا أنه يوجب أن يكون قد كان هناك يمين لقوله تعالى:{قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] فدل هذا أنه حلف مع ذلك التحريم

(1)

.

وقال زيد بن أسلم في هذِه الآية: إنه حلف عليه السلام أن لا يطأ مارية أم ولده، ثم قال بعد ذلك:"هي حرام" ثم أمره الله فكفر، فكانت كفارة ليمينه لا لتحريمه.

قال ابن المنذر: والأخبار دالة علي أنه عليه السلام كان حرم علي نفسه شربة من عسل، وحلف مع ذلك، فإنما لزمته الكفارة ليمينه لا لتحريمه ما أحل الله له، فلا حجة لمن أوجب فيه كفارة يمين.

قال المهلب: وهذِه الآية لم تحرم مالم يشرع فيه التحريم من المطاعم وغيرها والإماء، وأما الزوجات فقد شرع الله التحريم فيهن بالطلاق، وبألفاظ أخر مثل الظهار وغيره، فالتحريم فيهن بأي لفظ فهم أو عبر عنه لازم؛ لأنه مشروع، وغير ذلك من الإماء والأطعمة والأشربة وسائر ما يملك ليس فيه شرع على التحريم، بل التحريم فيه منهي عنه؛ لقوله تعالى:{لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ} [التحريم: 1] وهذِه نعمة أنعم الله بها علي محمد عليه أفضل الصلاة والسلام وأمته،

(1)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 2/ 415.

ص: 249

بخلاف ما كان في سائر الأديان، ألا ترى أن إسرائيل حرم علي نفسه أشياء، وكان نص القرآن (يعطي)

(1)

أن من حرم علي نفسه شيئًا، أن ذلك التحريم يلزمه، وقد أحل الله ذلك الوفاء إذا كان يمينًا بالكفارة، فإن لم يكن بيمين لم يلزم ذلك التحريم، إنعامًا من الله علينا وتخفيفًا عنا.

وكذلك ألزمنا كل طاعة جعلناها لله علي أنفسنا، كالمشي إلى البيت الحرام، ومسجد المدينة، والأقصى، وجهاد الثغور، والصوم، وشبه ذلك، (الوفاء)

(2)

هذا لما فيه لنا من المنفعة، ولم يلزم ما حرمناه علي أنفسنا، ألا ترى قوله تعالى:{لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} [التحريم: 1] فلم يجعل لنبيه أن يحرم إلا ما حرم الله {وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التحريم: 1] أي: قد غفر لك ذلك التحريم.

وفيه من الفقه: أن إفشاء السر وما تفعله المرأة مع زوجها ذنب ومعصية يجب التوبة منه؛ لقوله تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللهِ} [التحريم: 4] ويحتمل: أن تتوبا إلى الله من هذا الذنب، ومن التظاهر عليه في المغيرة والتواطؤ علي منعه ما كان له من ذلك الشراب.

وفيه: دليل أن ترك أكل الطيبات لمعنى من معاني الدنيا لا يحل، فإن كان ورعًا وتأخيرًا لها إلى الآخرة كان محمودًا.

والمغافير والعرفط سلفا في سورة التحريم.

وعبارة ابن بطال هنا: المغافير شبيه بالصمغ، يكون في الرمث، فيه حلاوة تطيب نكهة آكله، يقال: أغفر الرمث: إذا ظهر فيه. واحدها:

(1)

من (غ).

(2)

في (غ)، و"شرح ابن بطال" 7/ 405: ألزمنا.

ص: 250

مُغفور. وقال "صاحب العين": جرست النحل العسل، تجرسه جرسًا، وهو: لحسها إياه

(1)

.

والعرفط: شجر العضاه، والعضاه: كل شجر له شوك، وإذا استكت به كانت له رائحة حسنة، تشبه رائحة طيب النبيذ

(2)

وقد أسلفنا خلاف ما ذكره، فإن رائحته كريهة، فراجعه.

فصل:

قوله في حديث عائشة رضي الله عنها: (كان يحب الحلواء والعسل). والحلواء فيها المد والقصر، قال الأصمعي: هي مقصورة، تكتب بالياء، وقال الفراء: ممدود تكتب بالألف. وقال ابن فارس: تمد وتقصر

(3)

.

وقولها: (أهدت لها عكة عسل) العكة: القربة الصغيرة.

(1)

"العين" 6/ 51.

(2)

"شرح ابن بطال" 7/ 406.

(3)

"المجمل" 1/ 247.

ص: 251

‌9 - باب لَا طَلَاقَ قَبْلَ النِّكَاحِ

لقَوْلُ اللهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} الآية [الأحزاب: 49]. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما جَعَلَ اللهُ الطَّلَاقَ بَعْدَ النِّكَاحِ. وَيُرْوَى فِى ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَعُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ، وَأَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ، وَعَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ، وَشُرَيْحٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالْقَاسِمِ، وَسَالِمٍ، وَطَاوُسٍ، وَالْحَسَنِ، وَعِكْرِمَةَ، وَعَطَاءٍ، وَعَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَنَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَالْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَعَمْرِو بْنِ هَرِمٍ، وَالشَّعْبِيِّ أَنَّهَا لَا تَطْلُقُ. [فتح 9/ 381].

الشرح: هذِه التعاليق أوردها بصيغة التمريض، وليس كذلك في أكثرها كما ستعلمه، أخرج أكثرها ابن أبي شيبة

(1)

.

وأما أثر ابن عباس فأخرجه عن عبد الله بن نمير، عن ابن جريج، عن عطاء، عنه بلفظ: لا طلاق إلا بعد نكاح، ولا عتق إلا بعد ملك.

قال: وثنا (وكيع)

(2)

عن حسن بن صالح، عن أبي إسحاق، عن عكرمة، عنه بنحوه. وثنا قبيصة، ثنا يونس بن أبي إسحاق، عن آدم مولى خالد، عن سعيد بن جبير، عنه.

وأما أثر علي رضي الله عنه فأخرجه أيضًا عن محمد بن فضيل، عن ليث، عن عبد الملك بن ميسرة، عن النزال، عنه.

(1)

"المصنف" 4/ 64 - 66.

(2)

من (غ) وفي الأصل: ابن جريج.

ص: 252

وعند ابن حزم زيادة: وإن سماها فليس بطلاق

(1)

.

وأخرجه أبو عبيد، عن هشيم، عن المبارك بن فضالة، عن الحسن، عنه.

وأثر سعيد أخرجه أيضًا، عن عبدة بن سليمان، عن يحيي بن سعيد، عنه، وهذا إسناد جيد.

وأئر عروة أخرجه أيضًا، عن الثقفي، عن يحيي بن سعيد قال: بلغني عن عروة، فذكره.

وأثر علي بن حسين أخرجه أيضًا، عن وكيع، عن معرف بن واصل

(2)

، عن حبيب بن أبي ثابت، عنه.

وحدثنا غندر، عن شعبة، عن الحكم، عنه.

وأثر شريح أخرجه أيضًا عن أبي أسامة ووكيع، ثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عنه.

وأثر سعيد بن جبير رواه عن عبد الله بن نمير، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عنه.

وأئر القاسم أخرجه أيضًا عن وكيع، عن معرف، عن عمرو، عنه.

وأثر طاوس أخرجه أيضًا عن معتمر، عن ليث، عن عطاء، وطاوس به، وأخرجه أيضًا عن وكيع، عن سفيان، عن محمد بن المنكدر، عمن سمع طاوسًا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا طلاق إلا بعد نكاح، ولا عتق إلا بعد ملك".

وذكر أبو حاتم، عن يحيي بن معين أنه قال: لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا طلاق قبل نكاح". وأصح شيء فيه حديث الثوري عن ابن المنكدر،

(1)

"المحلى" 10/ 205.

(2)

هو معرف بن واصل السعدي، أبو بدل، ويقال أبو يزيد الكوفي. انظر ترجمته في:"الطبقات" لابن سعد 6/ 356، "الثقات" 7/ 515، "تهذيب الكمال" 28/ 260.

ص: 253

عمن سمع طاوسًا، أنه عليه السلام قال:"لا طلاق قبل نكاح"

(1)

.

وأثر الحسن أخرجه، عن معتمر بن سليمان، عن يونس، عنه.

وأثر مجاهد وعطاء أخرجه أيضًا وكيع، عن معرف، عن الحسن الضبي عنهما.

وأثر محمد بن كعب ونافع بن جبير أخرجهما، عن جعفر بن عون، عن أسامة، عنهما.

وأثر عمرو بن هرم لم أره.

وذكره البيهقي عن كتاب عمرو بن حزم، في الكتاب الذي كتبه له رسول الله صلى الله عليه وسلم

(2)

.

قال ابن حزم: وصح عن طاوس، وسعيد بن المسيب، وعطاء، ومجاهد، وابن جبير، وقتادة، والحسن، ووهب بن منبه، وعليٍّ بن الحسين، والقاسم بن عبد الرحمن، وشريح

(3)

.

وإنما اقتصر البخاري علي هذِه الآثار ولم يذكر فيه حديثًا؛ لأنها متكلم فيها، نعم في السنن الأربعة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا طلاق إلا فيما يملك"

(4)

وأخرجه الحاكم في "مستدركه" وقال: صحيح الإسناد

(5)

.

وأخرجه ابن الجارود في "منتقاه"

(6)

.

(1)

"علل ابن أبي حاتم" 1/ 436.

(2)

"السنن الكبرى" 7/ 320.

(3)

"المحلى" 10/ 205.

(4)

أبو داود (1290)، الترمذي (1181)، ابن ماجه (2047) ورواه النسائي 7/ 12، بلفظ:"لا نذر ولا يمين فيما لا تملك، ولا في معصية ولا قطيعة رحم".

(5)

"المستدرك" 2/ 204 - 205، وليس فيه: صحيح الإسناد، بل قالها الحاكم بعد الحديث التالي لحديث عمرو بن شعيب.

(6)

"المنتقى" 3/ 62 (742).

ص: 254

وقال الترمذي: هو حسن صحيح، وهو أحسن شيء روي في الباب. وقال أيضًا: سألت محمد بن إسماعيل -يعني البخاري- فقلت: أي شيء صح في الطلاق قبل النكاح؟ فقال: حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده

(1)

. قلت: فهذا أحسن شيء في الباب وأصحه.

وقال البيهقي: رواه حبيب المعلم وغيره، عن عمرو، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو

(2)

. وقال مهنا وحرب عن أحمد: وسئل: أتعرفه من وجه صحيح؟ قال: حديث عمرو بن شعيب

(3)

.

قال أحمد: وأنا عبد الرزاق، أنا ابن جريج، عن عمرو بن شعيب، به. ثم قال: أخشى أن يكون ابن جريج أخذه عن المثنى بن الصباح، عن عمرو، ومثنى منكر الحديث.

قلت: وفيه أحاديث أخر:

أحدها: حديث جابر مرفوعًا: "لا طلاق قبل نكاح". أخرجه قاسم بن أصبغ، عن ابن وضاح، عن موسى بن معاوية، عن وكيع، عن ابن أبي ذئب، عن عطاء وابن المنكدر، عنه به

(4)

. ورواه أبو قرة في "مسنده"، عن ابن جريج، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر.

ثانيها: حديث معاذ مرفوعًا به، أخرجه الدارقطني، عن إسحاق بن محمد بن الفضل، ثنا عليُّ بن شعيب، ثنا عبد المجيد، عن ابن جريج، عن عمرو بن شعيب، عن طاوس عن معاذ به

(5)

.

(1)

"علل الترمذي" 1/ 465.

(2)

"السنن الكبرى" 7/ 318.

(3)

"مسائل أحمد وإسحاق " برواية حرب ص 111.

(4)

رواه الحاكم في "المستدرك" 2/ 420 من طريق أحمد بن عبد الله بن الحاكم عن وكيع به.

(5)

"السنن" 4/ 14.

ص: 255

قال أبو حاتم: ولم يسمع منه. قلت: وعبد المجيد من رجال مسلم والأربعة، ووثقه ابن معين وغيره، وقال أبو داود: ثقة داعية للإرجاء

(1)

. وأما ابن حبان فتركه.

وفي لفظ: "وإن سميت المرأة بعينها"

(2)

.

ولما رواه أبو قرة أخرج منه عبد المجيد، فقال: ذكر ابن جريج، عن عمرو بن شعيب، عن طاوس.

ثالثها: حديث أي ثعلبة، قال الدارقطني: وحدثنا جعفر بن محمد بن نصير، ثنا (أحمد)

(3)

بن يحيي الحلواني، ثنا عليُّ بن قرين، ثنا بقية، ثنا ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن أبي ثعلبة الخشني قال: قال (لي)

(4)

عَمٌّ: اعمل لي عملًا حتى أزوجك ابنتي. فقلت: إن تزوجتها فهي طالق ثلاثًا، ثم بدا لي أن أتزوجها، فقال لي:"تزوجها، فإنه لاطلاق إلا بعد نكاح"

(5)

.

قلت: آفته علي بن قرين، فإنه كذاب

(6)

، وخالد عن أبي ثعلبة مرسل، قاله ابن معين

(7)

.

رابعها: حديث عائشة رضي الله عنها، أخرجه أيضًا من حديث الوليد بن سلمة -وهو كذاب كما قال دحيم- ثنا يونس، عن الزهري،

(1)

انظر ترجمته في "تهذيب الكمال" 18/ 271 - 276.

(2)

"السنن" 4/ 17.

(3)

في الأصل: أيوب، والمثبت من "سنن الدارقطني" وهو الصواب.

(4)

من (غ).

(5)

"السنن" 4/ 36.

(6)

انظر: "الجرح والتعديل" 6/ 201، "الضعفاء" للعقيلي 3/ 249 - 250.

(7)

انظر: "التعديل والتجريح" للباجي 2/ 553.

ص: 256

عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بن حرب على نجران باليمن، وكان فيما عهد إليه أن لا يطلق الرجل ما لم يتزوج

(1)

.

وأخرجه ابن أبي شيبة، عن حماد بن خالد، عن هشام بن سعد، عن الزهري، عن عروة، عنها، موقوفًا: لا طلاق إلا بعد نكاح

(2)

.

وقال الترمذي في "علله": سالت محمدًا: أي حديث أصح في الطلاق قبل النكاح؟

قال: حديث عمرو بن شعيب، وحديث هشام بن سعد، عن الزهري، عن عروة عن عائشة رضي الله عنها.

فقلت: إن بشر بن السري وغيره قالوا: (عن هشام بن سعد، عن الزهري، عن عروة، عنها، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. مسندًا)

(3)

، فقال: إن حماد بن خالد روى عن هشام، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

(4)

.

(1)

"السنن" 4/ 15.

(2)

ابن أبي شيبة 4/ 65 (17812).

(3)

كذا في الأصول وهو خطأ في النقل وصوابه: عن هشام بن سعد، عن الزهري، عن عروة مرسلًا. كذا وقع في "الفتح" 9/ 382، أضف إلى هذا أنه إذا كان عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسندًا فما فائدة قول البخاري أن حمادًا رواه عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

تنبيه: وقع في المطبوع من "العلل" عن هشام بن سعد عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا. وهذا لا يستقيم في نفسه بذكر عائشة مع كونه مرسلًا، ولا مع ما يأتي من كون حماد بن خالد قد وصله، فالصواب ما قلناه أولاً، والله أعلم.

(4)

"علل الترمذي" 1/ 465 - 466.

ص: 257

خامسها: حديث ابن عباس مرفوعًا: "لا طلاق فيما لا يملك" أخرجه الدارقطني أيضًا من حديث عمرو بن يونس، عن سليمان بن أبي سليمان الزهري، عن يحيي بن أبي كثير، عن طاوس، عن ابن عباس، يرفعه

(1)

. وسليمان هذا ضعفوه.

سادسها: حديث ابن عمر رضي الله عنهما: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل قال: يوم أتزوج فلانة فهي طالق. قال: "طلق ما لا يملك" أخرجه الدارقطني من حديث خالد بن يزيد (القرني)

(2)

، أنبأ عبد الرحمن بن مسهر، ثنا أبو خالد الواسطي، عن أبي هاشم الرماني، عن ابن جبير، عن ابن عمر، به

(3)

.

وأخرجه أيضًا من حديث عمرو بن خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه بنحوه، مرفوعًا

(4)

.

أخرجه ابن ماجه من حديث علي بن الحسين بن واقد، عن هشام بن سعد، عن الزهري، [عن عروة]

(5)

عن المسور بن مخرمة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا طلاق قبل نكاح"

(6)

.

ومن حديث ابن لهيعة، عن موسى بن أيوب الغافقي، عن عكرمة، عن ابن عباس، يرفعه:"إنما الطلاق لمن أخذ بالساق"

(7)

.

(1)

"السنن" 4/ 16.

(2)

في الأصل: المقبري، والمثبت من "سنن الدارقطني" وهو الصواب، وخالد بن يزيد القرني له ترجمة في "الجرح والتعديل" 3/ 361 (1634).

(3)

"السنن" 4/ 16.

(4)

"السنن" 4/ 20.

(5)

ساقط من الأصل، والمثبت من "سنن ابن ماجه".

(6)

"سنن ابن ماجه"(2048).

(7)

"سنن ابن ماجه"(2081).

ص: 258

ولفظه عند الدارقطني: "إنما يملك الطلاق من أخذ بالساق"

(1)

. وذكره حرب عن أبي عبد الله، ثنا ابن مهدي، ثنا هشام، عن قتادة، عن عكرمة، عن عبد الله، موقوفًا: الطلاق بعد النكاح. وقال: إسناد جيد. وقال أبو الحكم: خطب رجل منا امرأة، فاجتمعا في الإملاك، فخالفهم في شيء، فقال: هي طالق إن تزوجتها حتى آكل الغضيض

(2)

-يعني: الطلع الذكر- قال: فسألت ابن المسيب وعروة وعبيد الله بن عتبة وأبا سلمة وأبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فقالوا كلهم: زوجوه، ليس به بأس.

وقال عمر بن عبد العزيز: ما أرى أن يتزوجها حتى يأكل الغضيض

(3)

. ووافقه القاسم، وسالم، وابن شهاب، وسليمان بن يسار.

وقال مهنا: قلت لأحمد: حدثوني عن الوليد بن مسلم قال: قال مالك: عن عمر بن الخطاب، وأبي مسعود

(4)

، والقاسم، وسليمان بن يسار، وسالم، وابن شهاب، في الذي يقول: إن تزوجت فلانة فهي طالق.

قال: إن تزوجها فهي طالق. فقال لي أحمد: ليس فيهم عمر، هذا خطأ من قول مالك.

فقلت: لعل هذا من قبل الوليد غلط علي مالك. قال: لا، هذا من قول مالك، ذهب إلى حديث عن سعيد بن عمرو بن سليم، عن القاسم بن محمد، عن عمر.

(1)

"السنن" 4/ 37.

(2)

ورد بهامش الأصل: الغضيض: الطلع إذا بدا، كذا قاله الجوهري.

(3)

رواه البيهقي في "السنن الكبرى" 7/ 321.

(4)

ورد في هامش الأصل: في الأصل: وأبو مسعود، وأنا أظنه ابن مسعود والله أعلم.

ص: 259

وسئل عن رجل قال: إن تزوجت فلانة فهي عليَّ كظهر أمي. فقال: إن تزوجها فلا يطأها حتى يكفر. ذهب إلى هذا، ظن أنه مثله.

وقال سفيان بن وكيع: أحفظ منذ أربعين سنة أنه سئل عن الطلاق قبل النكاح، فقال: يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن عليّ، وابن عباس، وعلىّ بن الحسين، وسعيد بن المسيب، ونيف وعشرين من التابعين، أنهم لم يروا به بأسًا.

قال عبد الله: فسألت أبي وأخبرته بقول سفيان، فقال: صدق، أنا قلت ذلك

(1)

.

وقال ابن جريج فيما حكاه في "المحلى": بلغ ابن عباس أن ابن مسعود يقول: إن طلق الرجل مالم ينكح فهو جائز. فقال ابن (عباس)

(2)

: أخطأ في هذا، إن الله يقول:{إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} [الأحزاب: 49] ولم يقل: إذا طلقتم المؤمنات ثم نكحتموهن.

قال ابن حزم: وهو قول ابن عيينة، وابن مهدي، والشافعي، وأحمد، وأصحابهما، وإسحاق، وأ بي سليمان، وأصحابهما، وجمهور أصحاب الحديث، قال: وأما من كره ذلك ولم يفسخه، كما روينا من طريق حجاج بن منهال، ثنا جرير بن حازم، عن يحيي بن سعيد الأنصاري، عن القاسم بن محمد بن أبي بكر، فيمن قال: كل امرأة أتزوجها فهي طالق فكرهه، وهو قول الأوزاعي والثوري. قيل لنا: حرام هو؟ قال: ومن يقول: إنه حرام؟ من رخص فيه أكثر ممن شدد، وبه يقول أبو عبيد.

(1)

انظر: "طبقات الحنابلة" 1/ 453 - 454.

(2)

في الأصل أعلى هذِه الكلمة كلمة: (سقط). وورد في الحاشية تعليقًا عليها: عباس ليس في الأصل، فألحقته ويحتمل أن يكون الساقط (مسعود) والله أعلم.

ص: 260

ومن طريق الحجاج بن منهال: ثنا أبو عوانة، عن محمد بن قيس المرهبي قال: سألت النخعي عن رجل قال في امرأة: إن تزوجتها فهي طالق. فذكر إبراهيم، عن علقمة أو الأسود، أن ابن مسعود قال: هي كما قال، ثم سألت الشعبي، وذكر له قول إبراهيم، فقال: صدق.

ومن طريق أبي عبيد، عن هشيم، أنا مغيرة، عن إبراهيم، فيمن قال: كل امرأة أتزوجها فهي طالق قال: ليس بشيء، هذا رجل حرم المحصنات علي نفسه فليتزوج، فإن سماها أو نسبها، أو سمى مصرًا، أو وقت وقتًا، فهي كما قال.

وروينا من طريق مالك، عن سعيد (بن)

(1)

عمرو بن سليم، عن القاسم بن محمد، أن رجلاً قال: إن تزوجت فلانة، فهي عليَّ كظهر أمي. فتزوجها، فقال له عمر رضي الله عنه: لا تقربها حتى تكفر

(2)

.

قال ابن حزم: ليس هذا موافقًا لهم؛ لأنه قد روي عن عمر أنه وإنْ عمَّ فهو لازم. ومن طريق وكيع، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي قال: إن قال: كل امرأة أتزوجها فهي طالق فليس بشيء، فإن وقَّت لزمه.

ومن طريق أبي عبيد، ثنا محمد بن كثير، عن حماد بن سلمة، عن قيس بن سعد، عن عطاء قال في رجل قال: إن تزوجت فلانة فهي طالق: هو كما قال.

وهو قول الحكم بن عتيبة، وربيعة، والحسن بن حي، والليث بن سعد، ومالك، وأصحابه، ومنهم من قال: يلزمه وإنْ عَمَّ.

(1)

في الأصل عن، والمثبت من "الموطأ" ص 345.

(2)

"الموطأ" ص 345.

ص: 261

روينا من طريق عبد الرزاق، عن ياسين الزيات، عن أبي محمد، عن عطاء الخراساني، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، أن رجلاً قال: كل امرأة أتزوجها فهي طالق. فقال له عمر بن الخطاب: هو كما قال.

ومن طريقه أيضًا، عن معمر، عن الزهري قال: كل امرأة أتزوجها فهي طالق، وكل امرأة أشتريها فهي حرة. قال: هو كما قال

(1)

.

قال معمر فيما حكاه ابن المرابط: فقلت للزهري: أليس قد جاء: "لا طلاق قبل نكاح"؟ قال: إنما ذلك أن يقول الرجل: امرأة فلان طالق، أو عبد فلان حر.

قال ابن المرابط: المعنى: لا طلاق واقع قبل نكاح، ولم يرد بذلك: لا عقد طلاق قبل نكاح.

ومن طريق أبي عبيد، ثنا يحيي القطان، ويزيد بن هارون، عن يحيي بن سعيد الأنصاري قال: كان القاسم بن محمد وسالم وعمر بن عبد العزيز يرونه جائزًا عليه.

ومن طريق أبي عبيد، ثنا مروان بن شجاع، عن خُصيف، سألت مجاهدًا عن رجل قال: كل امرأة أتزوجها فهي طالق. قال: هو كما قال.

وعند ابن أبي شيبة، عن الشعبي، في رجل قال لامرأته: كل امرأة أتزوجها عليك فهي طالق. قال: كل امرأة يتزوجها عليها فهي طالق

(2)

.

وكذلك قاله عطاء، وحماد، وأبو بكر بن عبد الرحمن، وأبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وشريح

(3)

.

(1)

"المحلى" 10/ 205 - 206.

(2)

ابن أبي شيبة 4/ 66 (17832).

(3)

"المحلى" 10/ 206، 207.

ص: 262

ولما قيل للشعبي: إن عكرمة يزعم أن الطلاق بعد النكاح. قال: خبر من مولى ابن عباس.

وقال قدامة: قلت لسالم: رجل قال: كل امرأة يتزوجها فهي طالق، وكل جارية يشتريها فهي حرة. قال: أما أنا فلو كنت لم أنكح ولم أشتر. وعن مكحول: توجب عليه

(1)

.

قال ابن حزم: نظرنا فيما احتج به من أجازه بكل حال -وهو أبو حنيفة وعثمان البتي- فوجدناهم لا يخالفوننا فيمن قال لامرأته: أنت طالق إذا بِنْت مني. ليس بشيء، فصحّ أن الطلاق معلق بالوقت الذي أضيف إليه، وهذا فاسد؛ لأنه لم يخرج الطلاق كما أمر، بل لم يوقعه (حيث يظن به واقعة)

(2)

حيث لا يقع، فهو باطل.

فإن قالوا: قسناه على النذر قلنا: النذر جاء فيه نصّ، وتقديم الطلاق لم يأت فيه نصّ، والنذر قُربة بخلافه، وهم لا يخالفوننا في أن من قال: عليَّ نذر لله أن أطلق زوجتي. أنه لا يلزمه طلاقها، وهذا يبطل ما ادعوه في قوله:{أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]؛ لأن الطلاق عقد لا يلزم الوفاء به لمن عقده علي نفسه بما عقد أن يطلق، إلا أنه لم يطلق، فليس من العقود التي أمر الله بها قبل أن توقع.

فإن قالوا: قسناه على الوصية. قلنا: هذا من أرذل القياسات؛ لأن الوصية نافذة بعد الموت، ولو طلق الحي بعد موته لم يجز، والوصية قُربة، بل هي فرض، والطلاق ليس فرضًا ولا قُربة.

(1)

انظر هذِه الآثار في "مصنف ابن أبي شيبة" 4/ 67.

(2)

هكذا في الأصول، وفي "المحلى": حين نطق به، وأوقعه.

ص: 263

ثم إنا لم نجده صحيحًا عن أحد من الصحابة؛ لأن الرواية عن عمر موضوعة، فيها ياسين وهو هالك، وأبو محمد وهو مجهول، ثم هو منقطع بين أبي سلمة وعمر.

ثم نظرنا في قول من ألزمه إن خصَّ دون ما إذا عمَّ، فلم نجد لهم حجة أكثر من قولهم: إذا عمَّ فقد ضيق على نفسه.

قلنا: ما ضيق، بل له في الشراء فسحة، ثم هبْكَ أنه ضيق، فأين وجدتم أنَّ الضيق في مثل هذا يحيى الحرام؟ وأيضًا فقد يخاف في امتناعه من نكاح التي خصَّ طلاقها إن تزوجها، أكثر مما يخاف لو عمّ، لكلف بها.

ووجدناه أيضًا لا يصح عن أحد من الصحابة؛ لأنه إما منقطع، وإما من طريق المرهبي، وليس بالمشهور.

ثم رجعنا إلى قولنا، فوجدنا الله تعالى يقول:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] فلم يجعل الله الطلاق إلا بعد النكاح، والعجب من المخالف القياس، إذ لا خلاف عندهم فيمن قال لامرأة: إذا طلقتك فأنت مرتجعة مني. فطلقها، أنها لا تكون مرتجعة حتى يبتدئ النطق بارتجاعه لها، ووجدناهم لا يختلفون فيمن قال: إذا قدم أبي فزوجني من نفسك فقد قبلت نكاحك. قالت هي وهي مالكة أمر نفسها: إذا جاء أبوك فقد تزوجتك ورضيت بك زوجًا. فقدم أبوه، فإنه ليس بينهما نكاح أصلاً، ولا يختلفون فيمن قال: إذا كسبت مالاً فأنت وكيلي في الصدقة به، فكسب مالاً، فإنه لا يكون الآخر وكيلًا في الصدقة حتى يبتدئ اللفظ بتوكيله. فلا أدري من أين وقع لهم جواز تقديم الطلاق والظهار قبل النكاح.

ص: 264

وكذلك لا يختلفون فيمن قال لآخر: زوجني ابنتك إن ولدتها فلانة. فولدت له فلانة، فإنها لا تكون بذلك زوجة، وقد جاء إنفاذ هذا النكاح عن ابن مسعود والحسن، ولا يعرف لعبد الله في ذلك مخالف من الصحابة

(1)

.

قلت: والمخالف يقول: هذا تعليق ليس بطلاق، والتعليق ليس طلاقًا في الحال، فلا يشترط قيام الملك، لا سيما وقد قال تعالى:{وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ} [التوبة: 75] وهو دليل علي أن النذر المضاف إلى الملك إيجاب في الملك وإن لم يكن موجودًا في الحال، وقد جعله الله نذرًا في الملك، وألزمه الوفاء به، فكذا هذا؛ إذ لا فرق بينهما، والخلاف واحد.

قال ابن التين: واحتجاج البخاري بالآية في ذلك لا دلالة فيها علي أنه لا يلزم إذا وقع بالشرط قبل النكاح.

والحاصل من الخلاف ثلاث مذاهب: اللزوم: إذا عين أو ضرب أجلًا يسيرًا، وهو مذهب مالك

(2)

. وعدمه مطلقًا، وهو مذهب الشافعي

(3)

. واللزوم مطلقًا وإن عم، وهو مذهب أبي حنيفة

(4)

.

قال ابن المنذر: اختلف العلماء فيمن حلف بطلاق من لم ينكح علي ثلاثة مذاهب: لا طلاق قبل نكاح، وهو قول عائشة وابن عباس، واحتج ابن عباس في ذلك بالآية المذكورة، وقال: جعل الله الطلاق بعد النكاح.

(1)

"المحلى" 10/ 207، 208.

(2)

انظر: "المنتقي" 4/ 115.

(3)

انظر: "مختصر المزني" 4/ 56.

(4)

انظر: "أحكام القرآن" للجصاص 3/ 532.

ص: 265

وعليه جمهور التابعين المذكورين في هذا الباب، وهو مذهب الشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور

(1)

.

وروى العتبي، عن عليٍّ بن (معبد)

(2)

، عن ابن وهب، عن مالك أنه أفتى رجلاً حلف: إن تزوجت فلانة فهي طالق، فتزوجها، أنه لا شيء عليه، قاله ابن وهب، ونزلت بالمخزومي فأفتاه مالك بذلك.

وروى أبو زيد عن ابن القاسم مثله. وقال محمد بن الحكم: ما أراه حانثا. وقد قال ابن القاسم: أمر السلطان ألا يحكم في ذلك بشيء، وتوقف في الفتيا به آخر أيامه.

قال محمد: وكان عامة مشايخ المدينة لا يرون به بأسًا، وهو قول ابن أبي ذئب، وأما جمهور أصحاب مالك لا يرون ذلك

(3)

.

وفيها قول، قال: وهو إيجاب الطلاق قبل النكاح. روي ذلك عن ابن مسعود، والقاسم، وسالم، والزهري، وأبي حنيفة، وأصحابه

(4)

.

والثالث: إذا لم يسمِّ الحالف بالطلاق امرأة بعينها أو قبيلة، أو أرضًا، وعم في يمينه تحريم ما أحل الله له، فلا يلزمه ذلك، وليتزوج ما شاء، فإن سمى امرأة أو أرضًا أو قبيلة، أو ضرب أجلًا يبلغ عمره أكثر منه، لزمه الطلاق.

وكذلك لو قال: كل عبد أملكه حر. فلا شيء عليه؛ لأنه عم، ولو خص منشأ أو بلدًا، أو ضرب أجلًا يبلغ مثله لزمه، هذا قول النخعي

(1)

"الإشراف" 1/ 164.

(2)

كذا في الأصل، وفي "الاستذكار" 18/ 123: سعيد.

(3)

انظر: "الاستذكار" 18/ 123 - 124.

(4)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 2/ 447، "الاستذكار" 18/ 121.

ص: 266

وربيعة ومالك وابن أبي ليلى والليث والأوزاعي

(1)

، وذكر مالك في "الموطأ" أنه بلغه عن ابن مسعود

(2)

.

وحجة أهل المقالة الأولى الأحاديث السالفة، وحجة أخرى هو أنه لما أجمعوا أن من باع سلعة لا يملكها ثم ملكها، أن البيع غير لازم، فكذلك إذا طلق امرأة ثم تزوجها أن الطلاق غير لازم له.

واحتج الكوفيون بما رواه مالك في "الموطأ"، أنه بلغه أن عمر وابنه وابن مسعود وسالم والقاسم وفقهاء المدينة، أنهم كانوا يقولون: إذا حلف الرجل بطلاق المرأة قبل أن ينكحها ثم أتم، أن ذلك لازم له إذا نكحها

(3)

.

وتأولوا قوله: "لا طلاق قبل نكاح" أن يقول الرجل: امرأة فلان طالق، أو عبد فلان حر، وهذا ليس بشيء.

وأما أن يقول: إن تزوجت فلانة فهي طالق. فإنما طلقها حين تزوجها، وكذلك في الحرة، يريد: إن اشتريتك فأنت حرة.

قالوا: ومثله: "لا نذر لابن آدم فيما لا يملك"

(4)

لأنه يحتمل أن يلزمه فيه النذر إذا ملكه. قالوا: وأيضًا جاء الحديث: "لا طلاق إلا من بعد نكاح" وليس فيه: لا عقد طلاق. وهو الذي أخبرناه وشبهه بعلة الإحباس أنه يجوز فيها الصدقة من قبل أن تجيء في ملكه

(5)

.

(1)

انظر "الاستذكار" 18/ 119 - 120.

(2)

"الموطأ" ص 361.

(3)

"الموطأ" ص 361.

(4)

سلف برقم (6047).

(5)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 2/ 448 بتصرف.

ص: 267

واحتج الأبهري لقول مالك فقال: إذا سمى امرأة أو قبيلة أو بلدة فإنه يلزمه عقد الطلاق؛ لأنه ليس بعاص في هذا العقد، وكل من عقد عقدًا ليس بعاص فيه فالعقد له لازم وعليه الوفاء به؛ لقوله تعالى:{أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] وقوله: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان: 7] في لسان [العرب]

(1)

: إيجاب المرء على نفسه شيئًا وإن لم يكن في ملكه، يدل علي ذلك قوله:{وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللهَ} [التوبة: 75] فثبت بهذا أنه يلزمه ما ألزم نفسه، وإن لم يكن في ملكه؛ ولأنه أضاف الطلاق إلى حال ملك فيه ابتداء إيقاعه، فصح ذلك اعتبارًا بأصله إذا أضافه حال الملك، مثل: إن دخلت الدار فأنت طالق.

والمخالف يقول: إن أوجب علي نفسه نذر عتق أو صدقة درهم قبل ملكه، أن ذلك يلزمه، فكذلك عقد الطلاق، فأما إذا عم النساء، فإن ذلك معصية؛ لأنه منع نفسه النكاح الذي أباحه الله له، فلا يصح عقده؛ لقوله عليه السلام:"من أحدت في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"

(2)

.

(1)

بياض بالأصل، وانظر "شرح ابن بطال" 7/ 409.

(2)

سلف برقم (2697).

ص: 268

‌10 - باب إِذَا قَالَ لاِمْرَأَتِهِ وَهْوَ مُكْرَهٌ: هَذِهِ أُخْتِي. فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ

قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِسَارَةَ: هَذِهِ أُخْتِي وَذَلِكَ فِى ذَاتِ اللهِ عز وجل» .

هذا التعليق تقدم مسندًا عند البخاري في البيوع

(1)

، وأراد بهذا التبويب رد قول من نهى عن أن يقول الرجل لامرأته: يا أختي؛ لأنه روى عبد الرزاق، عن الثوري، عن خالد الحذاء، عن أبي تميمة الهجيمي قال: مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل وهو يقول لامرأته يا أخيَّة، فزجره

(2)

ومعنى كراهة ذلك: خوف ما يدخل علي من قال لامرأته: يا أختي، أو أنت أختي. بمنزلة من قال: أنت عليَّ كظهر أمي، أو كظهر أختي. في التحريم إذا قصد إلى ذلك، فأرشده الشارع إلى اجتناب الألفاظ المشكلة التي يتطرق بها إلى تحريم المحللات.

وليس يعارض هذا قول إبراهيم عليه السلام في زوجته: "هذِه أختي" لأنه إنما أراد بها أخته في الدين والإيمان، فمن قال لامرأته أنها أخته، وهو ينوي ما نواه إبراهيم من أخوة الدين، فلا يضره شيء عند جماعة العلماء؛ لأن بساط الحال يقضي علي قوله ونيته، وهو أصل لكل من اضطر إلى شيء مثل هذا.

(1)

سلف برقم (2217).

(2)

"المصنف" 7/ 152 (12595).

ص: 269

وفي أبي داود بإسناد جيد من حديث أبي تميمة الهجيمي، عن رجل من قومه- سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم علي رجل وهو يقول لامرأته: يا أُخية. فزجره

(1)

وقد سلف أيضًا. وروى ابن أبي شيبة في "مصنفه" عن عمرو بن شعيب، أنه عليه السلام سمع رجلاً يقول لامرأته: يا أخية، فقال:"لا تقل لها: يا أخية".

وسئل الحسن عن ذلك، فقال: ما هو (وتمرتان)

(2)

إلا واحد

(3)

.

وقال أبو يوسف: إن لم تكن له نية فهو تحريم. وقال محمد بن الحسن: هو ظهار إذا لم تكن له نية، ذكره الخطابي

(4)

.

فصل:

ذكر في باب آخر: "لم يكذب إبراهيم صلى الله عليه وسلم إلا ثلاث كذبات: ثنتين في ذات الله، وواحدة في ذات نفسه"

(5)

، وهو أشبه؛ لأنه إنما كان خاف علي نفسه.

(1)

أبو داود (2211).

(2)

كذا في الأصول، وفي "المصنف": تموتان.

(3)

ابن أبي شيبة 4/ 192 (19180 - 19181).

(4)

"معالم السنن" 3/ 215.

(5)

سلف برقم (5084).

ص: 270

‌11 - باب الطَّلَاقِ فِي الإِغْلَاقِ

وَالْكُرْهِ وَالسَّكْرَانِ وَالْمَجْنُونِ وَأَمْرِهِمَا، وَالْغَلَطِ وَالنِّسْيَانِ فِى الطَّلَاقِ وَالشِّرْكِ وَغَيْرِهِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:«الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» . وَتَلَا الشَّعْبِيُّ {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] وَمَا لَا يَجُوزُ مَنْ إِقْرَارِ الْمُوَسْوِسِ. وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلَّذِي أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ: «أَبِكَ جُنُونٌ؟» . وَقَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه: بَقَرَ حَمْزَةُ خَوَاصِرَ شَارِفَيَّ، فَطَفِقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَلُومُ حَمْزَةَ، فَإِذَا حَمْزَةُ قَدْ ثَمِلَ مُحْمَرَّةٌ عَيْنَاهُ، ثُمَّ قَالَ حَمْزَةُ: هَلْ أَنْتُمْ إِلاَّ عَبِيدٌ لأَبِي؟ فَعَرَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَدْ ثَمِلَ، فَخَرَجَ وَخَرَجْنَا مَعَهُ، وَقَالَ عُثْمَانُ: لَيْسَ لِمَجْنُونٍ وَلَا لِسَكْرَانَ طَلَاقٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: طَلَاقُ السَّكْرَانِ وَالْمُسْتَكْرَهِ لَيْسَ بِجَائِزٍ. وَقَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ: لَا يَجُوزُ طَلَاقُ الْمُوَسْوِسِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: إِذَا بَدَا بِالطَّلَاقِ فَلَهُ شَرْطُهُ. وَقَالَ نَافِعٌ: طَلَّقَ رَجُلٌ امْرَأَتَهُ الْبَتَّةَ إِنْ خَرَجَتْ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إِنْ خَرَجَتْ فَقَدْ بُتَّتْ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ تَخْرُجْ فَلَيْسَ بِشَىْءٍ.

وَقَالَ الزُّهْرِيُّ فِيمَنْ قَالَ لامرأته: إِنْ لَمْ أَفْعَلْ كَذَا وَكَذَا فَامْرَأَتِي طَالِقٌ ثَلَاثًا يُسْئَلُ عَمَّا قَالَ، وَعَقَدَ عَلَيْهِ قَلْبُهُ، حِينَ حَلَفَ بِتِلْكَ الْيَمِينِ، فَإِنْ سَمَّى أَجَلاً أَرَادَهُ وَعَقَدَ عَلَيْهِ قَلْبُهُ حِينَ حَلَفَ، جُعِلَ ذَلِكَ فِى دِينِهِ وَأَمَانَتِهِ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: إِنْ قَالَ لَا حَاجَةَ لِي فِيكِ. نِيَّتُهُ، وَطَلَاقُ كُلِّ قَوْمٍ بِلِسَانِهِمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ: إِذَا قَالَ: إِذَا حَمَلْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ.

ص: 271

ثَلَاثًا، يَغْشَاهَا عِنْدَ كُلِّ طُهْرٍ مَرَّةً، فَإِنِ اسْتَبَانَ حَمْلُهَا فَقَدْ بَانَتْ. وَقَالَ الْحَسَنُ: إِذَا قَالَ لَهَا: الْحَقِي بِأَهْلِكِ. نِيَّتُهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الطَّلَاقُ عَنْ وَطَرٍ، وَالْعَتَاقُ مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُ اللهِ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: إِنْ قَالَ: مَا أَنْتِ بِامْرَأَتِي. نِيَّتُهُ، وَإِنْ نَوَى طَلَاقًا فَهْوَ مَا نَوَى. وَقَالَ عَلِيٌّ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الْقَلَمَ رُفِعَ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يُدْرِكَ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ؟ وَقَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه: وَكُلُّ الطَّلَاقِ جَائِزٌ إِلاَّ طَلَاقَ الْمَعْتُوهِ وقال قتادة: إذا طلق في نفسه فليس بشيء.

5269 -

حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا، مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَتَكَلَّمْ» . قَالَ قَتَادَةُ: إِذَا طَلَّقَ فِي نَفْسِهِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ. [انظر: 2528 - مسلم: 127 - فتح 9/ 388].

5270 -

حَدَّثَنَا أَصْبَغُ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ، عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَجُلاً مِنْ أَسْلَمَ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهْوَ فِى الْمَسْجِدِ فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ زَنَى. فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَتَنَحَّى لِشِقِّهِ الَّذِى أَعْرَضَ فَشَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ، فَدَعَاهُ فَقَالَ:«هَلْ بِكَ جُنُونٌ؟ هَلْ أُحْصِنْتَ؟» . قَالَ: نَعَمْ. فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُرْجَمَ بِالْمُصَلَّى، فَلَمَّا أَذْلَقَتْهُ الْحِجَارَةُ جَمَزَ حَتَّى أُدْرِكَ بِالْحَرَّةِ فَقُتِلَ. [5272، 6814، 6816، 6820، 6826، 7168 - مسلم: 1691 - فتح 9/ 388].

5271 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: أَتَى رَجُلٌ مِنْ أَسْلَمَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهْوَ فِي الْمَسْجِدِ فَنَادَاهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ الأَخِرَ قَدْ زَنَى -يَعْنِي نَفْسَهُ- فَأَعْرَضَ

ص: 272

عَنْهُ فَتَنَحَّى لِشِقِّ وَجْهِهِ الَّذِى أَعْرَضَ قِبَلَهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ الأَخِرَ قَدْ زَنَى. فَأَعْرَضَ عَنْهُ: فَتَنَحَّى لِشِقِّ وَجْهِهِ الَّذِى أَعْرَضَ قِبَلَهُ فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَتَنَحَّى لَهُ الرَّابِعَةَ، فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ دَعَاهُ فَقَالَ:«هَلْ بِكَ جُنُونٌ؟» . قَالَ لَا. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «اذْهَبُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ» . وَكَانَ قَدْ أُحْصِنَ. [6815، 6825، 7167 - مسلم: 1691 - فتح 9/ 389].

5272 -

وَعَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ الأَنْصَارِيَّ قَالَ: كُنْتُ فِيمَنْ رَجَمَهُ، فَرَجَمْنَاهُ بِالْمُصَلَّى بِالْمَدِينَةِ، فَلَمَّا أَذْلَقَتْهُ الْحِجَارَةُ جَمَزَ حَتَّى أَدْرَكْنَاهُ بِالْحَرَّةِ، فَرَجَمْنَاهُ حَتَّى مَاتَ. [انظر: 5270 - مسلم: 1691 م - فتح 9/ 389].

ثم ساق حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِنَّ الله تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا، مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تكَلَّمْ". وقد سلف في العتق

(1)

.

وحديث جابر رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وهْوَ في المَسْجِدِ فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ زَنَى. فَأَعْرَضَ عَنْهُ فتنحى بشقه الذي أعرض عنه .. الحديث.

وفيه: "هَلْ بِكَ جُنُونٌ؟ ". وأخرجه في المحاربين، وأخرجه أيضًا مسلم والترمذي والنسائي

(2)

.

وحديث أبي هريرة مثله. وزاد: فأعرض عنه أربعًا.

وفيه أيضًا: "هل بك جنون؟ " قال: لا. وأخرجه مسلم والنسائي أيضًا

(3)

.

(1)

سلف برقم (2528).

(2)

مسلم (1691)، والترمذي (1429)، والنسائي 4/ 62 - 63.

(3)

مسلم (1691)، والنسائي في "الكبرى" 4/ 280 (7177).

ص: 273

والكلام علي هذِه الأحكام من وجوه:

أحدها:

أصل الإغلاق عند العلماء: الإكراه. قال أبو عبيد: الإغلاق: التضييق، فإذا ضيق على المكره، وشدد عليه حتى طلق، لم يقع حكم طلاقه، وكأنه لم يطلق.

وفي "سنن أبي داود" وابن ماجه من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا طلاق ولا عتاق في غلاق"

(1)

. وأخرجه الحاكم في "مستدركه" وقال: صحيح علي شرط مسلم، وله متابع، فذكره

(2)

.

قال أبو داود: أظنه في الغضب. وقال غيره: الإغلاق: الإكراه، والمحفوظ: إغلاق، كما هو لفظ ابن ماجه والحاكم. والمكره: مغلق عليه في أمره، ومضيق عليه في تصرفه، كما يغلق الباب على الإنسان، ومنه:"لا يغلق الرهن"

(3)

وغلوقه: إذا بقي في يد المرتهن ولا يقدر صاحبه علي تخليصه.

والمعنى أنه لا يستحقه المرتهن إذا لم يفك صاحبه، وكان هذا من فعل الجاهلية، أن الراهن إذا لم يؤد ما عليه في الوقت المعين ملك الرهن، فأبطله الإسلام.

وقال في "المحكم": احتد فلان فنشب في حدته وغلق

(4)

. وفي "الجامع": إذا غضب غضبًا شديدًا.

(1)

أبو داود (2193)، وابن ماجه (2046).

(2)

"المستدرك" 2/ 198.

(3)

رواه ابن ماجه (2441) وصححه ابن حبان 13/ 258 (5934)، والحاكم في "المستدرك" 2/ 51 - 52. وانظر "الإرواء" (1406).

(4)

"المحكم" 5/ 231.

ص: 274

وقال الهروي: كأنه يحبس ويضيق عليه ويغلق عليه الباب حتى يطلق.

وقيل: معناه: لا تغلق التطليقات في وقفة واحدة حتى لا يبقى منها شيء، لكن يطلق طلاق السنة.

ولما ذكر الفارسي في "مجمع الغرائب" قول من قال: الإغلاق: الغضب. قال: إنه غلط؛ لأن أكثر طلاق الناس في حال الغضب، إنما هو الإكراه.

وأما المطرزي فاحتج لقائل الأول بقولهم: إياك والغلق. أي: الضمير والغضب. وقال ابن المرابط: الإغلاق: حرج النفس، وليس يقطع على أن مرتكبه فارق عقله حتى صار مجنونًا، فيدعي أنه كان في غير عقله، ولو جاز هذا جاز لكل واحد من خلق الله، ممن يجوز عليه الحرج، أن يدعي في كل ما جناه أنها كانت في حال إغلاق، فتسقط عنه الحدود، وتصير الحدود خاصة لا عامة لغير الجرم.

وقد ترجم عليه ابن ماجه: باب المكره والناسي. وأبو داود: الطلاق على الغيظ. وكأن البخاري يرى أن الإغلاق غير الإكراه، ولهذا غاير بينهما.

والحديث الذي أسلفناه هو من رواية محمد بن عبيد بن أبي صالح، وهو ثقة كما ذكره ابن حبان في "ثقاته"

(1)

عن صفية، عن عائشة رضي الله عنها.

وذكره عبد الله بن أحمد في (عده)

(2)

، عن أبيه من حديث ابن إسحاق، عن ثور بن يزيد الكلاعي -وكان ثقة- عن صفية

(3)

.

(1)

"الثقات" 7/ 371.

(2)

هكذا في الأصل، وفي (غ):(عله)، ولعلها:"علله".

(3)

"المسند" 6/ 276 وفيه عن ثور، عن محمد بن عبيد، عن صفية.

ص: 275

ولما ذكر ابن أبي حاتم حديث (عطَّاف بن خالد)

(1)

، عن أبي صفوان، عن محمد بن عبيد، عن عطاء بن أبي رباح، عن عائشة لأبيه قال: روى هذا الحديث محمد بن إسحاق، عن ثور، عن محمد ابن عبيد، عن صفية. قلت لأبي: أيهما أشبه؟ قال: أبو صفوان وابن إسحاق جميعًا ضعيفان

(2)

.

وأخرجه الدارقطني من حديث زكريا بن إسحاق ومحمد بن عثمان جميعًا، عن صفية بنت شيبة الكعبية

(3)

.

الوجه الثاني:

اختلف العلماء في طلاق المكره، ومحل الخوض فيه كتاب الإكراه. وفيه قولان: أحدهما: أنه لازم، قاله الكوفيون.

والثاني: مقابله، قاله مالك والأوزاعي والشافعي

(4)

.

احتج الأول بحديث الباب: "الأعمال بالنية" وبحديث ابن عباس الثابت علي شرط الشيخين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" أخرجه ابن ماجه، وصححه ابن حبان والحاكم وقال: صحيح علي شرط الشيخين

(5)

.

ورواه الأوزاعي، عن عطاء، عن عبيد بن عمير، عن ابن عباس مرفوعًا بلفظ:"تجاوز الله لأمتي" إلى آخره.

(1)

في الأصول: عطاء وابن خالد، والمثبت من "علل ابن أبي حاتم".

(2)

"علل ابن أبي حاتم" 1/ 432.

(3)

"السنن" 4/ 36، والكعبية؛ لأن أباها شيبة بن عثمان صاحب مفتاح الكعبة.

(4)

انظر: "الإشراف" 1/ 171.

(5)

ابن ماجه (2045)، ابن حبان 16/ 202 (7219)، الحاكم 2/ 198.

ص: 276

وفي "علل ابن أبي حاتم" رواه ابن مصفى، عن الوليد، عن الأوزاعي، عن عطاء، عن ابن عباس. وعن الوليد، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر.

وعن الوليد، عن ابن لهيعة، عن موسى بن وردان، عن عقبة بن عامر، مرفوعًا. قال أبي: هذِه الأحاديث منكرة، كأنها موضوعة. ولم يسمعه الأوزاعي من عطاء، إنما سمعه من رجل لم يسم، أتوهم أنه عبد الله بن عامر أو إسماعيل بن مسلم، ولا يصح الحديث ولا يثبت إسناده

(1)

.

وقال عبد الله بن أحمد: ذكرت حديث ابن مصفى هذا -يعني الذي أخرجه ابن ماجه عنه - لأبي فأنكره جدًّا

(2)

.

وقال: هذا يروى من غير هذا الوجه بإسناد جيد أصلح من هذا. قال أبو القاسم في "مجمع الغرائب": تفرد به ابن المصفي، عن الوليد، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر، مرفوعًا.

والمحفوظ: عن الوليد، عن الأوزاعي، عن عطاء، عن ابن عباس. وعن الوليد، عن ابن لهيعة وموسى بن وردان، عن عقبة. وهذا حديث غريب.

ولما رواه الدارقطني أدخل بين عطاء وعبد الله، عبيدَ بن عمير

(3)

.

وفي ابن ماجه من حديث أبي ذر مرفوعًا

(4)

، وفيه سلسلة ضعفاء: أيوب بن سويد، عن أبي بكر الهذلي، عن شهر بن حوشب، عن أبي ذر، وكأنه لم يسمع منه.

(1)

"علل ابن أبي حاتم" 1/ 431.

(2)

"العلل ومعرفة الرجال" 1/ 561 (1340).

(3)

"السنن" 4/ 170 - 171.

(4)

ابن ماجه (2043).

ص: 277

واحتجوا أيضًا بقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106] فنفى الكفر باللسان إذا كان القلب مطمئنًا بالإيمان، فكذلك الطلاق إذا لم يرده ولم ينوه بقلبه لم يلزمه. وكذلك قال عطاء: الشرك أعظم من الطلاق.

وقال الطحاوي: التجاوز معناه: العفو عن الاثم؛ لأن العفو عن الطلاق والعتاق لا يصح؛ لأنه غير مذنب فيعفى عنه، قال: وكما ثبت له حكم الوطء بالإكراه، فيحرم به على الواطئ ابنة المرأة وأمها، فكذلك القول لا يمنع من وقوع ما حلف

(1)

.

واختلف في ضابط الإكراه، وستعلمه إن شاء الله تعالى في موضعه.

قال شريح: القيد كره، والوعيد كره

(2)

. وقال أحمد: الكره إذا كان القتل أو الضرب الشديد

(3)

، ولا يشترط على الأصح عند أصحابنا أن ينوي التورية، كما لو نوى طلاقًا عن وثاق

(4)

.

وأما حديث صفوان بن الأصم أن رجلاً كان نائمًا مع امرأته، فأخذت سكينًا وجلست على صدره، ووضعت السكين علي حلقه وقالت: طلقني وإلا ذبحتك. فناشدها الله، فأبت، فطلقها ثلاثًا، فذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لا قيلولة (في الطلاق)

(5)

" فمنكر. قال العقيلي لما رواه: هذا حديث منكر جدًّا، ولا يتابع عليه صفوان، ومداره عليه

(6)

.

(1)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 2/ 429.

(2)

رواه البيهقي 7/ 359.

(3)

انظر: "المغني" 10/ 352.

(4)

انظر: "أسنى المطالب" 3/ 282.

(5)

من (غ).

(6)

"الضعفاء" 2/ 211 (745).

ص: 278

وقال أبو زرعة: ضعيف، واهٍ

(1)

.

وفي "مصنف ابن أبي شيبة" أن الشعبي كان يرى طلاق المكره جائزًا، وكذا قاله إبراهيم وأبو قلابة، وإسنادهما جيد، وابن المسيب وشريح

(2)

، وفي إسنادهما ضعف.

قال ابن حزم: وصح أيضًا عن الزهري وقتادة وسعيد بن جبير، وبه يأخذ أبو حنيفة وأصحابه، وروى الفرج بن فضالة، عن (عمرو بن شراحيل)

(3)

أن امرأة أكرهت زوجها علي طلاقها، فطلقها، فرفع ذلك إلى عمر رضي الله عنه، فأمضى طلاقها. وعن ابن عمر نحوه، وكذا عن عمر بن عبد العزيز.

واحتجوا أيضًا بآثار منها: "ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح، والطلاق، والرجعة". وهي أخبار موضوعة لا ذكر فيها للمكره.

وبعد فإنما رويناها من طريق عبد الرحمن بن حبيب

(4)

- وقيل عكسه

(5)

وهو متفق علي ضعفه.

(1)

"علل ابن أبي حاتم" 1/ 436 (1312).

(2)

انظر هذِه الآثار في "مصنف ابن أبي شيبة" 4/ 85 - 86.

(3)

كذا في الأصول، وفي "الجرح والتعديل" 6/ 116: عمر بن شراحيل، روى عنه الفرج بن فضالة، وروى هو عن عمر في تجويز طلاق المكره مرسلًا. اهـ.

(4)

ورد بهامش الأصول: مذكور في "ثقات ابن حبان"، قال الذهبي: صدوق له ما ينكر قال النسائي: منكر الحديث. قال: وخرج له الترمذي عن عطاء، عن ابن ماهك، عن أبي هريرة مرفوعا، فذكر حديث:"ثلاث جدهن جد .. " الحديث، وقال: حسن غريب، وقد تعقب شيخُنا ابن حزم في دعوى الاتفاق علي ضعف عبد الرحمن هذا قريبًا فيما يأتي.

[انظر كلام الذهبي في "ميزان الاعتدال" 3/ 269 (4846)].

(5)

أي: حبيب بن عبد الرحمن.

ص: 279

و (أبو إسحاق)

(1)

عن أبي بردة، قال عليه السلام:"ما بال رجال يلعبون بحدود الله؟ يقول أحدهم: طلقت، راجعت".

وهذا مرسل، ولا حجة في مرسل إنما رواه الحسن أنه عليه السلام قال:"من طلق لاعبًا، أو أعتق لاعبًا، فقد جاز"

(2)

. ولا حجة في مرسل، وليس فيهما طلاق المكره.

وكذا ما روي من حديث محمد بن أبي ليلى وابن جريج، أنه عليه السلام قال .. الحديث

(3)

.

قلت: أما حديث: " (ثلاث)

(4)

جدهن جد" فأخرجه أبو داود وابن ماجه والترمذي وقال: حسن غريب. والحاكم في "مستدركه" وقال: صحيح الإسناد

(5)

.

قال الترمذي: والعمل علي هذا عند أهل العلم من الصحابة وغيرهم.

ورده ابن الجوزي بعطاء الراوي عن ابن ماهك، عن أبي هريرة وقال: هو ابن عجلان، وهو متروك الحديث

(6)

.

وهو من أوهامه، وإنما هو ابن أبي رباح، كما نسبه الترمذي وغيره. ودعوى ابن حزم: الاتفاق على ضعف عبد الرحمن وهم، فقد ذكره ابن حبان في "ثقاته"

(7)

.

(1)

في الأصول: يحيي، وهو خطأ، والمثبت من "المحلى".

(2)

رواه ابن أبي شيبة 4/ 119 (18400).

(3)

"المحلى" 10/ 203، 204.

(4)

من (غ).

(5)

أبو داود (2194)، الترمذي (1184)، ابن ماجه (2039)، الحاكم 2/ 198.

(6)

"التحقيق" 2/ 294 (1711).

(7)

"الثقات" 7/ 77.

ص: 280

وقال الحاكم: هو من ثقات المدنيين.

وذكره ابن خلفون أيضًا في "ثقاته".

وأما من لم يره شيئًا فعليّ بن أبي طالب، وابن عمر، وابن الزبير، وعمر بن عبد العزيز، وعطاء، والحسن -والسند إليهم لا بأس به- وابن عباس وعمر بن الخطاب.

وفي "المحلى": سند قول ابن عباس صحيح، قال: وصح أيضًا عن طاوس وأبي الشعثاء جابر بن زيد، قال: وهو قول مالك والأوزاعي والحسن بن (حيّ)

(1)

والشافعي وأبي سليمان

(2)

وأصحابه

(3)

.

زاد الييهقي أنه مذهب شريح وعكرمة وعمر بن عبد العزيز وعبد الله بن عبيد بن عمير

(4)

.

قال ابن حزم: وثم قول آخر رويناه عن الشعبي، وهو إن أكرهه اللصوص لم يلزمه، وإن أكرهه السلطان لزمه.

ورابع رويناه عن إبراهيم أنه قال: إن أكره ظلمًا فورى شيئًا إلى شيء آخر لم يلزمه، فإن لم يور لزمه، ولا ينتفع الظالم بالتورية، وهو قول سفيان.

قال ابن حزم: والصحيح أن كل عمل بلا نية باطل لا يعتد به، وطلاق المكره بلا نية فهو باطل، وإنما هو حاكٍ لما أُمِرَ بقوله فقط، ولا طلاق علي من حكي كلامًا لم يعتقده.

(1)

في الأصول: علي، والمثبت من "المحلى" 10/ 203.

(2)

ورد بهامش الأصل: يعني داود بن علي بن خلف إمام أهل الظاهر.

(3)

"المحلى" 10/ 203.

(4)

"السنن الكبرى" 7/ 358.

ص: 281

وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه".

ومما يبعد على الحنفيين من التناقض أنهم يجيزون طلاق المكره، ونكا حه، وإنكاحه، ورجعته

(1)

، وعتقه، ولا يجيزون بيعه، ولا ابتياعه، ولا هبته ولا إقراره

(2)

.

احتج لأبي حنيفة بما في مسلم عن حذيفة رضي الله عنه أن كفار قريش أخذوه وأباه، فقالوا: إنكما تطلبان المدينة. قال: وما كنا نريد غيرها.

فأخذوا منا عهد الله وميثاقه أنا لا نقاتلهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لنا عليه السلام لما أخبرناه:"انصرفا نفي لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم"

(3)

.

فلما منعهم عليه السلام من حضور بدر مع الاحتياج إليهما منها استحلاف المشركين القاهرين لهما علي ما استحلفوهما، ثبت بذلك أن الحلف على الطواعية والإكراه سواء، وستعلم كلامه فيه في الإكراه.

وأما قوله: "إن الله تجاوز لي عن أمتي" فزعم الحنفيون أن ذلك في الإشراك خاصة؛ لأن القوم كانوا حديثي عهد بالكفر في دار كانت داركفر، فكان المشركون إذا قدروا عليهم استكرهوهم على الإقرار بالكفر، كفعلهم بعمار وغيره، وفي ذلك نزل:{إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ} [النحل: 106] أو ربما سهوا، فتكلموا بما جرت عليه عادتهم قبل الإسلام، وربما أخطئوا فتكلموا بذلك، فتجاوز الله عن ذلك؛ لأنهم كانوا غير مختارين ولا قاصدين له.

(1)

ورد بهامش الأصل: في الأصل مرجعته وصوابه رجعته أو مراجعته.

(2)

"المحلى" 10/ 203، 205.

(3)

مسلم (1787).

ص: 282

وقد أجمعوا أن من نسي أن تكون له زوجة، فقصد إليها فطلقها، أن طلاقها واقع، ولم يبطلوا طلاقه بسهوه، ولم يدخل هذا السهو في السهو المعفو عنه، وكذلك الإكراه

(1)

.

واحتج بعض أصحاب أبي حنيفة بحديث: "كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه المغلوب عقله". وهو حديث ضعيف من طريق أبي هريرة، أخرجه الترمذي وقال: لا نعرفه مرفوعًا إلا من حديث عطاء بن عجلان، وهو ضعيف.

(2)

.

وأخرجه ابن حزم من حديث عطاء بن عجلان، عن عكرمة، عن ابن عباس

(3)

، فالله أعلم.

وقال مهنا: حدثني أحمد، ثنا حجاج، عن شريك، عن أبي إسحاق، عن الأسود، عن عكرمة قال: كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه، فأنكر أحمد وقال: هو عن الأعمش، عن إبراهيم، عن (عابس)

(4)

بن ربيعة، عن عليٍّ.

وأخبرنا وكيع، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عمن سمع عليًّا رضي الله عنه يقول، فذكره. وقال المروزي: ذُكر لأحمد نصر بن باب، فقال: ما كتبنا عنه إلا عن شعبة، عن مسعر، عن ابن عون، أن ابن عمر طلق عن ابن له معتوه.

(1)

"شرح معاني الآثار" 3/ 95 - 96.

(2)

الترمذي (1191).

(3)

"المحلى" 10/ 203.

(4)

في الأصل: عامر، والمثبت من "المصنف" لابن أبي شيبة 4/ 74، وعابس بن ربيعة يروي عن علي كما في "تهذيب الكمال" 13/ 472 أما عامر بن ربيعة فهو صحابي.

ص: 283

الوجه الثالث:

قوله: (والسكران). اختلف الناس في طلاقه على قولين:

أحدهما: لا يقع طلاقه، وممن قال به عثمان وجابر بن زيد وعطاء وطاوس وعكرمة والقاسم، وعمر بن عبد العزيز، ذكره ابن أبي شيبة بأسانيده

(1)

.

زاد ابن المنذر: ابن عباس وربيعة والليث وإسحاق والمزني وأبو ثور

(2)

.

واختاره الطحاوي وقال: أجمع الفقهاء على [أن]

(3)

طلاق المعتوه لا يجوز، والسكران معتوه بسكره كالموسوس، ولا يختلفون في أن من شرب البنج، فذهب عقله، أن طلاقه غير جائز، وكذلك من سكر من الشراب

(4)

.

وثانيهما: يقع، قاله مجاهد ومحمد والحسن وسعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز والنخعي وميمون بن مهران وحميد بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار والزهري والشعبي والحكم، والإسناد إليهم جيد.

وروي أيضًا عن عمر وشريح ومعاوية بن أبي سفيان وسالم بن عبد الله والأوزاعي والثوري، وهو قول مالك، ومشهور مذهب أبي حنيفة، وأظهر قولي الشافعي، فهؤلاء أحد وعشرون نفسًا.

وذكره ابن وهب فيما حكاه ابن بطال عنه، عن عطاء والقاسم وسالم، وذكره ابن المنذر، عن ابن سيرين، وألزمه مالك الطلاق

(1)

ابن أبي شيبة 4/ 79.

(2)

"الإشراف" 1/ 170.

(3)

قلادة يقتضيها السياق.

(4)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 2/ 431، 432.

ص: 284

والقود من الجراح من القتل، ولم يلزمه النكاح ولا البيع

(1)

. وقال الكوفيون: أقوال السكران وعقوده كلها ثابتة، كفعل الصاحي إلا الردة، فإنه إذا ارتد لا تبين منه امرأته استحسانًا.

وقال أبو يوسف: يكون مرتدًّا في حال سكره، إلا أنا لا نقتله في حال سكره، ولا نستتيبه.

قال ابن المرابط: السكران إذا تيقنا ذهاب عقله لم يلزمه الطلاق، وأمره مشكل؛ لأن من السكارى من لا يفقد عقله، ولا يذهب عنه شيء بما قاله أو فعله أو قيل له أو فعل به، ومنهم من لا يذكر شيئًا، ومنهم من يذكر البعض، ولا يذكر البعض فأشكل أمرهم، فأشبه أن الطلاق يلزمه، إذ المعلوم في أغلب الأحوال أنه لا يذهب عنه جميع عقله.

والدليل على ذلك أنه نطق بكلام مفهوم من الطلاق، وقد اشترط الله أن حد السكر الذي تبطل به الأعمال من صلاة وغيرها، أن لا يعلم ما يقول، وهذا المطلق قد علم ما قال، وقصد به معنى معلومًا في السنة، مشروعًا لأهل الملة؛ لأنه قال لمن لا يقال إلا له، فصح قصده، فوجب إلزامه بالطلاق، ولو لم يكن يوجب إلزامه الطلاق إلا لسد الذرائع.

وأيضًا فإجماعنا مع المخالف في أحكام التكليف جارية عليه، كالقود إذا قتل، والحد إذا زنى أو قذف، ووجوب قضاء الصلاة، فكذلك الطلاق.

(1)

"شرح ابن بطال" 7/ 412، وانظر "الاستذكار" 18/ 160 - 161، "الإشراف" 1/ 170 - 171.

ص: 285

فصل:

قال المهلب: واستدلال البخاري بحديث حمزة -وقد سلف مسندًا في البيوع- غير جيد؛ لأن الخمر يومئذٍ كانت مباحة، فلذلك سقط عنه حكم ما نطق به في تلك الحال. ولسبب القضية كان تحريم الخمر، وليس يجب أن يحكم بما كان قبل تحريم الخمر بما كان بعد تحريمها؛ لاختلاف الحكم في ذلك.

قلت: الإسكار ليس مباحا إذ ذاك كما قاله أهل الأصول.

وقوله فيه: (ثمل). أي: سكران. واحتج من أوقع طلاق السكران، وفرقوا بينه وبين المجنون.

قال عطاء: ليس السكران كالمغلوب على عقله

(1)

؛ لأن السكران أتى بما أتى وهو يعلم أنه يقول ما لا يصلح

(2)

.

قال غيره: ألا ترى أن المجنون لا يقضي ما فاته من صلاته في حال جنونه، بخلاف السكران، فافترقا.

وذكر ابن المنذر أن بعض أهل العلم رد هذا القول، فقال: ليس في احتجاج من احتج أن الصلاة تلزمه -بخلاف المجنون- حجة؛ لأن الصلاة قد تلزم النائم، ولو طلق في حال نومه فلا وقوع كالمجنون.

وفي قولهم: إن السكران إذا ارتد ولم يستتب في حال سكره، ولم يُقتل، دليل علي أن لا حكم لقوله

(3)

.

(1)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 2/ 430 - 431.

(2)

رواه عبد الرزاق 7/ 82 (12296).

(3)

"الإشراف" 1/ 170 بتصرف.

ص: 286

ورده المهلب فقال: معلوم في الأغلب من الحال أن السكران إذا طلق لم يذهب جميع عقله، بدليل نطقه بكلام مفهوم، فعلم ما قال. ولا قياس على ما إذا تداوى فسكر؛ فإنه إذا شربه لقصد الإزالة رفع.

فصل:

في حقيقة السكر عندنا خلاف محله الفروع، وقد بسطناه فيه.

الوجه الرابع:

أثر عثمان رضي الله عنه، أخرجه ابن أبي شيبة بإسناد جيد عن وكيع، ثنا ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن أبان بن عثمان، عنه، أنه كان لا يجيز طلاق السكران والمجنون. وكان عمر بن عبد العزيز يجيز ذلك حتى حدثه أبان بهذا وبه: ليس لمجنون ولا لسكران طلاق

(1)

.

والإجماع قائم على أن طلاق المجنون والمعتوه غير واقع

(2)

. وقد احتج في ذلك علي هذا الباب بما فيه مقنع.

قال مالك: وكذلك المجنون الذي يفيق أحيانًا يطلق في حال جنونه، والمبرسم قد رفع عنه القلم؛ لغلبة العلم أنه فاسد المفاصد، وأن أفعاله وأقواله مخالفة لرتبة العقل.

ومعنى قوله: "أبك جنون؟ " يعني: في بعض أوقاتك، كما قال المهلب؛ إذ لو أراد جنون الدهر كله ما وثق بقوله أن به جنونًا، وإنما معناه: أبك جنون في غير هذا الوقت؟ فيكون قولك: إنك قد زنيت في وقت ذلك الجنون، وإنما طلب عليه السلام شبهة يدرأ عنه الحد بها؛

(1)

ابن أبي شيبة 4/ 79 (17967).

(2)

"الإجماع" لابن المنذر 113 (451).

ص: 287

لأن المجنون إنما يحمل أمره علي فقد العقل وفساد المفاصد في وقت جنونه.

والسكران أصله العقل، والسكر إنما هو طارئ على عقله، فما وقع منه من كلام مفهوم فهو محمول علي أصل عقله، حتى ينتهي إلى فقدان العقل.

فصل:

وأثر ابن عباس أخرجه ابن أبي شيبة بإسناد جيد، عن هشيم، عن عبد الله بن طلحة الخزاعي، عن أبي يزيد المديني، عن عكرمة (عنه)

(1)

: ليس لسكران ولا مضطهد طلاق

(2)

. يعني: المغلوب المقهور. قال أبو نصر

(3)

: يقال: فلان ضُهْدَةٌ لكل أحد. إذا كان من شاء أن يقهره فعل

(4)

.

فصل:

وقول نافع أخرج معناه ابن أبي شيبة، عن عبيد، عن عبد الله، عن نافع. وكذا أثر إبراهيم (إن قال: لا حاجة لي فيك. نيته)، أخرجه عن حفص بن غياث، عن إسماعيل، عنه. وقال مكحول وقتادة فيه: ليس بشيء.

وقال الحكم وحماد: إن نوى طلاقًا فواحدة، وهو أحق بها.

وقال الحسن: هي تطليقة إن نواه.

(1)

من (غ).

(2)

ابن أبي شيبة 4/ 84 (18021) وليس في إسناده عكرمة، ولفظه: ليس لمكره ولا لمضطهد طلاق.

(3)

ورد بهامش الأصل: هو الجوهري، قاله في "صحاحه".

(4)

"الصحاح" 2/ 501.

ص: 288

وقال عكرمة: هذِه واحدة

(1)

.

وقول الزهري في: (ما أنت بامرأتي). أخرجه أيضًا بإسناد جيد، عن عبد الأعلى، عن معمر، عنه.

وذكره أيضًا عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، (وأبي عبد الله الجدلي)

(2)

، وسعيد بن المسيب، وأبي الشعثاء، وقتادة. وقال سعيد بن جبير والحسن وعطاء: ليس بشيء

(3)

.

فصل:

وقول علي ذكره بصيغة جزم، وهو حديث ثابت، أخرجه أصحاب السنن الأربعة مرفوعًا، وحسنه الترمذي وقال: حسن غريب من هذا الوجه، ولا نعلم للحسن سماعًا من عليٍّ. وصححه ابن حبان والحاكم، وزاد: على شرط الشيخين

(4)

.

وأخرجه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، من حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعًا أيضًا. وصححه ابن حبان والحاكم، وزاد: على شرط مسلم

(5)

.

وقال ابن المنذر: إنه ثابت، قال: واختلفوا في طلاق الصبي مالم يبلغ، وأكثرهم يقول: لا يجوز، وأجازه قوم

(6)

.

(1)

ابن أبي شيبة 4/ 80 - 81.

(2)

كذا في الأصول، وفي ابن أبي شيبة: أبو عبيد الله الهذلي.

(3)

ابن أبي شيبة 4/ 114 - 115.

(4)

أبو داود (4401)، الترمذي (1423)، والنسائي في "الكبرى" 4/ 324 (7346)، وابن ماجه (2042)، وابن حبان 1/ 356 (143)، والحاكم 2/ 59.

(5)

أبو داود (4398)، و"النسائي" 6/ 156، وابن ماجه (2041)، وابن حبان 1/ 355 (142)، والحاكم 2/ 59.

(6)

"الإشراف" 1/ 169.

ص: 289

وعند الخلال: قال يحيي بن معين: ليس يروي هذا الحديث أحد إلا حماد بن سلمة، عن حماد -يعني: ابن إبراهيم- عن الأسود، عنها.

وفي "سؤالات ابن الجنيد": سئل يحيي عن حديث حماد هذا فقال: ليس يرويه إلا حماد عن حماد.

وقال مهنا: حدثنا أحمد، ثنا حجاج، عن شريك، عن أبي إسحاق، عن الأسود، عن عليٍّ.

ثم قال: أنكره أحمد وقال: هو عن الأعمش، عن إبراهيم عن عابس بن ربيعة، عن عليٍّ بن منصور، عن إبراهيم، بإسناد مثله.

فرع: ذكر أبو يعقوب موسى الحاصي في "فتاويه الصغرى" أن الجنون المطبق عند أبي يوسف أكثر السنة. وفي رواية: أكثر من يوم وليلة. وفي أخرى: شهر. وعن محمد: سنة كاملة. وفي رواية: سبعة أشهر. والصحيح كما قال أبو يعقوب: ثلاثة أيام.

فصل:

وأثر عليٍّ: (كل الطلاق جائز إلا طلاق المعتوه). سلف. وممن قال به -فيما ذكره ابن أبي شيبة- الشعبي والنخعي وابن المسيب وشريح ومحمد بن مسلم بن شهاب، بأسانيد جيدة، وروي عن الضحاك، وعن نافع أن المغيرة بن عبد الرحمن طلق امرأته وهو معتوه، فأمر ابن عمر امرأته أن تعتد، فقيل له: إنه معتوه. فقال: إني لم أسمع الله تعالى استثنى طلاق المعتوه ولا غيره.

وقال عمرو بن شعيب: وجدنا في كتاب عبيد الله بن عمرو عن عمرو: إذا عبث المجنون بامرأته طلق عليه وليه، وبه قال عطاء وابن المسيب.

ص: 290

وقال معمر: لا يجوز عليه طلاق وليه. وسئل أبو قلابة في امرأة زوجها مجنون يطلق عليه وليه؟ فكتب: أيما امرأة ابتلاها الله بالبلاء فلتصبر

(1)

.

وقال الحسن والشعبي وأبان بن عثمان وابن سيرين: لا يجوز طلاق المجنون

(2)

. وأما الزهري فقال: يجوز طلاق المجنون

(3)

.

وقال أبو الشعثاء في رجل طلق حين أخذه جنونه، فقال: يجوز. وسئل عمر بن الخطاب عن مجنون يخاف عليه أن يقتل امرأته، فقال: يؤجل سنة يتداوى

(4)

. فإن طلق في حال (مُوتَتِه)

(5)

فلا شيء عليه. قاله ابن المسيب وإبراهيم والحسن وقتادة، وقال الشعبي: الذي يصيبه في الحين طلاقه، وعتاقه جائز

(6)

.

فائدة:

المعتوه: الناقص العقل، وقد عته. والتَّعَتُّه: التَّجَنُّن والرعونة، يقال: رجل معتوه، بين العته، ذكره أبو عبيد في المصادر التي لا تشتق منها الأفعال

(7)

.

(1)

انظر هذِه الآثار في ابن أبي شيبة 4/ 74، 75.

(2)

انظر: "الإشراف" 1/ 169.

(3)

كذا في الأصول، وهو مخالف لما روي عنه كما في ابن أبي شيبة 4/ 73 حيث قال: لا يجوز طلاق المجنون إذا أخذ، فإذا صح فهو جائز. اهـ.

وكذا نقل ابن المنذر في "الإشراف" 1/ 169 عنه أنه لا يجوز طلاقه.

(4)

ابن أبي شيبة 4/ 75 - 76 (17928).

(5)

الموتة: جنس من الجنون والصرع يعتري الإنسان، فإذا أفاق عاد إليه كمالُ عقله كالنائم والسكران. "الصحاح" 1/ 268.

(6)

انظر: "مصنف ابن أبي شيبة" 4/ 74 - 75.

(7)

انظر: "الصحاح" 6/ 2239.

ص: 291

الوجه الخامس:

اختلف في الخطأ والنسيان في الطلاق، فقالت طائفة: من حلف علي أمر أن لا يفعله بالطلاق ففعله ناسيًا لم يحنث، هذا قول عطاء، وهو أحد قولي الشافعي، وبه قال إسحاق، وروى (عمر بن نافع)

(1)

، فيمن حلف بالطلاق وهو لا يريده فسبقه لسانه: يدين فيما بينه وبين الله. وكذلك قال الشافعي، فيمن غلبه لسانه بغير اختيار منه فقوله كَلَا قول، ولا يلزمه طلاق ولا غيره.

وروي عن الشعبي وطاوس، في الرجل يحلف على الشيء فيخرج على لسانه غير ما يريد: له نيته

(2)

. وخففه أحمد

(3)

، وقال الحكم: يؤخذ بما تكلم به

(4)

. وممن أوجب عليه الحنث مكحول وعمر بن عبد العزيز وربيعة والزهري، وهو قول مالك والثوري والكوفيين وابن أبي ليلى والأوزاعي

(5)

.

وحجة من لم يوجب الحنث عليه حديث الباب: "العمل بالنية" والناسي لا نية له، وحديث:"إن الله تجاوز عن أمتي".

واحتج الذين أوجبوا الحنث فقالوا: معنى: رفع الخطأ والنسيان: إنما هو في الإثم بينك وبين الله، وأما في حقوق العباد فلازمة في الخطأ والنسيان في الدماء والأموال، وإنما يسقط في قتل الخطأ ما كان يجب فيه من عقوبة أو قصاص.

(1)

كذا في (الأصل)، وفي (غ) و"شرح ابن بطال" 7/ 415: عن نافع.

(2)

عبد الرزاق 6/ 383 - 384.

(3)

انظر: "مسائل أحمد وإسحاق" برواية الكوسج 1/ 435 (1134).

(4)

عبد الرزاق 6/ 384.

(5)

انظر هذِه المسألة في "الإشراف" 1/ 173.

ص: 292

ووقع في كثير من النسخ: والنسيان في الطلاق والشرك. وهو خطأ، والصواب: والشك، مكان الشرك.

الوجه السادس:

اختلف العلماء في الشك في الطلاق، فأوجبه مالك، وقال الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز: أفرق بالشك ولا أجمع به.

وممن لم يوجبه بالشك ربيعة والشافعي وأحمد وإسحاق. قال الشافعي ومن بعده: من شك أخذ بالأقل حتى يستبين

(1)

. ولا يجوز عندهم أن يرفع نفس النكاح بشك الحنث، وإليه أشار البخاري.

فصل:

قول عطاء: (إذا بدا بالطلاق فله شرطه) يريد: مثل قوله: أنت طالق إن فعلت كذا، وشبهه. وذكر عن بعضهم أنه لا ينتفع بشرطه.

وقول الزهري إلى آخره يريد أنه لم يحلف بحضرة بينة؛ لأنه لا يقبل ذلك منه إذا حضرت البينة يمينه. وقول نافع يأتي.

وقول إبراهيم: (لا حاجة لي فيك) هو قول أصحاب مالك، قالوا: يلزمه إذا أراده، وإلا حلف ودُين.

وقال أصبغ: إن لم ينو عددًا من الطلاق، فذلك علي ثلاث حتى يريد واحدة

(2)

.

(1)

انظر: هذِه المسألة في: "مختصر اختلاف العلماء" 2/ 425 - 426، "المدونة" 2/ 120 "مختصر المزني" 4/ 85 "مسائل أحمد وإسحاق" برواية الكوسج 1/ 403 (1044).

(2)

انظر: "النوادر والزيادات " 5/ 165.

ص: 293

فصل:

وقوله: (وطلاق كل قوم بلسانهم) فالعلماء مجمعون أن العجمي إذا طلق بلسانه وأراد الطلاق، أنه يلزمه

(1)

؛ لأنهم وسائر الناس في أحكام الله سواء.

فصل:

وأما قول قتادة: (إذا حملت) إلى آخره. أخرجه ابن أبي شيبة، عن عبد الأعلى عن سعيد عنه، وحكاه أيضًا عن محمد بن سيرين والحسن

(2)

، وهو قول ابن الماجشون، وحكي مثله ابن المواز، عن أشهب قال: في قوله: إذا حملت، وإذا حضنت، وإذا وضعت، ليس بأجل، ولا شيء عليه حتى يكون ما شرط

(3)

وهو قول الثوري والكوفيين والشافعي.

قالوا: وسواء كان هو غيب لا يُعلم أو مما يُعلم، نحو قوله: إن ولدت، وإذا مطرت السماء، وإذا جاء رأس الهلال، فإنه لا يقع الطلاق إلا بوجود الوقت والشرط

(4)

.

وقال ابن القاسم في قوله: (إذا حملت فأنت طالق). لا يمنع من وطئها في ذلك الطهر مرة فقط، ثم يطلق إذا وطئها حينئذٍ، ولو كان قد وطئها فيه قبل مقالته، طلقت مكانها، ويصير كالذي قال لزوجته: إن كنت حاملًا فأنت طالق، وإلا فأنت طالق، فإنها تطلق مكانها، ولا ينتظر إخبارها أبها حمل أم لا، إذ لو ماتا لم يتوارثا. وكذلك

(1)

"الإجماع" لابن المنذر ص 113 (446).

(2)

ابن أبي شيبة 4/ 118 (18389، 18390).

(3)

انظر: "النوادر والزيادات" 5/ 103.

(4)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 2/ 438، "المغني" 10/ 454.

ص: 294

قوله لغير حامل: إذا حملت فوضعت فأنت طالق. أو قال: إذا وضعت فقط فأنت طالق. إن وطئ في ذلك الطهر، وإلا إذا وطئ مرة طلقت

(1)

.

وقال ابن أبي زيد: واختلف فيه قول مالك

(2)

.

وقال الطحاوي: لا يختلفون فيمن أعتق عبده إذا كان هذا لما هو كائن لا محالة، أو لما قد يكون وقد لا يكون أنهما سواء، ولا يعتق حتى يكون الشرط، فكذلك الطلاق.

فصل:

(وقول)

(3)

الزهري: (إن قال: ما أنت بامرأتي. نيته) هو قول مالك وأبي حنيفة والأوزاعي. وقال الليث: هي كذبة. وقال أبو يوسف ومحمد: ليس بطلاق

(4)

.

فصل:

وقول قتادة: (إذا طلق في نفسه فليس بشيء) أخرجه ابن أبي شيبة، عن حفص بن غياث، عن ابن أبي عروبة، عنه

(5)

.

ورواه عبد الرزاق، عن معمر، عنه

(6)

. وقاله أيضًا محمد بن سيرين، والحسن بن أبي الحسن، وسعيد بن جبير، وجابر بن زيد، وعطاء، وعامر بن شراحيل، فيما ذكره ابن أبي شيبة

(7)

، وهو قول

(1)

انظر: "شرح ابن بطال" 7/ 417.

(2)

"النوادر والزيادات" 5/ 103.

(3)

من (غ).

(4)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 2/ 424 - 425.

(5)

ابن أبي شيبة 4/ 88 (18057).

(6)

عبد الرزاق 6/ 412.

(7)

ابن أبي شيبة 4/ 88.

ص: 295

أبي حنيفة والشافعي

(1)

والظاهرية، كأنهم تعلقوا بالحديث السالف الصحيح في الباب:"إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها، مالم تعمل به أو تكلم". جعل ما لم ينطق به اللسان لغوًا لا حكم له، حتى إذا تكلم به يقع الجزاء عليه ويلزمه المتكلم به.

وفي "المحلى" أن ابن سيرين توقف في ذلك. وقال الزهري: هو طلاق، وهو رواية أشهب عن مالك

(2)

.

وحكاه ابن بطال عن ابن سيرين أيضًا، قال: والأظهر من مذهبه عدم الوقوع، قال: وهو قول جماعة أئمة الفتوى

(3)

.

قال ابن حزم: واحتج من ذهب إلى هذا القول إلى حديث: "إنما الأعمال بالنيات". أي: فجعل الأعمال مقرونة بالنيات. ولو كان حكم من أضمر في نفسه شيئًا حكم المتكلم به، كان حكم من حدث نفسه في الصلاة بشيء متكلمًا.

وفي إجماعهم على أن ذلك ليس بكلام مع الحديث الصحيح: "من صلى صلاة لا يحدث فيها نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه". دليل على أن حديث النفس لا يقوم مقام الكلام. قال: فيقال لهم: هذا حجة لنا عليكم؛ لأنه عليه السلام لم يفرد أحدهما عن الآخر، بل جمعهما جميعًا، ولم يوجب حكمًا بأحدهما دون الآخر.

وكذا يقول: إن من نوى الطلاق ولم يتلفظ به، أو لفظ به ولم ينوه، فليس ذلك طلاقًا حتى يلفظ به وينويه إلا أن يحضر نص بإلزامه بنية دون

(1)

انظر: "المبسوط" 6/ 143، "روضة الطالبين" 8/ 45 - 46.

(2)

"المحلى" 10/ 198 - 199.

(3)

"شرح ابن بطال" 7/ 417.

ص: 296

عمله، أو بعمل دون نية، فيقف عنده. واحتجوا أيضًا بأن قالوا: إنكم تقولون: من اعتقد الكفر بقلبه فهو كافر، وإن لم يلفظ به. وتقولون: إن العصر على المعاصي آثم معاقب بذلك.

وتقولون: إن من قذف محصنة في نفسه فهو آثم غير قاذف، ومن اعتقد عداوة مؤمن ظلمًا فهو آثم عاص لله، وإن لم يظهر ذلك بقول ولا عمل، وإن من أعجب بعلم أو راعى به فهو هالك.

قلت: أما اعتقاد الكفر فإن القرآن العظيم قضى بذلك قضاءً، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ} إلي قوله: {وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} [المائدة: 41] فهذا خرج بالنص، وأيضًا فإن العفو عنه من حديث النفس إنما هو عن هذِه الأمة فضيلة لهم بنص الحديث. ومن أصر على الكفر فليس من أمته. وأما المصر على المعاصي فليس كما ظننتم، صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه"

(1)

فصح أن المصر على الإثم بإصراره هو الذي عمل السيئة ثم أصر عليها، وهذا جمع النية السوء والعمل السوء معًا.

أما من قذف محصنة في نفسه فقد نهاه الله عن الظن السوء، وهذا ظن سوء، فخرج عما عُفي عنه بالنص، ولا يحل أن يقاس عليه غيره، فخالف النص الثابت.

وأما من اعتقد عداوة مسلم فإن (لم يضر)

(2)

بعمل ولا بكلام فإنما هي بغضة، والبغضة التي لا يقدر المسلم على صرفها عن نفسه لا يؤاخذ بها، فإن تعمد ذلك فهو عاص؛ لأنه مأمور بموالاة المسلم ومحبته، فتعدى ما أمره الله به، فلذلك أثم.

(1)

رواه مسلم (130).

(2)

في (غ): (لم يضره).

ص: 297

وكذلك الرياء والعجب، فقد صح النهي عنهما، ولم يأتِ نص قط بإلزام طلاق أو عتاق أو رجعة أو هبة أو صدقة بالنفس، مالم يلفظ بشيء من ذلك، فوجب أنه كله لغو

(1)

.

فرع:

اختلف في كتابة الطلاق من غير تلفظ به، فأوجب قوم الطلاق بالكتابة، هذا قول النخعي والشعبي والحكم والزهري ومحمد بن الحسن واحتج الحكم بأن الكتاب كلام بقوله تعالى:{فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 11] قال: كتب لهم. وهو قول أحمد بن حنبل: إذا كتب طلاق امرأته بيده فقد لزمه؛ لأنه عمل بيده.

وقالت طائفة: إن أنفذ الكتاب إليها نفذ الطلاق. روي ذلك عن عطاء والحسن وقتادة. وقال مالك والأوزاعي: إذا كتب إليها وأشهد علي كتابه، ثم بدا له فله ذلك مالم يوجه إليها بكتاب، فإذا وجهه فقد طلقت في ذلك الوقت، إلا أن ينوي أنها لا تطلق عليه حتى يبلغ كتابه

(2)

.

فصل:

وقال ابن عباس: (الطلاق عن وطر) أي: عن حاجة. قال أهل اللغة: ولا يبنى منه فعل

(3)

. وقول الحسن: (إذا قال: الحقي بأهلك. نيته) وكذا قول الزهري بعده فيها: (ما أنت بامرأتي) قال ابن القاسم

(1)

"المحلى" 10/ 199 - 200.

(2)

انظر هذِه المسألة في: "مصنف عبد الرزاق" 6/ 413 - 414، و"مصنف ابن أبي شيبة" 4/ 81 - 82، "مختصر اختلاف العلماء" 2/ 442 - 443، "المنتقى" 4/ 15، "الإشراف" 1/ 154، "المغني" 10/ 504.

(3)

"الصحاح" 2/ 846.

ص: 298

نحوه: إنه ليس بشيء، إلا أن ينوي به الطلاق، فيكون علي ما نوى ويحلف. قال أصبغ: وإن نوى به الطلاق ولم ينو عددًا، فهي النية.

فصل:

حديث أبي هريرة سلف، وحديث جابر يأتي في الحدود.

ومعنى (أذلقته) -كما قال صاحب "العين"-: أحرقته

(1)

. يقال: أذلق الرجل غيره: أحرقه بطعنة أو حجر يضربه به. وعبارة بعضهم: أذلقته: بَلَغَتْ منه الجهد حتى قَلِقَ

(2)

.

وكانت عائشة رضي الله عنها تصوم في السفر حتى أذلقها السموم

(3)

. أي: جهدها. أذلقه الصوم، وذلقه: ضعفه.

وقال الخطابي: أي أصابته بذلقها. أي: بحدها

(4)

.

وقال ابن فارس: كل محدود مذلق، قال: والإذلاق: سرعة الرمي

(5)

. وقد سلف تفسير الحرة في الصيام، وهي: أرض ذات حجارة سوداء. ومعنى (جمز): وثب، وأسرع هاربًا، يجمز جمزًا من القتل.

وفي كتاب "الأفعال": جمز الفرس جمزًا وأجمز: وثب. فاستعير الجمز للإنسان بمعنى الوثب وجمز الإنسان: أسرع في مشيه

(6)

، والجَمَزى -بالتحريك-: ضرب من السير، سريع فوق العنق دون الحُضْرِ.

(1)

الذي في "العين" 5/ 134 - 135، والذلق: تحديدك إياه. وأذلقته وأذلقته: حددته .. والإذلاق: سرعة الرمي.

(2)

انظر: "النهاية في غريب الحديث" 2/ 165.

(3)

رواه ابن أبي شيبة 2/ 281 (8980).

(4)

"أعلام الحديث" 3/ 2035.

(5)

"المجمل" 1/ 360.

(6)

"الأفعال" ص 47.

ص: 299

فصل:

قد أسلفنا الخلاف في طلاق الصبي، وأن الأكثر على المنع. ومعنى (يدرك): يحتلم كما في الرواية الأخرى. وفي أخرى: حتى يبلغ.

وقال مالك في "مختصر ما ليس في المختصر"، فيمن ناهز الاحتلام، فقال:(إن)

(1)

. تزوجت فلانة فهي طالق. فتزوجها يفرق بينهما.

وروي عن ابن المسيب والحسن في طلاق من لم يحتلم أنه لازم

(2)

. وقال أحمد بن حنبل: إذا أطاق صيام شهر رمضان وأحصى الصلاة

(3)

. وقال عطاء: إذا بلغ اثنتي عشرة سنة

(4)

.

فصل:

قوله في حديث جابر: (فَتَنَحَّى لِشِقِّهِ الذِي أَعْرَضَ) وكذا في حديث أبي هريرة. أي: قصد الجهة التي إليها وجهه صلى الله عليه وسلم.

وقوله: (فشهد علي نفسه أربع شهادات) أخبر به ابن أبي ليلى وأحمد في اعتبار إقراره أربعًا في مجلس واحد أو مجالس، وخصه أبو حنيفة وأصحابه بالمجالس المتفرقة، ومذهبنا ومذهب مالك: أنه يكفي مرة؛ لحديث: "فإن اعترفت فارجمها"

(5)

.

(1)

من (غ).

(2)

ابن أبي شيبة 4/ 76 (17931).

(3)

"مسائل أحمد وإسحاق" برواية حرب ص 193.

(4)

الذي عن عطاء: إذا بلغ أن يصيب النساء، كما في:"مصنف عبد الرزاق" 7/ 84 (12311) ووقفت عليه من قول إسحاق كما في "مسائل أحمد وإسحاق" برواية حرب ص 193، و"الإشراف" 1/ 170.

(5)

سبق برقم (2315)، انظر هذِه المسألة في:"مختصر اختلاف العلماء" 3/ 283، "المدونة" 4/ 383، "الأم" 6/ 119، "المغني" 12/ 354.

ص: 300

قوله: (وكان قد أحصن). أي وطئ في نكاح صحيح.

قال ثعلب فيما حكاه ابن فارس: كل امرأة عفيفة محصِنَة ومحصَنة، وكل امرأة متزوجة فهي مُحصَنَة لا غير. قال: ويقال: أحصن الرجل، فهو مُحْصَن، (وذا)

(1)

أحد ما جاء علي أفعل فهو مُفعَل

(2)

، قيل: ومنه {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} [المائدة: 5]. أي: متزوجين غير زناة.

(1)

في الأصول: وإذا، والمثبت من "المجمل".

(2)

"المجمل" 1/ 237.

ص: 301

‌12 - باب الْخُلْعِ وَكَيْفَ الطَّلَاقُ فِيهِ

؟

وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} إِلَى قَوْلِهِ: {الظَّالِمُونَ} [البقرة: 229] وَأَجَازَ عُمَرُ رضي الله عنه الْخُلْعَ دُونَ السُّلْطَانِ، وَأَجَازَ عُثْمَانُ رضي الله عنه الْخُلْعَ دُونَ عِقَاصِ رَأْسِهَا. وَقَالَ طَاوُسٌ:{إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 229] فِيمَا افْتَرَضَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ فِى الْعِشْرَةِ وَالصُّحْبَةِ، وَلَمْ يَقُلْ قَوْلَ السُّفَهَاءِ: لَا يَحِلُّ. حَتَّى تَقُولَ: لَا أَغْتَسِلُ لَكَ مِنْ جَنَابَةٍ.

5273 -

حَدَّثَنَا أَزْهَرُ بْنُ جَمِيلٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ أَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ مَا أَعْتُبُ عَلَيْهِ فِى خُلُقٍ وَلَا دِينٍ، وَلَكِنِّي أَكْرَهُ الْكُفْرَ فِي الإِسْلَامِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ» . قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «اقْبَلِ الْحَدِيقَةَ وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً» . [5274، 5275، 5276، 5277 - فتح 9/ 395].

5274 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ الْوَاسِطِيُّ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، أَنَّ أُخْتَ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ بِهَذَا، وَقَالَ:«تَرُدِّينَ حَدِيقَتَهُ؟» . قَالَتْ: نَعَمْ. فَرَدَّتْهَا، وَأَمَرَهُ يُطَلِّقْهَا.

وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، عَنْ خَالِدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَطَلِّقْهَا. [انظر: 5273 - فتح 9/ 395].

5275 -

وَعَنِ ابْنِ أَبِى تَمِيمَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةُ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي لَا أَعْتُبُ عَلَى ثَابِتٍ فِى دِينٍ وَلَا خُلُقٍ، وَلَكِنِّي لَا أُطِيقُهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم «فَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟». قَالَتْ: نَعَمْ. [انظر:5273 - فتح 9/ 395].

ص: 302

5276 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْمُبَارَكِ الْمُخَرِّمِيُّ، حَدَّثَنَا قُرَادٌ أَبُو نُوحٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةُ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا أَنْقِمُ عَلَى ثَابِتٍ فِي دِينٍ وَلَا خُلُقٍ، إِلاَّ أَنِّى أَخَافُ الْكُفْرَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«فَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟» . فَقَالَتْ: نَعَمْ. فَرَدَّتْ عَلَيْهِ، وَأَمَرَهُ فَفَارَقَهَا. [انظر:5273 - فتح 9/ 395].

5277 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ جَمِيلَةَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. [انظر: 5273 - فتح 9/ 395].

ثم ساق حديث خَالِدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، أَنَّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ أَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ لا أَعْتُبُ عَلَيْهِ فِي خُلُقٍ وَلَا دِينٍ، وَلَكِنِّي أَكْرَهُ الكُفْرَ فِي الإِسْلَامِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟ ". قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "اقْبَلِ الحَدِيقَةَ وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً". ولا يتابع في ابن عباس.

وعن عكرمة: أَنَّ أُخْتَ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ بهذا، وَقَالَ:"تَرُدِّينَ حَدِيقَتَهُ؟ ". قَالَتْ: نَعَمْ. فَرَدَّتْه، وَأَمَرَهُ أن يُطَلِّقْهَا.

وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، عَنْ خَالِدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:"وَطَلِّقْهَا"

وعن أيوب بن أبي تميمة، عن عكرمة، عَنِ ابن عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةُ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ إلى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي لَا أَعْتُبُ عَلَى ثَابِتٍ فِي دِينٍ وَلَا خُلُقٍ، وَلَكِنِّي لَا أُطِيقُهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"فَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟ ". قَالَتْ: نَعَمْ.

ثم ساق عن أيوب، عن عكرمة، عَنِ ابن عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةُ ثَابِتٍ إلى رسول صلى الله عليه وسلم فقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا أَنْقِمُ عَلَى ثَابِتٍ فِي دِينٍ

ص: 303

وَلَا خُلُقٍ، إِلَّا أَنِّي أَخَافُ الكُفْرَ. فقال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"فَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟ ". قَالَتْ: نَعَمْ. فَرَدَّتْ عَلَيْهِ، وَأَمَرَهُ فَفَارَقَهَا.

وفي إسناده قراد أبو نوح، وقراد لقب، واسمه عبد الرحمن بن غزوان مولى خزاعة، سكن بغداد، ومات سنة سبع ومائتين

(1)

.

وعن أيوب عن عكرمة أن جميلة .. فذكر الحديث.

الشرح:

هذا الحديث من أفراد البخاري، وتعليق إبراهيم أخرجه النسائي، عن أزهر بن جميل، عنه

(2)

. والخوف في الآية: بمعنى: اليقين، كما قاله أبو عبيد

(3)

.

قال الزجاج: ويشبه عندي أن لا يكون الغالب عليهما الخوف، و {يَخَافَا} الرجل والمرأة، كما قاله الفراء

(4)

. وقرأ الأعمش وحمزة

(5)

بضم الياء، وعبد الله:(إلا أن يخافوا).

وأثر عمر أخرجه ابن أبي شيبة، عن شعبة، عن الحكم، عن خيثمة قال: أتى بشر بن مروان في خلع كان بين رجل وامرأته، فلم يجزه، فقال له عبد الله بن شهاب شهدت عمر بن الخطاب أتى في خلع كان بين رجل وامرأته فأجازه.

(1)

انظر ترجمته في "الطبقات الكبرى" 7/ 335، "المعرفة والتاريخ" 2/ 616، "الثقات" 8/ 375، "تهذيب الكمال" 17/ 335 - 338.

(2)

لم أقف عليه عند النسائي، وقد عزاه العيني في "عمدة القاري" 17/ 46 للإسماعيلي، وانظر "تغليق التعليق" 4/ 462.

(3)

"مجاز القرآن" 1/ 74.

(4)

"معاني القرآن" 1/ 145 - 146.

(5)

انظر "الحجة" للفارسي 2/ 328، و"الكشف" لمكي 1/ 294.

ص: 304

وحكاه أيضًا، عن عثمان، وابن سيرين، والشعبي، والزهري، ويحيى بن سعيد

(1)

.

وقال الحسن: لا يكون الخلع دون السلطان

(2)

.

قال ابن أبي عروبة: قلت لقتادة: عمن أخذ الحسن ذلك؟ قال: عن زياد، وكان واليًا لعلي وعمر

(3)

، دليله: القراءتان الأخريان، ودليل الجماعة القراءة الأولى.

وأثر عثمان لا يحضرني.

نعم أخرج ابن أبي شيبة، عن عفان، ثنا همام، حدثنا مطر، عن ثابت، عن عبد الله بن رباح، أن عمر (قال)

(4)

: اخلعها بما دون عقاصها. وفي لفظ: اخلعها ولو من قرطها. وعن ابن عباس: حتى من عقاصها، وقاله أيضًا مجاهد وإبراهيم

(5)

.

قال ابن المنذر: وبنحوه قال ابن عمر والضحاك وعثمان بن عفان وعكرمة، وهو قول الشافعي وداود.

وأثر طاوس أخرجه ابن أبي شيبة أيضًا عن ابن علية، ثنا ابن جريج، عنه، بلفظ: يحل له الفداء بما قال الله: {إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ} [البقرة: 229]

(ولم يكن يقول قول السفهاء: حتى تقول: لا أغتسل لك من جنابة). ولكنه يقول: إلا ألا يقيما حدود الله فيما افترض لكل واحد منهما علي

(1)

ابن أبي شيبة 4/ 124 - 125.

(2)

عبد الرزاق 6/ 495 (11814).

(3)

عزاه الحافظ في "الفتح" 9/ 397 إلى "كتاب النكاح" لسعيد بن أبي عروبة.

(4)

من (غ)

(5)

انظر هذِه الآثار في ابن أبي شيبة 4/ 129.

ص: 305

(صاحبه)

(1)

في العشرة والصحبة

(2)

.

وقد أسلفت لك أن حديث ابن عباس من أفراد البخاري، وأخرجه الترمذي محسنًا من حديث عمرو بن مسلم، عن عكرمة، عن ابن عباس، وفيه: فأمرها أن تعتد بحيضة

(3)

.

وأخرجه ابن ماجه من حديث ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن عكرمة، عنه، أن جميلة بنت سلول .. الحديث. فأمره أن يأخذ منها حديقته ولا يزداد.

وله أيضًا من حديث حجاج، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: كانت حبيبة بنت سهل تحت ثابت وكان رجلاً دميمًا، فقالت: والله يا رسول الله لولا مخافة الله لبصقت في وجهه، فقال:"أتردين عليه حديقته؟ " .. الحديث

(4)

.

وهذا قول ثانٍ في اسمها حبيبة لا جميلة، وكذا سماها ابن وهب في "موطآته" عن مالك، عن يحيي، عن عمرة، عن حبيبة.

ورواه أبو داود من حديث عمرة، عن عائشة بزيادة: فضربها، فكسر بعضها. وفي آخره: فقال: "خذ بعض مالها وفارقها". فقال ثابت: ويصلح ذلك يا رسول الله؟ قال: "نعم". قال: فإني أصدقتها حديقتين، وهما بيدها، فقال:"خذهما وفارقها"

(5)

.

(1)

في الأصول: الصحبة، والمثبت من ابن أبي شيبة.

(2)

ابن أبي شيبة 4/ 121 (18418).

(3)

الترمذي (1185).

(4)

ابن ماجه (2056، 2057).

(5)

أبو داود (2228).

ص: 306

وذكر عبد الرزاق، عن معمر قال: بلغني أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: بي من الجمال ما ترى، وثابت رجل دميم

(1)

.

وروى معتمر بن سليمان، عن فضيل، عن أبي جرير، عن عكرمة، عن ابن عباس: أول خلع كان في الإسلام أن أخت عبد الله بن أُبي قالت: يا رسول الله، لا يجتمع رأسي ورأسه أبدًا، إني رفعت جانب الخباء فرأيته أقبل في عدة، فإذا هو أشدهم سوادًا، وأقصرهم قامة، وأقبحهم وجهًا. فقال:"أتردين عليه حديقته؟ " قالت: نعم، وإن شاء زدته. ففرق بينهما

(2)

.

وللنسائي من حديث الرُّبَيِّع بنت معوذ قالت: اختلعت من زوجي، ثم جئت عثمان فسألت: ماذا عليَّ من العدة؟ فقال: لا عدة عليك، إلا أن يكون حديث عهد بك فتمكثين عنده حتى تحيضي حيضة. قالت: وإنما تبع في ذلك قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في مريم المغالية. وكانت تحت ثابت بن قيس فاختلعت منه

(3)

.

وفي اسمها قول ثالث أنها سهلة بنت حبيب، ذكره ابن الجوزي عن بعض الروايات، قاله بعد ذكره حبيبة بنت سهل، وابن سعد، فقال: جميلة بنت عبد الله بن أُبي بن سلول، وكانت تحت حنظلة، فلما قتل عنها خلف عليها ثابت، فولدت له محمدًا -قتل يوم الحرة- قال: وهي أخت عبد الله بن عبد الله بن أُبي لأبيها وأمها

(4)

.

(1)

عبد الرزاق 6/ 483 (11759)

(2)

رواه الطبري في "تفسيره" 2/ 475 (4811).

(3)

النسائي 6/ 186 - 187.

(4)

"الطبقات الكبرى" 8/ 382.

ص: 307

ثم ذكر ابن سعد أن حبيبة بنت سهل النجارية هي المختلعة من ثابت، وكان عليه السلام قد هَمَّ أن يتزوجها، وهي جارية، ثم ذكر غيرة الأنصار، فكره أن يسوءهم في نسائهم، فتزوجها ثابت وأنه ضربها، فأصبحت على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغلس تشكو. الحديث

(1)

.

وفي "الاستيعاب": رواية البصريين: المختلعة: جميلة بنت أُبي. ورواية أهل المدينة: هي حبيبة بنت سهل بن ثعلبة الأنصاري. قال: وجائز أن تكون حبيبة وجميلة بنت أُبي اختلعتا من ثابت

(2)

.

وأما ابن منده فذكر أن جميلة بنت عبد الله بن أبي لما قتل عنها زوجها حنظلة بن أبي عامر تزوجها ثابت، فمات عنها، فخلف عليها مالك بن الدخشم، وأن المختلعة جميلة بنت أُبي المذكور قبل. أورد ذلك عليه أبو نعيم الحافظ

(3)

، وزعم ابن الأثير أنها جميلة بنت أُبي، لا ابنة عبد الله، هذا هو الصحيح

(4)

.

وقال الدمياطي: جميلة بنت عبد الله هو الصواب، لا أخته كما وقع في البخاري وليس كما قال؛ لأنها إذا كانت أخت عبد الله فهي ابنة عبد الله، فعبد الله أخوها هو ابن عبد الله، فعلى هذا هي أخت عبد الله وابنة عبد الله، توضحه رواية النسائي فأتى أخوها عبد الله (فشكي)

(5)

إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

(6)

.

(1)

"الطبقات الكبرى" 8/ 445 - 446.

(2)

"الاستيعاب" 4/ 364، 370.

(3)

"معرفة الصحابة" 6/ 3286 (3814).

(4)

"أسد الغابة" 7/ 54.

(5)

في الأصول: (فشكت) ولعل الصواب ما أثبتناه كما في "سنن النسائي".

(6)

النسائي 6/ 186.

ص: 308

ووقع في "سنن ابن ماجه": جميلة بنت سلول

(1)

، وكذا في كتاب ابن أبي شيبة من حديث أبي الطفيل سعيد بن جميل، عن عكرمة قال: عدة المختلعة حيضة، قضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميلة بنت سلول.

(2)

.

وكذا سماها الطبراني في "معجمه" من حديث قتادة عن عبد الله

(3)

، وهو صحيح؛ فإنه نسبها إلى جدها الأعلى المشهور، ومن عادة العرب النسبة إلى الأب المشهور، والإعراض عمن ليس في مثله من الشهرة.

إذا تقرر ذلك، فالرب جل جلاله حرم على الزوج أن يأخذ من امرأته شيئًا مما آتاها الله إلا بعد الخوف الذي ذكر، ثم أكد الله ذلك بتغليظ الوعيد على من تعدى أو خالف أمره، فقال تعالى:{تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229]. وبمعنى الكتاب جاءت السنة في جميلة المذكورة. وفي رواية قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس: لا أطيقه بغضًا

(4)

. وهو أول خلع جرى في الإسلام كما سلف، وهو أصل الخلع وعليه جمهور العلماء.

قال مالك: لم أزل أسمع ذلك من أهل العلم، وهو الأمر المجمع عليه عندنا أن الرجل إذا لم يضر بالمرأة ولم يسئ إليها، ولم تُؤت من قبله، وأحبت فراقه، فإنه يحل له أن يأخذ منها كل ما افتدت به كما فعله الشارع في هذِه المرأة، وإن كان النشوز من قبله بأن يضربها ويضيق

(1)

ابن ماجه (2056).

(2)

ابن أبي شيبة 4/ 24 (18457).

(3)

"المعجم الكبير" 11/ 310 (11834) من حديث قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس.

(4)

رواه ابن ماجه (2056)، والطبراني في "الكبير" 24/ 211، والبيهقي 7/ 313.

ص: 309

عليها، رد عليها ما أخذه منها

(1)

. روي هذا عن ابن عباس وعامة السلف، وبه قال الثوري وإسحاق وأبو ثور

(2)

.

وقال أبو حنيفة: إن كان النشوز من قبله لم يحل له أن يأخذ مما أعطاها شيئًا ولا يزداد، فإن فعل جاز في القضاء

(3)

.

وروى ابن القاسم عن مالك مثله

(4)

.

وهذا القول خلاف ظاهر كتاب الله وسنة رسوله في امرأة ثابت، وإنما فيه أخذ الفدية من الناشز لزوجها، إذا كان لنشوزها كارهًا، وللمقام معها محبًّا، وإن كانت الإساءة من قبله لم يجز أن يأخذ منها شيئًا لقوله تعالى:{وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} الآية [النساء: 20].

قال مجاهد: مجامعة النساء. والميثاق الغليظ: كلمة النكاح التي يستحل بها فروجهن، فجعله ثمنًا للإفضاء

(5)

.

قال ابن المنذر: واحتج بعض المخالفين فقال: لما جاز أن يأخذ مالها إذا طابت به نفسًا علي غير طلاق جاز أن يأخذه علي طلاق.

قيل: هذا غلط كبير؛ لأنه حمل ما حرمه الله في كتابه من أبواب المعاوضات علي ما أباحه من سائر أبواب العطايا المباحة، فيجوز

(1)

"الموطأ" ص 349. بتصرف.

(2)

انظر: "الإشراف" 1/ 193.

(3)

انظر: "مختصر الطحاوي" ص 191.

(4)

الضمير في: (مثله) عائد علي قول مالك السابق: لم أزل أسمع

انظر: "الاستذكار" 17/ 180، ثم زاد: قال: إن كان النشوز من قبله حل له ما أعطته على الخلع إذا رضيت بذلك، ولم يكن في ذلك ضرر منه بها.

(5)

"تفسير مجاهد" 1/ 150، 151 بتصرف.

ص: 310

لهذا القائل أن يشبه ما حرم الله من الربا في كتابه بما أباح من العطايا علي غير عوض، فيقول: لما أبيح لي أن أهب مالي بطيب نفس من غير عوض، جاز لي أن أعطيه في أبواب الربا بعوض.

فإن قال: لا يجوز ذلك فلتعلم أنه قد أتى مثل ما أنكر في باب الربا حيث شبه قوله تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4] بما حرم في قوله: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا}

(1)

الآية [البقرة: 229].

وفي الحديث دلالة علي فساد قول من قال: لا يجوز له أخذ الفدية منها، حتى يكون من كراهته لها علي مثل ما هي عليه.

وهو قول طاوس والشعبي. وروي مثله عن القاسم بن محمد وسعيد بن المسيب. قال الطبري: وذلك أن امرأة ثابت .. فذكر الحديث، ولم يسأل ثابتًا هل أنت لها كاره كراهتها لك؟ فإن ظن أن قوله تعالى:{وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا} الآية [البقرة: 229]. يدل علي أن الزوج إنما أبيح له أخذ الفدية إذا خاف من كل واحد منهما -ببغض صاحبه- التقصير في الواجب له عليه، قيل له: هو خطاب لجميع المؤمنين، وكان معلومًا أن المرأة إذا أظهرت لزوجها البغضة لم يزل عنها النشوز والتقصير في حق زوجها.

وإذا كان كذلك لم يزل من زوجها مثل ذلك من التقصير في الواجب عليه

(2)

. ويروى عن ابن سيرين أنه قال: لا يحل للزوج الخلع حتى يجد علي بطنها رجلاً

(3)

. وهذا خلاف الحديث.

(1)

"الإشراف" 1/ 194 بتصرف.

(2)

انظر: "شرح ابن بطال" 7/ 422.

(3)

رواه ابن أبي شيبة 4/ 120 (18407).

ص: 311

فصل:

ترجمته بالخلع وكيف الطلاق فيه، كان مراده بهما بيان الخلع وأنه طلقة بائنة. وقد اختلف العلماء في البينونة بالخلع على قولين

(1)

:

أحدهما: وروي عن عثمان وعلي وابن مسعود أنه تطليقة بائنة إلا أن تكون قد سمت ثلاثًا، فهي ثلاث

(2)

، وهو قول مالك والثوري والكوفيين والأوزاعي، وأحد قولي الشافعي.

والثاني: أنه فسخ وليس بطلاق إلا أن ينويه. روي عن ابن عباس وطاوس وعكرمة، وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثور، وهو قول الشافعي الآخر. واحتج في أنه ليس بطلاق؛ لأنه مأذون فيه لغير قبل العدة بخلاف الطلاق.

قال ابن عباس: قال تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] وقال: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] ثم ذكر الطلاق بعد الفدية، ولم يذكر في الفداء طلاقًا، فلا أُراه طلاقًا

(3)

.

واحتج من جعله طلاقًا بقوله في الحديث: فردت الحديقة وأمره بفراقها. فصح أن فراق الخلع طلاق.

وقال الطحاوي: روي عن عمر وعلي أن الخلع طلاق. وعن عثمان وابن عباس أنه ليس بطلاق، وأجمعوا أنه لو أراد به الطلاق لكان طلاقًا.

(1)

انظر هذِه المسألة في: "مختصر اختلاف العلماء" 2/ 465، "الاستذكار" 17/ 184 - 188، "الإشراف" 1/ 196، "المغني" 10/ 274.

(2)

انظر هذِه الآثار في ابن أبي شيبة 4/ 121 - 122.

(3)

عبد الرزاق 6/ 485 - 486 (11765).

ص: 312

ولما كان تقع (به)

(1)

الفرقة عند الجميع بغير نية علم أنه ليس كالمكني الذي يحتاج إلى نية، وعلم أنه طلاق.

وقال الشافعي: فإن قيل: فإذا جعلته طلاقًا فاجعل فيه الرجعة. قيل له: لما أخذ من المطلقة عوضًا، كان كمن ملك عوضًا بشيء خرج عن ملكه، فلم يكن له رجعة فيما ملك عليه، فكذلك المختلعة

(2)

.

فصل:

واختلفوا في الخلع بأكثر مما أعطاها، فقالت طائفة: لا يجوز له الخلع بأكثر من صداقها هذا قول عطاء وطاوس، وكره ذلك ابن المسيب والشعبي والحكم

(3)

.

وقال الأوزاعي: كانت القضاة لا يجيزون له منها أكثر مما ساق إليها، وبه قال أحمد وإسحاق. قالوا: وهو ظاهر حديث ثابت؛ لأن امرأته إنما ردت عليه حديقته فقط، وحكاه ابن التين عن أهل الكوفة.

وقالت طائفة: يجوز أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها، وهو مذهب عثمان وابن عمر وقبيصة والنخعي، وبه قال مالك وأبو حنيفة والشافعي وأبو ثور. وقال مالك: يجوز أن يأخذ منها أكثر مما ساق إليها، وليس من مكارم الأخلاق.

قال: ولم أر أحدًا ممن يقُتدى به يكره ذلك، وقد قال الله تعالى:{فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] وقد نزع بهذِه الآية قبيصة بن ذؤيب

(4)

. قال إسماعيل: وقد احتج بهذِه الآية من قال: يجوز أن يأخذ

(1)

من (غ).

(2)

"مختصر المزني" 4/ 52.

(3)

انظر هذِه الآثار في "مصنف عبد الرزاق" 6/ 501، 503، 504.

(4)

انظر هذِه المسألة في: "مختصر اختلاف العلماء" 2/ 464 - 465، "شرح ابن بطال" 7/ 422 - 423، "الإشراف" 1/ 195.

ص: 313

منها أكثر مما ساق إليها، ليس كما ظن، ولو قال إنسان: لا تضربن فلانًا إلا أن تخاف منه شيئًا، فإن خفته فلا جناح عليك فيما صنعت به، لكان مطلقًا له أن يصنع به ما شاء.

ومعنى قول البخاري: (وَأَجَازَ عُثْمَانُ الخُلْعَ دُونَ عِقَاصِ رَأْسِهَا) يعني: أن يأخذ منها كل مالها إلى أن يكشف رأسها ويترك لها قناعها وشبهه، مما لا كبير قيمة له. وقد قال: اخلعها ولو من قرطها.

فصل:

(1)

(وأجاز عمر الخلع دون السلطان)، هو قول الجمهور إلا الحسن وابن سيرين، فإنهما قالا: لا يكون إلا عند السلطان.

وقال قتادة: إنما أخذه الحسن عن زياد، وكان واليًا لعلي وعمر.

وقال الطحاوي: روي عن عثمان وابن عمر جوازه دون السلطان، وكما جاز النكاح والطلاق دون السلطان كذلك الخلع

(2)

.

فصل:

قال ابن حزم: الحنفيون والمالكيون لا يجوز لهم الاحتجاح بهذا الخبر؛ لأن من قولهم: إذا خالف الصاحب ما رواه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم دل على نسخه وضعفه. قال: وهذا الخبر لم يأتِ إلا من طريق ابن عباس-. والثابت عن ابن عباس ما ذكرناه من أن الخلع ليس طلاقًا

(3)

.

قلت: كأن البخاري رواه مسندًا كما ذكره بعد.

(1)

ورد بهامش الأصل: لعله سقط: قوله.

(2)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 2/ 466.

(3)

"المحلى" 10/ 239.

ص: 314

وقوله: (لا يتابع فيه

(1)

عن ابن عباس). وقد سئل أحمد -فيما حكاه الخلال- عن حديث ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس به، فقال أحمد: إنما ذاك مرسل. ثم قال لأحمد بن الحسين: من حدثك به؟ قال: ابن أبي شيبة، عن الوليد بن مسلم، عن ابن جريج، وزعم أنه غريب. قال أحمد: صدق إنه غريب. وإنما كان خطأ فهو غريب.

وقال ابن أبي حاتم في "علله" عن أبيه: إنما هو عطاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرسل، ولما سأله ابنه أيضًا عن حديث حميد: جاءت امرأة ثابت .. الحديث. بلفظ: "خذ الحديقة التي أعطيتها واخلعها". قال: هذا خطأ. إنما هو حميد، عن أبي الخليل، عن عكرمة أن امرأة ثابت. وأخطأ فيه أبو جعفر الرازي، إذ رواه عن حميد عن أنس

(2)

. وقد أسلفناه أيضًا مسندًا من غير هذا الوجه، لكنه ليس علي شرطه.

قال: وأما من قال: لا يجوز الخلع، وكما رويناه من طريق (الحجاج بن إسماعيل)

(3)

: ثنا عقبة بن أبي الصهباء قال: سألت بكر بن عبد الله المزني عن الخلع قال: لا يحل له أن يأخذ منها.

قلت: قول الله: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] قال: نسخت هذِه الآية. وذكر أن الناسخة لها قوله: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ}

(4)

[النساء: 20].

قال ابن عبد البر: أجمع الجمهور من العلماء أن الخلع والفدية والصلح كل ذلك جائز بين الزوجين في قطع العصمة بينهما. وأن كل

(1)

في الأصل: (عليه)، والمثبت من (غ). وانظر "اليونينية" 7/ 47.

(2)

"العلل" 1/ 434

(3)

هكذا في الأصول وفي "المحلى": الحجاج بن المنهال.

(4)

"المحلى" 10/ 236.

ص: 315

ما أعطته على ذلك حلال له إذا كان مقدار الصداق فما دونه، وكان ذلك من غير إضرار بها، ولا إساءة إليها، إلا بكر بن عبد الله فإنه شذ فقال: لا يحل له أن يأخذ منها شيئًا علي حال من الأحوال. وقوله خلاف السنة الثابتة في أمرٍ ثابتٍ، فلا ينبغي لعالم أن يجعل شيئًا من القرآن منسوخًا إلا بتدافع يمنع من استعماله وتخصيصه وإذا حمل قوله:{فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] أنه يرضى بها، وحمل قوله:{فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء: 20] علي أنه بغير رضاها، صح استعمال الاثنين.

وقد بينت السنة ذلك في قصة ثابت، وعليه جماعة العلماء، إلا من شذ عنهم ممن هو محجوج بهم؛ لأنهم لا يجوز عليهم الإطباق والاجتماع على تحريف الكتاب العزيز، وجهل تأويله، وينفرد بعلم ذلك واحد غيرهم

(1)

.

قال ابن حزم: واحتج من ذهب إلى قول بكر بحديث ثوبان مرفوعًا: "أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس فحرام عليها الجنة"

(2)

وبحديث النسائي عن الحسن، عن أبي هريرة مرفوعًا "المختلعات هن المنافقات" قال الحسن: لم أسمعه من أبي هريرة، فسقط

(3)

.

وأما الخبر الأول: فلا حجة فيه في المنع من الخلع؛ لأنه إنما فيه الوعيد على السائلة الطلاق من غير ما بأس، وكذا نقول

(4)

.

(1)

"الاستذكار" 17/ 175 - 176.

(2)

رواه أبو داود (2226)، الترمذي (1187)، ابن ماجه (2055)، أحمد 5/ 277.

(3)

النسائي 6/ 168 وقول الحسن فيه: لم أسمعه من غير أبي هريرة، كما سيبينه المصنف.

(4)

"المحلى" 10/ 236.

ص: 316

قلت: حديث ثوبان قال الترمذي فيه: رواه بعضهم بهذا الإسناد ولم يرفعه

(1)

.

وقال في "علله": سألت محمدًا عنه فلم يعرفه

(2)

، وما ذكره عن الحسن سقط فيه شيء، وصوابه: من أحد غير أبي هريرة، كما هو ثابت في النسائي "الكبير" رواية ابن الأحمر

(3)

، وهو يؤيد من قال: الحسن سمع منه.

وقد ذُكر سماعه منه في "مسند أبي داود الطيالسي" والطبراني في أوسط معاجمه وأصغرها

(4)

.

وقال أبو داود فيما حكاه ابن خلفون: زعم عبد الرحمن أن الحسن كان يقول: ثنا أبو هريرة. وهذا أثبت.

وروى ابن شاهين في "ناسخه" من حديث عنه: حدثنا. ثم قال: هذا صحيح غريب

(5)

.

(1)

الترمذي (1187).

(2)

"علل الترمذي" 1/ 469.

(3)

"السنن الكبرى" 3/ 368 (5655).

(4)

منها ما رواه أبو داود الطيالسي في "مسنده" 3/ 504 (2126) حديث: "خرج ثلاثة فيمن كان قبلكم .. "، الطبراني في "الأوسط" 1/ 56 (156) حديث:"أهل المعروف في الدنيا أهل المعروف في الآخرة .. " الحديث، "الصغير" 2/ 99 (855) حديث:"ليعذرن الله تعالى يوم القيامة إلى آدم .. " الحديث.

وقال الطبراني عقبه: لا يُروى هذا الحديث عن أبي هريرة إلا بهذا الإسناد وقال: وهذا الحديث يؤيد قول من قال: إن الحسن قد سمع من أبي هريرة بالمدينة.

(5)

الذي في "ناسخ الحديث ومنسوخه" ص 49: الحسن عن أبي رافع، عن أبي هريرة، ليس فيه: حدثنا، وقال ابن شاهين عقبه: هذا حديث صحيح غريب ما كتبناه عن أحد إلا عن عبد الله بن سليمان. اهـ.

ص: 317

وقال الدارقطني في "علله" عن موسى بن هارون: سمع الحسن منه

(1)

. وفي ابن ماجه بإسناد جيد عن ابن عباس مرفوعًا: "لا تسأل المرأة زوجها الطلاق في غير كنهة، فتجد ريح الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عامًا"

(2)

.

فصل:

قال ابن حزم: احتج من قال: إن الخلع ليس بطلاق بقول عثمان رضي الله عنه للرُّبَيِّع بنت معوذ لما اختلعت من زوجها لتنتقل، ولا ميراث بينهما ولا عدة عليها، إلا أنها لا تنكح حتى تحيض حيضة، خشية أن يكون بها حمل.

وعن ابن عباس: الخلع تفريق وليس بطلاق. وفي رواية: سئل عن رجل طلق امرأته تطليقتين، تم اختلعت منه أينكحها؟ قال: نعم، ذكر الله الطلاد لم في أول الآية وآخرها، والخلع فيما بين ذلك. وقال ابن طاوس: أبي لا يرى الفداء طلاقًا، ويجيزه بينهما.

وعن عكرمة: ما أجازه المال فليس بطلاق.

وقال عبد الله بن أحمد: رأيت أبي كأنه يذهب إلى قول ابن عباس في هذا، وهو قول إسحاق وأبي ثور وأبي سليمان وأصحابه

(3)

.

وعن أحمد أنه طلاق كقول أبي حنيفة، حكاها ابن الجوزي

(4)

، وعن الشافعي قولان سلفا.

(1)

"علل الدارقطني" 8/ 249.

(2)

ابن ماجه (2054).

(3)

"المحلى" 10/ 237 - 238.

(4)

"التحقيق في أحاديث الخلاف" 2/ 294.

ص: 318

قال في "المغني": والفسخ اختيار أبي بكر، وهو قول طاوس وإسحاق وأبي ثور

(1)

، وفي "الإشراف" لابن هبيرة أنه الصحيح عن أحمد

(2)

.

وقد أسلفناه عن عثمان وعلي وابن مسعود، وضعف أحمد أحاديثهم، وقال: ليس لنا في الباب أصح من حديث ابن عباس. قال: وذلك أنها فرقة حلَّت من صريح الطلاق ونيته، فكانت فسخًا كسائر الفسوخ، وإن قلنا: هو فسخ لم تحرم عليه وإن خالعها مائة مرة إذا خالعها بغير طلاق ولا نية طلاق.

قال ابن حزم: أما احتجاج ابن عباس بالآية فكذلك هو، إلا أنه ليس فيه طلاقًا، ولا أنه طلاق فوجب الرجوع إلى بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ما تقدم من قصة ثابت من حديث مالك عن يحيي الذي قال فيه لثابت:"خذ منها" فأخذ منها وجلست في أهلها. ومن حديث الرُّبَيِّع فذكر حديثها السالف.

وفيه: فقال: "خذ منها الذي لها وخلِّ سبيلها". قال: نعم. فأمرها أن تتربص حيضة واحدة وتلحق بأهلها. فأخبرت بذلك ابن عمر، فقال: عثمان خبرنا وأعلمنا. فهذا عثمان وابن عمر والرُبّيع وعمها الذي رفع أمرها إلى عثمان كلهم صحابة، وكلهم رآه فسخًا لا طلاقًا، ومن طريق عبد الرزاق عن معمر، عن عمرو بن مسلم، عن عكرمة قال: اختلعت امرأة ثابت فجعل عليه السلام عدتها حيضة. قالوا: فهذا بين أن الخلع ليس طلاقًا لكنه فسخ.

(1)

"المغني" 10/ 274.

(2)

"الإفصاح" لابن هبيرة 8/ 193.

ص: 319

وأما حديث عبد الرزاق فساقط؛ لأنه مرسل، وفيه عمرو بن مسلم، وليس بشيء

(1)

. قلت: عمرو هذا من رجال مسلم، وهو جَنَدي يماني، قال ابن معين: لا بأس به. وذكره ابن حبان وغيره في "ثقاته"

(2)

.

وقال أبو أحمد الجرجاني: ليس له حديث منكر

(3)

. وقد وصله أبو داود من طريق معمر عن مسلم، عن عكرمة، عن ابن عباس أن امرأة ثابت فذكره

(4)

.

قال ابن حزم: وخبر الرُّبَيِّع وحبيبة فلو لم يأتِ غيرهما لكان حجة قاطعة، لكن روينا من طريق البخاري، وساق حديث الباب، وفيه:"وطلقها تطليقة". وكان هذا الخبر فيه زيادة على الخبرين المذكورين لا يجوز تركها، وإذ هو طلاق فقد ذكر الله عدة الطلاق، فهو زائد علي ما في حديث الرُّبَيِّع، والزيادة لا يجوز تركها

(5)

.

فصل:

قال ابن حزم: وطلاق الخلع رجعي إلا أن يطلقها ثلاثًا، أو آخر ثلاث تطليقات، أو تكون غير موطوءة، ويجوز الفداء بجميع ما تملك، ولا يجوز بمال مجهول، وإن راجعها الزوج في العدة رد جميع ما افتدت به إلا أن يعلمها عند الافتداء أن طلاقها رجعي، فلا يرد لها شيئًا

(6)

.

(1)

"المحلى" 10/ 237، 238.

(2)

"الثقات" 7/ 217.

(3)

"الكامل" 6/ 211 (1284).

(4)

أبو داود (2229)، قال أبو داود: وهذا الحديث رواه عبد الرزاق عن معمر، عن عمرو بن مسلم، عن عكرمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا. اهـ.

(5)

"المحلى" 10/ 239.

(6)

"المحلى" 10/ 239، 240.

ص: 320

هذا كلامه ولا يسلم له كونه رجعيًّا، ولأنه ذكره عن الأعلام، وأما ردنا ما أخذ منها فإنما أخذه لئلا تكون في عصمته، فإذا أخذه على ما ذكر لئلا تكون في عصمته فأي رجعة له عليها؟!

ثم إنا نقول: لا يخلو أن يكون هذا العقد مباحًا -يعني: أخذه منها علي ألا تكون في عصمته- أو (لا)

(1)

يكون مباحًا، فإن كان مباحًا فقد لزم ما عقده علي نفسه؛ لأن الله تعالى أباح ذلك، وإن كان غير مباح فهو منسوخ أبدًا، مردود ما أخذ منها، فبطل قوله.

فصل:

قال وقالت طائفة: الخلع تطليقة، منهم عثمان. روينا من طريق حماد بن سلمة، عن هشام، عن أبيه، عن جمهان، أن أم بكرة الأسلمية اختلعت من عبد الله بن أسيد، وكانت تحته، فندما فارتفعا إلى عثمان، فأجاز ذلك.

وقال: هي واحدة إلا أن تكون سمت شيئًا فهو علي ما سمته، ومن طريق ابن أبي شيبة ثنا علي بن هاشم، عن ابن أبي ليلى، عن طلحة بن مصرف، عن إبراهيم، عن علقمة، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: لا تكون تطليقة بائنة إلا في فدية أو إيلاء. ومن طريق لا يصح عن علي.

وبهذا يقول الحسن وابن المسيب وعطاء وشريح ومجاهد والشعبي وقبيصة بن ذؤيب وأبو سلمة بن عبد الرحمن وإبراهيم النخعي والزهري ومكحول وابن أبي نجيح وعروة والأوزاعي والثوري وأبو حنيفة والشافعي ومالك

(2)

.

(1)

من (غ).

(2)

"المحلى" 10/ 238.

ص: 321

قلت: أثر عثمان، أخرجه ابن أبي شيبة من طريق أبي معاوية، عن هشام، عن أبيه قال: خلع جمهان امرأة ثم ندم وندمت فأتوا عثمان رضي الله عنه .. الحديث

(1)

.

وهذا اضطراب فيما روي عن عثمان، فبينما جمهان يروى صار صاحب القصة، وهو قال علي عدم الضبط لا سيما عن غير ثقة ولا حافظ، وما حكاه عن ابن المسيب قد رواه وكيع بن الجراح: ثنا إبراهيم بن زيد، عن داود بن أبي عاصم، عنه أنه عليه السلام جعل الخلع تطليقة

(2)

.

والذي في "المصنف" عنه من قوله

(3)

. وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن، وسعيد بن جبير، والشعبي، وعطاء، والنخعي، والزهري، ومكحول، والحسن، وشريح أنهم قالوا: الخلع تطليقة بائنة

(4)

. وعند أبي حنيفة: يلحقها الطلاق في العدة، ولا يلحقها مرسل الطلاق وكنايته

(5)

، خلافا للشافعي وأحمد

(6)

.

وقال مالك: إن طلقها عقيب خلعه متصلًا به طلقت، وإن انفصل الطلاق عن الخلع لم تطلق

(7)

وقيل لأحمد كما حكاه الخلال في "علله": حديث ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس وابن الزبير

(1)

ابن أبي شيبة 4/ 121 (18424).

(2)

ابن أبي شيبة 4/ 121 (18427).

(3)

عبد الرزاق 6/ 482 (11757).

(4)

انظر هذِه الآثار في "المصنف" 6/ 480 - 483، وابن أبي شيبة 4/ 121 - 123.

(5)

انظر: "المبسوط" 6/ 83.

(6)

انظر: "الأم" 5/ 102، "المغني" 10/ 278.

(7)

"المدونة" 2/ 238.

ص: 322

أنهما قالا: لا يلحقها طلاق. صحيح هو؟ قال: نعم صحيح. ثم قال: زوجة هي فيلحقها طلاق!

وطريقة التي قال: لا تصح، أخرجها ابن أبي شيبة، عن ابن إدريس، عن موسى بن مسلم، عن مجاهد، عن علي

(1)

. وموسى هذا هو أبو عيسى الطحان، وثقه ابن معين وغيره، وذكر أبو حاتم الرازي أن مجاهدًا أدرك عليًّا

(2)

، وكذا قال الضياء: وقد اتفق رواية أيوب ووهيب عنه قال: خرج علينا علي بن أبي طالب

(3)

.

فصل:

قال ابن حزم: وروينا عن عبد الرزاق عن المعتمر بن سليمان، عن ليث بن أبي سليم، عن الحكم بن عتيبة، أن عليًّا رضي الله عنه قال: لا يأخذ -يعني: من المختلعة- فوق ما أعطاها. وهذا لا يصح عن علي؛ لأنه منقطع وفيه ليث

(4)

.

وذكره ابن أبي شيبة في "مصنفه" عن عطاء، وطاوس، وعكرمة، والحسن، والزهري، والشعبي، وعمرو بن شعيب، والحكم، وحماد، وقبيصة بن ذؤيب

(5)

. قال أبو حنيفة: فإن أخذ أكثر مما أعطاها فليتصدق به.

وقال ميمون بن مهران فيما حكاه ابن حزم: إن أخذ أكثر مما أعطاها فلم يُسرح بإحسان

(6)

.

(1)

ابن أبي شيبة 4/ 122 (18433).

(2)

"المراسيل" لابن أبي حاتم ص 206.

(3)

"الأحاديث المختارة" 2/ 339.

(4)

"المحلى" 10/ 240.

(5)

"مصنف ابن أبي شيبة" 4/ 128 - 129.

(6)

"المحلى" 10/ 240.

ص: 323

وقال طاوس والزهري: لا يحل له أن يأخذ (أكثر)

(1)

مما أعطاها.

وفي رواية عمار بن عمران عن أبيه، عن علي أنه كره أن يأخذ أكثر مما أعطى. وروي ذلك أيضًا عن الشعبي والحكم وحماد. وعن عبد الكريم الجزري: لا أحب أن يأخذ منها كل ما أعطاها حتى يدع لها ما يعيشها

(2)

.

فصل:

ذكر الإمام أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي في كتابه "اختلاف العلماء" عن سفيان وأصحاب الرأي ومالك والشافعي وأحمد: عدة المختلعة إن كانت ممن تحيض ثلاث حيض، وإن كان قد أيست فثلاثة أشهر.

وقال إسحاق وأبو ثور: عدتها حيضة. ونقل في هذا الكتاب عن سفيان وأصحاب الرأي ومالك أن الخلع تطليقة بائنة. وعن أحمد وإسحاق أنه فرقة وليس بطلاق، إلا أن يسمي طلاقًا، فإن سماه فهي بائن، وإن سمى أكثر فهو ما سمى.

وعن الشافعي في آخر قوله: إن نوى الخلع طلاقًا أو سماه فهو طلاق، إن سمى واحدة فهي بائنة، وإن لم ينو طلاقًا ولا شيئًا لم تقع فرقة.

وقال أبو ثور: إذا نوى الطلاق فالخلع فرقة وليس بطلاق، فإن سمى تطليقة فهي تطليقة، والزوج يملك رجعتها ما دامت في عدتها

(3)

.

(1)

من (غ).

(2)

انظر هذِه الآثار في ابن أبي شيبة 4/ 128 - 129.

(3)

"اختلاف الفقهاء" ص 299 - 302.

ص: 324

وقال الترمذي: اختلف أهل العلم في عدة المختلعة فقال أكثر أهل العلم من الصحابة وغيرهم: عدتها عدة المطلقة. وهو قول الثوري وأهل الكوفة. وبه يقول أحمد وإسحاق. وقال بعض أهل العلم من الصحابة وغيرهم: عدتها حيضة.

قال إسحاق: وإن ذهب ذاهب إلى هذا فهو مذهب قوي

(1)

.

فرع:

اختلفوا هل للأب أن يخالع عن ابنته الصغيرة بشيء من مالها، فقالوا: لا يملك ذلك، وقال مالك: يملك

(2)

.

فصل:

قول طاوس: (ولم يقل قول السفهاء: لا يحل حتى تقول: لا أغتسل لك من جنابة) أي: لم يقل طاوس قول السفهاء: لا يحل إلى آخره. ويريد أن قول السفهاء: إن الخلع لا يحل حتى تقول المرأة ذلك، أي: تمنعه من أن يطأها.

وظاهر ما في البخاري أن قوله: (ولم يقل) إلى آخره، من كلام البخاري. ونقل غيره نص هذا الكلام عن ابن جريج، ويجوز أن يكون البخاري ظهر له ما قال ابن جريج فنسبه إلى نفسه، ذكره ابن التين.

فصل:

الحديقة: أرض ذات شجر، قاله ابن فارس

(3)

. وقال الهروي: كل ما كان أحاط به البناء، وهي: البستان.

(1)

الترمذي عقب حديث (1185).

(2)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 2/ 469، "المدونة" 2/ 239.

(3)

"مجمل اللغة" 1/ 222.

ص: 325

ويقال للقطعة من النخل: الحديقة.

وأثر عثمان رضي الله عنه أنه يأخذ منها كل ما تملك دون العقاص، وهو الخيط الذي يعقص به أطراف الذوائب أي: يضفر به.

فصل:

حديث الباب يستدل به علي جواز الاختلاع في الحيض؛ لأنه عليه السلام لم يسأل. وخالف فيه مالك في "المختصر" وأشهب في "المدونة".

فصل:

قد أسلفنا أن جميلة بنت عبد الله بن أُبَي بن سلول، وولدت لثابت محمدًا، قُتل مع أخيه لأمه أمير الحرة عبد الله بن حنظلة الغسيل، ثم خلف عليها بعد ثابت مالك بن الدخشم، فولدت له الفريعة، ثم خلف بعده خبيب بن أساف، فولدت له أبا كثير عبد الله

(1)

.

(1)

انظر ترجمتها في: "الطبقات" 8/ 382 - 383، "الاستيعاب" 4/ 364 - 365، "أسد الغابة" 7/ 51، 54.

ص: 326

‌13 - باب الشِّقَاقِ، وَهَلْ يُشِيرُ بِالْخُلْعِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ

؟

وَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} الآية [النساء: 35].

5278 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ بَنِي الْمُغِيرَةِ اسْتَأْذَنُوا فِي أَنْ يَنْكِحَ عَلِيٌّ ابْنَتَهُمْ، فَلَا آذَنُ» . [انظر: 926 - مسلم: 2449 - فتح 9/ 403].

ثم ساق حديث المسور بن مخرمة رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ بَنِي المُغِيرَةِ اسْتَأْذَنُوا فِي أَنْ يَنْكِحَ عَلِيٌّ ابنتَهُمْ، فَلَا آذَنُ".

هذا الحديث سلف، ولا تظهر دلالته لما ترجم له، وحاول البخاري إدخاله في الباب بأن يجعل قوله:"فلا آذن". خلعا، كما ادعاه المهلب، ثم قال: ولا يقوى هذا المعنى؛ لأنه قال في الحديث: "إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي"

(1)

فدل على الطلاق. فإن أراد أن يستدل من دليل الطلاق على الخلع فهو دليل من دليل، وذلك ضعيف، وإنما فيه الشقاق والإشارة بالطلاق من خوفه، وأقره عليه ابن بطال

(2)

.

وقال ابن المنير: قد يحتمل أن يستدل بقوله "فلا آذن لهم"، وجه الدليل أنه أشار علي عَليٍّ بعدم نكاح ابنتهم، ومنعه من ذلك إذ علم من ذلك أنه موقوف علي إذنه، فلم يأذن؛ لضرورة صيانة فاطمة عن التعريض لما جبلت عليه النفوس من المغيرة، فإذا استقر جواز الإشارة بعدم التزويج التحق به جواز الإشارة بقطع النكاح للمصلحة

(3)

.

(1)

سيأتي برقم (5230).

(2)

"شرح ابن بطال" 7/ 425.

(3)

"المتواري" ص 293 - 294.

ص: 327

فصل:

ذكر ابن أبي شيبة عن علي رضي الله عنه قال: الحكمان بهما يجمع الله وبهما يفرق. وقال الشعبي: ما قضى الحكمان جاز. وقال أبو سلمة: الحكمان إن شاءا جمعا، وإن شاءا فرقا. وقال مجاهد نحوه. وعن الحسن: إذا اختلفا جعل غيرهما، وإن اتفقا جاز حكمهما.

وقال طاوس: إذا حكم أخذ بحكمهما، ولا تتبع أثر غيرهما، وإن كان قد حكم قبلهما عليك

(1)

. وسئل عامر عن رجل وامرأة حكَّما رجلاً ثم بدا لهما أن يرجعا. فقال: ذلك لهما ما لم يتكلما، فإذا تكلما فليس لهما أن يرجعا

(2)

.

فصل:

وفيه الحكم بقطع الذرائع؛ لأنه تعالى أمر ببعثة الحكمين عند خوف الشقاق قبل وقوعه.

فصل:

قام الإجماع علي أن المخاطب بالآية: {وَإِنْ خِفْتُمْ} [النساء: 35]: الحكام والأمراء، وأن قوله تعالى:{إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا} [النساء: 35] يعني أن الحكمين يكونان من أهل الرجل، والثاني من أهل المرأة إلا أن لا يوجد من أهلهما من (يصلح)

(3)

لذلك، فيرسل من غيرهما، وأن الحكمين إذا اختلفا لم ينفذ قولهما. وأن قولهما نافذ في الجمع بينهما بغير توكيل من الزوجين.

(1)

ابن أبي شيبة 4/ 174، وليس فيه عن الحسن بل الكلام كلام الحكم.

(2)

ابن أبي شيبة 4/ 199 (19233).

(3)

في الأصول: (لا يصلح)، ولا يستقيم به المعنى.

ص: 328

واختلفوا في الفرقة بينهما هل تحتاج إلى توكيل من الزوجين أم لا، فقال مالك والأوزاعي وإسحاق: يجوز قولهما في الفرقة والاجتماع بغير توكيل منهما، ولا إذن بينهما في ذلك. وروي هذا عن عثمان وعلي وابن عباس وعن الشعبي والنخعي.

وقال الكوفيون والشافعي: ليس لهما أن يفرقا إلا أن يجعل الزوج إليهما التفريق. وهو قول عطاء والحسن، وبه قال أبو ثور وأحمد.

واحتج أبو حنيفة بقول علي للزوج: لا تبرح حتى ترضى بما رضيت به. فدل أن مذهبه: لا يفرقان إلا برضا الزوج.

قالوا: والأصل المجتمع عليه أن الطلاق بيد الزوج أو بيد من جعل ذلك إليه، وجعله من باب طلاق السلطان على المولى والعنين.

قال ابن المنذر: ولما كان المخاطبون بقوله تعالى: {فَابْعَثُوا حَكَمًا} [النساء: 35] الحكام، وأن ذلك إليهم، دل علي أن التفريق إليهم، ولو لم يكن كذلك لما كان للبعثة معنى

(1)

.

وقال مالك في الحكمين يطلقان ثلاثًا قال: تكون واحدة، وليس لهما الفراق بأكثر من واحدة بائنة

(2)

. وقال ابن القاسم: تلزمه الثلاث إن اجتمعا عليهما علي حديث زيد. وقاله المغيرة وأشهب وابن الماجشون وأصبغ، وقال ابن المواز: إن حكم أحدهما بواحدة والآخر بثلاث فهي واحدة. وحكى ابن حبيب عن أصبغ أن ذلك ليس بشيء

(3)

.

(1)

انظر: "شرح ابن بطال" 7/ 425، "الإشراف" 1/ 202 - 203.

(2)

"المدونة" 2/ 257.

(3)

انظر: "النوادر والزيادات" 5/ 282.

ص: 329

‌14 - باب لَا يَكُونُ بَيْعُ الأَمَةِ طَلَاقًا

5279 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: كَانَ فِي بَرِيرَةَ ثَلَاثُ سُنَنٍ، إِحْدَى السُّنَنِ أَنَّهَا أُعْتِقَتْ، فَخُيِّرَتْ فِي زَوْجِهَا. وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» . وَدَخَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَالْبُرْمَةُ تَفُورُ بِلَحْمٍ، فَقُرِّبَ إِلَيْهِ خُبْزٌ وَأُدْمٌ مِنْ أُدْمِ الْبَيْتِ، فَقَالَ:«أَلَمْ أَرَ الْبُرْمَةَ فِيهَا لَحْمٌ؟» . قَالُوا: بَلَى، وَلَكِنْ ذَلِكَ لَحْمٌ تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ، وَأَنْتَ لَا تَأْكُلُ الصَّدَقَةَ. قَالَ:«عَلَيْهَا صَدَقَةٌ، وَلَنَا هَدِيَّةٌ» . [انظر: 456 - مسلم: 1075، 1504 - فتح 9/ 404].

ذكر فيه حديث عائشة رضي الله عنها في قصة بريرة وقد سلفت.

ووجه مطابقة التبويب أن عصمتها لو زالت لما خيرت. وقد اختلف العلماء فيما عقد له، فروي عن عمر بن الخطاب وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص

(1)

ما ترجم له، وهو مذهب كافة الفقهاء.

وخالفت فيه طائفة، روي عن ابن مسعود وابن عباس وأُبي بن كعب، ومن التابعين سعيد بن المسيب والحسن ومجاهد

(2)

، واحتجوا بقوله:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] فحرم الله علينا المتزوجات من النساء، إلا إذا ملكتهن أيماننا فهن حلال لنا؛ لأن البيع لها حدوث ملك قيها، فوجب أن يرتفع حكم النكاح ويبطل، دليله الأمة المسبية ذات الزوج.

وحجة الجماعة قصة بَريرة أنها أعتقت فخيرت في زوجها، فلو كان طلاقها يقع ببيعها لم يخيرها الشارع بعد ذلك عند العتق، ويقول لها: إن

(1)

انظر هذِه الآثار في ابن أبي شيبة 4/ 106.

(2)

انظر هذِه الآثار في ابن أبي شيبة 4/ 105 - 106.

ص: 330

شئت أقمت تحته.

وأيضًا فإنه عقد علي منفعة، فوجب أن (لا)

(1)

يبطل بيع الرقبة، دليله المستأجرة

(2)

؛ لأن النكاح عقد علي منفعة، والإجارة كذلك، ثم إن البيع لا يبطلها، وكذا النكاح. وأيضًا فإنه انتقال ملك رقبة أحد الزوجين من ملك إلى ملك، فوجب ألا يبطل، دليله إذا بيع الزوج، ولما لم يمنع ملك البائع صحة النكاح كان ملك المبتاع مثله؛ لأنه يقوم مقامه، وهو فرع مثله.

فإن قالوا: إن الأمة الحربية إذا كانت مزوجة فإنها إذا استرقت تنتقل من ملك إلى ملك، ومع هذا ينفسخ النكاح عندكم.

قلنا: إن قلنا لا ينفسخ علي إحدى الروايتين كالحربية إذا سبيت، سقط سؤالهم.

وإن قلنا: ينفسخ على الأخرى، فالفرق أن الحربي لا يملك و (إنما)

(3)

له شبهة ملك، فإذا سبيت وملكها المسلم ملكًا صحيحًا، فليس تنتقل من ملك صحيح، وليس كذلك مسألتنا ولا حجة لهم في الآية؛ لأنها نزلت في سبي أوطاس خاصة، فتحرج بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خوفًا أن يكون لهن أزواج، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله الآية.

فالمراد بها المسبيات إذا حِضن قبل أن يحضر أزواجهن، إذا أسلمن معًا فإنه يحل وطؤهن وإن كان لهن أزواج مشركون، فأما إن أسلمن وأسلم أزواجهن معًا فهم علي نكاحهم، كما ستعلمه في موضعه.

(1)

من (غ).

(2)

أي إذا باع رقبة مستأجرة، كما في "شرح ابن بطال" 7/ 427.

(3)

في الأصول: لا، والمثبت من "شرح ابن بطال" 7/ 427، وهو الموافق للسياق.

ص: 331

فصل:

وفيه: أن الناس علي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكونوا مستنكرين هدية بعضهم لبعض الطعام، والشيء الذي يؤكل، ومالا يعظم خطره، دليله قوله صلى الله عليه وسلم:"لو أهدي إلى ذراع لقبلت"

(1)

؛ لأنه عليه السلام لم ينكره من بَريرة أن أهدت اللحم، ولا أنكر قبول عائشة رضي الله عنها له.

وفيه: أن من أُهدي إليه هدية قَلَّت أو كَثُرت لا يردها، فإن أطاق المكأفاة عليها فعل، وإلا أثنى عليه بها وشكرها بقوله؛ لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك.

(1)

سلف برقم (2568).

ص: 332

‌15 - باب خِيَارِ الأَمَةِ تَحْتَ الْعَبْدِ

5280 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ وَهَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: رَأَيْتُهُ عَبْدًا يَعْنِي: زَوْجَ بَرِيرَةَ. [5281، 5282، 5283 - فتح 9/ 406].

5281 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ذَاكَ مُغِيثٌ عَبْدُ بَنِي فُلَانٍ -يَعْنِي زَوْجَ بَرِيرَةَ- كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ يَتْبَعُهَا فِي سِكَكِ الْمَدِينَةِ، يَبْكِي عَلَيْهَا. [انظر: 5280 - فتح 9/ 407].

5282 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ زَوْجُ بَرِيرَةَ عَبْدًا أَسْوَدَ يُقَالُ لَهُ: مُغِيثٌ، عَبْدًا لِبَنِي فُلَانٍ، كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ يَطُوفُ وَرَاءَهَا فِي سِكَكِ الْمَدِينَةِ. [انظر: 5280 - فتح 9/ 407].

ذكر فيه حديث ابن عباس رضي الله عنهما قَالَ: رَأَيْتُهُ عَبْدًا، يَعْنِي: زَوْج بَرِيرَةَ.

ثم رواه وقال: مُغِيثٌ عَبْدُ بَنِي فُلَانٍ -يَعْنِي: زَوْجَ بَرِيرَةَ- كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ يَتْبَعُهَا في سِكَكِ المَدِينَة يبكي عليها.

ثم رواه أيضا وقال: كان زوج بريرة عبدًا أسود، يقال له: مغيث، عبدًا لبني فلان، كأني انظر إليه يطوف وراءها في سكك المدينة.

الشرح:

قام الإجماع على أن الأمة إذا أعتقت تحت عبد أن لها الخيار في البقاء معه أو مفارقته

(1)

: ومعناه: أنه لما كان العبد في حرمته وحدوده وجميع أحكامه غير مكافئٍ للحرة، وجب أن تخير تحته إذا حدث لها حرية في عصمته.

(1)

نقل الإجماع ابن عبد البر في "التمهيد" 3/ 50.

ص: 333

وأيضًا فإنها حين وقعت العقد عليها لم تكن من أهل الاختيار لنفسها، فجعل الله لها ذلك حين صارت أكمل حرية من زوجها. قال المهلب: وأصل هذا في كتاب الله تعالى، وهو قول الله تعالى:{وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا} الآية [النساء: 25](فكان)

(1)

اشتراط الله تعالى في جواز نكاح الأحرار الإماء عدم الطول إلى الحرة، وجب مثله في العبد ألا يتطاول إلى حرة بعد أن وجَدَتَ السبيل إلى حر إلا برضاها.

واختلفوا في وقت خيار الأمة إذا عتقت، فروي عن ابن عمر وسليمان بن يسار ونافع والزهري وقتادة وأبي قلابة أن لها الخيار مالم يمسها زوجها، وهو قول مالك وأحمد، علمت أم لم تعلم.

وقالت طائفة: لها الخيار وإن أصيبت مالم تعلم، فإذا علمت ثم أصابها فلا خيار لها. وهو قول عطاء والحكم وسعيد بن المسيب، وهو قول الثوري، وزاد: بعد أن تحلف ما وقع عليها وهي تعلم أن لها الخيار، فإن حلفت خيرت. وكذلك قال الأوزاعي وإسحاق، وقال الشافعي: إن ادعت الجهالة لها الخيار، وهو أحب إلينا

(2)

.

وفي هذا الحديث ما يبطل أن يكون خيارها على المجلس؛ لأن مشيها في المدينة لم يبطل خيارها.

وقد روى قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قال: والله لكأني انظر إلى زوج بريرة في طرق المدينة، وإن دموعه لتنحدر على لحيته،

(1)

في الأصل: (لأنه كان)، والمثبت من (غ).

(2)

انظر: "شرح ابن بطال" 7/ 429، "التمهيد" 3/ 50 - 52، "المغني" 10/ 71 - 72.

ص: 334

يتبعها حتى يترضاها لتختاره، فلم تفعل

(1)

. ومثل هذا في حديث زبراء، أنها كانت تحت عبد فعتقت، فسألت حفصة أم المؤمنين فقالت: إن أمرك بيدك ما لم يمَسُّك زوجك. فقالت: هو الطلاق ثلاثًا ففارقته.

رواه مالك عن عروة بن الزبير

(2)

وفي الحديث حجة لمن قال: لا خيار للأمة إذا عتقت تحت الحر؛ لأن خيارها إنما وقع من أجل كونه عبدًا، وقد روى أهل العراق عن الأسود، عن عائشة أن زوج بريرة كان حرًّا

(3)

.

واختلف العلماء إذا عتقت الأمة تحت الحر، وروي عن ابن عباس وابن عمر أنه لا خيار لها، وهو قول عطاء وسعيد بن المسيب والحسن وابن أبي ليلى، وبه قال مالك والأوزاعي والليث والشافعي وأحمد وإسحاق.

وقالت طائفة: لها الخيار حرًّا كان زوجها أو عبدًا روي ذلك عن الشعبي والنخعي وابن سيرين وطاوس ومجاهد وحماد، وهو قول الثوري والكوفيين وأبي ثور، واحتجوا برواية الأسود عن عائشة رضي الله عنها أن زوجها كان حرًّا

(4)

. صححه الترمذي، وقال البخاري: منقطع، وقال مرة: مرسل، وقول ابن عباس: كان عبدًا، أصح

(5)

.

(1)

رواه أبو داود (2232)، والترمذي (1156)، والدارقطني 3/ 293. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. اهـ.

(2)

"الموطأ" ص 347 - 348.

(3)

سيأتي برقم (6754).

(4)

انظر: "اختلاف الفقهاء" للمروزي 252 - 253، "شرح السنة" 9/ 110، "المغني" 10/ 69.

(5)

سيأتي برقم (6751)، (6754)، ورواه الترمذي (1155).

ص: 335

وقالوا: لأنه لا رأي لها في إنكاح مولاها؛ لإجماعهم أنه يزوجها بغير إذنها، فإذا عتقت كان لها الخيار الذي لم يكن لها في حال العبودية، وحجة من قال: لا خيار لها تحت الحر أنها لم يحدث لها حال ترتفع به عن الحر، فكأنهما لم (ير)

(1)

إلا حُرَّين، ولم ينقص حال الزوج عن حالها، ولم يحدث به عيب فلم يكن لها خيار، وقد قام الإجماع علي أنه لا خيار لزوجة العنين إذا ذهبت العلة قبل أن يقضى بفراقه لها، فكذلك سائر العيوب زوالها ينفي الخيار، وأما رواية الأسود، عن عائشة فقد عارضها من هو ألصق بعائشة وأقعد بها من الأسود، وهو القاسم بن محمد وعروة بن الزبير، فرويا عنها أنه كان عبدًا. والأسود كوفي سمع منها من وراء حجاب وعروة والقاسم كانا يسمعان منها بغير حجاب؛ لأنها خالة عروة وعمة القاسم، فهما أقعد بها من الأسود.

قال ابن المنذر: ورواية اثنين أولى من رواية واحد مع رواية ابن عباس من الطرق الثابتة أنه كان عبدًا. قال: وقال الحسن وقتادة: إذا اختارت نفسها فهي طلقة بائنة، وقال عطاء: واحدة، وقال إبراهيم وحماد والشافعي وأحمد وإسحاق: لا يكون طلاقًا

(2)

.

(1)

كذا في الأصول، والصحيح (يريا).

(2)

"الإشراف" 1/ 157 - 158 بتصرف.

ص: 336

‌16 - باب شَفَاعَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي زَوْجِ بَرِيرَةَ

5283 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ زَوْجَ بَرِيرَةَ كَانَ عَبْدًا يُقَالُ لَهُ: مُغِيثٌ، كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ يَطُوفُ خَلْفَهَا يَبْكِي، وَدُمُوعُهُ تَسِيلُ عَلَى لِحْيَتِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِعَبَّاسٍ:«يَا عَبَّاسُ، أَلَا تَعْجَبُ مِنْ حُبِّ مُغِيثٍ بَرِيرَةَ، وَمِنْ بُغْضِ بَرِيرَةَ مُغِيثًا؟» . فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَوْ رَاجَعْتِهِ» . قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، تَأْمُرُنِي؟ قَالَ:«إِنَّمَا أَنَا أَشْفَعُ» . قَالَتْ: لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ. [انظر: 5280 - فتح 9/ 408].

ذكر فيه حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ زَوْجَ بَرِيرَةَ كَانَ عَبْدًا يُقَالُ لَهُ: مُغِيثٌ، كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ يَطُوفُ خَلْفَهَا يَبْكِي، وَدُمُوعُهُ تَسِيلُ عَلَى لِحْيَتِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِعَبَّاسٍ:«يَا عَبَّاسُ، أَلَا تَعْجَبُ مِنْ حُبِّ مُغِيثٍ بَرِيرَةَ، وَمِنْ بُغْضِ بَرِيرَةَ مُغِيثًا؟» . فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَوْ رَاجَعْتِهِ» . قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، تَأْمُرُنِي؟ قَالَ:«إِنَّمَا أَنَا أَشْفَعُ» . قَالَتْ: لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ.

الشرح:

هو مطابق لما ترجم له، وهو استشفاع الإِمام والعالم والخليفة في الحوائج، والرغبة إلى أهلها في الإسعاف لسائلها، وأن ذلك من مكارم الأخلاق.

وقد قال عليه السلام: "اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله علي لسان نبيه ما شاء".

ثم فيه فوائد أُخر:

الأولى: أن الساعي في ذلك مأجور وإن لم تنقض الحاجة، طبق ما أوردناه.

الثانية: لا حرج على الإِمام والحاكم إذا ثبت الحق علي أحد الخصمين، إذا سأله الذي ثبت الحق عليه أن يسأل من ثبت ذلك له،

ص: 337

تأخير حقه أو وضعه عنه، وأن يشفع له في ذلك إليه، وذلك أنه عليه السلام شفع إلى بريرة وكلمها بعد تأخيرها وأعلمها مالها من القرار تحته أو الفراق، فقال:"لو راجعته".

الثالثة: أنه من يُسألُ من الأمور ما هو غير واجب عليه فعله فله ردُّ سائله وترك قضاء حاجته وإن كان الشفيع سلطانًا أو عالما أو شريفًا؛ لأنه عليه السلام لم ينكر علي بريرة ردَّها إياه فيما شَفع فيه، وليس أحد من الخلقِ أعلى رتبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فغيره من الخلق أحرى أن لا يكون منكرًا رده فيما شفع فيه.

الرابعة: أن بغض الرجل للرجل المسلم علي وجه كراهة قربه والدنو منه علي غير وجه العداوة له، ولكن اختيارا للبعد منه لسوء خلقه، وخبث عشرته، وثقل (ظله)

(1)

، أو لغير ذلك مما يُكرِّه الناس بعضهم من بعض جائزٌ، كالذي ذكر من بغضة امرأة ثابت بن قيس بن شماس له مع مكانه من الدين والفضل لغير بأس، لكن لدمامة خلقه وقبحه، حتى افتدت منه وفرق الشارع بينهما، ولم ير أنها أتت مأثمًا، ولا ركبت معصية بذلك، بل عذرها وجعل لها (مخرجًا)

(2)

من المقام معه، وسبيلًا إلى فراقه والبعد عنه، ولم يذمها علي بغضها له علي قبحه وشدة سواده، وإن كان ذلك جبلةً وفطرةً خلق عليها، والذي يبغض علي ما في القدرةِ تركهُ من قبيح الأحوال ومذموم العشرة أولى بالعذر وأبعد من الذم.

الخامسة: أنه لا بأس بالنظر إلى المرأة التي يريد خطبتها، وإظهار

(1)

في الأصول: ظلمه. والمثبت هو الموافق للسياق كما في "شرح ابن بطال" 7/ 432.

(2)

من (غ).

ص: 338

رغبته فيها، وذلك أنه عليه السلام لم ينكر علي زوج بريرة -وقد اختارت نفسها وبانت منه- إتباعه إياها في سكك المدينة باكيًا على فراقها، وإنْ ظنَّ أحد أن ذلك قبل اختيار بريرة نفسها، فقوله عليه السلام "لو راجعته" يدل أن ذلك كان بعد: بينونتها، ولو كان ذلك قبل بينونتها لقال لها: لو اخترتيه.

ولا خلاف بين الجميع أنَّ المملوكةَ إذا عُتقت وهي تحت زوج فاختارت نفسها أنها لا ترجع إلى الزوج الذي كانت تحته إلا بنكاح جديد، غير النكاح الذي كان بينها وبينه قبل اختيارها نفسها. فعُلم أنَّ قوله عليه السلام "لو راجعتيه" معناه: غير الرجعة التي تكون بين الزوجين في طلاق يكون للزوج فيه الرجعة، ولو كان ذلك معناه لكان ذلك إلى زوج بريرة دونها، ولم يكن لزوجها حاجةٌ أن يستشفع برسول الله صلى الله عليه وسلم في أن تراجعه.

السادسة: أنه لا حرج علي مسلم في هوى امرأة مسلمة وحبه لها، ظهر ذلك أو خفي، ولا إثم عليه في ذلك، وإن أفرط مالم يأت محرمًا، وذلك أن مغيثًا كان يتبعها بعد ما بانت منه في سكك المدينة، مبديًا لها ما يجده من نفسه من فرط الهوى وشدة الحب، ولو كان قبل اختيارها نفسها لم يكن عليه السلام يقول لها:"لو راجعتيه" لأنه لا يقال لامرأة في حبال رجل وملكه بعصمة النكاح: لو راجعتيه، وإنما يُسأل المراجعة المفارقُ لزوجته.

وإذا صح ذلك فغير ملوم من ظهر منه فرط هوى امرأةٍ يحل له نكاحها، نكحته (بعد ذلك)

(1)

أم لا، [ما]

(2)

لم يأتْ محرمًا ولم يَغْشَ مأثمًا.

(1)

من (غ).

(2)

زيادة يقتضيها السياق.

ص: 339

السابعة: أنه من بانت منه زوجته بخلع أو فدية، بما تكون المرأة فيه أولى بنفسها من زوجها ولا رجعة له عليها أنه يجوز له خطبتها في عدتها، ولا بأس على المرأة بإجابته إلى ذلك؛ لأنه عليه السلام شفع إلى بريرة، وخطبها على زوجها الذي بانت منه، بصريح الخطبة التي هي محظورة في العدة، ولو أن غيره كان الراغب فيها لما جاز له التصريح بالخطبة.

الثامنة: أن أمره مخالف لشفاعته، فأمره للوجوب بخلاف شفاعته.

ص: 340

‌17 - باب

5284 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ رَجَاءٍ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ، أَنَّ عَائِشَةَ أَرَادَتْ أَنْ تَشْتَرِىَ بَرِيرَةَ، فَأَبَى مَوَالِيهَا إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطُوا الْوَلَاءَ، فَذَكَرَتْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:«اشْتَرِيهَا وَأَعْتِقِيهَا، فَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» . وَأُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِلَحْمٍ فَقِيلَ: إِنَّ هَذَا مَا تُصُدِّقَ عَلَى بَرِيرَةَ، فَقَالَ:«هُوَ لَهَا صَدَقَةٌ، وَلَنَا هَدِيَّةٌ» .

حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ وَزَادَ: فَخُيِّرَتْ مِنْ زَوْجِهَا. [انظر: 456 - مسلم: 1075 - فتح 9/ 410].

ذكر فيه حديث بريرة أيضًا.

وفيه: (فَخُيِّرَتْ مِنْ زَوْجِهَا) ولم يترجم عليه، وهو من قبيل ما هو فيه.

وقوله: ("هو لها صدقة") إن فسرت بالغرض دل علي عدم إلحاق الموالي ببني هاشم والمطلب، وهو وجه عندنا، وقول في مذهب مالك، ويرد به علي من يقول: إن آل أبي بكر لا تحرم عليهم الصدقة كما حكاه ابن التين.

ص: 341

‌18 - باب قَوْلِ اللهِ عز وجل: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} [البقرة: 221]

5285 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا سُئِلَ عَنْ نِكَاحِ النَّصْرَانِيَّةِ وَالْيَهُودِيَّةِ قَالَ: إِنَّ اللهَ حَرَّمَ الْمُشْرِكَاتِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا أَعْلَمُ مِنَ الإِشْرَاكِ شَيْئًا أَكْبَرَ مِنْ أَنْ تَقُولَ الْمَرْأَةُ رَبُّهَا عِيسَى، وَهْوَ عَبْدٌ مِنْ عِبَادِ اللهِ. [فتح 9/ 416].

حدثنا قتيبةُ، ثَنَا اللَيْث، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ ابن عُمَرَ رضي الله عنهما كَانَ إِذَا سُئِلَ عَنْ نِكَاحِ النَّصْرَانِيَّةِ وَالْيَهُودِيَّةِ قَالَ: إِنَّ اللهَ حَرَّمَ المُشْرِكَاتِ عَلَى المُؤْمِنِينَ، وَلَا أَعْلَمُ مِنَ الإِشْرَاكِ شَيْئًا أَكْبَرَ مِنْ أَنْ تَقُولَ المَرْأَةُ رَبُّهَا عِيسَى، وَهْوَ عَبْدٌ مِنْ عِبَادِ اللهِ.

هذا من أفراده، وحمله ابن المرابط على التنزيه عن نساء أهل الكتاب، للتشابه الذي بينهن وبين الكفار من غير أهل الكتاب، لا على أن ذلك حرام؛ لأن الإجماعَ وقع علي إباحة نكاح الكتابيات لقوله تعالى:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة: 5].

ولا جائز أن يقول: أراد بالمحصنات هنا اللواتي أسلمن من أهل الكتاب لأنهن مؤمنات، وقد تقدم ذكر المؤمنات قبله، فلا معنى لذكره ذلك بعد، فوجب استعمال النص في نساء أهل الكتاب مع ما استمر على عمل الصحابة في زمنه إلى يومنا هذا.

وقال القاضي إسماعيل: إنما كان ذلك إكرامًا للكتاب الذي بأيديهم، وإن كانوا حرفوا بعضه وبدلوه، بخلاف عبدة الأوثان، وهو قول مالك، قال: الحرمة توصل كل كافر وثني كان أو غير وثني.

ص: 342

والذي ذهب إليه جمهور العلماء أن الله تعالى حرم نكاح المشركات بالآية المذكورة، ثم استثنى نكاح نساء أهل الكتاب فأحلهن في سورة المائدة بقوله:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] وبقي سائر المشركات على أصل التحريم.

قال أبو عُبيد: روي هذا القول عن ابن عباس، وبه جاءت الآثار عن الصحابة والتابعين وأهل العلم بعدهم أنَّ نكاحَ الكتابيات حلال، وبه قال مالك والأوزاعي والثوري والكوفيون والشافعي وعامة العلماء. وقال غيره: ولا يروى خلاف ذلك إلا عن ابن عمرَ فإنه شذَّ عن جماعة الصحابة والتابعين، ولم يجزْ نكاحَ اليهودية والنصرانية. وخالف ظاهر قوله:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5]، ولم يلتفت أحد من العلماء إلى قوله

(1)

.

قال أبو عبيد: والمسلمون اليوم على الرخصة في نساء أهل الكتاب. ويرون أنَّ التحليل ناسخ للتحريم، ونقله ابن التين عن مالك وأكثر العلماء.

وقال ابن المنذر: لا يصح عن أحد من الأوائل أنه حرم ذلك

(2)

.

وقيل: المشركات هنا: عبدة الأوثان والمجوس.

وقد تزوج عثمان رضي الله عنه نائلة بنت الفرافصة الكلبية وهي نصرانية، تزوجها علي نسائه. وتزوج طلحة بن عبيد الله يهودية

(3)

، وتزوج حذيفة يهودية وعنده حرتان مسلمتان، وعنه: إباحة نكاح المجوسية، وتأول قوله تعالى:{وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ} [البقرة:

(1)

انظر هذِه المسألة في "شرح ابن بطال" 7/ 434، "الإشراف" 1/ 75.

(2)

"الإشراف" 1/ 75 - 76.

(3)

انظر هذِه الآثار في "السنن الكبرى" للبيهقي 7/ 172.

ص: 343

221] علي أن هذا ليس بلفظ التحريم. وقيل: بناءً علي أن لهم كتابًا.

وقد روُي عن عمرَ بن الخطاب أنه كان يأمر بالتنزه عنهن. قال أبو عبيد: حدثنا محمد بن يزيد عن الصلت بن بهرام.

وقال ابن أبي شيبة: حدثنا عبد الله بن إدريس، عن الصلت، عن شقيق بن سلمة قال: تزوج حذيفة يهوديةً. ومن طريق أخرى: وعنده عربيتان

(1)

، فكتب إليه عُمر أنْ خلِّ سبيلها، فقال: أحرام؟ فكتب إليه عمر: لا، ولن أخاف أن تواقعوا المومسات منهن. يعني: الزواني

(2)

.

فنرى أن عمر ذهب إلى قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة: 5] فيقول: إن الله تعالى إنما شرط العفائف منهن، وهذِه لا يؤمن أن تكون غير عفيفة.

قال ابن أبي شيبة: وحدثنا أبو خالد الأحمر، عن عبد الملك قال: سألت عطاء عن نكاح اليهوديات والنصرانيات؟ فكرهه وقال: كان ذاك والمسلمات قليلٌ. وعن جابر قال: شهدنا القادسية مع سعد بن أبي وقاص، ولا نجد سبيلًا إلى المُسلمات، فتزوجنا اليهوديات والنصرانيات، فمنا من طلق ومنا من أمسك

(3)

.

وقال أبو عبيد: والذي عليه جماعة الفقهاء في قوله: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} [البقرة: 221] أن المراد الوثنيات والمجوسيات، وأنه لم ينسخ تحريمهن كتاب ولا سنةٌ. وشذَّ أبو ثورٍ عن الجماعة فأجاز مناكحة المجوس، وأكل ذبائحهم

(4)

، وهو محجوجٌ بالجماعة والتنزيل.

(1)

ابن أبي شيبة 3/ 463 (16164).

(2)

ابن أبي شيبة 3/ 462 (16157).

(3)

ابن أبي شيبة 3/ 462، 463 (16158، 16163).

(4)

انظر قول أبي ثور في "المحلي" 9/ 449.

ص: 344

وروى ابن أبي شيبة، عن عبد الوهاب الثقفي، عن مثنى، عن عمرو بن شعيب، عن سعيد بن المسيب أنه قال: لا بأس أنْ يشتري الرجل المسلمُ الجارية المجوسية فيتسراها. وحدثنا عبيد الله بن موسى، عن مثنى قال: كان عطاء وطاوس وعمرو بن دينار لا يرون بأسًا أن يتسرى الرجل بالمجوسية

(1)

.

قال أبو عبيد: وروي عن مجاهد، عن ابن عباس أنه قال: لا يحل مناكحة أهل الكتاب إذا كانوا حربًا، وتلى قوله تعالى:{قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ} الآية [التوبة: 29] وبه قال الثوري

(2)

.

واتفق مالك وأبو حنيفة وأصحابه والشافعي: أن نكاح الحربيات في دار الحرب حلال، إلا أنهم كرهوا ذلك من أجل أن المقام له ولذريته في دار الحرب حرام عليه؛ لئلا يجري عليه وعلي ولده (حكم)

(3)

أهل الشرك

(4)

.

واختلفوا في نكاح إماء أهل الكتاب: فمنعه مالك والأوزاعي والليث والشافعي؛ لقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}

(5)

[المائدة: 5].

قال: فهن الحرائر من اليهوديات والنصرانيات وقال: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25].

(1)

انظر ابن أبي شيبة 3/ 477 (16309، 16310).

(2)

انظر قول الثوري في "الإشراف" 1/ 76.

(3)

من (غ).

(4)

انظر: "الاستذكار" 16/ 272.

(5)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 2/ 306، "الاستذكار" 16/ 262 - 264.

ص: 345

قال مالك: إنما أُحلَّ نكاح الإماء المؤمنات دون نكاح إماء أهل الكتاب

(1)

.

وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا بأس بنكاح إماء أهل الكتاب؛ لأن الله تعالى قد أحل الحرائر منهن والإماء تبع لهن

(2)

، وهو قول أبي ميسرة، فيما حكاه ابن المنذر

(3)

، والحجة عليهم نص التنزيل (السالف)

(4)

.

وأجمع أئمة الفتوى أنه لا يجوز وطء أمة مجوسية بملك اليمين، وأجاز ذلك طائفة من التابعين وقالوا: لأن سبي أوطاس وطئن ولم يُسلمن

(5)

، وقد سلف ردّ هذا في الجهاد.

(1)

"الموطأ" ص 334 - 335.

(2)

انظر: "مختصر الطحاوي" ص 178.

(3)

حكاه عنه أيضًا ابن عبد البر في "الاستذكار" 16/ 264.

(4)

من (غ).

(5)

نقل هذا الإجماع ابن بطال في "شرحه" 7/ 436.

ص: 346

‌19 - باب نِكَاحِ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْمُشْرِكَاتِ وَعِدَّتِهِنَّ

5286 -

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا هِشَامٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَقَالَ عَطَاءٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى مَنْزِلَتَيْنِ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْمُؤْمِنِينَ: كَانُوا مُشْرِكِي أَهْلِ حَرْبٍ يُقَاتِلُهُمْ وَيُقَاتِلُونَهُ، وَمُشْرِكِي أَهْلِ عَهْدٍ لَا يُقَاتِلُهُمْ وَلَا يُقَاتِلُونَهُ، وَكَانَ إِذَا هَاجَرَتِ امْرَأَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ لَمْ تُخْطَبْ حَتَّى تَحِيضَ وَتَطْهُرَ، فَإِذَا طَهُرَتْ حَلَّ لَهَا النِّكَاحُ، فَإِنْ هَاجَرَ زَوْجُهَا قَبْلَ أَنْ تَنْكِحَ رُدَّتْ إِلَيْهِ، وَإِنْ هَاجَرَ عَبْدٌ مِنْهُمْ أَوْ أَمَةٌ فَهُمَا حُرَّانِ وَلَهُمَا مَا لِلْمُهَاجِرِينَ. ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ مِثْلَ حَدِيثِ مُجَاهِدٍ: وَإِنْ هَاجَرَ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ لِلْمُشْرِكِينَ أَهْلِ الْعَهْدِ لَمْ يُرَدُّوا، وَرُدَّتْ أَثْمَانُهُمْ. [فتح 9/ 417].

5287 -

وَقَالَ عَطَاءٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَتْ قَرِيبَةُ بِنْتُ أَبِي أُمَيَّةَ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَطَلَّقَهَا، فَتَزَوَّجَهَا مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، وَكَانَتْ أُمُّ الْحَكَمِ ابْنَةُ أَبِي سُفْيَانَ تَحْتَ عِيَاضِ بْنِ غَنْمٍ الْفِهْرِيِّ فَطَلَّقَهَا، فَتَزَوَّجَهَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عُثْمَانَ الثَّقَفِيُّ. [فتح 9/ 418].

حدثنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، ثَنَا هِشَام، عَنِ ابن جُرَيْجٍ، وَقَالَ عَطَاءٌ، عَنِ ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: كَانَ المُشْرِكُونَ عَلَى مَنْزِلَتَيْنِ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْمُؤْمِنِينَ: (كَانُوا)

(1)

مُشْرِكِي أَهْلِ حَرْبٍ يُقَاتِلُهُمْ وَيُقَاتِلُونَهُ، وَمُشْرِكِي أَهْلِ عَهْدٍ لَا يُقَاتِلُهُمْ وَلَا يُقَاتِلُونَهُ، وَكَانَ إِذَا هَاجَرَتِ امْرَأَةٌ مِنْ أَهْلِ الحَرْبِ لَمْ تُخْطَبْ حَتَّى تَحِيضَ وَتَطْهُرَ، فَإِذَا طَهُرَتْ حَلَّ لَهَا النِّكَاحُ، فَإِنْ هَاجَرَ زَوْجُهَا قَبْلَ أَنْ تَنْكِحَ رُدَّتْ إِلَيْهِ، وَإِنْ هَاجَرَ عَبْدٌ مِنْهُمْ أَوْ أَمَةٌ فَهُمَا حُرَّانِ وَلَهُمَا مَا لِلْمُهَاجِرِينَ. ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ أَهْلِ العَهْدِ

مِثْلَ حَدِيثِ مُجَاهِدٍ: وَإِنْ هَاجَرَ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ لِلْمُشْرِكِينَ أَهْلِ العَهْدِ لَمْ يُرَدُّوا، وَرُدَّتْ أَثْمَانُهُمْ.

(1)

من (غ).

ص: 347

وَقَالَ عَطَاءٌ، عَنِ ابن عَبَّاسٍ: كَانَتْ قَرِيبَةُ بِنْتُ أَبِي أُمَيَّةَ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ فَطَلَّقَهَا، فَتَزَوَّجَهَا مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، وَكَانَتْ أُمُّ الحَكَمِ بنت أَبِي سُفْيَانَ تَحْتَ عِيَاضِ بْنِ غَنْمٍ الفِهْرِيِّ فَطَلَّقَهَا، فَتَزَوَّجَهَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عُثْمَانَ الثَّقَفِيُّ.

هذا الحديث من أفراده، وقال أبو مسعود الدمشقي: هذا الحديث

في تفسير ابن جريج، عن عطاء الخراساني (عن ابن عباس)

(1)

.

وكأن البخاري ظنه عطاء بن أبي رباح، وابن جريج لم يسمع التفسير من عطاء الخراساني، إنما أخذ الكتاب من ابنه ونظر فيه، وقال علي بن عبد الله المديني: سمعت هشام بن يوسف قال: قال لي ابن جريج: سألت عطاء عن التفسير من البقرة وآل عمران فقال: أعفني من هذا.

قال هشام: وكان بعد هذا إذا قال عطاء: عن ابن عباس قال: الخراساني. قال هشام: فكتبنا ما كتبنا، ثم مللنا. قال ابن المديني: يعني: كتبنا ما كتبنا أنه عطاء الخراساني، قال عليٌّ: وإنما كتبت هذِه القصة؛ لأن محمد بن ثوركان يجعلها عطاء عن ابن عباس، فظن الذين حملوها عنه أنه ابن أبي رباح

(2)

.

فصل:

وقريبة

(3)

: هذِه بقاف مضمومة، ثم راء مفتوحة، ثم ياء مثناة تحت، ثم موحدة، ورأيتُ الدمياطي فتح القاف وكسر الراء، وهي أخت أم

(1)

من (غ).

(2)

انظر: "تهذيب الكمال" 20/ 115 - 117.

(3)

في هامش الأصل: حاشية: قريبة بفتح القاف وكسر الراء (كتبه) الدمياطي بخطه، وقد قال الذهبي في (

): لم أجد أحدًا بالضم، وفي "القاموس" أنها بالضم كجُهينة، وقد تفتح. [انظر "القاموس المحيط" ص 123 مادة: قرب].

ص: 348

المؤمنين أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، ذكرت في الصحابيات وأنها كانت حاضرة ابتناء رسول الله صلى الله عليه وسلم علي أختها، وأم الحكم ذكرت فيهن أيضًا، وأنها أسلمت يوم الفتح وكانت أخت أم حبيبة ومعاوية لأبيهما.

قال ابن عبد البر: وَلدت لعبد الله بن عثمان الثقفي عبد الرحمن المعروف بابن أم الحكم

(1)

، وقال ابن سعد: أمها هند بنت عتبة بن ربيعة

(2)

.

فصل:

إذا أسلمت المشركة وهاجرت إلى المسلمين فقد وقعت الفرقة بإسلامها بينها وبين زوجها الكافر عند جماعة الفقهاء، ووجب استبراؤها بثلاث حيض، ثم تحل للأزواج. هذا قول مالك والليث والأوزاعي وأبي يوسف ومحمد والشافعي

(3)

.

وقال أبو حنيفة: إذا خرجت الحربية إلينا مسلمة ولها زوج كافر في دار الحرب، فقد وقعت الفرقة ولا عدة عليها،

(4)

وإنما عليها استبراء رحمها بحيضة، واعتل بأن العدة إنما تكون في طلاق، وإسلامها فسخ وليس بطلاق.

قالوا: وهذا تأويل حديث ابن عباس أنه إذا هاجرت امرأة من أهل الحرب لم تخطب حتى تحيض، ويظهر أن المراد بذلك الاستبراء، وتأويل هذا عند مالك والليث ومن وافقهما ثلاث حيض؛ لأنها قد

(1)

"الاستيعاب" 4/ 485 - 486.

(2)

"الطبقات" 8/ 240.

(3)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 2/ 334، "الاستذكار" 16/ 323.

(4)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 2/ 334.

ص: 349

جُعلت بالهجرة من جملة الحرائر المسلمات، ولا براءة لرحم حرة بأقل من ثلاث حيض.

وأكثر العلماء علي أن زوجها إن هاجر مسلمًا قبل انقضاء عدتها أنه أحق بها. وسيأتي اختلافهم في ذلك في الباب بعد هذا، واتفقوا أن الأمة إذا سُبيت: أن استبراءها بحيضة.

فصل:

وقول ابن عباس رضي الله عنهما: (وإن هاجر عبد منهم أو أمة فهما حران). يريد أهل الحرب، وأما أهل العهد فيرد إليهم الثمن عوضًا منهم؛ لأنه لا يحل للمشركين تملك المسلمين ويكون وزن الثمن منهم من باب فداء أسرى المسلمين.

وإنما لم يجز ملك العبد والأمة إذا هاجرا مسلمين من أجل ارتفاع العلة الموجبة لاسترقاق المشركين، وهي وجود الكفر منهم، فإذا أسلموا قبل القدرة عليهم وقبل الغلبة لهم وجاءونا مسلمين، كان حكمهم حكم من هاجر من مكة إلى المدينة في تمام حرمة الإسلام والحرية إن شاء الله تعالى.

فصل:

قال ابن المرابط: وإنما رد المهاجرات إلى أزواجهن إذا أسلموا في العدة، وكذلك فعل عليه السلام بزينب ابنته حين ردها إلى زوجها أبي العاص بن الربيع بالنكاح الأول ولم يحدث صداقًا، وإليه ذهب مالك وجماعة من أهل العلم، محتجين بأن النكاح لا يحل بعد انعقاده إلا أن يوجب حله كتاب أو سنة أو إجماع ولا سبيل إلى حله مع التنازع.

وأجمعوا علي ثبات عقد نكاح المشركين وأنهما لو أسلما جميعًا في

ص: 350

وقت واحد، أقرا علي نكاحهما

(1)

.

واختلفوا إذا أسلم أحدهما قبل صاحبه كما فعل بأبي العاصي، لكن الزهري لما ذكر قضية أبي العاصي. قال: كان هذا قبل أن تنزل الفرائض. وقال قتادة: قبل أن تنزل سورة براءة بقطع العهد بين المسلمين والمشركين

(2)

وقد روى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أنه عليه السلام ردها إليه بنكاح جديد

(3)

، وكذا قاله الشافعي، ولا خلاف أنه إذا انقضت عدتها لا سبيل له عليها إلا بنكاح جديد.

فتبين في رواية ابن عباس -إن صحت- ردها بالنكاح الأول

(4)

، أراد علي مثل الصداق الأول. وحديث عمرو بن شعيب هذا عندنا صحيح.

وقال محمد بن عمرو: ردها بعد ست سنين وقال الحسن: بعد سنتين

(5)

.

قلت: ذكر موسى بن عقبة في "مغازيه": أنها رُدت إليه قبل انقضاء العدة، وهو يؤيد قول ابن عباس ويتبين أن لا حاجة إلى تأويله، وقد رجح الحاكم وغيره قول ابن عباس علي ما ذكره عمرو بن شعيب

(6)

.

(1)

نقل الإجماع علي هذا ابن عبد البر في "التمهيد" 12/ 23.

(2)

رواهما الطحاوي في "شرح معاني الآثار" 3/ 260.

(3)

رواه الترمذي (1142)، وابن ماجه (2010)، قال الترمذي: هذا حديث في إسناده مقال. اهـ.

(4)

رواه أبو داود (2240)، والترمذي (1143)، قال الترمذي: هذا حديث ليس بإسناده بأس، ولكن لا نعرف وجه هذا الحديث ولعله قد جاء هذا من قبل داود بن الحصين من قبل حفظه. اهـ.

(5)

أبو داود (2240).

(6)

"المستدرك" 3/ 639.

ص: 351

فصل:

وقول ابن عباس: فإذا طهرت حلَّ لها النكاح ظاهره حُجة لأبي حنيفة من أن الأقراء الحيض، ومذهب مالك أنها تحل للأزواج بأول الطهر الثالث

(1)

ذكره ابن التين.

قال: وقول ابن عباس: (لم تخطب حتى تحيض وتطهر). تأوله بعض أهل العلم علي أن حيضة تجزئ من استبراء الحرَّة، ولابن القاسم في "العتبية" في نصرانية طلقها نصراني فتزوجت مسلمًا بعد حيضة: لا أفسخ نكاحه. قال: ومشهور مذهب مالك أن استبراء الحائض ثلاث حيض، فلعله يريد ذلك.

(1)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 2/ 385 - 386.

ص: 352

‌20 - باب إِذَا أَسْلَمَتِ الْمُشْرِكَةُ أَوِ النَّصْرَانِيَّةُ تَحْتَ الذِّمِّيِّ أَوِ الْحَرْبِيِّ

وَقَالَ عَبْدُ الْوَارِثِ، عَنْ خَالِدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِذَا أَسْلَمَتِ النَّصْرَانِيَّةُ قَبْلَ زَوْجِهَا بِسَاعَةٍ حَرُمَتْ عَلَيْهِ. وَقَالَ دَاوُدُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ الصَّائِغِ: سُئِلَ عَطَاءٌ عَنِ امْرَأَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ أَسْلَمَتْ ثُمَّ أَسْلَمَ زَوْجُهَا فِي الْعِدَّةِ، أَهِيَ امْرَأَتُهُ؟ قَالَ: لَا، إِلاَّ أَنْ تَشَاءَ هِيَ بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ وَصَدَاقٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِذَا أَسْلَمَ فِي الْعِدَّةِ يَتَزَوَّجُهَا. وَقَالَ اللهُ تَعَالَى: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10].

وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ فِي مَجُوسِيَّيْنِ أَسْلَمَا: هُمَا على نِكَاحِهِمَا، وَإِذَا سَبَقَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ وَأَبَى الآخَرُ بَانَتْ، لَا سَبِيلَ لَهُ عَلَيْهَا. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: امْرَأَةٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ جَاءَتْ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، أَيُعَاوَضُ زَوْجُهَا مِنْهَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة: 10]؟ قَالَ: لَا، إِنَّمَا كَانَ ذَاكَ بَيْنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ أَهْلِ الْعَهْدِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هَذَا كُلُّهُ فِي صُلْحٍ بَيْنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ قُرَيْشٍ.

5288 -

حَدَّثَنَا ابْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ.

وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ: حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: كَانَتِ الْمُؤْمِنَاتُ إِذَا هَاجَرْنَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَمْتَحِنُهُنَّ بِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} إِلَى آخِرِ الآيَةِ. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَمَنْ أَقَرَّ بِهَذَا الشَّرْطِ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ فَقَدْ أَقَرَّ بِالْمِحْنَةِ، فَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَقْرَرْنَ بِذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِنَّ

ص: 353

قَالَ لَهُنَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «انْطَلِقْنَ فَقَدْ بَايَعْتُكُنَّ» . لَا وَاللهِ مَا مَسَّتْ يَدُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَدَ امْرَأَةٍ قَطُّ، غَيْرَ أَنَّهُ بَايَعَهُنَّ بِالْكَلَامِ، وَاللهِ مَا أَخَذَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى النِّسَاءِ إِلاَّ بِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ يَقُولُ لَهُنَّ إِذَا أَخَذَ عَلَيْهِنَّ:«قَدْ بَايَعْتُكُنَّ» . كَلَامًا. [انظر: 2713 - مسلم: 1866 - فتح 9/ 420].

(وَقَالَ عَبْدُ الوَارِثِ، عَنْ خَالِدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: إِذَا أَسْلَمَتِ النَّصْرَاييَّةُ قَبْلَ زَوْجِهَا بِسَاعَةٍ حَرُمَتْ عَلَيْهِ). هذا أسنده ابن أبي شيبة، عن عباد بن العوام، عن خالد به، وقال: فهي أملك بنفسها. قال: وحدثنا وكيع، عن سفيان، عن سالم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: يفرق بينهما

(1)

.

ثم قال البخاري: وَقَالَ دَاوُدُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ الصَّائِغِ: سُئِلَ عَطَاءٌ عَنِ امْرَأَةٍ مِنْ أَهْلِ العَهْدِ أَسْلَمَتْ ثُمَّ أَسْلَمَ زَوْجُهَا فِي العِدَّةِ، أَهِيَ امْرَأَتُهُ؟ قَالَ: لَا، إِلَّا أَنْ تَشَاءَ هِيَ بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ وَصَدَاقٍ.

هذا أخرج معناه ابن أبي شيبة عن عباد بن العوام، عن حجاج، عن عطاء في النصرانية تسلم تحت زوجها قال: يفرق بينهما.

وحدثنا عبد الرحمن المحاربي، عن ليث، عن عطاء وطاوس ومجاهد في نصراني يكون تحته نصرانية فتسلم، قالوا: إن أسلم معها فهي امرأته، وإن لم يسلم فرق بينهما

(2)

.

ثم قال البخاري: وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِذَا أسْلَمَ في العِدَّةِ يَتَزَوَّجُهَا. وَقَالَ اللهُ تَعَالَي: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10].

(1)

ابن أبي شيبة 4/ 109، 110 (18291، 18300) وليس في الأخير ذكر لابن عباس.

(2)

ابن أبي شيبة 4/ 109 (18293، 18294).

ص: 354

وَقَالَ الحَسَنُ وَقَتَادَةُ في مَجُوسِيَّيْنِ أَسْلَمَا: هُمَا عَلَى نِكَاحِهِمَا، وَإِذَا سَبَقَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ وَأَبَى الآخَرُ بَانَتْ، لَا سبِيلَ لَهُ عَلَيْهَا

وهذا أخرجه ابن أبي شيبة أيضًا، عن عبد الأعلى، عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن وعكرمة وكتاب عمر بن عبد العزيز بلفظ: إذا سبق أحدهما -يعني: المجوسيين- صاحبه بالإِسلام فلا سبيل له عليها إلا بخطبة.

وحدثنا ابن عليه، عن يونس، عن الحسن: إذا أسلما فهما علي نكاحهما

(1)

.

وَقَالَ ابن جُرَيْجٍ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: امْرَأَة مِنَ المُشْرِكِينَ جَاءَتْ إِلَى المُسْلِمِينَ، أَيُعَاوَضُ زَوْجُهَا مِنْهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَي {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة: 10]؟ قَالَ: لَا، إِنَّمَا ذلك بَيْنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ أَهْلِ العَهْدِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هذا كُلُّهُ في الصُّلْحِ بَيْنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ قُرَيْشٍ.

ثم قال البخاري: حَدَّثنَا ابن بُكَيْرٍ، ثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابن شِهَابٍ.

وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ المُنْذِرِ: حَدَّثَنِي ابن وَهْبٍ، حَدَّثَنِي يُونُسُ، عن شِهَاب: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قالَتْ: كَانَتِ المُؤْمِنَاتُ إِذَا هَاجَرْنَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَمْتَحِنُهُنَّ بِقَوْلِ اللهِ تَعَالَي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} إلى آخِرِ الآيَةِ. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَمَنْ أَقَرَّ بهذا الشَّرْطِ مِنَ المُؤْمِنَاتِ فَقَدْ أَقَرَّ بِالْمِحْنَةِ، وكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَقْرَرْنَ بِذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِنَّ قَالَ لَهُنَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"انْطَلِقْنَ فَقَدْ بَايَعْتُكُنَّ". لَا والله مَا مَسَّتْ يَدُ

(1)

ابن أبي شيبة 4/ 118 (18391، 18392).

ص: 355

رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَدَ امْرَأَةٍ قَطُّ، غَيْرَ أَنَّهُ بَايَعَهُنَّ بِالْكَلَامِ، والله مَا أَخَذَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم على النِّسَاءِ إِلَّا بِمَا أَمَرَ اللهُ يَقُولُ لَهُنَّ إِذَا أَخَذَ عَلَيْهِنَّ:"قَدْ بَايَعْتُكُنَّ". كَلَامًا.

ولما ذكر الإسماعيلي حديث أبي الطاهر عن ابن وهب أخبرني يونس، عن ابن شهاب قال: قال عقيل: سئل ابن شهاب عن قول الله تعالى: {إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} [الممتحنة: 10] فقال: أخبرني عروة، عن عائشة قالت .. الحديث. ثم قال: هذا حديث يونس وحديث عقيل قريب منه.

قال: وأخبرنا ابن زيدان، حدثني أبو كريب، حدثنا رشدين، عن عقيل، قال: ورشدين ليس من شرط البخاري، علي أن أحمد بن حنبل قال: رشدين أرجو أنه ليس بحديثه بأس، أو قال: هو صالح الحديث

(1)

. والذي ذهب إليه ابن عباس وعطاء في هذا الباب أن إسلام النصرانية قبل زوجها فاسخ لنكاحها؛ لعموم قوله تعالى: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10]. فلم يخصص تعالى وقت العدة من غيره.

وقال ابن عباس: إن الإسلام يعلو ولا يُعلى، لا يعلو النصراني المسلمة

(2)

.

وروي مثله عن عمر بن الخطاب، وهو قول طاوس، وإليه ذهب أبو ثور.

(1)

انظر: "تهذيب الكمال" 9/ 193.

(2)

رواه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" 3/ 257 بلفظ: الإسلام يعلو ولا يُعلي، وقال الحافظ في "الفتح" 9/ 421: وسنده صحيح. اهـ، وروى الجزء الأخير عبد الرزاق 6/ 83 (10080).

ص: 356

وقالت طائفة: إذا أسلم في العدة تزوجها. هذا قول مجاهد، وقتادة. (وبه)

(1)

قال مالك، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو عبيد.

وقالت طائفة: إذا أسلمت عُرض على زوجها الإسلام، فإن أسلم فهما علي نكاحهما، وإن أبى أن يُسلم فُرِّقَ بينهما.

وهو قول الثوري والزهري، وبه قال أبو حنيفة: إذا كانا في دار الإسلام، وأما إذا كانا في دار الحرب فأسلمت وخرجت إلينا فقد بانت منه بافتراق الدارين. وفيه قول آخر يروى عن عمر أنه خَيَّر نصرانية أسلمت وزوجها نصراني إن شاءت فارقته، وإن شاءت أقامت معه

(2)

.

قال ابن المنذر: والقول الأول عندي أصح الأقاويل

(3)

. قال ابن بطال: وإليه أشار البخاري في تلاوته: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10] يعني: ما دام الزوج كافرًا

(4)

.

قال ابن المنذر: وأجمع عوام أهل العلم علي أن النصراني إذا أسلم قبل امرأته أنهما علي نكاحهما إذ جائز له أن يبتدئ نكاحهما لو لم يكن له زوجة. وكذلك أجمعوا أنهما لو أسلما معًا أنهما علي نكاحهما

(5)

.

(1)

من (غ).

(2)

رواه عبد الرزاق 6/ 84 (10083).

(3)

انظر هذِه المسألة في "مختصر اختلاف العلماء" 2/ 335 - 338، "الإشراف" 1/ 187 - 188، "المغني" 10/ 8.

(4)

"شرح ابن بطال" 7/ 439.

(5)

"الإشراف" 1/ 187.

ص: 357

فصل:

وأما قول الحسن وقتادة أن الوثنيين إذا أسلما معًا أنهما على نكاحهما، فهو إجماع من العلماء. واختلفوا إذا سبق أحدهما الآخر بالإِسلام، فقالت طائفة: تقع الفرقة بإسلام من أسلم منهما. وقاله - غير الحسن وقتادة- عكرمة، وطاوس، ومجاهد

(1)

.

وقالت طائفة: إذا أسلم المتخلف منهما عن الإسلام قبل انقضاء عدة المرأة فهما على النكاح. هذا قول الزهري، والشافعي، وأحمد، وإسحاق،

(2)

ولم يراعوا من سبق بالإِسلام إذا اجتمع إسلامهما في العدة كما كان صفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل أحق بزوجتيهما لما أسلما في العدة.

واحتج الشافعي بأن أبا سفيان بن حرب أسلم قبل امرأته هند، وكان إسلامه بمر الظهران، ثم رجع إلى مكة، وهند بها كافرة، ثم أسلمت بعد أيام، فأقرا على نكاحهما في الشرك، لأن عدتها لم تنقض. وكذلك حكيم ابن حزام أسلم قبل امرأته، ثم أسلمت بعد فكانا على نكاحهما

(3)

.

وقال مالك والكوفيون: إذا أسلم الرجل منهما قبل امرأته تقع الفرقة بينهما في الوقت إذا عرض عليها الإسلام فلم تسلم، واحتج مالك بقوله تعالى:{وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] فلا يجوز التمسك بعصمة المجوسية؛ لأن الله تعالى لم يُرد بالكوافر في هذِه الآية أهل الكتاب، بدليل إباحة تزويج نساء أهل الكتاب، فلما كانت مجوسية

(1)

انظر: "المغني" 10/ 8.

(2)

انظر: "الاستذكار" 16/ 323، "الأم" 5/ 39، "المغني" 10/ 8.

(3)

"الأم" 5/ 39.

ص: 358

غير جائز ابتداء العقد عليها، فلذلك لا يجوز التمسك بها؛ لأن ما لا يجوز الابتداء عليه لا يجوز التمسك به إذا طرأ على النكاح.

وذهب مالك إلى أنه إن أسلمت الوثنية قبل زوجها، فإن أسلم في عدتها فهو أحق بها

(1)

.

وعند الكوفيين يُعرض على الزوج الإسلام في الوقت، كما يعرض على المرأة إذا أسلمت، ولم يراعوا انقضاء عدة فيها

(2)

.

واحتج مالك في اعتبار العدة في إسلام المرأة قبل زوجها بما رواه في "الموطأ" عن ابن شهاب أنه قال: لم يبلغنا أن امرأة هاجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوجها كافر مقيم بدار الحرب إلا فرقت هجرتها بينها وبين زوجها، إلا أن يقدم زوجها مهاجرًا قبل أن تنقضي عدتها

(3)

.

فهذا من جهة الآية.

وأما من جهة القياس، فإن إسلامه بمنزلة الارتجاع، فلما كان له الارتجاع في الطلاق فكذلك إذا أسلم؛ لأن إسلامه فعله والرجعة فعله، فاشتبها لهذِه العلة

(4)

. ولم يجب عند الكوفيين مراعاة العدة؛ لأن العدة إنما تكون في طلاق، والكفر فرق بينهما وفسخ نكاحهما كالمرتد ولم يعلموا الآثار التي عند أهل المدينة وباعتبار العدة إذا أسلمت المرأة قبل زوجها.

واحتج أهل المقالة الأولى في أن النكاح يفسخ بالإِسلام إذا أسلم بقوله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] قالوا: فكل

(1)

انظر: "الاستذكار" 16/ 323.

(2)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 2/ 335 - 336.

(3)

"الموطأ" ص 337.

(4)

انظر: "التمهيد" 12/ 27 بتصرف.

ص: 359

امرأة لا يجوز للمسلم ابتداء عقد نكاحها فلا يجوز له أن يتمسك بذلك النكاح، ولا ترجع إليه في عدة ولا غير عدة إلابنكاح مستأنف؛ لأن الله كما حرم على المشركين نكاح المسلمات ونهى المسلمين عن نكاح المشركات فكان ابتداؤه في معنى استدامته.

فصل:

وقول عطاء ومجاهد: إذا جاءت امرأة من المشركين إلى المسلمين أنه لا يعطى زوجها المشرك عوض صداقها؛ لأن ذلك إنما كان في عهد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين، وعلى ذلك انعقد الصلح بينهم، ولو كانوا أهل حرب لرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجز رد شيء مما أنفقوا إليهم، وكذلك قال الشعبي في قوله تعالى:{وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ} [الممتحنة: 11]: أنها منسوخة.

فصل:

لما ذكر ابن التين قول ابن عباس: لعله يريد غير المدخول بها قال: ومذهب مالك أنه أحق بها ما دامت في العدة إذا كانت مدخولًا بها. وسواء كانت مجوسية أو نصرانية

(1)

قال: واختلف إذا أسلم عقب إسلامها ولم تكن مدخولًا بها، هل يكون أحق بها وإن تقدم إسلامه وهي وثنية أو مجوسية؟

قال أشهب: هو أحق بها مادامت في العدة

(2)

.

وقال مالك: يُعرض عليها الإسلام فإن أسلمت وإلا فرق بينهما

(3)

.

(1)

انظر: "المدونة" 2/ 212.

(2)

انظر: "النوادر والزيادات" 4/ 591.

(3)

"المدونة" 2/ 212.

ص: 360

قال: واختلف قوله إذا عرض عليها الإسلام وأبت. ففي "المدونة" يفرق بينهما

(1)

. وعند محمد يعرض عليها اليومين والثلاث

(2)

.

قال: واختلف إذا غفل عنها بعرض الإسلام ثم أسلمت: ففي "المدونة" الشهر وأكثر منه قليل قريب

(3)

وقال محمد: (إذا)

(4)

غفل عنها شهرًا برئ منها

(5)

.

(1)

"المدونة" 2/ 212.

(2)

انظر: "النوادر والزيادات" 4/ 591.

(3)

"المدونة" 2/ 212.

(4)

من (غ).

(5)

لم أقف عليه إلا من قول ابن القاسم كما في "النوادر والزيادات" 4/ 591، "المنتقي" 3/ 346.

ص: 361

‌21 - باب قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} إِلَى قَوْلِهِ {سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 226 - 227]

فَاءُوا: رَجَعُوا.

5289 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، عَنْ أَخِيهِ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: آلَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ نِسَائِهِ، وَكَانَتِ انْفَكَّتْ رِجْلُهُ، فَأَقَامَ فِى مَشْرُبَةٍ لَهُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ، ثُمَّ نَزَلَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، آلَيْتَ شَهْرًا. فَقَالَ:«الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ» . [انظر: 378 - مسلم: 411 - فتح 9/ 25].

5290 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما كَانَ يَقُولُ فِي الإِيلَاءِ الَّذِى سَمَّى اللهُ: لَا يَحِلُّ لأَحَدٍ بَعْدَ الأَجَلِ إِلاَّ أَنْ يُمْسِكَ بِالْمَعْرُوفِ، أَوْ يَعْزِمَ بِالطَّلَاقِ، كَمَا أَمَرَ اللهُ عز وجل. [فتح 9/ 426].

5291 -

وَقَالَ لِي إِسْمَاعِيلُ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ إِذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ يُوقَفُ حَتَّى يُطَلِّقَ، وَلَا يَقَعُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ حَتَّى يُطَلِّقَ. وَيُذْكَرُ ذَلِكَ عَنْ عُثْمَانَ وَعَلِىٍّ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَعَائِشَةَ وَاثْنَيْ عَشَرَ رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

ساق فيه عن حميد، عن أنس رضي الله عنه أنه سمعه يَقُولُ: آلَي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم منْ نِسَائِهِ، وَكَانَتِ انْفَكَّتْ رِجْلُهُ، فَأَقَامَ فِي مَشْرُبَةٍ لَهُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ، ثُمَّ نَزَلَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، آلَيْتَ شَهْرًا. فَقَالَ:"الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ".

وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كَانَ يَقُولُ فِي الإِيلَاءِ الذِي سَمَّي اللهُ تعالى: لَا يَحِلُّ لأَحَدٍ بَعْدَ الأَجَلِ إِلَّا أَنْ يُمْسِكَ بِالْمَعْرُوفِ، أَوْ يَعْزِمَ الطَّلَاقَ، كَمَا أَمَرَ اللهُ عز وجل.

وَقَالَ لِي إِسْمَاعِيلُ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابن عُمَرَ - رضي الله

ص: 362

عنه -: إِذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشهُرٍ يُوقَفُ حَتَّى يُطَلِّقَ، وَلَا يَقَعُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ حَتَّى يُطَلِّقَ. وَيُذْكَرُ ذَلِكَ عَنْ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَعَائِشَةَ وَاثْنَي عَشَرَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم.

الشرح:

هذا باب الإيلاء، وقد ترجم به كذلك ابن بطال في "شرحه"

(1)

، وهو في اللغة: الحَلِف يقال: آلي يؤلي إيلاء وألية: حلف.

وفي قراءة أُبي وابن عباس: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} قالا: (يقسمون). وقال ابن عباس: كل يمين منعت جماعًا فهي إيلاء

(2)

.

وقال ابن المنذر: وهو قول كل من أحفظ عنه من أهل العلم

(3)

، واختلف في الإيلاء المذكور في القرآن كما سيأتي.

وحديث إيلائه سلف مطولًا من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وليس هو مما عقد له الباب.

وقوله: (وقال لي إسماعيل). هو مما أخذه عنه في حال المذاكرة كما سلف غير مرة. وقد أخرجه في "الموطأ" من رواية يحيي وغيره عن مالك

(4)

. وفي رواية معن والقعنبي: إذا مضت الأربعة الأشهر وقف حتى يفيء أو يطلق، ولا يقع عليه الطلاق إذا مضت الأربعة الأشهر حتى يوقف.

وكذا رواه مَعْمر، عن أيوب، عن نافع، عنه.

(1)

"شرح ابن بطال" 7/ 442.

(2)

رواه البيهقي 7/ 381.

(3)

"الإشراف" 1/ 204.

(4)

"الموطأ" برواية يحيي (344).

ص: 363

وفي "الغرائب" للدارقطني -من حديث بكر بن الشرود- قال: وتفرد به عن مالك -وليس بالقوي- عن نافع، عن ابن عمر أنه عليه السلام آلى من نسائه، فدخل على عائشة رضي الله عنها فقالت: إنما كنت أقسمت شهرًا فقال: "إذا مضى من الشهر تسع وعشرون يومًا فقد مضى الشهر".

وما ذكره عن عثمان فمن بعده بصيغة تمريض (أسانيدهم)

(1)

جيدة أخرجها ابن أبي شيبة، قال في الأول: حدثنا ابن علية، عن مسعر، عن حبيب بن أبي ثابت، عن طاوس، عن عثمان، وطاوس أدرك زمن عثمان

(2)

. ورواه أيضًا بإسناد جيد عنه.

وعن زيد بن ثابت: إذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقة، وهي أملك بنفسها

(3)

.

قال ابن عبد البر: وهذا هو الصحيح عن عثمان

(4)

.

وأثر علي أخرجه

(5)

، عن ابن عيينة، عن الشيباني، عن الشعبي، عن عمرو بن سلمة، عنه.

وحدثنا وكيع، عن سفيان، عن الشيباني، عن بكير بن الأخنس، عن مجاهد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عنه

(6)

. وقال ابن عبد البر: هذا حديث صحيح

(7)

.

(1)

في هامش الأصل: الوجه أسانيدها أو أسانيدهن.

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة" 4/ 133 (18557).

(3)

"مصنف ابن أبي شيبة" 4/ 131 (18536).

(4)

"الاستذكار" 17/ 86.

(5)

يعني: ابن أبي شيبة.

(6)

ابن أبي شيبة 4/ 132 (18553، 18554) وفيه: عن الشيباني عن عمرو بن سلمة بن حرب أن عليًّا

(7)

"الاستذكار" 17/ 86.

ص: 364

وأثر أبي الدرداء أخرجه، عن عبيد الله بن موسى، عن أبان العطار، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عنه.

وأثر عائشة أخرجه عن وكيع، عن حسن بن فرات، عن ابن أبي مليكة، عنها

(1)

.

والتعليق عن الاثني عشر سلف منه ما تقدم عن زيد بن ثابت.

وأخرج ابن أبي شيبة، عن ابن فضيل، عن الأعمش، عن حبيب قال: سألت سعيدًا أمير مكة عن الإيلاء؛ فقال: كان ابن عباس يقول: إذا مضت أربعة أشهر ملكت نفسها، وكان ابن عمر يقول ذلك. وحدثنا ابن علية، عن أيوب، عن أبي قلابة أن النعمان بن بشير آلي من امرأته؛ فقال ابن مسعود: إذا مضت أربعة أشهر فقد بانت منه بطلقة

(2)

.

وذكره ابن المنذر عن عمر، وابنه، وعثمان، وعلي، وعائشة، وأبي الدرداء. وعنه أيضًا عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه قال: سألت اثني عشر رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المؤلي، .. الحديث

(3)

.

وفي "جامع الترمذي" من حديث الشعبي، عن مسروق، عن عائشة رضي الله عنها: آلي عليه السلام من نسائه، وحرم فجعل الحرام حلالًا وجعل في اليمين كفارة. قال وهو عن الشعبي أن النبي صلى الله عليه وسلم .. أصح

(4)

.

قال: وروي عن عائشة أنها قالت: أقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم من نسائه

(5)

.

(1)

ابن أبي شيبة 4/ 133، 134 (18563، 18572).

(2)

ابن أبي شيبة 4/ 131 (18537، 18540).

(3)

"الإشراف" 1/ 208.

(4)

الترمذي (1201).

(5)

السياق يدل علي أنه عند الترمذي هذا اللفظ، وليس كذلك، فقد رواه بهذا اللفظ النسائي 4/ 136 - 137، وابن ماجه (2059).

ص: 365

وفي "سنن ابن ماجه" من حديث عكرمة بن عبد الرحمن، عن أم سلمة أنه عليه السلام آلى من بعض نسائه شهرًا، فلما كان تسعة وعشرين راح أو غدا، فقيل: يا رسول الله، إنما مضى تسع وعشرون؛ فقال. "الشهر تسع وعشرون"

(1)

.

وعبارة أبي محمد ابن حزم: صح أنه عليه السلام آلي من نسائه شهرًا، فهجرهن كلهن شهرًا، ثم راجعهن

(2)

.

إذا تقرر ذلك؛ فقد أسلفنا مدلول الإيلاء وقراءةَ: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ} قالا:

(3)

(يقسمون). أي: على الامتناع من نسائهم؛ لأنه لا يقال: آليت من كذا، إنما يقال: آليت على كذا، آليت لأفعلن كذا، لكنه [لما كان]

(4)

معناه: آلي ليمتنعن من امرأته، وكثر استعماله، حذف ذلك لدلالة الكلام

(5)

عليه. وقيل: آلى من امرأته، حكي هذا الفضل ابن سلمة عن بعض النحاة فيما ذكره الباجي في "منتقاه" عنه

(6)

.

والفراء قال: إن (من) هنا بمعنى (علي)، معناه: يُؤلون علي نسائهم.

واختلف العلماء في الإيلاء المذكور في القرآن، قال ابن المنذر: فروي عن ابن عباس: لا يكون موليًا حتى يحلف ألا يمسها أبدًا. وقالت طائفة: الإيلاء إنما هو آلى؛ حلف ألا يطأ أكثر من أربعة أشهر. هذا قول مالك، والشافعي، وأحمد، وأبي ثور، فإن حلف على أربعة أشهر فما دونها لم يكن موليًا، وكان هذا عندهم يمينًا

(1)

ابن ماجه (2061).

(2)

"المحلى" 10/ 43.

(3)

أي: أُبي بن كعب، وابن عباس كما سبق.

(4)

زيادة يقتضيها السياق لإتمام المعنى، من "المنتقي".

(5)

"الاستذكار" 17/ 86.

(6)

"المنتقى" 4/ 26.

ص: 366

محضًا، لو وطئ في هذِه اليمين حنث ولزمت الكفارة. وإن لم يطأ حتى انقضت المدة لم يكن عليه شيء كسائر الأيمان. وقال الثوري، والكوفيون: هو أن يحلف علي أربعة أشهر فصاعدًا وهو قول عطاء.

وقالت طائفة: إذا حلف ألا يقرب امرأته يومًا أو أقل أو أكثر لم يطأها أربعة أشهر بانت منه بالإيلاء، روي هذا عن ابن مسعود، والنخعي، وابن أبي ليلى، والحكم، وبه قال إسحاق

(1)

. واعتل أهل هذِه المقالة؛ فقالوا إذا آلي منها أكثر من أربعة أشهر فقد صار موليًا ولزمه أن يفيء بعد التربص أو يطلق؛ لأنه قصد الإضرار باليمين. وهذا المعنى موجود في المدة القصيرة.

قال ابن المنذر: وأنكر هذا القول أكثر أهل العلم، وقالوا: لا يكون الإيلاء أقل من أربعة أشهر

(2)

.

قال ابن عباس: كان إيلاء أهل الجاهلية السنة والسنتين وأكثر، فَوَقَّتَ اللهُ لهم أربعة أشهر، فمن كان إيلاؤه أقل من أربعة أشهر فليس بإيلاء

(3)

.

وفي "الاستذكار" عن القاسم: أن رجلاً كان يولي من امرأته سنة. وفي رواية أن عائشة رضي الله عنها أمرت رجلاً بعد عشرين شهرًا أن يفيء أو يطلق.

(1)

انظر: "الاستذكار" 17/ 104 - 105، "الإشراف" 1/ 204، "مختصر اختلاف العلماء" 2/ 473.

(2)

"الإشراف" 1/ 204.

(3)

رواه سعيد بن منصور في "سننه" 2/ 27، الطبراني في "الكبير" 11/ 158 - 159، البيهقي في "السنن" 7/ 381.

ص: 367

وليس في حديث أنس إيلاء بأربعة أشهر، وإنما فيه أنه حلف أن لا يجامع نساءه شهرًا فبرَّ يمينه وترك إتمامه.

واحتج الكوفيون فقالوا: جعل الله التربص في الإيلاء أربعة أشهر، كما جعل في عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرًا، وفي عدة الطلاق ثلاثة قروء بلا تربص بعدها. قالوا: فيجب بعد المدة سقوط الإيلاء، ولا يسقط إلا بالفيء، وهو الجماع في داخل المدة. والطلاق بعد انقضاء الأربعة الأشهر.

واحتج أصحاب مالك فقالوا: جعل الله للمولي تربص أربعة أشهر؛ فهي له بكمالها لا اعتراض للزوجة عليه. كما أن الدين المؤجل لا يستحق صاحبه المطالبة به إلا بعد تمام الأجل

(1)

. وتقدير الكوفيين للآية: فإن (فاءوا فيهن)

(2)

. وتقدير المدنيين: فإن فاءوا بعدهن. قال إسماعيل: ولا يخلو التخيير الذي جعل للمولي في الفيء أو الطلاق أن يكون في الأربعة أشهر أو بعدها، فإن كان فيها فقد بعضوه من الأجل الذي ضربه الله له، وإن قالوا: بعدها -وهو ظاهر القرآن- صاروا إلى قولنا، وكذلك قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} [البقرة: 234] إلى قوله: {بِالْمَعْرُوفِ} . فليس يجوز لها أن تعمل في نفسها شيئًا بالمعروف -وهو التزويج- إلا بعد تمام الأجل المضروب لها. وكل من أجل له أجل فلا سبيل عليه في الأجل وإنما عليه السبيل بعده، فنحن وهم مجمعون علي صاحب الدين أنه كذلك. وعلى العنين إذا ضُرب له أجل سنة أنه لا سبيل عليه قبل تقضيها، فإن وطئ

(1)

انظر: "الاستذكار" 17/ 105 - 106.

(2)

في الأصل، (غ): فارقهن، والمثبت هو الصواب.

ص: 368

من غير أن يؤخذ بذلك سقط عنه حكم العنة، وإلا فيفرق يينه وبينها، فكذلك المولي لا سبيل عليه في المدة. فإن وطئ فيها من غير أن يؤخذ بذلك سقط عنه الإيلاء، وإن لم يطأ حتى انقضت أخذه الحاكم بالطلاق، فإن لم يطلق فرق بينهما الحاكم

(1)

.

قال ابن المنذر: وأجمع كل من نحفظ عنه العلم أن الفيء هو الجماع لمن لا عذر له، فإن كان له عذر فيجزئه فيئه بلسانه وقلبه.

وقال بعضهم: إذا أشهد على فيئه في حال العذر أجزأه

(2)

، وخالف الجماعة سعيد بن جبير؛ فقال: الفيء الجماع، لا عذر له إلا أن يجامع وإن كان في سفر أو بحر

(3)

.

فصل:

وأوجب أكثر أهل العلم الكفارة عليه إذا فاء بجماع امرأته، روي هذا عن ابن عباس، وزيد بن ثابت، وهو قول النخعي، وابن سيرين، ومالك والثوري، والكوفيين، والشافعي، وعامة الفقهاء.

وقالت طائفة: إذا فاء فلا كفارة عليه، هذا قول الحسن. وقال النخعي: كانوا يقولون: إذا فاء فلا كفارة عليه

(4)

.

وقال إسحاق بن راهويه: قال بعض أهل التأويل في قوله: {فَإِنْ فَاءُوا} الآية [البقرة: 226] يعني: اليمين التي حنثوا فيها. وهو مذهب في الأيمان لبعض التابعين فيمن حلف علي بر وتقوى وباب من الخير

(1)

انظر: "شرح ابن بطال" 7/ 444.

(2)

"الإشراف" 1/ 207.

(3)

رواه عبد الرزاق في "المصنف" 6/ 462 (11678) وفيه: أو (سجن) بدلا من أو (بحر).

(4)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 2/ 480، "الإشراف" 1/ 208.

ص: 369

ألا يفعله، فإنه يفعله ولا كفارة عليه، وهو ضعيف ترده السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"فليكفر عن يمينه، وليأت الذي هو خير"

(1)

.

فصل:

وما ذكره البخاري عن ابن عمر أن المولي يوقف حتى يطلق، وذكره عن اثني عشر رجلاً من الصحابة، وقال سليمان بن يسار: كان تسعة عشر رجلاً من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يوقفون في الإيلاء

(2)

.

قال مالك: وذلك الأمر عندنا

(3)

وبه قال الليث، والشافعي، وأحمد وإسحاق، وأبو ثور. فإن طلق فهي واحدة رجعية، إلا أن مالكًا قال: لا تصح رجعته حتى يطأ في العدة، ولا أعلم أحدًا قاله غيره.

وقالت طائفة: إذا مضت للمولي أربعة أشهر بانت منه امرأته دون توقف بطلقة بائنة لا يملك فيها الرجعة. وروي عن ابن مسعود وابن عباس وزيد بن ثابت، ورواية عن عثمان وعلي، وابن عمر ذكرها ابن المنذر، وهو قول عطاء والنخعي ومسروق والحسن وابن سيرين، وإليه ذهب الأوزاعي والليث وجماعة الكوفيين، وحكاه عبد الملك عن مالك.

وقالت طائفة: هي طلقة يملك فيها الرجعة إذا مضت الأربعة الأشهر. روي عن ابن المسيب -قال ابن حزم: ولم يصح عنه-

(4)

وأبي بكر بن عبد الرحمن ومكحول والزهري

(5)

.

(1)

رواه مسلم (1650) كتاب: الأيمان، باب: ندب من حلف يمينًا فرأى غيرها خيرًا منها من حديث أبي هريرة، ورواه من حديث عدي بن حاتم برقم (1651).

(2)

رواه ابن أبي شيبة 4/ 133 (18558).

(3)

"الموطأ" ص 343.

(4)

"المحلى" 10/ 46.

(5)

انظر هذِه المسألة في: "مختصر اختلاف العلماء" 2/ 473 - 474، "الاستذكار" 17 - 89، "الإشراف" 1/ 208.

ص: 370

والصواب أن يوقف المولي؛ لأن الله تعالى جعل له تربص أربعة أشهر لا يطالب فيها بالوطء، وجعله بعدها مُخيرًا في الفيء بالجماع، أو إيقاع الطلاق؛ لأنه من خيره الله في أمر، فلا سبيل للافتئات عليه ورفع ما جعله الله له منه دون إذنه.

واحتج لقول مالك: أنه إذا لم يطأ في العدة فلا تصح رجعته أن الطلاق إنما أوقع لرفع الضرر، فمتى لم يطأ فالضرر قائم، فلا معنى للرجعة، ومتى ارتجع كانت رجعته معتبرة بالوطء، فإن وطئ ولا علم أنه لم يكن له رجعة إلا أن يكون له عذر يمنعه من الوطء فتصح رجعته؛ لأن الضرر قد زال، وامتناعه من الوطء ليس من أجل الضرر، وإنما هو من أجل العذر.

فصل:

قال القاضي بكر في قوله: {فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226]: المغفرة والرحمة لا يكونان إلا بعد ذنب، والله تعالى أباح الأربعة أشهر فيها فيئه بعد ذلك، وهي المدة التي يغفر له بتأخيرها. وقوله:{فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 227] يدل علي أنه لا يسمع إلا ما نطق به.

فرع:

قال مالك في كتاب المدنيين: إذا تم الأجل الذي جعله الله له، وقفه الإِمام، فلم يرَ أن يزاد شيئًا، فقال ابن القاسم عنه: يؤخر المرة بعد المرة. ويكون ذلك قريبًا بعضه من بعض، فإن فاء وإلا طلق عليه.

وروى عنه ابن وهب: يؤخر، وإن أقام في الاختيار أكثر من ثلاث حيض فإنه يوقف أيضًا، فإن قال: أنا أفيء خُلِّي بينه وبينها، إلا أن يكثر ذلك فتطلق عليه وروى عنه أشهب: يخلي بينه وبينها فإن لم يَفِئْ

ص: 371

انقضت عدتها من يومِ قال: أنا أفيء. طُلِّقت عليه طلقه بائنة

(1)

. ومذهب الشافعي أن الحاكم لا يطلق عليه كذا حكاه ابن التين

ثم قال: دليلنا أنه طلاق لإزالة الضرر، فجاز أن يليه الحاكم عند امتناعه منه، أصله طلاق المعسر بالنفقة.

قال: واختلف في المدة التي إذا حلف عليها يكون موليًا، فقال مالك: إذا زاد على الأربعة أشهر يومًا ونحوه

(2)

، وقال القاضي في "تلقينه": حتى يزيد على الأربعة زيادة مؤثرة

(3)

.

وقال ابن عباس: لا يكون موليًا حتى يحلف علي وطء الأبدِ

(4)

. وقال الحسن: لوحلف على ساعة لكان موليًا. وقد أسلفنا ذلك أول الكلام.

فصل:

أوضح أبو محمد ابن حزم الإيلاء علي طريقته حيث قال: من حَلَف بالله أو باسم من أسمائه أن لا يطأ امرأته، أو أن يسوءها، أو لا يجمعه هو وإياها فراش أو بيتٌ سواء، قال ذلك في غضب، أو في رضى لصلاح رضيعها أو لغير ذلك استثنى في نفسه أو لم يستثن فسواء وقت ساعة فأكثر إلى جميع عُمره أو لم يؤقت فالحكم في ذلك واحد، فيلزم الحاكم بأن يوقف ويأمره بوطئها ويؤجل له في ذلك أربعة أشهر من حين يحلف سواء طلبت المرأه ذلك أو لم تطلب، رضيت ذلك أو لم ترضْ. فإن فاء في داخل الأربعة الأشهر فلا سبيل عليه، وإن أبى لم يعترض عليه حتى تنقضي الأربعة الأشهر، فإذا

(1)

انظر: "النوادر والزيادات" 5/ 319 - 320.

(2)

"المدونة" 2/ 320.

(3)

"التلقين" 1/ 335.

(4)

رواه عبد الرازق 6/ 447 (11608)، وسعيد بن منصور 2/ 26.

ص: 372

تمت جبره الحاكم بالسوط علي أن يفيء فَيُجامع أو يطلق حتى يفعل أحدهما كما أمره الله، إلا أن يكون عاجزًا عن الجماع لا يقدر عليه أصلاً، فلا يجوز تكليفه ما لا يطيق، لكن يكلف أن يفيء بلسانه، ولا يجوز أن يطلق عليه الحاكم، فإن فعله لم يلزمه طلاق غيره.

ومن حلف في ذلك بطلاق، أو عتق، أو صدقة، أو مشي أو غير ذلك فليس موليًا وعليه الأدب؛ لأنه حلف بما لا يجوز الحلف به؛ لما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله:"من كان حالفًا فلا يحلف إلا بالله".

وقال أبو حنيفة: إن حلف بطلاق أو عتق أو حج أو عمرة أو صيام فهو إيلاء، فإن حلف بنذر صلاة، أو بأن يطوف أسبوعًا، أو بأن يُسبح مائة مرة فليس موليًا. ورأى قوم أن الهجر بلا يمين له حكم الإيلاء. قال ابن عباس ليزيد بن الأصم: ما فعلت أهلُك، عهدي بها لَسِنَةً سيئة الخلق قال: أجل، والله لقد خرجت وما أكلمها. فقال له عبد الله: عَجل السير، أدركها قبل أن تمضي أربعة أشهر، فإن مضت فهي تطليقة.

وصح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: الإيلاء هو أن يحلف أن لا يأتيها أبدًا. وصح عن عطاء أنه قال: الإيلاء إنما هو أن يحلف بالله على الجماع أربعة أشهر فأكثر، فإن لم يحلف فليس بإيلاء، فإن قال لها: أنت عليَّ كظهر أمي إن قربتك. فقال حماد: ليس بشيء، وقال أبو الشعثاء: هو إيلاء.

وقال رجل لعلي بن أبي طالب: تزوجت امرأة أخي وهي ترضع ابن أخي، فقلت: هي طالق إن قربتها حتى تفطمه. فقال علي: إنما أردت (الإصلاح لك)

(1)

ولابن أخيك فلا إيلاء عليك، إنما الإيلاء ما كان في

(1)

في الأصل: ألا جناح عليك، والمثبت من (غ).

ص: 373

غضب. وممن لم يراعِ ذلك إبراهيم وابن سيرين، وهو قول أبي حنيفة، والشا فعي، ومالك، وأبي سليمان، وأصحابهم

(1)

.

وقال ابن عبد البر: وعن مالك: من قال لامرأته: والله لا أقربك حتى تفطمي ولدك. لم يكن موليًا.

وهو قول الأوزاعي وأبي عبيد

(2)

.

قال ابن حزم: وممن صح عنه أن: بمضيِّ أربعة أشهر تبين بطلقة بائنة الحسنُ، وإبراهيم، وقبيصة بن ذؤيب، وعكرمة، وعلقمة، والشعبي، وهو قول أبي حنيفة. وتعتد بعد انقضاء الأربعة الأشهر. وقال مسروق، وشريح، وعطاء: تعتد بثلاث حيض

(3)

.

قال ابن عبد البر: كل الفقهاء -فيما علمت- يقولون: إنها تعتد بعد الطلاق عدة المطلقة إلا جابر بن زيد فإنه يقول: لا تعتد، يعني: إذا كانت قد حاضت ثلاث حيض في الأربعة الأشهر.

وقال بقوله طائفة، وكان الشافعي يقول به في القديم، ثم رجع عنه، وقد روي عن ابن عباس مثله

(4)

.

فصل:

قال ابن حزم: والحرُّ والعبد في الإيلاء كل واحد منهما من زوجته الحرة والأمة المسلمة أو الذمية الكبيرة أو الصغيرة سواء في كل ما ذكرناه؛ لأن الله تعالى عمَّ ولم يخص، وما كان ربك نسيًّا.

(1)

"المحلى" 10/ 42، 43، 44، 45.

(2)

"الاستذكار" 17/ 108.

(3)

"المحلى" 10/ 46.

(4)

"الاستذكار" 17/ 91.

ص: 374

وروينا عن عمر رضي الله عنه -ولم يصح عنه- أنه قال: إيلاء العبد شهران. وروينا عنه أيضًا أنه قال: إيلاء الأمة شهران، ولا يصح؛ لأنه من حديث حبان بن علي، عن ابن أبي ليلى، عن عبد الكريم

(1)

.

وقال أحمد فيما حكاه عنه الخلال في "علله": يروى عن الزهري أنه كان يقول: إيلاء العبد شهران، ولا أعلمه عن أحدٍ غير الزهري.

قال ابن حزم: وصح عن عطاء أنه قال: لا إيلاء للعبد دون سيده، وهو شهران، وبه يقول الأوزاعي، والليث، ومالك، وإسحاق.

وقالت طائفة: الحكم في ذلك للنساء؛ فإن كانت حرة فإيلاء زوجها الحر والعبد أربعة أشهر؛ وإن كانت أمة فإيلاء زوجها الحر والعبد عنها شهران، وهو قول إبراهيم وقتادة والحسن والحكم والشعبي وحماد والضحاك والثوري وأبي حنيفة وأصحابه.

وقالت طائفة: إيلاء الحرّ والعبد من الزوجة الحرة والأمة سواء، وهو أربعة أشهر، وهو قول الشافعي وأحمد وأبي ثور وأبي سليمان وأصحابهم.

فصل:

قال: ومن آلى من أربع نسوة له بيمين واحدة وقف لهن كلهن من حين يحلف، فإن فاء إلى واحدة سقط حكمها وبقي حكم البواقي، فلا يزال يوقف لمن لم يفئ إليها حتى يفيء أو يطلق، وليس عليه في كل ذلك إلا كفارة واحدة؛ لأنها يمين واحدة علي أشياء متغايرة، ولكل واحدة حكمها، وهو مولٍ من كل واحدة منهن، ومن آلي من أمته فلا توقيف عليه؛ لأن الله قال:{وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ} [البقرة: 227]

(1)

"الاستذكار" 17/ 108.

ص: 375

فصح أن حكم الإيلاء إنما هو فيمن يلزمه فيها الفيئة أو الطلاق وليس في المملوكة طلاق أصلاً

(1)

.

فصل:

قال ابن عبد البر: اختلف العلماء فيمن طلق ثلاثًا بعد الإيلاء ثم تزوجها بعد زوج، فقال مالك: يكون موليًا، وهو قول حماد وزفر.

وقال أبو حنيفة وصاحباه: لا يكون موليًا، وإن قربها كَفَّر يمينه، وهو قول الثوري (وقال)

(2)

الشافعي في موضع: إذا بانت المرأة ثم تزوجها كان موليًا، وفي موضع: لا يكون موليًا، واختاره المزني؛ لأنها صارت في حال لو طلقها لم يقع طلاقه عليها.

فصل:

قال ابن القاسم: إذا آلي وهي صغيرة لا يجامَع مثلُهَا لم يكن موليًا حتى تبلغ الوطء، ثم يوقف بعد مضي أربعة أشهر منذ بلغت الوطء، قال: ولا يوقف الخصي إنما يوقف من قدر على الجماع.

وقال الشافعي: إذا لم يبق من الخصي ما ينال به المرأة ما يناله الصحيح؛ بمغيب الحشفة فهو كالمجبوب فاء بلسانه، ولا شيء عليه؛ لأنه ممن (يجامع)

(3)

مثله.

وقال في موضع آخر: لا إيلاء عن مجبوب، واختاره المزني. وقال أبو حنيفة وأصحابه: إذا آلي وهو مريض بينه وبينها مسيرة أربعة أشهر، أو كانت رتقاء، أو صغيرة ففيئه الرضا بالقول إذا دام به العذر قالوا:

(1)

"المحلى" 10/ 48، 49.

(2)

في الأصل: ومالك، والمثبت من (غ).

(3)

كذا في الأصل ولعله سقط: لا.

ص: 376

ولو كان أحدهما محرمًا بالحج وبينه وبين وقت الحج أربعة أشهر لم يكن فيئه إلا بالجماع، وكذ المحبوس وقال زفر: فيئته بالقول.

وقال الثوري: إذا كان له عذر من مرض، أو كبر، أو حبس، أو كانت حائضًا، أو نفساء فليفئ بلسانه، وهو قول ابن حي.

وقال الأوزاعي: إذا آلي، ثم مرض أو سافر فأشهد على الفيء من غير جماع وكان لا يقدر على الجماع فليكفر عن يمينه، وهي امرأته. وكذلك إن ولدت في الأربعة الأشهر، أو حاضت، أو طرده السلطان فإنه يشهد على الفيء ولا إيلاء عليه.

وقال الليث: إذا مرض بعد الإيلاء تم مضت أربعة أشهر [فإنه]

(1)

يوقف كما يوقف الصحيح، ولا يؤخر إلى أن يصح.

قال الشافعي: ولو آلي وهي بكر، وقال: لا أقدر على افتضاضها أُجّلَ أَجَل العنين. قال: وإذا كان ممن [لا]

(2)

يقدر على الجماع وفاء بلسانه، ثم قدر وقف حتى يفيء أو يطلق.

قال: وإذا حُبس أستأنف أربعة أشهر، وإن كان بينهما مسيرة أربعة أشهر وطالبه الوكيل فاء بلسانه وسار إليها كيفما أمكنه وإلا طلقت عليه

(3)

.

فإذا آلي من امرأته ثم مات؛ فعن الشعبي فيما ذكره ابن أبي شيبة بإسناد جيد: تعتد أحد عشر شهرًا

(4)

.

(1)

من (غ).

(2)

زيادة يقتضيها السياق، من "الاستذكار" 17/ 101.

(3)

"الاستذكار" 17/ 98 - 101.

(4)

"المصنف" 4/ 197 (19220).

ص: 377

‌22 - باب حُكْمِ الْمَفْقُودِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ

وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: إِذَا فُقِدَ فِي الصَّفِّ عِنْدَ الْقِتَالِ تَرَبَّصُ امْرَأَتُهُ سَنَةً. وَاشْتَرَى ابْنُ مَسْعُودٍ جَارِيَةً وَالْتَمَسَ صَاحِبَهَا سَنَةً فَلَمْ يَجِدْهُ وَفُقِدَ، فَأَخَذَ يُعْطِي الدِّرْهَمَ وَالدِّرْهَمَيْنِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ عَنْ فُلَانٍ وَعَلَيَّ. وَقَالَ هَكَذَا فَافْعَلُوا بِاللُّقَطَةِ.

وَقَالَ الزُّهْرِيُّ فِى الأَسِيرِ يُعْلَمُ مَكَانُهُ: لَا تَتَزَوَّجُ امْرَأَتُهُ، وَلَا يُقْسَمُ مَالُهُ، فَإِذَا انْقَطَعَ خَبَرُهُ فَسُنَّتُهُ سُنَّةُ الْمَفْقُودِ.

5292 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ يَزِيدَ -مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ- أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ ضَالَّةِ الْغَنَمِ، فَقَالَ:«خُذْهَا، فَإِنَّمَا هِيَ لَكَ، أَوْ لأَخِيكَ، أَوْ لِلذِّئْبِ» . وَسُئِلَ عَنْ ضَالَّةِ الإِبِلِ، فَغَضِبَ وَاحْمَرَّتْ وَجْنَتَاهُ، وَقَالَ:«مَا لَكَ وَلَهَا؟ مَعَهَا الْحِذَاءُ وَالسِّقَاءُ، تَشْرَبُ الْمَاءَ، وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ، حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا» . وَسُئِلَ عَنِ اللُّقَطَةِ، فَقَالَ:«اعْرِفْ وِكَاءَهَا وَعِفَاصَهَا، وَعَرِّفْهَا سَنَةً، فَإِنْ جَاءَ مَنْ يَعْرِفُهَا، وَإِلاَّ فَاخْلِطْهَا بِمَالِكَ» . قَالَ سُفْيَانُ: فَلَقِيتُ رَبِيعَةَ بْنَ أَبِى عَبْدِ الرَّحْمَنِ -قَالَ سُفْيَانُ وَلَمْ أَحْفَظْ عَنْهُ شَيْئًا غَيْرَ هَذَا- فَقُلْتُ: أَرَأَيْتَ حَدِيثَ يَزِيدَ مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ فِى أَمْرِ الضَّالَّةِ، هُوَ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ؟ قَالَ نَعَمْ. قَالَ يَحْيَى: وَيَقُولُ رَبِيعَةُ: عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ. قَالَ سُفْيَانُ: فَلَقِيتُ رَبِيعَةَ فَقُلْتُ لَهُ. [انظر: 91 - مسلم: 1722 - فتح 9/ 430].

(وقال ابن المُسَيَّبِ: إِذَا فُقِدَ في الصَّفِّ عِنْدَ القِتَالِ تَرَبَّصُ امْرَأَتُهُ سَنَةً) كذا هو في الأصول وعليه جرى ابن بطال

(1)

وغيره وعند ابن التين ستة أشهر. والأول هو ما ذكره ابن أبي شيبة، عن أبي خالد الأحمر وحفص، عن داود، عن سعيد تعتد امرأته سنة.

(1)

"شرح ابن بطال" 7/ 447.

ص: 378

وحدثنا عبد الأعلى، عن معْمر، عن الزهري، عن سعيد أن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان قالا في امرأة المفقود: تتربص أربع سنين، وتعتد أربعة أشهر وعشرًا

(1)

.

قال المهلب: تبع سعيد في هذا حكمه عليه السلام بتعريف اللقطة سنة. قال ابن المنذر: وعند سعيد إذا فُقِد في غير صف فأربع سنين.

وقال الأوزاعي: إذا فُقِد ولم يثبت عن أحد منهم أنهم قتلوا ولا أُسروا (فعليهن)

(2)

عدة المتوفى (عنهن)

(3)

ثم يتزوجن. وقال مالك: ليس في انتظار من فُقِد عند القتال وقت.

وجعل أبو عبيد حكمه حكم امرأة المفقود، وبه قال أبو الزناد. والجواب في هذا عند الثوري والشافعي وأصحاب الرأي كجوابهم عن امرأة المفقود

(4)

.

فائدة:

قوله: (تربص) أصله تتربص فحذف إحدى التائين كقوله تعالى: {نَارًا تَلَظَّى} [الليل: 14].

ثم قال البخاري: (وَاشْتَرى ابن مَسْعُودٍ جَارِيَةً وَالْتَمَسَ صَاحِبَهَا فَلَمْ يَجِدْهُ وَفُقِدَ، فَأَخَذَ يُعْطِي الدِّرْهَمَ وَالدِّرْهَمَيْنِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ عَنْ فُلَانٍ، فإن أتى فلي وعليَّ وَقَالَ: هَكَذَا فَافْعَلُوا بِاللُّقَطَةِ)، وقال:(عن ابن عباس نحوه).

(1)

"المصنف" 3/ 514 (20769).

(2)

في الأصل، (غ):(عنهم)، والمثبت هو الصواب.

(3)

في الأصل، (غ):(عنهم)، والمثبت هو الصواب.

(4)

انظر: "الإشراف" 1/ 86 - 87.

ص: 379

أثر ابن مسعود رضي الله عنه أخرجه ابن أبي شيبة بإسناد جيد، عن شريك، عن عامر بن شقيق، عن أبي وائل: اشترى عبد الله جارية بسبعمائة درهم. فغاب صاحبها، فأنشده حولًا أو قال: سنة، ثم خرج إلى المسجد فجعل يتصدق ويقول: اللهم فله فإن أتى فعلي. ثم قال: هكذا فافعلوا باللقطة وبالضالة

(1)

.

ثم قال البخاري: (وَقَالَ الزُّهْرِيُّ فِي الأَسِيرِ يُعْلَمُ مَكَانُهُ: لَا تَتَزَوَّجُ امْرَأَتُهُ، وَلَا يُقْسَمُ مَالُهُ، فَإِذَا انْقَطَعَ خَبَرهُ فَسُنَّتُهُ سُنَّةُ المَفْقُودِ). وهو كما قال، فقد قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن زوجة الأسير لا تُنكح حتى يعلم يقين وفاته ما دام على الإسلام. وهذا قول النخعي والزهري ومكحول ويحيى الأنصاري، وهو قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وأبي ثور وأبي عُبيد وبه نقول

(2)

.

ثم ذكر البخاري حديث زيد بن خالد الجهني السالف في باب اللقطة

(3)

وإدخال البخاري له في الباب من دقة فظره، كما نبه عليه ابن المنير، وذلك أنه وجد الأحاديث متعارضة بالنسبة إلى المفقود؛ فحديث ضالة الغنم يدل على جواز التصرف في ماله في الجملة، وإن لم تتحقق وفاته.

وينقاس عليه تصرف المرأة في نفسها بعد إيقاف الحاكم وتطليقه بشروطه. والحديث عن ابن مسعود وما معه يؤيده، ويقابل هذا على المعارضة حديث ضالة الإبل، فمقتضاه بقاء تمليكه أبدًا حتى تتحقق وفاته بالتعمير أو غيره، وبحسب هذا التعارض اختلف العلماء في

(1)

"المصنف" 3/ 340 (20769).

(2)

"الإشراف" 1/ 88.

(3)

برقم: (2427).

ص: 380

الجملة، واختار البخاري إيقاف الأهل أبدًا إلى الوفاة يقينًا أو التعمير، ونبه على أن الغنم إنما يتصرف فيها خشية الضياع بدليل التعليل في الإبل. والإبل في معنى الأهل؛ لأن بقاء العصمة ممكن كبقاء الإبل مملوكة له

(1)

.

فصل:

واختلف العلماء في حكم المفقود إذا لم يعرف مكانه وعمي خبره، فقالت طائفة: إذا خرج من بيته وعمي خبره أنَّ أمرأته لا تُنكح أبدًا ولا يفرق بينه وبينها حتى يوقن بوفاته أو ينقضي تعميره، وسبيل زوجته سبيل ماله، روي هذا القول عن علي

(2)

، وهو قول الثوري وأبي حنيفة ومحمد والشافعي

(3)

، وإليه ذهب البخاري والله أعلم، لأنه بوب كما سلف، وذكر حديث اللقطة والضالة.

ووجه الاستدلال من ذلك: أن الضالة إذا وُجدت ولم يعلم ربها فهي في معنى المفقود؛ لأنه لا يُعلم من هو ولا أين هو، فلم يزل الجهل به وبمكان ملكه عن ماله وبقي محبوسًا عليه، فكذلك يجب أن تكون عصمته باقية على زوجته، لا يحلها إلا بيقين موته أو انقضاء تعميره. وهذِه الزوجية ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع، ولا تحل إلا بيقين قتله.

وقالت طائفة: تتربص أمرأته أربع سنين، ثم تعتد أربعة أشهر وعشرًا، ثم تحل للأزواج، روي هذا عن عمر وعثمان وعلي وابن عباس وابن عمر وعطاء، وإليه ذهب مالك وأهل المدينة، وبه قال

(1)

"المتواري" ص 295.

(2)

رواه ابن أبي شيبة 3/ 513 (16703).

(3)

"مختصر اختلاف العلماء" 2/ 329، "مختصر المزني" 5/ 41.

ص: 381

أحمد وإسحاق

(1)

.

واحتج ابن المنذر لهم فقال: اتباع خمسة من الصحابة أولى. قال: وقد دفع أحمد ما روي عن علي من خلاف هذا القول وقال: أن رواه أبو عوانة ولم يتابع عليه

(2)

قلت: ورواه عنه الحكم وهو منقطع، لكن قد صح عن أبي قلابة وإبراهيم والشعبي وجابر بن زيد وابن سيرين والحكم وحماد مثل قوله

(3)

.

قال ابن المنذر: وبه قال ابن أبي ليلى وابن شبرمة، وكما وجب تأجيل العنين تقليدًا لعمر وابن مسعود، كذلك وجب تأجيل امرأة المفقود؛ لأن العدد الذين قالوا بالتأجيل أكثر وهم أربعة من الخلفاء، وقد قال عليه السلام:"عليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين من بعدي"

(4)

(5)

.

فصل:

واختلفوا إذا فُقد في الصف عند القتال، وقد أسلفنا عن ابن المسيب أنه تؤجل امرأته سنة، وروى أشهب عن مالك أنه يضرب لامرأته أجل سنة بعد أن ينظر في أمرها، ولا يضرب لها من يوم فُقِد.

(1)

انظر: "المدونة" 2/ 92 - 93،، "اختلاف الفقهاء" ص 269، "الإشراف" 1/ 85 - 86.

(2)

"الإشراف" 1/ 86.

(3)

روى هذِه الآثار ابن أبي شيبة 3/ 513.

(4)

رواه أبو داود (4607)، والترمذي (2676)، وابن ماجه (42) وأحمد 4/ 126 جميعًا عن العرباض بن سارية.

قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وصححه الألباني في "الصحيحة"(2735).

(5)

"الإشراف" 1/ 86.

ص: 382

وسواء فُقِد في الصف بين المسلمين أو في قتال المشركين، فروى عيسى، عن ابن القاسم، عن مالك: إذا فقِد في المعترك أو في فتن المسلمين بينهم، أنه ينتظر بمقدار ما ينصرف المنهزم، ثم تعتد امرأته ويقسم ماله

(1)

.

وروى ابن القاسم، عن مالك في المفقود في فتن المسلمين أنه (يضرب)

(2)

لامرأته سنة، ثم تتزوج

(3)

. واحتج المهلب لهذا القول بحديث اللقطة؛ لأنه حكم عليه السلام بتعريف سنة.

وقال الكوفيون والثوري والشافعي في الذي يُفقد بين الصفين كقولهم في المفقود: لا يفرق بينهما، كما أسلفناه عنهم

(4)

.

واتفق مالك والكوفيون والشافعي في الأسير لا يستبين موته أنه لا يفرق بينه وبين امرأته ويوقف ماله وينفق منه عليها. وفرق الأبهري بين الأسير والمفقود أن الأسير غير مختار لترك الرجوع إلى زوجته ولا قاصد لإدخال الضرر عليها، فلم يجزْ رفع نكاحه، وهو كالذي لا يقدر على الوطء (لعلة عرضت له)

(5)

. والمفقود غير معذور بالتأخير عن زوجته إذ لا سبب له ظاهر منعه به من ذلك. حكم زوجة الأسير في النفقة عليها من مالهِ كامرأة المفقود لأنا نقدر أن نوصلها إلى حقها من النفقة سواء غاب أو حضر.

(1)

انظر: "النوادر والزيادات" 5/ 243 - 247، و"المنتقي" 4/ 91 - 93.

(2)

في الأصل: يصرف، والمثبت من (غ).

(3)

كذا في "ابن بطال" 7/ 449، والذي في "النوادر" 5/ 245، "المنتقي" 4/ 92 أن المفقود في فتن المسلمين بينهم لا يضرب له أجل.

(4)

انظر: "الإشراف" 1/ 87.

(5)

في الأصول: عرضت له لعلة. والمثبت من "ابن بطال" 7/ 449.

ص: 383

ولا خلاف أنه لا يفرق بين الأسير وزوجته حتى يصح موته أو فراقه، ومالك يعمر الأسير إلى أن تعرف حياته وقتًا ثم ينقطع خبره فلا يعرف له موت، يعمره ما بين السبعين إلى الثمانين، وكذلك يعمر المفقود بين الصفين، والمفقود الذي فُقِد في غير الحرب يعمره كذلك أيضًا في ماله وميراثه.

والكوفيون يقولون: لا يُقسَّم ماله حتى يأتي عليه من الزمان ما لا يعيش مثله، وهذا يشبه قول مالك، وقال الشافعي: لا يُقسم ماله حتى تعلم وفاته

(1)

.

وروى محمد بن شرحبيل، عن المغيرة بن شعبة يرفعه "امرأة المفقود امرأته حتى يأتيها البيان"

(2)

. قال أبو حاتم: حديث منكر، ومحمد يروي عن المغيرة أحاديث مناكير بواطيل

(3)

.

فصل:

لم يبين سعيد بن المسيب هل كان الصف في أرض الإسلام أو أرض العدو، وقد أسلفنا قول مالك فيه في المعركة بين المسلمين، وعنه أيضًا: ليس في ذلك أجل، وتعتد زوجته من يوم التقاء الصفين، قال: وكذلك كان في صفين والحرة وقديد فتبين كلهم عرف مصرعه،

(1)

انظر: "شرح ابن بطال" 7/ 449.

(2)

رواه الدارقطني 3/ 312، والبيهقي 7/ 445 من طريق سوار بن مصعب عن محمد بن شرحبيل عن المغيرة يرفعه.

قال البيهقي: سوار ضعيف. وقال الزيلعي في "نصب الراية" 3/ 473: حديث ضعيف اهـ. وقال عبد الحق في "أحكامه الوسطي" 3/ 288: محمد بن شرحبيل متروك الحديث أهـ. ووهاه ابن القطان في "بيان الوهم" 3/ 126 - 127 بسوار بن مصعب إلى جانب محمد بن شرحبيل.

(3)

"العلل" 1/ 431.

ص: 384

وأسلفنا عن رواية ابن القاسم: تتربص سنة ثم تعتد. وقال أيضًا: العدة داخلة في السنة. وقال في "العتبية": فما قرب من الديار يتلوم السلطان لزوجته باجتهاده بقدر انصراف من انصرف وانهزام من انهزم، ثم تعتد، ثم تتزوج. وفيما بَعُد مثل إفريقية تنتظر سنة. وقال محمد عنه فيما بعد: تتربص أربع سنين. وقال أصبغ: يضرب لها بقدر ما يستقصى أمره ويستبرأ خبره، وليس لذلك حد معلوم

(1)

.

وأما ماله فمنهم من قال: بعد يوم التقاء الصفين يُقسَّم حينئذ. ومن قال: تعتد أربع سنين يعمر، ومن قال: سنة اختلف على قوله: هل يقسم حينئذٍ أو يوقف إلى التعمير؟

وأما فقيد (معترك)

(2)

في أرض الشرك فقيل كالأسير أو تتربص سنة من يوم ينظر السلطان في أمره ثم تعتد، أو تتربص أربع سنين. ثلاثة أقوال: الأول في "العتبية"، والثاني لأشهب، والثالث في كتاب محمد

(3)

.

وذكر عن بعض أصحاب مالك أن الناس أصابهم سعال بطريق مكة، وكان الرجل لا يسعل إلا يسيرًا فيموت، فمات في ذلك عالم كثير، ففقد مائتان من الخارجين إلى الحج ولم يبَنْ لهم خبر، فرأى مالك قسمة أموالهم ولا يضرب لهم أجل المفقود ولا غيره.

وأما فقيد أرض الإسلام فاختلف فيه في عشرة مسائل: من يتولى الكشف عن خبره: أهو سلطان بلد أو الخليفة خاصة؟ قاله أبو مصعب.

(1)

انظر: "النوادر والزيادات" 5/ 245 - 246، 248.

(2)

في الأصل: معتره، والمثبت هو الصواب.

(3)

انظر: "النوادر والزيادات" 5/ 245، 247، 248.

ص: 385

ورواية الأربع سنين: هل هو من يوم اليأس من خبره -كما قاله في "المدونة"

(1)

أو من يوم الرفع- قاله في "المختصر"- وهل يكون أحق بها بعد انقضاء عدتها- قاله في "المدونة"-

(2)

أم لا؟ قاله ابن نافع.

وإذا قلنا: هو أحق بها هل يفوت بعقد الثاني أو بدخوله؟

وأما علة الاقتصار علي أربع: هل هي لأنها أقصى أمد الحمل، أو المدة التي تبلغها المكاتبة سيرًا ورجوعًا أو بناء على المولي جعل لكل شهر سنة، أو تعتد اتباعًا لعمر؟.

وهل تحل ديونه بعد الأربع، -قاله مالك- أولاً؟ قاله أصبغ والشافعي.

وهل يعمر سبعين، أو مائة وعشرين، أو تسعين، أو ثمانين. قال الداودي، عن بعض الرواة: رواية سبعين وهمًا، وأحسبها: تسعين، والقول بمائة وعشرين، قاله ابن عبد الحكم، وهو قول النعمان

(3)

، وقال الشافعي: يعمر أقصى ما لا يعيش إليه أحد، وقاله مالك مرة. ذكره الداودي.

وإذا قامت امرأة المفقود ثانية بحقها: هل يضرب له أجل آخر أو يجزئ بالأول؟ قاله مالك. وإذا قضي بفراق زوجته بعد الأربع، ولم يكن دخول وموت بالتعمير، هل تأخذ نصف الصداق؟ قاله عبد الملك. أو جميعه؟ قاله مالك. وقال أبو حنيفة: لا يفرق حتى يبلغ التعمير

(4)

.

(1)

"المدونة" 2/ 92.

(2)

"المدونة" 2/ 93.

(3)

انظر: "مختصر الطحاوي" ص 405.

(4)

انظر: "مختصر الطحاوي" ص 405.

ص: 386

وهو أحد قولي الشافعي، وثانيهما كمالك. وقال قتادة وأحمد: يُقسم ماله عند انقضاء أربع سنين.

فصل:

قوله في حديث زيد بن خالد في الغنم: "خذها" يؤخذ منه أنه إذا أكل الشاة في فلاة أنه لا ضمان عليه، وهو أظهر الروايتين عن مالك، وقال أبو حنيفة والشافعي: يضمنها، ورواه بعض المدنيين عن مالك، وهذا التعليل دالٌّ على أنها في حكم المتلف فلا قيمة في إتلافها؛ ولأنه أضافها إلى واجدها كإضافتها إلى الذئب.

فصل:

والحذاء: خف البعير. والعفاص: الخرقة. والوكاء: الخيط، وقاله ابن القاسم أيضًا، وعكس ذلك أشهب فقال: العفاص: الخيط، والوكاء: الظرف.

فصل:

الحديث حجة علي أبي حنيفة حيث قال بالتقاط الإبل.

فصل:

قوله: ("فإن جاء من يعرفها وإلا فاخلطها بمالك") أخذ بظاهره داود على أنه يتملكها، وخالف فقهاء الأمصار، والمراد: خلطها به على جهة الضمان كالسلف، بدليل الرواية الأخرى، "فإن جاء طالبها يومًا من الدهر فأدها إليه".

فصل:

قوله فيه: (قال سفيان: فلقيت ربيعة بن أبي عبد الرحمن قال سفيان -ولم أحفظ عنه شيئًا غير هذا-: أرأيت حديث يزيد مولى المنبعث في

ص: 387

أمر الضالة عن زيد بن خالد؟ قال: نعم. قال يحيي -يعني: بن سعيد- ويقول ربيعة: عن يزيد مولى المنبعث، عن زيد بن خالد، قال سفيان: فلقيت ربيعة فقلت له) قال ابن التين: فقد حفظ عن الزهري وهو مات قبل ربيعة، مات الزهري سنة أربع وعشرين ومائة، ويقال: سنة (خمس ومائة)

(1)

، ومات ربيعة سنة ثلاثين ومائة وإنما قال ذلك؛ لأن أكثر مقاصد سفيان الحديث والغالب على ربيعة الفقه.

(1)

كذا في الأصل، (غ)، وصوابه: خمس وعشرين ومائة.

ص: 388

‌23 - باب الظِّهَارِ

وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} إِلَى قَوْلِهِ {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 1 - 4]. وَقَالَ لِي إِسْمَاعِيلُ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ شِهَابٍ، عَنْ ظِهَارِ الْعَبْدِ، فَقَالَ: نَحْوَ ظِهَارِ الْحُرِّ. وقَالَ مَالِكٌ: وَصِيَامُ الْعَبْدِ شَهْرَانِ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ (الْحُرِّ)

(1)

: ظِهَارُ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ مِنَ الْحُرَّةِ وَالأَمَةِ سَوَاءٌ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: إِنْ ظَاهَرَ مِنْ أَمَتِهِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ، إِنَّمَا الظِّهَارُ مِنَ النِّسَاءِ،، وَفِي الْعَرَبِيَّةِ لِمَا قَالُوا أَيْ فِيمَا قَالُوا، وَفِي بَعْضِ مَا قَالُوا، وَهَذَا أَوْلَى؛ لأَنَّ اللهَ لَمْ يَدُلَّ عَلَى الْمُنْكَرِ وَقَوْلِ الزُّورِ.

الشرح:

هذِه المجادلة خولة عند أهل التفسير، وزوجها أويس بن الصامت، وقيل: هي بنت خويلد أو دليج، وقيل: بنت ثعلبة، أنصارية، وقيل: بنت الصامت، وقيل: كانت أمة لعبد الله بن أبي، وهي التي نزل فيها:{وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ على الْبِغَاءِ} [النور: 33].

وقوله: {تَحَاوُرَكُمَا} قالت عائشة رضي الله عنها: كانت تحاور النبي صلى الله عليه وسلم وأنا بقربها لا أسمع.

قال الشافعي: سمعت من يُرضى من أهل العلم بالقرآن يذكر أن أهل الجاهلية كانوا يطلقون بثلاث: الظهار، والإيلاء، والطلاق. فأقر الله

(1)

في الأصل: (حي) وفي اليونينية: (الحر) وعليها علامتان يشيران إلى أنها من روايتي أبي ذر والمستملي.

ص: 389

الطلاق طلاقًا، وحكم في الظهار والإيلاء بما بين

(1)

.

والظِّهار -بكسر الظاء- مظاهرة الرجل من امرأته إذا قال: هي كظهر ذات رحمٍ مُحرم، قاله صاحب "العين"

(2)

.

وعبارة صاحب "المحكم": ظاهر الرجل امرأته ومنها مظاهرة وظهارًا إذا قال: هي عليَّ كظهر ذات رحم محرم، وقد تظاهر منها وتظهر

(3)

زاد المطرزي: واظَّاهر، وفي "جامع القزاز": ظاهر الرجل من امرأته إذا قال: أنت عليَّ كظهر أمي أو كذات محرم.

وقوله: (وقال إسماعيل) إلى آخره، قد سلف قريبًا أنه أخذه مذاكرة، وعند ابن أبي شيبة: حدثنا أبو عصام عن الأوزاعي، عن الزهري نحوه. وفي "الموطأ": مالك أنه سأل ابن شهاب عن ظهار العبد فقال: نحو ظهار الحر. قال مالك: إنه يقع عليه كما يقع على الحرِّ

(4)

.

(قال مالك: وصيام العبد في الظهار شهران) كما قاله البخاري.

وأثر عكرمة ذكره ابن حزم، قال: وروي أيضًا مثله عن الشعبي ولم يصح عنهما، وصح عن مجاهد في أحد قوليه وابن أبي مليكة، وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق وأصحابهم، إلا أن أحمد قال في الظهار من ملك (اليمين: كفارة)

(5)

يمين.

(1)

"الأم" 5/ 262.

(2)

"العين" 4/ 38.

(3)

"المحكم" 4/ 207.

(4)

"الموطأ" برواية يحيي ص 347.

(5)

في الأصل: كفارة ككفارة يمين، والمثبت من (غ)، وهو الموافق لما في "المحلى".

ص: 390

وقال بعضهم: إن كان يطؤها فعليه كفارة الظهار، وإلا فلا كفارة ظهار عليه، صح هذا القول عن سعيد بن المسيب والحسن وسليمان بن يسار ومُرة الهمداني والنخعي وابن جبير والشعبي وعكرمة وطاوس والزهري وقتادة وعمرو بن دينار ومنصور بن المعتمر، وهو قول مالك والليث والحسن بن حي وسفيان الثوري وأبي سليمان وجميع أصحابنا

(1)

.

فصل:

ما ذكره عن عكرمة قال به الشافعي وأبو حنيفة وأحمد، وقال علي وابن الزبير: يلزمه الظهار كالحرة، وبه قال سفيان الثوري ومالك

(2)

.

فصل:

ولم يذكر البخاري في الباب حديثًا؛ لأنه لم يجده علي شرطه، وأما الحاكم فما خرجه علي شرطه وشرط مسلم، كما سأذكره لك في الباب.

وأما ابن العربي فقال: ليس في الظهار حديث صحيح يعول عليه

(3)

.

فصل:

قوله: (وفي العربية لما قالوا) إلى آخره. كأن البخاري أخذ من "المعاني" للفراء

(4)

، وأما الأخفش فقال: المعنى على التقديم والتأخير. والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون فتحرير رقبة لما قالوا، وهو قول حسن كما قاله ابن بطال، وفيها وجهان آخران:

(1)

"المحلى" 10/ 50.

(2)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 2/ 491، "الإشراف" 1/ 216 - 217.

(3)

"عارضة الأحوذي" 5/ 175.

(4)

"معاني القرآن" 3/ 139.

ص: 391

أحدهما: أن (ما) بمعنى (مَنْ)، كأنه قال: ثم يعودون لمن قالوا فيهن أو لهن: أنتن علينا كظهور أمهاتنا.

ثانيهما: أن تكون (ما): مع. (قالوا بتقدير المصدر)

(1)

، فيكون التقدير: ثم يعودون للقول، فسمى القول فيهن باسم المصدر. وهذا القول، كما قالوا: ثوب نسج اليمن، ودرهم ضرب الأمير، وإنما هو منسوج اليمن ومضروب الأمير

(2)

.

فصل:

اختلف العلماء في كفارة الظهار بماذا تجب؟ فقال قوم: إنها تجب بمجرد الظهار، وليس من شرطها العود، روي هذا عن مجاهد، وبه قال سفيان الثوري

(3)

.

وذهب جماعة من الفقهاء إلى أنها تجب بشرطين وهما الظهار والعَود، وقال أبو حنيفة: هي غير واجبة بالظهار ولا بالظهار والعود، لكنها تحرم عليه بالظهار، ولا يجوز وطؤها حتى يكفر.

واختلف هؤلاء في العَوْد علي مذاهب: أحدها: أنه العزم على الوطء، قاله مالك، وحكي عنه أنه الوطء بعينه، ولكن تقدم الكفارة عليه، وهذا قول ابن القاسم

(4)

.

وأشار في "الموطأ" إلى أنه العزم على الإمساك والإصابة، وعليه أكثر أصحابه

(5)

، وحكاه ابن المنذر عن أبي حنيفة، وبه قال أحمد وإسحاق.

(1)

عليها في الأصل: (لا .. إلى)، وقد ترمز إلى زيادة.

(2)

ابن بطال 7/ 454.

(3)

انظر: "المنتقى" 4/ 49.

(4)

انظر: "المنتقى" 4/ 49.

(5)

"الموطأ" ص 346، "المنتقي" 4/ 49.

ص: 392

وذهب الحسن البصري وطاوس والزهري إلى أنه الوطء نفسه

(1)

، ومعناه عند أبي حنيفة كما قال الطحاوي: أن لا يستبيح وطأها إلا بكفارة يقدمها

(2)

.

وعند الشافعي: أن يمكنه طلاقها بعد الظهار ساعة فلا يطلقها، فإن أمسكها ساعة ولم يطلقها عاد لما قال، ووجب عليه الكفارة ماتت أو مات

(3)

. وعباراتهم وإن اختلفت في العَوْد فالمعنى متقارب.

وقال أهل الظاهر: هو أن يقول لها: أنت عليَّ كظهر أمي ثانية. وروي هذا القول عن بكير بن الأشج، وهو الذي أنكره البخاري.

قال ابن حزم؟ وهو قولنا: فمن قال من حر أو عبْد لامرأته أو أمته التي يحل له وطؤها: أنتِ عليَّ كظهر أمي، أو أنتِ مني كظهر أمي، أو مثل ظهر أمي، فلا شيء عليه، ولا يحرم بذلك وطؤها عليه حتى يكون القول بذلك مرة أخرى، فإذا قالها ثانية وجبت عليه كفارة الظهار، وهي عتق رقبة يُجزئ في ذلك المؤمن والكافر، والسَّالم والمعيب، والذكر والأنثى

(4)

وصوب ابن المرابط أن لا يعود إلى اللفظ، فإذا أجمع علي إصابتها فقد وجبت عليه الكفارة، لأن نيته وإجماعه علي وطئها هو ما عقد من تحريمها، والرب جل جلاله إنما قال:{ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: 3] ولم يقل: ما قالوا وقوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] فالتماس المذكور أنه ليس للمظاهر أن يُقبِّل ولا أن يتلذذ منها بشيء، وقاله مالك

(1)

انظر: "المحلى" 10/ 51.

(2)

"مختصر الطحاوي" ص 212 - 213.

(3)

انظر: "الإشراف" 1/ 218.

(4)

"المحلى" 10/ 49 - 50.

ص: 393

والزهري وغيرهما، وهو الصواب أن يكون ممنوعًا من كل ما وقع عليه اسم مسيس على ظاهر الآية الكريمة؛ لأن الله تعالى لم يخص الوطء من غيره.

قال ابن حزم: وقالت طائفة كقولنا، روي عن بكير بن الأشج ويحيى بن زياد الفراء، وروي نحوه عن عطاء، قال: وروينا من طريق سليمان بن حرب وعارم، كلاهما عن حماد بن سلمة، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها، أن جميلة كانت امرأة أوس بن الصامت، وكان به لمم، وكان إذا اشتد لممه ظاهر منها، فأنزل الله عز وجل فيه كفارة الظهار.

قال ابن حزم: وهذا يقتضي التكرار، ولا يصح في الظهار إلا هذا الخبر وحده. وخبر آخر ذكره من طريق النسائي: أخبرنا الحسين بن حريث، أنا الفضل بن موسى، عن معمر، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني ظاهرت من امرأتي، فوقعت عليها قبل أن أُكفِّر. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله".

قال: وهذا خبر صحيح من رواية الثقات ولا يضره إرسال من أرسله، وكل ما عدا هذا فساقط، إما مرسل وإما من رواية من لا خير فيه

(1)

.

قلت: الحديث أخرجه أصحاب السنن الأربعة

(2)

.

(1)

"المحلى" 10/ 52، 55.

(2)

أبو داود (2223)، الترمذي (1199)، النسائي 6/ 167 - 168، ابن ماجه (2065).

ص: 394

وقال الترمذي فيه: حديث حسن غريب صحيح. وقال النسائي وأبو حاتم: مرسلًا أصوب من المسند

(1)

ولما رواه البزار من حديث إسماعيل بن مسلم، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن عبد الله بلفظ: فقال عليه السلام: "ألم يقل الله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا}؟! "، قال: أعجبتني (قال)

(2)

: "أمسك حتى تكفر". قال: لا نعلمه ينتهي بإسنادٍ أحسن من هذا، علي أن إسماعيل قد تُكلم فيه، وروى عنه جماعة كثيرة من أهل العلم

(3)

.

وقال أبو حاتم في "علله": رواه الوليد، عن ابن جريج، عن الحكم بن أبان خطأ، إنما هو عكرمة: أنه عليه السلام. مرسل، وفي موضع آخر: سُئل عن حديث إسماعيل، عن عمرو، عن طاوس فقال: إنما هو طاوس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومنهم من يقول: عن عمرو عن عكرمة: أنه عليه السلام. قال: وإسماعيل هذا يختلط

(4)

.

وروى الترمذي من حديث يحيي بن أبي كثير، عن أبي سلمة ومحمد بن عبد الرحمن أن سلمان بن صخر الأنصاري أحد بني بياضة جعل امرأته عليه كظهر أمه حتى يمضي رمضان، فلما مضى نصف من رمضان وقع عليها ليلاً، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أعتق رقبة" قال: لا أجدها. قال: "صم شهرين متتابعين" قال: لا أستطيع. قال: "أطعم ستين مسكينًا" قال: لا أجد. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لفروة بن عمرو: "أعطه ذلك العرق"

(1)

"المجتبي" 6/ 168، "علل ابن أبي حاتم" 1/ 430.

(2)

في الأصل (إن) والمثبت من "مسند البزار" وهو الصحيح.

(3)

"البحر الزخار" 11/ 133 - 114 (4833).

(4)

"العلل" 1/ 430، 435.

ص: 395

وهو مكتل يأخذ خمسة عشر صاعًا، أو ستة عشر صاعًا، "أطعم ستين مسكينًا". قال الترمذي: حديث حسن، يقال: سلمان بن صخر وسلمة بن صخر البياضي

(1)

.

وأخرجه الحاكم في "مستدركه" -وقال: على شرط الشيخين

(2)

- وأبو داود وابن ماجه

(3)

، فروياه من حديث سليمان بن يسار عن سلمة بن صخر، وهو منقطع، سليمان لم يسمع من سلمة، قاله البخاري

(4)

، وفي إسنادهما مع ذلك عنعنة ابن إسحاق.

وأما الحاكم فأخرجهما وقال: صحيح على شرط مسلم، وله شاهد

(5)

، فذكر الأول. وأخرجه ابن الجارود في "منتقاه"

(6)

. وأخرج ابن حبان في "صحيحه" من حديث يوسف بن عبد الله بن سلام -وله صحبة- عن خولة بنت مالك بن ثعلبة أنها قالت: فيَّ والله وفي أوس بن الصامت أنزل الله صدر سورة المجادلة، وذلك أن أوسًا ظاهر مني. الحديث وفيه: إني سأعينه بعرق من تمر. قال: "قد أحسنت اذهبي فأطعمي عنه، واذهبي إلى ابن عمك"

(7)

.

وأخرجه ابن الجارود في "منتقاه"

(8)

.

(1)

الترمذي (1200).

(2)

"المستدرك" 2/ 204.

(3)

أبو داود (2213)، ابن ماجه (2062).

(4)

انظر: "علل الترمذي" 1/ 473.

(5)

"المستدرك" 2/ 203 - 204.

(6)

"المنتقى"(745).

(7)

ابن حبان 10/ 107 (4279).

(8)

"المنتقى"(746).

ص: 396

ولما رواه أبو داود قال في هذا: أنها كفرت عنه من غير أن تستأمره

(1)

.

ورواه أيضًا من حديث عطاء عن أوس وقال: عطاء لم يدرك أوسًا؛ لأنه من أهل بدر قديم الموت

(2)

والحديث مرسل، واختلفت ألفاظه فروي فيه: خمسة عشر صاعًا. وروي: مكتل يسع ثلاثين صاعًا. وروي: ستين صاعًا.

وروى عبد الغني بن سعيد في "مبهماته" من حديث الليث، عن يحيي بن سعيد، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن محمد بن جعفر، عن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها أن ذلك كان نهارًا، وهو أصح من رواية ابن إسحاق: ليلاً.

ورواه ابن عجلان، عن بكير بن عبد الله، عن سعيد بن المسيب، عن سلمة. وروى البيهقي من حديث سلمان، عن سلمة بن صخر مرفوعًا في المظاهر يواقع قبل أن يُكفِّر، قال:"كفارة واحدة"، خرجه أيضًا من حديث يحيي بن أبي كثير، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، وأبي سلمة بن عبد الرحمن أن سلمة بن صخر قال: الحديث. وفيه: فأتي بعرق فيه خمسة عشر صاعًا أو ستة عشر فقال: "تصدق بهذا علي ستين مسكينًا"

(3)

. وفي رواية: "اذهب إلى صاحب صدقة بني زريق فليعطك وسقًا منها، فأطعم ستين مسكينًا وكل بقيتها أنت وعيالك"

(1)

أبو داود (2214).

(2)

أبو داود (2218).

(3)

"السنن الكبرى" 7/ 386، 390.

ص: 397

قال البيهقي: وهذا يدل علي أنه يطعم من الوسق ستين مسكينًا. ثم يأكل هو وعياله بقية الوسق، وهذا يشبه أن يكون محفوظًا، فقد روى بكير بن الأشج عن سليمان بن يسار هذا الخبر وقال فيه: فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بتمر فأعطاه إياه، وهو قريب من خمسة عشر صاعًا، قال:"فتصدق بهذا" فقال: يا رسول الله: أعلى أفقر مني ومن أهلي؟ فقال: "كله أنت وأهلك" وهذا أولى لموافقة رواية (سلمة)

(1)

وابن ثوبان.

قال: وروينا عن الأوزاعي -يعني: المذكور عند البخاري- حدثني الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة رضي الله عنه في قصة المجامع في رمضان قال:"أطعم ستين مسكينًا" قال: ما أجد، فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرق فيه تمر؛ خمسة عشر صاعًا قال:"خذه وتصدق به"

(2)

وفي رواية الإسماعيلي: فقال: يا رسول الله، أعلى غير أهلي؟ فوالذي نفسي بيده ما بين طنبي المدينة أحد أحوج مني. فضحك وقال:"خذه واستغفر ربك".

فصل:

ولما ذكر ابن عبد الحق

(3)

فيما رده على ابن حزم في "محلاه" الحديث السالف الذي صححه ابن حزم قال: أورده حجة له، ولم

(1)

كذا في الأصول والصحيح: أبو سلمة.

(2)

"السنن الكبرى" 7/ 391، 393.

(3)

هو العلامة قاضي تلمسان أبو عبد الله، محمد بن عبد الحق بن سليمان الكوفي البربري المالكي، كان إمامًا معظمًا، كثير التصانيف من ذلك:"غريب الموطأ" وكتاب "المختار في الجمع بين المنتقى والاستذكار" مات في سنة خمس وعشرين وستمائة.

انظر ترجمته في: "سير أعلام النبلاء" 22/ 261، و"غاية النهاية" 2/ 195.

ص: 398

ينتبه إلى أنه حجة عليه لأنَّا نقول له: إذا عجز عن الصوم هل يكون الإطعام عليه فاحشًا قبل التماس أم لا؟ فإن قال: أن يتماس قبل أن يطعم؛ لأن الله تعالى لم يقيد وجوب الإطعام بأن يكون قبل التماس.

قال: يقال له: متى وجب عليه الإطعام عند عجزه عن الصوم أو بعده بمهلة؛ فإن أنصف قال: عند عجزه عن الصوم، وعجزه عن الصوم لا يكون إلا قبل التماس إن امتثل ما أمر به، فقد أمر بالإطعام ووجوبه قبل التماس، والأمر على الفور، فوجب أن يطعم قبل التماس، فالحديث نص في مسألتنا.

فصل:

واحتج من قال: إن الكفارة تجب بمجرد الظهار بأن الله جل جلاله ذكرها وعلل وجوبها فقال: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} [المجادلة: 2] فدل أنها وجبت بمجرد القول. قالوا: لأن العَوْد الذي هو إمساكها والعزم علي وطئها مباح، والمباح لا تجب فيه كفارة.

وحجة الجماعة قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3] فأوجبها بالظهار والعَوْد جميعًا.

فمن زعم أنها تجب بشرط واحد فقد خالف الظاهر، وهذا بمنزلة قول القائل: من دخل الدار ثم صلى فله دينار. فإنه لا يستحقه إلا من فعل ذلك كله؛ لأنهما شرطان لاستحقاق الدينار، فلا يجوز أن يستحق الدينار بأحدهما.

وأجاب المخالف عما ذكره الشافعي بأن قال: لا شك أن الذي كان مباحًا بالعقد هو الوطء، فإذا حرمه بالظهار كانت الكفارة له دون ما سواه؛ لأن الأنكحة إنما وضعت له فقط، وكما ثبت أنه لا يجوز

ص: 399

له أن يطأ حتى يُكفِّر وجب أن يكون العَوْد هو العزم على الإمساك وعلى الوطء جميعًا، لو كان الظهار يحرم الإمساك حتى يكون العود إليه راجعًا لكان طلاقًا؛ لأن الإمساك إذا حرم ارتفع العقد، وما يرفع النكاح إنما هو الطلاق، ولو كان الظهار كذلك لكانت الكفارة لا تدخله ولا تصلحه؛ لأن الفراق (لا يرتفع)

(1)

بالكفارة.

ولما صح ذلك ثبت أن الكفارة تبيح العَوْد إلى ما حرمه الظهار من الوطء والعزم عليه، ألا ترى أنه إذا حلف ألا يطأها فقد حرم وطؤها دون إمساكها. فإذا فعل الوطء فقد خالف ما حرمته اليمين، فكذلك الظهار.

ومن ظاهر فإنما أراد الإمساك دون الطلاق؛ فكذلك لم يكن العود هو الإمساك. واحتج أهل الظاهر بأن قالوا: كل موضعٍ ذكر الله فيه العود للشيء فالمراد به العود نفسه، ألا ترى أنه أخبر عن الكفار أنهم لو رُدوا لعادوا لما نهوا عنه، وقال تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [المجادلة: 8] فكذلك العود هنا، فيقال لهم: العود في الشيء يكون في اللغة بمعنى المصير إليه كما تأولتم، ويكون أيضًا بمعنى (الرجوع) (1) كما قال عليه السلام:"العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه" أراد به: الناقض لهبته، وهذا تفسير الفراء في العود المذكور في الآية أنه الرجوع في قولهم، وعن قولهم

(2)

.

قال إسماعيل: ولو كان معنى العود أن يلفظوا به مرة أخرى لما وقع بعده {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] لأنه لم يذكر للمسيس سبب فيقال من أجله: {قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} وإنما ذكر التظاهر وهو ضد المسيس والمظاهر إنما حرم على نفسه المسيس، فكيف يقال له: إذا

(1)

من (غ).

(2)

"معاني القرآن" 3/ 139.

ص: 400

حرمت على نفسك المسيس ثم حرمته أيضًا فأعتق رقبة قبل أن تمس؟! هذا كلام واهٍ، ولو قال رجل لرجل: إذا لم ترد أن تمس فأعتق رقبة قبل أن تمس لنسبه الناس إلى الجهل.

ولو قال: [إذا]

(1)

أردت أن تمس فأعتق رقبة قبل أن تمس. كان كلامًا صحيحًا مفهومًا؛ أنه لا تجب الكفارة حتى يريد المسيس، وأيضًا فإن الظهار كان طلاق الجاهلية كما سلف، فعلق عليه حكم التكفير بشرط العود والرجوع فيه، ألا ترى أن الكفارة إذا أوجبت باللفظ وشرط آخر كان ذلك مخالفة اللفظ لا إعادته كالأيمان.

فصل:

وأجمع العلماء أن الظهار للعبد لازم له كالحرِّ، وأن كفارته شهران واختلفوا في الإطعام والعتق: فقال الكوفيون، والشافعي: لا يجزئه إلا الصوم خاصة

(2)

.

وقال ابن القاسم عن مالك: إنْ أَطعم بإذن مولاه أجزأه، وإن أعتق بإذنه لم يجزه وأحب إلينا أن يصوم. يعني: الشهرين.

قال ابن القاسم: ولا أرى هذا الجواب إلا (وهمًا)

(3)

منه

(4)

؛ لأنه إذا قدر على الصوم لا يجزئه الإطعام في الحرِّ، كيف العبد؟ وعسى أن يكون جواب هذِه المسألة في كفارة اليمين بالله.

(1)

زيادة يقتضيها السياق.

(2)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 2/ 496، "الإشراف" 1/ 127.

(3)

في الأصل: وهم. فربما كتبها علي لغة ربيعة، الذين يكتبون المنصوب علي صورة المرفوع والمجرور، وكثير من المحدثين يفعلون ذلك، وفي "الصحيح" نماذج من ذلك، والمثبت من الحاشية وعليها كلمة: الجادة.

(4)

"المدونة" 2/ 307، "ابن بطال" 7/ 453.

ص: 401

وقال الحسن: إن أذن له مولاه في العتق أجزأه. وعن الأوزاعي فيه وفي الإطعام كذلك أيضًا إذا لم يقدر على الصيام

(1)

.

فصل:

اختلف في الظهار من الأمة، وأم الولد، فقال الكوفيون، والشافعي: لا يصح الظهار منهما. وقال مالك، والثوري، والأوزاعي، والليث: يكون من أمته مظاهرًا

(2)

.

واحتج الكوفيون بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 3] والأمة ليست من نسائنا؛ لأن الظهار كان طلاقًا ثم أحل بالكفارة، فإذا كان لا حظ للإماء في الطلاق فكذلك ما قام مقامه.

ومن أوجب الظهار في الإماء جعلهن داخلات في جملة النساء لمعنى تشبه الفرج الحلال بالحرام في حال الظهار؛ لأن الله تعالى حرم جميع النساء ولم يخص امرأة دون امرأة: وهذا مذهب علي، وهو حجة مع معرفة لسان العرب، وهو مذهب الفقهاء السبعة، وعطاء، وربيعه. قال ابن المنذر: ويدخل في عموم قوله: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ} الآية [المجادلة: 2]؛ لأن الظهار يكون من الأمة والذمية والصغيرة وجميع النسوان.

فصل:

قال ابن حزم: ولا يكون الظهار إلا بذكر ظهر الأم، ولا يجب بفرجها ولا بعضو منها غير الظهر، ولا بذكر الظهر أو غيره من غير

(1)

انظر: "الإشراف" 1/ 127، 128.

(2)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 2/ 491، "المدونة" 2/ 297، "الإشراف" 1/ 217.

ص: 402

الأم والجدة، لا من ابنته، ولا من ابنه، ولا أخيه، ولا من جده. وقالت طائفة: إذا تكلم بالظهار فقد لزمه. قاله طاوس، وهو قول الثوري، والبتي.

وقالت طائفة: من ظاهر لم تلزمه كفارة حتى يريد وطأها، فإذا أراده لزمته حينئذٍ، فإن بدا له عن وطئها سقطت عنه الكفارة، وهكذا أبدًا، وهو أشهر قولي مالك.

وروي عن عبد العزيز بن الماجشون، وما نعلمه عن أحد قبلهما، وهو أسقط الأقوال، لتعرِّيه عن الأدلة.

ثم قال ابن حزم: وقال أبو حنيفة: معنى العَوْد أن الظهار يوجب تحريمًا لا يرفعه إلا الكفارة، إلا أنه إذا لم يطأها مدة طويلة حتى ماتت فلا كفارة عليه سواء أراد في خلال ذلك وطأها أو لم يرد؛ فإن طلقها ثلاثًا فلا كفارة عليه، فإن تزوجها بعد زوج عاد عليه حكم الظهار ولا يطؤها حتى يُكفر.

قال أبو حنيفة: والظهار قول كانوا يقولونه في الجاهلية، فنهوا عنه، فكل من قاله فقد عاد لما قال. قال ابن حزم: وهذا لا يحفظ عن غيره

(1)

، كذا قال.

وأما ابن عبد البر فقال: (قاله)

(2)

قبله غيره. وروى بشر بن الوليد عن أبي يوسف أنه لو وطئها ثم مات أحدهما لم تكن عليه كفارة، ولا كفارة بعد الجماع

(3)

.

(1)

"المحلى" 10/ 50، 51، 52.

(2)

من (غ).

(3)

"الاستذكار" 17/ 132.

ص: 403

والذي عليه الحنفيون هو أن يشبه المنكوحة بمحرمة عليه على التأبيد، فيحرم الوطء ودواعيه بقوله: أنت على كظهر أمي حتى يكفر، فلو وطئ قبله استغفر ربه فقط كما ذكرنا في الحديث آنفًا.

فصل:

قال: وبطنها وفخذها وفرجها كظهرها، وأخته وعمته وأمه رضاعًا كأمه، فإن قال: رأسك أو فرجك أو وجهك أو رقبتك أو نصفك أو ثلثك عليَّ كظهر أمي كان ظهارًا.

وإن نوى بأنت عليِّ مثل أمي بِرًّا أو ظهارًا أو طلاقًا فكما نوى، وإلا لغا.

فإن قال: أنتِ عليَّ حرام كأمي ظهارًا أو طلاقًا فكما نوى.

فإن قال: أنت عليِّ حرام كظهر أمي طلاقًا أو إيلاءً فظهارٌ.

فصل:

ولا ظهار إلا من زوجة، ولا يجزئ في كفارته الأعمى، ولا مقطوع اليدين، أو إبهامهما، أو الرجلين، ولا المجنون والمدبر، وأم الولد والمكاتب الذي أدى شيئًا، فإن لم يؤد شيئًا جاز، وإن اشترى قريبه ناويًا بالشراء الكفارة، أو حرر نصف عبده عن كفارته، ثم حرر باقيه عنها صح. وإن حرر نصف عبد مشترك وضمن باقيه، أو حرر نصف عبده ثم وطئ التي ظاهر منها، ثم حرر باقيه لم يجزئه.

فصل:

فإن لم يجد ما يعتق صام شهرين متتابعين ليس فيهما رمضان ولا الأيام المنهي عن صيامها، فإن وطئ فيها ليلاً أو يومًا ناسيًا أو أفطر استأنف الصوم، وذكر ابن حزم عن مالك أنه إذا وطئ التي ظاهر منها ليلاً قبل تمام الشهرين يبتدئهما من ذي قبل.

ص: 404

وقال أبو حنيفة والشافعي: يتمهما بانيًا علي ما صام منهما

(1)

.

فصل:

وقول أبي حنيفة في الظهار كقول أصحاب اللغة كما أسلفناه عنهم أول الباب، وأظن ابن حزم لا ينكر هذا، وإنما حمله قوله تعالى:{الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} [المجادلة: 2]

قال ابن عبد الحق: ولئن سلم له هذا، فما فعله في قوله:{وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ} [المجادلة: 3] وهي مطلقة في جميع الظهار؟ وفي هذِه الآية حكم الظهار لا في الآية المتقدمة، ولا يمكنه أن يقول: هذا الظهار المذكور في الآية هو ذاك؛ لأن الآية الكريمة مستقلة بنفسها، ولو جاء مثلًا في الشرع من جعل امرأته كظهر أمه فليست بأمه، ولو قال مفصلًا بهذا: ومن ظاهر من امرأته لزمه كذا.

وكان الظهار هو أن يجعل زوجته كظهر ذات محرم، فلا يقول أحد: إن الظهار هنا مقصور على الظهار بالأم، إذ سياق الكلام لا يعطيه لا من نصه ولا من مفهومه، فبطل قوله جملة، وصح أنه إذا ظاهر بذات محرم لزمه حكم الظهار وسنوضحه بعد.

فصل:

مذهبنا ومذهب أبي حنيفة ومالك أن المعيبة لا تجوز في الكفارة

(2)

، قال ابن حزم: وروينا عن النخعي والشعبي أن عتق الأعمى يجزئ في ذلك. وعن ابن جريج أن الأشل يجزئ.

(1)

"المحلى" 10/ 56.

(2)

انظر: "الإشراف" 1/ 224.

ص: 405

فصل:

قال: ذهبت طائفة إلى أنه إذا ظاهر من غير ذات محرم، فليس ظهارًا. رويناه عن الحسن وعطاء والشعبي، وهو قول أبي حنيفة، وأحد قولي الشافعي، وأشهر أقواله: إن كل من ظاهر بامرأة حل له نكاحها يومًا من الدهر فليس ظهارًا، ومن ظاهر بامرأة لم يحل له نكاحها قط فهو ظهار.

وقال مالك: من ظاهر بذات محرم أو بأجنبية أو بابْنَة فهو كله ظهار.

وروينا عن الشعبي: لا ظهار إلا بأم أو جدة، وهو قول للشافعي، رواه عنه أبو ثور، وبه يقول أبو سليمان وأصحابنا. ولما ظاهرت عائشةُ بنت طلحة من مصعب بن الزبير بأمها، وفي رواية بأبيها. أمرها فقهاء وقتها بالكفارة

(1)

.

وقال معمر: سئل ابن شهاب عن امرأة قالت لزوجها: هو عليها كابنها. قال الزهري: قالت منكرًا من القول وزورًا، نرى أن تكفر، أو تصوم شهرين متتابعين، أو تطعم ستين مسكينًا. وكان الحسن يرى أن تظاهر المرأة من الرجل ظهارًا. وهو قول الأوزاعي والحسن بن حي والحسن بن زياد اللؤلؤي، وقال الثوري والشافعي: إن ظاهر برأس أمه فهو ظهار، وإن ظاهر بشيء له أن ينظر إليه فليس ظهارًا.

فصل:

قال ابن حزم: من شرع في الصوم فوطئ ليلاً أو وطئ قبل أن يكفر، فعن أبي يوسف أنه لا يكفر. والقول قوله، لولا قوله عليه السلام لمن قال له:

(1)

هذا الخبر رواه: عبد الرزاق في "مصنفه" 6/ 444 (11596)، وسعيد بن منصور في "سننه" 2/ 19 (1848)، والدارقطني في "سننه" 3/ 319.

ص: 406

وقعت علي زوجتي قبل أن أكفر: "لا تقربها حتى تفعل ما أمر الله" فوجب الوقوف عند هذا الخبر الصحيح.

وقال آخرون: ليس عليه إلا كفارة واحدة. قاله ابن المسيب ونافع ومحمد بن سيرين والحسن وبكر بن عبد الله ومورق العجلي وقتادة -في روايةٍ - وعطاء وطاوس وعكرمة ومجاهد

(1)

.

وقال ابن عبد البر: هو قول أكثر السلف، وجماعة فقهاء الأمصار: ربيعة ويحيى بن سعيد، وبه قال مالك والليث وأبو حنيفة والشافعي، وأصحابهم، والثوري والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور والطبري وداود، وهي السنة الواردة في سلمة بن صخر

(2)

.

قال ابن حزم: وقالت طائفة: عليه كفارتان. قاله عبد الله بن عمر و (عبد الله بن عمرو)

(3)

وقبيصة بن ذؤيب وقتادة وسعيد بن جبير والحكم بن عتيبة وعبيد الله بن الحسن القاضي زاد ابن عبد البر: وعمرو بن العاصي وابن شهاب

(4)

وقالت طائفة: عليه ثلاث كفارات، روي ذلك عن النخعي والحسن.

فصل:

واختلفوا فيمن ظاهر من أجنبية ثم تزوجها، فروى القاسم بن محمد عن عمر بن الخطاب: إن تزوجها فلا يقربها حتى يُكفر. وهو قول عطاء وسعيد بن المسيب والحسن وعروة، صح ذلك عنهم، كما قاله ابن حزم -لكن الأثر عن عمر منقطع؛ لأن القاسم لم يولد إلا بعد قتل عمر- وهو قول مالك وأبي حنيفة وأحمد وأصحابهم والثوري وإسحاق.

(1)

"المحلى" 10/ 53، 54، 55.

(2)

"الاستذكار" 17/ 121.

(3)

كذا في الأصول، وفي "المحلى" 10/ 55: عمرو بن العاص.

(4)

"الاستذكار" 17/ 121.

ص: 407

وقالت طائفة كما قلنا، قاله ابن عباس، وهو في غاية الصحة عنه، وقاله أيضًا الحسن -في رواية- وقتادة والشافعي وأبو سليمان.

فصل:

ومن ظاهر ثم كرر ثانية ثم ثالثة، فليس عليه إلا كفارة واحدة، فإن كرر رابعة فعليه كفارة أخرى. روي عن خلاس، عن علي أنه قال: إذا ظاهر في مجلس واحد مرارًا فكفارة واحدة، وإن ظاهر في مقاعد شتى فعليه كفارات، والأيمان كذلك. وهو قول قتادة وعمرو بن دينار، صح ذلك عنهما.

وقال آخرون: ليس في ذلك إلا كفارة واحدة، روينا عن عطاء وطاوس والشعبي أنهم قالوا: إذا ظاهر من امرأته خمسين مرة فإن عليه كفارة واحدة. وصح مثله عن الحسن وعطاء، وهو قول الأوزاعي.

وقال الحسن أيضًا: إذا ظاهر مرارًا فإن كان في مجالس شتى فكفارة واحدة مالم يكفر، والأيمان كذلك. قال معمر: وهو قول الزهري. قال ابن حزم: وهو قول مالك.

وقال أبو حنيفة: إن كان كرره في مجلس واحد ونوى التكرار فكفارة واحدة، وإن لم يكن له نية فلكل ظهار كفارة. وسواء كان ذلك في مجلس واحد أو مجالس

(1)

.

قال ابن عبد الحق في "رده على المحلى": القول السالف لا دليل عليه؛ لأن الله تعالى قال: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: 3] فإذا عاد مائة مرة فهو عائد، هذا علي قول أن العود هو إعادة نفس الظهار، لكن يلزمه الحكم بأقل ما ينطلق عليه الاسم، وأقله مرة.

(1)

"المحلى" 10/ 55، 56، 57.

ص: 408

قال: وأما قوله: إذا لزمته الكفاره فقد ارتفع حكم الظهار المتقدم. فدعوى عرية عن الدليل، وذلك أن ظاهر الآية يدل علي أنه إن عاد ألف مرة سواء قبل الكفارة أو بعد فلا يلزمه شيء، لكن وجدناهم مجمعين علي أنه إن ظاهر وعاد لما قال -على اختلافهم في العود ما هو- أنه يلزمه حكمًا الظهار، فوجب أن يؤخذ بما أجمعوا عليه، وهو أن للظهار بعد الكفارة حكمًا مستأنفًا، وقول مالك في هذِه المسألة أعدلها، وهو أنه إن أَعَاد الظهار مائة مرة قبل أن يكفر لا يلزمه إلا ظهار واحد، فإن ظاهر بعد الكفارة كان حكمه حكم مظاهر لم يظاهر قبل، فلاح بطلان قوله.

فصل:

قال: ومن وجبت عليه كفارة الظهار لم يسقطها عنه موته ولا موتها، ولا طلاقه لها، وهي من رأس ماله إن مات، أوصى بها أو لم يوص.

فصل:

قال: ومن عجز عن جميع الكفارة فحكمه الإطعام أبدًا، أيسر بعد ذلك أو لم يوسر، قوي على الصيام أو لم يقوَ، وكذلك حكم من عجز عن العتق والصوم، فهو لازم له أبدًا، فمن كان حين لزومه الكفارة. قادرًا على رقبة لم يجزه غيرها، وإن افتقر فأمره إلى الله.

ومن كان عاجزًا عن الرقبة قادرًا علي صوم شهرين متتابعين فلم يصمهما، ثم عجز عن الصوم إلى أن مات لم يجزئه إطعام ولا عتق أبدًا؛ فإن صح صامهما، وإن مات صامهما عنه وليه، فلو لم تتصل صحته وقوته على الصيام جميع المدة التي ذكرنا، فإن أيسر في

ص: 409

خلالها فالعتق فرضه أبدًا، فإن لم يوسر فالإطعام فرضه أبدًا

(1)

.

فصل:

سلف جملة من نقل ابن عبد البر عن ابن أبي ليلى والحسن بن حي أنه إذا قال: كل امرأة أتزوجها فهي عليَّ كظهر أمي. لم يلزمه شيء، فإن قال: إن نكحت فلانة فهي كظهر أمي أو يسمي قرية أو قبيلة لزمه الظهار.

وقال الثوري: فمن قال: إن تزوجتك فأنت طالق، وأنت عليَّ كظهر أمي، والله لا أقربك أربعة أشهر فما زاد، ثم تزوجها وقع الطلاق وسقط الظهار والإيلاء؛ لأنه بدأ بالطلاق. قال أبو عمر: يهدم الطلاق المتقدم الظهار، وإن كان بائنًا أو رجعيًّا هدمه أيضًا ما لم يراجع، فإذا راجع لم يطأ حتى يكفر كفارة الظهار

(2)

. وقال يحيي بن سعيد الأنصاري في رجل ظاهر من امرأته ثلاث مرات في مجلس واحد في أمور مختلفة: فإنه يجب عليه ثلاث كفارات.

وقال ربيعة: إن ظاهر من امرأته ثلاثًا في مجالس شتى [في أمور شتى]

(3)

كفر عنهن جميعًا، هان ظاهر منها ثلاثًا في (مجالس شتى)

(4)

في أمر واحد فكفارته واحدة.

وروى ابن نافع فيمن قال: كل امرأة أتزوجها فهي عليَّ كظهر أمي أنه يجزئه كفارة واحدة عن جميع النساء، وبه قال ابن القاسم

(5)

.

(1)

"المحلى" 10/ 57 - 58.

(2)

"الاستذكار" 17/ 116 - 117.

(3)

من (غ).

(4)

كذا في الأصول، وفي "الاستذكار" 17/ 120: مجلس واحد، وهو الصواب.

(5)

"الاستذكار" 17/ 120.

ص: 410

وعن الثوري: لا بأس أن يُقبَّل التي ظاهر منها قبل التكفير ويأتيها فيما دون الفرج؛ لأن المسيس هنا الجماع، وهو قول الحسن

(1)

وعطاء وعمرو بن دينار وقتادة، وهو قول أصحاب الشافعي، وروي عنه أنه قال: أحب إلى أن يمتنع من القبلة والتلذذ احيتاطًا.

وقال أحمد وإسحاق: لا بأس أن يقبل ويباشر. وأبى مالك ذلك ليلاً أو نهارًا، وكذا في صوم الشهرين قال: ولا ينظر إلى شعرها ولا إلى صدرها حتى يكفر.

وقال الأوزاعي: يأتي منها ما دون الإزار كالحائض

(2)

.

وعن أحمد: إن قال لامرأته: أنتِ عليَّ كظهر أمه من الرضاعة: أجبن عن الرضاع

(3)

.

وقال مالك": ليس على النساء ظهار، قال عطاء: إن فعلت كفرت كفارة يمين، وهو قول أبي يوسف والأوزاعي. وقال محمد بن الحسن: لا شيء عليها.

قال الأوزاعي فكذا إذا قال لها: أنتِ عليَّ كظهر فلان -لرجل- فهي كفارة يمين يكفرها

(4)

.

قال ابن عبد البر: وأجمعوا علي أنه إذا أفطر في الشهرين متعمدًا بوطء أو بأكل أو بشرب من غير عذر يستأنف الصيام، واختلفوا إذا وطئ ليلاً، عند الشافعي: لا شيء عليه. وعند أبي حنيفة: يستأنف، وهو قول مالك والليث وغيرهما، فإن أطعم ثلاثين مسكينًا ثم وطئ،

(1)

في الأصل: الحسن وقتادة، والمثبت من (غ).

(2)

"الاستذكار" 17/ 123 - 124.

(3)

"مسائل أحمد وإسحاق" برواية الكوسج 1/ 419 - 420 (1087).

(4)

"الاستذكار" 17/ 126 - 127.

ص: 411

فقال الشافعي وأبو حنيفة: يتم الإطعام، كما لو وطئ قبل أن يُطْعِم لم يكن عليه إلا إطعام واحد.

وقال الليث والأوزاعي ومالك: يستأنف إطعام ستين مسكينًا

(1)

. وسئل عروة عن رجل قال لزوجته: كل امرأة أنكحها عليك ما عشتِ كظهر أمي: يكفيه من ذلك عتق رقبة

(2)

.

وعند الشافعي وابن أبي ليلى: لا يكون مظاهرًا.

وقال مالك في العبد يظاهر من امرأته: لا يدخل عليه إيلاء قبل أن يفرغ من صيامه.

قال أبو عمر: أصل مذهبه أنه لا يدخل عنده على المظاهر إيلاء، حرًّا أو عبدًا، إلا أن يكون مضارًّا، وهذا ليس مضارًّا، (إذا ذهب)

(3)

يصوم للكفارة

(4)

.

قال أبو عمر: ولا خلاف علمته بين العلماء أن الظهار للعبد لازم، وأن كفارته المجمع عليها الصوم، قال: واختلفوا في العتق والإطعام، فأجاز للعبد العتق إن أعطاه سيده أبو ثور وداود، وأبَى ذلك سائر العلماء.

وقال ابن القاسم عن مالك: إن أطعم بإذن مولاه أجزأه، وإن أعتق بإذنه لم يجزئه وأحب إلينا أن يصوم، وقد سلف عن ابن القاسم توهيمُه قال مالك: وإطعام العبد كإطعام الحرِّ ستين مسكينًا، لا أعلم فيه خلافًا

(5)

.

(1)

"الاستذكار" 17/ 138.

(2)

" الموطأ" ص 346.

(3)

في الأصول: وذهب، والمثبت من "الاستذكار" 17/ 144.

(4)

"الاستذكار" 17/ 142 - 143.

(5)

"الاستذكار" 17/ 146 - 147.

ص: 412

‌24 - باب الإِشَارَةِ فِي الطَّلَاقِ وَالأُمُورِ

وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَا يُعَذِّبُ اللَّهُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا» . فَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ [انظر: 1304]. وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: أَشَارَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَيَّ أَيْ خُذِ النِّصْفَ [انظر: 457]. وَقَالَتْ أَسْمَاءُ: صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْكُسُوفِ، فَقُلْتُ لِعَائِشَةَ: مَا شَأْنُ النَّاسِ؟ وَهْيَ تُصَلِّي، فَأَوْمَأَتْ بِرَأْسِهَا إِلَى الشَّمْسِ، فَقُلْتُ آيَةٌ؟ فَأَوْمَأَتْ بِرَأْسِهَا أَنْ نَعَمْ. [انظر: 86] وَقَالَ أَنَسٌ: أَوْمَأَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ أَنْ يَتَقَدَّمَ. [انظر: 680]

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَوْمَأَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ: لَا حَرَجَ. [انظر: 84] وَقَالَ أَبُو قَتَادَةَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الصَّيْدِ لِلْمُحْرِمِ: «آحَدٌ مِنْكُمْ أَمَرَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا أَوْ أَشَارَ إِلَيْهَا؟» . قَالُوا: لَا. قَالَ: «فَكُلُوا» . [انظر: 1821 - فتح 9/ 435].

5293 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ، عَنْ خَالِدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: طَافَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَعِيرِهِ، وَكَانَ كُلَّمَا أَتَى عَلَى الرُّكْنِ أَشَارَ إِلَيْهِ، وَكَبَّرَ. [انظر: 1607 - مسلم: 1267 - فتح 9/ 436].

وَقَالَتْ زَيْنَبُ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «فُتِحَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ» . وَعَقَدَ تِسْعِينَ. [انظر: 3346 - فتح 9/ 2880].

5294 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ عَلْقَمَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم: «فِي الْجُمُعَةِ سَاعَةٌ لَا يُوَافِقُهَا مُسْلِمٌ قَائِمٌ يُصَلِّي، فَسَأَلَ اللهَ خَيْرًا، إِلاَّ أَعْطَاهُ» . وَقَالَ بِيَدِهِ، وَوَضَعَ أَنْمَلَتَهُ عَلَى بَطْنِ الْوُسْطَى وَالْخِنْصَرِ. قُلْنَا: يُزَهِّدُهَا. [انظر: 935 - مسلم: 852 - فتح 9/ 436].

ص: 413

5295 -

وَقَالَ الأُوَيْسِيُّ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ شُعْبَةَ بْنِ الْحَجَّاجِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: عَدَا يَهُودِيٌّ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى جَارِيَةٍ، فَأَخَذَ أَوْضَاحًا كَانَتْ عَلَيْهَا وَرَضَخَ رَأْسَهَا، فَأَتَى بِهَا أَهْلُهَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهْيَ فِي آخِرِ رَمَقٍ، وَقَدْ أُصْمِتَتْ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ قَتَلَكِ؟ فُلَانٌ» . لِغَيْرِ الَّذِى قَتَلَهَا، فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا أَنْ لَا، قَالَ: فَقَالَ لِرَجُلٍ آخَرَ غَيْرِ الَّذِى قَتَلَهَا، فَأَشَارَتْ أَنْ لَا، فَقَالَ:«فَفُلَانٌ» . لِقَاتِلِهَا فَأَشَارَتْ أَنْ نَعَمْ، فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَرُضِخَ رَأْسُهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ. [انظر: 2413 - مسلم: 1672 - فتح 9/ 436].

5296 -

حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «الْفِتْنَةُ مِنْ هَا هُنَا» . وَأَشَارَ إِلَى الْمَشْرِقِ. [انظر: 3104 - مسلم: 2950 - فتح 9/ 436].

5297 -

حَدَّثَنَا عَلِىُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: كُنَّا فِي سَفَرٍ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا غَرَبَتِ الشَّمْسُ قَالَ لِرَجُلٍ:«انْزِلْ فَاجْدَحْ لِي» . قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَوْ أَمْسَيْتَ. ثُمَّ قَالَ:«انْزِلْ فَاجْدَحْ» . قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَوْ أَمْسَيْتَ إِنَّ عَلَيْكَ نَهَارًا. ثُمَّ قَالَ:«انْزِلْ فَاجْدَحْ» . فَنَزَلَ فَجَدَحَ لَهُ فِى الثَّالِثَةِ، فَشَرِبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ أَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى الْمَشْرِقِ فَقَالَ:«إِذَا رَأَيْتُمُ اللَّيْلَ قَدْ أَقْبَلَ مِنْ هَا هُنَا فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ» . [انظر: 1941 - مسلم: 11014 - فتح 9/ 436].

5298 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رضى الله عنه - قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَمْنَعَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ نِدَاءُ بِلَالٍ -أَوْ قَالَ: أَذَانُهُ- مِنْ سَحُورِهِ، فَإِنَّمَا يُنَادِي -أَوْ قَالَ يُؤَذِّنُ- لِيَرْجِعَ قَائِمُكُمْ، وَلَيْسَ أَنْ يَقُولَ» . كَأَنَّهُ يَعْنِي: الصُّبْحَ أَوِ الْفَجْرَ، وَأَظْهَرَ يَزِيدُ يَدَيْهِ ثُمَّ مَدَّ إِحْدَاهُمَا مِنَ الأُخْرَى. [انظر: 621 - مسلم: 1093 - فتح 9/ 436].

5299 -

وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ، سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ الْبَخِيلِ وَالْمُنْفِقِ كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ

ص: 414

عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ، مِنْ لَدُنْ ثَدْيَيْهِمَا إِلَى تَرَاقِيهِمَا، فَأَمَّا الْمُنْفِقُ فَلَا يُنْفِقُ شَيْئًا إِلاَّ مَادَّتْ عَلَى جِلْدِهِ حَتَّى تُجِنَّ بَنَانَهُ وَتَعْفُوَ أَثَرَهُ، وَأَمَّا الْبَخِيلُ فَلَا يُرِيدُ يُنْفِقُ إِلاَّ لَزِمَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ مَوْضِعَهَا، فَهْوَ يُوسِعُهَا فَلَا تَتَّسِعُ». وَيُشِيرُ بِإِصْبَعِهِ إِلَى حَلْقِهِ. [انظر: 1443 - مسلم: 1021 - فتح 9/ 436].

(وَقَالَ ابن عُمَرَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لَا يُعَذِّبُ اللهُ بِدَمْعِ العَيْنِ ولكن يُعَذَبُ بهذا". وأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ.) وهذا سلف مسندًا في الجنائز.

ثم قال: وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: أَشَارَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَيَّ أن خُذِ النِّصْفَ وهذا سلف في الصلح مسندًا

(1)

.

ثم قال: وَقَالَتْ أَسْمَاءُ: (صَلَّى النَّبِيُّ)

(2)

صلى الله عليه وسلم الكُسُوفَ، فَقُلْتُ لِعَائِشَةَ: مَا شَأْنُ النَّاسِ؟ فَأَوْمَأَتْ بِرَأْسِهَا إِلَى الشَّمْسِ، فَقُلْتُ: آيَةٌ؟ فَأَوْمَأَتْ بِرَأْسِهَا. أَي نَعَمْ. وهذا سلف في الصلاة أيضًا.

ثم قال: وَقَالَ أَنَسٌ: أَوْمَأَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بيَدِهِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ أَنْ يَتَقَدَّمَ. وهذا سلف أيضًا في الصلاة.

ثم قال: وَقَالَ ابن عَبَّاسٍ: أَوْمَأَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بيَدِهِ لَا حَرَجَ. وهذا سلف في الحج أيضًا

(3)

.

ثم قال: وقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الصَّيْدِ لِلْمُحْرِمِ: "آحَدٌ مِنْكُمْ أَمَرَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا أَوْ أَشَارَ إِلَيْهَا؟ ". قَالُوا: لَا. قَالَ: "فَكُلُوا". وهذا سلف في الحج.

ثم ساق البخاري من حديث إبراهيم، عن خالد، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: طَافَ النبي صلى الله عليه وسلم عَلَى بَعِيرِهِ، وَكَانَ كُلَّمَا أَتَى عَلَى الرُّكْنِ أَشَارَ إِلَيْهِ وَكَبَّرَ.

(1)

سلف برقم (2707).

(2)

ساقطة من الأصل.

(3)

سلف برقم (1721).

ص: 415

وهذا سلف في الحج من حديث خالد الحذاء، عن عكرمة، عن ابن عباس به

(1)

، وخالد هو خالد الحذاء كما بينه هناك، وهو ابن مهران أبو المنازل.

وإبراهيم

(2)

هذا هو ابن محمد بن الحارث بن أسماء بن خارجة، أخي عيينة ابني حصن بن حذيفة، أبو إسحاق الفزاري، مات سنة خمس أو ست أو ثمان وثمانين ومائة، وابن عمه مروان بن معاوية بن الحارث بن أسماء، مات سنة ثلاث وتسعين ومائة فجأة قبل يوم التروية بيوم

(3)

.

ثم قال البخاري: وقالت زينبُ: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "فُتحَ من رَدْم يأجوجَ ومأجوجَ مثل هذِه" وعقد تسعين. وهذا سلف مسندًا في ذكر ذي القرنين والسد

(4)

.

ثم ساق في الباب أحاديث:

أحدها:

حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "في الجمعة ساعة .. " الحديث سلف في الجمعة، وَقَالَ بِيَدِهِ، وَوَضَعَ أَنْمَلَتَهُ عَلَى بَطْنِ الوُسطَى وَالْخِنْصِرِ. قُلْنَا: يُزَهِّدُهَا

(1)

سبق برقم (1613).

(2)

ورد في هامش الأصل: حاشية من كلام الدمياطي في إبراهيم أنه (

) إلى آخره، وقال المزي في "أطرافه": إنه ابن طهمان، والله أعلم.

(3)

انظر ترجمته في "الطبقات" 7/ 488، "الجمع بين رجال الصحيحين" لابن القيسراني 1/ 17، "تهذيب الكمال" 2/ 167 - 170.

(4)

سبق برقم (3346).

ص: 416

وثانيها:

وَقَالَ الأُويسِيُّ -يعني: عبد العزيز بن عبد الله-: ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ شُعْبَةَ بْنِ الحَجَّاجِ، عن قيس في الأوضاح، وهو حلي من فضة، سلف في الوصايا مختصرًا من طريق همام، عن قتادة، عن أنس، ويأتي في الديات عن محمد بن سلام، عن عبد الله بن إدريس، وثنابندار، عن غندر، كلاهما عن شعبة به

(1)

.

وثالثها:

حديث ابن عمر رضي الله عنهما سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "الْفِتْنَةُ مِنْ ههنا". وَأَشَارَ إِلَى المَشْرِقِ.

رابعها:

حديث أبي إسحاق الشيباني عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى رضي الله عنهما: "إِذَا رَأَيْتُمُ اللَّيْلَ قَدْ أَقْبَلَ مِنْ ههنا فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ". وقد سلف في الصوم، وأبو إسحاق اسمه سليمان بن أبي سليمان فيروز مولى بني شيبان بن ثعلبة.

خامسها:

حديث ابن مسعود رضي الله عنه: "لَا يَمْنَعَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ نِدَاءُ بِلَالٍ .. " الحديث سلف في الأذان، وراويه عن ابن مسعود أبو عثمان، واسمه: عبد الرحمن بن مل النهدي.

سادسها:

وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ، سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ البَخِيلِ وَالْمُنْفِقِ كَمَثَلِ

(1)

يأتي برقمي: (6876، 6879).

ص: 417

رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ، مِنْ لَدُنْ ثَدْيَيْهِمَا إِلَى تَرَاقِيهِمَا، فَأَمَّا المُنْفِقُ فَلَا يُنْفِقُ شَيْئًا إِلَّا مَادَّتْ عَلَى جِلْدهِ حَتَّى تُجِنَّ بَنَانَهُ وَتَعْفُوَ أثَرَهُ، وَأَمَّا البَخِيلُ فَلَا يُرِيدُ يُنْفِقُ إِلَّا لَزِمَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ مَوْضِعَهَا، فَهْوَ يُوسِعُهَا فَلَا تَتَّسِعُ". وَيُشِيرُ بِإِصْبَعِهِ إِلَى حَلْقِهِ.

وقد سلف في الزكاة من هذا الوجه ومن طريقين آخرين عن أبي هريرة، وقال هناك "تخفي" بدل "تجن"، وقال هناك:"سبغت أو وفرت" بدل: "مادَّتْ".

وقال هناك: "لزقت" بالقاف بدل: "لزمت". وزاد هنا الإشارة، وراجع ذلك من ثم

(1)

.

قال صاحب "العين": ماد الشيء مددًا تردد (وفي عرض، والناقة تمد في سيرها)

(2)

.

إذا تقرر ذلك؛ فالإشارة إذا فهمت وارتفع الإشكال منها محكوم بها، وما ذكره البخاري في الأحاديث من الإشارات في الضروب المختلفة شاهدة بجواز ذلك.

وأوكد الإشارات ما حكم الشارع به في أمر السوداء حين قال لها: "أين الله؟ " فأشارت برأسها إلى السماء، فقال:"أعتقها فإنها مؤمنة"

(3)

فأجاز الإسلام بالإشارة الذي هو أعظم أصل الديانة، الذي تحقن به الدماء، ويمنع المال والحرمة، وتستحق به الجنة، وينتجى به من النار، وحكم بإيمانها كما يحكم بنطق من يقول ذلك، فيجب أن تكون الإشارة عاملة في سائر الديانة، وهو قول عامة الفقهاء.

(1)

سلف (1443).

(2)

كذا في الأصول، وفي ابن بطال 7/ 456: تردد في عرض والناقة تمدد في سيرها.

(3)

مسلم (537) كتاب المساجد، باب: الكلام في الصلاة.

ص: 418

وروى ابن القاسم عن مالك أن الأخرس إذا أشار بالطلاق أنه يلزمه.

وقال الشافعي في الرجل يمرض فيختل لسانه فهو كالأخرس في الرجعة والطلاق، وإذا أشار إشارة تعقل أو كتب لزمه الطلاق.

وقال أبو ثور في إشارة الأخرس: إذا فهمت عنه تجوز عليه

(1)

.

وقال أبو حنيفة وأصحابه: إن كانت إشارته تعرف في طلاقه ونكاحه وبيعه، وكان ذلك منه معروفًا فهو جائز عليه، وإن شك فيها فهي باطل، وليس ذلك بقياس إنما هو استحسان، والقياس في هذا كله أنه باطل؛ لأنه لا يتكلم ولا تعقل إشارته

(2)

.

قال ابن المنذر: فزعم أبو حنيفة أن القياس في ذلك أنه باطل، وفي ذلك إقرار منه أنه حكم بالباطل؛ لأن القياس عنده حق، فإذا حكم بضده -وهو الاستحسان- فقد حكم بضد الحق، وفي إظهار القول بالاستحسان وهو ضد القياس دفع منه للقياس الذي عنده حق.

قال ابن بطال: وأظن البخاري حاول بهذا الباب الرد عليه؛ لأنه عليه السلام حكم بالإشارة في هذِه الأحاديث وجعل ذلك شرعًا لأمته، ومعاذ الله أن يحكم عليه السلام في شيء من شريعته التي ائتمنه الله عليها، وشهد التنزيلُ أنه بلغها لأمته غير (ملوم)

(3)

وأن الدين قد كمل به ما يدل القياس على إبطاله، وإنما حمل أبا حنيفة على قول هذا أنه لم يعلم السنن التي جاءت بجواز الإشارات في أحكام مختلفة من

(1)

"شرح ابن بطال" 7/ 455، وانظر:"المدونة" 2/ 127، "الأم " 5/ 277.

(2)

انظر: "المبسوط" 5/ 34.

(3)

في الأصول: معلوم، ولا معنى لها، والمثبت من "شرح ابن بطال" 4/ 456.

ص: 419

الديانة في مواضع يمكن النطق فيها، ومواضع لا يمكن، فهي لمن لا يمكنه أجوز، وأوكد إذ لا يمكن العمل بغيرها

(1)

.

وقال ابن التين: أراد بالإشارة التي يفهم منها الطلاق من الصحيح والأخرس قال: والكتابة مع النية طلاق عند مالك خلافًا للشافعي.

قلت: والأظهر من مذهبه الوقوع والحالة هذِه.

فصل:

في ألفاظ وقعت في هذِه الأحاديث وفوائد لا بأس ببيانها وإن سلف بعضها.

معنى (عدا يهودي): تعدى. والأوضاح: جمع وضح، وهو حلي من فضة كما سلف مأخوذ من الوضح، وهو البياض.

ومنها: أنه أمر بصيام الأوضاح؛ وهي أيام البيض، وفي حديث "صوموا من وضح إلى وضح"

(2)

أي من ضوء إلى ضوء.

وقوله: (فأمر به فرضخ رأسه بين حجرين) فيه: طلب المماثلة في القود، وهو حجة علي أبي حنيفة في قوله: لا يقاد إلا بالسيف.

(1)

"شرح ابن بطال" 7/ 456.

(2)

رواه البزار 6/ 324 (2335)، والطبراني في "الكبير" 1/ 190 (504)، و "الأوسط" 3/ 192 (2009) من طريق سالم بن عبيد الله، عن أبي المليح، عن أبيه؛ مرفوعًا.

قال الهيثمي في "المجمع" 3/ 158: فيه سالم بن عبيد الله بن سالم، ولم أجد من ترجمه، وبقية رجاله موثقون. اهـ.

وحسنه الألباني في "الصحيحة"(1918) بحديث جابر التالي. ورواه الخطيب في "تاريخه" 12/ 360 - 361، ومن طريقه ابن الجوزي في "العلل المتناهية" 2/ 46 (882) عن عمر بن أيوب عن مصاد بن عقبة عن أبي الزبير عن جابر مرفوعًا.

قال ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج بعمر بن أيوب. أهـ.

ص: 420

وقتله هنا بالإشارة، وفي رواية أخرى في الصحيح أنه أقر.

وطوافه على البعير قد يحتج به من يرى طهارة أبوالها، ومن منع قال: كانت ناقة منوقة. والجمعة بضم الميم وفتحها وسكونها. وهذِه الساعة قال عبد الله بن سلام: إنها من العصر إلى الليل، وقيل: عند الزوال، وقيل: مبهمة فيه، وقد سلف الأقاويل فيها في بابه.

والأنملة فيها لغات تسع: تثليث الهمزة مع تثليث الميم. واقتصر ابن التين على فتح الهمزة مع ضم الميم، ثم قال: وفيها لغة أخرى: فتح الميم، وأهمل الباقي

(1)

.

والجدح -بالجيم ثم قال ثم حاء مهملة-: الخلط. قال ابن فارس: هو ضرب الدواء بالمجدح، وهو خشبة لها ثلاث جوانب

(2)

.

وقال الفراء: إنه عود معرض الرأس كالملعقة.

وجنتان سلف أنه بالنون والتاء وأن الصواب بالنون، وهو ما ضبط هنا، أي: جنة تغطيه.

وقوله: ("ثديهما") هذا هو الصواب لا ما عند أبي ذر "ثدييهما" لأن (ثدي)

(3)

الرجلين أربعة فلا يعبر عنهن بالتثنية.

قال ابن فارس: الثدي للمرأة وجمعه ثُدِيٌّ، ويذكر ويؤنث، وثندوة الرجل كثدي المرأة، هو مهموز إذا ضم أوله، فإذا فتح لم يهمز

(4)

.

(1)

ورد في هامش الأصل: يهمل شيخنا لغة عاشرة في الأنملة، وقد رأيت عن اللبلي في "شرح الفصيح" عن ابن سيده في "المخصص" عن ابن جني أن في الأنملة من اللغات مثل ما في الأصبع؛ فإذن فيها أنمولة، والله أعلم.

(2)

"المجمل" 1/ 180.

(3)

في (غ): ثديي.

(4)

"المجمل" 1/ 157.

ص: 421

وقوله: ("حتى تجن بنانه") هو بفتح التاء وضمها من تجن جن وأجن. واختار الفراء: جنه، قال الهروي: يقال: جن عليه الليل وأجنه. وبنانه بالنون وصحف من قال: ثيابه.

ص: 422

‌25 - باب اللِّعَانِ

وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ} إِلَى قَوْلِهِ: {إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ}

فَإِذَا قَذَفَ الأَخْرَسُ امْرَأَتَهُ بِكِتَابَةٍ أَوْ إِشَارَةٍ أَوْ بِإِيمَاءٍ مَعْرُوفٍ، فَهْوَ كَالْمُتَكَلِّمِ؛ لأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَجَازَ الإِشَارَةَ فِي الْفَرَائِضِ، وَهْوَ قَوْلُ بَعْضِ أَهْلِ الْحِجَازِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ، وَقَالَ اللهُ تَعَالَى:{فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29)} [مريم: 29]. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: {إِلاَّ رَمْزًا} : إِشَارَةً. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ. ثُمَّ زَعَمَ أَنَّ الطَّلَاقَ بِكِتَابٍ أَوْ إِشَارَةٍ أَوْ إِيمَاءٍ جَائِزٌ، وَلَيْسَ بَيْنَ الطَّلَاقِ وَالْقَذْفِ فَرْقٌ، فَإِنْ قَالَ: الْقَذْفُ لَا يَكُونُ إِلاَّ بِكَلَامٍ. قِيلَ لَهُ: كَذَلِكَ الطَّلَاقُ لَا يَجُوزُ إِلاَّ بِكَلَامٍ، وَإِلاَّ بَطَلَ الطَّلَاقُ وَالْقَذْفُ، وَكَذَلِكَ الْعِتْقُ، وَكَذَلِكَ الأَصَمُّ يُلَاعِنُ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَقَتَادَةُ: إِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ. فَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ، تَبِينُ مِنْهُ بِإِشَارَتِهِ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: الأَخْرَسُ إِذَا كَتَبَ الطَّلَاقَ بِيَدِهِ لَزِمَهُ. وَقَالَ حَمَّادٌ: الأَخْرَسُ وَالأَصَمُّ إِنْ قَالَ بِرَأْسِهِ جَازَ.

5300 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ دُورِ الأَنْصَارِ؟» . قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: «بَنُو النَّجَّارِ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ بَنُو عَبْدِ الأَشْهَلِ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ بَنُو الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ بَنُو سَاعِدَةَ» . ثُمَّ قَالَ بِيَدِهِ، فَقَبَضَ أَصَابِعَهُ، ثُمَّ بَسَطَهُنَّ كَالرَّامِي بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ:«وَفِي كُلِّ دُورِ الأَنْصَارِ خَيْرٌ» . [انظر: 3789 - مسلم: 2511 - فتح 9/ 439].

ص: 423

5301 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ أَبُو حَازِمٍ: سَمِعْتُهُ مِنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ -صَاحِبِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَذِهِ مِنْ هَذِهِ أَوْ كَهَاتَيْنِ» . وَقَرَنَ بَيْنَ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى. [انظر: 4936 - مسلم: 2950 - فتح 9/ 439].

5302 -

حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا جَبَلَةُ بْنُ سُحَيْمٍ، سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا» . يَعْنِي: ثَلَاثِينَ، ثُمَّ قَالَ:«وَهَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا» . يَعْنِي: تِسْعًا وَعِشْرِينَ، يَقُولُ مَرَّةً: ثَلَاثِينَ، وَمَرَّةً: تِسْعًا وَعِشْرِينَ. [انظر: 1900 - مسلم: 1080 - فتح 9/ 439].

5303 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ قَيْسٍ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ: وَأَشَارَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ نَحْوَ الْيَمَنِ: «الإِيمَانُ هَا هُنَا -مَرَّتَيْنِ- أَلَا وَإِنَّ الْقَسْوَةَ وَغِلَظَ الْقُلُوبِ فِي الْفَدَّادِينَ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنَا الشَّيْطَانِ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ» . [انظر: 3302 - مسلم: 51 - فتح 9/ 439].

5304 -

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِى حَازِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَهْلٍ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «و

(1)

أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِي الْجَنَّةِ هَكَذَا». وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى، وَفَرَّجَ بَيْنَهُمَا شَيْئًا. [6005 - فتح 9/ 439].

الشرح:

اللعان مصدر لاعن يلاعن لعانًا، وإطلاق اللعان في جانب المرأة من مجاز التغليب، فإن الغضب أشد من اللعن؛ لأن اللعن الإبعاد، وقد يبعد من لا يغضب عليه، وهو مشتق من اللعن: وهو الطرد والإبعاد، لبعدهما من الرحمة، أو لبعد كل منهما عن الآخر فلا يجتمعان أبدًا، والمغلب على اللعان حكم اليمين عندنا على الأصح.

(1)

هكذا بإثبات الواو قبل كلمة أنا في اليونينية.

ص: 424

وهو في الشرع: كلمات معلومة جعلت حجة للمضطر إلى قذف من لطخ فراشه وألحق به العار، والأصل فيه الآية المذكورة بطولها، نزلت في شعبان سنة تسع في عويمر العجلاني منصرفه من تبوك، أو في هلال بن أمية، وعليه الجمهور.

وخالف ابن أبي صفرة فقال: إنه خطأ، وإنما هو عويمر، قال: وأظن الغلط فيه من هشام بن حسان، وكذا قاله الطبري. ولعلهما تقاربتا فنزل فيهما أو تكرر النزول ورماها عويمر بن الحارث بن زيد بن الجد بن العجلان الأُحُدِي بشريك بن السحماء وهي أمته، قيل لها ذلك لسوادها، قاله ابن المنذر. وقال غيره: هي بنت عبد الله اللتبية.

وقال آخرون: هي يمانية، وهو شريك بن عبد الله بن مغيث بن الجد بن العجلان ولم تكن بالمدينة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في أيام عمر بن عبد العزيز، وليس لنا يمين متعددة إلا هو والقسامة، ولا يمين في جانب المدعي إلا فيها.

وقد اختلف العلماء في لعان الأخرس، فقال الشافعي ومالك وأبو ثور: يلاعن الأخرس إذا عقل الإشارة، وفهم الكتابة، وعلم ما يقوله، وفُهم (منه)

(1)

، وكذلك الخرساء تلاعن أيضًا بالكتابة

(2)

.

وقال الكوفيون: لا يصح قذفه ولا لعانه، فإذا قذف الأخرس امرأته بإشارة لم يحد ولم يلاعن، وكذلك لو قذف بكتاب

(3)

، وروي مثله عن

(1)

من (غ).

(2)

"المدونة" 2/ 343، "الأم" 5/ 274، "الإشراف" 1/ 242.

(3)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 2/ 508.

ص: 425

الشعبي، وبه قال الأوزاعي وأحمد وإسحاق

(1)

واحتجوا بأن هذِه المسألة مبنية لهم علي أصل، وهو أن صحة القذف تتعلق بصريح الزنا دون معناه، ألا ترى أن من قذف آخر فقال له: قد وُطِئت وطأً حرامًا، أو وُطِئت بلا شبهة لم يكن قاذفًا، فإن أتى بمعنى الزنا كان قاذفًا، فبان أن المعتبر في هذا الباب صريحُ اللفظ، وهذا المعنى لا يحصل من الأخرس ضرورة، فلم يكن قاذفًا ولا يميز بالإشارة الزنا من الوطء الحلال والشبهة، وأيضًا فإن إشارته لما تضمنت وجهين لم يجز إيجاب الحد بها كالكتابة والتعريض.

قالوا: واللعان عندنا شهادة، وشهادة الأخرس عندنا لا تقبل بالإجماع، ورد بالمنع؛ فهو باطل كسائر الألسنة ما عدا العربية فإنها كلها قائمة مقامها، ويصح بكل واحد منها القذف، فكذلك إشارة الأخرس.

وقولهم: إنه لا يميز بالإشارة الزنا من الوطء الحلال والشبهة باطل، إذا أقر بقتل عمد فإنه مقبول منه بالإشارة، وصورته غير صورة قتل الخطأ، وما حكوه من الإجماع في شهادته غلط.

وقد نص مالك أن شهادته مقبولة إذا فهمت إشارته

(2)

، وإنما تقوم مقام اللفظ في الشهادة، وأما مع القدرة فلا تقع منه إلا باللفظ، وحكي أنهم يصححون لعان الأعمى، ولا يجيزون شهادته، فقد فرقوا بينهما، ولأن إشارته إذا فهمت قامت مقام النطق بما احتج به البخاري من الإشارة في الآية، فعرفوا بإشارتها ما يعرفون من نطقها

(1)

انظر: "شرح ابن بطال" 7/ 458، "المغني" 11/ 127.

(2)

انظر: "النوادر والزيادات" 8/ 296.

ص: 426

وبقوله تعالي: {آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا} [آل عمران: 41] أي إيماء وإشارة، فلولا أنه يفهم منها ما يفهم من النطق لم يقل تعالى: ألا تُكَلِّم إلا رمزًا فجعل الرمز كلامًا.

وأيضًا فإنه عليه السلام كبر للصلاة وذكر أنه لم يغتسل، فأشار إليهم أن اثبتوا مكانكم، وكذلك أشار إلى الصديق في الصلاة، والأحاديث فيه أكثر من أن تحصر.

وصح أنه يعقل من الإشارة ما يعقل من النطق، وقد تكون الإشارة في كثير من أبواب الفقه أقوى من الكلام مثل قوله عليه السلام:"بعثت أنا والساعة كهاتين"

(1)

ومتى كان يبلغ البيان (إلى)

(2)

ما بلغت إليه الإشارة، والإعراب بما بينهما بمقدار زيادة الوسطى على السبابة، والمراد أن ما بيني وبين الساعة من مستقبل الزمان بالقياس إلى ما مضى منه مقدار فضل الوسطى على السبابة. ولو كان أراد غير هذا لكان قيام الساعة مع بعثه في زمن واحد، وقيل: معناه أنه ليس بينه وبين الساعة أُمَّة غير أمته.

وفي إجماع العقول علي أن العيان أقوى من الخبر دليل أن الإشارة قد تكون في بعض المواضع أقوى من الكلام.

قال ابن المنذر: والمخالفون يلزمون الأخرس الطلاق والبيوع وسائر الأحكام فينبغي أن يكون القذف مثل ذلك.

واتفق مالك والكوفيون والشافعي أن الأخرس إذا كتب الطلاق بيده لزمه.

(1)

تقدم برقم (4936).

(2)

من (غ).

ص: 427

وقال الكوفيون: إذا كان الرجل أصمت أيامًا فكتب لم يجز من ذلك شيء

(1)

.

قال الطحاوي: الخرس مخالف للصمت، كما أن العجز عن الجماع العارض بالمرض ونحوه يومًا أو نحوه مخالف للعجز المأيوس منه الجماع، نحو الجنون في باب خيار المرأة في الفرقة

(2)

.

قال المهلب: وأما الأصم فإن في أمره بعض إشكال ولكن قد يستبرأ إشكال أمره (بترديد)

(3)

الإشارة على الشيء حتى يرتفع الإشكال، فإذا فهم عنه ذلك جاز جميع ما أشار به.

وأما المتكلم، فإذا كتب الطلاق بيده فله أن يقول: إنما كتبت مراوضًا لنفسي لأستخير الله في إنفاذه؛ لأن لي درجة في البيان بلساني هي غايتي، فلا يحال بيني وبين غاية ما لي من البيان، والأخرس لا غاية له إلا الإشارة

(4)

.

ثم ذكر البخاري في الباب أحاديث دالة علي ما ذكره من الإشارة: أحدها: حديث يحيي بن سعيد الأنصاري عن أَنَس قَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا أُخْبِرُكمْ بِخَيْرِ دُورِ الأنصَارِ؟ " .. الحديث.

ولما رواه الترمذي من حديث قتادة عن أنس قال: عن أبي أسيد الساعدي ثم قال: حديث حسن صحيح

(5)

، فعلى هذا حديث أنس مرسل.

(1)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 2/ 451، "المدونة" 2/ 127، "الإشراف" 1/ 182.

(2)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 2/ 451.

(3)

في الأصول: (وتزداد)، والمثبت هو الصواب.

(4)

"شرح ابن بطال" 7/ 460.

(5)

الترمذي (3911).

ص: 428

ثانيها:

حديث سهل بن سعد الساعدي: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَذِهِ مِنْ هذِه" أَوْ "كَهَاتَيْنِ". وَقَرَنَ بَيْنَ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى.

ثالثها:

حديث ابن عمر السالف في الصوم: "الشهر هكذا .. " إلى آخره

رابعها:

حديث أبي مسعود عقبة بن عمرو: أَشَارَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ نَحْوَ اليَمَنِ: "الإِيمَانُ ههنا -مَرَّتَيْنِ- أَلَا وَإِنَّ القَسْوَةَ وَغِلَظَ القُلُوبِ فِي الفَدَّادِينَ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنَا الشَّيْطَانِ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ".

خامسها:

حديث سهل: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أنَا وَكَافِلُ اليَتِيمِ فِي الجَنَّةِ هَكَذَا". وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى، وَفَرَّجَ بَيْنَهُمَا شَيْئًا.

وقد ظهر لك أن المراد ببعض الناس أبو حنيفة، وخالفه مالك والشافعي. واحتجاج البخاري عليه بين، ومن اعتل له بأن الحدود تدرأ بالشبهات، فليس ببيِّن؛ لأن هذا لا شبهة فيه إذا كان يعقل الإشارة ويعلم ما يقوله.

وقول الشعبي وقتادة: (إذا قال: أنتِ طالق وأشار بأصابعه تبين منه بإشارته). يريد أنه أشار بثلاثة أصابع، فكأنه عبر عن نيته بما أشار به بأصابعه.

وقول إبراهيم في الكتابة سلف أنه لم يفتقر في غير الأخرس إلى نية، ويقع الطلاق بنفس الكتابة إذا كان عازمًا وإن لم يخرج الكتاب عن يده، وإن كتب لينظر في ذلك، فإن أخرجه عن يده بقي على ذلك.

ص: 429

واختلف إذا أخرج الكتاب عن يده ولم يُعلم هل كان عَزَمَ أم لا؟ فقال ابن القاسم في "المدونة": له أن يرده ما لم يبلغها الكتاب

(1)

، وقال محمد: ذلك له ما لم يخرج الكتاب، وسواء كان الكتاب: أنتِ طالق. أو: إذا جاءك كتابي فأنت طالق، ولا ينوي إذا خرج الكتاب من يده وإن لم يصل إليها

(2)

.

فصل:

الفدادون جمع فداد وهو: الشديد الصوت من الفديد وذلك من دأب أصحاب الإبل ومن يعالجها من أهلها، هذا على رواية تشديد الدال، وزنه فعَّالاً، عينه قال ولامه قال من فدَّ يفد إذا رفع صوته، فجمعه فعَّالون، وقيل: هو جمع فدان -وهو آلة الحرث والسكة وأعواده- على رواية التخفيف يريد: أهل الحرث، وإنما ذم ذلك لأنه يشتغل عن أمر الدين ويلهى عن الآخرة، فيكون معها قساوة القلب

(3)

، فالجمع على الأول فعالين الياء والنون زائدتان، الياء حرف إعراب والنون مفتوحة عوض من الحركة، والتنوين عند أكثر النحاة، وعلى الثاني: فعاليل: النون منه من نفس الكلمة، وهي لامه وهي مكسورة لأجل حرف الجر.

وقال أبو عبيد الله القزاز: الفدادين من أهل الوبر أصحاب الإبل الذين تبلغ إبل أحدهم المائتين فأكثر إلى الألف، فإذا بلغ ماله ذلك فهو فَدَّاد، وهم مع ذلك جفاة ذوو إعجاب بأنفسهم

(4)

.

(1)

"المدونة" 2/ 127 ..

(2)

انظر: "النوادر والزيادات" 5/ 92.

(3)

انظر: "أعلام الحديث" 3/ 1521 - 1522.

(4)

انظر: "النهاية في غريب الحديث" 3/ 419.

ص: 430

وقال ابن فارس: (هم أهل)

(1)

الحرث والمواشي

(2)

.

فصل:

وقوله: ("أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا") يريد أن منزلته قريب من منزلته ليس بينهما منزلة.

(1)

من (غ).

(2)

"المجمل" 2/ 701، وعبارته: وهي أصواتهم في حروثهم ومواشيهم. ا. هـ.

ص: 431

‌26 - باب إِذَا عَرَّضَ بِنَفْيِ الْوَلَدِ

5305 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ وُلِدَ، لِي غُلَامٌ أَسْوَدُ. فَقَالَ:«هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟» . قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: «مَا أَلْوَانُهَا؟» . قَالَ: حُمْرٌ. قَالَ: «هَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ» . قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: «فَأَنَّى ذَلِكَ؟» . قَالَ: لَعَلَّهُ نَزَعَهُ عِرْقٌ. قَالَ: «فَلَعَلَّ ابْنَكَ هَذَا نَزَعَهُ» . [6847، 7314 - مسلم: 1500 - فتح 9/ 442].

ذكر في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وُلِدَ لِي غُلَام أَسْوَدُ. فَقَالَ:"هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟ ". قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: "مَا أَلْوَانُهَا؟ ". قَالَ: حُمْرٌ. قَالَ: "هَل فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ؟ ". قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: "فَأنّى ذَلِكَ؟ ". قَالَ: لَعَل نَزَعَهُ عِرْقٌ. قَالَ: "فَلَعَلَّ ابنكَ هذا نَزَعَهُ عرق".

هذا الحديث أخرجه مسلم أيضًا، وعند الترمذي: جاء رجل من بني فزارة

(1)

. وعند النسائي: وهو حنيئذ يُعَرِّض بأن ينفيه، فلم يرخص له في الانتقاء منه

(2)

.

وعند أبي داود، عن الزهري قال: بلغنا عن أبي هريرة. وفي لفظ: وإني أنكره

(3)

، وروى عبد الغني في "غوامضه" في آخره: فقدم عجائز من بني عجل، فأخبرن أنه كان للمرأه جدة سوداء.

وقال أبو موسى المديني في كتابه "المستفاد بالنظر والكتابة": هذا إسناد عجيب، والحديث صحيح من رواية أبي هريرة، ولم يسمَّ فيه الرجل، وقال: امرأة من بني فزارة.

(1)

الترمذي (2128). وقال: حسن صحيح.

(2)

لم أقف على هذِه اللفظة عند النسائي، وهي عند أبي داود (2261).

(3)

أبو داود (2262)، ولم أقف على قول الزهري: بلغنا عن أبي هريرة.

ص: 432

واحتج بهذا الحديث الكوفيون والشافعي فقالوا: لا حد في التعريض ولا لعان به

(1)

؛ لأنه عليه السلام لم يوجب على هذا الرجل الذي عرض بامرأته حدًّا -وأوجب مالك الحد في التعريض واللعان بالتعريض إذا فهم منه القذف ما يفهم من التصريح

(2)

- ولا على عويمر حيث قال: يا رسول الله، أرأيت رجلاً وجد مع أمرأته رجلاً فيقتله؟ الحديث. وأوله أصحاب مالك بأنه إنما جاء سائلًا مستشيرًا، يوضحه أنه- عليه السلام -لما ضرب له المثل سكت ورأى الحق فيما ضرب له من ذلك.

قال المهلب: والتعريض إذا لم يكن على سبيل المشاتمة والمواجهة وكان على سبيل السؤال عما يجهل من المشكلات فلا حد فيه، ولو وجب فيه حد لبقي شيء من علم الدين لا سبيل إلى التوصل إليه مع ذكر من عرض له في ذلك عارض.

ولا يجب عند مالك في التعريض حد إلا أن يكون على سبيل المشاتمة والمواجهة، يُعلم قصده، وستعرف اختلاف العلماء وبيان أقوالهم في التعريض في الحدود إن شاء الله.

وقد ضرب عمر رجلاً ثمانين لما قال: ما أنا بزانٍ ولا أمي بزانية. فاستشار في ذلك عمر فقال قوم: مدح أباه وأمه، وقال آخرون: قد كان لهما مدح غير هذا

(3)

.

وهذا احتياط منه لصيانة الأعراض، والظالم أحق أن يحمل عليه.

(1)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 3/ 311.

(2)

"المدونة" 4/ 391.

(3)

"الموطأ" برواية يحيى ص 518.

ص: 433

فصل:

والأورق: الأغبر الذي فيه سواد وبياض، فليس بناصع البياض كون الرماد، وسميت الحمامة ورقاء لذلك.

فصل:

وفي الحديث: الاستفهام بمعنى التقرير، وجواز الاعتبار وطلب الدليل، فيعتبر بنظيره من طريق واحدة، وهو اعتبار الشبه الخلقي.

وفيه: أن الولد لاحقٌ للزوج وإن اختلف ألوانهما، ولا يحل له نفيه بمجرد المخالفة في اللون، ولبعض أصحابنا وجه في هذِه الصورة وهو واهٍ؛ لما ذكرناه.

قال الداودي: "ولعل" هنا بمعنى التحقيق.

وفيه: تقديم حكم الفراش على اعتبار الشبه.

وفيه: زجر عن تحقيق ظن السوء.

ص: 434

‌27 - باب إِحْلَافِ الْمُلَاعِنِ

5306 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ قَذَفَ امْرَأَتَهُ، فَأَحْلَفَهُمَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا. [انظر: 4748 - مسلم: 1494 - فتح 9/ 444].

ذكر فيه حديث ابن عمر أَنَّ رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ قَذَفَ امْرَأَتَهُ، فَأَحْلَفَهُمَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا.

يريد بالإحلاف أيمان اللعان المعروفة؛ لأن الرجل لما قذف امرأته كان عليه الحد إن لم يأت بشهود أربعة يصدقونه، على ظاهر قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] فلما رمى العجلاني زوجته بالزنا أنزل الله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} الآية [النور: 6]

(1)

فأخرج تعالى الزوج من عموم الآية وأقام أيمانه الأربع مع الخامسة قيام الشهود الأربعة يدرأ بها عن نفسه الحد، كما يدرأ سائر الناس عن أنفسهم بالشهود الأربعة حد القذف؛ فإذا حلف بها لزم المرأة الحد إن لم تلتعن، فإن التَعَنَتْ وحلفت دفعت الحدَّ عن نفسها بأيمانها أيضًا، كما دفع الرجل بأيمانه عن نفسه.

(1)

ورد في هامش الأصل: الجمهور على أن الآية [متفقة] والذي قاله شيخنا تقدم ذلك.

ص: 435

‌28 - باب يَبْدَأُ الرَّجُلُ بِالتَّلَاعُنِ

5307 -

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ، فَجَاءَ فَشَهِدَ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:«إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ، فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ؟» . ثُمَّ قَامَتْ فَشَهِدَتْ. [انظر: 2671 - فتح 9/ 445].

ذكر فيه حديث عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه أَنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ، فَجَاءَ فَشَهِدَ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"إِنَّ الله يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ، فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ؟ ". ثُمَّ قَامَتْ فَشَهِدَتْ

قام الإجماع على بداءة الرجل باللعان قبل المرأة؛ لأن الله تعالى بدأ به؛ فإن بدأت قبله لم يجزئها وأعادته بَعْدُ على ما رتبه الله ورسوله، كذا حكاه ابن بطال

(1)

.

وحكى ابن التين عن القاسم وأبي حنيفة صحته مع مخالفة السنة، وقال الشافعي وأشهب بالمنع ويعيده

(2)

.

فصل:

وفيه: التلاعن من قيام، قال الطبري: وهو قال على الاستحلاف قائمًا لكل حاكم في الأمر العظيم.

فصل:

وقوله: ("الله يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ") ظاهره يقتضي أنه قاله بعد الملاعنة؛ لأنه حينئذ تحقق الكذب ووجبت التوبة، وذهب بعضهم إلى

(1)

"شرح ابن بطال" 7/ 463.

(2)

انظر: "النوادر والزيادات" 5/ 340، "الأم" 5/ 277.

ص: 436

أنه إنما قاله قبل اللعان لا بعده تحذيرًا لهما ووعظًا، وكلاهما قريب من معنى الآخر، ويؤيد الأول حديث ابن عمر الآتي في باب: صداق الملاعنة.

فصل:

قال المهلب: وفيه دليل أن المختلفين المتضادين اللذين لا يكون الحق في قول واحد منهما يعذران في دعاويهما، ولا يعاقب كل واحد منهما بتكذيب صاحبه وإبطال قوله؛ لأنه عليه السلام عذر المتلاعنين في الحدود ولم يقم الحد بالتحالف

(1)

.

(1)

انظر: "شرح ابن بطال" 7/ 463.

ص: 437

‌29 - باب اللِّعَانِ وَمَنْ طَلَّقَ بَعْدَ اللِّعَانِ

5308 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ أَخْبَرَهُ، أَنَّ عُوَيْمِرًا الْعَجْلَانِيَّ جَاءَ إِلَى عَاصِمِ بْنِ عَدِىٍّ الأَنْصَارِيِّ فَقَالَ لَهُ: يَا عَاصِمُ، أَرَأَيْتَ رَجُلاً وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلاً، أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ، أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ؟ سَلْ لِي يَا عَاصِمُ عَنْ ذَلِكَ. فَسَأَلَ عَاصِمٌ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ، فَكَرِهَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْمَسَائِلَ وَعَابَهَا، حَتَّى كَبُرَ عَلَى عَاصِمٍ مَا سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا رَجَعَ عَاصِمٌ إِلَى أَهْلِهِ جَاءَهُ عُوَيْمِرٌ فَقَالَ: يَا عَاصِمُ، مَاذَا قَالَ لَكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ عَاصِمٌ لِعُوَيْمِرٍ: لَمْ تَأْتِنِي بِخَيْرٍ، قَدْ كَرِهَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْمَسْأَلَةَ الَّتِل سَأَلْتُهُ عَنْهَا. فَقَالَ عُوَيْمِرٌ: وَاللهِ لَا أَنْتَهِي حَتَّى أَسْأَلَهُ عَنْهَا. فَأَقْبَلَ عُوَيْمِرٌ حَتَّى جَاءَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَسَطَ النَّاسِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ رَجُلاً وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلاً، أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«قَدْ أُنْزِلَ فِيكَ وَفِي صَاحِبَتِكَ فَاذْهَبْ فَأْتِ بِهَا» . قَالَ سَهْلٌ: فَتَلَاعَنَا وَأَنَا مَعَ النَّاسِ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا فَرَغَا مِنْ تَلَاعُنِهِمَا قَالَ عُوَيْمِرٌ: كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللهِ إِنْ أَمْسَكْتُهَا. فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَكَانَتْ سُنَّةَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ. [انظر: 423 - مسلم: 1492 - فتح 9/ 446].

ذكر فيه حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أَنَّ عُوَيْمِرًا العَجْلَانِيَّ جَاءَ إلى عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ الأَنْصَارِيِّ فَقَالَ لَهُ: يَا عَاصِمُ، أَرَأَيْتَ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا؟ الحديث بطوله وفي آخره: فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ ابن شِهَابٍ: وكَانَتْ سُنَّةَ المُتَلَاعِنَيْنِ.

قد أسلفنا قريبًا عن الجمهور أن آية اللعان نزلت في عويمر عند الجمهور، وأن ابن أبي صفرة خالف فيه وتبعه الطبري حيث قال: يستنكر قوله في حديث هلال بن أمية، وإنما القاذف عويمر، وقد أسلفنا الجمع، وقصة هلال وقذفه زوجته بشريك سلفت في

ص: 438

الشهادات، والتفسير من هذا "الصحيح" كما مر بك

(1)

.

وفي "صحيح مسلم" من حديث أنس أن هلال بن أمية قذف امرأته بشريك بن سحماء فتلاعنا، وذلك أول لعان كان في الإسلام

(2)

.

ودعوى المهلب أظنه غلطًا من هشام غير جيد، فإن الترمذي لما ذكره قال: سألت محمدًا عنه، وقلت: روى عباد بن منصور هذا الخبر، عن عكرمة، عن ابن عباس مثل حديث هشام. وروى أيوب، عن عكرمة أن هلال بن أمية .. مرسلًا. فأي الروايات أصح؟ قال: حديث عكرمة عن ابن عباس هو محفوظ، ورآه حديثًا صحيحًا

(3)

.

قلت: وحديث عباد أخرجه أبو داود وفيه. فنزلت آية اللعان، فقال:"أبشر يا هلال"

(4)

.

وسئل أحمد فقال -فيما حكاه الخلال عنه-: حديث عباد منكر. قال مهنا: فقلت أيش من منكراته؟ فقال: حديث المتلاعنين كان يقول: عن عكرمة، ثم جعله عن ابن عباس.

قال أحمد: وكان يحيى بن سعيد يقول: كان عباد يحدث بحديثه هذا مرسلًا ليس فيه عن ابن عباس ولا النبي صلى الله عليه وسلم، ومراده أنه عليه السلام لاعن بالحمل، فإنه لما ذكره بعد كلامه الأول قال: هو باطل، إنما قال:"إن جاءت به" كذا وكذا.

قال أحمد: أخبرناه محمد، ثنا وكيع قال: وبلغني أن ابن أبي شيبة

(1)

سلف برقم (2671، 4747).

(2)

مسلم (1496) كتاب: اللعان، باب: وجوب الإحداد في عدة.

(3)

"العلل الكبير" 1/ 474.

(4)

أبو داود (2256).

ص: 439

أخرجه في كتابه أنه عليه السلام لاعن بالحمل، وهذا خطأ بين، وجعل يتعجب من إخراجه ومن خطئه في هذا، ثم قال: إنما الأحاديث التي جاءت عنه أنه قال: "لعله أن تجيء به كذا وكذا، فإن جاءت به كذا وكذا فهو كذا"

وروى ابن مردويه في "تفسيره" عن أبي الربيع، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما لما نزلت:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] قال سعد بن عبادة: يا رسول الله، إن أنا رأيت لكاعِ قد تفخذها رجل فلا أجمع الأربعة حتى يقضي حاجته، فابتلي ابن عمه هلال بن أمية، الحديث.

ثم ساق بإسناده عن عطاء وعكرمة، عن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بين هلال بن أمية وبين امرأته بعد الملاعنة. ومن حديث عاصم بن حبيب، عن ابن عباس: أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقذف امرأته فقال: "ألك بينة؟ " فقال: لا. فنزلت آية الملاعنة.

قال ابن أبي صفرة: ومما يدلس على أنها قصة واحدة توقف الشارع فيها حتى نزلت الآية، ولو كانت متعددة لم يتوقف عن الحكم فيها، ولحكم في الثانية بما أُنزل في الأولى.

وقد أسلفنا قرب نزولها، وكذا قال الخطيب الحافظ: إسناد كل من القصتين صحيح، ولعلهما اتفق كونهما كانا معًا في وقت واحد، أو في مقامين، فنزلت الآية في تلك الحال، لا سيما وفي حديث عويمر فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل، يدل على أنه كان سبق بالمسألة مع ما روي في حديث جابر أنه قال: ما نزلت آية اللعان إلا لكثرة السؤال.

وتبع ابن التين ابن أبي صفرة والطبري وقال: إنه الصحيح ونقله الماوردي في "حاويه" عن الأكثرين، وأن قصته أسبق من قصة عويمر.

ص: 440

وقال ابن الصباغ أيضًا في "شامله": قصة هلال تُبين أن الآية نزلت فيه أولاً، وقوله لعويمر:"قد أنزل فيك وفي صاحبتك" يعني: ما نزل في قصة هلال؛ لأن ذلك حكم عام لجميع الناس. قال ابن أبي صفرة: وقد روى ابن القاسم، عن ابن عباس أن العجلاني قذف امرأته كما روى ابن عمر، وسهل بن سعد. وأظنه غلط من هشام بن حسان، وقد سلف ما فيه.

وفي مسلم من حديث الليث بن سعد، عن يحيى بن سعيد، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن ابن عباس قال: ذكر التلاعن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عاصم بن عدي في ذلك قولًا ثم انصرف، فأتاه رجل يشكو إليه أنه وجد مع امرأته رجلاً

(1)

. الحديث.

فهذِه الرواية الصحيحة عن ابن عباس ليس فيها معارضة لما رواه هشام، عن عكرمة، عن ابن عباس أن هلالًا قذف امرأته بشريك؛ لأنه روى القصتين جميعًا، فروى لعكرمه قصة هلال أنه قذف امرأته بشريك. وروى القاسم بن محمد قصة عاصم ولم يعين فيها المقذوف، ويتأيد حديث هشام بما أسلفناه. وروى الشافعي عن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن ابن المسيب وعبيد الله بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إن جاءت به أشقر"

(2)

. وفي رواية "أمعر سبطًا فهو لزوجها، وإن جاءت به أدعج جعدًا فهو للذي يتهمه" قال: فجاءت به أدعج

(3)

.

(1)

"مسلم"(1497) كتاب اللعان.

(2)

"الأم" 5/ 112.

(3)

"اختلاف الحديث" ص 185.

ص: 441

فصل:

قال الشافعي: في حديث ابن أبي ذئب دليل على أن سهل بن سعد قال: فكانت سنة المتلاعنين. وفي حديث مالك وإبراهيم بن سعد كأنه قول ابن شهاب، وقد يكون هذا غير مختلف، يقوله مرة ابن شهاب ولا يذكر سهلاً، ويقوله مرة أخرى ويذكر سهلا

(1)

.

وروى ابن إسحاق وتفرد به عن ابن شهاب فيما ذكره الدارقطني عن سهل: لاعن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما بعد العصر، فلما تلاعنا قال: يا رسول الله ظلمتها إن أمسكتها فهي الطلاق، فهي الطلاق، فهي الطلاق.

وعند مسلم: فلما فرغا طلقها ثلاثًا قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وفي لفظ: فقال عليه السلام: "ذاكم التفريق بين كل متلاعنين"

(2)

، وللدارقطني بإسناد جيد ففرق النبي صلى الله عليه وسلم بينهما وقال:"لا يجتمعان أبدًا"

(3)

. وقال أبو داود عن سهل: مضت السنة في المتلاعنين أن يفرق بينهما ثم لا يجتمعان أبدًا

(4)

.

وفي لفظ قال- عليه السلام -لعاصم: "أمسك المرأة عندك حتى تلد"

(5)

.

ولأبي داود من حديث ابن عباس في قصة هلال: ففرق عليه السلام بينهما وقضى ألا يدعى ولدها لأب ولا يُرمى ولا تُرمى، ومن رماها أو رمى ولدها فعليه الحد، وقضى أن لا بيت لها عليه ولا قوت؛ لأنهما يفترقان

(1)

"الأم" 5/ 112.

(2)

مسلم (1492) كتاب اللعان.

(3)

"السنن" 3/ 275.

(4)

أبو داود (2250).

(5)

رواه أبو داود (2246).

ص: 442

من غير طلاق، ولا متوفى عنها، وقال: "إن جاءت به أصيهب أريضخ أُثيبج

(1)

حمش الساقين فهو لهلال، وإن جاءت به أورق جعدًا جماليًّا خدلج الساقين سابغ الأليتين فهو للذي رماها به".

قال عكرمة: فكان ولدها بعد ذلك أميرًا على مصر ولا يدعى لأب

(2)

. قلت: ذكر ابن سعد أن المولود عاش سنتين ثم مات، وعاشت أمه بعده يسيرًا، ولم يذكره الكندي وغيره في أمراء مصر فليتأمل

(3)

.

قال أبو عبد الله -فيما رواه الخلال- عن سفيان بن عيينة في قلة ما روى عن الزهري: أخطأ في نحو (من)

(4)

أحد عشر حديثًا منها حديث المتلاعنين، يقول سفيان في حديث الزهري: ففرق بينهما، وإنما قال الزهري: هي الطلاق، إن أمسكتها فقد كذبت عليها.

وصحح الترمذي من حديث مالك، عن نافع، عن ابن عمر أنه- عليه السلام لاعن بين رجل وامرأته وألحق الولد بأمه

(5)

.

وقال أبو داود: قال أبو عبد الله: روى مالك عن نافع أشياء لم يروها غيره منها أن عمر ألحق ولد الملاعنة بأمه.

وقال الداودي عن يحيى في اللعان وألحق الولد بأمه: ليس يقول

(1)

ورد بهامش الأصل: الأثيبج تصغير الأثبج والثبج: أي: ما بين الكتفين والكاهل ورجل أثبج أيضًا أحدب.

(2)

أبو داود (2256).

(3)

ورد بهامش الأصل: الظاهر أن مراده على مصر من الأمصار، لا البلد المعروف. والله أعلم.

(4)

من (غ).

(5)

مسلم (1495) كتاب اللعان.

ص: 443

هذا إلا مالك. وعند مسلم عن ابن مسعود قال: فذهبت المرأة تلتعن، فقال لها عليه السلام:"مه" فأبت فَلَعَنت

(1)

.

فصل:

روى الواقدي عن الضحاك بن عثمان، عن عمران بن أبي أنس، عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب في حضوره عليه السلام حين لاعن بين عويمر وامرأته، وأنكر حملها الذي في بطنها، وقال: من ابن السحماء.

وللنسائي بإسناد جيد عن ابن عباس أنه عليه السلام أمر رجلاً حين أمر المتلاعنين أن يضع يده عند الخامسة على فيه، وقال "إنها موجبة"

(2)

.

وأوضحه مقاتل في "تفسيره" وساقه أحسن سياق، وسمى المرأة، لما قرأ عليه السلام على المنبر يوم الجمعة هاتين الآيتين يعني:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4]، قال عاصم بن عدي: يا رسول الله لو أن رجلاً منا وجد على بطن امرأته رجلاً فيتكلم يجلد ثمانين، ولا تقبل له شهادة في المسلمين ويسمى فاسقًا (فكيف)

(3)

لأحدنا عند ذلك بأربعة شهداء، إلى أن يلتمس أحدنا أربعة شهداء فرغ الرجل من حاجته، فأنزل الله:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6]

الآيات الثلاث، فابتلى الله عاصمًا بذلك يوم الجمعة الأخرى؛ أتاه ابن عمه عويمر وتحته ابنة عمه أخي أبيه خولة بنت قيس فرماها بابن عمه شريك، وكلهم من بني عمرو بن عوف، وكلهم بنو عم، (فجاء)

(4)

عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: أرأيت سؤالي

(1)

"سنن الترمذي"(1203).

(2)

"المجتبى" 6/ 175.

(3)

من (غ).

(4)

من (غ).

ص: 444

عن هذِه الآية، قد ابتليت بها في أهل بيتي، فأرسل عليه السلام إلى الزوج والخليل والمرأة، فقال لعويمر:"اتق الله في حليلتك وابنة عمك". فقال: أقسم بالله أني رأيته معها على بطنها وإنها لحبلى منه، وما قربتها منذ أربعة أشهر، فقال عليه السلام لخولة بنت قيس:"ويحك ما يقول زوجك؟ " فقالت: أحلف بالله لكاذب ولكنه غار، ولقد رآني معه نطيل السَّمَرَ بالليل والجلوسَ بالنهار فما رأيت ذلك في وجهه ولا نهاني عنه قط، فقال عليه السلام للخليل:"ويحك ما يقول ابن عمك؟ " فحداه بمثل قولها؛ فقال للزوج والمرأة: "قوما" وأحلفهما. فقام الزوج عند المنبر في دبر صلاة العصر يوم الجمعة فقال: أشهد بالله أن فلانة -يعني: خولة- زانية، ولقد رأيت شريكًا على بطنها، وإني لمن الصادقين.

ثم قال: أشهد أن فلانة زانية، هاني لمن الصادقين، ثم قال: أشهد بالله أن خولة زانية وإنها لحبلى من غيري، وإني لمن الصادقين. ثم قال: أشهد بالله أن خولة زانية وما قربتها من منذ أربعة أشهر، وإني لمن الصادقين. ثم قال: لعنة الله على عويمر إن كان من الكاذبين عليها في قوله.

وقامت خولة بنت قيس مقام زوجها فقالت: إني أشهد بالله ما أنا بزانية، وإن زوجي لمن الكاذبين. ثم قالت: أشهد بالله ما أنا بزانية، وما رأى شريكًا على بطني، وإن زوجي لمن الكاذبين. ثم قالت: أشهد بالله ما أنا بزانية وأن الحبل لمنه، هانه لمن الكاذبين.

ثم قالت: أشهد بالله ما أنا بزانية وما رأى عليَّ زوجي من ريبة ولا فاحشة، وإنه لمن الكاذبين.

ص: 445

ثم قالت: غضب الله على خولة إن كان عويمر من الصادقين في قوله.

ففرق النبي صلى الله عليه وسلم بينهما، وكان الخليل رجلاً أسود ابن حبشية، وقال عليه السلام:"إذا ولدت فلا ترضع ولدها حتى تأتوني به" فأتوه بولدها فإذا هو أشبه الناس بالخليل. فقال: "لولا ما قد مضى لكان لي ولها أمر".

قال مقاتل: إن صدقت المرأة زوجها لم يلاعنها، وإن كان زوجها جامعها رجمت ويرثها زوجها، وإن كان لم يجامعها جُلدت مائة جلدة، وهي امرأته، وإن رجع الزوج عن قوله قبل أن يفرغا من الملاعنة جلد ثمانين جلدة وكانت امرأته كما هي.

فائدة:

خولة هذِه قد صرح مقاتل بأنها الملاعنة، وسماهابنت قيس، وأما ابن منده وأبو نعيم فقالا: إن (الذي)

(1)

لاعنها هلالٌ خولةُ بنت عاصم

(2)

، وخولةُ بنت قيس لم أجد أحدًا ممن ألف في الصحابة ولا المبهمات ذكرها.

فصل:

في "المستدرك" على شرط البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما كان شريك أخا البراء بن مالك -أخي أنس بن مالك- لأمه، وكانت أمهما أمةً سوداء، كان شريك يأوي إلى منزل هلال بن أمية ويكون عنده

(3)

.

(1)

كذا في الأصل، والجادة التي والله أعلم.

(2)

"معرفة الصحابة" لأبي نعيم 6/ 3314 (3850).

(3)

"المستدرك" 2/ 202.

ص: 446

فصل:

في "تفسير ابن مردويه" من حديث ابن إسحاق، عن العباس بن سهل، عن أبيه: لما تلاعنا قال عليه السلام لعاصم: "اقبضها حتى تلد، فإن جاءت به أحيمر مثل النبقة فهو الذي انتفى منه، وإن تلده قطيط الشعر أسود اللسان فهو الذي رميت به".

قال عاصم: فلما ولدته أتت به، والله لكأن رأسه فروة جمل أسود، فأخذت بفقميه فاستقبلني لسانه مثل التمرة السوداء، فقلت: صدق الله ورسوله.

وفي حديث أنس: "إن جاءت به آدم جعدًا حمش الساقين فهو لشريك، وإن جاءت به أبيض قصير العرنين سبط الشعر فهو لهلال".

وفي حديث محمد بن علقمة، عن الهيثم بن حميد، عن ثور بن يزيد، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن رجلاً من بني زريق قذف امرأته، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فرد ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع مرات، فأنزل الله آية الملاعنة، فقال عليه السلام:"أين السائل، فقد نزل فيك من الله أمر عظيم؟ " فأبى الرجل إلا أن يلاعنها، وأبت هي إلا أن تدرأ عن نفسها العذاب، فتلاعنا، فقال عليه السلام: "إن جاءت به أصفر أخنس (منسول)

(1)

العظام فهو للملاعن، وإن جاءت به أسود كلالجمل الأورق فهو لغيره". فجاءت به أورق، فدعا به عليه السلام فجعله لعصبة أمه

(2)

.

(1)

في الأصول: منشور، والمثبت من مصادر التخريج غير أنه في النسائي قال: منشول.

(2)

رواه النسائي في "الكبرى" 4/ 78 (6362)، والطبراني في "مسند الشاميين" 1/ 288 (501)، والدارقطني 3/ 275.

ص: 447

فصل:

في "علل الخلال" عن ابن إسحاق قال: ذكر عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ولد المتلاعنين أنه يرث أمه، ويرثه ورثة أمه، ومن نفاها جلد ثمانين.

قال أبو عبد الله

(1)

: هذا حديث مرسل. وقال في موضع آخر: ابن إسحاق إذا قال: وذُكِرَ، فلم يسمعه.

فصل:

ذكر ابن عساكر في كتاب "من وافقت كنيته كنية زوجته" من حديث الفضل بن دلهم، عن الحسن، عن قبيصة بن حريث، عن سلمة بن المحبق قال: قيل لأبي ثابت سعد بن عبادة حين نزلت الحدود، وكان رجلاً غيورًا: أرأيت لو رأيت مع أم ثابت رجلاً أيش كنت تصنع؟ قال: كنت ضاربها بالسيف، أنتظر حتى آتي بأربعة شهداء، أو أقول: رأيت كذا فتضربوني الحد ولا تقبلوا لي شهادة أبدًا؟!

قال: فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "كفى بالسيف شاهدًا"، ثم قال:"لا إني أخاف أن يتتابع في ذلك السكران والغيران"

(2)

.

(1)

يعني: الإِمام أحمد رحمه الله.

(2)

رواه أبو داود (4417)، وابن ماجه (2606) من طريق الفضل بن دلهم عن الحسن، زاد ابن ماجه عن قبيصة بن حريث عن سلمة بن المحبق.

قال الهيثمي في "المجمع" 6/ 265: رواه الطبراني، وفيه الفضل بن دلهم وهو ثقة، وأنكر عليه هذا الحديث من هذِه الطريق فقط، وبقية رجاله ثقات. اهـ.

وقال البوصيري في "زوائد ابن ماجه" ص 352 (872): إسناد حديث سلمة بن المحبق فيه مقال، قبيصة بن حريث أو حريث بن قبيصة قال البخاري: في حديثه نظر، وذكره ابن حبان في "الثقات" وباقي رجال الإسناد موثقون. اهـ.

والحديث ضعفه الألباني في "ضعيف ابن ماجه"(568).

ص: 448

وروى أبو عوانة عن حصين، عن الشعبي، عن عاصم بن عدي قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] قلت: يا رسول الله: إلى أن أجيء بالأربعة، خرج الرجل. فما قام من مكانه حتى أتى ابن عمه وامرأته، معها صبي تحمله، يقول: ليس هو مني. وتقول: هو منه. فنزلت آية الملاعنة.

قال عاصم: فأنا أول من تكلم وأول من ابتلي به.

وأخرجه الحاكم، وقال: على شرط مسلم من حديث أبي هريرة سمع النبي صلى الله عليه وسلم حين نزلت آية الملاعنة. الحديث

(1)

.

وأخرجه البزار من حديث حذيفة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لو رأيت مع أم رومان رجلًا ما كنت فاعلًا به؟ " قال: كنت والله فاعلًا به شرًّا قال: "فأنت يا عمر" قال: والله كنت قاتله. فنزلت الآية. وهذا والذي قبله نمط آخر. قال البزار: لا أعلم أحدًا أسنده الا النضر بن شميل، عن يونس بن أبي إسحاق، عن أبيه، عن زيد بن يُثيع، عن حذيفة. ثم ساقه بإسقاط حذيفة

(2)

.

وروى الواحدي من حديث علقمة عن عبد الله قال: إنا ليلة الجمعة في المسجد إذ دخل رجل من الأنصار فقال: لو أن رجلاً وجد مع امرأته رجلاً؛ فإن تكلم جلدتموه، وإن قتل قتلتموه، وإن سكت سكت على غيظ، والله لأسألن عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما كان من الغد أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله فقال:"اللهم افتح" وجعل يدعو، فنزلت آية اللعان الحديث

(3)

. وهو في "صحيح مسلم" أيضًا

(4)

.

(1)

"المستدرك" 2/ 203.

(2)

"البحر الزخار" 7/ 343 - 344.

(3)

"أسباب النزول" ص 328 (634).

(4)

مسلم (1495) كتاب اللعان.

ص: 449

وقال مهنا: سألت أحمد عنه أنه عليه السلام لاعن من رجل وامرأته، وقال:"عسى أن تأتي به أسود جعدًا" فجاءت به أسود جعدًا. فقال أحمد: ليس بصحيح، إنما هو عن عبد الله مرسلًا ليس فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال البيهقي في "معرفته": وهذا الحديث وإن كان مختصرًا رواه عبدة، وغيره عن سليمان في قصة المتلاعنين، ففي مبسوطها دليل على أنه قصد به نفي الحمل خلاف قول من زعم أنه لم يقصده

(1)

. وذكر الفراء في "معانيه" أنها نزلت في عاصم بن عدي لما أنزل الله الشهود الأربعة قالوا: يا رسول الله إن دخل أحدنا فرأى على بطنها -يعني: امرأته- رجلاً احتاج إلى أن يخرج فيأتي بأربعة، فابتلي بها عاصم من بين الناس، فدخل على امرأته وعلى بطنها رجل، فلاعن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما وذلك أنها كذبته الحديث

(2)

.

وروى ابن ماجه من حديث ابن إسحاق ذكر طلحة بن نافع، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: تزوج رجل من الأنصار امرأة فبات عندها، فلما أصبح قال: ما وجدتها عذراء، فرفع (شأنها)

(3)

إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، (فدعا الجارية)

(4)

فسألها فقالت: بلى قد كنت عذراء، فأمر بهما فتلاعنا وأعطاها المهر

(5)

.

(1)

"معرفة السنن والآثار" 11/ 155.

(2)

"معاني القرآن" 2/ 246.

(3)

من (غ).

(4)

من (غ).

(5)

ابن ماجه (2070) قال البوصيري في "زوائد ابن ماجه" ص 290 (690): هذا إسناد ضعيف لتدليس محمد بن إسحاق. اهـ.

والحديث ضعفه الألباني في "ضعيف ابن ماجه"(448).

ص: 450

فصل:

في قول عويمر المقالة السالفة، وسكوت الشارع على ذلك ولم يقل له: لا تقتله دليل على أن من قتل رجلاً وجد مع امرأته أنه يقتل به إن لم يأت ببينة تشهد بزناه بها، وبه حكم علي أيضًا، إن لم يعط بأربعة شهداء فليعط برمته

(1)

.

فإن قلت: قد روي عن عمر وعثمان أنهما أهدرا دمه. قيل: إن صح عنهما ذلك، فإنهما أهدرا دمه؛ لأن البينة قامت عندهما بصحة ما ادعاه القاتل على الذي قتله، وستأتي أقوال العلماء فيه.

فصل:

فيه: أن التلاعن لا يكون إلا عند السلطان، أو عند من استخلفه من الحكام، وليس كالطلاق، وهو إجماع.

فصل:

في قول عويمر: (أرأيت رجلاً وجد مع امرأته رجلاً) دلالة أن اللعان يجري بين كلٍّ من الزوجين؛ لأنه لم يخص رجلاً من رجل ولا امرأة من امرأة، ولذلك قال تعالى:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] ولم يخص زوجًا من زوج، ففي هذا حجة للشافعي ومالك في أن العبد كالحر في قذفه ولعانه، غير أنه لا حد على من قذف مملوكًا لقوله تعالى:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] وهن الحرائر المسلمات، والأمة المسلمة والحرة اليهودية أو النصرانية تلاعن الحر المسلم، وكذلك للعبد وإن تزوج الحرة المسلمة أو الأمة المسلمة أو الحرة

(1)

رواه مالك في "الموطأ" ص 459 - 460، وابن أبي شيبة 5/ 447 - 448 (27870).

ص: 451

اليهودية أو النصرانية لاعنها

(1)

. وبه قال الشافعي.

وقال أبو حنيفة والثوري إذا كان أحد الزوجين مملوكًا أو ذميًّا، أو كانت المرأة مما لا يجب على قاذفها الحد، فلا لعان بينهما إذا قذفها

(2)

.

فصل:

واختلف العلماء في صفة الرمي الموجب للعان، فقال مالك في المشهور عنه: أن اللعان لا يكون حتى يقول الرجل لامرأته: رأيتها تزني أو ينفي حملانها أو ولدانها، وحديث سهل هذا وإن لم يكن فيه تصريح بالرؤية فإنه قد جاء التصريح بذلك في حديث ابن عباس وغيره في قصة هلال بن أمية، أنه وجد مع امرأته رجلاً فقال: يا رسول الله رأيت بعيني، وسمعت بأذني؛ فنزلت آية اللعان، ذكره الطبري وغيره

(3)

.

وقال الثوري والكوفيون والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد وداود وأصحابه، وهو قول جمهور العلماء وعامة الفقهاء وجماعة أصحاب الحديث أنه من قال لزوجته: يا زانية، وجب اللعان إن لم يأت بأربعة شهداء، وسواء قال لها: يا زانية، أو: زنيت ولم يدَّع رؤية.

وقد روي هذا القول عن مالك أيضًا، وحجته عموم {يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} كما قال {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] فأوجب بمجرد القذف الحد على الأجنبي إن لم يأت بأربعة شهداء وأوجب على الزوج اللعان إن لم

(1)

"الموطأ" ص 351، "الأم" 5/ 273.

(2)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 2/ 500، "الإشراف" 1/ 240.

(3)

الطبري 9/ 272، ورواه أيضًا أبو داود (2256)، وأحمد 1/ 238، أبو يعلى 5/ 124 - 125 من حديث ابن عباس.

ص: 452

يأت بأربعة شهداء، فسوى بين الذميين بلفظ واحد.

وقد أجمعوا أن الأعمى يلاعن، ولا تصح منه الرؤية، وإنما يصح لعانه من حيث يصح وطؤه لزوجته

(1)

.

وذكر ابن القصار عن مالك أن لعانه لا يصح إلا أن يقول: لمست فرجه في فرجها

(2)

.

فصل:

ذهب جمهور العلماء إلى أن بتمام اللعان منهما تقع الفرقة بينهما، منهم مالك والشافعي إلا أن مالكًا يقول بلعانهما جميعًا. والشافعي وسحنون بلعان الرجل وحده

(3)

. وقال أبو حنيفة ومحمد وعبيد الله بن الحسن: هو واحد. وحكاه ابن أبي شيبة عن ابن المسيب وإبراهيم

(4)

.

وقال مالك والشافعي: هو فسخ

(5)

، لنا أنها تحصل بغير لفظ، فأشبهت الفرقة بالرضاع والردة، وتظهر فائدة الخلاف بيننا وبينه كما قال المتولي فيما إذا علق طلاق امرأة أخرى، بوقوع طلاق هذِه، ولاعن هذِه.

وشذ قوم من أهل البصرة منهم عثمان البتي فقالوا: لا تقع الفرقة ولا تأثير للعان فيها وإنما يسقط النسب والحد وهما على الزوجة كما كانا حتى يطلق الزوج

(6)

.

(1)

انظر ما سبق في "الاستذكار" 17/ 208 بتصرف.

(2)

انظر: "شرح ابن بطال" 7/ 466.

(3)

انظر: "مختصر الطحاوي" ص 215، "الاستذكار" 17/ 223.

(4)

ابن أبي شيبة 4/ 116.

(5)

انظر: "عيون المجالس" 3/ 1313، "روضة الطالبين" 8/ 356.

(6)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 2/ 505.

ص: 453

وذكر الطبري: أنه قول أبي الشعثاء جابر بن زيد، واحتج أهل هذِه المقالة بقول عويمر:(كذبت عليها إن أمسكتها، فطلقها ثلاثًا).

(قالوا)

(1)

: ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك عليه، ولم يقل له: لم قلت وأنت لا تحتاج إليه؟ لأنها باللعان قد طلقت. فقال لهم مخالفوهم: لا حجة لكم في حديث عويمر؛ لأن قوله ذلك وطلاقه إنما كان منه؛ لأنه لم يظن أن الفرقة تحصل باللعان، ولو كان عنده أن الفرقة تحصل بها لم يقل هذا، وقد جاء في حديث ابن عمر وابن عباس بيان هذا أنه عليه السلام فرق بينهما. وقال:"لا سبيل لك عليها" فطلاق عويمر لها لغو، ولم ينكر ذلك الشارع؛ لأنه يحتمل أن يكون العجلاني أراد التأكيد، أي أنها لو لم تقع الفرقة وأمسكها فهي طالق ثلاثًا.

فإن قال من يذهب إلى قول البتي قول ابن عمر وابن عباس أنه عليه السلام فرق بين المتلاعنين إنما كان في قصة عويمر، وكان طلاقها بعد اللعان فكذلك فرق بينهما.

وقد روى ابن شهاب عن سهل بن سعد قال: فطلقها العجلاني ثلاث تطليقات، فأنفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال الطبري: يحتمل أنه فرق بينهما بعد اللعان ثم طلقها ثلاثًا حتى يكون تفريقه عليه السلام واقعًا موقعه على ما روى ابن عمر، وقد قال الأكثرون: لا يجوز أن يمسكها ويفرق بينهما، وقد استحب الشارع الطلاق بعد اللعان ولم يستحبه قبله، فعلم أن اللعان قد أحدث حكمًا.

(1)

من (غ).

ص: 454

فصل:

وقد احتج من قال: إن الثلاث لا بدعة فيها بقصة عويمر، ولم ينكر الشارع عليه، ولو كانت بدعة لبينه وأنكره، وقال: لا يجوز ذلك.

فصل:

ذكر في حديث سهل في الباب بعده: "إن جاءت به أحمر قصيرًا كأنه وحرة" إلى آخره. وذكر فيه أوصافا أُخر بعد. وفي لفظ: "إن جَاءَتْ بِهِ أَسْحَمَ"، وهو بالسين والحاء المهملتين، وهو الأسود كلون الغراب، يقال لليل: أسحم، وللسحاب الأسود: أسحم.

ومنها أدعج وهو شديد سواد الحدقة. قال أبو موسى المديني: هو عند العرب السواد في العين وغيرها، وعند العامة سواد الحدقة فقط. والأديعج تصغير أدعج، والدعجاء الليلة الثامنة والعشرون سميت بذلك لشدة سوادها

(1)

والخدلج: العظيم الساقين، وامرأة خدلجة ضخمة الساقين والذراعين، والأحيمر تصغير أحمر، والأحمر: الأبيض لأن العمرة تبدو في البياض، ولا تبدو في السواد، ومنه الحديث "بُعثتُ إلى الأسودِ والأحمرِ"

(2)

.

قال أبو موسى المديني: سُئل ثعلب: لم خص الأحمر دون الأبيض، قال: لأن العرب لا تقول رجل أبيض من بياض اللون، إنما الأبيض عندهم الطاهر النقي من العيوب

(3)

.

(1)

"المجموع المغيث" 1/ 657 - 658.

(2)

رواه الإِمام أحمد من حديث ابن عباس 1/ 301، وجابر 3/ 304، وأبي موسى 4/ 416، وأبي ذر 5/ 145، 147، رضي الله عنهم.

(3)

"المجموع المغيث" 1/ 496.

ص: 455

والوحرة بفتح الواو والحاء المهملة، والمراد دويبة حمراء كالعظاءة تلزق بالأرض، وقيل: هي الوزغة، وقيل: نوع من الوزغ يكون في الصحاري

(1)

.

فصل:

ينعطف على ما مضى في عدم بدعة الثلاث؛ قال الشافعي: يحتمل طلاقه ثلاثًا أن يكون بما وجد في نفسه لعلمه بصدقه وكذبها وجرائتها على اليمين طلقها ثلاثًا جاهلاً بأن اللعان فرقةٌ، فكان كمن طلق من طلق عليه بغير طلاقه، وكمن شرط العهدة في البيع والضمان في السلف، وهو يلزمه شرط أو لم يشرط، وتفريق الشارع غير فرقة الزوج إنما هو تفريق حكم.

فصل:

وقوله عليه السلام: "أحدكما كاذب" هو من باب الحكم بالظاهر والله ولي ما غاب عنه

(2)

.

فصل:

قال بعض الناس: لا يلاعن بالحمل، ولعله ريح، وزعم أنه لا ينفي الولد بعد الولادة يعني: إذا لاعن وهي حامل

(3)

، وقد سلف الحديث الوارد فيه بما فيه وستعمله أيضًا.

فصل:

قال الشافعي: فلما تلاعنا حكم عليه السلام على الصادق والكاذب حكمًا واحداً فأخرجهما من الحد.

(1)

انظر: "لسان العرب" 8/ 4783.

(2)

"الأم" 5/ 115.

(3)

انظر: "معرفة السنن والآثار" 11/ 152.

ص: 456

وقال في رواية ابن عباس: "لولا، ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن" فأخبر بصفتين في إحداهما دلالة صدق الزوج، ولم يستعمل الدلالة، وأنفذ عليها ظاهر حكم الله، ولو جاءت دلالة كذب الزوج لكان لا يستعمل الدلالة أيضًا وأنفذ ظاهر الحكم، لكنه -والله أعلم- ذكر غلبة الأشباه الدالة على صدق أحدهما حتى إذا لم تكن حجة أقوى منها يستدل بها في إلحاق الولد بأحد المتلاعنين عند الاشتباه، وأخبر بأنه إنما منعه من استعمالها هنا ما هو أقوى بها، وهو حكم الله باللعان؛ لا أنها أتت به على الصفة الأولى كان يلحقه بالزوج.

وكيف يجوز أن يسوي الأخبار على مذهبه وهو ذا لا يسوي أن يستدل بهذا على أنه لم يكن مقصود الزوج نفي الحمل. وفيما ذكرنا من الأخبار أنها كانت حاملًا وأنه أنكر حملها، وأن الشارع لاعن بينهما قبل وضع الحمل، ثم ألحقه بأمه ونفاه عنه، وعنده الولد في مثل هذا يلحق به لكل حال، أشبهه أولم يشبهه، ونحن لا نرى خلافًا للحديث أبين من هذا، والله المستعان

(1)

.

فصل:

فيه دليل أيضًا على أن الزوج إذا التعن لم يكن للرجل الذي رماه بامرأته عليه حد.

قال الشافعي: إذا أكمل الزوج الشهادة والالتعان فقد زال فراش امرأته ولا تحل له أبدًا بحال، وإن أكذب نفسه لم تعد إليه، وإنما قلت هذا؛ لأن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"الولد للفراش" فلا يكون فراشًا

(1)

انظر: "معرفة السنن والآثار" 11/ 154.

ص: 457

أبدًا

(1)

، وكان معقولًا في حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ألحق الولد بأمه أنه نفاه عن أبيه، وأن نفيه عن أبيه بيمينه والتعانه لا بيمين أمه على كذبه بنفيه

(2)

.

ولما قال له عليه السلام: "لا سبيل لك عليها" استدللنا به على أن (المتلاعنين)

(3)

لا يتناكحان

(4)

أبدًا إذ لم يقل: إلا أن يكذب نفسه أو يفعل كذا، كما قال في المطلق الثالثة {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230]. وروى الذين خالفونا في هذا حديثًا عن عمر وعلي وابن مسعود أنهم قالوا في المتلاعنين: لا يجتمعان أبدًا، ورجع بعضهم إلى قولنا، وفيه أبى بعضهم الرجوع إليه وقال: لا (يجتمعان)

(5)

أبدًا ما داما على لعانهما.

قال الشافعي: فقلت له: أَو تعلم حديثًا لا يحتمل أن يوجه وجوهًا إلا قليلاً، وإنما الأحاديث على ظاهرها حتى تأتي دلالة تخبر عن الذي حمل الحديث عنه، أو إجماع من الناس على توجيهها، وظاهر السنة وما رويتم عن عمر وصاحبيه على ما قلنا

(6)

.

وممن قال: إنه إذا أكذب نفسه له أن يتزوجها. ابن المسيب والشعبي وحماد، ذكره ابن أبي شيبة بأسانيد جيدة

(7)

.

(1)

كذا في الأصول، والكلام ناقص وتمامه بعد قول النبي صلى الله عليه وسلم:"الولد للفراش". وكانت فراشًا فلم يجز أن ينفي الولد عن الفراش إلا بأن يزول الفراش فلا يكون فراشًا أبدًا. اهـ.

(2)

"الأم" 5/ 280.

(3)

في الأصول: (المتناكحين)، والمثبت من "معرفة السنن".

(4)

في الأصول: يجتمعان، والمثبت من "معرفة السنن".

(5)

في الأصول: يمنعان، والمثبت من "معرفة السنن".

(6)

انظر: "معرفة السنن والآثار" 11/ 165.

(7)

"ابن أبي شيبة" 4/ 20، 21.

ص: 458

زاد أبو عمر ابن عبد البر إبراهيم وابن شهاب على اختلاف عنهما، والحسن والضحاك

(1)

، فإن قلت: في الحديث: "لا سبيل لك عليها".

قيل: ظن الملاعن أن له المطالبة بالمهر، يدل عليه قوله بعد: يا رسول الله، مالي. قال:"لا مال لك"

قال ابن عبد البر: ومن حجة أبي حنيفة قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] فلما لم يجمعوا على تحريمها دخلت تحت عموم هذِه الآية. ومن جهة النظر لما لحق الولد وجب أن يعود الفراش؛ لأن كل واحد منهما يقتضيه عقد النكاح ويوجبه

(2)

.

فصل:

تأول ابن نافع المالكي قوله: (فكانت سنة المتلاعنين) على استحباب إظهار الطلاق بعد اللعان، والجمهور على أن معناه حصول الفرقة بنفس اللعان. وقوله: ذلكم التفريق بين كل متلاعنين، تأوله مالك والشافعي وغيرهما، على أن الفرقة تحصل بنفس اللعان بينهما

(3)

، وقيل: معناه تحريمها على التأبيد.

وأبو حنيفة ومن تابعه -وهو مذهب الثوري وأحمد-

(4)

استدلوا على أن الفرقة (لا تقع)

(5)

إلا بحكم حاكم، لقوله: إنه عليه السلام فرق بينهما، ولو كانت الفرقة واقعة باللعان لاستحال التفريق بعدها، وبقوله:(كذبت عليها إن أمسكتها) لأن فيه إخبارًا بأنه ممسك لها بعد اللعان،

(1)

"الاستذكار" 17/ 236.

(2)

"التمهيد" 6/ 202.

(3)

"المدونة" 2/ 337، "الأم" 5/ 280.

(4)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 2/ 505، "الاستذكار" 17/ 223.

(5)

من (غ).

ص: 459

إذ لو كانت الفرقة وقعت قبل ذلك لاستحال قوله: (كذبت عليها). وهو غير ممسك لها بحضرة الشارع، ولم ينكر عليه.

قال الرازي: فدل على أن الفرقة لم تقع بنفس اللعان، إذ غير جائز أن يقره على الكذب ولا على استباحة نكاح بطل

(1)

.

فصل:

قوله في الباب الآتي: (ثم جرت السنة في ميراثها أنها ترثه ويرث عنها ما فرض الله لها) أي: وهو الثلث في حالة عند عدم الفرع والإخوة، والسدس أحرى عند وجود ذلك.

ثم إذا دفع إلى أمه فرضها أو إلى أصحاب الفروض وبقي شيء فهو لموالي أمه؛ فإن لم يكن لها موالي فلبيت المال، قاله الشافعي ومالك وأبو ثور، وقبلهم الزهري وجماعة الفقهاء.

وقال الحكم وحماد: يرثه ورثة أمه، وقال آخرون: عصبته عصبة أمه، روي هذا عن علي وابن مسعود وعطاء وأحمد، قال أحمد: فإن انفردت الأم أخذت جميع ماله بالعصوبة.

وقال أبو حنيفة: إذا انفردت أخذت الجميع، الثلث بالفرض والباقي بالرد على قاعدته

(2)

.

فصل:

قد أسلفنا أن المرمي به شريك بن سحماء، وهو ابن عبدة بن (مغيث بن الجد)

(3)

بن العجلاني

(4)

.

(1)

"أحكام القرآن" 3/ 437.

(2)

انظر: "الاستذكار" 15/ 510 - 511.

(3)

في الأصول: (الجد بن مغيث)، والمثبت من مصادر التخريج.

(4)

انظر: ترجمته في "أسد الغابة" 2/ 522، "الإصابة" 2/ 150.

ص: 460

وعبدة -بفتح العين والباء المفتوحة أيضًا- شهد بدرًا، ووالد عبدة مغيث بغين معجمة وثاء مثلثة كذا عند الدارقطني وابن ماكولا

(1)

، وضبطه النووي بعين مهملة، ثم مثناة فوق، ثم موحدة

(2)

.

والجَدُّ بفتح الجيم وتشديد الدال ابن العجلاني بن حارثة -بحاء مهملة- ابن ضبيعة البلوي العجلاني.

شهد شريك مع أبيه أحدًا، وقال الكلبي: أبوه الذي شهد أحدًا، وأما هو فلم يشهدها.

قال ابن سعد: وكان شريك عند الناس بحال سوء بعد، ولم يبلغنا أنه أحدث توبة ولا نزع. وقال أبو نعيم الحافظ: لم يكن اسمه شريكًا إنما كان بينه وبين ابن السحماء شركة

(3)

.

فصل:

نقل القرطبي عن الشافعي أنه لا حد للرامي زوجته إذا سمى الذي رماها به ثم التعن، ورأى أنه التعن لهما. وعند مالك أنه يحد ولا يكتفي بالتعانه؛ لأنه إنما التعن للمرأة ولم يكن له ضرورة إلى ذكره، بخلاف المرأة؛ فهو إذًا قاذف فيحد، قال: واعتذر بعض أصحابنا عن حديث شريك بأنه كان يهوديًّا، وأيضًا فلم يطلب شيئًا من ذلك وهو حقه فلا متعلق في الحديث

(4)

. قلت: الأول باطل كما عرفته.

قال الرازي: كان حد قاذف الأجنبيات والزوجات الجلد. والدليل عليه قوله في الحديث: "البينة وإلا حد في ظهرك"، فثبت بذلك أن حد

(1)

"المؤتلف والمختلف" 4/ 2072، "الإكمال" 7/ 415.

(2)

"تهذيب الأسماء واللغات" 1/ 244.

(3)

"معرفة الصحابة" 3/ 1475.

(4)

"المفهم" 4/ 300 - 301.

ص: 461

قاذف الزوجات كان كحد قاذف الأجنبيات وأنه نسخ عن الأزواج الجلد باللعان لهذا الحديث

(1)

.

فصل:

جاء في الحديث أنها موجبة، أي: توجب العذاب، وجاء أنها تلكأت، أي: أبطأت عن إتمام اللعان، وأنها نكصت، أي: رجعت.

فصل:

نقل أبو بكر الرازي عن ابن المسيب ومالك والحسن بن صالح والليث والشافعي أي منهما نكل حُدَّ، إن كان الزوج للقذف، وإن كان المرأة للزنا، وعن مكحول والضحاك والشعبي: إذا أبت رجمت.

وعن أبي حنيفة وأصحابه أيهما نكل حبس حتى يلاعن؛ لأن اسم العذاب لا يختص بنوع من الإيلام. قال تعالى: {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا} [النمل: 21]: قالوا: بحبسه (مع)

(2)

غير جنسه، وقال عليه السلام:"السفر قطعه من العذاب"

(3)

.

وزعم أصحاب أبي حنيفة: أن لا لعان بنفي الحمل؛ لأنه يجوز ألا يكون حملاً؛ لأن ما يظهر من المرأة مما يوهم أنها حامل لا يعلم أنه حمل حقيقة، إنما هو توهم، ونفي التوهم لا يوجب اللعان، وقد سلف الرد عليهم من كلام الشافعي، قالوا: فإن قيل: قد روي أنه عليه السلام لاعن بالحمل، قيل له: هذا حديث مختصرٌ اختصره راويه فغلط فيه، وأصله حديث عويمر المذكور قبل، وهو عجيب منهم.

(1)

"أحكام القرآن" 3/ 418.

(2)

في هامش الأصل: في الأصل: (من).

(3)

"أحكام القرآن" 3/ 433 - 434 والحديث سبق برقم (1804).

ص: 462

قالوا: فإن قيل: قوله عليه السلام: "إن جاءت به" كذا فهو لزوجها وإن جاءت به كذا فهو لفلان. دليل على أن الحمل هو المقصود بالقذف واللعان. قالوا: قيل له: لو كان اللعان بالحمل لكان منفيًّا عن الزوج، غير لاحق به أشبه أو لم يشبه.

ألا ترى أنها لوكانت وضعته قبل أن يقذفها نفى ولدها، فكان أشبه الناس به أنه يلاعن بينهما ويفرق، ويلزم الولد أمه، ولا يلحق بالملاعن لشبهه، وفي هذا دليل على أن اللعان لم يكن ينفي الولد حال كونه حملاً، وهذا أعجب من الأول.

قالوا: وقد سلف حديث: إن امرأتي ولدت غلامًا أسود، وإني أنكره. فلما لم يرخص له في نفيه لبعد شبهه منه، وكان الشبه غير دليل، ثبت أن جعله عليه السلام ولد الملاعنة من زوجها إن جاءت به على شبهه دليل على أن اللعان لم يكن نفاه.

قلت: ذاك الحديث لا لعان فيه والفراش قائم، ثم قالوا: فإن قيل: قوله عليه السلام: "الولد للفراش" فيه دلالة على أن نفى الولد لا يوجب اللعان، قيل: قد سلف التفريق بينهما وإلزام الولد أمه، قالوا: وهي سنة لا نعلم شيئًا نسخها ولا عارضها. قال: وعلى هذا إجماع الصحابة ومن بعدهم

(1)

.

فصل:

قوله: (فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها)، يحتمل أن تكون الكراهة لكثرة المسائل، ويحتمل أن تكون لقبح هذِه المسألة، أو كره السؤال عما لا حاجة إليه، فأما ما كان سؤالًا على وجه التبيين

(1)

انظر: "شرح معاني الآثار" 3/ 99 - 105 بتصرف.

ص: 463

والتعليم من أمر الدين فلا بأس بها، وقد كان عليه السلام يُسأل عن الأحكام فلا يكره ذلك. وقيل: كره قذف الرجل أمرأته ورميها من غير بينة.

فصل:

وفيه: الاستفهام بـ (أرأيت) عن المسائل وكان قديمًا.

وفيه: قبول خبر الواحد.

فصل:

قوله: (أيقتله فتقتلونه). يلزم منه أنه إن قتله لم يكن فيه قصاص ولا غيره، وقد عضده قول سعد: لو رأيته ضربته بالسيف. لم ينكر عليه السلام، بل صوبه بقوله:"تعجبون من غيرة سعد"، ولهذا قال أحمد: يهدر دمه إذا جاء القاتل بشاهدين

(1)

، واختلف أصحاب مالك في ذلك، فقال ابن القاسم: يهدر دمه إذا قامت البينة محصنًا كان أو غير محصن، واستحب الدية في المحصن.

وقال ابن حبيب: إن كان محصنًا فهو الذي ينجي قاتله البينة

(2)

. وقد اختلف عن عمر في هدر دم من قتل هكذا، وقد سلف ما فيه، وعن علي يقاد منه، وأما إذا لم يأت ببينة فإنه يقتل به ولا يقبل قوله عند الجمهور.

وقال الشافعي وأبو ثور: يسعه فيما بينه وبين الله إذا كان محصنًا

(3)

، والبينة أربع عدول، فيشهدون على نفس الزنا. وقيل: يجب على كل من قتل زانيًا محصنًا القصاص مالم يأمر السلطان بقتله.

(1)

"مسائل أحمد وإسحاق" برواية الكوسج 1/ 434 (1129).

(2)

انظر: "النوادر والزيادات" 14/ 264، "المنتقى" 5/ 285، "البيان والتحصيل" 16/ 273.

(3)

"الأم" 6/ 26.

ص: 464

فصل:

اختلفوا في العبد تكون تحته الحرة، أو الحر تكون تحته الأمة هل بينهما تلاعن؟ فقال إبراهيم والشعبي -فيما ذكره ابن أبي شيبة-: إذا كانت أمة تحت حر فقذفها لا يُضرَب ولا يلاعن، وإذا كانت الحرة تحت العبد فقذفها، قال الحكم وحماد: ليس بينهما تلاعن ويجلد، وقاله أيضًا عطاء وعامر بزيادة، و (يلزم)

(1)

به الولد

(2)

، وهو قول أبي حنيفة.

فصل:

وإذا قذف زوجته ثم مات قبل الملاعنة، فقال عطاء وإبراهيم: يتوارثان ما لم يلتعنا، زاد عطاء: وتجلد، وقال عكرمة: إن كذب نفسه جُلد وورثها، وإن أقام شهودًا ورث، وإن حلف لم يرث

(3)

.

وقال أبو الشعثاء: إذا مات أحدهما قبل الملاعنة إن أقرت المرأة رجمت وصار إليها الميراث وإن التعنت ورثت، وإن لم تقر بواحد منهما فلا ميراث لها ولا عدة عليها، وعن الزهري إذا قذفها ثم ماتت يرثها زوجها ولا ملاعنة بينهما.

وعن الشعبي: إذا قذفها ثم ماتت قبل أن يلاعنها فإن شاء أكذب نفسه وورث، وإن شاء لاعن ولم يرث

(4)

وقال الحسن: إذا قذف امرأته وهي صغيرة فلا حد ولا لعان

(5)

.

(1)

كذا في الأصول، وفي ابن أبي شيبة:(يلزق).

(2)

ابن أبي شيبة 5/ 505 - 506.

(3)

ابن أبي شيبة 4/ 190 - 191.

(4)

انظر هذِه الآثار في "مصنف ابن أبي شيبة" 4/ 190 - 191.

(5)

"ابن أبي شيبة" 4/ 198 (19228).

ص: 465

ولما سَأَلَ حنبل أبا عبد الله عن حديث سفيان، عن خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس في النصرانية إذا أسلمت تحت نصراني قال: يفرق بينهما. ولا يلاعن نصراني مسلمة، قال أبو عبد الله: اضرب على: لا يلاعن نصراني مسلمة، فإني أراه من كلام سفيان، ليس هو من الحديث. قلت: فالذي تراه؟ قال: أرى أنه يلاعنها؛ لأنها زوجة وإليه ذهب أبو حنيفة.

قال أبو عمر: وله في ذلك حجج لا تقوم على ساق، منها حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعًا:"لا لعان بين مملوكين ولا كافرين" وليس دون عمرو من يحتج به

(1)

.

فصل:

صح عن عمر رضي الله عنه أنه كان يحد في التعريض بالقذف، وهو قول مالك وعنده: إذا قذف امرأة برجل سماه ليس على الإِمام أن يعلم المقذوف، وهو أحد قولي الشافعي محتجين بقوله تعالى:{وَلَا تَجَسَّسُوا} [الحجرات: 12]؛ ولأن العجلاني رمى امرأته بشريك فلم يبعث الشارع له ولا أعلمه

(2)

.

وقد أسلفنا عن مقاتل خلاف ذلك. وقالت طائفة: عليه أن يعلمه؛ لأنه حق آدمي حكاه أبو عمر وعزاه للشافعي لقوله عليه السلام: "واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها"، وقال مالك: إن ذكر المرمي به في لعانه حُدّ له، وهو قول أبي حنيفة؛ لأنه قاذف لمن لم يكن له ضرورة إلى قذفه.

(1)

"التمهيد" 6/ 192.

(2)

"الأم" 5/ 114.

ص: 466

وقال الشافعي: لا حد عليه كما سلف؛ لأن الله لم يجعل على من رمى زوجته بالزنا إلا واحدًا ولم يفرق بين من ذكر رجلاً بعينه وبين من لم يذكر. وقد رمى العجلاني زوجته بشريك، وكذا هلال بن أمية فلم يحدّ أحد منهما

(1)

.

فصل:

وفيه: أن في طباع البشر أن تكون المغيرة تحمل على سفك الدماء إلا أن يعصم الله عن ذلك بالحلم والتثبت.

فصل:

وفيه: أن العالم إذا كره السؤال أن يعيبه ويهجنه.

وفيه: أن من لقي شيئًا من المكروه بسبب غيره أن يؤنب صاحبه الذي لقي المكروه بسببه ويعاتبه.

وفيه: أن المحتاج إلى المسألة من مسائل العلم لا يردعه عن تفهمها غضب العالم وكراهته لها حتى يقف على الثلج منها، وفيه أن السؤال عما يلزمه علمه من الدين أوجب في المحافل وغيرها، فإنه لا حياء يلزم فيه، ألا ترى إلى قوله:(فأقبل عويمر حتى أتى وسط الناس).

فصل:

وفيه: التلاعن في المسجد الجامع، وقد ترجم له بعد، واستحب جماعة أن يكون بعد العصر، وفي أي وقت كان في المسجد الجامع أحرى.

وفيه: أن للعالم أن يؤخر الجواب إذا لم يحضره.

(1)

"التمهيد" 6/ 189 - 190.

ص: 467

وفيه: أن القرآن لم ينزل جملة، وأما نزوله إلى السماء الدنيا فنزل كله

(1)

.

فصل:

اختلف هل للزوج أن يلاعن مع شهوده؟

فقال مالك والشافعي: يلاعن كان له شهود أم لا؛ لأن الشهود ليس لهم عمل في غير درء الحد، وأما رفع الفراش لنفي الولد فلا بد فيه من اللعان.

وقال أبو حنيفة وأصحابه: إنما جعل اللعان للزوج إذا لم يكن له شهود غير نفسه

(2)

.

فصل:

قال ابن القاسم عن مالك: إن كيفية اللعان أن يحلف أربع مرات، يقول: أشهد بالله لرأيتها تزني وإن نفى حملها يقول: ولقد استبرأتها وما الحمل مني. والخامسة يذكر فيها اللعنة. وتقوم هي فتقول: بالله ما رآني أزني، وإن حملي لمنه .. إلى آخر اللعان

(3)

.

وقال الشافعي: يقول: أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميت به زوجتي فلانة بنت فلان، ويشير إليها إن كانت حاضرة، يقول ذلك أربع مرات، ثم يعظه الإِمام، فإن رآه يريد أن يمضي أمر من يضع يده على فيه ويقول: إن اللعنة موجبة

(4)

.

(1)

انظر ما سبق في "التمهيد" 6/ 190 - 191.

(2)

انظر: "المبسوط" 7/ 54 - 55، "التمهيد" 6/ 199.

(3)

"المدونة" 2/ 336.

(4)

"الأم" 5/ 279.

ص: 468

قال أبو عمر: وكان مالك يقول: لا يلاعن إلا أن يقول: رأيتك تزني، أو ينفي حملًا أو ولدًا منها، ووافقه يحيى بن سعيد وأبو الزناد والليث وعثمان البتي أنها لا تجب إلا بالرؤية أو نفي الحمل مع دعوى الاستبراء، وعندهم إذا قال لزوجته: يا زانية جلد الحد، وحجتهم قائمة من الآثار، منها قوله:(أرأيت رجلاً وجد مع امرأته رجلاً). ومنها حديث أبي داود عن هلال: يا رسول الله: رأيت بعيني وسمعت بأذني

(1)

. فلا يجوز تعدي ذلك

(2)

.

(1)

أبو داود (2256). وضعفه الألباني في "ضعيف أبي داود"(388).

(2)

"التمهيد" 6/ 204 - 205.

ص: 469

‌30 - باب التَّلَاعُنِ فِي الْمَسْجِدِ

5309 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ شِهَابٍ عَنِ الْمُلَاعَنَةِ وَعَنِ السُّنَّةِ فِيهَا، عَنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَخِي بَنِي سَاعِدَةَ أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ رَجُلاً وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلاً، أَيَقْتُلُهُ أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ؟ فَأَنْزَلَ اللهُ فِى شَأْنِهِ مَا ذَكَرَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ أَمْرِ الْمُتَلَاعِنَيْنِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«قَدْ قَضَى اللهُ فِيكَ وَفِى امْرَأَتِكَ» . قَالَ: فَتَلَاعَنَا فِي الْمَسْجِدِ وَأَنَا شَاهِدٌ، فَلَمَّا فَرَغَا قَالَ: كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللهِ إِنْ أَمْسَكْتُهَا. فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ فَرَغَا مِنَ التَّلَاعُنِ، فَفَارَقَهَا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:«ذَاكَ تَفْرِيقٌ بَيْنَ كُلِّ مُتَلَاعِنَيْنِ» .

قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَكَانَتِ السُّنَّةُ بَعْدَهُمَا أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ، وَكَانَتْ حَامِلاً، وَكَانَ ابْنُهَا يُدْعَى لأُمِّهِ، قَالَ: ثُمَّ جَرَتِ السُّنَّةُ فِى مِيرَاثِهَا أَنَّهَا تَرِثُهُ وَيَرِثُ مِنْهَا مَا فَرَضَ اللهُ لَهُ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنْ جَاءَتْ بِهِ أَحْمَرَ قَصِيرًا كَأَنَّهُ وَحَرَةٌ فَلَا أُرَاهَا إِلاَّ قَدْ صَدَقَتْ وَكَذَبَ عَلَيْهَا، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَسْوَدَ أَعْيَنَ ذَا أَلْيَتَيْنِ، فَلَا أُرَاهُ إِلاَّ قَدْ صَدَقَ عَلَيْهَا» . فَجَاءَتْ بِهِ عَلَى الْمَكْرُوهِ مِنْ ذَلِكَ. [انظر: 423 - مسلم: 1492 - فتح 9/ 452].

ذكر فيه حديث سهل بن سعد أخي بني ساعدة أَنَّ رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا .. الحديث، وفيه: فَتَلَاعَنَا فِي المَسْجِدِ وَأَنَا شَاهِدٌ، فَلَمَّا فَرَغَا قَالَ: كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللهِ إِنْ أَمْسَكْتُهَا. فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَامُرَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ فَرَغَا مِنَ التَّلَاعُنِ، فَفَارَقَهَا عِنْدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"ذَاكَ تَفْرِيق بَيْنَ كُلِّ مُتَلَاعِنَيْنِ". قَالَ ابن جُرَيْجٍ: قَالَ ابن شِهَابٍ: فَكَانَتِ السُّنَّةُ بَعْدَهُمَا أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ كل مُتَلَاعِنَيْنِ، وَكَانَتْ

ص: 470

حَامِلاً، وَكَانَ ابنهَا يُدْعَى لأُمِّهِ. قَالَ: ثُمَّ جَرَتِ السُّنَّةُ فِي مِيرَاثِهَا أَنَّهَا تَرِثُهُ ويرِثُ مِنْهَا بقدر مَا فَرَضَ اللهُ لَها. قَالَ ابن جُرَيْجٍ، عَنِ ابن شِهَابٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ فِي هذا الحَدِيثِ: أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنْ جَاءَتْ بِهِ أَحْمَرَ قَصِيرًا كَاَّنهُ وَحَرَةٌ فَلَا أُرَاهَا إِلَّا قَدْ صَدَقَتْ وَكَذَبَ عَلَيْهَا، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَسْوَدَ أَعْيَنَ ذَا أَلْيَتَيْنِ فَلَا أُرَاهُ إِلَّا قَدْ صَدَقَ عَلَيْهَا". فَجَاءَتْ بِهِ عَلَى المَكْرُوهِ مِنْ ذَلِكَ.

فيه: ما ترجم له أن سنة اللعان أن يكون في المسجد كما أسلفت الحديث قبله.

وفيه: دلالة على أنه ينبغي لكل حاكم من المسلمين أن يستخلف من أراد استخلافه على عظيم من الأمر كالقسامة على الدين، وعلى المال ذي القدر، والخطر العظيم، ونحو ذلك في المساجد العظام، وإن كانا بالمدينة فعند منبرها، وإن كانا بمكة فبين الركن والمقام، وإن كانا ببيت المقدس ففي مسجدها ثم في موضع الصخرة، وإن كانا ببلدٍ غيرها ففي جامعها وحيث يعظم منها.

وإنما أمرهما عليه السلام باللعان في مسجده لعلمه أنهما يعظمانه فأراد التعظيم عليهما ليرجع المبطل منهما إلى الحق، (وينحجز)

(1)

عن الأيمان الكاذبة، وكذلك أيضًا إذا كان لعانهما بعد العصر لعظم اليمين الكاذبة في ذلك الوقت.

وقال الشافعي: يلاعن في المسجد إلا أن تكون حائضًا فعلى باب المسجد

(2)

.

(1)

من (غ).

(2)

"الأم" 5/ 276 - 277.

ص: 471

قال الطبري: ولست أقول إن لاعن بينهما في مجلس نظره أو حيث كان من الأماكن وفي أي الأوقات: إنه مضيع فرضًا، أو مدخل بذلك من فعله في اللعان فسادًا

(1)

، وعن أبي حنيفة يجوز أن يكون في غير المجلس. وقال عبد الملك: يكون عند الإمام.

فصل:

وقوله: (وكانت حاملًا) ظاهر في اللعان عليه، وقد سلف اختلافهم فيه.

قال ابن بطال: اختلفوا في الرجل ينتفي من حمل زوجته، فقالت طائفة: له أن يلاعن إذا قال: ليس هو مني، وقد استبرأتها قبل الحمل. وينتفي عنه الولد. وهو قول مالك.

وقال ابن أبي ليلى: يجوز اللعان بنفي الحمل، وبه قال الشافعي، ولم يراع استبراء، وزعم أن المرأة قد تحمل مع رؤية الدم وتلد مع الاستبراء. وقال أبو حنيفة والثوري وزفر: إذا قال لامرأته: ليس هذا الحمل مني سواء كان استبرأها أم لا لم يكن قاذفًا. وبه قال ابن الماجشون.

وقال أبو يوسف ومحمد: إن جاءت بالولد بعد ما قال لستة أشهر لاعن أو لأكثر فلا

(2)

، أحتج من لم يوجب اللعان عليه أنه لا يقطع به لجواز أن يكون ريحًا، فلا لعان إلا بيقين، حجة المجيز حديث الباب:(وكانت حاملًا). ألا ترى قوله: "إن جاءت به" كذا إلى آخره، وقول الكوفيين يخالفه فلا يلتفت إليه.

(1)

انظر: "شرح ابن بطال" 7/ 469.

(2)

انظر هذِه المسألة في: "مختصر اختلاف العلماء" 2/ 510، "المبسوط" 7/ 44 - 45، "الاستذكار" 17/ 220، ابن بطال 7/ 469، "الأم " 5/ 117، "الإشراف" 1/ 234.

ص: 472

وأما فساده من جهة النظر فإن اللعان وضع بين الزوجين لمعنى، وهو أن لا يلحق به ولد ليس منه، فالضرورة داعية إلى حصول اللعان في هذِه الحال، وقد جعل اللعان لدفع العار عما يلحقه فهو محتاج إليه.

وقد زعم أبو حنيفة أن رجلاً لو اشترى جارية فوجدها حاملًا أن ذلك عيب ترد به، فإن كان الحمل لا يوقف عليه فكيف يرد لانتفاء العلم به، وإن كان يوقف عليه فيلاعن.

فصل:

قوله: ("إن جاءت به أحمر") إلى آخره فيه المنع من الحكم على عباده بالظنون والتهم كما سلف، وأنه جعل الأحكام بينهم على ما ظهر دون ما بطن، وأنه وكل الحكم في سرائرهم وما خفي من أمورهم إليه دون سائر خلقه، وأنه لو كان لأحد من ذي سلطان أو غيره أخذ أحد بغير الظاهر لكان أولى الناس بذلك سيد الأمة، لعلمه بكثير من سرائرهم، ولكنه كان لا يأخذ أحدًا إلا بما ظهر من أمره وتبين للناس منه، وكذلك كان يقبل ظاهر ما يبديه المنافقون ولا يأخذهم بما يبطنون مع علمه بكذبهم، وكان يجعل لهم بظاهر ما يظهرونه من الإقرار بتصديقه والإيمان بما جاء به من عند الله حكم الله في المناكحة والميراث والصلاة عليهم إذا ماتوا وغير ذلك من الأمور، فكذلك الواجب على كل ذي سلطان أن يعمل في رعيته مثل الذي عمل به الشارع فيمن وصفت ممن كان يظهر قولًا وفعلًا من أخذ بما يظهر من القول والعمل، دون أخذه بالظنون والتهم التي يجوز أن تكون حقًّا، ويجوز أن تكون باطلاً.

ص: 473

فصل:

وفيه: -كما قال المهلب- أن الحاكم إذا حكم (بالسنة المخصوصة)

(1)

ثم تبين له بدليل غيرُ ما ظهر إليه فيما حكم به أنه لا يرد ما حكم فيه إلا بالنص، لا بما قام له من الدليل، ألا تراه بعد إن جاءت به على المكروه لم يَحدَّها، وكذلك قام له الدليل من الشبه في ابن وليدة زمعة، فلم يقض به لسعد بن أبي وقاص ولكن أمر سودة بالاحتجاب منه، فحكم للشبه في عين الحكم المنصوص، ولم يعرض لحكم الله بفسخ من أجل الدليل.

(وفيها أيضًا: أنه من أقتطع شيئًا من الحقوق بيمين كاذبة أن الله يلعنه ويغضب عليه، كما جاء في الحديث، ألا ترى أنه قام الدليل على كذب المرأة بعد يمينها بوضعها الصفة (المكروهة)

(2)

، فكان ذلك هتك سترها في الدنيا، وفضحها بين قومها التي عنها فرت، وهذا من العقوبات في الدنيا، فكيف في الآخرة؟!)

(3)

.

فصل:

قوله: ("كأنه وحرة") قد سلف بيانه في الباب قبله وأنها دويبة حمراء كالعظاءة وكسام أبرص يلزق بالأرض، قال ابن فارس: هي دابة إذا دبت على اللحم وحر

(4)

. أي: فسد، ومنه قيل: وحر الصدر يوحر وحرًا، ذهبوا إلى لزوم الحقد بالصدر فشبهوه بإلزاق الوحرة بالأرض

(5)

.

وقوله: ("أحمر") أي شديد الشقرة، والألية بفتح الهمزة: العجز.

(1)

كذا في الأصول: وفي ابن بطال: البينة المنصوصة.

(2)

كذا في الأصول، ولعل صوابها: المذكورة.

(3)

من (غ) وانظر: "شرح ابن بطال" 7/ 470 - 471.

(4)

"مجمل اللغة" 2/ 918.

(5)

انظر: "تاج العروس" 7/ 586.

ص: 474

‌31 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «لَوْ كُنْتُ رَاجِمًا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ»

5310 -

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ ذُكِرَ التَّلَاعُنُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ عَاصِمُ بْنُ عَدِيٍّ فِي ذَلِكَ قَوْلاً، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ يَشْكُو إِلَيْهِ أَنَّهُ وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلاً، فَقَالَ عَاصِمٌ: مَا ابْتُلِيتُ بِهَذَا إِلاَّ لِقَوْلِي، فَذَهَبَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ بِالَّذِى وَجَدَ عَلَيْهِ امْرَأَتَهُ -وَكَانَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مُصْفَرًّا قَلِيلَ اللَّحْمِ سَبْطَ الشَّعَرِ، وَكَانَ الَّذِي ادَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ وَجَدَهُ عِنْدَ أَهْلِهِ خَدْلاً آدَمَ كَثِيرَ اللَّحْمِ- فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«اللَّهُمَّ بَيِّنْ» . فَجَاءَتْ شَبِيهًا بِالرَّجُلِ الَّذِى ذَكَرَ زَوْجُهَا أَنَّهُ وَجَدَهُ، فَلَاعَنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُمَا. قَالَ رَجُلٌ لاِبْنِ عَبَّاسٍ فِى الْمَجْلِسِ: هِيَ الَّتِي قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَوْ رَجَمْتُ أَحَدًا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ رَجَمْتُ هَذِهِ» . فَقَالَ: لَا، تِلْكَ امْرَأَةٌ كَانَتْ تُظْهِرُ فِي الإِسْلَامِ السُّوءَ» قَالَ أَبُو صَالِحٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ: خَدِلاً. [5316، 6855، 6856، 7238 - مسلم: 1497 - فتح 9/ 454].

ذكر فيه حديث ابن عباس رضي الله عنهما أَنَّهُ ذُكِرَ التَلَاعُنُ عِنْدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ عَاصِمُ بْنُ عَدِيٍّ فِي ذَلِكَ قَوْلاً، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ يَشْكُو إِلَيْهِ أَنَّهُ قَدْ وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلاً، فَقَالَ عَاصِمٌ: مَا ابْتُلِيتُ بهذا إِلَّا لِقَوْلِي. فَذَهَبَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ بِالَّذِي وَجَدَ عَلَيْهِ امْرَأَتَهُ -وَكَانَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مُصْفَرًّا قَلِيلَ اللَّحْمِ سَبْطَ الشَّعَرِ، وَكَانَ الذِي ادَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ وَجَدَهُ عِنْدَ أَهْلِهِ خَدْلًا آدَمَ كَثِيرَ اللَّحْمِ- فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"اللَّهُمَّ بَيِّنْ". فَجَاءَتْ شَبِيهًا بِالرَّجُلِ الذِي ذَكَرَ زَوْجُهَا أَنَّهُ وَجَدَهُ، فَلَاعَنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بيْنَهُمَا. قَالَ رَجُلٌ لاِبْنِ عَبَّاسٍ فِي المَجْلِسِ: هِيَ التِي قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لَوْ رَجَمْتُ أَحَدًا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ

ص: 475

رَجَمْتُ هذِه؟ ". فَقَالَ: لَا، تِلْكَ امْرَأَةٌ كَانَتْ تُظْهِرُ فِي الإِسْلَامِ السُّوءَ. قَالَ أَبُو صَالِحٍ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ: خَدِلًا.

وترجم عليه أيضًا بعد باب: اللهم بين. فيه: أنه يبتلى الإنسان بقوله، وذلك أن عاصم بن عدي كان قد قال عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لو وجد مع امرأته رجلاً لضربه بالسيف حتى يقتله، فابتلي بقوله برجل من قومه ليريه الله كيف حكمه في ذلك، وليعرفه أن التسليط في الدماء لا يسوغ بالدعوى ولا يكون إلا بحكم من الله ليرفع أمر الجاهلية.

فصل:

فيه: ما ترجم له وهو قوله: "لو كنت راجمًا بغير بينة" في المرأة التي كانت تعلن بالسوء، أي: لو كنت متعديًا حق الله فيها إلى ما قام من الدلالة عليها لرجمتها؛ لبيان الدلائل على فسقها، ولكن ليس لأحد أن يرجم بغير بينة فيتعدى الحدود، والرب جل جلاله أمر أن لا تتعدى حدوده لِمَا أراد تعالى من ستر عباده.

فصل:

معنى قول: "اللهم بين" الحرص على أن يعلم من باطن المسألة ما يقف به على حقيقتها، وإن كانت شريعة قد أحكمها الله في القضاء بالظاهر، وإنما صارت شرائع الأنبياء يقضى فيها بالظاهر؛ لأنها تكون سنة لمن بعدهم من آمِّيهم ممن لا سبيل له إلى وحي يعلم به بواطن الأمور.

فصل:

الخدل: بفتح الخاء المعجمة وسكون الدال المهملة: الغليظ الممتلئ الساقين، وقوله:"خدلج الساقين" أي عظيمهما، وقد سلف

ص: 476

أيضًا، وهو ضد الحمش يقال: رجل حمش الساقين إذا كان رفيعهما.

وقوله: ("آدم خدلًا كثير اللحم") قال ابن التين: ضبط في بعض الكتب بكسر الدال وتخفيف اللام، وفي بعضها بتشديد اللام، وفي بعضها بسكون الدال، وكذلك هو في كتب أهل اللغة، وكذا ضبط في روايه أبي صالح وابن يوسف.

وقوله: ("كثير اللحم") أي: ممتلئ. وعبارة ابن فارس: الخدلة: الممتلئة الأعضاء

(1)

. وعبارة الهروي: الخدل الممتلئ الساق

(2)

، وكذلك قال أبو عبد الملك.

فصل:

أخذ بهذا الحديث الشافعي على أن من رمى امرأته برجل سماه أنه يلاعن، ولا يحد الرجل بذلك.

قال الداودي: لم يبلغ مالكًا هذا ولو بلغه لقال به؛ لأنه أتبع الناس للأثر، وانفصل لمالك بأن الرجل لم يأت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ولم يقم بحقه، وقول مالك وأبي حنيفة: إنه يحد له، وإن لم يسم لم يحد له عند مالك وأبي حنيفة، وللشافعي قول أنه يحد له.

فصل:

وقول ابن عباس: (تلك امراة كانت تظهر السوء). قال الداودي: فيه جواز الغيبة ممن يظهر السوء، وقد لا يلزم ذلك؛ لأنه لم يذكرها ولم يعينها، وفي الحديث:"لا غيبة لمجاهر"

(3)

.

(1)

"المجمل" 1/ 279.

(2)

"غريب الحديث" 1/ 261.

(3)

لم أجده بهذا اللفظ، وقد روي ما يدل على معناه منها: =

ص: 477

وقول عاصم: (ما ابتليت بهذا إلا لقولي). قال الداودي: لأنه (قال)

(1)

لو وجدت لفعلت أو عيَّر فابتلي ذكر أن ابن سيرين عير رجلاً بفلس ثم ندم، وانتظر العقوبة أربعين سنة ثم نزل به.

= ما رواه مؤمل بن إيهاب في "جزئه" ص 99 (27)، وابن أبي الدنيا في "مكارم الأخلاق" 22 (102)، وابن حبان في "المجروحين" 3/ 157، والقضاعي في "مسند الشهاب" 1/ 263 - 264 (426)، والبيهقي في "الكبرى" 10/ 210، و"الشعب" 7/ 108 - 109 (9664)، والخطيب في "تاريخ بغداد" 8/ 438 من طريق رواد عن أبي سعد، عن أنس مرفوعًا:"من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له".

قال مؤمل: فلما اختلط رواد رفع هذا الحديث ودلسوا عليه. اهـ.

وقال البيهقي في "الكبرى": ليس بالقوي، وفي "الشعب": إسناده ضعيف. اهـ.

وقال الألباني في "الضعيفة"(585): ضعيف جدًا. اهـ.

ورواه أيضًا ابن عدي في "الكامل" 2/ 65 (203)، والخطيب في "تاريخه" 4/ 171، وابن الجوزي في "العلل المتناهية" 2/ 295 - 296 (1301) من طريق الربيع بن بدر عن أبان، عن أنس به.

قال ابن الجوزي: حديث باطل، فيه متروكان: الربيع وأبان. اهـ.

ومنها ما رواه ابن أبي الدنيا في كتاب "الصمت" ص 142 عن إبراهيم النخعي أنه قال: ثلاث كانوا لا يعدونهن من الغيبة: الإِمام الجائر، والمبتدع، والفاسق المجاهر بفسقه.

وما رواه أيضًا ص 146 عن الحسن: ثلاثة لا تحرم عليك أعراضهم: المجاهر بالفسق، والإمام الجائر، والمبتدع.

وروي أيضًا ص 146 عن الحسن: إذا ظهر فجوره فلا غيبة له. وأيضًا ص 142 عن زيد بن أسلم: إنما الغيبة لمن لم يعلن بالمعاصي.

(1)

من (غ).

ص: 478

‌32 - باب صَدَاقِ الْمُلَاعَنَةِ

5311 -

حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قُلْتُ لاِبْنِ عُمَرَ: رَجُلٌ قَذَفَ امْرَأَتَهُ فَقَالَ: فَرَّقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَخَوَىْ بَنِي الْعَجْلَانِ، وَقَالَ:«اللهُ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ، فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ؟» . فَأَبَيَا. وَقَالَ: «اللهُ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ، فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبُ؟» . فَأَبَيَا. فَقَالَ: «اللهُ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ، فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ؟» فَأَبَيَا فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا. قَالَ أَيُّوبُ: فَقَالَ لِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ إِنَّ فِي الْحَدِيثِ شَيْئًا لَا أَرَاكَ تُحَدِّثُهُ قَالَ: قَالَ الرَّجُلُ: مَالِي؟ قَالَ: قِيلَ: "لَا مَالَ لَكَ، إِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَقَدْ دَخَلْتَ بِهَا، وَإِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَهْوَ أَبْعَدُ مِنْكَ". [5312، 5349، 5350 - مسلم: 1493 - فتح 9/ 456].

ذكر فيه حديث سعيد بن جُبَيْرٍ قَالَ: قُلْتُ لاِبْنِ عُمَرَ: رَجُل قَذَفَ آمْرَأَتَهُ فَقَالَ: فَرَّقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بيْنَ أَخَوَيْ بَنِي العَجْلَانِ، وَقَالَ:"اللهُ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ، فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ؟ ". فَأَبَيَا، وَقَالَ:"اللهُ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ، فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ؟ ". فَأَبَيَا. فَقَالَ: "اللهُ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ، فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ؟ " فَأَبَيَا، فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا. فَقَالَ لِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: إِنَّ فِي الحَدِيثِ شَيْئًا لَا أَرَاكَ تُحَدِّثُهُ قَالَ: قَالَ الرَّجُلُ: مَالِي؟ قَالَ: قِيلَ: "لَا مَالَ لَكَ، إِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَقَدْ دَخَلْتَ بِهَا، وَإِنْ كنْتَ كَاذِبًا فَهْوَ أَبْعَدُ مِنْكَ".

ثم ترجم له:

ص: 479

‌33 - باب قَوْلِ الإِمَامِ لِلْمُتَلَاعِنَيْنِ: إِنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ، فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ

؟

5312 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ عَمْرٌو: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ، عَنِ الْمُتَلَاعِنَيْنِ، فَقَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلْمُتَلَاعِنَيْنِ: «حِسَابُكُمَا عَلَى اللهِ أَحَدُكُمَا كَاذِبٌ، لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا» . قَالَ: مَالِي؟ قَالَ: «لَا مَالَ لَكَ، إِنْ كُنْتَ صَدَقْتَ عَلَيْهَا، فَهْوَ بِمَا اسْتَحْلَلْتَ مِنْ فَرْجِهَا، وَإِنْ كُنْتَ كَذَبْتَ عَلَيْهَا، فَذَاكَ أَبْعَدُ لَكَ» . قَالَ سُفْيَانُ: حَفِظْتُهُ مِنْ عَمْرٍو. وَقَالَ أَيُّوبُ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ قَالَ: قُلْتُ لاِبْنِ عُمَرَ: رَجُلٌ لَاعَنَ امْرَأَتَهُ، فَقَالَ بِإِصْبَعَيْهِ -وَفَرَّقَ سُفْيَانُ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى- فَرَّقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَخَوَيْ بَنِي الْعَجْلَانِ، وَقَالَ:«اللهُ يَعْلَمُ إِنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ، فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ؟» . ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. قَالَ سُفْيَانُ: حَفِظْتُهُ مِنْ عَمْرٍو وَأَيُّوبَ كَمَا أَخْبَرْتُكَ. [انظر: 5311 - مسلم: 1493 - فتح 9/ 457].

ثم ساق من حديث سعيد بن جبير أيضًا قَالَ: سَأَلْتُ ابن عُمَرَ، عَنِ المُتَلَاعِنَيْنِ، فَقَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلْمُتَلَاعِنَيْنِ: "حِسَابُكُمَا عَلَى اللهِ، أَحَدُكُمَا كَاذِبٌ، لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا". قَالَ: مَالِي؟ قَالَ: "لَا مَالَ لَكَ، إِنْ كُنْتَ صَدَقْتَ عَلَيْهَا، فَهْوَ بِمَا اسْتَحْلَلْتَ مِنْ فَرْجِهَا، وَإِنْ كُنْتَ كَذَبْتَ عَلَيْهَا، فَذَاكَ أَبْعَدُ لَكَ".

قال سفيان الراوي عن عمرو بن دينار الراوي عن سعيد: حَفِظْتُهُ مِنْ عَمْرٍو. وَقَالَ أَيُّوبُ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ قَالَ: قُلْتُ لاِبْنِ عُمَرَ: رَجُلٌ لَاعَنَ أمْرَأَتَهُ؟ فَقَالَ بِإِصْبَعَيْهِ -وَفَرَّقَ سُفْيَانُ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسطَى-: فَرَّقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَخَوَيْ بَنِي العَجْلَانِ، وَقَالَ:"اللهُ يَعْلَمُ إِنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ، فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ؟ ". ثلاث مرات. قال سفيان: حفظته من عمي وأيوب -كما أخبرتك. والإجماع قائم على وجوب الصداق للملاعنة؛

ص: 480

لأنهما كانا على نكاح صحيح قبل التعانهما، وكل من وطئ امرأة لشبهة فالصداق لها واجب، فكيف النكاح الصحيح. والحديث قال على وجوبه بالدخول.

قال ابن المنذر: وفي حديث ابن عمر دليل على وجوب صداقها وأن الزوج يرجع عليها بالمهر وإن أقرت بالزنا؛ لقوله عليه السلام: "إن كنت صدقت عليها .. " الحديث.

قال: ولو قال قائل: إن فيه دليلًا على أن المهر اعتبر بالمسيس لا بالخلوة لشاع ذلك.

قال المهلب: في قوله: "إن كنت صادقًا فقد دخلت بها" دليل على أن الدخول بالمرأة يكنى به عن الجماع، وهو دليل على وجوب جماعها وإن كان قد لا يكون جماع مع الدخول، فغلب صلى الله عليه وسلم ما يكون في الأكثر وهو الدخول لما ركَّب الله في نفوس عباده من شهوة النساء. وسيأتي اختلاف العلماء في ذلك في باب: المهر للمدخول عليها. بعد هذا الباب.

قال الطبري: في قوله: "الله يعلم .. " إلى آخره، أنه ينبغي للإمام -إذا أراد [أن] يستحلف من لزمته يمين لغيره فرآه ماضيًا على اليمين- أن يذكره بالله ويعظه، ويتلو عليه قول الله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ} [آل عمران: 77] الآية؛ ليرتدع عن اليمين إن كان مبطلًا فيها، ولذلك أمر عليه السلام أن يوقف كل منهما عند الخامسة. فيقال له: اتق الله. فإنها الموجبة التي توجب عذاب الله، وإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة.

قال ابن المنذر: وفيه بدء الإمام بعظة الزوجين، والبداءة بالزوج في ذلك قبل المرأة

(1)

.

(1)

انظر: "شرح ابن بطال" 7/ 475.

ص: 481

فصل:

ظاهر هذا الحديث أن قوله: "الله يعلم .. " إلى آخره بعد الملاعنة، وقد سلف ذلك. وقال ابن التين: كان ذلك قبلها، حذرها الكذب وتعمُّدَهُ.

قال الشافعي: قصد به أن يبين أن الحكم إنما يتعلق بالظاهر، وأنه لا اعتبار بالباطن ردًّا على مالك في قوله: إن الزنديق لا تقبل توبته ويقتل.

وقد يقال: محل الأول إذا لم يسلم فيه الباطن، ألا ترى أن ظاهر إيمانه بعد توبته كظاهره منه قبلها، وقد اتفقنا على أنه لا يحكم له بذلك الظاهر مع العلم بظاهره، فكذا بعد توبته كأن المراد منه حينئذ اعتقاد يخالف اعتقاده الأول، وذلك غير معلوم منه فلذا لم يصح، بخلاف توبة أحد المتلاعنين؛ لأنها مسموعة معلومة بإكذاب نفسه ففارقه.

فصل:

قد أسلفنا وجوب المهر للمدخول بها، وأنه إجماع. واختلف في غير المدخول بها فقال مالك وغيره: لها نصفه

(1)

.

وقال الزهري وابن الجلاب: لا شيء لها. وقال الحكم وحماد: هو كله لها

(2)

.

(1)

"الموطأ" ص 326.

(2)

انظر: فول الزهري والحكم وحماد في "مصنف عبد الرزاق" 6/ 293.

ص: 482

‌34 - باب التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ

5313 -

حَدَّثَنِى إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ - رضى الله عنهما - أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَرَّقَ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ قَذَفَهَا، وَأَحْلَفَهُمَا. [انظر: 4748 - مسلم: 1494 - فتح 9/ 458].

5314 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَاعَنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ مِنَ الأَنْصَارِ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا. [انظر: 4748 - مسلم: 1494 - فتح 9/ 458].

ذكر فيه حديث نافع: أَنَّ ابن عُمَرَ رضي الله عنهما أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَرَّقَ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ قَذَفَهَا، وَأَحْلَفَهُمَا.

وعنه: لَاعَنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ مِنَ الأَنْصَارِ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا.

قد أسلفنا اختلاف العلماء متى تقع الفرقة باللعان؟ وقد ذكر ابن المنذر عن ابن عباس أن بانقضائه تقع وإن لم يفرق الحاكم، وهو قول ربيعة ومالك والليث والأوزاعي وزفر وأبي ثور. وقال الثوري وأبو حنيفة وصاحباه: لا تقع بتمامه حتى يفرق بينهما الحاكم. وبه قال أحمد

(1)

.

وقال الشافعي: إذا أكمل الزوج اللعان وقعت الفرقة بينهما ولم يتوارثا، ولو لم تكمل الفرقة ومات ورثه ابنه

(2)

.

واحتج الشافعي فقال: لما كان التعان الزوج يسقط الحد، وينفي الولد كان يقطع العصمة ويرفع الفراش؛ لأن المرأة لا دخل لها في

(1)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 2/ 506.

(2)

"الأم" 5/ 280 - 281 بتصرف.

ص: 483

الفراق وقطع العصمة، ولا معنى لالتعان المرأة إلا في درء الحد عنها. وقوله تعالى:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] الآية خلافه، وعلى قوله: ينبغي ألا تلاعن المرأة وهي غير زوجة، وقد اتفقوا أنه من طلق امرأته، وأبانها، ثم قذفها أن لا يلاعن لانتفاء الزوجية، لذلك لو بانت بلعانه لم يجز لعانها

(1)

. حجة الثوري ومن وافقه حديث الباب، حيث أضاف الفرقة إليه لا إلى اللعان، قالوا: ولما اعتبر فيه حضوره فكذا تفريقه، بخلاف الطلاق قياسًا على العنين أنه لا يفرق بينه وبين امرأته إلا الحاكم.

وحجة مالك ومن وافقه حديث ابن عمر أنه عليه السلام فرق بين المتلاعنين بلعانهما جميعًا، وهو قال على أن اللعان يوجب الفرقة التي قضى بها عليه السلام عند فراغهما منه، وقال:"لا سبيل لك عليها" إعلامًا منه أن اللعان رفع سبيله عليها، وليس تفريقه له من المباعدة بينهما، استئناف حكم وإنما كان تنفيذًا لما وجب له من المباعدة بينهما وهو معنى اللعان لغة

(2)

، وهي مفاعلة بين اثنين، ولو كان النكاح بينهما باقيًا حتى يفرق الحاكم لكان إنما يفرق بين زوجين صحيح النكاح غير فاسد من غير سبب حدث من أجله فساده، فإن قال ذلك خرج من قول جميع الأمة، وأجاز للحاكم التفريق بين من شاء من الأزواج من غير سبب حدث بينهما يبطل به نكاحهم، وقياسه على العنين خطأ؛ لأنه يجوز لها أن تراجع العنين إن رضيت به، ولا يجوز لها مراجعة الملاعن، فافترقا.

(1)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 2/ 505 - 506، "الإشراف" 1/ 233.

(2)

انظر: "الاستذكار" 17/ 224 - 226.

ص: 484

قال ابن المنذر: وفي إجماعهم أن زوجة الملاعن لا تحل بعد زوج، إذا لم يكذب نفسه دليل بيِّن أنه لم يكن منفسخًا باللعان، وكان طلاق العجلاني يقع عليها، وكانت تحل له بعد النكاح.

وجمهور العلماء أن المتلاعنين لا يتناكحان أبدًا، وإن أكذب نفسه جلد الحد، ولحق به الولد، ولم ترجع إليه أبدًا.

قال مالك: وعلى هذا السنن التي لا شك فيها ولا اختلاف

(1)

.

وذكر ابن المنذر عن عطاء: أن الملاعن إذا أكذب نفسه بعد اللعان لم يُحد، وقال: قد تفرقا بلعنة من الله.

وقال أبو حنيفة ومحمد: إذا أكذب نفسه جلد بحد، ولحق به الولد، وكان خاطبًا من الخطاب إن شاء، وهو قول سعيد بن المسيب والحسن وسعيد بن جبير

(2)

.

ونقله ابن التين عنهم خلا الحسن، وزاد محمد بن الحسن: إذا أكذب نفسه ارتفع التحريم، ثم عادت زوجة إن كانت في العدة، وحجة هؤلاء الإجماع على أنه إن أكذب نفسه جلد الحد، ولحق به الولد، قالوا: فيعود النكاح حلالًا كما عاد الولد؛ لأنه لا فرق بين شيء من ذلك، وحجة الجماعة في أنهما لا يجتمعان أبدًا أنه عليه السلام فرق بينهما، وقال:"لا سبيل لك عليها" ولم يقل: إلا أن تكذب نفسك، فكان كالتحريم المؤبد في الأمهات، ومن ذكر معهن، وهذا شأن كل تحريم مطلق التأبيد.

(1)

"الموطأ" ص 351.

(2)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 6/ 502 "الاستذكار" 17/ 231 - 236، "الإشراف" 1/ 245.

ص: 485

ألا ترى أن المطلق ثلاثًا لما لم يكن تحريمه تأبيدًا وقع فيه الشرط بنكاح زوجٍ غيره، ولو قال: فإن طلقها فلا تحل له، لكان تحريمًا مطلقًا لا تحل له أبدًا.

وقد أطلق الشارع التحريم في الملاعنة ولم يخصه بوقت فهو مؤبد؛ فإن أكذب نفسه لحق به الولد؛ لأنه حق جحده ثم عاد إلى الإقرار به وليس كذلك النكاح؛ لأنه حق ثبت عليه لقوله: "لا سبيل لك عليها" فلا يتأكد إبطاله

(1)

.

وقد روى ابن إسحاق وجماعة عن الزهري قال: مضت السنة بأنهما إذا تلاعنا فرق بينهما فلا يجتمعان أبدًا، وأغرب أبو عبد الله محمد بن أبي قرة فقال: اللعان لا يرفع العصمة لقول عويمر: كذبتُ عليها إن أمسكتها.

(1)

انظر: "الاستذكار" 17/ 234 - 235، 237.

ص: 486

‌35 - باب يَلْحَقُ الْوَلَدُ بِالْمُلَاعِنَةِ

5315 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ قَالَ: حَدَّثَنِي نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَاعَنَ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَتِهِ، فَانْتَفَى مِنْ وَلَدِهَا، فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا، وَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِالْمَرْأَةِ. [انظر: 4748 - مسلم: 1494 - فتح 9/ 460].

ذكر فيه حديث ابن عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَاعَنَ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَتِهِ، وانتفى مِنْ وَلَدِهَا، فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا، وَأَلْحَقَ الوَلَدَ بِالْمَرْأَةِ.

لا شك أن باللعان لا ينتفي الولد عن أمه لأنها ولدته، ومعناه أنه لما انتفى عن أبيه باللعان ألحقه بها خاصة؛ لأنه لا أب له فلا يرث أباه، ولا يرثه أبوه، ولا أخذ بسببه وإنما ينسب إلى عصبة أمه، وعلى هذا علماء الأمصار، وقيل: بل ألحقه بأمه فجعل أمه له كأبيه. ولهذا الحديث -والله أعلم- اختلف العلماء في ميراث ابن الملاعنة كما ستعلمه.

قال الطبري: وإنما يلحق ولد الملاعنة بأمه ولا يدعى لأب ما دام الملاعن مقيمًا على نفيه عن نفسه بعد الالتعان، وأما إن هو أقر به يومًا فإنه يلحق به نسبه، وهذا إجماع من العلماء

(1)

.

(1)

انظر: "شرح ابن بطال" 7/ 478.

ص: 487

‌36 - باب قَوْلِ الإِمَامِ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ

5316 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: ذُكِرَ الْمُتَلَاعِنَانِ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ عَاصِمُ بْنُ عَدِيٍّ فِى ذَلِكَ قَوْلاً، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ، فَذَكَرَ لَهُ أَنَّهُ وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلاً، فَقَالَ عَاصِمٌ: مَا ابْتُلِيتُ بِهَذَا الأَمْرِ إِلاَّ لِقَوْلِي. فَذَهَبَ بِهِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبَرَهُ بِالَّذِي وَجَدَ عَلَيْهِ امْرَأَتَهُ -وَكَانَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مُصْفَرًّا قَلِيلَ اللَّحْمِ سَبْطَ الشَّعَرِ، وَكَانَ الَّذِي وَجَدَ عِنْدَ أَهْلِهِ آدَمَ خَدْلاً كَثِيرَ اللَّحْمِ جَعْدًا قَطَطًا- فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«اللَّهُمَّ بَيِّنْ» . فَوَضَعَتْ شَبِيهًا بِالرَّجُلِ الَّذِي ذَكَرَ زَوْجُهَا أَنَّهُ وَجَدَ عِنْدَهَا، فَلَاعَنَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُمَا، فَقَالَ رَجُلٌ لاِبْنِ عَبَّاسٍ فِي الْمَجْلِسِ: هِيَ الَّتِي قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَوْ رَجَمْتُ أَحَدًا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ لَرَجَمْتُ هَذِهِ؟» . فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا، تِلْكَ امْرَأَةٌ كَانَتْ تُظْهِرُ السُّوءَ فِي الإِسْلَامِ.

ذكر فيه الحديث السالف في باب: "لو كنت راجما بغير بينة".

قوله فيه: (وكان ذلك الرجل مصفرًا قليل اللحم سبي الشعر) أي: بكسر الباء وإسكانها، أي: ليس بجعد، وأكثر ما يكون السبوط في الشعر وهو مذموم.

وقوله: ("آدم خدلًا") سلف.

وقوله: ("جعدًا قططًا") هو بكسر الطاء الأولى وفتحها، وهما بخلاف السبط. والجعد والقطط في الشعر محمودان. واقتصر ابن التين على فتح الطاء.

قال الداودي: الجعد: القريب المفاصل العظيم الأطراف الأعضاء العظام.

ص: 488

‌37 - باب إِذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا، ثُمَّ تَزَوَّجَتْ بَعْدَ الْعِدَّةِ زَوْجًا غَيْرَهُ فَلَمْ يَمَسَّهَا

5317 -

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا هِشَامٌ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيَّ تَزَوَّجَ امْرَأَةً، ثُمَّ طَلَّقَهَا، فَتَزَوَّجَتْ آخَرَ، فَأَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَتْ لَهُ أَنَّهُ لَا يَأْتِيهَا، وَإِنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ إِلاَّ مِثْلُ هُدْبَةٍ فَقَالَ:«لَا، حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ، وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ» . [انظر: 2639 - مسلم: 1433 - فتح 9/ 464].

ذكر فيه حديث عائشة رضي الله عنها: أَنَّ رِفَاعَةَ القُرَظِيَّ تَزَوَّجَ امْرَأَةً، ثُمَّ طَلَّقَهَا، فَتَزَوَّجَتْ آخَرَ، فَأَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فذَكَرَتْ لَهُ أَنَّهُ لَا يَأْتِيهَا، وَأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ إِلَّا مِثْلُ هُدْبَةٍ، فَقَالَ:"لَا، حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ، وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ".

وقد سلف في باب: من أجاز طلاق الثلاث

(1)

واضحًا وغيره.

وفيه: أن المطلقة ثلاثًا لا تحل لزوجها إلا بطلاق زوج وطئها كما سلف، وعلى هذا جماعة العلماء إلا سعيد بن المسيب كما سلف

(2)

، ولا نعلم من وافقه عليه إلا من (لا)

(3)

يعتد به، والسنة مستقضى بها عما سواها، ولعله لم يبلغه الحديث. والعسيلة كناية عن اللذة.

واختلف في صفة الوطء الذي يحل المطلقة ثلاثًا، فقال مالك: لا يحلها إلا الوطء المباح؛ فإن وقع الوطء في صوم أو اعتكاف

(1)

سلف برقم (5260).

(2)

انظر: "الإجماع" لابن المنذر ص 155.

(3)

من (غ).

ص: 489

أو حج أو حيض أو نفاس لم يحل به، ولا يُحل الذمية عنده وطءُ الذمي ولا الصبي إذا لم يكن بالغًا.

وقال الكوفيون والأوزاعي والشافعي: يحلها وطء كل زوج بنكاح صحيح، وكذا لو أصابها محرمة، أو صائمة، أو حائضًا، أو وطئها مراهق لم يحتلم يحل بذلك كله. وتحل الذمية للمسلم بوطء زوج ذمي، وبهذا كله قال ابن الماجشون وبعض المدنيين؛ لأنه زوج

(1)

.

فصل:

واختلف في عقد نكاح المحلل فقال مالك: لا يحلها إلابنكاح رغبة، وإن قصد التحليل لم يحلها سواء علم ذلك الزوجان أم لم يعلما، لا يحل ويفسخ قبل الدخول وبعده. وهذا قول الليث والثوري والأوزاعي وأحمد، وقال أبو حنيفة وأصحابه والشافعي: النكاح جائز وله أن يقيم على نكاحه، وهو قول عطاء والحكم

(2)

.

وقال القاسم وعروة والشعبي: لا بأس أن يتزوجها ليحلها إذا لم يعلم بذلك الزوجان، وهو مأجور بذلك. وهو قول ربيعة ويحيى بن سعيد، وقد سلف أيضًا ذلك واضحًا. حجة مالك أنه عليه السلام لعن المُحلل والمُحلل له، رواه عنه علي وابن مسعود وعقبة بن عامر وخلق

(3)

.

(1)

انظر: "التمهيد" 13/ 229، 230 - 231، "الإشراف" 1/ 179 - 180.

(2)

انظر: "التمهيد" 13/ 229، 230 - 231، "الإشراف" 1/ 179 - 180.

(3)

أخرجه عن علي: أبو داود (2076)، والترمذي (1119)، وابن ماجه (1935)، وأحمد 1/ 83، 87، 88، 93، 107، 121. 150، 158، 462. وقال الترمذي: حديث علي وجابر معلول.

وصححه الألباني في "صحيح أبي داود"(1811). =

ص: 490

وفي حديث عقبه: "ألا أدلكم على التيس المستعار هو المحل"

(1)

ولا فائدة في اللعنة إلا إفساد النكاح التحذير منه.

= وأخرجه عن ابن مسعود: الترمذي (1120)، والنسائي 6/ 149، وأحمد 1/ 448، 450، والدارمي 3/ 1450 (2304).

وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وصححه الألباني في "مشكاة المصابيح"(3296) ورواه عن أبي هريرة: أحمد 1/ 333.

ورواه عن ابن عباس: ابن ماجه (1934) وصححه الألباني في "صحيح ابن ماجه"(1570).

(1)

رواه ابن ماجه (1936)، والطبراني 17/ 299، والدارقطني 3/ 251، والحاكم 2/ 199 من طريق أبي صالح كاتب الليث عن الليث، عن مشرح بن عاهان عن عقبة بن عامر.

قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. اهـ. وقال الذهبي: صحيح. اهـ. وقال عبد الحق في "الأحكام الوسطى" 3/ 157: إسناده حسن. اهـ.

وتعقبه ابن القطان في "بيان الوهم" 3/ 504 بقوله: ولمْ يبين لِمَ لا يصح. اهـ. وقال الزيلعي في "نصب الراية" 3/ 239: صحيح من عند ابن ماجه، وقال ابن حجر في "الدراية" 2/ 73: رواته موثقون. اهـ.

وأُعِلَّ بعلتين:

إحداهما: أن الليث لم يسمع من مشرح شيئًا ولا روى عنه شيئاً؛ قاله يحيى بن عبد الله بن بكير كما في "علل ابن أبي حاتم" 1/ 411.

وأجيب عنها بما قاله الحاكم 2/ 198 فقال: ذكر أبو صالح كاتب الليث عن ليث سماعه من مشرح بن عاهان. ثم ساقه.

الثانية: ضعف مشرح بن عاهان، وأبو صالح كاتب الليث. قاله ابن الجوزي في "العلل المتناهية" 2/ 158، البوصيري في "زوائد ابن ماجه" ص 277، وغيرها.

وأجيب بأن مشرح بن عاهان وثقه ابن معين وغيره، وكاتب الليث مختلف فيه منهم من يوثقه، ومنهم من ينكر عليه كثرة روايته عن الليث، ومنهم من يضعفه.

قال ابن معين: أقل أحواله أن يكون رواه عن الليث كتابًا قرأه عليه وأجازه له. اهـ.

انظر: "الجرح والتعديل" 5/ 86 - 87، "بيان الوهم والإيهام" 3/ 505.

والحديث حسنه الألباني كما في "صحيح ابن ماجه"(1572).

ص: 491

وقد سئل ابن عمر رضي الله عنهما عن نكاح المحلل، فقال: ذلك السفاح

(1)

. حجة أهل الكوفة عموم قوله: {زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] وقد وجد الشرط، وعقد الثاني على شرائطه يقيد تحليلها للأول

(2)

.

ولا فرق بين أن ينوي التحليل أم لا، ألا ترى أن عقد النكاح يفسخ الوطء، ويفيد وجوب الطلاق والنفقة. ولا فرق بين أن ينوي ذلك فيقول: أنكح لأطأ وبين أن لا ينوي ذلك.

فصل:

في الحديث دلالة على أن للمرأة المطالبة بحقها من الجماع، وأن لها أن تدعو إلى فسخ النكاح، وذلك أنها إنما ادعت بهذا القول العنة ولم ترد أن ذلك منه في دقة الهدبة، إنما أرادت أنه كالهدبة ضعفًا أو استرخاء، وقد بان ذلك في رواية أيوب عن عكرمة أنها قالت: والله مالي إليه من ذنب إلا أن ما معه ليس بأغنى عني من هذِه، وأخذت هدبة من ثوبها. فقال: كذبت يا رسول الله إنى لأنفضها نفض الأديم

(3)

.

وقال ابن المنذر: اختلف أهل العلم في الرجل ينكح المرأة ثم تطالبه بالجماع، فقال كثير من أهل العلم: إذا وطئها مرة لم يؤجل إلى أجل العنين، روي عن عطاء وطاوس والحسن والزهري، وهو قول مالك والأوزاعي وأبي حنيفة والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق

(4)

.

(1)

"مصنف عبد الرزاق" 6/ 265 (10776)، "مصنف ابن أبي شيبة" 3/ 547 (17076).

(2)

انظر: "التمهيد" 13/ 232 - 235.

(3)

ستأتي برقم (5825) كتاب: اللباس، باب: الثياب الخضر.

(4)

"الإشراف" 1/ 68.

ص: 492

وحكى أبو ثور عن بعض أهل الأثر أنه كلما أمسك عنها أجل لها سنة؛ لأنه ليس فيما مضى من جماعها مقنع.

وقال أبو ثور: إذا غشيها مرة واحدة ثم أمسك فإن رافعته أجل لها، وذلك أن العلة التي في العنين قد صارت فيه

(1)

، ولست انظر في هذا إلى أول النكاح ولا آخره إذا كانت العلة موجودة وذلك أن حقوقها الجماع، فمتى كان المنع لعلة كان حكم العنين.

يتلوه كتاب العدة.

فرغ من تعليقه في سنة إحدى وعشرين وثمانمائة بالشرفية بحلب إبراهيم بن محمد بن خليل سبط بن العجمي الحلبي من نسخة سقيمة.

الحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

(1)

المصدر السابق.

ص: 493

1

كتاب العِدَّة

ص: 495

‌كتاب العِدَّة

‌38 - باب: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ} [الطلاق: 4]

قَالَ مُجَاهِدٌ: إِنْ لَمْ تَعْلَمُوا يَحِضْنَ أَوْ لَا يَحِضنَ، وَاللَّائِي قَعَدْنَ عَنِ الحَيْضِ، {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4]، {فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ} [الطلاق: 4].

سبب نزول الآية:

ما ذكره الفراء في "معانيه" أن معاذ بن جبل سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، قد عرفنا عدة التي تحيض، فما عدة الكبيرة التي يئست؟ فنزلت الآية، فقال رجل: ما عدة الصغيرة التي لم تحض؟ فقال: "واللائي لم يحضن بمنزلة الكبيرة التي قد يئست، عدتها ثلاثة أشهر". فقام آخر فقال: والحوامل يا رسول الله، ما عدتهن؟ فقال:{وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] فإذا وضعت الحامل

ص: 497

ذا بطنها حلت (للزوج)

(1)

، وإن كان الميت على السرير لم يدفن

(2)

.

وذكره أيضًا عبد بن حميد في "تفسيره" عن عمر بن الخطاب بنحوه

(3)

، وروى الواحدي من حديث أبي عثمان عمرو بن سالم، قال: لما نزلت عدة النساء في سورة البقرة قال أبي بن كعب: يا رسول الله، إن ناسًا

(4)

من أهل المدينة يقولون: قد بقي من النساء ما لم يذكر فيهن شيء. قال: "وما هو؟ " قال: الصغار والكبار، وذوات الحمل. فنزلت الآية

(5)

، وقال مقاتل في "تفسيره" عن خلاد الأنصاري: يا رسول الله، ما عدة من لم تحض؟ فنزلت

(6)

.

وقال الزجاج: الذي يذهب إليه مالك، واللغة تدل عليه أن معناه:{إِنِ ارْتَبْتُمْ} في حيضها وقد انقطع عنها الحيض، وكانت ممن تحيض مثلها، فعدتها ثلاثة أشهر، وذلك بعد أن تترك تسعة أشهر بمقدار الحمل، ثم تعتد بعد ذلك ثلاثة أشهر، فإن حاضت في هذِه الثلاث تمت ثلاث حيض، وجائز أن يتأخر الحيض، فتكون كلما قاربت أن تخرج من الثلاث حاضت، وهو مروي عن عمر أيضًا.

وقال أهل العراق: تترك ولو بلغت في ذلك أكثر من ثلاثين سنة، ولو بلغت إلى السبعين حتى تبلغ مبلغ من لا تحيض

(7)

.

(1)

كذا في الأصول، وفي "معاني القرآن" للأزواج.

(2)

"معاني القرآن" 3/ 163.

(3)

انظر: "تفسير القرطبي" 18/ 162.

(4)

كذا في الأصول وفي "أسباب النزول"(نساء).

(5)

"أسباب النزول" ص 458.

(6)

عزاه لعبد بن حميد السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 358.

(7)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 2/ 382.

ص: 498

قالوا: ولو شاء الله لابتلاها بأكثر من ذلك، وكذلك {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4]. معناه عند مالك: إن أرتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر، فأما المسنة التي لا يجوز أن تحيض مثلها، والصغيرة التي لا يبقى ريب في أنه تحيض مثلها، فلا عدة عند مالك عليها في الطلاق، والمسند عند مالك وغيره بإجماع التي قد يئست من المحيض ولا ارتياب في أمرها أنها لا تحيض بعد ثلاثة أشهر، ولم يأت في القرآن العظيم النص على ذلك، ولكن فيه دليل عليه

(1)

.

فأما الصغيرة التي لا يوطأ مثلها، فإن دخل بها زوجها ووطئها فكأنه إنما عقرها، ولا عدة عند مالك عليها؛ إلا أن يكون مثلها تستقيم أن توطأ، وإنما هي عنده في عداد من لم يدخل بها، والذي في القرآن يدل على أن الآيسة التي لا يرتاب فيها يجب أن تعتد ثلاثة أشهر. قوله:{وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ} [الطلاق: 4] الآية، وقياس اللائي لا يحضن قياس اللائي لم يحضن، فلم يحتج إلى ذكر ذلك، وإذا كان عدة المرتاب فيها ثلاثة أشهر فالتي لا يرتاب فيها أولى بذلك.

ونقل ابن بطال أيضًا إجماع العلماء على أن عدة اليائسة من الحيض لكبر ثلاثة أشهر، وكذا الصغيرة

(2)

، وإنما اختلفوا إذا ارتفع حيض المرأة الشابة التي يمكن مثلها أن تحيض، فروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: أيما امرأة طلقت فحاضت حيضة أو حيضتين، ثم رفعتها حيضتها إنما تنتظر تسعة أشهر، فإن بان بها حمل، وإلا اعتدت بعد التسعة أشهر ثلاثة أشهر ثم حلت

(3)

.

(1)

انظر: "النوادر والزيادات" 5/ 24.

(2)

ابن بطال 7/ 384.

(3)

رواه مالك في "الموطأ" ص (360).

ص: 499

وروي مثله عن ابن عباس قال: عدة المرتابة سنة.

وروي عن الحسن البصري، وهو قول مالك والأوزاعي.

وروى ابن القاسم، عن مالك: أنها تعتد من يوم رفعتها حيضتها، لا من يوم طلقت، تنتظر تسعة أشهر، فإن لم تحض فيهن اعتدت ثلاثة أشهر، فإن حاضت قبل أن تستكملها استقبلت الحيض، وقال الأوزاعي: إذا طلق امرأته وهي شابة فارتفعت حيضتها فلم تر شيئُا ثلاثة أشهر فإنها تعتد سنة

(1)

.

وقال أبو حنيفة والثوري والليث والشافعي في التي يرتفع حيضها وهي غير آيسة: إن عدتها الحيض أبدًا، وإن تباعد ما بين الحيضتين، حتى تدخل في السنن التي لا تحيض في مثله أهلها من النساء، فتستأنف عدة الآيسة ثلاثة أشهر، روي هذا عن ابن مسعود وزيد بن ثابت، وأخذ مالك في ذلك بقول ابن عمر، وهو الذي رأى عليه الفتوى والعمل بالمدينة

(2)

.

وأخذ الكوفيون بظاهر القرآن، وظاهره لا يدخل فيه لذوات الأقراء في الاعتداد بالأشهر الآيسة والصغيرة، فمن لم يكن منهما فعدتها الأقراء وإن تباعدت.

وحجة مالك أن المرتابة تعتد بالأشهر؛ لأن في ذلك يظهر حملها على كل حال، فلا يمكن أن يستتر الحمل في الشهر التاسع، فإذا استوقن أن لا حمل في هذِه المدة، قيل: قد علمنا أنك لست مرتابة،

(1)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 2/ 382، "الاستذكار" 18/ 95 - 96 "الإشراف" 1/ 260.

(2)

انظر: هذِه المسألة: "مختصر اختلاف العلماء" 2/ 382، "الاستذكار" 18/ 95 - 96.

ص: 500

ولا من ذوات الأقراء، فاستأنفي ثلاثة أشهر، كما قال تعالى فيمن ليست من ذوات الأقراء، قياسًا على أن العدة بالشهور لصغر إذا حاضت قبل تمام الثالثة علم أنها من ذوات الأقراء فقيل لها: استأنفي الأقراء.

فصل:

وقول مجاهد إلى آخره، أخرجه عبد بن حميد عن شبانة، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح عنه. وعن مالك بن إسماعيل، عن زهير: ثَنَا خالد، عن عطاء ومجاهد بنحوه.

وقال اين المرابط: لعل مجاهدًا يعرف أمرها فهذِه أيضًا نحكم فيها بثلاثة أشهر من أجل ما يلحقها من الريبة التي قال تعالى: {إِنِ ارْتَبْتُمْ} [الطلاق: 4].

وحكى ابن التين بعد قول مجاهد أنه قيل {إِنِ ارْتَبْتُمْ} أي: نسيتم، وقيل: شككتم في الحكم، قاله ابن عبد الملك.

وروي عن عمر أن هذا فيمن اعتدت حيضة أو حيضتين، ثم استقرأت فتنتظر سبعة أيام، ثم ثلاثة أشهر عدة.

ص: 501

‌39 - باب {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4]

5318 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ الأَعْرَجِ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ زَيْنَبَ ابْنَةَ

(1)

أَبِي سَلَمَةَ أَخْبَرَتْهُ، عَنْ أُمِّهَا أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ امْرَأَةً مِنْ أَسْلَمَ يُقَالُ لَهَا: سُبَيْعَةُ كَانَتْ تَحْتَ زَوْجِهَا، تُوُفِّيَ عَنْهَا وَهْيَ حُبْلَى، فَخَطَبَهَا أَبُو السَّنَابِلِ بْنُ بَعْكَكٍ، فَأَبَتْ أَنْ تَنْكِحَهُ، فَقَالَ: وَاللهِ مَا يَصْلُحُ أَنْ تَنْكِحِيهِ حَتَّى تَعْتَدِّي آخِرَ الأَجَلَيْنِ. فَمَكُثَتْ قَرِيبًا مِنْ عَشْرِ لَيَالٍ، ثُمَّ جَاءَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:«انْكِحِي» . [انظر: 4809 - مسلم: 1485 - فتح 9/ 469].

5319 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ اللَّيْثِ، عَنْ يَزِيدَ، أَنَّ ابْنَ شِهَابٍ كَتَبَ إِلَيْهِ، أَنَّ عُبَيْدَ اللهِ بْنَ عَبْدِ اللهِ أَخْبَرَهُ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى ابْنِ الأَرْقَمِ أَنْ يَسْأَلَ سُبَيْعَةَ الأَسْلَمِيَّةَ كَيْفَ أَفْتَاهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَتْ: أَفْتَانِي إِذَا وَضَعْتُ أَنْ أَنْكِحَ. [انظر: 3991 - مسلم: 1484 - فتح 9/ 469].

5320 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ أَنَّ سُبَيْعَةَ الأَسْلَمِيَّةَ نُفِسَتْ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِلَيَالٍ، فَجَاءَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَأْذَنَتْهُ أَنْ تَنْكِحَ، فَأَذِنَ لَهَا، فَنَكَحَتْ. [فتح 9/ 470].

ذكر فيه حديث أم سلمة رضي الله عنها أَنَّ أمْرَأَةً مِنْ أَسْلَمَ يُقَالُ لَهَا: سبَيْعَةُ كَانَتْ تَحْتَ زَوْجِهَا، تُوُفِّيَ عَنْهَا وَهْيَ حُبْلَي، فَخَطَبَهَا أَبُو السَّنَابِلِ بْنُ بَعْكَكٍ، فَأَبَتْ أَنْ تَنْكِحَهُ، فَقَالَ: والله مَا يَصْلُحُ أَنْ تَنْكِحِيهِ حَتَّى تَعْتَدِّي آخِرَ الأَجَلَيْنِ. فَمَكُثَتْ قَرِيبًا مِنْ عَشْرِ لَيَالٍ، ثُمَّ جَاءَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"انْكِحِي".

(1)

في الأصل بدون ألف.

ص: 502

وحديث الليث عَنْ يَزِيدَ، أَنَّ ابن شِهَاب كَتَبَ إِلَيْهِ، أَنَّ عُبَيْدَ اللهِ بْنَ عَبْدِ اللهِ أَخْبَرَهُ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى ابن الأَرقَمِ أَنْ يَسْأَلَ سُبَيْعَةَ الأَسْلَمِيَّةَ كَيْفَ أَفْتَاهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَتْ: أَفْتَانِي إِذَا وَضَعْتُ أَنْ أَنْكِحَ.

وحديث المسور بن مخرمة أَنَّ سُبَيْعَةَ الأَسْلَمِيَّةَ نُفِسَتْ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِلَيَالٍ، فَجَاءَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَأْذَنَتْهُ أَنْ تَنْكِحَ، فَأَذِنَ لَهَا، فَنَكَحَتْ.

حديث سبيعة سلف في التفسير.

وقول الليث: حدثني يزيد، عن ابن شهاب. وهو يزيد بن أبي حبيب، كما ذكره ابن مسعود في "أطرافه" وغيره، وصرح به أبو نعيم والطبراني

(1)

، ورواه النسائي من حديث يزيد بن أبي أنيسة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن محمد بن مسلم به

(2)

.

وأما الدمياطي فقال: يزيد هذا هو ابن عبد الله بن أسامة بن الهاد، فينظر.

ولحديث سبيعة طريق آخر أخرجه أحمد في "مسنده" عن إسحاق بن عيسى. حَدَّثَثَا ابن لهيعة، عن بكير، عن بسر، عن أبي بن كعب: أن امرأته أم الطفيل قالت لعمر رضي الله عنه: قد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سبيعة أن تنكح إذا وضعت

(3)

.

فصل:

الذي عليه أكثر العلماء كما قاله القاضي إسماعيل، والذي مضى عليه العمل أنها إذا وضعت حملها فقد انقضت عدتها، وذهبوا إلى أن

(1)

"المعجم الكبير" 24/ 294 (748).

(2)

"النسائي" 6/ 195.

(3)

"المسند" 6/ 375.

ص: 503

الآية قد عمت كل معتدة من طلاق أو وفاة؛ إذ جاءت مجملة، فلم يذكر فيها أنها للمطلقة خاصة، ولا للمتوفي عنها خاصة، فكانت عامة في كل معتدة فوجب أن تكون الأقراء والشهور الثلاثة للمطلقة إذا لم تكن حاملًا؛ على ما جاء فيه من النص، فوجب أن تكون الأربعة أشهر والعشر للمتوفى عنها إذا لم تكن حاملاً، ووجب أن تكون كل ذات حمل مات عنها زوجها أو طلقها فأجلها أن تضع حملها.

وحديث الباب شاهد له، وعليه علماء الحجاز والعراق والشام منهم: عُمر، وابنه، وابن مسعود، وأبو هريرة، ولا أعلم فيه مخالفًا من السلف إلا ابن عباس

(1)

، ورواية عن علي فإنهما قالا: عدتها آخر الأجلين: الأشهر أو الوضع.

وروي أيضًا عن سحنون، وروي عن ابن عباس الرجوع عن ذلك، وتصحيح ذلك أن أصحابه: عطاء وعكرمة وجابر بن زيد قالوا كقول الجماعة، وقال حماد بن أبي سليمان: لا تخرج من العدة حتى ينقضي نفاسها وتغتسل منه. وروي أيضًا عن الحسن وإبراهيم والشعبي

(2)

.

قال ابن القصار: هو قياس قول أبي حنيفة؛ لأنه يقول: الأقراء هي الحيض، فإذا مضت ثلاث حيض لم تخرج من العدة حتى تغتسل.

وقال ابن مسعود [في]

(3)

قول عليٍّ (في ذلك)

(4)

: من شاء لاعنته أن هذِه الآية التي في سورة النساء القصرى {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ

(1)

قول ابن عباس سلف في التفسير (4909).

(2)

انظر: "النوادر والزيادات" 5/ 25، "الاستذكار" 18/ 177 - 178.

(3)

زيادة يقتضيها السياق وإلا لأصبح القول قول علي.

(4)

من (غ).

ص: 504

حَمْلَهُنَّ} نزلت بعد التي في البقرة: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} [البقرة: 234]، الآية.

ولولا حديث سبيعة وهذا البيان من رسول الله صلى الله عليه وسلم في هاتين الآيتين لكان القول ما قاله علي وابن عباس؛ لأنهما عدتان مجتمعان فلا تخرج منهما إلا بيقين، واليقين في ذلك آخر الأجلين، ألا ترى إلى قول فقهاء الحجاز والعراق في أم الولد يموت عنها زوجها، ويموت سيدها، ولا تدري أيهما مات أولاً أن عليها عدتين أربعة أشهر وعشرًا، فيها حيضة عند الشافعي، وذلك لها آخر الأجلين.

وعند أبي حنيفة لا حيضة فيها.

وعند أبي يوسف ومحمد فيها ثلاث حيض

(1)

، إلا أن السنة وردت من ذلك في الحامل المتوفى عنها في سبيعة، ولو بلغت السنةُ عليًّا ما تركها. وأما ابن عباس فقد روي عنه أنه رجع إلى حديث سبيعة بعد المنازعة منه كما سلف.

فصل:

سبيعة هذِه: بنت الحارث الأسلمية، وزوجها سعد بن خولة، مولى بني عامر بن لؤي، كان من اليمن، وقيل: من عجم الفرس، هاجر إلى الحبشة، وشهد بدرًا وما بعدها، وتوفي بمكة في حجة الوداع، ورثى له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة، ووضعت زَوجُه سبيعة بعد وفاته بليال، قيل: خمس وعشرين ليلة، وقيل: أقل من ذلك

(2)

.

(1)

انظر: "الإشراف" 1/ 265 - 266.

(2)

انظر: "الاستيعاب" 4/ 114، "أسد الغابة" 7/ 137، "تهذيب الكمال" 35/ 193.

ص: 505

فصل:

وأبو السنابل بن بعكك: هو ابن الحارث بن السباق بن عبد الدار بن قصي بن كلاب بن مرة، قيل: اسمه حبة، وقيل غير ذلك كما سلف، أسلم يوم الفتح، وكان شاعرًا، ومات بمكة، وكان أسر يوم بدر

(1)

.

فصل:

ابن الأرقم هو عبد الله بن الأرقم بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف بن زهرة، أسلم عام الفتح، وكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لأبي بكر، ثم لعمر، واستعمله على بيت المال عثمانُ سنتين، ثم استعفاه فأعفاه، قال عمر: ما رأيت أخشى لله منه

(2)

.

فصل:

قولها: (فمكثت قريبًا من عشر ليالٍ). تريد بعد أن ولدت، وفي "الموطأ" ولدت بعد وفاة زوجها بنصف شهر فخطبها رجلان: أحدهما شاب، والآخر كهل، فمالت إلى الشاب فقال الكهل: لم تحلي. وكان أهلها غيبًا، فرجا أن يؤثره أهلها إذا جاءوا، فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"انكحي من شئت"

(3)

.

فصل:

وقوله: (وقال: والله ما يصلح أن تنكحي حتى تعتدي آخر الأجلين). هذا هو الصواب.

(1)

انظر: "الاستيعاب" 4/ 246، "أسد الغابة" 6/ 156، "تهذيب الكمال" 33/ 385 (7416)، "الإصابة" 4/ 95 (570).

(2)

انظر: "الاستيعاب" 3/ 3 (1477)، "أسد الغابة" 3/ 172، "تهذيب الكمال" 14/ 301 (3160)، "سيبر أعلام النبلاء" 2/ 482 (98)

(3)

"الموطأ" برواية يحيى ص (364).

ص: 506

ووقع عند الشيخ أبي الحسن: فقالت، وهو تحريف؛ لأن أبا السنابل خاطبها بذلك.

وقوله: (نُفست)، هو بضم النون وفتحها، وإن كان الهروي قال: نفست بهما: إذا ولدت، فإذا حاضت فالفتح لا غير.

فصل:

فيه: جواز المكاتبة بالعلم، وبه أخذ من جوزها.

ص: 507

‌40 - باب قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]

وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ فِيمَنْ تَزَوَّجَ فِي الْعِدَّةِ، فَحَاضَتْ عِنْدَهُ ثَلَاثَ حِيَضٍ: بَانَتْ مِنَ الأَوَّلِ، وَلَا تَحْتَسِبُ بِهِ لِمَنْ بَعْدَهُ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: تَحْتَسِبُ. وَهَذَا أَحَبُّ إِلَى سُفْيَانَ، يَعْنِي: قَوْلَ الزُّهْرِيِّ. وَقَالَ مَعْمَرٌ: يُقَالُ أَقْرَأَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا دَنَا حَيْضُهَا، وَأَقْرَأَتْ إِذَا دَنَا طُهْرُهَا، وَيُقَالُ: مَا قَرَأَتْ بِسَلًى قَطُّ، إِذَا لَمْ تَجْمَعْ وَلَدًا فِي بَطْنِهَا.

الشرح:

أثر إبراهيم أخرجه ابن أبي شيبة، عن عبدة بن أبي سليمان، عن إسماعيل بن أبي خالد عنه

(1)

. يعني: بالحيض لا تكون عدة للثاني، لأن العلماء مجمعون على أن الناكح في العدة يفسخ نكاحه ويفرق بينهما، كما قاله ابن بطال. قال: وهذِه مسألة اجتماع العدتين واختلف العلماء فيها، فروى المدنيون عن مالك: إن كانت حاضت حيضة أو حيضتين من الأول أنها تتم بقية عدتها منه، ثم تستأنف عدة أخرى من الآخر على ما روي عن عمر وعلي، وهو قول الليث والشافعي وأحمد وإسحاق.

وروى ابن القاسم عن مالك أن عدة واحدة تكون لهما جميعًا، سواء كانت العدة بالحمل أو الحيض أو المشهور، وهو قول الثوري والأوزاعي وأبي حنيفة وأصحابه

(2)

.

(1)

"المصنف"4/ 153 (18787)

(2)

انظر "مختصر اختلاف العلماء" 2/ 300، "الاستذكار" 17/ 219.

ص: 508

والحجة لهذِه إجماعهم أن الأول لا ينكحها في بقية العدة من الثاني؛ فدل على أنها في عدة من الثاني، فلولا ذلك لنكحها في عدتها منه، ووجه الأولى أنهما حقان قد وجبا عليها لزوجين، كسائر الحقوق لا يدخل أحدهما في صاحبه

(1)

.

وقوله: (وقال معمر .. ) إلى آخره. معمر هذا: هو أبو عبيدة اللغوي الإِمام، وقد ذكره كذلك في "مجازه"، وهو بضم

(2)

القاف وفتحها، قال ابن فارس: يقال أقرأت المرأة: إذا خرجت من طهر إلى حيض، أو من حيض إلى طهر

(3)

.

والأقراء جمع قرء، والقروء: أوقات، وقت يكون للطهر مرة، وللحيض مرة. ويقال: القرء هو الطهر، وكذلك المرأة الطاهر [إن]

(4)

كان الدم اجتمع فامتسك في بدنها، فهو من قريت الماء، وقرى الآكل الطعام في شدقه. وقد يختلف اللفظان فيهمز أحدهما ولا يهمز الآخر.

واختلف العلماء في الأقراء التي تجب على المرأة إذا طلقت ما هي، والوقت الذي تبين فيه المطلقة من زوجها حتى لا تكون عليها رجعة.

فقالت طائفة: هو أحق بها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة. هذا قول (ابن عمر)

(5)

وعلي وابن مسعود.

(1)

"ابن بطال" 7/ 489.

(2)

ورد بهامش الأصل: هذا الكلام في القرء.

(3)

"مجمل اللغة" 2/ 750.

(4)

زيادة يقتضيها السياق.

(5)

كذا في الأصول، وفي عبد الرزاق 6/ 316، 315، و"الاستذكار" 18/ 34: عمر.

ص: 509

وروي أيضًا عن الصديق وعثمان وأبي موسى وعبادة بن الصامت وأبي الدرداء، وإليه ذهب الثوري

(1)

وإسحاق وأبو عبيد.

وفيها قول ثان: أنه أحق بها ما كانت في الدم، روي عن طاوس وسعيد بن جبير، وهذا على مذهب من يقول الأقراء: الحيض، ومن قال الأقراء: الأطهار، (يرى)

(2)

له الرجعة ما لم يراق الدم من الحيض الثالث إذا طلقها وهي طاهر، هذا قول مالك والشافعي وأبي ثور.

وممن قال الأقراء: الأطهار من السلف: زيد بن ثابت وابن عمر وعائشة والقاسم وسالم والشافعي ومالك

(3)

.

وقال أبو بكر بن عبد الرحمن: ما أدركت أحد من فقهائنا إلا يقول بقول عائشة. ولم يختلف أهل اللغة أن العرب تسمي كلًا منهما قرءًا وتسمي الوقت الذي يجمعهما قرءًا، فلما احتمل اللفظ هذِه الوجوه في اللغة، وجب أن نطلب الدليل على المراد في الآية، فوجدناه حديث ابن عمر في أمره بطلاقها في الطهر وجعل العدة بقوله:"فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء"

(4)

، ونهاه أن يطلق في الحيض، وأخرجه من أن يكون عدة فثبت أنها الأطهار.

فإن استدل المخالف بقوله: "دعي الصلاة أيام إقرائك". أي: حيضك؛ لأنه لا يأمر بتركها أيام الطهر، فيجاب بأنه ليس في هذا

(1)

انظر هذِه الآثار في مصنف عبد الرزاق 6/ 315 - 320.

(2)

في الأصل (لا يرى) والصواب الإثبات لا النفي حيث من المعلوم أن للزوج الرجعة في العدة بلا خلاف.

(3)

انظر هذِه المسألة في: "مختصر اختلاف العلماء" 2/ 385 - 386، "الاستذكار" 18/ 32 - 37.

(4)

سلف برقم (4908).

ص: 510

أكثر من إطلاقه على الحيض ونحن لا نمنع منه.

والحديث خطاب للمستحاضة أن تترك الصلاة عند إقبال دم حيضتها، ولا خلاف فيه، وحديث ابن عمر قال على أن الأقراء فيه الأطهار، وهي المعتد بها، وأن إقراءها إقبال الدم. فالمسألتان مختلفتان عدة وصلاة.

فإن قلت: إطلاق اسم القرء يطلق على الحيض؛ لأنها إنما تسمى من ذوات الأقراء إذا حاضت.

قلت: اسم القروء للطهر الذي ينتقل إلى الحيض، ولا نقول: إنه اسم للطهر من الحيض، فإنما لم تقل هي من ذوات الأقراء إذا لم تحض؛ لأنه طهر لم يتعقبه حيض فإذا حاضت فقد وجد طهر يتعقبه حيض.

وقد اختلف (أصحابه)

(1)

في هذِه المسألة: فقال أحد عشر صاحبًا منهم الأربعة وابن عباس ومعاذ: إنه الحيض، وقال به جماعة من التابعين.

وينبغي أن يتقدم قول عائشة وابن عمر؛ لأن عائشة أعرف بحال الحيض لما تختص به من حال النساء وقربها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك ابن عمر؛ لأنه قد عرف الطلاق في الحيض وما أصابه فيه، فهو أعلم به من غيره، وحكي أن الطريق إلى ما ذكره عن الصحابة غير ثابت

(2)

.

(1)

كذا بالأصل، وفي "شرح ابن بطال": الصحابة.

(2)

انظر: "شرح ابن بطال" 7/ 487 - 489.

ص: 511

‌41 - باب قِصَّةِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ

وَقَوْلِهِ {وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ} إِلَى قَوْلِهِ {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق: 6 - 7].

5321، 5322 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّهُ سَمِعَهُمَا يَذْكُرُانِ، أَنَّ يَحْيَى بْنَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ طَلَّقَ بِنْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَكَمِ، فَانْتَقَلَهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، فَأَرْسَلَتْ عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى مَرْوَانَ -وَهْوَ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ-: اتَّقِ اللهَ وَارْدُدْهَا إِلَى بَيْتِهَا. قَالَ مَرْوَانُ فِي حَدِيثِ سُلَيْمَانَ: إِنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْحَكَمِ غَلَبَنِي. وَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ: أَوَمَا بَلَغَكِ شَأْنُ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ؟ قَالَتْ: لَا يَضُرُّكَ أَنْ لَا تَذْكُرَ حَدِيثَ فَاطِمَةَ. فَقَالَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ: إِنْ كَانَ بِكِ شَرٌّ فَحَسْبُكِ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ مِنَ الشَّرِّ. [5323، 5324، 5325، 5326، 5327، 5328 - مسلم: 1481 - فتح 9/ 477].

5323، 5324 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: مَا لِفَاطِمَةَ، أَلَا تَتَّقِي اللهَ؟! يَعْنِي: فِي قَوْلِهَ: "لَا سُكْنَى وَلَا نَفَقَةَ". [انظر: 5321، 5322 - مسلم: 1481 - فتح 9/ 477].

5325، 5326 - حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَبَّاسٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ لِعَائِشَةَ: أَلَمْ تَرَيْنَ إِلَى فُلَانَةَ بِنْتِ الْحَكَمِ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا الْبَتَّةَ فَخَرَجَتْ؟ فَقَالَتْ بِئْسَ مَا صَنَعَتْ. قَالَ: أَلَمْ تَسْمَعِي فِي قَوْلِ فَاطِمَةَ؟ قَالَتْ: أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ لَهَا خَيْرٌ فِي ذِكْرِ هَذَا الْحَدِيثِ.

وَزَادَ ابْنُ أَبِى الزِّنَادِ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ عَابَتْ عَائِشَةُ أَشَدَّ الْعَيْبِ وَقَالَتْ: إِنَّ فَاطِمَةَ كَانَتْ فِى مَكَانٍ وَحِشٍ فَخِيفَ عَلَى نَاحِيَتِهَا، فَلِذَلِكَ أَرْخَصَ لَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. [انظر: 5321، 5322 - مسلم: 1481 - فتح 9/ 477].

وذكر بإسناده عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ القَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّهُ سَمِعَهُمَا يَذْكُرَانِ أَنَّ يَحْيَى بْنَ سَعِيدِ بْنِ العَاصِ طَلَّقَ بِنْتَ عَبْدِ

ص: 512

الرَّحْمَنِ بْنِ الحَكَم، فَانْتَقَلَهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، فَأَرْسَلَتْ عَائِشَةُ أُمُّ المُؤْمِنِينَ إِلَى مَرْوَانَ -وَهْوَ أَمِيرُ المَدِينَةِ-: اتَّقِ الله وَارْدُدْهَا إِلَى بَيْتِهَا. قَالَ مَرْوَانُ في حَدِيثِ سُلَيْمَانَ: إِنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ غَلَبَنِي. وَقَالَ القَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ: أَوَمَا بَلَغَكِ شأْنُ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ؟ قَالَتْ: لَا يَضُرُّكَ أَنْ لَا تَذْكُرَ حَدِيثَ فَاطِمَةَ. فَقَالَ مَرْوَانُ: إِنْ كَانَ بِكِ شَرٌّ فَحَسْبُكِ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ مِنَ الشَّرِّ.

ثم روى حديث عائشة رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ: مَا لِفَاطِمَةَ، أَلَا تَتَّقِي الله؟! يَعْنِي: في قَوْلِهِا: "لَا سُكْنَى وَلَا نَفَقَةَ".

ثم روي من حديث عبد الرحمن بن القاسم، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ لِعَائِشَةَ: أَلَمْ تَرى إلى فُلَانَةَ بِنْتِ الحَكَمِ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا البَتَّةَ فَخَرَجَتْ؟ فَقَالَتْ بِئْسَ مَا صَنَعَتْ. قَالَ: أَلَمْ تَسْمَعِي في قَوْلِ فَاطِمَةَ؟ قَالَتْ: أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ لَهَا خَيْرٌ فِي ذِكْرِ هذا الحَدِيثِ.

الشرح:

قال ابن عبد البر: حديث فاطمة هذا مروي من وجوه صحاح متواترة عنها

(1)

.

واختلف العلماء كما قال ابن المنذر في خروج المبتوتة بالطلاق من بيتها في عدتها، فمنعت من ذلك طائفة، روي ذلك عن ابن مسعود وابن عمر وعائشة، ورأى سعيد بن المسيب والقاسم وسالم وأبو بكر بن عبد الرحمن وخارجة بن زيد وسليمان بن يسار أن تعتد في بيت زوجها حيث طلقها، وحكئ أبو عبيد هذا القول عن مالك والثوري والكوفيين أنهم كانوا يرون ألا تبيت المبتوتة والمتوفى عنها إلا في بيتها.

(1)

"التمهيد" 19/ 155.

ص: 513

وفيها قول آخر أن المبتوتة تعتد حيث شاءت، روي ذلك عن ابن عباس وجابر وعطاء وطاوس والحسن وعكرمة، وقال أحمد وإسحاق: تخرج المطلقة ثلاثاً -على حديث فاطمة- ولا سكنى لها ولا نفقة.

قال ابن المنذر: وإنما اختلف أهل العلم في خروج المطلقة ثلاثًا من بيتها، أو مطلقة لا رجعة للزوج عليها. فأما من له عليها الرجعة فتلك في معاني الأزواج، وكل من أحفظ عنه العلم يرى لزوجها منعها من الخروج، حتى تنقضي عدتها؛ لقوله تعالى:{وَلَا يَخْرُجْنَ}

(1)

[الطلاق: 1] الآية.

وكان مالك يقول: المتوفى عنها زوجها تزور وتقيم إلى قدر ما يهدأ الناس بعد العشاء، ثم تنقلب إلى بيتها

(2)

. وهو قول الليث والشافعي وأحمد

(3)

.

وقال أبو حنيفة: تخرج المتوفى عنها نهارًا، ولا تبيت عن بيتها، ولا تخرج المطلقة لا ليلاً ولا نهارًا

(4)

، وفرقوا بينهما. فقالوا: المطلقة لها السكنى عندنا، والنفقة في عدتها على زوجها، فذلك يغنيها عن الخروج، والمتوفى عنها لا نفقة لها، فلها أن تخرج في بياض النهار وتبتغي من فضل ربها

(5)

.

(1)

"الإشراف" 1/ 252.

(2)

"المدونة" 2/ 105، 104.

(3)

انظر: "الاستذكار" 18/ 181.

(4)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 2/ 394 - 395.

(5)

انظر: "شرح معاني الآثار" 3/ 81، "مختصر اختلاف العلماء" 2/ 394 - 395.

ص: 514

وقال محمد: لا تخرج المطلقة ولا المتوفى عنها ليلاً ولا نهارًا في العدة

(1)

.

وقالت طائفة: المتوفى عنها تعتد حيث شاءت.

روي هذا عن علي وابن عباس وجابر وعائشة وعن عطاء والحسن.

قال ابن عباس: إنما قال الله تعالى: تعتد أربعة أشهر وعشرًا، ولم يقل تعتد في بيتها، فتعتد حيث شاءت

(2)

. وقام الإجماع على أن الرجعية تستحق السكنى والنفقة؛ إذ حكمها حكم الزوجات في جميع أمورها.

واختلف في وجوب السكنى والنفقة للمطلقة ثلاثًا إذا لم تكن حاملاً، فقالت طائفة: لا فيهما على نص حديث الباب. وروي عن علي وابن عباس وجابر، وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثور.

وممن قال لا نفقة للمبتوتة إبراهيم في رواية، والحسن وعكرمة وسعيد بن جبير وعروة فيما ذكره ابن أبي شيبة بأسانيد جيدة

(3)

وخالف ذلك جابر بن عبد الله والحسن وعطاء والشعبي وشريح القاضي والحكم وحماد وإبراهيم والإسناد إليهم جيد

(4)

.

وقالت أخرى: للمبتوتة السكنى دون النفقة. روي عن سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وعطاء والشعبي، وهو قول مالك وابن أبي ليلى والليث والأوزاعي والشافعي.

(1)

كذا في الأصول، والذي وقفت عليه أن قول محمد بن الحسن كقول أبي حنيفة انظر:"شرح معاني الآثار" 3/ 81، "مختصر اختلاف العلماء" 2/ 394 - 395، المبسوط 6/ 32.

(2)

روى هذه الآثار عبد الرزاق 7/ 30، 29.

(3)

"المصنف" 4/ 142 (18661 - 18664).

(4)

انظر "مصنف ابن أبي شيبة" 4/ 141.

ص: 515

وقالت طائفة ثالثة: لكل مطلقة السكنى والنفقة ما دامت في العدة حاملًا كانت أو غير حامل، مبتوتة كانت أو رجعية. هذا قول الثوري والكوفيين

(1)

، وروي عن عمر وابن مسعود

(2)

.

احتج الكوفيون بأن عمر وعائشة وأسامة بن زيد ردوا حديث فاطمة بنت قيس، وأنكروه عليها، وأخذوا في ذلك بما رواه الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عمر أنه قال: لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة وهمت أو نسيت. وكان عمر رضي الله عنه يجعل لها النفقة والسكنى

(3)

وقال ابن حزم: ما كنا لنعتد في ديننا بشهادة امرأة

(4)

، ووصل هذا أبو يوسف، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عمر

(5)

.

وفي الدارقطني أن عمر قال لها: إن جئت بشاهدين يشهدان أنهما سمعا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلا لم نترك كتاب الله لقول امرأة {لَا تُخرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنّ} . ولم يقل فيه وسنة نبينا، وهذا أصح؛ لأنه لا يثبت

(6)

.

والحديث عند النسائي بدونها

(7)

قالوا: ما احتج به عمر في دفع حديث فاطمة حجة صحيحة، وذلك أن الله تعالى قال:{يأيُّهَا ألنَّبىُّ إِذَا طَلَّقتُمُ ألنِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] ثم قال: {لَا تَدرِى لَعَلَّ

(1)

انظر "مختصر اختلاف العلماء" 2/ 399: "الاستذكار" 18/ 53 - 54.

(2)

"ابن أبي شيبة" 4/ 142.

(3)

رواه مسلم (1480) كتاب الطلاق، باب: المطلقة ثلاثًا لا نفقة لها.

(4)

هذا من قول عمر لا ابن حزم كما في "المحلى" بل رد هذا الخبر عن عمر ابن حزم فقال هذا باطل بلا شك؛ لأنه منقطع.

(5)

"المحلى" 10/ 295.

(6)

"السنن" 4/ 26.

(7)

النسائي 6/ 209.

ص: 516

اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1] وأجمعوا أن الأمر إنما هو الرجعة ثم قال تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ} [الطلاق: 6] الآية.

ثم قال: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ} [الطلاق: 1] يريد في العدة، فكانت المرأة إذا طلقها زوجها اثنتين للسنة ثم راجعها كما أمر الله ثم طلقها أخرى للسنة حرمت عليه ووجبت عليها العدة التي جعل الله لها فيها السكنى وأمرها فيها ألا تخرج، وأمر الزوج ألا يخرجها، ولم يفرق بين مطلقة ومطلقة، فلما جاءت فاطمة هذِه فروت عن النبي صلى الله عليه وسلم:"إنما السكنى والنفقة لمن كانت عليها الرجعة"، خالفت بذلك كتاب الله؛ لأن الله تعالى جعل السكنى لمن لا رجعة عليها، وخالفت السنة؛ لأن عمر رضي الله عنه خالف ما روت، فخرج المعنى الذي منه أنكر عمر عليها ما أنكر خروجًا صحيحًا، وبطل حديث فاطمة فلم يجب العمل به أصلاً؛ لما بينا.

وقال الكوفيون: إن السكنى تتبع النفقة فتجب بوجوبها وتسقط بسقوطها فقال لهم أصحاب مالك: السكنى التي في حالة الزوجية هي تبع النفقة من أجل التمكين من الاستمتاع، فلا يجوز أن تسقط إحداهما وتجب الأخرى، والسكنى بعد البينونة حق الله فلا تتبعها النفقة، ألا ترى أنهما لو اتفقا على سقوطها لم يجز أن تعتد في غير منزل الزوج الذي طلق فيه، وفي الزوجية يجوز أن ينقلها إلى حيث شاء، وبعد الطلاق ليس كذلك.

وقال من منعها وأخذوا بحديث فاطمة: إن عمر إنما أنكر عليها؛ لأنها خالفت عنده كتاب الله، يريد قوله:{أَسْكِنُوهُنَّ} وهذا إنما هو في الرجعية، وفاطمة كانت مبتوتة لا رجعة لزوجها عليها، وقد قالت أنه عليه السلام قال لها:"إنما النفقة والسكنى لمن كانت عليها الرجعة"

ص: 517

وفاطمة لم يكن لزوجها عليها الرجعة، فما روت من ذلك لا يدفعه كتاب الله ولا سنة نبيه، [فإن كان عمر وعائشة وأسامة أنكروا على فاطمة ما روت عن النبي صلى الله عليه وسلم]

(1)

وقالوا بخلافه، فقد تابع فاطمة على ذلك علي وابن عباس وجابر.

وحديث الشعبي بين في ذلك، روى هشيم: ثنا مغيرة وحصين وإسماعيل بن أبي خالد ومجالد، عن الشعبي قال: دخلت على فاطمة بنت قيس فسألتها عن قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في السكنى والنفقة، فقالت: طلقني زوجي البتة فخاصمته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في السكنى والنفقة، فلم يجعل لي سكنى ولا نفقة، وأمرني أن أعتد في بيت ابن أم مكتوم

(2)

وقال مجالد في حديثه: إنما السكنى والنفقة لمن كانت له الرجعة

(3)

. وأعله ابن القطان بمجالد

(4)

، ورواها أيضًا عن الشعبي سعيد بن يزيد الأحمسي، وهو ضعيف

(5)

.

واحتج من قال بالسكنى دون النفقة بأن حديث الشعبي غلط؛ لأنه قد روي عنه أنه جعل للمبتوتة السكنى وقال بعضهم: السكنى والنفقة.

وقال إسماعيل بن إسحاق: حَدَّثَنَا ابن أبي شيبة ثَنَا حميد، عن حسن بن صالح، عن السدي، عن إبراهيم والشعبي في المطلقة ثلاثًا قال: لها السكنى والنفقة

(6)

.

(1)

ساقط من الأصل وأثبتناه من "شرح ابن بطال" لاحتياج السياق إليه.

(2)

رواه مسلم (1480/ 42) كتاب: الطلاق، باب: المطلقة ثلاثًا لا نفقة لها.

(3)

رواه أحمد 6/ 416، الطبراني في "الكبير" 24/ 379 (937).

(4)

"بيان الوهم" 4/ 472 - 478

(5)

رواه النسأئي في "المجتبي" 6/ 144.

(6)

"المصنف" 4/ 141 (18649).

ص: 518

وهذا يوهن رواية الشعبي قال (أبو إسحاق)

(1)

كنت مع الأسود بن يزيد في المسجد الجامع ومعنا الشعبي يحدث بحديث فاطمة أنه عليه السلام لم يجعل لها سكنى ولا نفقة فأخذ الأسود كفًا من حصى فحصبه، وقال: ويحك أتحدث بهذا أين عمر بن الخطاب

(2)

؟ قال إسماعيل: فلعله أفتى بخلاف ما روى عن فاطمة لما (روي)

(3)

من إنكار الناس عليه.

وروى أبو عوانة، عن منصور، عن إبراهيم قال في المطلقة ثلاثًا: لها السكنى والنفقة ولا يجبر على النفقة.

قال إسماعيل: فلخص منصور في روايته شيئًا يدل على ضبطه، وبين أن إبراهيم إنما أراد إثبات السكنى دون النفقة، وإسقاط السكنى هو الذي أنكر على فاطمة، وكذلك أنكرت عليها عائشة إطلاق اللفظ

(4)

، وكتمان السبب الذي من أجله أباح عليه السلام خروجها من المنزل فقالت: اتق الله ولا تكتمي السر الذي من أجله نقلك. وذلك أنها كانت في لسانها ذرابة فاستطالت على أحمائها -أهل زوجها- فلذلك نقلها، لا أنه لا سكنى لها، والمرأة عندنا إذا آذت أهل زوجها جاز نقلها من ذلك الموضع، فدل أن عائشة رضي الله عنها علمت معنى ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة، ولم يكن قولها شيئُا قالته برأيها، ألا ترى

(1)

في الأصول: (ابن إسحاق) والصحيح ما أثبتناه كما في "صحيح مسلم"(1480) وهو أبو إسحاق السبيعي وفيه في آخره: ثم أخذ الأسود كفًا من حصى فحصبه به فقال: ويلك! تحدث بمثل هذا، قال عمر: لا نترك كتاب الله

إلخ.

(2)

رواه مسلم (1480) كتاب: الطلاق، باب: المطلق ثلاثًا لا نفقة لها.

(3)

كذا بالأصل، وصوبه محقق "ابن بطال" (رأى) لاقتضاء السياق. وقال: في الأصل: روي.

(4)

انظر: "شرح ابن بطال" 7/ 494.

ص: 519

قولها لمروان: دع عنك حديث فاطمة فإن لها شأنًا وقالت: ألا تتقي الله فاطمةُ، علمت يقينًا أنها عرفت قصتها كيف كانت.

وقول مروان لعائشة: إن كان بك من الشر فحسبك ما بين هذين من الشر. يدل أن فاطمة إنما أمرت بالتحويل إلى الموضع الذي أمرت به لشر كان بينها وبينهم. وإذا كان الشر والشقاق واقعًا بين الزوجين جاز للحاكم أن يبعث إليها حكمين يكون لهما الجمع بينهما أو الفرقة. فكان تحويل المعتدة من مسكن إلى مسكن إذا وقع الشر أحرى أن يجوز.

وقد روي في قوله تعالى: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} أحاديث: فمنهم من ذهب إلى أن الفاحشة البذاء وسوء الخلق، وهذا يشبه قول مروان السالف. وقد روي غير ذلك على ما يأتي ذكره في الباب بعد.

قال المهلب: في إنكار عائشة على فاطمة فتياها بما أباح لها الشارع من الانفصال وترك السكنى ولم تخبر بالعلة فيه: أن العالم لا يجب أن يفتي في المسألة إذا لم يعرف معناها كما لم تعرف فاطمة الوجه الذي أباح الشارع إخراجها من أجله من مسكنها، فتوهمت أنه ليس لها بهذا سكنى

(1)

.

واحتج من قال بوجوب السكنى دون النفقة بقوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ} إلى قوله: {حَمْلَهُنَّ} فلو كانت النفقة تجب كما تجب السكنى لما كان لاختصاص النفقة للحامل معنى، فلما وقع الاختصاص وجب أن لا نفقة للمرأة إذا لم تكن حاملاً، ووجب أيضًا

(1)

انظر: "شرح ابن بطال" 7/ 496.

ص: 520

أن تعلم أن هذِه المرأة ليست التي يملك زوجها رجعتها؛ لأن تلك نفقتها واجبة عليه وإن كانت غير حامل على الأصل الذي كانت عليه قبل الطلاق.

واحتيج إلى ذكر السكنى في الآية لأن المبتوتة قد حدث في طلاقها ما خرجت به عن أحكام الزوجات كلها الوراثة وغيرها، فأعيد ذكر السكنى من طريق التحصين لها؛ ما دامت في عدتها، وأجريت مجرى التي قبلها، وأسقطت عنها النفقة التي كانت تجب لها قبل أن تبين من زوجها، ولم نجعل لها ذلك في عدتها إلا أن تكون حاملًا فيجب عليه حينئذٍ أن يغذو ولده بغذاء أمه، كما يجب عليه إذا وضعت وقد انقضت عدتها أن يغذي ولده بغذاء التي ترضعه، فكما وجب على الأب أن ينفق على من ترضعه، وجب عليه أن ينفق على أمه ما دام في بطنها، فدل هذا كله أنها إذا لم تكن حاملًا فلا نفقة لها. وسيأتي اختلافهم في سكنى المعتدة عن وفاة بعد.

فصل:

قصة فاطمة هذِه سلفت في تفسير سورة الطلاق أيضًا

(1)

. قال الترمذي: قال بعض أهل العلم من الصحابة: لها السكنى والنفقة، منهم عمر وابن مسعود

(2)

.

قال ابن حزم: ثبت ذلك عنهما. وهو قول سفيان بن سعيد، والحسن بن حي، وأهل الكوفة

(3)

.

(1)

لم أقف عليه في تفسير سورة الطلاق بل فيه قصة سبيعة في عدة الحامل المتوفى عنها، وأما قصة فاطمة هنا فهي في نفقة وسكنى المبتوتة.

(2)

الترمذي (1180).

(3)

"المحلي" 10/ 288 بتصرف.

ص: 521

وفي الدارقطني من حديث حرب بن أبي العالية، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه مرفوعًا:"المطلقة ثلاًثا لها السكنى والنفقة"

(1)

.

وفي مسلم من حديثها: "لا نفقة لك ولا سكنى" وكانت بائنًا حاملًا

(2)

. ولأبي داود: لا نفقة لك إلا أن تكوني حاملًا

(3)

. وفي الموطأ والسنن الأربعة من حديث الفريعة بنت مالك بن سنان -وهي أخت أبي سعيد الخدري- لما سالت رسول الله في الخروج من بيتها لما قتل زوجها وقالت: إنه لم يتركني في مسكن يملكه ولا نفقة، فقال لها:"اسكني في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله"، قالت: فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرًا. فلما كان زمن عثمان أرسل إلى فسألني عن ذلك فأخبرته فأتبعه وقضى به

(4)

. صححه الترمذي والذهلي والحاكم وابن حبان

(5)

، ووهم ابن حزم في إعلاله كما ستعلمه.

وروى الطحاوي من حديث الشعبي عن فاطمة أنها أخبرت عمر بأن زوجها طلقها ثلاثًا فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لا نفقة لك ولا سكنى". فأخبرت بذلك النخعي قال: أخبر عمر بذلك، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لها السكنى والنفقة"

(6)

.

(1)

"السنن" 4/ 21.

(2)

مسلم (1480/ 37) كتاب الطلاق، باب: المطلقة ثلاثًا لا نفقة لها.

(3)

أبو داود (2290).

(4)

"الموطأ" ص 365، أبو داود (2300)، الترمذي (1204)، النسائي 6/ 199 (3528)، ابن ماجه (2031).

(5)

"المستدرك" 2/ 208، "صحيح ابن حبان"10/ 28 (4292).

(6)

"شرح معاني الآثار" 3/ 76.

ص: 522

قال ابن حزم: في سند الأول زينب بنت كعب بن عجرة، وهي مجهولة ولم يرو حديثها غير سعد بن إسحاق بن كعب، وهو غير مشهور بالعدالة، مالك وغيره يقول: إسحاق بن سعد، وسفيان يقول: سعد

(1)

.

قلت: زينب هذِه صحابية، ذكرها أبو إسحاق الطليطلي وابن فتحون في جملة الصحابه، قالا: وكانت تحت أبي سعيد الخدري. وأما ما ذكره عن سعد فإن جماعة قالوا: إن سفيان وهم في تسميته، وأن مالكًا هو المصيب في اسمه، ولهذا فإن الترمذي وغيره لما أخرجوه صححوه.

وقال أبو عمر: هذا حديث معروف مشهور عند علماء الحجاز والعراق

(2)

.

وخرجه ابن الجارود في "منتقاه" أيضًا

(3)

،، ووثقه ابن المديني وصالح بن محمد، وذكره ابن حبان وابن خلفون في "الثقات"

(4)

. وقال أبو عمر: ثقة لا يختلف في عدالته

(5)

.

فصل:

قال الشافعي: عائشة ومروان بن الحكم وابن المسيب يعرفون أن حديث فاطمة إنما كان للشر، ويزيدُ ابن المسيب: استطالتها على أحمائها، وأنها كتمت في حديثها السبب؛ خوفًا أن يسمع ذلك سامع فيرى أن للمبتوتة أن تعتد حيث شاءت، كما ذهب إليه عطاء

(6)

.

(1)

"المحلي" 10/ 302 وفيه: سفيان يقول: سعيد، ومالك وغيره يقولون: سعد.

(2)

"التمهيد" 21/ 31.

(3)

"المنتقى" ص 191 (761).

(4)

"الثقات" 6/ 365.

(5)

"التمهيد" 21/ 26.

(6)

"الأم" 5/ 218.

ص: 523

ولابن حزم من حديث هارون عن ابن إسحاق أحسبه عن محمد بن إبراهيم أن عائشة رضي الله عنها قالت لفاطمة: إنما أخرجك هذا -تعني: اللسان- ثم قال: خبر ساقط لا حجة فيه؛ لأنه مشكوك في إسناده، ومنقطع فيما بين إبراهيم وعائشة؛ لأنه لم يسمع منها.

وله من حديث كاتب الليث: حَدَّثَنَا الليث حدثني جعفر، عن إبراهيم، عن ابن الهرمز، عن أبي سلمة قال: كان محمد بن أسامة يقول: كان أسامة إذا ذكرت فاطمة شيئُا من ذلك -يعني انتقالها في عدتها- رماها (بما)

(1)

في يده، ثم قال: وهذا ساقط؛ لأن كاتب الليث ضعيف جدًّا، ولو صح لما كان إلا إنكار أسامة لذلك، فهو كإنكار عائشة وعمر، وروى أبو صالح أيضًا، عن الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة فذكر حديث فاطمة وفيه فأنكر الناس عليها ما كانت تحدث من خروجها من قبل أن تحل

(2)

.

قال الشافعي: وسنته عليه السلام في فاطمة يدل على ما تأول ابن عباس في قوله: {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1] هو البذَاءُ على أهل زوجها كما تأول إن شاء الله، ولم يقل لها عليه السلام: اعتدي حيث شئت، ولكنه حصنها حيث رضي بقوله: اعتدي عند ابن أم مكتوم. إذ كان زوجها غائبًا ولم يكن له وكيل يحصنها

(3)

. وفي أبي داوفى: قال ابن المسيب فوضعت على يدي ابن أم مكتوم

(4)

.

(1)

زيادة يقتضيها السياق.

(2)

"المحلي" 10/ 294 - 295، 299.

(3)

"الأم" 5/ 218.

(4)

"أبو داود"(2292).

ص: 524

فصل:

وقول البخاري: (ورواه ابن أبي الزناد) إلى آخره هو ثابت في بعض النسخ هنا وفي رواية أبي ذر أيضًا وفي أكثرها آخر الباب بعده، وقد أخرجه أبو داود عن سليمان بن داود: أنبا ابن وهب: أخبرني عبد الرحمن فذكره

(1)

.

وهو ابن أبي الزناد عبد الرحمن بن عبد الله بن ذكوان.

قال ابن حزم: هذا حديث باطل؛ لأنه من رواية ابن أبي الزناد، وهو ضعيف وأول من ضعفه جدًا مالكُ، قال: وهو يرد حديث ابن إسحاق؛ لأنه إن كان إخراجها من أجل لسانها فقد بطل هذا الذي علل به هنا: إنما كانت في مكان وحش

(2)

.

وفي مسلم من حديث هشام، عن أبيه، عن فاطمة قالت: قلت يا رسول الله، إن زوجي طلقني ثلاثًا، وأنا أخاف أن يقتحم علي. قال: فأمرها فتحولت

(3)

.

قال ابن حزم: فأمرها فتحولت. ليس من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا من كلام فاطمة، فصح أنه من كلام عروة، ولا يخلو هذا الخبر من أن يكون لم يسمعه عروة من فاطمة فيكون مرسلاً، يوضحه ما رواه ابن أبي شيبة عن عروة قال: قالت فاطمة

(4)

فإن كان هذا هو أصل الخبر فهو منقطع أو يكون عروة سمعه منها، ولا حجة فيه أيضًا؛ لأنه ليس (فيه)

(5)

أن

(1)

أبو "داود"(2292).

(2)

"المحلي" 10/ 294.

(3)

"مسلم"(1482) كتاب: الطلاق، باب: المطلقة ثلاثًا لا نفقة لها.

(4)

"المصنف" 4/ 158 (18832).

(5)

من (غ).

ص: 525

رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنما آمرك بالتحول؛ من خوف الاقتحام

(1)

.

فصل:

قال الشافعي: لم أعلم مخالفًا فيما وصفت من نسخ نفقة المتوفى عنها وكسوتها سنة وأقل من سنة، ثم احتمل سكناها إذا كان مذكورا مع نفقتها فإنه يقع عليه اسم المتاع أن يكون منسوخًا في السنة وأقل منها كما كانت النفقة والكسوة منسوختين في السنة وأقل، واحتمل أن تكون نسخت في السنة وأثبتت في عدة المتوفى عنها حتى تنقضي بأصل هذِه الآية، أو تكون داخلة في جملة (المعتدات)

(2)

.

وإن الله يقول في المطلقات {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بيُوتِهِنَّ} فلما فرض في المعتدة من الطلاق والسكنى، فكانت المعتدة المتوفى عنها في معناها، احتملت أن يجعل لها السكنى فإنها في معنى المعتدات فإن كان هذا كذا فالسكنى لها في الكتاب منصوص أو في معنى المنصوص، وإن لم يكن هكذا ففرض السكنى لها في السنة

(3)

.

قال: والاختيار للورثة أن يسكنوها، فإن لم يفعلوا فقد ملكوا المال دونه

(4)

.

قال البيهقي: روي عن عمر وابنه ما يدل على وجوب السكنى لها.

وقال الشافعي: بلغني عن محمد بن عبيد، عن إسماعيل عن الشعبي أن عليًّا رضي الله عنه كان (يُرَحَّل)

(5)

المتوفى عنها لا ينتظر بها.

(1)

"المحلي" 10/ 299 - 300.

(2)

في الأصل (المقدرات) والصحيح ما أثبتناه كما في "الأم" 4/ 28.

(3)

"الأم" 4/ 28.

(4)

"الأم" 5/ 209.

(5)

في الأصل: (يدخل) والمثبت من "معرفة السنن والآثار" 11/ 215.

ص: 526

وبلغني عن ابن مهدي، عن سفيان، عن فراس، عن الشعبي قال: نقل علي أم كلثوم بعد قتل عمر بسبع ليالٍ؛ لأنها كانت في دار الإمارة.

وعن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تخرج المرأة وهي في عدتها من وفاة زوجها، وقيل: كانت الفتنة فلذلك أحجبت أختها من قبل طلحة.

قال: وأنا مالك، عن هشام، عن أبيه في المرأة البدوية يتوفى عنها زوجها أنها (تنتوي)

(1)

حيث (انتوى)

(2)

أهلها. وعن عبيد الله بن عبد الله مثله.

قال: وأخبرنا مالك، عن يحيى بن سعيد، عن ابن المسيب أنه سئل عن المرأة يطلقها زوجها في بيت بكراء، على من الكراء؟ قال: على زوجها. قال: فإن لم يكن زوجها؛ قال: فعليها. قال: فإن لم يكن عندها؟ قال: فعلى الأمير

(3)

.

فصل:

قال ابن حزم: لم يصح في وجوب السكنى للمتوفى عنها أثر أصلاً، والمنزل إنما يكون ملكًا للميت أو لغيره، فإن كان لغيره وهو مكرى أو مباح فقد بطل العقد بموته، وإن كان ملكًا للميت فقد صار للغرماء أو الورثة أو للوصية، فلا يحل لها ذلك؛ لما ذكرناه، وإنما لها منه مقدار ميراثها إن كانت وارثة فقط، وقد قال بقولنا ابن عباس وطاوس والشعبي وأبو الشعثاء وسالم وعمر بن عبد العزيز ويحيى بن سعيد الأنصاري.

(1)

في الأصل: تثوي، والمثبت من "الموطأ" ص 366، "الأم" 5/ 211.

(2)

في الأصل: يثوي، والمثبت من "الموطأ" ص 366، "الأم" 5/ 211، وانظر معناها في "النهاية" 5/ 276.

(3)

"معرفة السنن والآثار" 11/ 215 - 216.

ص: 527

وعن الرُّبيع أنها لما اختلعت من زوجها أتى عمها معوذ زمن عثمان، فسأله أتنتقل؟ قال: نعم، قال: وإنما أوردنا هذا؛ لأن المختلعة عندهم طلاق بائن

(1)

.

فصل:

قال أيضًا: قول عمر رضي الله عنه يجمع ثلاث معان: أما سنة رسول الله فهي بيد فاطمة ونحن نشهد بشهادة الله أنه لم يكن عند عمر في ذلك سنة غير عموم سكنى المطلقة فقط، وأما ما رواه عنه النخعي فلا التفات إليه؛ لأن إبراهيم لم يولد إلا بعد وفاته بسنتين، وأما كتاب الله فقد بينه إذ أتى به -كما تقدم- فهو حجة قاطعة لفاطمة؛ لأن فيها {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1] قالت: فأي أمر يحدث بعد الثلاث.

وأما قوله: (لا ندري أحفظت أم نسيت). فإن ما أمكن من النسيان على فاطمة فهو ممكن على عمر رضي الله عنه كما نسي أمر اليتيم وشبهه.

وليس جواز النسيان مانعًا من قبول رواية المعدَّل الذي افترض الله قبول روايته، ولو كان كذلك لوجب على أصول خصومنا ترك خبر الواحد جملة ورد شهادة كل شاهد في الإسلام بجواز نسيانه، وكذا القول في عمر لها: إن جئت بشاهدين يشهدان أنهما سمعا من رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ هم أول مخالف له. ولو لزم هذا في فاطمة للزم في غيرها.

قال: وأما حديث إبراهيم عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لها السكنى والنفقة" لو صح لما كانت فيه حجة؛ لأنه ليس فيه أن عمر

(1)

"المحلي" 10/ 283 - 284.

ص: 528

سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: للمطلقة ثلاثًا السكنى والنفقة، وقد يمكن أن يسمعه يقول: للمطلقة السكنى والنفقة. فيجعل ذلك على عمومه، وهذا لا يجوز؛ بل يجب استعمال ذلك مع حديث فاطمة ولا بد فيستثنى الأقل من الأكثر، ولا يجوز رد نص ثابت إلابنص ثابت لا بمشكلات لا تصح ومحتملات لا بيان فيها

(1)

.

وروى ابن عبد البر في "استذكاره" عن الشعبي أنه قيل له: إن عمر لم يصدق فاطمة فقال: ألا تصدق امرأة فقيهة نزل بها هذا الأمر

(2)

.

وقول مروان بن الحكم في "صحيح مسلم": لم نسمع هذا الحديث إلا من امرأة، سنأخذ بالعصمة التي وجدنا الناس عليها

(3)

.

قال ابن حزم: لو أن مروان مع هذا الورع حيث فعل ما فعل كان خيرًا له، وفاطمة هذِه من المهاجرات الأول، وخبرها هذا صحيح كالشمس، ولم نجد لأحد خلافه

(4)

.

فصل:

زعم بعض الحنفيين أن قوله تعالى: في {أسْكِنُوهُنَّ} الآية يتضمن الدلالة على وجوب نفقة المبتوتة من وجوه ثلاثة:

أحدها: إن السكنى لما كانت حقًا في مال الزوج، وقد أوصاها الله بنص القرآن، فكانت الآية الكريمة قد تناولت المبتوتة والرجعية اقتضى ذلك وجوب النفقة؛ لأنها حق في مال.

(1)

"المحلي" 10/ 296 - 298، بتصرف.

(2)

"الاستذكار" 18/ 72 - 73.

(3)

"مسلم"(1480)، كتاب: الطلاق، باب: المطلقة ثلاثًا لا نفقة لها.

(4)

"المحلي" 10/ 299 - 301، بتصرف.

ص: 529

ثانيها: إن المضارة تقع في النفقة كهي في السكنى.

ثالثها: إن التضييق قد يكون في النفقة أيضًا، فعليه أن ينفق عليها ولا يضيق عليها فيها. وقوله تعالى:{وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ} [الطلاق: 6] انتظمت فيها المبتوتة والرجعية.

ثم لا تخلو هذِه النفقة إما أن يكون وجوبها لأجل الحمل أو لأجل أنها محبوسة في بيته والأول باطل؛ لأنها لو كانت لأجل الحمل لوجب إذا كان للحمل مال أن ينفق عليه من ماله كما أن نفقة الصغير في مال نفسه، وأيضاً كان يجب في الطلاق الرجعي نفقة الحامل إذا كان له مال في ماله لنفقته بعد الولادة.

وكان يجب أن تكون نفقة الحامل المتوفى عنها زوجها في نصيب الحمل من الميراث، فلما اتفق الجميع على أن النفقة في مال الزوج بطل أن يكون وجوب النفقة لأجل الحمل، وتعين أن يكون لأجل أنها محبوسة، وهذِه العلة موجودة في المبتوتة.

فإن قيل: فما فائدة تخصيص الحامل بالذكر في إيجاب النفقة؛ قيل له: قد دخلت فيه المطلقة الرجعية، ولم يمنع ذلك وجوب النفقة لغير الحامل، فكذلك في المبتوتة، وإنما ذكر الحمل؛ لأن مدته قد تطول وقد تقصر، فأراد إعلامنا بوجوب النفقة مع طول المدة التي هي في العادة أطول من مدة الحيض

(1)

. وقال الطحاوي: أجمعوا أن قوله تعالى: {لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} أن الأمر هو الرجعة ثم قال: {أَسْكِنُوهُنَّ} إلى قوله: {وَلَا يَخْرُجْنَ} يعني: في العدة، ولم يفرق تعالى بين المطلقة للسنة التي لا رجعة

(1)

انظر: "أحكام القرآن للجصاص" 3/ 687 - 688 بتصرف.

ص: 530

عليها، وبين المطلقة للسنة التي عليها الرجعة، فلما روت فاطمة عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إنما السكنى لمن له الرجعة عليها"، قال عمر: لا ندع كتاب ربنا؛ لأن روايتها مخالفة له

(1)

وسنة نبينا يعني: ما أسلفنا من روايته، ولما روي أنها استطالت على أحمائها، فكانت سبب النقلة من جهتها كالناشز.

فصل:

نقل ابن التين عن مالك في قوله تعالى: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} أنه لكل مطلقة. قال: وقيل النساء اللواتي هن أزواج، راجع إلى قوله:{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} ويدخل فيه من لم يبت طلاقها. قال قتادة: هو من لم تطلق ثلاثًا خاصة.

واستدل بقوله تعالى: {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ} وهو من جهة الترويج، هذا لا يكون للمبتوتات. قيل: لا يلزم ذلك لجواز أن يكون المعنى {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} من النسخ، أو يكون على الخصوص لمن لم تبن.

فصل:

قال عكرمة: كان ابن عباس يقرأ في مصحف أبي (إلا أن يفحشن عليكم)

(2)

ويقويه قول عائشة لفاطمة: (ألا تتقي الله). أي: فأنت تعلمي لم أخرجت، وهو معنى قولها في الباب:(أما إنه ليس لها خير في ذكر هذا الحديث).

وقال بعضهم: كل فاحشة لم يذكر معها في القرآن (مبينة) فهي الزنا، فإن نعتت بها فهي: البذاءة في اللسان. وعن ابن عباس: الزنا وهو أن

(1)

"شرح معاني الآثار" 3/ 70، بتصرف.

(2)

عزاه في "الدر المنثور" 6/ 352 إلى عبد بن حميد.

ص: 531

ترى فتخرج فيقام عليها الحد. وهو قول زيد بن أسلم. وقال ابن عمر والضحاك: إنها خروجها من بيتها.

فصل:

نقل ابن التين أيضًا عن مالك أن قوله {أَسْكِنُوهُنَّ} هو لكل مطلقة، وقيل: لغير من طلقت ثلاثًا.

فصل:

والوجد في الآية -بالضم-: السعة. وقرأ الأعرج بالفتح قيل: هو لحن؛ لأن الوجد -بالضم-: الغنى، وبالفتح: الحزن والحب والعطف. والمراد بالتضييق عليهن في المسكن، قاله مجاهد

(1)

.

فصل:

وقول عائشة رضي الله عنها لمروان: (اتق الله وارددها إلى بيتها). معناه: أنها أنكرت على مروان إخراج المطلقة من بيتها؛ حتى تتم عدتها.

وقول مروان (في)

(2)

حديث سليمان: إن عبد الرحمن غلبني. أي: بالحجة؛ لأنه احتج بالشر الذي كان بينها، فكانت كفاطمة بنت قيس.

وفيه: موعظة الإمام وأنه إذا تبين له الحق فيما حكم فيه لا يرجع إلى قول غيره. وقول عائشة: (لا يضرك أن لا تذكر حديث فاطمة) تقول: إنها خصت بعذر فاحتج مروان بالعذر وهو بذاءة اللسان موجود في هذين.

وقال ابن وضاح: إنما اعتدت في غيره؛ لأن البيت لم يكن لزوجها.

(1)

"تفسير مجاهد" 2/ 682.

(2)

زيادة من "البخاري" يقتضيها السياق.

ص: 532

وقولها لقاطمة: (ألا تتقي الله). يعني: في قولها: لا سكنى ولا نفقة. قال الخطابي: وفي حديثها: أن لها السكنى. يريد: اعتدادها عند ابن أم مكتوم، ثم إنه ذهب عليها معرفة السبب في نقلها فتوهمت إبطال سكناها فقالت عند ذلك لم يجعل لي النفقة ولا السكنى، فكان إخبارها عند أحد الأمرين علمًا، وعن الآخر وهمًا، وهو السكنى وبين ذلك ابن المسيب أنها كانت لَسِنَةً استطالت على أحمائها -كما سلف- فنقلت لذلك

(1)

.

(1)

"معالم السنن" بتصرف 3/ 244

ص: 533

‌42 - باب الْمُطَلَّقَةِ إِذَا خُشِيَ [عَلَيْهَا]

(1)

فِي مَسْكَنِ زَوْجِهَا أَنْ يُقْتَحَمَ عَلَيْهَا، أَوْ تَبْذُوَ عَلَى أَهْلِهَا بِفَاحِشَةٍ

5327، 5328 - وَحَدَّثَنِي حِبَّانُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، أَنَّ عَائِشَةَ أَنْكَرَتْ ذَلِكَ عَلَى فَاطِمَةَ. [انظر: 5321، 5322 - مسلم: 1481 - فتح 9/ 481].

حَدَّثَنَا حبان -أي: بكسر الحاء- ثنا عَبْدُ اللهِ، أنَا ابن جُرَيْجٍ، عَنِ ابن شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنْكَرَتْ ذَلِكَ عَلَى فَاطِمَةَ. زاد ابن أبي الزناد إلى آخر ما سلف.

والوحش -بفتح الواو وإسكان الحاء-: الخلاء الذي لا ساكن به.

وقوله: (أو تبذو). كذا هو في الأصول من البذاءة بالذال المعجمة، فذكره ابن التين بلفظ: أو تبذو وقال: هو مهموز من بذأت يقال: هو بذيء اللسان، وبذأت عليه إبذاء. ولم يذكر في الباب ما ترجم له وهو البذاءة، وكأنه قاسه على خوف الاقتحام، وقد سلف أيضًا أنه كان بها بذاءة.

روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لها: (إنما أخرجك هذا اللسان). ذكره إسماعيل، عن ابن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم، عن عائشة

(2)

. وقد روي مثل هذا عن ابن عباس أنه قال: الفاحشة المبينة: النشوز وسوء الخلق وأن تبذو عليهم، فإذا بذت فقد جل لهم إخراجها

(3)

.

(1)

من "اليونينية" طبعة طوق النجاة

(2)

ذكره ابن حزم في "المحلي" 10/ 294.

(3)

رواه ابن أبي حاتم في "التفسير" 3/ 904 (5040).

ص: 534

وروى الحارث بن أبي أسامة، عن يزيد بن هارون، عن عمرو بن ميمون بن مهران، عن أبيه، عن سعيد بن المسيب أنها استطالت على أحمائها وآذتهم بلسانها

(1)

. روي عن ابن عمر أنه قال: خروجهن من بيوتهن فاحشة

(2)

. وقد سلف، وهو قول الشعبي

(3)

.

قال إسماعيل: ذهب كل واحد من هؤلاء إلى غير مذهب صاحبه، غير أنه إذا قيل: فاحشة مبينة دل أنه شيء يكون بعضه أبين من بعض، وأما الزنا وغيره من الحدود، فإنما هو حد محدود إذا بلغه الإنسان كان زانيًا.

وأما غير ذلك من الشر الذي يقع بين الرجل وامرأته، فإن بعضه أكثر من بعض، ويحتاج فيه إلى اجتهاد الرأي، فإن كان شرًّا لا يطمع في صلاحه بينهم، انتقلت المرأة إلى مسكن غيره، فأما الزنا فليس فيه اجتهاد رأي.

وأما من قال أن خروجها فاحشة فهو جائز في كلام العرب، غير أن الأظهر أن خروجها بعد الفاحشة، والله أعلم بإرادته. وإن كان ما حكي من قراءة أبي بن كعب السالفة محفوظًا، فهو حجة قوية.

وما رواه البخاري، عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت في مكان وحش فخيف عليها، يشبه قول مالك وغيره في البدوية المعتدة أنها تنتوي مع أهلها حيث (انتووا)

(4)

، وقد سلف.

(1)

رواه البيهقي 7/ 433 من طريق عمرو بن ميمون، عن أبيه عن سعيد.

(2)

رواه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" 3/ 72، الحاكم 2/ 491 - 492، البيهقي 7/ 431.

(3)

رواه ابن أبي شيبة 4/ 195 (19200).

(4)

في الأصل: ايتووا، والمثبت الموافق لما روي عن مالك في "الموطأ".

ص: 535

قال المهلب: وإن صحت الرواية أنها أخرجت من أجل البذاء. ففيه دليل أنه يجوز إخراج الرجل المؤذي لجيرانه وتباع الدار عليه ويسقط حق سكناه

(1)

.

(1)

انظر: "شرح ابن بطال" 7/ 498 - 499.

ص: 536

‌43 - باب قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228]

مِنَ الْحَيْضِ والحمل.

5329 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: لَمَّا أَرَادَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَنْفِرَ، إِذَا صَفِيَّةُ عَلَى بَابِ خِبَائِهَا كَئِيبَةً، فَقَالَ لَهَا:«عَقْرَى -أَوْ حَلْقَى- إِنَّكِ لَحَابِسَتُنَا أَكُنْتِ أَفَضْتِ يَوْمَ النَّحْرِ؟» . قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ: «فَانْفِرِي إِذًا» . [انظر: 294 - مسلم: 1211 - فتح 9/ 481].

ثم ذكر حديث عائشة رضي الله عنها لَمَّا أَرَادَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَنْفِرَ، إِذَا صَفِيَّةُ عَلَى بَابِ خِبَائِهَا كَئِيبَةً، فَقَالَ "ما لها عَقْرى

(1)

حَلْقَى إِنَّكِ لَحَابِسَتُنَا أَكُنْتِ أَفَضْتِ يَوْمَ النَّحْرِ؟ ". قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ: "فَانْفِرِي إِذًا".

الشرح:

أما الآية فقال أبي بن كعب: إن من الأمانة أن المرأة اؤتمنت على فرجها

(2)

. وقال ابن عباس وابن عمر: لا يحل لها إن كانت حاملًا أن تكتم حملها، ولا يحل لها إن كانت حائضًا أن تكتم حيضها. يعني: المطلقة

(3)

.

(1)

بعدها في الأصل علامة تشير للهامس، وبهامشها كتب:(أو) وأشار إلى أنها نسخة.

(2)

رواه سعيد بن منصور في "سننه" 1/ 310 (1312)، والطبري في "تفسيره" 10/ 340 (28691)، والبيهقي 7/ 418 من طريق الأعمش، عن مسلم بن صبيح، عن مسروق، عن أبي. ورواه الحاكم 2/ 422 من هذا الطريق مع إسقاط مسلم بن صبيح.

(3)

أما أثر ابن عباس فرواه ابن أبي شيبة 4/ 184 (19096)، وأما أثر ابن عمر فرواه الطبري 2/ 460 (4738).

ص: 537

قال الزهري: لتنقضي العدة فلا يملك الزوج الرجعة إذا كانت له.

وقال مجاهد: وذلك في بغض المرأة زوجها وحبه.

وقال قتادة: إن كانت المرأة تكتم حملها فتذهب به إلى رجل آخر مخافة الرجعة فنهى الله عن ذلك، وتقدم [ما] فيه

(1)

.

قال إسماعيل: وهذِه الآية تدل أن المرأة المعتدة مؤتمنة على رحمها من الحيض والحمل، فإن قالت: قد حضت، كانت مصدقة، وإن قالت: قد ولدت، فكانت مصدقة إلا أن تأتي من ذلك بما يعرف كذبها فيه، وكذلك كل مؤتمن فالقول قوله قال الله تعالى في آية الدين:{فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا} [البقرة: 282] فوعظ الذي عليه الحق حين جعل القول قوله كما وعظت المرأة حين جعل القول قولها.

وقول أبي بن كعب، يدل على ذلك. وقال سليمان بن يسار: لم نؤمر أن نفتح النساء فننظر إلى فروجهن لنعلم صدق قولهن، ولكن كل ذلك إليهن إذ كن مؤتمنات

(2)

.

وأما حديث عائشة رضي الله عنها فسلف في الطهارة وغيرها وهو شاهد لتصديق النساء فيما يدعينه من الحيض والحمل دون شهادة القوابل، وكذلك الإماء، ألا ترى أنه عليه السلام أراد أن يحبس المسلمين كلهم بما ذكرت صفية من حيضها، ولم يمتحن ذلك عليها ولا أكذبها.

(1)

روى هذِه الآثار الطبري 2/ 460، 461، 462، (4731، 4747، 4755).

(2)

"شرح ابن بطال" 7/ 499 - 500.

ص: 538

وقد روى ابن أبي شيبة في "مصنفه" معنى هذا عن علي بن أبي طالب، وأبي بن كعب، وعبد الله بن عمرو، وعبيد بن عمير، وسليمان ابن يسار

(1)

.

وفيه: أن طواف الوداع على الحائض لا يجب، وقد سلف في الحيض اختلاف العلماء في أقل ما تصدق فيه المرأة من انقضاء عدتها.

ومعنى: كئيبة: محزونة سيئة الحال، ومعنى "عقرى حلقى" عقرها الله وحلقها أي: أصابها بوجع في حلقها، كما يقال: حلق رأسه. وقال الأصمعي: يقال (للأمر)

(2)

يعجب منه ذلك

(3)

.

وقال أبو عمرو: يقال للمرأة ذلك إذا كانت مشئومة مؤذية. وقيل: العرب تقول ذلك لمن دهمه أمر وهو بمعنى الدعاء، لكنه جرى على لسانهم من غير قصد إليه

(4)

، وروي بالتنوين فيهما يجعلونهما مصدرين، وهذا هو المعروف في اللغة، وأهل الحديث على ترك التنوين. ومن مواضع التعجب قول أم الصبي الذي تكلم: عقرى

(5)

.

(1)

"المصنف" 4/ 205 - 206 (19284 - 19288).

(2)

في الأصول: للمرء، والمثبت من "النهاية".

(3)

انظر: "النهاية في غريب الحديث" 1/ 428.

(4)

انظر: "أعلام الحديث" 2/ 860 - 861.

(5)

انظر: "النهاية في غريب الحديث" 1/ 428.

ص: 539

‌44 - باب {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228]

أي: فِي الْعِدَّةِ، وَكَيْفَ يُرَاجِعُ الْمَرْأَةَ إِذَا طَلَّقَهَا وَاحِدَةً أَوْ ثِنْتَيْنِ؟

5330 -

حَدَّثَنِى مُحَمَّدٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا يُونُسُ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: زَوَّجَ مَعْقِلٌ أُخْتَهُ، فَطَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً. [انظر: 4529 - فتح 9/ 482].

5331 -

وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، أَنَّ مَعْقِلَ بْنَ يَسَارٍ كَانَتْ أُخْتُهُ تَحْتَ رَجُلٍ فَطَلَّقَهَا، ثُمَّ خَلَّى عَنْهَا حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، ثُمَّ خَطَبَهَا، فَحَمِىَ مَعْقِلٌ مِنَ ذَلِكَ أَنَفًا فَقَالَ: خَلَّى عَنْهَا وَهْوَ يَقْدِرُ عَلَيْهَا، ثُمَّ يَخْطُبُهَا فَحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، فَأَنْزَلَ اللهُ:{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} [البقرة: 232] إِلَى آخِرِ الآيَةِ، فَدَعَاهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَرَأَ عَلَيْهِ، فَتَرَكَ الْحَمِيَّةَ وَاسْتَقَادَ لأَمْرِ اللهِ. [انظر: 4529 - فتح 9/ 482].

5332 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنهما طَلَّقَ امْرَأَةً لَهُ وَهْىَ حَائِضٌ تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُرَاجِعَهَا، ثُمَّ يُمْسِكَهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ عِنْدَهُ حَيْضَةً أُخْرَى، ثُمَّ يُمْهِلَهَا حَتَّى تَطْهُرَ مِنْ حَيْضِهَا، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا فَلْيُطَلِّقْهَا حِينَ تَطْهُرُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُجَامِعَهَا، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللهُ أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ. وَكَانَ عَبْدُ اللهِ إِذَا سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ قَالَ لأَحَدِهِمْ: إِنْ كُنْتَ طَلَّقْتَهَا ثَلَاثًا فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْكَ، حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ. وَزَادَ فِيهِ غَيْرُهُ عَنِ اللَّيْثِ: حَدَّثَنِي نَافِعٌ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَوْ طَلَّقْتَ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَنِي بِهَذَا. [انظر: 4908 - مسلم: 1471 - فتح 9/ 482].

ثم ساق عن الحَسَنِ قَالَ: زَوَّجَ مَعْقِلٌ أُخْتَهُ، فَطَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً.

وعن سعيد -وهو ابن أبي عروبة اليشكري- عن قتادة قال: أنا

ص: 540

الحَسَنُ، أَنَّ مَعْقِلَ بْنَ يَسَارٍ كَانَتْ أُخْتُهُ تَحْتَ رَجُلٍ فَطَلَّقَهَا، ثُمَّ خَلَّى عَنْهَا حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، ثُمَّ خَطَبَهَا، فَحَمِيَ مَعْقِلٌ مِنَ ذَلِكَ أَنَفًا فَقَالَ: خَلَّى عَنْهَا وَهْوَ يَقْدِرُ عَلَيْهَا، ثُمَّ يَخْطُبُهَا فَحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، فَأَنْزَلَ اللهُ:{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} [البقرة: 232] إِلَى آخِرِ الآيَةِ، فَدَعَاهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقَرَأَ عَلَيْهِ، فَتَرَكَ الحَمِيَّةَ وَاسْتَقَادَ لأَمْرِ اللهِ.

وقد سلف في التفسير.

ثم ساق حديث ابن عمر في طلاقه زوجته وهي حائض وقد سلف.

وَكَانَ عَبْدُ اللهِ إِذَا سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ قَالَ لأَحَدِهِمْ: إِنْ كُنْتَ طَلَّقْتَهَا ثَلَاثًا فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْكَ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرك. وَزَادَ فِيهِ غَيْرُهُ عَنِ اللَّيْثِ: حَدَّثَنِي نَافِعٌ: قَالَ ابن عُمَرَ: لَوْ طَلَّقْتَ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَنِي بهذا.

ثم ترجم عليه:

ص: 541

‌45 - باب مُرَاجَعَةِ الْحَائِضِ

5333 -

حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ، حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ جُبَيْرٍ: سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ: فَقَالَ: طَلَّقَ ابْنُ عُمَرَ امْرَأَتَهُ وَهْيَ حَائِضٌ، فَسَأَلَ عُمَرُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا، ثُمَّ يُطَلِّقَ مِنْ قُبُلِ عِدَّتِهَا، قُلْتُ: فَتَعْتَدُّ بِتِلْكَ التَّطْلِيقَةِ؟ قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ عَجَزَ وَاسْتَحْمَقَ.

ومعنى {أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} أي: في العدة كما سلف، وهو قول النخعي وقتادة ومجاهد

(1)

. والمراجعة مراجعة في العدة على حديث ابن عمر، ومراجعة بعدها على حديث معقل. وقام الإجماع على أن المرء إذا طلق زوجته الحرة -وكان دخل بها- تطليقة واحدة أو تطليقتين، أنه أحق برجعتها؛ حتى تنقضي عدتها وإن كرهت المرأة.

وقد قال المفسرون في الآية المذكورة أنه الرجعة، ولذلك كان ابن عمر يقول: لو طلقت مرة أو مرتين خشية أن يبدو لي في مراجعتها وهو قد بت طلاقها فلا يمكنه، فإن لم يراجعها المطلق للسنة حتى انقضت عدتها فهي أحق بنفسها، فتصير أجنبية منه لا تحل إلا بخطبة ونكاح مستأنف بولي وإشهاد ليس على سنة المراجعة، وهذا إجماع، وعلى هذا جاء حديث معقل بن يسار؛ ألا ترى أن زوج أخته لو راجعها في العدة كان أملك بها، فلما انقضت عدتها وصارت أجنبية منه أحب مراجعتها فعضلها أخوها ومنعها نكاحه، ولم يجز له عضلها (إلا)

(2)

(إن كان ذلك)

(3)

مباحًا، ولم يجز لزوجها أن يردها بعد ذلك إلا بنكاح جديد وصداق وإشهاد.

(1)

رواها الطبري في "تفسيره" 2/ 465.

(2)

كلمة يقتضيها السياق.

(3)

في الأصول: إن ذلك كان، والمثبت هو الصواب كما في "شرح ابن بطال".

ص: 542

هذا معنى حديث معقل هنا.

وأما حديث ابن عمر: ففيه خلاف هذا المعنى؛ وذلك أنه عليه السلام أمره بمراجعتها في تلك الحيضة التي طلقها فيها، ولم يذكر في الحديث أنه احتاج إلى صداق ولا ولي؛ من أجل أنه عليه السلام حين أمره بارتجاعها لم يذكر رضاها ولا رضي وليها؛ لأنه إنما يرد من لم تقطع عصمته منها، ولو احتيج إلى ذلك لم يكن ابن عمر المأمور بذلك وحده دون المرأة والولي، فكان هذا حكمًا في كل من راجع في العدة أنه لا يلزمه شيء من أحكام النكاح غير الإشهاد على المراجعة فقط -على خلاف فيه، أعنى: الإشهاد- وهذا إجماع من العلماء، وإنما لم يلزمه شيء من فروض النكاح؛ لأنه -المطلق للسنة- لم يدخل على نكاحه ما ينقضه، وإنما أحدث فيه ثلمة. فإذا راجعها في العدة فقد سدها.

ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} يعني: في العدة {إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا} [البقرة: 228] يعني: الرجعة، فجعل لهم الرجعة دون استئذان النساء ودون اشتراط شيء من فروض النكاح.

ولم يختلف العلماء في السنة في المراجعة أن تكون بالإشهاد عليها؛ لأنه تعالى قال: {فَأَمْسِكُوهُنَّ} [الطلاق: 2] دون ذكر الإشهاد فيها، ولم يذكره في النكاح ولا في الطلاق فقال في الرجعة ميم {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2] واختلفوا فيما يكون به مراجعًا: فقالت طائفة: إذا جامعها فقد راجعها، روي ذلك عن سعيد بن المسيب وعطاء وطاوس، وهو قول الأوزاعي.

وقال مالك وإسحاق: إذا وطئها في العدة -وهو يريد الرجعة- وجهل أن يشهد فهي رجعة، وينبغي للمرأة أن تمنعه الوطء حتى يشهد.

ص: 543

وقال ابن أبي ليلى: إذا راجع ولم يشهد صحت الرجعة. وقال الشافعي: لا تكون رجعة إلا بالكلام أن يقول: راجعتك. وهو قول أبي ثور، فإن جامعها بنية المراجعة أو دونها فلا رجعة، ولها عليه مهر المثل

(1)

.

واستشكل

(2)

؛ لأنها في حكم الزوجات، فكيف يجب مهر؟ وعند أبي حنيفة والثوري: إن لمسها أو نظر إلى فرجها بشهوة من غير قصد المراجعة فهي رجعة، وينبغي أن يشهد

(3)

. ولم يختلفوا فيمن باع جارية بالخيار ثم وطئها في أيام الخيار أنه قد ارتجعها بذلك إلى ملكه، واختار نقض البيع، وللمطلقة الرجعية حكم هذا.

فرع:

قال ابن المنذر: اختلف في مراجعة الحائض: فقال مالك: ومن طلقها وهي حائض أو نفساء أجبر على رجعتها. وقال الكوفيون: ينبغي له أن يراجعها، وهو قول أبي ثور.

وقال الشافعي: لا يجبر على رجعتها. قال ابن المنذر: ويشبه أن تكون حجة من أجبره عليها قوله عليه السلام لعمر: "مره فليراجعها". وأمره فرض

(4)

.

(1)

انظر هذِه المسألة في: "مختصر اختلاف العلماء" 2/ 388 - 389، "الإشراف" 1/ 276 - 277.

(2)

هو قول الشافعي وسماه في "شرح ابن بطال" وحذف المصنف اسمه؛ لأنه شافعي، وكلمة (استشكل) وقعت في "شرح ابن بطال": ليس بصواب. فغير المصنف صياغتها لما ذكرنا.

(3)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 2/ 388.

(4)

"الإشراف" 1/ 281.

ص: 544

فرع:

الطلاق الرجعي عندنا يحرم الوطء، وخولف فيه، وتتزوج البائن في عدته بعدها، لا البائن بالثلاث إلا بشرط. والتزويج عندهم ليس رجعة؛ لأنه لغو، والوطء بناء عليه، فإن (حنّ)

(1)

بعد ثم راجعها بفعل أو قول اختلف فيه أشياخهم على أقوال: لا، نعم، يصح بالفعل دون القول. قالوا: فإن وطئها في دبرها فليس برجعة. والفتوى نعم. فإن أجاز المطلق مراجعة الفضولي صح.

فصل:

في "مصنف ابن أبي شيبة"، عن جابر بن زيد، إذا راجع في نفسه فليس بشيء قال: فإن طلقها ثم لم يخبرها بالرجعة حتى تنقضي العدة، فتزوجت ودخل بها الثاني، فلا شيء له.

وقال علي: إذا طلقها وأشهد على رجعتها فهي امرأته، أعلمها أو لم يعلمها، دخل بها الثاني أو لم يدخل. وقال عمر: إن أدركها قبل أن تتزوج فهو أحق بها. وفي لفظ: ما لم يدخل بها الثاني.

وعن ابن المسيب في رجل طلق امرأته ثم بعث إليها بالرجعة فلم تأتها الرجعة حتى تزوجت قال: بانت منه، فإن أدركتها الرجعة قبل أن تتزوج فهي امرأته

(2)

. وعن إبراهيم: إذا ادعى الرجعة بعد انقضاء العدة فعليه البينة. وقال الزهري: لم يصدق وإن جاء ببينة.

وقال ابن عباس: إن قال بعد انقضائها قد راجعتك، لم يصدق. قال هو وإبراهيم: فإن طلق سرًّا راجع سرًّا.

(1)

في الأصل: حرن.

(2)

انظر هذِه الآثار في "مصنف ابن أبي شيبة" 4/ 164 - 165.

ص: 545

قال عبد الله: فتلك رجعة، وإن واقع فلا بأس، فإن طلق علانية وراجع أشهد على رجعته

(1)

.

فصل:

في حديث معقل دليل على أنه ليس للمرأة أن تنكح بغير إذن وليها، وأنه إذا عضلها فللسلطان أن يسأله ما الذي يحمله على عضلها ولا يفتأت عليه فيزوجها بغير أمره؛ حتى يعرف معنى فعله؛ فربما عضلها لأمر إن تم عليه كانت (فيه)

(2)

غضاضة عليه في عرضه؛ ألا ترى أنه عليه السلام ضم معقلاً إلى العقد عليها بعد أن ثبت عضله لها ولم يعقد لها عليه السلام دونه.

ففيه حجة للجمهور أن الولي من شرط النكاح، وقد سلف إيضاحه، وقال أبو عبيد: هذِه الآية التي نزلت في قصة معقل هي الأصل عندنا في نكاح الأولياء؛ لأنه لو لم يكن لهم فيه حظ ما كان لنهيهم عن عضلهن معنى

(3)

.

فصل:

قوله في حديث معقل: (فحمي معقل من ذلك أنفًا). أي: أبى من فعله وأنف، وحمِي -بكسر الميم- على وزن علم.

وقوله: (فترك الحمية واستراد لأمر الله). كذا في أصل الدمياطي (استراد) أي: رجع وَلَانَ واْنَقاد.

وذكره ابن التين بلفظ: فاستقاد. وقال: كذا وقع عند الشيخ أبي الحسن بتشديد الدال والألف. ولا يتبين لي وجهه؛ لأن ألف المفاعلة

(1)

انظر هذِه الآثار في "مصنف ابن أبي شيبة" 4/ 195 - 197.

(2)

من (غ).

(3)

انظر: "شرح ابن بطال" 7/ 504.

ص: 546

لا تجتمع (مع)

(1)

سين الاستفعال قال: وعند أبي ذر: فاستقاد لأمر الله. أي أذعن وطاع، وهو بين.

فصل:

حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال على أن الأقراء: الأطهار، وذكره ابن التين بلفظ: فأمره عليه السلام أن يراجعها ثم يطلق من قبل عدتها.

ولم يذكره البخاري كذلك، ثم قال: فيه رد على أبي حنيفة في قوله الأقراء: الحيض، فإنّ (قُبُل) بضم القاف والباء: هو أول عدتها، وهي حالة تعتد بها من العدة وهي فيها طاهر يدل أن الأقراء: الأطهار.

(1)

في الأصل: من، ولعل الصواب ما أثبتناه، والله أعلم.

ص: 547

‌46 - باب تُحِدُّ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا

وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: لَا أَرَى أَنْ تَقْرَبَ الصَّبِيَّةُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا الطِّيبَ؛ لأَنَّ عَلَيْهَا الْعِدَّةَ.

5334 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ نَافِعٍ، عَنْ زَيْنَبَ ابْنَةِ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ هَذِهِ الأَحَادِيثَ الثَّلَاثَةَ.

قَالَتْ زَيْنَبُ: دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ حَبِيبَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِينَ تُوُفِّيَ أَبُوهَا أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، فَدَعَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ بِطِيبٍ فِيهِ صُفْرَةٌ -خَلُوقٌ أَوْ غَيْرُهُ- فَدَهَنَتْ مِنْهُ جَارِيَةً، ثُمَّ مَسَّتْ بِعَارِضَيْهَا، ثُمَّ قَالَتْ: وَاللهِ مَا لِي بِالطِّيبِ مِنْ حَاجَةٍ، غَيْرَ أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:«لَا يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا» . [انظر: 1280 - مسلم: 1486 - فتح 9/ 484].

5335 -

قَالَتْ زَيْنَبُ: فَدَخَلْتُ عَلَى زَيْنَبَ ابْنَةِ جَحْشٍ حِينَ تُوُفِّيَ أَخُوهَا، فَدَعَتْ بِطِيبٍ فَمَسَّتْ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَتْ: أَمَا وَاللهِ مَا لِى بِالطِّيبِ مِنْ حَاجَةٍ، غَيْرَ أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ:«لَا يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا» . [انظر: 1282 - مسلم: 1487 - فتح 9/ 484].

5336 -

قَالَتْ زَيْنَبُ: وَسَمِعْتُ أُمَّ سَلَمَةَ تَقُولُ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ ابْنَتِي تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا وَقَدِ اشْتَكَتْ عَيْنَهَا، أَفَتَكْحُلُهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«لَا» . مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا كُلَّ ذَلِكَ يَقُولُ: "لَا"، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«إِنَّمَا هِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ، وَقَدْ كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَرْمِي بِالْبَعَرَةِ عَلَى رَأْسِ الْحَوْلِ» . [5338، 5706 - مسلم: 1488 - فتح 9/ 484].

5337 -

قَالَ حُمَيْدٌ: فَقُلْتُ لِزَيْنَبَ: وَمَا تَرْمِي بِالْبَعَرَةِ عَلَى رَأْسِ الْحَوْلِ؟ فَقَالَتْ

ص: 548

زَيْنَبُ كَانَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا تُوُفِّىَ عَنْهَا زَوْجُهَا دَخَلَتْ حِفْشًا، وَلَبِسَتْ شَرَّ ثِيَابِهَا، وَلَمْ تَمَسَّ طِيبًا حَتَّى تَمُرَّ بِهَا سَنَةٌ، ثُمَّ تُؤْتَى بِدَابَّةٍ حِمَارٍ أَوْ شَاةٍ أَوْ طَائِرٍ فَتَفْتَضُّ بِهِ، فَقَلَّمَا تَفْتَضُّ بِشَىْءٍ إِلاَّ مَاتَ، ثُمَّ تَخْرُجُ فَتُعْطَى بَعَرَةً فَتَرْمِى، ثُمَّ تُرَاجِعُ بَعْدُ مَا شَاءَتْ مِنْ طِيبٍ أَوْ غَيْرِهِ. سُئِلَ مَالِكٌ مَا تَفْتَضُّ بِهِ قَالَ تَمْسَحُ بِهِ جِلْدَهَا. [انظر: 1489 - مسلم: 1489 - فتح 9/ 484].

ثم ساق حديث زينب بنت أبي سلمة أنها دَخَلَتْ عَلَى أُمِّ حَبِيبَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حينَ تُوُفِّيَ أَبُوهَا أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبِ، فَدَعَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ بِطِيبِ فِيهِ صُفْرَةٌ .. الحديث بطوله.

وفيه: عن أم سلمة وزينب بنت جحش، وقد أخرجه مسلم أيضًا

(1)

واللفظ: "لا يحل لا مرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا" وذكر فيه، وفي الباب بعده حديث أم سلمة المخرج عند مسلم والأربعة أيضًا

(2)

، وحديث أم عطية أخرجه مسلم أيضًا

(3)

.

قال البيهقي: قال بعضهم: قولها: إلا ثوب عصب. ليس بمحفوظ وقد قال الشافعي في القديم فيما لا تلبسه: (في)

(4)

العصب من الثياب إلا عصبًا غليظًا. قال: وهذا القول أقرب من الحديث

(5)

.

ولأبي داود والنسائي من حديث أم سلمة

(6)

، وإسناده جيد لا كما طعن فيه ابن حزم.

(1)

مسلم (1487) كتاب الطلاق، باب: وجوب الإحداد في عدة الوفاة ..

(2)

مسلم (1488) كتاب الطلاق، باب: وجوب الإحداد في عدة الوفاة .. ، أبو داود (2299)، الترمذي (1197)، النسائي 6/ 188، ابن ماجه (2084).

(3)

مسلم (938) كتاب الطلاق، وهو في البخاري في الباب التالي.

(4)

في "المعرفة": (و).

(5)

"معرفة السنن والآثار" 11/ 222.

(6)

سبق تخريجه.

ص: 549

ولابن حبان من حديث الفريعة

(1)

، ولمسلم من حديث عائشة وحفصة

(2)

.

وفي "علل الخلال" خمسة من الصحابة يروون هذا عنه. وذكر أبو عبد الله حديث الزهري، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها: المعتدة تلبس السواد. قال: هو في آخر الحديث يشبه كلام الزهري.

قال أحمد: أخبرنا هشام، عن داود، عن الشعبي أنه كان لا يعرف الإحداد.

قال أبو عبد الله: ما كان بالعراق أشد تبحرًا منه ومن الحسن وذهب ذا عنهما!

ورواه ابن أبي شيبة بإسناد جيد عن الحسن أنه كان لا يراه شيئًا

(3)

.

ولابن عبد البر من حديث عبد الله بن عقبة، عن أبي الأسود، عن حميد ابن نافع، عن زينب بنت أبي سلمة، عن عاتكة بنت نعيم بن عبد الله النحام أنها جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن ابنتها توفي زوجها واسمه المغيرة -فيما قال ابن بشكوال

(4)

- فحدت عليه فرمدت رمدًا شديدًا وقد خشيت على بصرها، فهل تكتحل؟ فقال:"لا، إنما هي أربعة أشهر وعشرًا، وقد كانت المرأة منكن تحد سنة"

(5)

زاد ابن حزم بإسناد جيد، قالت: إني أخشى على عينها! قال: "وإن انفقأت"

(6)

.

(1)

ابن حبان 10/ 128 (4292).

(2)

مسلم (1490).

(3)

ابن أبي شيبة 4/ 205 (19283).

(4)

"غوامض الأسماء المبهمة" 1/ 354.

(5)

"الاستيعاب" 4/ 435.

(6)

"المحلي" 10/ 276.

ص: 550

ولابن عبد البر بإسناد فيه ضعف من حديث بكير بن الأشج عن خولة، عن أمها أم خولة أنه عليه السلام قال لأم سلمة:"لا تطيبي وأنت محد، ولا تمسي الحناء فإنه طيب"

(1)

.

وفي "الموطأ" أن صفية زوج عبد الله بن عمر اشتكت عينها وهي حاد على ابن عمر فلم تكتحل حتى كادت عيناها ترمدان

(2)

.

ولابن أبي شيبة: فكانت تقطر فيها الصبر

(3)

.

وعن ابن عباس أنه كان ينهى المتوفى عنها عن الطيب والزينة. وقال ابن عمر: تترك الكحل والطيب والحلي والمصبغة، ولا تختضب، ولا تلبس إلا ثوب عصب، ولا تبيت عن بيتها ولكن ترقد بالنهار

(4)

.

وأرسلت أسماء بنت (عثمان)

(5)

إلى عائشة لما توفي عنها زوجها لما رمدت فنهتها عن الكحل، فقالت: إني خشيت عليها. فقالت: لا تكتحلي الإثمد وإن انفضحت عيناك.

وقال مجاهد: لا تكتحل إلا من ضرورة. وقالت صفية ابنة شيبة: لا تلبس حليًّا

(6)

.

إذا عرفت ذلك فالكلام عليه من وجوه:

أحدها:

الإحداد: ترك المرأة الزينة كلها من اللباس والطيب والحلي

(1)

"الاستيعاب" 4/ 488.

(2)

"الموطأ" ص 370.

(3)

ابن أبي شيبة 4/ 170 (18963).

(4)

رواهما عبد الرزاق 7/ 43، 44، وابن أبي شيبة 4/ 170.

(5)

في الأصول: عميس، والمثبت من ابن أبي شيبة.

(6)

انظر هذِه الآثار في ابن أبي شيبة 4/ 170 - 171.

ص: 551

والكحل ما دامت في عدتها، ومحل تفصيله الفروع؛ لأن الزينة داعية إلى الأزواج، فنهيت عن ذلك، قطعًا للذرائع؛ وحماية لحرمات الله.

يقال: امرأة حاد ومحد، وأصل الإحداد: المنع، ومنه سمي البواب حدادًا لمنعه الداخل. والحد: العقوبة؛ لأنه ردع عن ارتكاب المعاصي.

قال أبو العباس أحمد بن يحيى يقول: حديث المرأة على زوجها تحد، وتحد إذا تركت الزينة فهي حاد، ويقال: أحدت، فهي محد.

قال القزاز: إنما كانت بغير هاء؛ لأنها لا تكون للذكر. وعن الفراء في مصادره: حديث المرأة حدادًا.

قال ابن درستويه: المعنى أنها منعت الزينة نفسها والطيب بدنها، ومنعت بذلك الخطَّاب خطبتها والطمع فيها كما منع حد السكين وحد الدار ما منعا. وفي "نوادر" اللحياني في حد جاء الحديث "لا تحد". وحكى الكسائي عن عقيل: حديث بغير ألف.

وقال الفراء: كان الأولون من النحويين يؤثرون أحدت فهي محد، والأخرى أكثر في كلام العرب، وسمي الحديد حديدًا؛ للامتناع به أو لامتناعه على مُحَاوِلِه، ومنه تحديد النظر بمعنى امتناع تقلبه في الجهات.

ويروى بالجيم، حكاه التدميري

(1)

في "شرحه"؛ حيث قال: يروى بالحاء والجيم، وبالحاء أشهر، والجيم مأخوذة من جددت الشيء إذا

(1)

هو أحمد بن عبد الجليل، أبو العباس التدميري أديب لغوي، توفي بفاس سنة خمس وخمسين وخمسمائة، من تأليفه:"توطئة في النحو"، "شرح أبيات الجمل الكبيرة" للزجاجي، "شرح الفصيح" لثعلب، "شرح شواهد الغريب" للعزيزي.

وانظر ترجمته في "تاريخ الإسلام" 38/ 156 (151)، و"بغية الوعاة" 1/ 321 (608)، و"الأعلام" 1/ 143.

ص: 552

قطعته، فكأن المرأة انقطعت عن الزينة وما كانت قبل ذلك. وفي "تقويم المفسد" لأبي حاتم: أَبَى الأصمعي إلا أَحَدَّت ولم يعرف حديت.

وعند الهروي: أحدت: إذا تسلبت عن الزوج.

وروى البيهقي: من حديث عبد الله بن شداد أن أسماء بنت عميس قالت: لما أصيب جعفر أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن اتسلب ثلاثًا. قال: "ثم اصنعي ما شئت".

قال البيهقي: لم يثبت سماع عبد الله من أسماء، وقوله: إن أسماء قالت، مرسل

(1)

. قلت: هو مخالف لغيره من الأحاديث، ولما عليه الفقهاء. وأخرجه ابن حزم من طريق ابن أرطأة، عن الحسن بن سعيد، عن عبد الله بن شداد به، وفي آخره: ثم بعث لها بعد ثلاث أن تطهير وتكتحل

(2)

. ولأحمد: "لا تحدي بعد يومك هذا"

(3)

.

وقال أحمد فيما ذكره عنه مهنا: هذا حديث صحيح. ورواه شعبة، عن الحكم، عن ابن شداد يرفعه، قال: قلت: فما تقول في المرأة يموت عنها زوجها قال: تعتد أربعة أشهر وعشرًا. قلت: فما تقول في حديث ابن شداد فقال: إنما هذا في الإحداد لا في العدة. ثم قال: هذا حديث يخالف الأحاديث.

وقال الأثرم: قلت لأحمد: يحفظ عن حنظلة، عن سالم، عن ابن عمر يرفعه:"لا تحل الحدود فوق ثلاثة بعد الاحداد". فكأنه تعجب منه، وقال: هذا حديث منكر. قال: والمعروف عن ابن عمر من رأيه.

(1)

"السنن الكبرى" 7/ 438.

(2)

"المحلي" 10/ 280.

(3)

أحمد 6/ 369.

ص: 553

الوجه الثاني:

قال ابن المنذر: حديث أم حبيبة يدل على معانٍ:

منها: تحريم إحداد المسلمات على غير أزواجهن فوق ثلاث، وإباحة إحدادهن عليهم ثلاثًا.

ومنها: أن المأمور بالإحداد الزوجة المسلمه دون اليهودية والنصرانية وإن كانت تحت مسلم عملًا بقوله: "تؤمن بالله واليوم الآخر" وإن الذمية لم تخاطب بذلك

(1)

.

ومنها: الدلالة على أن المخاطب بالإحداد من الزوجات من عدتهن المشهور دون الحوامل منهن. وفيه دليل على أن المطلقة ثلاثًا لا إحداد عليها، ويدل عليه ظاهر الحديث

(2)

، وقد قاله بعض من لقيته من أهل العلم وإن يكن في ذلك إجماع فهو مسلم له، وليس فيه إجماع، فإن الحسن البصري كان لا يرى الإحداد، وهو قول شاذ غريب

(3)

.

ومنها: وجوب الإحداد على جميع الزوجات المسلمات مدخول بهن، وغير مدخول بهن؛ لدخولهن في جملة من خوطب بالإحداد في عدة الوفاة إذا كانت بالشهور، ويدخل فيما ذكرناه الحرة تحت العبد والأمة تحت الحر والعبد، والمكاتبة والمدبرة وأم الولد المزوجة يتوفى عنهن أزواجهن والمطلقة يطلقها زوجها طلاقًا يملك رجعتها ثم يتوفى عنها قبل انقضاء عدتها إذ أحكامها أحكام الأزواج إلى أن توفي عنها.

(1)

"الإشراف" 1/ 270.

(2)

"الإشراف" 1/ 272.

(3)

"الإشراف" 1/ 269.

ص: 554

وممن قال: إن على الأمة إحدادًا إذا توفي عنها زوجها، مالك والثوري والكوفيون والشافعي وأبو ثور، وحكي ذلك عن ربيعة؛ لأنها داخلة في جملة الأزواج وفي عموم الأخبار ولا أحفظ في ذلك خلافًا إلا ما ذكر عن الحسن.

وأجمعوا على أن أم الولد لا إحداد عليها إذا توفي سيدها، والحجة في ذلك أن الأحاديث إنما جاءت في الأزواج، وأم الولد ليست بزوجة ذكره أجمع ابن المنذر

(1)

.

واختلف قول مالك في الكتابية، هل يلزمها الإحداد على زوجها المسلم؟ فروى عنه أشهب أنه لا إحداد عليها، وهو قول ابن نافع والكوفيين

(2)

.

وقد سلف أن هذا القول يدل عليه الحديث، قال الكوفيون: وكيف يكون عليه الإحداد مع ما فيها من الشرك، وما تترك من الفرائض أعظم من ذلك.

وروي أيضًا عن مالك أنه قال: عليها الإحداد. وهو قول الليث والشافعي وأبي ثور وابن حي

(3)

، وحجته أن الإحداد من حق الزوج، وهو يحفظ النسب كالعدة، وتدخل الكافرة في ذلك، فالمعنى كما دخل الكافر في أنه لا يجوز أن يسوم على سومه، والذي في الحديث:"لا يسم على سوم أخيه"

(4)

.

(1)

"الإشراف" 1/ 262 - 270.

(2)

انظر: "الاستذكار" 18/ 219.

(3)

انظر: "الاستذكار" 18/ 219 "الإشراف" 1/ 269.

(4)

سبق برقم (2727)، وبلفظه عند مسلم (1413) كتاب النكاح، باب: تحريمه الخطبة على خطبة أخيه حتى يأذن أو يترك.

ص: 555

وكما يقال هذا طريق المسلمين وهو قد يسلكه غيرهم إن كان الخطاب موجهًا إلى المؤمنات، فإن الذمية قد دخلت في ذلك لحق الزوجية؛ لأنها في النفقة والسكنى والعدة كالمسلمة فكذا في الإحداد.

واختلفوا في الصغيرة المتوفى عنها، فقالت طائفة: عليها من ذلك ما على البالغ منهن. هذا قول مالك والشافعي وأحمد وأبي عبيد وأبي ثور. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا إحداد عليها

(1)

؛ "عملًا بقوله "لامرأة" فعلم أن ذلك لا يلزم إلا المكلف البالغ، وإنما عليها العدة، وخالف داود فيما حكاه ابن التين.

حجة الأول ما قاله أبو عبيد: لما كان نكاحها غير محرم على كل ناكح كنكاح الكبيرة وجب أن تكون في الإحداد كهي وكان يقول: إنما ذلك على من تولاها من الأبوين وغيرهما. ولما أجمعوا على أن للصغيرة عدة الوفاة فكذا الإحداد.

واختلفوا في المطلقة ثلاثًا، فقالت طائفة: عليها الإحداد كالمتوفى عنها زوجها سواء. روي ذلك عن سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وابن سيرين والحكم، وهو قول الكوفيين وأبي ثور وأبي عبيد

(2)

.

وقال الشافعي وأحمد وإسحاق: الاحتياط أن تتقي المطلقة الزينة. وهو محكي عن النخعي، قال الشافعي: ولا يتبين لي أن أوجبه. واحتج من أوجبه عليها؛ لأنها في عدة يحفظ بها النسب كالمتوفى عنها زوجها

(3)

.

(1)

انظر: "الاستذكار" 18/ 219، 220، "الإشراف" 1/ 270.

(2)

انظر: "الاستذكار" 18/ 222، "الإشراف" 1/ 272.

(3)

انظر: "الاستذكار" 18/ 222، و"المفهم" 4/ 284، و"الإشراف" 1/ 272.

ص: 556

وقالت طائفة: لا إحداد على مطلقة، ورخصوا لها في الزينة. وروي هذا عن عطاء وربيعة، وهو قول مالك والليث.

قال أبو عمر: ليس في الحديث إلا قوله: "أن تحد على ميت" وليس فيه لا يحل لها أن تحد على حي

(1)

. أراد أبو عمر إحداد المبتوتة.

وقال ابن المنذر: قوله: "لا يحل" إلى آخره دليل على أن المطلقة ثلاثًا والمطلق حي لا إحداد عليها

(2)

؛ لأنه أخبر أن الإحداد إنما هو على نساء الموتى مع أن الأشياء على الإباحة حتى يدل كتاب أو سنة أو إجماع على حظر شيء فيمنع منه.

الوجه الثالث: في ألفاظ وقعت فيه:

فقولها: (فدعت بطيب فيه صفرة خلوق أو غيره) هو برفع خلوق أي: دعت بصفرة، هي خلوق أو غيره. والخلوق -بفتح الخاء-: طيب مخلوط.

وقولها: (ثم مست بعارضيها). تريد الخدين، ادعى القرطبي أن أصل العوارض: الأسنان، وسميت الخدود عوارض من باب تسمية الشيء بالشيء إذا جاوره

(3)

، ولا يسلم له، نعم ينطلق عليه.

قال صاحب "الموعب"، العارض: الخد، قال: أخذ من عارضيه. أي: من خديه. وقال القزاز: عارض الوجه صفحه أي: خده. وقد تجيء العوارض في الشِعر يراد بها الأسنان في بيت عنترة، فأما بيت الأعشى فالخدان.

(1)

"الاستذكار" 18/ 222.

(2)

"الإشراف" 1/ 272.

(3)

"المفهم" 4/ 282 - 283.

ص: 557

وقال الأزهري في "تهذيبه": العارض: الخد، يقال أخذَ الشعر من عارضيه

(1)

. وهذا مثل قول صاحب "الموعب"، وقال اللحياني: عارضا الوجه وعروضاه: جانباه.

وقال ابن سيده: العارضان: جانبا اللحية. والعارض: الخد

(2)

.

وقال الجوهري: عارضة الإنسان: صفحتا خديه. وقولهم: فلان خفيف العارضين. يريد به: خفة شعر عارضيه

(3)

.

وقال ابن فارس: وربما أرادوا بالعوارض الأسنان

(4)

. يوضحه الحديث: "من سعادة المرء خفة عارضيه"

(5)

. لأنه إذا توضأ لا يحتاج إلى معاناة (ايصال)

(6)

الماء إلى أصوله ولا إلى المبالغة في غسله.

وقوله: "فوق ثلاث (ليال)

(7)

". وفي أخرى: "ثلاثة أيام". وفي

(1)

"تهذيب اللغة" 3/ 2402.

(2)

"المحكم" 1/ 247.

(3)

"الصحاح" 3/ 1086.

(4)

"مجمل اللغة" 2/ 660.

(5)

رواه الطبراني في "الكبير" 12/ 211، ابن عدي في "الكامل" 8/ 506، والخطيب في "تاريخه" 14/ 297 من طريق يوسف بن الغرق عن سكين بن أبي السرح، عن المغيرة بن سويد، عن ابن عباس مرفوعًا.

بلفظ: "من سعادة المرء خفة لحييه".

قال الخطيب: سكين مجهول، منكر الحديث، والمغيرة بن سويد أيضًا مجهول، ولا يصح هذا الحديث، ويوسف بن الغرق منكر الحديث، ولا تصح لحيته ولا لحييه اهـ وقال الهيثمي في "المجمع" 5/ 161 - 165 فيه يوسف بن الغرق قال الأزدي: كذاب. انتهى.

وقال الألباني في "ضعيف الجامع"(5303): موضوع. وكذا في "الضعيفة"(193).

(6)

ليست بالأصول، ولعل إثباتها الصواب.

(7)

من (غ).

ص: 558

أخرى: "فوق ثلاث". والمراد بها: الليالي، ولذلك أنث المعدود. وقيل: أراد الأيام بلياليها. حكاه القرطبي، والأول قول الأوزاعي

(1)

.

ويستفاد منه إذا مات (حميمها)

(2)

فلها أن تمتنع من الزينة ثلاث ليالٍ متتابعة تبدأ من العدد بالليلة التي يستقبلها إلى آخر ثالثها، فإن مات في يوم أو ليلة ألغتها وحسبت من الليلة المستأنفة.

وقوله: ("وعشرًا"). هو (منصوب)

(3)

على الظرف، والعامل فيه (تحد)، وإنما قالت:(وعشرًا)، ولم تقل: وعشرة؛ لأنه أراد الليالي، وقد علم أن مع كل ليلة يومها. وقال المبرد: المعنى وعشر مدد، وتلك المدة يوم وليلة.

وقولنا: المراد: بلياليها. هو مذهبنا ومذهب العلماء، إلا ما حكي عن يحيى بن أبي كثير، والأوزاعي، وأبي بكر الأصم أنها أربعة أشهر وعشر ليالٍ، وأنها تحل باليوم العاشر، ومذهب الجمهور أنها لا تحل؛ حتى تدخل ليلة الحادي عشر

(4)

.

وذهب مالك إلى أن الحامل إذا وضعت قبل أربعة

(5)

أشهر وعشر أنها تكمل الأربعة أشهر والعشر.

وقوله: "إلا على زوج". مقتضاه: كل زوج، سواء بعد الدخول أو قبله. وكذا يدخل فيه كل امرأة صغيرة أو كبيرة أو أمة كما سلف.

(1)

كذا في الأصول، والذي في "المفهم" 4/ 284، أن الأول هو ما حكاه القرطبي، وليس الثاني.

(2)

وقع في الأصل: حميها، والمثبت في "المفهم" 4/ 283.

(3)

في الأصل: مصروف، والمثبت من "المفهم" وكذا يوافقه ما في "عمدة القاري".

(4)

انظر: "مواهب الجليل" 5/ 487.

(5)

وقع بعدها في الأصل: عشر. خطأ.

ص: 559

وفي دخول الصغيرة تحت اللفظ المذكور نظر، ولا تدخل الكتابية كما سلف، ولا المستولدة. والحِفْش: -بكسر الحاء المهملة، وسكون الفاء ثم شين معجمة- بيت صغير رديء خرب حقير قريب السُمْك، أو الخص الرديء، أو المظلة الدنية.

قال ابن حبيب: وأهل اللغة على أنه البيت الصغير. وفسره مالك بأنه البيت الرديء. وروى ابن وهب عنه أنه البيت الصغير

(1)

، وهو قول الخليل

(2)

، وعن الشافعي: هو بيت ذليل قريب السُّمك، سمي به لضيقه

(3)

: والتحفش: الانضمام والاجتماع. وكذلك قال ابن الأعرابي.

وقال أبو عبيد: الحفش الدرج، وجمعه: أحفاش، يشبه البيت الصغير

(4)

، وقال الخطابي: سمي حفشًا؛ لضيقه وانضمامه، والتحفش: الانضمام والاجتماع

(5)

.

وعبارة المازري أنه خص حقير. وفي الحديث أنه قال لبعض من وجهه ساعيًا فرجع بمال: "هل قعد في حفش أمه ينتظر هل يهدى إليه أم لا؟ "

(6)

وهو الدرج كما سلف.

ومعنى تفتض به -بالفاء والضاد- تدلك جسمها. وقال مالك: تمسح به جلدها كالنشرة

(7)

. وقال مطرف وابن الماجشون: تمسح به فرجها وحرها ظاهره وباطنه.

(1)

انظر: "الاستذكار" 18/ 222 - 223.

(2)

"العين" 3/ 97.

(3)

"الأم" 5/ 213 بتصرف.

(4)

انظر: "الاستذكار" 18/ 223.

(5)

"أعلام الحديث" 3/ 204 بتصرف.

(6)

"المعلم بفوائد مسلم" 1/ 465 - 466.

(7)

"الموطأ" ص 369.

ص: 560

وأنكره بعضهم وقال: كيف تمسح فرجها بالحمار؟! وقال صاحب "العين": الفضيض: ماء عذب تصيبه ساعتئذ ويقول: افتضضته

(1)

.

وقال ابن وهب: ترمي. وقال الأخفش: معناه: تتنظف وتنقى من الدرن تشبيهًا لها بالفضة في نقائها وبياضها.

وقيل: هو من فضضت الشيء: كسرته وفرقته. ومثه قوله: {لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159] والمعنى: أنها كانت تكسر ما كانت فيه بتلك الدار.

وذكر الأزهري أن الشافعي رواه بالقاف والباء الموحدة والصاد المهملة، وهو الأخذ بأطراف الأصابع، وقرأ الحسن:(فقبصت قبصة من أثر الرسول)

(2)

.

والمعروف الأول، بل قال القزاز: إنه تصحيف. وكانت المرأة في الجاهلية تفتض بالدابة ثم تغتسل، وتتنظف ثم ترمي بالبعرة من بعر الغنم وراء ظهرها، ويكون ذلك إحلالًا لها.

ومعنى: رميها بالبعرة: إعلام لها أن صبرها عامًا أهون عليها من رميها بالبعرة.

فصل:

إنما منعت المعتدة في الوفاة من الزينة ولم تمنع منه معتدة الطلاق -كما نبه عليه المازري- لأن الزينة والطيب يدعوان إلى النكاح ويوقعان فيه، فنهى عنها؛ ليكون الامتناع فيها زاجرًا عن النكاح؛ لما كان الزوج في الوفاة معدومًا لا يحامي عن نفسه ولا يزجر زوجته، بخلاف المطلق

(1)

"العين" 7/ 13.

(2)

"تهذيب اللغة" 3/ 2872 وفيه الليث بدلا من الشافعي.

ص: 561

الحي فإنه يحتفظ على مطلقته؛ لأجل نسبه، فاستغنى بوجوده عن زاجر آخر

(1)

.

فصل:

قال مالك -كما حكاه في "الاستذكار"-: تحد امرأة المفقود في عدتها.

وقال ابن الماجشون: لا إحداد عليها. واختلف أيضًا عن المالكية في غير الكتابية وامرأة المفقود والتي زوجها في المرض والنكاح الفاسد

(2)

.

فصل:

قال ابن حزم: لما ذكر أنه لا عدة على أم ولد وإن عتقت ومات عنها سيدها، ولا أمة من وفاة سيدها أو عتقه لها لم يوجب ذلك كتاب ولا سنة ولهما أن ينكحا متى شاءتا.

وقد اختلف في هذا. فروى (أبو داود)

(3)

، عن عبد الله بن بكر السهمي، عن ابن أبي عروبة، عن مطر، عن رجاء ابن حيوة، عن قبيصة بن ذؤيب، عن عمرو بن العاصي أنه قال: لا تُلبسوا علينا سنة نبينا، عدة أم الولد إذا توفي عنها سيدها عدة الحرة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشر. فلو صح هذا مسندًا لقلنا به، وفيه أيضًا مطر وهو سيئ الحفظ

(4)

.

(1)

"المعلم" 1/ 465.

(2)

"الاستذكار" 18/ 221 بتصرف.

(3)

كذا في الأصول، وليست في "المحلي" فلعلها مقحمة، والأثر رواه أبو داود (2308) محمد بن جعفر، وعبد الأعلى عن سعيد بن أبي عروبة، عن مطر، عن رجاء بن حيوة، عن قبيصة، عن عمرو بن العاصي به.

(4)

"المحلي" 10/ 304، 306.

ص: 562

قلت: ليته أعله بقول الدارقطني: قبيصة لم يسمع من عمرو، والصواب: لا تلبسوا علينا. موقوف

(1)

. قلت: وهو في الحقيقة مرفوع، ومثله رواية ابن أبي شيبة من حديث خلاس عن علي قال: عدة أم الولد أربعة أشهر وعشر

(2)

. طعن في رواية خلاس عن عليٍّ يحيى بنُ سعيد.

وأما الجرجاني فقال عن أحمد: إنه كان من شرطة علي

(3)

. وكذا ذكره العقيلي في "تاريخه".

وفي "علل أحمد" من رواية ابنه عبد الله: حَدَّثَنَا الوليد بن مسلم، حَدَّثَنَا سعيد بن عبد العزيز، عن سليمان بن موسى، عن رجاء، عن قبيصة، عن عمرٍو قال: عدة أم الولد عدة الحرة. فقال: قال أبي: هذا حديث منكر.

وحَدَّثَنَا الوليد: حَدَّثَنَا الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز، عن الزهري، عن قبيصة، عن عمرو مثله

(4)

.

وفي البيهقي: إن أبا معبد حفص بن غيلان روى عن سليمان بن موسى، عن رجل، عن قبيصة عنه: عدة أم الولد إذا توفي عنها سيدها أربعة أشهر وعشر، فإذا عتقت فعدتها ثلاث حيض

(5)

. وقال بقول عَمْرٍ وعليٍّ وعبيدة السلماني وأبي عياض عمرو بن الأسود وابن المسيب وعمر بن عبد العزيز وسعيد بن جبير.

وقال أيوب -فيما ذكره ابن أبي شيبة-: سألت الحكم بن عتيبة والزهري عن عدة أم الولد إذا توفي عنها سيدها. قالا: السنة. قلت:

(1)

"سنن الدارقطني" 3/ 309.

(2)

"ابن أبي شيبة" 4/ 150 (18746).

(3)

"الكامل" 3/ 519.

(4)

"العلل ومعرفة الرجال" 2/ 372.

(5)

"السنن الكبرى" 7/ 448.

ص: 563

وما السنة؟ قالا: بريرة أعتقت فاعتدت عدة الحرة

(1)

.

زاد ابن حزم: قال عمر بن عبد العزيز وابن شهاب: عدتها من وفاة سيدها أربعة أشهر وعشر. وقاله مجاهد وخلاس بن عمرو وابن سيرين والأوزاعي وابن راهويه، ورواية الحكم عن علي: عدة السرية ثلاث حيض. وهو قول النخعي وابن عمر.

ومن حديث ابن أرطأة، عن الشعبي، عن علي وابن مسعود: ثلاثة قروء، وهو قول الثوري وأبي حنيفة وأصحابه والحسن بن حي، واستحبوا لها الإحداد.

وقال مالك: عدتها حيضة، فإن لم تحض فثلاثة أشهر

(2)

. كذا ذكره عن مالك، والمعروف من مذهبه كمذهب الشافعي وأحمد. قال الخطابي: روي ذلك عن عروة والقاسم ومحمد بن شهاب والشعبي، وتأول بعضهم قول عمرو: لا تلبسوا علينا سنة نبينا. بأن التلبيس لا يقع في النصوص، إنما يكون في الرأي والاجتهاد، فيكون قوله:(سنة نبينا). اجتهادًا منه على معنى السنة في (الحرائر)

(3)

، لا السنة التي هي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نصًّا وتوقيفًا، وفيه بعد؛ لأنا لم نعهد أحدًا من أصحابنًا ذكر السنة وأراد بها غير السنة المعروفة. وأما قول من قال: إنما هذا في أم ولد بعينها كان أعتقها سيدها ثم تزوجها ومات عنها، فهو زوجها -على هذا- ومولاها

(4)

. فيحتاج إلى تثبت.

(1)

ابن أبي شيبة 4/ 149 (18743) وفيه: سألت الزهري. وليس الحكم والزهري.

(2)

"المحلي" 10/ 304، 305.

(3)

في الأصول: الفرائض، والمثبت من "معالم السنن".

(4)

انظر: "معالم السنن" 1/ 250.

ص: 564

فصل:

إنما كان عدة الوفاة بما ذكر؛ لأن غالب الحمل يتبين بحركة في تلك المدة؛ لأن النطفة تبقى في الرحم أربعين يومًا ثم تصير علقة كذلك ثم مضغة كذلك ثم ينفخ فيه الروح بعد فتظهر في العشر الزائد بعد الأربعة أشهر على ما في حديث ابن مسعود

(1)

.

فصل:

قوله: (وقد اشتكت عينها). يجوز ضم النون على أنها مشتكية، وفتحها على أن في اشتكت ضمير الفاعل، وهي الحادة، ورُجّح الأول كما وقع في بعض الروايات: عيناها.

فإن اضطرت إليه فقيل: تكحله ليلاً وتمسحه نهارًا؛ أخذًا بحديث أم سلمة، هو قول النخعي وعطاء وأبي حنيفة والشافعي ومالك، كما حكاه الباجي

(2)

، وجوزه بعضهم للحاجة وإن كان فيه طيب. ومذهبنا جوازه ليلاً عند الحاجة بما لا طيب فيه، وقوله عليه السلام لا يحتمل أنه نهي تنزيه أو متأول على أنه لم يتحقق الخوف على عينها.

فصل:

قوله: "إنما هي أربعة أشهر وعشر" تقليل للمدة ونهوض للصبر عما منعت منه، ويفيد هذا الحصر لمن يقول إن مدة الحامل لا تزيد على هذِه المدة، خلافًا لما سلف عن مالك.

وفيه: تصريح نسخ الاعتداد لسنة، المذكور في سورة البقرة {مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ} ولما في هذا الحديث:"حتى تمر بها سنة".

(1)

سبق برقم (3208).

(2)

"المنتقى" 4/ 145.

ص: 565

قال ابن عبد البر: وهذا من الناسخ والمنسوخ الذي لم يختلف العلماء فيه والمجمع عليه.

وقوله: {غَيْرَ إِخْرَاجٍ} منسوخ عند الجمهور في نسخ الوصية بالسكنى للزوجات في الحول إلا رواية شاذة مهجورة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد، لم يتابع عليها ابن أبي نجيح، ولا قال بها فيما زاد على الأربعة الأشهر والعشر أحد من علماء المسلمين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من المخالفين فيما علمت، وقد روى ابن أبي نجيح عن مجاهد في مثل ذلك مثل ما عليه الناس، فانعقد الإجماع وارتفع الخلاف، فالحول منسوخ بالأربعة أشهر بلا خلاف في ذلك.

وأما الوصية بالسكنى والنفقة فمن أهل الفقه من رأى أنها منسوخة بالميراث، وهم أكثر أهل الحجاز، أما أهل العراق فذلك عندهم منسوخ بالسنة بأن "لا وصية لوارث" فأي الوجهين كان النسخ فهو إجماع على رد ما رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد وأنه منكر من القول لا يلتفت إليه

(1)

.

فصل:

وقوله: "ترمي بالبعرة". يعني: رمت بالعدة وخرجت كانفصالها من هذِه البعرة ورميها بها، وقيل: إشارة إلى ما فعلت وصبرت عليه من الاعتداد سنة، ولبسها شر ثيابها ونزولها الحفش صغير هين بالنسبة إلى حق الزوج وما يستحقه من المراعاة، كما يهون الرمي بالبعرة.

وعبارة مطرف وابن الماجشون: ترمي ببعرة من بعر الغنم أو الإبل فترمي بها أمامها فيكون ذلك إحلالها.

(1)

"الاستذكار" 18/ 225، 226، 228، 229.

ص: 566

وقال بعضهم: ترمي بها مَنْ عرض مِنْ كلب أو غيره تُري مَنْ حصرها أن مقامها حولًا بعد زوجها على تلك الحال أهون عليها من بعرة ترمي بها كلبًا أو غيره.

وقال ابن وهب: ترمي ببعرة من بعر الغنم ترمى بها وراء ظهرها بعد السنة.

وقولها: (تؤتى بدابةٍ حمارٍ أو شاةٍ أو طائرٍ) هو بدل من (دابة)، وكلها دواب؛ لأنها تدب، أي: تمشي، وهذِه تسمية لغوية.

فصل:

قولها: (قالت زينب: دخلت على أم حبيبة حين توفي أبوها أبو سفيان). لمسلم في حديث بنت أم سلمة قالت: توفي حميم لأم حبيبة

(1)

. كذا في رواية الجلودي وغيره، وهو الصواب. ووقع في نسخة ابن الحذاء: توفي حميم لأم سلمة. مكان أم حبيبة

(2)

.

فصل:

وأما ما روي من أنه عليه السلام رخص للمرأة أن تحد على زوجها حتى تنقضي عدتها، وعلى أبيها سبعة أيام، وعلى من سواه ثلاثة أيام، فغير صحيح؛ لما قدمناه في قصة أم حبيبة أنها تطيب بعد أبيها بثلاث؛ ولعموم الأحاديث.

وهذا الحديث أخرجه أبو داود في "مراسيله": عن عمرو بن شعيب أنه عليه السلام، فذكره مفصلًا

(3)

.

(1)

مسلم (1486/ 59) كتاب الطلاق، باب: وجوب الإحداد في عدة الوفاة ....

(2)

انظر: "إكمال المعلم" 5/ 73.

(3)

"المراسيل" ص 295 (409).

ص: 567

وعمرو ليس تابعيًّا

(1)

، فلا ينبغي ذكره في المراسيل.

فصل:

قول الزهري الذي بدأ به البخاري هو قول مالك والشافعي كما سلف خلافًا لأبي حنيفة، دليلنا ما ذكره الزهري؛ وذلك أن الإحداد صفة العدة فتجب بوجوبها؛ ولأنه قال: أفنكِحلُها، بالنون، فلو لم تكن طفلة لم يقل ذلك، ولكانت تكحل نفسها. وكذلك قال أبو حنيفة في أحد قوليه في الأمة: لا إحداد عليها

(2)

.

فصل:

زينب بنت أم سلمة: راوية الأحاديث الثلاثة في الباب، أبوها أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد، المخزومية، ربيبة النبي صلى الله عليه وسلم، قيل: كان اسمها برة، ولها صحبة، تزوجها عبد الله بن زمعة بن الأسود فقتل ولداها (منه)

(3)

يوم الحرة. روت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أمها وعدة، وروى عنها عروة وأبو سلمة، توفيت سنة ثلاث وسبعين

(4)

. وأما ابن التين فنقل عن بعض العلماء أن زينب هذِه لا يعلم لها رواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويروي أخوها عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهو عجيب منه فاحذره.

(1)

ورد بهامش الأصل: بل هو تابعي، وقد سمع من الرُبيع بنت معوذ، وزينب بنت أم سلمة والله أعلم. وشيخنا أخذ هذا الكلام من علوم ابن الصلاح وابن الصلاح كتبه بخط الطلسي وليس بجيد، فهو تابعي وسمع ممن ذكرت من الصحابة، والله أعلم.

(2)

انظر: "المبسوط" 6/ 59، 60.

(3)

من (غ).

(4)

انظر ترجمتها في "معجم الصحابة" 6/ 3337، "الاستيعاب" 4/ 410، "أسد الغابة" 7/ 131.

ص: 568

فصل:

وأم حبيبة: أم المؤمنين، اسمها رملة، هاجرت إلى الحبشة، فهلك زوجها، فزوجها النجاشي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمها صفية بنت أبي العاص بن أمية، روى عنها أخواها معاوية وعنبسة وعروة، وتوفيت سنة أربع وأربعين

(1)

. وفيها نزلت: {عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً} [الممتحنة: 7] قاله ابن عباس

(2)

.

(1)

انظر ترجمتها في "الاستيعاب" 4/ 483، "معرفة الصحابة" 6/ 3216 - 3218، "أسد الغابة" 7/ 115. 315.

(2)

رواه ابن سعد في "الطبقات" 8/ 99 من طريق أبي سهيل، وابن عدي في "الكامل" 3/ 498 (609) من طريق خارجة بن مصعب، كلاهما، عن محمد بن السائب، عن أبي صالح، عن ابن عباس به.

ص: 569

‌47 - باب الْكُحْلِ لِلْحَادَّةِ

5338 -

حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ نَافِعٍ، عَنْ زَيْنَبَ ابْنَةِ أُمِّ سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّهَا، أَنَّ امْرَأَةً تُوُفِّىَ زَوْجُهَا فَخَشُوا [عَلَى] عَيْنَيْهَا، فَأَتَوْا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَأْذَنُوهُ فِى الْكُحْلِ، فَقَالَ:«لَا تَكَحَّلْ، قَدْ كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ تَمْكُثُ فِي شَرِّ أَحْلَاسِهَا -أَوْ شَرِّ بَيْتِهَا-، فَإِذَا كَانَ حَوْلٌ فَمَرَّ كَلْبٌ رَمَتْ بِبَعَرَةٍ، فَلَا حَتَّى تَمْضِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ» . [انظر: 5336 - مسلم: 1488 - فتح 9/ 490].

5339 -

وَسَمِعْتُ زَيْنَبَ ابْنَةَ أُمِّ سَلَمَةَ تُحَدِّثُ عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ تُحِدَّ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، إِلاَّ عَلَى زَوْجِهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا» . [انظر: 1280 - مسلم: 1486 - فتح 9/ 484].

5340 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا بِشْرٌ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ عَلْقَمَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، قَالَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ: نُهِينَا أَنْ نُحِدَّ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ إِلاَّ بِزَوْجٍ. [انظر: 1280 - مسلم: 1486 - فتح 9/ 484].

ذكر فيه حديث زَيْنَبَ ابنةِ أُمِّ سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّهَا، أَنَّ امْرَأَةً تُوُفِّيَ عنها زَوْجُهَا فَخَشُوا عَلَى عَيْنَيْهَا، فَأَتَوْا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَأْذَنُوهُ في الكُحْلِ، فَقَالَ:"لَا تَكَحَّلْ، قَدْ كانَتْ إِحْدَاكنَّ تَمْكُثُ في شَرِّ أَحْلَاسِهَا -أَوْ شَرِّ بَيْتِهَا- فَإِذَا كَانَ حَوْلٌ فَمَرَّ كَلْبٌ رَمَتْ بِبَعَرَةٍ، فَلَا حَتَّى تَمْضِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْر".

وَسَمِعْتُ زَيْنَبَ ابنةَ أُمِّ سلَمَةَ تُحَدِّثُ عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ أَنَّه عليه السلام قَالَ: "لَا يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ تُؤْمِنُ باللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ تُحِدَّ فَوْقَ ثَلَاَثةِ أَيَّامٍ، إِلَّا عَلَى زَوْجِهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا".

وحديث مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، قَالَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ: نُهِينَا أَنْ نُحِدَّ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ إِلاَّ على زوج.

ص: 570

وقد سلف في الحيض.

وقوله: (باب الكحل للحاد). هو الصواب، وفي "شرح ابن بطال": الحادة

(1)

. والصواب الأول، مثل: طالق، وطامث، وحائض؛ لأنه نعت للمؤنث لا يشركه فيه الرجل.

والأحلاس: جمع حلس، وهو ما يفرش ليجلس عليه.

وقوله: (فخشوا على عينها). أصله: فخشيوا، على وزن علموا استثقلت الضمة على الياء فحذفت، واجتمع ساكنان الياء والواو فحذفت الياء؛ لاجتماع الساكنين، وضمت الشين لتفتح الواو.

وسلف حكم الكحل في الباب [السابق]

(2)

، ونقل ابن التين عن بعض العلماء أن هذِه المرأة لم تكن بلغ بها ما يوجب الأذى؛ لأنه عليه السلام أذن لأم سلمة أن تكحل العين بالجلاء وتنزعه نهارًا. قال: ومذهب مالك أنها إذا اضطرت اكتحلت وإن كان فيه طيب

(3)

.

وقال ابن الجلاب: إذا اضطرت اكتحلت ليلاً ومسحته نهارًا.

وروى مالك أنه بلغه أنه عليه السلام دخل على أم سلمة وهي حاد على أبي سلمة وقد جعلت على عينها صبرًا فقال: "ما هذا يا أم سلمة؟ " قلت: إنما هو صبر يا رسول الله. قال: "فاجعليه بالليل وامسحيه بالنهار"

(4)

. وهذا مخالف بحديث الباب؛ حيث لم ير لبنت أم سلمة حين توفي عنها زوجها في الكحل ليلاً ولا نهارًا، والجمع بينهما يؤخذ مما أسلفنا.

(1)

"شرح ابن بطال" 7/ 509.

(2)

ليست في الأصل، والسياق يقتضيها.

(3)

انظر: "المنتقى" 4/ 145.

(4)

"الموطأ" ص 371.

ص: 571

وقد ذكرها ابن أبي صفرة أن النهي عن ذلك فيها قطعًا للذرائع؛ لأن ذلك من دواعي التزويج التي مُنعت منه حتى تخرج من العدة؛ احتياطًا للميت إذ قد زالت مراعاته لها، لكن إذا دخل على الناس المشقة من قطعها رفعت عنهم، ودلت إباحته ليلاً أن نهيه عنه ليس على التحريم، وإنما هو على التنزيه، فمن شاء أخذ بالشدة على نفسه كما فعلت صفية بنت أبي عبيد في ترك الكحل حتى كادت عيناها ترمضان، ومن شاء أخذ بالرخص فيه، فقد أجازه جماعة من السلف

(1)

.

ذكر مالك في "الموطأ" أنه بلغه عن سالم بن عبد الله وسليمان بن يسار أنهما أجازا للمتوفى عنها زوجها إذا خشيت على بصرها من شكوى بها أن تكتحل وتتداوى بما فيه طيب. قال مالك: فإذا كانت الضرورة فإن دين الله يسر

(2)

.

وقد قال في "المختصر الصغير": لا تكتحل إلا أن تضطر إليه من غير طيب يكون فيه. وقال الشافعي: كل كحل فيه زينة للعين مثل الإثمد وشبيهه لا خير فيه، وأما الفارسي وشبهه عند الضرورة فلا بأس به؛ لأنه ليس بزينة بل يزيد العين قبحًا، وما اضطر إليه مما فيه زينة اكتحلت ليلاً ومحته نهارًا. واحتج ببلاع مالك عن أم سلمة.

قال الشافعي: في الصبر يصفر العين فيكون زينة وليس بطيب، فأذن لها عليه السلام فيه ليلاً؛ حيث لا ترى. وكذلك ما أشبهه

(3)

.

(1)

انظر: "شرح ابن بطال" 7/ 510.

(2)

"الموطأ" ص 370.

(3)

"الأم" 5/ 213.

ص: 572

وذكر ابن المنذر قال: رخص في الكحل عند الضرورة عطاء والنخعي. وهو قول مالك والكوفيين قالوا: لا بأس بالكحل الأسود وغيره إذا اشتكت عينها

(1)

.

(1)

"الإشراف" 1/ 271.

ص: 573

‌48 - باب الْقُسْطِ لِلْحَادَّةِ عِنْدَ الطُّهْرِ

5341 -

حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ حَفْصَةَ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: كُنَّا نُنْهَى أَنْ نُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ، إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَلَا نَكْتَحِلَ، وَلَا نَطَّيَّبَ، وَلَا نَلْبَسَ ثَوْبًا مَصْبُوغًا، إِلاَّ ثَوْبَ عَصْبٍ، وَقَدْ رُخِّصَ لَنَا عِنْدَ الطُّهْرِ إِذَا اغْتَسَلَتْ إِحْدَانَا مِنْ مَحِيضِهَا فِى نُبْذَةٍ مِنْ كُسْتِ أَظْفَارٍ، وَكُنَّا نُنْهَى عَنِ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ. [انظر: 313 - مسلم: 938 - فتح 9/ 491].

ذكر فيه حديث أُمِّ عَطِيَّةَ رضي الله عنها: كُنَّا نُنْهَى أَنْ نُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ .. الحديث سلف في غسل المحيض سندا ومتنا. ثم ترجم عليه:

ص: 574

‌49 - باب تَلْبَسُ الْحَادَّةُ ثِيَابَ الْعَصْبِ

5342 -

حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ حَرْبٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ حَفْصَةَ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ تُحِدَّ فَوْقَ ثَلَاثٍ، إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ، فَإِنَّهَا لَا تَكْتَحِلُ وَلَا تَلْبَسُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا إِلاَّ ثَوْبَ عَصْبٍ» . [انظر: 313 - مسلم: 938 - فتح 9/ 492].

5343 -

وَقَالَ الأَنْصَارِيُّ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ، حَدَّثَتْنَا حَفْصَةُ، حَدَّثَتْنِي أُمُّ عَطِيَّةَ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «وَلَا تَمَسَّ طِيبًا إِلاَّ أَدْنَى طُهْرِهَا إِذَا طَهُرَتْ، نُبْذَةً مِنْ قُسْطٍ وَأَظْفَارٍ» . [انظر: 313 - مسلم: 938 - فتح 9/ 492].

ثم ساقه ثم قال: وَقَالَ الأَنْصَارِيُّ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ، حَدَّثَتْنَا حَفْصَةُ قالت: حَدَّثَتْنِي أُمُّ عَطِيَّةَ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم "وَلَا تَمَسَّ طِيبًا إِلَّا أَدْنَى طُهْرِهَا إِذَا طَهُرَتْ، نُبْذَةً مِنْ قُسْطٍ وَأَظْفَارٍ".

قال أبو عبد الله البخاري: والقسط، والكست مثل الكافور والقافور.

الشرح:

العَصْب: بسكون الصاد المهملة قبلها عين مهملة من البرود والحبر؛ لأنه يُعْصبُ غزله ثم يصبغ قبل نسجه، وربما سموا الثوب عصبًا فقالوا: عصب اليمن.

والقسط -بالقاف والكاف- بخور معلوم، وهو القسط الهندي، وهو عربي، قاله ابن فارس في القسط

(1)

. وكذلك الأظفار: وهي شيء من العطر شبيهة بالظفر، ولا يصح: قسط أظفار، ولا جزع أظفار على الإضافة، ولا وجه له. ويقال أيضًا: قسط ظفار، وجزع ظفار منسوب إلى مدينة باليمن يقال لها: ظفار.

(1)

"المجمل" 2/ 752.

ص: 575

وقال ابن التين: قوله: من قسط وأظفار. يريد: من قسط ظفار، كما قال في البخاري من جزع أظفار، فقالوا: فيه جزع ظفار.

والنُبذة: ما نبذته وطرحته من الكست في النار قدر ما يتبخر به، وهو اليسير من كل شيء، وقال الداودي: يسحق الكست فيلقى في الماء الذي يغسل به من الغسل؛ ليذهب رائحة الحيض.

وقوله: (وقال الأنصاري: حَدَّثَنَا هشام) يريد: محمد بن عبد الله بن المثنى قاضي البصرة شيخه ولعله أخذه عنه مذاكرة، فلهذا لم يأت عنه بصيغة التحديث.

قال ابن المنذر: أجمع العلماء غير الحسن على منع الطيب والزينة للحادة

(1)

، إلا ما ذكر في حديث أم عطية مما رخص لها عند الطهر من المحيض من النبذة من القسط؛ لأن القسط ليس من الطيب الذي منعت منه، وإنما تستعمل القسط على سبيل المنفعة ودفع الروائح الكريهة والنظافة. وقد رُخص لها في الدهن بما ليس بطيب، هذا قول عطاء، والزهري، ومالك، والشافعي، وأبي ثور

(2)

. وقال مالك: تدهن المتوفى عنها زوجها بالزيت والشبرق وما أشبه ذلك، إذا لم يكن فيه طيب.

قال مالك: وبلغني أن أم سلمة أم المؤمنين كانت تقول: تجمع المرأة الحادة رأسها بالشبرق والزيت، وذلك ليس بطيب

(3)

. وقال عطاء: تمتشط بالحناء والكتم

(4)

.

(1)

"الإشراف" 1/ 271.

(2)

انظر: "الإشراف" 1/ 271.

(3)

"الموطأ" ص 370، 371.

(4)

رواه عبد الرزاق 7/ 46 (12122).

ص: 576

وقال مالك: لا تمتشط بهما ولا بشيء مما يختمر، وإنما تمتشط بالسدر ونحوه مما لا يختمر في رأسها. ونهى عن الامتشاط

(1)

، وكره الخضاب ابن عمر وأم سلمة وعروة وسعيد بن المسيب، وقال ابن المنذر: لا يحفظ عن سائر أهل العلم في ذلك خلافًا.

والخضاب داخل في جملة الزينة المنهي عنها قال: وأجمعوا أنه لا يجوز لها لباس المصبغة والمعصفرة إلا ما صبغ بالسواد، وقد رخص في السواد عروة بن الزبير ومالك والشافعي

(2)

، وكره الزهري لبسه

(3)

، وكان عروة يقول: لا تلبسوا من الحمرة إلا العصب. وقال الثوري: تتقى المصبوغ إلا ثوب عصب.

وقال الزهري: لا تلبس العصب

(4)

. وهو خلاف الحديث، وكان الشافعي يقول: كل صبغ يكون زينة ووشي في الثوب كان زينة أو تلميع مثل العصب والحبرة والوشي وغيره، فلا تلبسه الحاد غليظًا كان أو رقيقًا

(5)

.

وعن مالك: تجتنب الحناء والصباغ إلا السواد، فلها لبسه وإن كان حريرًا، ولا تلبس الملون من الصوف وغيره ولا أدكن ولا أخضر. وقال في "المدونة": إلا أن لا تجد غيره فيجوز لها لبسه قال: ولا تلبس رقيق ولا عصب اليمن. ووسع في غليظه، وتلبس رقيق البياض وغليظه من الحرير والكتان والقطن

(6)

.

(1)

"الموطأ" ص (370).

(2)

"الإشراف" 1/ 270، 271.

(3)

رواه عبد الرزاق 7/ 44.

(4)

رواه عبد الرزاق 7/ 44.

(5)

"الأم" 5/ 214.

(6)

"المدونة" 2/ 77.

ص: 577

والأصح عندنا عدم تحريم الإبريسم

(1)

. قال ابن المنذر: رخص كل من أحفظ عنه في لباس البياض

(2)

. قال الأبهري: وهذِه الثياب التي أبيحت لها لا زينة فيها، وإنما هي ممنوعة من الزينة والطيب دون غيرها من اللباس.

والأصح عندنا أنه لا يحرم ما صبغ غزله ثم نسج كالبرود

(3)

. وأجابوا عن قوله: عصب. على ما يباح من المصبوغ على أن في رواية للبيهقي: ولا ثوب عصب. لكن قال: إنها ليست بمحفوظة

(4)

.

ويحرم عندنا حلي الذهب والفضة؛ للنص فيه في "سنن أبي داود" والنسائي بإسناد حسن

(5)

، وكذا لؤلؤ في الأصح

(6)

، وسلف عن الحسن البصري من بين سائر أهل العلم أنه كان لا يرى الإحداد

(7)

.

وقال: المطلقة ثلاثًا والمتوفى عنها زوجها تكتحلان وتمتشطان وتنتقلان وتختضبان وتتطيبان وتصنعان ما شاءا.

قال ابن المنذر: وقد ثبت الإخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإحداد، وليس لأحد بلغته إلا التسليم لها، ولعلها لم تبلغه أو بلغته وتأول حديث أسماء بنت عميس، روى حماد بن سلمة، عن الحجاج، عن الحسن بن سعد وساق الحديث السالف. وقد دفع أهل العلم هذا

(1)

انظر: "روضة الطالبين" 8/ 406.

(2)

"الإشراف"1/ 272.

(3)

انظر: "الوسيط" 3/ 381.

(4)

"معرفة السنن والآثار" 11/ 222.

(5)

أبو داود (2304)، "المجتبى" 6/ 203.

(6)

انظر: "روضة الطالبين" 8/ 406.

(7)

رواه ابن أبي شيبة 4/ 205 (19283).

ص: 578

الحديث بوجوه، وكان أحمد يقول: هذا الشاذ من الحديث لا يؤخذ به. وقاله إسحاق.

وقال أبو عبيد: إن أمهات المؤمنين اللواتي روي عنهن خلافه أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم كانت أم عطية تحدث به مفسرًا فيما تجتنبه الحاد في عدتها، ثم مضى عليه السلف وكان شعبة يحدث به عن الحكم ولا يسنده.

فصل:

قولها في الحديث الأول: (وكنا ننهى عن اتباع الجنائز). سلف بحكمه في الجنائز. قال ابن التين: عن ابن القرطبي

(1)

: لا بأس أن يتبعها النساء ما لم يكثرن الترداد. وفي "المدونة": لا بأس أن تتبع النساء الجنائز وإن كانت شابة، فتخرج على الزوج والأخ والولد والوالد، ويكره لها الخروج على غيرهم

(2)

، وكرهه ابن حبيب بجميعهم بهذا الحديث

(3)

.

(1)

من (غ)، وفي الأصل القرطبي وورد في هامشه تعليق نصه: يحتمل أن يكون: ابن القرطبي بالسكون وطاء مهملة؛ لأن الفقيه أبا إسحاق محمد بن القاسم بن شعبان المالكي يقال له القرطبي. والله أعلم. [انظر: "سير أعلام النبلاء" 16/ 78].

(2)

"المدونة" 1/ 169 - 170

(3)

انظر: "النوادر والزيادات" 1/ 577.

ص: 579

‌50 - باب قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} الآية [البقرة: 234]

5344

- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} [البقرة: 234] قَالَ: كَانَتْ هَذِهِ الْعِدَّةُ تَعْتَدُّ عِنْدَ أَهْلِ زَوْجِهَا وَاجِبًا، فَأَنْزَلَ اللهُ:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ} [البقرة: 240] قَالَ: جَعَلَ اللهُ لَهَا تَمَامَ السَّنَةِ سَبْعَةَ أَشْهُرٍ وَعِشْرِينَ لَيْلَةً وَصِيَّةً، إِنْ شَاءَتْ سَكَنَتْ فِي وَصِيَّتِهَا، وَإِنْ شَاءَتْ خَرَجَتْ، وَهْوَ قَوْلُ اللهِ تَعَالَى:{غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ} [البقرة: 240] فَالْعِدَّةُ كَمَا هِيَ، وَاجِبٌ عَلَيْهَا. زَعَمَ ذَلِكَ عَنْ مُجَاهِدٍ. وَقَالَ عَطَاءٌ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ نَسَخَتْ هَذِهِ الآيَةُ عِدَّتَهَا عِنْدَ أَهْلِهَا، فَتَعْتَدُّ حَيْثُ شَاءَتْ، وَقَوْلُ اللهِ تَعَالَى:{غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة: 240]. وَقَالَ عَطَاءٌ: إِنْ شَاءَتِ اعْتَدَّتْ عِنْدَ أَهْلِهَا، وَسَكَنَتْ فِى وَصِيَّتِهَا، وَإِنْ شَاءَتْ خَرَجَتْ لِقَوْلِ اللهِ:{فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ} [البقرة: 240]. قَالَ عَطَاءٌ: ثُمَّ جَاءَ الْمِيرَاثُ فَنَسَخَ السُّكْنَى، فَتَعْتَدُّ حَيْثُ شَاءَتْ، وَلَا سُكْنَى لَهَا. [انظر: 4531 - فتح 9/ 493].

5345 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، حَدَّثَنِي حُمَيْدُ بْنُ نَافِعٍ، عَنْ زَيْنَبَ ابْنَةِ أُمِّ سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ ابْنَةِ أَبِي سُفْيَانَ، لَمَّا جَاءَهَا نَعِيُّ أَبِيهَا دَعَتْ بِطِيبٍ، فَمَسَحَتْ ذِرَاعَيْهَا وَقَالَتْ: مَا لِي بِالطِّيبِ مِنْ حَاجَةٍ، لَوْلَا أَنِّى سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:«لَا يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ تُحِدُّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ، إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا» . [انظر: 1280 - مسلم: 1486 - فتح 9/ 493].

ذكر فيه حديث مجاهد وقد سلف في التفسير سندًا ومتنًا.

ص: 580

وشبل المذكور في إسناده هو ابن عباد المكي انفرد به البخاري وابن أبي نجيح وهو عبد الله بن يسار.

ثم ساق حديث زينب بنت أم سلمة عن أم حبيبة، وقد سلف قريبًا.

والنِعيّ -بكسر العين وتشديد الياء، وبفتح النون، وإسكان العين- خبر الموت، واقتصر ابن التين على الأول، وما ذهب إليه مجاهد غريب، وقد قال ابن الزبير لعثمان رضي الله عنهم: لِمَ أَثْبَتَّ هذِه الآية، وقد نسختها الآية الأخرى؟ قال: يا ابن أخي، لا أغير شيئًا من مكانه

(1)

. يريد: نسختها أربعة أشهر وعشرًا، وقول ابن عباس: نسخت هذِه الآية عدتها عند أهلها، فتعتد حيث شاءت. قال غيره: لم تنسخ، وإنما خص الله تعالى الأزواج أن يوصوا بتمام السنة لمن لا يرث من الزوجات. وقول عطاء:(ثم جاء الميراث فنسخ السكنى، فتعتد حيث شاءت، ولا سكنى لها)

(2)

. هو قول أبي حنيفة أن المتوفى عنها لا سكنى لها، وهو أحد قولي الشافعي كالنفقة، وأظهرهما الوجوب؛ بحديث فريعة في السنن، وصححه الترمذي، وقد سلف

(3)

.

ومذهب مالك أن لها السكنى إذا كانت الدار ملكًا للميت أو نقد كراءها

(4)

، والذي قال ابن عباس في هذِه الآية: نسخت بآية الميراث، ونسخ أجل الحول بأن جعل لها أربعة أشهر وعشرًا، وفي حديث الفريعة قال لها عليه السلام:"امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله".

(1)

سلف برقم (4530).

(2)

سلف برقم (4531).

(3)

أبو داود (2300)، الترمذي (1204)، النسائي 6/ 199 - 200.

(4)

انظر: "المنتقى" 4/ 134.

ص: 581

وعن مالك: لها السكنى. وعنه مرة: لا. قال مالك: وزوجة الميت أحق بالسكنى بعد كراه

(1)

. أي: إذا أكراه مشاهرة ومسانهة، وإنما لو أكرى سنة معينة نقدًا ولم ينقد فهي أحق بالسكنى.

فرعان: عندهم طلقها بائنًا فلزمته السكنى، ثم مات أكرى لها من ماله، بخلاف من توفي عنها ولم يطلقها، وقال ابن نافع: لا سكنى لها؛ والموت يسقطها

(2)

.

فإن خرجت المتوفى عنها مسافرة مسافة اليومين ونحوها ردت، فإن تباعدت تركت، وليس عليها من المبيت حيث تسكن مثل ما عليها في بيت زوجها، قاله عبد الملك. وقال أصبغ: ترد من (الغد)

(3)

إذا قدر على ذلك من غير ضرورة.

وقال ابن بطال: ذهب مجاهد إلى أن الآية التي فيها {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] إنما نزلت قبل الآية التي فيها {وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة: 240] كما هي قبلها في التلاوة، ولم يجعل آية الحول منسوخة بالأربعة أشهر وعشرًا، وأشكل عليه المعنى؛ لأن المنسوخ لا يمكن استعماله مع الناسخ، ورأى أن استعمال هاتين الآيتين ممكن؛ إذ حكمهما غير متدافع، ويجوز أن يوجب الله تعالى على المعتدة التربص أربعة أشهر وعشرًا، لا تُخْرج فيها من بيتها فرضًا عليها، يأمر أهلها أن تبقى سبعة أشهر وعشرين ليلة، تمام الحول إن شاءت، أو تخرج إن شاءت وصية لها؛ لقوله:{وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ} الآية فحصل لها فائدتان في استعمال الآيتين، ورأى ألا يسقط

(1)

"المدونة" 2/ 111.

(2)

انظر: "النوادر والزيادات" 5/ 44.

(3)

كذا بالأصل.

ص: 582

حكمًا في كتاب الله يمكنه استعماله ولا يتبين له نسخه.

وهذا قول لم يقله أحدٌ من المفسرين غيره ولا تابعه عليه أحدٌ من فقهاء الأمة، بل اتفق جماعة المفسرين وكافة الفقهاء أن قوله:{مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} منسوخ بقوله: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} ويشهد لذلك الحديث السالف "وقد كانت إحداكن ترمي بالبعرة على رأس الحول".

ومما يدل على خطئه أن الله تعالى إنما أوجب السكنى للمتوفى عنهن أزواجهن عند من رأى إيجابه في العدة خاصة، وهي الأربعة أشهر وعشر وما زاد عليها، فالأُمَّة متفقة أن المرأة فيها أجنبية من زوجها لا سكنى لها ولا غيره شاءت أم لم تشأ، وكيف يجوز أن تبقى في بيت زوجها بعد العدة إن شاءت وهي غير زوجة منه، ولا حمل هناك [يوجب حبسها به]

(1)

ومنعها من الأزواج حتى تضعه.

وأيضاً فإن السكنى إنما كان في الحول حين كانت العدة حولاً، والسكنى ترتبط بها، فلما نسخ آية الحول بالأربعة أشهر وعشرًا استحال أن يكون سكنى في غير عدة.

وأما ابن عباس فإنه دفع السكنى للمتوفى عنها زوجها، وقال: قوله {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} الآية ولم يقل: يعتددن في بيوتهن، ولتعتد حيث شاءت.

وذهب إلى قول ابن عباس أن المتوفى عنها تعتد حيث شاءت علي وعائشة وجابر، ومن حجتهم: أن السكنى إنما وردت في المطلقة وبذلك نطق القرآن، وإيجاب السكنى إيجاب حكم، والأحكام لا تجب إلا بنص

(1)

ليست في الأصل، والمثبت من "شرح ابن بطال".

ص: 583

كتاب أو سنة أو إجماع، وقد سلف خلاف أهل العلم فيه قريبًا.

وقال إسماعيل: أما قول ابن عباس في {يَتَرَبَّصْنَ} ولم يقل في بيتها فمثل هذا يجوز ألا (يبين)

(1)

في ذلك الموضع، ويبين في غيره. وقد قال تعالى:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] ولم يقل في هذا الموضع: إنها تتربص في بيتها.

ثم قال في أمر المطلقة في موضع آخر {لَا تُخرِجُوهُنَّ مِن بيُوتِهِنَّ وَلَا تحرُتجنَ} الآية [الطلاق: 1] وقال: {أَسْكِنُوهُنَّ} الآية [الطلاق: 6].

فبين في هذا الموضع ما لم يذكر في ذلك الموضع. وقد بين أمر المتوفى بما جاء في حديث الفريعة السالف، وعمل به جملة أهل العلم، ورأينا المتوفى عنها احتيط في أمرها في العدة، بأكثر ما احتيط في المطلقة؛ لأن المطلقة إن لم يدخل بها فلا عدة بخلافها ويمكن ذلك والله أعلم؛ لأن الدخول قد يكون ولا يعلم به الناس، فإذا كان الزوج حيًّا ذكر ذلك وطالب به، وأمكن أن يبين حجته فيه، والميت قد انقطع عن ذلك وليس ينبغي في النظر إذا كانت المتوفى عنها قد جعلت عليها العدة في الموضع الذي لم يجعل على المطلقة أن تكون السكنى على المطلقة، ولا تكون على المتوفى عنها لما في السكنى من الاحتياط في أمر المرأة وما يلحق من النسب.

وروى وكيع، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية أنه سئل: لمَ ضمت العشر إلى أربعة أشهر؟ قال: لأن الروح تنفخ فيها في العاشر

(2)

. وهذا سلف، فأما إن كان المسكن بكراء قدمه الميت

(1)

في الأصل (يتبين) والمثبت من "شرح ابن بطال".

(2)

رواه الطبري 2/ 530 (5094) وفيه (العشر) بدل: العاشر.

ص: 584

فلها أن تسكن في عدتها كما مر. وإن كان لم يقدمه وأخرجها رب الدار، لم يكن لها سكنى في مال الزوج، هذا قول مالك، وعلى قول الكوفيين والشافعي أنه لا سكنى للمتوفى عنها في مال زوجها إن لم يخلف مسكنًا؛ لأن المال صار للورثة، حاملًا كانت أو غير حامل، ولا نفقة لها. وأوجب مالك لها السكنى إن كانت حاملًا من مال الميت ونفقتها من مالها؛ لقوله:{يَتَرَبَّصْنَ} الآية وكان الواجب على ظاهر الآية أن تتربص المتوفى عنها زوجها هذِه المدة، تفعل فيها ما كانت تفعل قبل وفاته، فلما ثبت عن الشارع أنه قال:"لا يحل لامرأة" الحديث في الإحداد وجب اتباعه؛ لتفسيره لما أجمل في الآية

(1)

.

(1)

"شرح ابن بطال" 7/ 515 - 518.

ص: 585

‌51 - باب مَهْرِ الْبَغِيِّ وَالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ

وَقَالَ الْحَسَنُ: إِذَا تَزَوَّجَ (مُحَرَّمَةً)

(1)

وَهْوَ لَا يَشْعُرُ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، وَلَهَا مَا أَخَذَتْ، وَلَيْسَ لَهَا غَيْرُهُ. ثُمَّ قَالَ بَعْدُ: لَهَا صَدَاقُهَا.

5346 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ، وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ، وَمَهْرِ الْبَغِيِّ. [انظر: 2237 - مسلم: 1567 - فتح 9/ 494].

5347 -

حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا عَوْنُ بْنُ أَبِي جُحَيْفَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَعَنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْوَاشِمَةَ، وَالْمُسْتَوْشِمَةَ، وَآكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ، وَنَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ، وَكَسْبِ الْبَغِيِّ، وَلَعَنَ الْمُصَوِّرِينَ. [انظر: 2086 - فتح 9/ 494].

5348 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُحَادَةَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ كَسْبِ الإِمَاءِ. [انظر: 2283 - فتح 9/ 494].

ثم ساق أحاديث:

أحدها:

حديث أبي مسعود عقبة بن عمرو: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عنْ ثَمَنِ الكَلْبِ، وَحُلْوَانِ الكَاهِنِ، وَمَهْرِ البَغِيِّ.

ثانيها:

حديث عون بن أبي جحيفة عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَعَنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الوَاشِمَةَ، وَالْمُسْتَوْشِمَةَ، وَآكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ، وَنَهَى عَنْ ثَمَنِ الكَلْبِ، وَكَسْبِ البَغِيِّ، وَلَعَنَ المُصَوِّرِينَ.

(1)

في الأصل: (مُحْرِمَةً) فاعل من الإحرام، والمثبت من "اليونينية".

ص: 586

ثالثها:

حديث أبي حازم، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ كَسْبِ الإِمَاءِ.

وهذا سلف في الإجارة، والأولان في البيوع، والأول سلف في الإجارة أيضًا. والتعليق أسنده ابن أبي شيبة، عن عبد الأعلى، عن سعيد، عن مطر، عنه باللفظ الثاني قال: وحَدَّثنَا هشيم عن يونس عنه باللفظ [الأول]

(1)

قال: وعن حماد مثله وعن إبراهيم: لها الصداق، وفي رواية: بطل النكاح، وإن دخل بها فلها الصداق، وإن لم يكن دخل بها فرق بينهما ولا صداق. وقال الحكم وحماد: لها الصداق كاملًا. وقال طاوس: ليس لها الصداق كله، لها بعضه

(2)

.

وقوله: (محرمة). ضبط الدمياطي بضم الميم وكسر الراء. وقال ابن التين: قوله: محرمة، يريد: ذات محرم. قال: وهو بفتح الميم، كذا ضبطه.

وقوله: (لها صداقها). هو الصحيح، وهو قول مالك المشهور؛ لأن الفاسد إذا كان في العقد قضى بالمسمى وإن كان في الصداق قضى بصداق المثل. وعن مالك في نكاح الخيار يقضي بصداق المثل

(3)

، وهذا فساده في عقده، فعلى هذا يكون في هذِه المسألة تمضي بصداق المثل.

والنهي عن ثمن الكلب. يشمل كل كلب، وقال ابن التين: هو ضربان: كلاب الدور، والحرث والماشية، فالأول لا يحل اتخاذها؛ لأنها تروع الناس وتؤذيهم فثمنها حرام.

(1)

ليست بالأصل، ويقتضيها السياق.

(2)

ابن أبي شيبة 4/ 16 - 17.

(3)

الذي في "المدونة" 2/ 159 خلاف هذا القول حيث يقول: لا يفسخ ويكون لها الصداق الذي سمي لها ولا ترد إلى صداق مثلها اهـ.

ص: 587

واختلف في بيع كلب الصيد والماشية وفي أخذ قيمته إن قتل. وحلوان الكاهن: هو ما يعطى على الكهانة، يقال حلوته: أي أعطيته حلوان، والحلوان: الرشوة. وقيل: أصله من الحلاوة شبه بالشيء الحلو. ويقال: حلوت فلانًا إذا أطعمته الحلوى كما يقال: عسلته وتمرته.

ومهر البغي: ثمن الزنا، والبغي: بفتح الباء وكسر الغين وتشديد الياء، واحتج به من قال: لا صداق لكُرهِهِ على الزنا، قال الداودي: وليس كذلك؛ لأنه عليه السلام نهى عن قتل النفس بغير الحق، وأجمعوا أن من قتل عبدًا فعليه قيمته، ومن قتل حرًّا فعليه ديته- إن اصطلحوا عليها وفي الخطأ.

وجمع بين ثمن الكلب وهو مكروه، وبين مهر البغي وحلوان الكاهن وهما حرام؛ لأن الجمع بينهما لا يوجب المساواة في الحكم لقوله تعالى:{إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [النحل: 90] فالعدل واجب فعله والإحسان مندوب إليه، وقام الإجماع على حرمة مهر البغي، ولا يلحق فيه نسب.

وأما النكاح الفاسد فإما في العقد وإما في الصداق، فما فسد في العقد لا ينعقد عند أكثر الأمة، ومنه ما ينعقد عند بعضهم، فما فسخ قبل البناء مما فسد لعقدٍ، فلا صداق فيه ويرد ما أخذت، وما فسخ بعده ففيه المسمى، وما فسد لصداقه كالبيع في فساد ثمنه أنه يفسخ قبل الدخول ويمضي إذا فات بالدخول، ويرد إلى قيمته.

وآخر قول ابن القاسم أن كل ما نص الله ورسوله على تحريمه ولا يُختلف فيه، فإنه يفسخ بغير طلاق وإن طلق فيه لا يلزم ولا يتوارثان كمتزوج الخامسة، وأختًا من الرضاعة، والمرأة على

ص: 588

عمتها وخالتها، ومن تزوج بامرأة فلم يبن حتى تزوج ابنتها، أو نكح في العدة، قال: وكل ما اختلف الناس في إجازته أو فسخه فالفسخ فيه بطلاق وتقع فيه الموارثة والطلاق والخلع بما أخذ، ما لم يفسخ، كالمرأة تزوج نفسها أو تنكح بغير ولي أو أمة بغير إذن السيد أو بغرر في صداق، إذ لو قضى به قاضٍ لم أَنقْضه. وكذلك نكاح المحرم والشغار للاختلاف فيها.

وأما من تزوج محرمة وهما لا يعلمان التحريم يفرق بينهما فلا حد عليهما، واختلف العلماء في صداقها على قولين بحسب اختلاف قول الحسن البصري، فقوله: لها ما أخذت. يعني: صداقها المسمى. وقوله بعد ذلك: (لها صداقها). يريد: صداق مثلها، وسائر الفقهاء على هذين القولين، طائفة تقول بصداق المثل، وأخرى تقول المسمى. قلت: وقد أسلفنا قول من قال: لها بعض الصداق.

وأما من تزوج محرمة وهو عالم بالتحريم، فقال مالك وأبو يوسف ومحمد

(1)

والشافعي: عليه الحد ولا صداق في ذلك. وقال الثوري وأبو حنيفة: لا حد عليه، وإن علم عذر

(2)

. قال أبو حنيفة: ولا يبلغ به أربعين.

وفرق ابن القاسم بين الشراء والنكاح فأوجب في نكاحه محرمة إذا علم تحريمها الحد، ولا حد عليه إذا اشتراها ووطئها وهو عالم بتحريمها، وسائر الفقهاء غير الكوفيين لا يفرقون بين النكاح والملك في ذلك ويوجبون (الحد)

(3)

في كلا الوجهين. وحجة أبي حنيفة أن

(1)

انظر: "شرح معاني الآثار" 3/ 149.

(2)

انظر: "شرح معاني الآثار" 3/ 149.

(3)

زيادة يقتضيها السياق من "شرح ابن بطال" 7/ 520.

ص: 589

العقد شبهة وإن كان فاسدًا كما لو وطئ جارية بينه وبين شريكه. فالوطء محرم باتفاق، ولا حد عليه للشبهة.

وكذلك الأنكحة الفاسدة كنكاح المتعة وبلا ولي ولا شهود ووطء الحاىض والمعتكفة والمحرمة، وهذا كله وطء محرم لا حد فيه، وحجة مالك قوله تعالى:{وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} الآية [النساء: 15] وهذِه فاحشة، وقد بين عليه السلام السبيل ما هي بالرجم، وقام الإجماع على أن العقد على أمه وأخته لا يجوز فلا شبهة، وإنما هو زان [قاصد إلى الزنا]

(1)

وإسقاط الحد عن نفسه بالنكاح.

(1)

زيادة من "شرح ابن بطال" يقتضيها السياق، وليست في الأصول.

ص: 590

‌52 - باب الْمَهْرِ لِلْمَدْخُولِ عَلَيْهَا، وَكَيْفَ الدُّخُولُ، أَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَالْمَسِيسِ

5349 -

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قُلْتُ لاِبْنِ عُمَرَ: رَجُلٌ قَذَفَ امْرَأَتَهُ، فَقَالَ: فَرَّقَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَخَوَيْ بَنِي الْعَجْلَانِ وَقَالَ: «اللهُ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ، فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ؟» . فَأَبَيَا، فَقَالَ:«اللهُ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ، فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ؟» . فَأَبَيَا، فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا. قَالَ أَيُّوبُ: فَقَالَ لِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: فِي الْحَدِيثِ شَيْءٌ لَا أَرَاكَ تُحَدِّثُهُ قَالَ: قَالَ الرَّجُلُ: مَالِي؟ قَالَ: «لَا مَالَ لَكَ، إِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَقَدْ دَخَلْتَ بِهَا، وَإِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَهْوَ أَبْعَدُ مِنْكَ» . [انظر: 5311 - مسلم: 1493 - فتح 9/ 495].

زاد ابن بطال في أوله: إرخاء الستور

(1)

.

ساق حديث سعيد بن جُبَيْرٍ: قُلْتُ لاِبْنِ عُمَرَ: رَجُلٌ قَذَفَ امْرَأَتَهُ، فَقَالَ: فَرَّقَ النبي صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَخَوَيْ بَنِي العَجْلَانِ وَقَالَ: "اللهُ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ، فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ؟ ". فَأَبَيَا، فَقَالَ:"اللهُ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ، فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ؟ ". فَأَبَيَا، فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا. قَالَ أَيُّوبُ: فَقَالَ لِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: فِي الحَدِيثِ شَيْءٌ لَا أَرَاكَ تُحَدِّثُهُ، قَالَ: قَالَ الرَّجُلُ: مَالِي؟ قَالَ: "لَا مَالَ لَكَ، إِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَقَدْ دَخَلْتَ بِهَا، وَإِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَهْوَ أَبْعَدُ مِنْكَ".

سلف في اللعان، وأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي

(2)

، وهو ظاهر أن المهر يجب بالدخول، وهو دخول الحشفة بالقبل. وقوله في الترجمة:(وكيف الدخول، أو طلقها قبل الدخول). تقديره: أو كيف

(1)

"شرح ابن بطال" 7/ 520.

(2)

مسلم (1493)، أبو داود (2258)، النسائي 6/ 177.

ص: 591

طلاقها، فاكتفى بذكر القعل عن ذكر المصدر؛ لدلالته عليه، كقوله تعالى:{هَلْ أَدُلُّكُمْ} إلى قوله: {تُؤمِنُونَ بِاَللَهِ} [الصف: 10][فأقام تؤمنون]

(1)

وهو فعل مقام الإيمان، وهو مصدر.

وقال أبو حنيفة، يجب بمجرد الخلوة، بينه قوله:"بما استحللتم من فرجها" لكنه حجة عليه.

واختلفوا في الوطء في الدبر، وإذا أذهب العذرة بالإصبع، فقال ابن القاسم: يكمل لها الصداق؛ لأنه فعله على وجه الافتضاض. وقال أصبغ: عليه ما شانها

(2)

. وعندنا إن أزالها مستحقها لا شيء عليه أو غيره فالحكومة

واختلف في المجبوب والحصور وشبههما، فقال المغيرة: إذا طالت المدة استحقت الصداق. وقيل: كمل لها وإن لم تطل؛ بدليل قول عمر رضي الله عنه: ما ذنبهن إن جاء العجز من قبلكم

(3)

.

واختلف في المعوض على ثلاثة أقوال: فقال مالك: إذا طال مكثه لها الصداق. وأباه غيره

(4)

، وقال بعضهم: إذا أغلق عليها فقد وجب لها الصداق. كقول أبي حنيفة.

والحاصل أن العلماء اختلفوا في الدخول وبما يثبت.

فقالت طائفة: إذا أغلق بابًا أو أرخى سترًا على المرأة فقد وجب الصداق والعدة.

(1)

يقتضيها السياق، وليست في الأصول، وأثبتناها من "شرح ابن بطال" 7/ 522.

(2)

القولان لابن القاسم كما في "النوادر والزيادات" 4/ 543.

(3)

رواه عبد الرزاق 6/ 288 (10873).

(4)

"المدونة" 2/ 222.

ص: 592

روي ذلك عن عمر وعلي وزيد بن ثابت ومعاذ بن جبل وابن عمر

(1)

، وهو قول الكوفيين والثوري والليث والأوزاعي وأحمد

(2)

. حجتهم حديث الباب: "إن كنت صادقًا فقد دخلت بها".

فجعل الدخول بها دليلًا على الجماع، وإن كان قد لا يقع مع الدخول، لكن حمله على ما يقع في الأكثر وهو الجماع؛ لما ركب الله سبحانه في نفوس عباده من شهوة النساء.

قال الكوفيون: الخلوة الصحيحة يجب معها المهر كله بعد الطلاق، وطيء وإن لم يطأ، ادعته أو لم تدعه، إلا أن يكون أحدهما محرمًا أو مريضا أو صائمًا أو كانت حائضًا، فإن كانت الخلوة في مثل هذِه الحال ثم طلق لم يجب إلا نصف المهر، وعليها العدة عندهم في جميع هذِه الوجوه

(3)

.

وقالت طائفة: لا يجب المهر إلا بالمسيس، روي ذلك عن ابن مسعود وابن عباس

(4)

، وبه قال شريح والشعبي وابن سيرين، وإليه ذهب الشافعي وأبو ثور

(5)

، واحتجوا بقوله تعالى:{وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُن} الآية [البقرة: 237]، وقال تعالى:{فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49] فأخبر تعالى أنها تستحق بالطلاق

(1)

انظر: هذِه الآثار في "الموطآت" ص 327، "مصنف عبد الرزاق" 6/ 285، 286، "السنن الكبرى" 7/ 255.

(2)

انطر: "بدائع الصنائع" 2/ 291، "الاستذكار" 16/ 130 - 133، "الإشراف" 1/ 50.

(3)

انظر: "الاستذكار" 16/ 130 - 131.

(4)

قال ابن المنذر: ولا يصح ذلك عن أحد منها، "الإشراف" 1/ 50 - 51.

(5)

انظر "الاستذكار" 16/ 133 - 134، "الإشراف" 1/ 50.

ص: 593

قبل المسيس نصف ما فرضه لها، وأوجب العدة بالمسيس ولا تعرف الخلوة دون وطء مسيسًا ومن حجة هذا القول رواية من روى هذا الحديث:"إن كنت صدقت عليها فبما استحللت من فرجها" وقد سبق في اللعان، ويأتي بعد.

وفيها قول ثالث: قال سعيد بن المسيب إذا دخل بالمرأة بيتها صدق عليها، وإن دخلت عليه في بيته صدقت. وهو قول مالك

(1)

، واحتج أصحابه وقالوا [تفسير]

(2)

قول سعيد بن المسيب أنها تصدق عليه في بيته؛ لأن البيت في البناء بيت الرجل وعليه الإسكان، ودخولها في بيته هو دخول بناء.

ومعنى قوله: في بيتها: إذا زارها في بيتها عند أهلها أو وجدها ولم يدخل عليها دخول بناء فادعت أنه مسها وأنكر فالقول قوله؛ لأنها تدعي عليه، وهذا أصله في المتداعيين أن القول قول من شبهته قوية كاليد وشبهها

(3)

.

قال مالك: وإذا دخل بها وقبلها وكشفها، واتفقا أنه لم يمسها، فلها نصف الصداق إن كان قريبًا، وإن تطاول مكثه معها ثم طلقها فلها المهر كاملًا وعليها العدة أبدًا

(4)

. وروى ابن وهب عنه أنه رجع عن قوله في "الموطأ"

(5)

وقال: إذا خلا بها حيث كان فالقول قولها

(6)

.

(1)

"المدونة" 2/ 222.

(2)

ليست في الأصل، وأثبتناها من "شرح ابن بطال".

(3)

انظر: "الاستذكار" 16/ 129.

(4)

"المدونة" 2/ 222.

(5)

"الموطأ" ص 327.

(6)

انظر: "الاستذكار" 16/ 126.

ص: 594

وذكر ابن القصار عن الشافعي أنه إذا دخل بها فقال: لم أطأ. وقالت: وطئني. فالقول قول الزوج؛ لأن الخلوة غير المسيس الذي يوجب المهر.

وروى ابن علية عن عوف عن زرارة بن أوفى قال: قضى الخلفاء الراشدون المهديون: من أغلق بابًا وأرخى سترًا فقد وجبت العدة والمهر

(1)

. وبهذا احتج الكوفيون بأنه معلوم أنه لا يرخى الستر غالبًا إلا للوطء؛ فهي دلالة عليه.

(1)

ابن أبي شيبة 3/ 512 (16689).

ص: 595

‌53 - باب الْمُتْعَةِ لِلَّتِي لَمْ يُفْرَضْ لَهَا

لِقَوْلِهِ تَعَالَى عز وجل: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} إِلَى قَوْلِهِ {بَصِيرٌ} [البقرة: 236 - 237] وَقَوْلِهِ {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 241]، وَلَمْ يَذْكُرِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْمُلَاعَنَةِ مُتْعَةً حِينَ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا.

5350 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِلْمُتَلَاعِنَيْنِ:«حِسَابُكُمَا عَلَى اللهِ، أَحَدُكُمَا كَاذِبٌ، لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا» . قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَالِي؟ قَالَ:«لَا مَالَ لَكَ، إِنْ كُنْتَ صَدَقْتَ عَلَيْهَا، فَهْوَ بِمَا اسْتَحْلَلْتَ مِنْ فَرْجِهَا، وَإِنْ كُنْتَ كَذَبْتَ عَلَيْهَا، فَذَاكَ أَبْعَدُ وَأَبْعَدُ لَكَ مِنْهَا» . [انظر: 5311 - مسلم: 1493 - فتح 9/ 496].

ثم ساق حديث ابن عمر رضي الله عنهما السالف.

اختلف العلماء في المتعة، فقالت طائفة: هي واجبة للمطلقة التي لم يدخل بها ولم يسم لها صداقًا، وروي ذلك عن ابن عباس وابن عمر، وهو قول عطاء والشعبي والنخعي والزهري

(1)

، وبه قال الكوفيون، ولا يجمع مهر مع المتعة

(2)

.

قال ابن عبد البر: وبه قال شريح وعبد الله بن معقل أيضًا

(3)

. قال الحنفيون: فإن دخل بها ثم طلقها فإنه يمتعها ولا يجبر عليها هنا، وهو قول الثوري، وابن حي، والأوزاعي، قال: فإن كان أحد الزوجين مملوكًا لم تجب، وإن طلقها قبل الدخول ولم يسم لها مهرًا

(4)

.

(1)

روى هذِه الآثار ابن أبي شيبة 4/ 145.

(2)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 2/ 265.

(3)

"الاستذكار" 17/ 280 - 281.

(4)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 2/ 265 - 266.

ص: 596

قال أبو عمر: وقد روي عن الشافعي مثل قول أبي حنيفة بعد ذلك.

وقالت طائفة: لكل مطلقة متعة، مدخولًا بها كانت أو غير مدخول بها، إذا وقع الفراق من قبله أولم يتم إلا به، إلا للتي سمى لها وطلقها قبل الدخول، فكذلك امرأة العنين، وهو قول الشافعي وأبي ثور. وروي عن علي، لكل مطلقة متعة. ومثله عن الحسن وسعيد بن جبير وأبي قلابة وطائفة، حجتهم عموم {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 241] ولم يخص

(1)

.

وقالت طائفة: المتعة ليست بواجبة في موضع من المواضع. وهو قول ابن أبي ليلى وربيعة، وهو قول مالك والليث وابن أبي سلمة، وحجة الشافعي ما رواه مالك عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: لكل مطلقة متعة إلا التي فرض لها مهر وقد طلقت ولم يدخل بها فحسبها نصف المهر

(2)

.

قال الشافعي: وأحسب ابن عمر استدل بقوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 237] فاستدل بالقرآن على أنها مخرجة من جميع المطلقات، ولعله رأى أنه إنما أريد أن تكون المطلقة تأخذ بما استمتع به زوجها منها عند طلاقه شيئًا. فلما كانت المدخول بها تأخذ شيئًا وغير المدخول بها تأخذ أيضًا إذا لم يفرض لها وكانت التي لم يدخل بها وقد فرض لها تأخذ بحكم الله نصف المهر، وهو أكثر من المتعة ولم يستمتع منها بشيء، فلم تجب لها متعة

(3)

.

(1)

"الاستذكار" 17/ 280، 282، 283، 285.

(2)

"الموطأ" ص 354.

(3)

"الأم" 7/ 28.

ص: 597

حجة أهل الكوفة ما ذكره أبو عبيد: إنا وجدنا النساء في المتعة على ثلاثة ضروب، فكانت الآية التي فيها ذكر المتعين لصنفين منهم، وهن المطلقات بعد الدخول إن كان فرض لهن صداق أو لم يفرض، والمطلقات قبل الدخول مع تسمية صدقاتهن فلأولئك المهور كوامل بالمسيس ولهؤلاء الشطور منها بالتسمية، فلما صار هذان الحقان واجبين، كانت المتعة حينئذٍ تقوى من الله تعالى غير واجبة، ووجدنا الآية فيها ذكر الموسع والمقتر هي للصنف الثالث وهن المطلقات من غير دخول بهن ولا فرض لهن، وذلك قوله {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} الآية [البقرة: 236]، فصارت المتعة لهن حتما واجبًا، ولولا هذِه المتعة لصار عقد النكاح إذًا يذهب باطلاً من أجل أنهن لم يمسسن فيستحققن الصدقات، ولم يفرض لهن فيستحققن أيضًا فيها، فلا بد من المتعة على كل حال.

واحتج من لم يوجبها أصلاً فقال: قوله: {وَمَتِّعُوهُنَّ} وإن كان ظاهره الوجوب، فقد قرن به ما يدل على الاستحباب، وذلك أنه تعالى قرن بين المعسر والموسر، والواجبات في النكاح ضربان: إما أن يكون على حسب حال المنكوحات، كالصداق الذي يرجع فيه إلى صداق مثلها أو يكون على حسب حالهما جميعًا كالنفقات، والمتعة خارجة من هذين المعنيين؛ لأنه اعتبر فيها حالة الرجل وحده بأن يكون على الموسر أكثر مما على المعسر.

وأيضًا فإن المتعة لو كانت فرضًا كانت مقدرة معلومة كسائر الفراىض في الأموال، ولم نَرَ فرضًا واجبًا في المال غير معلوم، فلما لم تكن كذلك خرجت عن حد الفرض إلى الندب والإرشاد والإخبار وصارت كالصلة والهدية.

ص: 598

وأيضًا فإن الله تعالى لما علقها بقوم دل على أنها غير واجبة؛ لأن الواجبات ما لزمت الناس عمومًا كالصلاة والصيام والحج والزكاة، فلما قال تعالى {حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 236] و {حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 241] سقط وجوبها عن غيرهم، وكذلك تأول شريح فقال لرجل: متع إن كنت محسنًا متع إن كنت متقيًا. وعنه هي واجبة في قوله {عَلَى الْمُتَّقِينَ} ، وندب في {عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 236]

قال أبو عمر: هذا التفسير احتج به أصحابه له، ويجاب عنه بأنه ليس في ترك تحديدها ما يسقط وجوبها، كنفقات البنين والزوجات.

قال تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] ولم نجد شيئًا مقدرًا فيما أوجب من ذلك، وقال:{لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} الآية [الطلاق: 7]، كما قال في الآية الأخرى:{على الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236]. وقال عليه السلام لهند: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف"

(1)

. ولم يقدر.

قال ابن عبد البر: لم يختلف العلماء أن المتعة المذكورة في القرآن غير مقدرة ولا محدودة ولا معلوم مبلغها ولا يوجَب قدرها، بل هي كما قال تعالى:{على الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} وإنما اختلفوا في وجوبها:

فروى مالك أنه بلغه أن عبد الرحمن بن عوف طلق امرأة ومتعها بوليدة

(2)

، وكان ابن سيرين يُمَّتعُ بالخادم أو النفقة أو الكسوة، ومتع الحسن بن علي زوجته بعشرة آلاف فقالت: متاعٌ قليلٌ من حبيبٍ

(1)

سلف برقم (2211).

(2)

"الموطأ" ص 354.

ص: 599

مفارقٍ. ومتع شريح بخمسمائة درهم، والأسود بن يزيد بثلاثمائة، وعروة بخادم، وقال قتادة: المتعة جلباب ودرع وخمار

(1)

. وإليه ذهب أبو حنيفة وقال: هذا لكل حرة أو أمة وكتابية إذا وقع الطلاق من جهته. وقال الزهري: بلغني أن المطلق كان يمتع بالخادم والحلة أو النفقة. وعن ابن عمر رضي الله عنه ثلاثون درهمًا

(2)

، وفي رواية أنه متع بوليدة

(3)

.

فصل:

وقول البخاري: (ولم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم للملاعنة متعة حين طلقها زوجها) حجة لمن قال: لكل مطلقة متعة، والملاعنة غير داخلة في جملة المطلقات، فلا متعة لها عند مالك والشافعي. قال ابن القاسم: لا متعة في كل نكاح مفسوخ.

والملاعنة عندهم كالفسخ؛ لأنهما لا يقران على النكاح فأشبه الردة، وكل فرقة من قبل المرأة قبل البناء وبعده فلا متعة فيها، وأوجب الشافعي للمختلعة والمبارية متعة. وقال أصحاب مالك: كيف يكون للمفتدية متعة، وهي تعطي؟ فكيف تأخذ متاعًا؟

فصل:

قال ابن المنذر: وقوله: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} الآية [البقرة: 236] دليل على إباحة نكاح المرأة ولا يفرض لها صداقًا ثم يفرض لها إن مات أو دخل عليها مهر مثلها.

(1)

روئ بهذِه الآثار عبد الرزاق 7/ 73 - 75، وسعيد بن منصور في "سننه" 2/ 3 - 5.

(2)

روئ هذِه الآثار عبد الرزاق 7/ 73، 74.

(3)

ابن أبي شيبة 4/ 146 (18757)، وانظر ما سبق في "الاستذكار" 17/ 275 - 278.

ص: 600

واختلفوا إن مات ولم يفرض لها: فقالت طائفة: لها مهر مثلها ولها الميراث وعليها العدة.

روي هذا عن ابن مسعود، وبه قال اين أبي ليلى والثوري والكوفيون وأحمد وإسحاق وأبو ثور.

وقالت طائفة: لها الميراث، وعليها العدة، ولا مهر لها. روي هذا عن علي وزيد بن ثابت وابن عباس وابن عمر، وبه قال مالك والأوزاعي، وللشافعي قولان، أظهرهما الأول.

واستحب مالك ألا يدخل عليها حتى يقدم لها شيئًا أقله ربع دينار

(1)

.

وفي السنن الأربعة من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في رجل تزوج امرأة فمات عنها ولم يدخل بها ولم يفرض لها صداقًا فقال: لها الصداق كاملًا وعليها العدة ولها الميراث

(2)

.

قال معقل بن سنان: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى به في بروع بنت واشق.

قال الترمذي: حديث حسن صحيح.

وصححه أيضًا ابن حبان والحاكم والبيهقي وابن حزم وغيرهم

(3)

.

فائدة:

في البيهقي أنه عليه السلام أمر زوج فاطمة بنت قيس أن يمتعها، وفي إسناده ابن عقيل، وهو دال لأظهر القولين في وجوبها للمدخول بها.

(1)

"شرح ابن بطال" 7/ 526.

(2)

أبو داود (2114)، الترمذي (1145)، النسائي 6/ 121، ابن ماجه (1891).

(3)

الترمذي (1145)، ابن حبان 9/ 408، الحاكم 2/ 181 البيهقي 7/ 245.

ص: 601

فصل:

قول البخاري: (التي لم يفرض لها). قال ابن التين: يريد من فرض لها حسبها نصف صداقها. قال: وهذا قول ابن عمر وابن المسيب ومالك.

قال: ومعنى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] أي: مع المتعة، ثم نقل عن سعيد بن جبير والضحاك ومجاهد في المطلقة قبل الدخول ولا فرض: هي لها واجبة.

ص: 602